نصير بين البيوت، وأحدّق في القبة الخضراء التي يثوي تحتها أفضل من مشي على الأرض وقد شخص بصري وكدت لا أرى ما كان حولي لفرط ما أحس من جيشان العواطف في نفسي. . . حتى غامت المشاهد في عينيّ، وتداخلت كأنها صورة يضطرب بها الماء، وأحسست كأني قد خرجت من نفسي، وانفصلت من حاضري وذهبت أعيش في عالم طلق لا أثر فيه لقيود الزمان والمكان، فسمعت أصواتاً آتية من بعيد. . . من بعيد، وسمعتها تزداد وتقوى، حتى تبينت فيها قرع الطبل، ووعيت أصوات الولائد، يضربن بالدفوف وينشدن:
طلع البدر علينا ... من (ثنيات الوداع)
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
ورأيت المدينة قد سالت بأهلها، فملأ الناس الحرّة وسدّوا الطرق، وغطى النساء الأسطحة، ولم يبق في المدينة أحد إلا خرج لاستقبال سيد العالم، وهو قادم ليس معه صلى الله عليه وسلم إلا الصديق الأعظم، لا يلمع على جبينه التاج المرصع، ولا يحمل في يده صولجان الملك، ولا تسير وراءه العساكر والجنود، ولكن يضيء على جبينه نور النبوة، ويحمل في يده هدى القرآن، وتسير وراءه الأجيال، ويتبعه المستقبل، وتحف به الملائكة، ويؤيده الله!
ثم سار وسارت وراءه هذه الجموع إلى القرية التي لبثت قروناً ضائعة بين رمال الصحراء، لا يدري بها التاريخ، ولم تسمع بها القسطنطينية، ولم تعلم بوجودها روما، فجاء هذا الرجل ليهزها وينفخ فيها روح الحياة ويجعلها أم الدنيا وعاصمة الأرض
إلى المعشر اليمانين الدين جعلوا بأسهم بينهم، فلم تمتد عيونهم إلى أبعد من هذه الحرار، ولم يطعموا من المجد بأكثر من أن يسحق بعضهم بعضاً، لينشئهم بالقرآن خلقاً آخر، ويسلمهم مفاتيح الأرض، ويضع في أيديهم القلم الذين يكتبون به أعظم تاريخ للبطولة والعلم والعدالة، فأطاعوا ولبوا، ثم مشوا إلى القادسية واليرموك، ثم أصبحوا سادة العالم، ورأيت الأنصار يستبقون إلى إنزاله صلى الله عليه وسلم والتشرف به ويصيحون به:
هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويدعها تمشي وقد أرخى لها زمامها ما يحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً، حتى أتت دار بني مالك النجار فبركت عند باب المسجد، ثم ثارت وبركت في مبركها الأول(146/121)
فنزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، وكان المسجد مربداً لغلامين يتيمين في المدينة، فاشتراه صلى الله عليه وسلم وانطلق يحمل الأحجار بيده الكريمة ليضع أسس أكبر جامعة بثت الهدى في الأرض!
ونظرت فإذا السيارات أمام باب السلام، فاشرأبت الأعناق وبرقت الأبصار، ودمعت العيون، وخفقت القلوب، وتعالى الهتاف، وكانت حال لا سبيل إلى وصفها قط
فنزلنا ودخلنا المسجد نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . . .
علي الطنطاوي(146/122)
علم الحيل عند العرب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لقد أصبح علم الطبيعة من العلوم التي لها اتصال وثيق بالحياة، وشأن عظيم في تقدم المدنية الحديثة القائمة على الاختراع والاكتشاف، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن علم الطبيعة هو الأسّ الذي شيد عليه صرح الحضارة الحالية. وهو لم يتقدم تقدماً محسوساً إلا حينما أشرف القرن التاسع عشر للميلاد على ختامه. وفي هذا القرن - القرن العشرين - دبت إليه عوامل التحول واعتنى به علماء عصرنا عناية فائقة، فأنشئوا المختبرات وأنفقوا عليها المبالغ الطائلة، وبلغوا في إتقانها درجة كبيرة استطاعوا بواسطتها أن يحلوا بعض المشاكل العلمية، وأن يجيبوا على مسائل كثيرة غامضة؛ وظهرت من ذلك عجائب الكون بصورة أوضح وأتم، واستخدم الإنسان ما اكتشفه من نواميس الطبيعة والحياة فيما يعود عليه بالتقدم والرقي، فلولا بعض هذه النواميس ولولا فهمه إياها فهماً مكنه من الاستفادة منها لما كانت السابحات في السماء والعائمات على الماء، ولما كان في الإمكان الغوص إلى أعماق البحار وجعل المولدات والمحركات الكهربائية في متناول الإنسان، ولما استطاع أن يطوق القارات بالأسلاك الكهربائية، وأن يملأ الجو بعجيج الأمواج اللاسلكية، وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والحوادث. . . ولما نمت الصناعة هذا النمو الغريب. وازدهرت هذه الازدهار العجيب. وعلى كل حال يمكن القول إنه بفضل البحث العلمي وبفضل ما اكتشفه الإنسان من القوانين الطبيعية وعلاقاتها مع بعضها سيطر الإنسان على عناصر الطبيعة هذه السيطرة القوية، سيطرة جعلته يعمل من المستنبطات قوى يستخدمها في قضاء مآربه المتنوعة المتعددة، ويخضعها لتقوم بأعمال المدينة الحديثة المختلفة المعقدة، سيطرة أحدثت انقلاباً بعيد الأثر خطير الشأن في الحياة والحضارة. . . إن علم الطبيعة وهذا شأنه وتأثيره وهذه خطورته لجدير بنا أن نهتم وأن نتعرف عليه ونقف على تطوره وتاريخه وأثر الأمم في تقدمه، ويهمنا بصورة خاصة أن نعرف مآثر أسلافنا وما أحدثوا فيه النظريات والآراء. وسنتناول في هذا المقال المجهود العربي في علم الحيل - أي علم الميكانيكا - محاولين تبيان فضلهم عليه وما قدموه من جليل الخدمات في هذا الميدان
. . . إن علم الطبيعة من العلوم التي اعتني بها الأقدمون فقد كان معروفاً عند علماء(146/123)
اليونان، وإليهم يرجع الفضل في اكتشاف كثير من مبادئه الأولية ولهم مؤلفات عديدة ترجم العرب أكثرها. ولم يكتف العرب بنقلها بل توسعوا فيها وأضافوا إليها إضافات هامة تعتبر أساساً لبعض المباحث الطبيعية. وهم الذين وضعوا أساس البحث العلمي الحديث وقد قويت عندهم الملاحظة وحب الاستطلاع، ورغبوا في التجربة والاختبار فأنشئوا (المعمل) ليحققوا نظرياتهم وليتأكدوا من صحتها. ومن الفروع التي أصابها شيء من اعتناء العرب واهتمامهم بحوث الميكانيكا أو علم الحيل، ومع أنهم لم يبدعوا فيه إبداعهم في البصريات إلا أنهم استنبطوا فيه بعضاً من المبادئ والقوانين الأساسية التي كانت من العوامل التي ساعدت على تقدمه ووصوله إلى درجته الحالية. لقد ترجم العرب كتب اليونان في الميكانيكا ككتاب الفيريكس لأرسطوطاليس، وكتاب الحيل الروحانية، وكتاب رفع الأثقال لايرن، وكتاب الآلات المصوتة على بعد ستين ميلاً لمورطس، وكتب هيرون الصغير في الآلات الحربية، وقطيزنيوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه وغيرها. اطلع العرب على هذه المؤلفات ودرسوها ووقفوا على محتوياتها ثم أخذوها وأدخلوا تغييرات بسيطة على بعضها وتوسعوا في البعض الآخر، واستطاعوا بعد ذلك أن يزيدوا عليها زيادات تعتبر أساساً لبحوث علم الطبيعية المتنوعة. وليس في الإمكان أن نجول كثيراً في هذه العجالة حول مآثر العرب في الميكانيكا، ولكن سنأتي على ذكر شيء من مجهوداتهم فيه وما قدموه من الخدمات لهذا الفرع من المعرفة، وما كان لهذه المجهودات ولتلك الخدمات من أثر بيّن في تقدمه ورقيه.
لقد كتب العرب في الحيل، وأشهر من كتب في هذا البحث محمد وأحمد وحسن أبناء موسى بن شاكر (ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. .)
وهي - أي الحيل - شريفة الأغراض، عظيمة الفائدة، مشهورة عند الناس ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي عشرون منها ذات قيمة عملية. وكان علماء العرب يقسمون علم الحيل إلى قسمين: الأول منهما يبحث في بحر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاته. والثاني في آلات الحركات وصنعة الأواني العجيبة. وألّف العرب في علم مراكز الأثقال، وهو (علم بتعرف منه ثقل الجسم المحمول، والمراد بمركز الثقل حد في الجسم يتعادل(146/124)
بالنسبة إلى الحامل)، ومن الذين ألفوا فيه أبو سهل الكوهي، وابن هيثم، وبنو موسى
وكذلك للعرب فضل في علم السوائل، فلأبي الريحاني البيروني في كتابة الآثار الباقية شروح وتطبيقات لبعض الظواهر التي تتعلق بضغط السوائل وتوازنها، ووضعوا في هذا كله مؤلفات قيمة. وقد استنبطوا طرقاً واخترعوا آلات تمكنوا بواسطتها من حساب الوزن النوعي وكان لهم فيه ميل خاص، وقد يكون ذلك آتياً من رغبتهم الشديدة في معرفة الوزن النوعي للأحجار الكريمة وبعض المعادن، وهم أول من عمل فيه الجداول الدقيقة فقد حسبوا كثافة الرصاص مثلا فوجدوها 11 , 33 بينما هي 11 , 35 والفرق بين المقدرين ضئيل
وفي كتاب عيون المسائل من أعيان المسائل لعبد القادر الطبري جداول فيها الأثقال النوعية للذهب والزئبق والرصاص والفضة والنحاس، والصفر، والحديد، ولبن البقر، والجبن والزيت، والياقوت، والياقوت الأحمر، والزمرد واللازورد والعقيق، والماء والبلخش والزجاج؛ واستطاعوا أن يحسبوا أثقال هذه المواد النوعية بدقة أثارت إعجاب العلماء. وعمل البيروني تجربة لحساب الوزن النوعي، واستعمل لذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء وبالماء تمكن من معرفة المقدار المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعي. وقد وجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً ومركباً من الأحجار الكريمة والمعادن، ويعترف سارطون بدقة تجارب البيروني في ذلك
واخترع الخازن آلة لمعرفة الوزن النوعي لأي سائل، واستعمل بعض علماء العرب قانون أرخميدس في معرفة مقدار الذهب والفضة في سبيكة ممزوجة منهما من غير حلها. وعلى كل حال فالذين كتبوا في الوزن النوعي كثيرون، منهم سند بن علي والرازي وابن سينا والخيام والخازن وغيرهم، وكانت كتاباتهم مبنية على التجربة والاختبار، واستعمل البعض موازين خاصة يستعينون بها في إيجاد الكثافة، فقد استعمل الرازي ميزاناً سماه الميزان الطبيعي وله في ذلك كتاب محنة الذهب والفضة والميزان الطبيعي. وللخازن كتاب ميزان الحكمة كتبه سنة 1137م وفيه وصف دقيق مفصل للموازين التي كان يستعملها العرب في تجاربهم، وفيه أيضا وصف لميزان غريب التركيب لوزن الأجسام بالهواء والماء، ونجد(146/125)
فيه جداول الأوزان النوعية لكثير من المعادن والسوائل والأجسام الصلبة التي تذوب في الماء وهذه الجداول دقيقة جداً ومستخرجة بطرق متنوعة. ويقول سارطون إن ابن سينا والخيام أوجدا طرقا عديدة لإيجاد الوزن النوعي. وكتاب ميزان الحكمة المذكور من الكتب الرئيسية المعتبرة جدا في علم الطبيعة إذ هو أكثر الكتب استيفاء لبحوث الميكانيكا، وقد يكون الكتاب الوحيد الذي ظهر من نوعه في القرون الوسطى. واعترف بلتن في خطاب ألقاه في أكاديمية العلوم الأمريكية بأهمية هذا الكتاب. ومن هذا الكتاب يستدل على أنه كان لدى الخازن آلات مخصوصة لحساب الأوزان النوعية ولقياس حرارة السوائل. ووفي الكتاب نفسه بحث في الجاذبية وبأن هناك علاقة بين سرعة الجسم الساقط والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه، وبأن قوى التثاقل تتجه دائماً إلى مركز الأرض
ولم ينفرد الخازن ببحوثه في الجاذبية، فقد بحث غيره من قبله ومن بعده من علماء العرب فيها وفي الأجسام الساقطة، ووضعوا قوانين لذلك، وقد كنا وفّينا هذا الموضوع بعض حقه في مقال لنا في (الرسالة عدد 72 عنوانه (الممهدون للاكتشاف والاختراع)، ولا نرى الآن ضرورة لإعادة ما كتبناه في هذا الموضوع. ويحتوي الكتاب المذكور على بحث في الضغط الجوي وبذلك يكون العرب قد سبقوا اتورشيللي في هذا البحث. ويحتوي أيضاً على المبدأ القائل إن الهواء كالماء يحدث ضغطاً من أسفل إلى أعلى على أي جسم مغمور فيه، ومن هذا استنتج أن وزن الجسم في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي وكل هذه المبادئ والحقائق هي كما لا يخفى الأسس التي عليها بني (فيما بعد) بعض الاختراعات كالبارومتر ومفرغات الهواء
وللعرب بحوث في الروافع وقد أجادوا في ذلك كثيراً؛ وكان لديهم عدد غير قليل من آلات الرفع وكلها مبنية على قواعد ميكانيكية تمكنهم من جر الأثقال بقوى يسيرة، فمن هذه الآلات التي استعملوها المحيطة والمخل والبيرم وآلة الكثيرة الرفع والأسفين واللولب والأسقاطولي وغيرها، وقد يطول المطال إذا أردنا أن نبين ماهية كل منها، ويمكن لمن يريد الوقوف على ذلك أن يرجع إلى كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي ففيه بعض التفصيل. ومن الطريف أن العرب عند بحثهم في خواص النسبة أشاروا إلى أن عمل القبان هو من عجائب النسبة، فقد جاء أن: - (من عجائب خاصية النسبة ما يظهر في الأبعاد والأثقال(146/126)
من المنافع. من ذلك ما يظهر في القرسطون أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق والآخر قصير قريب منه، فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير، تساويا وتوازنا متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد راس الطويل من المعلاق. . .) والمقصود من المعلاق هنا نقطة الارتكاز
واستعمل العرب موازين دقيقة للغاية وثبت أن فرق الخطأ في الوزن كان أقل من أربعة أجزاء من ألف جزء من الجرم. وكان لديهم موازين أدق من ذلك، فقد وزن الأستاذ فلندرس بتري ثلاثة نقود عربية قديمة، فوجد أن الفرق بين أوزانها جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام، ويقول الأستاذ المذكور تعليقا على هذه الدقة: (إنه لا يمكن الوصول إلى هذه الدقة في الوزن إلا باستعمال أدق الموازين الكيميائية الموضوعة في صناديق من الزجاج (حتى لا تؤثر فيها تموجات الهواء) وبتكرار الوزن مراراً حتى لا يبقى فرق ظاهر في رجحان أحد الموازين على الآخر، ولذلك فالوصول إلى هذه الدقة لمما يفوق التصور، ولا يعلم أن أحداً وصل إلى دقة في الوزن مثل هذه الدقة. . .) ومن هنا يظهر أن العرب درسوا مسألة الميزان دراسة دقيقة؛ وقد ألفوا في ذلك مؤلفات قيمة جداً، فثابت بن قرة ألف كتابين في ذلك: أحدهما في صفة استواء الوزن واختلافه وشرائط ذلك؛ والثاني في القرسطون، ولا تزال في هذا الكتاب الأخير نسخة في برلين وأخرى في وكالة الهند بلندن. ومن الذين كتبوا في الموازين والأوزان نظرياً وعملياً الكوهي والفارابي وابن سينا وقسطا بن لوقا البعلبكي وابن الهيثم والخازن والجلدكي وغيرهم. . . وعلى ذكر الجلدكي نقول إن هذا النابغ حلق في الكيمياء ووصل فيها درجة لم يصلها أحد من معاصريه، وهو الذي يقول إن العناصر يفعل بعضها ببعض على نسب محدودة؛ فكأنه اتصل إلى المبدأ الجوهري قبل دلتون. واستعمل العرب لموازينهم أوزاناً متنوعة، وأحسن كتاب في هذا البحث الكتاب الذي وضعه عبد الرحمن بن نصر المصري للمراقب (المحتسب) العام لأحوال الأسواق التجارية في أيام صلاح الدين الأيوبي. وتوجد كتب أخرى تبحث في هذا الموضوع ككتاب ابن جامع وغيره
وفوق ذلك فقد كتب العرب في الأنابيب الشعرية ومبادئها وتعليل ارتفاع الموائع وانخفاضها(146/127)
فيها، وهذا طبعاً قادهم إلى البحث في التوتر السطحي وأسبابه وبحث في هذا كله الخازن. . . وقد يجهل كثيرون أن ابن يونس هو الذي اخترع بندول الساعة (الرقاص) واعترف بذلك سيديو وشيدويك وبيكر وتايلر وغيرهم. وكان عندهم (أي العرب) أيضاً فكرة عن قانون الرقاص. يقول سمث: (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملون البندول لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد. . .) وسبق لنا أن كتبنا شيئاً من هذا في (الرسالة) عدد (57)
. . . هذا مجمل ما عمله العرب في علم الحيل أو الميكانيكا وهو يدل كما قلنا - في أول المقال - على أنهم أخذوا ما عرفه اليونان وغيرهم في هذا الفرع الجليل وتوسعوا فيه ثم زادوا عليه زيادات هامة يعد بعضها أساساً لبعض البحوث والمواضيع والنظريات في علم الطبيعة
(نابلس - فلسطين)
قدري حافظ طوقان(146/128)
ذكرى الهجرة
بقلم عبد الحكيم عابدين
على هامة الدنيا وقد فُوقِتها قدرا ... وفي ذمة التاريخ، أيتها الذكرى
أطلّي على رأس الليالي منارةً ... وفي غسَق الأجداث شعّي لنا فجرا
وقومي على الإسلام تاجاً يزينه ... وسيفاً يردّى من يُريد به الضرا
وأحيي عزاء القلب عما أصابه ... لما دَهَم الإسلام من محن كبرى
أعيدي، ولو طيفاً، من الغابر الذي ... تموت عليه النفس والهةً حسرى
وقصّي على سمعي ولو في رَؤى الدجى ... أحاديثَ يُعيي الدهر ترديدُها بهرا
يُجشِّم داءً أخديعه مُعادُها ... كأَن بأذنيه إذا تُليت وقرا
أحاديث عن طه وحسبيَ ذكره ... بلا لقب إذ ضقت عن قدره ذكرا
وصحبٍ أباةٍ ما رأى المجد مثلهم ... ولم يرضَ إلا بين أنفسهم وكرا
غطارفَ بُلج لا يجوز عديدُهم ... لدي أرهبو الدنيا، أصابعك اليسرى
ومن قُلِّد الإيمان درعاً ومغفرا ... فلا غرو أن أعْيا - وحيداً - به الدهرا
رُويدك يا ذكرى. لكم تُضرمين بي ... مشاعرَ كاد الدهر يُغرى بها القهرا
وآمالَ نفس أوشكت حادثاته ... إلى اليأس أن تُدْنِي نواهضها قسرا
طلعتِ على الدنيا فأذكرت آلها ... مواقف للإِسلام ما برحت غُرّا
وما الهجرة البلجاء إلا صحيفةٌ ... تُتّوج من دين الهدى ذلك السِّفرا
سُرًى في سبيل الله والخطب كالح ... وللبيض لَمْعٌ في حواشي الدجى افترّا
بأيدٍ تلظّى للدماء تعطشا ... وترقب أن تُسقى دم المصطفى هدرا
فما هاله أن الأسنة شُرّعٌ ... تباري لكي يرجعن من دمه حُمْرا
سَرى بين صحب تسقط الشّيم سجّدا ... لإيمانهم. لو أن منه لنا نزرا!
عقائدُ تدعوا المستحيل توهماً ... ولا ترتضي إلا لخالقها أمرا
جوارف للأطواد إن رُمْن صدها ... قوانع بالأشواك أن تكسوَ السيرا
تساوِمُ بالأرواح كل مهند ... على عزَّة الإسلام تعلو بها الشعرى
ليثرب شدو الرحلَ يسعى يقينهم ... سناً بين أيديهم إذا افتقدوا البدرا(146/129)
لهم منه عزم الأسد في لمعة القنا ... وحسب الفتى الساري بمثلهما ذخرا
يُذلل وعثاء الطريق كأَنما ... يرون صياخيد الفلا بُسُطا خُضرا
إلى حيث شاء الله للحق رفعة ... وآثر للإسلام في صبُحه. نشرا
فلا يحسبن مرضى القلوب رحيلهم ... توفّىَ شرك كان يمطرهم شرا
ولا وهناً عن دعوة الله. إنما ... مضاءٌ بأمر الله أن هاجروا سرا
مضوا ليعودوا فاتحين أعزة ... كراماً كإِقعاء الهزبر إذا استشرى
وكان. فلم يبعد بمكة عهدهم ... من العمر حتى عاودوا فتحها قهرا
وحطمت الأصنامُ دون هوادة ... وصال الأذان العذب في الكعبة الزهرا
ونودي فيه (الله أكبر) بعدما ... شكت جهل قوم كبّروا بينها الصخرا
وما فتئ الإسلام تعلو بنوده ... ويأتيه طوعَ السيف من لم يجئ حرا
ودانت له أرض الجزيرة. لم يدع ... بها معهداً إلا استقلّ به نضرا
ولم تلبث الأعوامُ أن بهرت به ... عُلا قيصر واستنصرته على كسرى
فدالا ودالت عنهما دولتاهما ... وعمّ الهدى فاستخلص البر والبحرا
فمالي أراه اليوم - وا حسرتا - هَوَى ... وأشمتَ فيه ذلُّ أبنائه الكفرا
وأُطمِع فيه كل أحمقَ لم يكن ... ليجلد يوماً أن يُطيق له ذكرا
وما بالُه - واخطبَ - ذلت شعوبه ... وحكّم فيها ضعفها الأهوجَ الغرا
متى أشهد الإسلام يَرجع مجدَه ... وتُرفع راياتٌ له طُويت قسرا
ألا ألمعيُ من سلالة (أحمدٍ) ... يقلّده الفاروق من روُحه السُّمرا
فيبعث للإِسلام ماضيَ صولة ... شَأَتْ في شباب الدهر أنجمه الزُهرا
ويا معشر الإسلام، والحق قوة، ... ألا قومة للحق يحيا بها حُرّا
فما الحق إن لم تمنع البيض حوضه ... بأخلق أن يُعطى الحياةَ ولا أحرى
وأكفلُ منه للسيادة باطلٌ ... تقوم عليه السمهرية لا يُفرى
بني وطني، والشرق أجمعُ موطني ... ومِثليَ - ممّن لا يدين بذا - يبرا
تعالوا افهموا الإسلام فالناس اخوة ... متى آمنوا، لا الشام ندري ولا مصرا
وما أمم الإسلام إلا كتيبةٌ ... وقائدها القرآنُ عزَّت به دَهرا(146/130)
ولن تستعيد الأمر إلا بوحدة ... تقرب نائيهم وتنسيهم إلاصرا
لعمريَ ما أزرى بنا غير جهلنا ... حقيقة هذا الدين أو روحه الكبرى
وإكبارنا منه القشور وهجرنا ... لبابا وروحا ما أساغا لنا هجرا
لعمريَ ما الإسلام إرسال لحيةٍ ... ولا صلواتٍ تُنتضَى للريا سِترا
ولكنما الإسلام مجدٌ وعزةٌ ... تباعُ الدماَء الفيِحَ والأنفسَ الغُرّا
فدونكمُ القرآنَ دستورَ مجدكم ... تصولوا على الدنيا بعزته كِبرا
تربوا به واسقوا العقائد روحه ... وربوا عليه النشء وابغوا به النصرا
صِلوا بين أرواح الشباب وبينه ... ولا يكُ حظ القارئ الطيَّ والنشرا
إذن يعلموا أن الجهاد فريضةٌ ... وأن سنام الأمر أن تفدِىَ الأمرا
وأن أخا الإسلام ليس بمسلم ... إذا ملّكَ الأعداَء من أرضه شبرا
(الجامعة المصرية)
عبد الحكيم عابدين الفيومي(146/131)
سفائن الصحراء
للدكتور أحمد زكي
هَلاَ، هلا، هيّا ... إطوي الفَلاَ طيّا
هلا، هلا، سيري ... وامضي بتيسيري
وقرّبي الحيّا ... للنازح الصبّ
طيري بنا طيري ... للماء والعشب
(شوقي)
الجمل سفينة الصحراء، إذا أنت ذكرت الصحراء ذكرته، وإذا ذكرته ذكرت الصحراء، وما وجوده في غير الصحراء إلا عبث ودعابة، يزيد حسك بهما كلما تأملت خَلقه، ودرست خُلقه، وقرنت ما تجد من ذلك بطبيعة السواد من الأرض الذي يخرج إليه الجمل أحياناً، أو بطبيعة المدن التي يضلّ إليها بحكم المصادفة الخاطئة والتوجيه الجائر؛ فكما قد ينبو في نظر الرجل العادي مرأى العمامة في متحف اللوفر، ومظهر القبعة في الأزهر، كذلك قد تضيق نفس عالم الأحياء بمنظر الخفّ على زلق المدينة، ورؤية السنام يسير بين الوفير الكثير من طعامها
في الصحراء معنى الجوع، ومعنى الحر، ومعنى المشقة والصبر، وفيها معنى الجدب والقحط والجفاف. وفي الجمل تركزت كل هذه المعاني
أول ما يصفه الحيوانيّ، يصفه بأن يضعه لك في قائمة الحيوانات، فتجده في خانة المجترات، وأميز ما تمتاز به هذه الحيوانات أن أمعدتها تنقسم إلى أربعة أقسام، أو أن شئت تتركب من أربعة أكياس
الكيس الأول وهو أكبرها ويسمى الكرش. وإليه ينزل الطعام من المريء (أ) بعد أن يكون قطّعه الحيوان بأسنانه تقطيعاً هيّناً هو دون المضغ بكثير؛ والكيس الثاني ويسمى بالقلنسوة (جـ) وبغشائه المخاطي تَثَنٍّ من خلايا ذات أضلاع عدة، وإلى هذه القلنسوة يخرج الطعام من الكرش تدرّجاً، وفيها يتكوّر إلى كرات ليست بصغيرة الحجم تندفع إلى أعلى في مريء الحيوان إلى فمه فيأخذ في مضغها حتى تصير عجينة لينة؛ وحركة اندفاع الطعام هكذا حركة طبيعية لا كحركة القيء. فإذا تم المضغ بلعه الحيوان فذهب الطعام هذه المرة(146/132)
إلى الكيس الثالث ويسمى بذي اللفائف (د) ذلك لأن حائطه به ثنيات مستطيلة تشبه أوراق الكتاب وهو مفتوح، ومن ذي اللفائف يخرج الطعام إلى الكيس الرابع واسمه الانفحة (هـ) وفيها يحدث الهضم الحق على وجهه المألوف في الحيوانات الأخرى؛ ففي الانفحة تنفرز العصارات الهضمية، وهي التي تستخدم في تجبين اللبن على ما هو معروف
فإنك تجد في تركيب معدة المجترّات، ومنها الجمل، إن صانعها خلقها وفقاً لحاجاتها وملاءمة لطور معيشتها، فالكرش الكبير الذي يملأ جانباً عظيماً من البطن يقذف إليه الحيوان بالطعام الأخضر الذي يقتطفه من الشجر قذفاً، أما على عجل لأنه يخشى أن ينزل عليه عدو من أعدائه المفترسة، أو اختزاناً له كي يعود إليه عند حاجته للطعام. فإذا هو ذهب إلى أمنه، أو جاءته شهية الطعام عمد إلى هذا المخزون فأكله من جديد. والأكل أوله المضغ
أما الماء فإنك واجد في معدة الجمل خلايا عديدة كالجيوب، واقعة في جدرانه، بها الماء، وعليها أغطية من العضل تنسد وتنفتح عند الحاجة
وتنتهي قوائم الجمل: رجلاه ويداه، بإصبعين ككل المجترات، كالعنز والأبقار والوعل والغزلان. إلا أن هذه الأصابع تنتهي في هذه بأظلاف تساعدها الآن أو ساعدت آباءها بالأمس على تسلق الصخور والجبال. أما في الجمل فينتهي الإصبعان بوسادة بها رخاوة وبها طرواة هي خير الأحذية للسير السريع الهين فوق الرمال لاسيما الوعثاء منها. والفيل إذا مشى في الرمل فقد حيلته فيه، والحصان لا يلبث أن تُنهك قواه. كذلك الحال ربيب المدينة إذا هو خرج بحذاء ذي كعب عال (أو الأولى ربيبتها). والسيارات تغوص في الرمال، ثم تدور عجلاتها وتدور فلا تزيد فيها إلا غوصاً. إلا إذا هي شابهت الجمال فاحتذت أخفافاً، وتلك بالونات جديدة صنعت حديثاً قطرها تسع بوصات وضغط هوائها تسعة أهواء فهي عريضة رخوة. وقطر البالونات العادية نصف هذا القطر، وضغطها ضعف هذا الضغط أو ثلاثة أمثاله
والجمل يحمل غذاءه فوق ظهره، حملته الطبيعة إياه، واختزنته تحت جلده حيث لا يصل إليه سواه: هذا سنامه، وهو كتلة كبيرة من الدهن تجيء بمجيء المطر والعشب وتذهب بذهابهما، وهي تزيد ويمتلئ بها ظهره وتتخذ شكلاً أقرب ما يكون إلى الهرم الرباعي،(146/133)
والجمل معشب مرتوٍ هانئ، فإذا خرج إلى الصحراء على سفر طويل ومجهد، فأعوزته الخضرة والماء، رجع إلى ما على ظهره، يحرق منه لغذائه؛ ويصمد به لغيلة الجوع حتى يذهب كله ويخلو منه جلده. ولكنه لا يلبث أن يعود من سفره حتى يأخذ في الادخار من يوم النعيم والوفرة ليومه العبوس الآخر، فيثقل بالدهن ظهره، ويشتد عليه جلده. والأعرابي قبل الترحل الطويل يمتحن سنام راحلته كما ينظر ذو السيارة في خزان بنزينه؛ والحيوانات الثديية الأخرى تدخر الدهن، ولكنه يتوزع على كل جسمها. كذلك تدخره الحيوانات التي تنام طوال شتائها، وتصحو في الربيع لتأخذ مع الأحياء نصيبها من العيش وطيب الحياة، وتدخر من الدهن لحين تنام مرة أخرى
والجمل له جسم ضخم ليس فيه جمال كثير، تحمله قوائم طويلة تتراءى كأنها تعجز عن حمله، ولكنها غاية في الصلابة. وعظام هذه القوائم فوق متانتها بيضاء ناصعة حتى ليستعيض بها الهنود في شمال الهند عن سن الفيل في تلقيم بعض مصنوعاتهم. وطال الجمل لينال الشجر فبعد عن الأرض، فكان لابد له من طي قوائمه لينالها. وهو حين يبرك على الأرض يبرك على كتل خمس متصلبة في جسمه يقال لها الثّفِنات، واحدة في صدره واسمها السّعدانة، واثنتان في ركبتيه، واثنتان في أصول فخذيه. والثفنات تولد مع الجسم ليستتم به خلقه كالأذن والعين
وللجمل رقبة حنواء طويلة تحمل في أعلاها رأساً صغيراً، لا يحمل القرون التي هي من خصائص المجترات، وله عينان نجلاوان ناعستان وله أنفان يغلقهما إذا شاء ويفتحهما إذا شاء، وفضل هذا ظاهر في الريح السافية؛ وفتحتا أنفه بعيدتان بعداً كبيراً عما بداخلهما من غشاء وغدد مخاطية، فهي لا تتحلّب مخاطا كالبقر وسائر المجترات. كذلك تطول شفته العليا وتتدلى على شفته السفلى فتحجبها أو تكاد. وشفته العليا مشقوقة شقين كالأرنب يحركهما أو يحرك أحدهما على هواه وهو يأكل حتى كأنهما يدان
وغذاء الجمل في مواطنه الأولى أفرع الشجر وأوراقها، وهو يأكل الشوك ولا يبالي، ويأكله دون أن تدمى شفتاه. وهو يأكل الحب والتمر، ولكنه لا يستغني عن الأخضر من الطعام. وله صبر على الجوع والظمأ، فهو يقضي أياماً قد تطول إلى العشرة دون طعام ولا شراب. وقد يقضيها حاملاً المعهود من أثقاله. وقد يحدث كثيراً أن يفرغ الماء من القافلة(146/134)
فتعقر الجمال طلباً للماء الذي في أكراشها. وللإبل إحساس غريب بالماء تشمه من بعيد؛ كثيراً ما نجت القوافل بسببه، وقد يحدث أن يأبى على الناقة صاحبها فلا يفهم معنى تشبثها باتجاه خاص في الصحراء فتقطع الرسن وتركب رأسها، فإذا بلغت الماء كرعت منه لأمسها ويومها وغدها
والأعراب تشرب من الإبل لبنها، وهو بالغ في دسمه، وتأكل لحمها، وتلبس من وبرها. ولكن الخدمة الكبرى التي أداها الجمل للإنسانية من قديم هي وصلة الأقطار فصلت بينها قفار كالمحيطات ما كان لغير الجمل أن يجتازها. فأثره في تجارة الأمم العتيقة كبير. وقد كان وحده وصلة ما بين الشرق والغرب
والجمل إن كان في جسمه القدرة على الحمل، ففي خلقه الأناة والصبر. يكتسبهما ولادة وبالمران. وهو برغم نفعه من أغبى الحيوانات. أو لعله لغبائه كان نافعاً ذلولاً صبوراً. وإنك لتجد هذا في الناس. وهو لا يألف صاحبه ألفة الحصان والكلب. وهو كالبدو يكره البحر. وأكثر الثدييات إذا ألقاه الرجل في الماء وجد لديها من طبيعتها فهماً للعوم أو بعض فهم. أما الجمل فإذا غُصب على المسير في ماء غير ضحل كالنهر ففقدت رجلاه الأرض لم يحاول أن يعوم، وإنما يدور جسمه ويسلم نفسه للغرق
والجمل على صبره ذو غضبة منكرة، وهو حقود ذكور. حكوا أن جملاً كان يساق في إدارة عصارة للزيت فضربه سائقه ضرباً موجعاً. ومضت أشهر بعد ذلك، فظهر كأن الإساءة انتُسيت. وفي ليلة قمراء جاء الجمل يتلصص حيث يرقد السائق فوجد ما يشبهه وهو نائم فانقض عليه بكلكله وأخذ في الثياب تمزيقاً يحسب الرجل فيها، فلما فرغ تحدث إليه الرجل من بعيد، فاغتاظ الجمل اغتياظاً شديداً، وغضب لخيبته غضبة نكراء ضرب فيها الحائط برأسه ضربة أردته قتيلاً
أحمد زكي(146/135)
الساعات العربية
بقلم السيد أحمد دهمان
لما شعر الأقدمون بحاجتهم الماسة إلى معرفة الأوقات، اهتدوا بعد التأمل والتفكير إلى اختراع الساعة الرملي، وهي ساعة بسيطة التركيب، تتركب من قارورتين قد ألصقت فوهة إحداهما بفوهة الأخرى بواسطة الشمع، وملئت العليا رملاً، فينزل الرمل بالتدريج إلى السفلى من ممر بينهما صنع بنسبة مقدرة، وتقلب الساعة عندما تفرغ العليا من الرمل، وهكذا دواليك
فإذا أرادوا معرفة الوقت نظروا إلى مقدار الرمل الباقي في العليا، أو إلى مقدار ما نزل منه إلى السفلى
ولبثت هذه الساعة شائعة الاستعمال عند بعض قرويي دمشق حتى قبيل الحرب العامة. وقد أدركنا أحد الشيوخ المسنين يصنعها ويبيعها في حانوت له خارج باب دمشق الغربي (في سوق المسكية)
أما الساعة المائية التي شاعت عن الكلدان والهنود فهي كالساعة الرملية، بإبدال الرمل بالماء، وكانت أقل دقة منها، لأن اختلاف الجو برداً وقيظاً كان ينقص مقدار الماء
وكان ألفرد الكبير عاهل الإنكليز يأمر باتخاذ شمع طول الواحدة منها اثنتا عشرة إصبعاً، مقسمة بعلامات خاصة إلى أربعة وعشرين قسما، عدد ساعات الليل والنهار، وكانت توقد ليلاً ونهاراً، ويجعل أمامها جسم شفاف وقاية لها من الريح
أما العرب فقد تفننوا في صنع الساعات مستندين إلى فن الهندسة، واخترعوا لها آلات عجيبة أصبحت فيما بعد أساساً للساعات التي نراها اليوم
وقد بدأ شيوع استعمال الساعات في البلاد العربية منذ القرن السادس للهجرة وبقي حتى الثامن، فكان في مراكش وتلمسان والأندلس ومصر وبغداد ودمشق عدة ساعات تنصب في الأماكن العامة لمعرفة الأوقات، وسنأتي على ذكرها مفصلاً
مهندسو الساعات
اشتهر في تلك العصور كثير من المهندسين العرب الذين تخصصوا في صنع الساعات، وكانوا يديرون آلاتها بواسطة الماء إلى أن جاء ابن الشاطر المهندس الدمشقي فسعى في(146/136)
ترقيتها وتوصل لجعلها صغيرة الحجم بالنسبة لغيرها من الساعات، وأصبحت تعلق على الجدران ولا تحتاج آلاتها إلى الماء، فكانت أقرب ما تكون إلى الساعات المستعملة اليوم. واليك تراجم أشهر من اشتغل بصنع الساعات:
محمد رستم الساعاتي - أصله من خرسان قدم دمشق وأقام بها، وكان أوحد أهل زمانه في علم الفلك وصنع الساعات. قال ابن أبي أصيبعة: وهو الذي صنع الساعات التي عند باب الجامع بدمشق، صنعها في زمن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وكان له الإنعام الكثير والجامكية والجراية لملازمته صنع الساعات إلى أن توفي - ولم يذكر سنة وفاته
أبو عبد الله بن القيراني - هو محمد بن نصر بن صُعيَر، ولد بعكا سنة 487 أديب شاعر، كان بينه وبين ابن منير الشاعر الطرابلسي المشهور مكاتبات وأجوبة ومهاجاة، ومع ذلك فقد كان بارعاً في العلوم الرياضية من حساب وفلك وهندسة، تولى إدارة الساعات بدمشق، ثم رحل إلى حلب، ثم رجع إلى دمشق وتوفي بها في 11 شعبان سنة 548
محمد بن عبد الكريم الحارثي - لقبه مؤيد الدين، وكنيته أبو الفضل، كان معروفاً بالمهندس، ولد ونشأ بدمشق، وكانت حياته نادرة من نوادر الدهر تجلى فيها النبوغ الشرقي، فقد كان في أول أمره نحاتاً ينحت الحجارة، ثم صار نجاراً فبرّز على النجارين في حسن الصنعة؛ وأبواب البيمارستان النوري بدمشق من صنعه؛ ثم تعلم الهندسة لتزداد براعته في النجارة، وقد وصف المدرسة التي تعلم فيها الهندسة بقوله: (كنت أشتغل في مسجد خاتون الذي تحت المنيبع غربي دمشق، وكنت لا أصل إلى المسجد إلا وقد حفظت شيئاً من كتاب أقليدس وحللت بعضاً من مسائله إلى أن أتممته حفظاً وفهماً)، ثم قرأ المجسطي وحلّ مسائله أيضاً، وانصرف إلى الهندسة انصرافاً تاماً، حتى اشتهر بعد ذلك بالمهندس
وقدم دمشق الشرف الطوسي وكان إماماً في العلوم الرياضية فقرأ عليه ما نقصه من الحساب والهندسة والفلك
وقرأ بعد ذلك علم الطبي على أبي المجد محمد بن أبي الحكم، إلى أن برع فيه، وتعين طبيباً في البيمارستان النوري، مهندساً لساعات المسجد الأموي وكان يتقاضى مخصصات منهما(146/137)
وفي زمنه تخربت ساعات المسجد الأموي فأصلحها أحسن تصليح: من مؤلفاته. رسالة في معرفة رسم التقويم، مقالة في رؤية الهلال، اختصار كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، عشرة أجزاء وقفها في المسجد الأموي بدمشق وجعلها في مشهد عرِوة، كتاب الحروب السياسية، كتاب في الأدوية المفردة مرتبة على حروف الهجاء، توفي بدمشق سنة 599
ابن الشاطر - هو أبو الحسن علاء الدين، علي بن إبراهيم ابن حسان الأنصاري الدمشقي، نشأ يتيما فتعلم صنعة تطعيم العاج من زوج خالته، ثم تعلم العلوم الرياضية والفلكية، فلقب بالمطعم وبالفلكي
رحل إلى مصر والإسكندرية ليأخذ العلوم الرياضية عن أربابها وكان صاحب ثروة. ويقول ابن العماد أن داره من أحسن الدور وضعاً وعزابة. ويقول الصلاح الصفدي: (دخلت منزله في شهر رمضان سنة 743 لرؤية الإسطرلاب الذي أبدع وضعه فوجدته قد وضعه في قائم حائط في منزله داخل باب الفراديس بدرب الطيار، ورأيت هذا الإسطرلاب فأنشأ لي طرباً، وجدد لي في المعارف رأياً، وقلت أن من تقدمه من الأفاضل عند جبل علمه الراسخ هباء. . . (إلى أن قال: (وصورة هذا الإسطرلاب المذكور قنطرة نصف أو ثلث ذراع تقريباً يدور أبداً على الدوام في اليوم والليلية من غير ماء وعلى حركات الفلك، لكنه قد رتبها على أوضاع مخصوصة تعلم منها الساعات المستوية والساعات الرملية الزمانية.)
ومما ذكره الصفدي وسماه إسطرلاباً يعلم أن ابن الشاطر أول مخترع لساعات الجدران وأن ما سماه إسطرلاباً ليس بالإسطرلاب المشهور، لأن اختراع الإسطرلاب المعروف قديم جداً، وإنما هو اختراع جديد من وضع ابن الشاطر
ومن أعمال ابن الشاطر البسيط الذي وضعه في منارة العروس إحدى منارات المسجد الأموي؛ وقد زينت دمشق يوم وضعه وبقي فيها إلى سنة 1293 فاختل وضعه من مرور السنين عليه ومال أحد جوانبه، ولما أريد إصلاحه انكسر فصنع بدلا منه العلامة المرحوم الشيخ محمد الطنطاوي، جدّ بني الطنطاوي بدمشق، وجعل حسابه على الأفق الحقيقي، وزاد فيه قوس الباقي للفجر، فجاء في غاية الضبط والإتقان، جزاه الله خير الجزاء. وقد قال الشيخ عبد المجيد الخاني من قصيدة مؤرخاً له:
ما قال أهل الشام في تاريخه ... تم البسيط بنفحة القدوس(146/138)
ولابن الشاطر المذكور اختراعات عديدة من آلات فلكية وهندسية، وله آراء ونظريات في الحساب والجبر والهندسة والفلك، أضحت مصباحاً مشرقاً لمن جاء بعده. وتولى في المسجد الأموي وظيفة التوقيت ورياسة المؤذنين، وله مؤلفات عديدة ذكر أكثرها في كشف الظنون. توفي سنة 777
علي بن ثعلب الساعاتي: - هو نور الدين علي بن ثعلب الساعاتي، تولى تدبير ساعات المدرسة المستنصرية في بغداد؛ وكان مولده سنة 601 وتوفي سنة 863
وإليك بعد هذه التراجم بعض ما وفقت عليه من وصف تلك الساعات
1 - ساعة هارون الرشيد
ذكر فولتير وغيره من المؤرخين الفرنسيين أن أول ساعة عرفت في أوروبا هي الساعة التي أهداها أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا سنة 807 وكانت بدعاً في ذلك العصر، حتى أنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولا؛ كان لها اثنا عشرة باباً صغيراً بعدد الساعات، فكلما مضت ساعة فتح باب وخرجت منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صور أثنى عشر فارساً على خيل تدور على صفحة الساعة. ولم تقف لهذه الساعة على ذكر فيما اطلعنا عليه من الكتب العربية
2 - ساعة مسجد مراكش
ذكرها القلقشندي في صبح الأعشى فقال: وبمراكش جامع جليل يعرف بالكتبين، طوله مائة وعشر أذرع، وعلى بابه ساعات مرتفعة في الهواء خمسين ذراعا، كان يرمى فيها عند انقضاء كل ساعة صنجة زنتها مائة درهم تتحرك لنزولها أجراس تسمع على بعد
3 - ساعة الملك الكامل
ذكرها القليوبي في نوادره فقال: إن السلطان الكامل كان عنده شمعدان فيه أبواب، فكلما مضت ساعة يخرج من باب منها شخص يقف في خدمته إلى مضي ساعة، وهكذا إلى تمام الأبواب اثنتي عشرة ساعة، فإذا تم الليل خرج شخص فوق الشمعدان ويقول: أصبح السلطان؛ فيعلم أن الفجر قد طلع فيتأهب للصلاة. وهذه الساعة مصرية لأن إقامة الملك(146/139)
الكامل كانت في مصر
4 - ساعة المدرسة المستنصرية ببغداد
جاء في مجلة - الزهراء - السنة الثالثة - ص 254 ما نصه (من مخطوطات الخزانة التيمورية بالقاهرة جزء قديم (في كتب التاريخ رقم 1383) من كتاب مجهول الاسم والمؤلف. رتبه مؤلفه على السنين. وما في هذا الجزء من سنة 626 إلى 700 وقد جاء في حوادث سنة 633 منه وصف للساعة التي وضعها أمير المؤمنين المستنصر في مدرسة الطب والمستشفى التابعين لمدرسته العظمى المعروفة باسم (المستنصرية) وقد أدخل العلامة أحمد تيمور باشا وصف هذه الساعة في كتابه (التصوير عند العرب) الذي لم يطبع بعد. فآثرنا التعجيل بنقل ذلك إلى قراء الزهراء:
(وفيها - أي في سنة 633هـ - تكامل بناء الإيوان الذي أنشئ مقابل (المدرسة المستنصرية) وعُمل تحته صّفة يجلس فيها الطبيب، وعنده جماعته الذين يشتغلون عليه بعلم الطب ويقصده المرضى فيداويهم
وبني في حائط هذه الصفة دائرة. وصورت فيها صورة الفَلك، وجعلت فيها طاقات لطاف لها أبواب لطيفة: وفي الدائرة بازان من ذهب، في طاسين من ذهب. ووراءهما بندقتان من شبَهٍ لا يدركهما الناظر
فعند مضي كل ساعة ينفتح فما البازين، وتقع منهما البندقيتان وكلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب تلك الطاقات، والباب مذهب فيصير حينئذ مفضضاً. وإذا وقعت البندقتان في الطاسين تذهبان إلى موضعهما. ثم تطلع أقمار من ذهب في سماء لازوردية في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقة، وتدور مع دورانها وتغيب مع غيبوبتها، فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها، كلما تكاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر، ثم تبتدئ في الدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل الشمس، فتعلم بذلك أوقات الصلوات)
ثم أورد صاحب هذا التاريخ المخطوط أبياتاً لشاعر من شعراء ذلك العصر الذهبي يذكر بها هذه الساعة:
(يا أيها المنصور يا ملكاً ... برأيه صعب الليالي يهون
شيدت لله ورضوانه ... أشرف بيان يروق العيون(146/140)
إيوان حسن وضعه مدهش ... يحار في منظره الناظرون
صور فيه فلك دائر ... والشمس تجري ما لها من سكون
دائرة من لازورد حكت ... نقطة تبر فيه سرّ مصون
فتلك في الشكل وهذي معاً ... كمثل هاء ركبت وسط نون)
وجاء في حوادث سنة 603 من هذا المخطوط أن نور الدين علي بن ثعلب الساعاتي توفي في تلك السنة، وكان يتولى تدبير الساعات التي تجاه المستنصرية، وأن مولده كان سنة 601 هـ
5 - ساعة المدرسة القمرية بدمشق
نسبة لمنشئها الأمير سيف الدين علي بن يوسف القمري، أنشأها في نصف القرن السابع الهجري، ثم نسبت المحلة التي فيها المدرسة للمدرسة، فقيل حي القمرية، والقمري نسبة لقيمر قلعة بين الموصل وخلاط. وكان سيف الدين القيمري أميرا كبيرا وشجاعاً باسلا، وهو الذي أسر (لويس التاسع) إمبراطور فرنسا سنة 648 بين المنصورة ودمياط. وله في دمشق أعمال خيرية، فقد بنى فيها مارستاناً ومسجدا ومدرسة تسمى القيمرية الكبرى، وتعرف الآن بمدرسة القطاط، وكان على باب هذه المدرسة ساعة مهمة بلغت مصاريفها كما يقول العلموي أكثر من أربعين ألف درهم. وهذه الساعة وإن لم نطلع على وصف لها، فإنا نستفيد من نص العلموي مقدار المصروف عليها
6 - ساعة باب جامع دمشق الشرقي
يعرف هذا الباب بباب جيرون، وقد شاهدها ابن جبير الرحالة المشهور فوصفها بقوله: (وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صُفر قد فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيراً هندسياً، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صِفر من فمي بازين مصورين من صفر (نحاس) قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما. أحدهما تحت أول باب من تلك الأبوار، والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازين يمدان أعناقهما بالبندقتين(146/141)
إلى الطاستين ويقذفانها بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دويّ وينغلق باب تلك الساعة لحين بلوح من الصفر، ولا يزال كذلك عند انقضاء ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول
ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطبقات المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبر ذلك كله خلف الطبقات المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها بعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها)
وهناك ساعة ثانية على باب جامع دمشق القبلي ويعرف هذا الباب بباب الزيارة، ويقول النعيمي إن مكانها في العنبرانية - المشهورة في عصرنا بالعمرانية، ويقول ابن كنان إنها من عمل أبي الفضل الحارثي الدمشقي المهندس، وقد تقدمت ترجمته - وصفة هذه الساعة هي: بيكار (لعله بنكام) عليها عصافير من نحاس، وحية من نحاس، وغراب من نحاس.
فإذا تمت الساعة خرجت الحية، وصفرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطست
7 - ساعة ابن الشاطر
تقدم ذكرها في ترجمته، ويمكن القول بأن ساعة ابن الشاطر آخر طراز وصلت إليه الساعة العربية، وقد أخذ الغربيون هذا الطراز عنها في ساعات الجدران، وقد اطلعت على ساعة قديمة أوروبية ترجع في تاريخ صنعها إلى ما قبل ثمانين سنة، إذا مضت ساعة من الوقت يخرج عصفور من باب في أعلاها ويصيح
دمشق
أحمد دهمان(146/142)
البريد الأدبي
عبرات جوار لا حرار
سألني السيد (محمد حصار) من فضلاء المغرب الأقصى في العدد (144) من (الرسالة) عن رأيي في قول الخنساء:
(من كان يوماً باكياً سيدا ... فليبكه بالعَبرات الحِرار)
فقد وصفت الخنساء دموعها بالحرار مع أنه سبق مني القول في مقالتي (تعريب الأسالب) المنشورة في الجزء الأول من مجلة مجمعنا المصري أن العرب يصفون الدمع والعين بالسخونة، ولا يصفونهما بالحرارة كما يفعل الإفرنج
وأنا إنما أردت أن العرب ليس ذلك الوصف من شأنهم، أي غير شائع في أساليب بلاغتهم: أن يصفوا الدمع بالحرارة لا أنه لا يقع ذلك منهم أحياناً، والشاهد الصحيح على وقوعه في كلامهم قول الشاعر
بدمع ذي حرارات ... على الخدين ذي هيدب
راجع ذلك في اللسان والتاج مادة (حرّ) وهيدب السحاب ما تراه كأنه خيوط عند انصباب مطره
أما ما ذكره المعترض الفاضل من شعر الخنساء فلا يصلح شاهد لسببين:
(الأول) أن (حرارا) لا تكون جمعاً لحارة حتى يصخ أن تقول في (عبرة حارة) عبرات حرار، ولم ينقل هذا الجمع أحد من أرباب المعاجم، ولم يذكروه في جملة ما شذ من الجموع، وإنما صرحوا أن (حرار) تكون
جمعاً للحّرّة: وهي الأرض ذات الحجارة السود
وجمعاً للحَرّان: وهو الشديد العطش
وجمعاً للحر: وهو ضد العبد (وهذا الجمع حكاه ابن جني) يعني يكون شاذاً
(ثانياً) لا يجوز أن يقال: أن أرباب المعاجم قد يهملون ذكر كلمات لغوية فصيحة وردت في أشعار العرب: من ذلك فعل (تبدى) في قول عمرو بن معدي كرب
(وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى)
فليكن جمع (حارة) على (حرار) من هذا القبيل ويكون الشاهد عليه قول الخنساء المذكور(146/144)
وكفى به حجة
لا يقال ذلك لأنه يجب قبل كل شيء الاستيثاق والتثبت من صحة ألفاظ الشاهد، وأول طرق هذا الاستيثاق عدم احتمال تحريف كلماته
فكلمة (الحرار) تحتمل احتمالاً قريباً جداً أن تكون محرفة عن (الجوار) بفتح الجيم وبعدها واو أي (العبرات الجواري) جمع (جارية) اسم فاعل مؤنث من فعل (جَرى) الدمع إذا سال على الخدين
ووصف الدموع بالجواري صحيح من حيث قواعد العربية، فصيح من حيث شيوع استعماله في كلام البلغاء
أما كلمة (الحرار) فليست بهذه المثابة: لا من حيث القواعد ولا من حيث شيوع الاستعمال
ونسخة ديوان الخنساء التي بين أيدينا إنما هي من طبعة الأب لويس شيخو اليسوعي وهو - رحمه الله - لم يشتهر بالدقة في ضبط نصوص ما ينشره من الآثار الأدبية، ولا في تحقيق كلماتها اللغوية
فلعل الفاضل (محمد حصار) وقعت إليه مثل هذه المطبوعة أو مخطوطة قديمة أخرى يسرع إلى مثلها هذا التحريف
وفي مكتبتي نسخة شرح مخطوط على ديوان الخنساء كتبت سنة 1145هـ لمؤلف مجهول؛ وما لي لا أقول إن هذا الشرح لثعلب كما يمكن استنتاجه من خاتمة المخطوطة؟ وقد سقط منها بعض أوراق فلم أجد قصيدة (العبرات الحرار) فيها. فلعل القصيدة برمتها غير موجودة في رواية تلك النسخة أو هي في ضمن الأوراق الساقطة
وتوجد نسخة من هذا الشرح نفسه في دار الكتب المصرية كتبت سنة (620هـ) كما يفهم من الفهرس العام (جزء 3 نمرة 203)
فلعل أحداً من قراء (الرسالة) ممن تهمهم أمثال هذه البحوث وهم كثيرون - يزور دار الكتب المصرية ويراجع لنا بيت الخنساء ويتثبت من قافيته: أهي (الحرار) أو (الجوار)
أو يراجع ما هو أوثق من ذلك كله وهو نسخة ديوان الخنساء بخط اللغوي الكبير المحقق العلامة الشنقيطي التركزي رحمه الله، وإن له على نسخته تقييدات كالشرح لها. وهذه النسخة أيضاً من نفائس ما حوته دار الكتب المصرية. راجع فهرسها العام (جزء 3 ص(146/145)
128)
(دمشق)
عبد القادر المغربي
المكتبة العربية في الاسكوريال
تشتمل المجموعة العربية بمكتبة الاسكوريال بمدريد على مجموعة نفيسة جدا من الكتب العربية والإسلامية في مختلف العلوم والفنون، يبلغ عددها 1952 مجلداً، ومعظمها كتب أندلسية هي التراث الأخير لآداب أسبانيا المسلمة؛ ولم ينشر إلى اليوم من هذه المجموعة سوى بضع عشرات من الكتب قام على إخراجها جماعة من المستشرقين، ومنها المكتبة الأندلسية التي تضم عدة مجلدات، وأخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر، والحلة السيراء لابن الآبار، وبضعة كتب أخرى؛ وكان آخر ما نشر من هذه المجموعة النفيسة مجلد من تاريخ الأندلس لابن حيان، أخرجه الدون انتونيو مدير مكتبة الاسكوريال وهو يتناول قسماً من عصر بني أمية بالأندلس
وقد لفتنا الأنظار غير مرة إلى هذه المجموعة النفيسة، وتمنينا على دار الكتب المصرية أن تبذل وسعها لتصوير أو نسخ أكبر عدد من هذه المجموعة، ولكنها لم توفق حتى اليوم إلى تحقيق هذه الغاية بصورة مرضية؛ وكل ما استطاعت أن تحصل عليه حتى اليوم هو صور لخمسة كتب فقط من مجموعة الاسكوريال، هي كتاب البديع لابن المعتز، ومختصر طبقات الشعراء له أيضاً، وطيف الخيال للشريف الرضي، وكتاب الفلاحة لابن العوام، ومجموعة فلسفية في شرح بعض كتب الفارابي؛ وتسعى دار الكتب منذ حين في الحصول على صور أو نسخ لعدة كتب أخرى من هذه المجموعة، ولكن الظاهر أنها تجد في ذلك السبيل عقبات مالية لا تستطيع تذليلها
وفي ذلك ما يبعث إلى أشد الأسف، ذلك أن مجموعة الاسكوريال هي بلا ريب من أنفس المجموعات العربية المعروفة، هذا فضلاً عن أن لها فوق نفاستها العلمية صفة خاصة، فهي في الواقع بقية التراث الإسلامي في الأندلس، وتكاد تحظى في نظر العالم الإسلامي بنوع من القدسية المؤثرة(146/146)
ويوجد بين محتويات هذه المجموعة عدة كتب فريد في بابها، في السياسة والفلسفة والأخلاق والطب، مثل كتاب أدب الفلاسفة (رقم 760 من المجموعة) وكتاب عن سياسة الأمراء وولاة الجنود (رقم 719) وكتاب في السفارات النبوية عنوانه المصباح المضيء (رقم 1742)؛ هذا إلى عدة كتب من تأليف أكابر العلماء المصريين مثل كتاب الشهاب القضاعي (رقم 752) وكتاب القول التام في فضل الرمي بالسهام، للسخاوي (رقم 765) وكتاب في تاريخ المعز لدين الله (رقم 1761)، وكتب نفيسة أخرى يضيق المقام عن ذكرها
وقد حصلت الجامعة المصرية على صور عدة كتب أخرى من هذه المجموعة النفيسة، ولكن ما حصلت مصر عليه حتى الآن لا يعتبر شيئاً مذكوراً
ولهذا نعود فنتمنى على دار الكتب المصرية وعلى مكتبة الجامعة، وعلى ولاة الأمر جميعا أن يشملوا هذه المجموعة الفريدة بكثير من عنايتهم وألا يدخروا في سبيل الحصول على نفائسها جهداً أو مالا(146/147)
الكتب
نفسية الرسول العربي محمد بن عبد الله
السوبرمان الأول العالمي
تأليف السيد لبيب الرياشي
بقلم الأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي
هذا هو العنوان الذي جعله الأستاذ (لبيب الرياشي) لسلسلة من الرسائل في فلسفة الإسلام، أخرج منها الرسالة الأولى التي نقدمها الآن لقراء (الرسالة)، والأستاذ الرياشي كاتب مسيحي له مكانته بين أدباء سورية الشقيقة، ثم هو فوق ذلك فخور بعربيته متحرر من قيود التعصب؛ ولعل هذه الميزات هي التي تجعل من الرياشي وصحبه مدرسة جديدة هي (مدرسة المتجردين المتطهرين) التي تعلي للحق منبرا تدأب على حمايته ورعايته. وإنك لتلمس سمو هذه المدرسة ونبلها في مقالة الرياشي في كشافة الكتاب الأول، إذ يقول:
(لنتجرد. . . . ولنتطهر. . . . لنتجرد ولنتطهر أيها الإنسي من جذام التعصب وأثرة الجنسية)
والرجل بهذا ينسى كل شيء سوى أنه من طلاب اليقين، وليس من شك في أن هذه الدراسة البريئة للسيرة النبوية الشريفة هي التي حفزت الرياشي على تحليل نفسية الرسول الكريم، وجعلته يعترف فوق ذلك بفضائل هذه الدراسة إذ يقول:
(ما ندمت على شيء في حياتي ندماً عصبياً ساحقاً مثل ندمي على جهلي نفسية الرسول العربي والإمام الأعظم العالمي محمد ابن عبد الله). ذلك ما يقوله رجل يمثل الأقلية الدينية المندمجة في ذلك الشرق العربي، الذي ترفرف فوق ربوعه راية التسامح في الدين وتسوده روح الإخاء في القومية العربية العزيزة، والرياشي يصف محمداً بأنه (السوبرمان الأول العالمي) مستعيرا كلمة (السوبرمان) من الفيلسوف (نيتشه) وهذا الأخير أطلقها على الإنسان الأكمل الذي يجمع إلى مشاركة البشر في خصائص الجسم سمو العقل والروح إلى حد يجعله حلقة الاتصال بين الله والناس، ويعمد الكاتب الفاضل إلى الموازنة بين عظمة محمد وغيره من قادة الإنسانية، فهو يقرر في مستهل بحثه أن العظماء سرعان ما يفقدون(146/148)
هيبتهم إذا هم خالطوا الناس طويلاً، أما محمد فلم تكن مخالطته للناس وتبسطه في معاملتهم إلا عاملاً على رفع مكانته وإعلاء شأنه بينهم. وينتقل المؤلف إلى ما كان من توسط أبي طالب بين قريش ومحمد في أن يسودوه عليهم ويزوجوه أحسن بناتهم على أن يترك تسفيه دياناتهم والدعوة إلى الله، ويحلل جرأة محمد في رده التاريخي الخالد، ويقارن بينها وبين جرأة ميرابو خطيب الثورة الفرنسية ولوثر زعيم الإصلاح الديني وأبي بكر وعمر، والرياشي في ذلك التحليل موفق أحسن التوفيق، فهو يوضح أن جرأة بعض الزعماء والمصلحين تستند إلى قوة الجماهير وصولة الجماعات، بينما ترتكز جرأة البعض الآخر على جلال الإمارة وهيبة السلطان، أما محمد ابن عبد الله فلم يتح له من ذلك شيء، فجرأته لا تقاس بها جرأة، وإقدامه لا يعدله في التاريخ إقدام
وبرغم ذلك التوفيق الجلي لاحظت أن الأستاذ وهو يعالج بعض النواحي يجتهد في ضرب من التحليل أرى أنه ليس من التاريخ ولا من فلسفة التاريخ في شيء، فهو يتساءل عن السر في خرس الجماهير مرات وسنوات إزاء الرسالة المحمدية، وعن السر في عدم إراقتهم دماء في هذا السبيل، ويقرر أن ذلك وقع برغم صياح أبي لهب وضجيجه، وأن ذلك كان لمعجزة، وأن هذه المعجزة هي أن شخصية النبي أحلت في نفوس القوم إيماناً جعلهم (يحترمون ويهابون ويؤمنون). ليس ذلك يا سيدي هو الواقع، وإنما الواقع الذي لا يقبل الجدل هو أن العرب حين جهر النبي بدعوته آذوه واستغربوا في إيذائه حتى أخرجوه من عشه مهاجراً إلى المدينة، وأنهم كانوا في ذلك معاندين مكابرين لا يحترمون ولا يهابون ولا يؤمنون، وأن شخصية النبي لم تغن من ذلك الإيذاء شيئاً. وليسمح لي الأستاذ الجليل أن أؤكده له أننا لو ذهبنا مذهبه من أن الرسول جهر بدعوته فاستجابت له الجماهير لأن تأثيره على محدثيه ومعاشريه تأثير المنوم المغنطيسي في المنوَّم كما يقول: لو صح يا سيدي أن ننسب ذلك لمحمد لهيأنا للمعترضين فرصة للطعن في دعوته فيقولون إن هذه القوة لا شك تبهر العرب بالباطل كما تبهرهم بالحق، والواقع يا سيدي أن العرب سخرت من محمد ومن دعوة محمد وليس يخفى خبر المستهزئين بالرسالة من قريش أمثال أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي وأبي لهب بن عبد المطلب وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة عم أبي جهل والعاصي بن وائل القرشي والد عمرو بن(146/149)
العاص والنضر بن الحارث العبدري وغيرهم ممن روى البخاري أخبارهم وحفلت بها بكون التواريخ
وفي موضع آخر من الرسالة يتناول المؤلف الكلام عن عدل الرسول الكريم فيسوق بعض الحوادث التاريخية التي تشهد بحبه للحق وانتصافه للناس حتى من نفسه. ثم يجاوز هذا إلى تحليل صفة العفو والغفران في نفس محمد، وهنا يمحو تلك المعجزة التي كان قد أثبتها للنبي، ويقر بما ناله من الأذى على يد قريش إذ يقول:
(أباحوا دمه ودمهم، وعلقوا في ذلك الحصار وتلك الإباحة صحيفة في جوف الكعبة طمأنة للمقتدرين على الأذية، وزادوا بأن أجازوا المعتدي بثروة) (ص 91)
ويجد الأستاذ في تحليل ما كان من شأن الرسول الكريم مع قريش بعد فتح مكة من تسامح وغفران عظيمين، ويوازن بقوة بين هذا التسامح وذلك الغفران وبين ما أتاه برتوس قائد الغال بعد دخول روما وما صنعه بونابرت بعد دخول بولونيا، فيبدع في تحليل نفسية الرسول ويثبت سموه على غيره من قادة البشر وعظماء الإنسانية، ولعل أجمل ما ساقه في ذلك الموضع تصويره الرسول غالباً ظافراً يقف من المغلوبين فيضرب للتاريخ أعظم أمثلة التسامح والديموقراطية إذ يردد قول الله سبحانه وتعالى:
(يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)
ثم يجاوز ذلك إلى مخاطبة الخائفين من المغلوبين بقوله:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء)
هذه لمحة سريعة لذلك الكتيب الذي يقول مؤلفه الفاضل إنه الأول من الثلاثين التي يعتزم إخراجها في فلسفة الإسلام، ونحن نهنئ الكاتب بجهده الجميل الذي يعد نوعاً جديداً في أدب السيرة المحمدية الشريفة، ونرجو للمؤلف التوفيق في إخراج بقية الأجزاء
السرنجاوي
نظام الطلاق في الإسلام
تأليف الأستاذ الشيخ محمد شاكر(146/150)
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
رأت وزارة الحقانية في هذه الأيام أن تسير في إصلاح أحكام الأصول الشخصية، فنشرت على رجال القضاء الشرعي وغيرهم كتابا في 13 نوفمبر سنة 1935م تدعو من شاء منهم أن يقترح ما يراه من أحكام المذاهب الأخرى سبباً للتخفيف عن الناس، ورفع الحرج عنهم
فكان الأستاذ الجليل، والعالم المجتهد، الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي، وأبو الأشبال أيضاً، حفظه الله لهم وحفظهم له، أول من بادر إلى إجابة هذه الدعوة، ولا غرو فالولد سر أبيه، ونشاطه من نشاطه، وإذا كان في الأزهر والمعاهد الدينية الآن شيء من النشاط، فهي مدينة فيه الوالد الأستاذ أبي الأشبال الأستاذ الكبير الشيخ محمد شاكر شيخ معهد الإسكندرية ووكيل الجامع الأزهر، والعضو الآن في هيئة كبار العلماء، فهو منشئ النظام الحاضر بالمعاهد، وهو باعث هذا النشاط الموجود الآن فيها
وإذا قلت عن الأستاذ أبي الأشبال (العالم المجتهد) فذلك هو ما يستحقه بطريقته في تأليف هذا الكتاب، إذ سار فيه على طريق السلف الصالح من الرجوع في استنباط الأحكام إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعول في ذلك على أقوال أئمة المذاهب كما يعول عليها غيره، ولا يتعداها إلى النظر الصائب الخالي عن التعصب في كتاب أو سنة
وهو مرة يأخذ بأحد أقوال الأئمة الأربعة إذا وجده متفقاً مع كتاب الله وسنة رسوله، ومرة يأخذ بقول الشيعة أو غيرهم إذا كان متفقاً عنده مع ذلك، كما ذهب إلى الأخذ بقول الشيعة في وجوب الإشهاد على الطلاق لقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) فالظاهر من سياق الآية أن قوله (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً، وهو قول ابن عباس، فقد روى عنه الطبري في التفسير: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين كما قال الله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) عند الطلاق وعند المراجعة، وهو قول عطاء أيضاً: فقد روى عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود، نقله السيوطي في الدر المنثور(146/151)
وقد اختار الأستاذ أبو الأشبال بطلان الرجعة إذا قصد بها الرجل المضارة، لقوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) وقوله (لا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) وإذا كان للمرأة أن تطلب الطلاق للمضارة، فأولى أن يكون لها الحق في طلب الحكم بإبطال الرجعة للمضارة أيضاً
ولكنه كما ترى ترك ذلك لنظر المحاكم، ولا يخفى أن هذا يجر إلى منازعات لا طائل تحتها، والأولى من هذا أن تكون الرجعة برضا المرأة، لأنها إذا لم تكن برضاها فالمضارة حاصلة قطعاً، وإذا كانت تستأمر في النكاح، فلتستأمر في الرجعة أيضاً
ومما ذهب إليه الأستاذ أبو الأشبال أن الطلاق الثلاث الذي اختلف في أنه يقع ثلاثاً أو طلقة واحدة إنما هو أن يطلق الرجل امرأته مرة، ثم يطلقها مرة ثانية في عدتها، ثم يطلقها مرة ثالثة فيها، سواء أكان ذلك في مجلس واحد أم في مجالس متعددة، أما الطلاق بلفظ الثلاث فليس هو محل ذلك الخلاف، وإنما يقع واحدة قطعاً، لأن قول القائل (أنت طالق) يوجد به حين القول حقيقة معنوية واقعية هي الطلاق، ووصفه بعد ذلك هذا الفعل بالعدد (مرتين أو ثلاثاً) وصف باطل غير صحيح، لأن الذي تحقق بقوله (أنت طالق) مرة واحدة لا مرتين ولاثلاث، ولا يتحقق ذلك إلا بنطق ثان أو ثالث كسابقهما
وهذا مذهب له خطورته لولا أن العمل الآن على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، فلندع ذلك الماضي إلى رحمة الله، ولنفكر في حاضرنا وحده
هذا وكتاب الأستاذ أبي الأشبال جدير بإقبال المسلمين عامة، وطلاب العلوم الدينية خاصة، لينتفعوا بما فيه من فقه صحيح، واجتهاد نافع، واطلاع واسع
عبد المتعال الصعيدي(146/152)
العدد 147 - بتاريخ: 27 - 04 - 1936(/)
ترجمة معاني القرآن
رأى صاحب السعادة الأستاذ محمد علي علوبه باشا وزير المعارف في رحلته إلى الشرق الأقصى قوماً من اليابان ينظرون في الأديان ليختاروا من بينها طريقهم إلى الله، وهم لذلك يتلمسون الوسائل لفهم القرآن فلا يجدون إلا ما كتب المستشرقون والمبشرون وأولو العِلاَّت من الجهل والغرض. وكل ما في أيديهم من ذلك ترجمتان: ترجمة أوربية لم تصدر عن معرفة، وترجمة (أحمدية) لم تصدر عن عقيدة؛ فالأولى تشويه من زور العلم، والأخرى تمويه من خداع السياسة. والدعوة الدينية اليوم فضلاً عن آثارها الروحية وسيلة من وسائل الاستعمار في الأمم الضعيفة، ونوع من أنواع التحالف في الأمم القوية
رأى الأستاذ ذلك وسمع أمثال ذلك فكان من أمانيه أن تصدر عن مصر كنانة الله وموطن الأزهر ومعقل العربية، ترجمة رسمية لمعاني القرآن تكون في الترجمات كما كان مصحف عثمان في المصاحف. فلما تولى وزارة المعارف كان من أول ما أمضى النية عليه أن طلب إلى مجلس الوزراء (ترجمة معاني القرآن ترجمة رسمية بحسب ترتيب سوره وآياته، وبأسلوب موجز واضح يمكّن المترجم من نقله إلى اللغة الأجنبية بالتدقيق الواجب توخيه في ترجمة رسمية؛ على أن يبدأ بترجمة القرآن إلى اللغة الإنجليزية بمعرفة لجنة أحد عنصريها جماعة من المستشرقين أو غيرهم من الأجانب، يراجع عليها كاتبان أحدهما مصري والآخر إنجليزي، يراجعان الترجمة مراجعة نهائية). وجعل الغرض لهذه الترجمة: (نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تتكلم العربية، والقضاء على الأثر السيئ الذي أحدثته الترجمة الخاطئة). فعرض هذا الأمر صاحب الدولة رئيس الحكومة على صاحب الفضيلة رئيس الأزهر، فاستفتى فيه جماعة كبار العلماء فأفتوا بجوازه، وعلى ذلك أقره مجلس الوزراء وانقطع القول فيه
ما كان لنا إذن بعد أن أفتى كبار العلماء وأقر مجلس الوزراء أن نتكلم فيما فرغ الناس منه وتبين الحق فيه، ولكن (الرسالة) من واجبها أن تلاحظ ومن حقها أن تسجل. والجدل الذي قام على هذا المشروع المفهوم بالضرورة، بين من أيَّد وبين من فند، إنما دل على مغمزين في بعض رجال الدين لا يتجدد بهما حبل الإسلام ولا تبلغ عليهما رسالة الأزهر. دل على أن في العلماء من لا يزالون يعتقدون أن من سنة الدين إلغاء العقل بإلغاء الرأي. فهم فيما يوردون وفيما يصدرون عبيد للنقل، لا يفتون إلا بقول قيل، ولا يحكمون إلا بنص كتب،(147/1)
وقد لا يكون من الفروق بينهم وبين صاحب هذا القول أو كاتب هذا النص إلا أنه سبقهم إلى الوجود بقرن أو أكثر!
صفحوا أوراق الأسفار الضخمة لعلهم يقعون على نص فقهي يحظر أو يبيح المعاني القرآنية إلى اللغة الإنكليزية، فلما أعياهم المحال بالطبع تقارعوا بالنصوص الحمالة، وتراشقوا بالنقول المبهمة، وفاتهم حين فاتوا الاجتهاد أن دعوة الإسلام عامة، ومن مقتضيات هذا العموم أن يترجم كتابها إلى كل لغة، وأن الداعي الأعظم (ص) الذي كان يجيب كل وفد بلحنه، ويخاطب كل إنسان على قدر عقله، ويهوّن على الفارسي فيكلمه ببعض لسانه، ويسهّل على قارئ القرآن بلهجته، ويوافق سلمان على ترجمته الفاتحة لقومه، لو نسأ الله في أجله حتى تُفتح الفرس وتُغلب الروم لأمر في أغلب الظن أن ينقل كلام الله إلى كلام الناس ليتصلوا به من غير حجاب، ويتفقهوا فيه من غير وساطة
إن في جعل بعضهم تعلم العربية شرطاً في فهم القرآن واعتناق الإسلام صداً عن سبيل الله وإبطالاً لدعوته. وإن إغفال الترجمة الإسلامية لآيات الله لم يحمل الفرس والترك والهنود على أن يتعربوا، وإنما ظلوا إلى اليوم يكابدون اختلاف الدعاة وتضليل الجهلة، وما تعرب منهم من تعرب إلا ابتغاء الرزق أو الجاه أو العلم في دولة العرب. وعدم الترجمة في مصر لم يحل دون وجودها في غير مصر؛ فإن الناس في الشرق والغرب يقرءون القرآن في أكثر اللغات بأسلوب مفكك وبيان قاصر، وواجب العلماء أن يغيروا هذا المنكر بالمحو وهو محال، أو بالتصحيح وهو ممكن. وليس في ترجمة معاني التنزيل استحالة ما أمكنت القدرة. والقول بأن المسلمين ما برحوا عاجزين عن فهم القرآن قول بأن الإسلام يقوم على أساس غير واضح. ولعل ترجمة المفهوم من لفظ القرآن أسلم من ترجمة المراد من معناه؛ فإن الأولى تفسير لغوي للنص، والثانية تقييد رسمي للرأي. وفي ذلك وشبهه مجال لعقل الفقيه إذا خلص من قيود التقليد لحظة
كذلك دل هذا الجدل على أن في العلماء من يلبسون الدين بالهوى ابتغاء لعرض الدنيا أو استشفاء من مرض القلب، فقد تحدث الناس عن رجلين معروفين بمرونة الرأي قاما يحاربان المشروع بنية مدخولة، حتى بلغ الأمر بأحدهما أن أهاب بدافعي الضرائب أن يحولوا بين الحكومة وبين الإنفاق على هذا العمل الباطل!!(147/2)
يا ورثة الأنبياء فيم ورثتموهم ولم يتركوا ضياعا ولا قصورا ولا مراكب؟؟ إنكم ورثتموهم في الدعوة إلى الله فلا تبطلوها، وفي تنفيذ الشريعة فلا تعطلوها، وفي نشر الفضيلة فلا تطووها طي المتاع الكاسد
لقد شعر المصلحون بأن الدين جوهر كل إصلاح، فساعدوهم على كشف الطريق بنور الحق، وبلوغ الغاية بهدى الله، وإلا فليس على الدين مسيطر، ولا على الناس لله وكيل!(147/3)
الربيع
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
خرجتُ أشهدُ الطبيعةَ كيف تُبح كالمعشوق الجميل، لا يقدّم لعاشقه إلا أسبابَ حبه!
وكيف تكون كالحبيب، يزيد في الجسم حاسةَ لمس المعاني الجميلة!
وكنت كالقلب المهجور الحزين، وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءه وأرضه
ألا كم من آلاف السنين وآلافها قد مضت منذ أخرج آدم من الجنة!
ومع ذلك فالتاريخ يعيد نفسه في القلب؛ لا يحزن هذا القلب إلا شعر كأنه طرد من الجنة لساعته
يقف الشاعر بازاء جمال الطبيعة فلا يملك إلا أن يتدفّق ويهتزّ ويطرب
لأن السرّ الذي انبثق هنا في الأرض، يريد أن ينبثق هناك في النفس
والشاعرُ نبي هذه الديانة الرقيقة التي من شريعتها إصلاحُ الناس بالجمال والخير
وكلُ حُسن يلتمس النظرةَ الحيةَ التي تراه جميلاً لتعطيه معناه
وبهذا تقف الطبيعة محتفلة أمام الشاعر، كوقوف المرأة الحسناء أمام المصور
لاحت لي الأزهارُ كأنها ألفاظُ حب رقيقة مُغَشّاة باستعارات ومجازات
والنسيمُ حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبيرٌ من لابِسَتِه
وكل زهرة كابتسامة تحتها أسرارٌ وأسرارٌ من معاني القلب المعقّدة
أهي لغةُ الضوء الملوّن من الشمس ذاتِ الألوان السبعة؟
أم لغةُ الضوء الملوّن من الخد، والشفة، والصدر، والنحر والديباج والحلي؟
وماذا يفهم العشاقُ من رموز الطبيعة في هذه الأزاهر الجميلة؟
أتشير لهم بالزهر إلى أن عمر اللذة قصير، كأنها تقول: على مقدار هذا؟
أتعلمهم أن الفرق بين جميل وجميل كالفرق بين اللون واللون وبين الرائحة والرائحة؟
أتناجيهم بأن أيام الحب صُوَرُ أيام لا حقائق أيام؟
أم تقول الطبيعة: إن كل هذا لأنك أيتها الحشرات لا تنخدعين إلا بكل هذا. . . .؟
في الربيع تظهر ألوانُ الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس
ويصنع الماءُ صُنَعه في الطبيعة فتُخرج تهاويلَ النبات، ويصنع الدم صنعه فيخرج تهاويلَ(147/4)
الأحلام
ويكون الهواءُ كأنه من شفاهٍ متحابّة يتنفس بعضُها على بعض
ويعود كل شيء يلتمع لأن الحياة كلَّها ينبض فيها عرقُ النور
ويرجع كل حي يغني لأن الحب يريد أن يرفع صوته
وفي الربيع لا يضيءُ النورُ في الأعين وحدها، ولكن في القلوب أيضاً
ولا ينفذُ الهواءُ إلى الصدور فقط ولكن إلى عواطفها كذلك
ويكون للشمس حرارتان إحداهما في الدم
ويطغَي فيضان الجمال كأنما يراد من الربيع تجربةُ منظر من مناظر الجنة في الأرض
والحيوان الأعجم نفسُه تكون له لَفَتاتٌ عقلية فيها إدراكُ فلسفة السرور والمرح
وكانت الشمسُ في الشتاء كأنها صورةٌ معلقة في السحاب
وكان النهارُ كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس
وكان الهواءُ مع المطر كأنه مطرٌ غير سائل
وكانت الحياة تضع في أشياءَ كثيرة معنى عبوس الجوّ
فلما جاء الربيع كان فرحُ جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال رجعت أمهم من السفر
وينظر الشباب فتظهر له الأرض شابة
ويشعر أنه في معاني الذات أكثر مما هو في معاني العالم
وتمتلئ له الدنيا بالأزهار، ومعاني الأزهار، ووحي الأزهار
وتخرج له أشعةُ الشمس ربيعاً وأشعةُ قلبه ربيعاً آخر
ولا تنسى الحياةُ عجائزها، فربيعُهم ضوءُ الشمس. . .
ما أعجب سر الحياة! كل شجرة في الربيع جمال هندسي مستقل
ومهما قطعت منها وغيرت من شكلها أبرزتها الحياةُ في جمال هندسي جديد كأنك أصلحتها
ولو لم يبق منها إلا جذر حيّ أسرعت الحياة فجعلت له شكلا من غصون وأوراق
الحياة الحياة. إذا أنت لم تفسدها جاءتك دائماً هداياها
وإذا آمنت لم تعد بمقدار نفسك ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن
(فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها)(147/5)
وانظر كيف يخلق في الطبيعة هذه المعاني التي تبهج كل حي، بالطريقة التي يفهمها كل حي
وانظر كيف يجعل في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة
وانظر إلى الحشرة الصغيرة كيف تؤمن بالحياة التي تملها وتطمئن؟
أنظر أنظر! أليس كل ذلك رداً على اليأس بكلمة: لا
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(147/6)
الإسلام كعامل في المدنية
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ أحمد أمين
والمسألة الثانية هي (الثقافة الإسلامية) وأثرها في المدنية
وأريد أن أكرر هنا ما أشرت إليه من أن الثقافة الإسلامية كانت أثراً من آثار العقيدة الإسلامية التي ألممت بها. فالقرآن رفع مستوى العقل إلى درجة يستطيع فيها التفكير الصحيح بما حارب من خرافات وأوهام، وعبادة أصنام، وبما حث على النظر في الكون ومراقبة تغيراته، واختلاف مظاهره، ودوام حركاته، وبتوجيه العقل إلى أن وراء كل المظاهر المختلفة وحدة، فالناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يرجعون إلى أصل واحد هو آدم وحواء، والبحار والأنهار المختلفة كلها ترجع إلى ما أنزل من السماء من ماء، والعالم كله يرجع إلى وحدة الخالق (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت). فهذه الوحدة في العالم تحمل على التفكير الصحيح والثقافة العميقة والنظر الفلسفي الروحي. فالقرآن من ناحية فك قيود العقل، وهذا هو العامل السلبي؛ ومن ناحية أخرى أخذ بيده ليشرف على العالم من مرقب عال، وهذا هو العامل الإيجابي
من أجل هذا كانت الثقافة الإسلامية نتيجة العقيدة الإسلامية لا نتيجة شيء آخر، فإن هي اتجهت إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية والهندية، فلأن الدين حملها على ذلك وطلب منها أن تتطلب العلم حيث كان ومن أي كائن كان
وقد بذر الإسلام في نفوس أصحابه بذوراً تأصلت فيهم فكانوا إذا اقتبسوا من الفلسفة اليونانية أو أية ثقافة أخرى لم يكونوا مقلدين تقليداً صرفاً، إنما كانوا دائماً يُعملون العقل فيما نقلوا، ويعملون العقيدة الدينية فيما قرءوا. فإذا نظرنا إلى ما كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد رأيناهم لم يقفوا موقف التلميذ فحسب، بل نقدوا وزادوا ووفقوا بين الفلسفة والدين وأمدوا كل شيء وأخذوه بروح من عندهم، فكان لثقافتهم طابع خاص وشارة تعرف بها - حتى هذا المنطق اليوناني الذي دانت له كل الأمم زاد الغزالي في بعض كتبه فصولاً عن القرآن؛ وابن تيمية وابن حزم وغيرهما نقدوا منطق اليونان وعدوه منطق شكل لا منطق مادة. وكان شأنهم في كل فرعٍ هذا الشأن تقريباً. فدعوى أن المسلمين في ثقافتهم(147/7)
كانوا حفظة للثقافة اليونانية أكثر منهم مبتكرين لثقافة خاصة دعوى أملاها عدم الدراسة للثقافة الإسلامية دراسة وافية
والحق أن فضلهم على المدنية الحديثة كان من الناحيتين جميعاً: من ناحية حفظهم لثقافة غيرهم من الأمم ولولاهم لضاع كثير منها، ومن ناحية ما أنشئوا وابتكروا وبثوا من روح في الثقافات القديمة. وقد بدأ علماء أوروبا يبحثون نواحي تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافة الأوروبية؛ وكان من آخر ما أظهروا في هذا الباب كتاب ما خلفه الإسلام تناولوا فيه أثر الثقافة الإسلامية في الجغرافيا والتجارة، وفي القانون والاجتماع والفن والعمارة وفي الأدب، وفي التصوف وفي الفلسفة واللاهوت، وفي العلم والطب، وفي الهيئة والرياضيات. وهذا البحث وإن كان آخر ما ألفوا فهو أول ما كتشفوا من طريق يشرف على آثار قيمة ضخمة لا تزال تنتظر مكتشفين أبعد مدى، وأقوى على تحمل مشاق الطريق
ولعلنا لكي نقرب من موضوعنا نسأل هذا السؤال: هل كان العالم يستطيع أن يقف على درجة السلم التي يقف عليها الآن لو لم تكن مدنية الإسلام؟ هل لو لم يكن في الوجود مدنية بغداد ومدنية قرطبة والحروب الصليبية كانت المدنية الحديثة تبلغ ما بلغت الآن؟ هل كانت النهضة الأوربية الحديثة تحدث في الزمن الذي حدثت فيه لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية؟
هذا سؤال واحد في أوضاع مختلفة والإجابة عنه يسيرة، وهي إجابة بالنفي القاطع. ولا يعلم إلا الله كم كانت تتأخر المدنية الحديثة لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية وتطير من على عاتقها، فالمتتبع لتاريخ المدنيات يرى أنه حلقات يسلم بعضها إلى بعض، ويستفيد لاحقها بما وصل إليه سابقها. وقد كانت المدنية الإسلامية هي التي في الذروة قبيل المدنية الحديثة، ولم يكن يضارع بغداد وقرطبة مدينة أخرى في العالم في مدنيتهما وثقافتهما وصناعتهما، ونضمهما الإدارية والحربية. ولتوضيح ذلك ننظر في أسس المدنية الحديثة ونبين علاقة هذه الأسس بالمدنية الإسلامية
لقد بنيت النهضة الحديثة في الثقافة على أساسين وهما الشك والتجربة - كانت الثقافة في القرون الوسطى تعتمد كل الاعتماد على آراء اليونان وتقدس ما قال أفلاطون وأرسطو كل التقديس. فإذا قال أرسطو قولاً فلا يمكن إلاّ أن يكون صحيحاً، وإذا كان الحس يدل على(147/8)
غير ما يقول وجب أن نعتبر الحس خدّاعاً، والحقيقة ما قال أرسطو. لقد قال أرسطو إن الجسم إذا كان أثقل كان إلى الأرض أسرع، ولكن صعد بعضهم من مكان عال ورمى في وقت واحد حديدتين وزن إحداهما ضعف الأخرى فوصلا إلى الأرض معاً، ومع هذا قالوا إن الحق ما قال أرسطو، ويجب أن يؤول الواقع وهكذا. وكانوا يعتمدون كل الاعتماد على القياس المنطقي وحده يؤيدون به المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وحده وسيلة عقيمة لأنه يجعلك تسلم بالمقدمات تسليما أعمى وتعنى فيه بالشكل. فجاءت النهضة الحديثة تشك في هذه المقدمات العامة وتمنحها وتجري التجارب عليها ولا تؤمن بشيء حتى تدل التجارب على صحته، وكان هذا دعامة النهضة الحديثة. والحق أن هذه طريقة لم تكن بعيدة عن المسلمين ولا خفيت عليهم؛ فالتاريخ يحدثنا أن النّظّام ألف في نقد آراء أرسطو، وأن تلميذه الجاحظ في كتابه الحيوان يطلع اطلاعاً واسعاً على أقوال أرسطو ثم لا يمنحها هذا التقديس؛ بل ينقدها نقداً جريئاً ويقول قد جرّبنا قول أرسطو فلم نجده صحيحاً. ويقول: (إن قوله هذا غريب)، و (هو قول لا يجيزه العقل) إلى كثير من أمثال ذلك، وربما فضّل على قوله قولاً آخر قاله عربي جاهلي في بيت من الشعر، لأنه أقرب إلى العقل. فهو بهذا قد جعل عقله حكماً على أرسطو، على حين أن فلاسفة القرون الوسطى في أوروبا جعلوا أرسطو حكما على العقل، والبيروني يحكم عقله في الرياضيات، ويقارن بين نظريات اليونان ونظريات الهند، ويفضل هذه حيناً وهذه حيناً فكتابه الآثار الباقية، وحيناً لا يقبل هذه ولا تلك ويعتمد على عقله الصرف، ويقف الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) الموقف الذي وقفه بعدُ ديكارت فيقول: (إنه رأى صبيان النصارى ينشئون على النصرانية، وصبيان اليهود على اليهودية، وصبيان المسلمين على الإسلام، وأنه لم يقنع بهذا الدين التقليدي التلقيني، وطلب أن يعلم حقائق الأمور وأن يبني دينه على يقين، وقال إنه بدأ بالشك في كل ذلك حتى يقوم البرهان على صحته، ولم يسمح لنفسه باعتقاد حتى يتأكد من صحته) وقال: (كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني)، وابن خلدون نظر إلى المجتمع الإنساني هذا النظر الحر الطليق فاستفاد مما قال أرسطو وغيره ولكنه لم يتقيد به، ونظر في مجتمعات لم يصل إليها علم أرسطو وهي القبائل العربية والدول(147/9)
الإسلامية، واستنتج من ذلك كله نظرياته التي كانت ولا تزال محل تقدير علماء الاجتماع والتاريخ من الأوروبيين وإعجابهم
وعلى الجملة فهذه الأسس التي بنيت عليها النهضة الحديثة في أوروبا من تحرير العقل من قيود الأوهام، ومن عبادة العظماء أمثال أرسطو، ومن وضع القوانين بعد الملاحظة والتجربة، وبعد الشك فيما اتخذه الأقدمون قضايا مسلمة، كله كان منبثاً في الثقافة الإسلامية في عصورها الزاهية. وكل ما في الأمر أن الذين بنوا على هذه الأسس القيمة هم الأوروبيون لا المسلمون، وأن من سوء حظ المسلمين أن وضعت في سبيلهم عقبات ليس منشؤها دينهم حالت بينهم وبين أن يتموا ما بدءوا، وأن يشيدوا فوق ما أسسوا. ولكن من الحق أنا إذا أردنا أن نقوّم بناء لا نكون سطحيين فنقوم ظاهره، ولا نقوم باطنه؛ ونقوم أعلاه، ولا نقوم أساسه
ووجه آخر بجانب هذا، هو أن ثقافة المسلمين لم تكن جميعا متجهة اتجاه الفلسفة اليونانية والعلوم اليونانية؛ فقد كانت لهم مناح في الثقافة خاصة بهم لم يعتمدوا فيها على غيرهم إلا اعتماداً ضعيفاً غير مباشر؛ فما أنشئوا من علوم لغتهم كالنحو والصرف والبلاغة وأدبهم الذي رقوا به أدب جاهليتهم وساروا به على منهج خاص بهم، لا على المنهج اليوناني، ولا على المنهج الفارسي؛ والعلوم الغزيرة التي أنشئوها حول دينهم من تفسير للقرآن والحديث، ومن فقه قابلوا به قضاياهم ونظامهم وحياتهم الاجتماعية الخاصة، وما أسسوا له من (أصول الفقه) الذي لم يجروا فيه على منوال سبق - كل هذه وأمثالها كانت مظهراً من مظاهر الاختراع العقلي للمسلمين، وكل هذه كانت عوامل في بناء المدنية الإسلامية التي بنيت عليها المدنية الحديثة
وقد حفظ لنا التاريخ بعض الصلات التي ربطت بين المدنية الإسلامية والمدنية الأوروبية، وأبان لنا كيف استمدت الثانية من الأولى، وكشف لنا عن بعض الجداول التي كانت تتسرّب من المدن الإسلامية تصب في المدن الأوربية، وإن كان بعضها لم يزل مطموراً إلى اليوم ولم يستكشف بعد
فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالاً وثيقاً، واتخذ علماؤهم فلاسفة المسلمين أساتذة يتعلمون منهم ويدرسون عليهم، ونشطت حركة واسعة النطاق لنقل أهم المؤلفات(147/10)
العربية إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة الأدباء والعلماء في القرون الوسطى، حتى أن كثيراً مما بقى من مؤلفات ابن رشد حفظت إلى الآن باللغة اللاتينية ولا نجد أصلها بالعربية، وكان من أشهر من قام بهذه الحركة (ريموند) الذي كان مطراناً لطليطلة من سنة 1130 - سنة 1150، فقد أسس جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية، فنقلوا من العربية أهم كتب أرسطو وما علقه عليها العرب من شروح، كما نقلوا أهم كتب الفارابي وابن سينا، وكان من أثر هذه الجمعية أن رأينا منطق أرسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية يقرأ في باريس بعد ثلاثين سنة من عمل هذه الجمعية. وقد مرت حركة استفادة الأوربيين من الثقافة اليونانية في ثلاثة أدوار، الدور الأول: نقل الفلسفة اليونانية والكتب العلمية من العربية إلى اللاتينية، والدور الثاني: النقل من اليونانية مباشرة بعد سقوط القسطنطينية. والثالث: نقل الشروح العربية إلى اللاتينية
وجاء فردريك الثاني سنة 1215، واتصل بالمسلمين اتصالاً وثيقاً في صقلية وفي الشام في حروبه الصليبية، واقتبس كثيراً من آرائهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يعجب بفلاسفة المسلمين، وكان يعرف اللغة العربية ويستطيع أن يقرأ بها الكتب الفلسفية في مصادرها الأصلية. وأنشأ سنة 1224 مجمعاً في نابلي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية لنشرها في أوربا. وبفضل فردريك ذهب (ميكائيل سكوت) إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو، وقبل ذلك كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا واستعملت في باريس حول سنة 1200م
وفي القرن الثالث عشر كانت كل كتب ابن رشد تقريباً قد ترجمت إلى اللاتينية ماعدا كتباً قليلة، منها كتاب تهافت التهافت الذي رد به على تهافت الفلاسفة للغزالي، فقد ترجمت في القرن الرابع عشر
وكان أهم مركز لتعاليم ابن رشد في جامعة بولونيا وجامعة بادوا في إيطاليا ومنهما انتشرت هذه الثقافة في إيطاليا الشمالية الشرقية إلى القرن السابع عشر، واستمرت كتب ابن سينا في الطب سائدة إلى ما بعد هذا العصر
ورجال النهضة الحديثة الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية كانوا يدرسون على هذه الكتب، أو يتتلمذون لمن درسوا عليها، فروجر بيكون الذي سبق أهل زمنه في معارفه وطريقة(147/11)
بحثه أخذ ثقافته العلمية من الأندلس، ودرس فلسفة ابن رشد، والقسم الخامس من كتابه في البصريات مستمد ومساير لكاتب ابن الهيثم في هذا الموضوع نفسه
وطالما ارتفعت شكوى رجال الدين في الأندلس من أن المسيحيين يدرسون علم العرب المسلمين، وعابوا مطران أشبيلية لأنه يدرس في جد فلسفة الكافرين، يعنون المسلمين
وعلى كل حال فجملة الأمر في مدنية المسلمين كما لخصها الأستاذ لكي خير تلخيص إذ قال:
(لم تبدأ النهضة الفكرية في أوربا إلا بعد أن انتقل التعليم من الأديرة إلى الجامعات، وإلا بعد أن حطمت العلوم الإسلامية، والأفكار اليونانية، والاستقلال الصناعي، سلطان الكنيسة)
هذا هو موقف المسلمين أمس من المدنية، ولابد أن نلقي نظرة على موقفهم اليوم من المدنية الحديثة. ومما يؤسف له حقاً أن نقول إن المسلمين لا يشتركون اليوم في بناء صرح المدنية اشتراكا كبيرا، لأن حديثهم هو تقليد للمدنية الحديثة، وقديمهم هو مدنية القرون الوسطى، فهم في الصناعات والمخترعات ونظم الحكومات والإدارات، وفي كتبهم التي تؤلف في العلوم الحديثة من جغرافيا وتاريخ وطبيعة وكيمياء وما إليهما، ونظام مدارسهم الحديثة ومحاكمهم وقوانينهم؛ كل هذا يقلدون فيه المدنية الغربية. وكلما زاد التقليد فيها عدت أقرب إلى الكمال؛ وقديمهم من مثل دراسات علومهم كالنحو والصرف والفلسفة الإسلامية، ومن مثل قضائهم في المحاكم الشرعية، ومن مثل مدارسهم الدينية، ونحو ذلك، كلها على نمط مدينة القرون الوسطى. فهم - في ظاهر الأمر - لا يضعون أحجاراً كبيرة في بناء المدنية الحديثة، ولا يلونونها بلون خاص. ولكن هل الذنب في ذلك ذنب الإسلام والمسلمين؟ إذا عرضت نفسك لتبني فمنعك صاحب البناء بالقوة فالذنب ذنب من مَنع لا من مُنع، وهكذا الشأن في موقف المسلمين. لقد سبقهم الغربيون باستخدام العلم في قوة تسلحهم إلى أقصى حد يمكن فيه استخدام العلم، فوجهوا هذه القوى الهائلة إلى الشرق، ولم يكن قد صحا بعد من سباته الذي سببه ما فسد من عقيدته، وما فسد من سياسته، وما فسد من شؤونه الاجتماعية، فسلط عليه الغرب كل قوته، فانتبه مذعورا؛ ونظر إليه الغرب نظرة استغلال، فساعده على كل ما يفيد الاستغلال، ومنعه عن عمل كل شيء يفيد الاستقلال، فهو إذا أراد أن يتثقف كما يشاء، أو يرقي شؤونه الاجتماعية كما يشاء، أو أن(147/12)
يحكم نفسه كما يشاء، أو أن يرقي أخلاقه كما يشاء، منعه الغرب من ذلك حرصاً على فائدته في هذا الاستغلال، والشرق لا يستطيع أن يقاوم إلا بالقوة، والقوة محرمة عليه. فهل بعد ذلك هو الذي يتحمل تبعة عدم اشتراكه في البناء
إني لأرجو أن الزمن ورقي الأفكار السياسية التي تخطو في هذه الأيام خطوات سريعة تجعل الغربي ينظر إلى الشرقي نظرة تعاون، فيدرك أن طريقة الاستغلال ليست أصلح الطرق حتى من الناحية الاقتصادية، وأن رقي الشرقي والسماح له بالبناء يزيد في صرح المدنية ويرفع بناءها، ويسرع في علو شأنها. وكما تبين للناس أن نظام الإقطاع وتسخر الملك للعبيد لم يكن في مصلحة الملاّك ولا العبيد، فحطموا هذا النظام من أساسه، وأسسوه من جديد على تحرير العبيد وتعاون الملوك والمستأجرين، وأرباب الأموال والعمال، فكذلك سيكون الشأن مع الحاكمين والمحكومين يتعاونون ولا يتقاتلون، ويتفاهمون ولا يتنازعون، ويتحاكمون إلى الرأي والعقل لا إلى القوة والسلاح. وأرجو ألا يكون ذلك بعيداً
على أن من العدل أن نقول إن التبعة في ذلك كله لا تقع على الغربيين وحدهم، فإن هناك عوامل في المسلمين أنفسهم جعلتهم في هذا الموقف الحرج. فهناك علماء جامدون ضيقوا العقل، وقفوا موقفاً مزرياً في تاريخ المسلمين، وعاقوا رقيهم وتقدمهم، فكان كلما حاول الإصلاح محاول ثاروا عليه باسم الدين، إن أراد إصلاح المحاكم ثاروا عليه ورموه بالمروق، وإن أراد تنظيم الإدارة الحكومية قالوا لا عهدنا لنا بهذا، ويجب أن نتتبع آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون. وإن أراد تعليم المرأة قالوا ما بهذا أتى الدين! وهكذا كانوا حجر عثرة في سبيل كل مصلح حتى عظم الخطب، واشتد الكرب، وأولو الأمر في المسلمين إذ ذاك لم يكن يهمهم إلا شهواتهم وفخفختهم الكاذبة، ومظاهرهم الخادعة. أما الاتجاه الصحيح إلى ترقية رعيتهم وتثقيفهم، وتنوير أذهانهم، ونشر العدل بينهم فكانوا قلما يأبهون له. فهؤلاء وأولئك كانوا السبب في أن يقف المسلمون هذا الموقف الذين شكونا منه من قبل
ومع هذا فتنبه المسلمين اليوم، وسير حركات الإصلاح بينهم سيراً حثيثاً، يدعونا أن نؤمل قرب اليوم الذي يتبوأون فيه مكانتهم اللائقة بهم. فإذا قارنت هذه النهضة الداخلية في رقي الفكر السياسي عند الغربيين، وتعديل نظرتهم نحو المسلمين كان من وراء ذلك كله نهضة جدية يبني فيها المسلمون في المدنية بناء صالحاً مصبوغاً بعقيدتهم وأفكارهم، فنرى إذ ذاك(147/13)
فلسفة خاصة وثقافة خاصة، وروحانية خاصة، قد تلون المدنية الحديثة عامة بلون خاص غير لونها الحالي
أحمد أمين(147/14)
النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق
للأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
المحاضرة الثانية
الفاشية:
رأينا في المحاضرة السابقة كيف قامت الفاشية والنازية سداً منيعاً أمام تيار البلشفية الجارف. ونقول في هذه المحاضرة كلمة عن هاتين الحركتين؛ وقد كتب الشيء الكثير عنهما، ونحن لا نحاول الإحاطة بكل ما كتب، بل نتوخى الإيجاز الذي يقتضيه هذا المقام
يمكن أن نصف الفاشية بأنها رد فعل عنيف للحركة الاشتراكية التي قامت في إيطاليا عقب الحرب الكبرى، وهددت مرافق الحياة في هذه البلاد بالشلل والنضوب، حتى أصبحت إيطاليا في حالة لا تحسد عليها، وحتى كادت وحدتها الوطنية تتفكك. فقام مؤسس الفاشية، وكان اشتراكياً في مبدإ أمره، فوفق بين مبدئه الاشتراكي ونزعته الوطنية، وأسس الحكم الفاشي قائماً على فكرة الوطنية، معارضاً لفكرة الطبقات. وهكذا انتكصت الاشتراكية في إيطاليا، ورجع مبدأ الوطنية للانتصار
فالفاشية، كنظام من نظم الحكم، ليست إلا مقاومة عنيفة للبلشفية. وهي ليست مقصورة على إيطاليا، بل امتدت منها إلى غيرها من البلاد؛ فهي تسمى في إيطاليا بالفاشية أو الموسولينية، وتسمى في ألمانيا بالنازية أو الهتلرية، وتسمى في تركيا بالكمالية وهكذا. وهي، أين تسود، تقف سدناً منيعاً دون تفشي البلشفية.
ولما كانت الفاشية قد نشأت في أول أمرها وترعرعت في إيطاليا، فنحن نبدأ بالفاشية الإيطالية، لننظر كيف نشأت، ثم نستعرض المبادئ التي قامت عليها، والوسائل التي تذرعت بها في العمل، والطرق التي اتبعتها في التنظيم
نشأتها:
أما كيف نشأت الفاشية في إيطاليا، فلأجل أن نعرف ذلك يجب أن نرجع قليلاً إلى الوراء، لنستعرض إيطاليا في مبدإ الحرب الكبرى، وهي مترددة هل تدخل الحرب إلى جانب(147/15)
ألمانيا أو إلى جانب الحلفاء. ثم تدخل إلى جانب الحلفاء، فتكاد تكتسحها الدول الوسطى، وتعاني من أهوال الحرب ورزاياها ما يكاد ينوء بها. ثم يبسم الحظ للحلفاء، فينتصرون وتنتصر معهم إيطاليا. ولكنها تخرج من الحرب في حالة من الفوضى الاقتصادية والاضطراب المادي، هي شر من الحرب. فالبلشفية قد تفشت فيها، والعمال أخذوا يثيرون القلاقل والفتن، والشعب ساخط غاضب على حكومته، يتهمهما بالضعف والعجز، فهي لم تنل في مؤتمر فرسايل من الأسلاب والغنائم ما يتفق مع الجهود والتضحيات التي اعتقدت إيطاليا أنها بذلتها أثناء الحرب، ولا ما يتفق بنوع خاص مع طموح إيطاليا الفتاة ومطامعها الاستعمارية. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن النظم الدستورية والنيابية لم تكن قد تأصلت في الحكومة الإيطالية، وأن روح الديمقراطية لم تكن قد استقرت في الشعب الإيطالي في المدة القصيرة التي مرت عليه منذ استقلاله، وأن هذه البلاد لم تنس بعد عهد الجمعيات السرية ولا المؤامرات التي تدبر في الخفاء، وإذا عدنا للإشارة مرة أخرى إلى ما انتشر من الفوضى والاضطراب في البلاد بسبب تفشي البلشفية، نستطيع بعد كل ذلك أن نتصور لو أن رجلاً جريئاً مغامراً، ذا إرادة صلبة، وعزيمة قوية، وطموح بعيد، يقود طائفة من الفتيان تدفعهم حماسة الشباب، وحمية الوطنية، وأحلام المجد والعظمة، والإيمان العميق بمستقبل الوطن؛ نستطيع أن نتصور، لو أن رجلاً بهذا الوصف، ومن ورائه الشباب المتوقد عزيمة وقوة، برز إلى الميدان، وتقدم إلى شعب من الشعوب، لينقذه من حالة الفوضى والاضطراب، ويعيد إليه مجده القديم، ويسوقه إلى ساحات العظمة والمجد، فينال حظه من كل ذلك، بعد أن أنكره عليه حلفاؤه بالأمس، فإن هذا الرجل لابد أن يقابل بالترحيب، ثم بالإعجاب، ثم بالتحمس. وأنه لابد واجد من هذا الشعب جنوداً يبذلون نفوسهم في سبيل تحقيق هذه الغايات الوطنية الشريفة. وقد كان الشعب، وكان الرجل. أما الشعب فهذه الأمة الإيطالية الشابة الفتية، الحساسة المسرفة في الحساسية؛ وأما الرجل فهو موسوليني، بطل الفاشية وزعيمها الأكبر
وقد بدأت الفاشية، بعد زحف موسوليني على روما وقبضه على ناصية الحكم بالقوة، حكماً تجريبياً، ليست له خطة مرسومة ولا مذهب مقرر. وكان موسوليني في مبدإ أمره اشتراكياً متحمساً، ثم انقلب جندياً باسلاً، ورجع وطنياً غيوراً. وصار من اعتنق الاشتراكية وآمن(147/16)
بمبادئها، نقمة الاشتراكية وخصمها الألد. وتقدم موسوليني إلى الحكم وليست له خطة مرسومة كما قدمنا، إلا إذا كانت الرغبة الملحة في الإصلاح وإعادة مجد الوطن يصح أن تسمى خطة. فالفاشية بدأت تجريبية شعارها العمل، والعمل الإيجابي العنيف في سبيل الإصلاح الوطني. لذلك اشتهرت الفاشية بصبغتها العملية، وبإقدام رجالها، واقتحامهم أشد الأخطار هولاً، دون تردد ولا هوادة. فالقضية عندهم هي بعث الأمة الإيطالية من جديد. أما المبادئ والنظريات فقد كان موسوليني يسخر منها، ويرى أنها سلاح خطر، قد يرتد إلى صاحبه فيرديه. فالبلشفية قد بدأت إذن عملاً لا مبدأ، وحركة لا فكرة. ولم يكن لديه منهج مرسوم يريد تحقيقه. ويوم ارتقى موسوليني منصة الحكم لم يكن لديه إلا إرادة وعزيمة، فأكب على العمل بهذه الإرادة وهذه العزيمة، واضعاً نصب عينيه مجد الأمة الإيطالية وعظمتها
ثم أخذت الفاشية تمر بمراحل متعاقبة من التجارب العملية زهاء عشر سنوات. تهذبها الأحداث، وتنضجها الأيام. وتطورها مقتضيات الضرورة، حتى استنار طريقها ووضحت معالمه. وارتسمت الفاشية مبادئ ينتظمها مذهب معروف مقرر. وصارت نظاماً عالمياً له نظرياته وقواعده. وسرت مبادئها من بلد إلى بلد. ودخلت في دور علمي فلسفي، تقرر نظرية للدولة، ونظرية لعلاقة الفرد بالمجموع، ونظرية لأثر العوامل الاقتصادية في الحالة السياسية، ونظرية لعلاقة المسائل الروحية بالمسائل المادية، ونظرية للتربية والتعليم. ولكن الفاشية بقيت محتفظة بصبغتها العملية الأولى، فهي تبدأ بالوقائع تبحثها وتحللها، ثم تصوغها بعد ذلك نظريات سياسية واقتصادية، بخلاف البلشفية فأنها تبدأ ببسط النظريات، ثم تطبقها بعد ذلك على الوقائع
ولننظر إلى الفاشية كمبدأ علمي فلسفي، وكنظام عملي من نظم الحكم القائمة. فالفاشية بهذا الوصف لها مبادئ تقوم عليها، ووسائل للعمل، وطرق للتنظيم
مبادئها:
أما المبادئ التي تقوم عليها فتتلخص في عبارة واحدة هي (مجد الوطن وعظمته). فالفاشية حركة تقوم على القومية، وتعادي كل نزعة من شأنها أن تكسر حدة الوطنية. أما الجامعات الدولية كالبلشفية فتحاول أن تحقق اتحاد العمال في جميع أنحاء العالم، وكعصبة الأمم(147/17)
تحاول أن تدمج القوميات في جامعة واحدة، فالفاشية تعادي بعضها، وتنظر إلى البعض الآخر نظرة المرتاب، فالوطن، والوطن وحده، هو الذي تخصص له الفاشية جهودها
فهي حركة وطنية تقوم في وجه البلشفية؛ أي أن الرابطة التي تقوم على فكرة الوطن لا تزال تجاهد في أوروبا جهاد المستميت، وهي في كفاح عنيف مع الرابطة التي تقوم على فكرة الطبقات
وسائلها في العمل:
وللفاشية وسائل للعمل. وتتلخص هذه الوسائل في قيام أقلية صالحة بأعباء الحكم. فهناك هيئتان: الهيئة الحاكمة، والهيئة المحكومة. ويجب أن تتضامن هاتان الهيئتان تضامن أعضاء الجسم الواحد. أما المساواة الديمقراطية فلا تعترف بها الفاشية. إذ الناس في الواقع من الأمر غير متساوين، وهم يتفاوتون في القوة والكفاية والصلاحية، ولا عبرة بالمساواة النظرية مادامت المساواة الفعلية غير متحققة. وقد رفع الله الناس درجات بعضهم فوق بعض، فيجب الاعتراف بهذه الحقيقة والإذعان لها. وتستخلص الفاشية من ذلك أن في الأمة أقلية صالحة للحكم؛ ومعيار الصلاحية الكفاية وتغليب المصلحة العامة والقدرة على تحقيقها. وهذه الأقلية هي التي يجب أن تحكم. وهي لا تستمد سلطانها من انتخاب الهيئة المحكومة لها، ولا من ثقة هذه الهيئة بها، بل تستمده من كفايتها وقدرتها على القيام بأعباء الحكم. وترتب الفاشية نتيجة خطيرة على ما تقدم، فهي تبيح الثورة على الحكومة العاجزة، إذ المبرر لبقاء الحكومة في الحكم إنما هو كفايتها، فإذا انعدمت هذه الكفاية، انعدم حقها في البقاء؛ فإذا بقيت بالرغم من ذلك، وجب الانتفاض عليها، ونزعها من كراسيها. وقد طبقت الفاشية هذا المبدأ عملياً، قبل أن يتقرر مبدأ نظرياً، عندما زحفت على روما، وقبضت على ناصية الحكم بالقوة
على أن هذه الأقلية الحاكمة التي تتميز بالكفاية، تتدرج هي الأخرى في السلطان حسب درجة كفايتها. فالكفاية هي الكرسي الذي يتركز عليه الحكم. وتعلو طبقة فوق طبقة. وتخضع الطبقة الدنيا للطبقة العليا، حتى ينتهي الأمر كله إلى زعيم واحد، تلقى في يده أزمة الحكم، وترجع إليه كل الأمور، فيفرض إرادته على أفراد الهيئة الحاكمة، كما تفرض الهيئة الحاكمة إرادتها على أفراد الهيئة المحكومة. وبذلك يقوم ركن الدولة على أسس(147/18)
متينة، وترجع الأمور كلها إلى رأي واحد ثابت لا يضطرب، ويتوطد سلطان يخضع له الجميع ويذعنون لإرادته. فالفاشية، كما قال الكتاب، تبدأ بتغليب الجماعة على الفرد، ولكن الجماعة تندمج في الأمة، والأمة تندمج في الدولة، والدولة تندمج في الحكومة، والحكومة تندمج في الزعيم
ومن هنا ندرك أن الفاشية هي من اشد ضروب الدكتاتوريات تركيزاً للسلطة، وأبعدها عن النظام الديمقراطي، فالديمقراطية تقوم على سلطان الأمة، وعلى الحرية والمساواة ما بين الأفراد. أما الفاشية فتنكر سلطان الأمة، وتقيد من الحرية، ولا تعترف بالمساواة ما بين الأفراد. ولا يعبأ موسوليني، وهو قابض على ناصية الحكم، أوثق به الشعب الإيطالي أم لم يثق، فهو لا يستند إلى هذه الثقة، ولا يستمد سلطانه من سلطان الأمة، وإنما يستمده من كفايته للحكم وقدرته على تحقيق المصلحة العامة. وسواء عليه لو أن الاثني عشر مليوناً من الناخبين أعطوه أصواتهم أم لم يعطوه شيئاً. وقد صرح السكرتير العام للحزب الفاشي بهذه الحقيقة في عبارة جارحة، إذ يقول: (لو أن الاثني عشر مليوناً الذين قالوا نعم تحولوا إلى أربعة وعشرين مليوناً قالوا لا، لما غير هذا من الأمر شيئاً، ولبقي موسوليني في قصر فينيسا، ولبقيت ثورة القمصان سائرة في طريقها. . . ولو قدر أن يصوت أربعة وعشرون مليوناً ضد الفاشية، لكان هذا معناه أن جمهور الناخبين قد أصيبوا بالجنون، وأن البلاد الإيطالية قد أصبحت مستشفى لهؤلاء المجانين، ولكان هذا سبباً أدعى لأن يبقى العقلاء في أماكنهم)
وتختلف الديمقراطية عن الفاشية أيضاً في أنها تركز السلطان في الأمة، وتقيم الدولة على سلطان الأمة؛ فالأمة هي التي تنشئ الدولة. أما الفاشية فتذهب إلى العكس من ذلك. وعندها أن الدولة هي التي تنشئ الأمة، وأن الأمة ليس لها أي سلطان، بل ليس لها وجود قانوني، والسلطان كله للدولة. وقد كتب موسوليني في هذا المعنى في دائرة المعارف الكبرى الإيطالية التي أمر بوضعها، يقول: (ليست الأمة هي التي تخلق الدولة، بل الدولة هي التي تخلق الأمة، وتعطي للشعب الذي يشعر بوحدته الأدبية، إرادة فوجوداً قانونياً). وتقضي المادة الأولى من دستور العمل الفاشي بأن الأمة، وهي وحدة أدبية وسياسية واقتصادية، تتحقق في الدولة(147/19)
فالفاشية تقوم إذن على تقديس السلطة، وعبادة الدولة، أي الهيئة الحاكمة وشعارها في الحكم: العمل الإيجابي. فهي لا تقنع للدولة بموقف سلبي، يقر الأمور دون أن يسيرها، بل يجب على الهيئة الحاكمة أن تدفع الأمور دفعاً إيجابياً عنيفاً، في غير رفق ولا هوادة. وهنا تظهر نزعة الشباب والفتوة التي تميز الحركة الفاشية، فقد كان أكثر القائمين بها شباناً عندهم طموح وهمة، وفيهم اندفاع وتوثب
والفناء في الدولة والوطن هو الظاهرة البارزة في الفاشية. ولهذا الفناء مظهران: مظهر سياسي يتمثل وطنية، ومظهر اقتصادي يتمثل تعاوناً. أما الوطنية فترتكز في تربية الفرد تربية فاشية، أي تربية وطنية؛ وتغرس في الطفل حب الوطن، حتى ينشأ على ذلك، موفقاً ما بين الحرية والنظام، فهو حر ليستكمل شخصيته، وهو خاضع لنظام يكفل التضامن. أما التعاون فيقوم على تنظيم اقتصادي دقيق، أساسه النقابات، فالنقابات في إيطاليا الفاشية منتشرة انتشاراً واسع النطاق، وسنعود إلى ذلك بعد قليل
(البقية في العدد القادم)
عبد الرزاق أحمد السنهوري(147/20)
صور من القرن الثامن عشر
3 - جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
هبط كازانوفا لندن يبحث وراء طالعه، ويلتمس الوسائل لخوض مغامرات ومشاريع جديدة، ولكنه ما لبث أن شعر بأن المجتمع الإنكليزي الرصين لا يغزى بسهولة، وأن الأفق لا يتسع لمزاعمه المريبة، وأن محاولاته الغرامية تلقى مهادا صلبة؛ وشعر بالأخص بأن تلك الخلال والمؤثرات السحرية التي اجتذبت إليه من قبل عشرات الحسان لم يبق لها قوة إلى التأثير والأغراء. وهو يشير في مذكراته إلى ذلك الفشل في حزن ومرارة: (لقد سجلت هذا التاريخ - سبتمبر سنة 1763 - باعتباره لعنة من لعنات حياتي، ولقد شعرت من بعده بأن تيار الكهولة يحملني مع أنني كنت في الثامنة والثلاثين). وهكذا اضطر كازانوفا بعد بضعة أشهر ارتكب خلالها كالعادة عدة محاولات وأعمال مريبة، أن يغادر لندن مثقلا بأعباء الخيبة والفشل
وأم كازانوفا برلين، واستطاع أن يقابل ملك بروسيا - فردريك الأكبر - ولكنه استقبله ببرود وتحفظ، ولم يظفر منه بطائل
عندئذ قصد إلى روسيا حيث تروج سوق المغامرة، وهنالك تعرف بالأمير كارل فون كورلاند، وهو أمير مرح فاسد السيرة ينغمس في مجالي اللهو والخلاعة، ويلتمس اكتساب المال بأي الوسائل، فتفاهما وتوثقت بينهما عرى الصداقة، واستطاع كازانوفا أن يجوز بواسطته إلى المجتمعات الرفيعة في ريغا وبطرسبرج وموسكو، وأن يستعيد فيها شطراً من حياة السرور والبهجة. ثم ذهب إلى بولونيا، وهنالك في وارسو خاض نفس الغمار المرحة المريبة معاً، ولفت إليه أنظار البلاط والسلطات بمشاريعه في عالم النساء والمقامرة، ومزاعمه في التأثير والشعوذة، واضطر غير بعيد إلى مغادرة وارسو؛ فتركها إلى فينا، ولكنه لم يستطع مكثاً بها، لأن عين الشرطة كانت ترقبه؛ فذهب إلى باريس كرة أخرى، ولكن العاصمة الفرنسية كانت تعرفه حق المعرفة، وترغب عن قبوله وإيوائه؛ فغادرها إلى(147/21)
إسبانيا، فلقي فيها نفس الرفض والمطاردة؛ وكان صيته المشين قد غمر يومئذ جميع العواصم الأوربية، فلم يبق أمامه سوى الرجوع إلى إيطاليا
فعاد إليها يتجول فيها من مدينة إلى مدينة، والنحس يسايره أينما حل، والفاقة تفت في عزمه وفي آماله وأمانيه، وشبح الجوع يزعجه، ونذير الكهولة يروعه؛ لقد كان يومئذ فوق الأربعين، وقد خمدت جذوة اضطرامه، ولم يبق من ذلك الفتى المرح، والمغامر الجريء، سوى طلل متهدم؛ يقول لنا كازانوفا في مذكراته مشيرا إلى ذلك العهد: (لقد فكرت يومئذ، وربما لأول مرة في حياتي، في أيامي الخالية، ورثيت مسلكي، ولعنت الخمسين التي شارفت بلوغها، والتي قضت على جميع أحلامي، وحز في نفسي ألا أرى أمامي سوى بؤس الشيخوخة، والعطلة والفاقة، وألا تغذيني سوى شهرة مريبة، وحسرات عقيمة). أجل كان كازانوفا يومئذ كهلا، تغلق في وجهه جميع الأبواب وترغب عنه النساء! وكان أشد ما يحز في نفسه المكلومة أن يرى تلك المخلوقات الساحرة التي اعتاد أن يجذبها بروائه وسحره وذلاقته، تفر من كهولته إلى أحضان الشباب النضر!
ولما بلغ به اليأس مبلغه فكر في العودة إلى البندقية وطنه ومسقط رأسه؛ فسعى في استصدار العفو اللازم، ولم يدخر وسعاً في التقرب إلى السلطات والتضرع إليها، وعاونه على ذلك رسالة كتبها ردا على تاريخ للبندقية ظهر من قبل بالفرنسة بقلم (املو دي لاهوسي) وفيه مطاعن شديدة ضد الجمهورية ونظمها، وهي مطاعن يفندها كازانوفا في رسالته بحماسة؛ وكان لرسالته وقع حسن لدى السلطات، فاستعملت أخير لتضرعه ومنحته جوازا أمنياً بالعودة إلى وطنه في أوائل سبتمبر سنة 774
ولكنه عاد شيخاً يجرجر أذيال البؤس والخيبة، ويلفظه المجتمع الرفيع؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين قد توفي، ولم يبق له عون ولا عضد، فلبث مدى حين يعاني مضض الفاقة؛ وبعد جهد جهيد عطفت عليه محكمة التحقيق وعينته مخبرا سرياً بمكافآت تتناسب مع عمله وتقاريره، ثم منحته مرتباً شهرياً قدره خمس عشرة دوقة، فاطمأن نوعا إلى هذا المركز المتواضع، واستطاع أن يغشي بعض الحفلات والمسارح، وكان لا يزال يثير حوله بعض العطف بذكائه وظرفه، وتعرف عندئذ بامرأة تدعى فرنشيسكا بوشيني، وعاش معها في نوع من الهدوء والاستقرار(147/22)
بيد أنه كان يلعن تلك الحرفة الوضيعة التي ألجئ إلى احترافها؛ أجل لقد كان كازانوفا جاسوسا زرياً لمحكمة التحقيق التي يمقتها من صميم قلبه، وكان بحكم عمله مكلفا بالتحري عن المسائل السياسية والجرائم الأخلاقية والدينية، التي طالما أمعن في ارتكابها؛ وكانت تغمر البندقية يومئذ موجة من الإلحاد والانحلال الخلقي، فكان من سخرية القدر أن يسهر كازانوفا على مراقبة الفساق والملحدين؛ وكان يمضي تقاريره بإمضاء مستعار وهو مع ذلك يضطرم سخطاً لذلك الدرك الأسفل الذي هبط إليه. وفي أواخر سنة 1781 رأت محكمة التحقيق أن تستغني عن خدماته وقطعت مرتبه، فتولاه يأس قاتل، ورأى شبح الجوع ماثل أمامه، ورفع يومئذ إلى محكمة التحقيق ذلك الالتماس المؤثر الذي يدل على ذلاقته وحسن بيانه:
(إلى حضرات العظماء الإجلاء سادتي القضاة المحققين:
(أتقدم إليكم، أنا جاكومو كازانوفا، وقد غمرتني الحيرة، وسحقني البؤس والندم، معترفاً بأنني لست أهلا على الإطلاق لأن أرفع إليكم التماسي المتواضع، أتقدم جاثياً بطلب الرأفة من الدولة، وأسألها أن تمنحني بطريق العطف والجود ما لا تستطيع بعد التأمل أن تأباه علي بطريق الإنصاف
وأني لأضرع إلى الجود العالي أن يقوم بعوني حتى أستطيع الحياة، وأستطيع في المستقبل أن أقوم بالخدمات التي درجت عليها
وأن حكمتكم لتأنس في هذا التضرع الجليل صادق اهبتي ونياتي)
ولكن محكمة التحقيق لم تصغ إلى تضرعه؛ فزاد يأساً وبؤساً، وعول على الرحيل معتصما بما بقي له من جلد وعزم، فسافر إلى فينا ووصلها في يناير سنة 1783 في حال مؤلمة من الإعياء والفاقة؛ ولبث يتجول حيناً في فينا وباريس وهولندة في ظروف نكدة مثيرة؛ ومع ذلك فإنا نراه أحياناً يحلم بمشاريع مدهشة فيفكر وهو في باريس في شق قنال أو إصدار جريدة؛ بيد أنها كانت أحلام يائس مخرف؛ وأخيراً استقر به المطاف في فينا. وهنالك تعرف بسفير السنيور فوسكاريني فعطف عليه وعينه سكرتيراً له؛ واستعاد الطريد البائس شيئاً من بهجة الحياة، واتصل مدى حين بالمجتمع الرفيع، وظهر في المآدب والمراقص؛ ولكن فوسكارني لم يلبث أن توفي، فتولاه اليأس القاتل مرة أخرى(147/23)
وأقام مدى حين في تبلتز في شرحال حتى ساقته المقادير إلى التعرف بالكونت فون فالدشتاين، فتأثر لفقره ويأسه، وأعجب بذكائه وخلاله فعينه أميناً لمكتبة قصره في (دوكس) من أعمال بوهميا بمرتب حسن؛ وكانت الكونت فتى طروباً طيب القلب يعشق حياة اللهو والخلاعة ويجوب أنحاء أوربا في طلب المسرة والمتاع؛ وكانت خلاله مزيجاً من الشجاعة والضعف، والكبرياء والخجل، والبذخ والجود، فأغدق عطفه على المحب الشيخ الذي خاض غمار حياة باهرة مؤثرة وألفى نفسه بعد طول التجوال فريسة البؤس واليأس
وكان قصر دوكس مقاماً بديعاً فخماً ينبئ بما لآله من النبل التالد والغنى الباذخ، وكانت مكتبته الشاسعة المنيرة تضم أربعين ألف مجلد فخم في مختلف العلوم والفنون؛ فكان ذلك المقام النائي الذي يجد فيه المفكرة الفيلسوف ضالته، هو المستقر والمثوى الأخير لذلك الذي ضاق به وطنه، وضاقت به عواصم أوروبا
ولكم كازانوفا لم يلق الهدوء الذي ينشد؛ ذلك أنه أثار سخط الحشم والخدم بكبريائه وصلفه وجفائه، فكانوا يعكرون صفاءه بخبثهم ودسهم، وكانت نفسه تفيض مرارة من ذلك الصراع الوضيع الذي يحمله مع الخدم على قدم واحدة. وكان كلما شكا أمره إلى الكونت أجابه بابتسامة رقيقة، فإذا شكا إلى الكونتة والدته هدأت روعه بأطيب الوعود
وكان يخفف من وقع ذلك الجدل النكد على نفسه ما كان يغمره به الكونت من العطف؛ ذلك أنه كان حين مقامه بالقصر يدعوه دائماً إلى مائدته، وإلى مختلف الحفلات والمآدب. وعندئذ يستطيع كازانوفا أن يمتع نفسه بقسط من الترف الناعم، ويبدي ما كمن من خلاله ومواهبه الساحرة، ويشعر بشيء من السعادة والغبطة
وكان الدرس أشد ما يؤنسه ويملأ فراغه. ذلك أن كازانوفا كان مفكراً واسع الاطلاع، وكان يعشق القراءة والدرس، ولكن تجواله المتواصل كان يحول دون أمنيته؛ فلما استقر في المثوى الهادئ الحافل بصنوف الآثار الممتعة، ألفى فرصته، وانكب على القراءة يترع من مناهلها؛ ويدون ما عن له من زبدها. ومنذ سنة 1786 يتحفنا كازانوفا بطائفة من الكتب والرسائل الممتعة منها. (مناجاة مفكر) , (سنة 1786)، و (قصة ادوار واليزابيث) ' (سنة 1788)، وهي مزيج غريب من الفلسفة والمغامرة والدين والتهكم. وفي سنة 1788، أخرج كازانوفا كتاباً ممتعاً عن سجنه وفراره الشهير عنوانه (قصة فراري من سجون(147/24)
جمهورية البندقية المسماة بالرصاص) ' وفي سنة 1790 نشر رسالتين في مسائل رياضية؛ وفي سنة 1897 نشر رسالة فلسفية أخلاقية. عنوانها (خطاب إلى ليونار سنتلاج) هذا إلى رسائل أخرى مازالت مخطوطة محفوظة إلى يومنا في مكتبة (دوكس) الشهيرة
بيد أن أعظم أثر شغل فراغ كازانوفا، وخلد اسمه فيما بعد، هو مذكراته الشهيرة التي بدأ كتابتها منذ سنة 1791، والتي نرجئ الكلام عليها إلى الفصل القادم
وكان مما يعتز به أيضاص ويؤنس أعوامه الأخيرة اشتغاله بمكاتبة بعض العظماء الذين عرفهم مثل الكونت دي لانبرج، والأمير دي ليني، والأميرة كلاري، والأمير بيلوزولسكي سفير روسيا في درسدن، والكونت كينج، والأميرة لوبكوفتز، والأب ديلالينا، وغيرهم؛ وكذلك بعض صديقاته الذين عرفهم في أواخر حياته مثل فرنشيسكا بوشيني آخر صاحباته في البندقية، وسليا روجندورف، واليزافون در ريكي وغيرهن؛ وكان يزمور مكتبة (دوكس) كثير من العظماء والكبراء من كل فج، فيسر بلقائهم ومحادثتهم؛ وكان كازانوفا يثير بذكائه ووفرة عرفانه حوله كثيراً من الإعجاب والعطف؛ وقد أعجب به كثير من كبراء عصره، وقدروا مواهبه وتنوع معارفه وطرافة تفكيره، وبثوه إعجابهم وتقديرهم شفاها وكتابة؛ وكان ذلك يغمره سعادة وغبطة ورضى
بل لقد كان كازانوفا في تلك الأعوام الأخيرة الهادئة من حياته الحافلة، يتصور حول نفسه أفقاً من العظمة والشهرة؛ وكان أيام تجواله قد زار الفيلسوف الأكبر فولتير في قصره ومستقره المنعزل في فرني، وأعجب بحياته الهادئة وشيخوخته الجليلة، فكان يتصور نفسه في أيامه الأخيرة، في نفس الأفق والظروف التي شهج فيها فولتير، فتغريه تلك المقارنة الخلابة، وتثير في نفسه الهائمة طائفة من الأحلام اللذيذة الرائعة
وفي أوائل سنة 1798 مرض كازانوفا وتفاقم مرضه بسرعة وشعر باقتراب أجله؛ فتوالت عليه زيارات الأصدقاء والمحبين يغمرونه بعطفهم وعنايتهم ويرسلون إليه الأطباء والهدايا؛ وفي الرابع من يونية قضى نحبه واختتم حياته العجيبة في جو من العطف الذي طالما حرم منه أيام حياته؛ ودفن على الأغلب في مقبرة قصر (دوكس)؛ بيد أن قبره لبث مجهولاً لم يكشف عنه البحث(147/25)
(الخاتمة تأتي)
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان(147/26)
ليلة وداع
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قال لي صاحب: (أين نقضي سهرتنا الليلة؟)
قلت: (سهرتنا؟؟ فهل كتب علينا أن نسهر الليلة؟)
فقال برقة إبليسية الإغراء: (أنه آخر أيام المعرض، أفلا يحسن أن نودع مدينة الملاهي؟)
فقلت: (من ذا تودع فيها يا شيخ، وقد ودعت شبابك؟)
فلم ينهزم وقال: (نودع من خلقهن الله في أحسن تقويم)
فقلت: ولكن فيهنّ من خُلقن على صور الأبقار والجواميس، فهل ننحتفل بوداع هؤلاء أيضاً؟)
فلم يصده حتى هذا، فلم يبق إلا أن نتوكل على الله ونستودعه نفوسنا ونذهب إلى مدينة الملاهي كما أراد، وحسناً فعلنا، فما كان يمكن أن نرى حشدا أعظم من هذا في مكان أضيق من تلك التي سموها مدينة الملاهي؛ وكانت النساء أكثر من الرجال، وهن وحدهن معرض كامل، فما يخطر للمرأة صورة من صور الخلق في المرأة إلا وهي موجودة، وكانت الكثرة من العذارى الخود، والخرّد الحسان، اللواتي يترقرق الماء في وجوههن من نضرة النعيم، ويتثنين من اللين في غير استرخاء، أما القلة فكانت من الخدِلِّجات الممتلئات الأذرع والسيقان، العظيمات الأوراك والبطون، المترجرجات اللحم، المستديرات كأنهن البراميل، فلو أرقدتهن على جنوبهن ودفعتهن لتدحرجن بلا توقف
وكنت كلما رأيت واحدة من هؤلاء وقفت كالجندي، ورفعت يدي إلى جبيني بالتحية العسكرية! فيسألني صاحبي عما أفعل؟ فأقول: (هذه تحية العظمة يا سيدي!! إلى متى نظل نبخس الناس أشياءهم ونغمطهم في مصر؟؟ لقد آن جدا أن نقر لكل إنسان بحق ومزيته)
والتقينا بأصحاب لنا، فصرنا جماعة ومضينا نتنقل من مكان إلى مكان، وإذا بي أرى قريباً لي ومعه صديقة له، ما رآني قط مقبلا عليه وهي معه إلا نهض بها زاعماً أن عليه أن يفعل كيت وكيت، أو أن يقابل فلاناً أو علاناً من خلق الله الذين يتحرى أن ينتقي لهم أسماء لا أعرفها لأنها مخترعة لا وجود لها، فأكاد أتميز من الغيظ، ولكن ماذا أصنع؟ غير أني في هذه المرة أدركته قبل أن يقوم - أعني قبل أن يراني، وكان جاساً معها - كما لا أحتاج(147/27)
أن أقول، فحملت كرسياً إلى حيث هما، ووضعته وقعدت عليه أمامهما، ثم حييتهما أحسن تحية وأرقها - تحية تلين الصخر، لا بل تذيبه - ولكن قريبي، وقاك الله، أصلب من الصخر والحديد، فما كاد يراني أصافحها حتى قال لها وهو يجذبها من ذراعها: (تفضلي فقد تأخرنا جدا)
فابتسمت - وهل كان يسعها إلا ذلك وهي ترى هذا منه في كل لقاء؟ - فتشجعت وقلت: (يا أخي حرام عليك!! ما هذا العنف - هذا ذراع غض بض يا سيدي، وليس بعصا شرطي. . .)
فابتسمت مرة أخرى، فقلت في سري هذه علامة الرضى، وإنها والله لراغبة في البقاء، وتذكرت قول زميلنا القديم: (وفاز بالطيبات الفاتك اللهج) فقلت لهما: (العجلة من الشيطان يا مولانا. . ومازلنا في أول الليل، وما يدريك ويدرني أنها ليست مشتاقة أن تركب معي واحداً من هذه القطر التي تشبه الترام وتجري بالكهرباء وتتدافع وتتصادم فتتعالى الصيحات والصرخات وتجلجل الضحكات، وتنشرح الصدور. . . قومي يا ستي معي أركبك واحداً منها)
فصاح بي وهو يدفع ذراعه أمامها ليمنعها أن تقوم: (معك؟ تقول معك؟. معك أنت؟. يا خبر اسود!. أنت مجنون؟)
فلم تفزعني هذه الثورة، لأني أعرف سببها وباعثها، وقلت له وأنا أبتسم: (صحتك. . صحتك. . لا تهج هكذا فإني أخاف على قلبك. . ألم ينصحك الطبيب بالابتعاد عن كل ما يهيج أعصابك؟. أقعد. . أقعد ساكناً واشرب ماء بارداً حتى نعود إليك. . لن يطول غيابنا عنك. . قومي يا سيدتي. . لا تقلقي عليه. . إنه بخير ما اجتنب ما يورثه اضطراب الأعصاب)
فنهض هو بدلاً منها وقال بلهجة المغيظ المحنق: (أعصاب؟. قلب؟. طبيب؟. عن أي شيء تتكلم؟. كيف تسمح لنفسك أن تقول إني مريض بقلبي؟.)
فضحكت وقلت: (لا مؤاخذة!. لقد نسيت أن عقلك لا قلبك هو المريض. . على كل حال. . عقلك. . قلبك. . سيان. . والخطأ مردود. . والآن وقد انتهى الخلاف وحسمنا النزاع فيحسن أن ندعك وحدك قليلاً حتى تثوب إليك نفسك الوديعة الرقيقة الكريمة الجمة المروءة(147/28)
الـ. . . الـ. . ماذا أيضاً يا بارد أناني!؟)
فأرسلتها الفتاة ضحكة مجلجلة تجاوبت نفسي بأصدائها، فصار رنينها في قلبي لا في الفضاء. ولكنه قطع عليها الضحك بيمين أقسمها ألا تقوم معي، فوجمت وشعرت بقلبي يبكي لها، فقد كان من الواضح أنها تشتهي أن تركب هذا الترام، وقريبي يأباه عليها لأنه يؤثر الاحتشام والتلفع بالوقار، ثم قلت لها: (لا بأس. . لا بأس. . ما لا يدرك كله لا يترك كله. . انظري إلي وأنا أركب وسأترك مكانك إلى جانبي فيها خالياً، ففي وسعك أن تتصوري نفسك جالسة فيه كما سأفعل تماماً. . وإلى اللقاء القريب، وعسى أن تتمتعي بهذه اللعبة التي ألعبها إكراماً لسواد عينيك. . أن تراها زرقاوين؟؟ أرنيهما بالله قبل الركوب حتى لا يغلط خيالي. .)
فقال قريبي على سبيل التوديع: (اذهب، اذهب ولا تعد!)
فقلت: (يا شيخ حرام عليك! أنا شاب. .)
وركبت وحدي احتفاظاً لها بمكانها، وكان يكفي أن أصون لها مكانها في قلبي، ولكن الوفاء - صانك الله - داء مكتسب. وكان الميدان هادئاً، والراكبون يتحاورون، ويهرب بعضهم من بعض، ويتقون التصادم، وإن كان لا خوف منه، فجريت أنا على نقيض ذلك، وجعلت وكدي أن أصدم الذي يروقني، وكنت كلما أقبلت بسيارتي على أخرى لأصدمها أصيح براكبيها - وأنا أدفع بقبضة يدي في الهواء - بمُممم! فعلا الصخب - كما ينبغي أن يحدث - وكثر الضحك واللغط والصياح والصراخ، وانتهى الدور فنسيت صاحبتي التي تركتها مع قريبي، وشغلني ما أنا فيه عنها، وألهاني عن ذكراها كما هي عادتي، فإن اللحظة الحاضرة تذهلني عن كل ما مضى وكل ما عسى أن يجيء، ولعبت دوراً آخر، ثم غيره، وغيره، حتى أضناني الجهد المتواصل، وابتلت ثيابي من كثرة العرق المتصبب، فتذكرت قريبي وصديقته، وقلت أجلس معهما برهة أستريح فيها وعسى أن يهديه الله ويرقق قلبه القاسي، وعدت إلى حيث تركتهما فإذا بهما قد ذهبا. .
أي والله يا ناس!! خطفها قريبي - قريبي لا أحد الغرباء - وطار بها وخلفني أتلهف عليها واسخط عليه، وأذم الغدر والخيانة والأنانية والأثرة وألعن أمثاله من الأقرباء الذين يعمر قلوبهم الحسد والحقد لا الحب والإخلاص والتعاون على البر والتقوى(147/29)
ولمحت صديقنا الدكتور م. فقلت أسلم عليه، وكان حوله سرب من الناعمات اللينات، المسترسلات الأعطاف، المستغنيات بالجمال عن الزينة، المُبَتّلاتِ الحسن على الأعضاء فلا ترى لشيء في أجسامهن الحلوة أوفر من حظه أو أقل. فدنوت من إحداهن - وكانت طويلة العنق مسمورة لا رخوة ولا مترهلة - وقلت لها: (ماذا يقول لكن دكتورنا الساحر؟. هل لك في رهاني؟.)
قالت: (على أي شيء؟)
قلت: (على أن عينه زائغة وأنه يريد أن يتزوجكن جملة وإن كنتن سبعاً؟)
فضحكت وقالت: (صدقت)
قلت: (هاتي إذاً، وليعوضك الله خيراً. . واحذري أن تراهنيني مرة أخرى)
قالت: (ولكني لم أفعل)
قلت: (بلى. . هاتي!. ما هذه المماطلة؟. إنه خلق لا يليق بمثل هذا الجمال المشرق)
قالت: (أما إن هذا لغريب. . والله ما راهنتك)
قلت: (لا فائدة. . تفضلي معي إلى هذا الترام واركبيه بجانبي، فإن ركوبه موصوف لإبراء الذمة)
فضحكت وسألتني: (ولكن من أنت. .)
قلت: (أنا صاحب الدكتور الذي يريد أن يتزوجك على كل هذه الضرائر. . . تعالي واكسبي صداقتي لتفوزي به وحدك)
ولمحني الدكتور وأنا أمضي بها فصاح: (اللص. . اللص. . أدركوه. خطف البنت. . الحقونا يا ناس)
وخفت أن يصدق بعض البلهاء فأقع في مأزق، فجعلت أصيح مثله: (اللص. . . . أدركوه. . . . خطف البنية. . . . اجروا وراءه)
وانحدرنا إلى الملعب ونحن نكاد نسقط على الأرض من كثرة الضحك. وقبل أن يبدأ اللعب وتدور السيارات تآمرت مع زميلتي على الدكتور واتفقنا أن نركبه سيارة وأن نوسعه بعد ذلك صدماً وخبطاً، فإنا نعرفه يخاف الرجات ويشفق من عواقبها - لا ندري لماذا - وقد كان. حاولنا إقناعه بالحسنى أولاً فلم يقتنع، فلم يبق إلا أن نحمله قسراً على الركوب،(147/30)
فجرته أربع فتيات فظل يقاومهن حتى قلت له: (أظنك استحليت هذا الجرّ. . . تفضل يا. . .)
فكف عن المقاومة استحياء، وقال لي وهو يركب السيارة: (الله يلعنك يا شيخ. . . أخجلتني والله!
قلت: (لا عليك يا مولانا. . . تفضل وأرنا همتك)
وصدمته صدمتين، ثم تركته لمن هو أولى بذلك، فلما خرج نظر إلي وقال: (وصلتنا منك زقات يا سيدي. . نشكرك)
فقالت له إحدى الفتيات: (لو كنت ركبت معي يا دكتور؟؟. . .)
فقاطعها وقال: (إذن لكانت الزقات قد كثرت يا ستي. . كلا! الخيرة في الواقع)
وهكذا ودعنا مدينة الملاهي. . . . . فليتها تعود لنودعها مرة أخرى. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني(147/31)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني
وصل الفائت
اكتشف لفلار مكروب الدفتريا، ووجده في حلوق الأطفال، ولم يجده في أي جزء آخر من أجسامهم. فتعجب كيف أن المكروب لا يفارق هذه الحلوق؛ ومع هذا يسري بالموت في الأجسام. فتراءى له أن المكروب لابد يفرز سماً هو الذي يدور في الجسم فيميت. فجاء أميل رو بعد ذلك فحقق رؤيا لفلار فكشف عن هذا السم، واستخلص وعرف خواصه، وأن الأوقية منه تقتل 75000 كلب
- 3 -
ولكن كان في مكان آخر بعيد عن باريس أميل آخر قائم في مثل هذا العمل ناصب فيه. هذا أميل أغسطس بارنج كان يشتغل في معمل كوخ ببرلين، في ذلك البناء المهدم الذي يسمى المثلث في شارع شومان. ففي هذا البناء أخذت الحوادث تتمخض عن أمور جليلة، وكان به كوخ، ولم يكن الآن دكتور القرية الصغير الخامل، بل كان السيد الأستاذ، ومستشاراً من مستشاري الدولة صاحب جاه ورب ذكر، ولكن برغم هذا لم تضق قبعته برأسه وكان ينظر على عادته من خلال نظارته المعهودة ولا يتكلم إلا قليلاً، وكان نصيبه من احترام الناس كبيراً هائلاً، وكان عندئذ مشغولاً بأمر علاج للسلّ خال أنه اكتشفه. فكان يحاول أن يقنع نفسه على الرغم منها بأنه علاج صادق، وكان هذا بسبب إلحاح السلطات عليه فيه، (والعلماء يلعنون السلطات بحق أحياناً على الرغم مما يكون من جودهم وسابغ(147/32)
كرمهم)، أو على الأقل بهذا يتحدث اليوم شيوخ صيادي المكروب الذين حضروا ذلك العصر ولا يزالون يذكرون أحداثه المجيدة
(لقد أسبغنا عليك الشارات، وأعطيناك المكرسكوبات والخنازير الغينية وما إليها، فلا أقل من أن ترد الجميل فتكشف لنا عن علاج كبير يدوي خبره في الآفاق، فيبني للوطن الألماني مجداً كالذي بناه بستور لوطنه الفرنسي). هذا ما كان يسمعه بستور كل يوم. هذا صوت الغواية الذي يطرق أذنه كل حين، وإلى هذا الصوت استجاب كوخ أخيراً، ومن ذا الذي يلومه؟ وأي إنسان يقوى على الثبات على طريق العلم السوي، وإلزام نفسه أسلوب البحث الحق، والحكومات إلى يمينه تصيح به أن يجد لها مكانة في السماء، والأمهات إلى يساره تصرخ له عسى أن تجد لأولادهن الهالكين بين الأحياء. نعم إلى هذا الصوت استجاب كوخ، فكشف عن حتفه بظلفه، وأعلن للدنيا اكتشافه التوبركولين علاجاً للسل ورحمة للمسلولين، فكان من إخفاقه الذي كان، ولكن ما لبث كوخ أن قام يكفر عن هذا بإعانة الشبان من أعوانه في الكشوفات البارعة التي كانوا فيها، ومن هؤلاء الشبان أميل بارنج، وكان باحثاً شاعراً أعانه كوخ بقريحته النقادة الباردة، صوب ضوء مصباحها الهائل على أعماله، فاستعرف بارنج في نورها الساطع على ما يأخذ به، واستعرف فيه على ما يَدَع
أي بيت لصيادة المكروب كان بيت (المثلّث) هذا. كان قذراً معتما كالقبر، ولكن اجتمع فيه رجال كوخ الشباب فبثوا فيه الحياة بتجاربهم المتواصلة، وهزوا جدرانه هزاً بصراخهم وحجاجهم فيه، وكان من بينهم بول إرليش يُعقب السيجارةَ أختها، ويلوث يديه وثيابه حتى وجهه بكل صبغة من كل لون من ألوان الطيف، وكان قائماً بتجارب طموح، يحاول بها أن يعرف كيف ترث أطفال الفئران عن أمهاتها الحصانة من بعض سموم النبات. . وكان من بينهم كيتاساتو وكان يابانياً ذا وجه أقور كالدائرة، وكان قائماً يحقن بَشِلاّت كُزاز الفك في ذيول الفئران، ثم هو يصبر حتى تصبّ البشلات سمها في الفأر، ثم يقط ذيولها الوبيئة ليرى هل يقتلهما السم وحده وهي بتراء. . . . وكان من بين من كانوا في هذا البيت رجال آخرون، بعضهم ذهب الزمن باسمهم، وبعضهم اشتهروا وخلد ذكرهم، واختصاراً قامت هذه العصابة الألمانية تبغي هزيمة الفرنسيين تحت وابل من التجارب(147/33)
هائل، وتريد أن تسبقهم إلى تخليص بني الإنسان من أرزاء دنياهم
والآن نريد أن نخض بالذكر من بين هؤلاء أميل بارنج. كان شاباً عدا الثلاثين من عمره، وكان طبيباً في الجيش، وكانت له لحية آنق من لحية كوخ، ولكنها كانت أقل دلالة على فتق الحيلة وابتكارها؛ مع هذا وبرغم أسلوب لحيته المُرسل، كانت له رأس الشاعر؛ وبرغم حبه للفصاحة وإغرامه بفنون البلاغة، لَزِم خوان معمله بقدر ما لزمه أي باحث آخر. وبينا هو يكشف في دم الفئران عن مادة تقتل بشلة الجمرة، كان يصف كشف أستاذه كوخ لبشلة السل بأنه في المجد مثل قمة جبله الحبيب بين جبال الألب، وهي في بياض الثلج ولون الورد، ولزمته فكرتان ما فتئتا تطوفان برأسه. فكرتان علميتان ومع ذلك تمتان إلى الشعر بنسب قريب. إحداهما أن الدم أبدع سائل يدور في جسم حيّ، والثانية أنه لابد من وجود مواد كيميائية تقتل فتمسح المكروبات من أجسام الإنسان والحيوان مسحاً دون أن تضر بها وهذه الفكرة الأخيرة سبقه آخرون إليها
قال (سأجد مادة كيميائية تُبرئ من الدفتريا!)، وحقن طوائف عديدة من الخنازير الغينية بزريعات قتالة من مكروب الدفتريا. فلما مرضت، وازدادت مرضاً، حقن فيها كثيراً من المركبات الكيميائية. فجرب فيها أملاح الذهب، وهي أملاح غالية، وجرب النفتيل أمين وحقنها بما يزيد على عشرين مادة بعضها عادي مألوف، وبعضها غريب نادر. عرف أن هذه المواد تقتل المكروب في أنبوبة الاختبار دون أن تضر بزجاجها، فآمن في سذاجة أنها لابد تقتل هذا المكروب تحت جلد الخنزير الغيني دون أن تضر به. ولكن خاب إيمانه وا أسفاه. وامتلأ معمله بالخنازير الميتة والتي هي في سبيل الموت فكان كبيت الجزارة، وكان في ذلك مما يكفي ليقنعه بأن الفرق بين عقاقيره والمكروب في الأذى غير كبير. وأن كليهما يفتك بالخنازير، وزادت أكوام الجثث حوله، ومع هذا لم ينقص إيمانه بأن هذا العُقّار العجيب الذي سيشفي من الدفتريا لا يزال مختبئاً بين صفوف المواد الكيمائية، وهي ألوف في الوجود، وأخيراً وقع من بحثه الذي أفرغ فيه كل عزمه وخبط فيه على غير هدى، وقع على مادة ثالث كلورور اليود
ضرب بمحقنه جرعات عدة من بشلة الدفتريا تحت جلود بضعة من الخنازير، وكانت جرعات تكفي لقتلها. ومضت ساعات قليلة فأخذ المكروب يفعل فعله، فتورم الجلد حيث(147/34)
ضرب المحقن، وأخذت الحيوانات تميل برءوسها: فما مضت ست ساعات حقن بارنج فيها كلورور اليود. وانتظر ما يحدث لها فقل رجاؤه فيها وظن أن الإخفاق جاءه مرة أخرى. ومضى النهار ولم تتحسن الحال. وجاء الغد فبدأت الخنازير تخور. فأخذها وأرقدها على ظهرها ثم أخذ يخزها بإصبعه ليرى هل تعود فتقف على أرجلها. قال لأعوانه وهم في دهشة مما يسمعون: (إذا أنتم وخزتم الخنزير وهو على ظهره فاستطاع القيام، علمتم أن الرجاء لم ينقطع فيه بعد) هذا هو محك الأمل عنده! هذا هو مقياس الرجاء! مقياس تعوزه الدقة إعوازاً شديداً، وينقصه التهذيب نقصاً كبيراً. تخيل ما يكون الحال أن طبيباً اتخذه وسيلة يعلم بها أيطيب مريضه أم يموت. وقلّت حياة الخنازير المحقونة بالكلور فقلّت حركتها عند الوخز حتى انقطع منها الرجاء
وذات صباح جاء بارنج معمله فوجد الخنازير واقفة على أرجلها! كانت لا تكاد تستقر عليها، وكانت نحيفة غاية في النحف، ولكنها كانت آخذة في الشفاء! نعم آخذة فعلاً في الشفاء من الدفتريا بعد أن هلك قبلها من رفقائها ما هلك
وهمس بارنج لنفسه! (لقد شفيت من الدفتريا!)
وتملكته رغبة حادة أن يشفى بهذه المادة اليودية خنازير أخرى. فكانت هذه الحيوانات المسكينة تموت أحيانا من المكروب، وأحيانا كان يقتلها هذا الدواء. وفي القليل النادر كان يشفى خنزير أو اثنان فيقومان من المرض على حال كالموت. لم يكن في هذا العلاج الفظيع يقين، ولم يكن فيه منطق ولا توافق وانسجام. والخنازير التي اشتفت به لاشك ودت أنها ما اشتفت، ذلك لأن الكلورور بينما كان يبرئها مما بها، كان كذلك يحرق جلودها فتتخرق خروقا تظل متقرحة لا تلتئم، فلا تلبث أن تصطدم بشيء حتى تصيت هذه الحيوانات المسكينة من ألمها الشديد. تلك حال مفجعة لا ترضاها القلوب
ومع هذا فالحقيقة الواقعة أن بارنج كان بين يديه قليل من تلك الخنازير لولا هذا اليود لقتلتها الدفتريا، لولاه ما سعت بين يديه كما تسمى. إني أفكر كثيراً في أمره هذه القوة الخفية الدفاعة التي لا تفتأ تغري بارنج وأمثال بارنج بعلاج الأمراض. فبارنج وأمثاله لم يجروا فيما صنعوا وراء الحقيقة، ولم يدأبوا ما دأبوا لجنوا المعرفة، بل هم إنما مارسوا التجربة طلباً للعلاج، وتسلط عليهم طلب العلاج فطلبوه جنونا، فأجازوا قتل الحيوان حتى(147/35)
الإنسان بداء ليخلصوه من داء آخر. . . . لم يقفوا عند حد، ولم تثنهم عما طلبوا مخافات. . . . من ذلك أن بارنج قام يجرب هذا الكلورور النفاط الكاوي في الأطفال المرضى بالدفتريا وليس لديه من دليل على صلاحه غير تلك الخنازير القليلة النحيلة الهشيمة
وعاد من تجربته يقول: (لقد جربت كلورور اليود في أطفال مرضى بالدفتريا، واتبعت في ذلك الحذر والحيطة ما استطعت، فخرجت على نتائج لا تشجع أبدا. . .)
ولكن تلك الفئران الضعيفة التي نجت من الدفتريا بفعل هذه المادة كانت لا تزال بين يديه، كانت لا تزال تقع عليها عيناه فتعلق بارنج من أجلها بوهمه القديم، أنه لابد خارج من هذه المجازر ببعض غايته. وتعطفت عليه المقادير، فأخذ يتفكر، وإذا به يخرج من الفكر فيتساءل: أتكون هذه الفئران قد تحصنت الآن من الدفتريا بعد الذي جرى لها. وما لبث أن جاء بها وحقن فيها جرعات هائلة من بشلة الدفتريا - فاحتملتها! نعم احتملتها فلم تستقم شعرة واحدة على جلودها برغم هذه الملايين من المكروبات وهي كفيلة بقتل عشرة منها. إنها حصينة كما خال!
وكانت عندئذ ثقته في المواد الكيميائية ضاعت، فلم يعد يطلب من بينها علاجاً للدفتريا. وكيف لا تضيع بعد هذا العدد الهائل من جثث الحيوانات الذي أرسله إلى أسفل البناء ليقوم الخدم بإحراقه. أضاع أمله في الكيميائيات، ولكنه تمسك برأيه القديم عن الدم، فكان لا يزال يرى أنه أبدع سائل يدور في جسم حي. أعجب به حتى عبده. واتقد خياله فارتأى له فضائل لا ترى وخصائص غريبة لم تسمع. فقام إلى فئرانه العاجزة الضعيفة التي برئت من الداء فمص شيئاً من دمها، مصه بمحقنه من شريان في رقبتها، ثم أودع هذا الدم أنابيب من الزجاج، ثم ترك هذه الأنابيب حتى انفصل من الدم مصله الرائق الأصفر، فصعد مخلفاً في أسفل الأنبوبة قطعه الحمراء؛ ثم مصّ هذا المصل في أنبوبة صغيرة، ثم خلطه ببشلات الدفتريا الفاتكة
وتفكّر بارنج: (لاشك أن دم الفئران به شيء يحصنها من الدفتريا. لاشك أن به شيئاً يقتل بشلات الدفتريأ. . .)
ثم نظر إليها في هذا المصل من خلل مجهره وهو يؤمل أن يراها تنضر ثم تموت، فلما حدق فيها وجدها ترقص وتزيد، إذن هي لا تموت بل تزيد وتربو، أو على حد قوله(147/36)
الأسيف في بعض ما كتب (تتكاثر في وفرة عظيمة). ولكن مع هذا فالدم سائل عجيب بديع. ولابد إليه ترجع حصانة هذه الخنازير. وهتف في نفسه هاتف يقول: (وعلى كل حال ألم يثبت هذا الفرنسي رو أن البشلات لا تقتل بل الذي يقتل هو السم الذي تصنعه؟ ألم تلبث أن سم الدفتريا لا بشلاتها هو الذي يقتل الأطفال والحيوانات؟. . . إذن فلعل هذه الخنازير الغينية التي شفاها الكلورور قد تحصّنت من سم الدفتريا!)
وأخذ في التجربة. وبعد زمجرة وأفأفة، وبعد تبلل وتقذر قمينين بكل شاعر عالم، جهّز بارنج حساء احتوى سم الدفتريا وخلا من مكروبها. وأخذ من هذا الحساء فحقن جرعات هائلة تحت جلود خنازيره الحصينة وكان قد تناقص عددها. فإذا بها حصينة تجاه السم. وأخذت قروحها الماضية تلتئم، وأخذت تكبر سِمَنا. هذا أمر لاشك جديد في علم المكروب. أمر ربما كان ارتآه رو ولكنه لم يتحقق على يديه. حمى بستور الشياه من داء الجمرة، وحمى الأطفال وحصنّها من عضة الكلاب المسعورة، ولكن هذا الذي أتاه بارنج غير هذا وذاك. هذا أمر طريف يقف العقول حيرى. بارنج يصيب الخنازير بالدفتريا، ثم هو يشفيها منها بعلاج فظيع كاد يوردها الموت، ثم هو بذلك يحصّنها من سم الدفتريا الفتاك، من ذلك السم الذي تقتل الأوقية منه 75000 كلب
(صاح بارنج: (في هذا الدم لاشك يوجد الترياق الذي يحمي هذه الخلائق، وفيه لابد أنا واجده!)
وكان لابد له من الحصول على شيء من هذا الدم، ولكن لم يبق لديه من هذه الخنازير الحصينة شيء، أو لم يكد يبقي منها شيء، فعمد إلى خنزير قديم منها كان استنزف دمه مراراً، فشق رقبته يبحث عن الشريان الذي يمص منه الدم فوجده انعدم؛ أو كاد من كثرة ما عاوده. فأخذ ينكش حتى حصل على بقية قليلة من الدم جاء بها من شريان في رجل هذا الحيوان. له الله من حيوان جدير بنا أن نذكره بالحسنى. لقد قاسى بارنج في أيام هذه التجارب ألماً نفسياً كبيراً، كما قاست حيواناته ألماً جثمانياً كبيراً. فلو أن رحمتنا تُقّسم بينهما، بين بارنج وحيواناته، ما درينا أيهما أحق بأكثرها. كان يستيقظ كل يوم فيذهب تواً إلى معمله وهو متوتر الأعصاب ليطمئن على حياة هذه الخنازير الحصينة، هذه الخنازير القليلة المتناقصة التي لا تُشترى بمال. . . . وعلى كل حال حصل أخيراً على قطرات(147/37)
قليلة من مصل حصين. فمزجها في أنبوبة من الزجاج بمقدار كبير من حساء كان ربّى فيه مكروب الدفتريا لكي يبث فيه من سمه. ورشح الحساء قبل مزجه بالمصل ليخلص من المكروب
وحقن من هذا الحساء الخليط في خنازير غينية جديدة غير محصّنة - فإذا بها لا تموت
صاح بارنج: (صدق جوتيه الشاعر العظيم حين قال: (إن الدم عصير غريب))
وأخذ يستعد بعد ذلك لتجربته الحاسمة الشهيرة، وعين كوخ الإمام الأكبر لا تبرح تنظر إليه، وتجمعت حوله تلك العصابة الصغيرة المجنونة من رفقائه في ذلك العمل، وازدحموا وقد انحبست أنفاسهم في انتظار ما قد تتمخض عنه هذه التجربة الكبرى، فخلط سم الدفتريا بمصل أتى به من دم خنزير سليم لم تصبه الدفتريا يوما، ولم يتحصن منها أبداً. ثم حقن هذا السم الخليط في خنازير جديدة، ففعل فعله المنتظر فيها. ولم يعقه عن ذلك المصل الذي خالطه، فساء حالها بعد ثلاثة أيام وسرى فيها برد الموت. ووضعها على أظهرها ووكزها ولكنها لم تبد حراكا، ولم تمض ساعات حتى لفظ آخر أنفاسها وذهبت إلى حيث يذهب الأموات
فصاح بارنج: (إن مصل الخنازير الحصينة - مصل الخنازير التي أصابتها الدفتريا ثم اشتفت منها - هذا المصل وحده هو الذي يقدر على محو سمها. وكأني بك تسمعه يتمتم لنفسه وهو المداوي الكبير: (والآن فلعلي قادر على تحصين حيوانات أكبر، فاستخرج مقادير أكبر من هذا المصل الذاهب بسم الدفتريا، وعندئذ آخذ في تجربته في الأطفال المصابين. . . . . إن الذي يشفي الخنازير الغينية لابد أن يشفي الأطفال)
في العدد القادم: بارنج يجرب مصل الدفتريا في الأطفال
أحمد زكي(147/38)
حِيَلُ الضمير
للأستاذ عبد الرحمن شكري
الضمير عند بعض الناس ترس الخائف الذي يحتمي بمجنه، وهو عند غيرهم سلاح الصائل، وعند آخرين آلة نصب واحتيال، وعند غيرهم بمنزلة الثياب الجدد التي يلبسونها أيام الأعياد والمواسم والصلوات ويخزنونها في الأيام الأخرى وهو تارة كالمصباح المنير
وترى كثيراً من الناس يكثرون من ذكر ضمائرهم أو يفعلون ما هو أدهى من ذلك فيكثرون من ذكر العدل والحق، وهي لقيمات يطريها كل منهم ويود أن يضعها في فم غيره، وهي أحمال وأثقال يمدحون الاضطلاع بها وكل يود أن يضعها على كتف غيره أو على عنقه، وما ذلك إلا لأن الناس ينشدون السعادة، والسعادة لا تكون إلا إذا اصطلح شر الحياة وضمير الإنسان، وإذا اصطلح المثل الأعلى ومثل الحياة الدنيا، وقد يكون فكر المرء وقوله خيراً من خلقه وفعله، لأن أعمال المرء رهينة بإحساسه لا بفكره وقوله، وقد يكون فكره نبيلاً وقوله جليلاً ولكن إحساسه يدفعه إلى سبيل غير سبيل هذا النبل والجلال في القول والفكر
ولما كانت الرذيلة أحوج الأشياء إلى مظاهر الفضيلة عم الكذب والرياء بين الناس انتفاعاً بمظاهر الفضيلة وحقيقة الرذيلة من كسب أو متعة. وهذه المظاهر تجوز على الناس ويحسبونها فضيلة أو هم يدعون الانخداع لها رغبة في التقرب إلى صاحبها والانتفاع برضائه عن انخداعهم بظواهر نفسه، وهذا منشأ انقلاب أوضاع الحياة، وهم يطلبون منه أن يدعي الانخداع بظواهر نفوسهم كما ادعوا الانخداع بظواهر نفسه، والمسألة كلها مسألة كسب يتبادل فيتعاونون على الحياة بتزكية كل منهم الآخر
وللضمير وسائل أخرى لتزكية النفس كأن يخلع صاحبه عيوب نفسه على غيره، ويلج في معاداته كي يبرئ نفسه فتكون لجاجته في خلع عيوبه على غيره دليلاً على عيوبه كما تكون لجاجة الأجرب في الحك دليلاً على موضع الجرب منه في نظر الطبيب
وكثيراً ما يتحمل الضمير الأعذار من أجل رغبة صاحبه في الأذى ولذته في الإساءة إلى الناس، وعوامل الشر في نفس المسيء قد لا تكون في حاجة لمسوغ يثيرها ولكنها تكون في حاجة إلى فرصة تستخدمها حتى ولو لم يكن لها مسوغ، فإن مسوغ الإساءة في كثير(147/39)
من الأحايين في نفس المسيء لا في عمل من أسيء إليه لأن كثيراً من النفوس بها شهوة إلى الأذى إذا أرضتها أحست راحة وسعادة في إرضائها، غير أن بعض شهوات الأذى لا يرضيها إلا ما أرضى نفوس قدماء الرومان عند رؤية الوحوش تفتك بالأجسام، وبعض شهوات الأذى تكتفي بالغيبة والنميمة والكذب، وعواقب هذه قد لا تقل عن عواقب تلك جرماً وجناية وإن كان صاحبها لا ينعت بالمجرم الجاني وإن كان ضميرها أهنأ الضمائر بالاً وأرواحها خاطراً
والضمير كثيراً ما يكون في الحياة كالسفينة الصغيرة في البحر المحيط الذي هاجته الأعاصير فقد لا تغرق السفينة كما لا يغرق الضمير ولكنها تضطر أن تسير في مهب الإعصار كما يسير الضمير في مهب أعاصير الميول النفسية وما تقتضيه من كذب ونفاق
والكسب والجاه والصداقة والغرور هي العقاقير التي تخدر الضمائر بها، وهي البلسم الذي تداوي به آثار وخزاتها، وهي المادة اللزجة التي تطلى بها الضمائر كي يصطاد بها أصحابها طيور السعادة واللذات والمكاسب كما تطلى الغصون بتلك المادة اللزجة التي تلتصق بها العصافير على غصون الأشجار ثم يأتي الصائد فيجمعها أو هي المادة اللزجة الأخرى التي يطرد بها الذباب اللاذع المسمى بخواطر التأنيب والوخزات
ومن أجل ذلك كثيراً ما ترى ضمير المرء عوناً للجاني الذي يرجى نفعه أو جاهه أو وده أو يرجى منه إرضاء غرور صاحب الضمير المناصر له. والناس في سرائرهم يعرفون أن ضمائرهم ليست دائماً مصباح الهداية الذي يدعونه، والإنسان يتجنب فحص نفسه والبحث عنها، وإذا كلف أو دفع إلى ذلك حاول التخلص من فحص نفسه فيقلب فحصها إلى حديث فيحدث نفسه أو تحدثه ويمنيها أو تمنيه، ثم يعود فيقول إنه فحص نفسه وهو قلما يفعل ذلك إلا إذا دهمته مصيبة تجعله يشك في نفسه فيفحصها فإذا لم تدهمه مصيبة تجنب فحص نفسه إلا إذا كان مريضاً بداء الخوض في النفس وفحصها وقد يكون مرضاً إذا استفحل وعم وتطلب منه كل وقته، ولكن مرض البحث في النفس هذا مرض نادر في الناس وأكثرهم لا يبلغ به البحث في نفسه منزلة صغيرة أو كبيرة ولو أن هذا البحث في النفس أصبح عادة لقل شرهم من غير أن يمنعهم بحثهم من الإقدام في الحياة إلا إذا استفحل وهو قلما يستفحل فيدعوهم استفحاله إلى الشك والتردد والإحجام واتهام النفس في كل أمر(147/40)
ولولا أن الناس يعلمون عن عيوب ضمائرهم وضمائر الناس الشيء الذي يحاولون إخفاءه ما كثر سوء ظنهم بالنفس الإنسانية، ومن العجيب أنهم يحاولون جعل حسن الظن بالنفس الإنسانية مبدأ عاماً وهم في سريرتهم يسيئون الظن بكل نفس من نفوس الناس، وهذا الاختلاف بين المبادئ النظرية والمعتقدات العملية أمر تشوق دراسته، والقصد من تلك المبادئ النظرية حمل الناس عليها للانتفاع بها لأن كل إنسان يود أن يحسن غيره به الظن وأن يسيء هو الظن بغيره، ومن عجائب الضمائر أنها قد تغري أصحابها بأن يعتقدوا إذا حلت بأعدائهم مصيبة أن المصيبة حلت بهم لأنهم أعداؤهم
والخبرة بالضمائر ينبغي أن تحذر المرء إذا رأى متخاصمين فلا يقول إن أحدهما فاضل ذو حق والآخر ناقص ذو باطل، فقد يكون كل منهما على حق أو على شيء من الحق أو على باطل، وقد يكون الأكثر حقاً هو الأكثر حظاً من الفضيلة، أو بالعكس قد يكون الأكثر حقاً هو أقلهما حظاً من الفضيلة، وقد يكون المناصر للحق والفضيلة بشعوره وعواطفه وبيانه هو أقلهما حظاً من الفضيلة، ولكن النفوس قلما تتقصى كل هذه الأمور ولا أهون عندها من أن تحكم بغير علم وأن تورط ضمائرها فيما حكمت فيه بغير علم، ومع هذا التورط فإن الناس قد يعرفون أن جليسهم غدار مغتاب بذيء اللسان فلا يمنعهم يقينهم وعرفانهم من مؤاخاته، وتتغابى ضمائرهم وتتعامى عن عيوبه وعن شره وقبح نفسه مادام مرجو النفع، فضمائرهم تتورط في الحكم بغير علم وتمتنع عن الحكم على علم
وفي الخليقة صنف آخر من الضمائر تكون أسقاماً عند أصحابها وتعظم عيوبهم في أعينهم، وهذا مرض نادر مثل مرض إيغال المرء في فحص نفسه
وضمير صاحب الشعور النبيل له أن يطالب بألا يعاقب على نبل شعوره ولكن ليس له أن يطلب جزاء أو شكوراً، إذا كان جزاؤه في نبل شعوره وإذا كانت مسرته فيه وشقاؤه في غيره
عبد الرحمن شكري(147/41)
النيل
أبرز (شخصية) في العالم
عن مجلة (اتال) الفرنسية
إن المشكلة الحبشية مهما يكن حلها هي في الحقيقة وليدة معضلة النيل وذيولها الخفية
سُئل مرة الكولونيل لورنس: (أية شخصية في العالم أكبر نفوذاً وأعظم شأناً؟) فأجاب هذا الرجل الغريب الذي يعد أكبر مخاطر في عصرنا بكلمة واحدة هي: النيل
إن في جواب لورنس ما يدعو لأول وهلة إلى الاستغراب لأنه أنزل النهر منزلة العاقلين وجعل منه (شخصية) بارزة، ولكنه لم يخرج بتحديده وتعريفه عن اعتقاد قدماء المصريين في النيل، فضلاً عن أن للكونيل لورنس ولكل إنكليزي سبباً يحمله على مجاراة الأقدمين في اعتقاده. وهذه الرواية التي تمثلها إيطاليا وإنكلترا ويخشى أن تنتهي بمأساة عالية، أليس بطلها هذا النيل، بل هذه الشخصية المقدسة التي عبدها الإنسان قديماً ولا يزال يعبدها إلى اليوم؟
ما فتئت بريطانيا العظمى منذ أنشأت إمبراطوريتها الاستعمارية تطمع في السيادة على البحار، وفي التسلط على أهمّ المعابر البحرية حتى تم لها ذلك؛ ففي قبضتها الآن كل المغاليق التي تؤمن مواصلاتها بتلك الإمبراطورية المترامية الأطراف، وأخصها الهند كبرى مستعمراتها وأغناها وأصعبها مراسا
أدركت إنكلترا منذ حملة بونابرت على مصر أن تأمين طريق الهند يقضي ببسط نفوذها على بلاد الفراعنة دون أن يشاركها فيه أحد. ثم جاء فتح قنال السويس باعثاً آخر على تشبثها بهذا النفوذ. ومن تدبر سياسة إنكلترا في خلال قرن كامل رآها تدور كلها على محور واحد، هو سلامة طريق الهند. فكل شبح تتخيل فيه ما يمس هذه السلامة عاجلاً أو آجلاً حاذرته وسعت إلى طمسه. هكذا فعلت وكذا تفعل الآن في موقفها السلبي تجاه الغزوة الإيطالية
إن الإنكليز الذين يقبضون في السويس وعدن على مغلاقي البحر الأحمر لم يزعجهم وجود إيطاليا في إريتيريا، ولكنهم وجفوا إذ رأوا موسوليني طامعاً في البلاد التي ينبثق منها النيل الأزرق، ولذلك نراهم يلجئون إلى كل الوسائل لإحباط مساعي الرجل الذي يحلم بإعادة(147/42)
الإمبراطورية الرومانية
النيل واهب الخيرات
النيل إذن شخصية كبيرة كما عرفه الكولونيل لورنس، وقد يكون أكبر شخصية في تاريخ الشعوب التي عمرت شواطئ البحر المتوسط. قال هيرودوت قديماً: (مصر هبة من هبات النيل) وهذه حقيقة لأن مصر قيمتها بنيلها، ولولاه لكانت مفازة قاحلة لا شأن لها، فهي شقة من الأرض تمتد من النوبة إلى الدلتا ويجري فيها خط طويل دائم الاخضرار، ولولا هذا المجرى الحيوي الذي ينساب في أحشائها ويروي غليلها لما كان للإنسان والنبات والحيوان حياة فيها، لأنها لا تعرف المطر إلا نادراً
في شهر يونيه ترتفع مياه النيل فتفيض على الأراضي ناشرة عليها طبقة من الغرين الذي يعد من أحسن أنواع السماد. ويبلغ معظم فيضانه في أول أسبوع من شهر أغسطس، فترتفع مياهه إلى ستة أمتار، ثم تتناقص تدريجاً فيأتي الفلاح ويشق وجه الأرض بسكته التاريخية التي تشابه سكة سلفه منذ ألوف السنين ويستغل خيراتها في شهري أبريل ويونيه
جعل النيل من مصر بلداً خصباً غنياً، فلا غرو أن سبق المصريون الأقدمون شعوب الأرض في ميادين الحضارة والثقافة. كانت مصر موطئاً لثماني عشرة سلالة من الفراعنة قبل ظهور موسى، وكانت مسرحاً للحوادث التاريخية الكبيرة قبل أن تظهر للوجود أشور والفرس واليونان. ثم كانت مقصداً لطلاب العلم والفلسفة والثقافة من جميع الأنحاء، فهي إذن كانت مهذبة الإنسانية وحاملة نبراس المدنية في العصور القديمة
ولكن إلى أي شيء يعزى تفوقها في تلك العصور التي كانت شعوبها في حالة البربرية؟ كلمة واحدة تجيب على هذا السؤال، وهي: النيل
لقد تعلم المصري القديم كل شيء من نيله، ولأجل نيله استنبط علم الفلك لكي يحدد أوقات الفيضان، واخترع التقويم والحساب، وعلم الهندسة والمساحة، وإنشاء السدود وشق الترع، لكي يستثمر النيل وينتفع بخيراته. وإننا لنجد ذكر النيل ورسومه في أساطير مصر وفي كتب ديانتها، وفي كل شأن من شؤونها، فهو من مصر كالروح من الجسد
منبع النيل:(147/43)
أين منبع هذا النهر العجيب واهب الخيرات؟
كان في اعتقاد الأقدمين أن مخرج النيل من جبال القمر، وهذا الاعتقاد الذي يظهر لأول وهلة أنه وليد الخرافات مبني على حقيقة عرفت يوم اكتشف منبعه الأصلي، وهي أن أصول النيل تخرج من أعالي (أوجاموازي)، وهذه اللفظة معناها (بلاد القمر). وقد ظلت هذه الأصول مجهولة حتى أواسط القرن الماضي؛ وحاول كثيرون من الرحالة أن يهتدوا إلى منبع النيل فلم يظفروا بطائل؛ فمحمد علي أوفد ثلاث بعثات بين سنتي 1840 و1842، فكان نصيبها الإخفاق؛ والفرنسي دارنو لم يصل إلى أبعد من الدرجة 42 من العرض الشمالي؛ والإيطاليان مياني ودبونو، والإنكليزي بتريك، والفرنسي لاجان، لم يجاوزا الدرجة الثلاثين. وظل منبع النيل سراً مجهولاً إلى أن اكتشف الرحالة الإنكليزي سبيك بحيرة تانجانيقا بين سنتي 1857 و1859 فإذا هي مصدر النيل. وفي سنة 1860 عاد يرافقه جرانت فحدد بتدقيق مخرجه. فمنبع النيل الأبيض إذن هو بحيرة تانجانيقا العظيمة التي تزيد مساحتها على 70 ألف كيلو متر مربع، وموقعها يعلو عن سطح البحر نحو 1300 متر
يتألف النيل الأبيض من شلالات ريبون، ويسير قاطعاً المستنقعات والقفار والبحيرات، وضاما إليه بعض الأنهر الصغيرة حتى يصل أرض الفراعنة، فينساب بين سهولها وحيدا لا يعترضه شيء إلى أن يصب في البحر المتوسط. وطوله من منبعه إلى مصبه 6280 كيلومترا، وهو أعرض من نهر الأمازون في البرازيل، وأطول من المسيسيبي في الولايات المتحدة
أما النيل الأزرق فمصدره بحيرة تانا في الحبشة، ويتصل بأخيه النيل الأبيض عند الخرطوم عاصمة السودان. وهو غزير المياه ولاسيما في فصل الأمطار في الحبشة. ومدته من يونيه إلى أواخر أغسطس. ولولا النيل الأزرق لما أروى النيل الأبيض وحده أراضي السودان ومصر، فهو إذن عامل كبير في حياة تلك البلاد الواسعة؛ ولا يمكننا أن نتصور مبلغ نكبة مصر بفقدانها هذا المجرى الحيوي
الحبشة والنيل الأزرق(147/44)
إن بلداً كمصر يتوقف عمرانها بل حياتها على نهر، لا بدع أن يهتم أولو أمره قديماً وحديثاً بالموضع الذي يخرج منه هذا النهر ويراقبوه بعين يقظى. وكما يشغل اليوم بال الإنكليز خطر تحويل مجرى النيل الأزرق إذا ما استولت على الحبشة دولة قوية، كذلك كان يشغل أفكار الفراعنة منذ ألوف السنين مثل هذا الخطر، فكانوا يحاولون دائماً التسلط على الحبشة التي كانوا يدعونها بلاد كوش لكي يأمنوه. ولم يكن الأحباش أنفسهم غافلين عن هذه الفكرة ولكنهم لم يستطيعوا إخراجها إلى حيز العمل الكبير لافتقارهم إلى الأدوات اللازمة، وحتى اليوم لا يزال ضعف الإمبراطورية الحبشية وتأخرها في مجالي الحضارة ضمانة لسلامة مجرى النيل الأزرق. أما إذا استولت على الحبشة دولة أوربية صناعية مثل إيطالية، فما يمنعها غداً إذا أرادت أن تستثمر - كما تشاء - الثروات الطبيعية في بلاد مساحتها نحو ضعفي مساحة فرنسا أن تحول النيل إلى غير مجراه الحالي؟
إن هذه الفكرة وحدها كافية لأن ترعب إنكلترا التي ترى في تحقيقها خراب السودان ومصر، ولا عجب إذا رأيناها في موقف الجد والحزم إزاء المشكلة الحبشية التي هي في الحقيقة معضلة النيل وذيولها الخفية.
(ترجمة العصبة)(147/45)
بعض ما يذكر
بعد الزهاوي!
بقلم عبد الوهاب الأمين
أصبح (الزهاوي) الآن في رحمة التاريخ الذي لا يرحم! ودخلت (كان) الخالدة عليه، فليس يشار إليه إلا بها. وذهب في عالم الشعر والخيال، بعد أن كان بشعره مرآة للحوادث المهمة في حياته وحياة عصره
ولقد كان في حياته - وما أشد وقع (كان) هذه! - يتمتع بعطف شديد من طبقة الأدباء، بقدر ما كان مغضوباً عليه من الطبقات المتعصبة، ولقد يكون من المناسب أن أذكر الآن أنني كنت ممن نقدوا شعر (الزهاوي) بشدة، وقد ساقني إلى ذلك وقتئذ اختلاف عصري عن عصره بطبيعة الحال وبعد شقة التفاهم بين عاطفة شيخ من أدباء القرن التاسع عشر وميول شاب في القرن العشرين لم يطمئنه ويرضه أدب لا يعبر عن ميوله؛ وكنت في ذلك الحين أترقب التشجيعين المعنوي والأدبي بنقدي ذاك، فما راعني إلا ذلك اللوم والعتاب الذي فجأني من جماعة كثيرين كانوا مجمعين على أحقية النقد، غير أن ذلك لم يمنعهم من أن يقابلوه بشيء غير قليل من التذمر! حتى لقد بلغني أن أحد من كان بيدهم الأمر حينئذ أشار إلى رئيس تحرير الجريدة التي كنت أشتغل بها أن يطلب مني الكف عن نقد (الزهاوي)!
وكنت في ذلك الوقت اشتغل بالصحافة، فلم يسعني إلا النزول على ذلك الطلب، وكففت عن الكتابة في تلك الجريدة، غير أني تابعت نقده في غيرها!
لقد أوخذ (الزهاوي) على بعض عقائد له جاهر بها في حياته، وعرف له فيها كثير من الإغراق والتطرف، كما أنه كان يجد على تطرفه هذا كثيراً من المشجعين. وفي رأيي أن المؤرخ الذي سيكتب تاريخ حياة (الزهاوي) جدير به أن ينظر في هذا الأمر بدقة عند كتابته حياة الفقيد، فعلى فهم هذه الناحية من حياة (الزهاوي) يتوقف تقدير أدبه ومدى تأثيره، وما له وما عليه، فلقد كان فقيدنا متطرفاً بالرغم منه. إذ أن ما اعتوره من الأمراض العصبية والأمراض الجسدية المزمنة، جعله كذلك؛ ومن هنا يدرك القارئ أن رأيه في (اللذة والألم) الذي ناقشه فيه الأستاذ العقاد قبل سنين، لم يكن مجرد إغراق منه كان يقصده(147/46)
للظهور بمظهر المخالف، بل كان في الحقيقة يمثل حالته النفسية والعصبية، فقد كان يرى أن الألم في الحياة أمر قائم بذاته، وأن اللذة هي انعدام الألم، وذلك طبيعي بالنسبة له؛ فما كان يشعر باللذة في حياته إلا في الوقت الذي ينصرف فيه الألم الجسدي عنه!
وقد تنبه الأستاذ العقاد إلى هذه الناحية عند التعقيب على تلك المناقشة فأشار إلى أنه لا ينكر أن (الزهاوي) يكابد من حياته ما له دخل كبير في تمكين هذه العقيدة من نفسه
فالتطرف إذن هو الظاهرة التي تتركب عليها نفسية الزهاوي في حياته الشخصية وحياته الأدبية؛ وإذا أدرك الناقد أو المؤرخ علة ذلك في تكوينه وفي أعصابه، فسيدرك بطبيعة الحال أن الإغراق والتطرف في شعره قد يؤديان في بعض الأحيان إلى ظهوره بمظهر المنقلب على نفسه، وعلى ذلك فليس في شعر (الزهاوي) تناقض أو رجوع، بل هي حالات نفسية جارفة تقلبت عليه في وقتها فأنطقته بما خيل إليه أنه لا يتعارض وآراءه السابقة، أو للتخلص من الضيق الذي سببته له بعض آرائه الجريئة، كان يريد به تخفيف وطأة الطبقات المتعصية عليه؛ وفي هذه الناحية كان يبدو على شعره الشيء الكثير من التعمل الظاهر فيه حمله على نفسه، وهنا لا يصح اعتبار مثل هذه الحالات ميزاناً للحكم على آثاره الأدبية والشعرية
يخطئ أشد الخطأ من يفاضل بين الزهاوي ومعاصريه من شعراء العراق، فإنه فضلاً عن سخافة فكرة المفاضلة لن تتوفر فيها الشروط الأساسية المطلوبة، فإنهم ليسوا (معاصريه) حقاً ولا يمتون إليه بصلة العصر. بل كان عمره المديد المليء بخدمة الشعر والمساهمة فيه مثار الأشكال في فهم شعره وحياته. فهو من بقايا القرن التاسع عشر، وليس من رجال القرن العشرين، وما كان بوسعه أن يخرج على نفسه في هذا الأمر طيلة حياته
وإذا كانت خطوات البشرية في عصورها السابقة للقرن التاسع عشر قريبة المدى من بعضها، وإذا كان التشابه والتقارب بين تلك العصور موجودين فهما في هذا العصر قد بلغا آخر درجات التباعد. وقد مرت مئات السنين على البشرية في (عصور الظلام) فما كان لتلك السنين المديدة أن تؤثر تأثير بضع سنوات في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، فيكاد هذان العصران يمثلان (سن الرشد) للبشرية والدهر، ففيهما استيقظ الإنسان وأحس وأدرك، وظل كذلك يخطو بسرعة فائقة حتى لقد كاد أن يكون من المشكل التفاهم(147/47)
بين الولد وأبيه. كأن بضعة السنين التي بينهما قد أقامت بين تفاههما حواجز العصور!
من هنا يدرك القارئ السبب في وجود هذا البعد الكبير بين نفسية (الزهاوي) وبين نفسية شباب اليوم وسبب نقمتهم على أدبه، ومع ذلك فقد أرضى (الزهاوي) كثيرا من نزعات الشباب وأفكاره، ودافع عن تلك الرغبات دفاعاً شغل حياته الطويلة ووسمها بسمات لا يستطيع مؤرخه إهمالها، فقد كان من مناصري المرأة والسفور والتجدد، وظل كذلك إلى آخر حياته، برغم ما جرته عليه هذه الأفكار من المتاعب له، ومن هنا أيضاً تتضح لنا أهمية الرجل في العصرين اللذين كان له نصيب الحياة فيهما، ومدى تأثيره في كليهما
وبعد فهل يحق لنا أن نتفاءل بهذه الحركة التي قام بها بعض المعجبين بأدب الزهاوي؟ وهل لنا أن ننتظر منهم غير ما تعودنا انتظاره في مثل هذه الحال من دراسة منتظمة لعصره وحياته وآثاره، أم لا تزيد هذه الهيجة على نصب تمثال له فقط؟
على كل حال، إننا ننتظر ونأمل أن تتشكل لجنة من المعجبين بشعره من الأدباء لتدوين تاريخ حياته، لأنه والحق يقال، قد كون في حياته فصلا كاملاً لحياة العراق في ملتقى عصرين مهمين من حياة البشرية
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(147/48)
الحياة الأدبية في فلسطين
للسيد محمد تقي الدين النبهاني
مدارس الأدب في فلسطين مدرستان. مدرسة الشيوخ ومدرسة الشباب. ولا تستطيع وإن أجهدت نفسك أن تعثر بثالثة اللهم إلا أثفية سفعاء. وهذا التقسيم قد يكون طبيعياً بل قد يكون عاما لا يمتاز به قطر ولا تستأثر به بلد؛ غير أنه في فلسطين غيره في سواها؛ فأدب الشيوخ في أكثر الأقطار مطبوع بطابع المحافظة على القديم حتى لدى المجددين منهم، وأدب الشباب كلف بالجديد حتى لدى المعتدلين من هؤلاء. وإليك مصر زعيمة الأدب العربي تكاد تخضع لهذا المبدأ بالقوة إن لم يكن بالفعل؛ فالزيات وطه حسين وهما من دعاة التجديد لا تقرأ لهما لغة ولا تمر بفكرة حتى تقرأ ما بين السطور المحافظة على التراث القديم. أما فلسطين فأدباؤها الشيوخ مشتجرون وأدباؤها الشباب منشقون، ولا تستطيع أن تلمس فرجة تتاح لك منها فرصة التوفيق، وإنه ليهون عليك أن تجد بعض الجامع بين الشيوخ والشباب ويعتاص عليك التوفيق بين رأي الشيوخ أو رأي الشباب. ولعل ذلك ناجم عن جرثومة هذا الأدب وأن نهضته أسست على التقليد من غير أن تكون ملكة الاستقلال والنقد بارزة تميز صائب الرأي وتنفث خطله
ترى طائفة من الشيوخ أن الأدب في رفض هذا النحو المألوف لدى العرب في دراسة الأدب من إلمام بالقواعد ودراسة لجيد النثر ورصين الشعر، وتذهب إلى أن كتب النحو وأسفار البلاغة من أمثال كتب الجرجاني والقزويني حتى اليازجي وأسفار ابن هشام وابن مالك حتى الشرتوني والجارم يجب أن تحرق وينبغي أن تمحى، وأن هذا الشعر وتلك الخطب التي قرضها أمثال حبيب ودبجها زملاء زياد لا يجوز أن نجعلها ثقاف أدب لعقول الأدباء، وأن لغة الصحف والكلام العادي الذي يكتب بعيداً عن الفن نائياً عن مقياس الأدب القديم هو التأدب الحق فكفى المرء أدباً أن يقرأ حتى لو أخطأ رفع المبتدأ ونصب الحال مادام هو أو السامع قد فقه مغزى ما يريد. ويرضى من الكاتب أن يخط حروف الهجاء بكلمات تبين عن المعنى ولو مجملاً حتى يضحى بعد مدة كل عربي قادراً أن يفهم الأدب إذا ما قدر أن يتلو الكلمة بعد معرفته ربط الحروف. وهذا رأي ينادي على نفسه بالخطل ويجعل القارئ في شك من عقل صاحبه أو حسن نيته. ومن المؤسف أن نقول إن من(147/49)
القائلين به مفتشين في المعارف وطائفة في أيديها أمر اللغة العربية في المدارس، ولا نود ذكر الأسماء لأنا نخشى أن يظن ذلك منا هجاء
وتزعم طائفة أخرى أن الأدب في التضلع من غرائب الكلم من مثل مبرنشق ومصمئل، وأن من لم يحط علماً بذلك ويستوي على شعر تأبط شراً وذي الرمة ويستظهر خطب المأمون الحارثي ومقامات الحريري لا يسمى أديبا
هذان رأيان من آراء الشيوخ وهما متناقضان، في أحدهما الهدم، وفي الآخر الجمود، لا تقوم بها نهضة، ولا يؤمل منهما إصلاح، لولا أن هناك طائفة ترى وجوب السير في نهج القديم والاستضاءة بضوء الحديث كرأي الأدباء الذين أخذوا على عاتقهم حمل مشعل الأدب. وهذه الطائفة لها أثرها ولها أنصارها، منها ذوو الطرابيش وأصحاب العمائم. غير أنه على غبطتنا بالطائفة الأخيرة ومقتنا للطائفة الأولى نقول: إن هذه الطائفة المعتدلة تقصر عملها وتحصر نهضتها في غرف الدرس وحلقات السمر، لم تخرج بعد ثمرة ولم تقم بمجهود، وأن الإكثار إنما هو لأولئك الهدامين، يكتبون ويتحدثون بما يرون بما لا يكاد يصح أن يسمى لغة عربية، ولا يكادون يقيمون لسانهم لحناً إذا ما تحدثوا دقيقة أو دقيقتين، ولكنهم على ذلك مكثرون وعاملون ما سمحت لهم المقادير
وطائفة الغريب منتجة غير أنه قليل، وعلى قلته لا يجد رواجا ولا ينفق إلا في سوق الراسخين
أما الشباب ففرقتان: فرقة كان موطن ثقافتها مصر، وفرقة رضعت لبان الأدب في فلسطين ولبنان، وبذلك تباينت عقليتهما وانشقت آراؤهما
فالذين تثقفوا في مصر يرون أن خير طريق لإنهاض الأدب هي الطريق التي تسير فيها جمهرة أدباء مصر، وهي أن تربية ملكة الأدب في دراسة نصوصه ونقد هذه النصوص وبحثها على المقياس الذي وضعه أولئك العلماء الذين أشفقوا على اللغة أن تضيع وخشوا فسادها على ضوء ما يجد من الآراء الصائبة وما يشرق من طرق البحث الأدبي القويمة. ولذلك تجد هؤلاء يتقلبون بين صفحات الأسفار ويأرقون لتحبير الرسائل والكلمات وينتقلون بين المدن والدساكر، يستملحون البيت من العشر، ويهشون للفقرة من النثر، ويهتزون طرباً لرؤية كتاب حديث يلتهمونه التهاماً، ثم يوسعونه نقداً، ويفتقون ما يصح من(147/50)
رأي حصيف. وهؤلاء هم الذين يجاهدون في النهضة ويضعون أنفسهم حراس الأدب. يحيطون علماً بسيره في سائر الأقطار ويستلئمون لرد غارة دعي، وصد هجمة متطفل على الأدب يكيد له. ومهما لاقوا من عنت ووجدوا من قسوة، لا يأبهوا لما يكون حتى من أشد الشظف، ويؤيدهم في ذلك جمهرة من إخوانهم الذين تثقفوا في لبنان، وإن كان يكون بينهم نزر الخلاف
أما الفرقة الأخرى فهي تقصر الأدب على رقيق الغزل وبارع الخيال في الكلم، وما يبدع من مقالات الصحف السيارة. حتى ليعدون رئيس تحرير جريدة أديباً إذا ما أنشأ كلمة في علاج شؤون البلاد؛ وهؤلاء يريحون أنفسهم من عناء الدرس، اللهم إلا في كتاب حديث أو جريدة يومية، أو مجلة فكاهية، وجل مجهودهم قصيدة غزلية أو مقالة اجتماعية ينشرونها في نهر جريدة ما. وهؤلاء لا نشك في عقلهم ولا نرتاب في نيتهم، وإنما نفند رأيهم وندعي أن الميل إلى الراحة ومتابعة الأهواء والجري وراء غرائزهم هو الذي حدا بهم أن يسيروا في هذا النحو، وأن يعتنقوا هذا المبدأ، ولعلهم بعد يؤوبون إلى الحق أثناء سيرهم في قافلة النهضة السائرة، وأنه وأن كثر أنصارهم باتخاذهم أصحاب الصحف أصدقاء، وباهتبالهم فرصة هذه الصداقة لجعلها بوقاً لهم يرضون به غريزتهم وينشرون رأيهم؛ فهم أمام قوة الأدب الصحيح يضعفون ويضحل معين أدبهم فأنه سينضب، وحينذاك يعلمون حق العلم أنهم كانوا في وادي الضلال يعمهون، ومن ملح أجاج كانوا يشربون ويسقون
ولا يعجبن القارئ من عرض هذه الصورة ولا يدهش لهذا الاضطراب في الحياة الأدبية فإن المقادير تضافرت على خلق الاضطراب، وإن اختلاف السياسة خلق هذا التباين. ففلسطين كان أدبها معدوماً وكان أدباؤها غير مخلوقين قبل سنين، فالأتراك كانوا يتآمرون على الأدب العربي حتى في مصر، فما بالكم في فلسطين؟ والأزهر كان حرباً على الأدب ذاك الوقت وخاصة مع الأغراب، وجامعات مصر كانت تقفل أمام الفلسطينيين، والحرب العامة كان لها أكبر الأثر ففتحت البلاد عينها على بقية من القدماء وجمهرة من الدخلاء، ثم أضحت فلسطين منتدباً عليها أو مستعمرة، وقام على شؤون التأديب غرباء عن الأدب، فكان ذلك الركود ووجد ذاك السكون في أوائل العقد الرابع من القرن الرابع عشر الهجري إلى أن فتحت جامعات مصر على مصراعيها لأبناء فلسطين واتجه الأزهر يعنى بالأدب(147/51)
ليتاح له تأدية رسالته، وحضنت لبنان أبناء هذا البلد فرجعت جمهرة من الشباب اصطدمت بالقدماء واصطدم بعضهم ببعض فكان هذا الاضطراب وكانت هذه الحياة الأدبية المضطربة التي أظهرنا لك صورة مصغرة دانية من الحقيقة وإن كانت المقادير لم تسمح بأن تكون هذه الصورة أقرب إلى الحقيقة وواضح مما قدمنا
. . . بيد أن هذا الاضطراب والاحتكاك يلمع ببرق أمل في النهضة الأدبية ويبشر بانتظام حياة أدبية يجهد الشباب لإيجادها ويستميلون معتدلي الشيوخ وأنضجهم آراء، وما هي إلا لمحة حتى تتغير الحياة غير الحياة وتزهر رياض الأدب في هذه البلاد العربية وتؤتي أكلها ثمراً شهياً
(حيفا)
محمد تقي الدين النبهاني(147/52)
شكوى إلى الله
وداع. . .
هذه خطبة معلم فرقوا بينه وبين أولاده فودعهم بها ووصاهم وبكاهم، وإني لآسف أن يكون في صاحبنا المعلم الأديب هذا الضعف وهو يدعو إلى أدب القوة، ولكن ماذا يصنع؟ أليس له قلب؟ أليس بإنسان؟. . .
أولادي!
انتظروا! لا تخرجوا كتبكم، ولا تفتحوا دفاتركم، فما جئت لألقي عليكم درساً، وإنما جئت لأودعكم. إن الوداع صعب يا أولادي لأنه أول الفراق، وما آلام الدنيا كلها إلا ألوان من الفراق: فالموت فراق الحياة، والثكل فراق الولد، والغربة فراق الوطن، والفقر فراق المال، والمرض فراق الصحة. . .
إن الوداع صعب ولو إلى الغد، فكيف إن كان المودَّع صديقاً عزيزاً، فكيف إن كان ولداً، فكيف إن كانوا أولاداً؟
أنتم أولادي، أولادي حقيقة لا أقولها مجاملة ولا رياء، ولا أسوقها كأنها كلمة تقال، ولكن تنطق بها كل جارحة في، واحسها من أعماق قلبي!
ولم لا؟ ألستم تحبونني وأحبكم؟ ألم أفكر فيكم دائماً وأخاف عليكم؟ ألم تروني آلم إذا تألم أحدكم، وأثور إذا تعدى أحد عليكم؟ ألم أفتح لكم قلبي حتى اطمأننتم إلي وأنستم بي، وخرقتم حجاب الخوف الذي كان بيني وبينكم، كما يكون بين كل معلم وتلاميذه، وغدوتم تدعونني لأشارككم في ألعابكم، وتقصون علي أخباركم وتبثوني أحزانكم، وتنبئوني بأسراركم، وتشكون إلي ما يصيبكم من آبائكم وأهليكم؟ فأي صلة بين الآباء والأبناء أوثق من هذه الصلة، وأي سبب أقوى من هذا السبب؟
أنتم أولادي. فهل رأيتم أباً يودع أولاده الوداع الأخير ثم يملك نفسه أن تسيل من عينيه؟ لقد شغلتم نفسي زماناً، وأخذتم علي مسالكي في الحياة، فلا أرى غيركم ولا أفكر إلا فيكم، وأقنع بصداقتكم هذه الخالصة المتعبة المرهقة، عن الصداقة الكاذبة، والود المدخول
فكيف أقدر أن أملك نفسي وأنا أقوم بينكم لألقي عليكم كلماتي الأخيرة، ثم أمضي لطيتي لا أدري أأراكم بعد اليوم أم لا أراكم بعد أبداً؟. . .(147/53)
أما أنتم فاملكوا أنفسكم - لا تحزنوا ولا تأسفوا ولا تبكوا لأني علمتكم كيف تكونون في طفولتكم أكثر منا في شبابنا رجولة وصبرا - ونشأتكم على القوة التي فقدناها، والبعد عن العاطفة التي ربينا عليها، وإنكار الألم الذي لا نزال نهرب منه، والمغامرة التي نكرهها ونجهلها لأرى صبركم في مثل هذا اليوم
أنكم الآن تجتمعون حولي، ولكنكم ستتفرقون في المستقبل، وستنثرون على درجات السلم الاجتماعي نثراً، وسيكون منكم الغني والفقير، والكبير والصغير، والتاجر والصانع، والموظف الكبير، والمدير والوزير. ولكن قلبي سيتبعكم، وحياتي ستمتد فيكم، ومبادئي ستبقى في قلوبكم، لا تستطيعون أن تتناسوها، وكلماتي سترن في آذانكم لا تقدرون أن تتغافلوا عنها، وستسمعونها تدعوكم باسم الواجب في ساعات الهوى، وباسم الحق في جولة الباطل، وباسم الفضيلة في غمار اللذة. فطوبى لمن لبى وسمع واستجاب، وويل لمن نسى وأنكر وأعرض واستكبر!
إنني لقنتكم مبادئ الحق والفضيلة ولكنكم ستجدون في تطبيقها عناء كبيراً؛ ستجدون أول خصومها معلميكم في المدرسة وأهلكم في البيت ورفاقكم في الطريق، فالسعيد السعيد من ثبت على الحق، وأوذي في سبيله؛ والبطل من درأ بصدره السهام عن أمته، وأطفأ بدمه النار التي تحرق وطنه. أن في أمتكم طاعوناً أخلاقياً مروعا أصيبت به منذ خمسمائة سنة فذلت واستكانت، وفقدت عزتها وصبرها وقوتها، وقد جاء الوقت الذي تبرأ فيه الأمة. أنها لن تبرأ إلا على أيديكم. . .
لقد دللتكم على الطريق، ووضعت في أيديكم مفتاح النجاح، فعلمتكم فضائلي كلها مع ما عرفت من فضائل، وجنبتكم نقائصي كلها مع ما عرفت من نقائض، فاحترمتكم لتحترموني، وأخطأت أمامكم لتردوني، ورجعت عن خطئي لتتعلموا مني، وأنصفتكم من نفسي لتنصفوا الناس من نفوسكم، وعلمتكم معارضتي إذا جرت لتتعلموا المعارضة لكل جائر، ولم آت في ذلك بدعا. فهذه مبادئ الإسلام الذي علمتكم اتباع سبيله، والوقوف عند أمره ونهيه والفخر به، والجهر باتباع شعائره، وربيتكم على الطاعة في غير ذل، والعزة في غير كبر، والتعاون على الخير، والثبات على الحق، والقوة في غير ظلم، والنظام الكامل من غير أن يفقدكم النظام شخصياتكم واستقلالكم(147/54)
كنت أذكر ما كنت أستاء منه في المدرسة مما كان يصنع معنا معلمنا، فلا أصنع معكم منه شيئا: كنا نفر من المدرسة لأننا لا نجد فيها إلا جباراً عاتيا، عبوس الوجه، قوي الصوت، بذيء الكلمات، فجعلتكم تحبون المدرسة لأنكم تلقون فيها أباً باسماً شفيقاً يحبكم ويشفق عليكم، ويحرص على رضاكم كما يحرص على نفعكم
وكنا نكره الدرس لأننا نجده شيئاً غريبا، وطلاسم لا نفهمها ولا ندرك صلتها بالحياة، ونعاقب على إهماله، ونجازي على الخطأ فيه، فجعلتكم تحبون الدرس لأنكم ترونه سهلاً سائغا، تدركون صلته بحياتكم، وفائدته لكم، وتحفظونه لأنه لازم ومفيد لا خوفاً من العقاب ولا هرباً من الجزاء
وكنا ننتظر المساء لننجو من المدرسة، لأننا نسجن فيها سجنا، لا نستطيع أن نميل أو نتلفت أو نتكلم، ولا نسمع من الأستاذ إلا عبارة الدرس المبهمة وألفاظ الشتائم المؤلمة. فجعلتكم تكرهون المساء لأنه يفصلكم عن المدرسة التي تقولون فيها ما شئتم من طيب القول، وتفعلون ما أردتم من صالح العمل، وتقرءون مازلتم نشيطين للقراءة، فإذا مللتم من الدرس سمعتم قصة لطيفة، ونكتة حلوة، هي أيضاً درس من الدروس، ووجدتموني أحادثكم كما أحادث الرجال لا الأطفال. كنا نشعر بأننا أذلاء في المدرسة لأننا لا نقدر أن ندافع عن حقنا، أو نطالب بما لنا، وإذا قلنا كلمة فالعصا نازلة على رءوسنا، أو رددنا على المعلم لفظة، فالبلاء مستقر على عواتقنا، فجعلتكم أعزة أحرارا، تدافعون عن حقكم، وتطالبون بما لكم، ولكن بأدب واحترام، واتباع لقوانين المجتمع وأنظمة المدرسة. . .
أتذكرون يوم جئتكم كيف كان أكثركم يأتي إلى المدرسة بادية أفخاذه، مرجلاً شعره، في جيبه مشطه ومرآته، وكمّتُه (بيريه) على رأسه. تفخرون برقتكم، وتعتزون بجمالكم، وتتخلعون في مشيتكم، ولا تجدون من معلميكم إلا إقرار ما تفعلون، واستحسان ما تأتون، لا تربطكم بالإسلام إلا رابطة الاسم، ولا بالعروبة إلا صلة الجنسية، ولا تعرفون من تاريخكم ما تعرفون من تاريخ الحّثيين والآراميين الذي قرأتموه مفصلاً قبل أن تدرسوا سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تعلموا من هو أبو بكر، وقبل أن تسمعوا باسم معاوية. فعلمتكم أن فخر الرجل بقوته وعلمه، واعتزازه بدينه ولغته. فاشتدت أعصابكم، وقويت نفوسكم، وتنبهت عزائمكم وصرتم تمشون كالأسود، وتلعبون كالعفاريت.(147/55)
وتطالعون كالعلماء وتفكرون كالفلاسفة، وتراقبون الله كالصديقين، وصرتم وأنتم في هذه السن تهيئون محاضرة في عشرين صفحة عن عمرو بن العاص، أو عبد الملك، أو عبد الرحمن الناصر، وسمعتم أن في الدنيا علوماً إسلامية، واستقر في نفوسكم أن هذه العلوم وهذه الحضارة وهذا المجد، لابد لها من بعث كالبعث الأوربي (الرينسانس)
ولكنكم لا تستطيعون يا أولادي أن تفهموا التضحية التي قدمتها من أجلكم. لأنكم لم تعرفوا قبلي هذا الطراز من المعلمين، فحسبي أن أخبركم أنني اشتغل بالأدب. أعني أن لي نفساً تشعر وتحس، وتألم وتسرّ، وتغضب وترضى، وتثور وتهدأ، وتأمل وتقنط، وأن لي غاية في الحياة أكبر من هذه الوظيفة. وأنني أهم بأشياء غير صفارة المناوب، وعصا التأديب، وحفظ النكات الباردة لتقطيع الوقت بها، ولف رجل على رجل في عظمة جوفاء لانتظار الدرس. . .
ذلك أنني أغدو إلى المدرسة كل يوم وفي نفسي عشرات من الصور والأفكار، أبني منها هياكل فخمة لآثاري الأدبية القيمة التي لم أكتب منها شيئاً بعد فإذا بلغت المدرسة ونشقت هذا الهواء المليء بجراثيم البلادة والخمول، طار من رأسي كل شيء، وأحسست أني غدوت حقيقة معلماً أولياً
أجل. لقد ضحيت من أجلكم بفكري ونفسي. . فخسرتهما من أجلكم، وهأنذا أخسركم أنتم أيضاً
إنكم لا تعلمون أي فراغ سيدع في نفسي فراقكم، وتحسبون معلمكم واحداً من هؤلاء البشر الآليين الذين يذهبون ويجيئون ويعملون ويتركون، ولكن بلا قلوب، فسأقص عليكم قصة وقعت لي منذ أسبوع:
كان اليوم عطلة وكنت أرقبه من زمن بعيد لأستريح فيه من هذا العناء الذي هدني هداً وطمس بصيرتي، وبلغ بي إلى الحضيض الفكري، فلما أصبحت عمدت إلى المطالعة فلم أفهم شيئاً، ووجدت شيئاً يدفعني إلى الخروج، فارتديت ثيابي وأنا لا أدري أين أقصد، فإذا أنا أمشي في الطرقات التي أمشي فيها كل يوم. وإذا رجلاي تقودانني إلى المرجة حيث ركبت السيارة إلى حيّ السفح (المهاجرين) إلى باب المدرسة. هنالك انتبهت، وعدت إلى نفسي، فإذا أنا لم أقدر أن أعيش يوماً واحداً بعيداً عنكم، وإذا صوركم وبسماتكم الحلوة،(147/56)
وشيطنتكم البريئة، وصداقتكم الخالصة، وأصابعكم الممدودة للسؤال قيد بصري حيثما ذهبت!
ولكن لا عليكم مني يا أبنائي، لا تفكروا فيّ ولا تحملوا همّي، بل فكروا دائماً في مبادئ علمتكم إياها، واذكروا في المستقبل أني كنت أستاذكم، وأنكم أحببتموني وأحببتكم، ولا تحقدوا عليّ أني كنت أحياناً أقسو عليكم أو أعاقبكم، فإنما كان ذلك لفائدتكم
وبعد. فقوموا يا أولادي، ودّعوا أباكم الذي لن تلقوه بعد اليوم. . . . . . . . .
وخرج صاحبي من المدرسة، مهدود الجسم، خائر القوى، فألقى عليها النظرة الأخيرة. فرآها من خلال دموعه، مشرقة بهية، كأنها ماسة تلمع في شعاع الشمس، ثم ولّى. . . يفكر تفكيراً مضطرباً
هذه هي حياة المعلم؛ يغرس غصون الحب في قلبه فتمزقه بجذورها، فإذا أزهرت جاءوا فنزعوها من قلبه، فمزقوه مرة ثانية بنزعها: يأخذ المعلم أولاداً لا يعرفهم ولا يعرفونه، فلا يزال يجهد فيهم، ليفهم طبائعهم، ويألفهم ويحبهم، ويقوّم اعوجاجهم ويصلح فاسدهم، حتى إذا أثمر الحب الفائدة وأتى العطف بالمنفعة وأتى العطف بالمنفعة، جاء ولاة الأمور فقطعوا بجرّة قلم واحدة هذه الأسباب كلها. وفرقوا بنقطة من حبر بين الأب وأولاده، لا لشيء. بل لوشاية سافلة أو مؤامرة دنيئة، أو لإخلاء مكانه ليبوّأه بعض الملتمسين من ذوي الوساطات
وانطلق صاحبنا يهمس في أذن نفسه:
إني أشعر بالانحطاط والضعف، وأحسّ كأنني شمعة قد أنطفأت، لم يكف أنهم أضاعوني والقوني في هذا الطرْق حتى جعلوني أسبح فيه، ثم أغوص إلى أعماقه، بينما يمرح الأدعياء واللصوص بالعيون الصافية ويقطفون وردها وزهرها!
لم يبق لي أمل. . . لقد سقطت في المعركة قبل أن أنال ظفراً، لقد بعت نفسي ومستقبلي وآمالي بتسعة جنيهات في الشهر ثمناً لخبز عيالي. . . أفكان حراماً أن أجدها من غير هذا الطريق، ألم يكن بد من أن أموت لأعيش؟. .
أستغفرك اللهم. فلا اعتراض ولا انتقاد، ولكنما هي شكوى. أفيخسر المرء ماله فيشكو، ويفقد حبيبه فيبكي، ويرى آماله تنهار أمام عينيه ونفسه تذوب وحياته تنضب ومواهبه تذوي ولا يقول شيئاً؟(147/57)
إنني أشكو، ولكن إلى الله؛ فليس في الناس من يشكى إليه!
(دمشق)
(ع)(147/58)
الألم. . .
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
لست أسطيع أن أغير طبعي=يخلق الطبع مكرهاً يوم تخلق
أَنَا في عُزْلَتِي يُطِيفُ بَيَ الرُّعْ ... بُ فَأَبْكِي مَنْ طُولِ شَجْوِي وَأَفْرَق
تَعْتَريني الهُمومُ فالطَّرْفُ حَيْرَا ... نُ مُنَدَّى مِنَ الدُّمُوعِ مؤَرَّق
وَجَنَانيِ وَلْهانُ يُرْمِضُهُ الح ... بُّ وَيَذْكُو بِهِ الجَوَى إِنْ تَشَوَّق
تَتَراَءى لِيَ الحيَاةُ قَتَاماً ... ما بِهاَ مَسْربٌ يَبينُ فَيُطْرَق
وَيَلُوحُ الوُجُودُ قَفْرًا يَبَابًا ... عَجَّ في سَاحِهِ الْعَفَاءُ وَأَطْبَقْ
صُوَرٌ مِنْ كآبتي لَيْسَ تُمْحَى ... أَنا مِنْهَا مُشَتَّتُ النَّفْسِ مُصعَقْ
مِنْ شُجُوني أَنِّي أَرَى الْوَهْمَ يَحْيَا ... وَلَقَدْ صاغَهُ خَيَالي وَنَمَّقْ
لِي عَذَابُ اثْنَتَيْنِ نَفْسِي التي تَشْ ... قَى وَنَفْسِي التي أُحِبُّ وَأَعْشَقْ
عِشْتُ مِنْ طُولِ حَسْرتِي أَتَشَكَّى ... مِثْلَمَا يَشْتَكِي الحمَامُ المُطَوَّق
ضَاَعَ عُمْرِي كما تَضِيعُ اليَنَابِي ... عُ وَتَخْفَى أَمْواهُهَا وَتُغَلَّقْ
وَانْطَوَى مِثْلَمَا تَمُرُّ الضَّبابَا ... تُ وَيَفْنَى خَيَالُها وَيُمَزَّق
أَيُّها الّلائمِي أَتَلْحُو المَقَادِي ... رَ وَتَهْجُو الدَّهْرَ الذي لَيْسَ يَرَفَقْ
هُو جُرْحِي عَرَفْتُ كَيْفَ أُدَاري ... هِ وَأَحْنُو عَلَيْهِ عُمْرِي وَأَشْفَقْ
لَسْتُ أَسْطِيعُ أَنْ أُغَيِّرَ طَبْعِي ... يُخْلَقُ الطَّبْعُ مَكْرَهًا يَوْمَ تُخْلَقْ
أَنا قِيثَارةٌ تَنُوحُ عَلَى الدَّهْ ... رِ وَدَمْعٌ عَلَى المَدَى يَتَرَقْرَق
أَنا لَحْنٌ مُضَرَّجٌ بالمآسِي ... كادَتِ النَّفْسُ مِنْ تَشَكِّيهِ تزهقْ
هُوَ في الصدْرِ لاَعِجٌ يَتَنَزَّى ... وَهْوَ في الْفِكرِ جَدْوَلٌ يَتَدَفَّقْ
يَا رَجَائِي يَا بَسْمَةَ الزَّهْرِ النَّض ... رِ وَيَارَوْعَةَ النّشِيدِ المُرَقَّقْ
أَنْتَ دُنْيَايَ أَسْتَريحُ إِلَيْهْاَ ... كُلَّمَا طافَ بِي الشَّقَاءُ وَأَحْدَق
طَيْفُكَ الحُلْوُ زَارَنِي في ذُهُولِي ... فارْتَوَتْ مُهْجَتي وَعُمْرِيَ أَوْرَق
وَتَطَلَّعْتُ لِلْخُلُودِ أُنَاجِي ... مَلَكاً في مَعَارِجِ الْغَيْب حَلَّقْ
الأَسَى دَمْعَةُ الحَنَانِ عَلَى الأَرْ ... ضِ وَكَنْزٌ مِنَ المَرَاحِمِ مُطْلَقْ(147/59)
تَتَسَامَى الأَرْوَاحُ فيهِ إِلى اللَّ ... هِ وَتَنْدَى مِنَ الطُّيُوبِ وَتَعْبَقْ
البْلاَغَات سَطْعَةٌ مِنْ سَنَاهُ ... وًالْفَصَاحَاتُ نَفْحَةٌ مِنْهُ تُنْشَقْ
وَالْغَمَامَاتُ رَجْفَةٌ مِنْ رُؤَاهُ ... وَالخِضَمَّاتُ قَطْرَةٌ مِنْهُ تُهْرَق
نَهَرٌ لِلْبُكاءِ سَالَ عَلَى السُّحْ ... بِ وَوَشَّى الأُفْقَ البَعيدَ وَزَوَّق
تَسْتَحِمُّ النُّفُوسُ فيهِ مِنَ الإِثْ ... مِ وَتَنْقَى مِنَ العيوب وَتَأْلَقْ
يَدْرُجُ الحُبُّ في حِمَاهُ عَنِيفًا ... نَاصِعًا كالضّيَاءِ إِنْ هُوَ أَشْرَق
كُلُّ عَهْدٍ لم يَنْتَظِمْهُ مُضَاعٌ ... كُلُّ وُدٍّ لم يَعَتْمِدْهُ مُفَرَّق
أنور العطار(147/60)
عبرة الموت
جميل صدقي الزهاوي
بقلم عبد السلام رستم
يأيها المسلوب من أنسه ... مصفد الجسم إلى رمسه
وتارك الدنيا على حالها ... لم تصدق العائف في حدسه
في الموت لو فكر مستعبر ... فيما يصيب الحي من مسه
تشابه الناعم في لهوه ... بالعابد الطوّاف في حبسه
وبات من يجمع أمواله ... كالمعدم المحروم في بؤسه
تلاحق الآتي بمن قبله ... وتابع اليوم خطى أمسه
فما ينال المرء من حظه ... إلا بريق النور من شمسه
يشب مشغوفاً باغراسه ... وليس يدري منتهى غرسه
ويخطب الدنيا، وقد شاقه ... ما يفتن الناظر من عرسه
ويرشف الكأس على نهله ... والموت - لو يعلم - في كأسه
يا شاعرا ظل مدى عمره ... في حيرة المشدوه أو يأسه
يسائل المجهول عن أمره ... وينظم الشعر صدى نفسه
ماذا أفاد الحس في عالم ... لا يدرك المعنىّ من حسه
الكون ما انفك بأوزاره ... يغترف الأحياء من رجسه
قد غلب الطبع على خلقهم ... ومرجع الشيء إلى جنسه
وكلهم في عيشه ناسج ... ثوباً يقيم الدهر في لبسه
والموت من خلفهم دائب ... يسدد النبل إلى نكسه
كم عجز الباحث عن كنهه ... وإن أطال الفكر في درسه
فدونك الحق الذي تبتغي ... وخل عنك الروح في قدسه
(القاهرة)
عبد السلام رستم(147/61)
سهرة أبريل
الشاعر والربيع
بقلم محمد رشاد راضي
الشاعر:
طير الربيع أعدت ذكرى بلبلي ... أأراه في فرح الربيع المقبل
قذف الحسام فكان مقبضه على ... شفتي وآخر حدّه في مقتلي
ومضى كما يمضي السحاب كأنه ... ظِلُّ الغريب وهدأة المتأمل
أجتاز أنواء العواصف تائها ... ويروح يرفل في الغلائل والحلي
الأرجوان العذب في وجناته ... ظللته بخياليَ المتهلل
رقرقت في عينيه بارق أنجم ... يهدي فكان لحيرتي كمظلل
حلو كما احلولت طفولة ناهد ... طلق طلاقة بسمة لمقبل
شرب السماء جميعها بعيونه ... ورمى بقيًّتها لماء الجدول
يمشي فيخضرُّ الثرى من خطوه ... وتذوب أحجار الجديب الممحل
الربيع:
نهب الكون ابتسامي ... إنه في كل ثغر
ونجومي البيض رفّت ... في الثنايا مثل درِّ
وكراكيّ وطيري ... رفرفت في كل صدر
الصبا الصارخ يسري ... في الدم القاني ويجري
إن وردي يا أميري ... صِبغةٌ من شفتيها
وغديري عبرات ... هربت من مقلتيها
وحياة الحب والفتن ... ة رسم من يديها
أوحت الدنيا إلى الل ... هـ فأهداها إليها. . .!
هي حلم لا يراه ال ... مرء حتى في الكرى
هي كأس دون خمر ... هي خمر قد جرى(147/63)
هي أحيتني فجئت ال ... يوم كيْ أحيي الورى
إن نور الشمس من أع ... ينها السود سرى
جمع الخالق حسن الأ ... رض فيها يا هزارْ
فلك الدنيا تراه ... كلما دارت يُدار
هي في النور ظلام ... وهي في الليل نهار
هي ماء أيها الشا ... عر كم يحرق نار!
أرسلتني اليوم يا صدَّ ... اح كيْ آتي إليكا
أرسلتني بدَلا من ... ها لأروي شفتيكا
كلما ترنو إلى مر ... آتها أبدو لديكا. . .!!
إنّني لوحتها تع ... رضها اليوم عليكا
إرسم اللوحة واحفر ... ها على لوح الخلودْ
هأنا صورتها العذ ... راء أنوار الوجود
خذ من الصورة أعلى ال ... فن والحسن الفريد
وأتم الرسم منها ... فهي يوماً ستعود. . .!
الشاعر:
كلما سرت يا ربيع النور ... أتهادى من جدول لغدير
كخيال يطوف بين القبور ... خلت أن الشذى ومرج الزهور
هو للكون ليس لي أنا وحدي
هو ظلٌّ منها يزيد شجوني ... إن كأس السراب لا ترويني
ولهذا يلجُّ عصف جنوني ... أنا أبغي الدنيا وإن تك دوني
لا بساطا يناله كل فرد. . . . .!
أنا أبغي عيناً ترى بعيوني ... أنا أبغي قلباً يدين بديني
أنا أبغي بلهفة وجنون ... أن تكون الحياة ملك يميني
ما انتفاعي بالطيف والطيف عندي. .؟!(147/64)
القصص
درامتان من اسخيلوس
ليلة في الفردوس
(وإلى الأبد في جهنم!)
آخرة المتضرعات
للأستاذ دريني خشبة
خلاصة الدرامة الأولى
كان لأيجبتوس، أمير مصر السفلى، خمسون ابناً، وكان لأخيه دانوس خمسون ابنة، وكان الزواج من بنات العم في ذلك الزمن محرما بل كان يعد نوعاً من الزنى؛ وبالرغم من هذا أراد إيجبتوس أن يزوج أبناءه من بنات أخيه، وكان هذا الأخ، دانوس قد رأى في منامه أن أحد أزواج بناته يذبحه، فلما ذهب إلى الكهنة يستفتيهم في هذا أكدوا له صحة الرؤيا، ولذلك رفض تزويج بناته، وهرب بهن على فلك إلى آرجوس، وهناك، في حرم الآلهة، لقي بيلاسجوس ملك آرجوس، وتقدمت كبرى بناته إلى الملك فحدثته عن منشئها وما تمت به من وشائج القربى إلى آرجوس عن طريق يو حبيبة سيد الأولمب وصفيته، وتضرعت إلى الملك أن يحميها وأخواتها وأباها من ملك مصر، وألا يردهم عليه أبدا؛ ولم يستطع الملك أن يعدها حتى يستشير شعبه، فهددت بأن تشنق نفسها، هي وأخواتها في جذوع الآلهة إن لم يفعل - وذهب الملك يحتال ليكسب أصوات شعبه وتأييده لقضيتهن - ولكن ظهرت سفينة في البحر في هذه الآونة، فإذا هي مركب مصري، وإذا فيه جند وقائد أتوا يستردون البنات وأباهم قسراً. . . وانقض الجنود على البنات، وطفقوا يجرونهن من شعورهن لينزلونهن إلى السفينة، وكادوا يفعلون، لولا عودة ملك آرجوس في آخر لحظة، فحماهن من القائد المصري، واحتدم الجدال بين الملك والقائد، حتى عد القائد أن ملك آرجوس، بمخاشنته التي أبداها قد أعلن الحرب على مصر. . . فعاد أدراجه إلى السفينة ليبلغ مولاه. . . . . . أما البنات فنزلن في حصن آرجوس مكرمات آمنات(147/65)
- 1 -
في فجر يوم من أيام الصيف، انشق الأبيض المتوسط عند ساحل آرجوس، عن أسطول لجب ما عتم أن انتشرت سفائنه فوق الماء كأنها الدّبى، وخَشْخَشت خلال أواذيّه كأنها الأساود، ثم نفثت سمومها فوق الشاطئ جنوداً من شياطين فرعون، مستلئمين في الدروع، مقنعين في الحديد، يلاعبون السمهريات، ويرهفون الرقاق البيض!
وكانت آرجوس الخالدة نائمة حالمة، غارة في غفوة الفجر؛ وكان الأرجيف الأشياء غارّين كذلك، تداعب أجفانهم الوسنى أطياف الآلهة، وتمرح في قلوبهم ومضات من السعادة يكاد الأولمب يمضي بها. . . حين ينبلج الصباح اللماح عن فوهة بركان. . . ما تلبث حتى تكون وهدة من وهاد جهنم!. . .
- 2 -
وأطل الحراس في شعاف الجبل، فبهتوا!! وزاغت أبصارهم!. . . وأوقدوا النيران!. . . واستيقظت آرجوس عجلى، تنظر إلى الموت المفاجئ يتربص بها، ويكاد ينقض عليها!. . . . . .
(المصريون! المصريون! المصريون!. . . .)
وذهبت الصيحة في أرجاء المدينة تهز قلوب الأبطال، وتداعب ألباب الصناديد، وتزلزل فرائص دانوس وبيلاسجوس! وهُرعت الجماهير إلى هيكل الآلهة تصلي وتبتهل؛ وجمع الملك مجلس شوراه ليروا في ذلك الحدَث المدلهم رأيهم، فأجمعوا على وجوب الدفاع عن المدينة، وعدم تسليم ضيفهم الشيخ وعذاراه اللاجئات مهما كلفهم الذود عنهم من جهد، ومهما طال حصار المصريين:
- (أفهذا رأيكم إذن؟)
- (أجل أيها الملك! ولا رأي لنا غيره! إن شرف آرجوس وكرامة الأرجيف معلقان بما نصنعه من أجل هؤلاء العذارى! لِنَفْنَ جميعاً دونهن، ولا يقولن أحد في هيلاس إننا منعناهن أولاً، ثم أسلمناهن أخيراً!)
- (إذن لتكن حرب! ولندفع عن شرف آرجوليس!)(147/66)
- 3 -
وكانت الحرب الزبون التي شابت من هولها نواصي الأرجيف، والتي أوقفتهم هيجاؤها حيارى في أبراجهم كاظمين!
ثم. . . . . . سقطت آرجوس!
وجاست خلالها شياطين فرعون! وانطلق أبناء إيجبتوس في عرصاتها تحف بهم أعلام النصر، وترف فوق هاماتهم أكاليل المجد، حتى كانوا في هيكل المدينة الخالدة، حيث تماثيل السادة النجب من آلهة الأولمب. . . ف. . . صلوا لآلهة النيل، وشكروا لرع. . . وأثنوْا على أمون، وعقروا القرابين لآزوريس!!
ويمموا شطر الحصن المنيف فوق رُبى آرجوس فاقتحموه على دانوس وبنات دانوس؛ وكان أبوهن قد نصح لهن بالانصياع لما أراد القضاء: (. . . فلا راد لما قُدّر، ولا دافع لما وقع في صحيفة المرء. . . ولنبحر يا بناتي البائسات إلى مصر، وليكن لنا ثمة شأن غير هذا الشأن، ولتتم المأساة، ولتندلع النيران، وليكن أبناء أخي أول ما تأكل من حطب، وخير ما يلقى فيها من حصب، وتغتذى به من أشلاء!!)
وظهر القادة الخمسون، أبناء إيجبتوس، ومن حولهم الجند شاكي السلام، فأسقط في يد دانوس وأرتج عليه. واسودت الدنيا المشرقة في عيون بناته، وظلن متناثرات هنا وهناك في ردهة الحصن، ضافيةً عليهن جلاليبهن السود، وأرديتهن الحزينة السادرة تزيدهن جمالاً على جمالهن، وتجعل منهن ربرباً من المفاتن بدا في هذا المرمر المترقرق في أكفهن ووجوههن، وأجيادهن وثديهن، وفي هذه السيقان الناعمة التي كان بحسبها أن ترد عادية الجيش المغير. . . وإن كانت الجن من ورائه ظهيراً!!
- 4 -
ذهل أبناء إيجبتوس! وانقدح شرر الهوى في قلوبهم، وتدفق الدم العاشق في عروقهم حاراً. . . ثم انهمرت أرواحهم الوامقة من عيونهم دموعاً سخينة. . . فسجد كل منهم عند قدمي واحدة من بنات عمه. . . ولبثوا لحظة لا ينبسون!. . .
وحملق دانوس في بناته وفي أبناء أخيه قليلاً ثم قال: (قِفْن لأبناء عمكن يا فتيات! قفن(147/67)
للأبطال المذاويد أبناء إيجبتوس! رباه! لم نجم هذا الشر بيننا؟! لقد كنت أحب أخي، وكان أخي يحبني، فأي شيطان أغرى هذه العداوة بيننا؟! قضاء!. . . أجل. . . قضاء. . . قضاء. . .)
وما كاد أبناء أخيه يسمعون هذه الكلمة المصنوعة من فم عمهم، حتى تقاطروا إليه يقبلونه ويتمسحون به ويترضّونه. . . وظل هو يتلطف بهم، ويهش لهم، ويربت فوق أكتافهم، وكأن شيئاً من الأحقاد التي أكلت الأفئدة، وأراقت الدماء لم يكن!. . .
- 5 -
وفُزّع عن قلوب العذارى، ونهضن فتلقين أبناء عمهن بالبشاشة والبشر، ثم تلطفت كبراهن فشفعت لبيلاسجوس الملك الكريم المأسور فأطلق سراحه ورد عليه عرشه وألبس تاجه، وعقد مع الأرجيف صلح نبيل دل على جود المصريين وسماحهم
وأقلع الأسطول، وهمت الفلك واحتواها الماء، وانتثر في أذيالها وشى رجراج من الثبج، وغابت آرجوس عن الأنظار قليلاً قليلا، حتى إذا طوى الأفق آخر شاهق من أبراجها، أوى الأبناء الخمسون إلى البنات الخمسين يباسطونهن ويسامرونهن ويسَرون عنهن آثار ما نزغ الشيطان بينهم وبينهن
وأقبل الليل وانجاب، وبزغت ذكاء وتوارت بالحجاب. . . وكرت أيام. . . ثم بدا الشاطئ المصري، وهبت نسمات الوطن وتبسمت الشمس فوق الأرض البنفسجية تحيي أبناءها الغزاة المنتصرين، وأطل من قرصها الكبير، رَعْ الكبير، يبارك أبطاله ويغدق عليهم نفحاته. وخرج الشعب العظيم يهتف للجيش الظافر، ويردد هذا النداء المحبب القديم: (المجد لمصر!)
- 6 -
وأقبل إيجبتوس على دانوس يلاومه، ثم غفر له: (هذه النزعة التي أشمتت بنا الأعداء، وأغضبت علينا أرباب السماء، وسممت ما بيننا من محبة وصفاء. . .) واتفقنا على العرس. . . وذهب كل يعد له عدته!
وخلا دانوس إلى شيطانه فقال إني معك!!(147/68)
ثم جمع إليه بناته فخطبهن خطبة طويلة نضحها بالدمع، وصهرها بنا الفؤاد، وأودعها أحزانه وأشجانه. وذكرهن بشرائع السماء، ونواهي الآلهة، والزنى البغيض الذي يستتر في هذا الزواج القهري، لا عن نحلة، ولا عن رضى ولا سلطان مبين!. . .
وذكر لهن أمهن المتوفاة وما كان بينها وبين زوجة عمهن من إحن وبغضاء، فحرك فيهن هذا الماضي الأسود بجميع سخائمه، وأثار في قلوبهن الرطبة أشجانهن القدامى. . . حتى إذا آنس فيهن الطاعة له والائتمار بأمره. أخرج لكل منهن سكيناً مسنونة مرهفة الحدين، تقطر المنايا من أشفارها فيردها غمدها الذهبي المرصع بأغلى الجواهر واليواقيت
- (فإذا حان الحين يا فتيات، ونامت أعين الرقباء فاذكرن شقاءكن الذي لا شقاء مثله، واذكرن كيف قضت أمكن بغصة العداوة بينها وبين زوجة عمكن، ثم اذكرن أباكم هذا الشيخ الفاني المتهالك كيف ذل، وكيف وضع أنفه الأشم في الرغام. . . واذكرن أخيراً أنكن تحمين شرائع السماء من هذا الاعتداء. . . فالآلهة معكن، وستضرب بأيمانكن، وستغمد هذه الخناجر في أحشاء أعدائها بوساطتكن. . . بورك فيكن وكانت السماء في عونكن!)
- 7 -
وأخذت ممفيس زخرفها وازّينت، وتبرجت عمائرها الفرعونية في حلل من النور والنوار وأفواف الزهر، وضفائر الورد والرياحين؛ وانطلق كهنتها يرسلون في جميع الأرجاء ألسُن الند، وفَغمة العنبر، وشذى الكافور والصندل، من مجامرهم الفضية المقدسة، واجتمعت أسراب الحسان في ساحاتها وباحاتها بسيقانهن المصرية الفرعونية يتلاعبن ويتطربن، ويتغنين ويتناشدن، ويهزأن بعرائس الماء التي خالتها قريحة هيلاس؛ وسار ربربهن يخطر في كل حنية، ويميس في كل ميدان، وينساب في كل فردوس، حتى كُن عند قصر الملك، منزل العز ومناط المجد، وفخر مصر وقلبها الخفاق، فرقصن رقصات ما كان أشبهها بنبضاته، وتغنين الأغاني كأنها تخرج من فمه، وتنبعث من جوانحه وتجلجل موسيقاها عن حناياه. . . ثم شارك الشعب في الأفراح الملكية، فعج النيل المقدس المعبود بالطوّافات والحراقات، وهرعت عند حفافيه أمة بأسرها تفرح كما يفرح الملك، وتسعد كما يسعد التاج، وتنتشي بنشوة العرسين(147/69)
وأقبل الليل، وأسقر خونسو
ورقصت ممفيس في لجة من خمر، ورفرف حوريس فوق المسلات الشاخصة في الميادين، ولم يعلم أحد أنه كان يرى غير ما ينظر الناس، وأن عينه كانت تذرع الوادي الوادع السعيد وتكاد تضج مما أجن هذا الليل الرهيب. . . لا. . . بل كان الناس ينهلون أفاويق الحبور في صحراء ممفيس. . . في ليبيا العجيبة. . . ليبيا التي تصفر فيها الرياح، وتتكلم فوق كثبانها ألسن الألغاز والأسرار!!. . .
- 8 -
وغرق القصر الملكي في أثير الموسيقى، وفي فيض من النور الذي يشبه الفجر الكاذب؛ ثم أخذت الركبان تنصرف والولدان تتفرق إلى مخادع اللهو، وأخذ الكرى يعقد أجفان ممفيس الصاخبة، التي كانت منذ هنيهة تعج بألالوف، وتضج بالجماهير
وعادت آية الليل. . . رهيبة كشأنها منذ الأزل. . .
وافتر خونسو مرة أخرى عن ابتسامة هي إلى العبوسة أدنى، وإلى السخرية أقرب!! يا لرهبة الأقضية! ويا لصرامة المقادير!
لقد أوى أبناء إيجبتوس كل إلى مخدعه، بعد إسراف طويل، ولذات لم يكن يخطر على بال أحد أنها تنتهي، وبعد قصف أيما قصف، وخلاعات ليست كمثلها خلاعات. . . فما كادت رؤوسهم تمس ديباج الطنافس حتى غطوا في سباب عميق، وحتى انطلقت أبالسة الشر من أغماد خناجر دانوس، التي بدت أظمأ ما تكون إلى الدماء الحارة الشابة، تجري في عروق أبناء إيجبتوس
- 9 -
ولقد كان أبوهن قد اتفق معهن على هذه الغدرة الصفراء، وجعل لكل منهن علامة حين تأفد ساعة النفاذ، أن تطفئ الُّسرُجَ
إلا واحداً تدعه مطلاً من إحدى الكوى التي تواجه قاعته، إذ كان في هذه الليلة الليلاء ضيفاً على أخيه، وشريكه في مخدعه، ومنتوياً هو الآخر إنفاذ الغدرة الوحشية في شقيقه، ليخلو له وجه مصر!. . .(147/70)
واضحكي أيتها الأقدار!!. . .
- 10 -
وأخذت السُّرُج تومض ثم تنطفئ، وأخذ دانوس يلحظ الكوى ويعد: (واحد. . . اثنان. . . ثلاثة. . . أربعة. . . خمسة. . .) حتى عد تسعة وأربعين. . . ووقف العد. . . وأبطأ الحساب، وتلكأ الجلاد!. . .
- (ماذا؟ لقد ذبح الجميع أزواجهن إلا واحدة!. . . ما الذي منعها؟ لعله لم ينم الخبيث. . .! ويلاه! انطفئي أيتها السرج. . . ولتنطفئ حياته في إثركن!. . .)
وذكر هو أنه لم ينفذ غدرته، فهب إلى سرير أخيه، وأغمد خنجره في صدره!. . . وغادر إيجبتوس يتشحط في دمه. . . وراح يحلم بالتاج والعرش والصولجان!. .
حلم قصير جميل. . . ولكنه نظر إلى الكوة الخمسين فوجد أضواءها تتألق. . . ورأى إلى نورها يكاد يضيء ممفيس كلها. . . فكاد حنقه يقضي عليه. . .
- (هلمي يا غبية! البدار إلى دمه البدار!)
ولكن السرج تتألق وتتألق. . . ولا تنطفئ منها شعلة واحدة!
- 11 -
وقفت الفتاة الجميلة تلقاء الفتى الجميل تقبله، بعد أن كادت تقتله. . .!
أجل. . .! وقفت هيبر منسترا تلقاء ابن عمها لسيوس تعبده، وقد شغفها الشاب الجميل النائم حباً. . .
- (يا لأهدابه المراشة، ويا لجبينه المشرق، ويا لمنكبيه الجبارين، ويا لوجهه البريء! أأطيع أبي. . . هذا الشيخ القاسي المتحجر. . . الذي لا قلب له. . . الذي فرغت مآربه من الشباب ومن الحياة جميعاً. . . وأسطو بخنجري على هذا الشباب الذي أخلد إلي. . . ونام ملء عينيه بين يدي. . . وحملني أمانته كلها. . . لا وأرباب الأولمب! لا يكون هذا أبداً!. . . إن قبلة واحدة على جبينه المتبلج خير من جنة أبي، ومن الدنيا والآخرة جميعاً. . . نم يالنسيوس! نم يا حبيبي! إني سأقف عند سريرك طول الليل أحرسك، وسأغمد خنجري في صدر من تحدثه نفسه باغتيالك ولو كان أبي!. . .(147/71)
- 12 -
ولبث دانوس يحرق الأرم ويلحظ السرج. . . ولكنها باقية كما هي. . . لا تنطفئ. . .
وانبلج الفجر. . . ثم تنفس الصبح. . . وأشرقت ذكاء. . . وهب لنسيوس من نومه فما راعه إلا فتاته الجميلة واقفة إلى جانبه ضعيفة واهية. . . تبكي. . . وبيدها السكين المشحوذ يتلمط. . . ويتلمظ. . .!
- (ماذا؟ هيبر منسترا؟! ما بك واقفة هكذا يا حبيبتي؟!)
- (لا شيء. . . أنا أحرسك. . . فقط أحرسك!. . .)
- (تحرسينني؟. . . يا للهول! ومم يا ابنة العم؟. . .)
- (من. . . لنسيوس!! من أبي يا أعز الناس عليّ!. . .)
- (ماذا؟ تحرسينني من أبيك؟ من عمي؟. . .)
- (أجل. . . أحرسك من الغادر الذي قتل اخوتك!. . . انهض يا لنْسيوس! خذ عليه طريقه. . . أحسبه قد قتل أباك أيضاً. . . البدار البدار!. . . . . . ويلاه. . . وي. . .)
وسقطت الفتاة لا تعي. . .
- 13 -
وانطلق لنسيوس كالمجنون في غرفات القصر المشيد. . . ونفذ إلى مخادع أخوته. . . فلم ترد عليه جثثهم. . . صرعى فوق ديباج العرس. . . مضرجة بدم الشباب الحار. . . البارد كزمهرير الموت!. . .
وصعد الدم إلى رأسه، فهرول إلى غرفة أبيه؛ فما راعه إلا أن رآه قد لقي حتفه كما لقي أخوته حتوفهم. . . وما راعه إلا أن رأى دانوس الجبار يحملق في الكوة. . . التي ما فتئت أضواؤها تنبعث منها، برغم الفيض الذي ترسله الشمس، مركب رع. . . في العالمين. . .
وانقض عليه وذبحه
وجلس فوق أريكة يبكي. . .
وهكذا قتل دانوس أحد أزواج بناته، وصدقت الرؤيا. . . لأن الآلهة لا تكذب!!(147/72)
- 14 -
واضطرب الأولمب من هول الفاجعة، واجتمع الأرباب في ذروة جبل إيدا، وقر رأيهم على أن يذهب هرمز فيأتي ببنات دانوس، إلا زوج لنسيوس، ثم يذهب بهن إلى السفل. . . إلى هيدز. . . إلى أعماق الجحيم. . . حيث يكلَّفن بملء جرارٍ مُثقبة من نهر شيرون، لا تمسك المهل. . . إلا كما تمسك الماء الغرابيل. . . فإذا جد بهن السير، ونال منهن النصب، وجلسن على عدوة النهر يستجمعن. . . أمطرتهن السماء ناراً. . . فهرولن إلى النهر ليأخذن في ملء الجرار. . . ولن تمتلئ الجرار ولو صب فيها أشيرون كله. . .
دريني خشبة(147/73)
البريد الأدبي
العبرات الحرار
رجا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع اللغوي الملكي بالقاهرة من قراء الرسالة الغراء في (العدد 146) الرجوع إلى نسخة شرح ديوان الخنساء المكتوبة سنة 620هـ المحفوظة في دار الكتب المصرية، لعلها تكون أوفى من نسخة مكتبته الخاصة المكتوبة سنة 1145هـ لأن نسخته لم تذكر قصيدة (العبرات الحرار) وربما تكون ساقطة من نسخته من الشرح المذكور. ثم رجا الرجوع إلى نسخة الديوان المكتوبة بقلم العلامة اللغوي الكبير الشنقيطي التركزي وذلك للاستثاق من صحة رواية البيت:
من كان يوماً باكياً سيداً ... فليبكه بالعبرات الحرار
لأنه يحتمل احتمالاً قوياً أن يد التحريف عملت في البيت عملها فغيرت (الجوار) إلى (الحرار). وإجابة لرجاء شيخنا المغربي رجعت إلى نسخة الشرح التي في دار الكتب المصرية ((570) آداب اللغة العربية) فوجدتها لا تشتمل على قصيدة (يا عين جودي بالدموع الغزار) التي منها بيت (العبرات الحرار) والظاهر أن نسخة دار الكتب من هذا الشرح هي أصل نسخة الأستاذ المغربي وأن قصيدة (العبرات الحرار) ليست في رواية الشرح
ورجعت إلى نسخة الشنقيطي من الديوان ((40ش) آداب اللغة العربية) وهي - بحق - نسخة نفيسة مكتوبة بقلم العلامة التركزي بالخط المغربي الدقيق مع ضبط أكثر قوافيها والكلمات الغريبة منها بالقلم مع تقييدات على الحاشية لأكثر الأبيات فوجدت البيت هكذا:
من كان يوماً باكياً سيداً ... فليبكه بالعَبَرَات الحِرار
بضبط الحاء من الحرار مكسورة مما يقطع بأن الرواية (الحرار) لا (الجوار) ونسخة الديوان هذه كتبها الشنقيطي في مكة سنة 1288 وفي دار الكتب المصرية نسخة ثانية من ديوان الخنساء ((536) آداب اللغة العربية) كتبت سنة 1289هـ بمكة أيضاً بقلم أحمد بن محمد الخضراوي بخط عادي واضح ورد فيها عجز البيت (العبرات الحِرار) بكسر الحاء أيضاً. ويغلب على الظن أن نسخة الخضراوي منقولة عن نسخة الشنقيطي السابقة وإن لم يصرح ناسخها بذلك فإنه اقتصر على القول بأنه كتب نسخته من الديوان عن نسخة بالخط(147/74)
المغربي الرديء الذي يصعب على المشارقة قراءته
والذي يؤيد هذا الظن أن الشنقيطي كتب نسخته بمكة سنة 1288هـ والخضراوي كتب بعده بسنة بمكة أيضاً وأن نسخة الخضراوي تشتمل على جميع التقييدات التي على نسخة الشنقيطي بنصها كما يلاحظ الاتفاق التام بين النسختين في ضبط بعض الكلمات فما كان مضبوطاً من هذه فلابد وأن يكون مضبوطاً في تلك بنفس الشكل
وأظن أن ما تقدم كاف في الاستيثاق من صحة رواية (العبرات الحرار) وأستاذنا المغربي عليم بأن عدم ذكر الحرار جمعاً لحارة في المعاجم التي بين أيدينا لا يدل على عدم وروده
برهان الدين محمد الداغستاني
المعجم الوسيط
تأليف الهيئة الرسمية لوضعه
وقع حضرة صاحب السعادة محمد علي علوبه باشا وزير المعارف العمومية قراراً وزارياً بتأليف الهيئة التي يعهد إليها بوضع معجم في اللغة العربية، وهي تتألف من لجنتين تمثل إحداهما وزارة المعارف والثانية المجمع الملكي للغة العربية
وهذا نص القرار:
بعد الاطلاع على القرار الذي أصدره المجمع الملكي للغة العربية بتاريخ 27 فبراير سنة 1936 وبناء على الاتفاق الذي تم مع معالي رئيس المجمع على اختيار لجنتين تمثل إحداهما وزارة المعارف وتتكون الأخرى ممن ندبهم المجمع لتعمل اللجنتان معاً على وضع (المعجم الوسيط) في اللغة العربية
قرر: -
المادة الأولى: تؤلف الهيئة التي يعهد إليها بوضع معجم في اللغة العربية يسمى (المعجم الوسيط) على الوجه الآتي:
أولاً - أعضاء اختارتهم وزارة المعارف العمومية:
الدكتور طه حسين بك - الأستاذ بكلية الآداب
الأستاذ خليل مطران(147/75)
الدكتور أحمد عيسى بك
الدكتور محمد والي - الأستاذ بكلية العلوم
ثانياً - أعضاء ندبهم المجمع الملكي للغة العربية
أحمد العوامري بك
الأستاذ أحمد علي الإسكندري
علي الجارم بك
المادة الثانية - يراعى في وضع هذا المعجم ما يأتي: -
1 - أن يكون ترتيبه على خير نمط بحيث لا يقل نظامه عن أحدث المعجمات الأجنبية وبحيث تسهل فيه المراجعة على الطلاب الذين لم يعتادوا المراجعة في المعجمات القديمة. ويتبع في ترتيب مواده طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة
2 - وأن يتبع في شرح ألفاظه أسلوب واضح جلي يلائم العقلية الحديثة ويؤدي إلى تصوير المعنى على أدق وضع وأسهله
3 - وأن تحقق فيه أسماء النباتات والحيوانات وغيرها بقدر الإمكان مع الاستعانة بالخبراء في هذه العلوم عندما تدعو الحاجة
4 - وأن تصور فيه الأشياء أو أجزاؤها مما يحتاج شرحه إلى تصوير ولا يكفي الوصف البياني في إيضاح حقيقته
5 - وأن يؤتى فيه بأمثلة غريبة من أفصح الكلام وأبلغه من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والتراكيب العربية البليغة والشعر العربي. وذلك عند كل مناسبة لتوضيح استعمال اللفظ مع الإشارة بقدر الإمكان إلى عصور ما استشهد به
6 - وأن يفصل فيه بقدر الإمكان بين المعاني الحقيقية والمجازية في المادة مع تقديم الحقيقة على المجاز
7 - وأن يشار فيه أحياناً إلى التقلبات التاريخية التي انتابت بعض الكلمات فغيرت من معانيها بتغيير العصور
8 - وأن يختار من الكلمات التي أقرها المجمع في الشؤون العامة والعلمية ما يتفق أعضاء الهيئة على ملاءمته لما يتسع له هذا المعجم(147/76)
9 - وأن تكون مواد المعجم من الألفاظ العربية الصحيحة أو مما عربته العرب
10 - وأن يشتمل على ملحق بالمشهور من أعلام الأشخاص والأماكن مع مراعاة ما أقره المجمع في هذا الشأن
11 - وأن يشتمل على اصطلاحات العلوم والفنون والآداب عند العرب
12 - وأن يترك فيه الغريب المهجور إذا أغنى عنه مرادفه الصحيح
13 - وأن يضبط ضبطاً دقيقاً لا محل فيه للبس
المادة الثالثة - تبدأ هذه الهيئة عملها اعتباراً من أول مايو سنة 1936 على أن تتمه في ثلاث سنوات على الأكثر ويمنح أعضاؤها مكافأة نظير قيامهم بهذه المهمة
ترجمة معاني القرآن
قرر مجلس الوزراء بالموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم: ونص قراره:
بعد الاطلاع على كتاب فضيلة شيخ الأزهر وكتاب سعادة وزير المعارف العمومية بشأن ترجمة معاني القرآن الكريم
ومع تقدير مجلس الوزراء لمشقة هذا العمل وصعوبته ومنعاً لإضرار التراجم المنتشرة الآن رأى بجلسته المنعقدة في 16 إبريل سنة 1936 الموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية تقوم بها مشيخة الجامع الأزهر بمساعدة وزارة المعارف العمومية وذلك وفقاً لفتوى جماعة كبار العلماء وأساتذة كلية الشريعة
الشعر القبطي القديم
ألقى الدكتور هرمن بونكر مدير معهد الآثار بالجامعة المصرية ومدير المعهد الألماني للآثار المصرية محاضرة في (الشعر القبطي القديم) هذه خلاصتها:
يرجع الشعر القبطي إلى القرن التاسع بعد الميلاد، وهو شعر شعبي وطني لا أثر له في الكتب الثمينة والدواوين الأدبية، بل يوجد في كراسات متفرقة من الورق، وهو يمثل روح الشعب وعقليته، وتظهر فيه جلياً الروابط التي تربطه بشعر العصور الفرعونية كما تظهر علاقته بألحان الشعب في العصر الحاضر
ويؤلف الشعر القبطي من قصص للعامة مثل أغاني الفلاحين وهم يؤدون أعمالهم، وأناشيد(147/77)
تتلى في أيام الأعياد. وهو على مثال الشعر الفرعوني لم يتقيد بقاعدة القوافي؛ وأبياته لم تراع فيها قواعد الوزن المتبعة في الشعر العربي أو اللاتيني فهو غناء نسقي روعي في كل بيت منه انسجام خاص في الكلمات والتوقيع يوصل إلى نغمة موسيقية، وهذه الطريقة نفسها المتبعة في شعر مصر القديمة
وكانت الأشعار القبطية تلقى بطريقة موسيقية على ألحان متعددة لكل لحن اسم، وكان هذا الاسم مكوناً من الكلمات الافتتاحية لأغنية مشهورة (مثلا: الباب، الحديقة، سمعت السر المقدس. . . انظر إلى فوق. . .) كما تلقى اليوم أغاني العامة على وزن موال كذا وكذا
وكانت الأغاني في أغلب الأحوال مؤلفة من دورين في كل دور أربعة أبيات، وكانت بين الدورين رابطة معنوية، فكان الدور الثاني مثلاً يحوي ردا على سؤال ورد في الدور الأول، وتوجد أيضاً قصائد تمثيلية تشتمل على مقدمة ثم نشيد للمغني، وبعد ذلك دور غنائي غير موزون، يليه رد الجمهور، وكانت تكرر هذه السلسلة مرة أو أكثر على حسب موضوع القصيدة
وفي أحوال أخرى توجد قصائد تشبه كل الشبه الروايات التمثيلية الغنائية فيلقي كل ممثل في دوره دورا غنائياً كما يرى في رواية (اركليتيس ووالدته)
معاهدة ثقافية
عقدت أخيراً بين فرنسا والنمسا معاهدة ثقافية لتقوية الروابط والصلات الثقافية والفنية والاجتماعية بين الأمتين، خلاصتها أن تتبادل الحكومتان الآثار العلمية والفنية، وأن تتبادلا إقامة المعارض الفنية وتنظيم الحفلات الموسيقية والتمثيلية كل في بلد الآخر؛ وقد نص أيضاً على أن المعهد الفرنسي الفني الذي أنشئ منذ حين في مدينة فينا يجب توسعته وتنظيمه، بينما تنشئ النمسا معهداً نمسوياً مماثلاً في باريس؛ كذلك نص على أن تتبادل الحكومتان انتداب العلماء والأساتذة كل في النواحي التي تحتاج فيها إلى معاونة علمية من الطرف الآخر، وأن تنظم كلتاهما كل في بلد الآخر رحلات علمية ورياضية لطلبة المدارس الثانوية، هذا إلى تفاصيل أخرى ترمي كلها إلى تقوية الصلات العلمية والاجتماعية بين البلدين
هذا ومن المعروف أن النمسا قد عقدت مثل هذه المعاهدة الثقافية من قبل مع المجر(147/78)
وإيطالية؛ وهي تبغي من وراء ذلك إلى كسب المعاونة الخارجية للاحتفاظ بمستوى ثقافتها؛ وهي تبذل في ذلك السبيل جهوداً عظيمة داخلية وخارجية
وفاة علامة كبير
من أنباء السويد أن الطبيب والعلامة المجري الشهير الدكتور روبرت بارني قد توفي في أوبسالا في الستين من عمره؛ وكان مولده في المجر سنة 1875؛ ودرس الطب في فينا، ثم زاول مهنته فيها أعواماً طويلة، واشتهر بالأخص بالتخصص في أمراض الأذن وجراحتها، وفي أثناء الحرب الكبرى انتظم في سلك الجيش، وحارب في الميدان الشرقي، ووقع في أسر الروس، وأمضى في الأسر حيناً في روسيا. ولكن حكومة السويد تدخلت في أمره تقديراً منها لكفاياته العلمية، وسعت لدى روسيا حتى أطلق سراحه، وانتدبته الحكومة السويدية للتدريس في جامعة أوبسالا، وفي أثناء الحرب أيضاً منح الدكتور بارني جائزة نوبل للطب، وأضحى علم الأعلام في طب الأذن؛ وله في هذا الميدان بحوث علمية شهيرة؛ وقد أنفق حياته منذ إطلاقه من الأسر كلها في السويد حتى توفي فيها(147/79)
الكتب
نابليون: المائة يوم
للسنيور موسوليني والسنيور فورزانو
نقلها إلى العربية الأديب يوسف تادرس
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
مازال عظماء الرجال موضع تفكير الإنسانية وبحثها، ومهما كتب الكتاب في عظيم لم يستوعبوا أسراره بل تبقى في نواح منه مواضع فسيحة للأجيال المقبلة وبحثها، ولقد كان نابليون أعظم من ظهر في الإنسانية في تلك القرون الأخيرة من رجال الحرب والسياسة، ولئن نفِس عليه الأدباء عظمته وأبو عليه الزعامة فيهم، فلن يستطيعوا أن ينكروا أنه قد كان أديباً، وأنه كان شاعراً، لا بأنه كتب الكتب وألف القصائد، بل لأنه كان له فن الكاتب وخيال الشاعر. ولقد حاول أن يجول في ميادين الأدب الخالص كما حاول من قبله قيصر، فلم تترك له مشاغل المعمة ومشاكل السياسة فراغاً لذلك
وقلما نجد لغة من اللغات الحية ليس فيها ذكر لذلك الرجل العظيم، ولم تكن القصة مقصرة في ذلك عن التاريخ، فإن كتاب القصص وجدوا في حياته مواطن كثيرة يخرجون منها إلى خيال رائع أو تحليل بديع. فقد كان نابليون على شهرته وتطلع العيون إليه محاطاً بجو من الغموض يجعل في حياته مسارح لقناص الرواية وصيادي الحكاية
وقد اختلفت نظرات الناس في نابليون اختلافاً لا ينم عن شيء نميمته عن عظمته واتساع شخصيته. ولكن لم يكن في مقدور البشرية أن يدرك شخص كنه شخص آخر. فما زال تقدير الناس لنابليون تقديراً يقرب بهم إلى الحقيقة ولا يلمسها. فكل من كتب فيه قارب ولم يصب، ودنا ولم يصل. غير أن بعض الواصفين أقدر من بعض على قصد المرمى وبلوغ المدى، وذلك أن يكون الواصف فيه شيء من طباع الرجل وخلقه وآرائه. فإذا تحقق ذلك كان الواصف أدنى ما يكون من الحقيقة
وقد كتب هذه القصة التي بين يدينا الآن رجل عظيم تدنيه من نابليون علاقات كثيرة ومشابهات متعددة وذلك هو موسوليني، فكلاهما إيطالي، وكلاهما رجل حرب، وكلاهما(147/80)
رجل سياسة، وكلاهما فيه هذه المغناطيسية العجيبة التي تخلق الأصدقاء المخلصين والأعداء المتحمسين، وكلاهما انحنت له هامات كبيرة وعقول حصيفة، فإذا كتب موسوليني قصة عن نابليون، كان أليق الناس أن يصف نبضات قلبه وخلجات صدره. وهاهي هذه القصة تدل على ذلك أكبر الدلالة
يظهر نابليون في هذه القصة عقب أسره الأول وإرساله إلى جزيرة (البا) ويظهر فيها في فترة المائة يوم إلى أسره الأخير وإرساله إلى (سنت هيلانة) ولعمري لهي أيام القصة من حياة نابليون. هي الأيام التي تتجلى فيها مأساة بشرية رائعة:
دسائس ثائرة حوله، ومجهودات جبارة تحاول صد تيار أتيّ فتصرع دونه، وأصدقاء يفر بعضهم ويثبت أقلهم، ثم أنانية لا تنظر إلا إلى النفس ونفعها أو خلاصها، والرجل العظيم في وسط ذلك كله تنعكس فيه كل تلك العيوب وتشع منه كل تلك البواعث
صور موسوليني نظام الحكم وأسسه، ونطق عن لسان نابليون في تصوير عيوب الديمقراطية واحتقارها فقال:
نابليون - (. . . . . عندما أبرح باريس إلى الميدان، لا أريد أن يهاجمني البروسيون والإنجليز في وجهي بينما يطعنني مجلس النواب الفرنسي من خلف)
فوشيه - (مولاي إن المجلس هو الأمة)
نابليون - ((ترتفع نبرات صوته) لا. . . ليس هو الأمة (يبحث في مكتبه كالمحموم) إن صانع البنادق في مارسيليا الذي وهب لنا مائة بندقية، وصانع السروج الفقير في بولون سيرمار الذي قدم ثمانين سرجاً للفرسان، وعمال فيسول وفلاحي أرجون الذين حفروا الخنادق وأبو أن يتناولوا أجرا، وجنود الفرقة التاسعة والسبعين الذين رفضوا الرشوة لأنهم عقدوا العزم على لأن يتبعوني. . . وكل امرأة كنت أنتظر منها رسالة استجداء فإذا بي أتسلم من ذلك رسالة تقدم فيها ما ادخرته من مال. (يريهم لفة مربوطة بشريط وسام جوقة الشرف) هذه هي الأمة يا مسيو فوشيه، وليس الخمسمائة من المحامين الذين يستطيع أربعة من رجال حرسي أن يفرقوهم بمؤخرة بنادقهم)
وصور موسوليني شخص نابليون فلم يترك دقيقة لم يصورها: رجل ينام في أي وقت شاء، ويدرك في دقيقة ما يفوت الافهام في ساعات. فإذا عزم فإنما عزيمة البرق، وذلك(147/81)
حتى بعد أن فل حده وترهل جسده وضعفت عزيمته بعض الضعف. ثم صوره والداً تغلبه العاطفة وزوجاً يذكر حبه الأول ويحنق على زوجة خائنة حنقاً مكتوماً وإنساناً يحتمل العذاب والأحقاد احتمال الجبار
ثم صور موسوليني الموقعة الأخيرة، فكان في وصفه القائد الواقف على نشز من الأرض يرقب جنوده من منظاره، ويحرك الفيالق عن علم ودراية، حتى لكأننا ننظر من ثنايا وصفه ميدان (كاتربرا) و (واترلو). ونسمع أصوات القواد والساسة في مفاوضاتهم بعد النصر الأخير
فالقصة مثل رائع من أمثلة التأليف القصصي التاريخي، يكاد الإنسان لا يبصر فيها موضع القصص لصدقها التاريخي، ويكاد لا يلمح التاريخ لصدق تصويرها القصصي
وقد أحسن حضرة الأديب يوسف أفندي تادرس الناقد المسرحي لجريدة السياسة الغراء، في إخراج هذه القصة إلى اللغة العربية التي ما كان لها أن تفقد قصة موضوعها نابليون ومؤلفها موسوليني. وقد نقلها عن الترجمة الإنجليزية للشاعر الإنجليزي المعروف (جون درنكووتر)
وقد قرأت التعريب كما قرأت الترجمة الإنجليزية التي عربها المعرب، فإذا بي حيال قصة عربية سلسة حلوة الأسلوب سهلة اللفظ، قد أبرز المعرب روحها إبرازاً لم يدع فيها موضعا لغموض مع الصحة والدقة
فعلينا أن نشكر لحضرة المعرب الأديب مجهوده العظيم الذي أضاف به كنزاً كهذا إلى اللغة العربية المجيدة
محمد فريد أبو حديد
مكتبة القراءة والثقافة الأدبية
بقلم الدكتور أحمد فريد رفاعي
مدير إدارة المطبوعات
لا حاجة بنا أن نقدم إلى القراء الدكتور أحمد فريد رفاعي فهو ذو الشهرة الطائرة والصوت البعيد في عالم الأدب، وفي طليعة الجمهرة المستنيرة المثقفة في مصر، يجمع إلى نشاطه(147/82)
الوثاب عزيمة لا تفتر وهمة لا تكل، وهو جد معني بأن يظهر أبناء العربية على طريف البحوث وشائق التآليف في مختلف مناحي الثقافة العربية، فقد أصدر منذ سنوات قليلة مؤلفه الكبير (عصر المأمون) ونال ما يستحقه من الرضا والإقبال، كما أصدر سلسلة (الشخصيات البارزة)؛ وهاهو ذا الآن لا يشغله منصبه الرسمي الكبير عن أن يتحف أبناء العربية بسلسلة جديدة في أربعة أجزاء تشمل دراسة موضوعات مختلفة في الثقافة العربية أصدرتها مطبعة المعارف في حجم لطيف وهي (المقدمة، والتعقيب، والتذييل، والتعليق) وهي تشمل بحوثاً مستفيضة في نواح مختلفة تلذ حقاً وتنفع حقاً، فمن حديث عن حاجة العربية إلى التجديد، إلى كلام عن فن القراءة، إلى درس البرامج الدراسية العربية والإفرنجية، إلى مطلب عن القراءة، إلى حديث عن موقف المؤلف بين العربية والإنكليزية، إلى فذلكات عن ابن الجوزي والبغدادي وياقوت الحموي والفارابي وابن سينا وقيس بن رقاعة والزجاج وابن مسكويه وعمر بن الخطاب وأبي موسى الأشعري وأبي عبيدة الجراح ومعاذ بن جبل وأبي حيان والأشتر النخعي والبصري والمهدي وطاهر بن الحسين وابن طيفور والصابي وابن زيدون والإسكافي وابن سعيد المغربي وابن صخر الهذلي، إلى غير ذلك من الأحاديث الشيقة والدراسات الممتعة
وقد صدره المؤلف الفاضل بمقدمة بليغة، شرح فيها غرضه من تأليفه وهو حرصه على توجيه الشباب توجيهاً نافعاً إلى الطريق الأقوم. فعسى أن يكون إقبال القراء عليه مكافئاً لجهده ومحققاً لقصده
(س)(147/83)
العدد 148 - بتاريخ: 04 - 05 - 1936(/)
الملك العالم فؤاد الأول
سبحانك اللهم مالك الملك! تدبر أمرك في سمو على مدارك العقل، وتنفذ حكمك في استقلال عن هوى الناس! فلا حرص الوالد على وحيده يلطف قضاءك فيه، ولا حاجة الشعب إلى مليكه ترد بأسك عنه. حكمة ضلت فيها الفطنة ضلال الأفن، وقوة ضاعت فيها القدرة ضياع العجز، وسلطان خضع له الملك خضوع السُّوقة!
كان الملك فؤاد رحمه الله مظهراً من مظاهر القدر في الأرض. يجلس على عرش من أعرق العروش نسباً في الملك؛ ثم يأمر فيطيع شعب، ويقول فيسمع عصر، ويعمل فيسجل تاريخ، ويضع حكمه في الأمور موضع الإدارة السماوية فيكون شريعة لا تخالف، وعقيدة لا تنكر. وتلك طريقة الملك بمعناه الشرقي الموروث، تصلح مادام لها من هدى الله دليل ومن رَوْح العدالة سند؛ وشبل إسماعيل كان ملكاً بنشأته ومصلحاً بطبعه: رُبي تربية ملكية، ونُشِّئ تنشئة عسكرية، وثُقِّف ثقافة حديثة؛ ثم تقلب بين ملكية رومة، وخلافة الآستانة، وخديوية القاهرة، فارتسم على صفحة ذهنه صور من كل. ولكن عبقريته الفنية وعقليته العلمية ورجولته العملية، جعلت منه ملكاً فيه خصائص المُلك، وليس فيه نقائض الملوك. وإذا قلت إن الشرق لم ير قبل فؤاد ملكاً واسع الإحاطة شامل الثقافة قوي الإدراك لا تبعد عن الصدق
كانت مواهب الأمير فؤاد تأبى عليه إلا أن يكون كخالد ابن يزيد رجل علم إن لم يكن رجل مُلك. لذلك لم يصبر طويلاً على أن يكون حاشية للسلطان في سراي عبد الحميد أو قصر عباس، فعاد فاتبع إحدى سبيلي المجد؛ وأقبل يذكي النهضة المصرية بالعلم النافع والعمل المنتج والقوة المحركة؛ فكان رئيساً لتسع عشرة جمعية أو مؤسسة ما بين علمية واقتصادية وخيرية، كلها من اقتراح رأيه أو من ثمرة سعيه. فلما بوَّأه الله عرش مصر في ساعة مضطربة وحالة مبهمة، كان يرى لطول ما خبر الشعب، وكثرة ما عالج الأمور، ووفرة ما عرف من الوسائل، وكفاية ما تزود للإصلاح، وقوة ما ضمن لتوزيع العدل، أنه أول الناس وأولى الناس بقيادة أمته في أشد مراحلها تعرضاً للضلال والخطر؛ وهذه القيادة نوع من أنواع الحكم المطلق، يعتمد على وحي العقيدة وإخلاص الرأي كالخلافة، أكثر مما يعتمد على استبداد الزعامة وقوة الجمهور كالدكتاتورية؛ ومن ذلك كان منشأ النزاع الثلاثي الذي قام بين العرش والاحتلال والدستور حيناً على حين؛ ومن طبيعة هذا النزاع أن يتجاذب(148/1)
أطراف الأمة الثلاثة فتنبسط لتنقبض، وتتسع لتضيق، ولكن القوة التي كان الملك يستمدها من صبره وحكمته وجرأته وخبرته وذكائه كانت في الكثير الغالب تشد الطرف الراجح إلى يده، فيسير في الإصلاح بالقدر الذي يبقي على هذا التجاذب من الإمكان والقدرة. ومع ذلك كان التقدم في عهده على محافظته وأناته محسوس الأثر؛ فلقد تعهد منابت الثقافة فغذاها بعونه، وتفقد منابع الثروة فرفدها بعنايته، وبسط رعايته على كل أمر من أمور الدولة وكل شأن من شئون الأمة حتى لا تجد عملاً من الأعمال العامة إلا كان فيه بسطة من لسانه أو يده
ولعل أشرق وجوه الإصلاح في عهد المليك الراحل ما اتصل منها بالجمعيات الاقتصادية والمؤسسات العلمية والمؤتمرات الدولية والمتاحف الأثرية والمرافق العامة؛ أما الأعمال الفردية والجهود الأدبية فكان نصيبها من حكمه السعيد كنصيبها من حكم جده الأعلى محمد علي. على أن عناية المليك العظيم بها قد بدت بواكيرها المرجوة في مثل بنك التسليف ومجمع اللغة؛ فلو مد الله في عمره الحافل المبارك حتى تنضج لكان عصره أشبه بعصر لويس الرابع عشر
كان الملك فؤاد بالرغم من عوامل نشأته، وعلى النقيض من ميول أبيه، شديد التعلق بدينه، قوي الحرص على شرقيته؛ يكره أن يجعل من مصر قطعة من أوربا، ويجب أن تظل دولة إسلامية شرقية لها تقاليدها الخاصة، وأسانيدها المتصلة، وسماتها المميزة، فساعد الحجاب، وأيد الطربوش، وعضد الدين في كل خلاف بينه وبين التطرف؛ وكان من ذلك شيء من التصادم المكبوت بين الرغائب الوثابة الشابة، وبين هذه الأناة الملكية الحكيمة
إن من العسير على المنطق النزيه أن يحكم اليوم على أعمال مليكنا العالم العامل الكفء، فإنها إنما بدت للناس على ألسنة رجال البلاط، وعلى أيدي رجال الحكومة؛ والبلاط قد يتأثر بشهوات الناس، والحكومة قد تتأثر بنزوات الساسة. ومهما يقل التاريخ في العصر الفؤادي فسيسجل بالخط البارز أنه عصر الرخاء للنيل، وعهد الاستقلال للأمة، وفجر النهضة في مصر
عز الله مصر عن ملكها العظيم الفقيد، وبارك الله لمصر في ملكها العزيز الجديد
أحمد حسن الزيات(148/2)
مقياس الشباب
للأستاذ أحمد أمين
أما الأطباء وعلماء الإحصاء فيقدرون الشباب بالسن، فمن بلغت سنه العشرين أو قبل ذلك قليلا أو بعد ذلك بسنتين فشاب وإلا فلا؛ فتحديد السن هو مقياس الشباب، كما هو مقياس الطفولة والهرم، فإن شئت أن تعرف المخلوق أطفل هو أم شاب أم شيخ فأغمض عينك وعدّ السنين، ولا تنظر إلى قوة أو ضعف، ولا إلى صحة أو مرض
وسار على هذا النمط علماء اللغة، فقالوا: مادام الإنسان في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، ثم مادام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع عن اللبن فهو فطيم، فإذا كاد يجاوز العشر سنين أو جاوزها فهو ناشئ، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، ثم مادام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى الستين
ولكن هناك شاعرا أراد أن يخرج على هذه التقاليد، وأراد أن يقيس الشباب والفتوة بالمعنى لا بالمبنى، وبالقوة لا بالسن، فقال:
يا عزُّ هل لكِ في شيخ فتىً أبدا ... وقد يكون شبابٌ غيرُ فِتْياَنِ؟
فهو لا يريد أن يعترف بأقوال الإحصائيين، ولا أقوال اللغويين، فقد يسمى الشيخ شاباً متى حاز صفات الشباب، وقد يسمى الشاب شيخاً إذا حاز صفات الشيوخ، فالعبرة عنده في التسمية الصفة لا السن، وهي من غير شك نظرة جريئة ومذهب جديد ينظر فيه إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى النتائج لا إلى المقدمات، وإلى الغاية لا إلى الوسيلة؛ فإذا عرضْتَ عليه رجلا قد ناهز الستين أو جاوزها، قد لبس في حياته العمائم الثلاث: السوداء ثم الشمطاء ثم البيضاء؛ وعرضت بجانبه من يسمونه شاباً، لم يلبس في حياته إلا العمامة الأولى. ثم سألت صاحب هذا المذهب: ما قولك دام فضلك في هذين؟ هذا أربى على الستين، وهذا في سن العشرين. فأيهما الشاب، وأيهما الشيخ؛ لم يستسخف سؤالك، ولم يعده بديهية من البديهيات، بل عده مجالاً للنظر الطويل والتفكير العميق، وقال: ليس الأمر بالسن أيها السائل، فمن رأيته منهما متهدماً قد نضب ماؤه، وذهب رواؤه، وذوى عوده، وخوى عموده، ورق جلده، وانخرع متنه، وحطمته اللذات، وأنهكت قوته الشهوات، حتى صار لا يحمل بعضه بعضاً، فهو الشيخ وإن كان ابن العشرين؛ ومن امتلأ قوة، وبلغ كمال البنية،(148/4)
واستوت قامته، واعتدل غصنه، وحفظت جدته، وأحكمت مِرته، وتجلت رجولته، واكتمل نشاطه، فهو الشاب ولو جاوز الستين. إنما يلجأ إلى السن في تحديد الشباب والشيخوخة من قصر نظره، وضعفت قوة حكمه، وأراد أن يعالج الأمر من أسهل طرقه، وأقرب مسالكه، وذلك شأن الغر الأبله، لا الفيلسوف الحكيم، ولم كنا إذا قسنا العلم وقسنا الكفاية، وقسنا الخلق والصلاحية للأعمال لم نرجع في شيء من ذلك إلى السن، وإذا قسنا الشباب والشيخوخة رجعنا إلى السن؟ ليست السن مقياس الشباب، وإنما أحسن أحوالها أن تكون علامة الشباب، وقد تتخلف العلامة كحكمنا على الرجل بالعلم لأن لديه شهادة الليسانس في الآداب أو الليسانس في الحقوق، وقد يكون معه الليسانس أو الدكتوراه وليس بعالم، كما يكون في سن العشرين وليس بشاب. إن الشباب أو الشيخوخة معنى لا مادة، وقد علمتنا قوانين الحياة أن المادة تقاس بمادة، والمعنى يقاس بمعنى. فنحن نقيس الحجرة المادية بالمتر المادي، ونكيل القمح المادي بكلية مادية، ونزن التفاح المادي برطل مادي، ولكن من السخف بمكان أن تقيس الفضيلة أو الجمال أو القبح بمتر أو رطل أو قدح، فلم نقيس الشباب وهو معني بالسن وهي مادة؟
بل لو تعمقنا أكثر من ذلك لوجدنا أن حسن الرواء وجمال المنظر ومرح النشاط ليست هي المقياس الصحيح للشباب، إنما الشباب مزاج، هو محصل لمجموع قوى نفسية، هو حاصل جمع لصفات خلقية، إن شئت فقل هو الإرادة قوية تعزم العزم لا رجوع فيه، وتزمع الأمر لا محيد عنه، وترمي إلى الغرض لا سبيل إلا إليه، تعترض الصعاب فلا تأبه لها، وتخر السماء على الأرض فلا تتحول عنه؛ قد تعترف بأن هناك عقبة، ولكن لا تعترف بعقبة كؤود؛ وقد تقر بصعوبة الأمر، ولكن لا تقر باستحالته - والشباب هو العاطفة القوية المتحمسة الصحيحة، ومظاهر صحتها أنها ثابتة فليست (قشاً) تشتعل سريعاً وتخمد سريعاً، ليست مضطربة تذهب مرة يمينا ومرة يسارا من غير غرض يحدد اتجاها، وليست مائعة تحب فتذوب في الحب، وتغضب فتجن في الغضب، إنما ألجمها بعض الإلجام العقل والمصلحة والغرض - والشباب هو الخيال الخصب الواسع الأفق والمترامي الأطراف الذي يرسم الأمل ويبعث على الطموح، ويحمل المرء على أن يتطلب لنفسه ولأمته حياة خيرا من حياتها الواقعية - هذا المزاج الذي يتجمع من إرادة قوية وعاطفة حية وخيال(148/5)
خصب هو الشباب، وبمقدار قوتها وتلاؤمها تكون قوة الشباب، وبمقدار نقصها تكون الشيخوخة، فالشباب موجب والشيخوخة سالبة، والشباب إقدام والشيخوخة إحجام، والشباب نصرة والشيخوخة هزيمة
وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يصطلحوا على علامات للشيب والشباب حسب تفسيرهم الباطل فإن لنا علامات أخرى على تفسيرنا الصحيح
لقد جعلوا الرأس موضع أهم الإمارات، فسواد الشباب وبياض المشيب أكثر ما دار عليه القول في الشيخوخة والشباب، وهو مركز القول في ذلك عند الأدباء والشعراء، حتى ألفوا في ذلك الكتب الخاصة من أشهرها كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) جمع فيه الشريف المرتضى تسعة وثلاثين بيتاً في الشيب لأبي تمام، ومائة وأربعين للبحتري، وثلثمائة وأربعة عشر للشريف الرضي، وأربعمائة وثلاثة وستين للمرتضى، وستة وأربعين لابن الرومي. وقد التفت مؤلف هذا الكتاب في مقدمته إلى فكرة جليلة، ولكنه لم يحسن تعليلها، قال: (إن الإغراق في وصف الشيب والإكثار في معانيه، واستيفاء القول فيه، لا يكاد يوجد في الشعر القديم، وربما ورد لهم فيه الفقرة بعد الفقرة، فكانت مما لا نظير له، وإنما أطنب في أوصافه واستخرج دفائنه والولوج إلى شعابه الشعراء المحدثون)
وعلة ذلك في نظري أن الحياة في الجاهلية وصدر الإسلام لم تكن غالية، كانت تتطلب المجد وتسترخص الموت، غير أن المجد في الجاهلية كان مجد الذكر وحسن الأحدوثة والخوف من العار وإتباع التقاليد، وكان في الإسلام ذلك، وعند بعضهم الاستشهاد في سبيل الدعوة وبيع النفوس لله برضاه وجنته، فليست الحياة تستحق البكاء الطويل عليها. أما في العصر العباسي فكانت أشبه بحياة الرومانيين؛ من أهم أغراضها اللهو واللعب، ومن أهم أغراضها القرب إلى النساء والتحبب إليهن، وذلك يستدعي حب الحياة؛ فنذير الموت وهو الشيب بغيض إلى النفس، والنساء يكرهن الشيب فيجب أن يكره، ويعيرن به فيجب أن يبكى، ويمدحن الشباب ويحببنه فيجب أن يرثى. لهذا كثر القول في الشيب في العصر العباسي وما بعده، وقل فيما قبله
أما علامات الشباب والشيخوخة في نظريتنا: فليس موضعها الرأس، إنما موضعها القلب، فاليائس شيخ لأن اليأس ضعف في الإرادة وضيق في الخيال، وبرودة في العاطفة، والشيب(148/6)
شيب القلب لا شيب الرأس، فمن لم ينفعل لمواضع الانفعال، ولم يعجب لمواضع الإعجاب، ولم يستكره في مواضع الاستكراه، ولم ينازل في مواضع الكفاح، ولم يطرب للموسيقى الجميلة والمنظر الجميل، ولم يهتج للأحداث، ولم يأمل ولم يطمح، فهو شيخ أي شيخ، شاب قلبه، وإن كان أسود الرأس حالكه
إن أردت أن تعرف أشيخ أنت أم شاب فسائل قلبك لا رأسك، هل ينبض بالحب: حب الجمال، وحب الطبيعة، وحب الفضيلة، وحب الإنسانية، وهل ينفعل لذلك انفعالاً قوياً فيهيم ويغار ويدافع ويضحي؟ هل يتصل قلبه بالعالم فيتلقى أمواجه الأثيرية من الناس، ومن الأرض، ومن البحر، ومن الجبل، ومن السماء. ثم يلقي بأشعته - كما تلقى - على كل من حوله، فينفعل ويفعل، ويتأثر ويؤثر؛ فهو كالقمر يتلقى من الشمس ضياء وهاجا ويعكسه على الأرض نوراً وضّاء؟ هل يبادل من حوله حباً بحب، وعاطفة بعاطفة، وخيراً بخير، وأحياناً شراً بشر؟ وهل يترك العالم خيراً مما تسلمه؟ أو أن قلبه بارد كالثلج، جامد كالصخر، لا طعم له كالماء، ميت كالجماد، مغلف كالخرشوف؟
إن كان الثاني فشيخ، وإن كان الأول فشاب
قالت كبِرْتَ وشِبْتَ قُلْتُ لها ... هَذَا غُبَارُ وقَائِع الدَّهر
أحمد أمين(148/7)
النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق
للأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
بقية المحاضرة الثانية
طرقها في التنظيم:
وللفاشية طرق للتنظيم. والحكومة الفاشية تتألف من الملك والمجلس الأعلى والوزراء ومجلس الشيوخ ومجلس النواب والمجلس الوطني للنقابات. ومن وراء هذا الحزب الفاشي على درجة عليا من التنظيم، وهو القيم على الحكومة الفاشية كما أن الحزب الشيوعي هو القيم على الحكومة البلشفية. ومن وراء هذا وذاك الزعيم. وهو رئيس الحزب الفاشي، ورئيس المجلس الأعلى، ورئيس الوزراء، ورئيس المجلس الوطني للنقابات. وفي يده تتركز كل السلطات
والجديد في هذا التنظيم أمران:
الأمر الأول هو أن أعضاء مجلس الشيوخ والنواب لا يأتون بطريق الانتخاب كما في الدول الديمقراطية، بل يأتون بطريق التعيين. فأعضاء مجلس الشيوخ يعنيهم الملك بناء على ترشيح الحكومة. وأعضاء مجلس النواب يعينهم المجلس الأعلى، ويصدق على التعيين الناخبون بطريق القائمة. والناخب يصوت لا كفرد سياسي، بل كشخص اقتصادي، فيفرق بين أصحاب الأعمال والعمال والقائمين بالأعمال الفكرية
والأمر الثاني هو أن هذه الهيئات المختلفة التي تتألف منها الحكومة الفاشية فيها هيئتان جديدتان لا نظير لهما في الدول الديمقراطية: المجلس الأعلى والمجلس الوطني للنقابات. أما المجلس الأعلى فهو اللجنة التنفيذية للحزب الفاشي نجح موسوليني في إدماجها في الحكومة الإيطالية. ويتألف هذا المجلس من نحو عشرين عضواً يرأسهم الزعيم. وفيهم أعضاء معينون لمدة غير محدودة، وأعضاء لمدة محدودة، وأعضاء بحكم وظائفهم. ويختص هذا المجلس بالنظر في المسائل التشريعية الكبرى، كسن القوانين الدستورية. وهو الذي تتركز فيه السلطة التنفيذية بعد الزعيم ويعين أعضاء الهيئات التي تتألف منها(148/8)
الحكومة الفاشية والحزب الفاشي. أما المجلس الوطني للنقابات فيتألف من ممثلين لأصحاب رؤوس الأموال وممثلين للعمال ويرأسه الزعيم. وهو ينقسم إلى فروع تتمشى مع النواحي المختلفة للنشاط الاقتصادي. فتمثل فيه الصناعة الكبرى. والصناعة الصغرى، والزراعة، والتجارة، والنقل، والمصارف وغيرها. ذلك أن أصحاب رؤوس الأموال والعمال في كل ناحية من هذه النواحي منتظمون في نقابات متدرجة من محلية إلى إقليمية إلى مركزية إلى هذا المجلس الوطني للنقابات ويتناول اختصاصه بنوع خاص توجيه النشاط الاقتصادي في البلاد
ومن هذا نرى أن الفاشية، بحكم المبادئ التي تقوم عليها، والوسائل التي تتذرع بها في العمل، والطرق التي تتبعها في التنظيم، خصم للاشتراكية من جهة، وللفردية من جهة أخرى؛ فموقفها بالنسبة للفرد موقف وسط، لا تدمجه في الدولة كما تفعل الاشتراكية، ولا تطلق له الحرية كما تفعل الفردية
النازية:
وإذ فرغنا من التحدث عن الفاشية في إيطاليا نقول كلمة موجزة عن النازية في ألمانيا. وحتى نختصر الطريق نكتفي في الكلام على النازية بأن نقارن بينها وبين الفاشية، فالحركتان تتفقان في المبادئ ووسائل العمل. ذلك لأن النازية تقدس القومية، ولكن القومية عندها لا تقوم على رابطة الوطن كما في الفاشية، بل تقوم على رابطة الجنس. فالجنس الجرماني كله، لا الأمة الألمانية وحدها، هو الذي يجب أن يتحد. والنازية كالفاشية توفق ما بين المبادئ الاشتراكية والنزعة الوطنية، فهي وطنية اشتراكية ذات صبغة عملية. والنازية كالفاشية لا تؤمن بالجامعات الدولية، فهي ترى عصبة الأمم جامعة خيالية، وتقيم حربا عواناً على البلشفية. وقد انتظم هتلر الشيئين في خطبته التي ألقاها منذ شهر عقب الحوادث السياسية الأخيرة، فهو يقول: (إن الأمم كانت فريسة للخيالات والأوهام عندما آمنت بعصبة الأمم، وإن السلام الذي كان يجب أن يكون حجراً يقفل به ضريح الحرب إلى الأبد أصبح مباءة تنمو فيها بذور ارتباكات جديدة، وإن الثورة الشيوعية لم تقتصر على وضع طابعها على إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات في العالم، بل اتجهت أيضاً إلى الشعوب المجاورة. فهناك جيوش مؤلفة من ملايين الرجال تذهب إلى الحرب لإشعال(148/9)
ثورات عالمية من أجل الشيوعية، وتجند هذه الملايين بدعوى السعي إلى إبطال الحروب. .)
والنازية كالفاشية تجعل الحكم للأقلية الصالحة، ويقول هتلر في هذا المعنى: (نريد رجالاً قليلين من الطبقة الحاكمة الجديدة، هم الذين يؤمنون بأن لهم الحق في أن يحكموا لتفوقهم، ويبسطون سلطانهم دون تردد على السواد من الجماهير). على أن هذه الأقلية الحاكمة تدين كلها بالخضوع والولاء للزعيم الأكبر
والنازية كالفاشية في نزعتها الاستعمارية العسكرية. فهي تذهب إلى أن العلم الحديث يولد إيماناً لا يتزعزع في القيمة الخلقية العليا للحرب. ويقول الدكتور جوبلز: (إذا حاولت أن تقمع الحرب، فأنك تكون كمن يحاول أن يقمع حركات الطبيعة)
والنازية كالفاشية في الظروف التي نشأت فيها. فقد قامت النازية عقب خروج ألمانيا من الحرب مهزومة. وكان للاضطرابات التي أحدثها الاشتراكيون الألمان، والإضرابات التي نظموها، أثر حاسم في هذه الهزيمة. وقد سام الحلفاء المنتصرون ألمانيا المهزومة في شروط الصلح خسفا جرح كبرياءها، وفي وسط هذه الغيوم المتلبدة سطع نجم مؤسس النازية، بعد أن أقام حركته لمقاومة البلشفية، ولإنقاذ الوطن الجرماني، وبعثه من جديد
والنازية كالفاشية أخيرا في شخص الزعيم. ففي إيطاليا موسوليني القائد المحرك وفي ألمانيا هتلر القائد المرشد هذا وراءه النازي فرقاً منظمة وهم ذوو القمصان السمراء، وذاك وراءه الفاشستي أي فرق الكفاح، ذوو القمصان السوداء. وقد لجأ الرجلان إلى أساليب واحدة في تنظيم معسكريهما: خضوع مطلق لسلطان الزعيم، ونظام عسكري دقيق، وروح وطنية حربية، وشبان يحتشدون بالألوف، ويدخلون أفواجاً في هذا الدين الجديد. وكل من الفاشية والنازية دين ينطوي على إيمان عميق. ولهذا الدين فرائضه ومناسكه، تتمثل أوضاعاً ورسوما، فمن حركات عسكرية، إلى أعلام خفاقة، إلى إشارات رمزية، إلى شارات موضوعة، إلى أناشيد محفوظة، إلى لباس خاص
والرجلان قد رزقا موهبة الخطابة وقوة البيان، والقدرة على اجتذاب شعور الجماهير. وهما إنما يبشران بدين وأيمان، وقوة الإيمان يغذيها سحر البيان. والرجلان من رجال العمل لا من رجال الفكر، فهما لا يترددان، ولا يتمهلان، بل يسيران قدماً إلى الأمام(148/10)
والرجلان يتشابهان نشأة وتربية وقوة وسطوع نجم. نشأ في المتربة والمسغبة، موسوليني أبوه حداد، وهتلر أبوه مستخدم صغير في الجمارك النمساوية. وعاش الاثنان عيشة الكفاف ثم هجرا بلديهما، فذهب موسوليني إلى جنيف، حيث اشتغل عاملاً فبناء؛ وذهب هتلر إلى فينا، حيث اشتغل عاملاً فرساما. وقد تربى كل منهما في مدرسة واحدة، هي مدرسة البؤس والشقاء، تلك المدرسة التي كثيراً ما تبنت عظماء الرجال. فتعلما فيها صلابة العود، وقوة العزيمة، ومجالدة الفاقة، ومنازلة الأخطار، وتخرج كل منهما قوي الشكيمة شديد المراس. وأتما تربيتهما معاً في مدرسة أخرى، هي مدرسة الحرب الكبرى، إذ تقدم كل منهما إلى هذه الحرب، فخاض غمارها، واصطلى بنارها، وعانى أهوالها، وجرح في معاركها، وأبلى فيها بلاء حسنا، وخرج منها وقد استكمل النضوج، واستوفى الرجولة، وسار إلى ما هيأته له الأقدار
وأسس موسوليني أول فرقة للكفاح في ميلان سنة 1919 من مائة وأربعين رجلاً، وتزايدت فرق الكفاح، ونظمت تنظيماً عسكرياً دقيقاً، فأمكنه أن يحشد بعد ثلاث سنوات مائتي ألف من الرجال، استولوا على إيطاليا الوسطى وسبعين ألفاً زحفوا على روما، وقبضوا على ناصية الحكم بالقوة. وهو الآن في قصر فينسيا يصرف أقدار أمة كبيرة ويحكمها حكماً دكتاتورياً. وذهب هتلر بعد الحرب إلى مونيخ، وهناك انضم إلى حزب صغير غير معروف، فأخذ يقويه، وينفخ فيه من روحه حتى حشد فيه الآلاف من الرجال. وسجن عقب إخفاقه في ثورة أراد بها قلب الحكم في بافاريا، وكتب في السجن كتابه الذي أسماه: (جهادي ولما أطلق سراحه، جمع شتات حزبه وكان قد تفرق. وعاد إلى الجهاد؛ ثم أخذ يستولي على مشاعر الأمة الألمانية شيئاً فشيئاً، حتى ضمها تحت لوائه، وأصبح الآن هو المسيطر على سبعين مليوناً من البشر من أعظم الشعوب وأرقاها، يخضعون لإشارته، ويدينون له بالولاء
بقي أن نقول إن الفاشية والنازية تنازلان البلشفية بنفس سلاحها. فهما كالبلشفية تحكمان حكما دكتاتورياً، وهما كالبلشفية أيضاً تخضعان النظام السياسي للنظام الاقتصادي. والمعركة قائمة بينهما وبين البلشفية، فأي المعسكرين يكتب له الانتصار؟ هذا هو السر المخبوء في عالم القدر. على أن الحوادث السياسية الأخيرة وبنوع خاص تلك المحالفة التي(148/11)
عقدتها فرنسا مع روسيا البلشفية والتي أثارت سخط خصوم البلشفية حتى بين الفرنسيين أنفسهم، قد تعجل بالمعركة الفاصلة، وقد تغرق أوروبا من جديد في بحار من الدماء
على أنه سواء تغلبت البلشفية في المعركة القادمة، أو انتصرت الفاشية والنازية، فالواقع من الأمر أن كلا الخصمين مشبع بروح الدكتاتورية البالغة في التطرف، وأن الصريع بينهما هي الديمقراطية على كل حال. وقد صار واجبا على الديمقراطيين أن يراجعوا أصول الديمقراطية من جديد، حتى تتمشى مع ما يقتضيه هذا التطور السريع
والآن وقد انتهينا من استعراض الحركتين الفاشية والنازية وانتهينا بذلك من استعراض النهضات القومية في أوروبا منذ العصور الوسطى إلى الآن، نختتم هذه المحاضرة بإيراد بعض النتائج العامة التي نستخلصها من تطور هذه النهضات، ونكتفي منها بثلاث:
النتيجة الأولى: هي أن رابطة الدين التي كانت تسود في العصور الوسطى قد زال سلطانها في العصور الحديثة. وقد انفصلت الكنيسة عن الدولة. ولا نعني بذلك أن سلطان الدين قد زال من القلوب، فإن الإنسانية لا غناء لها عن الدين مهما بلغ حظها من التقدم. ولكن عرش الدين مكانه القلوب والضمائر. أما الروابط الاجتماعية فتتصل بالدين من جانبه الاجتماعي، لا من جانبه الاعتقادي
والنتيجة الثانية هي أن الفرد في أوروبا لم يتحرر إلا بعد أن تحرر المجموع. والديمقراطية التي حررت الفرد لم تقم إلا بعد أن تدعمت الوطنية التي حررت الأمم. وليس في هذه النتيجة العملية خروج على المنطق، ولا انحراف عن طبيعة الأشياء، فالفرد جزء من المجموع، فكيف يكون الجزء حراً إذا كان المجموع مقيداً في ربقة الأسر؟
والنتيجة الثالثة والأخيرة هي أن القوميات في أوروبا عندما تكونت أسرفت في التعصب، وتطرفت في الاستئثار. وتقهقر الجانب الإيجابي من الوطنية، وهو حب الإنسان لوطنه أمام الجانب السلبي وهو بغضه للأوطان الأخرى، وحل التعصب للدين، فكان من ذلك أن هزت الحروب أركان أوروبا، واندلعت نيران التعصب للوطن بعد أن نشأت الوطنية وترعرعت ضيقة هوجاء، وأصبحت لا تتسع للاندماج في روابط الجنس والدم. وتعاني أوروبا الآن من تقطع وشائج القرابة ما بين الأمم الأوروبية ما تقف أمامه عصبة الأمم عاجزة دون حول. فما كان أولى برابطة الوطن أن تتوثق في ظل رابطة الجنس! وما كان(148/12)
أولى برابطة الجنس أن تتوثق في ظل رابطة أوسع! وهكذا تدعم كل رابطة أختها، فتحقن الدماء ويسود السلام.
عبد الرزاق أحمد السنهوري(148/13)
صور من القرن الثامن عشر
4 - جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
خاتمة البحث
للأستاذ محمد عبد الله عنان
والآن وقد استعرضنا سيرة ذلك الجّواب المرح والمغامر الجريء، نحاول أن نستعرض جوانب شخصيته ومناحي نفسه، وأن نقرأ في حوادث حياته لمحة من خلال العصر الذي عاش فيه:
كان القرن الثامن عشر عصر تطور فكري واجتماعي عميق، وكان أيضاً عصر انحلال فكري واجتماعي، وكان المجتمع الأوروبي القديم ينحدر يومئذ إلى نوع من الخمول والدعة، ويجنح إلى تذوق متاع الحياة المادي بكل ما وسع من رغبة وهوى؛ وكان كازانوفا يمثل روح عصره وخواص عصره، بل كان يمثل رذائل عصره أتم تمثيل وأصدقه؛ وكان يمثل بالأخص الجانب المادي من هذه الخواص والرذائل، فكانت خلاله مزيجاً من الاستهتار والمرح، والجرأة والطموح، والعزم والخمول؛ وكانت غاية الحياة عنده هي الحياة ذاتها بما فيها من متاع ولذائذ وترف. كان كازانوفا يحب الحياة حباً جما، وهو يصفها في مذكراته (بأنها هي الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان حقا)، ويشبهها (بغانية حسناء يعشقها الإنسان، ويهبها ما شاءت مادامت باقية عليه)؛ وهذه الفلسفة المادية المحضة هي التي تغمر حياة كازانوفا وتوجهها
وهذه النظرة المادية إلى الحياة، وهذه الفلسفة المستهترة المرحة، وهذه الخواص السقيمة المنحلة، تقدمها إلينا مذكرات كازانوفا بصورة بارزة؛ والواقع أن هذه المذكرات الشهيرة التي تشغل عدة مجلدات كبيرة، إنما هي صورة قوية جامعة لمجتمع القرن الثامن عشر وخواصه وفضائله ورذائله؛ وهي ليست قصة كازانوفا فقط، ولكنها قصة جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية في هذا العصر؛ ففيها نرى حياة المغامر الجريء، والمشعوذ الأفاق، والعاشق المضطرم، والسيد المنعم، والشريد البائس؛ وقد كان كازانوفا كل أولئك، وكان له(148/14)
كل خلالهم، ورذائلهم، وهؤلاء جميعاً يملئون فراغ حياته
وهذه المذكرات الشهيرة هي أسطع ما في حياة كازانوفا، وهي التي خلدت ذكره. ذلك أن كازانوفا لم يكن في ذاته شخصية هامة ولم يكن من رجال التاريخ، ولكن حياته العجيبة تقدم إلينا مزيجاً مدهشاً من الفلسفة المادية والاجتماعية يستحق الدرس لذاته؛ وقد عني في أواخر أيام حياته أن يدون سيرته بكل ما فيها من حوادث مدهشة، وفلسفة مرحة، وفضائح مزرية، وكل ما فيها من شذوذ وخبائث. وقد رأيناه في أواخر حياته يستقر في قصر دوكس، في ذلك المقام النائي المنعزل، ويقطع أوقاته بالقراءة والكتابة؛ وكان كازانوفا أديباً مفكراً، حسن البيان والأسلوب؛ وكان تدوين سيرة حياته أعظم عزاء له في شيخوخته؛ فقد كانت هذه الصحف الممتعة تحمله من ذلك القصر النائي، ومن غمار الشيخوخة والعزلة والبؤس، إلى الماضي الباهر؛ إلى الأيام الخالية بكل ما فيها من متاع وترف، إلى أمسية الحبور والمرح، إلى المدن والمجتمعات التي جابها، وإلى مختلف النساء اللائى ظفر بهن. وكان أثناء حياته الحافلة قد جمع كثيراً من المذكرات والمواد لكتابه، ومنها رسائل من أصدقائه وصاحباته، ومذكرات كان يدونها على الأثر، هذا إلى ما تعيه ذاكرته القوية من الحوادث والتفاصيل
وقد بدأ كازانوفا كتابة مذكراته في سنة 1791، واستمر في كتابتها عدة أعوام، ولبث يستعيدها ويهذبها حتى سنة 1798، قبيل وفاته بأشهر قليلة؛ وكان يكتبها بشغف وتأثر، إذ كان يرى تلك الحياة الساطعة الذاهبة تمر أمام عينيه وتبعث إليه ذكريات المجد والصبا؛ وكان يعتزم إصدار الجزء الأول منها منذ سنة 1797، ولكن الموت عاجله، ولم يتح له تنفيذ أمنيته
ولم تظهر مذكرات كازانوفا إلا بعد وفاته بحين؛ وكان ظهورها حادثا أدبياً كبيراً. ذلك أنها لم تكن فياضة بالسير العجيبة فقط، ولكنها كانت أيضاً قطعة فنية بديعة تنعكس عليها جميع أحوال العصر الذي عاش فيه صاحبها، أعني القرن الثامن عشر، وجميع صوره وأحوال مجتمعه. وتشغل هذه المذكرات الممتعة عدة مجلدات كبيرة، وهي عمدتنا الأولى في سيرة كازانوفا وفي تفهم نفسيته وخلاله، وفيها يقص حياته منذ مولده بإفاضة، ويستعرض جميع وقائعه ومغامراته الغرامية مع نساء العصر من كل الطبقات، ويصف رحلاته العديدة إلى(148/15)
مختلف البلاد، ويصف لنا مجتمعات العصر وأحواله وأخلاقه وعاداته؛ كل ذلك بقوة وإفاضة وبيان شائق؛ وقد كان كازانوفا في الواقع رحالة عظيما، وكان يتمتع بمواهب بديعة في الملاحظة والدرس والوصف وفي تفهم عقلية الأفراد والطبقات؛ هذا إلى خيال خصب يسبغ على قصته كلها طابعاً من السحر؛ وقد يطبع بعض أقواله ومزاعمه أحيانا طابع من المبالغة، ولكن ذلك لا ينتقص من متاع قصته وسحرها
ولقد لفتت مذكرات كازانوفا منذ ظهورها في أوائل القرن التاسع عشر أنظار النقد الأدبي، فنوه بعض النقدة بقيمتها الأدبية، وحمل عليها البعض الآخر؛ وأبدى سانت بيف أستاذ النقد نفسه عطفه عليها وعلى مؤلفها ذلك المحب الأمثل الذي لم يسمح قط للمرأة بأن تسوده؛ ولكن جول جانان وهو ناقد آخر يحمل عليها ولا يرى في مؤلفها سوى دعي أفاق تحدوه شهوات مضطرمة؛ وكذلك يرى فرانسوا ماسون في كتابه عن (الأب برني) أنه هذه المذكرات ليست سوى مزيج من الأكاذيب المزرية؛ بيد أن النقد المعاصر يرى في مذكرات كازانوفا أثراُ جديرا بالتقدير، ويرى في صاحبها شخصية جديرة بالعطف رغم عيوبها ومثالبها؛ ومن ذلك ما يعلق به مسيو أوكتاف أوزان على المذكرات في فصل نقدي كتبه في هذا الموضوع: (لماذا ننحى باللوم على ذلك المحب المعاصر للويس الخامس عشر، لأنه أرانا وعرض علينا خلال عصره المنحل، وهي خلال كانت تعتنقها أعظم الشخصيات التي كتب عنها؟ وهل يحق لنا أن نمعن في الانتقاص من ذلك السرور الذي يتحفنا به عند قراءة (المذكرات)، وأن نحمل على تلك الأخلاق الفردية المثيرة؟. . . إن كازانوفا لم يكن أفضل ولم يكن أسوأ من أعظم الشخصيات التي ظهرت على مسرح العالم في القرن الثامن عشر)
وتقدم إلينا هذه المذكرات الحافلة الممتعة كازانوفا في جميع صوره ومناحيه؛ في صورة المحب المضطرم الذي يطارد المرأة بكل ما وسع من شغف وجوى، ويأسرها بظرفه وسحره، ويظفر بها في كل المواطن؛ وصورةالمغامر الجريء الذي يتسلح بذكائه وخبثه ومزاعمه ليغزو المجتمع ويعيش على هامشه بأي الوسائل؛ وصورة السائح المتجول الذي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها باحثاً عن المال والمتاع أنى استطاع؛ وصورة السيد الذي ينعم بالمال والثراء، أو صورة الشريد الذي لا يملك قوت يومه؛ وأخيرا صورة المفكر الأديب الذي يلتمس النسيان في القراءة وتسطير الماضي(148/16)
وتبذ صورة المحب المضطرم في شخصية كازانوفا كل صوره الأخرى، وهي بلا ريب أبرز صور حياته كما هي أبرز الصور في مذكراته. أجل كان كازانوفا محباً شغوفا ملتهب الجوانح، وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وقد حبته الطبيعة كما أسلفنا بكل ما ينبغي أن يتسلح به المحب الظافر من خلال وصفات خلابة، ويندر أن نجد بين غزاة المرأة من غص بالظفر في هذا الميدان كما غص به كازانوفا، ومازال اسم كازانوفا إلى يومنا لقب المحب الظافر؛ ولقد كان كازانوفا مادياً في حبه كما كان في سائر وجهات حياته، ولم تكن العاطفة عنده شيئاً مذكورا، وكان قلباً في الحب لا يكاد يظفر بغزو حتى يسعى إلى غزو آخر، وكان يرتفع في طموحه إلى أرفع البيئات والشخصيات، وينحط إلى أسفل البيئات والمواطن، فنراه يظفر بطائفة من أكابر السيدات في جميع المجتمعات التي تقلب فيها من نبيلات ونسوة متزوجات وممثلات ومغنيات وغيرهن، ونراه يهبط أحياناً إلى مجتمع الشعب المتواضع فيغزو عاملة أو خادمة؛ وإليك مثلاً مما يقصه علينا في مذكراته مما يوضح فلسفته في الحب، ففي ذات يوم كان ينتظر جياداً لمركبته في طريق رومه، فمرت به عربة تحمل مغنية حسناء ذائعة الصيت يومئذ، وكان كازانوفا يعشق المغنيات والممثلات بنوع خاص، ولكنه يقول لنا: (ومع أنها كانت فتية وكانت حسناء، فإنها لم تثر في نفسي رغبة ما، ذلك أنها كانت حسناء جداً، بادنة جداً. ولكن خادمتها كانت بالعكس فتاة سمراء ساحرة ذات قد ممشوق وعينين وضاءتين، فوقعت في حبها على الأثر)
ويذكر لنا كازانوفا في مذكراته عشرات وعشرات من النساء اللائى ظفر بهن خلال حياته الغرامية الحافلة. وهو تعداد لا يتسع له المقام هنا، وقد ذكرنا فيما تقدم طائفة من الأسماء التي غزاها إبان ازدهار مغامرته؛ والظاهر أن كازانوفا لم يتأثر في حياته بحب امرأة وسحرها قدر ما تأثر بحب راهبة حسناء من (ميران) يرمز لها في مذكراته بحرفي (م. م)؛ وهو يصف لنا روعة قوامها وروعة جمالها بحماسة مؤثرة؛ وقد كانت م. م في الواقع امرأة ساحرة الخلال تضطرم شغفاً وجوى، وكانت تختفي تحت ثيابها الكهنوتية نفساً ناعمة تواقة ملتهبة، وكانت تقتحم أروع الأخطار لتحيا تلك الحياة المزدوجة؛ حياة التقشف في الدير، وحياة اللهو والقصف خارج الدير؛ وبينما ترى بالنهار في ثياب راهبة محتشمة، إذا بها تسطع بالليل كالحلية في مرقص أو منتدى وتبذ بفائق حسنها وأناقتها كل حسناء أخرى؛(148/17)
وقد كانت تطلق العنان لشهواتها المضطرمة ما شاءت، ولكنها كانت قوية النفس تضبط هواها متى وجب؛ ويصورها كازانوفا بأنها المحبوبة المثلى في حسنها وفي خلالها وسحرها؛ وقد ترك هواها في نفسه بلا ريب أعمق الآثار وأبقاها
ثم يأتي بعد صورة المحب، صورة السائح؛ وقد كان كازانوفا سائحاً عظيماً يجوب أرجاء القارة بلا انقطاع؛ وكان يعشق التجوال في عصر كان السفر فيه مشقة حقيقة؛ وقد رأيناه يجوب أرجاء القارة مراراً؛ وكان كازانوفا يجد في السفر لذة عظيمة، ويتخذ أثناء تجواله مظاهر السيد العظيم فيستأجر أفخر المركبات والجياد، وينزل في أفخم الفنادق، وينثر المال والعطاء من حوله، ولكنه كان في رحلاته مغامراً، لا تغريه سوى رغباته وأمانيه، ولا تغريه مشاهد الطبيعة الرائعة؛ ولهذا نراه في مذكراته يعنى بسرد مغامراته أثناء الطريق، وسرد ملاحظاته عن الأشخاص والحياة والنساء بنوع خاص؛ وقلما نراه يعنى بوصف البلاد أو مشاهد الطبيعة؛ بيد أنه يبدي فيما يصف من أحوال المجتمعات والأشخاص دقة تدلي بقوة ملاحظته وحسن أدائه
ويقدم كازانوفا إلينا خلال حياته صورتين قويتين متباينتين؛ فنراه إما سيداً كبيراً ينعم بالجاه والثراء، وإما شريداً بائساً يتخبط بين براثين الفاقة؛ وفي الحالة الأولى نراه يقتحم المجتمع الرفيع، وينعم بكل ما في الحياة من متاع وبذخ، ويصل إلى مجالسة الملوك والأمراء والعظماء من كل ضرب؛ ألم يجالس لويس الخامس عشر وفردريك الأكبر، والإمبراطورة كاترين، والبابا، وفولتير، وغيرهم من أكابر العصر؟ ثم نراه في كهولته شريداً بائساً يتقبل في سبيل القوت مضض المهانة والمذلة؛ بيد أنه في الحالين يحتفظ بقوة نفسه، وأثرته، وأمانيه؛ ذلك أن كازانوفا كان فيلسوفاً يقصد إلى الحياة بأي الوسائل، ولا يروعه أن يحقق متاعها بأي السبل، ولم يكن المال في نظره إلا وسيلة من وسائلها
وقد كان كازانوفا منذ نشأته رجلاً مثقفاً واسع المعرفة بالنسبة لمجتمع عصره؛ وكان في أواخر حياته يعتز بمواهبه العلمية والأدبية ويأنس سعادة عظيمة في إطلاق العنان لقلمه؛ ولم تكن المذكرات كل ما يكتب، فقد كان يتصل بالمكاتبة بجماعة من أعلام عصره، وكانت له آراؤه الخاصة في أحوال العصر وأحداثه؛ وكان يسخط على الثورة الفرنسية ويعتبرها حركة جنونية وقد كتب برأيه إلى روبسبيير في رسالة مستفيضة(148/18)
والخلاصة أن كازانوفا، كان رغم رذائله، شخصية عجيبة؛ وكانت حياته صورة صادقة للعصر الذي عاش فيه، وهي من هذه الناحية تستحق التحليل والدرس؛ ولقد كان لهذا المغامر المرح أصدق سلف وشبيه في مواطنه بنفونوتو تشلليني؛ فقد خاض كلاهما حياة مماثلة، واشتركا في كثير من الخلال والخواص النفسية، وسطر كل منهما حياته بقلمه؛ ولكن تشلليني كان علماً من أعلام الأحياء وبطلاً من أبطال الفن؛ أما كازانوفا فلم يعش إلا لنفسه، ولم يتبوأ في مجتمع عصره سوى مكان ثانوي وكانت حياته مزيجاً من الأهواء الجامحة، والأثرة العميقة، والشهوات المادية، والمرح العقيم.
(تم البحث - النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(148/19)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني
وصل الفائت: وجد لفلار مكروب الدفتريا، ووجد رو أن هذا
المكروب يحتل زور الطفل، ولا يخرج عنه، وإنما يفرز سما
يدور في الجسم فيقتل، وحقن بارنج مادة كيميائية هي كلورور
اليود في خنازير غينية. ثم حقن مكروب الداء فيها فصمدت
له. فأخذ من مصل دم هذه الخنازير المحصنة وحقن به
خنازير أخرى حقنها بعد ذلك بالمكروب فصمدت له. فعرف
أن هذا المصل الحصين يحتوي ترياقاً. فاتجه إلى الشياه يفعل
بها ما فعل في الأرانب ليحضر مقادير كبيرة من المصل
الواقي بترياقه
بهذا بلغ بارنج من بحثه حداً لا ينفع فيه التثبيط. فقد كان كأمير الجند غزا الأعداء فسفك وهزم، فملأته فتوحاته الأولى ثقة بنفسه. فلم يعد يثنيه عن بغيته شيء. فأخذ يضرب بمحاقنه في الأرانب والشياه والكلاب، وهي مليئة بمكروب الدفتريا تارة، وبسمها تارة، وبكلورور اليود تارة أخرى، وحاول أن يتخذ من أجسام هذه الحيوانات وهي حيّة مصانع تصنع له هذا المصل الواقي، هذا المصل الذي يقتل سم الدفتريا، وأسماه الأنْتيتُكْسين - ولْنسمّه نحن الترياق، ونجح في الذي حاوله، ولكن بعد أن قتّل من هذه الحيوانات ما شاء،(148/20)
وقطّع من أوصالها ما أراد، وبعد أخطاء أتاها كثيرة هي دائماً مقدّمات النجاح، ولم يمض طويل من الزمن حتى نجح في تحصين الشياه تحصيناً قوياً، واستدرّ منها دماً كثيراً واستخلص منه مصله، ثم قال: (لا شك أن الترياق الذي بهذا المصل يقي من الدفتريا)، ولم يكن يعلم عن حقيقة هذا الترياق، ولا عن كيميائيه شيئاً
وحقن مقادير صغيرة من هذا المصل في عدد من الخنازير الغينية، وفي اليوم الثاني حقن فيها بشلة الدفتريا، وهي حية قاتلة، فما كان أجمل مرأى هذه الخنازير بعد ذلك وهي تنط وتلعب ولا أثر للداء فيها، كذلك كان مرأى صويحباتها الأخريات التي حُقنت بالبشلة دون المصل، وهي تموت بعد الحقنة بيومين أو ثلاثة، فموت هذه الأخيرة هو الذي أقنع بأن المصل فيه الوقاية وفيه الحصانة، وأجرى بارنج مئات من هذه التجارب الجميلة، وكان الآن يحذق التجريب فلم يكن في يده تذبذب واضطراب كالذي كان بها قديماً. وتساءل أعوانه في قنوط متى يفرغ سيدهم من هذه المجزرة المتكررة، متى يفرغ من تحصين طائفة من الخنازير ثم إعطائها الداء، ثم من قتل طائفة أخرى ليثبت بها حقاً أنه خلّص بمصله الطائفة الأولى، ولكن بارنج لم تعوزه العلة يفسر لنا بها كثرة ما قتل من هذه الخنازير. قال في أحد تقاريره الأولى: (لقد جربنا من هذه التجارب عدداً كبيراً لنثبت لكوخ، وهو المحقق المدقق القليل التصديق، إلى أي حدّ بلغ بنا الإيمان بحصانة هذه الحيوانات)
نجح بارنج فيما أراد إلا أمراً واحداً أفسد عليه طعم الثمرة التي اجتناها. ذلك أن حصانة الخنازير لم تدم طويلاً، فالخنازير لم تكن تصمد للحقنة الكبيرة من سم الدفتريا من بعد تحصينها إلا أياماً معدودات، فإذا مضى على التحصين أسبوع أو أسبوعان لم تعد تصمد لها، ولكما استطال الزمن أخذت حصانتها تقل تدريجا، وأخذ مقدار السم الذي يكفي لقتلها يصغر تدريجا. وعمد بارنج إلى لحيته يشد شعراتها وهو يتمتم لنفسه: (ليس هذا من العمليّ الممكن في شيء، فليس بالمستطاع الطواف بكل أطفال ألمانيا لحقنهم بمصل الشياه كل أسبوعين أو ثلاثة). ومما يؤسف له أنه نفض يده بعد ذلك من البحث الجميل الذي هو فيه، وترك المطلب الأسمى الذي كان يطلب به طريقة لمنع داء الدفتريا أن يحدث واستئصاله فلا يكون، واستعاض عنه يطلب دواء له إذا هو كان، فنزل بنفسه منزلة دنيا(148/21)
رجاء أن يأتي بأمر جليل تفتح له السلطات من الدهش أعينها واسعة
قال: (إن هذا الكلورور اليوديّ له أثر سيئ في الخنازير الغينية لا ينقص كثيراً عن أثر المكروب ذاته. ولكن هذا المصل الواقي ليس له أثر سيئ فيه، فهو لا يلهب جلدها ولا يحدث خُرّاجات فيه. . . وأنا على يقين أنه لا يؤذيها. . . وأعلم غير هذا أنه يحصنها فيقتل فيها سم الدفتريا إذا هو جاءها بعد التحصين. . . فليت شعري أيقتلها كذلك إذا هو جاءها قبله؟. . . واختصاراً أيكون في هذا المصل شفاء من الداء بعد كينونته؟)
وجاء بارنج بطائفة كبيرة من الخنازير الغينية وحقن بشلات الدفتريا فيها. فلما كان الغد وجد المرض قد دبّ فيها، واصبح الصباح التالي فإذا بها ملقاة على أظهرها في همود منذر وهي تتنفس جاهدة. عندئذ قام بارنج فحقن في بطونها مقادير وافية من مصل الشياه الحصينة. فوقعت المعجزة الكبرى، فأخذت الخنازير، إلا قليل الأقل منها، تسترجع أنفاسها بعد برهة قصيرة. ولما جاء الغد أرقدها بارنج على ظهرها، فإذا بها تنط فتقوم على أرجلها، وعلى أرجلها ثبتت. وفي اليوم الرابع تمت سلامتها فكأن الداء لم يصبها أبدا. أما الأخريات التي حقنت بالمكروب دون المصل فحملها الخادم هامدة باردة إلى حيث تحمل الميتات.
إذن لقد شَفىَ المصل من الدفتريا!
وزاط المعمل العتيق من أجل هذا الفتح الجديد التي أتاه بارنج العالم الشاعر، الخاطئ الصائب، العاثر الناهض. وملأ الأمل القلوب بأنه لابد سيشفي الأطفال من بعد هذا. وأخذ يعدّ أول مصل يحقنه في طفل على وشك الموت بالداء. وبينا هو يتجهز لهذه التجربة الخطيرة جلس يكتب تقريره الشهير ويصف فيه كيف تأتى له أن يخلص حيواناته من الموت بحقنها بمادة جديدة عجيبة غريبة اصطنعها لها في أجسام أخوات لها جازفت بحياتها في سبيل ذلك من أجلها. كتب بارنج: (ليس لدينا طريقة مؤكدة لتحصين الحيوانات). وكتب (وهذه التجارب التي قيدتها لا تتضمن مجهوداتي الناجحة وحدها). وصدق في هذا، فهو قد أثبت فيها مجهوداته الفاشلة وأظانينه الخاطئة إلى جانب ما حباه به الحظ من توفيقات صائبة نال بها هذا النصر الدمويّ العظيم
لشد ما أعجب كيف استطاع هذا الشاعر أن يسبق إلى كشف ترياق الدفتريا، وأن يفوز بهذا(148/22)
المجد الخالد! ولكني أفكر فأجده إنما تحسس فاهتدى كما تحسس من قبله واهتدى رجال قدماء، لا نعرف لهم اليوم أسماء، اخترعوا الأشرعة التي تحمل السفائن عبر البحر في سرعة البرق الخاطف. هؤلاء الرجال الأبطال المجهولون، كم منهم من انقلب به السفين، وكم من جثثهم ما أشبع البحار! أليست هذه دائما هي سبيل الكشوفات جميعها؟
وفي أواخر عام 1891 كان في شارع إبريك ببرلين دار للتمريض تُدعى دار برجمان وكان بها أطفال فعلت الدفتريا بهم فعلها فهم ينتظرون الموت القريب. وكانت الليلة ليلة عيد الميلاد. ففي هذه الليلة دخلت إبرة صغيرة لمحقن مليء بنصل لأول مرة في جلد طفل لم يعد له في الشفاء رجاء. فصرخ الطفل ورفس برجله قليلا
ما أبهر النتائج التي جاءت من هذه الحقنة الأولى ومن أخوات تَبِعْتها! نعم بعض الأطفال مات. ونعم كذلك مات طفل كان ابن طبيب شهير في برلين ميتة غريبة غير منتظرة عقب الحقنة مباشرة فحصل من جراء ذلك أخذ ورد وجلبة كبيرة. ولكن لم تمض الأيام حتى قامت مصانع كيميائية كبيرة بألمانيا تصنع هذا المصل في قطعان كثيرة من الشياه. ولم تمض ثلاث سنوات حتى بلغ الأطفال الذين حقنوا بهذا الترياق عشرين ألفا. وسار الخبر سريعاً كالشاعة في الناس. وكان بِجْز مدير الصحة الأمريكية الشهير في أوروبا، فلما اطلع على أمر الترياق، هزّه ما وجد منه فبعث البرقية الآتية وهو متأثر ثائر إلى الدكتور بَرْك بنيويورك:
(ترياق الدفتريا ناجح. ابدأ بصنعه)
وكان كوخ أساء إلى ناس كثيرين بسبب علاجه الفاشل القاتل للسل، وبسبب الأرواح الكثيرة التي ضاعت من جرائه. وكانت أقوام كثيرة لا تزال في حزن قريب بسبب من فقدوا. ولكن كشف بارنج أنساهم ما هم فيه، فغفروا لكوخ الشيخ زلته لأنه أنجب هذا الصبيّ البارع
(يتبع)
أحمد زكي(148/23)
الإسلام والمدنية والعلم
طريقة النظر في العلم وفي الإسلام
بقية ما نشر في العدد الممتاز
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
بقي أن نقارن بين طريقة العلم في دراسة الفطرة والطريقة التي شرعها الإسلام للإنسان في النظر لنرى إن كان بينهما من التطابق مثل الذي تبين في المقال السابق أنه موجود بين العلم والإسلام
والأصل الأول عند العلم في النظر هو العقل، وكذلك هو في الإسلام. إن القرآن الكريم كله ينطق بأن الإسلام قام على العقل، وحاكم إلى العقل، وأمر باتباع العقل، بمختلف أساليب البيان؛ فتارة يتلطف ويرغب في استعمال العقل والفكر: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون)، (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون). وتارة يظهر التعجب الشديد والتأفف من تعطيل العقل: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عُمُرا من قبله، أفلا تعقلون). وتارة يمدح أهل العقل ويخصهم بالخطاب: (وما يذّكر إلا أولو الألباب)، (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون)، (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)؛ ثم تارة يسلك سبيل الذم البالغ لمن يهملون عقولهم ويعطلونها: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وفي هذا ما فيه من توكيد ناحية العقل وتنبيه الإنسان إلى أن من أخص خصائصه التفكير والتدبر والفهم والتعقل، فلا ينبغي له التنزل عن أخص خصائصه بتعطيل عقله وإلا فقد تنزل عن إنسانيته وصار في الأنعام أو شرا من الأنعام
ولقد بلغ من إكبار الإسلام العقل وتوكيده واتخاذه أصلاً ومرجعاً أن أباح للمسلم إذا تعارض العقل والنص أن يؤول النص إلى ما يقضي به العقل. والعقل هنا طبعاً ليس هو عقل الفرد، ولكن عقل المجموع؛ ليس هو العقل الخاص الذي يجوز عليه الخطأ، وكثيراً ما يخطئ، ولكن هو العقل العام الذي يستحيل عليه الخطأ، والذي لا يقتنع بشيء إنه الحق إلا(148/24)
إذا قام عليه الدليل القاطع. فتشريع الدين تأويل النص إلى ما يوجبه العقل أو بالأحرى إلى ما يطابق ما ثبت عند العقل بالدليل القاطع، هو التنفيذ العملي في الإسلام لمبدأ استحالة التناقض بين الحقائق ولمبدأ وجوب الأخذ بالحق كيفما ظهر وأينما كان. فالحق في العلم وفي الإسلام أحق أن يتبع لذاته لا لغيره، وفي سبيل الحق يجب أن يجاهد الناس، وعلى الوصول إليه يجب أن يتعاونوا، وبه إذا وصلوا إليه يجب أن يستمسكوا. هذا هو أخص خصائص الروح العلمية في ميدانها، وهو في الوقت نفسه أخص خصائص المؤمن حتى في المعاملة. فإن الصفات التي ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم بها الجنة إذا هو ضمنها من نفسه في الحديث الكريم: (اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف: غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) هذه الصفات ليست في صميمها إلا أخذاً بالحق في أعم صوره، واحتراماً له ووقوفاً عنده
لكن فخر العلم الحديث ليس هو جعله العقل أصل الأصول في النظر، ولكن هو ضبطه طريق النظر العقلي، حتى صار العقل به في مأمن من الضلال. إن قدماء العلماء والفلاسفة كانوا أيضاً يكبرون العقل ويتحاكمون إليه، وهذا المنطق القياسي الذي يعين الطريق الذي يجب أن يسلكه العقل في الاستنتاج ليكون بمأمن من الخطأ، هو من وضع أولئك القدماء. فليس للعلم الحديث على العلم القديم في هذا فضل، بل الفضل في توضيح طريق الإصابة في الاستنتاج، هو للعلم القديم أو الفلسفة القديمة كما تشاء أن تقول. لكن الذي غفل عنه القدماء، وانتبه إليه المحدثون، هو وجوب الاستيثاق من صحة المقدمات قبل القول بصحة النتائج، ولو صحت طريقة الاستنتاج. كان القدماء يعنون كل العناية بالاحتياط من الخطأ في الاستنتاج، ولو أنهم عنوا بصحة المقدمات عشر معشار تلك العناية لتغير تاريخ العلم، ولتغير تاريخ العالم بالتبع، ولما تأخر الرقي العلمي كل تلك القرون، لكن أكثر القدماء كانوا فيما يظهر يتغالون في الاعتماد على العقل وحده حتى جعلوه كل شيء، وجعلوه مستغنياً عن كل شيء. فالعالم أو الفيلسوف كان يرى كافياً في طلب الحقيقة أن يجلس ويفكر، ثم يفكر، كأن الحقائق كلها موجودة كامنة في النفس أو الروح، وكأن ليس على الإنسان إلا أن يستثيرها بالتفكير. من أجل ذلك لم تعش الفلسفة القديمة أو العلم القديم إلا بصحة التفكير(148/25)
على الأخص، وهي العناية التي أدت به إلى اكتشاف قوانين التفكير ووضع علم المنطق القياسي. أما المقدمات فكان العالم أو الفيلسوف يكتفي من الاستيثاق منها بالاقتناع النفسي والرجوع بها إلى ما يبدو له أنه بديهي لا يحتاج إلى برهان. ومن هنا دخل في العلم أو الفلسفة القديمة الشيء الكثير من الباطل، أو على الأقل مما هو غير ثابت؛ دخل فيها على أنه حق لا شك فيه، فكان عبئاً ثقيلاً على العقل عاقه عن التقدم الحقيقي طوال تلك القرون
ولقد جعلت تلك الطريقة أمر تمييز الحق من الباطل في العلم القديم من الوجهة العملية بيد المصادفة لا بيد العقل، فكان الإنسان إذا صادف الصحة في مقدماته الأولى أو بديهياته التي يُرجع إليها مقدماته نجا من الخطأ بعد ذلك لاجتماع ركني الإصابة لديه: صحة المقدمات وصحة التفكير. ومن هنا كانت علومه الرياضية أصح تراث منه وصل إلينا. أما إذا أخطأه التوفيق في المقدمات فلا تسل عن العجائب والغرائب التي كان يؤدي به إليها قياسه الصحيح من مقدماته العليلة. أنظر إليه وهو يحكم على شكل العالم أنه كرى لأن شكل الكرة أكمل الأشكال، أو يحكم على العالم أنه حي عاقل لأن ما هو حي وعاقل خير مما ليس بحي ولا عاقل. وتأمل ما جر إليه القول بحياة العالم وعقله من القول بأفلاك ذات نفوس وعقول كل فلك منها نشأت نفسه وعقله عن نفس الفلك الذي فوقه وعقله، وأشباه هذا مما يعجب له العلم اليوم كيف أمكن أن يتورط فيه العلم بالأمس، إذا العلم والفلسفة كانا شيئاً واحداً في العصر القديم
هذا النوع من التفكير الوهمي قد سد العلم الحديث بابه، وقطع أسبابه بايجابه أولا عدم قبول شيء على أنه حق حتى يقوم عليه البرهان القاطع، وبرجوعه ثانيا إلى التجربة والمشاهدة في تمحيص المقدمات. هذان هما المبدآن اللذان قامت عليهما الطريقة العلمية الحديثة، واللذان يرجع إلى التزامهما والتشدد في تطبيقهما كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم في ميادين العلم الحديث
فأما المبدأ الأول مبدأ اشتراط قيام الدليل القاطع على صحة القضية قبل إدخالها في دائرة الحق فهو مبدأ سلبي، ولكنه في غاية الخطورة لأنه حال دون الخلط بين الحق والباطل، وميز دائرة الشك من دائرة اليقين، وجعل العلم على بينة من أمره فصار يعرف تماما أين هو من الحق ومن الباطل: صار يعرف أي القضايا هو فوق الشك وأيها في حاجة إلى(148/26)
التمحيص
لكن هذه المعرفة لم تكن لتغني عنه كثيرا لو لم يجد العلم وسيلة صادقة لتمحيص ما هو منه في شك، فيزيد باطراد في دائرة الحق المعلوم، وينقص باطراد من دائرة المجهول. لكنه وجد هذه الوسيلة في مبدئه الثاني مبدأ التجربة والمشاهدة. وهو كما ترى مبدأ إيجابي يقوم بجوار مبدئه السلبي الأول: يحرس الأول منطقة الحق أن يدخلها باطل، ويوسع الثاني حدود المنطقة باستمرار. ولقد اقتضى هذا أن يقصر العلم نفسه من ميادين البحث على ما يمكن الاحتكام فيه إلى التجربة والمشاهدة، أو كما عبر بعض العلماء فأحسن التعبير على الميادين التي يستطيع أن يسأل فيها الإنسان الفطرة فتجيب. والفطرة على حد تعبير عالم آخر دائماً تجيب إذا أحسن الإنسان سؤالها. وأكبر الفرق من الناحية العملية بين العلم القديم والعلم الحديث أن هذا عرف كيف يحسن استجواب الفطرة، وأن ذاك في الأوقات القليلة التي خطر له أن يسترشد بالفطرة لم يعرف كيف يحسن سؤالها بإجراء التجارب المنظمة، وإن عرف أحياناً كيف يسمع لها بمشاهدة بعض ما يجري حوله. وبالجملة فإن أكبر ما يميز العلم في عصره الحديث عن مثله في العصر القديم هو إجماع أهله على اتباع ذينك الأصلين: أصل التفرقة التامة بين اليقيني وغير اليقيني، وأصل تمحيص غير اليقيني بعرضه على التجربة والاختبار
هذان الأصلان اللذان هما قوام الطريقة العلمية، واللذان إليهما يرجع كل ما أدرك العلم في ميدانه من تقدم، ما شأنهما في الإسلام كما يتجلى في القرآن؟
إن الذي أنزل القرآن روحاً من أمره وهدى يهدي به الإنسانية سبل الحياة شاءت رحمته بعد أن جعل العقل أصل الأصول في النظر ألا يكل الإنسان إلى عقله من غير أن يبين له معالم الطريق ويحذره مهاوي الخطأ والضلال. فهو أولاً يوجب على الإنسان في القرآن ألا يُدخل في الحق إلا ما قام عليه البرهان والدليل أنه من الحق (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) وفي هذه الآية الكريمة نرى كيف ينبه الله الإنسان إلى أن الظن والتخمين ليسا من العلم والبرهان في شيء، وهو معنى لقي توكيداً عظيما في القرآن بوروده صريحاً في أكثر من آية. (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من(148/27)
علم، إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً). (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً. إن الله عليم بما يفعلون)، وهذا بالضبط هو ما اهتدى إليه العلم الحديث وشدد من أجله في وجوب التفرقة بين الثابت الذي لا شك فيه، وغير الثابت الذي هو في حاجة إلى التمحيص، ومن هنا ترى أن التطابق تام في هذه الناحية أيضاً بين العلم وبين الإسلام
على أن هذا ليس هو كل ما وضح به القرآن سبيل الحق أمام الإنسان، فأنه كما حذره من الخلط بين الحق والباطل، ومن إنزال الظن والتخمين منزلة البرهان واليقين، دله على الطريق العملي الذي يتبين به وجه الحق فيما هو منه في شك: طريق استعمال العقل لا السمع والبصر. ومن العجيب أنك لا تكاد تجد في القرآن ذكراً للسمع والبصر إلا والعقل مقرون بهما مذكور معهما كأنما يريد الله أن ينبه الإنسان إلى ما بينهما وبين العقل من ترابط، فالعقل لا يتم إلا بأثرهما وهما لا ينفعان نفعهما إلا إذا كان العقل من ورائهما يوجههما وينظم عملهما، أو كأنما يريد الله سبحانه أن ينبه الإنسان إلى أن ما يكسب من علم أو معرفة راجع في صميمه إلى هذه الثلاثة، وأن عليه إذن أن يحسن استعمالها ويحذر إهمالها. على أن الإنسان لم يترك في هذا إلى مجرد الاستنتاج. فقد أنبأه الله صراحة في القرآن في معرض المن عليه أن علم الإنسان مصدره السمع والبصر والعقل كما ترى في آية النحل: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، وأوجب عليه آيات كثيرة أن يحسن استعمال سمعه وبصره وعقله، نذكر منها آية واحدة هي فصل الخطاب في هذا الباب ألا وهي قوله تعالى من سورة الأعراف: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) فأنه ليس هناك أكثر حضاً على إحسان استعمال العقل وأدواته من هذه الآية الكريمة التي لم تكتف بتسوية الإنسان بالبهيمة أو جعله شراً منها إذا هو أهمل عقله وسمعه وبصره، بل أنذرته أبلغ إنذار أنه إن فعل ذلك فقد هلك إلى الأبد وحشر نفسه في زمرة أهل النار
فهذا أصل التجربة والمشاهدة قد لقي في صميمه من التوكيد في الإسلام ما يصغر بجانبه ما(148/28)
لقي من التوكيد في العلم وإن كان هو قوام العلم الحديث. والسر في هذا أن العلم لا يزال في الدور الذي يدرس فيه الفطرة ابتغاء الوقوف على أسرارها فحسب، أما الدين فيأمر باستكناه أسرار الفطرة ليزداد الإنسان بها هدى إلى رب الفطرة الذي فطرها وفطره، والإنسان إن لم يهتد إلى ربه فأنه لا محالة من الهالكين. ومهما يكن من اختلاف الغاية بين الدين والعلم فإن كل غاية العلم هي بعض غاية الدين، والطريق الذي يسلكه العلم إلى غايته هو جزء من الطريق الذي يأمر بسلوكه الإسلام
على أننا نحب أن نزيد هذا التطابق بين الطريقين توكيداً بالتنبيه إلى آية واحدة في القرآن جمعت للإنسان أصول النظر العلمي وأثبتتها من الدين مجتمعة بعد أن أثبتتها من الدين متفرقة، تلك هي قوله تعالى من سورة الإسراء: (ولا تَقْف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) فأنها من ناحية تأمر الإنسان بالوقوف عند حد ما يعلم (ولا تقف ما ليس لك به علم) ومن ناحية أخرى تدله على طريق استبانة الحق فيما لا يعلم، والاستمساك بما يتبين له من الحق عن ذلك الطريق، طريق إحسان استعمال السمع والبصر والعقل (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وفي قوله سبحانه (كل أولئك كان عنه مسئولاً) في موقعها من الآية تقرير مسئولية الإنسان عند ربه عن حواسه وعقله كيف لم يستعملهن عند الشك حتى يتبين وجه اليقين، وكيف حين استعملهن لم يحسن استعمالهن، أم كيف وقد أحسن استعمالهن لم يستمسك بما وصل إليه من الحق عن طريقهن حتى صار هو ومن أهملهن سواء. ولو حاول العلم أن يزيد في توكيد أصوله على هذا ما استطاع، ثم هو ليس ببالغ شأو الدين في هذا التوكيد لأنه لا يملك المهمل أصوله حساباً ولا عقاباً
وبعد، فلعلنا نكون قد وفينا هذا الموضوع الخطير بعض حقه من البحث، وبلغنا الغرض الذي بدأنا هذا البحث من أجله، وأثبتنا أن العلم الحديث بينه وبين الإسلام كل ما بين الجزء والكل من تطابق مادام قد ثبت أنه قرآني الموضوع والاسم والروح والطريقة؛ فهو بجملته وتفصيله قطعة من الإسلام، حتى فروضه العلمية ونظرياته التي يلتمس بها سنن الفطرة لها في الإسلام متسع، لأنها ليست إلا ضربا من الاجتهاد الذي يثبت الله عليه المجتهد، أخطأ أم أصاب. وهذا التطابق العجيب بين العلم والإسلام هو الذي كان متوقعا(148/29)
مادام الإسلام هو دين الفطرة، ومادام العلم قد أصاب الفطرة وإن في بعض نواحيها. وليس يمنع العلم أن يصيب الفطرة في بعضها الآخر المتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية. إلا أن هذه الحياة خارج نطاقه، وستظل كذلك لامتناع إخضاع الفرد بله الجماعة للتجربة العلمية والاختبار. فليس هناك للإنسانية إذن أي أمل في أن تصيب سنن الفطرة في الاجتماع عن طريق العلم، فهي لن تزال في مدنيتها بعيدة عن سنن الفطرة وعن سبل السلام حتى تقيم وجهها للدين حنيفاً (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله)
محمد أحمد الغمراوي(148/30)
أعلام الإسلام
محمد بن شهاب الزهري
بقلم السيد ناجي الطنطاوي
محمد بن شهاب الزهري، علم من أعلام التابعين، وإمام جليل من أئمة المسلمين، روى الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبناء أصحابه. وكان نادرة في الذكاء وقوة الحافظة والصبر على طلب العلم. ثقة، أميناً في الإسناد شهد له الخلفاء والعلماء بالتفوق والفضل حتى قال ابن تيمية: حفظ الزهري الإسلام نحواً من سبعين سنة، وكان مع ذلك سخياً كريماً يبذل ماله في سبيل العلم
اسمه ونسبه ومولده
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زهُرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري. سمي بالزهري نسبة إلى زهرة بن كلاب، كان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدرا، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحُد لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنه أو ليقتلنّ دونه. وقد سئل الزهري مرة: هل شهد جدك بدرا؟ قال نعم، ولكن من ذلك الجانب! أي من جانب قريش
وانتسب الزهري مرة أمام هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: أن كان أبوك لنفّار في الفتن. فقال: يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف
وقال: نشأت وأنا غلام، ولا مال لي، منقطع الديوان، فكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة، وكان عالماً بنسبهم وهو ابن أختهم وحليفهم
وقال ابن حيويل: لم يكن له كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه، أما سنه وولادته فلم تعلم على وجه الصحة لاختلاف المؤرخين فيها فهي إما سنة 50 أو سنة 51 أو سنة 52، وقيل بل سنة 58
صفته:
قال سفيان: رأيت الزهري أحمر الرأس واللحية، وفي حمرتها انكفاء قليل، كأنه يجعل فيها كَتَّما، وكان أعَيمِشاً وعليه جُمَيحة وكان رجلا قصيرا، قليل اللحية، له شعرات طوال،(148/31)
خفيف العارضين
طلبه العلم
دخل مرة على عبد الملك بن مروان، فذاكره عبد الملك، فرأى فيه نباهة فوصله، وأمر له بشراء دار قطيعة بالمدينة، وبرزق يجري عليه، وأعطاه خادماً وقال له: اذهب فاطلب العلم، فإني أرى لك عينا حافظة، وقلبا ذكياً، وائت الأنصار في منازلهم. قال: فأتيت المدينة، فإذا عند الأنصار علم جمّ، فأخذته عنهم
وقال إبراهيم بن سعد: ما سبقنا الزهري بشيء من العلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة
وقال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس بعد أن كنا نطوف نحن وإياه معنا الألواح والصحف ونحن نضحك به، وكان يكتب الحديث فيحفظه ثم يمحوه
وقال صالح بن كيسان: كنت أطلب العلم أنا والزهري فقال: تعال نكتب السنن فكتبناها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت
قوة حافظته:
كان يقول: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته، وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأر ويقول إنه ينسي، وكان يشرب العسل ويقول إنه يذكر. وقال: كتب عبد الملك إلى أهل المدينة كتاباً في طومارين يعاتبهم به، فقرئ على الناس عند المنبر، ولم يكن سعيد بن المسيب حاضرا، فلما انفض الجمع قال سعيد لجلسائه: ما كان في ذلك الكتاب؟ ليت أنا وجدنا من يعرف لنا ما فيه، فلم يتكلم أحد. فقلت له: أتحب أن تسمع كل ما فيه؟ قال نعم قال: فقرأته له من أوله إلى آخره لم أنس منه كلمة
وقال: ما استفهمت عالماً قط، ولا رددت شيئاً على عالم قط يعني أنه كان يحفظ ويفهم من أول مرة
وقال الإمام مالك: حدثني الزهري بحديث طويل فلم أحفظه فسألته عنه مرة ثانية فقال لي:(148/32)
أليس قد حدثناكم به؟ فقلت: بلى، فأردت أن أستخرجه، فقلت له: أما كنت تكتب ما تسمع؟ فقال: لا فقلت: أما كنت تستعيد؟ فقال: لا
وقال مالك حدثنا الزهري بمائة حديث، ثم التفت إلي وقال: كم حفظت يا مالك؟ فقلت: أربعين حديثا، فوضع يده على جبهته ثم قال: إنا لله، كيف نقص الحفظ؟
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث
ثم إن هشاماً قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً
منزلته عند الخلفاء
كان عمر بن عبد العزيز يقول: عليكم بابن شهاب، فأنكم لا تلقون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه. قال معمر وإن الحسن وضرباءه لأحياء يومئذ. وقال عمر بن عبد العزيز أيضاً: ما ساق الحديث مثل الزهري، وما أتاك به الزهري بسنده فاشدد يدك عليه
وقد تقدم قول عبد الملك بن مروان له: إني أرى لك عيناً حافظة وقلباً ذكياً
وقال: لما توفي عبد الملك لزمت الوليد، ثم لزمت هشاماً بعده وحججت معه سنة 106 فكنت مع ولده أعلمهم وأفقههم وأحدثهم ولم أفارقهم حتى مات هشام بالمدينة
منزلته عند العلماء
قالوا: كان الزهري ثقة كبير الحديث والعلم والرواية فقيهاً جامعاً وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة، فذكر سعيد بن المسيب، وعروة وعبد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعاً ابن شهاب لأنه جمع علمهم إلى علمه
وقال مكحول: ما بقي على ظهرها أعلم بسنة باقية من الزهري وقال أيوب: ما رأيت أحداً أعلم من الزهري. فقال له صخر بن جويريه: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أعلم من الزهري وقال عمرو بن دينار: مثل هذا القرشي ما رأيت قط، وقال سعيد ابن عبد الرحمن بن جنبل: لولا ابن شهاب لضاعت أشياء من السنن، وقال سفيان بن عيينة: جالست الحسن وغيره، فما رأيت مثل الزهري وقال الإمام مالك: بقي ابن شهاب، وماله في الناس نظير،(148/33)
وكان إذا دخل المدينة، لم يحدث بها أحد حتى يخرج منها. وقد اتفق الأئمة على أن الزهري مات يوم مات وهو أعلم الناس بالسنة، واتفقوا على أنه كان أفقه من الحكم وحماد وقتاده وقال السمعاني: كان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، وكان فقيهاً فاضلاً
قال ابن عينية: ما رأيت أنص للحديث من الزهري
سعة علمه
قال علي بن المديني: له نحو ألفى حديث. وقال أبو داود: جميع حديث الزهري ألفا حديث ومائتا حديث نصفها مسند
وقال مالك: لقد أدركنا في مسجد المدينة سبعين ممن يروي الحديث وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً، فما أخذت منهم شيئاً، لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا الزهري وهو شاب فازدحمنا على بابه
وقدم أحمد بن صالح العراق من مصر ليرى أحمد ابن حنبل، فاستأذن إليه فأذن له، وقام إليه ورحب به وقرّ به وقال له: بلغني أنك جمعت حديث الزهري، فتعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا يتذاكرن ولا يغرب أحدهما على الآخر حتى فرغا، قال الراوي: وما رأيت أحسن من مذاكرتهما. ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد ابن صالح: تعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا يتذاكرن ولا يغرب أحدهما على الآخر، إلى أن قال أحمد بن حنبل: عن الزهري عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يسرني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف المطيبين. فقال أحمد بن صالح سألتك بالله إلاّ أمليته عليّ. وقال: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث كان كثيراً
وقال الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع للعلم من ابن شهاب. لو سمعته يحدث في الترغيب، لقلت ما يحسن إلا هذا؛ وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتب، لقلت ذلك؛ وإن حدث عن الأعراب والأنساب لقلت إلا هذا. قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن شيء، فقال ما بقي أحد فيما بين المشرق والمغرب أعلم بهذا مني(148/34)
وكان يقول: مكثت خمسا وأربعين سنة أنقل أحاديث أهل الشام إلى الحجاز، وأحاديث أهل الحجاز إلى الشام، فما أجد أحدا يطرفني بحديث لم أسمعه
سخاؤه
قال الليث: وكان من أسخى الناس، كان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى كان يقترض من عبيده ولا يرى بذلك بأساً، فقيض الله له على قدر صبره واحتماله: إما رجلاً يهدي له ما يسع السائلين، وإما رجلاً يبيعه بنظرة، وكان يطعم الناس الثريد في الخصب وغيره ويسقيهم العسل، وكان يسمر مع أصحابه على العسل
ونزل بماء من المياه مرة، فقال له أهل الماء: إن لنا ثماني عشرة امرأة مسنة ليس لهن خادم، فاستسلف ثمانية عشر ألفاً فأخدم كل واحدة منهن خادماً بألف، وقضى عنه هشام سبعة آلاف دينار وقال له لا تعد لمثلها تدان، فقال الزهري يا أمير المؤمنين حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين
وأخدم الزهري في ليلة واحدة خمس عشرة امرأة من بني زهرة خمس عشرة وليدة، اشترى كل وليدة بثلاثين ديناراً
وقيل له إن الناس لا يعيبون عليك إلا كثرة الدين، فقال: وكم ديني؟ إنما ديني عشرون ألف دينار، وليس يرثني إلا ابن أخي هذا، وما أبالي ألا يرث عني شيئاً
وكان يقول: وجدنا السخاء لا تنفعه التجارب
وقال الإمام مالك: كان الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال قال له مولى له وهو يعظه: قد رأيت ما مر عليك من الضيق والشدة، فانظر كيف تكون وأمسك عليك مالك. فقال له: ويحك، إني لم أر الكريم تحنكه التجارب فقال الحسين بن عبد الله الكاتب في هذا المعنى:
له سحائب جود في أنامله ... أمطارها الفضة البيضاء والذهب
يقول في العسر إن أيسرت ثانية ... أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب
حتى إذا عاد أيام اليسار له ... رأيت أمواله في الناس تنتهب
ومرّ به رجال من التجار وهو في قريته، والرجل يريد الحج، فابتاع منه بزاً بأربعمائة(148/35)
دينار إلى أن يرجع من حجه، فلم يبرح عنه الرجل حتى فرقه. . . فعرف الزهري في وجه الرجل ما كره. فلما رجع من حجه قضاه ذلك وأمر له بثلاثين ديناراً ينفقها في سفره. فقال له الزهري كأني رأيتك يومئذ ساء ظنك فقال: أجل. فقال: والله لم أفعل ذلك إلا للتجارة: أعطي القليل فأعطي الكثير!
وكان يخرج إلى الأعراب يفقههم ويعطيهم فجاءه رجل وقد نفد ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامة عقيل فنزعها وأعطاها الرجل، وقال لعقيل: أعطيك خيراً منها.
وقال له زياد بن أسعد: إن حديثك ليعجبني، ولكن ليست معي نفقة فأتبعك. فقال له: اتبعني أحدثك وأنفق عليك!
وفاته
كان له ضيعة في شَغَب: وهي أول عمل في فلسطين، وآخر عمل الحجاز، توفي فيها في رمضان سنة 124 على أصح الروايات ودفن في نشز من الأرض، وقبره قائم على الطريق ليدعو له كل من مرّ عليه. قال الأوزاعي: رأيت قبره هناك مسنماً مجصصاً مبيضاً فقلت: يا قبر كم فيك من حلم وعلم.(148/36)
رسالة الأزهر في القرن العشرين
للأستاذ المسيحي لبيب الرياشي
مؤلف كتاب (نفسية الرسول العربي)
رسالة الأزهر في هذا القرن، القرن العشرين المسيحي!. . أم القرن الرابع عشر المحمدي؟ - هي تصير رسالة الرسول العربي العالمي المقدسة في القرن الأول المحمدي منذ ألف عام وثلثمائة عام وستين عاما وثمانية أعوام (1368)
أجل هي تصير رسالته مذ تحنث وتعبد فتجرد إلى أن غطه الوحي فعلم، إلى أن حمى التنزيل وتتابع - فجاهد وعلم وأنذر وبشر - فبلغ
بشر بالحكمة والموعظة الحسنة الناس جميعاً (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)
أنذر وبشر وعلم - بفؤاد وادع وقلب سليم وسريرة طاهرة - فبلغ: (ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك) إلى أن أكمل جهوده وأتم رسالته واستودعها الفرقان الحكيم. وجعل قيمين على تنفيذها سرائر صحابته وتضحية المؤمنين بنبوءته ليعملوا بما أوحى إليه وأنزل عليه ويجاهدوا وينيروا
يجاهدوا وينيروا - البشر جميعاً بدين الفطرة، والإخاء، والشورى، والمساواة، والعدل، والعلم، والحكمة، والحجة، والضمير، والحرية، والجرأة، والصراحة، والاستقلال، وقرة أعين في الدنيا (ورضوان من الله أكبر) في الآخرة
إذن على أسس هذا الواجب العادل، وهذا التمثل الحق، يُرفع هيكل مجيد لرسالة الأزهر في القرن الرابع عشر المحمدي أو القرن العشرين كما أسمته وزارة المعارف المصرية الجليلة
إذن يرفع هيكل رسالة الأزهر في القرن كما رفع هيكل الإنسانية الإلهي في القرن الأول المحمدي - فيقابل الدور الأول دور التحنث والتعبد والتجرد والعلم، بتحنث وتعبد ودراسة من ينتخبهم الأزهر أم يتجندون للعلم في الأزهر على أن ينتخب الأزهر طلابا من أولي الشعور الخصب وأولي العزم والذكاء العميق، والتحسس الضميري، عشاق التضحية وعشاق الحق ويثقفهم ثقافة كاملة شاملة
ينتخب الأزهر طلابه من الشبان ممن اكتملت صفاتهم تلك ليتعلموا مع علم الدين وشرعة(148/37)
الرسول وسنته وسيرته واللغة العربية اللغات الحية العالمية، ويدرسوا الأديان العالمية وتاريخها وفلسفتها وأساطيرها
كل فريق يتخصص للغة حية، ويتخصص لفرع من فروع العلوم ليعلموا عن كل علم جوهره الحق فيكون علمهم علما حقا (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا)
قلت ينتخب الأزهر طلابه من الذكور والإناث فلا يحتكر العلم والتبشير الذكور عملاً بالآية الكريمة (والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. . .) ولأن واجبهم في التبشير العالمي واجب الذكور والإناث على سواء
وقلت ينتخب الأزهر طلابه من ذوي الشعور الخصب والذكاء العميق والتحسس الضميري وعشاق التضحية والحق لكي لا يقولوا الله ما لم يقل في كتابتهم سيرة الرسول، ويعملوا الرسول ما لم يعمل في تبيان حياته، ويضعوا في فمه ألفاظا تطهر منها فمه
فيقولون مثلاً (غزوة) لكل واقعة انتصافية، أو تهذيبية، أو تبشيرية
إن الغزوة كتبت بعقلية من كتب بعد مائتي سنة من وفاة الرسول مع ما في من ظاهرة السلب وحب القتال غير المعقول وغير الحق
إن المفهوم والمعقول من الآيات المنزلة عند ما أذن الرسول بالقتال كانت للانتصاف والتهذيب والتبشير لا الغزو (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) فهل يحب الغزاة الناهبين؟
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)
(الذين إن مكناهم في الأرض، أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور)
(وقاتلوا حتى لا تكون فتنة)
تلك هي الآيات الحكيمة المنصفة التي نزلت على الرسول، فمن أين جاء كتاب السيرة ومن(148/38)
تابعهم بالغزو. . . وبالغزوات
ولكي لا يقول الرسول هكذا: تذهب الكثرة من المؤرخين إلى أنهم - أي الصحابة - فكروا وفكر محمد (ص) على رأيهم في الانتقام من قريش لأنفسهم ومبادأتهم بالعداوة والحرب
ولكي لا يقولوه الطعن والشتم والسباب، بقولهم: طعن آلهة قريش، شتمها، سبها، ولكي، ولكي
إن الرسول لم يكن منتقما، وقد حذر الانتقام، ولم يكن سباباً، والحديث الصحيح والقرآن الحكيم ينفيان عنه حب الانتقام والشتم والسباب؛ فمن أي مصدر قرآني، أو حديث صحيح وضعوا في صدر الرسول الانتقام وفي فمه السباب؟؟. . .
إن الرسول فكر في الانتصاف من أعداء الله وأعدائه. فكر في حرية التبشير، فكر في تعليمهم الحق، وعلم بما فكر. فلما لم يذعنوا بالحسنى بعد ثلاثة عشر عاما أذن له في القتال الانتصافي، ولم يسب آلهة قريش، بل عابها. لم يسبها لأن حديثه مشهور: لا تكن سبابا
(ليس المسلم بالسباب ولا بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء)
(إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً)
للأسباب المتقدمة التي صهرناها صهراً ننادي الأزهر بيت العلم المحمدي الأول، ونقول: إن واجب رسالته الواجب. الواجب كتابة سيرة للرسول تتفق والقرآن الحكيم؛ وعقلية الرسول البريئة وأعماله الحقة. وقلنا على طلاب الأزهر أن يثقفوا ثقافة جامعة شاملة، لكي لا يرموا قلب الحق بما رماه به كاتب مشهور تعلم في الأزهر، واتصل بالشيخ محمد عبده اتصالاً وثيقاً، وكان من المؤمنين برسالة الرسول ونبوة الرسول!
لكي لا يرموا قلب الحق وإن تعريباً وإن نقلا بقولهم في تأبين من اشتهر بالبخل وحب المال اشتهاره بالذكاء والدهاء
لكي لا يرموا قلب الحق بقولهم
(في مثل هذا اليوم منذ مائة سنة مات الرجل العظيم. مات الرجل الخالد. مات فولتر. ما مات فولتر حتى احدودب ظهره تحت أثقال السنين الطوال وأثقال جلائل الأعمال وأثقال الأمانة العظيمة التي عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها فحملها وحده، ألا وهي تهذيب السريرة الإنسانية فهذبها فاستنارت فاستقام أمرها. .)(148/39)
وفولتر هذا الذي هذب السريرة الإنسانية فاستقام أمرها، فولتر هذا الذي عظمه مسلم مؤمن وسكب عظمته في صدر كل عربي مسلم. فولتر هذا هو كاتب القصة التمثيلية بعنوان (محمد) ولقد أهداها إلى البابا بنوا الرابع عشر بهذه العبارات (فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. وإلى مَنْ غير وكيل رب السلام، والحقيقة أستطيع أن توجه بنقدي فسق نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع قدميك الكتاب ومؤلفه وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديستين
في 17 أغسطس سنة 1745
(فولتر)
ترى لو كان المعرب الذي استعار بلاغة القرآن تثقف الثقافة الحقة الجامعة الشاملة وفهم نفسية من كتب عنه وأعماله وأقواله
ترى لو كان مثقفاً ثقافة صحيحة أكان يقول عن فولتر قوله سواء أكان يقول إن فولتر هذب السريرة البشرية فاستنارات فاستقام أمرها، وإن أمانة هذا التهذيب عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وحده؟ ويكون تهذيبه للبشر بهذا الشكل الفاسق غفر الله لمن عرب ولمن ثقف هذه الثقافة
إذن لتكن رسالة الأزهر تعليم اللغات الحية ولتكن رسالته الثقافة الجامعة الشاملة ليطلع طلابه على أهم المسائل فيظهروا الحق حقاً والباطل باطلاً
لتكن رسالة الثقافة الشاملة، فلا يصاب طلاب الحق بأمثال من ذكرت، وبأمثال عالم كتب حياة محمد (ص) وعندما شاء أن يصور كيف خشيت قريش البعث ورعبت من جهنم قال: (أما الجنة التي أعدت للمتقين، وجهنم التي أعدت للظالمين. أما ذلك كله فلم يكن يدور بخاطرها، وذلك كله قد سمعوا به في دين اليهود، وفي دين النصارى). وقال في صفحة ثانية: (والموسوية والعيسوية تصفان حياة الخلد ورضا الله)
لا أعلم أين قرأ المؤلف وصف الخلد، ووصف الجنة وجهنم في الدين الموسوي!
لا جنة ولا جهنم أيها المؤلف الفاضل في الدين الموسوي ولم يرد وصفهما لموسى. إن(148/40)
التوراة اكتفت بقولها: (إن الله له منتقم يفتقد ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الرابع، ومن ثمة يفتقد خطايا الخاطئ وذنوبه بجسمه ونسله وأنعامه ومواشيه فحسب)
مثل هذا القصور في الثقافة لا يليق بمن يكتب حياة أعظم من سار على قدمين من بني البشر - حياة الرسول - لذا ترى أن أول واجبات رسالة الأزهر توسيع دائرة المعارف وتثقيف الطلاب ثقافة جامعة شاملة قبل أن يكتبوا عن الرسول وقبل أن يحللوا الحكمة السامية التي تجسدت في شخص محمد، والأدب الرفيع الذي جلل أقواله وأعماله
جهلت قومه عليه فاغضى ... وأخو الحلم دأبه الأغضاء
وقلنا بالتخصص ليخرج من طلابه نوابغ في أي فرع من فروع العلوم، فإذا تخصصوا ونبغوا حق لهم أن يفسروا القرآن الحكيم لأنهم يومئذ، ويومئذ فقط، يفهمون الآيات الطبية والتشريعية العالمية الدولية والنفسية البشرية، وعلوم الفلك والطبيعيات وو. . . . إن في القرآن مجموعة العلوم البشرية فأنى لغير مجمع كبير علمي أخصائي في أي العلوم يفهمه ويفسره؟ فإذا تخصصت كل فئة لفرع أجادت فهم القرآن وأجادت تفسيره
(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر)
هذه الأطوار الستة وردت في القرآن الحكيم منذ أربعة عشر قرناً أثبتتها الاكتشافات الحديثة أمس (واتخذها الفلاسفة الطبيعيون حجة على أطوار خلق الجنين توافق الأطوار التي نشأت فيها أصول الحيوانات في الأزمنة العريقة في القدم قبل خلق الإنسان بادهار طويلة، وذلك لأن الإنسان يكون في الطور الأول من إنشائه نطفة أشبه بالحيوانات السافلة المساماة بذوات الجوف، ثم يستحيل إلى علقة فيصير أشبه بالسمك، ثم ينسلخ مضغة فيكون شبيهاً بالحيوانات المائية البرية ذوات العمرين، وبعد ذلك يتحول إلى مشابهة أدنى مراتب الحيوانات اللبون وهو حينئذ في بدء الطور الذي ينمو فيه خلقاً سوياً متميزا بخصائصه النوعية)
أنى لغير الطبيب الحكيم أن يفهم عظمة القرآن وعلوم القرآن إذا مرت أمامه الآية الطبية تلك وأمثالها وأنى له أن يفسرها؟
وأنى لغير المشترع أن يعلن بسرعة أن أعظم لجنة ألفتها جمعية الأمم في القرن العشرين(148/41)
مؤلفة من أكبر مشترعي العالم منذ أشهر معدودة لتحكم بين دولتين هما من أعضاء جامعة الأمم
لقد قالت اللجنة التشريعية: مادام أن مجلس الثلاثة عشر قال إن إيطاليا هي المعتدية على الحبشة، ولما كان كلاهما عضو في جامعة الأمم فعلى جامعة الأمم أن تناصر المعتدى عليها
ذلك حكمها. فلنسمع حكم القرآن في مثل هذا الموقف ولنعتبر ولنحترم
لنسمع للحكم السامي الرفيع الذي جاء به الفرقان منذ أربعة عشر قرناً، الحكم الجامع الشامل، الحكم الذي عجز عن الإتيان بمثله أعظم علماء الشرع في القرن العشرين:
(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهم. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين)
فإذا اكتملت الثقافة واكتمل التخصص وتعلم اللغات فقد ابتدأ دور الجهاد فأصبحت رسالة الأزهر الثانية والثالثة. أما الدور الرابع فالترجمة وإرسال الوفود تحت كل كوكب للتعليم والإنذار والتبشير بالحكمة والموعظة الحسنة بفؤاد وادع وقلب سليم
وأن يكون من جهاد الأزهر طبع المؤلفات النفيسة عن الرسول وعن القرآن وعمن نصروا الرسول متشرفين بحكمة إمامته العظمى، وليكن من جهاده نشرها
حسب الأزهر أن يقوم بما تقدم لينقل للإنسانية رسالة سامية تطمئن الأصغرين وتسعد في الدارين
الخلاصة عن رسالة الأزهر
1 - أن ينتخب طلابه من ذوي الشعور الخصب وعشاق الحق ليتعلموا مع العلوم الشرعية الأزهرية كلها تاريخ الأديان وفلسفة تلك الأديان وأساطيرها
2 - ليتعلموا اللغات الحية
3 - وأن يكونوا فئات في التخصص كل فريق يتخصص لعلم حتى يجيدوا فهم القرآن الحكيم الجامع لكل العلوم ويجيدوا تفسيره
4 - أن يترجم الأزهر خيرة المؤلفات العربية ذات العلاقة بالدين الإسلامي والرسول(148/42)
العربي إلى اللغات الحية
5 - أن يبعث إرساليات تبشيرية تحت كل كوكب تبشر بالحكمة والموعظة الحسنة للناس جميعا
6 - أن يكتب سيرة الرسول العظيم كتابة تتفق مع ما ورد في الفرقان الحكيم والأحاديث الصحيحة، ورأي المؤرخين السياسيين المنصفين
7 - أن يترجم تلك السيرة، أم الحياة، إلى اللغات الحية جميعها وأن يطبع ما صُنف من المؤلفات النفسية عن الرسول وعن الدين
(دمشق)
لبيب الرياشي(148/43)
الحياة الأدبية بالمغرب
بقلم محمد عبد المجيد بن جلون
لقد حان أن نتكلم نحن أيضاً عن الحياة الأدبية في بلادنا، فـ (الرسالة) سائرة تتحدث عن الأدب في الأقطار العربية، التي - وإن بددتها الأطماع السياسية - ستظل تجمعها لغة الضاد إلى ما شاء الله. ونعني بالمغرب المغرب الأقصى، وبالأدب الأدب الحديث؛ أما الأدب القديم فنود أن نرجع إليه في مناسبة أخرى لما شاع في المشرق من أن المغرب قطر لم يساهم في الأدب العربي، وتلك حقيقة اكتشفها مؤلفا كتاب: (المطرب في تاريخ الأندلس والمغرب) محمد عجاج، وعلي سعد؛ ومصدر ذلك هو الجهل بالمغرب وتاريخه. والمؤلفان معذوران - إلى حد ما - لأن تاريخ المغرب - الأدبي منه بنوع خاص - لا يزال في ظلمات المكاتب، إلا قليلاً؛ على أن هذا القليل نفسه لا يسمح لنا أن نحكم بأن المغرب ليس له أدب قديم؛ وما نريد أن نزيدهما على ما كتب في هذا الموضوع أستاذنا محمد علال الفاسي (المغرب الجديد - عدد 3 - السنة الأولى)
وبعد، فما هي حالة الأدب العربي بالمغرب اليوم؟ لقد أجهدت نفسي في أن أصل إلى جواب أطمئن إليه عن هذا السؤال، فما وجدت الحقيقة إلا في أنها حالة ضعيفة؛ فما هي الكتب الأدبية - بالمعنى الصحيح - التي يصدرها المغرب؟. . . . . أعفني بربك أيها القارئ، فالحقيقة مرة، وقلبي يضطرب عند ذكرها اضطراباً
وإذ عدمنا الكتب فلنتساءل عن الصحف. إن كل ما يصدره المغرب مجلتان أدبيتان: الأولى (مجلة المغرب) للأستاذ محمد الصالح ميسة برباط الفتح، والثانية (المغرب الجديد) للأستاذ محمد المكي الناصري بتطوان، اجتازت الأولى مرحلة أربع سنوات، والثانية أتمت سنتها الأولى منذ قريب. فما قيمة ما تنشر هاتان المجلتان؟ ذلك ما نريد أن نتحدث عنه الآن باختصار
فأولاً يجب أن تعلم أن المجلات المصرية - يا للمجلات المصرية! - طغت عليهما إلى درجة أن إحداهما لا تباع في فاس، لأنها فقدت المشتري بالمرة وهما معاً تصدران شهرياً، فلننظر الآن ما في هاته المجموعات
أما ما يسمى بالبحث الأدبي ففيها الكثير، خصوصاً حول الأدب العربي في المغرب قديماً،(148/44)
فهذا البحث الذي يتابع نشره الأستاذ محمد علال الفاسي على الطريقة الحديثة، عن أبي علي اليوسي، وبحثه القيم يبهر القارئ؛ وهو يكتب الآن بحثاً عن أثر شعر المتنبي في المغرب بمناسبة ذكراه الألفية، وموضوع كهذا، في وقت بالمغرب كهذا، يصدر بهذا العنوان الخطير، يكاد لا يصدقه العقل، وأحكم على البحث بالبراعة والإلمام بالموضوع لأنني اطلعت على جزء منه
وأما إذا بحثت عما يسمى بالإنتاج الأدبي، فذلك ما لا تعثر عليه، فليس يدور بخلد المغربي أن يعالج القصة، بل القصة عنده لهو وعبث يجب أن يضن عليه بوقته الثمين. . . وهناك شعر قليل ولكنه نظم ليس إلا، ذلك أن المغاربة يجهلون الشعر تماماً، اللهم إلا قواعد جافة لا تسمن ولا تغني من جوع. والذين يزعمون أنهم شعراء يزعمون كذلك أنهم أعلى من أن يحدثهم طه حسين مثلاً عن فن الشعر. يقلدون القدماء ويقفون ويستوقفون، مما كان سائغاً في العصور الغابرة أيام الناقة والجمل، أما اليوم فكل هذا محاكاة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وليست من الشعر في شيء. كذلك يفقدون المثل الأعلى، وإنما هو هذيان يجري إلى غير غاية، ومعان مفككة، وهم ضعفاء الخيال، والحقيقة أن حالة المغرب الاجتماعية لها الأثر الفعال في هاته الناحية، وهنا أستثني شاعر شبابنا الأستاذ محمد علال العباسي فاسمع هاته النغمات الحلوة يرسلها قلب عليم قد امتلأ حباً لهذا الوطن العزيز:
وإذا متُّ عليه فأنا ... مطمئن لرضاه المثمن
فاغسلوا بالماء منه بدني ... واجعلوا نسج بنيه كفني
وادفنوني في ثراه وضعوا ... فوق قبري منه زهر السوسن
واكتبوا فوق ضريحي بدمي ... هاهنا قبر شهيد الوطن
وإذا تصورت الشاعر منفياً عن مهد صباه، بعيداً عن الأهل والوطن، في باريس، طلبت منه أن تعيد النظر في هاته الأبيات؛ وهو لا زال لم ينشر ديوانه (روض الملك) بعد؛ وله قصائد رائعة - عند ما كان في باريس تجدها في مجلة السلام، يوم كانت مجلة السلام
وأكثر ما ينشر ويذاع من قصائد للمغاربة رديء سقيم، أشفق على قارئه وسامعه أكثر مما أشفق على قائله. . .
والآفة التي تستولي على المغاربة هي الكسل، وماذا يتطلب قول الشعر. . . هل يحتاج إلى(148/45)
إطلاع في التاريخ أو تحصيل شيء من الفنون. . . هكذا يظنون، فينشأ الكسل
والنهضة المغربية تقوم على أكتاف الشباب الناشئ، فهناك شباب يكتبون لأنفسهم، ويقولون الشعر لها أيضاً، وربما أطلعوا بعض أصدقائهم على ذلك، وبعد هذا فإلى ظلمات الدرج، حيث يعلم الله وحده ماذا يكون بها، وكاتب السطور يعرف جماعة من هؤلاء في فاس اطلع لهم على قصص لا بأس به، وشعر له حظه من الجودة يبشران بمستقبل حافل. إذن فالأمل في الشباب الناشئ الذي يقرأ بنهم ما يكتبه أفذاذ الشرق، فاعتدلت بذلك أفكاره نوعاً من الاعتدال، ويوشك إن هو استمر على اجتهاده أن يكون منه أدباء، يبذرون في الأرض المغربية الخصبة بذور الأدب الصحيح، بل إني أؤكد أن هؤلاء الناشئين لابد أن يكون لهم شأن، فما كانت هاته الجهود لتضيع هباء
بهذه اللمحة الموجزة تستطيع أن تتبين ما في المغرب من أدب، وأن نستنتج أنه في الحالة الحاضرة ضعيف الأدب، وأنه وإن لم يكن ميتاً فهو قريب من ذلك، وأن حالة الناشئة تبشر بمستقبل زاهر قريب، لما لهذا الشباب الطموح من عزيمة
والعقلية المغربية أقرب إلى العلم منها إلى أي شيء آخر، ولو كنا نتحدث عن الحالة العلمية لطال بنا الحديث، خصوصاً ما يلقى في جامعة القرويين من دروس جامعة مع اعترافنا بما فيها من نقص وما تحتاج إليه من تهذيب
ولعله استرعى نظرك أننا ما ذكرنا غير الأستاذ محمد علال العباسي فليس معنى ذلك أنه ليس في المغرب غيره، ولكن معناه، أنه - في نظري - أعدل إخوانه الأدباء رأياً، وأقربهم إلى الصواب، فهو أديب حقاً، وله نفسية الأديب، ويحيا حياته. وكل من يعرف وداعته وأخلاقه يطمئن إلى ما نقول، بيد أنه لا يصرف كل أوقاته - ولا جلها - في الأدب، بل اشتغاله به محدود ضيق الدائرة، ولو كان يفعل لكان أديباً جباراً فما خُلق إلا ليكون أديباً
بقي أن نقول إن القرويين والمدارس القومية والحكومية كلها تحمد وتعاب، غير أن أفضل معهد للدرس هو القرويين. ولو كان أبناء (الكولج ومولاي إدريس) يشتغلون بالعربية. لكانوا أنجب من أبناء القرويين، ولكن كل همهم في الأدب الفرنسي والتفرنج، وهم زيادة على ذلك يعيشون في ظلام لا يستطيعون السير فيه وحدهم
وهنا ننوه بما (للرسالة) الغراء على أبناء المغرب من فضل. فإليها يرجع طموح الناشئة،(148/46)
على هداها يسيرون، وبنورها يهتدون؛ فشكراً لك (يا رسالة) الحياة، ولك أنت يا مصر الشقيقة، فلن تجدي في المغرب نكراناً للجميل
فاس
محمد عبد المجيد بن جلون(148/47)
نهاية المجد الإنساني
لدانيل ديفوا
(1661 - 1731)
رسالة كتبها لإحدى الصحف بمناسبة موت الدوق مارلبرو
سيدي:
لقد أكببت أخيراً على درس التاريخ، وطالعت حياة عظماء القرون الماضية كالاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وأوغسطس العظيم، وكثيرين غير هؤلاء وهؤلاء ممن تواردوا بعدهم حتى لويس الرابع عشر الكبير، بل وحتى أعظمهم وأكبرهم (جون دوق مارلبرو)!! ولقد مررت في طريقي بتيمورلنك حصاد الرؤوس، وبتمور نبيجوس المصري، وبسليمان الكبير، ثم بغير هؤلاء من سلاطين آل عثمان، فإذا قد كتب عنهم جميعاً الواحد تلو الآخر بعد الآثار العظيمة التي خلفوها: (ثم مات)!!!؛ جميعاً أموات!؛ أموات!؛ أموات!؛؛ و (الموت) هو نهاية كل منهم!! فالبعض يرقد في مهد الشرف! والبعض على سرير الخضوع الذليل! هذا قد مات شجاعاً في ساحة الشرف! وذاك قد تردى في هوة المجد أثناء عاصفة الهجوم! البعض هنا والبعض هناك! تختلط عظام الشجاع الصنديد منهم بعظام الجبان الرعديد! وبقايا البطل الجريء ببقايا النكرة الدنيء! يرقدون هناك في أكفان النسيان تحت أنقاض الثرى؛ لا يتميز واحد من الآخر ولا يباينون التراب في شيء!)
(ترقد هذه الساعة الدقاقة المفاخرة مختلطة بالأقذار؛ وهي التي كانت (عظيمة) فظنت نفسها عارفة مقتدرة!) كم آلاف من الأبطال يرقدون في هذا العالم أكواماً متناثرة؟ كم يجرف الريفيون عظامهم بمحاريثهم وكم يسحقها العمال بفؤوسهم؟ بل لكم تحول الأرض أنبل وأسمى أعضائهم إلى ما يستعمل في أحط المنافع! لكم مزجنا رماد الأبطال بطلاء منازلنا؟؛ ولكم خلطنا رماد قائد روماني بملاط حظيرة للخنازير! أين رفات (قيصر)؟ أين بقايا (بومبي) وانقاض (سيبيو) و (هنيبال)؟؟ كلهم قد تلاشوا!! اندثر رمادهم ولم يعد مكانهم يعرفهم! لست تراهم إلا في الكتب الباقية لشعرائهم ومؤرخيهم؛ والرسائل الكثيرة لمداهنيهم ومتملقيهم الذين صوروا لنا الأشخاص لا كما كانوا حقاً! بل كما كان يحلو لهم أن(148/48)
يصوروهم!!!. . .
وما يقع لأعظم الناس يقع لأطولهم عمراً! فقوم نوح انتهوا جميعاً بشيء واحد؛ عاش منهم (متوشالح) تسعمائة سنة وتسعا وستين! وأعقب أبناء كثيرين وبنات كثيرات! ثم ماذا كان؟ كان أن مات. .! (الحياة حلم، والموت نهر طام يجرفنا)
نحتفل الآن بجناز مارلبرو (العظيم)!! فكل انتصاراته، وكل مفاخره، وكل خططه الحربية التي دبرها، وكل فتوحاته المتسلسلة المطردة، كل ذلك الذي يخصونه به كما لو كان وحده قد حارب وانتصر، وفاز وكسب، دون أن يمده الكثيرون بأرواحهم ودمائهم! كله قد انتهى حيث ينتهي آخرون! بل حيث ينتهي الناس جميعاً! أنه مات!! فلا ثروته الضخمة، ولا أسلابه من أعدائه، ولا سخاء حبيبته البارة وكرمها، ولا الكنوز المتراكمة في الحرب وفي السلم، ولا كل هاته الكتلة العظيمة من الذهب التي لا أعنى بتعيين ضخامتها كما قد يعنى البعض!! شيء من ذلك لم يستطع أن يهبه الحياة؛ ولا أن يطيل له أمدها لحظة؛ لقد انتهى وكفى. . .!
لا، بل يقول البعض إن الكنز العظيم الذي امتلكه في هذا العالم ذو خاصية غريبة عالقة به كانت تكون جد منغصة لصاحبه لو اعتنى بالتفكير فيها قليلاً! وهي أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئاً منه إلى قبره. . .!!!
لم يبق لنا شيء من ذلك (العظيم) نتحدث عنه غير تاريخه وتمثاله؛ لقد عُدَّ الآن في الماضيات، وأصبحت صور جنازته ومعاركه جديرة بأن تتزين بها منازلنا كسائر القطع الفنية التي تعادلها زهواً وبهاء، وتساويها في النظر إليها بسرور وارتياح!!!
هكذا نهاية المجد الإنساني! وقليلاً ما تستطيع الدنيا القيام به لأعظم من يلجونها! بل ولأعظم قدر يصل إليه هؤلاء الرجال. .!!
فما وظيفة الحياة إذاً؟ وما أثر العظماء الذين يمرون على مسرح للدنيا في حلل النصر كهؤلاء الذين ندعوهم (أبطالاً)؟؟ أهو أن يكبروا وينفخوا في بوق الشهرة ويشغلوا صفحات كثيرة من التاريخ؟؟ وا أسفاه!! ليس هذا بأكثر من وضع قصة يقرأها الخلف فيما بعد ويصورها خرافة ورواية!! أم هو أن يقدموا للشعراء موضوعا يعيشون به في أشعارهم الخالدة كما يدعون؟؟ وذاك أيضاً سيؤول بهم إلى قصة شعرية يتلوها العجائز لإسكات(148/49)
الأطفال، أو لجمع مساعدة للفقراء والمساكين على قارعة الطريق. .!
أم أن أثرهم هو أن يضيفوا الفضيلة والتقوى لمجدهم؛ وهما العنصران اللذان يأخذان بهم إلى النعيم ويجعلانهم حقاً خالدين؟؟ وما المجد من غير فضيلة؟؟
ليس العظيم من غير تقوى بأكثر من دابة ضخمة من غير نفس!
ثم ما الشرف بغير قدر واستحقاق؟؟
وماذا يمكن أن يدعى قدراً حقيقياً غير ما يجعل الشخص تقياً كما هو عظيم؟؟
إنا إذا كنا نؤمن بحالة مستقبلة للحياة، بمكان يكافأ فيه الفضلاء، ويعاقب بين جدرانه السفلة، فكم من الرؤوس المتوجة سيلبس تاج السعادة والخلد؟؟
لا يحسدن أحد (العظماء وذوى المجد) كما نسميهم!!
فإنا إذا استطعنا الآن أن نراهم وجدنا أكثرهم يستحق الرثاء لا التهنئة!!؟
هذه الخطرات القليلة أبعثها إليك يا سيدي لتهيئ عقول قرائك قبل أن يذهبوا لمشاهدة الجناز الفخم للطيب الذكر (دوق مارلبرو). . . . .
ترجمة محمد حسن ظاظا(148/50)
الأدب بين الخاصة والعامة
لامرتين ورينه جارد
للسيد اسكندر كرباج
في عام 1846 قصد الشاعر الفرنسي لامرتين إلى مرسيليا لقضاء بضعة أسابيع في أحد أحيائها الهادئة، بعيداً عن متاعب السياسة وضوضائها، وكان لامرتين وقتئذ في أوج مجده الأدبي وعظمته السياسية؛ فاحتفت به أندية العلم والاجتماع في تلك المدينة البحرية، وأكرمه الأدباء والشعراء، ونظموا فيه القصائد البليغة
وفي ذات يوم ذهب لامرتين وزوجه للنزهة على ساحل البحر، فلما عاد مساء قيل له إن في الرواق المطل على الحديقة امرأة وضيعة الهيئة بسيطة الهندام تنتظر رجوعه منذ الصباح. فتوجه لامرتين إلى الرواق المذكور ليرى تلك المرأة الغريبة ويقف على حقيقة أمرها؛ وبعد أن يشاهدها ويحدثها ويصف ملامحها ونظراتها وإشاراتها بتلك الرقة الساحرة وذاك البيان الخلاب الذي اشتهر به مؤلف رواية غرازيلا ورفائيل يسألها عن الغرض من قدومها لزيارته، فتجيبه أنها خياطة في اكس، وقد قرأت رواياته ومنظوماته، وأعجبت بجمال تعابيره ورقة شعوره وسمو خياله، فلما اطلعت في الصحف على خبر قدومه إلى مرسيليا واحتفاء دوائرها الأدبية به تولدت في نفسها رغبة التعرف به والتحدث إليه، وإنها على الرغم من فقرها وخمولها تجرأت على ترك عملها والقدوم سرا إلى مرسيليا تحقيقا لرغبتها
فيتودد إليها لامرتين ويلاطفها ويقول لها أنه يشك في أنها تركت عملها وتحملت مشاق السفر يومين كاملين، وقضت معظم النهار في انتظار رجوعه من نزهته لكي تراه وتحدثه وتتعرف إليه فقط؛ بل يجب أن يكون هنالك سبب آخر لقدومها لا تريد ذكره، أو أنها لا تجرؤ على التصريح به، ولذلك فهو يسألها أن تخاطبه بحرية وتبوح له بما في قلبها من غير تكلف
فتفقد هي إذ ذاك شيئاً من خجلها واضطرابها، وتخبره أن في إكس أسرة كريمة تعرف شدة ميلها إلى المطالعة وعجزها عن شراء الكتب فتعيرها ما تقتنيه منها، فاستطاعت بذلك أن تطالع عددا كبيراً من الروايات النفسية والمنظومات الرقيعة ولاسيما رواياته ومنظوماته(148/51)
التي تطرب المسامع، وتحرك القلوب، وتستذرف الدموع
فيقاطعها لامرتين مبتسما: عرفت الآن! إنك شاعرة كالنسمات التي تهب بين أشجار الزيتون، أو كالندى الذي يبلل أثمار التين!
فتجيبه: لست شيئاً من ذلك يا سيدي؛ إني خياطة وضيعة لا أبرح غرفة عملي إلا نادرا، وسلوتي الوحيدة الدرس والمطالعة، وليس يؤنسني في وحشتي وانفرادي إلا عصفور غرِّيد، ولكن هذا كله لا يهمك أمره، لقد سألتني عن سبب قدومي إلى مرسيليا وكيف عرفت بقدومك إليها، فأجيبك أني قرأت منذ أيام في صحف هذه المدينة أبياتاً من الشعر الرقيق ليوسف أوتران في مدح لامرتين والترحيب به، فشوقتني هذه الأبيات إلى رؤية الشخص الذي أوحى إلى شاعر مقاطعتنا نظم تلك الأبيات الجميلة، وبتُّ لا أستطيع صبراً على ذلك. وبعد وثوقي من وجودك هنا قدمت لزيارتك دون أن أهتم بملبسي أو بغيره مما يجعلني أهلا للمثول في حضرة رجل مثلك؛ وهأنا أمامك الآن لا أدري ماذا أقول ولا ماذا أفعل، وربما حملتك حالتي هذه على الاعتقاد بأني امرأة جسور مغامرة أتت تخدعك وتدعي ما ليس فيها، مع أن الحقيقة هي ما أوردته لك بالتمام، وبعد أن شاهدتك وعرفتك وحدثتك وحظوت منك بهذا الاستقبال اللطيف سأعود إلى قريتي حاملة أجمل ذكرى لهذه الزيارة
فيقول لها لامرتين: خففي عنك أيتها الآنسة! لم يمر في خاطري قط أنكِ لست كما تذكرين، فملامحك أنصع دليل على صدقكِ وسلامة طويتك، وإذا كانت الألسنة تخدع أحياناً فالعيون لا تضلل أبداً؛ ففي عينيك بريق يشفُّ عن براءة ونقاوة لا يمكن أن تكونا برقعاً لامرأة كاذبة نمامة. إن الطبيعة لم تخلق الملامح كذوبة، فأنا أثق بكِ كما لو كنت أعرفك منذ الصغر، ولذلك لا أسمح لكِ بالانصراف ما لم تحدثيني طويلاً وتشاركينا في العشاء؛ لقد ذهبت زوجتي لتغيير ثوبها ولا تلبث أن تأتي لاستقبالك والقيام بواجب الضيافة نحوك. وقبل أن يحين وقت العشاء أخبريني كيف تولد فيكِ هذا الميل إلى المطالعة، وهذا الهيام الشديد بالشعر والشعراء، والتعرف إلى الأدباء الذين طالعتِ رواياتهم
فتروي له قصتها قائلة: اسمي رينه جارد، وقد وُلدت في قرية قريبة من إكس، ودخلت صغيرة في خدمة السيدة. . . ورافقت نشوء الأولاد، ونعمت بعطف الأبوين وصداقة الصبايا، وكنت أصغي إلى ما يتعلمنه على الأساتذة وأطالع كتبهن في أوقات الفراغ،(148/52)
فتوصلت بهذه الواسطة إلى تحصيل بعض العلوم ومعرفة القراءة والكتابة والخياطة والغسل والكيّ وغيرها مما تحتاج إليه الفتاة ويكلفها تعلمه نفقات كبيرة. وكنت أتولى خياطة ثيابهن، وأعدهن لحضور الحفلات في إكس، وأنتظر رجوعهن من المراقص حتى الساعة الثانية والثالثة بعد نصف الليل، ومكافأة لي على ذلك كن يدفعن إلي كتاباً أو رواية لكي أطالعها في غيابهن؛ فكنت أجلس بها إلى جانب الموقد وآخذ في مطالعتها مرتين وثلاثاً ولا أتركها من يدي إلا بعد أن أكون قد استوعبت معانيها جيداً؛ وهكذا طالعت قصة المسكينة لورانس في روايتك الشعرية جوسلين، وقد قلت لنفسي وقتئذٍ: هل يسعدني الحظ برؤية كاتبها ومحادثته؟ لا ريب أنك تعرف أنشودة البحري التي مطلعها: من هو ناظم النشيد؟
فيجيبها لامرتين: نعم أعرف تلك الأنشودة التي يضع ناظمها اسمه تحت آخر بيت منها كما كان فيندياس يضع اسمه على قاعدة تماثيله، وفانديك في ذيل رسومه لكي يخلد بخلودها. ولكن أخبريني كيف انفصلت عن تلك الأسرة الكريمة، وأي عمل تمارسين الآن؟
فتقول له رينه: بعد أن تزوج البنات وتوفيت الأم لم يعد من حاجة إلى بقائي في البيت، فغادرته على ألا أدخل في خدمة غيره؛ وقد ساعدني الأب بمبلغ من المال على تدبير أموري، وقال لي البنات: اطمئني فلن نحوجك إلى الاستجداء
وكنت محبوبة معتبرة في بيئتي، فاستأجرت حانوتاً تعلوه غرفة صغيرة للنوم، وانصرفت إلى احتراف الخياطة، ولكثرة الإقبال عليّ كدت لا أستطيع تلبية الجميع؛ وأنا أعيش اليوم من إبرتي، وما يفيض عن نفقاتي أختزنه ليوم الضيق أو لأيام شيخوختي. وكانت لي عصفورة تسليني في وحدتي ففقدتها وحزنت عليها كثيرا، وأنا أخصص أيام الآحاد والأعياد للمطالعة. وفي المدينة أشخاص من الطبقة العالية مثلك، وعلماء وأدباء حتى وبعض أعضاء المجمع العلمي يعرفون ميلي إلى المطالعة والنظم في بعض الحفلات، فلا يخجلون من دخول مصنعي ومحادثتي وإعارتي بعض الكتب
فيقول لها لامرتين مبتسما: أتنظمين الشعر أيضاً يا رينه؟ كدت استشف ذلك من عينيك الحالمتين، إذ لا سماء بدون غيوم، والأحلام والنظم هي غيوم تينك العينين الجميلتين؛ ولكن هلمي بنا، لقد هجرت أنا النظم، ولكني لم أزل أحن إلى سماع رناته والاستمتاع(148/53)
بروائع صوره ومعانيه. فما أجمل زمن النظم! وما أشد شوقنا إليه! هل تتذكرين يا رينه شيئاً من نظمك فتسمعيني إياه؟ انظري ما أبدع هذا المكان وألطفه لإنشاد الشعر! فالشمس على وشك المغيب، والبحر يحمل إلى مسمعنا هدير أمواجه وخشخشة أصدافه التي هي أشبه بغناء صغيرة تضرب على الصنج، والنسيم يداعب أشجار الليمون وينثر أزهارها العذرية على شعرك الأسود، وأنا، هذا الغريب الذي كان شاعرا فيما غبر من الأيام ويجلس وحيداً أمامك ليسمعكِ وقد أعجب بنبرات صوتك، ألا يساوي كل هذا في نظرك جمهوراً من السامعين حتى ولو كانوا من أعضاء المجمع العلمي؟
فتجيبه رينه: لا جرأة لي على ذلك يا سيدي، ولكني أحتفظ بمقاطيع من الشعر كنت قد نظمتها في إحدى ساعات كآبتي، فأفضل أن تقرأها أنت من أن ألقيها أنا على مسامعك. ثم تخرج من جيبها بضع أوراق وتدفعها إليه
فيأخذها لامرتين ويقرأها لنفسه، وكانت هي في أثناء ذلك تمسح وجهها بمحزمها وتحول نظرها عن وجه لامرتين مخافة أن تقرأ فيه ما يدل على استهجانه
ثم يصف لامرتين تأثير تلك القراءة في نفسه فيقول له:
لقد أعجبت وتأثرت جداً بما قرأت، أنه التعبير الساذج اللطيف المؤثر بكل قوته ومعانيه، بل خلجات قلب هادئة تصل إلى المسامع بصورة شجية متناسقة، بل صورة ملامحها المتواضعة اللطيفة بكل خطوطها وعلاماتها؛ وبكلمة واحدة، أنه شعر حقيقي لامرأة تحاول التعبير عن عواطفها بالضرب على أوتار آلة تجهلها
لم تكن الأبيات التي طالعتها شديدة أو رنانة كشعر رابول، ولا حماسية وهاجة، أو ندية فضفاضة كالياسمين، بل كانت هي نفسها: نغمة مملة كئيبة تنشدها عاملة فقيرة لنفسها وهي تحرك أناملها أمام نافذة غرفتها لكي تخفف تعبها من عمل الإبرة
كان في الأبيات نغمات حادة تجرح القلب، وأخرى لا تحتوي إلا نبرات غامضة لا تلفظ كأن التنفس وقف في منتصف الاستنشاق، غير أن هذا كان قوياً وتاماً وتغلغلاً حتى القلب وحتى السماء؛ وكان التأثر فيها يفوق الإعجاب. وعلى الجملة أنها الشعر في حالة التكوين، الشعر الذهبي كما هو في كل مكان حيث يبتدئ في الشعب ولو خلا من صوت الفن، أن نغمة واحدة مملة كئيبة، وقصة تتألف من حادث أو حادثين، وسبع أو ثماني صور كافية(148/54)
للتعبير عن اللانهاية!
ثم يرجع لها الأوراق قائلاً: إن في منظوماتها أشياء خلابة وأن الله منحها موهبتين ساميتين: الشعور بدقة، والتعبير بظرف؛ وهما موهبتا المواهب، أو موهبة الدموع في الصوت، ولكنه أبعد من أن يشير عليها بنشر تلك المنظومات التي هي مثل المياه لا تستعذب إلا إذا نهلت من ينبوعها
فتجيبه رينه: ماذا تقول يا سيدي؟ إني لم أفكر قط في أمر كهذا، إن إقدامي على نشر الكتب يحمل حتى ملاكي الحارس على السخرية بي. لقد نظمت ما قرأته الآن يوم الأحد الأخير على سبيل التسلية فقط، ولا أحد يعلم به في إكس. ومتى كان الإنسان يعيش وحيداً مثلي يضطر إلى التكلم عالياً كي يستوثق من وجوده، فالمنظومات التي قرأتها هي مناجاتي لنفسي
(العصبة)
اسكندر كرباج
من العصبة الأندلسية(148/55)
نحن والزمن
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
الزمن كما يفهم الإنسان فكرة من أفكاره، ونسبة ومقياس من صنعه، فهو يقيسه بإحساسه بأمور نفسه بالمرئيات والمحسوسات وما يعتريها من تحول؛ وفكرة الزمن هذه أمر نسبي شأنها شأن الإحساس بالحرارة والبرودة، أو بالأبعاد والحجوم والألوان والأشكال، ومن المستطاع أن يتصور العقل مخلوقاً آخر غير الإنسان يختلف في حواسه، فتختلف كل هذه الأمور في نظره عنها في نظر الإنسان، وهي أيضاً قد تختلف في نظر الإنسان في حالاته المختلفة من شقاء أو سعادة أو مرض أو صحة. والعجيب أن الإنسان في خياله ينسب إلى الدهر مثل هرمه لقدمه، فيصوره كأنه شيخ مفن في يده منجل يحصد به الناس والخليقة جيلا بعد جيل، والدهر خليق أن يمثل بفتى في ريعان الشباب. فالإنسان يهرم والدول تشيخ وتفنى، والأجيال تنقرض، والدهر هو الدهر، ومن أجل ذلك تصور بعض المفكرين الدهر كأنه زمن حاضر لا ماضي فيه ولا مستقبل، وأما الماضي والمستقبل ففي الناس، والحقيقة أن هذه الفكرة في كنه الزمن لا تختلف عن الأولى مادام الزمن نسبة يقيسها الإنسان بإحساسه، وإذا كان الزمن كذلك فمعاداة الناس للزمن معاداة لأنفسهم، ونسبتهم الحيف والظلم إليه هي نسبة الظلم إلى أنفسهم
(الناظم)
القصيدة: -
يُنْشِدُ البَحْرُ خَرِيرَ الحِقَب ... أم خفوقُ القلب نبضُ الزمنِ
أم ترى الأفلاك في دوراتهاَ ... رَتَّلَتْ منه خَفِيَّ اللَّحَنِ
فَرَش الناسُ له منهم وُجُوهاً ... خَدَّدَ الدهر بها ما خَدَّدَا
أثَرٌ في سيره مِنْ قَدَم ... جَعَّدَتْ ما كان بَضَّا أمردا
زعم الناس إذا أمضاهمُ ال ... دهر أَنْ امضوا من الدهر سنينْ
يستطيع البذل من يقوى على ... خَزْنِهِ هيهات ذا من هالِكين(148/56)
كم ملوك ودهم لو تُشْتَرَي ... منه عند الموت بالذخر التليدْ
سَنَةٌ أو ساعة أو طرفة ... فإذا الدهر قضاء لا يحيدْ
إيه يا دهر لقد شاطرك ال ... حُكْمَ في الناس قضاء لا يحول
أَرْدَهِ يا دهر واعقد غيره ... إنما القِرْنُ على القِرْنِ يصول
كم شقيٍّ أبطأ الموت له ... ودهُ أن لو يكون الأسرعا
سَلَّمَ الدهر عليه مثقلاً ... ثم ما أبطأ حتى هرعا
وسعيد يجتني من عيشه ... زَهَرًا يرجو لو الدهر تَأَنَّى
فسواءٌ مُتْعَسٌ أو مُسْعَدٌ ... أين مَنْ يحمد خَطْوَ الدهر أَيْنا
نحن نبغي من زمان فسحة ... هل ربحنا من زمان قد قضى
لو يعود الدهر مردود الخُطَى ... لفعلنا فعلنا فيما مَضَى
وصفوا الدهر بشيخ حاصد ... أشيب في يده كالمنجل
وهموا في شيب دهر يافع ... ذي فَتَاءِ خالدٍ لم يَنْصُل
يسرق الدهر بهاءً رائعاً ... ويعير النُّؤْىَ حُسْناً أروعا
فهو كالرسام يمحو صورة ... ثم يستنبط رسماً أبدعا
وتَرَى الدَّهْرَ مُغِراً آسيا ... يده تأسو وأخرى تجرح
والذي في القوم بالرزء يصول ... يمنح السلوان فيما يمنح
ولعل المُضْمَرَ المخبوء من ... مصرع الدهر يُرَى بالأعين
مصرع الدهر ممات للدُّنى ... كيف يبغيه الورى بالإحَنِ
موته موت لمن قد قاسه ... باتصال الفكر أو خفق القلوب
عجباً نحن خلقناه فما ... نسبة الظلم إليه والعيوب
عبد الرحمن شكري
(الرسالة) ربما كان للعروضيين في بعض أبيات القصيدة رأي
لا يتفق مع حرية الناظم(148/57)
مَواجِعُ شَاعر
(مهداة إلى رفيقي الأستاذ أنور العطار)
للأستاذ زكي المحاسني
إن أشعارك المآتم فيها=كل بيت بصيب الدمع يشرق
إن حياة صفت فأنتَ مُوَفَّقْ ... تترك الحزن والبكاء وَتَعْشَق
والشكاة التي تدوم ملالٌ ... رُبَّ قَلْبٍ لا يَشْتَكي يَتَمَزَّقْ
هل حلفتَ اليمين أنك في النَّوْ ... حِ ستغدو مثل الحمام المُطَوَّقَ
إِنَّ أشعارك المآتمُ فيها ... كل بيتٍ بِصَيِّبِ الدَّمْعِ يَشْرَق
أنا أدري بسرِّ نفسك في الهَ ... مِّ وعندي لك الدوَاءٌ المُفَوَّقْ
أُقْتُلِ الهَمَّ بالسلوِّ لتحيا ... خالص النفس كالذي اليوم يُخلَق
واهدم البيت واتَّرِكْهُ يباباً ... في يَدِ الرِّيحِ عنده البوم يَنْعق
وَابْنِ في نَفْسِكَ الجديدة بَيْتاً ... بالأمانيِّ والسرور تَزَوَّقْ
كيف تَحْنُو على الذي ليس يَحْنو ... وَيَناَمُ الدُّجى وأنت مُؤرَّقْ
الهَوَى بالبَدِيلِ. وهو شقاءٌ ... إِنْ عَلِقْناَ الذي بنا ما تَعَلَّقْ
يا حبيبي يا من فديتك أَبْصِرْ ... ني مَلِيًّا وفي فؤادي تَعَمَّقْ
رُبما قد شَمَمْتُ زهرك في عُنْ ... فٍ ويا ليتني بهِ أتَرَفَّقْ
أنتَ نَغَّصْتَ بالفتون حياتي ... فإذا لاَحَ لِي جَماَلُكَ أشْهَقْ
كم تَأَمَّلْتُ في بَهاَئِكَ ... حتى ضِعْتَ عني وكادتِ العينُ تَزْهَق
يا رفيقي الذي ألومك إنيِّ ... في شجوني بلوم نفسيَ أَخْلَق
فيمَ لا أستطيعُ أَكْتبُ شعراً ... عن دماءٍ في مطلب الحقِّ تُهْرَق
أنا طَيْرٌ خلقتُ في القَفَصِ الحُلْ ... وِ وموتي يجيئني حين أُطْلَق
لِي عذابٌ متى تفكرت فيه ... صار دمعي في مقلتي يَتَرَقْرَقْ
إنْ أتاحَ الزمانُ تَغْييرَ حالي ... سِرْتُ مِنْ هِمّةِ الزمان بفَيْلَقْ
وتعاليتُ في عظيم المعالي ... مثل نسرٍ في قُبَّةِ الجوِّ حَلق(148/58)
دُونَكَ الوَجْد فابكِ ما اسطعتَ شعراً ... فَصِفاتُ الأزهارِ أن تَتَفَتقْ
يُشْبهُ الشَّاعِرُ البَخُورَ فلا يّنْ ... شُرُ طِيباً حتى على النارٍ يُحْرَقْ(148/59)
إلى النسيم. . .
بقلم العوضي الوكيل
هُبّ وافتح مغالق النفس فتحا ... واسر في مهجتي مساء وصبحا. .
وتهامس إليّ؛ ياما أحيلى ... لغةً منك في المسامع فصحى!
وتحمل من البحار قطاراً ... وتحملْ من الأزاهرِ نَفْحا
واشمل الكون يا نسيمُ وجئْ قل ... بي، فحدُّ المَطافِ قلبٌ بَصيرُ
مُقلتايَ اللتان لا تريان ال ... كَوْنَ إلاّ كما يَرَاهُ كثيرُ
لا تمُدّان خاطري بمعانٍ ... لذَّ فيها الأسى، ورَقَ السرورُ
ليس بالكونِ ما تراه عيوني ... إنما الكونُ ما يراه الشُعورُ!
مُرّ بي عابساً، ومُرّ ضَحُوكاً ... وأتِني بائساً، وجئني سعيدَا
رُب شاكٍ نقلت شكواه عندي ... فتهادَتْ بين الضلوع نشيدا. .
وأخي صبوةٍ يبثّ حنيناً ... بتّ أشدو بما يحنّ قصِيدا!
إن قلبي كمرصد ترسمَ الأن ... سامُ فيه على الشغافِ الوُجودا
أيهذا النسيم، وانقل سلاماً ... من حبيبٍ إلى حبيبٍ ناءِ. .
إن أسَرّا إليك يوماً بأمْرٍ ... فإلى الكتم. . لا إلى إلافْشاءِ. .
ونِعِمّا النسيم في الصيف يهفو ... لفؤادي الحزين كلّ مَساءِ. .
العوضي الوكيل(148/60)
غيرة
بقلم السيد الياس قنصل
أيّ معنى فيك من سرّ الهوى ... بث في نفسيَ أطياف الألم
فغدا حبيبي منها ظمئاً ... لافحا ليسَ يروّيه قَسَمْ؟
إنني أعرفُ ما تورثه ... فيكِ نجوايَ من الدل الثمينْ
فإذا كان حديث الحبِّ من ... فم غيري، فبماذا تشعرينْ؟
كلما افترَّ محيّاك انجلى ... كلُّ ما في الحسن من شكل وفنِّ
أفتبقى هذه الفتنة في ... هذه البسمةِ إن أبعدتِ عني؟
ويظلّ السحرُ في عينيك إن ... كان غيري في مرامي نظراتك
وإذا حدّثتِ، مثلي يجتني ... متعاً رائعة من كلماتك؟
إنّ للغيرةِ في صدري يداً ... جعلته مذبحاً للشُعلِ
خبريني كيف أدري أن بدا ... لكِ فكر أو خيال ليس لي. .
(عاصمة الأرجنتين)
الياس قنصل(148/61)
القصص
قصة عراقية واقعية
الشفاء. .
بقلم سعيد عبد الإله الشهابي
جلست على أريكة في سهوم أخاذ تطالع عيناها كتاباً بقي مفتوحاً على مائدة صغيرة أمامها زهاء الساعة دون أن تتلو حرفاً أو تقلب صفحة. كانت عيناها السوداوان الساجيتان العميقتا المعنى تنظران وتطيلان النظر في لاشيء كمن يريد أن يستشف ما وراء حجب المادة. وتناولت سيكارة صغيرة مذهبة من علبة جميلة من العاج حمراء، وتنهدت عميقاً كمن انزاح عن صدره ثقل، وراحت تنفث الدخان ذاهلة، وربما ظنت أن الغرفة لا تضم سواها
تلك كانت حالها منذ حلت هذا البيت. . بيت كبرى إختيها، وكانت هذه متزوجة برجل من ذوي القربى الأبعدين، وهو من موظفي الدرجات المتوسطة في الحكومة
تقدمت منها خادم تحمل في صينية قدحاً من البلور الصافي صغيراً فيه شاي كانت تفضل الشرب منه، ووضعته أمامها على المائدة الصغيرة وانسحبت بهدوء
بقيت زهاء ربع ساعة ساهمة كالحالمة ثابت بعده إلى نفسها والتفت إلى جليساتها، وهن من صديقات أختها الحميمات وبعض قريباتها، وكن يتحدثن بصوت خفيض حرصاً على تركها في تفكيرها إذ كانت إلى نفوسهن أقرب وإلى قلوبهن أحب. . فلقد وجدن فيها شابة مكلومة الفؤاد خائبة الأمل. . والمرأة بطبيعتها تعطف على المرأة
أحبت فتى من ذوي قرباها لم تعرف سواه. يوم لم تكن سنها تتجاوز السادسة عشرة. بادلها الحب فأخلصت له وأحبته بأقصى ما تستطيع المرأة أن تحب. . حتى إذا أوشكا على الزواج عافها وولاها ظهره. . واختص نفسه بواحدة سواها. . كانت صديقة لها. ربما كان له بعض الحق فيما فعل لو لم يبادلها الحب في أول الأمر، لكنه انغمر وإياها في لج بحره الطامي جنباً إلى جنب، حتى إذا بعدا عن شاطئه فأضناهما التعب وأضحت مكدودة تخشى الغرق في قاعه عاد وتركها لينجو بنفسه. . وقد مرت على ذلك سنتان؛ فيا للقسوة ويا(148/62)
للظلم!
لم تعد تستطيع العيش حيث نكبت في قلبها، فما لبثت أن حزمت متاعها وزمت حقائبها واستقلت القطار السريع من البصرة مسقط رأسها. . إلى بغداد حيث أختها. فلقيت حنواً وعطفاً لا مزيد عليهما
شربت قدح الشاي بأسلوب خاص ورشاقة فذة. . ثم شرعت في محادثة جليساتها بصوت موسيقي رخيم تخللته ضحكات صافية الرنين لكنها قصيرة يختفي تحتها ألم مكبوت وهم دفين
وجذبت نفساً طويلاً من سيكارتها، وألقت على متكأ الأريكة برأسها الجميل فبدت تقاطيع وجهها الرائع الفتان وجيدها الأتلع، وتناثرت خصل شعرها الكستنائي السبط فبان جبينها الأسمر العاجي الوسيع. . ونفثت الدخان ناظرة إلى السقف، كان صدرها يعلو ويهبط باتزان، وكانت عيناها الجميلتان تشعان شعاعاً ينم عن ذكاء متقد وحس دقيق وعاطفة فياضة متوثبة وروح حزين وثقة بالنفس نادرة عند النساء. لم يكن شأن من شؤون الحياة، غير ذكرى حبها، ليشغل بالها. فليس سبب قلة كلامها وطول تفكيرها وإيجازها أن تحدثت إلا تلك الذكرى، فموارد عيشها كانت وفيرة برغم كثرة مصاريفها، فهي في حرز ومأمن من هذه الوجهة. فلقد كان ما تدره عليها أملاكها الموروثة عن الجدود ما يفيض عليها النعمة
ودار بخاطرها طائف من الشك: لماذا هجرها حبيبها؟ أهي غير جميلة؟ وبدا لها أن تخرج من الغرفة، فاستأذنت عجلى ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح وأقبلت على المرآة الكبيرة في خزانة الملابس وراحت تحدق فيها. فاطمأنت وزال شكها وأخذها شبه غرور. لكنها سرعان ما أحست بألم يرمض فؤادها وبنار تحرق وجهها ورأسها، وتخاذلت تخاذل المرأة المطعونة في كرامتها، وألقت نفسها على السرير قبالة المرآة، وراحت تناجي نفسها: إيه أيتها الطبيعة! هل أوجدت هذا الجمال الفتان ليقاسي هذا العذاب؟ فهل مثل هذا الشباب الغض يستحق هذا العقاب؟ وهل مثل هذه الروح الفتية تستحق خيبة الأمل، وتابعت محادثة نفسها، وهي تنظر إلى صورة لأفروديت كان الحبيب الغادر أهداها لها، وأنت يا آلهة الحب. ربطت بروابطك قلبي بقلبه فأخلصت وخان. . ولبيت نداءك وصم هو أذنيه.(148/63)
فما بالك أيتها القاسية تعاقبين المخلص وتتركين الخائن. أفما كنت ترحمين المخلصة بأن تحليها من العقود التي ربطتها بها. أنظري إلى هذا القد الأهيف المياس ما أشد نحوله. أنظري إلى هذه الصفرة التي ليست من ظاهرات الشباب الحي. . أفيكفي أن يكون الوجه ساحراً والعينان فتاكتين لتكون دليل الحيوية والنشاط. إن هذا السحر العظيم في تقاطيع هذا الوجه، وهذا المعنى البليغ العميق في هاتين العينين، ليسا إلا ظواهر الحب الدفين، فجرديها منه تجدي شبحاً من الأشباح
دق باب غرفتها فأذنت ودخلت (فيروز) وهي مربيتها وخادمتها الخاصة. . . تدعوها فعادت معها إلى حيث كانت أختها والرفيقات. . لقد خشين عليها الوحدة فدعونها. . لكن نفسها كانت تزخر بشتى العوامل. . الحب، البغض، الغيرة. . ولكن كرامتها أخذت تتيقظ فتعمل على إخماد هذه العوامل. . ودعت (فيروز) وطلبت منها أن تغني الأغنية التي تحبها. فاتخذت هذه وضع من يريد الغناء وشرعت في الأغنية الشعبية العراقية المعروفة:
جَلْبكْ صَخَرْ جلمود ... ما حَنْ عَلَيَّهْ
وأنت بِطْرب وبكيف ... والْبِيَّهْ بِيَّهْ
وما أتت فيروز على الأغنية حتى شرعت تبكي. . وشاركتها الجليسات. وفيما هن في ذلك دق الباب الخارجي. . فهرعت إليه فيروز وعادت تحمل رسالة حمراء اللون عرفت من لونها أنها رسالة برقية وكانت باسمها. كانت البصرة مصدرها. . من البصرة. . . يا لله. . فضتها بيد مرتجفة وقرأت:
(ماتت زوجتي بالتيفوئيد منذ أسبوع. أسفت كثيراً على ما فعلت. . إني قادم إليكم بعد يومين. .).
تغيرت سحنتها تماماً بعد تلاوة (البرقية) وتألقت عيناها بعزم ثابت ونظرت باحتقار إلى البرقية التي كانت لا تزال مفتوحة ومزقتها قطعاً صغيرة وألقتها في الموقد الذي كان بالقرب منها. وقالت تتمتم:
ماتت زوجته!. إنه قادم بعد يومين!. ما أسخفه وما أقل عقله! ماذا حسبني؟ هل يظن أني سأبقى محبة له بعد الآن؟. . إن هذه البرقية خاتمة آلامي. . فلأسعد ولتعد إلي الحياة. . ألا تباً له من رجل جبان. . يريد أن يسلو بي زوجته. فيا للذلة! ويا لسخرية القدر! ليذهب(148/64)
وليلحق بها. . فما عدت أراه إلا خنزيراً في عيني
واشتدت ثورة نفسها وعظم سخطها فجاءت برزمة من الخطابات وبعض الصور مربوطة بأنشوطة حريرية حمراء وألقتها كما هي في نار الموقد. وناولت البرقية لأختها ورفيقاتها مجيبة بها على نظراتهن المتسائلة
(بغداد - ضاحية الأعظمية)
سعيد عبد الإله الشهابي(148/65)
اعتذار!
للأديب حسين شوقي
عزيزتي:
أبادر بتقديم اعتذاري الحار من مشهد الغيرة السخيف الذي مثّلته أمامك أمس!. . ومازلت أشعر بخجل شديد كلما فكرت فيه. . في الواقع لم يكن الذنب ذنبي، بل هو ذنب قلبي الضعيف؛ ولقد عاقبته على فعلته إذ عنفته تعنيفاً شديداً، ولكن هذا القلب قد يستحق أيضاً عطفك وحنانك، إذ هو آلة ليس غير في يد تلك القوة الجبارة القاهرة، قوة الحب! مسكين قلبي! إنه مطارد دائماً بنار حامية تدفعه إلى خلق مثل هذه الريب والظنون، ولكنها في الوقت نفسه نار طاهرة مثل نار المجوس، لأنها نار الحب المقدس! كم كنت غبياً في غيرتي تلك! فما الضرر في أنك تحدثت إلى س.! ألا تتحدثين إلى مئات من أمثاله كل يوم أثناء عملك؟ كذلك كان يجب عليّ أن أراجع نفسي فأقول إنه لا يهمك لأنك تبغضين مثل هذا النوع من الرجال المغرورين بجمالهم. فكم كانت ثقيلة متكلفة تلك الابتسامة التي علت شفتيه أثناء تحدثه إليك!
عزيزتي إذا كان قد أزعجك قليلاً ما بدر مني بالأمس، فإن ما حدث لي أنا فيه العقاب الكافي على فعلتي، إذ رأيت الهول ليلة أمس في حلم فظيع. .
شاهدتك في غابة عظيمة، لعلها من غابات الهند، لضخامة أشجارها وكثافة أدغالها. كنت تتنزهين فيها مع شاب لم أتبيّن شخصيته، لأنه لم يلتفت وراءه قط أثناء السير؛ أما أنت! فقد عرفتك من فوري يا عزيزتي، من شعرك الذهبي الرائع، من مشيتك الأنيقة التي تفردت بها دون نساء العالم أجمع!. . ولكن الغابة كانت أثناء هذا تحترق، والدخان الكثيف يتصاعد من كل مكان. . بادرتُ إلى مناداتك لتخرجي من الغابة، ولكنك التفت إلي دون أن تجيبني، كأنك لا تأبهين بالخطر المحدق، بل تؤثرين التنزّه مع ذلك الشاب وتفضلينه على كل شيء!. .
أردتُ أن أعدو نحوك لإنقاذك بالقوة، ولكن ساقيّ الملعونتين أبتا عليّ ذلك كأنهما تحجّرتا. . .
أما النار فقد أخذت تزداد عنفاً حتى اضطرت الوحوش إلى الهرب من الغابة، والمدهش في(148/66)
هذا الحريق أن ألسنة النار المنبعثة من الأدغال اتخذت أشكالاً مروعة، بعضها كان على صورة الثعبان والبعض اتخذ شكل التنين. . على رغم هذا كله، كنت تتابعين نزهتك في اطمئنان مع ذلك الشاب الذي تأبط ذراعك اليسرى في حرارة واشتياق. . . أخذت أناديك مراراً ولكن بلا جدوى! إذ كنتِ تلتفتين إليّ ثم تستأنفين حديثك الشائق مع صديقك! ولكن هذا الحال المؤلمة لم تدم طويلاً ولله الحمد! إذ سقطت إحدى لوحات سريري الخشبية من تحتي فأيقظتني من النوم، وخلصتني من هذا الكابوس!
هنا. . أشعلت سيجارة وخرجت إلى النافذة لأستنشق الهواء لأني كنت متعباً من هذا الحلم كأن ما حدث لي وقع فعلاً. . . وكنت في الوقت نفسه شديد الرغبة في استئناف النوم للعودة إلى هذا الحلم برغم بشاعته لمعرفة شخصية ذلك الشاب السخيف المستهتر الذي كان يدعوك إلى النزهة في وسط النار!
عزيزتي! هذا هو حلمي المروع، ألا ترين أنني عوقبت به عقاباً كافياً؟ ألا تصفحين الآن؟
الرد
عزيزي:
وصلتني رسالتك، ولقد توّلتني الدهشة لكل هذه الضجة التي أثرتها لتتبين شخصية رفيقي في نزهة الغابة. لقد كان في إمكانك الاتصال بي وقتها بالتليفون لأخبرك باسمه، فأوفر عليك مجهودك. . أتريد أن تعرف من هو؟ أعلم أن هذا الشاب هو (س) بعينه الذي تمت خطوبتي إليه ليلة أمس على أثر المشادة التي وقعت بيننا، لأني آسفة أيها العزيز على أني لا أستطيع التزوج من مجنون مثلك!
(كرمة ابن هانئ)
حسين شوقي(148/67)
البريد الأدبي
المعجم الوسيط
أصدر صاحب السعادة وزير المعارف العمومية قراراً بتعيين الأستاذ أحمد أمين عضواً في لجنة تأليف المعجم الوسيط وقد قرأت في العدد الماضي ممن تتألف؛ ولكن الأستاذ رفع إلى معالي الوزير استقالة منها، والسبب المباشر لهذه الاستقالة أنه جعل ساعات فراغه من عمله الرسمي على ما بقي من سلسلة كتابيه (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) وهو يخشى إذا أرهق نفسه بالعمل أن يعيا عن إخراجه، ولكن معالي الوزير مازال بالأستاذ يحاوره ويداوره حتى أقنعه بسحب الاستقالة
بشرى لعشاق الأدب - ديوان بشار موجود
أحس بشار بحسن اختراعه، وجميل ابتداعه وغزارة بحره، ففتن ببنات فكره، وأعجب بثمرات لبه وذهب يخايل ويفاخر حتى قال: إن لي اثني عشر ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت فرد
ولو فرضنا أن الاثني عشر ألف قصيدة هي كل ما لبشار من شعر، وفرضنا أن كل قصيدة عدتها سبعة أبيات فقط - وهو حد القصيدة الأدنى عند العروضيين - وحسبنا ذلك لكان مجموع شعره أربعة وثمانين ألف بيت! وهذا مقدار لم يك لشاعر في القديم ولا في الحديث. ولكن أين هذه الثروة الضخمة؟ لقد ذهب بها الزمان فيما ذهب به من روائع الآثار وجميل الأشعار، ولم يبق منها إلا نتف مبعثرة في الكتب جهد الأدباء في جمعها وزفها إلى جمهور القراء المتعطشين لشعر بشار. وأول مجموعة ظهرت هي مجموعة الأستاذ (أحمد حسنين القرني) التي سماها (بشار ابن برد - شعره وأخباره، طبعت عام 1925م، وقفاه الأستاذ (حسين منصور) بكتابه: (بشار بين الجد والمجون) الذي طبعه عام 1930، وفي العام الماضي 1935 طبعت لجنة التأليف والترجمة والنشر مجموعة هامة من شعره باسم (المختار من شعر بشار اختارها من مختار الخالديين شارحها الأستاذ (إسماعيل القيرواني) أحد علماء القرن الخامس، وكان القائم بنشر هذا الكتاب الأستاذ (بدر الدين العلوي) المدرس في كلية عليكرة بالهند، وقد أثار طبع هذا الكتاب الصغير كوامن الأشواق إلى شعر بشار، وتساءل الناس بحسرة ولهفة عن ديوانه وكثرت حوله الأقاويل(148/68)
وأجمع الناس أو كادوا على أنه انسلك في سلك الفناء
وقد أخبرني فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين عضو مجمع اللغة الملكي أن جزءاً كبيراً من ديوان بشار موجود في تونس عند صديقه الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي، وأطلعني على الخطاب الذي ورد إليه حديثاً من صديقه يخبره فيه بوجود الديوان عنده، وأنه ورثه عن جده المرحوم الشيخ محمد عبد العزيز أبو عتّور. وهو يشتمل على سبعة آلاف وثلثمائة بيت مرتبة على حروف المعجم مكتوبة بخط مصري جميل. وذكر الأستاذ ابن عاشور أنه عني بشرح غريب ألفاظه، وتبيان دقائق معانيه، وذيله بمجموعة من شعر بشار لم ترد فيه وعددها ثمانمائة بيت معزوة إلى مواضعها من كتب العلم والأدب وأنبأ أنه عازم على طبعه في مصر طبعة أنيقة تليق بما لبشار من المكانة السامية في الأدب العربي. وقد استخبر الأستاذ من صديقه عن شؤون تتعلق بالطبع فأخبره مستنجزا. . .
ويا حبذا لو عنيت لجنة التأليف وعلى رأسها الأستاذ أحمد أمين بأمر هذا الديوان، وتولت هي طبعه بمعونة الأستاذ أو وحدها. إنها لو فعلت لأسدت إلى الأدب العربي خدمة جليلة تكون قلادة فخار لها
ولا ريب في أن نشر هذا الجزء الكبير سيلقي كثيراً من الضوء على تاريخ بشار وشعره وشاعريته. ولا ريب في أنه سيغير من أحكام التاريخ عنه، ويقلب تلك الآراء الظنية الشائعة رأساً على عقب. وسيكون ظهوره - وأرجو أن يكون قريباً - فتحاً جديداً في تاريخ الأدب العربي
السيد أحمد صقر
(عودة الروح) في اللغة الروسية
من الأنباء التي تقع من مصر الأدبية موقع الرضا والغبطة أن الكاتب الروسي النابه (ميشيل سالير) نقل إلى الروسية قصة (عودة الروح) للقصصي المصري النابغ توفيق الحكيم، ثم نشرها في ليننجراد عاصمة روسيا، وجعل ثمن النسخة منها خمسة روبلات وخمسين كوبك، وذلك يساوي ستين قرشاً مصرياً(148/69)
ولاشك أن اختيار الكاتب لهذه القصة من غير تعرف لمؤلفها ولا استئذان منه، إنما يدل على تقديره المفن فيها لذاته، وقياسه إياها بمقياس عالمي يرفعها إلى مستوى الأعمال الأدبية العظيمة. وستكون عودة الروح وأمثالها الوحدات الأولى التي يساهم بها الأدب العربي في الجهاد العالمي المشترك لنشر الوئام والسلام والخير من طريق الثقافة القصصية
تطور نظم التربية الألمانية
تتطور نظم الحياة والحضارة كما تتطور أساليب التفكير والتعليم والتربية في ألمانيا في ظل النظام الهتلري بسرعة مدهشة؛ والمحور الأساسي الذي يقوم عليه هذا التطور في جميع مناحي الحياة الألمانية هو صبغ هذه الحياة بالصبغة الجرمانية المحضة وتحريرها من جميع المؤثرات الأجنبية؛ ويجري في ميدان التعليم والتربية تطور حاسم أيضاً يقوم على تكوين الجسم الألماني تكويناً صحيحاً وتنمية القوى الجسمية إلى جانب القوى العقلية. والإنجيل الذي تطبق تعاليمه اليوم على الشعب الألماني هو كتاب هتلر المعروف (كفاحي)؛ ففي هذا الكتاب يتحدث هتلر عن التربية ويحمل بشدة على تفضيل تنمية الذكاء في الفرد، ويقول إن النظام القديم يرمي إلى خلق عقول وأفراد فقط؛ ولكنا نريد أن نخلق قبل كل شيء أجساماً قوية وإرادات ثابتة. ويكفي أن نخصص في الأسبوع ساعتين فقط للرياضة البدنية. ومذ تولى هتلر الحكم وهو يعمل لإنشاء هذا النظام الرياضي؛ ففي سنة 1933 صدر قانون (تحسين النشء)، ومبناه اتخاذ جميع الإجراءات التي يحسن اتخاذها لتقويم صحة الشباب وعقله وتفكيره؛ ثم صدر بعد ذلك قانون (السنة الخلوية) وهو يحتم على التلاميذ تمضية عام في الريف والحقول عقب إنهاء الدراسة الابتدائية؛ وهنالك أيضاً نظام (الخدمة العامة) الذي يحتم على كل رجل أعزب وامرأة عزباء الإقامة ستة أشهر مع أبناء أو بنات الشعب في معسكر ريفي في العراء؛ ثم تنتقل مدارس المعلمين في القرى أو المدن الصغيرة؛ وكذلك انتقال أساتذة المدارس الابتدائية بين حين وآخر إلى الريف للاشتغال ببعض الأعمال القروية. والقصد من ذلك كله هو أن يمد الشباب والنشء بروح العزم، وضبط النفس، واحتمال المشاق. وللفتاة الألمانية أيضاً نصيبها الوافر من التعليم الرياضي الذي يهيئ لها الجسم الصحيح ويعدها أماً صالحة للشعب الألماني
وكذلك يتجه النظام الجديد إلى تجنب الثقافة الجنسية التي يعدها عاملاً في إفساد الفتى(148/70)
والفتاة؛ فليس بين برامج التعليم الحاضر شيء من مسائل الثقافة الجنسية التي كانت تلقى بكثرة في ظل النظام القديم؛ وعلى الآباء والأمهات أن يلقنوا أبناءهم وبناتهم ما يحسن تلقينه من المسائل الجنسية المحتشمة، كذلك يرغب النظام الجديد عن نظام اختلاط الفتى والفتاة في ميدان التعليم ويعتبره تقليداً ضارا بمستقبل النشء
ولم تبق الجامعة في نظر النظام الجديد مكانا تحشد فيه المعلومات في الرءوس، ولا موطناً يعد الشباب للكسب الفردي؛ فالفرد إنما يجب أن يعمل للمجموع، وأن يستخدم في ذلك السبيل أي موهبة أو كفاية؛ ولا يريد النظام الجديد بعد شباباً ذابلاً تملأ رأسه المعلومات المختلفة، فذلك الضرب من الشباب يجب أن يختفي
وقد أدخلت تعديلات كثيرة على نظم القبول في المدارس والجامعات، وأضحى العامل العقلي والتعليمي أقل شأناً مما كان من قبل، وأضحى العامل الجسمي والخلقي في مقدمة العوامل التي تؤهل الطالب للقبول
وقد اتخذ تعليم التاريخ وسيلة لتكوين العقلية الألمانية الجديدة؛ فلم يعد يلقن الشباب تلك التفاصيل التاريخية المسهبة، وإنما يلقن التاريخ موجزاً من الناحية العامة، وتخص الناحية الجرمانية بكل عناية؛ وتتخذ نظرية السلالة الألمانية أهمية خاصة: سلالة الجنس الشمالي وتطورها ونقاؤها والأخطار التي تتعرض لها. هذا أهم ما يلقن الشباب الألماني، وهذا ما يشير إليه هتلر في كتابه بقوله إن غاية التربية الأخيرة هو أنه يجب أن يغرس في عقل النشء أن الجنس الجرماني هو أرفع أجناس الخليقة
وهكذا تفيض جميع نظريات التربية الألمانية القديمة التي عمل العلماء الألمان لاستخدامها على ضوء التجارب والأصول العلمية المقررة، وتحل مكانها نظريات جديدة جل غايتها أن تقوي الفكرة العسكرية في الشباب الألماني تحت ستار التربية الرياضية وأن تخلق من الشعب الألماني قبل كل شيء شعباً عسكرياً يعتز بقواه وكفاياته المادية
ميشيل آنجلو
ميشيل آنجلو بطل من أعظم أبطال الفن، وعلم من أعظم أعلام عصر الأحياء؛ وقد كتب عنه مدى العصور عشرات من أكابر الكتاب في كل أمة وكل عصر؛ ولكن العبقرية الساطعة تبقى أبداً مثاراً للبحث والتقدير. وقد صدر أخيراً كتاب جديد بالإنكليزية عن(148/71)
ميشيل آنجلو عنوانه (ميشيل آنجلو الراحل) بقلم الدكتور دونالد فنليسون وهو علامة أمريكي يحاول أن يبحث هذا العبقري من نواح جديدة وعلى ضوء جديد؛ وهو يمهد لبحثه بتصوير إيطاليا في عصر الأحياء، ذلك العصر الذي كانت تموج فيه العبقريات من كل ضرب، ولاسيما في التفكير والفنون. ذلك أن ميشيل آنجلو قد عاش في نفس العصر الذي عاش فيه أعلام مثل ليوناردو دافنشي، وبوتشللي، وسافونارولا، وميكافيللي، ورافائيل سانزيو، ولي تسيان، وبنفونو توتشلليني، وجورجو فساري وغيرهم، وكان عصراً ذهبياً من أروع ما عرف التاريخ
ولقد كانت إيطاليا تضطرم يومئذ بثلاث قوى سياسية متجاذبة. قوة آل مديتشي في فلورنس، وهم يحاولون حكم المدينة الجمهورية بنظام طغيان مستنير، وقوة البابوات، وهم يحاولون تقوية نفوذهم المدني والديني، ودفع أطماع ملوك فرنسا؛ وقوة الدولة الرومانية المقدسة، وكانت قوة البابوات أبرز هذه القوى؛ وكان البابوات يومئذ مزيجاً مدهشاً، فمن اسكندر السادس الحبر الفاجر، ولكن الطاغية القوي، إلى جوليوس الثاني البطل المحارب، إلى بولس الثالث نصير الفنون والآداب. وفي هذا الأفق المضطرم بمختلف القوى والاتجاهات ولد ميشيل آنجلو في كابريزا سنة 1475 وتوفي في رومه في التاسعة والثمانين من عمره، ولكنه عاش طوال حياته نقياً منزهاً عن مثالب عصره، بعيداً عن ضروب الملق والزلفى التي ألفها البابوات وأمراء العصر، بعيداً عن صنوف الفساد والخلاعة التي كانت خاصة المجتمع في هذا العصر؛ ولم يكن للمرأة أثر في حياته إلا حينما بلغ الكهولة، وعندئذ عرف الحب الرفيع وتعلق بأجمل وأنجب سيدة في هذا العصر، وهي فتوريا كولونا مركيزة بسكارا، ونظم لها مقطوعات من الشعر البديع، وكتب لها رسائل ممتعة؛ وفيما عدا هذه العاطفة الرقيقة كان ميشيل آنجلو مثل الرجل الأعلى، بارا بأهله، مترفعاً عن الدنايا، معتدلاً في أهوائه ورغباته
وكانت عبقرية ميشيل آنجلو تتفتح في نواح عدة، فقد كان مثالاً من أروع ما عرف التاريخ، وكان مصوراً، وكان مهندساً، وكان شاعراً؛ وفي هذه الميادين كلها يترك لنا ميشيل آنجلو آثاراً خالدة؛ وقد قام بعد أن أربى على الثمانين بأعظم أعماله الهندسية، فوضع تصميم قبة كنيسة القديس بطرس أعظم آثار النصرانية وأشرف على صنعها(148/72)
بنفسه، وأنفق أعواماً في نقش جدران المصلى السكستوني، وهو أروع ما في الفاتيكان من آيات الفن، وتوفي بعد أن ترك للفن ما لم يتركه بشر، سواء في الروعة والمقدار
ولميشيل آنجلو ناحية لم يلق عليها كبير ضوء هي ناحيته الشعرية، ذلك أنه كان شاعراً رقيقاً، ينظم مقطوعات بديعة تحمل كلها طابع العظمة؛ ولكن ينقصها التنوع وبروز الغاية
وقد أنفق الدكتور فنليسون أعواما طويلة في البحث والدرس واستطاع أن يجد لمؤلفه مادة بديعة، وأن يضع أمام القارئ صورة واضحة من شخصية ميشيل آنجلو في جميع نواحيها؛ وقد زين الكتاب بطائفة من الصور البديعة
وفاة مؤلف موسيقي شهير
توفي أخيراً في باريس المؤلف الموسيقي الروسي الذائع الصيت اسكندر جلازونوف؛ وكان مولده في بطرسبرج سنة 1865؛ وفي سن الثامنة عشرة وضع أول قطعة موسيقية من تأليفه فأحرزت نجاحاً عظيماً وذاعت على أثرها شهرته. ثم رحل إلى ألمانيا حيث التقى هناك بالموسيقى النمسوي الأشهر لزت وتلقى عليه وتخصص بإرشاده في التأليف الموسيقي. وفي سنة 1889 ظهرت مقطوعته الشهيرة (ستنكا رازين)، ووضع من بعدها تباعاً طائفة كبيرة من المقطوعات والأناشيد والأغاني والقطع الراقصة، وأحرز بتآليفه العديدة مكانة عظيمة في دوائر الموسيقى الرفيعة. ومن بين قطعه الراقصة الشهيرة (ريموند) (الفصول) (حيلة غرامية). ولما نشبت الثورة البلشفية آثر الهجرة إلى فرنسا، وعاش في باريس أعواماً طويلة، وتوفي هنالك في دار الغربة بين جماعة المهاجرين البيض في سن الحادية والسبعين(148/73)
العالم المسرحي والسينمائي
على مسرح الأوبرا
السيد
تأليف كورني وتعريب مطران
ملاحظات لفنانين ارلنديين على الإخراج والتمثيل
لناقد (الرسالة) الفني
هي مأساة رائعة خلدت على الدهر، ألفها زعيم المسرح الفرنسي وخالقة المأساة الحديثة الشاعر كورنيي، وقد كان لظهورها ضجة كبيرة، ذلك أنها وإن خالفت قاعدة الوحدات الثلاث فقد نجحت نجاحا باهراً وظفرت من النظارة بإعجاب عجيب
وقد كان لنجاح هذه المأساة أثر سيئ في نفس الوزير الفرنسي الخطير الكاردينال ريشليو. وكان هذا الوزير من هواة التأليف المسرحي، وقد مثلت له قصتان فلم تنجح منهما واحدة، في حين أن (السيد) كانت تلقى النجاح بعد النجاح والفوز تلو الفوز. ولقد كظم الوزير غيظه - رغم أن القصة كانت تشيد بالمبارزة التي حرمها هو - ولكنه حرك رجاله في الخفاء ينقدون القصة نقداً عنيفاً، وكان يريد بذلك أن يحط من قدر كورنيي، فقامت من أجل ذلك خصومة أدبية شديدة انتهى أمرها إلى تحكيم المجمع الفرنسي في القصة. ولم يصدر الحكم في جانب المؤلف لأن الوزير تدخل بنفوذه، ولكن القصة رغم ذلك خلدت، وهاهي ذي تنقل إلى العربية للمرة الثانية بقلم شاعر القطرين الأستاذ خليل مطران في ترجمة عربية بديعة ارتفع أسلوبها إلى الأصل الشعري الذي كتبت به، وهاهي ذي الفرقة القومية تختارها بين ما اختارت من روائع الأدب الغربي لتقدمها إلى الشعب المصري
ملخص القصة
ليست القصة جديدة على قراء الأدب العربي، فقد سبق أن ترجمها المرحوم الشيخ نجيب الحداد ومثلت باسم (السيد، غرام وانتقام)، وسبق للأستاذ الزيات أن لخصها في (الرسالة) ونشر هذا الملخص في كتابه (في أصول الأدب)، فمن أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه(148/74)
الإخراج
كنا نظن أن الفرق التمثيلية الأوربية التي تزور مصر وتمثل على المسرح الأوبرا تترك بعض الأثر في نفوس الفنانين المصريين، ولكن يبدو أن الأمر على العكس، فهذه الفرق تأتي وتعود دون أن نحاول أن نأخذ عنها شيئا
زارت مصر في الشهر الماضي فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية وأخرجت عدة قصص لشكسبير وغيره. فكان الإخراج أهم ظاهرة لهذه الفرقة، وقد أبدى جميع المخرجين المصريين إعجابهم بعظمة هذا الإخراج، فالمستر هيلتن ادواردز مخرجها يعمد إلى الطريقة الإيحائية ويستخدم منظراً واحدا لجميع فصول القصة، ويستعين بالإضاءة وستار صغير في تبديل المناظر مع تباينها
وأخرج الأستاذ زكي طليمات قصة السيد وكنا نظنه سيقتبس طريقة تلك الفرقة، ولكنه لم يحاول بذل أي جهد، وعمد إلى الطريقة التي ألفناها منذ سنوات طويلة، واستخدم المناظر المتعددة والستائر الكثيرة. والحق أن هذا الإخراج إذا قيس إلى إخراج الفرقة الأيرلندية بدا هزيلاً ضئيلاً
يرى النقاد أن الوحدة إذا توفرت في العمل الفني ذلك من دواعي الكمال والنجاح، ولكن رجاله لا يرون هذا الرأي، وإلا لما كانت طريقة الإلقاء متباينة. فحسين رياض وزينب صدقي وعزيزة أمير وزكي رستم يلقون إلقاء شعرياً ومنسي فهمي وفردوس حسن وغيرهما يلقون إلقاء عادياً، وهذا التباين مما ينفر النظارة، والمخرج في رأيي مسؤول عن هذا الخلط
والإضاءة عادية، ولكننا في منظر قاعة العرش كنا نرى الضوء يسقط على جدار للقصر من يمين النظارة إلى اليسار في حين نرى الضوء يسقط على وجوه الممثلين من يسار النظارة إلى اليمين، وهذا مما لا يرضي الفن ولا الأستاذ المخرج
وفي المنظر الثاني من الفصل الثالث نرى والد ردريج حائراً يبحث عن ولده ويقول: (في هذا الظلام الدامس) بينما ضوء القمر يغمر وجه الممثل وينير الأرض حواليه. ولا يفوتني أن أبدي إعجابي بالإضاءة في الموقف بين شيمين وردريج في النصف الأول من الفصل الثاني، فقد كان الضوء ملائماً للحوار، وكان له أثر ووقع كبيرين في نفوس النظارة(148/75)
والملابس فاخرة تنطبق على روح العصر، ولكن الذي حيرني أن شيمين عندما يلغها خبر موت والدها سارت إلى قصر الملك في ثياب الحداد بينما وصيفاتها تتبعها في ملابس زاهية؟! كما أن ملابس الملكين الأسيرين لا تصلح لرجال أسروا في موقعة
التمثيل
قبل أن أتحدث عن التمثيل أبدي أسفي الشديد لإهمال الممثلين استظهار أدوارهم مما جعل صوت الملقن يرتفع فيفسد على النظارة خيالهم
مثلت السيدة زينب صدقي دور شيمين، وقد نجحت كثيراً في أداء هذه الشخصية، وأذكر لها مع الإعجاب موقفها مع ردريج في الفصل الثالث ثم مع وصيفاتها وهي تبدي الجزع خيفة أن يقتل حبيبها، ولكني آخذ عليها الإلقاء الخافت في بعض المواقف مما جعل الألفاظ غامضة على السامع
ومثل حسين رياض دور ردريج، فكان إلقاؤه شعرياً ونجح في دوره إلى حد غير قليل، وموقفه مع شيمين بديع. أما موقفه مع الملك وهو يصف المعركة فيحتاج إلى عناية أكثر؛ وأرجو أن يعنى (بالمكياج)، وان يختار لوجهه لوناً خمرياً يكون قريباً إلى البشرة الأندلسية
ومثل زكي رستم دور والد شيمين فأخرجه على خير ما يكون، كان الرجل المتكبر في إشاراته وإلقائه مما طابق الشخصية
ومثل منسي فهمي دور الملك فكان ناجحاً؛ ولكنه لم يحاول أن يسمو بهذا الدور كعهدي به في أدواره السابقة
أما السيدة عزيزة أمير فلم تنجح كثيراً في أداء شخصية ابنة الملك؛ وكان إلقاؤها على نسق واحد دون تلوين أو تعبير عما في نفسها من احساسات؛ ويبدو لي أن اللغة الرصينة مما يصعب عليها أداؤها
ومثلت نجمة إبراهيم دور وصيفة شيمين فوفقت، وفي رأيي أنها أصلح لدور ابنة الملك من غيرها من فتيات الفرقة
ومثل سراج منير دون سانش، فكان حديثه مع الملك هو نفسه حديثه مع شيمين التي يهواها
ملاحظات لفنانين ايرلنديين(148/76)
شهد هذه الرواية في الليلة الأولى لتمثيلها بعض أعضاء فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية؛ وقد أبدى مخرج الفرقة المستر هيلتن ادواردز وممثلها الأول المستر ميكائيل ماك ليمور إعجابهم بتمثيل السيدة زينب صدقي وحسين رياض وزكي رستم، كما أبديا بعض الملاحظات على الإخراج. وسننشر حديثهما كاملاً في العدد القادم
يوسف
في السينما
العصر الحديث
فيلم شارلي شابلن الجديد
أما إن شارلي شابلن عبقري وفيلسوف فهذا ما لاشك فيه، وأما إن فلمه الجديد (العصر الحديث) عظيم فمسألة فيها نظر
فنحن إذا نظرنا إليه على أنه عمل رجل عبقري لا تنطبق عليه القواعد المألوفة والمقاييس المعروفة وجدنا عملاً عظيما حقا يحس الإنسان أثناء عرضه بسرور ولذة، ويستمتع بأفكار شارلي وطريقته الفكهة في عرض هذه الأفكار، ولكننا إذا حاولنا تطبيق المقاييس الفنية الدقيقة نجده لا يسمو على غيره من الأفلام التي تعرض بين حين وآخر، بل ربما تنقصه بعض العوامل الفنية التي تتوفر في تلك الأفلام
والفكرة الرئيسية التي يقوم عليها الفلم جليلة، فهو ينقد العصر الحديث، ويسخر من سيطرة الآلات على الإنسان ويبين أنها لا تسعد الإنسانية، بل تستعبد البشرية؛ وقد أفلح شارلي في مزج الفلسفة بالقصة. ولكن الفلم طويل في غير حاجة إلى الطول، وإن الناقد ليحس أن هناك فصولاً جيء بها لتسد فراغ الوقت حتى لا ينتهي العرض في زمن قصير
بدأ شارلي فلمه بمنظر قطيع من الغنم يسير إلى الحقول، وأعقبه بمنظر العمال يتدافعون إلى المصنع، وكأنه يرمي بهذا إلى أن العمال قطيع من الغنم يقودهم الرأسماليون
ويظهر لنا شارلي تلك الشخصية الإنسانية، أو قل الرمزية التي تعيش بأسلوبها الخاص في مشيتها وملابسها وقبعتها وعصاها، هذه الأشياء التي أصبحت جزءاً متماً للشخصية -(148/77)
تعمل في مصنع كبير - تؤدي عملا، وكأنها جزء من تلك الآلة، يرهقها العمل المضني المتشابه الذي يبعث السأم، ويؤدي بها إلى نوع من الهستيريا. وترسل إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث يعاودها الهدوء والسكنية. وعندما يسمح الطبيب لها بمغادرة المستشفى نراه ينصح بالابتعاد عن كل ما يثير الأعصاب؛ ولكن لا تكاد تتصل بالحياة حتى ترى تيارها الزاخر الصاخب، وحركات المرور، وكل ما هو وليد المدنية والعصر الآلي
ثم يصور شارلي بؤس العامل العاطل، وكيف تقسو الحياة على أطفاله، فيغدون لصوصا وما هم بلصوص، وإنما هم طلاب قوت. ونرى المظاهرات ومقاومة رجال الشرطة للعمال واقتيادهم إلى السجن، وحيث يقدم إليهم الطعام والشراب. وهنا تبدو سخرية شارلي من النظم الاجتماعية، فإن العامل يأسف على مغادرة السجن ويود لو بقي فيه، فالطعام والشراب خير لديه من الحرية التي يتغنى بها الناس!!
وتتصل أسباب الصداقة بين شارلي وابنة أحد العمال الذين قتلوا في مصادمة مع رجال الشرطة، ونرى شارلي جالساً يحدثها ويعرض على الشاشة حلم اليقظة. فنراهما يعيشان معاً في كوخ جميل، وشارلي على مقعد يمد يده دون جهد فيتناول حبات العنب من عناقيدها المدلاة، ويمد يداً ثانية فيتناول فاكهة أخرى، ثم يسير إلى بقرة ويضع تحت ثديها آنية فتدر اللبن وحدها دون أن يبذل هو أي جهد في حلبها، وإنما يرمي شارلي بهذه الصور جميعاً إلى أن العامل لا يحلم إلا بالراحة؛ فهو في حلمه لا يريد حتى أن يبذل أي جهد، وينقضي الحلم ونراهما في اليقظة بعد أسابيع قليلة في كوخ متداع حقير، لا يصلح مأوى لأحقر الحيوانات، ومع ذلك فهما سعيدان معا. فالعاطفة التي بينهما كافية لأن تبعث السعادة في نفسيهما وتعوضهما عن كل شيء آخر
هذه الآراء التي صورها شارلي والتي جئنا على ذكرها خير ما في الفيلم، ولو أنه اقتصر عليها وأحكم الرابط بين أجزائها لجاء الفلم قوياً. فالبقية ليست إلا حشواً وتكراراً
فهو في عمله كحارس ليلي يلبس النعل ذا العجلات ويتزلج معصوب العينين يلهو ويمرح، لم يفلح في بعث السرور إلى النفس، وهؤلاء العمال الذين تسللوا في الظلام إلى حيث يجدون الطعام ترديد لفكرة سبق أن صورها، وكذلك هو مع رئيسه في المصنع الجيد(148/78)
يصلح الآلة، ثم هو في مصنع السفن إنما يعرض حالة لا ترتبط بسياق القصة الرئيسية كبير ارتباط
والفلسفة كانت أكثر مما يحتمل الفلم، ففي النهاية نجد شارلي يعمل خادماً في مطعم كبير ونراه يحمل الطعام مخترقاً الراقصين، وعندما يصل إلى المكان المقصود يجرفه تيار الراقصين ويسير به إلى حيث بدأ، وأخيراً وبعد الجهد يصل ولكن يجد الطعام قد سقط منه!! وكذلك بعد أن ألقى قطعته الغنائية وتقبل تهانئ مدير المطعم ووعدا بالعمل المستمر وأحس بأن السعادة مقبلة، نرى القدر يعاكسه إذ يرسل إليه رجال الشرطة يطلبون فتاته فيهرب معها تاركا السعادة بعد أن كانت بين يديه. فهذا الإمعان في الفلسفة فيه بعض الإرهاق لرواد السينما، وهؤلاء قد يضحكون من الحركات ولكنهم لا يفهمون ما يرمي إليه المؤلف والمخرج. وفي رأيي أن واجب رجل السينما تبسيط الآراء ما استطاع
والناحية الفكهة في الفلم لا بأس بها، ولكنها ليست قوية إلى الدرجة التي كنا نتوقعها ونرجوها؛ وخير ما أذكر له جلسته أمام الآلة التي تناول الطعام، لاسيما وهو يحاول أكل الذرة ثم وهو يقفز إلى الماء ليغوص، فإذا بالمكان الذي يسقط فيه ضحل فيتألم ويعود أدراجه دون أن يتم الاستحمام
يبدو لي أن جهود شارلي الموزعة هي السبب الأول في ضعف الفلم. وقد تحدثنا عن ضعف الرابطة بين كل جزء وآخر، وعن الحشو والتكرار، وهذا ما جعلني أنظر إلى هذا الفلم كأنه نوع من الاستعراض، فليس هو بفكرة واحدة متسقة تعالج علاجا فنيا
والتصوير بدائي وليس هذا الذي شاهدناه بالمستوى الذي يليق بفلم كبير كهذا، فلم تكن هناك مهارة في اختيار زوايا التصوير، كما أن شارلي قد عمد في جميع الصور المتتابعة إلى التقاط الصور المتوسطة وكأنه ليس في التصوير السينمائي غيرها
وحاول أن يرسم صورا متباينة لحالة العمال والرأسماليين فجعل فتاته الجائعة المحرومة تقف ذاهلة ثم تنقض على الفطائر ثم تنتقل إلى قسم الأزياء وتختار معطفاً ثمينا من الفرو الأبيض فترتديه وترقد على فراش وثير، ولكن الصورة ضعيفة وأثرها في النفس غير عميق
والتمثيل عادي، ولقد مثلت بوليت جودار دور الفتاة فلم تبد تلك المهارة والمقدرة التي(148/79)
تحدثت صحف السينما عنها وهي لا تزال ممثلة مبتدئة
والصورة الأخيرة التي يظهر فيها شارلي وفتاته يسيران في طريق مجهول يتهيئان لكفاح جديد من أحسن الصور وأوقعها أثراً، ولقد فكرت كثيراً ثم قلت لنفسي، ألم يكن من الخير أن يسمى هذا الفلم. . . (الأمل)؟!
والفيلم في مجموعه مقبول وفيه جمال، ولكنه يقل كثيراً عن فيلم شارلي السابق (أنوار المدينة) وإن اختلف موضوع كل منهما، إلا أن (أنوار المدينة) كعمل فني ترجح كفته على كفة الفلم الجيد.
يوسف تادرس(148/80)
العدد 149 - بتاريخ: 11 - 05 - 1936(/)
صاحب الجلالة فاروق الأول
لم تر مصر في أرجح الظن قبل احتفالها بمقدم فاروق، قلبها يخفق
بالحب عن إخلاص، ونفسها تفيض بالإجلال عن حقيقة، ولسانها يجأر
بالدعاء عن عقيدة، وسوادها يتسابق إلى الاحتفال عن طواعية؛ فقد
كان ملكها الشاب منذ عودته من دار علمه إلى دار حُكمه مهوى أفئدتها
ونجوى ضمائرها ومجمع أمانيها وموضع إعجابها، لا تصدر في ذلك
عن رياء، ولا تنقل عن تقيد، ولا تعمل عن تكلف؛ إنما الطرقات
والشرفات والنوافذ كانت مسايل روحية تزخر بعواطفها الكريمة لملك
نَشَّأَته على طبعها وحسها، وأعدته لعرشها بنفسها، وعقدت على تاجه
المصري الخالص أملها في السلطان الحر والحياة العزيزة
أرأيت إلى الشعب الشكور كيف وقف صفين من رأس التين إلى قصر عابدين، ومن سراي القبة إلى مسجد الحسين، يلقي على ملكه المحبوب الولاء مبثوثاً في النظر، والرجاء مكنوناً في الهتاف، والإعجاب معلناً في التصفيق، فيلتقي شعوره بشعوره، ويمتزج هواه بهواه، فيصبح الشعب جسما رأسه فاروق، ويصبح فاروق رمزاً مدلوله الشعب؟
أرأيت إلى الشعب الفخور كيف احتشد مساء الجمعة حول آلات الراديو في الدور والأندية والمقاهي يستمع إلى مليكه الجديد وهو يقرأ فاتحة مُلكه السعيد بلغة عربية مبينة، ولهجة مصرية فصيحة، فانفعل بحزن الملك البار، وبكى من هذا الانفعال، وتأثر بشعبية الملك الحر، وابتهج من هذا التأثر، وأحس وهو يحييه أن روحاً قدسية تبعث في هيكله الواهن القوة والفتوة والأمل
والحق أن تحية فاروق للوطن على هذا النحو الجميل، وصلاته لله في هذا المظهر المتواضع، ورسالته إلى الشعب على هذه الصورة الصريحة، ونزوله عن ثلث مخصصاته للأمة الشاكرة، كانت أبرع استهلال لعهده المومق الخصيب
إذا كان من الحق أن بعض الأسماء ينزل من السماء، فإن اسم فاروق وضعه القدر وضعاً(149/1)
لهذه الساعة المشهودة من تاريخ مصر. ولعلها أشبه بالساعة التي لقّب فيها الرسول (ص) عمر بالفاروق: فقد كان الإسلام قبل عمر ذليلاً فعزّ، وقليلاً فكثر، ومستخفياً فاستعلن. وهذه مصر تُرَنِّقُ على ثراها الأحداث من كل جانب: فالاحتلال الغاصب ينقص ببغيه سيادتها في التملك، وعدتها للدفاع، وحريتها في التصرف؛ والاستعمار الجشع يرصد الأُهَب على حدودها بالعين الخؤون والمنطق المسلح؛ والناس من إلحاح الذل وإفراط الظلم وامتياز الدخيل وقصور القانون في حال من الخمود لا ينفع فيها تذكير ولا تبلغ عليها دعوة؛ وسياسة البلاد تسير في تيه من الأرض فتضطرب لتنقلب وتعود لتبدأ. فلما أراد الله لطريقها أن تتضح، ولقافلتها أن تسير، ألقى بأزمتها في أيدي الشباب؛ والشباب يسيرون بهداية الله، ويجاهدون بقوة الإيمان، ويبلغون بكرم التضحية؛ فأعادوا للأمة حياتها الدستورية خالصة من الخداع والكذب؛ ثم جعل الله على الأمة ملكاً من الشباب تتساير أهواؤهم إلى هواه، وتتلاقى آراؤهم عند رأيه، فيقول لهم في منطق فصيح صريح: (إنني أستقبل حياتي الجديدة بعزم وثاب وإرادة قوية، وأعاهدكم عهداً وثيقاً على أنني سأقف حياتي على العمل لنفعكم، وموالاة السعي في سبيل إسعادكم. لقد رأيت عن كثب حبكم لي، وتعلقكم بي؛ لذلك أرى لزاماً عليّ أن أعلن ما اعتزمته من التضامن معكم في سبيل مصر العزيزة، فإني أومن بأن مجد الملك من مجد شعبه)
ذلك هو ملكنا العظيم بعقيدته السليمة ونفسيته الكريمة وخطته الواضحة، وهذا هو دستورنا القديم أعادته إرادة رشيدة، وأعدته وزارة نزيهة، وجمعته انتخابات حرة؛ وأولئك هم شبابنا الخلص تمردوا على حياة الجمود وعقدوا نيتهم على أن يعيشوا كراماً أو يموتوا أعزّة. فمن أين إذن تُؤتَى النهضة المصرية؟ لا تؤتَى النهضة المصرية إلا من جهتين كانتا في كل زمان ومكان مصدر الشرور للأمة: جهة الفساد في الحاشية، وجهة الخلاف في الزعامة. فأما الفساد في الحاشية - ومعاذ الله أن يكون - فوباله أن يزيف في البلاط حقيقة الأمة بميوله، أو يشوّه في الأمة صورة الحكومة بفضوله. وفي ذلك ما فيه من انفراج الحال بين الشعب وملاذه الأعلى. وأما الخلاف في الزعامة فبلاؤه تمزيق الوحدة وتفريق الكلمة وتوزيع الجهد وتغليب الشهوة وتمليك الخصم. وما فتَّ في أعضائنا وهدّ من قوانا إلا هذا الخلاف الباغي لا يراد به إلا اقتناص المال أو الجاه أو الحكم. على أن في الحب الأصيل(149/2)
المتبادل بين الملك الديمقراطي البر وبين شعبه الوفي المخلص، ضمانا يرفع الحجب المسدولة، ويمنع الوساطة المدخولة، ويديم جُمعةَ ما بين النفوس الزعيمة.
ثبت الله عرشه بالسلام ونضر عهده بالوئام وجمل حكمه بالاستقلال والمشورة
أحمد حسَن الزيات(149/3)
الملك فؤاد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
مات الملكُ العظيم، فرأى الناسُ من ذهولهم كأنما زيدت في الموت زيادة
وكأن يوماً ليس من الدنيا وقع في الدنيا فترك الحياة في غير معناها
وكأن العيونَ انفتحت فجأةً على شكل محزن من هذا الوجود.
وكأن حادثاً عظيما انتهى من التاريخ المصريّ إلى نقطة انقلاب؛
ورأى الناسُ كأن غيمةً فوق مصر تجتمع من حزن ستة عشر مليون قلب!
مات فؤاد العظيم، فعرفت مصرُ أن معجزةً فارقتها
وأنه لم ينقض رجل؛ ولكن ذهب قَدَرٌ كان في خدمة حوادثها المضطربة
ولم ينته عمر؛ ولكن انتهت سعادةٌ كانت من حظ أيامها؛
ولم ينطو تاريخ؛ ولكن انطوت قوة كانت تعمل في حل مشاكلها
فارقت معجزة، وذهب قدَر، وانتهت سعادة، وانطوت قوة. ما أفدح خطبك يا مصر!
وكيف لا يكون معجزةً من خُلقت مواهبُه على قدر أمة تنال به التاجَ بعد أن فقدته ألفي سنة؟
وكيف لا يكون قَدَرا من بُعثت عزيمتُه لحل الزمن السياسي المعقَّدِ منذ دهور ودهور؟
وكيف لا يكون سعادةً هذا الذي مرَّت آثاره على فقر التاريخ مرورَ الغنى؟
وكيف لا يكون قوةً وإرادتُه الجبارةُ كانت مظهر السر الذي يعمل وينتصر؟
أيتها الحقيقة العظيمة! هل كانت النبوَّة في شكل سياسي؟
مرض الملك رحمه الله، فكانت أخبارُ مرضه روايةَ أحزان الشعب
وعرف كل مصري أن هذا الملك هو الوطن في صورة رجل،
واتجهت العاطفة الوطنية في البلاد كلها إلى رمزها الحي،
واثبت الشعبُ في سمو أخلاقه أن ملكه العظيم هو الذي ارتقى به إلى هذا السمو
وأُصلحت غلطةٌ كانت السياسة الأجنبية تسميها التفرق. .
ومات الملك رحمه الله، فأتم موتُه عمَل حياته العظيمة
جمع الأمة كلها على أسمى أخلاقها من الحب والوفاء والاتحاد؛(149/4)
وأظهرها حوله كأنها في صلاة تتدفق منها الروحانية العظمى؛
وراع بها العالم السياسي كأنه يقول للدنيا: هذه مصر كما أنشأتُها
وترك لأمته الدرسَ الأخير في هذه الصورة كأنه يقول: هكذا عيشوا
وبكاه الشعبُ من كل عين، حتى لو كان يبكي من نهر ليبس؛
وأصبحت القلوبُ من الحزن كأن كل قلب اجتمعت فيه أمواتُه ذلك اليوم
وبرزت فجأة من النسيان همومٌ وهمومٌ وهموم
ودنت الآخرة حتى لا يذكر الناسُ غيرها، كأن الخلد يتسلم الراحلَ من أيدي الشعب
وحكم الملكُ يومَ موته حكما آخر كما تحكم على الناس جميعاً طبيعةُ الخير
(في ذمة الله يا فؤاد). هذا هو صوتُ الشعب يوم وفاة الملك
صوتُ الفطرة على سجيَّتها مع نفسها؛ لا من سياسةٍ ولا رياء ولا مجاملة
صوت الإيمان على طبيعته مع القلب، لا من غرضٍ ولا تصنّع ولا خديعة
صوت الوطنية على عقيدتها مع الحب، لا من خوفٍ ولا كذب ولا اضطرار
وما عسى أن يقول من فقد أباه العزيز، إلا أن يقول: في ذمة الله يا أبي؟
في ذمة الله ذلك الملكُ الذي كان كالأنبياء محصوراً في واجبه ورسالته
ولم يكن بين فكره وعمله أحلامٌ تفسد الفكر أو تضعف العمل
وكان يقول: (ليس شيئاً يذكر أن يكون المرء أميراً؛ ولكن الشيء الجدير بالذكر أن يكون نافعاً)
ومن أجل ذلك استمر يعمل كأنه مؤتمر ملوك لا ملك واحد؛
وتألفت مدةَ حكمه اثنتان وعشرون وزارة، فكانت له على مصر بركةُ اثنين وعشرون ملكا
وكان بنشأته واختباره وعلمه ودينه تصحيحاً لأغلاط من سبقوه في الملك
وبذكائه وبصيرته كان يسوس رعيتين في مصر: إحداهما الحقائق
وكان موفقاً بقدر ما هو قوي، فخدم الشعبَ عقله وحظُّه
تراه دائماً بحكمته وحزمه في عمله للحاضر، ودائماً بصبره وإيمانه في عمله للمستقبل
هو ملك الصبر والإيمان؛ وبهاتين القوتين كم من مرةٍ جعل ما لا يمكن يمكن
وكان من أكبر همه أن يألف العالم اسمَ مصر وأن تعرف ممالكُ الدنيا جَدَّتها(149/5)
فحرَّك اسم مصر في كل أمة لأنه وحده الاسم الذي يخاطب كل تمدن بلغة خياله
إن المجد المصري إذا انبعث كان قوة من قوى الجلال في الدنيا!
إن السحر المصري إذا عرف كان قوة من قوى الحب في العالم!
إن فن الإعجاب بمصر ليخرجُ من درس آثارها كما يخرج علم الفلك من درس النجوم
في ذمة الله يا فؤاد، وعزاءً يا مصر!
لقد أعطاك من الفاروق المحبوب أكبر حسناته:
أعطاك فيه أسرار عظمته تتجلى بادئة بنشاطها
غابت الشمس ليبدأ الفجر الجديد
مات الملك؛ يحيا الملك
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(149/6)
في ليلة مقرورة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(انفخي النار أو أذكيها فإني بردان، ولست أجد حرّها)
وكان الوقت شتاء، والبرد قارساً، والرياح متداركة الهبوب تقشر الحصى عن وجه الأرض، وتهيج بالغبار نحو السماء كالعمود. ولكن الغرفة كانت دافئة، والنار في مواقدها تتسعر، فعجبت الزوجة، ونظرت من زوجها إلى الموقد، وقالت: (بردان؟ بردان والغرفة كجهنم؟ لقد ألقيت عليها منذ دقائق خشباً كثيراً لا يزال يفرقع من شدة التلهّب، فكيف لا تحسها ولا تسمعها؟ مالك؟ أبك شيء؟)
فهز الرجل رأسه هزة خفيفة، وقال وهو يمد يديه: (لا. .،!! خذي أشعلي لي هذه)
وناولها سيجارة كان يقلبها بين أصابعه، فوضعت طرفها على النار ونفخت فيه حتى صار كالجمرة المتلظية، ووضعتها بين أصابعه وهي تقول: (سأعود إليك قبل أن تفرغ منها)
وخرجت وردت الباب وراءها، فتنهّد الرجل وأطرق. وفرغت السيجارة، وشعر بحرّها على أصابعه، فأراد أن يطفئها أو يرمي بها، فمد يده الفارغة يتحسس حتى لمست أصابعه حرف منضدة صغيرة، فأجرى راحته عليها، حتى التقت أنامله المرتعشة بشيء فرفعها إليه يريد أن يتبينه، فانقلب وتحطم، فرد يده بسرعة، وقد تجهم وجهه؛ ثم تنهد، ورفع قدمه وانحنى على الأرض، ووضع السيجارة تحت حذائه
وكان الذي يراه وهو جالس على الكرسي، ورأسه مثنيٌّ على صدره، خليقاً أن يتوهمه نائماً من فرط السكون. ولكنه لم يكن نائماً ولا ذاهلا؛ وإنما كان مُرهفاً أذنه لحركة الأقدام في غرفة ابنته، ولما عسى أن يتأدى إليه من الأصوات غير ذلك على الرغم من الباب الموصد عليه. وكانت زوجته لا تزال تعود إليه كل بضع دقائق لتطمئن عليه على زعمها، فقد أقلقها عليه قوله إنه بردان في هذه الغرفة التي يُشتكى حرُّها؛ ولا يُعقل أن يشتكي بردها فكان يتبسم ويقول لها: (لا تخافي علي فإني بخير، ولكن طمئنيني على فردوس، كيف هي الآن؟ ألا أصعد معك إليها؟)
وكان يعلم أنها أبت ذلك عليه من قبل مرات، فهو على يأس كبير، ولم تكن لجاجته في الطلب كلما دخلت عليه إلا ليرى كيف يكون جوابها في كل مرة؛ وكان يؤكد أنه سيدخل(149/7)
على أطراف أصابعه، ثم لا يتكلم ولا يتحرك ولا يمد يده ليلمس الفتاة، فضاق صدرها بهذا الإلحاح، وقالت له: (إذن لماذا تريد أن تصعد إليها؟؟ أكل مرادك أن تزعجها والسلام؟)
وأسفت لأنها احتدت فانقلبت تعتذر إليه بما تكابده من العناء، وتوزع القلب والجهد بينه وبين ابنتهما، فقبل اعتذارها، أو لعل الأصح أنه لم يجعل باله إلى ما بدر منها. وما ظنت أنه ساءه من حدة اللهجة وقال:
(لا تشغلي نفسك بي، وإذا احتجت إلى شيء فإن في وسع الخادمة أن تقضيه لي. أليست الممرضة مع فردوس؟ إذن دعي لي الخادمة فهي حسبي إلى أوان النوم)
فأبت عليه حتى الخادمة، وقالت: إن فردوس لا تستغني عنها، وأن في وسعه أن يصفق إذا أراد شيئاً فتجيء هي - زوجته - إليه. فترك الإلحاح، وعاد إلى جلسته وإطراقه وسهومه وكفّ حتى عن أن يرفع رأسه - على عادته - حين تدخل زوجته عليه، كأنما لم تعد به حاجة إلى سؤال، أو كأنما لم يعد يعنيه من الأمر كله شيء، وكانت زوجته تقف حياله هنيهة، ثم لا تأنس منه استعداد لكلام، أو تتوهمه أغفى فتسلل راجعة من حيث جاءت. وكأنما اطمأنت أو خشيت أن تزعجه أو توقظه، فصارت تترك الباب موارباً، ولا تكلف نفسها عناء إيصاده - كما كانت تفعل - من قبل اتقاء لما يحدثه ذلك من الصوت
ومضت ساعة وبعض ساعة، والدنيا أتم ما يكون سكوناً، لولا الرياح العواصف؛ وإذا بالباب يدق دقاً مزعجا، وإذا بالخادمة تنحدر على السلم، كأنما هي في سباق، أو كأنما وراءها الذي تهرب منه وتمضي إلى الباب فتفتحه ثم تغلقه، وإذا بالبيت يملأه بكاء وليد يصيح: (واء واء واء) ولا تمضي دقائق حتى يكون كل من في البيت قد أحاط به ما خلا فردوس المريضة التي لا تستطيع أن تبرح سريرها أو تنهض عنه، ويدخل هذا الجمع الحافل - سيدة البيت والممرضة والخادمة ورجل غريب يحمل بين يديه طفلاً ملفوفاً في أشياء كثيرة وعلى وجهه شف أرجواني رقيق جدا -
وتتقدم الزوجة من بعلها وتقول: (ماذا تظن؟ لقد وجد هذا الرجل طفلاً ملقى على مقربة من عتبة البيت! مسكين إنه وليد! ابن ساعة أو ساعتين على الأكثر! ماذا ينبغي يا ترى أن نصنع به؟ لا نستطيع أن نرده إلى حيث كان. . . ولا أحسبنا نستطيع أن نستبقيه. . . كلا! هذا أيضاً عسير علينا. ما ريأك؟ أشر كيف نصنع؟)(149/8)
فيرفع وجهه إلى الناحية التي يجيء منها صوتها ويقول: (المهم الآن إرضاع الطفل - والوقت بعد ذلك فيه متسع للتفكير في مصيره، فانظري من ترضعه، ابعثي في طلب واحدة. . . اصنعي شيئاً. . . لا تقفي هكذا)
ولم يكن ثم ما يدعوه أن ينهرها على هذا الوجه، فما كانت قصّرت أو تلكأت، ولا كان مضى على دخولها عليه بالطفل إلا مسافة ما ألقت عليه خبر العثور عليه، ولكنه كان ضيق الصدر بما أجن لا بما حدث من التباطؤ، وكان يثقل عليه وجود الرجل ولا يرتاح إلى الحديث على مسمع منه في أمر هذا الوليد. ورأت زوجته منه هذا النفور، وأحست له سبباً باطناً غير ظاهره. فقالت صحيح. أين نجد مرضعة يا فاطمة؟ (الخادمة) أتعرفين واحدة قريبة من هنا أو جارة نستعين بها الليلة حتى نهتدي إلى مرضعة صالحة؟ (ونظرت إلى زوجها الذي لا يراها وقالت بسرعة كالمستدركة) أو نرى لنا في الطفل رأيا آخر
فقال الرجل بلهجة السأمان (أرضعيه أولا. . اذهبي، فما ندري كم ساعة له وهو ملقى، وإن كان الذي يبدو لي من سكوته أنه لا يشكو شيئاً وأنه على الأرجح - كما قلتِ أنتِ - حديث عهد بالولادة. . على كل حال يحسن أن تعني به الليلة كعناية الأم)
فانصرفوا عنه، ومضت الليلة بسلام، وجاءوا في الصباح بمرضعة للطفل، فقد أصر الرجل على اتخاذه وتبنّيه، وكانت زوجته حين رأت منه هذا الإصرار قد راحت تنكر عليه هذا العزم، وتخوّفه ما لا بد أن يعاني من جرّاء وجوده في البيت، وتنذره الضجات والضوضاء وغير ذلك، فإن الأطفال في سن الرضاع لا يوقّرون كبيراً، ولا يعنون براحة أحد، ولا يبالون ما يكون منهم، ولكن هذا لم يثنه عما صحّ عليه عزمه
ومضى عام ثم آخر، وحبا الطفل ومشى، ولم يفتر حنوّ الرجل عليه، بل صار هو سلوته، فكان يخرج به كل يوم ساعة في الصباح وأخرى في المساء. ولم يكن يبعد عن البيت لأنه مكفوف، فكان يتمشى في الحديقة الواسعة والطفل أمامه في مركبته الصغيرة، فإذا غادر البيت اكتفى بالطواف حول السور، وكان كلما التقى بفردوس والطفل معه، يتركه لها وينصرف عنها، ولا يبقى معهما في مكان، وكان ذلك يسر فردوس في أول الأمر لأنه يسمح لها بأن ترسل نفسها على سجيتها مع الغلام، ولكنه لما تكرر من أبيها، أزعجتها منه دلالة العمد فيه، ولكن ماذا تقول أو تفعل(149/9)
وكانت زوجته كثيرا ما تشير في حديثها معه إلى فردوس وأنه لا يبدو لها خاطب بين الأقرباء والأصدقاء العديدين، فلا يقول الرجل شيئا، ولكنها أضجرته مرة فقال لها (دعيها، ولا تقلقي عليها، فإني أحسب الطفل سلوة كافية لها) فسألته زوجته بلهفة (ماذا تعني؟ كيف يمكن؟)
فابتسم الرجل وقال (أعني أن في وسعها أن تفيض عليه من أمومتها الكامنة؛ وكفى بهذا الطفل عزاء وسلوة مادام لا بعل لها)
وطال الأمر، وشق على الزوجة أن الحبائل الكثيرة التي ألقتها لم تقنص أحداً، ونفد صبرها وعجزت عن الكتمان فقالت بشجوها لزوجها، وكان هو أيضا قد مل هذه الأحاديث التي لا تنتهي فسألها (هل يسمعنا أحد. . انهضي وانظري)
ففعلت وعادت فطمأنته فقال (إذن اسمعي - لقد كنت أوثر أن أظل ساكتاً لا أتكلم، ولكنك أكرهتني على الكلام. وإني لضرير ولكن رأسي لم يعطّله شيء، فهل تذكرين كيف سافرت ابنتنا وقضت شهورا عند خالها في ضيعته؟ إني مازلت أذكر ذلك لأني أعلم أنها لم تكن عنده ولا عند أحد غيره من أقرباء أبيها أو أمها، وإن كنت أجهل أين أقامت كل هذا الزمن. . انتظري. فلست ألومك، بل أنا على العكس أثني على حكمتك، وحسناً صنعتِ، وقد عادت بعد ذلك فجأة وأوت إلى فراشها ساعة وصولها، وظلت مريضة حتى كانت الليلة التي دق علينا فيها الباب، وجاءنا الرجل بهذا الطفل. ومن حسن الحظ أن الرجل لا يعرف شيئا - ولست أدري كيف دبرت الأمر، ولكنك على كل حال أحسنت التدبير، ولولا هذه القابلة التي زعمتها ممرضة لاطمأن قلبي، وأمنت الافتضاح، ولكنها على ما يظهر استطاعت أن تكتم السر فالحمد لله. والآن وقد أحوجتني إلى الكلام أفلا يحسن بعد ذلك أن تعفيني من حديث الزواج التي لا تملينه؟)
فلم تقل شيئا حتى سمعته يحدث نفسه ويقول (مسكينة. مسكينة)
فنهظت وسألته (أتعطف عليها)
فأشار بيده إشارة من يريد أن تذهب عنه وهو يقول (بلهاء) ولم يدر بينهما بعد ذلك كلام في الموضوع
إبراهيم عبد القادر المازني(149/10)
المسألة الحبشية
بين إيطاليا وإنكلترا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يجزع الكثيرون من خصوم الاستعمار وأبناء الأمم المغلوبة لما أصابت إيطاليا بوسائل العنف الشائن من ظفر وتقدم في غزو الحبشة، وما أصاب الحبشة من خذلان وتضعضع في مقاومتها للمعتدين على حرياتها؛ ويجزع الكثيرون من أنصار السلام لما ينذر به ظفر إيطاليا على هذا النحو، وما تنذر به المشكلة الحبشية كلها من خطر داهم على السلام
وقد يلوح لأول وهلة أن الفريقين على حق في هذا الجزع؛ ذلك أن ما أبدته إيطاليا الفاشستية من إقدام وجرأة في انتهاك العهود والمواثيق، وما ارتكبته في سبيل مشروعها الاستعماري من ضروب السفك والعنف، وما لجأت إليه لسحق الأحباش من وسائل مجرمة مثيرة كاستعمال الغازات وغيرها، ينذر بالويل كل أمة ضعيفة لا تقوى على مقاومة الاعتداء بمثله، ويبعث اليأس في نفوس الأمم المغلوبة، لأنها ترى الاستعمار يثبت أقدامه، ويزيد جرأة وعدواناً وعنفاً؛ ولأن ما تثيره المشكلة الحبشية من خلاف بين بريطانيا العظمى وإيطاليا، وما يثيره فوز إيطاليا في شرق أفريقية من مخاوف على مصالح الإمبراطورية البريطانية ومستقبلها، ينذر بانفجار قد لا تقف عواقبه عند الخصومة الإنكليزية الإيطالية، بل قد يؤدي إلى حرب أوربية عامة ينكب العالم كله بويلاتها وعواقبها
بيد أنه يجب ألا نبالغ في تقدير الموقف بهذا المعيار القاتم، فهنالك ظروف واعتبارات كثيرة يجب تقديرها إلى جانب هذه الظواهر المزعجة. ولنبدأ ببحث الموقف في الحبشة؛ فقد تقدم الإيطاليون داخل الحبشة في الأسابيع الأخيرة، واستولوا على ولاية تجري كلها، وهي التي تقع فيها بحيرة تانا والنيل الأزرق، وتقدموا أيضاً في الجنوب، وأصابوا الجيوش الحبشية بعدة هزائم شديدة، وهم يزحفون بسرعة نحو العاصمة الحبشية، وقد تسقط في أيديهم قبل أن يظهر هذا العدد من (الرسالة)؛ وفي الأخبار الأخيرة أن النجاشي قد غادرا الحبشة مع أسرته إلى فلسطين على بارجة إنكليزية بعد أن فقد كل أمل في الدفاع والمقاومة، ولكن هل يعني ذلك كله أن قوى الحبشة الدفاعية قد أبيدت نهائياً كما يزعم الإيطاليون، وأن إيطاليا قد حققت ظفرها كاملاً شاملاً. وأنه لم يبق عليها إلا أن تملي(149/12)
شروطها على الحبشة وعلى عصبة الأمم؟ إن نظرة إلى خريطة الحبشة تنقض هذا الزعم، فإن التقدم الإيطالي لم يجاوز حتى الآن المناطق الأمهرية، ولم يتوغل الإيطاليون في الحبشة الأصلية بعد، ولازالت أمامهم دون الاستيلاء عليها مناطق وعرة؛ والجيوش الحبشية لم تسحق كلها ولم تبد، ولكنها اضطرت أن تتراجع أمام الغازات الخانقة وغيرها من الوسائل الفتاكة التي لم يحجم الإيطاليون عن الالتجاء إليها خلافاً لكل قانون وميثاق حينما رأوا عجزهم عن التقدم بوسائل الحرب المشروعة، وهي مازالت تصمد للإيطاليين في الجنوب وحيثما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ وإذا قارنا ما استولت عليه إيطاليا حتى الآن من أراضي الحبشة بما كان مقترحا أن يعطي لها في مشروع (لافال - هور) ألفينا أنها رغم انتصاراتها المتوالية لم تحقق بعد كل ما كان يراد أن يعطى لها بمقتضى هذا المشروع غنيمة باردة؛ والفرق بين الحالتين أنها تدفع اليوم لتقدمها ثمناً فادحا من المال والرجال
هذا ومن الخطأ أن نعتقد أن مجرد استيلاء الإيطاليين على الأراضي الحبشية يكفل تحقيق الأماني الإيطالية، ويعتبر حلاً نهائياً للمسألة الحبشية؛ ذلك أنه يجب على إيطاليا إذا أرادت أن تستغل ثمار ظفرها، أن تحتفظ بما استولت عليه من الأراضي، وأن تسحق كل مقاومة من جانب الأحباش؛ ولكن المعروف أن دون هذه الغاية صعاباً جمة، وأن إيطاليا ستلقى مدى حين مقاومة من الأحباش، وستضطر إلى أن تتكبد في هذا السبيل جهوداً ونفقات قد تعجز عن الاستمرار فيها إذا طالت مقاومة الأحباش؛ بل يرى بعض الثقات اليوم أن إيطاليا قد استنفذت بالفعل في هذه الحروب الاستعمارية العنيفة كل مواردها القائمة، وأنه إذا بدأ فصل الأمطار في الحبشة قبل أن تسحق مقاومة الأحباش بصورة حاسمة، فإن مركزها وخططها في الحبشة تعرض لأشد الأخطار
ويجب أن نذكر إلى جانب ذلك عاملاً حاسماً آخر، وهو موقف إنكلترا من المسألة الحبشية ومن إيطاليا، وهو موقف ستكشف الأيام القريبة عن حقيقته
وعصبة الأمم ماذا كان موقفها إزاء هذا الاعتداء الشائن؟ لقد بدأت العصبة بداية حسنة، فأسندت تبعة الاعتداء إلى إيطاليا، وقررت تطبيق العقوبات الاقتصادية ضدها؛ وكان للسياسة البريطانية أكبر نصيب في تنظيم هذه الحركة الدولية الخطيرة؛ ولكن فرنسا التي(149/13)
تربطها بإيطاليا معاهدة صداقة خاصة واتفاقات سرية ذاع أمرها فيما بعد، قاومت سياسة العقوبات رغم موافقتها نظريا على تقريرها، ووقفت إلى جانب إيطاليا موقفاً كان له أكبر الأثر في شل سياسة العقوبات، وعجز عصبة الأمم عن تقرير عقوبات أخرى كانت تزمع فرضها كتحريم إصدار الزيت والحديد إلى إيطاليا؛ هذا ولم يبق سرا أن فرنسا تشد أزر إيطاليا في هذه الحرب الاستعمارية بصفة إيجابية، وأنها تعاونها بالقروض السرية؛ وهي من جهة أخرى تعرقل تصدير السلاح إلى الحبشة من طريق جيبوتي، خلافا للاتفاقات المعقودة فتزيد بذلك في إضعاف المقاومة الحبشية وتمهيد السبيل لتفوق الجيوش المعتدية
ولقد كان موقف العصبة إزاء هاتين السياستين المتناقضتين يدعوا إلى الرثاء، فلا هي استطاعت رغم تأييد السياسة البريطانية أن تسير في تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيطاليا بالحزم الواجب تأييداً لمبدأ السلامة الإجماعية الذي تعمل باسمه، ولا هي استطاعت بأية وسيلة أن تحمل إيطاليا على وقف اعتدائها الصارخ، أو قبول الصلح في الحدود التي رسمتها منذ بداية الاعتداء؛ بل ولا استطاعت أن تحمل إيطاليا على احترام أبسط قواعد الحرب الشرعية، والعدول عن الالتجاء إلى الوسائل الهمجية الفتاكة من غازات قاتلة ومحرقة وغيرها ضد شعب يكاد يكون أعزل إزاء وسائل التسليح الحديثة؛ ومازالت عصبة الأمم منذ أشهر تجتمع وتسوف على غير طائل، وإيطاليا تمضي في اعتداء هو أشبه بالقرصنة المجرمة منه بالحرب المشروعة، فتمزق الأحباش محاربين ومسالمين بغازاتها وطياراتها، وعصبة الأمم لا تكاد تجد ما تقوله إزاء هذه النذالة التي تثير استنكار العالم المتمدن بأسره، إذا استثنينا بعض الجهات الاستعمارية الجشعة التي ترى فوز إيطاليا عاملاً في تثبيت أقدام الاستعمار في أفريقية
على أن ظفر إيطاليا الحربي في الحبشة لا يكفي لتسوية المسألة الحبشية مهما كان مدى هذا الظفر؛ ففي وسع إيطاليا أن تستولي عسكريا على الحبشة كلها، ولكن الاحتلال العسكري لا يمكن أن يعتبر مستقرا أو نهائيا، ولا يمكن بأي حال أن يعتبر خاتمة المشكل، ولابد أن تحسب إيطاليا أعظم حساب لموقف السياسة البريطانية؛ ذلك أن بريطانيا العظمى ترى في استيلاء إيطاليا على الحبشة وتوسع الاستعمار الإيطالي في شمال أفريقية خطرا عظيما على سيادتها ونفوذها في وادي النيل وشرق أفريقية، وترى في نهوض إيطاليا(149/14)
الاستعمارية وفي اضطرام الروح الفاشستية بالأطماع والمشاريع الاستعمارية خطرا أعظم على سيادتها في البحر الأبيض والبحر الأحمر وعلى مواصلاتها الاستعمارية التي تسهر على حمايتها بيقظة متناهية، فالمسألة الحبشية في ذاتها تحتل في نظر بريطانيا مكانا ثانوياً، ولكن المسألة الجوهرية هي ما يترتب على فوز إيطاليا واعتزاز الروح العسكرية الفاشستية بهذا الفوز، وهر روح اعتدائية أخذ يبدو خطرها في البحر الأبيض ظاهرا ملموسا؛ والسياسة البريطانية تعمل منذ بدء المشكلة الحبشية وراء عصبة الأمم ووراء مبدأ السلامة الإجماعية؛ وقد كانت تتوقع عند فوزها بتقرير سياسة العقوبات الاقتصادية أن هذه العقوبات ستحدث أثرها في أهبة إيطاليا وفي مواردها بسرعة، فتقبل الصلح على الأسس التي وضعتها عصبة الأمم؛ ولكن السياسة الفرنسية المماذقة التي تعمل من وراء الستار لشد أزر إيطاليا حالت كما رأينا دون تحقيق هذه الغاية، واستطاعت إيطاليا أن تحرز بوسائلها العسكرية المجرمة في الحبشة انتصارات خطيرة؛ فالسياسة البريطانية تجد الآن نفسها بعد فشل سياسة العقوبات، وانهيار المقاومة الحبشية، في موقف حرج؛ وإذا كانت خطتها التالية لم تتضح بعد، فأنه مما لا ريب فيه أن وجهة نظرها إلى الموقف لم تتغير بل ربما كان اهتمامها اليوم بقمع الخطر الإيطالي على مصالحها ومواصلاتها أشد منه في أي وقت آخر
ومن المحقق أن السياسة البريطانية تؤثر العمل بوسائل لا تدفعها إلى الحرب؛ والظاهر من تصريحات مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية في جنيف، وتصريحات مستر بلدوين رئيس الوزارة، وأقوال الصحف البريطانية ذات الرأي، أن إنكلترا مازالت ترى المضي في سياسة العقوبات الدولية، مستظلة بعصبة الأمم ومبدأ السلامة المشتركة، وأنها ستقوم بمحاولة أخرى في هذا السبيل قبل أن تفكر في الالتجاء إلى وسيلة أخرى؛ والظاهر أيضاً أن أنصار هذه السياسة يرون أن الانتصارات الإيطالية الأخيرة في الحبشة لا تقوم على أسس مستقرة؛ وأن إيطاليا لا تستطيع المضي طويلاً في الاضطلاع بهذه الأعباء والتضحيات الفادحة التي تضطلع بها، وأن أحوالها الاقتصادية الداخلية بلغت مأزقاً خطراً، فإذا استطاع الأحباش أن يصمدوا في الجنوب وأن يحتفظوا بنوع من المقاومة بضعة أسابيع أخرى حتى يبدأ فصل الأمطار، وإذا ظفرت إنكلترا أثناء ذلك بحمل عصبة الأمم(149/15)
على تقرير عقوبات جديدة أخصها حظر الزيت، فإن الخبراء يرون أن خطط إيطاليا العسكرية تعرض في هذه الفترة إلى أشد الأخطار، فقد يستطيع الأحباش في فترة الأمطار أن ينظموا قواهم مرة أخرى، وتكون موارد إيطاليا قد نفدت أو أوشكت على النفاد فتضطر إلى وقف الحرب وقبول الصلح؛ وتؤمل السياسة البريطانية أن تسنح الفرصة لتقرير العقوبات الجديدة عقب الانتخابات الفرنسية الجديدة، فقد ظهر منها أن فرنسا تميل هذه المرة إلى أحزاب اليسار، وأحزاب اليسار تؤثر تأييد عصبة الأمم ومبدأ السلامة المشتركة، وترى أن هذه السياسة أقرب إلى تحقيق السلام من سياسة التلون والمماذقة التي جرت عليها فرنسا إزاء المشكلة الحبشية، وهي سياسة دفعت ثمنها غالياً في مسألة الرين ونقض ألمانيا لمعاهدة لوكارنو، حيث خذلتها إنكلترا في هذا المأزق، وألقت عليها درسا عميق الأثر
ويرى بعض أقطاب السياسة البريطانية فوق ذلك أنه يجب على إنكلترا إذا اقتضى الأمر أن تلجأ إلى إجراءات الحصار العسكرية، فتغلق قناة السويس بموافقة عصبة الأمم، وتقطع بذلك مواصلات إيطاليا مع شرق إفريقية، وهذا إجراء قد يؤدي إلى نشوب الحرب بين إيطاليا وإنكلترا، لأن موسوليني ما فتئ يهدد بأنه يعتبر إغلاق قناة السويس إجراء عدائياً عسكريا يجيب عنه بالمثل، ولكن أصحاب هذا الرأي يرون أنه خير أن تضطلع إنكلترا بعبء حرب محلية في البحر الأبيض من أن تترك الفاشستية تمضي في تهديدها للسلام حتى تنشب حرب أوربية أو عالمية؛ ويقولون إنه ليس لإيطاليا أن تحتج بخرق المعاهدات الدولية في مسألة إغلاق القناة بعد أن خرقت هي كل العهود والمواثيق الدولية، وهذه النظرية تلقى اليوم كثيرا من التأييد في إنكلترا، بيد أنه يلوح لنا أن السياسة الإنكليزية الرسمية مازالت بعيدة عن الأخذ بها
إن السياسة الإنكليزية تعتمد كثيراً على الزمن وعلى تطور الحوادث والظروف؛ وإذا كانت الظروف لم تحقق إلى اليوم تقديراتها وأمانيها، فليس من ريب في أن استطالة الحرب الحبشية تستنفد قوى إيطاليا ومواردها، وتضعف مركزها في أوربا؛ وقد حققت الحرب الاستعمارية الطاحنة التي تدور في الحبشة منذ سبعة أشهر كثيرا من دواعي هذا الإنهاك؛ ولا عبرة بمظاهر النصر الخلابة التي تهول إيطاليا بها، فأنها تدفع في سبيلها أفدح(149/16)
الأثمان؛ ومازال الزمن عاملاً حاسما في إخماد الجذوة الاستعمارية الفاشستية وردها إلى الصواب
(* * *)(149/17)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني
وصل الفائت:
بعد أن أثبت بارنج أن المصل المأخوذ من دم الشياه الناقهة من الدفتريا يقي الحيوانات من هذا الداء إذا هو حقن فيها، حقنه في الحيوانات المريضة فعلا لعله يشفيها فشفاها. ففعل مثل ذلك في الأطفال المرضى فكان النجاح باهراً. وبدأت المصانع تصنع هذا المصل والأطباء يستخدمونه وذاع أمره واهتز الناس له
- 4 -
ومع هذا النجاح فقد صدرت من الناس شَكيّات، وقد صدرت منهم انتقادات. وهذا أمر طبيعي، فالعلاج الجديد لم تكن مؤكدة نتائجه كل التأكيد. فهو لم يَشْفِ من الأطفال المائة مائةً عدَّا. وكيف يُرجَى منه ذلك وهو لم يكن شفى من مائة الخنازير الغينية مائة كاملة. وكان كذلك لبعض علماء الأطباء رأي نقّاد فيه، فقد ذكروا أن الذي يحدث من الداء تحت جلد الخنزير ليس بحكم الضرورة واللزوم هو عينه الذي يحدث منه في حلوق الأطفال. وشاع أمر الحقنة، وجرى المصل في دماء الألوف من الأطفال، ولكن برغم ذلك مات بعض الأطفال من الداء شر ميتة. (ولو أن عددهم ربما كان دون الذي كان يموت قبلا). وأخذ الأطباء يتساءلون عن السبب. وفقدت آباء وأمهات آمالاً كبيرة تفتّتت بفقدها أكبادهم
وهنا عاد أميل رو إلى العمل، عاد إلى ساحة القتال يحتل مكانه في صدرها. فاكتشف اكتشافاً مجيداً: طريقة سهلة هينة يحصّن بها الخيل من سمّ الدفتريا؛ طريقةً لا يموت فيها حصان ولا يطفح على جلده منها خُرّاجات أليمة ذميمة؛ وخير من هذا أنها طريقة تأتي بالكثير الوفير من ذلك المصل الحصين وبه ذلك الترياق الغالي الثمين. وكان مصلاً قويّ(149/18)
المفعول يذهب القليل منه بالسم الكثير الذي يقتل عدّة من كلاب كبيرة
وآمن رو بأن هذا الترياق سيشفي الأطفال لا محالة. وآمن به قبل أن يجهزه إيماناً كإيمان بارنج أو أشد منه تأكداً. تركز فكره على علاج الداء، واجتمع مقصده على شفائه، فلم يفكر قط في منعه. ونسي ما كان وصف من غرغرات. وظل يتردد على عجل بين معمله ومربط خيله، تارة ضارباً محاقنه في أعناقها وهي صابرة، وتارة حاملاً قوارير عظيمة البطون ملأى من دمائها وفي هذه الفترة كان نوع من الدفتريا شديد الخبث (هكذا ظن رو) يكتسح بيوت باريس. وفي (مستشفى الأطفال) كان يُحمل خمسون في المائة من مرضاه إلى بهو الأموات زُرْق الوجوه (أو هكذا أثبت الإحصاء). وفي مستشفى تروسو كان يموت ستون في المائة (ولو أن السجلات لم تذكر في جلاء أن الأطباء استيقنوا أن الذين ماتوا إنما ماتوا من الدفتريا لا من غيرها). وفي الأول من فبراير عام 1894 جاء رو إلى (مستشفى الأطفال) بوجهه المستوف وأنفه الأقنى وصدره الضيّق وقلنسوته السوداء، فدخل إلى رواق الأطفال المرضى بالدفتريا وهو يحمل قوارير ملأى بهذا السائل الأصفر المعجز من المصل
وفي هذه الساعة، في المعهد الشهير بشارع ديتو، في حجرة المكتب هنالك كان يجلس رجل شيخ مشلول ينتظر خبراً ساراً يأتيه من رو. . . . وكان هذا الشيخ تبرق في عينيه بوارق الأمل فينسى أحبابه وأعزاؤه أن الموت انتقاه وأعلمه ثم تركه وعن قريب يعود في طلب المتروك تاركه. . . . . هذا بستور جلس في غرفة مكتبه من ذلك البيت العتيق لا يود أن يبرحها ويُسْلِم للفناء زمامه حتى يأتيه الخبر اليقين بأن تلميذاً من تلاميذه تمكن من محو داء آخر من الأدواء الخبيثة بهذه الحياة الدنيا
وغير بستور كان حول رو أمهات باريس وآباؤها يرجونه الإسراع في تجهيز علاجه رحمة بأولادهم من مرضى ومريضات - فقد كانوا سمعوا بذلك العلاج العجيب الذي ابتدعه الدكتور بارنج. وقالت طائفة منهم أنه يكاد يحي الموتى ويستخلص الأطفال من براثن هذا الداء بعد أن تنقطع فيهم الآمال. وكان رو يتلفت حوله فيستطيع أن يرى الناس رافعة أيديها إليه تطلب الرحمة والغياث
جهز رو محاقنه وقواريره بذلك الهدوء وذلك البرود اللذان أثارا إعجاب الفلاحين في تلك(149/19)
الأيام الخوالي حين قام رو في حقولهم يضرب لقاح الجمرة في بهائمهم في قرية بويي لوفرت. وقام عوناه مرتان وكايو فأشعلا مصباح الكحول وأسرعا إليه في لهفٍ وتأهب لإجابة الأمر تنفتح عنه شفتاه، ونظر كوخ إلى الأطباء وهم في حَيْصَ بيص لا يدرون ماذا يصنعون. ونظر إلى الوجوه الصغيرة وهي في زرقة الرصاص، وإلى الأيدي الرقيقة وهي تُهبّش في ألحفة الصوف، وإلى الأجسام وهي تتلوّى في الفراش تطلب أنفاساً قليلة من ذلك الهواء الغالي فلا تكاد تجدها. ثم نظر إلى محاقنه ممعناً وسأل نفسه: أحقاً في هذا المصل خلاص هذه الأرواح؟ فما أسرع ما انشطرت نفسه شطرين عند هذا السؤال، فكان منها نفسان: النفس الأولى نفس الإنسان الحنّان، والنفس الأخرى نفس العالم البحاث
قالت الأولى تجيبه بقوة: (نعم، نعم فيه خلاصها)
وقالت الثانية في همس وخفوت: (لا أدري، والحكم للتجربة، فهيّا بنا إليها)
قالت النفس الحنون، وقال معها الآباء القانطون وكلهم يتوسلون ويرجون: (لا تفعل! لا تفعل! فإن التجربة تقضي بإعطاء المصل لبعض الأطفال وحبسه عن بعضهم، وهذا في شِرعة القلب حرام)
قالت النفس الباحثة: (نعم إنه عمل غير هين وقساوة تتلذع منها القلوب، ولكن ما الذي أنا صانعته؟! إن هذا المصل شفى الأرانب فما الذي يدريني أنه يشفي الأطفال والإنسان؟ لا بد إذن من العلم، لا بد من كشف الحقيقة، والحقيقة لا تكشف إلا إذا نحن حقنا به نصف الأطفال المرضى وأعفينا النصف الآخر، ثم قارنا عدد من يموت في النصف الأول بعدد من يموت في النصف الثاني؛ بهذا، وبهذا وحده، نستطيع أن نعلم الأثر الحق الذي للمصل في شفاء هذا الداء)
قالت النفس الحنون: (ولكن هبْ أنك وجدت المصل يشفي، فانظر ما تكون مسؤوليتك عن مئات الأطفال الذين يموتون لأنك حبست عنهم هذا المصل، هذا الترياق)
إنه تخيير مؤلم لاشك بين خُطّتين صعبتين. على أن رو ذا العقل الصرف فاتته حجة ما كان أولاه بإيرادها في هذه المناظرة بينه وبين رو ذو العاطفة الصرف؛ لقد كان في استطاعته أن يقول: (إننا إذا لم نتبع طريقة العلم، طريقة التجربة، إذاً لأنخدع الناس فظنوا أنهم وقعوا من هذا المصل على علاج كامل للدفتريا، وإذن لكفّ البُحّاث عن طلب علاج(149/20)
جديد لها، ثم تتوالى السنون بموت ألوف من الأطفال بسبب هذا العلاج المزعوم، ألوف كان في الإمكان إعفاؤها من الموت لو أننا اتبعنا طريقة البحث الصحيح على ما بها من قساوة. . .)
إن في هذا الحجة جواب العلم الدامغ لكل ذي رأي يقوده قلب. ولكن رو لم يصخ إليها، ومن ذا الذي يلوم هذا القلب أن يتنكّب الطريق القاسية التي تؤدي وحدها إلى علم الحقيقة. وتجهزت المحاقن، وجرى مصلها اندفاعا تحت جلود الأطفال فانتفخت به، بدأ رو في أداء رسالة الرحمة، ولعلها رسالة الخلاص كذلك، فحقن في المستشفى في الخمسة الأشهر التالية من الأطفال المهدّدين بالموت زيادة على 300 طفل. ثم ظهرت النتائج! ألا حمداً لله فقد كانت نصراً لرو ذي القلب الإنساني الرحيم، فما انتهت تجاربه في هذا الصيف حتى قام في مؤتمر جمع نوابه الأطباء وخيرة العلماء من أصقاع الدنيا فقال لهم: (إن حالة الأطفال إذا حُقِنوا بالمصل تتحسن سريعاً. . . فلا يكاد يقع الناظر في عنابر المستشفى على وجه فاقد اللون أزرق كالرصاص. . . بل على النقيض يجد الأطفال في نشاط وابتهاج)
واستمر يصف في بودابست للمؤتمرين كيف يذهب المصل بهذا الغشاء المخاطي الرمادي الذي يتكون في حلوق الأطفال وعليه تتكاثر بشلة الداء ومن فوق بساطه ترمي بسمها القاتل، ووصف لهم كيف يذهب هذا المصل بحُمّاهم كذلك: كان كنسمة باردة هبت من بحيرة شمالية على مدينة جنوبية فمرت على أفاريزها وهي تتقد ناراً. فهتف له هذا المؤتمر الوقور، وقام له أطباؤه الأشهرون على أرجلهم إكباراً له وإعجاباً بالذي أتاه
ومع هذا - ومع كل هذا - وبرغم هذا المصل العجيب، فقد مات من مرضى رو ستة وعشرون في كل مائة!!
ولكن اعلمْ أن ذلك العصر كان عصراً تغلب فيه العاطفة، واذكرْ أن هذا المؤتمر لم يجتمع، ورو لم يذهب إليه، لخدمة الحقيقة وإنما ليحتفلوا بخلاص الأرواح وليناقشوه ويختطوا له الخطط، وكان الناس عندئذ قليلي الاهتمام بالأرقام، وكانوا أقل اهتماماً بالنُّقّاد الثقلاء الذين يُلحون في طلب مقارنتها، وكانوا في تأثر شديد عندما استمعوا لرو وهو يصف لهم ما كان من تبريد المصل لجباه الأطفال بعد اشتعالها. على أن رو كان في مقدوره الرد على نقّاده بين تصفيق العظماء النابهين من سُماعه بأن يقول لهم: (وما ستة وعشرون يموتون في(149/21)
المائة! يجب أن تذكروا أنه قبل هذا العلاج كان يموت خمسون في المائة)
ومع هذا أيضاً فأنا أقول - أنا الذي أودّ أن أومن بهذا الترياق وبحسن أثره في علاج الدفتريا - أقول بعد أن مضى على ذلك الزمان بضعة عقود: إن الدفتريا داء غريب، يزيد خبثه أحياناً، ويقل أحياناً. ففي بعض الأحقاب يبلغ الموت في مرضاه ستين في المائة، ثم هو يحل به أمر خفيّ غريب يُضعف من مكروبه فإذا بالستين تنزل إلى عشرة، وهكذا كان الحال في عصر البطولة الفائتة، عصر رو وبارنج. ففي هذا العصر في بعض مستشفيات إنجلترا نزل معدَّل الموت من أربعين إلى اثنين وعشرين في المائة - وهذا بالتحقيق قبل أن يُستخدم المصل!
ولكن الأطباء الكبراء لم يأذنوا للأرقام أن تدخل في تفكيرهم، وحملوا خبر الترياق إلى أركان الأرض الأربعة، فلم تمض إلا سنوات قليلة حتى استقر المصل في الأدوية علاجاً للدفتريا. واليوم لن تجد طبيباً في الألف لا يحلف لك بأنه علاج بديع. والدفتريا اليوم ليست على خبثها الذي كان لها في العقد التاسع من القرن الماضي، والأطباء لا يفتأون يعطون المصل لكل طفل تناله تلك البشلات الفاترة الجارية الآن حاسبين أنه به الشفاء. . . والطبيب الذي يمتنع عن إعطاء المصل يُعَدّ بحق مذنباً اعتماداً على القدر الذي نعلم من أمر هذا العلاج اليوم. وأنا نفسي لو أن طفلاً لي أصابه هذا الداء لكنت أول مسرع إلى الطبيب ليحقنه بهذه الحقنة نفسها. ولم لا؟ فلعل الصبي يشفى حقاً. أنا لا أدري أنه لا يشفى، ولا يدري غيري أنه لا يشفى، وقد فات الأوان لإثبات أنه يشفي أو لا يشفي، فالدنيا الآن تؤمن به، فلا يوجد في الرجال رجل تبلغ به قسوة القلب، أو جرأة النفس أن يقوم بالتجربة التي يتطلبها العلم لإثبات اليقين
واليوم يؤمن البحاث بالذي آمن به رو من أمر هذا المصل، فهم في شغل شاغل بمباحث أخرى. وكل الذي أرجوه أن يكون رو صادقاً في الذي آمن به، حتى إذا هبّت على العالم هبّة من وافدة خبيثة من الدفتريا، وافدة في خبث تلك التي كانت في العقد التاسع من القرن الماضي، يكون للناس من هذا المصل وقاء صادق يدفعون به شرها غير مخدوعين فيه
على أنه حتى إذا لم يكن في هذا المصل شفاء الدفتريا - ولو أن الأرجح فيه الشفاء - فالتجارب التي قام بها رو وبارنج لم تضع سدى على ما نعلم اليوم. بالطبع قصة ذلك لا(149/22)
تزال حديثة، لا تزال تلوكها الجرائد كثيراً، فلم تتهيأ بعد لتبوئ مكانها في التاريخ، ولكن مع هذا ففي نيويورك، وفي كل أمريكا، وفي ألمانيا مئات الألوف من الأطفال وتلاميذ المدارس تتخذ أجسامهم مصانع يُصنع فيها هذا الترياق في حذق كبير وأمْن بالغ كي لا تأتيهم الدفتريا أبداً. وذلك بحقن هؤلاء الصغار تحت جلودهم بمقادير قليلة من سمها يكفي المقدار منها لقتل عدة كلاب كبيرة - ولكن بعد تدويره وتحويره وتغييره تغيير عجيبا حتى لا يتأذى منه الطفل يُحقن به بعد أسبوع من ولادته
والأمل اليوم كبير في مغالبة الدفتريا حتى لا يكون منها ذلك الداء الفتّاك الذي دوخّ الأجيال، وذلك بأن تقتنع الأمهات والآباء فيرضون بأن تُرشاق بناتهم وأبناؤهم ثلاث رشقات من إبرة محقن. إذن لحمدنا العاقبة وشكرنا للفلار ورو وبارنج أبحاثهم الأولى وإن فاتها التهذيب والتمام
(تمت الدفتريا)
أحمد زكي(149/23)
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
عماد الأمة
عماد الأمة أفرادها. ومتى كانت مواد البناء متينة التكوين سليمة الوضع كان البناء قوياً على احتمال تصاريف الأيام، والتغلب على صدمات الحادثات. وما مادة البناء في الجماعة سوى الفرد. فكيف يكون قوياً لتقوى به الأمة؟
شاهدات الحاضر
يلوح لي أن استعراض الوقائع لاستخراج الحقائق أقرب سبيلاً إلى صحة الحكم، وآمن عاقبة من التحليل النظري المجرد. وأخذا بهذا فأني أضرب بالإنجليز مثلاً للأمة القوية. وأحاول باستعراض بعض الظواهر للوصول إلى سر هذه القوة. وإني إذ أفعل هذا لست مأخوذاً بقوة المسيطر، ولكني إنما أتعرف سر قوة الغير لنحتذي مثاله، ومن قبل احتكت اليابان من نحو خمسة وثمانين عاماً بالغرب، وآنست منه قوة لا قبل لها بها فداورته، ثم حرصت على تعرف سر قوته واتخذت سبيله. فلما أحست من نفسها القوة تحررت مما فرض عليها الغرب من قيود، ثم صارت موضع خشيته ورهبته. والقوي يتقي دائماً التصادم بالقوي.
من أشهر حوادث التاريخ الدستوري ما يسميه الإنجليز بالعهد الأعظم؛ وهو مجموعة قواعد غير منمقة؛ هي في الواقع شروط يتقيد بها الحاكم، وهي تنبئ عن روح استقلالية أصيلة، ودرجة حرص القوم على المحافظة على ذلك العهد تؤكد أنه وضع عن عقيدة، وأنه يعبر عن شعور الأمة بحقها وكرامتها وقوتها. فلما هوجم دافعت عنه الأمة عن عقيدة راسخة فانتصرت. حدث أن أحد ملوك إنجلترا، وكان متشبعاً بتعاليم الفيلسوف الإنجليزي (هوبز) نقض ذلك العهد بإصدار أوامر تخالفه. غير أن أحد الكافة أبى أن يعترف بحق الملك في المخالفة، فامتنع عن تنفيذ الأمر. فلما أوذي المعترض ثارت الأمة، وتخلصت من ناقضي عهدها استمساكا بدستورها ومحافظة على كرامتها
والمعترض لم يصدر إلا عن عقيدة. وكان مستقل الرأي أبيّ النفس شجاعا بدليل أنه لم(149/24)
يرهب جسامة ما أقدم علي، ولم يك بالشاذ في بلده بدليل أن سواد الشعب جاراه وانتصر للحق إلى النهاية. وهذا العمل الخطير لا يمكن أن تأتيه جماعة إلا إذا كانت الروح الاستقلالية قوية فيها، وكان الشعور بكرامة الإنسان غالباً في أفرادها والاعتداد بالنفس صفة غالبة في بنيها. كان الفيلسوف (هوبز) ينادي بحق الملك المقدس في الحكم طبقاً لمشيئته لا استنادا إلى إرادة الأمة. وكان مربياً للملك المشار إليه، ولكن النفسية الإنجليزية لم تهضم هذه التعاليم؛ وكان يعجبها ما قرره الفيلسوف (لوك)؛ وهو أن الأمة مصدر السلطات، وأن الملك يستمد سلطته منها، وليس صاحب حق مقدس يحكمها طبقاً لهذا الحق المقدس فلا يتقيد بإرادتها. فلما تعارضت الفكرتان عملا كانت الغلبة لما يدين به سواد الإنجليز، لأن تربيتهم الاستقلالية أبت عليهم الخضوع لما لا يتفق مع الكرامة الإنسانية، فثاروا دفاعاً عنها وانتصروا لأنهم عملوا عن إيمان راسخ
التربية الاستقلالية مصدر الشجاعة الأدبية والإقدام والشجاعة توحي للمرء بأن يقول (لا) كلما وجب أن يقولها، و (نعم) كلما وجب أن يقولها، سواء أكان مخاطباً نفسه أم غيره. والإقدام يدفع المرء إلى العمل بما يعتقد مهما كانت النتيجة وقد دلت التجارب على أن العامل عن عقيدة قلما يخفق لأن الإيمان الراسخ في ذاته قوة يعز التغلب عليها
لو لم تكن روح الاستقلال متغلغلة في نفوس الإنجليز لرسخت فيها تعاليم (هوبز) دون تعاليم (لوك)، ولمر نقض العهد وهو الدستور كأنه حادث عادي، ولاعتاد الحكام التصرف طبقاً لمشيئتهم، ولكانت الجماعة عرضة من حين لآخر، للاحتكاك بين أنصار الطغيان وأعوان الحرية، ولبطؤ سيرها إلى الأمام
لكن النفوس كانت مشبعة بالحرية والاستقلال فدافعت عما وضعته من شروط لتولي حكمها. وأظهرت وجودها المستقل بعملها التاريخي. وعرف الحكام منها ذلك فلم يحاولوا نقض العهد وعاشت وعاشوا في هدوء. فاستطاعت الأمة التمتع ببركة الهدوء في ظل الحرية، وانصرفت بكل قواها إلى ترقية شؤونها ورفع مستوى الفرد فبلغت قمة المجد، وكانت عزيزة الجانب بوجه عام حتى اليوم. تلك حادثة من أبلغ حوادث التاريخ الإنجليزي في الدلالة على أن قوة الأمة في تغلغل روح الاستقلال بين الأفراد وفيما ينشأ عن التربية الاستقلالية من شجاعة وإقدام(149/25)
وأنا أورد مثلا آخر أدلل به على ما تربح الأمة من تشبع الفرد بروح الاستقلال. ففي الحادث المتقدم كان العمل شعبياً، وفي الحادث التالي كان العمل فردياً
في سنة 1839 نجحت إنجلترا في تأليب قوى أوروبا على مصر لتأمن الخطر الذي توهمته من قيام جماعة قوية على ساحلي البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. انتهزت الفرصة السانحة بتهديد الجيوش المصرية الآستانة نفسها فأقنعت طائفة من أقوى دول أوربا بالاشتراك معها في حمل (محمد علي) على قبول شروط فرضتها عليه، وهو الغالب تحد من قوته، ونجحت بهذا وببث الثورة في سوريا ضد المصريين في الاستيلاء على عكا وفي ضرب الجيوش المصرية بسوريا ضربة حاسمة
فلما تم ذلك بعث القائد العام وهو إنجليزي ضابطاً بحرياً إنجليزياً لاستطلاع قوة المصريين بالإسكندرية، وأبحر الضابط فاقتنع عندما وصل المياه المصرية أن من السهل ضرب الإسكندرية، ولكنه في نفس الوقت علم من ثقة أن البر يموج بقوة مسلحة تسلحاً عظيما، وفكر أن الاشتباك مع محمد علي بمصر قد يجر إلى مثل موقعة رشيد سنة 1807 ورأى أنه من الممكن التفاهم مع محمد علي على الشروط التي فرضها المتألبون ورفضها محمد علي، إذا ضمن له الضابط جعل حكومة مصر وراثية، لما أستوثق من ذلك دخل رأساً في مفاوضات مع محمد علي واتفق الطرفان. ولما أنبأ القائد العام بذلك احتج عليه وأرسل إلى حكومته يحتج، ولكن الضابط استمسك بوجهة نظره لأنه أيقن بأنه خدم بلاده ودافع عن هذا الرأي لدى الحكومة الإنجليزية رأساً وانتصر له وزير الخارجية الإنجليزية وأبرم الاتفاق الذي وضع أساسه هو فكان معاهدة لندن سنة 1840
والحادث يدل على أن الضابط البحري لم يفهم أنه مجرد أداة بل فهم أنه عنصر فعال في بناء مجد أمته. فلما رأى الفرصة سانحة انتهزها بالرغم من مخالفة هذا التصرف للواجبات العسكرية؛ فلما لم يرض رئيسه عن هذا لم يرهبه سخط الرئيس ولم ينس غرضه ولم يتقهقر وتغلب رأيه أخيراً
نظر الضابط الصغير كما نظرت حكومته إلى جوهر الموضوع لا إلى شكله، والحادث بالنسبة للحكومة الإنجليزية وبالنسبة للضابط البحري دليل على تأصل الروح الاستقلالية وعلى عظم أثر هذا التأصل في صحة الحكم على الأشياء(149/26)
تلك الروح الإنجليزية التي استعرضنا بعض مظاهر عظمتها هي التي أبت عليهم الخضوع لتهديد إسبانيا، فلم يخرجهم هول قوة الأرماد (اسم الأسطول الإسباني) عن رباطة جأشهم وكانت الغلبة لهم، وهي نفسها التي أبت عليهم الخضوع لنابليون، وهي التي تلهمهم قبول حكومة المحافظين تارة وقبول حكومة العمال تارة أخرى مع ما بين مبادئ الحزبين من تفاوت، وهي التي جعلت القاضي الإنجليزي مضرب المثل للقاضي الصالح؛ وهي بالاختصار التي وضعت الإنجليز الآن هذا الوضع الممتاز في التاريخ العصري
عبر التاريخ
ضربت المثل بالإنجليز عامدا لأنا نخاطب القوم اليوم في تحديد علاقتنا بهم. وأضرب المثل بالعرب لأني أكتب هذه الكلمة يوم الاحتفال بمستهل العام الهجري
نشأ العرب على الحرية والاستقلال لا يشوبهما إلا خضوعهم لأوهام باطلة وعادات مرذولة؛ فلما تطهرت نفوسهم باعتناق الدين الحنيف تحرروا من قيود العادات والأوهام التي لا تتفق والكرامة الإنسانية
إن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أروع أمثلة التاريخ في استقلال الرأي والصلابة في الحق؛ ولكنه نبي يعمل في حدود رسالته بما يوحي به الله، بيد أنه بث في أصحابه تعاليمه المطهرة للنفس، والملهمة لروح الاستقلال، فكان هذا مع نشأة العرب الحرة السبب في سرعة تقدمهم بعد اعتناق السلام
في أولى غزوات النبي ارتأى وهو في مركز القائد الحربي أن ينزل بقوته في نقطة معينة، ولكن أحد أتباعه اعترض على هذا في أدب وكياسة، فلما تبين للرسول صواب رأي نصيره أخذ به
إن الروح التي أملت على التابع المتفاني في حب نبيه اعتراض رأي هذا النبي، والتي دعت النبي إلى قبول رأي أحد أتباعه، هي روح استقلالية، فلا خشية في الحق من جانب الصحابي ولا تعصب للذات من جانب النبي
لما قبض النبي لم يتحيز أتباعه لأهل بيته ويختاروا أحدهم خليفة، بل اختاروا أبا بكر لأنهم رأوا صلاح الجماعة في ذلك الاختيار، والروح التي أملت هذا إنما هي روح الاستقلال والحرية(149/27)
خطب أعظم خلفاء محمد في الناس فدعاهم جهرة إلى تقويم اعوجاجه إذا رأوه أعوج، فرد أحد الحاضرين بقوله: (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيوف)
رأى عمرو بن العاص أن تفتح مصر، ولم يكن الخليفة عمر ابن الخطاب يرى رأيه. ولكن القائد أقنع الخليفة بصواب الفتح فزوده بالرجال ليمضي في تنفيذ مشروعه، ولكنه تخوف ثانية، وبعث له يسترجعه، وقدر عمرو ما في الرسالة، فلم يفضها، ومضى في سبيله حتى نزل أرض مصر. وأصبح مضيه أمراً لا بد منه
والحادث يدل على عدم الاستبداد من جهة الخليفة، وعلى الاستقلال والاعتماد على النفس والثقة من جانب القائد
ويطول بنا القول إذا ما حاولنا تقصي الحوادث التي من هذا النوع. فلنكتف بهذه الأمثلة للدلالة على أن نشأة العرب المستقلة، وتعاليم الدين الحاضة على الحرية والمساواة والاعتماد على النفس، جمعت في العرب الاستعداد الفطري بحكم النشأة الأولى والتعليم الرشيد، والإيمان القوي بالعقيدة الإسلامية، وحسن تفهمها؛ فسادوا العالم في سرعة أدهشت المؤرخين، ونشأت أمة عربية، قوية الأركان، شامخة البناء
وفي كل عصر، وفي كل بيئة تنجح الجماعة إذا سادت الحرية في تصرفاتنا مع الغير وفي تناول ذواتنا، أعني حرية الجهر بالرأي والانطلاق من قيود التعصب للذات. بهاتين الصفتين نجح العرب وتقدموا وسادوا، وبهما تقدم الإنكليز وقويت شوكتهم وسادوا، وبالاستمساك بهما نقوى ونسود؛ فالتاريخ القديم والحديث مزدحمان بالأدلة على أن التربية الاستقلالية هي أقوى دعائم الأمم، وإذا كان هذا أمرها فما سبيلها؟
(يتبع)
محمد عبد الباري(149/28)
الملك أحمد فؤاد الأول
كمسلمٍ وعالمٍ
للأستاذ عبد الله مخلص
عضو المجمع العلمي العربي
لما نعى الناعي المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول عاهل مصر العظيم ملك الحزن على مشاعري وأخذ اليأس من نفسي كل مأخذ، لا لأني من الذين تربطهم به أو بملكته رابطة شخصية فيريد أن يفي بعض حقهما عليه، ولا لأني أبتغي من وراء اصطناع الأسى أجراً أو شكوراً، بل لأني من أولئك المسلمين الذين يقدرون مصر الإسلامية حق قدرها ويعتبرونها اليوم أم البلاد وقبة الإسلام ومنبثق النور وبلد العلم في العالم العربي، وأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مدينون لها ولمسجدها الأزهر منذ ألف عام فهم يستنيرون بنورهما ويستهدون بهديهما، ولذلك يرون لزاماً عليهم أن يعنوا بشؤون مصر ومصيرها وأن يشاركوها في سرائها وضرائها، ولأني بدافع من هذه الدوافع الكثيرة من الذين سمعوا وعرفوا من خلال الملك الراحل وخصاله الغر الميامين ما يستحق الإجلال والإكبار من الناحيتين الإسلامية والعلمية فلم أتمالك عن كَتْب هذه السطور التي هي نفثة مصدور فأقول:
الملك أحمد فؤاد كمسلم
منذ نصف قرون ونيف والإسلام تتجاذبه عوامل الأخذ والرد بسبب هذه الثقافة الجديدة التي يظن حملتها أن لا بأس من إدخال التطور في جميع مناحي الحياة حتى فيما يتعلق بالعقائد والأديان والعرف والعادة حتى رأينا من بعض الأمم الإسلامية بعض الشذوذ تحت ستار التمدين فصار الإلحاد مدنية ونبذ العقيدة رقياً، وأخذنا نسمع بما لم نألفه من نظريات علمية هدامة تنكر الله والرسل وسارت بعض الأمم شوطاً في هذا المضمار الشائك الذي سينتهي بها حتما إلى الهاوية وبئس المصير
في مثل هذا الحوائق اعتلى عرش مصر الملك المرحوم فلم تبطره بهرجة الملك، ولم تؤثر على عقيدته تلك النزعات والنزغات بل ظلّ على إسلامه الصحيح وعقله الرجيح(149/29)
وإذا اعتبرنا أنه رحمه الله تعالى قضى أيام شبابه في بيئةٍ أجنبية أيام دراسته في معاهد الغرب الكبرى التي لا تمت إلى الإسلام بصلة فإن بقاءه مستمسكاً بعروة دينه محتفظاً بيقينه كان من نعم الله عليه وحجته على قوة إرادته
وإن ننس فلن ننسى له المحافظة على زيه الشرقي في عواصم الغرب بينا نرى بعض ملوك المسلمين وأقيالهم يقلدون الغربيين تقليداً أعمى حتى بلغ من بعض ملكاتهم النسج على منوال الملكات الغربيات والظهور بمظهر المدنيات الراقيات، وليس في ذلك من رقيٍّ ولا مدنية، بل فيه خروج على التقاليد واللياقة وطعن في صميم الكرامة وتبذّل غير محمود
فالملك فؤاد اقتعد الذروة في هذا الخلق الإسلامي الكريم وضرب مثلاً أعلى للمسلمين ملوكهم وسوقتهم
الملك أحمد فؤاد كعالم
لو أننا تركنا جميع مآثر الملك المرحوم العلمية جانباً واقتصرنا فقط على أثره الخالد وهو لا يزال في الإمارة نعني به الجامعة المصرية التي كان أول العاملين لها والحادبين عليها لكفاه شرفاً ونبلاً
فهذه الجامعة التي ترأسها وتعهدها وصرف من قوى نفسه ونفيسه على نموها وازدهارها هي مفخرة المفاخر بما قدمته لمصر من الخدم العلمية الجلىّ. وهانحن أولاء نرى ثمارها دانية القطوف على أيدي أساتذة جهابذة يخرجون لنا في كل عام مئات من الناشئين يملئون أرض الكنانة وبلاد العرب علماً وحكمة
والحق أن الجيل المصري الذي عاصر أيام حياة الملك المرحوم كان سعيد الحظ بما وجد أمامه من المسهلات والمشوقات والمرغبات العلمية الكثيرة
وأنا كرجلٍ يُعنى بالتاريخ الإسلامي أذكر للمليك الراحل عمله المشكور في تدوين تاريخ رسمي للدولة المصرية، فقد أمر رحمه الله تعالى بتأليف لجنة لهذا الغرض ووضع تاريخ يستخرج من الدفاتر والوثائق الرسمية، وكان صديقي المرحوم أحمد تيمور باشا من أعضاء هذه اللجنة، وهو الذي أعلمني بذلك في حينه
وكان من دواعي الغبطة للمؤرخين الإسلاميين ظهور مجموعة عزيزة المنال، تتضمن الأوامر الصادرة من حكام مصر إلى عامل الواحات من زمن الفاطميين إلى زمن الخديو(149/30)
إسماعيل رحمه الله تعالى، وهي الأوامر نفسها لا صورها
يقول المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه لي: (ولا أظنّ نظيراً لهذه المجموعة في الدنيا، وقد بحثت عن سبب حفظ هذه الأوامر جميعها كل هذه المدة في تلك الجهة النائية، فأخبرت أن العادة فيها من القديم أن يُحفظ كل ما يصدر من الحكام إلى عاملها في مكان خاص بالمحكمة الشرعية، وبها تيسر حفظها. وقد رأيت بها من توقيعات الملوك كالغوري وغيره الشيء الكثير، وكذلك توقيعات حكام الفرنسيس مدة احتلالهم لمصر وهي بالإفرنجية، ولكن الأوامر بالعربية. ولا أخفي عليكم أني متلهف إلى الآن إلى صورة شمسية من هذه المجموعة، ولكن (فيا دارها بالخيف). أهـ
إن من حسن توفيق الله ظهور هذه الوثائق الإسلامية على يدي المرحوم الملك، فلولا تفكيره في تدوين تاريخ رسمي للدولة المصرية لما استطعنا الوصول إليها، ولا الوقوف على تفكير أول قاض شرعي وضع الأساس في جمع هذه الوثائق والمستندات القيمة في تلك البلاد النائية البعيدة عن العمران المزورّة عن مدنية هذه الأيام
وأظن أن المساعي المتواصلة التي بذلت في شأن هذا التاريخ قد أنتجت نشر أجزائه الأولى باللغة الفرنسية وستتبعها النسخ التركية والإنكليزية والعربية طبعاً
إن مثل هذا الملك القوي العقيدة، الراسخ الإيمان، العالم العامل البعيد مدى التفكير، مما يُبكى عليه، ويُحزن لفقده. ولكن في خليفته وخلفه جلالة فاروق الأول خير عوض، وأحسن عزاء لنا، ورحم الله الشاعر العربي الذي قال في حالة تشبه حالتنا هذه:
هَناءٌ محا ذاك العزاء المقدما ... فما لبث المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسامٍ في ثغور مدامعٍ ... شبيهان لا ينفكّ ذا الشبه منهما
عبد الله مخلص
عضو المجمع العلمي العربي(149/31)
ملخص محاضرة
أسبانيا العربية
ألقى الدكتور استانسلاو كيروخا اي دي اباركا أستاذ الآداب الإسبانية في جامعة صوفيا محاضرة قيمة باللغة الأسبانية في مدرج الجامعة السورية بدمشق عنوانها (أسبانيا العربية) وقد لخصها الأستاذ لبيب الرياشي فيما يلي:
قسم المحاضر الكريم المنصف بحثه هكذا:
1 - نظرة عامة في الفتوح العربية العالمية
2 - افتتاح أسبانيا وتكوين مملكة عربية أسبانية
3 - العلوم العربية والعمران ونوابغ العرب في العلوم
4 - سقوط الدولة العربية وأسبابه
5 - الآثار الثمينة التي تركها العرب في أسبانيا
المدنية العربية
إن أسبانيا بعد مرور خمسة قرون لا تزال عربية بدم سكانها وآدابهم وموسيقاهم ورقصهم وميولهم وحضارتهم
والمدنية العربية في أسبانيا لا تزال إلى اليوم أسمى مدنية بريئة عرفها العالم
والكوكب الذي استنارت منه هذه المدنية أشعتها السامية هو (القرآن) وسيرة الرسول العربي
الفتوحات في الإسلام
الخليفة في الإسلام هو بمثابة قائد الجيوش العام، والملك، والبابا؛ ورسالة الإسلام للعالم هي التبشير بآله واحد؛ ولما كان المسلمون يعتقدون أن من مات مجاهدا في سبيل الله وهدى العالم يكون جزاؤه الخلد، كانت الجنود الإسلامية تضحي دون ما خوف ولا رهبة، فتقاتل قتال البطل الباسل، وبهذا افتتحوا سورية سنة 638، ومصر سنة 640، وتغلبوا على إمبراطور القسطنطينية وافتتحوا الدولة الفارسية سنة 642
كما افتتحوا قسما كبيراً من الهند سنة 707، واكتسحوا الغرب وتونس والأرخبيل(149/32)
ومراكش، ومن ثمة دخلوا أسبانيا منتصرين سنة 711
ولم يذكر التاريخ أن إمبراطورية بلغت من السعة في الملك والكبر والمجد ما بلغته هذه الدولة الفتية
فتوح أسبانيا
لنبحث عن أسبانيا الآن: بعد أن افتتح العرب أسبانيا سنة 711 على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد (92هـ) بقيت مقاطعة أو إمارة تأتمر بأمر الخليفة، ولكن في عام 756 استقلت المملكة العربية الأسبانية عن الخليفة الكبير
واتخذت هذه المملكة المستقلة (قرطبة) عاصمة لها فأصبحت أغنى عاصمة في العالم وأوفر مكانة بعناية مؤسس هذه المملكة (عبد الرحمن الأول)، وبرغم الثورات الكثيرة والاضطرابات العديدة ظلت هذه المملكة وطيدة الأركان من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر
وفي أسبانيا هذه كان يعيش قسم كبير من المسيحيين ترك لهم الإسلام حرية معتقداتهم وعاداتهم وحافظ على كنائسهم
ملوك أسبانيا
ويعد أفضل من حكم أسبانيا العربية الملوك الثلاثة:
(عبد الرحمن الأول، وقد أسس قرطبة الجميلة المجيدة
عبد الرحمن الثاني، وقد مهد الطرقات وشاد الأبنية العمومية الفخمة وأسال الأمواه في المجاري الهندسية حيث لم يكن في أوربا شيء من هذا
عبد الرحمن الثالث 912 - 916 عرف أنه كان أفضل ملك مثقف يحب العلم ويعمل على نشره، وأقوى من جميع الملوك الذين عاصروه، فقد نال انتصارات باهرة على الملوك المسيحيين الذين تحرشوا به حتى كان عدد كبير من الملوك الذين عاصروه يلتجئون إليه ويحتمون به
والحكم الثاني امتاز بحب العلم ونشر الثقافة، ولقد أنشأ في قرطبة مكتبة تحتوي أكثر من أربعمائة ألف مصنف(149/33)
وفي عهد الخليفة هشام الثاني الضعيف الإرادة تمكن المنصور وزيره الأول من محاربة الإمارات المسيحية الثائرة
وسنة 1002 اجتمع ملوك كابتجاليون وفقارا وباجتماعهم وتضامنهم تغلبوا على هذا القائد الجبار في واقعة (كلا ثانياسير) عاصمة شوريا وهكذا لم يبق للعرب سنة 1031 سوى إمارات صغيرة أشهرها سافيجا وتولوزا
العلم والعمران
لم يشتهر العرب بالبطولة الحربية فحسب، ولكنهم اشتهروا بالعلم والشعر والاقتصاد، وعرفوا بتنشيط العلوم ونشر الثقافة
اقتبس العرب جذوة من علوم اليونان والفرس - فأشعلوا من تلك الجذوة منارة مضيئة
أسسوا مدارس علمية في بغداد ودمشق، أما في أسبانيا فقد أنشأوا كلية (سالرنو) في قرطبة، وهي الكلية التي كانت لغتها عربية، وعلومها عربية، وأخلاقها عربية، وكل ما فيها عربي، وهي أقدم مدرسة طبية في أوربة كلها
وهكذا ابتدأ العرب يشتغلون في الكيمياء فاستكشفوا الكحول، وأسسوا قصورا ومساجد وجنائن، وجعلوا الأرياف بساتين زاهرة زاهية، وجروا إليها المياه في أقنية هندسية؛ لذا نقول بحق إن العرب كانوا أكثر مدنية في القرون الوسطى من أوربا كلها
وإني لأقول بحق إن المدنية العربية الأسبانية، نعم المدنية العربية، كانت جوهرة ثمينة في ثقافتها وعلومها الاجتماعية وعمران مدنها وازدهارها في جميع نواحي الحياة، حتى إن مدنية باريس ولندن في هذا العصر لم تمتازا عن حضارة العرب في تلك العصور
إن قرطبة كانت تحتوي على مائتي ألف منزل ذي بناء شاهق وفن متقن، وعلى 600 مسجد ومستشفى وقصور فخمة، وعلى 900 حمام وجنائن هندسية زاهرة، وأكثر من نصف مليون من السكان، ولقد أسس ملوكها مدارس في كل مزرعة وقرية ومدينة، وعلموا الذكور والإناث القراءة والكتابة حتى لم يبق في أسبانيا العربية أمي واحد
ولقد كان في قرطبة جامعة رئيسية؛ وإلى هذه الجامعة كان يقصد عشاق العلم وطلابه، ومن مفاخر هذه الرسالة العربية أن النساء كن يثقفن ثقافة كاملة شاملة
نعم النساء المخدرات كن يجدن القراءة ويعرفن التاريخ والفلك و. . .(149/34)
وهكذا كان العرب الأسبانيون يشتغلون في كل العلوم، وعن العرب الأسبانيين صدرت شعلة الكيمياء والرياضيات
وأكثر الفنون التي أجادها العرب الأسبانيون: الهندسة والموسيقى والشعر. ومن الأبنية الكبرى التاريخية مسجد قرطبة وقصر غرناطة، وتميز كل منهما بأقواسه وأعمدته وزخرفه
من النسل العربي هذا نحن أبنا أسبانيا، نحن الذين لا نزال نستعمل حتى اليوم الطبل والغناء والموسيقى العربية والرقص العربي
الزراعة والصناعة:
وعناية العرب في الزراعة كانت بالغة الحد الأقصى والعناية التامة، فهم الذين زرعوا النخل، والرز، وقصب السكر، والقطن، الخ. . .
أما الصناعة فقد تفوقوا فيها، وأسسوا معامل للجلد في قرطبة، والورق في البندقية، وهذه المعامل كانت أول معامل من نوعها في العالم
وفي عهد المنصور شعت المدنية العربية فأنارت أشعتها العالم. أما الأسس التي ارتكزت عليها هذه المدنية، أما القطب الذي كونها وأدارها وعززها فهو (القرآن) وسيرة الرسول العربي ليصلوا إلى أمنيتهم السامية في تكوين حضارة صحيحة
وهنا عدد المحاضر أسماء عشرات من نوابغ العرب في أسبانيا ونابغات العرب في العلوم والفنون
ثم تطرق بعد ذكرهم إلى تغلب النصرانية عليهم بسبب تفرقهم وتخاذلهم وتضامن الأمراء المسيحيين واتحادهم سنة 1492
ولقد عرض مشاهد القصور والمساجد والجنائن بالفانوس السحري، فإذا هي من الروائع التي تخلب الألباب، وقال:
نور الدين الإسلامي
المادة الأصلية في المدنية الإسلامية العربية الأسبانية هي نور الدين الإسلامي، الدين الذي يجاري المدنية والحضارة في أرقى وأسمى معانيها
وأستطيع أن أصارحكم مؤكداً أن المدنية العربية هي في الجوهر مدنية شعب يستوحي من(149/35)
الله
(قل هو الله أحد، الله الصمد)
على أسس هذه العقيدة رفعت أمجاد الجامعة العربية الإسلامية؛ إنها عقيدة دينية، نعم، ولكنها في نفس الوقت أسمى قوة اجتماعية
وختم المحاضرة قائلاً:
انتهى الحكم العربي في أسبانيا منذ خمسة قرون، أجل: ولكن أسبانيا لا تزال عربية، حتى في القرن العشرين لا تزال شرقية، لا في جوامعها وأبنيتها وجنائنها فحسب، بل وفي أخلاقها وعاداتها وموسيقاها، ورقصها وشعرها، وفي تهذيبها ومزروعاتها
ولهذا السبب تعلمون الآن أني عندما شاهدت دمشق شعرت أنني أشاهد أسبانيا، وإذا ذهبتم لمشاهدة أسبانيا شعرتم أنكم في دمشق
من هذا تعلمون أيها العرب أننا اخوة: العرب والأسبان اخوة، نعم اخوة لأن سلالتهم سلالة واحدة، ودمهم دم واحد، وهم من نفس واحدة تكونوا، وثقافتهم ثقافة واحدة وتاريخهم تاريخ واحد، وحضارتهم حضارة واحدة(149/36)
الأدب بين الخاصة والعامة
لامرتين ورينه جارد
للسيد إسكندر كرباج
تابع لما نشر في العدد الماضي
فيسأل لامرتين ضيفته: هل أصابكِ في حياتكِ ما أحزنكِ وصدع قلبك؟ فتجيبه: مراراً قليلة يا سيدي لأني خالية البال من حمد الله. غير أن لكل أتراحه على هذه الأرض، ولاسيما إذا كان فتاة مثلي لا أسرة لها ولا أقارب ولا زوج ولا بنين، تنام وحيدة وتستيقظ وحيدة لا تسمع في داخل غرفتها إلا سقسقة عصفورتها في القفص. ولكن شاء القدر أن يحرمني هذه الرفيقة اللطيفة بعد أن ألفتها فلقيتها صباح يوم ميتة وقد ضمت قائمتيها وفتحت منقارها وأطبقت أجفانها، وبموتها حلَّت الكآبة في الغرفة فلا سقسقة ولا فرح ولا صداقة، فما أحزن هذه الحالة يا سيدي. ثم تجفف دمعتين كانتا تترقرقان في محاجرها وتزيد على قولها:
إذا لم يكن للإنسان من يحبه ويعطف عليه من أبناء جنسه فأنه يميل إلى الحيوانات وعشرتها. كانت عصفورتي تحبني، وكثيرا ما داعبتها وتحدثت إليها كأنها تنطق وتعقل. يقولون ليس للحيوانات أرواح، ولكن لو لم يكن لعصفورتي روح فبماذا كانت تحبني؟ أبريشها وقوائمها؟ وسمعت أيضاً أن في الفردوس أشجاراً تتفيؤها الأطيار. فأنا لا أرى أقل بدعة في هذا القول، أيمكن أن يكون الله مع صلاحه وعدله مخاتلاً؟
فيسألها لامرتين: هل كتبتِ شيئاً في موضوع حزنك؟
فتجيبه: نعم كتبت لما نظرت القفص فارغاً والنبتة جافة على شباك النافذة؛ طفر الدمع من عيني، فجلست إلى المنضدة ونظمت قصيدة ناجيت بها تلك العصفورة الرقيقة كأنها لا تزال حية تسمعني، ولكنني لم أستطع تكملتها لفرط حزني
فيقول لها لامرتين: أسمعيني هذه القصيدة أو ما تتذكرينه من أبياتها، ولا بأس إذا جاءت متقطعة فبغيتي أن أقف على مبلغ ما فيها من الشعور لا على تناسق قوافيها
فتعمل فكرتها قليلاً، ثم تنشد بصوت رقيق ولهجة مؤثرة أبياتاً من الشعر في وصف عصفورتها وما كان بينهما من الصداقة والألفة(149/37)
فيشكرها لامرتين على ثقتها به وإظهارها له مكنونات قلبها. ثم تأتي زوجته، وبعد أن تستقبل رينه بشيء من تلك الدالة، وذاك العطف الذي يفقد الغريب بعض حيائه وارتباكه تدعوها إلى العشاء تحت شجرة تداعب أغصانها نسمات البحر محدثة فيها حفيفاً لطيفاً، كان يذكر رينه بحفيف جناحي عصفورتها
ثم يقصدون إلى شاطئ البحر القريب، ويجلسون على مقاعد زورق، ويعودون إلى التحدث، فتقول زوجة لامرتين لرينه: يظهر لي أنك ولوع بالمطالعة، وهي التي جعلتك تتكلمين اللغة الوطنية بهذه البراعة، والتعبير عن عواطفك بمثل هذا الشعر الشجي
فتجيب رينه: نعم يا سيدتي، إن المطالعة من أكبر أسباب غبطتي؛ فبعد اشتغالي النهار كله، وقيامي بواجب الصلاة لله، لا أجد لذة إلا فيها، فمن ينهض باكراً ويخيط حتى المساء يضطر إلى راحة أنامله وتسلية نفسه. إن علاقاتنا مع الجيران لا تتعدى تبادل التحية، لأن النساء ينصرفن إلى إعداد الطعام، أو إرضاع الأطفال؛ والرجال بعضهم يرقد سريعاً لينهض باكراً إلى مواصلة عمله، وبعضهم يصرف وقته وماله وصداقته في الملاهي والمقاهي؛ فماذا تفعل الفتاة المحتشمة مثلي لتمضية الليالي، ولاسيما ليالي الشتاء الطويلة؟ فأما أن تطالع، أو أن تقف جامدة كالصنم تنظر إلى جدران الغرفة، أو إلى ارتفاع دخان الموقد
فتقول لها زوجة لامرتين: ولكن ما هي الكتب التي يمكن مطالعتها؟
فتجيبها رينه: هنا البلية يا سيدتي، نريد المطالعة ولكن لا ندري ماذا نطالع. لقد وضعت الكتب للذين من غير طبقتنا فإذا استثنينا الإنجيلين وكاتب تقليد المسيح لا نجد بين المؤلفين والمنشئين من فكر فينا وجعل قسما من أدبه لنفعنا. من الطبيعي أن يفتكر الإنسان في الذين من طبقته، فواضعو الروايات والمآسي والمهازل، وناظمو القصائد والملحمات، هم من طبقة أعلى من طبقتنا، أو بالحري خرجوا من بيئتنا الخاملة العاملة ودخلوا في بيئات الملوك والأمراء والأشراف والأغنياء والسعداء وغيرهم من الذين يصرفون أوقاتهم عبثاً وأموالهم على الأباطيل
فياقطعها لامرتين: لا لوم عليهم إذا هم نسوا الطبقة التي خرجوا منها، أو تركوها جانباً. وانصرفوا إلى إرضاء أهل البيئة التي دخلوها، فمثلوا أفكارهم، وتكلموا لغتهم، وصوروا(149/38)
عاداتهم وأذواقهم، فهذا الذكاء وهذه المعرفة وهذا الذوق المكتمل الدقيق الأنيق في الطبقات العالية، وهذه اللغة والعادات لا يمكن أن تكون كلغة وعادات الطبقات الفقيرة قبل أن تسمو بالتربية إلى إدراك كنه هذه الأشياء الجميلة. كان للقدماء كتَّاب وفلاسفة وشعراء عبيد كابيكاتاتو واسابو وتارنسيو، ولكنهم لم يخصصوا أدبهم بالعبيد؛ وكان لهم سقراط، ولكن أفلاطون اضطر إلى شرحه لهم كما اضطر تلاميذ هذا، وهم أكثر منه معرفة إلى تفسيره. وكان لهم شيشرون ولكنه خصص معظم أدبه بأفراد أسرة السيبيون؛ ثم فرجيلوس الذي كان ينشد قصائده الرعائية في حضرة أميرات بلاط أوغسطس قيصر، ولكن الرعاة الحقيقين لم يتفهموه؛ ثم هوراسيو وقد كان ينشد الخمرة والحب المباح بقصائد من الشعر الحافل بالمعاني الملتبسة والصور المأخوذة عن اليونان والتاريخ، غير أن شعوب عصره لم تكن تنشدها وتدركها
فتقول له رينه: هذا حق يا سيدي إذا استثنينا روبنصن وحياة القدسيين فما هي الكتب التي وضعت لنا؟؟ نعم إن لدينا كتابين آخرين هم (تلماك) و (بول وفرجيني)، ولكن الأول كتب لتهذيب حفيد الملك، وهو مما لا يهمنا أمره لأننا لسنا من أحفاد الملوك، والثاني يحرك قلوب الجميع، لأنه يصف لنا جمال الحب وروعته في قلبي حبيبين رقيقين لا يستطيعان الحياة منفردين، وكيف أن مطامع أهليهما حالت دون اتحادهما واكتمال سعادتهما. إن فرجيني ابنة جنرال، وكان لها عمة نبيلة أرادت أن تجعلها سيدة راقية ممتازة فأدخلتها الدير. إنها حوادث عجيبة ومشاهدات رائعة، ولكنها حوادث لم تجر في منازلنا وبين إفرادنا، ومشاهد لم تقع عليها أبصارنا. فمن يكتب لنا الروايات والقصائد؟ لا أحد! أنا لا أدخل في عداد الكتاب والشعراء والمؤلفين، أولئك الذين يجمعون تقاويم تحمل بين ثناياها سخافات الأعوام الغابرة ونكاتها، ويضعون روايات لا تستطيع العذراء مطالعتها إلا خلسة عن أمها، وينظمون أناشيد تترفع الشفاه النقية عن التلفظ بها، ولا أستثني من هؤلاء إلا بيرانجر الذي أظهر آخرا جمال روحه في رباعياته البديعة. فمتى يكون للفقراء مكتبة؟ من يشفق علينا ويؤلف لنا كتاباً؟
أبدت رينه نظريتها تلك برزانة تفوق معارفها، وبلهجة تشفّ عن اعتقادها بفقر طبقتها الأدبي مما حمل لامرتين على الافتكار قليلا في حقيقة ملحوظاتها وأهميتها. وبعد قليل قال(149/39)
له لامرتين: لقد افتكرت في كل ذلك يا رينه، أما الآن فقد تغيرت أفكاري بعد أن سمعت أقوالك. حقاً إن الشعب الذي يريد التعلّم بالدرس والتسلية بالمطالعة والانتفاع بالخيال والتأثر بالشعور والارتفاع بالفكر، إما أن يموت جوعا وإما أن يثمل بالفساد إذا لم ينتبه لنفسه. لذلك وجب أن تهتم الهيئة، أو أن يخلق الله للشعب هوميروس عاملاً وميلتون مزارعا وطاسين جندياً ودانتي صناعياً وفنلون كوخياً وكورنيل وراسين وبوفون من رجال المعامل لكي يضعوا له ما لا تريد الهيئة الأثرة الكسول وضعه: أي أدبا يمثل عاداته ويعبر عن شعوره. أني أعرض بالفكر ما في المكاتب من المؤلفات النفيسة لأشهر الكتاب وأختار مجموعة صغيرة منها يمكن لأسرة نزيهة من المزارعين والعمال والخدم رجالاً ونساء كهولاً وشباناً أن تغذي بها حياتها الروحية، وأن تتركها على الخوان بغير خوف، وأن تطالع ليلاً وفي أيام الآحاد دون أن يعوزها مترجم أو مفسر، فماذا وجدت؟ وجدت التوراة كتاباً بديعاً حافلاً بالحكايات الشعبية كطفولة النوع البشري ولكنها ملتحفة بالأسرار والعادات الشائنة والغيرة والشرور وغيرها مما يفسد الروح والقلب والعادات فيما لو وضعت في يدي ولد أو تحت نظر الشعب الجاهل دون أن يوجد من يفسر معانيها ويهذب ألفاظها. ثم وجدتُ هوميروس وأفلاطون وسوفلكس وأسكليوس، ولكنهم عاشوا في عصر غير عصرنا، وكتبوا بلغة غير لغتنا، ووصفوا عادات غير عاداتنا؛ ثم وجدتُ فرجيلوس وهوراسيو وشيشرون وجوفنال وتاسيت، ولكنهم كتبوا باللاتينية والشعب لا يعرفها؛ ثم وجدتُ ميلتون وشكسبير وبوبي ودرايدن وبيرون وكرابله، غير أنهم من الإنكليز؛ ثم تاسو ودانتي وبتراركا، وهم ثالوث الشعر الإيطالي؛ ثم شيلر وجيته وفيلند وجزنر، ففي كتبهم صفحات بديعة للشعب لأن الشعر الألماني ينزل إلى درجة الشعب والشعب يرتفع إليه ولكنها بالألمانية؛ ثم سرفنتس وكالديرون ولوبس فيفا، غير أن كتاباتهم هي من النوع الحماسي الذي لا يمكن تجديده الآن؛ ثم الشعر الشرقي السامي بحكمه ومعانيه من هندي وفارسي وعربي، إنها كنوز مستورة من الخيال البشري، ولكن هذه الكنوز الثمينة هي باللغات السنسكريتية والفارسية والعربية، ولا يوجد من يكتشفها وينقلها إلينا
ثم وجدت شعراءنا الفرنسيين القدماء وجل منتوجهم من النوع الروائي الحماسي، وفي المغامرات الغرامية الوقحة والقوافي الأنيقة، وكلها في وصف حوادث البلاط والطبقات(149/40)
العالية. هذا بسكال، فكتاباته إما مناظرات اكليريكية حول جوهر العقيدة لا يفهمها البسطاء، وإما أفكار عميقة لا يسبر غورها إلا القليلون. وهذا بوسويه؛ فقد اشتهر ببلاغة تعابيره وقوة عارضته في الخطابة، وكان يسرّه أن يرعد ويبرق فوق الرؤوس المتوَّجة وفي قاعات البلاط، ولكن بروقه لم تكن تصعق إلا الشعب الذي كان يستسلم روحا وجسدا إلى سيروس العصر، فهو مجموعة رواميز في اللغة والخطابة لا أكثر. وهذا أيضاً فنيلون، ففي كتابه (تلماك) وفي المراسلات كثير من الأفكار السامية والمبادئ القويمة كالنفس المتدينة والفلسفة الإنسانية والظرف والعطف وروح الفضيلة، ولكنها صفحات بسيطة لا كتاب للشعب. ثم كورني فهو سياسي مختصر، وقد وقف في مستوى لا يبلغه القلب البشري، وأدبه كناية عن عدة مشاهد وأمثال واندفاعات شعرية لا ترضي الشعب الذي يريد الحياة بالإسهاب في شرح العواطف لا باختصارها، والنفس في نظره هي العبقرية، ونفس كورني كانت في الكلام كنفس تاسيت. ثم راسين، فهذا ولد ليكون شاعر الشعب؛ غير أن شعب عصره لم يكن خليقاً به لسوء الحظ، لأن البلاط الذي اجتذبه إليه احتفظ به ضد الشعب، ولا يوافق هذا من أدبه إلا مأساته: (أستير) و (ثعاليا) بالنظر إلى صبغتهما الدينية، وماعداهما يخص الأبهاء. ثم فولتير وهو روح جبارة استوعبت كل المعارف والعلوم، ولكن لم يخرج عن كونه مزيجاً من روح وعقل ونور ونقد ونعومة وخشونة وهزء وجذل وأحياناً وقاحة. إنه لم يكن قط نفساً وحناناً وحباً وعطفاً وشفقة على البائسين؛ كان فيلسوف السعداء ونبيل الأذكياء وشاعراً ضئيل النور لا يتبينه جداً بسطاء القلوب، يضيء في المكاتب ليخبو في الحقل أو في مسكن الفقير
وإذا نظرنا إلى مؤرخينا لا نجد بينهم من كتب للشعب، فمونتيسكيو كثير العلو، ورولين صالح ولكنه شديد الأمانة في ترجمة الماضي فلا يستطيع مطالعته من كانت ساعاته محدودة
وكذلك روائيونا فإنهم اتخذوا أشخاص رواياتهم من الطبقات العالية وعبروا عن العواطف بلغة الأبهاء المنمقة لا بلغة الطبيعة الساذجة. فلا يصلح منها شيء للشعب
ثم فلاسفتنا كديكارت وملبرنش وكونديلك وكل الحديثين، فمهما أعيد طبع مؤلفاتهم فلا أعتقد أن الشعب يقبل على مطالعتها، لأن فلسفة الشعب هي في الشعور لا في الإدراك، فمنطقه(149/41)
غريزته، وبرهانه تأثره، واستنتاجه دموعه. ومن مؤلفات جان جاك روسو لا يصلح للشعب إلا الصفحات المائة الأولى من كتابه (خوري سابويا) وبعض فصول من (الاعتراف)؛ وكذلك شاتوبريان لا يقرأ من مؤلفاته إلا (رينيه) و (اتالا) حيث امتزجت الفلسفة بالدموع، والحنان بالحب
أما مسارحنا فلا يمثّل عليها إلا ما كتب للملوك أو الطبقات المتأدبة بدليل انصراف الشعب عنها إلى تمثيل الروايات الغنائية التي اخترعها لنفسه. وكذلك علماؤنا فقد كتبوا في الجبر بلغة واصطلاحات تجعل العلوم الطبيعية في حالة الغموض لمن يتمرَّن عليها، فالذي يجب أن يعبر عن العلوم بلغة الشعب البسيطة لم يخلق بعد. إنه خلق ولكن في إنكلترا؛ هو ابن هرسكل
فمن كل ما كتب بالفرنسية لا توجد إلا خمسة أو ستة كتب تصلح للطبقات الجاهلة في المدن والقرى
يعلّمون الشعب القراءة، ولكنهم لا يضعون له الكتب اللائقة به، فهم إما أنهم يقدمّون له مؤلفات كتبت لغيره أو أوراقاً محشوة بالنقائص والوقاحة كمن يقدّم سلاحا لطفل ليجرح به نفسه
(العصبة)
يتبع
إسكندر كرباج
من العصبة الأندلسية(149/42)
لعبرة في وفاة الملك
ديمقراطية الموت
للأستاذ محمود غنيم
الموت آية، ولكن موت الملوك آية كبرى؛ والموت عظة، ولكن موت الملوك عظة بالغة
بالأمس تهجم الموت على ذلك الحرم المقدس، واقتحم أسوار هذا الحصن المنيع الذي تغضى العيون حياء من مهابته، ولا تلجه الشمس إلا بعد استئذان؛ اقتحم الموت بلاط ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم، والجالس على عرش فرعون، فلم يحدِّد للزيارة ميعاداً، أو لم يحدَّد له ميعاد، ولم يلزم الباب حتى يُسمح له بالدخول كما تقضي المراسيم عند زيارة الملوك، ثم مد يده في أناة ورفق، بل في عنف وقسوة، فسل روح الملك من جسمه، كما تُسل كل روح من كل جسم، ثم انصرف هادئاً مطمئناً، كأن لم يفعل شيئاً، فإذا الحرس واجم، والسلاح كليل، والطب يطرق حياء، وجبين العلم يتصبب عرقاً، وإذا الشرارة تنطلق في القصر، فيندلع لهيبها في مصر، ويسمع دويها في الخافقين!
يا لله! أيمرض فؤاد كما يمرض أي فرد ممن يظلمهم عرش فؤاد؟ كنا نظن عرشه حمى تتحاماه الأسد، وتتقيه عوادي الدهر، فما بال جراثيم المرض تنفذ إلى ذلك الحمى، وما بال ميكروباته تتسرب إليه، وما بال أهون خلق الله شأناً يفتك بأعظم خلقه شأناً؟ حقاً إنه الموت! ديموقراطي، لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
يمرض الفقير، فيرمى أهله بالتقصير؛ يقولون: تهاونوا فاستفحل الداء، أو أساءوا اختيار الأطباء، فما بال الملوك يتقلبون على فراش المرض، ويقاسون ألم النزع، ويتجرعون كأس الحمام؟
أيها البرق، توعك مزاج الملك فطير الأنباء. أيتها الطيارات، احملي من مختلف الأصقاع نطس الأطباء. أيها العلم هات أحدث ما تمخضت عنه معامل الكيمياء. وأنت أيها الموت ما لك جامداً في مكانك لا تريم، هازا كتفيك استخفافاً، مفتر الثغر عن ابتسامة مروعة، تسرح طرفك بين هؤلاء وهؤلاء، في سخرية واستهزاء؟
أهكذا يُفعل بالملوك؟ لك العزاء والسلوة أيها الفقير! ليس المرض وقفاً عليك، وليس الموت وقفاً عليك. إنك لا تتعذب وحدك أيها المسكين، ولكن الملوك أيضاً يتعذبون! الملوك الذين(149/43)
تنظر إليهم نظرة التقديس، وتخلع عليهم ثوب الألوهية، وتغبطهم في يقظتك، وتحلم بنعيمهم في منامك، والذين تعتبرهم مثلك الأعلى، وتعتقد أن الخطوب لا ترقى إليهم، وأن لهم عيشاً أنعم من الحرير وألين من الماء: هؤلاء يمرضون أيضاً ويموتون، ولعلهم في عيشهم محسودون بما هم منه يبكون!
هذا هو ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم، تُستأصل نواجذه بلا مخدر، فيحتمل راضياً أو كارهاً تعلقا بالحياة؛ وتُشق لثته ثم تخاط بلا مخدر، فيحتمل راضاً أو كارها تعلقا بالحياة؛ وتُحرّم عليه الأسرة، فينطرح على كرسيه ثم ينام أو لا ينام، فيحتمل راضياً أو كارها تعلقا بالحياة؛ وأخيرا هاهي ذي الحياة، تتدلل تدلل الهيفاء، وتجفو فتسرف في الجفاء. وهاهو ذا شبح الموت يقتحم البلاط، رغم كل احتياط!
ماذا تقول النشرات الطبية؟ - القيح! التعفن! التسمم! أسماء تتداولها ألسنة العامة، وكأننا كنا نخالها وقفاً على أبدانهم، وما كنا نظن أنها تعرف الطريق إلى ذوات الملوك، ذوات الملوك المصونين عن العبث، الموضوعين فوق القوانين، الذين لا تنالهم الألسن إلا بالهتاف، ولا الأفواه إلا باللثم، ولا تطأ الشفاهَ أسماؤهم إلا همسا، ولا تنالهم الأيدي إلا بالسلام إيماءً من بعيد؛ في هذه الذوات المقدسة تسري سموم الموت، وينشب أظفاره الموت، والموت ديمقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
(لا أريد أن أموت) هكذا يقول الملك؛ والملك إذا قال فكلمته مرسوم نافذ، وإذا أشار فإشارته قانون محترم، وإذا أومأ فإيماءته أمر واجب الطاعة، ولكن الموت - قاتل الله الموت - لا يحسن الخضوع للمراسيم، ولا يعرف كيف ينفذ القانون، ولا ينحني أمام أوامر الملوك
مات الملك في الشرق وكان ابنه في الغرب، وقد فصل القضاء بين الاثنين ببحر وبرين، أليس من حق الراحل أن تكتحل برؤية ابنه عيناه قبل أن يفارق الحياة؟ أمنية يظفر بها المغمور الصعلوك، بله الأمراء والملوك؛ أمنية يظفر بها المحكوم عليه وهو من حبل المشنقة قاب قوسين، ولكن الملوك يتمنونها فلا يجدون إليها سبيلاً. إيه أيها الموت! هلا تريثت قليلا حتى يؤوب الغائب؟ إيه يا جنود سليمان! هلا حملت النازح البعيد على أجنحتك التي حملت عرش بلقيس؟ لا هذا ولا ذاك، إذن فليعتز الراحل العظيم، بكتاب ابنه الكريم، ولكن كتاب الولد البار لا يكاد يصل إلى الوالد الواقف على حافة الأبدية حتى يضن(149/44)
الموت أخيرا كما ضن أولا، وحتى ترتعش اليد رعشة الموت، فيتدحرج الخطاب، وينسدل بين البصر وبينه حجاب، ويلفظ القارئ نفسه الأخير، ويكون آخر ما قبضت عليه يمينه كتاب ابنه المحبوب، وآخر ما فاه به اسم ابنه المحبوب، وآخر ما انطبع في مخيلته صورة ابنه المحبوب
هاهو ذا الملك مسجى على سرير من ذهب لا يرد إليه الحياة، مغطى بأكفان من الحرير لا تخفف من خشونة الموت شيئاً؛ أمامه مباخر من عنبر لا تنفس من سكرة الردى! النعش هو النعش، حملته الأعناق، أم جرته الخيول العتاق؛ والقبر هو القبر من طين وماء، أو من مرمر ورخام، في صحراء جرداء، أو في جوف هرم من الأهرام. أطلقوا المدافع، ونظموا المواكب، وأعلنوا الحداد، ونكسوا الأعلام، فلن تغيروا من حقيقة الموت شيئا. الموت هو هو، ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
مات الملك فورث ولي عهده تاجا وصولجانا، ونهراً عذبا، ومملكة فيحاء، وأمة مطيعة مخلصة، ولكنه بجانب ذلك فقد عطف الأب البار، وحنان الوالد الرحيم؛ فليت شعري أخاسرة تلك الصفقة أم رابحة؟ وأية الكفتين هي الراجحة؟، لست أدري، ولكن الذي لاشك فيه أن كل شيء يمضي ويعود، حتى العروش والتيجان، ولكن الميت لا يعود، وأن الملك الجديد لو بذل عرشه في سبيل نظرة من أبيه أو كلمة يسمعها من فيه ما سمح الموت، لأن الموت ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة ولا يدين بالفروق بين الطبقات
هكذا تتساوى الرؤوس عند الموت بالرؤوس، أو تتساوى الرؤوس بالأذناب، كما تساوت الرؤوس بالرؤوس، أو الرؤوس بالأذناب عند انحدارها من الأصلاب، الكل من التراب، والكل إلى التراب. وما لي لا أذهب إلى أبعد من ذلك، فأزعم لك أن الناس كما يستوون في طرفي الحياة، يستوون في الحياة؛ وأزعم أن في الحياة نصيباً مشتركا من السعادة، وآخر من الشقاء، كل الناس فيهما سواء. وما دام كل إنسان لا يقنع بما هو فيه، بل يمتد نظره إلى أبعد منه، ويتمنى على دهره الأماني، فيبسط له الدهر إحدى يديه، ويقبض الأخرى، فلا يقنع الإنسان عند البسط، ولا ييأس عند القبض، فهو أبدا آمل، كادح، مخفق، ناجح؛ أقول مادام أنه لا سبيل إلى الكمال المطلق، إما لأنه غير موجود، أو لاستحالة الوصول إليه، فالناس في الحقيقة سواء، وما اختلافهم في الجاه والمال والمراكز الاجتماعية إلا أمور(149/45)
اعتبارية
لا أستطيع أن أعرف السعادة ما هي، غير أن الذي لا أشك فيه أنها ليست المال وحده، وليست الجاه وحده، وليست الجمال وحده، قد تكون مزيجاً من ذلك كله، وقد تكون غير ذلك كله، وقد يكون الألم جزءاً من ماهية السعادة، أو شرطا من شروطها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تستطيع أن تضع الفوارق بين السعادة والشقاء، أو تومئ بإصبعك إلى شخص معين فتقول: هذا شقي، وإلى سواه، فتقول: هذا سعيد
أيها الراحل العظيم، لقد تبوأت سرير الملك
في ساعة يذر الأسرة نحسبها ... مثل النجوم طوالعاً وأفولا
ولقد خلفت سرير الملك، وما تزال الجدود عاثرة، والأسرة متناثرة؛ ولكنك عشت ملكا، ومت ملكا. والآن قر في مضجعك، فلا قرار مع الحياة؛ والتمس في باطن الأرض الراحة التي خانتك على ظهرها. إن للملك لهما، وإن للشعوب من الأحمال الثقال، ما تنوء بحمله ظهور الرجال؛ وإن لك في جوار ربك لعوضاً أي عوض. أحسن الله عزاءنا فيك، وبارك لنا في خلفك المحبوب
كوم حمادة
محمود غنيم(149/46)
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ عبد القدوس الأنصاري
نشر الأساتذة: علي الطنطاوي وعبد الوهاب الأمين وسامي الشقيفي وغيرهم في مجلة (الرسالة) الغراء بحوثاً ممتعة عن الحياة الأدبية في أوطانهم، فأجادوا وأفادوا، وجلو لنا بأقلامهم المرهفة حقيقة هذه الحياة
ولما كانت هذه البحوث عبارة عن جزئيات يتألف من مجموعها موضوع كليَّ عام، هو الهدف الأسمى ألا وهو (تصوير الحياة الأدبية في البلاد العربية) رأيت - والحالة ما ذكر - أن أدلي بدلوي وأقول كلمتي عن الحياة الأدبية في الحجاز، استكمالاً لحلقات البحث، ووفاء بحق هذا القطر الذي هو مهد الأدب العربي الأول
كانت الحياة الأدبية عندنا فيما قبل الحرب العامة الماضية تجري على سنن أدباء القرن الوسطى جريا تقليدياً محضا، ميكانيكياً خالصا؛ قصائد غزل ورثاء، ومدح وهجاء، وتطريز وتشجير، ورسائل معذرة وإطراء، وعتاب وتواصل وتقاطع. . . وكانت كل هذه الرسائل وهاتيك القصائد منهوكة القوى المعنوية بما تحمله دواماً من أغلال السجع المرهقة، وأثقال المحسنات البديعية الجافة. . . للألفاظ في الأدب عامةً المقام الأول: أما المعاني فهي في الدرجة الثالثة أو الرابعة في الأهمية. بقدر اقتدار الأديب ناثراً أو شاعراً على تنميق الألفاظ يقاس أدبه، وبموجبه يصدر له أو عليه الحكم
هكذا كان الجو الأدبي هنا محاطاً بسياج من الجمود. . . فلما وضعت الحرب العامة أوزارها استيقظ في نفر من ناشئة الحجاز المتعلمين روح النهوض، وشعروا أن أدبهم قد أخنى عليه التقليد وأفسده داء الجمود، فتركه هيكلاً عظيماً نخراً باليا، نابياً عن الحياة، بعيداً عن مطالبها، فاقداً روح الحياة، فاشمأزوا من هذه الحالة المزرية. وهنا ابتدأ دور العمل في الإنقاذ، ومن هنا ابتدأ عصر التجديد
إلى أين تتجه؟ كيف نجدد هذا الأدب الرث البالي؟ أين الطريق؟ وأين الدليل؟
هنا شاهدنا سببين ممدودين إلينا من أقطار العروبة الناهضة، وكل منهما له مغرياته، هذا الأدب المصري يجذبنا بنصاعة أسلوبه وقوة تركيبه، وهذا الأدب المهجري يسحرنا بمرونة أسلوبه وسهولة تعبيره. كان طبعيا - والحالة كذلك أن يحصل انقسام في اتجاه حياتنا(149/47)
الأدبية. ففي المدينة كان منا إجماع على اعتناق الأدب المصري أسلوبا وتفكيرا، وفي مكة وجدة تمسكت طائفة بذيول الأدب الهجري، وأخرى اعتنقت الأدب المصري. وكل سار في اتجاهه يكتب ويفكر، ويفكر ويكتب. حتى كان تفاعل فكريّ في الآونة الأخيرة أنتج (توحيد) مناهج الأدب الحجازي في انتهاج سبيل الأدب المصري وحده. ومن هنا وبسبب تضافر الجهود وقوة الاتحاد رأينا الأدب الحجازي يخطو إلى الأمام خطوات سريعة تشف عن استعداد عظيم
على أن حياتنا الأدبية بسبب حداثة عهدها ولكونها نتيجة ثقافة محدودة فأنها ما تزال بحاجة إلى الإصلاح والتغذية، وإلى التنظيم والنضوج. فالاضطراب الفكري والارتجاج الكتابي، ظاهرتان ما تزالان تلازمانها فيما تنتجه من ثمار. ومع هذا فأننا لعلى اعتقاد أكيد باضمحلال هاتين الظاهرتين متى تضافرت الجهود في سبيل الإصلاح
وحياتنا الأدبية إنما تستمد كيانها وعناصرها من الأدب العربي الإسلامي القديم، كمؤلفات الجاحظ وقصائد المتنبي، ومن نتائج قرائح أدباء مصر المعاصرين؛ وقلما تأخذ أية فائدة أو تستمد أية فكرة عن الأدب الغربي رأساً لعدم إلمام الأكثرية الساحقة من القائمين بها باللغات الأجنبية إلماماً يؤهلهم للإفادة والاستفادة
ولقد خطت حياتنا الأدبية خطوات مباركة في سبيل النشر والتأليف، فمع وجود كثير من العقبات والحوائل قد ظهر في عالم المطبوعات كتب أدب حجازية منها: كتاب أدب الحجاز، وكتاب آثار المدينة المنورة، ورواية التوأمان، وإصلاحات في لغة الكتابة والأدب، والتحفة الشماء في تاريخ العين الزرقاء، وحياة سيد العرب، والانتقام الطبعي
وفي الحجاز اليوم صحيفة أدبية هي الأولى من نوعها، وهي (صوت الحجاز) التي تصدر بمكة، وهذه الصحيفة هي المنبر الوحيد الذي يتبارى من فوقه حملة الأقلام في الحجاز، وفي نية بعض إخواننا من أدباء المدينة وشبابها إنشاء صحيفة في المدينة كصوت الحجاز، ونرجو لهم التوفيق، لأن الصحافة كما أنها عنوان رقي البلاد فأنها الباعث الوحيد لإنهاضها وإنعاشها في هذا العصر
وخلاصة القول أن في الحجاز اليوم حياة أدبية، وإحساساً أدبياً، زاخرين بالآمال في مستقبل أدبي مجيد رائع لهذه البلاد. والآمال هي مصابيح الحياة؛ ومادامت حياتنا الأدبية(149/48)
تحمل بين يديها هذه المصابيح، فإنها ولا ريب بالغة قمة النجاح
(المدينة المنورة - الحجاز)
عبد القدوس الأنصاري(149/49)
أندلسيات:
أبو الفضل بن شرف
الشاعر الفيلسوف
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
(الناظم الثائر، الكثير المعالي والمآثر، الذي لا يدرك باعه، ولا يترك اقتفاؤه واتباعه؛ إن نثر رأيت بحراً يزخر، وإن نظم قلد الأجياد دُرّاً تباهي به وتفخر، وإن تكلم في علوم الأوائل بهرج الأذهان والألباب، وولج منها في كل باب؛ وقد كان أول ما نجم بالأندلس وظهر، وعُرف بِحوْك القريض واشتهر، تُسدّد إليه السهام، وتنتقده الخواطر والأوهام، فلا يصاب له غرض، ولا يوجد في جوهر إحسانه عرض، وهو اليوم بدر هذه الآفاق، وموقف الاختلاف والاتفاق، مع جري في ميدان الطب إلى منتهاه، وتصرف بين سماكه وسهاه، وتصانيف في الحكم ألف منها ما ألف، وتقدم فيها وما تخلف، فمنها كتابه المسمى يسر البر، ومنها الكتاب الملقب بنجح النصح وسواها، من تصانيف اشتمل عليها الأوان وحواها). . . هذا هو كل ما قاله الفتح بن خاقان في ترجمته لهذا الأديب الشاعر، الفيلسوف، النطاسني أبي الفضل بن شرف. وقد جرى الفتح في هذه الترجمة على شنشنته في سائر تراجمه، فلم يذكر اسم المترجم له، ولا اسم أبيه ولا منشئه، فضلاً عن أنه أغفل تاريخ مولده ووفاته. . وكذلك لم نر لغير الفتح ترجمة لهذا الأديب الكبير يصح أن تسمى ترجمة يعول عليها. . . ولكنا مع هذا أترانا لا نعرض لترجمة أمثال هذا الأديب البارع المتفنن الذي نبغ منه شعرٌ شاعر وحكمة بالغة وكان إلى ذلك نطاسياً عظيما، كما يؤخذ من كلام الفتح، ومن ثم يعد بحق من مفاخر الأندلس؟ وما قيمة عملنا إذا نحن ضربنا الذكر صفحاً عن مغموري أفاضل الأندلس أولئك الذين لم يوف المؤرخون تراجمهم حقها. .؟ وإياك والظن أنا نعني بقولنا مغمورين أنهم لم يكونوا مشهورين في عصورهم، وإنما نعني أنهم مغمورون في نظر أدباء هذه الأجيال. وقليل لعمري من سمع منّا بهذا أبي الفضل بن شرف سماعه مثلاً بابن هانئ وابن خفاجة وابن زيدون وابن عمار وابن وهبون وابن عبدون وأمثالهم ممن اضطرب ذكرهم وكانوا من المشهورين(149/50)
(وأما بعد) فهل تدري من هو أبو الفضل بن شرف هذا؟ أظنك لا تجهل أديب القيروان وكاتبها وشاعرها أبا عبد الله محمد ابن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني قرين ابن رشيق ومنافسه في خدمة المعز بن باديس ومنادمته والمتوفى سنة 460هـ؛ إذن فلتعلمن أن المترجم له هو ابن هذا الأديب القيرواني العظيم واسمه جعفر بن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن شرف المذكور. . دخل الأندلس مع أبيه، وهو ابن سبع سنين، وقيل إنه ولد في الأندلس بعد أن نهد إليها أبوه وأقام بقرية من قراها تسمى برْجَه ومن ثم يقال للمترجم أبو الفضل بن شرف البرْجي. وللمترجم ابن فيلسوف شاعر مثله هو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المذكور - وهو القائل:
وكريم أجازني من زمان ... لم يكن من خطوبه لي بُد
منشد كلما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حد
هكذا يحدثنا المقري عند إيراده قافيَّة المترجم التي يمدح بها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف والتي ستمر بك قريباً. ومن هذا ومن قول الفتح في كلمته التي صدرنا بها هذه الترجمة، (وهو اليوم بدر هذه الآفاق) يستنتج أنا المترجم أبا الفضل بن شرف هذا أدرك ملوك الطوائف ودولة المرابطين، أي أنه عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس
وقد حدثنا الفتح في كلمته بأنه شاعر وأنه فيلسوف وأنه طبيب. أما أنه طبيب فلم نقف له على أثر في الطب ويبدو أنه كان يحترف الطب ويتكسب به وإن لم يؤلف فيه، وربما ألف وضاعت تواليفه فيما ضاع من شتى التواليف. وكذلك الحكم في أنه فيلسوف إذ لم يذكر لنا المؤرخون شيئاً من آثاره في الفلسفة، ولعلهم يعنون بفلسفته ما أثر عنه من الحكم مثل هذه الكلم الجوامع، والحكم الروائع التي أثرت عنه وهي: (العالم مع العلم كالناظر للبحر، يستعظم منه ما يرى وما غاب عنه أكثر. الفاضل في الزمن السوء كالمصباح في البراح، قد كان يضيء لو تركته الرياح. لتكن بالحال المتزايدة أغبط منك بالحال المتناهية، فالقمر آخر ابداره، أول إدباره. لتكن بقليلك أغبط منك بكثير غيرك، فإن الحي برجليه وهي ثنتان، أقوى من الميت على أقدام الحملة وهي ثمان. المتلبس بمال السلطان كالسفينة في البحر إن أدخلت بعضه في جوفها أدخل جميعها في جوفه. التعليم فلاحة الأذهان، وليست(149/51)
كل أرض منبتة. الحازم من شك فروّى، وأيقن فبادر. قول الحق من كرم العنصر كالمرآة كلما كرم حديدها أرت حقائق الصفات. ليس المحروم من سأل فلم يعط، وإنما المحروم من أعطى فلم يأخذ. يا ابن آدم! تذم أهل زمانك وأنت منهم، كأنك وحدك البريء، وجميعهم الجريء، كلا بل جنيت وجني عليك، فذكرت ما لديهم ونسيت ما لديك. اعلم أن الفاضل الذكي لا يرتفع أمره أو يظهر قدره، كالسراج لا تظهر أنواره أو يرفع مناره، والناقص الدنيء لا يبلغ لنفعه إلا بوضعه، كهوجل السفينة لا ينتفع بضبطه، إلا بعد الغاية في حطه). . . . إلى أمثال هذه الكلمات البديعة الحكيمة الشاعرة الناصعة البيان، المنيرة البرهان، التي لا تصدر إلا عن حكيم جهبذ من الراسخين، وأديب بارع من ذوي القرائح المطبوعين. ويشبه هذه الكلمات من شعر المترجم له قوله:
إذا ما عدوك يوماً سما ... إلى رتبة لم تطق نقضها
فقبل - ولا تأنفن - كفه ... إذا أنت لم تستطع عضها
وإذ قد وصلنا إلى شعر هذا الشاعر الفيلسوف كما يطلق عليه الأندلسيون فلنذكر أن شعره الذي وقع إلينا ينم على أنه شاعر متفنن رفيع الطبقة رصين الشعر، دقيق الفكر، لطيف التمثيل. ومن قصائده الفائقة قصيدته القافية التي أنشدها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف، وكان قد قصر أمداحه عليه، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات. ولما وفد عليه وأنشده هذه القصيدة كان في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة وإليك هذه القصيدة:
مَطَلَ الليل بوعد الفلق ... وتَشكيّ النجم طول الأرق
ضربت ريح الصبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق
وألاح الفجر خدا خجلا ... جال من رشح الندَى في عَرَق
جاوزَ الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق
واستفاض الصبح فيه فيضة ... أيقن النجم لها بالغرق
فانجلى ذاك السنا عن حلك ... وانمحى ذلك الدجى عن شفق
بأبي بعد الكرى طيف سرى ... طارقا عن سكن لم يطرق
زارني والليل ناع سُدْفَه ... وهو مطلوب بباقي الرمق(149/52)
ودموع الطَّلِّ تَمريها الصبا ... وجفون الروض غرقى الحدق
فتأنى في إزار ثابت ... وتثنى في وشاح قلق
وتجلى وجهه عن شعره ... فتجلى فلق عن غسق
نهب الصبح دجى ليلته ... فحبَا الخد ببعض الشفق
سلبت عيناه حَدَّي سيفه ... وتجَلى خده بالرونق
وامتطى من طرْفه ذا خبب ... يلثم الغبراء إن لم يعتق
أشوس الطرف عرته نخوة ... يتهادى كالغزال الخرق
لو تمطى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعُنق
حسرتْ دُهمته عن غُرة ... كشفت ظلماؤها عن يقق
لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلى خده باليقق
وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعة أو جِنة أو أوْلَقِ
مدركا بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقا بالرفق ما لم يلحق
ذو رضى مستتر في غضب ... ذو وقار منطوٍ في خرق
وعلى خَدّ كعضب ابيض ... أذن مثل سنان أزرق
كلما نصبها مستمعاً ... بدت الشهب إلى مسترق
حاذرت منه شبا خَطيّة ... لا يجيد الخط ما لم يمشق
كلما شامت عذارى خده ... خفقت خفق فؤاد فرق
في ذرى ظمآن فيه هيف ... لم يدعه للقضيب المورق
يتلقاني بكعب مصقع ... يقتفي شأو عذار مفلق
إن يدر دورة طرف يلتمح ... أو يجل جول لسان ينطق
عصفت ريح على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق
كلما قلبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق
جمع الصرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهد موثق
أوجبت في الحرب في وخز القنا ... فتوارت حلقا في حلق
كلما دارت بها أبصارها ... صورت منها مثال الحدق(149/53)
زلّ عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق
لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظ محرق
أكهب من هبوات أخضر ... من فرند أحمر من علق
وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا من لكفيك سقى
يا بني معن لقد ظلت بكم ... شجر لولاكم لم تورق
لو سقى حسان إحسانكمُ ... ما بكى ندمانه في جلق
أو دنا الطائيُّ من حيكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق
أبدعوا في الفضل حتى كلفوا ... كاهل الأيام ما لم يطق
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب(149/54)
الطفل
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مِنْ عالمِ الروح وهو الخلد والقِدَمُ ... وكان بالأمس يطوي جسمه العَدَمُ
سِرُّ الحياةِ وسر الموت ما برحت ... تطويه عن فِكَرٍ هَمَّتْ به الظُّلمُ
يُطِلُّ من عينه معنى يزاوله ... معنى التَّفَهُّمِ لم ترْصَدْ له كَلِمُ
وحيرة هي بعض اللب يبرزها ... صفو من العين لا خِب فَتَنْكَتِمُ
صفو الغرارة أبهى ما رأى بَشَرٌ ... ما رَنَّقَ العينَ لا شر ولا ندم
ولم تَشِبهُ تجاريب الحياة بما ... يدجوله اللحظ والأفكار والشِّيَمُ
ضعف الوليد وهل في القلب مُبّتَعِثٌ ... نَبْعَ الحنان كضعف ليس يُتَّهَمُ
لأيِّ أمر بدا يَفْتَرُّ مبسمه ... وما حباهُ بِزَعْمِ الأشيبِ الفَهَم
وكلما بدرت للشر بادرة ... قلبٌ المُسِنِّ لها حيرانُ يضطرم
يود كل رجيح العقل مكتهل ... أن لو يعود وليداً أمره أَمَمُ
وليس يبصر أن الشر مُقْتَبَلٌ ... يعود منه إليه الهم والهرمُ
لكنها مهلة للقلب يَنْشُدُها ... حيث الصفاء وعيش ماؤه شَبمُ
فلا عداءٌ ولا مكر ولا حِيَلٌ ... ولا حقودٌ ولا غدر ولا جُرُمُ
حيث الحياة كبيت الله طاهرة ... لدى الطفولة وهي المَعْبَدُ الحَرَمُ
أو جنة الخلد لا إِثْمٌ لساكنها ... وما تَجاَوَرَ ذو عجز ومُجْتَرَمُ
إِنَّ الأزاهر والأطفال ما اجتمعا ... صنوان والحسن فيها طُهْرُهُ عَمَمُ
مرأى يُطَهِّرُ ما بالنفس مِنْ دَنَسٍ ... حتى يعود بها والخير مُغْتَنَمُ
كم ناقم سَلَّ منه الطفل عادية ... من الضغائن إذ يرنو وَيَبْتَسِمْ
قد يُحْزِنُ الزهر إذ يذوي أَمِنْ شَبَهٍ ... بمصرع الطفل رائيه له يَجِمْ
ما أعظم الفقد لو أن الورى خُلِقُوا ... خلق الرجال وكالأطفال ما وْسِمُوا
لما تَمَلَّى أُناسٌ طُهْرَ ما فقدوا ... ولا أحبوا ولا حنوا ولا رحموا
عبد الرحمن شكري(149/55)
دمعة على الصورة. .!
للأستاذ أبي السمح الفقيه
أغلاماً أرى هنا أم ملاكا ... وجد العيش في سوى الخلد عجزا؟
فمضى للنعيم غضاً غريرا ... مستبداً بروحه مستعزا!
نظرات بريئة وصفات ... فاق أترابه بهن وبزَّا
وفؤاد يسيل في كلمات ... لك فيه هزت فؤاديَ هزا!
لا أعزيك لا أقول تصبر ... مثل هذا بفقده لا يُعزَّى!
لا أعزيك فيه إلا بدمعي ... وبحزن يئز في الصدر أزا!
لهف قلبي عليه وهو ينادي ... مستغيثاً أباه والغوث عزا!
قد رضينا له ربي الخلد مغنى ... ولو أن الفراق في الوصل حزا!
كنت بالرزءِ مستهيناً فلما ... شاهدته العيون ظلت تنزى!
عجبي يضحك الخلي ويلهو ... والمنايا تجز في الناس جزا!
يبتلي المؤمنون مثلك فيما ... وهبوه فيسلبون الأعزا!
مكة المكرمة
عبد اللطيف أبو السمح الفقيه
أستاذ اللغة العربية بدار الحديث(149/56)
إلى الأستاذ أنور العطار
بقلم علي محمد الشلق
أيها الشاعر الذي سال حزناً ... وجرى ذائباً ولم يتدفقْ
أنت همسٌ ورقَّةُ وهباء ... ليت هذا القريض عطر فيعبق
يا شباب الشآم أنت فخار الده ... ر لا بل أعزُّ منه وأعرق
يا شباب الشآم يا وثبة الشر م ... ق ويا بسمة الرجاء المحقق
ما ترجي بالله من أدب با م ... كٍ حزين واهي الأماني مُمزق؟
ليت شعري ماذا دهاك لتبكي؟ ... في شباب ضافي الذيول مُنمَّق
ليت شعري ماذا دهاك لتذوي؟ ... في رياض الحياة، والعيش أورق
شاعر الدمع خل عنك قريضاً ... جاء نوعاً من الكلام المرقَّقْ
قد كفى الشرق ما بكى من دموع ... كاد لولا الرجاء بالدمع يغرق
قد كفى الشرق وقع تلك المآسي ... غمرت عيشه بنوم مؤرَّق
ألاسى خطَّةُ الضعيف على الأرْ م ... ض وسجن على الذليل مُغلَّقْ
(ليس دمعاً من الحنان على الأرْ م ... ض وكنزاً من المراحم مطلق)
أين عهد (الأعشى) بغرٍّ طوال؟ ... ترفع المجد فوق هام (المحلق)
أين عنا شعر ابن شداد؟ مالا م ... ن، وما كان بالضعيف المزوّق
نحن نبكي على الهباء وهذا الغَرْ م ... بُ، نشوانُ بالنجوم تعلَّقْ
(نحن لحن مضرَّجٌ بالمآسي) ... وهو لحن يولي الخلود فيُعشق
نحن نحبو مع الخشاش ثقالاً ... وهو فوق السماء بالعلم حلَّقْ
يا رجال القريض أين القوافي؟ ... تتلّظى من الشعور فتحرق
يا شباب الحياة، هاتوا قريضاً ... كجبين الصباح إن ذرَّ أشرق
وابعثوها شعواء تزجي الأماني ... ساميات على الكواكب تخفُق
أيقظوا الشرق من سبات عميق ... أدلج الركبُ وهو بالذل مُوْثق
ما عهدناك أيها الشرق خوَّا م ... راً، وما كنت في الميادين تُسبق
هُب فالصبح لاح والطير شادٍ ... صفَّق الروضُ، والضياء تألَّقْ(149/57)
كلية اللغة العربية
علي محمد الشلق(149/58)
القبلة الأخيرة
للسيد الياس قنصل
وإذ أدركتْ أن الهنا مرَّ حينُه ... وأن القضا أفتى ببعد فتاها
أكبَّتْ عليه وهو حيرانُ واجم ... وأدَّتْ معاني حبِّها شناها
وعادتْ لتشكو دهرها بدموعها ... وتجلوَ بالآهاتِ بعض شقاها. .
أُهنِّيك من قلبي وأحسدُ برهةً ... وددتُ لها أختاً وروحي فداها
فقد أبعدتْ عني البحارُ حبيبتي ... ولم أستطعْ يوم النوى أن أراها(149/59)
الآلام
// لا تعنُ للشكوى ولا تحزنْ إذ ... جارتْ عليك بصرفها الأيامُ
فالمرءُ يلبث طينة مجبولةً ... حتى تشرف نفسَه الآلامُ
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل(149/60)
القصص
جاسوسة!
لمدير الأكاديمية الفرنسية هنري بردو
ترجمة الأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
لم يبق لمدام (سرمِزِل) أمل في أن تُحَب، فأصبحت لا تطيق أن ترى قلبين يتناجيان
فلقد ودعت المسكينة جمالها إثر حادث سيارة، وعمل الجراح في وجنتيها خير ما هيأت له عبقرية الطب، ورسم أنفها الدقيق رسمه الأنيق السابق، لكن الفن والطب معاً قصرا عن أن يمسحا من صفحة وجهها تلك الشيات الهينة التي ما برحت تشير إلى الحادث. . فعينها التي لم يجسر الطبيب على أن يدنو منها قد اتسعت بعض الاتساع فصارت نظراتها مما يتجمد له الدم في العروق. . وعشيقها الذي حنا عليها في محنتها وسربلها بصنيعه لم يستطع تلقاء هذا (البعث الناقص) إلا أن يطلب نقله إلى وظيفة نائية!. . . ولا يصبر على القبح الجسماني إلا رجل سمت به فضيلته إلى أرفع ذروة، أو رجل يغمر الإيمان فؤاده. . والصديق العزيز لم يكن إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. . .
كانت ما تزال تدعى إلى الأوساط التي كانت تغشاها من قبل، لما عرف عنها من الملاحظة اللاذعة والروح المبتكر. . وفي إبان هذه الدعوات شهدت - وهي تكاد تُجن - ميلاً يبديه المسيو (ريانس) إلى (المدام دي نيج) وكان الداعون والداعيات يفطنون إلى هذا الهوى الناشئ فيجعلون كرسيّ كل منهما إلى كرسي الآخر. . وهكذا في كنف تلك التقاليد التي تواضعت عليها الأرستقراطية المعاصرة (!) تآمرت كل الظروف على أن يترعرع هواهما الوليد في هوائها الطلق الصافي
كانت مدام دي نيج مشغولة بزخرفها مشغوفة بنجاحها في ذلك الوسط الرفيع الذي كانت تتأرجح كالقمري الغريد فوق أفنانه، وكان زوجها منكباً على وجهه في عالم السياسة لا يجد الساعات التي يمنحها فيها الحنان أو يهبها فيها الحب. أما المسيو (ريانس) فقد وفد حديثاً من الريف. . ومعه ثروة الأقاليم وملاحة التبسط وقسمات بديعة كلها أغراء، لكنه كان(149/61)
يضيف إلى تلك المؤهلات جهلاً تاماً بفن (الرجال مع النساء)
وذات يوم وقع خطأ في (بطاقة الاسم) فجاء كرسي مدام سرمِزِلْ بدلاً من كرسي مدام دي نيج بجوار المسيو ريانس. فقنعت الصديقة بمجلسها النائي وأخذت تبعث إلى صديقها من أقصى المائدة شعاعاً كله الكهرباء. . . فتطلعت (سرمِزِل) فوقع بصرها على ذلك التيار الذي يروح ويجيء بين القلبين فهمست في أذن جارها تقول:
- حقاً إنها جميلة. . وسكت ريانس، فعادت تقول:
- ولكن يا للخسارة! قال أي خسارة؟ قالت ألا تعرف؟ قال أي شيء أعرف؟
قالت إنها (في خدمة البوليس)!! قال: (إنك تمزحين يا مدام) قالت كيف أمزح؟ أو لم تقرأ كتاب (فوشيه) الذي قبلته الأكاديمية أخيراً؟ وحسبها قد أخذت بطرف من الحديث جديد، فقال كلا لم أقرأه، فاستطردت الجارة تقول: (هو مؤلف من جزءين، وإن المرء ليتعلم منه أشياء كثيرة وفيه تفاصيل عن نظام الجاسوسية في عهد الإمبراطور. . . كان في خدمتها سيدات من الطبقة الراقية. . جوزفين نفسها كانت جاسوسة في عهد الديركتوار (حكومة الإدارة)!!! وفي العصر الحاضر سيدات كثيرات من ذلك الطراز تجري عليهن الوزارة أجوراً ليطلعنها على فضائح المعارضة كيما تخضع المعارضة للوزراء. . .)
- ولكن كيف عرفت هذا يا مدام؟
- لا. لا. . . لن أبوح لك بمصادري. . وحسبك أنني أخبرتك
- إذن فهل تسمحين لي بألا أصدق؟
- ولِمَ لا أسمح لك؛ ليس المرء مكلفاً بأن يصدق كل ما يُلقى إليه، لكن عليه - على الأقل - أن يفتح عينيه
وتنقلا في شجون شتى وشؤون متشابهة، حتى إذا فرغ الطاعمون ونهضوا انتبذ من القاعة مكاناً قصياً وبقي فيه. . . . فلم يكن بد من أن تسعى إليه مدام دنيج تسأله ماذا دهاه؟ فأجابها: لا شيء، وأراد أن يُبدي لها بعضاً مما كان يُبدي من تحاياه أو من فيوض هواه. . . فكانت دعابته شوهاء، وحديثه بلا روح
وتعاقبت الأيام وهبط البارومتر، وهدأ التيار، وعملت مدام دي نيج جاهدة لتظهر عدم الاكتراث بما يظهره هو من عدم الاكتراث، ثم جمعت كل ما منحتها السماء من فتون(149/62)
الأنوثة وخلاعة الأغراء ووجهتهما عليه جميعاً كالتيار الدافق، فلم يُلق إليها بالاً. . . ولما غلبها بأسه غلبها يأسها، فشاهت في وجهها الحياة
لكن الإعجاب الذي مال بكل منهما إلى الآخر، والذي تنضح به غريزة كامنة في أعماقنا جميعاً - غريزة تلك الميول المستعدة لأن تصبح حباً جارفاً عندما تقاوم - هذا الإعجاب جعلهما أوثق اتصالاً كلما حاولا الانفصال. فأخذ الرجل يسائل نفسه: ما علة هذا الجفاء، وكيف يؤمن بالسيدة سرمزل مع أن الملأ طراً قد وصموها بأن الحقد يفري كبدها من سعادة السعداء؛ وتملكه الريب فيما ألقت إليه. . . لكن الكلام كان كالسهم قد نفذ فاستقر في أعماقه. . . وإذن فليس يمكن أن يعلق فؤاده بغرام جاسوسة. . . وشرع يزين لنفسه أشياء ويقبح أشياء. . . وأخذ يقول لنفسه ما يقوله كل ريفي هبط حديثاً إلى العاصمة: (لا، لا يمكن أن تستغفلني باريس!). بلى: فمنأين لها هذه الفراء الفارهة، وهذه اليواقيت، وكل تلك الأعلاق! وراح يحقق أثمان ما يقتنيه الحسان من نفائس ومجوهرات؛ فلما أدركه التعب أخذ يقول لنفسه: (أو لست أنا الذي أصبحت جاسوساً؟!)
وغدا المسكين نهباً مقسما بين الشك والقلق المساور، وغاض من كيانه معين الشباب ومرح الفتوة اللذان إذا أحدقا بغانية سدا في وجهها الأفق ولم يتركا لها منهما منفذا إلا كما تترك خروق (الشبكة) الضيقة للفراش الرشيق
أما هي فقد ذهبت جهودها كلها بددا، فعكفت على قلبها تتسمع خفقاته وتستعذب فيه لذع الحريق
وذات يوم سمعته يخبر الأصدقاء بأنه مسافر، فلم تتمالك نفسها وسألته: إلى أين؟ فأجابها بتحفظ: (عندي)
- أين عندك؟
- في جكس
- قريباً من جنيف؟ فأجابها في سخرية لاذعة:
- هنيئاً للجغرافيا بكعبك العالي يا مدام!. وأنت إلى أين؟ قالت إنني لم أعتزم أمرا. . وهذا يتوقف عندي على أشياء كثيرة
فكرّ على عقبيه ورجع يقول لنفسه: أشياء كثيرة! طبعا. . طبعا! ومن يدري فهي(149/63)
(مأموريات كثيرة) من يدري أيضاً. . . لا. لا. يجب أن أغادر الديار وأفلت من قبضتها. . . . وظل يأتمر بها مع نفسه وانتهى بأن قال (ستحسبني رحلت فلأراقْبها إذن. . . لأراقبْها أنا)
وتتلمذ حينا من الدهر على (شرلوك هولمز وأتاحت له الظروف فرصاً باهرة. . .
ما هذا: إنها في السيارة والسيارة تنهب الأرض نهباً إلى (المحافظة)!. . . الله! الله!. . . إن السيارة تطير بها إلى الوزارة!. . وزارة الداخلية!! الله أكبر! ما كان أصدقك يا مدام سرمِزِلْ!!. . ما هذا أيضاً: إن السيدة لم تنتظر في غرفة الانتظار. بل انفتح لها رِتاج الوزير فور الساعة!!. . . لا. لا، إنها ذات عهد بتلك المعاهد بلا مراء. . يا لله!. . ماذا كان مصيره لو هوى في ذلك الشرك. . ولو لم توح السماء إلى الناس فيخطئوا مرةً واحدةً ويضعوا بجانبه (المنقذة سرمِزِلْ)
وهكذا بعد أن اطلع عليها ولى فراراً وملئ منها رعباً
وكان قصره في الريف يشرف على عتبات جنيف! وكان اتصال البلد الذي هو فيه بالبلد الذي فيه عصبة الأمم يُسبغ عليه من جو الدبلوماسية ومن مراسيمها، وكانت أول دعوة وجهت إليه دعوة المركيز (دي بريل) وهناك. . . هناك. . ماذا. .! هنا ألفى نفسه وجهاً لوجه أمام من؟ أمام المدام دي نيج نفسها. . بلى، إنها هنالك تقتفي آثاره فيمن تقتفي آثارهم، ما في ريب، ولم يكن بد من أن يتحدثا فتحادثا
- أنت هنا يا مدام؟ أية مصادفة! أية مصادفة!. فحدقت في عينيه، وكان جَلدها قد وهى، بل كان قد انتهى، وقالت:
- لا ليست مصادفة. ألم تقل لي إنك قادم إلى جكس؟ قال:
- كم أنت ظريفة يا مدام! وأظنك لهذا جئت إلى جنيف؟ وشرع يتهكم فجذبته بقوة وقالت:
- لا تسخر مني وقل لي هنا. . هنا على الأقل. . لماذا كنت تتخلص مني؟ وحارت الدموع في مآقيها كالسحاب عندما يتجمع في زوايا السماء الصافية. فجرؤ صاحبنا وتشجع وقال:
بل أجيبي أنت
س: ماذا كنت تصنعين في المحافظة في 10 يوليو؟(149/64)
ج: في 10 يوليو؟. . دعني قليلاً أفكر. . في 10 يوليو ذهبت إلى المحافظة أبحث عن جواز سفر إلى جنيف. . لأحضر إلى هنا. . قريباً منك
س: وفي نفس اليوم بوزارة الداخلية؟
ج: كنت أعرف الوزير فقصدت إليه أطلب تصريحاً بزيارة عصبة الأمم. وقالت (لكأنك قد تجسست علي). . . (إنك إذن من رجال البوليس)
قال: كلا يا سيدتي، لست أنا. . . ومسح جبينه وهو يتفصد عرقا، وأضاف: ولا أنت أيضا
- إذن هل قال لك أحد شيئاً؟ أو صدقت الذي قيل؟
ولم يكن يقيله من عثرته إلا أن يقول - كالشهود - الحق، وكل الحق، قال: (مدام سرمِزِلْ) فتنهدت الحسناء وقالت: (أفتصدق تلك الفرية فتلوث هذه التي كنتَ. . . التي كنتَ.)
- التي كنت أحبها، ومازلت أحبها كثيرا، كثيراً جدا، جدا، أما هي فلن يتفتح لي قلبها أبدا. . .
أفرَخ روع المدام دي نيج، وشاعت في وجهها نضرة النعيم، وتمشيا معاً في ممر يعطره أرج الربيع، لكأنهما الفكرة البديعة تروح وتغدو في خيال الشاعر. قالت: أرأيت إلى هذا الكمِّ الذي لم يتفتح بعد عن الزهرة! انظر ماذا فعلت بي. . . لقد لوثتني؛ فهل أهبك بعد هذا قلبي؟ خذ هذا الكم ذكرى من ذكرياتي. . . لقد وقع ولكن أثره ما يزال
فأخذ الكم بقوة كأنه ينزعه وقال: وإذا أنا طهرته بفمي من هذا الأثر أفتغفرين لي؟) ثم قضم بأسنانه لفائفه فبدا الطلع من ثناياها وضيئاً مشرقا. قال: (أما الزهرة يا سيدتي فلم تمس بسوء. فهلا تغفرين؟) وازدحم الدمع في موقيه كطفل غرير، وتطلع إليها كأنه يلتمس منها أن تهبه الحياة، فأطرقت في دلّ وخَفَرَ وقالت: (أما الزهرة فأنها لك) ثم عادت لتقول: (لكن عليك أن تغسل شفتيك قبل أن تقبلني)
هنري بردو(149/65)
درامة من أسخيلوس
الفرس
للأستاذ دريني خشبة
اشترك أسخيلوس في الحروب الدامية التي نشبت بين فارس وهيلاس، وكان ميدانها وطنه والبحار المحيطة به، وقد اشترك كذلك في موقعة سلاميس البحرية التي تحطم فيها أسطول إجزرسيس ثم ظل متصلا بالجيش اليوناني إلى ما بعد انتصاره في بلاتيه وميكالي؛ ولذلك تعتبر هذه الدرامة مصدراً هاماً من مصادر هذه الحروب، ويعدها مؤرخو الأدب اليوناني أصدق مما ورد في تاريخ هيرودوتس بصدد الحرب الفارسية. ذلك لأن أسخيلوس كان شاهد عيان لوقائع هذه الحرب بينما كان المؤرخ اليوناني ما يزال طفلا لا يزيد عمره على خمس سنوات. وقد مثلت الدرامة بعد موقعة بلاتيه بسبع سنوات
- 1 -
ينقلنا أسخيلوس إلى فارس سيدة الأرض، ويطوف بنا دارات عاصمتها (سوس) حتى نقف عند القصر الملكي المنيف، مقر الأكاسرة، وقلب الإمبراطورية النابض. فنحن إذن بعيدون عن ميادين القتال في البر والبحر، لا نشهد الطعن والضرب، ولا نرى إلى فتك الحراقات اليونانية بأساطيل الأعداء، ولا تهولنا هرولة الكتائب الفارسية فوق تلك القنطرة الضخمة من السفن المتراصة بين عُدْوَتي الهلسبنت تنساب فوق بطائح هيلاس كأنها سيل العرم. . . ثم لا يبهرنا عاهل العجم البائس وقد وقف فوق أكمة تشرف على أبيدوس وما يجاورها من شطئان الهلسبنت، يطل على جيوشه الجرارة تعبر البحر الزاخر. . . ويبكي. . . فإذا سأله وزيره: (فيم بكاؤك أيها الملك؟) شهق شهقةً عميقة وقال: (أنظر أيها الوزير: هذه طروادة! وهؤلاء جندي! ويبكيني ألا يكون أحد من هذه الألوف عائشاً بعد حقبة واحدة من الزمان! أليست هذه طروادة؟؟)
لن نرى إلى شيء من ذلك، ولكن نرى عصبة عتيدة من مشايخ فارس وساداتها النُّجُب يتناجون في حديقةْ القصر، متلهفين إلى خبر يذهب بهذا القلق العظيم الذي يساورهم من(149/66)
جراء انقطاع أخبار الجيش. . . وهم يذكرون دارا الأول، والد الإمبراطور، بخير ما يذكر به ملك شاد دعائم ملكه على العدل، وقاد جيوش بلاده إلى النصر، ورتع في ظله رعاياه في بحبوحة من العز وبلهنية من النعيم. . . وهم كذلك يصفون لنا أبهة جيش أجزرسيس وعظمة جحافله، وهذه الآلاف المؤلفة من الفرسان والمشاة والكماة والرماة، من مشارق الإمبراطورية الكسروية ومغاربها. . . من حفافي السند إلى ضفاف النيل، ومن أعالي دجلة والفرات إلى أسافل النوبة وإثيوبيا. . .
وهم لا يخفون ما يساورهم من قلق، ويخامر قلوبهم من شك في مصير هذا الجيش العرمرم الذي قذفت به آسيا ليهِلك في ربوع أوروبا، ويجوع ويعرى في مشارق جبالها، وتلتقمه الأسماك في بطون البحر المضطرب. . . لاسيما ومنهم من نصح للإمبراطور ألا يجازف بهذا العدد العديد ضد هيلاس، فكان جوابه أن أقام إلى جانبه رجلا من أمنائه يقول له في كل لحظة: (مولاي! لا تنس الأثينيين. . . مولاي: لا تنس الأثينيين)
- 2 -
وبينا هم في تناجيهم إذ تقبل آتوسا - الإمبراطورة الأرمل - زوجة دارا، وأم إجزرسيس، والتي قست عليها المقادير فناءت على قلبها بأحزان إمبراطورية بأسرها!!
تقبل آتوسا فيصمت القوم، ويهرعون إليها يسائلونها عما آل إليه أمر الجيش، وهل أفاءت عليه الآلهة بالنصر المرجو والغلب المنشود؟
فتقول آتوسا: (مواطنيّ الأعزاء، وأبنائي الأوفياء! تسائلونني عما أقبلت فيه، وهرعت إليكم من أجله. . . فوالله لقد ضقت بغرفات هذا القصر على سعتها، وخلتها جحيما على أنها جنة نعيم، أليس فيها كنت أحلم بالخلد في حضن دارا، وأجيل الطرف من شرفاتها معه على أمة سعيدة هادئة ناعمة، عيشها مخفرج، وجانبها عزيز، وسلطانها قوي، وظلها ممدود، وسؤددها يطوي السهل والجبل، وثروتها زاخرة وافرة؟! فماذا أرى اليوم؟ أليس ابني قد جمع خير كل ذلك، ومضى لطيته التي لا يعلم ما وراءها أحد؟ هاهي ذي الرياح تصفر في هذا القصر الذي نأى عنه سيده، فكأنه خراب على رغم خزه وديباجه، وشتى تماثيله وتصاويره. . . ويحي! لقد جئت إليكم يا سادات فارس ألقي إليكم بعبء الوساوس التي تجثم على صدري، وتثقل كاهلي، فهل أجد لديكم الكن الأمين، والمشير الوفي،(149/67)
والناصح الذي إذا نصح أخلص النصح؟)
- (أيتها الملكة؟. . . نحن عبيدك وبعض رعاياك. . ولك في أعناقنا الولاء والوفاء. . . تكلمي بما تشائين وثقي من إخلاصنا ومحض نصحنا)
- (إذن فما هذه الأحلام المروعة والرؤى المفزعة التي تجتاحني كل ليلة حين آوي إلى الفراش، منذ أن انطلق ابني بهذا الجيش اللجب ليغزو بلاد اليونان؟ على رؤيا أمس لم تكن مثلها رؤيا قط. ذلك أنها كانت واضحة بينة حتى ما تكاد تحتاج إلى تفسير أو تفتقر إلى تأويل. . . رأيت فتاتين هيفاوين ممشوقتي القد، إحداهما دورية ناهدة تميس في حلي وفي حلل؛ والأخرى فارسية سمهرية، تختال في برد ووشى وأفواف. . . رأيتهما تقبلان إحداهما على الأخرى، ثم تأخذان بتلابيب بعضهما البعض، ويكون شجار بينهما، لأن إحداهما بغت على أختها، وحاولت الاستئثار بدارها من دونها. ورأيت ابني إجزرسيس مشرفاً عليهما من مرتقى صعب، فلما استحر القتال بينهما نزل إلى حيث حاول أن يجعل نيره في عنقيهما معاً. . . وذلت إحداهما واستكانت، ولكن الأخرى، ولكن الدورية أبت وأنفت، ودفعت النير بكل ما أوتيت من قوة، فغاصت الفارسية في لجة من دم، وتحطمت عربة ولدي الإمبراطور فوقف حيث كان قبل أن يتدخل بينهما، وأخذ يبكي وينشج، ويشق الأردان ويمزق الجيوب. . . وهنا وقف إلى جانبه أبوه. . . الإمبراطور المبكي، دارا، وطفق يرثي له ويهون عليه
هذه رؤياي يا سادات فارس النجب. . . ولكن ما تزال بقية. . . فإني حينما هببت من نومي، عسيت أن تكون رؤياي أضغاث أحلام، فقلت أتوجه إلى مذبح الآلهة مانعة الضر، أقرب لها وأضحي، عسى أن تنفعنا، وما كدت أغمس يدي في النبع المقدس، وأنثر بخور الند في المجمرة، حتى لمحت نسراً مهيض الجناح لائذا بقدس أبوللو. . . ثم ينقض عليه باز باشق، فما يزال به يوسعه ضرباً وتجريحاً حتى ينتفض النسر ويلوذ بالفرار. . . ويلاه! إن الرؤيين. . . في المنام وفي اليقظة، تفسر إحداهما الأخرى، فيا ترى؟ هل هما نبوءتان على إجزرسيس؟ وهل أعيش حتى أرى ولدي إن كان ما يزال حياً يرزق؟!)
- 3 -
وشده سادات فارس، ونظر بعضهم إلى بعض، ثم أشاروا على الملكة المحزونة أن تذهب(149/68)
إلى قدس الآلهة، فتقرب لها وتضحي ثم تسأل عن رؤياها، وتتضرع أن تتلطف الأرباب بابنها وجنوده ومملكته، إن كانت الرؤيا حقاً. . . وإلا. . . فلترق الخمر باسم دارا العظيم الذي زارها في رؤيا أمس حين وقف إلى إجزرسيس يرثي له ويهون عليه، فإذا بدا طيفه لها فلتسأله أن يبارك ابنه، ويغدق البركات على فارس كذلك
ويتحول مجرى الحديث فجأة، فتسأل الملكة عن هذه الحرب ما سببها؟ ويجيب السادات أن الإمبراطور أراد أن تخضع له أثينا
- (فإذا خضعت له أثينا؟)
- (خضعت له هيلاس كلها!!)
- (وهل هيلاس من القوة بحيث تحشد لمحاربتها كل تلك الجحافل؟)
- (وكيف لا وهي أقوى دولة في العالم بعد فارس؟ وهل نسينا أنها دمرت جيش دارا؟)
- (أو غنية هي؟)
- (غنية جدا، وفي بطنها ثروة من الفضة لا تقدر بثمن)
(لها بقية)
دريني خشبة(149/69)
البريد الأدبي
سجموند فرويد في تمام الثمانين
يحتفل العالم هذا الأسبوع بالعالم السيكلوجي الكبير سجموند فرويد لبلوغه الثمانين. . . وقد يبتسم القارئ حين يذكر بيت شاعرنا العربي الخالد (إن الثمانين وبُلّغتها. . . . . .) لاسيما إذا علم أن فرويد المحتفل به، والذي يعتبر واحداً من أعظم علماء العصور الحديثة إن لم يكن أعظمهم جميعاً، هو رجل ضعيف البنية هزيل الجسم، قد تحالفت عليه الأمراض. ولكنه بالرغم من ذلك يملك عقلاً جباراً لا يكل من التفكير، ولا يفتر نشاطه أمام ما ينتاب بدنه من الأوصاب
ولد فرويد في مايو سنة 1856 من أبوين يهوديين في مدينة فريبرج من أعمال مورافيا، والإمبراطورية النمسوية إذ ذاك في عنفوان مجدها. وبعد أربعة أعوام ذهب به أبوه إلى فينا حيث تعلم في مدارسها وقضى صدر شبابه في ربوعها؛ ولما بلغ من العمر التاسعة والعشرين غادرها إلى باريس (1885) بقصد التزود من الثقافة العالية التي كانت باريس مثابتها في هذه الآونة - ولكنه - لأمر ما - لم يلبث في باريس غير سنة واحدة عاد أدراجه بعدها إلى فينا
وكانت نفسه تجيش بآمال كبار، وكان ينظر إلى أساليب التفكير السائدة في أوروبا في ذلك الوقت كأنها أصبحت أساليب عتيقة لا تليق برقي الإنسانية التي تتيه بعصرها الحديث على جميع العصور القديمة والوسطى. وكانت عوامل الثورة في نفس فرويد الشاب تنفجر في الفينة بعد الفينة، ولكنها كانت تكبت بقوة وقسوة تلقاء التيار الرجعي الجارف الذي كان يكتسح النمسا في ذلك الوقت. فلقد حدث أنه ألقى أولى محاضراته بعد أن عاد من باريس عن الهستريا ومسبباتها النفسية الباطنية، وكان ذلك في جمعية الأطباء بفينا، فما كاد ينتهي من محاضرته حتى ثارت في الصالة عاصفة هوجاء من الضحك منه والسخرية به وبآرائه، وحتى انصرف العلماء الأفاضل يتهكمون به ويلمزون آراءه لمزاً شديداً قاسياً! ولقد كان لهذه الصدمة صداها الشديد في نفسه، فآثر أن يعتزل هذا الجمهور الفظ من العلماء الجهلة - إن صح هذا التعبير - وأن يعمل للعلم وحده بعيداً عن ضجيج هؤلاء الأصنام، وبمعزل من صخبهم. بيد أنه لم يسلم، برغم هذه العزلة من خصومه ولدد يثيرهما(149/70)
عليه كثير من الدوائر العلمية وغير العلمية لا بحجة آرائه المتطرفة فيما هو بسبيله من مباحث ونظريات فقط، ولكن بسبب يهوديته أيضاً
ولم يثر أحد من العلماء حوله من الخصومة مثل ما أثار فرويد، ولكنه ألح بآرائه على خصومه إلحاحاً عجيباً حتى سحرهم بها وحتى جعلهم من أشد المعجبين بها والمتحمسين لها. وبحسبك أن تعلم أنه ما من قصة حديثة أو درامة يقدمها كاتب إلى مسرح من المسارح إلا ولفرويد أثر كبير في صاحبها. فليس في العالم الآن كاتب لم يدرس نظريات فرويد في العقل الباطن، وليس في العالم الآن باحث سيكلوجي أو مرب لم يهتد في أبحاثه أو فنه بمجهودات فرويد وتحليلاته العجيبة لهذه النفس الإنسانية التي لم نكن قبله نعرف منها إلا جانباً قليلاً:
ولقد كتب فرويد - هذا الأسبوع - بمناسبة بلوغه الثمانين - كلمة جاء فيها:
(العقل الإنساني في نظري عبارة عن جبل من الجليد طاف في الماء، لا يبرز منه فوق السطح غير سبعه فقط، أما الأسباع الستة الأخرى فهي دائماً تحت السطح. . .) وكأنه يريد أن يقول إننا لا نعرف من العقل إلا سبعه فقط، أما ستة أسباعه الأخرى - وهو ما يسميه العقل الباطن - فمضمرة، لا نعرف منها إلا القليل. وفرويد على حق في هذا التشبيه الغريب للعقل لأنه هو قد أثبت أن العقل الباطن إن هو إلا خزانة عجيبة اختبأت فيها غرائز الإنسانية الأولى وميولها الفطرية التي هي تراث الأحقاب والآباد والتي تطفو على السطح فتكون ذات أثر بليغ في عقلنا الواعي
وبالرغم مما لهذا الباحث العبقري من آراء ونظريات في الإيحاء والأحلام والاستهواء والمركبات والعُقد النفسانية فأنه ينفي عن نفسه في كلمته التي أشرنا إليها أنه صاحب نظرية أو مذهب أو أنه استحدث علماً جديداً. . . فهو يقول: (يخطئ من يزعم أنني صوفي أعطف على الإنسانية أو أحب الخير للبشر، أو أنني عالم صاحب نظريات استحدثتها بعد أن كانت خافية على الناس. . لا. . لست شيئاً من ذلك. . بل أنا أدع الناس يحلمون أحلامهم وقد أتركهم يستغرقون أنفسهم في مستقبلهم. . . ثم أقف منهم عن كثب ألاحظ وأشاهد وأتفرج. . . ثم أقيد ملاحظاتي، وأقارن وأعلل وأؤلف!)
وعلى ما بلغه فرويد من الثقافة العالية فأنه ما يزال يهزأ من مدارك الإنسان ويدعوها(149/71)
قشورا لا غناء فيها. . . أو فيها غناء قليل: (ما ثقافتنا هذه؟ ماذا عرفنا من النفس الإنسانية؟ ماذا كشفنا من سر هذه الحياة؟)
والعجيب أن فرويد ما يزال مؤمناً بالإنسانية إلى حد كبير، وهو يتشوف لها عن مستقبل باهر برغم تلك المجازر التي تلطخ وجه الأرض بالدماء من أجل أطماع وضيعة. وهو يقول إن الحرب ستعجل بهذا المستقبل الجميل، لأنها وحدها ستثير الكراهية في نفوس الناس منها فيمقتونها إلى الأبد، ويعدونها كلما فكروا فيها نكسة منهم إلى الوحشية
ولقد عاش فرويد مخلصاً لأبحاثه إخلاصاً مدهشاً، فكان يكب عليها إكباباً يذيب الصبر الجميل، وكان يمقت كل من يصرفه عنها إلى غيرها، وكان كثيراً ما يتمثل بما كان يقوله أناطول فرانس إذا حدثه أحد بهراء لا شأن لأبحاثه به:
' ?)
ولعل أحسن مكافأة لهذا الرجال العالم أن تجتمع لجنة لتكريمه مؤلفة من بعض خصومه بالأمس، وأشد المعجبين والمتأثرين به اليوم، نذكر منهم الكاتب العالمي الأشهر هـ. ج. ولز، ورومان رولان، وستيفن زديج، وجول رومان، وتوماس مان. . وغيرهم وغيرهم. . . ولا ندري هل تشترك كل من روسيا وأمريكا في تكريمه؟ فهو معجب بروسيا وقد تأثر إلى حد كبير بتحليلات دستويفسكي وإضرابه. أما أمريكا فما نحسبها تشترك في هذا التكريم، فهو قد هجا مدنيتها كثيراً، ولم يفته أن يلذعها في كلمته الأخيرة من طرف خفي
ويقال إن لجنة تكريمه ستقترح على لجنة جائزة نوبل أن تمنحه جائزتها عن هذا العام لمناسبة بلوغه الثمانين. ونحن نشك في أن تستجيب لجنة نوبل لهذا الرجاء، فقد عرف أعضاؤها بكراهية فرويد، وهذا هو محل الدهشة
دريني
المعجم اللغوي الوسيط
اجتمعت بمكتب صاحب السعادة وزير المعارف لجنة المعجم اللغوي الوسيط للمرة الأولى وقد رحب بالأعضاء سعادة الوزير وألقى فيهم الكلمة الآتية: -
أحييكم أطيب تحية، وأشكر لكم تلبية دعوتي للاشتراك في عمل المعجم اللغوي الوسيط،(149/72)
وقد أردت أن أنتهز فرصة الاجتماع الأول لأبين لحضراتكم مبلغ عناية الوزارة وحرصها على هذا العمل الجليل، ولأتشرف بالتعرف إلى من لم يسبق لي رؤيته من حضراتكم
وإنه لحظ سعيد لي فوق كونه حظا عاما أن يشرع في هذا العمل وأنا وزير المعارف، فقد عنيت بهذا الموضوع من سنوات، وكنت أنادي بضرورة وضع هذا المعجم، فهو واجب وطني يفرضه الإخلاص للغة والعلم والدين
ومما يزيدني سرورا أن يكون في تنفيذها هذا المشروع استجابة لقرار المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في سنة 1930، وتحقيقاً لرغبة العالم العربي أجمع. وإنه ليحق لمصر أن تفخر بتلبيتها نداء العالم العربي فوق ما فيه من فائدة خاصة لها
وإني لأعد هذا العمل من أجل الأعمال وأخلدها، بل اعتقد أنه لا فرق بين خلود هذا العمل الجليل وخلود الأهرام إن لم ير بعض حضراتكم أنه أعظم، ففي تحقيقه احتفاظ بهذه اللغة الشريفة، لغة القرآن وتهذيبها من الدخيل، وتحقيق لوحدة الأمم العربية بهذه الوسيلة وهي المعجم
وقد ساعدت العناية الإلهية مركز مصر الجغرافي أن تكون مصر زعيمة الثقافة الإسلامية في العالم العربي، وقد رضيت لها الأمم العربية هذه الزعامة وأقرتها
وإن المشروع الذي أريد أن نبدأ به هو هذا المعجم الوسيط مترسمين في وضعه المنهاج الذي ذكر في قرار تأليف اللجنة حتى يسد حاجة طلاب اللغة ورجال الثقافة من أمثال خريجي دار العلوم ومن في طبقتهم، فإذا ما وفقكم الله وأتممتم المعجم الوسيط شرعتم في وضع معجم مدرسي للجيب يسد حاجة الطلاب المبتدئين، وبعده تفرغون لمعجم بسيط بجميع شوارد اللغة ويسد حاجة الأدباء والعلماء. ثم تأتي بعد هذا مرحلة أخرى هي وضع موسوعة عربية تكون مرجعاً عاماً يتناول الفنون والعلوم والآداب وغيرها، فإذا وفقنا إلى إنجاز هذا كله حق لنما أن نفخر بأن مصر أصبحت بحق عضواً نافعاً في الهيئة الاجتماعية، وأنها قد أدت رسالتها كاملة عن اللغة العربية
هذا هو برنامج وزارة المعارف الذي أرجو أن يكون برنامجاً قومياً يأخذ كل وزير فيه بنصيب، وهذا هو اعتقادي وأملي الذي أرجو أن يتحقق على أيديكم وبفضل معونتكم الصادقة حتى يكون لكم شرف وضعه وإتمامه، ولي بعدكم الثواب من الله على مثل هذا(149/73)
العمل الجليل
وإن الوزارة حريصة على أن تيسر لكم مهمتكم وهذا هو صديقي وكل وزارة المعارف خير ضمان لتنفيذ ما تطلبون فإن لي فيه الأمل الكبير والثقة العظيمة
كتاب عن مكيافيللي
صدر أخيراً كتاب جديد عن مكيافيللي وعصره بقلم الدكتور اركسين موير وقد صدرت كتب كثيرة عن مكيافيللي وعصره، أهمها وأشهرها المؤلف الجامع الذي وضعه المؤرخ الإيطالي فيلاري عن (حياة مكيافيللي وعصره) ولكن شخصية مكيافيللي وآراءه السياسية والاجتماعية مازالت تشغل البحث في عصرنا؛ بل إن فكرته في الدولة وفي الحكم تتبوأ مكانة هامة. ذلك أن فكرة الدولة تغدو في أوربا مسألة اليوم، ولاسيما الدولة التي تتجسم في شخص طاغية كما هو الشأن في ألمانيا وإيطاليا. ومن المعروف أن الفكرة الفردية قد قضى عليها اليوم في ظل النظم الطاغية الجديدة كالهتلرية والفاشستية، وأن فكرة الدولة تسود كل شيء في هذه النظم، وأن الدولة وكل مرافقها وقواها هي أداة في الأيدي الطاغية التي تشرف على النظام وتحركه؛ ونحن نلمس في فلسفة مكيافيللي أصول هذه النظريات الطاغية، فالكتابة عنها اليوم مسألة لها خطرها. ومما يذكر في ذلك أن موسوليني طاغية إيطاليا درس في شبابه كتاب مكيافيللي (الأمير) دراسة عميقة، وأنه مازال يردد اليوم (أن مكيافيللي يعيش اليوم أكثر مما كان يعيش منذ أربعة قرون) ومن أقوال مكيافيللي المأثورة في كتابه السالف قوله: (إذا كان الحكام جميعاً من الطراز الصالح فعليك أن تفي بعهودك؛ أما وهم خونة لا يفون بعهدهم فعليك من جانبك ألا تفي لهم بعهد)، وهذه النظرية تشتد وطأتها اليوم في أوربا
والواقع أن مكيافيللي أراد في كتابه أن يحلل نفسية أبناء وطنه في عصره وأن يحاول بملاحظته الدقيقة أن يجد ذلك الطراز من الطغاة الذي يستطيع أن يجمع الكلمة، وأن يسبغ على الوطن نعمة الحكم المستنير؛ ولكن الآراء والمبادئ الجافة الخطرة التي تتخلل مباحث مكيافيللي قد طبعت عقيدته في الحكم بطابع أسود، وجعلتها مضرب الأمثال للسياسة الفادحة الخطرة؛ على أن بعض الباحثين يرون أن هذه النزعة ترجع إلى حكم مكيافيللي على مجتمعات عصره، والى اعتقاده بأن الإنسانية تقوم على مبادئ وضيعة، وهو اعتقاد لم(149/74)
يشاركه فيه كثير من أعلام عصره ولاسيما المؤرخ الكبير جيشارديني
ويستعرض الأستاذ موير في كتابه آراء السياسي الفيلسوف في الدولة والحكم ويقارنها بآراء جيشارديني؛ ثم يورد كثيرا من آراء مكيافيللي في خطبه ورسائله التي تلت كتابه (الأمير)، ويستخلص من المقارنة أن مكيافيللي قد عدل في أواخر حياته كثيرا من آرائه، وأنه كتب الأمير في وقت نقمة ويأس، وأن هذه الروح أملت عليه كثيرا من ألاراء المتطرفة التي عدلها فيما بعد(149/75)
العالم المسرحي والسينمائي
آراء فنانين ارلنديين في الممثل والمخرج المصري
لناقد (الرسالة) الفني
(أوه يا صديقي! إنني سعيد حقاً إذ أقضي ليلة في مصر أشهد فيها الممثلين المصريين يقومون بتمثيل رواية معروفة كان من حظي أن أقرأها وأن أشهد تمثيلها قبل ذلك في باريس في الهواء الطلق.)
هذا ما نطق به المستر هيلتن ادواردز مخرج فرقة (دبلن جيت) الارلندية التي عملت على مسرح الأوبرا الملكية خلال شهر مارس الماضي بعد أن صافحني في فترة الاستراحة الأخيرة من رواية السيد التي أخرجتها الفرقة القومية المصرية في الأسبوع الماضي. ولقد بادرته بالسؤال: (وما رأيك في تمثيل المصريين؟)
فأجاب بحرارة (اسمح لي يا صديقي أن أقول لك إن المصريين يتمتعون بميزة طيبة، هي جمال الصوت، وإنه ليخيل إلي أن اللغة العربية من أصلح اللغات للمسرح. إني أطرب لها؛ ولكم وددت لو أعرف العربية حتى يكون استمتاعي بالتمثيل أكثر منه الساعة)
(إن بين الأفراد الذين يعملون أمامي مجموعة قوية، مما يدل على أن في المصريين استعداداً قوياً للتمثيل، فلقد علمت أن ليس في مصر معهداً للتمثيل، بل إن نبوغ هؤلاء الأفراد نتيجة جهد شخصي، واستعداد فطري، وهذا فخر كبير لهم. ولقد قرأت هذه الرواية وشهدتها قبل ذلك تمثل، ولكن لم أدرسها ومع ذلك أستطيع أن أقول إني مرتاح جداً إلى قدرة الممثلين المصريين)
قلت: هل لك أن تدلي برأيك في أداء الممثلين الذين يعملون أمامك الآن، وعن ملاحظاتك؟ إنهم يرحبون بكل ملاحظة تبديها وكذلك قرائي يودون أن يعرفوا رأيك
فابتسم المستر ادواردز وقال: (قلت لك إنني لا أعرف العربية فحكمي لن يكون صادقا. على أنني أستطيع أن أقول إنني كثير الإعجاب بالسيدة التي تقوم بدور شيمين حبيبة السيد (زينب صدقي) إنها ممثلة قديرة ويبدو لي أنها تفهم دورها تمام الفهم، وهي تجيد مواقف الكبرياء، وأرجو أن تبلغها إعجابي)
(وإنني كذلك معجب بالملك (منسي فهمي) وأعتقد أنه ممثل قدير، وكذلك أنا معجب بالسيد(149/76)
(حسين رياض)، ومع جهلي باللغة العربية أحس أنه يجيد الإلقاء، وأنا مرتاح إلى تمثيله. والدون جوميز (زكي رستم) أدى دوره يحتاج إلى الصلف والكبرياء أحسن أداء، وهو يليق لهذه الشخصية)
قلت وما رأيك في السيدة التي تمثل دور ابنة الملك (عزيزة أمير)؟ فأجاب (إنها لا تليق لهذا الدور، وإنها تبدو في مستوى أقل كثيرا من مستوى الممثلة التي قامت به في باريس حتى ليخيل إليّ أنها لم تفهم دورها)
ثم سألته عن رأيه في الإخراج فأجاب (هل من الضروري أن أجيب عن هذا السؤال؟) فقلت أجل، إنه يهمنا كثيراً أن نعرف رأيك. . إن إخراجك قد حاز إعجاب جميع رجال الفن والأدباء من المصريين، وإن من دواعي السرور أن تفصح لنا عن رأيك
أطرق المستر ادواردز قليلا ثم رفع وجهه وقال: (لقد حدثتك من قبل عن رأيي في طريقة الإخراج التي أفضلها. لقد جعلت السينما أي جهد في إخراج الروايات بطريقة نقل الطبيعة ومحاكاتها عبثاً، لأن مجال المسرح محدود؛ والأمر على العكس من ذلك في السينما، ولهذا وجب علينا ألا نعنى بالأشياء الحقيرة والتفاصيل فهي مجال السينما، ولهذا فأنا غير مرتاح إلى اتباع طريقة الريالزم؛ وأفضل الطريقة الإيحائية لأنها تجعل رواد المسرح يشتركون مع الممثل والمخرج في نجاح الرواية والاهتمام بحوادثها، بدل أن تعرض عليهم عرضاً سهلا يبعث النوم إلى جفونهم، ولذلك لم يعجبني إخراج هذه الرواية)
(إن المسرح الحديث يعتمد أكثر ما يعتمد على الإضاءة؛ ولقد رأيت كيف عاونتني في إخراج هملت، وروميو وجولييت وغيرهما، ولكني أرى مخرجكم (زكي طليمات) لم يقصد من الإضاءة إلا أن يكشف المناظر والممثلين للنظارة، ولم يستخدم الإضاءة في غرض أو فكرة خاصة، واستخدامه للضوء يظهر في موقف واحد فقط بين السيد وحبيبته)
(وقد يكون استعمال المناظر المتعددة والستائر الكثيرة مما يلجأ إليه المخرجون الفرنسيون، ولكني أرى أن ما يصلح لفرنسا يجب ألا يفرض على مصر أو غيرها، بل يجب على المخرج أن تكون له شخصية تبرز في إخراجه وتعبر عن نفسيته، وتكون رجع الصدى للبيئة والقومية التي هو منها؛ ويبدو لي جلياً أن مخرج هذه الرواية لم يهتم بدراستها دراسة إخراج)(149/77)
وكان أول ما صرح به المستر ميكائيل ماك ليمور الممثل الأول لفرقة (دبلن جيت) وواضع تصميم مناظر الروايات، إعجابه بممثل شخصية الملك (منسي فهمي) فهو في رأيه ممثل قدير، وقد أبدى إعجابه أيضاً بالسيدة زينب صدقي في دور شيمين، وهو يتفق مع زميله في أن للمصريين صوتا جميلاً وأن طريقتهم في الإلقاء الشعري بديعة
وقد سألته عن رأيه في الإخراج فأجاب (إن هذا اختصاص زميلي المستر ادواردز فهو يستطيع أن يحدثك عنه حديثاً طيباً، ولكن أقول لك أنه يجب على الفرقة أن تعنى باختيار المناظر وعملها فتضع تصميما لكل منظر تختاره بحيث تسود المناظر روح واحدة وطريقة واحدة. وانتهاج مثل هذا السبيل يعاون المخرج والممثلين على الوصول إلى غور نفوس النظارة.)
(إن فرقتنا قبل أن تخرج أي رواية تعهد بها إليّ وإلى المستر ادواردز فنقوم بدراستها ونضع الفكرة الأساسية التي سيقوم عليها الإخراج وبعدئذ أفكر في وضع تصميم مناظرها) ولو لجأت الفرقة المصرية إلى هذه الطريقة لما رأينا أسلوب تصوير منظر يختلف عن أسلوب المنظر الآخر(149/78)
فن السينما
بقلم يوسف تادرس وظريف زكي
مقدمة
لا حاجة بنا إلى التنويه بانتشار فن السينما حتى طغى على المسرح، ولا بانشغال الناس به، من نظارة يقبلون على ارتياد دوره، إلى ممثلين يعرضون أنفسهم للظهور على شاشته البيضاء، إلى أدباء ينشئون له القصص والروايات
ذلك على حين أن فن السينما لا يزال في مهده لم يشتد عوده، وأن قواعده لم تخرج إلا بقدر من طور مجرد الإحساس بماهيتها إلى طور الاستقرار والتحديد
على أن ذلك القليل من قواعده الذي استقر وتحدد، لا يزال جمهور النظارة يجهله كل الجهل، ولا يزال الأدباء بعيدين عن درسه وهضمه. ولو عرفه الجمهور ولو بعض المعرفة لزاد استمتاعه بمشاهدة آثاره، ولو درسه الأدباء وهضموه لأفادوا منه الغنى ونباهة الذكر
ونحن إذ نكتب هذا الكلام نمثل أمام أعيننا المشاق التي لا بد أن تكابدها الآن شركة مصر للسينما في مراجعة الروايات التي قدمت إليها في المباراة التي عقدتها، ونتصور الجهاد الجهيد الذي يبذله رجالها في درس تلك الروايات وتنسيقها وإعدادها
لذلك وطدنا النفس وعولنا على بيان قواعد فن السينما والتعليق عليها بالشرح والتمثيل على صفحات (الرسالة) الغراء. متوخين الموضوع قبل كل شيء، نابذين المعقد الجاف من اصطلاحاتها، ساعين وراء فائدة أوفر عدد من الجمهور
وقد وقع اختيارنا على كتاب (ف. أ. بودوفكين) عن حرفية الفلم واتخذناه نبراساً نهتدي به في بحثنا، وكنزاً نغترف منه ونجود به على غيرنا
بودوفكين
وإذا اخترنا كتاب بودوفكين، فلأنه - على وضوح معناه وسهولة عباراته - قد فتح به فتحاً هز أرجاء القارتين الأوربية والأمريكية، ولا غرو فقد تضافرت جميع العوامل لتنصيب بودوفكين متشرعاً للفن السينمائي(149/79)
فأنه ولد ويعيش في روسيا، وكانت روسيا ولاسيما في السنين الأولى التي تلت الثورة السوفيتية، محرومة من الاتصال بالعالم المتمدن؛ وكانت فقيرة في المواد الأولية التي تغذى بها الصحف والمجلات السينمائية، فانكب رجال الفن هناك على البحث النظري وعلى التجارب، فأتوا في هذين الميدانين بالعجب العجاب
وبودفكين يجري في عروقه الدم الروسي، ممتزجاً بالدم التتري، فكأننا به قد جمع إلى المزاج السلافي الذي يفنى في الفن الخالص، ذلك الجموح وتلك الجرأة اللذين قد وسم بهما الجنس التتري
وهو متزوج من ممثلة سينمائية، سعيد في حياته، مستريح البال مطمئن الخاطر، يستنشق في منزله نسيم الفن الذي جعل حياته له. ناهيك من عقل جبار، وإحساس مرهف، وقدرة على تبسيط العلوم الجافة مما لا يجتمع إلا للأفذاذ أمثال بودوفكين وقليل ما هم
(يتبع)(149/80)
الكتب
الخطرات
كتاب في الأدب والأخلاق والاجتماع
تأليف السيدة وداد سكاكيني
السيدة وداد سكاكيني مربية سورية لها في ميدان الأدب والإصلاح الاجتماعي جولات موفقة، وهذه الخطرات التي خطرت لها في مرافق المجتمع العربي عامة والسوري خاصة لا ريب تشهد أنها شاعرة متألمة لا تملك غير قلمها وسيلة لإظهار ما تشعر به، وهذا القلم يبدو من خلال هذه الخطرات بليغاً صريحاً حكيما عزيزاً، ومن بين الموضوعات الكثيرة التي حفلت بها هذه الخطرات (الفن القصصي) وفيه تبين الكاتبة مقدار اهتمام الغربيين بذلك النوع من الأدب، وتعيب على القصة المعربة أنها لا تتمشى مع تقاليدنا، ولا تصف طرق معايشنا، ولا تتناسب مع أخلاقنا؛ وتهيب بأدباء العربية أن يكتبوا عن بيئاتهم قصصاً يحللون فيها ما يعتور ظواهر الاجتماع من التطور والانقلاب
وتفرغ الكاتبة عواطفها في مقال جميل عن ذكرى النبي الكريم، تنوه فيه بجهوده كنبي وشارع ومثل أعلى لمكارم الخلق؛ وهي ترى أن ما اعتاده المسلمون من الاحتفال بذكرى مولده بقراءة القصة المعهودة لا يفي بالغاية من الاحتفال والتكريم، بل يجب أن يعنى بتلاوة سيرة من طراز يناسب العصر الحديث، توصف فيها الأخلاق المحمدية والتعاليم الإسلامية وما أحدثته من الانقلاب الخطير في تاريخ الإنسانية
أما إصلاح المرأة فترجعه الكاتبة إلى أحوال المدرسة، فهي تصرح بأن الفوضى في مناهج الدراسة تجعل المدرسة عاجزة عن بث روح النشاط والهمة والتهذيب والثقافة في نفوس النشء، بل تجعل التلميذات (يدخلنها صباحاً بقلوب واجفة وأقدام تصطك خوفاً ورعباً، ويخرجن منها مساءً كالعصافير وجدت بعد طول الأسر حريتها المسلوبة) هذا ما تقوله في وصف المدرسة، ولعلها بهذه الصراحة قد وفقت إلى لفت أنظار القائمين بشؤون التعليم إلى أن الاتجاهات الحديثة في التربية تعنى قبل كل شيء بأن تكون المدرسة مكاناً يحبه التلاميذ ويجدون فيه مجالاً فسيحاً لإرضاء غرائزهم وإظهار مواهبهم وتنظيم رغباتهم في جو(149/81)
يسوده المرح والاطمئنان
وهكذا وبمثل هذه الروح الطيبة تعالج الكاتبة كثيراً من الموضوعات التي أهمها الأدب العربي، والتجديد في الشرق، والجرأة الأدبية، وشاعرية الخنساء. ونحن نهنئ الكاتبة الفاضلة بذلك الجهد الموفق. ونرجو أن يستجيب المصلحون إلى ذلك النداء الصادق البريء
عبد الفتاح السرنجاوي(149/82)
القياس في اللغة العربية
للأستاذ محمد الخضر حسين
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
للأديب سيد أحمد صقر
القياس فن واسع الأطراف، متشعب المسالك، يمت إلى كل باب من أبواب اللغة بصلة، ويكاد يجري ذكره عند كل مسألة، ولولاه لضاقت الفصحى على أبنائها، وقعدت بهم عن مسايرة ركب الحياة. لم يؤلف فيه - على ما أعلم - غير هذا الكتاب. وسبب تأليفه أن مؤلفه البحاثة الأستاذ محمد الخضر حسين كان يمر أثناء دراسة لعلوم العربية على أحكام تختلف فيها آراء العلماء فيقصرها بعضهم على السماع، ويراها آخرون من مواطن القياس، وقد يحكي بعضهم المذهبين دون أن يذكر الأصول التي قام عليها ذلك الاختلاف. فرأي فضيلته أن التمسك بمثل هذه الأقوال من المتابعة التي لا ترتاح إليها نفس العالم الحر - ولاسيما أن الكتب التي اعتمد عليها أصحاب هذه الأقوال قد أصبحت في متناول أيدينا - فأخذ يوجه نظره الثاقب إلى الأصول العالية التي يراعونها في أحكام القياس والسماع حتى ظفر بقواعده صريحة أضاف إليها غيرها مما استنبطه أو ابتدعه فكان من ذلك (كتاب القياس). شرح الأستاذ في هذا الكتاب حقيقة القياس، وفصل شروطه، وجمع أصوله وضم أشتاتها، وأبرزها في ثوب قشيب، سهلة القطاف للراغبين، وقدم له بمقدمة رائعة في فضل اللغة العربية ونشأتها ومسايرتها للعلوم المدنية، وحاجاتها إلى المجتمع، وتأثيرها في الفكر، وتأثير الفكر فيها، إلى غير ذلك من الأبحاث الموجزة الشائقة، ثم تكلم عن القياس ووجه الحاجة إليه، وذكر أقسامه وخص منها بالبحث القياس الأصلي وقياس التمثيل، وتكلم عن الأمور المشتركة بينهما كالقياس في الاتصال، والترتيب والحذف والفصل إلى آخر تلك المباحث التي طبق فيها المؤلف مفاصل السداد، وأصاب شواكل المراد، ودل بها على تبحره في علوم اللغة، وتمكنه من ناصيتها. بيد أني كنت أحب أن يطلق الأستاذ ليراعته العنان، ويبسط القول بعض البسط، ويكثر من المثل والشواهد لتكون الفائدة بكتابه أعم وأعظم. وإن كان للأستاذ العذر فيما ذهب إليه من الإيجاز(149/83)
السيد أحمد صقر(149/84)
سلسلة القصص التهذيبية
عني الأستاذ أحمد فؤاد الصحن بوضع هذه القصص التهذيبية وأخرج منها حلقتين: الأولى (قصة البخيل)، والثانية (قصة الصياد الصغير والسلحفاة)، وفي ختام الحلقة الثانية قصة قصيرة وحكاية مصورة وبعض مشاهدات في مبادئ الطبيعية ومسائل حسابية ومسابقة لطيفة للأطفال، وهذه كلها قصد بها الأستاذ تسلية الأطفال وتزويدهم بطائفة من المعلومات العامة في قالب سهل؛ والكتابة للأطفال لا ريب تحتاج إلى جهد عظيم وعناية فائقة، ثم هي تقيد الكاتب بكثير من القيود، ولعل هذا هو السر في أن الأطفال في مصر ظلوا طويلا محرومين من الكتب التي تناسب مداركهم. وليس من شك في أن الأستاذ بكتابة هذه الحكايات قد أضاف إلى مكتبة الأطفال آثاراً لها قيمتها في تهذيبهم وتثقيفهم وتوسيع مداركهم وتقوية الخيال فيهم. ورجاؤنا أن يعنى الأستاذ في الحلقات القادمة بالإكثار من الصور وجعلها أكثر وضوحاً وأقرب إلى النوع الذي يحاول الأطفال أن يرسموه بأيديهم، فأن ذلك له أثره في تقريب الحكايات وجعلها جميلة سائغة
تاريخ الكشف في مصر والعالم
وضع هذه الرسالة الصغيرة الأديب مصطفى أفندي محمد حسين الرفيق الأكبر لرهط جوالة مدرسة بور سعيد الثانوية، وقد بدأها بترجمة موجزة لحياة (بادن باول) الكشاف الأعظم، ثم تناول الكلام عن تاريخ الكشف مستعرضاً الأنظمة الشبيهة به في التاريخ القديم، فهو يصف في إيجاز شديد النظام الإسبرطي، ثم ينتقل إلى القرون الوسطى، فيصف الفروسية عند العرب والأوربيين؛ ثم يجاوز هذا إلى حركة الكشف الجغرافي في بداية التاريخ الحديث، ويوازن بين أنظمة الكشف القديمة والحديثة، وأخيرا يعرض للكشافة في مصر، وينقد الفرق الأهلية والكشافات المدرسية؛ ويختتم رسالته بفصل عن المعسكرات الكشفية العالمية؛ وبرغم ما في هذه الرسالة من الأخطاء اللغوية الكثيرة فأنها جهد يشكر عليه صاحبه
(ع)(149/85)
العدد 150 - بتاريخ: 18 - 05 - 1936(/)
النقد المزيف
كاد الأدباء الناشئون في مصر وفي غير مصر ينصرفون عن الإنشاء إلى النقد. وأريد بالنقد هنا معناه العامي أو مدلوله الأعم؛ فأن النقد المنطقي بمعناه الأخص إنما هو ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافية علمية شاملة. والناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التميز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم. ومن ثم كان نوابغ النقد في العالم أندر من نوابغ الشعر والكتابة. وهذا الذي تقرأه في الصحف العربية من حين إلى حين لا يدخل في هذا الباب إلا كما يدخل المجون في نطاق الجد أو العبث في سياق المنطق؛ كالرجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين، فيقف نفسه موقف القائد الحصيف، يلمز هذا، ويتنادر على ذاك، ويزعم أنه وحده المسيطر على ثمرات الذهن، فيحكم بذوقه الخاص على هذه بالقبح، وعلى تلك بالفجاجة؛ وأمره كله لا يخرج عن مألوف الطباع الساخرة الفكهة: تصور الحق بلون الباطل لتُضحك، وتبرز الجميل في مظهر القبيح لتُسئ. وعيب الناس طبيعة في بعض الناس، لا يكلفهم إلا تحريك اللسان إذا لقوا سامعاً، أو تجرير القلم إذا وجدوا صحيفة
هذا طالب في ثانويات القاهرة يملي خطة في الكتابة على الجامعة؛ وذاك معلم في ابتدائيات بيروت يلقي درساً في الصحافة على القاهرة؛ وذلك صحفي في مطارح الهجرة يقضي بالموت على الأدب العربي كله!
علام اعتمدت يا بني في إنشاء خطتك؟ وإْلام يا أخيَّ في إعداد درسك؟ ومم اتخذت يا زميلي أسباب حكمك؟ وهل تظفر من هؤلاء بجواب ما دمت في الزمن الذي ترى فيه الناظم ينظم ولا يعلم العروض، والكاتب يكتب ولا يدرس النحو، والمجادل يجادل ولا يفقه الأصول؟ إنها فوضى تتولد في عصور الانتقال وتفشو في ابتداء اليقظة، حين لا يسكن أمر إلى قرار، ولا يطمئن نظام على وجه، ولا يخلص رأى من حيرة، ولا يصدر حكم عن اختصاص!
إن هذا الضرب من النقد إما أن ينبعث من مكامن الحقد فيرمى إلى التجريح، وإما أن ينطلق من مواضع الغرور فيسعى إلى الهدم. كان منذ قريب يعمد إلى الكتاب القيم في الفلسفة أو التاريخ أو القانون قد ألفه مؤلفه من دمه وعصبه وعقله وعمره وماله، فيقف منه موقف الحاسد الأحمق ينقد في بعض صفحاته فعلا تعدى بغير حرفه، أو اسماً جمع على(150/1)
غير قياسه، وقد يكون لكل منهما وجه، ثم يحكم على الكتاب كله بأنه سخيف لا يقرأ، وضعيف لا يعيش!. ثم أصبح اليوم يعرض للموضوع فيقول: هذا قديم لأنه يدور على بحث في تاريخ الشرق، أو على معنى من معاني الدين، أو على أثر من آثار البلاغة؛ وهذا جديد لأنه يقوم على حادثة من حوادث الغرب، أو على رجل من رجال الأكاديمية أو على غانية من غواني المسرح؛ هذا مقلد لأن أسلوبه شريف ممتنع، وهذا مجدد لأن أسلوبه مبتذل ممكن! ثم تعصف بأقلامهم اللينة نخوة الحفاظ وحماسة الفتوة فيصيحون:
أميتوا أدب العاصفة وأحيوا أدب القوة!
أبيدوا أدب الخاصة وأوجدوا أدب الشعب!
انبذوا أدب المقالة ألزموا أدب القصة!
صيحة قرارها حق ومقالها باطل! فأن إجماع الناس واقع على أن خلو الأدب الحديث من أدب الشعب وأدب القصة خلل لابد أن يسد، ونقص لابد أن يكمل؛ ولكن من الذي يقول ويعني ما يقول: إن وجود هذه الأنواع يقتضي عدم الأخرى؟ إن لكل فن من الأدب طبقة من الناس تتذوقه، فإذا منعتها إياه طلبته. والناقص لا يكمل برفع نقص ووضع نقص؛ والبناء لا يتم بهدم ركن وإقامة ركن
أرأيتك إذا كان الأدب كله قوياً يخشن الصدور، وحماسياً يؤرّث الحفائظ المريرة، ويترجم أشجان القلوب الكسيرة، ويرقق حواشي الأنفس الجافية؟
أرأيتك إذا كان الأدب كله شعبياً يعبر بألسنة السوقة، وينقل عن عواطف العامة، أفما كنت تقول: أين الأدب الذي يرضي أذواق الخاصة فيجمع بين سمو الفكرة ونبل العاطفة وقوة الأسلوب في صورة من الفن الرفيع تسمو بالنفوس إلى المثل الأعلى، وتغمر الشعور بالجمال الخالد؟
الأدب صورة النفس فلا بد أن ترتسم فيه مشاعر الفرد؛ والأدب مرآة الحياة فلا بد أن تنعكس فيه ألوان المجتمع. وما دام في الناس الحساس والبليد، والخوار والجليد؛ وفي الدنيا التفاوت الذي يوجد التمايز، والألم الذي يفجر الدموع، واللذة التي تبعث المسرة، والمدنية التي تخلق التنوع، فلا بد أن يكون الأدب الصحيح صدى لكل ذلك
ليست وظيفة النقد أن يهدم أو يميت أو يشترع. تلك وظيفة الطبيعة التي تطور كل شيء،(150/2)
وتغير كل نظام، وتسد كل عوز، وفق قانون ثابت. إنما وظيفة الناقد أن ينظم الموجود وينبه الأذهان إلى الفاقد. أمَّا أن يحاول تغيير الطباع بقانون، وقلب الأوضاع بمقالة، ومحو الثابت بنكتة، فذلك عبث لا يخلق بكرامة إنسان، وتهريج لا يذكر بضمير فنّان!
أما بعد فلعل في هذا الأجمال يا صديقي (نجيب) بعض الجواب عن مقالك (فوضى النقد)، ولعلك تكتفي مني بذكره عن نشره؛ فانك سميت أشخاصاً وعينت كتباً وحددت حوادث، وفي بعض ما قلتَ مشابهُ مما يقول هؤلاء! ومن خلُقَ الرسالة كما تعلم أن تكتفي بالتلميح وتتأبّه عن التجريح وتعوذ بفطنة قرائها من شر ذلك.
أحمد حَسن الزيات(150/3)
إنسان ناجح
للأستاذ أحمد أمين
صخري الوجه، صلب الجبين، لم يعرف يوماً حمرة الخجل، ولا برقع الحياء، لا يتوقى شيئاً، ولا يبالي ما يقول
إن كان لكل الناس وجه ولون ولسان، فلهذا المخلوق أوجه وألسنة وألوان
هو صديقك وعدوك حسب الظروف الخارجية، لا حسب ما يصدر منك، وهو مادحك وذامك حسب ما يدور في المجلس، لا حسب رأيه، وهو عابس لك يوماً باسم يوماً حسب ما يقدر هو أنه في مصلحته، لا حسب ما تستحق أنت منه
له حاسة زائدة عن حواس الناس الخمس هي سر نجاحه، ولهذه الحاسة خصائص: فهو يدرك بها أي نوع من الوزارات ستتولى الحكم ليحول نفسه على وفقها، وليتهجم لأعدائها، ويتقرب من أحبابها؛ ويشم بها مواطن المال في كل ظرف، ويرى بها من يجلب له النفع، ويؤقلم وفق ذلك نفسه، فيتشكل بأشكال في منتهى الظرف والطلاوة، فإذا عدوه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم
ويعرف بها - في مهارة عجيبة - موضع الضعف من كل إنسان يهمه، فأن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث في النساء والجمال وحسن الشكل، وبدع المحاسن، وجمال الملامح، وأستعرض نساء الفرنج، وأية حوراء العينين، كحلاء الجفون، ساجية الطرف، فاترة اللحظ، وأية أسيلة الخد، ممشوقة القد، وأية بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العين. وأية سوداء العين، سمراء اللون سوداء الشعر. وأية ممتلئة البدن؛ ضخمة الخلق، شبعى الوشاح، وأية دقيقة الشبح نحيلة الظل مرهفة الجسم، وتفنن في ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك لبه، ويستعبد عقله، فإذا هو طوع بنانه ومستودع أسراره
وإن كان سكيراً حدثه الحديث الممتع في الشرب والشراب، والكؤوس والأكواب وآداب النديم، وروى له أحسن الشعر في الخمر وحدثه عما يمزج ومالا يمزج، وخير الخمور ومواردها وتواريخها وما يلذ صبوحا وما يلذ غبوقا - وتعرف ما يستحسنه صاحبه فأفرط في مدحه وادعى الإعجاب به، وأنه لا يفضل عليه غيره، وأن ذوقه من ذوقه وشرابه من شرابه ومزاجه من مزاجه، وأسكره من حديثه كما أسكره من كأسه، فإذا هما صديقان وثقت(150/4)
بينهما الكأس والطاس
وأن كان شرها في المال حدثه عن الضياع ومحاسن الأراضي وكيفية استغلالها، والعمارات وجبايتها، ووازن بين أنواع العقار وكم في المائة يمكن أن تغل، وأعانه في مشاكله وبذل له كل أنواع معونته، فوجد فيه صديقه النافع وخليله المواتي
وهدته حاسته هذه أن يعمد إلى عدد من الرؤوس الكبار ذوي النفوذ فينصب لهم حبالته، ويوقعهم في شبكته، بما يبذر من حب ذي أشكال وألوان، فإذا تم له ذلك خضع له الصغار من تلقاء أنفسهم وطوع أرادتهم، وضرب لهم مثلاً بقضاء حوائج لبعضهم ما كانت تقضى من غيره، فهو مقصد جميعهم ومحط آمالهم وموضع الرجاء منهم، يعملون كلهم في خدمته على أمل أن ينالوا شيئاً من جاهه، فإذا هو سيد على الصغار والكبار، وإذا هو عظيم حيث كان، يقابل بالإجلال والإعظام، ويملق من أتباعه وإخوانه، ويحسب حسابه في دائرته وأوسع من دائرته
إلى جانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويش، فهو يزعم أنه في كل ليلة جليس الكبراء والوزراء، كم يتغزلون فيه ويطلبون القرب منه وهو يتأبى عليهم، ويبتعد عنهم، وهو لو شاء لكفت إشارة منه لأن يرفع من شاء في أعلى عليين، ويخفض من شاء إلى أسفل سافلين - الوزارات في يده، ومصالح الحكومة في إصبعه - والإنجليز يخشون بأسه، والفرنسيون يقضون مصالحهم على يده - وبريده كل يوم من خارج القطر ينوء السعاة بحمله، ثم لا أدري كيف اتصل بالجرائد فهي تشيد دائماً بذكره، فإذا تحرك حركة أعلنتها على الناس كما تذاع حركات الملوك، فهو مسافر إلى الإسكندرية، وقادم من الإسكندرية، ومبحر إلى أوربا، ومنتقل في عواصم البلدان، وعائد إلى مصر بعد أن رفع شأنها، أعلى مكانها، حتى لم يبق إلا أن تخبرنا ماذا أفطر، وكيف أفطر، وفي أي ساعة تناول غداءه، وماذا كانت أصنافه، وهل غفا قليلا إلى زوجه وأولاده
وهو يستغل هذا كله في قضاء مصالحه، فطلباته ناجزه نافذة، والمستحيل لغيره جائز له، والأموال تكال له كيلا، والهدايا تنهال عليه انهيالا، وه مع كل ذلك لا يشبع، كلما نال مطلبا تفتحت له مطالب، فهو في طلب دائم، ومن بيدهم الأمور في إجابة دائمة، حتى ليوشك - إذ لم يتعود الرفض - أن يطلب النجوم تزين غرفته، والسحاب يمطر في الصيف حديقته،(150/5)
والحر والبرد يتأدبان في حضرته، والشمس تكسف لطلعته
ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، ويرون فيه السخافة مركزة، واللؤم مجمعاً فإذا لقوه فترحيب وتهليل، وإعضام وملق، يبسطون ألسنتهم فيه بالسوء غائباً، ويبطنون في مدحه حاضرا، فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعه على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غراما أو يُجَنُّوا به هياما، شهدته مرة وقد أتى عملا شنيعا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت الناس إن رأوه ازدروه - على الأقل - بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، واستهانوا بمقدمه، وأقل ما يفعلونه ألا يحلفوا به، وليأبهوا بمقدمه، فما كان أشد عجبي أن رأيتهم - إذ حضر - قد انتفضوا من أماكنهم، وأفسحوا له مجالسهم، وأجلّوا شأنه، واعظموا ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خلقه
فهو - حتى في هذا - ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم - فكرهم لأنفسهم، وإعظامهم له، وماذا يضيره كرهٌ محتقن وخير منه حب مصطنع، وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لاشك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكرة والذم
قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، لعددنا السارق يجيد السرقة ويفلت من العقوبة ناجحاً، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه ولو كان من أخسها - إن هذا الذي ذكرت قد كسب المال وخسر الشرف، حييت مطامعه ومات ضميره، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه ومت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئاً، إن قسته بمقياس الفضيلة الباتة الحاسمة لم تجده سعيداً، إنه يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، فان كان الحمار أو الخنزير سعيداً سعيد، وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، ويلذهما لذة لا تعدلها ما ذكرت من مال وجاه؛ إن الرجل الفاضل سعيد حتى في آلامه لأنها آلام لذيذة خصبة، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها، أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج - وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوّعُ نفسه وتتقبض شهيته - فان اللذة الباقية الدائمة هي(150/6)
لذة الروح لا الجسم، ومن عجيب أمر الروح أن لذتها لذة صافية، وألمها ألم مشوب بلذة، ثم لذة هذا المخلوق لذة مشروطة بشروط، فهو يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبه في الوزارة، وصديقه في الوكالة، وحميمه في منصبه، لأن قيمته ذاتية، ونجاح مثل هذا في أمة عنوان فشلها وسوء تقديرها، وضعف الرأي العام فيها - وهو مثل سيئ يشجع البذور السيئة على النماء والبذور الصالحة على الخفاء - قد يكون هذا المثل في كل أمة، ولكنه في الأمة الصالحة نادر، ويحتاج في نجاحه إلى كثير من الطلاء حتى يخدع الناس ويوهمهم بصلاحه. أما أن يجرؤ ويظهر بمظهره الحقيقي ثم ينجح فذلك فساد الأمة وسبه الدهر
قلت: ربما كان ما تقول صحيحاً فدعني أفكر
أحمد أمين(150/7)
العجوزان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال محدَّثي: التقى هذان الشيخان بعد فراق أربعين سنة، وكانت مثابتهما ذلك المكانَ القائم على شاطئ البحر في إسكندرية في جهة كذا، وهما صديقان كانا في صدر أيامهما - حين كانت لها أيام. . . - رَجُلي حكومة يعملان في ديوان واحد، وكانا في عيشهما أخَوَيْ جد وهزل وفضائل ورذائل، يجتمعان دائماً اجتماع السؤال والجواب، فلا تنقطع وسيلة أحدهما من الأخر؛ وكأن بينهما في الحياة قرابة الابتسامة من الابتسامة، والدمعة من الدمعة
ولبثا كذلك ما شاء الله ثم تبددا، وأخذتهما الآفاقُ كدأب (الموظفين) ينتظمون وينتثرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن (الموظف) من تفسير قوله تعالى: (وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت)
وافترق الصديقان على مضض، وكثيراً ما يكون أمر الحكومة بنقل بعض (موظفيها) - هو أمرها بتمزيق بعضهم من بعض؛ ثم تصرَّفت بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق لا يلتقيان، وأصبح كلاهما من الآخر كيومه الذي مضى، يُحفظ ولا يُرى
قال المحدِّث: وكنت مع الأستاذ (م)، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شابٌ لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة. . . ويزعم أن في جسمه الناموسَ الأخضر الذي يحيي الشجرة حياة واحدةً إلى الآخر
رجل فارةٌ، متأنق، فاخر البزَّة، جميلُ السَّمْت، فارغُ الشَّطاط كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا انحناء، مجتمع كله لم يذهب منه شيء، قد حفظته أساليبُ القوة التي يعانيها في رياضته اليومية. وهو منذ كان في آنِفَتِه وشبابه لا يمشي إلا مستأخر الصدر، مشدود الظهر، مرتفع العنق، مسندا قفاه إلى طوقه؛ وبذلك شب وشاب على استواء واحد، وكلما سئل عن سر قامته وعوده لم يزد على قوله: إن هذا من عمل إسناد القفا. .
وهو دائماً عَطرٌ عبق، ثم لا يمسُّ إلا عطرا واحد لا يغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يبقي للأيام رائحتها
وله فلسفة من حسّه لا من عقله. ولفلسفته قواعد وأصول ثابتة لا تتغير؛ ومن قواعدها الزهر، ومن بعضها الموسيقى، ومن بعضها الصلاة أيضاً. وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ(150/8)
الشباب. ومن فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغير اتصل الشبابُ فيها واطَّرد في الروح. فتكون من ذلك قوة تحرس قوة اللحم والدم، وتمسك على الجسم حالته النفسية الأولى
وهو يزيد في حكمة الصلاة فكرةً رياضيةً عملية لم ينتبه أليها أحد، هي رياضة البطن والأمعاء بالركوع والسجود والقيام؛ ويقول إن ثروة الصلاة تُكْنَز في صندوقين: أحدهما الروح لما بعد الموت، والأخر البطن لما قبل الموت. ويرى أن الإسلام لم يفرض صلاة الصبح قبل الشمس إلا ليجعل الفجر ينصبُّ في الروح كل يوم
قال المحدّث: وبينما نحن جالسان مرّ بنا شيخٌ أعجفُ مهزولٌ موهونٌ في جسمه، يَدْلُفُ متقاصِرَ الخطوْ كأن حِمل السنين على ظهره، مُرْعشٌ من الكبَر، مستقدِمُ الصدر منحنٍ يتوكأ على عصا، ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعوجَّ أيضاً. وهو يبدو في ضُعفه وهُزاله كأن ثيابه ملئت عظاماً لا أنسانا، وكأنها ما خيطت إلا لتمسك عظما على عظم. .
قال: فحملق إليه (م) ثم صاح: رينا، رينا. فالتفت العجوز، وما كاد يأخذنا بصره حتى أنفتل إلينا وأقبل ضاحكا يقول: أوه رِيت، رِيت
ونهض (م) فاحتضنه وتلازما طويلا، وجعل رأسهما يدوران ويتطوَّحان، وكلاهما يقبل صاحبه قبلاً ظامئة لا عهد بمثلها في صديقين، حتى لخيّل إلي أنهما لا يتعانقان ولا يتلاثمان ولكن بينهما فكرة يعتنقانها ويقبلانها معاً. .
وقلت: ما هذا أيها العجوز؟
فضحك (م) وقال: هذا صديقي القديم (ن) تركته منذ أربعين سنة معجزةً من معجزات الشباب، فها هو ذا معجزة أخرى من معجزات الهرم، ولم يبق منه كاملاً إلا اسمُه. .
ثم التفت إليه وقال: كيف أنت يا رِينا؟
قال العجوز (ن): لقد أصبحت كما ترى؛ زاد العمر في رجليَّ رجلاً من هذه العصا، ورجع مصدرُ الحياة فيَّ مصدراً للآلام والأوجاع، ودخلت في طبيعَتي عادة رابعة من تعاطي الدواء
فضحك (م) وقال: قبح الله هذه الدخيلة، فما هي العادات الثلاث الأصلية؟
قال العجوز: هي الأكل والشرب والنوم. . ثم أنت يا رِيت كيفَ تقرأ الصحف الآن؟(150/9)
قال (م): أقرأُها كما يقرؤها الناس، فما سؤالك عن هذا؟
وهل تقرأ الصحف يوما غير ما تقرأ في يوم؟
قال: آه! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبارُ الوَفيَات لأرى بقايا الدنيا، ثم (إعلانات الأدوية). . ولكن كيف أنت يا ريت؟ إني لأراك ما تزال من وراء أربعين سنةً في ذلك العيش الرَّخِيُ، وأراك تحمل شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يَحزُمْك من هنا ولا من هنا، وكأنه يلمسك بإصبعه لا بمساميره، فهل أصبت معجزة من معجزات العلم الحديث؟
قال: نعم
قال: ناشدتك الله، أفي معجزات العلم الحديث معجزةٌ لعظمي؟
قال (م): ويحك يا رينا. إنك على العهد لم تبرح كما كنتَ مزبلة أفكار. . ماذا يصنع فيك العلم الحديث وأنت كما أرى بمنزلة بين العظم والخشب. .؟
قال المحدث: وضحكنا جميعاً ثم قلت للأستاذ (م): ولكن ما (رينا وريت) وما هذه اللغة؟ وفي أي معجم تفسيرُها؟
قال: فتغَامزَ الشيخان، ثم قال (م): يا بني هذه لغة ماتت معانيها وبقيت ألفاظها، فهي كتلك الألفاظ الأثرية الباقية من الجاهلية الأولى
قلت: ولكن الجاهلية الأولى لم تنقض إلا فيكما. . ولا يزال كل شاب في هذه الجاهلية الأولى، وما أحسب (رينا، وريت) في لغتكما القديمة إلا بمعنى (سوسو، وزوزو) في اللغة الحديثة؟
فقال (م): اسمع يا بني. إن رجل سنة 1935 متى سأل فيَّ رجل سنة 1895: ما معنى رينا وريت؟ فرد عليه: إن (رينا) معناها (كاترينا)؛ وكان (ن) بها صباٌ مغرماٌ، وكان مُقْتَتَلاٌ قتله حبها. أما (ريت) فهو لا يعرف معناها
فامتعض العجوز (ن) وقال: سبحان الله، اسمع يا بني! إن رجل سنة 1895 في يقول لك: إن (ريت) معناها (مرغريت) وكانت الجوى الباطنَ، وكانت اللوعة والحريق الذي لا ينطفئ في قلب الأستاذ (م)
قلت: فأنتما أيها العجوزان من عشاق سنة 1895 فكيف تريان الحب الآن؟
قال العجوز (ن): يا بني إن أواخر العمر كالنفي. . ونحن نتكلم بالألفاظ التي تتكلم بها أنت(150/10)
وأنتما وأنتم. . غير أن المعاني تختلف اختلافاً بعيداً
قلت: واضربْ لهم مثلاً
قال: واضرب لهم مثلاً كلمة (الأكل) فلها عندنا ثلاثة معان: الأكل، وسوءُ الهضم، ووجع المعدة. . وكلمة (المشي) فلها أيضاً ثلاثة معان: المشيُ، والتعب، وغمزاتُ العظم. . وكلمة (النسيم)، النسيم العليل يا بني؛ يزيد لنا في معناها تحرك (الروماتزم). .
فضحك (م) وقال: يا (شيخ). .
قال العجوز: وتلك الزيادة يا بني لا تجيء إلا من نقص، فهنا بقيةٌ من يدين، وبقية من رجلين، وبقية من بطن، وبقية من ومن ومن، ومجموع كل ذلك بقية من إنسان
قال الأستاذ (م): والبقية في حياتك. .
قال (ن): وبالجملة يا بني فان حركة الحياة في الرجل الهرم تكون حول ذاتها لا حول الأشياء؛ وما أعجب أن تكون أقصر حركتي الأرض حول نفسها كذلك، وإذا قال الشاب في مغامرته: ليمض الزمن ولتتصَّرم الأيام، فان الأيام هي التي تتصرم والزمن هو الذي يمر. أما الشيوخ فلن يتمنَّوه أبداً. فمن قال منهم: ليمض الزمن فكأنما قال فلأمض أنا. .
فصاح (م): يا شيخ يا شيخ. .
ثم قال العجوز: واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم فيصبح مثله ضعيفاً لا غنَاء عنده ولا حيلة له، وكل مصانع لنكشير ومصانع بنك مصر واليابان والأمريكتين، وما بقى من مصانع الدنيا، لا فائدة من جميعها فهي عاجزة أن تكسوَ عظامي. .
قال المحدث: فقهقه الأستاذ (م) وقال: كدتُ والله أتخشَّب من هذا الكلام، وكادت معاني العظم تخرج من عظامي. لقد كان المتوحشون حكماء في أمر شيوخهم، فإذا علَت السنُّ بجماعة منهم لم يتركوهم أحياءً إلا بامتحان، فهم يجمعونهم ويلجئونهم إلى شجرة غضة لينة المهَزَّة فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلَّوا منها وقد عَلِقَت أيديهم بأغصانها؛ فإذا صاروا على هذه الهيئة اجتمع الأشداء من فتيان القبيلة فيأخذون بجذع الشجرة يرجعونها وينغضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يداه من أولئك الشيوخ أو كلتَّ حوامل ذراعيه فأفلت الغصن الذي يتعلق به فوقع، أخذوه فأكلوه. ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين فاقشعر العجوز (ن) وقال: أعوذ بالله هذه شجرة تخرج في أصل الجحيم، ولعنها الله من(150/11)
حكمة، فإنما يطبخونهم في الشجرة قبل الأكل، أو هم يجعلونهم كذلك ليتوهموهم طيورا فيكون لحمهم أطيب وألذ، ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير
قال (م): إن كان في الوحشية منطق فليس في هذا المنطق (باب لِمَ)، ولا (باب كيف)، ولو كان بهم أن يأكلوهم لأكلوهم، غير أنها تربية الطبيعة لأهل الطبيعة؛ فان رؤية الرجل هذه الشجرةَ وهزَّها وعاقبهّا يبعد عنه الضعف والتخلخل، ويدفعه إلى معاناة القوة، ويزيد نفسه انتشاراً على الحياة وطمعاً فيها وتنشطاً لأسبابها، فيكون ساعدهُ آخر شيء يهرم، ولا يزال في الحِدّة والنشاط والوَثَبان، فلا يعجز قبل يومه الطبيعي، ويكون المتوحشون بهذا قد احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلى مجهودها، وأكرهوها على أن تبذل من القوة آخر ما يسمع الجسم
قال (ن): فَنَعم إذنْ، ولعن الله معاني الضعف. كدت والله أظن أني لم أكن يوماً شاباً، وما أراك إلا متوحشاً يخاف أن تؤكل فتظل شيخاً رجلا لا شيخا طفلا، وترى العمر كما يرى البخيل ذهبه مهما يبلغ فكثرتهُ غير كثيرة
قال المحدث: وأضجرني حواهما إذ لم يعد فيه إلا أن جسم هذا يرد على جسم هذا، وإنما الشيخ من أمثال هؤلاء زمان يتكلم ويقص ويعظ وينتقد، ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لم ترحل أنت فيه إلى دنيا قديمة. فقلت لهما: أيها العجوزان! أريد أن أسافر إلى سنة 1895. . .
(لها بقية)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(150/12)
من روائع عصر الأحياء
قصص الأيام العشرة
بقلم جوفاني بوكاشيو
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من أثار عصر الأحياء الخالدة قصص بوكاشيو الشهيرة المسماة (ديكا أمروني). وقد مضى على ظهور هذا الأثر الرائع زهاء ستة قرون؛ بيد أنه ما زال حتى عصرنا يحتفظ بروعته وسمو خياله وفنه، وما زال يتبوأ مكانه بين الآثار العالمية الخالدة
وقد أوحت إلى بوكاشيو كتابة أثره حوادث مروعة شهدها وهزت نفسه إلى الأعماق، فأذكت خياله، وانتزعت من قلمه تلك القصص الساحرة التي تصور لنا كثيراً من العصر وخلاله أصدق تمثيل وأمتعه
كتبها بوكاشيو وأشباح الفناء تحتشد من حوله، والموت الذريع يقطف أزاهير المجتمع من كل الطبقات والأعمار؛ والتمس بكتابتها عزاء لنفسه وعزاء لمجتمعه عما نزل به من أهوال الفناء، ولتكون باعثاً إلى النسيان والمرح. وكان بوكاشيو يومئذ في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، في ذروة الفتوة والنضج، فجاءت هذه القصص أروع آثاره، وعنوان مجده، واتخذت مكانها بين أعظم آثار عصر الأحياء
ولد جوفاني بوكاشيو في سنة 1313 م في باريس من أب إيطالي وأم فرنسية، ونشأ في فلورنس موطن أسرته، وتلقى فيها تربيته، وشغف منذ حداثته بالشعر والأدب، وتأثر أيما تأثير بشعر فرجيل؛ وكان أول آثاره قصة غرامية عنوانها (فيا ميتا) وهي فتاة حسناء يظن أنها تمثل فتاة حقيقية هام بها بوكاشيو، وأظهرها في شخص فيا ميتا، والمظنون أيضاً أنه يصف حبيبته هذه في شخص بطلة قصته الأخرى (فلسكوبو). وتجول بوكاشيو في المدن الإيطالية، وعاش حيناً في نابل، في عهد ملكها روبورتو وملكتها الفتية الحسناء جوفانا (جنه)، واتصل ببلاطها الساطع النحل معا، وكتب فيها بعض قصائده وقصصه، ومنذ سنة 1342 نراه يستقر مع أسرته في فلورنس، ويحاول أن يفوز بمنصب في الحكومة أو مركز أدبي يعيش منه؛ وقد لفتت كفاياته الحكومة غير بعيد، فأوفدته سفيراً إلى حكومة(150/13)
(رومانيا) في سنة 1346، ولكنه اضطر بعد ذلك بنحو عام إلى العودة إلى فلورنس على أثر موت أبيه ليعنى بشؤون أسرته، واشترى بمعظم ميراثه كتباً لاتينية ويونانية، وانقطع للكتابة والتأليف
ولم يمض قليل على ذلك حتى نكبت إيطاليا وفلورنس ونكب العالم بأسره بتلك الكارثة العظمى التي تعرف في الرواية الغربية بالوباء الأكبر، وفي الرواية الإسلامية باسم مماثل هو (الفناء الكبير)، ذلك أن الفناء الكبير قد اجتاح أمم المشرق والمغرب معاً، وحمل منها إلى القبر عشرات الملايين، وعصف بجميع المجتمعات الزاهرة أيما عصف؛ وبسط على العالم المتمدن كله ريحاً من الرهبة والروع؛ وقد شهد بوكاشيو أحداث الوباء في فلورنس منذ بدئها، وترك لنا عنها وصفاً مروعاً مؤثراً؛ واليك ما يقوله في أصل الوباء وأعراضه:
(أنه في سنة 1348 ميلادية حل الوباء الفاتك بمدينة فلورنس الزاهرة، أجمل المدن الإيطالية، بعد أن لبث قبل ذلك بأعوام يعصف بالمشرق، إما لتفاعل الكواكب والأجرام، وإما لغضب الله الحق لما يرتكبه عباده من الخطايا، ولأنه أرسل إليهم صواعق عقابه، فعصف بكتل من البشر لا حصر لها؛ وانتقل الوباء مسرعاً من مكان إلى مكان حتى حل بالغرب يحمل الفزع والروع. . . وكانت أعراضه سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فيظهر أولاً في شكل أورام تصيب الإبط أو أسفل البطن ثم تنتشر في جميع أجزاء الجسم، ثم تتحول إلى بقع سوداء أو ممتقعة تملأ الذراعين والفخذين، ثم سائر أعضاء الجسم؛ وكان المصاب يموت عادة في اليوم الثالث دون حمى ودون مضاعفات أخرى)
واجتاح هذا (الفناء الكبير) أمم الشرق والغرب معاً، فعاث في الأمم الإسلامية أيما عيث؛ وعصف بمجتمعاتها الغنية الآهلة، وسرى إلى جميع الأمم الأوربية، وبسط عليها رهبة الدمار والموت، وحمل من سكانها نحو الثلث في أشهر قلائل؛ وكان فتكه أشد ظهوراً، وأعمق أثراً في مجتمعات إيطاليا، وبخاصة في فلورنس التي كانت تتمتع يومئذ بحضارة زاهرة؛ وهنالك أفنى جيوشاً برمتها، وأهلك عدداً كبيراً من الأمراء والعظماء والقادة، ويقول لنا بوكاشيو إنه استطال هنالك من مارس إلى يونيه سنة 1348، وحمل من فلورنس وحدها مائة ألف إنسان)
ويصف لنا بوكاشيو أهوال الوباء ومناظره المروعة وصفاً ضافياً مؤثراً، فيقول: (كان(150/14)
الناس يجتنبون بعضهم بعضاً، وقلما يتزاور الأقارب أو لا يتزاورون أبداً؛ وألقت الكارثة الرعب في قلوب الناس جميعاً، رجالاً ونساء، حتى أن الأخ كان ينبذ أخاه نبذ النواة، والأخت أخاها، والمرأة زوجها؛ بل أروع وأبعد عن التصديق أن الأباء والأمهات أضربوا عن رؤية الأبناء أو تعهدهم، كأنما ليسوا من ذويهم)
(بل لقد هجر الناس الجيران والأقارب والخدم حتى اضطروا إلى ارتكاب عادات لم يسمع بها، من ذلك أن المرأة مهما كانت من الجمال أو النبل، إذا أصابها مرض واضطرت إلى استخدام رجل، شيخا كان أو شابا، فإنها تكشف له دون خجل كل أجزاء جسمها إذا اضطرتها ظروف المرض، وربما كان ذلك هو السبب في انحلال الحشمة والحياء عند أولئك اللائى نجون)
ثم يقول: (وكان يعنى بدفن الناس بادئ ذي بدء، فيلقى بهم دون احتفال في أول مقبرة؛ فلما اشتد الوباء، كان الموتى يحملون جماعات، ويلقون في الطرق؛ وقد تموت أسر برمتها فلا يبقى منها إنسان؛ وأزواج وآباء معا، ويلقى الجميع بلا تمييز في حفر كبيرة)
تلك هي الأحداث والمناظر المروعة التي أذكت خيال بوكاشيو، وأوحت إليه كتابة أعظم آثاره، وهيأت له في نفس الوقت ذلك الأفق المعنوي الحر الذي جرى في ظله قلمه، ويلخص لنا بوكاشيو غايته من تأليف ذلك الأثر في قوله: (ولقد رأيت ترويحاً للسيدات العاشقات وتعزيتهن - وتكفي في ذلك لغيرهن الإبرة والمغزل - أن أقص مائة خرافه أو ما شئت أن تسميها)
ثم يقول: (ومن ذا الذي ينكر أن الأفضل أن نقدم ذلك العزاء للسيدات العاشقات لا للرجال العاشقين؟ ذلك أن السيدات العاشقات يفضن خجلاً وخوفا؛ ويرغمن على إخفاء جوى الحب في صدورهن، وتحملهن رغبات الآباء والأمهات، والأخوة والأزواج، وأهواؤهم وأوامرهم، على أن يقضين معظم أوقاتهن معتقلات في غرفهن الضيقة، فيجلسن عاطلات ويستعرضن في أذهانهن أفكارا مختلفة لا يمكن أن تكون مرحة أو سارة)
وكتب بوكاشيو قصصه الساحرة في ذلك الأفق الذي تعمره أشباح الفناء، والناس ينظرون إلى الحياة كأنها لعب طائر، ويودعون بعضهم بعضاً، واختار لكتابه هيكلا طريفاً خلاصته، أنه في ذات يوم ثلاثاء، وعصف الوباء في أشده، اجتمع في كنيسة القديسة (ماريا نوفيلا)(150/15)
في فلورنس، سبع فتيات هن بامبنيا، وفياميتا، وفيلومينا، وأميليا، ولوريتا، ونفيلي، وأليزا؛ وكانت أكبرهن بامبنيا في الثامنة والعشرين، وأصغرهن أليزا في الثامنة عشرة، واقترحت بامبينا أن يغادرن المدينة فراراً من الوباء والموت أسوة بأصدقائهن؛ فاعترضت فيلومينا، وقالت إن النساء ينقصهن التفكير السليم، ويغلب عليهن التقلب والشك والخور، ولذا وجب عليهن أن يخترن مرشدا؛ فأيدت قولها أليزا وقالت إن الرجال هم أصحاب الرشاد والنصح، واقترحت أن يستدعين بعض رجال يقومون بالإرشاد
وفي تلك اللحظة يدخل الكنيسة ثلاثة فتيان، أصغرهم يناهز الخامسة والعشرين، وهم بانفيلو، وفيلوستراتو، وديونيو، وكان من غرائب الاتفاق أن كلا منهم كان يعشق إحدى الفتيات السبع، وأنهم جميعاً أقارب للأربع الباقيات، فأشارت إليهن بامبينا، وقالت إن العناية تحقق أمنيتهن بحضور أولئك الفتية الكرماء الأمناء، فاعترضت نيفيلي، وكانت حبيبة أحدهم، خشية الافتضاح، وناقشتها فيلومينا مؤيدة بامبنيا؛ فغلب رأيها واستدعي الفتيان الثلاثة، واتفق الجميع على ارتياد قصر خاص، ومعهم الخدم وكل ما يحتاجون إليه، وهنالك يقيمون حتى ينصرف الوباء؛ وفي صباح اليوم التالي ذهب الجميع إلى هذا المحل المختار، وهنالك اتخذوا مجلسهم تحت الأشجار الظليلة على أرائك وثيرة، وأمامهم الأطعمة والأشربة الشهية، وجعلوا يترددون بين الطعام والسباحة في بركة صغيرة بالقصر؛ وهنالك أيضاً بدءوا سرد القصص
وكانت صاحبة الفكرة بامبنيا، فقد اقترحت أن ينتخب أحدهم حاكما للمجلس كل يوم، وأن يضطلع في هذا اليوم بتدبير شؤون الجماعة وتسليتهم؛ وتولت هي منصب الملكة في اليوم الأول، واقترحت لتسلية الجماعة أن يقص كل منهم قصة، وأن يختتم واحد منهم بإنشاد أنشودة؛ فوافق الجميع متحمسين؛ واستثنى الجماعة من أيام الأسبوع اثنين، يوم الجمعة، ويوم السبت، وخصصا للراحة والتجمل والصلاة؛ وعلى ذلك أصبحت أيام القصص عشرة خلال أسبوعين، وفي كل يوم تقص عشر قصص، فالمجموع مائة قصة؛ هي محتويات مجموعة بوكاشيو الشهيرة، وهى التي يسميها (ديكا مروني) وهي كلمة مؤلفة من مقطوعين يونانيين ومعناها (الأيام العشرة)
هذا هو التمهيد الذي يقدم به بوكاشيو لمجموعته، وهو تمهيد يمتاز ببساطته وطرافته،(150/16)
ويدلي بكثير من روح العصر؛ لقد كان المجتمع الذي كتب فيه بوكاشيو قصصه يعيش من يومه إلى غده؛ وكان بوكاشيو نفسه يجوز هذه الحياة؛ وكان يملأ هذا الفراغ المتصدع بالتجوال في عوالم الخيال الممتع، وكان يرى أن يقدم ثمرة هذا التجوال إلى إخوانه في المجتمع، أولئك الذين يرون أشباح الفناء ماثلة في كل آونة وفي كل مكان
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان(150/17)
أدبنا الجديد
وحظ من الاتصال بثقافتنا التقليدية
للأستاذ إسماعيل مظهر
ركدت الحركة الأدبية في مصر ركوداً أشبه بأن يكون سباتاً عميقاً. ولقد حدث هذا الركود إثر نشاط عظيم في الإنتاج والنقد والترجمة، وإثر شعور قوي بأن الشباب أحق بأن يتزعموا حركة الأدب، وأن ينتزعوا الزعامة الأدبية من أدباء الشيوخ. ولقد اصطبغت حركة الشباب بألوان مختلفة، مهما يكن فيها من مظاهر التطرف حيناً، ومن مظاهر التفريط حيناً آخر، فإنها دلت في بعض أطوارها على حيوية قوية، وطموح، وتطلع إلى إحياء ما قيل إنه أدب جديد. وما من شك في أن حدوث هذا الركود عقيب ما أبدى الشباب من نشاط، ظاهرة جديرة بالبحث، خليقة بأن تدرس من نواح مختلفة، وأن تحلل في ضوء الحقائق التي أحاطت بها، والحقائق التي أحاطت بأدبنا الحديث على وجه عام. ذلك بأن شباباً يعجز عن تكوين فكرة جديدة في الأدب، أو تقعد همته عن خلق تصور جديد في الفن، إنما هو شباب ينذرنا من الآن بأن أدبنا سوف يبقي جيلاً آخر في داخل الحدود التي رسمها للأدب أولئك الذين سماهم الشباب أدباء الشيوخ
وإني لآمل ألا يتبادر إلى الشيوخ من أدبائنا أني أعني بذلك أن أدبهم لم يؤد لأهل هذا الجيل شيئاً جديداً، أو أن وقوف الأدب عند الحد الذي بلغوا إليه دليل على جمود الأدب، وإنما أعني بذلك أن وقوف حركة الأدب، وركود التصور الفني عند حد بلغه شيوخنا من غير أن يعقب عليهم الشباب بأدب جديد له صبغه خاصة وفن له تصورات ذات طابع مستقل عن طابع الفن الذي عرفناه، دليل قاطع على أحد أمرين: إما أن الشباب عاجز عن الابتكار، وإما أن الأدب الذي روج له الشيوخ أدب غير منتج؛ وكلا الأمرين يحفزنا إلى أن نبحث الأمر من وجهيه: علاقة أدب الجيل الجديد بأدب الجيل السابق، وعلاقة الأدبين بالنظرية التي نروج لها: نظرية أن الأدب الثابت والفن الأصيل إنما يجب أن يتجه دائماً إلى إحكام الرابطة بين الصور التي يتشكل فيها، والصور التي قامت عليها ثقافتنا التقليدية
ولقد عبرت عما أعني بالثقافة التقليدية في المقالات التي نشرتها لي (الرسالة) بعنوان (التعليم والحالة الاجتماعية في مصر)، وصورت على قدر ما أتيح لي مجمل ما أدركت من(150/18)
هذه النظرية. ولقد عرفت الثقافة التقليدية بأنها مجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفاً بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة؛ وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعلى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية، ومعتقدات، وفنون عن أسلافه الأولين
ولا شك عندي في أن ما يبدو على أدبنا الحديث، أعن الشيوخ صدر أم عن الشباب، إنما يرجع إلى ضعف علاقتنا بثقافتنا التقليدية. فإن أكثر الذين اتصلوا بهذه الثقافة لم يتصلوا بها اتصال تفهم لروحها ومعناها وأغراضها ومثلها العليا، وإنما اتصلوا بها اتصال استيعاب لظاهرها دون حقيقتها. وهذا أمر لا سبيل إلى نكرانه. كذلك نلحظ أن هؤلاء، على أنهم لم يتصلوا بثقافتنا التقليدية إلا اتصالاً ظاهرياً، فإنهم عجزوا عن أن يدركوا روح العصر الذي يعيشون فيه ليكون ذلك عوناً لهم على تلوين ما استوعبوا من آثار ثقافتهم القديمة بلون يرضاه أهل هذا الزمن وتقره البيئة التي خلقت من حولها خضوعاً لتطورات العصر نفسه، وهذا أيضاً أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أضف إلى ذلك أن الذين لم يتصلوا بثقافتهم التقليدية، وعكفوا على الأخذ عن الثقافة الأوربية وحدها، قد عجزوا عن أن يخلقوا مما أخذوا عن أوربا أدباً جديداً له طابع معين، بحيث يختلف عن الأدب الأوربي على مقتضى ما في الثقافة من روح ومعنوية، ويختلف أيضاً عن الثقافة القديمة على مقتضى ما تتطلب روح العصر الحديث من فنون وتصورات وأخيلة. ذلك بأن دعوتنا إلى الثقافة التقليدية لا ينبغي أن يدرك منها أننا نريد الرجوع إلى القديم بذاته، وأن نحييه ثانية بصفاته التي عرفناها والتي واءَمت العصر الذي خلقت فيه، وإنما نعني بها أن الثقافة التقليدية يجب أن تكون الأصل الذي يلقح بثمار الآداب الحديثة، حتى نقوى على هضم ما يصل ألينا عن أوربا هضماً يمكننا من تكييف الآداب الدخيلة تكييفاً يلائم وراثاتنا العديدة. وبعبارة أخرى نقول إن ثقافتنا القديمة هي المزدرع الذي نلقي فيه ببذور الأدب الحديث، فما عاش منه فيه فذلك ما نكون قد هضمنا ومثّلْنَا، ومنه نخرج الأدب الجديد الملائم لطبائعنا وميولها(150/19)
وتصوراتنا وأخيلتنا، وما مات في ذلك المزدرع من الآداب الحديثة فذلك ما يبعد عن طبعنا ولا حاجة لنا به. وعلى الجملة نقول إن ثقافتنا التقليدية هي بمثابة حقل التجارب الذي يمتحن فيه المجربون قوة البذور الدخيلة على الإنبات والحياة. وما السبب الصحيح في كثرة ما نقع عليه في أدبنا المنقول من الآثار الميتة إلاّ أننا لم نمتحن فيما نقلنا قوة الاستمرار والبقاء في بيئة جديدة. تلك البيئة التي يجب أن تكون من عناصر تستمد من ثقافتنا التقليدية أول شيء
قد ينكر علينا بعض الذين يودون إرضاء ناحية العزة في أنفسهم شيئاً مما نقرر في هذا البحث؛ غير أني أريد لهؤلاء أن يكونوا أكثر تشاؤماً مما هم، ذلك بأن بيئاتنا الأدبية قد تولاها منذ أول نشأتها روح رمت بها في أحضان التشاؤم المرير، ولم يسعدها الزمن بيوم واحد تفاءلت فيه بحسن المستقبل. ذلك بأن معسكري الأدب والتفكير لم يتصل أحدهما بالآخر مطلق اتصال خلال كل ذلك الزمن الذي نفخر فيه بأننا كونّا نهضة جديدة. فالناحية التي اتصلت بالثقافة القديمة متهمة في عين الناحية الأخرى بالجمود عن إدراك ما في الآداب الحديثة من تصورات، والناحية التي لم تتصل بالثقافة التقليدية متهمة في عين الناحية الأخرى بالزيغ عن التراث القديم. ومن ثَمَّ كان التشاؤم. وما لهذا التشاؤم من سبب إلاّ أننا لم ندرك السر عدم اتصال الناحيتين
وإنما ندعو هؤلاء لأن يكونوا أكثر تشاؤماً لأنهم بذلك يكونون أدنى إلى تفهم الحقيقة كما هي واقعة. ولأضرب لهم مثلا بشرقيين اتصلا بالثقافة الأوربية، وأوربيين اتصلوا بالثقافة الشرقية. وبالأحرى بالمستأربين منا، والمستشرقين منهم. لنسأل أي الفريقين استطاع أن يهضم من آداب الآخر أكبر قسط يمكن هضمه
ولنبدأ أولاً بالمستأربين منا ولنتخذ ناحية معينة من نواحي الأدب موضوعاً لبحثنا، كالقصة أو التاريخ مثلاً. أما القصة فقد يقال بأن آدابنا القديمة لم تعن بها العناية الكافية، وأننا لذلك إنما ننقل عن أوربا أدباً جديداً لا أصل له في ثقافتنا؛ وإذن ينبغي لنا أن نتخذ التاريخ محكما للحكم، وقد ظهر من أولئك من كتب فيه أمتع المؤلفات، سواء أفي التاريخ العام، أم في تاريخ الأدب. وأنت تعلم فوق ذلك أن فن كتابة التاريخ ونقد الشواهد التاريخية ومقياس الحكم فيها وروح التفقه التاريخي، إنما هي خلق جديد من مخلوقات القرن التاسع عشر في(150/20)
أوربا؛ وتعلم فوق ذلك أننا اتصلنا بهذا الوجه من الأدب في مدارسنا وجامعاتنا. وتعلم فوق هذا وذاك أن الأوربيين قد كتبوا تاريخنا على أوجه انتحيت فيها نظريات اجتماعية أو اقتصادية أو جنسية، وخاصة تاريخ العرب والإسلام. وأنت بعد هذا كله تعلم علم اليقين أن كثيراً ممن أرخ للعرب أو الإسلام قد أخطئوا التقدير أو شطوا في الأحكام، أو أن النظرية التي بنوا عليها تواريخهم لم تواتهم بالحقائق التي تلبس ما كتبوا ثوب الإقناع. فهل استطعنا الانتفاع بهذا الوجه الجديد من أوجه الأدب؟ هل ألفنا في تاريخنا كتباً قامت على نظريات جديدة تتصل بالثقافة الحديثة أو بفروع منها بحيث تبين لنا عن الاتجاهات الفكرية والتصورية التي اختفت وراء الحوادث الظاهرة، وصححنا بذلك الأخطاء التي وصلها بعض الكتاب بماضينا؟ كلا وكفا
ولنعد بعد ذلك إلى المستشرقين منهم، ونمتحن في ضوء العقل والاتزان الآثار التي صدرت عنهم متصلة بثقافتنا القديمة، ونعني بالمستشرقين كل من اتصل بالشرق سواء كان ذلك من طريق اللغة أم من طريق الدرس باللغات التي نقلت إليها آثارنا القديمة. أما إذا اتجهنا ذلك الاتجاه فإن أول ما نلحظ في الآثار التي صدرت عنهم عكوفهم فيها على أسلوب البحث العلمي وهو أسلوب يتلقونه في معاهدهم وتلازمهم آثاره بعد ذلك. فهم يكتبون التاريخ بأسلوب البحث العلمي، ويكتبون الأدب بأسلوب البحث العلمي، ويتكلمون بأسلوب البحث العلمي وهو أسلوب أخص ما امتازت به ثقافتهم التقليدية. ثم تلحظ بعد ذلك أثر البحث الأكاديمي من حيث الانكباب على الفهم العميق لأشياء قد تلوح أول شيء تافهة غير جديرة بالبحث ولا هي خليقة بالدرس، ومقارنتها بمجموع الحقائق التي تتعلق بها. وهو أسلوب من البحث عاش بين جدران الأزهر أزماناً، وكاد الأزهر يفقده الآن مع الأسف، مع ما فقدنا من تقاليدنا القديمة. وتشهد بعد ذلك في آثارهم ما تضفي الأناة والصبر والاستقلال في الرأي على الآثار العلمية من مظاهر الروعة والجلال. هذا إلى المظهر العام الذي يلابس ما يؤمنون من جماع هذه الأشياء. وبذلك استطاع هؤلاء المستشرقين أن يهضموا ما أخذوا عن الشرق ليخرج من بين أيديهم لابساً صورة أوربية رسيسة. ولقد يخطئون، ولقد يشط أكثرهم أكبر الشطط، ولكنه خطأ واشتطاط تلابسه روح البحث والدرس، ويحوطه الأسلوب الأكاديمي بروعة البحوث العلمية(150/21)
وبعد. فما هو السبب في الفرقة بين مستأرب عاجز عن كتابة تاريخه بروح جديدة، ومستشرق يكتب تاريخ غيره بروح مستمدة من طبعه؟ السبب أن الأول بعيد عن ثقافته التقليدية التي يتخذ منها مادة للدرس والبحث والاستنتاج والصياغة، وأن الثاني يكتب تاريخ غيره مستهدياً بفطرة مستمدة من ثقافته التقليدية. وإني لواثق أن هذه المقارنة سوف تجعل الذين يجنحون إلى إرضاء ناحية العزة والأنفة في أنفسهم يخففون شيئاً من غلوائهم، وتنزع بالذين لا يتشاءمون من أدبنا الحديث بقدر يجعلهم يرون الحقائق كما هي واقعة، إلى درجة من التشاؤم تنير أمامهم السبيل
لقد بدأت نهضتنا الأدبية الحديثة باندفاع نحو الآداب العالمية، واستمداد من وحي أوربا الجديدة؛ ولو أننا تذرعنا مع الاتجاه الجديد بركيزة تقوم على ثقافتنا التقليدية ووراثاتنا المختلفة، إذن لكان لنا أن نقول إننا أخذنا نشيد بناء ثابتاً على أساس مستمد من فطرتنا. أما وإننا لم نعن العناية الواجبة بماضينا، فأهملنا أمر اللغة حتى خرج المتعلمون من أبنائنا وأكثرهم يجهل القواعد الأولية من لغة العرب؛ ونبذنا آداب العربية، حتى نشأ الجيل الحاضر بعيداً عن استذواق الأدب العربي والوقوف على أسراره، فان دفعتنا الأولى نحو التزود من الآداب العالمية الجديدة هي التي أحدثت ذلك الركس الشديد الذي يتجلى الآن في عجز أدباء الشباب عن خلق صورة من الأدب فيها من قوة الحياة ما يجعلها خليقة بان تصبح عنواناً على روح العصر الذي نعيش فيه
على أننا لا يجب أن ننسى في هذا البحث أن نشير إلى علاقة الآداب من الناحية العلمية بطبيعة الأرض والإقليم والمناخ من حيث أنها بيئة طبيعية، كما أننا لم ننس أن نشير إلى اللغة والآداب القديمة والتاريخ والأساطير والحالات الاجتماعية من حيث أنها بيئة عقلية. أما العلاقة بين البيئتين فبينة لا سبيل إلى إنكارها، أو نكون قد أنكرنا أخص العلاقات التي تفرضها الطبيعة فرضاً على الأحياء وتصبغ بها طبائعهم وأخلاقهم وميولهم وأخيلتهم، وعلى الجملة جماع ما فيهم من الصفات العقلية والنفسية. وإلى جانب هذا ينبغي لنا أن نضع في ميزان الحكم والتقدير عند النظر في مثل هذه العلاقات أن الآداب التي أنشأتها شعوب قديمة إنما هي بنت البيئة وربيبة الوسط، بل إنها خلاصة الطبع وعصارة النفس؛ وإنما تتشكل هذه الآداب بمقتضيات العصور علية، وتتكيف بحكم ما يستجمع العقل من(150/22)
مختلف التصورات. أما الروح التي تظهر متجلية في هذه الآداب، فذلك ما لا سلطان لمقتضيات العصور عليه، ولا أثر لما يستجمع العقل فيها إلاّ بمقدار ما تظهر ملابسه لآراء جديدة أو تصورات حديثة أو ميول معينة، تسري فيها تلك الروح سريان القوة في الأجسام المادية، تظهر وهي خفية، وتتجلى وهي كامنة، كأنما هي السيال الذي يخرج من جسم مشع في أقصى أغوار الكون ليصل إلى عالم آخر في صورة أشعة، هي بذاتها الأشعة التي كان يبعثها ذلك الجسم منذ أبعد الأزمان، وإنما ينتفع بها أقوام على الأقوام الأول، وتستهديها شعوب غير الشعوب الغابرة؛ هي في جوهرها وروحها نفس الأشعة القديمة، ولكن تكييفها مرهون بالقدرة على استخدامها أو الحاجة إليها، وإذن ينبغي لنا ألا نقطع الصلة بيننا وبين ذلك السيل الخالد الذي تصلنا أشعته من ماضينا؛ من لغتنا وآدابنا وتاريخنا وأساطيرنا ونظمنا الاجتماعية، تلك التي جادت علينا بها طبيعة الأرض التي حملتنا والسماء التي أظلتنا منذ أبعد عصور التاريخ الإنساني
إسماعيل مظهر
-(150/23)
الشيخ محمد النجار
صاحب الأرغول
للأستاذ عبد الوهاب النجار
لمناسبة ما ذكره الأستاذ حسين شفيق المصري عن صاحب
الأرغول في محاضرته القيمة في تطور الصحافة الأسبوعية
الشيخ محمد النجار شخصية غير مجهولة في عالم الأدب في غروب القرن الماضي وفجر القرن الحاضر
كان المرحوم طالباً بالأزهر الشريف نابهاً بين إخوانه، يجمع الطلبة الذين هم أقل منه ويدرس لهم من العلوم الأزهرية ما هم في حاجة إليه
فلما جاء الشيخ محمد العباسي المهدي شيخاً للأزهر لم يجد به نظاماً يتبع في إعطاء إجازة التدريس ولا دفتراً يضم أسماء العلماء بالأزهر، بل كان من آنس في نفسه قوة وأهلية للتدريس أعد نفسه لتدريس أحد الكتب ودعا الطلبة والعلماء لحضور ابتداء درسه، فإذا أداه حق الأداء وأجاب على كل الأسئلة التي وجهت إليه والاعتراضات التي اصطدم بها من الطلبة والعلماء عد عالماً، وذلك بتهنئة العلماء إياه وثنائهم عليه، وعليه بعد ذلك أن يدعو جلة العلماء والفضلاء إلى مأدبة يعملها لهم شكراً على نجاحه وفلاحه
أما إذا لم يسدد إلى سداد، ولم يوفق في درسه إلى صواب، فإن العلماء ينصرفون عنه دون تهنئته، وحينئذ يتبين الجمهور أنه أخفق ولم يوفق
عزم الشيخ العباسي المهدي على أن يسجل أسماء العلماء الذين يدرسون في الأزهر لذلك العهد وألا يدخل في زمرتهم أحد بعد ذلك إلا إذا اجتاز امتحاناً يعقد لذلك، وعين العلوم على الطالب أن يمر فيها بنجاح في ذلك الامتحان
كان في ذلك العهد يوجد عالم بالأزهر قد بلغ من الكبر عتياً أسمه الشيخ محمد النجار (غير صاحب الأرغول) وقد ذهب ذلك الشيخ إلى بلده ومات بها ولا يعلم بذلك أحد
فلما شرع الشيخ المهدي في تسجيل أسماء العلماء المدرسين بالأزهر أملى بعض العلماء أسم الشيخ محمد النجار، وكان الكبير الذي يحمل ذلك الاسم قد مات قبل ذلك لوقت بقليل(150/24)
ولا يوجد ممن يدرس للطلبة بهذا الاسم سوى الشيخ محمد النجار (صاحب الأرغول فيما بعد)، فتلقف هذه الوظيفة النجار الفتى إذ لا يوجد بازاء الوظيفة ما يميز نجاراً من نجار
بهذا أخبرني العلامة الأديب المرحوم الشيخ محمد أبو راشد إمام المعية في عهد الخديو السابق عباس حلمي باشا الثاني
عين بعد ذلك الشيخ محمد النجار مدرساً بالمدارس الأميرية مع بقائه مدرساً بالأزهر إلى أن كان مدرساً بمدرسة الفنون والصنائع الأميرية ببولاق
وقد كانت نظارة المعارف في ذلك العهد ليس بها درجات للمدرسين ولا نظام للعلاوات وإنما كان ينال من العلاوات من يصادفه الجد ويسعده الحظ. وقد عبر الشيخ النجار على ذلك مدة من الزمن، وكلما آنس أن العلاوة ستسعده بعدت وأخطأته أو تخطته. فلما كان عهد تولية علي مبارك باشا نظارة المعارف عمل له زجلاً يشكو به حاله وقدمه إليه. وهأنذا أنص ما وعته ذاكرتي منه
الدهر دا ديْماً غدار ... لكنوعَ العاقل أكتر
والسعد يأتي بالأقدار ... والرزق مقسومْ ومقدر
الدهر ديْماً مع الأحرار ... يقول حاوريني يا طيطه
تلقى الردِى بخته طيب ... والحر لُو بخت قليطه
ودا غنى بيتو فشبراً ... ودا انزرع في التبليطه
ودا حمار وراكبلو حمار ... مبسوط بأنه سي بعجز
الناس خدامتها سهلة ... وان خدامتي في اتعاب
في كل يوم الصبيحه ... أمشي إلى بولاق قراب
واللي أبات فيه أصبح فيه ... رايح وجي من الكُتاب
خوجه وعايز حق حمار ... ولي ماهيَّه لا تذكر
امتى أفوت مشوار بولاق ... واعرف أنا الآخر بختي
وأفوت بتوع حياك الله ... وبتوع حبرتك يا ستي
كتب علينا (قل سيروا) ... فيها مصيَّف ومْشَتي
الشمس فيها زي النار ... وفي الهوا دايماً تعفر(150/25)
يا أهل المعارف والأنصاف ... أنا جرالي معاكم إيه
تأخروني بالمرة ... وتقدموا الغير عني ليه
البيه يقول روح للباشا ... والباشا يأمر روح للبيه
وأنا كدا واقف محتار ... زعلان ومغموم ومكدر
قالوا الديوان عامل ترتيب ... وبالزيادة لك جادوا
يا حلم وان صحت الأحلام ... وطلعت أنا في اللي زادوا
ورحت أرجو سيدي فلان ... والعبد يترجا اسيادوا
وضع أمام اسمي أصفار ... حتى بقي حالي يصفر
لا أنا مساعد في الساحل ... ولا قريب الشيخ قفه
ولا صعيدي بياع دوم ... خالي حمد سرق الزلفه
ولا مراكبي لي مركب ... عويلها مربوط بالدفه
إلا شريف جدي المختار ... عالم مدرس بالأزهر
فلما قدم هذا الرجل الزجل إلى المرحوم علي مبارك باشا أعجب به وأمر بنقله إلى مدرسة القريبة وزيادة جنيه ونصف على مرتبه، وما كان يحلم أن يصل إلى ذلك في ثلاث علاوات
وكان رحمه الله راسخ القدم في فنون الأدب، فكان ينظم المواويل الحمر ويساجل أبطالها
كان يوجد رجل بمديرية المنيا اسمه الشيخ عبد الله لهلبها ينظم المواويل، وقد ذهب المرحوم الشيخ محمد النجار إلى المنيا وبحث عن الشيخ فلم يجده
فترك له موالاً عند عبد القادر أفندي إدريس وهو:
والله ما حرق الأحشا ولَهْلِبْها ... ولا أذاب مهجتي إلا ولَهْلبها
ونزلت في أرض لا ناسي ولهلبها ... وجيت أدور على مواوي يواويلي
قالوا ما فيش إلا أبو كراع في بلدة ولهلبها
أما ما رد به عبد الله لهلبها على هذا الموال فعند عبد القادر أفندي إدريس
وكان النجار رحمه الله يبتدئ الموال ويتحدى الأدباء يريد منهم تكملته فلا يجد. وربما زاد قسما آخر بعد ذلك في الموال. فيعي الأدباء عن ذلك(150/26)
من هذا قوله:
مغزل حماتك سقط ضاعت تقاقيله
فلما لم يظفر بتكملته زاد عليه:
ما تنظر الديك والفرخه تقاقي له
ومن ذلك أيضاً قوله:
مغزل حماتك سقط ضاعت سنانيره - ثم زاد -: فضل المعدل يعدل في سنانيره
وكان رحمه الله سريعاً إلى النكتة، حاضر البديهة. فمن ذلك أنه مر بصديق له، فقال له الصديق: يا شيخ محمد، ازاي الأرغول؟ - فأجابه بقوله: (بِنَفَسك ماشي)
ويا حبذا لو أتحف أصدقاؤه وخلانه قراء (الرسالة) بشيء عنه
عبد الوهاب النجار(150/27)
للتاريخ السياسي:
اليوم السابع من مارس
ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
تمهيد
مما يجدر ذكره أن حكومة برلين تتخذ عادة يوم السبت قرارات هامة، وتقف العالم أمام حوادث دولية عظيمة. وكانت حكومة القيصر تعمل على هذه السياسة، وقد سارت عليها جمهورية (ويمر) وتبعتها حكومة الهر هتلر!. وكانت آخر هذه الأعمال الدولية الخطيرة النتائج، رفض حكومة برلين معاهدة لوكارنو واحتلال أراضي الرين يوم السبت الموافق 7 مارس من هذا العام. والمرء يتساءل عن السبب الذي من أجله تختار حكومة برلين يوم السبت لأعمالها الجليلة الخطرة في وقت واحد عليها وعلى السلام
إننا نعتقد أن هنالك سبباً واحدا، وهو أن عطلة (نهاية الأسبوع) - متبعة في بلاد الإنكليز وفي جميع دوائرها الرسمية. وفي نهاية كل أسبوع يترك معظم كبار ساسة لندن وأولي الأمر فيها العاصمة لقضاء (نهاية الأسبوع) في الضواحي وعلى شواطئ البحار. وفي هذه الحالة يكون من الصعب جداً اجتماع الذين في يدهم زمام أمور الحكومة حين حدوث طارئ جلل يوم السبت أو الأحد. وفي هذه الحالة يتعسر جداً، إن لم يكن محالاً، على حكومة باريس الاتصال بحكومة لندن، لتبحث معها في التدابير التي يجب اتخاذها أمام الخطب السياسي الجديد الذي أحدثته حكومة برلين، ولإعاقة اجتماعهما وتبادلهما الآراء تختار الحكومة الألمانية يوم السبت لإيقاف العالم على قرارها الدولي الصبغة!
وقبل أن نحاول تحليل ضربة برلين المسرحية والأزمة التي نجمت عنها يجدر بنا التحدث أولاً عن معاهدة لوكارنو وإبانة الغرض الذي من أجله عقدت، والنقط الهامة التي تحتوي عليها، تسهيلاً للوقوف على تطور الحوادث الدولية، وتمييز الصواب من الخطأ. ويتلو ذلك عرض حوادث 7 مارس وما تبعها في ألمانيا، وتفنيد ادعاءات حكومة الهر هتلر ضد المعاهدة الفرنسية الروسية؛ وشرح موقف دول لوكارنو إزاء هذه الحوادث وقرار مجلس(150/28)
عصبة الأمم. وهذه النقط تكون القسم الأول من هذه المقالات
ثم نأتي على عرض الجلسات الهامة لمؤتمر دول لوكارنو وتحليل (اقتراحات لندن) و (منهاج السلام الألماني، أو اقتراحات الهر هتلر) و (المنهاج الفرنسي أو اقتراحات فرنسا السلمية).
وهذه الأمور تكون القسم الثاني من هذه الدراسة السريعة
وأخيراً نحاول إبانة حقيقة سياسة الهر هتلر الخارجية، والهدف الذي يرمى إليه
من لوكارنو إلى 7 مارس
معاهدة لوكارنو
أظهرت ألمانيا في السنين التي تلت الحرب رغبة في التفاهم مع جاراتها، وتوطيد السلام في أوربا الغربية، فاقترحت عام 1922 إيجاد اتفاق بين الدول التي تحد أراضي الرين، تمنع بموجبه الحرب وتحسن العلاقات الدولية بين ألمانيا وجاراتها الغربية - فلم يلق هذا الاقتراح أذناً صاغية. . . . . وقد جدد (المستشار مثل هذا الاقتراح عام 1923 فاعتبره مسيو بوانكاريه دسيسة ألمانية جديدة. . .
وفكر اللورد دابرونون ' سفير بريطانيا في برلين عام 1924 في أن الوقت مناسب لعقد هذا الاتفاق، ففاتح الهر ستريزمان بذلك؛ وبعد درسهما الموضوع أرسل ستريزمان في 9 فبراير سنة 1925 بواسطة سفيره في باريس الهر إلى الحكومة الفرنسية مقترحاً على الحكومات التي تحد الرين عقد اتفاق بموجبه تمنع الحرب خلال أجل مسمى، وتحل الاختلافات المدنية والسياسية بموجب التحكيم، وتتعهد فيه ألمانيا بعدم تسليح أراضي الرين. حض سفير بريطانيا على عقد مثل هذا الاتفاق، على رغم أن بريطانيا لا تحب أن تتحمل مسؤوليات دولية، لأن توطيد السلام في أوربا الغربية يفيد السياسة البريطانية، ولأن بريطانيا تريد إرغام فرنسا بوسيلة ما على تخلية أراضي (الرور). . . . . وتحول دون اجتياز الجنود الفرنسية الحدود الألمانية. . . .
كان مسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية حينئذ، وبرغم أنه كان على رأي القائلين بسياسة التفاهم مع ألمانيا فقد خشي أن يكون في مذكرة ستريزمان مكيدة، ثم دعاه انهماكه في(150/29)
المشاكل الداخلية والمالية إلى إهمال المذكرة وعدم إعطائها الأهمية التي تستحقها. وفي ذات يوم اطلع عليها مسيو بريان، وبعد أن قرأها السياسي الكبير، أبدى رأيه فيها قائلاً: إنها عظيمة الأهمية
فقال رئيس الوزراء: إنها (لمصيدة)
فرد مسيو بريان: إن الثعلب الماهر يأخذ اللحمة ويترك المصيدة
ولما عاد مسيو بريان في أبريل من العام نفسه إلى الـ (كي دورسي) أعطى المذكرة أهميتها وأخذ يتحادث مع بريطانيا بشأنها. ولما تمت هذه المحادثات التمهيدية، قدم السفير الفرنسي في برلين في 16 يونيه إلى الهر ستريزمان جواب فرنسا وحلفائها، وكان جواباً إيجابياً. ثم شرع الفنيون في درس الموضوع ووضع المبادئ العامة. . .
وفي لوكارنو - وهي مدينة سويسرية صغيرة واقعة على بحيرة ليمان - تقابل بريان وستريزمان واستين شمبرلين؛ وأخذوا يدرسون دقائق المعاهدة، ووصلوا إلى الاتفاق الأخير في 16 أكتوبر سنة 1925، ووافقت فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا عليها
وتفيد لوكارنو الدول الثلاث الأولى مباشرة، أما بريطانيا وإيطاليا فضامنتان فيها
وتتألف معاهدة لوكارنو من خمس مواد:
ففي المادة الأولى تعترف الدول الموقعة على المعاهدة بالحدود التي وضعتها معاهدة فرساي، بين ألمانيا وبلجيكا من جهة، وبين ألمانيا وفرنسا من جهة ثانية. وتعترف هذه الدول أيضاً بمحتويات المادتين 42 و43 من معاهدة فرساي، أي الإقليم غير المسلح: أراضي الرين
وفي المادة الثانية تتعهد ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا بعدم الالتجاء إلى الحرب لحل أي خلاف. على أن هذا التعهد لا يعمل به في الأحوال الآتية:
(1) في حالة (الدفاع عن النفس) - أي عند مخالفة المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي (مخالفة ظاهرة) - غير محرض عليها؛ ولسبب تجمع قوى حربية في الإقليم غير المسلح، والعمل الفوري ضروري في هذه الحالات
(2) عند القيام بعمل ناجم من المادة 16 من صك العصبة
(3) عند القيام بعمل حسب قرار العصبة أو حسب المادة 15 بند 7 من صكها(150/30)
ومع اعتبارات محتويات المادة الثانية فإن ألمانيا وفرنسا من جهة، وألمانيا وبلجيكا من جهة ثانية، تتعهد في المادة الثالثة بتصفية أي خلاف يحدث بينهما عن طريق سلمي: ففي الخلاف المدني تُرفع القضية إلى قاض يعمل الغرماء حسب قراره. وفي أي خلاف آخر يرفع الخلاف إلى (لجنة توفيق)، وإن لم يقبل الغرماء قرار اللجنة يرفع إلى مجلس عصبة الأمم
والمادة الرابعة تنص على أنه:
(1) إن اعتقد أحد المتعاهدين بأن تعديا قد وقع على المادة الثانية أو على المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي رفع دعواه إلى العصبة
(2) حينما يقرر مجلس العصبة تلك المخالفة يخطر المتعاهدين بقراره، وعلى كل منها أن تمد يد المساعدة حالاً إلى الدولة الموجه أليها العمل المحرَّم
(3) وعند تعدي إحدى الدول المتعاهدة (تعدياً ظاهراً) - على المادة 2 من المعاهدة أو (المخالفة الظاهرة) على المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي، فإن كل دولة من الدول المتعاهدة الأخرى تتعهد من الآن إلى مد يد المساعدة حالا إلى الفريق الذي كانت موجهة ضده المخالفة أو التعدي، ابتداء من تَيَقُّن تلك الدولة أن التعدي كان عملاً عدائيا غير محرض عليه، أو لسبب اجتياز الحدود، أو الابتداء بالعداء، أو جمع قوى حربية في الإقليم غير المسلح فإن العمل الفوري ضروري. وعلى كل فإن مجلس العصبة الذي استلم الدعوى حسب البند الأول من هذه المادة يعلم نتيجة قراره. والمتعاقدون في هذه الحالة يتعهدون على العمل بموجب قرار المجلس الذي أخذ بالإجماع بغض النظر عن أصوات ممثلي المتخاصمين
أما المادة الخامسة فتقول: (إذا رفضت إحدى الدول المذكورة في المادة 3 إتباع الحلول السلمية أو تنفيذ قرار التحكيم أو القرار القضائي واعتدت على المادة 2 من هذه المعاهدة أو خالفت المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي، فتنفذ، إذ ذاك محتويات المادة 4 من هذه المعاهدة
وفي الحالة التي ترفض فيها الدول المذكورة في المادة (الثالثة) إتباع الحلول السلمية أو تنفيذ قرار التحكيم أو القرار القضائي، دون أن تكون قد اعتدت على المادة الثانية أو(150/31)
خالفت المادة 42 أو 43 من معاهدة فرساي، فإن الفريق الثاني يرفع الدعوى إلى مجلس العصبة الذي يقترح الإجراءات الواجب اتخاذها: وأن المتعاقدين يعملون حسب هذه الاقتراحات
قبلت ألمانيا في هذه المعاهدة عدم المساواة في الحقوق، ووافقت على الحدود التي بينها وبين بلجيكا وفرنسا، وتخلت بذلك عن طيب خاطر عن الالزاس واللورين، ووافقت أيضاً على بقاء الإقليم غير المسلح. وهذه الشروط ليست جديدة، بل هي مدونة في معاهدة فرساي. وظن حينئذ أنه من الأنسب قبول ألمانيا اختيارياً بها، لأن المعاهدات الموقع عليها طيب خاطر لها حرمة أقدس من المعاهدات المرغم عليها، وهذه المعاهدات تمزقها الأمة التي أرغمت عليها عند ما تجد في نفسها القوة والجرأة الكافيتين للقيام بذلك. والمعاهدات، في الواقع على نوعين: قانونية كفرساي، وأخلاقية - كلوكارنو، وكان لهذه النوع الأخير من المعاهدات قيمة كبرى من الوجهة العلمية قبل 7 مارس 1936
وقد دفعت فرنسا ثمن هذه المعاهدة بإخلائها إقليم كولون وأراضي الرين، أي أن فرنسا قد تركت سياستها المبنية على الضغط على ألمانيا للوصول إلى حقوقها، وأقامت مكانها ثقتها في ألمانيا السلمية. وقيل حينئذ إن كانت هذه الثقة قد وضعت في غير مكانها فإن فرنسا تصبح تحت رحمة جارتها الجبارة، وهذا ما وقع في السنين الأخيرة
وانتقد كثير من الفرنسيين معاهدة لوكارنو قائلين: ألا يعني ذلك أن فرنسا قد تركت كل المحاولة في جعل ألمانيا عزلاء، وتركت مراقبة الرين وحقها في التعويض؟ أليست هذه المعاهدة إنشاء للتفاهم بين ألمانيا وبريطانيا، لا بين ألمانيا وفرنسا؟ وقيل أيضاً: هل من الأكيد أن بريطانيا ستقف مع فرنسا حين هجوم ألمانيا عليها؟! أو ليس من الممكن أن تحابي بريطانيا ألمانيا وتؤيد عملها؟! ثم لبريطانيا وحدها الحق في التقرير فيما إذا كان اعتداء ألمانيا دون تحريض أم لا، وعلى ذلك فيمكنها تأويل كل قانون وتفسير كل عمل حسبما تقتضيه سياستها؛ فمساعدة بريطانيا ليست أمراً واقعاً. . . ولقد حاربت بريطانيا النفوذ الألماني في أوربا، وهي الآن جادة في محاربة النفوذ الفرنسي فيها. ألا تعيد في عملها هذا السيطرة الجرمانية على أوربا؟
وتكون هذه الانتقادات في محلها إن كانت نية ألمانيا سيئة، وقيمة الميثاق تتوقف على مقدار(150/32)
انتشار روح التسامح والوئام بين الجارتين وتوثيق العلاقات الودية بينهما؛ وإن فقدت هذه الروح في إحدى البلادين فلوكارنو تصبح ورقة بالية ولتقدير قيمة هذه المعاهدة يجب معرفة عقبة كل من البلادين
مما لاشك فيه أن الفرنسيين محبون للسلم، فهم يكرهون الحرب دون أن يخافوها، ولا يفكرون في الاستيلاء على بلاد أوربية، غير أنهم يسيئون الظن في الغير، وهم حريصون جداً على حريتهم وسلامة بلادهم. وإن حاول الغير التعدي عليهم أصبحوا كالرجل الواحد، يدافعون حتى النفس الأخير في سبيل حريتهم ووطنهم. وهم يودون التفاهم مع ألمانيا وإيجاد سلام أبدي بين البلادين، غير أنهم يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن ألمانيا تريد غدرهم والإيقاع بهم، وهي تستعد لحرب ثانية وتعمل لها، ونتيجة لهذه الفكرة المختمرة في رءوسهم يعملون على تقوية مركزهم الحربي، ويسعون في إيجاد حلفاء لهم ضد ألمانيا ونتيجة ذلك حصر ألمانيا والظهور بمظهر العدو لها. . .
والشعب الألماني شعب (ديناميكي) يحب الحرب ويصبو إلى الفتح، ولا يقبل إلا أن يكون له المركز الأول في أوربا. . . وهو ينظر إلى فرنسا كالحاجز الذي يحول بينه وبين غرضه، فيبغضها ويعمل على كسر هذا الحاجز؛ ثم إن الشعب الألماني فخور، يأبى العار ويعمل على غسله حتى بالدماء؛ وهو لن يرضى عن فرساي بل يبذل جهده في تمزيقها
فلوكارنو لم تحل هذه المعضلات، ولم تزل أسباب العداء الذي بين الجارتين؛ فهي لم تؤمن فرنسا على سلامتها، ولم تعط ألمانيا بعض ما تصبو إليه، فهي عاجزة عن إيجاد السلام وتوثيق روح الصداقة والوئام بين أكبر عدوين
أما قيمتها الأخلاقية فقد زالت بضربة 7 مارس، ووضع الهر هتلر المعاهدات الأخلاقية في دائرة المعاهدات القانونية التي ترغم الدول على التوقيع عليها؛ وقال بعدم قانونيتها ما دامت تخالف مصالح إحدى الدول التي وقعت عليها
وسنرى في المقالات التالية أن لا قيمة لكفالة بريطانيا وإيطاليا، وأن هاتين الدولتين لم تقوما بما تفرضه عليهما نصوص معاهدة لوكارنو
وعندما دعت ضربة 7 مارس إلى تطبيق المعاهدة، اختلف في تفسيرها ولا سيما البند الثالث من المادة الرابعة(150/33)
فأخذ فريق من ساسة الإنكليز ورجال الحقوق فيها يقول بأن عبارة (تلك الدولة) تعود إلى (الفريق الذي كانت موجهة إليه المخالفة والتعدي)، لا إلى عبارة (كل دولة من الدول المتعاهدة الأخرى)، وإن الحكومة البريطانية غير مقيدة بمساعدة فرنسا لمجرد احتلال أراضي الرين؛ ومساعدتها واجبة فقط عندما يكون هذا الاحتلال على شكل يوجب القيام فوراً بإجراءات صارمة، وهو يريد بهذا التفسير أن بريطانيا لم تخالف المعاهدة، لأن فرنسا لم تعتبر عمل ألمانيا (تعدياً ظاهراً)، ولم تقم بإجراءات عاجلة. . . ولأن بريطانيا تعتقد أن عمل ألمانيا لا يوجب القيام بإجراءات حربية
ويرد فريق آخر على هذا التفسير، وعلى رأسهم السير استين شمبرلين، وهو أحد الذين وضعوا المعاهدة بأن عبارة (تلك الدولة) ترجع إلى عبارة (كل دولة من الدول المتعاهدة الأخرى) لا إلى عبارة (الفريق الذي كانت موجهة ضده المخالفة أو التعدي). وأن لوكارنو تعتبر اجتياز الحدود وإشهار الحرب وجمع قوى حربية في الإقليم غير المسلح عملاً هجومياً يقضي على جميع الموقعين على المعاهدة القيام بإجراءات صارمة حتى الحرب لإعادة الستاتيكو إلى ما كان عليه قبل وقوع التعدي، وأن السبب الذي لم يدع إلى اتخاذ الإجراءات العسكرية في حالة 7 مارس يعود إلى الموقف السلمي الذي وقفته فرنسا وبلجيكا
إن تفسير الفريق الأول خطأ، وهو قائم على دعائم هوائية، ولا يراد منه إلا التهرب من واجبات المعاهدة. أما تفسير السير استن شمبرلين فصحيح متين:
فلو أن عبارة (تلك الدولة) تعود حقاً إلى عبارة (الفريق الذي كانت موجهة إليه المخالفة أو التعدي) لما قبل السير استن شمبرلين بذلك؛ ولما وافقت حكومة لندن وبرلمانها على هذه المعاهدة. إذ الحكومة البريطانية أشد الحكومات حرصاً على عدم ارتباطها بمعاهدات ترغمها على دخول الحرب بمجرد إرادة غيرها. ولو أن هذا التفسير صحيح لما رأينا فرنسا تقف واجمة أمام ضربة 7 مارس، بل لرأيناها تجتاز الحدود وتحتل أراضي الرين، إذ كان في إمكانها أن تقول لبريطانيا: إنني أعتقد بأن عمل ألمانيا عمل عدائي غير محرض عليه، ولذا يجب عليك أن تتخذي إجراءات عسكرية صارمة ضدها. وواقع الأمر أن فرنسا لم ترغم ألمانيا على سحب قواها الحربية من أراضي الرين إلا لأنها لم تكن(150/34)
واثقة من موقف بريطانيا إزاء ضربة 7 مارس من جهة، ولأنها لم ترد تعقيد المعضلة من جهة ثانية
(لندن)
يوسف هيكل(150/35)
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
الأدبية
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
- 2 -
النشأة الأولى
لست أدخل في مناقشة مسائل التربية وعلم النفس وأنا أحاول كتابة كلمة مفروض أنها كما هي للخاصة، ولهذا فإني أستعرض الأدوار التي تمر بنا جميعاً مجرد استعراض قصد توجيه النظر العادي
(من شب على شيء شاب عليه) جملة قصيرة شائعة بين الخاصة والكافة هي جماع ما أريد تقريره
يولد الطفل طليقاً من كل قيد. ومن المستطاع تربيته على الفضائل الاجتماعية منذ نشأته الأولى إذا ما تركناه على سجيته متناولين حركاته بالتقويم الرشيد دون إفساد طبيعته
هذا يقتضي بلا ريب أن يكون لدى الأم فكرة عامة؛ وهذا الإدراك الضروري للأم ليس من الأمور الهينة في مثل بيئتنا، لكن هذا لا بد منه؛ وما دام لا بد منه فلا سبيل إلى إهماله. أما كيف تصل إليه فلا تسع له مجال القول هنا، ويكفي القول بأن الأمر من الأهمية بحيث يرخص في سبيل تحقيقه كل غال، ويسهل في سبيل الوصول إليه كل صعب. وهل هنالك غرض أسمى من بناء الأمة بناء متيناً؟
أول ما تجب العناية به في أمر الطفل تربية جسمه طبقاً لقواعد الصحة، والعناية بغذائه وبنظافته؛ يتلو هذا في الأهمية ويقترن به في التبكير عدم تقديم كل ما يريد بغير تكليفه السعي إليه. يجب أن يربى على السعي لتتكون لديه فكرة الاعتماد على النفس. فإذا أشار إلى شيء ليحصل عليه، يجب أن يقرب إليه بحيث لا يتسنى له الحصول عليه إلا بمحاولة جسدية. وإذا ما كان في مقدوره أن يحبو فيجب أن يوضع الشيء بحيث يحبو إليه ليصل(150/36)
إليه؛ فإذا تظاهر بالإعياء فلتغض الطرف عنه ليسعى ثم يسعى. ومن يتأمل ير على الطفل إمارات الارتياح إذا ما وصل إلى غرضه بعد كد وسعي
وإذا ما سقط وهو يمشي فلا نظهر انزعاجنا ونسرع إليه نلتقطه مظهرين الحنو عليه، بل نتركه ينهض بنفسه. فبهذا وبأمثاله تربي فيه صفة الاعتماد على النفس والثقة بها، وهما من أقوى عوامل النجاح في الفرد، وأمتن أسس البناء في الأمة
يلي هذا وذاك في الترتيب، ويتقدمه في الأهمية، أمر أعصاب الناشئ. ينبغي عدم الالتجاء بحال إلى تخويف الطفل لحمله على الإذعان برسم صور خيالية مرعبة في مخيلته. هذه الصور الخيالية المرعبة هي شر ما يحطم النفس البشرية؛ هي الجرثومة الخبيثة لمرض الجبن، أعصى الأمراض الاجتماعية على العلاج وأشدها فتكا بالجماعات
لست أقول بترك الطفل يعمل بلا تقويم، ولكني أقول بأنه يجب تقويمه في عناية وبغير إفساد خياله (بالمرهبات). فإذا تقدم في السن فلا بأس بإشعاره بسوء عاقبة الخطأ بحرمانه أو بضربه بالقدر الكافي مع الهدوء التام والقصد. ومن الواجب أن نظهر استحساننا واستهجاننا في مناسبات ذلك
بهذا يمكن أن نربي في الطفل قوة الاعتماد على النفس وحكم الأعصاب والشجاعة والمثابرة. وإذا ما ترك المنزل إلى المدرسة أو المصنع على هذا فإنه يكون مزوداً بالقدر الكافي للحياة الكريمة
وفي المكتب أو المدرسة وفي المصنع وفي الشركات ومصالح الحكومة ودار العمدة يمكن تناول هذه الصفات بالتقوية. ولكن أقوى الدعائم ما يكتسبه الطفل في المنزل سواء بالتقويم والتعويد، أو بالمثل والقدوة
فالأولاد يكسبون كثيراً إذا ما شاع في البيت شعور المحافظة على الكرامة والقيام بالواجب والتمسك بالحق. إذا احترم كل من الزوجين الآخر، ولم يتحكم الكبير في الصغير، ولم يستغل ضعف الخدم لإرهاقهم وظلمهم؛ وبالجملة إذا حرص رب الدار على ألا يكون في بيته إرهاب أو إذلال أو استكانة، ينشأ مع الأولاد شعور بالعدل والعزة، ونفور من الظلم والعدوان
والنشأة المنزلية الملهمة للحرية والاستقلال تهون ذيوعهما في الجماعة. فالغالب فيمن لم(150/37)
يألف الإهانة في صغره عدم قبولها إذا ما كبر. وإذا آنس المعتدي من فريسته المقاومة فكر كثيراً قبل الاعتداء. فإذا ما قوبل الاعتداء بمثله كف المعتدون مع الزمن، فتشيع في الجماعة روح الاعتدال نتيجة هذا التفاعل، ويشع في جوانبها نور الحرية ويصلب عودها وتقوى ويصعب النيل من حريتها واستقلالها
إيجاد هذه الروح في الجيل الحاضر وتربيتها في الجيل الناشئ ليس من الهين في بلادنا مثلاً. لكن الأمر كما قلت عظيم. فليكن من أغراض دعاة الإصلاح تحقيق هذه الغاية بكل الوسائل. فبناء الأمة قوية مستحيل إذا لم تغلب روح الاستقلال والحرية والاعتماد على النفس والأباء. وكل بذل في هذا السبيل له ما يبرره
خلاصة ما تقدم أن البذرة الأولى للتربية الاستقلالية في البيت، فإذا ما نمت به تعهدت خارج البيت بالمدرسة والمصنع ودواوين الحكومة ومكاتب الشركات والمنشآت الاجتماعية بوجه عام، وكانت بذرتها القوية في البيت مما يهون نموها وذيوعها وانتشارها في الجماعة
حرية الجهر بالرأي
إذا نشأت غالبية أفراد الجماعة على الاعتماد على النفس والأباء، فإن الغالبية تجهر بالرأي في غير خشية ولا خجل. والرأي يسمع في غير اشمئزاز ويناقش في غير تعصب أو تحامل غير طبيعي. وبذا تسير الجماعة في غير كثير من الاحتكاك
أما إذا لم تكن الشجاعة والاعتماد على النفس والإقدام هي الصفات الغالبة، فإن حرية الجهر بالرأي تعز من جهة، وقبول النقد النزيه يندر من جهة أخرى، فيكثر العسف وتنتشر الأخطاء وتنحط الجماعة
التربية الاستقلالية ترفض بطبيعتها المداراة. وفي الأوساط الحرة لا تحرج ولا إحراج، بل يأتي النقد النزيه بالطبع ويقابل كذلك. والحقيقة تظهر بتلاقي الآراء. أما في الأوساط غير الحرة لانعدام التربية الاستقلالية أو ندرتها، فالإقدام يندر ويندر معه النقد ومقاومة الظلم، فيكثر الغرور وتكثر الأخطاء وينحط المستوى الفكري والخلقي تبعاً لذلك، وتضعف أداة السير إلى الأمام وتهن قوة المقاومة فتفقد الجماعة وجودها المستقل وتمسى خاضعة لمشيئة الغير
علاقة الحكام بالمحكومين(150/38)
أدوات الحكم مهما اختلفت ألوانه هي - أ - التشريع - ب - القضاء - ج - الإدارة
أ - والمثل الأعلى للتشريع، في رأيي، هو أن يكون أقرب ما يمكن إلى التعبير عن الإرادة المشتركة. وأعني بالإرادة المشتركة في جماعة ما ملتقى الإرادات الجزئية أو الإرادات الفردية نتيجة تبادل الآراء وتعديل بعضها بعضاً. وكلما كانت حرية الرأي مكفولة كبر مجال تمحيص الآراء وقربت إرادة الدولة، مجمع الإرادات، من إرادة الجماعة وصدق تعبيرها عنها. وإذا كان القانون، وهو إرادة الدولة أساسه هذا، فإنه يسهل تطبيقه كما يسهل تعديله بما يساير تطور الجماعة، لأنه يعبر تعبيراً صادقاً - بقدر ما تقبله طبيعة الإنسان - عن إرادة المجموع
هذا النحو في التفكير يقودنا إلى تقرير أن الحكم النيابي أقرب أشكال الحكومات المعروفة إلى التعبير عن إرادة الجماعة أصدق تعبير ممكن. وهنا لابد لي من الإشارة إلى اعتراضين:
قد يتساءل البعض: كيف السبيل إلى سيادة الحكم النيابي في الجماعات المتأخرة ما دام القانون هو إرادة الدولة، وما دام مثله الأعلى هو أن يكون نتيجة ملتقى الإرادات الجزئية، وكانت الأغلبية جاهلة؟
وجوابي على هذا أن هنالك رغبة مشتركة بين مختلف الطبقات، أو إرادة مشتركة مهما بعدت النسبة بين درجات التفكير. وأعني بهذه الإرادة المشتركة إرادة توفير أسباب العيش والأمن على النفس والمال. فإذا عملت على ترقية مدارك الفلاح، ويسرت له سبيل الري والصرف، وأمنته على نفسه وعلى ماله، فإنك إنما تحقق رغبته أو تنقذ إرادته. والشرائع التي تؤدى إلى هذا تعبر عن إرادته. وبالعكس إذا صدر قانون بإقامة دور فخمة للتمثيل وقاعات للتصوير في قلب الريف مع شدة حاجته للمستشفيات العامة والمدارس العامة، فإنك لا تعبر عن رأي سكان القرى بل تخالف إرادتهم. ويقال مثل هذا عند جميع طبقات الأمة. فإذا أبدى نائب رأياً عن جماعة فإنه، طبقاً لما تقدم، لا تناقض بين فكرة الإرادات الجزئية وبين الحكم النيابي في الجماعات المتأخرة، ولو لم تظهر الإرادة الجزئية مستقلة منفصلة. وبتقابل إرادات الطبقات المختلفة يعدل بعضها بعضاً حتى تلتقي في نقطة تحقق الإرادة المشتركة بالقدر العملي اللازم لسير الجماعة إلى الأمام(150/39)
أما الاعتراض الثاني فنشأ عن وقائع ما بعد الحرب، تسمعه من أفواه أساتذة الجامعة كما تسمعه ممن يهتم للكلام في الشؤون العامة من بين معلمي المدارس الأولية، ويتردد صداه بين أوربا وأمريكا وآسيا، ذلك هو الاعتراض على صلاحية الحكم النيابي بنجاح نظام الحاكم المستبد العادل. يقولون إن المستبد النزيه انتشل إيطاليا من مخالب الفوضى ووضعها في مصاف الدول المرهوبة الجانب في زمن قصير. وفي مثل هذا الزمن انتزع المستبد النزيه تركيا من أحضان الموت وأوقفها على قدميها يخطب الأقوياء ودها اليوم بعد أن كانوا يتنافسون في اقتسامها بالأمس، ويقولون عن جماعات أخرى مثل هذا. ويخرجون من المقارنة بأن الحكم النيابي لم يعد المثل الأعلى لنظم الحكم في وقتنا هذا
غير أن المستبد العادل من خوارق الطبيعة. ولا يصح وضع قاعدة عامة على أساس الشذوذ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالمستبد لا يقبل معارضة. ولا بد أن تفقد الجماعة روح النقد في مثل هذا الجو. فإذا ما انقضى عهد سحر الزعيم لسبب ما، سارت الأمة نحو الضعف بأسرع مما سار بها سحر الزعيم المستبد إلى القوة
هذا إلى أن إحاطة الزعيم بكل شيء أمر مستحيل. ولا بد له من مجلس يرجع إليه، وإن لم يتقيد بما يبدي فيه من آراء. فإذا لم يكن هنالك، في ذلك الحيز الضيق، حرية رأي فإن الزعيم لا يسمع في الواقع إلا صدى صوته. ولما كانت الإحاطة بكل الأمور متعذرة كان خطأ التصرف هنا أمر لابد منه في حالات كثيرة. وإذا قدر للحكم النيابي، بشكله الحالي، أن يتلاشى، فلا ينفع الجماعة نظام المستبد العادل. بل ينفعها نظام النقابات وفي هذا النظام لا بد من استقلال الرأي والحرية لتمحيص الأمور قبل إبرامها
لنعد الآن إلى تناول موضوع التشريع لنقول إن حرية الجهر بالرأي ألزم ما تحتاج إليه أداة التشريع. هذه الحرية لازمة داخل الأحزاب لزومها خارجها. فنقد رأي الزملاء والزعماء في حرية لا غنى عنه لتقرير أقرب الآراء للسداد وأقلها تعرضاً للسقوط إذا ما هاجمها خصوم الحزب، والإمساك عن النقد مصانعة أو جبناً قد يؤدي إلى قرار خاطئ تسهل معه المهاجمة من الخارج. وهذه الحرية لازمة كذلك في مجالس التشريع وعلى صفحات الجرائد وفوق المنابر خارج هذه المجالس. وإبداء الرأي في غير مواربة من أقوم سبل تغيير هذه الهيئات برغبات الجماعة وبمواطن الصواب. ولن يكون هذا ما لم تكن غالبية(150/40)
الجماعة قد نشأت نشأة استقلالية. فلا يجهر برأيه إلا من قويت عنده روح الاستقلال وكانت لديه الشجاعة وفي خلقه الأقدام
ب - والمثل الأعلى للقاضي هو من يتعرف وجه الصواب ويحسن تطبيق روح القانون على حالة الجماعة التي يطبق فيها، ويدرك حق الإدراك رسالة القاضي وأثره في المجتمع فلا يخضع لغير القانون والحق والعدل. هو الذي يتحرر من نزعات نفسه ومن المؤثرات الخارجية في تصرفه كقاض. هو الذي لا يخشى في الحق لومة لائم
والتربية الاستقلالية هي أقوى حصون القاضي ضد نزعات النفس. والكرامة الذاتية والثقة بالنفس هما أقوى دافع يدفعه إلى الدرس المستمر والتفكير غير المنقطع فيما يحيط به ليستطيع إبلاغ رسالته على خير وجه. وهما اللتان تلهمانه رفض الإيحاء الخارجي مهما كان مصدره
وإذا آنس القاضي المدرك لسمو رسالته ضعفاً في روح الجماعة أو شيوع عوج في خلقها - وهو بحكم مركزه ميزان حساس - عالج النقص في أسباب أحكامه تارة، وبإسداء النصح إلى الماثلين أمامه تارة أخرى. وما أشد وقع النصيحة المقترنة بالعبرة!
وإذا آنس، بحكم الممارسة، نقصاً في التشريع أو عيباً أو غموضاً جعل من أغراضه، في قراراته، إكمال القانون إذا ما اتسعت لذلك النصوص دون إرهاق المعنى. فإذا لم يكن هذا مستطاعاً فإنه يخاطب الجهات التشريعية لاستكمال القانون ويعمل لتحقيق هذا الغرض بكل ما يستطيع
(يتبع)
محمد عبد الباري(150/41)
ملاحظات متواضعة على مشروع
ترجمة معاني القرآن الكريم
بقلم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
طالعت والغبطة تفعم قلبي المرسوم الصادر بترجمة معاني القرآن الكريم استناداً إلى الفتوى الشرعية المقدمة من هيئة كبار العلماء، إذ يبدأ العمل بمقتضاها قريباً في هذا المشروع الخطير الذي يعد أول حادث له قيمته في تاريخ الإسلام
لقد ترجم مسيحيو القرون الوسطى كتاب الله الكريم إلى عدة لغات أوربية. وكانت أول ترجمة، على ما أعرف، هي تلك التي قام بها كلوني إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر. ثم أقبلت طائفة من القسس الرهبان على نقله إلى بقية اللغات الحية، حتى أن بعض الأمم الصغيرة ساهمت في هذا العمل، ولا تزال تفتخر بوجود نسخ من هذه التراجم البدائية في متاحفها. وتوجد في اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية عشرات التراجم، القديمة والحديثة، بحيث يمكن للمرء أن يختار منها ما يوافقه. على أن معظم هذه التراجم تكاد تكون حرفية لآيات الذكر الحكيم، برغم حرص القائمين بترجمتها على وضعها في قالب صحيح يتفق والمعنى الذي أنزلت به، لأنه من العلوم أن فصاحة القرآن وبلاغته أمران لا سبيل إلى إنكارهما. وهذا لعمري مما حارت فيه عقول العلماء والفلاسفة واللغويين. ولو سلمنا جدلاً بأن معظم هذه التراجم خال من الأخطاء - وهذا ما لا يمكن الجزم بصحته - فالتفسير لا يكون مؤدياً تماماً لنصوص الذكر الحكيم. ومن المتيسر أن يصل المترجم إلى الأصل الذي يخلع على كتاب الله جلالة وروعة. فمعجزة القرآن في أسلوبه وبلاغته، مما لا يجعل الأجانب يفقهون معناه أو يشعرون بلذة عند تلاوته، نظراً لأن بعض المترجمين أطلقوا لأنفسهم العنان في ترجمته
ويلوح لي أن هذه التراجم أشبه ما تكون بالصور القاتمة التي تمثل الطبيعة الحية، فالنشوة الروحية العميقة التي يحس بها المسلم لدى تلاوة القرآن، يكاد أمرها يكون معدوماً لدى طائفة من الإفرنج وهم يطالعونه في لغاتهم. فمن هذه الناحية نرى أن القرآن الكريم غير قابل للترجمة، ولا يمكن أن يصل كاتب مهما بلغت عبقريته إلى مثل هذا السمو. والتاريخ على ما فيه من الحوادث الجسام والعظات البالغات، كذلك الفن في أنبل وأسمى معانيه، لا(150/42)
يمكن مقارنة أحدهما بآية واحدة من آيات المنزل الحكيم
وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو كلام الله القديم الأزلي؛ وهو معجزة ليس من السهل تفسيرها في ضوء الحوادث، أو شرحها بمنطق التدليل، والمفروض أن الإنسان يؤمن به حسب نزوله
إن فلسفة التاريخ بمناهجها الصحيحة، حاولت عبثاً أن تحلل تفاصيله وتواريخه وترده إلى أصوله، ولكنها برغم الجهود الجاهدة التي بذلتها أجبرت على الخضوع لأحكامه، ورضيت من الغنيمة بالإياب، وأيقنت أنه أمر ليس في طاقة البشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ففي وسط ظلام الإنسانية الحالك، انبثق ذلك القبس الإلهي، وأضاء الكون ليمهد للإنسانية طريق الهداية والرشد. مما أدى إلى وضع الأصول الاجتماعية والقوانين والشرائع وتحديد علاقة الناس بعضهم ببعض. بل أصبح القرآن قاعدة موطدة لثقافات علمية واسعة النطاق، وحلقة كونية لم يظهر لها نظير في كل أحقاب التاريخ
ولقد كان طبيعياً أن يكون القرآن باعثاً على خلق الوحدة العربية والاخوة الإسلامية، سواء في اللغة أو في الفكر والعاطفة، وبتأثيره امتدت حضارة الإسلام من قلب الجزيرة العربية إلى أطراف العالم؛ وكان امتداد هذه الحضارة مما لم تشهده مدينة من المدنيات الإنسانية العظيمة الأخرى. فإقامة الصلاة يرن صداها اليوم من مراكش إلى اليابان حول قارات ثلاث. كذلك كان القرآن سبباً في أحكام رابطة الوحدة بين ثلاثمائة مليون مسلم، سلاحهم التقوى ومخافة الله، ودينهم مستمد من القانون السماوي المقدس الذي رفعهم إلى السمو الروحي. ولقد طغى القرآن على الفوارق المادية التي بين المسلمين، حتى أصبحوا بفضله إخواناً، وأزال البغضاء والنقائص من نفوسهم، ونفى عن قلوبهم الأدران والعوامل الشعوبية واللغوية والجغرافية حتى صاروا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً
إن تفشي النزعة المادية كان من أقوى البواعث لزعزعة العقائد الدينية في عالم الغرب. وهذه الظاهرة بدت ماثلة قوية في القارة الأوربية عند ما حاولت أن تشيد لها صرحا فوق أنقاض الدولة الرومانية، هنالك بدأت حركة الإصلاح التي قام بها مارتن لوثر، وكان من أقوى عواملها ترجمة الإنجيل، فكانت ترجمة هذا الكتاب المقدس سبباً في تقدم الحضارة الجرمانية، وسبيلاً إلى إدماج لهجات ولغات متباينة بعضها في بعض، حتى غدت منها لغة(150/43)
واحدة هي الآن لسان للأدب الألماني الكبير
من ذلك ترى أن ترجمة الإنجيل من اللاتينية أحدثت في الحضارة الأوربية بعض الأثر الذي أحدثه القرآن الكريم في تكوين حضارة إسلامية راقية مؤسسة على قواعد ونظم ثابتة. أضف إلى ذلك أن اختراع الطباعة جاء في نفس الوقت الذي سارعت فيه الأمم والشعوب الجرمانية لتلم شعثها. فأخضعت الطباعة للغة والفكر والدين، وازدهر الأدب الجرماني وانتشرت ضروب الثقافات، وبفضل ترجمة الإنجيل اندثرت اللغات واللهجات، ومحيت الفوارق السياسية التي كانت إحدى نتائج الجهل المؤدي إلى العبودية
في ذلك الوقت كانت طائفة صغيرة من العلماء في الشرق الإسلامي، قد احتكرت علوم القرآن وتفسيره، وأصبحت اللغة الفصحى على وشك التدهور والانهيار، وتفشت الأمية والجهل إلى حد مخيف، وأصبح المسلمون الذين كانوا قادة الأمة في العلوم والآداب في حالة تأخر وانحطاط بالنسبة لأسلافهم. أما الكتاب الكريم، ينبوع الحضارة الإسلامية الزاهرة، فكان غير مفهوم لأكثر من الناس
في هذه العصور المظلمة كانت طائفة العلماء في عزلة تامة عن الشعب، يحتكرون القرآن في صدورهم، فانتشرت الجهالة وعمت الفوضى، على أنه توفيق من الله، كان لا يزال ألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحفظون القرآن وإن لم يفقهوا معانيه. فالإسلام في حد ذاته هو التشبع بالمبادئ الروحية السامية المركزة على طهارة النفس ونقاوتها مما يشوبها. فهل يمكننا في هذه الحالة أن نعترف بأن الإلهام السماوي، مهما بلغ من التقديس، يؤثر في نفوس من لا يفهمون معناه؟ إن الإسلام ليس سحراً ولا طلسماً، ولكنه دين الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإذا اعتقدنا بأنه صالح لكل زمان ومكان، فيجب علينا إذن أن نعمل جهدنا لشرحه وترجمة معناه وجعله في أيدي ألوف الناس الذين يتحرقون شوقاً للدخول فيه أفواجاً وأفواجاً
نحن لا نحارب في هذا العصر مثلا بنفس الأسلحة التي كان آباؤنا يلجئون إليها للدفاع عن أنفسهم - من أقواس ونبال ورماح - بل نقاتل بالدبابات والطيارات وسائر الآلات الحديثة، كذلك يجب علينا في هذا العصر ألا ندخر وسعاً في الالتجاء إلى كافة الوسائل الأدبية والروحية لإظهار فضائل الدين الحنيف والتبشير به في أرجاء الأرض(150/44)
لقد كان القرآن محصوراً في بدايته في بضع نسخ خطية، فلما انتشرت المطابع الحجرية استخدمت لنشره وجعله في متناول أيدي ألوف المسلمين. كذلك كان الأمر في المطابع الرحوية والحديثة؛ وهو الآن يذاع في الراديو ويفسر على موجات الأثير. أما الذين يحفظون كتاب الله ولا يفقهون معناه، فهؤلاء شأنهم شأن غريق يلتمس النجاة، محاولاً التعلق بحزمة من القش. وليس في وسعهم أن يفقهوا الشطر الروحاني منه الذي يؤهلنا للرشد والتقدم والتسلح بأسلحة من العلم واستقامة الفهم
إن العالم الإسلامي الذي يقف اليوم في مفترق الطرق، فيه أكثر من ثمانين في المائة يحفظون القرآن عن ظهر قلب ولا يفقهون معناه، فإلى هؤلاء الملايين نوجه الأسئلة الآتية:
1 - هل تميلون إلى حفظ القرآن في صورته الحاضرة دون أن تفقهوا معناه فتظل نفوسكم ظامئة إلى هذا الشراب الروحي؟
2 - هل تريدون أن يكون وقفاً على طائفة من العلماء يحتكرون معانيه في صدورهم مع أن الله عز وجل أرسله إلى كافة البشر؟
3 - ماذا يكون لو أن الكتاب الكريم نقل إلى لغاتكم حتى ترتوي منه النفوس الظامئة التي تتلهف عليه كينبوع تفجر من الألوهية العظيمة؟
(البقية في العدد القادم)
(بودابست)
عبد الكريم جرمانوس(150/45)
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
الأدبية
استثمار نهضة المرأة لخير البلاد
للسيدة إحسان أحمد القوصي
لما قام المرحوم قاسم أمين منذ ربع قرن ونيف يطالب بتعليم المرأة وتحريرها من أسر عادات بالية، وقيود تقاليد عتيقة شلت نصف الأمة، وحالت دون انتفاع البلاد بجهودها. . . لم يكن يحلم أشد أنصار المرأة تفاؤلاً أن المصرية ستخطو هذه الخطوات المباركة في تلك الفترة القصيرة، وتسير سيرها الحثيث، لتحتل المكانة التي سمت إليها من آلاف السنين في حضارة مصر القديمة، وأيام ازدهار مجد العرب. وإذا كنا اليوم نغتبط بما نلمسه من دلائل نهضتنا الرائعة، وما تقوم به المشتغلات بالحركة النسوية من نواحي الإصلاح وجلائل الأعمال، فوق ما رفعن به شأن بلادهن في شتى بلاد العالم، ومختلف المؤتمرات النسوية الدولية. . . فذلك لما تبعثه فينا هذه النهضة من قوة الأمل وكبير الرجاء؛ في مستقبل زاهر تستكمل فيه المصرية نهضتها، ويظهر أثر ذلك في الكمال نهضة البلاد
وإذا رأيت من الهلال نموه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا وإذا كان بيننا اليوم المحامية والطبيبة والصحفية والكاتبة والمعلمة والممرضة، والكثيرات من حاملات الشهادات وكاتبات المقالات، فليس معنى ذلك أننا بلغنا غايتنا، واستوفينا نهضتنا، فما زالت الأغلبية الساحقة من نسائنا يخيم عليهن ظلام الجهل، وما زالت الألوف المؤلفة من أطفالنا تقع فريسة للأمراض، وتقضي ضحية الجهالة؛ وما زالت بلادنا تفوق بلاد العالم في نسبة العمي، وما زالت سوق الخرافات رائجة، وما زال الكثير من عاداتنا في حاجة إلى التهذيب والإصلاح. ويطول بي الشرح لو أردت أن أستوعب أمراض المجتمع التي تستطيع المرأة أن تساهم في علاجها بنصيب كبير إذا مهد لها الطريق فتكون المتعلمة قد أدت حينئذ رسالتها، وقامت بواجبها من خدمة لبلادها. نعم إن طريق الإصلاح شاقة وعرة، والعقبات جمة، والمصاعب كثيرة؛ لكن كل صعب يهون أمام صدق العزائم، وشحذ الهمم، وتضافر الجهود، وتوحيد قوى المتعلمات ليهذبن ويدبرن ويصلحن شأن أمتهن، وينهضن على(150/46)
الأخص بأخواتهن من مختلف الطبقات صحياً وخلقياً وأدبياً، فيكن قد عالجن الداء من أساسه، فالمرأة ليست نصف الأمة فحسب، بل هي مربية النصف الآخر منها كذلك. ومما يزيدنا تفاؤلاً أن البلاد اليوم روحا تفعل في نفوس الأفراد والجمعيات فعل الخير، متجهة بها من الوحدات الجزئية إلى وحدات كلية مما يساعد على استثمار نهضة المرأة
واستثمار نهضة المرأة يقوم على تعاون ثلاث قوى: جمهور المتعلمات، والحكومة، والشعب
أما واجب المتعلمات فالمبادرة بالاستعداد لعقد مؤتمر نسائي تمهيدي تشمله الحكومة برعايتها، تشترك فيه كافة الجمعيات النسائية على اختلاف مذاهبها وغاياتها، ويدعى إليه أكبر عدد ممكن من فضليات السيدات والآنسات المتعلمات، ليكون واسطة للتعارف وتوحيد الجهود، ووضع الأسس لخطةٍ عملية منتجة بعد المناقشة والبحث في خير الوسائل لمعالجة نواحي الضعف التي توكل كل منها إلى لجنة تقتلها بحثاً ودرساً، ثم تقرر الوسائل الكفيلة بعلاجها. فتؤلف لجنة مثلاً لبحث خير الذرائع لرفع مستوى أخلاق النشء، ولجنة ثانية لتحسين الصحة العامة، وثالثة لمحاربة الخرافات والعادات الذميمة، ورابعة لتنظيم الإحسان وتخفيف ويلات البؤس، وخامسة لتوفير السعادة العائلية وإصلاح حال الأسرة، وسادسة للعناية بالولد صحياً وخلقياً، طفلاً ويافعاً، وسابعة للشؤون القومية والاقتصادية، وثامنة لنشر الثقافة والفنون بين المتعلمات، إلى آخر ما يراه المؤتمر من الموضوعات جديراً بتأليف لجنة لبحثه، وبعد أن تنتهي اللجان من أبحاثها الدقيقة وتكون قد دعمتها بالأدلة والإحصاءات كلما أمكن، واستعانت على استفاء ما ينقصها من المعلومات باستقائها من مصادرها في مختلف مصالح الحكومة والمؤسسات الوطنية والأجنبية التي تشتغل بالشؤون الاجتماعية في مصر أو الخارج، تكون قراراتها بمثابة الخطة الحكيمة لقيادة جيوش المتطوعات إلى حرب صامتة في مظهرها، مصلحة طموح في جوهرها، عدتها التعاون والهمة، وسلاحها الإيثار والتضحية، ثم يبدأ زحف كتائب المتطوعات على الأحياء الفقيرة في العواصم، ثم يتقدمن بزحفهن إلى البنادر، ثم إلى الريف، لنشر الدعاية الصحية والتهذيبية، وإرشاد الفقيرات وتعليمهن النظافة والعناية بالأولاد الخ
ولما كانت الإطالة في شرح أعمال تلك اللجان واستيعاب النقط التي تدخل في لجنة كل(150/47)
منها تتطلب إفاضة لا يتسع لها مقال كهذا، كما أنه يكون استباقاً للحوادث وإحلالاً لرأيي الفردي محل رأي سيكون ثمرة شورى الجماعات التي تنصرف إلى بحث كل نقطة، وتتفرغ لدراستها على ضوء ما يتوفر لها من الأدلة والبيانات، لهذا أكتفي بإيراد النقط التي تدخل في بحث لجنة أو اثنتين على سبيل المثال تنويراً للأذهان وتوخياً للاختصار: فاللجنة التي يوكل إليها رفع مستوى الأخلاق مثلاً يصح أن تتناول الأمور الآتية:
1 - أفعل الوسائل في بث روح الفضيلة في النشء وتعويدهم العادات الحسنة
2 - محاربة الرذائل والعادات الذميمة كالبغاء والمخدرات وكجرائم اللسان والخلاعة والاستهتار
3 - توجيه الشباب للقيام بالخدمة الاجتماعية
4 - الأماكن التي يصح أن يرتادها الشباب، والكتب التي يجب أن يقرأها
5 - مقاومة مساوئ المدنية، والمحافظة على الحسن من تقاليدنا وعاداتنا
6 - توفير أسباب اللهو البريء ليقضي الشباب وقت الفراغ في المسلي المفيد
7 - مساعدة المتعطلات على الارتزاق حفظا لهن من السقوط
واللجنة التي تتخصص في تخفيف وطأة البؤس يصح أن يتناول بحثها النقط الآتية:
1 - تنظيم الإحسان
2 - توفير وسائل العلاج للمرضى من الفقراء
3 - تعليم الفقيرات صناعات تزيد في رزقهن
4 - تحديد نسل الفقراء
5 - الإكثار من ملاجئ للأطفال المتشردين
6 - العناية بذوي العاهات
7 - التأمين للعمال
8 - النسج على منوال ألمانيا في الاكتفاء بغذاء رخيص يوماً في الشهر وتأدية الفرق للفقراء
9 - إيجاد أماكن صحية للناقهين والضعفاء بأجور زهيدة
هذه أمثلة من المواضيع التي يمكن أن تتناولها اللجان العاملة بأبحاثها، يرينا تشعبُها(150/48)
وترابطها مدى أهميتها، وأثرَ تحقيقها في مداواة أمراض المجتمع
أما الحكومة فيقع عليها النصب الأكبر من هذا الواجب، واجب الأخذ بيد العاملات على تنفيذ البرامج الإصلاحية التي يرسمنها بعد الدرس والتمحيص، لأنها المسئولة عن صالح المجتمع بصفتها الحاكمة، ولأنها تملك سلطة التشريع وفي قدرتها تدبير الأموال، ولها من وسائل التنفيذ ما لا يتوفر لغيرها من الهيئات، ولهذا يكون اشتراكها وإشرافها ضروريين لضمان نجاح العمل وتحقيق الإصلاح، لا سيما وهو في مرحلة التأسيس والإنشاء. فلابد من تعيين بعض الموظفات إلى جانب المتطوعات لينتظم العمل ويطرد سيره في سبيل النجاح، كما لابد من مساعدة الحكومة للعاملات لخير المجتمع مادياً وأدبياً، فتمدهن بعونها ونفوذها بسن القوانين الكفيلة بالإصلاح، وتسهل لهن سبل العمل، كأن تخول لعدد من المتطوعات السفر بالسكة الحديدية مجاناً، وتسمح بمبيتهن في مدارسها في مختلف البلاد، وتسهل لهن زيارة المؤسسات الاجتماعية من ملاجئ وإصلاحيات ومستشفيات الخ، إلى غير ذلك من وسائل المساعدة. وهذه أمثلة بسيطة ذكرتها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والتحديد
ومن أهم ما يجب على الحكومة لاستثمار نهضة المرأة، المبادرة إلى تعديل مناهج تعليم البنات، وإرسال بعثات للتخصص في الخدمة العامة في كلية سيمونز ببسطن وهي أهم معهد بالولايات المتحدة لدراسة الخدمة العامة الطبية والسيكولوجية الخ، أوفي مدرسة الخدمة العامة بشيكاغو أو كلية أو غيرها، حتى إذا عادت البعثات ساعدت المدارس على تربية روح الخدمة العامة في الناشئة، وجندت منها فرقاً للعمل تحت إشرافها، وأفادت المشتغلات بالشؤون الاجتماعية وتوجيههن إلى أنجح الوسائل وخير الطرق لتحقيق الغايات التي يسعين إليها. وغريب أن الحكومة لم تفكر حتى الآن في هذا النوع من البعثات، مع وفرة عدد البعثات التي أوفدتها وتنوعها، ومع شدة حاجة بلادنا إليها
أما تعليم البنات فواجب الحكومة فواجب الحكومة أن تستغل رغبة الآباء في تعليم وإقبال البنات على التعليم بمختلف مراحله، لتجعل من تلك الآلاف المؤلفة زوجات فاضلات يحسن تدبير البيوت ويملأنها بهجة وسروراً، وأمهات صالحات ينشئن رجالاً صحيحي الأجسام، قويمي الأخلاق، كريمي النفوس، وذلك بتعديل البرامج، لأن البرامج الحالية(150/49)
قاصرة جداً عن تحقيق هذه الغاية. ومن المسلم به أن غاية التربية الصحيحة أن تعد المرء للحياة، وتسلحه بما يكفل له النجاح في كفاحها، وتؤهله للدور الذي ينتظره وتنتظره الإنسانية منه. والمدارس التي تعلم الطبيب كيف يحارب العلل وينقذ المرضى، وتعلم التاجر كيف يُروج بضاعته ويزيد ربحه، والزارع كيف تجود حاصلاته وتسلم من الآفات، والصانع كيف يتقن صناعته ويرقى بفنه، فتعد كلا منهم لمركزه الخاص. . . جديرٌ بها أن تعد الفتاة (ووظيفتها تختلف عن وظيفة الرجل) للقيام بدورها الخطير. فما لاشك فيه أن الفتاة أحوج إلى درس نفسية الأطفال في مراحل نموهم وعرفة طرق العناية بهم جسمياً وخلقياً منها إلى دروس الميكانيكا، وهي أحوج إلى علم الاقتصاد منها إلى حساب المثلثات، وهي أحوج إلى تدبير المنزل والحياكة والتفصيل منها إلى الهندسة الفراغية، وهي أحوج إلى علم الصحة والموسيقى منها إلى الكثير مما تدرسه الآن. لست ضد ثقافة المرأة، ولا أريد الحد من حرية الرغبات في الدراسة العالية، ولكني أريد أن يميز العلم بين حاجة الجنسين، وأن يفرق بين من تتعلم لتحترف الطب أو المحاماة مثلا وبين الأغلبية من سواد الشعب اللواتي ينتظرهن البيت المصري جنوداً يعملن على حمايته ورفع مستواه، وأن يعني بالمواد النسوية عناية كافية تستفيد منها المرأة في حياتها العملية، وإلا ضاع معظم جهدها وما ينفق على تعليمها فيما لا طائل تحته، وصدق علينا قول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
ونظرة نافذة ترينا أننا في حاجة ماسة تبلغ حد الظمأ إلى تحسين نوع تعليم البنات منا إلى إكثار المدارس لهن. فما أكثر حاملات الشهادات، ولكن ما أكثر الصدف وما أقل الدر فيه، وما أكثر الزهر وما أقل العِطر منه، وأن يوماً تعدل فيه مناهج تعليم البنات تعديلاً يهيئ لهن الدراسة التي تتفق مع وظيفتهن، وتوضع القيود والضمانات لقصر عدد من يدرسن مناهج البنين على الراغبات فعلاً في الدراسة العالية حتى لا تتحول الأغلبية إليها. . . لهو اليوم الذي نكون فيه قد وجهنا التعليم النسوي وجهته المنتجة، وخدمنا البلاد أجل خدمة
هذا واجب الحكومة مجملاً: أما واجب الجمهور فأن يساعد العاملات مادياً وأدبياً، ويشد أزرهن بلطفه وتشجيعه، فيناصرهن الغني بماله والكاتب بقلمه، والخطيب بلسانه، والمصور بريشته، والفقير بتطوعه للعمل، والمعلمون والآباء بما يبثونه من المبادئ الطيبة(150/50)
في نفوس الصغار؛ لأن المرأة في حاجة، حاجة ماسة، إلى تعضيد الرجل لها في نهضتها، والرجل والمرأة يجب أن يكونا فرسيْ رهان في ميدان الإصلاح يندفعان جنباً إلى جنب في سيرهما لترقية المجموع وخدمة الإنسانية دون أن يعترض أحدهما سبيل الآخر في عدوه، وأن يبادر كل منهما لعون الآخر في جهوده النافعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ويا سعد يوم يتم لنا فيه التآزر الكامل على العمل الصالح. إننا لا شك بالغون فيه غايتنا بأذن الله
إحسان أحمد القوصي(150/51)
الأدب بين الخاصة والعامة
لامرتين ورينيه جارد
للسيد إسكندر كرباج
تابع لما نشر في العدد الماضي
يأسف لامرتين إذ يرى اليأس مخيماً على وجه رينيه، والأسى يغمر نفسها التوَّاقة إلى إرواء هذا الظمأ الطبيعي في الناس من ينابيع الحبّ والمعرفة. ثم يقول لها: هل وجدت يا رينيه بين كل ما ذكرت لك من الكتب ما يوافق الطبقات العاملة مثلك؟
فتجيبه: صفحات قليلة يا سيدي، لأن كل ما في لغتنا كُتب لكم، لذلك يجب أن يخلق الله من يكتب لنا
فيقول: لقد حان الوقت الذي يجب أن يُكتب فيه لكم يا رينيه، لأن ارتقاء عقليَّة الشعب وشدَّة ميله إلى المطالعة سيحملان الكثيرين من الأدباء عَلَى تخصيص الوقت الذي يصرفونه في أماكن اللهو لوضع الكتب الشعبية. وفضلاً عن ذلك فالارتياح العام إلى اشتداد حركة الصناعة والعمل في البلاد سيدفع الحكومة إلى التوسُّع في نشر الإصلاح ودعوة كل من أفراد الأمة إلى القيام بقسطه من خدمتها. وهذا يضاعف عمل الفكر في كل الطبقات الاجتماعية؛ وبما أن الكتب هي أدوات هذا العمل فسيوضع منها للعمَّال ما يوافق أيديهم
وقد ازداد عدد الكتَّاب على ما كان عليه في الماضي زيادة كبرى، لأن قسماً كبيراً من النفوس الهاجعة استيقظ بعد الثورة واندفع إلى ساحة العمل والإنتاج، ولأن خريجي المدارس العالية تحوَّلوا عن خدمة الإمبراطورية والدين إلى التوظُّف في دوائر الحكومة والاشتغال بالأدب، فكثر عدد الكتَّاب وأصبح ما ينشر في السياسة والشعر والأدب والاجتماع يومياً كافياً لوضع المجلدات الضخمة، وتزاحمُ هذا العدد الكبير من الأدباء على أبواب الشهرة يحول دون معرفة العباقرة الحقيقيين
لم يعمل رأس الإنسان وقلبه فيما غبر من عصور الإنسانية ما يعملانه في هذا العصر، فهما كناية عن معلمين للأدب دائمي الحركة، وهذا العمل المتواصل يبحث عن وجهة ينصرف إليها فلا يجد، لذلك نراه قلقاً مضطرباً. غير أن الطبيعة التي أوجدت التبادل بين(150/52)
الأعمال والحاجات ستوجد لهذا العمل حاجته، وهذه الحاجة هي وضع الكتب للجمهور
ثقي يا رينيه أن عهد الأدب الشعبي قد دنا، وأعني بالأدب الشعبي الأدب السليم المكتمل، لأني أفهم من كلمة شعب ما يفهمه الله والفلسفة، أي القسم الأكبر والأهم من البشرية لا يفهمه المتطرفون؛ وإذا لم يطرأ على الأنظمة الحديثة في هذه السنوات العشر ما يعرقل سيرها، أو يحولها إلى طغيان مؤقت، فسيكون للشعب مكتبته وعلومه وفلسفته وروايته وشعره وأدبه وتاريخه وفنه
فتسأله رينيه دَهِشة: ومن يضع لنا كل ذلك؟
فيجيبها: الكبار بين العلماء والشعراء، فكما أن تربية الأمراء والتحدث إلى الملوك والتقرب من رجال البلاط كانت إلى الأمس القريب تعدُّ شرفاً كبيراً فإن تثقيف الصغار والتحدُّث إلى الوضعاء وخدمة الطبقات العاملة ستعد في الغد القريب لا شرفاً كبيراً فحسب، بل فضيلة عظمى، وهكذا يتحول مجد الكتَّاب من القصور إلى الأكواخ ومن العواصم إلى القرى. وبما أن العبقرية تتجه بطبيعتها نحو المجد، فالمجد سيكون ترديد اسم الكاتب في أفواه الملايين من النساء والرجال صغاراً وكباراً. لماذا يؤلف الأديب ويكتب وينظم؟ ليُقرأ ويُدرك ويُشارك في شعوره وتأثره، ويُحب ويُكرم ويُطرى، أفليس الأفضل للشاعر أن تنقش منظوماته على صفحات قلوب أربعين مليوناً من أن تُصف على رفوف ستة آلاف مكتبة؟ أو لا يفضل الكاتب أن ينتسب إلى هذه الأسرة الكبرى المؤلفة من أربعين مليوناً، يعيش في أفكارها وتذكاراتها ويقاسمها عواطفها وميولها، من أن يكون عضواً في مجمع علمي لا يجاوز عدد أعضائه الأربعين؟ فما هو رأيك يا رينيه؟ ماذا تؤثرين: أن تتردد منظوماتك في أفواه الملايين من الصغار، ينشدونها في نهاية كل صلاة أو في أحضان أمهاتهم، أو أن تطبع وتجلّد بدقّة وجمال، وتوضع في مكتبة بعض هواة الشعر؟
فتجيبه: آه يا سيدي! أوثر أن تردد في أفواه الصغار والوضعاء لأنها تكون طبعة شعبية تختلج بالحياة، فالمجد الذي لا يدعمه الود هو حبة لا تنبت، ونور لا يدفئ
وأراد لامرتين أن يذهب إلى أبعد من ذلك في معرفة حقيقة ذوق الشعب وميله الأدبي بواسطة هذه الفتاة التي نشأت بين
الخدم وتعيش مع العمال فاستأنف قائلاً: أنت يا رينيه تعرفين أصناف الكتب التي توافق(150/53)
أهل طبقتك وتنطبق على عاداتهم وميولهم، فما هو الكتاب الذي يجب أن يؤلف أولاً للذين لم يقرءوا أو أنهم قرءوا قليلاً؟
فتجيبه: لا رأي لي في ذلك إذ لا يتذوق الأدب إلا من كان ثقيفاً
- ولكن لا بأس أن تجاوبي عن نفسك، أي نوع من الأدب كان بإمكانه أن يستهويك ويؤثر في نفسك قبل أن تتيسر لك المطالعة؟ أهو الفلسفة الدينية والوجدانية التي تصلح لأن تكون دستوراً لأفكار البشر وإنجيلا يعبر بأمثال قصيرة سامية وجلية كأشعة الشمس، عن مبادئ العلوم الإنسانية الكبرى وفضائلها المكملة بالذكاء والمعرفة على ممر العصور؟
- هذا لا بأس به، غير أن برودة الأمثال لا توافق حرارة قلوبنا، فهي كناية عن أفكار تشع فيما نقرأه، ولكنها فوق مستوانا العقلي
هل يرضيك تاريخ عام جليّ العبارة، رائق الأسلوب، ذو فروع عديدة كأغصان هذه الشجرة التي تسمعنا، تخرج فيها الأصول من الأرض، والجذع من الأصول، والأوراق من الأغصان بحيث تستطيعين أن ترافقي بنظرك نشوء كل هذه الأسرة البشرية الكبرى من أقدم الأزمنة إلى اليوم بما رافقها من ارتقاء وانحطاط، ومن سلالات ظهرت ثم انقرضت مع أفكارها وأديانها وأنظمتها وفنونها وأعمالها؟
- هذا لا يرضي إلا الشبان المتعلمين والشيوخ الميالين إلى أشياء الماضي، أما سواهم من النساء العذارى والأولاد فلا يميلون إلى مثل هذا الموضوع لارتفاعه عنهم، فهو يمر أمامنا كالسيل العظيم يبهر عيوننا ويغرق أرواحنا، لذلك نفضّل عليه وشلة من ينبوع قريب. إن العظيم عظيم، ولكنه غامض كالسماء لا يرى سوى النجوم
- ما قولك في كتاب يفسر كل العلوم والفنون بطريقة سهلة تقفك على كل ما اكتشفه الإنسان واخترعه وتصوره وحسَّنه في كل أنواع الحرف والصناعات وغير ذلك مما يريك الحقيقة ويهدم كل ما قام حول العجائب الطبيعية والاصطناعية المنسوبة إلى الراقيات من الأفكار الكاذبة؟
- لا نزال في مكاننا يا سيدي، فهذا الموضوع لا يهم إلا المثقفين وما أقلهم بيننا وأقصر وقتهم لمطالعته، وعدا ذلك فماذا يبقى في النفس بعد مطالعته كل ذلك؟ غيمه من الألفاظ والخطوط والأشياء والحوادث والأدوات وغيرها مم يبلبل أرواحنا! يكفينا ما نعرفه من(150/54)
أسرار حرفنا فلا حاجة بنا إلى معرفة أسرار حرف الغير!
- وما رأيك في القصائد والملاحم، كقصائد وملاحم هوميروس وفرجيليوس وطاسو تصف مواكب الأبطال وفتوحات الشعوب وما قامت بها من الحضارات ودكته من الحصون وأحرقته من المدن وأفنته من الجيوش؟
- لقد مضت نشوة تلك الأيام يا سيدي. أيام اليونان والرومان حيث لم يكن للأمم غير فكرة الاقتتال والتطاحن والاعتقاد بكل أشكال الخرافات وبآلهة ومخلوقات تنزل من السماء وتحارب مع هؤلاء ضد أولئك، فالشعب اليوم لا يثق كثيراً بخيال الشعراء، ويريد منهم أن ينشدوا له الحقيقة والفضيلة والصلاح وإلا تخلّف عن سماعهم ومطالعة منظوماتهم
- وفي رواية لطيفة رقيقة تتضمّن وصف حوادث رجال ونساء يتحابون ويتخاطبون ويتراسلون ويتواشون ويتخاصمون ثم يعودون فيتصالحون ويتشاكون، وبعد كثير من المغامرات يتزاوجون ليعيشوا أغنياء سعداء في أحد فنادق لندن أو باريس؟
- نكون كمن يقرأ بالصينية أو اليابانية لجهلنا معاني هذه الحوادث وأسرارها، أننا لا نقرأ إلا روايات الخادمات والخائطات إذا روعيت في كتابتها شروط الحشمة والأدب كي لا تضطر ربات الأولاد إلى نزعها من جيوب البنين والبنات وطرحها في النار
- ما قولك في هذه القصص البسيطة التي تصف بيوت الشعب وعاداته وإصلاحاته وميوله وأخلاقه وصدقه وبؤسه وسعادته وحوادث أفراده بلغه سهلة كلغته وتعابير ساذجة كتعابيره
- في اعتقادي يا سيدي أن هذه هي الكتب التي تستهوي العمال ولا سيما زوجاتهم وبناتهم، لأن المرأة تمثل كل شعور الأسرة فمتى قرأت ربة البيت أو ابنته كتاباً ما، فكأن الأب والأخوة قرأوه أيضاً، فنحن أرواح المسكن، فما نحبه تحبه حتى الجدران، إن النفس تهذَّب في البيت أما العقل فيثقف في المدرسة
- يجب أن تكون حوادث هذه القصص حقيقية، أليس كذلك؟
- نعم لأننا نحيا الحياة الحقيقية، والحقيقة هي شعرنا
- وأن تكتب بلغة نثرية؟
- نعم لأنها أسهل علينا ونحن لا نحب إلا الذين يتكلمون مثلنا، يجب أن ينظم الشعر للطبقات العالية فقط لأنها أقدر على تفهم معانيه وحل رموزه، أو في الذكريات والحنين كما(150/55)
أفعل أنا، لأن الشعر لا يتكلم عن حوادثنا ولا يقصها، بل هو ينشد لأنه صوت لا يخرج من النفس إلا في أشد حالات التأثر
(العصبة)
إسكندر كرباج(150/56)
الأناشيد القومية المصرية التي نالت الجوائز في
المباراة الأدبية
(ننشرها على ترتيب لجنة التحكيم)
نشيد الأستاذ محمود محمد صادق
بلادي بلادي فداك دمي ... وهبت حياتي فدى فاسلمي
غرامك أول ما في الفؤاد ... ونجواك آخر ما في فمي
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
غرامك يا مصر لو تعلمين ... قصارى شعوريَ دنيا ودين
فمنك حياتي وفيك مماتي ... وحبك آخرتي واليقين
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
حياتك يا مصر فوق الحياةِ ... وصوتك يا مصر وحي الإله
تعاليت يا مصر من موطن ... على الدهر يبقى وتفنى عداه
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
لك المجد معجزة الأولين ... وما زال تاجك فوق الجبين
فتيهي بمجدك فوق الوجود ... ومدى اللواء على العالمين
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
مآثر مجدك تحت الثرى ... تشيد بذكرك بين الورى
وهذي فتوحك في المشرقين ... تعالت بمجدك فوق الذرى
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن(150/57)
أيا مصر هذا لواء الهرم ... على النيل يخفق منذ القدم
تمر عليه جيوش الزمان ... تحيي اللواء تحيي العلم
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
لك الشرق ألقي زمام القياد ... فنعم الزعامة بين البلاد
فيوماً حملت لواء الفنون ... ويوماً حملت لواء الجهاد
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
يظلك عرش المليك الكريم ... وترعاك عين العلي العظيم
ألست الكنانة في أرضه ... وموعود جنته والنعيم
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن
بلادي بلادي إذا اليوم جاء ... ودوَّى النداء وحق السماء
فحيي فتاك شهيد هواك ... وقولي سلاماً على الأوفياء
سأهتف باسمك ما قد حييت
تعيش بلادي ويحيا الوطن(150/58)
نشيد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حُمَاةَ الْحِمى، يا حُمَاةَ الْحِمى ... هَلُمُّوا، هَلُمُّوا لِمَجْدِ الزمَنْ
فقد صرخَتْ في العُروقِ الدِّمَا: ... نموتُ، نموتُ، ويَحْيَا الوطن
هَلُمُّوا، هَلُمُّوا
لِتَدْوِ السماواتُ في رَعْدِهَا ... لِتَرْمِ الصواعِقُ نِيرَانَها
إلى عِزِّ مِصْرٍ، إلى مَجْدِهَا ... رِجالَ البلادِ وَفِتْيَانَها
فلا عاش مَنْ لَيْسَ مِنْ جُنْدِها ... ولا عاش في مِصْرَ مَنْ خانَها
نموتُ ونَحْيا عَلَى عَهْدِها ... حياةَ الكرامِ وموتَ الكرام
حُمَاةَ الْحمى، يا حُمَاةَ الْحِمى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بلادي احكمي واملِكي واسعَدي ... ولا عاش من لم يَعِشْ سَيِّدَا
بِحُرِّ دَمِي، وَبِمَا فيِ يَدِي ... أنا لبلاَدِي وَعَرْشي فِدَا
لكَ الَمجُدُ يا مِصُرُ، فاستمجدِي ... بعِزَّةِ شَعْبِكِ طُولَ المَدَى
وَنَحْنُ أُسُودُ اُلْوَغَى، فاشهَدِي ... وُثُوبَ أُسُودِكِ يَوْمَ الصِّدَام
حُمَاةَ الْحِمى، يا حُمَاةَ الْحِمى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَرِثْنَا سَوَاعِدَ بَانِي الهَرَمْ ... صُخُوراً، صُخُوراً كهذا البِناَ
سَوَاعِدُ يَعْتَزُّ فيها العَلَمْ ... ُنبَاِهى بِهِ، وَيُبَاهِي بِنَا
وفيها كِفاَءُ العُلَى والهِمَمُ ... وفيها ضمانٌ لِنَيْلِ الُمنَى
وفيها لأعداءِ مِصْرَ النِّقَمْ ... وفيها لمنْ سالَمُونَا السلام
حُماةَ الحِمى، يا حُماةَ الحِمى ... هَلُموا، هَلُموا، لمجدِ الزَمنْ
فقد صرختْ في العُروقِ الدّما: ... نموتُ، نموتُ، ويحيَا الوطنْ
هلموُّا، هَلموُّا(150/59)
نشيد الأستاذ محمد الهراوي
دعتْ مِصرٌ، فلَبينَّا كِراما ... وَمصرُ لنا، فَلاَ نَدَعُ الزّمامَا
قياماً تحتَ رَايتها، قيامَا ... أمامكمُ العُلا، فامضوا أماما
هناكَ المجدُ يدعوكُم فهبوا ... وليس يروعكم في المجدِ خطبُ
لعمرُ المجدِ ما في المجدِ صعبُ ... تَردَّى الذُّلَّ منْ يخشى الحِماما
فنحن أُولو المآثر في العصور ... وبينَ يديَ أبي الهولِ الهصورِ
وفي الأهرام، أو فوقَ الصخورِ ... ترى آثارَ أيدينا جِساما
لنا مَجدٌ على الدُّنيا تَعالى ... (بناهُ اللهُ يومَ بنى الجِبالاَ)
رسمناهُ برايتنا هلالا ... وننشُرها على الدنيا سلاما
لنا التاريخُ، فَياضَ المعاني ... لنا الأسرارُ، مَعجِزةَ البيانِ
لنا عِلمُ الأوائلِ في الزمانِ ... لنا الأخلاقُ، نرعاها ذماما
لنا ذِكرٌ مع الماضي، مَجيدُ ... لنا أملُ، يَجيدُ بنا، بعيدُ
كذلك مِثلما سدنا نسود ... ونرفعُ فوق هام النجمِ هاما
فيا وَادي الكِنانةِ لَنْ تَزولا ... وفيكَ النيلُ يَجري سلسبيلا
يطوفُ بمائهِ عَرضاً وطولاً ... ويبسطُ فَيضَه عاماً فعاماً
بِساطكَ سُندسٌ، وثِراكَ تِبرُ ... وجوُّكَ مُشرقٌ، وشذاكَ عطرُ
ونهركَ كوثرٌ، وبنوكَ غُرُّ ... أبوا في اللهِ والوطنِ انقساما
فإن لم نَستعزَّ بمصرَ حَولاً ... ونَبسطْ ظلها صَولاً وطولا
وإن لم نَحمها فالموتُ أولى ... نعم: فالموتُ، أو نحيا كِراما
نُعزُّ ضُيوفنا، ونقرُّ عيناَ ... فلا نعدوُ، ولا يُعدى علينا
فإما مَسنا ضَيمٌ، أبينا ... ونذكيها على العادي ضراما
فيا ابن النيل، هُزّ لواَء مِصرا ... وهيئ في النجوم لَهُ مَقرا
وأطلعْ بالهلال عليه فجرا ... وعش في ظلهِ العالي إماما(150/60)
أغنية. .
إلى الحلم. .
بقلم العوضي الوكيل
إذا خَدرتْ عيني من طول ما أرنو ... وأتعب هذا الجفنَ إمعانُ إيماءِ. .
إذا ما استباني في مطالعكَ الفنُ ... وبتُ لديه ساهراً دونَ إغفاءِ. .
إذا ظمئت روحي فأغرقها دنُّ ... من الحسنِ ممزوجٌ سناهُ بأعضائي
إذا ما عراني من مطالَعَتي وهنُ ... وباتَ كِياني، من عياءٍ، كأشلاءِ
فدعنيَ أحلم لحظة بك في نفسي!
إذا ماجت الدنيا، وجن جنونها ... وثارت براكين، وهاجت كواكب
وغال جميعَ الناس فيها مَنُونها ... ولاحت بقاعُ الأرضِ وهي خرائبُ
وصوِّحت الدنيا، وبادتْ فنونها ... فلا شيء إلا وهو في الرمسِ غائبُ
فدعني أحلمْ لحظةً بِكَ في رَمسي!
دار العلوم العالية:
العوضي الوكيل(150/61)
القصص
هواجس
بقلم حبيب الزحلاوي
قلت لصديقي: لك الله من رجل غريب الأطوار! لقد أضفتنا الليلة ودعوتنا إلى تناول العشاء معك، فأين المطعم وأصناف الطعام المطبوخ من هذه الحانة والزجاجات والأقداح (والمزات) آليت على نفسك مخالفة المألوف واتباع هوى النفس وبداواتها في كل شيء؟؟
-: خل عنك يا صاح الملاحظات والمعارضات لأننا في ليلة خمر وانتهاب لذة، هيا أيها الرفاق إلى الأقداح الدهاق نقرعها، والى الزجاجات نفرغها في أجوافنا، فتمشي فينا الحمّيا، فتدور رؤوسنا فتسابق الدورات الزمنية، وبذلك نطوي الصفحة القاتمة من تاريخ الحزن الماضي وعقابيله المؤلمة، ونستقبل حياة جديدة بنفس مشعشعة وفرحة وضاءة
- أي حزن تعني؟ لأن أحزان هذا العصر تشملنا من كل صوب وتغمزنا كل مغمز!!
على رسلكم أيها السادة، جئنا لنشرب ونطرب لا لنتزمت ونتفلسف، لندع عنا تقعرات صاحبنا هذا الذي يود مسابقة الدورة الزمنية ليطوي الحزن وعقابيله!! أما أنا فوالله العظيم لا أعرف كلمة عقابيل هذه ولا سمعت بها، إنما أعرف ماركات زجاجات الوسكي كلها، وأتذوق شرابها وأميزه، وأحسن الفتك بأفراخ الحمام والدجاج، ولا أتورع عن البطش بهذا الديك الرومي نكاية بفنزيلوس
وقال آخر: اشربوا واطربوا أيها الرفاق، فوالله ما عرفت سر عجيبة السيد المسيح الأولى وقد حول الماء إلى خمر، إلا وقتما صرت أنكر قول الحكيم سليمان: (قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان)
- ليس الحق في جانب سليمان الحكيم، لأن القليل من الخمر يفرح القلب الضعيف. أما الكثير منه والعبّ الوفير من ذوبه الذهبي فيحيي العقل والقلب والروح!!!
- راعوا أيها الإخوان حرمة وسدانة الحانة التي أنتم فيها وصونوا ألسنتكم عن الاستشهاد بالآيات وذكر العجائب في مكان آيته الكبرى خمرته البكر وعجيبته الغادرة، دعوة صاحبنا إليه، وأنا الذي تعرفني حانات المدينة كلها، ولا تجهلني إلا هذه البؤرة التي لا يسكنها سوى شيطان مثله ليتوارى عن أعين الناس(150/62)
- صه أيها الخبيث ولا تحاول نبش أسرار الناس، فقد يقودك الحظ إلى هذه الحانة فترى الهناء يبسط أجنحته عليك وحدك، عليك وحدك، أفهمت أيها الخبير الفني بحقوق الاتصال؟؟
كلا لم أفهم بعد!! إنما يبدوا لي أن مفتاح سر تعاطيك المسكر والتدخين في شهر معلوم ثم انقطاعك عنهما، إنما هو مدفون في هذه الحانة التي لا يعرفها سوى الراسخين في علم التستر والتخفي
ضحك الرفاق لهذه المداعبة الظريفة وسأل أحدهم الداعي قائلاً، ما معنى أنك لا تشرب الوسكي إلا من ماركة (كناديان) ولا تدخن السجاير إلا من ماركة (لكي ستريك)؟ وسأل الثاني: لماذا تندّ الليلة عن الشرعة الشاذة التي اشترعتها لنفسك في الخمر والتدخين وموعد تعاطيك إياهما لم يئن بعد؟ وقال الثالث: أحسب أن دعوة الليلة إنما هي لتوديع الشباب والكهولة وقد ذبل ويبس منها الورد والثمر والغصون
فصاح صائح: اسكتوا اسمعوا، لنشرب هذه الكأس على ذكر داعينا وقد ودع الخمسين من عمره السعيد منذ عشر سنوات خلت. . . فقاطعه آخر وقد انتصب على الكرسي قائلاً: بل نشرب نخبه وقد عاد إلى العاشرة من عمره لأن التقدم بعد الخمسين إنما هو نكوص وتراجع!!! وهكذا كان الرفاق بين ضاحك وناقد وظريف لطف دبيب الخمر ذوقه، وبين صامت يشتف ما في الكأس روية، ومالتها مترعة، هذا يشرب بلا انقطاع، وذاك يهمش اللقمة ويمضغها ويضحك، وذلك يفتك باللحم يلته بالتوابل ويزدرده، وواحد غمه الطعام والشراب فثقلت معدته وجاشت نفسه فانتحى الزاوية ولبد والظريف في هذا الحفل أنهم كانوا يتكلمون جملة، ويضحكون ويقهقهون بجرس واحد، ولا يستمعون إلا إذا صاح بهم صائح جاف، وهكذا أنصتوا للقائل بصوت أجش
لكم الله من ضيوف كثيري الجلبة واللغط، اشربوا واطربوا فخير الشراب ما كان كغناء المغني يعبر عن حزن دفين وإن كان يبدو أنه يعرب عن الطرب والسرور
وقعت العبارة في نفوس الشاربين موقع الجمرة في الماء، تنطفئ ولكنها تترك أثرها، وتصعد بخارها، وتئن أنه الموجع
كاد السكوت يسود المجلس، ويعتري المتنادمين فتور السكير وكظة الآكل لو لم يقل أحدهم:(150/63)
حقاً إن الغناء تجاوب وجداني لحزن دفين وذكريات مؤلمة كانت في الأصل نتيجة لوقائع خاصة أو طوارئ مفاجئة طرأت على الإنسان فغيرت سير حياته فجعلته رهين قيود وأسير أوهام لم يقو على التخلص منها والإفلات من إسارها وعبوديتها!!
هل وراء هذه المقدمة حديث غرام؟
بلى يا صديقي، حادث غرام قديم، عبثاً حاولت الإنعتاق منه وكنت إذاءه كفراشة تفتش عن طريقها في نور المصباح وهي تجهل أنها صائرة إلى الاحتراق
ليكن حديث الليلة إذن عن الوقائع الغرامية وطوارئها ذات الأثر في النفس، وأحسب أن طبيعة اجتماعنا ومفاجأة صديقنا إيانا بالشراب، ودعوتنا إلى الاشتراك معه، على حد قوله، في طي تاريخ الحزن ونشر أعلام حياة جديدة على أضواء الخمرة المتلألئة مهيأة لحكاية غريبة نادرة يقصها علينا، وقد تكون حكاية تعاطيه الخمر والدخان في شهرين فقط من شهور السنة، أليس حدسي صادقاً يا صاحبي؟
سكت صاحبنا ولم يشر بحركة تدل على النفي أو الإثبات
قال أحدنا: من منا لم تصدمه حادثة غرام حولت سير حياته وبدلت نظامها المألوف؟ إنما لبعض صدمات الحب قوى عجيبة ودوافع غريبة تنتقل بالمرء من حال إلى عكسه، ويتوقف ذلك على نحيزة الإنسان لا على طبيعة الصدمة
موضوع لذيذ، إي والله إنه لموضوع مستحب، يجانس طبيعة نفوسنا الدافئة بنار الخمر، إني لأقترح عليكم أيها الرفاق، وكلكم لوى عنقه عن الشباب، وطوى كشحه عن. . الكهولة عفوا عفوا، أريد أن أقول كلكم فتى القلب، شاب الروح و. .
صه يا ثرثار، ودع عنك اللغو فليس وقته الآن
سكت، وأنصت الجميع للراوي الأول حكاية مغامراته في شبابه وهي تحمل نطفة الموت مع جرثومة الحياة كذكور النحل، وأنصتوا للمتكلم الثاني، وقد أظهر وقائع بطولته في الإغراء وانتصاراته على المرأة بالخداع، وتكلم الثالث عن غرامياته وقد أوحت إليه نظم الشعر وتأليف الحكايات
وقص الرابع والخامس قصصاً فردية كسابقتها لا صلة لها بصميم الحياة ومشاكلها، فلما انتهى الأمر إلى صاحب الدعوة قال: أقص عليكم قصة طريفة نادرة، فيها درس وقد لا(150/64)
تخلو من لذة
(يسرني أيها الأصدقاء، وقد دعوتكم إلى الاشتراك معي بفرح وحزن لا شأن لكم بهما، أن أطلعكم على سرهما وقد لزمني خمس عشرة سنة، ولأن في الأفراح كما في الأحزان إنبثاقات من نور تهدي الإنسان إلى سمت الوجود، وتجعل الحياة نفسها عذبة مشتهاة، فأصغوا إلى قصتي واعلموا أن الحياة هي الحياة في الفتى والشاب والكهل والشيخ، إنما الفارق هو في قوة الشعور وخصائص الوعي، قد يحب الكهل بقوة وحرارة تماثلان حب الشاب، وقد يعشق الشيخ ببراءة وسذاجة عشقاً يضارع عشق الفتى، إنما الرجل من يحتفظ بتوازنه، فلا يشتط في أطوار الحب وهي مرافقته ولا بد حتى اللحد، ومن يستضيء بنور نفسه لا يضل السبيل، وبذلك تسعده شاعريته ويفرحه روحه وينعم بلذة وجوده الإنساني)
المقدمة بارعة، والاستهلال حسن؛ فهات القصة فكلنا لك سامعون
(رن جرس التلفون، تناولت السماعة وأثبتها على أذني، وإذا بي أسمع صوت امرأة تناديني باسمي وتقول إنها قادمة من أمريكا لزيارة الشرق واستعادة ذكريات طفولتها فيه، وإن اسمي في مقدمة أسماء من وطدت الأمر على مقابلتهم، وإنها ستكون سعيدة إذ تراني يوم الاثنين بعد غد في القاهرة، فقلت لها: انه يسعدني لقياها الليلة في الإسكندرية لأني أسافر في قطار مساء اليوم، فأقضي نهار الأحد فيها كعادتي في فصل الصيف، وسألتها عن أسمها فأجابت: ستعرف اسمي قريباً، وقالت: إن لقياك بي في الإسكندرية تعطل على خطة الريادة؛ وتفسد طريقة الاستكشاف التي رسمتها لنفسي. فقطعت عليها الكلام وقلت مازحا: إني لست واحة في صحراء مجهولة، وإنك لست (روزتا فوربس) تقتحم الصحاري لتصف الحياة فيها تحت إطناب الخيام ومضارب الأعراب الأشداء، فأجابت قائلة: أرجوك الاحتفاظ بهذه الاعتراضات إلى حين اللقاء في القاهرة، وألا تزاحم المرأة في فضولها وبداواتها، وودعت فانحبس الكلام
أرجعت السماعة إلى مكانها، وأخذت أستعيد في ذاكرتي وخيالاتي نبرات الأصوات، وصور النساء اللواتي عرفتهن، فلم أهتد إلى واحدة يوائم صوتها صوت المرأة المجهولة التي حدثتني
امرأة من أمريكا تعود إلى الشرق لاشك أنها سورية، ولقد هاجرت من سورية منذ نيف(150/65)
وعشرين سنة ولما أبلغ العشرين بعد، ولم يكن لي فيها علاقة غرام بسوى فتاة حالت الحوائل دون استمرارها وديمومتها، وأنها تزوجت برجل تقيم معه في سلام ووئام في لبنان، فمن هي هذه السيدة المتأمركة يا ترى؟
أف للمرأة المشغلة المعطلة، لم لا أركب قطار الظهر إلى الإسكندرية فأشبع ناظري برؤية البرية الخضراء المنبسطة، وأبهج نفسي بمشهد الشمس حين المغيب، تخضب الزاخر من موج البحر بدمها المسفوك وذهبها المذاب ونارها المتقدة؟! لم الذهاب إلى رئيس عملي أقف بين يديه وقفة المستجدي، وقد يستجيب رجائي بعد أن يغمرني بفيض من المنة أو يرفض ويتأبه ويتعالى، الأجل كلمات سمعتها بالتلفون من امرأة مجهولة قد تكون من المغامرات وقد تكون شيئاً آخر لا أملك وصفه أو الحكم عليه؟! أمن أجل هذه المرأة أنقض قانون العمل وأعرض نفسي لما لا قبل لها على احتماله من الرؤساء، أبلبل ذهني وأضنى أعصابي بتفكير سخيف، وشهوة باطلة، وأوهام أنسج خيوطها من اللاشيء تحقيقاً لبداوات امرأة لا أعرف وأجهل مقرها، وقد رفضت أن تتلقاني في الإسكندرية (كي لا أعطل عليها خطة الريادة وأفسد طريقة الاستكشاف التي رسمتها لنبش قبر (توت عنخ آمون) حي هوانا؟؟!!
لا لا. . . سأواصل عملي حتى موعد الانصراف ثم أسافر إلى الإسكندرية أقضي راحتي الأسبوعية فيها كالعادة
امرأة ممشوقة العود، عريضة الجبين، عسلية العينين، هدباء وادعة النظرات، آثار صباها بادية واضحة، وقفت هذه المرأة تجاهي في محل عملي المكتظ دائماً بعشرات بل بمئات السيدات من كل جنس ولون ومدّت لي كفاً ناعمة اللميس، طويلة الأصابع وقالت بصوت كسير لين أغن بعد أن تعلمت ابتسامة رقيقة بدت في ركني فمها دلالة تحرك النفس (جود مورنن)، وضغطت على كفي بكل ما في وسع المرأة التعبير عن المودة بالمصافحة
مرحبا بك يا سيدتي الأمريكانية وأهلا بهذه الطلعة البهية، قد رأيت صبحها منذ زمن بعيد. . . ولكن أين كان ذلك؟ في مصر، في الشام، في الطريق، في الكنيسة، أوه أكاد أقول لا أدري، هل لك أن تحرضي ذاكرتي على التذكر؟؟!
أحسب أن من كان مثلك في محل عملك هذا المتألق بأنماط من أنواع الخليط قد تضيق(150/66)
ذاكرته، فهل الأسماء والكنى مكتفية بالملامح والصور، وإني لعاذرتك على نسيانك إياي وقد افترقنا بالفعل منذ زمن بعيد
- كان افتراقنا قبل ثلاثين سنة أو أزيد. أليس كذلك يا سيدتي؟
- لا تعرف السيدات أعداد السنين التي تحصى أعمارهن بالضبط
- عفواً يا سيدتي ما إلى هذا رميت، إنما لأتذكر، ولكن أين كان افتراقنا؟
قالت: أتذكر فلاناً. . . (وقد ذكرت اسمه) وقد كنت معه في مدرسة النهضة الأولية في دمشق؟
قلت: نعم أذكر ذلك
قالت: هل نسيت أخته سلمى وقد كانت تمزق لك أوراق (المزامير) فتضطرك إلى إستحفاظ (المزمور) غيباً عن كتاب أخيها وكنت تتظاهر أمام معلم الكتاب أنك تقرأ في الكتاب لا عن ظهر قلبك؟
قلت: إني لذاكر ذلك، وأحسب أنك ابنة خالتها وقد كنتما سوية في المدرسة المسكوبية
قالت: كنت أخا لك قوي الذاكرة قديراً على استعادة ما طبعته الطفولة في لوحة حوادثها النقية، ولفظت عبارتها هذه برزانة وتأمل
شاعت أحاسيس مضطربة مؤلمة في جوانب نفسي فشعرت بضنى الخيبة والفشل، وفجأة تيقظت فيّ عوامل الانتباه بعد إذ توجه شعوري وتمركز فأصبح الخاطر الغامض واضحاً جلياً لديّ، فقلت بعد أن مررت بأطراف أصابعي على جبهتي الندية في صياح: الآن تذكرت، الآن تذكرت، أنت الفتاة اللعوب أنيسة. . وكنا جيرانكم في بيت واحد وقد قبضت عليك مرة متلبسة بسرقة رمانتي وقد استبدلتها بتفاحة من عندك، وفي مرة أخرى رأيتك تدسين في محفظة كتبي قلماً رصاصياً وصورة بديعة للعذراء مريم
تضاغطت شفتاها فكتمتا ابتسامة حلوة وقالت: نعم أنا هي أنيسة وقد كنت لا تنفك تتحداها بتلاوة الكلمات الفرنسوية وتركيب جمل منها
أوه يا أنيسة كم أنت طيبة القلب فقد وضعت اسمي في مقدمة الأسماء التي أزمعت على مقابلة أصحابها بعد الغياب الطويل، أما أنا فقد نسيتك لتقادم العهد وجور السنين، وقد طوحت بنا في قطرين متباعدين. . . . . وكدت أخب في الحديث معها وفي استعادة(150/67)
ذكريات الطفولة، لولا نظرة مستسرة غامضة لمحتها في عيني صاحب العمل وقد مر بنا في هذه الفترة فطويت الكلام واختزلت الحديث ورجوتها أن تدلني على الفندق لأقابلها في المساء لنتعشى معاً
أدركت موقفي فمدت يدها للوداع قائلة: أنتظرك على شرفة (الكونتنتال) وقد قرأت على قسمات وجهها إمارات عاطفة رقيقة حلوة فيها هدوء النفس المطمئنة وخلوص السريرة)
(البقية في العدد القادم)
حبيب الزحلاوي(150/68)
درامة من اسخيلوس
2 - الفرس
للأستاذ دريني خشبة
- 4 -
وتبدي الملكة مخاوفها على أبنها حينما تذكرت اندحار جنود زوجها في حربه مع هيلاس، ثم يصمت الجميع حينما يلمحون في ظلام البعد فارساً أعجمياً يطوي الأفق، مقبلاً من الغرب، وهو مقبل لا شك من ميدان القتال. . .
(يدخل الرسول)
- (السلام على كرام سوس و. . . و. . . بلاط الأ. . .)
- (ماذا بك أيها الرسول؟! تكلم. . . ما وراءك؟)
- (. . . يا لشؤمي!. . . أشأم من الشؤم نقل أخبار الشؤم يا سادة!. . .)
- (أي شؤم أيها الرسول؟. . . تكلم. . . تكلم. . .)
- (الجيش. . .!
- (الجيش؟ ما للجيش!)
- (تبدد!. . . استؤصلت شأفته. . . وشالت نعامته!)
- (يا للكارثة!. . . أسعدي يا دموع الفرس! يا للجد العاثر، والمجد الغابر، والسلطان المهيض!)
- (طاشت الآمال، وخابت الأماني. . . والتهمت النيران عزة فارس!)
- (يا ويح لنا!! يا رحمة لك يا دارا؟ أهكذا خلفتنا لنشيخ مع الزمان، وليرزح مشيبنا تحت هذا الضغث من الأشجان؟. . . يا للهم المفاجئ، والضربة اللازمة!
- (لقد رأيت كل شيء! وخضت المعمعة مع الخائضين. . يا للشجو. . . يا للشجو!)
- (الجيش؟ تحطمت قوة فارس! ويلاه! ألهذا الدمار حشدت زهرة بنينا؟. . . الحول والطول، والقوة والجبروت، والعدد والعُدد. . . طاشت جميعاً؟. . .)
- (لقد طفت جثثهم في اللجة الدامية عند سلاميس! ولم تنفعنا الجحافل ذات العدد والعُدد!(150/69)
ما أبغض هذا الاسم! سلاميس. . . سلاميس! وأثينا! يا للذكريات السود!)
وعيل صبر أتوسا، فسألت الرسول أن يقص الخبر كاملاً كما وقع، فانطلق يروي المأساة، ويصور الهزيمة، برغم تفوق الفرس على اليونانيين في العدد، وبرغم أن لهم أسطولاً ينيف على ألف سفينة كاملة العدة، في حين لم يكن لهيلاس كلها غير ثلثمائة. . . (. . . ثم انقضت سفنهم على أسطولنا الضخم فأوقعت به وأعملت النيران فيه، وكنا ننظر في الأرض فنجد جندا، وفي البحر فنجد جندا، وفي السماء فنجد جندا. . . وأنا لا أقول إلا أن آلهة أثينا كانت تدافع عن أوطانها مع الأثينيين. . . وهكذا تمت هزيمتنا. . . وقتل كل قادتنا، ولاذت الفلول القليلة التي أفلتها القتل بالفرار. . .). . . وكان الرسول بارعاً أيما براعة حينما ذكر هتاف اليونانيين بجنودهم فوق الشاطئ: (أيها اليونانيون هلموا. . .! أنقذوا هيلاس، وخلصوا أطفالكم ونساءكم، واحفظوا قبور آبائكم، واحموا هياكل أربابكم، وأقداس آلهتكم. . . من العبودية!! قاتلوا! وفي سبيل الوطن من استشهد منكم!!)
- 5 -
وكان الرسول لم ينته من سرد قصته بعد، حين صرخت أتوسا المرزّأة، وحين تناوح المشايخ النجب من هول ما سمعوا
قال الرسول: (وليس هذا فقط يا سادة، بل هناك مصيبة المصائب لما يجيء ذكرها بعد. . .)
- (وأية مصيبة أهول مما سمعنا أيها الرسول!. . . قل، تكلم!)
- (ذؤابة الجيش. . . النبلاء. . . مجلس شورى الإمبراطور. . . لقد كانوا يشرفون على المعركة من ربوة في جزيرة عند سلاميس. . . وما كادت النهاية المحزنة تتم حتى أحدق بهم اليونانيون من كل فج، فمزقوهم إرباً، وساروا برؤوسهم فوق أسنة الرماح يتغنون وينشدون ويهتفون. . .
- (والإمبراطور!)
- (لاذ بالفرار يا سادة، في بعض الكواكب التي نجت قبيل النهاية!)
- (وفلول الجيش!)
- (من لم يذق كأس الردى في المعركة، تشرد في آفاق هيلاس، ومات من جوع ومن ظمأ.(150/70)
لقد كانت الفصائل تهيم على وجهها في برية موحشة، فإذا بلغت إحدى مدائن اليونان أبى أهلها أن يطعموها. . . فتموت جوعاً!)
- (ثم؟. . .)
- (ثم عبرت البقية الباقية المنهوكة مياه الهلسبنت، على أن الأكثرين ماتوا ثمة غرقاً. . . لأن آلهة الأولمب أرسلت العاصفة على قنطرة السفن الضخمة فغاصت بمن عليها في الأعماق. . .)
وتكون الإمبراطورية المحزونة قد بلغ بها الجهد ونال منها الأسى، فتذهب لتقرب للآلهة وتصلي لأربابها عسى أن تخفف من أثر الفاجعة، وتوصي، إذا وصل ابنها الإمبراطور قبل أن تعود أدراجها، أن يتلقوه بالبشاشة، وأن يهونوا عليه قدر ما يستطيعون
- 6 -
ويفتأ المنشدون - السادة الأشياخ النجب - يبكون حظ فارس العاثر، وينعون على أجزرسيس سوقه زهرة شبابهم إلى المهالك، ويذكرون بالخير والأسف إمبراطورهم الراحل - دارا، الذي صان البلاد ووقاها هذه العاقبة السوداء، التي ردّاها في أغوارها ولده من بعده. . . الإمبراطور الطائش الذي ذهب على وجهه بعد الهزيمة ميمما شطر الهلسبنت ليهرأه البرد، ويعصره شتاء أبيدوس القارس. . . ثم يستهولون العاقبة التي تتبع الهزيمة المروعة من غير ريب. . . وإنها لا بد آتية. . . فسينتفض الناس على عرش فارس وستثور الولايات. . . وتستقل مصر. . . وتخلع ليديانير الأعاجم. . . وتنتثر حبات العقد. . . وقد تتحطم الواسطة نفسها
وفيما هم يتناجون ويتباكون، إذ تقبل آتوسا البائسة! وهي تقبل هذه المرة لتذرف دموعها كرة أخرى. . . وهي تقبل مترجلة. . . لا تحملها عربتها الملكية المسرجة. . . ولا تجرها الخيول الفارسية المطهمة. . . (لأنه لا أبهة لهذا البلاط بعد اليوم، ولا صولة ولا صولجان. . . إن المخاوف تحدق بي. . . والوسواس تصرخ في وجهي، وتملأ صيحاتها المنكرة أذني. . . وقد حملت أضحية لروح زوجي، وقرباناً من اللبن الأبيض، وشهداً اشتاره نحل آذار. . . وخمراً. . . عتقتها أحداث المجد التالد. . . وزيتاً من تلك الزيتونة الشرقية الوارفة. . . التي يا طالما تفيأ ظلالها دارا. . . ووروداً ورياحين، ومن كل ما(150/71)
تنبت الأرض. . .)
- 7 -
ويصلي الجميع على روح دارا. . .
وينشدون نشيداً طويلاً كله ثناء وكله حمد. . . ويبتهلون إلى روح عاهلهم الراحل أن تطلع عليهم من عليائها لتخفف من أحزانهم، وترفه عنهم من أشجانهم
- (هلم! هلم يا مولانا العظيم إلينا! إن ظلمات الأسى تغشى قلوبنا فاقشعها بسنى فضلك وضياء حكمتك! هلم فقد أودى شبابنا في العاصفة الهوجاء! هلم! إننا نركع أمام قبرك، فابدُ لنا، وأدرك إمبراطوريتك!)
(يبدو شبح دارا)
(لها بقية)
دريني خشبة(150/72)
البريد الأدبيّ
كتاب البديع لابن المعتز
كانت دار الكتب المصرية قد حصلت في العهد الأخير على نسخة فوتوغرافية من كتاب (البديع) لعبد الله بن المعتز الخليفة والشاعر العباسي الأشهر، وذلك نقلاً عن النسخة الوحيدة الموجودة من هذا الكتاب والمحفوظة بمكتبة الأسكوريال بمدريد تحت رقم (328 أدب) (فهرس الغزيري - وفهرس ديرنبور) وحصلت أيضاً على نسخة فتوغرافية لأثر آخر من آثار ابن المعتز وهو كتاب مختصر طبقات الشعراء المحفوظ أيضاً بمكتبة الأسكوريال رقم (279. أدب) (من الفهرسين المذكورين)
وقد ظهر الأثر الأول أي كتاب البديع أخيراً مطبوعاً عن نسخته الوحيدة المذكورة، وقام باخراجه المستشرق الروسي الكبير الأستاذ أجناس كراتشكوفسكي عضو أكاديمية العلوم في لننجراد، ومهد له بمقدمة بالانكليزية، وصححه وعلق عليه، وذيله في طبعة بديعة، وقامت بإصداره (لجنة تذكار جب)، الإنكليزية الشهيرة، وهو المجلد الثالث والعشرون من مجموعة جب. وقد قامت لجنة جب حتى اليوم على إخراج طائفة نفيسة من الآثار العربية المخطوطة، نذكر منها بالأخص كتاب أخبار مصر وفتوحها لعبد الرحمن بن الحكم المصري، (ومهد له وعلق عليه المستشرق تشارلس توري)، وكتابين لأبي عمر الكندي، هما: أخبار أمراء مصر، وأخبار قضاة مصر (ومهد لهما وعلق عليهما المستشرق جست) مع مختارات من كتاب رفع الأصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني
وكتاب البديع لابن المعتز يعد من أمهات الكتب في موضوعه، وهو أيضاً من أشهر وأنفس آثار ابن المعتز
وعسى أن نسمع قريباً بأن هنالك من يعني بإخراج كتاب (مختصر طبقات الشعراء) فتصبح بين أيدينا مجموعة قيمة متنوعة من آثار ابن المعتز
ذكرى أدبية شائقة
لإنكليز ولع شديد بإحياء بعض الذكريات القومية الغربية، وقد احتفل أخيراً في لندن بإحياء إحدى هذه الذكريات الشائقة، وهي ليست ذكرى عظيم أو حادثة شهيرة، وإنما هي الذكرى المئوية لصدور كتاب ما زال يتمتع بين آثار الأدب الإنكليزي بشهرة واسعة، ذلك هو(150/73)
كتاب (أوراق نادي بكويك) بقلم الكاتب الشهير تشارلس دكنز
ففي مارس سنة 1836 صدر القسم الأول من هذا الأثر الأدبي الخالد؛ وكان تشارلس دكنز في ذلك الحين ما يزال فتى مغموراً في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان قد بدأ حياته الصحفية وأحرز شيئاً من النجاح برسائل كان ينشرها في (المجلة الشهرية) بعنوان (صور) بقلم بوز يصف فيها خلال العصر وعاداته بأسلوب طريف، وكان من الظواهر الأدبية في ذلك العصر أن تصدر دور النشر قصصاً رياضية مصورة بأسلوب فكاهي، وكان هذا النوع من القصص ذائعاً جداً. فتقدمت دار النشر المعروفة باسم (تشابمان وهول) إلى الكاتب الفتى تشارلس دكنز بأن يضع لها قصة من هذا النوع تتعلق ببعض المغامرات الرياضية، ولكن دكنز اعتذر بعدم خبرته في الشؤون الرياضية وبأنه لا يستطيع أن يضع أية قصة من هذا النوع فعدل عن هذه الفكرة وتركت الصفة الرياضية، واتفق على وضع مذكرات قصصية شائقة تمثل الحياة اللندنية الصميمة، وأن يشترك في تصوير مناظرها الرسام الشهير (فيز)، وهكذا صدرت النشرة الأولى من أوراق نادي بكويك ومعها مقدمة بقلم سام ويللر؛ وتصور هذه القصة الشائقة شخصية مدهشه غريبة الأطوار هي شخصية (بكويك)، وتصور حياة المجتمع الإنكليزي المتوسط في هذا العصر وبخاصة حياة المجتمع اللندني تصويراً بديعاً شائقاً، ويقدم إلينا دكنز مستر بكويك في ألوان طريفة مضحكة جداً؛ وقد اشتهر أمر هذه السلسلة منذ ظهورها، وكان القراء ينتظرونها بفارغ الصبر؛ وكانت في الواقع فاتحة مجد دكنز، وفي سنة 1937 طبعت هذه السلسلة لأول مرة في مجلد واحد، وذاعت ذيوعاً عظيماً
وقد احتفلت أخيراً في لندن جماعة تشارلس دكنز بإحياء هذه الذكرى الشائقة ونظمت موكباً تاريخياً استعادت فيه شخصية مستر بكويك وصحبه، وارتدوا ثياب ذلك العصر، وركبوا مركبات مما كان يستعمل في ذلك العصر، وشقوا شوارع لندن؛ فكان احتفالاً ظريفاً شائقاً
عميد كلية العلوم
اجتمع مجلس كلية العلوم بالجامعة المصرية في الأسبوع الماضي لانتخاب عميد الكلية، فحصل صديقنا الدكتور احمد زكي أستاذ الكيمياء ووكيل الكلية على تسعة أصوات، وهي أصوات جميع الأساتذة - مصريين وأجانب - وحصل الأستاذ حسن أفلاطون بك على(150/74)
ستة أصوات، والدكتور علي مصطفى مشرفة على خمسة أصوات
وستعرض هذه النتيجة على حضرة صاحب المعالي وزير المعارف لاختيار أحد هؤلاء الثلاثة لعمادة الكلية
ومما يجمل ذكره أن الدكتور أحمد زكي كان أول مصري يجمع أساتذة الكلية المصريون والأجانب على انتخابه عميدا للكلية منذ أنشئها، وكان قد انتخب للعمادة منذ ثلاث سنوات إلا أن وزارة المعرف في ذلك العهد البغيض حالت دون إقرار الانتخاب
تعليقات أدبية: درامات شو في مصر
تمثل الفرقة الأيرلندية التي تزور مصر هذه الأيام نخبة من الدرامات العالمية ومنها بعض درامات شو، ونحن نتساءل: هل تنجح درامات شو إذا نقلت إلى العربية وأديت على المسرح المصري؟ وللإجابة على ذلك نضع بين يدي القارئ هذه الملاحظات التي أخذناها على الكاتب الأيرلندي الكبير:
1 - يتبع برنرد شو في حواره أسلوباً فلسفياً قد يستطيل حتى يغمض، والحوار الفلسفي الممل يقضي على الحياة فوق المسرح ويجعلها مملولة إلى حد ما، إن لم يكن كل الملال. ولهذا قد يكون من الخير أن تقرأ شو لا أن تره على المسرح. ويكفي أن تلقي نظرة على دراماته والأسلحة والإنسان، وقيصر وكليوبطرة، ثم على ملهاته ليتأكد لك ما نقول
2 - يتقمص شو الفيلسوف جميع شخصيات دراماته فينطقهم بكلام فلسفي، ويرهقهم بألوان من التفكير لا نحسب أن مثلها يصح أن يدور في خلد أحد منهم. وهذا تعسف لا يطيقه المسرح ولا سيما في مصر. ودرامته دليل واضح على ذلك. ففي هذه الدرامية القديمة التي كتبها منذ 25 سنة تسمع الفكرة السامية المعقدة من لسان (عربجي) كما تسمعها من لسان (المتشرد) كما تسمعها من لسان رجل الدين - وفي فم كل من هؤلاء تسمع صوت جورج برنرد شو وتلقي فكرته
3 - كثيراً ما يعرض شو بالدين ويستهزئ برجاله وإن كان من رأيه أن التدين ضرورة من ضرورات الحياة لا غنى للبشر عنها، وفي روايته (بلانكو بوسنت) التي هاج بها الرأي العام عليه منذ نحو ربع قرن والتي أستدعى من أجلها لمناقشة أمام مجلس العموم البريطاني بعد إحراقه الأعداد المطبوعة شاهد على ذلك. وهو يبدو متعسفاً في كثير من(150/75)
مآخذه على الأديان والمتدينين
4 - يتبع برنردشو في أكثر دراماته طريقة الكاتب النرويجي الكبير هنريك إبسن وهي (الهدم ولا بناء - وتشخيص الداء. . . ولا دواء) وهي طريقة وعرة تثير التشكك في أذهان النظارة وتتركهم حيارى على غير هدى. على أن إبسن يفضل شو في بيانه السلس وطريقته السهلة وعدم حشو دراماته بنتف لا لزوم لها
جيمس جويس والأدب الجنسي
كان الكاتب الإنجليزي الشهير د. هـ. لورانس زعيم الأدب الجنسي إلى ما قبل بضع سنين في إنجلترا، فلما مات تربع جيمس جويس على عرشه، وإن كان الكاتب الروائي ألدوس هوكسلي يرنو إلى هذا العرش وهو في نظرنا أشرف من أن يتربع عليه
ولقد أمعن كل من لورانس وجيمس جويس في نشدان اللذة وتحبيبها إلى الشباب والتمتع بكل ما في الحياة من نعيم جسمي والاستهانة بأوضاع الدين وتقاليده، فلورانس في روايته الوضيعة (عشيق لادي شاترلي) يبيح للزوج الأشل أن يسمح لزوجته أن تأتي لهما بولد من رجل آخر. . . وهكذا تنتصر الدعارة على الزوجية، وينقض المنزل السعيد الهانئ على من فيه
وقد كتب جويس قصته الأخيرة (أولسس) وجرى فيها على شرعة لورانس ومنهاجه، فهو يتناول العورات المستورة وما خلقها الله له بأفحش أسلوب، وأخس تصوير، وكل من لورانس وجويس يثيران في نفس القارئ أحط ضروب الشهوات، ولذا كان مذهبهما في الأدب لوناً من الدعارة المكشوفة وقفت له الحكومة البريطانية بالمرصاد، فلم تسمح بطبع كتبهما في المطابع الإنجليزية، ولم تبح تداول هذه الكتب في إنجلترا، وخيرا فعلت
أما نحن. . . فنقرأ لورانس وجويس في مصر. . . ولا رقيب على شبابنا من الحكومة!
د. خ
نتيجة المباراة الأدبية الرسمية
انتهت ثماني لجان الحكم في المباراة الأدبية الرسمية من الفصل في ثمانية موضوعات ومنحت المكافآت للفائزين فيها، وبقيت ثلاث لجان لم تفصل اللجان المختصة فيها وهي:(150/76)
1 - أثر الحافز الشخصي
2 - عدة النجاح لرجل القرن العشرين
3 - علاج مشكلة البطالة
وننشر فيما يلي أسماء الناجحين في الموضوعات الثمانية التي فصلت اللجان فيها وقيمة الجوائز التي منحت لكل منهم:
الموضوع الأول - رسالة الأزهر في القرن العشرين
الفائزون: الأساتذة: أحمد خاكي المدرس بمدرسة الأمير فاروق ومنح ثمانين جنيهاً، وأحمد توفيق عياد ومنح شرين جنيهاً، والأساتذة مصطفى صادق الرافعي، وعبد الله عفيفي، ومحمد الههياوي ومحمد عرفة، وقد منح كل منهم مكافأة قدرها خمسة عشر جنيهاً. وبلغ مجموع الجوائز في هذا الموضوع مائتي جنيه
الموضوع الثاني - اللغة والدين والعادات
الفائزون في هذا الموضوع ثلاثة منح كل منهم 25 جنيهاً وهم الأساتذة: أحمد وفيق، وزكي مبارك، ويوسف محمد
الموضوع الخامس - التربية الوطنية الاستقلالية
الفائزون في هذه المباراة أربعة وقد منح كل منهم 25 جنيهاً وهم الأساتذة: محمود مسعود، ومحمد جلال، ومحمد عبد الباري، والآنسة إيريس حبيب المصري
الموضوع السابع - تدعيم الحياة الدستورية: قالت لجنة التحكيم في هذا الموضوع ورئيسها سعاد بهي الدين بركات بك إنه لم يتقدم إليها أية رسالة تستحق أية جائزة
الموضوع الثامن - ترقية الفلاح اجتماعياً: والفائزون فيه أربعة وهم الآنسة ابنة الشاطئ ومنحت الجائزة الثانية وقدرها 50 جنيهاً، ومنح الثلاثة الآخرون كل منهم 25 جنيها وهم الأساتذة عزيز خانكي بك المحامي، وعبد الوارث كبير الصحفي، ويوسف فهمي حلمي
الموضوع التاسع - استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام الفائزات فيه أربعة:
1 - الآنسة سيزا نبراوي وقد فازت بالجائزة الأولى وقدرها 100 جنيه
2 - الآنسة نور الهدى الحكيم وقد فازت بالجائزة الثانية وقدرها 50 جنيها
3 - السيدة إحسان القوصي وقد فازت بالجائزة الثالثة وقدرها 25 جنيها(150/77)
4 - الآنسة إيفا حبيب المصري وقد فازت بالجائزة الرابعة وقدرها 25 جنيها
الموضوع العاشر - النشيد القومي: فاز بالجائزة الأولى وقدرها مائة جنيه الأستاذ محمود صادق، ومنح الجائزة الثانية وقدرها 50 جنيها حضرة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، ومنح الجائزتين الثالثة والرابعة وقيمة كل منهما 25 جنيها الأستاذ محمد الهراوي والأستاذ محمد فضل إسماعيل
وقد لاحظت اللجنة في تقريرها أن أجود الأناشيد التي عرضت عليها لم تخل عن أبيات أو فقرات ضعيفة إلى جانب أبيات أو فقرات جيدة، ولهذا أخذت كل نشيد بمجموعة لا ببعض أجزائه. ثم قالت اللجنة (إنها لم تر حرمان المتبارين من الجوائز بالترتيب الذي وضعته، لأن المباراة تستلزم بطبيعتها إعطاء الجوائز المقررة للمتفوقين من المتبارين سواء أدركوا الغرض كله أو لم يدركوا إلا بعضاً منه) وقد خالفت بذلك أكثر اللجان
الموضوع الحادي عشر - سلامة الدولة في حفظ النظام:
فاز في هذه المباراة اثنان، ومنح كل منهما 25 جنيها وهما الصاغ علي حلمي أحد مأموري المراكز، والأستاذ محمود كامل المحامي(150/78)
العالم المسرحي والسينمائي
2 - فن السينما
بقلم يوسف تادرس وظريف زكي
فن السينما وفن المسرح
هذا الفن الحديث ما شكله؟ ما هي الفوارق بينه وبين غيره من الفنون؟ وما هي أوجه الشبه؟
إنه يشبه المسرح أكثر مما يشبه أي فن آخر، فهذا وذاك يؤديان رسالتهما عن طريق إبراز المناظر وتمثيل الممثلين
وقد ذهب بعضهم إلى تعداد الفوارق الآتية بينهما وهي:
أولاً - إن التمثيل السينمائي أقرب إلى الطبيعة، وأبعد عن التكلف
ثانياً - إنه ليس فيه فترات (استراحة) بالمعنى الصحيح تفصل بين منظر ومنظر، وتتيح للمخرج إعداد المنظر اللاحق
ثالثاً - إنه أقل حاجة إلى الحيل التي يتوسل بها لإيهام الناظر، وأقل لجوءاً إلى المبالغة في الحركات وفي تغيير ملامح الوجه للتعبير عن مختلف الأحاسيس
رابعاً - انه في مكنته أن يريك وأنت جالس في كرسيك المنظر الواحد من نواح مختلفة ومن أبعاد متباينة
خامساً - انه لا يقيده حد من الزمن والمكان
سادساً - المسرح يعتمد على التحليل النفسي والحوار
على أن جميع هذه الفوارق على صحتها لا تعدل في نظرنا الفارق الأساسي بين الفنين وما اختص كل منهما به، فان بين ممثل المسرح والنظارة تجاوباً في الإحساس وتبادلاً في التأثير، لا تجد لهما شبيها على الشاشة البيضاء
وإذا كان ممثل المسرح كثيراً ما يرضى لنفسه بأن يسرد عليك في حديث مع زميله بعض الحوادث التي تقوم عليها القصة، فان المدير الفني في السينما يريك تلك الحوادث متحركة أمام عينيك؛ وهذا الفارق لا زال صحيحاً حتى الآن وقد نطق الفلم(150/79)
الكتابة للسينما
لاحظ (بودزفكين) أن كتاب السينما قد اعتادوا أن يحصروا عنايتهم في سرد الحوادث وأن يلبسوها ثوباً قشيباً من الأسلوب الجميل مستعينين بالوسائل المعهودة في كتابة الأدب، غافلين عن إمكان تطبيقها على السينما
هذا على حين أن لكل فن وسائله وأصوله، وأن معالجة الموضوع بحيث يكون صالحاً للإخراج السينمائي أمر من الأهمية بمكان عظيم
زعم بعض الناس أن الكاتب للسينما ما عليه إلا أن يخلط مجملاً عن الحادث، أما التحوير والتبديل فيما خطه قلمه، أما جعله صالحاً للسينما، فمن شأن المدير الفني وحده ومن واجباته هو دون سواه
ما أبعد هذا الزعم عن الصواب
ومتى جاز أن يقطع العمل الفني تقطيعاً!! وأن يفصل بين مرحلة ومرحلة! وأن يجعل كل وحدة مستقلة عن الأخرى، لا تمت إليها بسبب!!
ألست وأنت تقدم على تناول موضوع بالكتابة تفكر في نفس الوقت - ولو تفكيراً سريعاً غير واضح - في كيفية معالجتك له وعن سيرك فيه؟ بل إن مجرد عقد نيتك على العمل يفرض فيه اتجاه ذهنك نحو بعض خصائصه وتفاصيله
لا نقول إنه يتعين على من يكتب للسينما أن يرشد المدير الفني عن كيفية التصوير والطبع، وأن يأمره بما يصور وما يطبع، إنما لا بد له من معرفة أولية يستطيع معها أن يأتي بموضوع يصلح للإخراج، وأن يتجنب عوائق قد لا يتيسر تذليلها
ولعله يعثر على مثل تلك المعرفة الأولية فيما ننشر على صفحات (الرسالة) الغراء
(يتبع)
يوسف تادرس - ظريف زكي(150/80)
الفرقة القومية المصرية والمسرح المحلي
لناقد (الرسالة) الفني
باعد المسرح ما بينه وبين الأدب والأدباء، لأن أصحاب الفرق التمثيلية - فيما مضى - جعلوا مثلهم العليا والروايات الثائرة العنيفة التي لا تمت إلى الفن الرفيع بسبب، وكانوا بصفتهم ممثلين ومخرجين يوجهون الفن حسب أهوائهم، حتى إنه كان لبعضهم مؤلفون من نوع خاص، وهذه السياسة التي ساروا عليها جعلت النظارة من المثقفين الذين يطلبون الفن ينفضون عن دور التمثيل، مفصلين السينما، وكانت هذه الجناية من أكبر الأسباب التي قعدت بالمسرح وأتت عليه
ومدت الحكومة يدها إلى المسرح لتقيله من عثرته، وتكونت الفرقة القومية المصرية، وعملت موسماً متقطعاً على مسرح الأوبرا عرضت خلاله عدة روايات من روائع الأدب الغربي
على أن ما عرضته وإن كان جديراً بالتقدير، لن يؤدي إلى الغاية المقصودة، فان المسرح إذا عنى بالترجمة والنقل فقط، لن يكون إلا صدى للمسارح الغربية، والحياة المصرية على تقمها لن تشبه ولن تبلغ الحياة الغربية ومجتمعاتها وعاداتها
حقاً إن الروايات المسرحية فيكل الأمم غربية أو شرقية ترمي إلى بذر الخير في النفوس واقتلاع الشر من الرؤوس وتغذية القلوب بالعواطف النبيلة بتصوير المثل العليا وتمجيدها وتقويم المعوج من الأخلاق والعادات، كما تعني بدقائق الحياة الداخلية ومشاكلها الاجتماعية والتجديد للمستقبل وتوجيه التطور إلى الناحية التي تجدي على الشعب والإنسانية، إلا أن التباين في العادات يضعف أثر التمثيل في نفوس النظارة، ولهذا فان ما تبذله الحكومة من جهد ومال لن يكون له الأثر المنشود ما دامت الفرقة تعرض الروايات الغربية
نحن لا ننكر أن اللغة والأدب قد اكتسبا الكثير من نقل هذه الروايات إلى العربية، ولكن المسرح المحلي والاهتمام بتكوينه ليعالج مشاكلنا الاجتماعية، أهم لدينا من كل ما عداه، فالمسرح وهو فن من فنون الاجتماع، يجب أن يؤدي رسالته مستعيناً بالأدب، لا أن يكون أداة اللغة فحسب
والمسرح وهو وسيلة من وسائل الإصلاح يجب ألا ترتفع لغته كثيراً حتى يمكن الشعب أن(150/81)
يتفهمها، فالمسرح ليس للمثقفين وإنما هو للشعب أولاً، ولذلك فان أكثر الروايات التي أخرجتها الفرقة القومية كانت عويصة على الجمهور مما أدى إلى عدم الإقبال المنتظر على حفلات الفرقة
ورب قائل يقول إن الفرقة لم تجد الروايات المحلية التي تتوفر فيها الشروط الفنية حتى تعرضها، ومعنى هذا أننا سنبقي الأعوام الطويلة ننقل عن الغرب روايات لا تتفق مع عاداتنا وأخلاقنا حتى يبعث الله لنا مؤلفاً عبقرياً موهوباً يقدم للفرقة الروايات المحلية، ويومئذ، ويومئذ فقط، تقام دعائم المسرح المحلي!!!
لا أظن أحدا يرى هذا الرأي أو يقره
إن واجب اللجنة التي تشرف على الفرقة القومية أن تشجع الأدباء والكتاب المسرحيين، فتدرس رواياتهم وتنبههم إلى المآخذ لكي يعملوا على تلافيها، وإلى مواضع الضعف لكي يعملوا على تقويتها، ثم تخرج هذه الروايات بعد ذلك على المسرح. ويجب أن يكون لدى هذه اللجنة من الشجاعة ما يجعلها تغامر بإخراج الروايات العصرية ما دامت لها بعض المزايا الخاصة
وإن التشجيع المادي والأدبي والمران لمن بين الأسباب التي تدفع الكتاب المسرحيين إلى أن يشقوا طريقهم نحو الكمال، وبهذا تكون الفرقة قد أدت رسالتها نحو خلق المسرح المحلي والأدب المصري الحديث
فهل تعني اللجنة والفرقة بهذا الاقتراح؟
سنحاول في كلمة أخرى التحدث عن الروايات التاريخية والروايات العصرية من حيث التأليف، ونرجو أن يتسع صدر (الرسالة) الغراء لهذا البحث الصغير، فقد يكون فيه بعض الفائدة لمن يحاول الكتابة للمسرح(150/82)
العدد 151 - بتاريخ: 25 - 05 - 1936(/)
أكُلُّ هذا يصنع البرلمان؟
قلت للشيخين صالح وعلي وقد لقيتهما في هوادي الليل يتبختران بميدان إبراهيم في الحرير الشاهي والجوخ المصقول: الآن تتركان القرية والقطن يريد العزْق، والدودة تطلب المراقبة؟ فتسابقا إلى الجواب كأنما حضراه من قبل واتفقا عليه، فكان كلمة من هذا وكلمة من ذاك. قالا:
جئنا نجتلي طلعة المليك، ونهنئ وزارة الشعب، ونشهد برلمان الأمة. ثم قال الشيخ صالح وحده: وجئنا كذلك نبلغ نائبنا المحترم. . . رغائب الناخبين ومطالب الدائرة
فملت بهما إلى قهوة من قهوات الميدان تعج بأمثالهما من الشيوخ والنواب والتوابع؛ وبعد شيء من نوافل الحديث كالسؤال عن العشيرة والزرع، عطفت على جوابهما المشترك بالتعقيب قلت: أما اجتلاء طلعة المليك فجلاء الهم ونعيم الروح وسرور النفس المؤمنة؛ وأما تهنئة الوزارة فشعيرة الحب المتبادل، وإعلان الثقة المؤيدة، وإهلال الرجاء المحقق. وأما تبليغ النائب مطالب الدائرة يا صديقي صالح فما لك تعجل به، والبرلمان لما ينعقد، والنائب مفروض عليه أن يصل نفسه بناخبيه صلة الرسول بالمرسل والوكيل بالموكل واللسان بالقلب؟ فأجابني بلهجة حاول باتزان إشارته واطمئنان صوته واعتدال جلسته أن تكون مقنعة، قال: إنا من جنود الوفد الأمين، وكنا من دعاة النائب المحترم، توسطنا بينه وبين الناس، فوعدناهم الوعود، ومنيناهم المنى، وبشرناهم النُّصفة؛ والفلاح درج منذ العهود الأولى على أن يفهم من لفظ (الحكومة) جباية المال وتسخير الرجال وتجنيد الشباب وتغريم المتخاصمين المبطل منهم والمحق. فلم يكد يفهم أن حكومة الوفد هي حكومة الفلاح: ترجع إليه وتعطف عليه وتعمل له، حتى انثالت علينا شكاويه وأمانيه بالبريد واللسان واليد
قال هذا وألقى على منضدة رخامية لا تأخذ منها هبًّة الريح ولا مسًّة الكف، إضبارةً بطينة من العرائض والرسائل، ثم قال لي: انظر! فابتدرتها يدي قبل الاستئذان إطاعة لحكم الصنعة، ثم أخذت أصفحها مع الوسيطين ورقة ورقة
هذه عريضة من أهل قرية طغت على جنباتها الأربع البرك المنتنة، فأصبحت كالجزيرة الملعونة في غسلين جهنم!
صاحب البرك هو مالك الأطيان ومن أعضاء البرلمان؛ ورجال الإدارة يرجونه أو(151/1)
يخشونه، فلا يذكِّرونه القانون إلا بالتي هي أحسن؛ والتي هي أحسن لا تساوي عجلاً في دوار الباشا! وأهل القرية وبعوض الملاريا في رأيه سواء، فلماذا يقتل البعوض ويبقون هم في الأحياء؟
وهذه عريضة من أهل قرية يسكنون المسكن القذر، ويشربون المشرب الكدر، ففشت في دمائهم جراثيم الانكلستوما والبلهارسيا، ففزعوا منها إلى مستشفى الحكومة بالبندر، فكان ما كابدوه من عنت الممرضين والأطباء، أضعاف ما كابدوه من عنت الأدواء، ففر الموسر من العلاج بالمجان إلى العلاج بالأجر، ولاذ المعسر من تعب الإنسان إلى راحة القبر!!
وهذه عريضة من أهل قرية يملك أرضها مُثْرٍ يملك اثني عشر ألف فدان، ولكنه منهوم لا يشبع، وطماع لا يقنع، وقاس لا يلين، فهو يشتط عليهم في أجرة الأرض حتى يأخذ القطن فلا يفي، ويغتصب أكثر القمح والذرة والأرز ولا يكتفي، فيضطر المستأجر المجهود إلى أن يدفع الجوع عن أسرته بالعمل أجيراً عند الناس. وهكذا يظل طول عمره دائب العمل، دائم الفقر، لا يخف عنه دين، ولا يجف له عرق.
وهذه عريضة من أهل قرية ليس فيهم كاتب، وحفاظ القرآن منهم ثلاثة عميان لا يحسبون إلا (النجم) ولا يعرفون إلا تاريخ اليوم بالعربية والقبطية؛ فإذا اضطرتهم الحال إلى تحرير عرض أو كتابة خطاب سافروا إلى الكتاب العموميين في عاصمة المركز. فهم يطلبون إلى (البرلمان) أن ينشئ لهم كتابا يحفظهم القرآن ويعلمهم الخط!
ومن خلال هذه العرائض المنطقية الرزينة كان يقع في يدي أنماط شتى من رسائل الالتماس عليها طابع السذاجة والحاجة؛ فهذا والد تلميذ فقير يطلب حق ابنه في المجانية؛ وهذه أم حنون ترجو إخراج ولدها من الجندية؛ وهذا تلميذ سابق يريد أن يكون موظفاً في وزارة؛ وهذا عسكري قديم يجب أن يكون حاجباً في محكمة؛ وهذا تاجر جوال لا تقع قريته على الطريق العام يحتم أن تمر بها السيارات العامة؛ وهذا فلاح يقترح على (البرلمان) أن يأمر التجار أن يشتروا القطن غالياً، مادامت الحكومة لا تأمر الملاك أن يؤجروا الأرض رخيصة.
كَلَّ النظر من طول القراءة، وألم الشعور من تناقض الأثر، والإضبارة الشعبية لا تزال وارمة! فطويتها بعناية ورفق، ثم قلت لحاملها الأمين الوفي: شكر الله مسعاك، وأعانك(151/2)
النائب الكريم على إبراء ذمتك. فقال الشيخ علي وقد خفق على وجهه الأبلج ظل رقيق من الشك: ولكن بالله قل لي: أكل هذا يصنع البرلمان؟ فقلت له: ولم لا؟ إن علماء الدستور قالوا في برلمان إنجلترا: (إنه يقدر على كل شيء، إلا على تحويل الرجل امرأة) وبرلماننا صديقه اليوم وحليفه غداً، فلم لا يجوز على أحد الحليفين ما جاز على الآخر؟ فضحك الصديقان وهما ينصرفان. ولا أدري أكان ضحكهما من سخف القياس، أم من سخف الناس.
أحمد حسن الزيات(151/3)
2 - العجوزان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال محدثي: ولما قلت لهما أيها العجوزان: أريد أن أسافر إلى سنة 1895؛ نظر إليَّ العجوز الظريف (ن) وقال: يا بنيَّ أحسب رؤيتك إياي قد دنت بك من الآخرة. . . فتريد أن نلوذ بأخبار شبابنا لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا
قال الأستاذ (م): وكيف لا تريه الآخرة وأكثرك الآن في (المجهول)؟
قال: ويحك يا (م) لا تزال على وجهك مسحة من الشيطان هنا وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختلَّ من قوانين الطبيعة، فلا تستبين فيك السن وقد نيَّفتَ على السبعين، وما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته. . . .
قال (م): فأنت أيها العجوز الصالح بيتٌ قد تركه الشيطان وعلق عليه كلمة (للإيجار). . . .
فضحك (ن) وقال: تالله إن الهرم له إعادة درس الدنيا، وفهمها مرة أخرى فهماً لا خطأ فيه، إذ ينظر الشيخ بالعين الطاهرة، ويسمع بالأذن الطاهرة، ويلمس باليد الطاهرة. . . وتالله أن الشيطان لا معنى له إلا أنه وقاحة الأعصاب
قال (م): فأنت أيها العجوز الصالح إنما أصبحت بلا شيطان لأن الهرم قد أدب أعصابك. . .
قال العجوز الظريف: وعند من غيرنا نحن الشيوخ تطاع الأوامرُ والنواهي الأدبية حقَّ طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هذه الحكم العالية: لا تعتد على أحد. . . لا تفسد امرأة على زوجها. . .
قال المحدث: وضحكنا جميعاً، وكان العجوز (ن) من الآيات في الظرف والنكتة، فقال: تظنني يا بني في السبعين، فوالله ما أنا بجملتي في السبعين، والله والله
قال (م): لقد أهتر الشيخ يا بني فإن هذا من خرفه فلا تصدقه
قال (ن): والله ما خرفت وما قلت إلا حقاً، فههنا ما عمره خمس سنوات فقط وهو أسناني. . .
قلت: (ورينا وريت) وسنة 1895؟(151/4)
قال الأستاذ (م): أنت يا بني من المجددين، فما هواك في القديم وما شأنك به؟
وما كاد العجوز (ن) يسمع هذا حتى طرف بعينيه وحدد بصره إلي وقال: أئنك لأنت هو؟ لعمري أن في عينيك لضجيجاً وكذباً وجدالاً واحتيالاً وزعماً ودعوى وكفرا وإلحاداً؛ ولعمري. . .
فقطعت عليه وقلت: (لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون)، لقد وقع التجديد في كل شيء إلا في الشيوخ أجساماً والشيوخ عقولاً؛ فهؤلاء وهؤلاء عند النهاية، وغير مستنكر من ضعفهم أن يدينوا بالماضي فإن حياتهم لا تلمس الحاضر إلا بضعف
قال العجوز: رحم الله الشيخ (ع). كان هذا يا بني رجلاً ينسخ للعلماء في زمننا القديم، وكان يأخذ عشرة قروش أجراً على الكراسة الواحدة، وهو رديء الخط، فإذا ورق لأديب ولم يعجبه خطه فكلمه في ذلك تعلق الشيخ به وطالبه بعشرين قرشاً عن الكراسة، منها عشرة للكتابة وعشرة غرامة لإهانة الكتابة. . .
نعم يا بني إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكن، ولكن قاعدة (اثنان واثنان أربعة) لا تعد في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها، وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل
قال الأستاذ (م) وكيف ذلك؟
قال العجوز: زعموا أن مغفلاً كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يوماً في بعض شأنه إلى نار ولم تكن امرأته في دارها، فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رطباً فدخن ولم يشتعل. ففكر المغفل قليلاً ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جف فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم. فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته. . . وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها
قال الأستاذ (م): إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تبدع ما تبدع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تميت أحداً مرتين
لقد قرأت يا بني كثيراً فلم أر إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئاً ذا قيمة. ما كان من هراء وتقليد زائف فهو من عندهم، وما كان جيداً فهو كالنفائس في ملك اللص لها اعتباران(151/5)
إن كان أحدهما عند مقتنيها. . . فالآخر عند القاضي
كلا أيها اللص لن تسمى مالكاً بهذا الأسلوب؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك
يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود إلى آخره وإلى آخرها. . . فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يمثل بها القدر فصوله الساخرة أو فصوله المبكية، ولكنهم حين يخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوتها الموجبة، ترده الحياة عليهم بالقوة السالبة، إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر المريض حين يهدم من صاحبه - يهدم في الكون بصاحبه؛ ففيها أيضاً القانون الآخر الذي يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله - يبني في الكون بأهله
قال العجوز (ن): زعموا أن أحد سلكي الكهرباء كان فيلسوفاً مجدداً فقال للآخر: ما أراك إلا رجعياً، إذ كنت لا تتبعني أبداً ولا تتصل بي ولا تجري في طريقتي؛ ولن تفلح أبداً إلا أن تأخذ مأخذي وتترك مذهبك إلى مذهبي. فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معاً فما أذهب فيك ولا تذهب فيّ؛ وما علمتك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي
قال العجوز: وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم من أجل الدين أو الفضيلة أو الحياء أو العفة إلى آخرها وإلى آخره. ونحن لا نرى هؤلاء المجددين عند التحقيق إلا ضرورات من مذاهب الحياة وشهواتها وحماقاتها تلبّست بعض العقول كما يتلبس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها. وللحياة في لغتها العملية مترادفات كالمترادفات اللفظية تكون الكلمتان والكلمات بمعنى واحد، فالمخرب والمخرف والمجدد بمعنى
كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدةَ نفسه هو، فلو أطعناهم لم تبق لشيء قاعدة
قال الأستاذ (م) إن هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سنتها وما تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة(151/6)
الموزونة المقدرة، والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها. فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن نعيش في بطن الكون بحدود مرسومة وقواعد مهيأة وحيز معروف؛ وإلا بقيت حركات هذا الإنسان في معناها كحركات الجنين، يرتكض ليخرج عن قانونه. فإن استمر عمله ألقى به مسخاً مشوهاً من جسد كان يعمل في تنظيمه، أو قذف به ميتاً من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته
هذا الجسم كله يشرع للجنين مادام فيه، وهذا الاجتماع كله يشرع للفرد مادام فيه؛ فكيف يكون أمرٌ من أمر إذا كان الجنين مجدداً لا يعجبه مثلاً وضع القلب ولا يرضيه عمل الأم، ولا يريد أن يكون مقيداً لأنه حر؟
أنظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبلاً ليدبر ومدبراً ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثياباً يتميز بها، وهي تتكلم لغة غير لغة الثياب وكأنها تقول: أيها الناس إن ههنا الإنسان الذي هو قانون دائماً، والذي هو قوة أبداً، والذي هو سجناً حيناً، والذي هو الموت إذا اقتضى الحال
أتحسب يا بني هذا الشرطي قائماً في هذا الشارع كجدران هذه المنازل؟ كلا يا بني. إنه واقف أيضاً في الإرادة الإنسانية وفي الحس البشري وفي العاطفة الحية. فكيف لا يمحوه المجددون مع أنه في ذاته إرغام بمعنى، وإكراه بمعنى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى؟
لكنه إرغام ليقع به التيسير، وإكراه لتتطلق به الرغبة، وقيد لتتمجد به الحرية؛ وكان هو نفسه بلاءً من ناحية ليكون هو نفسه عصمةً من الناحية التي تقابلها
يا بني! كل دين صالح، وكل فضيلة كريمة، وكل خلق طيب، كل شيء من ذلك إنما هو على طريق المصالح الإنسانية كهذا الشرطي بعينه؛ فإما تخريب العالم أيها المجددون وإما تخريب مذهبكم. . . .
قال العجوز (ن): أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا. وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد، أو نكون نحن أشد منها وأقوى؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم
فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به، فسد الحس وفسدت الحياة. وكل(151/7)
الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغاياتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها
قال المحدِّث: ورأيتني بين العجوزين كأني بين نابين؛ ولم أكن مجدداً على مذهب إبليس الذي رد على الله والملائكة وظن لحمقه أن قوة المنطق تغير ما لا يتغير. فسكت حتى إذا فرغا من هذه الفلسفة قلت: والرحلة إلى سنة 1895؟
(لها بقية - طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(151/8)
تجربة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ماذا ترى يصنع رجل يعشق للمرة الأولى في حياة صاخبة مضطربة، ولكنها على كثرة ما جرب فيها خلت من الحب ونجت من زلزلته للنفس؟؟
عن هذا كان يسأل (ميم) - وحسبنا من اسمه حرف واحد - وهو جالس إلى مكتبه، والفتاة التي يحبها قبالته على الشرفة. والجديد من الأمر يتطلب جديداً من التصرف والتدبير، ولو كانت له خبرة بالحب، أو سبق له به عهد، لقاس حاضره على ماضيه، وأجراه في مجاريه. وغريب أن يتقضى شبابه وهو فارغ القلب، وأن يدركه الحب ويعمر فؤاده بعد أن شارف الكهولة ووقف على بابها، واخذ الأبيض يختلط بالأسود، وبدأ الزمن يرسم خطوطه!! وإن كان هو لا يحس شيئاً من ذلك ولا يباليه، ولا يعرف إلا أنه مازال في عنفوان الفتوة
وألقى القلم واضطجع وقال يناجي نفسه، وهو يضحك ساخراً: (هل أصنع كما يصنعون في هذه الروايات الكثيرة التي قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك - ماذا ترى أبطال هذه الرواية يصنعون في حالات كهذه؟ لقد نسيت والله! فكأني ما قرأتها ولا وقعت عيني عليها. . . وهبني كنت أذكر ذلك فهل يصح في دنيا الحقيقة ما يصف الخيال؟)
واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست - ولا يمكن أن تكون - خيالاً بحتاً، وشيئاً يخلقه الإنسان من لا شيء، ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة، وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق، وذهب إلى أن كل ما يسعه هو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، وأن يكوّن الشخصيات من أشتات ما عرف، فليس القصص خيالاً، ولا ما تصفه محالاً، وإذن يكون تقليدها ميسوراً. . . أو دع كونه ميسوراً أو غير ميسور، وقل أنه لا يكون شططاً
(ولكن القصص يعنى فيها وأضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذي يؤثره هو، والذي يراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لي دنياي كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟؟
أم أستشير صديقاً مجرباً؟؟؟ ولكن هذا مخجل!! ثم أن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة في نفسه؛ والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذي يفعله إنسان ما، في موقف ما، ليس من الحتم - ولا من المعقول - أن يفعله كل إنسان في الموقف عينه(151/9)
فالاستشارات عبث ولا خير فيها، ولا جدوى منها إلا الفضيحة. . . الفضيحة؟؟. نعم. أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك، وأن تبيحه سرك، وتكشف له عن ضعفك، وتدع عينه ترى مقاتلك؟؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟؟ نعم. لأن فيه إفناء شخصية في أخرى - إلى حد ما على الأقل - ولم أكن هكذا قبل أن أبتلى بهذا الحب. وأني الآن لأرى حياتي كلها رهناً بمخلوق آخر لا أعرفه ولا يعرفني. . . فكيف لا يكون هذا ضعفاً؟؟
وعلى ذكر ذلك من تكون هذه المحبوبة التي غيرتني وأورثتني هذه الهواجس والوساوس؟؟. وجعلت من نفسها المجهولة قطباً تدور عليه خواطري جميعاً في اليقظة والمنام؟. . .
واستغرب من نفسه أنه لا يعرفها، وأنه مع ذلك لا يعنى بسواها، في حي يعرف من إحصاء البوليس أن فيه مائتي قهوة ومائة وعشرين ألف نفس، أي دائرتين انتخابيتين. (ولو مات أهل الحي لما حزن عليهم، ولا أسى لهم، ولا أحس نقصاً أو خسارة، ولا أسف إلا على خلو الحي وخرابه وقعوده هو فيه وحده على تله! ولكنه لو علم أن هذه الفتاة جرح إصبعها أو أصابها زكام، أو وعك، لبات مسهّد القلب كاسف البال، بل لاسودت الدنيا في وجهه - ومع لك لا يعرفها!! لا اسمها. . ولا دينها. . ولا شيئاً عن قومها. . . وكل ما يعرف هو أنه يراها من نافذة غرفته وهو جالس إلى مكتبه يقرأ أو يكتب. . . وإنه ألف أن يبصرها، وصار على الأيام يطيل النظر إليها وهي واقفة على الشرفة العالية، حتى اعتاد أن يراها على الأيام، وحتى صارت نفسه تستوحش إذا دخلت أو غابت. وجعل يلاحظها بعد ذلك فأدهشه منها أنها لا تكاد تغادر بيتها، فما رآها خارجة إلا مرة واحدة في شهور طويلة - مع أمها فقد كانت تلك أمها بلا شك - وهي مع ذلك من السافرات!! وزاد دهشته أنه كان يراها في الأغلب جالسة في الشرفة وفي يدها كتاب. . . كتاب لا مجلة!!. ترى أي كتاب أو كتب تقرأ؟؟. لاشك أنها روايات. . وهل للفتيات صبر على غير ذلك؟؟. وللسن حكمها. . . وسنها الصغيرة تغريها ولاشك بإيثار القصص والروايات لأن حياتها جديدة فهي تروم أن تعرفها معرفتها؛ وتظن أن الروايات أخصر الطرق وأوجزها إلى هذه المعرفة. . . ثم أن الروايات تصف كل هو ما هو حبيب إلى الشباب وقريب من هواه(151/10)
وصار يأنس بمنظرها، ويرتاح إذا بدت لناظره، ويشعر بالفراغ حوله - وفي نفسه - إذا خلا مكانها، أو لم تظهر على الشرفة أو من النافذة. وأدهى من ذلك أنه صار يحس من نفسه العجز عن العمل والتفكير إذا لم تأخذها عينه في محلها المألوف من الشرفة
واستحيا أن يسأل عنها جارا، أو خادما، أو أحداً من الناس - وماذا عسى أن يقول لهؤلاء؟. . . وبأي شيء يسوغ السؤال؟؟
وفرك عينيه بأصابعه، وهو يدير هذا كله في نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضرها لذهنه، كما تبدو له من النافذة أو الشرفة المألوفة،. . فلم يجد عناء في ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. . . وذكر قول العقاد في قصيدة مرقصة له:
ذهبيّ الشعر ساجي ال ... طرف حلو اللفتات
فأما أنها ذهبية الشعر فنعم! وأما أنها ساجية الطرف فلا. . فإن في نظرتها - حتى على هذا البعد - لقوة، وإن كان لم ير أحلى من نظرتها ولا أسحر للب حين تبتسم، ويشرق وجهها الواضح الصبيح، وأنه ليراها الآن كما كانت يوم ضحكت وتثنت، وكانت معها أختها - لا بد أن تكون هذه أختها الكبرى فإن فيها منها مشابه. والأرجح أنها متزوجة فإنها لا تزور هذا البيت إلا غبّا - وتالله ما كان أحلاها يومئذ!! لقد كانت في ثوب وردي اللون محبوك، مفصل على قدها تفصيلاً يجلو محاسنها كلها ويعرض مفاتنها جميعاً. . . وكان نحرها يضيء - وثدياها الناهدان يبدوان من تحت الثوب بارزي الحلمتين. . . إيه ما أعظم فتنة هذا الجسم الغض الجديد الذي لم تبتذله السن، ولم يرهله الزواج. . . وكان شعرها الوحف الأثيث الناعم اللامع مرخي. . . وكان الضوء المراق عليه يخيل للناظر أن فيه نجوماً زهرا، أبهى وأسنى من نجوم السماء. . . وكان وجهها الدقيق المعارف. . . (يا ويلي من هذا الفم الذي لم يعرف الأصباغ، وهو مع ذلك يبدو لي كأنما غَذَتْهُ الورود) متهللاً. وقد لانت نظرتها القوية، وفقدت حدتها المألوفة، واعتاضت منها الرقة، وبدا خداها كأنهما غلالتا ورد. . . آه. . ماذا يقول هذا الشاعر مهيار؟؟
آه على الرقة في خدودها ... لو أنها تسري إلى فؤادها!!
صحيح. . . . . وليت من يدري كيف فؤاد هذه الفتاة الرائعة الرقيقة الخدين اللينة النظرة حين يسرها شيء. . . . . أرقيق هو يا ترى كخديها؟؟ أم. . . كلا!! لا يمكن أن يكون إلا(151/11)
رقيقاً!. ولكن لماذا؟؟. على كل حال لا يزال أوان السؤال بعيداً. . أوه بعيداً جداً. . وما حاجتي إلى الاطمئنان من هذه الناحية، ولا صلة هناك، ولا كلام، ولا حتى إشارة؟؟.
وقام يتمشى في الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والمقاعد وغير ذلك، وحدثته نفسه - وهي تعابثه - أن يركب الحياة بما يركبها به الشباب، فضحك وقال. . لم يكن باقياً إلا هذا. . أمسح لها شعري بكفي. . . . أو أعبث لها على مرأى منها بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجواني) كما يقول البحتري!!. أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة. . . . أو هو هو هو!!.
وقهقه وهو يتخيل نفسه فاعلاً ما يفعل الشبان والأحداث. ثم أشعل سيجارة وارتمى على مقعد وثير وسأل نفسه: (أتراني أحتقر الشبان وأسخر مما يصنعون؟؟. وماذا أرى الحكمة والاتزان والوقار والاحتشام أجداني؟. . أو يمكن أن يجديني؟. . هه؟. ومع ذلك لم لا أفعل كما يفعل الشبان. . أتراني هرمت!. كلا!. فما جاوزت السابعة والثلاثين، وإن كان الكثير من شعري قد حال لونه، وإني لأقوى وأعظم جلدا على الحياة والكفاح من ابن عشرين. . . . ولكنها عادة الاحتشام - قبحها الله!
ولم يرقه أن يقطع نفسه حسرات هكذا، فقال. . لماذا أرخي لنفسي الطِوَلَ. . . وهي؟؟ أكبر الظن أنها لا تراني، ولا تعبأ بي إذا رأتني، ولا يرد ذكري على بالها، وإن كنت أراها أول ما يجري بخاطري في الصباح، وآخر شيء يجريه خاطري بالليل. . أفلا يحسن أن أكبح نفسي عن هوى عقيم؟؟ ولكن لماذا أدع العاطفة تستنفد نفسها. . لا مانع فيما أرى، لو أن من الممكن أن تستنفد نفسها. . . وهبها يمكن أن تفعل، فإني أخشى أن تورثني حسرات كثيرة. . . ولهفات ثقيلة. . والأرجح مع ذلك أن تعمق العاطفة مجراها في النفس وإن كان لا مدد لها من المحبوب. فإن فيها - بمجردها - للذة تترك المرء كالجمل حين يجتر ما في جوفه ويعيد مضغه مرة وأخرى. . وهل قتل المجنون وأمثاله من صرعى الهوى إلا هذه اللذة التي كانوا يجدونها في حبهم والتي كانت تغريهم بأن يجعلوا لها غذاء ومدداً من نفوسهم؟. . .
وابتسم وهو يقول. . لست أحب أن أكون أحد هؤلاء المجانين الذين أتلفهم الحب وقتلهم العشق. . . فقد كانوا حقيقة مجانين. . . ولكن ليتني أعرف حيلة!! والبلاء أن حياة(151/12)
المجتمع مازالت كما كانت، وإن كان النساء قد سفرن! ومن النادر جداً على الرغم من هذا السفور أن يتيسر التعارف في مجتمعات مختلطة. إذن لهان الأمر وأمكن السعي
وقال وهو يضحك (لم يبق إلا السحر) ثم عبس ونهض وقال لنفسه إن التعبير بالسحر فيه تجوز كثير، ولكن في الوسع تغليب إرادة على إرادة، وأداء رسالة من نفس إلى نفس أخرى. . أعني أن الإيحاء حقيقة ثابتة لاشك فيها - نعم لا يشك فيها إلا جاهل - وفي مقدوري ولا ريب أن أوحي إلى هذه الفتاة العاطفة التي تخامر نفسي، وأن أبلغها رسالة قلبي، وأن أوقد في صدرها ناراً كالتي تتسعر في قلبي. . . أفعل كل ذلك بعيني. . . ألست قد أنمت مرة خادماً كان عندي وأمرته ألا يستيقظ إلا بعد صلاة الجمعة؟؟. ألست قد جربت فعل نظرتي في نساء كثيرات؟. ألم تصح إحداهن وقد أطلت التحديق في عينيها (حوّل عينك عني، فإني لا أطيق نظرتها وأحس أن رأسي يدور) ألم تصرخ إحدى قريباتي دون أن تحول عينها عني، لأني كنت أحدق في عينيها على غير قصد؟؟. فهذه قوة مجربة. . . قوة نفسية لاشك فيها. . وما أظن إلا أني قادر على أن أوحي إليها الحب. . وكل شيء بعد ذلك يهون. . نعم أن بيننا لبعد. . . ولكن ما قيمة هذا؟؟. أنها موجة نفسية أرسلها إليها، لا شرارة قصيرة. . . ولماذا يمكن إرسال موجة من آخر الدنيا، ولا يسهل إرسالها مسافة ثلاثين أو أربعين متراً؟؟
واقتنع بأن ذلك ميسور، فانشرح صدره، وأشرق وجهه، واعتزم أن يجري هذه التجربة
وسأبلغ القارئ ما يكون - إذا كان شيء
إبراهيم عبد القادر المازني(151/13)
من روائع عصر الأحياء
2 - قصص الأيام العشرة
بقلم جوفاني بوكاشيو
للأستاذ محمد عبد الله عنان
بقية ما نشر في العدد الماضي
يستطيع أولئك الذين قرءوا قصص بوكاشيو وألف ليلة وليلة، أن يجدوا بعض نواحي الشبه بين الأثرين، سواء في المادة أو الروح؛ ذلك أن قصص الأيام العشرة تفيض كقصص ألف ليلة وليلة بروح مادية قوامها السرور والمرح، والتوفر على استمراء متاع هذه الحياة بأي الوسائل؛ وتفيض أيضاً كألف ليلة وليلة بالمواقف الغرامية المدهشة المثيرة، أو المبتذلة أحياناً؛ ثم أن كلا الأثرين يرمي إلى غاية واحدة تقريباً، وهي مجالدة النوائب والنسيان والسلوى؛ ففي ألف ليلة وليلة نجد ملكاً نكب بخيانة زوجه، وانقلب إلى بغض النساء، يتسرى في كل ليلة بكراً ثم يقتلها في صباح اليوم الثاني، إلى أن يبعث إليه وزيره بابنته (شهرزاد)، فتحتال لتسلية الملك وتحويله عن فكرة الثأر من النساء، وإنقاذ نفسها وبنات جنسها، بأن تقص عليه في كل ليلة طرفاً من القصص الشائق حتى ألف ليلة وليلة؛ وفي الأيام العشرة نجد عشر سيدات وسادة يجتمعون أثناء الوباء المروع للترويح عن أنفسهم وتناسي ويلات الفناء والموت، بتبادل القصص الممتع
ولا نعني بذلك أن جوفاني بوكاشيو قد تأثر في كتابة قصصه بألف ليلة وليلة؛ ذلك أن هذه القصص الشهيرة لم تكن قد عرفت في الغرب في عصره؛ ولكنا نريد أن نقول فقط أنه يوجد بين الأثرين تماثل في الروح والطابع والغاية يرجع إلى تماثل في روح العصور الوسطى وفي روح مجتمعاتها
على أنه إذا كانت قصص ألف ليلة تمتاز أحياناً بخيالها المبدع، وفنها الممتع، وصورها الوصفية والاجتماعية الشائقة، فإن قصص الأيام العشرة تفوقها من الناحية الفنية في مواطن كثيرة، وتمتاز بالأخص بعبرها ومغازيها الدقيقة، وصورها الفكهة اللاذعة، ومع أنها تمتاز أيضاً بكثير من التنوع والتباين في التصوير والوصف، فإنها تمتاز في نفس(151/14)
الوقت بطابع من التناسق الممتع في الروح والأسلوب والتعبير
وقد رجع بوكاشيو في كتابة قصصه إلى مادة غزيرة من القصص القديم وقصص العصور الوسطى، وإلى بعض الحوادث الواقعية التي شهدها، وإلى بعض حوادث حياته ذاتها؛ ويرى بعض النقدة أن الفتيان الثلاثة الذين اتخذهم بوكاشيو أبطالاً لثلاثة من الأيام العشرة، إنما يمثلون ثلاث مراحل مختلفة من حياة بوكاشيو نفسه، وأن في قصصهم كثيراً مما اشتق من حياة بوكاشيو ذاتها
وبدأ بوكاشيو كتابة قصصه كما قدمنا، أيام عصف الوباء بمدينة فلورنس في ربيع سنة 1348، وأنجز الثلاثة أيام الأولى منها في مايو سنة 1349، وهو يومئذ بنابل، كما يستدل من خطاب الإهداء الذي يوجهه عن هذا القسم إلى صديقه الساندرو دي باردي التاجر الفلورنسي، وكان يقيم يومئذ في جايتا؛ وانتهى من كتابة مؤلفه في سنة 1353، أعني لخمسة أعوام من البدء فيه؛ وظهرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة الخالدة في سنة 1492
وقصص الأيام العشرة تجري حوادثها في جميع المدن الإيطالية وفي بلاد بعيد أخرى مثل البرتغال أو إنكلترا والإسكندرية وآسيا الصغرى؛ وقد اختصت فلورنس موطن المؤلف؛ وكذلك نابل حيث عاش بوكاشيو مدى حين، بكثير منها؛ وفي كثير منها نجد صوراً ممتعة لمحاسن الطبيعة في تلك الأرجاء، ووصفاً شائقاً فكهاً لمجتمعات هذه العصور وخلالها ومثالبها
كذلك تقدم إلينا هذه القصص أبطالاً من كل صنف وضرب؛ فهنالك مجتمع العصور الوسطى بكل طوائفه وشخصياته، من سادة وفرسان وأحبار وقسس، وشعراء وفنانين، وصناع وعمال ولصوص، ونساء من كل ضرب؛ وهنالك شخصيات الطبقة العليا من ملوك وأمراء وسادة وملكات وأميرات وسيدات أنيقات من كل الطبقات، وهنالك طائفة كبيرة من ملوك وأمراء معينين معاصرين وغير معاصرين
ونجد مثل هذا التباين في موضوعات القصص؛ ونلاحظ أولاً أن القصص كلها بعيدة عن الإسهاب الممل، وقد صيغت في أحجام متقاربة، من خمس صفحات إلى عشرين؛ بيد أن هذا الإيجاز في الحجم لم يحل دون حسن السبك، ففي كل قصة فكرة طريفة، وفي كل(151/15)
نادرة فكهة، وحادثة مطربة. وهنالك تنوع ظريف في الحوادث والفكر؛ بيد أنه يلاحظ أن القصص الغرامية تشغل أكبر حيز وتفوز بأكبر نصيب، وربما كانت تسعة أعشار المجموعة كلها. وهنا تبدو براعة بوكاشيو وفنه بصورة بارزة؛ فهذه المجموعة الغرامية الحافلة بعيدة عن التماثل الممل، وفي كل منها نجد مأساة أو مهزلة غرامية طريفة؛ وربما صيغ بعضها في أثواب مغرقة، وتضمنت فكراً أو مواقف مستحيلة، ولكنها على العموم تنفث نفس السحر والمتاع
وهذا الأفق الغرامي الساحر هو الذي يسود قصص الأيام العشرة؛ وهنا يبدو بوكاشيو في ذروة فنه وسحره؛ فالحب هو قوام المجتمع، وهو متاع الحياة، والحب يمد المرأة والرجل معاً بكثير من البراعة والعزم والخيانة والشجاعة والكرم، والإقدام والغدر؛ وفي أحيان كثيرة يمزج بوكاشيو المأساة بالهزل والفكاهة؛ فهنا زوجة خؤون تدبر أن يضرب زوجها في نفس حديقته من يد حبيبها، وتحمله على منازلته كعنوان على الإخلاص والحب؛ وهنا طالب عاشق يسير طول الليل فوق الجليد جيئة وذهابا، بينا تحدجه الحسناء وحبيبها باسمين من وراء النافذة؛ وهذا قس ساذج تستخدمه زوجة عاشقة دون أن يدري في توثيق علائقها بحبيبها المنشود وتدبير وسائل التمتع بوصله؛ وهذه زوجة خبيثة تدبر لحبيبها الوصل في منزلها وفي فراشها، بينا زوجها يضرع إلى ربه مستغفراً عن ذنوبه في مكان آخر من الدار؛ وهذا قس خبيث يفترس فتاة ساذجة تحت ستار الوعظ والهداية؛ وهذه راهبة مضطرمة تحتل لاقتناص جنان الدير حتى توقعه في شرك وصالها، وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره
ومما يلاحظ بنوع خاص أن بوكاشيو يحمل على الأحبار والقسس بشدة، وينوه في كثير من المواطن بأخلاقهم الفاسدة وشهواتهم الوضيعة، يسترونها تحت ثيابهم ومظاهر ورعهم الغادرة؛ وإليك كيف يعرض بوكاشيو نظريته في خبث رجال الدين على لسان بانفيلو أحد الفتيان الثلاثة إذ يقول:
(سيداتي الحسان، لقد خطر لي أن أقص عليكم حديثاً ضد أولئك الذين يسيئون إلينا دائماً، دون أن نستطيع نحن الانتقام منهم؛ وأعني بذلك رجال الدين الذين أعلنوا حرباً صليبية على زوجاتنا، والذين إذا ظفروا بواحدة منهن، تصوروا أنهم قد غنموا غفران الذنب(151/16)
والعقوبة؛ وفي ذلك يعجز المدنيون عن مقابلتهم بالمثل، وإن كانوا يصبون جام انتقامهم على أمهات القسس وأخواتهم، وخليلاتهم، وبناتهم، ويطاردونهن بمثل الحماسة التي يطارد بها القسس أزواجهم)
فيجيب زميله فيلوستراتو: (إن الحياة الفاسقة الدنسة التي يحياها رجال الدين، وهي في كثير من نواحيها عنوان دائم للخبث، تقدم بكل سهولة فرصة لذوي العقول ليحملوا عليها ويجرحونها)
ويقد إلينا بوكاشيو مجموعة متباينة من القسس الذين فاضت نفوسهم بأروع صنوف الاجتراء والإثم، ويصور لنا خبائثهم ودسائسهم وتحيلهم على استباحة الأعراض بكل الوسائل، واستتارهم في ذلك باسم الدين؛ كذلك يقدم إلينا طائفة من الراهبات اللائي يضطرمن وراء جدران الدير توقاً وجوى، ويلتمسن تحقيق شهواتهن بأخس الوسائل؛ وفي هذه القصص الكنسية يبدو بوكاشيو في ذروة فنه وسخريته اللاذعة، ومع أنه يشتد في حملته على الكنيسة وأحبارها، فإنه يحيط هذه الصورة الخبيثة بكثير من الدعابة والمرح
وقد أثارت هذه القصص المثيرة سخط الكنيسة الكاثوليكية على الكتاب ومؤلفه، فوضعته فيما بعد في قائمة الكتب المحظورة؛ ولكنها لما رأت بعد ذلك أن هذا الحظر لم يحل دون ذيوع الكتاب، سمحت بظهوره في القرن السادس عشر في ثوب مهذب رفع منه القسس والراهبات واستبدلوا في صلب القصص الأصلية بسيدات وسادة
وقد كتب بوكاشيو قصصه بكثير من الحرية والبساطة؛ وإذ كان معظمها يتحدث عن الحب والوصل، فإن مؤلفها لم يحاول تحفظاً في وصف المناظر والصور، ولم يحاول تكلفاً في اللفظ أو التعبير؛ وعلى ذلك فقد يبدو لنا أن قصص الأيام العشرة تخرج في كثير من المواطن عن حدود الحياء والحشمة؛ والواقع أن بوكاشيو يحدثنا عن الحب والوصل، وعن العلائق والشهوات الجنسية في كثير من البساطة والصراحة، ويقدم إلينا هذه الصور الغرامية المضطرمة عارية لا يسترها لفظ أو تحشم؛ ولكن هل يجوز لنا مع ذلك أن نعتبر قصص بوكاشيو أثراً خليعاً ينبو عن معيار الحياء والحشمة والخلق الرفيع؟ لقد وجهت هذه التهمة إلى قصص بوكاشيو منذ ظهورها، ومازالت توجه إليها في عصرنا؛ واضطر بوكاشيو نفسه أن يجيب عنها في خاتمة مجموعته، وأن يبرئ نفسه من قصد العبث(151/17)
والإسفاف
يقول النقدة، لقد تحدث بوكشيو كثيراً عن الحب، وأسرف في ملق النساء واسترضائهن؛ ويجيب بوكاشيو، ولماذا لا؟ لقد ملق النساء أذهان عظام مثل جيدو كافالكانتي ودانتي الجييري، وألفوا في استرضائهن متعة وشرفاً
ويقولون أن بوكاشيو استباح لنفسه وصف المناظر الجنسية المثيرة، واستعمل ألفاظاً تنبو عن الحياء والحشمة؛ ويقول بوكاشيو إنه ينكر هذه التهمة، (لأنه لا يوجد ثمة شيء قبيح يحظر على إنسان ما، إذا استطاع أن يخرجه في صيغ مقبولة، وهذا ما يلوح أنه قد فعل بصورة مرضية)
ويقولون أن هذه القصص تثير فساداً وتحدث ضرراً؛ ويقول بوكاشيو، إن كل شيء في الوجود يمكن أن يحدث الخير والشر؛ فمن ذا الذي لا يعرف أن النبيذ وهو من أفضل مقومات الصحة، مضر بالمحمومين؟ وهل لنا أن نقول إنه ضار لأنه يؤذي المحمومين؟ ومن ذا الذي لا يعرف أن النار مفيدة بل ضرورية للإنسان؟ وهل لنا أن نقول أنها شر لأنها تحرق الدور والقرى والمدن؟ كذلك تكفل الأسلحة سعادة أولئك الذين يريدون العيش في سلام؛ ولكن الأسلحة كثيراً ما تودي بحياة الناس، لا لخبث في ذاتها، ولكن لخبث أولئك الذين يستعملونها. ثم يقول بوكاشيو: فإذا كان ثمة في الأيام العشرة قصص مثيرة أو خارجة، فإنه لا ضير من وجودها، ولم يكن في وسعي أن أكتب غير ما سمعت؛ ولا عصمة لإنسان؛ وفي الحقل النضر تنمو الأعشاب الضارة؛ ولما كنت أقصد أن أحدث فتيات الشعب، فإنه لم يكن ثمة داع للتكلف والبحث عن الصيغ والعبارات المنمقة
هكذا يعتذر بوكاشيو عما عسى أن يبدو في قصصه من خروج على حدود الحياء والحشمة؛ بيد أنه مهما كانت الملاحظات التي تبدى في هذا الشأن، فإنه لا ريب أن قصص بوكاشيو، تعتبر من أقيم الآثار العالمية وأبدعها وأمتعها
وقد كان لمجموعة الأيام العشرة أعظم الأثر في تطور النثر الإيطالي، وتطور فن القصص الأوربي بوجه عام؛ ومازالت آثار بوكاشيو تعتبر إلى جانب آثار دانتي وبترارك، قوام الأحياء الأوروبي، والصرح الأول في بعثه وازدهاره
(تم البحث - النقل ممنوع)(151/18)
محمد عبد الله عنان(151/19)
عَالَمُ الإيحاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إذا مجد المنطق أمام الإنسان في الحياة نشأ على احترام المنطق إلى حد كبير، حتى ليعد العقل كأنه طاحونة منطق، وحتى يظن أن وسائل التأثير مقصورة على مقتضيات المنطق وأن لا إقناع إلا الإقناع المنطقي، ويخفى عنه أثر الإيحاء الذي يتخذ قوى النفس وميولها ونزعاتها وعواطفها وإحساسها وسائل يستخدمها بطرق تعجز أحياناً تتبع المنطق وتقصيه. وإذا اعتقد الإنسان أن الحياة مؤسسة على أسس من المنطق فحسب، وفاجأته بعكس هذا الاعتقاد إذا اختبرها، صعب وقع تلك الخبرة في نفسه. فإن تجاريب المرء في الحياة تعلمه أن الحياة ليست مؤسسة على الإقناع المنطقي فحسب، وأن المنطق نفسه يستخدم لكل غرض حتى غرض الإيحاء، وأن المنطق خليق أن يشبه بالخادم الذي يعمل في بعض البيوت فيغسل أماكن دورات المياه تارة، وتارة يطهي ويقدم الطعام للأسرة والزوار. والحقيقة هي أن للإيحاء أثراً كبيراً في الحياة حتى أنه ليسيطر على المنطق في بعض الأحايين ويستخدمه لأغراضه، وفي بعض الأحايين يغري المرء بعكس ما يغري به الإقناع المنطقي
وقد يعتمد المرء على مقتضيات المنطق لنيل العدل بين الناس في الحياة أو ما يراه عدلاً؛ فإذا لم ينله انهارت دنياه ودهش إذا لم يكن عالماً أن وراء حياة المنطق حياة أخرى تدين للإيحاء، وأن عليه أن يحدد موقفه في عالم الإيحاء هذا، وأن يتخذ عدته له وأن يبحث مخبآته وأسراره، فإن قيمة الناس والقضايا في ذلك العالم ليست إلا بقدر ما تستطيع أن تستخدمه من وسائل الإيحاء ومؤثراته، ولا يخلو أحد في الحياة من الخضوع لعوامل الإيحاء والتأثر بها سواء في ذلك التاجر والموظف
يحكى أن أشعب الثقفي قد أولع الغلمان بمعاكسته يوماً فقال لهم ليصرفهم عنه: إن في شارع كيت وكيت أفراح عرس تنثر فيها الدنانير على الجمهور؛ فصدق الغلمان قوله وتركوه وجروا إلى المكان الذي وصفه في قوله، فلما رأى أشعب تصديق الغلمان أغراه ذلك وجرى خلفهم إلى المكان الذي وصفه في قصته التي لفقها كي يصرف الغلمان عنه. والناس في الحياة على شاكلة أشعب فيما يشيعون من الخير والشر عن أنفسهم أو عن(151/20)
غيرهم، يقولون ما ليس بحق ثم يصدقونه إذا رأوا تصديق الناس له، وهذا بسبب تأثير الإيحاء في أنفسهم. ولا يستطيع المرء أن يفهم الناس إلا إذا فهم هذا الإيحاء، وإلا إذا فهم أن النفس قد تجمع بين النقيضين في وقت واحد، فتجمع مثلاً بين أثر الإيحاء وبين الدليل المنطقي الذي ينقضه
خذ مثلاً آخر: يقول لك علي أن أحمد قد هجاك، وأنت تعرف أن علياً كاذب فيما نقل عن أحمد، ولكن من المستطاع أن تجمع في نفسك بين تكذيب علي وبين الامتعاض من أحمد الذي تعرف براءته، والامتعاض هذا من أثر الإيحاء
والإنسان يستطيع أن ينقل الكلام المحكي من عالم المنقول إلى عالم المدرك بالحس بسبب أثر الإيحاء أيضاً، حتى أنه لو قيل لجماعة أن إنساناً ينظر إليهم شزراً لم تعدم بينهم من يرى ذلك أو يظن أنه يرى ذلك وإن لم يحدث؛ وبعض الناس أكثر تأثراً بالإيحاء من غيرهم. وقد حكي أن بعض فقراء الهنود يرمون بحبل إلى السماء فيظل ممدداً حتى يستطيع غلام أن يصعد إلى طرفه الأعلى؛ وفسر بعض الكتاب هذه القصة بأنها من أثر الإيحاء في نفوس بعض النظارة، وبسبب أن المرء ينقل الكلام المنقول المحكي إلى عالم حسه فتنشأ دعوى المشاهدة. وهذه الصفة في الإنسان كثيراً ما تخدعه ويخدع بها غيره من الناس في أمور كثيرة من أمور الحياة. وقد ينخدع بها ويصدقها وهو يعرف أنها وهم؛ وقد يجمع بين تصديقها وتكذيبها في نفسه في وقت واحد
ويعتقد كثيرون أن الإيحاء يؤثر في الحيوان أثره في الإنسان. ومن المشاهد أن احساسات الإنسان من ذعر أو حب أو فرح أو خوف قد تنتقل إلى الكلاب مثلاً عن طريق الإيحاء. وقد بالغ بعض الناس فادعى أن أثر الإيحاء قد ينتقل إلى الجماد أيضاً. وعلل إسقاط كهنة زنوج أواسط أفريقية الأمطار بهذا الأثر. والعلم لله في هذا الأمر
وترى الجهال في الحياة يستخدمون وسائل الإيحاء لمنفعة النفس أو منفعة الصديق ومضرة العدو بطرق منظمة تحسبها نتيجة دراسة الإيحاء والبحث في علم النفس، وما هي بنتيجة دراسة وعلم، ولكنها السليقة التي تبصر الإنسان بوسائل الإيحاء. ولو علم الصائلون بإيحائهم المقتدرون به الجالبون لأنفسهم ولأودائهم به الخير أن بين العامة من لا يقل قدرة عن الخاصة في استخدام الإيحاء ما افتخروا بمهارتهم في استخدام وسائل الإيحاء ولا(151/21)
عدوها من دلائل العقل والحكمة، ولا حسبوا أنهم فازوا في الحياة بهمها، ولو علم العقلاء الحكماء أن وسائل الإيحاء أقرب إلى النجاح من وسائل العقل، وأن الإيحاء يستمد من السليقة ما غالوا بعقلهم وحكمتهم كل المغالاة، ولا حزنوا إذا أبصروا انخذال وسائل العقل وانهزامها أمام وسائل الإيحاء
والتأثر بالإيحاء من صفات القطعان، سواء القطعان البهيمية والقطعان البشرية؛ فإذا أحدثت بهيمة في قطيع صوتاً أو اتخذت طريقاً تابعتها بهائم القطيع. وهذا هو ما يحدث أيضاً في القطيع الإنساني بسبب أثر الإيحاء والمحاكاة التي هي من أثر الإيحاء. والقطيع البشري أكثر تأثراً به بسبب إحساسه وخياله الناميين. والإيحاء قد يكون في النوم أو في اليقظة، وكثيراً ما كان يعتمد السحرة على الإيحاء وأثره في النفس، وتأثر الجسم بما تعتقده النفس
وقد تتذبذب وتتحول نفوس الناس ساعة بعد ساعة، أو يوماً بعد يوم تذبذباً لا حد له في الأمور اليومية والاحساسات المتغيرة العارضة بسبب اختلاف أنواع الإيحاء ومراميه، حتى ليشبه تذبذبهم تذبذب السراب أو ذرات الهباء في أشعة الشمس، ولكنهم لا تأخذهم الدهشة من أنفسهم لأنهم لا يفكرون في أنفسهم ولسرعة التذبذب كما لا تحس دورة الأرض، ولأنهم ثابتون على بعض عقائد ومبادئ عامة لا مناص لهم من الثبات عليها، فتلهيهم عن تذبذبهم المستمر بسبب اختلاف نزعات الإيحاء، والتذبذب النفساني ينشأ عنه تذبذب جثماني لاختلاف حركات الوجه والجسم حسب الأهواء والميول والنزعات النفسية. والبيع يشبه الاحتيال من ناحية الاعتماد على الإيحاء إلى حد كبير، وإن اختلفا فيما عدا ذلك، ويسمي الناس وسائل البيع والاحتيال التي تعتمد على الإيحاء الطريقة الأمريكية في البيع، والطريقة الأمريكية في الاحتيال والنصب، وهي طريقة شائعة في النفوس عامة وفي كل أمر من أمور الحياة من تجارة أو مهنة أو صداقة أو محبة أو عداوة، وإنما تختلف باختلاف النفوس ولا تمنع من اقترانها بنصيب من الفضيلة أو الصدق أو النزاهة أيضاً، لأن النفس تجمع بين النقيضين. ويستخدم الإيحاء كثيراً في الإعلانات عن العقاقير والكتب والمؤلفات وغيرها
ومما يزيد الإيحاء قوة أن المتأثر به الذي نقل أثر الإيحاء إلى عالم حسه ومشاهداته كما أوضحنا يصبح شاهداً يستشهد به صاحب الإيحاء كأن شهادته ليست نتيجة أثر إيحائه، إذ(151/22)
المتأثر بالإيحاء بعد أن ينقله إلى عالم حسه ويدعي أنه من أثر مشاهدته ومن أثر اقتناع حواسه ينأى بنفسه ويترفع عن أن يكون ذنباً لصاحب الإيحاء تابعاً له، فيدعي الاستقلال في الرأي والمشاهدة، حتى لقد يخدع صاحب الإيحاء، فيتأثر به صاحب الإيحاء، ويتناسى أن رأيه من أثر إيحائه
ولقد أتقنت وسائل الإيحاء للإعلان عن ممثلي وممثلات الصور المتحركة، كما أتقنت وسائل الإيحاء عندما تنشر دولة الدعوة العالمية ضد دولة تعاديها أو تحاربها
والإيحاء قد يطرد في شكل سلسلة من الحلقات من إنسان إلى ثان ثم إلى ثالث ورابع الخ، حتى يختفي مصدر الإيحاء وأوله ومنشؤه. وإذا كان إيحاء المرء لغيره سهلاً ميسوراً فإيحاؤه لنفسه أسهل وأيسر، لأنه أملك لها؛ وقد يفطن إلى أن إيحاءه لنفسه مغالطة، ولكنه يقدس تلك المغالطة كما يقدسها لو كانت من أثر المنطق والإقناع المنطقي، بل قد يقدسها أكثر من تقديس ذلك الإقناع، فترى أن وراء هذا العالم المادي الظاهر، ووراء ما يبحثه به الباحث من منطق يوجد عالم آخر حقيق أن يسمى عالم الإيحاء
عبد الرحمن شكري(151/23)
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
الأدبية
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
- 3 -
ومع أني لست من القائلين بالفصل التام بين السلطات، فإني لا أجد في سلوك القاضي هذا مأخذاً حتى ممن يقولون بالفصل التام. فتصرف القاضي على النحو الذي ذكرت يمكن حمله على حق إبداء الرأي بكافة الوسائل باعتباره عضواً ممتازاً، بنوع ثقافته وبخبرته، من أعضاء الجماعة التي يعمل فيها ولها، وبهذا الوصف لا يكون تصرفه تدخلاً من السلطة القضائية في شؤون السلطة التشريعية
ومن أدق عمل القاضي حكمه فيما يختص بعلاقة الحكام بالمحكومين. ففي هذا المجال بخاصة تظهر قيمة الاستقلال والإقدام والكياسة. وبديهي أن القاضي المقدر لمركزه لا يتردد في القضاء بما تمليه روح القانون والعدالة. لا يعمل بغير الواجب إذا كان حراً مستقلاً. فالكل أمامه سواء. إن القاضي النزيه المقدام يبعث في الجماعة الشعور بأن الكل في حماية القانون، وهذا الشعور، يدعمه الواقع، يعين كثيراً على حرية إبداء الرأي وحرية التصرف ومن ثم يؤدي إلى خير المجموع
جـ - وليست التربية الاستقلالية أقل أثراً في الشؤون الإدارية. ففي البيئات الحرة المستقلة يعمل الصغير والكبير بما تقتضيه المصلحة العامة ويوحي به الضمير الحر. يقترن الإحساس بالكرامة باستشعار المسؤولية فلا يخشى المرؤوس أن يبت في الأمر أو يلقي بالرأي، ولا يشمئز الرئيس من قبول ملاحظات المرؤوس والعمل بها إذا ما تبين وجه الصواب فيها. المستقل لا يصطنع الرياء والملق؛ ومهما صغر مركزه الاجتماعي فهو في نفسه كبير؛ والواثق من نفسه يبرم الأمور مادامت في متناول يده ولا يؤجل ولا يتهرب. هذا إذا كان مرؤوساً، وإذا كان رئيساً فإنه لا يرى في مرؤوسه الحر شذوذاً أو غروراً فيغضي عنه، بل يرى فيه كفاية وإقداماً فيقبل عليه. يقومه إذا أخطأ ويشجعه إذا أصاب،(151/24)
ويقدره إذا أجاد. بذا تسير أداة الحكومة بلا إبطاء أو عوج، وتقضى مصالح الناس بلا إرجاء أو إهمال، لأن كلاً يحتمل نصيبه ويقوم بواجبه
على أنه مما يقوم سبل الإدارة ويوجهها جادة الحق سلوك أصحاب الحاجة أنفسهم. ففي البيئات الحرة يستمسك المرء بحقه، ولا يرى في عمال الإدارة طبقة مميزة عليه، ولا يعتبر الالتجاء إليهم لقضاء مصالحه استجداء أو استعانة لم يؤد ثمنها. بل يرى أن من حقه طلب ما يطلب في حدود القانون، ومن واجب عمال الإدارة خدمة الناس خاصتهم وعامتهم في هذه الحدود، قياماً بواجبهم وأداء لحقوق الغير عليهم. أما استخذاء الشعب واستكانته إزاء تصرف غير كريم من أحد عمال الإدارة فإنه يغري من وهنت أخلاقهم بظلمة وإهمال شؤونه من جهة ويشجعهم على التواني والعدوان بصفة عامة من جهة أخرى
التربية الاستقلالية كما قلت تنمي في الفرد صفتي الثقة بالنفس والإقدام. ولهما أهميتهما العظمى في الوسط الإداري. فالإدارة لا تستمد قوتها واستقامتها من النظم الموضوعة فقط، بل من شخصية منفذي القوانين والنظم. فهم يطبقونها ويفسرونها للخير والشر، كبيرهم وصغيرهم كل بنسبة نفوذه وقوة شخصيته. والمقدام لا يتهيب طلب الإصلاح وإن صغر مركزه وضاق نطاق مسؤوليته. ولكنه يقدم غير هياب ولا وجل فيكون أكثر إنتاجاً وأعظم للجماعة خدمة
وهنا لا أجد مندوحة، اتباعاً لمنهاجي في البحث، عن ضرب مثل برجل الإدارة ذي الشخصية والإقدام والإحساس بالواجب
صدر قانون محاكم الأخطاط سنة 1912، ولاحظ أحد كتاب المحاكم الجزئية الأهلية بينما كان يفتش أعمال بعض محاكم الأخطاط لسنة 1922، أن بمحكمة خط العطف قضايا مدنية عظيمة القيمة تحكم فيها المحكمة حكماً نهائياً. وهاله كثرة القضايا، وخشي أن يكون في الأمر غبناً على الفلاح بحرمانه حق الطعن في الحكم، وغبناً على الخزانة العامة بتحصيلها رسماً مخفضاً. ولما ناقش الكاتب المختص أجابه هذا بأنه يتبع نص القانون القاضي بأن محكمة الخط تختص بالحكم نهائياً في المنازعات التي يتفق طرفا الخصومة على أن تنظرها
وفاتح رئيسه القاضي الجزئي فنصحه بأن يلزم حدوده فهذا بحث لا يدخل ضمن عمله(151/25)
الكتابي. لكن الفتى كان حساساً بواجبه فلم يقنع بهذا. وبحث فهداه البحث إلى مخرج وهو أن الاتفاق في مثل هذه الحالة التي كان يعالجها ضد النظام العام، فهو باطل لهذا السبب. ذلك أن المدعي في تلك القضايا كان مقيماً بالقاهرة ومن كبار تجارها. وفعلاً كتب مذكرة برأيه هذا وأبلغه رأساً لرياسة محكمة الإسكندرية، وهذه بدورها أبلغته لوزارة الحقانية. وما كان أشد سرور صاحبنا لما وصلته بعد قليل من الزمن تعليمات عامة أرسلت بها وزارة الحقانية للمحاكم تقضي بأن مثل الاتفاق المشار إليه باطل. وهكذا أنتج إحساس كاتب بسيط تعديلاً في سير المحاكم في مسألة فيها شيء من الخطورة، بعد أن سارت عشر سنين على عكس ما ينبغي أن تسير في هذه النقطة
ذاك الموظف عينه التحق بمصلحة أخرى وكانت الجهة التي يعمل بها تتلقى تعليماتها من وزارة الداخلية. وحدث أن أرسلت الوزارة تعليمات فيما يتعلق بمحاكمة أكبر طائفة من موظفي مصلحته. ورأى هو أن التعليمات لا تتفق مع صريح نص اللائحة المعمول بها. وأنها فوق ذلك تحرم طائفة كبيرة من ضمان هام. فاعترض في لطف بأنه مع وجود النص الصريح كيف تطبق تعليمات الوزارة بغير أن تعدل اللائحة طبقاً للقانون. ولكن الوزارة لم تأخذ برأيه. فترقب فرصة ملائمة، لاعتقاده أنه يصعب أن تعدل الوزارة عن رأي بناء على ملاحظات موظف بسيط خارج الوزارة؛ ثم كتب اقتراحاً بصورة أخرى وأبلغه الوزارة فشجعها على تعديل التعليمات بما يطابق اللائحة دون أن يكون في ذلك حرج. وفعلاً عدلت الوزارة التعليمات
ولكن من الحق أن نذكر أن هذا الموظف لا يجد عمله هيناً دائماً، بل كثيراً ما أوذي لتمسكه برأيه وعدم تقيده بحرف التعليمات دون روحها. بل أحياناً يتعرض للجزاء بسبب رفضه التقيد بلفظ التعليمات المالية إذا كان تنفيذ روحها يحقق مصلحة مالية للهيئة التي يعمل بها ويتمشى مع المنطق، ولا تتعرض معه المصلحة لنتائج إجراء غير عادل
هاتان واقعتان من الأمور البسيطة. ومن الممكن تصور حالات يؤدي استمساك أحد عمال الإدارة برأيه فيها إلى تلافي قرار ضار أو إلى توفير أموال طائلة، أو اتقاء عمل يحمل الجماعة مسؤوليات جساماً
لكن جل صغار موظفي الإدارة عندنا، بل كبارهم، لا يكتفون بموافقة رئيسهم على ما يقول(151/26)
أو يطلب، وإن خالف القانون والمصلحة، بل يكادون يسبقون رؤساءهم إلى ما يظنون أنه يرضيهم غير مبالين بالقانون أو الحق أو العدل، وفاتهم أن الرئيس إذا عرف الأمور كما ينبغي، قد لا يتمسك بالرأي. وغاب عنهم أن للجماعة الذين يعملون لحسابها حقوقاً يجب رعايتها، وأن لأنفسهم حقوقاً تقضي بعدم امتهانها بتزويق الباطل وتحويلها إلى أداة تصدع بما تؤمر ولا إرادة لها
هذه الظاهرة المحزنة دليل على ضعف التربية الاستقلالية. فمن واجب جميع المصلحين أن يعملوا على القضاء عليها بعدم تشجيع المرائين والمتملقين، وبتقدير العاملين المخلصين للواجب وللحق والعدل. أما أبناء اليوم رجال المستقبل فيجب عدم ادخار شيء في سبيل إنشائهم على حرية الرأي واستقلال الفكر والإقدام والشجاعة من جهة، وعلى بعض الطغيان والصلف والتعصب للذات من جهة أخر
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد الباري(151/27)
عين جالوت
للأستاذ عبد الله مخلص
أذكرنا الأستاذ الألمعي محمد فريد أبو حديد بوقعة عين جالوت بين المصريين والتتار، ووقفة الأولين فيها موقف الذائدين عن حياض الإسلام الذابين عن كيانه
وما كان الإسلام لينسى لمصر ذلك اليوم الأغر المحجل الذي دفعت فيه ذلك السيل المتدافع من التتار وردتهم على أعقابهم يتعثرون في أذيال الهزيمة والخسران، ورفعت فيه نير التتار عن أعناق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان لسنة 658هـ (1260م)
موقف المسلمين الأول في عين جالوت
وللمسلمين في عين جالوت مثل هذا الموقف المشرف سبق موقفهم الثاني بنحو ثمانين سنة، فقد بلغ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب اجتماع الفرنجة في قرية صفورية ورحيلهم إلى قرية الفولة فسار إليهم يطلب حربهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، بينا كان ينضم بعضهم إلى بعض يحمي راجلهم فارسهم، وساروا حتى جاءوا عين جالوت ونزلوا عليها، ونزل السلطان حولهم، والقتل والجرح يعمل فيهم ليخرجوا إلى المصاف فلم يفعلوا خوفاً من المسلمين؛ وكان ذلك أيضاً في يوم الجمعة السابع عشر من شهر جمادى الآخرة سنة 579هـ 1183م كأن الله اختص تلك الليلة الغراء واليوم الأزهر بالنصر
عين جالوت في التوراة
وعين جالوت هذه هي المذكورة في التوراة في سفر صموئيل الأول في الإصحاح 1: 29 باسم عين يزرعيل التي نزل عليها شاول بجيشه في الحرب التي قامت سوقها بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأسفرت عن انتحار شاول المذكور بإلقاء نفسه على سيفه والقضاء بهذه الصورة على حياته. ومات معه في هذه الحرب بنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله
وهي أيضاً عين حرود المذكورة في سفر القضاة في الإصحاح 1: 7 - 8 ومنها شرب جيش جدعون بن يواش المعروف أيضاً باسم يربعل عند نزوله لحرب المديانيين.(151/28)
وللتوفيق بين رواية القرآن المجيد عن هذه الموقعة أنقل للقارئ الكريم قبل ذكرها رواية التوراة في الإصحاح المذكور وهذه هي:
(وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه حده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل. وأما باقي الشعب جميعاً فجثوا على ركبهم لشرب الماء. فقال الرب لجدعون بالثلاثمائة الرجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك. وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه)
إلى آخر ما جاء في الإصحاح المذكور الذي ينتهي بخبر انتصار جيش جدعون وفرار المديانيين ومتابعة الإسرائيليين لهم ومطاردتهم
جالوت في القرآن المجيد
وهذه آيات بينات من الذكر الحكيم عن جالوت من سورة البقرة:
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بنَهرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنيِّ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فإنَّهُ مِنِّي، إِلاَّ مَنِ اغْتَرفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللهِ كَم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهَِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (آية 249)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ علَيْنَا صبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكافرِينَ (250)
فَهزَموُهُمْ بِإذْنِ اللهِ، وَقتَلَ دَاوُود جَالُوتُ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفسَدتِ الأَرْض، وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمينَ (251)
تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ (252)
قرية جالوت
ولنذكر صفة قرية عين جالوت في القديم والحديث: قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: (عين جالوت اسم أعجمي لا ينصرف، وهي بليدة لطيفة بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين كان الروم قد استولت عليها مدة ثم استنقذها منهم صلاح الدين الملك الناصر يوسف بن أيوب سنة 579)(151/29)
قلنا وقد غشيت عين الجالوت غير مرة مع نفر من موظفي الحكومة العثمانية في قضاء جينين من أعمال نابلس حين كنت في عدادهم، وكنا نذهب إليها أحياناً للنزهة وقضاء يوم العطلة، وكان الماء يتفجر أمامنا من سفح الجبل فيحيط بالمصطبة التي جلسنا عليها من جميع جوانبها ثم ينساب في منحدر يصل إلى مدينة بيسان ويسقي في طريقه الغلال والبقول
وليست عين الجالوت من العيون الصغيرة، بل هي نهر صغير يقال له نهر الجالوت؛ يحاذي سفح جبل قامت عليه بعض القرى والمزارع مثل زرعين ونورس وغيرهما؛ ويقال لهذا الجبل جبل الدحى وبين هذا الجبل وجبل الطور المقابل له في الناحية الشمالية مرج ابن عامر المعروف بوادي يزرعيل كما يعرف جبل الطور بجبل تابور في التوراة
أما اليوم فإن هذه القرية قد أصبحت ملكاً لليهود يتصرفون فيها كيف يشاءون، فقد انتقلت ملكيتها من أصحابها الأصليين العرب إليهم في السنين الأخيرة بعد أن وعدتهم الحكومة البريطانية بلسان وزيرها بلفور المشهور بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين ومكنت لهم في أرضها، وهم كل يوم يقتنصون (بليدة لطيفة) من بلدان فلسطين فيشردون أهلها تحت كل كوكب، ويبنون وطنهم العتيد على أنقاض الإسلام وتراثه الخالد فيغيرون معالم البلاد ويردونها إلى أصولها
هذه عين جالوت التي حمت فيها مصر الإسلام والمدنية والإنسانية قبل سبعة قرون - كما قال الأستاذ أبو حديد - تعود فتتسمى باسمها العبري القديم عين حرود، ويسكنها شذاذ الآفاق من اليهود
وفيها اليوم بحسب آخر إحصاء لحكومة فلسطين 483 نسمة يشغلون 135 بيتاً
ويا ليت أن المصيبة اقتصرت على ضياع عين الجالوت فقط من العرب، بل إنها تعدتها إلى أكثر القرى الآهلة في ذلك الوادي الممرع، وأصبح الباقي القليل عرضة للضياع والانتقال، إلا إذا أراد الله بالمسلمين والعرب خيراً، ودفع بالحكومات الإسلامية والشعوب العربية إلى الدفاع عن هذه الأرض المقدسة التي أسرى الله بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إليها، وجعلها قبل ذلك موطن أخيه عيسى بن مريم عليه السلام، إذ ولد بها ودعا إلى عبادة الله في أرجائها وأنحائها، ورفع إلى الله منها(151/30)
قلنا ليس لمعضلة فلسطين ووقعتها من دون الله كاشفة. أما الدول الإسلامية فمن واجبها أن تحمي المقدسات في بلاد فيها أولى القبلتين، وثاني البيتين، وثالث الحرمين. أما الشعوب العربية فمن مصلحتها أن تستملك وتتاجر وتسكن وتتوالد في بلاد هي همزة الوصل بين الغرب والشرق، وخط الاتصال بين آسيا وأفريقية، وباب جزيرة العرب التي أخذ قطانها يحبون كما يحبو الطفل لرضيع ويحاولون الوقوف على أرجلهم
فهل تتحقق الأحلام، وتنقلب الآلام إلى آمال قبل استفحال الغزوة اليهودية المحكمة بين سمع الدولة البريطانية وبصرها، بل تحت حرابها وبنادقها ورشاشاتها التي جعلتها حزباً لليهود وحرباً على العرب؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد
(حيفا)
عبد الله مخلص(151/31)
من أدبنا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان
اقتراح القريح واجتراح الجريح
لأبي الحسن علي الحصري
بقلم الأديب السيد أحمد صقر
(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)
من أغرب الظواهر في الأدب العربي - إن لم يكن في الغربي - أن يرثي شاعر ولده الصغير بديوان كبير، ثم يظل مجهولاً طيلة ثمانية قرون ونصف قرن، لم يحاول أحد خلالها نشره أو التعريف به
ومازالت خزائن الأدب العربي ملآى بالآثار الرائعة التي خلفها لنا الأجداد تجاذب الأحداث أسباب البقاء، حتى إذا ما صرعها الزمن وقفنا على أطلالها نندبها ونبكيها، ونقول كان لنا وكان. . .
من تلك النفائس المشرفة على الفناء ديوان فذ في بابه، غريب في اسمه وموضوعه، نظمه أبو الحسن الحصري صاحب القصيدة المشهورة: يا ليل الصب متى غده؟ سماه اقتراح القريح واجتراح الجريح وكل قصائده في رثاء ابنه الوحيد عبد الغني؛ رزقه وقد بلغ من الكبر عتياً، ورزئه وقد أتم التاسعة من عمره
وكان موته بالنزيف: فسالت حشاشة نفسه من أنفه، وفي ذلك قوله:
لست أنسى مقامه ومقامي ... وكلانا مثل القتيل خضيبا
أنفه ينثر العقيق وعيني ... تنثر الدمع بالعقيق مشوبا
ليس للحصري غير هذا الديوان على كثرة شعره، ووفرة أدبه، يدلنا على ذلك قوله في مقدمة الكتاب: (والقرآن شعاري، ولذلك لم أجمع أشعاري، سحرت بها العقول فحبذتها، ووراء ظهري نبذتها، تركتها لمن يعيها، فيسرقها أو يدعيها، يرثني بغير نسب، ويملكها بغير نشب، حاشا ما في كتابي هذا)
لم يطبع هذا الكتاب ولم يشتهر أمره بين الأدباء، ولم يجر ذكره على أسلات أقلام المؤرخين، ولعل ذلك راجع إلى ندرة وجوده، وقلة ذيوعه. . .(151/32)
في دار الكتب المصرية نسخة فريدة من هذا الديوان النفيس مخطوطة بخط معتاد فرغ ناسخها من نسخها في سادس ربيع الأول سنة سبع وستمائة، عدد صفحاتها 262 من القطع الكبير. بها خروم وخروق، وآثار عرق لا تمكن القارئ من متابعة قراءته
قدم الناظم بين يدي ديوانه ثلاث خطب، أولاها مهملة الحروف، قد بدأها بقوله: (الحمد لله ملك الملك ولا أمد، وممسك السماء ولا عمد، سمكها فأطلع مهلها، وعلم آدم الأسماء كلها، ووعد لأعمال الطاعة، وواعد لأهوال الساعة، لا أمر إلا أحكمه، ولا مراد إلا حكمه، لا إله إلا هو إله واحد لا ولد له ولا والد، أحمده لآلاء أولاها، وأدعوه ملك الأملاك ومولاها) الخ وهي تملأ عشر صفحات، وقد عقبها بقوله: (نثرت فأبلغت، ونظمت فتفننت. وهذه الخطبة على بلاغتها، وإبداع صياغتها حليتها من بدر بحري ملقوط، وأخليتها من كل حرف منقوط، وأردت أن أشفعها بأخرى منقوطة الحروف، فوجدتني أخرج فيها عن الرسم المعروف، إذ استفتاح الخطب بحمد الله والثناء عليه، وذلك في المنقوطة لا سبيل إليه؛ غير أني اختصرت فأثبت منها ملحا في لمح، ورب دليل في قليل، ورب عثار في إكثار). ويلي هذا التعقيب الخطبة الثانية وأولها: بثثت بثي الخ وهي تقع في ثلاث صفحات. وبعدها الخطبة الثالثة وهي أهمها من الوجهة التاريخية والأدبية. وهي في 29 صفحة. وقد أحببت أن أنقل لك منها شذرات لتعرف قصة الرجل وعقله وتفكيره وأسلوبه في النثر
قال بعد كلام طويل لا وحدة تجمعه، ولا سبب يربطه: (ولما أنقض ظهري، ما وزرت في سري وجهري، وهدم الموت في ابني، ما كنت من الأمل أبني، سألت الله له الانتجاب، فقال لا بد أن تجاب، وأنجبه طفلاً، وأتاني به كفلاً، فنمى مهذباً في مهده، ومازال ينمى بعهده، حتى أكمل تسعة، ورامت سعيه الكبار فلم تسعه. كان يروق هلالاً، ويشوق زلالاً، فقالوا يافعك نافعك، وقال الله بل هو شافعك. أعطانيه بفضله، وأخذه بعدله، فجرحتني أنياب النوائب، وقرحتني أوصاب المصائب، نثرت شاكياً ما اجترحت إلى فاطري، ونظمت باكياً ما اقترحت على خاطري، وقلت عسى الله أن يرحم الناظم الناثر، فيسلي المحزون ويقيل العاثر، وسميت هذا الكتاب: اقتراح القريح، واجتراح الجريح. وضمنته قصائد على حروف المعجم، وإن كانت من الأحزان كالملجم، ومقطعات تقفو كل قصيدة في قافيتها، على أنها مثيرة الأحزان غير شافيتها، ونظمت من فصول المنثور، مقطعات في الزهد(151/33)
المأثور. على أن خطبي جليل، وخطابي كليل. فتنزهت في حديقتين زهراوين أنيقتين، وبحت بما كان مكتتماً، ونحت مفتتحاً ومختتما، وأنا أستغفر الله من تشحطي في تسخطي، ومن عاري الأشعار الكاسدة الأسعار وصفت فيها المقبوحين بالجمال والمنقوصين بالكمال. . . . وكنت نظمت كل هذه الأشعار إذ قلبي مشتعل، ثم أخرتها خمس سنين إذ لبي مشتغل، وفكرت في صرعة الموت، وفي سرعة الفوت، فبادرت الآن إملاء هذا الكتاب إذ رغبت إلى فيه بعض الكتاب، رجوت به الترحم علي من كل من يقرؤه؛ وعسى الله أن استحققت العذاب يعفو عني ويدرؤه). . . . . . .
(ابني متى أبني مجداً هدمه الدهر يوم مصابك؟ ومتى أخصب في ربع أمحله الدمع غب غيابك؟ تركتني في الإظلام نهاراً، وأجريت دمعي أنهاراً، فأي مرثية فيك أسلو بها، وإن أعجب الناس بأسلوبها، وأي عيشة بعدك ألهو بها، وحسرتك لا يطفأ حر ألهوبها؟ أستغفر الله قد سلوت بعض السلو، بأم العلو، أتتني بعدك على الكبر، فحمدت الله وعددتها من الحسنات الكبر ثم قلت بديهاً:
يهب الله لمن شا ... ء إناثاً وذكورا
فإذا أعطاك بنتاً ... فكن الراضي الشكورا
واسأل الله - لك الخي ... ر رواحاً - وبكورا
وأقم في العسر واليس ... ر وذر عنساً وكورا
فعلى الأفراخ حباً ... تألف الطير الوكورا
وما أتت إلا ورزقها معها، ما أقنط نفس المرء وأطعمها، ساعة أفرح بها فأسلو، وساعة بالحزن فيك وفيها أخلو، وطورا أمر أخلاقاً وطوراً أحلو، إذا ذكرت الموت اشتغل بال أمها بل بالي، وإن نظرت محاسنك فيها اهتاج بلبالي، فترحتي أكثر من فرحتي، وسبيل الدنيا هذي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل
حببت ابنتي وابني فقد عاشت ابنتي ... لهمي ومات ابني ولم يمت الحب
وما ذكر يشفي كأنثى تهمني ... ولكنني راض بما صنع الرب
وبهذا البيت تنتهي الخطبة الثالثة. ويليها شعر الديوان مرتباً على حروف المعجم في 182 صفحة، ويليه مندمجاً فيه مجموعة صغيرة من الشعر في نفس الموضوع التزم فيها لزوم(151/34)
ما لا يلزم، مرتبة على حروف المعجم كل حرف فيه 15 بيتاً. وتقع في 38 صفحة وبانتهائها ينتهي الديوان
الآن وقد قصصت عليك بإيجاز قصة اقتراح القريح المجهولة، أرى لزاماً علي أن أقص عليك قصة ناظمه الحصري المجهول. وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.
السيد أحمد صقر(151/35)
للتاريخ السياسي:
2 - اليوم السابع من مارس ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
في 28 فبراير نشرت جريدة (باري ميدي) حديثاً لمراسلها في برلين مع الهر هتلر، مبيناً فيه أن زعيم ألمانيا يود إزالة كل خلاف بين الجارتين وتوليد علاقات الود والألفة بين أعظم شعبين في أوروبا. وفي اليوم التالي، أي يوم السبت الموافق 29 فبراير، أرسلت حكومة باريس تعاليم إلى سفيرها في برلين، طالبة منه الإسراع في طلب مواجهة (المستشار الألماني) ورجائه في إبانة الطرق التي يعتقد أنها تزيل كل خلاف بين الشعبين الألماني والفرنسي، وإعلامه بأن حكومة باريس حريصة على إيجاد التفاهم بين الحكومتين
قام مسيو (فرنسوا بونسيه) بما عهد إليه. فقابله (المستشار هتلر) بحضور (فون نيرات) وزير الخارجية، وأجابه بأن الحكومة الألمانية باذلة جهدها في درس الموضوع بدقة، وقريباً تسلم إلى الحكومة الفرنسية اقتراحاتها. وقد طلب الهر هتلر بقاء هذه المحادثات سرية، تسهيلاً للوصول إلى الغاية، فقبلت حكومة باريس ما طلب، وظلت منتظرة خبراً من برلين، ولقد جاءها الخبر يوم السبت الموافق 7 مارس، وعندها أذاعت هذه المحادثات
وفي مساء الجمعة الموافق 6مارس أمر الهر هتلر باجتماع (الريشتاك) اجتماعاً فوق العادة؛ وفي الساعة 12 (في ألمانيا) من اليوم التالي وبحضور الوزراء وقف على منبر الخطابة وألقى خطاباً طويلاً ثم تلاه بقراءة المذكرة - التي سلمها فون نيرات إلى كل من سفراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا قبل إلقاء الهر هتلر خطابه بساعة، وقبل أن يترك منبر الخطابة أعلن أنه يحل (الريشتاك) ليتمكن الشعب الألماني من إبداء حكمه في أعماله وزملائه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة؛ وقد قرأ الجنرال (كيرنك) أمر الحل، وتعيين موعد الانتخابات في 29منه
وكان صوت زعيم ألمانيا قوياً وواضحاً، ولكن وجهه كان شاحباً، ودالاً على خطورة القرار الذي اتخذه، كما أن جوه الوزراء الصامتة والمفكرة، إذ ذاك، تفكيراً عميقاً وقلقاً، تظهر جلياً خطر الساعة وتخوفهم من العاقبة
وفحوى خطابه أن ألمانيا بلاد سلمية، تريد العيش بسلام مع جاراتها، غير أنها لا تقبل أن(151/36)
لا تكون متساوية وإياهم في الحقوق، وهي تريد نيل هذه المساواة والعمل مع الدول الأخرى على تقوية السلام، وأن حكومة برلين قد بذلت جهدها في التفاهم مع الدول الأوروبية، ولاسيما مع فرنسا؛ غير أن جهودها لم تقابل بحسن نية، بل قوبلت بالعمل ضد ألمانيا وحصرها، وكان آخر هذه الأعمال المعاهدة الفرنسية الروسية التي هي موجهة ضد ألمانيا، وقال:
(أنها لمأساة مروعة أن نرى في نهاية السنة التي بذلنا جهوداً شريفة خلالها لنيل ثقة الشعب الفرنسي، انعقاد تحالف حربي نعلم ابتداءه ولكن لا يمكن التنبؤ عن نهايته
(أن المحالفة الفرنسية الروسية لا تتفق مع معاهدة لوكارنو؛ وأن تلك المعاهدة تمكن إمبراطورية حربية عظيمة من تهديد أوروبا الوسطى عن طريق (التشيكوسلوفاكيا) التي عقدت مع الروسيا معاهدة مماثلة للمعاهدة الروسية الفرنسية
(أن روسيا السوفيتية دولة قائمة على مبادئ فلسفية ثورية، وأن إدخال هذه القوى الحربية الهائلة إلى أواسط أوروبا يهدم التوازن الدولي الأوروبي. . .)
ولم يذكر الهر هتلر مشكلة المستعمرات إلا عرضاً، وأبان بأن حلها سيكون عن طريق المفاوضات الودية، كي لا يثير الرأي العام البريطاني عليه، وقد بذل في سبيل نيل عطفه جهوداً أنتجت الثمر الذي يريده
وبينما كان الهر هتلر يلقي خطابه التاريخي، كانت الجيوش الألمانية تعبر أراضي الرين وتحتل في كولون، دسلدروف - وميتز وغيرها من مدن أراضي الرين
وقد اختلف في عدد هذه الجيوش، فهي ثلاثون ألفاً حسب التقرير الألماني، وتسعون ألفاً حسب التقرير الفرنسي، وما يقرب من ستين ألفاً حسب الرأي الإنكليزي
وجدير بالذكر أنه عندما أعلم الهر هتلر صباح السابع من شهر مارس، مسيو فرنسوا بونسيه بعزمه، أضاف باعتناء بأن احتلال أراضي الرين ما هو إلا رمزي. ولما ثار الرأي العام ولاسيما في فرنسا على التناقض الجلي بين قول زعيم ألمانيا وبين الواقع، أرسلت حكومة برلين، في 14مارس إلى لندن وباريس تصريحاً تقول فيه بأنه لا يوجد في أراضي الرين إلا (36. 500) ستة وثلاثون ألفاً وخمسمائة جندي. . . وإذا علم بأن عدد سكان هذا الإقليم يبلغ خمس عد سكان ألمانيا أي أربعة عشر مليوناً ونصف مليون، ومساحته ثمن(151/37)
مساحة ألمانيا، وفيه مدن كبيرة يظهر من عدد الجنود التي فيه بأن احتلاله لم يكن إلا رمزياً
وأعلنت ألمانيا في المذكرة التي قدمتها إلى دول لوكارنو الأربع بأنها غير مرتبطة بمعاهدة لوكارنو. وذكرت في صدرها الأسباب التي دعتها إلى اتخاذ هذا القرار وكلها مبنية على مناقضة المعاهدة الفرنسية الروسية للوكارنو، وتقول الحكومة النازية بأنه:
(1) لا جدال في أن المعاهدة الفرنسية الروسية موجهة خصيصاً ضد ألمانيا
(2) لا خلاف في أن فرنسا أخذت على عاتقها واجبات، في حالة حدوث اختلاف بين ألمانيا والروسيا تفوق الواجبات التي تضعها على عاتقها عصبة الأمم، وأنها - أي الواجبات - ترغم فرنسا على إشهار السلاح ضد ألمانيا، حتى في الحالة التي لا تستطيع فيها نيل موافقة عصبة الأمم أو قرار بذلك
(3) في مثل هذه الحالة تدعي فرنسا الحق في أن تقرر وحدها وحسب إرادتها من هو المعتدي -
(4) لا جدال في أن فرنسا قد أخذت على عاتقها واجبات نحو الروسيا توجب عليها العمل في بعض الظروف، كما لو كان ميثاق عصبة الأمم ومعاهدة لوكارنو، التي تستند على ذلك الميثاق غير موجودين
وتدعي المذكرة أن المعاهدة الفرنسية الروسية أوجدت حالة دولية جديدة، وأزالت النظام السياسي لمعاهدة لوكارنو في حرفه وفي معناه و (بالتالي فقدت لوكارنو السبب الذي من أجله أنشئت، وعملياً زال وجودها. ولذلك ترى ألمانيا أنها غير مرتبطة بهذه المعاهدة الملغاة)
وتنتهي هذه المذكرة بتقديم حكومة برلين إلى دول لوكارنو نظاماً سياسياً جديداً ليحل مكان معاهدة لوكارنو وليزيل الاضطرابات السياسية الدولية، ويولد - في رأي حكومة برلين - الثقة الدولية التي بدونها لا تتقدم المدنية ولا يستمر السلام. وأهم نقطة:
(أن الحكومة الألمانية تصرح بأنها مستعدة للتفاوض مع فرنسا وبلجيكا لإنشاء إقليم مشترك غير مسلح، وأنها توافق من الآن على مقدار امتداده ومساحته، على شرط المساواة القطعية في ذلك. والحكومة الألمانية تقترح إيجاد معاهدة عدم الاعتداء بينها وبين فرنسا وبلجيكا(151/38)
لمدة 25 سنة، وأن تكون بريطانيا وإيطاليا كفيلتين على ذلك
والحكومة الألمانية مستعدة لإمضاء معاهدة تمنع الهجوم الجوي الفجائي، ومعاهدة عدم الاعتداء مع جاراتها في الشرق كالمعاهدة التي عقدتها مع بولونيا
وبما أن حكومة برلين قد نالت المساواة في الحقوق وأقامت سيادتها القومية في البلاد الألمانية أجمع، فهي مستعدة للاشتراك في عصبة الأمم، وتأمل الوصول في وقت قريب، عن طريق المفاوضات الودية إلى المساواة في المستعمرات وفصل عصبة الأمم عن معاهدة فرساي)
وقد صرح مستر إيدن في مجلس العموم في 9 مارس أن السفير الألماني أعلمه بأن حكومته ما عرضت اشتراكها في عصبة الأمم إلا لتسر الإنكليز وترضي الرأي العام البريطاني!
تبع الضربة المسرحية في برلين اضطراب شديد في الدوائر السياسية. . . وكانت برلين في قلق شديد، تارة ترى أن عملها يذهب الثقة بعلاقاتها الدولية، وأن حوادث 7 مارس ستقرب فرنسا من بريطانيا، وتكون نتيجة ذلك الحصر الكامل لحكومة برلين والضربة القاضية على سياسة هتلر الخارجية؛ وتارة ترى أن الفرج قريب إذ لندن غير موافقة على اقتراحات باريس في تطبيق (العقوبات) عليها وإرغامها على سحب قواها الحربية من أراضي الرين. وقد أخذ رجال الحكومة النازية في إلقاء الخطب وتدبيج المقالات، وبعضها موجه إلى الشعب البريطاني للتقرب إليه ونيل عطفه، والبعض الآخر يهدد فرنسا إن هي لم تقبل منهاج هتلر وتسير عليه
وكان الهر هتلر في جميع خطبه يتودد إلى (الرأي العام) وخصوصاً البريطاني؛ وكان يوجه نداءه إلى (رجل الشارع) ويصرح بأنه يريد التفاهم الخالص مع فرنسا. . . وبأنه لا غاية لألمانيا إلا العيش بسلام مع جاراتها، وأن العمل الذي قامت به ما كان إلا لتحقيق سياسة دولية عملية مبنية على المساواة في الحقوق وعلى السلام في أوروبا، وإنعاش الاقتصاديات الدولية. .
ولما قامت الصحف الباريسية بإظهار سوء النية المطوي في منهاج الهر هتلر وفي أنه يريد السلام مع دول، والحرب مع دول أخرى. . . ولما سأل السير أوستن شمبرلين في(151/39)
مجلس العموم عما إذا كانت النمسا في الدول التي يريد الهر هتلر عقد محالفات (عدم الهجوم) معها، اضطر الهر هتلر إلى التصريح لمراسل جريدة لندنية بأنه مستعد لعقد معاهدات (عدم الهجوم) مع النمسا وكذلك مع تشيكوسلوفاكيا. . .
أما الجنرال كيرنك فكان يحمل علم التهديد، وقال في خطابه الذي ألقاه في فرنكفور في 17 مارس: ربما أثر التهديد (بالعقوبات) في ألمانيا عام 1932، ولكنه لا يؤثر على الشعب الذي تدرب طيلة السنوات الثلاث الأخيرة في مدرسة النازي، وإن استعمل الضغط الاقتصادي ضد ألمانيا فإنها تدعو الحزب النازي إلى المعركة القاسية التي تولد حماسة مقدسة وتشد عزم الشعب الألماني وتزيد قواه، وأن تهديد ألمانيا حربياً لا يثبط عزيمتها، بل هي تجيب على ذلك: (إنكم كنتم نياماً. أما ألمانيا فلم تكن نائمة) أنها قد تسلحت وأصبحت جد قوية، وهي لا تهاب شيئاً. . . وإن الذي يود تهديدها والاعتداء عليها سيدفع ألوفاً من الأرواح بدل كل (بوصة) من الأراضي الألمانية. . . ولا يحق لأحد غير الشعب الألماني أن يحكم فيما إذا كان عمل ألمانيا قانونياً أم لا (!!). إن ألمانيا قدمت خدمات جليلة للسلام، غير أن هناك أموراً لا يمكنها عملها: يجب أن تبقى الجيوش الألمانية في أراضي الرين
وكان الدكتور كبلس يساعده على رفع ذلك العلم، فحاول في الخطاب الذي ألقاه في 10 مارس في برلين مجيباً مسيو سارو الذي قال بأنه لا يمكن الاعتماد على المعاهدات التي تعقد مع ألمانيا، إقناع الرأي العام بأن ألمانيا تحترم إمضاءها وتحافظ على حرمة المعاهدات التي توقعها، ودليله على ذلك بأن ألمانيا محترمة معاهدتها مع بولونيا (!). وقال بأنه يجب على فرنسا أن تعتبر بدقة الحالة الراهنة، لا بالتشبث ببنود معاهدة لا يمكن للشعب الألماني احتمالها (!!)
ولقد خرج في كلامه عن اللياقة الدبلوماسية حين قال في خطابه الذي ألقاه في فرنكفور في 23 مارس: (إن ألمانيا ترفض العمل ضمن الدائرة السياسية القديمة. سياسة القطة التي تسير حول الحليب الساخن. إن الجيوش الألمانية قد احتلت أراضي الرين، فيجب أن تبقى هناك برمتها دون أن يسحب منها جندي واحد. . . وسترغم الأمم على المفاوضة مع ألمانيا حسب (اقتراحات الهر هتلر) خلال الأشهر القادمة، أرادت ذلك أو لم ترده. . . . . .
(لندن)(151/40)
(يتبع)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق(151/41)
ملاحظات متواضعة على مشروع
ترجمة معاني القرآن الكريم
بقلم المستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وليس من شك في أن الله عز وجل حين أنزل القرآن الكريم شاء أن يعم نشره بين الملأ، لا ليجعله وقفاً على أولئك الذين يحتكرون معانيه في صدورهم، ولا يعملون على ترجمته ونشره بين الذين هم أقل مكانة منهم في المعرفة. ألم يقل النبي الكريم: بلغوا عني ولو آية؟ وكيف يكون التبليغ إلا إذا كان بنقل القرآن إلى لغات الأمم والشعوب؟ وقديماً اعتبرت التفاسير ترجمة لمعاني كتاب الله وتحليله وشرحه حتى يكون في متناول الأذهان الأمم قاطبة
إن الإسلام دين الأذهان المستنيرة، وأن أصحاب العقول البارعة يجدون فيه متعة روحية شهية، وسوف يكون هذا الدين بفضل ترجمة كتاب الله معتقد الطبقات الرفيعة في العالم. وأنا أعرف في بلادي وفي أوروبا عامة رجالاً مستنيرين في أرفع الأسر يحترمون الإسلام لمجرد أنهم قرءوا ترجمة كتاب الله الكريم، وهم يوشكون أن يتخذوه ديناً ولو في سرائرهم. ومنذ خمس سنوات أسلم في فينا رجل من أعرق الأسر الرفيعة، هو البارون آرن فلس وسمى نفسه عمر. وأسلم مجري آخر كبير هو فيلكس فاي. وهذا دليل على سمو الإسلام الروحي والذهني لأنه دين صحيح يستولي على رجال الفكر ويقنعهم بصحة آرائه. أن الإسلام لا يدعو إلى الأنانية والتعصب، بل إلى الأخوة والحضارة الجديدة ونشر ألوان العلم والعرفان، وترجمة القرآن هي أول خطوة في سبيل قبر التعصب والجهل
من ذلك أرى أنه لزام على العلماء أن يظهروا للناس كتاب الله، ولا يجعلوه وقفاً على من يعرفون العربية وحدها. بل يجب عليهم أن يترجموا معانيه ويقبلوا على تفسيرها ولا يخشوا في الحق لومة لائم
فلا العلوم الحديثة، ولا المعارف، ولا فلسفة الغرب تستطيع أن تطفئ نورانيته وعظمته، فهو كالشمس إذا سطعت حجبت ذبالات الشموع الخافتة. ولتأخذ هذه التراجم صفة الشروح(151/42)
والتفاسير بدلاً من أن يطلق عليها في اللغات الأخرى اسم (القرآن)
أجل فلنقاوم الجهل والتعصب، ولننشر كتاب الله الكريم لا في الإنجليزية وحدها، بل في لغات الملايو والهندستانية والمغولية، وليكن نشر هذا الكتاب بنفس أسلحة القرن العشرين. فالفاصل الذي يفصلنا اليوم عن المعرفة الحديثة شاسع جداً إلى حد يجعل اعتمادنا على ما في أيدينا من تراث الأجيال، من الأسلحة العتيقة التي لا يمكننا بها مقاومة الموجات التي تجرفنا من عالم الغرب
ومن رأيي أن ترجمة معاني القرآن ستنتج عنها مسائل هامة. فبعض الناس عارضوا هذه الفكرة بحجة أنها ستكون سبباً في فصم عرى الوحدة العربية، وستحدث تقاطعاً بين الأخوان المسلمين في أنحاء العالم، ولكن بالعكس، فالترجمة ستكون سبباً في إشعال الحماس الديني عند ملايين ممن لا يفقهون كتاب الله الكريم، وستساعدهم هذه الترجمة على تفهم اللغة العربية وازدهار عصر التبشير الإسلامي
وإذا ما أتيح لنا أن نستقصي البواعث التي أدت إلى انحطاط بعض الطوائف الإسلامية وجب أن نسلم بأن سببها أن حكامهم كانوا يتكلمون لغة لا يفقهها العامة. وعلى الرغم من تعاليم الإسلام السامية ظلت هذه الطوائف ترسف في العبودية والجهالة والفقر، حتى نتج من ذلك وقوعها في الكثير من الأضاليل والبدع التي لا أصل ولا وجود لها في التعاليم المحمدية النقية. حتى أجبرت هذه الطوائف على الخنوع وألزمت أن تحني رؤوسها احتراماً أمام الجبروت الطاغي. هنالك وجدت سلوتها في الشعوذة الدينية، وأصبحت على عيون أهلها غشاوة تحجب عنها حقيقة الدين الحنيف. وانحط مستوى اللغة العربية إلى حد تفشت فيه الأمية وانتشرت العامية بين الأوساط الراقية. ومما أذكره والأسى يقطر من فؤادي، أنني لما زرت القاهرة لأول مرة كان الناس يدهشون إذ يرون رجلاً أجنبياً يتكلم العربية الفصحى، مع أنه أمر مألوف في الأوساط الألمانية والإنجليزية، ويندر أن تجد واحداً يتلفظ بكلمة واحدة دارجة
فليكن في ترجمة القرآن إذن، رفع لقدر اللغة العربية، وليكن رفعها إلى مستوى الكتاب، فالقرآن هو مصدر الثقافة الإسلامية وسبب انتشارها في الشرق والغرب، وهو السلاح الماضي الذي يحسم الداء(151/43)
لقد كان إنجيل لوثر سبباً في رفع شأن اللغة الألمانية، وسبيلاً إلى إدماج لهجات القبائل المختلفة بعضها في بعض، فيجب أن تكون ترجمة القرآن الكريم سبباً في رفع العربية، وليرع الأزهر هذه الحركة الجديدة بكل ما فيه من عزيمة وقوة حتى تخرج إلى حيز العمل. فقد كان القرآن كلمة الله في البداية، ومنها انبعث كل ما في الإسلام من محبة وأخوة وسلام
(بودابست)
عبد الكريم جرمانوس(151/44)
أندلسيات
أبو الفضل بن شرف
الشاعر الفيلسوف
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
(بقية ما نشر في العدد 149)
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم. فقال له: من أي البوادي أنت، قال أنا من الشرق في الدرجة العالية، وإن كانت البادية على بادية، ولا أنكر خالي، ولا أعرف بحالي. فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كلا من حضر. وهذا ابن أخت غانم العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر من أعيان مالقة متفنن في علوم شتى إلا أن الغالب عليه علم اللغة. وكان قد رحل من مالقة إلى المرية فحل عند ملكها المعتصم ابن صمادح، وله تآليف منها شرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري في ستين مجلدا. قال ابن اليسع في مغربه أنه حدثه بداره بمالقة وهو ابن مائة سنة وأخذ عنه عام 524. . . وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم الأديب أبو محمد غانم بن الوليد المخزومي نسب إليه لشهرة ذكره وعلو قدره. ومن شعر الإمام أبي محمد غانم هذا قوله - وقد دخل يوماً على باديس بن حيوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها:
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبيْنِ
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين
وقوله:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله ... كان على أيامه بالخيار
وقوله في نكبة المعتمد بن عباد:
ومن الغريب غروب شمس في الثرى ... وضياؤها باق على الآفاق
وقوله:(151/45)
ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقُوتُ
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه دُرٌّ وياقوت
وكل ذلك من الحديث النبوي الشريف: من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها. ومن بديع قول أبي الفضل بن شرف المترجم من قصيدة يمدح بها المعتصم بن صمادح:
لم يبق للجور في أيامكم أثر ... غير الذي في عيون الغيد من حور
وأول هذه القصيدة:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ومن هذه القصيدة في وصف السيف:
إن قلت ناراً أتندى النار ملهبة ... أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر
ومنها في وصف الدرع:
من كل ماذية أنثى فيا عجبا ... كيف استهانت بوقع الصارم الذكر
وكان قد وفد على المعتصم مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية المذكورة. ولما بلغ قوله: لم يبق للجور في أيامكم أثر. قال له المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها؟ فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، وعزل عنها نظر كل وال. . . ومن شعر أبي الفضل بن شرف: -
يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه
أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه
وقال: -
لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيّا
وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادماً كلتا يديا
وأبكي ثم أعلم أم مبكا ... ي لا يجدي فأمسح مقلتيا
ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليّا
وإن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا
زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيّا(151/46)
أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني إن مت حيا
ويروى له: -
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود
وأرسل إليه الشاعر ابن اللبانة بأبيات يواسيه بها ويحثه على النهوض وهي: -
يا روضة أضحى النسيم لسانها ... يصف الذي تهديه من أرجائها
ومن اغتدى ثم اهتدى لطريقة ... ما ضل من يسعى على منهاجها
طافت بكعبتك المعالي إذ رأت ... أن النجوم الزهر من حُجاجها
شغلت قضيتك النفوس فأصبحت ... مرضى وفي كفيك سر علاجها
هلا كتبت إلى الوزير برقعة ... تصبو معاطفه إلى ديباجها
تجد السبيل لهم ولا تك للمنى ... وينير سعيهم بنور سراجها
أنت السماء فما بها لك رفعة ... طلعت عليه الشهب من أبراجها
وضحت مفارق كل فضل عنده ... فاجعل قريضك درة في تاجها
فكتب إليه المترجم:
يا منجدي والدهر يبعث حربه ... شعثاء قد لبست رداء عجاجها
لله درك إذ بسطت إلى الرضا ... نفساً تمادى الدهر في إحراجها
وأرقت ماء الود في نار الأسى ... كالراح يُسكر حدُّها بمزاجها
فيَّأتِني تلك الغمام فبرّدت ... من غلة كالنار في إنضاجها
فأويت تحت ظلالها ووجدت بر ... د نسيمها وكرعت في ثجاجها
قل كيف تنعش بعد طول عثارها ... أم كيف تفتح بعد سدر تاجها
لأزيد في أمري وضوحاً بعد ما ... قامت براهين على منهاجها
فأكون إن زدت الصباح أدلة ... خرقاء تمشي في الضحة بسراجها
دعني أبرد بالقناعة غلة ... يأس النفوس أحق في أثلاجها
بكر بخلت على الأنام بوجهها ... ومنعتها من ليس من أزواجها
وصرفتها محجوبة بصوانها ... مثل السلوك تصان في أدراجها(151/47)
كالنور في أكمامها والبيض في ... أغمادها والغيد في أحداجها
فالنفس إن ثبتت على أخلاقها ... أعيا على النصح طول لجاجها
وإنك لترى للمترجم له مع ذلك رسائل بديعة أنيقة الوشي حسنة التحبير، تنم على دقة حسّه البياني، وذوقه الفني، وتفننه في جميع فنون المراسلات والمراجعات، وأنه مُحسْن في جميع فنون الأدب إحسانه في الطب والحكم، فهو شاعر كاتب حكيم طبيب، ولا جرم أنه انحدر من صلب ذلك الأديب العبقري ابن شرف القيرواني الذي غَمرَ ابنه هذا وأخمله حتى نحله مؤرخو الأدب العربي في عصرنا أكثر شعر ابنه
عبد الرحمن البرقوقي(151/48)
الحياة الأدبية في شرق الأردن
بقلم السيد جريس القسوس
ما كنت أرغب في التعرض لهذا الموضوع، لو لم تنشر (الرسالة) الغراء بحوثاً ممتعة لمختلف الكتاب عن الحياة الأدبية في بلدانهم. لهذا رأيت من واجبي، وأنا بعيد عن شرق الأردن، أن أقدم للقراء الكرام صورة صادقة بقدر الإمكان عن الحياة الأدبية في شرق الأردن. أقول هذا وأنا أشعر بحروجة الموقف ودقته، إذ لا يخلو مثل هذا البحث من بعض الخطأ مهما توخى الباحث العدل والصدق في بحثه
لم تكن بلاد ما وراء الأردن، منذ خمسة عشر عاما، إلا جزءاً من سورية لا ينفصل، فهي لذلك بلاد فتية في تكوينها السياسي وفي نهضتها الأدبية والاجتماعية. أما والمقصود من هذا المقال النهضة الأدبية، فلنقتصر على هذه، تاركين البحث في السياسة والاجتماع لعلمائهما
دبت في شرق الأردن حياة أدبية جديدة، لم يكن لنا عهد بها قبل بزوغ فجر الإمارة. فكان أول عمل قامت به الحكومة فتح المدارس الأميرية، من قروية وابتدائية وثانوية، وتحسين برامج التعليم، وتوحيدها إلى حد ما، في مختلف المدارس الطائفية وغير الطائفية، حتى أصبحت تنهج جميعاً نهجاً واحداً سوياً نحو إيقاظ الروح العربية الكامنة، والتوفيق بينها وبين التيارات الجارفة التي بدأت تطغي على هذه البلاد من الغرب. كانت شرق الأردن بحكم الوضع السياسي والجغرافي، قبل الحرب العظمى، بلداً مجهولاً، ولانزوائه وانقطاعه عن البلدان العربية المجاورة لم يتسن لأهله الاحتكاك بأهل الأقطار الأخرى كل الاحتكاك، فتمتزج بذلك الثقافات، ولو كانت شبه متجانسة، فتتفاعل ويتولد عن ذلك روح ويقظة جديدتان. كانت الحياة الأدبية قبل ذلك راكدة، والنفوس فاترة، والمواهب كامنة؛ فلم تنبعث إلا بتأليف حكومة سمو الأمير المعظم؛ عندئذ دخلت البلاد فئة راقية من أدباء الأقطار المجاورة، وخاصة سورية؛ فكان دخول هذه الفئة البلاد باعثاً كبيراً على إحياء الأدب العربي، وإحداث نهضة فكرية مباركة لا نكون مبالغين إذا سميناها بالرنسانس؛ فكان مثلاً لقصائد الشيخ فؤاد باشا الخطيب شاعر الثورة، والأستاذ محمد الشريقي وغيرهما من الأدباء الذين رافقوا الثورة العربية، وطوّحت بهم الأقدار إلى هذا القطر الجديد، أثر لا(151/49)
يستهان به في إحياء الآمال في نفوس الأحداث، وقد كانت ميتة آنئذ، وفي إيقاظ الروح الأدبية الكامنة، وتوجيهها في السبل القويمة
لقد نشطت الحكومة، بعد استقرار الوضع السياسي في البلاد، إلى إرسال البعثات العلمية سنوياً إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرها من المعاهد الراقية في سورية وفلسطين، وتنبه الشعب الأردني إلى فضل العلم والأدب في نهضات الشعوب، فبادروا إلى إرسال أبنائهم على نفقتهم الخاصة إلى بيروت والجامعة السورية في دمشق، وإلى المدارس الثانوية في فلسطين، ولكثرة الطلاب كثر الإقبال على مطالعة الأدب، المصري منه والسوري؛ فكان أثره في إيقاظ الحركة الفكرية، وتجديد الحياة الأدبية غير يسير
كل ذلك كان يحدث، بينا الصحافة المصرية تغذي نفوس الأحداث بأدبها الراقي وعلمها الصحيح. ولا أبالغ إذا قلت إنه كان (للرسالة) أثر ملموس في إحياء النهضة الفكرية، وتشجيع الحياة الأدبية في البلاد. فقد كان إقبال الطلاب خاصة على مطالعتها شديداً. وأنني - أذكر على سبيل - أنه كان يباع منها في حين نحو ثمانين عدداً أو أكثر في بلد صغير كالسلط. (فالرسالة) وغيرها من المجلات والصحف العربية كانت ولا تزال، تسد عوز البلاد وافتقارها إلى صحافة حرة تعمل على تشجيع الإنتاج الأدبي، (وتحيي في النشء أساليب البلاغة العربية)
بيد أنه، وإن لم يقم في شرق الأردن إلى الآن مؤلف بالمعنى الصحيح، أو أديب منتج يستمد مادته وموضوعه من الحياة، إلا أننا نرى طلائع نتائج هذه العوامل المختلفة في تكوين النهضة الأدبية الحديثة في قيام فئة قليلة من حملة الأقلام النثرية كأديب عباسي، والدكتور محمد أبو غنيمة، وبشير الشريقي، وعبد الحليم عباس، والبدوي الملثم وغيرهم؛ والشعرية أمثال مصطفى وهبي التل شاعر النوَر، وصاحب ديوان (عشيات وادي اليابس)، وحسني فريز، والشيخ رشيد زيد، وحنا الشوارب وغيرهم من الأدباء الأحداث
لكن شرق الأردن تمتاز عن الأقطار العربية الأخرى، وخاصة الساحلية، بنوع خاص من الأدب، أعني به الشعر البدوي. وهو، وإن قل، من حيث الكمية والنوع عما قبل، فأنه لا يخلو من عناصر حية تميزه عن غيره من الشعر الراقي المعروف في شرق الأردن وفي كثير من البلدان العربية. والشاعر البدوي شاعران: شاعر رواية، يحفظ، على أميّته كمية(151/50)
وافرة من القصائد المختلفة، قديمة كانت أم حديثة، ويلقيها في شتى المناسبات كمجالس الشيوخ والأفراح المختلفة من مولد وختان وعرس! وشاعر منشئ مبتكر، وعدد الفئة الأخيرة يسير جداً إذا قيس بالفئة الأولى. وأكثر ما يكون الشعراء المنشئون في مضارب البدو على سيف الصحراء. أما أشهر أبواب الشعر البدوي في المدح والحماسة والغزل والعتاب والرثاء. ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نتبسط في وصف هذا الشعر، وفي معالجة شتى أبوابه بإسهاب؛ لكننا نقتصر على ذكر فريق من الشعراء البدو المخضرمي - أي الذين نشأوا في أواخر القرن التاسع عشر ولحقوا العشرين - ونخص منهم بالذكر نمر العدوان؛ وقصيدته في رثاء زوجه فصحاء مشهورة، تتناقلها الألسنة في كل مكان. وهو يستهلها بمخاطبة ابنه عقاب قائلاً: -
البارحة يا عقابْ يومَ القمرْ غاب ... بليلة العيد السعيد الجديد
إلى أن يقول، واصفاً نفسه بعد ما ألم بها من حزن لفقد زوجه:
كل ما غشيت أمراحْ أو جئتْ مرقابْ ... لَجوح جوحَ الذيب وعضّ بيدّي
أنهفْ ونوح وَأقطر الدمعْ سكّابْ ... على صويحبيِ اللي راح ما هو من إيدّي
يا قلبي تقولْ سفوتّ حديد شبّاب ... يا مهجتيِ لو أنّه حجرْ كِن صار شيد
من لامني يا عقابْ يبلى بأرقط ثاب ... من جنّة الوهاب ما يستفيد
ومعنى هذه الأبيات (أنني كلما مررت بربع، أو صعدت جبلاً، عويت كالذئب، وقضمت كفي حزناً، ونحت وسكبت الدمع مدراراً على صاحبي المفقود؛ وإن بقلبي ناراً تضطرم اضطراماً يكاد منها ذلك القلب لو كان حجراً، أن يصير كلسا. ألا فليبتل يا عقاب من لامني في ذلك بحية تميته ميتة لا يدخل بعدها الجنة)
ومن هؤلاء الشعراء أيضاً أبو الكباير من قبيلة الشرارات، وهو مشهور بالشعر الحماسي، ووصف الغزوات والمعارك. وقصيدته في مدح عودة أبي تايه وقد تحاربت قبيلته مع أهل الكرك. وفي هذه القصيدة يقول، بعد أن يستهلها بذكر الله وطلب عفوه وغفرانه، شأن غيره من شعراء البدو:
قُمْ يا علي نُشْرفْ على كلّ طايلْ ... شدّيتْ عوصا تقطعْ الدوّ حايلْ
أي انهض يا علي (وهو بطل الطليعة) وأعدّ فرسك، لنقطع الفلاة، ونشرف على مواقع(151/51)
الأعداء.
إلى أن يقول واصفاً مرابع عودة أبي تايه:
تلقى بيوتاً بنوابي نزيله ... تلفى حميل دللاهم عن نفيله
ألبن بالهيوان تسمع صهيله ... عزام لوجوه الماسيير زافات
تلقي شايباً عندهم مستعدِّ ... الحرّ إليّ بالملازم يسدّ
عنه بحوض الخيل يوماً يهد ... عن حرب أبو تايه إليّ لَه الفعل عاداتِ
(أي تلقى منازلهم مضروبة في أعلى الروابي دلالة على شجاعتهم، وعدم خشيتهم العدو؛ وفي مطارح النار تلقى حثالة البن دلالة الجود. وفي تلك الخيم تسمع صوت الهاون؛ إذ يدق فيه البن، فيكون بصوته ذاك داعياً للخير والضيافة؛ تجد شيخاً حراً مضيافاً، وفارساً مغواراً تتجنب الفوارس بطشه، وترتعد له الفرائص عند الحرب، هو عودة أبو تايه)
ومن الشعراء المداحين سالم المرعي وعلي القزيعي وغيرهم، وأنا أعرف من الشعراء الأحياء الذين يجيدون قرض الشعر البدوي في شتى الأحوال ومختلف الظروف: محمد بن هلال، وسعود المجالي في الكرك. وقد يكون غير هؤلاء في مضارب البدو في الشمال وفي الداخل، لكن دراسة هذا النوع من الشعر دراسة عميقة، وتدوين هذه الأشعار قبل أن تعبث بها أيدي البلى يحتاج إلى مشقة كبيرة من تنقل بين مضاربهم وتعرف إلى أماكنهم وأحوالهم، وطرق عيشهم
ولقد فاتني أن أذكر أن الشيخ رشيد زيد الذي مرّ ذكره مع طبقة الشعراء المجيدين في الفصحى، ليحسن نظم الشعر البدوي. وقد أتيح لي أن أسمع له قصائد رائعة، وعالية النفَس في هذا النوع من الشعر، يعارض في بعضها قصائد مشهورة كاليتيمة وغيرها
والخلاصة أن الحياة الأدبية في شرق الأردن ضئيلة ضعيفة إذا ما قورنت بغيرها من الأقطار العربية، على أن سريها في مضامير النشوء والتطور على هذا الشكل المدهش ليدعو إلى التفاؤل الشديد. وأنا لا أشك في أنه سيأتي يوم تصبح فيه شرق الأردن بفضل هذه العوامل المختلفة التي بسطناها، وبفضل غيرها، حية بأدبها، وغنية بأدبائها. ولا بد قبل الختام من الاعتراف بما لقصر رغدان من فضل كبير في تنشيط هذه الحياة الأدبية؛ فقد كان ولا يزال يحدب على الأدب، ويؤازر الأدباء، ويشرق على نفوس الشباب بالنور(151/52)
والحياة
(بيروت - الجامعة الأمريكية)
جريس القسوس(151/53)
بعد احتلال أديس أبابا
فضيحة القرن العشرين!
(قطعة مهداة إلى جلالة الإمبراطور العظيم (نزيل فلسطين))
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . حق صريح يصان في عصور الظلام، وأمة آمنة تسلم في قرون الجهل، أفيعبث بهذا الحق في القرن العشرين، قرن العلم والنور. . . ويُعتدى فيه على هذه الأمة، فتسرق أرضها وحريتها وسعادتها؟
يا لفضيحة القرن العشرين!. . . يا لضيعة المبادئ الإنسانية! يا لخيبة العلماء والأدباء والأحرار!. . يا لإفلاس الحضارة الغربية. . يا للعار على الفكر البشري!
أتبنى المدارس، وتفتح المعاهد، وتشنأ المحاكم، لتبث مبادئ الحق والخير والفضيلة، وتعمل على ذلك دهوراً، فيأتي طاغية من طغاة الغرب فيهدمها كلها بطلقة واحدة من مدافعه، وترجع بالعالم إلى الوراء عشرين قرناً، ولا يجد من يأخذ على يده، وينصف الإنسانية منه؟
أيهزأ طاغية روما بكل المبادئ التي يقدسها البشر، ويدوسها بقدميه وأقدام جنوده، ويستعبد أمة بكاملها لم تستعبد منذ فجر التاريخ؛ ثم يمضي هؤلاء (الممثلون) في طريقهم إلى (مسرح جنيف) ليمثلوا عليه بقية المهزلة. . . هذه المهزلة الدامية التي كان أول ضحاياها عظمة الفكر البشري، وجمال الحضارة الحاضرة، ومبادئ جمعية الأمم؟
ارجعوا يا هؤلاء، ارجعوا إلى بلادكم، قد تمزق الستار وبدت من خلاله الوجوه المصطنعة واللحى المستعارة والسيوف الخشبية؛ ورأى الثقلان أن (جبار جنيف) لم يكن إلا صنماً من أعواد، أقامه الأقوياء ليخدعوا به عباد الأصنام من الأمم الضعيفة، عن حريتها وحقها ومالها
ارجعوا فأظهروا أنيابكم التي سترتموها، وأظافركم التي أخفيتموها. . . ما أنتم أيضاً إلا ذئاب
أما أنت أيها الإمبراطور الحبشي العظيم، أيها الجندي المجاهد الشريف، فتعزّ واصبر(151/54)
وارتقب، فليس مع خصمك إلا الحديد والنار، ولكن العالم كله معك، والقلوب كلها تخفق بحبك، وبغض عدوّك. إن الحب والبغض هما أقوى سلاح في الوجود، وأنهما إذا لم يقوما اليوم للمدفع والطيارة، فلن يقوم لهما غداً طيارة ولا مدفع، وأن خصمك يستطيع اليوم أن يخطب فيصيح ويفخر ويهدّد، ويستطيع أن يجرّد الجيوش، ويسير الأساطيل، ويطلق المدافع؛ ولكنه لا يستطيع أن يصنع المسمار الذي يسمر به الفلك، فيقفه عن الدوران، ولو جمع له كل حديد الأرض. إن الفلك يدور أبداً، فيقوى الضعيف، ويضعف القوي، ويشب الطفل، ويهرم الشاب، ويرتفع من كان في الحضيض، ويهبط من كان في الأوج؛ فاصبر وارتقب
إنك لم تجبن ولم تفرّ، وقد أعذرت إلى أمتك ونفسك وإلى التاريخ، فما ألوت في الجهاد جهداً، ولا ادخرت عنه أيداً، وكأني أنظر إليك الآن وقد في كنت دارة عرشك، وقرارة ملكك، وموطن شعبك؛ وكنت آمناً مطمئناً، تتعهد بلدك بالإصلاح، وأمتك بالتهذيب والتعليم، فما راعك إلا صوت الصريخ تدوي به أروقة القصر، فهببت مذعوراً - وما كنت بالذي يذعر أو يضطرب - واستخبرت الخبر، فعلمت أنه الموت قد حمله المتمدنون إلى بلادك ألواناً، فخففت إلى هؤلاء الممتدين تسألهم ماذا يريدون؟
- قالوا: نريد بلادك فاخرج منها، أو فابق فيها عبداً لنا وخادماً!
- قلت: وأي ثأر لكم عندي، وأي عداوة بيني وبينكم؟ أهي أن جاء قوم منكم منذ حين يريدون قتلنا، فرددناهم عنا؟ أليس لنا أن ندافع عن أنفسنا؟
- قالوا: صه! أنت متوحش. . . . أنت متأخر. . . . وقد جئنا لنعلمك ونعلم شعبك، ونحمل إليهم حضارتنا ومدنيتنا، فإذا أنت لم تسمع وتطع كلمناك بلسان البارود والغاز الخانق والنار والحديد. . . . .
فثار في عروقك الدم العزيز الذي لم يذلّ منذ ألفي سنة، فأهبت بجمعية الأمم، وناديت حماة السلام. فلما لم تجد منهم مجيباً، صرخت في شعبك أن خذوا السلاح وتأهبوا للموت، فإن في الديار لصوصاً متمدنين، من أحفاد كافور وغاريبالدي ودانتي ورفائيل. . . يريدون أن يسرقوا حياتكم وحريتكم وبلادكم!
فهبوا للنضال. . . ولكنهم سقطوا شهداء، أمام وحشية المدنية، وجهالة العلم، وذئبية(151/55)
الإنسان!
لا! إنك لم تنهزم ولم تغلب، ولكن غلبت المبادئ يا أيها الإمبراطور العظيم، وانهزمت الفضيلة، وديس الحق، وأفلست مدنية القرن العشرين!
إنك لم تنهزم، وإن الطليان لم يمتلكوا أرض الحبشة، لأن العصر عصر الأمم لا عصر الملوك، وقد استسلمت أنت مرغماً للقضاء، ولكن استسلامك للقضاء، وتركك أرضك للأعداء، لا يسلم أمتك إلى الفناء. إن هذا الشعب الذي عاش حراً عشرين قرناً، لا يستسيغ الاستعباد في عشرين شهراً، ولا في عشرين سنة، وإنه سيجاهد ويناضل ويقاوم ويقاتل، ما بقي فيه شخص واحد يمشي على أرض الحبشة. ويسمع صراخ الأجداد من أعماق الثرى. . . وأعالي السماء. . . تدعوه إلى إنقاذ رفاتهم من نعل الأجنبي الغاصب أن يطأها ويعبث بها؛ وأن الغالبين قد يملكون اليوم الدساكر والقرى، وينشئون القلاع والحصون، ولكنهم لن يمتلكوا القلوب، ولن ينشئوا فيها الحب، وهاهي ذي طرابلس، بل هذه هي الأندلس:
ألم تسمع أيها الإمبراطور باسم الملك الطريد أبي عبد الله الصغير، ذلك الذي كان ملك الأندلس، وسيد غرناطة، وصاحب الحمراء، سليل الملوك الذين جعلوا الأندلس جنة الدنيا، ومدرسة العالم، ومشرق أنوار الحضارة؟ لقد خدعوه كما خدعوك، فأعطوه العهود والمواثيق، وأقسم عليها ملوكهم وسادتهم، وشهد بها أعاظمهم وأشرافهم، وصدق عليها البابا أمين دينهم وسيدهم على أن يدعوا له قصوره ودوره وأمواله وجواهره، وحكمه وسيادته، وعلى أن يتركوا قومه أحراراً في عبادتهم وبيوتهم ومعاملاتهم وتجارتهم، وأن يكفلوا لهم راحتهم وهناءتهم وأموالهم وأمتعتهم؛ فلما ملكوا أخرجوا الملك من أرضه وبلاده، فرأى لآخر مرة شرف الحمراء، وجنان العريف، وجبل شلير، ثم مضى تتغلغل به السفينة في أمواج البحر، وصورة الأندلس تنأى وتبتعد، حتى توارت وراء الأفق، فخرجت من حيز الواقع لتدخل في حيز الذكرى، ولتكون أمنية في نفس كل مسلم، يوصي بها السلف الخلف، ويأخذ منه العهد على استرجاع (الفردوس الإسلامي المفقود)، وعمدوا إلى مسلمي الأندلس، فأخذوا مساجدهم، وأحرقوا مكاتبهم، وفيها ثمرة العقول البشرية منذ مطلع التاريخ إلى ذلك العهد، ليتلهوا بلهيبها في ليالي انتصارهم، وأنشئوا لهم محاكم التفتيش لتدخلهم في النصرانية قسراً، وتحرقهم أحياء، وتعذبهم عذاباً لا يتخيله إنسان. . .(151/56)
وهاهم أولاء الأندلسيون بعد أربعمائة وخمسين سنة، وبعد احتمال أهوال لا يحتملها بشر، وبعد أن تنصروا جميعاً، لا يزالون ذاكرين عربيتهم معتزين بها، ولا يزالون يحاولون الرجوع إلى الأم العربية الكبرى؟
أفتلين الحبشة التي لم تزل عزيزة، وتندمج في الطليان في أيام معدودات؟
أجل أيها الإمبراطور! إن الحبشة لم تنهزم، ولكن انهزمت جمعية الأمم، وذبحت مبادئها في الحبشة، كما انهزمت الحضارة ومحيت أعلامها في الأندلس!
إن جمعية الأمم لم تكن أوثق عهداً من البابا، وإن موسوليني لم يكن أرقى من فرديناند، وأن الطليان ليسوا خيراً من الأسبان، وأن القرن الخامس عشر ليس شراً من القرن العشرين. . .
أما أنتم يا كتاب التاريخ فسجلوا:
(لقد كانت حادثة الحبشة فضيحة القرن العشرين!)
(دمشق)
علي الطنطاوي(151/57)
سأجيء هذي الدار
للأستاذ فخري أبو السعود
البدر فضَّ غياهب الديجور ... وأَذابَ لجة بحره المسجور
أَضْفى على وادي المنية روعةً ... من صَوْبِ ضوء سال كالبَلُّور
فازدادت الأجداث فيه مهابة ... لمّا انجلتْ في نوره المنشور
قَرَّتْ، وقَرَّتْ سامقاتٌ حولها ... عُطِّلْنَ من نَسَمٍ وسَجْعِ طيور
فَكأنها في صمتها ومُثولها ... أشباحُ وادٍ نازحٍ مسحور
وأَوَى الظلامُ إلى خرائب منزل ... خلف القبور مهدّ م مهجور
مُقْوٍ من الأحياء والمَوْتَى فلا ... هو في القبور يُرَى ولا في الدور
وأَتيتُ متَّئِدَ الخُطَى متأنّياً ... أنْسَلُّ بين حفائرٍ وقبور
أَجتازُ في وادي المنون مُطَهِّراً ... للنفس فيه أيَّما تطهير
متذكِّراً فيه وكم مِنْ عِبرة ... لمنِ ابتغَى فيه ومن تذكير
حيثُ الصعيدُ جماجمٌ ومعاصمٌ ... وجِبَاهُ صُيّابٍ وأعيُنُ حُور
حيث انطوتْ سِيَرٌ خَوَالٍ وانتهتْ ... أشغالُ أجيالٍ وحربُ عصور
وخَبَتْ معاركُ لم يكَفكِفْها سوى ... حملاتِ جيش للحِمام مغير
وخَبَا ضِرَامُ محبَّةٍ وعداوةٍ ... وهمومُ أفئدة وداءُ صدور
أسْتَخْبِرُ الأجداثَ عما استُودعَتْ ... من كلِّ منخوبٍ بها منخور
ماذا صنعن بفاتنٍ ومنعَّم ... وجليل شَيْبٍ جاءها وصغير؟
كم غَيَّبَتْ من كان مَطمَحَ مُهجةٍ ... ومناطَ آمالٍ وعَقْدَ أُمور
طَوَتِ الأليفَ فإذْ بَكاهُ إلْفُهُ ... ثَنَّتْ برَبِّ المدمع المنثور
سأَجيء هذي الدارَّ يوماً لاحقاً ... مَن غادَرُوا بالقلب بَرْحَ سعير
ومُخَلِّفاً بَعدي حزيناً موجَعاً ... يبكي بدمعٍ للفراق غزير
يبكي وما عبراتُه في أَوْبَتي ... بالشَّافعاتِ ولا الرَّدَى بعذير
وتَقَرُّ في تلك الغيابة أعْظُمي ... مِن بَعْدِ كَدٍّ دائِبٍ مكرور
يَسْلُو بها قلبي قديمَ مآربٍ ... كانت وينزع عن أسى وحبور(151/58)
غفلان عن سالٍ لذكرى جامدٍ ... أَوْ جائدٍ بفؤَاده المفطور
ويُطل ذاك البدرُ فوق زاهياً ... يجلو سناه غياهبَ الديجور
فخري أبو السعود(151/59)
نشيد الأستاذ محمد فضل إسماعيل
وهو الرابع الذي نال إحدى الجوائز
مَهِّدُوا لِلْمُلْكِ أَبْرَاجَ السَّماءْ ... وارفعوا في ساحةِ المَجْدِ اللِّوَاءْ
واسْمَعُوا من جانب النيلِ النِّدَاءْ ... مصْرُ للمصريِّ قلبٌ وجَنَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... طاوَلوا مُلْكَ الشُّهُبْ
قد خطَوْنَا للعُلاَ ... فوق أعناقِ الْحِقَبْ
مجدُها باقٍ عَلَى مَرِّ الدهورْ ... خَلَّدَتْه في حناياها العصورْ
في جلالٍ ناطقٍ بين الصُّخورْ ... حَيَّرَ الدنيا على مَرِّ الزمانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .
لاَ نَهَابُ الموتَ فانظر يا قَدَرُ ... كيف لا نهتَزُّ يوماً للغِيَرْ
نحن شَعْبٌ مِلْءُ وَاديه الخطَرُ ... خاضَ للعَلْيَاءِ لُجَّ المَعْمَعَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .
قد تآلَفْنا على حبِّ البلادْ ... فانْطَلَقْنا في ميادينِ الجهادْ
نُشْهِدُ الأَرْضِينَ وَالسَّبْعَ الشِّدَادْ ... أَنَّ لِلأَهْرَامَ عِزّاً لاَ يُهَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .
دينُنا في مصرَ مَوْفُورُ الجلالْ ... ليس معناهُ صليبٌ أو هلالْ
إنما معناه مُتْ يومَ النِّضالْ ... بِئْسَ مَنْ يَحْيَا كما يَحْيَا الجبانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... طاوَلوا مُلْكَ الشُّهُبْ
قد خطَوْنا للعُلاَ ... فوق أعناق الْحِقَبْ
صوتَ مَنْفِيسٍ يُدَوِّي كالرُّعودْ ... هَيِّئُوا للنِّيلِ مَجْداً في الخلود
فابْتَنَيْنَا مثلَ بُنْيَانِ الجُدُودْ ... كَعْبَةً للنُّبْلِ في أعلَى مكانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .
فاجرِ يا نيلُ بِوادِيكَ الأمينْ ... إنَّهُ وحْيٌ منَ السّحْر المبينْ
تاجُهُ في الدَّهْرِ وضَّاحُ الجبينْ ... ينحَني في جانبيه النَّيّرانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .(151/60)
واسقِنا يا نيلُ من نَبْع الحياهْ ... أنْتَ للأوطان جاهٌ أيُّ جاهْ
يَسْتَمِيتُ الشّعْبُ حُبّاً في عُلاَهْ ... من شبابٍ أو كهولٍ أو حِساَنْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .
حولك الغُرُّ المَيَامِينُ السِّماحْ ... يدفعونَ الضيمَ من كلِّ النَّوَاحْ
فاجرِ يا نيلُ وفِضْ بين البِطاحْ ... أنْتَ والكوثَرُ فيها تَوْأمَانْ
نحن أبناءُ الأُولَى ... . . . .
قد وقَفْنَا في ثباتٍ كالجِبالْ ... في صُفُوفٍ صَدْعُها صَعْبُ المنالْ
صوتُنا يمْلأُ آذانَ اللَّيالْ ... مصْرُ للمصْرِيِّ عاشتْ في أمان(151/61)
نشيد الأستاذ محمد الأسمر
هيا بنا إلى الأمامْ ... هيا بنا هيا بنا
المجد في الدنيا زحامْ ... فزاحموا نحو المنى
واسعَوْا إلى خير الوطن
يحيا الملك. يحيا الوطن ... يحيا الملك. يحيا الوطن
نحن الحياةُ للبلادْ ... ونحن في مصر العلَمْ
إذا دعا داعي الجهاد ... كنا بها أسد الأجمْ
نذود عن أرض الوطنْ
يحيا الملك. يحيا الوطن ... يحيا الملكْ. يحيا الوطن
يا مصر يا كنز الوجود ... نحن على الكنز أسودْ
ونحن أمثالُ الجدود ... نفني ونعطيك الخلودْ
يا مصر يا خير وطن
يحيا الملك. يحيا الوطن ... يحيا الملك. يحيا الوطن
هيا بنا إلى الأمام ... هيا إلى الذكر الحسن
فنحن من بين الأنام ... تاجٌ على رأس الزمن
ونحن روح للوطن
يحيا الملك. يحيا الوطن ... يحيا الملك. يحيا الوطن
هيا بنا، هيا بنا ... نبني الخلود والبقاء
نبني ونرفع البنا
المجد في الدنيا لنا ... لما بنى الله السماء
بنا لنا مجد الوطن
يحيا الملك. يحيا الوطن ... يحيا الملك. يحيا الوطن(151/62)
منظر النيل الأزرق في بعض بلاد السودان
للأستاذ عبد الله عبد الرحمن
أي حسن تراه لم يحرز الني ... ل وأي الجمال إلاّ لديه
رفَّ فيه النبات حتى كأني ... من وراءِ النبات أرنوا إليه
وكأنَّ المياه صفحة خدّ ... وكأنَّ الظلال شامٌ عليه
وكأن الدخان من جانب ال ... شطّ مشيب يلوح في عارضَيه
يتلقّى الأديب منه قوافي ال ... شعر رقراقة على حافتيه
وعلى متنه كهارب قامت ... تبهر الناظرين واللَّيل قاتم
كسيوف مجردات على الما ... ء مواضٍ له من البرّ قائم
نازعتني أقول فيه القوافي ... نفس حر إلى الجمال نزوعَهْ
فتمشيت والهواء عليل ... غير ما ناقل خطاي السريعة
وظلال الجميز والطلح والسد ... ر تَرَامى على المروج الوسيعة
ووجوه النبات تحلو وتبدي ... صوراً للحياة كانت بديعة
ليس أدعى إلى السرور كروض ... خلعت حسنها عليه الطبيعة
فإذا ما دنا المغيب تدانت ... من صنوف الطيور شبه الغمائم
رائحات إلى الوكور ولكن ... هل تقيها الوكور كيد ابن آدم
(الخرطوم)
عبد الله عبد الرحمن(151/63)
القصص
هواجس
بقلم حبيب الزحلاوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
أكثر ليلي الصيف في مصر مقتطعة من فراديس النعيم لعشاق اللهو والاستمتاع يا لله!! كم ليلة قضيناها على شواطئ النيل نستمتع بانسياب أمواهه الهادئة، نشاهد مثاوي الأشباح تحت ظلال النخيل، نراقب أنوار المدينة ونجوم السماء تتناقص وتنطفئ وتتلاشى على بساط الفجر وإشعاع الشمس
يا لله! كم ليلة سمعنا فيها أغاني أم كلثوم وصوتها العذب الحنون! وكم أصغينا إلى نشيج محمد عبد الوهاب وأنغامه المسترخية المستلينة، وكم لمسنا فيها تفاعل الإغماء والتماوت، لقد شهدنا على المسارح تمثيل القردة المقلدين واسترعى انتباهنا ممثل هزلي بارع، إحساسه في وجهه، وعقله في نظرات عينيه، وبراعة فنه في إيمآته وسكونه، هو ذا نجيب الريحاني المطبوع على الفن
كم ليلة فيها جسنا فيها حلقات الأدب، ومجالس العلماء، و (بعكوكة) الظرفاء وصالات المتأدبات، لقد كانت الرغبات هي كل شيء في عرف صديقتي أنيسة تدفعها إلى معرفة كل شيء، وكانت تقول: (متى انقطعت الرغبات انقطع حبل الحياة معها، وتجزم بأن من يتعمل قتل رغبات نفسه كان كمن يحاول الانتحار) كانت تعرف الرغبات الجوالة في صدور الساسة (بأنها تقدير لما تحتاج إليه النفس الإنسانية الكبيرة) وتقول: (لا خير في جهود تبذل إذا كان رجل السياسة يعجز عن إدراك رغبات مواطنيه وحاجاتهم) وقالت عن المصريين: (إنهم كشعب، يعرف جيداً كيف يفرح ويحقد، ولكنه لا يعرف أبداً كيف يغضب وينتقم) لقد قالت لي صديقتي عن مجالس النساء والرجال قولاً ظريفاً فيه مداعبة ومفاكهة، ولذعات وسخرية قالت: (إنه قد يعسر عليها إيجاد رجل واحد خليق بأن يسمى رجلاً بين مائة ممن لقيتهم من الأدباء والعلماء والكتاب والسياسيين، وأن المرأة المصرية ليست إلا أنثى)، وكانت تضحك من الشبان المستكرشين والصبايا المترهلات وتقول: (إن الرياضة تعلم(151/64)
الشباب الاعتداد بالذات)
شيطان صديقتي شيطان ذكر، نبت في الشرق وتمرد في أمريكا فصير صاحبته كعصير العنب المستقطر بالبيانسون فائدته في قتله بالماء، وهكذا متى عادت صديقتي إلى أمريكا سيتذوق الأمريكان خمرة معارفها ويستوعبون عمق وعيها وإدراكها وواسع اطلاعها، وقد مزجت ثقافتها الأمريكية بروح شرقي خاصته الإلهام والفيض
لقد عرفت نفسية صاحبتي تصغي إلى كل نأمة، تستوعب الكلمة والغرض، تلمح البادرة الخاطفة، تدرك مرامي النكتة، تقيد شوارد الفكرة وهمسات الفؤاد وسبحات الأحلام، تسمع ولا تتكلم كغالب السوريين، ولكنها متكلمة يطيب لها الحديث تحلل فيه ما سمعت وتنقد ما رأت، على ضوء كأس من الويسكي (كناديان) وسيجارة أمريكية لا تنطفئ من ماركة (لكي ستريك)
علقت الويسكي وأدمنت التدخين، فكانت تصدني عن الأول لو حاولت شرب كأس قبل الطعام، ولا تسمح به إلا بعيد منتصف الليل، لأنه يعاون الجسد على الاستغراق في النوم، وتستكثرني من التدخين، لأنه يجلي البصيرة على رقصات الدخان وتلاعب تموجاته
شهران من شهور الصيف كانت لياليهما لنا ريادة استكشفنا بها أشياء كثيرة، منها أغاني الرمال وأنغامها في الصحراء متى داعبها النسيم أو عصف الريح، جثوم أبي الهول عند أقدام الأهرام، هدير النيل في الشلال وعظمته في القناطر الخيرية، في غابات النخيل المتكاثفة في كثبان الرمل، وقد رأينا أشياء كثيرة في النهار من معالم مصر كقبور الفراعنة ومخلفاتهم الباقية على الدهر، والجوامع والأديرة والمدافن وسواها مما لم يحفزني حافز من قبل إلى مشاهدته
شهران كانا لي رياضة نفسية عجيبة كنت أتمرن في خلالها على الاستنباط من لوحة ذكريات الطفولة، صوراً بريئة أعرضها على مجهر خيالي وقد استفاق على المعرفة، والبحث عن المعلوم والمجهول. يا لله من اصطدام الطفولة البريئة بالرجولة المحنكة، من قوة العقل تكبح جماح طفرة النفس، من صعوبة سيادة الملكات الإنسانية المكتسبة على نزوات الطبيعة الوحشية، من همهمات ملائكة الضمير على وسوسة الشيطان الرجيم. . . . . .!!(151/65)
وقفت قبالة عربة القطار المقل لصديقتي أنيسة عبر حدود مصر وقفة سهوم وفتور، بل وقفة الكلف الولوع المكتوي الفؤاد، أخاف الفراق وأفرق منه لأني سأصبح مضطرب الخيال، فريسة الوحشة، يتيم الروح. ولما هم القطار متثاقلاً في حركته، كان الألم المكبوت يوشك على الانفجار، ولكنه تحول دموعاً انهمرت سخينة على يد صديقتي وقد قبلتها لأول وهلة
رفعت ذراعي ولوحت بها في الفضاء، غير أن الصور اختلطت علي وغاب القطار
من لي بمن يعبر عما كان يتجاوب في صدرها من حنان وحب؟ من لي بمن يعبر عن نظراتها هل كان يغشاها طيف حزين، أو هي فاترة ساهمة؟ من لي بأفاك يضحك مني فأصدق تقوله إنها استسلمت للأسى والمرارة كما استسلمت أنا، وأن أحلام سعادتها قد انتعشت من جديد كما انتعشت أحلام سعادتي بأمل ورجاء؟!
لا. . . . لم يعد بي حاجة إلى متقوّل يضحك مني إرضاء لضعفي الطارئ المستحب، لم تعد لي بالاستهواء الذاتي فائدة لأني قدرت، بعد انقضاء أيام من الألم المضني، أن البرزخ الفاصل بيننا متعذر العبور، ولكن شيئاً جديداً أعاد إليّ رجائي، أحيا فيّ أملي، لقد أخذت كتب صديقتي تصلني تباعاً كل أسبوع، في كل شهر، فيها التوضيح والتبسيط لكل خلجات عواطف المرأة التي تعرف كيف تعبر عنها تعبيراً صحيحاً في حالة الانغماس فيها أو في حالة القدرة على وصفها بالكتابة، أما الفصول القيمة التي كانت تنشرها في المجلة الأمريكية ففيها من التفصيل الدقيق لذاتية الأديب الفنان الذي يتخذ من المشاهدات الواقعية والذاتية ومن الخلجات العاطفية أداة للخلق والابتداع
صارت خطاباتها على مر السنين مصدر وحي لي فياض بخصائص الحياة وعناصر الرغبة فيها، كنت أستلهم سطورها أدق المعاني وأبرع التصورات، وأشعر بسحرها يغشاني فتشرق نفسي لأنه كان كنغمات بعيدة عميقة لصوت حالم طروب حملها الأثير من جوف وادي الظلام!! إلا أنه حدث ما لم أكن أتوقعه، حدث أن جاءني كتاب منها تقول فيه أن أكف عن مراسلتها كما أنها ستنقطع عنها ريثما تعالج من مرض ألم بها في إحدى المصحات وتدعوني إلى الصلاة لأجلها، أو أبكيها بدمعة واحدة إذا استنزف الداء حيويتها!!
عام طويل أجوف كأنه دهر من العدم حاق بي من كل جانب كنت فيه كالمشلول خولط في(151/66)
عقله، لا هو من الأحياء فينفع ولا هو بميت فيدفن. أما الآن فحمداً لله، فقد كتبت لي صديقتي تقول إنها استعادت عافيتها وبرئت من علتها فتخلصت أنا من التأرجح بين العدم والوجود، وشفيت من تقلبات النفس وانفعالاتها العكسية. . .
وانتصب واقفاً وقال: لقد دعوتكم الليلة يا رفاق صباي وعشراء كهولتي لأفضي إليكم بما كان بي من هواجس، وأعترف لكم اعتراف المثقل بالفرح، فهيا نشرب كأساً من الشمبانيا تبرد اليد المتقدة الممسكة بقلبي منذ عام، وقد أفلت من مقابضها اليوم
لم يتقدم واحد للشراب بل قال قائل: هل لمثلك وقد جاوزت الخمسين من عمرك أن يستغرقك الحب ويرديك في مهاويه؟ وقال آخر: ليس ما كان بك هو الحب، إنما هو أنانية أشعلت نارها امرأة مكبوتة حساسة عاشت على الحنين إلى الماضي في بيئة غريبة عنها. وقال الثالث: إن ما كان بك يا عزيزي هو حرمان أخرس حلت الفرحة المفاجئة عقلة لسانه فصرخ صرخة الوداع!!
وقال الرابع: لقد أنطقتك الخمر بما كان يجب السكوت عليه، وتبخرت اعترافاتك هذه نشوة سوف لا تلقاها بعد الآن. وعاد الأول فقال: لقد كان الخيال البعيد يشعرك بالذكرى المفقودة فكنت تتعمد إثبات وجودها بكأس كنت تشربها في وقت معين، وبسيجارة كانت تصور لك مرائي الماضي الضائع، وتخيلات تلك الليالي الهاربة من أجواء أحلام الشعراء، أما الليلة فقد بددت كل شيء، بددت كنز وجدانك، لأن رجل الحياة هو الذي يحب ويتعذب ويموت فلا يشتكي ولا يبكي، وقال آخر وهو يلوح بيديه ويلوي عنقه وشفته: ما هو الحب؟ أليس هو. . . أليس هو؟؟؟
لا. لا يا أصدقائي، ليس الأمر كما تتوهمون، ليس الحب ما تقول أنت يا صديقي، وأشار إلى المتكلم الأخير، إنما هو شعور بالحياة ووسيلة فعالة تصقل المدارك فتجعلها تتبصر وتتفقه المعاني لجمال الحياة، لا بد للرجل الحي من شعور سام بالحياة، فالحياة نفسها تسعد بالحب السامي. إن ما تمنحه المرأة للرجل عفو النزوة الطارئة أو الرغبة الطائشة أو المتعة الخاطفة إنما هي منحة متبذل يضع احترامه تحت أقدام الرجل. الحرمان لرجل الشهوة شواظ كومة قش مشتعلة، وللمرأة المسؤولة حنان مدفون لذيذ وعطف دائم، مستحب. الحرمان للرجل المثقف إنما هو مراء ومشاهد، وأنغام وألحان، أطياف وظلال لخيالات(151/67)
المثل العليا التي تتخيلها روحه العظيمة وشاعريته الحساسة التي تلد وتنجب وتخلق وتبتكر
إن حقيقة بواعث ذلك الحب إنما هي بذرة الغريزة ألقتها الطفولة البريئة اعتباطاً عندما استبدلت الرمانة بتفاحة ودست صورة العذراء في محفظة الكتب، وقد أنتجت على كر السنين تقارباً يضارع انحدار الكهل في سلم الحياة ليلاقي الطفولة من طرفه الآخر، وهذا الانحدار يشبه طرفي قوس يتقابلان، ولا يتقاربان ويتماسان إلا إذا انكسرت القوس!!؟
انطلقت حنجرة أحد السامعين بضحكة كبيرة وقهقهة عالية كأنها صوت حجر الطاحون وقال: فلسفة مخمورة وهواجس سكرى هي ما تقوله أيها الصديق. ولله إني لأعجب من تخبطكم جميعاً في الحب وتكلفكم ابتداع صور له تشوه وجهه الحقيقي، الحب أيها السكارى نداء جنسي. الحب أيها المتفلسفون تجاوب غريزي لنداء الجنس. وإن كل ما تختلقه خيالاتكم وتبتدعه عقولكم إنما هو وصف مبرقع لحقيقة العلاقة الجنسية التي تأنف من البراقع
حبيب الزحلاوي(151/68)
العالم المسرحي والسينمائي
الممثل والمخرج المصري كما يراه بعض الفنانين الأيرلنديين
(رد على حديث لمجلة الرسالة)
للأستاذ زكي طليمات
تفضل ناقد (الرسالة) الفني فنقل في أحد الأعداد الماضية حديثاً عن المستر هيلتن إدواردز مخرج فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية التي عملت بمسرح الأوبرا الملكية في نهاية هذا الموسم، حديثاً تناول فيه الممثل المصري والمخرج المصري بما تراءى له بعد أن شهد رواية (السيد) التي مثلتها أخيراً الفرقة القومية المصرية بدار الأوبرا
فعن الثناء والنقد الذي خص به هذا النفر من الممثلين والممثلات أقدم للمستر إدواردز شكري الخالص؛ وكنت بدوري أود لو أتيحت لي فرصة التمثيل أمامه لأسمع رأيه فيما أقدمه، وأتعرف مواطن الأستاذية أو الضعف في فني، إذ لكل مفتن، مهما بلغ شأنه في فنه، نواح لا تخلو من المآخذ
أما عن المخرج المصري، وقد خصني المستر إدواردز بالذات، فأرى لزاماً عليّ أن أتقدم إليه ببضع كلمات إقراراً للحقيقة التي ننشدها جميعاً، وكشفاً لبعض بواطن الأمور التي أصدر فيها المخرج الأيرلندي حكمه على مظاهرها دون اضطلاع بالظروف والملابسات التي أحاطت بإخراج رواية (السيد)
المذهب الواقعي والمذهب الإيحائي
كان أبين ما أخذه عليّ المستر إدواردز أنني أتبع طريقة المذهب الواقعي في إخراج الرواية ورسم مناظرها وأستارها. وهذا المذهب يحتم بقدر المستطاع نقل مظاهرا لحياة كما هي بتفاصيلها العادية وتفاهتها الحقيرة، ونعى على أنني لا آخذ فيما أعمل بالمذهب الإيحائي وهو المذهب الذي ساد فنون الرسم والنحت والتصوير جاعلاً من مظاهرها فناً مركزاً ينبو عن محاكاة الطبيعة كما تراها العين المجردة أو عدسة الكاميرا، على حين أنه يجمع من الأشياء خصائصها الرئيسية التي توحي بالجزيئات والتفاصيل، وتبعث مخيلة الرائي على استكمال ما أنقصته عمداً يد المفتن(151/69)
ثم ساد هذا المذهب أيضاً فن الإخراج المسرحي فجعل من مظاهره المادية (وهي الأستار والملابس والإضاءة)، ثم من مظاهره النفسية (وهي إلقاء الممثل وإشاراته)، فناً يجنح إلى البساطة الموحية الغنية، ويميل إلى التركيز بل يهوي أحياناً إلى مقاربة الفن الرمزي من حيث المغالاة في التفسير بالرئيسيات عن الجزيئيات والدقائق
وكانت هذه النقلة من جراء تقدم فن الفوتوغرافيا ثم فن السينما الذي جعل كل محاولة من جانب المخرج المسرحي في نقل الطبيعة ومحاكاتها على المسرح ضرباً من السخف ولوناً من الهزل الفني الذي يجب أن يترفع عن إتيانه كل متفنن يتأثر بروح العصر ومزاجه العام
وغالى بعض المخرجين في توليد هذا المذهب، ولاسيما بعد أن نزلت بفن المسرح كارثته الأخيرة، وكسبت السينما النصر في استمالة الجمهور فجعلوا من المناظر المتعددة في رواية واحدة منظراً واحداً يشيد بحال يمكن المخرج من تمثيل كافة مشاهد الرواية في أقسامه المختلفة مع إضاءة القسم الذي يجري فيه تمثيل المشهد وإبقاء الأقسام الباقية في الظلام؛ هذا مع الاستعانة ببعض الأستار الجزئية أو الأثاث والمهمات، حتى لا يتصدع ما يصح أن (تعقله) عين الجمهور وحتى لا تصدم مخيلة النضارة بما يخرج على المنطق الإيحائي الذي هو الباعث الأساسي لشهوة الجمهور المثقف على تذوق هذه اللذة الفنية، لذة الإيحاء واستساغتها
وقد عمد المخرجون، ولاسيما الإنجليز منهم والألمان، إلى هذا الاتجاه الفني، وهو ليس بالفن الجديد لأنه عرف على حالة أولية في مسارح القرون الوسطى بأوروبا وفي المسرح الإنجليزي في عهد شكسبير والملكة اليصابات؛ عمدوا إلى ذلك بعد أن أفلس المذهب الواقعي الذي عمدته في فرنسا، وفي الروسيا، في محاولة إنقاذ المسرح بعد أن اكتسحته (الكاميرا) مستشعرين قصور ميكانيكية المسرح على تقدمها الأخير عن بلوغ الشأو الذي قطعه فن السينما في إيراد مناظر لا حد لها ولا نهاية بأيسر الوسائل وأقل التكاليف
وأرادوا بهذا أيضاً، وهو الصميم، أن يقدموا للنظارة لذة ذهنية جديدة غير تلك التي يقدمها فن السينما القائم على تعدد المناظر والعرض الواسع ومحاكاة الطبيعة في أدق مظاهرها، لذة أساسها التخيل واستثارة الخاطر وإشعار النظارة لذة التوليد مما هو مركز، وجمال(151/70)
الكشف عما هو مغلق أو يكاد. وأصابوا التوفيق لدى الجمهور المثقف المشحوذ الخاطر، ولاسيما الجمهور الإنكليزي الذي يحمل في آدابه تقاليد المسرح الشكسبيري
وقد أطلق المخرجون الفرنسيون على هذا النوع من المنظر المركز اسم
وليعذرني المستر إدواردز إذا أنا لم أسهب أكثر من ذلك لضيق المقام، ولأن الأكثرية الغالبة من القراء لا يأبهون ولا يتذوقون الكلام في هذه الفنون الغريبة عن آدابهم القديمة والحديثة، ولكنني أذكر له أنني قرأت ما كتبه المخرج الإنجليزي الفقيه (جوردن كريج)، والألماني (رينهارت)، والفرنسيان العبقريان (كوبو) و (جيميه)، والأخير هو أستاذي في مسرح الأوديون، وقد شاهدت مآثر فنهم واتجاهاتهم الحديثة في الروايات التي رأيتها في لندن وبرلين وباريس
بعد هذا أعترف بأنني لم أعمد إلى المذهب الإيحائي المبالغ فيه وهو المذهب الذي تبعته الفرقة الأيرلندية في إخراج روايتي (هاملت) و (روميو وجولييت) على مسرح الأوبرا، لأنني أعلم، وأنا مصري وأعمل للمسرح منذ خمسة عشر عاماً، أن الجمهور المصري، بحكم مزاجه العام، لا يتذوق هذا الاتجاه الفني، بل ولا يستطيع أن يفهمه، بل إنه ليرى فيه ضرباً مما يخالف المعقول، وذلك بحكم أنه جمهور غير مثقف في أغلبيته تثقيفاً فنياً كاملاً، ولأنه جمهور (لاتيني) من حيث ثقافته
وإذا كان المخرجون الإنكليز والألمان أكثروا من استعمال هذا الصنف من المناظر فلأن ثقافتهم من (الشمال)، وثقافة (الشمال) يعلوها الضباب والسحاب، وليس فيها وضوح الثقافة اللاتينية التي قامت في بلاد البحر الأبيض المتوسط، حيث وهج النهار يكشف عن دقائق المرئيات. وإذا كان الجمهور الإنكليزي يرتاح إلى مشاهدة هذا النوع من الإخراج فلأنه جمهور شكسبير وجمهور المسرح الثابت الستار الذي تجري في ساحته الواحدة معارك القتال ومعارك الغرام وغيرها؛ ويكفي أن يرمز لكل منها بلوحة مكتوبة حتى يستقيم المنطق لدى النظارة وحتى ينزو كل خاطر من كمينه
وفوق هذا، وعلى اعتبار أن الجمهور المصري يفهم ويستسيغ هذا النوع من الإخراج، فإنني ما كنت لأخرج رواية (السيد) وفاقا لما يراه المستر إدواردز ويعتبر أنه قطرة العطر المختارة في سائر وسائل الإخراج، لأنها رواية من صميم الأدب الكلاسيكي، ولأنها من(151/71)
الأدب اللاتيني القائم على الوضوح والبساطة، ولأنها رواية أساسها (الكلم) لا العرض والمستر إدواردز يعرف حق المعرفة أن المخرج الحق، المخرج الذي لا يقدم الشيء الغريب ليعرف بالغرابة، مقيد بروح الرواية وبنوعها الأدبي، ومن هذا المصدر يستوحي الاتجاه الفني ويتخير وسائله في الإخراج، ولاسيما فيما هو خاص بالإطار المادي الذي تبرز فيه الرواية وأعني به فيما أعني مناظر الرواية وأستارها
إذن فليسمح لي المستر إدواردز بأن أقول إنه تسرع في حكمه قبل أن يتعرف ذوق الجمهور المصري، وإنه من أولئك النفر من المخرجين الذين يريدون أن يجعلوا من فن الإخراج فناً قائماً بذاته لا يحفل بروح الرواية ولا يحترم إرادة مؤلفها ولا يأبه بمكانها من الاتجاهات الأدبية؛ وأننا أربأ به عن هذا النفر ذي السمعة المعروفة، وأقول، محسناً الظن بنقديه، أنه أخذ علي في الإخراج وسيلة لا يميل إليها شخصياً
أما أنني خرجت على المذهب الإيحائي البسيط الذي يستطيع أن يتذوقه الجمهور المصري، والذي يماشي روح الرواية، فأمر لا يقره الواقع؛ فالمستر إدواردز قد شاهد بعينيه أنني ركزت على جانبي مقدمة المسرح عمودين من النمط الذي كان شائعاً في القرن الحادي عشر، وهو عصر الرواية في إسبانيا ' عمودين يجمع بينهما (قبو) لا يرى النظارة منه سوى بدايته فوق كل عمود، على حين أنني لم أكمل الباقي وأسدلت ستارة من العلاء يغطي ما تعمدت إخفاءه، وذلك بقصد الإيحاء، عمودين لا يحملان في قطعهما وتصويرهما جزيئات الحقيقة، بل يبدوان وعليهما أهم مميزات النمط، وذلك نزولاً على مبدأ المذهب الإيحائي الذي أنا أول من قدمه في مصر، ولاسيما في روايتي (تاجر البندقية) و (أهل الكهف)
وبذلك أحييت الصبغة الزمنية والمحلية بأسهل الوسائل
كذلك عمدت إلى الأستار المخملية ذات اللون الواحد لتمثيل حجرة ابنة الملك وحجرة (شيمان)؛ ستاران أحدهما رمادي والآخر بني اللون، يهبطان الواحد خلف الآخر وراء العمودين، واستعنت بالأثاث للتنبيه على الإيحاء في إحياء الصبغة المحلية، فكان أثاث حجرة شيمان من الفن الإسباني في القرن الحادي عشر، وكان أثاث حجرة ابنة الملك من الفن العربي باعتبار أنها من الأسلاب التي غنمها الأسبان من العرب بعد أن أكرهوهم على(151/72)
الجلاء عن قصورهم
ثم كان المنظر الذي يمثل ساحة أو ربوة بجوار المدينة حيث يتبارز الكونت والدوق دياج؛ هذا المنظر قد رسم وفاقاً لصميم المذهب الإيحائي المتطرف، بل لقد أمرت المصور الذي رسمه بألا يتبع قواعد المنظور في رسمه؛ وكل هذا بقصد استثارة مخيلة النظارة ودفعهم إلى توليد لذة ذهنية تطالعهم بعد التفكير والإمعان
ولكن حدث بعد ذلك أن شاهد المستر إدواردز منظر ساحة العرش في قصر الملك وهو منظر يمت بحق إلى (المذهب الواقعي) ويحطم بحق أيضاً الوحدة المسرحية التي يجب أن تسود سائر مناظر الرواية، وكان أن صاح المستر ماك ليمور زميل المخرج الأيرلندي النابه بأن المخرج قد أخطأ!!!
نعم لقد أخطأت. . . ولكن ليس عن جهل بأيسر وبأولى قواعد فن الإخراج. وهنا أستطيع أن أروي ما قد يرسم ابتسامة الإشفاق على شفاه الزميلين العزيزين. . .
المسألة وما فيها أن مصور المناظر لرواية (السيد) لم يتمكن من إنجاز هذا المنظر في الوقت المناسب، فاضطررت - أقول اضطررت - على الرغم مني، وعلى الرغم مما يعمر رأسي من فنون الإخراج، أن أستعير منظراً من مناظر دار الأوبرا الملكية حتى لا يتأخر تمثيل الرواية، وكان هذا الظرف المحرج الذي لم ينفع فيه علمي، ويصح أن أقول للزميلين إن مناظر الأوبرا لم تعرف بعد المذهب الإيحائي؛ وقد ضحك مني رئيس الميكانيستية حينما وضعت ستار المؤخرة في رواية (أهل الكهف) من القطيفة، على حين أن بقية أجزاء المنظر كانت من الإطارات المرسومة الملونة
إذن ليعذرني الزميلان، وكان يجدر بهما - وهذا ما آخذه عليهما - أن يتريثا في الحكم على زميل، وألا يصدرا هذا الحكم بعد مشاهدة رواية واحدة خذلت برغمي في الاحتفاظ بوحدتها المسرحية
وليعذرني أيضاً الزميلان إذ أن مصوري المناظر في مصر - ومن بينهم الأجانب - لا يعرفون شيئاً عن المذهب الإيحائي ولم يسمعوا بعد عن سائر الاتجاهات الحديثة من و , ووإنني أجاهد معهم متعباً و. . .
وإن البعض من الممثلين بل والنقاد، عدوا المناظر التي قدمتها في رواية تاجر البندقية(151/73)
وكلها إيحائية محضة، نوعاً من التمرين الأولي في فن التصوير والرسم مما يقدمه طالب بالمدارس الأولية
الإضاءة
يقول المستر إدواردز (أنني لم أقصد من الإضاءة إلا أن أكشف المناظر والممثلين للنظارة، وأنني لم أستخدم الإضاءة لغرض أو فكرة خاصة إلا في موقف واحد فقط بين (السيد) وحبيبته) ومجمل هذه الاتهام يناقض بعضه بعضاً، فهو يعترف أنني استخدمت الإضاءة لفكرة وغرض في أحد المواقف، ولكنني أهملتها في مواقف أخرى، أعني أنه يعترف بأنني أدري أن الإضاءة المسرحية ليس الغرض منها فقط إنارة المناظر والممثلين بل إحياء الصبغة النفسية لأهم عاطفة تجتاح المشهد، هذا مع خضوعها للمعقول وما يحتمه الزمان والمكان. وتكفيني هذه الشهادة، ويرفه عني هذا التناقض، لأن من يعلم أن 1 + 1=2 لا يرجع فيعطي نتيجة غير هذه!!!. يعلم المستر إدواردز وقد شاهد الرواية - ولا أعرف ما إذا كان قرأها - أن كافة المناظر تجري في رابعة النهار ماعدا مشهدين أولهما في وسط الليل وثانيهما - وهو الذي أشار إليه - في أول هبوطه، وقد اعرف بدقة الإضاءة فيه
ماذا كان يريدني أن أعمل للإضاءة المطلوبة في باقي مناظر الرواية، وكلها تجري في النهار، أكثر من الإنارة التامة للمسرح؛ ثم غمر الأقسام الرئيسية التي يجري فيها أهم مشاهد المنظر بأشعة ناصعة تصبها مركزات للنور (بروجكتور) على جانبي المسرح، وذلك بقصد اجتذاب أنظار الجمهور إلى أهم النقط التي يجري فيها التمثيل!!!
أقول للمستر إدواردز إنني من المعجبين بتصوير المصور رامبراند وأعرف أننا معشر المخرجين الحديثين نستقي من طريقته في توزيع النور في لوحاته الخالدة، نستوحي أساليبنا في إضاءة المسرح، وفي هذا ما يكفي ليعلم أنني أعتقد في الإضاءة المسرحية وأراها مصدراً غنياً في الإلهام يستوحي منه المخرج، وأن الإضاءة المسرحية قد أخذت مكان المناظر في إحياء الصبغة النفسية، بل والمكانية أحياناً
بعد هذا أصرح أن ما قرأته في (الرسالة) عن لسان المستر إدواردز لا يخلو من قسوة ومن تحرج لا أظن أن نفسية مفتن من طرازه تنطوي عليهما!!
ولكن أحقاً قال ذلك المستر إدواردز وزميله؟ أم أن ناقل الحديث هو الذي قسا وتحرج!!!(151/74)
لا يهمني كثيراً. . . وأشكر لصاحبي الحديث ولناقله هذه الفرصة الغالية التي أتاحت لي أن أناقش وأحاور في فن أحبه كثيراً، وأود أن أتلمس مواطن الضعف مني في تأدية رسالته
زكي طليمات
خريج مسرح الأوديون بباريس وعضو جمعية المسارح
الدولية
أؤكد للأستاذ زكي أني كنت أميناً في نقل الحديث بما فيه من رقة وقسوة
يوسف تادرس(151/75)
البريد الأدبي
زجموند فرويد أيضاً
قرأنا في الصحف النمساوية الأخيرة طائفة من البحوث والنبذ الممتعة عن العلامة النمساوي الكبير زجموند فُرويِدْ، فهو اليوم في الثمانين من عمره، وقد احتفلت الدوائر الرسمية والعلمية النمسوية بهذه المناسبة العلمية، وأقيمت للعلامة الشيخ عدة حفلات تكريمية، وحفلت الصحف النمسوية، وصحف العالم كلها بمختلف البحوث والمقالات عن حياته وعن مباحثه ونظرياته. وقد غدا فرويد منذ بعيد أستاذاً ومفكراً عالمياً يوجه بجهوده وبحوثه سير العلوم والمباحث النفسية والعصبية في العالم كله، وهو يعتبر اليوم إمام هذا الفن وحجته؛ ومن الصعب أن نتحدث عن حياة فرويد ومباحثه في مثل هذا المقام الضيق؛ وإنما نذكر بهذه المناسبة عنه نبذة خبرية فقط هي التي يتسع لها هذا المقام
فقد ولد فرويد من أبويين يهوديين في مايو سنة 1856، في فريبورج من أعمال مورافيا النمسوية، ودرس في فينا وباريس؛ ودرس القانون أولاً، ولكنه تحول عنه إلى العلوم الطبيعية، ودرس على الأستاذ (بريكة) علامة عصره؛ واشتغل في سنة 1884 طبيباً مساعداً في أحد المستشفيات الكبرى، وفي العام التالي درس مع الأستاذ شاركو العلامة الفرنسي في علم الأعصاب، وتلقى عنه بعض نظرياته في (الهستريا)؛ ثم عاد إلى فينا وبدأ مباحثه النفسية. وفي سنة 1895 أخرج فرويد مع الأستاذ بروير ثمرة مباحثه الأولى في كتاب عنوانه (مباحث عن الهستريا) وفيه شرح آراءه في أصل الهستريا وفي علاجها؛ واستمر فرويد في مباحثه النفسية والعصبية، وطلع على العالم في هذا الباب بآراء ومباحث مدهشة تمتاز بقوتها ومتانتها العلمية؛ وفي سنة 1900 نشر كتابه الشهير (تفسير الأحلام) ثم أعقبه بكتابه (التحليل النفسي والباتولوجي للحياة اليومية) - ثم بكتاب (ثلاثة مباحث عن النظرية الجنسية) وقد فتح فرويد بكتابه عن الأحلام فتحاً جديداً مدهشاً؛ وخلاصة نظريته أن تفسير الأحلام عامل هام في التحليل النفسي، وأن الأجزاء التي يتذكرها الذهن من الأحلام، إنما هي أعراض لنشاط العقل الباطن أثناء النوم، حينما تفقد الإرادة تأثيرها، ويقف سير الضابط الحسي. وقد أثار فرويد بادئ بدء بنظرياته ولاسيما في باب التحليل النفسي والباتولوجي كثيراً من الخصومات العلمية، بل أثار سخرية بعض الدوائر؛ ولكنه(151/76)
صمد لهذه الخصومات، وصمدت نظرياته وبحوثه للحملات والآراء الخصيمة. ومن أشهر نظريات فرويد أيضاً أن الغريزة الجنسية تبدأ في الإنسان بمولده، وليس فقط عند البلوغ؛ وأن ما يعانيه الطفل من خلل في نموه الجنسي هو سبب الضعف العقلي، وأن النزعات الجنسية يمكن إخضاعها بشيء من التوجيه الحسن، وقد تغدو عندئذ قوى تبعث إلى أشرف النزعات
وفي سنة 1903 أنشأ فرويد (جمعية التحليل النفسي) في فينا، ولم يمض بعيد حتى ذاعت فروعها في جميع أوروبا؛ وعقد أول مؤتمر دولي للمباحث النفسية في سالزبورج في سنة 1908 ومنذ بدء هذا القرن يشتد نفوذ فرويد ونفوذ نظرياته ومباحثه في جميع أنحاء العالم
ويشغل فرويد منذ حقبة طويلة كرسي (العلوم العصبية) في جامعة فينا إلى يومنا
ونستطيع أن نلاحظ بهذه المناسبة أن التفكير اليهودي مازال يحدث أثره القوي في سير التفكير العالمي؛ فإذا كان فرويد يقبض على ناصية التفكير النفسي، فإن الفيلسوف الفرنسي برجسون (وهو يهودي أيضاً) يقبض على ناصية التفكير الفلسفي، ويوجه العلامة أينشتاين سير المباحث الرياضية العالمية؛ وإذا تتبعنا تاريخ التفكير الحديث وجدنا لليهودية مثل هذا الأثر البعيد في سيره وفي تطوره
الأستاذ هنري روبير
نعت إلينا الأنباء الأخيرة علماً من أعلام الكتابة والبيان الرائع هو الأستاذ هنري روبير المحامي الفرنسي الأشهر، وعضو الأكاديمية الفرنسية، توفي في الثالثة والسبعين من عمره بعد حياة باهرة في عالمي المحاماة والأدب. وكان مولده سنة 1863 في باريس، حيث تلقى تربيته ودراسته؛ وفي سنة 1885 قيد في جدول المحاماة، وبدأ حياته العملية، ولم يلبث أن لفت إليه الأنظار بحسن استعداده وكفايته؛ وقدر الأستاذ دورييه نقيب المحامين يومئذ مواهبه وألحقه بمكتبه، فلقى هنالك فرصة لدراسة القضايا الكبرى؛ وظهر لأول مرة في قضية (شامبيج) الشهيرة أمام محكمة الجزائر، حيث اشترك مع أستاذه دورييه في الدفاع عن (شامبيج) المتهم بقتل خليلته؛ وكان دفاعه الرائع في تلك القضية مثار الإعجاب من كل صوب، وكان فاتحة مجده؛ وأوحت حوادث هذه القضية الشهيرة إلى الكاتب الشهير بول بورجيه موضوع قصته (التلميذ)، ومن ذلك الحين توالى ظهور هنري روبير في كثير من(151/77)
القضايا الجنائية الرنانة التي شغلت الرأي العام في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر
وتبوأ هنري روبير مقامه الرفيع كعلم من أعلام البيان والفصاحة القضائية بسرعة؛ وفي سنة 1913 انتخب نقيباً للمحامين في دائرة باريس مكان الأستاذ لابوري، وظل في هذا المنصب حتى سنة 1919؛ ومازال محتفظاً بزعامته ومكانته الرفيعة في عالم المحاماة والدفاع حتى خاتمة حياته
وكان الأستاذ هنري روبير إلى جانب مواهبه القضائية والدفاعية كاتباً عظيماً، يمتاز أسلوبه بقوة وصفاء رائعين. ومن مؤلفاته رسالة قيمة ساحرة عن (المحامي)، وكتاب (قضايا التاريخ العظمى) الذي بدأه في سنة 1923، وظل يعمل فيه حتى العام الماضي، حيث صدر منه الجزء العاشر؛ وفي هذه الأجزاء العشرة يعالج هنري روبير طائفة من قضايا التاريخ الكبرى، ولاسيما ما تعلق منها بالتاريخ الفرنسي؛ ويعرضها بأسلوب بديع ساحر، يجمع بين دقة الشرح القضائي، وروعة البيان الأدبي
وفي سنة 1923 انتخب هنري روبير عضواً بالأكاديمية الفرنسية في الكرسي الذي خلا بوفاة الوزير ريبو
وكان هنري روبير محامياً عظيماً يمتاز بصفات باهرة؛ فقد كان عالماً نفسياً ينفذ أحياناً إلى أعماق السرائر؛ وكان خطيباً رائعاً ينهمر بيانه؛ وكانت مرافعاته في القضايا الكبرى أياماً مشهودة في ساحات القضاء. وقد بلغ الذروة في أواخر حياته من قوة التأثير والسحر، حتى كان المحلفون في بعض الدوائر يخشون تأثيره، ويقاومون هذا التأثير بشيء من عدم الثقة. وكان هنري روبير موجزاً في العادة خلافاً لكثير من زملائه الأعلام، ولكنه كان في إيجازه دائماً قوياً مؤثراً
توفيق الحكيم في الفرنسية
نقل الأستاذان (ا. خضري) و (موريك برين) إلى الفرنسية رواية شهرزاد للأستاذ توفيق الحكيم ثم طبعاها ونشراها في باريس. وقد حافظا على روحها الشعري الشرقي حتى سمياها (قصيدة درامية في سبعة مناظر) وقد صدرها بمقدمة بليغة الكاتب الفرنسي الكبير (جورج لوكنت) أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية حلل فيها الفكرة التي قامت عليها الرواية(151/78)
ثم قال: (كان لا بد من شاعر يُقدِم على معالجة إحدى درامتي الإنسانية العظيمتين في مثل هذا الإطار الضيق. ولكن كان لا بد من شاعر شرقي رقيق الحس خصب القريحة كالأستاذ توفيق الحكيم يحل العقدة في مثل هذا العمل بلباقة من الفن العربي البارع الذي ينال دائماً ذهننا الديكارتي بالدهشة قبل أن يرميه بالفتنة
(وكيف لا نحمد كذلك المسيو (ا. خضري) والمسيو (موريك برين) على أن ترجما إلى الفرنسية لغة خلقت لتعبر قبل كل شيء عن العطر والشعر والسر؟)
وفاة مارمدوك بكتال
توفي المستر مارمدوك وليم بكتال القصصي المعروف بتضلعه في العلوم الإسلامية، ولد في 7 أبريل سنة 1875 في شلورد بمقاطعة سفولك، وكان أبوه قسيساً بها؛ ثم تلقى دروسه في هارو وفي أوروبا، ثم قضى ثلاث سنين في الشرق الأدنى، درس خلالها العربية، وفقه العلوم الإسلامية؛ وقضى وقتاً طويلاً في لبنان وفي مصر، ثم دخل في الإسلام وتسمى محمدا، واتصل بسمو نظام حيدر آباد، فتولى إدارة (كلية حيدر آباد) ورأس تحرير مجلة (الثقافة الإسلامية) التي تصدر هناك باللغة الإنجليزية
وفي سنة 1930 ترجم القرآن الكريم ترجمة توخى فيها الدقة وطبعها بمعونة الأمير بعد أن راجعها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وجعل عنوانها (ترجمة معاني القرآن المجيد). وقد أرسل نسخاً منها إلى مصر، وكان الشيخ الظواهري يومئذ شيخاً للأزهر، فنبهه بعضهم إلى أن في الترجمة خطأ، فطلب من الداخلية أن تصادرها فصودرت. وله غير ذلك مؤلفات قصصية وغير قصصية، منها (سعيد الصياد) و (عنيد) و (بيت الإسلام) و (حكايات عن الأرض المقدسة) و (أبناء النيل) و (وادي الملوك) و (النساء المحجبات) و (الترك في الحرب) و (فرسان عرابي) وغير ذلك
كننهام جراهام
نعت إلينا الأنباء الأخيرة الكاتب الإنكليزي الكبير روبرت كننهام جراهام؛ توفي في مدينة بيونوس آيرس عاصمة الجمهورية الفضية (أمريكا الجنوبية)، حيث كان يعيش منذ أعوام طويلة؛ وهو اسكتلندي الأصل، ولد سنة 1852، وتخرج في كلية هارو الشهيرة؛ وكان منذ(151/79)
حداثته يشغف بالسياسة وغمارها، ويجنح للمبادئ الاشتراكية؛ وفي سنة 1886 تحققت آماله السياسية الأولى بدخوله مجلس النواب نائباً عن لانكشير؛ وظهر في البرلمان بذلاقته وحملاته العنيفة، واستمر نائباً حتى سنة 1892. وفي ذلك الحين كان جراهام قد خاض غمار الكتابة أيضاً؛ وكان جوالة كثير الأسفار، واستهوته إسبانيا وأمريكا الجنوبية فدرس شؤونهما، واتصل بالبلاط الإسباني وكتب كثيراً عن إسبانيا وتاريخها وعظمائها، وأنعم عليه ملك إسبانيا بمرتبة في النبل (جراندي)؛ ومنذ سنة 1898 يخرج لنا جراهام بالإنكليزية كتباً عن الشؤون والصور الإسبانية وعن تاريخ أمريكا اللاتينية. ومن أشهر مؤلفاته (ابنة عمي صبح) (سنة 1898) و (المغرب الأقصى) في نفس العام (أركاديا الذاهبة) (سنة 1901) (والنجاح) (سنة 1902) و (ترجمة هرناندو دي سوتو) (سنة 1903) والصدقة (سنة 1912) و (قرطاجنة وشواطئ سينو) (سنة 1920) و (أعمال بطولة) (سنة 1925) و (بيدرو دي فالديفيا فاتح شيلي) (سنة 1929) وخوزي أنتونيو بييز (سنة 1929) وغيرها؛ ومعظمها عن أمريكا اللاتينية
وتجول جراهام كثيراً في مدن أمريكا الجنوبية وثغورها، ودرس كثيراً من شؤونها وأحوالها، وأقام كثيراً في بيونوس آيريس؛ وكان أثناء الحرب العالمية يشتغل بتجارة الخيل وتوريدها لجيوش الحلفاء؛ وهو يعتبر في الواقع من كتاب أمريكا اللاتينية أكثر مما يعتبر من كتاب إنكلترا، وشأنه في ذلك شأن المؤرخ الإنكليزي جورج فنلي الذي خصص حياته لليونان وتاريخها وآدابها؛ وتوفي جراهام في نحو الثمانين من عمره
مباراة أدبية دولية
نشر مكتب الصحافة الدولية السويدية بياناً عن مباراة أدبية دولية رصدت لها بعض دور النشر السكندنافية جائزة حسنة، ووضعت لها موضوعاً وشروطاً خلاصتها:
أما الموضوع فهو: (هل يمكن أن يوضع معيار أدبي موضوعي في العصر الحاضر؟ وإذا كان الجواب نعم، فعلى أي أساس يمكن أن يقام؟)
ويجب ألا يزيد ما يكتب في الموضوع على ست عشرة صفحة من القطع المتوسط، ويجب أن يكتب بوضوح وترتيب؛ وقد ألفت لفحص الرسائل لجنة مؤلفة من الدكتور لانكوست أستاذ الفلسفة السويدي (ممثلاً للسويد) والدكتور ونسنس النرويجي (ممثلاً للنرويج)(151/80)
والدكتور روين أستاذ الفلسفة الفنلندي (ممثلاً لفنلندة)؛ وستقوم هذه اللجنة بمهمتها مستقلة، وتقبل دور النشر المذكورة أحكامها دون مناقشة
وستخصص للفائزين ثلاث جوائز، الأولى قيمتها (2000) كرون سويدي، والثانية قيمتها (1000) كرون، والثالثة (500)؛ ويدفع للفائزين فوق ذلك نسبة من أرباح نشر رسالاتهم؛ وإذا لم يوجد من بين الرسائل المقدمة رسالة تستحق المكافأة، فإنه لا تمنح جوائز ما، ويحتفظ الناشرون أيضاً بحقهم في نشر رسائل لم تنل شيئاً من الجوائز
ويمكن كتابة الرسائل باللغات السويدية والدنماركية والإنكليزية والألمانية؛ ويجب أن تذيل بإمضاء مستعار، ومعها غلاف به هذا الاسم المستعار مقروناً باسم صاحبه؛ ويمكن الدخول في المباراة حتى أول يناير سنة 1937، وتنهي لجنة التحكيم من أعمالها في أول أبريل، وتعلن النتيجة في خريف سنة 1937، وترسل الرسائل إلى إحدى دور النشر المشتركة في وضع المباراة، وهي محلات:
, , - ,
كتاب جديد عن مصر القديمة
ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب عنوانه (بحث في مصر الخفية) بقلم المستر بول برنتون واسم الكتاب يدل على موضوعه. بيد أن مؤلفه ينحو في كتابته منحى غريباً لم يسبقه إليه أحد، فهو لا يريد أن يتقيد في بحثه بما كتبه علماء الآثار المصرية أو استنتجوه من قراءة النقوش القديمة، بل يؤثر أن يعتمد على مباحثه الشخصية وعلى وحي نفسه في فهم ما تدلى به الهياكل والرموز من المقاصد والمعاني. وقد زار المستر برنتون مصر في العام الماضي وقضى بها بضعة أشهر يتجول بين آثارها وينقب ويبحث ويجمع لنفسه مواد كتابه؛ وهو كاتب شاب واسع المعرفة متزن مستنير في آرائه وشروحه
ويرى مستر برنتون أن الحضارة المصرية القديمة قد نشأت في القارة المفقودة (الأتلانتس)، ويستشهد على رأيه بحلم رآه في ذلك ووحي نفذ إلى نفسه ذات ليلة قضاها إلى جانب أبي الهول، وذات ليلة أخرى قضاها مع الأرواح بجانب الهرم الأكبر، وثالثة قضاها في معبد الكرنك؛ ويحاول فوق ذلك أن يدعم رأيه بمشاهدات أثرية شاهدها في أبيدوس ودندرة والأقصر(151/81)
ويحمل مستر برنتون على مباحث علماء الآثار، ويقول إنهم لم يصلوا إلى لباب الحقائق، وأن الأرواح الشريرة والمضللة تنطلق كل مرة يجري فيها الحفر في مقبرة أو معبد، وأنه خير أن يوضع حد لإطلاق هذه الأرواح الخطرة التي كثر عديدها
ويرى فيما يتعلق باللغة المصرية القديمة أن علماء الآثار لم يتوصلوا إلا إلى معرفة المعاني التي كانت مستعملة على لسان الرجل العادي. أما المعاني والرموز الخفية التي كانت تجري على ألسنة الكبراء والخاصة فمازالت سراً من الأسرار
ويسير الكاتب في عرض آرائه عن شؤون مصر القديمة وأسرارها على هذا النحو الخيالي. بيد أنه مما لا ريب فيه أنه يذهب بعيداً في تصوراته، وأن كتابه لا يمكن أن يعتبر من النوع العلمي الذي يعتمد على شروحه؛ أما إذا اعتبرناه قطعة من الخيال المجرد، فإنه يستحق القراءة على هذا الأساس، ويغدو قطعة ممتعة من الأدب الروائي
ذكرى أمير عالم
احتفل أخيراً في فينا بذكرى البرنس أوجين دي سافوي، لمناسبة مرور مائتي عام على وفاته، وقد كان هذا الأمير الشهير قائداً عظيماً، وكان فرنسي الأصل والمولد، وكان مولده في باريس سنة 1663 ولكنه هجر فرنسا وطنه، لأن لويس الرابع عشر أبى عليه تحقيق بعض أمانيه، والتحق بخدمة إمبراطور النمسا ليوبولد الأول. وغنم ضد الترك عدة مواقع رفعت اسمه ومنزلته، وانتهى بسحق الترك في المجر في معركة زنتا الشهيرة، وحارب أيضاً ضد لويس الرابع عشر وهزم جيوشه في عدة مواقع، وذاع اسمه في أوروبا، واعتبر أعظم قائد في عصره
بيد أن الذي يهم هنا هو أن هذا القائد الشهير كان فيلسوفاً وكان عالماً، وكان شغوفاً بالتفكير والآداب؛ وله صلات أدبية وثيقة بأقطاب التفكير في عصره مثل الفيلسوف الألماني ليبنتز، الفيلسوف الفرنسي فولتير، وغيرهما من أقطاب الفلاسفة والمفكرين، وكانت له مكتبة عظيمة تغص بآلاف الكتب النفيسة؛ ومع أنه كان في معظم أوقاته مشغولاً بأعمال الحرب والسياسة، فإنه لم يكن يترك فرصة للقراءة إلا انتهزها؛ وكان واسع الاطلاع والمعرفة إلى حدود مدهشة؛ وكان نصير للآداب والفنون يدعو أقطاب الكتابة والفن إلى البلاط النمسوي ويغدق عليهم عطفه ورعايته؛ ومازالت مكتبته ومجموعاته الفنية تكون قسماً عظيماً من(151/82)
المكتبة النمسوية الوطنية؛ وقد شمل الاحتفال بذكراه أخيراً في فينا عدة مناظر عسكرية وفنية، فنظم استعراض عسكري فخم، وأقيم احتفال تذكاري في القصر الذي توفي فيه (سنة 1736) في شارع (همل بفورت)، ويوجد في قصر بلفيدير الشهير حيث كان يقيم هذا الأمير العالم أثناء حياته معرض دائم يضم كثيراً من التحف والصور والتماثيل التي استطاع أن يجمعها طوال حياته(151/83)
العدد 152 - بتاريخ: 01 - 06 - 1936(/)
النقد أيضاً
للأستاذ أحمد أمين
أثار ما كتبه أخي الزيات في موضوع (النقد) معاني أخرى في نفسي تتصل بتاريخ النقد العربي في السنين الأخيرة.
ذلك أني أوازن بين النقد من نحو عشرين عاماً والنقد الآن، فأجده ليس خاضعاً لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط، حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.
فقد كان الكِتَاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده؛ فاللغوي ينقده نقداً لغوياً، والمؤرخ ينقده نقداً تاريخياً، والأديب ينقده نقداً أدبياً؛ وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب، وتظهر في التأييد والتفنيد مقالات ضافية، وبحوث عميقة شائقة. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي من نقد (لمجاني الأدب) و (أقرب الموارد) ونحوهما من الكتب، كما لست أنسى ما نُقد به كتاب (التمدن الإسلامي) والأخذ والرد اللذين قاما حوله؛ وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة، فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها؛ ومن هذا وذاك يستفيد الأديب، ويرقى الأدب، وتتجلى حقائق كانت خافية، وتتهذب أذواق كانت نابية، وكان يؤلَّف الكتاب الديني مثل كتاب (الإسلام وأصول الحكم) فتنشب معارك حامية، وينقسم المفكرون إلى معسكرين، وفي كل معركة شحذ للأذهان، ودرس للمتعلمين، وتمحيص للحقائق. قد كان في نقدهم أحياناً هُجر وقذع، وهجو وسباب؛ ولكن كان بجانب ذلك حقائق تذاع، وبحوث تنشر؛ وكان كل من السباب والنقد العفيف علامة حياة أدبية، وثورة فكرية، وعقل باحث، وقلم نشيط
تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه! لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون، وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان، في كل ناحية من نواحي الأدب، من قصص وقصائد وموضوعات اجتماعية، وكتب تاريخية؛ وكثر الكلام في الأدب، وخصصت أكثر الصحف صفحات للمقالات الأدبية، وكان معقولاً أن يساير النقد هذه الحركة فيرقى معها، ويتسع باتساعها، وتتعدد نواحيه بتعددها، ولكن كان من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة، وهي رقي الأدب وانحطاط النقد
نعم، أعتقد أن الأدب العربي ارتقى عما كان عليه منذ عشرين سنة في جملته لا في كل(152/1)
ناحية من نواحيه، فقد يجوز أننا لم نجد من يخلف (شوقي) و (حافظاً) في ناحيتهما الشعرية، ولكن الأدب - بمعناه العام - أصبح خيراً مما كان، فغزرت معانيه بعد أن كان لفظياً، وعمق بعد أن كان سطحياً، وجادت القصة فيه نوعاً ما، واتسع أفقه وموضوعاته قدراً ما، وتأثر الأدبَ الغربي وقلده في مناحي رقيه. أما النقد فانكمش وأنكمش حتى ضمر وذبل وأشفى على الهلاك
وحسبك دليلاً أن ترى أشهر الكتاب في العالم العربي يخرجون الكتاب تلو الكتاب فلا تكاد تجد ناقداً يعتد به، وتقرأ ما يكتب عن ذلك في أشهر الصحف والمجلات فلا تجد إلا سراباً يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً؛ وأكثرها يكتفي باسم الكتاب وعرض موضوعه والاستعانة على ذلك بفهرسه ومقدمته ثم صيغة محفوظة متداولة من المدح والتقريظ. فان كان نقد فمظهر لا مخبر، هو نتاج فقر عقلي وخمود ذهني، ثم ينتهي الأمر ويغلق الباب. فلا معارك ولا مساجلات ولا بحوث حول الكتاب، ولا أخذ ولا رد، ولا مظهر من مظاهر الحياة الأدبية. لا يشعر الناقد أن عليه واجباً يؤديه للقراء، وأن منصبه يتطلب منه قراءة عميقة، وآراء صريحة، وتقديراً دقيقاً، وأن ذمته لا تبرأ إلا ببحث شامل واف ثم إبداء لرأيه في غير تحيز ولا مواربة، ولكن كل ما يشعر به أن المؤلف أهدى إليه الكتاب فهو يلقي على عاتقه العبء بكتابة كلمة خاملة، ووصف فاتر، ونقد سطحي.
ليس النقد مجرد استحسان الناقد أو استهجانه. فكل ما كان مبنياً على ذوق الناقد وحده، ومجرد ادعائه أن هذا بليغ وهذا ليس ببليغ وهذا راقِ وهذا غير راقِ لأنه يتذوقه أو لا يتذوقه، واكتفاؤه أحياناً بأن يصوغ عبارته في الاستحسان أو الاستهجان في قالب جميل، كل ذلك ليس من النقد في شيء. إنما النقد ما عُلّل وبينت فيه أسباب الحسن والقبح، وأسس على قضايا ثابتة. فبهذا يستفيد المنقود، ويرقى الأدب، ويسمو الذوق؛ وبهذا وحده لا يكون النقد فتاتاً لموائد الأدب، ولا متطفلاً على نتاجه، إنما يكون هادياً للأديب ومرشداً للجمهور وموجهاً للأدب نحو الكمال
ولكن ما علة هذه الظاهرة في الأدب العربي، وليس من الطبيعي في الأمم أن الأدب إذا رقي ضعف النقد، فإننا نرى الظاهرة في الأدب الغربي أن يرقى الأدب فيرقى النقد ويؤثر كلاهما في الآخر تأثيراً محموداً - فيجب أن تكون علة ضعف النقد العربي علة محلية لا(152/2)
علة طبيعية
يظهر لي أن هذا الضعف في النقد يرجع إلى أسباب عدة:
أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد، ورحابة صدر من المنقود. وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية فأظهروا آرائهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام سواء في ذلك بحوثهم ونقدهم؛ وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر، فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس، فكان صراع بين القديم والحديث، وبين التفكير الحر والتقاليد، وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بهزيمة هذه الطليعة من المفكرين، وتعرضوا للخطر في مناصبهم وأرزاقهم، ونالوا من العسف والعنت ما ليس في طاقتهم. وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوربية، ولكن كان هناك فرق كبير بيننا وبينهم: ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال وبالمعونة، وكم رأينا من المال يجمع ليستعين به من نكب في منصبه بسبب رأيه أو بسبب سياسته، يتبرع به أغنياء اعتقدوا صحة رأيه أو وجاهة سياسته، فعطفوا عليه، وتحول عطفهم إلى اتخاذ وسائل لدرء الخطر عنه فاستمر في خطر شجاعته، وشعر بأن تضحيته يقابلها عطف، وأنه إن ضحى بالكماليات لا يُصاب في الضروريات؛ بل وإن أصيب في الضروريات وبلغ ذلك فقدان القوت فقد ضربت له أمثلة عدة أيام الثورة الفرنسية وقبلها وبعدها، فتأصلت الشجاعة الأدبية، ونمت بذرتها وأصبحت غير قابلة للفناء. أما في مصر فكانت بذرتها هي البذرة الأولى، وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم وفي منصبهم وفي مالهم، ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق؛ ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود. وكان الرأي العام قوياً مسلحاً فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة؛ ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم، بل وفي بعض الأحيان رجع عن رأيه إلى آرائهم، وعن منهجه إلى منهجهم،(152/3)
وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة، فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع، إنما هو معَسكر واحد ولا قتال. وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده، وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافاً طفيفاً، في العرض لا في الجوهر. لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون، وتتعادى وتتصادق، وفي عداوتها وصداقتها الخير؛ ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام.
ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكوّن واستوى على عرش الأدب، وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وأصبح كل منهم كالعُشَراء لا تميل إلى النطاح ولا ترجو إلا السلامة. وصنف ناشئ هو في طور التكون، وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش فيبطش به بطشة جبارة ترده إلى أسفل، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضاً وخاف الناشئون من الكبراء، ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء.
ولعل من أسباب ضعف النقد أيضاً السياسة قتلها الله، فقد تدخلت أولاً فنصرت الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين؛ وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد، ولو فعلت لكان الحرب سجالاً، ولظل المعسكران في قتال؛ وفي هذا تمحيص كبير للآراء، فيصد الرأيُ العام المتطرفين، ويدفع القادة غلاة المحافظين، والأمة من هذا وذاك في استفادة دائمة. أما أن تدخل السياسة فتبيد معسكراً بأكمله، فكان الضرر كل الضرر. ثم إن السياسة - ثانياً - دخلت في الأدب وقومت الأديب بلونه السياسي، ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة، فأفسد ذلك الأدب والنقد معاً. قد تقول إن السياسة تلعب هذا اللعب في الأمم الممدنة ولم يكن لها هذا الأثر، ولكنا نقول إن الأمم الناشئة تتضرر من تدخل السياسة أكثر مما تتضرر الأمم العتيدة، وأكبر مظهر في ذلك أنه ليس بين أحزابها تنافر كالذي بين أحزابنا، ولا ينكل حزب بالأحزاب الأخرى كما يحدث بيننا، فالخصومة السياسية عندهم لا تفقد الصداقة في أغلب الأحيان، وكذلك الشأن في الخصومات الأدبية. أما الأمم الناشئة فلا تفهم من(152/4)
الخصومة السياسية والأدبية والعلمية إلا العداء العنيف، وفي العداء العنيف قتل للحرية
وهناك أسباب أخرى غير ما ذكرت لعل الكُتّاب يعرضون لها فيكشفون عن أسباب هذا الداء الخطير ويصفون له ما يتطلب من دواء ناجع
أحمد أمين(152/5)
3 - العجوزان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المحدِّث: وتبين في العجوز (ن) أثرُ التعب فتوجع وأخذ يئنُّ كأن بعضه قد مات لوقته. . . أو وقع فيه اختلالٌ جديد أو نالته ضربةُ اليوم؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصلة بينه وبين أيامه
ثم تأفف وتململ وقال: إن أولَ ما يظهر على من شاخ وهرم، هو أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به
قال الأستاذ (م): إن صاحبنا كان قاضياً يحكم في المحاكم، وأرى المحاكم قد حكمت عليه بهذه الشيخوخة (مُطَبَّقةً فيها) بعض المواد من قانون العقوبات، فما خرج من المحكمة إلا إلى الحبس الثالث
فضحك (ن) وقال: قد عرفنا (الحبس البسيط) و (الحبس مع الشغل) فما هو هذا الحبس الثالث؟
قال: هو (الحبس مع المرض). . .
قال (ن): صدقتَ لعمري فأن آخر أجسامنا لا يكون إلا بحساب من صنعة أعمالنا؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسيُّ الحكومة، فهو يضرب الضرائب على عظام الموظفين. . . أتدري معنى قوله تعالى: (ومنكم من يُردُّ إلى أرذل العُمُر) ولِمَ سماه الأرذل؟
قلنا: فلم سماه كذلك؟
قال: لأنه خَلْطُ الإنسان بعضه ببعض، ومسخُه من أوله إلى آخره، فلا هو رجلٌ ولا شاب ولا طفل، فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة. . .
فاستضحك الأستاذ (م) وقال: أما أنا فقد كنت شيخاً حين كنت الثلاثين من عمري، وهذا هو الذي جعلني فتىً حين بلغت السبعين
قال (ن): كأن الحياة تصحح نفسها فيك
قال: بل أنا أكرهتها أن تصحح نفسها؛ فقد عرفتُ من قبل أن سَعَةَ الإنفاق في الشباب هي ضائقة الإفلاس في الهرم، وأيقنتُ أن للطبيعة (عدَّادا) لا يخطئ الحساب، فإذا أنا اقتصدت عدَّت لي، وإذا أسرفتُ عدَّت عليَّ؛ ولن تعطيني الدنيا بعد الشباب إلا مما في جسمي، إذ لا(152/6)
يعطي الكون حياً أراد أن ينتهي منه، فكنت أجعل نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة: لستُ لك، ومن ثم كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين: شريعة الدين وشريعة الحياة
قال: وعرفت أن ما يسميه الناس وَهَنَ الشيخوخة لا يكون من الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إلا عملُ الإنسان في تسميم ثلاثين أو أربعين سنة بالطعام والشراب والإغفال والإرهاق والسرور والحزن واللذة والألم؛ فكنت مع الجسم في شبابه ليكون معي بعد شبابه، ولم أبرح أتعاهدُه كما يتعاهد الرجلُ داره، يزيد محاسنها وينفي عيوبها، ويحفظ قوَّتها ويتقي ضعفها، ويجعلها دائماً باله وهمه، وينظر في يومها القريب لغدها البعيد، فلا ينقطع حسابُ آخرها وإن بعُدَ هذا الآخر، ولا يزال أبداً يحتاط لما يخشى وقوعه وإن لم يقع
قال الجوز (ن): صدقت والله فما أفلح إلا من اغتنم الامكان؛ وما نوع الشيخوخة إلا من نوع الشباب. وهذا الجسم الإنساني كالمدينة الكبيرة فيها (مجلسها البلديُّ) القائم على صيانتها ونظامها وتقويتها، ورئيس هذا المجلس الإرادة، وقانونه كله واجبات ثقيلة، وهو كغيره من القوانين إذا لم ينفذ من الأول لم يُغن في الآخر
فال الأستاذ (م): وكل جهاز في الجسم هو عضو من أعضاء ذلك (المجلس البلدي)؛ فجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العضلي والجهاز العصبي والدورة الدموية، هذه كلها يجب أن تترك على حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها، فلا يحال بينها وبين أعمالها برشوة من لذة أو مفسدة من زينة أو مطمعة في رفاهية أو دعوة إلى مدنية أو شيء مما يفسد حكمها أو يعطل عملها أو يضعف طبيعتها
والقاعدة في العمر أنه إذا كان الشبابُ هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها. وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائقها إلى آخر العمر في هذا الإنسان؛ فسرُّ الطفولة إنما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يُطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يُفزعها الطمع ولا يهولها الإخفاق ولا يتعاظمها الضر، ولا يخفيها الموت. ثم لا تملُّ وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة،(152/7)
ولا تتبلد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجولة. ثم هي لا تكلف الإنسانية إلا العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كل قلب؛ ولا توجب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تقرر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر؛ ثم تتهكم بالدنيا أكثر مما تهتمُّ لها، وتستغني فيها أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائماً مما أمكن؛ قلَّ أو كثر
وبكل هذا تعمل الطفولة في حراسة الحياة الغضة واستمرارها ونموها؛ ولولا ذلك لما زها طفل ولا شبَّ غلام ولا رأت العيون بين هموم الدنيا ذلك الرُّواء وذلك المنظر على وجوه الأطفال يثبتان أن البراءة في النفس أقوى من الطبيعة
وكل ذلك هو أيضاً من خصائص الدين وبه يعمل الدينُ في تهذيب الحياة واطّرادها على أصولها القوية السليمة، ومتى قوى هذا الدين في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إلا من وراء حدوده، حتى كأنه في أرض وهي في أرض أخرى؛ وأصبحت البراءة في نفسه أقوى من الطبيعة
ثم قال: والعجيب أن اعتقاد المساواة بين الناس لا يتحقق أبداً بأحسن معانيه وأكملها إلا في قلبين: قلب الطفل لأنه طفل، وقلب المؤمن لأنه مؤمن
فقال العجوز (ن): إنه لكما قلت، ولعنة الله على هذه الشهوات الآدمية الباطلة. فأن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة الواحدة كأنها ألف حقيقة متعادية متنازعة. والطامعان في امرأة واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتل. ولعنة الله على الملحدين وإلحادهم، يزْرون على الأديان بأنها تكاليف وقيود وصناعة للحياة، ثم لا يعلمون أن كل ذلك لصناعة الآلة النفسية التي تستطيع أن تحرك المختلفين حركة واحدة، فما ابتليت الإنسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلاف الذي يفتح من كل نفس على كل نفس أبواب التجني، ويجعل النَّفرةَ وسوء الظن أقرب إلى الطبيعة البشرية من الألفة والثقة
لقد جاء العلم بالمعجزات ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته؛ فهل غير الدين يجيء بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، وبين النفس وهمومها، وبين ما هو حق وما هو واجب؟
قال المحدث: ثم نظر إليَّ العجوز (ن) وقال: صِلْ عمك يا بني بالحديث الذي مضى، فأين بلغنا آنفاً من التجديد والمجددين وماذا قلنا وماذا قلت؟ أما إن الحماقة الجديدة والرذيلة(152/8)
الجديدة والخطأ الجديد، كل ذلك إن كان جديداً من صاحبه فهو قديم في الدنيا؛ وليس عندنا أبداً من جديد إلا إطلاق الحرية في استعمال كل أديب حقه في الوقاحة والجهل والخطأ والغرور والمكابرة
قال الأستاذ (م): وليس الظاهر بما يظهر لك منه ولكن بالباطن الذي هو فيه؛ فمستشفى المجاذيب قصر من القصور في ظاهره ولكن المجاذيب هم حقيقته لا البناء. وكل مجدد عندنا يزعم لك أنه قصر عظيم وهو في الحقيقة مستشفى مجانين، غير أن المجانين فيه طباع وشهوات ونزَوات. وعلى هذا ما الذي يمنع الفجور المتوقح أن يسمي نفسه الأدب المكشوف؟
قال (ن): وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعموا لك أن للفن وقاحة مقدسة. . . . وأن (لا أدبية) رجل الفن هي (اللا أخلاقية العالية). . . .
قال الأستاذ (م): فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل الفضيلة ودعت الى مذهبها، كانت تجديداً ما في ذلك ريب. ولكن هذا المذهب هو أقدم ما في الأرض إذ هو بعينه مذهب كل زوجين اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم. . .
قال (ن): وقل مثل ذلك في متسخّط على الله وعلى الناس يخرج من كفره بين أهل الأديان أدباً جديداً، وفي مغرور يتغفل الناس، وفي لص آراء، وفي مقلد تقليداً أعور؛ كل واحد من هؤلاء وأشباههم مبتلي بعلة، فمذهبه رسالة علته؛ وأكثرهم لا يكون ثباته على الرأي الفاسد إلا من ثبات العلة فيه
قال المحدِّث: وكنتُ من المجددين فأرمضني ذلك، وقلت للعجوزين: إن هذا نصف الصحيح؛ أما النصف الآخر فهو في كثير من هؤلاء الذين ينتحلون الدفاع عن الدين والفضيلة. نعم إنهم لا يستعملون حقهم في الوقاحة، ولكن القروش تستعمل حقها. . .
فضحك العجوز (ن) وقال: يا بني إن الجديد في كل حمار هو أن يزعم أن نهيقه موسيقى. . . فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلك لا جديد فيه، ولكن التسمية وحدها هي الجديدة. ولو كان البرهان في حلق الحمار لصح هذا الجديد، غير أن التصديق والتكذيب هنا في آذان الموسيقيين لا في حلق حمارنا المحترم. . .
قال (م): وزعموا أن رجلاً نصب فخاً لصيد العصافير، فجاء عصفور فنظر من هذا الفخ(152/9)
الى شيء جديد فقال: يا هذا! مالك مطمورا في التراب؟ قال الفخ: ذلك من التواضع لخلق الله. قال: فممَّ كان انحناؤك؟ قال الفخ: ذلك من طول عبادتي لله. قال: فما هذه الحبة عندك؟ قال الفخ: أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها. قال العصفور: فتُبيحها لي؟ قال: نعم
فتقدم المسكين اليها، فلما التقطها وقع الفخ في عنقه، فقال وهو يختنق: إن كان العُبّاد يخنقون مثل هذا الخنق فقد خلق إبليس جديد
قال (ن): فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجدد ليَصْلح لزمن الآلات والمخترعات والعلوم والفنون وعصر السرعة والتحول. وما دام الرقي مطردا وهذا العقل الإنساني لا يقف عند غاية في تسخير الطبيعة، فسينتهي الأمر بتسخير إبليس نفسه مع الطبيعة. . لاستخراج كل ما فيه من الشر
قال (م): ولكن العجب من إبليس هذا. أتراه انقلب أوربيَّا للأوربيين؟ وإلا فما بالُه يخرج فيهم مجددين من جبابرة العقل والخيال ثم لا يؤتينا نحن إلا مجددين من جبابرة التقليد والحماقة؟
قال المحدث: فقلت لهما: أيها العجوزان القديمان، سأنشر قولكما هذا ليقرأه المجددون
قال الأستاذ (م): وانشر يا بني أن الربيع صاحب الإمام الشافعي مر يوماً في أزقة مصر فنثرت على رأسه إجانة مملوءة رمادا، فنزل عن دابته وأخذ ينفض ثيابه ورأسه فقيل له: ألا تزجرهم؟ قال: من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب. . .
ثم قال محدثنا: واستولى عليَّ العجوزان ورأيت قولهما يعلو قولي وكنت في السابعة والعشرين وهي سن الحِدَّة العقلية فما حسبتُني معهما إلا ثُلث عجوز. . . . مما أثرا علي، وانقلبت لا أرى في المجددين إلا كل سقيم فاسد، واعتبرتُ كل واحد منهم بعلته، فإذا القول ما قال الشيخان وإذا تحت كل رأى مريض مرضٌ، ووراء كل اتجاه إبرة مغناطيسية طرفها إلى الشيطان. . .
وفرغنا من هذا فقلت للشيخين: لقد حان وقت نزولكما من بين الغيوم أيها الفيلسوفان؛ أما كنتما في سنة 1895 من الجنس البشري. . .؟
(لها بقية - طنطا)(152/10)
مصطفى صادق الرافعي(152/11)
بعد انهيار الحبشة
الخطر الفاشستي والصراع بين الفاشستية والإمبراطورية
البريطانية
لباحث دبلوماسي كبير
انتهت أعمال القرصنة الإيطالية في الحبشة إلى نتيجة لم يتوقعها كثيرون من رجال الحرب والسياسة؛ فقد انتهت بانهيار قوى الحبشة بسرعة، وسقوط قواعدها في يد العدو المغير بلا مقاومة، ومثول عاهلها الإمبراطور إلى الخارج، تاركاً ملكه ووطنه وأمته إلى مصاير مجهولة. واستطاع موسوليني زعيم الفاشستية المعتدية أن يعلن خلال مناظر مسرحية ضم الحبشة لإيطاليا وتعيين ملك إيطاليا إمبراطورا للحبشة
ومن العبث أن نحاول التحدث هنا عن أسباب انهيار المقاومة الحبشية بتلك السرعة المدهشة بعد أن استطاعت أن تصمد في وجه العدو أشهراً، وأن تقف زحفه سواء في الشمال أو الجنوب حتى شهر مارس الماضي؛ ولكن المحقق أن هذا التطور الفجائي في أقدار الحرب يرجع قبل كل شيء إلى التجاء الإيطاليين، بعد أن عجزوا عن التغلب بوسائل الحرب المشروعة إلى استعمال وسائل الحرب المحرمة كالغازات القاتلة وغيرها؛ وهكذا استطاعوا بتلك الوسائل المجرمة أن يمزقوا صفوف الأحباش، وأن يلقوا الروع في نفوس الشعب الحبشي بأسره، هذا إلى ما يذاع من أنهم استطاعوا أن يبثوا بالرشوة والإغراء كثيراً من أسباب الشقاق بين مختلف الرؤوس والزعماء
على أن هذا النصر المثير الملوث بأدران الجريمة، والذي يعتبر بحق قرصنة استعمارية محضة، لم يمنع الفاشستية الإيطالية من أن تزفه إلى العالم نصراً رومانياً للحضارة والمسيحية المتمدنة، على بلاد همجية تتوق إلى الانظواء تحت السيادة الإيطالية الظليلة، والأخذ بأسباب الحضارة الإيطالية الزاهرة! ولم يمنع زعيم الفاشستية من أن ينوه بأسلوبه المسرحي بعظمة هذا النصر الفاشستي، وبأنه عنوان ساطع لقوة إيطاليا الفتية، وأن يتوعد أوربا والعالم كله بأنه على استعداد لأن يسحق أية قوة أو دولة تحاول أن تقف في سبيله أو تحاول أن تحرمه من ثمار ظفره(152/12)
ولو عيد موسوليني مغزاه، ذلك أن إيطاليا تستقر الآن في الحبشة بقوة الفتح فقط، ولكن هذه الحقيقة الواقعة لا يمكن أن تعتبر حلاً نهائياً للمسألة الحبشية، وإنما تنتقل المسألة الحبشية الآن من ميدان الحرب إلى ميدان الحوادث الدولية والصراع الاستعماري. ولنذكر دائماً أن ما أبدته عصبة الأمم من إقدام في الحكم على إيطاليا بالاعتداء وتوقيع العقوبات الاقتصادية عليها يرجع قبل كل شيء إلى تدخل إنكلترا ونفوذها؛ وإنكلترا لم تتدخل ولم تعمل لتنظيم هذه الحركة الدولية تأييداً لميثاق العصبة ومبدأ السلامة المشتركة فقط، ولكن لأن الانتصار الفاشستي في الحبشة يهدد صرح الإمبراطورية البريطانية ومصالحها الحيوية بأعظم الأخطار
وقد عقدت الآمال من قبل على تدخل العصبة وجهودها؛ وما زالت العصبة على موقفها من استنكار عمل إيطاليا وتأييد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها؛ وربما اتخذت إجراءات أخرى في هذا السبيل في اجتماعها الذي سيعقد في الخامس عشر من يونيه؛ ولكنا نستطيع منذ الآن أن نضرب صفحاً عن الدور الذي يمكن أن تؤديه العصبة في حل المشكلة الحبشية بعد أن انهار تدخلها، ولم تستطع أن تنفذ كل ما يقضي به ميثاقها للتوسل إلى إرغام المعتدي على وقف الاعتداء
والآن ينكشف النضال واضحاً عن معركة دولية ذات وجهين: أحدهما قد أتخذ حتى اليوم ستاراً للآخر؛ فأما الوجه الأول فهو مبدأ السلامة المشتركة طبقاً لميثاق عصبة الأمم، وهو المبدأ الذي انتهكته إيطاليا بغزو الحبشة، وحاولت العصبة تأييده بفرض العقوبات؛ فالدول الصغرى من أعضاء العصبة تتساءل اليوم، هل في وسعها أن تعتمد في سلامتها الخاصة على تطبيق هذا المبدأ بعد الفشل الذي لحق العصبة في وقف الاعتداء الإيطالي؟ أم هل يجب عليها أن تبحث عن وسائل عملية أخرى كعقد المواثيق المحلية لتأمين سلامتها؟ إن ما ارتكبته إيطاليا في الحبشة يمكن أن ترتكبه غداً في تركيا، أو في اليونان، ويمكن أن ترتكبه ألمانيا في النمسا أو هولنده أو لتوانيا، ويمكن على وجه العموم أن ترتكبه أية دولة قوية ضد أية دولة ضعيفة دون أن تجد وازعاً كافياً لوقف عدوانها؛ فأنصار عصبة الأمم يرون في هذا الطور الحاسم من تأريخ العصبة أن لا أمل في نجاح مبدأ السلامة المشتركة ما لم يعدل دستور العصبة في هذا الشأن تعديلاً وافياً، وتنظم العقوبات الاقتصادية(152/13)
والعسكرية التي تطبقها العصبة على المعتدي تنظيماً يكفل أثرها في وقف الاعتداء المسلح بسرعة؛ وخصوم العصبة يرون أن التجربة الحبشية كانت حاسمة، فعلى عصبة الأمم أن تعلن إفلاسها، وعلى الدول أن تعتمد على وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها؛ وتقف الدول الصغرى فيما بين ذلك حيرى، ولكنها تعمل من جهة أخرى على تنظيم وسائل الدفاع عن نفسها جهد المستطاع
وأما الوجه الثاني من هذه المعركة الدولية، فهو نشوب النضال بين قوة عسكرية جديدة طامحة، هي الفاشستية الإيطالية، وبين إمبراطورية استعمارية عتيدة، هي الإمبراطورية البريطانية؛ ولم يكن خافياً منذ البداية أن نشاط السياسة البريطانية في توجيه عصبة الأمم إنما هو مرحلة فقط من مراحل النضال الحقيقي؛ والآن وقد انتهت هذه المرحلة بظفر العسكرية الفاشستية، وهزيمة السياسة البريطانية، فأن النضال يوشك أن يدخل طوره الثاني؛ وقد أدركت بريطانيا العظمى منذ البداية ما تهدد به تلك الفاشستية المضطرمة الطامحة، سيادتها في البحر الأبيض، وما يهدد به ظفرها في الحبشة سيادتها في وادي النيل وشرق أفريقية؛ وسيادة الإمبراطورية البريطانية ومواصلاتها، صرح لا يتجزأ، فأي صدع يصيبها يعرض البناء كله للخطر؛ ولم تخف الفاشستية ولا سيما منذ ظفرها في الحبشة، أنها تداعب حلماً إمبراطورياً ضخماً، وما فتئ زعيمها يتحدث عن أحياء الإمبراطورية الرومانية؛ وليس من ريب في أن السياسة البريطانية ترى في هذه العسكرية الطامحة المتجنية، المعتدة بقوتها، المعتزة بظفرها، خطراً عظيماً على كيان صرحها الإمبراطوري، تزمع سحقه بأي الوسائل
- 2 -
وليست إنكلترا وحدها هي التي تستشعر ذلك الخطر العسكري الجديد الذي تهب ريحه على أمم البحر الأبيض بنوع خاص، بل إن أمم أوربا كلها تستشعر به وتخشى تفاقمه؛ وإذا كانت ثمة دول مثل فرنسا وألمانيا والنمسا تنظر إلى نهوض الفاشستية بعين الإغضاء، وربما بعين الرضى، فذلك لظروف خاصة مؤقتة لا تلبث أن تزول فتشعر هذه الأمم بنفس الشعور الذي يثيره ظهور عسكرية جديدة جامحة تحتقر العهود والمواثيق الدولية وتجعل شعارها القوة الغاشمة دون غيرها(152/14)
وأمامنا التأريخ الأوربي الحديث، يعيد نفسه دائماً؛ وفي رأينا أنه سيعيد نفسه في القريب العاجل مرة أخرى
ذلك أن أوربا، وإنكلترا بنوع خاص، لم تتسامح قط في أمر العسكريات القوة المعتدية؛ ولم تنهض في أوربا أية عسكرية قوية طامحة، خلال القرون الأربعة الأخيرة، إلا اجتمعت أوربا على مقاومتها وسحقها
وقد كانت العسكرية البروسية آخر عسكرية من هذا النوع، لقيت مصرعها في الحرب الكبرى
ومنذ القرن السادس عشر يعيد التأريخ الأوربي الحديث نفسه في هذا الميدان بصورة واضحة؛ ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت العسكرية التركية تجول ظافرة في جنوب شرقي أوربا وأواسطها حتى حدود بولونيا، وقد اجتاحت حوض الدانوب حتى أسوار فينا، وحاصرت العاصمة النمسوية مرتين، فما زالت أوربا حتى حطمت هذه النهضة العسكرية الخطرة في البر والبحر، وردتها إلى ما وراء الدانوب، وحرمتها من كل ثمار ظفرها؛ وفي القرن السابع عشر، قام لويس الرابع عشر يهدد سلام أوربا الغربية بأطماعه ومغامراته العسكرية، فما زالت الدول الخصيمة وفي مقدمتها إنكلترا والنمسا حتى سحقت قواه العسكرية، بعد سلسلة من الحروب الطاحنة؛ وفي أوائل القرن الثامن عشر كان كارل الثاني عشر ملك السويد يجتاح بجيوشه ضفاف البلطيق وغرب روسيا، ويهد التوازن الأوربي في شرق أوربا، فما زالت روسيا حتى سحقت مشاريعه وقواه
وربما كان أعظم مثل في التأريخ الحديث لذلك الصراع الخالد في سبيل التوازن الأوربي، وسحق العسكريات الجامحة، مثل نابليون بونابرت؛ فقد ظل هذا الجندي العظيم الطامح يقود جيوشه الظافرة في جنبات أوربا مدى عشرين عاماً، ويبسط سيادته على معظم الدول الغربية والوسطى، ويعمل بكل ما وسع لتحطيم سيادة إنكلترا في البحر الأبيض؛ ولكن إنكلترا لبثت تطاوله وتصارعه وتؤلب عليه الدول الخصيمة، حتى انتهت بسحقه وتحطيم ذلك الطغيان العسكري الشامل الذي بسطته الإمبراطورية على أوربا زهاء عشرة أعوام
وقد رأينا كيف اجتمعت أوربا الغربية، وفي مقدمتها إنكلترا، أثناء الحرب الكبرى، لتحطيم العسكرية البروسية، التي وثبت تهدد العالم بأطماعها الجائشة في السيادة والإستعمار،(152/15)
وكيف لقيت مصرعها بعد حرب كانت أروع ما شهد التأريخ
والآن يبدو الخطر الفاشستي في الأفق، وتنذر العسكرية الفاشستية الجامحة بتحطيم التوازن الأوربي في شرق أوربا وفي وسطها، وتتحدى بالأخص سيادة إنكلترا البحرية في البحر الأبيض؛ وقد زادها انتصارها في الحبشة زهواً وتحدياً، فهل تصبر أوربا، وهل تصبر إنكلترا بنوع خاص حتى يتفاقم الخطر الفاشستي كما تفاقم الخطر البروسي قبيل الحرب؟ هذا ما لا نعتقد، وفي يقيننا أن الإمبراطورية البريطانية تتأهب لخوض ذلك الصراع التقليدي الذي حرصت دائماً على خوضه لتحطيم ذلك الطغيان العسكري الجديد الذي يهدد سيادتها ومصالحها الحيوية في البحر الأبيض وفي شرق أفريقية، وإذا كانت السياسة البريطانية ما زالت تبدي بعض الفتور والتردد في العمل الحاسم فذلك لأن مصاير الحرب والتسليحات الحديثة قد اتخذت وجهة جديدة، ولم تعد السيادة البحرية وحدها كافية لأن تملي بريطانيا كلمتها؛ ومن تقاليد بريطانيا المأثورة أنها لا تتعجل الحوادث، ولا تسارع إلى قبول التحدي الطائش؛ وبريطانيا تزن اليوم أقدار الحرب والنضال بميزان جديد لم تستقر عوامله بعد؛ وقد يمضي وقت آخر قبل أن تنزل بريطانيا إلى ميدان العمل الحاسم
قد تستطيع الفاشستية الجامحة في نشوة ظفرها المزعوم، أن تزعج أوربا وإنكلترا، مدى حين بمشاريعها ووعيدها؛ ولكن الفاشستية تخطئ بلا ريب إذا هي اعتقدت أن الظفر ميسور في ميادين أخرى غير الحبشة، وأنها تستطيع في مكان آخر من أوربا، أو أفريقية، أن تستعمل وسائلها العسكرية المجرمة في تحقيق أحلامها الرومانية، دون عقاب أو وازع؛ وهنالك حقيقة لا ريب فيها، وهي أن الفاشستية قد بثت بمسلكها وغرورها ووعيدها مخاوف ما كان أغناها عن بثها، وأنها سترغم بلا ريب، في القريب العاجل، على خوض الصراع الحاسم؛ وليس من ريب في أنها ستسحق في هذا الصراع، كما سحقت كل عسكرية أوربية جامحة من قبلها.(152/16)
امتزاج الأحاسيس
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قال المتنبي:
والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم
وأحسب أن المتنبي إنما أراد أن يصف الذليل المداجي الذي يظهر المودة ويخفي الضغينة والعداء، فيتودد ويتذلل حتى ينال من خصمه. وهذه صفة في ذوي الكيد والمكر والدهاء. ولكن هناك صفة أخرى في النفس الإنسانية تشبه هذه الصفة بعض الشبه، وهي صفة المحبة والمودة التي يحسها الخائف إحساساً حقيقياً لا مداجاة فيه إذا عجز عمن يخاف منه وألف الخوف فأزالت أُلفة الخوف غلواءه، وأزالت الرغبة في التخلص منه. وأبعدت هي والعجز أمل الانتقام من أجله، فتحول إرادة المحافظة على الحياة ذلك الخوف المألوف محبة أو مودة تحاول بها نيل الزلفى لدى الإنسان المخوف من طريق الإحساس الصادق بالمحبة أو المودة. وتحاول أن تسل بها من قدرة المخوف حمة البغض وسم الضغينة. لأن إرادة المحافظة على الحياة تعلم أن مودة الرياء ومحبة النفاق قد لا تقنع، وقد تنكشف ويشف ثوب الرياء عما تحته فينال الخائف المرائي شراً إذا انكشف مداجاته وعرفت مداهنته، ومن أجل ذلك تبالغ إرادة المحافظة على الحياة في الحيطة والحذر، فتحول الخوف من الإنسان المخوف إلى حب له أو مودة كي تقنعه وتتقي بوادر شره، وهي أيضاً تحاول أن تقنع بتلك المودة نفس من يحسها. وتفهمها أن لا داعي لليأس من الحياة كي لا يرهقها الخوف واليأس؛ وهذا أمر مشاهد إذا قرأ الإنسان سِفْرَ الحياة وتقصي البحث في تكوين النفوس
وهذه المحبة قد تزول وقد تبقى بعد زوال أسباب الخوف. وقد تقوى أواصرها بعد الرهبة ولا سيما إذا حلت الرغبة مكان الرهبة، ووجدت النفس منفعة دنيوية أو نفسية لها عند من زالت أسباب الخوف منه؛ وقد تنقلب تلك المحبة إذا زالت أسباب الخوف مقتاً ورغبة في الأنتقام، فيحسبها الباحث أنها لم تكن إلا مداهنة ونفاقاً، وهي قد تكون ذلك، وقد تكون كما شرحنا محض المودة والشعور الصادق بها، لأن احساسات النفس تمتزج وتتحول وتتشكل أشكالاً وتتلون ألواناً في السرائر، فكأن في النفس البشريةَ سر الكيمياء الذي حاول(152/17)
الكيميائيون في القرون الوسطى معرفته كي يتمكنوا من تحويل معدن إلى معدن، فهذا التحول الذي وصفناه من كيمياء النفوس في معامل السريرة الخفية
وكما أن امتزاج الخوف والمحبة يشاهد في الأضداد البعداء من قوي مسيطر وضعيف ذليل، إذا تهيأت للأول أسباب القوة من جاه أو مال أو صحة، وخذلت تلك الأسباب الذليل الضعيف وقهرته على أن يعتمد على صاحب المال أو الجاه، فذلك الامتزاج يشاهد أيضاً في نفوس الأصدقاء والأوداء والأحباء والأقرباء. فكم من امرأة تحب زوجها حباً صادقاً أساسه الخوف منه؛ وكم من رجل يحب زوجه حباً صادقاً يخالطه الخوف؛ وكم من قريب يود قريباً، وصديق يود صديقاً وداً تمازجه الرهبة أو الخشية
وإذا تقصينا البحث وجدنا ما هو أعجب من ذلك فقد يمتزج البغض والحب في النفوس، فقد يبلغ العاشق منزلة من العشق تشرف على البغض والمقت لمن يعشق، وقد تتذبذب نفس العاشق بين الحب والبغض أو قد تجمعهما في وقت واحد، فهي تارة تريد الخير لمن تحب، وتارة تريد الشر، وتارة تجمع بين إرادة الخير وإرادة الشر - ويمتزج الإخاء والجفاء في نفوس الأصحاب، ويمتزج الاحترام والاحتقار في نفوس الجلساء والمتعاشرين، كما يمتزج الحب والبغض في نفوس العشاق، أو كما يمتزج الخوف والود في نفوس الضعفاء، فترى الصاحب أو الجليس يبالغ تارة في إخائه لصاحبه وجليسه ومعاشره ويكثر من إكرامه وإجلاله، وتارة يظهر له الجفاء وقلة الاكتراث أو العبث به أو الحط منه، وتارة يجمع في مجلسه بين النقيضين
وكل إنسان يشتكي هذه الصفة في النفوس، ولكل إنسان نصيب منها قل أو كثر وإنما يفطن إلى ما في نفوس الناس ولا يفطن إلى نصيب نفسه منها. وينقسم الناس في تدبر هذه الصفات ثلاثة أقسام: أناس يأبون الرضاء بها فيعتزلون الناس ما استطاعوا إلى العزلة سبيلاً؛ وأناس ينقدونها ويودون لو تكون النفوس على حال واحدة، ولكنهم يعرفون استحالة هذه الودادة فيقنعون بما هو مستطاع من النفس والحياة، وأناس لا يرون إعنات أنفسهم بالسخط على هذه الصفات النفيسة، ومنهم من يرى في تلون الناس وتقلبها وجمعها بين النقيضين رحمة أو تفكهة أو إراحة وترفيهاً، ويمقتون من لا يعاشرهم على هذه الخلال، وربما كان في قولهم شيء من الحق والصواب، وربما كنا نزهد في الحياة لو كانت نفوس(152/18)
الناس على حال واحدة لا تتغير، فإن الحال التي لا تتغير مدعاة السأم والملل كسأم الذي يعيش في مكان قفر موحش لا يرى منه إلا مظهراً واحداً لا يتغير في أرضه أو سمائه
ولعل من أشد العقوبات وأقساها أن يحكم على إنسان ألا يأكل طول حياته غير السُّكَّر، فهو قد يشتهيه في أول الأمر، فإذا طال به العهد اعتراه السأم والملل؛ وكذلك ربما كان الجفاء مدعاة إلى التمتع بالإخاء، وقلة الاكتراث مدعاة إلى التنعم بالإكرام، والبغض حافزاً إلى استمراء الحب، كما أن اللذة لا يحسها إلا من يستطيع الإحساس بالألم. وهذه فلسفة لا شك فيها، ولكن الكثير من أمزجة النفوس تأباها، إما لأنها مرهفة الحس فلا تنسيها اللذة الألم والإخاء الجفاء، وإما لأنها إذا أحست ألماً أو عانت جفاء أو قاست عداء لا تطمئن إلى زواله، وقد تستبطئ زواله فيدركها اليأس والحزن
والحزن من تقلب النفوس وتلونها واختلافها نفساً عن نفس وحالاً عن حال كثيراً ما يدرك الشاب القليل الخبرة بالحياة والنفس الإنسانية، فهو لغرارته يحسب أن الحياة على مثل واحد يرتضيه، وأن النفس على خلة واحدة يحمدها، فإذا فطن إلى تقلب النفوس وتذبذبها وقلة استقرارها وجمعها بين الأضداد، وإذا راعه كل ذلك بسبب غدر صديق أو جفاء جليس أو عبث عشير أو شر رفيق أو كيد أليف أو بغض حبيب كاد ينفطر قلبه أو كادت تنهار دنياه، ولكن أكثر الشبان يستطيعون إذا طال بهم العمر ومد لهم فيه أو يوفقوا بين الحياة وبين مثلهم الأعلى، أو تطغي الحياة وما تدعو إليه على مثلهم الأعلى فتمحوه ويصير كل منهم في مودته مثل مقياس الحرارة (الترمومتر)، فتارة ترتفع مودته إلى درجة الغليان، وتارة تنخفض إلى ما هو تحت الصفر من درجات البرودة. وقس على المودة غيرها من الاحساسات
وإنما تصلح الحياة وترقى وتملح إذا لم يمح تذبذب النفوس المُثُل العليا منها. وخير خطة للمرء ألا يحزنه تقلب النفوس واختلاط خلال النفس، وألا يدع هذا الاختلاط والتذبذب يطغيان على كل شعور نبيل، فيجمع بين الاطمئنان ونشدان المُثُل العليا إذا استطاع ذلك
عبد الرحمن شكري(152/19)
في حضرة الأمير فؤاد جلالة الملك الراحل
للأستاذ عبد القادر المغربي
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
لم يتح لي شرف المثول بين يدي جلالة الملك فؤاد الأول وأنا عضو في مجمع اللغة العربية الملكي، وإنما أُتيح لي ذلك وهو أمير وأنا محرر في جريدة (المؤيد) سنة 1907م
كتبتُ في هذه السنة عدّة مقالاتٍ في الدين والأدب والأخلاق والاجتماع الإسلامي؛ وكان مما كتبته سلسلة مقالات بعنوان (حمامة الأزهر)، فكنتُ أروي عن تلك الحمامة - مستمداً من وداعتها ونزاهتها - وصفاً دقيقاً لأحوال الأزهر وأخلاق علمائه ومشارب طلابه وما يقع فيه يوماً فيوماً من خير يمتدح أو شر يجتنب
واتفق يومئذ حدوث ما حدث بين السّيد علي المرصفي ومشيخة الأزهر. وكان السيد يقرأ من كتب الأدب (كاملَ المبرد). وللحجاج فيه كلمة نابية لا تكاد تذكر حتى يتبرأ منها المسلم. فَنَقَلَ بعض الوُشاة إلى المشيخة خَبَرَ ورود هذه الكلمة في درس الأستاذ (المرصفي). فأكبرتْ أمرها. ودعت الأستاذ إليها وناقشته في اختياره لهذا الكتاب من بين كُتُب الأدب الكثيرة، وفيه تلك الكلمة. ثم أبَتْ المشيخة عليه إلا أن يقرأ مقامات الحريري، وأبى هو إلا أن يهجر الأزهر ويعكف على القراءة في داره في باب الشعرية، وهكذا وقع
على أثر ذلك زارني في إدارة تحرير (المؤيد) ثلاثة من مجاوري الأزهر الذين لم ينفضوا من حول شيخهم المرصفي. وقد ألفت بينهم حرّية في الفكر، وصراحة في الرأي، ونفوس وثابة إلى التجديد: فكانوا في تأريخنا الحديث أشبه بجمعية إخوان الصفا في تأريخنا القديم
وهم الأساتذة: طه حسين، والزيات (صاحب هذه الرسالة)، والزناتي
فأنستُ بهم وسررت بزيارتهم
وقد وصف لي الأستاذ طه حادثة أستاذهم المرصفي مع مشيخة الأزهر وعجَّبني أشدّ العجب من موقف المشيخة إزاء هذا الحادث. ثم رغب إليَّ أن أستنطق (حمامة الأزهر) فهي تملئ عليَّ الخبر بأتمّ ممّا أملاه هو وأن أنشر ما تقوله في (المؤيد)
فقلت له - وأنا آسف واجم: إن الشيخ علي يوسف دعاني إليه بالأمس وقال لي: إن سمو الخديو (عباساً) قال له: قل للشيخ المغربي ليدع (حمامة الأزهر) وشأنها، ولا يرو منْ بعد(152/20)
الآن في (المؤيد) خبراً عنها
ولما أردت أن أناقش صاحب المؤيد في ذلك قطع علي حبل المناقشة بلهجة البات الجازم. وقد بين السبب في هذا البت بأن الخديو قال له: إن شيوخ الأزهر أنفسهم كلموه في هذه القضية فوعدهم خيراً، فلم يبق مناص من امتثال أمره
ثم قلت للإخوان الثلاثة: هذا ما جرى، وكنت أحب أن يصلني خبر حادثتكم هذه قبل ما بلغت من أمر الخديو فيكون للحمامة إذ ذاك شأن في وصف الحادثة والتعليق عليها. وما يدرينا أن يكون الشيوخ الذين كلموا الخديو في الأمر إنما حسبوا حساب (الحمامة) التي اشتهرت بصدق ورايتها، وإخلاصها في نصيحتها، فلجئوا إلى الخديو. وبهذه الصورة قطعوا عليها طريق الكلام في الحادثة
ثم أفضتُ مع (إخوان الصفا) في أحاديث أخر. حتى وصلنا إلى ذكر ما أنشره في (المؤيد) من مقالات (أمالي أدب) فأنشدني الأستاذ طه القصيدة التي اشتهرت باسم (اليتيمة) ومطلعها:
(هل بالطلول لسائلٍ ردُّ ... أم هل لها بتكلمٍ عهدُ)
وكنت نشرت في (أماليَّ) أبياتاً من تلك القصيدة. فقال الأستاذ (طه) إن معظم القصيدة موجود في مجموعة رسائل مخطوطة في دار الكتب المصرية. وفي ثاني يوم أرسلها إلي بخط بعض إخوانه، وبقيت عندي حتى غلبني عليها أحد الأصدقاء قبل بضع سنين
وفي تلك الأثناء زارني صديقي الأستاذ (محمد الهراوي) وقال لي: يحسن أن تزور معالي (حسين رشدي باشا). وكان مديراً للأوقاف العمومية في ذلك العهد. ولم أكن اجتمعت به من قبل، أما الهراوي فقد كان على اتصال به
فزرناه في دار سكنه في (المنيرة) وهي الدار التي آلت ملكيتها بعد ذلك إلى الشيخ علي يوسف
ولما دنونا من بابها رأينا عربة فخمة يقودها فرسان مطهمان. فقال لي رفيقي: يظهر أن أحد أمراء العائلة الخديوية في زيارة
الباشا وهكذا كان: فإننا لم نكد نطأ البساط حتى خاطبنا الباشا مشيراً إلى صدر المجلس حيث زائره الكريم - قائلاً:(152/21)
سمو البرنس فؤاد
فدنونا وسلمنا. ولم نكد نأخذ مجالسنا حتى التفت الباشا إلى الأمير وجعل يكلمه بالفرنسية. وكان في خلال الحديث يلتفت إلي، فعلمت أنه يقدمني إلى سموه، وبالطبع يكون قد قال له: إنني عالم سوري وإنني أحرر في (المؤيد) رسائل حمامة الأزهر، وإنني أسلك في نقد العادات والأخلاق وطرائق التعليم الدينية الأزهرية مسلك المرحوم الشيخ محمد عبده. عرفت هذا من قول صاحب السمو للباشا بالفرنسية:
سل الشيخ ما هو رأيه في الكرة الأرضية؟ هل هي حقيقة محمولة على قرن ثور كما يقولون؟
فكان لهذا السؤال وميض من الابتسام على شفاهنا جميعاً وشعرنا بشيء من الأنس والانبساط أفاضته علينا كلمة صاحب السمو بعد انقباض الاحتشام الذي غشينا من مهابته
فقلت للباشا قل لأميرنا المحبوب: إنه لولا الثور (أبيس) وبقية ثيران الدنيا التي كان يمثلها ذلك الثور في هياكل مصر - لما وجد في الدنيا إنتاج زراعي، ولما قام عمران في العالم. فلا جرم أن كانت الدنيا القديمة محمولةً على قرن الثور وحده وأن يكون أهلها عيالاً عليه: فهو الذي (يحمل) عبء الاهتمام بأمرهم، والسعي في تموينهم، وتدبير الأقوات لهم
ففكرة حمل الدنيا على قرن الثور إذن فكرة شعرية خيالية سرت إلينا من المصريين القدماء بشكل جديّ واقعي
فبرقت أسارير صاحب السمو من هذا الجواب. ثم أبدى أسفه الشديد لكثرة ما تسرب إلى الدين الإسلامي من تقاليد الأمم القديمة ومزاعمها، حتى أصبحت تلك المزاعم كأنها جزء من تعاليم الإسلام. ثم ذكر لنا سموه أمراً أستغربه جداً: وهو أن بعض علماء مراكش وفَدَ على القاهرة فسأله بعض من سلَّم عليه من زملائه عما إذا كان سفره من المغرب الأقصى إلى القطر المصري كان بطريق البر أو البحر. وقال سموه: إن العزلة التي تجعل صاحبها يجهل أبسط شأن من شؤون عصره لهي عزلة ضارة تجب مقاومتها والخروج من ظلمتها
وقد كان كلام سموّه يشفُّ عن مبلغ غيرته على الإسلام، وحرصه على تصفية علومه، وعلى الأزهر وحرصه على ترقية شؤونه
رحم الله فقيدنا العظيم رحمة واسعة، وجعل لنا من ابنه جلالة (فاروق الأول) خليفة صالحاً(152/22)
يكشف الغمّة ويجمع كلمة الأمة.
(دمشق)
المغربي(152/23)
النقد الأدبي
بقلم السيد عبد القادر صالح
بحث صاحب (الرسالة) الغراء في عددها الأسبق تهافت الأدباء الناشئين على النقد الأدبي ولما يأخذوا له عدته
ولم يَعْدُ الحق فيما سرده من العلل لتلك الظاهرة القوية بين كثير من ناشئتنا، لأن منزلة الناقد الحق منزلة رفيعة تحتاج إلى سعة إطلاع، وسلامة ذوق، وصراحة من غير ما قسوة أو غرض
ذكرني مقال الأستاذ في (النقد المزيف) بقصيدة مشهورة لشاعر إنكليزي نقادة اسمه (بوب) عاش في القرن الثامن عشر. ويتبوأ هذا الشاعر في الأدب الإنكليزي مكانة (أبي الطيب المتنبي) في الأدب العربي من بعض الوجوه. كلاهما كان أمير الشعر في عصره، وكلاهما كان يعتز برفعة نفسه وعدم إمتهانها، وكلاهما كان متين الأسلوب، وأشعار كل منهما أصبحت أمثالاً سائرة
وتلك القصيدة التي أشرت إليها آنفاً، والتي سأحاول أن أنقل لقراء (الرسالة) الذين لم يدرسوا بوب بعض آراء هذا الشاعر الواردة فيها، هي: (مقال في النقد) نشرت والشاعر في الثالثة والعشرين من عمره؛ ويظن أنه نظمها قبل نشرها بسنتين، يستهلها بقوله:
(يتعذر على المرء أن يقول: أي الرجلين تنقصه المهارة أكثر: السيئ النقد أم السيئ الكتابة؟ على أن ما يستنفد صبرك أقل خطراً مما يضلك
أحكامنا كساعاتنا، قل أن يتفق منها اثنان. غير أن كلاًّ منا يعتقد أن رأيه هو الأصوب
يندر وجود العبقرية الحق في الشعراء، كما يندر وجود الذوق السليم في الناقد. كل من الناقد والشاعر يجب أن يكون مطبوعاً.
هذا خلق ليكون ناقداً وذاك ليكون شاعراً
قلة معارف البعض تفسد مؤهلاتهم البسيطة. فإذا ما أخفقوا في الكتابة انقلبوا نقدة ليدرءوا عن أنفسهم أثر الخيبة.
العلم الناقص شديد الخطر، فإما أن تتبحر في العلم وإما ألا ترد مناهله. لأن الاغتراف البسيط يسكر، ولا يعيد الرشد إلا الإمعان في الطلب(152/24)
قبل أن تتعرض للنقد يجب أن تتأكد من نفسك أولاً، وأن تعرف مدى ما لديك من المعرفة والعبقرية والذوق السليم.
الكبرياء من أقوى الأسباب التي تحول بين المرء ورؤية الحقائق. ومن شأن الطبيعة أن تزيد في كبرياء المرء بمقدار ما ينقصه من المقدرة
في البدء يخيل إلى الشاب المتحمس أنه بمعلوماته البسيطة بلغ ذروة الفن، ولكنه كلما أمعن في طلب العلم بدا له نقص أوضح. كالمصعد في جبال الألب يتراءى له في بدء تصعيده أنه يدنو من الذروة العليا، فإذا ما أستمر في تصعيده بدت لعينيه ذرى تعلوها ذرى
الناقد الكامل يقرأ الكتاب بنفس الروح التي كتب بها المؤلف. ينظر للكتاب ككل، فلا يجعل همه اكتشاف الغلطات التافهة. وهل يُحكم على جمال شخص بجمال العين أو الشفة على انفراد؟
بعض النقدة همهم اللغة. يعجبهم من الكتب ما يعجب النساء من الرجال: حسن الثياب
سلاسة الأسلوب ليست وليدة المصادفة، وإنما هي ثمرة الفن. جرس الكلمة يجب أن يكون صدى لمعناها
بعض النقدة ينتقد أسماء المؤلفين لا مؤلفاتهم، فيمتدح أو يذم الشخص لا كتابه. والبعض الآخر يمتدح القديم لأنه قديم، أو الجديد لأنه جديد. فلا تكن أول من يجرب الجديد ولا آخر من يتخلى عن القديم
وهنالك من يمتدح في أول النهار ما يذمه في آخره؛ وإذا سألته عن السبب أجابك: (أنا الآن أعقل مني في الصباح.) ولا ريب أنه سيكون في الغد أعقل منه الآن
والبعض إنما يقدر من كان من رأيه أو حزبه، فيتخذ من نفسه مقياساً للنقد عاماً
لا يكفي أن يجتمع في الناقد الذوق والمعرفة وإصابة الرأي، بل يجب أن ينضم إلى هذه الصفات الحق والصراحة.
عليك بالصمت التام عندما تكون غير واثق تمام الثقة من صحة رأي. وعليك أن تتواضع إذا كنت متمكناً من رأي، وأن تعترف بأغلاطك
لا يكفي أن يكون نقدك حقاً تقصد به الإرشاد، إذ كثر ما سببت الحقائق الجافة أضراراً أبلغ من الأخطاء، لأن الناس يحبون أن يُعلَّموا وهم لا يشعرون أنهم يعلمون، وأن تُذكر لهم(152/25)
الأشياء التي يجهلونها كأنها منسية لا مجهولة
لا تقس في نقدك ولا تكثر منه. ولكن يجب ألا يسوقك التسامح لإهمال العدل. ولكن أين الرجل الذي يستطيع أن يقدم النصح خالصاً حباً في الإرشاد لا رغبة في إظهار المعلومات؟)
(نابلس - فلسطين)
عبد القادر صالح(152/26)
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
الأدبية
التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
للأستاذ محمد عبد الباري
تتمة
وجملة القول هنا أنه لابد من الشجاعة والإقدام للنجاح في هذه الحياة، لأنهما يأبيان على المتحلي بهما الاعتماد على الغير، ويقودانه إلى الطموح والسعي والابتكار. وصفتا الشجاعة والإقدام لا تتأصلان إلا بالتربية الاستقلالية التي تبدأ من الطفولة الأولى، وتنمو في الوسط الحر المستقل وتثبت بالقدوة والمثل
وفي البيئات الحرة المستقلة يقل اعتماد الفرد على الجماعة فتخفف أعباؤها. وفيها يشعر كل فرد بحقه وبواجبه فيعمل الواجب، ويطالب بالحق، ويكره الضيم ولا ينام للظلم. وبهذا يفكر الظالمون والمتعسفون كثيراً قبل أن يقترفوا الظلم والعسف، فيقل الاحتكاك وتسرع الجماعة في طريق البشرية لتحقيق مثل الإنسان الأعلى، دون فقدان كثير من قواعدها في احتكاك داخلي يوهن عزيمتها، ويفت في عضدها
ولا شك أن أعمال الحكومة تؤدي كثيراً إلى تدعيم روح الحرية والاستقلال بمراعاة ما ذكر في النظم والقوانين، وفي كيفية تطبيق رجال القضاة والإدارة لهذه القوانين والنظم
فكفالة حرية الرأي تساعد كثيراً على نضوج الفكر ومن ثم على نضوج الحرية الاجتماعية وتقضي على الفوضى، ومن الواجب مراعاة هذا لدى التقنين
واختيار القضاة ممن عرفوا بالصلابة في الحق، والتمكن من القانون، واستنارة الفكر، تعاون الجماعة على ضمان سير العدالة؛ وبذا يشعر الناس بأن لا ضير عليهم ما قاموا بواجبهم في حدود القانون، فيعظم نشاطهم ويكثر إنتاجهم
وتحلى رجال الإدارة كبارهم وصغارهم بصفات الاستقلال والحرية والشجاعة والإقدام يعمل كثيراً على سير أداة الحكم بلا عوج ولا غرض، فتشيع في الناس صفات الآباء والشمم،(152/27)
ويعمل الجميع بلا خشية ولا رهبة ولا احتكاك ولا شقاق، ويقضي على النفرة بين الحكام والمحكومين، ويشعر الجميع بأن بينهم غرضاً مشتركاً يقوم كل بواجبه لتحقيقه، فيسهل الوصول إلى الغاية المشتركة بالتعاون والتضافر.
الوطنية
لا بد في الحياة الاجتماعية أن تقترن التربية الوطنية بالتربية الاستقلالية منذ الحداثة الأولى. نعم حب الوطن طبيعة يستشعرها الإنسان منذ فجر التأريخ بغير تلقين ولا درس، ولكنها مع ذلك من المشاعر التي يجب تعهدها بالترسيخ والتقوية، وحمايتها مما يفسدها من المؤثرات الصناعية
لا عزة في وطن ذليل؛ ولا قيمة للجاه الفردي والغنى الفردي في جماعة تخضع لإرادة خارجية؛ والاستقلال الفردي لا يثمر في أرض تسخر فيها إرادة الأفراد لغير مصلحة بلادهم
ففي مهد الطفولة يمكن تنمية شعور الوطنية بقص قصص الوطنيين الأبرار وتمجيد أعمالهم وإثارة الإعجاب بها. وفي المكتب أو المدرسة يتغنى الأطفال بحب الوطن ومجده والتفاني في خدمته، وإذا لم تكن العقول الصغيرة غير المتفتحة تدرك المعاني حق إدراكها فأن الذاكرة تختزن الألفاظ لتفيض معاني ملهمة عندما يتسع الإدراك وتأتي المناسبات؛ وخيال الطفل القوي يخلق من أبطال قصص والديه تماثيل ذهنية ناطقة تصاحبه ما عاش وتناديه وتناجيه، تزجره إذا ما حاول العقوق، وتدفعه إذا ما أعتزم العمل، وتتوج هامه بأكاليل الفخار إذا ما أجاد شاباً وكهلاً. وما أعجب فعل العقيدة عن إيمان!!
هذه الصور الخيالية تحفظ الشعور قوياً وثاباً. فإذا ما نضج الشخص بالتربية العقلية والجسمية والخلقية امتزج العقل بالعاطفة وكان في الفرد الوطنية الحية الرشيدة، أقوى أسس الحياة الاجتماعية
دراسة التأريخ بصفة خاصة من أقوى العوامل على تنمية الشعور الفطري بحب الوطن وتثبيته. فالصور الخيالية التي لزمت الطفل من البيت إلى المدرسة تزداد ثباتاً بدرس التأريخ كما ينبغي. التأريخ القديم والحديث حافلان بأعمال البطولة والشرف، وفيهما أمثلة لأعمال الدناءة والخيانة. فمن واجب الأبوين والمعلمين عرض صور الشخصيات التاريخية(152/28)
البارزة عرضاً أخاذاً وتمجيد أعمال البر بالوطن والتفاني في خدمته وتحقير أعمال الخيانة والنذالة والجبن
بذا ينشأ الوطني طوحاً إلى المجد، مشمئزاً من الدناءة، منكراً لذاته في سبيل رفعة وطنه
ولا شك في أن للمثل الصالح هنا كذلك قيمته العظيمة. فسلوك الأبوين والأقارب والمعلمين يفعل في نفس الطفل العجائب، بل إن هذا السلوك يؤثر في الفتيان تأثيراً يخلق النفوس خلقاً آخر. فقيام كل من هؤلاء بواجبه كوطني يبث في الناشئين روحاً وطنية بلا تلقين أو وعظ، ويشبون على أن العمل لمجد الوطن واجب الجميع يؤديه الكل سجية. فإذا ما توانوا فيه أو تخاذلوا دونه كان ذلك شذوذاً معيباً وسلوكاً ممقوتاً
للكتب والقصص، تمثيلية وغير تمثيلية، قيمة كبيرة في هذه الناحية من نواحي تربية الفرد. فالتلقين الحكيم الذي يزود به الكاتب قراءه أو مشاهدي روايته لا يقل كثيراً عن المثل والقدوة. يجب أن يكون في الكتب والقصص ما يكفي للإيحاء إلى القراء والنظارة بأن كلاً منهم يستطيع أداء حق وطنه عليه بأعداد نفسه الأعداد الذي تحتمله ظروفه وطبيعته والذي يمكنه من أداء عمله، مهما كان نوعه بإخلاص وإتقان. وبأنه إذا قام كل فرد بأداء عمله كما ينبغي فأن الوطن يتقدم ويعتز. وبأن الإنسان خلق حراً، ولكن لا سبيل إلى الاحتفاظ بهذه الحرية إلا إذا كان الوطن قوياً بحيث يستطيع رد من يحاول التسلط عليه وفرض إرادته على أبنائه
ومن خير وسائل إعداد الشبان قرن الثقافة ببث روح الطموح في الشبان وإثارتها في كل مناسبة، بل بخلق مناسبات لأثارتها. فالطموح المحب لوطنه يخصص حياته لتحقيق أمثلة عليا في الحياة تعود حتماً بالخير على بلده. فما الأمة إلا أبناؤها. فإذا كانوا خاملين وقف تقدم البلاد بل تتدهور. وإذا كانوا ذوي أمثلة عليا تقدمت البلد وعز جانبها
ومن سبل ترسيخ الروح الوطنية الاحتفال بالأعياد القومية وانتهاز ما تتيح من فرص لتمجيد أعمال البر بالوطن والتفاني في خدمته، وفي كل الطبقات يجب أن تنشأ جماعات يجتمع أعضاؤها يتباحثون ويتناجون فيما يعود على جماعتهم بالخير. وينبغي أن تنشد الأناشيد الوطنية في مبدأ الاجتماع وفي نهايته لتحية الوطن وإعلان الإخلاص له والتضحية في سبيله(152/29)
وهكذا يذكر الوطن في المنزل وفي المكتب والمدرسة، وفي الاحتفال بالأعياد القومية، وفي الاجتماع المتعلق بالشؤون الطائفية، فترسخ في الجماعة عقيدة (الوطن فوق كل شيء) ويرخص كل شيء في سبيل الوطن، يرخص المال والولد، بل ترخص النفس كلما تطلب مجد الوطن بذلاً في الحرب والسلم على السواء
وإذا ما غلبت في جماعة ما روح التربية الاستقلالية ونما في الأفراد وقوى وثبت الشعور الفطري بحب الوطن، وأعد الجميع إعداداً صالحاً ليقوم كل بواجبه على خير وجه، فلا بد أن تنجح هذه الجماعة في شق طريقها إلى الحياة الإنسانية الكريمة، حياة العزة والشرف ممتعة بنعيم الحرية وبركة الاستقلال الصحيح.
(شبين الكوم)
محمد عبد الباري(152/30)
من أدينا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان
اقتراح القريح واجتراح الجريح
لأبي الحسن علي الحصري
(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)
للأديب السيد أحمد صقر
- 2 -
الحصري المجهول: هناك بن طيات القرون الغابرة، ثبت ضخم حافل بكثير من نوابغ الأدباء، وعباقرة الشعراء ذوي الجد العاثر والطالع النكد، الذين جار عليهم الزمان فطوى ذكرهم وطمر تراثهم. ولو عنى الناس بأمر هؤلاء المحدودين، وبعثوهم من مراقدهم ونشروا آثارهم، لكان للأدب من ذلِك ثروة طائلة
من هؤلاء الشعراء المجهولين أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري القيرواني الضرير، صاحب كتاب (اقتراح القريح واجتراح الجريح). والحُصْري - بضم الحاء وإسكان الصاد - نسبة إلى عمل الحصر أو بيعها
ويشترك مع أبي الحسن هذا في لقبه شاعر معاصر آخر، كانت بينه وبينه وشيجة نسب، أعنى به أبن خالته الأستاذ (إبراهيم الحصري) صاحب كتاب (زهر الآداب) المتوفى سنة 453 من الهجرة (1601م)
وقد اشتبه أمرهما على كثير من الناس فحسبوا ذاك هذا، ونسبوا آثار هذا لذاك! وأرخوا لأحدهما بتأريخ الآخر، ولكن الأمر لم ينته على الراسخين في العلم، فوضعوا الحق في نصابه
أكتنف الغموض حياة أبي الحسن الحصري من كل ناحية، فلسنا نعرف نشأته ولا ثقافته، وليس فيما بين أيدينا من المصادر ترجمة دقيقة شاملة نعتمد عليها في تأريخنا له، وكل ما وجدناه نتف متشابهة، وشذرات مقتضبة، لا تجدي نفعاً؛ وقد أحببت أن أنقلها للقراء علها تلقي شيئاً - ولو ضئيلاً - من الضياء على حياة ذلك الشاعر العبقري، وترسم صورة - ولو شاحبة - لذلك الأديب المجهول(152/31)
1 - ذكره أبن بسام في ذخيرته، فقال: (كان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الدار في الأنس بالمقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء، تلفت الظمآن إلى الماء، ولكنه طُوِي على غَرِّه، واحتمل بين زمانه وبعْدَ قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا، أشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق ذرعه وتراجع طبعه. . .)
2 - وذكره أبن بشكوال في الصلة فقال: (علي بن عبد الغني الفهري المقرئ الحصري القيرواني يكنى أبا الحسن، ذكره الحميدي وقال: شاعر أديب، رخيم الشعر، دخل الأندلس ولقي ملوكها، وشعره كثير، وأدبه موفور، وكان عالماً بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن بسبته وغيرها. أخبرنا عنه أبو القاسم بن صواب بقصيدته التي نظمها في قراءة نافع، وهي مائتا بيت وتسعة أبيات قال لقيه بمرسية سنة 481هـ وتوفي بطنجة سنة 488هـ)
الموافقة لسنة (1095) ميلادية
3 - وذكره أبن خلكان في وفيات الأعيان، فأورد قول أبن بسام ثم قال: (قلت وهذا أبو الحسن أبن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب) ونقل كلام أبن بشكوال والحميدي ثم قال (وله ديوان شعر. فمن قصائده السائرة قصيدته التي أولها:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟
رقد السمار وأرقه ... أسف للبين يردده
إلى أن قال: وحكى تاج العلاء أبو زيد المعروف بالنسابة قال: حدثني أبو أصبغ نباتة بن الأصبغ بن زيدين محمد الحارثي عن جده زيد بن محمد قال: بعث المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية إلى أبي العرب الزبيدي خمسمائة دينار وأمره بأن يتجهز بها ويتوجه إليه وكان بجزيرة صقلية، وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان فكتب إليه أبو العرب:
لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى ... وأعجب لأسود عيني كيف لم يشب(152/32)
البحر للروم لا يجري السفين به ... إلا على غرر والبر للعرب
وكتب إليه الحصري:
أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري - لك الخير - فأخصصه بذا الداء
ما أنت نوح فتنجيني سفينته ... ولا المسيح أنا أمشي على الماء
ثم دخل الأندلس بعد ذلك وأمتدح المعتمد وغيره، وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بطنجة رحمه الله تعالى
4 - وذكره أبن العماد الحنبلي في كتاب شذرات الذهب في أخبار من ذهب عند كلامه على حوادث سنة 488هـ فقال: فيها أبو الحسن الحصري المقري الشاعر نزيل سبتة - علي بن عبد الغني الفهري. كان مقرئاً محققاً، وشاعراً مفلقاً، مدح ملوكاً ووزراء، وكان ضريراً. ثم نقل قول أبن بسام المتقدم وعقبه يقول أبن خلكان، ثم قال وله أيضاً:
أقول له وقد حيا بكأس ... لها من مسك ريقته ختام
أمن خديك تعصر؟ قال كلا ... متى عصرت من الورد المدام
ولما كان بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية - وأسمها في بلادهم حمص - فأبطأ عنه وبلغه أنه ما أحتفل به فقال:
نبه الركب الهجوعا ... ولُمِ الدهر الفجوعا
حمص الجنة قالت ... لغلامي لا رجوعا
رحم الله غلامي ... مات في الجنة جوعا
وقد التزم في هذه الأبيات لزوم مالا يلزم رحمه الله تعالى
5 - وذكر الصلاح الصفدي في كتابه نكت الهميان وكل ما أتي به منقول عن أبن خلكان وأبن بشكوال، وزاد عليهما فذكر البيتين اللذين ذكرهما أبن العماد. أقول له وقد حيا بكأس
6 - وذكره أبن الجزري في كتابة غاية النهاية فقال: (علي أبن عبد الغني أبو الحسن الفهري القيرواني الحصري أستاذ ماهر، أديب حاذق، صاحب القصيدة الرائية في قراءة نافع، وناظم السؤال الدالي ملغزا: سألتكم يا مقرئي الغرب كله
وهي في سواءت أجابه عنه الشاطي ومن بعده
قرأ على (عبد العزيز بن محمد) صاحب أبي سفيان، وعلى (أبي علي بن حمدون الجلولي)(152/33)
والشيخ (أبي بكر القصري) وروى عنه (أبو القاسم بن الصواف) قصيدته، وأقرأ الناس بسبتة وغيرها. توفي بطنجة سنة ثمان وستين وأربعمائة. ثم في قول (أبن خلكان في وفيات الأعيان)، وقول أبن الجزري إن الحصري الأعمى توفي سنة 468هـ قول لم يشاركه فيه غيره من المؤرخين، ولعله وهم أو تحريف من الناسخين.
7 - وذكره العماد الكاتب في كتاب خريدة القصر. وجريدة أهل العصر، فقال: الحصري الأعمى المريني: هو أبو الحسن علي بن عبد الغني من الأندلس (!) صاحب تصنيفات وإحسان في النظم، قال في غلام أسمه هارون:
يا غزالاً فتن الن ... اس بعينيه فتونا
أنت هاروت ولكن ... صحفوا تاءك نونا
وقال يهجو أبا العرب الصقلي:
معجب كالمتنبي ... وهو لا يحسن شيا
إن هذا يحيوي ... أوتي العلم صبيا
وقال:
كم من أخ قد كان عندي شهدة ... حتى بلوت المر من أخلاقه
كالملح يحسب سكراً في لونه ... ومجسه ويحول عند مذاقه
وقال يرثي المعتضد أبا المعتمد:
مات عباد ولكن ... بقي الفرع الكريم
فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم
وقال: أقول له وقد حيا الخ البيتين
وقال:
وشاعر من شعراء الزمان ... يفخر عندي بالمعاني الحسان
وإنما أطيب أشعاره ... نصف خراسان والقيروان (؟)
وقال:
إذا كان البياض لباس حزن ... بأندلس فذاك من الصواب
وقال:(152/34)
مما يبغضني في أرض أندلس ... سماع معتصم فيها ومعتضد
أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وقوله إذا كان البياض الخ ذكره المقري في نفح الطيب وزاد عليه قوله:
ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزنت على شبابي
وذكر أيضاً أن من عادة أهل الأندلس لبس البياض في الحزن بخلاف أهل المشرق. وذكر لبعضهم أبياتاً في ذلك
ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب
لبستم في مآتمكم بياضاً ... فجئتم منه في زي غريب
صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشد من المشيب
8 - وذكره المراكشي عرضاً عند كلامه على نزول المعتمد مدينة طنجة قال: (فأقام بها أياماً ولقيه الحصري الشاعر فجرى معه على سوء عادته من قبح الكدية، وإفراط الإلحاف، فرفع إليه أشعاراً قديمة كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة أستجدها عند وصوله إليه، ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به - فيما بلغني - أكثر من ستة وثلاثين مثقالاً، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها، سقطت من حفظي، ووجه بها إليه فلم يجاوبه عن القطعة على سهولة الشعر على خاطره، وخفته عليه. وكان هذا الرجل - أعني الحصري الأعمى - أسرع الناس في الشعر خاطراً إلا أنه كان قليل الجيد منه، فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها:
قل لمن قد جمع العل ... م وما أحصي صوابه
كان في الصرة شعر ... فتنظرنا جوابه
قد أثبناك فهلا ... جلب الشعر ثوابه
ولما أتصل بزعانفة الشعراء وملحقي أهل الكدية ما صنع المعتمد - رحمه الله - مع الحصري تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج عميق، فقال في ذلك رحمه الله:
شعراء طنجة كلهم والمغرب ... ذهبوا من الأغراب أبعد مذهب
سألوا العسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق فأعجب وأعجب
لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا ساواهم في المطلب(152/35)
هذه هي كل النتف والشذرات التي عثرت عليها في كتب التراجم لذلك العهد السحيق. وكل هذه التراجم - إن صحت تسميتها بذلك - لا تكشف لنا عن حياة الشاعر، ولا تبين مقدار قوة شاعريته أو ضعفها، ولا توضح أثره في الأدب، ولا تتناول أدبه بالنقد والتحليل. والذي يستوقفني منها بصفة خاصة قول المراكشي: (كان هذا الرجل أسرع الناس خاطراً في الشعر) وقول أبن بشكوال نقلاً عن الحميدي (إن شعره كثير، وأدبه موفور)، فأين ذلك الأدب الموفور والشعر الكثير الذي واتاه به طبعه الدافق في يسر وسهولة؟ أين قصائده في الهجاء الذي (كان يتلفت إليه تلفت الظمآن إلى الماء؟) أين قلائده التي قلد بها ملوك الطوائف حتى تهادته تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس بالمقيم؟ أين خرائده في الوزراء الذين أغدقوا عليه النعم؟ أين أين ذلك الشعر الرخيم؟؟ لقد غمره طوفان الفناء فيما غمر، ولم يبق له جرس ولا أثر، والمسؤول عن ذلك هو الحصري نفسه فهو الذي أهمل ولم يحسب لذلك الطوفان حساباً، ولم يدون من شعره غير كتاب اقتراح القريح واجتراح الجريح. ولدينا مجموعة صغيرة من شعره في الغزل والنسيب أسمها (معشرات الحصري) سنتكلم عنها بعد أن نروي لك كثيراً من شعره في اقتراح القريح. . .
أحمد صقر(152/36)
الأدب بين الخاصة والعامة
لامرتين ورينيه جارد
للسيد اسكندر كرباج
(تتمة)
ثم يقول لامرتين: نبّه فيَّ هذا الحوار فكرة وضع قصص شعبية إجابة لرغبة تلك الفتاة الكريمة. لقد عشت طويلاً في الأكواخ والحقول والثكنات وعلى ظهر البواخر وفي أعالي الجبال، وعاشرت العمَّال والمزارعين والجنود والنوتية والرعاة والخدم الذين يؤلفون قسماً من عيالنا؛ وتحدثت إلى هذه العقليات الساذجة الصالحة، وخبرت عاداتها وميولها ولغاتها أكثر مما خبرت عادات رجال المجالس وميولهم ولغاتهم؛ وكنت شاهداً بل أميناً لأسرار حياة ثماني شخصيات خاملة ولكنها حافلة بنوب وآلام خفية إذا دونّت بسذاجة كما روُيت كانت قصائد حقيقية طافحة بالشعور والإحساس؛ وأعرف الأماكن والحوادث والأشخاص معرفة تامة، فسأحاول كتابة هذه القصص ونشرها أجزاء متتابعة دون أقل اهتمام بفخامة الطبع والورق أو طرافة الأسلوب وأناقة الجمل وشحذ القريحة وكدّ الذهن، لأن الطبيعة هي روح هذا النوع من الأدب، والطبقات الوضيعة أقدر على إدراكها والاستلهام بها من الطبقات العالية؛ فإذا وجدتها في هذه الرسوم العارية من زخارف الفنّ استرقتها واستزادت منها. عندئذٍ تتقدَّ أيدٍ أجد من يديَّ وأبرع لوضعها بصورة أفضل، لأن الأدب الشعبي لا يكتمل إلا بالمؤلفات العاطفية التي هي من مميزات الطبقات الجاهلة، وإنجيل العاطفة كإنجيل الدين يجب أن يُبشَّر به أولاً بين البسطاء بلغة سليمة كقلب الطفل
وأراد لامرتين أن يطلع رينيه على آرائه فيما يتعلَّق بكتابة التأريخ الشعبي فقال لها: لا يزال رجال السلطة يمالئون الشعب ويتوددون إليه لاعتقادهم أنه مصدر القوة التي يجب أن يعتمدوها في إسقاط الحكومات وابتلاع الوطنيات، فيستغوونه بشتى الوسائل، ويمثلونه بقولهم إن قوته تولد الحق، وإرادته العدل، ومجده يكتسب عفو التأريخ، وانتصار قضيته يبرر كل الوسائط، حتى الجرائم تخف أمام عظمة النتائج، فيؤمن بهم ويتبعهم ويساعدهم بقواه المادية، وبعد أن يتوصلوا بقوة سواعده وإهدار دمه وارتكاب جرائمه إلى إسقاط(152/37)
الطغاة وإثارة أوربا يصرفونه ويأمرونه بالعمل والصمت!
هذه هي الطريقة التي سلكوها إلى الآن في معاملة الشعب وكانت سبباً لانتشار شوائب البلاط بينه واستلذاذه التملق.
ليس هذا ما نريده للشعب؛ نريد أن يقابلنا واقفاً، ويخاطبنا وجهاً لوجه، فهو كسائر عناصر الأمة لا يقل قيمة عنها ولا يزيد؛ وإذا كان قد تعوَّد الكذب والممالأة، ففيه خلتان كبيرتان لا يجوز نسيانهما، هما الصراحة والجرأة. لذلك هو يعرف أن يحترم مقاوميه ويحتقر متخوفيه. ففي الحيوانات مالا يفترس إلا من يهرب من أمامه، والشعب كالأسد يجب ألا يجابه إلا من الأمام
يقوم التأريخ الشعبي على واحدة من هذه القواعد الأساسية الثلاث: المجد، والوطنية، والمدنية. فالمجد لا يرضى إلا أمة حربية تبهرها القوة فتعمى عن رؤية الحق؛ والوطنية تضرم نار الحمية في الشعب فيطوح بنفسه في مهاوي الأثرة والطموح
أما المدينة المستديمة فهي الأصلح لقيادة الفكر البشري بين شعاب الشك وبلبلة الآراء والأهواء والأثرة الفردية أو الوطنية، ولإفهامه أن المجد والوطنية لا ينفعان الأمة والنوع البشري إذا فصلا عن الأدب العام، لأن المجد لا يقاوم الصلاح، والوطنية ليست عدوَّة الإنسانية، والفوز لا يمكن أن يكون خصماً للعدالة، وأن التأريخ ليس هذا المزيج من الأفراد والأشياء المشوشة، بل هو خطوة إلى الأمام في طريق الدهور، إذ لكل أمة شأنها وعملها العظيم، ولكل طبقة اجتماعية أهميتها في نظر الله. وفضلاً عن ذلك فقيام التأريخ على هذه القاعدة يعلم الشعب أن يحترم نفسه، ويعرف مقدار قوته ونفعه، وأنه فوق الإمبراطورية والسلطة، وأن هذه تكون كما يريد، فإذا وجد شعباً يشكو من حكومته فهو دليل على أنه لا يستحق غيرها، هكذا كان تاسيت يفتكر في زمانه، ولا تزال فكرته تجري مجرى الأمثال إلى اليوم
واعتزامي كتابة التأريخ على هذه القاعدة نبّه فيّ فكرة قديمة كنت عرضتها على الحكومة فلم تصادف القبول، لأنها ليست آلة للحرب والتدمير بل للسلم والبناء. وهذه الفكرة هي أن حرية الصحافة وديموقراطية الحكومة وحركة الصناعة وانتشار التعليم في كل قرى البلاد وبين كل طبقات الشعب أنار الأذهان ورغب في المطالعة، وبعد أن أوجدوا في الشعب هذا(152/38)
الميل إلى القراءة فما هي المؤلفات التي وضعوها له؟ لا شيء!
إن لأبناء الطبقات الغنيّة كثيراً من المدارس العالية حيث يسمعون شروح كبار الأساتذة في كل أنواع العلوم والفنون، وإذا لم تكفهم المدارس فعندهم المكاتب الكبيرة والصحف التي تحمل بين دفاتها ما يغذّي العقل والفكر والروح من المواضيع الشائقة. أما أبناء الطبقات الفقيرة العاملة ومنهم الجيوش والبحّارة والرعاة والشيوخ والنساء والأولاد فكل ما عندهم لتثقيف عقولهم وتسلية نفوسهم في أوقات الفراغ هو التعليم المسيحي وبعض الأناشيد المشوهة والقصص السخيفة، فمن هذه الكتب القليلة التافهة تتألف مكتبة الشعب ومتحفه وفنّه!
فأردتُ ملء هذا الفراغ في حياة الشعب الأدبية والعقلية بكتاب لا يقرأ إلا مرة واحدة، ولكن لا أول له ولا آخر، وأعني به صحيفة يومية كبرى يتولى تحريرها نخبة من كبار علماء العصر وكتابه وشعرائه، بلغة سهلة بسيطة، وتعابير قريبة من أفهامه تطلعه على أهم أخبار الكون اليومية وسياسته وفلسفته وعلومه وفنونه. وتحقيق هذه الفكرة لا يكلف أكثر من مليون فرنك سنوياً يكفي لجمعها أن يكتتب مليون شخص بفرنك واحد في السنة؛ وإذا كنت لم أحقق هذه الفكرة فلأني لست وحدي هذا المليون، ولأنه لا توجد في فرنسا حالاً فكرة تساوي فلساً واحداً!
هذه هي فكرتي يارينيه فيما يختص بالتأريخ والأدب والشعر والعلوم والفنون التي يجب أن تكتب للشعب؛ ولا أحب إلى الطبقات الفقيرة ولا أجمل وأبلغ من تحقيق هذه الفكرة. ولو أن لي ذكاء الكتاب المعاصرين وشبابهم واندفاعهم لقمت بأعمال عظيمة في عالم الفكر والثقافة، فأمامنا عالم جديد للاكتشاف لا يتطلب عبور المحيط ككولومبوس، هو إحساس الطبقات العاملة وعقلياتها، فجغرافية العالم الأدبية لا تكتمل إلا متى اكتشفت هذه القارة الشعبية وملئت بمبادئ بحارة الفكر
فتقول له رينيه: لقد فهمت كل أفكارك يا سيدي على رغم سموها وجمالها
فيجيبها: لم أخاطبك إلا كشاعرة، والشعب شاعر أيضاً لأنه طفل الطبيعة الفطيم، والطبيعة كخالقها لا تتكلم إلا بلغة الصور. . .
ثم تودعه رينيه وتودع زوجته شاكرة لهما حسن الضيافة، وتسافر إلى إكس في مركبة(152/39)
المساء، وقبل أن تصعد إلى المركبة يقول لها لامرتين: (إذا وضعت بعض القصص الشعبية فاسمحي لي أن أصدر أوولاها باسمك)
اسكندر كرباج
من العصبة الأندلسية(152/40)
للتأريخ السياسي
3 - اليوم السابع من مارس ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
المعاهدة الفرنسية الروسية ولوكارنو
رأينا كيف أن حكومة برلين قد اتخذت المعاهدة الفرنسية الروسية سبباً لرفضها معاهدة لوكارنو واتخاذها قرار 7 مارس. فهل النظرية الألمانية صحيحة من الوجهة الحقوقية؟ أي هل المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو؟. وقبل الإجابة على هذا السؤال يحسن بنا أن نعرض بإيجاز المحادثات الديبلوماسية التي أدت إلى عقد هذه المعاهدة:
لم يكن هدف فرنسا بادئ ذي بدء، إيجاد هذه المعاهدة، بل كانت الديبلوماسية الفرنسية ترمي إلى إيجاد (ميثاق شرقي) - لوكارنو الشرقية - بين بولونيا والروسيا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلطيق وفينلاندا. ولقد تم الاتفاق على هذه الخطة بين فرنسا وإنكلترا أثناء المحادثات السياسية التي دارت بينهما خلال 11و12 من يوليه 1934. وزيادة على ذلك قررت الدولتان أن تتحمل الروسيا واجبات معاهدة لوكارنو إزاء فرنسا وألمانيا، وأن تتعهد فرنسا نحو ألمانيا والروسيا، في حالة اعتداء إحداهما على الأخرى، بمساعدة المعتدى عليه، على أن تكون تلك المساعدة ضمن دائرة واجبات عصبة الأمم. وبعبارة أخرى أن تعقد معاهدة ثلاثية دفاعية بين فرنسا وألمانيا والروسيا، يكون مفعولها سائراً في حالة تعدي إحداهم على دولة ثانية داخلة في الميثاق، على أن تكون الواجبات الناشئة عنها متمشية مع واجبات لوكارنو والعصبة. وقد تعهدت الحكومة البريطانية بأن توصي هذه الدول ولا سيما بولونيا وألمانيا بقبول هذه الاقتراحات. غير أن سعيها قد خاب. وقد أبانت ألمانيا بصراحة بأنها تفضل (المعاهدات الثنائية) - بين أثنين - على المعاهدات المشتركة المبنية على (المساعدة المتبادلة) - وتم الاتفاق في الاجتماع الفرنسي الإنكليزي الذي عقد في لندن في 3 فبراير سنة 1935 على إنشاء معاهدة لوكارنو الجوية، وعلى متابعة المفاوضة مع ألمانيا للاتفاق معها على إنشاء السلام في أوربا(152/41)
بواسطة عقد معاهدات بين دول شرقي أوربا توجب (المساعدة المتبادلة)
ولما زار السير جون سيمون برلين خلال شهر مارس التالي قدم إليه الهر هتلر معلومات عن المعاهدة الشرقية التي يحبذها مبنية على معاهدات عدم الهجوم الثنائية، ومضافاً إليها التحكم والمصالحة وعدم مساعدة المعتدي. وقد صرح الهر هتلر بأن حكومته لا تنظر بعين الرضى إلى المعاهدات المبنية على (المساعدة المتبادلة) ولا يمكنها بأي وجه من الوجوه الاشتراك في أي معاهدة من هذا النوع. وقد أعادت حكومة برلين هذا التصريح بوضوح أثناء انعقاد مؤتمر ستريزا. وعندما وقفت حكومة باريس على هذا التصريح وتيقنت بأن لا نجاح في إدماج برلين ضمن نظام سلام قائم على المساعدة المتبادلة رأت أن لا سبب هناك يعوقها عن عقد محالفة بينها وبين روسيا، لتساعد كل منهما الأخرى حين تعتدي ألمانيا على إحداهما
وبعد بضعة أيام قابل سفير بريطانيا في باريس مسيو لافال وأعلمه أن حكومة جلالته ترغب (بألا تمضي فرنسا أي معاهدة يمكن أن ترغمها على محاربة ألمانيا في ظروف لا يجيزها البند الثاني من معاهدة لوكارنو) فأجابه مسيو لافال بأن (الحكومة الفرنسية وضعت شرطاً أساسياً بأن المعاهدة الفرنسية الروسية يجب أن تكون متمشية ليس فقط مع مبادئ العصبة بل مع معاهدة لوكارنو أيضاً). وعلى هذا الأساس أُمضِيت هذه المعاهدة في 2 مارس سنة 1935، وأرسلت إلى البرلمان الفرنسي فوافق عليها
وجاء في خطاب الهر هتلر الذي ألقاه في 21 مايو أن الحكومة الألمانية (ستقوم بجميع الواجبات الناجمة عن معاهدة لوكارنو مادامت الدول الأخرى المشتركة في المعاهدة تريد القيام بها). وتبع هذا الخطاب مذكرة ادعت فيها حكومة برلين أن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو
وفي شهر يونيه دحضت الحكومة الفرنسية ادعاءات ألمانيا. وفي خلال شهر يوليه صرح السير صمويل هور وممثلا إيطاليا وبلجيكا بأنهم متفقون مع الحكومة الفرنسية على أن المعاهدة الفرنسية الروسية تتماشى مع لوكارنو
ولما رأت حكومة برلين أن دول لوكارنو على اتفاق تام، لم تستطع القيام إذ ذاك بأي عمل لتمزيق المعاهدة، بل أجلته إلى حين آخر، واكتفت بإرسال مذكرة إلى السير صمويل هور(152/42)
تقول فيها (بأنه ستكون مناسبات كافية لمناقشة هذه المسألة مع المفاوضات الأخرى المعلقة)
ولما وقع الخلاف بين دول لوكارنو من جراء اعتداء إيطاليا على الحبشة، وانشغلت فرنسا بانتخابات مجلس النواب؛ رأى الهر هتلر أن الفرصة سانحة، فأعلن في 7 مارس 1936 خروجه على لوكارنو واعتبارها لاغية، وعلل ذلك بأن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع لوكارنو، ودعم هذا القول بأدلة أربعة ضمنها المذكرة التي أرسلها إلى دول لوكارنو، وتنحصر في أن المعاهدة الجديدة: (1) موجهة رأساً ضد ألمانيا (2) وأن فرنسا بموجب معاهدتها مع الروسيا، تعهدت بالقيام بواجبات لا تتفق مع الواجبات التي يلقيها على عاتقها صك العصبة ومعاهدة لوكارنو
فالإدعاء الأول هو أن (المعاهدة الفرنسية الروسية موجهة رأساً ضد ألمانيا) صحيح، ولكن بالمعنى السلبي، أي الدفاعي
إن المعاهدة التي نحن بصددها تقول بأنها تصبح نافذة في حالة تعدي (دولة أوربية) على إحدى المتعاقدتين، وأن بروتوكولها يوضح بأن تنفيذ هذه المعاهدة يجب أن يكون فقط ضمن حدود (الاتفاق الثلاثي) الذي رفضت ألمانيا الموافقة عليه. وهذه النصوص تنفي مفعول المعاهدة في حالة اعتداء أي دولة غير أوربية أولاً، ثم تحصر مفعولها في حالة اعتداء ألمانيا فقط على إحدى الدولتين المتعاقدتين؛ فهي إذن موجهة ضد ألمانيا، ولكن يجب ألا يغرب عن الذهن بأنها لا تنفذ إلا حين تعدي ألمانيا على فرنسا أو الروسيا تعدياً غير محرض عليه؛ ونصها صريح في ذلك. والذين قاموا بعقدها يصرحون بذلك تصريحاً كافياً؛ فهي إذن من الوجهة القانونية والسياسية معاهدة دفاعية محضة، وبدهي أن لا خطر على ألمانيا من هذه المعاهدة إلا حين تعديها على إحدى الدولتين تعدياً غير محرض عليه. ولو كانت ألمانيا لا تفكر في أي تعد على أحديهما لما وجدت فيها تهديداً ولا خطراً عليها؛ وزد على ذلك بأن نص المعاهدة والبروتوكول يفسحان المجال لدخول ألمانيا فيها فتصبح معاهدة ثلاثية تضمن فيها فرنسا والروسيا الدفاع عن ألمانيا حين تعدي إحداهما عليها
ورداً على الإدعاء الثاني يمكن القول بأن (المساعدة المتبادلة التي تعهدت بها كل من الدولتين المتعاقدتين لا تصبح نافذة إلا حين وقوع إحداهما (ضحية هجوم غير محرض عليه)، (وبرغم نية البلادين الحسنة في المحافظة على السلام). وهذه المساعدة يوجبها(152/43)
أيضاً صك العصبة. أما في الحالة التي لم تستطيع فيها العصبة الوصول إلى قرار بالإجماع في إبانة الحق من الباطل في الاختلاف، فمساعدة فرنسا للروسيا والروسيا لفرنسا لا يكون إلا إذا وضح بأن ألمانيا كانت المعتدية تعدياً غير محرض عليه على إحدى الدولتين؛ وبرغم أن مساعدة فرنسا للروسيا في هذه الحالة لم تكن نتيجة قرار العصبة، فإن مبدأ العصبة يوجبها؛ إذ أن البند 7 من المادة 15 ينص على أنه في الحالات التي لا تتمكن فيها العصبة من إصدار توصيات أو الوصول إلى قرار بالإجماع، تصبح كل دولة طليقة اليدين، ويحق لها اتخاذ قرار فردي والعمل منفردة، ويظهر لنا أن كل ما جاء في المعاهدة الفرنسية الروسية التي أثارت ثائرة ألمانيا، ما هو إلا إيضاح وتثبيت لهذا المبدأ
على أنه في حالة القرار والعمل الفردي من جهة، وحين اعتداء ألمانيا على الروسيا من جهة ثانية، لا يحق للروسيا مطالبة فرنسا بمساعدتها (أوتوماتيكياً) بل لفرنسا الحق وحدها في التقرير فيما إذا كانت ألمانيا المعتدية الأولى. وهذا الحق يمكن فرنسا من النظر فيما إذا كانت مساعدتها للروسيا مخالفة للمعاهدات التي عقدتها قبلاً وخصوصاً معاهدة لوكارنو. والبند الثاني من هذه المعاهدة ينص على أن (محتويات هذه المعاهدة لا تنفذ في الحالات التي يكون تنفيذها يوجب وقوع عقاب دولي الصبغة من جراء تضاربها مع واجبات معاهدات، غير سرية، عقدتها إحدى الدولتين مع فريق ثالث). وينتج عن ذلك أنه لا حق لألمانيا (قبل تمزيقها للوكارنو) طلب مساعدة بريطانيا وإيطاليا فيما إذا هاجمتها فرنسا عملاً بمعاهدتها مع الروسيا، لأن هجوم فرنسا عليها داخل ضمن دائرة المادة 16 أو البند 7 من المادة (15) من صك العصبة
ولو قرضنا جدلاً بأن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو، فلا يمكن أن يعد هذا الأختلاف، بوجه من الوجوه، سبباً لإبطال معاهدة لوكارنو. والمسألة الوحيدة التي يمكن أن تنشأ عن التضارب بين المعاهدتين هي عدم قانونية المعاهدة الجديدة. وفي هذه الحالة لا يحق للحكومة الألمانية إلا الإدعاء بعدم قانونية المعاهدة الفرنسية الروسية، ورفع دعوى بذلك، وليس اعتبارها غير قانونية حسب رأيها ومشيئتها فحسب، لأنه لا يحق لأحد أن يكون قاضياً في دعواه
أما المبدأ الجديد في العلاقات الدولية الذي تبعه ويبشر به الهر هتلر وحكومته، فيقول بأن(152/44)
لا قيمة لأي معاهدة دولية مادامت تخالف مصالح إحدى الدول التي وقعت عليها، وأن لتلك الدولة المتضررة من المعاهدة الحق في تمزيقها وعدم اتباع موجباتها. وهذا المبدأ الجديد خطأ ومخالف لمبادئ الحقوق الدولية التي سارت عليها الدول حتى الآن، إذ تصبح الدولة المتضررة الحكم الوحيد في دعواها. وأن تنشر هذا المبدأ وعملت به الدول فمعنى ذلك القضاء على الحقوق والعدالة الدولية، وإقامة (حق القوة) مكانها فتزول العلاقات الدولية المبنية على قدسية المعاهدات وتحل مكانها الفوضى، وينتصر إله الحرب
يظهر من كل هذا أن فرنسا لم تأخذ على عاتقها في معاهدتها مع الروسيا واجبات تنافي الواجبات التي يفرضها عليها صك العصبة، وأن هذه المعاهدة تتمشى مع مبادئ العصبة ومعاهدة لوكارنو. ويتضح جلياً بأن عمل ألمانيا في 7 مارس ينافي الحقوق الدولية ويعتدي على قدسية المعاهدات منافاة تامة واعتداء صارخاً.
(لندن)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق(152/45)
صرعى الأغراض
طرفة من الشعر الاجتماعي تعبر عن الآلام المكظومة
للكفايات المظلومة
للشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين
يا لَلْعزائم يثنى من مواضيها ... أَنَّ الكفايات يُقضى بالهوى فيها
وللمواهب بالأغراض يقتلها ... من يستمدّ حياةً من أياديها
وللجهود بأعشى الرأي يطفئها ... ماضٍ على ضوئها سارٍ بهاديها
وللنوابغ يقضي في مواهبهم ... بما يشاء هواه غيرُ قاضيها
جادوا بأعمارهم حتى لجاحدهم ... إن المواهب سِلْم في أعاديها
كالشمس تقبس منها عين عابدها ... وترسل النور في أجفان شانيها
والنفس إن ملئت بالود فاض على ... نفوس أعدائها بالود صافيها
كالسحب إذ ملئت بالغيث فاض على ... جدب البلاد خلوف من هواميها
لا يدَّع العدل قوم في عدالتهم ... صرعى الكفايات تشكو ظلم أهليها
ولا المساواةَ والأفهامُ لو وزنت ... مع الغباوة فيهم لا تساويها
ولا الحضارةَ من تجزي نوابغهم ... وحشيةً تسكن البيداء والتيها
إذا البلاد تخلت عن حياطتها ... يد النبوغ تداعت من صياصيها
دع الحديث عن القسطاس في عُصَب ... ما سودت بينها إلا مُرائيها
سوق النفاق بهم شتى بضائعها ... تزجَى لمن يشتري إفكاً وتمويها
أرخصتمو غاليَ الأخلاق في بلد ... لم تغلُ قيمته إلا بغاليها
يا رُبّ نفس أضاء الطهر صفحتها ... أفسدتموها فزلّت في مهاويها
وكم قلوب كساها الحسن نضرته ... دنّستموها فعاد الحسن تشويها
أغلقتمو سبل الأرزاق لم تدعوا ... لفاضِل الخُلق سعياً في نواحيها
مدارس تغرس الأخلاق في نَشَإٍ ... ومغلق الرزق بعد الغرس يذويها
لا تَلْحَ طالب رزق في نقائصه ... إن الضرورات من أقوى دواعيها(152/46)
ما أطهر الخُلُق المصري لو طَهُرت ... تلك الرياسات من أهواء موحيها
يا آخذين بقتل النفس قاتلها ... قتلى المواهب لم يُسْمع لشاكيها
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مُجريها
هلا أقتصصتم لها من ظلم سافكها ... وقلّ فيما جناه قتل جانيها
أولى الورى بقصاص منه ذو غرض ... يخشى المواهبَ تخفيه فيخفيها
مِلءُ المناصب منهومون قد جعلوا ... من دونها سد ذي القرنين يحميها
على مناعة ذاك السد تنفذه ... عصابة تتواصى في حواشيها
من كل أخرق تنسل الحظوظ به ... إلى المراتب يسمو في مراقيها
خابي القُوَى عبقري الجهل يثقله ... عبءُ الرياسة إذ يدعوه داعيها
يا حافرين تراب الأرض عن حجر ... أو جثة في ظلام القبر يطويها
ومنفقين من الأموالِ طائلها ... في البحث عن خِرَق لم يُغْنِ باليها
مستبشرين بما يلقون من تحف ... للقوم أو خزفات من أوانيها
ورافعين من البنيان شاهقه ... فيه الذخائر قد صُفًّت لرائيها
هلا عرفتم لمصرٍ فضل حاضرها ... يا عارفين لمصر فضل ماضيها
إن العصور التي جادت بمن سلفوا ... على الحضارة لم تبخل أياديها
ذُخر المواهب في أحيائكم تحفُ ... بَذّت متاحفكم وصفاً وتشبيها
ما إن يقال لها: لله صانعها ... ولكن يقال: تعالى الله باريها
هبوا النوابغ موتى فاجعلوا لهُم ... حظَّ النواويس أكرمتم مثاويها
جعلتم الحيَّ يرجو حظ ميتكم ... فحظ أحيائكم في مصر يشقيها
أيُحرم النحلُ غضَّ يلفظه ... شهداً، وقد شبعت منه أفاعيها
ويُقتل الروض ذو الأثمار من ظمإٍ ... والماء يروي مَواتاً من فيافيها
من يقتل الجهد يقتل فيه أمته ... وأمة الجهد تحييه فيحييها
إن الشعوب إذا ماتت مواهبها ... نُقاضةٌ أعوزتها كف بانيها
أحمد الزين(152/47)
حرب العلم
للأستاذ فخري أبو السعود
لَلْجَهْلُ أَرْفَقُ في دُجى أَزمانِهِ ... بالمرء إِنْ يَكُ ذَا مَدَى عرفانه
سقياً لعهد الجهل في أفيائهِ ... نَعِمَ الجدودُ وفي رَضِيِّ جِنانه
إذْ شِكَّةُ البطل المُقاتِل لهذمٌ ... يُصمى به الأقرانَ يوم طِعانه
لم يَبْغِ بالبُرََءاءِ عدواناً ولم ... يخصُصْ بصولته سوى أَقرانه
يُولِي المُسَالِمَ بِرَّهُ من بعدما ... أَوْلَى مُناجزَهُ شَباةَ سنانه
فاليومَ سَوَّى العلمُ في فتكاته ... بين الورى طرًّا وفي إثخانه
أمستْ بيوت الخلقِ من أهدافِهِ ... وغَدَتْ خدورُ الغيد من ميدانه
لا مُرْضعٌ تنجو ولا مَنْ أرضعتْ ... من كيده يُعْفَى ومنْ عدوانه
قد كان يحمي الحوضَ أمسِ رجالُه ... من خصمه إن جَدَّ يومُ رهانه
فاليوم أَوَّلُ ذائِقٍ لِلَظى الوغى ... أطفالُه وَمَنَعَّماتُ حسانه
والشيخُ منحنياً على عكّازه ... والحبْرُ مبتهلاً إلى رحمانه
العلمُ ليس بقانعٍ من خصمه ... بالمُقْدِم المغوار من فرسانه
يسعَى إلى الساعين في أرزاقهم ... والآمِنِ المأمونِ في جدرانه
يا وَيْحَ إقليمٍ أتاه العلم في ... أجناده يسعَى وفي أعوانه
ينتابُه بسمومه ورجومه ... ويلفُّه في ناره ودخانه
تطغى جحافله على أمواهه ... وفضائِه وسهوله وقنانه
بِسَوَابحٍ تحت العباب وفوقه ... ومحلِّقات في طِبَاق عناَنه
وزواحفٍ فوق الأديم شتيمةٍ ... تطوي رَوَابيَهُ إلى وديانه
حيوانهُ وزروعُه وديارُه ... وقُرَاهُ والآلافُ من سكانه
بعضُ الهشيم إذا أَتاه العلم في ... آلاتهِ ليهدَّ من أركانه
هيهات يَعصم مًن أذى غازاته ... حِرْزُ ويحمى مِنْ لَظَى نيرانه
َمنْ فَرَّ مِنْ غيلانه فإِلي حَمَى ... حيَّاته وإلي رَدَى عقبانه
هذا جحيم العلم يُصليه الورى ... إن هاجت الأطماعُ مِن شيطانه(152/48)
لم يعتصمْ شعبُ أبيٌّ باسل ... بهضات منه ولا قيعانه
لما رماه بناره وحديده ... ومشى يقدُّ الصَّلْدَ من صوانه
حَرَمُ السيادةِ رَدَّ قِدماً دونه ... أّعداَءه وأُعْتَزَّ في شجعانه
قد فَضَّهُ العلمُ الخؤون بغدره ... وزها بما قد دَكَّ من بنيانه
قد بات يَخْشى الكونُ يوماً مقبلاً ... فيه يلجُّ العلمُ في ثورانه
يَئِدُ الصروحَ الشُّمَّ في زلزاله ... ويقوّض الأمصار في بركانه
ويَرُدَّ قَفْراً موحشاً ما شادَ من ... زاهي حضارته ومن عمرانه
فخري أبو السعود(152/49)
يوم الرسالة
للأستاذ رفيق فاخور
شدَّ ما بَرَّحت بي! هل من رجاء ... أيها الشوق على الصبر العفاء
غلب المضني على مجهوده ... وحماه راحة النفس العناء
وتعايا في جراح في الحشا ... قتل البين! أساها فأساء
قل لمن أسرف في تعنيفه ... سبق الداء ولم يُغْنِ الدواء
ويحه يقضي فلولا نفعت ... رحمة منك وآثرت الوفاء
يا أحباي دموعي بعدكم ... أعين تجري وأشجاني ظماء
وحنيني لو علمتم جذوة ... في الحنايا بلظاها يستضاء
جددوا عهد التصافي إنه ... نعمة عشنا بها قبل التَّناء
وخذوا قلبي بما أعطيتمُ ... فدية العاني وجودوا باللقاء
وبروحي من إذا مرت على ... خاطري ذكراه كانت لي شفاء
عَلَمُ من هاشم منتبه ... كرم الآل الهداة السمحاء
ذروة السؤدد جيران السها ... لهمُ صيغت تجاويد الثناء
مجدهم ينسخ لألاء الضحى ... وعلاهم لا يدانيها علاء
سيد الخلق ونبراس الهدى ... وضياء بجلاء الشك جاء
وعظيماً من بني الدنيا ارتقى ... بجلاء الروح أسباب السماء
وعماد الملة الغراء ما ... جاورت قلباً فجافاه الرجاء
ومنار الهائمين التبسوا ... بالدجى في مجهل الأرض الفضاء
يومك المشهور في طلعته ... كجبين الشمس حسنا وبهاء
مفرد يزهو على الأيام ما ... نصلت من صبغة الليل ذُكاء
طبَّق الآفاق ميمون الخطا ... وعلى الدهر تَمَشَّى الخيَلاء
وأعاد الكون بالبشرى فتى ... رائع الغرة لماح الرواء
صبَّح الهادين سعداً شاملاً ... ورمى العادين بالخطب العياء
زلزل الشرك على أنصاره ... فاستوى الحق عليها فأضاء(152/50)
يومك المشهود يا خير الورى ... غرة التأريخ عيد الحنفاء
لم يظل الناس يوماً قبله ... ملأ الأفواه حمداً وثناء
وجرى كل لسان مقول ... فيه شوطاً وتبارى الخطباء
جاءنا يحمل في أطوائه ... سيرة المختار زين الأنبياء
فمشت في كل روع هزة ... جَلَّ من فجَّر ذياك الضياء
يا أبا الزهراء مَا مثلي وقد ... خانه المنطق يجزي الكبراء
آية الله تعالى قدرها ... تفحم الشعر وتعيي النصحاء
لك في كل جنان هيبة ... ألفت بين قلوب الأتقياء
أنت من أسرار ذي العرش التي ... لا يواريها مدى الدهر الخفاء
ربَّ إني واسلٌ بالمصطفى ... فتقبل من مرجيك الدعاء
هَيِّئ الغوث لقوم أسرفوا ... في الخطايا وأهتدوا بالأشقياء
إن قومي ظلموا أنفسهم ... وتظنوا في الأضاليل النجاء
جعلوا دينك ظهرياً ولم ... يسمعوا من جانب الحق النداء
رغبوا عن سنة الهادي فهم ... إن علا صوت المنادي غرباء
وهُمُ في كل أرض وحمى ... مركب للذل ما فيهم غَناء
خذلوا الأخلاق وانهالوا على ... زخرف الدنيا فعاشوا ضعفاء
أيها القوم اذكروا تأريخكم ... إن فيه عبرة للبصراء
أين ما شاد لنا آباؤنا؟ ... أين ما قد خلفته الخلفاء؟
أين آثار الميامين الأولى ... ينسب العز إليهم والسنا؟
أين للإسلام ملك باذخ ... كالرواسي حصنته الكبرياء؟
درج الدهر على أعيانه ... فانطوى إثرهُم ذاك اللواء
وبقينا خلفاً في أرضهم ... احمدوا السلوان واختاروا الثواء
ضل قوم ضيعوا الميراث أو ... سدلوا جهلاً على الماضي غطاء
(حمص)
رفيق فاخوري(152/51)
انتظري بُغْضي. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
حَبَبْتُكِ، والأوْهَام فِكْرِي وحُجَّتي ... تُؤَلِّبُ بَعْضيِ - في هواك - على بعضي
إذا ما نقضْتُ الرأيَ بالرأيِ، رَدَّنِي ... - إلي خطراتِ الوهمِ - مضٌّ على مضِّ
أصارعُ أهوالاً من الغيظِ والرِّضَى ... وما يتولَّى الغيظَ فَوق الذي يُرْضي
عجبتُ لمنْ راضَ النِّسَاَء ورُضْنَه ... ويقضينَ من إيلامِهِ دون ما يقضي
ويَرْمٍينه بالسَّهم ليس بضائِرِ، ... ويَرْمي بما يَحْمي الجفون عن الغُمضِ
فكيف به قد ذَلَّ وَهُو مُكَرَّمُ ... وأغضَى ولو قَدْ ناصبَ الدهر لم يُغْضِ!
كفى بك ذُلاًّ أن تبيتَ على جَوَىً ... وتُصبِحُ في ذكرى، وتَمْشِي على رَمْضِ
كأنك لم تُخْلَقْ لِدُنْيا تَجُوبُها! ... وما أضيَق الدنيا من الحَدَقِ المُرْضِ!
فَهُنَّ اللواتِي زدْنَ في العيشِ لذَّةً ... فأقْصَيْنَ لذَّاتٍ من الفرَح المَحْض
شككْتُ، وقد تُنْجِي من الشَّرَّ ريبةٌ ... وتُبدِل مُسْوَدّ احظوظِ بمُبْيَضِّ
لقد كنتُ أمضي طائعاً غير جامحٍ ... وأرضَى بإطراقي على الرَّيْبِ أو غَضي
ويفضَحُني فيك اقتحامي وغَيرتي ... وطرفي وما جَسَّ الأطباء من نبضي
ويأكُلُ قلبي ما أُكتِّمُ راضياً. . ... فما بكتِ العينُ الشبابَ الذي يمضي.!
وأنتِ. .! لعمري في سرور وغبطة ... يَسُرُّكِ بسطي في الحوادث أو قبضي
أَأُنثى ووحشٌ؟ جلَّ خالقُ خلقه! ... وسبحان كاسي الوحش من رونق غَض!
وأعجبُ منه لَذَّتي ومَسَرَّتي ... على حين نَهشي في المخالبِ أو نفضي
فيا سوَء ما أبقيْتِ في الدَّم من لَظىً ... وفي الفكر من كَلْمٍ وفي القلب من عضِّ
أخافك في سري وجهري، ومشهدي ... لديك وغَيْبي، خوفَ أرقط مُنْقَضِّ
لقد كنتِ أحلامي - إذا الليل ضمَّني، ... وكنتِ إذا ما الفجر أيقضني - روضي
يناجيك طير في الضلوع بلحنه ... لقد عاش في سحر، وقد عشت في خفض
وكنتِ على ورد الخمائل زينةً ... وكان بشيرَ الفجر في الفنن الغض
فأصبحتِ. . . لا خيراً فيُرْجى، ولا لقىً ... فيُلقى، ولستِ من سمائي ولا أرْضي
تصاَممْت عن قلبي ورُمتِ مساءتي ... وتنتظرين الحُب! انتظري بُغضي(152/53)
القصص
من الحياة
الضحية. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
انحسر الليل عن جبين الفجر، والفتى لا يزال في مجلسه يشهد ليلة تنطوي، وفجراً يبزغ؛ وكأن الليلة لم تكن في فكره إلاّ ساعة، وكأنه وقد جلس يرقب سير الكواكب في أفلاكها كان ينتظر أن يقرأ فيها تتمة الرسالة التي قرأ أول كلمة منها أول الليل، فوجد فيها ما وجد من لذة ونشوة وسحر. لم ير في صفحة الكواكب السيارة، ولا في العالم الهادئ النائم المطمئن، إلاّ شيئاً كان في خياله هو وفي خواطره. جلس لا ليقرأ حظه في كتاب السماء، ولكن ليؤلف كتاباً من نفسه الطروب المرحة. . . وذهب إلى عمله وهو نشاط يشتعل؛ فهو يجيء ويذهب، ويقرأ ويكتب، ويتكلم فيبين، وكأن شيئاً فيه قد خلقه من جديد ليكون شخصاً غير الذي يعرفه في نفسه، ويكون إنساناً سوى ذلك الذي عرفه صحابته ورفاقه. ودخل إلى صديق يحدثه، يريد أن يفضي إليه ببعض ما يفوز في نفسه، ولكنه عاد فرأى أن ذلك الشيء الذي بعثه من جديد لم يكن إلاّ في نفسه لنفسه، فهو سره هو، وهو له وحده. . . ثم رجع إلى بيته ليطيل النظر إلى نفسه في المرآة يأمل أن تريه مرآته الشابّ الذي في قلبه، فلم ير إلاّ ما تريه المرآة كل يوم، ولكن هندسة عقله الجديدة قد بدت على هندامه وزيّه فكان جديداً حتى في هندامه وزيّه. أكلّ ذلك لأنه رآها أمس وجلس إليها وقال لها وقالت له. . .؟
ومضى الفتى على طريقه، وفتاته أمامه تنير له ما اظلم، وتفتح له ما استغلق، وقلبه ماضٍ على أثرها، وهو من وراء الاثنين: قلبه وفتاته، طيّع منقاد
وأبعد في السير، فباعد بين الفتى الجديد والفتى الذي كان، وعاد لا ينظر إلى الوراء إلاّ ليرى ذاك العريش الذي جلسا تحته لأول ما قال لها وقالت له. . . وكأن عمره قد أختُصِر في هذه الأشهر القليلة، ولكنه كان عمراً طويلاً
وخيّل إلى الفتى حين اجتلى النور من وجه صاحبته، وحين حاطه الشعاع الآسر من(152/55)
روحها ومن عينيها، وحين رأى الأمل يترقرق على شفتيها من ابتسامة رقيقة، خُيّل إليه حينذاك أنه عاش ما عاش من العمر أعمى لا يرى الحياة إلاّ مادة؛ أما الآن فهي عنده روح من الروح، وهي عنده شعاع يسطع في قلبه، فلا يزال يذكي روحه، ويرهف حسّه، ويشعره معنى الحياة الجميلة، ويحبّب إليه أن يعيش عَيْشَه مغموراً في هذا النور الآلهي الذي ولَده السالب والموجب من قلبها ومن قلبه
وتلاقيا على ميعاد. ونظر ونظرت، فإذا عصفوران يتساقيان الهوى على فنن؛ فقال في نفسه: (ما أتعس الإنسان! يقيد نفسه بأغلال المادة والتقاليد، ثم يزعم أنه طليق. ليتنا مثل هذين. . .!) وقال لها وقالت له. وكان كلاماً لا تلفظه الشفاه: من ذا يفهم لغة الطير، أو يسمع نجوى العاشقين عيناً إلى عين؟ إن هذين الطائرين يفهمان من فلسفة الحياة أكثر مما استوعبت عقول البشر. إنهما يملكان الحرية، وفي أيدينا وأرجلنا قيود ذهبية. . .! ومالت على زهرة نضرة من أزهار الحديقة تقطفها، ونظر الفتى فما بدت لعينيه زهرة بل رمزاً من شفةٍ، وخدٍ، وعطر، وخطوة دلال. وأسرع إلى صاحبته: رويدك يا فتاتي، إن هذه الأنامل الجميلة ما خُلقت إلا لتتملّى هذا الجمال وترعاه!
ولما هّما ليفترقا لم يقل لها: يا فتاتي التي أحب. بل قال لها: يا من حبتني الخلود وأشعرتني لذة السعادة على الأرض
ما أعجب ما يرى الإنسان في الحياة! وهل يرى كل ما فيها إلا على ما رُكِّبتْ عليه طبيعته المادية الجامدة؟ حتى إذا ما لمست فِتاة قلبه حالت كل مادة على الأرض شيئاً إلهياً نورانياً، يتلألأ كما انفلق الأصباح عن ليل طويل دامس. وماذا في الشباب إن لم يكن هذا الشباب في القلب قبل أن يكون في نضرة الوجه وتكتُّل العضل؟ حتى الشيخ يرده الحب فتياً! تلك حكمة الله في الأرض
سار الفتى على سننه؛ وذهبت نفسه وراء فتاته، وهي من عقلها لا تخمد العاطفة بالرضى الدائم، ولا تبعث في نفسه السأم بالغضب المستمر. وهو من كبريائه لا يندفع اندفاع الطيش، ولا يُقْصر إقصار الملل. نفسان عُقِّدَتا؛ ولكنهما عقدتا ليكون الحب فيهما عقدة ثالثة. فهي تفور، وهو يتنزّى ولكنهما هما. أراد أن يكون صريحاً فتعقدت له، فلما أرادت أن تكون صريحة وجدته قد تعقد(152/56)
ضَلَّ من يقول إن العقل والكبرياء كلاهما يذهبان برونق الهوى، ويطفئان شعلة الحب. إنهما يجعلان من الهوى هوى مركباً لا ترقى إليه العقول الصغيرة، ومن الحب حباً معقداً لا تبلغه العاطفة السقيمة
ثم انطلقا. . . والفتى سعيد بفتاته، والفتاة سعيدة بفتاها فما يفترقان إلا على ميعاد، وهما بين الميعادين كالظمآن يذكر آخر قطرة تذوقها ويرى فيها الحياة، وينتظر أول قطرة تأتيه ليرى منها النور
على ضفة النهر، وبين الخمائل، وتحت ظلال الشجر، وفي ضياء البدر، في صمت الطبيعة وجمالها، طائران أغمض الدهر عنهما جفنيه ليرشفا من رحيق الحياة كأساً صافية، ما كدّرها تخاصم، ولا لوّثها عبث. عام انطوى، فكان العمر، وكان جمال العمر، والصفحة البيضاء في كتاب حياة الشاب والشابة. فما يكون جزاء هذا الحب إلا رباطاً لا تنفصم عروته؟ وتلألأت الفكرة، وتضاعفت سعادة العاشقين بهذا الأمل الجديد
والفتى والفتاة من أسرتين ترسفان من التقاليد في أغلال، وويل للحب إذا اعترضت سبيله التقاليد!
وكانت فكرة، ثم استحالت الفكرة فإذا هي كلام، وحار الكلام فإذا هو خطوات إلى غاية، ولكن. . . ولكن ما أحوج هذا السالك إلى من يرود له الطريق! هؤلاء أهلها، ماذا يعرفون من أمره؟ وكيف يخطبها إليهم وما له عندهم أسم ولا رسم؟ وهؤلاء أهله، ماذا يعرفون من أمر فتاته، وما حاول من قبل مرة أن يفض لهم اغلاق قلبه أو يقرأ عليهم سطراً من شبابه؟ وهذا أبوه، شيخ لا يؤمن بالحب، ولا ينقاد لنزوات العاطفة؛ وهو رباه ونشأه واختار له فيما اختار فتاة من ذوي قرباه، فما ينتظر له زوجاً غيرها ولا لها زوجاً غيره. فمن ذا يشفع له عنده؟ وهذا عمه، وإنه لرجل جد وكفاح لا يرى الحياة إلا من الناحية الصلبة الجافة، فما إليه مشتكى، ولا فيه شفاعة! ولقد تلقى الفتى عن - فيما تلقى - دروساً في الشجاعة والصراحة معاً، فكيف تخذله شجاعته، وكيف يلتوي لسانه وهو يطلب الحياة لنفسه؟ وفي قلب الفتى نار لو لفحتْ الشجر الأخضر لتركته هشيماً، وفي رأسه شعلة لو نفخت على السائل لتركته يغلي ويفور. وابتدأ الفيلسوف الذي في رأسه يفرض الفروض، ويأتي بالمقدمات، ولكن إلى غير نتيجة(152/57)
لقد ملك اللذة وأراد أن ينعم بها، ولمس السعادة وأمل أن يحتويها، ولكن فكرتي اللذة والسعادة هما اللتان ذهبتا بشجاعته وصراحته
ماذا في السعادة غير اطمئنان الخاطر، وهدوء الضمير، وإشراق الحياة، وابتهاج النفس، والرضى بكل ما يجيء به القدر؟ ذلك هو الإيمان، والشعور به هو اللذة. فلا تنشدهما من غير هذا السبيل
ونفخ الحب في عزم الفتى، ونفث من سحره في لسانه، فمضى بين الرجاء واليأس ينفض أمام أبيه جملة حاله. وكان أبوه قد قدّر حين رأى في أبنه الذهول والصمت حيناً، والانكباب على المطالعة حيناً آخر، أن به شيئاً. وقالت له ذكريات شبابه: (ويحك أيها الشيخ! إن فتاة قد سلبتك فتاك، لأنه فقد النوع، وإنه لشاب به ثورة الفتاء ما بالرجل يوقد تحته بنار من حجارة، فأمسك عليك ولدك بزوج تربطه بها وتربطها به. . .!) ووعى الشيخ ما سمع. فلما أذن للفتى أن يكشف لأبيه عن صدره، قال له: (يا بني! إن حكمة الشيوخ غير طيش الشباب. يا بني! إنه أنا الذي رباك وأنا الذي يريد أن يعيش في تأريخك جيلاً آخر. عقلك أولاً ثم عاطفتك، وغداً تهدأ هذه الثورة. . .!) ولكن الثورة لم تهدأ بل زادت ضراماً، وعاد الفتى إلى عمه يستعينه على رأي أبيه، فما الأخ إلا صورة من أخيه، ولما أرسل إلى أهلها قالوا: (حتى يرضى أهله)
وضاقت نفسي الفتى بما رأى وسمع، وما لبثت الفتاة أن سميت على غيره، فأصبح الفتى يتوزعه الحب وقد أخفق فيه وصفرت منه يداه، والكبرياء التي لا تطاوعه على أن ينقاد، فصار همه همين؛ وعض الحزن على قلبه فاستلبه من أيامه، وخلفه يمشي بين الناس جسداً بلا روح. . .!
وأحس الأب بمقدار قسوته على ولده، على حين لم يكن يريد له إلا السعادة، فأنطلق يلتمس له الشفاء من ألمه، ولكن أين له ما يريد وقد سميت الفتاة على غيره فخطبت فـ. . .
وكان الأب في انطلاقه يفتش عن السعادة لأبنه، قد ترك وراءه شبحاً يجلس إلى مدفئة في زاوية من الحجرة وقد نشر أمامه ورقة لا يكاد يتبين من سطورها إلا سطراً أسود يضطرب أمام عينه، وكأنه لم يكن ينظر كلاماً مكتوباً بل شريطاً عريضاً أسود يمثل له حظه في الحب. لقد وعاه من طول ما كرره، ولكنه ما يزال يقرأ، ويعيد ما يقرأ، كأن(152/58)
ألفاظه تمسح ببياضها هذا السواد الماثل أمامه: (لقد تخليت عني في وقت أنا أحوج فيه إليك، وقد كان بيننا ما كان. تخليت عني ليعبث أهلي - بما لهم علي من حق - في مستقبلي. لقد أرغموني حين ردوك)
ولما أرتد الأب خائباً، وجد الابن قد أكلته الخيبة والتهمه اليأس، فعاد يهمس بينه وبين نفسه (ويلي! لقد جنيت!) ثم ابتدأ يلتمس لولده العزاء مما جنى عليه، فقدر له أن يمضي أياماً على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق. هناك حيث يخلع الإنسان همومه إذ يخلع ملابسه، ويتحلل من أثقال المدينة وتقاليد الناس حين يرى نفسه كآدم وحواء قبل اتخاذ الثياب. وكان الفتى واسع الخيال دقيق الحس، فآلمه أن يرى هذا الناس قد اجتمعوا ليقتسموا الصحة والعافية، واللذة والسعادة، وهو وحده يعيش في جو بعيد عن كل ذلك، هو جو قلبه، وانصرم الصيف، وما أفاد إلا هماً على هم، ووحشة كانت في قلبه فعادت في حسه وفي نفسه
وجلس الابن يقرأ - ذات ليلة - كتاباً في تأريخ قدماء المصريين والأب ينصت، وهو يتبين في صوته رنين الأسى والحزن. فقال: إن لنا في الشتاء لرحلة كما لنا في الصيف رحلة.
زيارة آثار أجدادنا القدماء. وطرب الشباب لهذه الفكرة الطارئة
وطوّفا ما طوفا والفتى في نهاره رفيق أبيه، وفي الليل صديق همومه
وجلس الفتى إلى نضد، وقد مضى الليل إلا أقله يكتب إلى التي أحبها: (ذهب عقلي واستقر هواك. وهأنذا أطوف في بلاد وقرى لم أنزل بها من قبل، ولم يزرها أبي من قبل أيضاً. يظن أبي أنني أفرج عن نفسي، وأراني شريداً لأنني أرغم على ذلك إرغاماً. يؤمر ليطيع كالإنسان الصناعي لا يدري ماذا يقال، ولا ماذا يُفعل؛ وهم يسخرون من الإنسانية إذ يسمونه الإنسان. أبي يرى في كل ذلك لذة، أما أنا فلا أرى هنا ما يلذني لأني بعيد عنك. والآن وقد بلغنا أسوان بقي علي أن أصف لك الخزان العظيم الذي يترك لأرض مصر جميعها فضلة ما يمسك. إنه في رأسي الآن يجيش ويضطرب، وغداً كيف أراه أمام عيني؟ سأذكرك هناك، يا فتاتي، وأذكرك. . .)
وعند انبثاق الفجر انفلت من الفندق ليضع بعض قلبه في صندوق البريد(152/59)
وعلى خزان أسوان سار مطمئناً، وهو يعجب بما يرى؛ عن يمينه طود من الماء، وعن يساره رشاش الماء المنسكب، أمواجاً تتلاطم، كأنها في مضمار، أيهما يبلغ الغاية أولاً؟ وعلى سور الخزان المبني من حجر الجرانيت، وقف يتكئ على حاجز قصير هناك يطل منه على الماء يتدفق من فتحات الخزان حياة، والخواطر تتدفق في أعماقه شجواً حزيناً يبعث الألم. وأخذت الفتى روعة ما رأى وأحس كأن الماء الذي يعترك في أسفل يجذبه ليحمله إلى من يحب. ورأى الرشاش المتطاير تنعكس عليه أشعة الشمس فترسم عليه قوساً ذات ألوان جميلة، كأن عروساً في ثوب زفاف تتراءى له بين مرآتين، ولكنه لم ير فيها إلا العروس التي فقد، تبتعد بها الأقدار في صحبة رجل غريب. ورأى الماء يتسرب من بين الصخور كما يتسلل القدر في تأريخ إنسان ليضع فيه مأساة أو يصنع حادثة
ومضى الفتى يتخيل فيمعن في الخيال، والماء تحت عينيه يموج ويضطرب ويزأر متدفقاً مكتسحاً في بطش وعنفوان؛ فما يرى الفتى بين الموج والزبد إلاّ صورة واحدة: صورة الفتاة التي بعد بها عنه عنف القدر وسلطان التقاليد
ورجع الأب ليصحب ولده فيعودا، ولكنه انطلق يعدو حين رأى أبنه يوشك أن يتردّى. فما بلغ إلاّ ليشهد آخر مأساة للشاب تتلقفه الأمواج
يا يد الشيخ أنت التي دفعتٍه إلى هذه الهوة فما كان لك أن تنقذيه. . .!
يا تجارب الشيخوخة كم أنت قاسية! لقد أردتِ أن تزرعي السعادة فجنيت الشقاء. لقد كنت كبيرة فلم تفهمي لغة الشباب، وكنت مادية فلم تفهمي حديث الروح، وكنت صلبة فلم تعقلي كلمات القلب. هل أنت يا تجارب الشيخوخة إلاّ خرف الهرَم ونكسة الإنسانية. .؟
ألا ليت الشباب وليت الهَرَم. . . ولكن ماذا يجدي، ماذا يجدي؟ ليت شعري هل قُدِّر للإنسانية ألا تبلغُ سعادتها إلا على جسر من الضحايا؟ فيا ويح الشباب ويا ويح الهرم!
كامل محمود حبيب(152/60)
درامة من أسخيلوس
3 - الفرس
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
- 7 -
(يظهر شبح دارا ويخاطب الجماعة)
- (أوه! أنتم هنا يا رفاق الصبي ولِدَات الشباب! مرحي! لقد ابيضت نواصيكم، وجلل هامتكم وقار المشيب! ماذا؟! ما لكم واجمين هكذا؟ أي شجو يعقد أساريركم يا سادات فارس؟ ماذا أسمع؟ هناك! هناك في جميع آفاق المملكة؟ الجماهير العزيزة تئن وتبكي! ويح لكم يا رعاياي! أية كارثة؟! تكلموا؟ إن قربان الخمر الذي أسقيتم ثرى رمسي قد روّى أعظمي وانتشت بِحُمَيّاه نفسي؟ لشد ما أيقضتني أناشيدكم وأذْكاركم تتغنونها على هذا القبر يا سادات، وتتغناها معكم مليكتي!! تكلموا! تكلموا إذن! فيم جُؤاركم بي، وصلاتكم من أجلي، لأطْويَ الرحب إليكم من عالم الأشباح؟ إن الآلهة ترنو إليّ من بعد، وإنها تكاد تتخطّفني. . . لماذا تصمتون هكذا؟ تكلموا وإلا فالويل لي من أرباب الظلمات!. . .)
- (لشد ما تفرق قلوبنا إذ نرى إلى هذه الهامة! كيف السبيل إلى الكلام؟ أي فزع يذوب كالموت في فرائصنا؟)
- ليفرخ روعكم! إن صلاتكم الطيبة هي التي سعت بي إليكم! فيم هذا الجزع الذي يسيطر عليكم؟ وهذا الحزن لِمَهْ! تكلموا! البدار، اختصروا ما استطعتم فأني عجلان، والآلهة تحدجني من أعماق الدار الآخرة!)
- (نفْرَق أن تنبس أفواهنا بكلمة عما حاق بأعز الناس! إن حبنا له، وجزعنا عليه يمنعنا من أن نقول كلمة!. . .)
- (هذا دأبكم دائماً. . . طالما كنتم تخافون من لا شيء إذن، فتكلمي أنت يا من كنت شريكتي في أهنأ حياة؟ وأرجو أن توجزي ما استطعت.! ما هذه الصيحات التي ترتفع من رعاياي في البر والبحر؟ ما لهم يبكون في كل صوب!)(152/61)
- (مولاي دارا!؟ ملكي! يا من أقمت مجد الوطن، وكنت مُحَسَّداً من أندادك للأبهة التي شادت دعائمها يدك. . . كم أنت اليوم مُحَسَّد كذلك للراحة التي تنعم بها في جوار آلهتك. . .؟ قصتنا موجزة، وتكاد ترويها كلها كلمة واحدة! الإمبراطورية يا مولاي؟ لقد نسج الزمان عليها عناكب الخراب وليس من يقيل عثرتها!!)
- (لِمَهْ؟ هل طاعون سلطه عليها رب الشر؟ أم ثورة جعلت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؟)
- (لا هذا ولا ذاك! ولكن. . . جيشنا. . . لقد حطمه القضاء تحت أسوار أثينا!)
- (جيشنا؟ وَمن مِن أبنائي هذا التاعس الذي غامر به ثمة؟)
- (الطائش إجزرسيس! لقد أقفرت آسيا من روض شبابها بسبب تَهَوُّره؟)
- (في البر أم في البحر، حاقت بهم النكبة النكباء!)
- (فيهما معاً يا مولاي!)
- (وكيف تم لهذا العسكر المجْر عبور البَحر إلى هيلاس؟)
- (مهندسوه يا مولاي أقاموا له جسراً عَجَبَاً!)
- (وأي جسر هذا الذي يصبر لأمواج البوسفور وأواذيه؟)
- (كانت أرواح مخربة تنفخ في صدره طيلة ذلك اليوم!)
(وأية ضربة لازب طاحت بجيش فارس وبأسطولها؟ أكان العدو أكثر عدداً وأعز قوة! يا لتعسك يا إجزرسيس! ترى! كم شرذمة نجت من بطشة هذا القضاء؟)
- (ثلة في البر وثلة في البحر. . . وكان هو ينطلق لا يلوى على شيء! حتى عبر إلى آسيا!)
- (إيه يا آلهة! هكذا تديرين رحى الخراب على من يديرها على نفسه! إجزرسيس الطائش! لقد كان شيطانه هواه، فلم يرحم شبابه ولم يترفق بشباب فارس! حسب المأفون أنه يسخر بالآلهة، ليستطيع أن يكتب الأقضية، ويحول مجرى المقادير. . . ألا قد حبط مكره. . . وحاق به سوء تدبيره. . . وبدد في حماقة كل ما ذخرت لفارس من قوة وعتاد. . . وجعل خزائن سوس لأعداء الإمبراطورية نهباً مُقَسماً. . . ألا من أَضلّك يا أتعس الأبناء!)
- (أضلته نفسه، وغلب عليه استبداده، وسَوَّلت له تلك العُصبة من الحمقى والمأفونين)(152/62)
(تعْساً لهم مُشِيري سوءٍ، وإخوان ضلالة! وتعساً له من أُحيْمق، هدم المجد الذي بناه أجداده فرفعوا عماده، ومهدوا له وأرسوا في ساحات النصر أوتاده. . . الشقي الذي نسى نصيحتي فوق سرير الموت، إذْ حذرته من محاربة الهيلانيين!)
- (والآن يا مولانا! أنصح نهتد بك في ظلمات المستقبل)
- (هي نصيحتي أبداً. . . لن تتغير. . . لا تلتحموا في حرب مرة أخرى مع الهلانيين! حتى ولو كان جندكم أكثر من جندهم أضعافاً مضاعفة! إنهم يحاربون من أجل وطنهم المفدى! أما أنتم. . . ففي سبيل أطماعكم تهرق دماء شبابكم! هذا إلى هيلاس نفسها. . . إنها تحارب بجنود لا ترونها في جانب أبنائها!)
- (هيلاس تحارب بجنود لا نراها؟ وكيف؟)
- (أجل! إنها تحارب المغيرين بالمجاعات والأيْن والطواعين! انظروا! إن شراذم مبعثرة تهيم في الآفاق. . لا تلوي على شيء. . . تفر من الميدان! ويلاه! إنها فلول أجنادكم، أصبحت لا تقدر على شيء!. . . لقد تركها القائد الشقي تقاسي من الجوع والعرى والزّمهرير. . . أشباح وسمادير، يرنق فوقها الموت عند كل أكمة!! إجزرسيس! يا أتعس الأبناء! ذق إنك أنت العزيز الكريم! فيتم استباح جنودك معابد الآلهة وأقداس الأرباب! لقد دنسوا هياكل القوم، وسلبوا معابدهم، وكسروا أوثانهم. . . فليذوقوا إذن وبال أمرهم، ولترو من دمائهم رماح الأسبرطيين. . . وليؤدوا الدين من خزائن أرواحهم مُهَجاً غالية!! يا للآلهة!! ما أقساه درساً ألقيته على كبرياء بني الموتى وخيلائهم!! زيوس يا سيد الأولمب! يا كبير الآلهة ذا الطول، يا شديد الانتقام! ما أهول بطشك حين تأزف ساعته. . . وما أبلغ حلمك!)
أيتها الملكة! يا أم إجزرسيس! يا أم ولدي التاعس! هلمي فالبسي أبهى حلك ذات الأوشية، وانطلقي فالقي ولدك المحزون! رفهي عنه وواسيه بكلمة طيبة لن يحتملها إلا منك، وبلغيه نصائحي. . .)
أما أنتم يا رفاق صباي! فالسلام عليكم. . . لتثلج صدوركم ولتطلب نفوسكم. . . لقد فرغتم من زينة هذه الحياة الدنيا التي لا تسير في ركاب الموتى إلى الدار الآخرة)
(يغيب الشبح)(152/63)
- 8 -
ويرسل الأشياخ الفارسيون النُّجب زفرة كأنها لفحة من جهنم، ويعبسون عبوسةً سادرةً حزينة لما يتحيف الوطن من أشجان، ثم تمضي الملكة لتضفي عليها من أبهى وشْى فارس ولؤلؤ بحرها العجيب، ولتذهب فتلقى ولدها المقهور المنهزم، الذي عاد من حلبة هيلاس يجرر أذيال الخيبة، ويتهالك على نفسه في أسمال الخزي والانكسار. . . (ولدي إجزرسيس! الذي لا بد له في هذه المحنة من قلب الأم يضمه ويحنو عليه، ويقشع عن عينيه ديجور الهم، ويعيد إليه مسرة الدنيا وحبور الحياة!)
- 9 -
أما الخورس - وهم أولئك الأشياخ الوقورون - فيهزجون بنشيد طويل يذرفون فيه دموعهم على مجد الأكاسرة الغابر، ويبكون على أيام كانت فارس سيدة الأرض ومؤدبة الأمم، ويذكرون الهزائم التي حاقت بجيوشهم في البر والبحر. . . (وشبح الخراب الذي ينوء بكلكله على المدائن والقرى، واليتم والجزع والبكاء التي تغزو كل بيت، وتمزق صدر كل أم) وإفلات الأيالات الفارسية في غرب آسيا وشمال هيلاس من قبضة الفرس. . . حتى لو شاء الهيلانيون غزو فارس نفسها لما استعصت عليهم
- 10 -
(يدخل إجزرسيس متخاذلاً)
- (واشجوى!)
لقد جل الخطب، وفدحت قاصمة الظهر، وامتداد يد الحدثان إلى زهرتك يا فارس، يا وطني، فقضت عليها في ريعان، وأذبلت غصنها إذ هو ناضر ريان، وجعلتها قصة في كتاب الزمان! ويحي! كيف لي أن ألقي ساداتك أيها الوطن وقد خذلت هيلاس قواي، وخانت تجلدي واصطباري! ألا ليتني لقيً بين أشلاء جنودي، ألا ليت كثيباً مهيلاً طواني في ساحة المجد، فلم أعد إليك يا بلادي! لقد كان ثمة عزاء لي بين القتلى من صناديدي!)
- (أهذا أنت يا إجزرسيس! ويلاه! من للأبهة والمجد! من للجيوش الجرارة والجنود المظفّرة! من للكواكب والرايات! أين أين القادة الصيد، والأبطال الصناديد والمغاوير(152/64)
المذاويد؟ لقد انتفضت فارس تبكي أفلاذ أكبادها فأين تركتهم دون وليٍّ ولا نصير؟ أكانت تعدهم لهذا العبث الذي قذفت بهم فيه وهم زهرتها وذخيرتها وعتادها؟ ويلاه! يا للساعة ويا للحساب العسير؟ لقد كان أجدر لو لم تلقك آسيا أيها الملك كسيرة القلب مهيضة الجناح، لا حول لها ولا طول، ولا مجير ولا هاد!)
- (زهٍ! زهٍ! يا سادات فارس! يا للحظ العاثر والمجد الغابر! أو هكذا يا رب تخزيني ملء رعيتي وبين جدران بيتي؟)
- (بل نحييك بالصراخ والعويل كما كان المارياندون يحيون موتاهم. . .)
- (إذن، فهلموا فابكوا! لتنهمر دموعكم حتى ما تجف، ولتشق السموات آهاتكم حتى ما تقف! ألا ما حيلتي؟ لقد اتحدت عليّ الأقدار، واسودت في صحائف غيبي الحظوظ!)
- (بل نحن نصرخ في وجهك صرخة فارس التي كلها ألم وشجو. . .)
- (وا أسفاه! ماذا عساني كنت صانعاً وقد اتحد مارس وملؤه عليّ!)
- (بل قل لنا أيها الملك! أين أين أكايرتا؟ أين أين السوسيون والفرندسيون والبلاجيون وغيرهم وغيرهم من أشراف القبائل والبطون والأفخاذ؟
- (غرق من غرق، وغال الردى في الميدان من غال في يم سلاميس وبرية بلاتيه.)
- (بل أجب هذه الدموع وحرق الضلوع! أين أين المظفر فرْنوخوس وأريوماردوس الصالح، وأمير الأمراء سيوالكوس! وأين أين القنابل ذات الأيد من مازستراس وسيرابيس وممفيس!. . .
- (ابتلعهم اليم. . . ثم لفظهم الدأماء! ودارت عليهم المنايا أغربة سوداً وغرابيب لا تبقي ولا تذر!. . . فلا قائد اليوم ولا مقود!!)
- (يا للنكبة! يا للثمن الفادح! يا لزهرة شبابك يا فارس في هذا الرزء الذي ليس كمثله رزء، والمصاب الذي دونه كل مصاب!! إذن ماذا بقي للوطن أيها الرجل؟)
- (هذه الأسمال التي ترونها لا تكاد تستر جسد مولاكم!!
- (أهي كل ما بقي من الغرق و. . . الهزيمة؟
- (وهذا البيت الخاوي على عروشه. . . وكانت إليه خزائن الأرض من قبل؟ ماذا بقي لنا؟ لقد تفرق عني جميع أعواني أباديد!(152/65)
- (ألا ما كان أشجع اليونانيين في هذه الحرب!
- (ألا ما كان أشجعهم حقاً! أبداً ما رأت عيناي أشجع منهم! لقد ظفروا بنا وأظهرتهم آلهتهم علينا، فلنا الخزي السرمدي، ولهم المجد الأبدي؟
- (ويلاه! إذاً سحقت كل قوة فارس!
- (عن بكرة أبيها! وليس لنا الآن إلا البكاء والنحيب! فرددوا بكائي وأسْعِدوا يا سادات
- (أي إسعاد أيها الملك وقد قضت علينا ضربة لازب!
(يبكون. . . ثم يعولون)
- (رددوا آلامي، فما أشجاكم أشجاني!
- (ألا من يرثي لنا. . . يا للشجو. . . يا للشجو!!
- (وبللوا تلك اللِّحى. . . اذرفوا عبراتكم يا رفاق!
(يأخذ الأشياخ في البكاء، ويشتد عويلهم، ثم يشقون جيوبهم. . . . . . . . . . . . . . .)
- (غفرانك يا فارس! غفرانك يا دارة المجد، وهالة العظموت! هلموا يا سادة! هلموا إلى الهيكل. . . إلى النار المقدسة.)
دريني خشبة(152/66)
البَريدُ الأدَبيّ
هنري دي رينيه
من أنباء باريس الأخيرة أن الشاعر والكاتب القصصي الكبير هنري دي رينيه قد توفي في الرابع والعشرين من مايو؛ وبذا يكون قد توفي في أيام قلائل عضوان من أسطع أعضاء الأكاديمية الفرنسية، هما الأستاذ هنري روبير المحامي الأشهر (وقد ترجمناه في العدد الماضي) وهنري رينيه، وخلا بذلك كرسيان في مجتمع الخالدين. وقد ولد هنري فرانسوا دي رينيه في ديسمبر سنة 1864 في هونفلور من أعمال كالفادوس من مقاطعات الحدود؛ وكان أبوه هنري شارل دي رينيه مفتشاً في الجمارك، وتلقى الكاتب دراسته في كلية ستانسلاس، ودرس القانون؛ ولكنه انصرف منذ حداثته إلى الأدب؛ وبدأ بقرض الشعر قبل أن يبلغ العشرين، وفي سنة 1885، أصدر أول مجموعة شعرية، عنوانها (أيام الغد) فأصابت نجاحاً وأتبعها بعد ذلك بعدة مجموعات أخرى نذكر منها: (أوسمة دارجيل) ' و (فستيا الملتهبة) وعالج هنري دي رينيه كتابة القصص في نفس الوقت، وظهر منذ أواخر القرن الماضي بقصصه القوية الخصبة؛ ومن أشهر قصصه (عصا جاسب) (سنة 1895)، و (العشيقة المزدوجة) (سنة 1900) و (فراغ فتى عاقل) ' (سنة 1903)، و (الخوف من الهوى) ' (سنة 1907) ' (سنة 1912) و (وهم تيتوباسي) ' (سنة 1916) و (الخاطئة) (سنة 1920) و (الفرار) ' وغيرها
وكان هنري دي رينيه أيضاً صحفياً من الطراز الأول، يعالج المسائل الاجتماعية والأدبية في الصحف الكبرى بقوة وبراعة؛
وقد تبوأ كرسيه بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية منذ أعوام طويلة
حياة لايدي هستر العجيبة
تتفوق حوادث التاريخ أحياناً على القصة في غرابتها وروعة ظروفها؛ ومن ذلك حياة (لايدي هستر ستانهوب) الإنكليزية التي خاضت في أوائل القرن التاسع عشر غمار رحلات وحوادث مدهشة في تركيا ومصر وسوريا. وقد صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن هذه السيدة المغامرة عنوانه بقلم السيدة جوان هاسلب
وقد نشأت اللايدي هستر في أسرة نبيلة في أواخر القرن الثامن عشر، وهي ابنة أخت(152/67)
لوليم بيث الوزير الإنكليزي الشهير، ولم تكن فتاة حسناء. ولكنها كانت تتمتع بجاذبية نسوية غريبة؛ ولم تصادف في بدء حياتها نجاحاً في المجتمع الإنكليزي ولا قبولاً في بلاط الملك جورج الثالث؛ بيد أنها اتصلت صلات غرامية ببعض رجالات العصر، مثل اللورد جرانفيل لنيفنسون والسير جون مور القائد الشهير؛ ثم عافت المجتمع الإنكليزي ونقمت عليه لما لقيت فيه من إعراض وخصومة، وغادرت إنكلترا في سنة 1810 لكي لا تعود إليها إلى الأبد. وبعد أن زارت جبل طارق ومالطه ذهبت إلى اليونان وهنالك لقيت الشاعر بيرون؛ ولكنهما لم يتفاهما؛ فسافرت إلى استانبول؛ وهناك اتصلت ببلاط السلطان محمود، وتركت لنا وصفاً شائقاً عن بلاطه وحاشيته وحفلاته. وإليك نبذة ظريفة تصف خروج السلطان إلى السلاملك في يوم الجمعة:
(يركض البستانية صائحين (أفسحوا لجلالة السلطان أمير المؤمنين) وهم يلوحون بأسواطهم المعقودة؛ بينما تنتظم في الشارع فرق من جند الانكشارية ترد الجموع؛ ويبدأ الموكب بالسقائين يرشون الشارع، ثم كوكبة من الفرسان ذوي اللحى تحيط بها جماعة زاهية تحمل أدوات القهوة السلطانية وسيف السلطان وشبكة في أوعية ساطعة)
وبعد أن لبثت لايدي هستر حيناً في استامبول سافرت إلى مصر، واتصلت في الحال بمحمد علي، وزارته في قصره الفخم بالأزبكية فأكرمها، وأنس بلقائها؛ ونوهت اللايدي هستر فيما بعد بكرمه وذكرت أنه اعتاد أن يقف للقائها؛ وفي ذات يوم نظم محمد علي عرضاً عسكرياً إكراماً لها، وعرض فيه الكولونل سيف (سليمان باشا) القوى البدوية، وبعد نهاية العرض قدم لها محمد جوادين هدية منه
بيد أن اللايدي هستر رغم ذلك تصف مصر بأنها مريعة، بأزقة ضيقة، وروائح كريهة، وشوارع متربة
وسافرت لايدي هستر بعد ذلك إلى فلسطين ثم إلى الشام، وهنالك تعرفت بالأمير الشهابي وتوثقت بينهما أواصر الصداقة؛ ثم سارت إلى تدمر حيث أعلنت نفسها ملكة على بعض قبائل البدو، وحصنت قصرها في جبل الياس، والتف حولها كثير من الدروز والنيصرية؛ ولما غزا إبراهيم الشام احترم قصرها ولم يهاجمها، وبلغ حب بعض السوريين لها أن كانوا يعتبرونها شبه قديسة، بل إن بعض الدروز اليوم يضعونها بين آلهتهم(152/68)
وتوفيت تلك المرأة العجيبة في يونيه سنة 1839، ودفنت هناك في روضة بديعة
هذا ملخص الحياة المدهشة التي خاضت غمارها اللايدي هستر ستانهوب، والتي تصفها لنا المس هاسلب في كتابها وصفاً بديعاً شائقاً
وتختتم المؤلفة كتابها بوصف بطلتها بأنها كانت (خاتمة ذوي الشذوذ والأطوار الغريبة في القرن الثامن عشر، وأول الممهدين للحياة الجديدة في القرن التاسع عشر)
العلم والدين
يقول الأستاذ هكسلي في فصل نشره في إحدى المجلات الكبرى إن أصحاب النظريات العقلية في القرن التاسع عشر كانوا على يقين من أن ما يسمونه (النزاع بين العلم والدين) سينتهي حتماً بهزيمة الدين، ولكن تأريخ العصر الحديث أثبت أن هذه النظرية لا أساس لها. ذلك أن العلم لم يهدم الدين، ولكنه نقله فقط من ميدان إلى آخر؛ وقد كان من أخطاء أجدادنا أنهم كانوا يتصورون العلم والدين عدوين يحارب أحدهما الآخر، وأن العلم أمضى أسلحة من الدين، وأنه سيودي غير بعيد بالدين حتى يغدو جثة لا روح فيها؛ وتلك صورة خاطئة. فالعلم والدين ليسا عدوين، ولكنهما قوتان عظيمتان من قوى الطبيعة
إن الإنسان يفكر والله يدبر؛ ولكن المصلحين لم يظفروا بتحقيق المهمة التي رمزوا إلى تحقيقها، وهي القضاء على الأوهام والخرافات التقليدية التي تدخل الدين بغير حق. وقد أحرزوا في هذا السبيل نجاحا محدودا؛ ولكنهم هيئوا بجهودهم ميدانا لأنواع أخرى من العادات والتعصب، ربما كانت أسوأ من الخرافات الأولى؛ فهنالك اليوم من ضروب العبادة القومية والتعصب القومي والجنسي ما لا يقاس في حدته وروعته بتلك العواطف الساذجة التي جهد المصلحون للقضاء عليها
الحفريات الأثرية في فلسطين
تعمل الآن في فلسطين عدة بعثات علمية في الحفريات الأثرية، بعضها يعني بالعصر اليهودي، وبعضها بالعصر الروماني، والبعض الآخر بعصر المسيح. وقد نشرت مجلة المباحث الأثرية الفلسطينية التي تصدرها مطبعة جامعة اكسفورد في عددها الأخير بيانات جامعة عن النتائج الأثرية التي انتهت إليها جهود هذه البعثات؛ ففي بيت لحم، عثر(152/69)
المنقبون تحت كنيسة المهد على آثار كنيسة أخرى أقدم منها، ووجدت بعض آثار للفسيفساء القديمة تحت بلاط الكنيسة الحالية؛ ووجدت أقسام الكنيسة القديمة واضحة، ولكن لم يبق منها سوى بعض جدران متهدمة؛ بيد أن ما وجد من البناء والفسيفساء يكفي لتكوين فكرة حسنة عن هندسة هذه الكنيسة القديمة وطرازها
وكشفت الحفريات في تل حسن بالقرب من أريحا عن كنيسة بيزنطية قديمة قد أزيلت تماماً، ولكن أمكن إعادة معالمها من آثار الفسيفساء التي وجدت؛ وقد كانت على ما يظهر من طراز البازيليكا القديمة، ذات فناء متوسط ورواقين في الجانبين، تفصلهما حنايا معقودة؛ وقد كانت الفسيفساء في حالة حسنة، وهي تشبه تلك التي وجدت تحت بلاط كنيسة المهد؛ ويرى المكتشفون أنها ربما كانت الكنيسة التي خصصت للعذراء مريم، وقام بإصلاحها الإمبراطور يوستنيان حسبما يذكر المؤرخ بروكوبيوس
ووجد هنا وهنالك كثير من الآنية الخزفية؛ وقد أثارت هذه الآنية بين العلماء المكتشفين كثيرا من الجدل، واعتقد بعضهم أنه ظفر من بينها بآنية ترجع إلى عصر حرب طراودة الشهيرة التي نظم عنها هوميروس إلياذته الخالدة
وتجري في نفس الوقت حفريات متعددة في جهة الناصرة، حيث يظن أن المسيح قضى حداثته وشبابه
الإسلام في المجر
يطوف السيد حسين حلمي مفتي بودابست ببلاد الهند لجمع تبرعات تساعد مسلمي المجر على تشييد مسجد ومدرسة لتعليم أولاد المسلمين. وقد نشرت مجلة (الإسلام) التي تصدر بالإنجليزية في سنغافورة حديثا مع الأستاذ راسوليفتس محمد بك سكرتير الجمعية الإسلامية ببودابست عن حالة المسلمين في المجر، فكان مما ذكره أن عدد المسلمين يبلغ الآن زهاء ثلاثة آلاف نسمة ومن المحزن أن حالتهم الاجتماعية في تدهور رغم أن البرلمان المجري اعترف في عام 1916 بالإسلام كدين من أديان الدولة، وأكثر المسلمين في حالة فقر مدقع، وهم في حاجة ماسة إلى عطف العالم الإسلامي واهتمامه بهم. فأولادهم يضطرون إلى التعلم في مدارس المسيحيين والتزوج من بناتهم. ولا يوجد في كافة بلاد المجر مسجد لإقامة الصلاة مع العلم أنه كان في بودابست وحدها 40 مسجدا أيام الدولة العثمانية(152/70)
وتوجد اليوم في بودابست جمعية إسلامية تأسست في عام 1916 باسم (جمعية جول بابا) وقد جعلت مهمتها السعي في بناء مسجد ببودابست ومدرسة لتعليم أولاد المسلمين وتثقيفهم في أصول دينهم، وقد منحتها الحكومة قطعة أرض لتشييد المسجد، لكنها لا تجد المال الكافي للبناء، ومن المؤسف حقاً أن المسلمين يجتمعون لصلاة الجمعة في بهو فندق يستأجرونه خصيصاً لهذه الغاية. أما في الأعياد والمواسم فهم يجتمعون في ضريح ولي مسلم مدفون بأطراف بودابست واسمه (جول بابا)
معهد فني للجنائيات
من أنباء السويد أن معهد الجنائيات الفني الملحق بجامعة ستوكهلم قد افتتح في بنائه الجديد المجهز بأحدث الوسائل والمخترعات الفنية؛ ويقال إنه الآن أحدث معهد جنائي من نوعه إذا استثنينا معهد البوليس البريطاني
وقد كان هذا المعهد حتى اليوم منقسما إلى عدة أقسام؛ ومع ذلك فقد كان يجذب إليه الطلبة والفنيين من كل صوب ليدرسوا في أقسامه المختلفة التي اشتهرت بدقة أبحاثها الفنية؛ وكان يؤمه بالأخص رجال البوليس من السويد والنرويج والدنماركة وفلندة وكذلك بعض رجال البوليس الإنكليزي (اسكتلنديارد) لينتفعوا بتجاربه ومعلوماته
ويدرس الآن في هذا المعهد عدد كبير من المحاميين لدى المحاكم الجنائية وضباط البوليس، وفيه عدا ذلك نحو أربعمائة طالب يدرسون في أقسامه المختلفة طرق مكافحة الجرائم واستكشافها
كشف طبي خطير في علاج البلهارسيا
الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك أستاذ علم الطفيليات بكلية الطب، ومدير معهد الأبحاث بوزارة الصحة، قد عرف بأبحاثه واكتشافاته الطبية العديدة، وامتد الاعتراف بكفاءته إلى الدوائر العلمية الأجنبية، فسجلت اسمه في قائمة العلماء الباحثين
وقد حدث منذ شهرين أن وفد على معهد الأبحاث طفل في التاسعة من عمره مريض بالبلهارسيا، وقام المعهد بعلاجه عن طريق الحقن بمركبات الأنتيمون، وهي الطريقة المتبعة في مثل هذه الحالات، ولكن الطفل عقب تناوله الحقنة الثامنة توفي بغتة، واتضح(152/71)
من تقرير الطبيب الشرعي أن حقن الطفل تم على حسب الأصول الفنية
ولقد شغل هذا الحادث ذهن الدكتور خليل بك، وما زال به اهتمامه وتفكيره حتى اهتدى إلى كشف السر فيه وفي أمثاله من الحوادث، فدعا جمهرة من الأطباء إلى قاعة المحاضرات بكلية الطب لشرح كشفه والمناقشة فيه
وقد انعقد الإجماع على أن هذا الاكتشاف قد وضع أساساً جديداً لعلاج البلهارسيا، وسيكون من أثره:
أولاً - إنقاذ حياة ألفي مصاب بالبلهارسيا يموتون فجأة في كل عام، وقد كانت وفاتهم مبعث حيرة كبيرة بين الأطباء المعالجين والأطباء الشرعيين
ثانياً - ضمان الشفاء لعشرات الآلاف الذين كانوا فيما مضى لا يتمتعون به كلاماً حاسماً في أوجز وقت وبأقل تكاليف
ويقدر عدد المصابين بالبلهارسيا في ريف مصر وصعيدها بعشرة ملايين يتقدم منهم للعلاج سنوياً زهاء مليون ويموت منهم فجأة ألفان تقريباً، ولم يكن في مقدور العلم أن يتكهن بتلك الوفيات الفجائية التي أشرنا إليها، ولا كان في مقدوره ضمان القضاء على الداء الوبيل قضاء مبرماً. أما اليوم فقد توصل الدكتور خليل بك إلى اكتشاف طريقة بسيطة كيميائية تمكن الممرض أو مساعد الطبيب أن يجربها؛ وهي طريقة يعرف بها على وجه التحقيق المسائل الآتية:
1 - هل يفرز المريض أكثر الدواء الذي يعطى له، ولا يمكث في جسمه إلا قليل منه لا يكفي لقتل الديدان المسببة للبلهارسيا، وعلى ذلك يصعب شفاؤه بالجرعة المعتادة؟
2 - هل المريض لا يفرز الدواء مطلقاً، أو يفرزه بمقادير ضئيلة، وعلى ذلك يتراكم في جسمه ويسممه، فيموت فجأة إذا بذل أقل مجهود عضلي؟
3 - هل المريض يفرز الدواء بمقادير عادية، وعلى ذلك يشفى؟ والأكثرية من المرضى من هذا القبيل
وقد أثبت ذلك الاكتشاف أن تقدير الجرعات في علاج البلهارسيا بمركبات الأنتيمون ومنها الفؤادين كان أساسه خاطئاً إذ أن الجرعة كانت تقدر حسب السن أو وزن الجسم من غير مراعاة لتفاوت الأشخاص في سرعة إفراز الدواء ومقدار هذا الإفراز. وليس مجهولاً أن(152/72)
القيمة الشفائية الفعلية لمثل هذه العقاقير لا تتوقف على مقدار ما يدخل الجسم منها فقط، بل تتوقف أيضاً على ما يمكث منها فيه؛ ومن الطبيعي أنه إذا تفاوت الأشخاص في إفراز هذه العقاقير اختلف تأثيرها تبعاً لذلك، وهذا ما أثبته الدكتور خليل بك بتجارب كيميائية أجريت أمام الجمعية الطبية المصرية
ويتلخص الكشف الذي اهتدى إليه الدكتور لتعيين نسبة الإفراز في كل جسم في أخذ تفسرة من بول المريض قبل الحقن لتعرف هل يحتوي البول على مادة مماثلة للمادة التي سيحقن بها أولا؛ ثم يحقن المريض وتؤخذ تفسرة أخرى من بوله بعد نصف ساعة تقدر بخمسة سنتيمترات، ويضاف إليها مثلها من محلول كيميائي مركب من كلور الحديد يضاف إليه نشادر قوي مطهر. فإذا كان في البول إفراز من المادة المحقون بها احمر لونه، وإذا لم يكن هناك إفراز ظل اللون على حاله الطبيعية، ثم تؤخذ تفسرة أخرى بعد ثلاث ساعات وتكرر معها التجربة ذاتها(152/73)
منْ هنا ومنْ هناك
من العلم إلى الأدب
كثير من العلماء هجروا العلم إلى الأدب ولم يستطيعوا الجمع بينهما كما فعل ابن سينا مثلاً حين جمع الأدب إلى الطب والحكمة أو كما فعل الكندي والبيروني
والعصور الحديثة ملأى بأمثلة ذلك
فذلك إبسن الكاتب النرويجي العظيم (1828 - 1906) وواضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث قد نشأ ليكون أول أمره كيميائياً، ولكنه وجد هواه في كتابة الدرامة، فصبأ من الكيمياء إلى الأدب. . . وفرغ له وبرع فيه
وجوته أيضاً كاد يكون عالماً يبحث في الألوان ويضع الأصول للرسم والنحت ويؤلف في الأزهار وفلاحة البساتين، فلما تفتح قلبه للحب قذفت به حبيباته الثماني عشرة إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً يكفي لوصفه أن يقول فيه كارليل (إنه أعظم أدباء العالم) ولم يستثن حتى شاكسبير - وهذه مبالغة لا شك من صاحب كتاب الأبطال
والكاتب الإنجليزي الكبير هـ. ج. ولز هو الآخر، فلقد تعلم الكيمياء في صغره، ثم هجر المدرسة ليكون تاجراً، ولكنه أحس ميلاً ملحاً إلى التعليم، فصارع ظروف الدهر وتصاريفه وانتسب إلى جامعة لندن وكد وكدح حتى نال درجة في العلوم وعين بالفعل أستاذا لعلم الحياة (بيولوجيا) ولبث في منصبه لمدة ثلاث سنوات، ثم شعر بشغف شديد إلى الصحافة، فاعتزل منصبه واحترفها، ثم أيقن أن الله خلقه ليكون أديباً فهجر الصحافة واحترف الأدب، فها هو اليوم أكبر كاتب اجتماعي في العالم وكتبه تطبع بالملايين!!
وكذلك الكاتب الأرلندي المعروف جورج مور، فانه كرس حياته في فجر شبابه ليكون فناناً، وفتنه الرسم والتصوير، ونال فيهما أعلى الدرجات من جامعات لندن وباريس، ولكنه بعد ذلك كله شعر بسحر الأدب ينفث في قلبه، وذلك بتأثير إدمانه قراءة الأديب الفرنسي العظيم أميل زولا فشرع يكتب قصصه الخالدة التي ينهج فيها نهج أستاذه
جوركي وروسيا السوفيتية
اشتهر مكسيم جوركي في جميع أنحاء العالم بأنه أديب الصعاليك، وذلك لأنه يجيد الكتابة عن هذه الفئة إجادة لا يجاريه فيها أحد من الأدباء. وفي الحق أن جوركي يكتب عن الخدم(152/74)
وأوشاب الناس وأبناء الشوارع كأنه واحد منهم، حيَ حياتهم وتخلق بأخلاقهم. وكان الأدب معواناً له على التغلغل في خبايا نفوسهم، فهو يصف لك خلجات العرابيد وقطاع الطرق والقتلة ومن إليهم، فتحس من وصفه أنك تجالسهم وتنغمس فيهم! وكل ذلك بأسلوب أخاذ وعبارة رشيقة، تذكر القارئ بمواطنه البائس دستوئفسكي
وقد كانت الحرب الكبرى وبالاً على جوركي، فلقد ذاق طوالها من ضروب الفاقة والعوز ما كان تصديقاً من الزمان الصارم على ما جاء في كتبه من وصف البؤس وذكر البائسين! ولما وضعت الحرب أوزارها، وقام في روسيا هذا النظام البلشفي العنيف اشتد الفتك بالناس هناك، وذاق الأهلون - ولا سيما الأدباء - ألواناً من الفاقة والعوز تنفطر من هولها القلوب! وذهب أديب إنجلترا الكبير هـ. ج. ولز ليجول جولة في هذه البلاد التاعسة، وحل ضيفاً على صديقه جوركي!!
وكانت حكومة الاتحاد السوفيتي قد أعدت له قصراً من أفخم قصورها لينزل فيه. . . ولكنه آثر القرب من جوركي إعزازاً للصداقة وإيثاراً للأخاء. . . فلما ذهب إلى منزله راعه هذا البؤس الذي خيم في منزل أكبر أدباء العالم، وهالة العوز الشديد الذي كان يعانيه صديقه. . . فما كان منه إلا أن تولى هو النفقة على المنزل طيلة وجوده فيه!
وكان جوركي يلبس أسمالاً لفتت أنظار ولز، فباسطه وسأله إن كان لديه ملابس؟ فتبسم جوركي وذكر أنه لا يملك غير البدلة الممزقة التي يرى! وكان معهما الكاتب الروسي الكبير (أمفيتياتروف) فانتهز هذه الفرصة السانحة وسأل ولز أن ينزل له عن (طقم) من ملابسه حين يعتزم العودة إلى إنجلترا! وقد فعل ولز، فانه أهدى أكثر ملابسه الخارجية إلى جوركي، وأكثر ملابسه الداخلية إلى (أمفيتياتروف)! ولم يفت ولز أن يذكر هذه الوقائع في كتابه عن هذه الرحلة:
ولقد شب جوركي مع البؤس في مهد واحد، فلقد ولد سنة 1868، ثم مات أبوه وهو يحبو على أربع، وكفلته أمه الفلاحة القروية، وعمل خادماً على ظهر سفينة من تلك السفن التي تمخر عباب الفلجا، ثم صار خبازاً فحمالاً فبائع تفاح! وبسم له الحظ فالتحق بوظيفة كتابية في مكتب محام. . . وبرم بالعمل ثمة فهرب إلى جنوب روسيا يذرع الرحب ويطوي الفيافي. . . ثم ظهرت مواهبه فجأة سنة 1892 حين شرع يكتب أول قصصه ويبعث بها(152/75)
إلى المجلات
والعلاقة أكيدة موثقة بين الأدب الروسي والنظام البلشفي، وهو يكاد يكون في صميمه أدب الفقراء. . . ومن هنا اعتزاز حكومة السوفييت بجوركي وغمرها إياه بالهبات والأعطيات حتى لقد كادت حياة الترف تتخمه عن أعز ما هيأته له الحياة ألا وهو أدب الصعاليك!
والمدهش أن يرضى جوركي عن الطاغية ستالين، ويؤلف القصص تحبيذا لسياسته التي هي سياسة تخريب العالم. . . وهذا ما أفقده عطف أعضاء لجنة نوبل، فلم يحظ بجائزتها إلى الآن، مع أنه أحق بها ألف مرة من كثيرين من نكرات الأدباء والأديبات الذين نالوها
وسنفرد قصص جوركي بكلمة خاصة
أدب التراجم
من المؤلم جداً أن يكون التاريخ العربي مليئاً بهذا العدد الوافر من الفلاسفة والعلماء والأدباء ولا تروج كتب التراجم عنهم بيننا، أو لا نجد من أدبائنا من يترجم لواحد منهم مع أن أحدهم جدير بأكثر من كتاب يؤلف عنه
اقرأ هذه الأسماء: الكندي. ابن سينا. ابن رشد. البيروني. ابن منظور. القلقشندي. الأصمعي. ابن أبي أصيبعة. الجاحظ. النويري. . . . . الخ. أفنحن قوم يقدرون تراثهم؟ نحن لا ننكر أن غير واحد من أدبائنا طرق هذا الميدان البكر، ولكننا إذا استثنينا أبا العلاء والغزالي وبن خلدون ورسالات مقتضبة عن الكندي والبهاء زهير والليث بن سعد وجدنا أننا فقراء جداً إلى كتب التراجم
اللغة العربية منذ مائة عام
لما أنشأ المغفور له محمد علي الكبير دار صناعة الإسكندرية لصنع السفن الحربية لم يمض غير قليل حتى صار لمصر أسطول عظيم مرهوب الجانب. وكانت كلما أنزلت إحدى القطع من دار الصناعة إلى البحر أقيمت الحفلات وتبودلت الخطب على نحو ما يجري هذه الأيام في الممالك العظيمة مما نشاهد صوراً منه على الشاشة الفضية في دور السينما. والآن اسمع هذه الكلمات في وصف البارجة (الإسكندرية) عند نزولها إلى البحر: (الوقائع المصرية عدد 340 يناير سنة 1832)(152/76)
(ان الغليون ذا الهيئة السنية، المجلي باسم الاسكندرية، تعريف انشاء آلاته البهية، وعمل أدواته الحربية، ووصف أبعاده الثلاثية، قد تقدم ذكره الشائع، واندرج في سلك السطور والوقائع. والمراد ذكره الآن قطع حبال تعلقاته من القطر البري، ليطير بأجنحة العنقاء في القطر البحري، وقد وافق هذا غرة شعبان المعظم في الساعة الرابعة من النهار، حيث تجلت مشاهد الأنوار. وكان ذلك بحضرة جميع الأمراء والعظماء، وزمرة الصلحاء والعلماء، وقناصل الدول المستأمنين، وقاطبة الأهلين، مع جملة أولادهم الكبار، وعيالهم الصغار، وكانوا لدى ساحة الترسانة الواسعة الأرجاء، منتشرين كنجوم السماء. وأما سعادة أفندينا ولي النعم فانه ركب الفلك بحرا، وهلم جرا، واستصحب بمعيته أحد رجال الدولة العلية. . . . . .)
ومسكينة اللغة العربية في (هلم جرا) التي حشرت هنا حشرا!
والآن، ما رأى الأستاذ الزيات في الطفرة التي طفرتها اللغة العربية في العشرين سنة الأخيرة؟ ألسنا قد شأونا عصر ابن المقفع وأحمد بن يوسف والهمذاني وعبد الحميد الكاتب؟
صمويل بطلر والأسرة الإنجليزية
كانت الأسرة الإنجليزية من قبل العصر الفكتوري إلى أواخر القرن التاسع تشتهر بجمودها وركودها وتقديسها لسلطة الأب تقديساً هو إلى الرجعية أقرب منه إلى الاحترام. فلم تكن لأحد في المنزل إرادة بجانب إرادته، وكانت الأم نفسها خادمة لا أكثر. . . تكدح طول يومها في المطبخ أو المغسل، أو تعد الحطب للمدفأ، وهي في كل ذلك لا تألو جهدا في تلقين الأطفال محبة الوالد، وكبت غرائزهم الثورية كلما بدرت منهم بوادر التململ أو التبرم بهذا التقديس الخانق لسلطة الأب. . . وكان أكبر العبء واقعاً على الفتاة. . فلم يكن يسمح لها بتعرف الحياة ولا تشمم نسيم الحرية المنعشة، وإذا تقدم أحد لخطبتها فما عليها إلا أن تنحني خاضعة لمشيئته
ولقد كان الأدب في العصر الفكتوري، برغم ما فيه من صور حلوة وطرف براقة يساعد على هذا الركود المنزلي، ويضاعف من سلطة الأب؛ ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد ظهر الكاتب النرويجي إبسن فجأة في الميدان؛ وإبسن هو أكبر نصير للمرأة في العصر الحديث؛ فقد ألف أكثر من عشرين درامة لنصرتها والإكبار من وظائفها المدنية التي تعدو(152/77)
الطبخ والغسل والخياطة وتفريخ الأطفال. وقد تأثر الأدباء الإنجليز بإبسن النرويجي وأخذوا ينتهجون منهاجه. وكان الأديبان الكبيران جورج جسنج وصمويل بطلر في مقدمة المتأثرين به. فقد ألف الأول كتابه سنة 1891 وألف الثاني سنة 1903 على ضوء إبسن
وصمويل بطلر هو أستاذ الكاتب الكبير جورج برنردشو. وما يزال شو يفخر بهذه التلمذة إلى اليوم، بل ما يزال يتغنى بمبادئ أستاذه العظيم ويرددها في جميع قصصه. وأهم هذه المبادئ الثورة الصارمة على جمود الأسرة ومنح أعضائها - غير الأب - كل حرية العمل في الحياة؛ فللفتاة أن تتزوج بمن تحب وليس لأبيها أن يحول بينها وبين مثلها العليا، فإذا شاء أن يقسرها على شيء فلها أن تثور عليه وتضرب بإرادته عرض الأفق؛ وللولد كذلك أن يستقل بنفسه عن أبيه، ويعمل وحده، ويقوي شخصيته. وعلى العموم كان يرى وجوب التحلل من مبادئ الطهريين وإطلاق الحرية للفرد. وغلا بطلر في ثورته على الآباء فسب أباه وهجاه فأقذع، وكأنه بذلك أفسح الطريق للشبان فقلبوا الأسرة في إنجلترا رأساً على عقب!
ومع أن نظرية التطور التي بهرت العالم أجمع كانت في عنفوانها في القرن التاسع عشر فقد وقف بطلر في صف المعارضين لها؛ ولكنه لم يقف في صف المتدينين دفاعاً عن الدين، بل وقف يدفع إيمان داروين بهذه المادية البحتة التي يرد إليها كل ما يحدث في هذا العالم من خلق ورقي. وكان يغيظ بطلر ما كان يقول به داروين من تنازع البقاء وبقاء القوى المحتال، فكان بطلر نصيراً للروحيين من العلماء وفي مقدمتهم العالم الفرنسي الكبير هنري برغسون ألد أعداء داروين
صيفية الفلاح
أوشك العام المدرسي أن ينتهي، وسيتبطل التلاميذ أربعة أشهر حتى يعودوا إلى مدارسهم، فلو أنصفوا لصرفوها في تعليم الفلاحين مبادئ القراءة والكتابة. إن في مصر شعباً من الأميين لا يقل عن 85 % من مجموع سكانها، وليس في الدنيا عار أشد من الأمية في هذا العصر الذي نعيش فيه. فلو أن كل تلميذ مصري أخذ على عاتقه أن يعلم فلاحاً مصرياً أو فلاحين في الإجازة الصيفية القادمة لانخفضت نسبة الأمية في وطننا العزيز إلى 80 أو(152/78)
75 % ونكون قد اقتدينا بالهند التي تحاول أن تصلح من شأن المنبوذين وتنتفع بالبقرة!! فهل يفعل التلاميذ؟
د. خ(152/79)
الكتب
شهرزاد في اللغة الفرنسية
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
نوهت (الرسالة) في عددها الماضي بصدور ترجمة فرنسية لرواية شهرزاد للأستاذ توفيق الحكيم. وهذه شهادة ناصعة على مبلغ ازدهار حركة التجديد في مصر وعلى المستقبل المنتظر للأدب المصري بين آداب الأمم
ولما كانت الترجمة مصدرة بكلمة ليست على طراز المقدمات المألوفة بل هي من قلم عضو المجمع الفرنسي المسيو جورج ليكونت تناول فيها الرواية بالتعقيب فأحسن جلاء فكرتها. فانه ليسرنا أن ننشر تعريب هذه المقدمة فيما يلي:
(شهرزاد! لا يتطلبن القارئ تحت هذا الاسم الحالم تلك المناظر المألوفة المعهودة في ألف ليلة وليلة، ولا أبهة الشرق كما أصطلح عليه العرف
طريق قفر. منزل منفرد في جنح الظلام. خيال مخدع الملكة مترائياً في حوض من المرمر: رمال الصحراء. وفي وسط هذه الرسوم الرصينة عن تعمد وقصد تتجلى المأساة الخالدة: مأساة النفس الإنسانية في كل زمان ومكان
هنا شهرزاد، مجردة من بريق عقودها ومن أبرادها المذهبة تتبدا لنا في جوهرها وكنه ذاتها. وما شأن اسمها وسماتها؟ فلتكن لها طلعة امرأة أو طلعة الحظ أو العلم أو المجد، فما هي بعد إلا الذروة اللامعة التي يتطلع إليها طماح الإنسان ويستنفد جهده نحوها؛ هي سراب بقيعة يهيج ظمأه ولا ينقع له غلة؛ هي الملتقى المحتوم يتوافى عنده أبداً تلهف الرجاء وخيبة الأمل على لقاء موجع ووفاء فاجع
(لقد استمتعت بكلِ شيء، وزهدت في كل شيء) بهذا يهتف شهريار. لم يفثأ غليله ولم تطب نفسه بما سفكه من دم العذارى والعبيد، وما ذاقه من سحر ألف ليلة وليلة من ليالي الحب والفتنة قضاها بين ذراعي شهرزاد. لقد استنزف كل شيء من حيث المتعة. والذي يضني نفسه الآن إنما هو ظمأ جديد: (إني براء من الآدمية. لا أريد أن أشعر. أريد أن أعرف)
ومنذ هذه الساعة تطمّ المأساة ويعبّ عبابها، وتنحصر وتستحكم حلقاتها، إلى أن يصبح(152/80)
شهريار وشهرزاد وجهاً لوجه لا يمثلان غير الصراع المحتدم بين لهفة الإنسان وسر الأشياء المطويّ دونه
يسألها شهريار: (من أنت؟ هل تحسبينني أطيق طويلاً هذا الحجاب المسدل بيني وبينك؟)
فتغمغم شهرزاد كالمخاطبة نفسها بهذه الكلمات الخافية المشرقة: (وهل تحسبك - أيها الطفل - لو زال هذا الحجاب تطيق عشرتي لحظة؟)
وليس أصدق من قولها هذا. فان موضع العظمة في قلق الإنسان أنه قلق عضال لا دواء له؛ فضلاً عن أنه قد يكون ضرورياً للإنسان باعتباره مدعاة لاستمراره في البحث والطلب، وعلة لهذه الغريزة التي تحفز كل جيل - بالرغم من هزائمه - على أن يعهد للجيل اللاحق شعاره وهو الأمل
ولقد كان لا بد من شاعر ليقدم في هذا الحيز المحدود على إجمال لإحدى المأساتين العظيمتين للإنسانية؛ ولكنه كان لا بد من شاعر شرقي رقيق الحاشية دقيق الحس كالأستاذ توفيق الحكيم ليعالج صعوبة العمل بهذا الافتنان في التعابير المتراصفة النظم البارعة الوشى
ولا يسعنا أيضاً إلا الثناء الجميل على الأستاذين خضري وموريك بران؛ وكيف لا، وهما قد ترجما إلى اللغة الفرنسية المطبوعة على الوضوح والتعقل عن لغة أخرى جعلت قبل كل شيء للتعبير عن العطور والأشعار والأسرار
عبد الرحمن صدقي(152/81)
في مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به في
الشريعة الإسلامية والقانون المصري الحديث
تأليف الدكتور السعيد مصطفى السعيد
للأستاذ عبد المعتال الصعيدي
أهدى إلي صديقي الدكتور السعيد مصطفى السعيد وكيل النائب العمومي بنيابة الاستئناف كتابه القيم (في مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به في الشريعة الإسلامية والقانون المصري الحديث) وهو رسالته التي نال بها عن جدارة إجازة الدكتوراه في القانون. وقد اقتضت هذه الرسالة منه أن يراجع في موضوعها كتب الفقه في مذاهب أهل السنة، وأهل الظاهر والشيعة، وكتب الأصول والتفسير وغيرها مما يتصل بموضوع رسالته، إلى مراجع أخرى باللغتين الفرنسية والإنجليزية
وهكذا دفع الدكتور السعيد بفكره المثقف بثقافته العصرية في متوننا الأزهرية وشروحها وحواشيها فخرج منها بتلك الدرة الغالية التي جمعت بين نبل القديم وجمال الحديث، في حسن اجتهاد، ودقة نظر، واستيعاب بحث، وتقليب للمسألة على كل وجوهها حتى يقتلها بحثاً من جميع نواحيها الشرعية والقانونية، وهذا إلى استيفاء ما يحب في حسن التأليف من انسجام العبارة ومتانة الأسلوب، وسلامة اللفظ، وحسن الترتيب والتقسيم
وإنها لقوة ذكاء عجيبة يكفي في تقديرها شهادة أستاذ الجليل الشيخ احمد إبراهيم وكيل كلية الحقوق فيما قدم به لرسالته، إذ يقول في ذلك: (وما أشد ما كان موفقاً لفهم نصوص الفقهاء في كتب جميع المذاهب المختلفة المطولة مع غرابة تعبيراتها عن أمثاله لعدم إلفه إياها)
ولم يتقيد المؤلف في رسالته بمذهب معين من المذاهب المتعددة في الشريعة الإسلامية، بل بحث موضوعه في المذاهب المختلفة بقدر ما وسعه جهده، على اعتبار أن هذه المذاهب وإن اختلف بعضها عن بعض في شيء من التفاصيل فأساسها واحد، وغايتها متفقة. وقد كان جهده في ذلك غاية الجهد، وما أظن أحداً يتصدى لموضوعه فيأتي بأوفى مما أتى به فيه، وإني لا أكاد أملك نفسي من السرور حين أجده تنتهي به دراسته لموضوعه إلى هذه الغاية التي لو عمل في سبيلها نظراؤه في كلية الحقوق لكان قضاء مستقل وقانون خاص(152/82)
بنا نباهي به غيرنا من الشعوب. ولندع المؤلف يحدثنا عن هذه الغاية التي وصل إليها في دراسته، قال: (وقد تبين لنا أن تقييد الحقوق الفردية في الشريعة الإسلامية كان أوسع مجالا وأبلغ أثراً مما يحاول الفقه الحديث بنظرية سوء استعمال الحق، وإن هذه النظرية الناشئة لم تبلغ ما بلغته مثيلتها في الفقه الإسلامي منذ مئات السنين؛ وهذا طبيعي، فان النظرية التي تقرب أحكام القانون لقواعد الأخلاق - وكثيراً ما عمل فقهاء القانون الحديث على الفصل بينهما - يتسع لها المجال في تشريع أساسه الدين، وهو يأمر بالعمل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)
ثم قال: (ويجدر بنا أن نختم بحثنا بالإشارة إلى أننا أغنياء بفقهنا عن أن نستعين بغيره من مستحدثات القوانين. وإن الشريعة الإسلامية التي وسعت العالم الإسلامي في أزهى عصوره وقضت حاجة بلادنا من التشريع مئات السنين، لا تقصر عن أن تكون أصلح مصدر للمشروع يأخذ منه أحكام قانون مدني موحد)
وليعذرني القراء بعد هذا إذا أنا سلكت في كتابتي عن هذه الرسالة سبيل التقريظ، فان مؤلفها على ما بلغ فيها من البسط لم يدع فيها مجالاً للانتقاد ولا محلاً للمؤاخذة، اللهم إلا ما ذكره في صفحة - 146 - من انتقاد تفسير الأستاذ الإمام لقوله تعالى (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة؛ ذلك أدنى ألا تعولوا) أي أقرب من عدم الجور والظلم، وقد جعل البعد من الجور سبباً في هذا التشريع، فانتقده المؤلف بأن تأويل آية التعدد يؤدي إلى اعتبار التعدد مباحا في الأصل، ويكون البعد من الجور قيداً لهذا الحق الأصيل، والقيد لا يكون سبباً في تشريع الحق الذي يتقيد به، فانه يمكن أن يحمل كلام الأستاذ الإمام على تشريع الاقتصار على واحدة عند خوف الجور، لا على تشريع التعدد الذي اعتبر البعد من الجور قيداً له
هذا وقد استفدت من قراءة هذه الرسالة أمراً أحب أن أنبه إخواننا الأزهريين إليه ليأخذوا له عدته، فقد رأيت بعد قراءة هذه الرسالة أنا سائرون إلى فتح باب الاجتهاد بخطى سريعة، وأن الأستاذ الجليل الشيخ أحمد إبراهيم إذا ظفر بعدد من التلاميذ النبهاء مثل ما ظفر بتلميذة النابه المجتهد صاحب هذه الرسالة، فانه سيسبقنا بتلاميذه إلى فتح هذا الباب المغلق. ولا يدري إلا الله ماذا يكون إذا تم فتح هذا الباب على يد غيرنا، فلنفكر ولنتدبر.
عبد المتعال الصعيدي(152/83)
العدد 153 - بتاريخ: 08 - 06 - 1936(/)
في النقد
إلى صديقي أحمد أمين
للدكتور طه حسين بك
أخي العزيز:
قرأت فصلك الأخير الذي تناولت فيه النقد فصورت ما رأيت من ضعفه، والتمست له العلل والأسباب. وما أكثر ما يمكن أن يتصل بيني وبينك من الجدل لو أنني وقفت عند هذه القضايا التي أرسلتها إرسالاً، وحكمت بها على النقد قبل عشرين سنة، وعلى الأدب الآن! ولكن الفصل فصل صيف، لا يسمح بالجدل الطويل والحوار المتصل، لأننا مشغولون عن هذا وذاك بما تعلم من أعمالنا اليومية الثقيلة التي يقتضيها آخر النشاط الدراسي وأول هذه الأيام التي يفرغ فيها كل منا لنفسه ودرسه وراحته وراحة من يتصلون به، فلن أجادلك في أكثر هذه القضايا التي لا أكاد أقبل رأيك فيها. ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها لما جادلتك في شيء مما ألممت به في هذا الفصل، ولقرأته كما أقرأ كثيراً مما تكتب مستمعاً دائماً، عارفاً أحياناً، ومنكراً أحياناً، ومتحدثاً إليك بما أعرف من آرائك وما أنكر
نعم لو أني أرسلت نفسي على سجيتها لاكتفيت بما كان بينك وبيني من حديث أول أمس، ولكني مدفوع هذه المرة إلى أن أتجاوز السجية، وأخرج عن العادةالمألوفة، وأرد بعض الأمر إلى نصابه، لأنك تجاوزت فيه ما ينبغي من الأنصاف. وأنا أبرأ إليك من الغرور وأربأ بك عن الجور، وما أشك في أن أمثالي من الكتاب الذين عرضت بهم أو عرضت لهم في فصلك القيم يبرؤون إليك مثلي من الغرور ويربأون بك مثلي عن الجور، ويرون مثلي أنك عرضت لقضية النقد ولقضيتهم هم في النقد عرضاً سريعاً، حظ اللباقة فيه أعظم من حظ التثبت والتدبر والأناة
وأظنك قد عرفت الآن القضية التي أريد أن أجادلك فيها، والمذهب التي أود لو أصرفك عنه. فأنت ترى، أن جماعة النقاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي، أو قيادة الحياة العقلية منذ حين، قد اصطنعوا الشجاعة أول أمرهم، وآثروا الصراحة أو كانت الصراحة لهم خلقا، فكتبوا كما كانوا يرون، وأخذوا بحظوظهم الطبيعة من الحرية؛ لم يحفلوا(153/1)
بالجمهور، ولم يخافوا الرأي العام، ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حساباً. ونشأ عن شجاعتهم تلك، وعن صراحتهم هذه، أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطاً لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية، وألفت الكتب ونشرت المقالات وأذيعت الفصول، وأنتفع الأدب بهذا كله واستفاد النقد. وكل هذا صحيح عندي ولاشك فيه، ولكنك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أوذوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم، فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يعنهم اتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفاً أفلاطونياً لا يشبه ما يجده أمثالهم في أوربا من الأتباع والأولياء، فلانوا ودانوا وجاروا وداروا، وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور، ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بأخوته الكبار وسار سيرتهم، وأصبح النقد مصانعة ومتابعة وأصبح الأدب تملقا وتقليدا.
وهذا أيها الأخ العزيز هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف، وأنكره عليك أعظم الإنكار، يدفعني إلى ذلك أمران: أحدهما أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق؛ والثاني أن رأيك يمسني، وأؤكد لك أنه يحفظني كل الاحفاظ ويؤذيني كل الإيذاء؛ ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما احفظني وآذاني كل ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات. فهل من الحق أن هؤلاء الكتاب الذين تشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن، فمالأوا الجمهور، وصانعوا السلطان وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا؟ أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي وألغت نظامها الحر إلغاء، وفرضت عليها نظاماً أخر مصنوعاً ألغيت فيه كرامة الأفراد والجماعات وتجاوز العبث فيه بالحرية كل حد معقول؟ تعال أيها الأخ العزيز نبحث معاً عن هؤلاء الكتاب أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حد جاروا وداروا وآثروا العافية؟ لست في حاجة إلى أن أسميهم، فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعاً. لم يكن لأكثرهم منصب في الدولة؛ ولعلي كنت من بينهم الوحيد الذي كان يشغل منصباً من المناصب، فلما عصفت العاصفة أقصيت عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعاً إلى حيث كان يجب أن نمضي، واحتملنا جميعاً ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال. فكنا أيها الأخ العزيز ألسنة الساسة وسيوف القادة، والسفراء بينهم وبين الشعب. وكنا سياطاً في(153/2)
أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقاً. وكنت ترى وكان غيرك يرى آثارنا في الظلم والظالمين، وبلاءنا في مقاومة العدوان والمعتدين، وحفاظنا لهذا الشعب الذي لم يكن له قوة إلا قوتنا يومئذ. وكنتم تعجبون منا بذلك وتحمدونه لنا وتؤيدوننا فيه. وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج ونقاوم العواصف نظهر عليها حيناً وتظهر علينا أحياناً، فكان بعض الناس يصفق لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس، ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف. ولست أزعم أني قد استأت بهذا الفضل، فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله. أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ أترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا وإيثار للعافية ومجاراتنا للسلطان؟ أم ترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بالدفاع عن قوم لم يكونوا يدافعون عن أنفسهم لأنهم لم يحسنوا هذا الدفاع أو لم يقدروا عليه أو لم يريدوا أن يتورطوا فيه؟ أليس أول ما يجب على المؤرخ الأدبي وعلى المؤرخ بوجه عام أن يكون منصفاً؟ أترى من الأنصاف أن تزعم أن الذين حفظوا للشعب المصري مظهر مقاومته للظلم وأدوا إليه رسالة ساسته وقادته، وأدوا إلى ساسته وقادته ما كان يضطرب في نفسه من الآمال والأماني، وما كان يثور في قلبه من العواطف، كانوا منهزمين يدارون ويجارون ويؤثرون العافية؟
مهلاً أيها الصديق فقد يفهم من الشعوب قصر الذاكرة، ولكنه لا يفهم من خاصة الناس وقادة الرأي وحفظة التأريخ. والغريب أن رأيك هذا في إخوانك الكتاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد؛ وإنك لتعلم أنهم جميعاً كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار ثم يفرغون لأدبهم آخره؛ وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة، وفي الأدب الخالص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب؛ ومنهم من اتخذ السجن وسيلة إلى هذا الإنتاج؛ ومنهم من لم تصرفه ظلمة الحياة العامة وشدة الحياة الخاصة عن أن يجول في عالم الفن جولات ثم يعود منه ومعه زهرات في الشعر أو في النثر يهديها إليكم لتلهوا بها وتستمعوا بشذاها، وتستعينوا بذلك على المضي في أعمالكم الهادئة المطمئنة.(153/3)
مهلاً أيها الصديق فقد يخيل إلي أن هؤلاء الكتاب أنفسهم لم يهملوا النقد نفسه في ذلك الوقت ولم يقصروا في العناية به؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فأنهم قد نقدوك أنت وتناولوا كتبك بما ينبغي لها من العناية والدرس؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كانوا يفرضون على أنفسهم برغم السياسة وأثقالها وأهوالها، وبرغم الحياة الشاقة التي كانوا يحيونها، والتي عرفت منها شيئاً وغابت عنك منها أشياء؛ كانوا يفرضون على أنفسهم أن يقرءوا ما يظهر من الكتب والدواوين وأن يقولوا رأيهم فيه؛ كانوا يفرضون على أنفسهم صفحة أدبية في الأسبوع يفرغون لها اليوم أو أكثر من اليوم، ويعرضون فيها للنقد كما تحبه وترضاه، ولست أدري كيف نسيت أن المقالات التي كانوا يذيعونها في النقد أثناء هذه الأعوام الأخيرة، قد كانت تثير من الخصومات شيئاً كثيراً، منه ما يثور بينهم هم، ومنه ما يثور بينهم وبين الأدباء الناشئين. ولعلك لم تنس بعد أن خصومة ثارت بيني وبين هيكل حول ثورة الأدب، وأخرى بيني وبين العقاد حول اللاتينية والسكسونية، وثالثة بيني وبين العقاد حول ديوان من دواوينه. فأنت ترى أن إخوانك لم يقصروا ولم يفتروا، ولم يسالم بعضهم بعضا. ولم يأمن بعضهم شر بعض. ولعلك لم تنس أني قد اتخذت الراديو في بعض الأحيان وسيلة من وسائل النقد، فكنت اشتد حيناً على الكتاب الذين استمرت مريرتهم وتم لهم النضج، وأرق حيناً آخر للكتاب الذين لم تستقم لهم الأمور بعد؛ وأنا أفهم أن تطالبنا بالمزيد وألا تكتفي منا بما نعطي، فنحن نطالب أنفسنا بالمزيد ولا نكتفي من أنفسنا بما ننتج، ولكن هذا شيء ووصفنا بالمداراة والمجاراة وإيثار العافية شيء آخر.
وبعد فليس السبيل على الذين أدوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا ومازالوا يؤدونه كما يستطيعون برغم ما يملأ حياتهم من الهموم وما يعترض طريقهم من الشوك، وإنما السبيل على الذين يتاح لهم الهدوء ويستمتعون بالبال الرخي والحياة المستقيمة المطمئنة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أو لا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آرائهم أن يتنكر لهم الناس وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حداد.
إلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تسوق الحديث، وعلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تصب اللوم صباً.
وأخرى لا أريد أن أختم هذا الفصل قبل أن ألم بها إلماماً. فأنت تذكر قوماً قد استووا على(153/4)
عروش الأدب وقد أمن بعضهم بعضاً وخافهم الناشئون، فأنت إذن تعيد الخصومة بين من يسمون الشيوخ ومن يسمون الشباب جذعه. وأظنك توافقني على أن التفكير في هذه الخصومة لا يخلو من بعض الحزن. فقوام هذه الخصومة فيما أعلم أن الأدباء الناشئين ضعاف أثِرُون عجلون، يخيل اليهم أن النقد يمحوهم من سجل الأدباء محواً، مع أن النقد يثبتهم فيه إثباتاً. يريدون أن يبلغوا بالجهد اليسير ما بلغه أسلافهم بالمطاولة والمحاولة واحتمال الأذى وكثرة القراءة والدرس، ويريدون أن يتم لهم ذلك ما بين طرفة عين وانتباهتها كما يقول القائل؛ وفيهم كبرياء لا تخلو من سخف، ومن سخف يذكر بأخلاق الأطفال؛ فهم إن كتبوا رأوا لأنفسهم العصمة، ولم ينتظروا من النقاد إلا ثناء وحمداً. فأن أدركهم بعض النقاد قالوا: حسد وتكبر واضطهاد وأثرة وتثبيط للهمم. وفيهم غرور يخيل إلى كل واحد منهم أنه ممتاز من أترابه جميعاً. ومهما أنس فلم أنسى كاتباً أضاع مودة وصداقة حباً وعطفاً لا لشيء إلا لأني جمعت بينه وبين كاتب من معاصريه في فصل واحد، وكان ينبغي أن يمتاز في رأيه، وإلا لأني دعوته إلى أن يستزيد من القراءة فعد هذا إسرافاً واعتداء.
أمام هذا الجيل الرخو من الأدباء الناشئين يضيق الناقد المخلص بالنقد ويزهد فيه ويصد عنه صدوداً في بعض الأحيان، ولكنه لا يلبث أن يرى حق الأدب عليه فيستقبل من أمره ما أستدبر، ويثني على قوم وهو يعلم أن ثناءه سيملؤهم غروراً وسيخرجهم على أطوارهم، ويعيب قوماً وهو يعلم أن عيبه إياهم سيدفعهم إلى اليأس إن كانوا أخياراً، وسيدفعهم إلى القحة إن كانوا أشراراً.
ونحن برغم هذا بل من أجل هذا نمضي في طريقنا لا نقف كما يظن بعض الناس، ولا نرجع كما تظن أنت أيها الصديق، لأنك في أكبر الظن قد لا تتابعنا أحياناً، وقد تطلب منا ما نطلب من أنفسنا وتحول ظروف حياتنا بيننا وبينه.
أما بعد، فأني أحب أن أؤكد لك أني أنا خاصة ما زلت عند رأيك القديم في، صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة، جريئاً إلى أقصى حدود الجرأة، مستعداً في هذا العالم إلى أن استأنف ما فعلت منذ عشر سنين، وإلى أن أستأنف ما فعلت منذ أربع سنين. وإني لشديد الأسف أن كانت ثقة الأستاذ كراتشكوفسكي بي أقوى وأشد من ثقتك أنت، فأنه لم يتردد في(153/5)
مقدمة ترجمته للأيام أن يتنبأ بأن ما عرض لي من الخطوب ليس كل شيء، وأنه ينتظر أن يعرض لي مثله، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها فلا تتعجل، فمن يدري؟
وأنا أرجو بعد هذا كله أن تتلقى هذا الفصل بصدر رحب، فأني أهديه إليك تحية صديق يضمر لك اصدق الحب وأوفاه.
طه حسين(153/6)
ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ عبد القادر المازني
- 1 -
(ملاحظة - الكلام ليس شخصياً وأن كان بلسان المتكلم، وذات
الثوب المذكورة هنا لاوجود لها في الخيال)
لم يكن الأرجواني ثوبها الوحيد - وكيف يمكن أن يكون؟ - ولا كان كل ما تلبس حين تبرز، ولكنه كان أحلى ما تكتسي وأشبهه بخديها - في رأى العين، وفي إحساس القلب أيضا ً - وقد رأيتها في ثياب شتى وأردية متنوعة - في الشفوف والأفواف، وفي السبائب المضلعة، والمطارف المربعة، وفيما عليه من الخطوط كأفاويق السهم، ومن النقوش كهيئة الطير، ومن الصور كرسم العيون، وفي الأبيض والأخضر والأزرق، ولكنه لم يقع من نفس شيء من هذا كله كموقع هذا الثوب الأرجواني الذي لا نقش فيه ولا صور ولا ترابيع ولا تداوير ولا تضاليع ولا خطوط ولا وشي ولا نمنمة. ومن العسير أن يعلل المرء هذا الشعور بوقع ثوب معين؛ وأحسب أني لو قلت ما يجول في خاطري ساعة أراها بادية فيه - أو مجلوة على الأصح - لظنني القارئ عربيداً مستهتكا، وما أنا من هذا في قليل ولا كثير. وليصدق القارئ أو لا يصدق، فما يعنيني ماذا يظن بي. وقديماً قلت - أيام كنت أقول الشعر:
قد أفعل الشيء لا أبغي به أملا ... ولا أبالي الورى ماذا يقولونا
هي ضميري - فأن أرضيته فعلى ... رأي العباد سلام المستخفينا
ومازلت كما كنت يوم قلت هذا، بل لعلي أسرفت في قلة المبالاة، حتى صرت إلى الاستخفاف المطلق.
ولأرجع إلى ذات الثوب الأرجواني، فأنها أحق بالكلام وأولى به مني، وكم قلت لنفسي وأنا أراعيها: (بأي شيء يا ترى يمكن أن تتوسل إلى مثلها؟. . . لا أنت جميل ولا محتمل. . . ولا لك مال. . . ولا في رأسك هذا عقل. . . أو ليس لو كنت تعقل أما كنت حرياً بالانصراف عن هذا العبث؟. . . ماذا ترجو منها؟. . . إنها دونك سناً، وأنت دونها في كل(153/7)
شيء. . . فلا خير فيك لها أو لمثلها)
ثم أعود فأقول لنفسي: (عن أي شيء تتكلم يا هذا؟. . . الجمال؟. . . سبحان الله العظيم! إن الجمال هو سلاح المرأة، فحظها منه ينبغي أن يكون موفوراً، وإلا زهد فيها الرجال، إذ كان لا مزية لها في غير ذلك. . . ولكن الرجل شيء آخر، وسلاحه في الحياة قوته وقدرته على الكفاح. . . لا هذه الأصباغ والألوان التي لا تلبث أن تحول. . فدع الجمال، فأنه شيء يطلب في المرأة ولا يطلب في الرجل. . . وماذا غيره؟. . . إنك غير محتمل؟؟. . لماذا بالله؟؟ لماذا تظلم نفسك وتبخسها هذا البخس؟. . ومع ذلك هذا شيء يترك لتقدير الغير ولا يجوز أن تكون أنت الحكم فيه. . . يعني ماذا؟. . . أتراني أهرب بهذه السفسطة من التقدير؟. . . لا. . . ولكن ينقصني أن أعرف الرجل الذي يستحيل أن يهتدي إلى امرأة تحبه، مهما بلغ من رأي الرجال فيه أو من سوء رأيه هو في نفسه. . . أو لم تسمع بالمثل القائل: (كل فوله لها كيال؟)، ألسنا نقول ذلك كلما رأينا رجلاً ثقيلاً تحبه امرأة جميلة كانت تستطيع أن تجد ألف عاشق لها غير هذا الجلف أو السمج، أو ما شئت غير ذلك من الأوصاف التي لا تهون على النفس؟ ومع ذلك هذه مبالغة، فما أنا بحيث أحتاج إلى التعزي بأن كل فولة لها كيال. . . أعوذ بالله. . . بقي المال والعقل. . . والكلام في هذا كلام فارغ. . . فليس من الضروري أن يكون المرء نداً لروتشيلد لكي تحبه المرأة مهما بلغ من جمالها. وليت من يدري بماذا فاز روتشيلد من حب الجميلات في حياته؟ ومتى كان المال يشتري الحب؟ كذلك ليس من الضروري أن يكون المرء سقراطا أو غيره من أصحاب العقول الضخمة ليكون محبوباً. . ومع ذلك سل سقراط عن تعذيب امرأته له، وتنغيصها حياته، وتسويدها عيشه!. . . ماذا ترى تفعة عقله وفلسفته؟. . . لا يا سيدي! الحب شيء لا ضابط له إلا تقدير المرأة للرجل الذي تحس بغريزتها أنه أصلح لها من سواه؛ وقد تكون مخطئة، ولكن هذا هو العامل الموجه لها في اختيارها. . . إذن هناك أمل؟. . . بالطبع!. . . ما هذه الحمارية!. . . إنها ولاشك عادة التفكير الطويل في كل أمر. . . وهي عادة تضعف الثقة بالنفس، وتفقدها الشجاعة اللازمة للأقدام)
ودارت في نفسي كلمة الأقدام بعد أن نطقت بها - في سري، وهل أنا مجنون لأتكلم بصوت عال يسمعه من في البيت فتكون النتيجة أن يخربوا بيتي؟ - فلم يسعني إلا أن(153/8)
أسأل نفسي: (الأقدام على أي شيء؟. . هذه فتاة أراها - وتراني هي أيضاً فما يسعها إلا أن ترى، أعني تراني - ومن طول ما اعتدت أن أراها صرت أحس أنها أصبحت تشغل مكاناً في نفسي. . مغالطة!!. كأن كل الذنب في حبها أني رأيتها مراراً. . ولولا ذلك لما حفلت نفسي بها!؟! أهذا ما أريد أن أقوله أو أدعيه؟؟. لا يا سيدي!. . يحسن مادمت أناجي نفسي أن أكون صريحاً معها وإلا فما الفرق بين نجوى النفس ومحادثة الأغراب؟؟. وأعود إلى الأقدام. . وأسأل عن أي شيء؟. . على أي شيء؟؟ أو ليس الأمر بديهياً؟. تشير أليها. . تظهر لها هذا الحب. . كيف بالله تريد منها أن تعرف أنك تحبها وأنك تروم أن تبادلها هذا الحب؟! (تشم على ظهر يدها) كما يقول المثل العامي؟؟. حسن. . وصحيح هذا بلا شك، ولكن ألا يمكن أن تعرف من نظرة العين وحدها؟؟ بلى!. وإن للمرأة قدرة على الإحساس بشعور الرجال نحوها، ولو كان بينهم وبينها ألف سور وسور. . . ما هذه المبالغة؟. مبالغة؟! ألم أسأل امرأة هذا السؤال فكان جوابها أني أكون سائرة في الطريق فاشعر بنوع النظرة التي يرميني بها من يتفتق أن يكون سائراً خلفي؟. فإذا أسقطنا المبالغة من هذا الكلام كان مؤداه أن المرأة يسعها أن تدرك أتحبها أو لا تحبها من نظرة عينك؟. بل هذا يسع أي إنسان لا المرأة وحدها. . . ولكن إذا اكتفينا بالنظر ودلالته، فماذا يكون بعد ذلك؟! هل تروم منها أن تبدأك هي بالكلام وتقول لك: (يا سيدي أنك أعرف أنك تحبني فأنا أشكرك على تشريفي بهذا الحب الذي لا أستحقه، وأؤكد لك أني لست أهلاً لحب رجل عظيم مثلك؟ سبحان الله العظيم. . ما هذا البرود؟. إن الرجل حين يحب امرأة يكون معنى هذا أنه يريد أن يستولي عليها - هذا إذا كان رجلاً عادياً سليماً لا مريضاً - والرغبة في الاستيلاء تجعل من واجبه هو أن يسعى للتغلب على ما عسى أن يكون هناك من مقاومة، وليس ثم فرق بين غزو قلب وغزو مدينة؛ والحقيقة الجوهرية في كلتا الحالتين واحدة، وإن اختلفت المظاهر؛ وكما أن هناك مدناً لا يكاد الجيش يزحف عليها حتى تسرع إلى التسليم، كذلك تجد قلوباً لا تكاد العين تفوق إليها سهما حتى تذعن وتفتح بابه. غير أن هنالك قلوباً لا يسهل إخضاعها ولا بد من الكر عليها، وليست كل امرأة ككل امرأة، فالذي يجدي مع هذه لا يجدي مه تلك لتفاوت الأمزجة واختلاف الطباع؛ وما أظن صاحبتنا ذات الثوب الأرجواني بالعسيرة، وإن لي لمعواناً عليها من شبابها وغرارتها ومن حياة العزلة(153/9)
والحرمان التي تحياها. والشباب هو زمن الفورة والاضطرام في العواطف، والحرمان والعزلة يجعلان العواطف الطبيعية أشد استعداداً للاضطرام السريع والتسعر لأقل اتصال. وهل طبيعي ألا تعرف الحياة فتاة في عنفوان صباها إلا من النافذة وإلا من كتاب - أو رواية - تقرأه وهي في الشرفة؟. ماذا تعرف عن هذه الحياة؟. وماذا خبرت من أحوال الناس وأساليبهم؟. كيف تستطيع أن تقاوم ما تهدد به؟ بل كيف تعرف أنها مهددة بشيء حتى تفكر في المقاومة؟؟ هذه هي في الشرفة واقفة تنظر من هذا الارتفاع الذي لا يمكن أن تستبين منه شيئاً. . . لماذا تلبس هذا الثوب الأرجواني الأنيق الذي يبدي للعين خطوط جسمها جميعاً وانحناءاته كلها ويجلو مفاتنها ولا يحجب شيئاً منها؟. . أليست تلبسه لتبدو فيه كأجمل ما تكون وفي أفتن صورة؟. . تعرض محاسنها هذا العرض البديع ولا تجد في مكانها العالي هذا من يقدرها!!. والناس لا يشعرون بالحرمان منها لأن غيرها في الدنيا كثيرات. . . ولكن هي. . . هي. . . أليس المعقول - وهي تنظر إلى الرائحين والرائحات والغادين والغاديات - أن تشعر شعوراً حاداً بما هو مكتوب عليها من الحرمان؟. . ومع هذا الشعور المستمر ماذا تقدر أن تكون النتيجة إذا أتفق أن اتصلت أسبابها أو هي اتصال بأسباب رجل يصفو بوده إليها وتأنس هي منه هذا الميل؟. يخفق قلبها على الرغم منها. . وتلفي نفسها معنية بهذا الرجل الذي يوليها العناية التي حرمتها في حياتها، ويظهر لها الحب الذي لا يستطيع أن يظهره لها أخوها أو أبوها لأنه من نوع آخر، ولا يغني عنه حب الأم والأخت ومن إليهما. . وتشغل خواطرها بالتفكير في هذا الإنسان لا يفتأ ينظر إليها وفي عينيه نور الحب. . . وقد يكون كاذباً أو مخادعاً، ولكنها لا تستطيع أن تعرف هذا لأنها غريرة لم تجرب الناس ولم تعرف الحياة إلا من نافذة بيتها. . . فتراها تبدو في حفل من الزينة - ولم تكن تعني بأمر زينتها كل هذه العناية - وتكون واقفة مع صاحبها لها تحدثها فتتحول عينها إليك وتخالسك النظر. . . ويكون الكلام عادياً جداً لا يستدعي كل هذه الحركة ولا يستوجب هذه الضحكات المتوالية التي يميل لها الجسم كل مميل. . . ولا تزال وهي تتكلم تهز رأسها وتسوي شعرها بيديها وتخرج وتدخل ولا شيء هنالك تدخل له، ولكنه الشعور المتقد القلق، والعواطف المشبوبة لأنها محبوسة تريد أن تنفجر من طوال الكبت. . . وهذا الدبوس التي تشيله وتحطه لم يكن قلقاً في موضعه من(153/10)
شعرها ولكن نفسها هي القلقة، فيدها لا تهدأ ولا تسكن ولا تستطيع أن تكف عن الحركة. . . وهذا الثوب الجديد الذي لم يفصل والذي تنشره في الشرفة لزائرتها كان في وسعها أن تعرضه عليها في الغرفة ولكنها حركة عصبية تشي بالاضطراب النفسي. . . وهذا النبات الذي اتصل بعضه ببعض على جانب الشرفة والذي يحجب من فيها عن عيون الجيران هل تظنه أنه يحتاج إلى تسوية؟. لا. ولكن يدها مع ذلك لا تزال وأنت ناظر إليها تعبث بأوراقه النضيرة وقد تنظر إليك عن عرض وهي تفعل ذلك. . . ولا تحسب أنها تغازلك فما تفعل شيئاً من ذلك ولكنه لا يسعها إلا أن تنظر إليك خلسة من حين إلى حين، لأنه يسرها أن تراك ناظراً إليها وأن تعلم أنك مشغول بها حتى ولو أبدت الضجر من ذلك أحياناً. وإذا لم ينظر الرجل إلى المرأة فماذا يكون مصيرها؟. وماذا عسى أن تصنع بنفسها!. .
وهي تغيب عنك وتحتجب - يوماً كاملاً أو ساعات - لظنها أن احتجابها يسعر النار التي في صدرك ويرقى بألسنة اللهيب إلى السماء. وهي تقضي على نفسها بهذا الاحتجاب وخواطرها كلها معك وان كانت تكلم أمها وأخاها وأباها كأنما خلت بها الملهيات الحاضرة التافهة عن كل ذكر لك. وليست المرأة بشيء إذا لم تكن قادرة على هذه المخادعة البريئة. والشرفة الأخرى ليست في جانب غير هذا من البيت، بل الاثنتان على صف واحد، وليست إحداهما بأوسع أو آنق أو أحلى، ولكنها تنتقل من هذه إلى تلك لغير حكمة ظاهرة، إلا أنها تريد أن تفهمك أنها لا تحب أن تراها ولا ترتاح لطول تحديقك فيها. . وليس هذا بصحيح، ولكن المرأة هكذا أبدا. . . وتجلس في الشرفة على الكرسي وفي يدها الكتاب وتتعمد أن توليك ظهرها وأن تجعل وجهها إلى ناحية أخرى لتوهمك أنها غير راغبة فيما ترميها به من النظرات. . . ولا تقرأ شيئاً لأنها لا تقلب الصفحة إذ كان عقلها مشغولاً بك وهل لا تزال واقفاً؟. وهل تراك تنظر إلى غيرها؟. وهل أنت ضاحك أو عابس؟. وماذا كان وقع هذا الأعراض في نفسك؟. هل آلمك جداً؟. هل أغضبك؟. أو زادك تعلقاً بها وإقبالاً عليها؟. وتمد ساقها وتهزها لتلفت نظرك إلى جمالها. وتنهض واقفة وتنحني لتضع الكتاب على كرسي ثم تخرج من الشرفة - لا لحاجة - بل لتريك خط ظهرها وبراعته وفتنته. . . وترفع رأسها قليلاً - وعلى مهل - حتى تحاذي عينها حافة الشرفة لتنظر أباق(153/11)
أنت أم مللت وذهبت؟؟. وتراك تتهيأ للخروج فتختفي وعينها عليك من وراء الأستار - وفي ظنها أنك لا تفطن إلى ذلك - فإذا انحدرت إلى الشارع برزت في الشرفة لتلقي عليك نظرة أخيرة. . . ويجيء الليل فتجلس في الظلام وأنت في النور لتراك ولا تراها. . وإذا جاء وقت النوم أغلقت باب الشرفة بعنف لا تدعو إليه أي ضرورة سوى أنها تريد أن تؤذنك بذلك.
هذه حياة المسكينة وهذا ما يحوجها إليه ما هي فيه من العزلة والحرمان الدائم. وأي قدرة لمثلها أو عسر يمكن أن يكون فيها الأعسر السجن. . . كان الله في عونها فأني أراني أعطف عليها وأرثي لها في محنتها هذه أكثر مما أراني أحبها. وسلام عليها.
إبراهيم عبد القادر المازني(153/12)
المغالطة في الوسائل والغايات
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كل إنسان ظالم في أمر واحد أو أكثر من أمور الحياة، فأن المرء قد تميل به رغائب نفسه وحاجاتها وشعورها حتى يحسب غايته الدنيئة، ومقصده الوضيع، ورغبته الخسيسة، غاية عالية، ومقصداً نبيلاً، ورغبة شريفة؛ وأساسها لو فطن له الغرور والإعجاب بالنفس، أو محاولة إخفاء نقائصها، أو محاولة كسب الجاه، أو المنفعة من حساب غيره، ومتى تهيأ له قبول الغاية الدنيئة، كأنها غاية نبيلة سهل عليه أن يغالط نفسه مغالطة أخرى فيزعم، أن الغاية النبيلة تزكي الواسطة الدنيئة.
ولا تجد بين الناس من لا يغالط هذه المغالطة أيضاً في أمر واحد أو أكثر من أمر واحد من أمور الحياة.
وهذه المغالطة مزدوجة تجعل المرء يزكى الواسطة الدنيئة بالغاية الدنيئة، لأنة أولاً غالط نفسه فحسب الغاية الدنيئة غير دنيئة، ثم غالط نفسه وحسب هذه الغاية تبرر الواسطة الدنيئة؛ وقد يغالط المرء نفسه مغالطة ثالثة، فيحسب الواسطة الدنيئة، نبيلة، وهذا من قبيل الاحتياط إذا لم يستطع أن يزكي عمله لدى الناس بمبدأ تبرير الواسطة بالغاية.
وهذه المغالطات الثلاث تصل بالمرء إلى حالة نفسية يرى فيها أنه يحاول بلوغ الغاية بالوسيلة النبيلة، وهو إنما يحاول بلوغ الغاية الدنيئة بالوسيلة الدنيئة. وقلما يفطن الناس إلى هذه المغالطات في أنفسهم، وقد يعمون عنها في نفوس معاشريهم، فالمرء قد يكون مدفوعاً في سلوكه بما ركب من طبائع الشر، أو لأنه يمني نفسه أن في قوله أو عمله منفعة لنفسه، أو لأنه يرى فيهما إعلاء لنفسه ولرغبته في الظهور بمظهر الغيرة على الخير والحق ومظهر كره الباطل والشر أو لسبب أخر من أسباب عديدة متنوعة، ولكنه لا يزال يروض نفسه حتى يصرفها عن الأسباب الحقيقة وحتى تعتقد نبل غايتها ومقصدها، وأن مطلبها الحق أو الفضيلة أو الخير أو الدين، وقلما تجد في الناس من يعجز عن أن يقنع نفسه أنه إنما يعادي أو يصادق من أجل هذه المطالب النبيلة الشريفة، فإذا اقتنعت سهل عليها أن تتخذ الوسائل الدنيئة لمحاربة من ترى في محاربته ظاهرة انتصار منها لهذه المطالب، فتتخذ من وسائلها النميمة والكذب واستثارة الأحقاد بالنميمة والغيبة والكذب، وكل(153/13)
هذه وسائل دنيئة، وتحيل النفس على المبدأ المعروف الذي يقول أصحابه الغاية تبرر الواسطة، فتكون الثقة بالنفس قد خطت خطوتين في المغالطة والإيهام: الأولى تحويلها الغاية الدنيئة إلى غاية نبيلة، وهذه خطوة خطتها كي تخطو الخطوة الثانية، وهي اعتناق مذهب المبررين للواسطة بنبل الغاية، ولو أصبح هذا المذهب عقيدة عامة مقدسة لانهارت أركان الديانات وتفككت عن النفوس عرى الفضائل وانحلت قيودها وتسفلت النفوس، ولكن النفوس تأخذ بهذا المبدأ عملياً وفي خفية أو تبثه بطريق الإيحاء وهو من أسباب تحول النفوس عن الخير والفضيلة حتى على خفاء العمل به والاحتيال لتزكيته بوسائل النفوس الجشعة المتعطشة للمكاسب كما هي نفوس أكثر الناس في أحوال كثيرة
وأحسب أنه لولا المغالطة الأولى أي الوهم الذي يقلب الغاية الوضيعة ويجعلها غاية شريفة لما كثر أخذ الناس بالمبدأ الذي يبرر الواسطة بالغاية النبيلة، إذ أن تلك المغالطة الأولى هي الأساس الذي يبنى عليه هذا المبدأ في كثير من الأحوال والذي يبيح للناس كل وسائل الشر فيواقعونها وهم يحسبون أنهم على خير وإلى خير وفضل.
وإذا تتبعت غايات الناس في مساعيهم المختلفة وجدت أن كلاً منهم مهما سفلت غايته يزكيها ويرفع من شأنها ويلبسها لباس الفضيلة أمام نفسه وأمام الناس، وهو يفعل ذلك إذا كانت غايته وضيعة أكثر مما يفعل إذا كانت غايته رفيعة، لأن الغاية الرفيعة ليست في حاجة إلى كل هذا الجهد، وعلى قدر شعور المرء بحقارة غايته تكون رغبته في مغالطة نفسه، وعلى قدر تسفل تلك الغاية يكون غيظه وحنقه ممن يطلعه أو يطلع الناس على حقيقة غايته وأسبابه التي يخفيها. ومن العجيب أنه يحاول أن يستفيد أيضاً من هذا الغيظ الذي سببه الأنانية فيظهره بمظهر الغضب للحق أو الفضل أو الخير أو الدين ولا يزال بنفسه حتى يقنعها أن غيظها ليس غيظ الأناني المحنق الذي أطلع أو كاد أن يطلع أو يخشى أن يطلع الناس على دناءة غايته أو وسائله فيوهمهما أنه غيظ مقدس نبيل وغضب شريف، وهي إذا اقتنعت واعتقدت ذلك سهل عليها إقناع الناس بما اقتنعت به من باطل، وهنا منشأوهم كبير يقع فيه الناس، فأنهم إذا أبصروا إنساناً عظيم التأثير في الناس تعديهم شدة اعتقاده واقتناعه حكموا أنه على حق، ولا سيما إذا كان الحاكم هذا الحكم قليل الخبرة بالنفس الإنسانية، فإذا زادت خبرته بالنفس علم أن شدة اعتقاد الإنسان وعظم اعتناقه وما(153/14)
ينشأ عنهما من عدوى تؤدي إلى شدة اعتقاد الناس وعظم اقتناعهم لا يدل على أن هذا الإنسان على حق فيما يعتقد وفيما أعدى الناس اقتناعه به، ولكنها سنة مألوفة لدى الباحث في النفس وهي أن الإحساس الشديد ينتقل كالعدوى لشدته وكذلك الاقتناع العظيم ينتقل من نفس إلى نفس كالعدوى لعظمه لا لصوابه، ولما كان الاقتناع المؤسس على الحقد أو الأنانية شديداً لأنه مؤسس على إحساس شديد وهو الحقد أو الأنانية، سهل انتقاله إلى نفوس الناس شأن كل اقتناع مؤسس على إحساس شيء شديد آخر، وأحسب أن الناس معذورون بعض العذر في هذه المغالطات النفسية وفي بعض هذا الغيظ والحنق إذا كشف كاشف عن تسفل غاياتهم أو وسائلهم لأنه إذا أتيح لأكثر الناس فهم حقارة غاياتهم ووسائلهم والتأثر بهذا الفهم والتألم من أجل تلك الحقارة ضاعت ثقتهم بأنفسهم وضاعت ثقة الناس بهم واعتراهم الضعف في معالجة أمور الحياة ومعالجة مطالبهم فيها ولا مراء أن بعض هذه النتائج محمود إذا بلغت بهم منزلة القصد والعدل والحق ولم تنحدر بهم إلى منزلة الضعف والعجز ولم تنل من عزائمهم كل منال، ولكن الناس يعرفون أن نفوسهم قلما تنتقل من إحساس إلى إحساس إلا من نقيض إلى نقيض مثل رقاص الساعة فمن فعل إلى رد فعل، ومن رأي إلى نقيضه ومن شعور إلى عكسه فتغيرهم النفسي يختلف عن تغير أمور الطبيعة. ومن أجل ذلك ترى أن الناس في حياتهم وتأريخهم يسبقون سنة التغير في الطبيعة فيحدث رد فعل ورجعة في أمورهم كي يرجعوا إلى ما يناسب تغير أمور الطبيعة، وهذا هو سبب كثرة ما يشاهد من فترات الرجعة ورد الفعل في تأريخ البشر وفي حياتهم.
وهذه الطفرة في إحساس النفس مشاهدة بصفة خاصة في العامة والصغار والجهلة والقليلي المدنية أكثر من مشاهدة الباحث لها في خاصة والكبار والمتعلمين والكثيري المدنية. ومن أجل تردد النفس بين الإحساس ونقيضه يخشى الناس على عزيمتهم في الحياة ويخشون النتائج التي يأتي بها إطلاعهم على حقيقة غاياتهم ووسائلهم ويخشون أن يعرفوا ضعتها بعد اعتقادهم نبلها فهذا أمر يفاجئهم مفاجأة قد تحدث هزة في النفس وهذه الخشية تزيد غيظهم وحنقهم فيدفعون بالغيظ ذعرهم من أن تنأى بهم ضعة غاياتهم عن عزائم النجاح ومساعيه، وهم يخشون الفشل والضيعة، وما قد يكون فيهما من الذل أو فقدان وسائل الحياة نفسها؛ ولا شيء يدعو إلى القسوة مثل ذعر المرء إذا خشي أن يفقد وسائل الحياة على اختلاف(153/15)
منافعها بفقد اعتقاده نبل غايته ووسائله حتى ولو كان فقده وسائل الحياة من أجل ذلك بعيد الاحتمال.
ولكن كثيراً ما يحصن المرء ضعة غايته ووسائله بما يعتقد الناس فيه وما يعتقد هو في نفسه من الفضل والجاه والنبل والصدق، ولا تخلو نفس من شيء من هذه الصفات قل أو كثر، وكلما كثر نصيب المرء من هذه الصفات كثرة حصانة غاياته ووسائله، ومن أجل ذلك ترى الرجل الذي يعتقد الناس فيه هذه الصفات أقدر على مغالطة الناس ومغالطة نفسه فتسهل هذه المغالطة بما له عند نفسه وعند الناس من ثقة بنصيبه من هذه الصفات، وهذا الرجل أشد خطراً على الحق والخير وإذا غالط نفسه، أو غالط الناس لأنه يسهل تصديقه والاقتداء به ولا يحسب أحد أن له غاية حقيرة أو وسيلة دنيئة بجانب ما في نفسه من صفات الفضل والصدق والحق أو بجانب ما اكتسب من جاه وثقة
وكما أنه يسهل أن تحول الغاية الدنيئة غاية رفيعة نبيلة وأن تعتقد أن تلك الغاية التي صارت نبيلة في نظرها تبرر الواسطة الوضيعة يسهل أيضاً أن تستغني النفس عن الخطوة الثانية، وهي تبرير الواسطة الوضيعة أو تحويلها إلى واسطة نبيلة وإبرازها للناس كأنها واسطة شريفة سامية بدل تبريرها بالغاية والمقصد، وهذا من شدة احتياط النفس عند من قد يرفض ذلك التبرير ويأبى تلك التزكية، ونظرة من الباحث المتقصي وسائل الناس تدل على أنهم يتعامون عن ضعة وسائلهم ويغالون في إبرازها في حلة الوسائل السامية وإنما الخلاف بينهم في تزكية كل منهم وسائله واتهام وسائل غيره. وقد يعرض للباحث سؤالان هما هل يتاح للإنسان عصر يكثر فيه من بحث نفسه وتقصى حقائقها؟ وهل يرفع هذا التقصي من نفس الإنسان؟؟ أحسب أن هذا لا يكون مادام ذعره خشية فقدانه وسائل الحياة على اختلاف أنواعها واقعاً محذوراً.
عبد الرحمن شكري(153/16)
المأساة الفلسطينية
لباحث دبلوماسي كبير
أجل لم تعد قضية فلسطين مسألة من مسائل الاستعمار والسياسة، ولكنها تغدو مأساة حقيقية.
مضت إلى اليوم عدة أسابيع، وفلسطين تجوز أحداثاً هائلة: أهوال الإضراب والمقاومة السلبية، وأهوال القوة الغاشمة تميل عليها وتنكل بها من كل صوب، وتحاول إخماد أصواتها وأنفاسها بكل وسيلة، وتعمل على تجريدها من كل وسائل الأعراب والمقاومة؛ والسياسة المتجنية تشهد آلام شعب بأسره هادئة جامدة، لا تحركها صرخات الألم، ولا إزهاق الأنفس وإهراق الدماء، بل تؤكد هادئة أنها لن تحاول بديلا لخطتها، وأنها ستمضي فيها إلى النهاية غير مكترثة بإرادة شعب وحقوقه، بل بحياته أو موته.
والواقع أن فلسطين اليوم تجوز صراع الحياة والموت؛ وهي تجوز هذا الصراع منذ تسعة عشر عاماً، أعني مذ قضت عليها السياسة الإنكليزية في سنة 1917، بأن تغدو وطناً قومياً لليهودية؛ ولكن خطر الصهيونية على كيان فلسطين لم يُبد في أعوامه الأولى كما يبدو اليوم؛ وكانت الأمة الفلسطينية مازالت في هذه الأعوام الأولى تهجس بشيء من الأمل، أما اليوم فأن الخطر الصهيوني يبدو في ذروة روعته، خطر فناء لا شك فيه؛ وتفقد الأمة الفلسطينية كل أمل في عدالة الاستعمار والعدالة الدولية، وتدفعها اليوم إلى الكفاح نزعة يأس عميق؛ وإذا بلغت الأمم حد اليأس، هانت عليها كل سبل الأقدام والتضحية.
وهذا ما يطبع كفاح الأمة الفلسطينية اليوم، فأنها تجوز غمار هذه الأحداث الهائلة التي نشهدها منذ أسابيع، مقدمة غير مكترثة لبذل النفس والمال، ونثابر على الكفاح بهمة الجلد المستميت.
أسفرت الحرب الكبرى عن وقوع فلسطين تحت نير استعمار مزدوج، فقد فرض عليها الانتداب البريطاني باسم عصبة الأمم، والانتداب هو حماية أجنبية صريحة؛ وقضت عليها السياسة البريطانية من جهة أخرى أن تكون وطناً قومياً لليهود، وأدمج هذا العهد الذي قطعته إنجلترا لليهودية في نص الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم، وغدت فلسطين بذلك أرضاً بريطانية كما غدت ميداناً للاستعمار اليهودي الاقتصادي والاجتماعي(153/17)
ومنذ سنة 1917 يتدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين، يدعمها تدفق الأموال اليهودية، والنشاط اليهودي بسائر ألوانه ومناحيه؛ ولا تدخر السياسة البريطانية من جانبها وسعاً لرعاية هذا الوطن اليهودي الجديد، وتشجيع نمائه ورخائه، وتذليل كل صعب في سبيل الهجرة اليهودية، وتنظيم الاستعمار اليهودي للبلاد؛ وتفسح السلطة المنتدبة في ذلك مجالاً كبيراً لآراء الوكالة التنفيذية اليهودية، وهي الهيئة اليهودية الرسمية التي تقوم في فلسطين بجانب سلطات الانتداب طبقاً لصك الانتداب ذاته، وتتمتع بحق الاقتراح والمشورة في كل ما يتعلق بالوطن القومي اليهودي.
ومع أن اليهودية أقبلت من سائر أنحاء العالم على استعمار فلسطين بحماسة شديدة، وحملت إليها مئات الملايين، واشترت من أراضيها مساحات عظيمة، حولتها إلى مستعمرات يهودية، غنية ضخمة، وأنشأت مدينة يهودية عظيمة هي مدينة تل أبيب، وعملت على إحياء اللغة العبرية وجعلها لغة الوطن القومي الجديد، وأنشأت جامعة عبرية كبيرة لتعمل على إحياء التفكير اليهودي؛ مع ذلك كله كانت تشير اليهودية في أعوامها الأولى تسير إلى غايتها متعثرة، ويزعجها سخط العرب وتبرمهم؛ وكانت تخشى دائماً أن تميل السياسة البريطانية إلى إرضاء الأماني القومية العربية بوجه من الوجوه، خصوصاً وأن تصريح بلفور ذاته ينص على احترام حقوق الطوائف غير اليهودية، المدنية والدينية؛ بل لقد مر باليهودية قبل بضع أعوام فقط ساعات يأس حقيقي، وخيل لها غير مرة، أن حلم هرتسل في بعث الدولة اليهودية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، سينهار في مهده؛ وكادت الحكومة البريطانية في سنة 1930 بعد أن تبينت عدالة المطالب العربية فيما يتعلق بوقف الهجرة اليهودية، ووقف بيع أراضي العرب، وهي مطالب عززها تقرير اللجنة الإنكليزية التي انتدبت لبحث هذه المسائل، تجنح إلى إرضاء بعض الأماني العربية، وصدرت في مجلس العموم البريطاني تصريحات رسمية في هذا الشأن؛ ولكن سرعان ما تغلب نفوذ اليهودية مرة أخرى، وسحبت الحكومة البريطانية تصريحاتها ووعودها للعرب، بتصريحات معارضة ألقتها تأييداً لوجهة النظر اليهودية وعهد بلفور.
وهكذا استطاعت اليهودية أن تخرج ظافرة من الأزمات والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كادت تزعزع إيمانها في حلمها وفي مثلها؛ وذهبت جهود العرب سدى، ولم(153/18)
يظفروا رغم ثوراتهم واحتجاجاتهم المتكررة بحمل السياسة البريطانية على أن تحيد ذرة عن خطتها.
ثم لقيت الحركة الصهيونية ظرفاً جديداً لنشاطها واضطرامها؛ ذلك أن ألمانيا جاشت بالخصومة السامية عقب قيام النظام الهتلري، ونظمت الحكومة الهتلرية لسحق اليهود في ألمانيا مطاردة عنيفة رائعة، فتوجست اليهودية في أنحاء العالم شراً، وهتفت كلها بأخطار الخصومة السامية، وألفت الصهيونية الفرصة سانحة لتؤكد لأبناء جنسها كرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي هو ملاذ اليهودية وعصمتها من تلك النزعات الخطرة؛ وهكذا تدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين بعنف لم تعهده من قبل، وزاد عدد اليهود في فلسطين بسرعة حتى أنه بلغ الضعف تقريباً في نحو ثلاثة أعوام؛ ولبيان ذلك نقول أن اليهود بلغوا حتى سنة 1932 نحو ثلاثمائة ألف من مجموع سكان فلسطين وقدره مليون. وقد بلغوا في سنة 1936 حسب أخر إحصاء نحو خمسمائة ألف، وبلغ السكان العرب من مسلمين ونصارى نحو سبعمائة وخمسين ألفاً؛ وقد اجتمعت مرافق فلسطين الحيوية في الأعوام الأخيرة في يد اليهودية بسرعة، وأحرزت اليهودية بالشراء السخي معظم أراضي فلسطين الخصبة، وساعدتها السلطة المنتدبة على تحقيق سيطرتها الاقتصادية بجميع الوسائل التشريعية والإدارية، ومازالت هذه السيطرة تزداد توطداً وتمكيناً.
والآن وقد رأى العرب أن بلادهم التي استوطنوها منذ الأحقاب، وأراضيهم ومرافقهم الحيوية، وتراثهم الديني والاجتماعي، كل ذلك يسير سراعا إلى التلاشي والعدم، والدولة المنتدبة تؤازر اليهودية باستمرار على تمكين غزوها المروع؛ وخطر الفناء القومي يلوح في ثنية المستقبل، فهل نعجب إذا رأيناهم ينفجرون سخطاً ويؤثرون السقوط في ميدان الجهاد الشريف على ذلك الإعدام البطيء المنظم؟ وهل تعجب الحكومة البريطانية إذا كانت سياستها في فلسطين قد أدت إلى مثل هذا الانفجار الخطير، وهو الثالث من نوعه في نحو عشرة أعوام؟
إن مؤازرة السياسة البريطانية لليهودية وتعضيدها لإنشاء الوطن القومي يرجعان إلى اعتبارات واضحة معروفة؛ فالسياسة البريطانية تعرف مدى النفوذ اليهودي في عالم المال والسياسة، وقد حظيت بريطانيا في الحرب العظمى بمؤازرة اليهودية، ومازالت ترمي إلى(153/19)
الاحتفاظ بهذه المؤازرة؛ وإنشاء الوطن القومي ضمان لاستمرار هذا التعاون بين السياسة البريطانية وبين اليهودية.
بيد أن هنالك اعتبارات أخرى يلوح لنا أن السياسة البريطانية لم تقدرها حق قدرها. ذلك أن فلسطين هي قطعة من العالم العربي تحوطها الأمم العربية من كل صوب، والأمة الفلسطينية هي عضو في جماعة الأمم الإسلامية الكبرى؛ وإنكلترا التي تسيطر على عشرات الملايين من المسلمين، في أفريقية واسيا يجب عليها أن تحسب حسابا لعواطف المسلمين ومشاعرهم؛ ومن المحقق أن العالم الإسلامي كله يعطف على فلسطين في محنتها وكفاحها كل العطف، ويأخذ على السياسة البريطانية مسلكها نحو فلسطين وأمانيها المشروعة، ومن المحقق أن إصرارها على هذا المسلك سيكون له أسوأ الأثر في العالم الإسلامي، وفي عواطف الشعوب الإسلامية نحو إنكلترا.
وعلى اليهودية ذاتها أن تفطن لهذا الاعتبار؛ فالوطن القومي اليهودي يقوم في قلب العالم العربي والإسلامي، متحديا عواطف العرب والمسلمين، وهم من حوله كالبحر الزاخر؛ ولتعلم اليهودية أن الحوادث قلب، وأن مصاير التأريخ ليست في يدها وأن هذا البحر قد يطغى يوماً فيغمر هذا الوطن القومي بما فيه ويصبح أثراً بعد عين.
والسياسة البريطانية لا يمكن أن يفوتها مثل هذا الاعتبار الخطير الذي تنوه به الصحف البريطانية؛ ولكن الظاهر أن عوامل أخرى على السياسة البريطانية تشددها نحو بحث المسألة الفلسطينية؛ فنحن نعرف أن السياسة البريطانية قد منيت بالفشل الذريع في محاولتها إحباط الغزوة الإيطالية للحبشة، وأن ظفر الاستعمار الفاشستي يثير اليوم في إنكلترا مخاوف خطيرة بالنسبة لمستقبل سيادتها في شرق أفريقية ووادي النيل، وكذلك بالنسبة لمواصلتها الإمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط؛ وتخشى إنكلترا أن تساهلها نحو أماني فلسطين - وفلسطين تعتبر قاعدة حيوية في مواصلاتها الإمبراطورية - قد يحمل على نوع من الضعف والتسليم ويعرض هيبتها الاستعمارية للانتقاض. وقد رأينا المندوب السامي في فلسطين يرد على مطالبة العرب بوقف الهجرة الصهيونية بإصدار تصريح جديد بمهاجرة أربعة آلاف وخمسمائة عائلة يهودية، متجاهلاً بذلك أن طغيان الهجرة من أهم أسباب الثورة القائمة. هذا إلى أن نفوذ اليهودية في إنكلترا يعمل عمله؛ وقد(153/20)
رأينا زعيم الصهيونية الدكتور ويزمان يسارع بالعودة إلى إنكلترا منذ بدء الثورة الفلسطينية؛ وقد كان لمساعي هذا الزعيم دائماً أثرها في موقف السياسة البريطانية نحو فلسطين ونحو رعاية الوطن القومي اليهودي.
على إن السياسة البريطانية لا يمكن أن تحتفظ طويلاً بهذا الموقف الشاذ؛ ففلسطين تقف اليوم موقف الحسم، وتصر على أن تبحث مطالبها وأمانيها بعين الإنصاف، ومن ورائها عطف الأمم العربية والإسلامية كلها؛ وإنكلترا تقدر بلا ريب مدى هذا العطف وآثاره؛ وبحث القضية الفلسطينية بروح الإنصاف لا يمكن أن يعتبر ضعفاً أو تسليماً كما يريد أن يفسره غلاة الاستعمار؛ أما الإصرار على تمكين اليهودية من أعناق فلسطين، ودفع الشعب الفلسطيني إلى منحدر التلاشي والفناء، والاكتفاء بإرسال لجان للتحقيق فسياسة خطرة؛ ولا ريب أنها تعرض مركز إنكلترا في الشرق الأدنى، وفي العالم الإسلامي كله لأشد الأخطار.
* * *(153/21)
قصة المكروب
كيفية كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الحصانة واليهودي الأفاق
- 1 -
ما أغرب هذا العلم علم المكروبات، وما أعجب ما كان من أمره في يوم وُلد!
بدأ هذا العلم رجلٌ قماش لم يُثقف ثقافة مذكورة، ومع ذلك كان أول راءٍ رأى المكروبات، ثم جاء كيميائي فأوجد للمكروبات مكانة ذات بال في خريطة الوجود، وأرعب الناس منها وأرعد. ثم تلاه طبيب قرية، فجعل من صيادة المكروب شيئاً منظماً قارب أن يكون علماً صحيحاً. وأراد فرنسي وألماني أٍن ينجوا بالأطفال من سم مكروب من أقتل المكروبات، فجزرا في سبيل ذلك أعدادا لا تحصى من الخنازير الغينية ومن الأرانب لو تراكمت لبلغت أكواماً كالجبال. إن تأريخ صيد المكروب تأريخ مليء بالخاطرات الجميلة، والإيحاءات النادرة؛ ولكن به كذلك كثير من الغباوات المدهشة، والمتناقضات المجنونة. ولا يختلف تأريخ علم المكروب في هذا عن تأريخ علم الحصانة وهو العلم الذي لا يزال ناشئاً، وبه تتفسر لنا مناعة الإنسان من المكروب، فالذي بدأ هذا العلم، على نحوٍ ما، هو رجل باحث كثير الاهتياج، قليل الاتزان، ذو جنة تعاوده كثيراً.
وكان هذا الرجل يهودياً يدعى إيلي متشينيكوف ولد في جنوب روسيا عام 1845، وقبل أن يبلغ العشرين قال لنفسه: (إني ذو غيرة وذو مقدرة، وقد حبتني الطبيعة مواهب راجحة، وأنا أطمع أن أكون بحاثاً كبيراً) وذهب هذا الشاب إلى جامعة خركوف واستعار من بعض أساتذته مجهراً، وكانت المجاهر عندئذ نادرة، وأخذ ينظر فيها نظرات لم تكن دائمة بينة واضحة، ومع هذا قام على أثرها فكتب مقالات علمية طويلة، وذلك قبل أن يعلم ما العلم وما كنهه وما جوهره، وغاب أشهراً عن فصول الجامعة وعن دروسها؛ ولم يكن للعب غاب ولكن للقراءة؛ ولم تكن قراءة القصص والنوادر، ولكن قراءة مؤلفات كبيرة في العلم مثل كتاب: (بلورات لأٍجسام زلالية) وغير ذلك كان يقرأ كتيبات ونشرات لو أطلع(153/22)
عليها رجال الأمن لنفوه إلى مناجم سيبريا؛ وكان يسهر الليالي، ويكرع جالونات من الشاي، ويخطب رفقاءه، وهم أجدادُ بلا شفةِ اليوم، خطباً هائجة صاخبة جاحدة تنكر وجوه الله حتى لقبوه (لا إله) وجاءت ٍخاتمة السنة فقام إلى دروسه التي تراكمت في الأشهر السابقة فحفظها عن ظهر قلب؛ وكانت له ذاكرة أشبه شيء باسطوانات الفونوغرافات منها بالعقل الإنساني، فجاز الامتحان وظهرت النتيجة فكتب إلى أهله يقول لهم إنه نجح وكان أول الناجحين، وفوق ذلك نال وساماً من ذهب.
وكان متشينيكوف شديد العجلة في أمره نفسه، يود أن يسبق الزمن بها، ويحملها على أشياء قبل أن يأتي أوانها. بعث بالمقالات العلمية وهو لا يزال في عقده الثاني، وكان يكتبها في سرعة الهالع بعد ساعات قليلة من تحرير مجهره على بقة أو خنفساء، ويصبح الصباح فيعود إلى مجهره ليراها مرة أخرى، فإذا به يرى ما لم يكن يراه بالأمس فيسرع بالكتابة إلى رئيس تحرير المجلة يقول له: (أرجو أن لا تنشر مقالة الأمس، فقد وجدت نفسي مخطئاً. وأحياناً كان يرسل المقالة فلا تنشرها المجلة فيثور ويغضب ويصيح: (إن الدنيا تجهل قدري) ويذهب إلى غرفته يتأهب للموت وهو يصفر صفير اليائس الحزين: (لو كنت في صغر الحلزون، لطويت جسمي في صدفي).
بكى وناح لأن أساتذته والناس لم يقدروا مواهبه حق قدرها، ولكن لم يفت ذلك في عضده ولم يستطع أن يضعضع من أمله، فنسي ما كان انتواه من قتل نفسه، ونسى ما كان من ضيقه ووجع رأسه، أنساه إياه حبه المقيم لكل شيء حي. ولكنه أفسد على نفسه الفرصة كلما أمكنته من إجراء بحث علمي قيمٍ متواصل، ذلك بأنه كان دائما يشاجر أساتذته وينازع معلميه. وأخيراً كتب إلى أمه، وكانت تؤمن به وتعطف عليه وتفسده، فقال لها: (إن أكبر همي أجده في دراسة البروتوبلازم في دراسة مادة الجسم الحية. . . ولكن روسيا خالية من العلم والعلماء). وعلى هذا ذهب مسرعاً إلى جامعة فرتزبرج بألمانيا؛ فوجد أنه وصل قبل ابتداء العام الدراسي بستة أسابيع. فأخذ يبحث عن بعض الطلبة الروسيين فوجدهم، ولكنهم لم يرحبوا به لأنه كان يهودياً، فضاقت بنفسه مسالك الحياة، وعاد راجعاً إلى بلده وهو يعتزم الموت. وكان في حقيبته بضعة من الكتب التي أقتناها، وكان من بينها كتاب أصل الأجناس لصاحبه دارون، وكان قد خرج إلى السوق حديثاً، فقرأه، وفي(153/23)
جرعة عقلية واحدة بلغ كل الذي فيه، وصار من أنصار نظرية النشوء الشديدين. ومن هذا الوقت دان بهذه النظرية إلى أن تهيأ له الوقت ليصطنع لنفسه من العلم ديانات جديدة يدين بها.
نسي ما أختطه لهلاك نفسه، وبدأ يخطط الخطط لأبحاث في هذه النظرية الجديدة، ورقد الليل ولكن لم ينمه لأنه أخذ يتخيل الخيالات عن ساحات واسعة قد امتلأت بطوائف الأجناس الحيوانية من الصرصور الصغير إلى الفيل الكبير، ثم تخيل إلى جانبها حيا بالغ الصغر هو جدها الكبير الأبعد.
وكان هذا الانقلاب بدء حياة متشينيكوف الحق، فأنه عندئذ خرج يحاج ويشاجر من معمل إلى معمل، ومن روسيا إلى ألمانيا إلى إيطاليا، ومن إيطاليا إلى جزائر هيليجو لاند وأدام هذا الشجار والحجاج عشر سنوات، واشتغل في بحث نشأة الديدان، وأتهم لوكارت عالم الحيوان العلامة بسرقة بضاعته؛ وكانت أصابعه لا تحسن العمل الدقيق، وكان لا يرجى لها أن تتعلم إحسانه، فذات مرة جاء بعظاية وضرب فيها بكلتا يديه ضربة المستقتل اليائس يريد أن يكشف في بطنها عن سر النشوء، فلما أعجزه أن يعلم منه شيئاً رمى بالذي تبقى من الزاحفة عبر المعمل. كان متشينيكوف على نقيض كوخ ولوفن هوك، فهذان الرجلان العظيمان عرفا كيف يتلطفان إلى الطبيعة فيسألانها عما يريدان وفازا منها بالجواب. أما صاحبنا فقرأ كتباً في نظرية النشوء، فألهمته وحمسته، فأمن بها.
وأعلن إيمانه مسموعاً عالياً، ثم جاء بعد ذلك يعالج التجارب لا ليمتحن بها عقيدته الجديدة، بل ليفرضها على الطبيعة فرضاً، وليدسها في حلقها لتبلعها اغتصاباً. ولكن العجيب أنه أصاب في هذا أحياناً، وعندئذ كانت إصابته ذات خطر كبير. ولم يكن عندئذ يعلم شيئاً عن المكروب، أعني في أخر العقد الثامن من القرن الماضي. ولكن إلحاحه كالمجنون في إثبات أن الأصلح هو الأبقى، وأن الفاسد للذهاب، هو الذي ساقه إلى تلك النظرية البديعة الخلابة نظرية الحصانة التي تصف كيف يصد الإنسان هجمات الفاتكات من المكروب، وهي نظرية صحيح بعضها برغم مظهرها الخيالي الذي لا يدعو إلى التطامن إليها
كانت السنوات الخمس والثلاثون الأولى من حياته كثيرة الاضطراب والصخب أشرف فيها على المهالك، ولكنه سار من طريقها المْخطر على جسر ضيق نفذ به في أخر الأمر إلى(153/24)
الشهرة الواسعة التي كانت تنتظره على شواطئ صقلية في البحر الأبيض المتوسط. وتزوج قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين لُدْميلا فودورفتشي وكانت مسلولة حتى كان لا بد من حملها في كرسّيها إلى حيث يعقد زواجها. وتبع هذا الزواج أربع سنوات مضت عليهما في أبأس حال وأكثرها استدراراً للرحمة، قضياها يجر بعضها بعضاً عبر أوربا يبحثان عسى أن يجدا لذات الصدر دواء. وفي أثناء ذلك، وفي أثناء تمريضه هذه الزوجة العليلة المسكينة تمريض عطوف حنان توتر عصبه وثقل قلبه كان يختطف سويعات يجري فيها تجارب يدرس بها تنشؤ بق النبات والاسفنجيات والدود والعقارب، يريد بذلك أن يقع على اكتشاف يهز الناس فتأتيه من ورائه أستاذية تدر عليه مالاً كثيراً. وهمس لنفسه وهو يكتب رسالاته العلمية، وهمس لها وهو يبعث بالرسل ويدفع بالوسائط ويختط الخطط ويحاور ويداور في طلب الوظيفة، قال: (إن البقاء ليس للأصلح؛ وليس هو للأكثر طيبة وخيراً، وإنما هو للأشد مكراً وللأنكى خبثاً وماتت لُدْميلا. وكانت قضت أيامها الأخيرة تتخلص من آلامها بالمرفين، فأقتبس زوجها عادة المرفين منها، ولما نفض تراب قبرها عن يديه قام عنه هائماً يضرب في الأرض، وأخترق إسبانيا متوجهاً إلى جنيفا وهو يزيد كل يوم مقدار العقار الذي يتعاطاه، وساءت عيناه أثناء ذلك وآلمته ألماً كبيراً. وما الباحث في الطبيعة إذا لم يكن له عينان تبصران؟ وصرخ: (ما الفائدة من هذا العيش!) وأخذ جرعة كبيرة من المرفين أيقن أنها لا بد قاتلته، ولكنها كانت أكبر مما تحملته المعدة فقاءها. وصرخ مرة أخرى: (ما نفع هذه الحياة!) وأستحم استحمامة ساخنة وخرج منها يتعرض عامداً إلى الهواء البارد الطلق عسى أن تصيبه من ذلك نيمونيا فتذهب بحياته، ولكن لم يظهر أن الآلهة الحكيمة المزاحة التي تقوم بتجهيز البحاث لهذا الكوكب شاءت له غير الذي شاءه لنفسه، أبقت عليه لحاجة في نفسها. وفي هذه الليلة عينها ساقته رجلاه إلى حيث أبصر طائفة من الحشرات كالغمام تدور وتحوم حول لهب مصباح. فأستوقفه هذا المنظر ووقف يتأمله بتعجب ظاهر وفم مفغور. صاح لنفسه: (إن هذه الحشرات لا تعيش إلا ساعات قليلة، فليت شعري كيف يستفاد بها لدرس نظرية بقاء الأصلح؟) وبهذا عاد فوصل من جديد تجاربه المقطوعة.
حزن متشينيكوف على زوجه حزناً شديداً ووجد عليها وجداً مبرحا، ولكن الأيام كانت(153/25)
سريعة في شفاء الوجد ولأم الجرح العميق. وتعين أستاذاً في جامعة أودسا، وفي هذه الجامعة علم بقاء الأصلح، وفيها وضح علمه، وأرتفع قدره، وزاد في الناس إجلاله. ولم تمض سنتان على وفاة زوجته الأولى حتى التقى بفتاة في الخامسة عشرة، وفي وجهها بشاشة، وفي قلبها ذكاء. وكان اسمها أولجا، وكانت ابنة رجل ذي يسار، ونظرت أليه، فأسرت عينها إلى قلبها، قالت: (إن وجهه كوجه المسيح في قدسيته. لونه امتقاع، وعليه سحابة من كآبة). ولم يمض طويل من الزمن حتى تزوجها.
ومنذ هذا الزواج هدأت حياته كثيرا، وقلت نداءاته لعزرائيل كثيرا، وأخذت يداه تتعلمان أجراء التجارب لتلحق بعقله الذي نضج قبل أوانه، وأصبح العلم له ديناً، وتعلق به إيماناً؛ وأدخله في كل أمر من أمور عيشه في تحمس لم يسمع بمثله، وأخذ بيد أولجا يدخلها في هذا الدين علماً وفناً، وعلمها حتى علم الزواج وفنه! وعبدت فيه ذلك اليقين المغرق الذي أعطاه العلم إياه، ولو أنها قالت بعد ذلك بسنوات كثيرة: (إن الطريقة العلمية التي طبقها زوجي في غير هودة على كل شيء جاز ألا تخلق لنا إلا شراً في تلك الساعة المخطرة من حياتنا، والنفس دقيقة الحس في انتقالها من حال إلى حال.
(يتبع)
أحمد زكي(153/26)
للتأريخ السياسي:
4 - اليوم السابع من مارس
ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
موقف دول لوكارنو وقرار مجلس العصبة
لنر الآن ماذا كان رد الفعل في عواصم دول لوكارنو، وموقف فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا إزاء حوادث 7 مارس والمذكرة الألمانية:
كان وقع قرار 7 مارس شديداً على باريس، ولقد أهاج الدوائر الرسمية والرأي العام، برغم أن هذه الحوادث كانت في الحسبان، وأول عمل احتياطي قامت به حكومة باريس هو إبقاء الجنود الذين كانوا على أهبة الذهاب إلى بيوتهم تحت السلاح إلى أجل غير مسمى، ثم إرسال جنود وقوى حربية لتحتل القلاع الواقعة على الحدود الألمانية.
وفي الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأحد الموافق 8 مارس ألقى مسيو سارو، رئيس الوزارة الفرنسية، خطاباً في الراديو على الشعب الفرنسي، عرض فيه العلاقات الفرنسية الألمانية منذ الحرب والجهود التي بذلتها فرنسا للتوفيق بين الجارتين. . . وقد صرح بأن الحكومة عازمة على المحافظة على معاهدة لوكارنو التي هي شرط أساسي لسلامة فرنسا. . وأنها ترفض منهاج الهر هتلر لسببين: أولهما أن ألمانيا قدمت مثلين في تمزيق المعاهدات بقرار منها وحدها خلال سنة واحدة، وهذا العمل المنافي للحقوق الدولية يدعو إلى نزع الثقة من المعاهدات المقبلة التي تعقد معها. والسبب الثاني وهو أشد فظاعة، كون ألمانيا قد أرسلت قوى عسكرية إلى أراضي الرين خلافاً لكل قانون دون أن تعلم الدول بعزمها قبل تنفيذه، ودون أن تفكر في المفاوضة مع دول لوكارنو للوصل إلى حل مرض، بل جابهت هذه الدول (بالأمر الواقع) في أبشع وأفظع صوره. وقال بأن فرنسا سترفع الدعوة إلى مجلس عصبة الأمم، وأنها ستضع قواها المعنوية والمادية تحت تصرف مؤسسة جنيف. . .
وفي يوم الثلاثاء الموافق 10 مارس ألقى مسيو سارو (رسالة) الحكومة في مجلس(153/27)
النواب، ومسيو فلاندان في مجلس الشيوخ، وعرضت الحكومة فيها أعمال الحكومة النازية المخالفة للحقوق الدولية، وتمزيقها المعاهدات المقدسة. . . وأبان بأن عمل الهر هتلر لا يضع على بساط البحث مشكلة الرين، بل مسالة حرمة المعاهدات والعلاقات الدولية وكيان عصبة الأمم. وقال إنه إن أخذت كل أمة ترفض المعاهدات حسب إرادتها فلا سلام ولا حرمه للقانون، بل تحل محل الحق القوة المادية. . .
وفي هذا الخطاب هدأت حكومة باريس ثورتها، ولطفت رفضها البات في المفاوضات، وقالت إنها لا ترفض العمل لحل المشاكل الحالية ولتحسين العلاقات الفرنسية الألمانية، غير أن فرنسا لا تستطيع المفاوضة تحت ضغط القوة التي تمزق المعاهدات الموقع عليها عن طيب خاطر.
وأخذت الصحافة تندد بأعمال الهر هتلر وتبين الخطر الذي سيواجه أوربا نتيجة لعدم احترام المعاهدات. . . وتلوم بريطانيا لاتباعها اللين مع ألمانيا ولمسايرتها لها. . .
أما في لندن فقد أخبر مستر ايدن السفير الألماني عندما تسلم منه مذكرة بأن حكومة جلالته غير راضية عن انتهاك ألمانيا حرمة المعاهدات. وقال في خطابه الذي ألقاه في مجلس العموم في 9 مارس بعد أن أبان مخالفة عمل الهر هتلر للحقوق الدولية، والخطر الذي ينجم عن اتباع مثل هذه السياسة، إن عمل ألمانيا لا يعد تهديداً، غير أن الحكومة البريطانية تصرح بأنها ستكون في صف فرنسا وبلجيكا فيما إذا هاجمت ألمانيا إحداهما. . .
وغريب بأن يقول مستر ايدن بأن عمل ألمانيا لا يعد تهديدا، ومعاهدة فرساي صريحة العبارة في قولها (البند 44) بأنه في الحالة التي تخالف فيها ألمانيا مضمون البندين 42و43 (تعتبر قائمة بعمل عدائي نحو الدول الموقعة على هذه المعاهدة ومحاولة تعكير صفو السلام).
ولكي يثبت مستر بلدوين من أن الأزمة الحالية سوف لا تقود بريطانيا إلى تطبيق سياسة (العقوبات) الاقتصادية على ألمانيا أصر على أن يوافق اللورد هاليفاكس مستر ايدن في جميع اجتماعاته التي لها علاقة بحوادث الرين، واللورد هاليفكس صديق ألمانيا الحميم. . .
وكان وقع حوادث 7 مارس في الدوائر السياسية اللندنية نقيض ما كان عليه في باريس.(153/28)
وإن كان ساسة لندن غير راضين عن الطريقة التي أتبعها هتلر في الوصول إلى احتلال أراضي الرين، غير انهم وافقوا ضمناً على نتيجة عمله، حتى أن بعضهم صرح بذلك، والبعض الآخر أخذ يقول بأن عمل هتلر ما هو إلا فرصة مناسبة لحل المشكلات الأوربية، وخصوصاً لإزالة كل خلاف بين ألمانيا وفرنسا! وكانت الصحافة وعلى رأسها (التيمس) تقول بهذا الرأي. ولا عجب في ذلك، إذ أن الرأي العام في بريطانيا ناقم على معاهدة لوكارنو، حتى أنها كانت سبباً في ضياع شهرة السير أستن شمبرلين، ولأن حكومة لندن تريد إنعاش ألمانيا وإدخالها ضمن حلقة دول ذات المكانة في السياسة الدولية، لكي تتخذ منها سنداً ضد فرنسا التي أخذت تعاكس بريطانيا ظاهرة في سياستها الخارجية، من جهة ثانية، ولقد رأينا الهر هتلر عرف كيف يستفيد من هذا الشعور البريطاني ويستغله.
وموقف بلجيكا يشابه موقف فرنسا: فالرأي في الدوائر السياسية والرأي العام ضد حوادث 7 مارس على خط مستقيم. لاسيما وأن بلجيكا لم تكن عضواً في المعاهدة الروسية الفرنسية، التي هي في رأي الهر هتلر، سبب زوال لوكارنو. . .
أما إيطاليا فلزمت الصمت، ولم تبد صحافتها رأياً في ذلك. على أن ممثل إيطاليا صرح بأن حكومته تحترم لوكارنو، غير ان ظروفها الحالية ترغمها على التحفظ. . .
رفعت فرنسا وبلجيكا وحدهما الدعوى إلى مجلس عصبة الأمم، في حين أن معاهدة لوكارنو توجب ذلك على جميع الموقعين عليها، إذ هي تعتبر احتلال أراضي الرين عملاً عدائياً نحو كل من المتعاهدين. . .
وكان مكان اجتماع مجلس العصبة عاصمة بريطانيا حسب اقتراح مستر إيدن. وعقدت الجلسة الأولى الساعة 11 من صباح يوم السبت التالي لحوادث 7 مارس، في قصر (سنت جيمس) وكانت سرية، وقال مستر إيدن في هذه الجلسة إنه يظهر له من المادة 17 من صك العصبة وجوب تمثيل ألمانيا في جلسات مجلس العصبة. وبعد جدال حول هذا التفسير للمادة 17 تقرر أن يرسل سكرتير مجلس العصبة برقية إلى الهر هتلر يقول فيها بأن (. . . مجلس العصبة يدعو حكومة ألمانيا بصفتها عضواً في معاهدة لوكارنو لتشترك في فحص مجلس العصبة للدعوى التي رفعتها حكومتا فرنسا وبلجيكا. . .)
ولقد ذهب مساء يوم السبت السير أريك فيبس، سفير بريطانيا في برلين لمقابلة بارون فون(153/29)
نيرات وزير خارجية ألمانيا ليعلمه بأن بريطانيا تعلق أهمية كبرى على قبول ألمانيا دعوة مجلس العصبة. وفي صباح الأحد زار السير اريك فيبس (الزعيم) وأوقفه على رأي حكومة لندن.
وبعد أن استشار الهر هتلر مستشاريه أرسل إلى سكرتير العصبة يخبره بأن حكومة ألمانيا تقبل الدعوة مبدئياً على شرطين:
أولهما: أن يكون لممثل حكومة ألمانيا حق المساواة مع بقية ممثلي أعضاء المجلس في المرافعات وقرارات المجلس.
وثانيهما: أن تتسلم حكومة ألمانيا تأكيداً قطعياً بأن الدول المعنية - مستعدة للدخول حالا - في المفاوضة على (منهاج السلام الألماني)؛ الذي يعتبرونه (أي الدول) وإعادة السيادة الألمانية في أراضي الرين كخطوة سياسية متحدة، وجزأين متلازمين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
واعتبرت بريطانيا الشرط الأول معقولاً ومقبولاً. وأن عزم بريطانيا كان ولا يزال على أن تكون ألمانيا في لندن على قدم المساواة مع الدول الأخرى. وأما الشرط الثاني فقد أغضب الدوائر السياسية وأثار الصحافة على حكومة برلين، وكتبت مقالات رئيسية ناقشت فيها أعمال هتلر وجوابه الأخير، حتى أن لهجة (التيمس) كانت غير مألوفة. ومما قالته في عددها الصادر في 10 مارس إنه يجب التذكير وإعادة القول بأن عمل ألمانيا كان مهيناً في أسلوبه، و (إن دولة غير شريفة قادرة دائماً وأبداً على أعمال غير شريفة). . وأنه حجر عثرة محال قبوله، ولا يمكن لفرنسا احتماله
وفي الواقع لقد أثار جواب الهر هتلر الرأي العام الفرنسي وأخذت الصحافة تهاجمه مهاجمة عنيفة، واضعة اللوم كله على بريطانيا لمساعدتها ألمانيا وتشجيعها لها. ولقد صرح مسيو فلاندان لمراسلي الصحف بأنه يرفض طلب الهر هتلر لسبب واحد فقط: هو أنه قدم لندن ليسجل الاعتداء على لوكارنو؛ وهو لا يريد مناقشة أي شيء غير هذا، حتى وإن كلفه ذلك مغادرة لندن وترك مجلس العصبة.
ولما رأى الهر هتلر أن الرأي العام ناقم على جوابه، خشي خسران عطفه عليه، فعمل على تخفيف وقع جوابه، فأرسل إلى حكومة لندن يخبرها بأنه خطأ قد حصل في ترجمة جوابه؛(153/30)
إذ أن المترجم قد ترجم كلمة بكلمة أي (حالا) في حين أنه يجب ترجمتها بعبارة أي (في أقرب وقت). . .
وتلي تلك الجلسة السرية أول جلسة علنية للدورة (91) غير العادية لمجلس العصبة الساعة 11 والدقيقة 45 من يوم السبت الموافق 14 مارس برياسة مستر بروس وجلس عن يمينه مسيو فلاندان وسنيور جراندي، وعن يساره مستر افينول ومستر إيدن، والرفيق ليتفينوف وكلونيك بك، وبقية الأعضاء على الجانبين.
وبعد أن قرأ الرئيس اللائحة التي قدمتها فرنسا وبلجيكا، قام مستر إيدن، ورحب بأعضاء المجلس بالنيابة عن الحكومة البريطانية وقال إنه يترك الكلام إلى ممثلي فرنسا وبلجيكا، وسيبدي وجهة نظر بريطانيا في وقت آخر.
ثم قام مسيو فلاندان وقرأ بيان فرنسا بصوت هادئ وجلي، وقال بان الواجب هو الذي دعا فرنسا إلى رفع الدعوى إلى مجلس العصبة لاحقها في ذلك، لأن فرنسا الحق في اتخاذ إجراءات مادية وعسكرية لإعادة كل شيء إلى ما كان عليه، غير أنها فضلت ألا تزيد في تعقيد المشكلة، بل تريد الوصول إلى حل سلمي ومرضي؛ وهي تثق في عدالة مجلس العصبة، وتطلب منه أن يضع قراراً مبينة فيه الإجراءات الفعالة التي يجب اتخاذها لوضع الحق في نصابه، وقال إن عمل ألمانيا يضع السلام وكيان عصبة الأمم في خطر عظيم. . . وأبان بأن معاهدة فرساي تعتبر احتلال أراضي الرين عملاً عدائياً، ومعاهدة لوكارنو تعتبره تعدياً على المعاهدة؛ وأن فرنسا تطلب تسجيل هذا التعدي في السجل الرسمي. . .
(يتبع)
يوسف هيكل(153/31)
المتنبي يعشق. . .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
(كل أدباء العربية على أن المتنبي نشأ نشأة السواد من أهل الكوفة، وأن حياة الكفاح شغلته وملأت تأريخه حتى لم يكن فيها من الفراغ ما يهيئ له أن يتذوق الحب فيترجم عن إحساس العاشق.
(ولكن صديقنا الأستاذ محمود محمد شاكر يرى رأياً غير ذلك؛ فيزعم أن المتنبي علوي منكور النسب، وأنه كانت له في بلاط سيف الدولة قصة غرام بينه وبين خولة أخت الأمير، كان لها أثر أي أثر في شعره وحياته من بعد
(وهو رأي جديد في تأريخ المتنبي، أحسب أن طائفة كبيرة من أدبائنا لا تطمئن إليه ولا تأخذ به، حرصا على التقاليد. . . أو حفاظا على القديم وحسب. . .
(أما هذا الرأي عندي فهذه قصته، تجلو غامضة، وتؤلف غريبه، وتكشف عنه على ضوء من الفن يهيئ للباحث المصنف أن يجادل أو يقتنع. . .)
مضى الفتى العلوي الثائر المتوثب (أبو الطيب المتنبي)، تتقاذفه الفلوات من غربة إلى غربة، وتتراماه الأحداث من بلد إلى بلد، وتنوشه من كل جانب سهام البغي والشر والحسد، ويقعد له في كل مرصدٍ كيدٌ يتربص. . .
ممن أبوك يا فتى؟ وما بلدك؟. . . وهل له أن يجيب؟
أما الأولى فمن دونها سيوف (الأدعياء) تنكر عليه أن يجهر بعلويته، وماله قبلُ بأن ينازلهم فيثبت لهم. . .!
وأما الأخرى. . . وا أسفاه. . .! هذه جدته على الفراش تحتضر، وَحِدَةً منقطعة فريدة، فيأبون عليه أن يدخل (الكوفة) ليتزود منها بالنظر الأخير. . .!
لمن الملك اليوم؟ إنه للروم والترك والعجم، ولا سلطان لغير الروم والترك والعجم. . . في العراق، وفي مصر، وفيما بين العراق ومصر. . . في الشرق والغرب يبسط الأعاجم سلطانهم على الدولة العربية، فأيان يلتفت الشاعر العربي لا يجد إلا الروم. ومن أين لأبي الطيب أن يسكن إلى ذاك أو يستقر إليه؟ إنه ليرمي بصره إلى هنا وهناك، فلا يرى إلا ما يحزنه ويتهاوى بآماله؛ لقد خرج إلى الدنيا طريداً يتيماً، ينكرون عليه نسبه، وينكرون عليه(153/32)
طموحه؛ ثم ها هو ذاك وقد سلخ أربعا وثلاثين يتلفت حواليه فما تزيده النظرة إلا شعورا بالوحدة واليتم والغربة. . . ولكن في أعراقه يفور دم العروبة، وفي أعصابه تنبض أماني الشباب، وفي نفسه تهمس ألحان الشعر.
(ستكون أميراً يا أبا الطيب، فأجمع عزيمتك على الجهاد حتى تبلغ، فتنال منالك من (الشامتين)، وتديل للعربية من (دولة الخدم). . .)
وأنطلق الشاعر المتوثب يطوي البيداء مطوياً على هم وألم، وفي نفسه أحقاد تثور، وأماني تتضطرع. . . حتى انتهى إلى بني حمدان.
هنا دولة العرب، وهنا عز العروبة، وهنا تستقر الأماني لتستجم للجهاد. وأجتمع الشاعر العربي الثائر، بالمجاهد العربي الظافر؛ وانعقدت أواصر الود بين أبي الطيب المتنبي وسيف الدولة بن حمدان. وآثره الأمير وأدناه وفتح له بابه. . . فإذا هو منه كبعض أهله. . . وتراءيا قلباً لقلب، فما بينهما سر ولا دونهما حجاب؛ وتكاشفا رأياً لرأي، فما هو إلا فكرة واحدة تسعى إلى هدف؛ وَتَنوَّرَا الأمل المشترك من بعيد، فإذا هما على الخلوة يتذاكران الرأي، ويتحايلان للظفر.
وصار شاعر الأمير صفيه وخليله وصاحب سره، يلقاه أيان يريد بلا إذن ولا ميعاد. . . وعرفه حاجب الأمير وأهله، وعرفته (خولة) بنت حمدان، فعرفت رجلها وعرف. . .
وقال أبو الطيب: (لله أنتِ يا أبنة المجد! لعينيك كنت أطوي البيد وتتقاذفني الفلوات!)
وقالت خولة: (ومن أجلك أنت يا أبا الطيب، كانت تخيل لي الأحلام ما ليس من دنياي!)
وطوت آخر كلماتها في ابتسامة، وأطبق الشاعر شفتيه على كلام؛ وقالت له عيناها. . . وقالت له عيناه. . .
ودخل الشاعر في تأريخ جديد. . .
وقال المتنبي لسيف الدولة: (أتراك يا أميري تعرف من أمري ما يقنعك بالرضا. . .؟) فوعده سيف الدولة أن يزوجه خولة. . .
وراح الشاعر يحلم. . . ثم عاد يحاول أن يلقى صاحبته فيقول لها وتقول له، ولكن الباب كان محكم الغلق؛ فلوى وجهه عن بابها وفي نفسه شوقٌ وحنين، ولكنه استمر يحلم. . .!
ومضى ينشد أميره من شعره. . . أذلك شعر المتنبي الثائر المتكبر ربيب الوحشة وطريد(153/33)
الفلوات؟ أم هو الفن النسوي البديع يهيئ للشاعر مادته ويصنع له بيانه. . .؟ أسمعْتَ وسوسة القُبَل. . .؟
وسمع سيف الدولة وطرب، وسمع جلساؤه فعرفوا الجرس والرنين؛ وهمس شاعر في أذن صاحبه، ومال صديق على من يليه، وقال الخامس للسادس: (إن شاعر الأمير لعاشق!) وامتدت للكلام أطراف وأذناب. . .
وراح الشاعر ثانية يحاول أن يلقى صاحبته، فإذا من دون الباب بواب. . . وعاد إلى الأمير يستنجزه الوعد، فإذا الأمير في شغل عنه بالروم وحرب الروم، فهو يستمهله إلى حين. . . ورجع إلى نفسه يستلهمها الصبر فلا تلهمه، ويستعينها على ما يجد فلا تعينه. . . ونظر حواليه فإذا عيون تنظر، وإذا شفاه تبتسم، وإذا ألسنة في أفواه تلجلج بكلام. . .
كم يلقى العاشق من نأى الحبيب والدار قريب. . .؟
وقال الرجل لنفسه: (ما أنا والأمير وأخت الأمير: إن كانت لي فما يحول بيني وبينها؟ وإن كانت عدة بلا وفاء فما مُقامي؟)
وقالت له نفسه: (هون عليك يا صاحبي، لا حبٌ بلا وجد؛ إلا أن تكون نارٌ بلا إحراق!)
فعاد الشاعر ينتظر ويحلم، ولكن الأيام لا تنتظر، ومضى شهر في أذيال شهر، وتصرم عام وراء عام، والشاعر العاشق على صبره يرجو ويتقي. . .
وقال (أبو الفراس الحمداني) الشاعر لصاحبه: ما هذا الرجل بيني وبين خولة ونحن أولاد عمومة؟ أما كفاه مجلسه من الأمير؟ أبعدنا وأدناه، وحرمنا وأعطاه، وأسكتنا وأستمع أليه؟ أفيطمع بعد ذلك في نسب الأمير وصهره. . .؟)
وجاءت مقالته تسعى إلى المتنبي فنالت منه. . .!
(أبو فراس يطمع في خولة؟ ولكنها مسماةٌ علىّ؛ أيقف بين الأمير والوفاء بما وعد أن أبا فراس من عمومته. . .؟ ومن أكون إن كان ذلك موضعي من نفس الأمير. . .؟)
فعادت نفسه تقول: (بعض هذا يا صاحبي، إن الحب حيلة الحياة، فلست تبلغ منه بالكبرياء ما تبلغ منه بالصبر والحيلة. . .!)
ولكن العاشق المتكبر لم يستمع هذه المرة إلى نفسه وهواه؛ لقد غلبته الكبرياء فكفر بالحب؛ وهل كان للمتنبي أن يخضع للحب أو يتضرع. . .؟(153/34)
وتوزعه العشق والكبرياء، وتقاسمته عزة الرجل ورقة العاشق. . . وغدا على مجلس الأمير ينشده، فإذا الحب المستور يستعلن، وإذا النفس الثائرة تفور، وإذا (أنت) على لسان الشاعر المادح تعود (أنا)، وإذا هو يفتخر وكان يريد أن يمدح. .
وفهم سيف الدولة ما يعني، وفهم جلساء سيف الدولة؛ ولكن حرمات الأمير الكريم ردت الكلام إلى الأفواه، فما استطاع منهم أحد أن يقول: إن في بيت الأمير قصة غرام
ولكن (أبا العشائر الحمداني) لم يسكت، فأرسل غلمانه يأخذون على العاشق الجريء طريقه. . ونجا الشاعر من كيد كان يراد، ولكنه لم ينتقم، وشفع للعدو عند الشاعر أنه منتسب إلى الحبيب.
واستيأس المتنبي ونفذ صبره، فأزمع الرحلة إلى بعيد لعله أن ينسى. . .
وفارق سيف الدولة متكبراً عزيزاً أبياً، ولكنه خلف قلبه وراءه، وخلف الأمل في الملك والجاه والسعادة، وأيقظته الحقيقة بعد حُلم دام تسع سنين؛ ومضى على غير وجهٍ وقلبُه يتلفت إلى تلك التي خلفها وراءه؛ وعادت تتقاذفه البلاد، وتتراماه القفار، يساوم للمجد، ويجاهد للأمارة، لعله يعود إلى من يحب وعلى رأسه تاج. . . .!
ومضت سنوات وقلب العاشق ما ينفك ينبض، وما يبرح يذكر هواه ومن أحب؛ فما ينشد شعراً إلا وفيه لوعة من أثر الفراق، أو حسرة من وحشة الحبيب النائي. . .!
وا أسفا لمشتاقٍ بلا أمل. . . تمضي لياليه بغير جديد، وتنقضي أيامه على غير ميعاد، مغيظاً على بعده (غيظ الأسير على القد. . .!)
ليت شعري. أكان هو وحده المعذب الملتاع بهذا الفراق الذي أختاره فراراً بكبريائه. . .؟
ودخل الكوفة يطلب العزاء في الوطن الذي حرم دخوله منذ الشباب، تتجاذبه الكبرياء والهوى، وتتدافعه الأماني والذكريات، ويسترجع الماضي ويهتف بالغد. . . ولكن ما استقرت به النوى حتى جاءه النبأ. . . ماتت خولة. . .!
وتهاوت آمال الشاعر أملاً أملاً فما عاد يستمسك، ونالت منه الحسرة والتفجيع فانصدعت كبده. وسكت أمير شعراء العربية سنتين لا ينشد، والشعر يترقرق دموعاً في عينيه ويتصعد زفرات. . .!
يا عجبا! إن النفس لا تجيش بأبلغ الشعر إلا حين يتأبى البيان على اللسان. . .!(153/35)
وأستنجزه الحب على أن يفي فما تلبث. وأصابته الطعنة القاتلة بعد عام ثالث. . .!
وسكت شاعر العربية إلى الأبد، ولكن الناس ما تزال تتحدث عنه بعد ألف سنة من عمر الزمان ولن تزال. . .
وكتب في تأريخ الأدب قصة غرام عجيبة، لم يعرفها الناس إلا بعد ألف سنة، لأن العاشق فيها أكبر وأعظم من أن يقول؛ (أنا أحب. .!)
وظلت هذه القصة سراً في ضمير الغيب كل هذا الزمان، لتكون بهذا الكتمان العجيب رمزاً عجيباً لصبر هذا الشاعر العاشق: أبي الطيب المتنبي. . .
محمد سعيد عريان(153/36)
ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة
في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
- تلخيص وتحليل -
للأستاذ خليل هنداوي
مقدمة:
إن الإنسان لولوع جداً بإظهار الحقائق على طريق المقارنة، والمقارنة قد تكون مقارنة فرد بفرد أو شعب بشعب. أما الأولى فقد تكاد تكون شائعة في كل عهد لأنها رأس كل نقد. والأوائل لم يغمروا مثلاً امرأ القيس بما غمروه من فيض عبقريته إلا بعد أن قرنوا شاعرية غيره إلى شاعريته. والإنسان مسوق يطبعه الموروث إلى مثل هذه المقارنة التي قد تكون غريزية في كل كائن يفكر ويشعر. أما المقارنة الثانية فهي حديثة النشأة، لأن النقد لم يكن ليخطر في باله أن يقيم الأوزان بين أدباء أمتين مختلفتين ثقافة واتجاهاً وشعوراً. ومن كان يفكر في المقارنة بين شكسبير وراسين، ودانتي وميلتون، وبين ميزات الأدب الألماني والأدب الفرنسي؟ وكل واحد منهم يمت بوسائله إلى أمة مستقلة في تطورها وبيئتها. ولكن الأدب - كما يبدو - له سلطان قاهر، يرمي بالحواجز التي تفصل بين الحدود الصناعية ويقتحم في عوالم الفكر والخيال دون أن يصد اقتحامه شيء لأنه الأدب. . . وهكذا نشأت الصلات الأدبية بين الأمم إلى ما شاء ربك!. . وربطت بين المفكرين ربطا لا يقوم على مصالح سياسية أو مطامع مادية، وإنما يقوم على رفع منارة الفكر وإعلاء كلمة الفكر. فما أطهر هذه الرابطة لو أنها تخرج من هذا العالم غير المحدود إلى العالم الذي سودته الحدود! فتجد الأديب الفرنسي يحلل الأديب الألماني دون أن تطغى على قلبه سورة الحقد. وتجد الأديب الألماني يكتب عن الأديب الفرنسي من غير أن تغلب عليه موجدة. ذلك أن عالم الفكر سما بهما فوق عالمهما المحدود الذي غمرته الحزازات وتقطعت(153/37)
بين وشائجه الأسباب. فهما يتفاهمان في ذلك العالم ويصافح بعضهما بعضاً.
هذا هو الأدب بالمقارنة يعمل على درس ميزات أدب كل أمة بمقارنتها مع ميزات غيرها من الأمم. وهو أدب - كما قلت - حديث الخلق، شجع على نشره شيوع الأدب الإنساني. ولعل رسالة الفلسفة كانت أسبق من الأدب إلى هذه الرسالة. لأنها تنعتق من قيود العاطفة ولا تتخذ مطيتها إلا الفكر. والفكر اصلب عوداً من العاطفة. والفلسفة وحدها كانت أبعد العلوم الفكرية شيوعاً وذيوعاً في كل عصر، تكتسبها الأمم الغالبة من الأمم المغلوبة دون أن يلحقها عار الاكتساب، ودون أن تتحوط له. كما نقل العرب الفلاسفة اليونانية بحذافيرها، وطبقوها على عقائدهم الفكرية والاجتماعية، حتى غدا اليونان أساتذة العرب في الفلسفة. أما الأدب اليوناني فلم يكتب له حظ الانتقال في كثير ولا قليل. ولعل ذلك يعود إلى اختلاف الإحساس والتعبير عند الأمتين. ومن عجب الأيام أن يمتزج المنطق اليوناني مع العقل، ويتبدل حتى يغدو جزءاً من العقل العربي. والأدب اليوناني لا يكتب له إلا الخيبة.
ألم يتدارس العرب الأدب اليوناني، كما تدارسوا الفلسفة اليونانية؟ قد يظن أنهم درسوا شيئاً منه وسمعوا ألحان هوميروس فيه، ولكن ألحانه لم تطب لهم، لأن هذه الأساطير التي يطفح بها أدبهم جاءت في العهد الذي كان يسيطر فيه المنطق اليوناني على العقل العربي، فصموا عن هذه الألحان ولم يعيروها التفاتاً. وقد يظن أن الأدب العربي الذي كانت معجزة البلاغة منه كان سيد نفسه، لا يميل إلى اقتباس قواعد البلاغة من غيره، وما فوق بلاغة الكتاب بلاغة. وقد يُظن - وأرجح هذا - أن العرب طووا الأدب اليوناني - اعتماداً على الظن الثاني - ولم يلجوا فيه، فلم ينم لهم ذلك الذوق اليوناني الذي يستطيع أن يحس لذة فنهم وعبقريتهم كما يحس أهله! وبذلك طغا العقل اليوناني على العرب. أما أدبه فلم يكن له في الدائرة نصيب.
على أن هذا الأدب لم يترك له أثراً في الأدب العربي قد شغل بعض أذهان رجال من العرب؛ شغلها عن طريق الفلسفة لا عن طريق الأدب. فأبن رشد والفارابي قد ناقشا الشعر اليوناني لا بالطريقة التي ينبغي لصاحبها أن يتبعها ويتخذ لها السبل المختلفة في نفسها، وإنما ناقشاه بالطريقة التي أتبعها أرسطو. فلولا أرسطو لم يتصد ابن رشد والفارابي للشعر(153/38)
اليوناني، فهما في ذلك متبعان لا مبتدعان. فإذا أثنى ابن رشد على هوميروس فهو لم يثن بلسان نفسه وفن نفسه، وإنما يثني لأن ارسطو أثنى عليه. وسبب ذلك واضح، لأنهما قرءا تحليل أرسطو لهوميروس ولم يقرءا لهوميروس نفسه. وبذلك ظل الأدب اليوناني بعيدا عنهما. وبالرغم من ذلك نرى ابن رشد قد استطاع أن يدرس قواعد شعرهم ويفيد من تلك القواعد ويعمل على تطبيقها في آداب أمته. وعمله هذا هو ما نريد منه (الأدب المقارنة) وهذه المقارنة برغم نقصها الفني جاءت مقارنة حسنة في بابها، مبتدعة وقتها. ألقت على الأدب العربي ضوء دراسة جديدة. على أن أدباء العرب الذين وقفوا على هذه المقارنة وشعروا بهذا التفاوت لم يجدوا في أنفسهم ما يحملهم على مناقشة هذه القواعد والاستفادة منها، وقد رأوا ما حل بإخوانهم الفلاسفة من الوشايات والمكائد التي كانت تنصب لهم، وألوان الاضطهاد الذي نزل عليهم. أضف إلى ذلك أن الألحان الوصفية والعاطفية في الشعر اليوناني كانت تتمشى في تضاعيفها العقيدة والوثنية والآلهة الكثيرة، والعرب كانوا شديدي الغيرة على هذا الواحد زهوا به على الأمم، فصرفتهم الأساطير عن تذوق ما في الأساطير.
تذوق هذان الرجلان بعض روائع الأدب اليوناني ولكن طبيعتهما الأدبية لم تكن لتخول لهما أن يكونا زعيمي مدرسة في الأدب جديدة، فلن يخرج تأثيرهما عما اختصا به. وهيهات أن يصنع الفيلسوف ما يصنعه الأديب في عالم أدبه. فلو أن ابن الرومي مثلاً تذوق هذه الروائع إلى حد بعيد لفعل أكثر مما فعل، ولخلق للشعر أخيلة أخرى ونماذج أخرى، ولكن ابن رشد ما عسى يستطيع أن يعمل وهو ليس بزعيم مدرسة أدبية! إنه يجادل ويحدد ويهدي إلى مناهج ومناهج ولكنه لا يخلق شيئاً.
إن فضل ابن رشد على الأدب العربي في هذا الكتاب لفضل عظيم، لأنه يدل على العربي الأول الذي كتب عن الأدب بطريق المقارنة، ووفق في هذه المقارنة كثيراً؛ ويدل بعد ذلك على أن العرب جربوا أن يدرسوا الآداب الأجنبية ليستفيدوا ويفيدوا من قواعدها، وأن دراستنا - اليوم - للأدب الأجنبي أكثر ضرورة منها بالأمس، بعد أن امتزجت عوالم الفكر واتحدت مناهج الأدب، وأصبح لا يليق بنا أن نترك الأدب العربي محصوراً في عزلته بحجة صيانة ووقايته. وما الذي يخشى عليه؟ وإنما صيانته ووقايته في تعريضه للهواء(153/39)
والنور لا في حجبه عنهما، وفي تقريبه من الآداب العالمية حتى يساهم معها في تأدية رسالتها لا في تنفيره منها وتنفيرها منه، على أن يبقى أدبنا محتفظاً بألوانه، ويبقى أديبنا عاملاً على إبدائها لا على إخفائها؛ وبهذا نحقق غاية من غايات الأدب، ونفتح لنا زاوية في عمارة الأدب، ونكمل الخطوة الأولى التي خطاها الأوائل ولم يكملوها.
غرض الكتاب وغرض الشعر:
وقعت مصادفة على مقالات منثورة من هذا الكتاب، وهي مقالات لا تكاد تؤلف المصنف كله، وإنما وجدت بأنها تعطي فكرة عامة عن الكتاب ومنهج صاحبه ومترجمه فيه. وقد بينت أن المترجم إنما عنى به لأنه أثر من آثار أرسطو، ولأن قواعده في الشعر ذهبت قوانين عامة، لأن أرسطو الجبار الذي أراد أن يفرض سلطان العقل على كل سلطان أراد أن يوحد مملكة الشعر ويمسك على الإحساس كما أمسك على العقل، جاهلاً أن الفرق بين هاتين المملكتين مملكة الإحساس ومملكة العقل فرق كبير، ولكن الرجل أستدرك وزعم أنه يذكر قوانين عامة للشعر، وهو لا يخوض في تولد الإحساس وملاءمة التعبير عن الإحساس، لأن هذا مما يتفاوت فيه العباقرة أنفسهم، فألف هذا الكتاب ليكون له كتاب في الشعر كما ترك كتاباً في الخطابة والموسيقى، ولقد أنتصر هذا العقل إلى حد كبير في هذه الميادين التي تختلف عن ميدانه الذي خلق له، والتي لم يكن لها مفر منها ليستطيع أن يمثل حق التمثيل ثقافة عصره. ولقد استطاع إلى حد بعيد أن يكسو هذه الأشياء النافرة عنه بأردية عقله وتفكيره، فتبيت تقرأ الشعر فكراً والتصوير تفكيراً. ولم لا ينتصر وقد أدرك بعين التأمل عبقرية هوميروس وأثنى عليه الثناء الجميل؟ وكيف يوفق الناقد بين رجلين خلدت الطبيعة هذا بعقله وذلك بقلبه؟
كتب أرسطو كتابه عن الشعر لا كما يريد الشعر لأن أرسطو مكبل بعقله مقتحم بمنطقه. فالأقيسة والأسطقسات والبراهين لا تكاد تفارق ما أراد منه أن يكون قوانين عامة للشعر، فجاءت قوانينه بذلك قوانين جافة قاسية يغلب عليها الذهن الرياضي، لو مشى عليها الشعر ذاته لجاء ممسوخاً. وجميل أن تدخل الفلسفة الشعر بشرط أن تتنازل كثيراً عن أقيستها حتى يمكنها أن تتذوق الشعر.
تناول ابن رشد هذا الكتاب وترجمه وتصرف فيه كثيراً وأحسن في هذا التصرف كثيراً،(153/40)
فأنه استغنى عن النماذج اليونانية التي يستشهد بها المؤلف وأحل محلها نماذج عربية احسن انتقائها واصطفاءها ودلت على ثقافة أدبية عالية في ابن رشد لا تقل قيمة عن بقية الثقافات التي يتضلع بها الفيلسوف. ولكن عيب الترجمة في ابن رشد طوى كل النماذج اليونانية، ومن حقه أن يأتي بها ويضع إزاءها ما جاء به من نماذج العرب لتكون الترجمة والمقارنة في الأمانة سواء؛ وجاء تقسيمه للمقالات بحسب تقسيم أبواب الشعر عند العرب، لأنه وقف درسه على هذه الأبواب، وقد أضاف إليها دراسات مختلفة في صناعة الشعر والغاية منها، وفي ألحانه وأوزانه بالنظر إلى التوقيع لا إلى الأعاريض، وفي العلل المولدة للشعر، وفي التخيلات والمعاني، وفي كيفية التخلص إلى ما يراد محاكاته وأنواع المحاكاة المقبولة وغير المقبولة، وفي صناعة الأشعار القصصية. وكان أكثر توسعاً وتصرفاً في درس صناعة (المديح وأجزائها) لأن هذه الصناعة كانت أروج أبواب الشعر في ذلك العهد، وموضع التفات أكثر الشعراء، ولسهولة المقارنة فيها، واستخراج النماذج منها، وقد غض عن ذكر (الهجاء) لأن قوانينه تنطبق على قوانين المديح. على أن ابن رشد ليلام لوما عنيفاً في هذا الباب لإهماله باب الوصف إهمالاً كلياً. ولعل درسه له كان يعمل على خلق جديد فيه. ولا ريب عندي أن أرسطو قد عالج هذا الباب الواسع عندهم معالجته لغيره من الأبواب، ولكن ابن رشد قد طوى كشحاً عنه كما ضرب صفحاً عن غيره.
أما الغرض من هذا الكتاب فهو - كما يقول صاحبه - (تلخيص القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر في الشعر ونسبة الموجودة في كلام العرب أو كلام غيرهم. والشعر عنده هو أقاويل يحتاج إلى وزن ولحن، ولا يسمى الشعر إلا ما جمع إلى الأقاويل التي تسمى شعراً مع الألحان كهوميروس (ولعل هذا النوع هو ما يدعى الشعر القصصي، وهو أول ما عرفه اليونان من ضروب الشعر)، وقد أدخل على الصناعة الشعرية بعض أقيسة منطقية، دأبها تكبل الشعر، ولكنها تقوم العقل.
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي(153/41)
4 - العجوزان
تتمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال محدثنا: وكنت قد ضقت بهذه اللجاجة الفلسفية ورأيتني مضطغناً على الشيخين معاً؛ فقلت للعجوز (ن): حدثني (رحمك الله) بشيء من قديمكما فأنتما اختصار لكل ما مر من الحياة يستدل به على اصله المطول إلا في الحب. . . وما زلتما في جد الحديث تعبثان بي منذ اليوم، فقد عدلتما بي إلى شانكما ورأيكما في القديم والجديد وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة 1895. وقد والله كاد ينتحر قلبي يأساً من خبر (كاترينا ومرغريت)؛ ولكأنك تخشى إذ أعلمتني خبر صاحبتك هذه وهي من وراء أربعين سنة - ما تخافه من رجل سيفجؤك معها في الخلوة على حالٍ من الربية فيأخذك (متلبساً بالجريمة) كما تقولون في لغة المحاكم. . .
قال فضحك العجوزان وقال (ن): لا والله يا بني، أقول ما قال ذلك الحكيم العربي لقومه وقد بلغ مائتي سنة: (قلبي مضغة من جسدي ولا أظنه إلا قد نحل كما نحل سائر جسدي وأعلم يا بني إنه إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله؛ فيحب العجوز مكاناً أو شيئاً أو معنى أي ذلك كان ليعيده ذلك إلى الدنيا أو يبقيه فيها (بقدر الإمكان). . .) فضحك الأستاذ (م) وقال: ولعل ثرثرة العجوز (ن) هي الآن معشوقة العجوز (ن).
ثم قال: وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهه كأنه لا يطيق أن ينظر إلى معناه الغليظ؛ ولا بد أن يخرج العجوز من معاني الدنيا قبل أن يخرج من الدنيا. ولهذا لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر وقدر الأمور على ما هو فيه لا على ما كان فيه. والفرق بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمله أعضاؤه فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها. أما الحاضر؛ أما الجسم الهرم فهو يشعر أنه يحمل أعضاؤه كلها وكأنها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر. . . وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول تفارقني وأفارقك.
فتململ الأستاذ (م) وقال: أفٍ لك ولما تقول! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية. أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهراً فقط كعمشوش(153/42)
العنقود بعد ذهاب الحب منه يقول كان هنا وكان هنا؟
ألا فأعلم يا (ن) إن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور من أطوار الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها. وقد قيل لبعض أهل هذا الشأنٍ وكان في مرض موته: كيف تجد العلة؟ فقالوا سلوا العلة عني كيف تجدني؟
وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمةً بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضى ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه ويتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسى أن الحياة ردته طفلاً كالطفل أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال الذي في الكون؛ وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.
وما اصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: (إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الرَّوحَ والفرحَ في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشك والسخط). فهذه هي قاعدة الحياة، لا تعاملك الحياة بما تملك من الدنيا، ولكن بما تملك من نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقية ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد. وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئاً معنوياً من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها ومن الأسرار التي فيها، لا شيئاً مادياً من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المتقلبة عليها.
فأطرق العجوز (ن) قليلاً ثم قال: (ربِّ إني وهَنَ العظمُ مني)، ألا ما أحكم هذه الآية! فو الله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجفٍ وهزال وإعياء، وأنه ليس قائماً في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخلِّ به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيه عملها، فأخذ يتفتَّت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه أخر طبقاته؟
قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغةً من نوابغ التصوير في زمننا هذا، تناول بفنه ذلك(153/43)
المعنى العجيب فكتبه صورةً وألواناً، لا أحرفاً وكلمات، فكيف تراه كان يصنع؟
قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماءٍ تعلق سحابها كثيفاً متراكباً بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم بها الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعةً كضوء الشمعة في فتق من فتوق السحاب؛ ثم يرسل في الصورة ريحاً باردةً هوجاء، يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالاً ونساءً يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى. . . وهم جميعاً في هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميعاً من المجددين. . .
ثم يرسم يا بني في آخرهم (على بعدٍ منهم) عمك العجوز (ن)، يرسمه كما تراه، منحل القوة، منحني الصلب، مرعشاً متزلزلاً متضعضعاً؛ وقد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتزم. . .
ثم يصوره وقد وقف هناك ساهماً كئيباً، رافعاً رأسه ينظر إلى السماء.
قال المحدث: وضحكنا جميعاً ثم قال الأستاذ (م): لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها؛ فأن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وان فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة.
والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته تظهرها الدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.
قال (ن): أكذلك هو يا أستاذ؟
قال الأستاذ. بل هي الصورة الجدية من هذه الحياة الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليُجل الحقيقة من يجلها. وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.
قال العجوز (ن): آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها! إنهم يرونه احتراماً للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية.
وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها لا توحي إلى الناس شيئاً غير وحي الجنازة من(153/44)
مهابة وخشوع.
قال الأستاذ: إنما أنت دائماً في حديث نفسك مع نفسك، ولو كنت نهراً يا مستنقع لما كان في لغتك هذه الأحرف من البعوض.
قال العجوز الظريف: إن هذا ليس من كلام الفلسفة التي نتنازعها بيننا ترد على وارد عليك، ولكنه كلام القانون الذي لك وحدك أن تتكلم به أيها القاضي.
قال (م): صرح وبين فما فهمنا شيئاً
قال العجوز: هذا كلام قلته قديماً في حادثة عجيبة. فقد رفعت إلى ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دَجاجة؛ وتوسمته فإذا هو من أذكى الناس، وإذا هو يجل عن موضعه من التهمة، ولكن صح عندي أنه قد سرق وقامت البينة عليه ووجب الحكم، فقلت له: أيها الشيخ ما تستحي وأنت شائب أن تكون لصا؟
قال: يا سيدي القاضي كأنك تقول لي ما تستحي أن تجوع؟
فورد على من جوابه ما حيرني فقلت له: وإذا جعت أما تستحي أن تسرق؟
قال يا سيدي القاضي كأنك تقول لي: وإذا جعت أما تستحي أن تأكل؟
فكانت هذه أشد علي فقلت له: وإذا أكلت أما تأكل إلا حراماً؟
فقال: يا سيدي القاضي إنك إذا نظرت إلى محتاجاً لا أجد شيئاً، لم ترني سارقاً حين وجدت شيئاً.
فأفحمني الرجل على جهله وسذاجته، وقلت في نفسي لو سرق أفلاطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلام بالفلسفة وتكلمت بالقانون الذي لا يملك الرجل معه قولاً يراجعني به، فقلت: ولكنك جئت إلى هذه المحكمة بالسرقة فلا تذهب من هذه المحكمة إلا بالحبس سنتين.
قال محدثنا: وأرمضني هذا العجوز الثرثار وملأ صدري إذ ما برح يديرني وأديره عن (كاترينا ومرغريت)، ورأيت كل شيء قد هرم فيه إلا لسانه، فحملني الضجر والطيش على أن قلت له: وهب القضية كانت هي قضية (كاترينا) وقد رفعت إليك متهمة، أفكنت قائلاً لها: جئت بالمحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالحبس سنتين؟
وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بالاً ولا عرفت لها خطرا، فاكفهرَّ القاضي العجوز وتربد وجهه غضباً وقال: يا بغيض! أحسبتني كنت قائلاً لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة(153/45)
فلا تذهبين من المحكمة إلا بالقاضي. . .؟
وغضب الأستاذ (م) وقال: ويحك أهذا من أدبكم الجديد الذي تأدبتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم. . .؟ أما إني لا أعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرةً كل الحرية إلا وهي أحياناً سفيهة كل السفاهة كهذه القولة التي نطقت بها.
لقد كان الناس في زمننا الماضي أناساً على حدة، وكانت الآداب حالاتٍ عقليةً ثابتةً لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس تجهد في أن تربي بنتها على غير طريقتها.
قال الحدث: فلججت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز (ن) قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعةُ حرية الفكر كما تمت من قبل في ذلك الواعظ المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره؛ قالوا فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا فأني قد أصبحت مخموراً. . . . . .
هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم إنه صريح غير منافق. . . وكان يكون هذا قولاً في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائماً في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح إذ لا يجب شيء مادام مذهبها الإطلاق والحرية.
كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول (كن) وإن لم يكن إلا جهله. ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة. ويحسبون أنهم يحملون المجتمع؛ فأنهم ليحملونه ولكن على طريق البراغيث في جناح النسر.(153/46)
قال (م): وكيف ذلك؟
قال: زعموا أن طائفة من البراغيث اتصلت بجناح نسر عظيم واستمرأته ورتعت فيه، فصابرها النسر زمناً ثم تأذى بها وأراد أن يرميها عنه فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها، فقالت له البراغيث: أيها النسر الأحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو. . .؟
أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الأدبية، فقد قال الحكماء: إن بعرةً من البَعر كانت معلمة في مدرسة قال (م): وكيف ذلك؟
قال: زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى، فألفت لتلاميذها كتاباً أحكمته وأطالت له الفكرة، وبلغت فيه جهدَ ما تقدر عليه لتظهر عبقريتها الجبارة؛ فكان الباب الأكبر فيه أن الجبل خرافة من الخرافات، لا يسوغ في العقل الحر إلا هذا، ولا يصح غير هذا في المنطق. قالت: والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل شيء عظيم، يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألفِ مرة؛ فإذا كان الجبل في قدر الكبش ألف ألفِ مرة فكيف يمكن أن يبغره الكبش. . .؟
قال الأستاذ (م): هذا منطق جديد سديد لولا أنه منطق بعرة.
قال (ن): وكل قديم له عندهم جديد، فكلمة (رجل) قد تخنثت، وكلمة (شاب) قد تأنثت، وكلمة (عفيفة) قد تدنست، وكلمة (حياء) قد تنجست. والزمن الجديد ألا يعرف الطالب في هذا العام ماذا تكون أخلاقه في العام القادم. . . والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر مما تتقن العمل. . . والذمة الجديدة أن مال غيرك لا يسمى مالاً إلا حين يصيرك في يدك. . . والصدق الجديد أن تكذب مائة مرة، فعسى أن يصدق الناس منها مرة. . . ثم الإنسان الجديد، والحب الجديد، والمرأة الجديدة، والأدب الجديد، والدين الجديد، والأب الجديد، والابن الجديد؛ وما أدري وما لا أدري.
قال (السوبرمان): وتنطعوا في إخراج المخلوق الكامل بغير دينه وأخلاقه، فسخرت منهم الطبيعة، فلم تخرج إلا الناقص أفحش النقص، وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة.
قال محدثنا: ونهض العجوز (ن) وهو يقول: تباركت وتعاليت يا خالق هذا الخلق؛ لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في إنك قد فتحت على العلم الجديد بالغازات السامة. . .(153/47)
قال: ولما أنصرف العجوز، قلت للأستاذ (م): ولكن ما خبر (كاترينا ومرغريت) وسنة 1895؟
فقال: أيها الأبله، أما أدركت بعد أن العجوزين قد سخرا منك بأسلوب جديد. . . . . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(153/48)
ذكرى المولد الشريف
للشاعر المطبوع الأستاذ أحمد محرم
مِنْ هيبةٍ يُغضى القريض ويُطرق ... ويميل فيك إلى السكوت المنطقُ
إيذن يَفِض هذا البيان فإنه ... مما يُفيضُ بيانك المتدفّقُ
ما في النوابغِ من لبيبٍ حاذق ... إلا وأنتَ ألبُ منه وأحذق
إن يلبس الشعرُ الجمال منوراً ... عبقاً، فأنت جماله والرونق
والقولُ مستلَبُ المحاسن عاطلٌ ... حتى يقولَ العبقريُّ المفلق
رُضتَ الأوابد لي أقودُ صعابها ... ورضيتني، إني إذاً لموفق
هي مدحتي انطلقت إليكَ مشوقة ... والسُبل تسطع، والمنازلُ تعبَق
أنت المجالُ الرحب تُعتصر القوى ... فيهِ، وتمتحن العتاقُ السَّبق
(حسان) منبهرٌ و (كعب) عاجز ... و (الشاعر الجعديُّ) عانٍ موثق
أطعمتهم فتنازعوا فيك المدى ... وأبيت فانقلبوا وكلٌ مُخفق
لي عذرهم، ما أنت من عدة المنى ... إلا وَراء مخيلةٍ ما تصدق
أنت احتملت الأمر تنصدع القوى ... مما يشق على النفوس، وتصعق
وسننت للمتعسفين سبيلهم ... متبلجاً سمحاً يضيءُ ويُشرق
يمشي الهدى فيه على يدك التي ... هي للهدى عضدُ أبرُّ ومرفق
ذُعرت (قريش) هل يبدل دينها ... رجلٌ ضعيف في العشيرة مُملق؟
لا المال ينصره، ولا هو إن دعا ... خفق اللواءُ له، وخف الفيلق
ينهى عن الأصنام وهي بموضع ... تمحي حواليه النفوس وتمحق
المال والعِرض الممنَع سورُه ... والمجد والشرف الصميم المعرق
من وصفهِ الأسد الضواري تدعى ... والخيل تصهل، والقواضب تبرق
الحقُ أقبل في لواءِ (إمامهِ) ... والحقُ أولى أن يسود وأخلق
يرمى به سودَ الغياهب ساطعاً ... تنجاب حول سناه أو تتشق
حارَ الظلام، فما يلوذ بجانبٍ ... إلا يحيط به الضياءُ ويحدق
الوحي مطرودٌ، وبأس (محمد) ... جارٍ إلى غاياته لا يُلحق(153/49)
لا الضعف يأخذ من قواه ولا الواني ... بأولئك الهممِ الدوائبِ يَعلق
بغى الأولى خذلوه من أنصاره ... والبغي نصرٌ للهداة مُحقق
زعموا الأذى مما يفلُّ مضاَءه ... فمضى البلاءُ به، وجد المصدق
يأوي إلى النَفر الضعاف وإنهم ... لأشد منهم في النضال وأوثق
هم في حمى (الوحي المنزل) صخرة ... تعيي الدُّهاةَ، وجذوة تتحرق
وهبوا لربهم النفوس كريمة ... لا تُفتدى منه، ولا هي تعتق
المؤمنون الثابتون على الهدى ... والأرض ترجف والشوامخ تخفق
رزقوا اليقين، فلا ذليلٌ ضارع ... يطوى الجناحَ، ولا جبانٌ مشفق
جند النبيِّ، إذا تقدم أقبلوا ... والموتُ يفزع، والمصارع تفرق
صدعوا بناَء الشركِ تحت لوائه ... فهوى، وطار لواؤه يتمزق
إن الذي جعل الرسالة رحمةً ... لم يرحم الدمِ في الغوايةِ يهرَق
بعث الرسول معلماً ومهذباً ... يبني الحياةَ جديدةً يتأنق
يتخير الأخلاق ينظم حسنها ... في كلّ ركنٍ قائم وُينسق
عفت الرسوم وأخلقت فأقامها ... شماَء لا تعفو ولا هي تخلق
قدسية الأرجاء، ما برحابها ... عنتٌ، ولا فيها مكان ضيق
تسع الممالك والشعوب بأسرها ... وتفيض خيراً ما بقين وما بقوا
عرفت لحاجات العصور مكانها ... فلكُل عصرٍ سؤلُهُ والمرفق
مَنعت مغالقها الشرورَ وما بها ... للخير والمعروفِ بابٌ مُغلق
فيها لِدنيا العالمين مثابةٌ ... لولا التباعد والهوى المتفرق
(المصلح الأعلى) أتمّ نظامها ... فانظر أينقضه الغبيُّ الأخرق؟
أوفى على الدنيا، وملءُ فجاجها ... بغي يزلزلها، وظلم موبق
والناس فوضى في البلاد يغرهم ... دينٌ من الخبل المضل ملفق
النفس مغلقةٌ على أوهامها ... والعقل مضطهدٌ يضامُ ويُرهق
سَجدوا لما صنعوا! فأين حلومهم؟ ... ولمن جباهٌ بالمهانةِ تُلصق؟
أهيَ التي رَفعوا وظنوا أنهم ... قوم لهم فوق السماكِ مُحلق؟؟(153/50)
من يدعي شرفَ الحياةِ لمعشرٍ ... كفروا بمن يهبَ الحياةَ ويخُلق؟
إن تنب (مكةُ) بالرسول فما نبا ... عزمٌ تهدُ بهِ الصعابُ وتُسحق
كذب الطغاة: أيُرجفون بقتله ... والوحي سورٌ والملائك خندق؟؟
وَرَدَ (المدينةَ) زاخراً فجرى بها ... آذيُهُ، وطما العُباب المغرق
بطلٌ توسَع في ميادين الوغى ... لما تضَايق عن مداه المأزق
ساسَ الحوادثَ والنفوس، فتارة ... يَقِصُ الرقاب، وتارةً يترفق
يدعو إلى الحسنى، فإن جمح الهوى ... فالسيف مسنون الغرارِ مذلق
يرمي العوان بكلِّ أغلب باسلٍ ... يهفو إلى غمراتها يتشوق
لَمسَ العروش فما يزال يهزها ... ذعرٌ يطوف بها وهمٌ مقلق
صدعت قُوى الإسلام شامخ عزها ... فإذا الملوك أذلة تتملق
وإذا الممالك ما يهلل مغربٌ ... إلا استجاب له فكبر مشرقٍ
هذا تراث المسلمين، فبعضه ... يُزجى علانيةً، وبعض يسرق
عجز الحماةُ، فنائمٌ متقلبٌ ... فوق الحشيةِ، أو مغيظ مُحنق
عجزوا، فلا السلَب المباح كريمه ... يحمى، ولا العاني المكبل يُطلق
القوم صمٌّ في السلاح، وقومه ... مستصرخٌ يعوي، وآخرُ ينعق
إن كنت ذا حق فخذه بقوةٍ ... الحق يخذله الضعيف فيزهق
لُغةُ السيوف تحل كل قضية ... فدع الكلام لجاهل يتشدق
وَكُن اللبيب، فليس من كلماتها ... شرعُ يداس، ولا نظامٌ يخرق
الخيل والرهج المثارُ حزوق ... والنارُ والدمُ والبلاء المطبق
فتشت ما بين السطور فلم أجد ... أن الأسود بصيدها تتصدق
أرأيت أبطالَ الكفاحِ وما جنى ... أملُ بأجنحة الرياح معلق؟
لا يأس من نفحات ربك إنني ... لأرى السنا خَللَ الدُجى يتألق
أحمد محرم(153/51)
نشيد وطني
للأستاذ محمود الخفيف
مِصر يا أرض الفراعين الأولى ... موطِنَ العِزةِ في فجرِ الزَّمنْ
أسلمي أنا نزعنا للعلا ... مُذْ دعانا للعلا داعي الوطنْ
وَحيُ ماضينا جَلاَ المستقبلا
فتبينا المكانَ الأوَّلا
وسئمنا في الحمى طولَ الوسَنْ
دَرَجتْ في ظِل وادينا الحياه ... وبماضي عزمنا سارَ المثلْ
قل لمن يُزهى بمجدٍ أو بجاه ... نحنُ أهلُ السَّبْق في المجدِ الأوَلْ
نحن أبناءُ الميامينِ الغُزاه
قد رفعنا اليومَ في مِصرَ الجباه
وتغنينا بألحان الأملْ
رُوحنا أعيتْ على الدهر الفناء ... وطوت في صمتها طول الحقبْ
أبداً لن يفقد النيلُ الرجاء ... أو يرى واديه سوَء المنقَلبْ
عادت الروحُ وإن طال الخفاء
فتطلعنا إلى أوج العَلاءْ
وطلبنا موضعاً فوق الشهبْ
سِرُّ وادينا وإن طال السكون ... مستكنٌ فيه باقٌ مُدَّخَرْ
خالدٌ يطفو علىٍ غمر القرون ... نجتليه اليومَ محمودَ الأثرْ
في غدٍ نُحيي به عهد الفنونْ
في حمى النيل كما كُنَّا نكون
نجتني من غرسنا أحلى الثمرْ
يا وَريد القلب في الوادي الخضيب ... أنت يا من وهَبَ الوادي ثراه
سر، تدفق أيها النهرُ الحبيب ... يا عباباً يُبهر الفكرَ مداه
يا جَدِيداً وَهوَ للدهرِ ضريبْ(153/52)
يتجلىَّ فيك لي معنى عجيب
فطن القلبُ إليه فوعاه
أنت كالمصريّ في نزعته ... زاخر بالخير فياض المعين
خالد تحكيه في فطرته ... وادع تنساب في خفض ولين
حالم كابنك في رقته
ولقد تحكيه في غضبته
باعتكار ثم تصفو بعد حين
إيه يا رمز المعالي والخلود ... قد شهدت المجد والدهر غلاء
وصحبت العزَّ في كل العهود ... في هجير الحرب أو ظلِّ السلام
قِرَّ عيناً أيها النهرُ الودود
قد صحونا بعد أن طال الهجود
وجمعنا بين رأي واعتزام
قد أبينا ذلة المستضعفين ... فوثبنا وثبة الأسْد الغضابْ
قد كرهنا البحر مسلوب السفين ... وملِلناَ البرَّموهون الجناب
فتآخينا على ضوء اليقين
وهتفنا نصرةُ الأوطان دين
قد دعت مصرُ فما أحلى العذاب
لم ينل من عزمنا حرُّ الجهاد ... لا ولن نخشى مع الحق الردى
قل لمن أعماه حقدٌ أو عناد ... نحن بالأرواح أعْززْنا الفدى
لازم الجدُ خطانا والسداد
ولغير الحق لم نُلق القياد
أقبل الدهر علينا أو عدا
جنة الأرض رفعنا ذكرها ... وملأنا باسمها سمْع الأمم
أوٍَلم ننشر لها دُستورَها ... بالدَّم المسفوح من طيِّ العدم
بُغية النيل عرفنا مهرَها(153/53)
فَلمحنا بعد حين فجَرها
وغداً نكشف عن مصرَ الَظلم
شَيِّع الليلَ فَقَدْ لاح الصباحْ ... لم يَقِفْ يوماً على الدَّأْبِ الفَلَكْ
عَهدُنا عهدٌ جهاد وكفَاحْ ... بهما كلُّ عصيٍّ يُمتلكْ
فامتلئ من كبرياءٍ وطماح
وأتجِهْ صوبَ السموات الفساح
يا ابن مِصْر فالعلا والمجد لك
محمود الخفيف(153/54)
القصص
قصة أندلسية واقعية
محمد الصغير
للأستاذ علي الطنطاوي
قال:
كنت يومئذ صغيراً، لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي - رحمه الله - يضطرب ويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من (الكتاب المقدس)، وأخبرته بما تعلمت من اللغة الأسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين، كأنه قد بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إلي بلهفة وحزنٍ، ويحرك شفتيه فعلَ من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولاني ظهره، وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً - وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبت إلى المدرسة حزينة دامعة العين، وتقبلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني فتدعوني فتقبلني مرة ثانية - ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سبباً؛ ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق، كأني كنت غائباً عنها عشرة أعوام - وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الأسبانية، ولا اعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحولاه، وأخذا يتكلمان بالأسبانية فأعجب وأتألم وأذهب أظن في نفسي الظنون حتى إني لأحسب أني لست ابنهما، وإني لقيط جاءا به من الطريق فيبرح بي الألم فآوى إلى ركن في الدار منعزل فأبكي بكاء مراً - وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجاً خاصاً يختلف عن مزاج الأطفال الذين كانوا في مثل سني، فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب، فأجلس وحيداً أضع رأسي بين كفي، وأستغرق في تفكيري، أحاول أن أجد حلاً لهذه المشكلات. . . حتى يجذبني الخوري من قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة. . .
وولدت أمي مرة؛ فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل، لم يبتهج ولم تلح على(153/55)
شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرق برأسه إلى الأرض وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي. . . فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً، وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة. . . ثم تغمض عينيها، فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي. . حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها، ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدس، فخفق قلبي خفوقاً شديداً، واضطربت، لكني تماسكت وتجلدت، فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفاً في الظلام لحظات كانت أطول علي من أعوام؛ ثم أشعل سراجاً صغيراً كان هناك، فتلفت حولي فرأيت الغرفة خالية ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، وما فيها إلا بساط، وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار، فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتاً ينظر إلي نظرات غريبة، اجتمعت هي ورهبة المكان، وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب، وانتقلت إلى دنيا أخرى، لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. . . ثم أخذ أبي يدي بيديه، بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت:
- يا بني! إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً، وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك. فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال (ديوان التفتيش)
فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي، وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش، وأرى ضحاياه كل يوم وأنا غاد إلى المدرسة، ورائح منها - فمن رجال يصلبون أو يحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن، أو تبقر بطونهن، فسكت ولم أجب،
- فقال لي أبي: مالك لا تجيب؟ أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟(153/56)
- قلت له: نعم
- قال تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟
- قلت: نعم
قال: - فأقترب مني. أرهف سمعك جيداً. فأني لا أقدر أن أرفع صوتي. أخشى أن تكون للحيطان آذان تسمعني فتشي بي إلى ديوان التفتيش فيحرقني حياً. . .
فاقتربت منه، وقلت له:
- إني مصغ يا أبت
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف. وقال:
- أتعرف هذا الكتاب يا بني؟
- قلت لا
- قال هذا كتاب الله
- قلت الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله؟
فاضطرب وقال:
- كلا هذا هو القران الذي أنزله الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ففتحت عيني من الدهشة ولم أكد أفهم شيئاً.
- قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة. . فظهر هناك. . . وراء البحار والبوادي. . في الصحراء البعيدة القاحلة. . . في مكة، في قوم بداة مختلفين مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد وأعطاهم به الاتحاد والقوة والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب، حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة أسبانيا، وكان ملكها جباراً عاتياً، وحكومتها ظالمة غاشمة، وشعبها مظلوماً فقيراً جاهلاً متأخراً، فقتلوا الملك الجبار، وأزالوا الحكومة الظالمة، وملكوا الأمر في أسبانيا، فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم وأمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة. . . ثمانمائة سنة جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا(153/57)
نعم يا بني نحن العرب المسلمين. . .
فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به:
- ماذا؟ نحن؟. . . العرب المسلمين
- قال: نعم يا بني. هذا هو السر الذي سأفضي به إليك. . . نعم نحن. . . نحن أصحاب هذه البلاد، نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا؛ نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن، فصار يقرع فيها الناقوس؛ نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفاً بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله فصارت كنائس يقوم فيها القسس والرهبان يرتلون فيها الإنجيل. . .
نعم يا بني. . . نحن العرب المسلمين، لنا في كل بقعة من بقاع أسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا، أو شهيد من شهدائنا. نعم. . . نحن بنينا هذه المدن، نحن أنشأنا هذه الجسور، نحن مهدنا هذه الطرق، نحن شققنا هذه الترع، نحن زرعنا هذه الأشجار. . .
ولكن منذ أربعين سنة. . . أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خدع الملك البائس، أبو عبد الله الصغير آخر ملكونا في هذه الديار بوعود الأسبان وعهودهم فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب، ليموت هنالك وحيداً فريداً شريداً طريداً، وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال. فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشئوا ديوان التفتيش، فأدخلنا في النصرانية قسراً، وأجبرنا على ترك لغتنا إجباراً، وأخذ منا أولادنا لينشئهم على النصرانية. فذلك سر ما ترى من استخفائنا في العبادة، وحزننا على ما نرى من امتهان ديننا، وتكفير أولادنا.
أربعون سنة يا بني ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحمله جلاميد الصخر ننتظر فرج الله. لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد.
هذا هو السر يا بني فأكتمه وأعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك؛ ولست والله أخشى الموت، أو أكره لقاء الله، ولكني أحب أن أبقى حتى أعلمك لغتك ودينك، وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الأيمان. فقم الآن إلى فراشك يا بني.
صرت من بعد كلما رأيت شُرفُ الحمراء، أو مآذن غرناطة، تعروني هزة عنيفة، وأحس(153/58)
بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي؛ وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأعاتبها وأقول لها:
أيتها الحمراء. . . أيتها الحبيبة الهاجرة، أنسيت بناتك وأصحابك اللذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم. أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال، أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وأن أمروا لبى الدهر. أألفت النواقيس بعد الآذان، أرضيت بعد الأئمة بالرهبان!
ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه علي أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي فيكتب لي حذاءه الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا، ويعلمني النطق بها ورسمها ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه وهو يصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة
وكان الخوف من أن أزل فأفشي السر، لا يفارقه أبداً، وكان يمتحنني فيدس أمي إلي فتسألني:
- ماذا يعلمك أبوك؟
- فأقول: لا شيء
- فتقول: إن عندي نبا مما يعلمك، فلا تكتمه عني
- فأقول: إنه لا يعلمني شيئاً
حتى أتقنت العربية، وفهمت القرأن، وعرفت قواعد الدين، فعرفني بأخ له في الله، فكنا نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً؛ ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم وهم يرون ذلك بأعينهم، ويسقون الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجلهم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم ويجلدون حتى يتناثر لحمهم. . .(153/59)
وأستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا، وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة، فأفوز فوزاً عظيما؛ ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر وحملتك الأمانة الكبرى التي كدت أهوى تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء
ومرت على ذلك أيام. وكانت ليلة سوداء من ليالي السَّرار، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب، بلد المسلمين؛ فأقول له: وأبي وأمي؟. . .
فيعنف علي ويشدني من يدي، ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟
فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام، قال لي:
- أصبر يا بني. . . فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش. . . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(153/60)
من أسخلوس
لايوس وأوديب
(درامتان مفقودتان)
للأستاذ دريني خشبة
مقدمة: كانت محنة بيت لايوس ملك طيبة، من أعمال بووطيه إحدى مقاطعات هيلاس، مرتعاً خصيبا لأخيلة شعراء اليونان، وقد اتخذوا منها مادة خالدة لمآسيهم، وكتب فيها اسخيلوس ثلاثا من أروع مآسيه هي لايوس، أوديبوس، سبعة ضد طيبة. وقد فقدت الدرامتان الأوليان مع الأسف الشديد، وبقيت الثالثة التي تنم بأسلوبها الرائع عما كانت عليه أختاها من الكمال والسمو. ومما يعزينا من فقدتينك الدرامتين ما وصل إلينا من آثار سوفوكليس؛ فقد ساهم هو الأخر في تخليد تلك المآسي وأبقت غير الأيام على درامتيه القويتين (أوديبوس الملك) و (أوديبوس في كولونوس) ولما كنا لم نسغ تقديم الدرامة الباقية من ثلاثية إسخيلوس وهي (سبعة ضد طيبة) دون التعريف بالدرامتين اللتين تقدمتاها فقد آثرنا تلخيص هاتين الدرامتين عن مصادر محترمة موثوق بها على أن نلخص الدرامة الباقية بعد ذلك.
- 1 -
تزوج لايوس ملك طيبة من الأميرة الجميلة جوكاستا، ومضت سنون والملكة لا تنجب؛ فكان عقمها يشجي الملك، ويكدر صفو حياته؛ وكانت هي أيضاً تحس بما يحس زوجها من مرارة الحياة بلا ولد، وإقفار القصر من بلبل غرد يملؤه موسيقى ويعمر ما أجدب روحي المليكين، ويربط قلبيهما برباطه المقدس، الذي لا ينفصم.
فكان الملك وقتاً ما شقيا وكانت الملكة وقتا ما شقية
- 2 -
ثم أخذها المخاض فجأة، وتحقق الأمل المنشود فوضعته غلاماً زكياً مشرق الوجه مفتر الثغر وضاح الجبين. يقبض كفيه الصغيرتين فكأنما يقبض بهما على نواصي المشرقين والمغربين!(153/61)
وبدا للملك أن يرسل رسله إلى دلفي يستنبئون كهنة أبوللو عما سيكون من شأن الغلام، وما يضمره له الغيب في صفحته
وا أسفاه! لقد عاد الرسل من دلفي بأشأم نبوءة!!
(إذا عاش هذا الغلام فأنه يقتل أباه، ويتزوج من أمه، ويجر على شعبه شقاء ما ينتهي حتى تفنى ذريته!!)
يا للهول! لقد سمع الملك إلى النبوءة؛ وكأنما انطفأت في عينه شمس السعادة المشرقة، وكأنما ران على قلبه من الهم ما يضنيه، فما يدري ماذا يصنع!؟
أما الملكة، فيالها من شقية مرَزَّأة! لقد أحست، مذ عرفت النبوءة، كأنما قد ولدته أفعوانا أرقم، كهذه التنانين الخرافية التي تمتلئ بها أساطير قومها!. . .
- 3 -
وأسقط في يد الملك، ثم أعتزم أن يقتل الغلام، فعسى أن تبدله الآلهة خيراً منه: (إن نبوءات دلفي لا تكذب ولا تطيش، ومادام هذا الولد سيقتلني إذ عاش، فأني قاتله، ومجنب أمه الفضيحة، وشعبي الرزايا والأشجان!)
ودعا إليه واحداً من خدمه المخلصين فأسر إليه بكلمات. . . وأحتمل الخادم الغلام ومضى به إلى البرية ليذبحه. . .
ونظر الرجل في وجه الطفل فرأى البراءة والطهارة والنقاء، ورأى عينين صافيتان تطل منهما السماء بما فيها من آلهة. . . كأنما تأمره ألا يفعل!. . .
ورأى شفتين رقيقتين كأنما تكلمانه بلغة علوية في ألفاظ كالنسيم الحلو لا تبين، ولكن تغمغم. . . ولا تسمع ولكن تفهم. . . تسترحمانه!
ورأى أذنين ترتعشان كالدينارين، كأنما تقولان له: (أيها الرجل لقد سمعنا ما اسر إليك الملك فحذار أن تقتل هذا الطفل صاحبنا!. . .)
ثم نظر الرجل في السماء فرأى سحاباً رقيقاً ممزقاً تصبغه الشمس بأرجوان خفيف كالدم المطلول، فيجفل قلبه، وتراع نفسه ويقسم ألا يقتل الولد!
ولكن ماذا يقول للملك؟ إذن: (لأربط من عقبيه في هذا الفرع الغليظ من الشجرة، ولأتركه للآلهة تصنع به ما تشاء. . . فإذا حق عليه القتل، سعت إليه وحوش البرية أو عقبان(153/62)
السماء فاغتذت به. . . وإلا، فليحي حياته التي تريدها الآلهة. . . وليكن بعد ذلك ما يكون!)
- 4 -
وبكى الطفل، وملأ البرية بصراخه المحزن، ورددت الآكام ومشارف الجبال عويله المؤلم، ثم مر به راع كان يتفقد أحد نعاجه الضالة فرثى له، وتقدم فحل الرباط عن عقبيه، وشدهه أن يجدهما متورمين مما ألم بهما، فسماه (أوديبوس!)
وأرتحل به إلى كورنثه، فرآه معه من نم عنه إلى الملك الذي كانت امرأته عقيما لا تلد، فحبب إلى يوليبوس أن يرى الطفل عسى أن يتخذه ولداً. فلما أحضر أليه أنس في عينيه بريقاً عجيباً وفي جبينه لآلاء قويا، وفي روحه الصغيرة روحا كبيراً يكاد يملأ الأكوان. . . فقال للملكة: (إن لم يكن هذا الطفل ابن ملك، فما أحسبه خلق إلا ليكون ملكا. . . ألا نتخذه ولي عهد؟)
وشب أوديبوس، أو أوديب، وأحبه الملك، وغمرته الملكة بإعزازها، وكان هو يهتف بالملك (أي أبي) وبالملكة (يا أمي!) وهو لا يعرف مما أخفياه عنه شيئاً!
- 5 -
أما لايوس، ملك طيبة، فأنه تنفس الصعداء لما حسب من قتل الطفل، وتنفست الملكة الصعداء كذلك. . . أما الأقدار، فما برحت تسخر منهما، وتضحك ملء أشداقها عليهما. . . وما برحت كذلك تعد العدة للمستقبل الرهيب!
- 6 -
وترعرع أوديبوس، ونشأ مفتول العضل هرقلي الصدر، قويم الأخلاق، فيه نخوة الملك، ورفعة العرش، إلى كرم أرومة وطيب محتد.
وحُم القضاء. . . وأقيم في القصر الملكي حفل فخم، دعي إليه سادات طيبة وشبابها. . . وقدمت الآكال والأشربات. . . وققهت أباريق الخمر في الكؤوس. . . وفي الرؤوس، وذهبت أشوابها بوقار الشباب فتحرش بعضهم بأوديب، الذي لم يكن ممن تأسر الخمر لبه، فرده أوديب في حزم، وفي أدب؛ ولكن الشاب خاشن ولي العهد، ثم لمزه، وهو لا يدري ما(153/63)
يقول، لمزةً نبهت غافل أوديب؛ ذلك أنه عيره بأصله المجهول. . .
(أصلي المجهول؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ مجهول كيف؟ أولست ابن بوليبوس ملك كورنثه؟ أوليست هذه الملكة الجليلة أمي؟ بلى؟! لقد كنت أحس دائماً أنني لا استنشق هواء الأبوة في هذا القصر!. . . ويلاه! السر العجيب. . . السر العجيب. . .)
وأنطلق المسكين إلى مخدعه يبكي وينتحب. . . وانطلقت الملكة في إثره ترفه عنه وتواسيه، وتحلف له بالأيمان المغلظة أنه أبنها. . . وأنها أمه. . . ولكن. . . هيهات! فلم يكن أوديب من البله والغفلة بحيث ينخدع بهذه الأيمان التي لا تصدر عن إخلاص الأم الحقيقة، ولا يشف عن صدقها جب الأمهات الذي يدل على نفسه. . .
(لا! بل أنا أوديب التاعس! أنا أوديب المسكين الذي لا يعرف له أماً، ولا يدري له أباً. . . الوداع أيها القيصر المملوء بالخداع. . . الوداع أيها الملك الذي أكرمتني كأنني ابنك. . . اغفري لي أيتها الملكة التي أحبتني كأنني أبنها. . . سأنطلق. . . سأهيم على وجهي في القفار والفلوات. . . لا بد أن أعرف. . . لا بد أن أعرف من أنا. . . من أبي. . . من أمي. . . الوداع. . . الوداع. . .)
وأنطلق المسكين لا يلوي على شيء. . . غير مزود من هذا الملك العريض والسلطان الواسع إلا بسيفه. . . حتى إذا بلغ أفق طيبة، وقف على ربوة عالية يلقي على ملاعب الصبي ومراتع الشباب نظرة باكية. . . ثم مضى. . .
- 8 -
كانت الشكوك القاتلة تعصف بنفس أوديب، وكان يحاول أن ينسى كلمة الشاب المفتون الذي لمزه. . . ولكن عبثاً حاول ذلك. . . وكان يجهد فيما بينه وبين نفسه أن يفسر تلك النظرات الصارمة التي تبادلها ضيوف القصر بعد أن قال الشاب قالته، ولكنها كانت تعتاص بالمعاني السود في نفسه، وتثير في أعماقه ألواناً من الريب تغلي بدمه في رأسه. . .
وذكر أمه - أو الملكة - وهي تحاول أن تتغفله، وذكر سمات الخداع في ألفاظها، فوقر في نفسه أنه لا بد ابن أبوين آخرين غير بوليبوس وزوجه.
(إذن. . . إلى دلفي! لأذهب إلى دلفي! لأستوح كهنة أبوللو، فعندهم الخبر اليقين)(153/64)
وهام على وجهه حتى كان في دلفي، وحتى وقف في هيكل أبوللو يبكي ويستنبئ الكهنة!
وساد المعبد صمت رهيب، وانعقدت في أرجائه سحابة داكنة من بخور العنبر، ثم انقدحت ثمة شرارة هائلة هي التي تسبق كلمات الآلة دائما. . . وإذا بصوت مذبوح يتهدج قائلاً:
(ويح لك يا أوديب! أهو أنت؟ اذهب أيها التعس، فقد قضي أن تقتل أباك، وتتزوج من أمك، وتجر التعاسة على شعبك. . .)
وصمت الصوت، ومضى أوديب لطيته. . . أو لغير طيته!
(لها بقية)
دريني خشبه(153/65)
البريد الأدبي
المباحث المصرية والعلم الحديث
صدرت نشرة خاصة بمحاضرة ألقاها الأستاذ بلاكمان في جامعة ليفربول عن (قيمة المباحث المصرية في العالم الحديث)؛ وفيها يبسط التجارب الأولى التي قام بها الحكماء المصريون في الرياضة والفلك، وينوه بحقيقة تاريخية هامة فطن إليها الفراعنة وهي أنه من الخطر أن يسمح لدولة أجنبية أن تحتل فلسطين. ويقول الأستاذ في رسالته إن دراسة الاقتصاديات المصرية في عصر البطالسة تفيد العالم الحديث، وأنه يمكن أن نلاحظ أن مثل هذه الظروف كانت موجودة بمصر منذ الأسرة الثامنة عشرة، وأن المهندس الحديث يستطيع أن يفيد من دراسة الآثار المصرية القديمة، ولا سيما الأهرام، وما تدلي به من نظريات هندسية بارعة في شؤون الزوايا والمخروطات، وفي شؤون الزخارف البديعة التي تناسب أبنيتها. وإذا كان الذوق الحديث يتطلب التناسق بين الأبنية والزخارف، فأنه لم تحرز أمة في التأريخ براعة المصريين القدماء في إتقان هذا التناسق.
ويرى الأستاذ بلاكمان أيضاً أن المصريين كان لهم أثر كبير في نمو الحضارة الغربية، وذلك بتأثيرهم المباشر أو غير المباشر على الحضارة اليونانية، وأن حكمة المصريين كانت ذات اثر قوي في صوغ تعاليم (العهد القديم) بل كانت ذات اثر في صوغ التعاليم النصرانية ذاتها.
كشف جديد لصحراء الأهرام
وفق الأستاذ سليم بك حسن إلى كشف جديد بصحراء الأهرام، وهو مقبرة كاهن من كهنة الأسرة الخامسة اسمه (نخت كا) كان رئيس للمحفوظات الملكية وأمينا على مخازن الملك. وتقع المصطبة التي وجدت بها مقبرته جنوب مصطبة الأمير (جونوم بات)، وهي مبنية من الحجارة الجيرية، ولها مدخل يفتح إلى جهة الشرق، ويفضي إلى بهو ذي أعمدة من الحجر؛ وفي الحائط الجنوبي للبهو نافذة يدخل منها الضوء إلى المكان.
وفي الطرف الجنوبي الغربي مدخل يفضي إلى حجرة زينت بنقوش ورسوم تمثل الحياة اليومية حينذاك.
وهناك بابان وهميان نقشت عليهما تعاويذ وصيغ معروفة(153/66)
ومن خلف هذين البابين عثر الكاشف على بئر وجدت بعد تفريغها منتهية إلى حجرة صغيرة منحوتة في الصخر، وفي هذه الحجرة عثر على تابوت من الصخر أيضاً فيه الهيكل العظمي للكاهن (نخت كا) ملفوفاً بالذهب.
وقد عثر في هذه المقبرة على 15 آنية من النحاس بينها طست وإبريق لا يختلفان عما يصنع منهما الآن، وكذلك عثر على أطباق ومعدات للأكل موضوعة على شكل مائدة استعداداً لتناول الطعام عندما يبعث صاحب المقبرة، كما عثر بالقرب من هذه المائدة على عظام الثيران التي نحرت وأعدت للطعام.
وعلى جدران المقبرة نقوش تمثل الحياة المصرية، فمنها ما يمثل جوقات رقص وموسيقى، وفي مقدمة الآلات الموسيقية القيثارة والصفارة وإلى جانب هذه النقوش الفنية ما يمثل نوعاً من أنواع التحتية عند قدماء المصريين وهي التحتية الخاصة بقدامى القرابين إلى الكاهن الأكبر، فقد كان كل منهم يتقدم نحو الكاهن وهو يجر بيمناه الثور في حين أنه يلتفت إلى المكان ويضع يسراه على صدره بحيث تلمس الأصابع أعلى الكتف.
إلى زميلنا المهذب صاحب (المكشوف)
شوهت - سامحك الله - في ذهني صورة جميلة كانت للمكشوف. فقد اعتقدت - وكنت على وشك أن أعلن هذا الاعتقاد - أن مجلة (العصبة) في سان باولو، وجريدة (المكشوف) في بيروت، تكتبان اليوم فصلاً قيماً في تأريخ الأدب العربي الحديث؛ وأن العصبة الأندلسية الكريمة التي تصدر تلك المجلة في المهجر، وعصبة العشرة التي تحرر هذه الجريدة في الموطن، إنما تجريان على تقاليد لبنان العربي فتتمان ما بدأ به آل اليازجي وآل البستاني وأضرابهم من رجال الفكر والترجمة والصحافة والتمثيل الذين عاونوا مصر على إحياء هذه النهضة؛ وأن هؤلاء الأدباء الأوفياء إنما هم حجة العربية والعروبة على هذا الأدب الدخيل الذي يستمد وجوده من فينيقية القديمة وفرنسا الجديدة ثم يزعم للأغرار أنه أدب لبنان!
نعم كنت أعتقد في المكشوف ما أعتقد في العصبة حتى قرأت في عدده الأخير مقالاً وجهته إليّ فزعزع في نفسي أساس هذه العقيدة!
ما رأيك في رجل تكلمه في موضوع عام في الأدب فيقول لك: إنك شتمتني فأنا أشتمك؟!(153/67)
إن كنت تقول إن هذا الرجل لا يوجد في الناس فتعال إذن أسألك: كيف فهمت من مقال (النقد المزيف) أنه رد عليه فقلت ما نصه: (يرد الأستاذ الزيات في رسالته علينا ولا يسمينا مخافة أن يرمي بالجمود حين يحمل على دعاة الجديد والقائلين بأدب الحياة فيعمد إلى اللف والدوران والتلميح. . .) ثم قالت بعد ذلك: (يقول صاحب الرسالة ردا على الحملة التي نحملها على أدب الألفاظ وشعر البكاء المتكلف والرثاء الكاذب. . . (إن هذا النقد إما أن ينبعث من مكامن الحقد فيرمي إلى التجريح، وأما أن ينطلق من مواضع الغرور فيسعى إلى الهدم) ثم رتبت على هذا الفهم أو الوهم ما سوغه لك أدبك. إن كنت تقرأ ما في السطور كما يقرأ الناس فالأمر إذن لمنطق الناس، وإن كنت تقرأ ما بين السطور فالأمر لك وحدك. وما حيلة المنطق في (دون كيتشوت) الذي يريد أن يبني بطولته على معارك الوهم؟ على أنني كنت أحب أن ترعى جانب الأدباء الذين يعاونونك في تحرير المكشوف فتربأ بهم عن هذا الموضع الذي ارتضيته لنفسك. أما حملتك الهوجاء على الأستاذ الرافعي فهو أقدر الناس على ردها عليك إن شاء.
عدد الطلاب الذين تقدموا هذه السنة للامتحانات العامة
بلغ عدد الطلاب والطالبات الذين تقدموا من المدارس المصرية للامتحانات العامة: (البكالوريا، والابتدائية، وكفاءة التعليم الأولى، والمعلمات الراقية) في السنة المكتبية الحالية 23 , 208 فالذين تقدموا لامتحان شهادة الدراسة الثانوية قسم ثان 5 , 445 طالباً، منهم 2 , 155 بالقسم الأدبي، و3 , 290 بالقسم العلمي. والذين تقدموا لامتحان شهادة الدراسة الابتدائية قد بلغ عددهم 16 , 339. وعدد الذين تقدموا لامتحان شهادة كفاءة التعليم الأولى 1 , 364منهم 935 كفاءة المعلمين و429 كفاءة معلمات
وبلغ عدد الطالبات اللائي تقدمن لامتحان شهادة المعلمات الأولية الراقية 60 طالبة منهم 15 بالتعليم العام و17 بقسم التدبير المنزلي و15 بقسم رياض الأطفال والرسم و13 بقسم تخصيص تربية العميان.
أزفالد شبنجلر
نعت إلينا أنباء ألمانيا الأخيرة الكاتب والفيلسوف الاجتماعي الألماني أزفالد شبنجلر توفي(153/68)
فجأة في مدينة ميونيخ بالسكتة القلبية في السادسة والخمسين من عمره؛ وكان قبل أن يخوض ميدان الكتابة الحرة أستاذاً في إحدى المدارس الثانوية ولكنه في سنة 1911هجر التعليم، ونزل ميدان الصحافة والكتابة الحرة وهو في عنفوان شبابه، واشتهر بكتاباته في الموضوعات الاجتماعية والثقافية، بيد أنه لم يبلغ الذروة في عالم الكتابة يومئذ؛ وإنما بلغ شبنجلر ذروة الشهرة والنفوذ كمفكر وكاتب مبتكر بعد الحرب الكبرى حين اصدر كتابه الشهير: (انحلال الغرب) الذي طبع مرات عديدة في وقت قصير وترجم إلى معظم اللغات الحية.
وقد كان صدور هذا الكتاب حادثاً أدبياً وفكرياً عظيماً، بل يعتبر أعظم حادث فكري وقع في ألمانيا بعد الحرب. وفيه يدرس شبنجلر قوانين النمو والانحلال في التأريخ، ويشرح التطورات التاريخية بطريق الدرس المقارن للعلوم الطبيعية وأصول الحيوان والنبات، ويتناول في بحثه كل ما يتصل بمصير الإنسان وطالعه، سواء من ناحية الدولة أو المجتمع. ويعتقد شبنجلر أنه استطاع بهذا العرض أن يطلع مواطنيه على الحلقة التي يستأنف منها التأريخ سيره، وعلى واجبات المستقبل. وقد أحرز كتاب شبنجلر من الوجهة الأدبية والاجتماعية نجاحاً عظيماً، ولكنه أعتبر سقيما من الناحية العلمية، ذلك أن شبنجلر لم يكن أستاذاً في كل الموضوعات التي تناولها والأصول العلمية التي أعتمد عليها، وهو مشحون بالأخطاء من هذه الناحية؛ بيد أنه من ناحية العرض الاجتماعي يعتبر قطعة رائعة من الدعاية القومية، ويبسط شبنجلر آراءه بقوة وعنف وبساطة؛ ومن ثم كان النجاح الباهر الذي أحرزه كتابه، والأثر العظيم الذي أحدثته آراؤه في الجيل الألماني المعاصر.
مصادرة كتاب عن البلاط النمسوي
من أنباء النمسا الأخيرة أن الحكومة النمسوية قررت مصادرة كتاب صدر أخيراً بالألمانية وعنوانه (لما كنت أرشيدوقاً) ومنعه من التداول في النمسا؛ وهذا الكتاب عبارة عن مذكرات البلاط النمسوي القيصري بقلم ليوبولد فلفلينج، وهو الأسم الشعبي للأرشيدوق ليوبولد سالفاتور أحد أمراء آل هبسبرج السابقين، ومن أبناء عمومة القيصر السابق، وقد عاش هذا الأمير حيناً في البلاط النمسوي، ولكنه كان من الأمراء الثائرين عليه وعلى سياسته ورسومه، فلم يمض غير قليل حتى أبعد عنه، وخاض مدى حين حياة مغامرات(153/69)
متواصلة؛ وتوفي في العام الماضي في فينا فقيراً مجهولاً وهو يقص في كتابه المذكور كثيراً من أحوال البلاط النمسوي وأسراره وحوادثه مدى ثلاثين عاماً، وقد سبق أن نشر بعض فصول كتابه في كبريات الصحف فأثارت يومئذ كثيراً من الاحتجاج والتعليق، لأن منها ما يتعلق ببعض الشخصيات الحية، ولهذا رأت الحكومة أن تمنع تداوله.
وقد تكرر منع الحكومة النمسوية في العهد الأخير لمؤلفات ومذكرات تتعلق بالبلاط النمسوي السابق وبأسراره ومثالبه؛ وهذا ما يفسره بعضهم بأن ذلك يرجع إلى ميول الحكومة الملكية، وإلى حرصها على استبقاء سمعة الملوكية النمسوية بعيدة عن التأثر بهذه الذكريات والقصص المثيرة.
ذكرى مخترع شهير
أحتفل أخيراً في ألمانيا بذكرى عالم مخترع هو أوتوفون جريكه، وهو أول من استطاع أن يطبق نظرية الضغط الهوائي بصورة عملية؛ وذلك لمناسبة مرور مائة وخمسين عاماً على وفاته وكان مولده سنة 1602 في مجد بورج؛ ودرس القانون والعلوم الطبيعية دراسة حسنة، وظهر أثناء الحرب الثلاثينية (حرب الثلاثين عاماً) وأشترك في عقد مفاوضات الصلح، ثم عين بعد ذلك حاكماً لمدينة مجد بورج؛ ولكنه لم ينس طوال حياته أن يشتغل بالعلوم والتجارب الطبيعية؛ وقد استطاع لأول مرة أن يجري أول تجارب في الطبيعة العملية، وكان ميدان بحثه في الهواء وما هيته ومؤثراته؛ فاستطاع بعد تجارب عديدة أن يصل إلى نظرية ضغط الهواء؛ ففي سنة 1654، نظم في مدينة ريجنسبرج أمام القيصر فرديناند الثالث تجربة عملية من هذا النوع، وخلاصتها أنه أتى بنصفي كرة من النحاس قطر كل منهما 36 سنتمتراً، وأطبقهما على بعضهما، وأستخرج منهما الهواء بواسطة مضخة صغيرة؛ ثم رتب أن يجر كل منهما ثمانية من الخيل في اتجاه معاكس، فلم تستطع الخيل أن تنزع نصفي الكرة من بعضهما؛ وكانت هذه أول تجربة عملية ناجحة أثبتت بها قوة الضغط الهوائي، وحاول فرن جريكه بعد ذلك أن يطبق تجاربه على صنه الآلات ولكنه لم يوفق في محاولته، وكان التوفيق في استخدام ضغط الهواء لصنع الآلات من نصيب مخترع إنكليزي يدعى توماس نيوكومن، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر.(153/70)
من هنا ومن هناك
أشهر كتب الخلاصات الحديثة.
كان مؤلفو العرب يعنون عناية فائقة بوضع كتب الخلاصات للعلوم والفنون والآداب؛ وكانت كتبهم تكبر وتكبر حتى تغدو موسوعات ضخمة تسعف القارئ بما يحتاج إليه من المعارف العامة والنبذ الخاطفة من كل علم وفن؛ ولعل كتاب الأغاني هو أول موسوعة عربية من نوعها. ومن الموسوعات العربية أيضاً كتاب نهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي ولسان العرب لابن منظور المصري، والعقد الفريد لابن عبد ربه ومسالك الأمصار، وتاريخ بغداد. . . الخ، وقد أقتبس الغرب هذه الطريقة الموسوعية عن أسلافنا العرب، فوضع ديدرو موسوعته الفرنسية، ثم كان للإنجليز موسوعتهم كذلك، ونحسب أن الموسوعة الإيطالية الحديثة التي اشترك في وضعها الطاغية موسوليني هي أكبر موسوعات العالم قاطبة، وإن تكن لا تفضل الموسوعة البريطانية في الدقة وتوخي الحقيقة فيما حفلت به من سائر المعارف العالمية، ولكن هذه الموسوعات غالية الثمن غالباً؛ ولا يستطيع الأفراد إلا الأقلون منهم اقتناءها لهذا السبب، فثمن الموسوعة البريطانية الرخيصة مثلاً (الطبعة الرابعة عشرة) خمسة وعشرون جنيهاً أو أكثر، إذا دفع الثمن على أقساط؛ وثمن الطبعة الغالية أكثر من خمسة وسبعين جنيهاً مصرياً. وقد وضعت شركة الكتب الإنجليزية دائرة معارف للأعلام على طريقة وفيات الأعيان لابن خلكان وجعلت ثمنها أربع جنيهات.
لذلك راجت كتب الخلاصات في أوربا عامة، وإنجلترا خاصة، وكان
الأديب الإنجليزي الكبير هـ. ج. ولز هو المبتدع لهذه الطريقة
الطريفة، وذلك حين وضع كتابه الجميل (خلاصة تأريخ العالم)،
يستعرض فيه تأريخ الحياة في هذه الدنيا منذ بدء الخليقة إلى اليوم،
فأنت تقرأ فيه لمحة من كل علم، وطرفة من كل فن، وخطفة من كل
أدب، وينتقل وتر من الجيولوجيا إلى الانثروبولوجيا، إلى البيولوجيا،
إلى التأريخ، إلى الآداب، إلى الفنون، إلى العلوم، إلى الحركات الفعالة(153/71)
التي تناولت الأمم بالهدم والبناء. . . . وكل ذلك بأسلوب طلي، وروح
وثاب، وعبارة مشرقة غير مملولة. ولا يكاد القارئ يلتمس شيئا في
خلاصة ولز هذه إلا وجدها، وهذه مهارة تحمد للمؤلف، والخلاصة
على نفاستها رخيصة الثمن جدا بحيث يستطيع القارئ العادي اقتناءها
دون أن يرهق حبيبه.
وقد وضع ولز خلاصه ثانية لا تقل عن قيمتها عن خلاصته الأولى، ولا تزيد في ثمنها عليها، تلك هي كتابة القيم (الإنسان، عمله، ثروته، سعادته)، ويعرض فيه لطائفة رائعة من فنون العمل والحياة لا تكمل ثقافة الإنسان إلا إذا وعاها.
وقد ألف الكاتب الشاعر الإنجليزي (جون درنكووتر) خلاصته في آداب العالم، وهي برغم ما فيها من الشوائب، وما يعتور بحوثها من القصور المعيب أحياناً، خلاصة قيمة بما حفلت به من تأريخ الأدب العالمي منذ فجر التاريخ إلى اليوم في كل أمة. . . إلا الشرق! وإن يكن قد تناول آداب الشرق القديمة بفصول مشوهة مبتورة، وإن يكن أيضاً قد خص الأدب الإنجليزي بأكبر نصيب من خلاصته!
أما الخلاصة الأدبية القيمة حقاً فهي تلك التي كتبها الأديب المؤرخ الأمريكي الشهير برتن راسكو والتي سماها (جبابرة الأدب أو - أعاظم كتاب العالم)، وقد أختار لها برتن راسكو أربعين أديباً وشاعراً من أكبر أدباء التأريخ وشعرائه، بدأهم بهوميروس وختمهم بجورج مور، ثم ختم الخلاصة بلمحة عن الأدب العالمي في الخمسين سنة الأخيرة. وبرغم هؤلاء الأربعين أديباً، فأنك لا تكاد تذكر أديباً أو كاتباً في كل عصور التأريخ إلا وجدت المؤلف حام حوله، وأعطاك لمحة عما يهمك جداً من فنه وطريقته وأشهر مؤلفاته، ومع ذاك فثمن كتابه زهيد جداً.
لذلك أنصرف الناس عن الموسوعات لغلائها ولاشتمالها على موضوعات لا تهم غالبيتهم إلى الخلاصات لرخص ثمنها ولتركزها في باب بعينه كما في خلاصة الفن وخلاصة الموسيقى.
بيكون بين النقص والكمال(153/72)
يغلو بعض مؤرخي الأدب الإنجليزي فيدعى أنه لا يوجد منذ أرسططاليس إلى فرنسيس بيكون فيلسوف مثل بيكون! ومع اعترافنا بما كان لهذا الرجل من الأثر الكبير في الذهن الإنجليزي في عصر النهضة فأننا لا نفضله على كثيرين من أبطالها ولا سيما هارفي وكبلر وغاليلو. وقد اشتهر بيكون بتفضيله التجربة في العلوم على الاستدلالات المنطقية العقيمة وأكثر المؤرخين على أنه ليس مبتدع تلك النظرية، فقد سبقه إليها العرب، ثم أقتبسها عنهم غير بيكون من علماء النهضة. وكان بيكون معروفاً دائماً بالشذوذ الغريب حتى إنه كان يؤلف أحسن كتبه باللاتينية وذلك لعدم إيمانه بالإنجليزية في ذلك العصر!!
على أن الذي يعنينا في هذه اللمحة عن بيكون هو خلقه الذي أنحدر إلى الحضيض الأسفل من اللؤم والضعة. قال بوب (بيكون فيلسوفنا المحترم! هو أعظم بني الإنسان وأعقلهم، كما أنه أخسهم وألأمهم!!) ولنذالة بيكون قصة مشجية تتلخص فيما يلي:
عندما عاد بيكون من باريس كان أبوه قد مات، وكان أخوه الأكبر قد استولى على جميع التركة بحكم التقاليد الإنجليزية البالية التي كانت سائدة وقتئذ في ذلك الشعب المحافظ العتيق. والتحق بيكون بوظيفة في أحد الفنادق ليعيش، ثم أكب على دراسة القانون حتى نال إجازة الحقوق فأنخرط في سلك القضاء فأبدى نبوغاً عظيماً وعبقرية فذة. وكان اللورد بيرلي يعرف ما لهذا القانوني الشاب من خطر، فشرع يقيم في سبيله العراقيل حتى لا يبذ أبنه روبرت سيسيل الذي كانت له مطامح وآمال في أكبر المناصب القضائية في إنجلترا، فلما شغرت وظيفة (الأفوكاتو العمومي) رشح لها بيكون بعبقريته ورسوخ قدمه في القانون، ثم روبرت سيسل بحسبه ونسبه وضلع أبيه - اللورد بيرلي - في الحكومة ومنزلته السامية لدى الملكة اليزابث، وكانت هذه المؤهلات كلها (!) كفيلة بتعيينه في المنصب واطراح بيكون
وكان (ايرل اسكس) يعجب ببيكون ويميل إلى تعيينه، فلما ضاعت مجهوداته عبثا عز عليه أن يقتل اليأس نفس الشاب النابغة، فحدب عليه وواساه مواساة طيبة، ثم وهب له أرضاً واسعة تغل له غلة كبيرة، وقصرا من أفخم قصور لندن على نهر التاميز!!
ودار الزمن دورته، وساءت الأحوال بين الملكة وبين ايرل أسكس، وقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، فانتدبت الملكة أعز أصدقاء الأيرل، فرنسيس بيكون ليكون عضوا في(153/73)
الهيئة التي تتولى الدفاع عنها. . . فماذا جرى؟! لقد كان بيكون أشد المستشارين حماسةً للملكة ضد صديقه الذي حدب عليه، وأبعد عنه شبح الفاقة، برغم ما كان يبدو من براءة الأيرل، وبرغم ما كان يبدو من ميل بقية المستشارين إلى تبرئته. . .
ولم يكتف بيكون بهذا الموقف الشاذ اللئيم، بل قدم مذكرة مسهبة بإدانة صديقه، ثم طلب في نهايتها الحكم عليه بالإعدام! وكافأته الملكة على حماسته، فرفعته إلى أعلى المناصب، وأغدقت عليه أرفع الألقاب، حتى غدا (لورد بيكون!)
ولما كتب بيكون كتابه في الأخلاق عقد فيه فصلاً من أحط ما عرفت البشرية عن (الحب والزواج والعزوبة) وذكر فيه أن الحب هو علاقة جنسية خالصة، وغريزة شهوية وضيعة، وأن المرأة بذلك إن هي إلا متعة للرجل وأنها مطيته إلى اللذة الحيوانية الطارئة. . . الخ. . . فلما تقدم إلى ليدي هاتون يطلب يدها لم تستح هذه المرأة المثقفة أن تصفعه في وجهه بهذه الكلمة الخالدة (ليذهب الفيلسوف البهيم إلى غابة قريبة فلينتق له بهيمة تكون مطيته إلى لذة طارئة ثم ليلقنها فلسفته!)
ودار الزمان دورته مرة ثانية! وأخذت الألسن تلوك إشاعات مخزية عن رشا يأخذها النائب العمومي (وكان هو بيكون في هذه الآونة) واضطر مجلس العموم إلى أن يثور طالباً محاكمته أمامه. . . فلما مثل الرجل وشرع الأعضاء يقذفونه بالتهمة تلو التهمة، لم يسعه إلا أن يعترف، ولم يسعه إلا أن يبكي. . . والتمس من المجلس أن يعامله برحمة. . . وحكم عليه بغرامة هائلة قدرت بأربعين ألف جنيه، ثم بالسجن المؤبد. . . ولكنه لم يحبس غير ليلة واحدة، ثم عفت عنه الملكة!!
هذه لمحة عن أخلاق الرجل الذي وضع كتاباً في الأخلاق ذم فيه أخلاق نبينا!!!
وهذا هو الرجل الذي يخلط بعض مؤرخي الآداب فيدعي أنه كتب كثيراً من الدرامات التي تعزى إلى شاكسبير!!
ترجمة القرآن
لا ندري إذا كان على إمارة المسلمين في زماننا هذا رجل مثل المأمون فماذا عساه كان صانعاً بمن يقولون بعدم جواز ترجمة معاني القرآن بعدما أقرها أكثر العلماء؟
ماذا كان يصنع المأمون بالأستاذ محمد سليمان بعد الذي صنعه بالإمام الكريم ابن حنبل في(153/74)
فتنة خلق القران؟!
لقد كنت أود لو أن الأستاذ محمد سليمان يجيد الإنجليزية إذن لأرسلت نسخة من ترجمة جورج سيل أو الاسكندر روس أو غيرهما ليقرأ بنفسه ما جاء فيها من الشطط في ترجمة الآيات. وهو لو علم أن المسلمين، غير العرب، في مشارق الأرض ومغاربها يتلون كتاب الله في هذه التراجم، ويكاد يصبأ بعضهم لما يلحظه من الضعف والسخف فيها، لهتف حضرته مع الهاتفين بضرورة ترجمة معاني القرآن. . .
هافلوك أليس
ذكرنا في العدد الماضي من (الرسالة) كلمة عن إباحيين من إباحي الأدباء الإنجليز هما لورانس وجيمس جويس، وقد فاتنا أن نشير إلى العلاقة بين مذهبهما ومذهب المنحطين مثل أوسكار ويلد وإضرابه. ونذكر في هذا العدد العالم الكبير هافلوك أليس لا على أنه إباحي مثل لورانس أو مثل جويس، وإن دعا هو الأخر إلى التنعم بلذائذ الحياة من ذهنية وحسية وعدم كبت الغرائز والتفريج عنها. . . ولكن بالوسائل المشروعة.
وهافلوك أليس عالم في التناسليات، ولكنه بكل أسف ليس أديباً، ولكن الأدباء في إنجلترا يصلون بينه وبين جمهورهم لأنهم متأثرون به.
ولأليس ضريب آخر هو برتراندسل سنتكلم عنه في العدد القادم.
(د. خ)(153/75)
الكتب
بغداد أو المدينة المدورة
في عهد الخلافة العباسية
للأستاذ إبراهيم الواعظ
كنت في صيف العام الماضي مصطافاً في سوريا ولبنان ولم يمنعني هذا الاصطياف من تتبع أعداد (الرسالة) وقراءتها، وكنت قرأت في العدد (111) منها مقالة تحت عنوان (أغراض الاستشراق) بتوقيع أحد كتاب الرسالة للأستاذ (محمد روحي فيصل) كان قد كتبها للأستاذ الكبير (محمد كرد علي) على أثر كلمة نشرها الثاني في العدد (108) من الرسالة بمناسبة نشر كتاب (المقنع في رسم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط) لأبي عمر بن عثمان بن سعيد الداني، وامتدح بها علماء المشرقيات لعنايتهم بكتب الإسلام، وانحنى باللائمة على خاصة أهله لأنهم ساهون لاهون، واستنهض بها همم علماء الأزهر وقادة الثقافة في الأقطار الإسلامية لأحياء السلف الصالح.
وكنت قد هممت أن أكتب كلمة ولكني وجدت في كلمتي الأستاذ (محمد كرد علي) اللتين نشرتا في العدد 114و115من الرسالة ما يكفيني مؤونة الكتابة والرد.
هذا وقد سنحت لي الفرصة الآن بمناسبة كتاب طبع ببغداد في الآونة الأخيرة لأقول كلمة في هذا الموضوع.
إنني أتفق تمام الاتفاق مع الأستاذ (روحي فيصل) فيما كتبه من علماء المشرقيات من ناحية، وأختلف معه تمام الاختلاف من ناحية أخرى: أتفق معه على أن بين هؤلاء العلماء من كان قصده من الاستشراق هدم كيان الدين الإسلامي من جهة، والتبشير بطريقتهم من الجهة الأخرى. ولا جدال أن مثل هذه الفئة من علماء المشرقيات مضرة تمام الضرر، وجرثومة فتاكة يجدر بكل مسلم أن يسعى لمحقها بشتى الوسائل.
على إننا إذا ما صرحنا برأينا في هذه الفئة لا يسعنا أن نغمط حقوق الفئة الأخرى من هؤلاء العلماء، لأن الغمط في مثل هذا المقام تجاوز على الحق والحقيقة معاً.
إننا مهما حاولنا أن ننكر ما لهذه الفئة من فضل على الإسلام والعرب فالواقع يكذبنا(153/76)
ويدحض هذه الإنكار. نظرة بسيطة نرسلها إلى الآثار القيمة والأسفار العظيمة التي اعتنت بطبعها وإخراجها تلكم الفئة تدلنا على أنه لولا الجهود الجبارة التي قام بها هؤلاء العلماء لما أمكننا أن نعلم شيئاً عن الآثار المهمة ككتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد، وهو الكتاب الفريد الذي يعد الآن من أكبر أمهات الكتب من جهة، والمأخذ الوحيد للقضايا الهامة في التأريخ الإسلامي من جهة أخرى. وقل مثل ذلك عن بقية الآثار العظيمة التي نشروها.
هذا كتاب الأنساب (للسمعاني) لولا هممهم لما طبع ولأصبح في زوايا الإهمال؛ لقد طبع هذا الكتاب في لندن طبعة شمسية (فوتوغرافية) ولا يخفى ما تكلف هذه الطريقة للنشر من النفقات والجهود. وهناك كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) للأمام الأشعري. فلولا همة الأستاذ (ريتر) المشتشرق الألماني والمبادرة بطبعه في الآستانة لكان نصيبه التلف في الخزانات. ولا ننس ما لطبعة (ليدن) في (هولانده) من الفضل الأكبر في طبع أمهات الكتب التاريخية والأدبية واللغوية وغيرها، كتاريخ الطبري، واليعقوبي، وتجارب الأمم لابن مسكويه، وتاريخ الصابي، والعيون والحدائق، والمسالك والممالك لابن حوقل، والأصطخري، وكتاب التنبيه والأشراف للمسعودي، والأعلاق النفيسة لابن رسته، وكتاب مراصد الإطلاع لعبد المؤمن، وغيرها من الكتب المهمة التي لم تحضرني أسماؤها. على أن مطابع لندن، وباريس وليبزج ورومه وغوتنفن وغريفزولد لا تقل خدمة عن بقية المطابع التي قامت بقسطها من الأعمال الجبارة في إخراج هذا التراث الثمين الخالد ولا يفوتنا أن الكثير من هذه الكتب لم تكن مطبوعة في المطابع العربية إلا النزر القليل منها.
إذن لولا هذه الجهود العظيمة الموجهة إلى خدمة العلم والأدب خاصة، لما أمكننا أن نتوصل إلى مشاهدة هذه الآثار اللهم إلا إذا تجشمنا مصاعب السفر ومصائبه، وفتشنا عنها في زوايا المكاتب في سائر الأقطار الأوربية والشرقية.
لم تقف أعمال هؤلاء العلماء عند حد الإخراج بالطبع ونشر الآثار وإنما انصرف إلى التحقيق والدرس، وأخيراً إلى التأليف؛ ذلك التأليف المنتج والمستند إلى الحقائق التاريخية. فمن هؤلاء الرجال العاملين المستشرق الإنجليزي الأستاذ الكبير (ليسترنج) فإنه كتب كتاباً عن (بغداد) في عهد الخلافة العباسية ضمنه معلومات تاريخية منقطعة النظير لم يسبقه إليها سابق، ولم يلحقه في تحقيقها لاحق. والذي يجيل طرفه في قائمة المآخذ والمصادر(153/77)
التي أستسقى منها المؤلف وألف كتابه يعلم قيمة هذا التأليف ومزيته التاريخية. وهذه حلقة أخرى نسجلها لهذه الفئة الصالحة في علماء المشرقيات.
وبعد، فإن الذي حدا بي لكتابة هذه الكلمة هو قيام أحد شبان العراق المخلصين الأستاذ بشير يوسف فرنسيس بترجمة هذا الكتاب ترجمة صالحة قيمة. وإني بدوري أكبره على اهتمامه، وأهنئه على هذا العمل الشاق، وأتوسل - كما توسل من قبل الأستاذ الكبير (محمد علي كردي) - إلى سادتنا العلماء أن يأخذوا باليمين آثار السلف الصالح يحمونها، ويخدمون بها الأمة الإسلامية خاصة، والعربية عامة.
وأخيراً أتمنى للمترجم بشير يوسف توفيقاً وللمترجم رواجاً
(بغداد)
إبراهيم الواعظ المحامي(153/78)
إصلاح خطأ المحدثين
بقلم برهان الدين محمد الداغستاني
ذكرت في مقال عن أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (عددي الرسالة 98و99) أن لأبي سليمان كتاباً باسم (إصلاح غلط المحدثين)، أورد فيه قرابة مائة وثلاثين حديثاً، يرويها أكثر المحدثين ملحونة أو محرفة، أصلحها وبين الصواب فيها؛ وقلت في الحاشية إن منه نسخة قيمة في دار الكتب المصرية مكتوبة بخط محمد محمود التركزي الشنقيطي تحت رقم (1510) حديث، وقد قام صديقي السيد عزت العطار سكرتير لجنة الشبيبة السورية بالقاهرة بنشر هذا الكتاب فجاء صورة صحيحة لنسخة العلامة الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب المصرية.
ولأبي سليمان الخطابي مكانة عظيمة بين رجال الحديث الذين كتبوا في فقه أو غريبه، وتتجلى منزلته في كلتا الناحيتين في كتابيه و (غريب الحديث) الذي لا يزال حبيس دور الكتب إلى الآن. والظاهر أنه بعد فراغه من كتابيه السالفين أراد أن يجمع في كتاب على حدة الكلمات التي يغلظ فيها المحدثون والرواة، فجمع هذه الجمل في كتاب (إصلاح خطأ المحدثين) ولكنه لم يضع لهذه المجموعة اسماً خاصاً، بل اكتفى بقوله في المقدمة: (هذه ألفاظ من الحديث يرويها أكثر الناس ملحوظة، أصلحناها وأخبرنا بصوابها، وفيها حروف تحتمل وجوها اخترنا منها أبينها وأوضحها، والله الموفق للصواب لا شريك له)
ثم جاء بعد ذلك المؤرخون، فسماه بعضهم (إصلاح غلط المحدثين) وآخرون (إصلاح خطأ المحدثين)، واقتصر غير هؤلاء وأولئك على تسمية إصلاح الغلط أو إصلاح الخطأ.
وجاء دور دار الكتب المصرية، فسمته في فهرسها بإصلاح الألفاظ الحديثة التي يرويها أكثر الناس ملحونة ومحرفة، وهذا الاسم مع طوله وخروجه على المألوف في الأسماء لم أجد من ذكره من المؤرخين. كذلك أحله منظمو الفهارس فيها غير محله، فوضعوه في فهرس الحديث وحقه أن يوضع في فهرس اللغة العربية فلعل أولى الشأن في دار الكتب يولون هذه الملاحظات ما تستحق من الاعتبار فيصححون اسم الكتاب ويردونه إلى حظيرته في فهرس اللغة والله سبحانه أسأل السداد والتوفيق.(153/79)
العدد 154 - بتاريخ: 15 - 06 - 1936(/)
محنة فلسطين
أيها المسلمون!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
نهضتْ فلسطين تحلُّ العقدةَ التي عُقدت لها بين السيف، والمكر والذهب.
عقدةٌ سياسية خبيثة، فيها لذلك الشعب الحر قتلٌ، وتخريبٌ، وفقر.
عقدةُ الحكم الذي يحكم بثلاثة أساليب: الوعدِ الكذب، والفَناء البطيء، ومطامع اليهود المتوحشة.
أيها المسلمون! ليست هذه محنة فلسطين، ولكنها محنة الإسلام؛ يريدون ألاَّ يثبت شخصيته العزيزة الحرة.
كل قرش يُدفع الآن لفلسطين، يذهب إلى هناك ليجاهد هو أيضاً.
أولئك إخواننا المجاهدون؛ ومعنى ذلك أن أخلاقنا هي حلفاؤهم في هذا الجهاد.
أولئك إخواننا المنكوبون؛ ومعنى ذلك أنهم نكبتهم امتحان لضمائرنا نحن المسلمين جميعاً.
أولئك إخواننا المضطهدون؛ ومعنى ذلك أن السياسة التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرارٌ للذل؟
ماذا تكون نكبة الأخ إلا أن تكون اسماً آخر لمروءة سائر اخوته أو مذلتهم؟
أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليفرض على السياسة احترام الشعور الإسلامي.
ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين من ذل الماضي وتشريد الحاضر.
ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم والأخرى من رذائلهم.
ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود.
في أنفسهم الحقد، وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي اصبح لئيما لأنه في أيديهم.
أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليتكلم كلمة ترد إلى هؤلاء العقل.
ابتَلوْهم باليهود يمرون بينهم مرور الدنانير بالربا الفاحش في أيدي الفقراء.(154/1)
كل مائة يهودي على مذهب القوم يجب أن تكون في سنة واحدة مائة وسبعين. . .
حساب خبيث يبدأ بشيء من العقل، ولا ينتهي أبداً وفيه شيء من العقل.
والسياسة وراء اليهود، واليهود وراء خيالهم الديني، وخيالهم الديني هو طرد الحقيقة المسلمة.
أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين يذهب إلى هناك ليثبت الحقيقة التي يريدون طردها.
يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم، ويزعمون أن من حقهم أن يعيشوا أحراراً في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم. . .
وقد صنعوا للإنجليز أسطولا عظيما لا يسبح في البحار ولكن في الخزائن. . .
وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا
ولكن لماذا كنستم كل أمة من أرضها بمكنسة أيها اليهود؟
أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد.
قوة تخرج سلاحها بنفسها لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليُؤكل ولم يخلق ليذل
قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع
قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان تتحول فيه كل قطرة دم، إلى شرارة دم
ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوقاتها لمعنى آخر.
لو سألت ما الإسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألت: كم عدد المسلمين؟
فأن قيل ثلاثمائة مليون، قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة
أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون؟ إن هذا الشبع ذنب يعاقب الله عليه
والغني اليوم في الأغنياء الممسكين عن إخوانهم، هو وصف الأغنياء باللؤم لا بالغنى
كل ما يبذله المسلمون لفلسطين يدل دلالات كثيرة، أقلها سياسة المقاومة
كل أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك، فافتحوا أنتم أيديكم. . .
كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غير مكترثين، فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير(154/2)
والدراهم
لماذا كانت القبلة في الإسلام إلا لتقتاد الوجوه كلها أن تتحول إلى الجهة الواحدة؟
لماذا ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفع الصوت في الحق؟
أيها المسلمون! كونوا هناك. كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني
لو صام العالم الإسلامي كله يوماً واحداً وبذل نفقات هذا اليوم الواحد لفلسطين لأغناها
لو صام المسلمون يوماً واحداً لإعانة فلسطين لقال النبي مفاخراً الأنبياء: هذه أمتي!
لو صام المسلمون جميعاً يوماً واحداً لفلسطين لقال اليهود اليوم ما قاله آباؤهم من قبل إن فيها قوم جبارين. . .
أيها المسلمون! هذا موطن يزيد فيه معنى المال المبذول فيكون شيئاً سماوياً
كل قرش يبذله المسلم لفلسطين يتكلم يوم الحساب يقول: يا رب أنا إيمان فلان!(154/3)
في النقد الأدبي أيضاً
إلى أخي طه حسين
للأستاذ أحمد أمين
عرضت في مقالي السابق لضعف النقد الأدبي في مصر، وخاصة في السنوات الأخيرة، وذكرت أن رقي النقد لم يساير رقي الأدب، فقد كان الإنتاج الأدبي قليلاً، وكان النقد يؤدي مهمته في هذا القليل ويعرف جمهور القراء به، ويبين مزاياه وعيوبه، وتختلف أنظار النقاد فيه، ويعرضون له من وجوهه المختلفة، وفي كل ذلك فائدة للأدب وتبصرة للقراء؛ ثم كثر الإنتاج وارتقى، وقل النقد وضعف، واكتفى جمهور النقاد بنقد الكتاب من فهرسه ومقدمته. واليوم أزيد هذا الرأي شرحاً وبيانا، وحجة وبرهاناً.
في كل عام يخرج هيكل وطه والعقاد والزيات والمازني وزكي مبارك وغيرهم كتباً عدة، ويخرج الشعراء قصائد كثيرة، ويخرج مؤلفو الروايات روايات تعد بالعشرات، ولكن قلب الصحف والمجلات لترى نقدها نقداً صحيحاً فقل أن تعثر عليه. هذا أقرب كتاب إلينا وهو كتاب (محمد) لتوفيق الحكيم. هو من غير شك عمل جديد في بابه من حيث وضعه للسيرة النبوية في قصة؛ ولكن أين النقد الذي قوبل به الكتاب؟ وأين ما كان من البحث حول قيمة ما فيه من فن، وهل هذا العمل في فائدة التأريخ والأدب أم لا؟ وهل من الخير أن نشجعه أم لا؟ ثم هل هو صور محمدا (ص) صورة صحيحة أم لا؟ نعم أنه اعتمد في كل ما نقله على عبارات السيرة، ولكنه أختار أجزاء وحذف أجزاء، وألف بين هذه الأجزاء، وهذا التأليف بين أجزاء معينة وترك غيرها يجعل الصورة ذات ألوان خاصة يسأل عنها المؤلف كما يسأل عن كتاب كتبه بنفسه وعبر عنه بعبارته.
لم نجد شيئاً كثيراً من ذلك؛ ومر الكتاب بسلام. وأظن أنه لو ظهر من نحو عشر سنين لكان له شأن أخر، ولنال من النقد ما يستحقه. وليس يعنينا أن المؤلف يغضب من النقد أو لا يغضب، فالنقد ليس من حق المؤلف وحده، وإنما هو حق الناس جميعاً وحق الأدب والتاريخ.
وهل أتاك نبأ ما كان منذ شهرين، إذ نشر شاب في الإسكندرية رسالة في (الحديث)، تعرض فيها للرواية والرواة، ونقد بعض المحدثين، وطعن بعض الأسانيد، فأجتمع مجلس(154/4)
الوزراء وقرر مصادرة الرسالة؟ مع أن المعتزلة منذ ألف سنة قد أنكروا أكثر الأحاديث إلا ما أجمع الرواة على صحته، ولم يكفرهم من أجل هذا أحد، ولم يصادر كتبهم من أجل هذا أحد. ومنذ أكثر من ألف سنة حكى الشافعي في كتابه (الأم) حكاية قوم من المسلمين أنكروا حجية الأحاديث بتاتاً، ولم يشنع عليهم أحد، ولم يقل بكفرهم أحد، وجادلهم المجادلون في هدوء وثبات كما يجادل المؤمن المؤمن. ومنذ عشرين سنة على ما أذكر، كان ينشر المرحوم الدكتور صدقي في (مجلة المنار) مقالات ضافية متتابعة يدعو فيها إلى الرجوع إلى القران وحده، وينقد الرجوع إلى الحديث، ورد عليه جماعة من العلماء، وطال الأخذ والرد والدفاع والهجوم، ولم يجتمع إذ ذاك مجلس الوزراء ويقرر مصادرة المنار كما أجتمع وقرر هذه الأيام. ألا يدل هذا وأمثلته على أننا أصبحنا أضيق صدراً وأقل حرية؟ ومن الغريب أن أحداً لم يحرك لهذا ساكناً ولم يفه ببنت شفة! ولو وقع هذا الحادث من عشر سنين لقام له الكتاب الأحرار وقعدوا، ودافعوا ونقدوا وهذه لجنة التأليف تصدر كل حين كتاباً بل كتيباً، وتهديها إلى الأدباء والصحف والمجلات، ثم تنتظر من يقومها وينتقدها ويبين مزاياها وعيوبها، ويشرح للجنة رأيه في مسلكها وفيما تخرجه من الكتب، ويرشدها إلى وجهة قد تكون خيراً من وجهتها، فلا تجد إلا القليل النادر والنتف القصيرة التي لا تجزئ وسبب هذا أننا لا ننظر إلى النقد النظر الذي يستحقه من الإجلال والإكبار؛ فمنا من ينظر إلى النقد على أنه إعلان عن الكتاب؛ ومنا من ينظر إليه على أنه مجاملة لصديق أو تحية لصاحب أو استغلال لموقف؛ وقليل جداً من ينظر إليه على انه ميزان دقيق كميزان الذهب يوزن به النتاج الأدبي وزناً محكماً فلا يفوته شيء. وقد أجاد العرب كل الإجادة في تسمية هذا المنحى الأدبي (نقدا) أخذا من نقد الصيرفي الدراهم والدنانير ليعرف جيدها من زائفها.
وقد أدى هذا النظر إلى الصحف والمجلات وكثيراً من الكتاب عدوا هذا العمل عملا ثانوياً يضاف إلى أعمالهم الأساسية، فهم معذورون إن ثقلوا بالأعمال وكان نقد الكتب أحدها فلم يولوها العناية اللائقة بها، ولم يمنحوها ما يجب لها من وقت ودرس وتمحيص. وقد أدركت هذا الواجب الجرائد والمجلات الأجنبية التي تحترم نفسها فاختارت كتاباً من خيرة الكتاب لا عمل لديهم إلا النقد، ويقرؤون الكتب والقصائد والقصص ونحوها ويدرسونها(154/5)
درساً عميقاً، ثم يظهرون القراء على نتيجة جهدهم ومدى درسهم وقصارى بحثهم.
وشيء آخر كان له دخل كبير في رقي النقد الأوربي وضعف النقد العربي، وأعني به (التخصص)؛ وهذا ظاهر في المجلات الأوربية وكتابها. فأما المجلات فتخصصت، فمجلة للجغرافية خاصة، ومجلة للاجتماع، ومجلة للأخلاق، ومجلة للقصص، ومجلة للسياسة، ومجلة للثقافة العامة. فإذا ألف كتاباً في الجغرافيا أو الاجتماع أو الأخلاق فالمجلة الخاصة بذلك تنقده؛ وإذا هي نقدته عن خبرة تامة بالموضوع وتخصص فيه. وبهذا يفخر المؤلف بأن مجلة كذا مدحت كتابه وأثنت عليه، لأن المدح صدر من واسع الاطلاع عميق البحث يحترم نفسه وقراءه. وأما الكتاب فيشعرون هذا الشعور نفسه، فلا يتعرض ناقد لكتاب ليس من موضوعه الخاص وإن كان مثقفاً فيه ثقافة عامة. فإذا عرض على أديب كتاب في علم النفس أحترم نفسه وقراءه فلم يكتب فيه، وعد ذلك كأديب ينقد رياضيا، أو شاعر ينقد فلكيا، وأنه مهزلة لا يصح أن يقع فيها، وأن الشأن في المعارف كالشأن في الطب، فكما لا يصح أن يداوي طبيب عيون مرضاً باطنياً ولا طبيب الأذن مرض اللثة، فكذلك لا ينقد أديب تاريخياً ولا قصصي جغرافياً؛ إلا إذا تعرض للكتاب من ناحية الأسلوب. بل هم سائرون إلى أكثر من ذلك فيريدون أن يتخصص الأدباء في فروع الأدب نفسه فلا ينقد قصصي كاتب رسائل، ولا ناقد الرسائل والمقالات قصصاً.
إن شئت فانتقل بعد معي إلى الحال عندنا. هل يتعفف أكثر النقاد عن أن ينقدوا ما ليس من اختصاصهم؟ فالكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً عن تاريخ نابليون، وكتاباً عن جزيرة العرب، وديوان شعر. وهو يرى أنه يستطيع أن ينقد كل شيء فلا يأتي بشيء. ومن أجل هذا قدر الناس أكثر النقد العربي بما يستحقه فقط. فمدح المجلة والصحيفة للكتاب لا يدل على شيء وراء هذه العبارة، ولا يدل على أن للكتاب قيمة ذاتية. ولا يستطيع مؤلف عربي أن يتقدم إلى هيئة محترمة ببحوثه ليقول إن مجلة كذا العربية قرظتها وقالت فيها كذا. كما يفعل من يتقدم بمؤلف كتب بلغة أوربية فيستدل على قيمة عمله بأن مجلة كذا نشرته، ومجلة كذا قرظته.
ثم الناقد الحق قاض عادل. والقاضي العادل لا يقضي حتى يدرس قضيته من جميع نواحيها فلا تفوته جزئية منها؛ وهو عالم بالقانون وبالمواد التي تتصل بقضيته محيط بها؛(154/6)
وهو ماهر في تطبيق المواد على قضيته محكم تطبيقها، وكذلك الناقد والقاضي الذي لا يرجع إلى قانون إلا قانون العدالة المطلقة مخطئ؛ والقاضي الذي يحكم ذوقه وحده مخطئ، والقاضي الذي يدخل الشخصيات في قضيته مخطئ؛ وكذلك الناقد. وكل ما هناك من فرق أن القاضي يحكم وفق قانون موضوع، والناقد الأدبي يحكم وفق قانون لم توضع كل أحكامه ولم تعرف كل مصادره؛ وذلك راجع إلى الفرق بين طبيعة القوانين العلمية والوضعية وقوانين الذوق؛ ولكن على كل حال لا يصح للأديب أن يصدر حكمه بناء على أنه يستحسن أو يستهجن فقط، وإلا كان في استطاعة كل من أمسك القلم أن ينقد. إن كل فرع من فروع الأدب من قصة وشعر ونثر فني له قوانين تبين رقيه وانحطاطه؛ وكل عنصر من عناصر الأدب من خيال وعاطفة ونحوهما له مقاييس تقاس بها درجة قوته وضعفه؛ وكل ما في الأمر أن بعض هذه القوانين عرفت واستكشفت، وبعضها غامض في دور الاستكشاف. ويجب على الناقد أن يرجع إلى هذه الأسس في صدور أحكامه كما يرجع القاضي إلى قانونه؛ وهذا يسلمنا إلى القول بأن الناقد الحق يجب أن يكون مثقفاً ثقافة واسعة عميقة، وأن يبني حكمه على علل معقولة كما يبني القاضي حكمه على (حيثيات) واضحة، ولسنا ننكر أن الأديب يعتمد في حكمه على ذوقه وشعوره بالجمال والقبح، ولكن لا يعد هذا الذوق راقياً إلا إذا أسس على علم واسع ومعرفة بقوانين الأدب.
وهكذا ضرب لا يزال ينقصنا منه الشيء الكثير؛ فأكثر أحكامنا على النتاج الأدبي أحكام مجردة لا تعلل بعلل مقنعة، ولا يرجع فيها إلى قوانين ثابتة، وبذلك تفقد قيمتها ويقل احترامها.
لقد قال قائلون إنك تعيب النقد العربي ولا تنقد، وتعيب قلة الجرأة ولا تجرؤ، وتدعي قلة النقد ولا تبني في بنائه الذي تنشده حجراً.
قد يكون هذا صحيحا ولكن هل من العيب أن يشرح المريض مرضاً عاماً أصيب به هو وغيره؟ وهل من الشر أن يرفع صوته بالشكوى من كان هو وغيره سبب الشكوى؟ وهل يحجر على الإنسان أن يقول إن هذا ليس بجميل إلا إذا كان جميلاً، وليس بعادل إلا إذا كان عدلاً، وليس أبيض ولا أسود إلا إذا كان هو أبيض أو أسود؟ إن مطالبة الإنسان ألا ينقد إلا إذا كمل، وألا يعيب إلا إذا خلا من العيب يحقن في نفوس الناس آراءهم وقد تكون(154/7)
صالحة، ويسلبهم الحرية وقد يكون في حريتهم العلاج. على أن المريض قد يكون اصدق في وصف المرض من الصحيح، والجاني قد يصور الجناية بأحسن مما يصورها البريء.
أما بعد، فقد شرحت وجهة نظري في بعض وجوه العيب في النقد العربي من ناحيتها العامة. فأن أراد أخي طه أن يحورها من عمومها إلى شخصيتها، وينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي، ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، وبئست ونعمت، وشقيت وسعدت، لم أجاره في ذلك، ووقفت حيث أنا إلا أن يعود إلى أساس النظرية، ويقرع حجة بحجة، وبرهاناً ببرهان؛ فأني إذن أساجله القول في ذلك حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب. والسلام عليك من أخ يضمر لك من الحب والوفاء ما تضمر له.
أحمد أمين(154/8)
شخصية غامضة في التاريخ الأندلسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
شخصية غامضة وحادث غامض في التاريخ الأندلسي، في عصر الفتح، تقدم عنهما الرواية النصرانية كثيراً من التفاصيل الغامضة المتناقضة، وتمر عليها الرواية الإسلامية بالصمت؛ ومازال البحث الحديث مترددا في شأنهما.
أما هذه الشخصية الغامضة فهي شخصية ذلك الزعيم المسلم أو النصراني طبقاً لبعض الروايات، الذي تسميه الرواية الفرنجية (منوزا) أو (مونز)، والذي كان يتولى حكم بعض الأقاليم الشمالية في عهد عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس؛ وأما الحادث أو الحوادث الغامضة التي ترتبط باسم هذا الزعيم، فهي مخالفته للدوق أودو أمير اكوتين الفرنجي، وزواجه من ابنته الأميرة لامبجيا التي اشتهرت برائع حسنها، ومشاريعه الغامضة التي نظمها مع الدوق، والتي انتهت بخروجه على حكومة الأندلس، ثم هزيمته ومقتله، وأسر زوجته الحسناء لامبجيا.
وسنحاول في هذا البحث أن نعرف من هو (منوزا) صاحب هذه الشخصية الغامضة. ولقد كنت أعتقد، كما يعتقد كثير من الباحثين في التاريخ الأندلسي أن (منوزا) أو مونز إنما هو تحريف لاسم (ابن أبي نسعة) العربي، وهو عثمان ابن أبي نسعة الخثعمي الذي تولى إمارة الأندلس في سنة 110هـ (728م)؛ وقد سرت على هذا الرأي فعلاً فيما كتبته عن تاريخ هذه الفترة في الفصل الذي خصصته لموقعة بلاط الشهداء في كتابي (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام)؛ ولكني اليوم أصبحت اشك في صحة هذا الرأي، وفي أن منوزا وابن أبي نسعة هما مسميان لشخص واحد.
وتتفق الروايات النصرانية - ومنها الروايات المعاصرة - على هيكل الحوادث التي ترتبط باسم منوزا من تاريخ أسبانيا المسلمة؛ ومعظمها على أن منوزا كان زعيماً مسلماً، يحكم بعض ولايات البرنيه وسبتمانيا فيما وراء البرنيه باسم حكومة الأندلس؛ وكان ذلك حوالي سنة 725 - 730م؛ وكان الدوق أودو أمير اكوتين الفرنجي في ذلك الوقت يتلمس كل وسيلة لحماية مملكته من غزوات العرب؛ وكان العرب قد غزوا أراضيه مراراً قبل ذلك وأثخنوا فيها؛ وكان جل همه أن يتقرب من حكومة الأندلس أو يجمع الحلفاء من حوله(154/9)
لمقاومتها، فلما تولى (منوزا) حكم الولايات الشمالية، وهي التي تجاور إمارة اكوتين من الشرق والجنوب، سعى الدوق إلى التفاهم معه؛ وكان منوزا كما تصفه الروايات زعيما قوي المراس، كثير الأطماع نافذ الهيبة في هاتيك الوهاد؛ ولم يكن على اتفاق مع حكومة الأندلس؛ ذلك لأنه كان من أقطاب البربر الذين عبروا إلى الأندلس مع طارق بن زياد؛ ونحن نعرف أن البربر كانوا على خلاف دائم مع العرب، يحقدون عليهم لأنهم استأثروا دونهم بمغانم الفتح والرياسة. فإذا صح أن (منوزا) كان زعيماً بربرياً كما تصفه الروايات الفرنجية المعاصرة، فيكون من المشكوك فيه إذا أن يكون (منوزا) هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، الذي تولى إمارة الأندلس كما قدمنا. ذلك أن عثمان كان زعيماً عربياً، ينتسب إلى خثعم إحدى البطون العربية العريقة هذا إلى أن الرواية العربية تقدم إلينا عن مصيره رواية أخرى غير تلك التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية عن مصير منوزا، فهي تقول لنا إن أبي نسعة ولي الأندلس في شعبان سنة 110 (سنة 728م) واستمرت ولايته خمسة أشهر أو ستة أشهر، ثم عزل وأنصرف إلى القيروان وان فمات بها. أما منوز فقد مات محارباً ومات قتيلاً كما سنرى.
وعلى أي حال فقد تفاهم أمير كوتين ومنوزا؛ وقوت المصاهرة بينهما أواصر الصداقة والتحالف؛ ذلك أنه كانت للدوق ابنة رائعة الحسن تدعى لامبجيا (أو منينا أو نوميرانا على قول بعض الروايات) فرآها منوزا أثناء رحلاته (أو غاراته) في اكوتين وهام بها حباً. تقول الرواية: (وكانت لامبجيا أجمل امرأة في عصرها، كما كان منوزا أقبح رجل في عصره، وكانت نصرانية متعصبة، ولكن أطماع الوالد غلبت على كل شيء فأرتضى مصاهرة الزعيم المسلم). ويصف جيبون مؤرخ الدولة الرومانية هذا التحالف، وتلك المصاهرة في قوله: (أرتضى منوزا الزعيم البربري محالفة دوق اكوتين، وأسلم أودو لباعث المصلحة الخاصة أو العامة، ابنته الحسناء، لقبلات الملحد الأفريقي وعناقه).
وتحيط الرواية النصرانية شخصيا لامبجيا بكثير من الغموض أيضاً، وتختلف في ظروف زواجها من الزعيم المسلم، فتقول مثلا: إن منوزا أسر لامبجيا في إحدى غاراته على أراضي اكوتين، ثم هام بها حباً وتزوجها، وحمل بنفوذها وتأثيرها على محالفة أبيها الدوق، ومناوأة حكومة الأندلس؛ وأنه تزوجها طوعا كما تقدم، وتقول أيضاً إن ابنة دوق(154/10)
اكوتين التي تزوجها (منوزا) لم تكن لامبجيا، وإنما كانت أختها (منينا) التي كانت من قبل زوجة لفرويلا القوطي أمير أوسترياس، وتقول غير ذلك من الأنباء والتفاصيل التي يقع معظمها في حيز الأساطير ونمى أمر من هذا التحالف إلى حكومة الأندلس، فلم تقره، وارتابت في أمره؛ وأبدى منوزا من ضروب التمرد والاستثارة ما حملها على اعتزام تأديبه وتحطيمه؛ وكان أمير الأندلس يومئذ عبد الرحمن الغافقي أعظم ولاة الأندلس، فبعث لتأديب الخارج حملة قوية بقيادة ابن زيان، فامتنع منوزا بمواقعه الجبلية، وتحصن في عاصمة إقليمه (مدينة الباب) الواقعة على منحدر البرنيه، وكان يضن أنه يستطيع أن يتحدى الجيش الإسلامي، وأن يعتصم بالصخر كما أعتصم به الزعيم القوطي بلاجيوس؛ ولكنه كان مخطئاً في تقديره؛ فقد نفذ ابن زيان بجيشه إلى مدينة الباب، وحصر الثائر في عاصمته، ففر منها إلى شعب الجبال الداخلية؛ فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة، حتى أخذ وقتل مدافعاً عن نفسه؛ وتحطمت أطماعه ومشروعاته (113هـ - 731م) وأسرت زوجه الحسناء لامبجيا، وأرسل بها أمير الأندلس إلى بلاد الشام فاستقبلاها الخليفة (هشام) بحفاوة وإكرام، وتزوجت هنالك من أمير مسلم لا تذكر لنا الرواية اسمه.
والرواية العربية تمر على هذه الحوادث كلها بالصمت، ولا تذكر لنا أي تفصيل أو لمحة تلقي الضياء على شخصية منوزا؛ بيد أن ابن عذاري المراكشي ينقل إلينا أيضاً نصاً يستوقف النظر في حديثه عن ولاية أمير الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي إذ يقول: (وهو الذي غزا منوسة) فهل تكون (منوسة) هي الافرنجية المحرفة (منوزا) أو بعبارة أخرى هل تنصرف هذه الكلمة إلى الشخص أو تنصرف إلى المكان؟ يرى دوزي أنها تنصرف إلى الشخص، وأن أبن عذاري يقصد هنا (منوزا) صاحب المأساة التي أتينا عليها.
أما نحن فنرى بالعكس أن الكلمة هنا تنصرف إلى المكان، وأنه لا علاقة بين كلمة (منوسة) وبين الزعيم (منوزا)، ذلك أن الرواية العربية لم تعتد أن تعبر عن غزو الأشخاص بهذه الصورة، وإنما تتحدث دائماً عن غزو المكان، هذا إلى أن الحديث هنا يتعلق بغزوات معروفة في الرواية الإسلامية قام بها أمير الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي الذي تولى إمارة الأندلس في أوائل سنة 111هـ (729م)؛ فقد عبر الهيثم جبال البرنيه غازياً؛ وأخترق ولاية سبتمانيا، ثم وادي الرون، وغزا ليون (لودون)، وماسون، وشالون(154/11)
الواقعة على نهر الساؤون، واستولى على أوتون وبون، وعاث في أراضي برجونيه الجنوبية؛ والمرجح لدينا أن مدينة (ماسون) التي غزاها الهيثم، إنما هي (منوسة) التي يذكرها ابن عذارى، حرفت بالعربية بطريق التقديم والتأخير في الأحرف.
هذا، وهنالك رواية نصرانية أوردها ماريانا المؤرخ الأسباني الكبير؛ فقد ذكر أن (منوزا) كان نصرانياً، أختاره المسلمون لحكم المنطقة الواقعة في غرب البرنيه، ولكنه كان صارماً شديد الوطأة يسوم النصارى سوء الخف؛ وأنه كان للدون بلاجيوس زعيم جليقة القوطي أخت بارعة الحسن، شغف بها منوزا حباً؛ ولكن بلاجيوس لم يوافق على زواجها منه، فاحتال منوزا، وبعثه في مهمة إلى قرطبة؛ وأسر الأميرة أثناء غيبته وتزوج منها قسراً. فأسر بلاجيوس وأخته هذه الإهانة، ولبثا يرقبان الفرص، حتى استطاعت الأميرة فراراً من أسرها، وسارت مع أخيها إلى جبال جليقة حيث أعتصم بلاجيوس مع أنصارهن وأعلن الخروج والثورة. فأخطر منوزا حكومة قرطبة؛ فأرسلت حملة لتأديب الثائر بقيادة (علقمة)؛ ولكن بلاجيوس استطاع مع أنصاره القلائل أن يعتصم بشعب الجبال. فارتد المسلمون منهزمين، وقتل علقمة؛ وارتاع منوزا لفوز خصمه، وخشي انتقام مواطنيه، فحاول الفرار إلى الجنوب، ولكن وقع في يد شرذمة من الفلاحين النصارى فقتلته؛ ويضع سريانا تاريخ هذه الحوادث في سنة 718م.
ولكن رواية ماريانا هذه ظاهرة الضعف؛ أولاً لأنه ليس بمعقول أن تعهد حكومة الأندلس المسلمة بحكم ولاية من ولاياتها إلى زعيم نصراني؛ وثانياً لأن هذه الرواية تخالف في مجموع تفاصيلها كل ما كتبته الرواية المعاصرة عن شخصية منوزا، وعن مصاهرته لدوق أكوتين؛ وثالثاً لأن تاريخ هذه الحوادث متأخر عن التاريخ الذي يعينه ماريانا بنحو عشرة أعوام.
وعنئذ يبقى أمامنا فرض واحد يمكن التعويل عليه في تعيين شخصية منوزا. فهو زعيم مسلم بلا ريب؛ ولكنه شخص آخر غير (ابن أبي نسعة) أمير الأندلس كما أوضحنا. ومن المعقول جداً، أن يكون، كما تصفه الرواية النصرانية المعاصرة، من زعماء البربر الذين دخلوا الأندلس وقت الفتح؛ وقد حرفت الرواية الفرنجية اسمه إلى هذا الوضع، وهنالك في ظروف الأندلس عقب الفتح، وفي عوامل الخصومة التي نشبت بين العرب والبربر، وفي(154/12)
تنازعهما المستمر على مناصب الرياسة والحكم، ما يؤيد انتماء منوزا إلى البربر؛ وعلى ضوء هذا الفرض وحده نستطيع أن نفهم موقف منوزا وتصرفاته في محالفة دوق أكوتين ومصاهرته وفي محاولته الخروج على حكومة الأندلس، تحقيقاً لأطماع جاشت بها نفسه، ونزولاً على عوامل الخصومة التي يضطرم بها البربر نحو العرب.
محمد عبد الله عنان.(154/13)
الصفات المحسودة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قال شوبنهور: إن حسد المرء للشيء يكون على قدر يأسه من نيل مثله؛ وهذا اليأس سبب أساسي من أسباب الحسد، فقد يحسد صاحب الضياع والعمارات والسيارات، ولكن حاسده قلما يقصده بحسد كحسده لصاحب العقل الرجيح الأصيل الذي يستمد من العبقرية الموروثة صفاتها. فالأول قد يحسد في فترات غير متصلة، لأن الحاسد يرجو أن ينال الخير على يديه مما لديه، أو يرجو الخير من جاهه ووساطته لدى من تنفع شفاعته عنده. فالخير يرجى في التحبب إلى الغنى والخضوع له والمهابة عند طلعته؛ وهذه أمور قد تكون ظواهر تستر حسدا، ولكن المرء إذا روض نفسه عليها واعتادها عاد بعضها حقيقة في نفسه يخالطها أو لا يخالطها النفاق. ومما يعين في تحويلها إلى حقيقة أن المرء مأخوذ بوسائل الحياة، منهوم بها من مال وعقار وجاه، فهو يعدها أسباب الحياة الأولية أكثر مما يعد العبقرية من أسباب الحياة؛ ولا يجل الناس عقلاً بلا مال قدر ما يجلون مالاً بلا عقل. فالموهوبات المادية لا يحسدها المرء قدر حسد الموهوبات العقلية، لأنه يرجو الخير عند الأولى بالتحبب إلى صاحبها، ولأنه يهابها، والهيبة والإجلال تتغلب على الحسد للمرء المهيب. أما الثانية فإذا كانت استعداداً موروثاً من صفات العبقرية لا يجلبه التعليم ولا تخلقه التربية، لم يكن للمحروم أمل في نيلها؛ وهذا اليأس منها منشأ الغيظ والمقت والحقد والحسد. ولعل النفس تزكى نفسها بأن المرء المحسود لم ينل الاستعداد الموروث بجد واجتهاد وعمل فهو لا فضل له فيه، وهذه مغالطة، فان الاجتهاد والجد والعمل صفات منشؤها استعداد موروث آخر.
ولا يحسد المرء المال الموروث قدر حسده العقل الموروث، لأن المال الموروث يوجد مثله في السوق، وقد ينال الصعلوك مثله وأكثر منه فيغنى بعد فقر. فالأمل في كسبه موجود دائماً حتى وإن بعدت وسائل نيله؛ وإذا وجد الأمل لطف من عدواء الحسد. أما الاستعداد العقلي الموروث فلا يناله أحد بالاجتهاد والعمل كما ينال العلم المكتسب الذي هو شيء آخر، فليس عند المحروم أمل في نيل صفات العبقرية الموروثة مهما كان أمله عظيما في نيل العلم المكتسب، فتراه يحسد على الاستعداد العقلي الموروث أكثر من حسده على(154/14)
الضياع والعقار، وأكثر من حسده على العلم المكتسب؛ وهو لا يحسد على الضياع والعقار والمال إلا إذا يئس من بلوغ الخير عند صاحبها، أو إذا يئس من بلوغ مثلها بالجد والاجتهاد، أو بالنصب والاحتيال؛ وهو لا يحسد على العلم المكتسب إلا إذا حرم صفات الجلد والمثابرة والقدرة التي ينال بها العلم المكتسب. فاليأس هو أساس الغيظ والحقد والحسد في كل حالة من الحالات الثلاث ومما يحير الألباب أن ترى أنساناً فقيراً لا حول له يحسد على صفات العبقرية التي هي فيه أو التي يحسبها الحاسد من صفاته أكثر من حسد الحاسد للغني صاحب المال والجاه، فيحار الباحث المفكر في تعليل هذا التفاوت في الحسد؛ وكان المعقول في رأيه أن يكون مقدار الحسد على عكس ما يرى لأن الناس تتقاتل على الذهب والفضة، ولكن إذا عرف الباحث ما ذكر من نشأة الحسد وسببه زالت حيرته وزال عجبه.
ولعل لهذا الانقلاب في مقادير الحسد الذي يقصد به صاحب المال وصاحب العقل الموروث سبباً آخر، وهو أن وسائل القهر والدفاع والانتقام متوفرة عند صاحب المال وهي أمور يخشاها الحاسد، والخوف منها يلطف من غلواء حسده لصاحب المال والجاه خشية أن يصيبه من قدرة الغنى أو صاحب الجاه ومن انتقامه وبطشه ما يؤذيه فيردعه الجبن عن الحسد. فترى أن الرهبة من وسائل البطش عند صاحب المال والجاه تعمل أيضاً عمل الرغبة في الاستفادة من التحبب إليه، وكلتاهما تضعف الحسد في نفس الحسود.
ومظاهر العقل المكتسب لا ينالها من حسد الحاسد قدر ما ينال مظاهر العقل الموروث، فالعلم الذي ينال بالاجتهاد وهو من مظاهر العقل المكتسب الذي لا يستطيع كل مثابر أن يناله، أما العبقرية في شتى مظاهرها فلا ينالها المحروم بالجد والاجتهاد، ويأسه منها واقع لا محالة؛ وهذا اليأس هو منشأ غيظ المحروم ومنها ومنشأ حسده، ولا يردعه عن كيد الحسد خوف البطش، لأن العبقري قلما تتوافر لديه أسباب البطش توافرها عند صاحب الجاه والمال. فالجبن الذي يحذر الحاسد من بطش المحسود إذا كان ذا مال وجاه يتطلب في نفس الحسود ما يزكيه وما يداوي ألمه وما يغالط النفس عنه كي لا تعتريها الذلة والاحتقار من أجله بأن يتحول الجبن استطالة وكيداً لصاحب العبقرية الذي فقد وسائل البطش أو لمن خيلت فيه صفات العبقرية.(154/15)
ومن أجل ذلك ترى أن المرء قد يؤلف كتاباً في الجبر أو الحساب أو الهندسة أو غيرها من العلوم فيروج ويقرأ في شتى المدارس وينشر مؤلفه منه طبعة بعد طبعة حتى يثرى بسببه ويقتني العقار والضياع ويحصل من أجله على مال كثير فلا يصيبه من حسد الحساد قدر ما يصيب فقيراً من ذوي الفنون أو الفكر الأصيل إذا لمحت فيه مظاهر العبقرية أو خيلت فيه لأن العبقرية استعداد موروث لا أمل للمحروم في نيله، واليأس منشأ الغيظ والحسد. أما صاحب العلم المكتسب الذي يؤلف كتاباً يغتني من أجله فقدرته قدرة مكتسبة يستطيع كل إنسان أن ينال مثلها إذا انصرف إلى وسائل نيلها وخصص نفسه لها، فلا يأس يدعو إلى الغيظ والحسد الشديد؛ وإن كان يصيب صاحب العلم المكتسب حسد عليه فحسد الكسول الذي يستطيع بلوغ العلم المكتسب ولا يتخذ العدة لبلوغه، وهذا حسد كسول مثل صاحبه الحسود. وإذا كان ذا نقص عقلي يمنع من بلوغ العلم المكتسب فالحسد في هذه الحالة على العقل الموروث الذي نقص حظه منه.
وعلى هذا القياس ترى في الفنون أستاذ الصنعة الذي حرم العبقرية واكتسب الصنعة بالجد والاجتهاد، لا يحسد قدر ما يحسد الفنان الذي يرى الناس فيه مظاهرة العبقرية؛ فترى الأول ذا جاه وأصدقاء ومال ولا يحسد على كل هذه النعم قدر ما يحسد الثاني. ومما يزيد الحنق والحقد على ذوي العبقرية في شتى مظاهرها العلمية والفنية أنهم أناس ذوو نظرات جديدة خاصة، والناس من أجل كسلهم الفكري ومن أجل خوفهم من الجديد المجهول غير المألوف يرون صلاح الحياة وضمانها في الاستمساك بالمألوف، حتى ترغمهم العدوى شيئاً فشيئاً على الأخذ بما لم يكن مألوفاً لديهم. ومما يزيد في خوفهم شطط أهل الشطط؛ وهذه الأسباب إذا عللت جانبا من جوانب الحنق والحقد فأنها لم تعلل كل جانب، ولم تعلل الحسد الذي ينشأ من الرغبة في شيء حال اليأس دونه. وكثيراً ما يختفي الحسد وراء ستار فيحسب شيئاً آخر غير الحسد.
وكثيراً ما يحسب فضيلة من الفضائل لأنه يستتر بستار الفضائل ويتخذها لباساً كي يخفي قبح نفسه، وكي يكون أبلغ في الكيد لأنه يبيح كل ضعة. والحسد ليس من صفات المحرومين وحدهم، فإن من الموهوبين من هو شديد الحسد. ومنشأ الحسد في الموهوبين الرغبة في التفرد بكل إجادة. والعبقري الموهوب قد يحسد إذا يئس من حيازة شيء جليل(154/16)
أصيل وإن كان عنده مثله. فالرغبة في حيازة كل فضل، واليأس من تحقيق تلك الرغبة، ينشئان الحسد في صدره كما ينشأ في صدر المحروم.
وقلما يحسد أشباه العامة ذا العبقرية قدر حسد العلماء أو المتعلمين أو الحفاظ المجتهدين له، فمن أخذ بنصيب من العلم قل أو كثر أحس فقدانه العقل الموروث إذا كان قد حرم صفاته فييأس منها مهما غالط نفسه وادعاها لها. فالمغالطة والحنق الناشئ من اليأس قد يتفق وجودهما في وقت واحد. والعامة إذا أبغضوا ذوي العبقرية كان بغضهم بسبب جلب العبقريين لغير المألوف من المعاني في بعض الأحايين وبسبب قلة فهم العامة، وما ينشأ عنها من الغيظ والخوف والمقت، فيستثمر الحسود المتعلم هذه الصفات فيهم كوسائل لإشباع حسده؛ وقد يستثمرها كي يصرف نفوسهم عن أن يحسدوه على جاه أو مال أو كي يزكي نفسه بمعاونتهم فيما يحس من ضعف وجبن نشأ من اليأس والعجز عن الأمر المحسود الذي لا يستطاع نيله لأنه استعداد موروث.
عبد الرحمن شكري(154/17)
هل الأمريكيون مصريو الأصل؟
بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف
مصر تكتشف أمريكا - رسالة أهل مصر - أقدم حل لمشكلة
العاطلين - أقدم بعثة في التاريخ - أول جامعة متنقلة - رحلة
يتممها أحفاد الأحفاد
تقدم لنا العلوم بين آن وآن حقائق كنا نجهلها كل الجهل عن أثر قدماء المصريين في بناء المدنيات. ولشد ما كنا نعجب حينما تنبثق من قبور أجدادنا الأقدمين أشعة من النور تبهر العقول قبل الأبصار، فترينا أن المدنيات التي قامت في العالم مدينة في كثير أو قليل لمنتجات عقول سكان مصر الأقدمين. واليوم نقف وبقية العالم في ذهول وحيرة إزاء تلك الاكتشافات العديدة التي قام بها علماء العاديات وغيرهم في البلاد الأمريكية، والتي تثبت أن أول من أستوطن أمريكا هم المصريون. كذلك ثبت لبعض علماء الأجناس أن المصريين كانوا نواة لبعض فصائل من البشر. ولما كان بعض هذه الحقائق يستند إلى وثائق أثرية وآثار طبيعية يرجع عهد البعض منها إلى ما قبل التاريخ، فعلينا أن نلم إجمالا بالتطورات التي حدت بقدماء المصريين أن يسلكوا ذلك السبيل.
يحزم كثير من علماء التاريخ القديم بأنه كان لمصر مدنية تفوق في تقدمها وازدهارها وشيوعها كل ما عداها من المدنيات. ومن الطبيعي أن هذه المدنية لم تكن إلا نتاجا لسابق جهود تمت خلال عشرات المئات من السنين واصل فيها شعب النيل الفكر والعمل مدفوعا بقوة روحانية يستمدها من مثله الأعلى الذي نصبه لنفسه، والماثل في تهذيب الطبيعة لتجميل الحياة.
ولا عجب أن تكون العظمة طابع تفكيره، وهو الذي إلى على نفسه أن يهذب الطبيعة ويجمل الحياة، إذ لا شيء أعظم من الطبيعة أو اشمل للحياة من الحياة. ولو أن هذا الشعب لم يتصدر لأعظم حلم عرفه التاريخ (وستمر بك تفاصيله)، ولم يبذل جهود الجبابرة لتحقيقه، ثم لم يظفر ببغيته منه، لما كان أهلا لرسالته.
وكان المصريون بما لهم من عقول رياضية قد تحققوا أن هنالك بلادا شاسعة غنية(154/18)
بخيراتها، زاخرة بثروتها الطبيعية، لا زالت بكرا. فسعوا إليها اليهود ليؤدوا رسالتهم فيها؛ وكانت تلك البلاد هي التي أطلق عليها فيما بعد اسم (أمريكا). وكان العلماء في مصر قدروا إذ ذاك موضع أمريكا تقديراً لا خطأ فيه، بدليل أن المصريين في ترحالهم إلى تلك البلاد لم يضلوا الطريق في الوصول إليها، ولم تبتلعهم صحاري ومجاهل آسيا. كذلك لم يغوهم بلد كالهند لوثيق معرفتهم إن الثروة الطبيعية في أمريكا أوفر منها في الهند وأعظم وكانت المدنية المصرية وصلت إلى حد عرفت فيه مشكلة البطالة، وتكاثر في البلاد عدد العاطلين من العمال والمفكرين. ولم يك ذلك إلا نتاجا لسوء نظام الطبقات السائد إذ ذاك. وخشيت الطبقة الحاكمة أن يتصدى العاطلون لنظام الحكم والنظام الاجتماعي، فأوعزت إلى العلماء بالدعاية لفكرة استغلال أغنى بقاع العالم: أمريكا. وكان الضيق قد حل بالعاطلين من أبناء مصر فتقبلوا الفكرة ونظموا جموعهم وأستقر قرارهم على الرحيل إلى بلاد الأمل والرجاء، وانتظم في سلك هذه الرحلة العمال والفلاحون والعلماء والفنانون - كل بعدته وأداته. ولم تكن هذه الحملة قاصرة على جحافل من رجال أشداء، بل كل الشيوخ والنساء والبنات والبنون ضمن عناصرها. وهذه الحملة أو البعثة الجامعة إلى الدنيا الجديدة كانت أشبه ما تكون بأمة كاملة تحمل في نفسها كل عوامل الحياة ووسائلها. وليس من المحتمل اليوم أن يجود التاريخ ببعثة تماثلها من حيث التكوين أو العظمة أو الغرض. ولا بد لتنظيم هذه الرحلة والسهر على إنجاحها من عقول راجحة قد يصعب علينا اليوم تصور جبروتها وعتوها. وكان على الجحافل التي تنزح يومياً عن أرض النيل - وكلهم من العاطلين - أن تعمل منذ الساعة الأولى من الرحلة على الإنتاج، كل فيما أختص به. ولم يكن أساس حياتهم الجديدة حب الذات، كما كان الحال في مصر، بل كان التفاني في التضحية لخدمة المجموع رائد الكل، فحل تعاون الجماعات محل الاستئثار، وغلبت الأخوة بين الجميع على فوارق الطبقات، وتمتع هؤلاء الرحل بحرية لم يعرفوا لها نظيرا على ضفاف النيل. وكان صدق حبهم وخالص نيتهم في تحقيق حلمهم العظيم يغريهم بالتمادي في التضحية. ولا يمكننا اليوم ونحن في القرن العشرين وطرق المواصلات ميسورة وعديدة وأغلب البلاد مأهولة وعامرة، تقدير المشاق التي عاناها أجدادنا في اجتياز تلك البقاع. ويرجع تذليل كل صعاب انتابتهم إلى الذهن المتقد وقوة الساعد والإيمان بصدق(154/19)
الرسالة. ولا شك أن العزيمة واطمئنان النفس كانت تتملك تلك الجماعات من الناس منذ بدء الرحلة التي قاموا بها، فاخترقوا صحراء سينا إلى فلسطين فسوريا فتركيا فالعراق فبلاد الكرد فإيران فالتركستان فشمال الهند، ومنها إلى سهول وصحاري سيبريا الشاسعة حتى ظهر لهم البحر. ولقد قاومت هذه الجماعات الجوع والعطش والقيظ والبرد والحيوانات المفترسة والطيور الجارحة والمتوحشين من الهمج وتغلبت عليها جميعاً بل لقد اجتازت مناطق لم يكن للبشرية فيها من أثر. ولما ان وصلوا إلى أبعد نقطة من شرق آسيا أخذوا يصنعون الفلك الذي أجتاز بهم البوغاز المعروف باسم (طريق بيرنج) حتى وصلوا إلى شبه جزيرة ألسكا.
ويقول الأستاذ الدكتور هردليكا مدرس علم الأجناس في معهد سميث سونيان بأمريكا: (إن الطارقين الأولين للدنيا الجديدة اتخذوا جزيرة كودياك قاعدة لهمم وجعلوها مركز اتصال بين من تخلفوا منهم في آسيا ومن تقدموا منهم في أمريكا؛ وهؤلاء اجتازوا ألسكا ونزحوا إلى كولمبيا البريطانية فولايات واشنجطن وأوريجون وكاليفورنيا الواقعة على المحيط الهادئ. ولم يجد المصريون رواد أمريكا آدمياً واحداً أو أثر لآدمي، ولكنهم وجدوا حيوانات مردة متوحشة يعلوها الشعر الكثيف المتهدل. ومن هذه الحيوانات المامونت والفيلة العاتية وغيرها مما كان يجتاز الأحراج والبراري في تلك الأرض البكر).
ويسلم الباحثون بأن (رواد أمريكا الأول كانوا على جنب عظيم من الشجاعة والأقدام والمخاطرة) (وأنهم انقسموا إلى فريقين: فالفريق الأول ذهب إلى الشرق، والفريق الآخر اتخذ طريقه إلى جانب مجرى الأنهار الكبرى حتى وصل هؤلاء المصريون إلى المحيط الأطلنطي. وهكذا قطعوا ثلاثة آلاف من الأميال على أقل تقدير). ويميل العلامة الأستاذ بنيت عضو المعهد الأمريكي للمباحث الخاصة بالهنود الحمر إلى (أن المصريين لم يقفوا عند الشاطئ بل ركبوا البحر حتى بلغوا الجزر المترامية في المحيط والمعروفة اليوم باسم جزائر الهند الغربية). ويتفق علماء الآثار الأمريكيون في القول بأن (الفريق الآخر الذي سار جنوباً أخترق بلاد المكسيك وأواسط أمريكا وإحراج استموس في بناما. ثم تدرجوا إلى مجاهل أمريكا الجنوبية). ومن أمد قريب رحل جماعة من علماء الأمريكان إلى بوليفيا لعلهم يقفون على أثر للجماعات الرحل التي تقدمت التاريخ، (هؤلاء الرحل الذين قدموا من(154/20)
وادي النيل قبل أن يقدم أمريكا بأجيال عدة قبائل الآنكاس) على حد تعبيرهم. وسرعان ما وقفت هذه البعثة في عملها، فقد جاء في تقرير الأستاذ بنيت: (إننا وجدنا حول بحيرات تيتيكاكا في بوليفيا آثار مدنيات يرجع تاريخها إلى ما قبل عصر الأنكاس). وجاء في هذا التقرير (وعلى مقربة من البحيرات وجدنا خرائب متفرقة. ولما أن انكشفت عنها الأتربة ظهرت خمسة أبنية كانت على ما يظن معاهد دينية) ولا زالت هذه البعثة مستمرة في أبحاثها. والاعتقاد السائد بين أفرادها أنها سوف توفق إلى اكتشاف مبانٍ ومدافن أخرى يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ.
كذلك وفق الأستاذ هردليكا إلى اكتشاف في كوبا يؤيد وجود اتصال ثقافي ومدني بين الشعوب القديمة والشعوب الشمالية في جزيرة كودياك وقبائل ماياس في أمريكا. ومن المسلم به (أن جميع السكان الشماليين ومن بينهم الأسكيمو هم من سلالات العنصر الذي نزح إلى البلاد الأمريكية عند بدء تعميرها). ولما أن وجد الدكتور هردليكا جمجمة في إحدى حفريات جزيرة كودياك مال إلى رأيه كثير من العلماء وهو (أن تلك الجمجمة هي صلة الوصل بين جميع الأجناس البشرية التي عمرت أمريكا). وهي جمجمة لرئيس قبيلة كما يزعم الدكتور هردليكا، ويضيف إلى زعمه هذا أن أتباع هذا الزعيم اقتطعوا من لحمه حياً والتهموه التهاماً لفرط إعجابهم بكفاءته وفضائله. وهذه العادة كانت متبعة إذ كان يأكل الأتباع سيدهم وهو حي. وكذلك يفعلون مع زعيم أعدائهم اعتقاداً منهم أن مميزاته ومقدرته سوف تتقلص فيهم بعد أكل لحمه. وقد وجدت في جمجمة هذا الزعيم عين صناعية صنعت من سن الفيل وجعلت الحدقة حجراً كريماً. وكانت قبائل الاستكن والماياس تصنع مثل ذلك أبان ازدهار حضارتهما. وكان الدكتور بنيت أمضى عدة أسابيع في أبحاثه بمدينة بيناردل ريو من أعمال جزيرة كوبا فوجد فيما عثر عليه مائتي ملعقة من المحار وكثير من المطارق الحجرية والأواني المنزلية المصنوعة من الخشب وغيرها من الأدوات التي تتمثل فيها البساطة والفطرة. كذلك وجد في هذه المدينة جمجمة يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. ويرى فيها الدكتور بنيت حلقة الاتصال بين الهنود الحمر الأول وسكان جزائر الأناتيل، وقد ثبت له كما ثبت لغيره من قبل أن موطن الأباء الأول للهنود الحمر من سكان أمريكا هو وادي النيل.(154/21)
ومما لا شك فيه أن رحلة العاطلين المصريين هذه إلى أمريكا وكوبا وجزائر الهند الغربية دامت بضع مئات من السنين. وأن عدداً من الأطفال ولدوا أثناء السفر وشبوا وعاشوا وماتوا على بعد عشرات المئات من الأميال من الموضع الذي أبصروا فيه لأول مرة نور العالم من دون أن يصلوا إلى أرض الأمل والرجاء، فورث الأبناء الرسالة وأخذوا على عاتقهم تحقيقها.
وليس باستطاعة أحفاد الأحفاد بناء مدينة في أمريكا تشبه كل الشبه المدنية التي أقامها المصريون على ضفاف النيل مع أنهم لم يحظوا بالعيش في مصر يوماً لغز قط، فقد كان هؤلاء الرحل من بدء ترحالهم إلى الدنيا الجديدة يعدون العدة لتوفير أسباب إتمام المرحلة التالية. فان وجدوا الأرض خصبة والماء ميسوراً زرعوا الغلال والفاكهة والخضر والزهور وحملوا معهم ما أرادوه ميرة لهم في سفرهم. وكما أن بعضهم كان ينسج الصوف والكتان وغيرهما ملابس وأردية وخياماً، كان البعض الآخر من أصحاب الحرف يلقن الصبية صناعته. وكانت تعقد قبل مسير كل يوم في الصباح من أيام الإقامة حلقات يدرس فيها العلماء علمهم ويقدم فيها الفنانون تجاربهم. وكان لكل علم وفن دراسات وحلقات وفصول أولية وإعدادية عالية. فكانت كل أنواع الثقافات المعروفة في ضفاف وادي النيل تقدم دون تمييز إلى كل الأفراد. وهكذا عرفوا كيف يضعون بين حياة الفطرة وحياة أحفادهم سداً منيعاً. ولما كان لكل فرد في القافلة حق تلقن العلم ودرس الفن الذي يميل إليه أصبح الجميع أحرار الفكر أحرار العمل، خاصة وقد تخلصوا من سلطة رجال الدين. وكان على طلبة الأمس أن يعلموا صبية وبنات اليوم. وهكذا احتفظ بمستوى الثقافة.
وقد وجه السؤال التالي إلى بعض الهيئات:
إذا كان حقاً أن المصريين عرفوا موضع أمريكا الجغرافي وعلموا بتفوق ثروتها الطبيعية، فلم لم يركبوا البحر إليها مباشرة من شواطئ البحر الأحمر؟
وما أيسر الجواب على ذلك. إن المسافر في البحر خاصة في تلك السفن القديمة العهد؛ كان مضطراً إلى هجر صناعته وعدم مزاولته لها ولكثير من دعائم الثقافة وأسس المدنية. وكيف يزال في السفينة فلاحة الأرض وزراعتها، ونحن نعلم أن المدنية المصرية كان أساسها في الزراعة؟ وإذا كان هذا حال الفلاح فكيف يكون حال أولاده وأحفاده. كذلك(154/22)
تدريس العلوم والفنون أثناء سفر السفينة بعيد الاحتمال، فلا يرجى للناشئ أن يقف على مدنية جديدة عليه أن يبينها من أساسها في أرض جديدة. والأمر الثاني كيف يجوز لهؤلاء العاطلين وهم جماعات عدة أن يحصلوا على المواد الغذائية لمدد طويلة قد تربو على العام؟
ولو أن المصريين الأقدمين ركبوا البحر إلى أمريكا لما وصلوا إلى الدنيا الجديدة ولما وجدنا هنالك أهراماً وتماثيل ومباني تماثل ما نراه على ضفاف النيل للعهود القديمة. أما وقد أنشأوا مدنية جديدة في أرض بكر، وأدوا رسالتهم على الوجه الأكمل فأولى بنا أن نقتبس من روح نظام مجتمعهم الذي مكنهم من تحقيق أكبر حلم عرف في التاريخ.
إبراهيم إبراهيم يوسف.(154/23)
للتاريخ السياسي
5 - اليوم السابع من مارس
ضربة مسرحية في برلين
للدكتور يوسف هيكل
أما مسيو فان زيلاند، فقد ألقى خطاباً مرتب العبارة أنيق الأسلوب مؤثراً، وقد مس في خطابه شعور كل من سمعه. . وقال إنه لا يوجد بلاد فيها الخوف أشد مما هو في بلجيكا، وأن هذه البلاد الصغيرة لا تملك ما يطمئنها على سلامتها غير معاهدة لوكارنو. . . وقد أعتدي على حق بلجيكا التي تحترم المعاهدات والجيران اعتداء لا مبرر له. . . فبلجيكا لم تكن عضواً في المعاهدة الفرنسية الروسية التي أتخذها الهر هتلر حجة لتمزيق لوكارنو. ولا ينبغي أن تتوقف قيمة الإمضاء على معاهدة على قيمة قوى الذي وقع على تلك المعاهدة. . .
وبعد ظهر يوم الاثنين الموافق 16 مارس أجتمع مجلس العصبة اجتماعاً خاصاً ثم اجتماعاً سرياً داما مدى أربع ساعات، ودام البحث خلال ذلك عن الجواب الواجب إرساله إلى الحكومة الألمانية، وعن الأصول الواجب إتباعها للوصول إلى القرار الذي يصدره المجلس. وبعد نقاش طويل تقرر إرسال برقية إلى الهر هتلر يخبره فيها بأن الألمانية الحق في الاشتراك في مناقشة المجلس لطلب فرنسا وبلجيكا على قدم المساواة مع بقية الدول؛ ولا اعتبار لأصوات دول لوكارنو الثلاثة في تقرير التصويت الإجماعي. أما فيما يتعلق بالشرط الثاني فليس من اختصاص المجلس إعطاء التأكيد الذي تطلبه الحكومة الألمانية.
وقرأ مسيو فلاندان طلب حكومة فرنسا وبلجيكا الذي تقولان فيه بأن على مجلس العصبة أن يقرر بأن ألمانيا قد اعتدت على ميثاق لوكارنو ومعاهدة فرساي، وأن يقف فوراً دول لوكارنو على القرار - وبعد نقاش قصير فضت الجلسة.
وقبل أن تجيب حكومة برلين على برقية مجلس العصبة، أرسلت صباح الثلاثاء 17 مارس إلى حكومة لندن، بواسطة سفيرها في برلين برقية تقول فيها بأن الحكومة الألمانية تأمل من حكومة جلالته بذل جهودها، في الظروف الحالية، للمفاوضة على المنهاج الألماني(154/24)
في الوقت المناسب مع الدول ذات الشأن فيه. فأسرع مستر ايدن في أخذ رأي ممثلي فرنسا وبلجيكا ثم أجاب حكومة برلين قائلاً: (إن حكومة جلالته باذلة كل جهدها للوصول إلى حل سلمي مرض للمشاكل الحالية. وأن الحكومة البريطانية تؤكد بأن (اقتراحات المستشار) ستناقش في الوقت المناسب كغيرها من اقتراحات ذات الشان في الموضوع)
وفي اليوم عينه اجتمع مجلس العصبة في الساعة الثالثة والنصف وعقد جلسة سرية حسب اقتراح رئيسه ليسمع تصريحاً من ممثل بريطانيا. وقد أطلع مستر ايدن المجلس على برقية حكومة برلين وجوابه عليها. وبعد جدال عنيف حول الموضوع تقرر أن برقية الحكومة الألمانية لا تعد جواباً على برقية المجلس، وأن على المجلس فتح المناقشة حول طلب فرنسا وبلجيكا. وقد حض ممثلا فرنسا وبلجيكا على النقاش الفوري، وأخذ مسيو فلاندان يتكلم بحدة عن ضياع الوقت دون الوصول إلى نتيجة.
وبينا هم كذلك إذ سلمت برقية إلى مستر ايدن، تفيد بأن الحكومة الألمانية قد قررت إرسال مبعوث إلى لندن. وبعد بضع دقائق (تلفن) سفير ألمانيا في لندن إلى رئيس المجلس ليقفه على الخبر. وعلى ذلك انفضت الجلسة ليقوم الممثلون باستشاراتهم الخاصة.
وفي نفس اليوم عقدت الجلسة ثانية وكانت سرية أيضاً. ودار الحديث حول تأجيل المناقشة العامة حتى وصول ممثل بريطانيا، فعارض مسيو زيلاند في ذلك، وأخبر مسيو فلاندان المجلس بأنه يجب أن يؤخذ القرار صباح الخميس، لأنه سيغادر لندن إلى باريس في ذلك التاريخ. وهكذا تقرر أخيراً افتتاح الجلسة العمومية والبحث في دعوى فرنسا وبلجيكا، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف.
وتكلم في هذا الاجتماع ممثلو تركيا وروسيا وشيلي. وكان أهم ما جاء في الخطب انتقادات الرفيق لتفينوف الشديدة والصريحة لانتهاك ألمانيا ميثاق لوكارنو. وقرأ جملاً من كتاب (كفاحي) توضح أن ألمانيا كانت مصرة على احتلال أراضي الرين عسكرياً وتسليحها لتتمكن من نشر نفوذها على أوربا جميعها وتابع مجلس العصبة اجتماعه في اليوم التالي، وتكلم جميع ممثلي الدول عدا الرئيس وممثل بلاد (الإيكوادور) بسبب مرضه، وأهم الخطب كانت خطب مستر ايدن والسنيور جراندي والكلونيل بيك أما الهر ريبنتروب فلم يصل في الوقت المحدد، ولذلك ألقي خطابه يوم الخميس 19 مارس.(154/25)
وبعد أن أبان مستر ايدن أن ألمانيا هدمت معاهدة لوكارنو بعملها في 7 مارس قال: (إن واجباتنا ليست فقط التصريح بأن اعتداء قد حصل، بل يجب أن نضع نصب أعيننا غايتنا السامية، ألا وهي الاحتفاظ بالسلام، وإقامة حسن التفاهم بين أمم أوربا على أساس متين ودائم. ماذا كان مقصد لوكارنو؟ لقد كان لها مقصدان: أولهما الاحتفاظ بالسلام، وثانيهما خلق ثقة دولية بتأمين السلام في غربي أوربا. وإنني أصرح بأن موضوعنا اليوم هو هاتان النقطتان. . واستمر يقول بأن الحالة الراهنة التي تولدت عن أعمال 7 مارس حرجة جداً، غير إن هذه الحالة تحتوي على شيئين مهمين يجب لفت النظر إليهما:
أولهما: أن تمزيق لوكارنو لم يحمل معه أي تهديد عدائي، ولا يوجب العمل الفوري الذي توجبه معاهدة لوكارنو في بعض الظروف.
ثانيهما: مهما تكن الحالة خطرة فأنها أوجدت فرصة سانحة لتوليد حسن التفاهم وبناء العلاقات الدولية على معاهدات يحترمها الجميع ويود بقاءها. . .
أما الأمر الأول الذي لفت مستر ايدن إليه النظر فيخالف نص معاهدة لوكارنو الذي يقول بأن احتلال أراضي الرين يعد عملاً عدائياً، ولدول لوكارنو الحق في اتخاذ إجراءات عاجلة فعالة. وأما النقطة الثانية فلا يستطيع مستر ايدن تأكيدها، إذ هو لا يستطيع ضمان محافظة ألمانيا على المعاهدات التي ستعقد معها. ألا يمكن لحكومة النازي أن تقوم بعد سنين بعين العمل الذي قامت به في 7 مارس بحجة أن المعاهدة التي وقعتها لم تعد تسير مع رغائب الأمة فلا قيمة لها، وأن الحكومة الألمانية في حل منها!
واجتمع مجلس العصبة صباح الخميس الموافق 19 مارس لسماع خطاب الهر فون ريبنتروب واتخاذ القرار. وفي بادئ الأمر عقد اجتماع خاص طلب فيه ممثل الهر هتلر ترك فاصل من الوقت بين نهاية خطابه وأخذ القرار للتفكير. فصرح مسيو فلاندان حالاً، وبدون تردد، بأنه يعضد هذا الاقتراح. وفي الساعة العاشرة والنصف عقد الاجتماع العام. وأومأ الرئيس إلى الهر ريبنتروب، فقام وقرأ خطابه بالألمانية (مع أن اللغتين الرسميتين في عصبة الأمم هما الفرنسية والإنجليزية)، وبصوت هادئ ودون إشارة مدة نصف ساعة، ولم يأت في دفاعه ببراهين جديدة تبرر أعمال 7 مارس، بل كان الدفاع مبنياً على أن حكومة فرنسا اعتدت على لوكارنو بعقدها مع الروسيا ميثاقاً آخر؛ وأعاد تأكيد الهر هتلر(154/26)
بأن الحكومة الألمانية تود السلام.
وبعد أن ترجم الخطاب إلى الفرنسية والإنجليزية، انفضت الجلسة ليجيل الأعضاء الفكر فيه.
وعندما اجتمع أعضاء المجلس في الساعة الثالثة والنصف ألقى الرئيس بروسي كلمته كممثل لحكومة أستراليا، وأخبر بأنه سيصوت مع طلب فرنسا وبلجيكا.
ثم جرى التصويت على القرار - وهذا نصه: (إن مجلس عصبة الأمم، حسب دعوى وفرنسا وبلجيكا، المقدمة إليه في 8 مارس 1936، يرى بأن الحكومة الألمانية قد خالفت المادة 43 من معاهدة فرساي بإرسالها في 7مارس سنة 1936 قوى حربية إلى الإقليم غير المسلح، والمنوه عنه في المادة 42 والمواد التالية من تلك المعاهدة وفي معاهدة لوكارنو، وإقامتها فيه. انه يخبر السكرتير العام حسب نص البند 2 من المادة 4 من معاهدة لوكارنو لكي يرسل قرار المجلس هذا حالاً إلى الدول الموقعة على تلك المعاهدة)
وقد أخبر الرئيس بأن لجميع الممثلين حق التصويت، غير أن أصوات المتخاصمين لا تعد لمعرفة ما إذا كان التصويت بالإجماع.
وكان جواب ممثلي الدول إيجابياً (نعم). أما جواب ممثل الهر هتلر فكان (لا). ولم تكن حكومة اكوادور ممثلة في هذا الاجتماع؛ ولقد تغيب عن التصويت ممثلي شيلي.
وهكذا أخذ القرار بمخالفة أعمال 7 مارس لمعاهدتي فرساي ولوكارنو بالإجماع؛ وانتهت بذلك الدورة 91 غير العادية لمجلس العصبة.
يوسف هيكل(154/27)
بعض أبطال النقد وأثرهم في نهضة الآداب الأوربية
عندما قرأت مقال الأستاذ صاحب (الرسالة) في فوضى النقد في مصر، ثم قرأت في الأسبوع التالي مقال الأستاذ أحمد أمين، بدا لي أن أقدم للقراء طائفة من النقاد الأوربيون كان لهم أكبر الأثر في نهضة الآداب كل في مملكته. وقد اشترك هؤلاء في فضيلة واحدة جعلت لكتابتهم قيمتها، تلك الفضيلة هي أنهم لم يقيموا من أنفسهم قضاة يصدرون أحكامهم على الأدباء، ولا اتخذوا من أنفسهم شتامين سبابين، يخرجون عن موضوع النقد إلى الخوض في الأعراض وانتقاص الشاعر أو الكاتب بكل ما يضع من قدره، ويحط في أعين القراء من شأنه. . . بل هم كانوا يعرضون بضاعة الأدباء على القراء ويعينونهم على تقديرها بالنقد والتحليل، ويلفتون أنظارهم إلى ما فيها من جمال أو قبح، ثم يتركونهم يصدرون أحكامهم من تلقاء أنفسهم. وأحسب أن لو أتبعت هذه الطريقة في مصر لعادت على الأدب والأدباء بأكبر النفع، ولا سيما إذا لم تقحم السياسة والإحن والتعصب في المسائل الأدبية التي ينبغي أن تظل بريئة خالصة لوجه الحق والأدب.
أما هؤلاء النقاد الأوربيون فهم: لسنج الألماني، وسانت بيف الفرنسي، وبلنسكي الروسي، ثم كولردج، وشارل لامب، وهازلت، وأرنولد الإنجليز.
1 - لسنج
كانت أوربا كلها إلى ما قبل القرن الثامن عشر تعير ألمانيا بالإفلاس الأدبي، وكانت ألمانيا تنظر إلى خصيمتها فرنسا نظرة كلها حسد وكلها غيرة، وإن كان هذا الحسد وتلك الغيرة لم يمنعاها من أن تكون التلميذة المؤدبة المعترفة بالجميل لفرنسا، ذلك لانتشار الأدب الفرنسي بين الألمان في ذلك الوقت انتشارا كان يأخذ السبل على كل الآداب الأوربية، فما يستطيع أحدها النفاذ إلى ألمانيا، بما في ذلك الأدب الإنجليزي الذي كان بطبعه أقرب إلى ذوق الألمان. فلما ولد جوتهولد إفرايم لسنج سنة 1729 دقت البشائر في ألمانيا كلها، وأخذ الكابوس الذي كان يجثم على صدرها ينظر إلى هذا الطفل ويعد العدة للرحيل!
قضى لسنج أيامه الأولى متنقلاً بين لينبرج وبرلين؛ وكان أبواه قد نذراه للكنيسة، لما كان للرهبان في تلك الآونة من عظيم الشأن في ألمانيا؛ ومن هنا كان الصراع الهائل في نفس الشاب بين ميوله الأدبية الفطرية وبين التزمت الديني في الفكر الذي يقسر عليه رجال(154/28)
الدين عادة. فصبأ من تلقاء نفسه، واحترف الأدب.
وكان لسنج يبغض الأدب الفرنسي ويبغض الأدباء الفرنسيين وفي مقدمتهم فولتير؛ وأكبر الظن أنه كان يصدر عن عصبية ووطنية صارخة لما كان بين الدولتين من منافسات وثارات. ولم يبرح يكتب ويكتب، ولم يبرح المسرح يجتذبه إليه، فعكف أول الأمر ينقد الدرامات الفرنسية التي كانت تكتسح المسرح الألماني، ويظهر الناس على ما فيها من ليونة لا تتفق والقوة التي تنشدها ألمانيا. ولم يقف عند الكتابة في الصحف والمجلات، بل ألف كتابه القيم (تاريخ المسرح) وأصدره سنة 1750، وهو كتاب خطير حسن يلفت فيه لسنج أنظار قومه بشدة إلى روائع المسرح الإغريقي، ويقفهم به على أحسن ما جادت به قرائح إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدز وأرسطوفان. ثم يدعوهم به إلى الأيمان باليونان والكفر بفرنسا. وكان هذا الكتاب أول محاولة صادقة لإحياء الدراما الكلاسيكية، وقد هرع إليه أدباء ألمانيا فتخذوا منه إنجيلا يبشر بأدب جديد؛ وافتتن به جوته فبشر به؛ وجعله شيللر ناموسه الأكبر إلى أدب المجد والخلود.
وكان لسنج يعجب أيما إعجاب بشكسبير، فدأب على الدعوة له في ألمانيا حتى أفلح أخيراً في صرف الشباب الألماني إليه. وقد حفظ له الإنكليز هذا الجميل فنقلوا إلى لغتهم كل ما كان يكتب ويؤلف.
وقد تمت هزيمة الاتجاه الفرنسي في ألمانيا حينما أصدر لسنج مأساته الخالدة (الآنسة سارة سامبسون) سنة 1755 التي كانت بحق أولى ثمار الأدب القومي الألماني المستقل. وبعد هذه الدرامة فرغ لسنج للنقد فأرشد ألمانيا كلها لما فيه خيرها ولما فيه صلاح نهضتها.
وفي سنة 1766 أصدر لسنج قصته البارعة (لاوكون) التي أتفق كل مؤرخي الآداب على أنها أعظم نتاج أدبي صدر في القرن الثامن عشر بطوله. والقصة تدور على حوادث النبي الطراودي لاوكون الذي وعظ قومه آلا يقربوا الحصان الخشبي وألا يدخلوه إلى مدينتهم لأنه سيكون شراً عليهم. ولقد لخصت (الرسالة) هذه الحادثة في باب القصص في آخر حروب طراودة. وبحسب هذه القصة أن يقول فيها جوته: (يجب أن نرتد طفرة إلى ميعة الشباب وحرارته كي ندرك حقيقة الأثر العميق الذي تركه فينا لسنج بقصته العبقرية (لاوكون) الذي انتشلتنا من صفوف المتفرجين التاعسين البلداء إلى صفوف المفكرين(154/29)
المنتجين العظماء!) وقد عرض لسنج في ثنايا القصة إلى ضروب من النقد الحر المعتدل البعيد من الصلف جعلتها قانونا عاما لهذا الفن الذي هب أدباؤنا اليوم يشكون مر الشكوى من المتطفلين عليه بغير الحق.
2 - سانت بيف (1804 - 1869)
لا يستغني طالب الأدب الفرنسي عن كتاب (أحاديث الاثنين) لسانت بيف؛ بل نبالغ إذا جزمنا أنه لا غناء لمتأدب في أي أمة عن هذا الكتاب الذي لا يعدله كتاب في النقد الأدبي في العالم. ولم يكن لورد مورلي مبالغاً حين قال إن من شاء استيعاب الأدب الفرنسي كله فحسبه أحاديث الاثنين لسانت بيف، فهي ذوق وذخيرة وعدالة ومفتاح ذهبي لكل من يستغلق عليه شيء من هذا الأدب الحافل.
وقد عرض سانت بيف لطائفة كبيرة من الأدباء الإنجليز والإغريق في أحاديثه، فحلل آدابهم وعرضهم على قرائه عرضاً علمياً شائقاً شهد بعدالته وسموه كبار النقاد الإنجليز أنفسهم، وإن يكن قد قدح في طريقة الناقد الإنجليزي الكبير صموئيل جونسون التي عرض بها لجمهرة من الشعراء في كتابه (حياة الشعراء ولم يكن سانت بيف متعسفاً في هذا القدح، بل كان صائب الرأي فيه إلى حد بعيد؛ ويكفي أن تعلم أن كتاب جونسون هو مجموعة مقدمات لدواوين الشعراء كان يطلب منه تقديمها إلى القراء بها، فكان لا يعني فيها إلا بإبراز محاسن الشاعر وإلا كبار من شأنه غاضاً الطرف عن عيوبه يكفي أن تعرف هذا لتتفق مع بيف في إقلاله من شأن جونسون وكما قدح بيف في طريقة جونسون في نقد الآداب، فكذلك لم ترضه طريقة مواطنه الكبير بوالو (لأنه كان ينظر إلى الأديب نظرة سطحية، ثم سرعان ما يصدر حكمه عليه؛ والناقد العادل ينبغي أن يستعرض حياة الأديب وعصره وبيئته وظروفه فيشرحها للقراء شرحاً مسهباً ثم يدعهم يصدرون أحكامهم؛ فليس من وظيفة الناقد أن يكون قاضياً. . .)
وأحاديث الاثنين فصول ممتعة كان يحررها بيف في إحدى المجلات الدورية ثم جمعها وأصدرها في عدة مجلدات وأردفها بكتابه الرائع في النقد والأدب والفلسفة وقد تناول فيه الحركة الذهنية برمتها في عهد لويس الرابع عشر.
3 - بلنسكي (1811 - 1847)(154/30)
يرجع تاريخ النقد الأدبي في روسيا إلى عهد الشاعر العظيم بوشكين (1799 - 1837) وذلك للفصول الممتعة القوية التي كان يوالي نشرها في المجلة الروسية (الرسول الأوربي) ينقد فيها الشعر والشعراء منذ فجر النهضة الروسية إلى زمنه. وقد أثارت هذه الفصول حماسة الشباب ولفتتهم إلى درر الآداب العالمية، وربت فيهم ذوقاً خالصاً شفافاً يزن بالنظرة الواحدة قيم الأدب بنوعيه في ذلك العصر من شعر ونثر. وقد استجاب لفصول بوشكين زعماء الشباب من أدباء روسيا واجتذبت بعض أمراء البيت القيصري وفي مقدمتهم الأمير الأديب فيازيمسكي الذي نزل إلى ميدان النقد بقلمه - على نهج بوشكين - في مجلة (كارامزين) (1808 - 1878) - وانتظمت حركة النقد على صدى سانت بيف حين دخل عنصر الاحتراف في الصحافة الروسية وقطعت شوطاً كبيراً على يد الصحافي القدير بولفوي. الذي لفت إليه الأنظار بفصوله الضافية في نقد الأدب والحياة والتقاليد الروسية، وإن أغضب الفئة الرجعية التي لا تخلو منها أمة ما. . .
بيد أن هذه الحركة المباركة لم تبلغ أوجها إلا حين تسلمها فتاها الأكبر فخر أدباء روسيا بلنسكي، الذي وثب من وسط وضيع وأسرة فقيرة وتعليم ناقص مبتور، فاستطاع أن يتسم أسمى ذروة بين مواطنيه، وأن يرسم الخطط لما ينبغي أن يكون عليه الأدب والاجتماع في روسيا جميعاً. وكأننا به قد تسلم تراث أسلافه بوشكين ولرمونتوث وجوجول ليغربله ويسقط ما فيه من نفايات، كيما يخلق منه قادة الأدب العالمي الجديد: جوتشريف وهرزن ودستوئفسكي وتولستوي وشيخوف وجوركي. وبحسبك أن تعلم أن الأربعة الأول قد تتلمذوا على بلنسكي، ورضعوا لبانه ودرجوا في حجره، وثقفوا عنه فلسفة هجل وجيته، وطرائف شاكسبير وروائع الأدب الفرنسي، وآمنوا عن سبيله، بأن الفن للحياة، وليس الفن للفن.
ولشد ما كانت روسيا تشبه مصر اليوم من الوجهة الأدبية، فكان فيها معسكران كبيران ينزع أحدهما إلى التجديد والأخذ عن الغرب، وتسموا باسم (الثائرين) وكان على رأسهم بلنسكي يعاونه ويشد أزره الناقد المحاضر الكبير يوسف لوما يستر، ويساعدهما الأديب الثقة والناقد المحقق هرزن، أما المعسكر الآخر فهم فئة السلافيين وكانوا يتعصبون لروسيا القديمة تعصباً أعمى، وكان أدباؤهم ينقدون معسكر الثائرين نقداً كله شعوذة وكله رمي بالكفر المروق من الدين والوطنية.(154/31)
وقد أخذ الأستاذ بركنر الألماني في كتابه (تاريخ الآداب الروسية) على بلنسكي وإضرابه من النقاد الروسيين ما كانوا يحيدون به أحياناً عن قوانين النقد التي وضعها سانت بيف ولسنج وأرنولد، وقال إنهم حين كانوا يفعلون ذلك كان يجيء نقدهم سطحياً قليل الغناء، وقد رد الأستاذ بارنج في كتابه (خلاصة الأدب الروسي) على هذا المأخذ بأن بلنسكي ومدرسته كانت تنشد قبل كل شيء خلق وأدب قومي روسي بكل معنى الكلمة ينافس الآداب الأوربية التي كانت تطغي على روسيا نفسها فتجذب إليها جمهور القراء الروسيين. . . لذلك كان يضطر أحياناً إلى منازلة خصومه بأشد من أسلحتهم في المهاترة والثلب!
4 - كولردج وشارل لامب
لو أن كولردج (1772 - 1834) قصر جهوده على النقد دون النظم لأفاد الأدب الإنجليزي أكثر مما أفاده بشعره، وأن يكن له في هذا الميدان جهده المشكور. ولقد كانت طريقته في النقد مثل طريقة مواطنه وصديقه شارل لامب (1775 - 1834) وإن أختص الأول بعرض أدب شاكسبير أكثر من أي شيء آخر. وكل النقاد الحديثين في إنجلترا يحترمون آراءه في شاعرهم الأكبر ويعتمدون عليها. وشارل لامب هو صاحب النظرية العجيبة في نقد الآداب والتي تتلخص في (وجوب اعتماد الناقد على ذوقه كحاسة سادسة لا على عقله فقط في نقد الأدب!) وهو يشرك الروح في النقد، ويطلب من الشاعر أن يغني ويصور، ويبكي ويتألم، لا أن ينظم حقائق هذه الدنيا فيكون شعره جافا ثقيلا على القلب. فالروح عند شارل للشعر، والعقل للعلم. وقد كان لامب يثير شغف القراء وإعجابهم بفصوله التي كان ينشرها في بإمضاء (إيليا)؛ ولولا أثرته ومدحه لذاته في هذه الفصول لرفعته إلى أسمى مراتب النقاد.
5 - هازلت (1778 - 1830)
لا تقل مكانة وليم هازلت في النقد عن مكانة سانت بيف؛ ويعده الإنجليز واضع أسس النقد الأدبي الحديث في إنجلترا، وهم يقبلون على قراءته إلى اليوم كما يقبل الفرنسيون على قراءة سانت بيف، وكما يقبل الألمان على لسنج، والروس على بلنسكي. ويذكر هازلت أن سبب شغفه بالأدب والنقد خاصة هو لقاؤه الأول بكولردج الذي كان صديق أبيه. وكان(154/32)
يزوره في منزله كأعز ضيف عليه. ولقد حاول هازلت مرة أن يهجر الأدب إلى الفنون، وشغف فعلاً بالتصوير والرسم ولكنه فشل، فحطم ريشته وامتشق براعته، وكان ذلك من حسن حظ الأدب.
وما كاد هازلت ينشر فصوله الأولى في النقد في إحدى المجلات حتى استرعى انتباه الدوائر الأدبية العليا. وحتى دعته مؤسسة رسل لإلقاء بضع محاضرات في (نشوء وترقي الفلسفة الحديثة)، ثم في (الشعر والشعراء الإنجليز) و (كتاب الكوميدي الإنجليز)، و (عصر إليزابيث). ودعته صحيفة المورنتج كرونكل لتحرير قسم النقد المسرحي فيها. وأخذ بعد ذلك ينشر فصوله عن (الدائرة المستديرة) في صحف التيمس والتشامبيون والأجزامنينر، واتصل بمجلة لندن فنشر فيها حديث المائدة وبحثه القيم عن (روح العصر). وغير ذلك من الموضوعات الشائقة. وقد شهد البروفيسير سينتسبري - ولم يغل - بأن فصول هازلت في النقد قد فاقت غيرها في جميع الأمم، ولم يستثن سانت بيف - ولولا ما كان من إعجاب هازلت بنابليون لعبده الإنجليز ولقدسوه تقديساً.
6 - مانيو أرنولد (1822 - 1888)
أرنولد من شعراء العصر الفكتوري المجيدين، ولكنه خدم الأدب الإنجليزي بكتابه القيم (فصول في النقد أكثر مما خدمه بشعره؛ ويكاد أرنولد يتفق وهازلت في طريقته في نقد الآداب، غير أنه يمتاز من هازلت بأنه يخلق من القارئ نفسه ناقداً للموضوع أو الأديب الذي ينقده، فما يكاد أحد يتلو فصولاً من كتابه حتى يحس من نفسه القدرة على النقد، كأنما قد تقمصه أرنولد! وهذا ما أفاض في شرحه الأستاذ هربرت بول في كتابه عن أرنولد؛ ولولا تشكك أرنولد وكثرة حيرته، وهما عيبان يبدوان كثيراً في فصوله، لما قل في مرتبته عن هازلت وعن سانت بيف.
وبعد فهذه لمحات خاطفة لمادتنا نقاد الآداب عن زملائهم (!) في بعض الأمم الأوربية، نرجو أن يهتموا بدراستهم في المراجع التي أشرنا إليها ثم ينقدوا بعد ذلك ما يشاءون.
(د. خ)(154/33)
ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة في
كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
(تابع المنشور في العدد الماضي)
- تلخيص وتحليل -
للأستاذ خليل هنداوي
أما غاية صناعة الشعر فلم تخرج عن غاية الفلسفة لأن المؤلف والمترجم فيلسوفان يقيسان كل شيء، ويقدرانه بحسب فائدته الخلقية، وهما يريدان من الشعر أن يكون عاملاً على تهذيب الأخلاق حاثاً على التخلق بالآداب السامية (وهذا هو الشعر المدرسي قبل أن ينحت الفن أثلته، وينخر غرسته) لأن الفن قد ضرب بهذه السدود، وحطمها أي تحطيم. والشعر الفني - عند العرب - في اعتقادي - يغشى على الشعر المدرسي لأن أكثره شعر لا يدل على أن أصحابه كانوا يتورعون فيه. ولعل هذا هو ما دعا أبا نصر الفارابي إلى الحملة على هذا النوع من الشعر الفني بقوله: (إن أكثر شعر العرب في النهيم والكريه؛ وذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق؛ ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان ويؤدبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فانه ليس تحث العرب في أشعارها من الفضائل على سوى هاتين القضيتين وإن كانت ليس تتكلم فيهما على طريق الحث عليهما، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذي يصفون به الجمادات كثيراً والحيوانات والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب أو معرفة من المعارف) وقد بحث في العلل المولدة للشعر، فكان تعليله الأول إلى الفلسفة أدنى منه إلى الشعر. وقد بنى هذه العلل على ميل الإنسان إلى محاكاة الأشياء. وقد تكون - عندي - هذه المحاكاة علة صادقة مبنية على التحليل النفسي، لأن الشاعر أقرب الناس إلى(154/34)
فهم الطبيعة والعمل على تحسينها وإكمالها (لأنه يلتذ بالتشبيه للأشياء التي قد أحسها وبالمحاكاة لها ليلتذ بإحساسها) فما اصدق هذا الإحساس وما أبعده في تعليل العلل المولدة للشعر. إن الشاعر يأتي الطبيعة ويستجليها ويستنطقها ويبث فيها الحياة، ليجعل فيها القدرة على مشاركته في بهجته. وجاء تعليله الثاني تعليلا طبيعيا، نشأ في الإنسان لالتذاذه بالطبع بالوزن والألحان. . . وهو في هذا لا يرى في الوزن والألحان كل الشعر إن لم تنطو هذه الألحان على محاكاة الطبيعة؛ ثم يذهب في اختلاف طبائع الأمم، فأن الأمم التي تغلب الأخلاق عليها تميل إلى مديح الأفعال الجميلة، والعكس بالعكس. ولا بد من ملاءمة الأوزان والألحان للمعاني؛ فرب وزن يناسب غرضاً ولا يناسب غرضاً آخر. وعملهما فيه هو أنها تعد النفس لقبول خيال الشيء الذي يقصد تخيله. وثمة علل كثيرة للشعر، (وإنما المحاكاة هي العمود والأس في هذه الصناعة، لأن الالتذاذ ليس يكون بذكر الشيء المقصود ذكره دون أن يحاكى. ولذلك لا يلتذ الإنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها، ويلتذ بمحاكاتها وتصورها بالأصباغ والألوان؛ ولذلك استعمل الإنسان صناعة الزواقة والتصوير. وهل كانت غاية المديح مثلاً إلا محاكاة الناس من قبل عاداتهم الجميلة وأمثالهم الحسنة واعتقاداتهم البعيدة؟ ولعل أرسطو كان أكثر إنصافاً لرسالة الشعر منه لرسالة الخطابة (فقد أعترف لها بأنها ليست مبنية على الاحتجاج والمناظرة، وبخاصة صناعة المديح، وبذلك ليس يستعمل المديح صناعة النفاق كما تستعملها الخطابة) وبهذا أحسن إلى الشعر؛ وهل المادح يمدح إلا عن اعتقاد. . . . . وأساء إلى الخطابة - ولكن النفاق قد يدخل الشعر كما يدخل الخطابة، وقد يبرأ الشعر منه كما تبرأ الخطابة منه بحسب قوة الاعتقاد وصدقه عند الشاعر والخطيب.
صناعة المديح وأجزاؤها
قد أسهب ابن رشد في هذا الباب ما شاء له الإسهاب، لأنه يراه أكثر انطباقاً على محاكاة الأخلاق الفاضلة. والفلسفة تكره المحاكاة لمجرد المحاكاة إلا أن يكون من ورائها غرض أو معنى شريف من معاني التهذيب. وقد تصدى لعلة في الشعر لا تزال فاشية في شعرنا، هي علة (الاستطراد) في القصيدة الواحدة، (ويشبه أن يكون جميع الشعراء لا يتحفظون بهذا بل ينتقلون من شيء إلى شيء، ولا يلزمون غرضاً واحداً بعينه ما عدا (هوميروس) في(154/35)
اليونان.
وأنت تجد هذا كثيراً ما يعرض في أشعار العرب والمحدثين وبخاصة عند المدح، أعني أنه إذا عن لهم شيء ما من أسباب الممدوح مثل سيف أو قوس اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح. وبالجملة فيجب أن تكون الصناعة تتشبه بالطبيعة، أعني أن تكون إنما تفعل جميع ما تفعله من أجل غرض واحد وغاية واحدة، وإذا كان كذلك فواجب أن يكون التشبيه والمحاكاة لواحد ومقصوداً به غرض واحد، وأن يكون لأجزائه عظم محدود، وأن يكون فيها مبدأ ووسط وآخر، وأن يكون الوسط أفضلها.
أما تعريفه للمحاكاة من حيث الخلق والإبداع فهو تعريف تم عن إحساس عال بالشعر، فليس الشعر يعتمد على التخييل بدون نظام، ولا على تصوير الأشياء التي لا تجول في الذهن. (لأن المحاكاة التي تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من أفعال الشاعر - وهي التي تسمى أمثالاً وقصصاً مثل ما في كتاب كليلة ودمنة. لكن الشاعر إنما يتكلم في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود؛ وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فان عملهم غير عمل الشعراء وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصاً ليس لها وجود أصلاً ويضع لها أسماء؛ وأما الشاعر فإنما يضع أسماء لأشياء موجودة. . . ولذلك كانت صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال) وقد أبى ذهن أرسطو إلا أن يعطف على الشعر ويجعل رسالته مشتقة من رسالة الفلسفة. وإذا نصر الفيلسوف رسالة الشعر وخصها بفضله قد رام - لقاء هذا الفضل أن يضيق عليها حدودها، (فهو يرى أن الأشياء غير الموجودة يجب ألا توضع وتخترع لها أسماء في صناعة المديح، مثل وصفهم الجود شخصاً ثم يضعون أفعالاً له ويحاكونها ويطنبون في مدحه. فهذا النوع من التخييل وإن كان قد ينتفع به فليس ينبغي أن يعتمد في صناعة المديح لأنه ليس مما يوافق جميع الطباع بل قد يضحك منه ويزدريه كثير من الناس.)، وقد يكون اعتقاده على حق لو كان ينطق عن غير الشعر. لأن الشعر لا منصرف له عن خلقه لكثير من أنواع التخيل، (ومن جيد ما في هذا الباب للعرب - وإن لم يكن على طريق الحث على الفضيلة) قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيونٌ نواظر ... إلى ضوء نار باليفاع تحرَّق(154/36)
تُشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلَّق
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحمَ داج عوضُ لا نتفرق
وهو يريد من كل هذا أن ينزه رسالة الشعر عن النفاق وكذب التخيل والاختلاق. (إذ لا ينبغي للشاعر أن يأوي إلى ما يدعى نفاقاً فان ذلك إنما يستعمله المموهون من الشعراء، أعني الذين يرون أنهم شعراء وليسوا بشعراء؛ وأما الشعراء بالحقيقة فلا يستعملونه إلا عندما يريدون أن يقابلوا به استعمال شعراء الزور له، وأما إذا قابلوا الشعراء المجيدين فلا يستعملونه أصلاً. . على أن كثيراً من الأقاويل الشعرية تكون جودتها في المحاكاة البسيطة)
وقد تكون المحاكاة بسيطة مجردة، وقد تكون مركبة تأتي بطريقة المقابلة. إذا أراد أن يحاكي السعادة وأهلها أبتدأ أولاً بمحاكاة الشقاوة وأهلها ثم أنتقل إلى محاكاة أهل السعادة، والمحاكاة الأولى هي الغالبة على شعر العرب
كقول أبي الطيب:
كم زورة لك في الأعراب خافية ... أدهى - وقد رقدوا - من زورة الذيب
فهذا البيت من نوع المحاكاة الأولى
وقوله:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبحُ يغري بي
فهذا من نوع المحاكاة الثانية المبنية على طريقة المقابلة
ولقد تكون المحاكاة وليدة الانفعالات النفسية كانفعالات الخوف والرحمة والحزن، وهي تكون بذكر المصائب والرزايا النازلة بالناس. ويجب على الشاعر أن يلزم في تخيلاته ومحاكاته الأشياء التي جرت العادة باستعمالها في التشبيه، وألا يتعدى في ذلك طريقة الشعر.
أما هذه المحاكاة فهي عنده على أنواع. منها محاكاة لأشياء محسوسة بأشياء محسوسة من شأنها أن توقع الشك لمن ينظر إليها؛ وكلما كانت هذه المتوهمات أقرب إلى وقوع الشك كانت أتم تشبيهاً. وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذا الموضع. وكلما كانت أبعد من وقوع الشك كانت أنقص تشبيهاً. وهذه المحاكاة البعيدة التي يجب أن تطرح كقول امرئ القيس في الفرس:(154/37)
(كأنها هراوة منوال)
ومنها محاكاة لأمور معنوية بأشياء محسوسة كقولهم في المنة إنها طوق العنق، وفي الإحسان أنه قيد. وهذا كثير في شعر العرب كقول أبي الطيب:
(ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا)
أو قول امرئ القيس:
(بمنجرد قيد الأوابد هيكل)
وما كان من هذه أيضاً غير مناسب ولا شبيه فينبغي أن يطرح؛ وهذا كثيراً ما يوجد في أشعار المحدثين وبخاصة في شعر أبي تمام كقوله: (لا تسقني ماء الملام) فأن الماء غير مناسب للملام. وكما أن البعيد يجب طرحه كذلك ينبغي أن يكون التشبيه بالجنس الموجود مطرحاً أيضاً، وأن يكون التشبيه بالأشياء الفاضلة.
ومنها المحاكاة التي تقع بالتذكر كأن يرى الإنسان خط إنسان فيتذكره إن كان حياً أو ميتاً، وهذا موجود في أشعار العرب بكثرة كقول متمم بن نويرة:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت لهم أن الأسى يبعث الأسى ... دعوني! فهذا كله قبر مالك
وكقول المجنون:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى صبراً كان في صدري
وكقول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
وهذا النوع كثير في شعر العرب، ومنه تذكر الأحبة بالديار والأطلال. ويقرب من هذا الموضع ما جرت به عادة العرب من تذكر الأحبة بالخيال وإقامته مقام المتخيل كما قال شاعرهم:
وأني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
وتصرف العرب فيه كثير(154/38)
ومنها الذي يستعمله السوفسطائيون من الشعراء وهو الغلو الكاذب، وهو كثير في أشعار العرب والمحدثين كقول النابغة يصف ضربة سيف:
تقدُ السلوقيّ المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفَّاح نار الحباحب
وهذا كله كذب
(له بقية)
خليل هنداوي(154/39)
من الأدب الإنكليزي
برسي شلي
-
بقلم خليل جمعه الطوال
لشلي فكرةٌ متوقدةٌ، وعاطفةٌ ذائبةٌ، بل قلب يجيش بالوجدان الحي، ونبع يتفجر بالشعور الصادق، فقد كان شاعراً من أفذاذ الشعراء مشبوب المخيلة، وكاتباً متضلعاً من الكتابة، نظم وكان لا يزال في غضارة الصبى، عديد القصائد التي ما زلنا نطالعها، فندرس فيها مثال الحياة الأعلى، وكمال النفس الأسمى، ونمق كثير المقالات التي ما زالت، ونحن نتصفحها، تحدث في مشاعرنا ضروباً شتى من التأثير والانفعال، فلا عجب إذا كتب لشعر الخلود والبقاء، وسجل لاسمه صفحة حافلةً بجليل الأثر في سجل الزمن وتاريخ الأدباء.
توفي شلي، وكان لا يزال من العمر في مقتبله، وقد أقبل الأدباء على أشعاره يتدارسونها، وهرع النقاد إلى عيوبه وسقطاته يستقصونها، فما كان لأولئك وإن أعياهم الدرس أن يبلغوا شأو غايته، ولا لهؤلاء وإن أعماهم التغرض أن يضعوا من مقدار عظمته. لقد اختلفت فيه المذاهب وتناحرت عليه الآراء، فمنهم من نسى أو تناسى وفاته الباكرة وحياته القصيرة، وراح يبحث في أشعاره عن آية القدر وأعجوبة الزمن، فلما لم يجدها تناوله بألسنة حداد ودحضه بشتى الأحكام الجائرة، بعد أن خضَّل جدثه بوابل من المثالب الجارفة، التي يترفع عنها الأدباء وتنبو عن سماعها آذان الحكماء، وبعد أن نال من سمعته وحط من مكانته ما شاءت له رغائبه وسولت له أهواءه.
وتمثل لهذا النفر من الرجال الذين أعماهم التغرضُ الممقوت (بوليم هزلت) ولوليم هذا مكانة في الأدب، مرموقة بالأنظار، محفوفة بالاحترام والوقار، وخليقة بعدم التحامل السفيه، وبالأعراض عن التشيع الكريه، ومنهم من أسدل على هفواته - وجل من لا يهفو - ستر الجهل وقناع التجاهل تشيعاً للرجل لا للحق، وراح ينشد آياته البينات، ويتغنى بأشعاره النيرات، كتوماس أرنولد، وكان من معاصريه ومناصريه. وهكذا فقد كانوا فيه جميعاً بين القائل من كرامته لم يسلم من الإسراف والتحذلق، أو مطنبٍ في مدحه لم يسلم من آفة الغلو والإغراق.(154/40)
وكم نود لو أن لنا من صائب النظر في مهنة النقد ما نعمد به إلى مؤلفاته - وهي خير ما بقي لنا من آثاره التي تترجم عن آرائه، ونتبين بين غثها وسمينها مقدار عبقريته، وحقيقة نفسيته، بعد أن بقي طيلة هذه المدة مجهول الهوية مكتوم الطوية، ونرجع بذلك فيصل الحكم إلى نصابه، وحسام الحقيقة إلى قرابه.
أما وليس لنا من قدرة النقد ما أسلفنا، فلا أقل من أن نعرض لحياته الطافحة بالألغاز والمبهمات جهد المستطاع وغاية الميسور آملين فيما نقرره أن نبلغ جدة الصواب.
مولده وأخلاقه
ولد برسي شلي في الرابع من شهر أغسطس لعام 1792، وقضى طفولته في لندن تعصف به الهموم والأحزان، وتنتاشه مخالب البؤس والأشجان، وذلك لما كان يلقاه من فقر والده ونكد طالعه، وكان - على ما يصفه لنا السير توماس هوج في كتابه - سري الخُلق سوي الحلق ذا عينين نجلاوين، هزيل الجسم أزهره، ناتئ المفاصل كبيرها، جعدي شعر الرأس قصيره، وضاء البشرة، جميل الأنف، مليح الفم، أمرد باسر الوجه، تعلو غضون حاجبيه المقطبين من شدة ما تجرعه من كأس الحياة المريرة سحابةٌ من الحزن، ولذا كان يكره دور الملاهي وينفر من الحانات. ويروى أنه كان بالغاً من الطول حد التحدب، ومن الجمال درجة التأنت، حتى أن منظره ليملك القلب ويستهوي الخاطر. وكان دائماً يحدب على المستضعفين ويرفق بالفقراء والمساكين، ويصبر على كيد أعدائه الظالمين.
شلي والمعري
جاء شلي فكأنما كان مجيئه ريحاً هادئة أذكت سعير تلك النار التي قدح المعري بزناده شرارها، وتعهد بآرائه ضرامها، والتي لا تزال تحدث ثورة في الرأي واضطراباً في العقيدة. جاء شلي، وكان ذلك الصوت الذي أهاب به المعري في ربوع بغداد، وبطاح سورية، وأرز لبنان - البلاد التي اختلف إليها المعري في أسفاره - لما يتلاش، فرجع في بلاد الغرب دوى صداه، الذي امتد من جبال (بنسين) في إنكلترا، إلى جبال الألب في إيطاليا، والذي انفجر في (ورنهام) - محل مولد شلي - فسار منها إلى مدينة روما، ثم تلاشى بين أمواج خليج (بيزا) المصطخبة.(154/41)
لقد كان كلاهما روحاً سابحة في عالم الخيال، ونفساً تضطرب بين أنواء الشك واليقين. بل كان كلاهما ثورة شعواء على العرف والعادات والتقاليد، ومن أشد الناس سخرية بالدين، وزراية بما اطمأن إليه الخلق من إثابة الصالحين.
لقد كان شلي ملحداً لا يؤمن بالوحدانية، ولا بالحساب، كما كان المعري يسخر من وعيد الآخرة والثواب؛ وهل لغير الشك أن يملي على المعري قوله
لو جاَء من أهل البلى مخبر ... سألت عن قوم وأرخت
هل فاز بالجنة عمالها؟؟ ... وهل ثوى في النار (نوبنخت)
أو قوله:
زعموا إنني سأرجع شرخاً ... كيف بي كيف بي وذاك التماسي
وأزور الجنان أحبر فيها ... بعد طول الهمود في الأرماس؟
أم هل كان شلي في كتابه الذي أرسله إلى (جون جسبورن) من بيزا عام 1822، والذي جاءت فيه هذه العبارات الآتية
, ;
أي: (إنه لمن الخرافة ومحض السفسطة، أن نعتقد بأن الإنسان الذي يقضي ستين عاماً من الحياة المريرة سيذهب (بعد موته) ليقضي ستين مليوناً من السنين وهو يشتوى حياً بنيران جهنم المؤلمة) هل هذا إلا صورة عن المعري في قوله:
أموتٌ ثم حشر ثم نشر ... حديث خرافة يا أمَ عمرو؟
أو عن قوله:
خذ المرآة واستعرض نجوماً ... تمر بمطعم الأرى المشور
تدل على الحمام بغير شك ... ولكن لا تدل على النشور
وهل لغير روح أبي العلاء في قوله:
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له سبك
وقوله:
لو كان جسمك متروكاً بهيئته ... - بعد التلاف - طمعنا في تلافيه
أن تملي على شلي قصيدة الخالدة التي ينكر في بعض أبياتها لا نشور الأجسام فحسب، بل(154/42)
بقاء الروح أيضاً. إذ يقول:
(إن روح الإنسان تتلاشى داخل قلبه وهو في القبر كما يخبو نور مصباح طمر في باطن الأرض ضمن زجاجته. أما جوهر الخلود الذي ينير بسماتنا بشعاع الأمل، فانه يتبدد ويتشعث في عالم الأزلية: واللانهاية.)
ولم نذهب بعيداً في المقابلة والاستدلال ونظرة واحدة إلى رسالة شلي التي نشرها عام 1811 تحت عنوان ضرورة الإلحاد فطرد من جامعة اكسفورد بسببها، ترينا بأنها ليست إلا نسخة عن (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، لا تختلف عنها إلا في اللغة والأسلوب!
لقد أنكر كلاهما كثيراً من العقائد والمذاهب، فنالا من مرارة النقد ولاذع التقريع ما لم تكسر الأيام من حدته.
أضف إلى اشتراكهما في الرأي والعقيدة ائتلافهما في المزاج وفي نوع المعيشة الزاهدة الوادعة، وترفعهما عن إيذاء الغير وإسرافها في عمل البر. وكل ما يختلفان فيه - إن صح هذا الادعاء - هو أن المعري يعترف بالوحدانية وينكر البعث بينا شلي ينكر البعث والوحدانية.
شلي وبيرون
لا نكاد نمر بصفحة من حياة شلي إلا ويتردد فيها ذكر اللورد (بيرون) فقد كان رئده وصديقه، ومن الذين شهدوا إحراق جثته على خليج بيزا، فلا ندحة لنا عن أن نعرض لسيرتهما معاً ولو بشيء من الإيجاز.
لقد كان كلاهما من شعراء العصر الفكتوري المجيدين، ومن دعاة الحركة الابتداعية المبرزين، عاشا من الزمن فترة واحدة، إلا أنهما لم يجريا في حلبة واحدة من ميادين الشعر والأدب، فيعرف أي الاثنين محرز قصب السبق فيها؛ فبينا نرى شلي ينزع في قصائده، نزعة أبي العلاء المعري، ويسير وإياه على غرار واحد في الحكم والهوى، وفي التمرد على البيئة والتقاليد، نرى أن اللورد بيرون في قصائده يتفق مع أمرؤ القيس في أشعاره ولا سيما في معلقته الشهيرة.
فقد كان كل منهما في جميع ما يكتب إنما يعبر قبل كل شيء عن عواطفه الخاصة، ويسرد(154/43)
ما كان في حياته الماجنة من ضروب العبث والاستهتار، ومن لذعات الغزل الفاحش والافتخار. حتى قيل في بيرون: (إن حياته كانت محور نظمه، وقصائده فيها أحسن شعره) فشخصيته كأمير وابن أسرة عريقة في المجد والحسب تظهر في أشعاره، ظهور شخصية أمرؤ القيس كملك وابن ملك، وكشاب مسترسل في الشهوات والملذات في معلقته.
وهناك فرق آخر بين شلي وبيرون: ذلك أن شلي كان يعتمد في نظمه على التصورات الخيالة: بينا كان بيرون يعتمد على ذوب عاطفته وإدراكه للأمور العقلية ولعل ما بينهما من هذه الاختلافات يعزى إلى تباين طريقة معيشتهما، ناهيك ما للوراثة من كبير الأثر، فقد نشأ بيرون تحت ظلال المتعة الوارفة، وهو يتقلب على فراش السعادة والرخاء، ويرتشف سلاف الخمر ورحيق الهناء. فأنكب على الملاهي والمنكرات، وتمرغ في حمأة الدعارة والموبقات؛ حتى لقد كان يقاد من أهوائه بشعرة، ويلبي لشهوته كل دعوة. وهكذا ترعرع دون أن يصطدم من الأيام بما يفثأ من جذوة جنونه المتوقد، أو يفل من شباة نفسه المتحفزة، حتى ولا وجد من الأهل يداً صارمة حكيمة تقسو عليه وتكبح من جماح شهواته الثائرة، وحياته الماجنة، بينما نشأ شلي وهو يقاسي من شظف العيش ألواناً، ومن الأهل ذلاً وهواناً، ومن التعس أنواعاً واشكالاً، ثم أصطدم من الأيام الكاسرة بما تشيب له النواصي وتهتز لهوله الجبال والرواسي. فشحنت المصاعب قلبه بتيار الثورة، وبذرت المصائب في صدره بذور التمرد.
شعره وديوانه:
لم يكن شلي بالشاعر الذي يترقب هبوب العاطفة الشاعرية فينتضحها في قالب من السبك اللفظي، وحسن الأداء، يذكى بهما الحس، ويرهف السمع، ويجعل صدر القارئ أو السامع يجيش بتلك الحماسة التي اعتلج بها فؤاده وانمات لها قلبه، بل كان كثيراً ما يعتسف النظم على غير استعداد من عواطفه، ويستكره خياله استكراهاً، على أن يملي عليه قصيدة شعرية توائم رغبته وإرادته، ولكنها لا تشبع حسه وخياله، فكانت تجئ ملتوية المعنى ملتاثة التعبير، لا شيء فيها من ابتكار الفكرة، وجمال العاطفة. ولقد كان معظم أشعاره التي نظمها في ميعة الصبى وشرخ الشباب تدور في جملتها حول محور من الخيال الفسل والمعنى المبتذل، ولم يبلغ من الشعر درجة تثير كامن العواطف إلا في ضرب واحد من(154/44)
ضروبه، أعني به باب الغناء ولئن كان من أبطال هذا الباب وفرسانه، فأنه لم يبلغ ذروة المشاعر العليا فيه إلا في قصيدتين غنائيتين فقط، وهما: ملكة الجنيات وبروميتس غير المحدود
أما الأولى - ملكة الجنيات - فقد نظمها عام 1813 وهي تحمل بين أسطرها جراثيم الثورة والتمرد على جميع النظم الدينية والمدنية؛ إذ كان لا يراها إلا سداً منيعاً يحول دون تحقيق مثل الحياة الأعلى. وقد تنبأ فيها عن ذلك العصر الذهبي الذي يتكئ على اشرف الفضائل وأسمى المبادئ، ودعا الناس إليه بقوة، بعد أن حثهم على أن يهدموا جميع ما يعترض طريقهم من التقاليد القديمة والعادات الذميمة.
أما الثانية، بروميتس غير المحدود فقد وضع لحمتها في إنكلترا ونسج بردتها في روما بعد هجرته إليها بسنوات قلائل. وهي غرة قصائده؛ وأعملها في إذكاء الحس، وصقل العواطف، واستثارة كامل الشعور.
(للبحث بقية)
خليل جمعه الطوال(154/45)
الحياة الأدبية في المغرب الأقصى
للأستاذ ع. ك
أما وقد قرأت في مجلة (الرسالة) الغراء مقالين: أحدهما عن (الحياة الأدبية في دمشق) بقلم الأستاذ علي الطنطاوي، والثانية عن الحياة الأدبية في بغداد بقلم عبد الوهاب الأمين، ورأيت من صاحبيهما التبرم والتشكي من ضعف الحياة الأدبية كل في بلده ومن تصوير مظاهر الضعف في هاته الحياة التي كادت تزري بتقدم البلاد من النواحي الأخرى؛ أما وقد قرأت هذا فيحسن بي أن أضم صوتي إلى أخوي الدمشقي والبغدادي، فأكتب كلمة عن الحياة الأدبية في المغرب ليعرف الأخوان والقراء أيضاً أن المغرب قد أغترف غرفة مما غرفت منه دمشق وبغداد، وأن المغرب شريك القطرين العربيين في هذا الضعف المزري بهما
إذا نظرنا إلى المغرب الحديث وأنعمنا النظر في ناحية من نواحيه المهمة، تلك هي الناحية الفكرية والعلمية، وأردنا أن نسير غورها بمسبار لنعرف مدى ما بلغته من الرقي والانحطاط، من القوة أو الضعف، من النهوض أو الجمود، إذا أنعمنا النظر في هاته الناحية استطعنا أن نخرج بنتيجة لا ترضي. . . تلك النتيجة هي في - صراحة - أن المغرب الأقصى يتخبط في ديجور من الجهل قاتم، وفي بساطة فكر مفرطة، وفي خمود وجمود لم يسبق لهما مثيل في عصوره التاريخية. إذا تساءلنا هل هنالك حركة فكرية أو علمية تسود المغرب الأقصى حتى يجنى من ورائها ما يزيح به هاته الظلمة التي تغمره من أقصاه إلى أقصاه وحتى تكون حداً فاصلاً بين هاته (الفترة) وبين الحياة العلمية المترقبة وذهبنا، نلتمس الجواب عن هذا السؤال بالنظر في المغرب والبحث عن مظاهر هاته الحركة حتى وصلنا إلى مهد حركاته العلمية في عصوره السالفة إلى (كلية القرويين) التي أنجبت فطاحل علماء المغرب، استطعنا أن نخرج بالنتيجة الآتية وهي: إن هاته الحركة التي نبتغي البحث عنها وعن مظاهرها هي شيء لم يوجد حتى الآن، بل هي حلم لذيذ يطرق أفكارنا كطيف الخيال، غير أن هنالك شبه حركة علمية تغذيها كلية القرويين ونظامها الجديد ولكن. . على حال مشوهة لا ترضي ولن ترضي - إذا بقيت الحال كما نرى - فإذا ما أطلقنا عليها (حركة علمية) فقد عرضنا أنفسنا لظلم الحقيقة والتاريخ.(154/46)
هذه كلمة مجملة أبنا فيها ضعف الحياة العلمية في المغرب وقدمناها بين يدي كلمتنا عن الحياة الأدبية لنعرف السبب الرئيسي لضعف الحياة الأدبية المغربية والعنصر الوحيد الذي يكون هذا الضعف ويمده بسبب منه. . . وإذا بحثنا عن الحياة الأدبية المغربية، أعني وسط الأديب المغربي لنرى هل وسط راق أم منحط. . وهل هناك ما يسمى بالحياة الأدبية حقا، لأم نجد أحسن حالاً من الحياة العلمية، بل نجدها أضعف منها وأحط بكثير؛ ولم نجد هنالك ما يطلق عليه هذا الاسم ويسمى بالحياة الأدبية. فهذه ناحية تنقص المغرب من جملة النواحي التي تنقصه وتزري به وتظهره في العالم العربي أشل. . ننظر إلى العالم العربي ونقيس المغرب بجانبه فيظهر لنا البون الشاسع بين حياته الأدبية وحياة العالم العربي، فهذه المطابع الشرقية تظهر علينا من حين لآخر بعشرات الكتب الجديدة الأدبية والعلمية بأقلام أدباء شرقيين وخاصة في مصر، فأين هي آثار المطابع المغربية من ذاك؟ وأين هي المجهودات الأدبية للأدباء المغاربة أمام مجهود الشرقيين على العموم والمصريين على خصوص؟!. . وهذا العالم العربي يطلع علينا كل يوم بمئات الصحف والمجلات الأدبية والعلمية ويظهر فيها من المقدرة على البحث الأدبي والإنتاج العلمي ما ينبئنا بقوة حياته الأدبية وبلوغها أوج الكمال، فأين هي الصحف والمجلات المغربية الأدبية؟ وأين هو إنتاج المغاربة الأدبي وبحثهم العلمي؟ وهذه الأندية الأدبية في الشرق تخرج لنا كل يوم محاضرات قيمة تغذي بها أفكار الناشئين وتكون فيهم روحاً أدبية تعينهم على مضاعفة جهودهم حتى يبلغوا المستوى اللائق بأمتهم، فأين هي الأندية الأدبية المغربية وأين هي آثارها نحو الناشئة المغربية. .؟
إنا لنبحث عن عوامل التكوين هاته الحياة الأدبية المنشودة في الكتب والمجلات والأندية فلا نجد آثراً لهذه العوامل نفسها، فما هو سبب هذا الضعف في حياتنا الأدبية. . .؟؟ إذا بحثنا عن السبب في ضعف هاته الحياة بل في اضمحلالها لم نجده ينحصر في سبب واحد أو اثنين، ولكنها أسباب تتراكم من بحث عنها وقلب بين جوانبها وسنذكر أهمها في هذه الكلمة.
1 - ضعف التعليم
هذه ناحية مهمة وسبب قوي، بل سبب رئيسي لضعف الحياة الأدبية في المغرب؛ فالتعليم(154/47)
هو قوام كل حياة، وإذا بحثت في الشعب المغربي وأحصيت مقدار المتعلمين وجدت عددهم لا يزيد على خمسة في الألف من شعب عدد سكانه يربو على خمسة ملايين. وهذا القدر الضئيل من المتعلمين يرجع إلى عدم وجود المدارس الكافية في أنحاء الشعب المغربي. أما مدارس الحكومة فهي على قلتها لا تضمن للمتعلم أي مستقبل ولا توجه نظره لأية جهة، فضلاً عن عدم اعتنائها باللغة العربية وعلومها. فلم يبق بين أيدينا سوى كلية القرويين التي يتكفل برنامجها الجديد بتخريج أدباء بل أساتذة في الأدب العربي - وهم الذين تخرجوا في القسم العالي الأدبي - وهؤلاء يمكن أن نعلق عليهم الأمل في بعث حركة أدبية في المغرب، لولا ما ينقص هذا القسم من عدم وجود أساتذة أكفاء يقومون بالمهمة التي نيطت بهم.
إذن فأين هو الوسط الذي تنمو فيه هاته الحياة الأدبية وتزدهر؟ إذا لم يكن وسط المتعلمين فأي وسط؟؟
2 - الصحافة
من عوامل بعث الحركات الأدبية، بل جميع الحركات، الصحافة. ومن البر بالأدب أن ألا ننسى فضل الصحافة عليه وعملها في بعث الحياة الأدبية في الأقطار العربية. فهذه مصر زعيمة الشرق العربي تتخذ الصحافة أداة لترويج سوق الأدب ونفاقه، فإليها يرجع الفضل الكبير في نقل نتائج الحركة الأدبية المصرية إلى الأقطار الشرقية الأخرى. فلننظر في الحياة الأدبية المغربية، ولنر حظها من الصحافة، وعمل هذه الأخرى في تكوينها وبعثها.
المغرب الأقصى من جملة الشعوب التي لم تحظ لحد الآن بصحيفة - أدبية وعلمية - سوى جريدة (السعادة) لسان الحكومة الرسمي وناشرة أخبارها ومقرراتها. ويرجع هذا الفقر الصحفي في المغرب إلى القانون الجائر الذي وضع للصحافة بالمغرب، إن صح لنا أن نسميه قانوناً. وقد أنشئت صحف في منطقة النفوذ الأسباني فطوردت في منطقة النفوذ الفرنسي. نعم هنالك مجلة علمية تصدر شهرياً في تطوان باسم (المغرب الجديد) فعليها نعلق آمالنا في بعث الحياة الأدبية في المغرب. أما (مجلة المغرب) التي تصدر شهرياً في رباط الفتح، فليس يعنيها من الناحية الأدبية والعلمية شيء، وإنما يهمها - الخبز والتعليم - على حد تعبيرها. فإذا علمنا هذا الفقر الذي يعانيه المغرب من الصحف والمجلات،(154/48)
استطعنا أن ندرك بسهولة سبباً من الأسباب القوية في خمود الحركة الأدبية في المغرب. أما ما نسمع فيه الحين بعد الحين من طنطنة أدبية فيرجع الفضل فيه إلى الصحف الشرقية، ولمجلة (الرسالة) الحظ الأوفر في ذلك.
3 - المشارع الأدبية
لسنا نعني بالمشارع الأدبية سوى تلك الحفلات التي يقيمها جماعة من الأدباء لتكون مسرحاً لمباراتهم الأدبية وحافزاً لهم على القول والكتابة؛ وهي من دواعي النشاط الأدبي والإنتاج الفكري ورثها العرب الخلف عن سلفهم الذين كانوا يقيمون أسواقاً سنوية لقرض الشعر وإنشاده، فقد حدثنا الرواة كثيراً عن أسواق العرب في الجاهلية وما أنشد فيها من شعر وأدب. ولقد اتبع هذه السنة أدباء العربية اليوم فأخذوا يقيمون الحفلات المتوالية لبعث الحركة الأدبية وإحيائها؛ فهم بينما يحتفلون بالعلماء الأحياء الذين قطعوا مفازة كبيرة في الجهاد العلمي، إذا بهم يحتفلون بالأموات تقديراً لمجهوداتهم الأدبية أو العلمية أو غيرها. وفي هذه الحفلات الأدبية ترى ألسن الشعراء والخطباء تتنافس في جيد القول، وكفى بها فائدة للحياة الأدبية.
وإذا نظرنا إلى المغرب الأقصى وأردنا أن نعرف ما يؤديه لحياته الأدبية من ناحية هذه المشارع لم نجد له أي عمل في ذلك، وهذا ما سبب لحياته الأدبية هذا الضعف وهذا الجمود، وأوقعه في هذه الأزمة الأدبية التي يعانيها ويذوق من أجلها الأمرين. نعم حاول بعض الأدباء أن يخطوا بالمغرب خطوة في هذا السبيل فكان من آثارهم حفلة ذكرى الأربعين لخالد الذكر (أحمد شوقي بك) وحفلة الذكرى الألفية لأبي الطيب المتنبي (أقيمت بفاس في 25 رمضان الفارط) وهي خطوة حميدة في هذا الباب كان لها أثر أدبي جميل. غير إن هذا العمل الضئيل الذي قام به هؤلاء الأدباء لا يكفي في بعث الحركة الأدبية وإيقاظها، إذ هو لم يعد حفلتين كانت أولاهما منذ ثلاث سنين أو تزيد، وأخراهما في هذه السنة؛ وإنما الذي نتطلب أن تكون هنالك حفلات أدبية منظمة يتكفل بها أدباء مغاربة حتى يستطيعوا أن يكونوا حياة أدبية وأن يبعثوها من مرقدها، وقد حاول طلبة القرويين مراراً أن ينشئوا جمعية أدبية علمية يكون من أهم أغراضها تأسيس نادٍ لهذه الغاية فلم يظفروا بذلك من الحكومة.(154/49)
4 - البخل على الأدب
وهذا سبب آخر قد يكون وصمة في جبين الحياة الأدبية المغربية ومانعاً من الموانع التي تعوقها عن التقدم وتدفعها نحو الضعف والجمود، ذلكم السبب هو البخل على الأدب، أعني عدم وجود الناشرين لهذا الأدب الذي نود أن يبعث. فمن دواعي النشاط الأدبي أن يجد الأديب الذي يقف قسطاً من حياته على تأليف كتاب أدبي أو نظم ديوان شعر ناشراً يبرز مجهوداته إلى الوجود ويخرجها إلى الناس ليعرف مقدار عمله، ويكون ذلك مشجعاً له على المضي في سبيله والمغاربة - مع شديد الأسف - ليس فيهم من يشفق على هذه الحياة الأدبية، وينظر إليها بعين العطف والحنان فيقف قسطا من ماله على نشر الكتب الأدبية والدواوين الشعرية، أو يقدم جائزة - مثلاً - لمن يؤلف كتاباً في الأدب، مع أن فيهم الأغنياء الذين يستهلكون ثروتهم في شهواتهم فقط. وكما لا يوجد أفراد من هذا النوع في الوسط الغربي لا توجد هناك شركات تجعل موضوع تجارتها نشر الكتب الأدبية المغربية. ولست أدري لذلك من سبب سوى عدم الإشفاق على الأدب المغربي. أما لو وجد الناشرون لبرز شطر من الأدب المغربي المخبوء، ولتكونت حركة أدبية في المغرب، فلعل السبب الوحيد الذي يدعو الشعراء المغاربة لعدم نشر دواوينهم هو فقدان هاته المساعدة المادية. فهذا شاعر الشباب الأستاذ محمد علال الفاسي يود أن ينشر ديوانه (روض الملك) ولكن أين هو الناشر؟
هذه جملة الأسباب التي تعين على ضعف الحياة الأدبية في المغرب أجملنا القول فيها أجمالاً، لنعلل فقط هذا الضعف المزري بحياتنا الأدبية، وليظهر للقارئ السبب الداعي لخمود الحركة الأدبية في المغرب. . .
(فاس - المغرب الأقصى)
ع. ك(154/50)
دراسات أدبية
في الأدب الإيطالي الحديث
بقلم محمد أمين حسونه
- 5 -
حنة فيفانتي وروايتها عن مصر
تعد حنة فيفانتي أستاذة في الخيال الواضح والأسلوب الرفيع، وقد بدأت حياتها في إنجلترا، ولم تر وطنها - إيطاليا - إلا في الثانية عشرة من عمرها عندما نزحت من إنجلترا لتتعلم فن الغناء. ففي هذه السن المبكرة تتلمذت لطائفة من رجال الأدب وفي مقدمتهم كاردوتشي، ونشرت ديوانا من الشعر الغنائي (ليريكا) يفيض بالعواطف الذاتية والخيال الراقي، فلم يلبث نجمها أن تألق في سماء الأدب الحديث
والواقع أن غنى اللغة الإيطالية خطر عليها من بعض الوجوه، فأن طبيعة هذه اللغة تساعد على التمادي في الوصف والاستغراق في الخيال. ولما كان كتاب هذا العصر في إيطاليا أميل إلى التأنق في موسيقية اللغة، وإلى المزاج الفني الصريح، فأن أسلوب فيفانتي الخلاب وجد البيئة التي ينمو فيها، وانطلق في الجو الحالم مرددا العواطف المشبعة بعناصر الجمال. ففي روايات هذه الشاعرة نجد صفة نادرة الوجود عن كتاب الجيل المعاصر، تلك هي غريزة الجمال. والإنسان يشعر لدى مطالعته روايتها بأن الطبيعة في فنها تجاوزت منطقة الجلال؛ وكما يفوق الناس بعضهم بعضاً في المواهب وقوة الإدراك السامية، وتمييز الألوان والأصوات، فأن لفيفانتي قدرة على هتك أسرار الطبيعة وإبرازها في إطار فني جذاب.
ولما كان أسلوبها الروائي ليس من النوع التحليلي فالنتيجة هي أن الشخصيات الثانوية في روايتها أغزر حياة وتأثيراً من البطل نفسه، كما في رواية الغجرية ويمكن تقسيم أبطالها إلى قسمين: الفريق الأول وهم الأبطال الأقوياء الذين يتمتعون بالحياة إلى أبعد حد، مع استفادتهم من ضعف الآخرين؛ والفريق الثاني الفقراء الذين يحنون رؤوسهم أمام قسوة الحياة ذاكرين أنه من فعل القدر.(154/51)
وحنة فيفانتي صديقة وفية لمصر، ويرجع تاريخ هذه الصداقة إلى يوم آزرت الوفد المصري وهو واقف بباب مؤتمر الصلح في باريس. وكانت من أخلص أصدقاء المغفور له سعد زغلول باشا، وطالما أيدته في صحف بلادها؛ ولا عجب أن توحي إليها هذه الصداقة وتثمر فيها الضيافة التي لاقتها في وادي النيل كتابة رواية (أرض كيلوباترا التي بدأتها بالرحيل إلى مصر، إذ تقول:
حقاً إنني أحلم حلماً جميلاً من تلكم الأحلام الذهبية المترامية الأطراف؛ فعندما يستيقظ الإنسان في الصباح، ويحاول أن يقربها إلى ذهنه تفر أشباحها بعيدة عنه، ولا تلبث أن تختفي في وادي النسيان. برهة وجيزة أستيقظ بعدها فإذا بي في صحراء ليبيا، فوق بعير يجوب في الصحراء متجهاً نحو قبر الملك الشاب توت عنخ آمون. يقود زمامه إعرابي طويل القامة، عريض الهامة، وتتفتح عيناي عن هذه الصحراء الذهبية، فإذا بسرب من الفلاحات المصريات يرتدين أردية سوداء، وفوق رؤوسهن جرار الماء، وعندما أقترب منهن يحدقن في بعيونهن الدعجاء، قائلات: (سعيدة نهارك لبن)
واستطردت الكاتبة في وصف مشاهد الصحراء وأسواق القاهرة، إلى أن أتت على مقابلتها للمرحوم زغلول باشا فقالت: (وفي غداة يوم وصولي إلى القاهرة قصدت إلى بيت (الرئيس الجليل) الذي استقبلني واقفاً خلف مكتبه، وعلى رأسه ذلك الطربوش الأحمر الذي لا يرفعه المصريون للتحية، بل يبقونه فوق رؤوسهم كرمز للوقار. ويبدو لي الرئيس كما كنت أعرفه في باريس منذ سنوات؛ فلا العظمة ولا الاضطهاد، ولا النفي ولا الهتاف باسمه في الشوارع، استطاع أن يغير هذه الهامة الطويلة، ويضعف من ضياء عينيه الوقادتين. وكانت تقف إلى جانبه (صفية زغلول) التي حيتني باشة مبتسمة. ودار الحديث بيننا بالفرنسية إذ أنها لغة الأجانب الرسمية في مصر، ولأن البحث في الإنجليزية أمر بغيض إلى قلوب المصريين، وما إن بلغته تحية أصدقائه من كتاب إيطاليا وصحفييها الذين أحاطوا قضية بلاده بعطفهم حتى قال:
- إنك كنت صديقة هذه البلاد، وقد أعطيتها محبتك قبل أن تريها؛ فها هي ذي أمامك! اذهبي إلى أي مكان تشائين، عسى أن تتكشف لك نفسية هؤلاء الفلاحين المساكين، فهي نفسية نبيلة شريفة لكنها مجهولة.(154/52)
وعندما ودعته ختم حديثه معي بأن قال:
- عودي إلينا مرة ثانية، ولا تحسبي أن هذه آخر زياراتك، وعدينا بذلك.
وغادرت منزل الزعيم الوطني ووجهتي مصر العليا عن طريق النيل، لأشاهد الأقصر بحدائقها الغناء، وطيبة ذات المائة باب، وكوم امبو بلدة المعابد، وفيلي جوهرة مصر المكنونة.
هانحن أولاء في أسوان (مدينة الشلالات) التي يقصدها المسلولون طلباً للشفاء، ويأتيها المكروبون عسى أن يفرجوا عن قلوبهم الحزينة أساها وبلواها. هنا حيث الإقامة في بقعة هادئة عميقة، تكتنفها الصحاري من كل جانب، يجد الإيمان الصحيح طريقه إلى السماء.
الله أكبر، الله أكبر! أدعية حارة صادرة عن قلوب عامرة بالإيمان، يرددها العرب في كل آن، فيترجع صداها على شفاهنا المتبتلة بالتسبيح، على حين يتوجه أبناء الصحراء شطر مكة، وهم جاثون على الرمال، ويرددون أسم الله في تقوى وخشوع
أشرف على النيل ومياهه التي ينعكس عليها نور السماء الأزرق، وعلى منظر الصخور التي تتراءى عن بعد كوحوش كاسرة، راقدة تحت أقدام (اخنوم) إله الشلالات.
وأخذ القارب ينساب بنا بين الجزر كالأفعى، وترى الشمس تسقط رويداً رويداً عن الشفق، فتلتهب السماء، ويتغير لون الماء من سائل فضي إلى سبيكة من الذهب الإبريز، ثم تنحدر الشمس ككرة من نار، والسماء تحترق فيقع ظلها المتورد الناري على صفحة المياه حتى حسبنا أنفسنا نسير في بحر من دماء.
هانحن أولاء أمام قصر أنس الوجود، أمام فيلي، جوهرة مصر المكنونة، ودرتها الساطعة، عروس النيل وريحانته؛ إيه أيتها الجزيرة الصامتة الحزينة! أيتها الجوهرة الميتة، يا زهرة اللوتس، يا جزيرة السحر ومهبط الجمال، أيتها الجزيرة التي يتربع فوق صدرك آخر معبد فرعوني، لقد غمرتك المياه فغرقت وتواريت، ورحت ضحية قحط الأرض وجوع الرجال!
والرواية مشجعة بأمثال هذه الصور الوصفية، وتحت ستار شفاف من الحنين إلى الماضي، والإشادة بمجد الفراعنة، والتفاؤل بالمستقبل.
بابيني
وجيوفاني بابيني من أغرب الشخصيات في الأدب الإيطالي الحديث، وقد اشتغل بالنقد(154/53)
قبل أن يصبح روائياً؛ على أن الانتقال من النقد إلى الأدب، والمسرح، أو الرواية أمر مألوف في إيطاليا.
قبل الحرب العظمى كان بابيني ألمع شخصية في سماء الأدب، ومحور الحياة الفكرية في الأوساط الإيطالية؛ وقد ظفر بهذه الشهرة إثر المقالات النقدية العنيفة التي كان ينشرها بعنوان (التدمير)، والدراسات الفلسفية التي تحدى - شوبنهاور ونيتشه وهيجل، وأساتذة مدرسة الفلسفة الألمانية. ثم بفضل المجلات الأدبية العديدة التي كان يصدرها لثلاثين ما خلت، أي في الوقت كانت الشبيبة الإيطالية تتلهف على اتهام كل ما يقدمه إليها من ألوان الثقافة الحديثة، فوجدوا ضالتهم بابيني، ومجدوا من شانه. ولكن شباب هذا الجيل سرعان ما حولوا اتجاههم الأدبي عن فنه، إذا أنهم لم يجدوا شيئاً يتعلمونه في كتبه سوى فلسفة جامدة، وفن جاف مضطرب، وتبشير بأساليب الكثلكة مع الرجوع إلى أحضان الكنيسة.
وتعد أقوى روايات بابيني على الإطلاق (مذكرات الله) التي تحدث فيها عن خلق العالم ونشأته، فرواية (الرجل الذي انتهى)، وقد رسم بين سطورها حياة المتاعب والآلام التي تنتاب طبقة المفكرين الذين يقضون نصف أعمارهم بين بطون الكتب، والنصف الآخر في ظلال الفلسفة والنظريات السفسطائية.
(البقية في العدد القادم)
محمد أمين حسونة(154/54)
يا ليل!
للأستاذ فخري أبو السعود
يا ليلُ هل لك دوني صاحبٌ ثقةٌ ... مُغلٍ لقدرك صافي الود في الناس؟
أغليت سَاعَكَ حتى بِتُ راعيها ... رَعي الشحيحَ كريم الدرَ والماس
أغليت ساعك غيري من يبذرُها ... مثرثراً بين أصحابٍ وجُلاس
وصُنتُ آنكِ لا أُمسي أُضيِّعها ... وقد صفت - بين سِفرٍ لي وقرطاس
لكنَّ في ملكوتِ الحسن منتجعي ... إذا دَجَوتَ وإسرائي وتعساسي
في ملك حسنك ممتداً ومنبسطاً ... أَحَبُّ مسرى لمرتادٍ وجَواسِ
تدعو فآتي أُغِذُّ السيرَ تلبيةً ... ما بين دَوح رطيب الغصن مياس
راوي الأزاهر والأوراق ما برحت ... عليه آثارُ هامي المزنِ رجاسِ
تتلو صفوفٌ صفوفاً منه ماثلة ... كأنها في الدجى أشباح أحراس
أو فوق شط أتيِّ الموج مرسلة ... أمواجُه حُلو أصداءٍ وأنفاس
سالت عذوبتُهُ سيلاً وَرِقَتُّه ... من مائه الملح أو من صخره الجاسي
يهتزُّ فيه شعاعُ النجم مؤتلقاً ... وآنة ضوءُ بدرٍ سابغٌ كاس
كم طالعتني المعاني فيك سافرة ... وأسلست لي القوافي أيَّ إسلاس
فرداً وحيداً أوافي ملك حسنك قد ... زهدتُ عندك في صحب وأحلاس
في وحدتي وسكون الكون لي رطبٌ ... ووحشتي في الدجى يا ليلُ إيناسي
لا بل خدينيَ آمالي وعاطفتي ... أيانَ سرتُ وأفكاري وإحساسي
وما جلوتَ لعيني من حُلاك ومن ... أُفُقٍ ونجمٍ وأزهارٍ وأغراس
حديث هاتيك أشهى لي وأعذبُ لي ... يا ليلُ من قول جهالٍ وأكياس
للنفسِ ثُمَّ حديثٌ كم تبُثُّ به ... من ذكريات وتأميل وإيجاس
نجواك يا ليل كم تُذْكى بها همماً ... وكم تجدِّدُ من عزم ومن باسِ
تُحيي بها أنت آمالاً وترفعها ... عما بِذا العيشِ من قبح وأرجاس
حتى أؤوبَ - ذا آن الإيابُ - كمن ... قد آب من موكِبٍ أو غُرِّ أعراس
مُمَتَّعَ اللبّ والعينين رَاويهَا ... مُنَزَّهَ النفس عن هم وعن ياس(154/55)
ما دام لي مُلكُ هذا الحسن مطرداً ... فما فؤادي على ما فات بالآسي
ولستُ أغبط من يا ليل قد جهلوا ... لديك فتنةَ أمساءٍ وأغلاس
فخري أبو السعود(154/56)
يا فلسطين. . .!
آفاقكِ الحمرُ انتشت راياتها ... قد أقسمت ألا تُظلُّ ذليلا
ثوري ولو فرش الذين طغوا على ... طرق الجهاد أسنةً ونصولا
// لا بأس إن نضحت دماً جنباتها ... فاليوم لا يغدو دمٌ مطلولا
إيهٍ فلسطين اغضبي وتحرري ... ضاعت حقوقك بين قالَ وقيلا
مدي القلوب على الظُّبى وتبسمي ... تجدي على تلك الحدود فلولا
أمهلت ظالمك العتلَّ وما درى ... أن التهامس يستحيل صليلا
إيه فلسطين المجاهدة اثبتي ... فالظلم مرتعه يكون وبيلا
هاهم بنوك لووا أعنَّات الردى ... وأتوك لا يرضون منك بديلا
يتزاحفون إلى اللهيب كأنهم ... ظمأى وقد عدوا اللهيب النيلا
فلوا حديد الظالمين بمثله ... وبدونه لن تبلغي المأمولا
لا مجد إلا حيث يشتجر القنا ... فتشيده مجداً أشم أثيلا
في كل ناحية شهيد خالد ... هو من ينادي: لا نريد دخيلا
قم يا شهيد القوم واخطب في الورى ... أصبحت حياً مذ غدوت قتيلا
جبل المكبّر طال نومك فانتبه ... قم واسمع التكبير والتهليلا
فكأنما الفاروق دوَّى صوته ... فجلا لنا الدنيا وهز الجيلا
جبل المكبر لن تلين قناتنا ... ما لم نحط فوقك البستيلا
أبو سلمى(154/57)
العلم
مهداة إلى زعيم الشباب فخري بك البارودي
بقلم عز الدين العطار
أيُّهذا الخفَّاق رَفرِفْ على الده ... ر وتِهْ في العَلاءِ زهواً وحُسنا
الفضاءُ الرحيبُ مِحرابُك الزَّا ... هِرُ فأخفُق وأترعِ الجو لحنا
صورة أنت للربوع الغوالي ... غلْغلت في الإطار داراً ومغنى
وطني أجتليه في رمزكَ السم ... ح وألْقى الرَّفاق خدناً فخدنا
يا تراب الشامِ يا عبقَ الخل ... د ويا نفْحة تُناسمُ عدنا
في ثراك القدسيّ يثوى الميامي ... نُ فيختالُ طيْلساناً وَرُدْنا
مَلأُوا الكون بالهداية والنو ... رِ وزانوا مغْناهُ علماً وفناً
طلعوا في دُجى الزمانِ شموساً ... هي أبهى من الضياءِ وأغنى
الشبابُ الشبابُ ريْحانَةُ الخُل ... د وبأسٌ على المدى ليس يفنى
عزمات كأنها وهج الشم ... سِ تجوسُ السماَء صحناً فصحنا
تتفرَّى الدياجرُ السُّحمُ عنْها ... ويغيبُ الدجى ارتعاداً وجُبنا
ابْسمي يا ثغورُ قد أشرقَ الفج ... رُ ومحَّى السَّنا قتَاماً ودَجْنا
وَثبَ الحَق وَثْبةَ الأسد القا ... حِم يفْري الفلاةَ ضرْباً وطعنا
تتهاوى من شِدْقهِ زأُرَةُ الهو ... لِ فلا تملكُ الطَّرائد أمنا
رَجفت من صِيالِهِ ثورَةُ الري ... ح وَريع الأنامُ إنساً وجنَّا
الصحارى تشققت عن ليوثٍ ... آدَميِّين زَعزعوا الموت سكْنا
عزفوا عن مناعم العيشةِ الرَّغْ ... دِ وَعُّبوا الحياةَ رَنقاً وأَجْنا
عسلُ الذُّلُ يشبه العلْقم المُر ... وصابُ العُلى من المزْن أهْنا
ليس يسمو إلى الخلود غبيُّ ... عاشَ في رِبقةِ الإسارِ مُعَنى
يحسَبُ العز في المهانةِ والعا ... بِ وَيعنو للخصم إما تجنى
يا صحابي سيرُوا إلى المجد صفاً ... والْبسوا الحرم في الحياة مَجِنَّا
وتعالوا نردْ سبيلَ المعالي ... ونُعِدْ ماضياً من النجم أسنى(154/58)
اذكروا أنكم سلائلُ صِيد ... أترعوا الأرض والسموات يُمْنا
غمروا الناسَ بالمحبةِ والرِّف ... ق ونقَّوهمُ مقالاً وظنا
طاولوا الشهب من قِراع العوالي ... وبنوْا للفخار في الزُّهر حِصنا
ملكوا في البيان ناصيةَ القو ... لِ وصالوا يومَ التنافُرِ لُسْنا
كَفنٌ أنْتَ بالشهيدِ رفيقٌ ... تترامَى عليه لَهْفاً وحزنا
رُبَّ قلْبٍ على خُفُوقِكَ وَقْفٍ ... كلما رفَّ بَنْدُكَ الحُلْوُ حَنَّا
تامَهُ طيفُكُ الحبيبُ فنادا ... كَ وناجَى بِكَ العُلَى وتَغَنَّى
لكَ هَذِي الأرواحُ منا حلالٌ ... فادْعها تسبِقِ الغمائمَ جَفنا
نحنُ يومَ البلاءِ رمْزُ التفادي ... إنْ دعانا داعي الجهادِ أجبنا
بنفوسٍ لم تستكِنْ للوَادِي ... وجُسُومٍ لم تَعْرِفِ الدهرَ وهنا
تتنزَّى كأنها النارُ وقداً ... وترامَى يومَ الهزاهِزِ مُزْنا
تتمشى للمجْدِ عطشَى إلى المَوْ ... ت ولو عبَّتِ الخِضِمَّات دنَّا
قَدْ وهبنا لك النفوس لتحيا ... ليس منا من يَخْبأُ النفسَ ضَنَّا
أنت منا الهَوَى وأنتَ الأماني ... كلَّ رُوحٍ تَرَى بِكَ المُتَمْنَّى
دمشق
عز الدين العطار(154/59)
الرغام
بقلم إلياس قنصل
اغنم العمرَ فهو أضغاث وهمٍ ... تتلاشى بسرعةِ الأحلامِ
وترشفْ كؤوسه قبل أن تق ... ضي عليها زعازعُ الأيامِ
خُلِقَ المرءُ لا يلقي على أس ... مى اللذاذاتِ حِلّةً من ظلام
ثم يخشى الدنوَّ منها، ويدعو ... خوفهُ نفرةٌ من الأجرام
بل ليستقطر المسرَّة حتى ... من قتاد الهموم والآلام
ويبثَّ الفتون فيما يراه ... حوله من تجهم وقتام
أنت في ميعةِ الشباب وهذا ال ... عهدُ، عهد المراح، عهد الغرام
وهو يدعوك فانتبه وتنعم ... بالجمال المجسم البسام
إن ثغري أحلى من الأمل العذْ ... ب وأشهى من بابليّ المدام
تبعثُ القبلةُ الطويلةُ. . . منه ... كلَّ خافٍ من الأمانيِّ سام
وعلى جسميَ الرشيق تجلّت ... آيةُ الله في بديع انتظام
هيكل من هياكل السحر تروي ... ضمة من كلِّ قلب ظام
فرنا الشاعرُ الحزين إليها ... بحنانٍ ولوعةٍ واعتصام
طاوياً في فؤاده حسرات ... دغدغتْ ما يضمه من كلام
أنتِ لا تمنحين قلباً محبَّاً ... وأنا لستُ أرتضي بالرغام!
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل(154/60)
القصص
قصة المفاتيح
للقصصي الروسي مكسيم جوركي
(هذه القصة تكشف عن شخصية هذا الكاتب العظيم، وتؤرخ
فترة قاسية من حياته، فضلا على أنها تصور حياة طائفة من
الناس أغفل كثير من أدباء الغرب تصويرها)
كان ثلاثتنا: (زيومكا كارجوزا) و (أنا) و (ميشكا) عمالقة بلحى طويلة وعيون واسعة لها زرقة الماء، نبتسم دائماً بثغور فرحة، ويخيل لمن يرانا أننا نترنح من الخمر أبدا. وكنا نأوي إلى بناء قديم خارج المدينة، يكاد من فرط قدمه أن ينقض، ولا يعرف غير الله لم سمي بمصنع الزجاج، ولعل ذلك لعدم وجود لوح زجاجي سليم به. وكنا نتقبل أي شيء دون أن يكون لنا شيء من الخيار، وكنا نكنس ساحات البيوت وننظف الغبار، وننبش المقابر وأكوام القمامة، ونهدم البيوت القديمة، ونقطع الأسوار. وقد حاولنا مرة أن نبني زريبة للعمالقة، إلا أننا فشلنا في ذلك. وكان زيومكا يسعى دائماً للقيام بواجبه، ويتشكك في معرفتنا ببناء زريبة للعمالقة. ولهذا فقد أحظر بنفسه ظهر يوم وكنا في غفوة كل المسامير وقطعتين من الخشب ومنشارا، وكان ذلك كله لصاحب عمل كنا نعمل عنده، وقد طردنا من أجل تلك الفعلة. ولما كنا لا نملك شيئاً يمكن سلبه منا لم يطالبنا بتعويض عن الأضرار التي لحقته بسببنا؛ وكنا في كفاف من العيش؛ وكنا غير راضين بما قسم لنا - وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالة، وتطور هذا الشعور بفعل الزمن فأصبح كراهية لكل ما يحيط بنا. وجرنا ذلك إلى أعمال تهديدية توقعنا تحت طائلة قانون العقوبات. والواقع إننا عشنا في ألم. غير مبالين بالحياة، مرغمين على البحث عن عمل وليس لنا من مظهر الحياة المادي سوى تجاوب ضعيف.
وكنا قد تقابلنا في ملجأ لمن لا مأوى لهم قبل أربعة عشر يوماً من الحادث الذي سأقصه عليك لأنه شائق في نظري؛ وصرنا بعد يومين أو ثلاثة من تعارفنا أصدقاء نسير معاً إلى كل مكان، ويفضي كل منا لصاحبيه بأمله وأغراضه. ويشاطر بعضنا بعضاً كل شيء؛(154/61)
وبالاختصار عقدنا اتفاقا لا نص له على أن نكافح سواسية مدافعين ومهاجمين الحياة التي ناصبتنا العداء
وفي النهار كنا نبحث بجد عن عمل، في قطع الأحجار، أو الهدم أو الحفر أو النقل، وعندما تتهيأ لنا فرصة مثل هذه كنا نعمل بجد ونشاط.
ولما كان لكل منا غرض أسمى من وضع مواسير المجاري أو تنظيفها - وهو من اشق الأعمال - فقد سئمنا العمل فيها بعد يومين. ثم أخذ زيومكا يتشكك في ضرورة الحياة.
ستصير هذه مجاري لأي شيء؟ للقاذورات؟ أليس في وسع الإنسان أن يلقي بها أمام داره؟ كلا هذا لا يصح فأنها تثير رائحة كريهة. هكذا! القاذورات تثير رائحة كريهة. أعمال عظيمة من أجل أشياء تافهة! فلو أن أنساناً قذف مثلاً بخيارة مخللة، غير كبيرة الحجم، فماذا تبعث هذه من رائحة؟ إنها تبقى يوماً. . . ثم تختفي. . . - تتعفن! لا، ولكن إذا قذف بجثة آدمي إلى موضع فيه الشمس فإنها تتعفن حقاً.، إلا أن ذلك عمل منكر!)
مثل هذه الأحاديث كانت تفت في عضدنا وتقلل رغبتنا في العمل. وكان ذلك يفيدنا كل الفائدة عندما نعمل بأجرٍ يومي في الأعمال الجزئية. فقد كنا نتقاضى أجرنا دائماً قبل أن نتمم ما عهد إلينا به من عمل. وذهبنا مرة إلى مقاول وطلبنا منه أن نعمل في عمل، إلا أنه طردنا وهددنا أن سوف يضطرنا بمعونة الشرطة إلى إتمام العمل الذي أنقدنا أجرنا عليه من قبل. وكنا نجيبه بأنه لا طاقة لنا على العمل وبطوننا خاوية. وتشبثنا مطالبين بالعمل. وكنا نحصل عليه في أغلب الأحيان.
كان ذلك خطأ منا، ولكن لا نكران في أنه كان مفيدا لنا. ولم يكن في وسعنا أن نصلح شيئاً من نظام الحياة الذي فسد، حتى أصبح القيام بعمل والانتفاع به ضدين.
وكان زيومكا في كل مرة يتولى المفاوضة مع أصحاب العمل، وكان يقوم بها بمهارة ولباقة، وكان يبرهن على صحة مطالبه بهدوء الرجل المهدود القوي الذي يرزح تحت عبء الأعمال التي لا طاقة له بها.
وكان ميشكا يقف صامتا إلى جانبه، ويحمله بعينيه ويبتسم ابتسامة الرضا والسرور، كما لو أنه كان في نيته أن يقول شيئاً ولكن خار عزمه. وكان يندر أن يتحدث، فإذا ما ثمل أخذ في الكلام كمن يلقي خطاباً. ثم ناداه مبتسماً:(154/62)