لمشكلة الضمير ويوضوحوها على ضوء البينة والظروف الاجتماعية. وهذه الدراسات مجتمعة ترمي إلى تحديد ماهية الضمير وحقيقته، وبيان أصله وطبيعته، وتوضيح قيمته ووظيفته، ثم إلى إثبات تنوعه بتنوع الأفراد والجماعات، وتطوره تبعاً لاختلاف العصور والأجيال
في قرارة نفوسنا وحيث تتكون أفكارنا وتعد أحكامنا، هناك رقيب ملازم يشهدها ويقفنا عليها أولاً فأولاً؛ هذا الرقيب هو ضميرنا والشعور الروحي الذي نحس به على أثر أية حركة من حركاتنا النفسية، والإلهام المستمر الذي ينقل إلينا كل ما يجول بالخاطر. فالمرء حين يفكر يشعر في الوقت نفسه بما يصنع، ويدرك أن تفكيره من عمله وقطعة منه. وكذلك شأنه حين يفارق أو يوازن أو يتذكر معلومات قديمة أو يقضي في أمر بقضاء ما، أو يسر أو يحزن، أو يحب أو يبغض. وشعور الإنسان بتفكيره وإدراكه لخفايا قلبه ليس إلا معرفته لنفسه ووقوف روحه على ما تعمل. وعلى هذا فالضمير جزء لا ينفصل من الظواهر النفسية وأساس لكل أعمالنا الباطنية. هو الشخصية في صورتها البسيطة المجردة ومبعث النور الأول في الحياة العقلية. وخطأ أن نعده قوة مستقلة ومتميزة من الأحوال النفسية كالعين تتميز من الشيء المرئي. فقد انقضى الزمن الذي كان يقال فيه بتقسيم النفس إلى قوى منفصلة تقوم كل واحدة منها بقمل خاص. ولسنا في حاجة لأن نقرر هنا أن في الانفعالات مثلاً قدراً من التفكير لا يصح إنكاره، كما أن الجانب الفكري للإنسان في أرقى صوره مشوب ببعض العواطف والميول. على أن القول بالقوى أن صح بالنسبة لبعض مظاهر النفس، فواضح عدم انطباقه على الضمير الذي هو الشكل العام ونقطة الاشتراك والصورة الرئيسية لكل الأعمال العقلية. والمدرسة الأيقوسية وإن كانت من أول من عني بموضوع الضمير بين المحدثين أساءت من ناحية أنها عدته قوة قائمة بذاتها وشبهته بأحد النظارة يشهد رواية الحياة النفسية دون أن يقاسم فيها بنصيب
وإذا كان الضمير شعور النفس بما تعمل، فسهل أن نتميز في هذا الشعور درجات بعضها أوضح من بعض. ففي اللحظات التي بين اليقظة والنوم نشعر بما يجري في نفوسنا شعوراً مبهماً غير محدود؛ والأحلام والرؤى تتصل من غير شك بالضمير في أغمض صوره، أو إن شئت فسمها مرحلة العقل الباطن، فإن جاوزنا هذه المرحلة وجدنا أحوالاً نفسية واضحة(139/31)
بعض الشيء إلا أنها سريعة وغير متمركزة، وما ألصق هذه الأحوال بالأعمال العادية والأمور المألوفة؛ فالضمير يدركها دون أن يقف أمامها طويلا. وبعد هاتين المرحلتين نصل إلى درجة فيها تفكير وروية وتذكر وانتباه وبحث ومجهود. وهنا تبدأ المعرفة الحق ويدرك الضمير عمله في وضوح. وعلماء نفس الطفل المعاصرون وعلى رأسهم كلاريد وبياجيه قد خصوا هذه المرحلة بقدر كبير من العناية، وبينوا كيف يخطو الناشئ نحو إدراك نفسه وتكوين معلوماته؛ ثم تجئ أخيراً مرحلة التفكير الإنساني في أسمى صوره، حيث تعرض المشاكل العلمية والفلسفية، ويجهد الإنسان نفسه في تفهمها وقلبها على وجوهها رجاء أن يصل إلى حل واضح مقنع، وما هذه المرحلة إلا امتداد لسابقتها وصورة مكبرة لها؛ والأبحاث العقلية في جملتها محك للضمير، ومبعث نضال نفسي مستمر يراد به الوصول إلى الأفكار الجلية النيرة
يزداد فهمنا للضمير إذا بينا الخصائص التي تمتاز بها مظاهره؛ وقد عنى جيمس وبرجسون بشرح هذه الخصائص وتوضيحها التوضيح الكافي؛ وأول شيء يلحظه في الظواهر النفسية هو اختلاطها وتشعبها؛ فلا نكاد نجد أنفسنا أمام ظاهرة واحدة منعزلة، بل دائماً أمام مجموعات من أحوال نفسية مختلفة، أو كما يقول جيمس أمام حقول اكتسى بساطها بشتى الأزهار والألوان في ظاهرة نفسية واحدة، تلتقي احساسات متنوعة، وذكريات قديمة، وعادات ثابتة، وأفكار عديدة، وأحكام وتعليلات، وموازنات لا حصر لها؛ وهذه الأحوال النفسية كالأمواج الزاخرة تجري وتتغير من غير انقطاع؛ ومن هنا جاء تعبير جيمس المشهور: يثأر الفكر أو يثأر الضمير. فإحساسنا بشيء في حال اليقظة مختلف عنه في حال النوم؛ وإدراكنا لأمر ونحن متعبون يختلف عن إدراكنا له ونحن مستريحون؛ وشعور هذه اللحظة لا يتكرر مرة أخرى في نفس الظروف والمناسبات التي اقتضته، ولئن بدا تكراره لم يعْدُ ذلك المظهر العام؛ أما التفاصيل والجزيئات فمختلفة لا محالة، وكأن حركة التفكير كنهر جار تتابع موجاته إلى ما لا نهاية دون أن تعود موجة سيرتها الأولى؛ والفكرة الواحدة المستمرة التي تخطر ببالنا من حين لآخر دون تغيير أو تبديل أمر خيالي وبعيد عن الحقيقة. فنحن نحس الآن على صورة خاصة لن تستمر في اللحظة التالية، وما دمنا أحياء فنحن عرضة للتغيير، وما أصدق بسكال حين يقول:(139/32)
(الزمن يشفي الآلام والأحقاد لأنّا متغيرون ولا نحتفظ بشخصية واحدة، فلا المسيء ولا المُساء إليه يبقيان كما كانا) بيد أن القول بأن ظواهر النفس في حركة وتغير مستمر ليس معناه أن في تيار الضمير انقساماً أو انفصاماً أو تبايناً. فظواهر النفس في حركتها تدور حول نقطة واحدة وتتصل بأساس ثابت؛ وحياتنا الروحية في هذا الصباح ترتبط بحياتنا أمس دون أن يحدث النوم أي فراغ أو انقطاع في وحدتها. وعلى هذا فالحاضر من أحوالنا النفسية يحمل في طيّاته الماضي ويعد للمستقبل، وفي النفس حركة في انفصال وتغير في ارتباط. ومثل الحياة العقلية في هذا مثل قطعة موسيقية مكونة من نغمات مختلفة ومتميزة قد امتزجت واختلط بعضها ببعض فأنتجت لحناً منسقاً. وما ذاك إلا لأن أحوال النفس جميعاً متصلة بشخصية معينة، ومنجذبة نحو مركز واحد، ومنبعثة من شمس الضمير الوحيدة. وأوضح شيء في عمل النفس أنه يستلزم فاعلاً؛ ففكرة ما إما أن تنسب إليّ أو إليك أو إلى زيد من الناس. والفكرة التي لا أب لها لا أصل لها ولا وجود؛ على أنها إن وجدت فلا سبيل إلى تعرفها والتأكد منها، لأن ما نتبادله من أفكار إنما هو عمل أشخاص معينين محدودين.
من خصائص مظاهر الضمير التي ألممنا بها سراعاً نتبين بطلان المذهب الذري الذي يزعم أن الحياة العقلية بأسرها ترجع إلى جملة أفكار بسيطة التقت وارتبطت ونتجت عنها أفكار أخرى مركبة؛ ومجموع هذه وتلك مسود بقانون تداعي المعاني. فالظواهر النفسية تتلخص في جملة وحدات وضع بعضها بجانب بعض، وفي مجرد انضمامها ما يكفي لتكوين حياة عقلية. تلك هي نظرية لوك ومن جاء بعده من رجال المدرسة الإنجليزية أمثال هيوم وميل وبين وسبنسر. ولا يبعد عن هذه النظرية كثيراً ما قال به كوندياك الفرنسي من أن الروح ليست لا مجموعة صور حسية توزعت إلى طوائف عدة فنشأت عنها القوى النفسية المختلفة. وكلتا النظريتين تهدم فكرة الضمير من أساسها، ولا ترى في النفس شيئاً سوى ما يمليه الحس. لذلك قام في وجهها الأيقوسيون من جانب، ومين دي بيران من جانب أخر، مثبتين أن في الروح حياة وقوة تجاوزت المدركات الحسية، ولولا هذه القوة وتلك الحياة ما نظمت آثار الحس، ولا نتجت عنا أفكار مستقيمة. هناك روح، هناك نفس، هناك شخصية، أو هناك ضمير، سمه ما شئت، والمهم أن الظواهر العقلية ليست مجرد(139/33)
أوضاع لصور حسية، أو لوحدات متحجرة لا حياة فيها، ولا تستطيع بالأولى أن تبعث الحياة في غيرها. وأعمال بينيه، ومدرسة فورتسورج الألمانية وجيمس وبرجسون في الخمسين سنة الأخيرة قائمة على شرح هذا الرأي ونصرته
والآن وقد انضح الضمير في مظهره النفسي. يجدر بنا أن نفرق بينه وبين الضمير الخلقي، أو أن نحدد بعبارة أدق مهمته من الناحية الأخلاقية. في حين أن الضمير النفسي يقفنا على ما يجري في داخلنا، ويشاطر في الظواهر العقلية على اختلافها. يعني الضمير الخلقي بإصدار الأوامر الصالحة والحكم على الأعمال الإنسانية. فإذا ما تعلق بالمستقبل بدا أثره كصوت خفي يأمر وينهى، وإذا حكم على الماضي صحبت حكمه عواطف كثيرة من سرور أو ألم. (فصوت الضمير) هو ذلك النداء الخفي والوحي الشخصي الذي يدفعنا نحو غاية أو يصرفنا عنها. وهذا التعبير يظهر من أصل ديني صوفي؛ وقد جاء التحليل النفسي الحديث مزيداً له فإن المرء حين يقضي في أمر بقضاء ما يبدو كأنه تحت تأثير اتجاهات مختلفة، إن ساد أحدها ارتفع صوته وصدر أمره. وإذا كان صوت الضمير مبعث الأمر والنهي فوخزه مصدر الندم والألم. وكم اتجه أشخاص نحو جلائل الأعمال امتثالاً لأصوات ضمائرهم! وكم انصرف آخرون عن الشر لأنهم عانوا وخز الضمير وما جلبه عليهم من شقاء وبلاء
(يتبع)
إبراهيم مدكور(139/34)
تلخيص كتاب:
الحاكمون بأمرهم
تأليف جاك بانفيل
بمناسبة وفاته في 10 فبراير سنة 1936
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
(أيها العظماء! هل تريدون المجد؟ موتوا)
فكتور هيجو
وهذا أيضاً رزء فادح نزل بفرنسا، إذ لم يكد جاك بانفيل يتبوأ مقعده بين الخالدين في كرسي الرئيس بوانكاريه في مارس الماضي حتى اختطفته يد المنون من مجلسه الرفيع؛ وهكذا فقدت فرنسا والمجمع في ثلاثة أعوام متعاقبة ثلاث كفايات متقاربة. فذهب بوانكاريه (الذي لا يرتشى ' ثم ذهب (لويس بارتو) صاحب (ميرابو) وصاحب (دانتون) وأخيراً مات بانفيل
كان الثلاثة دعاة كبار لمجد فرنسا؛ ولكم شنوا الغارة على موجة الاشتراكية التي انداحت على أرض فرنسا فردتها خطوات واسعة إلى الوراء
كان بوانكاريه في الحرب وفي السلم، وفي قصر الأليزيه أو في (الكي دورسيه) أو في (المحكمة) فرنسيا وفرنسيا فقط؛ وهكذا كان الشهيد (بارتو) حتى في (مصرعه) أما بانفيل فقد كان قلمه قوة فوق القوى. . . ولما استقبله (دوناي) عميد الأكاديمية في 7 نوفمبر الماضي قال له: (إن المجمع يخلي بينك وبين مقعد الرئيس بوانكاريه، فلقد استطعت أن تقول للملأ الأعلى وللعالم أجمع ما كان يمنعه مركزه السياسي من أن يقول)
مات رجل كان فرنسياً من قمة رأسه إلى أخمص القدم. . مات رجل كم حمل على إنجيل (سنت هيلين) ذلك الإنجيل الذي دعا فيه بونابرت إلى خلق الدول التي زلزلت من بعد إقدام فرنسا في الوجود. . مات أكبر أعداء ألمانيا
في كتابه عن (نابليون) وفي كتابه (تاريخ ثلاثة أجيال)، وفي كتابه (تاريخ فرنسا)، وفي(139/35)
(الجمهورية الثالثة)، وفي (تاريخ أمتين)، وفي حملاته الكبرى مع شارل موراس وليون دوديه أبطال الحكم الملكي كانت توضع (مقايسة) جديدة لإنشاء جيل جديد
كنت اقرأ له منذ أيام آخر كتاب أخرجه للناس وكان يقعدني العمل أو الكسل عن أن أنقل عنه كلمة للأدباء قراء (الرسالة)، فلما مات وضجت لموته فرنسا، ووقعت معارك (الاكسيون فرانسيز)، وكان الاعتداء على زعيم الاشتراكيين (ليون بلوم) كان علينا أن نلخص كتابه للناس
وضع الناشر على الكتاب عبارة تنبئ عن غاية الكتاب قال: (لا تحكموا عليهم قبل أن تعرفوهم) وقدم المؤلف له بقوله (. . . الدكتاتورية ككثير من الأشياء قد تكون أسوأ نظم الحكم وربما كانت خير نظام؛ ولئن كانت خيراً أو شراً فان الظروف تلجئ إليها أحياناً فيخضع الناس لها دون أن يكون لهم حق الخيار. . . فعلى الشعوب ألا تضع نفسها في مثل هذه الظروف. .) ويناقش المؤلف ما يظنه البعض من أن الدكتاتورية اختراع ابتدعه العصر الحديث، فما هي إلا سيرة معادة من سير العصور الغابرة؛ ثم يعبث عبثاً مريراً بأحد الساسة الذي أطلق على أول دكتاتور معاصر لقب (قيصر الكرنفل) فلربما كانت الدكتاتورية سداً يقام أمام طوفان الشيوعية الحمراء أو الديمقراطية الرعناء؛ ولطالما كانت نداءاً حاراً للمساواة بين الناس، أو لتهذيب شِرة رأس المال؛ وكثيراً ما كانت لإقرار نظام النقد إذا شالت به كفة الميزان
يهبط بانفيل ببحوثه إلى أعمق أغوار التاريخ قبل الميلاد فيفتتح الكلام ببحث عن (طغاة الإغريق وأولهم أول مشترع عرفه التاريخ (صولون) ثم (بركليس) ثم يسرع المؤلف بنا إلى روما وأبطالها الأربعة (ماريوس) و (سيلا) و (بومب) و (يوليوس قيصر)، وفي عجالته عنهم يضرب الأمثال ويذكر العبر. فهذا (ماريوس) يجشم جيشه مخاطر الحرب في (توسيديا بأفريقيا) ليثبت أقدامه في روما تماماً، مثلما يغامر (موسوليني) في الحبشة ليقوي أسبابه لدى الطليان. . . وهذان القنصلان (سيلا وبومبي) يخوضان إلى الحكم في بحار من الدم. وهذا (قيصر العظيم) فاتح الغال ومصلح القضاء وعدو الترف في أساليب فشستية تذكر به أحفاد الرومان في القرن العشرين فيديرون أعينهم نحو ذلك الطود الذي يسيطر على مصائر روما منذ أعوام(139/36)
ثم يطوى التاريخ طياً ليقف كل أمام أول دكتاتور في التاريخ الحديث فيسترعي نظره أن يكون (كرومويل) أول الدكتاتوريين ويكون في نفس الوقت أبرَّ أبناء أمة تسمى (أم البرلمانات)، وكأن الدكتاتورية ظاهرة تبدو مع الثورات دائماً أو مع الديمقراطية أو مع النظام النيابي
نائب كمبردج في سنة 1628 وقائد الخيالة في معترك الثورة سنة 1644، ذلك الفيلق الذي اشتهر بأنه (الشاطئ الحديدي) والذي ارتفع على صهواته كرومويل إلى ذروة الزعامة المطلقة، ذلك مثلما عبر هتلر على أكتاف القُمُص السمراء، وكما وصل موسوليني بقمصان سود؛ فلما قتل شارل الأول واستتب الأمر للدكتاتور أعلن أن الحكم يومئذ للدين، وفي 30 إبريل سنة 1653 ذهب إلى دار النيابة يقول: (هيا يا قوم. . . كفانا سفسطة) وحل المجلس وانفرط عقد المساكين وعلق بيده على باب البرلمان لوحة مكتوباً عليها (. . . غرفة غير مفروشة للإيجار!!!) لكن الأيام مضت وألفى الطاغية نفسه وحيداً فأعاد البرلمان، وأخيراً بعد 14 عاما من الحرب الأهلية مات كرومويل وعاد شارل الثاني بعد أن تعلمت الأمة أن الملكية خير وأبقى، ولكن بعد أن تعلم الملوك درساً
وهذا هو الكردينال العظيم: أبو فرنسا وأبو الأكاديمية يضع يده على مقاليد الحكم فهي فوضى مالها من قرار. فمن ملك حدثٍ في أكناف أم طائشة يهدد ملكه أمراء طامحون، إلى أمراء يمكنون لسيادتهم في الأرض كأنهم رؤوس تعلو مفارقها التيجان، إلى نزاع ديني بين (الهيجنوت) والدولة. . كل ذلك في الداخل، أما في الخارج فيت هيسبورج تقدح عيناه بالشرر؛ لكن الأب (ريشيليو) لا ينهزم، فيسلخ السنوات الأولى من (وزارته) في أخلد كفاح سياسي عرفه التاريخ لوزير، ويضرب الأمراء ضربات ليس فيها إشفاق، ويقتلع نفوذ الهيجونت من الأعماق؛ وبعد أن يوطد دعاماته في الداخل، يبعث إلى النمسا بفيوض الحماسة الفرنسية لتنتصر عليها في معارك دامية!. . كم يرسم المؤلف من رائع الصور وأسماها لهذا الأب وهو محموم ومحمول على محفة متواضعة يتنقل فيها بين أطراف الدولة ليستولي على قلعة أو ليخضع أميراً أو لينازل النمسا. . .! كل ذلك وهو في (جفن الردى وهو نائم) فان الأمراء لم ينصبوا له أقل من عشر مؤامرات دموية جهلاً منهم أن الفزع لا يعرفه قلب كهذا القلب، بل التهديد يكسب في أمثاله فيضاناً من الحياة، فلا يتردد(139/37)
في أن يستل من أحضان الملك صديقه (ساتمارس) و (دي ثو) ليقدمهما إلى المقصلة لأنهما وإضرابهما (مجرد خونة من الطراز المبتذل) ثم لا يتردد في أن ينفي من فرنسا أم ملك فرنسا، وبمرسوم من الملك! وبينما يلقاه الهيجنوت فظيعاً في الحرب، يراه زعيمهم (دي روهان) بديعاً في السلام. . . هذا هو حاكم فرنسا المطلق ريشيليو
بعد ذلك صفحات مشرقة عن (الملك الشمس) الملك القائل (أنا الدولة) لويس الرابع عشر الذي حكم حكماً مطلقاً أكثر من نصف قرن ليله أزهى عصور الملكية في فرنسا أو في التاريخ.
ثم يعقد المؤلف فصلاً للكلام عن (وسائل الطغيان المستنير) فعنده أن أصحاب الانسكلوبيديا ومنهم (ديدزو) لم يكن فيهم جمهوريون، وحتى فولتير كما كان يسميه فريدريك الأكبر كان يفضل سلطة الفرد. أما صاحب العقد الاجتماعي الذي كان يُفتي ويشير في النظم والدساتير فكان يرى الحكم الجمهوري صالحاً للدولة الصغيرة، أما الدول الكبرى فلم يكن يراه نافعاً لها بل في العقد الاجتماعي دفاع غير قليل دافع به (روسو) عن الحكم المطلق. وفي القرن التاسع عشر فلاسفة كبار كانوا يعتذرون عن الحكم المطلق حكم الفرد المستنير (نصير الإصلاح) الذي كان يسميه رينان أي الطاغية الطيب، وإذا كانت الثورة قد قضت على هذا النظام فان فرنسا عبدته في شخص نابليون. . وفي الحق أنك لا تستطيع أن تنسى - في عصرنا هذا - مقدار ما تحظى به من التأييد نظرية المفكرين الممتازين (المفكرين الأرستقراطيين) وفحواها أن التقدم لا يمكن أن يأتي من الجماهير بل هي تساق إليه وراء طائفة من (الأفراد) الكفاة. . . وكثيراً ما يكونون منها
وفي الثورة الكبرى طغى (روبسبير) فصار قطعة من طغيان الثورة الدموية أو المجزرة، لكأني به جملة من اسمها أو مقدمة من منطقها فلولاه ما أنتجت الثورة نابليون. . . وما أدراك ما نابليون! ابن الثورة في فرنسا، وابن الجماهير في كل الدنيا؛ النجم الذي تلألأ في الأفق على غير ميعاد، والحلم الذي طاف بأجفان الإنسانية حيناً من الليل ثم صحت تتفقده؛ اللاعب الذي كان يحرك الملوك والشعوب على رقعة الدنيا كرقعة الشطرنج؛ الفاتح الذي كان ينثر الحرية، ويبذر المساواة، ويعلم العلم، في المشرق والغرب أني أسال دم الفتوح؛ المنشيء الأمم والجامع الأجناس، واضع تصميم أوربا الحديثة(139/38)
لقد كان المستبدل الهائل، أو المستبدل العادل، أو الطاغية
كانت كل السلطات في يديه، وكان الخير يتفجر منهما والشر والجريمة أحياناً
كان مشرعاً يضع بنفسه (قوانين نابليون)، وكان يدير دفة السياسة في الدنيا، وكان يحيط بالجحفل اللجب في أسترلتر ويكتب إلى جوزفين!! وكان يصدر مرسوم الكوميدي فرانسيز وهو يتفجع أمام حرائق موسكو، وينظر إلى صورة (النسر الصغير) نابليون الذي سماه ألد عداته وهو (شاتوبريان): (شاعر يعمل)؛ أو كما قال أوكتاف إوبري: (ابن الثورة الأكبر الذي أنشأ الدنيا الحديثة على أنقاض ما هدمته الثورة من الدنيا القديمة) والذي بنى الدول حتى بعد أن مات!! فبعث إنجيل سنت هيلين من الموت: إيطاليا وألمانيا وغيرهما في القرن التاسع عشر، ويوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلقان في القرن العشرين!! حتى إذا فقد إمبراطوريته في قلب القارة دانت له إمبراطورية القلوب في كل الدنيا فاصبح أغنية في فم التاريخ وطنيناً في سمع الزمن
أوليس من الفرنسيين كما قال (دوناي) من يقول اليوم: (ليته يعود!) وهو هو الذي أجهد فرنسا وأضناها؟ وهو هو الذي عبر عن نفسه بقوله: (أفلم يكن أفضل ألا أكون ولدت؟)
هكذا استهلكت فرنسا القرن الماضي بأروع دكتاتورية عرفها البشر. ولما انطفأت شعلة (المارد القرشقي) وبعث من أعلى الصخرة إنجيله في سنت هيلين كانت من آياته (نظرية الجنسيات) التي أوسعها المؤلف تجريحاً في كتاب (تاريخ ثلاثة أجيال) لأنها أنشأت الدول التي زعزعت فرنسا في القارة، أما هنا فهو لا يناقش وإنما يعرض ويترك القارئ للاستنتاج، فيقدم إليه معجزة أخرى من معجزات الإنجيل تلك هي تسنم ابن أخي نابليون رياسة الجمهورية، ثم تتويجه نفسه مثل عمه إمبراطوراً بالقوة في ديسمبر سنة 1851 ولا يحمل على (نابليون الصغير) كما سماه هيجو، فهو قد شرحه في كتابه (تاريخ ثلاثة أجيال) بما نقله عن بسمارك لما أن قابله نابليون الثالث في ييارتز فقال: حالة عجز كبرى لا يعرفها الناس!
وهنا يعني بانفيل بأن يلفت قارئه إلى طريقة إحداث الانقلاب السياسي، فيقول أن الانقلاب الذي أحدثه نابليون الصغير كالانقلاب الذي أحدثه نابليون الكبير ليجعل نفسه قنصلاً عاماً، كان يقوم على أيدي رجال في يدهم الحكم لأن الانقلاب الناجح تجب له قوة حكومية ليستقر(139/39)
وليستمر
أما دكتاتورية نابليون الصغير فظلت في الداخل طويلاً، ولكنها أم تنجح، وفي الخارج أهدر الدم الفرنسي في المكسيك وأنشأ مبدأ الجنسيات خصوصاً لفرنسا، وكان الإمبراطور نفسه يقول (كيف تظن أن الأمور تسير على قاعدة؟ إن الإمبراطورة ملكية! وأنا جمهوري!! وليس هنالك بونابرتي إلا برزيني)
وجاءت حرب السبعين؛ وانتهت قصة الإمبراطورية، وحاول في سنة 1889 أن ينشئ دكتاتورية على أكتاف الباريسيين فلم ينجح لأنه نسي أن الانقلاب يجب أن يكون بمعرفة رجال في دست الأحكام
بعد ذلك يرتحل بنا (بانفيل) إلى أمريكا اللاتينية رحلة تشبه المغامرات، فيستعرض طغاة غلاظ الأكباد كمصارعي الثيران أو أشد فروسية وعجباً!! ويشرح لك عمل الماسونية وعمل القسس في التدمير والتعمير في دقة تفوق حلاوة القصص وتسمو إلى حكمة التاريخ. وينتقل من المكسيك إلى أمريكا الجنوبية وبطلها (بوليفار) تلميذ الثورة الفرنسية وصاحب خطة (الولايات المتحدة الجنوبية) على نسق اتحاد الشمال؛ هذا الجمهوري الواقعي الذي كان يقول (إن الديمقراطية المطلقة كالاستبداد المطلق، كلاهما طغيان). ثم يتحدث المؤلف عن دول أمريكا الجنوبية وطغاتها، ففي كولومبيا، وفي أورجواي، وبورجواي وشيلي والبرازيل طغاة في كل عشر سنوات، وفي بوليفيا التي خلعت على نفسها هذا الاسم تمجيداً (لبوليفار)، ثم في الأرجنتين التي طغى فيها (ردزاس) المصلح الفظيع، دنا أحد المارة يوماً من بائع متجول يصيح: كَسْتنا! كستنا!) فلما هم بالشراء منه خر الشاري صعقاً لأنه لم يجد في سلته إلا (رؤوس رجال)، لكن الإصلاح والتقدم المادي كان يشفع لهؤلاء الجبابرة، بل ولمثل (بلانكو) طاغية فنزويلا في سنة 1875 الذي قال كلمته المشهورة وهو على سرير الموت يستدبر الدنيا ويستقبل الله
القسيس: يا بني سامح أعداءك
بلانكو: لا أستطيع يا أبت
القسيس: كيف يا بني؟
بلانكو: ليس لي أعداء. . . لقد قتلتهم جميعاً.(139/40)
(البقية في العدد القادم)
عبد الحليم الجندي(139/41)
التاريخ في سير أبطاله
ميرابو
ميرابو. . . تلك الأعجوبة
جوته
للأستاذ محمود الخفيف
تتهيأ بواعث الحركات الشعبية وتتلاقى في تياراتها على كر السنين، وما تزال في نموها واطرادها حتى ينفجر سكونها بغتة عن عاصفة، ثم لا تلبث تلك العاصفة أن تتمثل في مظهرين: فكرة ورجل! على هذا النحو هبت العاصفة في فرنسا عام 1789، فأما عقيدتها فكانت ما أعلنته الثورة من مبادئ، وأما رجلها فكان ميرابو
أجل، كان ميرابو رجل الثورة في أولى مراحلها، ذلك لأنه حين ألقى بنفسه في بركانها لم تلبث أن وجدت في لسانه ترجمانها، وفي شخصه عنوانها؛ فلقد نبض قلبه بمشاعرها، وامتلأ رأسه بآمالها، وانطلق لسانه بأناشيدها، وكان لها أكبر عون في حدة ذهنه، ويقظة وجدانه، وقوة جنانه، وسحر بيانه، فألقت إليه مقاليدها برهة، فلما التوت عليه واتخذت طريقاً يفضي إلى هلكتها وجدت فيه الرجل الوحيد الذي يبذل غاية جهده ليحجزها عن وجهها، ثم لما قضى نحبه، لم تدر ما تأكله فأكلت نفسها.
من أجل ذلك لا تستطيع أن تفهم الثورة حق الفهم دون أن تفهم ميرابو، وكذلك لن تستطيع أن تعرف ميرابو أصدق المعرفة إلا في غمار الثورة، فما كان قبل الثورة إلا رجلاً كمن حوله من الرجال، بل لقد كان من عدة وجوه دون الكثيرين منهم، فلما أفاقت على صيحتها نفسه، أصبح الرجل الذي ينعدم قرينه في الرجال!
لكن ما جره عليه نكد طالعه قبل الثورة كان ذا أثر عميق في سيرته يوم جن جنونها، حتى لقد كان الناس على الرغم إكبارهم مواهبه في لبس من أمره دائماً، يفسرون آراءه واتجاهاته بما كان من ماضيه، فصار وهو الكوكب الساطع في سياسة وطنه يعاني مما انعقد حوله من الشبهات أضعاف ما يعانيه من غباء معاصريه ونزقهم.
عودته غلظة أبيه وسوء معاملته إياه الحنق عليه والكراهية له، وأتت سياسته على العكس مما كان ينتظر، وكان من الأشراف الذين يحلو لهم العناد، فلم يدع وسيلة يرى فيها كسر(139/42)
شوكته إلا جربها، حتى السجن أرسله إليه مرارا بواسطة تلك الخطابات الملكية المختومة التي كان لها حكم القانون.
ولكن السجن لم يردعه ولم يصرفه عن الإسراف والاستدانة ولما هم أبوه أن يرسله إليه مرة أخرى فر هارباً مع خليلة كان قد هام بها على الرغم من احتجاج زوجته، وعلى الرغم من حدب بعلها عليه وإكرام مثواه حين كان يزوره في منزله.
وهنالك في هولندا حينما أنفق ما حملته معها خليلته من المال لم يجد له مرتزقاً سوى الكتابة، فوضع رسالة في الحكم الاستبدادي ذاع بها اسمه بين الناس، وأتبعها غيرها في الاقتصاد وكانت له فيها آراء صائبة، غير أن حياة التشريد قد ألقت به في كثير من مواطن الزلل، فكان يستدين مرة ويستجدي بعض ذوي الثراء حيناً، ويلجأ إلى ناشري الكتب أحياناً يعركهم ويعركونه حتى يتقاضاهم بعض المال ثمناً بخساً لرسائله
وما كان ذلك الشقاء ليقهر نفساً لا تقهر، بل لقد أوحى إليه الانتقام من أبيه، فلما علم وهو في غربته بما شجر بينه وبين أمه من نزاع ومقاضاة، كتب رسالة صغيرة يحمل فيها عليه ويرميه بالغباء والجهل في أسلوب لاذع، وأرسل منها عدداً إلى أمه، ولكنها وقعت في يد أبيه، فبلغ الحنق من نفسه كل مبلغ واستعمل نفوذه، فإذا بابنه وخليلته يرسلان إلى فرنسا، حيث ألقيا في السجن كل جزاء فعلته.
وكان السجن في هذه المرة قاسياً إذ حرم عليه أول الأمر كل ما يخفف عنه آلام وحدته، ولكنه استطاع أن يسحر حراسه بقوة شخصه فأتوا له بما طلب من الكتب والورق والصحف، فكان فيها بعض السلوى لنفسه الوثابة
ولقد لبث في السجن بضع سنين، أعاده بعدها أبوه إلى الحياة الطليقة، وهو يظن أن السجن قد نال من كبريائه، ولم يدر أن الأسر قد زاد عوده صلابة، وعلمه كيف يروض نفسه على البأس، وكيف يستهين بالألم إذا فكر أحد في ارغامه، ولذلك عاد إلى التبذير والسفه، ولج في عناد أبيه وسوء معاملة زوجه، ثم اخذ ينشر من الآراء في المال والسياسة ما أغضب عليه كبار رجال الدولة، فهم أبوه أن يلجأ من جديد إلى خطاب مختوم ولكنه هرب وطوف في إنجلترا وبروسيا وسواهما من ممالك القارة وهو لا يكاد يجد ما يتبلغ به.
أكب في أسره على المطالعة، فالتهم ما حمل إليه من الكتب التهاماً، وكانت له مقدرة خارقة(139/43)
على استيعاب ما يقرأ، ثم هيأت له أسفاره أسباب الخبرة الصحيحة، فصاحب أخلاطاً من الناس، ورافق أنماطاً من الساسة، وشاهد ألواناً من المجتمعات، ومارس ضروباً شتى من الأخلاق والعادات
على أن أصالته كانت أعظم من كسبه كما كان وحي عبقريته أكبر خطراً وأبعد أثراً في تكييف سلوكه من كل ما زودته به الكتب من آراء، ولكن تلك العبقرية كانت في حاجة إلى ما يستثيرها، كانت فيما يحيط به من ظروف العيش، وما يكتنفه من الحوادث كالجمرة طغى عليها الرماد، فما أن تهب العاصفة حتى تظهر وتتوقد وتبهر جذوتها القلوب والأبصار، وما كانت العاصفة إلا الثورة وهي من وطنه على الأبواب.
بيد أنك تراه الآن ولما تواته الثورة يعيش من نفسه في ثورة! فلقد كان بطبعه عسوفاً عنوفاً لا تعرف نفسه الهدوء كما لا يعرف جسمه الدعة، يميل بكل ما في طاقته إلى النضال والتحدي، فيحمي على المجادلة، ويستعر على الجلاد، ولا يستقر إلا على الظفر والتفوق.
وكان قلبه الكبير مليئا بالأحاسيس، جياشاً بالعواطف، وكثيراً ما كانت حدة عاطفته مبعث مواقفه الفذة ومثار شجاعته حين كانت تستحكم الأزمات فلن يخرج الوطن منها إلا بشجاعته. وكان ذا مقدرة غريبة في إثارة العاطفة في قلوب من حوله حتى لكأنهم منه حيال ساحر عجيب، وهو في فورته يتناول كل شيء ولا يكاد يتجه إلى فكرة حتى يثب إلى غيرها، ولا يكاد يسنح له خاطر حتى تتوارد على رأسه الخواطر، وما كان ليضيق بها، بل لقد كانت على وفرتها اقل من أن تقنع روحه أو تشبع عاطفته. قال أبوه يصف توثب روحه: (إن روحه كالمرأة المتحركة ينعكس فيها كل شيء ولا يستقر فيها شيء)
ولقد كان من أظهر خلاله وأعظم قوى نفسه، شدة تأثيره فيمن حوله، يحس من يقترب منه هيبة خفية لا يتبين مبعثها، وينجذب إليه من يستمع له انجذاباً يبعث على العجب! ولقد بلغ من شدة تأثيره أنه كان يحمل رجال السجن على احترامه بل على محبته، وتلك عجيبة من عجائب النفس لا تزال سراً مستغلقا على الإفهام.
على أن أبرز صفاته جميعاً وأوثقها علاقة بمستقبل حياته، هي قوته الخطابية، فلقد كان ميرابو خطيباً عبقرياً بكل ما تتسق له تلك الكلمة من معنى. وهو عند الكثيرين من المؤرخين أقدر خطيب شعبي في التاريخ الحديث، وأشد الخطباء تسلطاً على أفكار سامعيه(139/44)
وأسرعهم توجيهاً لمن حوله إلى ما يريد.
كان في أسلوبه رجل فن كأعظم ما يكون رجل الفن، عرف أو على الأصح ألهم اختيار الكلمة القوية وصوغ العبارة التي تجمع إلى إشراق المعنى بعد المرمى وعمق المغزى. وكانت تواتيه عبقريته إذا تسنم المنبر فتسمو به عن مستوى الرجال، فتراهم شاخصة أبصارهم إليه خافقة قلوبهم بما ينطق، فإذا احتدم الجدل أو اشتد الموقف خطراً نظرت فإذا به أعظم مما كان حماسة وأسرع تدفقاً وأكثر إقناعاً ورأيت عبارته ترتفع وتعظم حتى تلائم الموقف، وسمعت في نبرات صوته أزيز نفسه وغليان دمه. كان في جولاته كنابليون في غزواته! تزداد عبقريته ملابسة له كلما ازداد الموقف من حوله هولاً. ولقد فاه بأبلغ عباراته وأبعدها أثراً في نفوس سامعيه في مواقف الحماسة الفائرة كأن كلماته الحيتان الضخمة لن تظهرها إلا العاصفة!
وكان له فضلاً عن ذلك من هيبة منظره وقوة صوته ورنين جرسه وشتى إشاراته كل معدات الخطيب. كان كبير الجرم، قوي الجسم، عريض المنكبين، عظيم الصدر، ترى في وجهه الجاد العابس آثار جراح اندملت كأنك تلمح فيها صرامة الحوادث وصروف الزمن، وكانت ترتسم ملامح وجهه بانفعالات نفسه، كما كانت تلتمع عيناه وتختلجان فتبعثان الرهبة أو تثيران الشفقة. أما عن قوة أعصابه وضبط نفسه وصدق فراسته وتفهم الغاية التي يرمي إليها وتخير أقرب الطرق وأسهلها إلى تلك الغاية فكان في ذلك كله مضرب المثل بين معاصريه.
والآن فلندع مقدرته على الخطابة حتى نشاهد آثارها في مجلس طبقات الأمة وفي الجمعية الأهلية، ويجمل بنا أن نتبين قبل انعقادها بعض آرائه السياسية.
لم تك أصالة ذلك الرجل الفذ في الساسة أقل من أصالته في الخطابة، فلقد جمع إلى حماسة القلب حدة العقل، وإلى ثورة العاطفة اتزان المنطق، وإلى جموح الخيال وضوح المنهج، وإلى وحي العبقرية شمول النظر، وصدق التجربة واتساع الخبرة، وإن المرء ليدهش حقاً إذ يرى ذلك كله في رجل. ولقد صدق جوته حين وصفه في قوله: ميرابو. . . تلك الأعجوبة!!!
كان لهذا الزعيم غرض يرمي إليه ونهج يسير عليه. نشط قبيل الثورة في نشر مبادئه،(139/45)
عندما عاد من برلين للمرة الأخيرة، وكان قد أوفد إليها من قبل الوزير كالون في مهمة سياسية عام 1787 أي قبل هبوب العاصفة بعامين، وخيل إلى أن الوزير إنما أراد إبعاده، فلما استقل ميرابو ما كان يصله من أجر عاد إلى وطنه مغيظاً محنقاً فشهر قلمه للطعن في كالون ونكر صديق الشعب، وابتدأ الناس يحسون خطره كناقد سياسي، نعم أحس الناس روحاً جديدة في كتاباته واستشعروا أن صاحبها يمتاز ممن عرفوا من الرجال. اقرأ مثل قوله في نقد نكر (ليعلم الذين يحسبون أنهم لا يستطيعون أن يحبوا الله خالقهم أو أن يحبوا الملك والوطن إلا أن يعبدوا نكر، إنهم في ضلالتهم يعمهون. هل فكروا في أن تفاخره بأنه يستطيع أن يعقد أي قرض دون زيادة في الضرائب موضع عار لا موضع فخر؟ هل فكروا في أنه بذلك قد استطاع أن يستهوي أولي الأمر في هذه الدولة، فيدفع بهم إلى حرب تبرأ منها الإنسانية، فضلاً عما يتبعها من خراب مالي؟ وهل يغنيهم ما يعلمون من حسن خلقه وطيب نفسه عن نجاح سياسته كوزير؟) اقرأ هذا وغيره تر أن الثورة قبل هبوبها قد اهتدت إلى زعيمها، وتلق الرجل في مستهل مرحلة جديدة في حياته العجيبة، مرحلة الجد الحكيم والوقار العاقل والجهد المتواصل.
راح يعلن للناس أنه عدو الامتيازات والاستبداد، وأنه لن يقعد عن الجد حتى يرى الناس سواء أمام القانون، ويرى الحرية حقاً يتمتع به كل فرد، ويرى التعليم نوراً ينفذ إلى جميع الطبقات، والرخاء المادي حصناً يقي الوطن غائلة الفاقة. وهل كان للناس مطمع وراء هذا؟ وهل كانوا يتغنون بغير هاتيك الأناشيد؟ ولكن ميرابو لن يقبل أن يسعد الشعب على حساب الملكية! وإذاً فهو يسعى من جانب آخر إلى أن يكون للملكية نفوذها وسيادتها على أن تستمد ذلك من الشعب صاحب الحق. ولئن كان يمقت من أعماق قلبه الفوارق بين الطبقات وقيود العهد الإقطاعي، فان بدنه ليقشعر فرقاً من الفوضى وإنه ليرى الطامة الكبرى في جموح الشعب وتعديه حدوده.
بهذه المبادئ وبما عرف عنه من مقدرة خطابية فائقة، تقدم ميرابو للانتخاب في مدينة إكس ليشون نائباً عن العامة في مجلس طبقات الأمة، بعد أن نأى الأشراف بجانبهم عنه. وعلى الرغم من كيد خصومه له خرج من المعركة ظافراً داوي الصيت
(يتبع)(139/46)
الخفيف(139/47)
يوم الوقفة
عرفات. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجِّ عَمِيقٍ، لِيًشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَيذْكُرُوا اسم الله فِي أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بَالبْيتِ العَتِيقِ)
هنالك ينكشف الغطاء، وتنفتح أبواب السماء، فيتوجه الحجاج إلى الله بقلوب انزاحت عنا ظلمة الأهواء والشهوات، وأشرقت عليها الأنوار، فسمت حتى رأت الأرض ومن عليها ذرة صغيرة تحملها رياح القدرة، ثم سمت حتى سمعت تسبيح الملائكة بألسنة الطاعة، ثم سمت حتى تدبرت القرآن غضاً غريضاً، كأنما نزل به الوحي أمس، وسمعت النداء من جانب القدس: (يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى، وجعلناكم شُعُوباً وقبائِلَ لِتَعَارَفُوا، إنَّ أَكْرَمكم عِنْدَ الله أتقاكم). فأجابت: لبَّيك اللهم لبيك!، فردَّدت بطاح عرفات، وأرجاء الحرم، وردَّدت السموات السبع والأرضون السبع: لبيك اللهم لبيك!
هنالك تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود، وعلامات الحدود، وسيد مسود، وعبد ومعبود، وتحيا في عرفات حيث لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير
هنالك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول الشرور، وترتفع الأحقاًد، وتعم المساواة، ويسود السلام، ويجتمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيد واحد، لباسهم واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويؤمنون بنبي واحد، ويدينون بدين واحد، ويصيحون بلسان واحد: لبيك اللهم لبيك!
هنالك تظهر المعجزة الباقية، فتطوى ثم تؤخذ من أطرافها، حتى توضع كلها في عرفات، فتلتقي شطآن أفريقية بسواحل آسية، ومدن أوربة بأكواخ السودان، ونهر الكنج بنهر النيل، وجبال طوروس بجبال البلور، فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه ألوان على المصور فوق ألوان، أو تفرقه في السياسة خرق تتميز من خرق، وأعلام تختلف عن أعلام(139/48)
ذلك لأن وطن المسلم في القرآن، لا في التراب والأحجار، ولا في البحيرات والأنهار، ولا في الجبال والبحار: (إنما المؤمنون أخوة)، لا (إنما المصريون. . . .)، ولا (إنما الشاميون. . .)، ولا (إنما العراقيون. . . .)
هنالك يتفقد الاخوة إخوتهم، فيعين القوى الضعيف، ويعطي الغني الفقير، ويساعد العزيز الذليل، فلا ينصرفون من الحج إلا وهم أقوياء أغنياء أعزاء
هناك يذكر المسلم كيف مرّ سيد العالم صلى الله عليه وسلم بهذه البطاح مهاجراً إلى الله، تاركاً بلده التي نشأ فيها، وقومه الذين ربي فيهم، وكيف جاء حتى وقف على الحزْورَة، فنظر إلى مكة، وقال: (انك لأحب بلاد الله إلى الله، وإنك لأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). ثم يستقبل هذه الصحراء الهائلة، ليس معه إلا الصديق الأعظم، يتلفت كلما سار ليتزوّد بنظرة من مكة حتى غابت وراء الأفق الفسيح، فانطلقا يؤمان الغار
هل علمتْ هذه البطاح أن هذا الرجل الفرد الذي قام وحده في وجه العالم كله، يصرع باطله بقوّة الحق، ويبدّد جهاته بنور الإسلام، ويهدي ضلالته بهدي القرآن، والذي فر من مكة مستخفياً، سيعود إليها بعشرة آلاف من الأبطال المغاوير، فتفتح له مكة أبوابها، وتتهاوى عند قدميه أصنامها، ثم تعنو له الجزيرة، ثم يخضع لدينه نصف المعمور؟
هل علمت هذه البطاح أن هؤلاء النفر الذين مروا بها هاربين من جبروت قريش وسلطانها، سيعزون حتى تدين لهم قريش، ثم يعزون حتى يرثوا كسرى وقيصر في أرضيهما، ثم يعزون حتى يرثوا الأرض ومن عليها، وسيكثرون حتى يبلغوا أربعمائة مليون، وسيتفرقون في الأرض داعين مجاهدين فاتحين، ثم يجتمعون في عرفات حاجين منيبين ملبين: لبيك اللهم لبيك!
هنالك وقف سيد العالم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يعله حقوق الإنسان، ويقرر مبادئ السلام، وينشر الاخوة والعدالة والمساواة بين الناس قبل أن تنشرها فرنسا بألف عام:
أيها الناس:
اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا ادري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا(139/49)
أيها الناس:
أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
أيها الناس:
إنما المؤمنون اخوة، لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه
إلا هل بلغت؟ اللهم اشهد
أيها الناس:
إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى
ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!
وهنالك وقف يعلن انتهاء الرسالة الكبرى التي بعثه الله بها إلى الناس كافة، ويتلو قوله جل وعز: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكمُ الإسلام دِيناً)؛ ويبعث صحابته ليحملوا هذه الرسالة إلى آخر الأرض، ثم يحملوها إلى آخر الزمان
فحملوها فأنشأوا بها هذه الحضارة التي استظل بظلها الشرق، ويستظل بظلها الغرب
في عرفات تتجلى عظمة الإسلام، دين الحرية والمساواة والعلم والحضارة؛ ومن عرفات يسمع المسلمون داعي الله يدعو: حي على الصلاة! حي على الفلاح! فيجيبون لبيك اللهم لبيك! وينطلقون ليعلموا للآخرة كأنهم يموتون غداً، ويعملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبداً
فلتفسد الأرض، ولتطغ الشرور، وليعصف الحديد، ولينفجر البارود، ولتَغُص الإنسانية في حمأة الرذيلة إلى العنق، فانه لا خوف على الفضيلة ولا على الحق ولا على السلام، ما دام في الأرض (عرفات)، وما دام في الجو هذا الصوت القدسي المجلجل:
(لبيك اللهم لبيك)!
علي طنطاوي(139/50)
العراق في مصر
للشاعر الفيلسوف المرحوم جميل صدقي الزهاوي
وهي آخر ما نضمه الفقيد الكريم
حمّلها شباب العراق تحية كريمة لشباب مصر
- 1 -
أتى بعد شوق حافز للمحبينا ... إلى مصر شبان العراق محيينا
أولئك شبان سنقطف عن هوى ... بها من رياض العلم ورداً ونسرينا
رضينا بما في مصر من عبقرية ... وما كل أرض تنبت العلم ترضينا
وكان منانا أن نرى مصر يقظة ... فأفرحنا جمعاً بلوغ أمانينا
سعدنا بمصر والسعادة نعمة ... فحينا تلاقينا وحين تجافينا
وليس لنا عن حب مصر تنكّب ... فما كان هذا الحب إلاّ لَنَا دنيا
وما شعراء النيل إلاّ عنادل ... على سرحة الآداب تشدو فتشجينا
- 2 -
إلا إن مصراً موطن الأدب الحر ... سلام على مصر سلام على مصر
وما مصر إلا البحر يلمع درّه ... ونحن بمصر غائصون على الدر
لقد جمعتنا وحدة عربية ... وأقرب منها بيننا وحدة الفكر
أرى في لقاء الروح للروح فرحة ... تفوق لقاء العين والأوجه الغر
وإن بني مصر الذين تثقفوا ... إذا طلعوا كانوا من الأنجم الزهر
حججناك طوّافين والدافع الذي ... حدانا هو الإيمان بالأدب الحر
وليس كإيمان المنافق إنه ... إذا لم يكن كفراً فشر من الكفر
- 3 -
وجدنا بني مصر الفتاة كواكبا ... تضئ فتمحو بالضياء الغياهبا
إذا غاب نجم لاح نجم وإنما ... تفوق بمصر الطالعاتُ الغواربا(139/51)
ألا فلييمم مصر من طلب العلا ... ومن كان في المجد المؤثل راغبا
وما اسعد الورّاد للعلم إنهم ... إذا صدروا كانوا نجوماً ثواقبا
إذا ما تلقوا من أساتذة لهم ... دروساً حسبت الودق ينصبّ ساكبا
قصدنا فقاسينا متاعب جمة ... فلما رأيناكم نسينا المتاعبا
نصافحكم فيها مصافحة الذي ... يريد لأعلام الهدى أن يقاربا
- 4 -
حججنا بلاد العبقرية والنبل ... نطوف بأركان الثقافة والفصل
معاهد فيها للهدى يثب الفتى ... وليس بها من سار يمشي على مهل
تربّي عقولَ النشء حتى تقيمها ... وما قيمة الإنسان إلاّ من العقل
وكانت فتاة العصر أنقى من الندى ... وكان الفتى للمجد أنضى من النصل
وليس الذي في البحر يسبح زاخراً ... كمن كان في الغدران يسبح والضحل
وليس غنى مصر من المال ناشئاً ... ولكنه في العلم والأدب الجزل
وفي عزة النفس التي قد أبت لها ... على ما بها أن تستنيم إلى الذل
- 5 -
على العقل في كل الأمور المعوّل ... ولولاه لم ينجل للمرء مشكل
وما العقل في الإنسان إلا ابن رأيه ... تولّد فيه آخراً وهو أوّل
وللعقل أنوار بها يهتدي الفتى ... وأبهجْ بأنوار لها العقل يرسل
تبدل في الناس العقول بغيرها ... ولكن نفس المرء لا تتبدل
ورب عقول لم تصادف مثقفاً ... فتلك بلا هادٍ من العلم تعمل
يمثل مصراً في العراق جهابذ ... ونحن بمصر للعراق نمثل
وما العلم في بغداد إلا كصيّب ... توالى لأدران الجهالة يغسل
- 6 -
نصافح إخواناً لنا قد تثقفوا ... فساروا جماعات ولم يتوقفوا
فإن فرقت ما بيننا شقة النوى ... فإنا جميعاً للعروبة نهتف(139/52)
وإن عصفت ريح بكم في ملمّة ... فتلك بنا يا أمة النيل تعصف
وإن أبعدت أجسامنا عن جسومكم ... فأرواحنا مجموعة تتعرف
ومصر هي اليمّ الذي ظلّ زاخراً ... وإنا وإياكم من اليم نغرف
غداً ستشب الحرب صاخبة اللظى ... فتزهق أرواحاً وتمحو وتتلف
وإن تلاميذ المدارس في غد ... جنود لصون الموطنين تألّف
- 7 -
لنحن بمصر في الثقافة نقتدي ... وبالنجم في تلك المطالع نهتدي
وليس بنا للأمس من لفتة الهوى ... ولكننا نرنو بشوق إلى الغد
ونحترم الرأي القديم وأهله ... ونهتف للتجديد أو للتحدد
نرى أن في التجديد شيئاً مخلداً ... ولكنما التقليد غير مخلد
وذاك طريق للأديب معبد ... وهذا طريق ظل غير معبّد
وما العلم إلا للسعادة سلم ... فمن يتخذ منه الوسيلة يسعد
فإن تبتعد عنا السعادة تقترب ... وإن منا التعاسة نبعد
جميل صدقي الزهاوي(139/53)
على قبر الزهاوي
بعد أن وُوري التراب شيخ الشعراء وفقيد العرب وقف على قبره الدكتور عبد الوهاب عزام فنثر عليه هذه الزهرات:
اليوم يقع هذا النسر بعد طول تحليقه!
اليوم يصمت هذا البلبل بعد طول تغريده!
اليوم يظفر هذا الجواد بالجمام!
اليوم يستريح هذا الفارس من الآلام!
اليوم تسكن هذه النفس الثائرة!
اليوم تخمد هذه النائرة!
اليوم يرقد الزهاوي في قبره!
كل نفس ذائقة الموت، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وإنما الخالد من خلدته آثاره. وسيبقى شعر الزهاوي مدوِّياً بعد مماته، كما كان مدوياً في حياته، ليبعث العزائم الراقدة، ويشعل النفوس الخامدة
ستتلقى مصر والبلاد العربية نعي الزهاوي كما تلقى العراق والبلاد العربية نعي شوقي، فتتجاوب بلاد العرب بالرثاء،
وتتبادل العزاء. نسأل الله أن يعوضها في شاعر العربية خيراً
أيها الشاعر العظيم ستذهب وذكراك بيننا خالدة!
أجميلُ لا تبعد فذكرك خالد ... الذكر للإنسان عمر ثان
ثم وقف الأستاذ الشاعر معروف الرصافي فألقى هذه الأبيات:
أيها الفيلسوف قد عشت مُضْني ... مثل مَيْتٍ وصرت بالموت حيا
ما حياة العظيم إلا خلود ... بعد موت يكون للجسم طيا
سوف يبقى بين الورى لك ذكر ... ناطق بالبقاء لم يخش عِيا
أنت فرد في الفضل حياً ومَيْتا ... حزت في الحالتين ذكراً عَلِيا
سوف أبكي عليك شجوا وإني ... كنت أبكيك في الحياة شجيا
ثم تلاه السيد محمد مهدي الجواهري فألقى هذه القصيدة الباكية:
على رغم أنف الموت ذكرك خالد ... ترن بسمع الدهر منك القصائد(139/54)
نعيت إلى غر القوافي فأعولت ... عليك من الشعر الحسانُ الخرائد
وللعلم فياضاً فماجت مصادر ... عُنيت بها بحثاً وجاشت موارد
وفلسفة أَطلعت في الشعر نورها ... هي اليوم ثكلى عن جميل تناشد
حلفت يميناً لم تشبها اختلاطة ... وقلبي على دعوى لسانِيَ شاهد
لقد كنت فخراً للعراق وزينة ... تزان نواديه بها والمعاهد
وكنت خصب العراقي شاهدا ... إذا أعوزتنا في التباهي شواهد
وكنت أرق الناس طبعاً ونكتة ... وألطف من دارت عليه المقاعد
وأنت ابتعثت الشعر بعد خموله ... نشيطاً فخوض الشعر بعدك راكد
ثوى اليوم في هذي الحفيرة عالم ... بأسرارها، لله بالعقل ناشد
أقام على العلم الصحيح اعتقاده ... عدو لأشباح الخرافات طارد
وكان نقياً فكرة وعقيدة ... عزيزً عليه أن تسف العقائد
يقرر أن الدين حب ورحمة ... وعدل، وأن الله لا شك واحد
وأن الذي قد سخر الدين طامعاً ... يتاجر باسم الله، لله جاحد
ثوى اليوم في هذي الحفيرة شاعر ... على الظلم محتج عن العدل ذائد
وشيخوخة مدت على الكون ظلها ... تكافح عن آرائها وتجالد
أَبَا الشعر! إن الشعر هذا محله ... فقد نصت الأسماع والجمع حاشد
وهذي جيوش الشعر والعلم تبتغي ... لها قائداً فذاً فهل أنت قائد
فأين قصيد قد نظمت فريده ... وأين من الشعر البديع الفرائد
وأين النكات المؤنسات كأنها ... حدائق تُسقى بالندى وتعاود
وأين العيون اللامعات زكانة ... زغائب تبدو فوقها ومقاصد
جميلٌ أعان الرافدين بثالث ... من الشعر تنميه بحور روافد
وكان حياة للنفوس ورحمة ... تغاث بها النفوس الهوامد
تطاوعه غر المعاني كأنها ... وصائف تبغي أمره وولائد
أقول لرهط الشعر يبغون باعثاً ... عليه: تثير الشعر هذي النضائد
هلموا إلى قبر الزهاويِّ نقنص ... به نفساً من روحه ونطارد(139/55)
وإن خيالاً يملأ الشعر رهبة ... سكون على قبر الزهاويِّ سائد
وحجوا إلى بيت هو الفن نفسه ... أنارت (فينيسٌ) ساحَه وعطارد
فإن بيوت الشاعرين مناسك ... وإن قبور النابغين معابد
أبا الشعر والفكر المنبه أمة ... عزيز علينا أنك اليوم راقد
وأن الذي هز القلوب هوامداً ... وحركها في الترب ثاو فهامد
وأن فؤاداً شع نوراً وقوة ... هو اليوم مسودُّ الجوانب بارد
فهل أنت راضٍ عن حياة خَبَرْتها ... ممارسة أم أنت غضبان حارد
أضاعوك حياً وابتغوك جنازة ... وهذا الذي تأباه صِيدٌ أماجد(139/56)
أندلسيات:
2 - ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطبني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
قال ابن بسام: كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر. أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتثار شمل الطاعة، وأناخوا في ظلها، ولحقوا بسروات أهلها. . . وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أول من بنى بيت شرفهم، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم. قال ابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثاً ومشاهدة وأنصعهم ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، وابخلهم بدرهم وكسرة، وأذبَّهم عن حريم نشب ونعمة، له في ذلك أخبار بديعة من رجل شديد الخلابة يضحك من حضر، ولا يضحك هو إذا ندر، رفيع الطبقة في صنعة الشعر، كثير الإصابة في البديهة والروية. انتهى كلام ابن حيان. قال ابن بسام: وشعر أبي مضر ليس من شرط هذا المجموع لتقدم زمانه؛ فأما ابنه مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ورحل إلى المشرق وسمع من جماعة المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. . إلى أن قال: وجدت في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً وأقر بذلك أعين مطاليبه، قال أبو مروان الطبني فيه:
شكرت للعامري ما صنعا ... ولم أقل للحذيلمي لعا
ليث عرين غدا بعزته ... مفترساً في وجاره ضبعا
لا برحت كفه مُمَكَّنَةً ... من الأماني فنعم ما صنعا
وددت لو كنت شاهداً لهما ... حتى ترى العين ذل من خضعا
إن طال منه سجوده فلقد ... طال لغير السجود ما ركعا(139/57)
وابن رشيق القائل قبله:
كم ركعة ركع الضبْعان تحت يدي ... ولم يقل سمع الله لمن حمدهْ
والعرب تقول فلان يركع لغير صلاة إذا كنوا عن عهر الخلوة. .
قال ابن بسام: ولما صنفت كتابي هذا عن شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء، أجريت ههنا طرفاً من مليح التعريض، في إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه ولا وصمة على من قيل فيه. والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجراً مستبشعاً؛ وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثل عرش القبائل. إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتني عن ذكره. واستَعْدَوا عليه عمر وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات. وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة وسأله أن ينشده ما قال فيه فأنشده قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أودّ له بما قال حمر النعم. . . وقال حسان لم يهجه ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشُبْرُم. . فهمّ عمر بعقابه ثم استعطفه بشعره المشهور. . وقد قال عبد الملك بن مروان يوما: أحسابَكم يا بني أمية فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيّ:
تبيتون في المَشْتىَ مِلاَءً بطونكم ... وجاراتكم غَرثى يبتن خمائصا
ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنحن نفعل بجاراتنا هذا؟ ودعا عليه. . . فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال: حس!. . . وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها. ولما قال جرَير:
فَغُضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
أطفأ مصباحه ونام - وقد كان بات ليلته يتململ - لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه. . قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون قبحكم الله(139/58)
وقبح ما جئتمونا به. . والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول إذا هجوتم فأضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً ولا عبرت به قبيلة، وهو الذي صُنّا هذا المجموع عنه، وأغفيناه أن يكون فيه شيء منة، فإن أبا منصور الثعالبي كتب منة في يتيمته ما شابه اسمه، وبقي عليه إثمه.
وحكى أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الأخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر
الذي خاطبته به هذا البيت:
وإني على ما هاج صدري وغاظني ... ليأمنني من كان عندي له سر
فكان هذا البيت أشد عليه من عظ الحديد؛ ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع. وهذا الباب ممتد الإطناب، ويكفي ما مر ويمر منه في تضاعيف هذا الكتاب. ومن شعر أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن زيادة الله الطبني مما أخذته عنه قولة:
كم بالهوادج يوم البين من رشأٍ ... يحفو علية وشاح جائر قلق
وكم برامة من ريم يفارقها ... لهفان يثنيه عن توديعها الفرق
ونرجس كفرند السيف ساومني ... ممللاً بنسم عَرقُه عبق
نادمته وشباب الليل مقتبل ... والنجم كَفٌّ يحيينا به الأفق
وفتية كنجوم السعد أوجههم ... في أوجه الحادثات الجُوزِ تأتنق
نلهو برقراقة صفراء صافيةٍ ... يكاد ينجاب عن أضوائها الغسق
يسعى بها مرهف كالغصن نعَّمه ... ماء النعيم عليه النوُر والورَق
وأنشدني أيضاً:
يا سالياً عاشقِيهِ ... وعاشقاً كل تِيهِ
ومَن مدامي ونقلي ... بوجنتيه وفيه
هلا حزبت فؤادي ... ببعض مالك فيه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
عجباً أن يكون ساكن قلبي ... راتعاً منه في بساتين حبي
ويجازي على الوفاء بِغَدرٍ ... حسبي الله ثم حسبي وحسبي(139/59)
جازني كيف شئت لا أترك الذن ... ب إذا كان فرط حبك ذنبي
وهذا كقول أبي بكر بن عمار:
لئن كان ذنبي للزمان محبتي ... فذلك شيء لست منه أتوب
وقول عباس بن الأحنف:
إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي ... أني على كسب الذنوب مجاهد
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب(139/60)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
23 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
تعليق المؤلف على فلسفة نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
تتمة
أما النظر إلى نيتشه من حيث الوجهة الأخلاقية فقد لامه النقاد على غرائزه القاسية وأنانيته الطاغية، وقوته البالغة على الضعفاء. على أن له بعض أراء لو لم يسيء الناس فهمهما لآلت إلى نتيجة أخلاقية حسنة؛ فليس يكفى المرء أن يكون فوضوياً هداماً طارحاً عن ظهره التقاليد ليحيا محققا مذهب نيتشه. وليس نيتشه رفيق أولئك الذين يعبثون بالسوبرمان. وهذا نبيه زرادشت كان يطلب إلى الذين يرغبون اتباعه أن ينفذوا مذهبه بقسوة وشدة
(هل أنت شريعة قوية؟ هل أنت شريعة جديدة؟
هل أنت حركة أولى؟ هل أنت دولاب يدور حول نفسه؟ وا أسفاه! ما أكثر أولئك الذين يضطربون بيأس! أرني أنك لست بواحد من هؤلاء الظامئين ولا الطامعين
وا أسفاه! هنالك كثير من الأفكار العظيمة التي ليس شأنها إلا النسمة تهب ثم تتلاشى
إنك تقول إنك حر، ولكي أريد أن أعرف الفكرة التي تسيطر عليك، لا النير الذي رحت تهزه
هل أنت حقاً من أولئك الذين يجدر بهم أن يهزوا نيراً؟ أن منهم من طرحوا كل ما منحتهم بعض القيم، بطرحهم ثوب العبودية والإرهاق حيث كانوا يعيشون.)
ونيتشه ذاته يعلن بأن مذهبه لا يحمله إلا إلى طائفة مختارة تستطيع حمله، والقيام بأعبائه؛ وأما الجماعات الأخرى فليس. عليها إلا الإذعان والطاعة والحياة بإيمان. فلا يجدر بنا والحالة هذه أن نسفه آراءه بحجة أن بعض الضعفاء العاجزين المنتفخة نفوسهم زهواً وكبراً قد أخذوا ببعض تعاليمه واقتبسوا نتفاً من مذهبه ليحققوا مطامعهم وليشبعوا جوع أنفسهم وأنانيتهم وليسعوا إلى هدف العظمة. إن نيتشه هو ذاتي قبل كل شيء، ويكفي(139/61)
اعتقاده هذا أن يهيج الناس عليه. فالإنسان الحاضر هو (ذاتي وغير ذاتي) في وقت معاً. يرى في الحالة الأولى نفع نفسه وفي الحالة الثانية نفع غيره، ويتحرى عن سعادتهم كما يتحرى عن سعادته. على أن النزاع بين الحالتين هو نزاع عنيف وقد تقوي في الإنسان حالة منهما دون أخرى على حسب ميوله القلقة التي تميل به إما إلى ذاته وإما إلى المجتمع. فبعضهم تغلب فيه الذاتية على غيرها، فيضحي بمصالح الغير في سبيل مصلحته؛ وبعضهم يضحي بمصلحته عاملاً على صيانة مصالح الغير. أما نيتشه فهو من القائلين (بالذاتية) الذين يحبون ذواتهم؛ ومذهب أهل حضارة العصر إنما يتجلى في اعتناق مذهب المحبة الشاملة؛ وهذا الاختلاف بين نيتشه وبين معاصريه يكفي لأن يثير في خصومه عداوة عميقة وخصومة عنيفة على هذا الذي لا يرى رأيهم في اتخاذ محبة الغير مثلاً أعلى
على أن هاتين الحالتين ليستا من الحالات المعينة التي لا يتخطاها الإنسان ولا يتعداها، إذ لست أرى أحداً مال بكليته إلى حالة وقطع كل اتصاله بالأخرى. فهناك درجات متفاوتة في الغرائز، وهذه الدرجات قد تتغير وتتطور بحسب الزمن والعصر والمحيط. على أننا سنحكم على فلسفة نيتشه الآن حكماً عقلياً واضحاً
إن فلسفة نيتشه هي مثال من أجمل الأمثلة الذاتية الأرستقراطية؛ مثال جميل حي منطقي يحتوي على هدى لكل من يريدون أن يكوّنوا حياتهم ويجعلوا منها مثالاً واحداً يتحدون معه، كما هو الأمر في فلسفة (تولستوي) المناقضة لفلسفة نيتشه. على أن الحل الذي أعطاه نيتشه للمسألة الأخلاقية يتراءى لنا أن احتماله شديد على الأنفس، في الناحية التفكيرية والناحية العلمية، وأن تنفيذ مذهب (السوبرمان) ليفتقر إلى جهود قل أن توجد؛ ونيتشه ذاته يعلن بأن أمثال هؤلاء الأفراد الذين يجد فيهم العبقرية لم يكونوا إلا وليدي المخيلة والخيال
وهكذا يتراءى لنا أن نيتشه لم يخلق ليكون زعيم مدرسة فلسفية حقيقية، إنه سيبقى وحيداً فريداً، أمة وحده بين الناس، كما كان في حالة تفكيره وتأمله؛ على أن مذهبه تارك وراءه تأثيراً كبيراً. ينمي في روح الفرد وروح الشعب (الأفكار الذاتية)، وهذا التأثير يتبع خيره وشره الجبلة الخلقية التي تلتصق بالأفراد والشعوب. فهو قد يعمل على تهديم طبائع طغت فيها الأنانية على كل شيء حتى جاوزت حدها؛ قد يعمل على رفع بعض الطبائع، يدرأ(139/62)
عنها كل آفة ويحميها من كل خطر من الأخلاق والديمقراطية والزهد
يبدو لي أن عمل نيتشه له أثر قوي في بيئة كبيئتنا ولا ريب في ذلك، فإن ما أراه في مظاهرنا الاجتماعية لا يدل على فيض في الحماسة المادية والخلقية. قليل من المفكرين الذين هم في مستواه يعرفون أن يسوقوا الإنسان إلى معرفة نفسه والوقوف إزائها مجرداً؛ وقليل من أصحاب جمهورية الفضيلة من يمزقون - في وضح النهار - هذه الأغشية الرقيقة والأكاذيب الخفيفة التي تستر بها النفس ضعفها وجبنها وذلها وعجزها؛ وقليلون من علماء النفس في وضح وأبان وأحسن البيان عن الحقيقة الذليلة التي ترتدي هذه الأثواب المزركشة: أثواب الشفقة ومحبة القريب والزهد
إن نيتشه كالطبيب الصارم الذي لا تدخل قلبه الشفقة؛ والعلاج الذي يحمله إلى مرضاه، علاج قاس خطر استعماله، ولكنه علاج يخلق العزم والقوة. إنه لا يعزي من يأتيه شاكياً، ولكنه يترك الشاكين تسيل الدماء من جراحهم ليجعلهم أكثر قسوة وأشد احتمالاً للألم. فهو إما أن يشفي مرضاه شفاءً صحيحاً أو يقتلهم؛ قد يخشاه الناس للمرة الأولى ويفرون من مباضعه، ويلقونه باحتراس ووجل! يتساءلون: أليس هذا الإنسان شريراً جلاداً؟ يفرون من طريقه ويختلفون إلى أطباء خفيفة أناملهم، لينة كلماتهم، حلوة علاجاتهم، خالية تعاليمهم من الشدة والصرامة، ولكن نيتشه يلوذ به فريق من المخلصين له ولأنفسهم، يهوون صرامته ويحبون استقامته وخلقه كله. وفي اعتقادي أن هؤلاء لم يكونوا مخدوعين بإعجابهم به وإخلاصهم له، وقد علموا أنه - ليس عن صرامة قلبه ولا معرفته للألم معرفة خاطئة - قد غدا صارماً قاسياً على الإنسانية المتألمة؛ وحياته كلها مشحونة بالحوادث البالغة والمصائب الكبيرة؛ وحظه السيئ الفاجع قضى عليه بأن يكون صادفاً عن الإشفاق على ضعف الإنسانية وفاقتها. إنهم ليقفون بخشوع وجلال إزاء الجبار الذي لم يخضع للذل ولم يلعن الوجود، برغم مرضه العضال. وظل على غبطته ورضاه في الحالة التي كان يصارع فيها الموت والجنون دون أن ينفذ إليه الوهن والضعف، متمماً أنشودته المؤثرة في تمجيد الحياة الفنية الفياضة المخصبة، مناضلاً حتى النهاية - الألم الذي غلب على عقله ولم يستطع أن يقهر إرادته الواعية
لماذا أكرمت نيتشه؟ وما الفائدة التي يجنيها العقل العربي منه؟(139/63)
حقاً إن بيني وبين نيتشه أسباباً لا أظن انقطاعها يسيراً؛ وقد اختلفت إليه ليالي كثيرة وليس بيني وبين نبيه فاصل. أبثه من روحي ويبثني من روحه. نتألم معاً من الحياة ونرقص لها ابتهاجاً. ولا أدري علة هذا الترابط ومن يستطيع أن يحفظ على التحقيق كل سبب يربط بينه وبين مفكر ما؟ أليست هناك أسباب مختلفة قد تتآلف وقد تتخالف، فتمزج هذا المفكر مع عقلك وقلبك، أو لا تزيدك منه إلا نفوراً؟ وما عسى يكون سر تعلقي بنيتشه إلا سر تعلقي بالحياة؟ كانت الحياة عندي ظلمة حالكة فغمرها نيتشه بفجره. كانت الحياة شكا مراً وقلقاً مستحوذاً عليّ فبدل شكي بايمان، وقلقي بعزيمة لا تتقلقل. كان سفيني مضطربا في خوض لحج الحياة، تهم يد الضلال بافتراسه، فاستنقذه نيتشه وساقه إلى منارة النجاة!
ذلك فضل نيتشه علي، وأعظم بهذا الفضل! وكيف يريد أولئك الذين لاموني على انكبابي على نيتشه أن أصدف عنه؟ وإنني لواجد فيه علامة من العلامات الواضحة التي تنصبها الحياة للظالين عن مناهجها؛ فنيتشه هو علامة فيض الحياة المتفجرة والإرادة الصارمة. ولعل أولئك السقماء الذين أتوه فروا من مباضعه القاسية وتعاليمه العنيفة لأنهم يريدون علاجاً يبعث في أعضائهم المشلولة الدفء والسكينة، وهو إنما يريد أعضاء تبارك الحياة بالعزم والحركة. إنه قد أحرق العلاجات المخدرة للأوجاع قبل أن يقدموا. فإن كنت صابراً على احتمال قسوته فتعال إلى نيتشه
إن نيتشه ليس بمفتقر إلى جثث - خالية من الإحساس - يحملها على ظهره، وإنما هو يريد رفاقاً أحباء هدامين مثله، قد ادّرعوا الإرادة وصافحوا الألم رفيقاً لا سيداً يقتحمون بإرادتهم وصرامتهم كل شيء كالسيل الجارف؛ لا يصدهم عن غرضهم صاد، ولا يقف سيرهم حاجز؛ يثبون فوق القمم وثباً لا يزحفون زحفاً؛ في نفوسهم عقيدة تفيض حماسة وقوة، يفرضونها على الزمان ولا يجد الزمان إلى إضعافها سبيلا. هؤلاء الرفاق الأشداء يستطيعون أن يمشوا مع نيتشه، ويمجدوا الحياة في كل أدوارها، ويحلقوا فوق آلام الحياة وأفراحها
أن كاتب (فلسفة نيتشة) بالفرنسية يرى في اقتحام نيتشة لبلاده نعمة، لأنه لا يرى في مظاهرها الاجتماعية ما يدل على فيض وحماسة في الناحية المادية والخلقية. وإن نيتشه ليبعث هذا الفيض وبخلق هذه الحماسة في الناحيتين. فإذا كانت فرنسا الحية تفتقر إلى من(139/64)
يفيض على حياتها حياة، فكيف بشعوبنا التي قتلها التخاذل بينها!
توجه أنى شئت؛ فهل أنت واجد معي إلا قطعاناً هائمة على وجوهها، ورعاة غافلين همهم صفو السمر، وأواصر مقطوعة، وتقاليد حامدة، يتغنى بها القوم حين يريدون الرقص والغناء، وشباباً مخنثين تناسوا رجولتهم، وأهملوا رسالتهم؛ كأنما تلك الراحة الطويلة العريضة قد أورثت أعضائنا الشلل، فإذا وثبت فيها الحياة لم تقدر على الحركة. وارم بطرفك أنى شئت فإنك واجد هذا الموت الاجتماعي وجمود الفكر
وكأنا لم يرض فينا يريب الد ... هر حتى أعانه من أعاننا
فأصبح تفكيرنا رياء، والتظاهر بالتقاليد رياء، وهل كان الرياء إلا ثوباً من أثواب الضعف والعجز ترتديه أمة رضيت لنفسها أن تهوي بدلاً من أن تصعد، وإن إغفال علماء الاجتماع عندنا لهذه الظاهرة الخلقية إغفال فيه جناية لا تغتفر. يجلس مفكرنا في جماعة فيفصل لفكره عشرين وجهاً، يأتيهم بوجه ويعرض عنهم بما بقي. ويصلي أحدنا عشرين ركعة، يمنح واحدة الله، ويمنح الباقيات للناس؛ وهكذا غلب الرياء علينا في كل مظاهر تفكيرنا وتقاليدنا. وإنني لأخشى يوماً يرسو فيه الرياء في أنفسنا فيغدو متأصلاً فينا حتى يصبح علامة من العلامات الفارقة لهذه الأمة
هذه هي المظاهر التي غاظت نيتشه يوم أعلن الثورة على الضعف والرياء. وليت شعري من سيبغضه الضعف والرياء في مجتمعنا الحاضر، فيعلن الثورة عليهما وعلى المرتدين أرديتهما!
إن العقل العربي عقل قوى بنشأته، صادق بعزته، وهو لا يحتاج إلى من يبث فيه معنى القوة والصرامة لأنه قائم عليهما. ولكن جيلنا الحاضر اعتنق الفكرة العربية مجردة من معنى القوة والصرامة؛ فتشوهت بذلك الرسالة وضاعت معالمها. إن المجتمع العربي يفتقر إلى من يرد عليه هذه الأمانة التي لا يعلم إلا الله سالبها. والمجتمع العربي بعدها غالب عليه الاضطراب والخزي والظلال. فمن يرد عليه أمانته ويعيد إليه صرامته؟
كنت أتلو مواعظ - زرادشت - فأحس أن قوة جديد أخذت تطغى على قلبي، وأشعر باضطراب في نفسي جعلني أومن بأن الحياة لا يعسر عليها أن يخرج منها ألف حياة. ولم لا!؟. كنت أسير معه وهو يهدم خيالات الرياء، ويضرب التقاليد بعضها ببعض، فأطرب(139/65)
لشجاعه، وأعجب بنفسي وأسألها: (هل كان في استطاعتك أن تطئي هذه الأرض لولا هذا النبي؟)، ولكن طربي لم يكن طرباً خالصاً لأنني كنت أبغي لمثل هذا النبي الهدام أن يقيم بيننا ليلة واحدة، تنفذ عينه خلالها إلى قلوبنا الطافحة غشاً وخباً، وقصورنا ومعابدنا المفعمة كذباً ورياءً، فينظف هذه القلوب ويدمر هذه القصور
أين أراك يا زرادشت العرب؟ ومتى يكون الموعد؟ فقد اصطلح على إيذائنا كل شيء حتى أنفسنا. تمشى الحياة بنا ونحن ذاهلون، ويتباهى الغير برجولته الصارمة ونتباهى نحن بالخنث، ويستيقظ الفكر في موطنهم ونحن نضرب حوله السدود ونقيم له حدود، نفر من الألم لأنه يضنينا، ونستجدي الفرح من غيرنا استجداء؛ يتحرك كل شيء حولنا ونحن لا ترضينا الحركة ولا تستهوينا اليقظة. نقول بالإنسانية ونشفق عليها، وقائلوها لا يملكون من (إنسانيتهم) شيئاً. يحسون آلام غيرهم ولا يحسون آلامهم. يشدد غيرنا روح (الذاتية) عندهم، ونحن نسعى إلى محوها، كأننا نريد أن نمثل دور الشرق الأول يوم كان يفيض إنسانيته على غيره. . . وقد قتلنا هذا الحب المفرط للغير، وقد قتلنا هذا الزهد الخامل. تسامى غيرنا فوقنا فهم يريدون أن يعرفوا أنفسهم بعد أن وجدوها، ونحن تائهون لما نعثر على أنفسنا
تعال أيها النبي أينما كنت، فهنا كثيرون ممن يرتقبون أوبتك. واحمل مباضعك وائت بنفسك وقلبك وأيقظ أفكارنا وبث فينا الحياة. أعطنا الحياة وخذ منا فديتها. أتريد منا أن نتألم؟ إننا نتألم ونحتمل الشقاء في سبيل الحياة. شدد شعورنا بالحياة وزدنا إيماناً بها. اهدنا إلى أنفسنا وحببنا فيها فقد علمونا أن نمقتها. تعال استأصل جذور الضعف فينا والذل فقد أكلت أنفسنا الاحشاشات. . . تعال ولا تعطنا شيئاً إلا ما نؤدي ثمنه، فقد أدركنا أن كل ما يُعطى ويوهب رحمة يضر بآخذه. تعال يا إرادة القوة والصرامة، فكثيرون هنا يرتقبون وصولك. . . والطريق ممهد، والغاية دانية القطوف
(انتهى)
(دير الزور)
خليل هنداوي.(139/66)
القصص
مأساة من اسخيلوس
ثار اورست
الدرامة الثانية من (الأورستية)
للأستاذ درينى خشبه
خلاصة الدرامة الأولى
(قدم أجاممنون، ملك آرجوس وقائد الحملة الهيلانية على طروادة، ابنته إفجينا قرباناً للسماء لتسكن العاصفة وليمخر أسطوله عباب الماء؛ فاحزن زوجته كليتمنسترا، وأم الفتاة لا تفكر إلا في ابنتها، وزادتها وحدتها في قصر البلوبيديه وحشة، وجعلت من حياتها قفراً مظلماً حتى اتصلت بابجستوس ابن عم أجاممنون الذي ذبحت اخوته وأطعم أبوهم لحمهم وهو لا يدري، ثم قتل هو أيضاً، وكل ذلك بتدبير أتريوس أبي أجاممنون. . . وهنا تجتمع الأحن وتتضافر الأحقاد، ثم تنقلب العلاقة إلى حب فعشق دنئ. . . فتآمر على قتل أجاممنون حين يعود من طروادة. . . ويعود أجاممنون ظافرا وتكون معه كاسندرا ابنة بريام ملك طروادة التي تتنبأ بمقتل الملك، وبمقتلها أيضاً بيد الملكة زوجها وبتدبير ايجستوس. . . وتخدع الملكة زوجها فيمشي على بساط الديباج الأحمر فتغضب الآلهة، لأن المشي على الديباج حق خالص من حقوقها. . ويقتل الملك وتقتل كاسندرا في أثره. . . ويستوي ايجستوس على عرش آبائه مشتركا مع كليتمنسترا في حكم آرجوس رغم سخط الشعب ولعنات الجماهير. . .)
- 1 -
قتل أجاممنون!
وخلص العرش لأيجستوس ولعشيقته الملكة الفاجرة , كليتمنسترا. ولكنه كان عرشاً شائكاً، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه فيه اللعنة الأبدية، وسخط الأرباب وبغض العباد. . .
وكانت الأم الآثمة قد أبغضت كل ما يثير في قلبها ذكرى أجاممنون. . . وكيف لا تبغضه(139/68)
وها هي ذي حياتها تنقلب فتكون لذاذة خالصة، وهوى مجرماً، وغراماً تخامره شهوة التشفي، وتختلط بغمراته حمى الانتقام! إذن هي تبغضه، وهي تغلو في بغضه لأن عيونها في طروادة حملت إليها ما كان من غرامه الشديد بخريسيز إحدى سبايا الحرب، ثم ولعه الفائق بأختها بريسيز التي خاصم فيها أخيل؛ ولم يبال أن يهجر الميرميدون حلبة إليوم من أجلها. ولم يكن يحسبه هاتين، بل عاد من حومة الحرب فاقتحم القصر العتيق الشاهق بعربته المطهمة، وإلى جانبه خليلة ثالثة من خليلاته الكثيرات، هي هذه النبية المباركة البائسة. . . كاسندرا، ابنة بريام، وحميمة أبوللو في الزمن القديم!
أبغضته كليتمنسترا إذن، وأبغضت كل ما يثير ذكرياته في فؤادها. . . ولو كان أبناؤها الذين حملت بهم من صلبه! وهي تقسو وتقسو، وتغلو في قسوتها، حتى لتأمر بابنها الواحد أورست، وكان حدثاً لا يعرف من الدنيا إلا أن نصفها أبوه. . . ونصفها الآخر أمه. . . فيُنفى إلى أقصى الأرض، وليكون بمعزل عن هذه الحاشية الموبوءة التي قد تثير فيه نخوة الرجولة حين يشتد عوده وينضج قلبه، فلا يكون له هم إلا الأخذ بثأر أبيه، والفتك بقاتليه. . .
- 2 -
أما اخته، أما الِكْترَا، فقد بقيت في القصر لتشهد الفصل الأخير من المأساة. . . أو لتشهد كل الفصول الدامية التي تتركب منها المأساة! لقد بقيت على كره منها لنعيش عيشة الرقيق، وتحيا حياة الخدم، ولترى إلى أمها تتقلب بين ذراعي عاشقها وملء حضنه، ولتنعم على خرائب أسرة الأترديه، ولتبني على أنقاضها القصور والعلالي!
بقيت إلكترا لتبكي دائماً. . . ولتبكي دماً! يا للعذارى!! لقد كانت في ملاعب شبابها تحلم بمُلكٍ وبتاجٍ وبشعب يسجد تحت قدميها، وهي اليوم تتشهى الموت فلا تجد إليه سبيل!! لقد كانت بالأمس تمرح بين قلبين يغمرانها بالحب، وأبوين يلقيانها بالبشاشة، وهي اليوم لا عزاء لها إلا وقفة باكية بقبر أبيها المقتول، ووقفة تتصدع لها جوانب نفسها عند مخدع أمها العاشقة. . . الفاسقة. . . وهل في إحدى الوقفتين عزاء؟!
بقيت الكترا ترقب رسول السماء الذي يأخذ بثار أبيها،، وبقيت لتكون رائد هذا الرسول يوم يجيء. ولم يكن لها من ولي ولا حبيب في هذا القصر الشاهق العتيق إلا هذه العجوز(139/69)
الشمطاء الطيبة، مرضعة أورست، التي بكت أحر البكاء وآلمه وأوجعه يوم أخذوا منها ولدها - كما كانت تدعوه - ليُنفى في أقصى الأرض
لقد كانت هذه العجوز الشمطاء امرأة ثاقبة الفكر، رحبة الصدر، شديدة الإيمان في السماء! فكانت تواسي الكترا وتأسو جراحاتها، وتمنيها الأماني، وتزخرف لها الأمل، وتذكر لها أن عين سيد الأولمب الساهرة لن تغفل عن لؤماء قصر آل (بيلوبيديه) وإنها ترعى فتى القصر في منفاه، حتى إذا آنست فيه استواء أرسلته كالصاعقة على المجرمين؛ فنقض بنيانهم، وزلزل أركانهم، وانتقم لأجاممنون!
وكان قاهر طروادة قد جلب معه غير كاسندرا عدداً وافراً من السبايا الطرواديات، فاستطاعت المرضعة العاقلة، المحنكة، أن تجعل منهن جندا لها، وحاشية مخلصة لفتاتها المعذبة، يخففن من برحائها، ويكن لها أهلاً كلما عزها الأهل
ومضت سنوات عشر فسقطت طروادة
ومضت سنوات عشر بعد مقتل أجاممنون
واشتد ساعد أورست، وعاد ليبطش بالقتلة السفاكين وبدأت المأساة الثانية
- 3 -
لمن هذه الأشباح السادرة التي تهرول بين المقابر مُهطِعة إلى رمس أجاممنون؟
إنها تختلط بغبشة السباح وتمتزج صُعداؤها بأنفاسه، وإنها لتضمر في قلوبها لظى ينعكس في ذاك الشفق الذي يضطرم به الشرق. . . حيث يسبح البنفسج في حمرة الدم!!
آه! أنه شاب غرانق، سمهري، مجلل بالسواد يجثو فوق الثرى. . . يبكي ويصلي!! وإن بالقرب منه لصديقاً ينتظره. . . ويذرف دموعه من أجله. . . فيا للمودة في الرزء، ويا للإخلاص في الشدائد!! اسمع إلى الشاب المحزون: يخاطب تمثال هرمز النصفي المنتصب فوق القبور، ثم يكلم من بالقبور:
- (يا هرمز اللطيف، يا إله الأرواح وحاديها إلى هيدز، أيها الساهر على هذه المقبرة وعلى كل مقبرة. . . العوْن العوْن!)
ويضع خصلتين من الشعر على قبر أبيه، ويقول: (هأنذا أضع خصلة من الشعر هنا تحية لأيناخوس الذي رويت بمائه، وترعرعت على شطئانه. . . وأخرى تحية للموتى. . . يا(139/70)
رحمتا لك يا أبي! هكذا شاءت قسوة المقادير ألا أكون قريباً منك فأذرف عبرتي الطاهرة فوق ثراك، وأروي الصفاح المركوم فوق جثمانك بالغيث الغزير الذي أرسلته من أجلك في دار غربتي!)
- 4 -
ويقلّب وجهه في بنفسج الشرق المموّه بالقرمز، فيلمح نسوة يتعثرن في سبيلهن بين المقابر، ميممات شطر قبر أبيه! فيوجس في نفسه خيفة، ويحسب أن جديداً من نكد الحياة قد ألم بالبقية الباقية من دم أجاممنون في الـ (بيلوبيديه!)
ولكنه سرعان ما يعرف بينهن أخته! أخته بعينها! هي! هي الكتر! وهي تحمل كالأخريات زِقاً صغيراً وتقبل قُدُماً إلى المقبرة. . .
- (لم أقبلن إذن في هذه البكرة المقرورة؟ يا لله! العون يا سيد الأولمب! صديقي بيلاديز! هلم نختبئ لنرى!)
ويختبئ أورست وصديقه بيلاديز، وتقبل النسوة في إثر الكترا الواهية التي حطم قلبها الحزن، وأوهن جسمها الأسى. . . ويأخذن في نشيد باك يتفجر في موسيقاه الدم. . . ويمتزج شجوه بالدموع. . . ويشرن إلى القبور وبينها هذا القبر، ثم يتلفتن فيرين القصور النائية وفوقها هذا القصر!. . . فيرثين لآرجوس ويرثين للفتاة المحزونة الواقفة بينهن. . . ويصلن ترنيمتهن. . . فيذكرن نأيهن الذي شط واستطال عن الأوطان ويذكرن هذه الشباك المحكمة من الجواسيس والعسس المنشرة فوق آرجوس، تلتقط الأبرياء والمظلومين ليروي من دمائهم إيجستوس، ولنجهز من شبابهم النضر ضحايا لفسق الملكة!. . .
وتتكلم الكترا، بعد أن تذرف عبرة أو عبرتين، فتستثير المنشدات فيما أمرتها أمها الآثمة أن تفعل بزقاق الخمر. . . في هذا المكان القفر. . . إلا من الذكريات!
- (إذا صببت قرباني الخمري، فماذا أقول؟ هل أقول (قربانا يا أبي، من زوجتك التي سفكت دمك غير راحمة، نُشْداناً للذة، وحرصاً مجرماً للهوى؟) أم أقول (لتهدئي يا رفات! ولترضيْ بالغدْرة الكبرى التي دبرت لك، فلا تنتفضي تحت أطباق الثرى لترسلي الويل على الظالمين؟)، أم أصبها وألقي الرقاق ثم أنثني كأن ليس بي من ذلك النائم حزن مقيم ووجد دفين!) تكلمن بحق مودتي عليكن، فنحن في الهم شركاء، ولا تحبسن محض النصح(139/71)
عن فتاتكن، ولا تخشين في البلاط الدنس أحداً، فالأقدار قد شاءت أن تبسط كفها القاسية في هذه المأساة على رقاب السادة وأعناق العبيد، حتى يكونوا سواسية. . .)
- حُبّاً يا أميرة وطواعية. . . إن قبر أبيك يفرض علينا النصح لك)
- (إذن. . .!!)
- (إذن فاضرعي أن يسمع الأصدقاء لصلاتك، وتصغي قلوبهم لتوسلاتك!)
(الأصدقاء؟! أي أصدقاء يعنيهم ما أصلي وما أتوسل؟)
- (أنت، وذلك النائي عن هذا الديار!)
- (من تعنين بحق الآلهة عليكن؟)
- (أورست!! أخاك يا أميرة!! صلي من أجله واظرعي للآلهة أن تسعفك به!)
- (آه! للآهة دَرُّكنَّ إذن!)
- (ثم فكري في هذا الدم المسفوك، وفي أصحابه الأشرار الفجرة!)
- (وكيف؟. . . . . . . . .)
- (قد ترسل الآلهة نقمتها. . .)
- (ولمه! وعلى رأس من؟)
- (على رؤوس المجرمين!)
(ويلاه! المجرمين؟! ومن هم المجرمون؟. . . يا سماء!. . . يا سيد الأولمب! رحماك يا إلهي! اللهم أرع أخي يثأر لأبي. . . من. . . ممن يا عذارى إليوم؟! ممن؟ آه يا روح أبي! رفرفي في سماواتك! وانتفضي في هيدز! وتعالي فأرسلي أورست يثأر لك!)
وتترنم المنشدات، وتأخذ السكترا في صب الخمر
- (يا للآهة! ماذا أجد؟ خصلتان من الشعر؟)
- (خصلتان من الشعر؟ من رأس من يا ترى؟)
وتضع الشعر عند رأسها فيبدو الشبه كبيراً، فتنزعج. . .
- (ماذا بك؟ فيم تمنقعين هكذا؟. . .)
- (إنهما من رأسه!. . . من رأسه هو! من رأس أخي؟)
- (ربما يا أميرة! ولكن! كيف جازف بنفسه في هذه البرية الوحشة؟ من أرسله؟)(139/72)
وتنظر السكترا حول المقبرة فترى آثار أقدام. . .
- (وما هذا أيضاً؟. . . آثار أقدام!. . . لا ريب إذن! أنها آثاره يا عذارى! ولكن!!. . . إنها آثار رجلين لا رجل واحد!. . . آه. . . قد يكون صديقاً. . . يا سماء!. . .)
ثم يظهر أورست فجأة، ويقول:
- (إذن! قد سمعت السماء صلاتك!
فتنزعج السكترا، وتدهش المنشدات. . .
- (من!! من الرجل؟. . .
- (أنا؟ أنا هو؟. . . أنا من كنت تهتفين باسمه الآن!)
- (أوه! أتخدعنا يا صاح؟ اذهب! وحسبنا ما نحن فيه!)
- (أخدعك؟ إذن اخدع نفسي!
- (سخرية. . . اذهب، اذهب!)
- (سخرية. ز.؟ بمن؟ بى؟. . . اسخر بنفسى؟)
- (أفأنت هو حقاً؟. . .
- (. . .؟؟. . .)
ويبكي أورست!
- (. . .؟ أورست؟ أخي؟)
- (. . . أفي مرية أنت؟ السكترا؟. . . خذي هذا الشعر؟ أيضاً. . . خذي! هاتى رأسك وانظري!. . . . . . ولكن انظري أيضاً! أليس هذا هو الجلباب نفسه الذي خاطته يداك؟ إنه هو. . . اللحمة والسدى!! والصور المطرّزة!. . . لا. . . لا. . . لا يقتلك فرحك! ليس لنا الآن أن نفرح بهذا اللقاء المفاجئ بين يدي ذلك القبر المنفرد! إن لنا لساعة!. . . اكبحي جماحك، وهيمني على فؤادك! فلنا أعداء. . . وهم أقرب الناس إلينا. . .)
- 5 -
ولم يكذب أورست، فلقد كاد الفرح يقتل السكترا؟ إنها لم تره منذ عشرين سنة؟ ثم. . . أليس هو الآن بين يديها بعد طول انتظار. . . وأحلام. . . وأماني؟. . . أولم تكن هذه اللحظة فقط، تصلي للسماء، وتضرع للآلهة، أن ترسل لها أورست؟ اليست السماء قد(139/73)
صغت، والآلهة قد استجابت؟
لقد كانت أمها رأت في نومها حلماً مزعجاً ممضاً. . . رأت أنها تلد أفعى هائلة، ذات أنياب! وإنها تأخذها فتضمها إلى صدرها. . .! يا للهول! ذات أنياب! وإنها تأخذها فتضمها إلى صدرها. . .! يا للهول! إن الملكة تنتفض من نومها مذهولةً مروعة!. . . وإنها لتذكر أجاممنون فجأة. . . تذكره بعد عشرين سنة! وتذكر أورست المنفي بأمرها في أقصى الأرض! وإنها لتهب من السرير الديباجي الوثير. . . وتنثر ذراعي إيجستوس الجبارتين الملفوفتين حول خصرها!. . . وإنها لتنطلق في القصر مذعورة في أبهائه. . . إلى. . . بهو العبيد والخدم. . . بهو العذارى الطرواديات، حيث تنام إلكترا على فراش من الشوك، تفكر في عشرين سنة مملوءة بالدم. . . مملوءة بالدم. . . مملوءة بالدم. . .
وإن الملكة لتوقظها من أحلامها، وتأمرها، وسائر الطرواديات، فينطلقن إلى المقابر بزقاق الخمر، يسقين الثرى، ويقربن إلى أجاممنون. . . ويرضين روحه الغضبى!!
ولكن، ولكن الصلاة تنقلب، والقربان يصعد إلى السماء فيغضب الآلهة، فترسل أورست، ويتحقق الحلم الأسود. . . . الأفعى! الأفعى ذات الأنياب، يتدفق منها السم الزعاف!!
ويصليان لزيوس صلاة حارة، ويضرعان إليه أن يكون معهما فيما قادمان عليه من ذلك الهول الأكبر. . . فإذا ارتفع صوتهما، وعلا جُؤارُهما، تقدمت رئيسة المنشدات فابتهلت إليهما أن يتكلما همساً - (فقد تسمعكما أُذن شر فيفشل سعيكما وتذهب ريحكما، ولا تقوم لكما قائمة من بعد!) فيطمئنها أورست - (ليفرخ روعك أيتها السيدة الصالحة! فلقد أرسلني أبولو لآخذ بثأر أبي، فإن لم أفعل، فليجمد دمي حتى يكون كالثلج في عروقي! لا بد أن يشربا بالكأس التي أفرغاها في فم هذا الثاوي هنا. . . يتطلع إلى ما يفعل له أبناءه، وآخر أثاره منه في هذه الحياة!)
ويتقدم الفتى والفتاة فيصليان على قبر أبيهما صلاة حارة، ثم يعطيانه موثقاً صادقاً أن يثأرا له، ولو كلفهما الأثآر له هذه الصبابات من الدم التي أبقى عليها الأسى في عروقهما
ويلتمسان منه العون، ويضرعان إلى السماء أن تكون معهما، والى الآلهة أن تسدد خطاهما
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(139/74)
البريد الأدبي
وفاة الأستاذ جميل صدقي الزهاوي
كانت أعراض الشيخوخة وأزمات الداء قد أخذت منذ حين تصارع في غير هوادة حيوية القلب الفتي والعصب الشاعر في هيكل الزهاوي، وكان الزهاوي يأبى أن يهادن الزمن الغلاب، فهو حركة فكرية دائبة وجملة عصبية ثائرة، لا يفتر ليله عن الفكر، ولا يكل نهاره من الحديث؛ وحديثه المتصل في قصر الإلهام، وفي دار الدفتري، وفي مقهى (أمين) إذابة لجسمه وإحراق لعصبه، لأنه لا ينفك منفعلاً بشعوره متأثراً بطبعه. وحياة الزهاوي كلها تفكير في قصيدة، أو قراءة في كتاب، أو محاضرة في حديث
ذهب الزهاوي يوم الأحد الماضي متأخراً على غير عادته إلى قهوته المختارة في منعطف شارع خالد بن الوليد ببغداد، وكان أصدقاؤه وتلاميذه وسماره قد تحلقوا حول مقعده الخالي ينتظرون كاهن أبوللو وشاعر الفكر الحديث؛ دخل متوكئاً على ذراع خادمه محمود، وهو يبسم لجلاسه بسمة السراج الفاني والأمل الشاحب؛ ثم شكا بعد شوط من الحديث الممتع ألماً في أعلى كتفه الأيمن عزاه إلى كثرة ما كتب ليلة الأمس، إذ قضى ليله ينظم قصيدة أخرى يحيي بها مصر على لسان الوفد النيابي الذي سيزورها عما قريب؛ ثم اجتزأ بأكل قليل من الكمأة ولم يعد إلى الغداء في البيت، واقترح على صديقه الأستاذ بحري صاحب العقاب أن يذهبا إلى السينما فيشاهد فلماً مصرياً ورد بغداد منذ قريب، ولكن الألم اشتد بَرْحه والقلب زاد وجيبه؛ فأقبل على صديقه وقال بلهجته الخاصة: (يا أفندم! إن هذا الألم يكاد يقضي عليّ، وهذه النوبات العصبية تنهك قواي. . يا أرحم الراحمين أنقذني من هذه الآلام!) ثم رغب أن يعود إلى داره؛ ولم يكد يدخلها حتى أحس بالداء يتسع وبالنفَس يضيق، فدعوا إليه الطبيب حوالي الساعة الرابعة بعد ظهر الأحد ولكنه كان قد فارق الحياة!
ريعت بغداد بالنعي المفاجئ والخبر الأليم، ولملكها الجزع على لسانها الذي أخرسه الردى، وقلبها الذي أسكته القدر، وتقاطر الناس على دار الشاعر الهامد يتقدمهم الوزراء والعلماء والنواب والأعيان والقادة؛ وفي الوقت المحدد للجنازة من ظهر يوم الاثنين خرج النعش محمولا على أكتاف عشرين طالباً من طلاب الفتوة فوضعوه في السيارة، وجلس من خلفها(139/76)
الشاعران الكبيران رضا الشبيبي ومعروف الرصافي، ومن أمامها اثنان من أقارب الفقيد. فسارت تحيط بها السريتان الأولى والثانية من الفوج الأول، تتقدمها فوق الجوالة وفرق الفتوة للمدارس الثانوية والعالية ودور المعلمين ومع كل فرقة إكليلها، ويمشي وراءها الوزراء الحاليون والسابقون والمديرون العامون وكبار الضباط ووجوه البلاد وجماهير الشعب حتى بلغت الأعظمية فصلوا عليها في مسجد الإمام أبي حنيفة؛ ثم حملتها فرقة من فرق الفتوة إلى مرقدها الأخير في باحة (دار العلوم العربية) على مقربة من ضريح الإمام الأعظم. تغمد الله شاعر العروبة بالرحمة وعزى فيه الأمة العربية خير العزاء
ذلك خبر تلقيناه بالطيارة آخر الوقت فسجلناه عن الرجل الذي مات، أما الزهاوي الصديق الشاعر الفيلسوف، فسنعود إليه ثم نعود
ندوة الزهاوي
روت (البلاد) أن رجال الأدب في بغداد أبدوا رغبتهم الملحة في أن تجعل الحكومة دار الأستاذ الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي (ندوة للأدباء) في بغداد، واقترح أحدهم بأن تقوم الحكومة بشراء هذه الدار وترتيبها وتنسيق أثاثها بما فيها كتب الأستاذ ومخطوطاته ودواوينه على غرار دار (شكسبير) في إنكلترا، ودار (جوته) في ألمانيا، و (فكتور هوجو) في فرنسا؛ وليس ذلك كثيراً على وفاء العراق، ولا غريباً من حكومة الهاشمي
تأبين الزهاوي
كذلك روت الجريدة أن جمهرة من كبار رجالات العاصمة وأدبائها اعتزموا إقامة حفلة تأبينية كبرى لفقيد العربية، وشيخ القريض الزهاوي في يوم أربعينه، وستكون الحفلة تحت إشراف الدولة، وسيدعى لها كبار الأدباء والشعراء في الشرق العربي
أسبوع المتنبي في الجامعة المصرية
حالت الحوائل السياسية المعروفة دون إقامة هذا الأسبوع في الموعد الذي حدد له من قبل، وقد استقر اليوم قرار كلية الآداب على أن يقوم في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية في الساعة السادسة من مساء الأيام الآتية على النحو الآتي:
الثلاثاء 10 مارس: خطبة الافتتاح لساحب السعادة الأستاذ مدير الجامعة، و (المتنبي شاباً)(139/77)
للدكتور طه حسين
الأربعاء 11 مارس: (سيف الدولة الحمداني) للأستاذ عبد الحميد العبادي، ثم (المتنبي وسيف الدولة) للأستاذ أحمد أمين
الخميس 12 مارس: (كافور الأخشيدي) للدكتور حسن إبراهيم حسن، ثم (المتنبي في مصر) للأستاذ أحمد الشايب
السبت 14 مارس: (المتنبي من خروجه من مصر إلى وفاته) الأستاذ مصطفى السقا، ثم (أسلوب المتنبي) للأستاذ عبد الوهاب حموده
الاثنين 16 مارس: (المتنبي والنحاة) الأستاذ إبراهيم مصطفى، ثم (فلسفة المتنبي) للأستاذ مصطفى عبد الرزاق
الثلاثاء 17 مارس: (مكانة المتنبي في الأدب العربي) للدكتور طه حسين
1 - قبر أبي عبيدة عامر بن الجراح. 2 - الرقيم
قرأت في الصفحة 376 من المجلد الأول من دائرة المعارف الإسلامية التي يقوم بترجمتها لفيف من شباب مصر الناهض، أن أبا عبيدة عامر بن الجراح توفي بالطاعون عام 18هـ في أمواس وأن قبره بجامع الجراح في دمشق
والراجح أن أبا عبيدة توفي شرق الأردن بالطاعون الذي ينسب إلى عمواس (لا أمواس كما ترجمت خطأ) وعمواس هذه قرية تقع بين القدس ويافا. ولعل وباء الطاعون تفشى فيها أولاً ثم انتشر في جميع البلاد السورية فمات به خلق كثير منهم أمين الأمة ومعاذ بن جبل وضرار بن الأزور وشرحبيل بن حسنه ويزيد بن أبي سفيان. ودفنوا جميعاً في غور الأردن، ولا تزال قبورهم ماثلة للعيان عدا قبر يزيد الذي اندثرت معالمه ولم يبق له أثر
وقد رمم ضريح أبي عبيدة في عهد السلطان بيبرس كما جاء في الكتابة المنقوشة عليه، وهذه صورتها عنها:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(وأمر بإنشاء هذه القبة المباركة على ضريح أبي عبيدة الجراح رضي الله عنه مولانا السلطان الأعظم سيد ملوك العرب والعجم ركن الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أبو الفتح بيبرس ابن عبد الله قيم أمير المؤمنين خلد الله ملكه ابتغاء مرضاة الله ورسوله مما(139/78)
وقفه عليه وحبسه من نصف مناصفات دير معل تونين من حمص من عمل حصن الأكراد المحروس تحبيساً مؤبداً دائماً أثاب الله واقفه بجوده وكرمه يوم يجزي الله المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. وذلك بنظر الأمير الأعز الأجل الكبير نسله ناصر الدين الجامنكلي الظاهري السعدي نائب مملكة عجلون المحروسة في ذي الحجة سنة ستمائة وسبعة وخمسون)
وجاء في الصفحة 243 من المجلد الثاني من دائرة المعارف الإسلامية أيضاً أن الرقيم (قد تكون جهة في شرق الأردن قريبة من عمان)
أقول قد تكون الرقيم هذه قرية الرجيب التي تقع إلى الشرق من عمان على مسافة تسعة كيلومترات منها، لأن البدو كثيراً ما يقلبون القاف جيما والميم باء
ويوجد في هذه القرية مناور عديدة نمت بجوارها أشجار برية قديمة العهد. والسبب في قدمها هو احترام البدو لها وتحريمهم قطعها لاعتقادهم أنها كانت تظلل الكهف الذي نام فيه الفتية المذكورون في القرآن ولبثوا فيه ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا
ويقدس البدو والفلاحون هذه الكهوف كتقديسهم لأي مزار أو مقام
والرقيم من المنازل التي كان يرتادها الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك للهو والصيد، وفيه يقول الشاعر:
أمير المؤمنين إليك نهوى ... على البخت الصلادم والعجوم
فكم غادرت دونك من جهيض ... ومن نعل مطرحة جذيم
يزرن على تنائيه يزيداً ... بأكناف الموقر والرقيم
تهنئه الوفود إذا أتوه ... بنصر الله والملك العظيم
والموقر المذكور بجانب الرقيم هو قصر أو حصن أموي - ولعله من بناء يزيد - يقع على مقربة من الرقيم (أو الرجيب)
وقد ورد في أحسن التقاسيم للمقدسي أن الرقيم (قرية على فرسخ من عمان على تخوم البادية فيها مغارة، لها بابان صغير وكبير، ويزعمون أن من دخل الكبير لم يمكنه الدخول من الصغير. وفي المغارة ثلاثة قبور تسلسل لنا من أخبارها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما نفر ثلاثة يتماشون إذ أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت إلى فم(139/79)
غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم)
وهذا القول ينطبق تمام الانطباق على ما نشاهده اليوم في قرية الرجيب، وما نسمعه من القصص والأساطير التي تروى عن كهوفها ومغاورها.
عمان
بهاء الدين طوقان
مديرية أسوان
قال الأديب رشوان أحمد في مقاله في العدد الماضي من الرسالة: (إن الملك منوسوفيس (وهو الملك الثاني عشر من ملوك الأسرة السادسة) أرسل القائد هرخف إلى بلاد بنت) ظناً منه أو خطأ في مصدر النقل أن هذه البلاد جنوب صعيد مصر لقوله (وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أرسل اسرتسن الأول ثاني ملوك هذه الأسرة القائد هرنو بطريق قفط والقصير لجباية الجزية. . .)
أما هجرة المصريين في عهد قلاقل الأسرة الخامسة عشرة فقد كانت إلى نبتة أو نباطي وهي عاصمة بلاد النوبة لا أثيوبيا، ولم تكن مملكة أثيوبيا مجاورة للملكة المصرية إلا بعد غزوة ملوك مصر للنوبة والكوش، وقد غزا بعنخي ملك النوبة مصر أيام حكومة الآشوريين، وهذه الغزوة هي التي يخطئ فيها بعض المؤرخين فيسمونها غزوة الزنوج لمصر
وقد ذكر أن (رمسيس غزا بلاد أثيوبيا وأقام هيكلاً عند كلايشة) ولكن المعروف أن رمسيس الثاني غزا النوبة وسطر حروبه وانتصاراته على معبد أبي سمبل، وأما كلايشة وهيكلها المسمى بيت الوالي (لا بيت الولي) فيقال أن الهيكل من عمل اسرتسن الثاني.
ولم تكن كلايشة وأبو سمبل تابعيتين لأثيوبيا ولا لكوش في وقت ما، وما زالتا من القرى النوبية، وهما اليوم من أعمال مركز الدر، فكلايشة في أقصى الشمال وأبو سمبل في أقصى الجنوب
والكاتب جغرافي ولكنه لم يلتفت إلى تقسيم وادي النيل في كلامه التاريخي، فالمعروف جغرافياً أن مصر جنوبها النوبة، وجنوب النوبة السودان، وفي الجنوب الشرقي من(139/80)
السودان أثيوبيا أو الحبشة كما تسمى الآن
ولم يذكر غزوة علي بابا ملك النوبة أيام عنبسة آخر ولاة العباسيين لمصر واستيلائه على صعيد مصر، وأما الفنج فقد كان عاصمة ملكهم في سنار (لا في سناد) وقد تكونت مملكة الفنج في حوض النيل الأزرق واستولت على جزء من أثيوبيا، والجزء الجنوبي من النوبة
أما الحكومة الكشاف التي بدأت في بلاد النوبة تعد فتح السلطان سليم، فقد كان الحكام من الأتراك؛ وأول من تولى حكم النوبة وخاصة الإقليم الممتد من الشلال الأول حتى آخر مديرية دنقلة كان ألبانياً يدعى حسن قوسه وهو رأس أسرة الكشاف الحالية بمركز الدر، ولم يتعرض محمد علي باشا لأحفاده في حكمهم عند غزوته للسودان، لأن الحاكم قدم له فروض التابعية وساعده على نقل الجيوش إلى السودان، وقد رضى بتقديم الضرائب لوالي مصر على أن يعفي أبناء الإقليم من الجندية، وكان ذلك حتى اليوم، ولكن نفوذ الحكام أخذ يتلاشى إلى أن قضى على سلطة الكاشف الروحية في أواخر أيام توفيق باشا. أما معاهدة 1899 فتنص على أن حدود نصر هي (فرس) جنوب حلفا بقليل، وما فرس إلا جزيرة في عرض النهر، ولكن الإنجليز وضعوا حدهم أمام فرس على ضفتي النيل الشرقية والغربية مع أن هذا الحد ليس بفاصل طبيعي
يوسف سميع(139/81)
العدد 140 - بتاريخ: 09 - 03 - 1936(/)
المعنى السياسي في العيد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ما أشد حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهماً جديداً نتلقاها به ونأخذها من ناحيته فتجيء أياماً سعيدة عاملةً تنبه فينا أوصافها القوية وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحةً عاطلةً ممسوحةً من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق
فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم؛ وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة؛ وكانت عيادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها
كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه؛ وكان يوم استروح القوة من جدها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذله؛ وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!
ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير؛ وليس العيد للأمة إلا يوماً تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب. . . . كأنما العيد هو استراحة الأسلحة يوماً في شعبها الحربي
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنةً للجميع، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها
وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزةً من نشاط الحياة؛ ولا ذاتية للأمم الضعيفة؛ ولا نشاط للأمم المستعبدة. فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: أخرجي يوم أفراحك، أخرجي يوماً كأيام النصر!
وليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من(140/1)
الأجانب، لابسةً من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها، مبتهجة بفرحين في دورها وأسواقها. فكأن العيد يوم يفرح فيه الشعب كله بخصائصه
وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فرغت عندهم من معانيها، ويبصرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المنابذ لمنابذه. فالعيد يوم تسلط العنصر الحيّ على نفسية الشعب
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت؛ فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لُتخرِّجَ عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيداً مالياً اقتصادياً تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجلي زينته؛ وبالجملة تنشئ لنفسها أياماً تعمل عمل القواد العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر
هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فُرض العيدُ ميراثاً دهرياً في الإسلام ليستخرج أهل كل زمن من معاني زمنهم فيضيفوا إلى المثال أمثلة مما يبدعه نشاط الأمة، ويحققه خيالها وتقتضيه مصالحها
وما أحسب الجمعة قد فرضت على المسلمين عيداً أسبوعياً يشترط فيه الخطيب والمنبر والمسجد الجامع، إلا تهيئةً لذلك المعنى وإعداداً له. ففي كل سبعة أيام مسلمة يومٌ يجيء فيشعر الناس معنى القائد الحربي للشعب كله
ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب. . . .
مصطفى صادق الرافعي(140/2)
رسوم الفطر والأضحى في عهد الدولة الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدولة الفاطمية في مصر دولة البهاء والبذخ والترف في الحياة العامة وفي الحياة الخاصة؛ وكانت مواكب الخلافة الفاطمية ورسومها الفخمة دائماً مثار الروعة والإجلال، وكانت أعيادها ومواسمها الباهرة مثار البهجة والفرح العام؛ ومازالت آثار من تلك الرسوم والمواسم الشهيرة تمثل في كثير من أعيادنا ورسومنا وتقاليدنا الدينية؛ فإذا رأيت بعض هذه الأعياد والمواسم يجنح إلى نوع من الفخامة، وإذا رأيت بعض هذه الرسوم يتشح بأثواب من الرونق والبهاء، فإنما ذلك يرجع في الأغلب إلى أثر الدولة الفاطمية في بث هذه الروح الباذخة البهجة إلى كثير من نواحي الحياة العامة والخاصة في مصر الإسلامية
وربما كان من الشائق الممتع، وقد قضى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عيد الأضحى المبارك، أن نقف على طرف من الرسوم والتقاليد التي كانت تجري عليها الخلافة الفاطمية في الاحتفاء بهذا العيد الإسلامي الجامع؛ وقد كان للخلافة الفاطمية أعيادها ومواسمها الدينية الخاصة، إلى جانب العيدين الإسلاميين الرئيسيين، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى؛ وكانت تحتفي بهما في حفلات ومظاهر رسمية رائعة؛ وكان موكب العيد من أعظم مواكب الخلافة الفاطمية؛ ففي ليلة عيد الفطر كان يعقد في الليل بالإيوان الكبير الذي يواجه مجلس الخليفة سماط ضخم يبلغ طوله نحو ثلثمائة ذراع في عرض سبعة أذرع، وتنثر عليه أنواع الفطائر والحلوى الشهية مما أعد في دار الفطرة الخلافية؛ فإذا انتهى الخليفة من أداء صلاة الفجر عاد إلى مجلسه، وفتحت أبواب القصر والإيوان على مصاريعها، وهرع الناس من جميع الطبقات إلى السماط الخلافي وتخاطفوا ما عليه بحضور الخليفة ووزرائه؛ وحينما تبزغ الشمس يركب الخليفة في موكبه إلى الصلاة ويخرج من باب العيد إلى المصلى؛ وقد انتهت إلينا عن هذه المواكب الفاطمية من أقوال المؤرخين المعاصرين صور تبهرنا بروعتها وجمالها؛ ونحن نحيل القارئ على تلك الفصول الشائقة البديعة التي ينقلها إلينا المقريزي عن هذه المواكب الخلافية الرائعة ونكتفي بأن ننقل إليه هذه الصورة الموجزة من أقوال المسبحي مؤرخ العصر الأول من الدولة الفاطمية، قال: (وفي يوم العيد ركب العزيز بالله لصلاة العيد وبين يديه الجنائب(140/3)
والقباب الديباج بالحلي، والعسكر في زيه من الأتراك والديلم والعزيزية والأخشيدية والكافورية، وأهل العراق بالديباج المثقل والسيوف والمناطق الذهب. وعلى الجنائب السروج الذهب بالجوهر، والسروج بالعنبر، وبين يديه الفيلة عليها الرجلة بالسلاح والزرافة، وخرج بالمظلة الثقيلة بالجوهر وبيده قضيب جده عليه السلام فصلى على رسمه وانصرف)
فإذا عاد الخليفة من الصلاة كان ثمة سماط آخر أبهى وأروع وهو السماط الثاني لعيد الفطر؛ فيجلس الخليفة في مجلسه وأمامه مائدة من فضة يقال لها المدورة وعليها أواني الذهب والفضة غاصة بأفخم الأطعمة وأشهاها؛ وقبالة المائدة الخلافية سماط ضخم يتسع لنحو خمسمائة مدعو، وقد نثرت عليه الأزهار والرياحين وصفت على حافتيه الأطباق الحافلة بصنوف الشواء والطيور والحلوى البديعة، وجلس إليه رجال الدولة والعظماء والأكابر من كل ضرب وأكل من شاء دون إلزام حتى لا يرغم على الإفطار من لا يرى الإفطار في ذلك اليوم؛ وعند الظهر ينفض المجلس وينصرف الناس
وأما عيد الأضحى أو عيد النحر كما كانت تؤثر تسميته في ظل الدولة الفاطمية تنويها بأبرز مظاهره ألا وهي نحر الأضحية، فقد كان يحتفى به بركوب الخليفة إلى الصلاة على النحو المتبع في صلاة عيد الفطر ثم يخص بسماط حافل يقام في أول يوم منه. بيد أنه يمتاز بركوب الخليفة فيه ثلاث مرات متوالية في أيامه الثلاثة الأولى، ويمتاز بالأخص باشتراك الخليفة نفسه في إجراءات النحر؛ وكان قيام الخليفة بهذا العمل من أروع المظاهر والمراسيم التي جرت عليها الخلافة الفاطمية في الأعياد العامة. فلنتصور أمير المؤمنين متشحاً بثوب أحمر قان يسير في موكبه ماشياً إلى دار النحر الخلافية - وقد كانت تقوم في ركن خارجي من القصر - وبين يديه الوزير وأكابر الدولة والأساتذة المحنكون (وهم المشرفون على شؤون الخاص) ويكون قد اقتيد إلى النحر واحد وثلاثون فصيلا وناقة أمام مصطبة يعلوها الخليفة وحاشيته، وقد فرشت حافتها بأغطية وبطائن حمر يتقى بها الدم، وحمل الجزارون كل بيده إناء مبسوطا يتلقى به دم الضحية؛ ثم تقدم رؤوس الأضاحي إلى الخليفة واحدة فواحدة، فيدنو منها وبيده حربة يمسك بها من الرأس، ويمسك القاضي بأسل سنانها ويجعله في عنق الدابة فيطعن بها الخليفة، وتجر من بين يديه حتى يأتي عليها(140/4)
جميعاً، وكلما نحر الخليفة رأساً جهر المؤذنون بالتكبير؛ وتقدد الضحية الأولى، وتفرق قطعاً صغيرة في الأولياء والمعتقدين؛ وفي اليوم التالي ينظم نفس الموكب إلى المنحر، وينحر الخليفة سبعة وعشرين رأساً؛ وفي اليوم الثالث ينحر ثلاثة وعشرين؛ ويجري توزيع لحم الأضحية خلال هذه الأيام الثلاثة على أرباب الرسوم في أطباق خاصة للتبرك، ويقوم بالتوزيع قاضي القضاة وداعي الدعاة، ويخص نقباء الدعوة وطلبة دار الحكمة (دار العلم) بقسط من اللحوم الموزعة؛ فإذا انقضت مراسيم النحر خلع الخليفة عند العودة إلى القصر على الوزير ثيابه الحمر ومنديلا ملوكياً بغير سمة، والعقد المنظوم، فيركب الوزير وعليه الخلع المذكورة في موكب حافل من القصر شاقا القاهرة حتى باب زويلة، ثم يدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك تنتهي حفلات النحر
وكان الخليفة العزيز بالله أول من سن سنة إعطاء الضحايا وتفريق لحومها في أولياء الدولة على قدر مراتبهم، وكان ما يخرج منها غير ما يذبحه الخليفة بنفسه يبلغ بضعة آلاف من مختلف الأصناف هذا عدا ما يفرق في أرباب الدولة من الخلع والأموال؛ وقد انتهت إلينا من روايات المؤرخين المعاصرين تفاصيل دقيقة عن مقادير النفقة في تلك المواسم، ومنها أن نفقة سماطي الفطر والأضحى كانت تبلغ زهاء أربعة آلاف دينار؛ ويذبح من البقر والجاموس والنوق في أيام النحر نحو ألفين وخمسمائة، ومن الغنم ألفين وأربعمائة؛ وقد أشرنا إلى ما كان يوزع في عيد الفطر في أرباب الدولة من صنوف الفطائر والحلوى، وكيف كان يسمح للكافة باقتحام إيوان القصر لنهب السماط الخلافي أمام عيني الخليفة ذاته؛ وعلى الجملة فقد كانت الخلافة الفاطمية تبدي في المواسم العامة من ضروب البذخ والبهاء والبهجة، ما يسبغ على هذه المواسم أثوابا ساطعة من الرونق والجمال والسحر
وقد كان هذا البذخ الذي تنثره الخلافة الفاطمية حولها ينفث في الشعب ذاته حب الظهور والمرح، فكانت القاهرة تلبس في تلك المواسم حلة أنيقة باهرة وتحفل شوارعها ومحالها ودورها بأنواع الزينة القشيبة؛ وكانت في الليل تبدو كأنها شعلة ساطعة من الأنوار؛ وكان القصف والمرح يخرجان أحيانا في تلك المواسم عن حد الاعتدال حتى أن ولاة الأمر لجئوا غير مرة إلى إلغاء بعض الرسوم وتقييد بعض الحريات؛ وفي عهد الحاكم بأمر الله ألغي(140/5)
الاحتفال ببعض المواسم التي كان القصف يخرج فيها عن حدود الاعتدال مثل عيد الشهيد، وحرم شرب الخمور والركوب في الخليج، وخروج النساء، واشتد الحاكم في ذلك حتى كانت القاهرة تغدو أحياناً في أثواب قاتمة من السكون والإقفار والروع. بيد أنه فيما خلا هذه الفترات القليلة، كانت الخلافة الفاطمية دائما عند تقاليدها الباهرة تنثر حولها حلل البذخ والبهاء والترف في كل المواسم والمناسبات
هذه لمحة سريعة فيما كانت ترتبه الخلافة الفاطمية من الحفلات والرسوم الباذخة لاستقبال العيدين الإسلاميين الرئيسيين؛ ولم تكن الخلافة الفاطمية أقل بذخا وبهاء في الاحتفاء بباقي المواسم والأعياد الأخرى كيوم عاشوراء، ويوم الغدير، ويوم النيروز، وعيد الشهيد وغيرها، فقد كانت تسبغ عليها جميعاً أقصى مظاهر الروعة والفخامة، وكانت هذه المواسم والأعياد لدى الشعب المصري أياماً مشهودة تفيض بهجة وحبوراً؛ وكانت الخلافة الفاطمية ترمي بترتيب هذه الرسوم الباذخة إلى غايتين: الأولى أن تبث هيبتها الدينية بما تسبغه من الخطورة والخشوع على بعض المظاهر والرسوم، والثانية أن تغمر الشعب المصري بسيل من الحفلات والمآدب والمواكب الباهرة، وأن تأسره بمظاهر جودها الوافر، وأن تنثر عليه ما استطاعت من آيات البهجة والمرح، كل ذلك لكي تكسب ولاءه وعرفانه وتأييده؛ وقد كانت الخلافة الفاطمية تشعر دائما أنها لم تكسب كل ولائه وتقديره، وان سياستها المذهبية تبث إلى نفسه شيئا من الوحشة والريب؛ بيد أنه يجب أن نقول من جهة أخرى إن الدولة الفاطمية كانت بحق دولة البهاء والبذخ الواسع، وكانت هذه الرسوم والمظاهر الرائعة من بعض مظاهر قوتها وعظمتها وغناها؛ وكانت هذه الروح الفخمة الباذخة تطبع كل رسومها ومظاهرها، في القصر وفي الخارج، وفي السياسة والدين والإدارة، وفي الحياة العامة والحياة الخاصة؛ وقد سرت آثار كثيرة من هذه المظاهر والرسوم الفخمة الشائقة إلى كثير من القصور والدول الإسلامية التي تعاقبت على مصر بعد الدولة الفاطمية؛ وقد نلمس إلى اليوم في بعض الرسوم والنظم الدينية، وفي بعض مظاهر أعيادنا ومواسمنا لمحات من آثار البذخ الفاطمي
محمد عبد الله عنان(140/6)
التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
قرأت في العهد الأخير تقريرين عن التعليم في مصر كتبهما عالمان استقدمتهما وزارة المعارف لينظر كل منهما في ناحية خاصة من نواحي التعليم ودرجاته، وأفضى كل منهما بآراء ناضجة فيما كلف به من بحث. فكتب مستر مان مفتش المدارس وكليات المعلمين بإدارة المعارف بإنجلترا تقريراً مدعماً بالإحصاءات فائضاً بالأفكار والنظريات، وكتب مسيو كلاباريد أستاذ علم النفس في كلية العلوم بجامعة جنيف تقريراً آخر عمد فيه إلى نظريات حديثة في علم النفس والتربية لا نعلم مقدار ما فيها من خطأ أو صواب، لأن الحكم على مثل هذه الأشياء يجب أن يرجع فيه إلى أهل الاختصاص، وإن كانت النظرة العاجلة التي ألقيتها على هذا التقرير قد أقنعتني، وقد أكون مخطئاً، بأن نظريات كلاباريد ربما تكون قد أسلمت به نتائج لا يؤيدها الواقع ولا تسندها الحقائق التي يعرفها كثير من المصريين معرفة أولية لا تحتاج إلى نظر علمي ولا إلى استنتاج من مقدمات
هذا إلى أن العالمين الأوربيين إن كانا قد بحثا في التعليم المصري كل من ناحية اختصاصه، فإن بحثهما إنما جاء قاصراً على الدائرة التي عينتها له وزارة المعارف وفي ضوء المعلومات التي زود بها، وفي الحدود التي رسمت للتعليم في مصر منذ خمسين سنة مضت. فإن كانا قد أحسا بشيء من النقص، أو وقع لهما شيء يستحق النقد، فإنما وقع لهما في ما هو داخل في هذه الحدود أو مشمول بها. فلم ينظرا مثلا فيما يجب أن يؤدي التعليم في مصر من حاجات الحياة العامة فيها، وفي علاقة التعليم بالحالات الجديدة التي تكتنف الحياة المصرية في تطورها الحديث. على أن هذا لا ينزل من مكانة ما كتب العالمان الفاضلان أو يقلل من قيمة آرائهما. فإن المصريين أنفسهم أحق بأن يتلمسوا مكان النقص الذي يحسونه في التعليم من ناحية علاقته بالحياة عامة، وبالحالة الاجتماعية خاصة
ومهما يكن من أمر الباحث الأوربي في الشؤون المصرية، ومهما يكن من علمه وتمكنه فيه، فأنه من المتعذر عليه كما قال مستر مان في تقريره أن يلم به إلمام المحيط بالحقائق الأساسية التي يحس بها المصريون أنفسهم من غير استعانة بآراء أو نظريات. ذلك بأن لكل أمة إحساساً بما يعتورها من نقص لن يفقه الغريب عنها شيئاً من خصائصه إلا بالجهد(140/7)
الشديد وطول التأمل والتفكير. مثل ذلك أن التقريرين اللذين وضعهما العالمان الأوربيان لم يلمسا الحقائق الأولية في حياتنا الاجتماعية وعلاقتها بالتعليم؛ ذلك في حين أن كل مصري يشعر شعوراً عميقاً بأن عصراً من عصور التطور الفكري قد آذن بأن تشرق شمسه في سماء مصر، وأن عصراً آخر قد أخذ في الأفول. أضف إلى ذلك أننا نشعر بأن حالاتنا الاجتماعية قد اتجهت في تطورها متجهاً ألقى على التعليم في مصر عبئاً جديداً لم يشعر به آباؤنا، وقد نشعر بعض الأحيان بشيء من القلق، وقد نشعر بأن هذا القلق قد يتضاعف بعض الأحيان حتى ليذهب بالبعض إلى حد اليأس من مستقبل آلاف الطلبة الذين يتعلمون اليوم في المدارس وتخرجهم الكليات زرافات كل عام. بل إننا أخذنا نشعر بكل ما شعر به الأستاذ هنري جيمس عندما قال: إن الاحتفاظ بحالة اجتماعية ثابتة الدعائم قوية الأركان في جمعية يكتب على المتعلمين فيها عيش الفقر والذلة، لأمر فيه من البعد عن حقائق الطبع البشري بقدر ما في محاولتك بناء هرم يرتكز على رأسه لا على قاعدته من بعد عن حقائق الطبيعة الكونية
ولقد يماري مفكر في أن ذلك الشعور العميق الذي يكتنف تفكير الكثيرين من المصريين إنما له أسبابه الغامضة البعيدة عن إدراك الذين لا يفكرون في التعليم إلا بقدر ما يفكرون في أداة تخرج متعلمين، ولا يزيد خطره في نظرهم عن خطر آلة تخرج أحذية أو لفافات تبغ في نظر عامل يجهل حقيقة الآلة التي يديرها، ولا يعرف عنها إلا أمرين: شكلها الظاهر، وثمرها الذي يجنيه منها
على أن الثمر الذي أخذنا نجنيه من أداة التعليم عندنا قد جدت عليه ظاهرتان جديدتان: الأولى أن طعمه قد أخذ يتغير، والثاني أن صنفه أخذ ينحط مع كثرة الإنتاج. ولا شك في أنهما ظاهرتان يعلل بهما كثير من الظواهر الاجتماعية التي تمر علينا في كل يوم صور منها، وأخصها كثرة العاطلين من المتعلمين، والجهد الذي يلقاه المجدون منهم في تحصيل رزقهم الحلال
ولا ريب في أن هذه الظاهرات ترجع إلى أسباب أخذت تتجمع منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، حتى أفضى بنا التطور إلى الحالة التي تكتنفنا اليوم. ولما كان الغرض الذي أرمي إليه من نشر هذه المقالات إنما يتجه إلى وصف العلاقة التي تقوم اليوم بين التعليم(140/8)
والحالة الاجتماعية والمهمة الكبرى الملقاة على عاتق التعليم في تنظيم الحالة الاجتماعية ودرء الأخطار التي قد يتعرض لها المجتمع المصري بقدر ما في مستطاع التعليم أن يدرأ منها، وجب أن أظهر أولا أن أشد الأخطار التي يتعرض لها الكيان الاجتماعي في مصر من ناحية التعليم أن الشاب المتعلم في مدارسنا العليا يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي، باعتباره قوة لها حقيقة مستقلة عن القوى الأخرى التي تكتنفها. وقد يشعر بذلك الشاب المتعلم، وقد يشعر به الذين يعلمون أولادهم، حتى لقد نجد أن بعض القادرين على التفكير ينظرون نظرة تشاؤم إلى المستقبل القريب، وإن لهم في ذلك لحقا، وإن لهم في تشاؤمهم لأسبابا تبرره وحقائق تعلله، ومن أجل أن نظهر تطور الحالات التي أفضت بنا إلى هذه النتائج ينبغي لنا أن نذكر حقائق خمسا نرجع فيها إلى تاريخنا بعض الشيء:
أولا: حكمت مصر منذ أبعد العصور على نظام تباين الطبقات الاجتماعية، وعلى أساس الفوارق في الحقوق العامة؛ غير أن الطبقات أخذت تتقارب حقوقها الطبيعية وتنتفي من بينها الفوارق من عهد قريب، فالكل الآن متساوون أمام القانون، ولكل مصري حق الانتخاب والحكم من طريق مجلس النواب. فأخذ مظهر وجود طبقتين متمايزتين في الحقوق المدنية يزول شيئاً بعد شيء، فلقد كانت مصر القديمة مكونة من ثلاث طبقات هم: الحكام والكهنوت والشعب؛ ومنذ غزو الاسكندر وحكم البطالسة إلى حكم المماليك حتى بدء الاحتلال الإنجليزي كانت هناك طبقات تختلف حقوقها وامتيازاتها؛ أما الآن فقد انتفت هذه الفوارق نظرياً، ونقول نظرياً لأننا لا نزال نشكو من بعض مساوئها، بالرغم من أن أصغر فلاح في مكنته أن يقاضي أعظم عين في البلاد، وأن يأخذ حقه منه إن كان له حق
ثانياً: بالرغم من أن نظام الطبقات المتباينة في الحياة والحقوق هو النظام الذي اتبع في مصر منذ أبعد العصور، وبالرغم من أن حالة مصر الاجتماعية من خمسين سنة مضت كانت تكفل الاستقلال المادي لطبقتي ذوي الامتيازات والفلاحين معاً؛ بأن تحمل طبقة الفلاحين، وهي الطبقة العاملة، العبء كله، بأن تكفي نفسها وتكفي حاجات حكامها بقدر الاستطاعة، فأن الحالة الجديدة، حالة التساوي أمام القانون في الحقوق، قد أحدثت ظاهرة اجتماعية جديدة، كان سببها أن الفلاح قد خرج من كونه عاملا لا حق له في ملكية الأرض، إلى رجل حر له حق العمل متى شاء والانقطاع عنه متى أراد، وله فوق ذلك حق(140/9)
الملك، بل نقول إنه انتقل من عامل إقطاعي إلى رجل حر، فقامت على هذه ظاهرة اجتماعية جديدة
ثالثاً - هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي قامت على تحرير الفلاح المصري وعتقه من نظام الإقطاع الذي ظل خاضعاً له طوال القرون، قد قلب آية الحياة الاجتماعية في مصر. فإن هذا الفلاح لم يكن ينقصه شيء ليكون مستقلا تمام الاستقلال في حياته إلا قانون يحميه، ونظام اجتماعي يجعله يشعر بأنه قوة لها أثر قي الحياة؛ فلما وقع ذلك بالفعل أصبحت الطبقة الدنيا أي طبقة الفلاحين المسخرين التي كان عليها أن تحفظ استقلالها واستقلال الطبقة التي تعلوها، سيدة نفسها، وأصبحت طبقة الملاك وأصحاب الجاه كما كانت في الحالة الأولى عبئاً عليها، ولكن في صورة جديدة، هي صورة أخذت شكل صراع خفي بين طبقتين
رابعاً - ولقد انحصر مظهر هذا الصراع في طبقة تحررت من قيود النظام الإقطاعي وهي الطبقة المنتجة العاملة بيدها، فأصبحت مستقلة بنفسها. وهي طبقة قادرة على الحرث والغرس والحصاد في بلاد لن يزرعها غيرها، ولن ينتفع بها غيرها؛ فهي مستقلة مادامت من فوق الأرض التي يغذيها النيل بشرايينه المحيية؛ وهذه الخطوة الجديدة أحدثت ظاهرة أخرى
خامساً - عكفت الطبقة الأخرى، طبقة أصحاب الجاه على مطلب آخر تتقي به النتائج التي تترتب على استقلال الطبقة العاملة ولم تجد من وسيلة أقرب من تعليم أولادها ليكونوا حكام البلاد. ولكن طبقة الفلاحين أخذت تزاحم الطبقة الأولى في هذا المضمار، فأخذ الأثرياء منهم يعلمون أولادهم ليكونوا حكاما فنجحوا. ولكن بعد أن ملئت الحكومة بما تحتاج من حكم وكتبة قام شعور جديد بأن أولاد موظفي الحكومة والأثرياء الذين أخرجوا أولادهم من محيط الفلاحة إلى محيط العلم أقل استقلال مع تعلمهم من أبناء الفلاحين الجهلاء. وأصبحنا الآن والموقف بين متعلم عاطل يتطلع إلى مرتب أبيه أو ثروته ليعيش، وفلاح جاهل لا عمدة له في الحياة إلا خبرته الموروثة في فلح الأرض وقوة عضلاته ومحراثه وفأسه وماشيته. فهو رجل مستقل تمام الاستقلال في الحياة، على العكس من المتعلم العاطل. فإذا كانت الغاية من التعليم تخريج رجال مستقلين يكافحون في الحياة كفاح المنتج لا كفاح(140/10)
المستغل لكفاح غيره، رأينا أن التعليم لم يف ببلوغ الغاية الأخيرة منه، مادمنا نرى أن ابن الفلاح بخبرته الموروثة مستقل في حياته منتج بعمله، في حين أن المتعلم يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي ويتطلع دائماً إلى حياة الركود لا إلى حياة الكفاح التي لم يهيئ له تعليمه طريقها الواجب
على أن قليلا من التأمل في هذه الالمامة التي ألممنا فيها بأوجه التطور الاجتماعي الذي انتابنا منذ خمسين سنة خلت، يحمل المفكر على المضي خطوة أخرى في تأملات إذا أحطنا بها نكون قد فرغنا من التمهيد للفكرة التي نريد أن تكون الدعامة التي يقوم عليها أساس التعليم في مصر، فنرى ما يأتي:
أولا: إن طرق التعليم التي عكفنا عليها إلى الآن شطرت الأمة معسكرين: الأول معسكر المتعلمين على القواعد الأوربية التي اتبعناها في مدارسنا، وخرجوا بهذا التعليم عن جو ثقافتنا التقليدية، فأصبحوا نصف مصريين؛ والثاني معسكر الفلاحين الذين أبعدناهم عن الثقافة الحديثة، وحافظنا على ثقافتهم التقليدية فصاروا بذواتهم في القرن العشرين، وبعقليتهم في مصر الفرعونية
ثانياً: كونَّا بهذا طبقتين غير متجانستين، بل مختلفين تمام الاختلاف، بحيث لا تجمع بينهما من رابطة إلا الرابطة الطبيعية التي هي رابطة الدم؛ فكنا في ذلك أشبه بالمستعمر الذي يرغب دائماً في أن يزيد من الصدوع التي تفصل بين طبقات الأمة، لا أشبه بالمصلح الذي يعمل دائماً على أن يرأب تلك الصدوع ويقرب بين الطبقات حفظاً للتوازن الاجتماعي. ولا شك في أن هذه السياسة تؤدي بطبعها، وعن غير قصد، إلى حرب الطبقات التي نحن مقدمون عليها حتماً إذا استمر التعليم على نماذجه الحاضرة وأخذت تلك الصدوع والفوارق تزيد عاماً بعد عام
ثالثاً: دليلنا على هذا أن ابن الفلاح إذا أثرت فيه الثقافة الحديثة، سواء أكان تعليمه في مصر أم في إحدى جامعات أوربا، أصبح لا ينشق في جو بلاده نسيم الثقافة التي نشأ فيها، فتلحظ فيه روح التبرم بأبيه الفلاح وأمه الفلاحة، وتأنس فيه نزعة قديمة تدفعه دائماً إلى حب العودة إلى الجو الذي نشأ فيه، فتراه قلقاً غير مستقر، هدَّاماً لا بنَّاءً، يريد لو تتاح له الفرصة ليعود إلى الجو الذي كان فيه؛ فإذا أعيته الحيلة، كما يحدث دائماً، واضطر إلى(140/11)
البقاء في جو بلاده، هجر الريف، مرباه الأصيل ومربى آبائه وأجداده منذ قرون طويلة ومنشأ تقاليده منذ أزمان لا تعيها الذكريات، ليسكن في مدينة من المدن، فيفضلها مع عيش الفقر والعوز على الريف مع عيش الراحة والهناءة؛ وتراه ينزع إلى البطالة في مدينة دون العمل الذي هو أجدر بحياة الرجولة في الريف. ومن هنا تتكون الطبقات المتبرمة بالحياة، العاملة على الهدم دون الإصلاح، النزاعة إلى الأفكار المتطرفة والثورات. أولئك الذين عناهم العلامة هنري جيمس في كلمته التي سقناها من قبل
رابعاً: وأنت أينما وليت وجهك رأيت أثر المعسكرين اللذين كونهما التعليم المصري ظاهراً جلياً. فأنت تنتزع الولد من حضن أبيه الفلاح وأمه الفلاحة، فكأنك تنزعه من حضن (مصر الفرعونية)، لتنشئه في حضن (مصر الأوربية)، وتخرجه بعد ذلك قاضياً أو محامياً أو مهندساً أو تاجراً أو رجل إدارة أو غير ذلك، ولكن بروح أوربية تكسوها ثياب مصرية شفافة؛ وبالأحرى تخرج رجالاً انبتت صلتهم بتقاليدهم الثقافية القديمة. وأنت في دور العدل وفي المتاجر وفي مركز الإدارة وفي عيادة الطبيب ومكتب المهندس، واقع في كل دقيقة على مظهر من مظاهر التفرقة بين المعسكرين. فالفلاح البعيد عن مدنية المدن، وبالأحرى البعيد عن جو الثقافة الأوربية الذي نشأ فيه القاضي والمحامي والتاجر ومأمور المركز ومعاون الإدارة وطبيب القرية، يمثل معسكر مصر الفرعونية؛ أما هؤلاء فإنما يمثلون (مصر الأوربية)، ولا شك في أن هذا مظهر من مظاهر الانحلال الاجتماعي، لا يسأل عنه في مصر شيء بقدر ما يسأل التعليم
خامساً: بالرغم من أن المتعلم قد نزع بفكره نزعة أبعدته عن ثقافة آبائه التقليدية، فقد أثرت تلك الحال في مزاجه وتصوراته ونظراته الفنية في الحياة، تلك النظرة التي يجب أن تكون مصرية صميمة، ويجب أن نحافظ عليها نقية على سجيتها لنكون مصريين جديرين بالمصرية، وكان من نتائج هذا أن المتعلمين يفضلون أقذر قرية أوربية على ريفنا الجميل وبحيراتنا الفاتنة، حتى لقد كادت تقوى النزعة الأوربية فينا على وحي النيل نفسه؛ والسبب في هذا أننا كنا خلال الخمسين عاماً الماضية كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، إذ انتزعنا من أرواح ناشئتنا (مصريتها)، ولم نترك فيها من المصرية إلا لون البشرة، ولقحناهم بالروح (الأوربية) فلم نبق مصريين كأهل الريف، ولم نستطع أن نكون(140/12)
أوربيين كفتيان (بيكادلي سركس)
سادساً - بدأت هذه الحال تؤثر في مرافقنا الحيوية، حتى لقد نزعنا إلى القول بأن كل ما هو أوربي جميل، وكل ما هو مصري رديء؛ وكل فكرة مصرية لعب ولهو، وكل فكرة أوربية جد ورجولة؛ وكل فن مصري بٌدائيٌّ وغير متفق وروح العصر، وكل فن أوربي مهما كان فيه من بعد وتضاد مع نزعتنا وتقاليدنا المصرية بل ومع آدابنا المرعية والعرف الإنساني، وحضارة وتمدين؛ وشملت هذه الحال فتياننا وفتياتنا، فألسنتهم لا تتحرك إلا بكل ما هو أوربي غربي، وقلوبهم لا تهفو إلا لكل ما هو بعيد عن المصرية
ولا شبهة في أن المعسكرين يتهيآن الآن: الأول للعمل على خراب الريف، والثاني لا حول له ولا قوة، فسوف ينهزم ليترك الريف خراباً. وإنما يخرب الريف بخراب القلوب التي يجب أن تؤمن بأن الريف هو مصر، وأن مصر هي الريف، وأن المدن أسواق لذلك الريف لا أقل ولا أكثر. وإنما يخرب الريف بأن نحب المدينة ونهجر الريف، فكأننا هجرنا مصر. ولا مخرج لنا من هذا إلا بأن نصل ثقافتنا الحديثة بثقافتنا التقليدية؛ فيكون المصري فلاحاً مصرياً روحاً ونزعة وخلقاً، ثم قاضياً ومحامياً وطبيباً ورجل إدارة من بعد ذلك. يجب أن تكون ماهيتنا مصرية وأعراضنا أوربية، لا أن نعكس الآية بأن نعمل أولاً على محو مصريتنا، فإذا تم لنا ذلك رحنا نتيه بأننا أتينا بأعراض أوربية ولقحنا بها ذوات لا ماضي لها، وبالأحرى لا ماهية لها
تلك مقدمات لابد منها إذا أردنا أن نبحث حالتنا الاجتماعية من جهة علاقتها بالتعليم. وسنرى في البحوث التالية كيف يمكن أن نستفيد منها
إسماعيل مظهر(140/13)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
اكتشف بستور لقاحا لداء الكلب هو عبارة عن 14 حقنة من مكروبه بعد إضعافه إضعافا متفاوتا في المقدار يحقن به المريض. وجرب هذا في الكلاب فكان النجاح. فلما أراد تجريبه في الآدميين تخاذل وخشي العاقبة. حتى جاءه ولد عضه كلب مسعور فأشار عليه الأطباء بتجربة اللقاح فيه لأنه ميت لا محالة ففعل ونجح اللقاح، وكان أول لقاح نجح في آدمي
عندئذ ذهبت عن بستور مخاوفه، وفارقته وساوسه. فكان موقفه من هذا الطفل هو عين موقفه من أول كلب حقنه رُو باللقاح في مخه بغير رضا أستاذه. خشي بستور على الكلب أن تُثقب جمجمته، فلما ثَقَبها رُو بغير علمه وصحّ الكلب من بعد ذلك، أكَبّ بستور على رؤوس الكلاب تثقيباً وعلى جماجمها تخريقاً. وهاهو ذا الآن يخشى عاقبة اللقاح الجديد على الطفل المكلوب؛ فلما صح الطفل واشتَفىَ من دائه، ماتت في نفس بستور شكوكه ومخاوفه، تلك الشكوك والمخاوف التي لم تتغلغل أبدا في نفسه تغلغلا كبيرا، ومع هذا تراءت له جسيمة واضحة، أرته إياها نفسه الفنّانة وهي تكثّر القليل وتجل الغامض. ثم إذا به يصيح للدنيا يُعلن أهل الأرض أن في إمكانه دفعَ الكلَب عنهم وحمايتَهم من بلواه
وأخذت جماهير المكلوبين المعذبين تتدفع إلى معمله بشارع ألم تطلب ربّه، ربّ المعجزة الكبرى. وجاء على هذه الحُجر القذرة القليلة حينٌ من الدهر وقف فيها البحث العلمي وقوفا كاملا. واشتغل بستور وعَوْناه في فرز الخلائق التي اجتمعت عليهم من كل أمة. وتعدّدت لغاتهم، فكنت تسمع أنغاماً متنافرة، وألسنة متباينة، كلها تصيح صيحة واحدة: (بستور!(140/14)
أنقذنا!) فلبى نداءهم وأنقذهم؛ هذا الرجل الذي لم يكن طبيباً يوماً ما؛ هذا الرجل الذي كان يقول في سخرية يمازجها العُجْب: (هل أنا إلا كيميائي؟). نعم أنقذهم رجل العلم هذا الذي قضى حياته ينازع الأطباء ويخاصمهم خصاماً مرّاً؛ أنقذهم بأن حقنهم بتلك الأربع عشرة حقنة من مكروبه المجهول المضعَف بعضَ الإضعاف؛ تلك الأربع عشرة المعقّدة التي لم يستسغها عقل أو يألفها منطق: حَقَن تلك الأربع عشرة فيهم ثم ردّهم بعدها مُعافين إلى أركان الأرض الأربعة
وجاءه من روسيا من بلدة سملنسك تسعة عشر فلاحا من الموجيك عضهم ذئب مسعور قبل ذلك بتسعة عشر يوماً. وجرح الذئب خمسة منهم جروحاً بالغة فعجزوا عن السير فلم يكن بد من إرسالهم إلى المستشفى الكبير. وكان منظر هؤلاء الروس غريبا في طواقي الفرو فوق رؤوسهم وهم ينادون: (بستور! بستور!) وهي الكلمة الوحيدة التي عرفوها من لغة البلد الذي حلّوا فيه
وثارت ثائرة باريس - على نحوٍ لا يعرفه إلا باريس - قلقاً على هؤلاء المنكوبين الذين لا مفرّ لهم من الموت بعد أن طال الزمن عليهم مذ عضهم الذئب بنابه. وتحدّثت باريس فلم يكن لها غير هذا من حديث. وقام بستور ورجاله بحقن الألقحة في هؤلاء المناكيد الذين نضب حظهم من الحياة وقل رجاؤهم فيها. فالعشرة كان يعضهم الذئب فيموت منهم على المعروف ثمانية، فكان على هذا الحساب لابد أن يموت من أصحابنا خمسة عشر
قال الناس حيثما اجتمعوا: (من الجائز أن يموتوا جميعاً فلا ينجو منهم أحد؛ فقد مضى على عضهم أسبوعان وزيادة. مساكين والله! وستظهر عليهم أعراض الداء، وستكون شديدة فظيعة. ضاع الرجاء فيهم وحُمّ القضاء!)
ولعل الناس صدقوا فيما قالوا! ولعلهم حقا جاءوا بعد فوات الأوان! وعزّ على بستور الطعام، وعزّ عليه النوم، فأنه خاطر فأمر رجاله فحقنوا الألقحة الأربع عشرة في هؤلاء التعساء صباح مساء ليقتصدوا نصف الأيام الضائعة عسى أن يلحقوا بالداء فينفع الدواء
وأخيراً صاح بستور صيحة الفخر العالية، وصاحت باريس وفرنسا والدنيا أجمع صيحة الشكر، وأنشدت أنشودة النصر حارّة داوية. فاللقاح أنجى الفلاحين الروس إلا ثلاثة. فعاد الناجحون إلى بلادهم فاستقبلهم بذلك السرور الرهيب الذي تجده القلوب إذا هي دُعيت(140/15)
للترحيب بميّت منشور، للترحيب بهؤلاء الرجال المرضى الذين ودّعوا بلادهم والأمل منهم مقطوع، فزاروا لا شك حرماً قدسيا لولي من أوليا الله، ثم عادوا يسعون على أرجلهم إلى ديارهم سعي الأحياء. وبعث قيصر الروس الأعظم إلى بستور صليب القديسة حنا الماسي ومائة ألف من الفرنكات ليبدأ بها في بناء بيت لصيادة المكروب. فقام هذا البيت في شارع ديتو وهو المعمل الذي يُسمى اليوم معهدَ بستور. وجاءه غير المائة ألف مال من العالم أجمع، من كل قطر من أقطاره، وكل ركن من أركانه، حتى تكدّست لدى بابه الملايين من الفرنكات ليبني بها المعمل ليقتنص فيه مكروبات فاتكة أخرى، وليجد لها فيه ألقحة ماضية أخرى. نعم تكدست الملايين على بابه، فقد كانت عاطفة قوية تلك التي أندت أكُف هذا الخلق الكثير، عاطفة قوية كالتي تثيرها المصائب إذا نزلت بالناس فادحةً شاملة
وتم بناء المعمل؛ ولكن كان عمل بستور في الحياة قد تم كذلك. فلقد كان نصره الأخير كبير الوقع في نفسه، ثقيلا على فِقار ظهر احتملت أثقال العمل الشديد مدة أربعين عاماً في تواصل لم يُسمع بمثله أبدا، فناء جسده تحت آخر الأحمال، وانقطع وتره بآخر الأثقال، فمات في عام 1895 في بيت صغير كان على مقربة من البيوت التي حفظوا بها عندئذ كلابه المسعورة في فلنوف لياتنج ' على أطراف باريس. ولفظ آخر أنفاسه كما يلفظها الكاثوليكي العريق في كَثْلَكَته أو الصوفيّ وقد كانه طوال حياته: في إحدى يديه كان الصليب، وفي اليد الأخرى كانت يد أكثر أعوانه صبرا وأقلهم شهرة وأكبرهم خطرا - تلك مدام بستور. وكان حول سريره عَوْنه رو وعونه شمبرلاند، وأعوانه الباحثون الآخرون؛ أولئك البُحَّاث الذين براهم نشاطه الجمّ في حياته برياً؛ أولئك البحاث الذين أسلموا له المقاد فدار بهم في هجيرة العمل دوراناً مستديماً قاسياً مرا؛ أولئك الأعوان الذين أوحى إليهم من وحيه واقتبس لقلوبهم قبساً من قلبه؛ أولئك الخلصاء الذين خاطروا بأرواحهم في إنفاذ خططه الجامحة في محاربة الموت، قاموا اليوم حول سريره يودُّون أن يفتدوه لو أمكن الفداء
هكذا انتهت حياة هذا الرجل خير انتهاء. هذا الإنسان الغالي في إنسانيته، صائد المكروب ومنجي الأرواح، الثائر الوثّاب، الناقص الخطّاء!
ولكن لبستور خاتمة حياة أخرى يتجه لها خاطري أكثر من اتجاهه لهذه. كانت في عيد(140/16)
ميلاده عام 1892 حين استتم سبعين عاماً كاملة، فاحتفلوا به في السربون بباريس احتفالاً عاماً رائعاً كبيرا أهدوا إليه وساما. وكان لستر حاضراً، وكان رجال كثيرون مشهورون من أمم أخرى حاضرين، فاحتل هؤلاء العظماء رقعة المكان الدنيا حيث مجالس العظماء، واحتل الطبقات العليا من حولهم شباب فرنسا وطلاّب السربون والكليات والمدارس العليا؛ وامتلأ المكان بالأحاديث، واختلطت به أصوات فيها رنة الشباب. وفي برهة قصيرة انقطعت الأحاديث، وهدأت الأصوات، وخيّم على المجتمع صمت رهيب؛ ففي الممشى تراءى بستور يجر خطاه عرجا؛ وقد أخذ رئيس الجمهورية بذراعه واتجه الاثنان إلى المنصّة في رأس المكان، وصدحت موسيقى الحرس الجمهور بدور جَلْجَلَ في الفضاء، كذلك الذي يُتَحي به الأبطال العظماء وقد عادوا من ساحة النصر بعد أن روَّوْها عبثاً بدماء الأعداء، وحجبوا آثراها بغير طائل بألوف الأشلاء
بستور يموت
وكان في الحاضرين لِسْتر أمير الجرّاحين، فقام واحتضن بستور؛ وهتف الشيوخ الإجلاء من مجالسهم، والشبان الطُّلاّب من شرفاتهم، حتى ارتجت الحيطان؛ وأخيراً جاء دور الكلام لصاحبنا صياد المكروب الشيخ، وكان قد ذهب عنه صوته الحديد الرعّاد الذي كان يرفعه في الخصومات عاليا، فقام نجله يقرأ عنه خطابه؛ وكان ختام هذا الخطاب أنشودة للرجاء، لا بما تضمنته من خلاص الأنفس، بل على الأكثر بأنه دعوة دينية حارة تفتح للرجال سبيلا جديداً من الحياة؛ وكان بها يدعو شباب الجامعة وطلبة المدارس العالية، قال:
(لا تسوموا أنفسكم التشككَ في الأشياء، فالتشكك أرض قاحلة لا تُنبت، وسحاب جَهام لا يُمطر؛ ولا تحملوها على الريبة في قيم الأمور وأوضاعها فتحملوها على الزهادة وتُفقدوها الثقةَ بالله. واحذروا أن تركنوا إلى اليأس من أجل ساعات سوداوات تأتي على الأمم! ذلك أن لكل حالة غاية، ولكل كرب نهاية، والليل الأسود يعقبه النهار الضاحي. اطلبوا العيش في المعامل والمكاتب، ففي أجوائها الساكنة تجدون طمأنينة النفس وسلامها. سلوا أنفسكم: ماذا صنعتِ أيتها الأنفس بالذي كان من تعليم وتثقيف؟ فإذا تقدمت السنُّ بكم فسلوها ثانية: وماذا صنعت لهذا البلد الذي من أرضه كان غذاؤك ومن مائه كان ماؤك. حتى إذا جاءتكم الشيخوخة فلعلكم عندئذ تجدون أكبر الهناءة في الإحساس الغَمْر اللذيذ بأنكم ساهمتم مع(140/17)
المساهمين وعملت مع العاملين بطريقة أياً كانت لتقدم هذه الإنسانية ولخيرها. . .)
(انتهى بستور)
أحمد زكي(140/18)
المازني العاشق. . .!
للأستاذ (أبو سلمى)
ما قرأت كلمة أستاذنا المازني (في الحب والمرأة) إلا أيقنت أن هنالك مؤامرة على الحب - وا حسرتا - فجزعت. . . . . لا على الأستاذ المازني فإنه إذا لوح بيده أو زوى ما بين عينيه رفع خصومه الرايات البيض. . . .
ولا على المرأة. . . فإن لها من لسانها الطويل - بقطع النظر عما إذا كان وراءه شيء أم لا - ما قد تستطيع به الوقوف أمام المازني. . .
ولكني جزعت على الحب في هذا الزمن الذي طغى فيه العقل - أو مجموعة الاختبارات والأمزجة والطباع - ولو أستطيع لرميت به (أي العقل) مربوطا بكتلة من الحديد تثقله - إلى الهوة السحيقة التي تليق به
والمازني عزيز على إخوانه وتلامذته - وأنا منهم - المنتشرين في كل قطر، وحبيب إلى قلوبهم - وهم عدد النجوم - وما كان لمثلي أن يرفع يده وهي شلاء أمامه، ولكن حملته على الحب والمرأة أثارت عليّ جنودا لا قبل لي بها، تعرف عطفه عليّ وحبه لي، وهو أدرى بقوتها. .
ومادام المرء يخلق كل يوم خلقاً جديداً فلم لا نأخذ الخلقة التي نميل إليها وتستهوينا؟ ومادام الإنسان يتحول إلى صور شتى فلم لا نهفو إلى الصورة التي تروق في أعيننا؟ والحياة قصيرة، والهوى فضّاح، فلأعد إذاً إلى أعماق الماضي، إلى المازني الفتى الذي دفنه:
مات الفتى المازني ثم أتى ... من مازن غيره على الأثر
أزيل عنه اللفافات وأبعثه بشراً سوياً تتوهج عيناه بنور قلبه. . .
أيها الفتى المازني! أين أنت من المازني الذي أتى على الأثر وتكون لنا عوناً عليه؟!. . . ألست أنت الذي كنت تطوف حول دار الهوى وتتمتم وعيناك نديتان:
أوصدوا الأبواب بالله ولا
تدعوا العين ترى فعل البلا
وامنعوا دار الهوى أن تبذلا
إن للدار علينا ذمما ... وقبيح خونها بعد الخراب(140/19)
من قصيدة (الدار المهجورة)
ألست أنت الذي كان يحوم حول الحمى في الليل مضلل الرقيب، وجامع الحبيب بالحبيب - ولا أدري إذا كنت تلبس طربوشاً أم لا - فتنظر إلى شباك حسنائك وروحك تتراءى خلف مقلتيك حيناً وفوق شفتيك حيناً آخر، حتى إذا رمتك باللحظ زفرت وأنشدت:
ما أفصح اللحظ يا حبيبي ... وأعذب البث بالعيون
لحظ يضيء الذي توارى ... في ظلمة الغابر الدفين
من قصيدة (لحظ الحبيب)
فإذا هبطت - هي - إلى الحديقة واختبأت بين الأغصان أنبأك همس الأزهار عن مكانها فتقول:
وودت لو تنفع الأماني ... لو كنت لدناً من الغصون
وليتني صيدح يغني ... في ظلك الوارف الأمين
من قصيدة (لحظ الحبيب) أيضا
فإذا نادتك وظهر اللفظ من بين شفتيها مشتعلاً يهديك إلى دنيا الغرام هتفت أنت:
أظل إذا اسْتَكَّ في مسمعي ... يرفّ عليّ جناح الغرام
شفاه يؤججن أنفاسه ... ويلثمن ألفاظهن الظوامي
من قصيدة (لفظ الحبيب)
وتدلف إليها، ويلفكما الليل في طياته (كما يغيب سر المرء كتمان) والكلام لك، فتناجيها:
عجب كيف يرتضي البعد عنا ... من عبدنا في حسنه الله جلاّ
أنت أفسدتني وعلمتني الحب ... فهلاّ أصلحت مني هلاّ
كان خيراً من السهاد رقادي ... في حمى ظلك الوريف وأحلى
من قصيدة (المناجاة)
وتشير إليك بتلك اليد التي كنت تعتقد أنها تفتح لك طريق سعادتك فتطمئن إلى الصدر الرحيب، وتغفو بين الأحلام على ترنيمتها:
نم هنيئاً في ظلي الفينان ... وانس بًرْح الهموم والأشجان
وانس ما كان من زفير على الهج ... ر ودمع يجري بغير عنان(140/20)
هذه راحتي على وجهك الغض ... وروحي وريفة الأفنان
وفؤادي مرفرف بجناحي ... هـ حنانا فانشق نسيم الحنان
من قصيدة (رقية حسناء)
وحينما تقضي لبانات الفؤاد المعذب تودع الحبيب وتقول:
ودعته والليل يخفرنا ... والبدر يرمقني وأرمقه
ولرب خدّ بت ألثمه ... والدمع يطفئ ما أحرّقه
والورد أقطفه لوجنته ... والشوك في قلبي مفوّقه
من قصيدة (ليلة وداع)
ثم يلج الوجد فيوشي جنبات الأفق ويصبح الفتى المازني (مثلا شروداً في الهوى. . .)
وبعد، فحالات أستاذنا المازني كلها حسنة مشرقة إشراق الابتسامة العذبة، ولكن أحسنها عند إخوان الصفا هي هذه الصفحة العطرة التي تندي شبابا وصبابة، فإذا أراد أن يعفى على أثرها ولو بالسيف، فليعلم أننا نجتليها ولو من بين الغمام لامعة وهاجة؛ وإننا وإن دوى في الآفاق صوته المرنان يُسمع الصم، نرجو منه أن يعلم أن هذا الصوت الداوي الآن - بشأن الحب المرأة - يتسرب من بين الطبقات ويصلنا ناعماً ليناً ويقف على أبواب القلوب
وإن هذا الحب الذي أصاب منه (شبعه) كان غذاءه الوحيد فكان يئن ويحن وينشد:
غذائي الحب يا من فيه حرمان ... مني له أبداً ما عشت نشدان
وهل غذائي إلاّ أن أراك وأن ... يمر بالسمع لفظ منك فتان
ما لذة القلب خلوا من دخيل هوى ... ما الليل إن لم يكن بالصبح إيقان
مالي بغير الهوى في العيش من أرب ... ولا بقلبي أحقاد وأضغان
من (مناجاة هاجر)
والشعر. . . - لقد نسيت - الشعر الذي قلت عنه إنه يلبس الحب أستاراً تبعده عن الحقيقة. . . ومن يعلم؟ فلعله يؤدي رسالة الشعر، ويحسن صنعاً خوفا من ألا يكون وراء الأستار شيء من الحقيقة - كما تقول الأساطير -
نعم أنت كنت تقول في الماضي:
أما يرى غايتي في الشعر واحدة ... وإن تباين أوزان وأوزان(140/21)
فما أحوك على الأيام قافية ... ألاّ وفيها على حُبِّيه عنوان
وما قيمة الشعر إذا لم تردده شفتان مرتجفتان أو. . . . لم تله به قدمان صغيرتان
ولكنني أخشى. . . وهنا أضع يدي على قلبي. . . . أخشى أن يكون كلامك عن الحب والمرأة نتيجة استبدادٍ بك. . . ومَّمن؟. . . من امرأة؛ فندِينك بقولك:
وإنني عاشق كتوم ... يبطن غير الذي يقول
(القدس)
أبو سلمى(140/22)
التاريخ في سير أبطاله
2 - ميرابو
ميرابو. . . تلك الأعجوبة!
جوته
للأستاذ محمود الخفيف
وكان الملك قد أخذ بنصيحة نكر حين اشتدت الضائقة المالية فأجاب الشعب إلى دعوة مجلس طبقات الأمة إلى الاجتماع وهو مجلس قديم شهدت فرنسا آخر اجتماع له عام 1614، وقد حدد لاجتماعه اليوم الخامس من شهر مايو سنة 1789، وكان الغرض من اجتماعه، مشاورة نواب البلاد في مخرج من الأزمة المالية
ولكن هل كانت الضائقة المالية كل ما يشكو منه الشعب؟ كلا؛ إن فرنسا إذا أردنا الواقع كانت على أبواب عصر جديد، بل إن تاريخ العالم كان في مستهل فصل جديد! فما كانت الثورة مهما اختلفت مظاهرها إلا أوبة الشعب من غمر القرون أو من مجاهل النسيان، كانت حركة لا محيص عنها، حركة أدى إليها تطور الزمن على وجه معين بحيث لم تكن الأيام لتلد غيرها
هاهو ذا الأفق الباسم تنشق جوانبه عن جبين الصباح بعد ليل طال واشتدت حلكته، ولكن ما تلك الخطوط الحمراء التي يراها ميرابو ويوجس في نفسه خيفة منها؟! إنه يرى فيها نذير الشر والفزع الأكبر. ياله من رجل عجيب! إنه يتشاءم والقوم متفائلون؛ إنه يرى ما لا يرون، ولكن لينتظر ما تأتي به الأيام!
الشعب مبتهج يبسم له الأمل ابتسام الربيع من حوله، أنظر إليه غداة افتتاح المجلس في طريق نوابه تكاد تنشق حناجره وتدمى أكفه من كثرة ما يهتف وما يصفق. يا لله! ما له يطرق في وجوم كلما مر به أحد السادة من النبلاء أو القساوسة؟ هل آن لتلك الجموع أن تفرض سلطانها وتجير القوم على الاعتراف بها؟ من ذلك الرجل العابس المهيب الذي تتناقل الألسن اسمه وتتدافع الجموع لرؤيته؟ أنه بعينه نائب اكس الكنت ميرابو!
اتخذ ميرابو كرسيه وسط العامة، وقد تهامس الأشراف عند دخوله المجلس وتخاطبوا بالأحداق، على أنه كان يزدريهم أكثر مما يزدرونه، ويمقت في أشخاصهم العهد القديم(140/23)
ونظمه وتقاليده
ودخل الملك القاعة في حاشيته التي تجلى فيها ترفع الملكية واستكبارها، وألقى على النواب خطابا ارتاحوا إلى ما جاء فيه من أماني، وهتفوا لما تضمنه من عبارات العطف، ثم قام نكر فأكدَّ رؤوس سامعيه بخطاب طويل نصفه أرقام!
تبع الأشراف والقساوسة الملك إلى خارج القاعة وبقى العامة في أماكنهم وبينهم ميرابو يشيع الملك ووزيره بنظرات المقت والسخط. ولقد رأى النواب في ملامح وجهه إمارات الغضب، وفسرها الأشراف بأنها مظاهر الحقد الدفين والغل الشخصي
ولكن ميرابو أصبح اليوم غيره بالأمس فلقد ودع حياة السفه والتمرد، وأصبح السياسي المتزن المهيب الجانب، الذي يتوقف مصير الحوادث على ما يصدر عنه من قول أو فعل
إنه لا يطمئن إلى المستقبل ويرى الأمور تنذر بالكارثة ما لم تعالج بالحكمة. ولقد درس نفسية الشعب خارج المجلس وعرف أن له أطماعا لابد من تحقيقها. لم يكن الناس ليرضوا أن تؤخذ الأصوات في المجلس باعتبار الطبقة فيفوز الممتازون، ولا يكون لمساواة العامة إياهم في العدد أية قيمة. وكان الشعب ونواب الشعب يلحون في أن يكون التصويت باعتبار الرؤوس. كذلك كان الشعب يطمع أن يكون للمجلس مكان مستديم في النظام الحكومي، ويكون لما يصدر من آراء أثر في سياسة الدولة. وكان ميرابو يسعى جهده في أن تعلن الحكومة موافقتها على ذلك في أولى جلساته خشية أن ترغم على ذلك فيما بعد فيؤثر ذلك أسوأ الأثر في مجرى الحوادث، ولكن الحكومة أغفلت الأمر، فكان محقاً في حنقه وتبرمه
كان يفطن ميرابو أكثر مما يفطن غيره إلى انبعاث الشعب واحتضار الملكية. وكان يرى الملكية وقد أثقلتها تقاليد الماضي تكاد تسقط من الإعياء، حتى لقد قيل عن لويس السادس عشر إنه ورث عن آبائه الثورة والعرش معاً! ولقد كان هذا الملك المسكين يهرول تارة ليدرك الزمن فتنقطع به الأسباب، ثم يكلف الأيام ضد طباعها حيناً فتسخر منه الأيام! وكان ميرابو يرى بنافذ بصره أن سلامة الملكية وسلامة الوطن كلتاهما تتوقف على التوفيق بين الملك والشعب، ولا سبيل لنجاح الثورة غير هذا السبيل
أرسل إلى نكر يقول له: (صدقني أيها الوزير أن مصير الملكية في فرنسا متوقف على ما(140/24)
سيكون من أمر هذا المجلس، وخير لك ولهذا البلد المسكين أن تواجه المجلس بما يحقق أماني الشعب)
ولقد أعد ملتمسا ليتقدم به إلى الملك في الجلسة الأولى؛ ويقال إن الملك بادر إلى الخروج عقب انتهاء الاجتماع لما علم من عزم ميرابو. ومما جاء في هذا الملتمس: (أضف إلى مآثرك أيها الأمير المعظم إجابة الشعب إلى رغبته يبق الصولجان في يدك، فإنني أخشى إن رفضت أن يشهر في وجهك.)
يا لهذا الرجل من بطل! كيف ينقلب سلوكه هذا الانقلاب المدهش؟ إن المرء ليلمس أهم ناحية من نواحي عظمته في ذلك التحول، وما عرف التاريخ قبله رجلا درج من مثل ماضيه فوصل إلى مثل ما أتيح له من مجد وعظمة وكمال سياسي
كان منطق الحوادث يقضي بأن يرى ميرابو في الثورة فرصة لشهواته ومرتعاً لمآربه، فيصبح في غمرتها الرجل الأحمق الذي يهدم ولا يعرف غير الهدم، ويبطش ولا يستطيع أن ينهض لغير البطش. ولكنه ما عرف الهدم، وما كان رائده سوى البناء كأحسن ما يكون البناء! وذلك لعمري من عجائب الأيام! ولكنه سر العبقرية
أجل! لقد جد الزمان فأثار جلال الموقف كامن مواهبه، ولامس موضع العظمة من قلبه، ورأى في الثورة حادثاً نبه نفسه إلى حقيقتها، أو قل إنه وجدها كفؤا له كما وجد نفسه كفؤا لها
وسنرى أن جهاده منذ اليوم سيكون شاقاً مريراً، فإن من يعنيهم أمر الوطن من الوزراء ورجال الدولة من أمره في ريبة، لا يأمنون أن يتخذ من حرج الأمور وسيلة إلى أغراضه الخاصة كما كانوا يزعمون، بله ما كانوا يضمرونه له من حقد وما كانوا يكنونه من حسد، حتى المستنيرين من معارفه ومقدري نبوغه لم يكونوا أقل من هؤلاء حذرا منه، وكانوا فوق ذلك يترفعون في صلف عن مدارسة رجل له مثل ذلك الماضي! مما كان يملأ قلبه غيضاً. والملك؟ أيستطيع أن يصل إليه وله من بطانته أسوأ حجاب؟
وهو لا يثق في نواب العامة، ويخاف أن يؤدي نزقهم وجهلهم إلى الكارثة. قال يصفهم ذات يوم: (أكثر من خمسمائة عضو لا يعرف الرجل منهم جاره! أتوا من جميع أنحاء المملكة، لا يجمعهم نظام، ولا يلم شملهم زعيم، ولن تجد بينهم ذا نفوذ، أو تتبين فيهم من يأخذ نفسه(140/25)
بأي ميثاق من مواثيق الطاعة، وكلهم ميال إلى أن يُصغي إليه قبل أن يصغي هو إلى أحد. . .)
أرأيت موقفاً أشد من هذا الموقف حرجاً؟ ولكن هل كان حرج الموقف يعمي بصيرته عن سبيل الرشاد، أو يدفع السأم إلى قلبه؟ كلا فما خلق مثله إلا للشدائد، وما يظهر جلده أكثر ما يظهر إلا في الملمات. وهل كانت تستطيع السفينة أن لم تسير بلا ربان في مثل تلك الأنواء؟ ومَن ربانها إن لم يكن هو ربانها؟ لم تمض أيام حتى صار بين نواب العامة المقدم عليهم، يستقيمون على ما يرسم من طريقة وإن لم يعلنوا زعامته لهم، ويتجهون بأنظارهم إليه إن سدت في وجوههم المسالك وإن لم يظهروا له ما هو جدير به من عطف ومحبة، ولكنه كأخيل، لم يكن ليصده عن مصلحة وطنه ما ينال شخصه من إهانة، وفي ذلك من سر عظمة الرجل ما هو جدير بالإعجاب
وكان إلى جانبه الأب سيس، ينقل إلى نواب العامة ما يوحيه إليه، وكان هذا الرجل قد آثر صفهم على صفوف الأشراف كما فعل ميرابو من قبل؛ وكان لشخصه في قلوبهم مكانة قوامها الحب، إن لم يكن قوامها الإعجاب
أخذ الأشراف ورجال الدين يجتمعون كل طائفة في حجرتها، وعولوا على أن يكون إقرار المسائل باعتبار الطبقة؛ ولو طاوعهم العامة إلى ذلك لكان للثورة اليوم سيرة غير سيرتها. ولكن أنى للعامة أن يقروا على أنفسهم عملا يطوي بهم القرون إلى الوراء، وهم يتعجلون الزمن، ويودون لو يسبقونه إلى تحقيق الأمل الوليد؟ على أنهم ما كانوا يريدون بملكهم الطيب شرا حتى ذلك اليوم، ولكن شطط رجال البلاط وسوء تدبيرهم سيجعل من هذا المجلس هيئة تقلب نظام الحكم في فرنسا، بل وتدفع تاريخ البشر إلى طريق جديد
وما كان ميرابو ليرضى أن يطيع أصحاب الامتياز إلى غرضهم الشائن وإن كان يخشى أن يؤدي إحراج العامة وإعناتهم إلى التذمر فالهجوم، فيتدخل الملك وهو لا يريد أن يتدخل الملك إلا بما يرضي الشعب؛ هو لا يحب أن تبغي إحدى القوتين على الأخرى، ولذلك فهو يسعى ويواصل السعي، ويدعو ويكرر الدعوى إلى الأناة، حتى يصيخ له من صفوف العامة رجل رشيد لم يكن سوى سيس، وسرعان ما يأخذ العامة بنصيحته على لسان سيس، فيقفون من الأشراف موقفاً حكيما هو انتهاج السياسة السلبية، فيأبون أن ينتخبوا لهم هيئة(140/26)
داخلية تشعر بقبول انعزال مجلسهم، كما يرفضون أن يتسلموا الرسائل الموجهة إليهم باسم رجال الطبقة الثالثة
كان يرجو ميرابو أن يخرج العامة من المأزق دون شحناء ولا اعتداء، ولكن العامة انتظروا حتى ملوا الانتظار، فاقترح عليهم قرب نهاية مايو أن يرسلوا إلى رجال الدين، وقد أنس في فئة منهم العطف على العامة، يدعونهم باسم الله وباسم الإنسانية والسلام أن ينضموا إليهم
وفي اليوم العاشر من يونيو أقترح سيس إرسال دعوة نهائية إلى رجال الطبقتين يطلبون انضمامهم إلى صفوف العامة؛ وسواء قبلوا الدعوة أو لم يقبلوها يجتمع نواب العامة وحدهم للعمل باسم الشعب الفرنسي كله. وأخيراً حين رفض رجال الطبقتين دعوة العامة أعلنوا في اليوم السابع عشر من يونية قرارهم الخطير أنهم هم (الجمعية الأهلية) فخطوا بذلك أول خطوة نحو الثورة
أشفق ميرابو وقد فهم مغزى هذا القرار على الجمعية وأيقن أن الملك لابد مجيب على ذلك بضربة حاسمة، إذ ما الذي يمنعه أن يباغتهم بمرسوم يحل به المجلس كله؟ ولذلك فقد احتاط للأمر وتوقى الخطر قبل حدوثه. فتقدم إلى الجمعية باقتراح قبلته وأعلنته، ومؤداه أن نواب الأمة يقررون أن الضرائب القائمة غير شرعية، ولكنهم لا يمانعون في جمعها مادامت الجمعية منعقدة؛ وكانت هذه خطوة سديدة موفقة من جانب ميرابو
على أنه ظل يحسب للموقف حسابه. فما كان الأشراف ورجال البلاط ليقابلوا عمل الجمعية بالسكون، وكان ميرابو قد واجه ثورة النواب في نقاشهم قبل أن يطلقوا على جمعيتهم ذلك الاسم، وطلب إليهم أن يبحثوا عن اسم آخر لا يتضمن مثل ذلك التحدي، ولكنهم أعرضوا عنه فلم يجبن عن أن يعلن فيهم (أن نفوذ الملك وحقه في (الفيتو) لابد أن يكون أمراً أساسياً في الدستور، وبغير ذلك فانه يفضل أن يقيم بالقسطنطينية على أن يعيش في فرنسا، لأنه لا يرى أخطر من تسلط ستمائة رجل على شؤون الدولة)
ولقد ذاعت الإشاعات يومئذ أن ميرابو أخذ من الملكة مبلغاً طائلا، وهكذا يأبى شؤم طالعه إلا أن يلازمه فيرمى بالخيانة منذ ذلك التاريخ الباكر
اعتزم الملك نقض قرارات الجمعية، وعول على الذهاب بنفسه إليها، وحدد لذلك اليوم(140/27)
الثالث والعشرين من يونيه، وفي صباح اليوم العشرين من ذلك الشهر حين لم يستطع نواب الشعب الاجتماع في دار الجمعية بحجة إعدادها لدخول الملك فقد توجهوا إلى ملعب التنس المجاور لها؛ وهناك وقد أخذ الحماس من قلوبهم كل مأخذ أقسموا أنهم لن ينفضواحتى يضعوا للأمة دستوراً، فكان هذا أحد أيام فرنسا المشهورة
ما للسفينة عجلى تسخر بالأنواء وتستخف بما يحيط بها من موج كالجبال؟ أدر الدفة يا ربانها ليس لها غيرك يوجهها إلى شاطئ السلامة!
دخل الملك في اليوم الموعود، وقد تكلف أكثر ما يطيق من الجد والحزم، وأعلن نقض قرارات 17 يونيه، وأمر أن تجلس كل طبقة على انفرد ليكون صدور الأصوات بالمجلس لا بالرؤوس، وعلى الجميع أن يصدعوا بما يؤمرون وإلا فانه (سيعمل ما تقتضيه مصلحة البلاد معتبراً نفسه نائبها الوحيد)
طرب الأشراف ومن يشايعونهم من رجال الدين لذلك الوعيد، وقاموا إلى مجلسهم بعد مبارحة الملك القاعة، وبقى نواب العامة في مكانهم جامدين. أخذتهم الحيرة فلا يدرون ماذا يفعلون، واستولى الرعب على أفئدتهم، فعلى وجوههم صفرة كئيبة، وفي عيونهم دهشة ومسكنة، ولكن ميرابو لم يخلق الفزع لمثله، فوثب من مكانه وفي عينيه الواسعتين نظرات الليث، وراح يزأر فيهم مذكراً إياهم بقسمهم. فأعاد إلى قلوبهم الحمية، ثم دار بعينيه فإذا كبير الأمناء يسأل النواب في صلف: (ألم يسمعوا أمر الملك؟) وفي تلك اللحظة الرهيبة التي ولدت للعالم عصراً جديداً يأبى القدر إلا أن يجعل من ميرابو ترجمانه، فيصرخ في رسول الملك قائلاً: (نعم أيها السيد! سمعنا ما أوعز إلى الملك بإلقائه علينا، ولست أنت، ولم يكن لك من مركز أو حق يبيح لك الكلام في هذا المجلس. نعم لست أنت الذي يذكرنا به. إذهب فقل لمرسيلك إننا هنا بإرادة الشعب، فلن نبرح مكاننا إلا على أسنة الحراب)
وتصايح النواب قائلين: (هذه إرادة الشعب). (الشعب لا يتلقى أوامر من أحد)، وقام سيس يذكرهم أنهم اليوم ما كانوا بالأمس؛ ولم يخن ميرابو حضور ذهنه وسط تلك الحماسة، فأعلنت الجمعية اقتراحه بأن رجالها منذ اليوم في حصانة، وأن التعدي عليهم جريمة كبرى!
أرأيت كيف هيأت بسالة ذلك الرجل له موقفاً أصبح فيه بحيث يتوقف مصير الحوادث(140/28)
على ما يفعل أو يقول؟ وسرعان ما تجاوبت أنحاء فرنسا أنباء ذلك الرد التاريخي، وجرى اسم ميرابو على كل لسان في باريس وطبع شخصه في كل قلب
من ذلك اليوم أصبح ميرابو زعيم الشعب غير مدافع، وأن تم له ذلك فعلا من قبل، وإذا كانت الحوادث تخلق الرجال كما يقولون، فمن الرجال من يخلق التاريخ. وما تاريخ البشرية إذا أردت اليقين إلا تاريخ عظمائها. ولقد كان ميرابو من هؤلاء النفر الذين يربون جيلا ليلدوا غيره! وإني لأجرؤ فأزعم أنه عندي أول زعيم شعبي بالمعنى الحديث. إذ كان التاريخ يومئذ ينتقل من فصل إلى فصل كما رأينا
وكان انتقاله هذه المرة على أساس جديد، على أساس شعور الفرد بوجوده في شكل ديمقراطي لم ير العالم نظيره منذ ديموقراطية أثينا. أجل، لقد جاءت الأنباء من وراء المحيط بانتصار الحرية على يد بطل من أهم أبطالها هو واشنطن؛ ولكن الفرق بين الحركتين كالفرق بين الرجلين؛ فتلك حركة سياسية في شعب يخوض غمار الحرب إلى حقه الذي اغتصبه الأجانب من أعدائه، وهذه حركة اجتماعية كانت أول أمرها سلمية في شعب يستخلص حقه من ساداته وكبرائه؛ وذلك رجل يشهر السيف ويصل إلى غرضه بالحديد والدم، وهذا رجل لا يعرف إلا القلم ولا يرى سوى المنبر طريقاً إلى غرضه!
(البقية في العدد القادم)
الخفيف(140/29)
تلخيص كتاب: الحاكمون بأمرهم
تأليف جاك بانفيل
بمناسبة وفاته في 10 فبراير سنة 1936
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
تتمة
طاف بنا بانفيل في النصف الأول من كتابه بطغاة التاريخ ليقدم إلينا طغاة العصر الحاضر؛ فنحن الآن في روسيا القيصرية حيث الشعب يجزي قياصرته الإرهاق الفظيع بالإرهاب الأفظع؛ وإن تعجب فاعجب لهذا القدر الساخر الذي جعل من أكبر القياصر حبّا للشعب أكبر صرعى الإرهاب وهو القيصر (نقولا الثاني). . نشطت الشرطة في أعقاب ذلك المصرع ولكن نشاطها كان متجها نحو (الأنفار) لا نحو القادة، فنجا من طغيانها دعاة جيهنميو (كالفالديمير أوليانوف) أولئك الذين جعلوا شعارهم (كل شيء، أو لا شيء)
نفي الفتى - بل الأستاذ - فالدمير سنتين في سيبريا، وفي سنة 1896 ألف جمعية الكفاح، وفي سنة 1903 افتتح مؤتمر بروكسل للعمال، وعقب ذلك أنشأ في لندرا حزب العمال الروس الديمقراطي
وفي سنة 1905 اندلع لهيب الحرب بين اليابان وروسيا فكانت فرصة نادرة، فمشى إلى قصر الشتاء مائتا ألفٍ من العمال يحدوهم قسيس ليقدموا إلى سدة القصر ملتمساتٍ متواضعة، فقابلتهم المدفعية بالنار على عتباته، وكأن أركان الإمبراطورية الأربعة كانت في الانتظار، إذ شجرت القلاقل في كل ناحية وذُبح الغراندوق سرج، وساد الإضراب في أرمينيا وبولنيا وسبستبول؛ وعبر فالدمير - لينين - الحدود ليختبئ في موسكو، وليؤلف جيش الثورة الذي قاوم الحكومة تسعة أيام ثم انهزم، ففر ليتين وراء الحدود ليكون الحزب البلشفي في سنة 1912 وليرقب الفرصة المتاحة
ومضت سنوات سبع كان على لينين في منفاه أو في مهربه أن يدبِّر فيها للثورة تدبير(140/30)
الأستاذ الخبير، فلقد كان يقول: (إن الثورة فن)
وفي سنة 1914 عندما ارتفع بخار الدماء في سماء الدنيا هدأت أعصاب لينين! وأخذ يتحرك، فأهاب بالعمال في العالم أجمع أن يُلقوا السلاح ليتخلصوا من الطواغيت إلى الأبد، وليجعلوا من رأس المال أسطورة تُحكى للناس، أُزيلت من عالم الواقع الحاضر، وجاءت الظروف تضع الأحجار في بنيان هذا الطاغية - والمصادفة دائما في خدمة الدكتاتوريات - إذ سرت الرعدة في كيان الإمبراطورية الذي شاخ؛ فالحرب بدت مجزرة فاشلة، والفيالق أخذت تتذمر فقامت قيامة العمال في 8 مارس سنة 1917، وفي 100 ساعة فقط هوى عن العرش آخر أبناء رومانوف
وتطلعت الثورة تريد رأس حكيم يحركها. . وتطلع لينين إلى الألمان فنقلوه إلى روسيا في قطار مسلح في حاشية من ثلاثين هداماً من زملائه، ووصل الركب إلى روسيا، وأخذ لينين يناضل الحكومة المؤقتة لتكف عن مواصلة القتال في الحرب الكبرى، فوجهت إليه تهمة الخيانة العظمى وأوشكت أن تظفر به، ففر من جديد ليعود بعد شهور ومعه (الفنان الأكبر) فنان الثورات (تروتسكي)
وضع الفنان الأكبر خطةً هي آية الفن الثوري الحديث؛ فعمد إلى المصالح الميكانيكية، وهي التلغراف والتلفون والبريد والكهرباء والسكة الحديد؛ وعهد في الاستيلاء عليها إلى فئة قليلة من المحاربين في زي عمال، وأمّر عليهم طائفةً من المهندسين المهرة، فلم يمض يومان حتى كانت هذه السواعد الفتية قد وصلت إلى نتائج باهرة برغم قلة عددها، إذ كان اتحاد الغاية مع تشعب الأهداف الأولية سبباً في عجز الجيش وضعف حيلة الحكومة عن مواجهة المخربين، وهكذا استطاع (تروتسكي) أن يعزل العاصمة عن الإمبراطورية، ثم استطاع أن يصدر الأوامر إلى أنحاء الأرض النائية؛ وبعد مناورات هندسية أخرى سار بفيلق صغير صوب القصر وسلط عليه شواظاً من جهنم ترسله مدافع الطراد (أوردرا) فتفتحت الأبواب للطارق الفظيع ودعا إليه (لينين)!. . واستسلمت روسيا إلى الشيطان، ودان له النواب في مجلس (الدوما)
وابتدأ لينين يحكم باسم الحق والعمال، ففرغ من الألمان بالمعاهدة، وتفرغ إلى روسيا بالحديد والنار ليفرض عليها أفظع طغيان يرتعد من هوله التاريخ، ويتضاءل أمامه(140/31)
(نيرون) وألف نيرون!
ثم عجزت نظمه جميعاً وقامت جورجيا تطلب استقلالها فسار إليها (تروتسكي) في جحفل أغبر ليمسح حركتها من الوجود؛ وبدا لعين الطاغية الأعظم فشل مشاريعه فأخذ يقول: (لقد هدمنا أكثر مما نستطيع بناءه) وأخير أصابه الشلل وشب إلى جانبيه طاغية جديد هو ستالين
ومات لينين وخلفه ستالين، فاستهل حكمه البلشفي أبرع استهلال، إذ طوح بتروتسكي إلى أقصى الأرض ليُنبذ من دولةٍ إلى دولة كأنه الطاعون؛ وليكتب في الصحف كل يوم ليعيش. . (وهكذا - مثل ساتيرن - تأكل الثورات بنيها) واخترع ستالين نظام السنين الخمس، وطنطنت له الإذاعات والإعلانات في مشارق الأرض ومغاربها، ثم خفت الصوت وسكنت العاصفة لما مُني به المشروع من إخفاق
أما الشعب فما يزال جائعاً كما كان قبل الثورة؛ وأما الأمية فما تزال - على الرغم من الإحصاءات الرسمية - متفشية؛ وأما الإنتاج والرغبة فيه، وأما الرواج والحضارة، وأما الشعراء المستقلون والكتاب، فكل أولئك ومعهم خمسة ملايين من الناس نفوا من روسيا في الجزر الروسية أو في سائر أرجاء الكوكب المعمور
ولابد أن يرتفع هذا الكابوس عن روسيا إذا مات طاغيتها الجاثم على صدرها فهو نظام لم يبدأ من الشعب ولن ينتهي إليه
بعد ذلك يبهرك (بانفيل) بوثبة بديعة من وثبات السحر البلاغي تخلبك طلاوتها لأنها تنقلك كسائح في الجنة إلى قطر إسلامي شقيق فإذا بك أمام يراعةٍ منتشيةٍ كلها إعجاب، وإذا بك بين يدي (أتاتورك) العظيم. .
يقدم المؤلف تركيا الجديدة بكلمة لأحد مندوبيها في مؤتمر لوزان موجهة إلى أعضاء المؤتمر: (لماذا تريدون معاملتنا كالمتوحشين؟ إننا جميعاً في هذا الوفد نحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة باريس!) وأنت تكاد تلمس من العبارة أية جماعة تأخذ بيد مصطفى كمال وتعاونه، وأية أفكار جديدة تنشرها هذه القوى الناهضة، دون قعقعة أو جلبة على طرائق موسوليني وهتلر وستالين، ففي مصطفى كمال كثير جداً من (واشنطن) وفيه أيضاً من (جنكيز خان)(140/32)
ولد في سنة 1880 وتعلم بالمدارس الحديثة وتلقى العلوم الحربية وصار (كابتن) في سنة 1904، وفي سنة 1912 اتهم في مؤامرة على السلطان، ثم عمل في جيش القوقاز وفي الجزيرة أيام الحرب الكبرى
وعندما هادنت تركيا الحلفاء وأراد الباب العالي أن يبيع الأتراك لإنجلترا رفض كمال تسريح قواته، ووقف في وجه الحكومة ونازل اليونان فقذف بهم وبالإنجليز من ورائهم إلى أعماق البحر الأبيض المتوسط؛ ثم سحق الثورة الكردية وعقد معاهدة لوزان، وأنشأ المجلس الوطني الكبير، وألغى الخلافة، وصار الغازي رئيساً للجمهورية
ونفح في الصور ليبعث الأتراك من جديد!
وألغى الطربوش لتُلبس القبعة؛ وطاف مصطفى كمال في البلاد يهيب بها أن تستجيب لندائه؛ ورُفع الحجاب ووضع القانون المدني، وصار الزواج مدنياً بعد أن كان دينياً، وأدخلت الحروف اللاتينية في الأبجدية التركية
وهكذا جعل الغازي من أمته التي كانت مضرب المثل في الجمود، شعباً يستسيغ الإصلاحات الطافرة، ولو جاءته في سرعِة الأفْلام. .!!
وبعد أن قضى على الحاضر المضارع التفت إلى الماضي ليستخدم العلم والتاريخ في مجد أمته؛ وليس فخرها في (عثمانيتها) بل فخرها في أنها (تركية)، ولم يعدم البحاث والمنقبون عن الآثار في الأناضول معالم ومشاهد وآثاراً تثبت قدم الأتراك وآبائهم (الحيتين)؛ ثم اتجه الرجل العظيم إلى تطهير اللغة التركية من الغريب، وعمل رجاله في ذلك أعمالا جبارة، لكأنهم يخلقون الناس معهم من تاريخ نهضتهم فحسب! فمنذ عامين فقط شيعت الجموع شاعراً قومياً، ومشى الشباب وراء جثمانه وهم لا يفهمون شعره كما كان يجب، لأن لغته أصبحت لغةً قديمة. . .!! ولذلك فقد نفذت المعاجم من الجديدة أول ما عرضت في الأسواق
يُعطيك هذا العمل الأخير خير فكرة عن قوة اتجاه هذا الدكتاتور نحو الإنشاء؛ حقاً إن التركي يلقي هذه الهزات التي يهتز لها كل كيانه بعلامات استفهام وعلامات تعجب، لكنها ستجره معها يوماً على كل حال
يقولون إنه يعيش كأبطال الأساطير بين اللهو والقصف، ولربما بدا وجهه للناس بعد عشرين عاماً كوجه سلطان من السلاطين، لكن الذي لا مراه فيه أن قدم الدليل الناهض(140/33)
على مقدار ما يحقق الرجل القادر للشعب القادر من رغبات الانتصار وفي التقدم
ثم يقول المؤلف - فهذه غايته من مؤلفه - (وإنا لا نحسب أن الشعب الفرنسي يُسيغ هذه الطرائق فالثورة الكبرى نفسها لم تستطع أن تقسره على أن يقبل حتى الأسماء الجديدة لشهور السنة! مع ما في هذه الأسماء من الملاءمة والاتساق!!)
والآن إلى قيصر!
لا قيصر الكرنفال، ولكن عبقرية أمةٍ زاخرة بالكفايات حافلةٍ بالمواهب ما أسرعها في الاستجابة إلى حاجات الساعة وضرورات السياسة تستعرض الماضي من مفاخرها لترفع على القوى منها عمد المستقبل المجيد
وليفهم القارئ الفاشستية يجب أن يرتد ببصره إلى سنة 1915 عندما ساقت إيطاليا جيوشها إلى الساحة إثر نزاع بين المحايدين من أتباع (جبوليتي) والمتدخلين من أشياع (دانونزيو)، فلما انعقد لواء الظفر للحلفاء حسب الساسة من رجال المدرسة القديمة أن الأمور ستجري رتيبة، وستعود سيرتها الأولى دون أن يحسبوا للتيارات الجديدة حسابا
نشأ موسوليني لأبٍ يطرق الحديد، علمه شديد القوى؛ ثم صار معلماً، ولكن ثوريا، فطردته ثوريته من وظيفته وهاجر إلى سويسرا فلم تطب لها ضيافته، ثم عاد إلى إيطاليا ليؤدي الخدمة العسكرية، ثم ارتد يضرب في الآفاق من جديد ليتتلمذ على (سيزار باتستي) في النمسا، وهنالك عثر على الكنز المفقود؛ فلقد كان (باتستي) فيلسوفا وداعيةً وطنيا من أكبر الغلاة حتى امتلأ ذهن تلميذه بجمهرة من أفكاره الوطنية امتزجت باشتراكيته فصيرته رجلاً من طراز خاص. ولما ولاه أستاذه تحرير جريدة (بوبولو) لم يكن يكتب، ولكنه كان يحارب، ولم تكن جمله عبارات وإنما كلماتٍ من لحم ودمٍ؛ لذلك الزمه البوليس بترك النمسا فتركها إلى سويسرا لينشئ الجمعيات ويدبر ثورةً للعمال الطليان
وفي سنة 1914 حسب الفرصة أتيحت له عندما قتل ثلاثة من العمال، وانتشر الإضراب وأعقبته القلاقل، ولكن الفشل كان من نصيبه، حتى إذا أعلنت الحرب الكبرى وانقسم الرأي العام جرد موسوليني قلمه ليحارب، ودخلت إيطاليا الحرب. وفي 22 مايو سنة 1915 يوم تجريد الحملة عبر موسوليني عن رسالته في كلمة بليغة قال: (. . لقد تحملنا من الخسائر ما تحملنا في السنوات الفارطة. وها قد دنت ساعة الخلاص: فلتفتتح إيطاليا(140/34)
لنفسها عهداً جديداً في العالم، ولتنل قسطها من السيادة في الأرض)
واشترك موسوليني في الحرب ورجع بأربع وعشرين رصاصة في جسده؛ وفي سنة 1917 ألقى الطليان سلاحهم وعادت الجيوش مهزومة ساخطة، وضربت الأزمة الاقتصادية بجرانها على كل الطبقات، ولاحت في الأفق معالم الشيوعية الحمراء، وشرعت موسكو تبعث رسلها وأموالها إلى إيطاليا، وابتدأت القلاقل والمجازر في كل المدن الإيطالية على مسمع من الحكومة
ولما وجد موسوليني أن رجال الحكومة خروا صما وعمياناً أمام الطوفان، هب ليلقاه بجسمه وبصحيفته، وبحزب جديد؛ فلم تمض شهور ستة حتى كان له من الأتباع خمسة وعشرون ألفا
وفي 3 ديسمبر سنة 1919 أعلن الشيوعيون الإضراب العام وفرض القوم سلطانهم في كل مكان بمذابح مروعة، يقشعر من هولها الإنسان، والحكومة لا تتحرك، وكأن الأقاليم لا تُسمع روما صرخاتها الموجعة! ثم أخذ العمال المهندسين رهائن في 29 أغسطس سنة 1920، واحتلوا المعامل، وأطلقوا الرصاص على الجيش ونهبوا مخازن السلاح. . . وهوت العملة، ولم يبق للنقد سعر، وتساءل الناس: (إلى أي طريق نحن مسوقون؟)
كل ذلك والحكومة كأنها ليست في روما ولا في أي مكان.
عندئذ نظم موسوليني رجاله ليحاربوا الثوار حرب عصابات حيثما ثقفوهم، فأعادوا الأمن، وطمأنوا الناس، وخفق باسمهم كل فؤاد مروع؛ وأخذ ينضوي تحت لوائه الأب الهلوع، والأم المثكال. وفي سنة 1921 دخل الانتخابات وخرج منها ظافراً بخمسة وثلاثين نائباً، كان يتزعمهم في البرلمان كأمهر ما يتزعم السياسي العتيد؛ ثم عقد مع الاشتراكيين (هدنة!) ليدبر لهم مقتلاً. . . وفي أكتوبر عقد المؤتمر الفاشستي من 2200 شعبة تمثل 310 آلاف، وتلا الرجل برنامجه: (السلام في الداخل والقوة في الخارج) فصفقت له الأمة بجموعها
وفي سنة 1922 كانت الحكومة تتساقط كقصور الورق، وعجز الملك عن تأليف وزارات استقرار، وكان الرعب الشيوعي يتفاقم، فلم يتردد الفاشزم عن احتلال مدائن بأسرها لتطهيرها من الطاعون الأحمر؛ وأعلن الشيوعيون الإضراب؛ وأعلن موسوليني تجنيد(140/35)
رجاله ليعملوا بدلاً من المضربين، وأنظر الحكومة ثمانية أيام على البغي الشيوعي، وإلا فهو حال محلها؛ وختم نداءه بصيحة داوية: (يا رجال الفاشست. . . إن إيطاليا لنا)
وفي ثمانية أيام عاد دولاب الأعمال إلى الانتظام، فكتب موسوليني إلى رئيس الحكومة يقول: (إن الأمة تعبت من هؤلاء الحكام الذين يترددون بين الدناءة والإهمال) فأجابه بدعوته إلى الاضطلاع معه بأعباء الحكم، فرفض إلا أن يعطى هو الوزارات الهامة؛ وختم رفضه قائلاً: (إن لديه من القوة ما يكفي لينال دست الأحكام) وأعلن الزحف على روما. . . وزحف الفتيان على روما فعلاً؛ وطلب الوزير من الملك أن يعلن حالة الحصار، فرفض جلالته، لأنه كان يعلم ما هي الفاشزم، ولأنه عهد بالوزارة في الغد إلى موسوليني
كان بعد ذلك ما كان مما يعلمه الكافة من بعث إيطاليا كرةً أخرى لتضارع أكبر دولات التاريخ. وبعد ثلاثة عشر عاما من جهود فرق البشر في كل مرافق الدولة، غدت إيطاليا أمة تعرف الدنيا كلها مقدارها
ويختتم المؤلف بتحية الدكتاتور البارع داعياً له الله أن يقيه رد الفعل الذي يصيب الكثيرين من رجال الثورات. ثم يقول ناصحاً أمته على عادته في ختام حديث كل جبار - (فليحذر المقلدون من الفرنسيين، ولا يحسبوا أن هذه الأساليب مأمونة عواقبها في فرنسا؛ والإنتاج الطائفي الذي يقوم عليه نظام موسوليني لا يمكن أن يطيقه فرنسي واحد؛ وقبل أن ننسخ صورة طبق الأصل يجب أن نفهم ماذا ننسخ)
وهذه شبه جزيرة الأندلس: نشأت فيها دكتاتورية مخفقة على يد بريمو ديريفرا في أسبانيا، لأنها لم تخلق غذاء للرأي العام، ولأن رجلها لم تكن له فكرة محدودة يتبعها، كما نشأت فيها دكتاتورية من أبدع الدكتاتوريات في البرتغال على يد الأستاذ سالازار. . . ترك الأستاذ سالازار كرسيه في الجامعة بعد أن هتف به الرأي العام لإنقاذ الجمهورية إثر رفض شروط القرض التي شرطتها عليها عصبة الأمم، فوضع الأستاذ شروطه قال: (. . . وليمنحني الشعب ثقة ليس لها حدود، وله ألا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكن عليه الطاعة عندما آمر. . .) وهنا يُعنى المؤلف بإظهار مدى تأثير ثقافة المؤلفين الفرنسيين في الساسة المعاصرين، فينوه بآثار صديقه (شارل موراس) الذي اتهم بتدبير الاعتداء على (ليون بلوم) في جنازة المؤلف!! ثم يشرح المؤلف طريقة سالازار وهي: الدولة أولاً(140/36)
والديموقراطية ثانيا، ويختتم كلامه بقوله: (يقولون عن جمهوريتنا إنها جمهورية الأساتذة. . . والحق إن البرتغال هي بلا مراء جمهورية الأساتذة) فأن نظام سالازار ما يزال يؤتي ثمراته البديعة منذ عشر سنوات
وهذا آخر رجال الحكم المطلق (أدولف هتلر) يتصدى له المؤلف في ريبة الخصم، ولكن في نزاهة الباحث، فهو خطيب خارق للعادة، وداعية في الهواء الطلق، نشأ بناء، ثم حارب في الحرب الكبرى، ولما حاول الانقلاب مع لودندورف سجن شهوراً كتب فيها كتابه (كفاحي) فغدا الكتاب إنجيلا للألمان، ولو أنه كأثر من آثار الفكر لا يساوي حبة من خردلة، ففيه كلام فارغ عن اليهودية والآرية، وفيه كلام عن استرداد النمسا - من النمسا! والأزاس واللورين من الخصم الخالد. . . فرنسا، والتيرول من إيطاليا؛ وفيه كلام عن الحركة الاشتراكية
وفي سنة 932 كانت هذه الأمة التي تخلبها التشكيلات العسكرية قد انخرطت أغلبيتها في سلك (فرق الهجوم) و (أصحاب القمص السمراء) فكان هتلر يسيطر على مصائر ألمانيا، وفي 30 يناير سنة 933 دعاه هندنبورج للوزارة فلبث غير قليل ليعمد إلى (شليشر وزوجته) فيقتلهما، وليطهر الحزب من (روهم) على طريقة (الجانجستر) في شيكاغو؛ وأخذ هتلر وجيبلز يغنيان الأناشيد للشعب الألماني. وكلما خطبوا صدحت الموسيقى فانتشى الشعب من الموسيقى ومن الأغاريد وسار وراء فرسانه
وبدأت محاولة التعقيم، وحرب الكنيسة، وتشريد اليهود في ألوان قاتمة من التعذيب، وبدأت وسائل الجهاد الداخلي والنشاط القومي توجهها كفايات ممتازة. . . أما عن الخطة الاجتماعية فأن الشك يساور الأنفس، فهناك ملايين من العاطلين محشودة في (معسكرات العمل) لن تُوَجه في الغد إلا إلى الميدان. .!
أما هتلر فما يزال في طريقه
فلتصح فرنسا
وبعد (فالدكتاتورية نظام ككل النظم) ولقد تكون خير شرعة شرعت للناس، إذا دعت إليها ظروف الساعة؛ وقد لا تكون إذا لم تدع إليها الظروف. . . وإذا كانت العمليات الجراحية بغيضة إلى نفوسنا، فلنعمل على ألا تكون فينا جراح، لأننا لن نستطيع عند وجودها أن(140/37)
نتفادى مشرط الجراح
ولابد مما ليس منه بد
عبد الحليم الجندي(140/38)
الحياة الأدبية في بغداد
بقلم الأستاذ عبد الوهاب الأمين
تمهيد:
ذكرني مقال الأستاذ (علي الطنطاوي) عن الحياة الأدبية في دمشق بحياتنا الأدبية في بغداد، وحبب لي العزم على دخول المضمار، وأغراني بالبحث عن التراث الأدبي الذي خلفته عصور الذهب وعصور الزوان لعاصمة الرشيد!
وليس جديداً عندي مثل هذا البحث فقد كنت أردده في فرص عديدة سابقة، ولكن صدى هذه البحوث لم يكن يبلغ الآذان؛ أما الآن فقد رغبت أن يكون ذلك في (الرسالة) الغراء، وهي المجلة المقروءة في كل قطر عربي، رغبة مني في إطلاع إخواننا في بقية الأقطار على أن سوء الحال لا يمكن أن يبلغ بالأدب ما بلغه في بغداد!
قبل عشر سنوات
لو أتيح للقارئ الكريم أن يتصفح الصحف والمجلات قبل عشر سنين لما فاته أن يلحظ فيها طيف اليقظة الأدبية وهي في مهدها، ولرأى من كثرة ما ينشر في الصحف حينذاك من الشعر على الأخص، ومن بقية الفنون الأدبية، وإن كانت بصورة بدائية، روحاً أدبياً يبشر بمستقبل لا بأس به، ولكان في وسعه أن يتجوز في تسمية تلك الحركة نهضة أدبية قد يأتي عليها زمن تصل فيه إلى النضوج فتؤتي أكلها أدباً جديداً وأدباء مبدعين!
غير أن حقيقة الواقع ليست كذلك! فها نحن أولاء الآن قد خسرنا حتى تلك الحركة البدائية البسيطة؛ وقد ماتت كل المحاولات التي كان القصد منها بعث الروح في الأدب العراقي في كل مناسبة عرض لها بعض الذين خيل إليهم أن في العراق تربة صالحة لمثل تلك المحاولات
وقد اشترك كاتب هذه السطور وساهم في إنشاء بعض الصحف ا [لأدبية فكانت تُغتضَر الواحدة منها تلو الأخرى، فلما يئس وانزوى وترك العمل أخذ بعضهم يلومه، وزاد اللوم في بعض الأحيان حتى بلغ التعنيف! كأن من واجب الأديب أن يستقل بالتضحية وحده، فإن أحجم أو قصر أو تردد فقد أجرم!(140/39)
وقد كان سبب ذلك الهمود والموت الأدبي في جميع الحالات واحداً لم يتغير ولم يتأثر بتطورات الزمن. فكأن هذا النبات لم يخرج من هذه الأرض، وكأن في طبيعة كليهما ما ينفره من الآخر
فما هي علة هذه الرجعية؟
جناية السياسة والصحافة على الأدب
لست أقصد بالسياسة العمل السياسي، فان ذلك خارج عن بحثي كما أنه خارج عن صلاحيتي! وإنما أقصد أولئك الأشخاص الذين بدءوا حياتهم أدباء ثم انقلبوا سياسيين، ومقدار ما في هذا العمل من الجناية على الأدب! وبعبارة أدل: أولئك الأشخاص ذوي الأطماع السياسية الذين لم تمكنهم شخصياتهم من الخوض في غمار السياسة رأسا، فقدموا لأطماعهم بالاشتغال في الأدب واضعين تلك الغاية نصب أعينهم، فلما ظهرت أسماؤهم على الأفواه تركوا الأدب وانصرفوا إلى السياسة!
هؤلاء أساءوا إلى الأدب أولاً وإلى السياسة ثانياً. . . أساءوا إلى الأدب لأنهم لم يخصوه بنشاطهم ورغبتهم وإنما جعلوه مطية لأطماعهم، وأساءوا إلى السياسة لأنهم جعلوا فيها هذه السابقة
ومن هنا يتبين السبب في تلك النهضة التي حسبنها (أصلية) وما كانت في الحقيقة إلا وسيلة بعض المرتزقين من حملة القلم؛ ولو رجعنا إلى الأسماء التي كانت تذيل بها قصائد الصحف والمجلات قبل عشر سنين، ومقالات ذلك العهد ومحاضراته، لوجدناها من أضخم الأسماء وأعلاها في عالم الوظيفة والسياسة الآن
وقد جرى ذلك على الصحف اليومية، فإن كل صحيفة صدرت في العراق كانت في مبدأ أمرها خالصة لوجه الأدب أو تخصه بأكبر عناية، فأصبحت كل الصحف تقريباً لا تنشر القطعة الأدبية أو القطعة الشعرية إلا في الأسبوع أو الأسبوعين مرة!
وقد كانت جريدة (البلاد) - وهي كبرى جرائد العاصمة - في أول مبدئها تخص (الأدب) بثلث صفحاتها يومياً، وكانت تستكتب الأدباء والشعراء وتنشر لهم وتدعو لأدبهم، وكانت وقتذاك تصدر في ست صفحات فقط، والآن بعد أن زيدت صفحاتها إلى ثمان فقد تركت الأدب مرة واحدة، ولم تعد تنشر شيئاً منه إلا في بعض المناسبات القاهرة(140/40)
وكذلك قل في الصحف الباقية اليومية منها والأسبوعية، فانك لن تجد فيها إلا ما هو أقرب إلى الأدب السياسي في بعض الأحيان منه إلى الأدب الخالص
ومما يؤلم ويستفز النفس أن الصحف في العراق لا تتكبد في نشر الأدب شيئاً مادياً، بل كل ما ينشر فيها تقريباً (أدب تبرع) وليس أدباً مأجوراً، وهو بذلك أقوم وأفيد بطبيعة الحال من ذلك الأدب الذي تستنطقه المادة، ولكن أصحاب الصحف (الأدباء) لا يكلفون أنفسهم عناء الاستكتاب، بل قد وصل الأمر بهم إلى الاقتصار على الأخبار والأمور السياسية وإهمال الناحية الأدبية بالمرة!
وهذا ما يثبط عزم الأديب العراقي، ويفت في عضده ويكسر من خياله وهمته، فهو لا يخسر التشجيع والتعضيد فقط، بل عليه أن يجتاز الصحافة اجتيازاً، وفي ذلك ما فيه من المغامرة والخسران، فإن من البديهي أن مهمة الصحافة هي التمهيد للأدب والدعوة له وتقديمه، لا الوقوف في وجهه وتثبيط عمله بطريق غير مباشر!
المؤلف والناشر
أكثر ما ينشر في بغداد بل كله كتب مدرسية غير مستكملة حتى الشروط المطلوبة في مثل هذه الكتب، وأكثرها مترجم ومقتطع من الكتب الغربية، وهي تبدل حسب مناهج التعليم كل سنة، وفي بعض الأحيان في أقل من السنة! ولو استثنينا بضعة كراريس في المسجلات الأدبية كالسهام المتقابلة، وبضعة أقاصيص ابتدائية للأستاذ محمود أحمد، كمصير الضعفاء وما إليها، فلن نجد كتاباً أدبياً نشر في السنين الأخيرة غير لب الألباب للسهروردي، والمجمل في الأدب العربي لمحمد بهجة الأثري، وتاريخ العراق بين احتلالين لعباس العزاوي!
هذا كل ما هنالك!
وفي هذا كل معاني الفقر! وإنه ليجرح عزة هذه الأمة وكرامتها أن تقفر هذا الإقفار من الأدب الذي هو قوام الحياة، وإنه لأقطع دليل على أن هذه الخلائق لم تستوف ضرورات الحياة، ولم تصل بعد إلى إدراك معانيها وتشوفها، وأنهم - بأدبهم - يعيشون كَلاَّ على غيرهم!
فليس هناك إذن لا (مؤلف) ولا (ناشر)، وإن وجد أحدهما فليس بينه وبين الثاني تفاهم،(140/41)
وإن وجد كلاهما فانهما يكونان وقتئذ أقرب إلى المرابين منهما إلى المشتغلين بالمعنويات والخدمة العامة
والمطبعة العراقية فقيرة إلى حد مزر، فهي لا تزال على نمط المطابع قبل عشربن سنة؛ وهناك جريدة يومية كانت تطبع بمطبعة تدار باليد إلى زمن قريب؛ وليس هناك من نوع اللينو تايب غير واحدة في مطبعة الحكومة! وبالطبع ليس هناك (روتغراف) أو شبهه! ومن هنا نعرف سبب إقبال القارئ العراقي على الجرائد المصرية المصورة، إذ ليس في العراق جريدة أو مجلة مصورة!
القارئ
يتذمر أصحاب الصحف من مشكلة (القراءة) وهي أن باعة الصحف يتفقون وبعض القراء على السماح لهم بتصفح جميع الصحف اليومية لقاء أجر زهيد يستعيضون به عن شرائها، وأن الصحفيين بهذا (الداء) كما يسمونه يلقون أشد العنت والإرهاق والعسر في تحسين صحافتهم! ولا أكذب القارئ أني شهدت مرات عديدة قسما من المشتغلين بالصحافة اليومية يتبعون هذه الطريقة سراً وجهراً، وذلك لأنهم يجدون من الصعب منح الصحيفة العراقية ثمنها لأنها في الحقيقة لا تساويه! وهذا إقرار مزر لا يجد الإنسان معه إلا الوقوف مكتوف اليد!
وليس من الحق لوم القارئ العراقي وحده، فان هذا الشخص الذي لا يسخو على صحيفته بثمنها يبذر في شراء الصحف المصرية اليومية منها والأسبوعية والشهرية تبذيراً، فهو يشتري الصحيفة المصرية اليومية بضعف ثمن الصحيفة العراقية! ولا يبخل على المجلة المصرية بثمن عددها الذي قد يبلغ في بعض الأحيان ثمن اشتراك نصف سنة في مجلة عراقية!
فالجلي من هذا أن القارئ العراقي لا يضمر العداء لصحيفته، وأن الأديب العراقي لا يحجم عن تغذيتها، بل السبب في كل ذلك هو شيء من سوء التفاهم القائم على إهمال مصلحتيهما. فالصحفي يريد التشجيع بدون مقابل، والقارئ يريد التحسين بدون مقابل، وكلاهما لا يحرك ساكناً في دفع هذا (المقابل)
خلاصة(140/42)
إذن فالأدب على أسوأ أحواله في بلاد الرافدين؛ وبغداد التي كانت في وقت مضى منبع الحكمة والأدب والشعر تنتظر بريد الأسبوع لتتلقف الصحف المصرية تلقفاً، وتغذي حاجتها من الأدب المصري، حتى لقد يعلم القارئ العراقي عن أحوال مصر الداخلية والخارجية وعن شخصيتها الكبيرة ما لا يعلمه عن أمور العراق الداخلية وما يتصل بمعاشه وحياته! وحتى بلغ الأمر بنا أن تعودنا الإطلاع على ما يخص العراق من مصادر خارجية، كأن ليس في البلد صحافة وصحفيون، وكأنه لا يعيش لأهله، ولا يعيش أهله له!
فإن كان الأستاذ (علي الطنطاوي) قد همه ألا تكون في (دمشق) حياة أدبية، فلست أجدني إلا مضطراً زيادة همه! فإننا في بغداد ننظر إلى دمشق بعين التطلع، وننتظر أن يصلنا منها ما يروي أرواحنا العطشى إلى الأدب! وإن كان حضرته ينعى عليها هذا الخلو والإقفار، فماذا سيقول عن عاصمة الرشيد؟
لو كان الوقت والمجال يسمحان بالتبسط في شرح بعض الأمور التي تتعلق بالحياة الأدبية في بغداد، كما نسمي هذا الموت تجوزاً بالحياة، لأطلعت القارئ على أحوال منه قد لا تسره، ولكني لا أكون بذلك إلا كالكاشف عن جيفة! فشكراً لضيق الوقت والمجال على حسن صنيعهما!
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين(140/43)
الرسالات
للسيدة وداد سكاكيني
أتى على الإنسان حين من الدهر كانت تعبث به الأحداث، وتدور عليه الأفلاك، وهو في شرق الأرض تسوده الفوضى والجهالة، ويقوده الظلم والطمع؛ فكان كل امرئ ينتبذ مكاناً يحميه ويركن إليه هرباً من بطش فرعون وطغيانه الجارف
في ذلك العهد المظلم كانت امرأة مسلوبة الأمان، مشبوبة الفؤاد، تسير إلى جانب نهر زاخر، حاملة وليدها، حائرة في خطواتها، فأوِحيَ إليها أن تلقيه في اليم، وهي مطوية الحنايا على أمل باهر ووعد أكيد. . . ثم يأتي عهد يكون فيه موسى كليم الله ورسوله
حمل هذا النبي رسالة إلى بني إسرائيل، فانجلت غواشي الذلة عن عيونهم الدامعة، وتجلت لهم الحقيقة البارعة؛ لقد أنقذهم من جور الفراعنة، وأهدى إليهم الأمن والحرية، فتمت كلمة الله في أول دين هبط على الطور
ثم غبرت عصور وتعاقبت أحقاب، فإذا الرومان يعيثون في الأرض فساداً، ويملئونها حرباً واعتسافاً، وإذا كل قيصر جبار يستعبد الأمصار ويخرب الديار، فكانت الأفواه شاكية، والعيون باكية، تستغيث وتستجير، والأسماع المرهفة لا تبدي ولا تعيد، فأشفق الله على خلقه الضارعين وهو أرحم الراحمين؛ لقد أرسل إليهم عيسى بن مريم كلمته الخارقة، وأيده بروح القدس، فأقبل عليهم بدين الرحمة والمحبة والوئام، وخلص القوم من مظلمة الرومان ومرارة الحرمان
ولبث العرب في جاهلية جهلاء، ووثنية نكراء، وبؤس ملحف، وعيش مرهق، وقد كان قيصر الطاغي على عاتق من شبه جزيرتهم، وكسرى الباغي على عاتق آخر، وهم يُصْلون في أرضهم الجدباء نار الصحراء وشح الماء، فكان من رحمة الله أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم؛ لقد طلع عليهم محمد بن عبد الله بهدى كبير وخير كثير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ودانت له البداوة الأبية الشتيتة مجتمعة تحت راية القرآن، حتى بعثت من بطاحها القفراء ورمالها الرمضاء، إلى مدن ورحاب الدنيا حضارة وحرية وعلماً، فتهدّم مجد فارس، وتحطم عز الرومان، وأتم الله نعمته على العرب بدينه الحنيف، وإذا بفجر الإسلام الساطع يكشف الآفاق، ويشرق على الإنسان بنور الإخاء والحرية والمساواة، فكان(140/44)
سباق الأمم الحديثة التي تزعم أنها تسير على هدى، وتدعي الحفاظ على الحق والسلام
ثم يمخر بنو الإنسان خضم الزمن حتى يصلوا إلى شواطئ العصور الحديثة؛ فإذا انتهت رسالات الدين التي نزلت على الشرق، بدأت في الغرب رسالات الدنيا، وبينا الناس (بأوربة) في ذهول وخمول، تنقض ظهورهم المظالم، وتكوي جلودهم المغارم، وبعضهم يرسف في الأصفاد بالسجون، كان جان جاك روسو ومنتسكيو وفولتير ينشرون الكتب ليبصروا الشعب باستبداد الملوك، واستعباد الأمراء، وإذا هم ثلاثة رسل للثورة الفرنسية، وإذا مداد دُوٍيَّهم، وصرير أقلامهم، ينقلبان بعد قليل إلى دوي مدافع وسيول دماء؛ ثم تسكن الفتنة، وقد أعلنت حقوق الإنسان
وتتفتح الأعين في أرجاء الأرض على ضوء الحرية، فتقوم رسلها في كل أمة، وتسري عدوى المساواة إلى كل ملة، ثم يجر ذلك إلى مغانم شتى، ومطامع قصوى؛ وبعد أن تصرم قرن والناس في بحران سياسة ملتوية، احتدمت الحرب الكبرى، فهزت العالم هزاً عنيفاً. فلما وضعت الحرب أوزارها قام الناس من وقعها الأليم كأنهم ينسِلون من القبور
وتقوى في الناس عقيدة الرسالة ويسمونها زعامة، فينهض في الهند غاندي بجسم ضئيل وروح جبار، فيهز سيدة البحار، ويظهر في الترك مصطفى كمال فيخلقهم خلقاً جديداً، ويطلع في الألمان هتلر فيعيدهم سيرتهم الأولى، وتضيق إيطاليا بموسوليني فيغزو الحبشة بناشئة الطليان
أما في الشرق، فيعين الله الشرق! لقد حمل الرسالة فيه بمصر سعد زغلول، فبعث العروبة من مرقدها، وأيدها بروح منه، ونادى في الشرق أن حطموا الأغلال فتنالوا الاستقلال
المصلحون في الدنيا كثير، وهم رسل لأقوامهم، وإذا رجعنا إلى التاريخ قرأنا فيه صفحات دامية عما يعانون في جهادهم لتحرير الرقاب العانية من رباق الجهل والوهم والاستخذاء والاستبداد
وبعد فالشاعر رسول يصور بشعوره الصادق آلام أمته، ويجلو آمالها بروح العبقرية والإلهام
والأديب رسول حين يوجه الناس في آثاره إلى سبيل الخير وطلب الحق ومعرفة الجمال
والمعلم رسول يثقف العقول ويهذب الأرواح، فيبني الأمم وينشئ الرجال(140/45)
والعلماء المصلحون والأطباء المكتشفون، جميعهم رسل الإنسانية المتألمة يسدون إليها الخير والإحسان
كل أولئك رسل أبرار يخطون لأممهم المجد والخلود، ولا تكاد رسالاتهم تحصى؛ فلئن جعل الله رسالات الدين خيراً وأبقى، فان عنده رسالات الدنيا في درجة عليا
(دمشق)
وداد سكاكيني(140/46)
نظرية النسبية الخصوصية
البحث الثالث
مبادئ الميكانيكا الحديثة
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عضو أكاديمية العلوم الروسية
- 6 -
القيمة التفاضلية في الهندسة الأوقليدية لخط تعينها المعادلة:
خ ف2=خ ك1 + خ ى1 + خ ز1 معادلة (1)
وهذه القيمة التفاضلية تتغير في كون (الزمان - المكان) أعني في عالم مينقوفسكي إلى ما تعنيه المعادلة:
خ ف2=خ ك1 - خ ى1 - خ ن1 + ن خ ت1 معادلة (2)
وهذه المعادلة تقابل كمية ثابتة (ث) التي هي نتيجة لمعادلة التقلص التي كشف عنها لورانتز
- 7 -
قلنا في البحث الأول عن الزمان ونسبيته إن اينشتين غير موضوع الهندسة من الأشكال التي يرسمها انتشار النقط المادية إلى الأشكال التي يخطها انتشار الأمواج النورية. وهذه الحقيقة قامت عليها هندسة مينقوفسكي معتبرة طول جسم ما ضرباً من مباحث علم الحركة
في نظر هندسة مينقوفسكي أن المادة ليست إلا مجموعة متواليات الحوادث في نقطة واحدة. ومجموع توالي الحوادث في نقطة يشكل خطاً من خطوط عالم مينقوفسكي. وهذا الخط ينشأ داخل كون (الزمان - المكان) من تحرك نقطة (حادثة والقانون الذي يعّين طول خط يصل بين حادثتين الأولى مثل (أ) والثانية مثل (ب) تعينها المعادلة التفاضلية
ب
خ فمعادلة (1)(140/47)
إذ فيها (خ ف) العنصر التفاضلي الثاني للرقم الأول: وهذه المعادلة تجرنا إلى اعتبار المادة مجموعة الحادثات المنتظمة في حركتها في الفاصلة (خ ف)
لنتصور جزيئاً من المادة مستندا إلى نظام كونيّ، فهذا الجزيء المادي كل نقطة فيه تحتفظ بمكانها النسبي تجاه محورها، ويكون انطباقها على محورها في المكان مشفوعاً بانطباقها في الزمان، فكل نقطة في هذا الجزيء المادي تقع في نظام معين بالنسبة للكون المسند إليه بصورة ثابتة. وكل حركة في هذا الجزيء تتبع نظام الكون المنسوبة إليه، فحوادث الماضي والحاضر والمستقبل تحدث بدقة على خط النظام المسيطر الشامل للكون التي تحدث بالنسبة إليه الحوادث. فجزيء المادة، لما كانت الفاصلة (خ ف) تساوي المركز (م) كان:
خ ف2=ن2خ ت2 - خ ظ2 (معادلة رقم (1))
فلو أبدلنا الرمز (ت) الدال على الزمان في المعادلة السابقة إلى كان:
خ ف=ن خ (معادلة رقم (2))
ومن هذه المعادلة نستنتج أن:
ب ب
خ ف=نخ (معادلة رقم (3))
أأ
حيث أن الرمز (خ رمز لفاصلة الزمان الخصوصية بجزيء المادة المسند للنظام الكوني في صورة ثابتة
وإذا حولنا المعاني الرياضية التي في المعادلات السابقة إلى عبارات عادية أفادت مساواة خط جزيء المادة بحاصل ضرب سرعة النور في الزمان الخاص لهذا الجزيء المادي المسند للنظام المادي، أو بتعبير آخر أن العلاقة بين فاصلة الحوادث لعالم ما وسرعة النور توجد معنا الزمان الخاص بجزيء المادة؛ بمعنى أن قياس الزمن في جزيء مادي مسند إلى نظام كوني يكون بساعة أو كرونومتر مستندا إلى هذا النظام نفسه بصورة ثابتة
- 8 -
لنفرض نقطة مادية مثل (ق) فمبدأ الاستمرار يقرر أن هذه النقطة المادية تتحرك حركة(140/48)
مستقيمة منتظمة إذا لم يؤثر في حركتها مؤثر. ولنفرض حادثتين: الأولى مثل (أ) والثانية مثل (ب) في خط حركة النقطة المادية (ق)، ولنفرض أن الحادثة الأولى (أ) تسبق الحادثة الثانية (ب)، ولما كان هنالك خطوط المجال الانتشاري بين الحادثتين فأننا نرمز لمجموعها بالرمز (خ ص) ولواحدها بالرمز (خ). فلتعيين خط من هذه الخطوط نبدأ من عند الحادثة (أ) التي حدثت في النقطة (م)، ولنفرض أن هذا الخط مسنود بصورة ثابتة لنظام مثل (ظ) ومتحرك بالنسبة لآخر مثل (ظ1)، وإذا انتهينا بالخط عند الحادثة (ب) التي حدثت في النقطة (م1) حيث يقوم بها متحرك مثل (ق1) يتحرك من (م1) إلى (م)
وإذا فرض أنه كان خط حركة النقطتين المتحركتين (ق) و (ق1) منطبقين على بعضهما تمام الانطباق، وكانت النقطة المادية المتحركة المرموزة لها بالرمز (ق) منطبقة على النقطة (م)، والنقطة المتحركة (ق1) منطبقة على (م1) فخطوط الحركة بين هاتين ستكون مختلفة إذا ما تحركتا، وحركة (ق) تكون منتظمة وسيرها مستقيما، كما أن (ق1) تكتسب تعجيلا خلال حركتها من (م1) إلى (م)
فإذا فرض أن حدثت الحادثة (أ) في الآونة (ت1) والحادثة (ب) في الآونة (ت2) فستكون حركة كل من النقطتين الماديتين (ق)، (ق1) محصورة بين الأوانين (ت1) و (ت2) والنقطة المادية (ق1) تتخذ الوضع الذي تنم عنه الرموز الرياضية
ك + خ ك؛ ى + خ ى؛ ز + خ ز
في الآونات (ت1) و (ت خ) و (ت) فيكون معنا المعادلة:
خ=خ ت. . . . . . معادلة (1)
هذه المعادلة تعين خطوط حركة الحادثتين عند الانتقال من خط سير النقطة المادية (ق1) إلى خط سير النقطة المادية (ق) كما وأنها تعين أصغر أقواس الخطوط التي تربط النقطتين ببعض. والفاصلة (خ ف2) تعينها المعادلة
خ ف2=- خ ك2 - خ ى2 - خ ز2ن2خ ت2
فإذا ما حولنا الرمز (خ ف) إلى الرمز (ن خ ت) لنشأ معنا المعادلة:
خ ك 2 خ ي 2 خ ن2
خ ف2=ن2خ ت2 1 + +=ن2خ 2. . . . . . معادلة (1)(140/49)
خ تخ ت خ ت
فلو رمزنا بالرمز (س) إلى سرعة النقطة المادية المتحركة (ق1) في آوان الزمان (ت) كانت المعادلة الدالة عليه:
ن2خ 2=ن2خت2 (ا - س2ن2). . . . . . معادلة (2)
أو أن:
ا - س2ن2=1ث2. . . . . . معادلة (3)
فيكون معنا أن:
ن2خ ت2
ن2خ 2 =. . . . . . معادلة (4)
ث2
ومن هذه المعادلة نستنتج أن
خ تث. . . . . . معادلة (5)
ولو حولنا هذه العبارات الرياضية إلى عبارات عادية لأفادت أن خط العالم الواقع بين الحادثتين (أ) و (ب) والمنطبقة على خط حركة النقطة المادية (ق1) يكون زمانها بالنسبة لنظام مثل (ظ) تتحرك إزاءها حركة انتقالية مستقيمة أقل من مقدار الزمان بين الحادثتين. وكلما ازدادت سرعة النقطة المادية (ق) بالنسبة إلى النظام (ظ) أخذ الزمان في التقلص حتى يتساوى شطرا المعادلة رقم (5) فيكون معنا المعادلة:
بب
خ ت ث معادلة (6)
أأ
ولو حولنا هذه المعادلة هذه المعادلة إلى كلام عادي لأفادت أن النقطة المادية (ق1) في حركتها من (أ) إلى (ب) كلما أخذت في الانحراف عن خط سير الحركة المنتظمة المستقيمة كانت سرعتها بالنسبة إلى (ق) أكبر. ولما كانت الفترة الواقعة بين الآونتين (ت1) و (ت2) ثابتة لا تتغير فزمان النقطة (ق1) يتناقص بهذا المقدار ويكون الخط(140/50)
المنطبق على خط سير النقطة المادية المتحركة حركة مستقيمة منتظمة أطول خط بين هاتين النقطتين
- 9 -
من المعادلات التي سبق ذكرها نستنتج المبادئ الآتية:
أولاً: سرعة النور سرعة محدودة لا تتغير لا في المكان ولا في الزمان. وسرعتها مستقلة عن حركة مصدرها، وتنتشر في الفضاء وبين الأكوان بسرعة ثابتة
ثانيا: قوانين الميكانيكا الكلاسيكية (مبادئ نيوتن) لا تسري على حركة وسرعة النور والأمواج الكهربائية والإلكترو مغناطيسية، ولا على حركة وسرعة الحادثات التي تقرب في سرعتها من سرعة النور، وإنما يسري عليها قوانين اينشتين الميكانيكية
ثالثاً: ليس للزمان حقيقة منفصلة عن المكان بل كلاهما يتحدان في فاصلة واحدة هي الفرق بين مربع الفاصلة المكانية وحاصل ضرب سرعة النور بمربع الفاصلة الزمنية، وهذه الفاصلة هي الفاصلة المطلقة الوحيدة في عالم الحادثات
رابعاً: أطوال الأجسام تتبع حالات مشاهديها وتتغير تبع حركتهم وسكونهم فالأطوال نسبية للمشاهدين
خامساً: ليست المادة كما يعبر عنها العلم الطبيعي الكلاسيكي بأنها كل ما كان لها امتدادات ثلاثة في المكان، بل المادة مجموعة توالي الحادثات في نقطة واحدة، بمعنى أن العالم ليس إلا مجموعة من الحادثات، وتوالي عدد من هذه الحادثات في نقطة واحدة يلقي في روعنا معنى المادة
سادساً: الزمان الخاص بحادثة ما هو مجرد العلاقة بين فاصلة الحادثة وسرعة النور
سابعاً: الخط المستقيم الواصل بين حادثتين هو أطول خط بين هاتين الحادثتين
(تم البحث الثالث)
إسماعيل أحمد أدهم(140/51)
صور الصداقة والعداوة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
وَفِيٌّ غادر سمْحٌ حَقود ... أرى الأضداد فيك إلى لقاءِ
أمَدْحك لي انتقام من عدو ... أساء إليك أم محض الثناء
وفاؤك كي أبادلك التحايا ... أَذَا سبب التقرب والتنائي؟
وكيما أصطلي وأشن حرباً ... على من مدحه لك كالهجاء
أتخدعني ولم تلحق بسني ... وَلم تظفر بخُبريَ أو بلائي
وتمذق لي إخاءك مذق حقد ... علي وما أصبتك بالعداء
تحاربني وتحسب أن ستخفي ... عداؤك ليس يظفر بالخفاء
كشأن نعامة للرأس تخفي ... وتحسب مالها في الناس رائي
ولست بأول المخفين بغضاً ... نما بين المحبة والإخاء
عرفت الناس قبلك يا خليلي ... وذقت الغدر من حلو الوفاء
فان كان الولاء كما أراه ... فويلي من وفائك والولاء
وبعداً للمديح وإن تغالي ... وسحقاً للمروءة والصفاء
سل الخلان ما فعلوا بقلبي ... وهل أبقوا لشدقك من غذاء
وهل أبقوا لبطنك منه شِلْواً ... مريراً لا يساغ على عداء
أعيذك أن أراك شبيه قوم ... رجولة بعضهم فقد الحياء
وهم فقدوه من ذل وعار ... وهم فقدوه من فقد الأباء
وكم أخفوا رخاوتهم بهُجْرٍ ... كمن فقد الحياء من النساء
وهم مثل الهَلوك رمت رجالاً ... بما قد صح فيها من هجاء
على الأبواب واقفة تنَزَّي ... وترمي القوم من دان ونائي
وتحسب أنها نفضت خناها ... كجلد الكلب هُزَّ لنفض ماء
فلا يعديك خلقهم فإني ... رأيت الخُلْق يعدي كالوباء
صفحت ولو أردت بلغت ثأري ... وقد عُرِفَ اقتداريَ في الرماء
فان يأبوا وإن تأبى سكوتي ... فما صمتي بعيِّ الأدعياء(140/52)
ولا يُعْليك بين الناس خفضي ... ولم تبعد بأفقك عن سمائي
لتنزلني إلى حيث استقرت ... بك الدنيا تفنن في العداء
تخبِّرُني اللحاظ بغل قوم ... على ما نلت من فرص الرخاء
وكنت أظنه حسداً لقولي ... فخلت الصمت أقرب للنجاء
ولو سمعوا بموتيَ ما استراحوا ... ولا يشفي حقودهمُ فنائي
أرادوا لي الممات ولو دهاني ... لفرط الحقد أحسد للفناء
فلا يرضيهمُ عيشي رخياً ... ولا يرضيهمُ مني عفائي
وفي الدنيا الدنيئة هان سمْحٌ ... تعالى عن سلاح الأدنياء
إذا ما أحرجوا سمحاً كريماً ... تَدَرَّع بالقواذع في الرماء
دعوني صامتاً فالصمت أوقى ... لكم إن لم تصولوا بالغباء
أُداجي الناس ما داجوا وإني ... لأزهد في الدِّهانِ وفي الرياء
ولكن الحياة لها قضاء ... فمن يأباه يزهد في البقاء
وما أدري لَدُنْ أُلْفِي عدُواً ... أأبله أم تباَلَهَ بالعداء
أَخَوَّفَهُ أذاي أخو دهاء ... أَخَوَّفَهُ ذكائيَ واعتلائي
أَنمَّقَ وعده بالخير إما ... تمادي من تمادى في الجفاء
أسَعْىُ سعاية أم قول واشٍ ... يُحَكِّمُهُ المُحَكَّمُ في الخفاء
أَرَجَّاهُ مُرجِّى الخوف مني ... ضلالاً نيل عونِيَ أو ثنائي
أعَدْوي في التثاؤب من كسول ... كعدوي في العداوة والإخاء
أرشح اللؤم في رهط وضيع ... يفيض بما يشاء من الأداء
ومن عرف الأنام رأى أُموراً ... مُرَعْبَلَةً كرعبلة الكساءِ
أراها كلها صُوَراً تَنَزَّى ... تَنَزِّي الآل في الخرق الخواء
سراب لست أتبعه فأخشى ... هلاكاً لا ولا هو من رجائي
أنا المرء الذي عرف البرايا ... فلا يردى لعاد أو لشائي
ومن خَبَرَ الأنامَ لِصُنْعِ فنٍّ ... فكل الخلق من صُور الأداءِ
تراموا بالهجاء فان أصابوا ... فرهطهم الملطخ بالهجاء(140/53)
أليس الرهط فرداً ثم فرداً ... وأوصافاً لها عدوى الوباء
نعتم رهطكم لما نعتم ... نفوسَكم بأوضار الرماء
نفوسكم معرَّة كل رهط ... ومدرجة الشعوب إلى الفناء
ومهزلة المكارم والمعالي ... وهل لؤم يؤول إلى علاء
لعلكم حسبتم كل شر ... إلى عود بخير وانتحاء
عبد الرحمن شكري(140/54)
أحلام ورموز:
أنا قبر
بقلم السيد زكي المحاسني
يا حبيبي حبي يضيق كلاماً ... ليت أني أُبينُه أنغاما
نغماً تفهم الجوارحُ منه ... ويريح العذاب والآلاما
أنت أُغرودة على الدهر تعلو ... عن سماع يغدو ذووه رغاما
أنت لحن سمعتُه فرماني ... ضائع الرُّشد حائراً مستهاما
ربما قد شككْتُ في صدق عيني ... فحسبت الذي رأيت مناما
كيف فرَّت حقيقةٌ من يد الحِ ... سِّ فصارت في مزعمي أوهاما
أأنا ذاك أم أُعيد وجودي ... بعدما كنتُ في فنائي رماما
أغلِق الكُوةَ المنيرة واملأ ... ني ظلاماً حتى أصير ظلاما
علني أسترد صورةَ ما فا ... ت وعلِّي أرُدُّها أحلاما
ها هو السبح يدَّني من أمامي ... واجماً وجهه يلوح كهاما
جللت منكبيه بردةُ بؤس ... جعلتْها الأسفارُ تبدو قتاما
مَدَّ لي كفَّهُ الهزيلةَ والرج ... فةُ في ثغره وقال: سلاما
لم أكد أهتدي إليه فأرجع ... تُ الخوالي إليَّ عاماً فعاما
ثم لَّما عرفتُه غاب عني ... وكفاني ولو يزورُ لماما
رُدَّ ضوْئِي واحملْ إليهِ حياتي ... واسقِني في سُلوِّ همي مُداما
داوني مثلما يداوَى عليل ... خاف أهلوه أن يموتَ سَقاما
أغْدُ بي في الرياضِ واقصص حديثاً ... أتّخِذْ منه سَلوةً وجَماما
أنا أهوى الحياةَ من كلِّ آتٍ ... وأُرَجّي من البقاء دَواما
إحتَفْر هُوَّةً وأنْزلْ إليها ... ذِكرياتي وأردُم عليها رِجاما
وكأني أَمُرُّ يوماً عليها ... فتنادي: ألا رعيت ذِماما
فأُبَكّي لها وأسفح دمعي ... فتُبلُّ الدموعُ منها أُواما
أنا قبرٌ وفيّ مَيْتٌ توارى ... وبكائي عليَّ كان لزاما(140/55)
ليلة في (الحمراء)
(عن شاتوبريان)
بقلم السيد ناجي الطنطاوي
ولي ذكريات أودعت مهد مولدي ... عذاب وعهد في رباه أنيق
فهل تذكرين اليوم يا أخت ما مضى ... فأني إلى تلك الديار مَشُوق
وهل تذكرين (الكوخ) حين تضمنا ... إلى صدرها الأم الحنون فنجذل
وشَعراً لها قد بيّض الشيب جُلَّه ... نداعبه طوراً وطوراً نقبِّل؟
وهل تذكرين القصر والنهر دونه ... يبلّله والبرج فيه قديم؟
إذا قرع الناقوس أعلن صائحاً ... بأن نهار الأمس عاد يقوم
كذا العندليب الخفُّ هل تذكرينه؟ ... يلامس سطح الماء حين يطير
وللقصب الزاهي انحناء وعندما ... نرى الشمس في ماء الغدير تغور
فهل من معيد لي (هيلين) ودوحةً ... بها وجُيلاً كيف لي أن أراهما؟
تسبب لي ذكراهما الوجد والجوى ... لأنيَ لا أهوى ربوعاً سواهما(140/57)
في غمرة الهوى
بقلم السيد الياس قنصل
لا تحزني إن كنتِ عاشقةً ولا ... تستسلمي لتفحّع وبكاء
الحبّ لا يُشقي وإن حمل الردى ... بفوادح الكباتِ والأرزاء
هو نفحةٌ علويةٌ سحريةٌ ... تسبي الفؤاد بلطفٍ الاستهواء
تحبو الخليَّ جناحَ وهمٍ خالدٍ ... يسمو به عن سائر الأحياء
لا تحزني، فجمالكٍ الفتان قد ... تذويه عاديةٌ من البلواء
والحزنُ ينفث في الحياة وكأسها ... ما ليس تنفثه سوى الرقطاء
وتأملي تجدي تباريح الهوى ... قد ميزتكِ برقةٍ وسناء
ما كنت قبل اليوم إِلا دمية ... تحوي ضروب الحسنِ دون رواء
يأتي الربيعُ فلا ترين جماله ... إلا بعطرِ زهوره الميلاء
وتدغدغ النسماتُ وجهكِ حيث لا ... تلقى سوى لون بلا إغواء
وإذا تمايلت الغصونُ وصفَّقت ... أوراقها في الروضة الغناء
لم تدركي معنى تمايلها، ولم ... تقفي على همساتها الخرساء
ما كان قلبك رغم كل حنوّه ... إلا شبيه الصخرةِ الصماء
واليوم بتِّ وقد عرفتِ لُغَي الهوى ... نبتَ الخلودِ ومهبطَ الإيحاء
فإذا رنوتِ إلى السما عند المسا ... ورأيت سلك الأنجم الزهراء
أدركتِ شيئاً لم يكن لك ظاهراً ... وكشفتِ سرّ القبة الزرقاء
أمسيتِ أقرب للذي أمر الورى ... بالحبّ، لا بالحقد والبغضاء
سرّي إذن، وليمحُ عنكِ الحزن ما ... يجتاز قلبك من هوى وهناء
(عاصمة الأرجنتين)
الياس قنصل(140/58)
أندلسيات:
3 - ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطُّبْني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أَلاَ يحسن بنا بعد أن أوردنا ترجمة ابن بسام للشاعر أبي مروان الطبني أن نردفها بترجمة الفتح بن خاقان لهذا الشاعر حتى ترى فرق ما بين الترجمتين فتتم الموازنة بذلك بين هذين الأديبين من جهة، وحتى نوفي ترجمة هذا الشاعر حقها بما في ترجمة الفتح من زيادة على مما في ترجمة ابن بسام من الجهة الأخرى. نعم، قال الفتح في المطمح في حق الطبني: من ثنية شرف وحسب، ومن أهل حديث وأدب، إمام في اللغة متقدم، فارع لرتب الشعر متسنم، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق، ثم عاد وقد توج بالمعارف المفرق، وأقام بقرطبة علماً من أعلامها، ومتسنما لترفعها وإعظامها، تؤثره الدول، وتصطفيه أملاكها الأول، ومازال فيها مقيما، ولا برح عن طريق أحانيها مستقيما، إلى أن اغتيل في إحدى الليالي بقضية يطول شرحها، فأصبح مقتولا في فراشه، مذهولا كل أحد من انبساط الضرب إليه على انكماشه؛ وقد أثبت من محاسنه ما يعجب السامع، وتصغي إليه المسامع؛ فمن ذلك قوله:
وضاعف ما بالقلب يوم رحيلهم ... على ما به منهم حنين الأباعر
وأصبر عن أحباب قلب ترحلوا ... ألا إن قلبي سائر غير صابر
ولما رجع إلى قرطبة وجلس ليرى ما احتقبه من العلوم، اجتمع إليه في المجلس خلق عظيم، فلما رأى تلك الكثرة، وماله عندهم من الأثرة قال:
إني إذا حضرتني ألف محبرة ... يكتبن: حدّثني طوراً وأخبرني
نادت بمفخرتي الأقلام معلنة ... هذي المفاخر لا قعبان من لبن
وكتب إلى ذي الوزارتين أبي الوليد ابن زيدون:
أبا الوليد وما شطت بنا الدار ... وقلّ منا ومنك اليوم زوّار
وبيننا كل ما تدريه من ذمم ... وللصبي ورق خضر وأنوار(140/59)
وكل عتب وإعتاب جرى فله ... بدائع حلوة عندي وآثار
فاذكر أخاك بخير كلما لعبت ... به الليالي فان الدهر دوار
عود إلى الذخيرة
(وأما بعد) فقد آن لنا أن نعود إلى القول على كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وهو الأثر الفذ الباقي للمترجم له أبي الحسن علي بن بسام؛ ولولا أن لهذا الكتاب شأناً غير شأن سائر نظائره لما عرضنا للقول عليه والتعريف به، إذن لنلق عليه نظرة ليس منها بد؛ ولا سيما بعد أن بشرنا صديقنا الأستاذ الكبير محمد كرد علي بك بأن هناك لجنة من أفاضل المستشرقين تألفت برياسة العلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال لا خراج هذا الكتاب الضخم الخالد الذي حُرِمت منه المكتبة العربية هذا الزمن الأطول. . .
وضع قديماً أبو عبد الله هرون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي المتوفى سنة 288هـ كتاباً اسمه (البارع) في أخبار الشعراء المولدين جمع فيه مائة وواحداً وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار بن برد وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه، وقال في أوله: إني لما عملت كتابي في أخبار شعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي؛ والعلماء يقولون: دل على عاقل اختياره. وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله. وقال بعضهم: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من عقله، واختياره قطعة من علمه. وطول الكلام في هذا وذكر أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلاً فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر. ثم جاء بعده أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ ووضع كتابه (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب البارع؛ هذا ثم جاء أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المتوفى سنة 467هـ؛ وألف كتاباً اسمه (دمية القصر وعُصرة أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب يتيمة الدهر؛ ثم جاء أبو المعالي سعد بن علي الوراق الحظيري المتوفى سنة 568هـ وصنّف كتاباً أسماه (زينة الدهر)، وجعله ذيلاً على دمية القصر؛ وأخيراً ظهر العماد الكاتب الأصبهاني المعروف بابن أخي العزيز والمتوفى سنة 597هـ، ووضع كتابه المسمى (خريدة القصر وجريدة أهل العصر)، وجعله ذيلاً على زينة الدهر للحظيري. هذا في(140/60)
المشرق، وأنت فانك تعلم أن الأندلسيون كثيرا ما يحذون حذو المشارقة في سائر مناحيهم؛ ومن ثم نحوا نحوهم في وضع هذا النوع من التواليف، فوضع الأديب الكاتب الشاعر أبو عمر أحمد بن فرج - وكان معاصراً للخليفة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر - كتاباً اسمه (الحدائق) قدمه للخليفة المستنصر وعارض به (كتاب الزهور) لأبي محمد بن داود الأصبهاني ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً - وسنترجم لهذا الأديب - ثم جاء من بعده صاحبنا أبو الحسن علي بن بسام فوضع كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وجعله ذيلا على حدائق ابن فرج. وفي عصره صنف الفتح بن خاقان كتابي القلائد والمطمح، وجاء بعدهما الأديب أبو عمر بن الإمام وذيل على الذخيرة والقلائد بكتاب اسمه سمط (الجمان وسقيط المرجان) ذكر فيه من أخل ابن بسام والفتح بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة؛ وذيل على هذا الكتاب أبو بحر صفوان بن إدريس الكاتب الأندلسي الكبير بكتاب سماه (زاد المسافر) ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة. وهنا نذكر أن أكثر هذه الكتب مفقود كما أن هناك تواليف كثيرة من هذا القبيل لم نسمع بها فضلا عن أنها غير موجودة. فلقد أخبرنا الإمام أبو محمد بن حزم في رسالته التي يشيد فيها بفضائل الأندلس أن للشاعر الوشاح أبي بكر عبادة بن ماء السماء كتاباً في أخبار شعراء الأندلس أثنى عليه وقال أنه كتاب حسن معناه. وحدثنا أيضاً بأغرب من هذا وهو أن من بين الكتب التي وضعت للخليفة الحكم المستنصر كتاباً في أخبار شعراء (أًلبِيَره) في نحو عشرة أجزاء. . . فتأمل. . . ومما يتصل بهذا وما هو أقعد في باب الغرابة ما حدثنا به ابن حزام أيضاً من أن هناك شاعراً أندلسياً كان في عصر جرير والفرزدق اسمه أبو الأجرب جَعْونَة بن الصِّمّة الكلابي يقول ابن حزم في حقه: ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب في الشعر لم نباه إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما؛ ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين. وحكى ابن سعيد صاحب كتاب المغرب قال: إن عباس ابن ناصح الشاعر الأندلسي لما توجه من قرطبة إلى بغداد ولقي أبا نواس قال له أنشدني لأبي الأجرب قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته؛ فأين شعر هذين الشاعرين الأندلسيين العظيمين؟ إنا وا أسفاه لم نعثر لهما على شيء قط. . . . . . ثم وأين كتاب المسهب للحجاري، وكتاب المغرب(140/61)
لابن سعيد، وكتابا المبين والمقتبس لمؤرخ الأندلس الأكبر أبي مروان حيان ابن خلف!؟. . . وأين وأين. . .!؟
أين سكناك لا أين لهم ... أحجازا أوطنوها أم شاما
فاسألنها واجعل بكاك جواباً ... تجد الدمع سائلا ومجيباً
عبد الرحمن البرقوقي(140/62)
القصص
مأساة من أسخيلوس
ثأر أورست
الدرامة الثانية من (الأورستية)
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
- 6 -
ويسأل أورست عن هذه الزقاق من أرسلها، وعن هذه الخمر فيم يصبانها على ثرى أبيه، وقد تصرمت السنون على جدثه، فتحدثه رئيسة المنشدات عن رؤيا الملكة:
- (حلم! حلم! أيها الأمير! حلم مزعج مروع أقض مضجعها؛ وأذهلها عن نفسها! رؤيا انبجست عن ضميرها المضطرب الملوث بالآثام!)
- (رؤيا! وأي رؤيا هذه؟)
- (حملت واستكرشت، ثم وضعتها أفعى هائلة)
- (أهذا كل شيء؟)
- (لقد هبت مروعة مشدوهة، وطفقت تصيح وتصخب كأنها طفلة جائعة. . .)
- (الحية الرقطاء! وأي غذاء يرد شرهها! زادها الله سغباً!)
- (لقد كانت تمسك صدرها بيديها، كأنها تخمد فيه ناراً!)
- (وكيف لم ينفث السم في ثدييها. . .)
- (كلا! بل لقد قطر ثدياها دماء. . . لا لبنا!)
- (يالها من رؤيا. . . لو تتم!. . .)
ثم انطلقت تصيح في أبهاء القصر، وهب العذارى يحملن المشاعل ويغسلن ظلام الليل؛(140/63)
وأمرت بهذا القربان الخمري فصُبّ في تلك الزّقاق، وحملناه إلى. . .)
- (قبر زوجها! الغادرة الفاجرة! ليشفى سعارها! يا آلهة الأولمب! ويح لك يا أرض الآباء! رحمة لك يا قبر! يا سيد الأولمب! يا ربات المقادير! أكتبي أن أكونه، أكتبي أن أكون هذا الأفعوان الهائل الذي يقر فوق صدرها. . . لن يردني شيء! سأغمد خنجري في الصدر الذي شببت فوقه! سأمزق الأثداء التي قطرت في فمي علقم الحياة!
اكتبي يا ربات المقادير! لتمت موتة دامية! سأذبحها! أنا الأفعوان لا ريب! اشهدن أيتها العذارى! سجلي يا سماوات! هلم ببلاديز! هلم يا صديقي لنأخذ فيما قدمنا له؛ وأنت يا إلكترا كوني رائدنا في القصر؛ تحسسي لنا أخباره، وقصي آثاره، فإذا أزفت الآزفة لم تفلتهم الغيلة التي دبرناها لهم، كما دبروها لمولاهم من قبل؛ ولم يفلتهم الشرك الذي نصبوه بأيديهم، وآن لهم أن يقعوا فيه. . . . . ليذوقوا وبال أمرهم مادام أن النفس بالنفس! هلمي إلكترا! سأبدو أمام البوابة الكبرى معي صديقي ببلاديز في زي مهاجرين، وسنتحدث بلهجة أهل هذه البرية التي نثقفها جيداً، يا للآلهة! إن أحدا من أهل القصر لن يمنحنا ابتسامة، أو يتصدق علينا بنظرة!!. . .
لا علينا! بيد أننا سنترصد لأبجستوس، فإذا حانت لنا منه غفلة فسننقض عليه وننفذ خناجرنا فيه! إلكترا! ارقبي القصر جيداً، واحذري أن تحركي لسانك بكلمة تفسد علينا كل شيء. . . . تكلمي إذا كان في الكلام خير لنا. . . . . وإلا. . . . . فالصمت. . . . الصمت الذي يشبه الكبرياء يا أختاه. . . وأنتن أيتها العذارى. . . هاتين موثقكن (يقسمن له أنهن معه) إذن. . . إلى اللقاء. . .)
- 7 -
(المنظر: أمام قصر البلوببديه)
(يهزج المنشدات بلحن طويل حلو، ويتغنين أشجان القصر العتيق، ويرددن ذكريات الماضي المظلم المضرجة بالدم، ويلمعن إلى الهول الأكبر الذي ينتظر المجرمين. . .)
(يدخل أورست ويطرق باب القصر)
- (أنتم يا من هنا؟. . . (ويطرق ثانيةً). . . يا أهل هذا المنزل الرحب. . . (ويستمر في الطرق). . . يا سادةَ هذه الدار!. . . الأمير إيجستوس! أريد الأمير إيجستوس! ماذا؟ ألا(140/64)
من أحدٍ هنا. . . في الدار المضيافة. . . (يطرق بعنف)
البواب: (هيه! من؟ من أنت؟ (في غضب) من أين أقبلت؟ تكلم أيها الريفي!
- (لقد جئت لسادة هذا القصر بأخبار هامة. . . غريبة. . . فالبدار البدار أيها البواب!. . . قل لهم إن بالباب رجلا من بدو البرية يريد لقاءهم. . . هيا. . . و. . . اسمع أيها البواب. . . اسمع، أرجو أن. . . لقد أوشك الليل يرخي سدوله، ولا بد لابن السبيل من ملجأ كريم يأوي إليه. . . فحبذا لو لقيت أيَّا من ذوي الشأن هنا - وحبذا لو كان رجلاً. . . إن لديَّ أنباءً هامة، وقد أرتبك إذا ألقيتها لامرأة. . . أما إن كان رجلا. . . فالرجل يصارح الرجل من دون ما حياء. . . بل لا يكاد ذهنه يشرد في حضرته كما قد يشرد في حضرة امرأة. . . . . .)
(تدخل كليتمنسترا)
- (ماذا أيها السيد؟! غريب لاجئ! مرحبا مرحبا. . . إن قصر البلوببديه لن يضيق بالجائع المعتر، ولا بالطامئ الصادي. . . انزل أهلا، وحل سهلا. . . ولكن. . .! يبدو عليك أنك رسول ولديك أنباء! إذن. . . ما وراءك؟ هذا إن لم تكن رسالتك للأمير. . .)
- (أنا؟. . . أجل. . . رسول! لقد قدمت من بلدتي دُوليس، إلى آرجوس، في بعض شأني. . . و. . . بينا أنا في بعض الطريق، إذا رجل طوال وقور الهيئة يلقاني فجأة ويسألني إلى أين؟ لم أكد أجيبه أنني ميمم شطر آرجوس حتى لهث لهثة شديدة وقال: إذن لي رجيّة عندك ما أحسبك إلا مؤديها لي. . . ومناني بالخير الكثير، ووصل حديثه فقال: إذا كنت في آرجوس فاقصد من فورك قصر الإمارة. . . البلوبيديه الشاهق. . . والق ال. . . ملـ. . . الأ. . . مير. . . ونبّئه أن أورست قد قضى نحبه. . . مات. . . ثم سلهم، هل يرون أن تنقل رفاته فتقر في ثرى الوطن. . . أم يؤثرون أن تظل حبيسةً في دار الغربة كما عاش صاحبها إلى آخر أنفاسه مشرداً في أقصى الأرض، طريدا من رحمة أبويه. . . أما الرجل فقد ذكر لي أنه ستروفيوس وأنه من فوسيز. . . وقد ألح في أن أعود إليه برد على ما طلب. . . و. . . و. . . فاتني أن أذكر أن رفات الأمير الصغير ما تزال محفوظةً في إران نحاسي. . . و. . . أنه يبكيها. . . و. . . ولكن يا سيدتي بحق الآلهة عليك! لقد ذكرت كل شيء. . . هل أديت الرسالة للأُدُن التي طلب مني الرجل أن تعيها؟ إذ ينبغي(140/65)
أن يعلم أبَوَا الأمير قبل كل أحد)
- (ويلاه! يا للداهية تنعت في هذا الخبر الأسود! إيه أيتها اللعنة التي ما تفتأ ترنق على هذا القصر! إيه يا عُقاب الردى هويت من شاهق على حَمَلِنَا! إيه يا سهم المنية اخترمته من بُعد! بينا كنت أحسبه في مأمن من مزالق الحتوف، إذا هو يموت، ويغادرني في تعاستي وحدي! أورست! يا رحمتا لك يا بُني! لقد كنت أدخرك لتشفي أوجاع هذا البيت. . . يا أملي الوحيد! يا آخر رجاء لي في الحياة! لقد جاء النعي فلا شك!. . .)
- (وا أسفاه! كم كنت أود لو أتيت بالبشريات الغُر لأنال رفد هؤلاء السادة الأثرياء! ولكن! لا عَليّ! فلقد ظل قلبي يحدثني عما في النبأ الذي حُمّلت من شر!
إ. . . إ. . . إنما!. . . ما لي ولذاك! أيتها الأميرة! أمن رد على ستروفيوس. .؟)
- (ليطمئن قلبك على الرفد أيها الرسول! ولا يحزنك أنك جئت إلينا بهذا النبأ، فقد كان غيرك يجيء به لو لم تفعل. . . والآن. . . هلم أيها الخادم بالضيف الكريم إلى أفخر غرف الضيافة، وليصحبه تابعه، ولتكرم مثواه،، فما أظنهما إلا قد أظناهما السفر، ونال منهما الطريق. . . أما نحن، فسنبلغ الملك وسنرى ماذا يكون في مسألة الرفات)
(يخرج الجميع ماعدا المنشدات)
- 8 -
(تدخل مرضع أورست)
رئيسة الخورس: (هيا يا وصيفات القصر! صلاةً مباركة للآلهة أن تحرس أورست وأن تلحظه بعين الرعاية. . . وصلاة مباركة على روح الوالد القتيل، الذي لابد هو راع ولده الذي جاء ليثأر له من الآثمين!. . . هيه! من؟ مرضعة أورست؟ كيليسّا؟ ماذا جاء بك يا كيليسا؟! تبكين؟ ماذا يبكيك يا طيبة القلب؟!)
- (عِمَنْ مساء يا عذارى طروادة! لا شيء! فقط،. . . لقد طلبتْ إليّ الملكة أن أدعوَ إليها أميرها إيجستوس ليتلقى بأذنيه أنباء النعي! ويلاه! ويلاه عليك يا أورست! يا طفلي العزيز! شجن جديد يغطش سماءك أيها القصر! أنت يا مأوى الأشجان وكهف الأسرار! يا بيت أتريوس كم مصيبة خبأتها لك الأقدار؟! آه يا طفلي! يا من غذوتك من ثدييّ لبن المحبة والحنان! أنا كيليسّا المفجوعة فيك. . . أنا التي غذوتك ونشّأتك وسهرت عليك بأمر(140/66)
أبيك الملك! أنا التي كنت أفديك بالحياة. . . لقد انتزعوك مني. . . ونفوك في أقصى الأرض حتى لا تروع أحلامهم وتقف في سبيل لذاتهم! اللئام. . .! أنا أذهب الآن لأدعو إيجستوس! لأملأ سمعيه بخبر وفاتك! يا ولدي. . . يا ولدي. . .!)
- (مسكينة! يا ويح لك يا كيليسّا! ولكن!. . .، اهدئي، فان لنا لسؤالاً نحب أن تجيبي عنه. . .!)
- (. . .؟. . .؟. . .)
- (وبم أمرت الملكة؟ هل أمرتك أن يأتي إيجستوس ومعه أحد؟)
- (لا أفهم. . . أفصحن بحق الآلهة عليكن!)
- (نعني، هل يأتي وحده، أم يكون معه حرس؟)
- (لا! بل أمرت أن تكون حوله فرقة من حملة الرماح!)
- (صه!. . . لا. لا. . . إياك يا كيليسا! قولي له إن الملكة تريد أن تذهب إليها بمفردك. . . و. . . نرجوك!. . . نحن نترك البقية لحسن فهمك!. . .)
- (ماذا؟. . . وهل لكن الحق في إصدار أوامر؟)
- (لا. . . ولكن إن كنت حقاً وفية لأورست فلا تقولي إلا ما أشرنا عليك به!)
- (لست أفهم!. . . لقد أردى أورست وكان منتهى آمالنا. . . فماذا نرجو بعد؟)
(وتبكي)
- (لترقأ عبرتك يا كيليسا! وليفرخ روعك! هوني عليك يا طيبة القلب، فقد يكون حياً يرزق! من يدري؟ لقد أُلقي إلينا أن. . .)
- (ماذا؟ نبوءة! نبوءة بالله عليكن؟. . أم سمعتن أنباء خاصة؟)
- (صه. . .! هيا هيا. . . اذهبي إلى إيجستوس وليقصد إلى الملكة وحده!)
(تخرج كيليسا)
(وتصلي المنشدات من أجل أورست، ضارعات إلى الآلهة أن تكون معه؛ والى هرمز أن يحرسه)
- 9 -
(يدخل إيجستوس)(140/67)
- (هيه!. . . هأنذا قد أتيت! ياله من خبر! أين الغريبان! ماذا؟ أحقا مات أورست؟! ما كنا نؤثر أن يموت! يا للجرح الذي ينغل في أحشائك أيها القصر؟ هاك فادحا آخر ينوء بكلكله عليك! ولكن!. . . لا. . . لا أصدقه! لا أصدقه. . .! أنا في شك من النبأ مريب! المرأة! لقد زخرفوا لها الخبر الأسود وقذفوا به في روعها! أكبر ظني أنها إشاعة لا تلبث أن تذوب! خبرن يا وصيفات! أحق ذاك النبأ؟)
- (لقد سمعنا كما سمعت! ولكن!. . . لتدخل أنت، ولتلق الطارقيْن الغريبيْن! فقد خُيّل إلينا أنها مجرد إشاعة! وقد تجلو الحقيقة حينما تواجههما)
- (ما احسبني أصدّقهما إلا أن يقولا رأيناه يجود بآخر أنفاسه! إن لي لعقلاً، وإنه لا تجوز عليه الأباطيل!)
(ويخرج)
وما تكاد المنشدات يترنمن بأنشودة قصيرة يصلين فيها لزيوس حتى تُسمع صرخة من الداخل:
- (آه. . . آه. . . ذُبحت! لقد ذُبحت!)
المنشدات: - (ها!. . . اشتدي أزمة!)
- (آه. . . آه. . .)
- لقد نفذ السهم وقضي الأمر!. . .
(يدخل أحد الخدم) ٍ
- (ويلاه! قتل الأمير! أخبروا الملكة!. . . ويلاه! افتحوا البوابة لأميرة القصر! (تحاول المنشدات فتح البوابة فلا تستطعن) أنتن ضعيفات! ليفتحها الرجال الأشداء! الغوث الغوث! آه. . . لا غوث اليوم، لقد انتهى كل شيء! أين الأميرة! أين الملكة! أين كليتمنسترا؟ يا ويح لها حين يفجعها النبأ!. . .)
- 10 -
(تدخل كليتمنسترا)
- (من ذا يصيح ويصخب هنا؟ ماذا؟ أنت الذي تصخب أيها الخادم؟)
- (أ. . . أنا. . .؟(140/68)
- (ماذا؟ تكلم!)
- (لقد انتفض الأموات تحت أطباق الثرى فذبحوا الأحياء! هنا في هذا القصر!)
- (آه! الخديعة! جلوت السحر وكشفت الطلِّسم! هلم فهات لي بلْطا! وليكن حديداً مشحوذا! هلم هلم! عليِّ وزر هذا العمل أو لي خيره! لأصارع الأقضية، ولاُنازل المقادير هذه النوبة أيضا!)
(وينزاح ستر فيبدو أورست وأمامه جثة إيجستوس وإلى جانبه بيلاديز)
أورست: (آه. . .! هَلاَ! هذي أنتِ! لقد فرغت من إيجستوس، وقد جاء دورك!. . .)
(كليتمنسترا وقد هالها مقتل إيجستوس)
- (قُتِلْت! ويلاه! سكتت نأمتك، وشالت نعامتك، يا أعز الناس عليّ!)
- (أعز الناس عليك! ها ها ها. . . إذن سترقدين إلى جانبه آخر الدهر ليتم له وفؤك يا آثمة!)
(ويهم أن يفتك بها فتعرف فيه ولدها)
- (أورست! أهو أنت؟ ولدي! حاشاك! ارحم هذا الصدر الذي طالما دلّلَك، والثدي الذي طالما أرضعك!)
(ينثني أورست ليستشير صديقه)
- (ببلاديز! أشر عليّ يا أعز الأصدقاء! هل تفل الرحمة من غرب هذا السيف من أجل أمي؟)
- إذن أين ما أوحي إليك من لدن أبوللو؟ وأين النبوءة الصادقة وما ناشدتك السماء أن تؤديه لها؟ روِّ سيفك غير راحم يا أورست. كن صديق السماء واغسل بغضبتك أدران الأرض!)
- (آه. . . شكراً لك يا ببلاديز! حقاً إنك المخلص الأمين! أنا أبداً في حاجة إلى مشورتك! سأقتلك إذن يا أدنس الأمهات! سأقتلك لتخرّي إلى جانب عاشقك المجرم النجس! لقد فضلته على ملكك في الحياة، فقري معه بعد الموت! حبيبك المتيم الذي كان غيره أجدر بحبك لو عرف قلبك إثارة من الطهر! يا فاسقة!)
(ويهم أن يفتك بها ثانية)(140/69)
- (أورست! لقد أرضعتك، وكنت آمل أن تكون سندي في شيخوختي!)
- (سنداً لها! الفاسقة! وكيف يظلني سقف وقاتلة أبي! مثلومة العرض!)
- (قدر محتوم يا أورست!)
- (والقدر المحتوم هو الذي يكتب عليك ما تلقين اليوم)
- (ولعنة أمك! ألا تخيفك يا أورست!)
- (أمي التي قذفت بي من حالق فريسة لأشجان الحياة!)
- (أنا قذفت بك من حالق؟ حاشا! لقد أرسلتك إلى أعز الأصدقاء ليكلأك ويرعاك!)
- (لقد كانت مقايضة خاسرة بالنسبة لي! حرية وملك، بعبودية وذل!)
- (وأين الأعطيات التي بعتك بها يا بني؟)
- (الأعطيات؟ يا للعار حين نخوض في ذلك من غير ما احتشام؟)
- (قد لا تذكر أيام أن أنحرف أبوك وضل!)
- (لا تنحي على الغائب بلائمة!)
- (ألا تقدر لأواء أم محزونة مهجورة، يا أورست!)
- (بلى! وأعرف أنها ظفرت بكل ما تشهت!)
(ويهم أن يقتلها)
- (آه! أتقتل أمك يا بني؟)
- (أنا؟ أنا لا أقتلك! ولكن تقتلك آثامك!)
- (ها!. . . وأين تهرب من هامة أمك إذا قتلتها!)
- (وأين أهرب من هامة أبي إذا خلّيتك يا آثمة!)
- (كأني أخاطب فيك قبراً فلا يسمع!)
- (أجل وهو قبر أبي الذي يضرب وجهك بزفير جهنم!)
- (آه! الأفعى! لقد ولدتها وربيتها. . . وهاهي ذي تنفث سمها في حياتي!)
- (إذن: هي رؤياك قد جعلها أبوللو حقا!)
- (. . .!. . . تبدو كليتمنسترا كأنما يكاد يغمى عليها)
- (القصاص يا أتعس الأمهات! لقد زرعت وزراً، فلتجن اليوم أوزاراً!)(140/70)
(تنطلق كليمنسترا داخل القصر فيعدو أورست في أثرها)
- 11 -
ويذكر المنشدات - عذارى طروادة التاعسات - أوطانهن، وما حاق بإليوم وبريام من دماء وتقتيل. فيتغنين آلامهن، ويرجعن ذكرياتهن، ويهتفن بعروس الهلسبنت، ويناجين العظام النخرة التي نامت إلى الأبد تحت أسوارها. . .
ثم. . . . . . .
ثم ينزاح ستر صفيق عن أورست. . . بين الجثتين الجبارتين جثة أمه الفاسقة كما دعاها. . . وجثة إبجستوس المتهتك، الذي لم يطهر ثأره بالحفاظ والنقاء. . . بل لطخه بفضائح الدعارة وحياة الهوى التي عاقر خمرها مع كليتمنسترا
- (اشهدن يا عذارى! هاهما قاتلا أبي، وهادما مجد الوطن! لقد استويا بالأمس على عرش آجوس فلطخاه بالإثم، وهما اليوم مجندلان فوق ثرى واحد. . . وبيد واحدة. . . وهو من البر بالأقسام! أجل! لقد برا بيمينهما. . . أليس أحدهما قد أخذ الموثق على صاحبه أن يقتلا مولى هذا القصر. . . وأن يقتسما النتيجة؟ إذن: لقد برت بيمينها. . . ولقد حاق بهما المكر السيئ، وعلقا في الشرك الهائل الذي حاكاه أولاً. . . فمدت لهما فيه السنون والأيام!. . . ولكن. . .! وا أسفاه! لقد جشمتني المقادير مهمة ملعونة. . .! وكيف؟ أنا. . . . أورست المسكين قاتل أمه! يا للشقاء!. . . أبوللو. . . أبوللو. . . كن شاهدي يا سيد الشمس!. . . لقد أمرتني. . . وأوحيت إلي أن اقتل أمك واحمل بعدها غصن الزيتون!. . . فلو لم أفعل لكان شقائي أدهى وأنكى! وكيف أطيق صبراً على قاتليْ والدي؟! وأنا ابنه الوحيد. . . والسماء تطلب دمه من رجولتي!
وأنتن يا طرواديات! تكلمن بحق السماء! أترين إليّ مذنباً ينقض ظهره الإثم. . . أم بريئاً امتشقت العدالة سيفها بيمينه. . .! أيها الأصدقاء! لقد قضت السماء أن أقتل أمي. . .! أمي التي ظلت حياتها سلسلة من المخازي ومستنقعاً من الفضائح. . . حياتها التي كانت تحديّا يا للسماء. . . لقد أقدمت وفوبوس يحدوني. . . لم يكن لي رائد سواه. . . ولا كنف إلا كنفه. . . . . . هلم يا شعب الأرجيف المجيد. . . كن شاهدي ومؤيدي. . . وأنت يا عمي منالايوس. . . ستأتي. . . ستعود إلى الوطن يوماً وتقر ما أقدمت عليه بوحي السماء!. . .(140/71)
لن يلومني أحد. . . فإذاً. . . . . . فلن أضيق بالمنفى من جديد. . . سأذرع الأرض ثانية. . . سأجوب الآفاق. . ولكن راضياً مطمئن النفس. . . لأني ثأرت لوالدي. . . ولشرف آرجوس كلها)
- حاشا حاشا أيها الأمير! لن يلومك أحد على ما فعلت فلا تحرك لسانك بهذا اللغو. . . ولا تملأ نفسك بذاك التشاؤم. . . لقد أعدت للأرجيف حريتهم وشرفهم حين حطمت رأس الأفعى، وثنيّت بذنبها!)
- 12 -
ولكن الأمير الشاب ما يزداد إلا ذعراً حين يرى إلى أمه مضرجة بدمائها. . . وسرعان ما تكظ وجدانه رؤى كالحة وأشباح. . . ثم تستيقظ في نفسه كلماتها الأخيرة: (وأين تهرب من هُولني يا أورست؟ إن هامتي ستلاحقك في كل مكان صارخة في وجهك: يا قاتل أمه!. . .) فيجن جنونه. . . ويصيح ويصرخ ويصخب. . .
- ويلاه! آه. .! ما هذه السمادير التي ترقص في حبر من الظلام! آه! أين المهرب؟)
- (اطمئن يا أعز الأبناء! إنها أوهام يا أورست! هدّئ من روعك!)
ليست أوهاماً يا عذارى! ويلاه. .! إنها تنقض علي! هامة أمي!. . . هاهي. . . آه!)
- بل هي صورة هذا الدم الذي ما يزال يلوث يديك. . . اطمئن. . .)
- (لا. . . أنا بريء! أدركني يا إلهي أبوللو! يا سيد الشمس هذه الجرجون المهلكة الثعابين تتحوى فوق رؤوسها. . . عيونها تقدح الشرر. . . اللهب يندلع من أفواهها. . . السم!. .)
- (أدع أبوللو. . . أدع فهو بك بر رحيم؟)
(آه!. . . إنها تنشب أظفارها. . . الهرب. . . الهرب!)
دريني خشبة(140/72)
البريد الأدبي
جون نيتل ومشروعه لتعليم الفلاح المصري
جون نيتل من أنبه الكتاب السويسريين ذكرا، وأجملهم أسلوباً، وأصدقهم فناً في نقل صور البلاد، والقيام بتحقيقات اجتماعية رائعة، وقد تجلت موهبته لا في دقة الملاحظة فحسب، بل في سحر أسلوبه وسلاسة عباراته، بحيث تنفذ إلى نفس القارئ وتحدث في عواطفه أعمق تأثير
ومما يدل أبلغ الدلالة على تفوق هذا الكاتب في فنه أنه برغم كونه سويسريا استطاع أن يثبت شخصيته أمام الإنجليز، وتمكن في روايته (الدكتور إبراهيم) من أن يدفعهم إلى الاعتراف بأن ثمرة تعليمهم في مصر هوت إلى الحضيض، وأن استعمارهم أصبح كابوساً لا يطاق لشعب نشر ألوان الحضارة والمعرفة، على حين كانت أوربا تغط في ظلمات الجهالة ومخلفات القرون
ويبدو لنا أن حالة الفلاح المصري أحدثت تأثيرا عميقاً في نفس هذا الكاتب، وجعلته أشد عطفاً عليه، وأميل إلى أن ينقل لقرائه صوراً رائعة من أفكاره ومعتقداته وسوء حالته المعيشية، مع حث المصريين على تجهيز قوافل برية ونيلية تؤلف من متاحف صغيرة متحركة، وتزود بآلات للسينما وأجهزة علمية لتغزوا الجهل المتفشي في القرى والدساكر وتقضي عليه قضاء مبرما
ولقد حدث من سنوات أن قام جون نيتل برحلة طويلة إلى مراكش حيث الاستعمار الفرنسي يرتع في بلد فطري، فما كاد يستقر هناك بضعة شهور حتى ثارت ثائرته على مظاهر الاستبداد الفظيعة، وكتب كتابه المشهور (مراكش وعبد الكريم) فغضبالفرنسيون لصراحته، وأحدث ظهور كتابه ضجة هائلة في الأوساط الاجتماعية والسياسية بفرنسا
ويظهر أنه وضع روايته الجديدة (الدكتور إبراهيم) عن مصر وهو على ثقة من أنه سيستهدف لغضب الإنجليز ونقمتهم، وتبرم صحافتهم بصراحته، لكنه لم يحفل بهذا كله ومضى يسرد الوقائع بين سطور كتابه ويصورها بريشة الكاتب الواقعي الذي لا يخضع لسلطان سوى سلطان فنه، غير عابئ بالحملات الشديدة التي أعلنت عليه، ولا بمختلف الانتقادات النارية التي استقبلت بها الصحافة الإنجليز كتابه(140/73)
غير أن هذا الكتاب العظيم صادف هوى في نفوس الأمريكيين الذين يشيدون بمظاهر العدالة، فمجدوا شخصية جون نيتل وأفردوا لكتابه الفصول الطوال لافتين الأنظار إلى ما يجري في الريف المصري من تفشي الأمراض والجهل الفاضح والوقوع تحت أثقال ديون المرابين الأجانب
ففي هذه القرى لا يصرف قرش واحد لنظافة البيوت والطرقات ونقل القاذورات وتجفيف المستنقعات، حتى لقد تبلغ الدرجة فيها أن تبقى رمم الحيوانات ملقاة بين المساكن فتتجمع عليها أسراب الجوارح والذئاب وتتصاعد منها روائح خبيثة
وفي أسواق القرى لا يوجد مرحاض واحد يفي بحاجة من يؤمه من التجار الذين يضطرون لقضاء حاجاتهم في أركان الأسواق لتبقى هذه القاذورات هدفاً لأسراب الغربان والطيور والكلاب وجامعي الأحطاب، أو تلقى بقيتها في الترع والقنوات. فالعمل على تجنب الأضرار الناشئة من الماء الملوث الآسن يجب أن يكون قبل تدبير الماء الصالح للشرب في القرى، وهذا لا يتأتى إلا بإرشاد الفلاح إلى طرق النظافة، وتوقي الأمراض المعدية، ولن يكون إرشاده إلا بتجهيز قوافل علمية تطوف بمساكنه من وقت لآخر وتعمل على أن تنشل الفلاحين المساكين من وهاد القذارة والجهل، وتخرج بهم من الظلمات إلى النور
ولقد كانت المحاضرة التي ألقاها جون نيتل في مساء الأربعاء الماضي بقاعة يورت التذكارية تحت إشراف معهد جان جاك روسو للتربية بجنيف، تدور حول هذه المشكلة، مشكلة إصلاح حال الفلاح المصري ورفع مستواه الاجتماعي مع المحافظة على تقاليد أسلافه. فذكر المحاضر بأن كل فكرة ترمي إلى تعليم الفلاح بقصد انتزاعه من أرضه ونزوحه إلى المدن هي محاولة فاشلة، فالواجب تشويق الفلاح إلى أرضه وتنمية مداركه وتوسيع آفاق فكره ومعارفه العامة؛ فإذا أردنا مثلاً أن نرشده إلى الأحوال الجوية ومعرفة سير الكواكب كان علينا أن نزوده ببعثة فلكية مكونة من محاضرين بارعين، مزودين بسيارات بها آلات ومراصد فلكية، فيحل أعضاء البعثة بقريته يوما أو بعض يوم، ويجمعون الفلاحين في مكان واحد ثم يلقون عليهم محاضرات بلغة بسيطة سهلة عن علم الفلك وحركة الكواكب والنجوم مع مساعدتهم على استيعاب هذه المعلومات بواسطة المجاهر الفلكية(140/74)
وهب أننا نريد أن نلقي على فلاحي قرية كذا درساً في النظافة والصحة العامة، فنوفد إليهم قافلة صحية بمتحفها الصحي المؤلف من نماذج مختلفة الأشكال، وبأفلام سينمائية معها نشرات مكتوبة في اللغة العامية يستطيع المربون الذين يرافقون القافلة أن يتلوا منها نصائح عملية على جماهير الفلاحين المحتشدين لاستقبالهم
فالتعليم الحديث بواسطة القوافل العلمية هو الوسيلة التي يرمي إليها مشروع جون نيتل لرفع مستوى الفلاحين، إذ لا فائدة ترجى من إنشاء المدارس لتعليمه مبادئ الحساب والجبر وقواعد اللغة والرياضة إلى جانب تزويده بالمعارف العامة وتثقيفه الثقافة الشعبية الصحيحة التي تساعده على تربية الجيل الجديد تربية خالية من الجمود وشوائب الجهل
ونوه المحاضر بأنه لا يرمي إلى أن يظهر في مشروعه بمظهر من يملي إرادته، ولكنه مشروع مفيد وضع بعد دراسات طويلة للتضامن مع الذين يهمهم رفع مستوى الفلاحين، وتحسين أحوال معيشتهم، كما أن تحقيقه على الوجه الأكمل يقتضي عشرات المئات من الشبان المتعلمين أن يساهموا في إسداء هذه الخدمة الإنسانية الجليلة؛ وإن في استخدامهم لهذا الغرض لحلاً لجانب كبير من مشكلة الشبان المتعلمين ومكافحة الأمية في القرى والدساكر
وأهاب المحاضر في ختام محاضرته بأن في تغافل الحكومة وفي تركها الفلاح غارقا في محيط جهله خطرا عظيما على مستقبل الأمة، لأنه سيصبح في مصر طبقتان بينهما هوة عميقة: الشباب المتعلم في المدارس العالية وفي معاهد أوربا، وجمهور الفلاحين الذين يظلون بعقلية القرون الوسطى ويعيشون تحت إرهاب أساليب عصور الظلام
كتاب الذخيرة لابن بسام
نعرف أن لابن بسام الأديب الأندلسي الكبير أثراً حافلا عن حياة الأندلس الأدبية والسياسية في القرن الخامس الهجري، وهو (كتاب الذخيرة في التعريف بمحاسن أهل الجزيرة)، وإلى أعوام قلائل لم نكن قد ظفرنا بعد بنسخة كاملة من هذا الأثر الحافل؛ وكل ما انتهت ألينا منه نسخ مغربية وأندلسية ناقصة، ولكن العلامة المستشرق الأستاذ ليفي بروفنسال مدير مدرسة الدراسات العليا في مراكش قد ظفر بعد البحث الطويل في إحدى مجموعات المغرب بنسخة كاملة من كتاب الذخيرة؛ والأستاذ بروفنسال حجة في شؤون (الغرب(140/75)
الإسلامي) أعني الأندلس والمغرب وله مؤلفات قيمة عن عرب أسبانيا والمغرب، وقد نشر فوق ذلك طائفة نادرة من الكتب والوثائق عن تاريخ الأندلس والمغرب الأقصى: منها الجزء الثالث من كتاب البيان المغرب، ووثائق عن ابن تومرت (المهدي)، وجزء من تاريخ ابن حيان. ومن مؤلفته كتاب بالفرنسية عن أحوال الأندلس أيام الدولة الأموية، وقد تألفت أخيراً لجنة من أفاضل المستشرقين برياسة العلامة المذكور لتقوم على طبع كتاب الذخيرة وتحقيقه وتذييله، وربما شغل الكتاب أربعة مجلدات كبيرة؛ وهو ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول خاص بقرطبة وأعيانها؛ والثاني خاص بغرب الأندلس وأعيانه وأخبار بني عباد؛ والثالث خاص بأخبار بلنسية وأعيانها؛ والرابع خاص بأخبار الجزيرة. ولدينا في دار الكتب من كتاب الذخيرة نسخة ناقصة تحتوي على قسمين منه فقط هما الأول والثاني
وقد استفاد من كتاب الذخيرة كثير من العلماء المشتغلين بتاريخ الأندلس مثل دورزي وسيبولد، وذلك قبل أن يوجد نصه كاملا؛ والكتاب من أنفس آثار الأدب الأندلسي، وقد كتب بأسلوب بديع، وبه معلومات قيمة عن أحوال دول الطوائف خلال القرن الخامس الهجري، وليس من ريب في أن نشره سيكون خدمة جليلة للتاريخ الأندلسي
تراث جاك بانفيل
أشرنا في عدد سابق إلى وفاة الكاتب والمؤرخ الفرنسي الكبير جاك بانفيل. وقد قرأنا أخيرا في إحدى المجلات الفرنسية الكبرى فصلا عن الكاتب الراحل للعلامة المؤرخ أوكتاف أوبري الذي زار مصر منذ حين وألقى بها عدة محاضرات تاريخية شائقة، يصف فيها تراث بانفيل التاريخي ويحلل مواهبه وكفاياته كمؤرخ وفيلسوف للتاريخ. وقد كان بانفيل قبل كل شيء كاتباً سياسيا؛ وكان رجل جدل قوي يذود عن آرائه بيقين وحرارة؛ وكانت تغلب عليه الروح الفلسفية في كتابه التاريخ. ويرى الأستاذ أوبري في كتابيه (تاريخ فرنسا) و (نابليون) أثرين جليلين يمتازان بقوة خاصة. وقد كان بانفيل ملوكياً يؤمن أشد الإيمان بالملوكية ونظمها وتقاليدها؛ وكان يدافع عن عقيدته في هذا الوسط الجمهوري المضطرم بحرارة المؤمن؛ ومن ثم كان رأيه في الثورة الفرنسية واعتبارها حركة دموية طائشة. وهو في هذا يتفق مع كتاب عظام ناصروا الملوكية مثل لامرتين؛ بيد أنه يفوقهم جميعاً في حرارة إخلاصه للملوكية وشدة وطأته على الثورة. ويعتبر الأستاذ أوبري كتابه(140/76)
عن نابليون أفضل مما كتب عنه تاين وميشليه؛ ويرى في كتابه (تاريخ الأجيال الثلاثة) صورة صادقة قوية من أحداث فرنسا ومحنها ومواطن عظمتها وضعفها منذ واقعة واترلو حتى معاهدة فرساي
بيد أن بانفيل يبدو في ذروة قوته كفيلسوف مؤرخ في كتابه الأخير، وهو كتاب (الحاكمون بأمرهم)، وقد استعرض فيه تاريخ الطغاة والطغيان منذ العصور الغابرة؛ ويبدي بانفيل في بحثه وتحليله لخواص الطغيان والطغاة مقدرة تطبعها رزانة خاصة؛ ويرى أوبري أن أثر بانفيل عن الطغاة يجب أن يتبوأ مكانه بجوار كتاب (الأمير) للفيلسوف الإيطالي مكيافيللي، برغم أن بانفيل يهتدي في كتابه بمثل أخلاقية واجتماعية غير تلك التي يهتدي بها مكيافيللي في كتاب (الأمير). ولتقدير الأستاذ أوبري لتراث بانفيل التاريخي أهمية خاصة لأنه يتبوأ مكانة سامية بين مؤرخي فرنسا المعاصرين
أحرب أم سلام
نشر الكاتب الإنكليزي الكبير الدوس هكسلي حفيد العلامة هكسلي مقالا عن مصاير السلام يقول فيه إن عام 1936 سيكون عاماً حاسماً في تاريخ البشرية؛ ذلك أنه إما أن يكون عام حرب أو عام سلام؛ إما أن يستطيع الساسة فيه أن يحتفظوا بسلام أوربا وإما أن تفلت الحوادث من يدهم وينحدر العالم إلى الحرب
والدول التي تسيطر على مصاير العالم اليوم هي سبع: بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة والروسيا - وهذه في نظر الكاتب هي الدول (الراضية) - ثم ألمانيا وإيطاليا واليابان، وهذه هي الدول (غير الراضية)، وذلك لأن الاحتكار الاستعماري والاقتصادي الذي تنعم به الدول الراضية قد اشتدت وطأته في الأعوام الأخيرة من جراء السياسة القومية التي تتبعها، والنظم الجمركية والاقتصادية التي تنظمها، لتوطيد تجارتها وسحق تجارة الدول الأخرى. والدول غير الراضية لها كل الحق في أن تنقم على الدول الراضية هذا الاستئثار؛ ذلك لأن مستوى الحياة في إيطاليا وألمانيا واليابان يهبط بالتدريج، وسيستمر على هذا الهبوط؛ والحياة في هذه البلاد تغدو كل يوم أشد وطأة، حتى أصبحت ترى أن المغامرة بخوض الحرب أفضل من أي سلام مسكين تجنيه في ظل هذه الظروف التعسة. وقد قامت في هذه الدول الثلاث حكومات تعد شعوبها بأن ترد بالقوة القاهرة عنها هذا(140/77)
الحيف؛ فأما اليابان فقد انقضت على بعض أقاليم الصين؛ وتحاول إيطاليا أن تفتتح الحبشة؛ وربما أقدمت ألمانيا في فرصة قريبة على محاولة نيل الترضية اللازمة، وربما كان ذلك على حساب روسيا أو أوربا الوسطى
وقد شهدت السياسة الدولية تطوراً عظيما في المبادئ، وذلك بتطبيق مبادئ وإجراءات إجماعية (أخلاقية)؛ ولكنا إذا أردنا السلام وجب أن نشتد في تطبيق هذه المبادئ الإجماعية إلى حدود أخرى؛ وإذا كانت إيطاليا تتبع سياسة غاشمة فذلك لما حاق بها من الظلم؛ وليس ثمة وسيلة واحدة لدفع هذا الحيف عن الدول غير الراضية سوى معاملتها ومعاملة دول أوربا الوسطى بعدالة
ويرى الكاتب أن الحرب والسلام بيد الدول نفسها، فإذا أصرت الدول الراضية على التمسك باحتكارها الاقتصادي الذي كسبته بوسائل غير عادلة، وإذا حاولت أن تتسلح حتى الذروة لتحتفظ به، فإن الحرب واقعة لا محالة
وأما إذا اعتزمت الدول الراضية أن تسير طبقاً لمبادئ الأخلاق، وهي في نفس الوقت مبادئ حسن التصرف، فان السلام يغدو محققاً مكفولا
الحياة المصرية المعاصرة
ظهر أخيراً في إنكلترا كتاب عن الحياة المصرية منذ أواخر القرن الماضي حتى يومنا، عنوانه (حياة في مصر) بقلم سيدة إنكليزية، أنفقت طول حياتها في هذه البلاد هي السيدة مابل جايارد. ويتناول هذا الكتاب وصف الحياة المصرية منذ أواخر عهد إسماعيل حتى سنة 1935؛ أعني خلال ستين عاما. وكان والد السيدة مابل موظفاً في الحكومة المصرية منذ أوائل عهد الاحتلال؛ وكانت مس مابل يومئذ فتاة ناشئة، فقطعت حياتها الحافلة في هذه البلاد، بين الإسكندرية ومصر، وشهدت تطورات الحياة المصرية في هذه الحقبة، واتصلت بكثير من الشخصيات البارزة في هذا العهد، ووقفت على كثير من الشؤون والمعلومات العامة والخاصة. وتقدم المس مابل في كتابها عن مصر صوراً ساحرة لهذا العهد الذي كانت الحياة فيه ما تزال ناعمة هينة؛ وتصف لنا مدينة القاهرة والمجتمع القاهري في أواخر القرن الماضي، حين كانت لا تزال في طور نشوئها العظيم؛ وكانت لا تزال مدينة شرقية تحتفظ بكامل جمالها وسحرها الشرقي الذي مازال يملأ مخيلة الكتاب والسائحين؛(140/78)
وتصف لنا الإسكندرية في أوائل عهد الاحتلال وتروي لنا كيف كانت الحياة فيها أحياناً صعبة غير أمينة، وكيف كانت محط المغامرات والمفاجآت المكدرة
وتقدم لنا المس مابل صوراً ممتعة عن البلاط الخديوي في هذه الحقبة، وعن الخديويين وعن أكابر سيدات الحرم الخديوي الذي اتصلت به المؤلفة وعرفت كثيراً من رسومه ومظاهر الحياة فيه؛ وتصف لنا الإسكندرية والقاهرة أيام الحرب الكبرى، وكيف تحولت العاصمتان الكبيرتان إلى شبه محطة عسكرية هائلة، ثم تصف لنا ما طرأ على الحية المصرية بعد الحرب الكبرى إلى يومنا
وكتاب المس مابل طريف تجدر قراءته في هذه البلاد، وإن لم يكن يخلو من بعض نواحي التحيز والتحامل التي قلما تخلو منها كتب الأجانب، وبخاصة الإنكليز، عن مصر
الفوكلور المراكشي
تعتبر اليوم دراسة المعتقدات والعادات والتقاليد الشعبية من الدراسات الأثرية المفيدة في تاريخ الشعوب وتاريخ الحضارة؛ وقد اتسعت هذه الدراسة وتقدمت في عصرنا حتى أضحت تكون فرعاً خاصاً يطلق عليه (الفوكلور) أو دراسة المعتقدات الشعبية. ومن المؤلفات التي ظهرت أخيراً في هذا الموضع كتاب للدكتورة فرانسواز ليجي عن (الفوكلور المراكشي) وقد عاشت الدكتوره ليجي في مراكش أعواماً طويلة، ودرست المجتمع المراكشي دراسة مستفيضة، ووقفت على معتقداته وتقاليده القديمة التي لم تنجح المدنية الفرنسية المفروضة في إزالة معالمها؛ وتناولت المؤلفة معتقدات الشعب المراكيشي الدينية، وعاداته الاجتماعية، وما تداولته الأجيال منذ العصور الغابرة في شأن الخليقة وآدم والبر والبحر والحيوان والنبات والطير، من الأساطير والأمثال السائرة؛ وتسوق لنا المؤلفة أمثلة طريفة من هذه المعتقدات في شأن بعض الأشجار والأزهار فتقول: (إنهم يعتقدون أن بعض النباتات ليست من خلق الله ولكنها من خلق الشيطان، وهذا شأن التبغ مثلاً؛ وأما شجرة الكرم وشجرة التين فقد حملهما آدم من الجنة؛ وقد نبتت الورود وزهر البرتقال من دموع النبي، ونبتت شجرة الرمان من الأزهار التي نثرتها فاطمة الزهراء ابنة النبي حينما علمت بموت ولديها الحسن والحسين)، ويعتقدون أيضاً أن بعض الحيوانات كانت بشراً ومسخت، عقاباً لها على سيئاتها(140/79)
والكتاب طريف في موضعه وفي مباحثه وخصوصاً فيما يتعلق بتقاليد القبائل البربرية وعاداتها؛ وفي مباحثه ما يلقي كثيراً من الضوء على المجتمع المغربي في تطوراته المختلفة، وفي ظل الوثنية والإسلام، وما لا يزال حياً في معتقداته وتقاليده من تراث العصور الغابرة(140/80)
العدد 141 - بتاريخ: 16 - 03 - 1936(/)
رعاية الفلاح واجب قومي
أشارت الرسالة في عددها الماضي إلى المحاضرة القيمة التي ألقاها نزيل مصر، المستر جون نيتل الكاتب السويسري الكبير، عن تعليم الفلاحين ووجوب الاهتمام بثقافتهم القروية والصحية، فذكرتنا هذه المحاضرة بمسألة لا تزال تثير في نفوسنا شجناً، هي مسألة الفلاح المصري بوجه عام
أجل إن مسألة الفلاح المصري مسألة تجدر بعناية كل مصري يقدر الدور الخطير الذي يضطلع به الفلاح في حياة هذه البلاد؛ فالفلاح عماد الإنتاج القومي، وجهوده عصب الثروة المصرية العامة، وهو منبع الذكاء المصري العامل؛ يؤدي للخزينة العامة من دخله ما لا يؤديه أي مصري آخر من ذوي المناصب أو المهن أو المال
ومع ذلك فالفلاح المصري أقل أبناء الأمة حظاً من عناية أولي الأمر، بل يكاد يكون منهم نسياً منسياً؛ فقلما يفسح له مجال في المشاريع والمرافق العامة، وقلما تقدر حقوقه ومصالحه قدرها الحقيقي؛ وبينما نرى جميع الطبقات والطوائف من الموظفين وذوي المهن والطلبة والعمال، بل وذوي المال، كلا تدأب على مطالبة الحكومة وأولي الأمر بتحقيق ما تنشد من الحقوق والمزايا، إذا بالفلاح يلزم الصمت والسكينة، ويرقب مصيره قانعاً بالأمل، راضياً بحكم القدر، معتمداً على الله ثم على نفسه ودأبه المتواصل
بل نلاحظ مع الأسف والألم أن أصوات قادتنا ومصلحينا ترتفع في كل وقت مطالبة بتحقيق مختلف المشاريع الإصلاحية العامة، ولكن قلما يرتفع منها صوت من أجل الفلاح والعناية بانتشاله من ذلك المنحدر السحيق الذي قضى عليه أن يعيش فيه؛ وإذاً فمما يثير الشكر والعرفان أن يرتفع بيننا صوت إنساني كصوت ضيفنا المستر نيتل، مطالباً للفلاح بما نقصر نحن في المطالبة به من عناية هو خليق بها
يعيش الفلاح، عصب الشعب المصري وكثرته الساحقة، في نفس الحالة التي يعيش عليها منذ آلاف السنين، في غمر من الجهل المطبق والأمراض الفتاكة، تعوزه أبسط وسائل الصحة والنظافة؛ ولا يكاد يخرج من كده ودأبه المتواصل بأكثر من القوت الضروري، بل لا نعرف في بلد من البلاد المتمدنة طبقة اجتماعية ينحط منسوب العيش فيها إلى هذا الدرك الأسفل الذي تنحط إليه معيشة الفلاح المصري
ويؤدي الفلاح إلى خزينة الدولة نحو خمسة ملايين جنيه ضريبة عقارية، ويؤدي أكثر منها(141/1)
ضرائب أخرى مباشرة وغير مباشرة، فهو بذلك من أكبر المساهمين في تكوين الدخل العام؛ ومع ذلك فهو لا يصيب من النفقات العامة قسطاً يذكر، سواء في التعليم أو الصحة أو المنشآت والمرافق العامة. صحيح أن الدولة تنفق الملايين على أعمال الري والصرف التي ينتفع بها الفلاح، ولكنها إنما تنفق في الواقع على إدارة الثروة المصرية العامة وإحيائها؛ ومن العدالة بل من مصلحة البلاد الحيوية أن يحظى الفلاح بنصيب حسن من الإصلاحات الاجتماعية التي ترمي إلى رفع مستواه الصحي والعقلي، ففي تقدم صحة الفلاح وتقدم ثقافته ثروة حقيقية للبلاد، وزيادة في قواها المنتجة الاقتصادية والاجتماعية
وليس الفلاح بحاجة إلى التدليل على قدره وأهميته في حياة البلاد؛ فهو يعمل متوارياً في صمت، ولكن شرايين الحياة المصرية كلها تمت بصلة وثيقة إلى عمله وإنتاجه؛ وهاهو ذا المعرض الزراعي الصناعي القائم الآن أسطع دليل حي على ما لهذا الفلاح المتواضع من جليل القدر في الإنتاج العام، وما يستطيع أن يقوم به من المعجزات الزراعية والصناعية إذا تعهده ولاة الأمر بالعناية الرفيقة والإرشاد المستنير
إن الفلاح مستودع الذكاء المصري، وأبناء الفلاحين هم صفوة القادة والزعماء وأكابر رجال الدولة والحكومة، فكيف يعدم الفلاح بين أبنائه أنصاراً يطالبون بحقوقه في الرعاية العامة، وبقسطه من العناية الصحية والثقافية؟ لقد كانت صحة الفلاح وعقله وروحه وما زالت عصب مصر الزراعية والاقتصادية، وقد كانت ستغدو عصب الدفاع عن مصر؛ فإذا شاءت مصر أم تحافظ على قواها المنتجة، وأن تشحذها وتضاعفها، فعليها ألا تدخر وسعاً في العناية بجسم الفلاح وعقله وروحه
وإذا كنا نستطيع أن نسجل لبعض الوزارات المصرية شيئاً من الفضل في الاهتمام بأمر الفلاح، ولا سيما في تقرير التعليم الأولي، وإنشاء بعض المستشفيات والمؤسسات الصحية، وردم البرك، وغيرها، فأنه لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن هذه المشروعات تسير بخطى بطيئة جداً، وأن ما تم منها لا يعدو بداية ضئيلة. ومن حق الفلاح، وهو الذي يكون أغلبية الأمة الساحقة، ويساهم بأكبر قسط في إنتاجها الحيوي، ويتحمل معظم الأعباء والتكاليف العامة، أن يفوز من ولاة الأمر، ومن مشاريع الإصلاح العامة بأوفى نصيب
(* * *)(141/2)
ولود وعقيم
للأستاذ أحمد أمين
ركبَتْ من أول محطة لترام مصر القديمة وهي كهلال الشك، جلد على عظم، وعلى يديها طفل قد جلل بالبياض، وعصبت عيناه، وغطي رأسه ووجهه بشاشة زرقاء
وركب في المحطة التالية سيدة نصَف، أطيب شطريها الذي ذهب، ممتلئة البدن، سمينة الضواحي، فحيت الأولى، وتحادثتا
والنساء سريعات التعارف، تراهن في طرفة عين يتحدثن إلى من لم يعرفن قبل في أدق الأمور، وأعمق الأسرار، حتى كأنهن صديقات العمر، ورفيقات الصبى؛ فهن يتحدثن بعد دقيقة في السعادة والشقاء، وأوصاف الأزواج وعيوبهم، والحموات ومصائبهن ومضايقتهن، والدخل والخرج؛ وقد ينتقلن إلى ما هو أدق من ذلك وأصعب، مما لا يستطيع الرجال أن يتكلموا في بعضه إلا بعد عمر طويل، وصداقة متينة، ومشاركة في السراء والضراء
وبعد لحظة صرخ الطفل وأمعن في الصراخ، تحاول أن ترضعه ليسكت فلا يسكت، وتنميه فلا ينام، وتتبع معه كل الأساليب التي تعلمتها في إسكات الأطفال فلا تنجح، وأخيراً تدعو عليه بالموت فلا يستجاب لها
- الثانية - ما له؟
- الأولى - رمدت عيناه من أيام ثلاثة فشرّبني المر، وفي الليلة الماضية لم أذق طعم النوم، وأنا طول الليل واقفة على رجلي أذرع الحجرة من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها، وكلما هدأ وبدأ النوم ذهبت إلى السرير لأنيمه وأنام فيصرخ ويكرر النغمة عينها ويمثل الدور نفسه إلى الصباح، حتى دار رأسي، ومللت الحياة، وتمنيت الموت، ولم أر للحياة طعما مذ رأيت الأولاد، وهانا ذاهبة إلى طبيب العيون
أمعك أولاد أخر؟
نعم - معي خمسة وهذا سادسهم؛ وقد حاولت بكل الوسائل أن أمنع الحمل بعد أول ولد ففشلت وفشلت. ومرة حاولت أن أخلص من جنين فكدت أخلص من نفسي وبقى الجنين. ومرة أصبت بنزيف شديد فعرضت نفسي على طبيب فقال إنه إجهاض، وليس من أمل كبير في بقاء الجنين؛ ثم أمرني أن ألتزم سريري ولا أتحرك، وأنام على ظهري دائماً،(141/4)
وكتب لي دواء يمنع النزيف. فامتنعت من شرب الدواء، وأكثرت الحركة، وعملت كل شيء عكس ما نصح الطبيب رغبة في الإجهاض، ثم مع هذا كله ارتفع الدم وثبت الجنين. وهذا هو الذي على يدي
و (اسم الله عليهم) كلهم ذكور؟
لا والله! أربعة ذكور وبنتان، وكلهم في الهم سواء، وكل يوم نوع جديد من أنواع العذاب. ففي آخر السنة نضع يدنا على قلبنا عند الامتحان؛ وتظهر النتيجة، فهذا نجح، وهذا سقط بلا ملحق، وهذا له ملحق؛ ونمضي الإجازة في عناء! وتبتدئ السنة، فمن نجح في الشهادة الابتدائية ظهر متأخر الترتيب فلا نجد له مدرسة أميرية تقبله؛ والشهادة في يد، والمصاريف في يد، والمدرسة في رفض! ثم هذا صحيح وهذا مريض، وهذا ذاكرَ وهذا لم يذاكر. ولا تسألي عن وقت ذهابهم إلى المدرسة! هذا يبحث عن جزمته فلا يجدها، وهذا عن طربوشه فلا يجده، ونرى الفرد جورب في حجرة وفرداً آخر في حجرة أخرى، فلا يكادون يذهبون إلا وقد بلغت الروح الحلقوم. وعند مجيئهم من المدرسة هذا يغضب على الأكل وهذا يرضى، وهذا ينازع ذاك، ولا ينقذنا من كل هذا إلا نومهم. ثم هذا الشهر شهر أقساط المصاريف، وهذا شهر كسوة الصيف، وهذا شهر كسوة الشتاء، وماهية الزوج لا تكفي هذا وذاك، والعيش كله عناء في عناء. وأنت؟ أليس عندك أولاد؟
كان منظراً غريباً، فقد طفرت الدمعة فجأة من عين السيدة الثانية، فلما أخرجت منديلها ومسحت دمعتها قالت: أبى الله أن يرزقني في حياتي ولداً، وطالما دعوته وسألته! وحججت مرة، وكان أكبر همي من حجي أن أقف في أشرف بقعة وأسأل الله أن يهبني ابناً أو بنتاً! وليكن الابن ذكياً أو غبياً، ولتكن البنت جميلة أو دميمة؛ فأنا راضية بأي مولود على كل حال، ولكنه - سبحانه وتعالى - لم يفعل، وفي القرآن الكريم: (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيما) فقد شاء أن يجعلني من الصنف الأخير - لتمنيت أن يكون لي أولاد، وأتحمل فيهم أضعاف ما ذكرتِ من عناء. ثم أراهنك أني أكون سعيدة مغتبطة لا أشكو ولا أتألم - لقد طرقت كل الأبواب لذلك فلم أنجح، ذهبت إلى الأطباء فعملوا لي عملية، واحتملت في سبيلها كل الآلام؛ وذهبت إلى المشايخ فرقَوا وعزَّموا؛ وذهبت إلى الشيخات (فحضَّرن) وبخرن و (وصفن)؛ وقالوا(141/5)
تخافين؛ فخفت ونزلت القبر، وركبت وابور (لونابارك)؛ وقالوا وقالوا، وفعلت وفعلت، فذهب ذلك كله هباء، ورزقني الله مالاً كثيراً استطعت أن أفعل به كل ما وصفوا حتى السفر إلى أوربا واستشارة أطبائها، ولكن إذا أبى الله فماذا يفعل العبد؟
لم يبق لي من ذلك كله إلا التلهف على الولد والحسرة الدائمة؛ وكل شيء حولي يذكرني بالأولاد فيثير أشجاني وأحزاني. لقد رأيت في حديقتي أشجار البرتقال والليمون تحمل أثمارها فقلت يا لله! أتسبل نعمك على الأشجار فتحمل كل عام أثمارها، وتضنّ علي فلا أحمل مرة ثمرة! وعندي قطة تحمل دائماً وتضع ما لا يعد من الأولاد، وكلما حملت ذكرتُ حملي، وكلما ولدت بكيت أولادي الذين لم يوجدوا بعدُ؛ وأرى الفقيرات البائسات العاريات في الشارع كل واحدة منهن تحمل في بطنها ولداً، وترضع ولداً، وتجر ولداً، فيتجمع الحزن في قلبي، وتنفجر منه عيني؛ واسمع (معارفي) وصواحبي، هذه ولدت، ثم هذه ولدت، ثم هذه ولدت، فأقول لم يبق عقيما إلا أنا، ولم يتخصص للشقاء غيري! رزقني الله مالاً ولم يرزقني ولداً، وليته رزقني ولداً ولم يرزقني مالاً؛ ولو كان الولد يشرى بكل ما أملك لاشتريته وكنت سعيدة؛ بل لو كان يشرى بعينيّ لاشتريته وكنت رابحة في صفقتي. وما الدنيا والمال؟ وما الحياة بغير الولد؟ لقد كنت في أول أمري أطلب الولد خشية أن يتزوج زوجي غيري، فلما أمنت جانبه، واطمأننت من ناحيته، طلبت الولد لأنه طبيعتي ولأنه حياتي بعدي، ولأنه موطن انتساخ روحي، ولأني امرأة قد خلقت للأمومة. لقد أحسست بهذه الأمومة في صغري فعملت العرائس إرهاصاً لأمومتي، ثم تزوجت تهيؤاً لهذه الأمومة، فلما تقدمت في السن ولم أجد الأمومة رأيتني فقدت طبيعتي، ورأيتني في الحياة مقدمة بلا نتيجة، أو قبة بلا شيخ، أو لوزة فارغة، وأنا والعروس من الحلوى، والعروس من القطن سواء، كلنا لا يلد. ليس لي أمل في السلوة إلا بالموت. فهو وحده بلسم الهموم، ومقبرة الأحزان! وهنا ختمت حديثها - كما بدأته - بالدموع
قالت الأولى: والله لو ذقتِ مرارة الأولاد ما تمنيتِهم؛ ولو جربتِ سهر الليالي ما اشتقتهم؛ ولكن أحب شيء إلى الإنسان ما منع؛ والقصر من بُعد أجمل منظراً من سكناه؛ والخيال دائما ألذ من الحقيقة. لقد كان مرة أكبر أولادي يبكي وهو رضيع ولا نعلم سبباً لبكائه، ويبكي ويشتد في البكاء حتى بلغ معنا الهم مبلغه، وإذا بزفة عريس تمر من تحت بيتنا،(141/6)
فأضحكني زوجي أبو الطفل إذ قال للعريس: (غُرْ) غداً تخلف (وترى) - لو تمنيت الآن شيئاً لتمنيت أني لم أكن تزوجت، وإن تزوجت فلم أكن (خلفت) - أتبادلني؟ وضحكت؟
قالت الثانية وتأوهَتْ: وكيف يمكن البدل؟ إنما أريد أولاداً مني لا منك، أريد كبدي تمشي على الأرض أربيها، ولا أريد كبك أنميها وأغذيها - وأنت أيضاً لا تعبرين عما في نفسك تعبيراً صادقا، فمن تهون عليه أولاده؟ إنما ينفع البدل إن كان قدر لي الله أن أكون ولوداً وأن تكوني عقيما
قالت الأولى: أتريدين الحق يا أختي؟ الدنيا كلها تعب فلا ولود في راحة، ولا عقيم في راحة، ولا متزوجة سعيدة، ولا عزبة سعيدة
ووصل الترام إلى العتبة فنزلتا، هذه إلى طبيب أبنها وتلك لبعض شؤونها
قال صاحبي: ولكن كيف أمكنك أن تسمع هذا الحوار؟ قلت: هذا سر الصنعة.
أحمد أمين(141/7)
4 - الدينار والدرهم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال احمد بن مسكين: وأزفَ ترحُّلي عن (بلخ) وتهيأتُ للخروج، ولم يبق من مدة مقيلي بها إلا أيام يجيء فيها السبتُ الرابع. وكانت قد وقعت مُمَارةٌ بيني وبين مفتي (بلخ) أبي أسحق إبراهيم بن يوسف الباهلي تلميذ أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، ويزعمون أنه شحيحٌ على المال وأنه يَتَغَلَّلُه من مُسْتَغَلاَّت كثيرة، فكأنما غَشِيَتْه غمامتي، فهو لا يرى أن أتكلم في الزهد، ويحسب هذا الزهد تماوُتَ العبَّاد ونَفْضَ الأيدي من الدنيا وسوءَ المصاحبة لما يُنعم الله به على العبد، وخذلانَ القوة في البدن، وما جرى هذا المجرى من تزوير الحياة بالأباطيل التي زعم أنها أباطيل الطاعات وما أقربها من أباطيل المعصية. ولم يكن هذا المفتي قد سمعني ولا حضر مجلسي، ولولا الذي لم يعرفه من ذلك لقد كان عرف
وجادلتُه فرأيته واهنَ الدليل، ضعيفَ الحجة، يُخَمَّنُ تخمين فقيه، وينظر إلى الخفايا من حقائق النفوس نظر صاحب النصَّ إلى الظاهر، كأن الحقيقة إذا ألقيت على الناس مضت نافذة كفتوى المفتي. . . ويزعم أن الوعظ وعظُ الفقهاء، يقولون هذا حرام فيكون حراماً لا يُقارفه أحد، وهذا حلال فيكون حلالاً لا يتركه أحد؛ وهو كان بعيداً عن حقيقة الوعظ ومداخله إلى النفس وسياسته فيها، ولا يعرف أن الحقيقة كالأنثى إن لم تزين بزينتها لم تستهو أحدا؛ وأن الموعظة إن لم تتأدَّ في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وأنه لا يغير النفسَ إلا النفسُ التي فيها قوةُ التحويل والتغيير كنفوس الأنبياء، ومن كان في طريقة روحهم، وأن هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام لا وضعُ القياس والحجة، وأن الرجل الزاهد الصحيح الزهد، إنما هو حياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئاً في الحياة والعمل. لا شيئاً في القول والتوهم، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار من واتاها أحسها
ولعمري كم من فقيه يقول للناس هذا حرام، فلا يزيد هذا الحرام إلا ظهوراً وانكشافاً مادام لا ينطق إلا نطق الكتب ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع، وقد خلا من القوة التي تجعله روحاً تتعلق الأرواحُ بها وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آتٍ من الجنة منذ قريب، راجعٌ إليها بعد قريب(141/8)
والفقيهُ الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس ولا يجعل همَّه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا - هو الفقيه الفاسدُ الصورة في خيال الناسُ يفهمهم أولَ شيء ألاَّ يفهموا عنه إذ حرصه فوق بصيرته، وله في النفوس رائحةُ الخبز وله معنى خمسٌ وخمس عشرة. . . وكأن دنياه وضعت فيه شيئاً فاسداً غريباً يفسد الحقيقة التي يتكلم بها؛ ولست أدري ما هو هذا الشيء ولكني رأيت فقهاء يعظون ويتكلمون على الناس في الحرام والحلال وفي نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم لم أجد لكلامهم نفعاً ولا رداً، إذ يلهمون الناس بأرواحهم غير المعنى الذي يتكلمون فيه؛ وتسخر الحقيقة منهم - على خطرهم وجلال شأنهم - بذات الأسلوب الذي تسخر به من لص يعظ لصاً آخر فيقول له لا تسرق. . .
قال ابن مسكين: فلما دار يوم السبت أقبل الناس على المسجد أفواجاً، وكانوا قد تعالموا إزماعي الرحيل عن بلدهم - وجاء (لقمان الأمة) في أشياعه وأصحابه، وجاء أبو اسحق المفتي في جماعته؛ واستقر بي المجلس فنفذْتُ الناسَ بنظري فكأنهم نبات غطى الأرض، فأذكرني هذا شيخنا السريَّ بنَ مُغلَّس السقَطي، وكان قد لزم داره في بغداد لا يخرج منها ولا يراه إلا من قصد إليه، وهممتُ أن أجعل الموعظة في شرح كلمته المشهورة: لا تصحُّ المحبة بين اثنين حتى يقولَ أحدهما للآخر: يا أنا. وما نقلوا عنه من أنه قال مرة لبعض أصحابه: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي (الحمد لله). فقال صاحبه: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجلٌ فقال: نجا حانوتك. فقلت الحمد لله؛ فأنا نادم من ذلك الوقت على ما قلت إذ أردتُ لنفسي خيراً من الناس. قال ابن مسكين: ولكني أحببت أن أكلم المفتي ومالَ المفتي؛ فحدثتهم حديث معرفتي بالسّري أني سمعتُ يوماً غيْلان الخياط يقول: إن السري كان اشترى كُرّ لوز بستين ديناراً وأثبته في رزنامجه وكتب أمامه: ربحه ثلاثة دنانير؛ فلم يلبث أن غلا السعر فبلغ تسعين ديناراً؛ فأتاه الدلال الذي كان اشترى له فقال: أريد ذلك اللوز. قال الشيخ: خذه. قال: بكم؟ فقال بثلاثة وستين ديناراً. وكان الدلال رجلاً صالحاً فقال للشيخ: إن اللوز قد سار الكُر بتسعين. فقال السري: ولكني عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحلُّه، فلست أبيع إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال الدلال: وأنا عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله ألاّ أغشَّ مسلماً، فلست أشتري منك إلا بتسعين؛ فلا الدلال اشترى منه والسريُّ باعه(141/9)
قال أحمد بن مسكين: فلما سمعت ذلك لم تكن لي همةٌ إلا أن ألقى الشيخ وآخذ عنه، فلم أُعرَّج على شيء حتى كنت في المسجد الذي يصلي فيه فأجده في حَلْقته وعنده ممن كنت أعرفهم: عبدُ الله بن أحمد بن حنبل وإدريس الحداد وعلي بن سعيد الرازي، وحوله خلق كثير وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم تعلوه نَضْرةُ روحه وكأنما يُمدُّه بالنور عِرق من السماء فهو يتلألأ للعين؛ ولا يملك الناظر إليه أن يحس في ذات نفسه أنه الأدنى من رؤيته في ذات نفسه أن هذا هو الإنسان الأعلى
ورأيت على وجهه آلاماً تمسحه مسحةَ الأشواق لا مسحة الآلام، فهي آثارُ ما يجده في روحه القوية، لا كآلام الناس التي هي آثار الحرمان في أروحهم الواهنة الضعيفة فلا تمسح وجوههم إلا مسحة الغم والكآبة. وما يخطئ النظر في تمييز آلام السماء على هذه الوجوه السعيدة من آلام الأرض في الوجوه الأخرى فأن الأولى تتندَّى على روح الناظر بمثل الطّل إذا قطَّره الفجر، والأخرى تتَثَوّرُ كما تَهيج الغَبرةُ إذا ضربت الريحُ الأرض
كان الشيخ في وجود فوق وجودنا فلا تتلون له الأشياء ولا تعدو عنده ما هي في نفسها، ولا يحمل الشيء له إلا معناه من حيث يصلح أو لا يصلح، ومن حيث ينبغي أو لا ينبغي. فإنما تتلون الأشياء عندما يضع الشيطانُ عينَه في عين الناظر إليها؛ وإنما تزيد وتنقص في القلب عندما يكون روح الشيطان في القلب؛ وإنما يشتبه ما ينبغي وما لا ينبغي عندما يأتي الشيء من جهتين: جهته من طبيعته هو، وجهته من طبيعتنا نحن. وبهذا قد يجمع الإنسان المال ثم لا يجد في المال معنى الغنى، وقد تتفق أسباب النعيم ولا يكون منها إلا الذل. وكم من إنسان يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يبغي، وآخرَ لم يجد شيئاً ووجد بذلك راحته.
قال ابن مسكين: وما كان أشدّ عجبي حين تكلم الشيخ فقد أخذ يجيب على ما في نفسي ولم أسأله كأن الذي في فكري قد انتقل إليه؛ فروى الحديث: إذا عظَّمتْ أمتي الدينارَ والدرهم نُزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر حُرموا بَركةَ الوحي. ثم قال في تأويله:
إن ملك الوحي ينزل بالأمر والنهي ليخضع صولةَ الأرض بصولة السماء، فإذا بقي الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر بقي عملُ الوحي إلا أنه في صورة العقل، وبقيت روحانية الدنيا إلا أنها في صورة النظام، وكان مع كل خطأ تصحيحُه فيصبح الإنسان بذلك تنفيذاً(141/10)
للشريعة بين آمرٍ مطاع ومأمور مطيع، فيتعامل الناس على حالة تجعل بعضَهم أستاذا لبعض، وشيئاً منهم تعديلا لشيء، وقوة سندا لقوة؛ فيقوم العزمُ في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز. وبهذا يكونون شركاءَ متعاونين، وتعود صفاتهم الإنسانية وكأنها جيشٌ عامل يناصر بعضه بعضا فتكون الحياة مفسرةً مادامت معانيها الساميةُ تأمر أمرها وتلهم إلهاَمها ومادامت ممثَّلة في الواجب النافذ على الكل
والناس أحرار متى حكمتهم هذه المعاني فليست حقيقة الحرية الإنسانية إلا الخضوع للواجب الذي يحكم، وبذلك لا بغيره يتصل ما بين الملك والسُّوقة وما بين الأغنياء والفقراء اتصالَ الرحمة في كل شيء واتصالَ القسوة في التأديب وحده. فبركة الوحي إنما هي جعل القوة الإنسانية عملا شرعيا لا غير
أما تعظيم الأمة للدينار والدرهم فهو استعباد المعاني الحيوانية في الناس بعضِها لبعض، وتقطُّعُ ما بينهم من التشابك في لحُمة الإنسانية، وجعل الكبير فيهم كبيرا وإن صغرت معانيه والصغير فيهم وإن كبر في المعاني؛ وبهذا تموج الحياة بعضها في بعض ولا يستقيم الناسُ على رأي صحيح، إذ يكون الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمل الإنسان، فيكنز الغني مالا ويكنز الفقير عداوة كأن هذا قتل مالَ هذا وكأن أعمالا قتلت أعمالا، وترجع الصفاتُ الإنسانية متعادية وتباع الفضائل وتشترى، ويزيد من يزيد ولكن في القسوة، وينقص من ينقص ولكن في الحرية، وتكون المنفعة الذاتية هي التي تأمر في الجميع وتنهي، ويدخل الكذبُ في كل شيء حتى في النظر إلى المال فيرى كل إنسان كأنما درهمهُ وديناره أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه فإذا أعطي نقص فغش، وإذا أخذ زاد فسرق؛ وتصبح النفوس نفوساً تجارية تساوم قبل أن تنبعث لفضيلة وتُماكِسُ إذا دُعيت لأداء حق، ويتعامل الناس في الشرف على أصول من المعِدة لا من الروح، فلا يقال حينئذ إن رغيفين أكثر من رغيف واحد كما هي طبيعة العدد، بل يقال إن رغيفين أشرفُ من رغيف كما هي طبيعة النفاق
أما التجارة وهي التفسير الظاهر لمعاني النفوس فتصبح بين الغش والضرر والمماكرة، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري وتفسد الإرادة فلا تحدث إلا آثارها الزائغة. وما التاجر في الأمة القوية إلا أستاذ لتعليم الصدق والخلق في الموضع المتقلب فكلمته كالرقم(141/11)
من العدد لا يحتمل أزيد ولا أنقص مما فيه، ويمتَحَن بالدنيا والدرهم أشدَّ مما يمتحن العابد بصلاته وصيامه. وقد شهد رجل عند عمر بن الخطاب في قضية فقال عمر: ائتني بمن يعرفك، فأتاه برجل أثنى عليه خيراً، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورعُ الرجل؟ قال: لا
قال عمر: أظنك رأيته قائماً في المسجد يُهَمْهمُ بالقرآن يخفض رأسه طوراً ويرفعه أخرى. قال: نعم
قال: فاذهب فلست تعرفه
وإنما التاجر صورة من ثقة الناس بعضهم ببعض وإرادة الخير واعتقاد الصدق، وهو في كل ذلك مظهر توضع اليد عليه كما تجسُ اليدُ مرض المريض وصحته
فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم فإنما عظمت النفاق والطمع والكذب والعداوة والقسوة والاستعباد؛ وبهذا تقيم الدنانير والدراهم حدوداً فاصلة بين أهلها، حتى لتكون المسافة بين غني وفقير كالمسافة بين بلدين قد تباعد ما بينهما. وإنما هيبة الإسلام في العزة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في الحرص عليها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي إزالة النقائص من الطبع لا في إقامتها، وفي تعاون صفات المؤمنين لا في تعاديها، وفي اعتبار الغني ما يُعمل بالمال لا ما يجمع من المال، وفي جعل أول الثروة العقل والإرادة لا الذهب والفضة
هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم، لأنه قبل ذلك غلب النفس والطبيعة
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(141/12)
عصر الخفاء
البارون فون أوفنباخ
داعية ومغامر ومشعوذ
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان القرن الثامن عشر عصر الخفاء في أوربا، تزدهر فيه الدعوات والحركات السرية، ويزدهر فيه أقطاب الدعاة السريين؛ ففي أوائله نرى حركة البناء الحر (الماسونية) تتغلغل في أنحاء أوربا، وتقوم طائفة أخرى من الحركات والجمعيات السرية؛ وفي أواخره نرى طائفة من أقطاب المغامرين الذين يتشحون بأثواب الخفاء والشعوذة يجوبون أوربا من أقصاها إلى أقصاها، ويثيرون الروع والدهشة أينما حلوا؛ ولهؤلاء الدعاة المغامرين سير عجيبة تفيض بها سير القرن الثامن عشر، وتبدو كأنها قصص مغرق، بيد أنها ترجع في الغالب إلى كثير من الحقيقة، وكل ما هنالك أن هذه الحقيقة يكتنفها كثير من الغموض والخفاء يرجع إلى ظروف العصر والمجتمعات التي ظهر فيها أولئك الدعاة المغامرون
ومما يلاحظ أن معظم المغامرين والدعاة السريين الذين ظهروا في هذه الفترة هم يهود أو ينتمون إلى أصل يهودي، وأن معظم الحركات والدعوات السرية التي ازدهرت فيها ترجع أيضاً إلى أصل يهودي، أو نلمس فيها على الأقل وحي الدعاية اليهودية؛ وهذه الملاحظة ترجع في الواقع إلى ظاهرة تاريخية أعم، وهي أن اليهودية كانت منذ العصور الوسطى مستقى أو مبعثاً لكثير من الحركات والجمعيات السرية التي قامت في أوربا، ومعظمها يرمي إلى غايات هدم دينية أو اجتماعية، تقصد بها النصرانية ومبادئها وعقائدها قبل كل شيء
وقد كانت (الكابالا) اليهودية منذ العصور الوسطى أكبر مصدر لهذه الدعوات والرموز السرية. والكابالا شهيرة في تراث اليهودية الروحي والفلسفي، وهي عبارة عن مزيج من الفلسفة والتعاليم الروحية، والرموز السحرية، يتوارثها أحبار اليهودية ودعاتها منذ أقدم العصور، وأخص تعاليمها الروحية أن الله وهو الكائن المطلق الخالد ينفث من نفسه إلى عالم الأرواح النقية، وأن روح الإنسان تنتقل من جسم إلى جسم حتى تعود في النهاية إلى(141/13)
الله وتفنى فيه؛ ولكن الكابالا اشتهرت بالأخص برموزها السرية وتعاويذها السحرية، وقد كانت هذه مدى العصور تراث الخفاء في يد الدعاة والمشعوذين، يستغلون به سذاجة الكافة، ويتخذونه سلاحاً قوياً لبث دعواتهم وتحقيق غايتهم في مجتمعات مؤمنة يروعها السحر والخفاء على كر العصور
وقد بلغت هذه الدعوات والتعاليم السرية اليهودية ذروة القوة والذيوع في القرن السابع عشر؛ وكانت بولونيا، وبالأخص مقاطعة بودوليا التي كانت يومئذ منزلا لطوائف كثيرة من اليهود، مركزاً للدعوة الكابالية؛ وكانت هذه الدعوة تتمخض من آن لآخر عن فورات دينية يتردد صداها في المجتمع اليهودي كله. وفي أواسط القرن السابع عشر ظهر في تركيا شابتاي زيبى، وهو داعية يهودي زعم أنه المسيح المنتظر، فأثار ظهوره ومزاعمه فتنة كبيرة في المجتمع اليهودي؛ ولم يكن (المسيح المنتظر) سوى داعية ماهر من دعاة (الكابالا)؛ وفي أواسط القرن الثامن عشر ظهر في بولونيا عدة متعاقبة من الدعاة الكاباليين، أشهرهم إسرائيل البدولي الذي أسس طائفة (الحسديم)؛ وكان إسرائيل بارعاً في ضروب الشعوذة واستخدام الرموز والتعاويذ السحرية، فلقيت دعوته صدى كبيراً، والتف حوله كثير من اليهود الذين خرجوا على تعاليم (التلمود) وتقاليده
وفي ذلك الحين أيضاً ظهر داعية من أعظم دعاة الكابلا، وأشدهم خفاء وغموضاً، فأثارت شخصيته الغامضة، وحياته العجيبة، ومزاعمه الخارقة، وبذخه الطائل أيما روعة ودهشة في مجتمعات أوربا الوسطى. واسم هذا الداعية الغريب يعقوب فرنك، وكل ما نعرف عن نشأته وحياته الأولى أنه ولد في بولونيا، وكان في حداثته يشتغل بتقطير الخمور؛ ثم تجول حيناً في بلاد القرم وفي تركيا، ودرس تعاليم (الكابالا) ورموزها دراسة عميقة، واتصل بأنصار شابتاي زيبى ودعاهم إلى لوائه، ثم عاد إلى بودوليا منزل الحركة الكابالية، وهنالك أسس في سنة 1755 طائفة جديدة تعرف بجماعة (الزوهاريين) نسبة إلى (زوهار) أو كتاب الضوء، وهو من الكتب العبرية الكابالية؛ ولم يلبث أن ذاعت دعوته وقويت عصبته؛ ونهض لمقاومته جماعة (التلموديين) الرجعيين، ونشبت بينهما خصومة قوية، فالتجأ فرنك إلى حماية أسقف كامنيك وأفضى إليه بميوله النصرانية، وأحرق التلمود علناً؛ وعاونه الأسقف على مقاومة خصومه حيناً ولكنه لم يلبث أن توفى، واشتد الأحبار اليهود في(141/14)
مهاجمة فرنك ومطاردته، وأوقعوا به لدى حكومة وارسو، ولدى مبعوث البابا، وصوروه للسلطات الدينية والمدنية يهودياً مرتداً، ونصرانياً مماذقاً، وأن دعايته خطر على العقائد المرعية، فهبت السلطات لمقاومته، وبدأت يد المطاردة تعمل لسحق (الزوهاريين) وتشريدهم
والواقع أن مذهب فرنك لم يكن يهودية خالصة ولا نصرانية خالصة، بل كان مزيجاً غريباً من اليهودية والنصرانية والوثنية؛ ولم تكن بولونيا مهداً خصباً لمثل هذه الدعوات الجريئة؛ فلم يمض بعيد حتى قبض على فرنك بتهمة الارتداد الكاذب ونشر الإلحاد والكفر، وزج إلى قلعة شنتشوف، وبادر كثير من أنصاره بالفرار إلى تركيا، واعتنق الكثلكة كثير ممن بقى منهم في بولونيا، ولكنهم بقوا يهودياً في سرائرهم، وقبض على عدد منهم، وحكم على البعض بالأشغال الشاقة، ولكن كثيرين منهم استطاعوا أن يتقوا بستار الكثلكة ويل المطاردة؛ ولقي الذين هاجروا إلى تركيا عنتاً واضطهاداً من السلطات الدينية في مولدافيا، وانقض عليهم العامة ونهبوهم، وتفرقوا في كافة الأنحاء. أما يعقوب فرنك فلبث يرسف في سجنه حتى سقطت قلعة شنتشوف في أيدي الروس في سنة 1772، وعندئذ أطلق سراحه؛ فتجول حيناً في بولونيا وبوهيما ومورافيا متشحاً في الظاهر بثوب الكثلكة، وهو يجمع الأموال والرسوم الفادحة من أنصاره وأبناء جلدته، ويثير الروع والإجلال بين الكافة بمظاهر بذخه؛ وكان مذهب الزوهاريين قد ذاع في المجتمعات اليهودية في تلك الأنحاء، وكانت تعاليمهم أكثر جنوحاً إلى النصرانية، فهم ينكرون التلمود، ويسلمون بالتثليث والحلول، ولكن ينكرون أن المسيح وحده أهل للحلول؛ وكان هذا المزيج بين المذاهب والتعاليم المختلفة ملاذ الدعاة في كل عصر، فهم يزعمون دائماً أنهم ينشئون مذهباً أو ديناً جديداً، ولكنهم يعمدون دائماً إلى الاقتباس من المذاهب والأديان القائمة، ويسبغون على مزيجهم نوعاً من الجدل الغامض للتمويه على العامة والبسطاء
على أن يعقوب فرنك غدا مذ قوضت دعائم طائفته رجلا آخر، فهو لم يبق بعد داعية يتزعم مذهباً جديداً؛ ولم يبق بعد اعتناق الكثلكة يهودياً ينفث دعاياته إلى أبناء دينه؛ بل غدا في الواقع شخصية جديدة يحوطها خفاء من نوع جديد؛ ذلك أنه ظهر فجأة في المجتمع الرفيع، يعيش في بذخ شرقي طائل، ويحيط نفسه بحاشية كبيرة فخمة، ويدهش المجتمعات(141/15)
الرفيعة في ألمانيا والنمسا بروعة مظاهره وفيض بذخه؛ ومازالت حياة فرنك في تلك الفترة لغزاً، وما زال مصدر تراثه المدهش سراً على التاريخ؛ ومن ذلك الحين يعيش فرنك في فينا وفي برون على مقربة منها، تحيط به أروع مظاهر الفخامة والبذخ، كما يحيط به أعمق الأسرار وأغرب المزاعم؛ ولبث فرنك مدى حين يدهش البلاط النمسوي وكل مجتمع فينا الرفيع بشخصيته الخفية، وحياته الفخمة الباذخة؛ وكانت له ابنة حسناء تدعى (حوه)، استطاعت أن تتقرب من الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وأن تنال لديها حظوة ونفوذاً، وأن تمهد لأبيها كثيراً من السبل؛ ولكن الريب الذي يلاحقه أينما حل كان يحيط دائماً بشخصيته ومحيطه ووسائله ومزاعمه؛ ولم يلبث أن اضطر إلى مغادرة النمسا ليتقي شر الاتهام والمطاردة، وعندئذ تحول إلى مدينة أوفنباخ بألمانيا على مقربة من فرانكوت، واستقر بها مع حاشيته الكبيرة، وعاش هنالك بنفس البذخ الطائل الذي كان مثار الروع والدهشة والإعجاب أينما حل
وعاش فرنك في أوفنباخ أعواماً طويلة، وتسمى بالبارون فون أوفنباخ، وهو لقب يغلب عليه في كتب التاريخ والقصص؛ وأثار بروعة بذخه ومظاهر طلعة المجتمع الألماني ودهشته كما أثار دهشة المجتمع النمسوي من قبل. ويقدم إلينا المؤرخ الألماني بيتر بير وصفاً روائياً شائقاً لحياة فرنك العجيبة وبذخه المدهش فيقول لنا: (كانت له حاشية من بضع مئين من الفتيان والفتيات اليهود ذوي الحسن الرائع؛ وكان يذاع أن صناديق المال تنهمر عليه في كل يوم ولا سيما من بولونيا، وكان يخرج كل يوم في موكب حافل ليقيم شعائره في العراء، في عربة تجرها جياد مطهمة، ومن حوله عشرة أو اثنا عشر فارساً بروسيا في حلل حمراء خضراء موشاة بالذهب، وقد شهروا الرماح ووضعوا في قلنسواتهم رموزأً من النسور أو الوعول أو أهلة وشموساً وأقماراً؛ وكان الماء يصب دائماً حيثما كان يقيم شعائره؛ وكان يؤم الكنيسة في مثل هذا البذخ، وهنالك يؤدي القداس بطريقة خاصة، وفي خشوع خاص؛ وكان أنصاره يعتقدون فيه الخلود، بيد أنه توفى في سنة 1791؛ ودفن في بذخ يعدل بذخ حياته، وسار وراء نعشه موكب من ثمانمائة؛ بيد أن سر ثرائه وبذخه دفن معه في قبره؛ وانحدرت أسرته بعد وفاته إلى حالة من البؤس تدنو إلى التسول؛ وعبثاً حاولت تستدر عطف أنصاره أو صدقتهم؛ ولم يمض سوى قليل حتى غمرها النسيان(141/16)
والعدم، واضطرت لكي تعيش أن تزاول أعمال الحياة الفانية)
هذه في قصة يعقوب فرنك وقصة حياته العجيبة. قصة مغامر ومشعوذ بارع استطاع أن يستغل ظروف عصره، وما كان يسود مجتمع عصره من إيمان وتعلق بالخوارق والأساطير. بيد أنه من الخطأ أن نقف عند هذه الصورة الظاهرة من حياته. ذلك أن حياة فرنك كانت سراً من الأسرار التي لا تنفذ إليها طلعة الكافة، وكان وراء هذه الحياة الفخمة الباذخة ناحية أخرى يغمرها الخفاء المطبق. كل كان فرنك يعمل لنفسه وبوسائله الخاصة أم كان يعمل بوحي قوة خفية أخرى تمده بأسباب البذخ الطائل وتدفعه إلى المجتمع مزودا بتلك المظاهر الرائعة لكي يعمل الرائعة لكي يعمل على بث داعية معينة وتحقيق أغراض معينة؟ وتحقيق أغراض معينة؟ لقد كان العصر الذي ظهر فيه فرنك عصر الخفاء حقاً، وكانت موجة من الخفاء والتعلق بالخوارق والمجهول تغمر مجتمعات أوربا الرفيعة وتملك عليها تفكيرها وأهواءها؛ وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه فرنك مسلحاً بأسراره ومظاهره العجيبة، ظهر يوسف بلسامو أو الكونت كاجيلو سترو مسلحاً بمثل هذا الخفاء وأثار دهشة المجتمعات الرفيعة ولا سيما في فرنسا بمظاهره وأعماله العجيبة ومزاعمه الخارقة؛ وظهر في نفس الوقت مغامر آخر من نفس الطراز وإن كان أقل روعة وتأثيراً، وهو الكونت سان جرمان واقتفى أثر زميله في التذرع بالخوارق. ومما يلفت النظر أن الثلاثة كانوا يهوداً؛ وقد كانت اليهودية يومئذ مبعث الحركات والدعوات السرية، وكانت الكابالا اليهودية كما أسلفنا مستقى خصباً للدعاة السريين فيما يعرضون من ضروب الرموز والأساليب السحرية، وكانت حركة البناء الحر (الماسونية) يومئذ تضطرم في جميع أوربا؛ وقد أثبت البحث الحديث أن لحركة البناء الحر أغراضاً خفية غير الأغراض الإنسانية التي تتظاهر بها، وأنها تعمل لغاية ثورية شاملة هي سحق الأديان والمعتقدات القائمة كلها، وإدماج الإنسانية كلها في نوع من التفكير الحر المطلق والمساواة الاجتماعية المطلقة. ويرى بعض الباحثين أن الثورة الفرنسية كانت مؤامرة (ماسونية) ونفثة من نفثات البناء الحر، وأن محافل البناء الحر هي التي نظمت خططها وبرامجها الأولى، بل يرى بعض الباحثين أن الثورة البلشفية الحديثة ليست بعيدة عن تأثير البناء الحر، وأن ما ترمي إليه من إحداث ثورة عالمية يطابق نفسه الغاية التي يعمل لها البناء الحر؛ وقد كان أولئك الدعاة المغامرون(141/17)
الذي خلبوا الباب أوربا في القرن الثامن عشر يتصلون بمحافل البناء الحر اتصالاً وثيقاً وإن يكن خفياً. أفليس لنا نعتقد بعد ذلك أن يعقوب فرنك لم يكن مغامراً أفاقاً يعمل لنفسه ولمطامعه الشخصية، وأنه بالعكس كان داعية خطيراً يبعث حركة خطيرة لها صلة بخطط البناء الحر وغاياته؟ وأنه كان يستمد المال الوفير والنصح والحماية من قوة خفية أعظم؟ هذا ما نرجح، وهذا ما يؤيد خفاء حياته وخفاء وسائله ومزاعمه وغاياته، واتشاحه بثوب الدعوة الدينية التي كانت على كر العصور ملاذاً لمختلف الدعوات والغابات.
محمد عبد الله عنان(141/18)
فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
سيداتي، سادتي!
أشكر قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية على أن هيأ لي فرصة للتحدث إليكم الليلة في موضوع جاف ودقيق؛ ولست أدري هل دقته منشأ جفافه، أم جفافه زاد في دقته وغرابته؛ ومهما يكن فالذي أستطيع أن أؤكده لكم أنكم لستم بصدد موضوع من تلك الموضوعات الطريفة المسلية التي تمر بالمستمع في شوق ورغبة وهدوء وسكون، وقد أعذر من أنذر! على أن لي في سعة صدركم وعظيم انتباهكم ما يشجعني على القول برغم ما يصادفني من صعوبات. وما فكرت في أن أخوض معكم غمار هذه الأحاديث إلا رغبة منى في أن أوجه النظر إلى شطر من الثقافة الإسلامية أهمله أهله وتغافل عنه ذووه. وأعني بهذا الشطر الدراسة العقلية والبحث النظري في الإسلام. للإسلام فلسفة انفردت بخصائصها ومميزاتها وأضحت ذات شخصية مستقلة. فليست مجرد الفلسفة الأرسطية مصوغة في عبارات عربية كما يزعم رينان، ولا فلسفة مدرسة الإسكندرية منسوبة فقط إلى بعض رجال الإسلام كما يدعي دهيم. كلا بل هي فلسفة ذات موضوع خاص ومشاكل معينة وطريقة البحث جديدة إلى حد كبير. هذه الفلسفة مجهولة ومهملة إلى درجة لم تصل إليها فيما أعتقد أية فلسفة أخرى. فرجالها لا يكادون يعرفون، وكتبهم ليست أعظم حظاً منهم؛ ولا يزال قدر منها مخطوطاً إلى اليوم دون أن يفكر أحد في طبعه ونشره. ولو لم يقيض الله لهذا التراث بعض المستشرقين لما عرف عنه شيء وتقي في طي الكتمان إلى الأبد. وما أجدرنا أن نقوم نحن على إحياء مجدنا والإشادة بذكر رجالنا كي يتصل حاضرنا بماضينا ونؤسس نهضتنا على أسس متينة من القديم الحي والجديد النافع
قلت أيها السادة إن موضوعنا دقيق، وعنوانه كاف للدلالة على ما فيه من أمور شائكة ومشاكل عويصة. فان الأبحاث الدينية في جملتها مثار اتهامات وتأويلات وشبه لا حصر لها. وقد ساد بلدنا في العشرين سنة الأخيرة روح اتهام خبيثة ترمي بالإلحاد والزندقة والتمرد والكفر كل من حاول تفسير ظاهرة من الظواهر الدينية تفسيراً تاريخياً أو عقلياً.(141/19)
لذلك تحاشى كثير من الباحثين هذا الميدان وتجنبوه اتقاء لما فيه من شرر متطاير وعراك ونضال. غير أني أشعر بنسمة من نسمات التسامح الإسلامي القديم تهب علينا من جديد، وألمح في صفوف قادة الرأي والمفكرين اتجاها نحو الحرية وسعة الصدر وطلاقة التفكير. ولا أدل على هذا من خمود تلك النعرة القديمة، نعرة الإباحيين والمستمسكين واللادينيين والدينيين. ويغلب على ظني أنه لو كان تقدم الزمن عشر سنين بكتاب ككتاب (حياة محمد) مثلاً للدكتور هيكل لعد في صف المؤلفات المحاربة المطرودة. أما اليوم فانه مقروء ومرغوب فيه بشكل يدعو إلى الإعجاب والتقدير. وليس هناك شك في أن لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي يداً في هذه النزعة الصالحة والتسامح الجديد. وإذا كانت النفوس اليوم أكثر استعداداً لتفهم مسائل الدين في جو حر طليق فأني لا أرى غضاضة في أن أتحدث عن بعضها. على أني لست في هذا الحديث إلا رسول الأمين والناقل الصادق لما قال به فلاسفتكم الأقدمون. فمهمتي أن أنقل إليكم آراء كبار فلاسفة الإسلام، وأردد بينكم أصواتاً تقادم بها العهد، وأبعث من تحت الرغام أشباحاً طال رقادها، وأبين لكم كيف حاول الفارابي وابن سينا وابن رشد التوفيق بين الفلسفة والدين
الدين وحي الله، ولغة السماء وغذاء القلوب، ومصدر الأوامر والنواهي. فكيف نوفق بينه وبين الفلسفة التي هي صنع البشر ولغة الأرض، ومجال الأخذ والرد والبحث والتعليل؟ كيف نوفق بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، والأولى عمادها الإلهام، والثانية أساسها البرهان؟ كيف نوفق بين السمعيات والعقليات، بين المسلمات واليقينيات؟ كيف نوفق بين أفكار العامة المبنية على البساطة والسهولة، وآراء الخاصة الناتجة عن التفكير الزائد والتأمل العميق؟ مهمة شاقة قطعاً ومحاولة يعز أن تكلل بالنجاح. ولكنها ضرورية لقوم عاشوا في العالم الإسلامي واعتنقوا الإسلام، وكانت دراستهم بل حياتهم كلها خاضعة للجو المحيط بهم، ومتأثرة بمختلف العوامل والظروف التي استولت على عصرهم. فلم ير الفلاسفة المسلمون بداً من محاولة التوفيق بين معتقداتهم وأبحاثهم. وهذه المحاولة هي حجر الزاوية في فلسفتهم وأخص خصائصها، وبها تتميز من الفلسفة الأرسطية وتبدو في ثوبها الفذ المستقل. ففي كل خطوة من خطاهم، وفي كل بحث من أبحاثهم، صوب هؤلاء الفلاسفة نحو هذا الغرض واتجهوا نحو هذه الغاية. وكان لمجهودهم أثر يذكر في انتشار(141/20)
الفلسفة ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى. ويعد الفارابي أول من سلك سبيل هذا التوفيق وأظهره في شكل مهذب منسق. ثم أتى بعده ابن سينا فسار على سنته واهتدى بهديه، ووسع طريقته وكمل ما فاته، إلا أن محاولة التوفيق التي قام بها هذان الفيلسوفان لم ترق لدى الغزالي، فشن عليها الغارة وأثار عليها حرباً شعواء ونقض أصولها وفروعها وأعمل معوله في هدم بنائها الفخم وأركانها المتينة؛ وكتابه تهافت الفلاسفة قائم على انتزاع أحجار هذا البناء الواحد بعد الآخر، وإثبات أن الفلاسفة أساءوا إلى الفلسفة والدين معاً بمحاولتهم التوفيق بينهما. وقد جاء ابن رشد أخيراً مدافعاً عن أسلافه الفلاسفة ومبيناً ما في حجج الغزالي من مغالطة وسفسطة. ولم يمنعه تعصبه الزائد لأرسطو وعنايته الكبيرة بالفلسفة القديمة من أن يقف على هذه المشكلة ثلاثة كتب هامة هي: تهافت التهافت في الرد على الغزالي، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ومناهج الأدلة في عقائد الملة. ولا يعنينا كثيراً أن نعرف ما إذا كان هؤلاء الفلاسفة مخلصين في عملهم أو غير مخلصين، فهذه مسألة تتجاوز دائرة بحثنا وتتعلق بأشخاصهم وصلتهم بربهم. وما لنا نتتبع بواطن الناس وقد دلت ظواهرهم على حسن نيتهم؟ ومن لنا بالوقوف على أمر هذه البواطن والله وحده هو الذي يتولاها ويدرك كنهها وخفاياها؟ على أن البحث عن السرائر مقرون غالباً بالشك وإلصاق تهم بأشخاص لم يقم دليل من أقوالهم وأفعالهم على اتهامهم. فلندع هذا جانباً، ولنقنع بأن نقرر أن فلاسفة الإسلام الذين نتحدث عنهم خلفوا كتباً تشهد برغبتهم الأكيدة في التوفيق بين دراستهم وعقائدهم، وفلسفتهم كلها قائمة على هذا الأساس
واضح أن التوفيق يستلزم على الأقل جانبين متقابلين وطرفين متنافرين. ومهمة الموفق أن يبعد أسباب الخلاف ويقرب الشقين المتباعدين؛ وهذا ما حاوله الفارابي وابن سينا في ربط الفلسفة بالدين، فقد كان أمامهما من جهة الفلسفة الأرسطية تراث الإغريق وأسمى صورة لما أنتجه العقل الإنساني في ذاك الزمن، كما كانا يعتنقان من جهة أخرى عقائد الإسلام والملة الحنيفية السمحاء التي تدعو إلى تحرير الإنسان من قيوده وتوجيهه نحو البحث والنظر. وفي فلسفة أرسطو نواح لا تلائم أصول الدين، كما أن في الإسلام تعاليم قد لا تتفق ظواهرها والروح الفلسفية؛ فعنى الرجلان بصبغ مذهب أرسطوا بصبغة دينية وكسوة الدين بثياب فلسفية، وبذا أصبحت الفلسفة دينية، والدين فلسفياً؛ أو بعبارة أدق أصبحت(141/21)
فلسفتهما ديناً ودينهما فلسفة. وليس في مقدورنا أن نأتي هنا على تفاصيل أوجه التوفيق التي حاولاها، وإنما نكتفي بالمسائل الرئيسية التي أدخلاها في الفلسفة والدين معاً. فنتبين النقط التي خالفا فيها أرسطو والحلول التي عرضناها لبعض المشاكل الدينية. وعلى هذا فأوجه التوفيق تنقسم إلى شعبتين، تتصل إحداهما بالفلسفة والأخرى بالدين، وكأن الموفقين شاءا أن يخطوا بالفلسفة نحو الدين في الوقت الذي قربا فيه الدين من الفلسفة؛ وكأن التصالح بين الطرفين، إن صح هذا التعبير القضائي، تم على تساهل متبادل وتضحية مشتركة. في الفلسفة الأرسطية ثلاث مسائل جوهرية تبعد عن تعاليم الإسلام: الأولى فكرة الإله ومدلولها الصحيح وتحديد صفات البارئ وخصائصه؛ والثانية الصلة بين الله والعالم وبيان ما إذا كانت الحركة والمادة محتاجتين إلى الله أو غير محتاجتين؛ والثالثة النفس وخلودها، نظرية كلامية ميتافيزيقية، وأخرى فلكية طبيعية، وثالثة سيكلوجية. هذه هي النقط الثلاث الهامة التي تباعد بين آراء أرسطوا وما جاء به الإسلام، وفي التعاليم الإسلامية من جانب آخر مشكلتان عظيمتان هما: مشكلة النبوة ومشكلة السمعيات. وقد شغل الفلاسفة بهما وعنوا بتفسيرهما تفسيراً علمياً ينطبق على مبادئ البحث العقلي. وسأعرض عليكم سريعاً أوجه الخلاف هذه وطريق علاجها
لم يعن أرسطو عناية خاصة بمعرفة الله، ولم يعتبرها غرضاً رئيسيا لفلسفته، ولم يدخلها في قوانينه الأخلاقية ولا في نظمه السياسية، ويظهر أنه نظر أولاً إلى العالم الحسي وبين أسبابه وعلله دون أن يفكر في قوة خفية تدبره، وبعد أن استكملت الطبيعة وسائلها وانتظمت الأفلاك في سيرها انتهى به المطاف إلى محرك أول أخص خصائصه أنه يحرك غيره ولا يتحرك هو. هذا المحرك الساكن أو المحرك الصوري هو الإله في رأيه، ولا يذكر من صفاته إلا أنه عقل دائم التفكير، وتفكيره منصب على ذاته. فإذا ما طالبته بتفاصيل أكثر وبيان أشمل ألفيت نفسك أمام صمت عميق وسكون مطبق. ذلك لأنه يتحرج عن الكلام في المسائل الدينية، ويعدها فوق مقدور البشر، ويصرح بأن الكائنات الأزلية الباقية وإن تكن رفيعة مقدسة ليست معروفة إلا بقدر ضئيل. وليت أرسطو وقف عند هذا الحد، بل جاوزه إلى ما هو أقبح وأشنع، فإن نظرياته المختلفة تشعر بتردد بين الوحدة والتعدد. حقاً إنه ينادي بالوحدة مردداً قول هومير إنه (ليس حسناً أن يكون هناك سادة(141/22)
متعددون) ويلاحظ أن وحدة نظام العالم تستلزم وحدة سببه الغائي، ولكنه يقرر في مقام آخر أن لكل فلك محركا خاصاً لا يختلف كثيراً عن المحرك الأول والإله الأعظم. فالأفلاك وحركاتها تقوده إلى التعدد وإن جهر بالوحدة وبرهن عليها، وبذا لم يستطع التخلص تماماً من التقاليد الإغريقية القديمة التي كانت تعتبر النجوم آلهة. ففكرة الإله عنده غامضة وغير متمشية مع مذهبه، ولا تشغل حيزاً واضحاً في فلسفته، وأراني في غنى عن أن ألاحظ أن هذه الفكرة تختلف كل الاختلاف عن العقيدة الإسلامية. لذلك اضطر الفلاسفة المسلمون أن يبينوا حقيقة الله ويشرحوها شرحاً لا يدع مجالاً للإبهام والشك؛ وقد أثبتوا أن الله هو الموجود الأول والسبب الحقيقي لسائر الموجودات، وأنه منزه عن الشريك والنظير والمثيل والضد، هو الإله الواحد الحي القادر العليم الحكيم السميع البصير. يقول الفارابي: (الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها وهو بريء من جميع أنحاء النقص. . . فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود ولا يمكن أن يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده. . . فهو أزلي دائم الوجود بجوهره وذاته من غير أن يكون به حاجة في أن يكون أزلياً إلى شيء آخر يمد بقاءه، بل هو بجوهره كاف في بقائه ودوام وجوده. . . وهو مباين بجوهره لكل ما سواه ولا يمكن أن يكون الوجود الذي له لشيء آخر سواه). وفي هذا المعنى يقول ابن سينا إن (الأول لا ند له ولا ضد له ولا جنس له ولا فصل له فلا حد له ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان العقلي. وهو معقول الذات قائمها، فهو قيوم بريء عن العلائق والعهد والمواد وغيرها مما يجعل الذات بحال زائدة. وقد علم أن ما هذا حكمه فهو عاقل لذاته معقول لذاته. تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود. وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم). أقول هذا حكم لقوم؛ ثم يقول: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟) أقول إن هذا حكم الصدِّيقين الذين يستشهدون به لا عليه)، وقد برهن الفيلسوفان على وحدة الله بطريقة مبتكرة وفي مهارة ولباقة خلابتين، وإذا كان الله واحداً فإنا لا نستطيع أن نتصور له صفات خارج ذاته، بل هو عالم حي سميع(141/23)
قادر بذاته. (فليس يحتاج في أن يتعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته، ولا في أن يكون معلوماً إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتف بجوهره في أن يَعلم ويُعلم، وليس علمه بذاته شيئاً سوى جوهره، فإنه يعلم وأنه معلوم وأنه علم، كل ذلك ذات واحدة وجوهر واحد) فالفارابي وابن سينا يقولان، كالمعتزلة، بوحدة الذات وبلغيان الصفات الخارجة عنها، وفكرة الإله عندهما أساس الذهب جميعه، وكل المسائل الأخرى متفرعة عنها. وفي هذا ما يبين مسافة الخلف بينهما وبين أستاذهما أرسطو
لم يفارق فلاسفة الإسلام أستاذهم في هذه النقطة فحسب، بل انفصلوا عنه في مسألة أخرى هي نتيجة لهذه، ألا وهي الصلة بين الله والعالم. وذلك أن أرسطو وقد قال يقدم المادة والحركة لم يدع لله مكاناً في هذا العالم. نعم إنه يسميه المحرك الأول ومعنى هذا أنه علة فاعلية، ولكنه يعود فيقول إنه محرك ساكن؛ وكل ما هنالك أن العالم يتجه إليه في حركته. فهو غرض وغاية فقط؛ وليس تأثيره في العالم بأكثر من تأثير التمثال الجميل في نفس المعجب به. وإله هذا شأنه يتنافى مع ما يصرح به القرآن من أن الله خالق كل شيء. فلا المادة ولا العالم يتصور لهما وجود بدون الله. والتغيرات الكونية على اختلافها ترجع إلى الخالق المبدع جل شأنه. إزاء هذا التناقض الواضح فجاء الفارابي وابن سينا إلى حل وسط فقالا إن المادة مخلوقة وقديمة. خلقها الله بفيض من عنده أولاً وتعهدها بعنايته ورعايته فيما بعد. وكلمة (فيض) هذه ليست من الكلمات التي تمر بنا دون أن نعيرها أية أهمية فإنها ذات مدلول خاص وأهمية تاريخية. ويراد بها أن الله وهو عقل محض وتفكير مستمر قد صدر عنه العقل الأول كما يصدر الضوء عن الشمس، وعن العقل الأول صدر العقل الثاني وهكذا إلى العقل العاشر. وهذه العقول مرتبة ترتيباً تنازلياً فأسماها العقل الأول وأدناها العقل العاشر. وهي موزعة على الأفلاك المختلفة لتمدها بالحركة وتحقق فيها النظام. ويختص العقل العاشر أو العقل الفعال بالعالم الأرضي وعنه صدرت المادة التي هي مخلوقة وقديمة في آن واحد. يقول الفارابي: (وأول المبدعات عنه شيء واحد بالعدد وهو العقل الأول ويحصل في المبدع الأول الكثرة بالعرض لأنه ممكن الوجود بذاته، واجب الوجود بالأول، ولأنه يعلم ذاته ويعلم الأول. وليست الكثرة التي فيه من الأول لأن إمكان الوجود هو لذاته وله من الأول وجه من الوجود. ويحصل من العقل الأول بأنه(141/24)
واجب الوجود وعالم بالأول عقل آخر ولا يكون فيه كثرة إلا بالوجه الذي ذكرناه. ويحصل من ذلك العقل الأول بأنه ممكن الوجود وبأنه يعلم ذاته الفلك الأعلى بمادته وصورته التي هي النفس. والمراد بهذا أن هذين الشيئين يصيران سبب شيئين: أعني الفلك والنفس. ويحصل من العقل الثاني عقل آخر وفلك آخر تحت الفلك الأعلى. وإنما يحصل منه ذلك لأن الكثرة حاصلة فيه بالعرض كما ذكرناه بديا في العقل الأول، وعلى هذا يحصل عقل وفلك من عقل، ونحن لا نعلم كمية هذه العقول والأفلاك إلا على طريق الجملة إلى أن تنتهي العقول الفعالة إلى عقل فعال مجرد من المادة؛ وهنالك يتم عدد الأفلاك؛ وليس حصول هذه العقول بعضها من بعض متسلسلاً بلا نهاية، وهذه العقول مختلفة الأنواع كل واحد منها نوع على حدة، والعقل الأخير منها سبب وجود الأنفس الأرضية من وجه، وسبب الأركان (العناصر) الأربعة بواسطة الأفلاك من وجه آخر)، ويقول ابن سينا كذلك إن (الأول يبدع جوهراً عقليا هو بالحقيقة مبدع ويتوسطه جوهراً عقلياً وجرماً سماوياً. وكذلك عن ذلك الجوهر العقلي حتى تنم الأجرام السماوية وتنتهي إلى جوهر عقلي لا يلزم عنه جرم سماوي. فيجب أن تكون هيولي العالم العنصري لازمة عن العقل الأخير وعلى هذا فالفارابي وابن سينا يثبتان الخلق الذي جاء به القرآن وإن كانا يصورانه بصورة عقلية روحية، ويسلمان مع أرسطو بقدم العالم وإن اعترفا بمبدئه
(يتبع)
إبراهيم مدكور(141/25)
التاريخ في سير أبطاله
3 - ميرابو
ميرابو. . . تلك الأعجوبة!
جوته
للأستاذ محمود الخفيف
تتمة
صارت الغلبة للشعب، فلقد وقف ميرابو وقفة حاسمة كان في الثورة كما رأينا نجاتها؛ وليت شعري هل يحمل عمله هذا على الهدم أم هو يحمل على البناء؟ أتراه يوجه السفينة إلى حيث لا عاصم لها من الموج، أم تراه يجنبها الصخرة المعترضة؟ أدر الدفة يا ربانها! لكن الربان اليوم يزجيها ويستحثها! أكان عن طيش ذلك أم عن خبل؟ كلا فأنى لليطش أو الخبل أن يبلغا هذا الرأس الأشم؟ أولم ير الأشراف يأتمرون بالثورة ويرى الملك يتنمر بغتة ويهم أن يأتها من مقتلها؟ إنه يعرف ما يفعل يدرك متى يتخذ الهجوم سلاحاً ومتى يجعل من الصبر مثابة وأمنا. وإنك لتراه يجمع في ذلك إلى إقدام القائد حنكة السياسي
أكبرته باريس وكانت قد أعجبت بما قرأت له في صحيفته التي كان يصدرها دفاعاً عن آرائه، واليوم تخلص له الحب، ولو كان للرجل يومئذ مآرب خاصة كما تقول عنه خصومه لكان له من تلك الشهرة أعظم فرصة، ولكنه وقف من باريس موقف الحذر الفطن، إذ كان يخشى أن تنقلب الثورة من مظهرها الدستوري إلى مظهر دموي هو عنده الطامة الكبرى
ولكنه إذ يعمل على تفادي الخطر من ناحية الشعب لم يكن يأمن جانب البلاط، ولم ير في إذعان الملك وحمله السادة الممتازين على مجالسة العامة إلا سكون المتحفز الذي يتربص بالجمعية الدوائر ليضربها الضربة القاضية
ولم تلبث الحوادث أن أيدت ما رأى، فقد طافت شائعات السوء بالجمعية ثم أيقنت أن الملك يحشد حول باريس وفرساي من جنده نحو أربعين ألفاً، وأنه موشك أن يعود إلى سالف موقفه منها وهو اليوم بهؤلاء الجند أشد بطشاً وأعظم حولاً، ولقد أنكر ميرابو هذه السياسة المذبذبة من لدن ذلك الملك الذي كان بسياسته يوقظ لفتنة ويحركها؛ وتساءل في دهشة وفي(141/26)
قوة حجة: (إذا كان الملك يريد أن ينفرد بالأمر دوننا فلم دعانا إليه؟ وإذا كان قد دعانا لحاجة إلينا فكيف يسوغ له أن يشهر السلاح في وجوهنا)؟
وتطلعت الجمعية إلى رجلها من جديد وانتظرت باريس منه القول الفصل، ووثب ديموستين الفرنسي مرة ثانية إلى الصدر فهز جنبات القاعة بل جوانب فرنسا بخطاب من أبلغ ما فاه به. ثم أراد أن يأخذ الطريق على من يكيدون للجمعية بالدس فاقترح أن ترسل وفداً إلى الملك يعلن له ولاءها ويرجوه أن يسحب الجند من حول باريس. ولقد جعلت الجمعية ميرابو على رأس ذلك الوفد؛ فلما جاء الملك أجاب متهكما: (إنه وحده الذي يحرك جنده كما يريد، وإذا كان النواب يخافون هؤلاء الجند فلينسحبوا إلى ما وراء باريس؛ وبعد ذلك بيومين عزل (نكر) من الوزارة يوم 11 يوليو سنة 1789
أدرك ميرابو أن الكارثة واقعة لا محالة. ولم تنقض ثلاثة أيام على عزل نكر حتى حملت باريس السلاح ودكت ذلك الحصن العتيد سجن الباستيل رمز الطغيان والعبودية
دخلت الثورة في دورها الدموي الرهيب؛ ولقد ذعرت الجمعية وخشيت أن تقع الحرب الأهلية فتقضي على الثورة والجمعية معاً؛ وكان رجلها غائباً عنها لما علم من وفاة أبيه. فلما عاد عاودها الأمل وأوفدت وفداً جديداً يعيد على الملك ملتمس الجمعية، ووقف ميرابو ينصحه قائلا: (بلغوا الملك أن جنوده الذين أحاطوا بنا من كل صوب قد غمرتهم أيدي أمرائه وأميراته ورجال حاشيته بالهدايا والتحف. وأن هؤلاء الجند وقد بهرهم بريق الذهب ولعبت برؤوسه الخمر باتوا يتغنون بسحق فرنسا وكل ذلك في اليوم السالف لليلة سان بارنلميو)
ولكن هاهو ذا رسول من قبل الملك ينبئ الجمعية بأنه في الطريق إليها، وهاهو ذا ميرابو ينصح إليها أن تلاقيه جادة صامتة معلنة حدادها على من قتلوا في باريس قائلا: (إن في صمت الشعوب درساً للملوك)
وجاء الملك يستعين بالجمعية على تهدئة الحال في باريس ثم يدخلها في رهط من النواب معلناً رضاءه عما اتخذته بعد سقوط الباستيل! ويسحب الجند منها ومن فرساي!
وكانت باريس بعد أن أعلنت غضبتها قد سيطرت على الموقف فألفت الحرس الوطني وجعلت رياسته للافيات وانتخبت بابي عمدة لها وأسست كثيراً من الصحف والنوادي(141/27)
الثورية
أدر الدفة يا ربانها! لقد أحدق الخطر بها، فالربان مشفق يرقب مجراها وهو أشد حذرا وأكثر تشاؤما. لقد وقع ما كان يخشاه وجرت الدماء في باريس، وطاف شبح الفوضى بالأقاليم، وبات الشعب في سكرة النصر يتوعد ويتوثب، والملك لا يزال ألعوبة في يد بطانته وعلى الأخص في امرأته، والمهاجرون من الأشراف يؤلبون أوربا على الثورة، وغول الخراب المالي يطالع البلاد من كل ناحية
ولكن الربان وسط العاصفة لا يعرف اليأس سبيلا إلى قلبه. زار باريس فهبت تزاحم مهرجانه باريس، وطاف بخرائب الباستيل يشهد مصرع الظلم فامتلأت عربته بالزهور، ورأى الحرية الحمراء تعلن عن نفسها في أجواء المدينة راقصة صادحة، فهل أطربه ما سمع وما رأى؟ كلا بل أمضه ذلك وأزعجه
زادت الحوادث مهمته صعوبة ولكنها لم تفل من عزمه، ولعله كان يأمل أن يجد في اشتداد الأزمة مخرجا من الأزمة! وإن بدا ذلك متناقضا. كان يرجو أن يكف أعوان الملك من غلوائهم، ويصالحوا على الثورة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرف أنهم لا يزالون يبيتون لها وهم بذلك يرسمون طريقهم إلى الهاوية ويجرون معهم ملكهم المسكين. ومن له بأن يدرك هؤلاء عاقبة طيشهم؟
يا لله! ألم يأن للذين استذلتهم شهواتهم وحطهم كبرياؤهم أن يفيقوا من غمرتهم؟ ما بال فرساي تتحدى في أشخاصهم باريس؟ ما بال أوانس البلاط وفرسانه تخف أحلامهم فيهينون في حفل بهيج يقيمونه لفرقة سويسرية من فرق الحرس الملكي شعار الثورة ويسخرون من مبادئها؟ يا ويحهم! ألم يكفهم ما باتوا فيه يتقلبون من نعمة، فهم ضاحكون ممن يبيتون على الطوى ويفيقون على الوساوس والأوهام؟ ولكن باريس ترسل إلى أختها رهطا من نسائها وغوغائها، فإذا الملك وحاشيته رهائن عندها يتخذ على الرغم منه من التويلري سجنا له!
أدر الدفة يا ربانها! لكنها جمحت اليوم والتوت عليه. وأنى للجمعية أن تقنع بما كانت تقنع به بالأمس؟ لقد صارت الكلمة لعامة باريس وأندية باريس وصحف باريس!
وإن المرء ليتساءل لم يخاف ميرابو كل ذلك الخوف من خطوات الشعب وانتصاراته؟ والجواب على ذلك يسير، فقد كان يرى في خطة الشعب ما يباعد بينه وبين الملكية وما(141/28)
يحمل الملك وبطانته على الجد للقضاء على الثورة وهو لا يرى لها نجاحاً إلا في التوفيق بين القوتين، هذا إلى ما كان يخشاه من احتمال تدخل أصحاب العروش لحماية عرش فرنسا إذ كان المهاجرون لا يفتأون يوقعون بينهم وبين شعبهم العداوة والبغضاء، وأهم من ذلك كله فقد راحت الجمعية تعلن حقوق الإنسان وتثير عقيم الجدل حول الدستور، دون أن تتناول مشاكل البلاد الأساسية بالحل. فلقد ظلت الحالة المالية على ما هي عليه إن لم تكن ازدادت سوءا، وتعقد الموقف السياسي بين فرنسا وإنجلترا والنمسا، ومما ضاعف حرج الموقف أن الجمعية رأت ألا تجعل للملك سلطة فعلية في الاعتراض على القوانين، وفي إعلان الحرب والسلم، ولقد هال ذلك ميرابو فقال يوماً لصديقه لامارك: (إن البلاد مقدمة على أشد ضروب الفوضى، وما لم تتدارك الملكية فالفناء مصيرها حتما، ويوم يحيق بها الفناء وتضرب الفوضى بجرانها يساق الشعب إلى الرضى بالاستبداد المطلق، إذ يكون المستبد في تلك الحال في نظره هو المنقذ المصلح). وإنك لتراه بهذا كأنما يرى المستقبل ويصف لك مذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وديكتاتورية روبسبير مما يدل على لقانة مدهشة!
وقف في الجمعية وكانت قد انتخبته رئيساً لها يدافع في عزم وقوة عن حق الملك في الاعتراض على القوانين، داعياً بكل ما في وسعه إلى تقرير مبدأ الملكية الدستورية؛ ولا تسل عما كان يبذله من جهد أعانته عليه قوة بدنه، وعما كان يعرض من آراء أوحت بها إليه دقة فهمه، وبعد نظره، وصدق تجربته؛ وهو في هذا الموقف الذي يؤود حمله الجبابرة لا يغفل شؤون وطنه فيفاوض (بت) في إنجلترا، ويتلمس حلا لإرضاء النمسا، ويلقي على الجمعية البيانات المسهبة في المشكلة المالية، ويلفت إليها أصحاب الرأي. وجملة القول أنك تراه يعمل عمل رئيس حكومة، وإن لم يكن له مركزه، حتى لقد وصفه كاي ديمولان بطل الهجوم على الباستيل بأنه (قنصل أكثر منه رئيس جمعية دستورية)
ألا ترى في ذلك الإخلاص كأروع ما يكون الإخلاص، وتلمس فيه الرجولة كأقوى ما تكون فيه الرجولة؟ ألا ترى كيف ينسى الرجل نفسه، ولا يذكر إلا وطنه؟ ولكن الجمعية وا أسفاه قد خذلته حين كان ينتظر منها العون. وظلمته حيث كان يطلب إليها الإنصاف!
أخذ الشك في نياته يتسرب إلى نفوس النواب، والشك إذا تملك النفس يعمي ويصم، وليس مثله داء يبدل عرف الناس نكرا، ويجعل نهارهم ليلا، ويلبس الحق بينهم بالباطل. أنظر(141/29)
إلى هؤلاء النواب كيف يرون في رجلهم اليوم رجل الأمس، تخيفهم طويته وإن أعجبتهم حجته، أو تريبهم حماسته وأن هزتهم فصاحته، وتدفعهم إلى معارضته بديهته وإن أنقذتهم يقظته! ولكن أخيل الثورة لم تلن قناته وإن جاء غمزها ممن يعمل لهم، ولم تنفك عنه عبقريته وإن التوت عليه الأمور أو كادت؛ وظل يبسط آراءه للناس وينذرهم أن الثورة تقتل نفسها إن جرد الملك من سلطانه وجعل التشريع والتنفيذ جميعاً للشعب. وكان قد أدرك يومئذ أن الملك بعد أن صار رهينة في باريس، وبعد أن ترامى إلى سمعه وسمع حاشيته ما يريد العامة بنفوذه، وما تقول الصحف عنه، لابد أن يفكر في الالتجاء إلى أعداء البلاد، وما لبث ميرابو أن تحقق من ذلك، إذ علم أن المفاوضات كانت جارية بين البلاط الفرنسي والبلاط النمسوي؛ ومعنى هذا أن الحرب عما قريب ستكون كبرى مصائب البلاد!
وفي هذا الجهد الذي يبذله ميرابو دليل على مقدرة فائقة في السياسة تزيد إعجابنا بهذا الرجل، ويدحض فرية من يصفون أعماله بالهدم، وتسخر ممن يذكرونه فيجرؤن على تسميته كبير الغوغاء! على أن لكل عظيم حساده وأعداءه، كما أن له مناصريه وأصفياءه. وليست الحنكة السياسية فحسب ما ينطوي عليه موقف ميرابو، بل إن المرء ليعجب ببسالته، حين يواجه الثوار بتلك الآراء وحين يترفع عن تملق الشعب واسترضائه، وحين يجعل الإخلاص لما يرى أنه الحق فوق العواطف والأهواء الشعبية، ولو لم يكن له غير ذلك من المآثر والصفات، لعد بذلك الخلق وحده عظيما من العظماء!
يئس ميرابو من النواب ولكنه لم ييئس من نفسه وسنراه اليوم يخطو خطوة جعلها خصومه كبرى خطيئاته، وأود لو أجعلها كالعنوان من حسناته لولا ما أحاط بها من ظروف وما اكتنفها من ظنون، بل وما لحق بها من عيوب!
كان طبيعياً أن يلجأ إلى الملكية بعد أن أعياه صرف الشعب عن غيه، وبعد أن حيل بينه وبين منصب رسمي يستعين فيه بالقوة على تنفيذ سياسته. ولو أن نواب الجمعية أدركوا حقاً مصلحة وطنهم لعلموا أن هذا الرجل كان يومئذ خير من يضطلع بأعباء الحكم. ولكنه حين اقترح عليهم السعي إلى استبدال الوزارة القائمة بوزارة قوية بادروا إلى إصدار قرار يحرم الوزارة على كل عضو من أعضاء الجمعية، وما كان المقصود بهذا القرار سوى ميرابو وحده!(141/30)
ولقد ثارت ثائرته لهذا القرار، فلم يتمالك أن صاح بالنواب قائلا: (سوف تذرفون الدمع دماً على ما تفعلون). وندم ميرابو أشد الندم أو قل أسف أشد الأسف على أن لم يكن بباريس عقب سقوط الباستيل، إذ لولا غيابه عنها لتشييع رفات والده لانتخب عمدة لها بدل باي، ولقد كان هذا المنصب يمكنه من صد تيار العنف أو على الأقل يمهد له سبيل الاتصال بالملك.
وهل كان في تطلع ميرابو إلى الحكم ما يشينه؟ كلا بل إن في ذلك ما يزيدنا احتراماً له وتقديراً لسياسته مادام الحكم إحدى وسائله إلى تنفيذ غرض يعتقد حقاً في صلاحيته، فضلا عن دفعه به خطراً يكاد يجتاح البلاد. وإن أعجب فعجب عد ذلك من نقائصه أو من نقائص أي زعيم في مثل موقفه يرى في الحكم طريقا إلى الخلاص! إن النقيصة كل النقيصة ألا يسعى الزعيم في تلك الحيلة ما وسعه السعي للوصول إلى الحكم
خطا ميرابو خطوته نحو الملكية ووسط صديقه لامارك لدى البلاط، وأخيراً قبل الملك أن يستعين بآرائه، وصار ميرابو منذ مايو سنة 1790 المستشار السري للملك! وهنا يأبى سلوكه الخاص إلا أن يختلط بسياسته العامة فيلحق بها كثيراً من الشوائب أطلق الناس فيما بعد من أجلها ألسنتهم فيه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام. وبيان ذلك أن ميرابو وقد غرق في الدين من أخمصيه إلى قمة رأسه بسبب تبذيره من ناحية وبسبب انشغاله بشؤون وطنه عن شؤونه الخاصة من ناحية أخرى، قد قبل أن يدفع عنه الملك ديونه وأن يجعل له أول كل شهر ستين ألفاً من الفرنكات
أيفسر عمله هذا بالخيانة؟ ويعتبر قبوله المال رشوة؟ هل غير خطته فمالأ الملك على حساب أمته في نظير ما أخذ من مال؟ كلا! بل لقد ظل أميناً لمبدئه وفياً لوطنه، إذاً فمن الظلم أن يفسر عمله بالخيانة، ومن الإسراف أن نعتبر قبوله المال رشوة، بيد أني وإن نفيت الخيانة والرشوة عنه وشايعت من يعتبرون هذا المال مكافأة له على خدماته، لا يسعني إلا أن أقرر أنه ليؤلمني أن يلجأ من كان له مثل عظمته وبسالته إلى العمل في الخفاء مهما كان من نقاء طويته ومهما جر ذلك من غضب الشعب عليه، كذلك ما كان لزعيم أن يبيع خدماته بالمال ولو عدم قوت يومه
أخذ ميرابو يقدم التقارير للملك، كما أخذ يدافع بكل ما في نفسه من قوة عن مبدأ الملكية(141/31)
الدستورية، ولكن الجمعية أوشكت أن تتم الدستور في سبتمبر وجعلت حق الملك في الاعتراض على القوانين حقاً معلقاً، ولم يسع الملك سوى الإذعان، فلقد أصبحت باريس قوة خطيرة وظهر اليعاقبة أبطال الإرهاب فيما بعد واستهان الناس بالملكية واجترأت عليها الصحف والأندية
على أن الأمر قد أصبح اليوم أعظم خطراً من الدستور وما يتعلق بالدستور. فلقد يئس الملك من الثورة وما تدعوا إليه ويئس أصحاب الثورة من الملكية وما تحافظ عليه، ولذلك لم يكن عجباً أن يلجأ الملك إلى أعداء فرنسا، وأن يلجأ الثوار إلى الاستعداد واليقظة حتى لقد عول الملك على الهرب سراً!
وكان ميرابو الرجل الوحيد الذي لم يأخذه دوار الزوبعة فألم بالموقف من شتى نواحيه، وتمثلت لعينه الساهرة تلك الهوة السحيقة التي أوشكت أن تتردى فيها البلاد، فتلفت حوله عله يصيب من يعينه، فهذا موقف يتطلب معونة الرجال، ولكن بصره وا أسفاه ارتد إليه خائباً، فلقد أبى سوء طالعه، أو على الأصح سوء طالع فرنسا إلا أن تحرم من خبرة الرجل الوحيد الذي كان يستطيع خدمتها، إذ أحيط بالريبة من جميع الجهات. تطلع إلى الملكة وكان يقول: (إنها الرجل الوحيد في حاشية الملك)، ولكن الملكة لم ترى فيه سوى صعلوك يتكلف خلال العظماء على حساب الظروف، وتطلع صوب الملك، ولكن الملك ما وثق به يوماً وما كان يرى فيه إلا خصما يظهر عكس ما يبطن، ولذلك اتقى شره فاشتراه بماله واحتمى خلفها. كتب شاتوبريان بعد الثورة يقول: (كانت المأساة الحقيقية أن الملك في أحرج أيامه لم يثق في هذا الرجل، وما كان يضره أن جاء ذلك متأخراً. وما كان يضره أن يعمل بنصائحه أو أن يتقبلها قبولاً حسناً ولو في ظاهر الأمر، وأي مأساة لعمري أفظع من أن تهيئ الأقدار رجلاً مثل هذا، وفي مثل هاتيك الظروف فلا ينتفع به؟! على أنه وقد أعوزه الرجال قد اهتدى إلى رجل واحد، وذلك هو شخصه، هو نفسه، فأطلع الملك على جلية الأمر ذاكراً له أن الهرب معناه التنازل عن العرش وضياع حقه فيه، وما على مولاه سوى أن يخرج في جيشه إلى مدينة غير باريس فيتحاكم إلى شعبه طالباً إنصافه ومعونته معلناً رضاءه عن مبادئ الحرية والمساواة، ولو فعل لانتصف له الشعب، ولكنه لم يفعل وما كان مثله ليستطيع ذلك، وليس من يفكر في الهرب بقادر على أن يواجه الحقائق(141/32)
ولكن هل يدنو اليأس من ميرابو؟ كلا. فما كان ليزداد على الشدة إلا مضاء وعزماً، فوقف كالطود يتلقى عن البلاد السهام ويطرد عنها شبح الحرب، ويجد في إنقاذها من الجوع، ويسعى في التقريب بين الملك والثورة، يواصل العمل طيلة يومه وشطرا من ليله حتى لقد قال عنه كاي ديمولان: (لقد كان يوم هذا الرجل بعشرة أيام من عمر غيره)
ولكن الموقف ازداد سوءا على سوء حين وقفت الجمعية موقفها من رجال الدين وأعلنت الدستور المدني للكنيسة بحيث صار منصب الأكليروس بالانتخاب على أن تدفع لهم الحكومة أجرا ويستولي على أراضي الكنيسة وعشورها مما أغضب البابا وأزعج الملك فأعلن اعتراضه على قرارات الجمعية، ولكن أنى للجمعية أن تفرض له اليوم وجودا؟ لقد أجابت على عمله بأن من لا يقسم اليمين على احترام ذلك الدستور جزاؤه الطرد
أدر الدفة يا ربانها! لكن الأيدي تتكالب اليوم عليها والريح جانحة عاتية. والربان يغالب المرض ويتحامل على أعصابه، بل ويستمهل الموت. ما باله يدخل الجمعية في مارس سنة 1791 مصفوراً مضعوفاً على خلاف عادته، ما باله يكتنز كل يوم وما بال بريق عينيه يتضاءل لولا ما يشع فيهما من يقين وعزيمة؟ ترفق أيها الموت بالربان! إنه رجل أمة بل إنه أمة في رجل!
يا لقسوة القدر! ولكن أنى لجسم مهما كانت قوته أن يطيق مثل ذلك المنصب؟ وحسبك أن تعلم أنه خر مغشياً عليه في أواخر مارس وهو في طريقه إلى الجمعية ولكنه على الرغم من ذلك وصل إليها وألقى خطاباً مطولا. لا. إنه يسر إلى صديق من أصدقائه أنه يموت!
وفي أوائل أبريل في أشد ما تكون الحاجة إليه يرقد هذا الطود الأشم، ويحيط الناس بمنزله من جميع الطبقات والهيئات، والأطباء يصدرون تقاريره مرة كل ثلاث ساعات، والملك يستفسر في السر مرات وفي العلن مرات، والأندية تستنبئ عنه بلا انقطاع، والشعب يعلق أنفاسه في انتظار ما يطمئنه وقد غشيه من الهم ما غشيه
والرجل عظيم في الموت كما كان عظيما في الحياة، يقول لصديق يستند له رأسه: (ليتني أعيرك هذا الرأس) ويسمع صوت المدفع فيقول: (أهكذا يحتفى بدفني كأخبل) ويتذكر الملكية فيقول والأسف يمزق نياط قلبه: (إني أحمل معي الملكية إلى القبر) ويفيق الناس من غشيتهم على الخبر الفاجع، فتفيض عيون وتدمى قلوب، ويخرج شعب بأسره يشيع(141/33)
جثمان رجله، وتقضي العاصمة أياماً في حدادها، ويجهش أشداء الرجال بالبكاء في طرقات الجمعية وفي ردهات البلاط، ثم. . . ثم تسير السفينة بلا ربان!
إنه فرد ينقص من البلاد، ولكن فرنسا يزعجها ويهولها ما ترك وراءه من فراغ، ولم تلبث الكوارث أن داهمتها من كل صوب، فلقد فر الملك وألقي القبض عليه عند الحدود، ثم وقف عن عمله، واندلعت فرنسا في طريقها إلى الحرب، ثم إلى إعدام الملك، ثم إلى المذابح الأهلية وعهد الإرهاب!
ولو عاش ميرابو عاماً واحداً لتغير تاريخها، بل وتاريخ العالم؛ ولكن للقدر أحكاما مباغتة هي التي تصنع التاريخ!
الخفيف(141/34)
2 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
أظهرت في المقال السابق الوجوه التي تربط بين التعليم والحالة الاجتماعية، وعددت كثيراً من التأملات التاريخية التي قد يكون لها اتصال كبير أو صغير بالحالات الجديدة التي تكتنفنا، غير أن الاقتصار على تعديد وجوه الارتباط بين التعليم والحالة الاجتماعية، والقول بأن التعليم يجب أن يتجه اتجاهاً اجتماعيا، أمر يجب أن يعزز بإظهار المخاطر الشديدة التي يتعرض إليها كياننا الاجتماعي من جراء الفصل بين سياسة التعليم، وبين ملابساتها الاجتماعية
ولقد ظهر في العهد الأخير أن القائمين بأمر التعليم قد اضطروا في مواقف عديدة أن يتجهوا إلى معالجة بعض الأمور علاجاً قائماً بعض الشيء على طبيعة الحالات الاجتماعية. وإني لآسف إذ أقول إنهم لم ينجحوا فيما قصدوا إليه. وليس السبب براجع إلى قصور منهم، أو تقصير عن أداء واجباتهم كاملة، وإنما يرجع في الحقيقة إلى أن سياسة التعليم الحاضرة لا تواتيهم بكل الأسباب الضرورية التي تمكنهم من تنفيذ برامج تتفق وما تتطلب الحالة الاجتماعية من صنوف العلاج. ولا أريد أن أعدد هنا حالات بذاتها، وإنما أريد أن أبحث في مجمل الظواهر التي تترتب على الفصل بين سياسة التعليم والملابسات الاجتماعية، قدر ما تتيح لي تجاربي القليلة
كتب الفيلسوف هربرت سبنسر في أواخر القرن الفارط مقالاً عنوانه (الكائن الاجتماعي) شبه فيه بنية الاجتماع الإنساني بكائن متغضن، وأخذ يقيس الظواهر المتقابلة فيهما ويوازن بين حالات خاصة في جسم الفرد وجسم المجتمع. ولا شك في أن هذا الفيلسوف الكبير قد غفل عن أمر ذي بال جعل بحثه هذا محتاجاً إلى كثير من التحوير، بل لا نبالغ إذا قلنا إن غفلته عن ذلك الأمر قد أثرت في النتائج التي حاول الوصول إليها فجاءت مفككة غير موصولة ولا مؤدية إلى فكرة محدودة ينتهي إليها البحث. ذلك بأن بين الحي والكائن الاجتماعي فروقاً رئيسية تميز بينهما تميزاً لا يقف عند حد الظواهر، وإنما يتعدى إلى التكوين الوظيفي فيهما. وقد يعلم الذين يدرسون علوم الأحياء أن الحي يتكون من خلايا دقيقة هي وحدات بسيطة التركيب تحتوي على نواة هي سر الحياة فيها. ولكن اجتماع هذه(141/35)
الوحدات البسيطة التركيب ينتج حياً عويص التركيب معقد التكوين جهد ما نتخيل. ذلك في حين أن الكائن الاجتماعي إنما هو كلٌ بسيط التكوين يتركب من وحدات غاية التعقيد وعلى معرفتك هذا الفرق الوظيفي، يتوقف وصولك إلى النتائج الصحيحة. فالخلايا لا قوام لها ولا حياة بغير اندماجها في بينية الكل الحي. أما الوحدات (الذوات العاقلة) التي يتركب منها الكائن الاجتماعي، فكلما كانت أكثر استقلالا عن ذلك الكائن برز أثرها وتميزت وظيفتها واستبانت قيمتها ورجل فرعها وأصبحت قوة قادرة على التأثير في الكائن الاجتماعي بما يحفظ عليه حياته الاجتماعية ويحركه نحو الرقي الاجتماعي ويبث فيه روح التطلع إلى الارتقاء المدني، وبالجملة على جعله كائناً اجتماعياً معتزاً بأثره العملي في الحياة ذلك على الضد مما لو اندمجت هذه الوحدات العاقلة في بنية الكائن الاجتماعي. فإنها إذ ذاك تفقد استقلالها وقوتها على التأثير بالعمل على رقي الجماعة، لأن اندماجها هذا إنما يسلبها القدرة على التفكير والتأمل في حقائق الأشياء، ويفقدها أخلاقها الشخصية، وبوجه عام يدمجها في ما يسميه الاجتماعيون (عقلية الجماهير)
هذه حقيقة أولية، على ما فيها من تعقيد وحاجة إلى فهم، من الضروري أن نعيها وأن نجعلها نصب أعيننا كلما فكرنا في وظيفة التعليم باعتباره عاملاً من عوامل استقرار الحالات الاجتماعية في كل أمة من الأمم. أما وقد وعيناها فإنا نتساءل: أيفي التعليم عندنا بإخراج رجال فيهم من الاستقلال الخلقي والعلمي ما يجعلهم في المستقبل قوى مؤثرة في الكائن الاجتماعي، أم على العكس من ذلك يخرج رجالاً قُسّعاً يكتفون من الحياة بالاندماج في جسم الكائن الاجتماعي، فيظلون طوال أعمارهم مغمورين في عقلية الجماهير؟ وإني لآسف إذ أقول إن تعليمنا بعيد عن أن يخرج رجالاً مستقلين على النمط الذي تتطلبه طبيعة الحالات الاجتماعية الجديدة التي أخذت تشعرنا بانا مقدمون على انقلابات فكرية خطيرة.
إذن فواجب التعليم ينبغي أن ينحصر في إخراج رجال مستقلين بعيدين عن التأثر بروح الجماهير. وتكوين استقلال الفرد يجب أن يكون بداءة التعليم ونهايته. أما العمل على شحن العقول بشتى المعلومات العلمية وتكوين ملكات خاصة في الأدب والفن، فلن يكون لها من أثر في الحياة، ولن تقوم من عوج الكائن الاجتماعي ما لم يسبقها الاستقلال الذاتي وتدريب الملكات الخاصة على مماشاة ما تتطلبه مقتضيات ذلك الاستقلال(141/36)
ولقد أظهرنا في المقال السابق أن ابن الفلاح أكثر استقلالا من الناحية العملية من المتعلم الذي فقد استقلاله الذاتي بحكم الظروف التي نشأ محاطاً بها. غير أن استقلال الفلاح العامل استقلال ناقص، إذ هو استقلال أشبه بالاستقلال الحيواني منه بالاستقلال الإنساني، ذلك بأن عدته في هذا الاستقلال تقوم على قوة عضلاته وعلى صبره واحتماله ورضاه بمحيطه الذي يعيش مكتنفاً به. وعامة ذا ليس فيه شيء من مؤهلات الاستقلال الإنساني، وإنما هو استقلال يشارك فيه الفلاح كثيراً من الحيوانات. وعلى ذلك نجد أن ما عندنا من مكملات الاستقلال الفردي عند الفلاح تنقصه الناحية الثقافية التي تمكنه من أن يصبح ذا أثر عملي في تكييف حالات الكائن الاجتماعي. ولكن هذا الاستقلال مهما كان فيه من ضروب النقص فهو استقلال على كل حال. أما المتعلم المتعطل فحالته تناقض هذه الحال. فان تعليمه لم يمكنه من أن يكون مستقلا من ناحية الثقافة، في حين أن نشأته ومحيطه قد سلباه ناحية الاستقلال الأخرى
أما الأسلوب الذي يجب أن يتنحى في التعليم حتى يكون أداة صالحة لتخريج رجال مستقلين ذوي أثر في تكييف حالات الكائن الاجتماعي، فسنفرد له بحثاً خاصاً. وسنقصر كلامنا الآن على المخاطر التي يتعرض لها كياننا الاجتماعي من وجود فلاحين استقلوا حيوانياً، ومتعلمين فقدوا كل ضروب الاستقلال
على الرغم من أن الأخطار التي يتعرض لها مجتمع تناحرت عليه كل هذه الظواهر كثيرة متعددة، فأن أعظم هذه الأخطار وأشدها أثراً في مستقبله، إنما ينحصر في حدوث ما يدعوه الاجتماعيون (التطفل الاجتماعي). والتطفل الاجتماعي حالة ترهق فيها طبقات غير عاملة طبقات عاملة بمطلوبات حياتها. ولهذا التطفل مظاهر عديدة أخبثها أن تكون الطبقة المتطفلة هي بذاتها صاحبة السلطة العليا في المجتمع، كما حدث في أوروبا في خلال القرون الوسطى، وكما هي الحال في كثير من ممالك الشرق في حالته الحاضرة. والويل لمجتمع تسود فيه هذه الحال
التطفل حالة طبيعية لا سبيل إلى نكرانها. فهنالك حيوانات تتطفل على نباتات، ونباتات تتطفل على حيوانات. وقد يتطفل حيوان على حيوان، أو نبات على نبات. فهو ظاهرة تكاد تشتمل كل نواحي العالم الحي، وتحتكم في الكثير من مظاهره الجلي. غير أن نظرة واحدة(141/37)
في هذه الحقيقة الطبيعية تظهرك على أن التطفل حيثما كان وأنى كانت وسائله ومظاهره، لن ينتج إلا هدماً في الحياة، ولن يبرز إلا فسادا، ولن يؤدي إلا إلى إرهاق شامل في القوى الحيوية تختلف درجاته ومظاهره ونتائجه باختلاف الظروف. وقلما يستطيع عالم طبيعي أن يخص تلك الظروف التي يتجلى فيها فعل التطفل في عالم الأحياء، فان ذلك من الأشياء التي يستعصي على العلم تعديد مظاهرها عامة وخاصة، وفعل كل متطفل في مختلف الظروف، على كل متطفل عليه في متباين الحالات. وإنما يستطيع الإحيائي أن يدرس ظواهر التطفل في حالات يقف عليها، وأن يدرس أثر الحي المتطفل في بنية الحي المتطفل عليه، محصياً في كثير من الحالات أوجه العلاقة بينهما وتأثير دورة حياة الحي المتطفل في حاضنه
ولن يعدو العالم الاجتماعي هذه الحال عينها. فليس في مستطاعه أن يحصي أوجه التطفل الاجتماعي في مجتمع بعينه، ولا يدرس الحالات درس توفر على دقائقها وتدرجاتها التي تكفل له الوصول إلى نتائج مقطوع بصحتها قطعاً تاماً. والعلم الاجتماعي أضعف وسائل من العالم الطبيعي. فان هذا بين جدران معمله، يستطيع أن يحصر الحالات ويحدد الظواهر، في حين أن زميله الاجتماعي إنما يتأمل من حالات عامة غير محصورة ولا محددة تحديداً يجعل الحكم القاطع على أصولها وظواهر أمراً سهلا هيناً. غير أن هذا كله لن يحول بين الباحث الاجتماعي وبين تبين الحالات الكلية التي يتخذ درس مظاهر التطفل الاجتماعي وسيلة إلى اكتناهها.
من الحالات الكلية في التطفل الاجتماعي، بل ومن أظهر تلك الحالات أثراً في الجماعات الحديثة عامة، وفي مصر خاصة، تسلط غير ذوي الكفايات، وإن شئت فقل المتعطلين، على موارد ما تنتج الأيدي العامة من ناحية، وعلى إنتاجها نفسه من ناحية أخرى، من غير أن يكون لهؤلاء المستغلين أي ضلع في تكوين المورد أو في الإنتاج. من هنا تحدث حالة من حالات التطفل الاجتماعي تستنفذ فيها أيد متعطلة ثمرات الجهود التي أيد عاملة، بغير أن تنال الأيدي العاملة من ثمرات جهودها ما يكفي لحفظ حيويتها أو قدرتها على العمل والإنتاج. فان من شأن المتطفل أن يجتهد في استغلال حاضنه بكل صور الاستغلال، وأن يبلغ من الانتفاع بحيويته جهد ما يستطيع، وكلما قلت قوى المقاومة في الحاضن ازداد(141/38)
المتطفل شرة وبأساً، حتى ينتهي الأمر بحدوث ما يسميه الاجتماعيون (بالتنكس الاجتماعي) وهي حالة تتساوى فيها طبقات المجتمع لا من حيث الكفايات العليا ولكن من حيث العجز عن العمل المنتج. وما لهذا الأمر من نتيجة إلا الفوضى الغامرة، ولا ينكر أحد أن في مجتمعنا هذه الظاهرة الخبيثة. فالأيدي العاملة لا تنال من منتوج عملها ما يكفي للاحتفاظ بحيويتها، والأيدي المتعطلة تبدد ثمرات تلك الجهود. وعلم ما يترتب على ذلك عند الله.
ومن تلك الحالات هجر الريف والعيش في المدن. ولقد بحث هذه الظاهرة كثير من الكتاب منهم: أدمون ديمولاند الفرنسي، والأستاذ استن فريمان الإنجليزي، في بحوث مستفيضة عالجوا فيها الحالات التي نشأت في فرنسا وإنجلترا وعطفوا بعض الشيء على حالات نشأت في غيرهما من بلدان أوربا. ولا جرم أن هذه الحالات تتشابه. فالأسباب التي تدعو الفرنسي أو الإنجليزي إلى هجر الريف والإقامة في المدن، أو بالأحرى حب التّحضر (بمعنى المعيشة في الحواضر) تكاد تكون نفس الأسباب التي تحمل المصري على أن يفعل ذلك. غير أن النتائج تختلف باختلاف البلدان على مقتضى ما في كل شعب من الاستعداد والصفات، وفي الأكثر على مقتضى الثقافة التقليدية التي يختص بها كل شعب من الشعوب
ولسوف نبين في مقال آت فكرتنا في أثر الثقافة التقليدية في الكيان الاجتماعي بكل أمة من الأمم. ونكتفي الآن بأن نقول إن شعبا كالشعب المصري الزراعة ثقافته التقليدية منذ أبعد عصور التاريخ، لابد من أن يتأثر بزيادة الميل إلى التحضر تأثراً عظيما لا يحسُّه شعب آخر ثقافته التقليدية غير زراعية. بل على الضد من ذلك أعتقد أن الشعوب التي تكون ثقافتها التقليدية صناعية أو تجارية، يجب أن تحتمي بحياة التحضر صيانة لمصالحها العامة. أما تحضُّر شعب ثقافته التقليدية الزراعة، فتلك هي الطامة الكبرى على كيانه الاجتماعي؛ وتلك هي الطفرة العظيمة إلى أبشع صور التطفل الاجتماعي
ونحن نعلم علم اليقين بأن مدننا المصرية مدن غير صناعية بالمعنى المفهوم من ذلك في أوربا. بل أعتقد وأظن أنني أعتقد بحق، أن مدننا ليست إلاَّ أسواقاً تستهلك فيها منتوجات الريف؛ وهذه الحقيقة وحدها كافية لأن تظهرنا على أن ميلنا إلى التحضر، مع التعطل عن العمل يرهق المنتج ويرهق السوق المستهلكة؛ لأن المتعطل في الواقع عبء على الجمعية؛(141/39)
ذلك بأنه قوة مستنفدة لا قوة منتجة من ناحية، ولأن الحاجات التي يستنفدها لا ينتج ما يقابلها لصالح الجمعية من ناحية أخرى. وبذلك يصبح المتعطل عبئاً على الحاضرة التي يسكنها، وعبئا على العناصر المنتجة معاً. وهنا يتضاعف تطفله، إذ يصبح متطفلاً باعتبارين: الأول أنه يزاحم أهل المدن ويشاركهم أرزاقهم من غير إنتاج من ناحية، والثاني أنه يرهق العناصر العاملة في الريف بأن يستهلك ولا ينتج، وبالأحرى بأن يأخذ ولا يعطي
ومن تلك الحالات ما يسميه الاجتماعيون (الجشع الاجتماعي) ولا أريد هنا أن أطنب في تعريف (الجشع الاجتماعي) ولا أن أناقش في مختلف التعاريف التي وضعها المؤلفون الذين أتيح لي الاطلاع على مؤلفاتهم، وإنما اقتصر على ذكر حالات يستطيع القارئ أن يدرك منها، مطبقة على حالات تقوم بين ظهرانينا، ما يقصد بالجشع الاجتماعي
وعندي أن أخبث ما يؤدي إليه الجشع الاجتماعي من تكييف عقلية طبقات خاصة في مجتمع ما بمقتضياته، إنما ينحصر في أن تتطفل جماعات، لا أفراد، على جسم الكائن الاجتماعي. وقد تلبس الجماعات التي تنتابها سورة الجشع الاجتماعي صوراً مختلفة، فمن اتحادات تجارية إلى اتحادات صناعية إلى جمعيات علمية أو اقتصادية أو سياسية، تتخذ التأثير في عقلية الجماهير بمختلف، الوسائل طريقاً تسلكه إلى غرضها الذي ترمي إليه، والذي يجعلها جديرة بأن تنعت بأنها جماعات مصابة بجنون الجشع الاجتماعي. أما ذلك الغرض فينحصر في أن تنال من الجمعية أقصى ما يمكن أن تصل إليه من الربح المالي أو النفوذ أو السلطة أو الجاه أو الحكم بأقل جهد ممكن أن يبذل أو تضحية من ناحيتها
وفي مثل هذه الحالات تتضاعف خبائث التطفل الاجتماعي بأن يصير تطفلاً (مركباً) لا تطفلا بسيطا. ونعني بالتطفل (المركب) أن هذه الجماعات المصابة بجنون الجشع الاجتماعي يكون فيها عنصر خاص يعيش متطفلاً على جسم الجماعة نفسها. ذلك العنصر هو عنصر انتهازي لن تسلم منه جماعة أصيبت بذلك المرض الخبيث. فكما أن الجماعة تتطفل على جسم المجتمع، يتطفل ذلك العنصر الذي هو (واجب الوجود) فيها بمقتضى تكوينها النفسي، على بقية عناصرها
وتسير قافلة المتطفلين، ولكن إلى البوار الصرف. مثلها كمثل حُيَيَّات زرعت على مادة(141/40)
هلامية في زجاجة اختبار في معمل من المعامل. فأنها تتكاثر ثم تتكاثر، حتى إذا ملئ فراغ الزجاجة واستحالت المادة الهلامية أجساماً حية انتكس الأمر وبدأت الأحياء تنحدر إلى الهلاك المحتوم
هذه إلْمَامَات موجزة في حالات نشاهدها قائمة من حولنا. فهل يمكن أن نتخذ التعليم أداة إصلاح نتقي بها بعض ما يكتنفنا من شرور وخبائث؟ وهل يمكن للتعليم أن يؤدي إلى الأجيال المقبلة رسالة إصلاح عملي يرفع عن كاهلهم بعض ما نتوقع لهم من متاعب؟ أظن أننا نستطيع أن نجيب بالإيجاب، وموعدنا البحوث الآتية
إسماعيل مظهر(141/41)
ذكرى ساقية!
للأستاذ علي الطنطاوي
(. . . . . . كل ما في الوجود يولد ويحيا ويموت:
ألا تمر بالدار ألف مرة فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها. ثم ترى فيها إنساناً يتصل قلبك بقلبه، أو يمتلئ فؤادك بحبه، فإذا هذه الدار (تولد) في فكرك و (تنمو) وتزداد لهذا الإنسان حباً، فتزداد الدار عندك حياة؛ ثم ينزح الحبيب عن الدار، فإذا هي (تموت) وإذا أنت تألم لموتها، وتبكي فيها ذكريات لك عزيزة، وماضياً لك حلواً؛ ثم تمحو الأيام هذه الذكر، وتنسيك هذا الماضي، فإذا الدار قد عادت إلى العدم، كما بدأت من العدم، وإذا أنت تمر بها من بعد ألف مرة، فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها؟. . .)
من مقالة قديمة
(علي)
هي ساقية صغيرة عرفتها من يوم عرفت الدنيا، تجري في رحبة (الدَّحداح)، في ظاهر دمشق، فكنت أزورها دائماً، وأجلس إليها راضياً وساخطاً، مسروراً ومكتئباً، شجيّ النفس وخليّ البال، فأحدثها حديث سروري ورضاي، وأبثها شجوي واكتئابي، فأجد فيها الصديق الوفيّ، حين عزّ في الناس الصديق، والأخ المخلص حين ارتفع من الأرض الإخلاص؛ وكنت أفرّ إليها كلما نابتني من الأيام نائبة، أو نالني الدهر بمكروه، فأجد فيها عزائي وأنسي، وراحة نفسي. . . فررت إليها أمس كما كنت أفرّ، فإذا الأرض غير الأرض، وإذا الساقية قد عدا عليها الزمن فمحاها، وأقام دار البستاني على رفاتها. . . فجلست على حافتها الجافة، أودّع هذه البقعة الحبيبة إليّ، قبل أن تبتلعها المدينة الضاجة الصاخبة التي ابتلعت ما كان حولها من حقول واسعة، ورياض وجنات، وأشيع حياة لي في هذه الساقية كلها سعادة واطمئنان، عشتها كما تعيش الضفادع، غير أن الضفادع تسبح في ماء الساقية، وتنام على كتفها، وأنا أسبح في ذكرياتي التي أودعتها حافتيها، وآمالي التي رأيتها من خلال أمواهها. . . وهل يعيش ابن آدم إلا في الساقية والطريق، والقمر والمئذنة؟ أليس في كلّ ساقية يجلس إليها، وكل طريق يسلكها، وفي القمر الذي يتأمل صفحته في الليالي البيضاء، والمئذنة التي يرى هلالها من شباك غرفته، أليس في كل ذلك - أثر من نفسه -(141/42)
وقطعة من حياته؟. .
رحمة لك أيتها الساقية. . . منذ كم أنت تجرين وتسرعين، أفبلغت غايتك بعد جري القرون، أم قطعك عنها عدو جبار، أم ادركك عجز الشيخوخة وضعف الهرم، فجف ماء حياتك، كما تجف الحياة في عروق الشيخ القحْم، وفروع الشجرة النخرة، وجدر البيت الخاوي؟
وهل كنت تجرين يوماً واحداً لو عرفت أن غايتك الفناء وأنك إنما تسعين إلى أجلك برجلك؟ وهل كان يبني الباني، ويزرع الزارع، ويعمل العامل، لو عرف أن أجله أدنى إليه من أمله، فبينما هو ينتظر إشراق الفجر، إذا احتوته ظلمة القبر، وبينما هو يحلم بالسراب، إذ واراه التراب؟
وهل كان يطمع في الحياة طامع لو عرف أن كل يوم يزيد من حياته إنما ينقص من حياته، فإذا بلغ كمال الحياة فقد صار إلى الموت؟
إن الإنسان يأمل أن يملك الدنيا ويعيش إلى الأبد، وأنت تأملين أن تصيري نهراً ثم تصبحي بحراً، والله يريد أن تتم حكمته في الحياة فيسعى كل ساع إلى الفناء، يدعوه الأجل، ويحدوه الأمل. . . ولا رادّ لما أراده الله!
وهل كنت تذكرين أيتها الساقية أصدقاءك وأحباءك وتحنين إلى ذكراهم، وتبكين عهدهم؟ أم قد أمات حسك تقلب الأيام وغدر الزمان، فأقبلت تجرين، لا تذكرين ماضياً ولا تحفلين حاضراً ولا تنتظرين آتياً؟
وهل تذكرين يوم فرننا إليك من شيخ الكتاب القاسي، وعصاه الطويلة التي كان ينال بها رؤوسنا وهو على سرير ملكه، في هذه الغرفة الضيقة، المثقبة الجدران المسدودة النوافذ، الفاسدة الهواء؟ لقد مللنا البقاء في هذا السجن الرهيب، فشكونا إلى أهلينا فما وجدنا مشكياً فتجاوزنا (البحرة الدفاقة) وتخطينا هذا السياج، ولجأنا إليك فما وجدنا منك إلا الكرم والعطف والإحسان؟ آمنت خوفنا، وبدلتنا بمدرسة الشيخ وعصاه، هذه الدنيا الفسيحة وهذه الحقول التي لا تنتهي، فطابت أنفسنا بجمال الكون، وانجلت أبصارنا بمرأى البساتين، ونظرنا من هنا فإذا قبة النسر ومآذن الأموي تشرف علينا جليلة عظيمة، فاستشعرنا جلال الدين وعظمته، ونظرنا من هناك فإذا قاسيون يطل علينا مشمخراً عالياً، تقوم عليه الدور(141/43)
البيضاء، والقصور الحمراء، فأحسسنا جمال الدنيا، وسموّ المجد، وعزة الغنى. . . وأدركنا بعقولنا الصغيرة أن الشيخ كان على ضلال، وأن أهلنا كانوا على خطأ، وأن العلم قد يحصل في الدنيا الواسعة، والبقاع الجميلة، أكثر مما يحصل في السجون والكتاتيب، وأن جمال الحقل، أبلغ في التهذيب من عصا الشيخ
في تلك الساعة عرفتك أيتها الساقية، فمنحتك الودّ والإخلاص، وجعلتك صديقي إذ لم أجد بيتي ومدرستي صديقاً، وكنت أرى طيفك في أحلامي، فأهش لك وأنا غارق في منامي، وأتخيل صفاءك وعطفك، وأنا بين يدي الشيخ الجبار، يقرع رأسي بالعصا، ويصرخ في وجهي بصوته الأجش الخشن:
- يا ولد يا خبيث. . . والله إن عدت إلى الهرب كسرت ساقيك، فلا أرد عليه، وإنما أستر وجهي بكفي، وأضحك بصوت غريب، فيظنني أبكي، فيدعني. . . وينصرف إلى غيري فأنظر من بين أصابعي، حتى إذا رأيته قد غفل عني قفزت إلى الشارع، فاختبأت في (جامع التوبة) أو أخذت طريقي إليك، فآكل من الثمار التي حولك، وأشرب من مائك، وأصافحك بيديّ شاكراً، وأمسح بكفيك وجهي. . . هل تذكرين ذلك أيتها الساقية؟. .
- هل تذكرين كيف جئناك بعد ذلك، وقد تخلصنا من الشيخ ودخلنا المدرسة، فوجدنا ساحة رحبة ومعلمين كثيرين، وحصصاً قصيرة، ولكنا لم نجد عطفاً ولا ابتساماً؛ كان معلم الحساب يحبب إلينا شيخ الكتاب، حتى نراه إلى جنبه نعيما، كنا نرى طيفه أمامنا حيثما سرنا بشاربيه الكبيرين، وتقطيبه الدائم، ونظارته التي يحدرها أبداً إلى أرنبة أنفه، وصوته الذي يشبه صوت من يتكلم من وسط برميل، فكنا نرتجف من خياله، ونخشاه أبداً، إلا إذا أصبحنا في حماك، فأننا نأمن، ونطلق أنفسنا على سجيتها، فنسخر من المعلم، ونقلد الشيخ، ونمرح ونعدو، ثم نعود إلى الدار ونحن ممتلئون قوة ونشاطاً، فإذا سألنا الأهل: أين كنتم؟ قلنا: كنا في المدرسة، وإذا سألنا المعلم قلنا: كنا في البيت! فيصدقوننا جميعاً. . . أوليسوا قد حملونا على الكذب حملا حين كرّهوا إلينا العلم، ودفعونا إلى الفرار، وعاقبونا على الصدق، ولم ينتبهوا إلى الكذب؟
وهل تذكرين يوم جاءت دمشق أولُ سيارة، وكنا جالسين حولك نتحدث حديث الحرب وما يمكن أن يصل إلينا من أخبارها، فما راعنا إلا عربة غريبة الشكل، تسير من غير أن(141/44)
يجرّها حصان، فطار الفزع بألبابنا، وفررنا نحسب أن الجن تسيرها، ثم سمعناهم يدعوننا، ورأينا ضباطاً تلمع الأوسمة على صدورهم والسيوف على جنوبهم، فأمرونا أن نلقي الأحجار فيك أيتها الساقية ليمر عليها (الأطنبير) فأطعنا وفعلنا مكرهين؟ ومن كان يستطيع أن يخالف أمر ضابط من ضباط جمال باشا؟. . . فلما مرت هرعنا إلى دورنا نخبر أهلنا أن عربة تمشي من غير أن يجرها حصان. . . فتنبري لي عمتي، وتكذبني وتسبني:
- أخرس يا كلب، يا كذاب. . . إن هذا مستحيل
ولكن عمتي التي أبت أن تصدق أن في الدنيا سيارة تمشي بنفسها، قد عاشت حتى رأت الكهرباء. . . . والتلفون. . . . والراديو. . . . ورأت الدبابة والمصفحة والمتراليوز. . . ثم رأت أثر الحضارة في أنقاض دمشق. . . فصارت متهيئة لتصدق كل شيء!
وهل تذكرين كيف عدنا إليك أيتها الساقية فإذا أنت حردة غضبى، قد وقفت عن سيرك، وضللت طريقك، فتطلعت إلى اليمين والشمال، والأحجار قائمة تسد عليك سبيلك فعالجناك واعتذرنا إليك، وطيبنا قلبك، وفسحنا لك السبيل، فجريت مضطربة، متغيرة الوجه، تبكين أيامك الماضية، وتخافين ما يأتي به الزمان؟
وهل تذكرين يوم كنا حولك ونحن آمنون مطمئنون، فإذا الأرض قد ارتجت، وإذا الجيش التركي الذي كنا نخافه ونخشاه قد ذلّ بعد عزّ، وضعف بعد قوة، وفر متفرقاً حائراً لا يدري أين يقصد، ومن ورائه العرب والإنكليز، يدخلون الشام ظافرين، فسررنا وفرحنا، وصفّقنا وهتفنا. ولكنك جريت واجمة حزينة، لأن حياتك الطويلة وما رأيت من دولة الدول، وهلاك الملوك، علمتك أن من يؤمن لمن يتبع دينه، كمن يدخل النار ويرجو ألا تحرقه؟ ثم حققت الأيام ظنك، وصدقت حدسك، فقلنا: يا ليت! (وهل تنفع شيئاً ليت؟!)
وهل تذكرين يوم كنا جالسين إليك، وحولنا هذه الحقول تمتد آمنة إلى ما لا يدركه البصر، وإذا بعدو جبار، يأتي من وراء الحقول الآمنة، فيشقها شقاً منكراً، ويثغر فيها ثغرة هائلة حتى إذا بلغك ألقى عليك نظرة ازدراء واحتقار، ثم سار في طريقه حتى بلغ سفح الجبل، فتمطى ثم تمدد ثم نام نومة الأبد؛ وإن رأسه لفي الصالحية، وإن رجليه لفي حيّ النصارى. . . فلما رآه أحبابك وأصحابك آثروه عليك، فلم يعد أحد يستطيب الجلوس إلى ساقية صغيرة، بعد أن فتح (شارع بغداد) ليجول فيه الشبان كل يوم (بين حي النصارى(141/45)
والصالحية) مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، يسيرون مائلين مميلين. . . فصبرت وتجلدت، ورجعت تجرين كما كنت منذ ثلاثة آلاف سنة. . . كأنك لا تحفلين شيئاً؟
لقد عشت عزيزة مكرمة، منذ وطئت هذه الأرض أول مرة، فلم ينتهك حرماتك أحد، ولم يعث في حرمك الآمن عائث، رغم الحوادث والأرزاء، أفانتهى بك الأمر أن يقتلك بستاني؟. . . لقد سقيت هذا البستاني وأباه وجدّه ومن قبلهم إلى أربعة آلاف جد، أفكانت عاقبة هذا الإحسان أنه لم يبن بيته إلاّ على رفاتك، ولم يكن أساس منزله إلاّ قبرك؟ لا بأس أيتها الساقية، فإن الإنسان مذ كان منكر للمعروف جاحد للإحسان. . .
لا بأس، فأن ملكاً لن يدوم، ولقد رأيت الترك والروم واليونان، فهل رأيت ملكاً يبقى، أرأيت الدنيا دامت على أحد؟ أما كانت دولة الترك عظيمة؟ أما جلّت دولة الرومان؟ أبقي من هذا كله شيء؟ لا، يا أيتها الساقية إنه لا يبقى إلا الإسلام، لأنه من ملك الله الباقي. . .
رحمة لك أيتها الساقية، وسلام على تلك الأيام الجميلة التي عشت فيها إلى جنبك، لا أعرف هم الدنيا ولا نكد الحياة، لقد كنت أفرّ إليك من عصا الشيخ، وعقاب المعلم، فتؤويني وتحميني، فلمن أفر اليوم من حياتي التي ضاقت على، ونفسي التي برمت بها؟
لقد ضعتُ كما ضعتِ أيتها الساقية، وجفْت آمالي كما جففت، وانتهى بي المطاف أن أكون شيخ كتاب! ولكن لا بأس أيتها الساقية. . . فأن الدنيا لا تدوم على حال. فرحمة لك، وعلى ذكراك السلام!
علي الطنطاوي(141/46)
أندلسيات:
4 - ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطُّبْني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أما كتاب الذخيرة فليس أصدق في التعريف به مما جاء في تصديره أو مقدمته أو مدخله أو خطبته، وإذ أن خطبة هذا الكتاب طويلة فلنجتزئ بذكر ما يهمنا منها، وهنا ننبه القارئ إلى أن مستهل هذا الكتاب الموجود في النسخ الموجودة بدار الكتب المصرية هو غير مستهل الخطبة الحقيقي. وإليك هذا المستهل كما هو في النسخ المذكورة:
(الحمد لله الذي أبرز قمر الآداب في سماء الكمال، وجعل لها أهلا كالنجوم يقتدى بهم ويهتدى مدى الأيام والليال، وصلاةً وسلاما على السيد السند الرسول المفضال، وأصحابه وأزواجه والآل، ما صدح هزار الفصاحة على أغصان فنن البلبال، وبعد: فيقول صاحب العزلة والانفراد أبو عبد الله عبد الملك بن المنصور بن عبد البر بن عدي بن هشام بن أحمد بن بسام: أني كلِفْتُ منذ زمان بأن أعد محاسن أهل جزيرة الأندلس، ورأيت العزلة والانفراد عن هذا العالم في هذا الزمان، واجبةً بحسب الإمكان، وأردت قطع التردد عن مجالسة الرجال، لا سيما والفكر مشغول في بحر التفكير فيما كلفت به وأدركته بعد أمة. ولا أدعي أني اخترعته ولكني لعلي أحسنت حيث أتبعت، وانتقيت ما جمعت، وتألّفت على الشارد، واغتنيت عن الغائب بالشاهد. . . الخ الخ) وهذا كلام كما ترى غث بارد مغسول لا يصدر عن مثل ابن بسام، ولعله تلفيق حَمْقىَ النساخين، يضاف إلى ذلك أنه ورد فيه اسم ابن بسام وخطأ فليس اسم ابن بسام عبد الملك ابن المنصور. . . وإنما اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن لا أبو عبد الله. . . إذن هذا كلام مفتعل. ومستهلّ الخطبة الحقيقي هو كما ورد في نفح الطيب ما يأتي:
(أما بعد) حمداً لله ولي الحمد وأهله، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله، فأن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل، تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد، ومازال في أفقنا(141/47)
هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الْفَنَّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيبَ مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدجن بجفون المؤرق، وجدّوا بفنون السِحْر المنمّق، جد الأعشى ببنات المحلق، فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثّيّر ما نسب ولا مدح، وتتبعه جَرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لحنوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتاباً محكما، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيه، ومناخ الرديه، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذْت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غَيرةً لهذا الأفق الغريب أن تعود بدُورُهُ أهِلَّة، وتصبح بحورُه ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان، وقد كتبت لأرباب هذا الشان، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتاب، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النَصفه، وذهب مذهبي من الأنفَه، فأملى في محاسن أهل زمانه، كتاب الحدائق معارضاً لكتاب الزهرة للأصفهاني، فأضربت أنا عما ألّف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعدّيت أهل عصري ممن شاهدته بعمري، أو لحقه أهل دهري، إذ كل مردّد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مَجَّت الأسماع (يا دار ميَة بالعلياء فالسّند) إلى أن قال بعد ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف الرضي والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي، وغيرهم ممن يطول ما صورته. . . وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم بيتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر. . .
هذا هو كل ما أورده المقري من خطبة الذخيرة، ومن هذا الموضع تبتدئ بقية الخطبة(141/48)
المثبتة في النسخ الموجودة في دار الكتب، فإذا أردت أن تجمع أطراف خطبة الذخيرة فهذا الذي أوردناه هنا هو الشطر الأول منها، لا ما هو مذكور في النسخ التي بين أيدينا حتى إذا وصلت إلى هذا الموضع وهو: - وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور في تأليفه المشهور المترجم بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر - وهذا هو ما أراده المقري واقتصر عليه - فارجع إلى هذا الموضع في خطبة الذخيرة الملفقة وامض منه إلى نهايتها وبذلك تجتمع لك الخطبة وتكمل، وهي خطبة على طولها بارعة جميلة، فارجع إليها في الذخيرة إن شئت؛ وما حفزنا إلى القول عليها وإيراد ما أوردناه منها إلا هذا التخليط الذي اعتور النسخ بأيدينا. . .
هذا وقد كسر ابن بسام الكتاب على أربعة أقسام: القسم الأول لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من موسطة بلاد الأندلس، وهذا يشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء على جماعة. . . الخ الخ، والقسم الثاني لأهل الجانب الغربي من الأندلس وذكر حضرة أشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب جملة موفورة. . . الخ الخ، والقسم الثالث ذكر فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى إلى منتهى كلمة الإسلام هنالك. . . الخ الخ، والقسم الرابع لمن طرأ على هذه الجزيرة من أديب شاعر وكاتب ماهر ووصل بهم ذكر طائفة من مشهوري المشارقة ممن نجم في عصره. . . الخ الخ
(وبعد) فأنا نضرع إلى الله سبحانه أن يوفق جماعة المستشرقين الذين أزمعوا طبع هذا الأثر النفيس حتى يخرجوه سليما معافى بارئاً مما ألمّ به من التحريف الذي شوه محاسنه، وكاد يطمس معالمه إنه سميع الدعاء
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ مجلة البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب(141/49)
الهاربون من القضاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أتظل موهون الجنانِ مروَّعاً ... قلِقاً من الآفات والأقدار
تخشى الحياة ولست تخشى ميتة ... هبها نصيب الموت في الإصغار
قلقاً تُطِلُّ على الحياة كأنما ... منها وقفت على الشفير الهاري
تخشى الحياة وكذبها وسَفالها ... وصيا لها في قسوة الغَدَّار
والحي يأكل من حياة مثيله ... لحسن الضواري للدم المدرار
وتطاول المغمور ينحو نابها ... كتطاول الغرقان في التيار
متشبثاً منه بعِطَفْي سابح ... ليجره لمهالك وبوار
كل يخال الدهر إن هو عاقه ... خطب الجميع بقاصم الأعمار
والموت يعصف بالدهور وأهلها ... فكأنها صور الخيال الساري
فعلام تخضع للتناكص والأسى ... وتخاف حكم الله في المقدار
والقلب يلمسه الأسى فيهزه ... وكأنه وتر من الأوتار
وعلام ترتقب الزمان وصرفه ... والغيب وهو مُحَجَّبٌ متواري
عمري لو أن الغيب عاجل وانقضى ... لقرأته خبراً من الأخبار
فمن ترى صور الحياة صحائفا ... وكأنها سِفرٌ من الأسفار
لا إنها أمر تزاول صرفه ... وتظل تعدو منه في مضمار
أو تغتدي بين الأنام مغامراً ... تسعى على سنن لهم وشعار
فإذا أسيت أسيت طرفة ناظر ... وإذا نسيت نسيت كل عثار
وكذبت ما كذب الأنام ولم تجد ... في قسوة من خسة وشنار
ونسيت ما جلب الزمان لأهله ... من محنة أو مهلك ودمار
فتقول للقلب المَروع إذا نزا ... حذر الحياة وصولة الأشزار:
يا هارباً من صولة المقدار ... أتراك تفلت من يد الأقدار
أهرب إذا ما اسْطعْتَ في أزل الدُّنَى ... أو في مدى الآباد والأدهار
أو في الممات وما تلاقي خلفه ... بين الفناء ومعقل الأسرار(141/50)
تعدو ويدركك الذي خلَّفَته ... كالليل ليس يفر منه الساري
كلُّ من العيش المرَوَّعِ هارب ... لو فاز خلْقٌ في الدنى بفرار
بالفن أو بالعلم أو بمجانة ... أو بالسطا والجند والأنصاو
فإذا القضاء مآلهم ونفاذه ... كحصاد كل وسائل المختار
سل صفحة التاريخ كم قوم به ... أَجراه مجرى الدهر في مضمار
أقوام أدهار مضت بعض لها ... ذكرى وبعض مالها من داري
قد أُبدلوا طبع السَّفَال بأنفس ... من طبعها المتصاعد السَّوَّار
صاروا إذ اغَضبِوا وإن سُرُّوا وإن ... درجوا لأمرٍ ثالثٍ بمدار
يتمرَّغون مجانة فنفوسهم ... وجسومهم كمزابل الأقذار
وصموا الشباب ولم يكن من طبعه ... خلق اللئيم العاجز الغدَّار
إن الشباب مروءة وسذاجة ... وترفع ينبو عن الأوضار
تَخِذوا السَّفاَلَ مِجَنَّهُم ليصونهم ... من صولة الغلاَّب والمغوار
فغدا السَّفاَلَ سعادةً ومسرة ... عبث الخنا ومجانة الفجار
نبذوا الحياء وكيف ترجو أمة ... للنائبات مجانة العُهار
قد خِيلَ في فقد الحياء رجولة ... فقد الحياء رجولة الدُّعار
طبع المجانة عم حتى خلته ... كيداً يحاك عليهمُ بِسَرَارِ
أم وُرِّثوه عن الجدار غنيمة ... يطفو الذليل بها على الأقدار
ويُذِلُّ من عنت الحياة وضيمها ... بسعادة المجانِ والفجار
وتكايدوا كيد العبيد ولم يكن ... كتنابُذ بطبائع الأحرار
واستمرأوا مرعى الغباوة والخنا ... إلْفَ السجون لطول عهد إسار
هزموا الدهور الغازيات بهز لهم ... فمضت وظلوا رهن عُقْرِ الدار
فإذا الدهور جديدة قهَّارة ... وإذا اللئام فريسة الأدهار
درجوا على دَرَج الحياة إلى الردى ... من بعد جهلٍ راقهم وصَغارِ(141/51)
من الشعر الرمزي
رمز الخريف
مهداة إلى الشاعر (أنور العطار) صاحب مقطوعة الخريف
المنشورة في العدد 138 من الرسالة
للأستاذ خليل هنداوي
خلِّ عنك النحيبَ، فالعيش ثغر ... ضاحك، والحياةُ حلم نضير
لا أرى في الخريف خطباً نكيراً ... إن مقت الخريف خطب نكير
هل رأت في الخريف عيناك إلا ... وحشة كالتي حوتها القبور
هل رأيت العشش إلا خراباً ... (هجرتها على الليالي الطيور)
هل رأيت الحياة إلا سراباً ... كل ما حوله أسى وغرور؟
لا تقل: يهمد الثرى! فهو حي ... إِنما للحياة فيه تفور
إن في باطن الخريف ربيعاً ... فيه من روعة الربيع الكثير
قد تمشت في الحياة بصمت ... واستفاقت تحت التراب الجذور
ورويداً! كل المسارب تخض ... رُّ، وتهتز في المروج زهور
وإذا بالحياة تضحك ضحكا ... فحفيف، ونغمة، وخرير
كل شيء - فيه - يغير ثوباً ... وجمال الطبيعة التغيير
ما عليها لو بدلتا قشوراً ... بقشور، هل الحياة قشور؟
لم تزل في عشاشه بهجات ... وأرانيم في الفضاء تطير
حيث يروي العصفور لحناً ويصغي ... لصداه، فيجْفلُ العصفور
إن في صفرة الخريف فناء ... فيه رمز إلى البقاء يشير
لا تمثل سماء كونك بالنع ... ش عليه من الغيوم ستور
إن كوناً تنكَّب الفن عنه ... هو كون مستقبح مهجور
فاتخذ عالماً تطوف الشعاعا ... ت عليه والنور فيه يمور
وعصافيره على الدهر تشدو ... وأزاهيره يفوح منها العبير(141/52)
عالماً فيه روعة ورواء ... وفضاء يشع فيه الحبور
عالماً واسعاً تضيق به الآ ... فاق، فيه الرضا وفيَه السرور
لا تخف سطوة الخريف إذا انقض ... على دوحك الشجير يغير
قل له: نق تربتي من هشيم ... ما له في الحياة إلا صرير
قل له: عرَّ دوحتي من بقايا ... طرحتها لكي تعيش زهور
قل له: عرَّ خاطري من تقالي ... د أباها عقلي وعاف الضمير
فمن الشجو والخريف حياة ... ومن الحب والربيع قبور
ما على اللحن أن يكون جميلا ... وهو لحن - كما ذكرت - قصير
كن جديداً على الحياة ففي الجِ ... دَّة يهتز كونك المسحور
لست أبغي قيثارة تشكي ... لحنها الدمع والأسى والشعور
أعطها للخريف، وانحت سواها ... ذات لحن تهوى عليه الصدور
هات قيثارة تسيل غناء ... لا يرى منفذاً إليها الدثور
هات قيثارة لها نغمات ... (هي روح الحياة والإكسير)
هي فرق الأفراح حين تغني ... وهي فوق الأحزان حين تثور
هي روح ترى الظلام وتزهو ... بضياء الحياة حيث ينير
هي نور يكسو الطبيعة لوناً ... حين يخبو من الطبيعة نور
هي لحن يطغى على كل لحن ... حيث لا معزف ولا مزمور
هي طيب يبث في الوهد عطراً ... حين لا يغمر الوهاد عطور
هي فن يجلبب الكون بالحس ... ن إذا ما طغت عليه الشرور
(دير الزور)
خليل هنداوي(141/53)
أغلال تتحطم!
وثاروا فجن جنون الرياح ... وزلزلت الأرض زلزالها
وأهيب ما كان يأس الشعوب ... إذا سلح الحق أعزالها
(شوقي)
ما اغترابي عن الحمى وابتعادي ... كبدي في اللَّهيب أُختُ فؤادي!
نبأ هزَّني وهاج شئوني ... رائحٌ بالشجونِ بالدمع غادِ
ما تراني إذا سجا الليلُ أسوا ... ن لهيفَ الفؤاد نِضو سُهاد
أسألُ النَّجْمَ همة عن عرين ... فتَك الظلم فيه بالآساد
وأناجي الرياح ماذا لديها ... عن رفاق الصبى وعن أندادي
اعصفي يا رِياحُ ما شئتِ هوجاً ... كلُّ نفسي عواصف وعَواد
اللظى في الحشا وتحت جفوني ... وعلى مَفرشي وفوق وسادي
إن أنم ساعة يقلِّبنيَ الحُل ... مِ على جمره وفوق قتادي
أألذ الكَرى وطرفي دامٍ ... وخفوقي في لهفةٍ وأتّقاد
وبلادي تئن من عَبَثَ الجْو ... رِ وترغى كالليثِ في الأصفاد
تمهرُ المجد أُسدها ثم تجري ... للمعالي على رؤوس الصِّعاد
حطِّموا أيها الرعاة المزامي ... رَ وكفكِفْ دمع الهوى يا حادي
ثم سيروا خلف القطيع خشوعاً ... موْكِباً من جلالة واتِّئادِ
أيُّها البلبلُ الطروبُ دع الأغ ... صان تبكي واسكتْ عن الإِنشاد
طِرْ إلى حيث وُسِّدت شُهداءُ ... في بطاح العُلى، طوالُ النِّجار
فاشد في مرْبِض الضحايا وغرِّد ... فوق أشلائِها الظِّماء الصوادي
واتلُ فوقَ الرؤوس أعذبَ لحن ... فلحونُ الطيور خير ضماد
الوفاَء الوفاَء يا بلبلَ الأي ... ك! أتشدو وليس في الشام شادِ؟
بل أقِم أيها الرفيقُ ورَنّم ... وتنقَّلْ بين الرُّبى والبوادي
وأشد ما شئت عند مُنبلج النو ... رِ، طروباً، وفي مثارِ السواد
ربما كنت هاهنا أيها البل ... بلُ تبكي على شهيدٍ جوادِ. . .
أيها الزهرُ في الرُّبى! أغمِضِ الأجف ... فان حزناً واذْبُلْ على الأعواد(141/54)
أو فَيِّممْ رَوْض الضحايا فَرفرِفْ ... فوق أعراسها وفي الأعياد
كيف تزهو والزهر في النيربِ السا ... جِم باكٍ والورد في الشام صاد؟!
بل تَفَتحْ هنا ورُفَّ ندياً ... وانشر العِطْرَ منك في كل واد
ربما كنت أيها الزهرُ تُروي ... من دِماءٍ جاَءتكَ مثلَ العِهاد. . .
يا ثرى موطني تباركت ترباً ... أنتَ من أدمُع ومن أكباد
حيثما ألتفت فثمَّ ضريح ... لشهيد أو ساحة لجلاد
كم شهيد كأنه بسمةُ المج ... دِ ورَيحانة العُلى والجهاد
خَرَّ في حومةِ النِّضال ينادي: ... موطِني موطني! بلادي بلادي
مات واسمُ الحمى على شفتيهِ ... كالندى فوق ذلِلِ الأوراد
أو هو أسم الحبيب طوَّف معْسو ... لاً بِثغر المحِبِّ عند الرُّقادِ
أيها الشرق هَبَّةً للمعالي ... طال لُبْثُ السيوف في الأغماد
إنما العيشُ صرْعةٌ في جهادٍ ... والرَّدى في تذلُّلل وانقياد
صرخة أيها الأسيرُ تفري ... لصَداها حبئلُ الصياد
تجْفِلُ العاديَ المغيرَ وتهوي ... صاعقات على رؤوسِ الأعادي
أيها الشرق إنما أنت مَجْلَي الن ... ورِ والكونُ في ثياب الحِداد
إنما أنت مهْبطُ الوحي والأج ... يالُ تلهو بها أكفُّ الجماد
دّرَج الأنبياءُ فوق روابي ... كَ، وشعت منائِرُ الإرشاد
علَّموا الكون رحمة العبد للعب ... د ونبذ الذحول والأحقاد
وهدوْه سُبْل المحبة والخي ... ر وَنَقَّوه من شرور الفساد
فاهتدي بعد حيْرة وضلال ... وصفا بعد حلكة واربداد
أيهاذا الغرب المِدلُّ رُويداً ... والنُّهى - لو عَلِمت - في الإرواد
شَدَّ ما ترهق الضعيف عذاباً ... تتداعى له على الاطواد
فكأن الأيامَ ليست تَوالي ... وكأن الزمان ليس يعادي
إيه يا غرب، والحديث شجون ... والدُّنى بين هدأةٍ ولداد
ما جنينا حتى صببت علينا ... مُرهقاتِ الأذى والاستعباد(141/55)
كيف تنسى أيام كنا نجوماً ... ساطعاتٍ في كلِّ صقع وناد
يوم كنا تاجاً على مفرق الأ ... ض وشمساً من حكمة ورشاد
والزمان الحرونُ بين يدينا ... مُستذلُّ الصُّروف سهلُ القياد
فملأُنا السماَء والأرضَ نوراً ... وأفضنا عليك أفضل زاد
وملكنا بالعدل ناصية الكو ... نِ زماناً، أغوارِه والنِّجاد
ثم جار الزمان وانقلب الده ... ر فنامت على الغصون الشوادي
وخبا للخلود أعذب لحن ... وكبا للرُّقي خيرُ جواد
يا جمال الحياة يا بهجة الكو ... ن وإرث الأجداد للأحفاد
يا دموع الأسير، يا غضبة اللي ... ث على القدِّ، يا رجاء العباد
يا ضياء النفوس، يا شمس يا حرِّ ... ية الغابِ، يا ابنة الآباد!. . .
نحن زهرٌ وأنتِ أعذب طلٍّ ... نحن عمي وأنتِ أرحمُ هاد
قد مهرناك من دماءِ غوالٍ ... وفرشنا الطريق من أجسادِ
فاخطري فوقها وتيهي دلالاً ... واسحبي الذيل في الربى والبوادي
وطئي أعُيناً ودُوسي قلوباً ... كلها من تمرُّدٍ وعنادِ
وامرحي فوق أرؤُسٍ لك ذلت ... لا لباغ مضرج الناب عاد
حلقي فوقنا وَرُفي لنحيا ... قد سئمنا الحياة في الأقياد
واسطعي في القلوب نوراً من الله ... وثوري بأنفس الهجادِ
صدئ القد في الأكف وفي الأق ... دام، والغُلُّ حزَّ في الأجياد
أيها الغريب قد أنفنا من النو ... م وضقنا بالذل والأصفاد
فوثبنا إلى النضال أسودا ... مثل آبائنا العلى الأمجاد
وخضبنا دغالنا بالدم الحر ... وضاق الفضاء بالأجناد
أَرْهِق الشَّرْقَ ذِلَّةً وَأَذِقْهُ ... كل ما شِئْتَ من أذى واضطهاد
نحْنُ نَبْغي الحياةَ، والسَّيْفْ لَنْ ... يُغْمَدَ يا غَرْبُ قَبْلَ نَيْلِ المرادِ
(ابن دمشق)(141/56)
القصص
درامة من اسخيلوس
محاكمة أُورست أو ربات العذاب
(الدرامة الثالثة من الأورستية)
أول كوميدية إلهية مسرحية عرفها التاريخ
للأستاذ دريني خشبة
خلاصة الدرامتين الأوليين
(ذهب أجاممنون ملك آرجوس لفتح طروادة ولكن الريح العاصف حالت دون قيام الأسطول فضحى بابنته أفجينا ليهدأ ثائر البحر وأغضب بذلك زوجه كليتمنسترا التي انتهزت فرصة غيابه واتصلت بألد أعدائه إيجستوس اتصلا شائنا ونفت ولدها أورست حتى لا يعكر عليها صفو غرامها - ويعود أجاممنون بعد عشر سنوات فتقتله زوجته وعاشقها. . . وتمضي عشر سنوات أخرى فيكون أورست قد شب واشتد عوده فيعود ليثأر لأبيه من أمه، فيلقى أخته عند قبر والده تصب عليه خمراً مرسلة من الملكة بسبب رؤيا مفزعة خلاصتها أنها رأت نفسها تلد أفعى وتضمها إلى صدرها فتنفث فيه سمها ويتعارف الأخ إلى أخته ويتفقان على الخطة ويطرق أورست باب القصر الملكي متنكراً فتلقاه الملكة ولا تعرفه مع أنه ابنها فيدعي أنه قادم من لدن الأمير الذي كانت قد نفت ولدها عنده وأن ولدها قد مات. . .! وهكذا تجوز الحيلة على الملكة فترسل في طلب ابجستوس لتنهي إليه الخبر ولكن أورست يلقاه منفرداً ويقتله، فلما تجيء الملكة وتشهد مقتل حبيبها تعرف كل شيء وتعرف أن القاتل ولدها لا غيره. . . ثم ينقض أورست على أمه فيقتلها بعد جدل طويل
ولكن أورست يكون قد ارتكب أكبر جريمة تعاقب عليها الآلهة وهي قتل الوالدين فتتمثل له هامة أمه وتفزعه وتروعه حتى يجن جنونه فينطلق إلى معبد أبوللو يتوسل إليه أن يحميه(141/57)
لأنه هو الذي أمره بإنفاذ هذه الجريمة. . . ومن هنا تبدأ الدرامة الثالثة)
- 1 -
المنظر: (في الأديتون - صومعة أبوللو - في دلفى)
نحن في الأديتون. . . في مثوى أبوللو الخاص؛. . وقد قامت بيثونة الإله الكبير، سيد الشمس، ورب القوس، وصاحب السهام الذهبية. . . تصلي للأرض المباركة، ولا بنتها ذيميس، ولإحدى بنات النيتان. . . فوبيه. . . التي تشبه باسمها فوبوس. . . الذي هو أبوللو. . .
والبيثونة، كاهنة أبوللو، ذات لسان رطب، وهي لا تكل من أن تستطيل صلاتها، فتذكر مينرفا وما روى الناس من أساطير عن مينرفا. . . و. . . تنتهي بعد لأي صلواتها. . .
وندخل معها إلى مثوى أبوللو؛ ولكنا نخرج مذعورين وجلين، كما تخرج هي وجلة مذعورة. . . لأننا نرى أورست المسكين راكعاً بين يدي تمثال الإله يبكي. . . ويصلي. . . ويضرع إلى أبوللو أن يحميه من ربات العذاب. . . الزبانيات الضاريات. . . اللائى رحن يطاردنه في كل حدب، ويأخذن عليه سبيله في كل صوب. . . وبودّهن لو تمكنّ منه فهرأن لحمه، وحطمن عظامه، ثم دفعنه في حميم فليجتون، بما قتل أمه وأغضب الآلهة
وتذعر البيثونة لأنها ترى إلى إحدى يدي أورست ملطخة بالدم الذي سفحه، وترى إلى يده الأخرى تحمل غصناً غضاً نضيرا. . . هو غصن الزيتون؟! وكيف يجتمع الدم المسفوك، وغصن الزيتون؟
مسكين أورست! لقد ركع بين يدي التمثال يصلي ويبكي، ومن حوله الزبانيات الضواري يتربصن به. . . هؤلاء الجرجون السفاحات. . . اللائى تتحوى الأفاعي في رؤوسهن، ويغلي السم في أنيابهن، ويضطرب الموت الأسود في أظفارهن!!
ويسقط في يد البيثونة، ولكنها تدعو لمولاها أبوللو أن يحمي بيته من هؤلاء المتمردات
- 2 -
وينفتح باب الصومعة على مصراعيه، فنرى أبوللو نفسه، ونرى أورست المعذب ما يبرح يبكي ويصلي، ونرى إلى الجرجون من حوله يكدن يبطشن به، ولكن أبوللو يكلمه ويحتفي(141/58)
به ويذهب عنه الروع الذي يضنيه
- (ليفرخ روعك يا أورست فأنا ربك وحارسك وسأظل آخر الدهر معك. . . قريباً منك أو بعيداً عنك. . . تراني أو لا تراني. . . دائماً معك. . . دائما. . . وسأكون أعدى أعداء من عداك. . . حتى ولو كان من أعدائك هؤلاء الجرجون آلائي ترى. . . فأنه لن يصل إليك منهن ضر، ولن يصيبك منهن أذى. . . فإني قد ألقيت عليهن غفوة، وأسكرت مقلهن بخمرة الكرى، فهن في سبات عميق حتى تكون بنجوة منهن. . . الشريرات عدوات الآلهة والناس أجمعين. . .)
ويهدأ أورست قليلا، لأنه ينظر فيرى إلى الجرجون ساكنات نائمات كما أخبر الإله، ويصل أبوللو حديثه فيقول: (. . . وليس عليك إلا أن تنطلق من فورك هذا فلا تلوي على شيء حتى تكون في معبد مينرفا فاسجد تحت قدميها سجدة تستجمع فيها نفسك وقلبك وآلامك. ثم تبثها شكواك وتتوسل إليها أن تأذن فتحكم بينك وبين الزبانيات، ربات الذعر، هذه الجرجون؛ ولا تخش عقدة في لسانك فسأكون إلى جانبك، وسأنافح عنك وأشد أزرك، ولن يؤودني أن أضع عنك هذا الوزر الذي يثقلك، مادمت أنا الذي أمرتك أن تقتل أمك الفاسقة. . . وستنطلق الجرجون في إثرك، فإذا أدركنك فلا يروعنك أن يأخذنك فيلببْنك تلبيبا، ثم لا يروعنك أن يتواثبن بك فوق الآكام ويسحبنك فوق النؤى ويطوحن بك فوق البحر اللجي. . . فانك واصل بأذني، وعلى عيني إلى حيث ألقاك في معبد مينرفا)
فيكفكف أورست عبرته ويقول: (تباركت يا سيد الشمس وتقدست أسماؤك، ولا غفلت عينك الساهرة عن عبدك المنيب. . . ولا زلت تدركني برحمتك يا أرحم الراحمين!)
فيجيبه أبوللو: (ولا زلت أوصيك بالتجمل والصبر، فلا تقذف بالروع في قلبك، ولا تدع للذعر إلى روحك سبيلا، وسأوصي بك أخي هرمز، حامل الأرواح إلى ظلال هيدز، يمهد لك، ويوطئ سبيلك حتى تكون في مُتوجَّهك)
ثم يرف أبوللو فيكون في السماء. . . ويخرج أورست
- 3 -
وتنعقد سحابة في جو الصومعة، ثم تنكشف عن شبحٍ قاتم سادر، هو شبح كليتمنسترا. وكأن نوم الجرجون يشدهه فيقول:(141/59)
- (يا هياهْ! يا هياه! هَياَ! هَياَ! جورجون! غطيط! تنامين وأذرع الظلمات مفضوحةً بمن قتلني! انهضن يا ربات! إنهم يصرخون في وجهي: مجرمة! آثمة! أنا؟ أنا مجرمة وقد قتلني ابني الذي حملته وغذوته؟. . . ما شغلكن إذن إذا نمتن عن هذا الوزر؟ ألم أكن أقرب لكن القرابين وأضحي الأضحيات من خمر كلها غَوْل في دجنّة الليل؟! أفهكذا تضيع إضحياتي عندكن وينجو قاتلي دون أن تمسكن به؟ انهضْن! انهضن فحسبكن ما ألم بكن من كرى! انهضن فقد لاذ بالفرار قاتلي غير مبالٍ بكن؟ أنا كليتمنسترا؟ أهتف بكن يا ربات الظلمات! أنا. . . القتيلة التي يسبح ظلها في مملكة الأحلام!)
- (خيخ!. . . خيخ. . .! خيخ. . .! خيخ. . .!)
- (خيخ؟. . . ما هذا الفخيخ يا ربات؟ إنه يضطرب في حلوقكن فيكون شخيرا، ثم يرتد في أنوفكن فيكون نخيراً! هَيا! لقد أفلت قاتلي! ولدي! لقد كلأته قدرة سماوية بينا أنا مهجورة هنا!)
- (غيط. . . خيخ. . .! غيـ. . .)
- (غيط! ما هذا الغطيط وقد انفتل قاتلي! ما أنتن هنا؟ أورست ابني. . . أطلق ساقيه للريح يا ربات، فمن غيركن يأخذه بقتلتي؟)
- (أو. . . هـ. . .)
- (أوه؟ هَيا! البدارَ البدار! يا للضنى!)
- (أو. . . هـ. . .)
- (حتى النوم والتعب يشدان أزر المتآمرين!)
- (خيـ. . . . خ. . . (وتستيقظ الجورجون) أمسكن! أمسكن! مِن هنا! من هناك! حذار!)
- (آي! أنتن تتصدين المجرم في شبكة أحلامكن! وما تبرحن متثائبات! يا للعار؟ انهضن يا ربات ولا تستسلمن لهذا الخمول! بحسب قلوبكن وخزة من ضمير حي لو يستيقظ! هَياَّ هَيا! اقصصْن أثره! ولينزع شِواه زفير من جحيم أنفاسكن هيا هيا!!)
(ويغيب الشبح)
- 4 -
وتنهض الجورجون فيروعهن ألا تجدن أورست وقد طاردنه طويلا، وكدن يبطشن به لولا(141/60)
احتماؤه بصومعة أبوللو. . . ويبر من ويتسخطن. . . ويشتد غضبهن على أبوللو نفسه، لأنهن يفطن إلى أنه هو الذي ألقى عليهن هذا النعاس الذي صرفهن عن واجبهن. . . (غير مبال أن تخرق قانون الآلهة، ولا مبال أن يتلطخ وحيدك بالإثم والدم، كأنك تتحدى ربات المقادير. . . ولكن هيهات! هيهات أن تستطيع حماية هذا الآثم الذي يلوذ بك. . . فأنك ستشهده بعينيك يتلظى في حر جهنم. . . وستضاعف حمايتك العمياء له عذابه. . . . . .)
وما يكدن يفرغن من برمهن، ويمسكن عن قولة السوء التي أرسلنها، حتى يبدو طيف أبوللو:
- (. . . . أغربن اغربن! آمركن ألا تبقين في صومعتي! هَلاَ! وإلا فستبيدكن نفثات الثعبان الذي يتحوى في قوسي! الأرقم! أتجهلنه؟ أغربن يا سبب شقاء الناس ونافثات السم في جراح البرايا! لا تنتهكن هذا الحرم المقدس الأطهر بظلالكن البشعة، النكراء! أغربن من هنا، وتعثرن بالموت والأرزاء في سبل الشباب الذي تذوين، والحيوات التي تشقين والأنفاس البريئة التي تحشرجن في صدور الأطفال. . .! بحسبكن أنين الموتى، وجؤار القتلى، وسكرة الموت؛ تخضض المفجوعين والمفئودين! أغربن من هنا. . . . وليكن مأواكن في مغارة ذئب أو كهف سبع ينهش فريسته التي ما تزال تئن وتتوجع. . . فصومعتي أطهر من أن تدنسها أدرانكن! أغربن قلت لكن، فما انفكت لعنة السماء عليكن وغضب الآلهة والناس أجمعين! هيا. . . هيا. . . يا هتاه!)
- (أيها الإله أبوللو! أصغ إلينا وعِ! أنت لم تكن شريك هذا المجرم الذي حميت في وزره فقط (حين قتل أمه) ولكنك كنت الآمر الموحي؛ فعليك يقع الجرم كله. . .)
- (وما برهانكن؟ هراء. . . هراء. . . .)
- (نبوءتك التي أوحيت بها. . . . تقضي أن يقتل الغلام أمه!!)
(لقد صرحت، غير متردد، لابد أن يثأر الفتى لأبيه!)
- (وها قد تقبلت الغلام، وما انفك الدم يقطر من يديه!)
- (لا. . . . ولكني أمرته أن يستغفر لذنبه هنا!)
- (ولكنه لم يأت ليستغفر، بل أتى يلوم ويعتب ويعذل. . . يعتب عليك ويعذلك يا(141/61)
حاميه!؟)
- (وأنتن؟ ماذا جاء بكن وأنتن غير جديرات بأن تقربن قدسي!!)
- وظيفتنا يا سيد الشمس! هذا عملنا الذي ارتضينا يوم اقتسم الآلهة شؤون الحياتين!)
- (ماذا؟ عملكن؟ وما عملكن يا ربات الذعر؟)
- (أن نقتص آثار قبلة الآباء وننفيهم من الأرض!)
- (وماذا تصنعن بمن يقتلن أزواجهن من النساء؟)
- (هذا دم لا يعنينا لأنه من دماء ذوي القربى، فلا شأن لنا به!!)
- (بعدتُن عن الشرف والنبل إذن، وعن العدالة كذلك! أن ذلك ينافي القداسة الزوجية التي تقر بها حيرا لزوجها زيوس سيد الأولمب، وينافي ما قضت به ربة الحب من وجوب الوفاق والمحبة بين الزوجين. . . إن العلاقة بين الزوج وزوجه أكبر من أن تكون قسما اقسماه! فإذا حدث أن قتل أحدهما الآخر ولم يثر ثائركن لهذا القتل فمن يأخذ المجرم بجرمه؟ وماذا تكون الحياة إذا لم يكن فيها قصاص؟! إنكن إذن تطاردن أورست ظالمات!! فبينا تأخذن بالشدة والعنف مجرماً لا تقع عليه - في الحق - جريرة ما صنع، إذا أنتن تغضين عن مجرمين ضجت الدنيا بآثامهم وتلطخت الفضيلة بأوزارهم، فما لكن كيف تقضين؟! وليكن الأمر ما يكون، فسيعرض الأمر كله على مينرفا لترى فيه رأيها!)
- (مهما حاولت فلن نعفي القاتل من أن يلقى جزاء ما جنت يداه!)
- (اقصصن أثره إذن وافعلن ما بدا لكن!!)
- (ولكن لا تستهزئ بحقنا المقدس في ثنايا كلمك!)
- (أنا لا يعنيني حقكن المقدس ولا أبالي به أو بكن!؟)
- (. . . . . . إن رائحة الدم المسفوك. . . . دم الأم المذبوحة. . . قد أتى بنا إلى هنا، ولا بد من أن نقتحم هذا المأوى ونقبض على المجرم!)
وسأحمي هذا اللائذ بي إلى النهاية! سأناضل عنه مادامت العماية تغطش أبصاركن! أنني إذا تخليت عنه، وتركته لبطشكن، غير متأب ولا ناقم فستضج السماء والأرض، وتزلزل الجبال. . . وتنقم الإلهة. . . ويسخط الأولمب. . . أغربن. . . أغربن! هيا. . . يا ربات الذعر. . . زادتكن السماء مسخاً!)(141/62)
(وتنطلق الجورجون. . . ويغيب أبوللو)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(141/63)
صانعة الكراسي
للكاتب الفرنسي (جي دي موباسان)
ترجمة السيد فؤاد نور الدين
أقام المركيز دي برتران حفلة شائقة على نخب صيد العام الجديد. فدعا أصحابه من أهل البلد. فالتف حول المائدة عشرة رجال تصحبهم ثماني نساء من ذوات الحسن والدلال؛ وكان الخوان موقراً بصنوف الزهر الزكي، وضروب الثمر الشهي؛ وقد ألقت مصابيح الكهرباء أنوارها المتلألئة على هذه الأنواع المختلفة من الزهر والثمر والطعام، فماجت تحتها موجاناً يستفز الشهية ويستقطر اللعاب
جلس في صدر المائدة على مقربة من المركيزة طبيب البلدة، وهو رجل متقدم السن، وقور الهيئة، يبدو على وجهه طابع الفطنة والذكاء
كانوا جميعاً يتجاذبون ألواناً ممتعة من الحديث اللذيذ والكلام الرقيق، فلما انتقلوا إلى حوار الحب، وماهية الحب، انبعثت بينهم تلك المناقشة الخالدة التي يراد منها أن يفهم: هل الحب المحض يدرك القلب المرء مرة في حياته أو أكثر؟
فكانت تورد أمثلة لأناس تيم قلوبهم الحب الصحيح مرة فحسب، وكانت تورد أمثلة لأناس آخرين أحبوا بعنف وقوة وهيام أكثر من مرة
كان الرجال بنوع عام يشبهون العشق بالأمراض، فكما أن هذه تعتور جسم الإنسان دوماً، فالعشق أيضاً يصيب فؤاده كثيرا ويكون في كل مرة من العنف والقوة والهياج بحيث يُؤثْر العاشق الموت إذا ما اعترضت سبيله علة من العلل
أما النسوة فكان رأيهن يستند أكثر ما يستند على الخيال والشعر، وينأى عن النظر والفكر. فكن يثبتن في حماس واندفاع أن الحب المحض، الحب العظيم لا يمكن أن ينبعث في القلب إلا مرة فحسب، حتى إذا تمكن منه ألهاه عن كل أمر، فأحرقه وألهبه، وكان فعله فيه فعل الصاعقة في الشجر والنبت، فكما أن هذه تحبس عنهما النمو والنشوء الجديدين، فهذا الحب أيضاً - يجعل القلب قفراً فارغاً لا يمكن أن تنشأ فيه أحلام تشبه أحلامه الأولى ولا أن(141/64)
تنبت فيه مشاعر تشبه مشاعر هيامه الماضي وعهده السالف
كان المركيز يدحض هذا الاعتقاد بكل ما أوتي من ذلاقة لسان، ومن حجة وبيان
كان يقول:
- أؤكد لكم يا سادتي أن الإنسان في مقدوره أن يعشق أكثر من مرة بكل جوارحه وبكل قواه. إنكم تعددون لي أمثلة أناس انتحروا من أجل الحب كأنهم عاجزون عن أن يعيشوا ليعشقوا ثانية. غير أني أجيبكم: إن هؤلاء الناس لو أهملوا الانتحار وتحاشوا هذا الحمق المجنون، لألفوا في الحياة ما يثير الحب جديداً في قلوبهم الجريحة ويحي موات الأمل في نفوسهم اليائسة، لأن من هام عاد إلى الهيام، ومن احتسى أولى الكؤوس عاد إلى سواها. تلك طبيعة المرء لا منصرف عنها ولا محيد
لما أتم المركيز خطابه وأعلن رأيه، انحدرت الأنظار إلى الطبيب تنتظر منه الحكم الأخير. قال:
- أنا لا أخالف المركيز في رأيه، فالهوى تتعدد فصوله وتتابع طوارئه على الفؤاد. غير أني عرفت فيما عرفت هوى دام خمساً وخمسين سنة، وما خمدت ناره ولا انطفأ أواره إلا بالموت
قال المركيز وهو يفرك يديه:
- ترى أهذا الحب محمود؟ وما وراءه من أمان وأحلام؟ وأي سعادة في أن يعيش المرء خمساً وخمسين سنة على غرام واحد؟
فابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى المركيزة:
- إن الشخص الذي أتاح له القدر أن يكون معشوقاً طول هذه المدة كان رجلا وأنتم تعرفونه جميعاً، هو السيد شوكه صيدلي الناحية. أما المرأة العاشقة فلستم تجهلونها أيضاً، هي صانعة الكراسي العجوز التي كانت تفد أحياناً إلى القصر هاهنا:
بدت على وجوه النسوة ملامح الدهش ودلائل الاشمئزاز، كأنما الحب لا ينبغي أن يصيب فيما يصيب إلا المخلوقات المترفة المتميزة التي تستحق وحدها أن يبدي الناس لها عطفا واهتماماً
قال الطبيب:(141/65)
- منذ ثلاثة شهور دعيت إلى جانب هذه العجوز وهي على فراش الموت، وكانت قدمت في عربتها التي اتخذتها مسكناً لها وآلة ركوب تطوف البلدان عليها. يجر هذه العربة فرس مهزول ناحل لا شك أنكم رأيتموه. ويصحب العجوز كلبان أسودان هما صديقاها وحارساها. كانت دعت القسيس أيضاً لتكشف لنا عن رغباتها الأخيرة فنكون منفذين لوصيتها. فقصت علينا جميع أطوار حياتها. الحق إنني لم أسمع قصة أشد تأثيراً في النفس وأكثر غرابة في الأذن من قصتها. كانت حرفة والديها صنع الكراسي. ولم يكن لها سكن خاص في أرض معينة، فإنها طفلة كانت تطوف البلدان ممزقة الثياب معتلة الجسم يثير منظرها نفوراً واشمئزازاً. وكان أبواها كلما بلغا إحدى القرى وقفا عند مدخلها وأنشأ يصلحان الكراسي العتيقة والمقاعد القديمة تحت ظل الأشجار وهي تتدحرج لاعبة ضاحكة خلال أعواد العشب المشرئبة. فإذا ابتعدت قليلا عنهما أو أخذت في الحوار مع الصبية، فإنها لا تلبث أن تسمع صوت أبيها المغضب يقول لها: (ارجعي يا وقحة). فكانت هذه الجملة، الجملة الوحيدة التي تسمعها من أبيها
ولما ترعرعت بعض الشيء أرسلاها تلتقط أو تبتاع ما فسد من المقاعد. فكانت في تنقلها من مكان إلى مكان تتعرف إلى الصبيان وتأنس إلى الحديث إليهم. على أن ذويهم كثيراً ما صدوهم عنها وهم ينتهرونهم أشد الانتهار، ومنهم من كان يقول لولده: (ألا اقطعن الكلام مع هذه الشريدة الحافية الأقدام)
أما الفتية الصغار فما أكثر ما قذفوها بالحجارة من غير أن ينبس فوهها بكلام! وكان بعض النسوة أعطينها قليلا من دراهم، فاحتفظت بها وحرصت عليها
وبينما كانت تجوز هذا البلد في أحد الأيام وقد بلغت الخامسة عشر ربيعاً من عمرها، إذ صادفت خلف المقبرة شوكه الصغير وهو يبكي أحر البكاء، لأن رفيقاً له سرقه درهمين. فآلمها وهي البنت المسكينة، أن ترى طفلاً حضرياً يذرف دموعاً سخينة من حيث لا مواسي له ولا صديق. فدنت منه وما كادت تقف على سر بكائه حتى وضعت في يديه تلك الدراهم القليلة التي احتفظت بها. وكان طبيعياً أن يبتهج الطفل بالدراهم فأخذها ومسح دموعه. وكان منها أن جنَّت فرحاً بعمله، فأنشأت تعانقه وتضمه إلى صدرها وتقبله تقبيلاً حاراً دون أن يمانع الولد أو يصدها عنه لأنه كان لاهياً بفحص النقود(141/66)
ثم انصرفت عنه وقد فاض قلبها محبة لهذا الطفل
ولم يكن أحد يعلم ماذا جال في رأس هذه التاعسة من خواطر وأحلام، أتعلقت به لأنها ضحت في سبيله بثروتها المتجمعة من التشرد والانتقال، أم لأنها منحته أول قبلة وثب قلبها لها؟
خفي ذلك على الصغار والكبار
وظلت أشهراً تتمثل في خاطرها زاوية المقبرة التي شهدت فيها هذا الغلام وشرعت تسرق أبويها ما تصل إليه يدها من دراهم أملاً في لقائه ومصدافته. وكان في يدها آخر الأمر فرنكان. على أنها هذه المرة بدلاً من أن تلمح فتاها في محل منعزل، رأته خلف قضبان حانوت أبيه: بهي الطلعة نظيف الثياب، والقناني الحمراء والخضراء والصفراء تحيط به من كل جانب. فازدادت له حباً وبه كلماً، وبهرها ما ألفت لديه من مجد بادٍ في هذه المياه المصبوغة، ومن جلال ظاهر في هذه الزجاجات البراقة
فاحتفظ خاطرها بذكراه مدة، حتى صادفته في السنة التالية خلف المدرسة يلعب مع رفاقه، فهجمت عليه وقبلته تقبيلاً عنيفاً ريع له الولد وأخذ في الصراخ. لكنها سرعان ما وضعت في يده ثلاثة فرنكات هش لها الغلام وطرب، وحملق في وجهها في دهش وتعجب تاركا نفسه لها تداعبه ما رغبت في المداعبة، تعانقه ما اشتهت من عناق
وظلت أربع سنوات تقدم إليه ما تجمعه فيأخذه منها مقدماً إليها القبلات عن رضى وسرور. أعطته مرة فرنكين ومرة خمسة فرنكات، وهي قطعة كبيرة جعلته يضحك لها ويرقص طربا
لم تكن تفكر إلا فيه؛ أما هو فكان ينتظر عودتها ويرقب شخوصها إليه بصبر فارغ وشوق لجوج، حتى إذا أبصرها، جرى إليها مسلماً خده لقبلاتها، ويده لدرهمها. وما أشد خفقان قلبها عند ذاك!
وتوارى الغلام حقبة من الزمن عن عيانها لأنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وعرفت هي انتقاله بمهارة وحذق، فأبلت في السياسة بلاء حسناً حتى حملت أبويها على المرور من هنا في الصيف. وكان مضى عليها سنتان دون أن تراه. فلما أبصرته كادت لا تعرفه. لأنها رأت أمامها بدلا من طفل الأمس فتى تفتحت ورود الصبا في وجهه، وابتسمت زهور(141/67)
اليفاعة في قده
نظرت إليه نظرة شوق ولهف. وكان منه أن تظاهر بعدم رؤيتها، ثم خطا أمامها ببزته الأنيقة ذات الأزرار الذهبية يملأ صدره زهو وافتخار، ويعلو برأسه أنفة واستكبار
وانصرفت عنه والدموع تسح من عينيها والزفرات تتصاعد من قلبها. وأصبحت بعد ذاك العهد أليفة أحزان، وصديقة آلام
وانطوت الأعوام متوارية خلف حجاب الفناء، وفتاتنا لا تنقطع عن الشخوص كل عام إلى بلده لتراه دون أن تجرؤ هي على تحيته، ودون أن يتنازل هو بإلقاء نظرة عليها
كانت تهواه بكل جوارحها، وهاكم ما أسرته لي (إن هذا الرجل يا سيدي الطبيب، الرجل الوحيد التي رأته عيناي، وما علمت بعد ذاك إذا كان يعيش في العالم سواه)
ومات أبواها واستمرت في حرفتهما، وقد صحبت من بعدهما بدلا من كلب واحد، كلبين هائلين يخشى الدنو منهما
وكان يوم دخلت في هذا البلد، فرأت امرأة في نضارة الصبا وربيع الحياة تصحب شوكه حبيبها، وقد تأبطت ذراعه وهما يخرجان من الحانوت معا
لقد تزوج إذن شوكه!
وفي مساء اليوم ألقت نفسها في الغدير القائم خلف المحكمة. واتفق أن رجلا كان يمر هناك، فأنقذها وقادها إلى منزل شوكه، فنزل هذا لعلاجها، ودلك بيديه مكان الألم من جسمها دون أن يتظاهر بعرفانها. ثم ما لبث أن قال لها بصوت جاف: (أأنت مجنونة؟ لا ينبغي أن تكوني هكذا حيواناً)
هذه الجملة وحدها بعثت فيها البرء والشفاء. ألم يتكلم إليها؟ حسبها ذلك! وظلت هائمة مغتبطة أمداً طويلا
قضت كل حياتها تذكر شوكه ولا تفكر في غيره. وكانت تلمحه في سنيها خلف الزجاج، وما أكثر ما ابتاعت عقاقيره وأدويته لا تبغي من شرائها إلا رؤيته والحديث إليه
وكما ذكرت لكم بديا، ماتت هذا الربيع وقد رجتني بعد أن قصت عليّ قصتها أن أحمل إلى هذا الذي أحبته حب العابد لمعبوده، جميع ما ادخرته من مال. لأنها كما اعترفت لم تشتغل إلا لأجله، تجوع أحياناً لتدخر له بعض المال. فإن ذكرها بعد وفاتها مرة واحدة فستشعر في(141/68)
قبرها بالسعادة والهناء
أعطتني عشرين وثلثمائة وألفين من الفرنكات. فقدمت العشرين فرنكا إلى القسيس لأجل دفنها، وأخذت الباقي لما فاضت روحها، وقصدت منزل شوكه، فلما دخلت كان وزوجه يتناولان طعام الغداء وقد جلس الواحد أمام رفيقه، والاحمرار يكسو وجهيهما، والسعادة تسبل عليهما ظلها الوارف وبشرها الطافح. طلبا إلي الجلوس فجلست، وقدما لي كوبا من مشروب (الكيرسك) فتناولته شاكراً وبدأت أنقل لهما القصة بصوت مضطرب حزين، لأني زعمت أنهما سيبكيان ويحزنان على أن شوكه ما كاد يفهم أن هذه الأفاقة الشريدة تضمر له حباً وولاء حتى جن جنونه وثارت ثائرته وشرع يثب من السخط والغضب كأنما سلبته المسكينة من المجد والشهرة، ومن العزة والشرف شيئاً كثيرا. أما الزوجة فكانت تصيح والغيظ يملؤها (يالها من نذلة! يالها من نذلة!)
ثم نهض شوكه وألقى بقبعته على الوسادة وأخذ يذرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً كأنه أحد المجاذيب وكان يتمتم: (أو يمكن هذا يا دكتور؟ إن ذا لشيء فضيع! ما العمل؟ يا ليتني عرفت الأمر في حياتها! فلكنت أسوقها سوقاً إلى السجن بقوة الدرك)
فلبثت أنا كالمشدوه مما سمعته أذناي ورأته عيناي لا أدري ما ينبغي لي من قول ومن عمل. على أنني عقبت كلماتي: (سيدي إنها أوعزت إليّ أن أحمل إليك ما تركته من نقود، وقدرها ثلثمائة وألفان من الفرنكات. ولما كان ما نقلته لك من حديثها قد أثار فيك سخطاً وسوءاً، فلعل من الخير أن نهب النقود بعض الفقراء والمساكين)
نظرا وقد أفقدتهما الحيرة كل حركة!
فأخرجت المال من محفظتي، هذا المال المتجمع من بلدان عديدة والمدَّخًر من جميع النقود من ذهب وفضة وغيرهما. وسألته قائلا: (ماذا عزمت؟)
قالت السيدة شوكه: (مادامت ربة المحتضرة الأخيرة تقضي بذلك. فأرى من الصعوبة رفض إرادتها)
وقال الزوج واحمرار الخجل باد عليه: (إن هذا المال ينفعنا في اقتناء بعض الحاجيات لأطفالنا)
قلت عند ذلك بصوت جاف: (كما تشاء)(141/69)
قال: (هاته مادامت أوعزت إليك ذلك. فلن تعوزنا الوسيلة في إنفاقه إنفاقاً جميلا)
فقدمت إليهما الدراهم وصافحتهما وانصرفت
وجاءني شوكه في غد اليوم، وابتدرني قائلا: (هذه المرأة تركت عربتها، ماذا فعلت بها؟). قلت:
- لاشيء، خذها إذا أردت. قال:
- إنها تنفعني؛ سأجعل منها كوخاً لحديقتي
وهم بالانصراف فناديته قائلا: (إنها تركت أيضاً فرسها وكلبيها، ألا تريدها؟ فوقف مندهشاً وقال: (آه! كلا، لا حاجة بي إليها، ما أصنع بها؟ خذها أنت.) وأخذ يضحك ومد يده إليّ فصافحته بمودة، إذ لا ينبغي للطبيب والصيدلي أن يكونا عدوين
احتفظت بالكلبين، أما الفرس فقدمته إلى القسيس، وأفاد شوكه من العربة كوخاً لحديقته، وابتاع بالنقود خمسة أسهم في الخط الحديدي
هذا هو يا سادتي الحب العميق المحض الذي صادفته في حياتي
وصمت الطبيب
فأخرجت المركيزة من صدرها آهة حبيسة، وقالت والدموع تلألأ في عينيها:
(الحق أن النساء وحدهن يعرفن الحب!)
(حلب)
فؤاد نور الدين(141/70)
البريد الأدبي
الأرحام المبلولة
أنكر علينا الدكتور زكي مبارك في (البلاغ) قولنا في افتتاحية العدد 139 من الرسالة: (وأيبست الأرحام المبلولة)، وظن أن الذي ورطنا في وصف هذا الموصوف بهذه الصفة إنما هو حرصنا على هذه السجعة التافهة! ومعاذ الله أن نكره كلمة على غير موضعها طمعاً في زينة لفظية نعتقد أن خصيصة الجمال فيها جريانها مع الطبع والصدق
لعل إنكار الأستاذ أن يكون آتياً من إحدى جهتين: إما استعمال اللغة
وإما مراعاة الذوق. فأما اللغة فحسبنا أن نورد هنا ما ذكره (لسان
العرب) ولا نزيد عليه. قال في مادة (بلل) (. . . وبل رحمه يبلها بلا
وبلالا: وصلها. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: بلوا أرحامكم
ولو بالسلام، أي ندُّوها بالصلة. قال ابن الأثير: وهم يطلقون النداوة
على الصلة كما يطلقون اليبس على القطيعة، لأنهم لما رأوا بعض
الأشياء يتصل ويختلط بالنداوة، ويحصل بينها التجافي والتفرق باليبس،
استعاروا البل لمعنى الوصل، واليبس لمعنى القطيعة، ومنه الحديث:
فإن لكم رحماً سأبلها ببلاها: أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من
الله شيئاً. . . أبو عمرو وغيره: بللت رحمي أبلها بلا وبلالا: وصلتها
ونديتها. قال الأعشى:
أما لطالب نعمة تممتها ... ووصال رحْم قد بردت بلالها
وقال الشاعر:
والرحم فابللها بخير البُلان ... فأنها اشتقت من اسم الرحمن
وأما الذوق فهناك ذوقان: ذوق أبناء العرب، وذوق (أبناء البلد)، فأما ذوق أبناء العرب فقد رأيت حكمه في هذا الاستعمال من وروده في الحديث والشعر، وتسجيله في معاجم اللغة(141/71)
وكتب الأدب؛ وأما (ذوق أبناء البلد) فقد يجد فيه شيئاً، ولكنه الشيء الذي يجده العامي في مثل قوله الله تعالى: (آتوني زبر الحديد) أوفي مثل قول الشاعر: (ومن يك) ومثل هذا الذوق العابث ينبغي أن نراعيه إلى حد ما، وإلا ذهب كلام الناس كله هزؤاً بين (نكتة) و (قافية)
كلمة قصيرة اختلستها من المرض الملازم يا دكتور فمعذرة
الزيات
الحركة الأدبية
حفلت القاهرة في الأيام الأخيرة بمجالس العلم والأدب، فكأنها سوق من أسواق الكلام التاريخية في أزهى عهوده وأحفل أيامه، فأنت لا تنفك آخر النهار وأول الليل تسمع أبلغ الخطب وأجود القصائد وأنفس المحاضرات في حفلات الترحيب وموائد التكريم وقاعات الثقافة، وقد كان لوفود إخواننا الفلسطينيين والعراقيين أثر قوي في هذه الحركة. ولقد قام (أسبوع المتنبي) الذي أعدته الجامعة المصرية في المكان والأزمان التي أعلناها من قبل، وكان ما سمعناه إلى اليوم من المحاضرات التي ألقيت فيه فخراً لكلية الآداب تستحق عليه التهنئة؛ وعسى أن يساعدنا التوفيق فنثبت شيئاً منها في أعدادنا المقبلة
مديرية أسوان
قرأت في عدد الرسالة 139 نقدا على بعض ما جاء في مقالي عن مديرية أسوان يدور
(1) على أن بلاد (بنت) هي في آسيا من بلاد الفينقيين. وهذا خطأ، والصواب أنها كما ذكرت في أفريقيا، وموضعها الآن المنطقة المعروفة بالصومال الفرنسي والإرترية؛ وقد بينها الأستاذ برستد على الخريطة في كتابه صفحة 102
(2) اعترض على كلمة (أثيوبيا) اعتراضاً غير وجيه، فأن أثيوبيا كلمة يقصد بها الأراضي الواقعة جنوب مصر، وهي كلمة يونانية استعملها هيرودوت، واراتستين، وبطليموس، وبينوها على خرائطهم. (انظر كتاب الأستاذ كلتي المسمى الفصل الأول وعنوانه
(3) ذكر أن تسمية الهيكل الموجود بجهة كلابشه منذ عهد رمسيس الثاني باسم بيت الولي(141/72)
خطأ وأن الصواب الوالي، وقولنا الأصح لأن الغرض من الولي هو القديس لاعتبارات تتعلق بتاريخ مصر القديم لا يجهلها أحد. والمهم أن يذكر الناقد النص الذي يعتمد عليه، والمرجع الذي يرجع عليه، حتى يكون على كلامه مسحة من الثقة. ذلك ما عنانا أن نرد عليه من النقد، أما ماعدا ذلك فلا قيمة له
رشوان أحمد صادق
ذكرى مأساة غرامية شهيرة
تعنى الأوساط الأدبية الفرنسية دائماً بتتبع الحوادث والذكريات الأدبية، ومن ذلك ما نوهت به بعض الصحف الأدبية أخيراً من مرور مائة عام كاملة على صدر كتاب لمؤلفه مكانة خاصة في الأدب الفرنسي. وذلك هو كتاب (اعترف طفل من أبناء العصر) ' لمؤلفه الشاعر الغنائي الفرد دي موسيه. وفي هذا الكتاب يعرض الشاعر فصلاً ساحراً محزناً معاً من حياته العنيفة المضطربة، ذلك هو قصة غرامه مع الكاتبة القصصية الشهيرة جورج ساند؛ وقد كانت هذه الكاتبة التي تضطرم شغفاً وجوى تهيم في غمر الحب بلا انقطاع، وتتقلب تباعاً بين أذرع عشاقها المتوالين؛ وكان جلهم من كتاب العصر ومفكريه؛ وكانت قبل هيامها بالشاعر خليلة لجول ساندو الكاتب، ثم هامت من بعده بالشاعر ميرميه، ولكن حبهما لم يكن سوى مأساة قصير المدى. وفي ذات يوم من أيام أبريل سنة 1833، كانت جورج ساند تتناول طعام العشاء في حفل راق، وكان جارها فتى أنيقاً يحدثها بحرارة عن بعض قصصها؛ ولم يكن هذا الفتى الأنيق سوى الفرد دي موسيه؛ وفي نفس المساء هامت جورج ساند بالشاعر الفتى، وبث إليها جوى يضطرم؛ ولم تمض أسابيع قلائل حتى غدت صاحبته، وغدت باريس بأسرها تتحدث بهذا الغرام الجديد؛ وبعد بضعة أشهر سافر العاشقان إلى البندقية؛ ثم تسربت بعد ذلك عوامل الوهن إلى غرامهما، وانتهت قصتهما الغرامية المشجية بعد أربعة عشر شهراً في آلام ومعاناة، وأوحت هذه المأساة الغرامية إلى الشاعر موضوع كتابه الأشهر (اعترف طفل من أبناء العصر). ولم يخطئ أهل العصر في فهم ما قصد إليه الشاعر وما يعنيه بطريقة مستورة؛ ولم تحاول جورج ساند يومئذ أن ترد عليه أو تثير حول الموضوع أية مناقشة، خصوصاً وأن رواية(141/73)
دي موسيه كانت على ما يظهر تصور الحقيقة كما هي، ولهذا اعتبرت يومئذ هي القول الفصل
ولكن الشاعر لما توفي بعد ذلك في سنة 1850، رأت جورج ساند أن تقول كلمتها في مأساة غرامها؛ فكتبت كتابها المسمى (هي وهو) تصحح فيه بعض الوقائع والتفاصيل، فأثار كتابها يومئذ فضيحة أدبية واجتماعية؛ ورد عليها بول دي موسيه ولد الشاعر في كتاب عنوانه (هو وهي)
ومن ذلك الحين ظهرت عشرات الكتب والقصص عن علائق العاشقين الشهيرين؛ وأشهر هذه الكتب وأقيمها هو بلا ريب كتاب شارل موراس الكاتب الكبير ومحرر جريدة (لاكسيون فرانسيز) وعنوانه (عشاق البندقية) ومع ذلك فلم يكن هو الكتاب الفصل في أمر هذه العلائق الدقيقة بين شخصيتين من أعظم شخصيات القرن التاسع عشر؛ فقد ظهرت بعد ذلك مكاتبات ووثائق لم تنشر من قبل وفيها حقائق وتفاصيل جديدة تلقي ضياء جديدا على تلك المأساة الغرامية الشهيرة
بيد أنه مما يلفت النظر أن هذه المكاتبات والوثائق الجديدة تؤيد رواية دي موسيه في مجموعها، وأن جورج ساند قد عمدت قصداً إلى تغيير بعض الحقائق والتفاصيل في كتابها (هي وهو)
مؤسس الأدب اليهودي الشعبي
تحتفل الدوائر اليهودية الأدبية بذكرى أديب يهودي كبير هو منديل سفوريم مؤسس الأدب اليهودي الشعبي وقد ولد هذا الأديب في إحدى بلاد لتوانيا منذ مائة عام كاملة في سنة 1836؛ واسمه الحقيقي هو شولم يعقوب ابراموفتش؛ ودرس الأدب والعلوم قراءة لأنه لم يظفر بتربية مدرسية منظمة؛ وكان الشعب اليهودي يعيش يومئذ في روسيا في ظل طغيان مطبق ويعاني أمر ضروب الاضطهاد والزراية والفاقة؛ وكانت قد ألفت في ذلك الوقت جمعية من الشباب اليهود المتنور تسمى (مسكليم) أعني الطلائع المثقفة وغرضها أن تعمل لإدخال الأفكار والمدنية الغربية إلى طوائف الشعب اليهودي التي ما زالت تعيش في ظل تقاليدها العتيقة؛ فانضم منديل سفوريم إليهم؛ وكان الكتاب اليهود يكتبون يومئذ إما بالروسية وإما بالعبرية، فسار منديل في أثرهم وأصدر أول كتبه بالعبرية، ولكنه لاحظ أن سواد(141/74)
الشعب اليهودي يتحدث باللغة اليهودية وهي مزيج شعبي من الألمانية المحرقة وعناصر أخرى عبرية وروسية وغيرها، ورأى أن غزو أذهان هذا الشعب لا يكون إلا بمخاطبته بلغته الأصيلة؛ عندئذ فكر منديل في الكتابة باليهودية؛ وكان عملا شاقا لأن هذه اللغة لم تكن لها أصول نحوية أو لغوية، وإنما كانت لغة الحديث الطائر. ولكن منديل كان فناناً ذا مواهب ممتازة، فاستطاع أن يخرج هذه اللغة الشعبية لغة أدبية تصلح للكتابة والقراءة؛ وكتب فعلا باليهودية لأول مرة؛ ووصف للشعب اليهودي حياته المظلمة العتيقة، وذلته الخالدة، وبؤسه المطبق؛ وأخذ يبث إليه روح النهوض والتحرر، وذلك في روايات شعبية جذابة. ولم يستطع كاتب يهودي غير منديل أن يصف نقائص أمته بمثل قوته وجرأته ودقته، فقد وصف طوائف الشعب اليهودي، الأغنياء والفقراء ورجال الدين والمفكرين وصفا قويا، ولم يخف نقيصة أو مأخذا، بل كان شديد الوطأة عليهم جميعاً، لا يذلله ويستدر شفقته سوى بؤس الشعب اليهودي
ولمنديل سفوريم عدة قصص شهيرة منها (الفرس) (رحلة بنيامين) (تروا) (خاتم السعادة) وفيها يصف المجتمع اليهودي في خلال القرن التاسع عشر في مختلف صوره؛ وفي قوة وصراحة لم تعرفا من قبل؛ ومن الغريب أنه استطاع أن يجعل من هذه اللغة اليهودية المبعثرة أداة قوية فصيحة للتعبير الحي؛ وأن يقود الطريق لجعلها لغة أدب يهودي جديد؛ وقد سار في أثره عدة من أكابر الكتاب اليهود في القرن التاسع عشر فكتبوا باليهودية، التي غدت في يومنا لغة أدب يهودي جديد
وتوفي منديل سفوريم في سنة 1917 وقد أربى على الثمانين بعد أن توطدت دعائم الأدب اليهودي الجديد الذي كان أول من وضع دعامته الأولى
وداع الحرية
يجد المؤرخ والقصصي معاً مادة بديعة في مصرع يوليوس قيصر؛ فقد كان حادثاً من أنبل وأعظم حوادث التاريخ، وكان بأدواره وتفاصيله قصة ساحرة. وقد صدرت أخيراً بالإنكليزية قصة عنوانها (وداع الحرية للكاتبة الإنكليزية فيليس بنتَلي، وهي قصة تاريخية رائعة، تستعرض فيها المؤلفة حياة قيصر ومجده الباذخ ومصرعه المفجع. وتصف لنا مس بنتلي خلال قصتها من الشخصيات الرومانية الشهيرة التي عاشت حول(141/75)
قيصر، وصادقته أو ناهضت مجده مثل بومبي، وكانو، وكراسوس، ثم بروتوس قاتل قيصر. ولم تجد الكاتبة أمامها كبير مجال للتوغل في ميدان الخيال، ذلك أنها إنما تعرض عصرا بحوادثه وأطواره، وتجد مادة غزيرة في التفاصيل التاريخية الكثيرة التي تقدمها إلينا الروايات المعاصرة والتواريخ القديمة. بيد أنها تجد أمامها مادة للحديث عن الأتوقراطية، والديموقراطية؛ وهي تحمل ما استطاعت على الأوتوقراطية وجميع مظاهرها وتمجد الحرية والديموقراطية؛ على أنها لا تجد ما تقوله في مديح تلك الديموقراطية الرومانية التي مات في سبيلها قيصر واتخذ امتهانها ذريعة لاغتياله. ونحن نذكر أن بروتوس وزملاءه المؤتمرين بحياة قيصر كانوا يعملون باسم الديمقراطية، ويتخذون من بعض مظاهر قيصر وتصرفاته حجة عليه بأنه يجنح إلى الإمبراطورية والحكم المطلق. وقصة مس بنتلي حسنة السبك من هذه الناحية، بيد أنه يمكن من جهة أخرى أن يقال إنها لم تقدم إلينا جديداً في الاستعراض أو الوصف، لأنها إنما تقتصر على الشخصيات والحوادث التاريخية الجافة. وهذا عيب نلمسه أحياناً في كثير من القصص التاريخية. ولكن مس بنتلي تقدم إلينا على أي حال قصة ممتعة تسحر بروعة أسلوبها(141/76)
العدد 142 - بتاريخ: 23 - 03 - 1936(/)
إلى أخي الزيات
للأستاذ أحمد أمين
سعيت أمس لعزائك، في (رجائي) و (رجائك)، فرأيتك واجماً ساهماً، مولهاً مدلهاً، فانعقد لساني، وتخلف ذهني، وفاض دمعي
وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؟ أو كيف أستطيع أن أخفف ما بك وما استطعت أن أخفف حزني؟
رأيت بك كمداً باطناً، وحزناً مكتمناً، فعلمت أنك تتجرع غصص الهم، وتختزن برحاء الكرب، فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة، وتنفس عن نفسك بدمعة، ولكن عز الصبر، وعز الدمع، فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المرائر
واو رحمتاه لك! لقد كان (رجاء) قبلة رجائك، ومعقد آمالك، وحديث أحلامك، وملء سمعك وبصرك، تشوفته حياتك، وترقبته مطلعَ شبابك، حتى جاد به الزمان البخيل، فربطت اسبابك بأسبابه، وتعلقت بأهدابه، فلما شمت مخايله، ورقبت منه النجح، عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقاً، ولا يثبت على عهد، فأخلف ظنك، ونقض أملك، فإذا الدنيا أضغاث أحلام، ووساوس أطماع
ولكن يا أخي - ما الجزع مما لابد منه، وما الهلع مما قدر، ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهوانها، أفليست إلا مرسحاً تمثل عليه أدوار مختلفة، مرة مهزلة، ومرة مأساة، ونحن في حين ممثلون، وفي حين ناظرون. وليس لنا أن نبالغ في الألم، ونغلو في الجزع، فقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبداً، وعشنا بعده أبداً، وإنما الأمر دور يعقب دوراً، ولا حق منا إثر سابق، وإنا لله وإنا إليه راجعون
وأية سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل، ونبكي على الميت، ونود أن لو بقى ليستمتع بها، ويتذوق طيباتها، إنما هي سلسلة عناء، وضروب شقاء، تنوعت ألوانها، واتحدت حقيقتها، ولو أنصفنا لغبطنا من مات، وأشفقنا على من بقى، ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها، ووفر على نفسه عبئاً ثقيلاً ينتهي مختصره بما ينتهي مطوله، وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس، من أن تذهب وهي ذابلة يعافها الناس(142/1)
فخذ الحياة كما هي، ليل ينقضي في أثر ليل، وقوم في أثر قوم، وحادث يستذرف الدمع يعقبه حادث يخفف الهم، وقل كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن، والإمعان في البكاء، إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر، وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت، إنما هي في أحياء الحي من أجل الحي والميت
وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به، وهولوا في الاستكثار من مظاهره، ولو عقلوا لقابلوه كما يقابل كل قانون طبعي في هذا العالم، زهرة تنضر وتذبل، وشمس تطلع وتغرب، ونجم يتألق ويأفل، وسماء تصحو وتغيم - ولو عقلوا أيضاً لرددوا هذا المعنى في نفوسهم، واطمأنت له عقولهم؛ فإذا كان فهو ما تخيلوه، وإذا حدث فهو ما توقعوه، وإذن لخف الألم وانقطع الجزع
أي أخي - ليكن ما أراده الله، ولنلوّن حياتنا بلون من ألوان التصوف، رضاء بالقدر، واستخفاف بالعالم وما فيه، وطمأنينة إلى قوانينه، وإيمان بعظمة الله وسلطانه، والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإِحسانه
أي أخي - لقد أصبحت منسرق القوة، ضعيف البنية، مرهف الحس، رقيق الصحة - ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر، ويأساً لا يرضاه الله، فليس هو - فحسب - في إطلاق عيار ناري، أو إلقاء النفس في اليم، أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح، ولكن من ضروبه أيضاً الاستسلام للحزن والتسمم بالغم، والاسترسال في أسباب الكرب، فهو انتحار بطيء ولكنه شر من الانتحار العاجل أعيذك بالله منه، وأربأ بنفسك عنه
فهوّن على نفسك، وإن خاب رجاؤك في (رجاء) فحقق الله أملك في (علاء) وعش له ولنفسك وللناس
أحسن الله عزاءك، وأجمل صبرك، وأجزل أجرك
أحمد أمين(142/2)
دُعابةُ إبليس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما إني سأقصُّ هذه الحكايةَ كما اتفقتْ، لا أزيِّنها بخيال، ولا أتَزَيَّدُ فيها بخبر، ولا أولِّد لها معنى؛ فإنما هي حكايةُ خبث الخبيث فنها حذقُه ودهاؤه، ورقتها غلظته وشره، ومعانيها بلاؤه ومحنته؛ وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم واللهُ المستعان
لما فكرتُ في وضع مقالة (إبليس) من أحاديث (ابن مسكين) وأدرتُ رأيي في نهجها وحدودها ومعانيها، جعل فكري يتقطع في ذلك، يذهب ويجيء كأن بيني وبينه منازعة، أو كأن في نفسي شيئاً يثنيني ويقطعني عن العزم؛ وخيِّل إليّ حينئذ أن (إبليس) هذا منفعةٌ من المنافع. . . وأنه هو قانون الطبيعة الذي نصُّ مادته الأولى: ما أعجبك فهو لك، ونصُّ مادته الأخيرة: ما احتجتَ إليه فثمنُه أن تقدرَ على أخذه. . .
وهجَس في نفسي هاجسٌ أن (إبليس) قائم في لفظ الحرية كما هو قائم في لفظ الإثم، وأنه إن يكن في قلوب الفُساق فهو أيضاً في أدمغة الفلاسفة؛ ولئن كان في سقوط أهل الرذيلة إلى الرذيلة، فهو كذلك في سموّ أهل الفن إلى الفن. . . قال الهاجس: وإن (إبليس) أيضاً هو صاحب الفضيلة العملية في هذا العصر المادي، فهو من ثمّ حقيقٌ أن يلقّبوه صاحب الفضيلة. . .
ولكني لم أحفل بهذه الوساوس ولم أعُجْ على شيء منها، واستعنت الله وأمضيتُ نيتي على الكتابة، وأخذتُ أقلّب الموضوع، وأنبّه فكري له، وأستشرفُ لما يؤدِّي إليه النظر، وأتطلَّع لما يجيء به الخاطر، وألتمس ما أبني عليه الكلام كما هي عادتي؛ فلم يقع لي شيء البتة كأنما ذهب أولُ ابتداءِ الموضوع فلا أولَ له ولا سبيل إلى اقتحامه، وكأنه من وراء العلم فلا يُبلغ إليه، وكأنه من التعذُّر كمحاولة تصوير حماقة الحياة كلها في كلمة
ومن عادتي في كتابة هذه الفصول التي تنشرها (الرسالة) أن أدع الفصلَ منها تقلِّبه الخواطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وأترك أمره للقوة التي في نفسي فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ وتنثال من ههنا وههنا، ويكون الكلام كأنه شيء حيٌّ أريدَ له الوجودُ فوُجد
ثم أكتب نهار الجمعة ومن ورائه ليلُ السبت وليلُ الأحد كالمدد من وراء الجيش إذا نالتني(142/3)
فترة أو كنت على سفر أو قطعني عن الكتابة شيء مما يعرض
وفي أسبوع (إبليس) لعنه الله مرت الأيام الثلاثة وفيها ثلاثة ألوان: ضجَرٌ لا رَوْحَ فيه، وكسلٌ لا نشاط معه، واضطراب لا مِساك له. وأطلتُ التفكير يوم الخميس فكانت تعتريني خواطر مضحكة، فيعرض لي مرة أن أصور إبليس امرأة ليكون إبليس الجميل. . . وتارة أتوهم أن إبليس يريد أن يكون شيخاً كبعض رجال الدين الذين لا تزال تطلع على خائنةٍ منهم، ليقال إبليس التقي المصلي. . . وحينا أظن أنه يريد أن يكون كاتباً مؤلفاً شهيراً ليقال إبليس المفكر المصلح. . . وخطر لي أخيراً أنه يريد أن يكون حاكماً ملحداً شيوعياً فاجراً ليكون إبليس التام لا إبليس الناقص. . .
ولما ذهبت الأيام الثلاثةُ باطلاً خيّل إليّ أن إبليس أخزاه الله يسألني عن المقالة: إلى أي شيء انقلبتْ. . .؟ فشقَّ ذلك عليّ واغتممتُ به، غير أني اطمأننت إلى يوم الجمعة وأن وراءه ليلتين. وكانت قد غربت شمسُ الخميس فقلت فلأخرجْ لأتفرَّج مما بي، وعسى أن أجمع نفسي للتفكير إذا جلستُ في النديّ، ولعله يقع ما أستوحيه أو ينفتح لي بابٌ في القراءة
وخرجتُ فلم أجاوز الدار حتى ابتدرني من هبط عليه الخبر من القاهرة أن نسيباً لنا من العظماء توفي أخوه اليوم. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ضاع يوم الجمعة إذ لابد من السفر لتشييع الجنازة وحضور المأتم، ثم قلت: لعل في هذا السفر استجماماً ونشاطا فأستدركَ الأسبوع كلّه في يومين، وإنما الاستكثارُ بالقوة لا بالزمن، ولا يدَ لإبليس في الموت والحياة، فليس إلا اطِّراحُه وقلةُ المبالاة به، وإنما هي خطرات من وساوسه
وأصبحتُ في القاهرة ومشيت في الجنازة قبل الظهر مسيرة ساعة كاملة؛ وكانت الشمس ساطعةً تتلألأ وأنا مُثقلٌ بثياب الشتاء، وكنت أتوقع أن يكون اليوم من أيام الريح المجنونة. فلما انتهينا إلى الصحراء هبّت الريحُ هبوبا ليناً ثم زَفَّتْ فكانت إلى الشدة ما هي، ولكنها ماضية تَسْفي الرملَ في الأعين فيأخذ في أجفاني أُكالٌ وتهييج، وليس معي شيء أتَّقيها به. غير أني شغلت فكري برؤية المقابر وجعلتها في نفسي كالمقالة المكتوبة سطراً وراء سطر؛ وقلت: ههنا الحقيقة في أول تفسيرها، وغير المفهوم في الحياةُ يفهم هنا
ثم رجعت مُنَدَّى الجسم بالعرق وعليّ نَضْحٌ منه، وكان القميص من الصوف، وبصدري(142/4)
أثر من النزلة الشُّعبية؛ وإذا تندَّى الصوف وجب نزعه وإلا فهي العلةُ ما منها بد
ثم لم تكن غير ساعة انخرقت الريح وجعلت تعصف وبَرَدَ الجو فأيقنت أنه الزكام، وقلت في نفسي: هذا بابٌ على حِدَة، والمقالة ذاهبة لا محالة فيستخلَّف الذهن ويتبلَّد؛ والشيطانُ كريم في الشر يعطي من غير أن يُسأل. . . .
وثقل ذلك عليّ فكان الغم به علةً جديدة، بيد أني لم أزل أرجو الفرصة في أحد اليومين السبت والأحد. وقلت: إن من البلاء الفكرَ في البلاء، ولعل من السلامة الثقة بالسلامة؛ فإذا نبهتُ العزيمة رجوتُ أن يتغلغل أثرها في البدن كله فيكون علاجاً في الدم يحدث به النشاط ويُرهَفُ منه الطبع وتجمُّ عليه النفس. وفي قوة العصب كهربائية لها عملها في الجسم إذا أحسن المرءُ بعثَها في نفسه وأحكم إفاضتها وتصريفَها على طريقة رياضية؛ ولهي الدواء حين يعجز الدواء وهي القوة حين تخذل القوة
فاعتزمتُ وصمَّمتُ واحتلتُ على الإرادة وتكثرتُ من أسباب الثقة وترصّدتُ لها السوانح العقلية التي تسنح في النفس وقلت لإبليس: اجهد جهدك فما تذهب مذهباً إلا كان لي مذهب؛ ولكن اللعين أخطر في ذهني قول القائل يسخر بذلك الكاتب البغدادي
لو قيل: كم خمسٌ وخمسٌ لاغتدى ... يوماً وليلتَه يَعُدُّ ويَحْسُبُ
ويقول: مُعْضِلةٌ عجيبٌ أمرُها ... ولئن فهمتُ لها، لأمْرِيَ أعجبُ
خمسٌ وخمسٌ ستةٌ أو سبعة ... قولان قالهما الخليلُ وثعلبُ
ثم أجمعتُ الرجوعَ من يومي إلى (طنطا) لأتقي البردَ بعلاجه إن نالني أثره، وكان عليَّ وقتٌ إلى أن يقوم القطار، فذهبتُ فقضيت واجباً من زيارة بعض الأقارب في ضاحية (الجيزة)، ثم ركبت الترام الذي أعلم أنه ذاهب إلى محطة سكة الحديد
وجلست أفكر في إبليس ومقالته، والترام ينبعث في طريقه نحو ثلث الساعة، حتى بلغ الموضوع الذي ينعرج منه إلى المحطة، وهو بحيال (جمعية الإسعاف)، حيث تنشعب طرق أخرى؛ وكنت منصرفاً إلى التفكير مستغرقاً فيه، طائف النظرات على الجو، فما راعني إلا اختلافُ منظر الطريق؛ وأنتبه فإذا الترام يَمْرُق مروق السهم في تلك السبيل الصاعدة إلى (الجيزة). . . . من حيث جئت
فلعنت الشيطان وتلبثتُ حتى وقف هذا الترام فغادرته ورجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب،(142/5)
فصادفت تراماً آخر، فوثبت إليه كأني أُحمل إليه حملا، ودفعت الأجرة، وانطلق فإذا هو منصبُّ في تلك الطريق عينها الذاهبة إلى الجيزة من حيث جئت. . . ولا أستطيع الانحدار منه وهو منطلق، فتسخَّطت ولعنت الشيطان مرة أخرى، ورأيت أن عبثَه قد ترادَفَ، فلما سكن الترام رجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب ولم يبق من الوقت غير قليل
وأنظرُ ثمَّ فإذا ترامٌ وراء ترام، وإذا قد وقعت حادثة لإحدى السيارات واجتمع الناس وسُدَّت الطريق. . . . فجعلت أغلي من الغيظ، ولعنت هذا الدعابة الخبيث، واذكرني اللعين نادرة الأعرابي الذي عضه ثعلب، فأتى راقياً، فقال له الراقي: ما عضك؟ فاستحى أن يقول ثعلب، وقال: كلب، فلما ابتدأ الرجل برقية الكلب قال له الأعرابي: واخلط بها شيئاً من رقية الثعالب. . . . .
ثم إني لم أر بدا من بلوغ المحطة على قدمي لأتمّ على عزيمتي في مراغمة اللعين، فأسرعت أطوي الأرض وكأنما أخوض في أحشائه، وكان بصدري التهابٌ فهاج بي، غير أني تجلدت واتسعت لاحتماله وبلغت حيث أردت
ثم ذهبت ألتمس في القطار عربة خاصة أعرفها، كانت من عربات الدرجة الأولى فجعلوها في الثانية يرفهون بها بعض الترفيه على طائفة من المسافرين؛ وأصبت فيها مكاناً خالياً كأنما كان مهيأ لي بخاصة. . . فانحططتُ فيه إلى جانب رجل أوربي أحسبه ألمانياً لتفاوت خلقه وعنجهيته؛ وجلست أنفس عن صدري ثم أقبلت أسخر من إبليس ونكايته، وجعلت أتعجب مما أتفق من هذا التدبير
وتحرك القطار وانبعثت وكان الأوربي إلى جانبي مما يلي النافذة وقد تركها مفتوحة فأحسست الهواء ينصب منها كالماء البارد وأنا متند بالعرق؛ وترقبت أن يغلقها الرجل فلم يفعل، فصابرته قليلاً فإذا هو ساكن مطمئن يتروح بالهواء وكأنما يشربه، وتأملته فإذا شيخٌ في حدود الستين أو فوقها غير أنه على بقية من قوة مصارع في اكتناز عضله واجتماع قوته ووثاقة تركيبه، فأيقنت أن الهواء من حاجته، وهممت أن أنبهه أو أقوم أنا فأغلق النافذة، ولو شئت أن أفعل ذلك فعلت، غير أن الشيطان أخزاه الله وسوس لي أن هذا الرجل أجنبي غربي وأنت مصري شرقي فلا يحسن بك أن تُعلمه وتعلم الحاضرين أمامكما أنك أنت الأضعف على حين أنه هو الأسن، وكيف لا تقوم لما يقوم له وقد كنت تباكر(142/6)
الماء البارد في صميم الشتاء، وكنت لا تلبس في أشد أيام البرد غير ثياب الصيف، وكنت تحمل كذا وكذا ثقلاً وتعاني كذا وكذا من ضروب القوة، وكنت تلوي بيديك عود الحديد وكنت وكنت
فتذممت والله مما خطر لي؛ وأنفتُ أن أنبه الرجل، ورأيت عملي ضعفاً وفسولة، ولم أعبأ بالهواء ولا بالعرق ولا بالنزلة الشعبية ولا بالزكام، وتركت الأوربي وشأنه، وأقبلت على كتاب كان في يدي وتناسيت أن هذه النافذة جهةٌ من تدبير إبليس؛ وكان القطار مزدحماً بالراجعين من المعرض الزراعي الصناعي وبعض الناس وقوف فلا مطمع في مكان آخر. . .
ولبثت ساعة ونصف ساعة في تيار من هواء فبراير ينصب انصباباً ويعصف عصفاً وكأني أسبح منه في نهر تحت ظلمة الليل الماطر، والناس معجبون بي وبالأوربي، وهذا الأوربي معجب بي أكثر منهم وقد رأى مكاني وعرف موضعي؛ وكان إلى يميني مجلس بقى خالياً ولم يقدم أحد على أن يجلس فيه خوفاً من الهواء ومن الرجل الأوربي. . .
ثم تراءيتُ أنوار محطة (طنطا) ولم يبق من هذه المحنة غير دقيقتين؛ فوالله الذي لا يحلف بغير اسمه عز وجل، لقد كان إبليس رقيعاً جلفاً بارداً ثقيل المزاج إذ لم أكد أتهيأ للقيام حتى رأيت الرجل الأوربي قد مدَّ يده فأغلق النافذة. . .
ورجعت إلى داري وأنا أقول: ثم ماذا يا إبليس؛ ثم ماذا أيها الدُّعبب؟ وحاولت أن أكتب أو أقرأ فلم أتحرك لشيء من ذلك، وكانت الساعة العاشرة ليلاً فصليت وأويتُ إلى مضجعي
ثم أصبحت يوم السبت فإذا كتاب من الأستاذ صاحب (الرسالة) أنه سيطبع عددين معاً فيريد لهما مقالتين إذ تغلق المطبعة أيام عيد الأضحى، وكان أملي في المقالة الواحدة مخذولاً مما قاسيت فكيف لي باثنتين؟
واختلط في نفسي همٌّ بهمّ وما يفسد عليَّ أمري شيء مثلُ الضيق فإذا تضايقت كنت غير من كنت؛ ولكني تيقظت وتنبهت وأملت العافية مما أجده من ثقلة البرد وضعفته، وأحدثت طمعاً في النشاط إذا جلست للكتابة في الليل فإني بالنهار أعمل للحكومة
فلما كان الليل لم أجد أمري على ما أحب، وجلست متفترا معتلاًّ وثقل رأسي من ضربة النافذة وتسلط علي ظن المرض والعجز عن الكتابة، وانتقض الأمر كله فرأيتني أشقُّ على(142/7)
نفسي بلا طائل، فكان من صواب التدبير عندي أن استجمَّ بالنوم ثم أنهض في السحر للكتابة. فأوصيت من يوقضني وحررنا الساعة المنبهة على تمام الثانية بعد منتصف الليل
وأحسست أني جائع وأن معدتي مشحوذة ونسيت كل ما أعرف من الطب؛ وجاءوني بشواء وحلوى وما بينهما، فحططتُ فيه ولففت الآخر بالأول، ثم قمت أريد النوم فإذا الطعام كان أشد علي من نافذة القطار، وكان الذي في الفكر من المقالة أثقل من الذي في المعدة من الطعام، وساء الهضم في الدماغ والبطن جميعاً
وجعلت أتناوم وأرخي أعضائي وأتوهم الكرى وأستدنيه بكل ما أعرف من وسيلة ثم لا أزداد على ذلك إلا أرقاً، وتمرد الفكر وأحسست رأسي يكاد ينفجر وصرت أتململ ولا أتقارُّ، وتوهمت أن لو كان لي عقلان ما استطعت كتابة المقالة عن إبليس لعنه الله. واذكرني الخبيث نادرة مضحكة: أن رجلا كان يركب حماراً ضعيفاً وكان يبعثه فلا ينبعث، فجعل يضربه فقيل له: ارفق به. فقال إذا لم يقدر يمشي فَلِم صار حماراً. . . .؟
وقذفت بنفسي من الفراش ونظرت في الساعة فإذا هي موشكة أن تبلغ الثانية ولم أحس الرقاد بعد، فأسرعت إلى المنبهة وحررتها على تمام الساعة الرابعة صباحا؛ وأيقنت أن الشيطان يرهقني طغياناً وكيدً فطفقت ألعنه وما أحسبه إلا قد رأى اللعن مدحاً فهو يستزيدني. . .
ثم رجعت أحاول النوم فما كان هذا الليل إلا شيئاً واحداً أوله آخره إلى أن طلع الفجر
وجاء يوم الأحد وهو يوم عطلة الأوربيون فما أشد عجبي إذ تركني فيه إبليس كأنهم لا يَدَعون له وقتاً في هذا اليوم. . . . .
والآن يزيَّن لي الخبيث أن أختم هذه المقالة بـ. . . . بـ. . . .
ولكن لا. لا.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(142/8)
أوربا على المنحدر
1 - من فرساي إلى لوكارنو
مسألة الرين وسلام أوربا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
وقع في السابع من مارس الجاري حدث عظيم في السياسة الدولية لازالت أصداؤه تدوي في أرجاء أوربا، ولازالت آثاره ونتائجه موضع البحث الخطير في دوائر السياسة العليا. ذلك هو إقدام الحكومة الألمانية على إلغاء ميثاق لوكارنو الخاص بتأمين السلام على ضفاف الرين، وإقدامها في نفس الوقت على إلغاء آخر التعهدات والقيود العسكرية التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، ووضع فرنسا وأوربا أمام الأمر الواقع باحتلال منطقة الرين الشرقية التي قضت معاهدة الصلح بتجريدها من السلاح ومن كل وسائل الدفاع العسكرية
ولم يكن عمل ألمانيا مفاجأة مطلقة، فقد كان معروفاً منذ أسابيع أنها تفكر في انتهاج مثل هذه الخطة، وأنها تترقب الفرصة لتنفيذها؛ ومنذ أسابيع تتحدث الصحافة الألمانية عن منطقة الرين ووجوب تسليحها استكمالاً لحقوق السيادة الألمانية وصوناً لشرف ألمانيا وكرامتها، ومنذ أسابيع تتحدث الصحافة الفرنسية عن نيات ألمانيا، وما يجب على فرنسا أن تتخذه إذا أقدمت ألمانيا على تنفيذها
وقد نفذت ألمانيا خطتها، واحتلت منطقة الرين الحرام فصائل من الريخسفر (الجيش الألماني) في نفس الوقت الذي ألقى فيه الهر هتلر من منبر الريخستاج الذي عقد خصيصاً لهذا الغرض خطابه القوي الجامع عن موقف ألمانيا تجاه السياسة الأوربية، وتجاه فرنسا، وأعلن فيه إنكار ألمانيا لنصوص ميثاق لوكارنو، وإعادة حقوق السيادة الألمانية كاملة على منطقة الرين
ويجب لكي نفهم حقيقة هذا الحدث السياسي والعسكري الخطير، وحقيقة البواعث التي حملت ألمانيا على انتهاجه، ومدى تأثيره في السياسة الأوربية، أن نستعرض أولا نصوص معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) الخاصة بمنطقة الرين، ثم نصوص ميثاق لوكارنو الخاص بتأمين السلام على ضفاف الرين، وأن نتتبع تطورات السياسة الأوربية الأخيرة التي(142/9)
مهدت إلى هذا الطور الخطير الحاسم
معاهدة فرساي ومنطقة الرين
كان ضمن الشروط والأغلال الفادحة التي فرضتها معاهدة الصلح على ألمانيا أن تجرد مناطق الرين الألمانية من سلاحها سواء ما كان منها غرب هذا النهر ملاصقاً للحدود الفرنسية والبلجيكية أو ما كان منها شرقي هذا النهر على بعد خمسين كيلو مترا داخل ألمانيا ذاتها. وقد أدمج تجريد منطقة الرين الألمانية من السلاح في المواد 42 و43 و44 من معاهدة فرساي، وهذا نصها:
يحضر على ألمانيا أن تستبقي أو تنشئ تحصينات سواء في الضفة اليسرى من الرين، أو في الضفة اليمنى غرباً على مدى خط طوله خمسون ميلا شرقي النهر (42)
يحظر أيضاً أن يستبقى أو يحشد في المنطقة السابقة قوات مسلحة سواء بصورة دائمة أو بصورة مؤقتة، وكذلك يحظر إجراء أية تمرينات عسكرية مهما كان نوعها، أو الاحتفاظ بأية إجراءات مادية لتسهيل التعبئة (43)
إذا خالفت ألمانيا بأي صورة ما نصوص المادتين 42 و43، فإنها تعتبر أنها قد ارتكبت عملا عدائيا ضد الدول الموقعة على هذه المعاهدة، وأنها تحاول تعكير السلام العالمي (44)
فهذه المواد الثلاث تجعل من ولايات الرين الألمانية منطقة محرمة من الوجهة العسكرية على ألمانيا؛ والغرض من وضعها تحت هذا النظام واضح، وهو أن تبقي أبواب ألمانيا الغربية مفتوحة أمام الجيوش الفرنسية والبلجيكية المرابطة على الحدود بحيث تستطيع في حالة وقوع حرب أو أعمال عدائية أن تقتحم الأراضي الألمانية في الحال قبل أن تستطيع الجيوش الألمانية تخطي المنطقة الحرام ومواجهة الغزاة
وكان هذا الشرط الفادح إلى جانب تجريد ألمانيا من السلاح وإنزال جيشها إلى مائة ألف، وتقييدها بأشد القيود فيما يتعلق بالمنشآت البحرية والجوية وصنع الذخائر، أشد ما يحز في نفس ألمانيا ويصدم عزتها كدولة عظمى لها ماض عسكري مجيد بين دول القارة العظمى، ولكن ألمانيا استطاعت بعد كفاح طويل شاق أن تحطم نصوص معاهدة فرساي وأن تتحرر منها تباعا؛ وكان آخر ظفر لها في هذا الميدان في شهر مارس من العام الماضي حينما أعلنت على لسان زعيمها هير هتلر بطلان النصوص العسكرية في معاهدة فرساي وتقرير(142/10)
حريتها المطلقة في اتخاذ أي إجراءات تراها للدفاع عن نفسها، وتقرير الخدمة العسكرية الإجبارية؛ وذلك ردا على ما قررته فرنسا يومئذ من إطالة الخدمة العسكرية؛ ولم يكن باقياً من القيود العسكرية التي فرضت على ألمانيا سوى تجريد منطقة الرين وتحريمها كما تقدم، وكان هذا النظام التي رتبته معاهدة الصلح قد تأيد بعهد جديد عقد بين ألمانيا وأعدائها السابقين لتأمين السلام على ضفاف الرين، ونعني به ميثاق لوكارنو؛ ولكن ألمانيا رأت أخيرا في عقد الميثاق الفرنسي الروسي الجديد ما يحملها على اعتبار ميثاق لوكارنو باطلا منقوضاً؛ ومن ثم فقد أعلنت على لسان زعيمها في السابع من الشهر الجاري بطلان ميثاق لوكارنو، وبطلان نصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحريم منطقة الرين، التي تحتلها الآن قوات عظيمة من الريخسفر (الجيش الألماني) وبذلك أتمت ألمانيا تحطيم آخر الأغلال العسكرية التي فرضت عليها في فرساي
ميثاق لوكارنو
وهكذا نرى أهمية الصلة المباشرة بين تجريد منطقة الرين وبين ميثاق لوكارنو؛ فميثاق لوكارنو يؤيد النظام الذي قررته معاهدة الصلح لمنطقة الرين. وقد عقد ميثاق لوكارنو في سنة 1925؛ وكانت ألمانيا في الواقع أول من سعى إلى عقده. ذلك أن السياسة الألمانية كانت تقوم في ذلك الحين على فكرة التوفيق والتفاهم والتعاون؛ وكان عميدها يومئذ الدكتور شتريزمان يرى أن ألمانيا تكسب بالتفاهم مع فرنسا أكثر مما تكسب بالخصومة والمقاومة، وعرضت ألمانيا يومئذ أن تعقد مواثيق بتأمين السلامة المتبادلة وعدم الاعتداء والتحكيم؛ وعقد مؤتمر لوكارنو على أثر ذلك وشهده ممثلو الدول ذات الشأن وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى، وأسفر المؤتمر عن عقد ميثاق بالضمان المتبادل بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا العظمى وإيطاليا، وعن اتفاقات بالتحكيم بين ألمانيا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا، وألمانيا وبولونيا، وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا. وكانت فكرة ألمانيا ترمي إلى قصر الميثاق على منطقة الرين، أعني حدود ألمانيا الغربية، ولكن فرنسا أصرت على أن يشمل الضمان الحدود الشرقية، وأن يسمح لفرنسا بمعاونة بولونيا في حالة خرق معاهدة التحكيم الألمانية البولونية؛ وأصرت إنكلترا من جانبها على أن يقصر تعهدها بالضمان على منطقة الرين. وكان أهم نتائج مؤتمر لوكارنو بالطبع هو ميثاق السلامة الشهير الذي(142/11)
سمي بهذا الاسم، والذي عقد في 16 أكتوبر سنة 1925
وقد أدمج هذا الميثاق الشهير في الملحق (ا) من معاهدات لوكارنو، متضمناً لخمس مواد؛ ونص في ديباجته على أن الدول الموقعة عليه وهي ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا العظمى، وإيطاليا تقوم بعقد هذا الميثاق سعياً إلى تحقيق رغبة الشعوب التي عانت ويلات الحرب الكبرى في السلامة والحماية
وتنص المادة الأولى من الميثاق على أن هذه الدول المتعاقدة تضمن ضماناً مشتركا جامعاً بقاء الحدود والأوضاع الأرضية القائمة بين ألمانيا وبلجيكا، وبين ألمانيا وفرنسا، وعدم انتهاك هذه الحدود والأوضاع التي قررتها معاهدة الصلح المعقودة في 28 يونية سنة 1919، وكذلك تضمن مراعاة نص المادتين 42 و43 من المعاهدة المذكورة وهما الخاصتان بالمنطقة المجردة
وتنص المادة الثانية على أن ألمانيا وبلجيكا، وكذلك ألمانيا وفرنسا تتعهد كل منهما إزاء الأخرى ألا تعتدي عليها بأي حال أو تغزوها أو تلجأ إلى محاربتها مع استثناء الأحوال الآتية: (1) استعمال حق الدفاع الشرعي أعني مقاومة انتهاك العهود المشار إليها أو انتهاك نص المادتين 42 و43 من معاهدة الصلح إذا اتخذ هذا الانتهاك صفة عمل أو اعتداء لا مبرر له، واقتضى حشد القوات المسلحة في المنطقة المجرد اتخاذ الإجراءات السريعة (2) اتخاذ الإجراءات التي تنص عليها المادة 16 من عهد عصبة الأمم (وهي الخاصة بتوقيع العقوبات الإجماعية على الدولة المعتدية) (3) العمل تنفيذاً لقرار تتخذه الجمعية العمومية للعصبة أو مجلسها طبقاً لنص المادة 15 فقرة 7 من ميثاق العصبة (وهي الخاصة بإجراءات التوفيق والتسوية عند وقوع الخلاف)
وتنص المادة الثالثة على أنه بناء على التعهد المدون في المادة الثانية تتعهد ألمانيا وبلجيكا، وألمانيا وفرنسا، بأن تعمل كل منهما على تسوية أي خلاف يقع بينهما مهما كان نوعه بالوسائل السلمية وطبقاً للإجراءات المبينة بعد، إذا لم يمكن تسويته بالوسائل الدبلوماسية المعتادة وأن كل خلاف يقع بين الفريقين خاصاً بحقوقهما المتبادلة يعرض للتحكيم القضائي ويتعهد الفريقان بالخضوع لقراراته؛ وتعرض المسائل الأخرى على لجنة للمصالحة، فإذا لم يقبل الطرفان حكمها أحيلت المسألة على مجلس عصبة الأمم ويتبع المجلس في شأنها(142/12)
نص المادة 15 من ميثاق العصبة
وتنص المادة الرابعة على أنه إذا ادعى أحد المتعاقدين بأنه وقع انتهاك لنص المادة الثانية من هذه المعاهدة أو نص المادتين 42 و43 من معاهدة فرساي، فأنه يعرض الأمر على مجلس العصبة؛ وأنه إذا اقتنع المجلس بوقوع هذا الانتهاك فأنه يدعو الدول الموقعة على هذه المعاهدة حالاً، وهي تتفق فيما بينها بالإجماع على معاونة الدولة التي وقعت ضدها المخالفة؛ وأنه إذا وقع انتهاك للمادة الثانية من هذه المعاهدة أو المادتين 42 و43 من معاهدة الصلح، فإن باقي الدول الموقعة تتعهد بمعاونة الدولة التي وقع ضدها الانتهاك حالما يثبت أن الاعتداء وقع دون مبرر، سواء كان ذلك بعبور الحدود، أو وقوع الأعمال العدائية أو حشد القوات المسلحة في المنطقة المجردة؛ هذا ويصدر مجلس العصبة قراراته في الموضوع الذي يرفع إليه طبقاً للفقرة الأولى، وتتعهد الدول الموقعة أن تتبع توصياته بشرط أن يوافق عليها بالإجماع من جميع الأعضاء ماعدا ممثلي الفريق الذي ارتكب الاعتداء
وتنص المادة الخامسة والأخيرة على أن الدول الموقعة تضمن تنفيذ نصوص المادة الثالثة من هذه المعاهدة. . . الخ
هذه خلاصة وافية لميثاق لوكارنو؛ ونلاحظ أن الميثاق يرمي قبل كل شيء إلى تأمين السلام بين فرنسا وألمانيا عن طريق تأمين سلامة الحدود الألمانية الفرنسية، وأنه يؤيد معاهدة الصلح بقوة فيما أوردته خاصاً بتجريد منطقة الرين من وسائل الدفاع، وأنه ينوه بصفة خاصة بالأهمية التي تعلقها فرنسا على استبقاء هذه المنطقة بحالتها التي قررتها معاهدة الصلح؛ ونلاحظ من جهة أخرى أهمية الميثاق فيما يتعلق بتسليم ألمانيا نهائياً بالأوضاع والحدود التي قررتها معاهدة الصلح على ضفاف الرين، وفيما ينطوي عليه ذلك من نبذها نهائياً فكرة المطالبة بتعديل حدودها الغربية واستعادة ولايتي الالزاس واللورين
ونستطيع أيضاً أن نقدر أهمية النتائج الخطيرة التي تترتب اليوم على إنكار ألمانيا لنصوص معاهدة الصلح، ونصوص ميثاق لوكارنو؛ فهي تحطم اليوم آخر أغلال فرساي العسكرية وتحقق سيادتها العسكرية كاملة في منطقة الرين، وتواجه خصيمتها القوية (فرنسا) فيما يتعلق بوسائل الدفاع عن حدودها وجهاً لوجه؛ ثم هي تعلن ضمناً أنها لا تقبل(142/13)
الأوضاع والحدود المقررة لحدودها الغربية، وأنها في حل من أن تعود غداً إلى المطالبة بالالزاس واللورين
هذا وسنعرض في فصل آخر إلى بواعث والأسباب التي تذرعت بها ألمانيا لتحقيق غايتها والى الآثار الدولية التي يمكن أن تترتب على تصرفها
(للبحث بقية)
(* * *)(142/14)
3 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
أرى واجباً عليَّ قبل المضي في موضوع هذا المقال أن أبدأ باستدراك لابد منه. فقد عاب عليَّ بعض أصدقائي من المفكرين أني أنكرت فيما كتبت ناحية ذات شأن من نواحي الحياة في مصر ولم أعرها التفاتاً. ويعتقد هؤلاء الأصدقاء أن لتلك الناحية خطرها في صبغ الحالة الاجتماعية في مصر بصبغة خاصة. ولو أنهم عنوا بتلك الناحية شيئاً غير الأزهر إذن لكان لما يعيبون به عليَّ من الوزن قدر غير يسير؛ أما وأنهم يعنون الأزهر ويقولون بأنه معسكر ثالث من معسكرات العوامل المؤثرة في الحالة الاجتماعية في مصر، ينبغي لنا أن نحسب حسابه، وأن نتناوله بالتحليل والنقد، وأن نزن أثره في تكييف الحالات الاجتماعية، فأكبر ظني أني لن أسلم برأيهم مهما ساقوا في سبيل إثباته من بينات. ذلك بأن بينة واحدة تكفي لهدم جميع ما يقيمون من دلائل، فأن القوى التي تؤثر في حالة اجتماعية بعينها، إنما هي القوى الموجبة لا القوى السالبة، والأزهر، ولا شبهة، قوة سالبة. قوة اتجهت بكل ما فيها من عوامل الحياة إلى الأخرويات لا إلى الدنيويات
وأنت ترى في كل الأطوار التي تقلبت فيها الأمم منذ بداءة العصر الإنتاجي الحديث أن القوى السالبة فيها انحصرت في فئتين: الأولى رجال الدين، والثانية رجال الحكومة، وهما بما فيهما من صفات السلب والمحافظة كانتا في كل الحالات دريئة طالما حمت جسم المجتمع من كثير من الهزات العنيفة والانقلابات الخطيرة التي يجنح إليها الغلاة من المصلحين أو السياسين، وإن لهذا الموضوع لظرفاً آخر غير هذا الظرف قد يتاح لنا فيه أن نبحثه بحثاً أوفى
فرغنا في مقالنا الثاني من الكلام في التطفل الاجتماعي وأحطنا ببعض ظواهره، وأثبتنا أن هذه الظاهرة تنخر في عظام مجتمعنا كما ينخر السوس الحب. واليوم ننتقل إلى ظاهرة اجتماعية أخرى، لا تقل عن ظاهرة التطفل الاجتماعي فعلاً وأثراً، تلك ما أسميه ظاهرة (الرجعية)، ولا أعني بها رجعية فكرية أو سياسية أو غير ذلك، فلو أنها كانت من هذا الطابع لهان الخطب، ولما أعرتها كبير اهتمام. ذلك بأني أعتقد أن بعض ظواهر الرجعية، كالرجعية الفكرية أو السياسية، وما يجري مجراهما، تحمل في تضاعيفها أسباباً تولد قوى(142/15)
ارتقائية، وإنما أعني بها الرجعية الاجتماعية، وأكبر ظواهرها عزوفنا عن التفقه بفقه ثقافتنا التقليدية
ولا مرية في أننا نحتاج إلى تعريف هذه النظرية الجديدة التي نسوقها اليوم لتكون أساساً في علاج حالات اجتماعية بعينها. بل نقول إن بعدنا عن درس هذه النظرية كان سببا من الأسباب الرئيسية التي هيأت المقتضيات الأولية للشعور بأننا قد أقدمنا على أزمات اجتماعية قد تكون في المستقبل بالغة منتهى الخطورة
أما ما نعني (بالثقافة التقليدية) فمجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفا بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة. وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الأزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السُّلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب، نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية ومعتقدات وفنون عن أسلافه الأولين
وما كان لشعب من الشعوب أن يحاول الإفلات من أقطار ثقافته التقليدية إلاّ وباء بالفشل المحقق فيما يحاول. ذلك بأن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يرتكز عليه الطبع الماثل في أخلاق الأمم وطرق سلوكها في الحياة. وما قولك في ثقافة يرتشفها الطفل مع ما يرتشف من لبن أمه وهو رضيع ويشب مكتنفاً بها إذا يفع، ويفتن بفنونها إذا تَفَتى، ويغرم بها إذا اكتهل، ويموت وهي مرتسمة في تصوراته جميعاً إذا هَرِم. لا مرية في أنها تصبح جزءا من طبعه وركناً من أركان نفسه، بل إن شئت فقل إنها الركن الأصيل في حياته النفسية والعقلية، وماعداها توابع لها ولواحق بها. وإنما تتأثر التوابع بالأصل، وتتكيف اللواحق بالأرومة، فما من ثقافة حديثة تضاف إلى ثقافة تقليدية إلاّ وتكيف الدخيل تكيفاً يتابع فيه ما يحتاج إليه الأصيل من ملابسات. مثل ذلك أن الطبع المصري، وإن شئت فقل (المصرية)، لن تنسخ منها الأوربية شيئاً إن هي احتكت بها، وإنما تتكيف (الأوربية) بعوامل (المصرية) إن هما تنافستا في ميدان واحد. وليس في ذلك أي خطر على كياننا التقليدي. ولكن الخطر كل الخطر في أن نضعف من مصريتنا بالبعد عن ثقافتنا التقليدية(142/16)
فتكمن في تضاعيف النفس ولا تظهر إلاّ ضعيفة منهوكة، ونقوي من (الأوربية) فنأخذها غير مكيفة بمقتضيات ثقافتنا التقليدية. ناهيك بأننا لسنا أوربيين بالدم والتقاليد، فلا نستطيع أن نفهم من روح الأوربية على ما يفهمها الأوربي إلاّ ظواهرها الكاذبة، فنصبح وقد قمعنا مصريتنا من ناحية، ولحقنا عقولنا (بالأوربية) من جهة أخرى. وما كل هذا إلاّ طلاء خادع ومن ورائه تختفي الحقيقة التي يجب علينا جميعاً أن نفطن إليها، وأن ندرسها أوفر الدرس، وأن نكب على تفهم روحها أقوم فهم، حتى نستطيع أن نهيئ للأجيال الآتية سبيل التكيف بروح العصر تكيفاً مطابقاً لثقافتنا التقليدية، فنخطو بثبات نحو حالات اجتماعية أثبت من حالاتنا الحاضرة. وفيما تقدم من شرح مجمل ما نعني (بالرجعية الاجتماعية): فهي قمع لمقتضيات التكيف بثقافتنا التقليدية من طريق الفصل بين هذه الثقافة الموروثة وفنون الحياة في العصر الحديث
تتصل ثقافة الشعوب التقليدية اتصالاً وثيقاً بحالاتها المعاشية أولاً، فإذا استكملت هذه الثقافة الأسس المعاشية التي تعين الشعوب على البقاء، أثرت هذه الثقافة تأثيراً آخر في مزاج الشعب، نهايته أن تتكيف فيه أشياء ثلاثة هي في الواقع ظواهر هذه الثقافة. الدين واللغة والفن، وفي هذه الأشياء جماع ما يتجلى لناظريك في الأمم من الخصائص الأخرى كالخلق والحالات النفسية والشعورية إلى غير ذلك
ولابد لنا من أن نضرب بعض الأمثال لتفصح بعض الشيء عن حقيقة هذه النظرية. فالبداوة مثلاً ثقافة تقليدية لكل القبائل التي تعيش متبدية، وجميع ما يتصل بالبداوة أس من الأسس التي تقوم عليها ناحية من نواحي الحياة في أهل البدو، والبداوة لأهل البادية بداية الحياة، لأن فيها تتجلى روح القبيلة التي بها تحتفظ الجمعية ببقائها وتصون كيانها، ومن مجموع التصورات والإدراكات التي تتمثل لأهل البادية تنشأ الفكرة الدينية ثم تنشأ اللغة ثم ينشا الفن، وبعد ذلك تتحور الأخلاق فتأخذ طابعاً خاصاً، ومن ثم يتكون قانون العرف البدائي، وهلم جرَّا. فهل من المستطاع مثلاً أن تنفك جمعية طبيعتها البداوة عن كل ما توارثته على مدى الأجيال، وتنسلخ عن كل ما انتقل إليها عن أسلافها الأقدمين، فتلبس من الأخلاق ثوباً جديداً وتتبدل من التصورات والأفكار والأخيلة والعقائد واللغة والفن غيرها مما لا علاقة له بثقافتها التقليدية، ثم تستطيع بعد ذلك أن تحتفظ بكيانها الأصيل من غير(142/17)
أن يهز ذلك التغير الطارئ أعماق وجودها هزاً عنيفاً شديداً؟
كذلك الحال في أمة أخرى ثقافتها التقليدية صناعية كإنجلترا أو فرنسا مثلاً. فإن انفكاك أمة منهما من الصناعة معناه تحطيم لروحها الموروث، بل ولكل ما تقوم عليه حياتها أدبية ومادية من القواعد الأصلية في نفسيتها وغرائزها. وأظن أن المصريين لا يخرجون من مقتضى هذه القاعدة. فإن لمصر ثقافة تقليدية هي الثقافة الزراعية التي ورثناها بحكم وجودنا على ضفاف النيل. وواجبنا كأمة رشيدة أن نقيم كياننا أصلاً على أساس هذه الثقافة الموروثة ثم نكملها بمقتضيات ما يتطلب هذا العصر من ضروب الثقافات الأخرى. أما عكس هذه الآية، وذلك ما ننتحيه الآن مع الأسف، فنهايته الخراب العاجل والدمار الشامل
إن ما يزرع من أرض هذا الوادي الخصيب في هذا الزمن جزء قليل مما يمكن استغلاله، ولكنه على قلته لا يستغل الاستغلال الوافي، ولهذا أسباب يطول بنا شرحها، وإنما نذكر ذلك لنقول بأن كل عاطلي هذا الزمان إنما هم عاطلون بحكم الثقافة التي تلقوها وبحكم الظروف التعليمية التي نشأوا محوطين بها، وإن بلاداً كمصر تستطيع أن تعضد من السكان ضعف ما تعضد الآن، من العجيب أن تقوم فيها مشكلة تعرف بمشكلة البطالة، وأن تؤلف في سبيلها اللجان، وتعصر الأفكار، وتسهر الأعين الليالي الطوال، ونصف الأرض المزروع فيها يكاد يكون بوراً، والنصف المزروع لا يغل أكثر من نصف ما يجب أن يغل إذا أحسن القيام عليه بالطرق العلمية الحديثة، وأكبر ظني أن السبب المباشر في قيام هذه الحال إنما يرجع إلى أننا نسينا أن لنا ثقافة تقليدية يجب أن تكون أساس الحياة في هذا الوادي. وإذن يجب أن تقوم سياسة التعليم أول شيء على فكرة الاتصال بثقافتنا التقليدية
لقد مضينا حتى الآن نقيم قواعد التعليم على النظريات، لا على طبيعة بلادنا. لهذا نرى أن كل النتائج قد اتجهت اتجاها سلبياً، لا اتجاها إيجابياً وعكس ذلك ما نطلب أن يكون
جدت في مصر مشكلة عرفت بمشكلة العاطلين من المتعلمين، وما من سبب لهذه المشكلة في الواقع إلا السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بالفصل بين ثقافة أولادنا التي يتلقونها بين جدران المدارس وثقافة آبائنا الأقدمين. وحدث في مصر أن انشقت معسكرين لا اتصال لأحدهما بالآخر، معسكر المتعلمين العاطلين الذين لا اتصال لهم بثقافة بلادهم التقليدية، ومعسكر الفلاحين الذين اتصلوا كل الاتصال بثقافة بلادهم الأصلية، من غير أن(142/18)
يلقحوا بشيء من مقتضيات الحياة في العصر الحديث. وبدأت في مصر روح التبرم بالحياة المصرية، نتلقى كل يوم ألواناً مما ينتج على يد المتعلمين الذين إن لم تعوزهم الهمة إلى العمل فقد يعوزهم المجال الذي يعملون فيه بقدر ما هيأهم التعليم النظري الذي عكفوا عليه. ولسوف نتقدم خطوة بعد أخرى متمادين في العمل على زيادة عدد معسكر العاطلين مادمنا نعكف على تعليم أولادنا على أساس النظريات لا على أساس العمليات، ومادمنا نخرج رجالاً لا يعرفون عن طبيعة بلادهم شيئاً. ولن أكون مبالغاً إذا قلت إن ابن الفلاح الذي يتخرج في كلية من الكليات العليا ليس بأكثر علماً بطبيعة بلاده من زميله ابن المدينة الذي يتخرج وإياه في معهد واحد. فإذا لم يجدا لهما مرتزقاً أصبحا صنوي بطالة، ولم يمتز ابن الفلاح على ابن المتحضر بشيء مما امتاز به جدودهما من أهل الريف من قدرة على الإنتاج والعيش بما تغل سواعدهم من ثمرات الأرض
ويخيل إليّ، وربما كنت على كثير من الحق فيما أتخيل، أن الخطأ الذي نلحظه في سياسة التعليم في بلادنا غير قاصر على قمع ثقافتنا التقليدية عن أن يكون لها أثر في تكويننا العقلي والخلقي، بل إننا أضفنا إلى هذه الخطيئة خطيئة أخرى هي أننا عملنا دائماً على تضخيم المعلومات التي يتلقاها الطلبة في مدارسنا الثانوية والكليات. فقد يخرج المتعلم إلى ميدان الحياة العملية بعد حياة أمضاها في جو من النظريات الصرفة، وهو يعتقد أنه قد مليء علماً بالحياة، ثم لا يلبث أن ينكشف له الحق وإذا به يرى أن كل ما يعرفه من نظريات العلم والأدب والفن لا يكفيه رزق يومه ولا يغنيه عن الاكباب على ناحية أخرى من نواحي الحياة العملية يدرسها لتكون له في الحياة عوناً على تحصيل الرزق. ولا شك أن ذلك يحدث ارتجاجاً عظيماً في حياة شاب ملأه الأمل في الحياة والزهو بما تجمع في رأسه في المعلومات. وما من ريبة في أن هذه الصدمة المعنوية لها أثرها البالغ في سلوك الشاب وتفكيره ربما لازمه طوال حياته
يعكف الشاب المصري بين جدران معهده على ناحية نظرية من العلوم البعيدة عن تجارب الحياة ويتلقى أنواع المعارف المختلفة ويمضي مكباً عليها عمراً حتى يكون له نظرة خاصة ويتجه بفكره وقلبه اتجاهاً معيناً وينشئ في عقليته قيما للأشياء وفناً ينظر من طريقه في الحقائق. وعلى الجملة يتكون منه طريق معارفه تكويناً يهيئه لأن يكون وحدة مستقلة في(142/19)
جسم اجتماعي. فإذا استبان له الواقع وواجه الحياة بما استجمع من معارف فعلم أن للحياة طريقا آخر غير الطريق الذي صرف فيه عمر وأن لها قيماً أخرى غير القيم التي يؤمن بها. وأن لها فناً غير فنه الذي ينظر من طريقه في حقائق الوجود، انقلب على الماضي ثائراً ومن المستقبل يائساً، وخيل إليه أن المجتمع جنى عليه فسلبه سلاح العمل وجرده من عدة الهجوم والدفاع في ميدان المنافسة الاجتماعية. وما بالك بهذا الشاب نفسه إذا هو أراد أن يرتد إلى مصريته فيصبح فلاحا كأبيه وأن يتصل مرة أخرى بثقافة بلاده التقليدية، فيتضح له أن علمه بطبيعة بلاده ضئيل، وأن معرفته بطريقة الحياة فيها لا توانيه بالعدة الكافية للحياة في وسط مصري أصيل، الفلاح سداه والفلاحة لحمته؟
من الأخطاء التي لا ينبغي لنا أن نغفل عن وزنها وزناً صحيحاً أن تعليمنا الأدبي في الكليات ينقل إلى الأذهان صوراً من الأخلاق وفنوناً من السلوك ومذاهب من الفلسفة النفسية تختلط في عقليتنا اختلاطاً عظيما حتى لنكوَّن منها مقاييس جديدة بعيدة جد البعد عن المقاييس الخلقية والسلوكية التي يؤمن بها الفلاح الساذج. فإن عصور الظلم والاستبداد التي عانى فلاح مصر في خلالها الأمرين، وتوالي الدول في الحكم على ضفاف النيل قد طبعت الخلق المصري بطابع خاص وصبغته بصبغة خاصة، ويجب أن يعنى بدرسها المصري المتعلم أوفى الدرس وأن يكب على تفهمها كل اكباب، قبل أن يظن أنه قادر على أن يعايش ذلك الفلاح الخشن الجاهل، وأن يعلم في أول ما يجب عليه أن يعلمه من جهة العلم بالنظريات قد عوضته عنه الطبيعة ذكاء حاداً وقدرة على التحايل وفطنة في إدراك الحقائق، وأيقظت فيه قوى العقل الباطن إيقاظاً شديداً حتى يكاد يكون عند بعضهم إلهاماً في توقع الأشياء وحدوثها. أضف إلى ذلك أن طبيعة البلاد ثقفته بثقافة ورثها على مدى العصور. ثقافة أحيت فيه روح اليقظة يتلقى بها الأحداث مكتمل الهمة ثابت القلب قوي الجنان عظيم الثقة بنفسه. فأن بلاداً تتوالى فيها دورات الزراعة كبلادنا، ويفيض فيها النيل في مواعيد محدودة، قد غرست في نفسه بالتجربة أن الحياة فرص يجب انتهازها، وعلمته أن إهمال ساعة أو يوم قد يفوت عليه رزق عام. هذا الفلاح الذي اكتملت ثقافته العملية من هذه النواحي وأمثالها، وهي كثيرة متعددة، هو بذاته موضوع درس عميق لا يستغني عن معرفته مصري يريد أن يعيش من فوق أرض مصر وعلى ضفاف نيلها مرتزقاً بغلاتها(142/20)
مفتناً في إحياء خيراتها. ولا شك في أن هذه الناحية الضخمة من نواحي ثقافتنا التقليدية مهملة في معاهدنا كل الإهمال، فالمصريون مع الأسف أجهل الناس بتاريخ بلادهم، ذلك في حين أن تاريخ كل شعب جزء لا يتجزأ من ثقافته التقليدية
فالشاب المتعلم الذي يدرس مذاهب اليونان الفلسفية وتاريخ روما واليونان ومذاهب الأدب ومقدمة القوانين إلى غير ذلك مما يتلقى الشباب بين جدران معاهدنا، من غير أن يتصل بثقافة بلاده التقليدية، شاب مصري بالاسم لا بالروح ولا بالتقاليد. هو يجهل طبيعة بلاده وخلق أهله وتاريخ العصور التي توالت على وطنه وشكل الحكومات التي تناوبت الحكم فيه، والميراث الذي ورثه عن أجداده الأقدمين. ولا ريبة في أن شاباً هذا شأنه إنما يخرج من معاهد العلم متعلماً جاهلاً، وإن شئت فقل يخرج متعلماً مشحون الذهن بالكثير من المعلومات التي من شأنها أن تفصله عن طبيعة بلاده وتصيره في محيطه غريباً، كأنه غلطة جديدة في طبيعة شيء قديم. ومن هنا يكون عجزه عن الكفاح في الحياة وعن الاتصال بالأرض التي أنشأته وأنشأت السلالة التي انحدر منها منذ أقدم عصور التاريخ
والمحصل أننا مشرفون على أزمات اجتماعية أساسها الظاهر الآن كثرة العاطلين من المتعلمين الذين فصل التعليم بينهم وبين ثقافة بلادهم التقليدية فأصبحوا فيها غرباء، وسنعالج في المقال التالي مجمل ما صورنا حتى الآن من نقائص حياتنا الاجتماعية من حيث علاقتها بالتعليم
(يتبع)
إسماعيل مظهر(142/21)
2 - فلاسفة الإسلام والتوفيق بين الفلسفة والدين
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
لاحظنا فيما سبق أن الفارابي وابن سينا وقفا موقفا وسطا بين الآراء الفلسفية والتعاليم الدينية فيما يتعلق بالصلة بين الله والعالم. أما مشكلة الروح وخلودها فقد فارقا فيها أرسطو تمام المفارقة، ذلك لأن الذي ينكر هذا الخلود يهدم المسئولية من أساسها، ويقضي على غاية الأخلاق والقوانين والشرائع، ونحن نعلم أن أرسطو ينقد نظريات الفيثاغوريين والأفلاطونيين الذين يقولون إن النفس جوهر روحي متميز من الجسم تمام التميز، ويعلن أن النفس صورة الجسم؛ ويقرر بجانب هذا أن الصورة لا تستطيع البقاء بدون المادة، وإذن فمنطق مذهبه يؤدي إلى النتيجة المحتمة، وهي أن فناء الجسم يستلزم فناء صورته وهي النفس، وعلى الجملة فأرسطو لا يتكلم عن مشكلة الخلود إلا عرضاً، وليته حين تعرض لها جاء بشيء مقبول، بل أفكاره فيها متناقضة متهافتة، على العكس من هذا نجد رأي الإسلام في هذه النقطة واضحاً وضوحاً لا يقل عن النقطتين السابقتين، فإن تعاليمه تقضي ببقاء الروح وخلودها وإلا لم يكن للثواب والعقاب معنى، وهذا هو الرأي الذي أخذ به الفارابي بعد تردد، وانتصر له ابن سينا انتصارا عظيما ودافع عنه دفاعا مجيدا، يقول: (إذا حصلتَ ما أصَّلْتهُ لك علمت أن كل شيء ما من شأنه أن يصير صورة معقولة وهو قائم الذات، فأنه من شأنه أن يعقل فيلزم من ذلك أن يكون من شأنه أن يعقِل ذاته. . . وكل ما يكون من هذا القبيل، فغير جائز عليه التغيير والتبديل) وفي كتاب النجاة بحث طويل عنوانه (فصل في أن النفس لا تموت بموت البدن). وفي هذا الفصل يحاول ابن سينا من طريق عميق ومضن إثبات خلود النفس
هنا تنتهي أيها السادة الشعبة الأولى من شعب التوفيق بين الفلسفة والدين. وقد رأيتم أنه كلما اصطدم رأي أرسطو بأصل ديني مال الفلاسفة المسلمون نحو تعاليم الدين أو فسروها تفسيراً ينطبق على ما ذهب إليه فيلسوف الإغريق. ونحن لا ننكر أن الفارابي وابن سينا كونا نظرية كلامية جديدة متعلقة بالإله وصفاته. وهذه النظرية تقربهما من مبادئ الإسلام بقدر ما تبعدهما عن أستاذهما أرسطو. إلا أنها في الوقت نفسه متعارضة في لفظها وروحها(142/22)
مع كثير من النصوص الدينية. لذلك كانت مثار اعتراض وموضع أخذ ورد لدى مختلف الطوائف والفرق الإسلامية. ونستطيع أن نقول إن المدرسة الفلسفية العربية إذا كانت قد نجحت في أن تلفت الأنظار نحوها فذاك راجع إلى أبحاثها الدينية، غير أنها لقيت كذلك حتفها من هذا الطريق. وفكرة الخلق أو (الفيض) التي قال بها الفارابي وابن سينا لا تقنع رجل الدين في شيء كثير، وليس لها من الخلق إلا اسمه وصورته دون حقيقته ومعناه. وهذا بالدقة ما أخذه عليها الغزالي وحمل عليه حملة عنيفة سنعرض لها بعد قليل
والآن ننتقل إلى الشعبة الثانية حيث نفسر بعض الأمور الدينية تفسيراً علميا. وأول هذه الأمور النبوة التي هي عماد الدين وأساسه. فإن قيمة الإسلام وكل دين سماوي موقوفة على التسليم بالوحي وقبوله عقلا. وأن من ينكر الوحي أو يستبعد حصوله يطعن الدين في ركنه الأول وأساسه المتين. لهذا لجأ الفلاسفة المسلمون إلى إدعام النبوة على قواعد فلسفية وسيكلوجية. وأثبتوا أن الإلهامات الخفية التي يصل إليها الأنبياء ليست إلا ضربا ساميا من المعلومات الإنسانية. وسنعرض لهذه النظرية بوجه خاص بعدُ
وأخيراً لم يبق أمامنا إلا السمعيات، وهي كما تعلمون تلك الحقائق الدينية التي أخذت عن الكتاب والسنة واعتمد فيها على السمع وحده كالرسل ومعجزاتهم والملائكة وصفاتهم واليوم الآخر وما فيه من سعادة وأهوال، وسنكتفي بذكر أمثلة من هذه السمعيات لنتبين كيف حملها الفارابي وابن سينا على محمل فلسفي. قد يكون من الفضول أن أنقل إليكم رأي المتكلمين وأهل السنة خاصة في الملائكة والعرش واللوح والقلم والحشر والنشر. فهم يذهبون إلى أن الملائكة كائنات نورانية لطيفة قابلة للتشكل بمختلف الأشكال، لا تأكل ولا تشرب ولا تعصي الله أبداً، ويفهم بعضهم العرش واللوح والقلم على حقيقتها الحسية، ويعتقدون أن الحشر والنشر لن يكونا للأرواح فقط، بل سترد إلينا أجسامنا ونعود سيرتنا الأولى. أما الفارابي فيرى أن الملائكة ليست شيئاً آخر سوى تلك العقول التي تحرك الأفلاك المختلفة والتي حدثتكم عنها قبل. واللوح والقلم لا يقبلان تغييراً آخر غير هذا التفسير المعنوي الروحي. وهاهو ذا الفارابي يعبر عن رأيه قائلا: (لا تظن أن القلم آلة جمادية واللوح بساط مسطح والكتابة نقش مرقوم بل القلم ملك روحاني واللوح ملك روحاني والكتابة تصوير الحقائق. فالقلم يتلقى ما في الأمر من المعاني ويستودعه اللوح(142/23)
بالكتابة الروحانية فيُبعث القضاء من القلم والتقدير من اللوح. أما القضاء فيشتمل على مضمون أمر الواحد والتقدير يشتمل على مضمون التنزيل بقدر معلوم، ومنها يسبح إلى الملائكة التي في السموات يُقبض إلى الملائكة التي في الأرض ثم يحصل المقدر في الوجود). والحشر والنشر والثواب والعقاب منصبة كذلك على الروح فهي التي تسعد وتنعم أو تشقى وتألم. فليس هناك صراط ولا ميزان حسيان، بل تلك أمثلة وتصويرات يراد بها التعبير عن الحقيقة الروحية، وقد سار ابن سينا على طريقة الفارابي ففسر العرش تفسيراً فلكياً عقلياً، وصور الجنة والنار بصور روحية تناسب نعيم النفس وشقاءها
هذه هي محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين التي قام بها الفارابي وابن سينا. وإذا ما تتبعنا تاريخ الفلسفة وجدنا أن الإغريق من قديم احتفظوا بمكان للدين في مذاهبهم الفلسفية. وقد عنيت مدرسة الإسكندرية بهذه المسألة عناية خاصة، وكثيراً ما أثبت أفلوطين أن الأفكار الدينية لا تتعارض مع الآراء الفلسفية. إلا أن المسلمين قد برهنوا في هذا المضمار على مقدرة وكفاءة لم يسبقوا إليهما. ولئن كان رجال الكنيسة قبلهم قد أدخلوا بعض المبادئ الرواقية والأرسطية في تعاليمهم فانهم لم يوفقوا في أن يكونوا من ذلك مزيجاً صالحاً متناسق الأجزاء
بيد أن محاولة التوفيق التي قام بها الفارابي وابن سينا وإن تكن محكمة وممتازة على سابقتها لم ترق لدى الغزالي كما قلت لكم من قبل. وقد ألف كتابه تهافت الفلاسفة ليناقش فيه آراء الفلاسفة وينقضها جميعاً، ويحتوي هذا الكتاب على عشرين مسألة، ثمان منها تتعلق بالبارئ وصفاته، وأكبر مأخذ يأخذه الغزالي في هذا الجزء على فلاسفة الإسلام هو أنهم ألغوا الصفات وأنكروا علم الله بالجزئيات، وقد تهكم عليهم تهكما شنيعاً في هذا الصدد قائلا: (وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم، ثم ينتهي أخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلا بما يجري في العالم، وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح)، وفي ثماني مسائل أخرى يرد على فكرة الخلق التي ذهب إليها الفلاسفة مبيناً أنها ترمي إلى خلق صوري لا يكاد يبدو له أثر في الوجود. ثم ينتقل بعد هذا إلى خلود الروح فيبين في مسألتين أخريين أن الفلاسفة لم(142/24)
يستطيعوا البرهنة على هذه النقطة في وضوح. ولا يقبل الغزالي كذلك التفسير النفسي السيكلوجي للنبوة ويرفض رأي الفلاسفة فيه. وأخيراً يهاجم حجة الإسلام الفلاسفة هجوماً عنيفاً فيما يتعلق بالحشر والنشر ويأخذ عليهم أنهم ينكرون أصلا ثابتاً من أصول الدين. وفي نهاية هذه القضية الطويلة يعلن حكمه وبعد الفلاسفة السابقين مبتدعين في سبع عشرة نقطة وكفاراً لثلاث هي قولهم بأن الله يعلم الكليات لا الجزيئات وادعاؤهم قدم العالم وأبديته وإنكارهم لحشر الأجساد
لسنا بصدد أن نستأنف في هذه الجلسة حكم الغزالي السابق، لا سيما وقد صادف عين الحقيقة في مواطن كثيرة. إلا أنا نلاحظ أن صاحبه متحد أحياناً ومبالغ في نقده. ولا أدل على هذا من أنه اعتنق بعض الآراء التي نقدها والتي قال بها الفلاسفة فهو يفسر مثلا علم الله تفسيراً يشبه كل الشبه تفسير الفلاسفة ويعتقد بخلود الروح ويعده مبدأ ثابتاً من مبادئ الإسلام. وموقف الغزالي هنا ضعيف في الحقيقة للغاية، فإن صوفياً وتكلما يرد على أشخاص يثبتون خلود الروح يناقض نفسه تمام المناقضة. وفكرة النبوة الفلسفية التي يرفضها الغزالي في تهافته يقول بها في كتابه المنقذ من الضلال
أمام هذا التناقض لم يتردد ابن رشد في أن يرفض ما قاله الغزالي وأن يثبت (تهافت التهافت). وقد بذل عناية كبيرة في الدفاع عن أرسطو وإخوانه الفلاسفة المسلمين. ذلك لأنه كان يرى مثلهم ضرورة التوفيق بين الدين والفلسفة وترك كل واحد منهما آمناً بجانب الآخر. ويعلن أن شبه الخلاف بين هذين الطرفين راجعة إلى الخرافات التي ألحقت بالدين، أو إلى الادعاءات الفلسفية التي يدعيها من يزعمون أنهم حكماء وليس لهم من الحكمة نصيب. وهذه الأباطيل جنت على الدين والفلسفة وباعدت بينهما؛ (فأن الأذية من الصديق هي أشد أذية من العدو، أعني أن الحكومة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة وهما المصطحبتان بالطبع بالجوهر والغريزة). غير أن ابن رشد سلك إلى التوفيق بين الفلسفة والدين سبيلا أخرى غير تلك التي سلكها الفارابي وابن سينا. فأنه كان يعتقد أن سلامة الدين والفلسفة أن يعزل كل واحد منهما عن الآخر، فلا تضاف عناصر فلسفية إلى تعاليم الدين، ولا تصبغ الفلسفة بصبغة دينية. لأن لغة رجال الدين يجب أن تختلف عن لغة(142/25)
الفلاسفة مادام الدين للشعب والفلسفة للخاصة. وكم عاب فيلسوف الأندلس على صاحب تهافت الفلاسفة تقديمه للجمهور بعض المشاكل العويصة التي لا يستطيع فهمها ولا استساغتها
بيد أن هجوم الغزالي كان عنيفاً، وصدمة الفلسفة على يديه كانت قوية. لهذا لم يفلح فيها علاج ابن رشد ولم يرفع من شأنها انتصار فيلسوف قرطبة لها، وبقيت مهملة منظورا إليها نظرة ازدراء واحتقار أو توجس وخيفة طوال السبعة قرون الأخيرة. وكأن حملة الغزالي صادفت هوى في تلك العقول الضعيفة التي لا تقوى على البحث والنظر، فرأت أن أيسر سبيل لديها أن تهجر الفلسفة وشؤونها وتحاربها بكل الوسائل ولست في حاجة لأن أذكركم بتلك السنة التي سار عليها مؤلفو هذه القرون المظلمة من التساؤل عن حكم الدين في كل فن من الفنون، هل دراسته واجبة أو مسنونة أو مستحية أو مكروهة أو محرمة. وكثير منكم يذكر هذه الأبيات المشهورة التي صدرت بها حواشي الكتب في القرنين الحادي عشر والثاني عشر:
إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبه والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
فباسم الشرع حرمت علوم وأبيحت أخرى، وتحت تأثير هذه الرقابة أهملت أجزاء الفلسفة المختلفة، ولم يدرس منها إلا المنطق الذي كان نفسه موضع تحريم أو تحليل واستحباب أو إباحة. وقد عقد الأخضري أحد مناطقة القرن العاشر الهجري في سُلّمه فصلا عنوانه: (في جواز الاشتغال به) وتحت هذا العنوان يبين حكم الشرع في دراسة المنطق وآراء الباحثين في هذا الصدد، ويوضح ذلك في أبيات طريفة يلذ لي أن أسردها عليكم
والخلف في جواز الاشتغال ... به على ثلاثة أقوال
فابن الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحه ... جوازه لكامل القريحه
ممارس السنة والكتاب ... ليهتدي به إلى الصواب
والباحثون الأول ما كانوا يقفون عند نقطة كهذه، ولا يرون غضاضة عليهم في أن يدرسوا(142/26)
أية مادة كيفما كان نوعها. والغزالي بوجه خاص زج بنفسه في المدارس والفرق الإسلامية المختلفة. فدرس العلوم الكلامية على اتساعها، واتصل بالباطنية وتعرف أسرارها، ولم يخش باساً من قراءة الكتب الفلسفية واعتناق الطرق الصوفية. ومعرفته بدقائق الفلسفة وجزئياتها لا تقل عن الفلاسفة المختصين أمثال ابن سينا وابن رشد. وما كان يضير أحداً في ذاك الزمان أن يقرأ شيئاً ويتفهمه، فإن ارتضاءه قبله وإلا نبذه، ولم يخطر ببالهم أن مادة ما تستطيع أن تهدم الدين أو تنتقص أصوله. فلما قصر الجهد وعجز الناس عن الدراسة والبحث لجأوا إلى حماية أنفسهم بوسائل سلبية واستتروا وراء حجاب واه من حرمة الدين أو كراهيته فجنوا على أنفسهم ودينهم في آن واحد. وهكذا شأن عقيدة لا يرجع تدهورها غالباً إلى نقص في طبيعتها، بل إلى ضعف معتنقيها وفساد عقولهم وعجزهم من مسايرة الزمن
يجدر بنا، أيها السادة، وقد أتممنا هذه النظرة التاريخية العجلى أن نستخلص منها درسا ينفع للحاضر. فإن الماضي لا يدرس للماضي فقط، بل لما يمليه من نصائح وعبر مفيدة في الحاضر والمستقبل، ونصيحة الليلة أن نفسح المجال للدراسة والبحث أيا كان نوعهما دون أن نخشى على الدين بأسا. لندع العلم يقرر قضاياه ويوضح نظرياته، فهو إن لم ينصر فلن يخذله، وإن لم يؤيده فلن يقوى على هدمه. والعلماء الذين يبدو عليهم أنهم تجردوا عن تقاليد الأديان هم أكثر الناس اصطداماً بالمشاكل الدينية. ولئن كان القرن الثامن عشر قد دفع بعض المفكرين، تحت تأثير النهضات العلمية، إلى التشبث بأهداب المذهب العقلي واطراح كثير من الحقائق الروحية والنقلية، لقد جاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحاضر مؤيدة للدين وواضعة إياه على أساس القوانين العلمية والنظم الاجتماعية. فأنصار مذهب البرجماتزم وعلى رأسهم جيمس ينادون بأن الحقيقة الدينية هي عماد الحقيقة العلمية، ذلك لأن الأولى نتيجة التجربة النفسية والوحي المباشر. وأصحاب المدرسة الاجتماعية الحديثة قد أثبتوا في جلاء أن جل النظم الاجتماعية، إن لم يكن كلها، نشأ في حجر الدين وتحت كنفه. فالعلم والدين متضافران إذن، أو على الأقل لا يستطيع واحد منهما أن يعدو على مكان الآخر. ومن الغريب أنه ما تجاهل باحث المبدأ الديني إلا واضطر للتسليم به أخيراً؛ ولا حارب رجال الدين علما إلا وانتهوا إلى دراسته بعد قليل.(142/27)
فأرسطو الذي لم يفكر مبدئيا إلا في الطبيعة وعللها والأفلاك ومحركاتها سيق في آخر الأمر إلى إثبات محرك أكبر تتجه نحوه القوى وتشتاق إليه. و (كانت) الذي أنكر فكرة الإله في الدائرة الميتافزيقية عاد فأثبتها في أبحاثه الخلقية، وفي أوائل القرن الثالث عشر الميلادي حاربت الكنيسة الفلسفة الأرسطية وأحرقت كتبها، وحكمت بأقسى العقوبات على قرائها. ولكنها لم تلبث أن عادت فاعتنقت هذه الفلسفة وأضحى أرسطو أستاذ اللاهوت المسيحي الوحيد. وفي القرن السابع عشر حوكم جاليليو من جراء قوله بحركة الأرض، واليوم لا ترى الكنيسة ضيرا في اعتناق هذه النظرية. فإذا كان لنا أن نستفيد من هذه التجارب فواجبنا أن نترفع عن الخصومات الباطلة والنزاع الفاسد بين العلم والدين، وإذا كنا نريد أن نؤسس نهضتنا على أسس متينة فعلينا أن نفسح المجال للدراسة والبحث وأن نسير وراء الحقيقة كيفما كان مصدرها؛ والحكمة ضالة المؤمن يطلبها أنى وجدها
إبراهيم مدكور(142/28)
في تاريخ الفقه الإسلامي
ثلاث محاضرات
للدكتور يوسف شخت
الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية
- 1 -
إن الغرض من المحاضرات الثلاث التي أتشرف بإلقائها عليكم هو أن أتحدث إليكم عن الطريقة التي يجري عليها العلم الأوربي في درس الشرع الإسلامي، وعن بعض النتائج الهامة التي أسفر عنها هذا الدرس. وقد بدا لي أن هذا الموضوع خليق بأن يثير اهتمامكم من أكثر من وجهة واحدة، فأن مصر كبلد إسلامي حديث لا يمكن إلا أن تهتم ببحوث علمية ترمي إلى إظهار خاصة من خصائص الإسلام، والعلم الأوربي من جانبه ينبغي ألا يهمل الاتصال بالعلم الإسلامي المعنيّ بهذا الموضوع. ورغم اختلاف المبادئ والطرق والمصالح التي تفصل هاتين المدرستين إحداهما عن الأخرى، فقد ألفت بين بحثيهما في الشرع الإسلامي آصرة مشتركة جوهرية، هي روح البحث العلمي الذي يحدو المستشرقين الأوربيين اليوم، كما كان يحدو علماء الإسلام من عهد القرون الوسطى. هذا العتاد المشترك يبعث على أشد التفاؤل بتعاون مثمر قائم على الاحترام المتبادل بين العلماء الشرقيين والغربيين في هذا الباب، تعاون لا يوهن في تعلق فريق منهما بالتقاليد واستمساك الفريق الآخر بأساليبه العلمية، وإني لأرجو أن يكون في مقدوري المساعدة على تنمية التفاهم بين الفريقين؛ وليس في نيتي أن أعرض صورة عامة للشرع الإسلامي، وأن أكرر كثيراً من الأشياء المعلومة لكثرتكم بلا شك، بل أتكلم عن مسائل خاصة في تاريخ هذا الشرع تناولها علماء أوربة متوخيا عرضها عليكم في صورة قد تثير اهتمام حتى غير الاختصاصين منكم
ولنبدأ بالمسألة العامة - مسألة تاريخ الشرع الإسلامي؛ فهذه المسألة تمكنني من اطلاعكم على ما بين وجهتي النظر من اتفاق تام، فعلماء الإسلام يرون في الشريعة تعبيراً عن الإرادة الإلهية التي لا تبدل فيها؛ وقد كان مع هذا المبدأ من المسلَم به دائماً أن تعبير الفقه(142/29)
عن هذا القانون الإلهي مرّ بدور تاريخي حتى أن بعض المؤلفين المسلمين عنونوا مؤلفاتهم (بتاريخ التشريع الإسلامي)؛ وقد جهد علماء أوربة ببحث هذا التطور دون أن يكون لهم بمسائل العقائد شغل، وتناولوا بهذا الروح تاريخ الشريعة، والعلماء المسلمون أنفسهم، على الرغم من اعتقادهم بقدسية الشريعة وصبغتها الإلهية، يسلمون بأن أحكاماً من أحكامها كانت موجودة فعلا في شرائع أخرى قبل أن يقرها التشريع الإسلامي؛ ولنضرب لذلك مثلا واحداً هو القصاص، فأن مبادئه التي عدلها وأكدها القرآن والسنة ترجع إلى القوانين العرفية عند العرب قبل الإسلام. فالعلم الأوربي يبحث فيما يسمى بالعلاقات بين الشريعة والشرائع التي سبقتها بهذا المعنى التاريخي المحض - ذلك المعنى الذي لا يضير ما في علم أصول الفقه الإسلامي من الحقائق، ومعلوم جيداً أن العلماء المسلمين أنفسهم يطبقون على الأسانيد قواعد نقدية، وهذا النقد الذي وسَّع النقاد من علماء أوربة دائرته، وذهبوا فيه بعيداً، قد بات أداة للعمل لا يستغني عنها العلم الأوربي - أداة ليست سلبية محضة، بل قد أعانتنا على تقرير صحة الكثير من الأحاديث. في هذا كله يمكن أن يوجد، بل يوجد فعلا اختلاف كبير في الأساليب والنتائج بين علماء الشرق والغرب، ولكن لا وجود لخلاف جوهري، لأن مبادئ عقائد الإسلام لا تؤثر في دراستنا التاريخية للشرع الإسلامي. هذه المدرسة الأوربية لا تقف عند حدود الشريعة، التي تلتزم غايتها الأساسية بطبيعة الحال، بل تتجاوزها أبحاثها إلى وجهات عدة، فتتناول القوانين الأخرى المتصلة بالشرع الإسلامي اتصالا مباشراً، سواء أكان ذلك باندماج سنن تلك القوانين في الشريعة الإسلامية بالمعنى الذي أسلفنا بيانه، أم كان بتأثير الشريعة في تلك القوانين والسنن، والمقصود بذلك قوانين العرب أيام الجاهلية من جهة، وقوانين الشعوب التي دخلت في دولة الإسلام من جهة أخرى؛ مثال ذلك هو التشريع الخاص بالأسبان المسيحيين الذين يتكلمون العربية وهم المسمون بالمستعربين. ويتناول الدرس أيضاً موضوعاً واسعاً، هو العرف القائم بين الشعوب الإسلامية نفسها. إننا نعلم أن هذا العرف الذي يطلق عليه أسماء مختلفة كالعادة والقانون والدستور الخ قد نشأ إلى حد ما في بلاد الإسلام تقريباً، إلى جانب الفقه المعترف به رسمياً؛ وشرح تاريخ هذا العرف وبيان علاقته بالشريعة أمر لا غنى عنه في تفهم جملة الحياة التشريعية عند الأمم الإسلامية تفهماً صحيحاً؛ وقد شهدنا في خلال السنوات الأخيرة تطوراً جديداً في العلاقات(142/30)
القائمة بين الشريعة والقانون بتلك التعديلات التي أدخلتها مصر على الأحوال الشخصية. وأخيراً فالعلماء الأوربيون يعنون بالمظهر الاجتماعي للشرع الإسلامي، لأن الشريعة الإسلامية أحسن مثال وأهم مظهر لما يسمى (بالقوانين المقدسة). وبهذا لا نريد مطلقاً أن نضع الشريعة في مستوى واحد مع سائر الشرائع، بل نحرص كل الحرص على إظهار خواصها الفردية ابتغاء الوصول إلى تقدير مركزها الفريد بين الشرائع والقوانين الأخرى. فإذا كان علمنا يضع الشريعة في أفق أبعد زاعماً أن تلك الشريعة ليست حقيقية شاذة لا علاقة لها بما حولها، فإنما نفعل هذا لكي ندرسها أوفى درس ممكن من كل جهاتها. كذلك لا يهمل العلماء في أوربا درس الشرع الإسلامي على طريقته التقليدية الخاصة، فإن هذه الدراسة شرط لازم يمهد لكل بحث تاريخي. ولعل في هذه الملاحظات التمهيدية ما ينيلكم فكرة عامة من هذه الوجهة الهامة من بحوثنا وغاياتنا
وقبل المضي في التفاصيل قد يحسن أن أقول كلمة عن تاريخ هذه الدراسة في أوربا. فوجودها يرجع إلى عهد قريب لأنها مدينة بأصلها للنهضة العظيمة التي تناولتها البحوث الإسلامية في أوربا في النصف الثاني من القرن الماضي. والمشجعان الكبيران على البحوث الإسلامية العامة هما في نفس الوقت واضعا أساس البحث العلمي في الشرع الإسلامي، وأعنى بهما الأستاذ المجري الكبير (توفي في سنة ألف وتسعمائة وواحد وعشرون) والأستاذ الهولندي المحترم الذي بلغ أخيراً الثامنة والسبعين من عمره، والى اسمي هذين الصديقين الجليلين يجب أن نضيف اسم عالم ألماني قضى قبل الأوان في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثلاثين في الخامسة والأربعين من عمره، واعني به المرحوم المأسوف عليه الأستاذ وإني لأعتبر نفسي تلميذا لـ , وأنا شاعر بجميلهما أعمق الشعور، فخور بهما حق الفخر
إن أولى المسائل الخاصة التي سأعالجها هنا تتعلق بالقانون العرفي عند العرب في زمن الجاهلية، وهو كالأرض التي كانت تنمو عليها شجرة الشريعة العظيمة، ولهذا السبب فإنه يدخل في نطاق أبحاثنا كما ألمعنا آنفاً. هنالك رأي سائد إلى اليوم يعتبر الحياة القانونية في جزيرة العرب قبل الإسلام مما لا يمكن درسه لانتفاء المصادر المباشرة، ويزعم أن تلك الحياة كانت فطرية بسيطة بحتة. ولقد مكنتنا أبحاث السنوات الأخيرة القائمة على الانتفاع(142/31)
بمصادر غير مباشرة من تصحيح هذا الرأي. فلم يكن فطرياً سوى أحوال البدو، يشهد بذلك الشعر القديم وأخبار القبائل ويؤيده ما يصادفه المرء عند البدو اليوم. أما المدن ومنها مكة التي كانت مركزاً تجارياً ذا صلة باليمن وسورية البيزنطية والعراق الساساني، والمدينة التي كانت مركز زراعة النخيل مركزاً يضم جالية كبيرة من اليهود - نقول: أما المدن، ومنها ما ذكرناه، فكان لها بلا ريب قانون أكثر نمواً لم يمكن إلا أن يتأثر بالعوامل الخارجية التي ذكرناها، ويمكننا أن ننسب بالتفاصيل إلى الأصل البدوي أشياء منها النظام الاجتماعي وأحكام العائلات والمواريث وقانون القصاص - وكل هذا بقى سارياً على أهل المدن أيضاً - ويمكننا أن ننسب إلى التطور المدني الموافقة على قواعد مفصلة تطبق على العقود ووضع أشكال معينة للشركات واستعمال وثائق مكتوبة - كل هذا في مكة - ومعاملة بعض العقود الزراعية في المدينة. فكل هذه العناصر لم تبق بمعزل بل اتسع تداخلها بتأثير العلاقات التجارية التي تساعد على نموها الأشهر الحرم والأسواق الكبرى، حتى أن بلاد العرب كانت في القرن السادس بعد الميلاد محكومة بقانون عرفي متشعب الأطراف، وهذا يطرح مسألة تحليل هذا القانون تحليلاً مفصلاً سأقدم لكم مثالاً منه
الحالة في الشرع الإسلامي هي أن العنصر الجوهري في كافة العقود يتألف من الإيجاب والقبول اللذين يعبران عن تراضي المتعاقدين، وهذا التركيب القانوني للعقود من إيجاب وقبول تجمع مذاهب الفقه على التسليم به كأنه أمر طبيعي دون أن يتناقض بعضها مع بعض، وهو لابد أن يكون سابقاً لتلك المذاهب فضلا عن أنه لا صلة له بالمبادئ الإسلامية المحضة كمنع الربا ومنع الغرر التي تبنى عليها كافة الأبواب المتعلقة بأحكام العقود من الشريعة. وهذا كله ودلائل أخرى تحمل على الاعتقاد بأن تلك العبارة القانونية عن طبيعة العقود ترجع إلى القوانين العرفية فيما قبل الإسلام. أجل إن هذه الفكرة القانونية تكاد تكون شاذة شذوذاً تاماً في تاريخ القوانين القديمة. فإن الأمر المعني هنا ليس بذلك الدور الطبيعي الواضح الذي كان للإيجاب والقبول دائماً في الحياة الاقتصادية باعتبار أنها مقدمة العقود المتواضع عليها بمحض التراضي؛ ولكن النقطة الحاسمة هي أن الإيجاب والقبول يعتبرهما النظر القانوني عنصراً جوهرياً في العقود، وأولئك الذين درسوا الشرع الإسلامي أو القوانين الحديثة فقط يمكن أن يلوح لهم هذا ضرورياً، بيد أن التاريخ يدلنا على أن(142/32)
الأمر ليس كذلك؛ لأن مثل هذا التركيب القانوني للعقود لم تعرفه القوانين القديمة اللهم إلا الشرع الإسلامي والقانون البابلي الحديث. فإن هذا القانون يعطي نمطاً من صيغة تعاقدٍ يتفق تماماً ونظرية العقود التي أسلفنا بيانها، بحيث أن نفس العقود البابلية الحديثة لو ترجمت إلى العربية يمكن أن تبدو بين الوثائق الإسلامية القديمة المبنية على النحو الآتي: (هذا ما اشترى فلان من فلان. . . وباع هو إياه. . . بتراض منهما. . .). هذه الحقيقة الواقعة تحدو بنا إلى التساؤل: أتوجد علاقة تاريخية بين هاتين الظاهرتين؟ إن الفارق الزمني ليس بكبير مهما يظهر منه عند اللحظة الأولى، فإن الوثائق البابلية الحديثة تبتدئ من أواخر القرن الثامن قبل الميلاد وتستمر إلى نهاية الآداب البابلية حول الميلاد، والقانون العرفي العربي كان قد اكتمل تطوره في القرن السادس بعد الميلاد. بيد أن بعض خواصه قد يرجع إلى ما قبل ذلك. وليس يدعو إلى العجب أن تبقى صيغة وثائق جمدت خلال سبعة قرون لكافة الأعاصير السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق - نقول: ليس عجيباً أن تبقى مثل تلك الصيغة التعاقدية بعد ذلك زماناً، وإن كنا لا نستطيع الجزم بهذا لأننا لا نعلم شيئاً عن تلك الفترة. على أن الاستمرار التاريخي للبيئة مؤكد على الأقل؛ ذلك أن العراق كان يسكنه منذ القرن الثامن قبل الميلاد وعلى الرغم من تبدل الأسر الحاكمة أولئك السكان الآراميون الذين لم يزالوا يسكنونه في خلال الفتح العربي والذين سماهم العرب بالنبطيين. أما القانون المعرفي العربي فإن التأثر الذي يمكن أن يكون تناوله من جانب العراق ليس أقل احتمالا من التأثير الذي أصابه من ناحية سورية، وهذا مؤكد لأن التجارة العربية كانت تتجه نحو القطرين على السواء. وصفوة القول أنه من الراجح رجحاناً كافياً أن صيغة العقود ذات الجانبين أي الإيجاب والقبول قد توورثت من القانون البابلي الحديث. وقد ألمعنا إلى أن تلك الفكرة القانونية في انعقاد العقود ليست بالوحيدة الإمكان، فإن هنالك فكرة أخرى منتشرة انتشارا واسعاً في القوانين القديمة تعتبر العنصر الجوهري موجوداً في تصرف واحد من المتعاقدين. مثال ذلك أن ينعقد البيع بنزول البائع عن حقه في الشيء المبيع للمشتري في مقابل ثمن معين. ويظهر من الاصطلاحات العربية أن القانون العرفي قبل الإسلام كان قد عرف هذه الفكرة في طبقة سابقة لدخول الصيغة التبادلية في العقود، وهذه الاصطلاحات بلا شك إلى الزمن الجاهلي أيضاً. فبينما(142/33)
الاصطلاح الفني المقبول يعبر رأساً عن معنى العقل الذي يقع عليه فإن الاصطلاح الخاص بالعرض - وهو الإيجاب - يتناقض تناقضاً ظاهراً مع الدور المخصص لفعله لو اعتبر العقد، كما هو الواقع، آتياً من الجانبين. فهو يصف العرض الذي هو فعل البائع في مثالنا السابق كأنه يجعل العقد واجباً نهائياً مختوماً عليه لا رجوع فيه، بدليل معنى كلمة الوجوب في شواهد كثيرة؛ منها حديث مشهور إذ يقول النبي عن رجل أسلم ثم استشهد على الأثر: وجبت له الجنة. وعلى النقيض من ذلك فإن العقد ذا الجانبين لا يصير واجباً إلا بقول عرض سابق، بينما التصرف من جانب واحد على نحو ما أسلفنا يطابقه ذلك الاصطلاح تماماً. إن هذا العصر الجاهلي يكشف لنا عن أرض عذرية واسعة خصيبة لأبحاث مستقبلة
والمسألة الثانية التي أود أن أتناولها تتصل بعصر هو أحسم من غيره في تاريخ الشرع الإسلامي أعني عصر فقهاء المدينة السبعة. وقد كان الاعتقاد إلى الآن أن عمل هؤلاء الفقهاء الأولين للإسلام كان وضع نظام للفقه يطابق حاجات عصورهم المختلفة. ولكن الأبحاث التي جعلتنا أكثر معرفة بحالة القانون العربي في العصر السابق للإسلام هي نفسها التي علمتنا أن نقدر عمل هذا العصر الآخر بأدق مما كنا نفعل، فهذا العمل قبل كل شيء إدخال المبادئ الإسلامية في قانون كان قد نما إذ ذاك نمو كافياً. وأصحاب الفضل الأكبر في إدخال المبادئ الإسلامية في القانون العرفي الجاهلي كانت تضمهمّ دوائر الأصحاب والتَّابعين وتابعيهم في المدينة. كانوا يعملون على نفاذ الحياة بأسرها ومنها الحياة التشريعية بقواعد دينية أخلاقية، وهذه القواعد كانوا يستمدّونها ويستنتجونها قبل كل شيء من الآيات القرآنية الشرعية ثم من الأحاديث. فالأحاديث التي كانوا يأخذون بها ترجع بلا شك إلى عصر قديم جداً. ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث الحديثة أفضت بالعلم الأوربي إلى تعديل تشككه في صحة بعض الأحاديث - ذلك التشكك الذي كان يغالى فيه أحياناً. فكثير من تلك الأحاديث لا يذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي كانت تصير قواعد جديدة، بل يذكر أن النبي قرر وأجاز عادات أصحابه باستصوابها صريحا أو ضمنياً دون أن يستنكرها. وهذا هو البرهان المباشر لما نسمّيه استمرار السنن القانونية السابقة في الشرع الإسلامي. ولقد كان من نتائج هذا التطبيق المحتوم المنظم لأعمال القرآن والسنة أن(142/34)
اشتمل نظام من (الأوامر والنواهي) على جميع أبواب الحياة القانونيَّة حتى التي لم ينص القرآن عليها صراحة. وروح هذه (الشريعة المقدسة) تختلف أصلاً عن روح القوانين المدينة كالقانون الروماني مثلا. فأن أمثال هذا القانون تتناول قبل كل شيء الحقوق المشتقة من أفعال معينة ذات قيمة قانونية، على حين أن الشرائع المقدسة تعني الحكم على الأفعال من حيث أنها مباحة أو محظورة. وهذا بيّن من الاصطلاحات الفنية: إن التدرج العام لأعمال الإنسان من واجبة أو مفروضة ومندوبة ومباحة أو جائزة ومكروهة ومحظورة تعبر عن صفاتها الدينية والأخلاقية. ولكن كلمة الواجب لم تدل في الاصطلاح الجاهلي - كما رأينا - على المفروض بل دلّت على الصحيح وقد تستعمل في هذا المعنى أحياناً في كتب الفقه أيضاً: ونحن نشهد حقيقة على تراجع للعنصر القانوني المحض بتأثير القواعد الأخلاقية. حتى نفس نظام المصطلحات الدالة رأساً على أنواع الصفات القانونية وهي مشروع وصحيح ومكروه وفاسد وباطل إلى غير هذا، تأثرت بتلك النظرية الدينية: فالصفة العامة وهي المشروعية، مشروعية البيع مثلاً، تشتمل حكما من هذا النوع الديني الأخلاقي؛ ثم إننا نجد صفة الكراهة تطلق على أفعال قانونية مشروعة صحيحة يليها شيء من المنهي عنه. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن هذا النظام المدرج الثاني أقل تفصيلاً من التدرج الأول، وأن بعض المصطلحات الدالة على الصفات القانونية المحضة كاللازم والنافذ والبات قد بقى بلا تحديد حاسم دقيق. وأخيراً فأن اصطلاح (الجائز) أصبح مترادفاً لاصطلاح (الصحيح) ويدل على أن الأفعال التي يطلق عليها لا بأس بها من حيث التقدير الديني الأخلاقي فهي بهذه المثابة صحيحة. وإذا قيل إن أمان المسلم الواحد مثلاً جائز فمعنى ذلك من جهة أنه غير آثم في منحه هذا الأمان، ومن جانب آخر أنه لا اعتراض على هذا الفعل، وأنه من أجل ذلك يعتبر صحيحاً. ومن هذا كله يتضح ما للتقدير الديني الأخلاقي للأعمال من أهمية ومن أولوية على الصفات القانونية المحضة في الشرع الإسلامي. وليس هذا بأقل وضوحاً في نظام الأحكام الشرعية نفسها. فإن الجانب الأكبر من أحكام المعاقدات مثلا يتسلط عليه الميل إلى استخلاص كل النتائج من تحريم الربا والميسر؛ أما أحكام العقوبات فأنها لا تتناول إلا جانباً بسيطاً من الأفعال المحرمة، بحيث يكون للأوامر والنواهي صبغة أدنى إلى أن تكون أخلاقية منها إلى الصبغة القانونية. إن مصدراً من(142/35)
مصادرنا الكبرى فيما يتعلق بهذا العصر هو على الرغم من تاريخه الأحدث قليلاً كتاب الموطأ لمالك بن أنس. إنه جدير بالذكر أن أقوال الفقهاء السابقين يتلو بعضها بعضاً في أبوابه التي تتصل بالأوامر الأخلاقية وبكافة الأحوال الشخصية والمواريث - تلك الأحكام التي ترى صبغتها الدينية بادية ظاهرة - في حين أن هذه الأقوال نادرة في كثير من الأبواب المتصلة بالقانون التجاري الذي كان بعيداً عن دائرة الأخلاق قليل الاكتراث له لا يثير مناقشات أهل الدين. فهذه الأبواب من جهتها تمتاز بتغلب مصطلحين فيها وهما السنة والإجماع. فمعنى السنة في كتاب الموطأ هو العرف والعادة المسنونة في المدينة، لا سنة رسول الله فقط، والفرق بينهما من جهة الاصطلاح ظاهر. أما الإجماع فمقتضاه في كتاب الموطأ غالباً أن سنة من السنن القانونية لم يستنكرها واحد من الأئمة لأسباب دينية أخلاقية. ويجب أن نذكر إلى جانب كتاب الموطأ لمالك بن أنس مصدراً آخر هاماً لذلك الدور من تاريخ الشرع الإسلامي، وهو كتاب اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري، فهو على الرغم من القليل الذي انتهى إلينا منه؛ أكثر دلالة من الكتاب الأول. مثال ذلك أن الطبري يعلمنا أنه كانت هنالك عشرة اختلافات أساسية بين مذهب سعيد بن المسيب (أشهر فقهاء المدينة السبعة) وإجماع مذاهب الأجيال التالية، وهو شيء لا يظهر من المواضع العديدة التي أورد مالك فيها من هذا المرجع تأييداً لآرائه الشخصية. وثمة مصدر ثالث رئيسي لدراسة هذا العصر، هو كتاب أخبار القضاة لأبي بكر وكيع القاضي (توفي سنة ثلثمائة وست) فهو جامع لأخبار قضاة الأمصار الكبرى في الدولة الإسلامية طائفة طائفة على الترتيب الزمني من الابتداء إلى عصر المؤلف مبيناً ظروف توليتهم وعزلهم مفصلاً الحوادث التي وقعت طوال ولايتهم مورداً قضاياهم الهامة وأحاديثهم وشعرهم إلى غير ذلك من المعلومات. ويفيدنا هذا الكتاب عن مظهر آخر للحياة التشريعية وهو تطور بالعمل القضائي، فأن قضايا هؤلاء القضاة الأقدمين وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين قد ساهمت مساهمة كبيرة في نمو الفقه. ولندع جانباً موادّ أخرى لم يتناولها البحث إلى الآن كتلك الموادّ التي يشتمل عليها تفسير ابن جرير الطبري الكبير، وننتقل إلى المصدر الهامّ الرابع لأبحاثنا عن ذلك العصر، ونعني به المعلومات الواردة في كتب الأحاديث وما يتعلّق بها. فقد أسلفنا القول بأن الفقهاء الأقدمين كانوا يأخذون القواعد التي كانوا يطبقونها على القانون(142/36)
العرفي من القرآن والأحاديث التي كانوا يرونها صحيحة فلذلك ليس من العجب أن نجد إلى جانب الأحاديث كثيراً من القضايا والأحكام تتعلق بها لاسيما في الجامع الصحيح للبخاري. فإن صاحبه في تراجم الكتب والأبواب كثيراً ما يذكر آراء الفقهاء التي تدخل في موضوعه حتى ولو لم تتفق والأحاديث المذكورة أو أعوزت الأحاديث كل الاعواز. وإن لنا الحق في أن نفترض أن كل حديث ذي صلة بمسائل الفقه كان يلازمه أصلا رأي فقهي مطابق له حتى ولو كان هذا الرأي قد اختفى. والأحاديث - سواء أكانت صحيحة أم مطعونا فيها - هي في الواقع مصدر من الدرجة الأولى لفهم هذا التطور القديم للفقه، وعلى الباحثين أن يطابقوا بين الآراء الفقهيّة التي تعبر عنها الأحاديث وحالة الأشياء الحاصلة بعد استكمال الفقه على صورته النهائية. وأود أن أورد لكم بضعة أمثلة لهذه الطريقة - طريقة المطابقة بين الأحاديث الشرعيّة والفقه
فالنص الأساسي للّعان، وهو مثالنا الأول، هو الآية الآتية: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) هذا النص لا يفصل في مسألة النكاح: أيقتضي اللعان فسخه ضرورة أم لا. فجميع مذاهب الفقه تقول بالإيجاب، وتستند في ذلك إلى أحاديث. ولكن تلك الأحاديث تثبت هذا الرأي بصورة جازمة قوية حتى أن الرأي العكسي لابد أن يكون قد وُجد قبل تأليف المذاهب. ويقال إن مصعب بن الزبير قد أخذ بهذا الرأي الآخر، لكن هذا القول لا أصل له؛ ولكن الخبر المنفرد عن عثمان البَتي أنه كان يرى ذلك فيؤكده متن الأحاديث نفسه. فأما فسخ النكاح عند اللعان فقد يحتمل أن يكون على ثلاثة وجوه: أن يفسخ النكاح بالطلاق الذي يجب أن يصدر عن الزوج، أو أن يفسخه القاضي المشرف على أداء اللعان، أو أن ينفسخ بوقوع اللعان نفسه. والرأي الأول يطابق بلا ريب المعنى الواضح لطائفة كبيرة من الأحاديث، بينما لم يبقَ له أثر ما في الأقوال المروية عن الفقهاء الأقدمين ماعدا جدال منفرد ضدّه؛ ولابد أن يكون قد اندثر من زمن بعيد، وقد فسّرت تلك الأحاديث على أنها مؤيدة للرأي الثاني، وهذا الرأي تشهد به أحاديث أخرى كثيرة، ويصفه الزهري بأنه سنّة، وهو مذهب الحنفية؛ ومن الراجح على الظن أن مالك بن أنس قد أخذ به شخصياً في حين أن المالكية قد آثروا عليه الرأي الثالث. وهذا قد أخذ به الشافعي ومن(142/37)
بعده الشافعية أيضاً؛ لكننا لا نجد أحاديث تؤيده. وهكذا يظهر من مقارنتنا للأحاديث بالمذاهب الفقهية تطوّر بيّن يتجه اتجاها معينا
فأحكام القصاص - وهو مثالنا الثاني - مبنية على آيات عديدة، منها الآية التالية: (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقد فسرت هذه الآية تفسيرات مختلفة. منها تفسير يلوح أنه مطابق لمعناه الظاهر، يفيد في الواقع أن رجلا حراً لا يمكن أن يُقتل إلا في رجل حرّ وفي المرأة امرأة فقط، وأنه في الحالات الأخرى يجب أداء الدية بدلا من القصاص. ويزعم أصحاب ذلك التفسير في نفس الوقت أن هذه الآية قد نسختها آية أخرى تنص على القصاص العام وهي الآية الآتية: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). كذلك أجمعت المذاهب الآن على أن الرجل يُقتصّ منه بالمرأة. وقد فسرت الآية الأولى أيضا بهذا المعنى استناداً إلى حديث لا شك في صحته مؤدّاه أن النبي أمر بقتل رجل في امرأة. ومع هذا كله فقد وُجد الرأي القائل بأنه لا ينبغي أن يُقتل رجل في امرأة، ويُذكر من أصحاب هذا الرأي عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، ولكن لا يكاد يوجد حديث يؤيد هذا الرأي، وهذا المثال يفيدنا علماً بأنه - ولو أن كل حديث يطابق قولاً فقهياً - فالعكس ليس كذلك وأن بعض الآراء الفقهية يمكن أن يكون مستقلا عن الأحاديث. ومثل هذا يُقال في مسألة العلم بهل يقتل كثيرون في شخص واحد إذا اشتركوا في قتله؟ ولما كان أصحاب هذا القول الذي أخذت به مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي يعوزهم حديث لا مطعن فيه، فقد كانوا مضطرّين أن يستندوا إما إلى حديث لم يكن دليلا قاطعاً وإما إلى آراء بعض القدماء، وهو مما أثار انتقادات خصومهم
ولعل هذا يكفي في وصف ذلك العصر الخصيب من تاريخ الفقه الإسلامي. وحسبنا أن نلاحظ ختاماً لهذه المسألة أنه يمكننا بالانتفاع بالمصادر الميسورة اليوم أن نفهم فهماً دقيقاً تلك الوظيفة التشريعية التي قامت بها شخصيّة قديمة كشخصية إبراهيم النخعي. وبهذه الإشارة إلى ميدان واسع لأبحاث مستقبلية عظيمة الشأن نختم هذا الحديث الأول(142/38)
يوسف شخت(142/39)
الحجر المؤابي
بقلم جريس القسوس
اكتشف الحجر المؤابي في قرية ديبون القديمة (ذيبان) الواقعة ما بين نهر أرنون القديم (أو الموجب الحالي) ومادبا في أقصى شمال مؤاب (الكرك اليوم)، وتبعد ذيبان عن نهر أرنون نحو أربعة أميال إلى الشمال؛ وقد كانت قديماً قاعدة ملوك مؤاب في عصورهم الذهبية، أي التي سيطروا فيها على مؤاب الشمالية، ومؤاب الجنوبية. وفي سنة 1868 راد قس ألماني أسمه ف. كلاين القسم الشمالي من مؤاب، ومر في طريقه بذيبان، فعثر فيها على حجر مسنود إلى جانب سور المدينة القديم، منقوش على أحد جوانبه كتابة باللغة العبرانية القديمة، ويظن ترسترام أن الرومان استعملوه في بناء سور المدينة، غير أنه زحزح من مكانه الأصلي بسبب طارئ طبيعي ربما كان زلزلة. ويعتقد ترسترام أيضاً أن الحجر دحرج من مكانه بسبب الزلزلة التي حدثت سنة 1837، ولا يرى أن هذا الحادث متقدم عن ذلك التاريخ، إذ أن الكتابة لا تزال ظاهرة للعيان رغم تعرضها الطويل للشمس والهواء والمطر، وإذا اعتبرنا قوله هذا صحيحاً، تكون الكتابة قد ظلت معرضة للحوادث الطبيعية والتغيرات الجوية مدة إحدى وثلاثين سنة فقط
أدرك ذاك القس الألماني قيمة هذا الأثر، وأراد أن يبتاعه مبدئياً، أملا أن يبعث به إلى متحف برلين، إلا أنه لم يوفق في مهمته هذه، إذ ما كاد بدو بني حميده، القاطنين في تلك الديار يدركون قيمة هذا الحجر حتى ثار النزاع بينهم فانقسموا فريقين، كل فريق يرغب في اغتصابه واحتكار ثمنه. غير أن أحد الفريقين أدلج إليه مع سوّاح فرنسيين: ولما لم يتمكّنوا من نقله لثقله، خفّفوا من كثافته بفؤوسهم، وأخيراً حطّموه إلى عدة أقسام، حملوها على بغال وقطعوا بها نهر الأردن، فتمكّن بذلك السوّاح الفرنسيون من شرائه ونقله إلى متحف اللوفر بباريس، ولا يزال هناك إلى اليوم. وقد أخذ عنه قالب من الجبس لكي يحفظ في المتحف البريطاني. ولا صحّة لما أورده المؤلف هرمان هلبرخت من أن الحمايدة حطموا هذا الحجر، أملين أن يعثروا في داخله على كنز. ولقد جمعت قطع هذا الحجر، وعددها ثمان عشرة. وصُفّت صفّا فنيّاً، وشُدَّ بعضها إلى بعض بقوالب حديدية متينة. حتى(142/40)
استطاعوا أخيراً قراءة كل ما هو منقوش عليه
أما طول هذا الحجر فنحو ثلاثة أقدام ونصف قدم، وعرضه قدمان. وهو شبيه في مظهره الخارجي بعواميد أسر حدون الآشوري الحجرية الموجودة في متحف برلين. ولقد نقش عليه مائتان وستّون كلمة في أربعة وثلاثين سطراً، وذلك بالخط العبراني القديم
وللكتابة على هذا الأثر فضلٌ كبيرٌ على تاريخ الحضارة، لأنه حفظ لنا أنموذجاً من النحو والإنشاء العبراني القديم، ليس هذا فحسب، بل من الخط العبراني القديم أيضاً. فمن هذا الأنموذج يتّضح لنا شكل الحروف الهجائية السامية القديمة، هذا عدا أنه يساعد على دراسة تطور الخط الإغريقي
أما فحوى هذه الكتابة فهو مكّمل لما ورد في سفر الملوك الثاني (الإصحاح الثالث) من التوراة، من الحوادث عن مؤاب في القرن التاسع قبل الميلاد وذلك في عهد ميشاع ملك مؤاب الذي كان معاصراً لأحازيا ويهورام ملكي إسرائيل، ويهوشافاط ملك يهوذا. فبينما تورد التوراة قصة اتحاد يهوشافاط ويهورام وإنفاقهما على إخضاع مؤاب في عهد ميشاع، ترى ميشاع يخطّ لنا على هذا الأثر الخالد الأسباب التي أفضت إلى هذه الحرب، وكيف أن عُمْري ملك إسرائيل وابنه آحاب أخضعا الكرك، وامتلكا أرض مادبا؛ وكيف أن ميشاع تمكن بمعونة إلهه كيموش من استرجاع هذه البلاد، واغتنامه من الإسرائيليين مدينتي عطاروث ونبو وغيرهما من المدن الحصينة؛ وكيف أنه أعمل السيف في رقاب بني إسرائيل القانطين عطاروث تخليداً لاسم كيموش، وفيه يحدث ميشاع أيضاً عن اعتزامه على تحصين مدن مؤاب، وبناء قصر له في الكرك الحالية، وحفر آبار ماء فيها. أما عبادة مؤاب في عهد ميشاع، كما يظهر من هذا الأثر، فوثنية؛ إذ أن كيموش عندهم يقابل يهوه عند إسرائيل (سفر العدد ص 21: 29) (والقضاة 11: 24). والديانة عند ملكيهما أساس الوطنية والقومية الصحيحة؛ كما أن الملك أقرب فرد في الشعب إلى الإلهة. أما ماعدا كيموش فهناك (دودة وقد ورد اسمه في الكتابة على الحجر المؤابي، وإليك ترجمة ما كتب على هذا الحجر الأثري نقلا عن الكتاب الإنكليزي '
(أنا ميشاع بن كيموش. . . . . . ملك مواب الذيبوني
كان والدي ملكا على مواب مدة ثلاثين سنة، وأنا ملكت بعد والدي(142/41)
وأنا الذي شيدت هذا المكان العالي لكيموش في مع. . . . . . (مكان الخلاص العالي) حيث أنه أنقذني من. . . . . . (مهاجميّ)
ولأنه جعلني أحقق كل ما أردت وأملت أن أفعله بمن كرهوني ولقد أنزل عمري ملك إسرائيل كلّ بلية بمواب أياماً عديدة، لأن كيموش كان ناقماً على وطنه، ولقد خلفه ابنه على العرش، وهذا بدوره رأى أن يسحق مواب، وفي عهده رأى. . . . (هذا) وأنا حققت ما كنت أؤمل أن يحل به وببيته، وهكذا هلك إسرائيل على بكرة أبيه إلى الأبد. لقد احتل عمري أرض ميدبا وسكنها طيلة حياته، ونصف حياة بنيه أي مدة أربعين سنة، ولكن كيموش استردها في أيامي
وأنا الذي بنيت بعلميعون، وأنا الذي حضرت هناك سدّ الماء وبنيت قرياثان. ولقد سكن أبناء جاد في أرض عطاروث منذ القدم. وبنى ملك إسرائيل مدينة عطاروث لنفسه وأنا حاربت هذه المدينة وامتلكتها، وفتكت بجميع أهلها
. . . . . . هذه المدينة مطمح أنظار كيموش ومواب. . وأنا الذي جلبت إلى ذلك المكان موقد مذبح (دوده) وجررته أمام كيموش في قيرايوث. وأنا الذي جعلت ورجال أيضاً يسكنون هناك
ولقد قال لي كيموش (إذهبْ وخذ نبو من إسرائيل عنوة. فذهبت عشاء وحاربتها من مطلع الفجر حتى مطلع القمر مساء وأخذتها، وذبحت أهلها، سبعمائة رجل و. . . (ولد) وامرأة و. . . (جارية) وفتاة، وكرّست المكان لعشتار كيموش. ثم أخذت. . . (عبيد) يهوه وجررتهم أمام أعين كيموش
ولقد بنى ملك إسرائيل ياحاص حيث أقام في حين مقاومته لي؛ لكن كيموش دفعه أمامي. ولقد أخذت من مواب مائتي رجل، وكل الشيوخ هناك، وقدتهم ضد ياحاص فامتلكتها وأضفتها لذيبان
لقد بنيت وسور يعارم، وسور موند؛ وجعلت لها أبواباً، وأقمت فيها حصونا، وشيّدت دار الملك. ولقد حفرت مجاري لجمع المياه وسط المدينة. ولما لم تكن بئر وسط المدينة أمرت السكان أن يحفر كلّ واحد منهم بئراً داخل بيته
وأنا الذي حفرت الحفرة في بمساعدة أسرى إسرائيل الذين كانوا في قبضتي(142/42)
أنا الذي بنيت عراعر، وفتحت الطريق العامّة إلى أرنون. وأنا الذي بنيت بيت بامورث وقد كانت خراباً. وأنا الذي بنيت بِصِره التي كانت مهدمة. . . أما. . . ذيبان فقد كان خمسين لأن ذيبان كانت تحت طاعتي. ولقد صرت ملكا. . . مائة، في المدن التي أضفتها إلى مملكتي. وأنا الذي بنيت. . . ميدبا وبنيت دبلاثان. أما بيت بعلميعون فقد قدت إليها. . . غنم الأرض. أما فيما يخص حورنايم فقد سكنها. . . و. . . وأمرني كيموش أن أنحدر وأحارب حورنايم؛ فانحدرت. . . كيموش في أيامي و. . . . من هناك. . . . . . وأنا. . . . . .) اهـ
الجامعة الأمريكية
بيروت
جريس القسوس(142/43)
في ميدان الاجتهاد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 3 -
أصول الاجتهاد
إن أول شيء يجب أن ينظر إليه في ذلك هو ما يقوم عليه الاجتهاد من الأصول التي يرجع إليها فيه، فإن هذه الأصول إذا تركت على حالها كان ما نرجوه من فتح باب الاجتهاد قليل الثمرة، ضئيل الفائدة، ولا يؤدي إلى ما نطمح إليه من التمهيد لتشريع فقهي يجتمع فيه المسلمون على اختلاف مذاهبهم، ويتضافرون على استنباط الأحكام التي لا أثر فيها لتعصب مذهبي، ولا لحقد سياسي؛ كما تأثر بذلك اجتهادهم في الأزمان الماضية، فعمل فيه كل فريق وحده، وأخذ في ذلك بالطريق الذي يوافق هواه ومذهبه، حتى تباعدت مذاهبنا الفقهية، وأصبح الجمع بينها عسيراً مع بقاء هذه الأصول على أشكالها الحاضرة، فالسني لا يعمل إلا بإجماع أهل السنة، ولا يثق إلا بالأحاديث التي رويت في صحيح البخاري وغيره من الكتب المعتمدة عنده، والشيعي لا يعمل إلا بإجماع أهل الشيعة، ولا يثق إلا بالأحاديث التي رواها أئمته، ولا يذعن لما روي في صحيح البخاري ونحوه، كما لا يذعن السني لما يذعن له، وهكذا غير السني والشيعي، حتى أصبح كل فريق لا ينظر فيما عند الفريق الآخر من الأحاديث والأحكام، وتقطعت بهذا بيننا الأسباب، وبقيت الأحقاد القديمة تعمل إلى الآن عملها فينا مع زوال أسبابها، وذهاب عواملها
وهذا إلى أن هذه المذاهب التي نعاديها قد يكون فيها أحكام أحسن من أحكامنا، فإذا نظرنا فيها استفدنا ذلك منها، مع ما نجنيه من جمع الكلمة، والتقريب بين فرق المسلمين في هذه الأيام العصيبة
والأصول التي يرجع في الاجتهاد إليها أربعة أصول:
(1) الكتاب، وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم منجما من ليلة اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده إلى تاسع ذي الحجة يوم الحج الأكبر للسنة العاشرة من الهجرة، حيث أوحي إليه بآخر آية نزلت عليه (اليوم أكملت(142/44)
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
(2) السنة: وهي ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وقد جاءت السنة مبينة للقرآن، ومفصلة له، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فكان يبين ما أراد القرآن أحياناً بالقول وحده، وأحياناً بالفعل وحده، وأحياناً بهما معاً، كما صلى وقال (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقد أمر الله في القرآن باتباعه فقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
(3) الإجماع: وهو اتفاق المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور على حكم من الأحكام الشرعية
(4) القياس: وهو إلحاق ما لم يرد فيه نص عن النبي صلى الله وسلم بما ورد فيه ذلك بناء على وجود مشابهة بينهما
فأما القرآن الكريم فهو أصل هذه الأصول الأربعة، وقد حفظه الله تعالى لهذه الأمة الكريمة سالماً من التغيير والتبديل، وقد كان له كتاب يكتبونه على عهد النبي صلى عليه وسلم، قيل إنهم كانوا ستة وعشرين، وقيل إنهم كانوا اثنين وأربعين، وكان ما يكتب منه يوضع في بيت النبوة، وكان بعض هؤلاء الكتاب يكتبون منه صورة لأنفسهم، وكان بعض الصحابة يحفظه جمعيه، وبعضهم كان يحفظ كثيراً منه، وقد هيأت هذه الأسباب كلها حفظه بين المسلمين إلى يومنا هذا، واتفاقهم على ألفاظه ونصوصه، وهم لا يختلفون إلا في فهم بعض هذه النصوص، ومن السهل جمعهم عليها، أو تقريب مسافة الخلف بينهم فيها
وأما السنة فكانت لا تكتب في عهد رسول الله لئلا يؤثر أمرها في القرآن الكريم، ولم يكن يكتبها على عهده إلا نفر قليل، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، فلما كان عهد عمر بن الخطاب أراد أن يكتبها فلبث شهرا يستشير ويستخير، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فجمع الناس وقال لهم: إني كنت ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء
فمكث أمر السنة على هذه الحال مدة طويلة تبلغ نحو مائة سنة بعد الهجرة، وهي في هذه المدة كلها لا تؤخذ إلا بالرواية، ولا تحفظ إلا في الصدور، فلما جاء عهد عمر بن عبد(142/45)
العزيز على رأس المائة الثانية من الهجرة، بدأ الاهتمام بتدوين السنة خوفاً عليها من الضياع، أو أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان هذا الملك الصالح أول من أهتم بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة وهي مجمع رجال السنة، وكان أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فأني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء
ولكن هذا التدوين جاء متأخراً عن أوانه، ولم يحصل إلا بعد تشعب الأحاديث النبوية واختلافها اختلافا كبيراً يرجع بعضه إلى اختلاف الأمصار، وانقطاع بعضها عن بعض في تلك العصور فسار إلى كل مصر بمن نزل فيه من الصحابة من تلك الأحاديث ما لم يسر إلى المصر الآخر، وقد كان منها ما يحفظ بلفظه، ومنها ما يروى بمعناه على حسب ما فهمه السامع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأفهام تختلف في ذلك، بل قد يختلف فيه السمع نفسه؛ كما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول - وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي - فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنكم لتبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها
ويرجع بعض ذلك الاختلاف أيضاً إلى ما حصل من انقسام المسلمين ذلك الانقسام السياسي - إلى جماعية وشيعة وخوارج - واستفحال أمر تلك الخصومة السياسية فعمل ذلك في التبعيد بين إفهام المسلمين ما لم يعمله اختلاف الأمصار فيها
وقد كان الخير كل الخير تدوين السنة في الزمن الذي جمع فيه القرآن الكريم، ولم يكن هناك خوف بعد جمع القرآن أن تلتبس به السنة النبوية، أو أن نقع من ذلك فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبلنا. لأن أهل الكتاب لم يكتبوا كتاب الله كما كتبناه؛ وإنما كتبوا تلك الكتب وأكبوا عليها، فالفرق في ذلك كبير بيننا وبينهم، فلو أن السنة النبوية دونت في ذلك العهد لكان لنا منها سنة متفق عليها، أو تقرب على الأقل مسافة الخلف بيننا فيها
وإذا كنا قد فاتنا من هذه الغاية الحميدة ما فاتنا، فقد يكون في هذا الخلاف في السنة النبوية خير كبير لنا، وقد عد هذا الخلاف فعلاً رحمة بالناس؛ وقيل إن اختلاف الأئمة رحمة(142/46)
وتوسعة، ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه، بل تقف تلك الخصومة السياسية دونه، وتجعل في هذا الخلاف ما لا يكون معه رحمة خالصة، وتوسعة عامة
وإنه ليمكننا الآن بعد ذهاب تلك الخصومة أن نعتبر من اجتهاد أئمة الشيعة والخوارج ما نعتبره من اجتهاد أئمة أهل السنة، ولا يقوم ما يحول دون ذلك إلا تغالينا في علم الجرح والتعديل الذي وضعناه بجانب علم الحديث، مع أن هذا العلم لا يعتمد إلا على ظواهر الرجال، وغاية ما يفيده الظن دون اليقين ولا يوجد ما يمنعنا بعد التخفيف من ذلك التغالي من أن نعتمد من رجال كل من أهل السنة والشيعة والخوارج من اعتمدوه، ونرفض منهم من رفضوه، وكذلك لا يوجد ما يمنعنا بعد التخفيف من ذلك التغالي أيضاً من الانتفاع بالحديث الضعيف في التشريع، والأخذ به عند الحاجة إليه، فلا نرفض من الأحاديث إلا ما ثبت أنه موضوع بيقين، ولا نتهم من رجال الحديث إلا من ثبت عليه الكذب قطعاً، ورب حديث ضعيف يكون هو الصحيح، ورب رجل متهم يكون هو الرجل الثقة
وأما الإجماع فقد اختلف في أمره، حتى قال فيه أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه)؛ وقد حمل بعض فقهاء الحنابلة ذلك على غير إجماع الصحابة، أما إجماعهم فحجة معلوم تصوره، لكون المجمعين ثمة في قلة، أما بعدهم فأنهم في انتشار وكثرة، وكذلك نقل عن الشافعي ما يفيد أنه لا يقول بوجوده إلا في الفرض الذي لا يسع أحداً جهله، من الصلوات والزكوات وتحريم الحرام، وأما علم الخاصة الذي لا يضير العوام جهله، فيقول فيه نحو ما قاله أحمد بن حنبل
وقد اتفقوا جميعاً على أنه لا يد من استناد الإجماع إلى نص من كتاب أو سنة، وإذا كان هذا شأنه معهما فلا يكون لعده من أصول الاجتهاد شأن كبير بعدهما، على أنا إذا أبقيناه الآن بين هذه الأصول، وأردنا أن نرجع إليه فيما نروم من فتح باب الاجتهاد، فسنجد أنفسنا أمام الإجماع لأهل السنة، وأمام إجماع ثان يغايره للشيعة، وأمام إجماع ثالث يغايرهما للخوارج، وهلم جرا، وإني أوثر أن نقف وجهاً لوجه أمام النصوص التي لابد من استناد الإجماع إليها، على أن نقف جامدين أمام هذه الاجماعات المتعددة، فمن الممكن معالجة هذه النصوص بتأويل أو غيره، ومن الممكن الجمع بينها بوجه من الوجوه التي(142/47)
تتفق فيها الكلمة، أما الإجماع لا يقبل تأويلاً ولا جمعاً، ولهذا أرى أن نحذف هذا الأصل من الأصول التي يرجع إليها في الاجتهاد، وأن نرجع مباشرة إلى النصوص التي لابد من استناده إليها، فقد يفتح الله علينا فيها بفهم جديد غير ما فهموه منها، وقد نصل بذلك إلى حل كثير من مشاكلنا الفقهية، ولا يوجد أمامنا من هذا الأصل عقبة تقف في سبيلنا
وأما القياس فهو الأصل الذي بقي لنا من أصل الرأي الذي كان يأخذ به بعض كبار الصحابة مثل عمر وعثمان وغيرهما، وكان يعرف به قوم من الفقهاء يلقبون بأهل الرأي، وهو أتم من القياس شمولا، وأكمل منه اتساعاً، إذ كان على ما يظهر من فتاويهم عبارة عن الحكم الذي بيني على القواعد العامة للدين كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولم يكونوا يهتمون بأصل معين يشبهون بمحله الحادثة التي يفتون فيها، كما يجب ذلك في القياس، ومن هذا إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم مع أن القرآن عدهم من المستحقين، وإسقاطه الحد عن السارق عام المجاعة، وتركه التغربب في الزنا بعد أن لحق أحد المغربين بالروم وتنصر، وجعله الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثا بعد أن كان واحدة على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وصدر من إمارته، وله من ذلك كثير
وقد حدث بعد هذا أن أخذ قوم يذمون هذا الرأي، وكان ذلك بعد ظهور العناية بجمع السنة وتدوينها، وقيام فئة من العلماء بذلك عرفوا بأهل الحديث، فشنوا غارة شعواء على أهل الرأي، وأخذوا يقولون إن الشريعة أجل وأرفع من أن تكون مجالا لآراء أهل الرأي من العباد، لأنها من الله كتاباً كانت أم سنة، وما كان كذلك يكون أبعد من الخطأ والاختلاف، والرأي من الإنسان، وهو عرضة لأن يخطئ وأن يصيب، وهنا يكون الاختلاف والفرقة، وقد نهينا عنهما - إلى غير هذا من أقوالهم في التشنيع على أهل الرأي
وهي كما ترى أقوال فيها كثير من الغلو، لأن الرأي إذا كان مبنياً على القواعد العامة للدين فهو من الله أيضاً، وهذه الفرقة التي يخشونها منه حاصلة بدونه كما نرى، وليست كل فرقة مذمومة في الدين، إنما المذموم فيه الفرقة المؤدية إلى التنابذ والتخاصم، والاختلاف في الرأي لا يصح أن يؤدي إلى شيء من هذا، مادام يكون رائدنا فيه الإخلاص وصدق النية
وقد وجدت هذه الأقوال في ذم الرأي آذاناً صاغية من الجمهور، وكان لهذا أثره في نفوس(142/48)
أنصاره، فأخذوا يتقربون إلى أهل الحديث، ويتركون الاعتماد على هذه القواعد العامة الثابتة في الدين باليقين، إلى أن صاروا من هذا الأصل الجليل إلى قاعدة القياس التي لابد فيها من الاعتماد على أصل معين من الحديث الثابت بالظن
وإني أرى في هذا الأصل أيضاً أن نرجع فيه إلى ما كان عليه في عهده الأول من الشمول والاتساع، ولا نقتصر فيه على إلحاق الشبيه بالشبيه، ولا يخفى أن السنة قد اختلفت رواياتها اختلافا كبيرا ولابد من تحكيم الرأي فيها تحكيما مطلقا، ولست أدري معنى لتحرجنا الآن من تحكيم الرأي في علم الفقه وهو من الفروع بعد أن صرنا أخيرا إلى تحكيمه في علم الكلام وهو من الأصول، وقبلنا فيه عند تعارض دليل العقل النقل أن نرجح دليل العقل على دليل النقل، ويكون هذا بتأويل دليل النقل أو ترك أمره إلى الله تعالى
وهذا هو ما أراه في هذه الأصول الأربعة التي يقوم عليها الاجتهاد في الإسلام، وقد اقترحت في مقالي الثاني في هذا الموضوع عقد مؤتمر إسلامي من جميع المذاهب الإسلامية الباقية لفتح باب الاجتهاد فتحاً صريحا، وتنظيم أمره تنظيما يقضي على ما يساور نفوس أنصار التقليد من الخوف على الذين من فتحه
وهناك أمر خطير له أثره في تسهيل أمر الاجتهاد علينا، وفي القضاء على هذه العزلة في الاجتهاد بيننا وبين باقي الطوائف الإسلامية، وذلك هو تأليف كتاب في الفقه على جميع المذاهب الإسلامية، تجمع فيه أقوال الأئمة من سائر المذاهب المعمول بها الآن وغيرها، وتبين فيه مآخذها التي اعتمدوا عليها فيها، وهذا هو العمل الخطير الذي يجب أن يمهد به لفتح باب الاجتهاد من يدعون الآن إلى فتح بابه، وهذا هو باب المجد مفتوح على مصراعيه للرجل الذي نريد منه البدء بالعمل قبل أن تفوت عليه فرصته، ويكون للتاريخ بعد ذلك حكمه فيه، وقد بلغت اللهم فاشهد
اللهم إني لا أدعي العصمة فيما قلت، وفيما سأقول في هذا الموضوع، وإنما أريد أن أعرض رأيي فيه على صفحات مجلة (الرسالة) الغراء، فأن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي، وإني حيثما أعرض رأيي في ذلك على صفحات هذه المجلة، فأنه سيصبح في يوم ظهورها مقروءاً لألوف الألوف من علماء الدين وغيرهم، فتشترك فيه الآراء،(142/49)
وتمحصه البحوث، وهذه وسيلة لتمحيص الرأي لم تكن متوفرة لأهل الاجتهاد الأول، وستكون لنا عوضاً مما قد يمتازون به علينا من سعة الإطلاع والعلم
عبد المتعال الصعيدي(142/50)
صورة من الحياة العلمية في مصر
تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
لا أحسب أن مصر قد ظفرت في عصر من عصورها الإسلامية بما ظفرت به في عصر المماليك من مظهر علمي سابغ، وأثر في تاريخ الفكر العربي خالد، وصوت طائر مرنان في أنحاء الإمبراطورية المصرية بما لعلمائها من نفاذ في البصيرة، وعمق في التفكير، وقوة في المناظرة، وشمول في المعرفة، وإحاطة مدهشة بآثار السلف، وإبداع في شتى نواحي العلوم النظرية والشرعية، فمقدار ما وسم به هذا العصر من سطحية في أدبه، وتفاهة في الصور الشعرية المنبعثة عنه، وضعف في الأسلوب الأدبي المتعارف فيه؛ كان عجيباً جهد ما يبلغه العجب في ذلك الجو العلمي السائد به، والروح العلمية الحق المهيمنة على رجاله، على ما كان يفهم من مدلول العلم إذ ذاك. ولا تحسبنا بحاجة إلى الاستشهاد لذلك المظهر الرائع، فإن نظرة عامة إلى كتب الطبقات المصنفة في ذلك العهد مثل الدرر الكامنة، والضوء اللامع وغيرهما تشهد لهذا القول شهادة قاطعة لا تحتمل شبهة ولا تحتاج إلى مراجعة. وبمقدار ما كان يسود هذا العصر من اضطرابات سياسية مترادفة، وفتن في بلاد الأمراء متعددة، حتى لتعد سبعة عشر سلطاناً تولوا أمر البلاد مدة حياة رجل واحد كهذا الذي نترجم له، ثم ما يستتبع ذلك من فوضى في الحياة العامة لا يحدها حد ولا يضبطها ضابط؛ كانت النهضة الفكرية مطردة في سبيلها، والحياة العلمية تقدم للناس أحسن مثلها، والعلماء يقومون على مذهبهم في الحياة بالرعاية والتقدير، لا يكاد يلفتهم عنه ما تعتلج به البلاد من الفتن، وما تموج به من الاضطراب
ولسنا الآن بصدد التعليل التاريخي لهذه الظاهرة التي لا نزاع في حقيقتها، وإنما سبيلنا أن نسجلها هنا لنلفت أنظار بعض القراء عندنا إلى أن التاريخ الفكري شيء غير التاريخ السياسي، وأنه لا ينبغي أن يصرفنا إنكار أحدهما عن الإعجاب بالآخر، وإنا لنرجو أن يتجه البحث العلمي اتجاهاً جدياً دائباً إلى إثارة دفائن هذا العصر العلمي المجيد في تاريخ مصر، وأن يعنى القوم عناية بليغة بكشف آثاره وتنور أسراره، فإن في ذلك متاعاً للروح العلمية التي تتمشى في نفوسنا، وقياماً بحق مصر الكريمة علينا، وتغذية للروح القومية(142/51)
التي نحاول بكل سبيل تقويتها وتعزيزها في قلوبنا
وإذا كانت الصورة المقيتة التي تركها التاريخ السياسي والدرس المقتضب لهذا العصر في أذهاننا، قد صرفتنا عنه إنكاراً له، حتى ليود بعض الناس لو لم تكن هذه الفترة في تاريخ مصر؛ فإن الصورة الجميلة الرائعة التي تركها التاريخ الفكري لمصر عن هذا العهد جديرة أن تصرفنا إليه وتحببنا فيه، وتجعل منه مفخرة لنا تخفق لها قلوبنا، ومثلا عالياً لطلابنا ورجال العلم عندنا؛ حينما يستطيع البحث العلمي أن ينفض التراب عن هذه الصورة، ويجلوها للناس كريمة رائعة
وإنه ليغبطنا أن نقدم اليوم وجهاً من وجوه هذه الصورة، في شخص رجل من رجال ذلك العهد، لا نخطئ إذا قلنا إنه من خير ما يمثل هذا العصر تمثيلا يملأ قلوبنا روعة وإكباراً، ويهز مشاعرنا حباً وإعجاباً، وإن كنا نأسف لأن أسباب البحث لم تهيأ لنا كما ينبغي لعرض هذه الشخصية في أكمل مجاليها: ذلكم هو العلامة الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي
- 1 -
ولد تقي الدين في شهر صفر سنة 683هـ (أغسطس سنة 1284م)، في أسرة شريفة النسب، كريمة الحسب، تنمى إلى قبيلة الخزرج الأنصارية من بطن منها يقال لها أسلم، كما أثبت ذلك النسابة المصري شرف الدين الدمياطي، وقد أشار إلى هذا النسب الشاعر المصري ابن نباتة في مدائحه للشيخ عبد الكافي السبكي أبي تقي الدين:
وبيت فضل صحيح الوزن قد رجحت ... به مفاخر آباء وأبناء
قامت لنصرة خير الأنبياء ظبا ... أنصارهم واستعاضوا خير أنباء
أهل الصريحين من نطق ولحن ظبا ... أهل الربيحين من نصر وإيواء
كما ذكره أيضاً القاضي صلاح الدين الصفدي في كتابه (أعيان العصر). وقال ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار) في ثنايا كلامه عن الشيخ تقي الدين: (جواد جرى على أعراقه، وجاء على أثر سباقه. من عصاية الأنصار حيث يعرف في الحسب التليد، ويدخر شرف النسب للمواليد. . . . بزغ من مطلع الصحابة رضي الله عنهم، ونزع به عرقه إلى التابعين لهم بإحسان. وهو مثلهم إن لم يكن منهم)(142/52)
ويظهر أن قبيلة (أسلم) التي ينتسب إليها تقي الدين لو تظل متميزة في مصر كما كان بعض القبائل الأخرى، بل اندمجت في المصريين وذهبت فيهم، ولعله لهذا السبب لم يذكرها المقريزي في رسالته (البيان والإعراب) بين القبائل التي بنى عليها رسالته. وإنما بقي نسب بيت السبكي معروفاً لمكانته الاجتماعية التي سنشير إليها. والحق أن ذلك البيت كان بيتاً مصرياً صميماً انطبع بالروح المصرية وسرت فيه، كما ظهر ذلك جلياً في المقدمة الجميلة التي كتبها أحد أفراد هذا البيت: بهاء الدين أبو حامد أحمد بن تقي الدين السبكي لشرحه على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني. فقد كتب فيها فصلا عن مصر وطبيعتها ومزاجها وأثرها في أهلها. كما يبدو ذلك في عاطفة الشيخ تقي الدين نحوها حينما كان يتولى قضاء القضاة في الشام، فقد كان يتمنى أن يأتيه أجله في مصر: أمنية من ثلاث
أما مكانة هذا البيت الاجتماعية فيظهر أن منصب الوزارة كان فيه، فقد قرن اسم جد تقي الدين الثاني كما جاء في سلسلة النسب الذي أثبته شرف الدين الدمياطي، بلقب الوزير. كما أشار إلى ذلك ابن فضل الله العمري فيما كتب عن الشيخ تقي الدين. فقال:
(. . . ثم خرج من بيت الوزارة حيث تتقامر النجوم، وتتناصر ثم تتناصف الخصوم)
وهكذا نرى أنه قد أتيح لشيخنا الجليل عرق في الشرف راسخ، ومكان في المجد باذخ، وأنه قد أمدته في حياته وراثة نبيلة، وأعانته من قومه مكانة جليلة. إلى بيئة علمية خالصة ترى في العلم وحده المثل الأعلى والغاية المثلى، فقد كان أبوه زين الدين عبد الكافي السبكي من علماء العصر وفضلائه، وكان قد أدرك الإمام الكبير تقي الدين ابن دقيق العيد وصحبه وأخذ عنه وتأثر به؛ وكان ذلك الإمام آية عصره في سعة العلم ونفاذ البصيرة وقوة الخلق، حتى يقول تاج الدين السبكي في طبقاته: (ولم ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي) وقد عرض عليه قضاء القضاة في مصر، وناهيك به منصبا، فتأبى وتمنع واستعصم بخلقه القوي وإيمانه المتين. ولكنهم مازالوا به حتى قبل، وإذا صار قاضي القضاة كان لابد له في دينه وورعه أن يتحرى جهده في تعيين نوابه على الأقاليم من صفوة العلماء. فكان زين الدين السبكي من أعيان نوابه كما كان من أعيان أصحابه: ولاه قضاء الشرقية والغربية(142/53)
(يتبع)
محمد طه الحاجري(142/54)
صديق البلاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يغدر الناس في الشقاء ولكن ... غدره في الرخاء لا في الشقاء
إن تَفِدْ نعمةٌ عليَّ تَلَظَّى ... حسداً لي وكان من أعدائي
فإِذا الدهر مال بي كان بَكْا ... ءً على محنتي وطول بلائي
المُواسِي في الحزن حتى إذا ما ... كنتُ في غضبة سطا بالعداء
في سقامي حلو الحديث شَهِيٌّ ... وهو يرجو أن لو يُخَلَّدَ دائي
فإِذا ما صححت عاود بغضي ... وَيْله لو أُعَدَّ في الأقوياء
لدهاه الأسَى وطال عليه ال ... هم حتى يموت بالبرحاء
إنْ هجاني العدو أحْسَنَ قولا ... دافعاً فِرْيَةَ العِدَى بالثناء
فإِذا ما مُدِحْتُ هَمَّ بقتلي ... ورماني بقذعه والهجاء
يا صديق البلاء عطفك في النح ... س رياءٌ أَبْغِضْ به من رياء
إيْهِ يا قلب ما دهاك من الخ ... لان أدهى من صولة الأعداء
خِلْتَ أن الصديق مثل نسيم ... نافع لازم قليل العناء
لا تنال الحياة إنْ لم تَنَلْهُ ... بره كالإخاء خير غذاء
إنْ تقدمتَ لا يعوقك منه ... عائق في منادح الأرجاء
ويعي ما تقوله ثم لا يل ... بث حتى يذيع في الأنحاء
مِنْ مديح تُطْري به مجدك الأم ... جد أو لبك السَّنِيَّ الذكاء
إنْ تُرِدْهُ تَجِدْهُ أو لم تُرِدْهُ ... لم تَخَفْ منه زورة الثقلاء
ما اختفى في دَخِيلَةٍ منه إلا ... ما بدا ظافراً به كل رائي
وَيْكَ إن النسيم قد يُرْمِدُ الطر ... ف بسافي التراب والأقذار
وهو مثل الصديق حراً وبرداً ... في اختلاف الحالات والأجواء
وَلَهُ غدرة إذا اعتكر الج ... ووأنحى بالصرصر الهوجاء
وعلى غِرَّةٍ يبلك بالمط ... رة مِنْ بعد رونق وصفاء
وهْوَ خِدْنُ الممات واسطة العد ... وى رسول الوباء والأدواء(142/55)
عبد الرحمن شكري(142/56)
فاجعة الروض
بقلم أمجد الطرابلسي
مالي أرى الروضَ بدا واجماً ... كاثّاكِلِ المفؤودِ في لَوْعَتِهْ
والطيرَ في أَفيائِهِ ساهِماً ... يَشرَقُ بالأَدْمُعِ من حَسْرَتِهْ
من حَطَّم الكأسَ وَقَدَّ الوَتَرْ ... وأَبْدَلَ العُرْسَ تُرَى مأَْتَما؟
من أَخرسَ الطيرَ وأردى الزّهَرْ ... وهذه الأفنانَ من هَشّما؟
قلتُ له: يا روضُ ماذا دَهاكْ ... ومنْ كَسا بِشْرَكَ هذا الوُجومْ
قالَ: سَمومٌ أَوْرَدَتْني الهَلاكْ ... وكيفَ أستطيعُ نِضالَ السَّمومْ!
دَكَّتْ على البُلْبُلِ أوطانَه ... وطَوَّحَتْ بالزَّهْرِ فَوْقَ الرَّغامْ
وحَطمَتْ دوحي وأَفنانَهُ ... ثُمّ مضتْ تَضْحَكُ وَسْطَ الظلامْ
فَقلْتُ يا خالِقَ هذي الرِّحابْ ... الرَّوْضُ لا يَعْرِفُ مَعْنى الأذى
ففيمَ سَلَّطتَ عليهِ العذابْ ... حتى قضى الزَّهْرُ وماتَ الشَّذا
ألم يكُنْ أمسِ ندِيَّ الظِّلالْ ... مُوَرَّفَ الآصال عَذْبَ البُكَرْ
يَشدو بنعماكَ وهذا الجَلالْ ... ما غَرَّدَ الطَّيْرُ وَرَفَّ الزَّهَرْ
ربّاه إن الرَّوْضَ عَذْبٌ هَنيء ... وليسَ فيه شِرَّةُ الزَّوْبَعَهْ
وأنتَ لا ترضى عذابَ البريء ... كلا ولا يُرْضيكَ أَن تَفجَعَهْ
رحماكَ لا تجعلْ نيوبَ الذئابْ ... تَفْترِسُ الشاةَ وَلم تُذْنِبِ
أو فامنحِ الشاةَ سِلاحَ الغِلابْ ... وأعَطِها النّابَ مَعَ المِخْلَبِ
الظلم يُضْوي وَيُّمض النفوس ... فأحطم أيا ربِّ يَدَ الظالم
لا تبسم الأكوانُ بَعْدَ العُبوس ... أو تَصْرِف الجوْرَ عَن العالم
أمسِ سمعْتُ الحملَ الوادِعا ... وَهُوَ من السكين يَلْقَى العَذابْ
يقولُ: إن المِبْضَعَ القاطِعا ... أرضى لِنَفسي من شَمات الذئاب
اطبع على العدل قلوبَ البشر ... أَوْ فَليَكُنْ كلُّ الورى مجْرما
لا تنبتَ الأشواكَ بين الزَّهرْ ... فالشَّوكُ لا يُحسِنُ أَنْ يرْحما
كم حُرمَ الشّاعِرُ طيبَ الكرى ... وآفةُ الإنسانِ فَرْطُ الشّعورْ(142/57)
فَصُغْ مِنَ العَطْفِ قلوبَ الورى ... يا خالِقي أو قُدَّها من صُخورْ
مَنَحْتَني يا رَبّ هذا الفُؤادْ ... فكانَ لي كلَّ الأسى والشقّاءْ
يا ليتَ هذا القلبَ كانَ الجمادْ! ... وليت هذا العَقْلَ كان الغَباءْ!
أَينْدُبُ البُلْبُلُ أَخْدانَه ... ليَطْرَبَ الرَوْضُ وَأَفْنانُه!
وَيُنْشِدُ الشاعِرُ أشْجانَه ... لتُطْرِبَ العاَلَمَ ألحانُه!
رَبِّ حَرامٌ أَنْ تُقيم السّماءْ ... عُرْساً إذا لَفَّ البِطاحَ الدُّجى
وأَنْ يُشادَ المَجْدُ فَوْقَ الدّماءْ ... وَيَشَرَبَ الزَّهْرُ دموعَ النَّدى!
رَبِّ خَنَقْتَ الزَّهرَ غَضَّ لإِهابْ ... عَذْبَ الصِّبى يؤُذيهِ لَفْحُ الرّياحْ
فابعثْ إلهي النَّسَماتِ العِذَابْ ... تُداعِبُ الوَرْدَ وَتُحْي الأقاحْ
النَّرْجِسُ الرّفّافُ يا خالقِي ... كَيْفَ يُطيقُ الهَوْلَ والعاصِفَهْ؟
ارْحَمْهُ رَبّاهُ ولا تُرْهِقِ ... فإِنَّهُ في رِقَّةِ العاطفَهْ!
والبلبلُ المِسكين ماذا جنَى؟ ... هل يُحْسِنُ البُلبلُ غيرَ اللُّحونْ
لِمْ هَدَّمَ الإعْصارُ ما قَدْ بَنى؟ ... لِزُغْبِهِ بَيْنَ حَنايا الغُصون
هاهُوَ ذا يَسْتَصْرِخُ الظّالما ... لكنّما الظّالِمُ لا يَسْمَعُ
وَيلك كَفكِفْ دمعكَ الساجِما ... فالكونُ لا تَعْطِفُهُ الأدمُعُ!
خَلِّ البُكى والبَثَّ يا بُلْبُلُ ... لا يُطْرِبِ الإنْسانَ هذا النُّواحْ
تَنْدُبُ يضحَكُ الجَدْوَلُ ... فاحْجُبْ عَنِ الأبصارِ هذي الجراحْ
دمشق
أمجد الطرابلسي(142/58)
دراسات أدبية
في الأدب الإيطالي الحديث
بقلم محمد أمين حسونه
إن العبقرية القصصية الممثلة اليوم في أعمال طائفة من الأدباء الإيطاليين، لم يعن بها مع الأسف واحد من النقدة أو المشتغلين بالآداب العربية، ومعظم الذين تحدثوا عن نهظة القصة وقفت معلوماتهم عند جبرائيل داننزيو شاعر بسكارا؛ مع أن الفن الروائي الحقيقي يبدأ بعد عصر داننزيو، بل إن الفضل في تقدم القصة الإيطالية يعود إلى تألب العناصر على الجو الشعري الحالم، وانتفاء روح المرح، وفي التحدث عن الذات، وهي الصفات التي يرتكز عليها فن داننزيو الأدبي
وليس هذا معناه أننا نغمط داننزيو حقه، بل الواقع الذي يجب الاعتراف به أن زعماء الصفوف الذين سبقوا داننزيو، كانوا إما شعراء أو نقدة أو كتاب مسرحيات أو تراجم، ولم يتمخض الجيل الأدبي عن عبقريات أو مواهب قصصية مطلقا، لأن العصر كان فوضى، لا مقاييس تحده، ولا معالم يعرف بها، وقد شبه النقادة ريشارد جارنت هذا العصر - في كتابه بأنه يحاكي المدرسة الفلسفية الإغريقية، التي وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية الفكرية
على أن الفضل في تفتح أذهان الأدباء الإيطاليين إلى الفن القصصي، إنما يعود إلى جيته وفيكتور هيجو وبلزاك وموباسان فهم في الواقع أساتذة المدرسة الأدبية الحديثة في إيطاليا، وفي مؤلفاتهم تتلمذ جيل الأدباء في أواخر القرن التاسع وأوئل القرن العشرين، وهي ظاهرة غريبة، فإن الأرض التي أنجبت في القرن الثالث عشر أستاذ الأقصوصة جيوفاني بوكاتشو، ظلت مجدبة زهاء ستة قرون إلى أن بزغ نجم داننزيو في سمائها
وقبل التحدث عن شاعرية داننزيو وفنه، نرى من الخير ألا نهمل الأثر البارز الذي غرسه أستاذه كاردوتشي في نفسه. والواقع أن كاردوتشي مؤسس مدرسة أدبية عظيمة لا نعرف لها مثيلا في الآداب الإيطالية. اللهم إلا تلك الجهود القيمة التي سجلها دانتي، وفي مدرسة كاردوتشي تتلمذ بنزبني وجراسيا ديلليدا وبيراندللو وجيوفاني بابيني وغيرهم من أعلام الأدب الحديث ولكارودتشي يرجع الفضل في تحويل الأدب الإيطالي من الصيغة القومية(142/59)
الخالصة إلى النزعة الإنسانية والخروج برسالته من الحيز المحلي الضيق إلى المحيط العالمي وبث روح الإخاء المشتركة، وهي التي أملت عليه ملاحم: الربيع، والأم، وترنيمة الشيطان، وصقلية تحت سيوف العرب الخ. . .
ولقد خدم كاردوتشي الأدب الإيطالي كنقادة أكثر مما خدمه كشاعر، ومن هنا استطاع داننزيو أن يحمل تقاليد أستاذه مع محافظته على الطابع الخاص به. ويتمثل هذا الطابع في غمر قصصه بعناصر الاستمتاع وصبغها بألوان من الشهوة الصارخة المتأججة، فهو كفنان رجل عابد للجمال، متأمل للحياة من خلال أحاسيسه، يخضع الفن لسلطان العاطفة أكثر مما يخضعه لسيادة العقل. ومعظم أبطاله شهوانيون، لا تطيب الحياة لهم إلا في جو من القبلات والعناق، يقدرون معايير الجمال عن طريق الشهوة، وينبذون الفكر والتأمل فحياتهم داعرة متهتكة
والذين يعرفون شاعرية داننزيو في رواياته الرائعة، كانتصار الموت والفرح والنار يستطيعون أن يستشفوا من خلال سطورها روحه الهائمة، التواقة إلى عبادة الجمال والتمرغ في أحضان الفن الشهواني وأوكار الحب المبتذل الرخيص
على أن داننزيو استطاع عن طريق نزعته إلى المجد، أن يعيد إلى الأدب الإيطالي جو الوطنية الصارخ، وأن يضع لجيوش بلاده أناشيدها الحماسية التي ترتلها في ساحات الوغى والقتال
ولم يكن استيلاؤه على فيومي إلا نوعاً من الأساليب الشعرية، فبعد أن خرق معاهدات الصلح وسير أساطيله لاحتلال هذه المنطقة الحرة أذاع بياناً على العالم قال فيه: (أستحلف فرنسا التي أنجبت هيجو وأمريكا التي خرج منها لنكولن وإنجلترا التي خلقت ملنون أن تكن شاهدات عدل على ما أتيته. أنا ابن الوطن الجندي المتطوع الذي دفعته الغريزة الإنسانية إلى أن يضم الرضيعة فيومي إلى أمها إيطاليا)
وفي قصيدته الحماسية الرائعة التي خاطب بها كبلنج شاعر الاستعمار البريطاني بمناسبة حرب الحبشة، تبدو أمامنا قوة شاعريته الظامئة نحو المجد إذ قال: (إن الرياح الأفريقية القائضة التي تسفع وجوهنا اللاتينية الجميلة لا تعادل جزءا من قوة إعصار البطولة التي تهب على قريحتي كلما فتحت دواوينك لأترنم بأناشيدك الاستعمارية في الهند وإفريقيا.(142/60)
فأراني في كهولتي عاجزاً عن أن أقود جيش بلادي إلى (فيومي) أخرى، فهيا يا أبنائي إلى النصر. . . لأن مصير مجد الإنسانية الجديد متوقف على انتصار (الرومانية) ضد (البربرية) وحلفاء البربرية. . . إن الحرب ضرورة عالمية لخلق جيل جديد وإعادة شباب الإنسانية وتطهير الأجسام والأرواح وإنعاش بطولة التاريخ)
ومن رأي داننزيو أن إيطاليا الفاشستية ترى في اسم قيصر رمزاً أبدياً لأعظم ضروب مجدها الوطني وأن غاية ما يتمناه اليوم استعادة مجد روما القديم الذي تألق في عصر قيصر
بنزبني
وعلى الضد من داننزيو، نرى زميله جيوفاني بنزبني ينحو في فنه منحى جديدا، ويؤدي رسالة أستاذه كاردوتشي عن سبيل آخر هي معالجة مشكلات العصر في ضوء من الانتقاد المر اللاذع
وعلى الرغم من أن بنزبني ولد في نفس العام الذي ولد فيه داننزيو فإن اسمه كأديب وقاص لم يعرف إلا في السنوات الأخيرة للحرب العظمى. أي في الوقت الذي بدأ الإيطاليون يتمردون فيه على أساليب داننزيو الشعرية وفنه الأناني. وقد استطاع بنزبني أن يقضي تماما على نفوذ زميله عن طريق الحملة المدبرة التي تولى قيادتها أدباء الشباب في فلورنسا وغيرهم من الملتفين حول جريدة (الصوت)
ولا يخفى ما لبنزبني من النفوذ القوي في دوائر الصحافة الأدبية فهو يعاونها بين وقت وآخر بالمساعدات المادية والأدبية
وأكثر ما نلمحه في فن بنزبني الروائي خلوه من الأساليب المعقدة والنزوع إلى حياة الطبيعة الهادئة والرجوع بالإنسانية إلى طفولتها الأولى كما في روايته (العالم يدور) وتعرضه لمتاعب الحياة المادية في شيء من السخرية اللاذعة والنقد المر ممتزجاً بمسحة من روح الفكاهة والمرح البريء. وقد استطاع في روايتيه الرائعتين (ارمندا التعسة) و (مصباح ديوجين) أن يحلق بنا في جو تمور فيه الأشباح المعذبة من جراء المشكلات الأخلاقية في العصر الحديث
جراسيا ديلليدا(142/61)
ولعل جراسيا ديلليدا هي القصصية الوحيدة التي تبتعد بفنها الروائي عن الجو العالمي لتعيش في دائرة جزيرتها الضيقة (سردينيا) بين القرويين ورعاة الأغنام لتصور حياتهم أروع تصوير في مؤلفاتها التي تحمل طابعي السذاجة والبراءة والدعوة إلى التمسك بأهداب الفضيلة
وعلى الرغم من أن هذه القصصية المجيدة أحرزت جائزة نوبل في الأدب، وانتخبت عضواً في أكاديمية روما وفي مجمع الخالدين الذي أسسه موسولني عام 1926، وعلى أنها محور الحياة الأدبية في إيطاليا، فهي عزوف عن الشهرة، وتتحاشى جهدها الظهور في المحافل والأندية، أو بث الدعاية لفنها في الصحف والمجلات
وقد تجلت موهبة ديلليدا القصصية في روايتها (الأم) التي ظفرت من أجلها بجائزة نوبل، وهي عبارة عن مأساة قسيس شاب نفذ الحب إلى أعماق قلبه فقهره واستولى على لبه حتى غلب على أمره وأصبح خاضعاً لسلطانه بحيث أفسد عليه وظيفته الروحية المقدسة
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، (فالأم) التي خصصت حياتها لمحبة ابنها ووهبته للكنيسة وخدمة مجد الله حتى غدا قسيسا يصل بينها وبين السموات المشرقة، هذه الأم قدمت من الريف يوما تطلب ابنها فإذا بهذا الذي أودعته ذرات حياتها وتفكيرها، وعلقت عليه آمالها في الحياة الأخرى، تأسره امرأة فيصغي لنداء القلب، ويهجر مركزه الكنسي كي يتفرغ لشؤون الحب والحياة
وفي الساعة التي تذهب فيها الأم إلى الكنيسة لتضرع إلى الله واجفة القلب، دامعة العين أن يحرس وحيدها ويلهمه الرشد، إذا بالابن يتقدم في خطى ثابتة نحو المحراب الذي تصلي الأم على مقربة منه ليتجرد من ملابسه الدينية ويخرج من الكنيسة، فتصعق الأم وتفيض روحها إلى جانب المحراب
وقد أصبح (الأم) عنوانا مألوفا في إيطاليا، فإن ملحمة كاردوتشي الشعرية التي ظفر من أجلها بجائزة نوبل كانت موسومة باسم الأم، ومعهد الأمومة الدولي الذي أسس بسردينيا أطلق عليه اسم (الأم)
وقد ذكر النقادة الإيطالي ستاينس رويناس محرر صحيفة التريمونا، في دراسة أدبية عن قصص ديلليدا: (أن فنها الروائي يدور حول التفاؤل بالخير لأنها تؤمن بأن الله دائماً ضد(142/62)
الشر. وهي صانعة ماهرة أكثر منها فنانة مبدعة، وبالنسبة لتصوير عادات بلدها مثالة ذات ضمير حي، أما رسم العواطف الخارجية عن محيطها ففي سذاجة فطرية بسيطة)
ولم تشذ عن هذه القاعدة إلا في رواية واحدة هي الابابة فهي مصبوغة بعاطفة إنسانية عميقة، وقد كتبتها بعد زواجها ونزوحها عن جزيرتها إلى روما حيث كان أثر انعكاس الحياة الجديدة قوياً في نفسها
أما قصتها الرائعة (السيدة الصامتة ذات الشعر الفضي) ' فهي عبارة عن تاريخ حياتها وقد كتبته بأسلوب بسيط جذاب، فقصت نشأتها في قرية نورو بسردينيا وتفوقها في الآداب وهي لا تزال طالبة بالمدرسة الثانوية حتى ظفرت بجائزة قدرها خمسون ليرة كانت إحدى المجلات قد رصدتها لأحسن قصة تقدم إليها
وتحدثت عن زواجها وعن الفضائل الشائعة في بلدها وتعلقها بجبال سردينيا وتجارها وأشجارها، وهي في هذا تقول: (أهلها هم أهلي، أرضها ووديانها شطر من كياني، فلماذا أفتش عن موضوعات قصصية وراء الأفق، مادمنا نستطيع أن نفتح أعيننا على مآس وفواجع تقع في كل ساعة بين أيدينا؟ إنه لمن العار ألا نكون في جانب الصدق. ألا نرسم الحياة التي نعيش في داخل نطاقها، ولو كانت ضئيلة تافهة، أما التعبير عن الاحساسات الخارجة عن دائرة شعورنا الحقيقي فسقوط فني بشع، إنني أكتب لنفسي اليوم، وبحكم شعوري الخاص، أما توقع النجاح فأتركه للمستقبل)
وبالإجمال فأن ديلليدا تمكنت من أن تقدم للعالم صورا واضحة من حياة أهل الجزيرة الصخرية النائبة التي لم تصل الحضارة الأوربية إلى بعض أطرافها وأن تصف عاداتهم القديمة وأساليبهم في العيش حيث يؤمن الناس بمبدأ المساواة بين الجنسين وإعدام المرأة إذا ثبت عليها جريمة الزنا
(يتبع)
محمد أمين حسونه(142/63)
القصص
درامة من اسخيلوس
2 - محاكمة أُورست
(الدرامة الثالثة من الأورستية)
المنظر: (في الأكروبوليس بأثينا)
الزمن: (بعد فرار أورست من الأديتون بحقبة غير قصيرة)
(يدخل أورست)
للأستاذ دريني خشبة
- 6 -
- (مينرفا يا ربة العدالة!
هاهو ذا أورست، المنبوذ الطريد، يلجأ إليك بعد لُغوبٍ وأَين، وكد وعناء، يستظل بظلك الوارف، ويلتمس الإنصاف في جوارك، والعدل في حماك، طاوياً إليك القفار من لدن أبوللو، إلهي الذي أنفذني إليك غير مدنس بوزر ولا مُضرّج اليدين بدم، بعد إذ نشأت ربيب غربة وحلْف آلام. . . أصلي لك يا مينرفا وأتبتل! وألوذ بك وأتوسل، أن تتأدني فتنظري في أمري، وتشدي بعدالتك أزري، وتفصلي في الحادث الجلل الذي انتدبني أبوللو له. . . فكان شجني. . . وكان حَزَني!)
وما يكاد أورست يفرغ من صلاته وبثه حتى تدخل ربات الذعر فيروعهن أن يرينه متحنثاً في معبد مينرفا
- (هيا!! إنه هو بعينه! وإن الدم ما ينفك يقطر من يديه الآثمتين! إنه هنا، وقد ذرعنا الأرض باحثات عنه! وإنا لنشم رائحة الدم تنتشر عنه! لنحط به؟ لن يفلت هذه المرة هذا القاتل! لقد اختبأ من قبل في صومعة أبوللو، وهو اليوم يأوي إلى الأكروبوليس ويسجد بين(142/64)
يدي صورة! صورة الخالدة مينرفا! يحسب أنها تضع عنه وزره! تعال تعال! لنمزق لحمك الغض الطري، ولتغتذ بشبابك البض الفينان! ولنقذف بك في حميم الجحيم! إنك لن ترى هناك مظلوما. . . بل هم جميعاً مثلك. . . قتلة. . . آثمون. . . عتوا على أنفسهم وعلى الآلهة وعلى الناس! كل يلقى جزاءه ثمة! فلتسجل عليك هيدز كما سجلت عليهم!)
معاذ الحق يا ربات الذعر! لقد ثقفت الحكمة في معاهد الشفاء! وسترين أنني أدفع عن نفسي تلك التهمة الباطلة، لأن سلطاناً علويا يحل عقدة لساني! هاهي ذي يدي نقية بريئة طاهرة لا أثر للجريمة فيها! لقد اطهرت من الدم الذي ترين أن تأخذنني به، لأن أبوللو، تبارك وتقدس، قد صب عليها شؤبوب رحمته! أنا لم أكن يوماً مجرماً ولا قاتلاً يا ربات؟! ولقد عشت في قوم غرباء سنين عددا، فلمَ أكون مجرماً وقاتلاً اليوم!؟ لم لم أسيء إلى أحد قبل هذه المرة إن كنت آثماً شريراً مجبولاً على إيذاء الغير؟ ستمر الأيام، والزمن وحده زعيم بإظهار براءتي! وهأنذا أدعو مينرفا بفم نقي وشفتين طاهرتين، ولسان خير مُبرَّا أن تسمع إلى نجواي، وتستجيب لندائي، وتكون الفيصل الحق بيني وبينكم؛ فقد كنت، وكل مواطني، عبادها الأمناء. . . وهي لا بد مصيخة إلى صرختي. . . مهما تكن بعيدة الآن في بعض شأنها.)
- (لا يقرن في نفسك أبدا أن يحميك أبوللو، أو تدفع عنك مينرفا ما قدر عليك أن تلقاه جزاء على ما اجترحت وفاقاً!! ستذهب على وجهك على أرض كلها حسك، وفي سبيل موحشة إلا من الهموم والحسرات! خَرسْت! يا قاتل أمه! سنمزق لحمك الذي يتدفق فيه دم خطاياك، وسنأكلك حياً لتكون قرباناً للبطن الذي حملك، فبقرته جزاء له!! ويل لك. . . ويل لك! اصغ إذن لأنشودة موتك، قبل أن نبطش بك!)
- 7 -
وتعزف موسيقى الجحيم!!
فاستمع لها فماً من الرعد، وبوقاً مفزعا من أبواق الدار الآخرة، ولساناً كله ذعر من ألسن هيدز!! لقد طفقت ربات العذاب يرقصن ويغنين، وينفخن في مزامير الموت، فأنكرن من أبوللو حمايته للمجرم الذي سفك دم أمه، ووقوفه في سبيلهن من بعد يمنعهن حقهن في تعذيب القاتل، وتشَكّين من زيوس الذي يمقتهن بغير الحق، مع ما خصتهن ربات القضاء(142/65)
من فضل على الآلهة. . . وتودعن أورست بالويل والثبور، وعظائم الأمور وبالظلمة الغاشية التي تتردى فيها روحه بعد أن يبطشن به
وفيما هن يتغنين أغنيتهن المنكرة، إذا مينرفا تقبل. . . فَيَصْمُتْن!!
- (أوه! لقد تردد في أذني دعاؤكم يا صحب، إذ أنا أجول في الأرض المفتوحة باسمي على شطئان الهلسبنت، فرأيت أن أعود إليكم، حاثة المطى التي تعرج في السموات، حاملة درعي إجبس، فما هي إلا أن خفقت خفقة أو خفقتين، حتى آبت إلى معبدي! ما بالكم؟ من هذا المسكين الراكع عند قدسي المحرم؟ وأنتن! العياذ بالأولمب؟ إنكن لا تشبهن أحداً من الناس، ولا أحدا من الآلهة؟ يا للنكر؟! ولكن. . . معذرة!. . .
- (تباركت يا ابنة زيوس سيد الأولمب وكبير الآلهة! نحن بنات الليل الدجوجيّ. . . ساحرات السُّفْل. . . موطننا الأعماق من هذه الأرض!)
- (أعلم ذلك كله. . . أسماءكن ومثواكن)
- (وتعلمين ما انتدبنا له القدر. . . صيد القتلة وتطهير الأرض من المجرمين!)
- (وإلى أين ينتهي بالقاتل، سافك الدماء، مطافه في هذه الدنيا؟)
- (إلى حيث لا فسحة أمل، ولا مهلة لِسَرّأء!)
- (إذن أنتن تحاصرنه هنا الآن؟)
- (مادام قد رضى لنفسه أن يكون قاتل أمه، ومهرق الدماء!)
- (أعن رضى؟ أم قسره على ذلك شجن لم يكن له به يدان!؟)
- (وأي شجن يقسر على قتل الوالدين؟)
- (لقد سمعت طرفاً واحداً. . . فلأسمع من الطرف الآخر)
- (إن المتهم ليعجز عن الحلف، ومن يدري؟ فقد يقسم حانثا؟؟)
- (يبدو لي أنكن تؤثرن مظهر العدالة على العدالة نفسها؟!)
- (وكيف يا ربة الحكمة الزاخرة؟ خبرينا!)
- (إي وأرباب الأولمب! لا تأبهن بنصر يأتي عن يمين كاذبة!)
- (إذن سَلِيه! واحكمي بيننا بالحق!)
- (وهل تقبلْن أن يكون قراري القرار الفصل؟)(142/66)
- (أجل! إقراراً لما لك من فضل! وما لأبيك من نبل)
- (إذن، أجب أيها البائس بدورك! ولكن، اذكر لنا أولاً: ما أنت؟ وما موطنك؟ وأي غم يلم بك؟ ثم ادفع التهمة عن نفسك إن تكن باطلة، واذكر إن كنت على حق إن صح أنك قتلتها. . . إني لأراك تلوذ بوثني، وتستجير بقدسي، قل. . . أجب. . . تكلم. . . قل الحق. . . والحق الصراح)
وكفكف أورست عبراته، وقال:
- (إلهتي ربة العدالة)
لو كنت مجرماً سفاك دماء ما جسرت أن ألوذ بك، ولما قويت على اقتحام قدسك وتدنيس بساطك والتعلق بوثنك، وإن سفاكا مجبولا على الشر لن يستطيع أن ينبس بدعوى كاذبة في حضرة مينرفا ربة العدالة التي تستشف الأسرار وتدرك خافية القلوب وخائنة الأعين بلمحة طائرة من عينها الصائبة. . . ولقد وقفت أمام آلهة أخرى من قبل، فما كنت أجسر على قولة أرسلها إلا أن تكون حقاً. . . . . . . . . . . . إذن، أنا مواطن من آرجوس، وأبي، يا ويح له من أب، أحد عبادك المخلصين؛ إن لم يكن أحبهم إليك. . . أجاممنون يا ربة العدالة! أجاممنون قائد جندك وأمير أسطولك، الذي أعنته على أعدائك، فأنتصر على بريام وقهر إليوم، وعاد ليسبح بحمدك ويشكر لك. . . ولكن! يا للهول! لقد دبرت له زوجته الآثمة. . . أمي. . . أمي التي خانت عهد زوجها، وداست عرض مملكتها، وفتحت قلبها لغير رجلها. . . أمي هذه يا ربة العدالة قد دبرت لرئيس جندك، وأخلص عبادك قتلة غادرة، تكتنفها الظلمات، وتضرب من حولها الأسرار، فذبحته يوم عودته من الجهاد في سبيلك والذود عن اسمك، غير راعية فيه إلاً ولا مبقية على عهد. . . . . .
ثم لم تبال أن تعترف، وجثته بين يديها، أنها قتلته. . . وأنها صاحبة دمه. . . . . . وكانت قد قذفت بي، إذ أنا طفل أحوج ما يكون إلى حضن أم وفؤاد أب، إلى أعماق منفى سحيق مقفر، أعاني الذل وأدرج في حجر التعاسة، فلما شببت وبلغت الحلم، كان أول واجب علي في الحياة أن أثأر لأبي المظلوم، من أمي الآثمة، فعدت إلى آرجوس وقتلتها. . . أجل. . . قتلتها. . . قتلت المرأة التي قتلت أبي. . . أقر. . . أعترف. . . قتلت أتعس الأمهات، فهل سمعتن يا ربات العذاب وزبانيات جهنم!؟. . . . . . ذلك إذن وزري، إن(142/67)
كان في مثل هذا العمل وزر. . . وقد شاركني فيه أبوللو. . . أوحى إلي أن أقتل أمك. . . فقتلتها. . . ولو لم تكن آثمة من قبل ما أرقت قطرة واحدة من دمها. . .
هذه يا ربة العدالة قضيتي فرَيْ رأيك فيها وأنا قابله. . . وسأخضع له. . .)
وأجهش أورست بالبكاء. . . فبدا التأثر الشديد على وجه إلهة العدالة. . .
- (قضية معضلة، وكان حري بكم يا بني الموتى ألا تضطلعوا بها. . . بل أنا نفسي أكاد أجاوز حدودي حين أقيم من نفسي فيصلاً فيها بينكم! وَيْ! لقد أقدمت على عجل إلى أثينا. . . مقدسي وطوبايْ. . . فيالك من لاجئ مهيض الجناح، مبَلبل الروح. . . في حين تبدو صحيفتك غراء ناصعة!. . . ولكن!. . . أصغ إلي يا أورست! لقد كدت أدعوك مواطناً. . . لولا ما ينبغي لك من إيضاح براءتك، وتمهيد طريقك، ورأب الصدع الذي تلج منه إلى اتهامك ربات الذعر. . . اللائى يأبين إلا أخذ المجرم بجرمه. . . لأنه عملهنّ، ولا محيص من أدائه لهن. . . فجلِّ برهانك، وأعد حجتك، وأيد حقك بيقين يقشع الشك. . . حتى أعود بالمحلفين العدول من أثينا، لأشركهم في هذه الحكومة الشائكة، والقضية المربكة. . .)
(تخرج مينرفا)
- 8 -
ويستولي طائف من الشك على ربات الذعر، وتروعهن عن مينرفا هذه النعومة التي لقيت بها أورست، فيهزجن بنشيد طويل من موسيقى الجحيم، كله قصف وكله رعد، وكله ودق يخرج من هذه الأفواه الشائهة، والألسن التي تتلوى كألسن النيران. . . وينعين على الإنسانية ما يعصف بها من ظلم إذا انتصرت الجريمة، ولم يقف في سبيلها قصاص. . . (هنالك تنقلب الدنيا فتصبح مباءةً للاثم، وهنالك يغدو الناس شراذم من اللصوص وقطاع الطرق والسفاكين، وهنالك لا يأمن والد على نفسه من ولده، ولا أم هي مطمئنة على حياتها من أبنائها. . . ويومئذ تعم الشرور وتطغي الويلات. . . حتى لا يكون شبر من الأرض فيه أمان لآمن، مادمنا نحن نائمين عن المجرمين لا نأخذهم بآثامهم، ومادام هؤلاء الأرباب يضربون سلطانهم علينا، ويتدخلون في شؤوننا، من غير حق ولا برهان مبين. . . . . .)
وتدخل مينرفا، فتهتف بسادن المعبد قائلة:
- (أذِّنْ في عبادي بالصمت أيها السادن، أو انفخ في صورك حتى تردد أصداؤه في(142/68)
السموات معلنة انعقاد محكمة العدل، فلا ينبس أحد ممن بالمدينة الخالدة بكلمة، ليعوا شريعتي، ولينقشوها في صفحات صدورهم، ولتخلد ثمة إلى ما أشاء!)
(ويظهر أبوللو فجأة فتقول ربات الذعر:)
- (أيها الإله أبوللو! فيم أقبلت؟ ألتشارك في قضية ليس لك فيها شأن؟)
- (لقد أقبلت لأبرهن على براءة هذا الضارع البائس الذي لاذ بي، وصلى لي، وسألني معونتي لأضع عنه الوزر الذي تأخذنه به. . . وأقبلت كذلك لأدافع عن نفسي فيما يخصني من هذه القضية، لأني شريك في مقتل كليتمنسترا. . . . . . أيتها الربة العادلة مينرفا! خذي في سؤالنا بما يبدو لك. . . فأنا منصتون!!)
فتقول مينرفا: (إذن نبدأ القضية، ولقد سمعت حديث الاتهام من أفواه هؤلاء فكانت حجتهن دامغة وبرهانهن ساطعاً.)
فيشيع البشر في أوجه ربات الذعر وتخاطب رئيستهن أورست قائلة:
- ها قد سمعت. . . وسمعت من قبل كلماتنا القلائل حينما اتهمناك وأقمنا عليك البينة، فهلم فتحدث، ولتتحدث باختصار كما تحدثنا نحن من قبل، ولتجب عن هذا السؤال أولاً: أولم تذبح أمك يا أورست؟!)
- (أنا لا أنكر أنني ذبحتها يا ربات!)
- (قُضي الأمر! ها قد فرغنا من ثلث المعركة!)
- (تهْن ما شئتن؛ فأنكن لم تصرعنني بعد!)
- (ها!. . . بقي عليك أن تخبرنا كيف ذبحتها؟)
- (بأبيض ذي شفرتين! أرسلته فوق رقبتها، وخوّضت به في صدرها، فقطعت وتينها!)
- (وهل حرضك على هذه الجريمة أحد؟)
- (بأمر أبوللو كما يشهد هو بذاك!)
- (أمرك الإله، سيد الشمس، أن ترتكب جريمة قتل الأم؟)
- (أمرني بها، وأنا مؤمن بما فعلت، مطمئن إليه!)
- (ها. ها. سرعان ما تغير لهجتك حينما يسمُك القضاء العادل!)
- (سينتفض أبي في رمسه فيحل محلي! أنا لا أخشى شيئاً!!)(142/69)
- (آي! وهكذا تعتمد على العوْن يمدك به الموتى! يا قاتل أمه!)
- (إن هذه الأم تحمل وزراً مضاعفاً وإثماً أنكر من إثمي، إن يكن لي إثم!)
- وكيف؟ قص على المحكمة!)
- (أجلْ! فلقد ذبحت بعلها. . . وذبحت أبي!!)
- (لقد خلصت من أوزارها بالموت!)
- (خلصت من أوزارها بالموت؟! ها. ها. . . عجيب أمركن! مالكن كيف تحكمن؟ لقد قتلت زوجها. . . وقتلت أبي وعاشت سنوات عشراً. . . فأين كنتن؟! لِمَ لم تقصصن أثرها كما تقصصن أثري!)
- (ذلك لأن رحماً لا تصلها بمن قتلت! ولا رابطة من دم!)
- (إي! وأنا؟ أي رابطة من الدم تصلني بمن قتلت؟ ألمجرد حملها بي وأنها ولدتني؟)
- (أكبر رابطة أيها اللعين! لقد غذتك إذ أنت في أحشائها، واحتملت كثيراً من أجلك!)
- 9 -
وكأنما ضاق أورست ذرعاً بربات الذعر فهتف بأبوللو يقول:
- (والآن يا إلهي أبوللو أدِّ شهادتك، وليفض بالحق لسانك! هل كنت على حق حين قتلت أمي؟! إني لا أنكر مما صنعت شيئاً، ولكني جد محتاج إلى دفاعك. . . فقط. . . لتجلو الحقيقة لهذا المجلس الموقر، ولكل الحاضرين هنا!!)
فينهض أبوللو، ويرسل حديثه في جلالة ووقار:
- (أصارحكم القول يا جميع من حفل بهم هذا المعبد المقدس، ولا أحسب أحداً منكم يساوره الشك فيما أقول. . . أنني أبداً ما أوحيت بشيء إلى رجل أو امرأة، إذ أنا متربع على عرشي في السموات العُلى، إلا عن أمر يصدره لي أبي بصدد هذا الشيء!! وهذا ما كان فيما نحن بصدده الآن. . . أرجو ألا تلغطوا. . . بل آمركم بالأصالة عن أبي!!!)
فتضطرب ربات الذعر وتقول كبيرتهن:
- (وتقول إن أباك - زيوس سيد الأولمب - هو الذي أذنك أن توحي إلى أورست فيثأر لمقتل أبيه، في حين لا يبالي بمقتل أمه؟!)
- (وبم يبالي؟! وماذا يقدس فيها، حين يعود رجل له وقاره وتدينه، وأيمانه الذي لا يحد(142/70)
بربه زيوس، ظافراً من ساحة الحرب، فتذبحه زوجته الآثمة بعد أن تنصب له الأحابيل في كل شبر من قصره؟! أي زوجة هذه التي تعبث بشرف زوجها، وتمزق عرضها، وتنفي ولدها، وتذل ابنتها، وتدوس الشرائع والحرمات!؟)
- (إذن هو أبوك زيوس الذي يرثي لهذا الأب المسكين الذي قتلته زوجته! أمرك عجيب يا سيد الشمس! أبوك زيوس ينصر أورست لأنه يثأر لأبيه! إذن لم وضع زيوس نفسه الأغلال في عنق أبيه كرونوس وسجنه آخر الدهر؟ أليس هذا نقيض ذاك؟ أجب! تكلم! وأنت يا ربة العدالة! وأنتم أيها المحلفون! أعيروه أذناً صاغية!)
- (اخسأن أيتها الهولات! شاهت وجوهكن! يا عدوات السماء! إن مولاكن قد صنع ما صنع بأبيه ليكفي العالم شره - وهو مع ذاك لم يرق دمه!)
- (إذن كيف تدافع عن هذا الطريد الذي هراق دم أمه؟ وكيف تخول له أن يتربع على عرش آرجوس؟ وكيف يتسنى له أن يقدم قرباناً عن فعلته؟ وهل قربان إلا هو؟!)
- (آه! إنكن تزعمن دائماً أنه ابن كليتمنسترا!! وليس بعد هذا ضلال! إنه ليس من أهلها، لأنها عمل غير صالح!! إن أورست ابن أجاممنون فحسب! لأن أجاممنون هو الذي غرس بذرته، وإن يكن قد غرسها في أرض حمِئة ذات أوباء! ولو شاءت السماء لغرست البذرة في أرض أخرى - في أرض حقيقية - في حديقة - ثم لنشأ أورست عوداً فيناناً من غير أم. . . . . . . . . يا ربة العدالة! مينرفا يا ابنة زيوس العظيم! لقد أرسلت أورست ليرفل في ظل رحمتك النامي، وليحظى بحمايتك، وليسجد تحت قدميك، هو وشعب الأرجيف الكريم! أعيدي إليه وقاره وطمأنينته إذن، فهو جدير بهما! ليعد إلى شعبه الباسل ليظلوا إلى الأبد عبادك المخلصين! إنه بريء! إنه بريء!)
فتقول مينرفا:
- (كفى! كفى! حسبنا ما سمعنا! والآن، أعطوني موثقكم أيها المحلفون! عاهدوني على أن تؤدوا الشهادة غير متحرفين! ليكن الحق وحده رائدكم حين تدلون بآرائكم!)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(142/71)
البريد الأدبي
رجائي ورجاء الزيات
كان لي ابن لم يكن يعدّ الثامنة من عمره، وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي أطلقته - على رغمي - بين أفياء الجنة يتعجل نعيمها. وبقيت أتجرع غصص هذه الدنيا، لموته حيناً ولحياتي أحياناً
جرى عليَّ هذا الفراق الأبدي فحزنت وتكاءدني وصف هذا الحزن فأنا إلى اليوم أجد مسّه، ولا أستطيع بثه. ولقد كذبت الشعراء حين جعلوا الحزن ناراً تتقد، وتصطلي حرها الكبد. وحين زعموه حسرة تقطع النفوس، ولا تشفي منها الكؤوس. وحين تصوروه أسفاً قاتلا، وموتاً نازلا. وحين شبهوا زفراته بشواظ النار، ودموعه بالسحاب المدرار
والحق أن اللفظ يعيا بوصف حزني كما عي قلبي باحتماله. وما عيننا بوصف النعمة زائلة، إلا حين عجزنا عن فهمها ماثلة. وكيف نتصور وجوداً كانت روائح الجنة في رياه، والسلام أولى دعواه وأخراه
سميت فقيدي (رجاء) وما شغلت نفسي حين اخترت له هذا الاسم أن أكون فيه مقلداً تابعاً، وإنما ارتجلته من قلبي يوم عقدت الرجاء برجاء، وأملت أن يكون خاتمة الشقاء، وبداية الصفاء
يعلم الله يا أخي أن نعيك لرجائك قد أعاد حزني جذعاً، كما كان يوم صادفني وفيّ بقية من الأسر أقوى بها على بعض الأمر، فأما اليوم وقد انهدت قواي بما أخذ مني الأسف وما أبقى، فإني أراك قد نعيت إليّ نفسي بهذا النعي، وما قصدتَ بذلك بغياً عليّ. ولكني أنا الذي أعددت نفسي لرمسي، بين يومي وأمسي
عرفتك أديباً مثقفاً خدمت الأدب أستاذاً ومؤلفاً ومترجماً وناقداً، ثم رأيتك منذ أعوام تجمع هذه المزايا في صحيفتك الخالدة (الرسالة). وكان من حق مثلك على الأيام أن ترفه عنه وتعفيه من معضلات رزاياها حتى يفرغ لواجبه وينهض بعبئه
عرفتك وادع النفس، هادئ الخلق، حليما لا تثار، ولا تُغلب على الوقار. وكان من حق مثلك على الأيام ألا تخرجه عن وقاره. ولا تضجره بحلمه. بل تتركه لهذه الوداعة وتلك الطمأنينة، يرتع الأخوان في بحبوحتها ويفيئون إلى ظلها كلما لفحهم هجير الرعونة،(142/73)
وآذاهم لهب الشغب. ولكن الأيام لم تمسّك بهذا الخطب الجليل إلا بعد أن عجمت عودك فوجدته صُلبا، وقرعت صفاتَك فوجدتك صَلدا، ذلك هو ظن إخوانك الذين عرفوا إيمانك بالله قويا، وعرفوك للفضيلة وفياً، فلتكن بثواب الصبر حريّا
وبعد، فاقبل عزاء رجل أشبه أمره أمرك، وأدرك - إن ضقت بالدنيا - عذرك. فساق ماضيه وحاضره سلوى تتحدث بلسان الواقع ولا تلجأ إلى خيال الواعظ
ومن عرف الأيام معرفتك لقي حوادثها في درع من الصبر مضاعفة، وشهر على الجزع مشرفيات مرهفة.
أنت يا فوق أن تعزَّى عن الأحل ... ام لباب فوق الذي يعزيك عقلا
وبألفاظك اهتدي فإذا ع ... زَّاك قال الذي قلت قبلا
قسيمك في الحزن
محمود مصطفى
مدرس الأدب للمتخصصين في مادته بالجامعة الأزهرية
السخاوي
طالعنا الأستاذ الباحث المحقق مؤرخ العصر محمد عبد الله عنان على صفحات الرسالة الغراء بنتائج تحقيقاته. . . . وقد أفاض إفاضة عظيمة فيها للإمام العالم أبي الفضل محمد السخاوي ولما لموسوعته الضوء اللامع من قيمة أدبية وأثر تاريخي عظيم
وقد ذكر الأستاذ عنان في إحدى مقالاته بالرسالة أن للسخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة إلى أن قال: (وقد انتهى كلاهما إلينا. أولهما كتاب تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) الخ. . . وقد سارت دار الكتب الملكية في فهرستها على غرار الأستاذ عنان فنسبت الأثرين في فهرستها إلى الإمام السخاوي
وقد أتيت على ترجمة الإمام السخاوي قراءة وقتلتها بحثاً فلم أظفر بين مؤلفات السخاوي بهذين الأثرين اللذين نسبهما الأستاذ عنان للسخاوي كما نسبتهما دار الكتب
وليست هناك حجة تقوم بإزالة هذا اللبس أصدق مما خطه الإمام السخاوي في ترجمته لنفسه بالضوء اللامع(142/74)
وأما الأثر الذي عناه الأستاذ عنان (الخطط والمزارات) فهو للعالم الجليل محمد بن أحمد الحنفي السخاوي وقد فرغ من تأليفه سنة 956هـ وكان حياً سنة 960هـ وقد عده ابن مخلوف في طبقات المالكية
أما الإمام السخاوي صاحب الضوء اللامع والمؤلفات العديدة التي عدها في ترجمته فقد توفي سنة 902هـ
فإحقاقاً للحقيقة وصوناً لمعالم التاريخ نأمل أن يجزم رجال التاريخ أن الأثرين اللذين عناهما الأستاذ عنان ليسا للإمام السخاوي صاحب الضوء اللامع. . كما نتقدم بالرجاء إلى العالم المثقف محمد أسعد براده مدير دار الكتب أن يصحح ذلك في فهارس الدار
والسلام على من عمل الخير أو سعى إليه.
(جرجا)
محمود عساف أبو الشباب
الأدب الألماني في المنفى
لم تقتصر الثورة الاشتراكية الوطنية الألمانية على تحطيم النظم والأوضاع السياسية الألمانية الجمهورية والديموقراطية، ولكنها حطمت صرح الحياة الألمانية القديم كله، وشملت آثارها كل نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية؛ وكان من آثارها الظاهرة تدهور العلوم والفنون والآداب في ظل النظم الطاغية الجديدة؛ وكان قيام الحكومة الهتلرية محنة حقيقية للأدب الألماني؛ فغادر ألمانيا عدة كبيرة من أقطاب الكتاب والمفكرين، فراراً من يد المطاردة والاستعباد الفكري؛ وكان الكتاب والعلماء اليهود في مقدمة من هرعوا إلى المنفى، ولكن الأمر لم يقتصر على هؤلاء، فقد غادر الوطن القديم جمهرة من أكابر الكتاب الألمان (الآريين) لأنهم لم يطيقوا الحياة في ذلك الجو المضطرم بشهوة الانتقام السياسي، وكان في مقدمة هؤلاء عميد الأدب الألماني المعاصر توماس مان حامل إجازة نوبل، وأخوه هزيخ مان، ونشأ منذ ثلاثة أعوام، أي مذ قامت الحكومة الهتلرية في المنفى أدب مستقل يتمتع في الخارج بكامل حريته، وإن يكن يعاني صعاب المنفى ومتاعبه. ذلك لأن الحكومة الهتلرية لم تقتصر على مطاردة زعماء الأدب الألماني، بل عمدت أيضاً إلى(142/75)
محاربتهم في أرزاقهم المستقبلة، فحظرت على الناشرين الألمان أن يعاملوهم، ومنعت كتبهم من دخول ألمانيا، ولكن ذلك لم يفت في عزم أولئك الكتاب الأحرار، فقد لقوا ضيافة حسنة في إنكلترا وفي فرنسا وفي سويسرة، ورحبت دور النشر في هذه البلاد بالتراجم الإنكليزية والفرنسية لكتبهم الجديدة، وأخذ الأدب الألماني الرفيع ينمو ويزدهر في المنفى
وقد نشأ الأدب الألماني في المنفى سامياً بطبيعة الظروف التي أحاطت به، وكان طابع الكفاح والعرض السياسي ومقارعة الفكرة والعاطفة يغلب عليه أولا؛ ومن هذا النوع كتاب هيزيخ مان (البغضاء) وهو كتاب تاريخي رائع، وقصة سياسية بقلم ليو فويختفانجر عنوانها (أخوة أوبنهايم) ظهرت في أمريكا سنة 1933؛ وأخرى بقلم بالدر أولدن وعنوانها (قصة نازي) وقد ظهرت في إنكلترا.
ولم يفقد الأدب الألماني عبقريته في المنفى، فقد دلل على أنه ما زال يحتفظ بهذه العبقرية في سلسلة من الكتب والقصص القوية المختلفة في نوعها وفنها؛ ونستطيع أن نذكر منها (هندنبورج) بقلم رودلف أولدن؛ و (شباب هنري الرابع ? لهزيخ مان، وآخر المدنيين لارنست جليزر، (والمائة يوم) ليوسف روت، و (النغم المؤسي) بقلم كلاوزه مان، ويوجد الآن تحت الطبع عدة كتب وتراجم هامة منها: ترجمة لبطرس الأكبر، وأخرى لهتلر. ويلاحظ مع ذلك أن الصبغة التاريخية والسياسية مازالت تغلب على معظم الكتب الممتازة بين تراث الأدب الألماني في المنفى. مثال ذلك كتاب (هندنبورج) لرودلف أولدن؛ وقد كان أولدن محامياً كبيراً ومحرراً في جريدة (البرليز تاجبلاط)؛ وكتابه ينم عن قوة في العرض ودقة في التمحيص والتصوير؛ وفي رأيه أن الماريشال الراحل، عميد الجمهورية الألمانية ورمز ألمانيا مدى أعوام طويلة، لم يكن سوى بروسيا؛ وأنه لم يكن رجل سياسة وتفكير قط، وإنما كان جندياً يؤمن بسيادة الطبقات، وأن سيادة الطبقة البروسية هي مصدر قوة ألمانيا وعظمتها، وعما قليل أيضاً يصدر كتاب (هتلر) لاميل لودفيج والمنتظر أنه كباقي تراجمه سيكون قطعة رائعة من التصوير النفسي
وكذلك كتب القصص، فأن يوسف روت يصور لنا في قصته (المائة يوم) صورة الطاغية (نابليون) الذي يكفر في العزلة والمنفى عن جرائمه وزلاته، ويتدبر الآلام والمظالم التي أنزلها بالأمة والشعب والوطن، ثم هو يقضي وحيدا، ويغمر أعوامه الأخيرة فراغ هائل،(142/76)
ويرقب العالم الخارجي فشله وسقوطه؛ ويكتب يوسف روت بأسلوب ساحر، ونزعة غنائية مؤثرة حتى ليخيل إليك أنه يمزج الشعر بالنثر. ويقدم إلينا أرنست جليزر أيضاً في (آخر المدنيين) قصة سياسية هي تاريخ ألماني هاجر إلى أمريكا منذ نصف قرن وعاش في العالم الجديد بأمل العودة إلى وطنه، ولكنه لم يعد إلا قبيل قيام الحكومة الهتلرية، ويصف لنا المؤلف حياة المجتمع الألماني في الريف عقب الحرب، وروعة الهزيمة، ونكبة التضخم المالي، واعتقاد الشعب أن الذنب في ذلك كله يرجع إلى (البروسيين) وكيف أن الشعب لم ينضم إلى الحركة الهتلرية إلا باعتقاد أنها كفاح ضد السيادة البروسية. ثم يصف لنا بعد ذلك روعة اليأس الذي استحوذ على بطله حينما رأى ألمانيا الديموقراطية قد حطمت وغاضت، فغاضت معها آماله ثم حياته
ويرى النقدة أن أبدع كتب الموسم كتاب هينريخ مان (شباب هنري الرايع)؛ ويرد المؤلف في كتابه على الملاحظة التي تلاحظ في أدب المنفى، وهو أنه أدب تاريخ، ويقول لنا، أجل إن الأدب الألماني في المنفى يجب أن يكون تاريخياً، ومن التاريخ تستخرج العظات والعبر، ويستمد الأمل في المستقبل ويصف لنا المؤلف حياة هنري الرابع ملك فرنسا ومحقق وحدتها في أسلوب بديع هادئ، وفي عرض قصصي ساحر مؤثر
وهكذا ينشأ خارج ألمانيا، وفي ظلال المنفى، أدب ألماني جديد، قوي حر، تميز باستقلاله وحياته الجديدة في ظلال حرية غاضت من أرضه ومهاده، وهو يتجه بأمله إلى المستقبل القريب
بعض عناوين وأسماء
بعث إلينا أديب يستفهم عن عناوين بعض الكتاب الحديثة التي تستعرضها (الرسالة) بلغاتها الأصلية، ويرجو أن تكتب الرسالة دائماً عناوينها الأصلية وأسماء مؤلفيها بالإفرنجية. وهذا ما تفعله الرسالة في الواقع في معظم الأحوال، وإذا كنا نكتب أسماء المؤلفين أحياناً باللغة العربية فقط، فذلك اعتماداً منا على شهرة أولئك المؤلفين وعلى فطنة القارئ. وفيما يلي بعض العناوين والأسماء التي استفهم عنها الأديب المذكور في كتابه:(142/77)
العدد 143 - بتاريخ: 30 - 03 - 1936(/)
إلى أخي الزيات
الخيال العاقل
تحية صديق مشارك في الحزن آمل في العزاء
للدكتور طه حسين بك
أعرفت قط خيالاً عاقلاً أيها الأخ العزيز؟ أما أنا فقد عرفته أمس، ولم أتكلف في معرفته مشقة ولا جهدا، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتاً، بل لم أبحث عنه وإنما سعى إلي، أو قل هممت أن أدعوه فاستجاب لي قبل الدعاء، ولكني لم أدعه لأعرفه، فإن عهدي به بعيد، بعيد جدا لا أكاد أذكر أوله، وإنما أعلم أنه رفيقي منذ بدأت أفكر، بل منذ استقبلت الحياة، ما أكثر ما زين لي الأشياء حتى كلفت بها ورغبت فيها، وما أكثر ما بغض إليّ الأشياء حتى نفرت منها وضقت بها، وما أسرع ما اخترع لي أشياء لم أكن أعرفها ولا أقدرها، فإذا هي تملأ قلبي أملا ورجاء، وتدفعني إلى العمل والنشاط، وإذا هي تملأ قلبي يأساً وقنوطاً، وتدفعني إلى الفتور والخمود والانزواء
لقد خلق لي عالماً كاملا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء مختلف الألوان، قضيت فيه أيام الصبى وما أكثر ما تمنيت أن أعود إليه، ثم خلق لي عالما آخر ليس أقل من ذلك العالم سعة وتنوعاً واختلافاً، ولكنه مزاج من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، قضيت فيه أيام الشباب وما زلت أتمنى أن أعود إليه، ثم هو يرافقني الآن فيزين لي الحياة قليلا، ويقبحها في نفسي كثيراً، ويحاول أن يخلق لي ما يسر، ويحاول أن يخلق لي ما يسوء، فأطيعه حيناً، وأعصيه أحياناً، ولكنه وفي لي دائماً كلما أردت استعانته على الكتابة والإنشاء؛ وأعترف أيها الأخ العزيز بأني كنت مقتصداً أشد الاقتصاد في الالتجاء إليه والاستعانة به، لأني أعرفه جريئاً مسرفاً في الجراءة، نشيطاً غالياً في النشاط، يخترع من الصور وفنون المعاني ما لا أطيق أن أعرضه على بيئاتنا الاجتماعية التي تقتصد في الاطمئنان إلى وحي الخيال
عرفته وفياً نشيطاً متأهباً دائماً للمعونة كلما دعوته أو فزعت إليه، مقدماً من هذه المعونة أكثر مما أسأله، وأعظم جداً مما أقترح عليه. وقد دعوته أمس فاستجاب لي مسرعاً غير(143/1)
مبطئ ولا متثاقل، بل أشهد لقد كان يكاد يتمزح نشاطا ومرحاً، ولقد كنت أتهيأ للكبح من جماحه والرد من نشاطه، وأخذه بكثير جداً من الأناة والقصد كما تعودت دائماً، ولكني لم أكد أعرض عليه ما كنت أريد أن يعينني على الأخذ فيه حتى كفكف من نشاطه، واتأد في غلوائه، وابتسم ابتسامة الهادئ المطمئن، وقال في صوت الراضي الرزين في غير عجز مؤلم، ولا قصور موئس: (إليك عني فلست مما تريد في شيء). ذلك أني كنت أريده على أن يمدني بما أصور به فصلاً من حياة النبي الكريم في هذه الأيام التي يذكر فيها المسلمون أكبر حدث من أحداثهم، وأعظم عبرة من عبرهم، والتي يعود فيها المسلمون قروناً طوالا من الزمان ليشهدوا ذلك اليوم العظيم الذي خرج فيه النبي وصديقه الصديق من مكة مهاجرين إلى الله بآمال سيفنى الزمان قبل أن تفنى، وإيمان سيزول هذا العالم قبل أن يدركه ضعف ويسعى إليه فتور، وثقة بنصر الله عاشت عليها الأجيال التي لا تحصى، وستعيش عليها الأجيال التي لا تحصى، وسيستمد المسلمون منها أبدا قوة على الجد والكد. واستقبال الحياة بما فيها من خير وشر، ومن حلو ومر، ومن محنة ونعمة
نعم دعوته أيها الأخ العزيز إلى أن يلهمني بعض ما تعود أن يوحي إلي من الصور فأعرض في غير غضب، وامتنع في غير بخل، وألح في الأعراض والامتناع، فلما ألححت عليه تبينت منه الاستحياء وإيثار العافية، والضن بنفسه على ما لا يحسن، وتجنيبها ما لا يطيق. وإذا هو يقول لي في لهجة الهادئ المطمئن: استعني فيما شئت، فقد عرفت قدرتي على الاختراع والابتكار، وحسن بلائي في لبس الحق بالباطل حتى يصبح زينة كله، ولكن من الحق ما هو أرفع من أن أسمو إليه مهما أكن قوي الجناح، وأوضح من أن أجليه مهما أكن قوي النور، وأسطع من أن أوضحه مهما أكن نافذاً بعيد الهم، وأنصح من أن أزينه مهما أكن ماهراً في اختراع الزينة وابتكار الجمال
ولئن حدثتك عن هذا الرجل الكامل لأحدثنك حديث العقل، أستغفر الله، فما يستطيع العقل أن يحدثك عنه كما يجب، لأنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه العقل، كما أنه أكرم وأرفع وأرقى من أن يبلغه الخيال. اجتهد في أن تتمثل ما أتيح للناس أن يعرفوا من حياته، ثم انظر فيه واستمد منه فلست محتاجاً مع ذلك إلى معونة عقل أو خيال
انظر إلى الناحية الحزينة من حياته، واقصص على نفسك أطرافاً منها، فإن لم تملأ قلبك(143/2)
عبرة وعظمة وجمالاً وحباً وإكباراً دون استعانة بعقل أو خيال، فلست إنساناً ولست من الإنسانية في شيء
انظر إلى هذا الذي ذاق اليتم جنيناً إن كان للأجنة أن يذوقوا المعاني والآلام، ثم لم يكد يستقبل الحياة ويتقدم في الصبى حتى ذاق اليتم مرة أخرى، ففقد أمه بعد أن فقد أباه، ثم لم يكد يتقدم خطوات أخرى في الصبى حتى ذاق اليتم مرة ثالثة ففقد جده بعد أن فقد أبويه، ثم ألحت عليه حياة فيها شدة وجهد، وفيها حرمان وفقر، وفيها ضيق وضنك، ثم تظاهرت هذه الآلام كلها على نفسه الكريمة الناشئة فلم تستطع أن تبلغها ولا أن تنال منها، لأن الله قد قطع الأسباب بين هذه النفس المصفاة وبين البؤس والشقاء. ثم امض معه خارجاً من الصبى داخلاً في الشباب متقدماً فيه، فإذا الحياة كما هي شديدة شاقة ثقيلة ضيقة، ولكنه مبتسم الشباب كما كان مبتسم الصبى، وادع النفس رجلاً كما كان وادع النفس طفلاً. إنه يجد ويعمل، إنه يكد ويكدح، إن الحياة تبسم له أحياناً، إن الناس من حوله يحبونه ويقدرونه ويكبرونه ويثقون به، ويطمئنون إليه ويلتمسون به العافية والسلم، ويحكمونه فيما شجر بينهم من خلاف، فلا يعرضه ذلك لبطر ولا لأشر، لأن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوب حياة الناس من الأشر والبطر والغرور. ثم انظر إليه وقد اختاره الله لخير ما يؤثر به عبداً من عباده، وحمله أثقل أمانة حملها أحداً من خلقه، فإذا هو يلقي هذا العبء الثقيل جلداً له، صبوراً عليه، ناهضاً به ماضياً فيه، لا يعرف كلالاً ولا ملالاً ولا فتوراً، لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين ما يشوه حياة الناس من الكلال والملال والفتور
ثم انظر إليه يذوق الثكل بعد أن ذاق اليتم، ويمتحن في نفسه وسمعته، ويمتحن في صحبه وأوّلي نصره، ويمتحن في بنيه، ثم يمتحن في زوجه التي جعلها الله له رحمة يسكن إليها ويعتز بها، ثم يمتحن في دينه، ثم يمتحن في كل شيء، ثم يمتحن في كل إنسان، فإذا هو كما هو، باسم الكهولة كما كان باسم الشباب وكما كان باسم الصبى، لا يعرف الضعف ولا اليأس ولا هذا الاكتئاب العقيم إليه سبيلاً، لأن الله قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الضعف واليأس والاكتئاب العقيم
ثم انظر إليه وقد أنكر قومه وأنكره قومه، وقد ضاقت به مكة وضاق به ما حول مكة، وقد(143/3)
لقي المحن التي لا تحتمل والمكروه الذي لا يطاق، فلم يدركه نكول ولا استسلام، وإنما فتحت له أبواب الأمل، وفرج عنه تأييد الله له ما تضايق من الأمر، فإذا هو يهاجر إلى يثرب، أفتراه اطمأن فيها إلى الدعة ونعم فيها بالخفض واللين؟ كلا، ما هذه الحروب التي لا تنقضي، والتي يمتحنه الله فيها بالنصر حيناً وبغير النصر حيناً آخر. ما هذا الجهد الذي لا ينقضي؟ ما هذا الضيق الذي يضطره أحياناً إلى الجوع؟ ما هذه الخيانات تأتيه من المنافقين؟ ما هذه الخيانات تأتيه من حلفائه من يهود؟ ما هذا الموت يتخطف أعز أصحابه عليه وآثرهم عنده؟ أفتراه يئس لذلك أو ضعف عن احتماله، أو اضطره شيء من ذلك إلى أن يحيد عن طريقه المستقيمة قيد شعرة؟ كلا! لأن الله جعل نفسه الكريمة مضاء كلها، وإباء كلهَا، وصبراً كلهَا، وثقة بالله كلها. ثم انظر إليه وقد تقدمت به السن، ولم يبق له من بنيه وبناته إلا فاطمة رحمها الله، وإذا الأيام تبسم له، وإذا الأمل يشرق أمامه وإذا المبشرات ينبئه بأن الله قد رزقه غلاماً فيسميه باسم أبيه إبراهيم، وإذا قلبه مسرور محبور، وإذا هو يشرك المسلمين معه في سروره وحبوره فيبشرهم بما بشر به، ويجد المسلمون أن عينه قد قرت فتقر عيونهم، وأن نفسه قد طابت فتطيب نفوسهم، وأن قلبه الكريم يتفتح للأمل فتتفتح قلوبهم للآمال، ولكن الله يأبى ألا أن يمتحنه شيخاً كما امتحنه صبياً وشاباً وكهلاً وإذا إبراهيم ينزع منه ولما يتم الرضاع. افتراه جزع لذلك أو أدركه ما يدرك الشيوخ من وهن وضعف. كلا. إن الله قد قطع الأسباب بين نفسه المصفاة وبين الوهن والضعف. لم يتم إبراهيم رضاعه في الدنيا فسيتمه في الجنة. وانظر إلى أبيه وإنه ليسعى في جنازته محزوناً، ولكن حزن الكرام لا حزن اليائسين ولا حزن القانطين، وإنه ليقوم على قبره وأنه ليعنى بتسوية القبر وترويته وصب الماء عليه، وإنه لينصح المسلمين إذا عملوا عملا أن يتموه وإن لم يكن لذلك غناء ظاهر، لأن من كمال العقل أن يحسن الرجل ما يعمل. ثم انظر إليه يعلن إلى ربه أنه راض بقضائه، مذعن لأمره مؤمن بحكمته، ويعلن إلى ابنه أنه محزون لفقده. ثم انظر إليه إن عينيه الكريمتين لتدمعان. وما يمنعه أن يبكي وإن البكاء ليتم مروءة الرجل أحياناً؟ ولكن انظر إليه، أترى شيئاً من حياته قد تغير؟ أترى شيئاً من رأيه في الحياة قد تغير؟ كلا. ما كان للأحداث في هذه الدنيا أن تغير نفساً هي أكبر من الدنيا؟(143/4)
قلت لهذا الخيال ما رأيت كاليوم خيالاً عاقلاً رشيداً. إن في حديثك لعبرة لمن أراد أن يعتبر. قال وأي غرابة في أن يعقل الخيال ويرشد إذا تحدث عن محمد، وإن كان من طبعه الطموح والجموح؟. قلت لأنقلن حديثك هذا إلى صديق محزون جزع. قال: انقله راشدا إلى صديقك والى كل محزون جزع، فما أرى أن مسلما يتمثل حياة محمد من هذه الناحية من نواحيها ثم يعرف اليأس أو الجزع إلى قلبه سبيلا.
طه حسين(143/5)
فلسفة قصة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
هلكت خديجةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم وهلك عمه أبو طالب في عام واحد في السنة العاشرة من النبوة، فعظمت المصيبة فيهما عليه، إذ كان عمه هذا يمنعه من أذى قريش، ويقوم دونه فلا يخلصون إليه بمكروه؛ وكان أبو طالب من قريش كالعقيدة السياسية، هي بطبيعتها قوة نافذة على قوة القبيلة، فمن ثم كان هو وحده المشكلة النفسية المعقدة التي تعمل قريش جاهدة في حلها، وقامت المعركة الإسلامية الأولى بين أرادتهم وأرادته، وهم أمة تحكمهم الكلمةُ الاجتماعية التي تسير عنهم في القبائل وتاريخهم ما يقال في الألسنة من معاني المدح والذم، فيخشون المقالة أكثر مما يخشون الغارة، وقد لا يبالون بالقتلى والجرحى منهم، ولكنهم يبالون بالكلمات المجروحة
فكان من لطيف صنع الله للإسلام، وعجيب تدبيره في حماية نبيه صلى الله عليه وسلم - وضع هذه القوة النفسية في أول تاريخ النبوة، تشتغل بها سخافات قريش، وتكون عملا لفراغهم الروحي، وتثير فيهم الإشكال السياسي الذي يعطل قانونهم الوحشي إلى أن يتم عملُ الأسباب الخفية التي تكسر هذا القانون؛ فأن المصنع الإلهي لا يخرج أعماله التامة العظيمة إلا من أجزاء دقيقة
أما خديجة زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت في هذه المحنة قلباً مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه كقول (نعم) للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس (لا)، وما زالت المرأة الكاملة المحبوبة المحبة هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة، وتلد له المسرات من عواطفها كما تلد من أحشائها، فالوجودُ يعمل بها عملين عظيمين أحدهما زيادةُ الحياة في الأجسام والآخر إتمام نقصها في المعاني
وبموت أبي طالب وخديجة أُفرد النبي صلى الله عليه وسلم بجسمه وقلبه ليتجرد من الحالة التي يغلب فيها الحس إلى الحالة التي تغلب فيها الإرادة، ثم ليخرج من أيام الاستقرار في أرضه إلى الأيام المتحركة به في هجرته، ثم لينتهي بذلك إلى غاية قوميته الصغيرة المحدودة فيتصل من ذلك بأول عالميته الكبرى
وأراد الله تعالى أن يبدأ هذا الجليل العظيم من أسمى خلال الجلال والعظمة ليكون أولُ(143/6)
أمره شهادةً بكماله، فكانت الحسنةُ فيه بشهادة السيئة من قومه، فحلمُه بشهادة رُعونتهم، وأناته بدليل طيشهم، وحكمته ببرهان سفاهتهم، وبذلك ظهر الروحاني روحانياً في المادة
قالوا فنالت منه قريش، ووصلوا من أذاهُ إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه، كأنما يُعلمونه أنه أهون عليهم من أن يكون حراً فضلا عن أن يكون عزيزاً فضلا عن أن يكون نبياً؛ قلوا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وتبكي
كانت تبكي إذ لا تعلم أن هذا التراب على رأس النبي العظيم هو شذوذ الحياة الأرضية الدنيئة في مقابلة إنسانها الشاذ المنفرد. هذه القبضة من التراب الأرضي قبضة سفيهة تحاول رد الممالك الإسلامية العظيمة أن تنشأ نشأتها وتعملَ عملَها في التاريخ؛ فهي في مقدارها وسخافتها ومحاولتها كعقل قريش حينئذ في مقداره وسخافته ومحاولته
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لبنته: يا بنية لا تبكي فإن الله مانعٌ أباك. حسبتْ ذلك هواناً وضيْعةً فأعلمها أن قبضةً من التراب لا تطمرُ النجم، وأن هذه الحثْوة الترابية لا تسمى معركة أثارتها الخيل فجاءت بنتيجة، وأن ساعة من الحزن في يوم لا يحكم بها على الزمن كله، وأن هذه النزوة التي تحركت الآن هي حمقُ الغباوة قوتها نهايتها
(يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك). أي ليس للنبي كبرياء ينالها الناس أو يَغُضون عنها فيأتي الدمعُ مترجماً عن المعنى الإنساني الناقص مثبتاً أنه ناقص؛ إنما هي النبوَّةُ قانونها غيرُ ما اعتادت النفس من أفراح وأحزان، وهي النبوة تجعل المختار لها غير محدود بجسده الضعيف، بل حدوده الحقائق التي فيها قوتها؛ فهو في منَعَة الواقع الذي لابد أن يقع، فلو أمكن أن يحذف يوم من الزمن أو يؤخر عن وقته أمكن أن يؤَخر النبيُّ أو يُحذف
(يا بنية لا تبكي فإن الله مانعٌ أباك). لا والله ما يقول هذه الكلمة إلا نبيٌّ وسع التاريخ في نفسه الكبيرة قبل أن يوجد هذا التاريخ في الدنيا، فكلمته هي الأيمان والثقة إذ يتكلم عن موجود
ترابٌ ينثره سفيه على رأس النبي. ويحك يا حقارةَ المادة إن ارتفاعك لعنة، إن ارتفاعك لعنة
قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر(143/7)
والمنعة له من قومه: فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتهم وأشرافهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته والقيام معه في الإسلام على من خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغرَوْا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه. ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل حٌبْلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من السفهاء
فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم في مجلسه قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى بعيد يتجهَّمني أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العُتْبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك
أَلا ما أكمل هذه الإنسانية التي تثبت أن قوة الخلق هي درجة أرفع من الخلق نفسه؛ فهذا فنُّ الصبر لا الصبر فقط، وفن الحلم لا الحلم وحده
قوة الخلق هي التي تجعل الرجل العظيم ثابتاً في مركز تاريخه لا متقلقلاً في تواريخ الناس، محدوداً بعظائم شخصيته الخالدة لا بمصالح شخصه الفاني، ناظراً في الحياة إلى الوضع الثابت للحقيقة لا إلى الوضع المتغير للمنفعة
وما كان أولئك الأشرافُ وسفاؤهم وعبيدهم إلا معاني الظلم والشر والضعف تقول للنبي العظيم الذي جاء يمحوها ويُديل منها: إننا أشياء ثابتة في البشرية
لم يكن منهم الأشراف والسفهاء والعبيد، بل كان منهم العسفُ والرِّق والطيش، تسخر ثلاثتها من نبي العدل والحرية والعقل فما تسخر إلا من نفسها
صغائر الحياة قد أحاطت بمجد الحياة لتثبت الصغائر أنها الصغائر وليثبت المجد أنه المجد. كان الفريقان هما الفكرتين المتعاديتين أبداً على الأرض: إحداهما عش لتأكل وتستمع وإن أهلكت؛ والأخرى عش لتعمل وتنفعَ الناسَ وإن هلكت
كانت الأقدار تبادي هذا الروح الواسعَ بذلك الروح الضيق لينطلق الواسعُ من مكانه(143/8)
ويستقبلَ الدنيا التي عليه أن ينشئها. فأولئك الأشراف والسفهاءُ والعبيد إن هم إلا الضيقُ والركودُ وذلُّ العيش، حول السعة الروحية والسموّ وطهارة الحياة
وقف المعنى السماويُّ بين معاني الأرض؛ ولكن نور الشمس ينبسط على التراب فلا يعفِّره التراب، وما هو بنور يضيء أكثر مما هو قوة تعمل بالعناصر التي من طبيعتها أن تحوِّل في العناصر التي من شأنها أن تتحول
وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أولئك المستهزئين قوةٌ أخرى هي القدرة التي تعمل بهذا النبي للعالم كله، وبهذه القدرة لم ينظر النبي إلى قريش وصوْلتهم عليه إلا كما ينظر إلى شيء انقضى، فكان الوجود الذي يحيط به غير موجود وكانت حقيقةُ الزمن الآتي تجعل الزمنَ الحاضر بلا حقيقة
والى هذه القدرة توجه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء الخالد يشكو أنه إنسان فيه الضعف وقلةُ الحيلة، فينطق الإنساني فيه بالشطر الأول من الدعاء يذكر انفراده وآثارَ انفراده ويتوجع لما بينه وبين إنسانية قومه؛ ثم ينطق الروحانيُّ فيه بعد ذلك إلى آخر الدعاء متوجهاً إلى مصدره الإلهي قائلاً أولَ ما يقول: إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أُبالي
ولعمري لو نطقت الشمس تدعوا الله لما خرجت عن هذا المعنى ولا زادت على قوله أعوذ بنور وجهك، تلتمس مصدر النور الأزلي حياطةَ وجودها الكامل
ولقد هزءوا من قبل بالمسيح عليه السلام فقال للساخرين منه: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته، وبهذا رد عليهم ردَّ من انسلخ منهم، وقال لهم قول من ليس له حكم فيهم، وأخذهم بالشريعة الأدبية لا العملية؛ إذ كان عليه السلام كالحكمة الطائفة ليست لكل قلب ولا لكل عقل، ولكنها لمن أُعدَّ لها، وشريعته أكثُرها في التعبير وأقلُّها في العمل، ولم تجئ بالقوة العاملة فلم يكن بدّ من أن تضع الموعظةَ في مكان السيف، وأن تكون قائمة على النهي أكثر مما هي قائمة على الأمر، وأن تكون كشمس الشتاء الجميلة لا تغلي بها الأرض وإنما عملها أن تمهّد هذه الأرض لفصل آخر
أما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يجب المستهزئين إذ كانت القوة الكامنة في بلاد العرب كلِّها كامنة فيه، وكان صدرُه العظيم يحمل للدنيا كلمة جديدة لا تقبل الدنيا أن تعامله عليها إلا بطريقتها الحربية؛ فلم يردَّ ردَّ الشاعر الذي يريد من الكلمة معناها البليغ ولكنه سكت(143/9)
سكوت المشترع الذي لا يريد من الكلمة إلا عملها حين يتكلم. وكان في سكوته كلام كثير في فلسفة الإرادة والحرية والتطور وأن لابد أن يتحول القوم وأن لابد أن يتفطَّر هذا الشجرُ الأجردُ من ورق جديدٍ أخضرَ ينمو بالحياة
لم يتسخط ولم يقل شيئاً وكان كالصانع الذي لا يردّ على خطأ الآلة بسخط ولا يأس بل بإرسال يده في إصلاحها
قالوا: ورأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من السفهاء فتحركت له رَحُمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عدَّاس، فقالا له: خذ قِطْفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وضع يده قال: بسم الله، ثم أكل؛ فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا لكلام ما يقوله أهل هذه البلدة
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟
قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نيَنَوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس ابن متي. قال: وما يدريك ما يونس بن متي؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي
فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه
يا عجباً لرموز القدر في هذه القصة
لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة
وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه أن يكفَّه عنهم أو يخليَ بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به الدين لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة
وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزُّه إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه، غير أن نسب الاخوة الدمُ ونسب الأديان العقل
ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقِطف العنب سائغاً عذباً مملوءا حلاوة؛ فباسم الله كان(143/10)
قطفُ العنب رمزا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حَبَّا كلُّ حبة فيه مملكة
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(143/11)
أوربا على المنحدر
2 - من فرساي إلى لوكارنو
مسألة الرين وسلام أوربا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لماذا أقدمت ألمانيا على تصرفها الجريء فأعلنت إلغاء ميثاق لوكارنو واحتلت منطقة الرين المجردة في هذا الظرف العصيب الذي تجوزه أوربا؟ لقد شرحت ألمانيا وجهة نظرها وبسطت البواعث التي أملت بتصرفها في مذكرتها التي قدمتها إلى الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو في السابع من مارس؛ وكذلك على لسان زعيمها الهر هتلر في الخطاب الذي ألقاه في نفس اليوم في مجلس الريخستاج؛ وتؤكد ألمانيا في الوثيقتين أن السبب المباشر لتصرفها هو عقد الميثاق الفرنسي الروسي الذي أبرم أخيراً، فألمانيا ترى في عقد هذا الميثاق خطراً يهدد سلامتها، ونقضاً من جانب فرنسا لميثاق لوكارنو يبرر تصرفها، وهي تشرح وجهة نظرها في مذكرتها فيما يلي:
(إن ألمانيا منذ عقد الميثاق الفرنسي الروسي في 2 مايو سنة 1935، قد لفتت نظر الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو أكثر من مرة. إلى أن العهود التي قطعتها فرنسا على نفسها في الميثاق الجديد لا تتفق مع العهود التي قطعتها على نفسها في لوكارنو؛ وإنه لا ريب في أن الميثاق الفرنسي الروسي موجه إلى ألمانيا وحدها وبالذات، وأن فرنسا ارتبطت فيه إزاء روسيا بعهود خاصة في حالة وقوع حرب بين ألمانيا وروسيا، وهذه العهود تنافي عهد عصبة الأمم والتزامات ميثاق الرين (ميثاق لوكارنو) المؤسسة عليه؛ وتحالف فرنسا على هذا النحو مع دولة مدججة بالسلاح ضد ألمانيا يخلق حالة جديدة، ويقضي على نظام السلام في الرين بأكمله، ويجعل ألمانيا في حل من تعهداتها السابقة الخ. . . . .)
والى جانب هذا السبب المادي المباشر الذي تتقدم به ألمانيا لتبرير تصرفها، يقدم إلينا هير هتلر في خطابه عدة أسباب قومية معنوية تتعلق بشرف ألمانيا وكرامتها وحقها في الحياة سيدة حرة، فألمانيا تريد أن تعيش في سلام، ولا تفكر مطلقاً في الاعتداء على أحد، ولكنها تريد أن تعيش مع باقي الدول على قدم المساواة، وأن تتمتع بنفس الحقوق والمزايا التي(143/12)
تتمتع بها جميع الدول الأخرى، وأن تحتل المكان اللائق بعظمتها؛ وهي لا تستطيع أن تحقق هذه الآمال المشروعة إذا لبثت مصفدة بأغلال معاهدة الصلح ونصوص ميثاق لوكارنو الذي يحرمها من السيادة على منطقة الرين، وهي نحو خمس ألمانيا
الميثاق الفرنسي السوفيتي
ويكرر الهير هتلر في خطابه أن السبب المباشر الذي يملي بهذا الموقف على ألمانيا هو عقد الميثاق الفرنسي السوفيتي؛ ذلك أن فرنسا تتعهد بمقتضى هذا الميثاق عند وقوع حرب بين روسيا وألمانيا بالتزامات عسكرية تنافي عهد عصبية الأمم وميثاق لوكارنو، وأنها تغدو عندئذ مضطرة إلى مهاجمة ألمانيا؛ وإذاً فعقد فرنسا لمثل هذا الميثاق مع دولة مسلحة من الرأس إلى القدم كروسيا موجه بلا ريب إلى ألمانيا، والى ألمانيا وحدها، وهي بذلك تخلق موقعاً جديداً يتنافى مع تعهدات ميثاق لوكارنو
وقد عقد الميثاق الفرنسي السوفيتي في الثاني من مايو الماضي بعد مفاوضات طويلة بين فرنسا وروسيا، واحتجت ألمانيا على عقده يومئذ لدى الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو؛ ثم أبرم هذا الميثاق أخيراً وأصبح بذلك وثيقة نهائية لها خطرها في سير السلام الأوربي
ويتألف الميثاق المذكور من خمس مواد وبروتوكول تفسيري. وتنص المادة الأولى منه على وجوب التشاور السريع بين الدولتين تطبيقاً للمادة 10 من ميثاق العصبة إذا وقع على إحداهما اعتداء لا مبرر له (والمادة العاشرة من الميثاق هي الخاصة بمقاومة كل اعتداء على استقلال أي عضو من أعضائها) وتنص المادة الثانية على وجوب تقديم المساعدة السريعة للفريق المعتدي عليه طبقاً للمادة 15 فقرة 7 من ميثاق العصبة إذا لم يتخذ مجلس العصبة في الأمر قراراً سريعاً. والمادة الثالثة تقرر التعهد بالمساعدة والمعاونة في حالة الاعتداء الذي لا مبرر له طبقاً لنص المادتين 17 و16 فقرة 3 من ميثاق العصبة. وتنص المادة الرابعة على أن هذه التعهدات لا تمنع الطرفين بأي حال من القيام بالتعهدات التي يفرضها الميثاق. وتنص المادة الخامسة على مدة الميثاق، وعلى أن المعاونة المشار إليها فيه قاصرة على أوربا؛ ولا يطلب تنفيذ التعهد الخاص بالمعاونة إذا لم يكن الاعتداء واقعاً على أرض الطرفين المتعاقدين ذاتها. ويتضمن الميثاق أيضاً تحفظات خاصة باحترام المواثيق والعهود السابقة ولا سيما ميثاق لوكارنو، وينص أيضاً على إمكان عقد ميثاق(143/13)
محلي شرقي، وعلى أنه يتسنى لأي دولة يهمها أمر السلامة العامة أن تشترك فيه
هذه هي خلاصة الميثاق الفرنسي السوفيتي الذي اتخذت ألمانيا من عقده ثم إبرامه ذريعة لموقفها الأخير، وقد بدأت ألمانيا بالفعل على أثر عقد الميثاق بنحو ثلاثة أسابيع (في 25 مايو سنة 1935) بتقديم احتجاجها على عقده إلى فرنسا والى باقي الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو
بيد أنه يلاحظ أن تذرع السياسة الألمانية بالميثاق الفرنسي السوفيتي ليس إلا وسيلة ظاهرة أو مباشرة لتبرير تصرفها في استعادة سيادتها على الرين؛ ويلوح لنا أن هذه الخطوة الجديدة التي اتخذتها ألمانيا الهتلرية لتحطيم البقية الباقية من الأغلال العسكرية التي فرضتها معاهدة الصلح إنما هي حلقة جديدة في برنامج مقرر ترى ألمانيا تنفيذه ضرورياً لاستعادة مركزها العسكري القديم، وهيبتها القديمة كدولة عظمى؛ وقد رأيناها تتخذ في العام الماضي من تقرير فرنسا إطالة الخدمة العسكرية ذريعة سريعة لإلغاء نصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحديد تسليحات ألمانيا، وتقرير الخدمة العسكرية الإجبارية، وإبلاغ الجيش الألماني إلى ستمائة ألف؛ وليس إلغاء ألمانيا لنصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحريم منطقة الرين ونصوص ميثاق لوكارنو إلا تتمة لهذه السياسة التي ترمي إلى تحرير ألمانيا تحريرأً شاملاً من كل الأغلال التي صفدت بها معاهدة فرساي سيادتها السياسية أو العسكرية؛ وقد رأينا أن ميثاق لوكارنو لم يكن إلا تأييداً لنصوص معاهدة الصلح الخاصة بمنطقة الرين
ماذا ترتب على موقف ألمانيا
ماذا ترتب على الخطوة الجريئة المزدوجة التي اتخذتها ألمانيا في السابع من مارس؟ إن دوائر السياسة العليا في أوربا كلها ما زالت تشغل منه ثلاثة أسابيع بما قد يفضي إليه تصرف ألمانيا من العواقب الخطيرة؛ وقد كانت الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو وفي مقدمتها فرنسا أشد الدول اهتماماً بالموقف الجديد الذي خلقته ألمانيا بتصرفها؛ ففرنسا ترى أن ألمانيا قد انتهكت عهودها مرة أخرى وأن هذا الانتهاك الجديد خطر على سلامتها، وتؤيدها بلجيكا في رأيها واعتقادها
وقد رأينا أن ميثاق لوكارنو ينص على الإجراءات التي تتبع في حالة مخالفة نصوصه أو(143/14)
نصوص معاهدة الصلح الخاصة بمنطقة الرين ضد الدولة التي ترتكب المخالفة؛ وهذه الإجراءات هي التي اتبعت في الحال عقب تصرف ألمانيا؛ فقد اجتمعت دول لوكارنو وهي فرنسا وبريطانيا العظمى وبلجيكا وإيطاليا في مؤتمر عقد أولا في باريس ثم نقل إلى لندن، واستدعى في الحال مجلس عصبة الأمم إلى دورة خاصة تعقد في لندن أيضاً لبحث الموضوع طبقاً لنصوص ميثاق العصبة التي يحيل إليها ميثاق لوكارنو؛ وكان المفروض أولا أن مؤتمر لوكارنو لم يجتمع إلا ليسجل انتهاك ألمانيا لمعاهدة الصلح وللميثاق وأن مجلس عصبة الأمم لم يجتمع إلا ليسجل مثل هذا الانتهاك وليتخذ ما يقضي به ميثاق العصبة من إنصاف الدولة المعتدى عليها وتقرير العقوبات الاقتصادية على الدولة المعتدية، إذا هي لم تذعن للتسوية الودية؛ وكانت هذه هي أول وجهة للسياسة الفرنسية، وكانت فرنسا أشد دول لوكارنو غضباً وتشدداً باعتبارها هدف (الاعتداء) الألماني، وكانت ترجو أن تحمل باقي الدول الموقعة معها، ولا سيما بريطانيا على اتخاذ سياسة الشدة والإرغام وحمل ألمانيا على سحب جنودها من الرين قبل التفاهم معها على أية تسوية جديدة؛ ولكن ظهر منذ المقابلات والمباحثات الأولى أن الاتفاق لم يكن تاما بين دول لوكارنو، وأن فرنسا تكاد تقف وحيدة في تشددها لا يؤيدها سوى بلجيكا إلى حد ما. ذلك أن إنكلترا لا تنظر إلى تصرف ألمانيا بنفس العين، وترى أنه قد حان الوقت منذ بعيد لأن تفوز ألمانيا بحقها في المساواة في التسليح والضمانات السلمية، وأنه ليس من العدالة ولا من الممكن أن ترغم أبد الدهر على قبول هذا الإرغام والإجحاف، وأنه خير للسلام الأوربي أن يسمح لألمانيا بالتعاون مع باقي الدول العظمى على قدم المساواة والتفاهم؛ هذا ومن جهة أخرى فقد رأت إنكلترا الفرصة سانحة لأن تلقي على فرنسا درساً في قيمة التعاون البريطاني، وأن تؤاخذها بطريقة عملية فعالة على موقفها في المسألة الحبشية وعلى ما أبدته من التلون والمخادعة والمماذقة في مؤازرة إيطاليا وتفويت غرض السياسة البريطانية من الضغط على إيطاليا وفرض العقوبات الاقتصادية عليها عن طريق عصبة الأمم؛ أما إيطاليا فقد رأت أيضاً فرصة سانحة للمساومة والمطالبة بإلغاء العقوبات المفروضة عليها إذا أريد أن تقوم بنصيبها من العهود المفروضة في لوكارنو
لهذا كان تصدع جبهة ميثاق لوكارنو ظاهرا؛ وكانت ألمانيا من جهة أخرى قد وضعت(143/15)
الدول أمام الأمر الواقع بمقترحاتها السلمية التي سجلها هتلر في خطابه، وخلاصتها أن ألمانيا على أهبة لأن تعقد ميثاقا بعدم الاعتداء مع فرنسا وبلجيكا لمدة خمس وعشرين سنة لكي تضمن سلامة الحدود بين ألمانيا وبينهما وأن تعفي إنجلترا وإيطاليا من ضمان هذا الميثاق، وأن تعقد ألمانيا بينهما وبين الدول الغربية ميثاقا جويا بعدم الاعتداء؛ وأنها أي ألمانيا على أهبة للعودة إلى عصبة الأمم بعد أن تقرر حقها كاملا في المساواة وأعيدت سيادتها كاملة وزال بذلك سبب خروجها من العصبة؛ وأنها تؤمل أن توضع تسوية معقولة لمسألة المستعمرات، وأن يفصل عهد عصبة الأمم من معاهدة فرساي؛ فهذه الاقتراحات الإيجابية كانت أيضاً عاملا آخر في شل سياسة العنف والمقاومة وتمهيد الطريق إلى محاولة أوربية جديدة في سبيل التفاهم وعقد المواثيق الجديدة
ولا حاجة بنا لأن نتبع هنا تلك المباحثات والمفاوضات المشعبة التي تدور في لندن منذ أكثر من أسبوعين؛ ويكفي أن نقرر أن السياسة الإنكليزية فازت بتحقيق الشطر الأول من برنامجها فحالت دون الصدام الخطر الذي كانت تثيره سياسة العنف حتما، وحملت فرنسا على التزام جانب الاعتدال والتروي، واتخذت لنفسها مرة أخرى دور الوساطة والتوفيق؛ ومهدت لاشتراك ألمانيا في المفاوضات الدائرة لتصفية الموقف وعقد تسوية جديدة على الأسس التي تقترحها إنكلترا بالاتفاق مع دول لوكارنو. وقد تمت المرحلة الأولى من هذه المفاوضات بعقد اتفاق تمهيدي بين دول لوكارنو وهي إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا خلاصته أن تتعاون هيئات أركان حرب هذه الدول في وضع الخطط اللازمة لرد الاعتداء المدبر، وأن يرفع الميثاق الفرنسي السوفيتي إلى محكمة لاهاي لتقرير ما إذا كان مخالفاً لميثاق لوكارنو أم لا؛ وفي أثناء ذلك يجب أن تسحب ألمانيا جنودها من منطقة الرين، إلى مسافة عشرين كيلومتراً داخل حدودها الغربية وتحتل هذه المنطقة قوة رمزية من الجنود الدولية حتى تتم التسوية النهائية، ولا تزيد ألمانيا جنودها في منطقة الرين عما هي عليه، ولا ترسل إليها مواد حربية، ولا تنشئ فيها مطارات أو تحصينات، وتتولى الإشراف على تنفيذ هذه الشروط لجنة دولية محايدة؛ وتتعهد فرنسا وبلجيكا من جانبهما بالمحافظة على الحالة الراهنة عند الحدود، وهذا مع تعهد دول لوكارنو بالمحافظة على تعهداتها تأميناً لسلامة فرنسا، فإذا وافقت ألمانيا على هذه التسوية التمهيدية فإنها تدعى للاشتراك في(143/16)
مفاوضات عامة تجري على أسس مقترحات هتلر، وحل مسألة الرين، وعقد ميثاق جديد بالضمان المتبادل يحل مكان ميثاق لوكارنو. وإذا رفضت ألمانيا هذه التسوية فإن دول لوكارنو تعيد النظر في الموقف كله؛ وإلى كتابة هذه السطور لم تكن ألمانيا قد قالت كلمتها. على أنه يلاحظ أن الاتفاق التمهيدي مع ميله نحو الوفاق ينافي مبدأ المساواة الذي تصر ألمانيا على تطبيقه، ولهذا يرجح أن ترفضه ألمانيا أو أن تدخل عليه من التعديلات ما يحقق في نظرها مبدأ المساواة الحقة، وعلى أي حال فإنه لابد من مفاوضات ومراجعات طويلة أخرى قبل أن تحظى مسألة الرين بحل يستقر معه سلام أوربا مدى حين
وليس من ريب من أن ألمانيا قد قطعت بتصرفها الجريء خطوة حاسمة في سبيل استكمال سيادتها وهيبتها كدولة عظمى وفي أنها ستخرج ظافرة من هذا النضال السياسي، ذلك أن الدول الغربية، وأوربا كلها، ترتعد كلما لاح لها شبح الحرب؛ بيد أن تصرف ألمانيا في مسألة الرين سيغدو أيضاً نذيراً جديداً لفرنسا يحملها على مضاعفة حذرها واهبتها للمعركة القادمة الكبرى
(* * *)(143/17)
خواطر
في الحياة والموت
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كلما فكرت في أمر الموت ازددت حيرة، وكنت أظن أن إطالة الفكرة فيه رياضة حسنة عليه. وأن ذلك جدير بأن يصغر الدنيا في عيني، ويجعلني بالحياة أقل احتفالا، فإذا الأمر على خلاف ذلك، والحال على نقيضه. وما أظن بغيري إلا أنه مثلي، وقد أقول لنفسي حين أخلو بها - وقلما أفعل هذا الآن - ٍ إن كون المرء يحيا ليموت ليس بالغاية أو النهاية التي يسكن إليها الحي ويطيب بها نفسها، وما أشبه ما يفعل بنا هذا القدر الجاري علينا بما نصنعه نحن بخراف العيد - نسمنها لنذبحها آخر الأمر، وفرق ما بيننا وبين الخراف أن هذه تزداد لحماً وشحما وأنا نزداد علماً وفهماً؛ ولا أدري من الذي قال إن الحياة مدرسة، ولكن الذي أدريه أنها أعجب المدارس وأخفاها - ولا أقول أقلها - حكمة، ذلك أن التعلم فيها يستمر إلى نهاية العمر، ولا سبيل إلى اختصار الأمر أو الاجتزاء ببعض العلم عن بعضه، لانتفاء الإرادة الشخصية، ولأن المدرسة هي الدنيا كلها، فلا خروج منها إلا بالخروج من عالم الأحياء، والعالم والجاهل سيان، واللبيب كالغبي، والساعي في وزن القاعد، والمصير واحد، والمآل لا يختلف، وكل من في هذه المدرسة العجيبة يتلقى علومه الخاصة التي لا تشبه دروس غيره، ولا ترى أحداً يسأله هل حذق الدرس أم أهمله ونسيه؟ وكل واحد عالم وجاهل في آن معاً، يعرف ما أتيح له أن يعرف، ويجهل ما عدا ذلك أجمعه. وقل أن ينتفع أحد بما تعلم في حياته لأنه يدفن معه في قبره، ويلف عليه وعلى تجاربه ومعارفه كفن واحد. وكم تساءلت - وأنا أتدبر هذا كله - عن الحكمة في تضييع ما أفاد الإنسان في حياته من العلم والخبرة؟؟ ذلك أن كل ما حصل في حياته يموت معه، ولا سبيل إلى استنقاذ التجاريب والمعارف والانتفاع بها بعد أن يقضي صاحبها نحبه ويستوفي أجله. فهل هذه يا ترى خسارة تصيب الإنسانية كلما مات منها فرد، أم لا خسارة هناك عليها ولا ضير؟؟ من يدري؟
وسهل أن يفهم المرء أن يخلق ليحيا، ولكن العسير أن تجعله يفهم أنه يخلق للممات. فلماذا يكون هذا هكذا؟ وإذا صح أن الحياة مدرسة، أفلا يكون الأصدقاء والأشبه بالواقع أن نقول(143/18)
إن غايتا تدريب الأحياء على الموت وإعدادهم له؛ ذلك أن الإنسان يموت منه كل يوم شيء، وشجرته لا تزال تتساقط ورقاتها وزهراتها واحدة في إثر أخرى، حتى تصوح وتعطب، وانظر ما يفعل الزمن بآمالنا ورغائبنا ومساعينا وبأجسامنا ونفوسنا؟؟ والآمال يدركها الحين، والشباب يذهب، والصباحة يغيض ماؤها، والنشاط ينضب معينه، والشعر الأسود يبيض، والقوة تسترق، والقناة المعتدلة تتقوس، والسمع يثقل، والنظر يضعف، والشهوات تفتر، والعجز يدب دبيبه شيئاً فشيئاً. حتى يوافي الأجل فيكون كل هذا تمهيداً له تتدرب به النفوس على السكون إلى الموت. حتى كر الأيام إيذان مستمر بالموت الزاحف، وليس يسع الإنسان حين يتأمل ذلك إلا أن يشعر أن كل يوم يعيشه، هو يوم يموته، والواقع أن الإنسان في يومه غير ما كان في أمسه، لأن الحياة قائمة على التحول، أو هي دائرة على الموت إذا شئت، ولا سبيل فيها إلى بقاء شيء أو ركود حال، وكل ساعة تمضي علينا تمضي بشيء منا، أو على الأصح بصورة من صور وجودنا وحالة من حالات نفوسنا وأجسامنا، وكون المرء يتغير معناه أنه يذهب ويجيء غيره، ويموت ثم يخلق خلقاً آخر، ولكن سرعة التعاقب في الخلق تجعل الصورة الجديدة مولدة من القديمة الفانية وشبيهة بها شبها يخفي وجوه الاختلاط: والذي يديم النظر في المرآة لا يفطن إلى التغير الذي حدث، ولكن الذي يبعد عهده بالمرايا لا يسعه إلا أن يرى أن صورته قد تغيرت، وحالت عما كان يعرف
فالموت يعيث فينا نهارا وليلا. وصباحا ومساء، وكل إحساس أو رأي أو اعتقاد لنا يتغير، هو ضرب من الموت يدركنا، والشيخوخة والأمراض وما يصيبنا من خيبة في آمالنا أو إخفاق في مساعينا - رياضة لنا على ما نحن صائرون إليه من المآل. وقد أتساءل أحياناً عن معنى حياة مجهولة للموت ودائرة عليه ومتسربة فيه - في كل حيلة ومظهر؟؟ ولا جواب هناك أعرفه لسؤالي، وقد يئست من إمكان الاهتداء، حتى لم أعد أحفل لا الحياة ولا الموت، أو أبالي كيف أكون في يومي، وماذا يكون من أمري في غدي. وهل الإنسان إلا مقبرة متحركة؟؟ بل أنا أبالي - كما قدمت في مستهل هذه الكلمة - ولكني أغالط نفسي، وأصرفها عن النظر إلى هذا الجانب الأسود، وألهيها وأسليها بما أستطيع أن أرقيه على جوانب العيش من ضوء يردها مشرقة ضاحكة. ومن هنا نشداني للفكاهة وحرصي على(143/19)
الوقوع عليها. ومتى تساوى الحزن والفرح، وتعادل الغضب والرضى، وكان الاهتداء في وزن الحيرة والضلال، وصار البكاء والضحك سبين، فالضحك أولى إذا قدرت عليه؛ والدنيا مأتم، فما أحقنا بأن نسري الناس، أو نسري عنهم، أو نذهلهم لحظات عن تنغيص حياة مبطنة بالموت، وذلك يتطلب الإرادة، ولكن الإرادة تكتسب
إبراهيم عبد القادر المازني(143/20)
4 - التعليم والحالة الاجتماعية
في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
أظهرت في مقالي السابق أن لكل أمة من الأمم ثقافة تقليدية ترثها من أسلافها، وأبنت أن هذه الثقافة تصبح بالوراثة قطعة من غريزتها وجزءاً من فطرتها، لا تنفك عنه أمة من الأمم أو تكون قد انفكت عن أخص مميزاتها وأعظم مظاهرها الاجتماعية. وعقبت على ذلك كله بمجمل العلاقات التي تربط كل أمة بثقافتها التقليدية إظهاراً لوجهة نظري في هذه المسألة الحيوية
على أن ما أحطت به في مقالي السابق قد قصر على بيان العلاقة التي تربط الثقافة التقليدية في كل أمة بمظاهرها الاجتماعية من حيث أنها مظاهر اقتصادية لا غير. والآن أريد قبل أن أختم هذه البحوث أن أظهر أن لنظريتي في الثقافة التقليدية أثراً في تكوين العقلية الفردية وتكييف العقلية الجماعية، مُنشَّأةً في كل أمة من الأمم بمقتضى الظروف والحالات التي لابستها منذ أقدم عصورها التاريخية
ومن أجل أن نبين عن حقيقة ما نقصد إليه نقصر الكلام على أخص الظواهر التي ثارت من حولها عجاجة النقد وكثر فيها الجدل حتى أصبحت من عقلية الجمهور المتعلم جزءاً لا يتجزأ
ولا ريبة أن في حياتنا الحاضرة مظاهر، هي بحكم العصر الذي نعيش فيه والحالات التي تكتنفنا، أجلى من غيرها وأبين في تكييف عقليتنا من كل الظواهر الأخرى، وأقصد بذلك الأدب من ناحية، والوطنية من ناحية أخرى
وأول ما يبدر إلى ذهن الباحث في هذا المقام أن يسأل: أمن علاقة بين الثقافة التقليدية والأدب؟ أهنالك من صلة بين هذه الثقافة والوطنية؟ أيكون لماضي الأمم أثر في تكوين أدبها وصبغ وطنيتها بصبغة خاصة، وهل من رابطة تربط بين تصورات ومشاعر وعواطف درجت عليها القرون، وبين أبناء جيل يخيل إليهم أنهم نفضوا أيديهم من الماضي وأنزلوا عن كواهلهم تراب الأزمان الغابرة، فأصبحوا خلقاً جديداً، وأمة مستحدثة من عناصر لا تمت إلى القديم بسبب من الأسباب؟(143/21)
وما كان لباحث أن يسأل هذا السؤال، وما كان لهذا السؤال أن يدور في مخيلة مفكر، لو أن لنا بثقافتنا التقليدية صلة أو كان لهذه الثقافة علاقة بأدبنا، أو صلة بوطنيتنا. وإنما يدور هذا السؤال في مخيلة كل مفكر يحكم أننا قطعنا صلتنا بالماضي، وفرطنا عقد رابطتنا بمصر القديمة، وبالأحرى حللنا العقدة التي تصل بين حبل حياتنا الحاضرة والخيوط التي تتكون منها شبكة حياتنا الماضية، ولا شك في أن الفرد ثمرة الماضي، قبل أن يكون ابن الحاضر، وصلته بذلك الماضي صلة وراثة. أما صلته بالحاضر فصلة ضرورة
ولا مرية في أن هذا السؤال غير طبيعي في أمة أحكمت صلتها بماضيها، ووثقت روابطها بثقافة آبائها الأولين. فهو بمثابة أن تسأل مثلاً: أمن علاقة بين دمي الذي يجري في عروقي ودم جدي أو جد جدي؟ وهل بين تصوراتي ومشاعري وميولي، وبين طبيعة الأرض التي تغذيني والهواء الذي ينميني والسماء التي تظلني؟ ذلك بأن الأمم متى أحكمت صلتها بماضيها ونشقت دائماً عبير الروح الذي سرى في كيانها منذ أبعد العصور لن تشعر يوماً بأنها في محيط غير محيطها الطبيعي، أو أنها في بيئة غير بيئتها الفطرية، فيظهر أثر ذلك كله معكوساً في جماع مظاهرها وبخاصة في آدابها وفي وطنيتها. أما ونحن نشعر الآن بأن أدبنا أدب مصنوع لا أدب فطري، وأن وطنيتنا وطنية ظاهرية لا وطنية حقيقية، فإنه من الطبيعي أن نسائل أنفسنا عن سبب ذلك، ومن الطبيعي أن نجد الجواب في النظرية التي أدلينا بها من قبل في العلاقة التي تقوم بين المظاهر الاجتماعية والثقافة التقليدية التي تختص بها كل أمة من الأمم، وتختص مصر بصورة منها
قرأت منذ سنوات قصيدة في مجلة (أبولو) عنوانها (قبرة شيلي)، وعكفت كعادتي في كل ما أقرأ من المترجمات على مقابلتها بالأصل، فألفيت أن الشاعر المترجم قد أجاد في المحافظة على المعاني الأصيلة قدر ما تهيئ أوزان الشعر وقوافيه ومفردات اللغة العربية لمترجم أن ينقل شعراً من الإنجليزية إلى العربية، ولقد أحسن الشاعر المترجم سبك المعاني في قالب عربي يلائم روح التجديد مع المحافظة على جرس الأسلوب العربي، فأكبرت القصيدة وأعدت تلاوتها مرات مبالغ في الوقوف على ما فيها من أوجه النقد ووزنها على مقتضى المعايير التي أومن بها في تقييم الشعر، ولم ألبث أن أحللتها بين ما أعتقد أنه من جيد الشعر الحديث، غير أني بعد كل هذا كنت أشعر بأن في القصيدة ماهية أخرى تبعدها عن(143/22)
طبعي، وتقصيها عن تصوراتي وتجاريبي، وتلقي في روعي أبى غريب عن الجو الذي تخلقه من حولي. فلا الجو الذي وضعه (شيلي) وغشاه بالسحاب القاتم الشديد السواد هو الجو الذي أعرفه، ولا الغناء القوي الحنون الذي ترسله قبرته هو نفس الغناء الذي أعهده في قبراتنا، ولا لونها الأصفر الزِّرْيابي الذي يجعلها تحت السحب السوداء كأنها شرارة من لهب، هو لون القبرة المغبرة السفعاء التي آنسها في حقولي. كذلك رأيت في ذكر السيول والأمطار الغامرة التي ترسلها سماء إنجلترا شيئاً جديداً لا علاقة له بمحيطي ولا صلة له ببيئتي، وعلى الجملة شعرت بأني أقرأ خيالاً إنجليزياً في شعر عربي. خيال يجذبني من ناحيته إلى ثقافة غير ثقافتي التقليدية بل يقصيني عن تجاريبي ومشاهداتي، وأن كل ما تهيئ لي القصيدة من قدرة على التصور هو ما تحمل ألفاظها العربية من معانٍ أتخيلها تخيلاً وأصورها تصوير الحدس والوهم، وأن آلة الأداء، وهي اللغة العربية هي الناحية الوَحِدة التي تقربني بعض التقريب من الجو الشعري الذي تكيف به القصيدة مشاعري، ولا شك في أن الشعر شيء، وآلة أدائه شيء آخر، وإنما يكون الشعر متصلاً بطبع الإنسان متى استمد عناصره من ثقافة تقليدية لا يعنت التصور إدراكها، ولا يتعب الخيال تصويرها، فيشتمل على نواحي النفس ويخاطب الروح بديئة قبل أن يخاطب العقل
عقبت على هذا بقراءة قصة مترجمة عن كاتب روسي مشهور، فآنست فيها شططاً في الوصف ومغالاة في التقدير، وتحليلات نفسية معقدة غاية التعقيد، بعيدة كل البعد عن بساطة الروح المصري الذي آنسه في الفلاح الساذج الذي نشأت محوطاً بثقافته التقليدية، ولا أريد أن أبحث شخصيات هذه الرواية لأحكم أنه كان في الدنيا شخصيات حقيقية تقابل الشخصيات التي وضعها الكاتب وحلل نفسياتها، وإنما أريد أن أقول إن تحليل ذلك الكاتب مهما كان فيه من حق وبعد عن المغالاة، وسواء أكانت الصفات التي أضفاها على شخصياته تلك صفات يمكن لنفس بشرية أن تنطوي عليها، أم إنها شخصيات خيالية لا تقوم لها حقائق في الخارج، فجل ما أرمي إليه أن أقول إنها شخصيات لا تربطني بها رابطة ولا تصلني بها صلة، وأن محيطي الذي أعيش فيه ينكر وجودها وينفي حقيقتها، بالرغم من أن شخصاً آخر في محيط آخر قد يرى أنها شخصيات طبيعية، بل قد يجسمها خياله على مقتضى تجاريبه التي يشهدها في حياته(143/23)
ولا أقصد بذلك أن مثل هذا الأدب غير مفيد في توسيع مجال الخيال، وتنويع الصور المتخيلة وتوطيد قواعد الأدب المصري من حيث صلته بالآداب الأخرى. وإنما أقول إنه مهما كان فيه من المميزات فهو أدب دخيل لا أدب أصيل. أدب لا علاقة له بثقافتنا التقليدية، فهو من طبع غير طبعنا وفطرة خلاف فطرتنا. إنما هو أدب تصويري لا أدب حقيقي، مقيسة معابيره بمقياس حياتنا الخاصة ومحيطنا الخاص. أدب لا تهضم منه فطرتنا إلا القليل النادر. هذا على اعتبار أن العلم بالأدب شيء وهضمه وتمثيله في الروح شيء آخر، ولن يكون للأدب من أثر في الحياة إلاّ بأن تمثله الروح فيصبح جزءاً منها، فتسترشد بِمُثُله، وتتعظ بِمثُلاته، وتدرك منه الحقائق إدراك استيعاب لا إدراك علم بها دون الإيمان بما فيها من حق وواقع
وما أريد أن أستطرد في ضرب الأمثال فإن فيما أوردت منها غنى عن ذكر غيرها. ذلك بأن كثيراً مما نقرأ في الصحف والمجلات وكثير من المؤلفات يجري هذا المجرى ويسيل هذا السيل، حتى لقد أصبح أدبنا الحديث لكثرة ما فيه من الرقع والرتوق، ولكثرة ما فيه من صور الأمم الأوربية كأنه (عصبة أمم) أخرى، ولكن في صحف سطرت بكلمات عربية
في وسط هذه الصور العجيبة المتنافرة، وفي غمرة تلك الفوضى السائدة في الأدب على مختلف ألوانه، وعلى متضارب وجوهه، ومتباين ضروبه، أتقع على الأدب المصري الصحيح الذي يمثل الروح المصرية؟ بكلمة واحدة أقول (لا)؛ وبودي لو يتسنى لي أن أكتب كلمة (لا) في صحيفة وحدها وبأكبر قطع تعرفه المطابع العربية
يشعر كل المشتغلين بالأدب، أدباء كانوا أو طلاب أدب، نقاداً كانوا أو قارئين، بأن بين الأدب الذي يعكفون على درسه أو قراءته وبين نفوسهم بوناً شاسعاً، وأن بينه وبين أرواحهم الممثلة في أخيلتهم ومشاعرهم وعواطفهم وأمزجتهم صدعاً متنائيا. وقد يأخذهم القلق حيناً، وقد تتملكهم الريبة أحياناً في أحقية ذلك الأدب بالبقاء في بيئة لا تعرفه ولا يعرفها، ولكن قلقهم لا يلبث أن يهدأ، وريبتهم لا تني إلا قليلا حتى تزول، إذ يرون أن ذلك الأدب أدب الساعة لا أدب العمر، مستدلين على ذلك بأن الآثار الأدبية التي ظهرت في العشرين عاماً الماضية لم يفلح جماعها في تكوين مذهب واحد ثابت الدعائم قوي الأركان(143/24)
محدود الغايات بيِّن المثل، فعاش ولم يمت. أما السبب في أن كل إنتاجنا الأدبي إنما هو للفناء فراجع إلى أنه أدب مسروق أو على الأقل أدب مسلوب من آداب الأمم الأخرى وليس فيه من أثر المصرية إلا أنه مكتوب بلغة عربية، ولكن بأساليب أصبحت بدورها أضعف من أن تحسن أداء رسالة الأدب
ولقد سمعت بعض المشتغلين بالأدب يقولون إن نقل الآداب الأوربية إنما هو بمثابة دم جديد يغذي أدبنا بالحياة، ويمده بأسباب البقاء. غير أن هذا الرأي على ما في ظاهره من حق، فإنه أشبه بحق يراد به باطل. ووجه الباطل فيه أنهم يفرضون أن لنا أدباً يغذيه الأدب الأوربي، وذلك ما لم يقم عليه أقل دليل حتى الآن. فأين الشعر المصري الحقيق بأن يدعي شعراً مصرياً؟ وأين القصة المصرية التي تصور حياة مصر تصويراً صحيحاً مقتطعاً من الطبع المصري ومن الثقافة المصرية الصحيحة؟ بل أين الأديب الذي عكف على درس العقلية المصرية وقصر جهده على تفهم الروح التي تنطوي عليها ضلوع ذلك الفلاح الساذج الذي هو لغز الألغاز وسر الأسرار؟ أين الأديب الذي أحاط بتاريخ مصر منذ أبعد عصورها وكون من ذلك التاريخ صوراً تظهر معكوسة في أدبه شعراً أو نثرا، وأين الأدب الذي يصور ما نزل بنا من نوائب الدهر وبلايا الأيام، وما حاق بنا من مظالم يصرخ بها تاريخنا، بل أين الأدب الذي يرينا كيف ابتلع الفلاح الساذج الهادئ الطبع اللين الجانب بما فيه من قوة المقاومة السلبية، الفرس والروم والرومان والعرب والمماليك والأتراك، ولا يزال مستعدا لابتلاع خمسين قيصرية من أمثال هذه القيصريات العظام وهو قابع في عقر حقله الصغير وفي كسر بيته الطيني، تاركا دورات الحظ تدور بالسعد حيناً وبالنحس حينا آخر، وما يهمه في الحياة من شيء إلا أن يضحك ساخراً من الأمم والأقدار
على أن الإطناب في مثل هذه الأشياء تحصيل حاصل، والاستطراد في ذكر الشواهد عبث، لأننا نشعر شعوراً كاملا بأن الأدب المصري اسم على غير مسمى، وإن شئت فقل إنه فرض لا حقيقة له. وإنما أقصد بالأدب المصري الأدب المقتطع من حياتنا ومن أنفسنا ومن أخيلتنا. الأدب الذي إذا قرأته تبينت فيه مصر وأرض مصر وسماء مصر وتاريخ مصر، وعلى الجملة كل ما توحي به مصر من الموحيات الدفينة في نفوسنا، الرسيسة في طبعنا، الحائرة في أرواحنا(143/25)
أما السبب في كل هذا فهو أننا بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، بل إننا قطعنا صلتنا بالماضي وهمنا في فلوات لا نعرف فيها طريقا يسلك، لا إلى الأمام لنصير أوربيين صرفاً، ولا إلى الوراء لنعود إلى مصريتنا مرة أخرى. وإذن فنحن في التيه، ولكنه التيه الذي سوف لا نخرج من ظلماته مادمنا غير قادرين على تقييم حقائق وجودنا تقييما صحيحاً، ومادمنا عاجزين عن أن ندرك تلك الحقيقة الأولية، حقيقة أن ثقافتنا التقليدية هي الملجأ الأخير الذي يوقظ فينا (الروح المصرية) التي من طريقها نكوّن الأدب المصري. الأدب المصري الذي ينبغي أن يكون من حيتنا الأدبية بمثابة الجهاز الهضمي في الحيوان، فيه تهضم الآداب الأخرى، ثم تتمثل أدباً جديداً ملائماً لآدابنا ومشاعرنا وأخيلتنا، وفي الوقت ذاته تطرد النفايات. تلك النفايات التي تسمم أدبنا الآن وتفسده، لأن أدبنا الجديد أضعف من أن يفرزها إلى خارج جسمه المتهدم الضئيل
هذا من حيث الأدب. أما الوطنية المصرية ووصفها بأنها وطنية ظاهرية، فلا يرجع إلى حب الأغراب، ولا إلى حب النقد بغير دليل يقام أو حجة مقبولة. لهذا نقسم الوطنية قسمين: قسما يمثله الشباب المتعلم وعلى رأسه الأحزاب، وقسما يمثله الفلاح الساذج
على أنه ينبغي لنا قبل الاستطراد في شرح مزايا القسمين أن نتعرف كيف نشأت الوطنية، ومن أي نبع تستمد تصوراتها. وما من شك في أن الوطنية المصرية إنما استمدت أولى خطواتها من آداب الثورة الفرنسية الكبرى فلبت نظام الحياة في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر. والدليل القاطع على هذا أنه منذ عصر عرابي إلى اليوم ترى أثر القسمين واضحاً جلياً في كل ما أدت الوطنية المصرية من الخدم الجسام لمستقبل مصر الحديثة. فالقسم الأول يأتم بالنظريات التي ذاعت في فرنسا في عصر ثورتها، وظل مؤتماً بها حتى بدء الحرب العظمى، والقسم الثاني ظل مستمسكا بتصوراته القديمة التي عكف عليها طوال العصور التي ظلت فيها مصر ميداناً لتطاحن الأمم والقيصريات
أما الفئة الأولى، وهي الفئة التي عكفت على النظريات الأوربية تستمد منها تصورات الوطنية، فكانت في كل الأدوار التاريخية منذ ستة عقود من الأزمان ذات الأثر الواضح في تكييف الظروف التي لابست كياننا السياسي. فهي التي بثت الروح الجديدة، وساقتها في طريق أجبر مقاوميها على أن يعدلوا من موقفهم إزاءها تدريجيا على مقتضى قوتها أو(143/26)
ضعفها حتى أصبحنا اليوم وفي حياتنا السياسية عنصر جديد لم تعرفه مصر منذ عشرين قرناً من الأزمان. غير أنه مهما قيل في هذه الوطنية مظاهرها قاصرة على تصورات فئة قليلة العدد مقيسة بتبعية الذين يؤمنون بالوطنية مسبوكة في القالب الذي صوره الفلاح المصري ليكون حداً لوطنيته. وأن كلامنا إنما ينصب على وطنية هذا الفلاح دون غيرها
قد تعجب ويشتد بك العجب إذا أنا قررت هنا أن الفلاح المصري شديد الوطنية مغال فيها، بل متطرف في وطنيته أشد تطرف، ولكنك بجانب هذا تسأل أين الآثار التي تتجلى فيها هذه الوطنية، فأجيبك بأنها تظهر كل يوم على صفحات جرائدنا الأخبارية، وتشغل بها الحكومة في أكثر أيام السنة، ألا تقرأ كل يوم أن فلاحاً حز رقبة أخيه لأنه اعتدى على حقله فهد جزءا من حدوده؟ ألا تسمع أن أسرة شهرت السلاح في وجه أخرى لأن أحد أفرادهما أراد أن يأخذ نصيب آخر من الماء، وأن الموقعة انجلت عن قتيل وجرحى وأسرى هم رهن التحقيق؟ إذن فاعرف أن هذه هي الآثار التي تترتب على وطنية الفلاح المصري. أما الوطنية نفسها فتنطوي على حب الحقل والدفاع عنه بالمال وبالولد وبالروح،، ذلك بأن الفلاح الذي فقد حقوقه المدنية والسياسية طوال عصور قلما تعيها الذكريات، ونزل به من الفادحات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، لم يصبح عنده في الدنيا من شيء ذي قيمة إلاَّ ذلك الحقل بحدوده الأربعة، وإلاَّ ذلك النزر من الماء الذي يجود عليه بالرزق الحلال
أما السبب في أن تنضمر الوطنية المصرية حتى تصبح في نظر الفلاح الذي هو أهم عناصر مصر الحيوية، محوية في داخل هذه الحدود الضيقة، فراجع إلى أسباب تاريخية. فأنه منذ غزو الاسكندر المقدوني، ومن قبله بعشر سنين، أي منذ أن طرد الفرس آخر ملوك الفراعنة واسمه (نقطانيبو) لم يسد المصريون في بلادهم يوماً واحداً، وظل المصريون بين الحقول يزرعونها ليعولوا أنفسهم ويعولوا أسيادهم الذين يتسلطون عليهم من أية أمة كانوا وبأي دين دانوا، فلقد استطاع المصريون قبل الغزو الفارسي الأخير أن يستردوا حريتهم المرة بعد المرة، عقيب كل غزو دهمتهم به أمة أجنبية كالهكسوس وغيرهم، وأن يقيموا على عرش بلادهم أسراً من الفراعنة تحي تقاليد الحكم والثقافة واللغة، تلك التقاليد التي نشأت وربت في مدى عصور لا تعيها الذكريات. ولكن تلك(143/27)
الغزوة كانت آخر عهد ملوك الفراعنة الذين تجري في عروقهم الدماء الوطنية بالحكم على ضفاف النيل والى آخر الدهور. فمنذ فتح الاسكندر خضعت مصر إلى ألف سنة لحكم هِلِّيني الحضارة من مقدونيين ورومان، وفي نهايتها صارت مصر جزءاً من جسم الإسلام، فبدلت تبديلاً، وأصبحت لها لغة أخرى، ونظام اجتماعي لا عهد لها به، ودين جديد، ونبذ الإلهة الذين عبدوا في مصر على أنهم آلهتها الخواص الآلاف من السنين نبذاً أبدياً، ثم دفنوا في ثراها
ومنذ ذلك التاريخ لم يفز مصري أصيل بالحكم على شطآن النيل، بل لقد مرت عصور طويلة كعصر البطالسة مثلا، لم يكن في الحكومة كلها من مصري شغل مركزاً أكبر من مركز صَرَّاف يجبي الأموال. بل رأى المصريون معابدهم المقدسة تستباح فيتخذها المقدونيون موضعاً للهوهم وعبثهم وسكرهم وعربدتهم ورأوا الفرس يذبحون عجلهم المقدس من قبل ذلك
ولقد كان لهذه الملابسات التاريخية آثار كيَّفتْ الوطنية المصرية فحدتها بحدود الحقل المقدس، وإنما صار الحقل مقدساً في عين المصري لأنه كان الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه فحماه من الانقراض التام. ولولا ذلك الحقل إذن لأصبحت مصر اليوم إما رومية وإما لاتينية. ولكن الحقل قام سداَ بين الغزاة وبين المصريين أين منه سد يأجوج ومأجوج. ذلك بأن ثرى مصر لا يزرعه إلا المصري ولن يقوى عليه غير المصري. لهذا عبده المصريون بعد (أبيس)، وقدسوه في الأعصر الحديثة تقديسا ليس فوقه عندهم من شيء إلا خشية الله. ففي الحقل وقوته وفي طرف منه قطعة سويت لا تزيد مساحتها عن بضعة أقدام مربعة فرشت بنبات الحلفاء هي مُصًلاَّه. فالحقل للفلاح عالم صغير مقدس يذود عنه بالروح ويبذل في سبيله الدم، لأنه ملجؤه الأخير وملاذه ومبتغاه
فلا عجب إذن في أن تنحصر الوطنية المصرية، وإنما نعني به وطنية السواد من أهل مصر، في حدود ذلك الحقل ولا تتعداه. وكيف تتعداه وقد آنست فيه الحياة آلاف السنين واستقرت في تربته الأجيال ثم الأجيال؟
وكما أننا عجزنا عن أن نكون أدباً مصرياً صحيحاً قوي الروح والأخيلة، بأن بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، فكذلك عجزنا عن أن نخرج، لهذا السبب عينه، وطنيتنا من حدود الحقل(143/28)
إلى حدود مصر، وليس هذا وحده السبب في أن وطنيتنا ظاهرية، بل إن هنالك سبباً آخر يتجلى في أن الفريق الأول من وطنيينا، وهم الذين يستمدون تصوراتهم الوطنية منقولة من أوربا، لم يتغلغلوا في صميم مصر ليفهموا حقيقة السبب في ضعف الوطنية المصرية، وإنما يجب علينا أن نعكف على ثقافة تقليدية ننتزعها من صميم مصر لتكون عوننا في بناء صرح المجد كاملا اقتصادا وأدباً ووطنية
أما فشلنا في هذا حتى الآن فإلى أي شيء نعزوه؟ إلى السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بغير جدال. وسنظهر في البحث التالي، جهد مستطاعنا، كيف ننجو بثقافة تقليدية مستحدثة تنقذنا من البوار المحتوم
(الرسالة) تخالف الأستاذ الكاتب في بعض ما جاء في مقاله
وخاصة في وطنية الفلاح واقتصارها على الحقل، وقد نشرناه
عملا بحرية الرأي
إسماعيل مظهر
(الرسالة) تخالف الأستاذ الكاتب في بعض ما جاء في مقاله وخاصة في وطنية الفلاح واقتصارها على الحقل، وقد نشرناه عملا مجرية الرأي(143/29)
في تاريخ الفقه الإسلامي
ثلاث محاضرات
للدكتور يوسف شخت
الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية
- 2 -
قدمنا في محاضرتنا الأولى بضع ملاحظات على الطريقتين الشرقية والغربية لدرس تاريخ الفقه الإسلامي، وأبدينا الكلام عن بعض مسائل متعلقة بعصرين هامين من تاريخ الشريعة: العصر التمهيدي وهو ما قبل الإسلام، والعصر الأساسي وهو زمن فقهاء المدينة السبعة. وتتناول محاضرتنا هذه دوراً ثالثاً: الدور الذي تكونت فيه المذاهب. فأول من أسس مدرسة في تاريخ الشرع الإسلامي هو - كما نعلم الآن - محمد بن إدريس الشافعي. وكونه المؤسس لعلم حقيقي في الفقه أمر يظهر بجلاء من كتابه الموسوم بالرسالة في أصول الفقه الذي بحث فيه عن طريقة هذا العلم، كما يبدو من النظام الباهر الذي وضع عليه الشريعة في كتابه الكبير المسمى (بالأم) وفضله هو أنه بعث اليقظة في الفكرة الفقهية الإسلامية، وأنه لا يبرهن عند الحاجة إلى الدلائل وابتغاء الوصول إلى نتائج عملية فقط، بل يبرهن دائماً ومبدئياً، وأنه يبحث أيضاً عن شروط الاحتجاج التشريعي وطرقه بوجه عام. وكتابه العظيم يتيح لنا إدراك طبيعة فكرته الفقهية وعناصرها إدراكا تاماً ويمكننا من مقابلتها بآرائه في طريقة علم الفقه المعروضة في كتاب الرسالة، وخاصتها البارزة هي الدقة والجلاء اللذان يحملانه على مخالفة كثير مما كان مسلماً به قبله دون أن يضيق بهذا أفق تفكيره، ودون أن يحصر نفسه في دائرة مخصوصة، فأن اجتهاد الشافعي ليتجه على الأخص إلى تنظيم الفقه؛ ونراه يعمل بلا انقطاع على إيجاد تماسك بين الأحكام المنفردة وعلى التحاشي عن أي تناقض بين نتائجها الأخيرة؛ ومهما يكن من أمر السابقين واللاحقين في هذا الشأن فإن الشافعي كان له أعمق الأثر في تنشئة طريقة القياس التي ظلت من مميزات علم الفقه؛ ونقصان التعريفات والتحديدات القانونية الفنية في الشرع الإسلامي يتصل مباشرة بالدور الحاسم الذي يقوم به القياس. من الطبيعي جدا أن ذلك النجاح العظيم(143/30)
الذي لم يسبق له مثيل، والذي افتتح في تاريخ الشرع الإسلامي عصراً جديداً قد أحدث ضجة واسعة، وأفضى إلى تأسيس المذهب الشافعي. ولكن كل هذا لا ينطبق على المذاهب التي سبقته: وعلى الأخص المذهبين الحنفي والمالكي؛ والأرجح أنها نزعات عامة كانت قد بدت في نواح مختلفة، وما بينها من الخلاف يرجع قبل كل شيء إلى أسباب جغرافية ومدنية عامة: إما بتنوع القوانين العرفية المندمجة في الفقه؛ وإما باتحاد العمل والعلم في نواح متماسكة؛ أما اختلاف الأساليب والطرق الفقهية فليس له إلا المقام الثاني، كذلك مذهب الحجاز لم يكن تقليدياً من حيث المبدأ بل من حيث أنه يمثل السنة المدنية؛ ومذهب العراق لم يكن أوسع حرية من ذلك بل كل ما هنالك أنه متفق وتطور حياة العراق المادية والفكرية التي تعرضت لكثير من التأثيرات الخارجية، وامتزجت بكثير من العناصر الأجنبية. كان هذان المذهبان في مرحلتهما القديمة يحتاجان إلى تنظيم محكم، فهما لم يرتبا صفوف أتباعهما إلا بتأثير المذهب الشافعي وعلى غراره، فاختار كل واحد منهما شخصاً ممتازاً ينتسب إليه، جديراً بتمثيله، والأدلة كثيرة على هذه الطريقة من النظر في نشأة المذاهب الفقهية: فلقد ظلت التسميتان الأصليتان من (أهل العراق) و (أهل الحجاز) تطلقان على أصحاب هذين المذهبين حتى بعد عصر مؤسسيهما المزعومين أبي حنيفة ومالك، في حين أن أصحاب الشافعي كانوا ينعتون بهذا الاسم منذ أول الأمر؛ وأنه لا يزال موضع شك في عدد كبير من الفقهاء أن يعتبروا أعضاء للمذهب المالكي، وخصوصاً للمذهب الحنفي أو يعتبروا فقهاء مستقلين، على حين أن مسئلة كهذه لا تلحق الشافعية. أما مالك فأن الشهرة الشخصية العظيمة التي ظل يستمتع بها طوال حياته لابد أن تكون قد ساعدت على اختياره رئيساً ناسبا لمذهب الحجاز؛ بيد أن هذه الشهرة قد عزتها إليه المصادر المتناهية في القدم لنقده الدقيق للأحاديث ولرجالها لا لاجتهاده التشريعي البحت. وكون الشافعي قد ميزه بين أهل المدينة بأن ألف كتابا صغيراً فيما خالف فيه مالكا من المسائل ليس بعجيب لأن الشافعي أخذ العلم منه. ونفس النجاح العظيم الذي لقيه الكتاب الموّطأ لمالك وحده بين عدد من الكتب المماثلة له يمكن أن يعلل أبسط تعليل إذا لم نعده كتاباً مبتكراً ذا آراء شخصية بل عددناه كتابا يعبر عن إجماع المدنيين في عصر المؤلف ملتزماً الطريقة الوسطى مجتنباً التطرف في المسائل المختلف فيها. ولدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن مالكا(143/31)
قد توخا الغرض وهو شاعر بذلك كل الشعور. أما في المذهب العراقي فواضح أن أبا حنيفة يشغل من حيث تطوّر آرائه مكاناً أقل شأناً بكثير من مكانة أصحابه أبى يوسف وزفر ومحمد بن الحسن الشيباني. وإنما يرد ذكرهم كثيراً على هذا الترتيب في الكتب الأقدم عهداً؛ وانمحاء ذكر زفر وثبوت ثالوث أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وكذلك وضع قواعد للإيثار عند الاختيار بين آرائهم المختلفة - كل هذا يرجع تاريخه إلى عهد متأخر نسبياً. وليس لأبي حنيفة فيما عدا الفقه الأكبر - وهو عقيدة وجيزة ذات روايات مختلفة بعضها موضوعة ولكن واحدة منها صحيحة - ليس له فيما عدا ذلك كتاب صحيح من تأليفه؛ لأن مسانيد أبي حنيفة قد جُمعت فيما بعد من أحاديث وردت في كتب أصحابه؛ والأقوال الواردة عنه في مؤلفات تلاميذه لا يتجاوز غالبها المراجعات العامة، يسندون بها إليه آراءهم الشخصية، وهذا يحمل على افتراض أنه لا يرجع إلى اجتهاد أبي حنيفة الشخصي من تفاصيل المذهب الحنفي إلا شيء قليل
وعلى الرغم من ذلك فأن المصادفة السعيدة قد مكنتنا من أن ندرك على الأقل ناحية من شخصيته التشريعية. فقد حكى محمد ابن الحسن الشيباني في كتابه المسمى بالمخارج في الحيل ما يأتي: (سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجا أختين فزفت كل واحدة منهما إلى زوج أختها ولم يعلموا حتى أصبحوا فذكر ذلك لأبي حنيفة وطلبوا الحيلة فيه فقال أبو حنيفة (ليطلق كل واحد من الأخوين امرأته تطليقة ثم يتزوج كل واحد منهما المرأة التي دخل بها مكانها فيكون ذلك جائزاً لأنها منه في عدة ولا عدة عليها من الزوج الأول). قال محمد وقد جاء في هذا حديث عيبناه). ولا يسع أحداً أن يزعم أن هذه الحكاية ليست إلا افتراء موضوعا أريد به تعظيم حكمة أبي حنيفة، لأن عين ذلك الجواب موجود أيضا في كتاب الآثار لنفس المؤلف مروياً عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي. وأما الحديث الآخر الذي عابه الشيباني نفسه فقد احتفظ به شمس الأئمة السرخسي في كتاب المبسوط قال فيه (ذُكر لهذه المسألة حكاية أنها وقعت لبعض الأشراف بالكوفة، وكان قد جمع الفقهاء رحمهم الله لوليمته وفيهم أبو حنيفة رحمه الله وكان في عداد الشبان يومئذ، فكانوا جالسين على المائدة إذ سمعوا ولولة النساء، فقيل ماذا أصابهن، فذكروا أنهم غلطوا فأدخلوا امرأة كل واحد منهما على صاحبه ودخل كل واحد منهما بالتي أدخلت عليه، فقالوا إن العلماء(143/32)
على مائدتكم فسلوهم عن ذلك فسألوا، فقال سفيان الثوري رحمه الله: فيها قضى عليّ رضي الله عنه: على كل واحد من الزوجين المهر وعلى كل واحدة منهما العدّة فإذا انقضت عدّتها دخل بها زوجها، وأبو حنيفة رحمه الله ينكت بإصبعه على طرف المائدة كالمفكر في شيء، فقال من إلى جنبه أبرز ما عندك، هل عندك شيء آخر، فغضب سفيان الثوري رحمه الله، فقال ماذا يكون عنده بعد قضاء عليّ رضي الله عنه، يعني في الوطء بالشبهة. فقال أبو حنيفة رحمه الله: عليّ بالزوجين، فأتي بهما فسأل كل واحد منهما: هل تعجبك المرأة التي دخلت بها؟ قال نعم، ثم قال لكل واحد منهما طلّق امرأتك تطليقة فطلّقها، ثم زوّج من كل واحد منهما المرأة التي دخل بها، وقال قوما إلى أهلكما على بركة الله تعالى. فقال سفيان رحمه الله: ما هذا الذي صنعت. فقال: أحسن الوجوه وأقربها إلى الألفة وأبعدها عن العداوة، أرأيت لو صبر كل واحد منهما حتى تنقضي العدّة أما كان يبقى في قلب كل واحد منهما شيء بدخول أخيه بزوجته. . . فعجبوا من فطنة أبي حنيفة رحمه الله وحسن تأمله). والفرق بين المسألة الفقهية في الأولى والقصة الروائية في الثانية واضح. ومن المهم أن نعرف أن مثل هذه الحكايات الرامية إلى تعظيم أبي حنيفة قد استطاع معاصرو الشيباني من إذاعتها حتى يعيبها هو. وليست الحكاية هذه الحكاية بالوحيدة من نوعها، بل توجد أخرى تشبهها كل الشبه. فالشيباني يروي في كتابه المذكور ما يلي:
(حدثني حفص بن عمر أن رجلا أتى أبا حنيفة ليلا فقال إني كنت مع امرأتي. . . إذ تغضبت علي. . . فأبت أن تكلمني فقلت لها أنت طالق لئن لم تكلميني الليلة. . . فأبت أن تكلمني. . . وأخاف أن يطلع الفجر ولم تكلمني فتذهب مني. فقال أبو حنيفة ما أجد لك من حيلة إلا في خصلة واحدة. . . اذهب فقل لها تذكرين أنك عربية وأني إنما خرجت الساعة فسألت عن أبويك فإذا أمك نبطية. فأتاه فقال: يا عدوة الله الخ. فقالت: كذبت والله.) وهاهو ذا السرخسي أيضاً يورد لهذه الحكاية صورة روائية محضة: (أنه قال للرجل ارجع إلى بيتك حتى آتي بيتك فأتشفع لك فرجع إلى بيته وجاء أبو حنيفة رحمه الله في أثره وصعد مئذنة محلته وأذّن فظنّت المرأة أن الفجر قد طلع. فقالت: الحمد لله الذي نجاني منك. فجاء أبو حنيفة رحمه الله إلى الباب وقال قد برت يمينك وأنا الذي أذنت أذان بلال رضي الله عنه في نصف الليل). ولا يسعنا أن نشك في أن الصيغة الأولى لهذه تاريخية والأخرى(143/33)
خيالية. والمغزى أن أبا حنيفة كان فقهياً عملياً كثير الحيل حتى أن الجيل الذي تلاه بالغ في وصفه بتلك الصفة التي لابد أن تكون بدت له من خصائص أبي حنيفة الشخصية بالحكايات الموضوعة: ومن الغريب أن نلاحظ أنه في زمن متأخر صار أبو يوسف هو الذي اشتهر عند القصاص بأنه مثال الفقيه المبتكر للحيل العملية
والشيباني أحرى من أصحابه بأن يشغل بين الحنفية مكاناً يشبه المكان الذي يشغله مالك بين المالكية. ومن سوء الحظ أنه ليس بين أيدي الجمهور إلى الآن من كافة كتب الشيباني إلا موجزان وهما كتاب الجامع الصغير المطبوع في بولاق وكتاب المخارج في الحيل السالف الذكر الذي نشرناه نحن (وطبعات مؤلفين من مؤلفاته الأخرى طبعت في الهند نادرة جداً فهي كأنها غير موجودة) وليس كتاب المخارج في الحيل إلا في موضوع محدود، وبناء الجامع الصغير على مسائل منفردة - وهو ترتيب تطرف فيه الشيباني في هذا الكتاب تسهيلا للحفظ - لا يسمح لنا باستخراج المبادئ التي تقوم عليها الأحكام إلا من طريق الاستنتاج غير المؤمن. ومؤلفات الشيباني الرئيسية موجودة مع ذلك في مخطوطات قديمة صحيحة موجود منها قسم عظيم جداً في مكاتب استانبول. أتيح لي أنا شخصياً أن أنشر في مؤلف ذي ثلاث أجزاء فهرستاً لتلك المخطوطات ولغيرها تهم مؤرخي الفقه، وتسمح هذه الفهارس لمن أراد، أن يطلع عليها بسهولة ويتولى طبعها. والحاجة قبل كل شيء إلى تعريف كتاب الأصل الذي هو أوسع مؤلفات الشيباني وكتاب الجامع الكبير. ومع كل منهما يوجد عدد كبير من شروح وتلخيصات وحواش الخ تسهل دراستهما. ويكاد لا يقل عن هذين الكتابين أهمية كتاب الزيادات وقد شرح أيضاً مراراً كثيرة، وكتاب زيادة الزيادات، يدل عنوانهما على غرضهما أي إتمام ما في المؤلفين الكبيرين، ثم كتاب الآثار، ثم كتاب الحجج. وهذا الكتاب، ومعه مسانيد أبي حنيفة التي لا يزال أقدم رواياتها غير مطبوعة أيضاً، يعلمنا الأساس السني لا للمذهب الحنفي فحسب، بل للمذهب العراقي في العصر السابق له أيضاً. وكتاب الحجج هو أول مثال لما ألف في اختلاف المذاهب، وصاحبه يعنى بوجه خاص بأنواع الخلافيات بين أهل الكوفة وأهل المدينة، فأنه يسمي الحنفية والمالكية على هذا النحو. ولكي نقدر أصول المذهب الحنفي حق القدر ينبغي أن نطلع على نصوص هذه الكتب بعينها. ذلك أن مذاهب الفقه المختلفة لا تميزها مبادئ(143/34)
أحكامها فحسب بل تميزها أيضاً قائمة المسائل التي تدرس في كل واحد منها، مع طبيعة هذه المسائل. ففي باب الغصب مثلا يتناول مالك بالبحث قبل كل شيء الحالات التي يكون فيها الشيء المغضوب مثلياً، فيحمله هذا على الميل إلى مصلحة الغاصب حتى لا يكون عليه إلا أن يعوض من الشيء المغضوب كمية مماثلة. أما الشافعي فعلى النقيض من ذلك يعنى بالحالات التي يُدخِل فيها الغاضب تعديلا على الشيء المغضوب، فيميل بذلك إلى تحميله التبعة عن كل ضرر قد ينشأ عن ذلك التعديل بحيث يصبح موقعه عند الشافعي أسوأ بكثير مما هو عند مالك. أما مبادئ مذهب الشيباني فنحن عاجزون عن الحكم عليها إلى الآن لانتفاء النصوص. وطبع هذه النصوص لازم أيضاً باعتبار أنها المبدأ للبحث عن تطور الأحكام داخل المذهب الحنفي، والقاعدة العامة هي أن المسائل التي قررتها الكتب السابقة تنضم صراحة أو على الأقل إضماراً إلى الكتب اللاحقة التي تكون من جنسها، فالمسائل التي ترد في كتاب لأول مرة تمثل على وجه الإجمال النتائج التي استحدثتها المباحثات وتطور الأقوال بين هذا الكتاب والكتب التي سبقته. وهذه الطريقة التي تنطبق بطبيعة الحال على كافة المذاهب الفقهية ستسمح لنا بأن نتبع عن كثب تاريخ أحكامها وأقوالها
ونحن إلى الآن لم نذكر المذهب الحنبلي. وكثير من الفقهاء المسلمين وفي جملتهم ابن جرير الطبري قد آخذوا أحمد بن حنبل الذي يعتبره الجمهور مؤسساً لهذا المذهب بأنه محدث فقط وليس بفقيه، ولم يكن من الميسور لنا إلى الآن أن نقرر ألهذا الرأي ما يبرره أم لا. ولكن كتاب المسائل الموجود منه ثلاث روايات لم يطبع منها إلا واحدة طبعة خاصة يصعب الحصول عليها - أقول إن كتاب المسائل هذا الذي يشتمل على أجوبة الإمام أحمد بن حنبل على المسائل التي وجهت إليه في كافة أبواب الفقه كما يشتمل كتاب المدونة الكبرى على أجوبة مالك ابن أنس يسمح لنا بأن نؤكد أن الإمام أحمد نفسه أراد أن يكون فقهياً لأنه كان يعلم مذهباً فقهياً مفصلا لا يقتصر على شرح الأحاديث. ولهذا ينبغي ألا نعتبر مجموع أحاديثه الكبير المشهور بالمسند كأنه مؤلف قائم بذاته فحسب، بل نعتبره أيضاً كتاباً يضع الإمام أحمد فيه الأساس لمذهبه الفقهي. ولا يعني هذا أنه أسس المذهب السني السلفي في الفقه بنفس المعنى الذي أسس الشافعي مذهبه على مقتضاه، لأننا نجد قبله(143/35)
وبعده فقهاء عديدين ذوي صبغة سنية سلفية، ومذهبهم مستقل عن مذهب الإمام أحمد. ويلوح مع ذلك أن دائرة تلاميذه بمذهبهم كانت الوحيدة التي بقيت من تلك الطريقة السنية السلفية المصبوغة بالأخذ بالأحاديث قبل كل شيء في الشرع الإسلامي
وإني لأختتم هذه المحاضرة الثانية متمنياً أن تنشر الكتب الحنفية العظيمة الشأن التي أسلفنا الإشارة إليها أقرب ما يمكن، فأن هذا الميدان ميدان خصب للتعاون بين العلماء الشرقيين والأوربيين، ذلك التعاون الذي ألمعت إليه في بدء حديثي الأول، فأن فقهاء اليوم باشتراكهم في تحقيق هذا الغرض سوف يعودون بفضل إحياء ماضي علمهم كما قد فعلوا بطبع كتاب الأم للإمام الشافعي
يوسف شخت(143/36)
بين شكسبير وابن الرومي
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ليست هذه المقالة موازنة بين شاعرين، وإنما هي صلة بين قصيدتين لتقارب موضوعهما، وأعني قصيدة رثاء مارك أنطونيوس ليوليوس قيصر، وحث الجمهور على الأخذ بثأره، وقصيدة ابن الرومي في رثاء أهل البصرة عندما دخلها صاحب الزنج وفتك بأهلها وسبى نساءهم ومثل بهم أشنع تمثيل، وفي هذه القصيدة يحث ابن الرومي جمهور المسلمين عامة وأصحاب الشأن في الدولة العباسية تعريضاً على الأخذ بثأر أهل البصرة والنفير لقتال صاحب الزنج، وتقاربت القصيدتان في نظري أيضاً لمهارة ما أرى فيهما من الأسلوب الخطابي والقدرة على السيطرة على الجماهير بمختلف الأساليب الخطابية، فينتقل القائل فيهما من باعث للشعور إلى باعث، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن حيلة في إثارة النفوس إلى حيلة أخرى، ومن حجة إلى حجة، ومن ترغيب إلى إرهاب، ومن حنان إلى استفظاع، ومن رقة الذكرى الماضية إلى هول الكارثة، وتقرأ القصيدة منهما فتحس كأنها قطعة موسيقية توقع على مختلف الأوتار والآلات والأصوات لتعبر عن مختلف الأحاسيس، وتمتاز قصيدة شكسبير في أنها أبرع ما قرأت في شعر الغربيين من هذا النوع من التأثير الخطابي، كما تمتاز قصيدة ابن الرومي في أنها أروع ما في اللغة العربية من هذا التأثير الخطابي وأكثره تنويعاً لأساليب التأثير، ولا يقتصر تأثير القصيدة على كثرة وسائل إثارة النفس كما ذكرت، ولكن الشاعر فيها يستخدم تكرار بعض الأساليب والعبارات تكراراً يراد به زيادة التأثير الخطابي، والقصيدة لا تمتاز في ألفاظ أو عبارات منمقة فخمة، ولكنها تشعر القارئ كأنها قيلت ارتجالا أو أن إحساس الشاعر كان أسرع من أن يدع له مجالاً للأغراب في اللفظ والتنميق الصناعي، ففخامتها فخامة الشعور المتدفق، وعندي أن القصيدة خطبة أكثر منها قصيدة تقرأ في دعة وسكون، فيكون أثرها أتم وأعم إذا تخيل القارئ كارثة البصرة وما حل بها، وشارك الشاعر في شعوره وفي رغبته في إثارة أهل بغداد. ثم إذا هو قالها على أسلوب الخطباء متتبعاً اختلاف أساليب الشاعر في إثارة النفس مغيراً من صوته ولهجته في إلقائها حسب تغير تلك الأساليب، فإنه يجد فيها روعة لا مثيل لها في نوعها في اللغة العربية(143/37)
وقصيدة شكسبير تختلف من أجل أن الخطيب كان مضطراً أن يداهن الذين يريد إثارة الرومان عليهم، فحمدهم على أن سمحوا له برثاء يوليوس قيصر، ونفى عن نفسه العداء لهم كما نفى عن نفسه القدرة تمهيداً لإظهار قدرته، وكي يظن السامعون أن أثر المأساة هو الذي أثارهم لا قدرته الخطابية. ثم جعل يمدح قتلة يوليوس قيصر ومزج مدحه إياهم بالسخر الخفي، ثم ذكر فضل يوليوس قيصر على الرومان وكشف لهم عن جثته وأراهم جروحه الدامية وجعل يستدرجهم من طريق الرحمة والإقرار بفضل المقتول إلى النقمة على القتلة ومجاهرتهم بالعداء والتشنيع، وابن الرومي لم يكن في حاجة إلى مداهنة صاحب الزنج فكان يسميه اللعين من أول الأمر، ويكيل له الهجاء صاعا بعد صاع، ولكن انظر كيف يتدرج من التوجع لما حل بالبصرة إلى وصف دقيق لما أصابها من الزنج، ويبدأ وصفه بدخول الزنج المدينة فيقول:
دخلوها كأنهم قطع اللي ... ل إذا راح مدلهم الظلام
ثم يذكر كل ما حدث من قتل وذبح وهتك للأعراض وسبي وإحراق وتخريب وتمثيل حتى يأخذ الفزع بالقارئ مأخذه ثم يلتفت إلى الذكرى فيتذكر رخاء أهلها ونعيمهم وعمار المدينة وبهجتها، ثم يتوجع ويظهر الحياء من خذلانهم، ويذكر الناس بمحاسبة الله ومخاصمة النبي إياهم
ثم يلوح للناس بالعار اللاحق بهم ويحضهم على الأخذ بثأر أهل البصرة. والقصيدة طويلة تقع في أكثر من ثمانين بيتاً، ولما كان أثرها الخطابي يزداد من تراكم قول على قول وإثارة على إثارة لا من بيت القصيد أو من قطع ممتازة. فكل اقتطاف منها لا ينصفها، ولاسيما أن أسلوبها ليس بالأسلوب الذي يقرأ في دعة لديباجته بل يقال جهراً مع تنويع الصوت حسب مرمى الشاعر الخطيب
ويخل لي أن حافظ إبراهيم كان متأثراً بروح هذه القصيدة عندما نظم قصيدته في رثاء قصر الجزيرة وقصيدته في زلزال مسينا
ومن تكرار ابن الرومي المطرب المؤثر ترديده اللهف في قوله:
لهف نفسي عليك أيتها البص ... رة لهفاً كمثل لهب الضرام
لهف نفسي عليك يا فرضة البل ... دان لهفاً يبقى على الأعوام(143/38)
لهف نفسي لجمعك المتفاني ... لهف نفسي لعزك المستضام
أو ترديدكم في قوله:
كم ضنين بنفسه رام منجى ... فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخ قد رأى أخاه قتيلا ... تَرِبَ الخد بين صرعى كرام
كم رضيع هناك قد فطموه ... بشبا السيف قبل حين الفطام
أو ترديد من في قوله:
من رآهن في المساق سبايا ... داميات الوجوه للأقدام
من رآهن في المقاسم وسط ال ... زنج يقسمن بينهم بالسهام
من رآهن يتخذن إماء ... بعد ملك الإماء والخدَّام
أو ترديد أين في قوله:
أين ضوضاء ذلك الخلق فيها ... أين أسواقها ذوات الزحام
أين فلك فيها وفلك إليها ... منشئات في البحر كالأعلام
أو ترديد أفعال الأمر في أخريات القصيدة، وهذا الترديد ما هو إلا ناحية من نواحي أسلوبها الخطابي ومثل من أمثلته وطريقة من طرقه المؤثرة، والأسلوب الخطابي نفسه ما هو إلا ناحية من نواحي الإجادة الشعرية التي تتعدد وسائلها في القصيدة، وفي القصيدة ناحية تزيد ألمها في النفس وهي إعادة الشاعر عرض فظائع القتل والتخريب والتمثيل بعد أن ينتقل بالقارئ أو السامع في هدوء إلى ذكرى نعيمها الزائل، وبعد أن يهدئ من روعه بعرض مناظر أمنها وسعادتها ودعة أهلها الماضية فكأنه ينكأ القرح بعد أن يضمده، ويضرب القلب بعد أن يربت عليه، ويجذب الأعصاب بعد أن تسكن
عبد الرحمن شكري(143/39)
الإمبراطورية الآسيوية هل تصبح حقيقة تاريخية
بقلم جورج حداد
لقد مرت على القارة الآسيوية قرون ازدهرت فيها إمبراطوريات عديدة، ووحدت قسما غير يسير من هذه القطعة من الأرض، ولا نقتصر في ذكر هذه الإمبراطوريات على ما قام منها في العالم القديم. كإمبراطورية البابليين، والآشوريين، والفرس، وإنما هنالك دول إمبراطورية واسعة نشأت في العصور الوسطى بعد سقوط دولة الرومان وأهمها الإمبراطورية العربية التي سيطرت على آسيا الغربية والوسطى، وامتدت إلى حدود الصين، وهكذا كانت القارة الآسيوية إذ ذاك تحكمها إمبراطوريتان كبيرتان إمبراطورية أبناء ماء السماء (الصين) في الشرق، وإمبراطورية أبناء يعرب في معظم القسم الباقي. انقرضت بعد ذلك إمبراطورية العرب وضعفت إمبراطورية الصين وتغيرت حالها وبدأت العصور الحديثة تحدثنا عن قيام إمبراطورية يابانية كانت قليلة الشأن حتى منتصف القرن الماضي، ومن ثم أخذت تزدهر وتنمو حتى ليخال المطلع على شؤونها أنها ستبني إمبراطورية آسيوية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً
إن حكاية تقدم اليابان والحق يقال حكاية عجيبة وأعجب ما فيها تلك السرعة التي قضت فيها على نظامها القديم منذ ثورة 1868 الدستورية، وأنشأت لنفسها قوة حربية في البر والبحر حتى أصبحت تضاهي أعظم دول الأرض، وكذلك يدهشك نجاحها في إنشاء قوة صناعية لا تقل عن قوى أهم دول أوربا وأمريكا الصناعية اليوم. ثم نجاحها في مناوأة جارتيها الكبيرتين الصين والروسيا، واكتساحها قسما من ممتلكاتها. فروسيا القيصرية والصين الإمبراطورية قد عجزتا بين أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر عن صد هجوم اليابان فأعطتها الأولى نصف جزيرة سخالين وبور آرثر، وأعطتها الثانية جزيرة فورموزه مع منحها شبه جزيرة كوريا الاستقلال، وكان استقلال كوريا خطوة نحو استيلاء اليابان عليها. فلم تأت سنة 1910 إلا وكانت حكومة الميكادو صاحبة الأمر فيها، ولم تنته الحرب العالمية وتوقع معاهدة فرساي إلا وكانت اليابان قد وضعت يدها على بعض مستعمرات الألمان السابقة في المحيط الهادي وأصبحت من الدول الكبرى التي يحسب لها حساب في السياسة العالمية وخصوصاً في المحيط الهادي(143/40)
لم تقف مطامع اليابان في القارة الآسيوية عند حد الاستيلاء على كوريا وبعض الجزر فهي عدا شعورها الوطني المتين وعزتها القومية تشعر بحاجة إلى التوسع، وحالتها تشبه حالة إنكلترا وجميع الدول الصناعية الكبرى. فمساحة جزرها تبلغ تقريباً مساحة الجزر البريطانية، وعدد سكانها يزيد على عدد سكان بلاد الإنكليز، وما تنتجه اليابان من المواد الغذائية لا يكفيها، كما أنه ليس فيها من المواد الأولية ما يكفي حاجات صناعتها. فكوريا هي مركز تصدير الأرز إلى اليابان، ومنشوريا التي كانت من ملحقات الصين منذ ثلاث سنوات غنية بالمعادن، وهذه حوادث السنوات الأخيرة قد أرتنا كيف اهتمت حكومة الميكادو بمنشوريا، وأرسلت جيوشها إليها وتمكنت من فصلها تماماً عن الصين، وإقامة حكومة مستقلة فيها تحت نفوذها، وهكذا أتيح لها أن تسيطر على خمسين مليوناً من النفوس في منشوريا وكوريا، بينهم قسم من رعاياها اليابانيين، والمواصلات سريعة والعلاقات متينة بين هذه الملحقات البرية وجزر اليابان
واليوم هل وقفت مطامع اليابان عند هذا الحد؟ إن حوادث هذه الأيام تجيبنا بالنفي، وماذا يريد اليابانيون إذاً؟ أنهم يريدون انفصال المقاطعات الخمس في شمال الصين عن حكومة نانكين فتقيم حكومة مستقلة كما حصل في منشوريا وتقبل مراقبتهم ونفوذهم، وأخيراً قد تطلب هذه المقاطعات الحكومة الملكية فتقبل حكم إمبراطور منشوريا الحالي الذي كان إمبراطور الصين كلها في عام 1911. عندئذ يتم تشكيل إمبراطورية كبرى من منشوريا والمقاطعات الخمس يبلغ عدد سكانها 120 مليوناً من النفوس، وتحميها الدولة اليابانية، وبعد مدة قد يذكر إمبراطور منشوريا حكومة نانكين الجمهورية بأن الصين كانت موحدة في العصور السابقة فيزحف بجيوش منظمة تعضدها حكومة اليابان على نانكين، فيتم وضع أيدي اليابان على بلاد الصين كلها، ولا يغربن عن الذهن أن الصين كانت قديماً تحكم تركستان الصينية والتيبت وتحمي عدا منشوريا وكوريا ومنغوليا الهند الصينية أيضاً، فهل تفكر اليابان في ضم هذه كلها إلى إمبراطوريتها الواسعة؟ إنها بدون أن تضم هذه المقاطعات تكون بعد أن يتم استيلاؤها على ما يعرف بالصين الأصلية قد حكمت إمبراطورية يزيد عدد سكانها عن ربع سكان العالم، وتكون إمبراطوريتها في قارة واحدة غير مجزأة منتشرة أقسامها في جميع القارات كالإمبراطورية البريطانية(143/41)
إن سياسة اليابان سوف لا تتغير. فقد أرادت منذ 1915 أن تفرض حمايتها الاقتصادية والسياسية على الصين، ولكنها فشلت. إلا أنها واصلت جهودها فتوصلت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى نتيجة باهرة، وقد تتوصل إلى أكثر من ذلك بعد بضعة شهور. إن ما طلبه زعماء المقاطعات الخمس في شمالي الصين هو تشكيل هيئة تسمى المجلس السياسي الشمالي للجمهورية الصينية له استقلاله الإداري ويشبه مجلس منغوليا المستقل، ويكاد يتم انفصال هذه المقاطعات عن الصين وعلى هذا المبدأ، ولكن تحت سيطرة حكومة طوكيو اليابانية. ومهما يكن فإن اليابان مستعدة أن تبذل جهوداً جبارة لتحقيق برنامجها في الصين. غير أن الولايات المتحدة ذات قوات كبرى في المحيط الهادي وجيوش روسيا السوفيتية بالمرصاد على نهر الآمور وأسطولها رابض شرقي فلاديفستك
هذا وقد لوحظ مؤخراً شيء من التطور في العلاقات بين بريطانيا العظمى وروسيا نظراً لمصالحهما المشتركة في الشرق الأقصى، وهذا التقارب بين الدولتين الكبيرتين يعد من أشد الحوادث بروزاً في السياسة الدولية. فاليوم قد تبدلت الحال بين الدولتين وزال ذلك التنافر في مصالحهما إن كان في جهات بحر البلطيق أو في جنوب شرقي أوربا، وفي الشرق الأدنى والهند والشرق الأقصى. فقد كادت مطامح روسيا القيصرية في الماضي تؤدي إلى الحرب مع إنكلترا نظراً لاحتكاك مصالحهما أكثر من مرة في تركيا وفارس وأفغانستان وعلى حدود الهند، ولكن الخطر الألماني الذي يهدد الدولتين هو الذي أجبرهما على تناسي العداوة وحملهما قبل الحرب الكبرى على الاتفاق سوياً ضد حكومة برلين. وعادت العلاقات بعد الحرب الكبرى فساءت بين الدولتين لأن خطر الشيوعية الآتي من موسكو هال بريطانيا العظمى، ولأنه كان من رأي روسيا إعادة النظر في معاهدات 1919، غير أن روسيا تحققت بأن قلب تلك المعاهدات لا يأتي إلا بعد حرب لا تعلم إذا كانت تسفر عن نتائج أحسن من نتائج الحرب الماضية. فهي اليوم تريد السلم وهذا ما تريده إنكلترا أيضا. وقد أصبحت مدفوعة بسياسة اليابان الهجومية إلى التفتيش عن صداقة دول ذات مصالح في الشرق الأقصى. والتعاون بين بريطانيا العظمى وروسيا يفي بمصالح الدولتين خصوصاً لأن تلك المصالح لا تصطدم اليوم على طول الخط الممتد من البلطيق إلى الشرق الأقصى. فقد انقضى عهد مطامح القياصرة في القسطنطينية وأجزاء الدولة(143/42)
العثمانية وزال النزاع بين إنكلترا وروسيا في خليج فارس وأفغانستان. وليس لروسيا مطامح في الهند اليوم لأنه ليس لها أسواق تجارية فيها إن كان في الصادر أو في الوارد، وكذلك ليس لها رؤوس أموال تثمرها هناك. والروسيا تهتم بإنهاض قواها في الداخل قبل كل شيء ولذلك تحتاج إلى السلم. وأما في الشرق الأقصى فإنها تريد ضمان وحدة الصين، وسياستها هناك تشبه سياسة إنكلترا في الدولة العثمانية في القرن الماضي. فهي تنظر بعين الحسد - كما تنظر إنكلترا أيضاً - إلى توسع اليابان على حساب الصين
إن وزارة الخارجية الإنكليزية اليوم تريد أن تعوض عن خطيئتها قي سياستها نحو الروسيا منذ عشر سنوات. فالخطر الياباني الذي لم تشأ حكومات إنكلترا السابقة أن تراه والخوف الذي يهدد مستعمرات إنكلترا لم يعد مجرد خرافة. إن اليابان اليوم تتسلط على ثلث الإمبراطورية الصينية السابقة وعما قريب ستبدأ الحرب الحقيقية بين إنكلترا واليابان في آسيا الوسطى حيث تدافع اليابان عن استقلال الأمة الصينية وتطالب إنكلترا بإعطاء الصين ما أخذته منها. وسوف لا تقف عند هذا الحد، بل ربما وضعت أساساً لسياستها هذه العبارة التي بدأ رجال السياسة في اليابان يرددونها وهي (آسيا للأسيويين) كما وضع الرئيس منرو منذ أكثر من قرن خلا مبدأ لسياسة حكومة الولايات المتحدة (أمريكا للأمريكيين) واليابانيون ماضون في تنفيذ برنامجهم وعندما يصبحون على أبواب (كاشغار) في تركستان الصينية، لا يصعب عليهم الهجوم على الهند
ومن المحقق أن إنكلترا لا تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الأخطار، فهي تقوم بتحصين سنغافورة، وستدفع ثمن ذلك باهظاً - نحو 30 مليون جنيه. غير أن هذه القاعدة الحربية ليست كافية أمام أمة تستعد لفتح آسيا كلها. وإنكلترا وحدها لا يمكنها الوقوف في وجه هذا الخطر الأصفر، وهي لذلك تسعى للحصول على مساعدة الدول الأخرى، ويظهر أنه لابد للوقوف في وجه الخطر الياباني من اتفاق بين الدول الأربع: الروسيا وإنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة. ويقول أحد الصحفيين الروس بهذه المناسبة إن نظام الضمانات المشتركة لأجل السلام لا يجب أن يكون كمظلة يمكن وضعها في مخزن الحبوب لكي تأكلها الفيران ثم إخراجها لاستعمالها ضد حرارة الشمس، لأن هذه المظلة متى ما أكلت قماشها الفيران لا يمكن استعمالها للوقاية من حرارة الشمس. والصحفي يؤكد أن روسيا(143/43)
مستعدة للتضحية في سبيل توطيد السلم ولتأييد الدول في نزاعها ضد الذين وضعوا مبدأ لهم سياسة الهجوم. وهكذا فإن أساس الاتفاق موجود بين إنكلترا وروسيا. وسيظهر التاريخ إلى أين تؤدي سياسة التوسع الياباني وفي أي مرحلة من سيرها نحو بناء إمبراطوريتها الآسيوية ستقفها دول أوربا وأمريكا
(حلب)
جورج حداد(143/44)
على شواطئ الآستانة
ساعة في متحف (طوب قبو)
للأستاذ كمال إبراهيم
وقصدت إلى دار السلطان، ومنازل الخلائف من آل عثمان، وقد أصبحت بما فيها متحف الزائر، ومُجتلَى الناظر، ومطاف المتفرج، بعدما كانت تطاول السماء في رفعتها، وتُصاول العُصم في منعتها، وكانت في حمّى كبطون القلاع، ومن يحم حولها يوشك أن يقع في شراك الموت
أجل، وكانت هذه المغاني التي نطيف بها اليوم، تفيض بالنعيم، وتختال في جلال الملك، وتزدهي بأبهة السلطان، وكان الزمان قد بسم لها بسمة الإقبال، ثم أغفى عنها حيناً، ولكنها إغفاءة اليقظان، فما لبث حتى بعدها حتى اهتاجت هوائجه، وانباجت بالشر بوائجه، فأحال حالها، وأهلك أهلها، وأباد سلطانها، وتركها عبرة للمعتبر، وعظةً للناظر:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
وكانت كجنة الخلد، موشيَّة الأديم، رفّافة النسيم، دانية الظلال، زهراء ناضرة، وعرائس القصر في مقاصيرهن، يصورن مباهج الحياة، وإشراق السعادة، وفتنة الوجود، فإذا ما خطرن في مطاف وشبهن، وسرن متثاقلات بحَلْيهن وحُللهن، خلت السعادة حيث كُنَّ، تقيم إذا أقمن، وترحل حيث يرحلن
من الهيف لو أن الخلاخل صُيرت ... لها وُشُحاً جالت عليها الخلاخل
مها الوحش إلا أن هاتا أوانسُ ... قنا الخط، إلا أن تلك ذوابل
وجنبات القصر موّاجة بالحشم والعبيد، والأبواب قائمة بالحجاب، والجميع ناكسة أبصارهم، عانية رقابهم، لعزة الملك، ورب الصولجان، وظل الله على الأرض. .
واليوم، واهاً لها اليوم، قد أقفرت من ذويها، وثكلت ساكنيها، وأصبحت خبراً يروى، وكتاباً يقرأ ويطوى
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
دخلت إلى تلك القصور المعروفة بـ (طوب قبو) وقد باتت متحف المتفرجين، وملهى الزائرين، يرودون الأبصار في آثار السلطنة الماضية، ويطوفون بين الأركان الباقية،(143/45)
ويتقلبون فيما خلفه الخلفاء، من عروض ومتاع، وحلل ونفائس، يقابل الداخل عن شماله، غرفة السلطان تصاقبها أخرى لمجلس وزرائه، وقد أبقيتا على ما كانتا عليه، وفي أعلى المجلس روشنٌ أعدّ لجلالته، يُشرف منه على جلساته، فإذا خرجت منه أفضى بك الطريق إلى قصور متفرقة جعل في كل منها صنف من العروض والأثاث، واللباس والحلل، والحلي والشارات، مما كان في بيوت السلاطين، وقد نسقت في معارضها أبدع تنسيق، ونمقتها يد الفن أجمل تنميق، وما هي غير نفائس العصور، وتحف الحياة ومعجزات الصناعة، وبواكير البراعة، التي أنفق حذقة الصناع فيها حياتهم، وحبسوا في نمنمتها جهودهم وأوقاتهم، فجاءت تخطف الأبصار بروائها، وتذهل الألباب بأناقتها وزخرفها. .
ينتهي الطائف بعد هذا إلى بيوت السلاطين، وقد أبقى كل منها على ما كان عليه في عهد من عاش فيه، وهي متصلة متداخلة، يفضي بك بعضها إلى بعض، ويسلمك منها مجاز إلى مجاز، حتى تضلك السبل، وتنفذ معك الحيل في تعرج الموالج والمخارج، ولولا دليل معنا خرِّيت لعمي علينا القصد، وأنفقنا الزمن في أخذ ورد
سرت في هذه القصور، وصور الماضين تمر من أمامي صامتة ناطقة، فصرت أقيم في كل ركن مشهداً، ومن كل حجر معبداً، وفي كل لوح منظراً مخلداً، حتى توزعتني الصور والرسوم، وغشيتني الأشباح والطيوف؛ وازدحمت في خاطري الأخيلة والذكريات؛ هاهي ذي الآثار الصامتات قد انتصبت لناظري حزينة تتوارى كأشباح الموتى، وهذه قواعد البيت كأنها بعض قواعد الأهرام، تفيض بعبر الدهر، وتنطق بغوائل الزمن وفجاءات القدر كل يوم، ومن يدري ما تخبئ لها الأيام بعد حين، وقد أصبحت بين عشية وضحاها كما تراها
عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك مني وليست الدار داري ... في اقتراب منهم ولا الجنس جنسي
أجل سرت في تلك القصور، وكأني بمواكب السلاطين الحافلة، غادية راحة في أيام الجمع والأعياد، وكأني بخليفة المسلمين قد خرج من قصره، في طلعة الخلافة، وأبهة الملك محفوفا ببطانته، مزفوفا من رعيته، تستره عن الناظرين، صفوف الحجاب، وهياكل(143/46)
الحرس، وقامات الشرطة بملابسهم المفوفة، وأوسمتهم المزخرفة، ومن ورائهم جماهير الشعب المحتشدة على طواري الدرب الكبير متدافعة، وقد استطالت الأعناق إلى اجتلاء تلك الطلعة المباركة، وأنفاس المصلين تملأ الجامع القديم (أياصوفيا) بالدعوات الصالحات، والكلمات الطيبات والابتهال إليه تعالى، أن يمد في حياة خليفة المسلمين، وينصره على القوم الكافرين
ويصاقب تلك القصور إلى شط البحر، جنة لفّاء، روحاء زهراء، يخترقها درب عريض، قامت على جانبه أشجار فينانة، وارفة غيدانة، مبسوطة الأمليد، ملتفة العساليج، وقد عقدت فروعها من فوقها سماء من الأوراق، تزري بزرقة السماء، حجبت شمسها إلا خيوطاً منها، فكانت كما قالت بنت زياد في وصف واد:
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
تصد الشمس أنّى واجهَتنا ... فتتحجبها وتأذن للنسيم
وذكرت حين سرت هناك غريب اللسان، قول أبي الطيب في شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
سرت في ذلك الدرب الظليل، ونواسم البحر الندية تجوس خلال أدواحه، وتتقلب بين أزهاره وأوراقه، فعبق شذاها، وطاب رياها، تلامس الوجه، فيتفتح لها الصدر، وتخلص لها الروح، أفضى بي السير إلى مسالك تنشعب من ذلك الدرب، تكتنفها ملاعب وميادين، ودارات ورحب، فإذا أمعن السائر في السير بدا له البحر متسع الأفق، وتزاحمت الآستانة لناظريه متعالية على ضفاف البسفور، وقد احتضنت الماء، وعانقت السماء، فكانت فتنة العالم، وسحر الوجود. فإذا ما بلغ شط البحر، وقد شطت بخياله تلك الصور والذكر، لاح له ذلك التمثال الفخم، وسط رحبة من الأرض، لرجل (تركيا) اليوم، فيعود به هذا المشهد الحديث، إلى الحقيقة بعد خيال، والى الحاضر بعد غياب، والى الساعة التي هو فيها بعد استغراق طويل
كمال إبراهيم
المدرس في دار المعلمين ببغداد(143/47)
الحركة الفكرية في السودان
بقلم حيدر موسى
طريف جداً أن نسمع حديث أبناء العروبة عن الحركات الأدبية في بلاد الشرق المختلفة، وجميل جداً أن تكون (الرسالة) الفيحاء ميداناً رحباً نرى فيه تلك الأقلام القوية تصول وتجول فنعجب بها وتمتلئ نفوسنا بشتى الاحساسات الحلوة التي لا تتعدى حب أبناء الضاد لبعضهم، وقد عزمت حين قرأت تلك المقالات الطلية أن أرفع صوتي الضعيف بين تلك الأصوات الداوية العالية وأرسل ضوءاً على الحركة الفكرية في وطني السودان، ليعرف إخواني أبناء أسفل الوادي شيئاً قليلا عن النهضة القلمية في أعلى الوادي، فلعل حديثي يقع في نفوسهم الكريمة موقعاً حسناً ولعله لا يكون ممجوجاً
إن أدب السودان يسير وراء الأدب المصري ويتبعه خطوة خطوة، نظراً للجوار ولتشابه الأخلاق والعادات وغير ذلك من الأوصاف التي فرغ رجال التاريخ من سردها ووفقوا في ذلك توفيقاً عظيما. ولذلك أود ألا أكرر لأن التكرار تمجه الأذواق السليمة
أجل إننا نسير وراءكم ونحاكيكم كما يحاكي الطفل أخاه الأكبر، لكن سيرنا ببطء وبخطوات متزنة لأننا نخشى الكبوة ولنأمن سوء العاقبة. إن صحفكم على اختلاف أنواعها ومذاهبها مقروءة لدى كل الطبقات في المدن الكبيرة ويطالعها المتعلمون في القرى، وللصحف الأدبية الراقية التي تبعث بها إلينا مطابعكم المحل الأول، فترى الشبان كانوا يتأبطون (السياسة الأسبوعية) في إبان حياتها، وعندما اختفت وظهرت (الرسالة) وسدت الثغرة تهافتوا عليها وخطبوا ودهاً فإذا أنت تراها بأيديهم في النوادي والمجالس والمنازل ثم في عربات الترام أيضاً حتى صارت قراءتها محتمة على كل أديب ومتأدب، وسل الأستاذ الزيات يحدثك بالأرقام عن مبلغ ذلك الذيوع والانتشار الواسع الذي قل أن تحظى به غير الرسالة، وصدقوني يا أحبائي القراء فلست أقول هذا القول تقرباً من الأستاذ. بل أقول الحق كأي رجل حر
الشباب السوداني متطلع دائماً إلى العلياء، وخصص جهده ووقته - في الوقت الحاضر - للإلمام بمختلف الآداب والفنون، وللموظفين وهم خيرة المتعلمين النصيب الأوفر في هذا الميدان رغم ضيق وقتهم وقلة مالهم، فترى النوادي بها جمعيات أدبية تقوم بتنظيم(143/49)
المحاضرات والمناظرات جهد المستطاع، حتى النوادي الرياضية لم تهمل الأدب بجانب اشتغالها بترقية الروح الرياضية. كذلك تعنى النوادي المختلفة بإقامة حفلات تمثيلية تعرض فيها الروايات العربية والمصرية، ويسرني كل السرور أن القصة السودانية قد صار لها شأن في عالم التمثيل السوداني، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنها اكتسحت أو كادت تكتسح الروايات غير الوطنية، وكل هذه الروايات البلدية موضوعة بالشعر الشعبي المسمى (الدوبيت) وهو كالغناء يقع في نفوس السامعين موقعاً حسناً وبنغمة حلوة تثير الحماسة؛ ودعني أعرفك بأسماء هذه الروايات فمنها (مصرع تاجوج ومحلق) وهي معروفة لدى المصريين، وقد نشر ملخصها في بعض المجلات المصرية ثم رواية (خراب سوبا) ورواية (فتاة المستقبل) ورواية (البتول) وغيرها وقد أعيد تمثيل الروايات كثيراً نظراً للإقبال العظيم الذي قوبلت به من الجمهور المتعطش لكل ما هو سوداني أصيل، وهذا شعور طيب بالقومية يسرني أن أنوه عنه في هذا المقام ليعرف أبناء العروبة أي شعب نبيل في أعلى الوادي، وإن كنا نخجل أن نشيد بأعمالنا وهذه عادتنا ولا سبيل إلى الخلاص منها. فينا الشعراء والأدباء، وفينا المجددون والمحافظون، لكن التجديد غالب، والفضل للشباب الذي هو الحركة والنشاط. أما حركة التأليف فضعيفة لغلاء أجرة المطابع ولعدم وجود ناشرين يتولون إخراج الكتب، ويوجد الآن أدباء وشعراء يملكون كتبا ودواوين شعرية وهم حائرون لا يعرفون كيف يخرجون هذه الآثار الأدبية التي هي فخر للسودان، والحقيقة أن هذه المشكلة مسألة المسائل ويتألم لها الأدباء ولا يدرون لها حلا، ولذلك لا تجد كتاباً قيماً أخرج للآن في السودان لا لعقم في القرائح. كلا: بل للعذر الذي بيناه
أما الصحافة فحدث عنها ولا حرج، فلدينا الآن جريدة حضارة السودان، وجريدة السودان، وتصدران في الأسبوع مرتين، وجريدة النيل اليومية وملحقها الأدبي الأسبوعي، ومجلة الفجر وهي نصف شهرية، كذلك لكلية غردون مجلة خاصة لا تقف فائدتها على الطلاب فحسب، بل لا تخلو من فائدة، ولجمعية الكشافة مجلة أيضاً تتناول أحياناً بعض الموضوعات الأدبية، وقد اختفت بعض المجلات كمجلة النهضة السودانية، ومجلة مرآة السودان نظراً لقلة المال وفداحة أجرة المطابع، وقد كان لاختفائهما أثر سيئ في القلوب، وفي نظري أن صحفنا السودانية لو وجدت الإقبال الذي هي أهل له في البلاد العربية(143/50)
وخاصة في مصر لما تعثرت ولما اختفت أو شكت من قلة الإقبال والمال، ولأدت خدمات مضاعفة لوطننا الناشئ المحتاج للدعاية الواسعة، ليرتفع صوتنا في الأصقاع البعيدة، وليصير شأن غير شأننا الحاضر
إننا نتسابق في اقتناء الكتب المصرية والصحف المصرية، وقد استفدنا كل الفائدة من ذلك، ففتحت عيوننا، وتذوقنا الأدب، وعرفنا الحياة، أفليس من المستحسن أن تساعدونا بقراءة صحفنا والتعليق على إنتاجنا الأدبي، لتنيروا لنا الطريق بصائب نصحكم وتجاربكم؟ وفي رأيي أن (الرسالة) خير من يقوم بهذه المهمة نظراً لانتشارها العظيم في السودان، ولوجود فطاحل الأساتذة في أسرتها
إننا شرحنا حالنا لأبناء العمومة في مصر أكثر من مرة، وقلنا أننا نعرف كل شيء يجري تحت سماء مصر، ونتألم إن ألمت بها ملمة، ونفرح إذا نالت ما تصبو إليه من رفعة وحرية، وليس غريبا إذن إن طلبنا منهم أن يعاملونا بالمثل. نعم إننا أقل منهم علما وثقافة وبمعونتهم يمكننا أن نسير نحو النور وصوب الثقافة الحقة التي هي أمنية كل سوداني، حتى الجهلاء من المسنين قد بدأوا يتعلمون القراءة وعرفوا فائدتها أخيراً، فتطوع الشباب وانبرى للقيام بهذا الواجب والنتائج تدعو للتفاؤل الشديد
كثر الجدل بين الشباب السوداني عن الأدب القوي الذي دعا إليه الأستاذ الجليل أحمد أمين، فاشتد النقاش بين مؤيد ومعارض ولم تعرف النتيجة بعد
لعل من الطريف أن نذكر أن بعض الصحف السودانية تعارض في نشر القصائد الغزلية على صفحاتها، وحجتها في ذلك غير مقبولة لأن الغزل معروف من قديم الزمان، ولكننا نحاول التوفيق بين آرائها وآرائنا فعسى أن نوفق
هأنا قد تحدثت عن بعض النواحي، فعلى إخواني أدباء السودان أن يتمموا ما بدأت
حيدر موسى(143/51)
صورة من الحياة العلمية في مصر
2 - تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
وفي أثناء هذه الولاية ولد له تقي الدين، وفي هذا البيت الكريم الذي ترفرف عليه روح العلم والورع نشأ نشأة مباركة بين أبيه وعمه الشيخ صدر الدين أحد أفاضل العلماء، يرعيانه ويتوليان أمره. وينشئانه أحسن تنشأة وأكرمها؛ فقد رأيا فيه ملامح النجابة والذكاء والإقبال على العلم والجلد عليه، والانصراف عن اللهو ولذائذ الحياة، ما جعلهما يتنوران من خلاله أنه سيكون إماماً من أئمة العلم ورجلاً من رجال الخلق والفضل. فقد حكى عنه أبنه تاج الدين (أنه كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجا، فيأكل؛ ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب؛ فيأكل شيئاً حلوا لطيفاً، ثم يشتغل بالليل؛ وهكذا لا يعرف غير ذلك. . . . . وكأن الله قد أقام والده ووالدته للقيام بأمره، فلا يعرف شيئاً من حال نفسه.)
لقد كانت طفولة عجيبة، تلك الطفولة الجادة العاملة الوقور المنصرفة عن اللهو واللعب ومنازع الصبيان، ولقد عجب أبوه نفسه مرة من هذه الظاهرة، ورأى في انصراف ابنه عن عبث الأطفال، والنيل من لذائذ الطعام أمر لا يتفق مع سنه الصغير فأشار على أمه أن تعطيه درهما أو درهمين عله أن يرى في السوق شيئا يشتهيه فيشتريه، فعقدت له أمه منديلا على نصف درهم، وهو يروح به ويغدو، إلى أن ضاق بحمله، فألقاه إلى أمه، وقال لها ما شأني بهذا، وما أصنع به؟. . .
وإن هذه الأحاديث التي يرويها تاج الدين عن أبيه جديرة بأن تكون صحيحة، وهي ترسم لنا صورة لتقي الدين الطفل، تتسق كل الاتساق مع صورة تقي الدين الرجل الكهل؛ فكأنما كان ثمة روح من عند الله أخذت توجهه منذ مولده إلى غايته المقدورة، وترسم له السبيل إليها، وتحوطه أن ينحرف عنها. ولسنا نشك في أنه ثمرة كريمة مباركة لكل الظروف التي قدمنا ذكرها
وكان الأب ما يفتأ يذهب إلى مصر ليلقي بها قاضي القضاة فكان يستصحب معه ابنه ليزيره معاهد العلم، ويشهده ربوع الفضل، فمرة يزور به مدرسة الحديث الكاملية ويدخل(143/52)
به على شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد. ومرة يذهب به إلى ابن بنت الأعز، وأخرى إلى غيره من علماء العصر، وهو فرح به مستبشر، والولد يرى هذا السمت وهذه الهيبة وذلك الوقار وتلك المثل العليا لما انطوت عليه نفسه. فيتوثب قلبه، ويمتلئ صدره بهجة وطموحا
ثم عزم الأب أن يقيمه في القاهرة بين أولئك الأعلام، وفي ذلك الجو العلمي؛ وكان قد تفقه وحفظ كتاب التنبيه؛ ولكنه حين عرض الأمر على ابن دقيق العيد عارض فيه وكأنما استصغر سنه، وأشفق عليه من الغربة. فقال لأبيه: عد به إلى (البر) حتى يصير فاضلاً. فعاد به، وفاته ما كان يحرص عليه أبوه، فيما يظهر، من التتلمذ على شيخ الإسلام والأخذ عنه، والتشيع بمبادئه؛ فأنه لم يعد إلى القاهرة إلا بعد وفاة ابن دقيق العيد أي نحو سنة 702هـ (1302م)
- 2 -
جاء تقي الدين إلى القاهرة ولم يكد يبلغ العشرين من عمره، وهو يتوثب رغبة إلى ارواء غليله العلمي في هذه البيئة العلمية الخالصة التي تتجاوب فيها أصداء العلم المختلفة، وتقوم بها المناظرات بين الآراء المتباينة، وكان بها طائفة من الأئمة الأعلام في مختلف الفنون:
كان بها ابن الرفعة شيخ الشافعية، وإمام الفقهاء، وبه تفقه السبكي
وكان بها في الأصول والمعقولات الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان رجلا واسع الباع في المناظرة، مستقل الرأي في الاستنباط، (لا يفتي في مسألة حتى يقوم عنده الدليل عليها، فإن لم ينهض عنده قال: مذهب الشافعي كذا، والأصح عند الأصحاب كذا، ولا يجزم) كما يقول عنه صاحب طبقات الشافعية؛ وما نشك في أنه كان قوي الأثر في تقي الدين، عظيم اليد على قوته في الجدل، مشجعاً على الاستقلال في الرأي، حتى ليعدون له مسائل كثيرة من فروع الفقه انفرد بالرأي فيها دون إمامه الشافعي وأصحابه وخلفائه؛ وإذا كان مرجع هذا في أول الأمر إلى فطرته السليمة، وبصيرته السديدة، وإدراكه القوي؛ فإن لمثل ذلك الإمام فضل التسديد وتقوية تلك النزعة الفطرية، وحمايتها من عوامل الضعف
وكان بها في فن الحديث العلامة الكبير الحافظ شرف الدين الدمياطي إمام أهل الحديث، وأستاذ الأستاذين في معرفة الأنساب، وكان صديقاً لأبي تقي الدين مكبراً له، فاختص الابن(143/53)
بأكبر الرعاية، وأقبل تقي الدين على درسه بالمدرسة المنصورية وأكثر من صحبته والملازمة له والأخذ عنه بتلك الحافظة المدهشة التي يقولون عنها: إنه كان ما يكاد يسمع شيئاً حتى يحفظه، ولا يحفظ شيئاً فينساه وإن طال عليه الأمد وبعد به العهد، حتى صار آية في فن الحديث ومعرفة الرجال والجرح والتعديل، ولكنه لم يدرك شرف الدين إلا وهو شيخ هم كبير في عشرة التسعين فكان شديد الحرص على صحبته وملازمته حتى لا يكاد يتركه، ثم لم يلبث شرف الدين أن مات فجأة عقب مفارقته له في 15 ذي القعدة سنة 705، ولم يكن قد أشبع رغبته من فن الحديث بعد، فلازم بعده كبير أهل الفن في عصره، الحافظ سعد الدين الحارثي
وكان بها في علوم العربية أبو حيان الأندلسي وكان عليه طابع المدرسة الأندلسية من الحفظ والتوسع في رواية الشعر واللغة والقراءات، والتبحر في معرفة قواعد النحو ومذاهبه، وأثر من المدرسة المصرية من النظر والمقابلة والمراجعة وروح النقد والتحليل، فتتلمذ تقي الدين له، وقرأ عليه كثيراً من كتب النحو مثل كتاب سيبويه وكتاب ابن عصفور وغيرهما، وكان أبو حيان يمرن تلاميذه على صناعة النظم، فيقترح عليهم عروضاً خاصاً وبحراً معيناً ينظمون عليه، ولتقي الدين قصيدة على حرف الزاي جاءت من هذا السبيل، ولعلها خير ما صنع من الشعر، فلم يكن له في هذا الباب سليقة، وقد غلب عليه المذهب الفكري النقدي، فجاء شعره نازلا ركيكا، وسنعرض شيئاً منه في هذا البحث متى عرضت المناسبة
ثم لا ننسى من شيوخه الذين تركوا فيه أثرا بليغاً، وإن لم يكن من الناحية العلمية المحضة، تاج الدين بن عطاء الله السكندري، وكان من حسن حظه أنه ترك الإسكندرية؛ واستوطن القاهرة، وبقي بها يعظ الناس ويرشدهم، ويحدث تلاميذه ويبصرهم إلى أن مات سنة 709 وكان إمام أهل التصوف، جميل السياق، صافي الأسلوب، ساحر العبارة، فنال في الناس مكانة عالية، ومال إليه تقي الدين وصحبه، وانعقد بينهما حب قوي وعلاقة مؤكدة. وظل أثر الروح الصوفية التي كانت على أخلص ما يكون في ابن عطاء الله ظاهرا قوياً في تلميذه تقي الدين في شتى أدوار حياته، وكثير من أقواله وتصرفاته
وكان من شيوخه كذلك الشيخ تقي الدين ابن الصائغ في القراءات، والشيخ شرف الدين(143/54)
البغدادي في المنطق والخلاف، والشيخ علم الدين العراقي في التفسير، والشيخ عبد الله الغماري المالكي في الفرائض
وقد رحل إلى الإسكندرية وسمع من رجال الحديث فيها، وكان بها طائفة منهم يرحل إليهم طلاب الحديث مثل أبي الحسن الصواف
وإلى ذلك الحين كان قد نضج وامتلأ وصلب عوده، ورأى فيه شيوخه رجلاً يناظرهم كلا في فنه، فجعلوا يملؤن المجالس بذكره والثناء عليه والإعجاب به، حتى استطار أمره، وامتلأت أندية القاهرة بالحديث عنه. ولم يبق إلا أن يرحل إلى الشام ليسمع من محدثيها فتتم له الغاية في فن الحديث
وكذلك رحل إلى الشام رحلته الأولى في سنة 706 (1306م) وسمع من رجالها أمثال الذهبي والمزي والبرزالي وابن الموازيني وابن مشرف، وعقد بها المجالس للمناظرة، فتجلت هناك عبقريته، وسمت في نظر القوم منزلته، وامتلأ علماؤها إعجاباً به، ومكث بها عاماً يسمع ويناظر، حتى أصبح حديث الناس في الشام كما كان حديثهم في مصر؛ وبذلك أشرف على الغاية في بعد الشهرة وذيوع الصيت
يتبع
محمد طه الجري(143/55)
الطالب. . .
للشاعر الوجداني أحمد رامي
مشرق كالضحى مع الصبح غاد ... في إهاب من الشباب النادي
يطلب العلم من معاهده الغ ... رّ ويروي من نجعة الورّاد
طلعت شمسه على الدار فازدا ... ن ضحاها باليمن والإسعاد
وعلى ثغره ابتسامة بشر ... بعثتها هشاشة في الفؤاد
هو في البيت حبَّة القلب والعي ... ن مناط الآمال قصد المراد
فرح الأهل يوم أشرق فيهم ... كوكباً لاح في سماء الوادي
شبّ فيهم طفلاً صبيح المحيَّا ... كابتسام النّوار في الأعواد
ومشى الطفل في الربوع صبيّاً ... يقبس المجد من سنا الأجداد
ثم أضحى فتى يتوق إلى الفه ... م ويمضي إلى سبيل الرشاد
مازه فوق سنّه خلة الفط ... نة في الرأي والذكا الوقاد
لا تراه إلا يجيل سؤالا ... دقّ في كنهه طريق السداد
أو تراه إلا يقول جوابا ... يترك الرأي واضح الاعتقاد
نعمة أسبغت عليه من الله ... وفضل من السميع الهادي
أيها الطالب الطموح إلى المج ... د تقدّم دنياك دار الجهاد
قف أمام الكتاب وأقرا كلام ... الله يهدي إلى صلاح العباد
واستملّ الحديث ينطق بالحق ... ويدعو إلى كريم الوداد
وتمعن فيما افاض أولو ال ... ألباب من حكمة ومن إرشاد
وانظر السابقين في حلبة المج ... د وطوّف بكعبة القصّاد
قد عقدنا عليك كل الأماني ... منذ نادى البشير بالميلاد(143/56)
صوت المتنبي
مهداة إلى الجامعة المصرية بمناسبة (أسبوع المتنبي) فيها
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
من الملأ العُلْوي، من عالم الخلد ... أُهِلُّ عليكم بالتحيات والحمد!
تقحّمت حُجب الغيب حتى أتيتكم ... لأجزيكم عن بعض إحسانكم عندي
قطعتُ حدودَ (الأين) في متطاولٍ ... مِن اللوح يفنى البعدُ فيه من البعد!
كأن الفضاء اللانهائي سائرٌ ... على كُرَةٍ لا حد فيها سوى حدي
إذا ما ركضت السير في فلواته ... تشابه ما قبلي عليَّ وما بعدي!
إلى أن تجاوزت النجوم جواذباً ... إليهنَّ عِطفي، غير أن لسن من قصدي!
يناشدنني - والنُّور ثَمَّ لسانُها - ... لأُنشِدها شعري، وأُصفيها ودي
ولو لم تكن (مصرٌ) و (جلَّقٌ) الهوى ... و (بغداد) لم أبخل عليها بما عندي
معانِ قضى فيها الشباب مآربي ... وسلَّت بها كُبرى العزائم إفرِ لدي
وأمليتُ في الدهر غرَّ قصائدي ... فغنى بها الأجيالَ في السهل والنجد
قطعت حدود (الأين) حتى أتيتكم ... فمن (لمتى) ما بيننا قام كالسَّدِّ؟
أجل؛ ألف عام حال بيني وبينكم ... فلولا سبقتم، أو تأخر بي عهدي!
سعدتُ بلقياكم وفزتم برؤيتي ... لو أن يد المقدار ألغته في العدّ!
ألا فتزحزح يا زمان! لشاعر ... يريد فلا تقوى الجبال على صدي
أغرك أنَّ الأرض قد شربت دمي؟ ... وانَّ عيون الشُّهب قد شهدت لحدي؟
رويدك! قد خلدتُ في الشعر محضَهُ ... ولم يبق منه للتراب سوى الدُّردي!
فها هو في الأجيال ينساب صافيا ... إلى ابنٍ. . إلى ابنٍ. . من أبيه. . من الجد
يزيد على الأيام كالخمر سورةً ... لو أنَّ حُميَّا الخمر تَهدى كما يَهدي
أنا الخالد الساري بأعصاب شَعبه ... وما شعبُه بالنَّزْر أو ضَرِعِ الخدّ
بني مصر! أنفاس الخلود عليكم! ... ونشرُ الخزامى والرياحين والورد!
سبقتم إلى تكريم ذكراي غيركم ... وقِدماً سبقتم للمكارم والمجد!
رأيت (بلاد الضاد) عقداً منظما ... ولكنَّ (مصراً) فيه واسطةُ العقد(143/57)
قضيت لمصر بالأمامة بينها ... وهل لقضاء شئته أنا من ردّ؟!
ومَن غيركم أهدى إلى (الضاد) شاعراً ... (كشوقي) ومنطيقاً كجباركم (سعد)؟
أحبهما؛ لا بل أقدّس فيهما ... مشابه من عزمي وأصداَء من وجدي!
أعدتم إلى (الفصحى) الحياة فزحزحت ... بأيدكمُ كابوس تُبَّتَ والصُّغْدِ!
هي الضاد لن يذوي على الدهر عودها ... وقد خصّها (الذكر) المقدَّس بالخُلد!
ستبدأُ مِن حيث انتهت سائر الُّلغى ... خُطاها إلى حدّ يجل عن الحدّ
ولا تعتبوها فهي بعدُ صغيرةٌ ... ولم يتنفّس صدرها بعدُ عن نَهد!
على أنّها بالرغم من صُغْر سنها ... لناعسة الجفنين ميَّاسة القدّ!
يكاد يصيح الحب بين شفاهها: ... (أنا الحب! ما أُخفيه فوق الذي أُبدي!)
(تمنّ يلذ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي)
(وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القِدّ)
فلو عشتُ في هذا الزمان وأهله ... لغيّرتُ من نهجي وضاعفتُ من جُهدي!
وكنت تنكبت الملوك ومدحها ... فليسوا بأكفائي وإن نالهم حمدي
(وأتعس خلق الله من زاد همه ... وقصّر عما تشتهي النفس في الوُجْد)
يقول أناس إنني قد هجوتكم ... فإما أرادوا الشّر أو جهلوا قصدي
ولم أهجُ إلا حالةً غاظني بها ... وقوف بني الأحرار بين يدَيْ عبد
ولستُ أُبالي مادحاً لي وهاجيا ... فقد رويَتْ نفسي من الصِّيِت والمجد
ولي منهما ما لم يَنله مملَّكٌ ... ولا شاعر قبلي ولا شاعر بعدي
ولكنني أصبحت رمزاً لمجدكم ... يضمكم روضي ويجمعكم وِرْدي
فمن نالني بالسوء نالكُم به ... لذاك، ويعوي ضدَكم مَنْ عوى ضدي
أبى الله إلا أنَّ مجديَ مجدُكم ... وإنْ رغم الشاني، ومجدُكم مجدي!
أبوكم أبي يوم التفاخر (يعرب)! ... وجدّكم (فرعون) أضحى بكم جدي!!
تألّهَ، و (التاريخ) طفلٌ ومُلكه ... تَبَسُّمُ ذاك الطفل نُوغيَ في المهد!!
تُكَلَّلُ بالريحان هاماتُ ضيفه ... وتُنضَحُ أَبهاء النِّدام بما وَرْدِ
وقد أعلنت فيها المجامر وَجْدها ... فصَّعدن أنفاسا من العود والنِدّ(143/58)
تقوم عليهم في شفوف رقيقة ... جوارٍ كمثل اللؤلؤ النَثر والنّضْد
يطفن عليهم بابنة الكرم حُرةً ... وبالنُقْل بعد اللحم والزُبد والشَّهد
فلا غرو في دعوى النبوة مثلُه ... وليس له فوق البسيطة من ند!
ويعجبني الجبَّار! إذ هو قوّة ... يهيم بها قلبي وأَعبدها جُهدي!
كذا فلتكن فتيان يعرب إنْ تُرِد ... حياةً لها ما بين أعدائها الُّلدِّ!
حرام عليكم أن يقوموا وتقعدوا ... وأن تهزلوا والقومُ ماضون في الجد
كثيرٌ عليهم بعدُ أن تَقِفُوهُم ... بني اللؤم منكم موقف الند للند
فكيف بأن يعلوا عليكم ويضربوا ... على العُرب دون العزّ سدًّا على سدّ!
رفعتم شباب النيل أمس لوآءها! ... فنفَّسْتمُ كربي وبرَّدتمُ وجدي
وثرتم على الحامي العتيد وصحتمُ: ... (نعيش كراماً أو نغيّب في اللحد!)
بنفسي دماءً أهرقت في جهادكم ... تحنُّ إلى أسلافها قبل في (أُحد!)
جريرتها أن كُلِّفَتْ حملَ قيدها ... وما خُلِقتْ إلا قضاءً على القيد!
أضاء سناها (بالشآم) فروَّعتْ ... عِداها ورّدتها إلى خُطّةٍ قَصْد
أرى الحق في الدنيا يُرَدُّ لقاهر ... ولم أره يوماً يرد لِمُستْجَدِ!
(فإِن لم تُنلكم نَصْف قوم مودّةً ... أنال القنا. والخوف خير من الود)
ولن تبلغ الأعداء من مصر مطمعاً ... وقد زأرت فيها اللبوءُ مع الأسْد!
تناهت سلالات الجبابرة الأولى ... بنو هيكل الدنيا إلى هيكل فرد
تقوم عليه أمة عربّية ... رسالتها هدى الشعوب إلى الرشد
على كاهل الدنيا استقلت بموطنٍ ... من (المغرب الأقصى) إلى (الشطّ) ممتد
إذا هتفت (مصر) بلحن جهادها ... تعالى صداه في (العراق) وفي (نجد)
وخفّ له في (حضرموت) مهلِّلٌ ... وجلجل في آفاق (تونس) كالرعد
رأيت (بلاد الضاد) عقداً منظما ... ولكنَّ (مصراً) فيه واسطة العقد
قضيت (لمصر) بالإمامة بينها ... وما لقضاء شئته أنا من رد!
علي أحمد باكثير(143/59)
خيبة رجاء
إلى الوالد الواجد الأستاذ أحمد حسن الزيات
للأستاذ محمود غنيم
راح كأن لم يوجد ... يا ليته لم يولد
ما الْيُتْم فقْد والد ... ألْيُتم فقد الولد
يا غرة الفرقد هـ ... لاَّ عشت عمر الفرقد
عيد الربيع قد أتى ... ما لك لم تعّيد
ما لك لم تبسم له ... عن لؤلؤ منضد
ما فعلت نسمته ... بخدك المورد
يأيها العصفور قم ... بين الطيور غرد
قم املأ البيت نشا ... طاً بين لهوٍ وَدَدِ
البيت ما لم تأوه ... كالدير أو كالمسجد
أعزز على أبيك أن ... تصمت صمت الأبد
ما أبعد الصبر على ... فقد الصبي الأملد
صادٍ أصاب مَنهَلاً ... لكنه لم يَرد
وإنما أطفال هـ ... ذا اليوم أبطال الغد
ويح البنين ويحهم ... في الموت أو في المولد
هم عودوا قلبي الأسى ... وقبلهم لم أعتد
لسقمهم وموتهم ... حزازة في الكبد
تخطفهم يد الردى ... ونحن مكتوفو اليد
ليت الذي يسلهم ... يسعد بالتجلد
ليت لنا أفئدة ... منحوتة من جلمد
كم عاقر بدونهم ... يعيش عيش المفرد
ووالد من همهم ... يشيب قبل الموعد
أحمد يا خير أب ... خطبك خطب البلد(143/60)
رِيعَ الشَّرى بأسره ... إذ مات شبل الأسد
الخطب غير هيّن ... والصبر غير مسعد
والشعر غير طيّع ... ماذا أقول سيدي
ما لمِصُاب أحمد ... غيرُ يراع أحمد
(كوم حماده)
محمود غنيم(143/61)
دراسات أدبية
في الأدب الإيطالي الحديث
بقلم محمد أمين حسونة
- 2 -
البيراندلية الحديثة
ويكاد لويجي بيراندللو يعد ألمع شخصية في الأدب الإيطالي الحديث، كما أنه أعظم كاتب مسرحي في هذا العصر. وهو من الأدباء الذين تأثروا إلى مدى بعيد بنظريات العلامة النفساني سيجموند فرويد، وقد استطاع أن يجسم تضاعيف هذه النظريات في رواياته التي تدور حول رسم وتصوير العواطف الخفية التي تسبح في العقل الباطن، وتظهر الآونة بعد الأخرى على سطح العقل الواعي فتصطدم بالتقاليد والنواميس الطبيعية
على أن أشد ما يؤسف له هو أننا لم نفهم بيراندللو إلا من حيث أنه كاتب مسرحي فقط، أما من وجهة أنه قاص عبقري فلا يزال مجهولا رغم ما أنتجه من القصص الممتازة التي تدل على قوة الملاحظة وخلق الشخصيات الناضجة التي تطابق الواقع وما امتاز به من تحليل الشخصية ورد العناصر إلى أصولها
بيراندللو - في عرف بعض النقدة - رمز للعالم الحديث فهو يشعر شعوراً عميقاً بالزمن الحاضر المضطرب بسبب الحوادث والماديات اللاصقة به. ونحن إذا شاهدنا مسرحياته لنقارنها بقصصه شعرنا باضطراب وعدم استقرار. بل لما وجدنا شيئاً نتعلق به لننجو بأنفسنا، فكأننا في بحر مضطرب ثائر لا يهدأ، وكل بطل من أبطاله ليس الواقع إلا (هملت جديد) لا يعرف معنى للاستقرار. وكلما تعمق في الحياة ازداد اضطرابا، فهو أمام الحياة في حالة ذعر وخوف
وشخصية بيراندللو نفسها تعد مثالا حياً للمضطربين الذين لا ينشدون الراحة إلا في حالة ثورة فكرية، وقد أطلق عليه دانبيل روبس في كتابه , لقب (البلشفكي العقلي)، أي أنه صاحب مذهب شيوعي متطرف بالنسبة للفكر الإنساني، على أننا لا نقر هذه التسمية الخاطئة، لأن الشيوعية المتطرفة تفكر في إعادة البناء بعد الهدم، على حين أن بيراندللو(143/62)
يهدم ولا يبني
ويدور فن بيراندللو الروائي حول الشعور بالحياة، ويؤدي إلى فكرة مبهمة عامة، فإذا ما تطورت برزت أمامها عقبات لصدها عن اتخاذ طريقها الطبيعي، وأهم هذه العقبات ما يتعلق بالدين والأخلاق والقوانين، وما يجري للإنسان في حياته العادية أما أدبه فيرتكز على نظريات فلسفية يعبر عنها بلسان أبطاله، وليس الأدب في نظره سوى وسيلة للحياة في الخيال وللفرار من المتاعب المادية. فإذا فكر في موضوع رواية مسرحية أو قصة استسلم إليها وأحس أنه بعيد وسطه الحقيقي ليحلق في الجو المصطنع الذي يبتكره خياله. وهو في هذا يقول: (لا سيادة لنا مطلقا على أفكارنا وعواطفنا ورغباتنا، وأننا لسنا سادة بشخصياتنا، بل إن هذه الشخصية تخضع غالباً لأحكام الكون ولجميع ضروب التأثيرات النفسية. وأنه ليس لنا كيان شخصي معين بل إن شخصيتنا تتبع أعمال الغير، فنحن نلعب الدور الذي تفرضه البيئة ويفرضه المجتمع. وأننا سوف ننتهي إلى حيث لا نعرف)
ويخيل إلى أن بيراندللو يشبه من ناحيته الفلسفية عمر الخيام الذي كان ينادي بالقضاء والقدر، والى أن أساس الكون ومحور نظامه ليس إلا الاضطرار والجبر. فالقدر في نظر كل منهما أزلي والقضاء أعمى، ولسنا سوى آلات في يد الدهر، تحركنا كما تحرك الريح الشجر، فليس لنا من إرادة ولا في وسعنا أن نستقل بآرائنا إنما نحن (رخاخ) في رقعة شطرنج
يعارض النقادة الإيطالي النابه فردريك نارديللي في كتابه المسمى (حياة ومتاعب بيراندللو , - الرأي القائل بوجوب فصل حياة الفنان الخاصة عن فنه كيما يتسنى الحكم عليه أو في صالحه، فيصف لنا في أمانة وبساطة المصائب التي لاقاها بيراندللو في كافة أدوار حياته وارتباطها بفنه، فقد ولد بيراندللو وشب في جزيرة صقلية، ولذا فمن السهل أن نجد ظل الحياة الصقلية واضحاً عميقاً في رواياته ونجد أيضاً رسم التقاليد والعادات والحياة الاجتماعية الصقلية في عصر النهضة، والإشارة عن طريق خفي في إحدى مسرحياته بما وقع لأمه في بدء شبابها. فقد ظل والده بعد العام الأول من زواجه يعاشر ابنة عمته الأرملة، فحملت منه بما أدى إلى أن يمنحها هبة مالية بمثابة بائنة تساعدها على الزواج في بلد آخر(143/63)
ففي رواية بيراندللو المسماة اكساء العارين يرسم لنا بطلته وهي أرملة تسمى أرزيليا حاولت أن تحمل الناس على الاعتقاد بأن محاولتها الانتحار كانت بسبب هجر خطيبها، ولكن الواقع أنها هي التي خدعته. وقد حاولت الانتحار لأنها ضبطت في حالة مريبة مع رب الأسرة الذي تعمل مربية لأولاده. وفي خلال ذلك مات الطفل الذي عهد إليها بتربيته تحت تأثير حادث خفي، وقد أنقذت أرزيليا من الانتحار بأعجوبة. فتألب الصحفيون حولها وأخذوا يمطرونها بوابل من الأسئلة، لأن الرأي العام مهتم بمسألتها، ولكن بعد فوات زمن طويل جعل الناس يستوضحونها الأسباب التي حملتها على الانتحار، فلم يسعها أمام إلحاحهم سوى الاعتراف بالحقيقة والبوح بالسر، وعندئذ سقط القناع، وأمام حرج موقفها وتبكيت الضمير عاودت الانتحار وفي هذه المرة نجحت
فتأثير الحادث الذي سمعه بيراندللو وهو في حداثته من أبيه كان لا يزال لاصقاً بذهنه، فلم يجد بدا من أن يصوغه في قالب روائي وأن يخلع عليه طريقته في تأليف مسرحياته واضعاً أشخاصه في حالة إبهام وغموض وتجلد أمام الآلام، مسدلا القناع على وجوههم، ولكن هذا القناع لا يلبث أن يمزقه بعد حين ليعيد إليهم شخصياتهم الحقيقية
أما في روايته (المرحوم ماثياس باسكال) ففيها لأول مرة يعالج الخيال والواقع والحياة والموت والجنون والحكمة، وهي تدور حول تحليل شخصية رجل فقير يدعى ماثياس باسكال هرب من زوجه وحماته لشراسة طبعهما، قاصداً الهجرة إلى أمريكا، غير أنه وقف في طريقه بمونت كارلو ليجرب حظه على مائدة الروليت فاسعفه الحظ وربح أرباحا طائلة، وحدث في اليوم التالي لاختفائه أن وجدت جثة غريق مجهول في النهر فزعم أهل قريته أنها جثة ماثياس ودفن على هذا الزعم وتسربت الحادثة إلى ماثياس عن طريق الصحف وهو في مونت كارلو فقرر أن يعيش مختفيا وأن يتجرد من شخصيته الحقيقية ليعيش متحررا من الروابط الاجتماعية، لكنه بعد أن يتعرى من شخصيته يفقد توازنه بدليل أنه يقول: (إن الشيء الوحيد الذي أؤكده هو أنني كنت أدعى ماثياس باسكال). بل ربما نسى أنه كان يدعي بهذا الاسم!
وكثيراً ما يعيب النقدة على بيراندللو أنه يغرق في الخيال وفي عمق التفكير، ولكن في مؤلفات هذا الكاتب المتدفق الثائر نجد أن فنه سبق الحياة في الكشف عن حقائق ملموسة.(143/64)
وعلى الرغم من أنه ابتكر شخصية ماثياس باسكال فقد طابق خياله منطق الحقيقة مطابقة تامة إلى حد أن حادث ماثياس باسكال وقع بالفعل في إيطاليا بعد تأليفه هذه الرواية بعشرين عاماً!
وهناك روايته الأخرى الموسومة بعنوان (ايف ولين) وخلاصتها أن شاباً من رجال الأعمال تزوج من فتاة اسمها ايفلين وعاشا عيشة اللهو والحب، ووقع الزوج في عجز وضيق مالي فلجأ إلى التزوير في حسابات عملائه، وقبل أن يفتضح أمره فر من وجه العدالة تاركا امرأته الشابة وطفلا له منها، وعطف عليهما محامي الزوج وآواهما في بيته وأصبحت المرأة في حكم زوجته وأنجبت منه طفلة وقد مر على حياتهما الهادئة المطمئنة أحد عشر عاماً، عاد بعدها الزوج الهارب كأشد ما يكون حباً وهياماً بامرأته. وهنا يظهر لنا ازدواج الشخصية كأوضح ما يكون جلاء، فقد حارت المرأة بين زوجها القديم وزوجها الجديد، وإنها لتذكر حياتها القديمة بما فيها من ألوان زاهية مرحة كلها الهوى والشباب وتقابل بينها وبين الحياة التي تحياها، فطابعها الوقار والرصانة والركود والانصراف إلى الواجبات. وأن لها من زوجها الأول طفلا هو اليوم شابة قوي جميل، ومن زوجها الثاني طفلة تحبها حباً يعادل حبها لولدها الشاب. وكلاهما يمثل ناحية خاصة من حياته بألوانها وصورها المتباينة. وإنها لتحن إلى حياتها الأولى المفعمة بالنشاط والهوى والشباب ولكنها تؤثر حياتها الراهنة بما يحوطها من وقار وإذعان وانصراف عن اللهو إلى الجد الصارم. وهي في حياتها الأولى يدعوها زوجها متحبباً إليها (ايف) وزوجها الثاني متحببا أيضاً (لين). وكل شطرة من هذا الاسم تثير في نفسها صورا ومعاني وألوانا مختلفة لا سبيل إلى التوفيق والملاءمة بينها وتنتهي الرواية بأن ترضى بحياتها الراهنة وأن يذهب ابنها الشاب ليعيش مع أبيه ولكنها مع ذلك لا تزال تحب زوجها الأول وتحن إلى حياتها القديمة وتشتهيها، وإنما هي قنعت بحياتها الراهنة لظروف لا تستطيع أن تتحداها
وقد ظن البعض أن هذه الرواية وليدة الخيال فمن المحال أن يقع في الحياة ما يشابهها، ولكن الحوادث أثبتت أن في الحياة مشكلات لا تقل في غرابتها عن فن بيراندللو، فقد وقعت في بودابست أخيراً حادثة تزوير، ارتكبها شاب يدعى فرادلبير، وفر إلى بلاد أخرى تاركا زوجه وطفلة، فاقترنت المرأة بعد أن يئست من عودة الزوج وأنجبت من زوجها(143/65)
الجديد طفلا، وقد رجع الزوج الأول بعد مرور أربعة عشر عاما ووصل إلى علمه زواج امرأته! وشغلت القضية أذهان الجمهور زمناً وأصبحت حديث الأندية والمجتمعات إلى أن مثلت مسرحية بيراندللو هناك فظن أكثر الناس أن المؤلف إنما يشير إلى هذه الحادثة بينما هو كتب مسرحياته قبل الحادثة بثمان سنوات!
(يتبع)
محمد أمين حسونة(143/66)
القصص
درامة من اسخيلوس
3 - محاكمة أُورست
(الدرامة الثالثة من الأورستية)
تتمة
للأستاذ درني خشبة
- 10 -
واهتزت مينرفا فوق عرشها الممرّد، وتوجهت بالقول إلى المحلّفين العدول من الأثينين:
- (أيها الأثينيون! أنتم يا من اجتمعتم للنظر معي في قضية هذا الدم المسفوك لأول مرة في تاريخ الإنسانية! أصغوا وعوا! إن شعب ايجيوس العظيم ليتلفّت قي أقصى الأرض ينظر هل ما يزال هذا البيت الذي أسِّس على التقوى وشيدت دعائمه على العدل، عند حسن ظنهم به، ورجائهم فيه!؟ إن بحسْب الأكروبوليس فخرا أن أقامَتْه الأمازون تقديساً لمجد إيرس الخالد، إذْ كن يقتفين أثر ثيذيوس، فنسين ذَحَلَهن، واطّرحْن إِحَنهُن، لأنه لاذ بهذا الجبل. . . فهل كثير أن تنسوْا أضغانكم، قبل أن تعطوني موثقكم، فلا تميلوا ولا تحيدوا، ولا تعدلوا عن سبيل الحق، حين تعطون أصواتكم، إما لأورست، وإما عليه!! إنكم هنا لا تخشون عنتا ولا ترهبون رهقا، وإنكم لرضيّون مخلصون، وإنكم لتتفجّر قلوبكم حنانا ورحمة! وإني هنا لأبارككم، وأنزل شآبيب رحمتي عليكم، مادمتم خابتين خاشعين، تَصَّدَّعون من خشيتي! وإني أبدا ساهرة عليكم، أوليكم معروفي، وأرزقكم بركتي فأنتم دائماً شعبي، وأنتم آخر الدهر أمتي. هلموا إذن فاكتبوا أصواتكم، ونقوا سرائركم، وبَروا أيمانكم، ألا تميلوا ولا تأثموا. . . وحسبكم ما قدمت لكم!!)
وهوّمت ربات الذعر تهويمةً ثم قالت:(143/67)
- (على أننا نرجو ألا يحتقرنا الملأ، وألا تعدي وجود في أرضك تدنيساً لها!!)
فينهض أبوللو ويقول: (بيد أنني أحذركن يا ربات، ألا تجعلن نبوءاتي عبثاً، فأن أبي سيد الأولمب يؤيدني فيها جميعا)
- (نبوءاتك عن آثام الفجرة الكفَرة، التي ستلطخ الإنسانية منذ اليوم!!)
- (وأين كنتن يا ربات يوم أن قتل إكسيون أبا زوجته؟ أليس أبي قد اقتص منه بيده؟)
- (اهرف يا أبوللو بما شئت! ولكن ثق أننا لن نبرح هذه الأرض مادمت أنت فيها تحض على القتل، وتحرض على الجريمة وتغوي الناس على الفساد!)
- (ولن تبرح الآلهة، كباراً وصغاراً، تحمي عبادها من شروركن!)
- (كما تحمي عبدك الآن وقد ارتكب أشنع الجرائم، وكما تحمي عبادك دائماً؟)
- (وإذا لم تحم الآلهة عبادها وتدركها بالرحمة وقت الشدة فمتى تصنع هذا؟)
- (ولم يبق إلا أن ترشوا صغيرات الآلهة بقدح من الخمر فيضللن ضلالك، وتنعكس الشرائع!؟)
- (وليتني أستطيع إضلالكن فلا تجرعن البرايا سمومكن!!)
- (هيه!! لقد عيل صبرنا!! ألا متى ننتهي من هذه القضية فنترك لك هذه الأرض بمن فيها!!)
(وحين يفرغان من هذا الحوار يكون المحلفون قد فرغوا من وضع الأوراق التي تشمل أصواتهم في صندوق الاقتراع. . . . . . . . . . . . . .)
ثم تقول مينرفا: (وعلي الآن أن أبدي رأيي حراً بحيث لا يتأثر به أحد منكم!
أنا في صف أورست!! أجل أنا في صف أورست!! أنا مينرفا، التي لم تلدني أم، لا أبالي كثير بأم قتلت لأنها خانت بعلها، وذبحته، وخربت بيتها من معاني الأبوة والأمومة طوبى لك يا أورست! إذا تساوت الأصوات لك وعليك فإن صوتي يرجح حقك، ويؤزر براءتك!! طوبى لك يا أورست!)
فينتشي أورست من رهبة وفرح ويقول، مخاطباً أبوللو (يا إلهي أبوللو! النتيجة يا إلهي!! لي أم عليّ؟!)
وتلحظ ربات الذعر ما ترمقها به الأنظار المستهزئة فتخاطب مينرفا قائلة: (أيتها الربة(143/68)
مينرفا! أترين إليهم كيف يلمزونني؟!)
فيقول أورست: (إن ساعة خلاصي أو نجاتي تقترب حثيثة!!)
فتقول ربات الذعر: (وإن ساعة إثبات حقوقنا أو تجريدنا منها لتقترب حثيثة أيضاً!
ويهتف أبوللو بمن يفرزون الأصوات قائلاً: رويدكم أيها الفرازون! دققوا جهدكم في فرز الأصوات! وإياكم أن تخطئوا في واحد منها، فرب زلة من أحدكم تقلب الحق زوراً، وترسل البريء إلى سواء الجحيم!!)
ويسر رئيس الفرازين كلاماً إلى مينرفا فيعلوا البشر أسارير وجهها وتقول: (بشراك يا أورست! لقد وضع عنك وزرك واطهرْت من هذا الدم!! الأصوات متساوية لك وعليك، وصوتي يبرئك ويرجح حقك! فالبشرى لك!)
ويستولي على أورست طائف من الذهول، فيسجد بين يدي مينرفا ويقول:
- (مينرفا! إلهة العدالة! تباركت وتقدست! اليوم فقط صرت خليقاً بأن أكون مواطناً من آرجوليس! لقد نشأت في دار غربة، نضوهم وحليف آلام، ولم أكن أفكر إلا في الخلاص من حياتي المرة المترعة بالمتاعب، فتردين لي أنت اعتباري وطمأنينتي وميراثي في عرش آبائي. . . في لحظة عادلة تحت بيتك المكرم!! تقدست وتباركت يا مينرفا! يا ابنَة زيوس سيد الأولمب العظيم! زيوس حارسي الأمين، الساهر على رعاياه من ذروة جبل إيدا! سلام إلى الأبد يا مينرفا المباركة سلام إلى الأبد بين آرجوليس وبين أثينا الخالدة التي تباركينها وتحرسينها؟ لن تكون بينهما حرب ما عشت، فإذا قضيت فلن تكون حرب بينهما كذلك! فإذا حدثت أميراً من أمراء آرجوس نفسه بأن تكون هذه الحرب، فسأنتفض تحت ركامي لأجعل حياته شِقْوةً لا تحتمل، وأروعه بأطياف من الذعر تأخذ عليه سبيله أنى توجه، وتصير أيامه ظلمة، وأضواء الحياة في قلبه وعينيه مرارة وديجورا! هذا موثقي وتلك أقسامي يا ربة العدالة! أما إذا حافظ شعبي على السلام بين بلادينا، فسارفرف عليه بالمحبة وأصلي من أجله في أعماق هيدز! وداعاً يا مينرفا! وداعاً يا حارس أثينا الأمين! زيدي في مجدها وامنحيها البركة والجلود!)
(ويسجد سجدتين ويغادر الأكروبوليس)
- 11 -(143/69)
أما ربات الذعر فتأخذهن الحنقة، وتضطرم نفوسهن بالغضب وتنقلب كل منهن بركانا يقذف بالحمم؛ ويطفقن يتوعدن ويزمجرن ويتغنين نشيداً من أناشيد الجحيم جرسه رعد، ونغمه شواظ من نحاس يتردد في أفواههن، ويتحشرج في حلوقهن، ثم ينذرن ألا يذرن على أرض مينرفا مسبحاً باسمها ولا دياراً؛ وينهين نشيدهن بالبكاء على مجدهن الضائع، والرثاء لحقهن المغصوب. فتهتف مينرفا بهن:
- (على رسلكن يا ربات! فيم هذا الغضب، وهذه الضجة لِمَهْ؟! لقد رضيتن بي حكما فيما اختلفتن فيه، ولقد أخذ العدل مجراه، وسارت القضية بكل أمانة وكل إحسان. . . ولقد كانت براءة أورست ناصعة بحيث يكون من الظلم لو أننا أخذناه بما أردتن أخذه به. . . فلنفئ جميعاً إلى الحق، فهو دائما أبلج. . . . . . علام هذا النذير يا ربات؟ ما لأثينا الخالدة الآمنة النائمة في رعايتي، القارة في كنفي، وما لهذا الضغن الذي يغلي في قلوبكن؟! قمين بكن ألا تكن حربا على هذا الشعب الذي يسبح باسمي ويولي وجه شطر معبدي، وأنا أضمن لكن محبته، وأضمن لكن إجلاله، وأضمن لكن أن يقيم الهياكل باسمكن، وُيطنّب المعابد لكن. . .
- 12 -
ولكن ربات العذاب تغلو في النذير غلوا لا يليق بالآلهة، وتعود إلى ترديد النشيد الممقوت، نشيد جهنم الذي كله قصف وكله رعد، فترى مينرفا أن تأخذهن هذه المرة بالحزم، إشفاقا منها على أثينا الخالدة أن يصيبها مكر ربات العذاب
- (إذن. . . فأنتن تعرفن أنني وحدي أملك مفاتح زيوس. . . أبي. . . سيد الأولمب! أجل. . . أنا صاحبتها. . . وهي مسخرة لي وحدي، من دون الآلهة أجمعين. . . مفاتح زيوس، مفاتح نقمته. . . نقمته. . . هل سمعتن؟! المفاتح التي إن أردت حركتها فأرسلت عليكن صواعق السماء وشهبها الرواصد! وهنالك، وهنالك فقط، تندمن على ما فرطتن في حقي، وهنالك تلقين السَّلَمَ راغمات يا ربات، وهنالك أيضاً تسلم أثينا من شروركن؛ وتسلم جناتها من قحطكن، وقصورها من خرابكن
هل هذا خير؟ أم خير أن تقاسمنني محبة هذا الشعب البريء فيسبح لكن ويقدم الضحايا(143/70)
لكن، فتقطفن لأول مرة في حياتكن أول ثمرة شهية من أولياء مخلصين؟!)
- (ويلاه! يا لسوء حظوظنا، ويا لشؤم منقلبنا؛ لقد رضينا بالقسمة الضيزى إذ تقسّم الآلهة الشعائر في أول الأزل، ورضينا بهذا المأوى المظلم الدجوجي في أعماق السفل، ورضينا بسخط الناس ومقت الأرباب لما اضطلعنا به من تعذيب المجرمين وأخذ الآثمين بآثامهم. . . أفما كان بحسبنا كل أولئك حتى تجردنا صغار الآلهة حتى من هذا الحق الهضيم!! ويلاه! أدركنا يا أمنا الأرض! الغوث الغوث يا آلهة الظلمة. . .!)
وتلحظ مينرفا أن تهديدها قد فل من غرب ربات الذعر، فقللن من غلوائهن، وخففن من خيلائهن، فرأت أن تلين معهن، وذلك من حسن سياسة ربة الحكمة:
- (أنا لم أمتهن بحال ربة الأرض، مولاتكن المقدسة، ولم أمتهن كذلك آلهة الظلام، فهم جميعاً أكبر مني سنا، وأكثر تجربة، ولكني والحمد لأبي سيد الأولمب، قد رزقت من الحكمة والحصافة قدراً أتيه به على جميع الآلهة، وأفاخر به كل الأرباب. على أنني أعرض عليكن أن تقمن معي في هذا المعبد المبارك راضيات، تتقبلن صلوات الشعب وأضحياته، على أن توقينه غضبكن، وتجنبنه أرزاءكن، وحسبكن أن تقاسمنني ما هو حق خالص لي)
- (نقاسمك؟! وأي نصيب يخلص لنا في معبدك يا مينرفا؟)
- (نصيب لا يصيبكن فيه غضب من الناس ولا من الآلهة، فلا تأبينه!)
- (أفإن قبلنا غرضك. أفتكون لنا حقوق ثمة؟)
- (حقوق وأي حقوق! لن تكون سعادة في بيت إلا بمشيئتكن!)
- (وهل تضمنين لنا هذا؟)
- بحيث تباركن عبادكن يا ربات، فلا تنزلن بهم رزاياكن؟!)
- (وتؤكدين لنا هذا الحق طوال الأبد؟)
- ولماذا أعد، وأنا في الحالين لن أخسر شيئاً؟)
- (قديرة يا مينرفا! لقد أسكنت غضبنا!)
- (أقمن معي إذن، واكسبن محبة شعبي!)
- (وهل لنا أن نتغنى أناشيدنا هنا؟ (وأنتم تمقتونها يا آلهة؟!))(143/71)
- (تغنين ما شئتن (إلا أناشيد الجحيم)، تغنين أناشيد الجمال والشمس المشرقة، تغنين أناشيد القمر البازغ والطبيعة المتبرجة، تغنين أناشيد اليمن والإقبال يا ربات! تغنين أناشيد الإسعاد تمزجنها بموسيقى السماء، وإني أباركها جميعا، وقد أتغنى بها معكن!)
- (إذن رضينا بما أشرت يا مينرفا!)
- (وإذن، فإني أعاهدكن على الحق تارة أخرى، وأن نحكم بالعدل بين ذوي الخطايا والأوزار، فكل من تأكد لنا إجرامه، فلكن أن تفتكن به، وتؤاخذنه بما كسبت يداه)
- (ولك إذن ألا نضار أحدا، وألا نمس حقلا ولا غيضة ولا بستاناً بأذى. . . فليكثر الخير! ولتمتلئ الأرض المخضرة قطعاناً؟ ولتمطر السماء منا وسلوى)
- (سجلوا أيها الأثينيون! أيها المحلفون سجلوا! سجلوا يا سادة أثينا، واعلموا أن الشر إذا نزل بأهله فحسب، فهو خير للجميع! واعلموا كذلك أن من الخير ما ينبت من شر محض، وأن لكم أن تأمنوا ربات العذاب مادمتم مخلصين مطهرين. . .
- (لتكن أرضهم منضورة بأفواف الزهر، ولتبعد عنهم رزايا الزمان؛ وليأمنوا غدرات الأيام، وليرفرف عليهم فيءٌ من اليمن، ولتباركهم السماء دائماً!)
- (إذن تمت نعماؤنا يا ربات، فليتم إلى الأبد السلام!)
وتأمر مينرفا فيقام حفل ضخم ينشد فيه الجميع نشيد السلام، ويضمخ المعبد ببخور المسك والعنبر والند؛ ثم ينادي المنادي فيصمت الجميع لحظة، وإذا هرمز الكريم يبدو من عليائه؛ ويهبط قليلا قليلا. . .
ويتقدم إلى ربات الذعر فيقودهن إلى مملكة السفل. . . إلى عالم الظلمات. . . . إلى أعماق الأرض، حيث مقرهن، وحيث مستودعهن!. . . . .
وهكذا تكتفي أثينا شرهن بفضل مينرفا الحازمة. . . وهكذا يقرر القصاص ولو من الآباء. . وهكذا يسود العدل ويعم الإحسان
درني خشبة(143/72)
البريد الأدبي
في ترجمة السخاوي أيضا
نشرت الرسالة في عددها الماضي (العدد 142) كلمة للأديب محمود عساف أبو الشباب يشير فيها إلى نقطة وردت في بحث كنت نشرته في الرسالة منذ أشهر عن الحافظ شمس الدين السخاوي في العددين 103 و104 الصادرين في شهر يونية الماضي
ومن الغريب أن نفس الأديب كان قد نشر نفس الكلمة في الرسالة في العدد 107 الصادر في 22 يولية الماضي، وهو يعيد نشرها الآن بعد عشرة أشهر مع تحوير يسير فيها
أما الملاحظة التي يلح الأديب في إثباتها وتكرارها فهي أني قد ذكرت في الفصل الذي كتبته عن تراث السخاوي أنه ترك ضمن آثاره أثرين هما (تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) و (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وأن في نسبة هذين الأثرين للسخاوي خطأ محققاً يجب تصحيحه، وأنه أي صاحب الملاحظة، قد درس ترجمة السخاوي وقتلها بحثاً فلم يظفر بين مؤلفاته بذكر لهذين الأثرين
وجوابي على هذه الملاحظة هو أن في نسبة الأثر الأول أي (تحفة الأحباب) للسخاوي شك لم يتسع وقتي لتحقيقه واستجلائه، وفي نسبته لسمي السخاوي الآخر أيضاً شك لا أستطيع القطع معه بصحة هذا النسبة وذلك رغم ما ورد في شأنها في بعض الكتب المتأخرة؛ وهذا الشك في نسبة (تحفة الأحباب) للسخاوي معروف في البيئات التي تعنى بدراسته، بيد أن البحث لم ينته في ذلك إلى رأي حاسم
وأما نسبة الأثر الثاني أعني كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) إلى الحافظ السخاوي فليس فيها ذرة من الريب. فالسخاوي يذكره في ترجمته لنفسه بين مصنفاته في التاريخ بعنوان (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التواريخ) (راجع الضوء اللامع في مخطوط دار الكتب المصور المجلد الرابع القسم الأول ص75 و76) ويذكر السخاوي أيضاً في نهاية كتابه أنه أتمه بمكة سنة 897هـ؛ وقد طبع هذا الأثر أخيراً فعلى الأديب أن يراجعه ليتحقق
وأما كون السخاوي لم يذكر أثراً معيناً من آثاره في ترجمته، فيكون دليلا على أنه لم يكتبه، فتدليل خاطئ؛ ذلك لأن السخاوي يقف في ترجمة نفسه في الضوء اللامع حتى سنة 897هـ أو أوائل سنة 898هـ أي قبل وفاته بنحو خمسة أعوام، (وقد توفي بمكة سنة(143/73)
902هـ) وقد كتب السخاوي في تلك الفترة التي تقدمت وفاته عدة كتب ورسائل أخرى لم يشر إليها في الضوء اللامع
وأخيراً أرجو أن يعتقد الكاتب الأديب أن القول الفصل في مثل هذه الدراسات لا يمكن أن يكتفي فيه بالقول المرسل أو الاستناد إلى بعض الروايات الضعيفة، ومازال الأمر فيما يتعلق بالأثر الأول في حاجة إلى استكمال البحث، وهو بحث أرجو أن يتسع وقتي لإجرائه متى توفرت مواده ومصادره الوثيقة
محمد عبد الله عنان
كتاب جديد عن هتلر
صدر أخيراً كتاب جديد عن هير هتلر، وقد صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة كتب عديدة عن زعيم ألمانيا الجديدة منها ما يرتفع به إلى السماكين كزعيم ومصلح، ومنها ما يصوره زعيما عادياً لم ترفعه إلى مركزه أية عبقرية أو مواهب خاصة، وإنما رفعته إليه ظروف خاصة. ولكن الكتاب الجديد يمتاز بالتمحيص الهادئ والتصوير الدقيق؛ وهو من قلم كاتب وسياسي فرنسي كبير هو مسيو فرانسوا دي تسان وعنوانه: (ها أودلف هتلر) وقد كان مؤلف الكتاب مدى أعوام طويلة وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الكتاب الساسة الذين توفروا على دراسة الشؤون الدولية دراسة عميقة متزنة. وكتابه عن هتلر أكثر من ترجمة لهذا الزعيم، فهو في الواقع تاريخ كامل للحركة الاشتراكية الوطنية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وفي سائر وجوهها ومناحيها
ويحاول مسيو تسان أن يعرض حديثه عن هتلر وعن الاشتراكية الوطنية عرضاً محايداً مجرداً عن الشهوات والنزعات الخاصة. وهو يحاول حتى في سرد الحوادث الدامية المروعة التي اقترنت بقيام حكم النازي أن يبتعد عن التفاصيل والتعليقات المثيرة، ويكتفي بالإشارة الطائرة إلى كثير من ضروب الاضطهاد والفظائع التي نزلت بالأحزاب المعارضة وباليهود. بيد أنه لا يسعه إلا أن يقدم إلينا ألمانيا على ضوء هذه الحوادث المثيرة مشبعة بروح العصور الوسطى، متشحة بثوب ظاهر من الهمجية، مستندة إلى القوة الغاشمة وحدها في فهم القانون والحق. ويستعرض المؤلف الحوادث المتعاقبة منذ قيام(143/74)
الحكم الهتلري حتى وفاة هندنبورج واتشاح هتلر بثوب (الزعامة)، ويفصل لنا حادثة إحراق الريخستاج، وحوادث 30 يونية الدامية، ويشرح لنا النظم والأساليب النازية الجديدة التي أدت إلى توحيد ألمانيا وسحق النظم الاتحادية القديمة، وإقامة أمة موثقة العرى في قبضة طاغية هو في نفس الوقت رئيس حكومة ورئيس دولة.
وبين لنا مسيو تسان آثار النظام الجديد في تعبئة الشباب وسحق الآراء الشيوعية، وتحطيم اليهودية، وإخراج اليهود من حظيرة القانون، وإضعاف شوكة الكثلكة، وعلى الجملة في إنشاء (الدولة الشاملة التي تغذيها تخيلات زعيم متصوف، والتي تعتمد على قوة عسكرية تزيد كل يوم، ومازالت وجهة استخدامها في المستقبل لغزاً لحضارتنا وللعالم). كذلك يشرح لنا مسيو تسان آثار الإجراءات الدامية التي اتخذها الزعيم بيديه في 30 يونيه، وكيف أنها وقعت تحت تأثير (الريخسفر) (الجيش) وسحقت نفوذ ذوي الأقمصة السمراء، واستبعدت من الحركة عناصر المغامرين، ووضعت حداً لمنافسة فرق الهجوم للجيش؛ وكيف انتهى تعاون الريخسفر مع هتلر إلى إلغاء النصوص العسكرية في معاهدة الصلح، وإقامة جيش ألماني جديد قوامه ستمائة ألف
ولم يكن ميسوراً أن تقع هذه الانقلابات الشاملة دون تعبئة الرأي العام وتوجيهه، ومن ثم فقد لجأت الحركة النازية إلى أشد أساليب الدعوة، واتخذت الفكرة الجنسية والجرمانية أساساً لدعوتها، ونظمت هذه الدعوة بشتى الوسائل، بالمسرح والسينما والراديو والكتابة. كذلك حشدت الجامعات والمدارس والحركة التعليمية كلها لتأييد المبادئ النازية، وأنشئ معهد لصوغ التاريخ القومي طبقاً للنظريات النازية، وأضحت الحركة الفكرية كلها أداة نافذة في يد النظام الجديد تهيئ بها النشء والشباب للخضوع المطبق
ويشرح لنا المؤلف أدوار الحركة التي نظمت لسحق اليهودية منذ بدايتها وكيف أنها انتهت إلى وضع اليهودية من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية في نوع من العزلة المطبقة التي تشبه نظام (الجيتو) في العصور الوسطى
ويتناول المؤلف تطورات السياسة الألمانية الجديدة في هذه الفترة وموقف ألمانيا من المعاهدات ومشاريعه السلام، ودعاواها في المستعمرات، وكل ما يتعلق بهذه الشؤون، وما أحرزته في هذا الميدان من النتائج(143/75)
وقد كتب الكتاب بأسلوب قوي متزن تطبعه نزعة السياسي الهادئ والمؤرخ المحقق
المباراة الصحفية الأدبية
بيان من إدارة المطبوعات
إلحاقا بمشروع حضرة صاحب الدولة علي ماهر باشا الخاص بالمباراة الصحفية الأدبية تتشرف إدارة المطبوعات بأن تذيع على حضرات الصحفيين والكاتبين بأن اختيار دولته قد وقع على حضرات أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة الآتية أسماؤهم بعد رؤساء اللجان التحكيم كل في الموضوع الذي يخصه وترك لكل من حضراتهم حرية اختيار زملائه أعضاء لجنته، وستذيع الإدارة قريباً أسماء الجميع كما أنها ستذيع ما قد يتراءى لهذه اللجان من توجيهات وإرشادات وقواعد وأسس
وقد تفضل دولة الوزير فأمر بامتداد مدة تقديم الموضوعات إلى أمد نهايته 10 أبريل سنة 1936 في غير تحديد لحجم ما يكتب وفي مطلق الحرية للكاتب فيما يريد إبداءه من آراء ومقترحات وأن التفضيل يكون للرسالة العملية النتائج، وليس ثمت من حاجة إلى التطويل فيما هو ظاهر جليّ، وأن العبرة كل العبرة في حسن التصوير ودقته، والإلمام الصحيح بشتى نواحي الموضوع العملية الإنتاجية. كما أن دولت قد أشار بترك الحرية المطلقة لحضرات المتقدمين من الصحفيين والكاتبين في أن يرجئوا نشر رسائلهم إلى ما بعد ظهور نتائج المباراة أو أن ينشروها من الآن فيما يختارون من صحف ومجلات
كذلك أمر دولته أن تطبع الرسائل الفائزة في كتاب خاص رغبة في إذاعتها والاستفادة من وجاهتها ونشر للثقافة وحسن الإفادة، وأن يذاع منها من محطة الإذاعة الحكومية اللاسلكية ما تشير به لجان التحكيم تعميما للفائدة بأوسع ما يكون
وترجو إدارة المطبوعات - رغبة منها في عدم إضاعة الوقت - أن يتكرم حضرات الراغبين في دخول هذه المباراة بإرسال خمس صور مما يكتبون في الموضوع الذي يختارونه إلى حضرات أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة رؤساء اللجان كل فيما يخصه وهم حضرات:
الموضوع الأول: رسالة الأزهر في القرن العشرين
رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي(143/76)
شيخ الأزهر الشريف والمعاهد الدينية
الموضوع الثاني: اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات الاستقلال
رئيس لجنة التحكيم: سعادة الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة المصرية
الموضوع الثالث: أثر الحافز الشخصي في تطور الإصلاح الاجتماعي والوسائل العملية لتوجيهه للخير العام
رئيس لجنة التحكيم: الأستاذ الكبير مكرم عبيد نقيب المحامين
الموضوع الرابع: البطالة ووسائل علاجها. والتعليم الإقليمي وأثره في علاج البطالة
رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة أحمد عبد الوهاب باشا وزير المالية
الموضوع الخامس: التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة
رئيس لجنة التحكيم: الأستاذ الكبير محمود فهمي النقراشي
الموضوع السادس: عدة النجاح لرجل القرن العشرين
رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا
الموضوع السابع: تدعيم الحياة الدستورية والوحدة الوطنية وتكوين الوطني المستنير
رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب العزة الدكتور بهي الدين بركات بك
الموضوع الثامن: ترقية الفلاح اجتماعياً
رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا
الموضوع التاسع: استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام
رئيس لجنة التحكيم: حضرة صاحب السعادة علي الشمسي باشا
الموضوع العاشر: وضع نشيد وطني قومي
رئيس لجنة التحكيم: الأستاذ الكبير الدكتور أحمد ماهر
حول المباراة الأدبية
ورد إلينا من إدارة المطبوعات ما يأتي. . .
إلحاقاً لمشروع حضرة صاحب الدولة علي ماهر باشا الخاص بالمباراة الصحفية الأدبية وموضوعاتها العشرة السابق إذاعتها
تتشرف إدارة المطبوعات بأن تذيع أيضاً أن دولته قد أمر بإضافة الموضوعين الآتيين(143/77)
ليكونا ضمن موضوعات المباراة المتقدمة وهما:
1 - سلامة الدولة في حفظ الأمن والنظام واحترام القانون
2 - البوليس - وهو من حراس القانون - صديق الشعب - ووجوب مساعدة الشعب له في أداء واجباته
وستذيع الإدارة قريباً أسماء حضرات رئيس وأعضاء لجنتي التحكيم في هذين الموضوعين الذين سيتفضلون بقبول المساهمة في هذه الخدمة الثقافية العامة(143/78)
العدد 144 - بتاريخ: 06 - 04 - 1936(/)
ولدي!!
يا قارئي أنت صديقي فدعني أُرِقْ على يديك هذه العَبرات الباقية! هذا ولدي كما ترى، رُزِقُته على حال عابسة كاليأس، وكهولة بائسة كالهرم، وحياة باردة كالموت، فأشرق في نفسي إشراق الأمل، وأورق في عودي إيراق الربيع، وولّد في حياتي العقيمة معاني الجِدّة والاستمرار والخلود!
كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان، انشد الراحة ولا أجد الظل، وأُفيض المحبة ولا أجد الحبيب، وألبس الناس ولا أجد الأنس، وأكسب المال ولا أجد السعادة، وأعالج العيش ولا أدرك الغاية!! كنت كالصوت الأصم لا يرجعه صدى، والروح الحائر لا يقرُّه هدى، والمعنى المبهم لا يحدده خاطر!! كنت كالآلة نتجتها آلةٌ واستهلكها عمل، فهي تخدم غيرها بالتسخير، وتميت نفسها بالدءوب، ولا تحفظ نوعها بالولادة؛ فكان يصلني بالماضي أبي، ويمسكني بالحاضر أجلي، ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولد. فلما جاءني (رجاء) وجدتني أولد فيه من جديد؛ فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال، وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال، وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل يدفعه من ورائه طمع، ويجذبه من أمامه طموح! شعرت بالدم الحار يتدفق نشيطاً في جسمي، وبالأمل القوي ينبعث جديداً في نفسي، وبالمرح الفتيَّ يضج لاهياً في حياتي، وبالعيش الكئيب تتراقص على حواشيه الخضر عرائس المنى! فأنا ألعب مع رجاء بلُعبه، وأتحدث إلى رجاء بلغته، وأُتبع عقلي هوى رجاء فأدخل معه دخول البراءة في كل ملهي، وأطير به طيران الفراشة في كل روض ثم لم يعد العمل الذي أعمله جديراً بعزمي، ولا الجهد الذي أبذله كفاء لغايتي، فضاعفت السعي، وتجاهلت النصَب، وتناسيت المرض، وطلبت النجاح في كل وجه! ذلك لأن الصبي الذكي الجميل أطال حياتي بحياته، ووسَّع وجودي بوجوده، فكان عمري يغوص في طوايا العدم قليلاً قليلا ليمد عمره بالبقاء، كما يغوص أصل الشجرة في الأرض ليمد فروعها بالغذاء
شغل رجاء فراغي كله، وملأ وجودي كله، حتى أصبح شغلي ووجودي! فهو صغيراً أنا، وأنا كبيراً هو؛ يأكل فأشبع، ويشرب فأرتوي، وينام فأستريح، ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولا يحد!!
ما هذا الضياء الذي يشع في نظراتي؟ ما هذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي؟ ما هذا(144/1)
الرضى الذي يغمر نفسي؟ ما هذا النعيم الذي يملأ شعوري؟ ذلك كله انعكاس حياة على حياة، وتدفق روح في روح، وتأثير ولد في والد!؟
ثم انقضت تلك السنون الأربع! فصوحت الواحة وأوحش القفر، وانطفأت الومضة وأغطش الليل، وتبدد الحلم وتجهم الواقع، وأخفق الطب ومات رجاء!!
يا جبار السموات والأرض رحُماك!! أفي مثل خفقة الوسنان تبدَّل الدنيا غير الدنيا، فيعود النعيم شقاء والملأ خلاء والأمل ذكرى؟! أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد، ويسكن البيت اللاعب، ويقبح الوجود الجميل؟! حنانيك يا لطيف! ما هذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومراق البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب؟ اللهم هذا القضاء فأين اللطف؟ وهذا البلاء فأين الصبر؟ وهذا العدل فأين الرحمة؟
إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول! فهل لبيان الدمع ترجمان، ولعويل الثاكل ألحان؟ إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية؟ وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري؟ إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده! أشهد لقد جزعت عليه جزعا لم يغن فيه عزاء ولا عظة! كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكبِره، وأستريح إلى النادبات يندبن الكبد الذي مات والأمل الذي فات والملك الذي رُفع!
لم يكن رجاء طفلا عاديا حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه؛ إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق! كان وهو في سنه التي تراها يعرف أوضاع الأدب، ويدرك أسرار الجمال، ويفهم شؤون الأسرة ويؤلف لي (الحواديت) كلما ضمني وإياه مجلس السمر! كان يجعل نفسه دائما بطل (الحدوتة) فهو يصرع الأسود التي هاجمت الناس من حديقة الحيوانات، ويدفع (العساكر) عن التلاميذ في أيام المظاهرات، ويجمع مساكين الحي في فناء الدار ليوزع عليهم ما صاده ببندقيته الصغيرة من مختلف الطير!
وا لهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحمام الراصد في وعكة قال الطبيب إنها (البرد)، ثم أعلن بعد ثلاثة أيام أنها (الدفتريا)! لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضة! ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة، تصارع العدم بحيوية الطفولة، وتحاجُّ القدر في حكمة الحياة والموت!!(144/2)
وا لهف نفسي عليه ساعة أخذته غصة الموت، وأدركته شهقة الروح، فصاح بملء فمه الجميل: (بابا! بابا!) كأنما ظن أباه يدفع عنه ما لا يدفع عن نفسه!
لنا الله من قبلك ومن بعدك يا رجاء، وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء!
أحمد حسن الزيات(144/3)
تجديد الإسلام
رسالة الأزهر في القرن العشرين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(الأزهر)، هذه هي الكلمة التي لا يقابلها في خيال الأمة المصرية إلا كلمهُ (الهرم). وفي كلتا اللفظتين يكمن سرُّ خفي من أسرار التاريخ التي تجعل بعض الكلمات ميراثاً عقلياً للأمة، يُنسي مادة اللغة فيها، ولا يبقي منها إلا مادة النفس، إذ تكون هذه الكلمات تعبيراً عن شيء ثابت ثبات الفكرة التي لا تتغير، مستقرٍ في الروح القومية استقراره في الزمن، متجسم من معناه كأن الطبيعة قد أفردته بمادته دون ما يشاركه في هذه المادة؛ فالحجر في الهرم الأكبر يكاد يكون في العقل زماناً لا حجراً، وفناً لا جسما؛ والمكان في الأزهر يغيب فيه معنى المكان، وينقلب إلى قوة عقلية ساحرة، توجد في المنظور غير المنظور
وعندي أن الأزهر في زمننا هذا يكاد يكون تفسيراً جديداً للحديث: (مصر كنانة الله في أرضه)، فعلماؤه اليوم أسهم نافذة من أسهم الله يرمي بها من أراد دينه بالسوء فيمسكها للهيبة ويرمي بها للنصر، ويجب أن يكون هذا المعنى أول معانيهم في هذا القرن العشرين الذي ابتلى بملء عشرين قرناً من الجرأة على الأديان وإهمالها والإلحاد فيها
أول شيء في رسالة الأزهر في القرن العشرين، أن يكون أهله قوة إلهية معدَّة للنصر، مهيأة للنضال، مسددة للإصابة، مقدرة في طبيعتها أحسن تقدير؛ تشعر الناس بالاطمئنان إلى عملها، وتوحي إلى كل من يراها الإيمان الثابت بمعناها؛ ولن يأتي لهم هذا إلا إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحيحة، فلا يكون العلم تحرفاً ولا مهنة ولا مكسبة، ولا يكون في أوراق الكتب خيال (أوراق البنك). . . . بل تظهر فيهم العظمة الروحانية آمرة ناهية في المادة لا مأمورة منهية بها، ويرتفع كل منهم بنفسه، فيكون مقرر خلق في الحياة قبل أن يكون معلم علم في الحياة، لينبث منهم مغناطيس النبوة يجذب النفوس بهم أقوى مما تجذبها ضلالات العصر؛ فما يحتاج الناس في هذا الزمن إلى العالم - وإن الكتب والعلوم لتملأ الدنيا - وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم
وقد عجزت المدنية أن توجد هذا الضمير، مع أن الإسلام في حقيقته ليس شيئاً إلا قانون هذا الضمير، إذ هو دين قائم على أن الله لا ينظر من الإنسان إلى صورته ولكن إلى(144/4)
عمله؛ فأول ما ينبغي أن يحمله الأزهر من رسالته ضمائر أهله
والناس خاضعون للمادة بقانون حياتهم، وبقانون آخر هو قانون القرن العشرين. . . فهم من ثمَّ في أشد الحاجة إلى أن يجدوا بينهم المتسلط على المادة بقانون حياته ليروا بأعينهم القوى الدنيئة مغلوبة، ثم ليجدوا في هذا الإنسان أساس القدوة والاحتذاء فيتصلوا منه بقوتين: قوة التعليم وقوة التحويل. هذا هو سر الإسلام الأول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له شيء يصده إذ كان ينفذ في الطبيعة الإنسانية نفسها
ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير. . . وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا بل هي من أسباب هذا الشر، لأن وجوداً سياسياً ووجوداً مدنياً. أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب؛ وهو وحده الذي يسعُه ما تعجز عنه؛ وأسبابُ نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقيةُ الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض. بيد أنه فرَّط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل الأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة: إنساناً تتخيَّره المعاني السامية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضرباً من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحةٍ بهذا المثال نفسه. والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوى الحياة
لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر فيتَّبعونهم ويتأسَّون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس، ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة؛ وكان غنى العالم الديني شيئاً غير المال بل شيئاً أعظم من المال إذ كان - يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه مُلك لا فقر. وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية؛ ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق(144/5)
متروكة لنفسها يوحشُ الناسَ منها أنها متروكة لنفسها
وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أردُّ على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها؛ فيجب عليهم أن يحققوا وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يُعدُّوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلاباً يرتزقون بالعلم
أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع. . . وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة المصرية لا خبرٌ تاريخي فيها.؟
لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وأن ينقي عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوَّتها
ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئاً في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئاً في عمله لهذه القيادة، آخذا بأسباب هذا العمل، ملحاً في طلب هذه الأسباب، مصراً على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثاً إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلةً من الأمثلة القوية في الدين والخلُق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف؛ والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية، مطاعٌ بحكمه فيها، محبوبٌ بطاعتها له
والمادة المطَّهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة. . .
ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعاً بوسائل مختلفة؛ أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، من مدرسة حرية الفكر. . فنازلاً؛ والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: (أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل، وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية في(144/6)
الدعوة
العلماء ورثة الأنبياء؛ وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط
وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها - اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين بعد أن يكون حقق الذرائع إلى هذه الرسالة من فتح باب الاجتهاد وتنقية التاريخ الفقهي وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة، ثم استخراج أسرار القرآن الكريم المكتنَّة فيه لهذه العصور العلمية الأخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد، لا ينكره هذا ولا يغيره ذاك؛ وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه
أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوربا وأمريكا واليابان، بلغات الأوربيين والأمريكيين واليابانيين في ألسنة أزهرية مُرهفة مصقولة لها بيان الأدب ودقة العلم وإحاطة الفلسفة، وإلهام الشعر، وبصيرة الحكمة، وقدرة السياسة؛ ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسانٌ واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر؛ ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها فتكون المتكلمة عنه والحاملة لرسالته. وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوربا إلا أول تاريخ تلك الألسنة
إن الوسيلة التي نشرت الإسلام من قبل لم تكن أجنحة الملائكة ولا كانت قوة من جهنم؛ ولا تزال هي هي التي تنشره، فليس مستحيلا ولا متعذرا أن يغزو هذا الدين أوربا وأمريكا واليابان كما غزا العالم القديم. ولم يكن السلاح من قبل إلا طريقة لإيجاد الإسلام في الأمة الغريبة عنه حتى إذا وجد تولىَّ هو الدعوة لنفسه بقوة الناموس الطبيعي القائم على أن الأصلح هو الأبقى، وانحازت إليه الإنسانية لأنه قانون طبيعتها السليمة، ودين فطرتها القوية، وقد ظل الإسلام ينتشر ولم يحمله إلا التاجر كما ينتشر وحاملهُ الجيش؛ فليس علينا إلا تغيير السلاح في هذا العصر وجعله سلاحا من فلسفة الدين وأسرار حكمته. فهذا الدين(144/7)
كما قلنا في بعض كلامنا أعمالٌ مفَّصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه مصلحة، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظّم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العمليَّ المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى. وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه لا يغني عنه في ذلك دين آخر ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدبٌ ولا علم ولا فلسفة كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور بازاء الشمس نبع النور في السماء
ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو يوجد ما يثبت، والثابت يوجد ما يدوم. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله: نضَّر الله امرءا سمع مني شيئاً فبلغه كما سمعه، فربَّ مُبلَّغ أوعى له من سامع
أما والله إن هذا المبلَّغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن عرفنا كيف نبلغ
أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينتشر الدين على يده في أوربا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به
هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين ويجب أن يتحقق بوسائلها من الآن؛ ومن وسائلها أن يُعالن بها لتكون موثقاً عليه. ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكرا إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة؛ فنكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم. وبهذه الألقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية ويحقق لنفسه المعنى الجامعي
وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أياماً في كل سنة يجمع فيها من المسلمين (قرش الإسلام) ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله. وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم(144/8)
الإسلامية ومواسمها الكبرى وخاصة موسم الحج. وهذا العمل هو نفسه وسيلة من أقوى الوسائل في تنبيه الشعور الإسلامي وتحقيق المعاونة في نشر الدين وحياطته، وعسى أن تكون له نتائج اجتماعية لا موضع لتفصيلها، وعسى أن يكون (قرش الإسلام) مادة لأعمال إسلامية ذات بال وهو على أي الأحوال صلة روحية تجعل الأزهر كأنه معطيه لكل مسلم لا آخذه.
والخلاصة أن أول رسالة الأزهر في القرن العشرين اهتداء الأزهر إلى حقيقة موضعه في القرن العشرين (وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين).
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(144/9)
النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق
للدكتور عبد الرزاق السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
تمهيد:
دعتني لجنة الثقافة بدار المعلمين لإلقاء محاضرات عامة، فترددت في اختيار موضوع هذه المحاضرات، ذلك أني رجل أشتغل بالقانون، والناس لا يرحبون كثيراً لا بالقانون ولا برجال القانون، وكيف يستسيغ الناس القانون، وهو جاف لا طلاوة فيه، أو ترحب برجال القانون، وهم رجال صناعتهم الخوض في المنازعات، فإن لم توجد خلقوها خلقا؟ هذه هي سمعة رجال القانون عند الجمهور، ولا أحاول أن أدافع عنهم، وإن كنت منهم، فإني أخشى أن ينازعوني حق النيابة عنهم والتحدث باسمهم. لذلك آثرت أن أتجرد الليلة عن هذه الصفة، وأن أتقدم إليكم بموضوع لا شأن له بالقانون، واخترت أن يكون موضوعي عن النهضات القومية في أوربا وفي الشرق
ولست أزعم أنني توفرت على دراسة موضوعي دراسة دقيقة، فإن الدراسة الحق لهذا الموضوع تقتضي الخوض في فلسفة التاريخ والاجتماع، مما أعفيكم منه، كما أعفيكم من سماع الأحاديث القانونية الجافة. لذلك سترونني هذه الليلة أمس موضوعي مساً خفيفاً، في رفق وهوادة، محاذرا أن أثقل عليكم أو أن أثقل على نفسي، راجياً العذر إذا قصرت في التعمق، فإن الغرض الأول الذي توخيته من هذه المحاضرات، ليس هو الغرض العلمي. بل هي الرغبة في استخلاص بعض الدروس للشعوب الشرقية في نهضاتها الحديثة، في ضوء التجارب التي مرت بها الأمم الغربية
ومادمت سأتكلم في النهضات القومية، ومادامت النهضة تقوم على روابط، فإني أبدأ بتحديد معنى الرابطة، تمهيداً للكلام في النهضات القومية
الرابطة وحدة تجمع طائفة من الناس، وتقرب ما بينهم، وتميزهم من الطوائف الأخرى، فالرابطة إذن لها وجهان: وجه إيجابي، هو ذلك التقريب، وكلما توثقت أواصره كان في ذلك الخير كله. ووجه سلبي، هو ذلك التنافر والتباعد ما بين طائفة وأخرى، وكلما أغرق(144/10)
فيه كان تعصباً، والتعصب كريه مذموم
ولابد من وجود الروابط في الجمعيات البشرية، وتفرق الناس شيعاً وأحزاباً. نعم لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكانت هناك رابطة واحدة تربط الناس جميعاً، هي رابطة الإنسانية، ولكن ذلك المثل العالي لم يتحقق حتى الآن، وقد لا يتحقق إلى مدة طويلة، بل قد لا يتحقق أبداً، لذلك يجب أن نواجه الأمر الواقع، وأن ننظر على أي أساس يتميز الناس أمماً وشعوباً
ولنبدأ باستعراض التاريخ استعراضاً سريعاً، لنستخلص منه الروابط المتعاقبة التي ربطت الجمعيات البشرية في أوربا، منذ العصور الوسطى إلى الآن. إن المستعرض لتاريخ الغرب يستطيع أن يقرر أن الجمعيات البشرية قد تقاربت وتباعدت، على أسس اختلفت باختلاف مراحل التاريخ. ففي العصور الوسطى كان الأساس هو الدين، إذ تجمعت الشعوب الغربية وقامت وحدتها على الدين المسيحي، ثم أخذت رابطة الدين تنحل شيئاً فشيئاً، وأخذت تحل محلها رابطة الوطن، ومازالت أواصر الوطنية تتماسك، ثم تتوثق، حتى قوى التعصب لها، وحتى قامت الحروب ما بين الشعوب المختلفة في الوطن وإن اتحدت في الجنس، وبقى الأمر كذلك حتى مستهل القرن التاسع عشر، إذ قويت رابطة الوطن بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، ثم أخذت رابطة أخرى في الظهور، رابطة تقوم لا على فكرة الوطن ولا على فكرة الجنس، بل على فكرة الكفاح ما بين الطبقات، ووجوب سيادة طبقة العمال، وبهذه الرابطة نادى الاشتراكيون، وأخذ أمر الاشتراكية يقوى شيئاً فشيئاً، ومذاهبها تتنوع وتتشعب، حتى الحرب الكبرى، إذ استفحل شأن الاشتراكية بارتماء الروسيا في أحضان البلشفية.
على أن رابطة الوطن، وقد وقفت إلى جانبها رابطة أخرى مقاربة لها هي رابطة الجنس، لم يفتر نشاطها، بل نزلت إلى ميدان النضال. وهانحن اليوم نشهد عراكا عنيفاً ما بين رابطتي الوطن والجنس من جهة، ورابطة الطبقات من جهة أخرى
هذا بيان إجمالي عن الروابط التي تعاقبت على أوربا منذ العصور الوسطى إلى اليوم: من رابطة الدين، إلى رابطة الوطن، إلى رابطة الجنس، إلى رابطة الطبقات، ونحن نفصل الآن ما أجملناه(144/11)
1 - العصور الوسطى: رابطة الدين
قلت إن الشعوب الأوربية كانت تجمعها في العصور الوسطى جامعة الدين، وكانت الدولة لا تقوم على القومية أو الوطنية في تلك العصور، بل كانت الدولة والقومية منفصلتين إحداهما عن الأخرى منذ العصور القديمة، فقد كانت اليونان قومية واحدة تتنازعها دول متعددة، وكانت الرومان قوميات متعددة تندمج في دولة واحدة. ولما جاءت العصور الوسطى تجمعت الشعوب الأوربية في ظل الدين المسيحي، يقود زمامها سلطتان: سلطة روحية هي سلطة البابا، وسلطة زمنية هي سلطة الإمبراطور. واستندت الكنيسة إلى السلطة الزمنية دهوراً طوالا، فإن المسيحية كان قد اشتد كاهلها في ظل الإمبراطورية الرومانية، إذ بعد أن ناوأتها هذه الإمبراطورية زمناً طويلا، واضطهدت معتنقيها، وسامتهم الخسف والعذاب، تغلبت قوة الإيمان، وانتصرت المسيحية، واتخذتها الإمبراطورية الشرقية ديناً رسمياً للدولة
ولما سقطت الإمبراطورية الرومانية شعرت الكنيسة بحاجتها إلى سلطة زمنية تستند إليها، وبقى المثل الأعلى للشعوب الغربية هو أن تتجمع في ظل الكنيسة. وقد تحققت هذه الأمنية إلى حد كبير في آخر القرن الثامن، وقام بتحقيقها شارلمان، فقد وحد غرب أوربا بعد أن أخضعها لسلطانه، وتوجه البابا ليو الثالث في سنة 800 في كنيسة القديس بطرس، إمبراطورا على العالم المسيحي، وخليفة للقياصرة من الرومان، وأعاد الإمبراطور أوتو الجرماني وحدة العالم المسيحي مرة أخرى في القرن العاشر، أما الكنيسة نفسها فقد كان ظلها ينبسط على العالم المسيحي، يحقق وحدة هذا العالم، وقد كان لها أعوان منبثون في كل قطر وبلد، يؤيدون سلطانها، وينفذون إرادتها، وسلاح الكنيسة إذ ذاك هو الغفران والحرمان، تغفر لمن تشاء، وتحرم من تشاء، فكلمتها نافذة مطاعة، والعالم المسيحي ينظر إليها رمزاً لوحدته
وبقيت الرابطة الدينية قوية متينة دهوراً طوالا، ثم أخذت في الانحلال، ويرجع السبب في انحلالها إلى الحروب الطويلة التي نشبت ما بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وإلى اتصال العالم المسيحي بالعالم الإسلامي بعد انقضاء الحروب الصليبية، مما خفف من حدة التعصب الديني، وإلى الإصلاح الديني الذي كان من شأنه أن يشق العالم المسيحي إلى(144/12)
كثلكة وبروتستانتية، وأخيراً، وبنوع خاص إلى عصر النهضة في العلوم والفلسفة، تلك النهضة التي افتتحت بها العصور الحديثة في أوربا، فبدد نور العلم ما كان قد تلبد من غياهب التعصب، وانقشعت ظلمات الجهالة، وميز الناس بين الروابط المدنية والروابط الدينية، فحكموا في الأولى عقولهم، وفي الأخرى ضمائرهم، وأعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
2 - العصور الحديثة: رابطة الوطن ورابطة الجنس
وننتقل الآن من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وقد بدأت هذه العصور في أوربا منذ القرن السادس عشر، وبدأت معها رابطة الوطن تحل محل رابطة الدين، وقد كان يمنع من توثق رابطة الوطن في الماضي أمران: (الأمر الأول) رابطة الدين وقد رأينا كيف تفككت هذه الرابطة. (الأمر الثاني) شيوع النظام الإقطاعي في الشعوب الأوربية، وقد كان من شأن هذا النظام أن يفكك سلطان الدولة، وأن يوزعه بين النبلاء، فلم تكن تقوم للدولة ولا للقومية قائمة في ظل هذا النظام. ثم أخذ يزول شيئاً فشيئاً، ويرجع السبب في ذلك إلى تقدم التجارة والصناعة؛ مما جعل طبقة التجار والصناع وهي الطبقة الوسطى ذات شأن كبير. فأضعفت من سلطان الأرستقراطية والنبلاء، وحلت البرجوازية التجارية والصناعية محل الأرستقراطية النبيلة، واستندت إليها السلطة المركزية، واستعانت بها في توطيد سلطانها وهدم سلطان النبلاء
وغرس تقدم التجارة والصناعة عند الأمم الغربية حب الاستعمار سعياً وراء أسواق جديدة للتجارة، أو جرياً وراء الحصول على المواد الأولى للصناعة، وقويت نزعة الاستعمار عند الدول الغربية الكبرى، وتنافست، فقامت الحروب بينها، وزادت كل أمة شعوراً بقوميتها، وهكذا نرى أن الاستعمار كان من شأنه أن يقوي الوطنية، وأن يذكي نار التعصب للقومية
وقد بلغت رابطة الوطنية أوجها من القوة بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وبقيت قوية عنيفة طوال القرن التاسع عشر، رغماً عن حركة الرجعية التي رفع لواءها مؤتمر فينا. وأخذت القوميات التي لم تستكمل استقلالها تكافح في سبيل هذا الاستقلال، وخرجت منتصرة من هذا الكفاح. فاستقلت اليونان عن الدولة العثمانية، والبلجيك عن هولندا، وإيطاليا عن النمسا، وأخفقت بولونيا والمجر، ولم يقدر لهما النجاح إلا بعد الحرب(144/13)
الكبرى، واستقلت بعض ولايات البلقان، وتكونت الإمبراطورية الألمانية، بعد أن اصطدمت القومية الألمانية بالقومية الفرنسية، وجر هذا الاصطدام إلى حروب دامية وأهوال
على أن تقدم الصناعة بنوع خاص، لاسيما في القرن التاسع عشر، كان له أثران خطيران غير تقوية روح الوطنية والنزعة الاستعمارية. (الأثر الأول) تقويته روح الديمقراطية، التي بدأ غرسها الثورة الإنجليزية، وأنبتتها الثورتان الأمريكية والفرنسية. وللديمقراطية حديث طويل، يصح أن يكون موضوعاً مستقلاً لسلسلة من المحاضرات. (الأثر الثاني) غرسه روح الاشتراكية، وهنا نرى عجباً. فإن الصناعة، التي قوت رابطة الوطنية، أوجدت إلى جانبها رابطة أخرى مناقضة لها كل المناقضة، هي رابطة الطبقات. إذ قويت طبقة العمال بفضل تقدم الصناعة الكبير، وأخذت تشعر بقوتها، وتجمعت كتلاً كتلاً، وسرى روح التفاهم ما بين العمال من جميع القوميات، وصاح فيهم ماركس صيحته المشهورة: (أيها العمال من جميع أنحاء العالم، هلموا إلى رفع لواء الاتحاد)، وعارضت روح الطبقات روح الوطنية، وبدأت الاشتراكية تدخل في دور عملي، ولم يعد بد للأمم الأوربية من أن تواجه هذه الحركة الجديدة
وقبل أن ننتقل من الوطنية إلى الاشتراكية، نقف قليلاً، لنعرف معنى الوطنية التي أكثرنا من الإشارة إليها، فقد تحاشينا تعريفها حتى الآن، إذ ليس من السهل تحديد هذا المعنى الدقيق، فالوطنية جامعة تقوم على روابط طبيعية وأخرى صناعية، وأول الروابط الطبيعية هو وحدة الجنس والدم، ويلي هذا وحدة الإقليم الجغرافي. ثم وحدة اللغة، ويترتب على هذه الوحدات المختلفة وحدة لتاريخ ووحدة التقاليد، هذه الروابط الطبيعية التي تجمع ما بين أبناء شعب واحد، وتجعل من هذا الشعب وطناً يشعر بذاته. فإذا اقترنت بهذه الروابط الطبيعية رابطة أخرى صناعية، هي وحدة النظام السياسي، فقد استكملت الوطنية ذاتيتها، واستجمعت مقوماتها ومشخصاتها، وإذا انظم إلى كل هذه الروابط وحدة الدين، فقد بلغت الوطنية الأوج من عنفوانها وقوتها. على أن اجتماع كل هذه الروابط ليس ضرورياً لتكوين الوطن، فوجود بعضها يكفي. والمهم أن يتوحد المكان الجغرافي والنظام السياسي، ويتبع ذلك وحدة التاريخ ووحدة التقاليد. فقد تضم رقعة جغرافية قوماً مختلفي الجنس، ولكن يتحد(144/14)
تاريخهم وتقاليدهم، فإذا انضموا إلى نظام سياسي واحد كوّنوا وطناً، وقد يتفرق أبناء الجنس الواحد بين أوطان متعددة، كل وطن له مقوماته الذاتية من لغة وتاريخ وتقاليد، وقد يتجمع القوم متحدين جنساً مختلفين ديناً، ولا يمنع اختلاف الدين من تكون الوطن، ومن هنا نرى أن رابطة الوطن لا تتفق تماماً مع رابطة الجنس والدم. فالرابطة الأولى فيها شيء من العوامل الصناعية تعززها وتقويها، والرابطة الثانية، رابطة الدم، تقوم على الطبيعة ذاتها، ولا تعارض بين رابطة الوطن ورابطة الجنس والدم، حتى لو ضم الوطن الواحد أجناساً مختلفة. إلا إذا أسيء فهم الوطنية، وأخذت لا على أنها صلة حب وتآلف بين هذه الأجناس، بل صلة كراهية ومقت لكل قومية أخرى
(يتبع)
عبد الرزاق السنهوري(144/15)
صور من القرن الثامن عشر
جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان القرن الثامن عشر في أوربا عصر الخفاء والدعوات السرية، والثورات الفكرية والاجتماعية؛ وكان أيضاً عصر المغامرات الشائقة، والحياة المرسلة الناعمة، والعيش الخفض، وازدراء التبعات، عصر المرح والطرب الميسور
وليس معنى ذلك أن القرن الثامن عشر كان عصرا ذهبيا يزهو فيه المجتمع ويزدهر؛ فقد كان في الواقع عصر الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوالية؛ ولكنه كان عصر تطور فكري عميق يبلغ المجتمع فيه ذروة أزمته الروحية والنفسية، ويصل إلى نوع من اليأس والاستهتار، ويلتمس في حياة النسيان والعيش المرح عزاء ومتنفسا
وقد تناولنا في مقال سابق شخصية من أعجب شخصيات هذا القرن وداعية من أغرب دعاته، ونعني يعقوب فرنك أو البارون فون أوفنباخ ورأينا كيف كان القرن الثامن عشر مهبط الدعاة والمغامرين من كل ضرب، وكيف كان الخفاء يغمرهم ويثير من حولهم كثيرا من الدهشة والروع، وكيف كان أولئك الدعاة المغامرون يخلبون ألباب مجتمعات هذا العصر برائع شخصياتهم ومظاهرهم، وظرف خلالهم وشمائلهم، وسحر مزاعمهم وأقوالهم، وخفاء غاياتهم ووسائلهم
والآن نتناول شخصية أخرى من أعجب شخصيات هذا القرن أيضا، ولكن من طراز آخر، هي شخصية جاكومو كازانوفا
كازانوفا! مغامر جريء يخلق لنفسه من العدم شخصية باهرة، ويدخل الحياة من باب ذهبي، ويستقبلها بابتسامة خالدة؛ ويفتتح المجتمع الرفيع بذكائه ودهائه وخبثه، وظرف خلاله وشمائله؛ ويرتفع في ميدان المغامرة إلى الذروة، ويهبط إلى الدرك الأسفل؛ ويستمرئ أمتع المسرات والملاذ، كما يتذوق أمر ضروب السقوط والفاقة؛ وينحدر من فتوة باهرة ظافرة برفاهة العيش الساطع المرح، إلى كهولة حافلة بصنوف الخيبة واليأس، ثم(144/16)
إلى شيخوخة مظلمة مغمورة بائسة، ثم إلى عالم العدم في قبر ناء مجهول
لم يكن كازانوفا شخصية عظيمة تجدر بالخلود في صحف التاريخ؛ ولكنه كان شخصية من نوع خاص تنحرف بطرافتها وغريب أطوارها عن سلك المجتمع الوديع الهادئ، ولكن تنفث في نفس الوقت بقوتها واضطرام خلالها أينما حلت في جوانب هذا المجتمع كثيرا من الفضول والسحر، وتغزو بمرحها وأناقتها قلوب أولئك الذين يعبدون الجمال والظرف مهما اتخذوا من أثواب خلابة طائرة؛ وقد كان كازانوفا يتشح بأثواب خلابة طائرة، ولكن مؤثرة ساحرة، ولم يكن يهمه في الحياة سوى النجاح مهما كان خلبا، والظفر بتحقيق أهوائه مهما كانت ومهما كانت الوسائل والصور؛ وقد ترك لنا فوق ذلك عن حياته الغريبة الحافلة مذكرات طلية شائقة مازالت تعتبر إلى يومنا تحفة أدبية فنية لها قيمتها ولها سحرها
ولهذا يظفر كازانوفا من التاريخ بالذكر والتدوين، وتغدو سيرته العجيبة سجلا حافلا لخلال عصره، وتغدو موضوعا ومستقى لأقلام بارعة تخرج عنها المؤلفات الحافلة
ولد جاكومو كازانوفا في الثاني من شهر أبريل سنة 1725 بمدينة البندقية؛ وكان أبوه جايتانو ممثلا متواضعا ألقى به إلى البندقية وإلى المسرح قدر غريب، ذلك أنه هام في صباه بممثلة حسناء تدعى لافراجوليتا، وترك من أجلها أسرته وموطنه بارما، واحترف الرقص والتمثيل؛ ثم فتر هواهما بعد ذلك وتركته الممثلة لتجري وراء مغامرات أخرى، فاستبقى من بعدها حرفته، والتحق للعمل بأحد مسارح البندقية؛ وكان يقيم في المنزل المواجه لمسكنه صانع أحذية يدعى فاروزي وزوجته مارسيا وابنتهما الحسناء جوفانا أو زانيتا، فنشأت بين جايتانو وزانيتا علائق غرامية، ثم فر العاشقان ذات يوم وعقدا زواجهما في فبراير سنة 1724، وبعد عام ولد ابنهما جاكومو
ولم تلبث زانيتا أن حملها تيار المسرح، فظهرت إلى جانب زوجها، وانفق الزوجان بضعة أعوام في التجول من مدينة إلى أخرى ومن مسرح إلى آخر؛ ثم أصيب الزوج أثناء وجودهما بالبندقية بمرض خطير أودى بحياته في أواخر سنة 1733
وكان جايتانو كازانوفا فتى وديعا حسن الخلال، يؤثر الانزواء والعزلة؛ أما زانيتا فقد كانت بالعكس فتاة ذكية ماكرة مضطرمة النفس والأهواء؛ وكانت ممثلة بارعة تمتع بكثير من الظرف والسحر؛ وكانت دائمة التجول في عواصم القارة، من لندن إلى بطرسبرج، تحرز(144/17)
النجاح والظفر أينما حلت؛ وكان مستقرها الأخير في مدينة درسدن حيث عينها مختار سكسونية ممثلة مدى الحياة، وهنالك أنفقت بقية حياتها حتى توفيت سنة 1776
وكانت زانيتا قد رزقت غير جاكومو بثلاثة أبناء آخرين وابنتين، وتركتهم جميعاً بالبندقية لدى والدتها مارسيا فاروزي؛ وكانت مارسيا امرأة بسيطة جاهلة ولكن ذكية مخلصة، فكرست كل نشاطها وعنايتها لتربية أحفادها ولاسيما كبيرهم جاكومو؛ ويشير كازانوفا في مذكراته إلى ذلك الحرمان من عطف أبويه، ويقول لنا إنهما لم يكلماه قط، ويشير أيضاً إلى عطف جدته ورعايتها ويقول لنا إنه كان طوال حياته يذكرها بالحب والعرفان والإجلال
ونشأ جاكومو ضعيفاً سقيما، ولكن تبدو عليه إمارات الذكاء والنجابة؛ وكان للأسرة صديق من أعيان المدينة يدعى جورجو بافو، فاهتم بأمر الصبي العليل؛ وكان بافو جوادا طيب القلب، ولكن فاسد الخلال والسيرة؛ وكان شاعرا، ولكن شعره يفيض تهتكا وفجورا؛ فنصح بإرسال الصبي إلى بادوا ليتعلم في معاهدها ويستفيد من هوائها؛ وكانت زانيتا والدة جاكومو يومئذ في البندقية، فنزلت عند هذا النصح، وحملت جاكومو إلى بادوا، ورتبت مقامه هنالك؛ وأقام جاكومو مدى حين عند امرأة سلافية، ولكن ما لبث أن عاف المكث لديها لسوء المعاملة ورداءة المسكن والطعام، ثم نقل على أثر ذلك إلى منزل معلمه الأب جوزّي، فارتاحت نفسه لمقامه الجديد، وأقام لدى أستاذه منعما مكرما
وقضى كازانوفا بضعة أعوام عند معلمه، ودرس قليلا من اللاتينية واليونانية والنحو. وكان تقدمه سريعاً حتى أن الأب جوزي ما لبث أن اختاره لمعاونته في التدريس؛ وكان كازانوفا قد ناهز يومئذ الخامسة عشرة، وأخذت تبدو عليه إمارات الاضطرام الكامنة في جوانحه والتي ورثها عن والديه، فبدأ يقرأ الكتب المثيرة، ويزعج معلمه بمختلف الأسئلة المحرجة، ويحدج أخت معلمه بتينا - وهي فتاة في نحو العشرين من عمرها - بنظرات ملتهبة. ولما انتهت دراسته الابتدائية، دخل مدرسة الحقوق في جامعة بادوا الشهيرة، وأطلق لنفسه عنان الحرية، وأخذ يغشي دور اللهو والميسر، فانزعج معلمه، وانزعجت جدته وبادرت إلى بادوا وصحبته معها إلى البندقية، وهنالك استأنف دراسته
وفي البندقية تفتحت غرائزه وأهواؤه، وانكب على صنوف اللهو؛ ولكنه مع ذلك كان يتذوق دراسته وحياته العلمية، وكان ذلك الفتى اليافع الذي يضطرم ظمأ إلى اللهو والمرح،(144/18)
يضطرم في نفس الوقت ظمأ إلى العرفان والدرس؛ وكان في الثامنة عشرة يأخذ بقسط حسن من الأدب والفلسفة والمبادئ العلمية، ولم يكن خلال عبثه ولهوه ليغضي عن التفكير في مستقبله؛ فلم يمض سوى قليل على عوده إلى البندقية حتى استطاع أن ينتظم في سلك رجال الدين وأن يحصل على وظيفة دينية صغيرة. أجل استهل كازانوفا حياته العملية قساً، وهو الذي خاض فيما بعد غماراً من اللهو والفجور قلما يخوضها بشر! ولم يكن ذلك منه ورعاً أو رغبة في خدمة الدين، ولكن الانضواء تحت لواء الكنيسة كان يومئذ وسيلة فريدة لأبناء الشعب الذين يطمحون إلى مستقبل ما؛ وكان ذلك المنصب المتواضع الذي لا يحتم عليه الارتباط بعهد الكنيسة، يفتح له كثيراً من الأبواب المغلقة، ويحقق له كثيراً من المزايا التي تعاونه على التقدم في سبيل الحياة
ولم يمض سوى قليل حتى استطاع كازانوفا أن يجوز إلى المجتمع الرفيع وأن يعترف بكثير من الكبراء والنبلاء؛ وكان بين هؤلاء، غير صديقه وحاميه القديم بافو، سيد يدعى مالبيرو، وهو شيخ سابق، وثري منعم، يعيش في قصر فخم، ويجمع حوله جمهرة من الخلان الظرفاء، يتسامرون ويتحدثون عن اللهو والنساء والحب، كما يتحدثون عن السياسة والمسرح؛ وألفى مالبيرو في القس الفتى رفيقاً مؤنساً فاصطفاه واتخذه سميره وخله الحميم ومعاونه على تنظيم حفلاته الأنيقة؛ وكان كازانوفا في الواقع يتمتع في هذا الميدان بكثير من حسن الذوق والشمائل الرقيقة، فيتقدم لخدمة السيدات برشاقة ويخلب ألبابهن بظرفه، ويسبغ بحركاته وأحاديثه على الحفل كله مسحة من البهجة والرواء
وكانت البندقية يومئذ - في منتصف القرن الثامن عشر - منزل اللهو والمرح، تموج في الليل بالمسارح ودور اللهو، وتغمرها لمحة ساطعة من بهائها السابق؛ وكان الحب يرفرف على أرجائها وتنساب القوارب النحيلة في شوارعها المائية تحمل أزواج المحبين تحت جنح الظلام وأضواء القمر، وتقرع كؤوس الهوى في كل ناحية، ويسود الحبور والبهجة؛ وكان كازانوفا يخوض هذه الغمار المرحة سعيدا منعماً، ويستمرئ هذه المناظر البديعة التي تقدمها إليه المدينة التالدة، في ظل الرعاية التي يشمله بها صديقه وحاميه السيد مالبيرو
بيد أنه لم يلبث أن فقد هذه الرعاية. ذلك أنه كان للسيد مالبيرو صاحبة فتية حسناء تدعى تيريز، وكان كازانوفا يرنو إليها ويحوم حولها، ففي ذات يوم استطاع أن ينفرد بها في أحد(144/19)
المخادع، وبينا هو يبثها جواه، إذ فاجأهما مالبيرو فانهال عليه ضرباً بعصاه، وطرده من منزله شر طرد، وفقد كازانوفا بذلك أكبر عضد، وأقصى عن ذلك المجتمع الساطع الذي كان يغشاه؛ وتولته على أثر ذلك نوبة من اليأس والكمد؛ وكانت جدته قد توفيت قبل ذلك بقليل، فأخذ يتصرف في مقتنيات المنزل ويبددها، واضطر الوصي على أخوته إلى التدخل، ووصل الأمر إلى القضاء فقبض عليه وأودع السجن؛ وفقد أثناء ذلك منصبه الديني وأخرج من حضيرة الكنيسة؛ ولما أطلق سراحه بعد ذلك بقليل، شعر أن البندقية تضيق به وبمشاريعه وأنه لم يبق له فيها أمل أو مقام
وكانت أمه قد كتبت إليه توصيه بالسفر إلى أسقف كالابريا فهو صديق لها وفي وسعه أن يعاونه وأن يوصي به؛ فعول عندئذ على السفر إلى رومه، ولكن الأسقف كان قد غادرها إلى مقر وظيفته في الجنوب؛ وكانت نقوده القليلة قد نفدت، وساءت حاله، واضطر أن يلتمس العيش بأخس الوسائل؛ وتعرف أثناء الطريق بتاجر يوناني يتاجر في الزئبق، واتفق معه على طريقة لغش الزئبق وتحصيل ثمنه مضاعفاً، واستطاع بهذه الوسيلة أن يكسب قدراً من المال؛ ووصل أخيراً إلى مارتيرانو مقر الأسقف، ولكنه شعر بآماله تتحطم حينما رأى حالة الأسقف الزرية من منزل قفر متهدم، وبؤس ظاهر، وعزلة قاتلة؛ فارتد أدراجه إلى نابولي ومعه بقية من المال؛ وهنالك بسم له الحظ، وقضى بضعة أيام سعيدة، تعرف خلالها بامرأة حسناء تدعى لوكريزيا وتوثقت علائقه معها بسرعة، وكانت في الواقع أول صاحبة حقيقية خضعت لسلطان هواه
ثم نراه بعد ذلك في رومه يطرق الأبواب ويحاول أن يشق طريقه؛ وقد كان عندئذ موفقاً إذ استطاع أن يلتحق بوظيفة في حاشية الكردينال اكوافيفا؛ وقضى حيناً في رومه يستزيد من الدرس وينعم بصحبة لوكريزيا، ويهيئ لنفسه جواً من الرعاية والعطف بذكائه وذلاقته ورقة شمائله
على أن هذه الحياة الهادئة المستقرة لم تكن لتروق فتى مضطرم الجوانح مثل كازانوفا، فقد كانت نفسه الوثابة الظمأى إلى المغامرة تحمله إلى آفاق أخرى؛ وكان شبح المرأة يثيره ويلهبه أينما وجد؛ وسرعان ما لفت الأنظار بفضائحه ودسائسه الغرامية وتفاقم الأمر حينما أتهم بإغراء سيدة تمت إلى بعض الأحبار بصلات وثيقة؛ ففقد وظيفته ومركزه مرة أخرى،(144/20)
ورأى نفسه مرغماً على مغادرة رومه فغادرها إلى قسطنطينية يحدوه دائماً ظمأ المغامرة وتدفعه طلعة التجوال
ثم عاد إلى البندقية ولكن عاد إليها في ثياب ضابط. ذلك أنه مر في طريقه بالمعسكرات النمسوية والأسبانية، وحصل على ترخيص بالانتظام في سلك الجيش، وقدر أنه يستطيع أن يخلق له في ظل هذا الثوب حياة جديدة، ولكنه لم يحرز ترقية نظراً لسوء سلوكه، فخلع ثوبه العسكري واشتغل مدى حين كاتباً في مكتب محام، ولكنه لم يسكن طويلاً إلى هذا المنصب الوضيع؛ وأخيرا ذكر أنه يستطيع العزف على القيثارة مذ كان صبياً يدرس في بادوا، فانتظم عازفاً في إحدى الفرق المتواضعة؛ وفي ذات ليلة تعرف بسيد كبير وشيخ سابق يدعى براجادين في حفلة كان يعزف فيها، وقدر أن أصيب هذا الشيخ في نفس الليلة بنوبة صرع، وكان كازانوفا إلى جانبه في قاربه، فهرع إلى غوثه واستدعى له طبيباً، ولبث يعنى به حتى شفى، فعرف له براجادين هذه اليد، وقربه إليه وأنزله بقصره الفخم وأجرى عليه النفقة الواسعة، واستطاع كازانوفا في نفس الوقت أن يؤثر في مضيفه بمزاعمه في معرفة الغيب وضروب السحر، وأن يكسب ثقته، وأن يعود بفضل رعايته فيغزو ذلك المجتمع الرفيع الذي أقصي عنه مدى حين
(للبحث بقية)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(144/21)
عشر كلمات
مهداة إلى (الأستاذ الزيات)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 1 -
قال الله تعالى: (يا أيها الّذينَ آمنوا اصبروا وصابروا) (ولنَبْلُوَنّكم بشيء من الخوفِ والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين). (ولنَبْلونكم حتى نعلَم المجاهدين منكم والصابرين). (واستعينوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين) (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)
- 2 -
قال أبو سنان: دفنت ابني سناناً، وأبو طلحة الخولاني جالس على شفير القبر، فلما فرغت قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة وسموه بيت الحمد
وعن أنس قال: اشتكى ابن لأبي طلحة فمات وأبو طلحة خارج ولم يعلم، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحّته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة، قال: كيف الغلام؟ قالت قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح؛ فظنّ أبو طلحة أنها صادقة، ثم قربت له العشاء، ووطّأت له الفراش، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته بموت الغلام، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره، فقال: لعّله أن يبارك لكما في ليلتكما، فجاءهما تسعة أولاد كلهم قرءوا القرآن
- 3 -
قال محمد بن خلف: كان لإبراهيم الحربي ابن، وكان له إحدى عشرة سنة، قد حفظ القرآن، ولقنه من الفقه شيئاً كثيراً، فمات، فجئت أعزيه، فقال لي: كنت اشتهي موته. فقلت: يا أبا اسحق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبيّ قد أنجب، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم،(144/22)
رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم القلال فيها الماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكأن اليوم حار شديد حره، فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، فنظر إليّ فقال: لا، ليس أنت أبي، فقلت: فأيش أنتم؟ قال: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء، فلهذا تمنيت موته
- 4 -
كتب سعيد بن حميد إلى محمد بن عبد الله: ليس المعزّى على سلوك السبيل التي سلكها الناس من قبله، والمضيّ على السنة التي سنها صالحوا السلف له، وقد بلغني ما حدث من قضاء الله في أم الأمير، فنالني من ألم الرزية، وفاجع المصيبة ما ينال خدمه الذين يخصهم ما خصه من النعم، ويتصرفون معه فيما تناوله الله به من المحن، فأعظم الله للأمير الأجر، واجزل له المثوبة والذخر، ولا أراه في نعمة عنده نقصاً، ووفقه عند النعم للشكر الموجب للمزيد، وعند المحن للصبر المحرز للثواب، إنه هو الكريم الوهاب، ورحم الله الماضية رحمة من رضى سعيه، وجازاه بأحسن عمله، ولو كانت السبل إلى الشخوص إلى باب الأمير سهلة، لكان الله قد أجلّ الأمير عن أن يعزيه مثلي بالرسول دون اللقاء، وبالكتاب دون الشفاه؛ ولكن الكتاب لقاء من لا سبيل له إلى الحركة، وقبول العذر عمن حيل بينه وبين الواجب
- 5 -
لما حضرت الإسكندر الوفاة كتب إلى أمه أن اصنعي طعاماً ويحضره الناس، ثم تقدمي إليهم ألا يأكل منه محزون، ففعلت، فلم يبسط أحد إليه يده، فقالت: مالكم لا تأكلون؟ فقالوا: إنك تقدمت إلينا ألا يأكل منه محزون، وليس منا إلا من أصيب بحميم أو قريب. فقالت: مات والله أبني، وما أوصى إليّ بهذا إلا ليعزيني
- 6 -
كتب ابن السماك إلى الرشيد يعزيه عن ابن له: أما بعد، فإن استطعت أن يكون شكرك لله حين قبضه، أكثر من شكرك له حين وهبه فافعل، فإنه حين قبضه أحرز لك هبته، ولو سلم لم تسلم من فتنته، أرأيت حزنك على ذهابه، وتلهفك لفراقه؟ أرضيت الدار لنفسك(144/23)
فترضاها لأبيك؟ أما هو فقد خلص من الكدر، وبقيت أنت معلقاً بالخطر؛ واعلم أن المصيبة مصيبتان إن جزعت، وإنما هي واحدة إن صبرت، فلا تجمع الأمرين على نفسك
- 7 -
قدم رجل من عبس، ضرير محطوم الوجه على الوليد، فسأله عن سبب ضرّه، فقال بت ليلة في بطن واد ولا أعلم على الأرض عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فأذهب ما كان لي من أهل ومال وولد، إلا صبياً رضيعاً، وبعيراً صعباً، فنذّ البعير والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير لأحبسه، فما جاوزت إلا ورأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته واتبعت البعير فاستدار ورمحني رمحة حطم بها وجهي، وأذهب عيني. فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد
فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه، وكان عروة بن الزبير أصيب بابن له وأصابه الداء الخبيث في إحدى رجليه فقطعها، فكان يقول: كانوا أربعة - يعني بنيه - فأبقيت ثلاثة وأخذت واحداً، وكن أربعاً - يعني يديه ورجليه - فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثة؛ أحمدك، لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت أبقيت لقد عافيت. وشخص إلى المدينة فأتاه الناس يبكون ويتوجعون، فقال: إن كنتم تعدونني للسباق والصراع فقد أودى، وإن كنتم تعدونني للسان والجاه فقد أبقى الله خيراً كثيراً. .
- 8 -
وعزى موسى بن المهدي سليمان بن أبي جعفر عن ابن له فقال: أيسرك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة؟
وعزّى سهل بن هارون فقال: التهنئة على آجل الثواب، أولى من التعزية على ما حلّ من المصيبة
وقال عبد الله بن الأهتم: مات لي ابن وأنا بمكة، فجزعت عليه جزعاً شديداً، فدخل عليّ ابن جُريج يعزيني، فقال يا أبا محمد، اسلُ صبرا واحتساباً، قبل أن تسلو غفلة ونسياناً
وعزّى عليّ كرم الله وجهه الأشعث عن ابنه، فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم، وإن تصبر فإن في الله خلفاً من كل هالك، مع أنك إن صبرت جرى عليك القدر(144/24)
وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت آثم
- 9 -
جزع رجل على ابن له فشكى ذلك إلى الحسن، فقال له: هل كان أبنك يغيب عنك؟ قال: نعم، كان مغيبه عني أكثر من حضوره. قال: فاتركه غائباً، فإنه لم يغب عنك غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه الغيبة
- 10 -
وكتب بعض الكتاب معزياً: لو كان يمسك من أذى يشترى أو يفتدى، رجوت أن أكون غير باخل بما تضن به النفوس، وأن أكون سترا بينك وبين كل ملم ومحذور، فأعظم الله أجرك، وأجزل ذخرك، ولا خذل صبرك، ولا جعل للشيطان حظا فيك ولا سبيلا عليك
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
علي الطنطاوي(144/25)
5 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
لقد بلغنا من البحث ذلك المبلغ الذي يهيئ لنا أن نخلص إلى النتائج، فقد شرحنا الأسباب التي أفضت بنا إلى تخريج متعلمين عاطلين لا عمل لهم، ولا بيئة يمكن أن ينتفع فيها بما تعلموا، وصورنا مجمل النتائج الاجتماعية التي تترتب على هذه الحال، وطبقنا النظريات الاجتماعية فاستنبطنا منها صورة لما سوف يكون عليه مجتمعنا في المستقبل القريب والنتائج السيئة التي ستظهر آثارها جلية واضحة في عجزنا عن الاحتفاظ بحملة اجتماعية ثابتة قوية الأركان، وعطفنا من ثم على وصف صورة من أدبنا ووطنيتنا، وعزونا كل النقائص إلى نظرية جديدة محصلها أن الانفصال عن ثقافتنا التقليدية كان سبباً في أن نصبح ككائن حي لا معدة له، يأكل ولا يهضم، فتراكمت في كيانه كل النفايات التي لا تلائم طبعه ولا تتفق ومزاجه، وأن ذلك كان سبباً في ألا تظهر له شخصية خاصة به، وأصبح كَلاًّ على غيره بأن فقد استقلاله الذاتي في الحياة
ويجدر بنا بعد ذلك أن نعين مم تتكون الثقافة التقليدية، ليتيسر لنا أن نحدد البحث تحديداً منطقياً مقبولا، فإن لكل ثقافة تقليدية اختصت بها أمة من الأمم مكونات تنتهي إلى أصول بعينها؛ وعندي أن للثقافة التقليدية عنصرين: الأول عنصر عقلي، والثاني عنصر معاشي، وكلاهما موروث؛ فالأول يتكون وراثة من اللغة والدين والتاريخ والأدب والفنون الخ، والثاني يتكون وراثة من كل ما يتعلق بالأحوال المعاشية، وهي في مصر الزراعة وما يتعلق بها من المنتجات، ومن أجل أن يكمل استقلال الفرد استقلالا عملياً في الحياة، ينبغي أن يتجه تنشيئه إلى أصل أساسي، وبالأحرى إلى سياسة عملية ترمي إلى وصله بالعنصرين وصلا وثيقاً، حتى يستطيع أن يمثل جميع ما يلقح به من مقتضيات الثقافة الحديثة، فيكفيها على حسب ما تتطلبه حاجات ثقافته التقليدية، وأن ينفي عن جسمه كل ما هو غير ملائم له، فيضل سليما؛ شأن كائن اتصف بكل ما تمده به حيوية مكتملة من الصفات الضرورية للحياة، وتتكافأ في كيانه كل الأعمال المنظمة التي ترجع إلى قدرة أعضائه على تنظيم وظائفها المتبادلة تنظيما دقيقاً يساعد الطبيعة على أن تفسح له في الحياة مركزاً جديراً بما يتصف به من صفات، وبما له من مقدرة على الاستقلال بذاته(144/26)
تتصل مصر بثقافتين من أمجد الثقافات التي خلفها النوع الإنساني: ثقافة العرب: ديناً ولغة؛ وثقافة المصريين: فناً وحياة؛ ولاشك في أن الثقافتين تمتزجان الآن في المصريين امتزاجاً عظيما، حتى ليتعين علينا أن نقول إن ما نعني بالثقافة التقليدية ينحصر فيما ينتج مزيج الثقافتين القديمتين من حالات تشعر بأن ماضينا مكون منها، وأن دمنا ملقح بها، وأن تصوراتنا وأخيلتنا ومشاعرنا وجماع ما فينا من صفات إنما تنعكس عنها وتنبعث منها. وكذلك إذا قلنا (المصرية) فإنا لا نعني بها شيئاً إلا مزيج تينك الثقافتين المجيدتين اللتين كونتا لنا على مرور العصور تراثاً قوياً نستند إليه، ودعامة مثلى لمجد ينتظرنا إذا نحن استوحيناهما واسترشدنا بوحيهما، واتخذناهما أساسا نقيم عليه لمستقبلنا، ولم نعزف عنهما شأننا الآن
وإذن يكون لنا من ثقافتنا التقليدية ناحيتان: الأولى ثقافة تزودنا بها اللغة العربية والدين الإسلامي؛ وهذه الناحية تكون أكثر ما فينا من نزعات الأدب والعلم؛ والثانية ثقافة تزودنا بها مصر لقديمة؛ وهذه بدورها تكون متجهنا الفني والمعاشي، ومنهما معا يتكون ذلك التراث الخالد الذي ندعوه ثقافة المصرين التقليدية
ولن يكون هذا البحث كاملا إلا إذا عرفنا قيمة اتصالنا بهذه الثقافة ومقدار ما نحتاج إليها في تكوين نهضتنا الحديثة تكوينا نضمن معه الثمرة العملية التي ترجى من جيل جديد قادر على الكفاح في الحياة، والعمل المنتج الذي يعيننا على إقرار الحالات الاجتماعية على أساس ثابت، وآمل أن أكون قد أفلحت بعض الشيء في تصوير ذلك في سياق هذا البحث
لا ريبة في أن التعليم العام هو الأداة التي تمهد لنا سبيل الاتصال بثقافتنا، ولقد وضح لنا حتى الآن أن السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا قد أضعفت من وسائل هذه الأداة أضعافا ظهر أثره جليا في كل مرافقنا، بل وفي كل نواحي حياتنا عقلية ومادية
عمد الأوربيون منذ عصر النهضة الأدبية الحديثة إلى الاتصال بثقافتين أوربيتين كانتا العماد الأول والسنادة العظمى في تلك النهضة. عمدوا إلى ثقافة اليونان وثقافة الرومان، حتى لقد غالوا في ذلك باتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية في العلم وفي الأدب وفي الفن، فأحيوا بذلك ثقافتين لم يكن لهم مناص من إحيائهما لتكونا الوصلة بينهم وبين ماض صبغ ثقافته حوض البحر المتوسط قروناً بصبغة خاصة ولون خاص؛ ولا تزال جامعات أوربا(144/27)
حتى اليوم تعنى العناية كلها بتلقيح عقول الناشئين بتراث الثقافتين معاً، بل وتجعل درس اللغتين اليونانية واللاتينية أصلا من أصول التثقيف العالي، فلم كان ذلك؟ ولأي من الأسباب الحيوية التي شعر بها الأوربيون في بدء نهضتهم ترجع هذه الظاهرة؟ إنها ترجع كما قلنا إلى أن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يجب أن يضل ثابتا في بناء الأمم الأدبي والاجتماعي، ليكون ملقحا للآراء والنظريات وضروب الثقافات الدخيلة، احتفاظا بالطابع الأصيل في الأمة، ذلك الطابع الذي هو جزء من كيانها وقطعة من وجودها، وليكون في الوقت ذاته العدة في تمثيل ما يتصل بثقافة الأمة من الثقافات المنتحلة غير الأصيلة، وتكييفها تكييفا يتفق ونزعاتها ومشاعرها وأخيلتها، وعلى الجملة يتفق وثقافتها التقليدية. فهل اتبعنا في نهضتنا هذا السبيل القويم؟ وهل كفل لنا التعليم الوصول إلى هذه الغايات العليا؟
كلاَّ. لم يكفل لنا التعليم شيئاً من هذا. وأقصد به التعليم بناحيته: الناحية التي تمثل وراثتنا عن العرب لغة وديناً، وأعني بها الأزهر، فإنه لم يلقح بشيء من الثقافات الحديثة التي يجب أن يلقح بها لتكون له بمثابة الدم الجديد يجري في العروق القديمة. وكذلك لم تعن الناحية التي تمثل ثقافتنا الدخيلة: أي الثقافة الأوربية وأعني بها ناحية التعليم الزمني، بأن تكوّن فينا تلك الفطرة التي تصلنا بثقافتنا التقليدية لتكون معملا حديثاً يتحلل فيه ما يصلنا عن أوربا، ويخرج منها مصبوغاً بصبغة مصرية أصيلة. ومثل الأزهر في ذلك كمثل كائن حي هَضمَ ولم يأكل، ومثل التعليم الزمني كمثل كائن حي أكل ولم يهضم. فناحية جائعة وناحية متخومة
لقد ظل اتصال الأزهر بذلك الجزء الذي يمثله من ثقافتنا التقليدية غير مكيف بمقتضيات العصور والحالات التي قامت خلالها وهو أقل تكيفاً بمقتضيات هذا العصر منه بمقتضيات كل عصر مضى. أما إذا كانت كلمة الثقافة تدل على تكييف الذهن تكييفاً تاريخياً أول شيء - ونقصد بالتكييف التاريخي خلق تصورات جديدة من تاريخ الأمم القديمة - فما من شك إذن في أن الأزهر لم يتصل بالثقافة التقليدية من ناحيتها التي تخلق هذا التصور، وإنما اتصل بناحية من الثقافة التقليدية صدت التصوّرات عن الابتعاث في سبيل الابتكار. وكذلك ظل تعليمنا الزمني بعيداً عن الاتصال بثقافتنا التقليدية من جميع نواحيها تقريباً. ومن هنا(144/28)
ذلك الصدع المتنائي الذي نلحظه قائما بين الناحيتين
ولقد يخيل إلى أن ما مضينا فيه من بحث هذه الناحية كاف للبيان عما نقصده من ضرورة الاتصال بثقافتنا التقليدية من الوجهة العقلية. أما الوجهة الفنية المعاشية، وهي الناحية التي لها الأثر الأكبر في علاج الحالات الاجتماعية التي قامت حفافينا من الناحية الاقتصادية، فتلك ما سوف أصور كيفية الاتصال بها تصوراً عملياً لأن ذلك هو الغرض الأول من بحثنا هذا
إذا كنا ما قلنا صحيحاً من أن البطالة في مصر والتعليم أمران متصلان أشد الاتصال، باعتبار أن أحدهما مرض والثاني علاج، فالواجب يقضي علينا بعد أن أظهرنا أوجه الاتصال أن نبين عن الطريق العملي الذي يجعل العلاج ناجعاً في القضاء على الداء. ولما كانت ثقافتنا التقليدية من الوجهة المعاشية هي الزراعة تحتم علينا بحكم الضرورة أن ننقل درجتي التعليم الأوليين، أي الابتدائي والثانوي، وهما الدرجتان التكوينيتان في مراحل التعليم، من المدن إلى القرى، وأن نقيمهما على سياسة تختلف اختلافاً تاماً عن السياسة التي يجريان عليها الآن
تجري سياسة التعليم الآن في هاتين المرحلتين على أساس نظري بعيد عن أن يجعل لنا أي اتصال بثقافتنا التقليدية، من وجهتيها العقلية والمعاشية. وإني لا أكون مغالياً إذا قلت إن هذه السياسة لا تصلنا بثقافة أوربا أيضاً بحيث تجعلنا قادرين على فهم ما ننقل منها فهماً صحيحاً مفيداً. وما قولك في شاب يخرج من التعليم الثانوي جاهلاً بلغته العربية وأصولها وآدابها غير متصل بآداب دينه، غير عارف بشيء من تاريخ بلاده، وبالأحرى من تاريخ العرب أو تاريخ مصر، عاجز عن التعبير تعبيراً صحيحاً بأي من اللغتين الأوربيتين اللتين يتلقاهما في مراحل ذلك التعليم؟ أضف إلى ذلك أنه بجانب هذا يخرج من التعليم الثانوي غير متصل بشيء من ثقافة بلاده التقليدية من الوجهة المعاشية، غير متصل بطبيعة الأرض التي أنشأته أو بطرق استغلالها مشحون الذهن بنظريات وأوهام يتعذر معها أن يعايش الفلاح وأن يدرك شيئاً من سر حياته وتقاليده وخطراته ونفسيته. فكأننا بهذا التعليم نخلق من حوله جواً مصطنعا وبيئة عقلية غريبة عن طبعه؛ فيصبح بذلك أداة عاطلة في جسم الاجتماع وبزرة حية للتبرم من الحالات القائمة من حوله في مرباه، بل(144/29)
ومنشأ للقلق ومرتعا لغرس الأفكار المتطرفة الخاطئة؛ وعلى الجملة يكون موضعا خصبا لغرس بذور الشر والفساد، والعمل على قلب النظم الاجتماعية طمعاً في الحصول على نظم تلائم كفاياته وتتفق ومؤهلاته التي أهله لها التعليم. ذلك بأن كل عقلية لها تكوين خاص تنشد من طريقه دائماً البيئة التي ترضيها، وعجز المتعلم العاطل عن الإنتاج إنما يحمله بمقتضى موحيات عقله الباطن على أن يعمل على تكوين البيئة التي تلائمه متخذاً من النظم الاجتماعية التي نشأ فيها مادة يجرب فيها مقدار ما في نفسه من قوة التحليل، لا من قوة التشييد، على خلق البيئة التي ترضيه، والنظم التي توائم عقليته وكفاياته
إن الخطوة الأولى التي ندعو إليها وهي نقل درجتي التعليم الأولين من المدن إلى القرى، لخطوة ضرورية في علاج سياسة التعليم، وهي الخطوة الأساسية في وصل التعليم بثقافة البلاد التقليدية من الوجهة المعاشية. أما الخطوة الثانية فتنحصر في إقامة مدارس الحقول، فتشيد المدرسة على أرض فسيحة تكفي لأن تكون ميداناً يتعلم فيه الطلاب طرق الزراعة العلمية على القواعد الحديثة، ويجب مع هذا أن تلغى الشهادة الابتدائية ويكتفى بشهادة التعليم الثانوي، وأن يبدأ الطالب حياته التعليمية من الثامنة، ويفرغ من تعليمه الثانوي بعد عشرين سنة، فيخرج من المدرسة وله من العمر ثماني عشرة سنة أو عشرون سنة. فإذا أراد أن يتخصص بعد ذلك في التعليم العالي فله ذلك ولكن بعد أن يكون قد اتصل بثقافة بلاده التقليدية، وقامت معلوماته على أساس عملي رشيد، يكون إليه مرد رزقه إذا تخصص وعجز عن كسب رزقه الحلال.
هذا هيكل من الرأي يحتاج إلى شرح وجيز. فأننا لا نعني أن تعليم الطلاب في تلك المدارس الزراعة العملية يجب ألا يصل الطالب بالناحية النظرية، وإنما نعني أن يكون أساس التعليم فيها الزراعة العملية وما يتصل بها من العلوم، وبجانب ذلك تعليم نظري قائم في أول الأمر على الاتصال بثقافة المصريين التقليدية من الوجهة العقلية، مع العناية بأمر اللغات الأوربية عناية كبرى حتى يتيسر لنا الاتصال بثقافة العصر اتصالاً وثيقاً صحيحاً
أضف إلى ذلك أن الطالب ينبغي أن يلقن كل ما يتصل بالإنتاج الصناعي من الوجهة الزراعية، فيخرج ملماً بطائفة من الصناعات المتصلة بمحصولات بلاده الزراعية عارفاً بسرها ووجهة الانتفاع بها. وإني لن أغلي إذا قلت إن كثيراً من الذين ينجحون من أهل(144/30)
أوربا في بلادنا أكثر اتصالا بثقافة بلادنا التقليدية من الوجهة المعاشية من الطالب المتخرج في كلية عليا من كلياتنا. وفي هذا سر نجاحه العملي وسر عطل شبابنا عن العمل. ولهذا يتحتم علينا أن ندعو إلى نشر الصناعات، ولكن الصناعات التي تتصل أو شيء بمنتوجاتنا الزراعية، وأن نصدف عن غيرها لأنها لا تفيدنا شيئاً في حياتنا المعاشية أو تثبيت حالاتنا الاجتماعية المرتجة الشاذة. وبخاصة إذا وعينا أن دور التعليم على اختلاف نواحيها تخرج كل عام عدداً من المتعلمين تعليما غير عملي زائداً عن حاجة البلاد.
وإنما يجب أن يتجه التعليم في الحقول إلى غاية أخلاقية، محصلها أن يغرس في طبيعة المتعلمين تصور جديد في شرف المهنة التقليدية التي ورثناها عن أسلافنا، ألا وهي الزراعة. فإن التلميذ يجب أن يضع يده في كل عمل يمكن أن يؤديه الفلاح بنفسه، وأن يتصل من طريق عضلاته بكل ما تتطلب مهنة الزراعة من أعمال جسمانية، وأنه لا يرى في ذلك شيئاً خادشاً لعزته أو مذلا لنفسه
أورثتنا الحكم التركي المشؤوم عادة احتقار الفلاح، لأن كلمة (فلاح) كانت توازي عند التركي أحط ألفاظ الشتم وأشنع كلمات السباب. ولطول الأمد الذي اعتدنا أن نسمع فيه هذه الكلمة مؤدية ذلك المعنى غرس في طبيعة المصريين أنفسهم، بطريق التكرار ومستوعيات العقل الباطن، ميل إلى احتقار الفلاح واحتقار مهنته، والاعتقاد بأن العمل اليدوي في الزراعة إنما هو عقاب نفسي مرهق للنفس خادش للذة. وأنت ترى أن الأعراب في مصر قد انتحلوا هذه العادة. فإنك إذا سألت أعرابياً أفلاح أنت؟ أجابك على الفور: (كلا! أنا عربي!) ولكن بنبرات تدل على أنه يعتبر الكلمة اعتداء على مكانته السامية، وقد يكون من خشاش الناس ومن ذؤبان العرب، مهلهل الثياب قذر المنظر والمخبر.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل إنك تجد أن الفلاح إذا قضى خدمته العسكرية وسرح من الجيش أنف أن يعود إلى الحقل أو أن يحمل المحراث أو يقود الماشية؛ فإذا عجز عن أن يكون شرطياً، قضى وقته في القرية عاطلا أو محترفاً حرفة أخرى غير الزراعة، فتجده نجاراً أو حداداً لا يملك قوت يومه. وقد يتطرف بعضهم في احتقار مهنة آبائه فيغشى المجالس عازفاً على قيثارة، لأنه كان في موسيقى الجيش، مستجدياً بها، كأنما هو يعتقد أن الاستجداء بالعزف على قيثارة أشرف من العمل في الحقول. ولاشك في أن هذه الظاهرة قد(144/31)
أورثت نقصا نفسيا يمكن تعليله علمياً، ولكن ليس هنا مكان إيضاحه. ولكن ذلك لا يحول دون القول بأن هذه الظاهرة من السهل علاجها بأن نعود أولادنا الاعتقاد بشرف المهنة التي تربي جسومهم، وعليها قامت مدينتهم منذ أقدم العصور، على أن نفهمهم أولاً أن لهم مدنية وماضيا جديرين بالاحترام
والمحصل أننا لن نخلص من نتائج البطالة إلا بالالتجاء إلى إقامة سياسة التعليم على قواعد جديدة أساسها الأول الرجوع إلى ثقافتنا التقليدية، فنخرج رجالا مستقلين بأنفسهم يعرفون كيف يرجعون إلى حضن أمهم الأولى (مصر) إذا أرادوا الحياة سعيدة هنية. ومن أجل أن نصل إلى هذه النتيجة ينبغي لنا أن ننتحي أسلوباً معيناً ينحصر في تنفيذ الآتي:
أولاً - جعل مدة التعليمين الابتدائي والثانوي عشر سنوات يمتزج فيها التعليم النظري بالتعليم العملي الزراعي، وأن يغرس في الطلاب روح الاعتقاد بشرف مهنة آبائهم التقليدية، وأن يقترن هذا التعليم بتلقين الصناعات الزراعية وبخاصة ما يتعلق بالزراعة العملية منها
ثانياً - درس تاريخ العرب والمصريين درساً تحليلياً وافياً
ثالثاً - درس مبادئ العلوم والآداب العامة، وهي الجهة التي تلقح بها عقولنا من الثقافة الحديثة
رابعاً - درس آداب العرب ومبادئ الدين العليا.
خامساً - درس عقائد المصريين القدماء وطرق معيشتهم وآثارهم وأعيادهم، وعلى الجملة كل ما يتعلق بحياة الجماعة في مصر القديمة
وهنالك بجانب هذا أشياء يجب أن يهيأ الناشئ بمعرفتها ولكنها جميعاً تفاريع عمل هذه الأصول فلا محل لذكرها
فإذا تخرج الطالب وله من العمر ثماني عشرة سنة أو عشرون أصبح على الحكومة له واجباً تؤديه، هو أن تمنحه قطعة من أرضها المملوكة لها يؤدي لها ثمناً قليلاً على أقساط طويلة، وأن تمده برأس مال إن احتاج إليه يسدد مع ثمن الأرض ليكون عونه على إعداد عدته لحياة العمل والكفاح
هذا طريق الخلاص، وهو وحده طريق القضاء على البطالة، وإخراج جيل جديد منشَّأٍ على(144/32)
طرق عملية، جيل مكافح عامل خال من آثار الأمراض الاجتماعية، جيل يشعر بأنه مستقل في الحياة وأن له عزة الرجولة وشرف الانتساب إلى مصر الخالدة، جيل، هو جيل الاستقلال الحقيقي والعمل لمجد النيل
إسماعيل مظهر(144/33)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسيّ، وكاشف ترياقها الألماني
- 1 -
في عام 1888 ألقى بستور من كفه المشارط والأنابيب، ونفض يده من الأبحاث، فقام تلميذه أميل رو فالتقط الذي ألقاه أستاذه، وغمر يده في الذي ترك سيده، واتخذ لنفسه بحثاً مستقلاً. فلم يمض قليل من الزمن حتى اكتشف سّماً غريباً يتحلّب من بَشِلاّت الدفتريا سمّاً تقتل الأوقية المركزة منه خمسة وسبعين ألف كلب كبير
وبعد هذا بسنوات قليلة، بينا كوخ يخفّض من رأسه نحت وابل الشتائم واللعنات التي صبها عليه من كانوا آمنوا بعلاج سلّه المزعوم ثم خُدِعوا فيه وجَنَوا منه الثُّكْل والأحزان، قام أحد تلاميذه، وكان شاعراً، فخفّف من إخفاق أستاذه كوخ بأن كشف في دم الخنازير الغينية عن مادة غريبة إذا هي التقت بسم الدفتريا ذهبت بشره وجعلته بَرداً على الناس وسلاما، وكان اسم هذا الشاعر العالم أميل بارنج
اكتشف أميل الفرنسي سم هذا الداء، واكتشف أميل الألماني ترياقه، فأحيا الأميلان الأمل في أنفس الناس بعد أن أضاعه كوخ بنكبته الكبرى؛ فعادوا ولو إلى حين يرجون أن تصبح المكروبات أصدقاء الإنسان بعد أن كانت أعداءه، وأن تصير لُعبات لا تضر، يتَلَّهى بها البُحاث ويتسلون من سأم وعناء
قام هذان الشابان بتجاربَ أي تجاربَ أي تجاربٍ لاستقصاء هذا الداء؛ قاما بها في هلعٍ مجنونٍ ليخلّصوا أرواح البرايا. شقا طريقهما إلى غايتهما في مجزرة لم تسمع الدنيا بمثلها. جزرا فيها عدداً لا يحصى من الخنازير الغينية، جزراها ليخلّصا من الموت عدداً أكبر لا(144/34)
يحصى من الأطفال المساكين. ففي الأمساء كانت معاملهم كميادين القتال في الأزمان الخوالي، حين كان الجند تُبقر بطونهم وتقطّع أوداجهم بالحراب تارة والنبال تارة أخرى. ضرب رو بأظفاره كالغول في أطحلة الموتى من الأطفال، ودار بارنج بين الدماء في ظلام من الجهل دامس حتى اصطدم أنفه بباب انفتح له عن حقائق وضّاءة باهرة ما كانت لتخطر على بال الإلهة
ولكنهما دفعا عن كل تجربة ناجحة ثمناً غالياً: ألفَ تجربة فاشلة، ولكن مع هذا، وبرغم هذا، قد اكتشفا الترياق
وما كان لهما أن يكتشفاه لولا أن سبقهما كشفٌ متواضع قام به فردريك لُفلار صياد المكروب الذي حمل على شفته شارباً ألمانيا حربيا علا واستطال حتى حجب بصره، فكان إذا نظر في المجهر نحّاه عن عينه؛ وكان يعمل لُفلار إلى يمين أستاذه كوخ في زمن البطولة الأولى حين كان يتصيد مكروب السل. ففي أوائل ذلك العقد التاسع من القرن الغابر كانت وطأة الدفتريا شديدة جداً، والدفتيريا داء تشتد وطأته وتلين في القرن الواحد مراراً. وامتلأت في المستشفيات عنابر الأطفال بالمرضى، وعلت أصوات أهليهم بنحيب لا فائدةَ منه تعود ولا نفع يُرجى، وخرجت من تلك الحلوق الصغيرة سعلة تصحبها قرقرة تنذر بأن الاختناق قريب، وتراءت وجوههم الصغيرة الزرقاء في وساداتهم البيضاء وقد ازرقّت من فعل اليد الخفية التي عصرت حلوقهم وضغطت على قلوبهم. ومشى الأطباء في هذه الأروقة يسترون يأس القلوب ببشاشة الوجوه، وساروا من سرير إلى سرير لا حول لهم ولا قّوة إلا أن يدسّوا في حلق طفل مختنق أنبوبة في هذا الغشاء الذي يسد عليه منفذ الهواء يحاولون بذلك أن يفتحوا له منفذاً إلى رئتيه
وقذفت خمسة أسرة من كل عشرة بأحمالها إلى رواق الأموات. وكان في أسفل الدار، وكان به لُفلار يعمل بجد لا يفتر، وهمة لا تضعف. كان يغلي مشارط، ويحمي في النار أسلاك البلاتين، ويدخلها إلى هذه الحلوق الجامدة من تلك الأجسام الهامدة التي أخفق الأطباء في طلب الحياة لها؛ ثم يخرجها منها وقد حملت مادة شهباء، فإما أن يدخلها في أنابيب رفيعة يسدها بنتافات من القطن بيضاء، وإما أن يضع عليها الأصباغ ثم ينظرها بالمجهر فيريه بَشِلاّتغريبة منتفخة الأطراف، وقد تنقّطت وتخططت بصبغته الجميلة الزرقاء، وكشف عن(144/35)
هذه البشلة في الحلوق جميعها، وأسرع يطلع أستاذه كوخ عليها
لاشك أن كوخ أخذ بيد لفلار أخذا وهو يكشف عن هذه البشلة. وكأني بك تسمع كوخ يقول له: (لا فائدة من النط إلى استنتاجات غير ناضجة، يجب عليك أول شيء أن تربيِّ هذا المكروب نقيا، ثم عليك بعد ذلك أن تحقنه في حيوانات، فإذا هي أصيبت بمرض يشبه دفتريا الإنسان تماما، إذن. . . .) كيف كان يضل لفلار وإلى جانبه هذا المتحذلق الشديد في حذلقته، هذا الحذر الغالي في حذره، طَلاّبُ الحقيقة وسيد قنّاص المكروب؟ كيف كان يضل لفلار وإلى جانبه هذا الداهية ينظر إليه ازورارا من نظارته التي ما كانت تفارق عينيه أبدا؟
وامتحن لفلار جثة طفل بعد أخرى، وفتش في كل جزء من أجزائها وهي طريحة تبعث الأسى في القلوب، وصبغ مائة سليخة مختلفة من كل عضو من أعضائها، ثم حاول أن يربيِّ هذه البشلات المخططة نقيّة، وأفلح في ذلك سريعا، ولكنه لم يجد هذه البشلات حيثما بحث في الأجساد إلا في الغشاء الذي بحلوقها، ودائما في هذه الحلوق، إلا طفل أو طفلين، كان يقع على هذه البشلات المنتفخة الأطراف، فتفكّر لفلار: (كيف تأتى لهذه المكروبات القلائل التي لا تحلّ من الجسم إلا في الحلق، كيف تأتىَّ لها وهي لا تفارق مكانها أن تقتل الطفل بمثل هذه السرعة؟ ولكن لعل الأولى بي أن أتبع ما قال السيد كوخ). وبدأ يحقن زريعاته من البشلات النقية في الأرانب في قصباتها الهوائية، وفي الخنازير الغينية تحت جلودها. وما أسرع ما ماتت هذه الحيوانات. ماتت في يومين أو ثلاثة كما يموت الطفل أو كانت أسبق إلى الموت. ثم أخذ يبحث عن المكروبات في أجسام هذه الحيوانات فلم يجدها إلا حيث دخلت الحقنة فحسب. . . . . . وأحيانا أعوزه وجودها حتى هنالك، إلا أن تكون وحدات منها قليلة ضعيفة لا تقوى على الإضرار ببرغوث صغير.
وتساءل لفلار: كيف أن قليلا من بشلات تحل من الجسم في ركن قصِيّ منه، كيف أنها في قلتها وعزلتها تستطيع أن تصرع هذا الجسم وهو في عظمه أكبر منها ملايين المرات
وكان لفلار باحثاً أميناً لا يفوقه في أمانته من البُحّاث أحد. وكان دقيقاً بطبعه فكانت تواتيه الدقة بغير عناء. وكان أقل الرجال حظا من الخيال الجامح فلم يتدخل شيء منه في نتائجه الدقيقة فيزينها - أم هو يفسدها - بالذي ليس منها. وجلس يوما إلى مكتبه وكتب رسالة(144/36)
علمية تتضمن خلاصة بحثه، فكانت مقالة متواضعة، باردة، لا تؤمل قارئها في شيء، ولا تحمسه لأمر. كانت على نقيض ما يكتب المحامون. وجادل فيها أمر هذه البشلات، أهي سبب الدفتريا وجرثومتها أم هي غير ذلك. ذكر كل الحقائق التي قد تؤدي إلى أنها جرثومتها حقا، وذكر كل الحقائق التي قد تؤدي إلى نقيض ذلك. تشبث بالأمانة تشبثا كبيراً، وكتب كل ما قد ينفي أن تكون هذه البشلة سبب الداء: وكأني بك تسمعه إذ يحدث نفسه وهو يكتب فيقول: (قد تكون هذه المكروبة هي السبب، ولكني في عدد قليل من جثث الأطفال لم أستطع أن أجدها. . . والحيوانات التي حقنتها لم يصبها شلل كالذي يصيب الأطفال. . . والحقيقة التي هي أشد مناقضة لي هي أني وجدت نفس هذه المكروبة - وهي تقتل الأرنب والخنزير الغينيّ - في حلق طفل ليس عليه من أعراض الدفتريا شيء)
وغالى في أمانته فلم يقدر بحثه الجميل الذي أتاه حق قدره، ولكنه في أخر رسالته كتب فقرة أوحى فيها بحل المعضل وفك المشكل وإيضاح السبيل إلى سر هذا الداء، إيضاح السبيل إلى غيره لا إلى نفسه، إلى الفرنسي رو وإلى الألماني بارنج اللذين جاءا من بعده وكانا أشد منه خيالاً وأنفذ به في المشكلات المعضلات بصيرة. غريب أمر لفلار! عرف السبيل الذي يسلكه لبلوغ الغاية، ولكن بدل أن يتحرك هو ويقوم على قدميه فيسلكها، إذا به يدل غيره فيفوز سواه بالحمد دونه. قال لفلار: (إن هذه البشلة تبقى على رقعة قليلة لا تخرج عنها في غشاءٍ ميّت في حلق الطفل المريض. وتبقى كذلك في مساحة ضيقة لا تعدوها تحت جلد الخنزير الغيني بعد حقنه. فهي لا تتكاثر فتصير ملايين وتعم الجسم كما نتوقع ولكنها مع ذلك تقتل حيث هي من مكانها! فكيف يكون هذا؟ لابد أنها تصنع سّما يخرج عنها فيسير وحده في الجسم حتى يصل إلى موضع منه قتّال. فلابد من التفتيش عن هذا السمّ ولابد من وجوده. فتشوا عنه في جثث الأطفال، أو فتشوا عنه في أجسام الخنازير الغينية التي قتلها الداء. نعم. نعم. أو فتشوا عنه في الحساء الذي تنموا فيه البشلة وتربو. . . إن الرجل الذي يكشف عن هذا السم سيثبت ما عجزت أنا عن إثباته)
هذا هو الحلم الذي أرآه لفلار؛ هذه هي الرجية التي ارتجاها؛ هذا هو المفتاح الذي وضعه لفلار في كف رو، والذي فتح به رو ما استغلق على لفلار
في العدد القادم: كيف أكتشف رو سم الدفتريا(144/37)
أحمد زكي(144/38)
الحياة الأدبية في لبنان
بقلم سامي الشقيفي
كتب الأستاذ علي الطنطاوي في عدد سلف من (الرسالة) عن الحياة الأدبية في دمشق، وفي عدد آخر تكلم الأستاذ عبد الوهاب الأمين عن الحياة الأدبية في العراق، فكان من الإنصاف لإتمام الفائدة أن نتكلم عن الحياة الأدبية في لبنان
ظواهر الحركة الأدبية في لبنان راكدة كما في سوريا والعراق. فالصحافة الأدبية تكاد تكون معدومة، أما التأليف والنشر فتمر الأسابيع والأشهر دون أن تخرج المطابع كتابا نفيسا؛ وجمهور الشباب معرض عن المنتوجات الأدبية العربية - الواقع أن إقبال الشباب في الأقطار العربية على الثقافة الأجنبية (وان يكن نفخ روحاً جديداً في الأدب العربي) قد أضر كثيرا بالحركة الأدبية خصوصاً في لبنان. فشبابنا المثقف حائر بين الأدب الغربي (العالمي حقاً) والأدب العربي الناقص بازائه. يقبل على الأول لأنه يرضي ذوقه وثقافته، ويجذبه إلى الأدب العربي نوع من الشعور الوطني. في مصر والعراق وسوريا - وهي بلدان مسلمة - يتعلم الشبان القرآن منذ صغرهم فينشئون وفي نفوسهم ملكة عربية لا تستطيع الآداب الأجنبية أن تطغي عليها. وليس الأمر كذلك في لبنان. ولولا البكالورية اللبنانية التي توجب على الطلاب درس الأدب العربي لأهمله هذا النشء الجديد دون ما تبكيت
وقد كانت الحركة الأدبية عندنا في لبنان إلى الأمس القريب تنجلي بقصيدة رثاء أو مدح أو مقالة شكوى أو كتاب لا يتعدى موضوعه المبتذل الفارغ؛ ولكن من الإنصاف أن نقول إن البعض من أدبائنا نشروا كتباً لا بأس بها وإن كان لا يرضى عنها الذوق الأدبي السائد اليوم، ومن هؤلاء الأدباء أمين الريحاني صاحب (ملوك العرب - ابن سعود - فيصل الأول - قلب العراق)، وعمر الفاخوري صاحب (غاندي - أناتول فرانس)، ولبيب الرياشي وجميل بيهم، وميخائيل نعيمه مؤلف (المراحل - جبران)، وسلمى صائغ كاتبة (النسمات) ونظيره زين الدين مؤلفة (السفور والحجاب)
وقد أثر على النشاط الأدبي عندنا المجتمعات التي كانت تعقدها سيدات على جانب وافر من العلم والذكاء، وهذه المجتمعات تشبه في أكثر النواحي صالونات أديبات فرنسا في(144/39)
القرن التاسع عشر. ومن أشهر سيداتنا الأديبات سلمى صائغ وحبوبة حداد وماري يني وجوليا طعمه. أما الصحافة التي يتجلى فيها النشاط الأدبي فقد كانت المجلات النسائية العديدة كالمرأة الجديدة والحياة الجديدة ومينرفا والخدر - وكان الاعتقاد السائد بين الأدباء أن المثل الأعلى في الأدب هو أدب القرن السابع عشر الفرنسي (وإن كانوا لم يطلعوا عليه)؛ والمتطرفون منهم كانوا يقتبسون من العصر الرومانتيكي - أما اليوم وقد نضج هذا الفوج من الأدباء الذين ذكرناهم ولا يرجى منهم أفضل مما أنتجوا، فقد هدمت حركتهم الأدبية وتوقفت مجلاتهم وأفسحوا المجال لغيرهم. فعندنا الآن فوج من الأدباء الشبان (لا يزالون زغب الحواصل فلم يطيروا بعد في الأجواء) كما قال أحد الكتاب، إلا أنهم أثروا على الأدب في لبنان. منهم عصبة العشرة التي بثت روحاً جديداً في الأدب ووجهت خطواته على غرار الأدب الغربي الحديث؛ ولكن حركتها ما عتمت أن سكنت ولما تؤد رسالتها على الوجه الأكمل الذي كانت ترجوه. وقامت أخيراً ندوة الاثني عشر تضم عددا من الشبان المثقفين ثقافة عالية يجتهدون للنهوض بالأدب في لبنان نهضة صحيحة من كل نواحيه؛ والأدب في لبنان يتجه نحو القصة لأنها تتحمل الدروس النفسانية ولأنها من أرقى صور الأدب؛ ومن أبرز الذين يعنون بالقصة خليل تقي الدين وتوفيق عواد ورئيف الخوري، وقد تطورت عقلية النشء الجديد من الأدباء على نحو الأدب الفرنسي الحديث حتى أن عندنا ما يدعونه الأدب العاري يبشر به فؤاد حبيش؛ وعندنا الأدب الشعبي ينشره توفيق عواد ورئيف الخوري؛ وهم يرون أن الأدب يجب أن يستمد مواده من كل مظاهر الحياة لا من خفايا النفس وعواطفها فقط
أما النقد الأدبي على الأساليب العلمية الحديثة فحامل لوائه في لبنان فؤاد البستاني الذي كان له الفضل الكبير في توجيه الشبان نحو الثقافة العربية بنشره سلسلة (الروائع)، وهو الآن يعد كتاباً عن عواصم الأدب يبحث في تأثير المحيط على الأدب. فلكي يفهمنا الأدب العباسي ويطلعنا عليه يصف لنا بيئته في بغداد؛ وفضل فؤاد البستاني الأكبر أنه دون سواه من الأدباء يشجع من يرى فيه سمات الأديب فيحثه على التأليف والنشر ويعضده بنفوذه الأدبي الكبير. وثمة نقادة آخر يمكننا أن نقارنه في كثير من النواحي بالأستاذ أحمد أمين، هو جبرائيل جبور الذي ينشر الآن كتاباً ضخماً عن عمر بن أبي ربيعة (دون جوان)(144/40)
العرب
وأما في الشعر فقد ساد أول الأمر محافظون ينظمون في الرثاء والمديح والغزل والفخر أيضاً لا يحيدون كثيراً عن أمراء الشعر في الأعصر الماضية، إنما كان يلمع في شعرهم وميض من التجدد وتسمع في أبياتهم رنة موسيقية عذبة. ومن أشهر الذين أجادوا أمين تقي الدين وبشاره الخوري. ثم جاء الشاعر الياس أبو شبكه فتطور معه الشعر بما حمله إليه من نفس صادق وبخروجه عن أدب المناسبات والمواضيع الجوفاء؛ وخطا يوسف غصوب بالشعر خطوة واسعة موفقة بديوانه (القفص المهجور). وكان المرحوم أديب مظهر أول من أدخل إلى الشعر العربي نظرية الشعر الرمزي التي يعتنقها اليوم شعراء مجيدون حقاً كصلاح لبكي وأمين نحله وسعيد عقل الذي نشر مسرحية شعرية موفقة جداً (بنت يفتاح). لن أسهب في الكلام عن الشعر الحديث في لبنان ولكن أكتفي بالقول أنه من أرقى ما عرفته الآداب العربية. وثمة شعر لبناني محض يمثل فرعاً لنفسه هو الشعر العامي، وقد ارتقى جداً وزعيمه الأول رشيد نخلة؛ ولقد تطور هذا النوع من الشعر على غرار الشعر الحديث؛ ومحدث هذا التطور ميشيل طراد فهو أيضاً ينهج نهج الشعراء (الرمزيين)، والشعر اللبناني هذا يمتاز بشدة تأثيره على النفس
وكان من إقبال اللبنانيين على الآداب الأجنبية أنهم أضحوا يؤلفون بهذه اللغات. وكُتُب الريحاني وجبران بالإنكليزية مثلاً مشهورة؛ وهنالك كتب في السياسة والحقوق باللغة الفرنسية. وآخر ما أنتجه اللبنانيون من دواوين شعر فرنسي كان له دوي بعيد في فرنسا ونال لأجله بعضهم الجوائز من محافل الأدب العالية كشارل قرم الذي نال جائزة ادجاربو في فرنسا لديوانه الجبل الملهم، وغيره أيضاَ
وينشط اللبنانيون جداً للتأليف باللغات الأجنبية، ولنقل أفضل مؤلفاتهم العربية إلى الفرنسية ليطلعوا الغرب على ثقافتهم (وهي مظهر رقيهم) ويأخذوا مكانهم في الأدب العالمي
والخلاصة أننا لسنا متشائمين من حال الأدب عندنا. بل ما نراه حولنا من مظاهر النشاط الكامن يبشرنا بمستقبل زاهر وبأن الحركة الأدبية في لبنان ستخطو خطوات بعيدة جداً
سامي الشقيفي(144/41)
في تاريخ الفقه الإسلامي
المحاضرة الثالثة
للدكتور يوسف شخت
الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية
تكلمنا في المحاضرتين السابقتين عن مسائل تتعلّق بثلاثة أدوار قديمة من تاريخ الشرع الإسلامي، وهي العصر الجاهلي - وليسمح لي بإدخاله في هذا النطاق الواسع - وعصر فقهاء المدينة السبعة، والعصر الذي تكونت فيه المذاهب الكبرى. فالآن، ونحن مستمرون على السير بموجب الترتيب الزمني، ننتهي إلى دور تندر مصادره؛ فمن العجب أن نلاحظ أنه لم يبلغنا إلا القليل جداً من مؤلفات الزمن بين بدايات المذاهب (التي توجد لها مصادر معاصرة ولو لو تطبع كلها) والنهضة العظيمة التي بلغها علم الفقه في القرن الخامس للهجرة، ونتيجة هذا الدور لابد أن تكون ذلك بالتنظيم والتنسيق للفقه الذي نشاهد أكمل مظاهره عند المذاهب الثلاثة في وقت واحد تقريبا: للحنفية على يد القدوري، وللشافعية على يد الغزالي، وللمالكية على يد سيدي خليل. ويلوح أنه ليس مستحيلاً أن نتمكن من اكتشاف وثائق أكثر تبياناً لهذا الدور الغامض، إذا ما وجدنا أن بعض مؤلفات أبي جعفر الطحاوي الفقيه المصري المشهور وبعض الكتب الأخرى التابعة لذلك العصر قد كانت حليفة البقاء. وقبل أن يتحقق هذا الأمل علينا أن نقتبس معلوماتنا من الكتب التي تعالج اختلاف الفقهاء، وهي كتب هدتنا المصادفة الغريبة إلى عدد غير قليل منها راجع إلى القرن الرابع الذي نبحث عنه، وهذا مما يبرر بضع ملاحظات على هذا النوع من كتب الفقه على العموم. فقد ذكرنا في محاضرتنا السابقة أول كتاب وضع في هذا الفن وهو كتاب الحجج لمحمد بن الحسن الشيباني. فهذا الكتاب يشترك مع بضع رسائل للشافعي في غرض يحتمل أنه أحدث هذا الفن كله، وهو مجادلة المعارضين التي تستلزم بطبيعة الحال إبداء آرائهم. وأما كتاب اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري الذي ذكرناه أيضاً قبلاً فيحل فيه محل هذا الغرض شيء آخر، هو المقارنة والموازنة بين أقوال المتقدمين تأسيساً لمذهب المؤلف نفسه؛ وأن هذا الكتاب أولى أن ينسب إلى القرن الثالث وإن كان مؤلفه قد(144/42)
مات في سنة ثلاثمائة وعشر. وهذان النوعان من كتب الاختلاف ظلا قائمين إلى القرن الرابع، وإلى جانبهما قد نشأ نوع آخر، وهو نوع الكتب التي تُثبت الآراء المتنافسة لغرض علمي محض. وأحياناً نجد المؤلف الواحد قد ألف في الاختلاف أكثر من كتاب واحد. من ذلك أن الطحاوي الذي أسلفنا ذكره ألف كتاب شرح معاني الآثار، وغرضه الراجح هو المجادلة بحيث أنه لا يذكر حتى أسماء خصومه، ولكن له أيضاً كتاب اختلاف الفقهاء الذي يدلي فيه برأيه الشخصي على أثر عرض الآراء المختلفة والأدلة الدالة عليها. وقد ألف معاصره محمد بن إبراهيم بن منذر النيسابوري كتاب الاختلاف الذي يمثل هذا النوع الثاني، كما ألف أيضاً كتابين من النوع الثالث وهما كتاب الإشراف على مذهب أهل العلم، والكتاب الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف؛ وهذا الاهتمام العلمي المحض قد حمله أيضاً على أن يجمع في كتاب الإجماع المسائل التي لا اختلاف فيها. أما المسائل المختلف فيها ضمن المذهب الحنفي فلدينا الروايات الثلاث لكتاب مختلف الرواية لأبي الليث السمرقندي، وهو أيضاً من النوع الثالث العلمي المحض. وقد ذكرت كل تلك الكتب تفصيلا لأنها على العموم غير معروفة إلا للقلائل برغم أهميتها، ولأنها لم تطبع بعد إلا شرح معاني الآثار للطحاوي. وأما أكثر الكتب المؤلفة في هذا الموضوع في زمن متأخر في القرن الخامس وما بعده، فلا يمكننا أن نوازي بينها وبين تلك المصادر القديمة، ولا ينبغي أن نعتبرها وسيلة يعتمد عليها في الحصول على معلومات جلَّية، لأن تلك الكتب كثيراً ما تناقض نفسها وتناقض حقيقة الأمر، أي أقوال المذاهب المشهورة. وذلك لأنها ليست قائمة على معلومات مباشرة بل يتوقف بعضها على بعض. كذلك كتاب الميزان للشعراني ليس إلا تغييراً لكتاب (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) للدمشقي، وهذا بدوره مختصر لكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن هبيرة إلى حدّ أن جميع الأغلاط الموجودة في ذلك الكتاب تتكرر في هذين. وينبغي ألا نؤاخذ ابن هبيرة بشدة بهذه الأغلاط لأن كتاب الإشراف ليس إلا رواية مستقلة لفصل من كتابه الكبير المسمى بالإفصاح عن معاني الصحاح، وهو شرح مفصل للأحاديث الصحيحة، ومضمون كتاب الإشراف كله وارد في كتاب الإفصاح شرحاً للحديث النبوي المشهور: اختلاف أمتي رحمة
إن أخبار المتأخرين من المؤلفين عن مبادئ مذاهبهم وأقوال الفقهاء الأقدمين يجب أن تقابَل(144/43)
على العموم بتحفظ شبيه بالتحفظ الذي ينبغي أن تقابل به كتب الاختلاف الأحدث عهداً، حتى ولو كان أولئك المؤلفون من أصحاب المذهب الذي يتحدثون عن أئمته. فإنا نشاهد في المذاهب ابتداء من القرن الخامس افتقاراً للروايات فيما يتعلق بأقوال أصاحبها الأولين، وهو مما يجعل دراسة مؤلفاتهم الأصلية أحرى وأوجب. وإني لأستمدّ أمثلتي من كتاب المخارج في الحيل لمحمد بن الحسن الشيباني السالف الذكر الذي لا ريب في صحته مقارناً له بشرح السرخسي المتأخر لأقوال محمد بن الحسن المروية في كتاب المبسوط. فالشيباني يقول في مسألة معينة على وجه الإجمال: (لا آمن أن يبرئه بعض الفقهاء.) ولكن السرخسي يعترف بأنه لا علم له بمن قال بهذا القول. والشيباني يقول في التحليل: إذا قال واحد منهم هذه المقالة (أي لو قالت الزوجة تزوجني فحللني، أو قال الزوج الأول تزوج هذه المرأة فحللها لي، أو قال الزوج الثاني أتزوجك فأحلك لزوجك الأول) لم تحل للزوج بهذا النكاح الثاني)؛ فالسرخسي في تعليقاته على هذا الكلام يقول: إن النكاح الثاني عند الشيباني صحيح، لكن التحليل في هذه الظروف لا يحصل، في حين أن النكاح الثاني عند أبي يوسف فاسد غير صحيح؛ ولكن السرخسي في موضع آخر ينسب القول الأول إلى أبي يوسف، والقول الثاني إلى محمد بن الحسن الشيباني. ويقول السرخسي في مسألة أخرى إنه يُنسَب إلى أبي يوسف قولان متناقضان دون أن يستطاع اعتبار أحدهما سابقاً، والآخر متأخراً، فهو مع ذلك يجهد نفسه في التوفيق بين القولين بوجه مفتعل. ويقول السرخسي في الحيل المستعملة لمنع الشفعة: (وعند محمد رحمه الله هو مكروه أشد الكراهة) وهذا ليس صحيحاً لأن الشيباني قد جمع أمثال تلك الحيل في باب طويل من كتابه المتقدم ذكره نقرأ فيه كلاماً كهذا: (أرأيت رجلا يريد أن يشتري داراً، ويخاف أن يأخذها جارها بالشفعة فكره أن يمنعه من ذلك فيظلمه، وكره أن يعطيه الدار فيدخل عليه ما يُكرَه. هل عندك في ذلك حيلة؟ قال: نعم الخ). وإليكم مسألة تدل على أن رأياً نُسب خطأ إلى أبي حنيفة قد ظفر بأن يصبح مسلم به في المذهب كله: فنقرأ في الفتاوي العالمكيرية: (فاعلم بأن الوقف على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصح مضافاً إلى ما بعد الموت بطريق الوصية، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله، ومحفوظنا أن الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله صحيح إذا كان مضافا إلى ما بعد الموت أو كان موصى به) ومع ذلك فالخبر الذي ذكره(144/44)
الخصاف هو الصحيح، لأن هذا يظهر من قول الشيباني نفسه في كتاب المخارج في الحيل. وقد أمكن أيضاً أن تتسرب أخبار ملفقة إلى حواشي كتب الشيباني حتى في زمن قديم جداً، وينبغي لهذا كله أن يتحاشى المرء قبول شهادة كتب أحدث عهداً في أقوال الأئمة الأقدمين من دون تمحيص. وسبب تلك الأغلاط يرجع قبل كل شيء إلى تضاؤل الاهتمام بآراء فقدت أهميتها العملية بعد التدوين النهائي للأحكام في المذاهب، ويرجع أيضاً إلى الظن الطبيعي أن تلك الأحكام المدونة هي عين الآراء الشخصية للأئمة الأقدمين، ويرجع أخيراً إلى استبدال عبارات مثل (في قياس قول أبي حنيفة) بعبارات أخرى مثل (في قول أبي حنيفة) فحسب، وهو شيء نراه حتى في الكتب القديمة جداً
وأخرى المسائل التي سنبحث عنها هي مسألة القانون العرفي في بلاد الإسلام، فبينا أن العلاقة بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية - كما رأينا - وجهة مركزية من تطور الفقه نفسه في الأدوار الأقدم عهداً فإن هذه العلاقة تصبح بعد ذلك عندما استقر الفقه في صورته النهائية مطلباً مستقلاً. ومن بينات القوة الروحية العظيمة التي استمتعت بها الشريعة أنها بلغت حد فرض نفسها على القانون العرفي؛ وإن كان هذا القانون قد بلغ من ناحيته أو كاد يبلغ حد احتكار العمل القانوني من الوجهة المادية؛ وهذا باد من أن الناس تحققوا وجود قانون عرفي يعارض كثيراً من الأحكام الشرعية، وأنهم فسروا هذا من الوجهة التاريخية بأن الأجيال المتأخرة لم تبلغ شأن السلف الصالح، ومن الوجهة الأخلاقية بمبدأ الضرورة التي أغنت عن العمل بالأحكام الشرعية. وعلى هذا النسق أوجد عالم مصري معاصر فيما يتعلق بالخلافة التي تناءى تاريخها أصلا عن قواعد الشرع، قواعدَ ثانوية موجهة إلى التطبيق العملي ولكنها مع ذلك مصنوعة على طراز تلك القواعد الشرعية. فأما ما يتعلق بالفقه فقد رأى أهله أن يوفقوا بينه وبين العرف على قدر المستطاع مما أفضى في التطور المتأخر للمذهب المالكي المغربي خصوصاً إلى أن يجيزوا عدة تصرفات عرفية لم تكن تعرفها الشريعة من قبل. أما العمل العرفي فكثيراً ما حاول أصحابه أن يحتفظوا بمظاهر المطابقة للشريعة على الأقل، في حين أن حقائق الأمور كانت بعيدة عنها بعداً شاسعاً؛ وهكذا أقاموا في حالة أخذ السارق والسكران عند ارتكاب الجريمة حدود السرقة والشرب رأساً معتقدين اعتقاداً صميما أنهم يطبقون الشريعة ولكن دون أن يعنوا بالإجراءات الدقيقة(144/45)
التي فرضتها الشريعة، وهكذا ذهب بعضهم إلى حد ذبح مجرم يستحق الموت وفاقاً لقواعد ذبح الضحايا. وأنظمة المحتسبٍ وناظر المظلم لا يراد بها إلا اجتياز الهوة التي تباعدت شقتها بين منطقة الشريعة ومنطقة الحياة القانونية العرفية، فلهذا ليست من الشريعة المحضة؛ ومنذ الزمن القديم كانت حاجة الشريعة محسوسة إلى أن يندمج فيها العرف القانوني وأن تتيح لمن يهمهم الأمرُ الوسائلَ لعقد تصرفات تقتضيها العادة مع مراعاة أحكام الشريعة الإلهية التي تجمع بين المخارج البسيطة والطرف الفقهية الأريبة. فبهذه الحيل يصل المرء من طريق تصرفات شرعية إلى نتائج تطابق الحاجات العملية، ولكن لا تسّلم بها قواعد الفقه رأساً، فهي من جهة الفقه مخارج ومواضعات، ومن جهة العرف جهود في جعل العرف مقبولاً موافقاً للشرع
وقد أنشأ الحنفية هذا الفن من الفقه وتعهدوه، ونجد أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني على رأس سلسلة طويلة من الفقهاء قد ألفوا في الحيل؛ وقد انتهى إلينا كتاب محمد بن الحسن كاملا، (وهو المسمى بكتاب المخارج في الحيل الذي ذكرناه مراراً)، ويشتمل على مسائل عديدة نقلها صاحبه من كتاب أبي يوسف. أما المذاهب الأخرى فالحيل فيها أقل شأناً منها عند الحنفية، حتى أن الشافعي والبخاري الذي كان نفسه شافعياً وغيرهما قد حاربوا الحيل حرباً عواماً. ولم يمنع هذا أن المتأخرين من الشافعية قد أحسوا بالحاجة إلى تأليف كتب في الحيل على مثال كتب الحنفية وأن ينسبوا إلى الشافعي نفسه من المخارج العملية ما قد ورد في كتاب محمد بن الحسن الشيباني؛ وقد أفرد الحنبلي الكبير ابن قيم الجوزية للحيل بحثاً طويلاً، وبرغم مناهضته للمكر ومنعه للفرار من أحكام الشريعة وصل في بحثه إلى اعتبار كثير من تلك المخارج مشروعاً خاصة في دائرة التصرفات التجارية. وأشهر كتاب في هذا الباب هو كتاب الحيل والمخارج المنسوب خطأ إلى أبي بكر أحمد بن عمرو الخصاف الحنفي، فالواقع أن كتابه الحقيقي ليس إلا رواية لكتاب المخارج في الحيل للشيباني، وقد عنى الخصاف بأن يستبعد منها كل إشارة قد تدل على مؤلفه الأصلي؛ والكتاب الذي اشتهر به هو تأليف عظيم الشأن لمؤلف مجهول عاش في حوالي سنة أربعمائة، وهو مصدر فريد في بابه لمعرفة القانون العرفي الذي كان يعمل به في ذلك الزمن في العراق (كما نظن) يكشف لنا عن مستواه العالي واصطلاحاته الراقية، وهذا(144/46)
القانون العرفي يميزه الدور الهام الذي يقوم به الإقرار، فإنه لا سبيل إلى الرجوع فيه، ولهذا يصلح جيداً لأن يكون مبعثاً للنتائج القانونية المقصودة، كما يميزه دور العدول الأمناء الذين يثق بهم المتعاقدان يقومون بالتوسط بينهما في علاقتهما التعاقدية، وكما تميزه أيضاً كثرة استعمال الوثائق المكتوبة، فكل هذه الخصائص توجد مجتمعة في كتب (المواضعة)، وهي وثائق يكتبها المتعاقدان وليست لها قيمة قانونية مباشرة، لكنها تصلح لإثبات حقيقة الأمر فيما بين المتعاقدين من العلاقات التي لا يكشف عنها بل يسترها عادةً عدد من التصرفات والإقرارات الموضوعة؛ وتحفظ هذه الوثائق - أي كتب المواضعة - مع الوثائق الفقهية الحقيقية التي توضح وظيفتها عند عدل أمين يثق به المتعاقدان ويعمل هو بمقتضاها فيما بينهما ابتغاء معاملتهما بالعدل والإنصاف ومنع أي منهما عن أن ينتفع بتصرف أو إقرار منفرد لما فيه ضرر لمصلحة الآخر. وإليكم مثالاً قد يوضح كل هذا إيضاحاً تاماً: (قلت: رجل له على رجل مال، فوكل رجلاً أن يتقاضى هذا المال ويستخرجه على أن له نصفه أو ثلثه، هل يجوز هذا؟ قال: لا، وإن وكله على هذا الشرط فاقتضى المال كان له أجرة مثله لا يجاوز بها ما جعل له. . . قلت: فهل في هذا من حيلة؟ قال: نعم، الحيلة في ذلك أن يقر الذي باسمه المال لابن هذا الوكيل أو لرجل يختاره الوكيل بثلث المال بحق عرفه له ويوكله بقبضه. . . ثم يوكل الذي باسمه المال والمقر له بالثلث هذا الوكيل باستيفاء المال واستخلاصه فإن خرج المال كان للمقر له الثلث من ذلك. . . . قلت: فإن قال صاحب المال: أرأيت إن أقررت بثلث المال لمن يريد الوكيل فإذا وقعت الشهادة على ذلك لم يقم هذا الوكيل باستيفاء المال أو أحدث حدثاً تبطل به الوكالة فقد صار هذا الرجل شريكا لي في المال بثلثه، فما الحيلة؟ قال: يعدلون كتاب الإقرار على يدي من يثقون به ويكتبون مواضعة بينهم تكون على يدي العدل يعمل بما فيها ويحملهم عليها، فإن خرج هذا المال بتقاضي الوكيل وقيامه كان لهذا الرجل الثلث. . . وإن لم يخرج من المال شيء أو لم يقم بذلك أو أحدث حدثاً تبطل الوكالة به لم يكن للرجل المقر له بثلث المال شيء ورد العدل منهم الكتب على من يجب ردها عليه، ويحكون في المواضعة أمرهم كله ليعمل العدل بينهم بذلك)
والمصدر الثاني الرئيسي لمعرفة القانون العرفي في بلاد الإسلام هو الشروط والوثائق.(144/47)
ويوجد إلى جانب الدور الهام الذي تؤديه الوثائق المكتوبة في باب الحيل كتب كثيرة في الشروط عند الحنفية كما هي موجودة عند المالكية والشافعية. وجدير بالذكر أن أكثر المؤلفين لكتب الحيل من الحنفية ألفوا أيضاً في الشروط، وأنهم من جانب آخر قد اشتغلوا غالبا بالوصايا والأوقاف أيضاً بصورة تجعل من الممكن أن يستبين المرء في الكتب الحنفية على مرور القرون ميلا ظاهرا إلى البحث عن الموضوعات ذات الأهمية العملية، وتلك الأهمية العملية لكتب الشروط ناتجة عن نفس وجودها، ذلك أن الفقه لا يقبل إلا الشهادة الشفوية ولا يستلزم وثائق مكتوبة، وذلك العلم وحده لم يفلح في جعل الشروط في ذلك المركز العظيم الذي هي فيه من عمل الفقه. وترجع عادة تحرير التصرفات إلى العصر الجاهلي، فقد ظهر أن الوثائق في ذلك الزمن لم تكن محض مذكرات يستعين بها الشهود (كما هي الحال في علم الفقه) بل كانت وثائق مستقلة تنطق بمضمونها لا ريب أنها لم تزدوج بالشهادة الشفوية إلا في مرحلة ثانوية؛ وقد أقر القرآن هذه الحالة في نوع من العقود في الآية التالية: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكن رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا، ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها، وأشهدوا إذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم. وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه، ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم.) وفي آية أخرى ذكر القرآن الوثائق المكتوبة في إعتاق الرقيق على أنها شيء معروف: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً.) حتى الاصطلاح الخاص بالإعتاق التعاقدي في مصطلح الفقه، وهو الكتابة، يدل على أن ذلك كان مكتوباً في الغالب على الأقل؛(144/48)
والأمر السابق الذكر وهو أن الشروط والوثائق تقوم في تطبيق الشريعة العملي بدور أهم بكثير مما يعينه لها علم الفقه - ذلك الأمر لا نفهمه إلا ببقاء عادة ثابتة قديمة تقتضي تحرير العقود بالكتابة؛ ومن الراجح أن تلك العادة الموجودة في القانون العرفي العربي الجاهلي كانت تأثرت بنفوذ التمدن العراقي، فإن العراق مشهور بالدور الهام الذي قامت به الوثائق المكتوبة في حياته القانونية والأدبية منذ زمن قديم جداً. أما الوثائق التي تبينها وتوضحها كتب الشروط، وكذلك الوثائق الأصلية التي احتفظ بها فهي تتفق بطبيعة الحال في مضمونها المادي مع أحكام الشريعة الإسلامية بحسب الظروف والإمكان، وخصائصها البارزة لا تظهر إلا في صيغتها التي تغيرت تغيراً كبيراً على كر القرون، لكنها كانت دائماً خاضعة لقواعد فنية صارمة. وإليكم خاصة جديرة بالذكر تشترك فيها كتب الشروط القديمة بأجمعها: قد تلونا آنفاً آية قرآنية تنص على أن (الذي عليه الحق) يكتب ويمل؛ وأما في كتب الشروط القديمة فالقاعدة الأساسية هي يملي الكتاب المدين (أو من يقوم مقامه من المتعاقدين) على المديون (أو القائم مقامه) وأن يقرّ هذا بصحة الوثيقة ويُشهد على ذلك الشاهدين
وثمة مصدر ثالث لدراسة القانون العرفي، وهو التشريع المدني الدنيوي في بلاد الإسلام. ومن الحق أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بتشريع مستقل يقوم إلى جانبها، وتلك التشريعات المدنية حتى في أوائل العصور الحديثة لم تزعم أكثر من أن تكون ملحقات بالشريعة في الدائرة التي سمحت لها بها؛ والواقع أن تلك التشريعات كثيراً ما جاوزت هذه الحدود. وأشهر مثال لمثل تلك التشريعات هو ما يسمى (بالقانوننامجات العثمانية)، فإنه بينا كانت أكثرها تتصل بمسائل إدارية، قد ردتها الشريعة إلى اختصاص الدولة، فإن أول قانون من هذه القوانين وهو (قانوننامه) السلطان محمد الفاتح بنظم العقوبات أيضاً والأحكام الشرعية في الواقع لم تنفذ في تلك المنطقة أحياناً كثيرة، وتفترض هذه القانوننامه أن القصاص يمكن إجراؤه بخلاف الحدود، وقد وضعت بدلا منها قانوناً جنائياً كاملا يختلف أصلا عن أحكام الشريعة، وإن كان يذكرها في مواضع عديدة ويستعير منها بعض القواعد الأساسية؛ ويمتاز هذا القانون الجنائي بالدور الهام الذي تؤديه الغرامات المالية المختلفة المبالغ تبعاً لثروة المذنب. حتى الزاني بشرط أن يثبت عليه البينة وفاقاً لقواعد الشريعة(144/49)
يعاقب عليه بغرامات مختلفة القدر على حسب كونه متزوجاً أو غير متزوج (وتهمنا ملاحظة التعديل الذي أدخل بهذا على فكرة الإحصان في الشريعة) والأرقاء لا يدفعون إلا نصف المبلغ المفروض على الأحرار، والسكر أيضاً (وهو يقوم مقام الشرب في الشريعة) لا يعاقب عليه إلا بالتعزير؛ وهو يُترك في الشريعة لتقدير القاضي، وأما في هذه القانوننامه فالتعزير دائماً ضربات بعصا مقرونة بغرامة مالية، ويطبق نفس هذا التدبير على السرقة ولا يقام الحد إلا في سرقة الخيل؛ ويكون في هذه الحالة إما قطع اليد وإما غرامة باهضة جداً، ولابد من أن هذه الجريمة كانت تعتبر خطيرة بصفة خاصة؛ وجلي أن هذا القانون الجنائي يراد به أن يحل محل القسم المطابق له من الفقه تماماً لا إكماله فقط، لكنهم على كل حال يتحاشون أن يقولوا بهذا صراحة ويطلقون عبارات من قبيل (السياسة في مقابلة الجنايات) أو (بدل السياسة) على إبدال الحدود بالغرامات المالية؛ وقد اتخذت هذه القانوننامه أنموذجاً للقوانين العثمانية التي تعالج نفس الموضوع
وعلاقة أخرى بين الشريعة الإسلامية والتشريع المدني، تخالف كل ما تقدم مخالفة تامة، توجد في الدور الأخير من تاريخ الشرع وهو تطوره المعاصر، وحسبنا أن نذكركم بالتعديلات التي أدخلت منذ سنة ألف وتسعمائة وعشرين على الأحوال الشخصية في مصر؛ ولسنا نريد أن نبحث الآن عن تلك الظاهرة المهمة للحياة القانونية المصرية لأن الوقت الذي نملكه قد انتهى. وإنما نستشهد بها هنا كدليل على أن العلم الأوربي الذي يشتغل بتاريخ الفقه الإسلامي لا يتناول الأزمان الماضية فقط، بل يجهد في استيعاب الحياة الحاضرة أيضاً، وأن موضوعه الواسع ليس ميتاً جامداً بل لا يزال قوياً متطوراً. فإن كنت قد وُفقت إلى إطلاعكم على شيء من الروح العلمية الخالصة المهيمنة على دراستنا هذه فقد حققت بعض الغرض من هذه الأحاديث كل التحقيق
يوسف شخت(144/50)
صورة من الحياة العلمية في مصر
3 - تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
- 3 -
وبعد أن قضى من الشام حاجته عاد إلى مصر سنة سبع، فاستوطن القاهرة، وانقطع فيها لتصنيف الرسائل والكتب، وتعليق الشروح، والجلوس للطلاب. وقد ألقيت إليه رياسة الشافعية، فجعلت الأسئلة والاستفتاءات ترد عليه من أنحاء الشرق العربي كثيرة متلاحقة، وهو يجيب عليها ويفتي فيها. وكان من عادته - كما ذكر ابنه تاج الدين - أن يشرك في بحثها ومناقشتها أبناءه وتلاميذه، إلا أن تكون متعلقة بأحوال المتصوفة وأهل الباطن فيكتم أمرها وأسماء أصحابها وما يراه فيها. إذا كان ذلك خارجا عن حدود النظر العقلي والاستدلال المنطقي
وقد لبث على ذلك - منذ عودته من السماع بالشام إلى رجوعه إليها قاضي قضاتها - أثنين وعشرين عاماً، حج في أثنائها ثم ذهب إلى المدينة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سنة 716هـ
ولم يل تقي الدين في هذه الفترة عملاً يتصل بالسلطان، أو أمراً من أمور الدولة، على كفايته ومقدرته، فقد كانت تنقصه المرونة الخليقة التي تقضي بالتزلف والتودد، ثم بالمصانعة والمداهنة والإغماض في الحق أحيانا؛ ولهذا كانت مادة عيشه تافهة ضيقة مهددة بما تقضي به شهوات الأمراء وغايات المزدلفين؛ فكل ما نعرف من هذا أنه تولى مشيخة جامع ابن طولون فترة من الزمن، وكان يأتيه منها رزق زهيد مما وقفه عليه الملك المنصور حسام الدين لاجين (696 - 698هـ 1296 - 1298م) ولكن هذه المشيخة لم تلبث أن طارت من يده وأخذت منه سنة 719 (1319م). وله في هذا المقام شعر نورد شيئا منه، لأنه - مع ركاكته - يدل على روحه العلمية الخالصة التي تضع العلم فوق كل اعتبار:
كمال الفتى بالعلم لا بالمناصب ... ورتبة أهل العلم أسنى المراتب(144/51)
فلا تعدلن بالعلم مالاً ورفعة ... وسمر القنا أو مرهفات القواضب
وهب أدبرت دنياك عنك فلا تبل ... فعنها لقد عوضت صفو المشارب
فما قدر ذي الدنيا؟ وما قدر أهلها؟ ... وما اللهو بالأولاد أو بالكواعب؟
إذا قست ما بين العلوم وبينها ... بعقل صحيح، صادق الفكر، صائب
فما لذة تبقى، ولا عيش يقتنى ... سوى العلم أعلى من جميع المكاسب
وهكذا كانت روحه العلمية الغلابة التي كان يتعزى بها عما فاته من متاع الدنيا. وقد ظلت هذه الوظيفة محتجزة دونه حتى عام 727 (1327) فعادت إليه وبقيت في يده إلى سنة 739هـ حينما اختير لقضاء الشام
وسبب آخر من أسباب الحياة المحدودة كان في يده، ولم يخل كذلك من شهوات العابثين في انتزاعه: ذلك هو وظيفة التدريس بالمدرسة المنصورية، وكانت مسندة أول الأمر إلى قاضي القضاة جمال الدين الزرعي، ثم عين قاضي قضاة الشام 723 (1323م) فحل تقي الدين السبكي محله، وكان جديراً بذلك. ولكن الزرعي لم يطل في قضاء الشام مقامه، فلم يلبث عاماً حتى عزل عنه. وكان صديقاً لأرغون نائب المملكة المصرية في ذلك الحين، فبلغه ذلك وهو بالحجاز، فشق عليه أن يحرم صديقه مكانه في مصر والشام؛ واستشاط غيظاً وحنقا على تقي الدين، وأقسم ليزيلنه عن مكانه، ويعيدن إليه صاحبه، متى عاد إلى مصر؛ وترامت بذلك الأخبار إلى الشيخ، ولم يكن له ما يكفل رزقه غير هذه الوظيفة، وكاد يصبح ضحية شهوة جامحة، لولا أن أرغون ما كاد يصل إلى مصر حتى قبض عليه في بعض ما كان يسود ذلك العهد؛ ففل بذلك من حده، ووقي الشيخ شر نزوته وكيده
هذا كله والعهد عهد الملك الناصر ابن قلاوون، وهو خير عهود ذلك العصر، وأقلها خضوعا للنزوات الطائشة
وقبل أن ندع هذا الدور من حياة تقي الدين السبكي، نرى أن لابد من الإشارة إلى مجهود من مجهوداته العلمية الموفقة، قام به في تلك الفترة، وقد رفع كثيراً من شأنه، وكان له أثر غير صغير في حياته، فيما نحسب، ذلك هو رده على أبي العباس ابن تيمية في مسألة الطلاق ومسألة الزيارة. وقد كتب رده على كل من المسألتين في كتابين: أحدهما موجز مجمل، والآخر كبير مفصل؛ ويظهر أنه قد أبدى في رده مقدرة فائقة في النقد والبيان،(144/52)
وأبان عن سعة اطلاع وحضور بديهة، كما بعد عن الشطط والتجريح، والتزم جانب الإنصاف والمعدلة، مما دعا إلى إعجاب الأشاعرة به، وإكبار ابن تيمية نفسه له، وثنائه عليه فيما كتبه دفعا لنقده
واحسبني لا أبعد عن الصواب إذا زعمت أن هذا الرد كان السبب في توجه نظر السلطان إليه، واختياره لقضاء الشام، بعد أن لبث ذلك المنصب لعبة للأهواء منذ مات جلال الدين القزويني سنة 719 (1319) حتى سنة 739هـ. وإصراره على ذلك على إصراراً ذهبت معه كل محاولات الطويلة في التملص من هذا التقليد، ووهن معه كل ما نذرع به لقاء هذا الأمر الذي يقدر عاقبته، ويعرف حق المعرفة خطورته
ذلك أنه وإن كان قد ذهب في رده مذهباً علمياً خالصا فقد تناول به مسألة تعني أولي الأمر كما تعني العلماء، فإن ظهور ابن تيمية في الشام بمذهبه الذي ينقض مذهب الأشاعرة، وانتصاره له بكل ما أوتي من قوة في البيان والمناظرة، فرق أهل الشام فرقتين، واجتذب إليه طائفة غير قليلة من أعيان العلماء أمثال المزي والذهبي والبرزالي: خرجوا على الأشعرية وهي المذهب الرسمي للدولة منذ كان الأيوبيون إلى ذلك العصر، بعضهم في صراحة وجلاء، وبعضهم في تنكر واستخفاء، وسنرى فيما يلي بعض الظواهر في هذا مما يؤيد ما نذهب إليه من أن اختيار السبكي لقضاء الشام كان منظوراً فيه إلى هذه الحالة، مرجواً منه القضاء على هذه الفتنة.
- 4 -
وهكذا تولى السبكي قضاء الشام في 19 جمادى الآخرة سنة 739 (2 يناير سنة 1339)، فغادر مصر إليها، وانتقل بذلك من حياته البسيطة الساذجة، إلى حياة مركبة معقدة، وترك بيئته الهادئة الوادعة التي ترفرف عليها روح العلم، وتسري فيها نفحات الأبوة الكريمة، إلى ذلك المضطرب الواسع الذي يموج بشتى النزعات ومختلف النزوات؛ وتسوده روح خبيثة في مذاهب يزعمون لها صفة الدين تقتتل، وشهوات باسم الحكم تفرض وتنفذ، وأين يذهب السبكي في مثل هذا الجو؟ وهو المطبوع على الصراحة في الحق، والصلابة في الخلق، والاستقامة في الرأي، إلا أن يصبح غرضا للمعاندة والمضاجرة والشهوات الخبيثة الفاجرة؛ ولهذا نجد ابنه تاج الدين يقول في هذا الصدد بلهجة مريرة: (فقبل الولاية يا لها(144/53)
غلطة أف لها، وورطة ليته صمم ولا فعلها) وسنرى فيما يلي صوراً مختلفة لهذه الحالة
وإنما نعرض الآن حياته العلمية في الشام عرضا موجزاً، فنلاحظ أن أغلب مصنفاته كتبها في الفترة التي قضاها بمصر كما نص على ذلك ابنه، ولا ريب أن هذه الحياة الجديدة بما تفرضه من تكاليف ومشاق قد شغلته عن العلم بعض الشيء؛ هذا إلى كبر سنه، فقد تولى قضاء الشام وهو في حدود الستين، فكانت دواعي التأليف قد فترت في نفسه، حتى لنراه في أواخر حياته يميل إلى التأمل، ويجنح إلى (المراقبة)، ويزهد فيما كان مشغوفا به من قبل من المناظرة العلمية على قواعدها المقررة
على أنه قد كتب في الشام أبحاثا جليلة يتجلى فيها عمق التفكير ونفاذ البصيرة والإحاطة، ونجد بعضا منها في ثنايا كتب ابنيه: بهاء الدين أبي حامد أحمد بن علي السبكي، وتاج الدين عبد الوهاب صاحب الطبقات
ثم إنه ما كاد يصل إلى الشام حتى جلس للتحديث في (الكلاسة) وسمع منه أئمة الحديث في عصره كلمزي والذهبي والبرزالي، وقرأ عليه جميع معجمه ابن أبن عمه الحافظ محمد بن عبد اللطيف السبكي. ثم تولى سنة 742 (1341م) مشيخة دار الحديث الأشرفية خلفا للحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي، وفي سنة 745 (1344م) تولى التدريس في (الشامية البرانية) خلفا لأستاذها شمس الدين ابن النقيب، كما تولى خطابة الجامع الأموي وباشرها مدة لطيفة
(يتبع)
محمد طه الحاجري(144/54)
عند بحر مويس شتاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كم خشع العابر من قبلنا ... على ضفاف النهر وقت الأصيل
أو في مساء إذ ترى ظلمة ... قد عشَّشت في الدوح دوحا كغيل
وربما كنا الأولى قد مضوا ... وإن نأى الظن وعز الدليل
وما الذي ينأى بنا عنهمُ ... من منظر أو خاطر أو ميول
كم منظر تحسب إمَّا بدا ... من أخذة الفكر ووهم الذهول
انك - والقلب خبير به - ... أجَلْتَ قِدْما فيه لحظ المجيل
الدوح كالمفْكِر في هدأة ... إذ سكن الجو سكون الكهول
أو ثاكلات طال ثكل بها ... فَسَكَّنَتْ من شجوها والعويل
أو صمتت من طول ما عُمّرَت ... كصمتة الشيخ الوقور الجليل
والنهر كالزئبق في لمعة ... وركدة ما إنْ بها من مسيل
عهدته في صيفه لؤلؤا ... لو أن للؤلؤ سيلا يسيل
والسحب كالأشجار قد عرشت ... في الأفق تبدو مثل ظل ظليل
أو قطع من حلم غامض ... أو كمثار النقع أو كالطلول
والجو قد روَّع من قره ... كأنه قر ممات يصول
أنفاس ثغر الموت في قره ... تخرج من ثغر لجسم مَخِيل
والأرض غبراء سوى ما بدا ... من عشبها منتثرا كالفلول
كأنما الدجن غدا تربها ... وتربها الجهم كدجن سديل
تشابهت في اللون عهدي بها ... في صيفها واللون غير القليل
عهدي بها كالحود في عرسها ... زاهية الأصباغ شتى الذيول
خِيلَ حدادا إذ دجا لونها ... وهو كعقب العرس حتم البديل
خلاعة للصيف خلابة ... وفي الشتاء الحسن جم الفصول
تباين الحسنان في روقة ... لكنه زاد جلال الجميل
كم متعة جاءت بها رهبة ... كرهبة البرق وعادي السيول(144/55)
لحن على الماء
بقلم العوضي الوكيل
ركبت زورقاً على النيل، ومعي ثلاثة من أصدقائي، وهب الله أحدهم نعمة حسن الصوت وقد غنى صاحبنا فأجاد، وما منا إلا طرب له واستعاد. . . .
وهذه القصيدة صدى هذا الغناء:
تَغَنَّ، فما أحلى أغانيك في الماء ... لها في نواحيه هواتفُ أصداءِ
تغن بألحان تواكَبنَ في النُّهى ... قديماً ولا تمهل سكوني وإصغائي
تغن فإن الماء حولك ظامئٌ ... إليك، فبلل بالغناءِ صدى الماءِ
ترقرق كالنسم الوديع هنيهةً ... وغضَّن منه السطح في غير إغضاء
كأن له نفسا إليك مشوقةً ... وروحاً يتيه اللحن منها بأعضاءِ
ينازع في الأنغام جوّا مُشَعْشَعاً ... بها، لم تخالطه نواشز ضوضاء
ألا غَنِّنَا. . . . وابسط أغانيك كلها ... بصوت كنفح الزهر، أو طلعة البدر
حماداك أن نصغي إليك بمهجةٍ ... تفيض بآلام شداد يدا الدهر
تثير بها ما لم ترج مثاره ... وتحيي بها ما لم يَدُرْ لك في فكر
وتبعث فيها ماضيا قد نسيته ... ولكنه لم ينس عهدي وما أدري
تعيد بها من دارس العمر حقبة ... تصورها الأوهام. . . ليست من العمر
ألا غننا. . . حسبي من اللحن نغمة ... تفيض على الأرواح كالنهل الغمر
نعم. . . وامزج الماء الصفي بلحنك ال ... صفي فإن اللحن في الماء ذائبُ
فإن نحن أومأنا إليه برشفةٍ ... فبالنور صرفاً قد تمتع شارب
وموجان من ماء ولحن تواكبا ... ويا حبذا في الحس هذا التواكب(144/57)
أُمَيةُ تُبْعَث
جزاكم ذو الجلال بني دمشق ... وعز الشرق أوله دمشق
(شوقي)
للأستاذ أمجد الطرابلسي
شِعْري أَرَدْتُ لَهُ عُلًى وَخُلودا ... فَنظَمْتُهُ لِبَنِي الشام عُقودا
وَجَعَلْتُهُ لَحْناً يَفيضُ بِحُبَّهِم ... وَيَرِنُّ في سمْعِ الزَّمانِ نَشيدا
آليتُ لا أَنْفَكُّ أَهْتِفُ باسمِهِمْ ... طَرَباً وَأُعْلِنُ فَضْلَهُمْ تَغْريدا
وَأَهزُّ مِنْهُمْ في السّلامِ بَلابلاً ... تَشْدو الحياةَ، وفي القَتامِ أُسودا
وَأَصوغُ منْ يَوْمِ الجِهادِ مَلاحِماً ... تُرْوى، وَأُنْطِقُها الرُّبى والبِيدا
حتى أرى وطني تَحَرَّرَ وانْبرَى ... يطوي الشُّعوب إلى السماءِ صعودا
أدِمِشقُ يا مهوى رؤايَ، وما أرى ... إلا بمغناكِ المقامَ رَغيدا
هلا أبيحُكِ خافقي ولحونَه ... وَأَخصُّكِ التبجيلَ والتمجيدا
من فيض سحرك قد قبستُ قصائدي ... فَوقفتهُا لك نُدْفةً وقصيدا
سأحوكها تحكي شذاكِ لطافة ... وأصوغها تحكي رُباك ورودا
وأَنا المحِبُّ، وما سواكِ حبيبةٌ ... أشدو بحُسنِكِ يا شامُ عميدا
يا غضبة أُمويةً من جِلِّق ... حطمتْ سلاسلَ صُلْبةً وَقيودا
ضجَّت لها كل الشعوب؛ أما ترى ... كيف استفاضت في الدُّنى ترْديدا
ألمت دِمشقُ من الخنوع فزمجرت ... أنَفاً وطبقتِ الفضاَء رعودا
وَقفت تناضل كالَّلباةِ جراَءة ... لا شِرَّة حفلَتْ ولا تهديدا
لم تسمع الدنيا بمِثْلِ ثباتِها ... درْساً يهيج المرْهق المصفودا
خمسون يوماً في الجهادِ مجيدة ... كانت فخاراً للشام مجيدا
حشدت جحافلَها لُبىً وضَياغماً ... صُبراً تَعافُ مذَلةً وسجودا
رَضىَ الإلهُ عن الشبابِ فإِنّهُ ... أضحى لنهضتِنا لواً وَعمودا
ضحى الأمانيَّ العِذابَ كَخُلقه ... ومضى يخلفُ للمكارم عيدا
رضىَ الإله عن اللباةِ فإِنها ... شادت بناءً للفخار عتيدا(144/58)
مهرَت حماها والعُلى أكبادها ... ومشت يهيج نضالُها الرِّعديدا
رَوْضُ تجهَّز لِلْجهاد فلم يدع ... دَوحاً وَلا زَهراً ولا أُملوداً
لو كنتَ تشاهِدَه غداة كفاحِه ... لرأيتَ جيشاً للنِّضالِ حَشيدا
أو كنت ثمة شاهداً أطفاله ... لرأيتَ جُنداً عُدة وعديدا
صبرَوا على مُرِّ الطَّوى وتحملوا ... فقراً على غير الأباة شديدا
حَفُّوا بِأَلوية الجهاد وأقسموا ... ألا يكونوا للقويِّ عبيدا
كلٌّ يسيرُ إلى الأمامِ مشمِّراً ... وقد استعد لأن يعود شهيدا
وَعِتادُه قِطعُ الصفا لكن في ... إيمانه ما يصدعُ الجلمودا
وفؤادُه بين الأضالع شعلة ... حرى تشعُّ عزيمة ووقودا
سقطوا أمام بيوتهم، وسط الحمى ... صرعى فما حفلوا لظى وحديدا
شهداءُ مثلُ الزهر في أكمامه ... كانوا على ظلم القويِّ شهودا
يا ابْنَ الحضارة، هلْ علمِت حضارة ... تروى دماً وَمدامعاً وَكبودا
ركزتْ على الدَّمِ والجماجِم عرشها ... ثم ارْتدت زُورَ الطّلاء برودا
لبست بياضاً ناصعاً لكنها ... أخفت قلوباً كالضغائن سودا
يا منقذ الحرِّية الزهراءِ في ... زمن غدوْت لِلَيْلِهِ فرقودا
أعلنتَ للإِنسان حقاً اقدساً ... وَأََدتْهُ طاغيةُ العروش عهودا
دَرْسٌ غذوْتَ به الشُّعوبَ جميعها ... فكسرتَ أغلالاً وَهِجت هجودا
أتلومُ شعباً هَب يبعثُ مجدهُ ... وَيُعيد فخراً كالخلود تليدا
يمشي على لهبِ اللظى لحقوقهِ ... وَيخوضُ لاستقْلاله (البارودا)
قالوا: حَقودٌ! قُلتُ طاشَ خَيالُكم ... فَفتى العُروبةِ لا يكونُ حقودا
وهو يطلبُ استقلاله بدمائه ... لا يجتدي كرماً ويسألُ جودا
رُدوا له الحقَّ السليبَ مسلماً ... تَجدوهُ إلْماً صادقاً وَوَدودا
الشرقُ سمْحٌ منذ كانَ وإنما ... مُلئت حضارتُكم قذى وَحقودا
يا جيرةً ضمدوا جراحة جلِّق ... إذ جُرْحها يتلمَّسُ التضميدا
لله نصرتُكم أخاكم إنّها ... قد أصبحتْ مثلاً يسير شرودا(144/59)
كانتْ على القربى الملِحَّةِ آية ... جُلى، وَرَمزاً ساطِعاً مشهودا
قُلْ لِلْغويِّ يرى العروبةَ أنهراً ... لا تسْتقى ويرى الوفاقَ بعيدا
إن العروبة في المواطِن كلها ... ضمِنَتْ لها آلامها التوحيدا
جسدٌ يئنُّ إذا اشتكى عضو به ... من ذا رأى شِلواً يعيش وحيدا
يا يومَ عادَ المصطفونَ إلى الحمى ... ضَمِن الزمانُ لمجدِكَ التخليدا
في جيد هذا الشرق كنت قُلادة ... وأراك في عمر الجهاد فريدا
ما مرَّ يوم أو مررت بخاطري ... إلا سطعت لناظريَّ جديدا
يا يوم عادوا والجلالُ يحفُّهم ... لا السِّجن قد هابوا ولا التشريدا
طلعوا علينا كالكواكب رفعة ... وهفوا على هامِ الرِّجالِ بُنودا
سل مُقلتي لما بدت رُكبانُهم ... هل بُدّدت عبراتُها تبديدا
واسأل فؤادي هل أهلَّ مصفِّقاً ... أو هل شدا في رَكبهمْ غِرِّيدا
زَحَفَتْ دمشق تحوطهم بقلوبها ... وْلداً وأشياخاً تَدبُّ وغيدا
تتزاحَمُ العَبَراتُ في آماقهِم ... فرحاً فتنثْرُ لُؤلُؤاً منضودا
كدُّوا الحناجِرَ فرْحةً بإيابهم ... وتدافعوا مثل الأتيِّ وُفودا
أرأيتَ كيف طغى العُبابُ على الثرى ... أو كيف تحتضِنُ الرؤومُ وليدا
يا من رأى المأسورَ عاد مكرَّماً ... والآسِرَ المأْفون فرَّ طَريدا
يطوي البحارَ السود يطلب ملجأً ... وَحِمىً وَيضربُ في البلاد شريدا
أنى تحَّولَ فالسماءُ صواعق ... والأرضُ فاغرةٌ هُوى ولحودا
وأمامه أنى تقلبَ نِسوْةٌ ... يخْمشن أجياداً زَهَتْ وخدودا
ذُقْ ما يذُوقُ الظالمون! ومن يُهِنْ ... أنَفَ الشعوبِ يهُنْ وَيَقض كميدا
وفد الشام ويا رسول جهادها ... أني حللت تر القلوب مهودا
الله والشعب المبارك عزمه ... قد أولياك النصر والتأييدا
فاسحب من الحب الثمين سوابغاً ... واصحب من العطف العميم جنودا
واهبط رباعاً من (فَرَنْسةَ) خُضِّبت ... بِدَمِ الأباةِ سباسباَ ونجودا
دكّت حصونَ الظالمين سيوفُهم ... والظلم تذروه السيوف بديدا(144/60)
جِئْهُمْ فَبثْهم السلام وقل لهم: ... (يا من نشرتم لِلْحقوق بنودا
يا موقدين لهيب أروع ثورةٍ ... تركت عروش المالكين حصيدا
والمرسلين على الظلوم صواعقاً ... والباذلين مع الضعيف جُهودا
لا تكتبوا بشبا السِّنان عهودكم ... فالحبُّ أصدق موثقاً وعهودا
ضِنوا بهذا الشعب يوماً أن يهي ... إعجابه بنِضالكم ويبيدا)
يا وَفدُ سر بحمى الإله وحِفظه ... واستنجز المأمول والموعدا
وارجع إلينا بالحياةِ مظَفّراً ... واسطع بشائرَ في الحمى وسعودا
أمجد الطرابلسي(144/61)
القصص
درامة من اسخيلوس
المتضرّعات
للأستاذ دريني خشبة
مقدمة:
كتب إسخيلوس هذه الثلاثية الرائعة وهو شاب في مقتبل حياته، ولم يبق منها، وا أسفاه، غير الدرامة الأولى، أما الثانية والثالثة فما تزلان مفقودتين. وقد استطاع العلماء الجهابذة من الألمان الحصول على مغزاهما، وبهذا تمت لنا الثلاثية بموضوعها وإن لم تتم بمبناها. والدرامة تنبع من أسطورة يو التي نشرتها الرسالة آنفا والتي تتلخص في أن زيوس كبير أرباب الأولمب أحب الفتاة يو حباً مبرحا فكان يختلف إليها سراً مخافة أن تضبطه وإياها زوجه حيرا فيحدث ما لا تحمد عقباه. . . ولكن. . . وقع ما خافه زيوس. . . فبينما كان يلهو بحبيبته مرة إذ لمح زوجه مقبلة. . . فأسقط في يده. . وسحر يو بقرة بيضاء. . . وراح يدعي أنه يرعاها. . . ولكن الحيلة لم تنطل على حيرا فسألته أن يمنحها البقرة علامة على حبه لها، فأجابها. . . وناطت بها حيرا خادمها الفظيع آرجس، ذا المائة عين يحرسها ويلحظها أنى سارت وأيان توجهت. . وذاقت يو الأمرين من هذه الحال حتى لقيت أباها رب أحد الأنهار مرة فتحدثت إليه بما كان من أمرها مع زيوس. . ولم يطق سيد الأولمب صبراً، فأنفذ ولده الصناع هرمز إلى آرجس ليحتال عليه ويقتله وينقذ يو من شره. . . وأفلح هرمز في مهمته، ولكن حيرا نقمت على البقرة وسلطت عليها ذبابا ساماً ما فتئ يقرصها ويعضها حتى تصالح زيوس وحيرا، ورجاها أن تطلق سراح يو فقبلت، على شريطة أن تنطلق من هيلاس كلها!! وقبل زيوس، وأعاد إلى يو صورتها. . . وأنفذها إلى. . . شطئان مصر. . . حيث تزوجت بفرعونها العظيم. . . وكان من نسلها هؤلاء النسوة المتضرعات، اللائى يتحدث إسخيلوس عنهن في هذه الثلاثية(144/62)
ونحن نعتمد في تلخيص الدرامة الأولى الباقية على ترجمة لويس كامبل (طبعة إكسفورد) الشعرية، أما الدرامتان الأخريان المفقودتان (مصلحات فراش النوم) و (دانايديز) كما ذكرهما الأستاذ جلبرت موري في تاريخه عن الأدب الإغريقي (طبعة أبلتون ص217) فسنخلصهما معاً معتمدين في ذلك على الأستاذ هـ. ا. جربر ص 142
- 1 -
يرجع بنا إسخيلوس إلى عصر موغل في القدم، حتى ليكاد أن يكون عصرا خرافياً
ذلك هو العصر الذي كان في إيجبتوس أميراً على مصر السفلى. . . إيجبتوس الذي لا يعرفه التاريخ. . .
وكان لهذا الأمير خمسون ابناً، وكان لأخيه دانوس خمسون ابنة، فأراد إيجبتوس أن يزوج أبناه الخمسين من بنات أخيه الخمسين، برغم ما في هذا الزواج من مخالفة لشرائع الدين في مصر في هذا الزمان، ذلك أن هذا الدين الذي كان يبيح زواج الأخ من أخته، كان مع ذاك يحرم زواج ابن العم من بنت العم، ويعتبره - لو تم - نوعاً من الزنى
- 2 -
لذلك صمم دانوس، التقي الورع المتعبد، المتفاني في طاعة الآلهة، ألا يتم هذا الزواج
وسبب آخر جعل دانوس يغلو في تصميمه، ويتشبث به، برغم ما تجره عليه عداوة أخيه، أمير مصر العظيم، من بلاء وأرزاء
ذلك أنه كان لا ينوي تزويج واحدة من بناته الخمسين قبل أن يودع الحياة، وقبل أن يجيئه الموت، وقبل أن يجرع كأس المنون حتف أنفه! وكيف؟
لقد ذكر دانوس، حين كلمه أخوه الأمير في بناته الخمسين، تلك الرؤيا المفزعة التي أريها إذ هو شاب في غضارة الشباب، فأقضت مضجعه، وطمست مباهج الحياة في قلبه، وتركته لا يفكر إلا في هذه النهاية المريرة التي تدحرجه إلى شفاها الأيام؛ ويقذف به في هاويتها الزمان الغدار!!
رأى دانوس، إذ هو نائم فوق ضفاف النيل السندسية المعشوشبة، في ليلة مقمرة من ليالي الصيف الجميل الفضي، أن زوجاً من أزواج بناته يقتله، ويغمد خنجره ذا القبضة الذهبية(144/63)
في أحشائه، ثم يقذف بجثته الممزقة بعد ذلك في النيل، فتحملها أواذيه إلى اليم المصطخب، إلى حيث لا يدرك لها قرار!!
(إذن لن أزوج واحدة من بناتي!!)
وذهب في الأرض على وجهه يلقي الكهان وسدنة الآلهة ليفسروا له الرؤيا، فما زاده لقاؤهم إلا ترويعاً، لأنهم جميعاً أكدوها له. . . وإذن. . . (فلن أزوج واحدة من بناتي!!)
- 3 -
وألح إيجبتوس على أخيه، ولكن دانوس ظل يمطله. . ويمطله
وأعد دانوس مركباً كبيراً حمل فيه بناته. . . وأبحر في ظلام الليل. . . إلى مملكة جدته. . . جدته يو. . . حبيبة زيوس سيد الأولمب وكبير الإلهة. . . . ليبارك ذراريها، ويسهر على أحفادها!
وقد ضرب في البحر، ولعبت بمركبه الأنواء، وطفق يلقي مور اليم وتناحر الموج ما أرخص له الموت. . . لولا أن استوى على شاطئ آرجوس، فنزل وقد بلغ منه الأين، وحطمه النصب
- 4 -
وسار ببناته حتى بعد قليلا عن الشاطئ، وحتى كان في البقعة المباركة المطهرة، التي جعلتها آرجوس حرماً للآلهة، وأقامت فيها التماثيل لأربابها. فوقف دانوس يعرّف بناته بسادة الأولمب، وانطلق البنات يغنين لآلهة هيلاس، ويقرئنهن السلام من آلهة النيل، وطفقن يهزجن بنشيد طويل حلو، تنضحه الدموع وتصهره حرق في الضلوع، ويفيض منه الموجعان الشجو والشكو!!
وإنهن لفي صلاتهن وتغنيهن، وإذا رجل طوال سامق، بادي الهيبة موفور الوقار يخرج إليهن فجأة من الأدغال القريبة، فيقف لحظة يرنو إليهن، ثم يتقدم فيسألهن:
- (مَن النَّسوةُ المهاجرات في هذا الزي الغريب! منظر عجب وآلهة الأولمب! الشاكيات الباكيات في ثياب بربرية، لا أرجفية ولا إغريقية؟! منْ؟ ما هذه الأفنان الناضرة؟ أمن الزيتون هي! وفيم وضعتُنها عند أقدام التماثيل يا مهجرات؟ تماثل آلهتنا، وأوثان أربابنا(144/64)
المباركة؟)
وتتقدم إليه كبراهن فتسائله:
- (إن يكن قد بدهك زينا فمن أنت! أمواطن من آرجوليس؟ أم موكل بهذا الحرم تحرسه وتقوم عليه؟ أم عظيم من آرجوس ونابه من حكامها؟ هل للسيد أن يجيب؟!)
وهش الرجل وبش، وتبسم ضاحكا من قول الفتاة، ثم تلطف فذكر له أن ببلاسجوس بن باليختون، ملك آرجوس وحامي ذمارها؛ وأوضح فذكر شعبه وأملاكه ومدائنه، وهذا السهل وذاك الجبل وتلك الوهاد. . . وهاتيك البطاح
واهتزت الفتاة من رهبة وقالت: (إذن. . . فنحن نمت إلى آرجوس بوشائج القربى، نحن يا مولاي من نسل البقرة المشردة على حفافي النيل. . . هرعنا إلى آرجوس نلتمس الحمى!)
- (من نسل البقرة المشردة؟ وتمتن إلى آرجوس بوشائج القربى؟ عجيب وآلهة الأولمب؟ إن ملامحكن لا تدل على أصل إغريقي البتة!! وربما كنتن من هذه القبائل الضاربة في أباطح إفريقيا. . . من مصر. . . أو من أثيوبيا يا بنات! أو عسى أن تكن هنديات من اللائى يضربن أفخاذ الإبل هنا وهناك في جنبات آسيا. . . آه! لا لا، بل عسى أن تكن أمازونات يا فتيات!! أمازونات لا يعرفن الرجال قط. . . يغتذين باللحم النيئ!. . . خبرنني بحق الآلهة عليكن. . . إن كنتن تمتن بوشيجة إلى آرجوس فكيف كان ذلك؟. . .)
- (قد يعرف الملك ما كان بين سيد الأولمب وبين يو من علائق!)
- (أجل، أعرف. . . أعرف. . . ولكن ماذا كانت عاقبة يو؟)
- (لقد سحرتها حيرا بقرة. . .)
- (وزيوس؟!. . .)
- (سحر نفسه عجلا جسدا له خوار!)
- (ثم. . . . . .)
- (ثم لم تبال به حيرا، بل وكلت ببقرتها حارساً غليظاَ ذا مائة عين!)
- (مائة عين؟ حارس ذو مائة عين من أجل بقرة واحدة؟ يا له من راع!)
- (أجل. . . آرجس أيها الملك، الذي قتله هرمز)(144/65)
- (ولما قتله هرمز، هل أطلق سراح البقرة؟)
- (لا، ولكنها أرسلت عليها الذبابة السامة تعضها، وتنغص حياتها، وتزيدها شقاء على شقاء
- (وأين انتهى بها المطاف يا فتاة!)
- (خاضت البحر اللجي حتى كانت على شواطئ مصر حيث تتدفق أمواه النيل. وثمة أعاد إليها زيوس شبابها وعنفوانها وأولدها إبافوس. . . منشئ ممفيس
- (وهلا تذكرين لها أطفالاً آخرين؟)
- (بلى. ولدها (بل) وقد أنجب بل ولدين كريمين، أبانا هذا الشيخ. . . و. . .
- (أباكم؟ ما أسمه؟. . .
- (دانوس أيها الملك ونحن بناته الخمسون. . .
- (وأخوه؟ ما اسم أخيه؟
- (إيجبتوس أمير مصر وملكها. . . والآن! هل تأكدت من صدق منشئنا؟
- (لا ريب! حصحص الحق! ولكن اذكري لي! فيم هاجرتن من بلادكن؟
- (أوه!! إنه لأمر يهيج أشجاننا أيها الملك!؟ يا للدنيا التي تكظها الآلام. . .
- (إن لكن لشكاة يا فتيات، فلا تخشين أن تبحن بها، إنكن بحضرة ملك آرجوس وإن هذه الأفنان التي وضعتنها عند أقدام إلهتنا لنتكلم عن شكاتكن!. . .
- (إن كان لابد أن تعرف، فقد رفضنا أن نكون خولا لعمنا إيجبتوس! لقد أرادنا على أن نكون متعة لأبنائه الخمسين فرفضنا، لأن شرائعنا تأبى ذلك. . . وها قد لجأنا إليك لتحمينا فلا تسلمنا لعمنا أبدا!)
- (يا للهول!! إني لألمح لهب الحرب يومض في ظلماء المستقبل!)
- (ولكن زيوس سيكون إلى جانبك!)
- (أواه! قد أجر الحراب على آرجوس! من يستطيع أن يمنع إيجبتوس حقه فيكن؟)
- (الآلهة تستطيع ذلك إذا أيدت قضيتنا وآزرتنا أيها الملك. . . الآلهة تنصر الفضيلة دائماً)
- (على كل. . . أنا لا أستطيع أن أبرم في ذاك أمراً دون أن أستشير شعبي ورجال(144/66)
دولتي!)
- (أنت الحكومة وأنت الشعب وأنت الدولة!)
- (كلا يا فتيات! أنا ملك آرجوس فحسب! لا بد من الشورى!)
- (إذن!. . .
- (إذن ماذا يا فتيات!
- (إذن. . . وحق آلهتك. . . لنشنقن أنفسنا في جذوع هذه التماثيل! ولتكونن مأساتنا خزياً أبدياً في شرف آرجوس لا تمحوه الأيام!!
- (وا حربا! على رسلكن يا فتيات! لا تسئن الظن بشرف آرجوس وشجاعة ملكها. . . ولكنا هنا قلب واحد ينبض بأحاسيس واحدة! بيد أنني أدلكن على مخرج من هذا المأزق الحرج. . . ليذهب أبوكن - هذا الشيخ - بهذه الأفنان الناضرة، فليلقها لدى أقدام الآلهة في معبد المدينة حيث يعكف الشعب على أربابه يبتهل إليها ويصلي لها. . . فإذا سأله في ذلك أحد، فليبث شكواه، وليذرف دموعه، وليكسب إلى جانبه الجماهير الحاشدة التي نحكم باسمها ونستمد منها سلطاننا! فهنالك، وهنالك فقط، يستطيع ملك آرجوس أن يؤيدكن، وأن يحميكن. . . أما أن أعدكن بالحماية من غير أن أرجع إلى شعبي. . . فـ. . . فأنا أخشى أن يقولوا إني أذهبت ريحهم وهرقت دماءهم فيما لم يكونوا منه بسبيل!!)
- 5 -
ويُنْفذ الملك مرشداً مع دانوس يدله على الطريق إلى معبد آرجوس الجامع، ويودع البنات لينطلق بدوره، فيؤيد قضيتهن بين وزرائه، وليرقق قلوب الشعب من أجلهن، وليضمن لهن مؤازرة آرجوس كلها
ويأخذ الفتيات في صلاة طويلة كلها آمال وكلها أماني، وكلها ضراعة وكلها ابتهال، وكلها تذكير للآلهة بما حاق بذرية يو التعساء، ثم ثناء على أرباب الأولمب لا ينتهي!
- 6 -
وفيما هن يصلين هذه الصلاة الطويلة، إذا أبوهن، دانوس الشيخ، يدخل عليهن فجأة، حامل إليهن البشرى(144/67)
- (ليهنكن يا فتيات!! ليهنكن! لقد ضمنا أصوات الشعب وتأييد آرجوس!)
- (أبانا! بوركت! يا للبشرى! ولكن. . . قص علينا كيف تم ذلك بحق الآلهة عليك!)
- (ما كدت أجوس خلال آرجوس حتى تكبكب الشعب حولي، مأخوذاً بغرابة بزتي وعجيب هيئتي. . . وزادهم إجلالاً أني ظهرت فيهم كضيف للملك وصديق لآرجوليس؛ فلما نثرت الأفنان عند أقدام الآلهة، وصليت وبكيت، وبثثت شكواي، رثى الأرجيف الكرماء لي، فناشدتهم أن يؤازروني، ويشددوا عضدي، ضد عدوي الغاشم الذي أراد أن يفضحني فيكن، ويجر الخزي عليكن. فهتفوا لي، وحيوني تحية الأبناء الأمناء، وأعطوني موثقهم على افتدائي بأزكى الدماء. . . وعاهدوني على أن يذودوا العالمين دوني. . . ثم هالني أن أرى السماء ترسل أضواءها فتملأ أركان المعبد بهاءً وتكسبها رونقاً ورواء. . . وأقبل الملك فهتف الشعب له، والتفوا حوله، فخطبهم في شأني وحذرهم أن يغضبوا زيوس ربهم إذا لم يؤازروني، وينصروني، ويؤيدوا حقي على باطل عدوي. فهتفوا بلسان واحد أن كيف لا ينصرون لاجئاً إلى قدس زيوس، مستجيرا به، مستشفعاً بآرجوس يرجو حماها! ثم عرضوا آخر الأمر أن أقيم بين ظهرانيهم كواحد منهم، وأن تكون لكن من الحقوق ما للأرجيفيات، غير خائفات ولا مروعات. . . هذه يا بناتي قصتي، وهذه أقضية السماء فاشكرن لها وتبتلن)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(144/68)
البريد الأدبي
أخي الأستاذ الزيات
لا أقدر أن أعلل المصادفة التي جعلتني أكتب قبيل شهر هذه المقطوعة
(الاتصال):
(لم تخلق الحياة جزءا يستطيع أن يعيش متصلا،
حتى الأموات الذين أتموا دوراتهم يبقى اتصالهم بأرواحنا،
والأحياء أنفسهم هل يستطيعون أن يعيشوا بغير أموات؟
هم في يقظاتهم يمشون وراء خواطرهم وأفكارهم
وهم في أحلامهم يعيشون في جزائرهم النائية. . .)
ثم قدمت لي المصادفة كتاب (المرملة) لماترلنك، فلمست بدهشة وتأثير (صوفيته العميقة) وإحساسه بالموتى الذين لا يموتون
(لنكن مطمئنين فالموت لا يحفظ لنا شيئاً أكثر تجهماً من الحياة، وما الموت إلا حياة لا ينفذ إليها نصب ولا حزن ولا شقاء! حيثما يقيم فالريح مقيم ولا شيء يضيع)
(لا نصلِّ من أجل الموتى! ولكن لنأتهم مبتهلين فان ما يملكونه لتقديمه إلينا أكثر مما نملكه لتقديمه إليهم)
ثم جاءت كلامة الأستاذ أحمد أمين تحمل إليك التعزية في الرجاء الذاهب والكوكب الغارب!
يقول بوذا: (لا تقيد نفسك بالمحسوسات، فالتقيد بها يشقيك. . . عش متجردا من كل حب محسوس وعلاقة محسوسة) وقد أجد في هذه الكلمة كل الشفاء لو تستقر في النفس. ولكن النفس التي تؤلف كل هذا المحسوس وترتبط به في كل لحظة وتعيش معه في كل مكان، كيف ينزع منها ولا تجد لنزعه مرارة؟ وكيف لا تحس به النفس وهي تغذيه كل يوم بدموع!
جميل أن أعيش بعيداً عن المحسوس، وأجمل منه هذا العقل الذي يغرس في قلبي هذا الإيمان المجرد؛ وهل أستطيع أن أبلغ الإيمان المجرد إلا بعد أن تجردني الحادثات وتنثر أوراقي كالشجرة التي لا تلمس نفسها وتحس وجودها إلا بعد أن تتجرد من أوراقها(144/69)
وأزهارها. ولا يأتي التجرد من غير ثمن!
ثمن هذا التجرد شقاء نتحمله، وألوان من العذاب نتذوقها، وقطع من أكبادنا تمشي على الأرض إلى الأرض!
لا أستطيع أن أقول لك: (تعز يا أخي بالتجرد!) وهذا التجرد نفسه يحتاج إلى تعزية. ولا أن أقول: (انفض يديك من الصغير المفقود) فانه جر إلى التراب قطعة من كبدك معه. ولكن دع هذه القطعة فيها حركة وفيها حياة. . . تحيا تحت التراب كما تحيا فوقه. . . ومتى رأيت أن الحياة تعمل هناك كما تعمل هنا، وأبصرت أن الحياة التي تتمشى في جذور الأرض هي التي تتمشى في مطالع أزهارها. كان لك من هذا عزاء، لأنك تأمن على هذه القطعة التي سلخت منك. وفي الذكرى المتصلة حياة، وفي الرجاء المتصل الذي لا ينقطع ألف حياة.
خليل هنداوي
حول راثي الأندلس المجهول
يرجع الفضل في العودة إلى إثارة البحث عن صاحب القصيدة
التي نشرها، للمرة الأولى، الدكتور صوالح محمد بالجزائر
سنة 1919، إلى صديقي السيد عبد الرحمن حجي، مدرس
اللغة العربية بمدرسة أبناء الأعيان بسلا. واتخذ ميدانه
(الرسالة) (عدد 131 - 6136) وطلب من المشتغلين بالأدب
الأندلسي أن يعلنوا عن صاحبها إذا عرفوه، فلم يجيبه أحد
سوى السيد محمد عبد الله عنان الذي حاول في مقالة نشرتها
له (الرسالة) أيضاً عدد (133 - 20136) تحقيق فترة الدهر
التي يرجع إليها قرض القصيدة تسهيلا في البحث عن صاحبها(144/70)
وعصره. وقال السيد حجي إنه عرض القصيدة على المؤرخ
المغربي السيد محمد بن على الدكالي السلوي فذكر له أن
صاحبها كما يفهم من القصيدة من المرية، ولعله أبو جعفر بن
خاتمة، وقد تكون مذكورة في كتابه (مزية المرية) الذي في
دير الأسكوربال نسخة منه. وقال السيد حجي أيضا إن
الدكتور صوالح قال في كتابه إن هذه القصيدة من جملة
القصائد التي بعثها مسلمو الأندلس يستغيثون بها السلطان
العثماني بايزيد الثاني. ولم نعثر نحن على هذا القول في
الكتاب المذكور
أما نسبتها إلى أبي جعفر أحمد بن خاتمة فهو غلط تاريخي، فقد مات هذا في اليوم السابع من شهر شعبان سنة 770 (فهرست أبي عبد الحضرامي السبتي، التي ألفها له الخطيب بن مرزوق (النفح، ج3، ص244، ط القاهرة)
وابن خاتمة من معاصري لسان الدين بن الخطيب المشهورين وله معه مكاتبات. وله أيضا في الوزير قصائد (النفح، ج3، ص433 ط القاهرة). ومن جهة أخرى، فقد ترجم الوزير في الإحاطة لابن خاتمة وعَدّه من أصدقائه (الإحاطة، ج1، ص174، ط القاهرة 1319)
فليست القصيدة إذاً لابن خاتمة الذي مات، على الأقل، منذ 80 سنة قبل الفترة التاريخية التي قيلت فيها والمُستَنْتجَة منها، كما لا يمكن أن تجيء في كتابه (مزية المرية)
وجاء البيت 77 من القصيدة هكذا:
ترى في الأسى أعلامَها وهي خُشَّع ... ومِنْبرها مُستَعِبرٌ وسَريرُها
سقطت (في) من صدره في الأصل وفي (الرسالة)، إلا أن ناشر الأصل نَبّه عن ذلك في آخر الكتاب في جدول التصحيح. ولعل صديقي حجي أغفل النظر إلى الجدول(144/71)
حول ذخيرة ابن بسام أيضا
واهتيل الكتابة إلى (الرسالة) التي مضى لها الكلام حول ذخيرة ابن بسام (عدد 115) لأزيد أن النسختين المعروفتين اليوم بالمغرب الأقصى من هذا التأليف هما:
1 - نسخة ينقصها الجزء الرابع في خزانة السيد عباس بن إبراهيم، أحد قضاة مدينة مراكش الحاليين
2 - نسخة أخرى ينقصها الجزء الرابع أيضا، كانت لأوقاف مدينة تطوان بمنطقة النفوذ الأسباني بالمغرب، ولكن شخصا توصل إلى اقتنائها وحملها إلى الرباط بمنطقة النفوذ الفرنسي. وقد اقتنتها منه الحكومة المغربية لخزانة الرباط العمومية. وقد دخلتها فعلا، وقيدت برقم (1324) بدفتر المخطوطات العربية الثاني. ولم يقتنها السيد ليفي بروفنسال لنفسه كما شاع ذلك بالمغرب. وقد استعارها أخيراً السيد ليفي بروفانسال الأستاذ بجامعة الجزائر بواسطة خزانة مدينة الجزائر الأهلية. ولعله لينشرها أو ليقارنها بأخرى. ومما لاشك فيه أن بخزائن المغرب نسخا أخرى لا تزال مجهولة
عبرات حرار
ولتسمح لي (الرسالة) مرة أخرى، لأنتهز هذه الفرصة أيضاً لأوجه هذا السؤال إلى السيد عبد القادر المغربي رئيس المجمع العربي بدمشق سابقاً
سيدي:
قلتَ في (مجلة مجمع اللغة العربية الملكي) (عدد 1 صفحة 338):
(إن العرب إن لم يصفوا الدّموع بلفظ الحَرَارة فانهم وصفوها بمرادف الحرارة، أعني (السخونة والإحراق). . .
(والفرق بين العربي والإفرنجي: أن الأولين ينسبون السُّخونة إلى عين نفسها، والإفرنج ينسبون الحرارة إلى دموعها
فما رأيك يا سيدي في قول الخنساء:
مَنْ كان يوماً باكِياً سَيّداً ... فليبكه بالعَبرَات الحرار
(سلا - المغرب الأقصى)(144/72)
محمد حصار
كتاب هام عن المسألة الفلسطينية
أثارت المسألة الفلسطينية في العهد الأخير كثيراً من الاهتمام وصدرت عنها وعن تطوراتها كتب كثيرة، ولكن معظم هذه الكتب تميل إلى الناحية اليهودية وإلى تأييد السياسة البريطانية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، وقلما ينصف العرب أو يقدر مطالبهم وحقوقهم قدرها؛ بيد أنه ظهر أخيرا كتاب بالإنكليزية عن المسألة الفلسطينية عنوانه (فلسطين العربية) بقلم السيدة بياتريس ستيوارث إركسن يؤثر الناحية العربية بكثير من الشرح والتفصيل، ويميل إلى إنصاف العرب وتصوير وجهة النظر العربية تصويراً عادلاً. وتمهد المؤلفة لبحثها باستعراض تاريخ فلسطين منذ أقدم العصور حتى الحرب الكبرى، ثم تاريخ المسألة الصهيونية منذ فاتحة القرن الماضي حتى سعي اليهودية إلى عرض تأييدها ونفوذها على الحكومة الإنكليزية مقابل إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وصدور عهد بلفور الشهير بإنشاء الوطن القومي، ثم قيام الانتداب البريطاني على فلسطين
وتشير المؤلفة إلى إغفال رأي العرب فتقول إن منح فلسطين لتكون وطناً قومياً لم يرجع فيه إلى رأي السكان (الفقراء) الذين كانوا حلفاءنا. كذلك لم تقدر فيه عواقب تدفق الهجرة إلى بلد صغير محدود الموارد، ولم تكن هناك سياسة ثابتة لمعالجة الموقف الذي ينشأ عن ذلك، وهي سياسة كان يجب أن تقوم على استشارة ذوي الشأن جميعاً، وأن يراعي فيها تنفيذ الشطر الثاني من تصريح بلفور الخاص بأنه (لن يعمل شيء يمكن أن يضر بالحقوق المدنية أو الدينية للطوائف غير اليهودية من سكان فلسطين)، ولا ريب أن تعيين هذه الحقوق الدينية والمدنية كان من شأنه أن يفر كثيراً من سوء التفاهم، وأن يحمل العرب على الثقة بالدولة المنتدبة، وأن يزيد في احتمال التعاون بين مختلف العناصر
وقد هرع اليهود إلى البلاد لا كمهاجرين بل كفاتحين، وشعر العرب بأنهم حرموا كل نصيب في النفوذ والحكم؛ وكان المندوب السامي الأول يهودياً، فكان تعيينه ضربة للعرب. وتعاقب المندوبون السامون وتعاقبت الوزارات البريطانية ولم يجد العرب إنصافاً، وألفت(144/73)
السلطات يدها مغلولة بنصوص الانتداب، واستمر الاحتكاك بين العرب واليهود؛ وزادت المنازعات الدينية الأمور تعقيداً، وكانت تنتهي أحياناً بسفك الدماء. بيد أن اليهود لم يكتفوا بما بلغه الوطن القومي من التوطد والتقدم، فهنالك (حزب الإعادة) الذي يتزعمه فلادمير جابوتنسكي، وهو يطالب بإطلاق الهجرة اليهودية من كل قيد، وحماية المستعمرين بمنحهم حقوقاً ومزايا خاصة، وغير ذلك من المطالب المتطرفة
ولا ريب أن العرب يقابلون كل هذه المطالب والدعاوى بالإنكار والمقاومة؛ ومن المستحيل أن تعاون الأحوال القائمة على وضع أي حل مرض للمسألة الفلسطينية
وتقترح المؤلفة من عندها حلا يقوم على التوزيع الجفرافي، وترى تقسيم فلسطين إلى قسمين يكون كل منهما دولة خاصة، فتكون إحدى الدولتين عربية وعاصمتها بيت المقدس وثغرها يافا؛ وتكون الأخرى يهودية وعاصمتها وثغرها تل أبيب، وتنضم الدولتان إلى عصبة الأمم؛ وتعتبر بيت المقدس وحيرون وطبرية وصفد وبيت لحم مدناً دينية تخضع للنظم والقوانين التي تضعها عصبة الأمم، وتبقي حيفا ثغراً حراً، وتضم شرق الأردن إلى فلسطين العربية
والخلاصة أن المؤلفة تبدي كثيرا من الاعتدال في عرض المسألة الفلسطينية وتخص الناحية العربية بكثير من الإنصاف والعطف، وتبدي شجاعة في عرض القضية العربية يندر أن يبديها قلم أجنبي. ومن ثم فان كتابها خليق باهتمام العرب، وهو بلا ريب وثيقة مفيدة في عرض القضية العربية في إنكلترا وفي أوربا
قصص فلسطينية
صدرت أخيرا ترجمة إنكليزية عبرية من القصص الفلسطينية عنوانها أعني (قافلة فلسطين) بقلم الكاتب اليهودي موشي سميلانسكي وهذا الكاتب القاص معروف بين مواطنيه بقوة تصويره وطرافة خياله. ويحتوي كتابه المذكور على إحدى عشرة قصص فلسطينية، عن اليهود والفلاحين والبدو، ويميل سميلانسكي بنوع خاص إلى تصوير الحياة الريفية، ويجد هذا النوع من الصور. وبين القصص المذكورة عدة تمتاز بحسن السبك والمفاجآت المدهشة، وبينها عدد يمتاز بحسن التصوير والدراسة الطبيعية والنفسية العميقة ولاسيما فيما يتعلق بدسائس القرية، ووصف الحياة الريفية ذاتها وحياة الفلاحين وأعمالهم(144/74)
في الحقل والمنزل، ومما يلاحظ أن الكاتب حتى في دراساته الوصفية يجانب الإسهاب الممل، ويقتصر في الوصف واللفظ على ما لابد منه لإظهار الصور والمعاني
طريقة المجمع اللغوي في كتابة الأعلام الأعجمية
وافق مجمع اللغة العربية الملكي على القواعد الآتية في كتابة الأعلام الأعجمية وهي:
1 - أن يكتب العلم الإفرنجي بحسب نطقه في اللغة الإفرنجية ومعه اللفظ الإفرنجي بحروف لاتينية بين قوسين في البحوث والكتب العلمية على حسب ما يقرره المجمع في شأن كتابة الأصوات اللاتينية التي لا نظير لها في العربية
2 - تكتب أسماء الأعلام بحسب النطق بها في لغتها الأصلية أي كما ينطق بها أهلها وليس كما تكتب. مع مراعاة ما يأتي:
3 - جميع المعربات القديمة من أسماء البلدان والممالك والأشخاص المشهورين في التاريخ التي ذكرت في كتب العرب يحافظ عليها كما نطق بها قديماً، ويجوز أن نذكر الأسماء الحديثة التي شاعت بين قوسين، وإذا اختلف العرب في نطقين رجح أوثقهما
4 - أسماء البلدان والأعلام الأجنبية التي اشتهرت حديثاً بنطق خاص وصيغة خاصة مثل باريس وإنجلترا والنمسا وفرنسا وغير ذلك تبقى كما اشتهرت نطقاً وكتابة
5 - الأعلام القديمة يونانية ولاتينية ينظر في وضع قواعد خاصة بها
6 - الأعلام السامية القديمة التي تكتب بحروف الهجاء الخاصة بها توضع لها قواعد خاصة بها
7 - اللغات التي لا تزال تكتب بالحروف العربية، ولكن فيها أصواتاً ليس لها حروف عربية، ولهذه الأصوات في لغاتها حروف خاصة اصطلح عليها كالفارسية والملاوية والهندستانية والتركية في الحكم العثماني، ترى اللجنة بشأنها أن تدرس هذه الأصوات الخاصة وتتخذ لها الحروف التي وضعها لها أهلها
8 - بعض القبائل والبلاد الإسلامية لها لغة خاصة لا يستعملونها غالباً في الكتابة، وإنما يكتبون باللغة العربية، ولكن لها أعلاماً بعض أصواتها لا يطابق الحروف العربية، وقد وضعوا لها إشارات لتأدية هذا النطق، وفي بعض الأحيان تكون هذه الإشارات متعددة للصوت الواحد - ترى اللجنة بعد البحث أن يختار أحد الاصطلاحات في كتابة هذه(144/75)
الأعلام
وانتهى المجمع من المناقشة في هذا القرار بوضع الحرف - جاف - ويكتب كافا على شرطتها ثلاث نقط
9 - الأسماء الأجنبية النصرانية تكتب كما عربها نصارى الشرق. فمثلا يقال بطرس في وبقطر في وبولص في ويعقوب في وأيوب في وهكذا
10 - قبلت اللجنة إدخال الحروف ورسمته باء تحتها ثلاث نقط و (تش ورسمته جيما تحتها ثلاث نقط، وورسمته زايا فوقها ثلاث نقط، وورسمته كافاً فوقها ثلاث نقط وهو حرف الجاف، وقد أرادت اللجنة من إدخال هذه الحروف للإشارة بها إلى بعض الأصوات التي لا توجد في العربية واختارت هذه العلامات لتداولها في اللغات الفارسية والتركية والهندية والملايوية
11 - قبلت اللجنة أن يكتب الحرف واوا بثلاث نقط فوقها وقد عدلت اللجنة عن كتابة (ف) بثلاث نقط لأن هذا الحرف مستعمل في بلاد المغرب إشارة إلى الحرف (جاف) أي الكاف المعقودة، وفي الملايو إشارة إلى الحرف لتعيين بعض الأصوات في الأعلام الإفرنجية
1 - اللغات التي لا تزال تكتب بالحروف العربية ولكن فيها أصواتاً تخالف أصوات الحروف العربية ولهذه الأصوات في لغاتها حروف خاصة اصطلح عليها كالفارسية والملايوية والهندستانية، ترى اللجنة بشأنها أن تدرس هذه الأصوات الخاصة وتتخذ لها الحروف التي وضعها لها أهلها
وقد درست اللجنة هذه الأصوات الخاصة المشار إليها ووضعت فيها ثلاثة قرارات:
(أ) الحرف (انج) في لغة الملايو. يرسم نون وجاف وهو يرسم في لغة الملايو غينا فوقها ثلاث نقط
(ب) الحروف الهندية المرسومة راء ذات أربع نقط، وتنطق بين الراء والضاد، وكذلك الراء التي فوقها طاء يكتفى بكتابتها راء عربية. وكذلك الذال التي فوقها أربعة نقط يكتفى بكتابتها دالا عربية
(جـ) بعض أسماء البلاد في الجزائر والهند الشرقية ومقاطعة موريتانيا وما يليها تنتهي(144/76)
بحسب نطق أهلها بفتحة مثل ولات ومندر وبعضهم يكتب بعد الحرف الأخير المفتوح تاء مربوطة، وترى اللجنة أن تختم كل الأعلام التي من هذا القبيل بتاء مربوطة وقد اتبع ابن بطوطة هذه القاعدة
2 - حرف - بالإنجليزي يكتب ألفا. وإذا كان في أول الكلمة كتب ألفاً عليها همزة. والحروف الإنجليزية , , وكل ما أشبهها في النطق تكتب بالعربية ياء. وإذا كان الحرف ممالا في اللغة الأجنبية، وضعت ألف قصيرة قبل الياء لتدل على أنه ممال كالعدد (8) للدلالة على الإشمام مثل كوته والحرف الأول هو حرف الجاف
3 - تكتب الأعلام التركية كما كتبها الترك بالحروف العربية حسب الاصطلاحات المتداولة عندهم، قبل اتخاذ الحروف اللاتينية وما جد بعد ذلك فحكمه حكم اللغات الإفرنجية
4 - الأعلام الأجنبية المنتهية في نطقها الأصلي بألف تكتب بالألف إلا فيما عربه العرب بالتاء المربوطة، كبخارى وبصرى وكسرى وعيسى وموسى
5 - الإمالة:
رأت اللجنة أن توضع علامة أشبه بالمدة الرأسية للدلالة على هذا الصوت كما في - مثلا فتكتب هكذا جيبور مع وضع مدة رأسية فوق الياء ولذلك يكتب حرف كما ينطق به أهل كل لغة، لأنه في الألمانية ينطق (ي) وفي الأسبانية (خ) كما هو في موخاكار وكذلك رأت اللجنة أن تضع علامتين للدلالة على حرف وحرف المخفف والمثل على الأولي فتكتب في العربية (زان ده لوز) بوضع ثلاث نقط فوق الزاي وعلى اللام علامة رقم (7) للدلالة على هذا الصوت والثانية كما في فتكتب في العربية كوته وعلى الجاف علامة تشبه رقم (8) كما سبق ذلك
حول كتاب الذخيرة أيضاً
للمرة الثانية نرى في سيدة الصحف العربية (الرسالة) الغراء التنويه التام بالعلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال إذ كان السبب الوحيد في استكشاف أثر حافل عن تاريخ الأندلس هو نسخة كاملة من كتاب (الذخيرة) لابن بسام، وساعده على ذلك أنه كان مديراً لمعهد المباحث العالية المغربية برباط الفتح، فقد نوهت به للمرة الأولى في العدد (115) بقولها (. . . لبث يبحث وينقب أعواماً طويلة في خبايا المكاتب المغربية حتى(144/77)
ظفر بنسخة حسنة كاملة من كتاب: (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وقالت مثل ذلك في العدد (140)
على أن الحقيقة ونفس الأمر خلاف ما كتبته الصحف الأوربية وخلاف ما نقلته الرسالة. والحقيقة التي لا يشوبها شيء هي أن كتاب الذخيرة كان في خزانة القائد الأكبر السيد اليزيد ابن الصالح الغماري (القاطن بغمارة من أعمال تطوان) من جملة الآثار النفيسة الموجودة بخزانته القيمة التي خلفها أسلافه الكرام حبوساً على عائلته أولاد صالح. وفي ذات يوم أتاه بعض أصدقائه وطلب من إعارة الذخيرة على أن يلتزم بطبعها والريع يقسمه بينهما، فاستحيا منه القائد ومكنه منها، فذهب تواً إلى خزانة المخزن الكبرى بالرباط وطلب من رئيسها شراءها منه فأخذها وأجله للغد، وفي الغد ذهب للخزانة فأعطاه الرئيس (3000) فرنك ثمن الذخيرة، فأبى من البيع، فلم يرض الرئيس بردها له قائلاً: إن المخزن الشريف أرادها فخذ الثمن أو اذهب؛ فلم ينفعه إلا أن اخذ الثمن وذهب لسبيله. تلك حقيقة قصة كتاب (الذخيرة) واكتشافها
ونحن لا ننكر فضل الأستاذ ليفي بروفنسال فهو كما ذكرت (الرسالة) الغراء وزيادة، وإن ننس فلا ننس جهوده التي بذلها نحو الكتب الإسلامية، وإنما نحب إظهار الحقيقة ليس إلا. ومن الكتب التي اعتني بنشرها هذا الأستاذ ولم تذكرها الرسالة: المجلد الأول من (الجامع الصحيح) للإمام أبي عبد الله البخاري المكتوب بخط ورواية أبي عمران موسى بن سعادة الأندلسي، نقل منه نسخاً عديدة بالتصوير الشمسي ومعه كتاب (التنويه والإشادة بمقام رواية ابن سعادة) للعلامة المحدث الشهير صاحب الفضيلة السيد محمد عبد الحي الكناني، والقسم الثاني من (الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام) لذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب، وكتاب (مفاخر البربر) مجهول المؤلف، و (نخبة تاريخية) جامعة لأخبار المغرب الأقصى جمعها من كتب شتى، و (نبذ تاريخية) في أخبار البربر في القرون الوسطى انتخبها من كتاب مفاخر البرير المتقدم وغيرها من الكتب
(فاس - المغرب الأقصى)
إدريس الكتاني(144/78)
العدد 145 - بتاريخ: 13 - 04 - 1936(/)
اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات
الاستقلال
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ليست حقيقة الأمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحيُّ المكتنُّ في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصورُ عليه في تركيبه؛ كعصير الشجرة لا يُرى عمله والشجرة كلها هي عمله
وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنه يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل للأمة شأن الأسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويوجد في الاختلاف نزعة التشابه، ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة، ويبدع للأمة شخصيتها المتميزة، ويوجب لهذه الشخصية بازاء غيرها قانون التناصر والحميَّة؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوازع متآزرة، فتجتمع الأمة كلها على الرأي: تتساند له بقواها، ويشد بعضها بعضاً فيه. وبهذا كله يكون روح الأمة قد وضع في كلمة الأمة معناها
والخلق القومي الذي ينشئه للأمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه، إذ يعمل في الحيِّز الباطن من وراء الشعور، متسلطا على الفكر، مصرِّفاً لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم، وكأنه على التحقيق وضعُ الأجداد علامتهم الخاصة على ذريتهم
أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة. والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها؛ وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل؛ وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها، فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه في المستعبدين لزوم الكلمة والكلمات القليلة
وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة(145/1)
شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها، والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه. فأما إذا كان منه التراخي والإهمال، وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابعٌ لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئٌ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان
لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحوّلُ إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده. فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء
وما ذلَّت لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار. ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً؛ وأما الثالث فتقييدُ مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع
والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قِبَل الدين أو القومية. فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم، ويتبرءون من سلفهم، وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهةٌ للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم؛ فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي؛ ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها، فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام، وقد يكون(145/2)
الوطني مثله أو أجمل منه بيد أنه فقد الميل، فضعفت صلته بالنفس، فعادت كل مميزاته لا تميزه
وأعجبُ من هذا في أمرهم، أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سمِّي الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصاغر وظهرت فيه ذلة. . . وما ذاك إلا صِغَر نفوسهم وذلتها، إذ لا ينتخون لقوميتهم فلا يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الأجنبي
والشرق مبتلى بهذه العلة، ومنها جاءت مشاكله أو أكثرها؛ وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موضعاً إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية؛ ولو أخذنا نحن الشرقيين بهذا، لكان هذا وحده علاجاً حاسماً لأكثر مشاكلنا
فاللغات تتنازع القومية، ولَهيَ والله احتلال عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه
أما إذا قويت العصبية، وعزت اللغة، وثارت لها الحّميّة؛ فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يُرتَفَق بها، ويرجع شبر الأجنبي شبرا لا متراً. . . . وتكون تلك العصبية للغة القومية مادةً وعوناً لكل ما هو قومي؛ فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة، هي قوة الإيمان بالمجد الوطني واستقلال الوطن؛ ومتى تعين الأول أنه الأول، فكل قوى الوجود لا تجعل الذي بعده شيئاً إلا أنه الثاني
والدين هو حقيقة الخلق الاجتماعي في الأمة، وهو الذي يجعل القلوب كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما، فهو بذلك الضمير القانوني للشعب، وبه لا بغيره ثبات الأمة على فضائلها النفسية، وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب
ولهذا كان الدين من أقوى الوسائل التي يعول عليها في إيقاظ ضمير الأمة، وتنبيه روحها، واهتياج خيالها؛ إذ فيه أعظمُ السلطة التي لها وحدها قوة الغلبة على الماديات. فسلطان الدين هو سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوى هذا السلطان في شعب، كان حمياً(145/3)
أبيّاً، لا ترغمه قوة، ولا يعنو للقهر
ولولا التدين بالشريعة، لما استقامت الطاعة للقانون في النفس؛ ولولا الطاعة النفسية للقوانين، لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين إلا تحديد مكان الحي في فضائل الحياة، وتعيين تبعته في حقوقها وواجباتها، وجعل ذلك كله نظاماً مستقراً فيه لا يتغير، ودفع الإنسان بهذا النظام نحو الأكمل، ودائماً نحو الأكمل
وكل أمة ضعف الدينُ فيها، اختلت هندستها الاجتماعية، وماج بعضها في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعل الغاية الأخيرة من الحياة في هذه الأرض؛ وذلك لتنظيم الغايات الأرضية في الناس؛ فلا يأكل بعضهم بعضا، فيغتني الغني وهو آمن، ويفتقر الفقير وهو قانع، ويكون ثواب الأعلى في أن يعود على الأسفل بالمبرَّة، وثواب الأسفل في أن يصير على ترك الأعلى في منزلته؛ ثم ينصرف الجميع بفضائلهم إلى تحقيق الغاية الإلهية الواحدة، التي لا يكبر عليها الكبير، ولا يصغر عنها الصغير؛ وهي الحق، والصلاح والخير، والتعاون على البر والتقوى
ومادام عمل الدين هو تكوين الخلق الثابت الدائب في عمله، المعتز بقوته، المطمئن إلى صبره، النافر من الضعف، الأبي على الذل، الكافر بالاستعباد، المؤمن بالموت في المدافعة عن حوزته، المجْزِيّ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته، العامل في مصلحة الجماعة، المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس - مادام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق - فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجد الاستقلال قوة هي أقوى له وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفس الأمة وانطبعت عليه
وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تَشْرُف وتسود وتعتز، يكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل
وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس، يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له؛ إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله، الثبات على النزعة السياسية، والصلابة في الحق، والإيمان بمجد العمل، وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي لتفتنه عن رأيه ومذهبه: من مال، أو جاه، أو(145/4)
منصب، أو موافقة الهوى، أو خشية النقمة، أو خوف الوعيد، إلى غيرها من كل ما يستميل به الباطل أو يرهب به الظلم
ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن، القوي الإيمان، الممتلئ ثقة ويقيناً ووفاءً وصدقاً وعزماً وإصراراً على فضيلته وثباتاً على ما يلقي في سبيلها - لا يكون رجلاً كالناس؛ بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته وغايته السامية لا تنفصل عنه، هو رجلُ صِدْقِ المبدأ، وصدق الكلمة، وصدق الأمل، وصدق النزعة؛ وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر
والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر، وهي وحدة تاريخية في الشعب؛ تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد؛ ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس، وفي اشتمالها على التحريم والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون ديناً ضيقاً خاصاً به، يحصره في قبيله ووطنه، ويحقق في أفراده الألفة والتشابك، ويأخذهم جميعاً بمذهب واحد: هو إجلال الماضي
وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي، هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله، وفلاسفته، وعلماءه، وأدباءه، وأهل الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظائمهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه، وحية في آماله وأعصابه
والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئاً نفسياً حقيقياً؛ حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته، ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة. وليس يعرف هذا إلا من اغترب عن وطنه، وخالط غير قومه، واستوحش من غير عاداته؛ فهناك هناك يثبت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا
وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه في الوطني روح التميز عن الأجنبي، وتوحش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر
ومتى صدقت الوطنية في النفس، أقرت كل شيء أجنبي في حقيقته الأجنبية؛ فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال، وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني
وباللغة والدين والعادات، ينحصر الشعب في ذاته السامية بخصائصها ومقوماتها؛ فلا يسهل انتزاعه منها ولا انتسافه من تاريخه؛ وإذا ألجئ إلى حال من القهر، لم ينخذل ولم(145/5)
يتضعضع، واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة: إن لم تترك لنفسها، لم تعط من نفسها إلا الوَخْز. . . . . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(145/6)
2 - النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق
للدكتور عبد الرزاق السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
وإذا كانت حركة الرابطة الوطنية بقيت قوية عنيفة في أوروبا طوال القرن التاسع عشر كما قدمنا، فإن هذه الحركة قد اقترنت بها حركة رابطة الجنس، ولم تتعارض الحركتان. فإن الوطن الفرنسي والوطن الإيطالي والوطن الأسباني، وغير هذه من الأوطان اللاتينية ترعرعت واشتدت ولم تتعارض مع الجامعة اللاتينية؛ على أن اتفاق رابطة الوطن مع رابطة الجنس يظهر رائعاً أخاذاً إذا انتقلنا إلى الشعوب الجرمانية؛ فكل شعب له وطنه؛
2 - النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق
للدكتور عبد الرزاق السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
وإذا كانت حركة الرابطة الوطنية بقيت قوية عنيفة في أوروبا طوال القرن التاسع عشر كما قدمنا، فإن هذه الحركة قد اقترنت بها حركة رابطة الجنس، ولم تتعارض الحركتان. فإن الوطن الفرنسي والوطن الإيطالي والوطن الأسباني، وغير هذه من الأوطان اللاتينية ترعرعت واشتدت ولم تتعارض مع الجامعة اللاتينية؛ على أن اتفاق رابطة الوطن مع رابطة الجنس يظهر رائعاً أخاذاً إذا انتقلنا إلى الشعوب الجرمانية؛ فكل شعب له وطنه؛ وكثيراً ما حاربت بروسيا في الماضي دولاً أخرى جرمانية؛ وكثيراً ما حاربت النمسا وانتصرت عليها، ومع كل ذلك فإن الشعوب الجرمانية لا ينسيها الإغراق في وطنيتها أنها تنتسب جميعاً إلى جنس واحد، وأن دماً واحداً يجري في عروق الجميع
على أن ائتلاف رابطة الوطن مع رابطة الجنس يختلف قوة وضعفاً. فالرابطتان أضعف ما تكونان ائتلافاً إذا كانت رابطة الوطن قوية متماسكة، تستطيع القيام على رجليها دون حاجة إلى معين؛ والمثل لذلك الوطن الفرنسي والوطن الإيطالي، والرابطتان أقوى ما تكونان ائتلافاً إذا ضعف وطن، فيستمسك بوطن آخر قوي من جنسه، كما هو الحال بين النمسا وألمانيا، وكذلك إذا كان كل وطن ضعيفاً بذاته قوياً باجتماعه مع الأوطان الأخرى من جنسه، كما هو الحال بين الأقطار العربية؛ وأخيراً إذا اندمجت جنسيات متعددة في إمبراطورية واحدة، ثم أخذت هذه الإمبراطورية المصطنعة في الانحلال، فإن حركة الجنسيات تقوى في هذه الحالة، وتتمخض عن حركات استقلالية، كما وقع هذا الأمر للإمبراطورية النمسوية وللإمبراطورية العثمانية
وقد آن لنا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة في النهضات القومية الأوربية، وهي المرحلة الحاضرة، وقد بدأت منذ فجر القرن العشرين، وبنوع خاص بعد الحرب الكبرى
3 - الوقت الحاضر: رابطة الوطن والجنس ورابطة الطبقات
نشهد في الوقت الحاضر في أوروبا صراعاً عنيفاً ما بين رابطتين، وكفاحاً مستعراً ما بين(145/7)
نظامين من نظم الحكم. أما الرابطتان فإحداهما رابطة الوطن وتعززها رابطة الجنس، والثانية رابطة الطبقات أو الحركة الاشتراكية. وأما النظامان فأحدهما هو النظام الديمقراطي، والآخر هو النظام الدكتاتوري
وما بنا أن نعني بحركة ضعيفة ولدت عرجاء بعد أن تمخضت عنها آلام الإنسانية من أهوال الحرب الكبرى، وتلك هي رابطة البشرية، تنتظم بني البشر كافة في جامعة واحدة، يسمونها اليوم بعصبة الأمم. فإن رابطة البشرية هذه لا تزال وليداً بين الحياة والموت، فلندع لها بالبقاء ولنتركها جانباً
ولنستعرض الكفاح الذي نشهده الآن في أوروبا بين رابطة الوطن ورابطة الطبقات
ليس هذا الكفاح وليد القرن العشرين، بل هو قد بدأ منذ القرن التاسع عشر، وقد تعقبنا أصوله في لمحة سريعة عندما كنا نتكلم في تقدم الصناعات الكبرى الذي قوى هاتين الرابطتين المتناقضتين. والآن نعرض لهذا الكفاح في شيء من التفصيل، فنتكلم في الاشتراكية وقد قامت على رابطة الطبقات، ثم نتكلم في الفاشية والنازية، وقد قامت الأولى على رابطة الوطن والأخرى على رابطة الجنس
أ - الاشتراكية
بدأت الاشتراكية تتأصل جذورها في أوروبا منذ القرن التاسع عشر. وقد نبتت في تلك التربة الصناعية التي سبق لنا ذكرها، إذ كثر عدد الطبقات العاملة، واستغلهم أصحاب رؤوس الأموال استغلالاً تأباه الإنسانية. فوجدت الاشتراكية جواً صالحاً تترعرع فيه وتزدهر. على أن المذهب الاشتراكي لم يكن وليد القرن التاسع عشر، فهو مذهب قديم، يمكن أن نرجع أصوله إلى أفلاطون الفيلسوف اليوناني المعروف، وقد كان يقول بالشيوعية في الملكية وفي الأسرة، ووضع كتابه (الجمهورية) يؤيد فيه هذا المذهب. وقام في أوائل القرن السادس عشر توماس مورا يقول بالشيوعية في المال دون الأسرة، في كتابه (جزيرة أتوبيا). ولكن الاشتراكية لم تأخذ شكلاً علمياً منظماً إلا بقلم زعيمها الأكبر كارل ماركس نبي الاشتراكية في أواسط القرن التاسع عشر
وللاشتراكية فلسفة علمية ولها خطط عملية. أما فلسفتها فنظرة مادية إلى وقائع التاريخ، وتفسير هذه الوقائع تفسيراً اقتصادياً محضا. وهذا ما يسمى عادة بالمادية التاريخية أو(145/8)
بالتفسير الاقتصادي للتاريخ. أما خططها العملية فقد انقسم أنصارها بالنسبة لها إلى فريقين: فريق معتدل يقول بالعمل في الدائرة الدستورية، والوصول إلى الحكم من طريق النظم النيابية المشروعة، أي اتخاذ الديمقراطية وسيلة لتحقيق الحكومة الاشتراكية. وفريق متطرف يقول بعدم الجدوى من كل هذه الخطط، ولابد من الثورة والانتقاض على الديمقراطية الرأسمالية وهد أركان النظام النيابي، والاستيلاء على الحكم بالقوة، حتى تتحقق الحكومة الاشتراكية. وكان كارل ماركس قد أسس الدولية الأولى في سنة 1864 في لندن، حتى يجمع شتات العمال من جميع أطراف العالم. ثم لما انقسم أشياعه إلى الفريقين المتقدمي الذكر، أسس الفريق المعتدل الدولية الثانية، وأسس الفريق المتطرف الدولية الثالثة، وهي دولية موسكو المعروفة
وأقول لكم كلمة موجزة عن المادية التاريخية أو التفسير الاقتصادي للتاريخ، حتى نتفهم المذهب الاشتراكي من ناحيته الفلسفية. تتلخص هذه المادية التاريخية في فكرة جوهرية، هي أن الحاجات المادية للإنسان والعوامل الاقتصادية التي تحيط به هي التي تسيّر التاريخ وتكيّف الحوادث. وكل حوادث التاريخ ومراحله المتعاقبة لا يمكن تفسيرها إلا تفسيراً اقتصادياً؛ وليس للإنسانية إلا تاريخ واحد، هو تاريخها الاقتصادي المادي؛ أما الدين، وأما الأخلاق، وأما المثل العليا، وأما العظمة والبطولة، فكل هذا شيء مرده إلى المادة، تحكمه وتسيطر عليه. فالمذهب الاشتراكي ينظر إلى الحياة كوحدة لا تقبل التجزئة وهي وحدة المادة لحمتها وسداها
والى جانب فكرة الوحدة المادية للحياة توجد فكرة الحتمية، فالعالم مسير لا مخير؛ وكل ما يقع في العالم من حوادث هو من عمل الإنسان، ولكنه عمل دفعته إليه الظروف دفعاً، فلا اختيار له فيه ولا إرادة. ويقول لنا انجلز شريك ماركس في تأسيس المذهب الاشتراكي الحديث: لا تظنوا أن الحركات الفكرية الكبرى التي تظهر من وقت لآخر هي وليدة أفكارنا، بل هي وليدة الظروف الاقتصادية الملابسة، كان لابد من وجودها فوجدت، وسخر لها أناس يقولون بها. ولو أن مارتن لوثر مؤسس البروتستانتية لم يوجد لوجد لوثر آخر يدعو إلى ما دعا إليه لوثر الأول. وماركس نفسه، إذا كان قد قال بالمادية التاريخية فذلك لأنها فكرة ولدتها ظروف البيئة الاقتصادية، وكان حتما أن يقول بها رجل أراد القدر أن(145/9)
يكون ماركس. وأبطال التاريخ يولدون كما تولد الحركات الفكرية الكبرى، تنشئهم الظروف الاقتصادية؛ فنابليون وكروموبل وقيصر وغيرهم من عظماء التاريخ جاءوا في الساعة التي كانوا لابد أن يجيئوا فيها، ولو لم يجيئوا هم بالذات لجاء غيرهم، فيتغير الاسم ويبقى الرجل. وكل عصر له أبطاله، إذا لم يجدهم عفواً فانه يخلقهم خلقاً. وإذا لم توجد البطولة الحق في الرجل الزعيم، فإن حاجات الوقت المادية والمصالح الاقتصادية تنفخ فيه روح بطولة مصطنعة وتجعل منه رجل الساعة. هذا هو رأي انجلز في البطولة والأبطال
فالعظمة ليست إذن إلا صنع الجيل وبنت البيئة. أما العوامل الحقيقة التي تصنع التاريخ صنعاً، فليست هي بطولة العظماء، إنما هي القوات الاقتصادية، تبدأ في تغيير الفكر البشري، ثم تدفعه إلى الأمام. وهكذا يرتبط بالعمل، ويسوق ذاك إلى هذا. ومصدر كل من الفكر والعمل إنما هو العامل الاقتصادي، مثل ذلك تقدم الصناعات الكبرى وتكدس رؤوس الأموال. هذا هو العامل الاقتصادي الذي يحكم العالم في العصر الحاضر. وقد أوجد هذا العامل طبقة أصحاب رؤوس الأموال، أو البورجوازية، قوية مسيطرة على أقدار العالم. ولكن هذا العامل الاقتصادي نفسه أوجد أيضاً طبقة العمال تستغلهم البورجوازية وتسلبهم ثمرة جهودهم. هذا الوضع الاقتصادي هو الذي أوجد حركة فكرية عند طبقة العمال، وقد شعروا بالظلم يحيق بهم. وهذه الحركة الفكرية هي التي تدفعهم إلى العمل. فالعامل الاقتصادي هو الذي أوجد البورجوازية، والبورجوازية هي التي أوجدت العمال، والعمال هم الذين سيهدمون البورجوازية. وقد كتب كارل ماركس في منشوره المشهور إلى الحزب الاشتراكي سنة 1848: (إن البورجوازية لم يقتصروا على صنع الأسلحة التي ستقتلهم، بل هم هيئوا أيضاً الرجال الذين سيضربون بهذه الأسلحة)
فقيام البورجوازية وسيطرتهم على العالم الاقتصادي، وسقوطهم بعد ذلك على يد العمال، كل هذه حوادث تدفع إليها الإنسانية دفعاً من طريق العوامل الاقتصادية؛ فالرجال إذن مسخرون، علموا أو لم يعلموا، لخدمة حاجات اقتصادية اقتضتها البيئة التي يعيشون فيها، وهم يظنون أنهم يعملون لأغراض مادية. فلوثر مثلاً كان يعتقد أنه يعمل لمجد المسيح، والواقع من الأمر أن ثورته لم تكن إلا سداً لحاجة البورجوازية الألمانية التي كانت تستغلها الكنيسة الرومانية. وليس الرجال في نشاطهم بوجه عام إلا ممثلين لطبقات اقتصادية،(145/10)
يجيبون نداءها، ويسدون حاجتها. اسمعوا ما يقوله كارل ماركس في كتابه (بؤس الفلسفة) رداً على ما كتبه برودون في كتابه (فلسفة البؤس): (إن الروابط الاجتماعية متصلة اتصالاً وثيقاً بقوات الإنتاج، فالناس إذا حصلوا على قوات منتجة جديدة يغيرون طرق الإنتاج، وإذا غيروا طرق الإنتاج وغيروا كذلك نظام كسبهم للعيش فقد غيروا في جميع روابطهم الاجتماعية. هذه هي طاحونة الهواء تنبت وسطاً إقطاعياً يسوده النبلاء. أما الطاحونة التي تدور بالبخار، فتنبت وسطاً صناعياً يسوده أصحاب رؤوس الأموال. ونفس الرجال الذين يقيمون روابطهم الاجتماعية على مقتضى الطرق المادية للإنتاج هم الذين يصوغون أيضاً المبادئ والأفكار والحدود وفقاً لروابطهم الاجتماعية)
فالعوامل الاقتصادية التي تصنع التاريخ في رأي ماركس وانجلز هي وسائل الإنتاج، يضاف إليها وسائل النقل وتداول الثروة والبيئة الجغرافية التي تقوم فيها العوامل الاقتصادية
وكل هذه العوامل الاقتصادية تدور حول نقطة واحدة، هي الكفاح ما بين الطبقات. فالكفاح ما بين الطبقات يسود جميع النظم الاجتماعية: يسود النظام السياسي، وما تاريخ الحكومة إلا تاريخ نضال مستمر ما بين طبقة وأخرى تتداول السيادة والسلطان؛ يسود النظام القانوني، وما القانون إلا صورة منعكسة من وسائل الإنتاج الاقتصادي، وهو لم يوجد إلا لحماية المصالح الاقتصادية، أي حماية مصالح الطبقة السائدة؛ يسود الدين والفلسفة والأدب والأخلاق، وإذا لم يكن الأصل في هذا كله عاملاً اقتصادياً فإن هذه العوامل الأدبية تتطور بعد نشوئها وفقاً للحاجات الاقتصادية ولمصالح المتغلب من الطبقات
ثم ينتقل ماركس وانجلز من بسط النظرية إلى تطبيقها على الحوادث التاريخية. فعندهما أن النظام الإقطاعي هو الذي خلق العصور الوسطى تسود فيها طبقة النبلاء، وأن نظام الصناعة الكبرى هو الذي خلق العصور الحديثة تسود فيها طبقة البورجوازية، وأن الكارثة لابد واقعة: والكارثة لفظ له مدلوله في إنجيل الاشتراكية، فالاشتراكيون يتربصون الدوائر بالبورجوازية، ويترقبون الوقت الذي سيحين لانتقال محتم إلى عصر جديد تحل فيه الكارثة بالبورجوازية على يد العمال
فماركس يستغل إذن نظريته في المادية التاريخية ليخدم بها مذهبه الاشتراكي، فينادي(145/11)
بالكفاح ما بين الطبقات، ويحاول أن يوحد العمال في جميع أنحاء العالم، ويشعلها حربا زبونا بين نبي الإنسانية جمعاء، حرباً تقوم لا بين وطن ووطن، ولا بين جنس وجنس، بل بين طبقة وطبقة: بين البورجوازية والعمال، فتسقط البورجوازية ويسود العمال
ونحن لا نعرض بنقد أو بتحبيذ للمذهب الاشتراكي ونقتصر على أن نستخلص مما قدمناه أن هناك نزعة في أوروبا وجدت منذ القرن التاسع عشر وقالت برابطة الطبقات، وعارضت الروابط المبنية على الوطن والجنس، واعتبرت العمال في جميع الأوطان ومن جميع الأجناس إخواناً متآلفين. وهم جميعاً خصوم للبورجوازية في جميع الأوطان ومن جميع الأجناس. وقد أخذت هذه النزعة تشتد شيئاً فشيئاً طوال القرن التاسع عشر، ثم دخلت في دور عملي حاسم أثناء الحرب الكبرى، حيث قامت البلشفية في الروسيا، وأصبحت الاشتراكية مذهباً عملياً لنظام قائم من الحكم، أقامه لينين على أنقاض القيصرية، بعد أن اقتلعها واجتذها من أصولها. وأوجد انقلاب سنة 1917 النظام السوفيتي في الروسيا في ظروف معروفة، ولا يزال هذا النظام قائماً في الروسيا حتى الآن
ويذكرنا القرن العشرون، بالنسبة لقيام الاشتراكية وانتشارها في العالم برغم مقاومة الحكومات لها بالقرن التاسع عشر، بالنسبة لقيام الحركات الوطنية وانتشارها في أوروبا برغم مقاومة الحكومات الرجعية لها. والشبه غريب بين الحرب الكبرى وحروب نابليون، وبين مؤتمر فرسايل المحافظ ومؤتمر فينا الرجعي
على أننا نريد أن نبسط الحقائق كاملة، فليس من الدقة في شيء أن نقول إن الاشتراكية بقيت وحدها في الميدان، بل يجب أن نفتح أعيننا على ما يجري الآن أمامنا من صراع عنيف بين الاشتراكية والوطنية. فإن الحركات القائمة على رابطة الوطن ورابطة الجنس لم تخمد جذوتها في أوروبا، بل هي قد زادت اشتعالاً. وكأن حرب الطبقات التي شهرتها البلشفية في وجه العالم، تلك الحروب الشعواء التي أذكى نارها العمال صاروا لها وقوداً، وهم يريدون من ورائها أن يبسطوا سلطانهم، وأن يحكموا بالسيف والنار، تلك الحرب العنيفة القاسية قد استفزت دعاة الوطنية في أوروبا وألبتهم فوقفوا صفوفاً متراصة أمام هذا العدو المشترك. ووقعت الواقعة، ونشب عراك دموي بين دعاة الاشتراكية ودعاة الوطنية، وانضوى دعاة الوطنية في أقوى مظهر من جهادهم تحت لواء حركتين مشهورتين: هما(145/12)
الفاشية الإيطالية تحت قيادة موسوليني، والنازية الألمانية تحت قيادة هتلر. ووقف كل من هاتين الحركتين سداً منيعاً أمام تيار البلشفية الجارف، ووقف كل منهما يريد أن يبسط سلطانه. ونرجئ الكلام فيهما إلى المحاضرة القادمة
عبد الرزاق السنهوري(145/13)
صور من القرن الثامن عشر
2 - جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قضى كازانوفا صباه وفتوته الأولى محروماً من عطف والديه، يجوز حياة مضطربة، ويتقلب بين شظف العيش ورفاهته، ويلقي بنفسه المضطرمة إلى غمار من اللهو والإدمان والخلاعة، ويلتمس متاع الحياة بأي الوسائل. وكان يرى لهواً ولعباً، ولكن الحياة الناعمة تتطلب الرزق الوفير، ولابد أن يجد كازانوفا لنفسه وسائل الارتزاق. وكانت المقامرة يومئذ رذيلة المجتمع الرفيع، ولكنها كانت أيضاً ملاذ المغامرين من كل ضرب، يلتمسون بها الرزق والثراء؛ وكازانوفا مقامر بارع، فلم لا ينزل إلى هذا الميدان؟ وبسم له الحظ في المقامرة، وانتظم في سلك المقامرين المحترفين الذين يستحلون كل الوسائل للكسب أو للسرقة المستترة؛ ورأى فوق ذلك أن يتشح بثوب الخفاء، وأن يحترف الشعوذة وكشف الأسرار؛ وكانت الأذهان يومئذ تشغف بالخفي والمجهول، وكان كازانوفا يجيد هذا الضرب من الشعوذة، وقد رأيناه يتخذه سبيلا لتمكين نفوذه لدى صديقه وحاميه الجديد السيد براجادين
وهكذا نزل كازانوفا إلى ميدان المغامرة مسلحاً بأسلحة العصر، يلتمس الرزق من طريق المقامرة، ويلتمس النفوذ من طريق الشعوذة، ومن ورائه عصبة من الأصدقاء الأقوياء الذين يخلبهم بروائه وظرفه وشعوذته؛ وكانت هذه الحياة في نظر المغامر هي المثلى، وكان يرى المجتمع من حوله موبوءاً يموج رذيلة وفساداً، ويرى الشرف والكرامة والنزاهة وكل ما إليها كلمات جوفاء لا يتحلى بها أرفع من يسودون المجتمع من أمراء وأحبار وسادة، فكيف يطلب إليه هو أن يخضع حياته لمثل هذه الأباطيل؟
وكان كازانوفا ينزل يومئذ عن السيد براجادين كما رأينا، ويعيش منعما مرفهاً، يقضي أيامه في لهو ولعب ونزه وغزل لا ينقطع، يجوب شوارع البندقية المائية في قاربه الوثير، ويتسقط مواعيد الحب كل مساء. وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وكان الحب فنه ومهنته(145/14)
التي كأنه فطر عليها بطبيعته وخلاله وعواطفه، وكان مسلحاً لهذه الغاية بأخص الصفات التي تذلل له غزو القلوب، فقد كان بديع القد والتكوين، وسيم الطلعة، ذا سمرة جذابة؛ وكانت عيناه الواسعتان تشعان سحرا وذكاء وشهوة؛ وكان ذا شخصية جذابة، حلو الحديث والشمائل، جواداً، جم الأدب والظرف، يضطرم حباً وجوى؛ وكانت له فراسة خاصة في تفهم عقلية المرأة وميولها؛ وكان ظفره المتوالي في الحب يذكي عزائمه ورغباته، ويدفعه دائماً إلى البحث عن غزوات جديدة؛ وكان يشعر شيئاً فشيئاً أن البندقية لم يبق فيها ما يمكن أن يغزوا وأن يستمرئ، وأن إيطاليا كلها قد غدت تضيق بجولاته ومغامراته؛ وكانت فرنسا تجذبه يومئذ بشهرتها وروعة الحياة الساطعة التي يحياها المجتمع الرفيع فيها؛ وسرعان ما سنحت له الفرصة لتحقيق أمنيته، فسافر إلى باريس ليخوض غمار هذه الحياة الساطعة، وكان يومئذ في نحو السادسة والعشرين
وكان المجتمع الفرنسي، ينحدر يومئذ، في عهد لويس الخامس عشر، إلى نوع من الخمول الباهر، ويستمرئ حياة عاطلة من المثل المعنوية الرفيعة، فياضة بالرغبات والشهوات الوضيعة؛ وكانت دولة الغانيات، من أمثال دوباري وبومبادور هي صاحبة الحول والسلطان يومئذ؛ وكان يلتف حول هذا الملك الخليع بلاط وضيع الخلال، يضرب بتهتكه وانحلاله للمجتمع الرفيع أسوأ المثل؛ وكانت حياة هذا المجتمع - مجتمع النبلاء والسادة - كلها لهو ولعب وحب وغزل وفساد ورياء؛ فإلى هذا المجتمع الباهر الخامل معاً هبط كازانوفا يبحث عن طالعه في عالم الحب؛ وهنالك تعرف منذ مقدمه بمواطنه الممثل الشهير ماريو باليتي وزوجته سلفيا، وكانا يومئذ من أعلام مسرح (الكوميديا الإيطالية)؛ فعلمه شيئاً من اللغة الفرنسية، وعرفه بكثير من الشخصيات البارزة من رجال ونساء؛ واندفع كازانوفا إلى هذا العالم الجديد يتذوق مسراته، ويتابع غزواته النسائية بين الممثلات والراقصات وسيدات المجتمع الرفيع؛ وهو يذكر لنا في مذكراته التي نشير إليها فيما بعد، طائفة من أسماء هؤلاء اللائى ظفر بهن في تلك الفترة مثل ميمي ابنة السيدة التي نزل عندها، والآنسة فزيان وهي فتاة أجنبية زائرة، ولويزون مورفي الشهيرة التي أدخلت (حريم) لويس الخامس عشر فيما بعد، والآنسة سنت هيلير، وسيلفيا زوجة صديقه، وغيرهن؛ واستطاع كازانوفا في نفس الوقت أن يتذوق طرفاً من الحياة الأدبية، وأن يتصل ببعض(145/15)
كبار الأدباء والكتاب مثل فونتينل ودلامبير والأب فوازنون ومدام دي بوكاج، وأن ينظم بعض القصائد، وأن يترجم بعض القطع والرسائل
وعاد كازانوفا إلى البندقية (سنة 1753) وقد فاضت نفسه غبطة وزهوا بما تذوق من صنوف اللهو الرفيع، وما حقق لنفسه من ظفر في ميدان الحب، وبدت له البندقية عندئذ ضيقة متواضعة، بالنسبة لما رأى وشهد في باريس؛ وذكت أطماعه وأمانيه، وزاد غروراً وترفعاً واستهتاراً، وأخذ ينظر إلى هذا المجتمع البندقي من عل، ويتصل بالكبراء والسفراء ولاسيما سفير فرنسا الأب دي برني؛ ولم يكن كازانوفا متحفظاً في أقواله أو أعماله. فكان يطلق العنان لآرائه المتطرفة، ويزاول الشعوذة علناً، وكان يثير على نفسه السخط في كل ناحية، وكانت علائقه الغرامية موضع الحديث ومثار النقمة؛ وكان ثمة جماعة من النبلاء والكبراء الذين يضايقهم بلسانه ومنافساته الغرامية يتربصون الفرص لسحقه؛ وكان من هؤلاء كبير من كبراء الدولة هو (الشيخ) كوندلمر النائب العام؛ وكان لهذا الشيخ القوي صاحبة تدعى مدام زورزي سطا عليها كازانوفا وانتزعها منه، فاعتزم التنكيل به، وأطلق في أثره جواسيس الشرطة يقدمون عنه التقارير القاذفة، وفيها أنه يتصل بالسفراء الأجانب بعلائق مريبة، ويخدع البسطاء بمزاعمه السحرية، ويعيش على نفقة الغير، ويغوي البنات والنساء المتزوجات، ويسخر من الدين، وينتمي إلى البناء الحر (الماسونية)، وغير ذلك من التهم الخطيرة التي تكفي لإدانته وإهلاكه
وعلى أثر ذلك قررت محكمة التحقيق (التفتيش) اعتقال المتهم، وفي فجر 26 يوليه سنة 1755 ذهب مدير الشرطة مع ثلة من رجاله إلى منزل كازانوفا واعتقله، وأخذه مصفدا إلى قصر الدوجات؛ وهنالك ألقي به إلى السجن المواجه في غرفة لا هواء فيها ولا نور تعمرها الجرذان والحشرات المختلفة، وتكاد لانخفاضها تقصر عن إيواء قامته المديدة؛ وفي الحادي والعشرين من أغسطس قضت محكمة التفتيش بإدانته في التهم التي نسبت إليه ولاسيما الطعن في الدين، وقضت بسجنه خمسة أعوام في سجن (الرصاص) الشهير (بيومبي) وهو الذي اعتقل فيه. وقضى كازانوفا أيامه الأولى في السجن في ذهول ويأس يكاد يمزقه الغيظ والكمد، وكان منقطع الصلة بالعالم الخارجي، لا يعرف شيئاً عن سبب اعتقاله أو مداه؛ وكان يؤمل بادئ ذي بدء أن يسترد حريته بسرعة بمؤازرة بعض أصدقائه(145/16)
الأقوياء، ولكن الشهور تعاقبت عليه دون أن ينفذ إلى وكره المظلم شعاع من الأمل، وأعقب الصيف الخريف ثم تعاقبت الفصول، عندئذ ترك اليأس جانباً، واستعاد عزمه وقوة نفسه، وعول على الفرار؛ وما زال يعمل في خفاء وصمت، ويغالب الصعاب والرقابة الصارمة حتى نضج مشروعه. وفي ليل اليوم الأول من نوفمبر، فر كازانوفا مع شريكه وجاره في السجن الأب بالبي، وذلك بأن خرقا عرش الغرفة الرصاصي، واستطاعا بعد مجهود عنيف مروع أن ينحدرا من جدران القصر إلى ميدان القديس مرقص، واستقلا زورقا حملهما في جوف الظلام بعيدا عن مواطن الخطر؛ ولم يأمن كازانوفا على نفسه حتى جاز حدود البندقية إلى ارض بورجو دي فالزجانو المجاورة، وبذلك أمن شر مطارديه واستطاع أن يتنفس نسيم الحرية مرة أخرى
وتركت تلك المحنة في نفس كازانوفا اعمق الأثر، وكان قد جاوز الثلاثين يومئذ، واستحالت لديه نزعات الحداثة إلى نوع من التفكير المتزن، وأخذت الأطماع والأماني تغلب على نفسه، وتخضع لديه نزواته المضطرمة؛ وكان همه دائماً أن يغزو المجتمع الرفيع، ولكن غزو المجتمع الرفيع يقتضي مالا ومغامرة؛ وكان المجتمع الباريزي الذي عرفه حيناً وتذوق فيه لذة الظفر والأمل يجذبه دائماً ويلوح له بأعظم الأماني؛ ولهذا نراه في باريس في يناير سنة 1757 يبحث عن طالعه كرة أخرى؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين يمده بمرتب حسن، وكان صديقه الأب دي برني سفير فرنسا السابق في البندقية قد عاد إلى فرنسا، وتولى وزارة الخارجية، فتقدم إليه يطلب عونه، فأوصى به بعض كبراء الدولة؛ وكانت المشكلة المالية أهم ما يشغل فرنسا يومئذ وفي سبيل حلها تقدم أغرب المشاريع والاقتراحات. وكان من بين المشاريع التي وضعت لإيجاد بعض المال أن تصدر الدولة (أوراق يانصيب) يغطي إيرادها نفقات المدرسة الحربية التي أنشئت يومئذ لتخريج ضباط للجيش الفرنسي؛ وكان يضطلع بالمشروع أخوان إيطاليان يدعوان كالسابيجي، فاتصل كازانوفا بذوي النفوذ والمشرفين على العمل، وكان يتمتع في ذلك الميدان ببعض الخبرة ويقدم عن المشروع آراءه وملاحظاته، فرؤى أن يعين مديرا للمشروع بمرتب ضخم وعمولة حسنة، وصدر بالمشروع قرار وزاري في أكتوبر سنة 1757(145/17)
وهكذا تبوأ كازانوفا منصباً خطيراً مربحا يحقق له تلك الحياة الناعمة المستقلة التي طالما طمح إليها، واتخذ له مسكنا فخماً في ضاحية سان دني يموج بالنعم والحشم. وأقبل الناس على شراء أوراق اليانصيب الحكومية إقبالا حسنا؛ ووقع السحب الأول في إبريل من العام التالي وأسفر عن نتائج مرضية؛ ثم وقع مراراً خلال العامين التاليين، وظفرت المدرسة الحربية بكل النفقات اللازمة؛ وحقق كازانوفا لنفسه ربحاً وفيراً يقال إنه بلغ مائة ألف في العام، هذا عدا ما كان يربحه من أعمال التنجيم والشعوذة التي لم ينقطع عن مزاولتها؛ وعهد إليه أثناء ذلك ببعض المهام الرسمية السرية فأداها بنجاح؛ وعهد إليه أيضاً بمهمة مالية في هولندة فأسفرت عن نتائج مرضية؛ وهكذا ذاع اسمه وتوطد مركزه، وزاد ثراؤه، وشعر لأول مرة في حياته بأنه غدا الرجل الذي طمح أن يغدو، ينثر الذهب من حوله بلا حساب، ويحقق لنفسه أعز الرغبات والأهواء والأماني
واتخذ كازانوفا لنفسه خارج باريس مسكناً آخر غير مسكنه الباريسي أنيقاً وثيراً به حاشية باهرة، وخيل مطهمة، وهنالك كان يقظي معظم أوقاته في متاع ومرح، يطلق لنفسه عنان الهوى والحب، ويستمرئ غزواته النسائية بلا انقطاع؛ وكان كازانوفا يعشق الحياة الفخمة، ويتعلق بمظاهر العظمة والأناقة، ولكنه لبث دائماً ذلك المحب النهم الذي تغلب لديه الغرائز الوضيعة، والذي يسعى إلى إرضاء شهواته المضطرمة بأي الوسائل، وفي أي الظروف والمناسبات
وانفق كازانوفا في باريس بضعة أعوام في عيش طروب خفض يغزو جميع القلوب، وينعم بوصل السيدات والغانيات من كل ضرب ويزاول التنجيم والشعوذة؛ وكان يتسمى عندئذ بالشفاليه دي سنجال، أو الشفالييه سنجال دي فاروزي، ويبهر الناس بروعة مظاهره وأساليبه، ويتقرب من الأكابر، وينعم بالجاه والنفوذ والثراء. بيد أن هذه الحياة الباهرة كانت تنضح دائماً عن جوانب وثغرات مريبة؛ ذلك أن كازانوفا لم يكن متحوطاً في مغامراته وعبثه؛ ولم يكن يحجم عن أي الوسائل لاستلاب المال أو القلوب؛ ومن ذلك أنه اشترك في حادث تزوير أوراق مالية، وأغرى عدد من أكابر السيدات، ومنهن المركيزة دورفي التي خدعها واستحوذ على قلبها ومالها بشعوذته؛ وسطا على كثير من الأزواج والآباء، فاستلب منهم زوجاتهم أو بناتهم، واتصل بجماعة خطرة من الأفاقين ولصوص(145/18)
المجتمع الرفيع يدبر معها الخطط والمشاريع المريبة؛ وذاعت هذه الوقائع والفضائح المزرية، وكادت تدفع بالمغامر الجريء إلى غمار لا تحمد عواقبها، ولكنه آثر الهجرة مرة أخرى، ويمم عندئذ شطر هولندة مزوداً ببقية من المال والجاه وتوصيات بعض الأكابر
ونزل كازانوفا في لاهاي سنة 1759؛ واستأنف هنالك حياة البذخ والطرب، يعيد سيرته التي جازها في كل المواطن، عاشقاً مضطرماً تحمله شهواته حيثما يحمله ظفره، وتسقطه فرائسه بين أذرعه تباعا، ويبتز المال من هنا وهنالك بكل الوسائل والحيل، ويستمرئ حياة الخديعة والشعوذة والغواية إلى الذروة، ويثير حوله بعد حين نفس الشكوك والريب التي يثيرها أينما حل؛ وإذ يشعر بأن وسائله وحيله ومظاهره كلها قد نفقت، وأن الجو يتجهم من حوله، يعتزم الرحيل والنقلة. وهكذا غادر كازانوفا لاهاي كما غادر باريس من قبل مثقلاً بالريب والفضائح، وهبط إلى لندن في خريف سنة 1763 تحدوه آمال وأماني أخرى
(للبحث بقية)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(145/19)
الخصيان
أصل العادة وتاريخها وانتشارها
للدكتور مأمون عبد السلام
هوت الغيرة الجنسية بالإنسان إلى دركة ما دون الوحوش، فوسوس إليه الشيطان أن ينتزع الرجولة من الأبرياء ليتخذهم خداماً يأتمنهم على عرض نسائه وحفظة لطهارتهن. هذا هو الأصل في اتخاذ الخصيان. وهي عادة لجأ إليها الصينيون والهنود والبابليون والفرس من عصور خالية، فقد أخبرنا هيرودوت بما كان للخصيان من السطوة في دولة الفرس في عهده
وقد عرفهم العرب من قديم فقالوا: (خصي بصي ومخصي، وتقول العامة طواشي، وهي كلمة مولدة ليست من كلام العرب. فقد كان من عادة العرب الجاهلية أن يخصوا أسراهم كما كان يفعل قدماء المصريين؛ وتجد ذلك مصوراً على جدران مدينة حابو، وكما يفعل الأحباش الآن. وهذه العادة قديمة في مصر، فقد عثروا في هرم أوناس على مخطوط عرف منه أن حوريس سل خصيتي سيت. وقد اتخذ الفراعنة الخصيان في قصورهم فبلغوا من النفوذ والسطوة ما حدا بهم إلى قتل أمانيميس وهو الفرعون الثاني من العائلة الثانية عشرة
ونظراً للاعتقاد السائد بأمانة الخصيان فقد أطلق اسم الخصي على أمناء فرعون وملوك بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التكوين (1: 39): (وأما يوسف فأنزل إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط) وكلنا يعلم أن فوطيفار وهو العزيز كان متزوجاً وقد راودت زوجه يوسف عليه السلام عن نفسه فأبى واستعصم
وقد اتخذ بنو إسرائيل الخصيان كما ذكر في الكتاب المقدس (الملوك الثاني 32: 9 - 33 و15: 24 وأخبار الأيام الأول 1: 28 وإستير 1: 6 - 2) وقد حرمت التوراة اتخاذ الخصيان وخصاء الحيوان، فقد جاء في سفر التثنية (1: 23): لا يدخل مخصي بالرض أو محجبوب في جماعة الرب. وجاء في سفر اللاوبين: ومرضوض الخصية ومسحوقها ومنزوعها ومقطوعها لا تقربوا للرب
وقد أخذ الإغريق هذه العادة عن الشعوب الأسيوية التي غزاها الاسكندر المقدوني فانتشرت بينهم بعد موته؛ واسم الخصي عندهم يونوقوس (ومنها الكلمة الإفرنجية بونوق(145/20)
(واشتقاقها من يونو بمعنى الفراش وايقيون بمعنى الحارس أي حارس فراش الزوجية
وقد أدخل هذه العادة هليو جابال إلى رومه في عهد الإمبراطورية أي في نهاية القرن الثالث وتفشت بعد ذلك في الدولة البيزنطية
وقد حتمت بعض العبادات الخصاء على اتباعها ليتفرغوا للتعبد كما كان يفعل كهنة الهياكل الوثنية السورية القديمة
وقد جاء ذكر الخصيان في إنجيل متي (12: 19): (لأنه يوجد خصيان ولودوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل) وقد اعتمد بعض المسيحيين المتقدمين على هذه الآية وخصوا أنفسهم ليتحرروا من الوقوع في الخطيئة. وأول من فعل ذلك أوريجانوس الإسكندري المولود سنة 185 أو سنة 186 ميلادية، وقد أحسن أبوه تهذيبه فتلقى العلم على أكابر علماء المسيحية أمثال بانطينوس وكليمان في المدارس الكاتدرائية وهي مدارس دينية كانوا يتلقون فيها الفقه المسيحي والعلوم الإغريقية (على نحو الجامعة الأزهرية في الإسلام)؛ وقد خصى نفسه زهداً منه في الحياة الدنيا ورغبة في تلقين النساء العلم. وقد قضى ثمانية وعشرين عاماً بالإسكندرية رحل خلالها إلى رومه وإنطاكية وبلاد العرب خدمة للدين والعلم
وقد اقتدى الكثير من المسيحيين بأوريجانوس فظهرت في القرن الثالث المسيحي فرقة الفليسيين نسبة إلى فيلسيوس العربي رئيسهم الذي قال إن الخلاص لا يتم إلا بالخصاء؛ فكانوا يخصون أنفسهم ومن يقع في أيديهم تقرباً إلى الله تعالى. وقد ثبت المجمع النيقادي الذي عقده الإمبراطور قسطنطين الخصاء في قوانينه فاستمرت العادة بين بعض الطوائف المسيحية حتى حرمها البابا ليو الثالث عشر
ورغماً عن ذلك فقد استمر بعض الروسيين إلى أول الثورة الشيوعية على اتباعها، فقد كان منهم فرقة من الخصيان المتعبدين اسمها سكوبسي أي الخصيان
وكان من عادة الطليان أن يخصوا الأولاد قبل البلوغ ليحافظوا على نعومة أصواتهم وحدتها للغناء في الكنائس والمسارح إذ كانوا يمنعون النساء من مزاولة ذلك. فحرم هذه العادة البابا اكليمنس الرابع عشر ولكنه لم يتمكن من إبطالها حتى في رومه عقر داره(145/21)
ويحرم الدين الإسلامي الخصاء في الإنسان والحيوان، وورد في ذلك أحاديث؛ وقد اعتبر أبو العباس رضي الله عنه الخصاء عملية شيطانية يحرمها المولى
وقد دفعت أبهة الملك معاوية بن أبي سفيان فجارى ملوك الروم في اتخاذ الخصيان فكان أول من أتخذهم في الإسلام كما ذكر المسعودي. ومن ثم تفشت هذه العادة في الدول الإسلامية وخاصة عند بني عثمان وعنهم أخذنا كلمة (أغا) للخصي، وأصل الكلمة أقا بالفارسية بمعنى السيد؛ ويعني بها العثمانيون الأخ الأكبر وصف الضابط ورئيس فرقة الانكشارية، ثم أطلقت على الخصي، وقد انتشر هذا الاسم في ممتلكات آل عثمان كالشام ومصر والجزائر وغيرها
وكان جميع خصيان مصر وشمال إفريقيا وبلاد العرب والشام وتركيا من السود والحبشان، وأصلهم من الرقيق يخصونهم في بلدة باجرمي بالسودان
وقد تكلم عن الرقيق بمصر بورخهاردت وهو رحالة سويسري كان في خدمة الإنجليز جاء إلى مصر وقام في 22 فبراير سنة 1813 من أسوان إلى بلاد النوبة، وكان يحكمها إذ ذاك أولاد حسن كاشف الثلاثة، فذكر أن بورغو غرب دارفور كانت مكان خصاء الرقيق ومنها كان يحملون إلى سواكن ومكة والمدينة ومصر، ولكن السواد الأعظم من الخصيان يرسلون إلى أوروبا وتركيا كانوا من الرقيق الذي كان يحمل إلى أسيوط، وكانوا يخصون في قرية تسمى زاوية الدير قرب أسيوط، وكان يقوم بهذه العملية راهبان من أهلها حازا شهرة كبيرة في ذلك. وكانا محط ازدراء المصريين جميعاً؛ ولكنهما كانا يقومان بهذه العملية تحت حماية الحكومة مقابل ضريبة سنوية يدفعونها
ونسبة الوفيات من الخصاء منخفضة بعكس ما قد يعتقد، فقد مات من جرائها اثنان من ستين ولدا خصوا في خريف سنة 1813، ولا تزيد النسبة في العادة على اثنين في المائة. وكانت عادتهم أن يقوموا بهذه العملية حال وصول القافلة من دارفور أو سنار ويختار لها الأولاد من سن الثامنة إلى الثانية عشرة الذين يمتازون بقوتهم وتناسق أعضائهم وذكائهم
وكانت أجرة العملية ستين قرشا. وقد بلغ متوسط ما كان يخصي بأسيوط مائة وخمسين خصياً في السنة، وكان ثمن الخصي بأسيوط في هذا العهد ألف قرش
ويقول بورخهاردت إنه في سنة 1811 أمر محمد علي باشا أن يخصي مائتا عبد دارفوري(145/22)
ليرسلهم هدية سنية إلى السلطان الأعظم بالأستانة. وقد روي أن الخصيان البيض قليلون بتركيا، وأنه رأى بالحجاز عدداً من الخصيان الهنود في خصوا في بلاد الهند وأرسلوا هدية إلى الحجاز
وقد رجع بعض العرب إبان الحرب الوهابية الأولى إلى عادتهم في الجاهلية وهي خصاء الأسرى، وذلك أن الشريف غالب أمير مكة أسر أربعين رجلا من قبيلة يمنية وهي قبيلة تدين بالمذهب الوهابي، وكان في حرب معهم فأمر بأن يخصوا ثم يفك أسرهم فماتوا من جراء ذلك سوى اثنين رجعا إلى قبيلتهما بعد أن التأمت جراحهما؛ وقد امتلأ قلباهما بالحقد والضغينة فقتل أحدهما ابن عم الشريف غالب في إحدى المعارك، وأما الآخر فقتل وهو يحاول اقتحام خيل الشريف ليقتله بنفسه
وينجم عن الخصاء أن يبطل فعل الغدد الجنسية وخاصة إفرازاتها الداخلية التي لها تأثير كبير في التوازن الفسيولوجي والجنسي؛ ويكون التأثير على أشده في الصغار ويقل كلما كبر سن من يراد خصاؤه، فينمو الصبي المخصي كالأنثى فلا ينبت شعر وجهه، ويكون صوته رفيعاً وعظامه كعظام النساء وعضلاته لينة ويتضخم عجزه، ويصبح أكثر ميلاً إلى الدس والإيقاع. ويكون التأثير في البالغ أقل ظهوراً فيضعف شعر الذقن أو قد يختفي، ويتغير الصوت. ويتعرض الرجل بعد الخصي لاضطرابات عصبية شديدة ولأفكار سوداوية تنشأ عن جمود العاطفة الجنسية، أما إن خصي الرجل وهو كهل فالتغير لا يكون ملموساً
وقد يتسرب إلى الذهن أن الخصاء يضعف من حدة العقل والشجاعة وهذا خطأ محض، ففي التاريخ أدلة تثبت ما كان للخصيان من القوة والبأس والتبحر في العلوم وعلو الباع في سياسة الأمم وقيادة الجيوش. فمن الخصيان الذين خلد التاريخ أسماءهم باغوص الفارسي الملقب بصانع الملوك، وفافورينوس الفيلسوف صديق بلوطارخ، وأرسطو نيقوس القائد البطليموسي، وفوطين وزير بطليموس، وأيوتروب وزير اركاديوس
وكان للخصيان شأن عظيم في عهود كثيرة من التاريخ الإسلامي وخاصة بمصر فكان أظهرهم الأستاذ أبو المسك كافور الاخشيدي الذي انتزع الملك لنفسه وخطب باسمه على المنابر، ثم الطواشي محسن الصالحي، والطواشي صبيح في آخر عهد الدولة الأيوبية. وقد(145/23)
أشار إليهما المرحوم ميخائيل بك شاروبيم في كتابه (الكافي) عند كلامه عن أسر المصريين لملك فرنسا فقال إنه لما اشتد الأمر على الفرنسيس وقلت عندهم الأقوات وصعب لذلك عليهم المقام قبالة المسلمين رحلوا يريدون دمياط فاقتفى المسلمون أثرهم فانحاز الملك لويز بمن معه من الملوك والأمراء إلى بلد هناك وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي ثم غدر بهم وأحضرهم أسرى إلى المنصورة فقيد الملك لويز وجعله في دار كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان وآثارها لا تزال باقية إلى الآن وقد تهدم أكثرها ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، وفي ذلك يقول الشاعر مهدداً الفرنسيس:
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
وليس أمر خليل أغا وما كان له من السطوة في عهد إسماعيل عنا ببعيد.
مأمون عبد السلام(145/24)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسيّ، وكاشف ترياقها الألمانيّ
ومضت أربع سنوات تحققت بعدها نبوءة لُفلار، وبم تحققت؟ بتجربة تظهر لك غاية في السخافة، والحقيقة التي لا شبهة فيها أنها تجربة أوغلت في الخيال وتفانينه بقدر ما بعدت عن دائرة الحقيقة واليقين. تجربة ما كان يحسب حاسب إلا أنها تنتهي بقتل الخنزير الغيني الذي استُخدم فيها غرقاً؛ ولم تكن هذه التجربة بدعاً في الذي أوحاه هذا العصر من تجارب، فبحث المكروب في باريس كان عندئذ على أشده حدّة وعنفاً، يصدر عن قلوب هائجة محمومة لا عن عقول هادئة باردة، ففي هذا العصر كان بستور خائر القوى، منهدم الكيان، بعد نُصرته التي كانت من كشفه فكسين الكلب، فقنع بأن يشرف في ضعفه على بناء المعهد بالمليون فرنك الذي كان يقام في شارع ديتو وكان في باريس في هذه الفترة متشكنيوف وكان رجلا جموحا احترف البحث في المكروب فسلك فيه سبيلا وسطاً بين العلم والشعوذة، وكان جاء باريس من أوديسا الروسية ليجشأ فيها بنظريات غريبة تتحدث عن بلع كرات الدم البيضاء للجراثيم؛ وأخذ في هذا العصر أشياع بستور يحزمون مجاهرهم في عيابهم ويسافرون إلى سيجون في الهند الصينية وإلى أستراليا، يقصدون إلى كشف مكروبات لأدواء عجيبة لم يكن لها وجود أبداً. وفزعت أمهات كثيرات إلى بستور، والأمل يملأ قلوبهن، يرجونه في كتب لا عد لها أن يُنجي أولادهن من أمراض شنيعة عديدة، ولكن بستور كان رجلا مجهودا منهوكا
كتبت إليه إحداهن تقول: (إنك لو شئت لوجدت دواء لهذا الداء اللعين الذي يدعى بالدفتريا، انك لو فعلت لأعطيت الحياة لأطفالنا وكان لك ثواب ذلك، أننا نذكرك لهم، ونحفّظ اسمك(145/25)
إياهم بأنك رب خير للإنسانية كبير عميم
ولكن بستور كان قد غاض معينه، فلم يبق فيه إلا ذَماء، فقام عنه رو يحاول محو الدفتريا من على ظهر الأرض، وأعانه في هذا يرسين وهو رجل لا يهاب الموت، كان من نصيبه بعد ذلك أن اكتشف جرثومة الموت الأسود فنال بها مجداً كبيرا، ولم يكن الذي أتاه رو من ذلك علما، إنما كان جهادا وحرباً. كانت تحدوه عاطفة قوية فاقتحم السبل إلى غايته اقتحاماً، فلم يتريث كما يتريث المكتشفون لاختطاط الخطة ومصابرة الفرصة في دهاء وافتنان. ولست أقول إن (رو) بدأ بحثه من أجل هذا الكتاب الذي كتبته تلك البائسة تسترحم فيه بستور، ولكني أريد أن أقرر أن رو بدأ بحثه وأكبر همه تخليص الأرواح لا علم الحقائق، فهذا البيت في شارع ديتو ما كان يضم إلا رجالا إنسانيين همهم خلاص البشرية وتخفيف ويلاتها، يستوي في ذلك ربّه الشيخ المشلول، وغاسل القناني الخامل الحقير. كلهم كانوا يعملون لخلاص الناس، وهذا طيب جميل، ولكنهم حادوا من أجله أحياناً عن السبيل الذي لا بد من سلوكه لبلوغ الحقيقة. . . . ومع هذا، وبرغم هذا، فقد كشف رو كشفاً رائعاً مجيداً
كانت الدفتريا تفتك بباريس فتكاد ذريعاً. فذهب رو ويرسين إلى مستشفى الأطفال فوجدا هناك نفس البشلة التي كان وجدها لُفلار. فربوها في حساء بقارورة، وترسما الخطى المعروفة، فحقنا مقادير كبيرة من هذا الحساء في كثير من طيور وحيوانات منحوسة الطالع فماتت ضحية العلم، دون أن تعلم بما ضحت، فترضى وتطيب نفساً عن نصيبها. ولم يكن هذا الذي بدءا فيه بحثاً كثير النفع كثير الإنتاج مستنيراً، ولكنهما لم يلبثا أن وقعا وشيكا على الدليل الذي أعوز لُفلار، فإن الحساء شلّ الأرانب. ذهب مفعوله في أوردتها فلم تمض إلا أيام قلائل حتى سارت تجر أرجلها الخلفية وراءها عرجا. فسر أصحاب التجربة سروراً كبيراً. وزحف الشلل إلى أجسامها حتى بلغ أكتافها وأرجلها الأمامية ثم ماتت في شللها وبللها ولزاجتها شرّ ميتة
قال رو وقد ملأته رغبة شديدة في الإيمان بالذي يقول: (إن هذه البشلة تقتل الأرانب على نحو ما تقتل الأطفال. . . . لابد إذن أنها هي سبب الدفتريا الذي لا شك فيه، ولابد أني واجد الآن هذه الجرثومة في هذه الأرانب. واستخرج عدداً كبيراً من الأنسجة من كل ركن(145/26)
من بضعة جثث من هذه الأرانب، واستخرج أطحلتها وقلوبها، وزرع منها زريعات كثيرة، ولكنه لم يجد بها بشلة واحدة. أنها أيام قلائل فقط مضت منذ حقن بلايين من البشلات في كل أرنب منها. ولكن هاهي ذي ملقاة أمامه، قد انتزع أحشاءها، وقطّع أوصالها، وفتش فيها مبتدئاً بأنوفها الحمراء منتهياً بما تحت ذيولها البيضاء، ولكنه لم يعثر بها على بشلة واحدة. إذن فما الذي قتلها؟!
فجاءت نبوءة لُفلار تمر سريعة كالبرق بخاطره. فتفكر وقال: (لابد أن هذه البشلات تصنع سما وهي في الحساء، ولابد أن هذا السم هو الذي يشل ويقتل
وانبعثت فيه روح البحث الصحيح، روح المعرفة للمعرفة، فنسي الأطفال وبلواهم، وأكبّ على الخنازير الغينية والأرانب يثخنها قتلا وجزرا، فقد وجب عليه أن يثبت أن هذه البشلات تعصر سماً من أجسامها الدِقّاق
وبدأ هو ويرسين يدوران يتحسسان في الظلام عن تجارب تهديهم إلى إثبات ما يبغيان إثباته. وطال تحسسهما، وبعدت طرائقهما عن طرائق العلم. ولهما العذر في ذلك، فلم يكن لديهما في هذا الباب طرائق معروفة، ولم يكن سبقهما فيه سابق فيترسمون خطاه على هدى وبصيرة. ولم يسمع أحد قبلهما بأن باحثاً فصل سماً من أجسام المكروبات، إلا بستور فقد كان حاول شيئاً لم يستتمه من هذا. كانا وحدهما في ظلمة هذه الجهلة. ولكنهما استطاعا أن يقدحا عود كبريت. . . قالا: (إن البشلة لابد تصب سمها في الحساء، كما تصب سمها في دم الطفل وهي مقيمة على غشاء حلقه). بالطبع هما لم يثبتا هذا
ووقف رو حجاجه النظري، وسئم الدوران منه في دائرة لا تنتهي، واعتزم حل المُعْضل في المعمل بيديه. وجد أن التلمس في هذا العماء لا يجديه نفعاً. وجد أنه كرجل اختل محرك سيارته فتعطلت، فأراد أن يصلحه وهو لا يدري من عمل المحركات شيئاً. فكان الأولى به أن يتعلم كيف تعمل المحركات أولا. فقام إلى قارورات من الزجاج كبيرة، ووضع فيها أحسية خالية من المكروب طاهرة، ثم بذر فيها بشلات نقية من الدفتريا، ثم أودعها في المدافئ لتربى. فلما بقيت فيها أربعة أيام وتم نضجها قال رو: (والآن فعلينا فصل الحساء من المكروب). وجهز الاثنان لذلك جهازا غريبا، مُرشّحاً له شكل الشمعة إلا أنه أجوف، صنعاه من مادة صينية دقيقة اكتنزت حباتها وضاقت مسامها فأذِنت بنفاذ(145/27)
الحساء ورفضت فوات المكروب فيها. ونصبا هذه الشمعات الجوفاء في مخابير من الزجاج لامعة صقيلة، وقاما يصبان الأحسية فيها على حذر شديد مخافة أن يصيبهما رشاش قاتل منها، ولكنها أبت أن تنفذ من الشموع إلى المخابير، وأخيراً استطاعا أن ينفذاها بهواء مضغوط ضغطا شديدا، فلما تم لهما ذلك تنفسا الصعداء وهما يصفقان على المنضدة، ذلك الراشح الرائق قد تراءى في قواريره الصغيرة أصفر كالكهرمان ولم تكن به جرثومة واحدة
وتمتم رو لنفسه: (هذا السائل لا شك يحتوي السم. نعم لقد حبست الشموع ما كان به من جراثيم، ولكنه مع هذا لابد أنه يقتل الحيوانات، وهرج المعمل ومرج بالمساعدين وهم يحضرون الخنازير والأرانب، فلما حضرت ذهبت إبر المحاقن في بطونها بهذا السائل الذهبي، ضربتها فيها يد رو، وهي يد خفيفة بارعة
وانقلب رو فصار فتاكا سفاحاً، وملأ قلبه حب القتل، فلم يجيء إلى معمله يوماً إلا وفي نفسه رغبة كرغبة المجنون أن يجد حيواناته قتيلة صريعة. وكأني بك تسمعه يصيح إلى يرسين: (إن السم لابد فاعل فعله الآن فيها، لابد أنه ضارب بنابه الآن في مقاتلها)، ثم هما ينظران معاً فلا يجدان ما يشفي غليلهما ويؤمن على نبوءتهما، فلا الشعور انتفشت، ولا الأرجل الخلفية شلت فتجرجرت، ولا الأجسام ارتعشت وانتفضت
كان وقع ذلك شديداً عليهما. بعد كل هذا التعب، وكل هذا التجريب والتفنين في دقة وحذر، تظل هذه الحيوانات تقرض بقولها في أقفاصها قرضاً، وتثب فيها وثبا، وتتغازل ذكورها وإناثها وتتهارش هذا الهراش السخيف الذي لابد منه لإيجاد النسل وتواصل الجنس. . . إنها تملأ أمعدتها وتشبع شهوتها ولا تأبه لشيء. أما هؤلاء الأناسي المردة الطوال الذين أحسنوا غذاءها هذا الإحسان فليحقنوا في أوردتها أو في بطونها من ذاك الحساء ما شاءوا. أيدعونه سما؟ لقد طال بهم الخيال، وكذب الخال. إن يكن سما فهو لا يزيدها إلا هناءة وطيب حال
وحاول رو مرة أخرى فحقن مقادير أكبر من حسائه في طائفة حيواناته، ثم في أخرى، ثم في أخرى، ولكن من غير جدوى. لم يكن في الحساء سم
لو أن رو رجل عاقل عادي لكفاه الذي جرى، واقتنع بأن الحساء الذي أودعه المدفأ أياماً ثم(145/28)
رشحه لم يكن به سم قط. ألم يكفه هذا العدد العديد من الحيوانات التي ضاعت سدى؟ ولكن رو - ولتحمده الأمهات والأطفال المساكين، ولترعه الملائكة التي تحفظ البحاث المجانين - ولكن رو كان في تلك الساعة مجنونا. أصابه مس كالذي كان يصيب أستاذه بستور فيجعله يرى الصواب في الذي يراه الناس أجمع خطأ، ويقدح ذهنه فتخرج منه التجربة المستحيلة الناجحة. كأني بك تسمع هذا الرجل المسلول ذا وجه الصقر يصيح لنفسه: (هنا، في هذا الحساء سم لا محالة). وكأني بك تراه يدور في معمله يصيح هذه الصيحة إلى القوارير المصففة على الأرفف التربة، وإلى الأرانب والخنازير الغينية، وهي لو استطاعت لضحكت من هذا المجهود الخائب الذي بذله ويبذله رجاء قتلها. (لابد من سم في هذا الحساء الذي نمت فيه بشلات الدفتريا، وإلا فكيف ماتت الأرانب إذن؟)
وأخيراً، بعد أن قضى الأسابيع يحقن أحسيته في الحيوانات ويزيد مقدار ما يحقن فيها كل مرة، أخيراً عزم على أن يحقن في الخنزير ثلاثين مقداراً من الحساء دفعة واحدة، ففعل وكاد يغرق الخنزير بحسائه. كان مثله في ذلك مثل المقامر الذي سئم الخسارة، فلما يئس جازف فوضع على الرقعة كل ماله. حتى بستور ما كان ليجسر هذه الجسارة فيحقن الخنزير الغيني الصغير تحت جلده بخمسة وثلاثين سنتميتراً من الحساء كما فعل رو. أليس في هذا المقدار لو أنه ماء نقي ما يقتل الخنزير بمجرد حجمه. وهو إذا مات فأي نتيجة تستخرج من هذا عن وجود السم في الحساء. . . . ولكن رو لم يأبه لذلك، فدفع بهذا المقدار من الحساء وهو كالبحر في بطن الخنزير. ودفع بمقدار مثله في وريد بأذن أرنب، فكان كمن صب جردل ماء في أوردة إنسان متوسط الجرم
ولكن بهذا الأسلوب الغريب كتب رو اسمه في لوحة المجد، فعلى الناس أن يخلدوها على الدهر ويحفظوها من البلى ما بقي على ظهر هذه البسيطة إنسي. احتمل الأرنب والخنزير تلك الشربة الهائلة وصمدا لجرمها الكبير، وهَنِئا بالسلامة ونعما بالعيش يوماً أو يومين بعد هذا، ولكن لم يمض على ذلك غير ثمان وأربعين ساعة حتى انتصب شعراهما على ظهريهما، وأخذا يتنفسان اختلاجا. وماتا بعد خمسة أيام، وظهرت عليهما نفس الأعراض التي ظهرت على الحيوانات الأخرى التي ماتت عقب حقنها بمكروب الدفتريا نفسه لا بحسائه المرشَّح. وبهذا اكتشف رو سم الدفتريا. . .(145/29)
لو أن الأمر اقتصر على هذه التجربة، وما تضمنته من جرعة هائلة من حساء ضعيف السم، إذن لضحك قناص المكروب منها ومن صاحبها رو، ولتخذوا منها فكاهة فاضحة: (إن تكن قارورة كبيرة من مكروب الدفتريا لا تخرج إلا هذا السم القليل حتى ليحتاج إلى أكثر هذه القارورة لقتل خنزير غيني صغير، فأنى لبشلات قليلة تحل في زور الطفل أن تصنع من هذا السم ما يكفي للقضاء على جرمه الكبير! هذا حمق أي حمق!)
ومع هذا فرو حل بذلك العقدة الأولى. وبهذه التجربة السخيفة قدح أول قدحة وأطار أول شرر شعّ في ظلمة الطريق فعرف به إلى أي ناحية يتجه وعلى أي جنبيه يميل. فأخذ يتحسس طريقه بين الأحراج ويشق سبيله بين الأدغال بطائفة من التجارب الدقيقة حتى انفتح له السبيل بغتة عن أرض عراء فعرف مكانه واستوثق مما هو فيه. واستغرق في ذلك شهرين عرف بعدهما السبب في ضعف السم بحسائه. واتضح له أنه لم يكن ترك الحساء ببشلاته في المدفأ مدة كافية، فلم تتمكن البشلات من العمل فلم تصنع من السم ما تعودت أن تصنعه. وعلى هذا صنع حساء جديداً ووضع فيه بشلات جديدة أودعها المدفأ وأبقاها هناك في حرارة كحرارة الجسم مدة اثنين وأربعين يوماً. فلما أخرجها أخرج سماً كأقوى ما تكون السموم، وحقن القليل منه في حيواناته فصنع بها ما لا يُصنع. وأخذ في تقليل مقدار ما يحقن فيها عسى أن يقلل فتكه بهذه الحيوانات ولكنه حاول عبثاً، وظل ينظر بعين واسعة وقلب مغتبط تياه إلى القطرات القليلة من هذا السم تذهب بالأرانب وتقتل الشياه وتلقي بالكلاب صريعة. ثم أخذ يتلهى بهذا السائل الفتاك، فجففه، وأراد دراسة كيميائه فأخفق. ثم ركّزه تركّيزاً كبيراً، ووزن ما ركّز، ثم عكف يجري عمليات حسابية طويلة
فوجد أن الأوقية منه تقتل 600000 خنزير غيني، أو 75000 كلب كبير. ووجد أن الخنزير الغيني الذي يناله من هذا السم جزء من 600000 جزء من الأوقية تتحول أنسجة جسمه فتكون كأنسجة جسم الطفل الذي يموت بالدفتريا
هكذا أوّل رو حلم لفلار وحقق نبوءته؛ وعلى هذا النحو كشف عن رسول الموت السائل الذي يتحلّب من أجسام هذه البشلات الصغيرة الحقيرة كشف رو لنا عن الطريقة التي تقتل بها هذه البشلات الأطفال، ولكنه لم يكشف لنا عن طريقة ندفع بها شرها، والكتاب الذي(145/30)
بعثته تلك الأم البائسة لبستور تسأل فيه دواء لهذا الداء بقي على المكتب لا يجد له جواباً، ومع هذا فعمل رو بلغ أمره الأطباء فتعلموا كيف يربون تلك البشلات من حلوق المرضى من الأطفال، وأثمر عدة اقتراحات بغرغرات نافعة يغسلون حلوقهم بها، ولكن رو لم يكن له صبر بستور ولا حيلته
في العدد القادم: بارنج يكتشف ترياق الدفتريا
أحمد زكي(145/31)
نشأة مقاييس الذكاء
للأستاذ علي محمد فهمي
مدرس التربية التجريبية المساعد بمعهد التربية للبنين
ليس علم النفس بالعلم الحديث، بل هو قديم من أيام أرسطاطاليس، ولكنه لم يثمر إلا في القرن العشرين ومن ثم صار علماء علم النفس يبحثون بجد في العقل وكنهه، وفي الذكاء وأصله، فاستفادت التربية من قياس ذكاء الأطفال. وقد قطعت الأبحاث في محاولة قياس الذكاء عدة مراحل أهمها أربع:
المرحلة الأولى
في هذه المرحلة لاحظ الباحثون بادئ الأمر أن هناك تبايناً بين الأفراد في الفهم والتفكير والتذكر والقدرة على التعلم وإن هذا التفاوت يختلف باختلاف الجنس والعمر والبيئة، وكانت الجهود كلها موجهة إلى محاولة تعيين مقدرة المرء العقلية بواسطة شكل جسمه وخاصة الرأس والعاهات الخلقية التي في الإنسان، فأول ما نشأت فكرة إيجاد مقاييس للذكاء كانت عبارة عن مجرد فحص الحالة الجسمية
وكان أول من تناولها بالبحث والكتابة فيها الأستاذ لافاتير سنة 1772 فقد نشر في هذه السنة بحثاً عن معرفة صفات الإنسان العقلية والنفسية من ملامح الوجه
ثم نشر جول صاحب نظرية الجمجمة كتابا عن معرفة صفات الناس من أشكال رءوسهم وقياس عظامهم الجمجمية فعمل خريطة للعقل وقسمه إلى ملكات وكانت الملكة تكبر أو تصغر بحسب قوتها وضعفها ويسمى هذا العلم بعلم الفراسة
ثم تبعه في بحثه الدكتور بل سنة 1806 ثم داروين سنة 1872 وكانا يعتبران أن صفات الشخص العقلية تعرف من حالة عضلاته، فالخائف مثلا تظهر عليه علامات كأن تفتح عيناه وترتعش ركبتاه وغير ذلك من علامات الخوف؛ فإذا كان الخوف مستمراً فانه يترك في وجه الشخص طابعا يدل عليه، ولكن ثبت خطأ هذه النظرية إذ قد توجد علامات مشتركة بين حالات مختلفة فلا يمكن مثلا التمييز بين علامات الضحك من السرور وعلامات الضحك من الاستغراب والاستهزاء(145/32)
قام بعد ذلك الأستاذ لمبروزو الأخصائي في علم الإجرام بمباحثه وأتى بفكرة جديدة وهي الحكم على صفات الناس العقلية والنفسية من العلامات التشريحية فهو يقول بأن هناك وصمات وتشويهات معينة في الجسم يدل وجودها فيه على ميل فطري للإجرام، فمثلا كبر الرأس وشكله وعدم مساواة نصفيه وعرض الجبهة وضيقها والأنف العريض والمقلوب والمفرطح وسقف الحلق الضيق والمرتفع - ويكون عادة على شكل 8 - والآذان عديمة الحلمة والمشوهة والكبيرة الحجم، كل هذه العلامات أو العاهات كما يقول الأستاذ لومبروزو هي علامات صحيحة للإجرام موجودة مع الطفل من يوم ولادته. وعلى ذلك فهو يرى أن الشذوذ في الخلقة يرجع إلى شذوذ في النفس والعقل. وقد نشرت ملاحظات هذا العالم وتجاربه هو ومساعدوه في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن على توالي الزمن اقتنع العلماء بأن الحكم على العقل أو النفس بمجرد مشاهدة الخلقة حكم لا قيمة له بل يجب اختبار الصفات العقلية والنفسية باختبارات عقلية سيكولوجية
هدأت الأفكار بعد ذلك نوعا ما وتحولت عن نظرية لمبروزو وعلاقتها بالإجرام: هنالك نشط الباحثون واستنفذوا جهدهم في البحث فوصلوا إلى أن كبر حجم الجمجمة دليل على كبر حجم المخ، وكبر حجم المخ دليل على الذكاء والعكس، غير أنه فاتهم للأسف أن الذكاء لا يقدر بكبر حجم المخ ولا بصغره وإنما يقدر بسمك المادة السنجابية وكثرة تلافيف المخ الخ. وقد نشط الأستاذ بيرسون في بحث هذا الرأي فأجرى تجاربه على 500 طالب من جامعة كولومبيا بأمريكا فوجد أن العلاقة بين حجم المخ والذكاء تكاد تكون معدومة
المرحلة الثانية
بعد ذلك ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر ثلاث حركات علمية مهدت السبيل لظهور المقاييس العقلية وهي:
أولا: ظهور علم النفس التجريبي في ألمانيا على يد ويبر الذي اهتم بدراسة الاحساسات وحاول أن يطبق عليها روح القرن التاسع عشر وهي الروح العلمية التجريبية، وتبعه عالم ألماني اسمه فخنر ثم تبعهما سلسلة علماء حتى جاء وند وأنشأ أول معمل لعلم النفس في ليبزج سنة 1879، وكان متجهاً لدراسة الاحساسات لوجود فلسفة الترابط في إنجلترا في ذلك الوقت، وفلسفة الترابط هذه تقول إن أصل كل حياة فكرية هي الاحساسات، وإذن(145/33)
فالاحساسات هي أساس نشوء الحياة العقلية، ولذلك عمد وند لدراسة زمن الرجع وهو الزمن الذي ينقضي بين وصول المؤثر وبين حصول الرد عليه، لأنه دليل على سرعة العمليات العقلية، وكان يساعده في أبحاثه الأمريكي كاتل الذي لاحظ أن الأشخاص يختلف بعضهم عن بعض في زمن الرجع، وكانت أبحاثه ضد رغبة أستاذه وإن كانت تعتبر الآن من الينابيع التي غذت المقاييس العقلية
ثانياً: دراسة الوراثة في إنجلترا: وأول من بدأ بدراستها هو فرنسيس جالتون وهو أحد أقارب داروين واشترك معه في أبحاثه في نظرية النشوء والارتقاء، ولكن داروين كان كل همه دراسة وراثة الإنسان من وجهة الجسم فقط فاهتم جالتون بدراسة وراثة الصفات العقلية، وقد نشر سنة 1883 كتابه (أبحاث في القوى العقلية) وبه عدة أبحاث خاصة بالخيال ومحاولات بسيطة لقياس الصفات العقلية، ثم فتح في لندن معملا للقياس العقلي والجسمي، وسماها مقاييس انتروبولوجية (خاصة بدراسة البشر)
على أن بحث السير جالتون هذا وإن كان خلوا من الملاحظات والنتائج إلا أنه يعد أول عالم فكر في موضوع الذكاء وقياسه
ثالثاً: حركة علم النفس الطبي في فرنسا: أخذ علم النفس يتجه اتجاها عمليا في فرنسا وذلك لأن الفرنسيين مهتمون بالطب، ولأن علم النفس يتصل بالطب اتصالا تاما، ومن الموضوعات التي كان لها أثر في القياس العقلي ظهور مسألة قياس ضعفاء العقول فأخذ الناس في القرن الثامن عشر يهتمون بهم ويتفهمون حالتهم ويحاولون علاجهم. ساعد على ذلك عثور صياد في غابة بفرنسا على طفل في حالة همجية، فأخذه إلى باريس وفحصه الأطباء وعهدوا بتربيته إلى فيلسوف طبيب اسمه إتار وكان طبيبا في معهد الصم والبكم، فجرب على الطفل الطرق الحسية ليرى تأثيرها على تعليمه وتحوله من الهمجية، وبعد مضي مدة وجد أن التقدم في حالة الطفل بطيء فأرسله إلى معهد خيري، حيث كان يشتغل طبيب اسمه سيجان وكان تلميذاً لأتار فلم ييأس هذا من استعمال الطرق الحسية مع الولد حتى نجحت وتقدم الولد تقدما ملموسا
ذلك إلى إنشاء مدرسة لتربية ضعفاء العقول على طريقة وشاع استعمال هذه المدارس ثم جدت مشكلة الحكم على عقل الطفل فحمل ذلك وزارة المعارف في فرنسا على إنشاء لجنة(145/34)
لدراسة هذه المشكلة، وكان من بين أعضائها بينيه الذي عمل أول مقياس عملي للذكاء سنة 1904
المرحلة الثالثة
ذكرنا أن كاتل كان يبحث مع وند في ألمانيا وزار جالتون في لندن، ولما عاد إلى أمريكا عين مدرساً لعلم النفس فنشر سنة 1890 برنامجاً للقياس العقلي اقترح فيه أن تطبق مقاييس خاصة على طلبة مدرسته، وكانت المقاييس بسيطة تقاس بها القوى الحركية والتمييز الحسي ومظاهر أولية للذاكرة والحكم
نشر كاتل هذه الاختبارات في مجلة إنكليزية ذيلها جالتون بالتعضيد فآثر نشرها في أوربا وأمريكا وطبقها علماء النفس حتى أنه في سنة 1896 استأجر جاسترو مكانا في معرض شيكاغو وأخذ يختبر ذكاء الأشخاص نظير أجر، ثم أخذ كاتل في تطبيق هذه الاختبارات على الطلبة في جامعة كولومبيا نشرت نتائجها سنة 1901 وقارن جلبرت نتائج هذه الاختبارات التي عملت على الطلبة بنتائج حكم المدرسين على الطلبة أنفسهم، فوجد أن الاتفاق بين الاثنين ضعيف جدا
ومن ذلك نرى أن هذه المقاييس لم تكن مضبوطة، ولم تدل على الذكاء تماما، لأنها تقيس قوى فردية ليس بينها وبين القوة العقلية العامة علاقة متينة، وقد أدى هذا النقص إلى التحول عن هذه المقاييس وأصبحت جامعة كولومبيا تحت رئاسة مركزا للبحث في هذه المقاييس، وبالتدريج تغلبت الروح العلمية فأخذ علم النفس صبغه طبية في فرنسا، وابتدأ الفرنسيون يهتمون بقياس العمليات العقلية ذات الأهمية الظاهرة في الحياة، وفي سنة 1896 ظهر مقال للعلامة بينيه في مجلة السنة النفسانية التي اتخذها مسرحا لنشر أبحاثه المختلفة، وكان يحرر الجزء الأعظم منها بنفسه باذلا في ذلك مجهودا كبيرا ومهتماً من البداية بمسألة الذكاء وقياسه معالجا إياه من نواح عدة، وقد لخص بينيه الأبحاث التي عملت قبل ذلك وحمل على الاختبارات الموجودة حملة شديدة إذ كانت تقيس قوي عقلية بسيطة ليست مهمة في الحياة، فكانت حسية وحركية، ولكن الناس لا يتميزون في الذكاء بقوة الإحساس والحركة وإنما يتميزون بقوة الحكم والخيال والذاكرة. وذكر بينيه أيضا في مقاله أنه لابد لقياس الذكاء من ترك المقاييس القديمة والبحث عن أخرى لقياس القوى(145/35)
العقلية العليا، فكان لهذا المقال أثر كبير نقل مقاييس الذكاء من نظريات إلى معامل، وأبطل استعمال الأجهزة النحاسية التي كانت تستعمل، ومن ذلك الحين تدفقت الاختبارات العقلية التي قام بها فريق كبير من العلماء، على أننا لا يمكننا نتبع كل هذه الاختبارات وإنما نتكلم على أهمها وهو اختبار بينيه
ولد الفرد بينيه بمدينة نيس من أعمال فرنسا سنة 1857 وحصل على إجازة الحقوق سنة 1878 ثم عكف على دراسة الطب وتتلمذ للعالمين المشهورين وقتئذ فيريه وشاركوه ولاسيما الثاني منهما فقد بث فيه روح الاهتمام بدراسة نفسيات الشواذ من الناس. ثم تعاون بينيه مع آخرين على إنشاء معمل للأبحاث النفسية في السربون ثم أصبح هو مديراً لهذا المعمل وكان أحد أعضاء اللجنة التي شكلتها وزارة المعارف الفرنسية لاختيار ضعاف العقول فخطر له أن يدعم عمله في هذه اللجنة ببحث قيم يتخذ أساساً وعوناً لبقية البحوث في المستقبل؛ وبدأ عمله بالبحث في ماهية ضعف العقل، ومن هو ضعيف العقل من الأولاد الذي يحتاج إلى تعليم خاص، وقد خصص جهوده كلها ومواهبه العلمية لإنجاز هذا العمل وعكف عليه زمناً لا يقل عن سبع سنوات وفق فيها إلى غرضه وأخرج مقياساً علمياً عملياً حقاً، وظهرت له سلسلة أبحاث في المقاييس العقلية. وقد رأى أن الانتباه الإرادي والذكاء مرتبطان لدرجة أنه يمكن اتخاذ مقاييس الانتباه دليلا على الذكاء فوضع اختبارات عديدة منها زمن الرجع وإعادة بعض أعداد والسرعة في عدد دقات الكرنومتر.
وقام عالم ألماني آخر اسمه ايبنجوس سنة 1897 وعمل اختباراً سماء طريقة ويسمى الآن طريقة التكميل فدلت الاختبارات التكميلية على أنها من أحسن الاختبارات للذكاء، والأساس الذي بني عليه هو اعتقاده أن الذكاء لا يتجلى في إدراك المؤثرات متفرقة وإنما يتجلى في ضم المؤثرات بعضها إلى بعض لتركيب وحدة كلية، ففي الجملة الواحدة مثلا لا يتجلى الذكاء في فهم كل كلمة على حدة بل في فهم الجملة كلها وهي فكرة وجيهة جداً، وقد استمر البحث حتى سنة 1905 حين ظهر أول مقياس كامل للذكاء من عمل بينيه ومساعده سيمون ثم عدلاه في سنة 1908 وفي سنة 1911 وترجم مقياس سنة 1908 إلى لغات عدة فأحدث أثراً كبيراً في العالم وجرب في بلاد كثيرة وقد سخر بعض الناس من مقياس بينيه وقالوا إنه ليس له فائدة عملية، ولكن أكثر العلماء رأوا فائدته وكان بينيه(145/36)
مشبعاً بالروح العلمية الحديثة، وظل يدخل إصلاحات عدة في مقياسه ومات سنة 1912
وقد كان من نتيجة تجربة مقياس بينيه في بلاد كثيرة أن تجلت الحاجة إلى تعديله بما يلائم حالة كل بلد منها، ولذلك ظهرت له تنقيحات عديدة منها خمسة أو ستة في أمريكا وتعديل أو اثنان في ألمانيا وإنجلترا، وأهم هذه التنقيحات تنقيح الأستاذ تيرمان الأمريكي وكان أستاذاً بجامعة استانفورد وسمي التنقيح باسم الجامعة
وكان ترمان مهتما بمسألة القياس العقلي حتى قبل ظهور
مقياس بينيه، فقد ألف بحثاً في العبقرية والغباوة حاول به أن
يوجد أسئلة تميز بين الأذكياء والأغبياء وقد نشر أبحاثه هذه
في سنة 1906 ولما نشر مقياس بينيه اهتم به اهتماماً كبيراً
وابتدأ بمساعدة شلد في تعديل هذا القياس بأن ضم إليه عددا
من اختباراته وأوجد مقياساً منقحاً ولكن أهم من ذلك أنه أدخل
في تنقيحه فكرة جديدة ليست من عنده ولكنها من عند عالم
ألماني يدعى استرن وهي فكرة نسبة الذكاء، وقد كان بينيه
يعتمد في مقياسه على تأخر أو تقدم العمر العقلي عن العمر
الزمني، ولكن التجربة دلت على أن هذه الطريقة ليست دقيقة،
فمثلا إذا فرضنا أن ولداً عمره العقلي 7 سنوات والزمني 5
سنوات فإن تقدمه العقلي على حساب بينيه يكون مماثلا لولد
عمره العقلي 12 سنة وعمره الزمني 10 سنوات أما استرن
فيقول إن ذكاء الأول أكبر من الثاني لأن نسبة الذكاء في(145/37)
الأول أكبر منها في الثاني، فنسبة ذكاء الأول 57=1. 4 بينما
في الثاني 1012=1. 2 - أخذ ترمان هذه الفكرة نفسها
وأضافها إلى مقياسه المنقح إلا أنه ضرب هذه النسبة في 100
لكي يتلافى الكسور فتكون نسبة ذكاء الأول 140 والثاني
120 وقد نقل الأستاذ القباني اختبار ستنفرد بينيه هذا إلى
العربية بعد أن أدخل كثيراً من التعديلات الضرورية عليه
لجعله ملائماً للبيئة المصرية
المرحلة الرابعة
كل المقاييس التي ذكرت لفظية وقد اعترض على هذا النوع من المقاييس: -
(1) لأن الطالب الذي تكون بيئته لا تساعده على التعبير يظلم في هذه البيئة، ولذا فالتلميذ الذي من وسط اجتماعي راق يكون أذكى من تلميذ من وسط اجتماعي فقير، لأن الأول يسمع مناقشات ويشترك فيها بينما لا يقابل الثاني من أبيه أو أمه إلا بالزجر والضرب
(2) وهناك أطفال لا تتوفر عندهم ملكة الكلام أو غير متمكنين من اللغة الموضوع بها الاختبار
(3) وهناك أطفال من ذوي العاهات كفاقدي السمع والنطق يصعب اختبارهم بهذه المقاييس اللفظية
(4) في بعض البلاد تختلف اللغة الدراجة التي يتعلمها الطفل عن لغة الاختبار كمصر مثلا
كل ما تقدم أدى إلى البحث عن اختبارات أخرى تصلح لهذه الحالات كلها ولذا عملت اختبارات عملية بمعنى أن المطلوب فيها سؤال لا يجاوب عليه باللفظ، ولكن يكلف المفحوص بالقيام بعمل يعمله أمام المختبر، ومن أمثلتها لوحة الأشكال - وبها أشكال مختلفة مجوفة يعطى للطالب أجسام مماثلة لها بحيث يضع كل جسم في الشكل المجوف(145/38)
المماثل له، وهناك لوحات سهلة التركيب وأخرى صعبة التركيب يمكن في مثل هذه اللوحات احتساب عدد تغيير القطع حتى يجد الولد القطعة المطلوبة وحساب الزمن الذي يستغرقه المختبر في إتمام تركيب اللوحة
وهناك نوع آخر من هذه الاختبارات يسمى اختبار التواهات مثل بيت جحا ولكنها مرسومة على ورق فيدخل الطالب من باب ويخرج من آخر
وهناك نوع ثالث وهو لوحة الصور يلصق عليها صورة مقطوع منها أجزاء، وهذه الأجزاء تعطى للتلميذ ويطلب منه تكميل الصورة
كل هذه الاختبارات فردية تعطى لكل فرد على حدة فتطبيقها يحتاج إلى وقت كبير ولذا فنحن في حاجة إلى اختبارات لا تحتاج إلى وقت كبير فاخترعت اختبارات جمعية إذ فكر من تلاميذ في عمل اختبار جمعي، وقام علماء النفس بأمريكا بعمل اختبارات جمعية، فألفوا مقاييس الجيش، وأطلقوا على الأول منها مقياس وهو من النوع اللفظي على الثاني وهو اختبار عملي جمعي تستعمل فيه الصور، وقد ارتاح رجال الجيش إلى نتيجة هذه الاختبارات فانتشرت من أمريكا إلى بقية العالم
علي محمد فهمي(145/39)
في المباراة الأدبية
استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام
للآنسة فتحية عزمي
كانت نهضة المرأة في مصر إحدى ثمار الفورة الوطنية المباركة التي انبجست من قلوب أبنائها البررة عام 1919؛ وإذا كانت الثورات التي حدثنا عنها التاريخ قد أفادت العالم من كل نواحيه، وخلقت روحاً جديداً من التطور في كل مرافقه، فإن مصر هي الأخرى قد جنت من وراء ثورتها الفتية نهضة مباركة بدأ أثرها جليا في السنين الأخيرة في الأدب والفنون والعلوم والاقتصاد والسياسة. وكان من أبرز هذه المظاهر وأروعها خروج المرأة المصرية من معقل التقاليد العتيقة المرذولة إلى الحياة العملية الصحيحة بعد الجهل المخيم والخمود الطويل. . .
لقد مضى على المرأة المصرية حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً حتى نفخ الزعيم الخالد (سعد) العظيم في صُور الثورة فلبت مع الملبين، وترامت في ميدان الجهاد مع المترامين، فرأينا كيف يجتذب صوت الداعي الأخاذ النقاذ خدور العذارى والسيدات إلى حيث النداء والتضحية، وكيف أن المرأة المصرية الحيية الساذجة قد ألقت عنها خمارها لتجابه بوجهها الحديد والنار في جانب الرجل، تشد عضده بمظهرها الحماسي الجريء، وتبعث في نفسه روح البسالة والإقدام، فيسارع إلى الموت باسماً لا ينكص ولا يتزعزع، وهكذا سجل التاريخ للمصرية في ذياك العام المجيد صفحة فخار ستبقى خالدة مادامت مصر ومادامت الوطنية والحرية، كما سجل للمرأة البدوية وراء الأجيال السحيقة يوم تبعت رجلها في الحروب تؤازره وتشجعه وتنشد خلفه أناشيد الحماسة والنصر فيشتد ساعده ويثبت جنانه فلا يتجلجل ولا يتحلحل إلا إلى نصر محقق حيث يعود إليها مزهواً بإكليل الظفر، أو إلى قبر في الفلاة موحش حيث الشرف كل الشرف والخلود كل الخلود. . .
فنهضة المرأة الحق في مصر لم تكن إلا وليدة الثورة، وكل ما قام قبل هذا التاريخ لترقية مستواها لم يكن إلا محاولات ضئيلة لا تكاد تذكر إلى جانب تلك الطفرة الهائلة التي قذفتها إليها الثورة، وهنا يحق لنا أن نحني الرأس في هذا المقام إجلالا لذكرى زعيمنا الخالد الذي تفجر من فيض وطنيته ما ننعم فيه الآن من نهضات عمت مرافقنا الحيوية، ثم نحيي في(145/40)
جثمانه الهامد الوطنية الصحيحة والوجدان الحي والتضحية الفادحة والعمل الخالد المقيم. . .
وأخذت بعد ذلك نهضة المرأة المصرية تسير سيرها الحثيث نحو التقدم المنشود ففتحت أمامها موارد العلم لتغترف ما شاءت حتى صارت إلى ما هي عليه الآن من رقي وثقافة يكادان أن يضعاها في مستوى زميلتها الغربية، ولكن هل آتت هذه النهضة أكلها حقا؟ وماذا كان اثر هذه النهضة في الحياة العامة؟؟
لا يسع كل منصف إلا أن يحكم معنا أن تعليم المرأة لدينا قد بلغ شوطاً بعيداً وخاصة في الأعوام القلائل الأخيرة، فمنا الآن الأديبات والطبيبات والحقوقيات وغيرهن ممن نلن من الثقافة العالية نصيباً وافرا، ولكن العمل الرئيسي الذي خلقت له المرأة يؤول اليوم تدريجياً إلى الإهمال: فالشؤون المنزلية وتربية الأولاد وإعدادهم للحياة الصحيحة ثم تفهم الحياة الزوجية ودرسها درسا وافيا، كل ذلك أضحى في نظر سيداتنا وخاصة المثقفات منهن شيئا ثانويا أولى منه إتقان أدوات الزينة والجري وراء الأزياء الحديثة حتى أصبحنا في خشية من انطباق قول الآنسة دي سكودراي علينا: (أن فتاة تنسى النظر إلى السماء لا تحسن شيئا على الأرض!!)
(إن النساء أتين العالم لعمل الحساء وإنسال الأولاد وماعدا هذا فأنهن يظهرن بمظهر مزعج) كلمة مريرة قالها موليير عن المرأة، وهي وإن كانت تهكما لاذعا كاد صاحبها يخرج بها إلى حد المغالاة، أو جاوزها فعلا، إلا أن فيه إشارة إلى الوظيفة الأولى للمرأة التي أشرنا إليها من قبل. وأنه لخليق بالمرأة المصرية وقد ضربت في الثقافة العامة بسهم وافر أن تضع نصب عينيها الرسالة التي أوجدتها الطبيعة من أجلها وتؤديها على أتمها خالصة في سبيل الله والواجب، ومن ثم تضرب في خضم الحياة العملية ما شاء لها الفكر الوقاد على ضوء الخبرة والمعرفة. أما أن تعنى بالأمور الفرعية دون تقويم الأساس وتمكينه فهذا ما لا يقره منطق سليم ولا تبيحه نفس الطبيعة التي فطرت كل شيء لغرض معين وهيأته لرسالة محدودة
في يقيني أن خير استثمار أن خير استثمار المرأة العصرية للخير العام ينحصر في شيء واحد وهو: تشييد صرح حياتنا الاجتماعية على أساس مكين ونظام متقن؛ وإذا كانت(145/41)
نهضة المرأة عندنا قد قامت على تعليمها فأحرِ بنا أن نستغل هذا التعليم لتمهيد سبل السعادة لأزواجنا ومعاونتهم على العيش، ثم تدبير بيوتنا وتثقيف أولادنا ثقافة أخلاقية وعلمية ووطنية ليشبوا رجالا بكل ما في هذه الكلمة من معنى سام جليل؛ ومتى تركزت حياتنا الاجتماعية على هذه الأسس الوطيدة صلحت حياتنا العامة وأعددنا للوطن أشبالا تغذوا بلبان الوطنية واهتدوا بهدي العلم إلى سواء السبيل
صدقوني أنّا لسنا بحاجة إلى المرأة المثقفة العالية بقدر حاجتنا إلى الأم الصالحة أو (المدرسة الأولى) كما نعتها الكتّاب والشعراء قديما، وهاهي تي البلاد تئن من أقصاها إلى أقصاها من كابوس البطالة الذي يجثم على أنفاسها ويزداد هولاً يوماً بعد يوم باطراد زيادة عدد المتعلمين الذين تلفظهم المدارس كل عام لمواجهة الحياة العملية حتى ضاقت بهم سبلها وغصت بهم على رحبها، وهذا الجيش الجرار من شباب الأمة المتعلم العاطل أولى منا نحن معشر النساء المثقفات بالعمل، فبماذا يمكن إذاً استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام؟؟
ليس هناك سوى رد واحد على هذا السؤال، هو ما قلته، وهو أن خير طريقة لهذا الاستثمار هو الاستثمار الاجتماعي المعنوي الذي ذكرت لا الاستثمار المادي كما يمكن أن يفهم من كلمة (الاستثمار) وذلك لأن هذا الاستثمار المادي الأخير نحن في غنى عنه بما لدينا من أيد عاطلة عديدة أحق بالتشغيل من جهة، وعدا ذلك فإن استثمار نهضة المرأة المصرية اجتماعيا يركز حياتنا العامة ويسيرها في طريق التطور المرجو غير بطيئة ولا وجلة
ويبدو لنا من أخبار الغرب التي يحملها إلينا البريد الأوربي الأخير من أن العالم قد بدأ يحس مدى خطئه في قصر تعليم المرأة على ثقافتها فحسب دون العناية بالغرض الأساسي الذي خلقت له؛ فهذي الآن فرنسا تحارب فكرة إعطاء الحقوق السياسية للنساء ومساواتهن بالرجال؛ وها نحن أولاء نرى ألمانيا وإيطاليا تضمان في جملة أنظمتها الجديدة أن تعود المرأة إلى سالف عصرها من التزام البيوت والقيام على تربية الأطفال، ومنعهن ما أمكن من تعاطي أعمال الرجال. وقد قرأنا للأستاذ محمد كرد علي ملخصاً لكتاب ظهر أخيراً في فرنسا حول هذا الصدد للدكتور روبرتوش بدأه بكلام لثلاثة من مشاهير الكتاب أحدهم(145/42)
تيودور جوران قال: (إن رفعة المرأة بلية صدرت إلينا من البلاد الأجنبية ولا سيما من أمريكا وجرمانيا وبلاد الشمال، وكان هذا النفوذ المتألف من كل غريب يكفي أن يكون منه إنتاج قد يتلاءم مع تركيبنا الفرنسي) وقال روبر كبيو: (من السهل الدلالة على أن دعوى رفع شأن المرأة كانت أبداً وليدة المذهب الاشتراكي فقد نرانا نسقط فيها على أفكار اشتراكية بعينها، وعلى معان لهم وتغيرات، وعلى كلمات ما برح الاشتراكيون يرددونها مع سفسطات كانت ولا تزال مألوفة لهم، وما المرأة إلا أعدى عدو لرفعة شأنها، فهي موقنة بأنها تخسر من نفوذها الخاص أربعة أضعاف ما تربحه من نفوذها العام، ولا يتأتى مما ترمي إليه إدخال أدنى إصلاح على النظام الاجتماعي) وقال الثالث تينابر (إن حقوق النساء وتحريرهن الأدبي هذا حسن وجميل، ولكن يا سيداتي حررن أنفسكن أولاً من الخياطة، فإن لم تكن لكن هذه الشجاعة فلا تطالبن إلى أن تحصلن على ما بقى) وقد استعرض المؤلف في كتابه نهضة المرأة نشأتها إلى اليوم وحللها تحليلاً دقيقاً عاب عليها عنايتها بثقافتها دون الغرض الرئيسي الذي هيأتها له الطبيعة. من هنا نرى أن أعرق الأمم الغربية في النهضة النسوية قد بدأت تتحسس مدى خطئها في توجيه المرأة إلى غير ما خلقت له ولم يعد بين هاته الدول من أخذتها هذه المدنية الطاغية عن جادة الطريق سوى تركيا الحديثة التي خالت أنه لم يبق بينها وبين مساواة العالم المتمدين سوى هذه الغلطة الاجتماعية النسائية فأبت إلا أن تشرب الكأس حتى الثمالة، وما أشك أنها ستجني ثمرة هذا التقليد الأعمى علقما وصابا كما جنته براقش
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا جبلاً عن غرة زلجا
ولنتدبر نحن في المستقبل قبل أن نخطو إليه، ولنتبين من أي طريق تسوق المدنية الغرور، ولنستمع صوت الطبيعة الغضبى تصرخ في وجوهنا: لقد خلقت المرأة لتكون نظام الأسرة وتكمل الشطر الثاني من حياة الرجل، وتقدم له وللعالم كأس السعادة مترعة هنيئة، فلا يخلبنكم بريق المدينة الخادع الكاذب فتعبثوا بنظمي وتقلبوها رأساً على عقب، لا يصيبكم ما أصاب من قبلكم من المتعنتين المستكبرين. . .
وبعد. . . فهذا رأيي في استثار المرأة المصرية للخير العام أدلي به راجية أن أكون بذلك قد أرضيت الواجب والضمير، وإن كنت قد عرضت نفسي للوم البعض من سيداتي(145/43)
المثقفات ممن يرين في الحياة غير رأيي، ولا يفوتني هنا أن أهمس في آذان هؤلاء أنه خير للمرأة من حياة زوجية سعيدة يحفها البنون وترف عليها الهناءة من مجد عريض يكلل هامتها ووسام نبيل تحمله. ذلك لأن المرأة خلقت للرجال والرجل خلق للعمل، وأن مجد المرأة حداد ظاهر على إسعادها كما قالت مدام دي استال، فلا تغامروا بالمرأة في تجربة قد أدرك العالم المتمدين خطأها ولا تستثمروها في غير ما خلقت له وإلا تكونوا كطالب الماء من الصخر، أو مستنبت الزرع في المهمه القفر
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار!!
فتحية عزمي(145/44)
صورة من المجتمع الجزائري
إني أرى في المنام!
للأستاذ محمد سعيد الزاهري
عضو جمعية العلماء الجزائريين
خرج من السوق خائباً مكتئباً، ملامحه عليها غبرة ترهقها قترة، تدل على ما يأكل نفسه من الهم القاتل، والحزن العميق، يحمل في إحدى يديه (قفة) فارغة لا شيء فيها، وفي الأخرى (سبحة) غليظة جداً، وهو يقول بصوت واضح مسموع: (هذا ما يريد لي فلان، وهذا ما يريد لي فلان. . .) وذكر ناساً بأسمائهم من رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر، ومضى يردد ما يقول إلى مسافة بعيدة من السوق
هو (شيخ) لإحدى الطرق الصوفية في هذه البلاد. قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا. تراه فترى وجها كالحا مسنوناً، ولحية قذرة صفراء كان دخاناً كثيفاً لا يزال يتعهدها ويغشاها من حين إلى حين. كان يعتنق طريقة صوفية، فلما لم يجد فيها معاشا تحول عنها إلى طريقة أخرى يعيش فيها حميلة أحبابها ومعتنقيها، فلا يدع وليمة ولا جنازة لأحدهم إلا هرول إليها متعرضا لما قد يكون فيها من صدقات أو نفحات. ولقد مرد على هذا الأسلوب من التكسب فأتقنه وتفنن فيه، فهو يبث العيون والأرصاد يتنسمون له أخبار الأفراح والأتراح، ويُرسل في المدائن حاشرين يأتونه بالزوار والمريدين يرجون مغفرته ويلتمسون منه البركة والخير! ويرتكب هؤلاء الدعاة الذين يدعون الناس إليه ضروباً من الترغيب والترهيب، فينحلونه المناقب والصالحات، والخوارق والمعجزات! فيزعمون (أن من يطيع الشيخ فقد أطاع الله) وأن الرسول (ص) لا يفارق الشيخ طرفة عين، وأن من اتبع الشيخ فجزاؤهم عند ربهم جنات عَدْن يدخلونها، وأن من خالفه مأواهم النار وبئس المصير
وقفوا ذات يوم على فاكِهيّ وقالوا له: إن شيخنا يقرئك السلام ويقول لك يا بني إني أرى في المنام كأنك تتخبط في ضحضاح من النار وأنت تستغيث فلا تغاث حتى استغثت بي، وذكرتني باسمي فأخذت بيدك، وأنقذتك من الهلاك. وتعبير هذه الرؤيا هو أنك رجل قد غرق في ذنوبه وخطاياه، ولا خلاص لك إلا بأيدينا. . . ثم لا يزال هؤلاء بالرجل يزينون(145/45)
إليه الشيخ، ويحثون على زيارته، حتى يقع في الفخ، ويزور الشيخ ويأخذ عنه (الوسيلة). وهنا يصير مريداً ممن يرزقون الشيخ، ويؤدون إليه كل ما هو في حاجة إليه من طعام وشراب ومن نقود ومتاع
ولقد مد الشيخ أحبولته مرة أخرى فاصطاد رجلا مخلصاً بسيطاً، طيب القلب. يقال له (علاّل)، وكان هذا عاملا مجداً يدر عليه عمله كسباً وفيراً، وخيراً كثيراً. وكان سمحاً كريماً، فكان يرزق الشيخ ويقوت عيال الشيخ، ويجزل له العطايا والهبات. فلم يكن يشتري لنفسه شيئاً إلا اشترى مثله للشيخ، ولا قضى لنفسه حاجة إلا قضى للشيخ حاجة مثلها، فإن اشترى لنفسه رطلا من البن أو العنب اشترى للشيخ من ذلك رطلا أو رطلين اثنين، أو فصل لنفسه عباءة فصل للشيخ عباءة أحسن منها وأغلى وهلم جرا
واتفق أن صاحباً لعلاّل قدم من الحج فأهدى إليه عمامة حجازية من الحرير الغالي، فأهداها بدوره إلى شيخه، وأن صاحباً له أخر قدم من فاس فأهدى إليه (جلاّبة) من القماش الرفيع الذي يلائم مرح الشباب، ولا يصلح للشيخ الفاني، وأراد الرجل أن يرتديها فتذكر الشيخ فاشترى له (جلاَّبة) تناسب الشيخوخة ووقارها بقيمة تفوق قيمة (جلابته) الأولى، وارتداها في يوم جمعة، وما هي إلا أن رآها الشيخ عليه حتى أرسل إليه من يحثونه على أن يهديها إليه، فانتزعها لفوره من على ظهره ووهبه إياها، فأرسل الشيخ بالعمامة و (الجلابة) إلى السوق فباعهما ببعض ثمنهما؛ وشهد (علال) صفقة البيع، وظن أنهما سرقتا من الشيخ فسأل الدلال عنهما فأخبره بالواقع، فكبر عليه أن تباع (هديته) وهو يسمع ويرى، فاشتراهما للمرة الثانية، وجعل يحدث نفسه ويقول:
ترى أبلغ من هواني على الشيخ أن يبيع ما أهديه إليه؟ وما هو مصير هدياتي) الأخرى؟ أم بلغ من هوان الشيخ علي نفسه أن يتاجر بما يهدي إليه الناس؟ وعلى أية حال فأنا لا أرضى لنفسي هذا المصير. وأحس الشيخ أن الرجل قد بدا يتنكر له ويجفوه، فخشي أن يفلت من يديه، ويولي عنه مدبراً. فعزم في نفسه أمراً، وعزم أن يلعب آخر دور في الرواية، وكان يعلم أن عقيلة علال تملك حلياً ومصوغا ومبلغاً من المال، فدبر للاستيلاء على ذلك حيلة من عمل الشيطان، فبلغ بها ما أراد. وذلك بأن أرسل إليها نساء ماكرات من اللائى قد أعدهن لمثل هذا الأمر، فقلن لها: إن سيدنا يقرئك السلام، ويقول لك يا بنيتي إني(145/46)
أرى في المنام أنك كنت مضطجعة نائمة، فجاءت امرأة أخرى فاختطفت منك غطاءك الذي يغطيك وكان من الحرير الأبيض بياض الثلج، فوثبت أنت من سريرك فزعة مذعورة تستغيثين وتملئين الدنيا ولولة وصياحاً:) غطائي! ستري! غطائي! ستري!) فاجتمع عليك خلق كثير، فكان اجتماعهم هذا ضغثاً على إبالة، وزاد في مصابك ولوعتك أن أحداً منهم لم يتقدم لإغاثتك، حتى جئت أنا وانتزعت من الغاصبة غطاءك ورددته عليك. ثم قلن لها إن تعبير هذه الرؤيا هو أن امرأة أخرى ستأخذ منك زوجك ولا يرده عليك سوى سيدنا، وهو يستطيع أن يدفع عنك هذا البلاء سلفاً من الآن، بشرط أن تدفعي إليه ثلاثة آلاف فرنك مقدماً. فرجعت السيدة إلى نفسها تبحث حياتها الزوجية فلم تعثر على أدنى شيء ينبئ بصدق هذه الرؤيا فلم تطاوعها نفسها أن تتهم زوجها ظلماً بغير حق أو أن تظن به الظنون، وهي ما علمت عليه من سوء. فلم تكترث لهذه الرؤيا، وقالت إنها أضغاث أحلام. ولكن الشيخ كان جاداً غير هازل، فدس إلى فتاة من الفتيات اللائى ينتمين إليه من أوهمتها أن الشيخ قد دعا الله لها أن يرزقها زوجاً كريماً، وأن الله قد استجاب له فيها، وقال: (إني أرى في المنام أن فلانة قد زُفت إلى علال في احتفال رائع مهيب. وكانت هذه من الآنسات العانسات، ففرحت وأعطت الشيخ من العطاء الجزيل ما أرضاه، وجعلت منذ ذلك اليوم تعرض لعلال، وتبدي له من زينتها تفتنه وتغريه حتى وقعت من نفسه، ومال إليها، وشرع الشيخ يمهد لها الطريق، فدس إلى علال من يهدمون عليه أسرته الهانئة السعيدة، ويملؤون سمعه بما يفرقون به بين المرء وزوجه. وما هي إلا أن وقع بين الزوجين خلاف بسيط حتى أخرج علال أم ولده من دارها وأطلق سراحها. وسرعان ما التف به أعوان الشيخ وأحكموا الصلة بينه وبين الفتاة العانسة، وعقدوا له عليها من ليلته عقدة النكاح
وأتى على المطلقة حين من الدهر تجرعت فيه طعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً، وذاقت من مصائب الدهر وأرزائه ما لا يعلمه إلا الله، فلقد خسرت زوجها على حين غفلة، وهي أشدّ ما تكون حباً له واطمئنانا إليه، وإخلاصاً له وحدبا عليه. وهي تخشى أن ينتزع وحيدها من بين أحضانها، وهي لا تُطيق أن تتحطم سعادتها وهناءتها ليتم هناء عدوتها؛ ولقد فكرت في الانتحار، وهمت به مراراً لولا إبقاؤها على وحيدها، ولكنها التجأت أخيراً إلى الشيخ مذعنة طائعة، قد أسلمت له وجهها، وفوضت إليه أمرها، ترجوه أن يعيد إليها زوجها، وله(145/47)
بعد ذلك ما يشاء ويختار، فرفع القيمة هذه المرة، وجعلها عشرة آلاف فرنك تدفعها إليه نقداً. وبعد توسلات ومساومات رضي فتسلم منها خمسة آلاف نقدته إياها، وباعت فيها بعض ما تملك من حلي ومصوغ. وقعدت في دارها تنتظر النتيجة على أحر من الجمر
وطفق الشيخ يتودد إلى (علال) ويلاطفه حتى نسى الماضي القديم، وأحله من نفسه محل الثقة والرضى. وما استيقن الشيخ من الرجل حتى قال له ذات يوم - وهما على انفراد -: يا بني إني أرى في المنام أنك لست بخير في أهلك هذه التي لم تتعظ بكونها قضت زهرة أيامها عانسة بائرة، فقد حادت عن طريق الشرف والاستقامة من غير أن تحفظ لك غيباً أو تعترف لك بجميل. وأنا كما تعلم إذا رأيت الرؤيا جاءت كفلق الصبح. وكان الشيخ قد أوعز إلى بعض أعوانه فأخبروا علالا بأن عرضه أصبح مضغة في الأفواه، تلوكه ألسنة السوء، وأن النساء في الحمامات وفي الولائم والمناحات يسلقن أهله بألسنة حِداد. فما كذب الرجل فيما سمع، وأسرع إلى (خيْرةَ) ففك عصمتها وأعلنها بطلاقها، وهي ما تزال بعدُ عروساً في خدرها، ولم ينصل خضابها. وغدا عليه الشيخ في وجوه من أعوانه وشركائه 0يتوسل إليه) أن يراجع زوجته الأولى، ويقول له: يا يني إني أرى في المنام أن جبريل عليه السلام قد زوجكها من فوق السموات العلى، فأذعن الرجل، ولم يكد ينقضي يومه ذاك حتى كانت قد جليت عليه مرة أخرى
لقد اطمأنت (خيرةُ) إلى الأيام، وحسبت أن زواجها هذا قد جعل حداً لوحدتها وشقائها، وظنت أنها بهذا الزواج مقبلة على حياة منزلية هانئة سعيدة لا حزن فيها ولا عناء فإذا بها تتلقى هذه الصدمة العنيفة القاسية الأليمة التي لا رحمة فيها، فتملأ نفسها حيرة واضطراباً، وتملؤها ظلمة ويأساً، فلم تطق الصبر ولا الاحتمال، فتحنق وتثور انتقاماً لنفسها، فإذا هي تنقم من نفسها، وقد ضلت السبيل، واندفعت في الغي وسقطت في الهوة التي لا قرار لها
وأراد الشيخ أن يحج إلى بيت الله الحرام لا إيماناً واحتساباً لأنه ممن يزعمون أن زيارة الضريح الفلاني تعدل عند الله ثواب حجة وعمرة معاً؛ ولكنه يريد التكسب والارتزاق، فطاف على الناس يستعينهم على الحج، فيزعم لهذا أنه سيدعو له الله تعالى عند البيت المحرم، ويزعم للآخر أنه سيستغفر له عند مقام إبراهيم، ويتناول على ذلك أجره سلفاً. أما الذين يستلمُ منهم سلفاً أثمان (الأردية) و (العمائم) و (السبحات) وما إلى ذلك مما سيحمله(145/48)
لهم معه من الحجاز فهم كثيرون جداً، لا يكاد يأخذهم إحصاء. وانتهى به المطاف إلى ضحيته (خيرة) فدخل عليها وهي في منزلها، وقد أثرت من حياتها الجديدة الماجنة وأصبحت ذات مال فخجلت لمرآه وأدركها الحياء، غير أنه أخذ يزين لها ما هي فيه، ويزعم لها أن الله قد غفر لها جميع ما اكتسبت من الخطيئة والإثم. وقال لها: يا بنيتي إني أرى في المنام أن سيد الوجود (ص) يقول لك: طوفي بالبيت العتيق وزوري قبري تخرجي من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فإن لم تستطيعي إلى الحج سبيلا، فليحج عنك هذا الرجل الصالح (يعني الشيخ نفسه). ولم يزل بها حتى آمنت له، ودفعت إليه سائر النفقات ليحج عنها. فلما آب جاءها ببعض الهدايا مكتوباً عليها: (إلى الحاجة خيْرة)!
كان الناس في بحبوحة من اليسر والرخاء تملأ أيديهم الدراهم والدنانير فكان الشيخ في نعيم وعيش رخيم، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان: هذا يعطيه رطلاً من اللحم ويحمله له راتباً يومياً، وذاك يعطيه شيئاً من الخضر والفواكه، ويجعله له عطاء غير مجذوذ، وذلك يهدي إليه قنطاراً من السميد، ويجعلها له جراية شهرية وهكذا الخ الخ، فكان إذا دخل السوق خرج منها و (قفته) ملآى - مجاناً - بكل ما هو في حاجة إليه. فلما أعسر الناس، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم من شدة ما يعانون من ضنك وضيق نضبت موارد الشيخ، وانقطعت عنه الرواتب والعطايا، ولم يعد يملأ (قفته) بالمجان، ولم يعد يلتمس لنفسه صدقة جارية عند أحد الباعة إلا وجدها قد بطلت. وقطعت الأزمة دابرها، فالأزمة إذن هي السبب الأول في مصاب هذا الشيخ، وزملائه من الأشياخ، فإن كان لابد لهم أن يلوموا هذه الأزمة الخانقة، وليلوموا بعدها هذه اليقظة الشاملة التي شملت الدنيا كلها، ثم يأتي بعد ذلك دور هؤلاء المصلحين
(وهران)
محمد السعيد الزاهري(145/49)
الحياة الأدبية في الحجاز
بقلم عبد المجيد شبكشي
كان الأدب العربي مثال الكمال والروعة والازدهار والانتشار في دولة الأمويين وفي صدر الدولة العباسية. وكان نصيب الحجاز من هذا الازدهار طيباً مرموقا، واقتضى خلوه من الأحداث السياسية أن يحيا مغموراً حتى تجرد من العلم والثقافة وصفر من الرجال الممتازين، وعملت الهجرة على محو مقوماته ومميزاته
ثم بدرت بادرة من بوادر النهوض ونسمة من نسمات الحياة بعد فنفخت في الحجاز روح اليقظة الفكرية فأخذ يسترجع ماضيه بفضل جهود البعض من أبنائه المخلصين الذين جرى في عروقهم الدم الحجازي الحر فتأثروا لتدهوره تأثراً قوياً جعل قلوبهم تتقطع أسفاً وحزناً على الماضي العزيز الذي ذهب هباء منثوراً وغرق الحجاز بعده في الجهالة وأضاع تراثه المجيد
سرت اليقظة في أفكار بعض شباب الحجاز وأحسّوا بالواجب الوطني وتنبهوا إلى فضل الأدب في نهضات الشعوب فتأسست لجان للاجتماع، ونواد للأدب حيث قاموا فمثلوا حركة أدبية لا تشوبها شائبة بالنسبة إلى تلك الحالة وبالنسبة أيضاً لعدم وجود مؤهلات كافية لدرس الأدب، حتى المدارس كانت إذ ذاك بسيطة جداً يتخرج منها التلميذ وهو لا يعرف من مواضيع الحياة شيئا
ثم جاء دور التكوين للنهضة الفكرية وكان ذلك قبل عشرة أعوام تقريباً نظم في خلالها أدباء الحجاز الشعر وكتبوا النثر ونشروا نماذج منه وأعلنوا عن أفكارهم وسجلوا آراءهم، فشعر الحجاز حينذاك بدبيب الحياة يتمشى فيه، وأحس بجمال الأدب والفن معاً، وحينذاك قام أحد أدباء الحجاز البارزين وأصدر كتاباً أدبياً يضم بين دفتيه مختارات لأدباء الحجاز فأثبت للأمة أن هناك أدباً راقياً يدعى الأدب الحجازي. وقد تجد في هذه المجموعة روح الحجاز الأدبية ممثلة من حيث صحة النزعة وبساطة التفكير وجماله، فكان عمل هذا الأديب بشير يقظة فكرية منظمة، وقد كان الأدب الحجازي في ذلك العهد بسيطاً شأن كل شيء في بدايته. ولكن الأفكار كانت سائرة مع الحياة متأثرة باتجاهها فلم يمض وقت طويل حتى نضجت تلك الأفكار، وازدهر الأدب بعض الازدهار، ولولا ما نشأ بعد من عوائق(145/50)
شتى وقفت بالحرية الفكرية بعض الشيء لاضطرد تقدمها. ونستطيع أن نقول بحق إن الموفقين من شباب الحجاز في الناحية الأدبية قليلو العدد جداً، والكتاب البارزين في الحجاز لا يزيدون على عشرة، ولكن أقلامهم الممتازة هي التي صورت مبلغ تأثر الحجاز باليقظة الفكرية ومدى إدراكه. أما قراء الأدب فكثيرون وهم ممن أنجبتهم المدارس الحالية، وهؤلاء بلا شك يرجى لهم مستقبل طيب مرموق
والحجاز اليوم بفضل الله ثم بفضل جهود أبنائه المخلصين متقدم بخطوات واسعة إلى الأمام، وميال إلى احتذاء أدب مصر ونزعتها الفكرية، ولا غرابة إذ شابه البعض من أدباء الحجاز بعض أدباء مصر في روحهم الأدبية وصار يكد ويجتهد في الحصول على ما يريده فوق ذلك من المثل الأعلى حتى يدرك المرمى الذي يقصده!
والأدب الحجازي اليوم رمز لما في أفئدة الحجازيين من عواطف وإحساس وحب وولاء، ولما في نفوسهم من شعور وكرم أخلاق، ولما في ضمائرهم من مبدأ واستقامة وغرام عميق بالحرية. وتختلف الأوساط الأدبية اليوم باختلاف قوتها ومداركها وتطورها وتجددها وبما يستتبعه هذا الاختلاف من تأثر بأساليب النقد البريء والتأمل الممتع والبحث الناضج، أو النقد المتهافت والنظرات الجوفاء والبحث الضعيف الخ، وهذا الاختلاف يعطينا صورة واضحة للتطور والتجدد في الأفكار تتحد مع نواميس الكون في نشوئه وتطوره. وليس غريباً على الحجاز أو الحجازيين أن يتأثروا بمؤثرات هذا العصر الحديث وفنونه ونزعاته، وأن تكون حياتهم ميالة إلى اقتباس أساليب جديدة في الحياة والأدب، فإن ذلك من بوادر النجاح وأسبابه، وهو دليل اليقظة، ونؤمل أن ينال الحجاز نصيبه من التقدم والشهرة والحرية التي هي من مبادئ الحياة الصحيحة في هذا العصر. على أن هذا الروح الأدبي السامي المتمثل اليوم في الحجاز حسب ما هو مشاهد وملموس هو بلا شك تأثر صحيح ومعقول، وهو المأمول أيضاً لبلاد لها ماض أدبي حافل
وأدباؤنا يشعرون ويتأثرون بعوامل الحياة الفكرية ويجيدون التصرف في فنون القول ويبدعون في سبك العبارات ووضعها في قالب من الحكمة والذوق ليحوزوا قصب السبق في معترك الحياة الأدبية وليرفعوا اسم بلادهم عالياً، وهذا ما يرجوه ويناصره كل أديب حجازي وهب موهبة الإحساس والشعور بالحياة وفرائضها - وليس ولله الحمد ثمة ركود(145/51)
ولا فتور في النفوس والأفكار
(مكة)
عبد المجيد شبكشي(145/52)
صورة من الحياة العلمية في مصر
4 - تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
تتمة
ولقد خلفت له هذه الولايات متاعب غير قليلة، وأثارت عليه دفائن من الحقد وسخائم القلوب، فقد نقم عليه ولايته قضاء الشام قوم من أهلها كانوا يطمعون فيها؛ وأخص هؤلاء أسرة جلال الدين القزويني قاضي قضاة الشام من قبل، وطبيعي أن يأخذ ذلك الحقد سبيله من السعاية والوشاية والتحريض عليه والتنفير منه؛ ثم كانت ولايته لخطابة الجامع الأموي مما زاد الأمر ضغثاً على إبّالة؛ فقد كانت الخطابة في بيت القزويني كذلك، ويقول زين الدين عمر بن الوردي في تاريخه: (لما توفي الخطيب بدر الدين محمد بن القاضي جلال الدين القزويني خطيب دمشق تولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفى وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدمشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيبا). وكذلك أغضبت ولايته مشيخة دار الحديث الأشرفية قوما من أهل الشام كانوا يرشحون شمس الدين بن النقيب، ولقد سيقت إليه هذه الولاية وهو كاره، إذ كان قد رأى أن الذهبي هو الأحق بها وقد عينه لها، لولا سلطان الشهوات كما سنرى ذلك
هذا وجه من وجوه الحالة في الشام، وقبيل مما كان يسبب له المتاعب والآلام؛ وهناك وجه آخر يتعلق بما أشرنا إليه من قبل عما أوجده مذهب ابن تيمية من تفريق وخروج على المذهب الرسمي السائد
وقد رأينا أن اختياره كان منظورا فيه إلى تلك الحالة من السلطان، ونقول الآن إن القوم في دمشق كانوا يرون فيه ذلك أيضا، وكانوا يأملون أن يخلصهم من آثار (الحنابلة) وما أثاره زعيمهم القوي الجديد؛ ولعل المطامع الشخصية حسبت في ذلك سلما يمكن أن ترتقيه وتصل إلى أغراضها في مظهر ديني سابغ؛ ولكن تقي الدين كان أحكم من أن ينخدع بمثل هذا، كما كان أكبر من أن يخلط في تقدير الأمور؛ فأغضب الطامعين ولم يرض جماعة المتشددين المتكلفين(145/53)
وهنا يحسن بنا أن ننقل نص ما حكاه التاج السبكي عن أبيه في أثناء ترجمته للحافظ أبي الحجاج المزي، ففيه صورة دقيقة حية لما حن بصدده، قال:
(. . . . وحكى لي، فيما يحكيه من تسكين فتن أهل الشام، أنه عقب دخول دمشق بليلة واحدة حضر إليه الشيخ صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي - وكان الشيخ الإمام يحبه - قال دخل إلي وقت العشاء الآخرة، وقال أمورا يريد بها تعريفي بأهل دمشق، قال: فذكر لي البرزالي وملازمته لي، ثم انتهى إلى المزي فقال: وينبغي لك عزله عن مدرسة دار الحديث الأشرفية، قال الشيخ الإمام: فاقشعر جلدي، وغاب فكري، وقلت في نفسي: هذا إمام المحدثين! والله لو عاش الدارقطني لاستحيا أن يدرس مكانه! قال: وسكت، ثم منعت الناس من الدخول على ليلا، فقلت هذه بلدة كثيرة الفتن؛ فقلت أنا للشيخ الإمام: إن صدر الدين المالكي لا ينكر رتبة المزي في الحديث، ولكن كأنه لاحظ ما هو شرط واقفها من أن شيخها لابد أن يكون أشعري العقيدة، والمزي وإن كان حين ولي كتب بخطه أنه أشعري، إلا أن الناس لا يصدقونه في ذلك فقال: أعرف أن هذا هو الذي لاحظه صدر الدين، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يقول: المزي لا يصلح لدار الحديث؟ والله ركني! ما يحتمل هذا الكلام!
فأنت ترى أن أول ما ووجه به السبكي في الشام هو الإنكار على البرزالي والمزي وإضرابهما، ممن يتهمون بالميل مع ابن تيمية وأن أول ما تقدم به إليه فقهاؤها هو (إعلان الحرب) على هؤلاء، وموقف السبكي من هذا موقف نبيل مجيد، فقد رأى الأمر فتنة لا ينبغي أن يفتتن فيها مع المفتونين، فركن إلى دينه وضميره، وترك بنيات السبل، ولم يعبأ بهذه الصغائر وما تنطوي عليه من إنذار وتهديد، ولبث مصاحبا للبرزالي ملازما له، إلى أن خرج إلى الحج وقضى نحبه، ثم ما فتئ يذكره ويثني عليه أطيب الثناء، وأقر المزي في مكانه بدار الحديث إلى أن مات سنة 742هـ، وكان يكبره غاية الإكبار، ويحث ابنه على ملازمته والانتفاع به، لا يصرفه عن ذلك تقولات المتقولين ولا ازورار المزورين
ولما مات المزي كان ثمت مظهر آخر من مظاهر هذه الفتنة في تعيين خلف له، فقد كان الذهبي هو وحده البقية الباقية من رجال الحديث الجديرين بتولي مشيخة (دار الحديث) ولكنه كان متهماً بمشايعة الحنابلة شيعة ابن تيمية، فمال عنه القوم لذلك، ورشحوا شمس(145/54)
الدين بن النقيب، ودعوا له ولجوا في الدعوة. أما السبكي - وإليه حق التعيين - فلم يغلبه الهوى على الحق، ولم تأخذه في سبيل العلم عصبية، ولم يبال بصياح الصائحين، فعين الذهبي في ذلك المنصب. وهنا اشتدت ثورة القوم وعلا صخبهم، وهو مصر على رأيه حتى لم يبق بد من حضور نائب الشام وكان في ذلك الحين (الطنيغا)، فلم يستطع التوفيق. وأخيراً رأى شيخ الحنفية أن تحل الأزمة بأن يتولى المشيخة السبكي نفسه، ووافق الأمير على هذا الرأي وهو يقول: (أعلم الناس بهذا العلم الذهبي وقاضي القضاة، وقاضي القضاة أشعري قطعا، وقطع الشك باليقين أولى.) وانتهى الأمر على ذلك بعد أن كاد يفضي إلى فتنة لا يعرف مداها
فموقف السبكي هذا من شيعة ابن تيمية وإغضائه عن العصبية المذهبية هذا الإغضاء وعدم مسايرته الأشاعرة في كل ما يشتهون أفسح المجال أمام المنخرصين، ومكن الحقد من أن يجد سبيله معبدا بين جمهور الناس وفي مجالس الخاصة، ولاسيما في مجلس الأمير نائب دمشق، ففسدت الصلات بين الشيخ وبين أغلب الذين تولوا نيابة الشام، وكثيراً ما قامت الحرب بينه وبينهم، وما كان يطفئها إلا ما كان ولاة ذلك العهد معرضين له من العزل الوشيك أو القتل المفاجئ
على أن السبب الأول في توتر العلائق بينه وبين النواب يرجع - في حقيقة الأمر - إلى صلابته في الحق، وصراحته في تقريره، وتقديره لقدر منصبه، واعتباره إياه حرماً لا ينبغي لأحد أن يتطاول إليه أو ينال منه؛ فهو الحفيظ على الحق الذي جاء الشرع ببيانه؛ فكل تفريط فيه، أو تعريض له، أو ملاينة في تنفيذه فإنما مردها إلى هذا الشرع الذي يقدسه، وحاشاه! وكان الولاة من ناحية أخرى، قوماً عجما، أدعياء في الدين، لا يتعدى إيمانهم مظهرهم، ولا يعرفون الحق إلا أمراً ينفذ، وشهوة تقضى، وعتواً واستكباراً في الأرض، إلا قليلاً منهم. ثم كان يزيد اضطراماً ما كان يلقيه فيها من السعايات والنمائم من كانوا يداخلونهم من أهل الشام، ومنهم بعض العلماء مثل شهاب الدين العمري الذي كان يقع فيه في مجلس الأمير ايدغمش ومما يدل على دسائس القوم عند الولاة أن أحد هؤلاء الأمراء، واسمه فيما يورده صاحب الطبقات (طغره تمر) كان فيما يقول من أصحب الناس له في مصر، فلما جاء إلى الشام غيّره عليه الشاميون، وأعانهم عليه امتناعه من امتثال(145/55)
أوامره
ولقد هم السبكي مرة أن يستقيل من منصبه، وكان ذلك في ولاية ايدغمش سنة 742، وكان قد بلغ في معاندته وإيذائه مبلغا كبيرا. ولكنه يظهر أنه رأى في هذه الاستقالة تحقيقا لشهوته، وتخليا عن واجبه، فعدل عنها واستمر في مجاهدته. وأراد ايدغمش أن يتخلص منه، وأن يلتجئ إلى دعوى الدين في محاربته، فجعل يجمع الفقهاء للفتوى عليه - وما كانت تعوزهم مقدمات الإفتاء - وكاد الأمر يتم للنائب لولا أن جاء (البريدي) إلى الشيخ يطلبه إلى باب السلطان في أمر من الأمور، فذهب إلى مصر، وهناك أوجد أزمة غير هينة الحل؛ فقد أصرّ على ألا يعود إلى الشام وفيها ايدغمش، وليس من اليسير عزل نائب من أجل قاض مهما علت منزلته. ولكن القدر كان أسرع إلى حل هذا الأزمة وأقضى فيها من كل تدبير وقضاء، فقد جاء الخبر بموت ايدغمش موت الفجاءة، وعاد الشيخ إلى دمشق يعيد سيرة الحق المجاهد الظافر
وممن آذاه وأضجره نائب اسمه (أرغون شاه)، تولى نيابة الشام سنة 748، ويروى أن الشيخ كان يمسك بطرزه ويقول له: (يا أمير! أنا أموت وأنت تموت!) وتأمل أنت في هذا قوة الإيمان والجرأة في الحق. وقد ظل ذلك الرجل في نيابة الشام سنتين ثم قتل
كان آخر هؤلاء النواب أرغون الكاملي، وكان رجلا فظا غليظ القلب. وقد حكى تاج الدين أن أباه (حكم مرة في واقعة جرت وصمم فيها، وعانده أرغون الكاملي نائب الشام وكاد الأمر يطلخّم شاما ومصر، فقد ذكر القاضي صلاح الدين الصفدي أنه عبر إليه وقال: يا مولانا! لقد أعذرت، ووفيت ما عليك؛ وهؤلاء ما يعملون الحق؛ فلم تلق بنفسك إلى التهلكة وتعاديهم؟ فتأمل ملياً ثم قال:
فليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
ويا عجبا لتلك الشيخوخة التي لا تزيدها الأيام إلا صلابة وقوة، وذلك الإيمان الذي لا تزيده مظاهر القوة إلا غلبة واستعلاء
وهكذا كانت حياة تقي الدين السبكي في الشام: ملجأ للحق يلوذ به ويعتصم، ومثالا للخلق القوي الذي لا يتثلم، وآية من آيات الله على قوة الروح الإنسانية متى خلصت من الرعونات والترهات فلا يغلبها غالب(145/56)
ولقد كان الحنين إلى الوطن يهز الشيخ هزا، فذهب إلى مصر، وخلع عليه سلطانها، ثم عاد منها إلى دمشق سنة 754 (1353م)
وفي ذي القعدة سنة 755هـ (1354) نال منه الضعف وأدركه المرض؛ ولما اشتد عليه استخلف على قضاء الشام ابنه تاج الدين، فتقلده. وكان في أثناء مرضه شديد اللهف على العودة إلى وطنه عظيم الحرص على أن يدركه فيها أجله؛ فسافر إلى مصر ولبث فيها أياماً يكابد العلة، حتى أدركته الوفاة ليلة الاثنين 3 جمادى الآخرة سنة 756 (10 سبتمبر سنة 1354م) وخلف ميراثا جليلا ضخما مما صنفه في كثير من الفنون، وميراثا آخر أجل وأضخم في ابنيه العلامتين: بهاء الدين وتاج الدين. ولعل الله يوفقنا لدراسة حياتيهما، ورسم صورة لهما
كلية الآداب
محمد طه الحاجري(145/57)
قرب الموتى
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يا روح إِلف أليف الموت والحُفَرِ ... قومي اسألي عن أليف الهم والسهرِ
أو فابعثي هاتفاً بالليل يؤنسني ... لو كان لِلْمَيْتِ من شوق ومن ذِكَرِ
وحَلِّقي فوق قوم كنتِ زينتهم ... كالطير تهبط فوق الوكر في الشجر
فإن نورك نور النجم يرشدنا ... ورحلة العيش تحكي رحلة السفر
أو كالملاك تهدي وهي خافية ... وتُشْعِرُ النفس طُهْراً ليس في السِّيَرِ
عجز عن الشر لم أبصره في نفر ... يا شر ما خَلّفَ الأحباب من نفر
غرارة ربما لو عشتِ ما بقيت ... إذاً عداك الردى عن مهبط البشر
هل تلك طبع الصبا تودي الحياة به ... لا بل غرار فؤادٍ غير ذي نُكُر
فصانك الله في أمن وفي كَنَفٍ ... وقُدْسِ طُهْر كصون المرء للذخُر
كأنما أنتِ ذُخْرٌ لا يجود به ... على الدُّنَى وهي من ضَيْر ومن أشر
ما أقرب الميت من حي وإن بعدت ... مكانة بين هذا الوِرْدِ والصَّدَرِ
إن الأولَى خلفونا بعدهم ومضوا ... ما خلَّفونَا وإن غابوا عن النظر
هم في الأمانيِّ والأرواح والذِكَرِ ... منا وفي القلب والأشجان والفِكَر
فكيف نجزع من فَقْدٍ وما انتقلوا ... إلا إلى النفس حرزا ريْم مِن غَيِر
يا قرب دارهمُ من واصل لهمُ ... بالنفس إن لم يكن بالعين والأثر
ووحشة النفس من حيٍّ يغايرها ... أشد من وحشة في السمع والبصر
من حاضرين وإن ماتوا وإن بعدوا ... وإن غدوا كحديث الركب والسمر
ورب ذكرى تعيد المَيْتَ في شبح ... يكاد يُلمَسُ لولا رادع الحذر
ماض من الدهر والأقوام يخبرنا ... أن لا مسافة بين المهد والحُفَر
عبد الرحمن شكري(145/58)
زهرتي المختارة
بقلم الياس قنصل
يا زهرتي العاطرة الناضَرهْ ... هل شوّهتْ كفُّ البلى حسنَكِ؟
جنتكِ في الليل يدٌ جائره ... لو أنها تمثلتْ حزنَكِ
لفرقتي، ما سبَّبتْ بينَكِ
يا زهرتي جملّكِ المبدعُ ... لتبدعي البهجةَ في روضتي
ورصعَّت ذاك إليها أدمعُ ... من الندى الباكي بلا مقلةِ
لتسكبي العزاء في مهجتي
يا زهرتي عنكِ سينأى الفتونْ ... وقد نأيت عن حمى الشاعر
وبعد أن كنتِ مقرّ العيونْ ... ستستحين من فتى ناظر
يعرضُ عن جمالك الفاترِ
أما أنا يا زهرتي، فالأسى ... أنْشَبَ في جوانحي مخلبَهْ
أبعدكِ الدهرُ وقلبي احتسى ... من المرار أكؤساً مصئبَهْ
أربتْ على أناتّه المرعبَهْ
يا زهرتي كيف أعزي الزهور ... إذا رأين عرشك الخاويا
تطوف حوله بقايا العبيرْ ... هامسة: ولىّ القضا نائيا
بها، وغادر السنا باكيا. . .
والطيرُ إن تسألْ، فماذا يكونْ ... لها جوابي عند تغريدها
كم رفرفت فوقك بين الغصونْ ... وأسمعتْكِ من أناشيدها
نجوى، جلالها بترديدِها
يا زهرتي ليهنأ السارقُ ... بما حبتْه روضتي من أريجْ
وليغتنم نضرتَكِ الرامقُ ... وليسكر النفسَ بحسن بهيج
ففي ثناياكِ بهاه يموجْ
يا زهرتي كذا أرادَ القضاءْ ... بحكمهِ، فحزنُنا لا يفيدْ
ويأسنا يبعدُ عنا العزاءْ ... ويجعل العيشَ بهذا الوجودْ(145/59)
حشرجةً، فيها العناءُ الشديدْ. . .
(عاصمة الأرجنتين)
الياس قنصل(145/60)
الليلة الثانية عشرة
- 2 -
المشهد الثاني: على ساحل البحر
(تظهر فيولا والقبطان والبحارة)
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
فيولا: أيّ بلاد هذه؟ رفقتي!
القبطان: إيليريا!
أخي بِإلّيسيِومُ!
بجنّة يخلد سكانها ... ويكمل الأنس بها والنعيم
مالي وإيليريا!. . مَهٍ!. . علَّه ... مثلي نجا؛ هل مستحيلاً أروم؟
معُجزةٌ للحظِّ أن تسلمي!
فيولا: ... بمثلها الحظ لصِنوي كريم!
القبطان:
صدقتِ يا سيدتي، إنني ... أعضُد رَجْواكِ، وربي عليم
لما طغى الماء على فلكنا ... وزاغ منكم عن حِجاَه الحلم
وَأُدْتُم الزورقَ حتى لقد ... كاد من الكظَّة ألا يعوم
رأيته يسبح في لجةٍ ... تهوي به حيناً وحينا تقوم
رجاؤه شدَّ بأعضاده ... وأنَّه ذاك الشجاع العزوم
فشد كفَّيه إلى قائم ... في البحر ضمَّ الطفلِ صدر الرؤوم
كأنه (أريان) مستمسكا ... بظهر ذاك الحيوان العظيم
والهائجُ المحنَق من حوله ... قد راضه فهو وليّ حميم!
راقبته ما أسطعتُ حتى اختفى ... عن ناظري تحت ظلال الغيوم!
فيولا:(145/61)
شكراً لما طَمْأَنْتَ، علَّ السَّما ... تجمع قلبين بقلب رحيم!
سلامتي أوحت - وأيَّدتَ ما ... أوحته لي - أن ابن أمّي سليم
أتعرف هذي البلاد؟
القبطان: أجل ... بلاديَ أعرفها جيّدا
ثلاثٌ من السَّاع تكفي لتُوْ ... صِلَنا منشأي ثَمَّ والمولدا
فيولا: ومن يَتَّلى حكمهَا؟
القبطان: سيّد ... زكا خُلقاً، وسما محتدا
فيولا: وماذا اسمه؟
القبطان: أُرِسِنُو
فيولا: أُرِسِنُو؟ ... أبي كان سمَّاه لي مُحْمِدَا
وأعزبَ كان!
القبطان: وأعزبَ لَمْ ... يَزَلْ؛ فقريباً توَّشى الصَّدى
بإِغْرامِهِ بأوليفيا الجمي ... لةِ
فيولا: ... ما هي؟
القبطان ... عذراء مثل النّدى!
أبوها شريف قضى منذ عا ... مٍ وأوصى بها نجلَه الأوحدا
أخاها الحبيبَ إليها الذي ... به بعد ذلك ثنيّ الردى
فآلت أسًى لا ترى أو تعا ... شِر مِن بعده رجلا أبدا (؟)
فيولا:
ويحَهَا مِن مسكينة! آه لو أخْ ... دمُها! ربما أُسرِّي أساها
ربما أستطيع أن أنُصرَ الحبّ ... وألقي بذوره في رُباها
وأرِيها صوابَها في هوى الدو ... ق، وأُنشي دنياه في دنياها
ريثما تستقر حالي، ويُدرَى ... مَنْ أنا
القبطان: ... خطةً مُحالا أراها
إِنها حرَّمت على رُسُل الخطّا ... ب طرًّا أن يَقربوا من حِماها(145/62)
لن ترى وجه طارق منهم قط ... ولا الدوق نفسه إِنْ أتاها
فيولا:
لك يا سيدي شمائل غُرٌّ ... لا تراها عينٌ فلا تَهواها
غيّبت فيك باطناً من معاني ... ها، وحلّتك ظاهراً من حِلاها
لا تَلُمْ إن قلتُ: الطبيعة حاَبتْ ... كَ، وقل لي هل أنت ممن رشَاها؟
ليس هذا من دأبها؛ فهي تكسو ... حيَّة الروض لينها وبَهاها!
وإليك اطمأن قلبي، وما أح ... سب نفسي تضِلُ فيك هداها
كنِ عمادي في خطة ربمَّا تص ... عب، لكن لا شك في جدواها
وسأجزيك ما تطيب به نف ... سُك مما ينالني مِن جَنَاها
زُرْ بي الدوق في كساءِ وصفٍ ... عارضاً خدمتي لكي يرضاها
فكأني وقد تسربت كالما ... ء جرى بين نفسه ولِحَاها
واصطفاني لنفسه، وشكاني ... مطمئنَّا من هّمهِ ما عَناَها
وسرت في أعماقها رُوْحُ ألحا ... ني فهزَّت أوتارَ موسيقاها
واطَّبتْه فصاحتي كَرسول ... نحو اوليفيا يُذيب صَفَاها
كنْ لِسرّي قبرا؛ وأَترك حالي ... لليالي تختارُ لي عُقباها
القبطان:
نَفّذيها؛ وفي قرارة نفسي ال ... سِر لن ينتهي إلى أدناها
إن أُحِرّك به لساني فلا التذّ ... ت عيوني بنُورها وكَرَاها!
فيولا: لك شكري، هيّا بنا!
القبطان: ربّ سَدِّدْ ... مِن خُطاهُ! ولا أقول: خُطاها!
علي أحمد باكثير(145/63)
دراسات أدبية
في الأدب الإيطالي الحديث
بقلم محمد أمين حسونه
- 3 -
تألق نجم بيراندللو بعد النجاح العظيم الذي أحرزته روايته (المرحوم ماتياس باسكال)، وكسفت شمسه أسماء الروائيين المعاصرين، وبدأ النقدة يتحدثون عن فنه ويولونه اهتمامهم، ثم اختير ليشغل كرسي أستاذ الأدب الإيطالي بالجامعة وانتعشت حالته المالية بما أمكن أن يمحو من سجل حياته بعض المتاعب المادية، وأن يسدل عليها ستار النسيان
ولكي نعطي صورة واضحة من حياة هذا الكاتب وارتباطها بفنه، نقول إن التغلب على المتاعب المادية لم يكن كل شيء، إذ هبت في بيته عاصفة عكرت الجو مرة أخرى، فأعصاب زوجته تحطمت، ونوباتها العصبية تزداد بسبب غيرتها العمياء من تلميذات زوجها في الجامعة، وقد حاول بيراندللو كثيرا أن يزيل شكوكها وأوهمها، فسمح لها بألا تعطيه من راتبه إلا بما يسمح له بابتياع سجائر أو أجر الترام، غير أن هذه المحاولات فشلت، وأخذ هذا الحيوان السام الذي يدعونه الغيرة يمتص من شبابها ودمها بعد أن قدم إليها أسلحة جديدة من الشكوك والأوهام، ولم يكن لرأي زوجها أية قيمة عندها ولا أي تأثير في نفسها. وعلى حين فجأة ذبل جمالها وانطفأ بريق عينيها، وأصبحت تعتقد أنها مراقبة ومكروهة حتى من أولادها، وأنهم جميعاً قد اتفقوا على أن يدسوا لها السم في الدسم. ولما اشتد بها الداء فكر أخواتها في إدخالها إحدى مصحات الأمراض العقلية
وكانت الحرب العظمى قد شبت واختير ابنه البكر ليخوض غمارها، وفي غضون ذلك وقع أسيرا، أما ابنه الأصغر فكانت تجرى له عملية جراحية بإحدى مستشفيات روما حتى إذا اجتاز دور النقاهة أرسل فورا إلى خطوط النار
وكانت ابنة بيراندللو تتأذى من سوء معاملة الأم لها؛ ولما فقدت الأمل في إزالة الشكوك نحوها حاولت الانتحار، غير أنها نجت، ففكرت في الهرب ودخلت أحد الأديرة لتقضي بقية حياتها بين جدرانه(145/64)
وكان ستيفانو - والد بيراندللو - قد وصل من صقلية، بعد أن صمد دهرا في وجه المصائب، فمن موت زوجه، إلى إفلاس تجارته وضياع ثروته، إلى غير ذلك من الآلام والمتاعب التي انتهت بفقد بصره
ولما كان بيراندللو مشغولا في خلال هذه الفترة بمصير ولديه اللذين ذهبا إلى الحرب، ومضطراً إلى أن يقضي يومه بين زوجة مأفونة، ووالد عاجز ضرير، وابنة وصمته بميسم العار، كان لابد من أن تخرج هذه الأشباح المعذبة التي تسكن ذهنه، وأن يقدمها للناس في ثوب درامي عنيف يجمع بين روح الواقع وبين الخيال
وهكذا غصت المقاعد في مسرح سكالا بميلانو ليشهد الجمهور مسرحية بيراندللو الجديدة (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف ' التي ابتدع فيها فنا جديدا وعالما يموج بالصور والأشباح والشخصيات المجزأة
والواقع أن فترة المتاعب والآلام التي اجتازها هذا المؤلف الثائر في كافة أطوار حياته هي التي دفعته إلى أن يقول بلسان إحدى بطلاته: (ليست الأعمال إلا حقائب خاوية تملؤها أذهاننا)
وهي التي أدت به إلى أن يكره العقل، لا لأن العقل سجن، بل لأنه صدفة فارغة لا تملؤها سوى الغريزة العمياء. فالحوادث مثلها مثل الأكياس لا يمكنها الوقوف وهي فارغة. كذلك إذا أريد أن يظل الحادث حياً في الذاكرة، منتصباً بين ظلال الوعي وجب أن يكون له معنى واضح وأن تستقصي الأسباب والبواعث التي أدت إليه
حتى نظريات بيراندللو ليست سوى إنذار بهدم المنطق وإفلاس العقل وتفوق الخيال على الحقيقة. وعنده أن للأرواح لغة خاصة تتفاهم بها ووسائل تدفعها من وقت لآخر للقيام بأعمال باهرة على حين أن الشخصيات المادية لا تتجاوز في علاقاتها غير الحديث العادي
ومما يحملنا على الاعتقاد بأن نظريات بيراندللو البيسكولوجية لا تصل به إلى تفسير الناس، أنه يلجأ شخصياً إلى هؤلاء الناس لتفسير ألغازه، ولولا روح المرح والفكاهة التي تخلع على مؤلفاته ظلاً هائماً ومسحة خاصة لتباعد بينها وبين مركز الألم لكان فنه الروائي هو الجحيم والإنسانية المعذبة
لقد درس كل من إدجار ألن بو وستيفنسن نظرية ازدواج الشخصية وفوضاها في الإنسان.(145/65)
أما بيراندللو فهو يقسم الشخصية في فنه الروائي إلى عشرة أو مائة أو ألف أو أكثر. فالفرد عنده مكون من شخصيات متناقضة كالحيوان الخرافي الذي تتحدث عنه أساطير الإغريق. وهو لا يعرف الأخلاق والعادات ولا يقدر الإرادة أو الشهوة المتغلبة لأن جميع مشاعره قابلة للتحول والتغير والتأثر
على أن أهم ما يرتكز عليه فنه ظواهر التحليلات النفسية وتعدد المنازعات. فكل شيء نظره مرجعه إلى التفسير، بل قد يجوز أن يتخذ شخص ما صورة معينة في نظر أحد محللي نفس الشخصية. وقد قال بيراندللو بلسان إحدى بطلاته في روايته (شهوة الشرف): (لا شك أن مدام أنيتا هي امرأة أخرى، وليس هذا كل ما أقوله، بل هي أخرى وأخرى وأخرى أيضاً، بعدد الأشخاص الذين تعرفهم والذين يعرفونها)
وفي عام 1922 ترك بيراندللو منصبه في الجامعة ليتفرغ للأدب والمسرح فوضع روايات: حصان في القمر، ومهزلة الموت والفخ، وأنت تضحك، وزوجها، وهنري الرابع. وسافر برفقة فرقة تمثيلية ألفها إلى عواصم أوربا ومدنها، وبمرور الزمن تراكمت عليه الأعمال بسبب إخراج رواياته على مسارح باريس وبرلين ولندن ونيويورك وبونس إيرس وموسكو، وكان لابد من أن يسافر إلى جميع هذه العواصم ليشرف بنفسه على إخراج رواياته
يقول ادريانو تلجر في كتاب نشره عن فن بيراندللو المسرحي أنه لم يتأثر في فنه بالمؤثرات اللاتينية بل يدل أدبه على أنه تأثر بأدب الشمال). وليس ذلك بغريب من كتاب الجنوب واللاتين، والكثيرون منهم أمثال داننزيو وجوزيف جيا كونرا قد تأثروا إلى مدى بعيد بأدب ابسن وطريقته في تحليل المشكلات الاجتماعية. والواقع أن ابسن سبق أن أقام فترة طويلة في إيطاليا وكان له الفضل الأكبر في تكوين مدرسة روائية مسرحية تمت إلى فنه بأقوى الصلات
أضف إلى ذلك أن بيراندللو برع في رسم مآسي الحياة وفواجع المجتمع براعة قلما أتيحت لكاتب يعاصره. وهو يتلاعب بألفاظه تلاعبا يخلع عليها وعلى أسلوبه مسحة تتفق ونظرياته الفلسفية في الإنسان والروح. وليست دراماته سوى سرد ماضيه وتصوير نفسيته، فهو من هذه الناحية لا ينحت الخيال ولا يتكلف التصوير، ولكنه ممن يروحون عن(145/66)
أنفسهم بهذه الزفرات الموجعة
على أن الشيء الوحيد الذي يوجهه نقدة المسرح في أوربا إلى فن بيراندللو يتلخص في نقطة واحدة، هي أنه يجزئ شخصياته بما يؤدي إلى هدم أساس الحياة والجنس البشري، فبعض الشخصيات التي يضعها وسط الخيال تؤدي إلى ضياع الفكرة التي ينشدها الفن المسرحي لاسيما وهو بعد الخيال حقيقة لا خطأ. ولو اعتبرنا الخيال واقعياً لوجب علينا بطريق الاستنتاج أن نعتبر الخيال والواقع متساويين من حيث الحقيقة، ومع كل فبيراندللو هو أكثر الكتاب الروائيين والمسرحيين إنتاجا على الرغم من عدم تحوله عن نظرياته التي يخضع لها في كل ما يكتب
(يتبع)
محمد أمين حسونه(145/67)
القصص
درامة من اسخيلوس
2 - المتضرعات
للأستاذ دريني خشبة
- 7 -
وصمت الأب دانوس، وغمرت الفتيات موجة أثيرية من الفرح، وتقدمن نحو الآلهة يصلين ويهزجن، وينظمن الشكران عقودا من جمان دموعهن فيجعلنه قلائد على جيد آرجوس، ويدعون للملك بالمجد، ولمدينته الخالدة بالنصر والعز والتأييد
وما يكدن يفرغن من صلاتهن وإنشادهن، حتى يثب أبوهن الشيخ المتهالك وثبة قوية. . . ويقف على شرف من حرم الآلهة المقدس، ثم يرسل في اليم المضطرب نظرات حائرة من عينيه الغائرتين. . . كمن ينظر في كتاب الغيب!!
- يا للهول! أصمتن يا فتيات. . . أصمتن! إن الزمن يسوق إليكن أحداثه فوق أعراف الثبج. . . انظرن!؟ إنها تقترب منا رويدا رويدا! واو حربا يا بناتي البائسات؟ سفينة مصرية لا ريب في ذلك! آه! إنها من سفائن اللعين إيجبتوس! لا شك! لا شك! هاهي ذي قلاعها وشراعها! كابية كوجهه، كاسفة كقلبه. . . وي! لقد طوى الملاحون الشراع، وأعملوا سواعدهم في المجاديف! إنها ما تفتأ تقترب! ولكن! لا عليكن يا فتيات! لا عليكن أبدا! إن لكن من هؤلاء الآلهة ذادةً، وإن لكن منهم حُماة أُباة! ويل لمن يستهزئ بأرباب الأولمب وأي ويل؟ إن له لساعة تشيب من هولها النواصي! لقد قدم الأوغاد يطلبونكن لمتعة الوحوش الذين لا يخشون الآلهة ولا يرعون حدود السماء. . . لا. . لن يكون هذا أبداً. . .)
فترتعد فرائص الفتيات، وتقول كبراهن:
- (أبتاه! إنا لنذوب من فرق يا أبتاه! يا للفزع الأكبر! ماذا أفاد سفرنا الطويل، وغربتنا(145/68)
النازحة؟ لطالما انتعلنا الدماء، وضربنا غوارب الماء لنكون بنجوة، فأين النجاء! أبتاه! إنا نذوب من فرق. . .)
- (لتطمئن قلوبكن يا بناتي، فلقد صمم الأرجيف البواسل أن يحاربوا إلى آخر قطرة من دمائهم من أجل قضيتكن. . .) اهدأن! اهدأن فهذه الإلهة تحميكن!)
- (وهل يصبر الأرجيف المترفون على شياطين إيجبتوس يا أبتاه؟ انظر! لقد جمعوا اللهاذم من محاربي مصر. . . . فمن لنا! من لنا!؟)
- (إنكن لن تلبثن أن ترين الأبطال المقرنين في الحديد، المقنعين في الزرد، فلا تهلعن!)
- (ولكن. . . لتقف معنا يا أبتاه! لا تتركنا! فنحن أضعف من أن نشهد المعركة! إن هؤلاء القادمين في السفينة الغبراء وحوش يحملون قلوباً خرساء. . . ولن يثنيهم أن يشهدوا هذه الآلهة، إذ هم ضواري ليبيا، لا يعرفون قرباناً ولا مذبحاً ولا شريعة، ولا يرهبون آلهة ولا يوقرون أوثاناً!)
(يهم دانوس أن يغادر بناته، فتقول كبراهن:)
- (أبتاه! إلى أين؟ لن تغادرنا. . . لن تغادرنا يا أبتاه)
- (تلبثن يا فتيات ولا ترهبن شيئاً! إنهم لابد لهم من وقت طويل حتى ترسو سفينتهم، وينزلوا إلى البر ويربطوا أمراسها في صخرة أو جذع. . . وقد لا يجدون مرفأ هنا فيقلعون إلى مكان بعيد. . . اهدأن. . . لا تفزعن هكذا! ما هذا الفرق! تلبثن هنا حتى أعود بجيش الأرجيف أو بمدد من ببلاسجوس! لقد وعد! لقد وعد أن يحمينا، وأيده الشعب كله في ذلك. . . . . تلبثن. . . . . لا تفزعن. . . . . ولا تذهب قلوبكن شعاعا!)
(يخرج دانوس)
- 8 -
وتهلع الفتيات ويتفزعن، ويتضرعن إلى الآلهة أن تنقذهن من ذلك البلاء المنتظر، ويرسلن أنشودة طويلة حزينة. . .
والسفينة تقترب!
وهي كلما اقتربت وجفت نفوسهن، وخفقت قلوبهن، وتبلبلت أفكارهن، وتعلقن بالدمى المرمرية التي. . . تثلجت حتى ما تحس. . . وتحجرت حتى ما تعي. . .(145/69)
وغابت السفينة عن الأنظار فجأة. . ولكنها غابت لترسو. .
وطفق الفتيات يهزجن. . . ويصلين. . . ويبكين. . .
- 9 -
(يدخل القائد المصري)
- (سو. . . ش. . . أصغين يا فتيات! حذار ألا تطعن! هلم إلى سيف البحر، فاركبن في السفينة معنا! أسرعن! لا تقاومن، وإلا حملناكن بالقوة! أسرعن، وي! أنتن لا تتحركن! أسرعن يا فتيات! إن لم تسرعن فستحل بكن نقمة! سنشدكن من شعوركن ونجركن على الؤى والأحجار حتى تدمى جسومكن؛ إلى البحر. . . إلى البحر!)
(وينقض الجنود فيدافعون الفتيات فتقول كبراهن:)
- (ويل لكم أيها الضواري وويل لأميركم! ليت هذا الخضم ابتلعكم قبل أن تصلوا إلى هنا!)
- (أنصح لكم يا فتيات ألا تقاومن! إنكن ضعيفات، وللقوة أن تصنع ما تشاء بكن! دعن هذه المجالس حول هذه الآلهة التي لابد أنها تسخر منكن! ستحملكن السفينة إلى أوطانكن فالحذار من المقاومة!)
- (كلا! لن نعود إلى جنة الأرض وجحيم القلوب! الفردوس الذي يفيض كل سنة دماً يصهر العاطفة ويحرق الضلوع. . . . . .)
- (وبعد، إنني مرغم إذن على استعمال القوة المطلقة التي يخوليها الأمر الذي بيدي! سأنتزعكن من مقاعدكن في هذا الحرم! سنجركن من شعوركن وخمركن، ونبحر بكن برغمكن!)
- (أنت تهرف كأن عيون السماء مغمضة عنك! كأنك إذا كنت وسط اللجة لم تخش شيئاً! أيها الكافر بالآلهة!)
- (ولو لن ما شئتن! ادعين آلهتكن، وسنرى هل تهرع لمعونتكن!! أبداً لن تهربن من يدي إيجبتوس أبدا! إنه كالهواء مدرككن أنى وُجهتن! فولولن واصخبن! وأعولن وابكين تعاستكن!)
- (ثم ماذا؟ زدنا من وقاحتك يا ابن النيل! بذاء! أيها المسخ! يا ربيب التماسيح! ليتها(145/70)
تطعمت بك، أو خللت ثناياها بلحمك قبل أن تجئ إلى هنا!)
- (سو. . . ش. . . كفى! حسبكن صراخاً! إن لم ترضخن. . . فشعوركن تحكم بيننا وبينكن! سنجركن منها إلى السفينة يا فتيات!)
(يهم الجند أن يجروهن!)
- (أبانا! أين أنت يا أبانا! الغوث الغوث! هذه العناكب المتلمظة! يا أمنا الأرض! يا أبانا زيوس! عونك يا آلهة! يا سيد الأولمب! نحن حفيدات يو!! أدركنا! ادفع عنا هذه الضواري!)
- (عبثاً تستصرخن آلهتكن يا فتيات؟ هي ليست لنا بآلهة! فنحن لا نرهبها ولا نخشاها! إنها لم تنشئنا، ولم تختلط بقلوبنا. . . نحن لا نباليها!)
(يجرها من شعورها)
- ويلك أيها اللئيم! يا أفعوان النيل ذا الأنياب! أغرب فلست أفعى مثلك أيها الأرقم! العون العون يا سيد الأولمب! زيوس يا إلهي! أدركني أستحلفك بأمك ربة هذه الأرض!)
- (أسرعن إلى السفينة إذن! وإلا! فسندك عظامكن فوق هذه الآطام! أطعن يا فتيات فهو خير لكن!)
- (يا سادة آرجوس! أدركننا يا أرجيف: أيها الأوفياء!)
- (بل سادة مصر! أبناء إيجبتوس الكرماء ستلقينهم وشيكا يا عذارى!)
(يا ملك آرجوس الكريم! الغوث: لقد وعدتنا! بيلاسجوس!)
- (طالما تأبيتن، فشعوركن تطيعنا، وهي أطوع لنا منكن!)
(يجروهن على الحجارة بشدة فيدخل الملك)
- 10 -
- (وي! من أولاء! من الجائسون خلال مملكة بيلاسجوس، العائثون في جنبات آرجوس، غير المبالين بحرم الأرباب! من أنتم يا هؤلاء؟ هل هانت عليكم آرجوس فأنتم تأفكون في ساحاتها غير هيابين! مالكم ولأولئك النسوة! مالكم تحركون ألسنتكم بالفحش، وتسلقونهن بالهُجْر!؟ إن هنالك لعدالة تحميهن أيها الحمقى!)
- (أي هجر وأي فحش، ماذا صنعنا بهن!)(145/71)
يا للآلهة؟ أنت أجنبي وقد نزلت بلاداً غير بلادك، فكيف ضللت سبيل الحسنى؟!)
- (أجل: ولكنني أجنبي قد عثر بضالته المنشودة، ورجيته المفقودة
- (وأية قوة هنا تملك، فتسندك!)
- (أنا أحتكم إلى هرمز، حامي الغرباء!)
- هرمز؟! أمرك عجب وحق هرمز؟ لقد دنست حرم الآلهة جميعا!)
- (بل أنا أدين للنيل. . . حابي!. . . وأعبد آلهة النيل!)
- (إذن فلا اعتبار لآلهة آرجوس عندك؟)
- (إذا كان منها ما يحول بيني وبين ضالتي. . . وإلا. . . فسأمضي بصيدي)
- (ارفع يدك عن الفتيات. . . وإلا. . . فسرعان ما تندم ولات حين مندم)
- (كأني بك تشيع الكرم في عباراتك!)
- (لا كرامة ولا بشاشة لمن دنس الحرم المقدس!)
- (قل ما شئت، فالجلة الأمراء من أبناء إيجبتوس. . . آ. . . أجل. . . سأذكر لهم كل شيء)
- (لا يعنيني أن تنقل إليهم أي حديث عني!)
- (عجبا! وكيف؟ إذن نبئني ماذا أقول له كرسول منه إليك! يبدو لي أن مارس وحده سيحكم بيننا وبينك، وعندها، يعرفنا أينا من يندم ولات حين مندم! هؤلاء بنات عمهن، وقد جئت من أجلهن، فكيف أعود بدونهن! لم نسمح للغضب أن يروي دماءنا! يا للأرواح البريئة! ثم. من أنت؟)
- (غداً تعرف من أنا، أنت والعصبة من رفاقك! ولكن. . . لن نسمح لك أن يصطحبك أولئك الفتيات إلا إذا رضين هن ذلك. . . فلن يذهبن معك برغمهن. . . إن مملكتنا كلها تؤيدهن وتؤازر حقهن، ولن تسلمهن لقوة مهما عتت أو لجبروت مهما طغى! إن لنا لقانوناً أقدس، لم ينقش في صخر، ولم يسطر في بردي، فاسمعه من فمي، واغرب من أمامي!)
- (ويْ! لقد ضمنت كلماتك إعلان الحرب علينا! فمن لك برجال يضمنون لك النصر؟!)
- (غدا يملأ الرجال السهل والجبل وشطئان هذا الخضم رجال. . . مذاويد. . . لم يدنسوا أفواههم بجعة الشعير ولا بنبيذ النمر. . . أغرب يا أحمق!)(145/72)
(ينسحب المصريون)
- 11 -
(وأما أنتن يا عذارى فلا ترهبن شيئاً في الوجود ما دمتن معنا وبين ظهرانينا! إن آرجوليس كلها ستحميكن وستكافح عنكن، فهلم إلى قلعتها العتيدة، إن لكل منكن فيها حصنا أمنع من النجم، وآمن من السماء! فقرن في غرفاتكن ثمة، فهي أخلق بكن، وأطيب إلى نفوسكن، وأروح عليكن. . . على الرحب والسعة يا عذارى! إني وشعبي نفتديكن، فقرن عينا وطبن نفسا. . .)
- (بوركت يا خدن الأرباب، جزاك سيد الأولمب عنا خيرا، وكتب لك ولمملكتك السلامة، وجعلك وجعلها بنجوة من غدرات الأيام، وبدوات الزمان!. . . أيها الملك! لقد غمرنا إحسانك فنحن ندين لك بهذه الأرواح المفزعة، والنفوس المروعة، التي أذهبت عنها الشجو وجلوت ما بها من حزن! أبانا أيها الملك! إنه رجل شيخ حطمته الآلام، وناءت على صدره الخطوب. . . ائذن له يصحبنا إلى منازلنا، ويهيئ لنا جوارنا، ويتخير لنا أولياءنا ذلك أدنى ألا يأسى أو يحزن! (ويوجهن القول إلى وصيفات الملك) أما أنتن أيها الوصيفات فرشّدننا إلى حيث يدلكن أبونا. . . وابشرن! فسيهب كلا منكن أمَةَ جزاء ما خدمتننا وسهرتن علينا)
- 12 -
(يدخل دانوس)
- (احمدن للملك، وصلين للآلهة يا بناتي! القرابين وإضحيات الخمر، إنا ندين للأراجيف البواسل بأرواحنا ما في ذلك من شك، فقرين لآلهتهن القرابين، وقدّمن الأضحيات! الثناء لهذا الملك الكريم يا فتيات، فلقد أنقذنا من الذبح ونجانا من الفضيحة. . . حمداً له، حمداً له وشكراً!!
أما أنتن، فخذن أهبتكن. . . إلى قلعة المدينة وذؤابة شرف آرجوس! ولي عنكن وصاة أرجو ألا تخيب، تلك أن تضربْن بخمركن على جيوبكن، ولا تبدين من معالم فتونكن، ما تشغلن به قلوب الرجال، وتبلبلن ببعضه أفئدة الناس، ولا تنسين أننا في كنفهم وارفون في(145/73)
ظلالهم. . . فالشرف الشرف يا بناتي! والعصمة العصمة!! حتى نجتاز شوارع آرجوس، فاغضضن من أبصاركن إذا ساورتكن الجماهير، وأحدقت بكن الجماعات؛ ولا تبادلن أحد نظرة. . . لا تدري إلا الآلهة ما بعدها. . .)
ويلتف العذارى بأبيهن يعطينه موثقهن، ثم يأخذن في إنشادهن الحلو، وتغنيهن الجميل، وقد انقسمن إلى جماعتين، هذه تغني. . . وهذه ترّجع. . وتمتلئ الأرجاء شدواو. . . شجوا. . . وموسيقى
دريني خشبة
(البقية - وهي خلاصة الدرامتين المفقودتين - في العدد
القادم)(145/74)
البريد الأدبي
تاريخ جديد لليهود
تثير المسألة اليهودية اليوم كثيراً من الاهتمام، ولهذا يصدر اليوم كثير من الكتب التي تتعلق بالمسألة اليهودية أو تاريخ اليهود سواء بأقلام كتاب اليهودية أو غيرهم من الباحثين من مختلف الأمم. وقد صدر أخيراً تاريخ جديد لليهودية بقلم مؤرخ يهودي كبير هو الدكتور سيسيل روث وعنوانه (تاريخ اليهود)، ويقع الكتاب في مجلد واحد، ومع ذلك يقدم إلينا صورة شاملة واضحة من تاريخ اليهودية منذ أقدم العصور إلى يومنا، وقد صدر من قبل كثير من التواريخ الجامعة عن اليهودية، مثل كتاب إيفالد وكتاب بيتر بير المؤرخين الألمانيين، وكتاب ميلمان المؤرخ الإنكليزي، ولكن هذه المصنفات القوية الجامعة ينقصها اليوم طابع الجدة الذي يطبع الكتب المعاصرة، ذلك أن المسألة اليهودية قد جازت منذ منتصف القرن الماضي إلى يومنا أطوارا كثيرة هامة؛ وكتاب الدكتور روث يمتاز بهذا الطابع المحدث، والدكتور روث أستاذ موضوعه، فهو من أكابر مؤرخي اليهودية وكتابها، وقد كتب عدة مباحث عن تاريخ اليهودية في العصور الوسطى في السلسلة التي أصدرتها جامعة كامبردج عن تاريخ العصور الوسطى، وفي دائرة المعارف اليهودية؛ وكتب أيضاً تاريخ اليهود المتنصرين في أسبانيا وتاريخ اليهود في البندقية وعدة كتب ومباحث أخرى
ويقدم إلينا الدكتور روث صورة واضحة جامعة من تاريخ الشعب اليهودي؛ ويوضح لنا كيف أن اليهودي خلق منذ أقدم العصور (جوالا) يضرب في الآفاق، وأنه يصح أن يسمى بحق (اليهودي التائه)؛ ويرى الدكتور روث أن اضطهاد اليهودية منذ تفرقها يتخذ في جميع العصور وفي جميع الأمم أشكالاً وضروباً متماثلة؛ ففي ظل الدول البربرية والنصرانية والإسلامية، وفي الشرق والغرب، نرى نفس الإجراءات والأساليب تتخذ لمطاردة اليهودية: القتل والتشريد والمصادرة، وإلى يومنا نرى نفس الصورة المروعة، وقد تزدهر اليهودية أحياناً في فترات قليلة نادرة ويتبوأ رجالها منصب ممتازة في السياسة والمالية وفي العلوم والآداب، ولكن يد المطاردة لا تلبث أن تسحقها، ويحاول الدكتور روث أن يوضح لنا كيف أن اليهودية حصرت معظم اهتمامها في الشؤون المالية، وكيف أن اليهودي انتهى بفعل(145/75)
الزمن إلى التخصص في الاتجار بالمال والربا، ذلك أن اليهودي كان محروماً طوال العصور الوسطى من مزاولة أية مهنة أو حرفة أخرى، ولم يترك له سوى احتراف المتاجرة بالمال والربا الممقوت؛ ومن ثم كانت نشأة اليهودية المالية وتقدمها بمضي الزمن في هذا الميدان؛ وقد كانت اليهودية منذ العصور الوسطى ملاذ المعاملات المالية والصيرفية
ومما يلفت النظر في كتاب الدكتور روث رأيه في صلب المسيح، وكيف أن المسئول عن توقيع هذه العقوبة عليه هم الرومانيون لا اليهود؛ وكيف أن اليهود كانوا يودون إطلاقه؛ وهذا الرأي يخالف ما اصطلح عليه معظم مؤرخي النصرانية من أن اليهود هم الذين شددوا في صلبه في حين أن الرومانيين كانوا يؤثرون إطلاقه
ويتتبع الدكتور روث تاريخ اليهودية ومسائلها حتى يومنا. وكتابه قيم جداً من الوجهة العلمية؛ وأسلوبه قوي واضح؛ ولا ريب أنه سيثير اهتمام كل مشتغل بالمسألة اليهودية أو تاريخ الشعب اليهودي
كتاب عن بونابرت في مصر
يعتبر مسيو فرانسوا شارل رو السفير الفرنسي السابق من خاصة الباحثين في تاريخ نابليون وفي تحليل شخصيته ومواهبه؛ وقد خص الحملة الفرنسية المصرية بكثير من مباحثه وتحقيقاته، وآخر ما كتب في هذا الموضوع كتاباً عنوانه (بونابرت حاكم مصر) ' وفيه يحلل شخصية بونابرت ونفسيته حين إعداد الحملة الفرنسية؛ ويرى مسيو شارل رو أن نابليون لم يكن يومئذ الجندي العظيم فقط، ولكنه كان أيضاً أديباً وصحفيا، يقدر ما للدعوة والرأي العام من قوة، ولذلك لم يكتف بأن يزود جيشه بالمدافع والذخائر، بل رأى فوق ذلك أن يزوده بطائفة كبيرة من العلماء والفنيين وأن يحمل معه مطبعة كاملة. وفي ذلك ما يدل على أن نابليون كان يتمتع بعقلية عصرية لا تقل في حداثتها وابتكارها عن عقلية عصرنا
ويقول مسيو شارل رو أن نابليون كان يقصد الهند عن طريق مصر. وأنه كان يقدر للذهاب والإياب إلى فرنسا ستة أعوام. وكان يقول أن عمري تسعة وعشرون عاما فقط، وهذا ليس بعمر؛ وسيكون عمري عند العودة خمسة وثلاثين) ولم يكن نابليون تحدوه حين(145/76)
قدم إلى مصر أية عواطف دينية. أجل جاء الفرنسيون إلى مصر أيام الحروب الصليبية ليقاتلوا الهلال ويسحقوا الإسلام، ولكن نابليون جاء إلى مصر ليحقق مشروعاً سياسيا واستعماريا ضخما، ولم يفته عند مقدمه أن يصدر (عن طريق مطبعته) منشوراً إلى المصريين يقول فيه أنه وجنده مثلهم يعبدون الله، وأنه عاقب البابا ونهب مالطه وفرسانها المتعصبين، وأنه لم يأت ليسحق الإسلام وإنما أتى بالعكس ليعيد إليه مجده! وكان نابليون طول إقامته بمصر يتظاهر دائماً باحترام الشعائر والعادات الدينية وتكريم العلماء ومصادقتهم
بيد أن هذا الحلم الجميل قد انهار بسرعة، ولم يلبث بونابرت أن غادر مصر شبه هارب؛ وقد عاد إلى فرنسا بعد أن حنكته تجارب عديدة؛ ولم يكن عدوه شعبا أو مجتمعا وإنما كان عدوه التعصب؛ وقد ألفى مصر، أم العلوم والفنون منذ العصور الغابرة في سبات عميق، وألقاها فريسة للترك، ولم يبق في واديها النضر غير أرض مجدبة ينتهبها من استطاع. بيد أنه إذا كانت الحملة العسكرية قد أخفقت في تحقيق أغراضها، فإن الحملة العلمية قد حققت أعظم الثمار؛ وقد درس العلماء الفرنسيون كل ما في مصر من طبيعة ومن حيوان ونبات، ودرسوا أحوالها الاجتماعية وأمراضها المتوطنة، وأنشأوا المجمع العلمي بالقاهرة؛ وكان نابليون يرهق علماءه بمختلف الأسئلة: هل يمكن زرع القطن في مصر؟ وهل يمكن غرس الكروم؟ وهل تقام طواحين الهواء؟ وهل يمكن تحسين خبز الفلاح؟
كل ذلك يعرضه مسيو شارل رو في كتابه الجديد بأسلوب ساحر يجمع بين دقة البحث واتزان الحكم، ومتاع العرض. ومن المحقق أن كتابه يعتبر ثروة جديدة في مكتبة الحملة الفرنسية
رسائل الشاعر الروسي بوشكين
تستعد دوائر الشعر والأدب للاحتفال في العام القادم بالعيد المئوي لوفاة الشاعر الروسي الكبير (بوشكين) وقد كان بوشكين من أعظم شعراء القرن التاسع عشر، وكانت الروح الأوربية اللاتينية تغلب لديه على الروح الآسيوية الروسية؛ بيد أنه لم يترجم كثيراً إلى اللغات الغربية وبخاصة إلى الفرنسية كمواطنه ومعاصريه الأكابر مثل جوجول وتورجنيف ودستويفسكي. ويرجع ذلك إلى قوة شعره التي يصعب إخراجها بلغة أخرى. وأعظم(145/77)
مؤلفات بوشكين هي بلا ريب قصته الشعرية (أوجين أونجين)، وهي دراسة بديعة للعادات والأخلاق الروسية في القرن التاسع عشر
وكان بوشكين رجلا غريب الأطوار والنزعات، يضطرم بعواطف غريبة. ومما يذكر أنه حينما اعتزم الزواج في سنة 1826، خطب فتيات عدة قبل أن يلتقي بالحسناء ناتالي جونتشاروف؛ وكانت تلك الفترة أكثر فترات حياته اضطرابا
ويعتزم الكاتب الروسي سرج ليفار بهذه المناسبة أن ينشر رسائل الشاعر بوشكين إلى حبيبته ناتالي بنصها الأصلي، وأن يعلق عليها وأن يوضح ما غمض منها؛ وهذه الخطابات تصور لنا حياة الشاعر في هذه الفترة أحسن تصوير، وهي فتر حافلة بمختلف الحوادث والمفاجآت وضروب السعادة الغرامية. بيد أن هذا الزواج السعيد لم يلبث أن انتهي بفاجعة مؤلمة. ذلك أن بوشكين قتل مدافعاً عن شرف زوجه ناتاليا في مبارزة أصيب فيها بجراح مميتة. وسيضم هذا المجلد الذي يحتوي على رسائل بوشكين ترجمة وافية لحياة ناتاليا بقلم المسيو هوفمان، وهي ترجمة مؤثرة شائقة
وفاة كاتب ألماني كبير
من أنباء برلين أن الشاعر والكاتب الألماني الكبير إدوارد شتوكين قد توفي في الحادية والسبعين من عمره، وقد كان شتوكن شاعراً من الجيل القديم أعني من شعراء الإمبراطورية، وله شعر كثير يمتاز بقوته ورصانته، وكان أيضاً باحثاً كبيراً يؤثر القصة العلمية والتاريخية باهتمامه، واشتهر شتوكن بنوع خاص بالإبداع في القصة التاريخية، وأشهر قصصه من ذلك الطراز (الفاتحون) وهي قصة تاريخية رائعة في مجلدين كبيرين، وتدور حوادثها حول فتح المكسيك على يد الأسبان في أوائل القرن السادس عشر؛ وبطل القصة البارز هو فاتح المكسيك هرناندو كورتيز، وبطلتها هي دونا مارينا الفتاة الهندية الشهيرة التي غدت خليلة الفاتح ومهدت للأسبان كثيراً من مصاعب الفتح، ويصف شتوكن حوادث هذا الفتح الشهير وصفاً قوياً شائقاً، ويستعرض أحوال الهنود الحمر ومدينتهم وعاداتهم في فصول ممتعة تقوم على الحقائق التاريخية والعلمية الثابتة؛ ويبدع بنوع خاص في وصف الوقائع الدموية التي جرت بين الهنود والأسبان، ومناظر الضحايا البشرية التي كان ينظمها الهنود للتقرب من الإلهة؛ ويمزج شتوكن هذه الحوادث والمناظر(145/78)
التاريخية المروعة بلمحات من الخيال الساحر والعرض الشائق
وقد أحرز شتوكن برواية (الفاتحون) شهرة عظيمة، ومازالت تعتبر من أعظم ما أخرجت القصة الألمانية المعاصرة، ولشتوكن عدة قصص وكتب نقدية أخرى
وكان شتوكن مدى أعوام طويلة عضواً في الأكاديمية الألمانية للأدب القصصي
كتاب جديد لميترلنك
صدر أخيراً كتاب جديد للكاتب البلجيكي الكبير ميترلنك عنوانه (المرملة) ومن الصعب أن نحدد موضوع الكتاب؛ بيد أنه كمعظم كتب ميترلنك مزيج من الاستعراض والنقد والفلسفة، ويكتب ميترلنك عادة بروح ثورية، ولكنه يبدو في كتابه الأخير أكثر هدوءا؛ وهو يحمل في الفصل الذي يخصصه لأحزان الأسرة الملوكية البلجيكية على القدر الجائر، ولكنه يثور في وقار؛ ويحدثنا ميترلنك عن ضعف الآثار المترتبة على التعليم الديني، ويرى في فلسفة باسكال ضعفاً ولاسيما في نظريته الخاصة (بالأسطورة التي لا تقارن) إشارة إلى النصرانية، ثم يحدثنا بعد ذلك عن الموت، ويرى أنه ليس عدواً للإنسانية بالقدر الذي تصوره روعته وآثاره المحزنة. وذلك أن الموت هو قانون الإنسانية كلها، وهذا التضامن في تلقي محنة الموت من البشر جميعاً يسبغ على الموت صورة محبوبة. وربما استطاع الإنسان أن يوفر على نفسه كثيراً من ضروب الألم والحزن إذا هو نبذ الحلم المستحيل (بأنه ذاهب لن يكون له ذهاب). ومازال الإنسان من حيث التضامن أقل شأناً من بعض الحشرات كالنمل مثلا، فلو أن الإنسان أدرك عاطفة التضامن على حقيقتها، لغدا كل إنسان (إنسانية بأسرها)
حول ترجمة السخاوي أيضاً
نشرت الرسالة في العدد 143، وفي هذا المكان رد الأستاذ عنان على ما لاحظه أديب من قراء الرسالة على ما ورد في ترجمته للحافظ السخاوي بخصوص كتابي (تحفة الأحباب) و (الإعلان بالتوبيخ)، وقد تلقينا في هذا الموضوع الكلمتين الآتيتين:
- 1 -
اطلعت في العدد 142 من (الرسالة) الغراء على ما كتبه الأديب الفاضل السيد محمود(145/79)
عساف أبو الشباب مصححاً نسبة كتاب (تحفة الأحباب في الخطط والمزارات) إلى محمد بن أحمد الحنفي السخاوي الذي فرغ من تأليفه عام 956، لا إلى محمد ابن عبد الرحمن السخاوي الشافعي المتوفى سنة 902 مستدلا بما ذكره صاحب الطبقات المالكية، وبعدم عد السخاوي (محمد ابن عبد الرحمن المتوفى سنة 902) ذلك الكتاب في جريدة مؤلفاته التي سردها بالتفصيل مرتبة مبوبة في ترجمته لنفسه من (الضوء اللامع - الجزء الثامن)، ويمكن أن يستدل لذلك بعدم إحالة السخاوي في تراجم (الضوء اللامع) على كتاب له في المزارات مع كثرة إحالته على مؤلفاته في أكثر التراجم
ولكن الأديب أبا الشباب تسرع في نقل عبارة الأستاذ المؤرخ السيد محمد عبد الله عنان، فقال في ختام كلمته: (فإحقاقا للحقيقة، وصوناً لمعالم التاريخ نأمل أن يجزم رجال التاريخ أن الأثرين اللذين عناهما الأستاذ عنان ليسا للإمام السخاوي صاحب الضوء اللامع). . .
لأن عبارة الأستاذ عنان في العدد 104 هي: (ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، أولهما كتاب تحفة الأحباب. . . . وأما الثاني فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ. . .)
وليس من شك في أن (الأثر الثاني) هو من مؤلفات السخاوي إذ ذكره في صدر مؤلفاته التاريخية، والمؤرخون مجمعون على ذلك، بل الكتاب نفسه ينادي بذلك في كل باب من أبوابه، فالأستاذ عنان أضاف إلى مؤلفات السخاوي صاحب الضوء كتاباً لم يكن من تصنيفه (وله سلف في هذه النسبة الخاطئة)، والأديب أبو الشباب نفى من جريدة مؤلفات السخاوي كتاباً أجمعوا على أنه من تأليفه (وليس له سلف في ذلك) جزى الله الجميع خيراً.
من قراء الرسالة
- 2 -
قرأت في عدد الرسالة الأسبق كلمة الأستاذ محمود عساف أبو الشباب - عن السخاوي مؤلف الضوء اللامع والسخاوي الآخر مؤلف تحفة الأحباب في المزارات، ولهذه المناسبة أذكر أن كتاب تحفة الأحباب الذي طبع على هامش كتاب نفح الطيب - طبعة سقيمة - ليس للسخاوي الحافظ حقيقة، بل هو لسخاوي آخر كان معاصراً له وتأخر موته عنه، وثمة(145/80)
دلائل كثيرة تؤيد هذه النظرية، وقد لا يتسع المقام لسردها في هذه العجالة، بيد أني أقول - أن الأستاذ حسن قاسم (مؤلف كتاب المزارات المصرية والآثار الإسلامية في مصر والقاهرة المعزية، الذي يطبع الآن في القاهرة - والذي لي حظ الشرف بالاشتراك فيه - قد أعلن أنه وفي هذا الموضوع حقه وأعطاه من العناية ما يستحق، وقد تلمست من ترددي على دار الكتب المصرية - أن كثيراً من موظفيها يعلم ذلك، وقد يكون قسم التغيير العربي أو قسم الفهارس قام بتصحيح ذلك لخدمة التاريخ، وأذكر مما قاله الأستاذ قاسم عن السخاوي مؤلف التحفة، أنه على نور الدين حنفي المذهب، ألف هذا الكتاب من الكواكب السيارة لابن الزيات - الذي طبع في دار الكتب - ومن مصباح الدياجي لمجد الدين بن الناسخ المعروف بابن عين الفضلاء المحفوظ منه نسخة بدار الكتب وأصلها لعلي مبارك باشا، وقد رأيناه كثيراً ما ينقل عنها في خططه - ومنها نسخة - في لجنة حفظ الآثار العربية
ويذكر أيضاً أن الأجهوري اقتبس كتابه هذا في مؤلف له (سماه مزارات الأشراف المدفونين بمصر) وترجم له في خاتمته، وهذا المصدر محفوظ منه نسخته الخطية بمكتبة الأستاذ قاسم. .
الآنسة فردوس عبد العزيز مظهر
بعثة الجامعة المصرية إلى اليمن
غادر القاهرة إلى اليمن بعثة الجامعة المصرية، وهي مؤلفة من الدكتور سليمان حزين وسيقوم بدراسة حفائر ما قبل التاريخ، والأستاذ خليل يحيي نامي ويبحث في النقوش والمخطوطات واللهجات الخاصة باليمن، وهما من أعضاء هيئة التدريس لكلية الآداب، والأستاذ مصري شكري وسيقوم بأبحاث في الجيولوجيا، والأستاذ محمد توفيق العربي ويبحث في الحشرات بتلك البلاد، وهما من أعضاء هيئة التدريس بكلية العلوم
وتستغرق مدة إقامة البعثة باليمن ستة أشهر. وقد قررت الجامعة منح حضراتهم مكافأة قدرها 1800ج تلقاء أبحاثهم ودراساتهم وقد تزاد تلك المكافأة 200 جنيه(145/81)
العدد 146 - بتاريخ: 20 - 04 - 1936(/)
من عبر السيرة
محمد الوالد
إن في الحزن القوي عزاء الجزع الضعيف
تخطفت المنايا السود فلذات الرسول بنات بعد بنين، فلم يبق إلا فاطمة قرة لعينه وعزاء لنفسه. وكانت جراحات القلب العظيم لا تجد لمسها الممض فراغاً بين آلام الرسالة فتندمل في سكون وصمت. فلما عنتْ سُورة الشرك في مكة، وعلت كلمة الله في الجزيرة، وتحققت وحدة العرب في الوجود، وأخذت نفحات السلام الإلهي تنضح الجو المشتعل بالنار، وتطهر الثرى المخضوب بالدم، تنبهت في الإنسان الأعلى مشاعر الطبيعة، وتجددت في العربي الرسول عواطف الأبوة، وحزّ في نفس محمد أن يرى أمهات المؤمنين يعقمن عشرة أعوام متتابعة، فبيوتهن التسعة حول المسجد المهلل الذاكر غرقى في السكون الرهيب والصمت الموحش، لا يؤنس حجراتها غناء المهد، ولا يبهج أفنيتها مرح الطفولة
لا ريب أن أسرة محمد الرسول شملت جزيرة العرب كلها، وستشمل عالم الإسلام أجمع؛ ولكن أسرة محمد الرجل لا تزال ألماً من آلام العبقرية، ومحنة من محن البطولة. تدرع باسم الله وبرز وحده لشياطين الأرض، فجاهد الوثنية حتى أقر الحق، وعالج الإنسانية حتى أعلن الخير، وشذب الطبيعة حتى أنمى الجمال، وبلغ الرسالة حتى لم يبق لرضى الله غاية لم تدرك، ولا لصلاح الناس سبيل لم تشترع. ولكنه هدف للستين في جهاد الشرك والجهل والهوى، ولا يزال يجد في جوانب نفسه الكبيرة عاطفة لم تُرضَ، وحاجة لم تُقض، ورسالة لم تتم! تلك هي عاطفة القلب للولد، وحاجة النفس إلى التجدد، ورسالة الحياة إلى الحياة
بين ظلال النخل والكرْم، وفي بيت المصري على العالية من ضواحي المدينة، أتم الله نعمته على رسوله فوهب له على الكبر إبراهيم! يومئذ تنفس الصبح بأنفاس الفردوس، وضاحكت الشمس خمائل يثرب من خلال الأجنحة النيرة، ومست يد الربيع المخصبة دوحة النبوة، وغرقت نفوس المؤمنين في مثل صفاء الخلد، وأقبل المهاجرون والأنصار على المسجد المستبشر يهنئون النبي بالخليفة الوليد والأمل الجديد والعوض المبارك؛ ونهض الرسول الوالد إلى بيت مارية القبطية ليرى نعمة ربه، وبضعة كبده، فوجد في(146/1)
طلعة إبراهيم الأنس الذي يعوزه، والرضى الذي يرجوه، والخلف الذي يتمثله؛ ففاضت غبطته لله حمداً، وعلى المؤمنين بركة، وفي الفقراء صدقة. رفع أمه إلى مقام أزواجه، ونفح مرضعته بسبع من المعزى سمان يحلبن عليها وعليه، ثم عقَّ له بكبشين أملحين، وتصدق بزنة شعره فضة؛ وتعودّ كل صباح أن يزور أم ولده فيحمله منها ليضمه ويشمه، ويتذوق طعم السعادة الأرضية في ريحه، ويطالع نفسه العائدة في نفسه، ثم يدخل به على الأمهات اللائى ولدن جميع المسلمين ولم يلدن، فيباهي بحسنه، ويغتبط بنموه، ويحتمل راضياً في سبيل ذلك كله غيرة حُميرائه وكيد نسائه
ولكن أنبياء الله موضع بلائه وسر حكمته! دعوتهم الحق والحق ثقيل، وعدتهم الصبر والصبر كليل، وبرهانهم الألم والألم قاتل! غرباء في الأرض لأنهم من السماء، وأغراض لسهام القدر لأنهم ضحايا، وأمثلة لبؤس العيش لأنهم عِبر! هذا إبراهيم حبة قلب أبيه وسواد عين أمه مسبوتاً على فراش المرض تحت النخيل! تذوي نضارته على وهج الحمى، وتذوب حشاشته على عَرْك الموت، وأمه وخالته قائمتان على سريره تشهدان منظراً يهون في جانبه على الوالدين الجنون والكفر والعدم! وهذا أبو إبراهيم يضعضعه النبأ المروع فيتحامل على عبد الرحمن بن عوف، ويمشي ثقيل الخطى لهيف الفؤاد، إلى الصغير المحتضر! لو كان لمتاع العيش غناء لتقلب فيه المؤمن، ولو كان لقانون الموت استثناء لأفلت منه المصلح، ولو كان في قلب الثاكل المحزون شبهة لجلتها محنة الله لرسوله!
أخذ النبي إبراهيم من حجر أمه فوضعه في حجره، ثم نظر من خلال الدمع إلى قسماته المشرقة تغشاها ظلال الموت، وقال بصوت متهدج وفؤاد متأجج واستسلام مطمئن: (إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً)
يا لله لقلوب الوالدين! إن النبي الذي ولد في مهد اليُتم، ودرج في حجر العُدم، وتقسمت عمره عوادي الخطوب، فكابد أذى قريش وحقد المنافقين وكيد اليهود، وعالج مكاره الدعوة من القلة والذلة والهزيمة والفتنة، وقد احتمل كل ذلك بصبر المجاهد ويقين المؤمن وعزم الرسول، ويصيبه الله في إبراهيم وهو رضيع فيرفض عنه الصبر، ويتملكه الجزع، ويقف من الثكل الأليم موقف كل والد يرى جزءه الجديد يبلى، ورجاءه الناشئ يخيب، ثم يقول:(146/2)
(إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، وإنا بعدك يا إبراهيم لمحزونون: أما والله لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنّا عليك بأشد من هذا!) وينال من الصحابة حزن الرسول فيتقدمون إليه يذكرونه ما نهى عنه فيقول: (ما عن الحزن نهيت! وإنما نهيت عن العويل. وإن ترون بي أثرُ ما بالقلب من محبة ورحمة، ومن لم يُبد الرحمة لا يبدي غيره عليه الرحمة)
على أن حزن الرسل لا يكون إلا بمقدار ما فيهم من ضعف الإنسان. لذلك لم يلبث الرسول أن عاد إلى نفسه فصلى على ولده، وسوى عليه القبر بيده، ثم رش فوقه الماء وأعلم عليه علامة وقال: (إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملاً أحب الله أن يتقنه)
تعزيت يا رسول الله لأن الألم سبيل من سبل دعوتك، والعزاء أصل من أصول دينك، والأرض وما عليها أهون من دمعك. والسماء وما فيها ثواب لصبرك، ولكن ماذا يصنع البائس المحزون إذا فقد الرجاء، وليس له في يومه صبر ولا في غده عزاء؟
أحمد حسن الزيات(146/3)
على هامش السيرة
حديث عداس
للدكتور طه حسين بك
قال عتبة بن ربيعة لأخيه شيبة: أنظر إلى هذا الرجل المقبل على حائطنا ومن ورائه السفهاء والعبيد قد أغرو به وسلطوا عليه، فهم يؤذونه بألسنتهم، وهم يؤذونه بما يحصبونه به من الحصى والأحجار! ألا تثبته؟ قال شيبة وقد نظر فأطال: بلى! والله إني لأعرفه كما تعرفه، وإن قلبي ليرق له كما يرق له قلبك، وإن نفسي لتثور غضباً له كما تثور نفسك، ولقد هممت ومازلت أنازع نفسي أن أفزع إلى نصره وجواره وحمايته من حلماء ثقيف وسفائها. ولولا ما بينه وبين قومنا، ولولا أني أعلم أننا إن فعلنا كان لنا مع قومنا أمر عظيم وخطب جليل. قال عتبة: وا رحمتاه لابن عمنا من قومه! ثم وا رحمتاه لقومنا من أنفسهم! ما كنت أحسب أن يبلغ الأمر بقريش أن يذلل عزيزها ونحن شاهدان، وأن يجترئ حي من أحياء العرب وإن كانوا ثقيفاً، على أن يسوءوا رجلاً من قريش وإن كان مستضعفاً مهيناً. فكيف بابن عبد المطلب وابن أخي حمزة والعباس؟ وكان هذان الرجلان من أشراف قريش قد ذهبا إلى بستان لهما في الطائف يصلحان من أمره وأمرهما، ويهيئان لتجارتهما: يجمعان ما تنفذه ثقيف مع تجار قريش إلى اليمن في رحلتها إلى اليمن، وإلى الشام في رحلتها إلى الشام. وكانا قد أقاما في الطائف أياماً، وأقبل في أثناء ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على ثقيف يلتمس عندهم النصر والعون والجوار بعد أن تنكرت له مكة بطاحها وظواهرها، وبعد أن تنكر له الناس حتى أقربهم إليه وأدناهم منه، وبعد أن فقد عمه الذي كان يمنعه ويقوم دونه، وبعد أن فقد زوجه التي كانت ترعاه وتكلؤه وتحوطه بالرحمة والحب والحنان، وكان قد لزم داره بعد هاتين الكارثتين لا يكاد يبرحها خائفاً محزوناً حتى أقبل عليه عمه أبو لهب فأمنه وأعلن إليه أنه يقوم من حمايته بما كان يقوم به أبو طالب. فسرى عن النبي الكريم شيئاً واستأنف الخروج من داره والذهاب إلى المسجد، والاضطراب في مكة، ولكن قوماً من قريش ألحوا على أبي لهب حتى غيروه على ابن أخيه فاسترد جوره وحمايته، وعاد من حرب النبي وعداوته إلى مثل ما كان عليه قبل أن يموت أبو طالب. فلما ضاقت مكة بخير أبنائها خرج إلى الطائف يلتمس جوار ثقيف، فأقام(146/4)
فيهم ما شاء الله أن يقيم، يسعى عند هذا ويتلطف لذاك، وكلهم يرده وكلهم يمتنع عليه. وكان مقامه فيهم قد أخافهم وثقل عليهم وأثار في نفوسهم إشفاقاً أن يصيب مدينتهم ما أصاب مكة من اضطراب الأمر، وانتفاض الضعفاء على الأقوياء واستجابة قوم لهذا الرجل الذي أنكره قومه ولم تره مدينته إلا ما يكره. فتقدموا إليه في الرحيل عنهم، ولم يكد يفعل حتى أغروا به سفلة الناس وسفهاءهم يؤذونه بالقول والفعل حتى ألجئوه ضعيفاً مكدوداً وكئيباً محزوناً إلى حائط هذين القرشيين، وأقبل النبي وقوراً هادئ الخطى مطمئن النفس، تظهر على وجه الكريم آيات الضعف.، وآيات القوة، وآيات الحزن، وآيات الرجاء. ضعف مصدره الجهد والعناء، وقوة مصدرها الحزم والعزم، وحزن مصدره الرحمة لهؤلاء الذين يدعوهم إلى الخير فيبغونه بالسوء، ويرشدهم إلى النجح فيريدونه بالمكروه؛ ورجاء مصدره الثقة لأن الله لم يختره لرسالته ليخذله قبل أن يتم أمره، ويعلي كلمته، ويظهر دينه على الدين كله، وبأن الله لا يصيبه بما يصيبه به من المكروه إلا امتحاناً لقلبه وابتلاء لنفسه وتمحيصاً لطبعه
أقبل هادئاً والناس من ورائه مضطربون. مستأنياً والناس من ورائه مسرعون، حتى انتهى إلى ظل من ظلال البستان فجلس متعباً مكدوداً، والقرشيان ينظران إليه ويرقان له ويعطفان عليه، وينازعان نفسيهما إلى نصره ومعونته، وقد كادا يفعلان لولا أن ذكرا قريشاً، ولولا أن ذكر عتبة بن ربيعة صهره أبا سفيان وقدر ما يلقاه وما يلقاه أخوه من قريش إن منح محمداً معونة أو نصراً؛ ولكنهما رأيا ابن عمهما يأوي إلى ظلالهما مكروباً محزوناً، فلم يملكا أن يمتنعا عن أن ينالاه بأيسر الخير وأهون البر، فيدعوان عداساً عبداً من عبيدهما ويأمرانه أن يحمل إلى هذا الرجل الضعيف المكدود شيئاً من عنب البستان ليصيب منه، ويمضي العبد منفذاً أمرهما، ولكنهما لا يستطيعان أن ينصرفا عن مكانهما ولا أن يحولا بصرهما عن ابن عمهما، وقد أهينت فيه قريش كلها، لولا أن قريشاً قد احتفظت بأحلامهما فهما ينظران ويرثيان، ويعمل الأسى في قلبيهما والعبد يسعى بالطبق إلى هذا الرجل المحزون، حتى إذا انتهى إليه وضع الطبق بين يديه، وأقبل الرجل على العنب يريد أن يصيب منه، والعبد قائم منه غير بعيد، ولكن القرشيين ينظران فيريان عجباً: يريان كأن حديثاً قصيراً قد دار بين الرجل وبين هذا العبد؛ ثم يريان العبد وقد أكب على(146/5)
هذا الرجل الحزين يقبل رأسه ويديه ورجليه باكياً مستعبراً، مندفعاً في حديث لا يكاد ينقضي، مظهراً من التكرمة والإجلال لهذا الرجل ما لم يتعود أن يظهر لأحد من سيديه. فيقول أحد القرشيين: ويحك لقد أفسد علينا ابن عمنا هذا العبد! وما أرى إلا أن ثقيفاً معذرين إن خافوا منه على عبيدهم وضعفائهم وأقويائهم أيضاً ما خفنا نحن منه على العبيد والضعفاء والأقوياء؛ وهذا الرجل قد نهض وقوراً هادئاً، ومضى أمامه وقوراً هادئاً، ومضى العبد معه شيئاً من الطريق. ثم وقف يشيعه بطرفه حتى غاب عن طرفه وعن طرف القرشيين
هنالك عاد العبد إلى سيديه، وفي وجهه آيات الكآبة والحزن، وفي وجهه مع ذلك آيات الطمأنينة والرضى، ودموع تجري من عينيه لم يدريا أكانت دموع حزن وابتئاس، أم كانت دموع غبطة وابتهاج
يقول عتبة بن ربيعة للعبد رفيقاً به عطوفاً عليه: ويحك يا عداس! إن لك من هذا الرجل لشأناً، فاقصص علينا بدء حديثك فقد رأيناك حفياً به متلطفاً له، مكباً عليه تقبله باكياً مواسياً، ثم مرافقاً له تشيعه بشخصك ثم بطرفك. قال العبد: نعم يا مولاي إن لي مع هذا الرجل لشأناً وحديثاً عجيباً، وأحبب إلي أن أقص عليكما حديثي! ولكن أي حديثي تريدان؟ أتريدان حديثي منذ اليوم، أم تريدان حديثي القديم الذي مضت عليه أعوام طوال، والذي دفعني إلى بلادكم هذه، والذي اضطرني إلى ما أنا فيه من رق، أعمل لكما بيدي في هذا البستان، وما عملت لأحد قبلكما بيدي، وما عملت لنفسي بيدي، وإن كان الناس ليعملون لي كما أعمل لكما الآن؟ قال عتبة وقد ثارت في نفسه طبيعة العربي الذي أترف وفيه فضل من بداوة، فهو مشغوف بالقصص، كلف بغريب الحديث. قال عتبة: وإن لك لحديثاً قديماً بينه وبين حديثك هذا الجديد سبباً. قال عداس: نعم. قال عتبة: فاقصص علينا حديثك. وأخذ القرشيان مجلسهما استعداداً لسماع الحديث. وهم العبد أن يبدأ حديثه قائماً، ولكنهما أذنا له في الجلوس فجلس وأطرق وأغرق في صمت غير طويل، ولكنه كان عميقاً. ثم قال: لقد انتهيت إلى هذا الرجل منذ حين فسمعته يقول كلاماً ما أعرف أن الناس يقولونه أو يقولون مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك حدثني بحديث ما يعرفه إلا نبي. وكأن حديثه هذا مني على ميعاد، أو كنت أنا من حديثه هذا على ميعاد. لقد سألني سؤالاً لم(146/6)
يسألنه أحد منذ وطئت هذه البلاد. سألني عن موطني الذي نزحت منه، فأنبأته بما لا تعلمان وبم يحسن أن تعلماه الآن، وهو أني رجل من أهل نينوى، نشأت في بيت من بيوت الأحرار الذين إن لم يتح لهم الملك والإمارة، فقد أتيحت لهم الثروة والغنى؛ وكنت موفور الحظ من النعمة وحسن الحال، فارغاً لما يفرغ له أمثالي في تلك البلاد من تقسيم الوقت بين لذة الجسم ولذة العقل؛ ألهو ما وسعني اللهو، ثم أقرأ وأختلف إلى مجالس العلماء والفلاسفة من القسس والرهبان فأسمع منهم وأتحدث إليهم، وآخذ معهم في ألوان من الجدل حول ما يختلف الناس فيه عندنا من أصول الدين والعلم، وأنتما لا تعلمان من أمرنا في تلك البلاد إلا قليلاً، إنما تعنيان ويعنى قومكما بما تحملون إلينا من تجارة، وما تصدرون به عنا من مال، وما تصيبون في بلادنا من هذه اللذات اليسيرة. فأما ما دون ذلك فليس لكم به علم، وليس لكم عنه سؤال؛ ولو قد دخلتم في حياتنا وعرفتم دقائق أمرنا، لرأيتم أن في نفوسنا اضطراباً شديداً، وغلياناً متصلاً، وضيقاً بالسلطان، وتمرداً على النظام، وإنكاراً لما ورثنا من عادة، وشكا فيما تلقينا من دين. ساءت فينا سيرة السلطان فنقمنا من نظام الحكم، وساءت فينا سيرة القسس فشككنا في الدين؛ فأما العاجزون فقد أعطوا طاعة ظاهرة وأضمروا عصياناً خفياً، وعكفوا على اللذات يستعينون بها على احتمال الحياة؛ وأما الأقوياء وأولو العزم فقد فكروا وقدروا وجدوا في التفكير والتقدير يلتمسون فرجاً من حرج ومخرجاً من ضيق، وكنت فيما رأيت من هؤلاء. فلما ضقت بالحياة في مدينتي ولم أجد عند علمائها وقسسها شيئاً خرجت مسافراً إلى الشام ألتمس في السياحة تسلية وعلماً، وأبتغي فيها ظفراً بالخير، ولست أقص عليكما رحلتي إلى الشام ومنازلي في طريقي إليها، واضطرابي في مدنها وقراها، ويأسي من قسسها وعلمائها، وضيقي بسادتها وحكامها، ولكني انتهيت بعد كثير من الاضطراب إلى دير من الأديرة يقوم في آخر العمران وأول الصحراء مما يلي بلادكم هذه، وأقمت في هذا الدير دهراً راضياً عن حياته الهادئة المطمئنة راضياً عن حياة أهله الآمنين الوادعين الأخيار، ناعم النفس بعشرتهم مستمتعاً بأحاديثهم، ولكنني سمعت من أحاديثهم عجباً: رأيت لهم فيما بينهم أمراً يتحدثون عنه بالرمز، ويومئون إليه بالإشارة، ورأيت حديثهم هذا الرمزي يكثر ويشتد إمعانهم فيه كلما مرت بديرهم من قوافلكم هذه التي تردد على بلاد الروم. رأيتهم يعرفون أنباء هذه القوافل(146/7)
قبل أن تصل إليهم فيتهيئون لها ويستقبلونها ويكثرون من سؤالها، ويظهرون الحفاوة بها. ثم يخلو بعضهم إلى بعض، فيتبادلون بينهم أحاديث الرمز والإشارة والإيماء، ويقول بعضهم لبعض: لم يأت النبأ بعد؛ أو يقول بعضهم لبعض: لقد انقطع النبأ بعد أن جاءت بشائره. فلما كثر علي منهم ذلك أزمعت أن أعلم علمه، فتلطفت لهم وتوسلت إليهم حتى عرفت أنهم ينتظرون إصلاحاً دينياً ذا بال، وأنهم قرءوا في كتبهم أن هذا الإصلاح يأتيهم من قبل هذه البلاد، وأنهم حسبوا وقدروا ورأوا أن زمان هذا الإصلاح قد أظل الناس، وأن أنباء قد انتهت إليهم وأحاديث قد نقلت لهم، وكلها يدل على أن أوان هذا الإصلاح قد آن. ثم قصوا علي من هذه الأنباء والبشائر أطرافاً، فلم أملك أن كلفت بالرحلة إلى بلادكم، وقلت ما يمنعني أن أبعدني السفر؟ وما يمنعني أن أتصل بقافلة من قوافلكم هذه فأبلغ معها هذه الأرض، فأعلم من علمها، وأصيب من تجارتها؟ ولعلي أظفر بما يتحرق إليه هؤلاء الرهبان شوقاً؛ وأنتما تعلمان كيف كان الاتفاق بيني وبين تلك القافلة التي أمنتني على نفسي ومالي، وضمنت لي أن أبلغ بلادكم هذه موفوراً فأصيب من تجارتها وأعود معها من قابل إلى الشام، حتى إذا بعدنا عن بلاد الروم وانقطعت أسبابي من أسباب قيصر عدا أهل هذه القافلة على مالي فاحتجزوه ثم عدوا علي فاتخذوني بضاعة وباعوني من صاحبكما ذاك الذي اشتريتماني منه قريباً من يثرب
فهذا بدء حديثي أيها السيدان، وقد عملت في بستانكما أعواماً، وكان الناس يتحدثون من حولي بهذه الأحداث التي تحدث في مكة ويتناقلون من حولي أنباء هذا الرجل الذي ينكر الأوثان ويدعو إلى التوحيد، ويريد أن ينصف المظلوم من الظالم، والعبد من السيد، ويسوي بين الضعيف والقوي؛ وكان الناس يتحدثون من حولي بما يلقى هذا الرجل في بلده من شر، ومما يمتحن به أصحابه من ألوان الفتنة، وكنت كلما سمعت هذه الأحاديث هششت لها، وطابت بها نفسي. وأحسست أن النبأ الأعظم قريب؛ وكنت أقدر أن صاحب هذا النبأ يجب أن يكون كإخوانه الذين سبقوه علماً بدين الله، داعياً إليه، مخبراً من أنباء الأولين بما لا يخبر به الناس، وكم وددت لو أتيح لي أن أنحدر إلى مكتكما هذه فأسأل صاحبكما وأسمع منه، ولكن الرق في بلادكما شديد. فنحن أرأف منكم بالرقيق، وأعطف منكم عليه، وقد لبثت في بستانكما هذا أسمع الأنباء وألتمسها وأتحرق شوقاً إلى مصدرها حتى أقبل(146/8)
صاحبكما هذا منذ حين؛ ولقد رثيت له حين رأيته وأوشاب الناس من حوله يؤذونه بألسنتهم وأيديهم. ولقد هممت أن أفزع لنصره والذود عنه. وما كنت أعلم من أمره شيئاً، ولكنها الرحمة عطفتني عليه؛ ولقد هممت أن أستأذنكما في إيوائه وإيثاره بشيء من القرى، ولكني رأيتكما تنظران وتتحدثان ولا تنشطان؛ ثم أمرتماني بالسعي إليه، فلما بلغته سمعت منه كلاماً ما سمعت مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك سألني عن موطني. فلما أنبأته به قال هذا موطن يونس نبي الله. فما شككت في أنه صاحبي الذي أقبلت ألتمس أنباءه. قال عتبة ويحك يا عداس إن حديثك هذا العجب، ولكنا نخشى أن يفسد عليك صاحبنا دينك، وإن دينك لخير مما يدعوا إليه. قال عداس: مهلاً يا سيدي! إن الذي يقول ما سمعت لا يدعوا إلى شر ولا يغري بفساد، ولا يأمر إلا بمعروف. ولا يقول إلا حقاً. قال شيبة: ويحك يا عداس لقد سحرك صاحبنا فيمن سحر، فماذا سمعت منه؟ قال عداس: بل لقد هداني فيمن هدى، ولقد سمعته يناجي ربه بحديث ما سمعت أعذب منه. لقد حفظت حديثه، وإنك لتعلم ما أنا بالعربي، وما حفظ أحاديثكم علي بيسير. قال عتبة: فهات أعد علينا ما سمعت. قال سمعته يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ولم يفرغ العبد من هذا الحديث حتى أغرق في بكاء هادئ، وأغرق سيداه في وجوم عميق. ثم ثاب القوم جميعاً إلى أنفسهم ونظر القرشيان أحدهما إلى بعض نظرة المستخذي الأسف. ثم قال عتبة لعداس: أنت وما تشاء يا عداس من حب صاحبك وطاعته، ولكن لا تنس أن لنا عليك حقاً وطاعة، وأنا حريصان على ألا تظهر من أمرك شيئاً فتضطرنا فيك إلى ما نكره، وتضطر قومنا فينا إلى ما تكره
ومضت أعوام وحدثت أحداث، ونظر العبد الشيخ ذات يوم فإذا محمد صلى الله عليه وسلم قد ضرب عسكره حول الطائف يحاصر فيها ثقيفاً؛ وكان عداس قد انتقل من ملك ابني ربيعة بعد موتهما إلى الثقفيين، وإذا نفسه تنازعه إلى صاحبه، وإذا هو يحرض الرقيق(146/9)
ويبث فيهم الدعوة إلى الخروج على سادتهم واللحاق بجيش المحاصرين، وإذا نفر من الرقيق يجتمعون إليه، وإذا هم يقتحمون الأسوار ويهبطون إلى العسكر مسرعين وترميهم مقاتلة ثقيف بالنبل فتصرع منهم جماعة فيهم عداس قد مات قبل أن يبلغ صاحبه العظيم، ويخلص سائرهم إلى النبي فيهديهم إلى الإسلام ويردهم إلى الحرية، وينصرف عن حصار الطائف حتى إذا أسلمت ثقيف تكلمت في رقيقها أولئك وأرادت ردهم إلى الطاعة، فيقول النبي الكريم: كلا! هؤلاء عتقاء الله
طه حسين(146/10)
منطقة الإيمان
للأستاذ توفيق الحكيم
حينما كنت وكيلاً للنائب العام كنت أرى عجباً في قاعات المحاكم وجلسات التحقيق؛ وكنت أفكر كثيراً في أمر ذلك الشرير الذي طالعت صحيفة حياته فإذا آثام ودماء تسيل منها، ومع ذلك يقف أمامي متطلعاً إلى السماء، ويأبى أن يقسم بالمصحف كذبا. هذا الآدمي قد انطلقت غرائزه الدنيا لا يقوم لها شيء، لكن بقيت برغم هذا في نفسه منطقة عذراء لم يتطرق إليها فساد: منطقة العقيدة! أهناك إذن حد فاصل بين العقيدة والغريزة؟ كذلك كان يدهشني أمر صديق من خيرة القضاة، كثير الورع، حريص على العبادة والصلاة؛ ومع ذلك بقي عقله حراً من كل قيد. ما يدور بيننا حديث في الخالق والخليقة حتى يذهب هو في التدليل والمنطق كل مذهب إلى أن يقع في الإلحاد وإنكار الجنة والنار. وينادي المؤذن بالصلاة فإذا القاضي يسرع مخلصاً إلى ذلك الدين الذي قال فيه منذ لحظة قولاً عظيما. أهناك إذن حد فاصل بين العقيدة والعقل؟
إذا قلنا مع القائلين إن العقل والقلب والغريزة ملكات ثلاث منفصلة إحداها عن الأخرى، فإن هذا القول يؤدي حتما إلى نتائج غريبة قد تعدل من نظرتنا إلى الأشياء. ولعل أول ما يفهم من هذا الاستقلال بين ملكات تباين ألوان الحقيقة لدى كل منها؛ فما يصدق عند القلب، قد لا يصدق عند العقل. بل إن كل ملكة من تلك الملكات تسيطر على عالم مختلف جد الاختلاف عن عالم الأخرى. يقابل ذلك في المحسوسات تلك الحدود والحواجز بين الحواس، فعالم البصر منفصل عن عالم السمع، والحقيقة البصرية غير الحقيقة السمعية، وما يعتبر موجوداً في منطقة العين لا يعتبر موجوداً في منطقة الأذن، فهذا الحجر الساكن حقيقةُ تراها العين المبصرة، ولكن الأذن لا تدرك ولن تدرك هذه الحقيقة، ولن تعرف مطلقاً ما هو الحجر وما شكله، لأن عالمها وهو عالم الأصوات لا يخطر له على بال أن في الوجود عالما يسمى عالم المرئيات. فالعقل لا يدرك إلا ما يلائم وظيفته وما يخضع لمقاييسه. والحقيقة العقلية ليست الحقيقة المطلقة، وليست الحقيقة كلها. ولكنها الحقيقة التي يستطيع العقل أن يراها من زاويته. فإذا كانت العقيدة مرجعها القلب، فإن العقل لن يرى منها إلا الشطر الذي يستطيع أن يراه، ويظل محجوبا عنه الشطر الواقع في دائرة القلب.(146/11)
فوجود الخالق الجبار المنتقم الرحمن اللطيف لاشك فيه عنه القلب؛ أما العقل فإن استطاع بالمنطق أن يتصور وجود الخالق، فأنه قد يرتاب في صحة تلك الصفات المنسوبة إليه؛ وقد يراها في منطقة صفات آدمية أسبغها البشر على خالقهم إجلالاً له، لأنهم وهم بشر لا يملكون غير تلك الصفات التي هي في عرفهم مرادف الإكبار والتقدير. أما حقيقة الخالق فأمر بعيد عن مقدرة العقل، وهل يستطيع الجزء أن يرى الكل؟ هل تستطيع الكبد في جسم الإنسان مثلاً أن تحيط إدراكاً بحقيقة شكل الإنسان الخارجي وهي جزء منه داخل فيه؟ إن كل ما تدركه الكبد هو وجود تلك المواد التي تمر بها كل يوم فتحولها إلى إفرازات دون أن تدري من أين جاءت، ولا إلى أين تذهب. العقل أيضاً يرى الأحياء كل يوم تدور دورتها دون أن يدري من أين جاءت ولا إلى أين تذهب. فالحقيقة العقلية أو العلمية لا يتجاوز علمها الكائنات التي تمر بالحواس؛ ومن يحمل العقل أكثر من قدرته فهو إنما يريد منه المستحيل، كمن يطلب إلى الكبد مضغ الطعام. فالحقيقة العقلية أو العلمية شيء، والحقيقة الاحساسية أو الدينية شيء آخر؛ وإن رجال الدين يقعون دائماً في الخطأ، إذ يبسمون بسمة الظفر كلما قال رجال العلم قولاً يتفق مع الدين، ويقطبون تقطيب الغضب كلما نقض رجال العلم أسس الدين. وما أحراهم في كلتا الحالين أن يبسموا غير مكترثين بسمة الصفاء واليقين، وأن يعتقدوا تمام الاعتقاد أن العلم في كلا الحالين كاذب عندهم وإن صدق، وأن لا شأن للعلم بهم، وأن الحقيقة الدينية بعيدة عن وسائل العلم ودائرة بحثه، وأن العقل يستطيع أن يهدم الدين كما يشاء دون أن يسمع القلب طرقة واحدة من طرقات معوله، وأن أولئك الملحدين الذين سخروا عقولهم الكبيرة لتفنيد الدين وهدم أصوله والشك والتشكيك في جوهره ووجوده، لم يستطيعوا لحظة واحدة أن يسكتوا صرخات القلب الحارة الصاعدة إلى ذلك الموجود الأسمى الذي بيده نفوسهم. إن عقولهم كانت ترغى وتزبد بالكلام المعقول والمنقول، وقلوبهم في معزل عن كل هذا الصخب، لا تشعر ولا تدري شيئاً عن المعركة الحامية القائمة في تلك الرؤوس. فالتوفيق بين العلم والدين ضرب من العبث. على أن اجتهاد المجتهدين في هذا السبيل لم يتعدى ذلك الجانب من الدين الخاضع بطبيعته لحكم العقل، وهو الجانب الاجتماعي المبني على الأخلاق وما يتفرع عنه من فكرة الفضيلة والرذيلة. . .(146/12)
وهنا يتساءل الناس دائماً: ما الدين؟ أهو شيء مفيد للبشر في أمر حياتهم ومعاشهم؟ أم إنه طريق لحل اللغز الأكبر وسبيل للنفوذ إلى المجهول؟. في الواقع أن كل دين من الأديان المعروفة يتكون من هذين الوجهين. فالدين كقانون اجتماعي ينظم الغرائز ويحفظ التوازن بين الخير والشر، هو أمر متعلق بذات الإنسان، متصل إذن بعقله وعلمه. على أن عنصر (الأخلاق) في الأديان ليس كل جوهرها. فإن بعض البلاد قد استطاعت أن تجد في (الأخلاق) غنى لها عن (الأديان)؛ إنما قوة الدين وحقيقته في العقيدة والإيمان (بالذات الأزلية). هنا لا سبيل إلى الدنو من تلك (الذات) إلا عن طريق يقصر عنه العلم الإنساني، بل يقصر عنه كل علم، لأن العلم معناه الإحاطة، والذات الأبدية لا يمكن أن يحيط بها محيط، لأنها غير متناهية الوجود. فالاتصال بها عن طريق العلم المحدود مستحيل. هاهنا يبدو عمل الدين ضرورة للبشر. إني ما كتبت هذه الكلمة اليوم إلا لألفت نظر رجال الدين إلى وجوب التسامح والهدوء كلما قام باحث يتكلم في الدين عن طريق العقل، فإن الشرق اليوم مقبل على حياة علمية واسعة مهادها المعاهد والجامعات؛ ولابد لنماء ملكة العقل من التفكير الحر الطليق، كما لا بد لحياة ملكة القلب من الشعور الحار العميق. فليترك رجال الدين المفكرون يفكرون كما يشاءون، ويثرثرون كما يريدون، ويعرضون بضاعتهم الكلامية التي هي كلها بهرجهم الآدمي الأجوف، فإن كل هذا الضجيج العقلي لن يصل خبره إلى القلب الذي لا يفتر لحظة عن التسبيح رغماً عنهم بالعقيدة التي ركبت عليها حياته النابضة. . .
توفيق الحكيم(146/13)
الإسلام كعامل في المدنية
للأستاذ أحمد أمين
لعل أهم تراث الإسلام وأثره في المدنية أمران: (الأول) العقيدة الإسلامية، لأني أرى أن كل ما نشأ عن الإسلام من فتح وعلم وإدارة وفن وغيرها أثر من آثارها، فالعربي قبيل الإسلام كان هو العربي بعيده، في جسمه وجوهر عقله ومعدنه، ولم يجعله يتجه إلى الفتح ويرى نفسه جديراً بأن يقف في المستوى الذي تقف فيه أرقى الأمم في عصره - وهما الفرس والروم - بل يرى نفسه أرقى منهما، وأجدر بأن يحكمهما ويوجههما وجهة خيراً من وجهتهما ويدخل التعديل على مدينتهما - إلا عقيدته؛ فهي - وحدها - الشيء الجديد في حياة العربي المسلم. لم يأت الإسلام في أول دعوته بنظريات هندسية، ولم يخترع آلات حربية، ولا فنوناً جديدة، ولا نوعاً من الإدارة جديداً، لأن هذه كلها أمور ثانوية بجانب العقيدة؛ فالعقيدة إذا صلحت أصلحت كل فاسد، ونشأ عنها كل أسباب التقدم ولو كان صاحبها فقيراً جاهلاً، حتى ولو كان في بلد جدب وأرض قفر، ولو لم ينشأ في مدنية ولو لم يرث حضارة. والعقيدة إذا فسدت أضاعت الثورة الموروثة ولم ينفع معها علم ولم يفد غنى، كلا ولا تنفع أرض خصبة ولا مدنية فخمة، ففيلة الفرس لم تثبت أمام بعير البدوي، ولا الدروع المضاعفة الرومانية استطاعت أن تصمد أمام نبال العربي وقوسه الساذجة، لأن بعير البدوي كان يحمل على ظهره قلباً مؤمناً، وفيل الفارسي كان يحمل فؤادا هواء؛ والقوس العربية كانت تصدر عن عقيدة صحيحة قوية ملتهبة، ودروع الروماني كانت تتضمن قلباً لا عقيدة فيه، كل همه شهوة ينالها ومتاع زائل بأمل أن يلتذ به، فإن فقد العربي حياته في القتال فلا بأس فإنما يعجل ذلك من قربه من الله، وإذا فقد الفارسي أو الروماني نفسه فيالها من خسارة، فقد حرم الخمر والنساء وحرم متع الحياة؛ فإذا قاتل العربي قدم حياته فحفظت حياته، وإذا قاتل الآخر قدم عدده وادخر حياته فخسر عدده وحياته. لم يتغير شيء في حياة العربي عند ظهور الإسلام إلا عقيدته، وكل شيء تغير غيرها فبسببها. وقد كنت أود أن أقتصر على الكلام فيها لولا أن هناك ناحية أخرى تهمنا كأثر قوي في بناء المدنية وهي (أثر الثقافة الإسلامية في المدنية)، فهي من جهة أكبر أثر للعقيدة، ومن جهة أخرى أقوى مركز ترتكز عليه المدنية. لهذا سنحصر قولنا في هاتين(146/14)
الناحيتين وفيهما الغناء
العقيدة الإسلامية -
كان العرب في جاهليتهم يعبدون الأصنام، قد اتخذت كل قبيلة إلهاً من صنم أو وثن، وقدمت إليه القرابين وجعلته الآمر الناهي، وهو طور تكاد تكون الأمم كلها قد مرت عليه وأن اختلفت أسماء أصنامها باختلاف بيئاتها؛ ذلك لأن في طبيعة الناس الإيمان بقوة فوق قوتهم تدفع عنهم الشر وتجلب لهم الخير، وتحي وتميت، وتخلق وتفني؛ وإذا كان العقل قاصراً ركز هذه القوة في شيء من المادة خلع عليه هذه الصفات، فأحياناً يكون صنما، وأحيناً يكون الشمس والنجوم، وأحياناً يكون شجراً، وأحياناً يكون حيواناً، وأحياناً يكون نهراً أو بحراً، فكل هذه الكوائن عبدت عند الأمم المختلفة، لأنها أحست أن في أعماق نفسها عقيدة بقوة فوق قواها. تساوت الأمم في هذا، ولكنها اختلفت في الشكل الذي تجسد فيه هذه القوة فتعبده، بحسب قوتها العقلية والخيالية ومواضعها الجغرافية وبيئتها الاجتماعية
وكانت هذه هي الحالة الساذجة للعبادة عند الأمم يعترفون بإله أو إلهة، ويشكلونها في شيء محسوس يقدمون لها صنوف التعظيم والتمجيد - فكرة حق ولكنها اتخذت مظاهر خرافية كالطفلة في غريزتها الأمومة، وفي طبيعتها الإشراف على تنظيم الحياة البيتية، فهي تتخذ لها لعباً من عرائس تجعلها أبناءها وبناتها وتمنحها عطفها، وتنفذ عليها أوامرها إجابة لداعي الغريرة الكامنة وإرهاصاً لما يكون منها بعد نموها
وأحياناً يحاول أن يتخلص من المادة فيعبد أرواحاً جناً أو ملائكة أو نحو ذلك، ولكن سرعان ما ينتكس ثانية فيسبغ عليها أوصاف المادة فيجعلها ذكوراً وإناثاً، ويجعل لها أجنحة تطير بها، ويجعل لها قروناً وذيولاً لأنه لم يرق حتى يستطيع أن يتحرر من عبادة المادة بتاتاً
كذلك كان العرب بل كان أكثرهم في حالة منحطة من عبادة المادة، يعبدون الحجر لا النجوم ولا الأرواح، ويأتمرون بأمرها في زعمهم في إقامة ورحيل، وإقدام وإحجام، وزواج وطلاق
وعبادة الأصنام كائنة ما كانت - تشل حركة العقل، وتضعف قوة النفس، وتحط الحياة الاجتماعية، وتجعلها حياة خرافية وضيعة. مثل هذه العقيدة تعوق العلم، لأن العلم لا(146/15)
يلائمها، وتعوق التفكير الصحيح لأنه ليس من طبيعتها، وتعوق التقدم الاجتماعي لأنه أساس إطلاق الفكر من قيوده، والفكر مشلول بعبادة الأصنام
ومن أجل هذا كان أهم ما أتت به سلسلة الأنبياء محاربة هذه العقيدة، وتخليص الفكر من قيوده التي قيدته بها العقيدة في الحجر والشجر، والنجوم والبحار والأنهار؛ وكان نجاحهم في أول الأمر قليلا قليلا، لأنه لم يكن يقوى على احتمال تجريد الإله عن المادة إلا القليل من الناس، وحتى في العصور الحديثة لا تزال النزعة إلى مادية الإله تتسرب في أشكال مختلفة، مع رقي العقل البشري ونموه ونضوجه
وقد بدأت هذه الدعوة إلى التجديد في الأمم السامية من عهد إبراهيم، واستمرت بين الظهور والخفاء، وكلما تقدم الناس كانوا أكثر لها استعدادا وأقرب قبولا، حتى أتى محمد (ص) فدعا دعوته الجريئة الصريحة إلى كسر الأصنام وتحطيم الأوثان وتخليص العقيدة من كل شرك، وتجريد الله من كل مادية؛ وكان شعار عقيدته (لا إله إلا الله)، ومدار عقيدته (ليس كمثله شيء)؛ فالأصنام ليست تصلح لشيء إلا للمعاول، والنجوم هو الذي خلقها ونظم حركاتها، والبحار والأنهار هو الذي خلقها وأجرى ماءها، والملائكة هو الذي خلقهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، لا شيء يشاركه في ألوهيته من مادة أو روح - هو حقيقة واضحة معقولة في شكل - غيبت عن العقول حقيقته، وظهرت لهم صفاته، فهو الخالق لكل هذه الظواهر، وهو الذي يسيرها، وهو غرضها الأسمى؛ هو وحدة لا تعدد بأي حال - تنزه عن المادة وتنزه عن الشريك
سلك القرآن في الدعوة إلى الإيمان مسلكا خاصا، فبعد أن أبان للإنسان أن الله خالق كل شيء، وأنه رب العالمين، طلب إليه أن ينظر إلى كل شيء في العالم من صغير وكبير، فسيرى فيه مظهراً من مظاهر الألوهية، ودليلا على عظمة الله وقدرته لم ينهج القرآن منهج الفلاسفة في دوران العقل حول نفسه ليستخرج منها نظريات مجردة، ومقدمات ونتائج منطقية، إنما طلب أن تمتزج النفس بالعالم، وأن ينفذ العقل إلى رب العالم عن طريق العالم، لأن هذه الطريقة أكثر إحياء للشعور، ومبعثاً لحياة القلوب؛ والإيمان ليس يعتمد على العقل وحده، بل هو يعتمد على القلب أكثر من اعتماده على العقل. من أجل هذا طلب القرآن النظر إلى كل شيء في العالم من الذباب والنحل والعنكبوت، إلى الفيل(146/16)
والجمل، إلى البحر والنهر، إلى السماء والأرض، إلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، إلى الشمس والقمر، إلى الليل والنهار. والقرآن مملوء بالآيات التي تصل الإنسان بالعالم، وتصل العالم بالقلب، وتبعث حرارة الإيمان بالله، وتملأ القلب حياة وحماسة. وهذا هو الذي ملأ صدر الصدر الأول من المسلمين بالعقيدة، وجعلهم يبيعون أنفسهم في سبيل الله عن سخاء. وهذا بعينه هو الذي شجع المسلمين على البحث العلمي، فقد اتجهوا إلى العالم يستدلون به على خالقه فدفعهم ذلك إلى العالم يتعرفون طبيعته وقوانينه، وهذا هو العلم. لم يطلب إليهم الإسلام أن يعيشوا في صوامع يديرون طاحونة العقل على هواء، بل طلب إليهم أن يتصلوا بالعالم يدرسونه وينظرون فيه خلقه وخالقهم، فكان ذلك داعية للعلم والمدنية معاً. لم يتطلب الإسلام من صاحبه أن يعيش عيشة روحية مطلقة مجردة عن المادة، بل طلب إليه أن يمزج الحياة الروحية بالحياة المادية، وأن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يتزوج ويصلي، وأن ينعم بالحياة فلا يحرم على نفسه زينة الدنيا وطيبات الرزق كما ينعم بالنظر وبالتفكير في ملكوت الله، وبعبارة أخرى لم يتطلب الإسلام من الإنسان أن يكون ملكا، وإنما طلب إليه أن يكون إنساناً كاملا، يعيش وفق ما خلق، فقد خلق جسما وروحا، فلجسمه عليه حق، ولروحه عليه حق؛ فلا عجب بعدُ أن رأينا المسلم يساهم في بناء المدنية لأنها واجبه، وفي بناء الروحية لأنها مطلبه
لم ينح الإسلام منحى العلم، يقرر القوانين جافة جامدة كما تفعل العلوم الرياضية والطبيعية، وكما تفعل الميتافيزقيا اليونانية فهذا هو العلم؛ ولكنه سلك مسلكا سماه (الحكمة) وقال: (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)؛ وما الفقر بين العلم والحكمة؟ العلم هو هذا النوع من المعرفة التي تأتي من طريق الحواس وما تألف منها؛ فإذا نظمت هذه المعارف ووضعت كل طائفة منها في مجموعة سميت علماً. أما الحكمة فمزج الروح والنفس بالعالم، والعلم يغذي العقل وحده؛ أما الحكمة فتغذي العقل والمشاعر، وهذه المشاعر هي التي عبر عنها الدين بالقلب والفؤاد. إذا كان العلم ينظر إلى الإنسان فيقسمه إلى أجناس، وإلى أمم، وإلى ذكور وإناث، فالحكمة تنظر إلى الإنسانية في الإنسان وإلى الإنسانية التي من ورائها الله يسيرها وينظمها ويمنحها الوجود ويمدها بروح منه. وإذا كان العلم يقسم النبات إلى فصائل، ويميز اختصاص كل فصيلة، فالحكمة ترى في اختلاف(146/17)
أنواع النبات دليلا على القدرة الإلهية. وهكذا بينا في العلم تمد الطبيعة رباطا بينها وبين العقل، تمد الحكمة رباطين أولهما وأولاهما بينها وبين القلب، وثانيهما بينها وبين العقل
ومن أجل هذا عني القرآن بمظاهر الاختلاف بين القوانين الطبيعية أكثر مما عني بتقرير القوانين الطبيعية الجزئية، فهو يلفت النظر إلى الإنسان، كان نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم كان من المضغة عظام، ثم كسا العظام لحما، ثم كان ذلك إنسان
ولفت النظر إلى اختلاف الليل والنهار، وتعاقب الشمس والقمر، واسترعى النظر إلى السحاب يسير بإذن الله، ثم يمطر ماء فتكون منه زروع وجنات يأكل منها الإنسان والأنعام، وإلى الإنسان واختلاف ألوانه واختلاف ألسنته، وإلى حركة الماء في البحار والأنهار وتلاقيهما. وهكذا عُني القرآن بهذه المناظر المتغيرة، وبهذه الحركة الدائمة لأنها أمس بالشعور وأقرب إلى الحكمة وأدل على المحرك والخالق والمدبر، فكانت بذلك مبعث إيمان صادق حار لا يفتر
وقد غفل علماء الكلام من المسلمين عن الفرق بين العلم والحكمة، وبين الفلسفة والدين. وبين منهج القرآن ومنهج اليونان، فحولوا - وعلى رأسهم المعتزلة - الدين من القلب إلى العقل البحت، وألفوا العقائد في شكل قضايا منطقية، فتحجر الدين، وانقلب جسما جامدا لا روح فيه، فخمدت حرارته، وضعفت شعلته، وقل نوره وضياؤه
بهذه العقيدة التي ألممنا بها نقل الإسلام العرب من أفق خرافي ضيق كسم الخياط ينحصر في تقديس الحجر والرجوع إليه في أهم الأحداث، إلى أفق فسيح لا حد لسعته، يطالع فيه جميع المخلوقات في الأرض والسماء، ويسبح بعقله وشعوره فيها، ويمتزج بها، بل هو لا يقف عند ذلك، ويتعداه إلى إله مجرد عن المادة، ومنزه عن شبه المادة، يحكم العالم ويسيطر عليه، وينظمه ويسيره، وهو وحده لا شريك له رب العالمين
وضع الإسلام في يد العرب الذين كانوا يدينون بالأصنام معاول يكسرون بها الأصنام، وهم إذ كانوا يكسرونها حسياً كانوا يعلنون بعلمهم أنهم تحرروا من رق الخرافة، وسموا عن تقديس حجر، وارتفعوا بتفكيرهم وشعورهم إلى ما فوق المادة، واتصلوا بإله الكون يستمدون منه القوة، ونظروا من طيارة إلى من حولهم من الناس يرثون لحالهم، إذ رأوهم بائسين، كما كانوا هم بالأمس، من فرس مجوس يعبدون ناراً، وما النار إلا مخلوق ضعيف(146/18)
تشبه في ضعتها الأحجار التي كانوا يعبدونها أيام جاهليتهم، ومن رومان تركوا وراءهم دينهم الصحيح وأخذوا يعبدون شهواتهم فعبدوا الخمر وعبدوا النساء وعبدوا المال وعبدوا الجاه، وما كل ذلك إلا أصنام كأصنامهم التي حطموها بالأمس، وما هي إلا ضرب آخر من ضروب النار التي يعبدها المجوس تشب بين جوانحهم. هؤلاء الفرس وهؤلاء الرومان الذين كانوا بالأمس القريب، المثل الأعلى للعرب، والذين كانوا يرون في أعماق نفوسهم أنهم أنفسهم عبيد، وأن الفرس والروم سادتهم، وأنهم سوقة والفرس والروم ملوكهم، وأنهم أذلة والفرس والروم أعزة، وأنهم فقراء وأمل الآمل منهم أن ينال من متاجرته مع الفرس والروم شيئاً من فتاتهم ومما تناثر من أيديهم؛ هؤلاء الفرس والروم أصبحوا في نظر العربي المسلم أسرى عقائد فاسدة، وأسرى شهوات وضيعة، وأن مالهم وجاههم وعدتهم وزينتهم لا تساوي شيئاً بجانب صحة عقيدتهم هم، لقد كانوا ينظرون إليهم من غواصة فيحسدونهم على استنشاق الهواء على ظهر الأرض، فأصبحوا ينظرون إليهم من طيارة عالية جداً فيرونهم حشرات حقيرة تتقاتل على متع دنيئة، ويرونهم المثل الأدنى للإنسانية. وقد كانوا المثل الأعلى، وأنهم أحق بالعطف عليهم والأخذ بيدهم، وقد كانوا من قبل يستجدونهم ويستذلون لهم ويخطبون ودهم. لم يقلب هذا الوضع عند العرب إلا العقيدة، وكفى بها ثورة: ثورة في العقل وفي القلب وفي الخلق جعلتهم كأنهم خلق آخر
هذه العقيدة بما أضاءت وبما بعثت من حكمة جعلتهم فوق العلم. أن شئت فانظر إلى عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة، وسعد ابن أبي وقاص وأمثالهم - ماذا كانت ثقافتهم العلمية بالمعنى الذي نفهمه الآن؟ كانت لا شيء، أو كانت ضعيفة كل الضعف، فليسوا على علم واسع بقوانين الحساب والهندسة، ولا بالجغرافية، ولا بشيء من فروع العلم، ولكن أضاءت الحكمة أذهانهم وقلوبهم ففاقت العلم؛ وإلا فكيف استطاع عمر بن الخطاب - مثلاً - أن يدير هو وأعوانه مملكة الفرس والروم، وقد بلغتا في الحضارة شأواً بعيداً، يعرف أهلهما الجغرافية معرفة واسعة، ويؤسسون المملكة على نظم إدارية وحربية دقيقة، وعندهم علم وأدب وفن. لو عهد بإقليم من أقاليم الفرس والروم إلى عمر في الجاهلية لحار في إدارته وارتبك، ولساسه كما يرعى الشاه والإبل، ولكنه الإسلام وما بعث من حكمة غير نظره إلى الأشياء وجعله ينفذ ببصيرته إلى نظم الفرس والروم فيدرك منها الصالح وغير الصالح،(146/19)
ويعدل في إدارتها وشؤونها الاجتماعية تعديلاً لا يستطيعه العالم الماهر الذي تنتجه، حتى حضارة اليوم. فهو يغير من نظام الضرائب، وتوزيع الأراضي، وتدوين الدواوين، ويستطيع وهو في مكة أن يرسم خطة السير لحكومة تسوس العراق ومدن الفرس، كما تسوس الشام ومدن الروم! إنها إحدى العجائب الكبرى أن يصل بدوي إلى ذلك، وعهدنا بالبدوي الهمجي يخرب ولا يعمر، وإذا غزا وانتصر فكل مطمعه في الغنيمة. فما بال عمر وأمثال عمر يدخل التحسينات على الحضارة، ويقترح فيما يزيد العمران، ويبث في الحضارة القديمة روح العدل والإحسان؟ لا شيء غير العقيدة الإسلامية محصت نفسه، وطهرت قلبه، وجعلت نظره ينفذ إلى بواطن الأمور، يعدل على الذين لا يرون إلا الظواهر، ولا يهمهم إلا بهرجة الدنيا، والزخرف الظاهري
فإن نحن عددنا العقيدة الإسلامية - بالشرح القليل الذي شرحنا - أثمن ما قدمه الإسلام إلى المدينة لم نكن مبالغين
هذه العقيدة لا تقر بعظمة إلا عظمة الله، ولا تقر بتقديس ملك ولا بامتياز لرجال دين، ولا تعترف بوساطة أحد بين الإنسان وربه، ولا بأي نوع من أنواع الأرستقراطية: لا أرستقراطية المال ولا أرستقراطية العلم ولا أرستقراطية رجال الدين. كل الناس سواء. الناس من تراب وإلى التراب يعودون. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وخير الناس أنفعهم للناس
(البقية في العدد القادم)
أحمد أمين(146/20)
منذ ألف عام
للأستاذ علي عبد الرازق
يوجد بين حياة الشرق في العصر الحاضر، وبين حياته منذ ألف عام مضت، نوع من التشابه يستوقف النظر. وقد يكون في دراسة هذا التشابه واستقصاء البحث فيه لذة ومتاع للنفس؛ وقد يكون فيه مع ذلك فائدة للعلم
وما ندعي أننا نستطيع الآن أن نستوفي جوانب هذا البحث أو نلم به إلمامة واسعة، وإنما نريد أن نفتح هذا الباب للباحثين لعلهم يجدون فيه خيرا كثيرا من أنواع المتاع وفنون العلم
وفي الحق أنه يوجد دائماً نوع من التشابه بين صور هذه الحياة الدنيا ماضيها وحاضرها وقديمها وحديثها؛ ومادام الناس هم الناس في جميع العصور، ومادامت كواكب السماء تروح وتغدو في دورة منتظمة لا تبديل فيها منذ وجدت كواكب السماء، ومادامت الأرض هي بعينها الأرض في الماضي والحاضر، فمن الطبيعي أن تتشابه إلى حدِ ما صور الحياة وأن يحاكي بعض الحوادث بعضا
والذي يقارن بين أي جزء من أجزاء التاريخ وبين أي جزء آخر منه لا يعجز عن أن يتبين بينهما مظاهر من التشابه والتماثل؛ ولكن التشابه الذي يجده الناظر بين حياتنا الحاضرة وبين الحياة من ألف عام ليس هو من هذا النوع الذي يلحظ بين جميع أجزاء الحياة وجميع مظاهرها. وليس هو من القلة بحيث لا يستلفت النظر ولا يثير رغبة البحث. فالتشابه هنا ظاهر وقوي يكاد يجعلهما صورة واحدة لعصر واحد
على أنه مع ظهوره وقوته لا يبلغ أن يكون دليلا على تماثل العصرين من جميع الوجوه، ولا على اتفاق العصرين في جميع الصفات والخصائص؛ وهو لذلك لا يبلغ أن يكون دليلاً قاطعاً على صحة ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن التاريخ يعود بنفسه
منذ عام توفي المرحوم أحمد شوقي أمير الشعراء؛ ومنذ ألف عام توفي أبو الطيب المتنبي؛ وبين الرجلين من التماثل ما يشبه أن يكون مثلاً صادقاً لرجعة التاريخ، فقد يمكن القول بأن متنبي القرن الرابع كان شوقي القرن الرابع عشر، وبأن شوقي القرن الرابع عشر كان هو متنبي القرن الرابع
دع عنك ديباجة الشعر وما بين الشاعرين في ذلك من توافق جد قريب؛ وانظر إلى ما(146/21)
أحاط بالرجلين من ظروف وملابسات؛ فقد كان عصر المتنبي عصراً داوياً بالشعر زاهياً بالكثير من الشعراء، ولكن شعر المتنبي قد غطى على أكثر تلك الأصوات الداوية؛ وقد غمر اسم المتنبي أكثر تلك الأسماء فكان كما قال عن نفسه:
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
وكذلك كان شوقي في عصر يهوى بالشعر ويزخر بالشعراء ففلج عليهم شوقي باسمه وبشعره، وجاءه الشعراء من كل صوب يبايعونه بأمارة الشعر
وقد كان المتنبي شاعراً مداحاً وكذلك كان شوقي؛ والمتنبي كان ينتقل بمدائحه من جناب إلى جناب، ومن بلد إلى بلد، وكذلك فعل شوقي
ولقد أخلص المتنبي في مديح سيف الدولة فأفاض عليه من مدائحه الخالدة خلوداً لا يبلى؛ وما كان سيف الدولة لولا المتنبي إلا ملكا كسائر الملوك
وكذلك أخلص شوقي في مديح سمو الخديو عباس الثاني، فأفاض عليه من مدائحه الخالدة خلوداً لا يبلى، وسجل اسمه مشرقاً وضاء في سماء المجد حيث لا يلمع كثير من الأسماء الطنانة
أننا لنأسف إذ لا نجد بين أيدينا صورة مفصلة لجوانب الحياة الاجتماعية في مصر منذ ألف عام لنستطيع أن نقارن بينها وبين جوانب حياتنا الاجتماعية الحاضرة لنستخلص ما يكون بين الحياتين من تماثل قريب أو بعيد
على أن ذلك لا يمنعنا من أن ندرك ما بين الحياتين إجمالاً من تشابه قوي إلى حد بعيد يثير العجب؛ فلقد ترك المتنبي وصفا واضحا وأن كان مجملاً للحياة في مصر أيام عرفها المتنبي واتصل فيها بمعية كافور الأخشيدي. ولعمري لا يزال أكثر ما قاله المتنبي في ذلك أو كله ينطبق على حياتنا الحاضرة ويصفها وصفا صادقاً:
نامت نواظير مصر عن ثعالبها ... فقد يشمن وما تفنى العناقيد
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
أنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه ... أني بما أنا شاك منه محسود
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام(146/22)
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
الخ الخ
منذ ألف عام كانت الخلافة الإسلامية في بني العباس تشارف النهاية وتلفظ الأنفاس الأخيرة من حياتها
وكان العالم الإسلامي في جملته يضطرم ثورة، ويتأجج بالمنازعات السياسية ناراً
على أن ذلك الاضطراب السياسي لم يمنع من سير الحياة الاجتماعية والعلمية في بلاد العالم الإسلامي سيراً مطرداً إلى الأمام
وعصرنا الحاضر يشهد تلك المشاهد نفسها أو قريبا منها، كما شهدها أجدادنا منذ ألف عام
ألا ليت شعري هل صحيح أن للتاريخ رجعة؟ وإذا كان ذلك حقاً فهل يرجع التاريخ كل ألف عام؟
علي عبد الرازق(146/23)
مصرع الحسين
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان لنا، قبل الحرب، صديق معمر، من بني الفرس - أو من أجدادهم الأولين على الأصح - فقد كان عمره فوق المائة، وكنا نحاسبه فيكون تارة مائة وعشرين، وأخرى مائة وبضع سنوات، فأضحك وأقول: (يجب أن نقيد هذه الأرقام الرواغة). وأتناول القلم، وأقيم سنه على الورقة، وأنظر إليه. وأقول: (تفضل! قبل أن يغرق الطوفان الأرض كنت سعادتك سفيرا لدولتك عند بروسيا، ولما صعق موسى عند دك الجبل، كنت. . . .) فيتكلف الغضب، وينهرنا عن هذا العبث ويقول: (اختش يا ولد!)
وكان على عظم ارتفاع سنه قوي البنية، متين الأسر، وكنا نسأله عن سر ذلك، فيقول إنه لم يتزوج قط، فأضحك وأقول: (هات سبباً آخر، فإن هذا معلوم، مفهوم بالبداهة!) فيرفع عصاه الغليظة، ويلوح بها كأنما يهم بضربي، فينقلب ضحكنا قهقهة عالية مجلجلة، ويسره سرورنا فيفيء إلى الرضى
ويقول لنا أحياناً: (تعالوا نتمشى)، فنسأله: (أين؟ وإلى أين؟)، فيقول: (في طريق الجيزة)، وكان بيته في (باب الخلق)، فنخرج معه، إلى الزمالك ويقف بنا على جسره هنيهة، يحدثنا ويروي لنا أخبار القرون الأولى، أو يرتجل شعراً فكاهياً نجيزه، أو نشطر قصيدة لواحد من شعارير ذلك الزمان تشيطراً يخرج بها إلى الهزل الصريح والمجانة الشديدة، وأذكر من مطالع قصائده المرتجلة:
(قفي حدثيني عند كوبري الزمالك ... وروي غليل القلب يا أم مالك)
ثم نستأنف السير بعد أن نميل إلى طريق الجيزة، حتى نفتر ونكل، وتخذلنا أرجلنا، وهو لا يزال كما بدأ، فيسخر منا، ويوسعنا تقريعاً وتعييراً، فلا نبالي، ونقعد على الأرض من شدة التعب. ويتفق أن تمر بنا سيارة، تخطف، فيشير إليها ويقول مازحا: (خذونا، أخذكم الله!)
ولم يكن هزالا، وإنما كان يوسع لنا صدره، ويتقبلنا على علاتنا، ويأنس بنا كأنسنا به، وكانت الدنيا كلها أصدقاء له، ولكنا نحن كنا نلازمه بعد أن نفرغ من أعمالنا، وكان بيته نادينا، وفيه تعقد حلقتنا الأدبية الخاصة، وما أكثر ما كنا نقول له: (نريد أن نأكل أرزاً فارسياً) فيمضي بنا إلى المطبخ لنساعده، فهذا يقشر بصلا، وذاك يغسل آنية، وثالث يضرم(146/24)
النار وهكذا، حتى يطبخ الأرز ويغرف في الصحون، ثم نحف به - أعني الأرز - ونقبل عليه فنلتهمه
وكان لنا خيراً من الأب، وأخلص من الصديق وأوفى، وكان ربما رأى أحدنا ساهما أو واجماً، فيسأله عن سبب ما يبدو عليه، فيفتح له صدره، ويبثه ما فيه، ويقول له بشجوه، حباً كان ذلك أو هما، أو غير ذلك؛ فيشير عليه بالرأي الناضج، ويخلص له النصح، ويقوي ضعفه ويشجعه، ولا يزال به حتى تعود إليه البشاشة
وقال لنا يوماً: (خذوا) وناولنا بطاقات فيها دعوة إلى ما كان يسمى (زفة الحسين)، وما هي بزفة، وإنما هي مأتم، ولكنها هكذا كانت تدعى على ألسنة العامة، فذهبنا في الموعد المضروب إلى بيت رحيب في زقاق ضيقن فوجدنا هناك كثيرين من رجال مصر المعروفين، أجلسنا معهم، ثم دعينا إلى مائدة مثقلة بألوان الآكال الشهية، وكان الأستاذ البرقوقي إلى جانبي، فظمئ على الطعام، وأسر إلي بذلك - لا أدري لماذا - فأومأت إلى الخادم، فناوله كوباً رفعه إلى فمه، وما كاد يفعل حتى رده عنه، وقال: (بفففف!)، ذلك أنه كان سكراً مذاباً لا ماء، فعجبنا واتقينا أن نشرب
وانحدرنا إلى صحن الدار، وكان فيها منبر، ارتقى إليه شيخ فارسي، وانطلق يقول كلاماً لم نفهمه، ولكن صوته كان يتهدج وكانت الدموع تتسايل على خديه، وتبل لحيته الكثة، وقيل لنا إنه يرثي الحسين ويندب مصرعه، وكان الذين يفهمون كلامه من بني جنسه يبكون، بل ويعولون، ومنهم من كانت تهيج حرقاته فيلطم، أو يضرب صدره أو ظهره العاري بسلسلة غليظة من الحديد، أو يضرب جبينه ببطن سيف مسلول، أو بكله - أي قفاه الذي ليس بحاد - ولكن أحدهم اضطرب وهو يفعل ذلك فأصاب حد السيف جبينه فانفجر الدم كأنه من نافورة، وقد خفوا إليه، وضمدوا جرحه، وعصبوا له رأسه؛ وهال أحدنا منظر الدم، وظن أن الرجل لا محالة هالك، فأغمي عليه، وسقط على الأرض كما تسقط الخشبة، فأنشقوه شيئاً في زجاجة أنعشه ورد إليه روحه
ولا أحتاج أن أقول شيئاً في وصف الموكب الذي يخرجون به ويطوفون بالشوارع وهم يدقون صدورهم العارية أو يضربونها بالسلاسل، أو يخبطون وجوههم أو عواتقهم ببطون السيوف، فإن ذلك كله معروف مألوف، وإن كان قد انقطع، والأكثر من الناس قد رآه في(146/25)
زمانه، ولكني أقول إني بعد بضعة أيام من شهود هذه (الزفة) وقعت على مقال في مجلة إنجليزية لكاتب إنجليزي أو ألماني - لا أذكر، فإن العهد بها بعيد، وقد فقدتها على الرغم من حرصي علبيها وتحفظي بها - وفي هذا المقال يذهب الكاتب - والأرجح أنه ألماني - إلى أن الحسين بن علي رضي الله عنهما، تعمد أن يضحي بنفسه؛ وأذكر أنه قال إن الحسين لم يكن أبله، فقد حاول أمراً عرف مبلغ استحالته، ومع ذلك أصر على الزحف، وليس معه إلا النساء والأطفال وحفنة صغيرة من الرجال، مضى بهم وبنفسه معهم إلى بوار محقق
وقد دارت في نفسي هذه المقالة، فذهبت بها إلى صديقنا الفارسي، فقد كان عالما واسع الاطلاع، غزيرة المعرفة، وترجمتها له، وسألته عن رأيه فيها، فلم يتردد في الموافقة عليها. وقد فكرت بعد ذلك في أمر الحسين وفي مغامرته العجيبة، فلم يزدني ذلك إلا اقتناعاً برأي هذا المستشرق الألماني، وبغير ذلك لا أدري كيف يستطيع المرء أن يفسر إقدامه على طلب الخلافة وسعيه لانتزاعها من بني أمية، فقد عرض نفسه على كثير من القبائل فما وجد منها إلا إعراضاً وانصرافاً. أو على الأقل فتور شديدا عن نصرته، ومن حقه أن يثبط، وليس من شأنه أن يشجع؛ ولم يكن حوله من الرجال من يطمع أن يديل بهم من بني أمية، وحمل معه النساء حتى لكن أكثر من الرجال، ولم تصده عن السير خيبة مساعيه عند القبائل، ووضوح خذلانها له؛ والتقى برجال بني أمية فعرضوا عليه ما لا يمكن أن يحلم بالفوز به بمجهوده، فأباه وأصر على المغامرة، فوقعت الواقعة، وكانت هذه المجزرة الخالدة التي لا يزال أثرها باقياً إلى اليوم
ولم يكن الحسين مجنوناً، ولا طياشاً، ولا عرف عنه ما يحمل على سوء الظن بعقله ونظره، فكيف هم بأمر كان من استحالته على يقين جازم؟؟ وهبه كان مخدوعا في أول الأمر فقد رأىّ من الإعراض عنه والخذلان له، والزهد في الانتفاض على بني أمية، والخوف من بطشهم وانتقامهم، ما يدفع إلى اليأس ويغري بالقعود؛ ولا يمكن أن يقال إنه كان يرجو فلاحا، فما كان معه في زحفه إلا النساء وإلا عشرات لا تغني، ولا يعقل أن تصبر على قتال دولة ذات بأس وصولة، وما رأى أحدا استجاب لدعوته، أو أبدى استعدادا للحاق به، حتى يقال إنه كان ينتظر نجدة ومددا، وهؤلاء النسوة من آل بيته لم أصر على(146/26)
حملهن معه وزحفه بهن، وقد كان خليقاً بعد أن رأى كيف خذلته القبائل أن يشفق عليهن ويردهن ليقيهن أن يصرن إلى ما هو صائر إليه لا محالة، ألا يعذر من يذهب إلى أن استصحابه لهن إلى المذبحة، إنما كان مقصودا به أن يحف المصرع الذي مضى إليه عامدا بكل عوامل الاستفزاز وعناصر الإيلام المثير؟؟ لقد ألقى بهن معه على القتل أو الإذلال والتحقير والهوان، وهن آل بيت الرسول صاحب هذا الدين، فلولا أنه تعمد أن يضحي بهن معه ليقيم القيامة على بني أمية، لكان أيسر التفكير كافياً لحمله على إقصائهن عما سعى إليه ووطن نفسه عليه، ولكنه نظر فرأى أن استرداد الدولة من بني أمية مطلب لا سبيل إليه ولا مطمع فيه، فيئس من إمكان ذلك بالوسائل المألوفة، فقال أنسف الدولة الأموية من قواعدها، وأكون أنا اللغم الذي ينفجر تحتها، فيزلزلها ويدك بنيانها، ويطير أنقاضها، ويجعل عاليها سافلها؛ ولابد لذلك من أن تكون التضحية تامة، وعلى أبشع صورة من الصور، وأرغم بني أمية على أن يقتلوني أقبح القتل، وأن يمثلوا وينكلوا بي وبأهلي أشنع التمثيل والتنكيل؛ فيستفظع المسلمون منهم ذلك - على قرب العهد بالرسول - وتضطرم نفوسهم بالموجدة والنقمة عليهم، وينقلب العالم الإسلامي بركاناً يظل يفور ويغلي في جوفه الحقد والبغض، ثم ينفجر، فلا يبق ولا يذر؛ وإني لميت ميت، طال الأجل أم قصر، ولخير من أن أموت حتف أنفي، أن أجعل ميتتي تكلف بني أمية ملكهم كله ودولتهم أجمعها؛ ولقد خرج الأمر من أيدينا وصرنا رعية لبني أمية، فإذا رضينا وقنعنا من الحياة بالطعام والشراب، وقعدنا ننتظر الأجل في أوانه، ثبتت الدولة ورسخت قواعدها. وإني لأعلم أنه ليس لي حول ولا قوة، ولكن في وسعي أن أملأ نفوس المسلمين قيحاً وصديدا من كره بني أمية، إذا بذلت دمي، وما دمي؟ وهو سيجمد في عروقي يوما ما، فأولى أن يخضب الأرض فلا تلبث أن تنقلب جحيما عليهم؛ وما خير أن أكون سبط الرسول إذا أنا لم أرج الدنيا بذلك؟ وإن الأمر لراجع إلينا لا محالة إذا أنا جعلت من نفسي ومن أهلي ضحايا لبني أمية، ويجب أن يكون قتلنا استشهادا مروعا لتكون الدية هذه الدولة كلها
لهذا أصر على المغامرة، وهو على يقين من نهايتها، وأعرض عن ذكر العواقب التي كان يعرفها معرفتها، ولم يكترث بخذلان من دعاهم إلى نصرته، بل اغتبط بذلك، وحمل أهل بيته معه. ليحيق بهن كل مكروه من الأذى والهوان، وليكون ما يصيبهن أبلغ في إشعار(146/27)
العرب هول الفجيعة، وأبى أن يجعل أذنه إلى الذين أشفقوا عليه أو سعوا عنده ليترضوه ويحملوه على العدول، أو وعدوه ما شاء غير الخلافة؛ ولم يكن يخفى عليه أنه يعاند ويكابر ويتحدى الأقدار، ولكنه كان يدرك أن هول المصرع الذي يسير إليه مصمما عليه سيطوي كل ذكر لما عداه، فلا يبقي إلا أن بني أمية قتلوا سبط الرسول وآله، ومثلوا بهم أقبح التمثيل. وكان يعرف أن بني أمية لابد أن يعدلوا عن محاسنته إلى المخاشنة لشدة ما يرون من عناده وصلابته، إذ كان لا يسعهم أن يتركوه يحرض الناس على الخروج عليهم، بلا كابح، وقد عرضوا عليه كل ما دون الخلافة فازدراه، فلم يبق مفر من رده بالقوة، كما شاء هو؛ وكان هو يعول في سياسته هذه على إحراجهم وإكراههم على البطش به، ويعتمد على ما تدفعهم إليه لجاجته في استفزازه لهم، فتطيش حلومهم، فتكون الطامة عليهم بعد أن تدور الدائرة عليه. وقد جرى كل شيء على ما قدر ورسم، وحدث ما كان ينشد، فأسرف الأمويون في القتل والتمثيل والتنكيل، كما كان يتوقع، وصدقت فراسته القوية في رجال الدولة على عهده، ولم يخب له ظن أو رأي فيهم، فريعت الدنيا، وهالها الأمر على ما كان قدر، وصارت كل قطرة من دمه، وحرف من اسمه، وهاتف من ذكراه، لغما في أساس الدولة الأموية
وقد ذهبت الدولة الأموية في سبيل من غبر، وجاءت بعدها دول أخرى لحقت بها، ومضى أربع وخمسون وثلثمائة وألف سنة، ولا تزال لذكرى مصرع الحسين هزتها الأولى في كثير من البلاد الإسلامية؛ ومأتمه يقام كل عام في كربلاء كأنما هو لم يقتل إلا الساعة؛ ويموت الشيعي في بغداد أو سواها فيحمل منها إلى النجف ليدفن هناك. وأحب آل البيت إلى النفوس وأعزهم عليها هو الحسين، ولا تزال العيون تغرورق بالدمع، والقلوب تخفق، والصدور تعلو وتهبط لحكاية هذا المصرع. فمن كان يصدق أن الحسين فعلها عن طيش أو سوء تقدير، أو تورط، فإني لا أصدق إلا أنه أقدم عليها متعمدا لها. ولو أن ميتاً استطاع أن يضحك ساخراً لضحك الحسين ورأسه بين أيدي قتلته البلهاء
ولست أعرف ميتة أخرى أبلغ أثراً في حياة الناس، ومستقبل الدول والأمم، ولا أطول منها - مع عمق الأثر - عمر ذكرى
إبراهيم عبد القادر المازني(146/28)
صور من التاريخ الإسلامي
أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
للأستاذ عبد الحميد العبادي
كم يود صاحب هذا المقال لو كان شاعرا وثاب الخيال، مطلق العاطفة، جزل الألفاظ، سري المعاني! إذاً لاستطاع أن يصوغ للقراء من سيرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قصيدة عصماء يضمنها مناقب تلك السيدة الجليلة، وما مناقبها إلا مناقب المرأة الكاملة من جمال، وطهر، وعفاف، وزوجية بارة، وأمومة صحيحة، ومواساة في أشرف معانيها
ولكن صاحب هذا المقال، وا أسفاه! ليس شيئاً من ذلك الشاعر الذي يتمنى أن يكونه. إن هو إلا مؤرخ يعرض لوقائع الحياة العامة من ناحيتها الوضيعة جهد طاقته، ويشد خياله الراكد إلى تلك الواقع، فلا يأذن له ولا بمحاولة التطاير والتحليق، ويكتم عاطفته حتى لا يطغي عليه سلطانها فيتنكب سبيل المؤرخ الذي همه البحث والتحقيق، ثم العرض البسيط للأشياء؛ فليقنع القارئ الكريم بالصورة المجملة التي أرسمها في هذا المقال، حتى يتأذن الله بظهور شاعر عظيم ينظم الإلياذة العربية، فيطالع فيها إذ ذاك فصلا عن تلك السيدة يكون من أبلغ ما خطه يراع شاعر وأروعه
كانت جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي قد أخذت تتهيأ للأحداث الجسام التي تمخض عنها القرن السابع، وقد بدا ذلك التهيؤ في جميع مناحي الحياة العربية العامة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية. ونحن إنما تهمنا في هذا المقام الناحية الاجتماعية، ويهمنا منها بصفة خاصة نظام الأسرة. كان نظام الأسرة قد أخذ يتحول في حواضر الحجاز عامة ومكة خاصة إلى النحو الذي أقره في جملته الإسلام فيما بعد، فأخذت تتلاشى ضروب الازدواج القديمة التي اعتبرها الإسلام سفاحا، ويحل محلها نظام الزواج القائم على التراضي والتعاقد. وصاحب هذا التطور الخطير في بناء الأسرة تطور خطير مثله في مكانة المرأة الاجتماعية؛ فبعد أن كانت المرأة العربية ليس لها حق التمسك ولا حق الإرث، بل بعد أن كانت هي نفسها تملك وتورث في بعض الحالات، أصبحت تستمتع بحق الملكية وحق الميراث وحق التصرف في مالها، وحق مفارقة الزوج عند اللزوم، هذه الحرية المستحدثة جعلت المرأة العربية عاملا فعالا في الحياة المكية العامة قبيل الإسلام(146/30)
وفي عصر النبوة
ولدت خديجة بمكة حوالي منتصف القرن السادس المذكور، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان خويلد ممن قاد قريشا في حرب الفجار، ثم هي ابنة فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي، ولا نعرف عن فاطمة شيئا، غير أن الذهبي يقول في جدها عمرو بن خنثر المزني أنه كان من أبطال الجاهلية. فنسب خديجة خديجة لأبيها وأمها يدل على أنها تنتمي إلى بيت من أعز بيوت قريش هو بيت عبد العزى ابن قصي، وإلى قبيلة من أعز قبائل مضر هي عامر بن لؤي؛ واكتنف عمود هذا النسب الجليل فروع وحواش زاهية زاهرة، نعد منها عم خديجة عمرو بن أسد وكان سيدا من سادات قريش، وأبناء عمومتها حكيم بن حزام، وورقة بن نوفل وأخته قتيلة بنت نوفل، فأما حكيم فكان صاحب مروءة وعاطفة طيبة تتجلى في صنيعه لبني هاشم والمطلب عندما حصرتهم قريش في الشعب، وأما ورقة بن نوفل فكان معدودا في تلك العصبة المستنيرة التي يعرف آحادها باسم (المتحنفين) قد ترك الوثنية، وتنصر وقرأ التوراة والإنجيل، وكتب العبرانية، وشاركته أخته قتيلة في ميوله الأدبية والدينية، فكانت (ممن ينظر في الكتب) على حد تعبير القدماء؛ ومن هذه الفروع أخو خديجة العوام بن خويلد، وكان من رجالات قريش، وهو والد الزبير بن العوام حواري رسول الله
فخديجة من أوسط قريش نسباً، كما يقول مؤرخو العرب، وإذا جاز للمؤرخ أن يلحظ عمل الوراثة في هذا المقام، فإنا نقول أنها ورثت عن أبويها مزايا السؤدد العربي، من نبل وكرم خلق ووفاء وشجاعة؛ كما لقفت من عمومتها تلك الاستنارة العقلية، وذلك السمو الروحاني الذي أعدها لتقدير الدعوة الإسلامية وقبولها عن طيب نفس وطواعية خاطر
تزوجت خديجة مرتين في مقتبل حياتها وقبل تزوجها من محمد بن عبد الله. تزوجت للمرة الأولى من عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم، ثم مات عنها عتيق فتزوجت بعده أبا هالة هند بن زرارة التميمي. ثم توفى أبو هالة فغدت أيما. وقد ورثت على ما يظهر عن أبويها وزوجيها ميراثاً قيما رأت أن تقوم على استغلاله في التجارة التي كانت مرتزق قريش في ذلك الزمان. فكانت كما يحدثنا الرواة تستأجر الرجال في الاتجار بمالها لقاء نصيب تسهمه لهم من الربح(146/31)
لكن خديجة الحسيبة النسيبة، الثرية الوسيمة، لم تزل بعد نصفاً في النساء، عوانا بين الشباب والكهولة، قد شارفت الأربعين ولما تعدها، وهي سن لها عند بعض النساء جمال وروعة، وملاحة وأخذة، وكان غير واحد من كبار قريش حريصاً على خطبتها، ولكن خديجة كانت تتأبى على الخطاب، لا رغبة منها في العزوبة، فهي أعمر قلباً وأنظر شباباً من أن ترغب فيها، ولكن لأن الأيدي التي كانت تمتد لخطبتها ليست من الطراز الذي يعجبها. لقد نضج عقلها، وكبر قلبها، وأصبح كل منهما ينشد الكفء والمثيل، ومن لها بالعقل الراجح، والقلب الكبير في مجتمع خشن، كثيف، غليظ؟ أصبحت لا يروقها ذلك السؤدد العربي الجاهلي بما ينطوي عليه في واقع الأمر من بداوة وأعرابية، لا يمكن أن تفيء منهما إلى ظل ظليل
وبينا خديجة تروض النفس على احتمال الحياة الجديدة إذا بقلبها قد أخذت تنطبع عليه شيئاً فشيئاً صورة نجم شارق في أفق المجتمع المكي، ويوشك أن يتكشف عن كوكب وقاد يملأ الكون نوراً هادياً. وحرارة تبعث فيه الحياة قوية بعد أن لم يبق منها إلا الذماء ولقد كانت تلك الصورة منتزعة من الحقيقة لا من الوهم ولا الخيال. أنها كانت صورة فتى لا يزال مغمورا، ولكن كل مخايله كانت تؤذن في نظر خديجة بأنه سوف يأخذ بزمام العالم ويوجهه وجهة جديدة. ذلك الفتى محمد بن عبد الله
كان محمد إذ ذاك شاباً قد ناهز الخامسة والعشرين من عمره، سوي الخلقة، مشرق الطلعة، نبيل المظهر، كريم المخبر، وكان يحيا حياة لعله لم يكن يحياها بمكة أحد غيره. كان زاهداً في الناس، عزوفاً عنهم، إلا ما اقتضته ضرورة المعايشة والمساكنة، نزوعاً إلى التفكير، محباً للعزلة، قادعاً للشهوة رداعاً للنفس، فأوشك بذلك أن يستغني بنفسه عن غيره. وغدا أنسه في وحشته وانبساطه في انقباضه، وغناه في إقلاله. قد حد ما بينه وبين الناس بحد واضح المعالم. ثم لم يأذن لعلاقته بهم أن تتجاوز هذا الحد فتنغص عليه نعمة بالهن وتفسد عليه هدوء سر به
لقد كان قلب خديجة يخفق خفقاناً شديداً ما كانت تلمح هذا الفتى العجيب، يروح لطيته ويغدو في طرق مكة وأسواقها وأنديتها، وأدركت من فورها أنه حاجة قلبها ومهوى فؤادها. ولكن كيف تفضي إليه بدخيلة نفسها، وتبثه لاعج حبها؟ إن الحسب، والنسب، والخفر(146/32)
والحياء، كل ذلك كان يمنعها أن تكون هي التي تخطو في الأمر الخطوة الأولى وتقول فيه الكلمة الأولى. لقد كان الموقف دقيقا كل الدقة، حرجا كل الحرج. فلتسر في الأمر بحذر واحتياط محافظة على نسبها وحسبها، وتوفيرا لخفرها وقنية لحيائها
إنها كانت تستأجر الرجال في الاتجار لها بمالها وتساهمهم بنصيب مسمى من الربح، فلم لا تستأجر محمداً وتضاعف له الجعل الذي كانت تجعله لغيره؟ وأنشأت من فورها تجيب عن هذا السؤال؛ فوسطت إلى محمد من عرض عليه رغباتها. فقبل محمد ما عرض عليه، وسافر إلى الشام في صيف عام 594 متجراً في مال السيدة، وسافر معه ميسرة غلام خديجة ليرقبه عن كثب وينهي إلى السيدة عند عودته جملة حاله في السفر، فتلم بجملة حاله في السفر والحضر. وباع محمد، واشترى، ولقي الرهبان ببادية الشام، وتحدث إليهم، وتحدثوا إليه، ثم عاد وقد ربحت التجارة ربحاً وفيراً، وقص ميسرة على السيدة ما رأى من محمد في السفر من رقة الشمائل، وسهولة الخلق، وصدق المعاملة؛ فعلمت السيدة عند ذلك أن قلبها لم يكذبها؛ فقطعت تردد؛ وأجمعت أن تخطو هي الخطوة الأولى وتقول هي الكلمة الأولى. وكانت لها صديقة تثق بها اسمها نفيسة بنت منبه، فدستها إلى محمد لتلوح له بالأمر وتعلم رأيه فيه:
نفيسة - يا محمد! ما يمنعك أن تزوج؟
محمد - ما بيدي ما أتزوج به!
نفيسة - فإن كفيت ودعيت إلى الجمال، والمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟
محمد - فمن هي؟
نفيسة - خديجة!
محمد - وكيف لي بذلك؟
نفيسة - علي!
محمد - فأنا أفعل!
لاشك أن محمداً لم يقل مقالته الأخيرة إلا بعد أن أصبح يشعر نحو السيدة خديجة بمثل شعورها نحوه، وبعد أن أصبح يبادلها عطفا بعطف، وتقديراً بتقدير. نعم أنها أسن منه، ولكن ذلك ليس شيئاً بالقياس إلى محاسنها وفضائلها الكثيرة التي جعلته يرى فيها رغيبة(146/33)
نفسه وطلبة قلبه، وعرض محمد الأمر على عمومته كما عرضته خديجة عمها، فكل وافق، وبنى محمد بها بعد أن أصدقها عشرين بكرة كما يروون
كان هذا الزواج لمحمد وخديجة فاتحة حياة زوجية هادئة وادعة هنيئة، كأهدأ ما تكون حياة زوجية وأروعها وأهنئها ولم لا تكون كذلك؟ وكانت تقوم على الكثير المتبادل من الحب والإخلاص والتقدير. كانت خديجة تقدر في محمد كرم الخلق ورقة القلب، وروحانية النفس، وكان هو يقدر فيها رجاحة العقل وكثرة العطف عليه، والإعجاب به، والتوفير لأسباب راحته في منزله، ومطابقته فيما يحب وما لا يحب، ولا تنس أن محمداً لم يكن كسائر الرجال يعيش كيفما اتفق، فهو رجل كثير العناية بأمر نفسه، ليس كل الطعام يطعم، ولا كل الشراب يشرب، ولا كل الملبس يلبس، ولا بكل الزينة يزدان، ثم هو ميال بطبعه إلى العزلة، مؤثر للصمت، مطيل للفكر، فعلى جليسه وعشيره أن يعرف فيه كل ذلك ويرعاه له، وقد عرفت خديجة ذلك ورعته له أتم رعاية؛ فلاشك أنها كانت تعد له ما يستطيبه من الدباء والعسل، والتمر المنقوع في اللبن أو المخلوط بالقثاء أحياناً، ولاشك أنها كانت تقل في طعامه من البصل والثوم اللذين كانت تعاف كثرتهما نفسه، كما كانت تعنى بنظافة ثيابه وأدوات طيبه وأدهانه، فقد كان محمد يحب أن يبرز للناس عطر الجسم، نظيف الملبس، ولاشك أنها كانت توفر له الهدوء في المنزل، وإذا جنح إلى الخلوة أو التحنث في الغار لم تقطع عليه سكونه؛ بل أعانته على ذلك بإعداد الزاد الذي يحتاج إليه، فإذا طالت غيبته افتقدته في غير إزعاج له، ولا تكدير لصفو نفسه
وكما كانت خديجة مثال الزوجة الحفية بزوجها، فإنها كانت مثال الأم المعنية بأولادها. لقد رزق محمد منها كل أولاده غير إبراهيم. رزق منها القاسم وبه كان يكنى، ثم ولدت له زينب ورقية، وفاطمة وأم كلثوم، وكل هؤلاء ولدوا قبل النبوة، ثم ولد له في الإسلام عبد الله الذي عرف بالطيب والطاهر، وقد مات الغلامان صغيرين، أما البنات فكلهن أدركن الأسلم وتزوجن وهاجرن، وقد انضم إلى هؤلاء علي بن أبي طالب، ضمه النبي إلى أولاده تخفيفاً عن عمه أبي طالب الذي كان فقيراً كثير العيال، وليس بأيدينا مع الأسف نصوص نعرف منها كيف كانت خديجة تعول أولادها وتنشئهم؛ غير أن ما ورد من الأخبار على قلته لا يخلو من الفائدة فيما نحن بصدده. روى ابن سعد عن الواقدي قال: (وكانت سلمى(146/34)
مولاة صفية بنت عبد المطلب تقبل خديجة في ولادها، وكانت تعق عن كل غلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادها)، وكما كانت خديجة تعنى بولادة أولادها، ورضاعتهم، وتنشئتهم، فقد كانت تتخير الأزواج لبناتها، فهي التي أشارت على النبي بأن يزوج أبو العاص بن الربيع من بنتها زينب؛ فلما زفت إليه أهدتها خديجة قلادة كان لها شأن بعد سيرد ذكره. ثم إن كل من أصهر إلى محمد سعد بزواجه، فأبو العاص بن الربيع أبى أن يفارق زينب عندما أرادت قريش حمله على طلاقها نكاية في محمد مع أن سعداً لم يكن قد أسلم بعد، وقد تزوج عثمان بن عفان رقية، فلما توفيت ورآه النبي حزيناً مهموماً لهفان زوجه أختها أم كلثوم، وكانت فاطمة عند زوجها علي بن أبي طالب بالمحل الرفيع، والمكان الممتاز
لكن فضل خديجة الأكبر، وفخرها الخالد خلود الزمن؛ إنما هو في موقفها من زوجها عندما نبئ، ومن الدعوة الإسلامية التي أخذ يدعو إليها، بعد خمس عشرة سنة من زواجه منها
لقد أصبح محمد بعد تزوجه من خديجة هادئ السرب، ناعم البال، وأصبح له منزل وأهل يسكن إليهما فانصرف إلى ما كانت تصبو إليه نفسه من الخلوة وإطالة الفكر، فكانت خديجة تعينه على ذلك دون أن ترى في مسلكه بأساً. فلما فجئ الوحي محمداً، وأصابه أول الأمر من الذهول والحيرة، ورجع إلى منزله رعباً حائراً وقال لها: (لقد خشيت أن يكون بي جنن!) لم يكن منها إلا أن تثبت فؤاده، وسكنت خاطره بمقالتها المشهورة (والله لا يخزيك الله أبداً، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. الخ) ثم إنها انطلقت من فورها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وقصت عليه خبر زوجها، فبشرها ورقة بأن الذي رآه محمد إنما هو الناموس الأكبر الذي نزل على عيسى وموسى، وقد أثلجت تلك المقالة فؤادها وغدت من ذلك الوقت مؤمنة بدعوة زوجها، فكان بذلك أول من صدقه وآمن به، روى الطبري بإسناده إلى عفيف الكندي أنه قال: (كنت امرأ تاجراً، فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلي؛ فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ قال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن(146/35)
عمه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ، فكنت أكون ثالثاً.)
ولم يزداد إيمان خديجة مع الزمن إلا رسوخاً، ولا يقينها إلا قوة، ولا تعلقها بزوجها إلا شدة، فكانت في السنوات العشر الأولى للبعثة، وهي السنوات التي توالت فيها الأرزاء والمحن على محمد وأصحابه، واضطهدت فيها الدعوة أيما اضطهاد، كانت خديجة في تلك السنوات إلى جانب زوجها تريش بتأييدها جناحه، وتأسو بعطفها جراحه، روى ابن الأثير بإسناده فقال: (وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس)
ولم تتردد خديجة عندما جد الجد، أن تشرك زوجها في محنته، وتقاسمه مر العيش كما قاسمته حلوه، وتعمل لنصرة دعوته، صابرة محتسبة. فعندما اشتدت قريش على بني هاشم والمطلب وحصرتهم في الشعب ومنعتهم حتى الماء والزاد، كانت خديجة في الشعب تقاسي ما يقاسيه زوجها وأقرباؤه على كبر سنها واضمحلال بنيتها. فلما فاءت قريش إلى صوابها وخلت سبيل أولئك المجاهدين المجهودين، كان طول الحصار قد أضر بخديجة واخترم المرض جثمانها فلم تعش إلا قليلاً، وقضت لعشر خلون من رمضان من العام العاشر للبعثة، بالغة من العمر خمسة وستين عاماً، وقد دفنها الرسول بالحجون، وسوى عليها التراب بعد أن نزل قبرها وألقى عليها النظرة الأخيرة
وقضى الله أن يفقد الرسول بعد خديجة وفي نفس العام عمه أبا طالب، وهو الذي كان ينافح دونه ويتولى حمايته من عدوان أعدائه. فاجتمع على محمد في وقت واحد خطبان فادحان، ورزآن بالغان، ولكن لاشك في أن داخل رزئيه كان الأفدح، وباطن جرحيه كان الأدمى؛ لقد تهدم صرح سعادته المنزلية، وغدت الحياة مشغلة له في الداخل والخارج، على كثرة ما أعطاه الله في الداخل والخارج
كان محمد أكبر من أن ينسى لمحسن إحسانه، وأكرم من ألا يفي لحبيب صدقه الحب، وأصفاه الود ولو باعدت بينه وبينه أطباق الثرى، وكذلك كان شأنه مع خديجة بنت خويلد، لقد وفى لها في حالي الحياة والموت، أحبها ولم يتزوج عليها في حياتها، فلما لحقت بربها لم تبرح صورتها خاطره، ولا فارق تذكرها لسانه، وهم يروون في ثنائه عليها ودوام تذكره(146/36)
لها أخباراً كثيرة. يرون أنه فضلها هي ومريم بنت عمران على نساء العالمين، وأنه بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، وأنه عندما أرسلت إليه أبنته زينب بقلادة قلدته إياها خديجة، لتفتدي بها زوجها أبو العاص بن الربيع وكان قد أسر ببدر، رق النبي لذلك رقة شديدة، وطلب إلى أصحابه أن يطلقوا لزينب أسيرها ومالها ففعلوا، وأنه كان إذا ذبح شاة تتبع صديقات خديجة يهدي إليهن منها، وأنه كان لا يكاد يخرج من منزله حتى يذكر خديجة ويثني عليها، والحق أن دوام تذكره لها هاج غيرة عائشة وهي بعد آثر نساءه لديه، وأجملهن، وأصغرهن سناً. روى ابن الأثير بإسناده إلى عائشة أنها قالت: (كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها. فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)
تلك بالاختصار سيرة أول امرأة مسلمة، وخير امرأة مسلمة يعرف فيها القارئ المثل الأعلى للمرأة زوجة، وأما، وعونا على جلائل الأمور في غير خروج على طبيعة الجنس ومواضعات الناس منذ صار الإنسان إنسانا.
عبد الحميد العبادي(146/37)
عقبة على شاطئ المحيط
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
من القوم أوغلوا في البيداء، يجوبون سيناء، قد أغذوا السير، وأقلوا المير؟
من القوم تسبح بهم الجمال، في لجج الرمال وتغوص منهم الأشباح والظلال، في غمرات الآل. تسيل بهم الهضاب إلى الوهاد وتفيض بهم الوهاد إلى الهضاب، لا يألون تأويباً وإدلاجا، ولا يشكون نصباً ولا كلالا؟
من القوم ترمي عزائمهم الغايات، وتطوي هممهم السبل، سيان عندهم البعيد والقريب، والعسير واليسير؟
من القوم تضيء بالإيمان قلوبهم، وتقر على اليقين نفوسهم، حداهم القرآن، وغناؤهم الأذان، رحالهم معابد، ومنازلهم مساجد، قد شروا الله أنفسهم، وأرخصوا في مرضاته أرواحهم، ورضوا بما قسم لهم. وقد سايروا الشمس مغربين، لا تصدهم الأهوال، ولا تستردهم الأوطان، كأنهم نجوم في حبك الأرض تسير بقدر إلى قدر؟
العرب المسلمون يقودهم عمرو، يتوجهون تلقاء مصر. رموا الباطل في جانب وسددوا إلى جانب، وصرعوه في ميدان وهرعوا إلى ميدان؛ وهدموا سلطان الروم والشام وصمدوا لسلطان الروم في مصر وأفريقية
بالأمس زحموا الصرح فانهار، ونفخوا زخرف قيصر فطار، وأشاروا إلى الصنم فسجد، وخلى جبروته إلى الأبد. وضعوا سلطان هرقل ورفعوا سلطان الله، وأقاموا الحرية في مصارع العبودية، وشادوا العدل على مقاتل الجور
واليوم يتبعون الباطل المهزوم، ويشرون الزور المذود. إنهم يؤمون مصر. ومصر أكرم على الله من أن تكون مباءة الباطل ومثوى الجبروت. إنهم يسرعون إلى مصر. فعفاء على الروم وسلطانهم، وويل للباطل يدمغه الحق، والظلم يصمد له العدل، والاستعباد تثور به الحرية، ويل للروم يسير إليهم العرب
- 2 -(146/38)
أترى المائج، واللج الهائج؟ أترى السفن على الثبج راجفة، والجموع فوقها واجفة؟ أترى الموج يتلاطم، والسفين يتصادم، والجيوش ملتحمة، والخناجر والسيف مختصمة؟ أترى جنداً يلوذون من حر الضراب إلى برد الماء، ومن ذل الإسار إلى عار الفرار، وجنداً ثبته اليقين فثبت، وآثر الموت على العار فظفر؟
واعجبا! قد أصبح فرسان الصحراء أبطال الدأماء، وصار حداة الإبل أمراء السفن، جاوزوا الكثبان البيض إلى اللجج الخضر، فاتخذوا السفين جياداً والبحر مراداً. وهل الإبل إلا سفن الصحراء، وهل السفن إلا أفراس الماء؟ فما استبدل هؤلاء إلا سفينة بسفينة وفرساً بفرس
وإنها، على ذلك، لإحدى العبر: أبناء البادية ينازلون الروم في الأساطيل. معاوية وابن أبي سرح يقاتلان قسطنطين ابن هرقل، وقد جاءهم في ستمائة سفينة تحمل جند الروم وتاريخ الروم، وثارات الروم. وأعجب العجب أن يغلب الأسطول الرضيع الأسطول المكتهل، أن يغلب ابن أبي سفيان ابن هرقل، أن يغلب العرب الروم في بحر الروم
- 3 -
ما جزيرة العرب، وفارس، والشام ومصر، وما الهند والصين، والمشرق والمغرب في همة هذه الشمس الوهاجة، وعزيمة تلك الكواكب السيارة. قد استقر سلطان القوم في مصر فلم يقنعوا، وهاهم قد غزوا برقة ورجعوا. أتحسب الأمد تطاول عليهم، والشقة بعدت بهم فملوا أو خاروا؟ تلبث قليلاً ثم انظر جيش العبادلة يزحف إلى إفريقية فيظفر ثم يصالح. وما وراء الحرب والسلم إلا المسير لإعلاء كلمة الله، وبلوغ الغاية مما أرادوا في سبيل الله
ويقف القوم سنين. وما هو إلا الجمام للسير، والتحفز للوثوب، والإعداد للجهاد، والتريث للتثبت. وعما قليل يطوون المغرب لا تعوقهم الفيافي المترامية، ولا تصدهم الجيوش الجرارة. تنظر الغد. فما بلغ القوم الأمل الموعود، ولا قاربوا الغاية المقدورة
- 4 -
عشرة آلاف تطوي الأوطان والقطان في سبيلها، وتطأ الأهوال والأبطال إلى غايتها! عشرة آلاف وفي الناس واحد كألف
تجمعت في فؤاد همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها(146/39)
عشرة آلاف قائدهم عقبة بن نافع قد عزموا ألا ينثنوا، وصمموا ألا يهزموا، وآلوا ألا يرجعوا ما اتسع الفتح لعزائمهم، وامتدت الأرض لأقدامهم
هاهو ذا عقبة يبني مدينة القيروان، فعل الغازي المعمر والفاتح المقيم. وسيجعلها مبدأ السير وأول الفتح، كأنهم ما قطعوا المهامة إليها، ولا ساروا عن ديارهم قبلها
في كل فج عزمهم سيار
إلى الوغى تهافتوا وطاروا
جماعة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار
أرض الله، وعباد الله: أينما توجهوا فهي أرضهم، وحيثما حلوا فهي ديارهم. لا بعد عندهم ولا قرب، ولا شرق ولا غرب. (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمَّ وجه الله)
ولكن عشرات آلاف من الروم والأفريق قد ساروا إليهم. لقد أعد الروم لهم، وأزمعوا أن يحطموهم. فوا رحمتاه للأنجاد القليلين، والغرباء النازحين!
كلا لا خوف ولا حزن، ولا قلة ولا كثرة. انظرهم يديرونها على عدوهم حرباً طاحنة، ويلجئون الروم وأعوانهم من لظى النار إلى سلاسل الإسار - ألوف من الروم مصفدون
أترى الكثرة أغنت، أم ترى القلة قلت؟ ذلك آخر عهد الروم بإفريقية
- 5 -
أين الجنود البواسل، والعبَّاد الغزاة، والبداة الذين خرجوا ينشدون الحق ويردون الجبارين إلى العدل؟ أنهم ليسوا في برقة ولا إفريقية. . . . هاهم في أقصى المغرب! هم اليوم في طنجة! بل هم في إيسوس. لقد انتهوا إلى الساحل، لقد انتهت الأرض وا أسفاه للجواد المتمطر لا يجد مجالاً، والعزم المحضِر لا يجد مضطرباً. قد بلغوا البحر فكيف المسير؟ وفتحوا ما بين المدينة المنورة، وبحر الظلمات فأنى الفتح؟
انظر عقبة تضيق بعزمه الأرض، وتصغر في عينه الأقطار، فيدفع جواده في البحر ويصيح:
(والله لو علمت وراءه أرضاً لسرت غازياً في سبيل الله)
(بغداد)(146/40)
عبد الوهاب عزام(146/41)
صداقة تدين التاريخ
(ألا إن لنا قلوبا)
للأستاذ أمين الخولي
- 1 -
في واد مشرق السماء، جهم الأديم، تضطجع بين الجبال، على سيف الصحراء، تلك العذراء الممنعة (مكة)؛ تكاد تنال بإحدى يديها مياه (القلزم)؛ حين تنسم عن بعد نسيم الشرق بعراقه وفرسه، تلتفت يمنة إلى بلاد العرب السعيدة، بدفء شتائها وأسباب حياتها؛ وترنو يسرة إلى مشارف الشام بوارف ظلالها، وفتون حضارتها
في واد غير ذي زرع حول البيت المحرم، منذ بضعة عشر قرناً كانت تخفق القلوب وجلة، وتختلج النفوس متطلعة، ويشيع في أولي الألباب تشوق وتلهف، استحال اضطراباً اجتماعياً، وثوراناً روحياً، على قديم لا يرضي العقل، ولا يسعد القلب، حتى هب نشاط أناسي منهم إلى انتجاع ذلك الجديد بالرحلة إليه، والنقلة في سبيله، مثلما تلتمس أسباب الرفاهة الحيوية، من أعراض التجارة وحطام الدنيا
- 2 -
في ذلك العهد الحائر، كان سيدان من سادات قريش، قد اكتملت لهما بسطة من الجسم والحلم، وظفرا بوفر من الحسب والكرم، حين سعدا بأخلاق تشابهت في السمو، حتى تلاقت فيهما نعوت الواصفين: لا يعيشان لأنفسهما، ولا يفكرن في ذواتهما. إنما هم أحدهم ظلم يرفع، وحاجة تدفع، ومعونة على الدهر، أو اضطلاع بإصلاح إذا كشر الشر
كانا في سن متقاربة، لا تقول هما لدان، ولكنهما متقاربان، سبق أكبرهما صاحبه إلى هذه الدنيا بعامين وشيء من الأيام
كانا يضربان في حياة تشابهت وديانها، وإن تخالفت ألوانها، الكبير تاجر يصرف الدراهم والدنانير، حين كان الأكبر يرعى الشاء ويدبر البعير، على هينة في ذلك وقلة عناية
توثقت بينهما صداقة عريقة، حين كان الأكبر يشارف الأربعين، قد بقى له من عدها عام، والكبير يبعد عنها بخطوات ثلاث وعدة أيام؛ فلهما الشباب المكتمل، والعقل المتزن. وما(146/42)
كانت بينهما هذه الصداقة إلا عن تآلف نفس، وتمازج روح؛ وإلا ففيم يتقاربان، والكبير يعرف من سبل الكسب وطرق الثراء، ما وراء أفق البادية الجديب، ويختلف إلى اليمن والشام يثرى ويربح، على حين ينصرف الأكبر عن المال والنشب؛ قليل الكد في سبيلهما، زاهدا في أسبابهما؛ يعتزل الناس فريدا ويتحنث وحيداً، يسائل الشمس والقمر، ويستنطق الريح والصخر، أي شيء هذا؟ وفيم العناء؟ وإلام المسير؟ وأين الثواء؟ هذه حالهما حين ربطت بينهما تلك الصداقة؛ فما إن نشك في أن هذا الصديق كان يشاطر صديقه هذا التساؤل، ويبادله ذلك التفهم؛ وإن وقف في ذلك دونه، لا يتكشف له من الآفاق ما يستشرف له الأكبر، ويطالعه في قوة روح آلف لهذا وأقدر
- 3 -
تعارفا وتآلفا؛ وما هو إلا عام حتى ظهر النور الأنضر، وجاء الفتح الأكبر. . واسر الصديق إلى صديقه أنه قد همس في أذنه، وألقي في روعه، وتفتحت له جنبات السماء، وأنه لمحدثه عنها حديث الرائي المشاهد. فإذا الكبير على آلفه؛ يرى بعين الأكبر، يستشف ما في روحه، ويجد في قلبه صورة ما تنطوي عليه جوانحه، فيؤمن معه أو يؤمن به؛ وإذا حياتهما قد صارت إيماناً، جار الأنفاس، ملتهب الإحساس، متصل الأسباب بالحق الأعظم، فزاد ما بينهما قرباً أو اتحادا. وصارت صداقتهما على ما اشتهى الواثقون بطهر الإنسانية ومعنوية الحياة؛ إذا ما قال الأكبر أنت أحب الرجال إلي، قال الكبير أنت إلي أحب الناس
- 4 -
اضطلع الأكبر بعبئه أمام الدهر؛ وخرج يدفع الإنسانية دفعاً، ويدير الحياة في غير مدارها، ويخط مستقبل التاريخ، وما أشق وأهول!
إذا ما أقبل النهار، وارتفعت الشمس، خرج يرى لنفسه، ويتلطف لأمره، بين بدو همل هائمين، وعتاة مأفونين، يناديهم أنه قد حل اللغز الأعقد، وظفر بالمجد الأوحد، اتصل من الله بسبب، ووقف من السماء بمنال، ويهجو إلهتهم، ويسفه أحلامهم. . فأي سخرية يلقى، وأي عناء يواجه، وبأي نقيصة يعترف. . . هو كاهن، وساحر، وشاعر، ومجنون، وممسوس، وكذاب وو. . .(146/43)
فإذا ما كاد يبخع نفسه أن لم يؤمنوا؛ وإذا ما ذهبت نفسه حسرات عليهم، تلفت فإذا صورة نفسه قائم إلى جانبه، يواسيه ويرفه عنه، يمسح عن قلبه أوضار الألم، وقذائف التهم، حين يطب لجروح قد أسالتها أحجار المغترين وقذائف السفهاء المحمولين عليه، وما يزال كذلك حتى يسلمه في الليل إلى تلك الزوجة الأمينة الرزينة، التي فهمت عنه حين جهله الناس. واطمأنت إليه حين أنكره الناس. . فهو منهما في ألفة وطمأنينة. والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق. .
وكانت احن ومحن طالت بضعة عشر عاماً، فقد فيها الأكبر تلك الزوج، فكان نهاره وليله لصديقه الصدوق، وعنده انتهت مؤانسته، حين كان الهم يزداد والعناء يشتد
وخشي القوم خطر تلك الدعوة الدائبة، وهاتيك المهاجمة المصابرة، فزادوها قسوة وتنكيلا، وأشبعوا من نصرها ألماً وتعذيبا، فإذا الصديق يفي لأنصار صديقه وفاءه له: يجد في إنقاذهم، ويسعى في تحريرهم، باذلاً في ذلك ما ادخر وأثل؛ فإذا عتقاءه منهم سبعة نفر. . . ولقد أدركت ولا مراء، أنه لن يكون إلا الأعز. . . أبا بكر
- 5 -
هذان هما، قد نبا بهما المقر، وأجمع الناس كيدهم، فهو الموت والدم بدد، والثأر ضائع؛ ولكن الصديق أبداً مخلص، هو ظله حيث سار وردؤه فيما يرى لنفسه؛ وعفاء على الأهل والمال والولد والوطن، يخليها جميعاً ويخرج من الدنيا بصديقه. . . إلى التيه إلى الشرود، إلى المغامرات، إلى الكهوف والغيران، إلى الجوع والعذاب، إلى الدرك واللحاق، إلى الموت، إلى كل كريهة، ما هي إلا المحببة حين يريدها الصديق. وما أجله وأنبله حين أنزله الغار فلم يخفف، وحسبك أنه إنما يقول له: (لا تحزن أن الله معنا)؛ وما ظنك باثنين الله ثالثهما. . أجل لقد كانا كذلك انفراداً في الغار، كما كاناه انفراداً في صداقة وولاء ووفاء
- 6 -
رافقه إلى مأمنه؛ ولازمه في مهاجره، وتنفست الدنيا، وانبلج صبح الفوز، فظل له كما كان يوم عرفه قبل مبعثه، يبذل له قواه وروحه، كما يبذل له إخلاصه وبره؛ يحمل إليه فلذة كبده، يضعها في حجره، فتكون رسالة من قلب إلى قلب. وتمسي في النساء قرة عينه كما(146/44)
كان في الرجال أبوها له؛ يبذل له ماله، وما المال في ذلك كله؟ وأي شيء أربعون ألف درهم خرج من دنياه لا يعرف منها مكان درهم؟ يلازمه في حربه وسلمه، وصحته ومرضه، حتى تأذن الله له بالنصر، وأتم الرسول عليه السلام ما ندب له من حادث في مسير الدنيا، ومستقبل الكون، فإذا ذلك كله في التاريخ يعرف يد تلك الصداقة
- 7 -
وخرج الرسول عليه السلام من دنياه، فتصدع الأساس، وانشعب الأمر؛ ارتدت الجزيرة، واضطرب الباقون في قمع الخارجين. . . لكن الصديق النبيل الجليل قائم، يصل من وراء القبر روح صديقه، ويحسه قائماً إلى جانبه، فإذا هو جيش وحده، وإذا هو أمة وحده، وإذا هو الإسلام كله حين يقول لهم جميعاً: أيها الناس! لو أفردت من جمعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده، حتى أبلغ من نفسي عذرا أو مقتلاً. . . فسارع الكل وظفر الإسلام
قرت الدولة، وانبسط السلطان، وأينعت الحضارة، وسعدت الإنسانية، وشهد التاريخ، فإذا ذلك كله يعرف ولا غرو دين تلك الصداقة
- 8 -
بني الشرق! إن السيوف قد استحالت في أيدينا خشبا، والمدافع قد أمست مواقيت للطعام وتلاهي للأعياد، والجو من فوقنا، والأرض من تحتنا، والبحر من حولنا، ليس من ذلك شيء لنا، لكنا ولا غرو نحتاز نفوسا، ونملك قلوباً موصولة السبب بتلك القلوب، فلو عرفت الإيمان لعشقت المجد، ولو أحست الوفاء لنالت أسباب السماء، ولو وجدت مس تلك الصداقة لنصرت دينا، وبنت دولة، ودانت التاريخ. . .
فهل تذكرون؟
أمين الخولي(146/45)
درس من النبوة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قالوا: إنه لما نصر الله تعالى رسوله وردَّ عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير ظن أزواجه صلى الله عليه وسلم أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم وكن تسع نسوة: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب وجُوَيْرية، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم؛ فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن من تخيرهن في فراقه، وذلك قوله تعالى: (يا أيها النبيُّ قل لأزواجك إن كنتن تُردن الحياةَ الدنيا وزينتَها فتعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسرَّحْكن سَراحاً جميلا. وإن كنتن تردن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ فإن الله أعدَّ للمحسِنات منكن أجراً عظيما)
قالوا: وبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة (وهي أحبهن إليه) فقال لها: إني ذاكر لك أمراً ما أُحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك أستأمر أبويَّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله
ثم تتابعن كلهن على ذلك، فسماهن الله (أمَّهات المؤمنين) تعظيما لحقهن وتأكيداً لحرمتهن وتفضيلاً لهن على سائر النساء
هذه هي القصة كما تقرأ في التاريخ وكما ظهرت في الزمان والمكان، فلنقرأها نحن كما هي في معاني الحكمة، وكما ظهرت في الإنسانية العالية، فسنجد لها غورا بعيداً ونعرف فيها دلالة سامية، ونتبين تحقيقاً فلسفياً دقيقاً للأوهام والحقائق. وهي قبل كل هذا ومع كل هذا تنطوي على حكمة رائعة لم ينتبه لها أحد، ومن أجلها ذكرت في القرآن الكريم، لتكون نصا تاريخياً قاطعاً يدافع به التاريخ عن هذا النبي العظيم في أمر من أمر العقل والغريزة؛ فإن جهلة المبشرين في زمننا هذا وكثيراً من أهل الزيغ والإلحاد وطائفةً من قصار النظر في التحقيق يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما استكثر من النساء لأهواء نفسية محضة وشهوات كالشهوات؛ ويتطرقون من هذا الزعم إلى الشبهة، ومن الشبهة إلى سواء الظن، ومن سوء الظن إلى قبح الرأي، وكلهم غبي جاهل؛ فلو كان الأمر على ذلك أو على(146/46)
قريب منه أو نحو من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة وتجريد نسائه جميعاً منها، وتصحيحُ النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني المرأة، وتحت جو لا يكون أبداً جو الزهر. . . وأمره من قبل ربه أن يخيرهن جميعاً بين سراحهن فيكنَّ كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة، وبين إمساكهن فلا يكنَّ معه إلا في طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها
فالقصة نفسها ردٌّ على زعم الشهوات، إذ ليست هذه لغة الشهوة ولا سياسة معانيها ولا أسلوب غضبها أو رضاها. وما ههنا تمليق ولا إطراء ولا نعومة ولا حرص على لذة ولا تعبير بلغة الحاسة؛ والقصة بعد مكشوفة صريحة ليس فيها معنى ولا شبه معنى من حرارة القلب، ولا أثر ولا بقية أثر من ميل النفس، ولا حرف أو صوت حرف من لغة الدم. وهي على منطق آخر غير المنطق الذي تُستمال به المرأة؛ فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهن، بل نفت الأمل في ذلك أيضاً إلى آخر الدهر وأماتت معناه في نفوسهن بقصر الإرادة منهن على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها. فليس هنا ظرف ولا رقة ولا عاطفة ولا سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها ولا زُلفى لأنوثتها؛ ثم تخيير صريح بين ضدين لا تتلوَّن بينهما حالة تكون منهما معاً، ثم هو عام لجميع زوجاته لا يستثني منهن واحدة ولا أكثر
والحريص على المرأة والاستمتاع بها لا يأتي بشيء من هذا، بل يخاطب في المرأة خيالها أول ما يخاطب، ويشبعه مبالغةً وتأكيداً ويوسعه رجاءً وأملا، ويقرب له الزمن البعيد حتى لو كان في أول الليل، وكان الخلاف على الوقت لحقق له أن الظهر بعد ساعة.
وبرهان آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج نساءه لمتاع مما يمتع الخيالُ به، فلو كان وضع الأمر على ذلك لما استقام ذلك إلا بالزينة وبالفن الناعم في الثوب والحلية والتشكل كما نرى في الطبيعة الفنية، فإن الممثلة لا تمثل الرواية إلا في المسرح المهيأ بمناظره وجوه. . . وقد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم أعرف به؛ وهاهو ذا ينفي الزينة عنهن ويخيرهن الطلاق إذا أصررن عليها. فهل ترى في هذا صورة فكر من أفكار الشهوة؟ وهل ترى إلا الكمال المحض؟ وهل كانت متابعة الزوجات التسع إلا تسعة برهانات على هذا الكمال؟(146/47)
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يلقي بهذه القصة درساً مستفيضاً في فلسفة الخيال وسوء أثره على المرأة في أنوثتها، وعلى الرجل في رجولته، وأن ذلك تعقيد في الشهوات يقابله تعقيد في الطبع، وكذب في الحقيقة ينشأ عنه كذب الخلق، وأنه صرف للمرأة إلى حياة الأحلام والأماني والطيش والبطر والفراغ، وتعويدها عادات تفسد عاطفتها وتضيف إليها التصنع فتضعف قوتها النفسية القائمة على إبداع الجمال من حقيقتها لا من مظهرها، وتحقيق الفائدة من عملها لا من شكلها
وكل محاسن المرأة هي خيال متخيل ولا حقيقة لشيء منها في الطبيعة، وإنما حقيقتها في العين الناظرة إليها فلا تكون امرأة فاتنةً إلا للمفتون بها ليس غير. ولو رد َّت الطبيعة على من يشبب بامرأة جميلة فيقول لها: هذه محاسنك وهذه فتنتك وهذا سحرك وهذا وهذا؛ لقالت له الطبيعة: بل هذه كلها شهواتك أنت. . . .
وبهذا يختلف الجمال عند فقد النظر فلا يفتنه جمال الصورة ولا سحر الشكل ولا فراهة المنظر، وإنما يفتنه صوت المرأة ومجستها ورائحتها. فلا حقيقة في المرأة إلا المرأة نفسها؛ ولو أخذت كل امرأة على حقيقتها هذه لما فسد رجل ولا شقيت امرأة، ولانتظمت حياة كل زوجين بأسبابها التي فيها. وذلك هو المثل المضروب في القصة
يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم أمته أن حيف الغريزة على العقل إفساد لهذا العقل، وأنه متى أخذت المرأة لحظ الغريزة واختيارها كانت حياتها استجابة لجنون الرجل، وملأتها معاني التزيد والتصنع، فيوشك أن ينقلها هذا عن طبيعتها السامية التي أكثرها في الحرمان والإيثار والصبر والاحتمال، ويردها إلى أضداد هذه الصفات فيقوم أمرها بعد على الأثرة والمصلحة والتفادي والضجر والتبرم والإلحاح والإزعاج، ويضعف معنى السلب الراسخ في نفسها من أصل الفطرة فيتبدل حياؤها وفي الحياء ردها عن أشياء، ويقل إخلاصها وفي الإخلاص رد لها عن أشياء أخرى، ويكثر طعمها وفي قناعتها محاجزة بينها وبين الشر
وبهذا ونحوه يفسد ما بين الرجل والمرأة المتصنعة؛ فإذا كثر المتصنعات لا يكون من النساء مشاكل فقط، بل تكون من حلول المشاكل معهن مشاكل أخرى. . . .
ولبُابُ هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل نفسه في الزواج المثل الشعبي(146/48)
الأكمل كما هو دأبه في كل صفاته الشريفة، فهو يريد أن تكون زوجاته جميعاً كنساء فقراء المسلمين ليكون منهن المثل الأعلى للمرأة المؤمنة العاملة الشريفة التي تبرع البراعة كلها في الصبر والمجاهدة والإخلاص والعفة والصراحة والقناعة، فلا تكون المرأة زينةً تطلب زينة لتتم بها في الخيال، ولكن إنسانية تطلب كمالها الإنساني لتتم به في الواقع
وهذه الزينة التي تتصنع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر والخداع والتعقد، وكلما أسرفت في هذه أسرفت في تلك، بل الزينة لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني كالأظافر والمخلب والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترس. ولا تنكر المرأة نفسها أن الزينة على جسمها ثرثرة طويلة تقول وتقول وتقول.
وإنما يكون أساس الكمال الإنساني في الإنسان العامل المجاهد لا يحصر نفسه في شيء يسمى متاعاً أو زينة، ولا يقدر نفسه بما يجمع لها أو بما يجمع حولها، ولا يعتد ما يكون من ذلك إلا كالتعبير من عمل الشهوات عن الشهوات. ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الغاية في هذا، دخل عليه مرة عمر بن الخطاب فإذا هو على حصير وعليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه. قال عمر: وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهابٌ معلق، فابتدرت عيناي، فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال عمر: يا نبي الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك؟
وجاء مرة من سفر فدخل على ابنته فاطمة رضى الله عنها فرأى على بابها سترا وفي يديها قُلْبين من فضة فرجع، فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي فأخبرته برجوع أبيها، فسأله في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: من أجل الستر والسِّوارين
فلما أخبرها أبو رافع هتكت الستر ونزعت السوارين فأرسلت بهما بلالاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت قد تصدقتُ به فضعه حيث ترى. فقال لبلال: اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصُّفة. فباع القُلبين بدرهمين ونصف (نحو ثلاثة عشر قرشاً) وتصدق به عليهم
يا بنت النبي العظيم! وأنت أيضاً لا يرضى لك أبوك حلية بدرهمين ونصف وإنَّ في المسلمين فقراء(146/49)
أي رجل شعبي على الأرض كمحمد صلى الله عليه وسلم فيه الأمة كلها غريزةُ الأب، وفيه على كل أحواله اليقينُ الذي لا يتحول، وفيه الطبيعةُ التامة التي يكون بها الحقيقيُّ هو الحقيقي
يا بنت النبي العظيم! إن زينةً بدرهمين ونصف لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن تكون صدقةً بدرهمين ونصف. إن فيها حينئذ معنى غير معناها؛ فيها حقُّ النفس غالباً على حق الجماعة؛ وفيها الإيمان بالمنفعة حاكماً على الإيمان بالخير؛ وفيها ما ليس بضروري قد جار على ما هو الضروري؛ وفيها خطأ من الكمال إن صح في حساب الحلال والحرام لم يصح في حساب الثواب والرحمة
تعالوا أيها الاشتراكيون فاعرفوا نبيكم الأعظم. إن مذهبكم ما لم تُحيه فضائل الإسلام وشرائعه، إن مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلقون عليها الأثمار تشدونها بالخيط. . . كل يوم تحلون وكل يوم تربطون ولا ثمرة في الطبيعة
ليست قصة التخيير هذه مسئلةً من مسائل الغنى والفقر في معاني المادة، ولكنها مسئلة من مسائل الكمال والنقص في معاني الروح؛ فهي صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أستاذ الإنسانية كلها، واجبه أن يكون فضيلة حية في كل حياة، وأن يكون عزاء في كل فقر، وأن يكون تهذيباً في كل غنى، ومن ثم فهو في شخصه وسيرته القانون الأدبي للجميع
وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد ليعلّم الأمة بهذه القصة أن الجماعات لا تصلح بالقوانين والشرائع والأمر والنهي، ولكن بعمل عظمائها في الأمر والنهي، وأن الحاكم على الناس لا ينبغي أن يحكم إلا إذا كان في نفسه وطبيعته يحس فتنة الدنيا إحساس المتسلط لا الخاضع، ليكون أول استقلاله استقلال داخله
فليس ذلك فقراً ولا زهداً كما ترى في ظاهر القصة، ولكنها جرأةُ النفس العظمى في تقرير حقائقها العملية
وتنتهي القصة في عبارة القرآن الكريم بتسمية زوجاته صلى الله عليه وسلم (أمهات المؤمنين) بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة. وعلماء التفسير يقولون إن الله تعالى كافأهن بهذه التسمية؛ وليس ذلك بشيء ولا فيه كبير معنى، وإنما تُشعر هذه التسمية بمعنى دقيق هو آية من آيات الإعجاز، فإِن الزوجة الكاملة لا تكمل في الحياة ولا تكمل الحياة بها(146/50)
إلا إذا كان وصفها مع رجلها كوصف الأم ترى ابنها بالقلب ومعانيه لا بالغريزة وحظوظها. فكل حياة حينئذ ممكنةُ السعادة لهذه الزوجة، وكل شقاء محتملٌ بصبر، وكل جهاد فيه لذته الطبيعية، إذ يقوم البيت على الحب الذي هو الحب الخالص لا المنفعة، وتكون زينة الحياة وجود الحي نفسه لا وجود المادة، وتبنى النفس على الوفاء الطبيعي كوفاء الأم، وذلك خُلق لا يعسر عليه في سبيل حقيقته أن يتغلب على الدنيا وزينتها
وآخر ما نستخرج من القصة في درس النبوة هذه الحكمة:
بِحَسبِ المؤمن إذا دخل داره أن يجد حقيقة نفسه الطيبة وإن لم يجد حقيقةَ كسرى ولا قيصر.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(146/51)
عظمة الهجرة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يتخذ الناس من عبر الحوادث مثلاً للكمال في الخلق وشعاراً يذكر بما ينبغي أن يسلكوه وما يجب التنزه عنه من عمل أو قول، ويكون لهم كاللواء يجمعون أمرهم حوله، وكالحكمة يسترشدون بهداها ورشدها، وكالحداء للركب يعينهم في قافلة الحياة، وكالرمز يرجعون إلى مدلوله في كل أمر حازب، وكالعماد يعتمدون على قوته وعونه، وكالإمام يأتمون به
وقد لا يستطيع المرء في كل حال من أحوال الحياة ألا يزايل شعاره، فقد تخونه نفسه أو تخونه الحوادث فيسلك مسلكاً لا يشاكل شعاره، ولكن المرء بخير إذا لم يمزق شعاره يأساً من أجل عجز عارض لا يلبث أن يزول؛ والمرء بخير أيضاً مهما تعددت سقطاته عن شعاره ومثله مادام له مثل يأتم به في فعله وقوله؛ وإذا كان اتباعه له في القول أكثر من أتباعه له في الفعل، فهذا أيضاً خير من ألا يكون له مثل يقدسه، وله نفسه أثر قل أو كثر
وفي الهجرة النبوية لنا مثل وشعار ورمز إذا اعتبرنا بأسبابها وحوادثها؛ وهو رمز ذو معنيين: معنى فيما ينبغي أن نتجنبه من مشابهة المشركين في اضطهاد الحق والعقيدة النفسية والفكرة التي تنبعث منها، ومعنى فيما ينبغي أن نتخلق به من الإتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم في إبائه مزايلة الحق وصونه، وفي نصرته بالرغم من اضطهاد وضيق، وفي الاعتماد على الله في الشدة
ولكل من المعنيين في الحياة شواهد وأمثلة وأمور تستدعي ذكرى الهجرة النبوية وذكرى حوادثها الجليلة
ولو استطعنا أن نذكرها في كل أمر من أمور الحياة كان ذكرها خيراً من ذكرها في تاريخ واحد معين، على ما في ذكرها في هذا التاريخ الواحد المعين من خير وفضل وحمد
أي الناس لا يضطهد الحق في أمور كثيرة من الأمور اليومية إذا كان في اضطهاده إياه كسباً ورزقاً، أو ثناء وحمداً، أو راحة ودعة، أو إرضاء عزيز، أو زلفى لدى كبير مسيطر محكم عليه؛ وحتى عند تخيل نيل الكسب غير المحقق نيله، وعند الأمل في الزلفى التي قد تخيب، يضطهد الناس الحق في أمور الحياة وروحهم روح المشركين ولفظهم لفظ المؤمنين. ثم هم قد يعدمون حتى لفظ المؤمنين فلا يكاد يكون لهم من الإيمان إلا اسمه.(146/52)
هؤلاء لم يتعظوا بعظة الهجرة، ولم يتنزهوا عن الروح التي اضطهد المشركون بها النبي صلى الله عليه وسلم. وأمثال هؤلاء لا ينتفعون بإحياء ذكرى الهجرة النبوية مهما اشتغلت أبدانهم بإحياء من غير أن تشتغل قلوبهم بعظتها، ومن غير أن تتنزه نفوسهم عن مشابهة المشركين في اضطهاد الحق
يقول المسيحيون: إن كل من يضطهد الحق في أمر من أمور الحياة يضطهد عيسى عليه السلام، ويعين أعداءه عليه، ويعادي روح الحق الذي جاء به؛ ونحن نقول مثل هذا القول عند ذكرى الهجرة النبوية وهي ذكرى اضطهاد المشركين للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من يضطهد الحق في أمر من أمور الحياة يضطهد روح الحق الذي جاء به النبي الكريم سواء أكان اضطهاد الحق في أمر من أمور الحياة طمعاً في مغنم أو في دعة أو صداقة أو زلفى
وخير شعائر الدين ومواسمه وأعياده وذكره وتواريخه الجليلة مثل تاريخ الهجرة هو أن تحول بين المرء وبين عادته في قلب الفروض الخلقية إلى مسميات يحسب ترددها على لسانه عقيدة وإيماناً، وما هو بإيمان إذا كان لا يحتذيها، وإذا كان يشارك المشركين ويشابههم في اضطهاد الحق طمعاً في مغنم أو دعة أو صداقة أو زلفى، فيعادي الصدق في القول والعمل والعدل فيهما أيضاً، ويعادي الوفاء ومكارم الأخلاق، وهو إذا عاداها كان معادياً للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المعنى الأول الذي نعتبر به في إحياء ذكرى الهجرة النبوية؛ والمعنى الثاني متصل به وهو قوة وعماد نصر، وهو الاعتماد على الله كما في الآية الكريمة التي وردت في حديث الهجرة: (إن الله معنا)
كنت في بعض الأحايين أزور صديقاً لي من عادته إذا اتخذ شعاراً أن يكتبه في لوح كبير ويضعه أمامه ويذكر نفسه به، وكنت أرى على جدران منزله هذه الآية الكريمة مكتوبة بخط جميل في لوح كبير، وكان كلما دهمه أمر وكرثه خطب وأحس أنه لا يكاد يقوى على احتماله ينظر إلى هذه الآية الكريمة فيقوى بها على المصائب، وكانت له عوناً كبيراً في الحياة؛ وهذا من فضل إحياء ذكرى الهجرة النبوية، ومن فضل الائتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطوبى لمن يستطيع مهما نالت منه المصائب أن يقول: (إن الله معنا)، وطوبى لمن روض نفسه على الحق والعدل والصدق في القول والعمل، وتنزه عن روح الإشراك(146/53)
ومعناه كما يتنزه عن لفظه واسمه، وجعل عظات الهجرة شعاراً له في كل أمر من أمور الحياة؛ بل طوبى للإنسانية لو أن كل إنسان أخذ بروح من تلك العظات ولم يجعل الغيرة على الحق والعدل حبائل كسب لا حقيقة لها في نفسه، ولم يجعل الفروض الخلقية مسميات يتباهى بترديدها. لقد حدثت نفسي فقلت ماذا كان يكون لو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى هذه الحياة الدنيا كي يرى روح الحق الذي جاء به، ولكي يقيم الحجة على الناس. هب أنه لم يذكر لهم اسمه وشاء أن يعرف كيف يلقون الحق في شخصه من غير أن يعرفهم بنفسه. إنهم كانوا يرون رجلاً دأبه الحق والصدق والقصد والعدل في القول والعمل، وأنهم كانوا يرون رجلاً يطلب منهم كل هذه الصفات في أمور حياتهم وهو مطلب يثقل على نفوس الناس، وهم دنيويون يريدون من الصفات ما شابهها في المظهر وخالفها في الحقيقة، ويريدون المكسب والجاه من أي وجه وبأية وسيلة، فماذا كانوا يصنعون لو أنهم لم يعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يريد منهم روح الحق. أكبر الظن أن مأساة اضطهاد الأولين له كانت تتجدد، وأكبر الظن أننا كنا نرى هجرة ثانية مثل الهجرة الأولى، ولكنها ليست هجرة على التخصيص من مكة إلى يثرب
عبد الرحمن شكري(146/54)
مصر تحمي الإسلام والمدنية في عين جالوت
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
استهل القرن السابع الهجري (وذلك في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي) وقد ترامى إلى القاهرة نبأ النضال الدموي الذي ثار في الشرق فيما بين نهري سيحون وجيحون بين جنود التتار وبين جنود الملك محمد خوارزم شاه؛ وكان المسلمون إلى ذلك العهد لا يعرفون للتتار دولة ذات خطر، فإنهم إنما كانوا يعرفون قوماً من البدو يعيشون في فيافي الشرق التي تمتد إلى اكناف الصين طالما حاربتهم جيوش المسلمين فلم يجدوا في بلادهم مطمعاً، إذ كان هؤلاء الحفاة كلما أوقع بهم جند الإسلام وقعة لاذوا بكبد الصحراء يضربون فيها ويبعدون فلا يجد قواد المسلمين لهم مدنا ولا ريفاً، ولا يستطيعون أن يقبضوا منهم على ناصية. فإذا القرن السابع الهجري يحمل معه اجتماعا عجيباً لهؤلاء التتار لم يسبق له مثيل إلا في أحوال نادرة، إذ قد نبغ من بينهم الزعيم الداهية (ثيموجين) الذي يعرفه التاريخ باسم (جنكيز خان)، فوحد لهم دولة وأقام لهم ملكا بعد أحداث يطول بنا وصفها لو تعرضنا لذكرها. وما كان لهذا الحدث أن يكون له ذلك الأثر البالغ في تاريخ الإسلام والمدينة لولا ما لابسه من ظروف العصر وما كانت عليه حال الدولة الإسلامية المتاخمة للتتار. فلو كانت الدولة الإسلامية في عصمة هارون أو المأمون، أو لو كانت في قيادة المعتصم أو المتوكل، لما زاد الأمر على قيام دولة تترية تلمع حيناً كما يلمع الشهاب ثم يندثر، فكانت تجتمع لهم كلمة وينبسط لهم سلطان على من في فيافي التركستان وما يليها من الكرج والديلم، ثم تمضي تلك الدولة الناشئة بعد حين كأن لم تكن، ويسدل عليها التاريخ ستاراً كثيفاً، وتحجب ذكراها وراء الكثبان المترامية البعيدة
غير أن مجرى التاريخ في هذه المرة قد اتجه اتجاهاً لا يزال ماثلا في أذهان الإنسانية؛ ومازالت أصداء اجتماع التتار على زعامة جنكيز خان تتردد إلى اليوم في الأقطار جميعها شرقيها وغربيها؛ ومازالت آثار ذلك العهد تنعب فوق أطلال بخارى وسمرقند ومرو، بل مازالت جاثمة فوق بغداد العظيمة يشهد العالم منها إلى اليوم كيف يقوض التخريب أسس المدينة التليدة، وكيف تذهب كنوز القرون ومخلفات الأجيال على يد الهمجية بين عشية وضحاها. وما اتخذ التاريخ ذلك المجرى إلا لسبب واحد، قد يبدو صغيرا ضئيلا لا خطر(146/55)
له. غير أن أجل حوادث التاريخ طالما نبعت من أمثال هذا السبب الصغير
كان الجزء الشرقي من العالم الإسلامي يئن من حكم طائفة من الأمراء قد وثبوا إلى الحكم وهم أشبه شيء بقطاع الطرق يثبون على غنيمة آمنة في قافلة عزلاء غريرة. وإنك إذا تدبرت الأمر كله في تاريخ الإسلام لم تجد نكبة أصابت المسلمين إلا كانت آتية من مثل هؤلاء الأمراء المفسدين. تراهم وقد حكموا البلاد لكي يبتزوا ثرواتها لا لكي يقوموا بواجب الحكم فيها، وتراهم يبطشون بالناس بطش الأسد بالصيد لا يعاقبون أحداً لأنه أساء، بل لأنه تنفس بكلمة حق، أو فرج عن نفسه بأنة مصدور. وتراهم قد أحاطوا أنفسهم بشراذم من جنود مرتزقة، لا هم لها إلا أن تشترك في الغنيمة، فهي تساعد الطغيان على أن يطغى، وتشترك معه بأن تستعلي في الأرض وتطغى، وهؤلاء الملوك وأولئك الجنود لا حد لاستعلائهم مادامت مسألة الحكم مقصورة على ضبط الرعية العزلاء؛ فإذا ما جد الجد، واحتاج الأمر إلى الحماة كانوا أحرص الناس على الحياة، وأخوفهم من التعرض لبلاء الجهاد ومحنة الجلاد
ولقد كان محمد شاه خوارزم أحد هؤلاء الطغاة المستكبرين الضعفاء. كان أشد الناس بطشاً وأحدهم شوكة في سيرته مع الأفراد والضعفاء، وكان من أحرص الأمراء على الثروة والسلطان مادام لا يعالج إلا شعبه المسكين، فقد سلط عليه طوائف أعوانه فكسروا أنوفه، وخضدوا شوكته، وأذلوا نفوسه؛ وقد أراد القضاء أن يتعدى أذاه إلى طائفة من تجار التتار كانوا قد جاءوا إلى بلاده مسالمين في تجارة فأوقع بهم ونهب متاعهم، فاستجار هؤلاء بصاحبهم، وكان عند ذلك (جنكيز)، فرأى من واجبه أن ينصرهم، فبدأ من ذلك الاصطدام الذي أعقب الدمار والبلاء ببلاد المسلمين
لم يشهد التاريخ مثل ذلك الصراع الذي بدأ عند ذلك بين التتار والمسلمين. فتيار أتىّ من جموع الهمج يصدم هيكل الدولة القديمة المبجلة، فإذا بذلك الهيكل يصدع عند اللمس وينهار بعد قليل. حتى أن التتار أنفسهم ترددوا حيناً ووقفوا مبهوتين لا يكادون يصدقون أنهم قد هدموا ذلك الهيكل الهائل، ولكن الهيكل لم يكن سوى جدار أجوف قد نخره الظلم واستل منه الحياة
لم يثبت الأمراء الطغاة إلا مقدار لطمة قصيرة المدة ثم عرفوا أنهم لا يستطيعون أن(146/56)
يرعبوا عدوهم كما كانوا يرعبون رعيتهم، ولن يقدروا على تحطيمه كما كانوا يحطمون أهل بلادهم، ومنذ تحققوا ذلك طارت نفوسهم خوفاً، وغلب الحرص كل غرائزهم فقلبوا الفكر في مصيرهم، وعرضوا ما كان منهم وما يكون. أتذهب عنهم أموالهم، ويضيع سلطانهم، ويضطرون إلى مقاساة الأهوال في الدفاع والنضال؟ أيقاسمون اليوم رعيتهم ضيق الحياة وضنك العيش في القتال؟ أينزلون عن السعة والعزة والمنعة في سبيل دفاع المستميت؟ أيمدون أيديهم إلى الرعية أن هلمي إلى صف واحد نبذل فيه الحياة معا فنحيا حياة كراما أو نموت وقد أعذرنا؟ ثم جالت بخيالهم ذكريات ما سبق لهم أن أجرموا، وما كان لهم في الحكم من السيئات، وعادوا إلى أنفسهم يسائلونها: أيستطيعون اليوم أن يقفوا مع الرعية كتفا إلى كتف؟ وهل يجدون من أنفسهم الجرأة على أن يخاطبوها خطاب الأنداد الأكفاء؟ أيستطيعون أن يستنهضوها لبذل المال والنفس في سبيل الخلاص من العدو المخيف؟ وهل يستطيعون أن يخيفوا الناس من عدوهم المقبل وقد كانوا بالأمس لا يجندون الجنود إلا لكي يحكموهم بالقسر والعسف؟ جالت هذه الأفكار في رؤوسهم وهم مترددون بين الثبات والانهزام، وبين النضال والهرب فخذلتهم قلوبهم إذ رأوا أن الرعية التي آذوها بالأمس لن تجيب نداءهم لو نادوا. ولن تخلص لهم اليوم بعدما نالها من شرهم وطغيانهم؛ ولئن أجابت الرعية وتناست كل ما كان، أبقيت فيها بقية للنضال؟ إن ظلم القرون إذا أفلح في إزالة القلوب الحرة الأدبية التي تنفر من الظلم، وتأبى الاستعباد، فقد أفلح كذلك في إماتة الرجولة والنخوة، وأحال الناس إلى لأشباح مرتعدة خوارة لا تستطيع شيئا في الدفاع ولا تغني غناء في النضال. فلن يستطيع شعب أذهب الطغيان إباءه وعصف بنخوته أن يصمد في نضال البقاء في الحياة
ولم يستطع محمد شاه خوارزم عند ذلك إلا أن يعمد للهروب بما استطاع استخلاصه من أمواله وذخائره التي استلبها من دماء رعاياه وابتزها من عرق كدهم، ودموع أعينهم، ورجفة العراة منهم والجائعين، وبقى الناس بعد أن هرب ذلك الطاغي وهم كالغنم المبعثرة إذا دهمتها الذئاب، وقد هرب عنها الرعاة الجبناء. فلنسدل الستار عن نضال غير متعادل بين الشاة والذئب، ولنغمض العين عن منظر شعب من شيوخ أهل علم، وشبان أهل تجارة، وكهول أهل صناعة، ومن عمال فقراء لا يملكون ما يسدون به الرمق وزراع لا(146/57)
دراية لهم بشيء بعد المحراث والفأس، وهم يخرجون ألوفا إلى خارج المدن والقرى، لا يدرون كيف يفعلون، ولا أنى يتجهون، فلا تكون إلا ساعات حتى يحصدهم العدو حصداً، أو يحصد بعضهم بعضا في فزع حرب لا عهد لهم بها. لا بل إنهم كانوا يستسلمون كما يستسلم الدجاج ليذبح واحدة بعد واحدة، وهي تستسلم للهلاك خوفا من رهبة الدفاع عن أنفسها
لقد سلبهم الطغاة ما كان فيهم من رجولة بالعسف المتواصل جيلاً بعد جيل، وبالخنوع والإذلال يتوارثونه ابنا عن أب عن جد. ألا فليحمل الطغاة وزر هذه المخازي، ولتلطخ ذكراهم بإثم هذه المجازر لا براءة لأحد منهم منذ بدأ الحجاج جريمته في تذليل الأمة الإسلامية لحكم الطغيان. وترامت أنباء هذه المجازر إلى مصر فلم تجد من نفسها فراغاً إلى أن تملأ آذانها بها إذ كانت تناضل نضال الأبطال في دفاع الصليبين عن أرضها. إذ بينا كانت مذابح التتار تفتك بالمسلمين فيما بين نهري سيحون وجيجون، كان الصليبيون يفدون ألوفاً مؤلفة إلى شواطئ مصر يريدون أن يرموا بفتحها قلب دولة الإسلام. وكان بمصر بقية الدولة الأيوبية، فكان ملوكها يردون من ذلك الفتح موجة بعد موجة، فالملك الكامل يدفع حملة دمياط الأولى، والملك الصالح يقف لجيش فرنسا وحلفائها ويموت وهو في ميدان الحرب فيخلفه ابنه الملك طوران شاه فيقضي على جيش لويس التاسع، ويتم الفتح بأسر الملك الصليبي المتحمس. وهكذا علمت مصر دول أوربا أنها لن تكون هينة في النضال إذا شاءوا نضالاً
ولما تنفست مصر من حملات الصليبين راعها ما سمعت من دوي التخريب في مدن الشرق، وكان قد علا وصار مرعباً فظيعا. وكان أعلى ذك الدوي ما جاء من بغداد إذ فتح هولاكو عاصمة الخلافة وألحقها بالخراب الذي خلفه جده بين سيحون وجيجون، وسمع من بمصر أن خزائن العلم وآثار المدنية في دار السلام قد صارت كلها أثراً بعد عين، وأن دولة الإسلام العظيمة قد تحطمت وانهارت كأنها لم تكن من قبل ملاذ الحضارة والفن والعز منذ قرون. فاختلط في نفسها الحزن على مجد الإسلام الضائع والخوف من أن ينالها من ذلك التيار المدمر ما نال سائر معاقل الإسلام
واندفع التيار المدمر بعد اجتياح بغداد فسار في سبيله إلى الغرب حتى بلغ الشام، وكانت(146/58)
قلاعها عند ذلك عواصم الحدود للدولة المصرية الكبرى التي ورثت دولة بني أيوب وهي دولة الأتراك المماليك
وكان صدى أنباء تلك الغارة في مصر غير صداها في سائر الأقطار، فإن صوت التتار الذي أفزع العالم الإسلامي فأخرجه عن رشده وأفقده إرادته وجعل أهله يستسلمون للموت لا يكادون يحركون يداً، لم يزد على أنه أثار حفيظة أهل مصر، وحملهم على الاستعداد للنضال. وذلك أن مصر لم تكن كسائر البلاد الإسلامية فإنها لم تفقد كرامتها ولا رجولتها. ولم تنس معنى العزة والإباء. حقا لقد كان يحكمها أمراء من الترك، وكان قبل ذلك يحكمها بنو أيوب والفاطميون وغيرهم، ولكن هؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام إلا حكاما يقومون بخدمة الجماعة. ولم تزل مصر على توالي المحن عليها سيدة أمرها والمسيطرة على قانونها وحقوقها. ولو كان الأمر عند ذلك أمر جيش وسلطان لانتهى النضال على ما انتهى إليه نضال ملوك الشرق وجيوشهم؛ فنضال مصر مع التتار كان نضال أمة بأسرها محسة بوجودها، شاعرة بما يجب عليها أن تبذله وأن تدبره؛ وإن شئت مصداق ذلك فهاهو ذا وصف مجلس حربي اجتمع عند ذلك لينظر في أمر التتار والاستعداد لملاقاتهم
كان في ذلك المجلس ممثلوا الشعب المصري وأهل الرأي فيه من مشايخ العلماء وأئمة القانون. كما كان فيه كبار الأمراء والحكام والأعيان. وكان سلطان الوقت شابا غرا جاهلا وهو علي بن معز الدين أيبك. فتذاكر المجلس غارة العدو وما تحتاج إليه البلاد من وسائل الدفاع من مال وجند، وما لابد من بذله من مجهود جامع شامل، فكان أول ما نظروا فيه أن تساءلوا: هل السلطان للبلاد أم هي البلاد التي للسلطان؟ وهل يليق بنا في مثل هذا الوقت أن نفيم شابا غراً جاهلاً يتصرف في شؤون الدولة لا لشيء إلا لأنه ابن السلطان الذي حكم من قبل؟ ولم تطل بهم المناقشة في ذلك فاختاروا رجلاً من أكبر قواد العصر فأقاموه سلطانا بدل ذلك الصبي الصغير ودلوا بذلك على أن نظر مصر إنما هو لمصالح الدولة، وإنها إنما تختار حكامها ليقوموا بواجبهم لها لا ليكونوا سادة متحكمين فيها. ثم نظروا بعد ذلك فيما يجب جمعه من المال للاستعداد للحرب، فلنسمع الآن قول أحد مشايخ مصر وهو الشيخ عز الدين ابن عبد السلام لنعلم منه كيف كان يخاطب نواب المصريين قادة الحرب في بلادهم، وهل كانوا يرونهم سادة أم خداما: قام ذلك الشيخ الجليل عند ذلك فقال شيئا مثل(146/59)
هذا: (لقد جئتم أيها القواد والأمراء من بلادكم جنوداً صغاراً لا تملكون شيئاً، بل كنتم مملوكين أرقاء. ولقد صارت لكم أموال وعقارات، وأصبحت في أيديكم النعم الجزيلة والخيول المطهمة، والجواهر والحلي التي لا يستطاع تقدير قيمتها. فهلموا فابذلوا كل ما عندكم من تلك الأموال حتى إذا ما صرتم كالناس لا تملكون إلا ما يملكه أوساطهم، كان الواجب على الأمة أن تبذل كل ما تملك في سبيل الجهاد من ورائكم. وليست العامة بمعزل عن الحرب ولا هي مترددة في خوض غماره. فهلموا! اسألوا سهول فارسكور عن الألوف من أهل الريف الذين حاربوا الفرنج، وأبلوا في حربهم أحسن البلاء. وهلموا فنادوا أن النفير عام تجدوا الناس جميعا عند ندائكم مسارعين إلى الجهاد والنضال)
ولقد انفض ذلك المجلس على اتفاق وثيق، فخلع السلطان علي ونودي بالسلطان الجديد: الملك المظفر قطز، ونودي على الناس جميعا أن النفير عام إلى الغزو في سبيل الله
وهكذا كانت الحركة حركة مصر، والجهاد جهادها لا جهاد أمرائها
وخرج السلطان بموكبه في أواخر شعبان سنة ثمان وخمسين وستمائة، وبلغ الشام في رمضان ونزل على جانب الأردن في أواخر شهر الصيام
وكان إلى جانب وهدة الأردن واد من الوديان الكثيرة التي تهبط من جبال فلسطين أو تلالها، تخرج فيه عين من مرتفع لا يزيد علوه على مائتي متر وتسمى عين جالوت، وذلك الوادي على مقربة من بيسان التي اشتهرت بابنها النجيب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. وقد اجتمع جند مصر عند ذلك الوادي، آتيا من علايات فلسطين. وكان جند التتار قد توافوا في وهدته آتين من دمشق بعد أن جروا عليها ذيل تخريبهم وتدميرهم
وجال التتار في السهل وهم يتضاحكون ويمرحون، ينظرون إلى جنود مصر بلباسهم الزاهي، وسلاحهم الثمين، وحليتهم الرائعة، ولعلهم كانوا إذ ذاك يقول بعضهم لبعض: هاهي ذي غنيمة لم يسبق لنا عهد بمثلها، ولا عجب فهي كنوز مصر
واجتمع جند مصر من أتراك وعرب، وبرزوا على عادتهم صفوفا من الفرسان لا تكاد ترى فيها ميلا ولا عوجا، كل فارس منهم على فرسه كالجبل الراسي إذا تحرك، فكأنما إرادة واحدة تتحرك، فالفرسان إذا تحركت فهي خيل مقبلة، والخيل إذا أقبلت فهي فرسان مهاجمة، وانتظم السلك فإذا الجيش سلسلة تطوق جوانب الوادي، أعلاها نحاس براق(146/60)
وحديد صقيل، وأسفلها حوافر الخيل المتوثبة تضرب الأرض وهي قلقة إلى النضال؛ ثم دقت الكؤوس، وأمر القائد بالهجوم، فإذا بهذه السلسلة المستوية تنحدر إلى الوادي صاخبة داوية راعدة، ولكنها مع ذلك متماسكة مستوية حتى بلغت الجانب الآخر من الوادي، وكانت جموع التتار عنده تنتظر الهجوم لتجد عنده النصر الذي اعتادته في مصافها؛ واهتزت صفوف السلسلة المستوية عند الاصطدام كما تهتز الأسطوانة الطاحنة إذا صدمها حجر صلد؛ غير أنها لم تقف وأبطأ سيرها وخفت جريتها؛ ولكنها لم تنشعب ولم ترتد
وعلت قعقعة الحديد، واختلطت ضجة الأصوات، وارتمى البعض عن البعض، وتدحرجت الأجزاء عن الأجزاء
وكانت ساعة تشيب لهولها الولدان؛ ثم ازدادت سرعة السلسلة كأنها قد اجتاحت العقبة التي عاقت سبيلها؛ واندفع جيش مصر مرة أخرى وراء فلول منهزمة من التتار تجري فزعة في غير نظام نحو بيسان في أسفل الوادي
فلقد حطمت الجيوش المصرية جموع التتار المخيفة لأول مرة في تاريخها منذ خرجت على العالم تذيقه العذاب والويل؛ وكانت وقفة مصر في عين جالوت حماية للإسلام والمدنية والإنسانية
محمد فريد أبو حديد(146/61)
تحية العام الجديد:
آمال وآلام
للأستاذ محمود غنيم
شُقَّ الفضاَء بنورك المُتَجدِّدِ ... يا ليت شِعري ما تُخَبِّئُ في غدِ
ولقد مضى عامٌ عرفتُ صروفَه ... وعَييتُ بالغيب الذي لم يُوجَد
وَصَدُوا النجومَ ورحتُ أرصُد شيخها ... شيْخَ النجوم الزهرِ علَّكم مُرْشِدي
يا ابن الظلام أما تعبتَ من السُّرى ... أبداً تروحُ على الأنام وتغتدي
شيبتَ ناصيةَ القرونِ ولم تزل ... طفلاً تُطالعُنا بوجهٍ أمردِ
تمضي الحياةُ فلا تعودُ إذا مضت ... وأراك تختتم الحياة وتبتدي
حتَّامَ تضربُ في الدياجي هائماً ... تهدي الأنامَ ولا إخالُكَ تهتدي
رَقَدَ الأنامُ خليُّهم وشجيُّهم ... وظلِلْت وحدك ساهراً لم ترقد
ولقد حسبتُكَ بالسلام مبشِّراً ... فبرزتَ مثل الخنجر المتجرِّد
الشرق مُضطَرمُ الجوانح ثائرٌ ... والغربُ يهدِر كالخضمِّ المزبد
إني أرى ناراً أُعِدَّ هشيمُها ... وثقابُها لكنها لم تُوقد
عامٌ وآخرُ مقبلٌ ومودعٌ ... شيَّعتُ نعشاً واحتلفتُ بمولِد
ولىَّ القديمُ فما ظفرتُ بطائلٍ ... وأتى الجديدُ فهل تُرى هو مُسعدي
ولقد تشابهت السنونَ كأنني ... ما عشتُ عمري غيرَ عامٍ مفرد
قالوا عجبنا ما لشعرك نائحاً ... في العيد ما هذا بشَدْو معيَّد
ما حيلةُ العصفور قصُّوا ريشه ... ورَمَوْهُ في قفصٍ وقالوا غرِّد
يا ليت شعري يا هلالُ أعائدٌ ... للمسلمين بنصر دين محمد
أتعيدُ للجُمُعات سابق عهدها ... أتعيد للإسلام مجد المسجد
أدركتَ عهدَ الراشدين (بيثرب) ... وحسدتها بين النجوم الحسَّد
وشهدتَ دولة (عبد شمس) حينما ... بلغ (الوليدُ) بها عنان الفرقد
ولقد طلعتَ على بني العبَّاس إذْ ... جلس (الرشيدُ) مع السُّها في مقعد
لهفي عليها دولةً قد أوشكت ... تمتدُّ حتى سِاحل المتجمِّد(146/62)
للشرق ماضٍ كلّما عرضت له ... ذكراهُ يزفر زفرَة المتنهِّد
الشرق يأمُل أن تحلَّ وثاقه ... جرت الشعوب وسار سير المقعد
لهفي عليه منسَّبًا لم يُجْدِهِ ... طيبُ النجار ولا كريمُ المحتد
بتنا نعيش على حساب جدودنا ... هيهات ليس الحرُّ كالمستعْبَد
أين الجبالُ من التلال أو الربى ... أين القويُّ من الضعيفِ القُعْدَد
لا القوم منِّي لا ولا أنا منهمُوُ ... إن لم أفْقهُمْ في العلا والسؤدد
كان الجدودُ لهم شَرًى يأوُونَهُ ... ولنا وكورٌ من يَردْها يَصْطَد
كانوا مغاوِرَ يعتدون على الورى ... فإذا بنوهم عرضةٌ للمعتدي
صالوا برمحٍ ذابلٍ ومهنَّدٍ ... عَضْبٍ ونعجز أن نصولَ بمِبرْد
أين الذي نظم الجيوش؟ من الذي ... نظمَ الكلامَ قلائدً من عسجد
قد كان همهم الفتوحُ وهمنا ... أن نغتذِى أو نرتوِى أو نرتدي
إرثٌ على يدنا تبدَّد شملُه ... يا ليت هذا الإرثَ لم يتبدَّد
يا من رأى أرضاً أُبيحَ حرامُها ... بالأمس كانت في قداسَةِ مَعْبَدَ
أُممٌ تباعُ وتُشترى في السوق مِنْ ... يَدِ سيَدٍ تمضي إلى يد سيد
الحرب حولَ الشرق شَبَّ أُوارُها ... والشرق يرقبُ من يَقُدْهُ ينقد
ما لي أرى الشرقَ المهيضَ جناحُه ... رغم اتحاد الهم غيرَ موحَّد
وإذا تفرقت الشعوب مواقعاً ... وتقاربت غاياتها لم تبعد
ولقد تهان أمامنا جاراتُنا ... وشكاتهنَّ تُذيب قلبَ الجَلْمَد
فنرى ونسمعُ صامتين كأننا ... لم نستمعْ وكأننا لم نشهد
فإذا تحمسنا مَددْنا نحوَهُمْ ... كفَّ الدعاء وغيرها لم نَمْدُد
عذرا بني أعمامنا! أغلالنا ... قعدتْ بنا عن نجدة المستنجد
أعْزِزْ علينا أن نرى جيرانَناَ ... يتَخَطَّفون ونحن مكتوفو اليد
من لي بجيل مستجَدٍّ لم يرثْ ... إلا عنٍ الجدِّ القديم الأبعد
يرثُ (ابنَ هندٍ) في أصالة رأيه ... أو (خالداً) في عزمه المتوقِّد
لم يعتد الضيمَ الذي نعتادُهُ ... أَهْوِنْ بكلِّ أذًى على المتعوِّد(146/63)
إن قام يثبتُ حقَّه فدليلُه ... قصفُ المدافع أو صليلُ مهنَّد
لا خير في حقٍّ يقالُ ومنطقٍ ... عذبٍ بحدِّ السيف غيرِ مؤيِّد
جيلٌ إذا سِيمَ الهوانَ أبى وإن ... يطلبْ إليه البذلُ لم يتردَّد
يهوى الحياة طليقةً ويعافُها ... ذلاًّ ويُدعى للفداءِ فيفتدي
كوم حماده
محمود غنيم(146/64)
هجرة الرسل
للأستاذ عبد الوهاب النجار
لقد قتل الناس مسألة الهجرة النبوية بحثاً وغاصوا في أعماقها، ولم يتركوا زاوية من زواياها إلا أخرجوا خباياها؛ فأنا لا أريد أن أكتب على غرار ما كتب من قبل فأعيد ما بدائه غيري وأنا مولع بمعادة المعادات
والذي أريد أن أكتب هو هجرة الأنبياء الذين غبروا قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه ليس بدعا من الرسل عليهم الصلاة والسلام
أول الرسل الكرام هجرة هو نوح عليه السلام فكانت هجرته حياة له وهلاكا لأعدائه
دعا نوح قومه إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة غيره من الأصنام والأوثان وصار يغاديهم بالنصح ويراوحهم بالعظات ألف سنة إلا خمسين، وهم لا يزدادون منه إلا بعداً ونفوراً إلى أن ضاق صدره بما يلاقي منهم، ولم يجد باباً لهدايتهم إلا طرقه، ولا منفذاً لنصحهم إلا قصده، ولم يجد قومه باباً للنكاية به إلا ولجوه، ولا منفذاً لأغاظته إلا سلكوه. فتراهم يقولون له: (ما نرك إلا بشراً مثلنا؛ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي؛ وما نرى لكم علينا من فضل؛ بل نظنكم كاذبين) فهم يرون أن الرسالة لا تكون للبشر بل للملائكة، والهداية لا يمكن أن ينالها الفقراء وذوو الأعواز، ولكنها وقف على ذوي الوجاهة والقوة، وأن الذي يريد الله أن يصطفيه إنما يكون من أهل الثراء والغنى، ولقد رد عليهم نوح بقوله: إنه لا يسألهم على الهداية التي يزفها إليهم أجراً. فهو لا يجر بذلك لنفسه نفعاً ولا يحوز مالاً، وإنما يريد أجره من الله، ولم يقل لهم إن عنده خزائن الله وليس عنده شيء من علم الغيب، ولم يقل لهم إنه ملك، ولا يقول للذين تزدري أعينهم من أتباعه لن يؤتيهم الله خيراً وهو الهدى والاستقامة على الجادة، وأن علم ما في أنفسهم عند الله لا عنده إلى أن ضاق بالقوم وضاقوا به. فقالوا له ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ودعا نوح عليهم فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) فأنبأه الله أن العذاب سيحل بهم، وأمره ألا يخاطبه فيهم وأنهم مغرقون. وأوحى إليه أن يصنع الفلك لينجو بها من العذاب النازل بهم وليهاجروا بها عنهم
صنع نوح الفلك وكان قومه يسخرون منه وهو يسخر منهم لغفلتهم عن أنفسهم وتفريطهم(146/65)
في حياتهم وعيرهم بعدم اتباعه إلى أن جاء أمر الله وفار التنور، وتفجرت ينابيع الأرض، وحلت عزاليها السماء، وجاء الطوفان وأبادهم بعد أن نزل نوح والذين آمنوا معه في السفينة، وسلك فيها زوجين اثنين من كل ذي حياة، وانتهت هجرته من الأرض بعد سنة وعشرة أيام بعد أن استقرت السفينة على الجودي. فكانت هجرته ميمونة عليه وعلى من معه في السفينة وهلاكا لأعدائه
لوط عليه السلام
آمن بعمه إبراهيم واستجاب إلى عبادة الله تعالى وهاجر مع عمه إبراهيم كما قال تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي) وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عثمان حين هاجر إلى الحبشة ومعه زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول مهاجر إلى الله بأهله بعد لوط عثمان بن عفان
يعقوب عليه السلام
كان بيته وبين أخيه عيسو شيء من الخلاف، فهاجر إلى بلاد ما بين النهرين عند خاله لابان، ومكث عند خاله يرعى عليه غنمه، وتزوج من ابنتيه ليئة وراحيل، ومن جاريتيهما زلفى ويلها، ورزق منهن أولاده جميعا، وكانت هجرته خيراً وبركة عليه، فقد صار رب أسرة عظيمة كثيرة العدد، وأموال وماشية كثيرة وعاد إلى فلسطين بعد ذلك، وولد له في هجرته جميع أولاده إلا بنامين
يوسف عليه السلام
هاجر مرغما حين ألقاه أخوته في غيابة الجب، ثم التقطه بعض السيارة وأسروه بضاعة وباعوه في مصر بثمن بخس، واشتراه عزيز مصر أو رئيس الشرطة بعاصمة الديار المصرية، وهي مدينة صان في الشرقية، ثم امتحن بامرأة العزيز التي راودته عن نفسه فاستعصم، ثم بهتته في وجهه واتهمته بأنه راودها عن نفسه (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال) العزيز لها: (أنه من كيدكن؛ إن كيدكن عظيم)، والتفت إلى يوسف وقال له: (يوسف اعرض عن هذا)، والتفت إلى زوجه وقال:(146/66)
(استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين - إلى أن بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)، وفي السجن ظهرت آيات فضله، وفسر لساقي الملك وخبازه مناميهما، وأوصى الذي ظن أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه الملك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين إلى أن رأى الملك سبع بقرات سمان حسان يأكلهن سبع بقرات عجاف مهزولة، وسبع سنبلات خضر غلبتهن سبع سنابل يابسات، وحار العلماء والسحرة والعرافون في تفسير ذلك المنام فذكر الذي نجا من الفتيين شأن يوسف وتفسيره للمنام؛ فاستأذن الملك وأتى إلى يوسف واستفتاه فيما رآه الملك. ففسر له الرؤيا على وجهها، وجاء الساقي وقص القصص على الملك، وكان ما كان، إلى أن اصطفاه الملك لنفسه، وجعله على خزائن الأرض، ودبر أمر مصر إلى أن جاء سبع سنوات مخصبة خزن فيها ما زاد على الحاجة؛ ثم جاء السنين المجدبة ففتح مخازن الادخار، وأطعم الناس، وجاء أخوته فداعبهم ودبر عليهم تدبيراً حتى جاءوه بأخيه بنيامين، ثم عرفهم بنفسه وقال: (ائتوني بأهلكم أجمعين) فكانت هجرته القسرية وتغربه خيراً عليه وعلى أهله وعلى الناس أجمعين؛ ولولا تدبير الله وتدبيره لأمر الأغذية لهلك الناس
موسى عليه السلام - وهجرته
لا نريد أن نتكلم عن أولية موسى عليه السلام. وإنما نقول إنه نشأ في بيت فرعون عزيز الجانب؛ ولما بلغ مبلغ الرجال لم يخف عليه أنه دخيل في ذلك البيت وأنه من العنصر العبراني؛ وعرف العبرانيون ذلك فاستعزوا به وانتفعوا بجاهه
وسار في المدينة يوماً على حين غفلة من أهلها فوجد رجلين يقتتلان أحدهما عبراني من شيعة موسى والثاني قبطي من عدوه، فاستغاثة العبراني على القبطي، فأغاثه موسى وعمد إلى القبطي فوكزه فقضى عليه، وهو لم يرد قتله، وإنما أراد كف عاديته عن العبراني، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها
لم يشاهد أحد هذه الحادثة سوى العبراني. وعاد موسى بالأئمة على نفسه وقطع على نفسه عهداً ألا يكون ظهيراً للمجرمين
ظهر أمر القبطي ولم يعلم قاتله. فلما كان اليوم الثاني خرج موسى في مثل ذلك الوقت فوجد ذلك العبراني بنفسه في معركة مع قبطي آخر يريد أن يسخره وهو يأبى، فاستغاثه(146/67)
كما استغاثه بالأمس فقال له موسى أنك لغوي مبين. وأراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ويكف عاديته عنه. فظن العبراني أنه إياه أراد. فقال له: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين، وصالح القبطي واتخذ موسى خصما
حينئذ ظهر قاتل القبطي وهو موسى وانتهى الخبر إلى فرعون فاجتمع ملأ فرعون وقومه على قتل موسى. فجاء إليه رجل من آل فرعون من أقصى المدينة يسعى وقال له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، ونصح له بالخروج لينجو بنفسه فخرج من المدينة خائفاً يترقب قائلاً رب نجني من القوم الظالمين
ولى وجهه شطر مَدْين على خليج العقبة. ولعلها كانت أقرب بلاد يجد فيها مأمنه لخروجها عن قبضة الحكومة المصرية - ولما كان خروجه على عجل لم يترو في الأمر ولم يأخذ معه زاداً ولا ما يساعده على قطع المسافة من مطية ولا رفقة له في هذا السفر الشاق ولا دليل لأنه إنما يريد أن ينجو بخيط رقبته. فلما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. فحقق الله تعالى أمنيته وبلغ ماء مدين بعد الجهد الشديد والجوع المضي فوجد على الماء أمة من الناس يسقون ووجد امرأتين تذودان غنمهما عن الحوض، فلم يعجبه أن يتقدم أولو القوة ويتأخر المرأتان فسألهما عن شأنهما. فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء لأننا ليس بنا قوة على التقدم والمزاحمة، وأبونا شيخ كبير لا يقدر على رعي ماشيته ولا سقياها. فنحى الرعاء بما بقى له من فضل قوة وسقى لهما ثم تولى إلى الظل يشكو إلى الله حاجته إلى القوت وما به من مخمصة قائلاً: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)
أراد الله أن يكافئ موسى جزاء توكله عليه وفعله الخير ابتغاء وجه ربه فلم يلبث أن جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء حتى وقفت عليه وقالت له في خفر: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا)
لبى موسى الدعوة؛ وجاء إلى أبيها الشيخ وقص عليه قصصه. فقال له الشيخ لا تخف نجوت من القوم الظالمين
أرادت إحدى بنات الشيخ أن يقوم موسى عنهما برعي الماشية لأنه أقدر على ذلك لما رأته(146/68)
من قوته في النزع بالدلو وأمانته إذ أخرها وقال لها اسعي ورائي وانعتي لي الطريق؛ فقالت لأبيها (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)
نشط الشيخ لما أشارت به ابنته، وطلب إلى موسى أن يستأجره ثماني حجج على أن يزوجه من إحدى ابنتيه؛ فإذا رضى أن يتم الثماني عشرا كان ذلك على أن يكون بالخيار في قضاء أحد الأجلين
تقول التوراة إنه بقى عنده إلى أن كانت سنه ثمانين سنة؛ والقرآن الكريم ليس فيه تحديد قاطع في المدة التي أقامها
والمهم في الأمر أنه لما قضى الأجل وصار حرا صادفه أن أبعد في الرعي وضل الطريق في ليلة مظلمة باردة؛ وحاول أن يقدح نارا فصلد زنده ولم يور نارا؛ وبعد لأي (آنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو أجد على النار هدى). فلما جاء إلى النار نودي (يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى؛ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى أنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) وبعد حوار أرسله الله نذيرا إلى فرعون وملئه لإخراج بني إسرائيل؛ فكان ما كان مما قصه القرآن من شأنه مع فرعون وشأنه مع بني إسرائيل؛ فكانت هجرته خيرا وبركة عليه وعلى بني إسرائيل؛ كما أجاب فرعون بقوله (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين)
هجرة داود عليه السلام
هو داود بني يسي من سبط يهوذا. كان له اخوة يحاربون الفلسطينيين مع طالوت الذي هو شاول أول ملك من ملوك بني إسرائيل. وكان في الفلسطينيين جندي جبار اسمه جالوت قد هابته الأبطال وتحامت الشجعان لقاءه خوف الهلاك
وكان لداود اخوة في الحرب؛ فأرسله أبوه بطعام لاخوته ولينظر حالهم ويعود إلى أبيه بما يطمئنه عليهم. فبينا هو سائر إلى اخوته نظر في البرية إلى أحجار ملس راقته فوضعها في كنفه (الكنف كيس الراعي) ولما ذهب إلى اخوته والحرب على قدم وساق نظر إلى الفلسطيني وهو يعير بني إسرائيل إحجامهم عنه، فاستشاط الفتى داود غضبا وسأل ما الذي يناله من قتل هذا الأغلف الفلسطيني. فأجيب بأن الملك يغنيه ويغدق عليه ويزوجه ابنته(146/69)
ويجعل بيته أكبر بيت في إسرائيل. فذهب إلى الملك واستأذنه في لقاء جالوت فضن به الملك أن يقتل في غير فائدة وهو صغير السن لا يقوى عليه. فقال له داود: إن عبدك (يعني نفسه) قتل أسدا تعرض لغنم أبي وقتل دبا أيضا. فأذن له وأعطاه لأمة حربه فلم يحسن داود المشي فيها فخلعها وذهب إلى جالوت بمقلاعه وأحجاره. وقد هزأ منه جالوت ونصحه أن يعود من حيث أتى فلم يفعل، ووقف قبالته ووضع حجرا من تلك الأحجار في المقلاع رماه به فارتز الحجر في جبهة جالوت وخر لليدين وللفم، فأخذ داود سيف جالوت وفصل رأسه به وجاء به إلى الملك وانهزم الفلسطينيون شر هزيمة
ولكن طالوت ضن على داود بابنته التي وعد أن يزوجها من قاتل جالوت وزوجه من ابنة له أخرى وقدمه على رؤساء جنده
تغير بعد ذلك طالوت لداود وعمل على إهلاكه بيد الأعداء خوفا من أن يوليه بنو إسرائيل الملك، فكان يكلفه بالقدوم إلى الحرب وكان داود يظفر دائما. فعمد إلى إهلاكه بنفسه، ونجا داود منه مرات وهو يتبعه في كل مكان، وتمكن داود من قتل الملك مرات ولكنه لم يفعل ويخبره بتمكنه من قتله وأنه أبقى عليه، فيندم الملك ثم يعادوه خوفه على الملك فيطارده إلى أن خرج داود من ملك إسرائيل وأقام مع الفلسطينيين برضاء ملكهم إلى أن قتل طالوت وابنه. فجاء إلى قرية أربع وهي مدينة الخليل وبويع فيها بالملك. وكان لطالوت ولد بويع بالملك أيضاً إلى أن قتل ابن طالوت الملك وانفرد داود بالملك واشترى قلعة صهيون التي عند باب الخليل وسماها مدينة داود، ثم اشترى جبل الموريا الذي عليه الحرم القدسي ومدينة أورشليم القديمة المعلومة اليوم بأسوارها وحدودها
وفي أواخر أيام داود نزا على الملك ولده ابشالوم وبايعه العدد العظيم من بني إسرائيل. ورحل داود إلى شرق الأردن وجلس ابشالوم على كرسي الملك وحارب أباه فقتل أبشالوم وعاد داود إلى مقر ملكه. فهاتان هجرتان لداود وكانت العاقبة له على خصومه فيهما
هجرة المسيح عليه السلام
أما المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فله هجرة ليست كهجرة سائر الأنبياء الذين هاجروا من بلادهم
ذلك أنه لما ولد كان هناك مملك من قبل الرومان أخبر أن ملك اليهود ولد في بيت لحم،(146/70)
فجد في قتل الأولاد الذين ولدوا في بيت لحم في تلك الأيام. فأمرت مريم بأن تهاجر بابنها ومعها خطيبها يوسف النجار فذهبت إلى مصر وأقامت فيها مدة قيل إنها كانت سبع سنين أو أقل، إلى أن أمرت بالرجوع إلى فلسطين، لأن الذي كان يطلب نفس ولدها قد هلك، فعادت
وهذه الهجرة نص عليها في إنجيل متي وإنجيل برنابا ولا وجود لها في سائر الأناجيل الثلاثة الأخرى المعروفة؛ فهجرة المسيح كانت تابعة لهجرة أمه خوفاً عليه ولم تكن بإرادته
محمد عليه السلام
من ذلك كله نرى أن محمداً لم يكن بدعا من الرسل الذين هاجروا من قبل، فقد جاهد جهاد الأبطال في إذاعة دعوته بين الناس، وقد أوذي في الله تعالى هو وأتباعه. حتى إذا لم يبق في قوس تصبرهم منزع سهل الله تعالى إسلام أهل المدينة فأقبلوا على الدين بمحض اختيارهم، حتى إذا كثروا جاءوا إليه وبايعوه على النصرة، فأذن لأصحابه في الهجرة وبقى هو وأبو بكر وعلي والمستضعفون. فلما مكر به كفار مكة ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه وصحت منهم العزيمة على ما بيتوا، أمره الله تعالى بالهجرة (وكان أبو بكر يعد لها العدة) فامتثل الرسول أمر ربه وآذن أبا بكر بذلك ففرح وحاول أن يدعوا صهيب بن سنان للسير معهما فلم يقدر له ذلك، وخرجا إلى غار ثور فأقاما به ثلاثا. وقد جهد كفار قريش في العثور عليهما فصرفهم الله عن ذلك، وقد كانا منهم قاب قوسين أو أدنى؛ ثم ذهبا إلى المدينة بعد أن هدأ الطلب يدل بهما عبد الله بن اريقط وهو على شركه إلى أن وردا قباء ثم المدينة هاربين بدينهما. فبدل الله خوف رسول الله والمؤمنين أمنا، ومكن لهم في الأرض، وأرى كفار قريش منهم ما كانوا يحذرون، وأتم الله نعمته على أهل الإسلام، مكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم إلى أن مضى رسول الله لسبيله، وقام خلفائه من بعده يحملون عبء تبليغ الرسالة والتمكين للدين؛ وانتشر الإسلام شرقا وغربا؛ وكانت الهجرة على رسول الله وأمته خيرا وبركة كما كانت هجرة الأنبياء خيرا وبركة عليهم من قبل؛ ولله عاقبة الأمور؛ لا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه؛ وهو العزيز الحكيم
عبد الوهاب النجار(146/71)
الأزهر والحياة الفكرية في العصر الفاطمي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عرضت لنا من قبل فرصة للتعريف بنشأة الأزهر الجامعية، وكيف أنه أنشئ في البداية ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية، ثم نشأت صفته الجامعية في ظروف عرضية، ولم تلبث أن استقرت بعد ذلك وتأثلت؛ وذكرنا ما كان للوزير ابن كلس من كبير أثر في إسباغ هذه الصفة العلمية الجليلة على الأزهر، وكيف أنه يعتبر منشئ الجامعة الأزهرية في معنى من المعاني
والآن نذكر طرفا من الآثار الفكرية التي ترتبت على قيام هذه الجامعة الإسلامية الكبرى في عصرها الأول، أعني في العصر الفاطمي، ونذكر أيضاً بعض أعلام التفكير في هذا العصر ممن تولوا التدريس في هذا المعهد الجليل أو تخرجوا فيه أو اتصلوا به وبحلقاته اتصالاً كان له أثر في تكوينهم الفكري والعلمي
لم تبلغ العلوم والآداب في ظل الدولة الفاطمية من التقدم والازدهار ما كان خليقا أن تبلغه في ظل هذه الدولة القوية الباذخة؛ ذلك أن الدولة الفاطمية كانت لظروفها الدينية والسياسية ترمي إلى الإنشاء في كل شيء، ولم ترد أن تقوم على تراث الماضي أو أن تستأنف السير به؛ ولم يمد لها في عهد الإنشاء الفتي، فلم يأت منتصف القرن الخامس حتى سرت إليها عوامل الانحلال والوهن
وقد كان هذا شأن الحركة الفكرية، فإنها لم تلبث طويلاً في قوتها وازدهارها. وكان الأزهر، وهو يومئذ إلى جانب دار الحكمة والمسجد الجامع، من صروح الحركة الفكرية، يتبع مصاير هذه الحركة من قوة وضعف، فلم يبلغ في هذا العصر، - عصر الإنشاء والنمو - ما بلغه في العصور التالية من التقدم والأخذ بزمام الحركة الفكرية؛ ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نحصي في هذه المرحلة من تاريخ الجامع الأزهر كثيراً من الأعلام الذين تخرجوا في حلقاته أو درسوا فيها. والواقع أنه من الصعب أن نعين بالتحقيق من تخرج في الأزهر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر، وإن كنا نستطيع أن نعين بعض الأساتذة الذين تولوا التدريس في حلقاته؛ ذلك أن الأزهر لم يكن ينفرد يومئذ بتنظيم الدراسة العالية، بل كان إلى جانبه دار الحكمة تنافسه وتتفوق عليه أحياناً، والمسجد الجامع(146/73)
يحتفظ دائماً بحلقاته القديمة؛ ومن المرجح أن معظم العلماء والأدباء الذين ظهروا في هذا العصر كانوا ينتفعون بالدرس في المعاهد الثلاثة، ومن المرجح أيضاً أن الأزهر كان له في تخريج أولئك العلماء والأدباء أوفر نصيب، لأن دار الحكمة لم تتمتع دائماً بكثير من الثبات والاستقرار، وقد أغلقت فيما بعد؛ ولم يكن المسجد الجامع معهداً منتظماً للدرس، وكان الأزهر أكثر المعاهد الثلاثة انتظاماً واستقرارا
كان في مقدمة الأساتذة الذين تولوا التدريس والإقراء بالأزهر منذ إنشائه بنو النعمان قضاة مصر؛ فكان القاضي أبو الحسن علي بن النعمان أول من درس بالأزهر، فعقد أول حلقاته في صفر سنة 365هـ وقرأ فيها مختصر أبيه في فقه آل البيت، وكان فوق تضلعه في فقه آل البيت أديباً شاعراً، وتوفي سنة 374هـ؛ ودرس بالأزهر أيضاً أخوه القاضي محمد بن النعمان المتوفى سنة 389هـ، ثم ولده الحسين بن النعمان قاضي الحاكم بأمر الله؛ ومن المرجح أن فقيه مصر ومؤرخها الكبير الحسن بن زولاق (المتوفى سنة 387هـ) كان بين الذين تولوا الدرس بالأزهر يومئذ، فقد كان صديق المعز لدين الله ومؤرخ سيرته، ثم صديق والده العزيز، ومن المعقول أن يقع الاختيار عليه للتدريس بالمعهد الفاطمي الجديد
ويجب ألا ننسى أن الوزير ابن كلس نفسه كان في مقدمة العلماء الذين تولوا التدريس في الأزهر. وقد رأينا في بحثنا السابق كيف كان هذا الوزير العلامة أيام العزيز بالله يعقد حلقاته الدراسية أحياناً بالأزهر وأحياناً بداره، ويقرأ فيها محاضراته في الفقه الشيعي ولاسيما رسالته الشهيرة المعروف (بالرسالة الوزيرية) وقد كانت من أقدم كتب الدراسة التي درست بالأزهر
ونستطيع أن نذكر من أعلام التفكير والأدب في هذا العصر عدة، وهم بلا ريب ممن كان للأزهر في تكوينهم العلمي أثر كبير؛ فمنهم المسبحي الكاتب والمؤرخ الأشهر، وهو الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله بن أحمد الحراني، ولد بمصر سنة 366هـ وتوفي سنة 420؛ وكان من أقطاب الأمراء ورجال الدولة الفاطمية؛ وتولى الوزارة للحاكم بأمر الله ونال حظوة لديه؛ وأخذ بقسط وافر في مختلف علوم عصره، وشغف بتدوين التاريخ، وألف فيه عدة كتب منها تاريخه الكبير المسمى (أخبار مصر) وهو تاريخ مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء وما بها من العجائب والأبنية، وذكر نيلها وخواصها(146/74)
ومجتمعاتها حتى فاتحة القرن الخامس الهجري. ولم يصلنا هذا الأثر الضخم الذي يلقي بلا ريب أعظم الضياء على تاريخ الدولة الفاطمية في عصرها الأول، ولكن الشذور التي وصلتنا منه على يد المقريزي وغيره من المؤرخين المتأخرين، تنوه بقيمة هذا الأثر ونفاسته؛ وكتب المسبحي كتباً أخرى في التاريخ والأدب والفلك ولكنا لم نتلق شيئاً منها
ومنهم، القضاعي الفقيه والمحدث والمؤرخ؛ وهو أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع، وتوفي بها سنة 454هـ: كان من أقطاب الحديث والفقه الشافعي؛ وتولى القضاء وغيره من مهام الدولة في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وأوفده المستنصر سفيراً إلى تيودورا إمبراطورة قسطنطينية سنة 447هـ (1055م) ليحاول عقد الصلح بينها وبين مصر، وكتب عدة مصنفات في الحديث والفقه والتاريخ منها (الشهاب) و (مسند الصحاب) وهما في الحديث وكتاب (مناقب الإمام الشافعي)، و (أنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء)، و (عيون المعارف) وهما مختصران في التاريخ، وكتاب (المختار في ذكر الخطط والآثار) وهو تاريخ مصر والقاهرة حتى عصره
ومنهم الحوفي النحوي اللغوي، وهو أبو الحسن علي بن إبراهيم ابن سعيد كان من أئمة اللغة في عصره، واشتغل أعواماً طويلة بالتدريس في مصر والقاهرة، وألف كتباً كثيرة في النحو والأدب منها كتاب (إعراب القرآن) وكانت وفاته سنة 430هـ
ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن هاشم المصري، وقد كان من كبار المحدثين والمقرئين، واشتهر حيناً بتدريس علم القراءات وتوفي سنة 445هـ
ومنهم ابن بايشاذ النحوي الشهير، وهو أبو الحسن طاهر ابن أحمد المصري المعروف بابن بايشاذ، كان إمام عصره في اللغة والنحو، وألف فيهما عدة تصانيف ضخمة، واشتغل حيناً بديوان الإنشاء في عهد المستنصر بالله، وتوفي سنة 469هـ
ومنهم أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي، تلميذ القضاعي، كان أيضاً من أئمة اللغة والنحو، وتوفي سنة 520هـ
ومنهم الفقيه العلامة الحسن بن الخطير الفارسي، كان من أقطاب الفقه الحنفي والتفسير، وكان أيضاً عارفاً بالرياضة والطب وعلوم اللغة والتاريخ، وله عدة مصنفات في التفسير والفقه، واشتغل زمناً طويلاً بالتدريس بالأزهر، وتوفي سنة 598هـ(146/75)
هذا وأما أعلام الوافدين على القاهرة وأزهرها في ذلك العصر فنستطيع أن نذكر منهم عدة أيضاً. منهم العلامة الأندلسي أمية ابن عبد العزيز بن أبي الصلت، وفد على مصر في أوائل القرن السادس أيام الأفضل شاهنشاه، وأقام حيناً بالقاهرة يتصل بمعاهدها وعلمائها وأدبائها؛ وكان ماهراً في الرياضة والفلك والموسيقى والعلوم الطبيعية، وكان أيضاً أديباً شاعراً بديع النثر والنظم؛ ألف كثيراً من الكتب في مختلف العلوم، ووضع رسالة عن علماء مصر وأدبائها في هذا العصر، وتوفي سنة 528هـ
ومنهم العلامة المقرئ الشهير أبو القاسم الرعيني الشاطي الضرير، ولد بشاطبة من أعمال الأندلس في سنة 538هـ، وبرز في علوم القرآن، واشتهر بالأخص بالتضلع في علم القراءات، وقدم إلى مصر عقب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية (سنة 572هـ) يسبقه صيته، وتصدر للأقراء والدرس بالقاهرة يدرس القرآن وعلوم اللغة، فهرع إليه الطلاب من كل صوب، وكان إمام القراءات في عصره. ووضع في علم القراءات قصيدته الشهيرة المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني)، وأنشأ بمصر مدرسة حقة للقراءات؛ وتوفي سنة 590هـ
ومن الشعراء الذين وفدوا على مصر أيام الدولة الفاطمية، واتصلوا بمعاهدها وأدبائها، أبو حامد بن محمد الانطاكي، المعروف بأبي الرقعمق الشاعر المتفنن الماجن، وفد على مصر في أوائل الدولة ومدح المعز لدين الله وولده العزيز والوزير ابن كلس وتوفي سنة 399هـ؛ وأبو الحسن علي بن عبد الواحد البغدادي المعروف بصريع الدلا، قدم إلى مصر أيام الحاكم بأمر الله ومدحه، وتوفي سنة 412هـ وهو صاحب المقصورة الهزلية الشهيرة التي يعارض فيها مقصورة ابن دريد؛ ومنهم الشاعر الأشهر عمارة اليمني، وهو أبو محمد عمارة بن أبي الحسن، قدم إلى مصر سنة 550هـ في خلافة الفائز بن الظافر، وكان فقهياً أديباً شاعراً فائق النثر والنظم، شهد سقوط الدولة الفاطمية ورثاها، واتهم بالتآمر مع آخرين على السلطان صلاح الدين، وأعدم سنة 569هـ، ومن آثاره كتاب أخبار اليمن، وكتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية
ومن الرحل الذين وفدوا على مصر في ذلك العصر، الرحالة الفارسي ناصري خسرو، قدم إليها سنة 439هـ في خلافة المستنصر بالله، وشهد أزهرها، وأشار إليه خلال وصفه(146/76)
لمدينة القاهرة
كان للأزهر بلا ريب أثره في توجيه الحركة الفكرية المصرية في هذا العصر، فقد كان مذ بدأت مهمته الجامعية موضع الرعاية الرسمية. كان يشترك في عقد حلقاته الدراسية أقطاب العلماء من رجال الدولة، كبني النعمان قضاة مصر، والوزير ابن كلس، وداعي الدعاة؛ وكانت هذه العناية تسبغ على حلقاته ودروسه أهمية خاصة؛ بيد أن هذا الأثر كان محدوداً، خصوصا منذ قيام دار الحكمة، جامعة الدولة الرسمية، وتبوئها مقام الزعامة في توجيه الحركة الفكرية؛ وقد كان أثر الأزهر أقوى وأشد ظهوراً في نشر العلوم الدينية، وتخريج علماء الدين، لأنه كما قلنا كان موئل الثقافة الدينية، بينما كانت دار الحكمة موئل الثقافة المدنية؛ وعلى أي حال فإن مؤرخ الآداب العربية لا يسعه إلا أن ينوه بما كان للأزهر من أثر في سير الحركة العلمية والأدبية أيام الدولة الفاطمية، وان كان هذا الأثر لم يبلغ يومئذ ما بلغه فيما بعد من الأهمية والخطورة
ونلاحظ من جهة أخرى أن أثر الأزهر في توجيه الحياة العامة في تلك المرحلة الأولى من حياته لم يكن عظيما. ذلك أن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطانها السياسي أشد الحرص وتمعن في التمسك بعصبيتها، ولا تفسح كبير مجال لنفوذ العلماء ورجال الدين، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها الدينية إلا توطيداً لدعوتها السياسية، ولم يكن للدعاة من العلماء ورجال الدين من النفوذ المستقل إلا ما يتجه نحو هذه الغاية ويخضع لسياسة الدولة العامة. كذلك لم يكن للفقهاء والمتشرعين المستقلين كبير أثر في سير التشريع في ذلك العصر، لأن الدولة الفاطمية كانت تهتدي في صوغ شرائعها بمبادئها المذهبية الخاصة، ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نلمس أثراً يذكر لرجال العلم والدين في توجيه الشؤون العامة في العصر الفاطمي
محمد عبد الله عنان(146/77)
الفتوح الإسلامية وأثرها في تقدم المدنية
للدكتور حسن إبراهيم حسن
إذا حاولنا أن نذكر في هذه الكلمة ما كان للحكومات الإسلامية من أثر في تقدم المدنية، ولم يكن ذلك إلا تكراراً لأمر قد فرغ منه منصفو المؤرخين شرقيين وغربيين
اتسعت رقعة الإسلام حتى زادت في السعة على الإمبراطورية الرومانية. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام أول من وضع أساس السياسة الخارجية للعرب، فأرسل الكتب والبعوث إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى توحيد الله والإيمان برسالته، وغزا بلاد الروم وحارب الغساسنة على حدود الشام لما سخروا من دعوته واعتدوا على رسله وقتلوا أصحابه. وقد جهز قبل وفاته حملة لغزو أطراف الشام. غير أن وفاته قد حالت دون إنفاذها. ولما ولي أبو بكر الخلافة شرع في إتمام هذا الفتح؛ وجاء بعده عمر فعمل على توسيع رقعة الدولة الإسلامية. وإذا ما تتبعنا ما قام به الرسول من الغزوات والسرايا، وما قام به الخلفاء من بعده من الفتوح، وجدنا أنه كان لهذه الغزوات والفتوح أثر كبير في نهضة بلاد العرب من النواحي الاجتماعية والسياسية والأدبية وغيرها، كما كان لها الفضل الأكبر في نشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، ووضع الأسس والمبادئ العامة في تنظيم المعاملات بين أفراد الجماعة الإسلامية. ذلك أن الإسلام قد حرص على أواصر القرابة من أن تعبث بها الغيرة، كما سوى بين المرأة والرجل في جميع الحقوق تقريباً، وأحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، وحث على التمسك بالفضائل، وعني بأسرى الحروب أيما عناية، وحاطهم بسياج من عدله ورحمته. ولم يذكر لنا التاريخ أن إماما من أئمة المسلمين أمر بقتل الأسرى، اللهم إلا من كان يخشى خطره على المسلمين. ولا غرو فإن الإسلام قد سوى بين الناس على اختلاف أجناسهم؛ فسوى بين الأبيض والأسود، والبدوي والمتحضر، والحاكم والمحكوم، وبين الرجال والنساء. انظر إلى المسلمين وهم في مسجد يؤدون فريضة الصلاة، أو في مكة يحجون البيت الحرام، أو في المحاكم الشرعية في صدر الإسلام، أفتجد فيهم من فاضل ومفضول؟ وقد ساعد الرسول على توحيد كلمة العرب تلك الديمقراطية التي جاء بها الإسلام، والتي تلاشت أمامها هذه الفوارق الجنسية التي طالما مزقت شمل العرب، وليس أدل على تلك الديمقراطية من قوله تعالى:(146/78)
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. أن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس للعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)
ولقد وضع الإسلام من الأصول والنواميس ما هو كفيل بالقضاء على الاسترقاق، لولا أن الأمم العربية وغيرها كانت إذ ذاك - على ما نعلم - من شدة التمسك بهذا النظام. وبدهي أنه لا يستطيع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزيل أمرا ألفته النفوس واستولى عليها ذلك الاستيلاء، على أن هذا الاستيلاء لم يغفل تعبيد الطريق لإلغاء الاسترقاق، فما فتئ الرسول يرغب الناس في العتق. وقد أبقى عليه الصلاة والسلام الرق لسببين:
أولهما: حفظ التوازن بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول كالفرس والروم، حتى يستفيد العرب من أسرى الأمم، كما استفادت هذه الأمم من أسرى العرب
وثانيهما: لحماية الضعفاء من نساء أكلت الحرب رجالهم، ولو تركن وشأنهن لكن عالة على المجتمع ومصدرا للشرور
على أن الإسلام، وإن لم يجد بداً من إباحة الرق، فأنه لم يترك الأرقاء هملا، فقد نظم شؤونهم، وأخذ بأيديهم في طريق الحرية. وقد وصف أحد الفرنجة معاملة الإسلام للرقيق بقوله: (لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل، ففيها تجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تمشي في طليعة الحضارة. نعم! أن الإسلام لم يلغ الرق الذي كان شائعاً في العالم، ولكنه عمل كثيرا على تحسين حال الرقيق، وأبقى الأسر، ولكنه أمر بالرفق بالأسير. ومما يدل على صحة هذا القول أنه لما جيء بالأسرى بعد غزوة بدر الكبرى فرقهم الرسول على أصحابه وقال لهم استوصوا بهم خيرا)
وعندما بسط الإسلام ظلاله خارج الجزيرة وجدنا أهل هذه البلاد المفتوحة يرحبون به بل ويحثون على اعتناقه لما فيه من الحرية والمساواة؛ فكان العرب أثناء حكمهم بلاد فارس والشام ومصر وغيرها من البلاد يقومون بحماية أهلها مقابل مبلغ معين، يدفع عن كل فرد قادر على القتال يسمى الجزية، وهي ضريبة شخصية يدفعها أهل الذمة مقابل إعفائهم من خدمة الجيش؛ وكانوا يعفون من تلك الجزية إذا اعتنقوا الإسلام؛ وكانت الأرض ملكا(146/79)
للفاتحين، غير أن العرب كانوا يتركونها للأهالي يزروعنها على أن يؤدوا جزءا من غلتها ضريبة عقارية تسمى خراجا
ولما استولى العرب على بلاد فارس والشام ومصر اتخذوا لأنفسهم طرازا للعمارة خاصاً بهم، يتناسب وطبيعتهم وحالة معيشتهم؛ وقد فاق هذا الطراز طراز الفن البيزنطي والفارسي من حيث الرقي وجمال التنسيق والإتقان. والعرب - كما لا يخفي - مولعون بالتقليد، كما أنهم معروفون بالابتكار المبني على هذا التقليد؛ وهم في ذلك أشبه بالأمة الإنجليزية. كذلك عني العرب بتخطيط المدن وشق المجاري لتوصيل الماء الصالح للشرب إليها. فشرعوا على أثر انتصارهم في موقعة القادسية (15هـ) في تخطيط مدينتي البصرة والكوفة، كما أسسوا على أثر فتحهم مصر مدينة الفسطاط
وكان لاختلاط العرب بالأمم التي تغلبوا عليها أثر كبير في تقدم المدنية. فقد بلغت النهضة العلمية أوجها في صدر الدولة العباسية بفضل تشجيع المنصور والرشيد والمأمون. فكانوا يبعثون البعوث للتنقيب عن الكتب القديمة في الكنائس والأديرة، وأرسل المأمون بعثات علمية إلى الهند والقسطنطينية لنقل الكتب النفيسة، ونشطت حركة الترجمة في ذلك العصر نشاطاً عظيما. فنقلت الكتب الفارسية والهندية والإغريقية إلى العربية، من بينها فلسفة أرسطو وهندسة أقليدس وجغرافية بطليموس، وغير ذلك من الكتب في الطب والفلك، وكان من أشهر المترجمين حنين بن اسحق، ويعقوب بن اسحق الكندي. وقد نهج الفاطميون والأيوبيون في مصر، وأمراء بلاد الأندلس في الغرب نهج العباسيين. كذلك اهتم العرب اهتماماً كبيراً بدور الكتب العامة حتى بلغ عدد المجلدات في مكتبة القاهرة في عهد الفاطميين خمسمائة ألف مجلد، وفي مكتبة قرطبة أكثر من أربعمائة ألف مجلد
ولم تقتصر علوم العرب على ما نقلوه من غيرهم. فقد فاقوا أساتذتهم من الفرس والإغريق، ولا غرو فقد شجع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانتشار التجارة فيها على رقي علم الجغرافية. ولا عجب فالعرب بدو رحل بطبيعتهم. ومن أشهر الرحالة من العرب المسعودي وابن جيير وابن بطوطة الذين طافوا الأقطار ووصفوا الجهات المختلفة وصفاً دقيقاً مبنياً على المشاهدات ومهدوا بذلك سبيل الكشف الجغرافي. كذلك اهتم العرب بعلم التاريخ فوضعوا فيه المؤلفات القيمة، كما نبغوا في الشعر والأدب. ولا غرو فقد أثرت فيهم(146/80)
بلاغة القرآن، وساعدت مظاهر الحضارة المادية وجمال المناظر الطبيعية، وبخاصة في بلاد الأندلس على رقي الخيال ورقة الشعر، كما برع العرب في فن الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وممن نبغ منهم في الموسيقى والغناء اسحق الموصلي ببغداد، وتلميذه زرياب بقرطبة، حيث أسس مدرسة للموسيقى تخرج فيها كثير من مشاهير الموسيقيين
كانت الدول الإسلامية في المشرق ومصر وبلاد الأندلس مركز الفنون والصناعات، ومنار العلوم والآداب، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في بحار الجهل. وقد اتصل الأوربيون بالعرب واقتبسوا من علومهم واستفادوا من حضارتهم عن طريق مصر والشام أثناء الحروب الصليبية التي قامت في القرن الحادي عشر الميلادي
فقد نزح إلى بلاد الأندلس طلاب العلم من أنحاء أوربا، فالتحقوا بمدارسها وجامعاتها، وانتفعوا بدور الكتب الكثيرة بها. فلما عادوا إلى بلادهم نشروا فيها علوم العرب. وبلغ من اهتمام الغربيين بالعلوم العربية أن أنشئوا في باريس في القرن الثاني عشر الميلادي مدرسة لتعليم اللغات الشرقية، وقد ظهر من الأوربيين علماء تشبعوا بعلوم العرب وطرق أبحاثهم. نخص بالذكر منهم العالم الإنجليزي رودجر بيكون الذي دعا الناس إلى دراسة العلوم الرياضة والطبيعية والاعتماد على التجارب للوصول إلى الحقائق العلمية، فبدأ الأوربيون يبحثون العلوم بحثاً علمياً كان له أثر عظيم في قيام النهضة العلمية. في أوربا ورقي الحضارة العربية. وقد نقل الأوربيون العلوم الطبية عن ابن زهر وابن البيطار، وعرفوا بصفة خاصة طرق معالجة الجدري والحصبة. وطالما كان يستدعي ملوك أوربا وأمراؤها الأطباء من العرب لمعالجتهم. وأسس الفرنسيون مدرسة للطب في مدينة مونبلييه قام بالتدريس فيها أساتذة من بلاد الأندلس؛ وكذلك استفاد الأوربيون من نبوغ العرب في الكيمياء. ولا تزال بعض المركبات الكيميائية، كالكحول والكافور والقلويات والأشربة تدل على أصلها العربي
وقد أخذ الأوربيون عن المسلمين كثيراً من أنواع النبات، كالأرز، وقصب السكر، والخرشوف، والمشمش، والبرتقال والزعفران، وأنواع الورد والياسمين؛ كما أخذوا عنهم الطواحين الهوائية لطحن الغلال، ورفع الماء، وأقاموا أول طاحونة منها في مقاطعة نرمندية سنة 1105م، كما أقاموا غيرها في هولنده. ولا تزال سهول بلنسية في أسبانيا(146/81)
تروى إلى الآن بطرق الري الفنية التي ابتكرها العرب. وقد نقل الأوربيون عن العرب كثيراً من الصناعات كصناعة السكر والحرير والورق كما عرفوا عنهم البوصلة التي كان لاستعمالها فضل كبير في توسيع نطاق الملاحة وتشجيع الكشف الجغرافي. وقد نبغ العرب في الفنون الحربية وصناعة السفن حتى أصبحوا أساتذة أوربا في ذلك المضمار. فكانت أساطيل الدول الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط نماذج تحتذيها البلاد المسيحية في صنع أساطيلها. ولا يزال كثير من الاصطلاحات العربية البحرية شائعاً على ألسنة البحارة في جنوه حتى اليوم. من ذلك كلمة المحرفة عن لفظ حبل، وكلمة الإيطالية المحرفة عن لفظ دار الصناعة
ولم تقتصر استفادة الأوربيين من العرب على العلوم والصناعات، فقد تأثر طلاب العلم من الأوربيين بالأدب في أسبانيا، وبخاصة الشعر والموسيقى، فنقلوا إلى بلادهم أشعار العرب وأناشيدهم وأغانيهم مما كان له أثر كبير في الآداب الأوربية. ولا عجب فقد كان للعرب حلقة اتصال بين المدنية القديمة والمدنية الأوربية الحديثة
حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بالجامعة المصرية وكلية
اللغة العربية بالجامعة الأزهرية(146/82)
من مناظر الهجرة
أم سلَمة
بقلم ناجي الطنطاوي
- 1 -
(في البادية، قبل الفجر، أم سلمة ممتطية بعيراً وابنها في حضنها وأبو سلمة آخذ بخطام البعير يسوقه، في طريقهم إلى المدينة مهاجرين)
أم سلمة
(أبا سلم) حث المطي فأنني ... أخاف من القوم المكيدة والغدرا
إذا أدركونا اليوم كان نصيبنا الرّ ... دى وغدت هذي الرمال لنا قبرا
وإنيَ لا أخشى على نفسيَ الردى ... ولا أرهب الموت الزؤام ولا الأسرا
ولكن طفلي سوف يصبح إن أمت ... يتيماً، ويمسي طعم عيشته مرا
إذا صاح (أمي) لم يجد من يجيبه ... فتذري أحر الدمع مقلته الشكرى
لنسرعْ فإني قد شعرت بوحشة ... وذعر
أبو سلمة - ... دعي يا أم سلمة ذا الذعرا
ألم تعلمي أن المقدر كائن ... إذا عاندته النفس أعقبها خسرا
سننجو معاً إن يكتب الله نجوة ... ويلحقنا ضر إذا كتب الضرا
ألا في سبيل الله كل مصيبة ... إذا نزلت فينا ادَّرعنا لها الصبرا
ثقي أن ما نلقى من البؤس والضنى ... سيجعل رب العرش فيه لنا أجرا
دعانا إلى الدين القويم محمد ... فقلنا له لبيك رمت بنا خيرا
أطعنا وآمنا بك العمر كله ... فمرنا فإنا قد بذلنا لك العمرا
وقفنا على نصر النبي نفوسنا ... وأرواحنا لا نبتغي الحمد والشكرا
سلام على عهد بمكة سالف ... لهونا به لم نعرف الحزن والضيرا
نهاجر من أرض غذانا نميرها ... لو أنا استطعنا ما نوينا لها هجرا
فهل يكتب الله المؤمّل عودة ... لنا أم ستبقى في خيالتنا ذكرى(146/83)
أم سلمة: أرى الطفل قد أغفى
أبو سلمة: لينعم بنومه=ولا توقيظه ريثما نقطع القفرا
أما ذاق طعم النوم بالأمس؟
لا
أذن دعيه ينم ما شاء ولنرقب الفجرا
(يتطلعان إلى السماء لرؤية الفجر، وبعد لحظة يسمعان جلبة وصوت حوافر خيل، وتعلو أصوات من حولهما قائلة:)
قفا
استسلما
إياكما أن تقدما سيقتل حالاً من عصى الأمر أوفرا
أبو سلمة -
وقفنا فمن أنتم؟
مطاعين من بني ال ... مغيرة قد سقنا لكم عسكراً مَجْرَا
(أبا سلم) دع حفظ نفسك أننا ... غلبنا عليها ما استطعنا لها قهرا
وضم إلينا أم سلمة مرغماً ... وإلا فإنا سوف نستصرخ السمرا
(يقف أبو سلمة حائراً، واثقاً أنه إذا أراد المقاومة، قتل هو وزوجته وابنه جميعاً بينما يتقدم القوم فينتزعون خطام البعير من يده ويأخذون أم سلمة)
أم سلمة -
إلى أين؟ يا رباه! ماذا يراد بي؟ ... أيتركنا زوجي بأيدي العدا أسرى؟
أأفصل عنه وهو دوني ماثل ... يراني ولا يبدي حراكاً ولا أمرا؟
(يسحبونها ويسيرون بها)
دعوني يا رهط اللصوص فليس لي ... من العزم ما أرجو به لكم دحرا
شجاعتكم جبن إذا هي أعلنت ... على امرأة مثلي مولهة حرى
أبادتكم بالشر أول مرة؟ ... أأضمرت طول العمر يوما لكم شرا؟
سألتكم بالله إلا عطفتم ... عليّ لعل الله يجزيكم خيرا(146/84)
(يسخرون منها ويضحكون)
أقالت لعل اللات؟
إني سمعتها تقول لعل الله
أبلغ بذا كفرا!
لقد صبأت
لابد من قتلها إذن
أوافق
لا، فالسجن قبل بها أحرى
ستسجن حينا ثم تردى قتيلة
أم سلمة - ... حنانيكم يا قوم. . .!
لا تطلبي غفرا
(يمرون في طريقهم على بني عبد الأسد رهط أبي سلمة، فلا يكاد هؤلاء يعرفون الخبر حتى يهجموا عليهم قائلين:)
على رسلكم يا عصبة الشر
ما لكم؟
ألم تأخذوا بالأمس صاحبنا قسرا؟
كذبتم لقد أمسى طليقاً
ولم ينل بسوء
إذن خلوا لنا طفله حرا
وما شأنكم بالطفل؟
ما شأننا به؟ وهل ينتمي إلا إلى أمه الكبرى؟
(يهجمون عليهم، ويتجذابون سلمة حتى يأخذوه بعد أن تخلع يده ويذهبون به)
أم سلمه (تصيح) -
أغثني يا ربي وهب لي مخرجا ... من البؤس وارفع عني السوء والضرا
(يغمى عليها)(146/85)
- 2 -
(بعد عام كامل، أم سلمة جالسة وحدها بالأبطح في حي بني المغيرة تبكي وتقول)
أم سلمة -
- سقى الله عهداً غاله الدهر لم يكن ... سوى حلم عذب شهي بنا مرا
شربنا به كاس المسرة والصفا ... ورفرف طير الحب من فوقنا دهرا
ولم نك ندري فيه ما لوعة النوى ... وما حرقة الحزن التي تقصم الظهرا
أحن إلى أهلي حنين موله ... وقد ينقضي يوم فأحسبه عشرا
ألا هل أرى زوجي وطفلي قبلما ... أموت وألقى في الثرى جسداً قرا
لقد نفد الدمع الذي كان سلوتي ... فمن لي بدمع يذهب الشجن المرا
أقول لقلبي والأسى يتبع الأسى ... هداديك قد أفنيت شطراً فدع شطرا
(أبا سلم) اذكرني فإني مقيمة ... على العهد لا أنساك صبحا ولا عصرا
أعندك أني منذ عام سجينة ... أقاسي من الآلام ما يصدع الصخرا
وأني لا أدري إلام يطول بي ... عذابي، أيوما بعد عامي أم شهرا
إلى الله أشكو ما ألاقي من الأسى ... ومنه أرجى العون والغوث والنصرا
(يدخل عليها رجل من بني عمها، وهو أحد بني المغيرة، كان قد عرف حالها، وكلم قومه في أمرها، فرضوا بإطلاق سراحها، ويكون قد سمع شكواها)
- أقلي من الشكوى، ولا تكثري البكا
- ومن أنت؟
- واستبقي الجلادة والأزرا
- ومن أنت؟
- لا تخشي فديتك زائرا ... أتاك على وهن به يحمل البشرى
- وأية بشرى؟
- أبشرى بالخلاص من إسارك
- دع عنك الته التهزؤ والسخرا
- لقد قلت حقاً، ما التهزؤ شيمتي ... ولا أعرف المين المعيب ولا الهذرا(146/86)
- أأصبحت أسطيع الخروج إلى. . .
(يدخل نفر من القوم، ويصيحون بها قائلين)
- أخرجي، فأنا عفونا عنك
- شكراً لكم شكرا!
(تخرج من الأسر وهي تقول في نفسها)
- أيا رب حمدا لا انتهاء لحده ... ويا رب شكرا لا أطيق له حصرا
(تذهب في طريقها سائرة وحدها إلى المدينة)
- 3 -
(تمر في طريقها على بني عبد الأسد، فيراها القوم فيسألونها عن خبرها فتخبرهم بما وقع لها من الخلاص من الأسر، وأنها ذاهبة إلى زوجها فيواسونها ويرددون عليها سلمة، فتأخذه وتذهب في طريقها مسرورة تضمه وتقبله وتقول له:)
- حبيبي أحقا عدت لي اليوم بعدما ... فقدتك عاما ما عرفت به البشرا
أسائل عنك الريح عند هبوبها ... وأستنطق الأفلاك والسحب والبدرا
وكم كنت أخشى أن تمد يد الردى ... إليك شباكا تقنص الليث والنسرا
فسل مقلتي هل داعب النوم جفنها ... وسل قلبي الولهان هل نسى الذكرا
أحقا تراك العين يا من سلبتها ... لذيذ الكرى، أم ذاك وهم بها قرا
لحا الله من أقصاك عني، أنه ... - ولم يدر - أقصى عني الأمل النضرا
لقد خلعوا يمناك شلت يمينهم ... فيا ليتها اليمنى بجسمي واليسرى
ويا ليت ما قاسيت من ألم سرى ... إلي وحملت الأسى عنك والبهرا
قضى الله أن نشقي فكان الذي قضى ... فهل كتب الله السعادة واليسرا؟
(تتابع سيرها دون أن ترى أحداً في طرقها، ثم تصل إلى التنعيم، فتلمح عن بعد رجلا قادماً نحوها، لا تكاد تقرب منه حتى تنظر إليه فتعرفه وإذا هو عثمان بن طلحة أخو بني عبد الدار)
عثمان - إلى أين؟
- قصدي أرض يثرب(146/87)
- منذ كم تسيرين؟
- لي يومان أضرب في الصحرا
- تسيرين في الصحرا وحدك؟
- ما معي ... سوى الله وابني ذا، وأنعم به ذخرا
- فما لك يا أختاه والله مترك ... ولابد لي من أن أبلغك الوكرا
(يعود معها إلى المدينة، فتذكر له ما جرى لها، ويتابعان السير حتى يصلا إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء (قرب المدينة) فيدخلانها، ويعلمان من أهلها أن أبا سلمة فيها، فيذهبان إليه)
- 4 -
(أمام داره، تطرق أم سلمة الباب)
أم سلمة - أأدخل؟
- من ذا يطرق الباب؟
عثمان - زائرا
- على الرحب يا من جاءنا يبتغي زَورا
- تفضل إذا شئت
(يدخل عثمان ووراءه أم سلمة متلثمة، وولدها معه لا يظهر إلا وجهه)
عثمان - السلام عليكمُ ... عليكم سلام الله منهملاً ثراً
فقدناك دهراً يا ابن طلح فما الذي ... عناك؟
- نضالي العيش والجوع والفقرا
- عذرت، وقاك الله كل مصيبة ... وأذهب عنك السوء والضيق والعسرا
(يلتفت إلى أم سلمة ويقول له:)
- ومن هذه؟
- أختي
(ينظر إلى الطفل طويلا، ولا يدري أهو ابنه أم لا)
- ألست ترى ابنها؟(146/88)
- بلى
- إن لي ابنا مثله كما بي مغرى
- ومازال؟
- لا أدري فإني فقدته ... وأما له من خيرة الناس
- هل فرا؟
- يفران؟ كلا، بل أحاط بنا بنو المغيرة واستاقو هما معهم قهراً
- متى كان هذا؟
- منذ عام تفتت ... به كبدي، والدمع سال به نهرا
أبيت فلا يعتاد مقلتي الكرى ... وأصبح لا أسطيع نطقا ولا سيرا
أم سلمة - (بصوت متكلف)
- ولم لم تدافع عنهما حين أقبلوا
أيسطيع غرقى البحر أن يدفعوا البحرا
أم سلمة - أتعرفني يا عم؟
- (بدهشة) انك أخته
- (ترفع اللثام) أتعرفني؟
- ماذا؟ أأنت التي أقرى؟
(يقوم إليها ويعانقها طويلا ويضم ابنه ويقبله)
أبو سلمة - لك الحمد يا من ليس يحمد غيره ... جمعت شتيت الشمل في الأنفس الحيرى
بلوت فكان الصبر أكبر همنا ... فشكرا على عفو غمرنا به غمرا
(دمشق)
ناجي الطنطاوي(146/89)
الإسلام والمدنية والعلم
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 1 -
هذا العدد الممتاز ينظر في أثر الإسلام في المدنية، وقد يسبق إلى النفس من هذا أن المدنية غاية عليا ونظام كامل نشأ من عدة عوامل أحدها الدين، وأننا إذا أردنا أن نحتفل في (الرسالة) بالحادث الأكبر، حادث الهجرة، الذي ثبت الله به الدين الكامل، أحببنا أن نثني على الإسلام بالإشادة بنصيبه في تشيد صرح المدنية التي هي أعم واشمل، وقد يقال أكمل، من الإسلام؛ ولو كان هذا هو المراد، أو كان هذا ينتج من الاحتفال بالهجرة على هذا النحو، لكان احتفالنا احتفالاً معكوسا، ولكانت إشادتنا بما نريد أن نشيد به ذما له وانتقاصا. لكن ليس الغرض من الاحتفال بالهجرة على هذا النحو هو الإشادة بالمدنية ثم بالإسلام بالتبع، إنما الغرض هو شبه دراسة اجتماعية مرماها إن أمكن تحديد الصلة بين هذه المدنية القائمة وبين الإسلام، أو بالأحرى تحديد ما هنالك من توافق وتفاوت بين المدنية الواقعة كما نراها اليوم والمدنية الغائية كما جاء بها الإسلام
وفي الحق إن هذه المدنية بعيدة جداً عن أن تكون مثلا أعلى للمدنيات قد جاد بتحقيقه الزمان، فإن المدنية الكاملة يجب أن يكون بينها وبين الفطرة من الاتفاق ما يجعلها في الواقع جزءا من الفطرة التي فطر الله عليها الكون، وآية ذلك أن يكون فيها ما في سائر النظم الكونية من الاتساق والانسجام والتوافق والتماسك والاتزان والهدوء، وهذا لا يتحقق لأية مدنية من المدنيات إلا إذا قامت على الحق في جميع نواحيها، وكانت نظمها النافذة منطبقة على قوانين الفطرة التي فطر الله عليها الناس أفرادا وجماعات
وشيوع الخلل والاضطراب في النواحي الاجتماعية من هذه المدنية هو دليل شيوع الباطل في هذه النواحي، ودليل بعد هذه النواحي عن الفطرة. لكن إذا كان الباطل قد شاع في أكثر نواحي هذه المدنية فإن هناك ناحية واحدة قد عزت على الباطل أن يكون له فيها مقام، ودانت للحق فهو فيها الحاكم المطاع. تلك هي الناحية العلمية التي أثمرت للمدنية هذه القوة المادية التي فتن بها الناس فظنوا هذه المدنية أفضل المدنيات حين قدرت على ما لم تقدر عليه المدنيات قبلها من طيران في الهواء وغوص في الماء، وتسخير للبحار والكهرباء؛(146/90)
وغفلوا عن أن تفاضل المدنيات ليس أساسه القوة، ولكن إحسان استعمال القوة في سبيل الحق: سبيل الله، وإلا انقلبت تلك القوة على المدنية المغترة فزلزلتها وصيرتها إلى ما يصير إليه الباطل من الزوال
هذه الناحية العلمية هي فخر هذه المدنية الحديثة، بها ستذكر في المدنيات إذا ذكرت المدنيات بأنبل ما فيها وأفضله وأصدقه، بعد أن تصبح كما أصبحت المدنيات قبلها أحاديث. ثم هي الناحية الواحدة التي اتحدت فيها هذه المدنية بالفطرة، وإذ كان الإسلام دين الفطرة فهي الناحية الواحدة التي تم فيها الاتصال بين المدنية الحديثة وبين الإسلام
هذه دعوى قد تحتاج عند بعض الناس إلى تفصيل وتحديد أو - أن شئت - إلى دليل أو برهان مادام الناس ليس كلهم قد درسوا العلم، ومادام من درسوا العلم ليسوا كلهم يعرفون شدة الصلة بينه وبين الإسلام
أما إن الإسلام يؤيد العلم عامة ويحض عليه ويكبر منه فأمر يعرفه كل من له إلمام ولو ببعض الآيات والأحاديث الواردة في العلم. فالذي يقرأ من الحديث الصحيح مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وقوله: (اطلبوا العلم ولو بالصين) وقوله: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، والذي يعرف ما فعله الرسول صلوات الله عليه بعد بدر من جعله فداء بعض فقراء الأسرى تعليم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة، يعرف من غير شك إن الإسلام هو دين العلم والتعلم. فإذا تلا من كتاب الله مع ذلك مثل قوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (شهد الله إنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم، قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم)، والآيات الكثيرة التي جعل الله سبحانه العلم فيها حكما بين النبي ومجادليه مثل قوله تعالى على لسان نبيه: (آتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنم صادقين) - إذا تدبر الإنسان هذه الآيات الكريمة وأمثالها بعد تلك الأحاديث أدرك أن العلم على إطلاقه لم يُكبر في دين من الأديان كما اكبر في الإسلام، وأن ديناً لم يلزم أهله بالعلم والتعلم كما ألزم الإسلام المسلمين
هذا التأييد التام للعلم على إطلاقه يشمل طبعاً التأييد التام للعلم بمعناه الخاص: معناه الطبيعي المستعمل فيه اللفظ اليوم؛ لكن ليس هناك من حاجة إلى مثل هذه الحجة على(146/91)
قوتها في إثبات أن العلم بمعناه الحديث مطلوب مأمور به في الإسلام، فإن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في الحض على تطلب آيات الله في الكون وتعرف أسرار الخلق هي في الواقع توجيه للعقل إلى مجالات العلم الذي يسميه الناس بالعلم الطبيعي، بل هي أوامر من الله بطلبه، لأن آيات الله في الكون التي ندبت تلك الآيات القرآنية الكريمة إلى طلبها ليست بأكثر ولا أقل من أسرار الفطرة التي هي مطمح العلم ومرماه فأنت إذا قرأت مثل قوله تعالى: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجيين أثنين، يُغشي الليلَ النهارَ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرعٌ ونخيل صنوانٌ وغير صنوان، يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، والنجومُ مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلقَ) (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) - إذا قرأت هذا وأمثاله في القرآن لم تشك في أن العلم الحديث قرآني في موضوعه، إذ هذه العلوم الطبيعية إنما تبحث عن أسرار هذه الظواهر الكونية التي نبه إليها وأمر بالبحث فيها القرآن
فإذا أنت استقريت الآيات القرآنية الكونية لترى هل ورد في بعضها مادة (علم) اللغوية، وجدت أن هناك أكثر من آية وردت فيها هذه المادة إن لم يكن في صيغة المصدر ففي صيغة مشتقاته، مثل قوله تعالى من سورة الأنعام (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون) وقوله سبحانه من سورة الروم: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين) وإذن فهذا العلم الطبيعي ليس فقط قرآنياً بموضوعه بل هو قرآني باسمه، وإذا كان الناس قد اصطلحوا اليوم على تلقيبه بالحديث فقد آن لهم أن يتذكروا أن فاطر الفطرة سبحانه قد أمر به الإنسان لما أنزل القرآن هدى للناس كافة منذ نيف وأربعة عشر قرنا من الزمان.
وفي الحق أن الإنسان ليأخذه العجب من كثرة ما لقيت هذه الناحية من التوكيد في القرآن، ثم من ترخي المسلمين برغم ذلك في طلب هذا للعلم، ولو للانتفاع به في تفسير ذلك الجزء من القرآن. إن الآيات الواردة لتلفت الإنسان إلى أسرار الفطرة وتحثه على تفقهها، لا تكاد(146/92)
تقل إن قلت عن خُمس آيات القرآن، ولم تلق ناحية من نواحي المدنية مثل هذا التوكيد في الإسلام إلا ناحية الأخذ بالعدل والإحسان في المعاملة؛ فكأن المدنية في الإسلام شطران: شطر يقوم على العلم وشطر يقوم على العدل، ومن وراء ذلك كله مخافة الله ومحبته، لا غنى لأهل المدنية عن هذين إن أرادوا لها البقاء. وعلى كل حال فإن حث الإنسان في نحو خمس القرآن على دراسة الفطرة أريد به على الأخص حثه على عبادة الله عن طريق تلك الدراسة وعن طريق شكره سبحانه على ما ستثمر تلك الدراسة من ثمرات. وهذا لا يقلل شيئاً من شأن العلم في الإسلام بل يزيده، ثم هو أبلغ في الدلالة على أن العلم في الإسلام جزء من الدين.
على أن أمر التوافق بين العلم والإسلام قد جاوز الإجمال إلى التفاصيل: جاوز قرآنية الموضوع والاسم إلى قرآنية الروح والطريقة. فروح العلم وطريقته منطبقة تماما على ما جاء به القرآن
فأما روح العلم التي هي في صميمها التجرد للحق والصدق فيه والاستمساك به والتعاون عليه، فهي من روح الإسلام من غير شك، إذ الإسلام كله ليس إلا أمرا بالحق وتجرد له وجهادا فيه، وما لقيه الحق من الإكبار في العلم لا يزيد شيئا عما لقيه الحق من الإكبار في القرآن
وإذا كان هناك فرق بين الاثنين فهو لا يتعلق بذاتهما ولكن بامتداد سلطانهما؛ فروح العلم مقصورة طبعا على الميادين التجريبية التي قصر العلم عليها نفسه؛ لكن روح الإسلام تشمل بسلطانها كل ميادين حياة الإنسان العلمي منها والاجتماعي، ما يمكن إخضاعه للتجارب العلمية منها وما لا يمكن
وأما طريقة العلم في طلب الحق فإليها يرجع فضل العلم في هذا العصر على مثله في سابق العصور. لقد كان من بين علماء تلك العصور من يحبون الحق، ويعملون له، ويحرصون عليه، كما يحبه ويعمل له ويحرص عليه علماء اليوم، لكنهم لم يوفقوا إلى نظام علمي شامل يضمن الوصول إلى الحق ويضمن على الأخص عدم قبول الباطل على أنه حق. فهذا النظام الذي يحسن التمييز بين الحق والباطل، ويضمن من نفسه أن ينفي الباطل ويثبت الحق، هو الفارق المميز بين العلم الحاضر والعلم الماضي، وهو المفخرة الحقيقية(146/93)
للعلم الحديث
هذا النظام لم يضعه شخص ولم تضعه هيئة، ولكن نشأ بالتدريج بنشأة العلم الحديث حين أخذ العلماء يجعلون وجهتهم ابتغاء الحقيقة لا ابتغاء المنفعة، وحين أرادوا في تلمسهم سنن الفطرة أن يتجنبوا مناشئ الخطأ في العلم القديم، ويصححوا الوجهة في العصر الذي ظهر تطور العلم فيه
وللمقارنة بين الأصول التي قام عليها هذا النظام والأصول التي تناظرها فيما جاء به الدين يحسن تقسيم أصول النظام العلمي إلى قسمين: قسم يتعلق بنفس الفطرة التي ستكون موضوع العلم، وقسم يتعلق بطريقة النظر والبحث عن أسرار تلك الفطرة
فأما ما تعلق بنفس الفطرة وجد العلماء أنفسهم مضطرين إلى القول بأصول ثلاثة: أصل استقلال الفطرة، وأصل اطراد الفطرة، وأصل انسجام الفطرة أو استحالة الخلاف بين جزئياتها. فأصل استقلال الفطرة يعلن استقلال الفطرة عن الإنسان، فلا يستطيع ساحر ولا كاهن أن يغير من مجراها أو يعدل من قوانينها، ولا تتغير هي تأثراً بما يجري لأي إنسان؛ وأصل اطراد الفطرة يعلن استقلال الفطرة عن الزمان، فما يثبت من سننها في وقت فلابد أن يكون موجوداً من قبل، وسيظل موجوداً في المستقبل، لا يلحقه تبديل ولا تغيير؛ وأصل انسجام الفطرة يعلن استحالة التناقض بين الحقائق، فلا يمكن أن ينقض حق حقاً أينما كان وكيفما ظهر، في الأرض أو في السماء، وما يناقض حقاً إذن فهو باطل يجب أن ينبذ ولا ينظر إليه
فأما الأصل الأول فكان ضرورياً لصيانة العلم وتحرير العقل من دجل الدجالين، وإعداده لطلب الحق وتلقيه، وهو أصل ليس هناك اليوم من يجادل فيه. وأما الأصلان الآخران فهما كما ترى ضروريان لوجود العلم واطراد نموه، لا يمكن بدونهما نظر ولا بحث ولا استقراء ولا استدلال. لكن من العجيب أن العلم عاجز عن إثباتهما. إذ أقصى ما يستطيع أن يقوله هو أنه اعتمد عليهما قروناً معدودة فبررت النتائج الباهرة التي وصل إليها ذلك الاعتماد، فهو لذلك سيستمر معتمداً عليهما إذ ليس هنالك ما يدعوا إلى الشك فيهما فيما يتعلق بالمستقبل أو الماضي. لكن الفلسفة لا تقنع من العلم بهذا الجواب، وتواجه بما فيه من ضعف، وتزعم له أن نجاح الاعتماد على ذينك الأصلين قروناً لا يثبت صحتهما إلا في(146/94)
تلك القرون. وأما فيما قبل ذلك وما بعد ذلك فلا يستطيع العلم أن يجزم بصحتهما، وإذن فلا يحق له أن يطمئن كل الاطمئنان إليهما. لكن العلم يمضي على اطمئنانه لا يبالي بما توجهه الفلسفة إلى أصليه هذين من نقد وتشكيك، لأنه من ناحية لا يرى فائدة عملية في الإصغاء إلى هذا النقد، ولأنه من ناحية أخرى يرى وجوده ذاته منوطاً بصحة هذين الأصلين، لو شك فيهما لحكم على نفسه بالفناء
ومن البديهي أن الحكم بين العلم والفلسفة في هذه القضية لا يستطيعه إلا الذي بيده أمر الماضي والمستقبل، فاطر الفطرة وخالق الخلق سبحانه، وقد حكم سبحانه للعلم منذ أنزل القرآن
هذان الأصلان وما يتعلق بهما يقررهما القرآن في غير تردد ولا إبهام؛ ومبدأ هذين الأصلين أصل آخر لم يقرره العلم إلا ضمناً، ولو قرره لما سلمته له الفلسفة، لأنه أصعب إثباتاً حتى من ذينك الأصلين: ذلك هو أن هذا الكون قائم كله على الحق. فانه لابد من تقرير ذلك ولو لحظة حتى يمكن بعد هذا أن يقال إن كان الكون سيستمر على ذلك أو لا يستمر؛ وأنى للعلم أو الفلسفة تقرير ذلك بغير الافتراض والظن الذي لا يستند إلى برهان. لكن الله فاطر الكون قرر للإنسان الحق فيما لا يستطيع أن يثبته الإنسان، قرر في غير ما آية أن الكون قائم على الحق (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين. وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون). (خلق السموات والأرض بالحق، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، ألا هو العزيز الغفار). وقرر سبحانه أنه لا تبديل لسننه في الخلق ولا تحويل (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله)، (فهل ينظرون إلا سنة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)، (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). وهذا المبدأ، مبدأ ثبوت الفطرة من غير تبديل، الذي أعلنه الله سبحانه للناس في القرآن، مبدأ عام يشمل جميع ميادين الفطرة، ما تطاول العلم إلى بحثه في ميدان المادة، وما لم يتطاول إلى بحثه في ميدان الاجتماع، كما هو مقتضى سياق تلك الآيات في القرآن
أما أصل انسجام الفطرة فقد قرره الله سبحانه حين قال جل وعلا: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك(146/95)
البصر خاسئاً وهو حسير). وارتفاع التفاوت يستلزم حتما ارتفاع التناقض الذي هو أكبر التفاوت؛ وقد تقرر نفس الأصل في صورته الأخرى: صورة انتفاء الباطل بالحق في قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون). فالإسلام يؤيد العلم تأييداً تاماً حين تخون العلم قدرته، وتضعف حجته. ويستطيع العلم في يقين المسلم أن يمضي في سبيله مطمئناً على وجوده، غير مبال باعتراض الفلسفة، اعتمادا على ما أعلنه رب الفطرة للناس في القرآن
أما أصل استقلال الفطرة عن الإنسان فقد أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس فتحدث الناس أنها كسفت لموت إبراهيم، فخطبهم صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري خطبة قال فيها: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا)؛ ثم زاد القرآن الكريم ذلك الأصل تقريرا وتوضيحاً في قوله تعالى: (أم يقولون به جِنة، بل جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون). فأنت فيما يتعلق بأصول الفطرة ترى تمام الاتحاد بين ما قام عليه العلم وما قرره الإسلام
(يتبع)
محمد أحمد الغمراوي(146/96)
العقيدة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
غذاء القلب وطمأنينة الروح، ملجأ الضعيف وسلاح القوي. هي حقيقة امتزجت بحلاوة الخيال، أو خيال لبس أحياناً ثوب الحقيقة. وما هذا الخيال وتلك الحقيقة إلا صرح كثيراً ما شدناه بأنفسنا لأنفسنا كي نكمل ما في عالم الواقع من نقص، ونحقق بعض ما نصبو إليه من ميول وآمال. فإن ما فينا من قلب خافق وعواطف متأججة، ينزع إلى أماني ورغبات لا حصر لها. ولذتنا في تصور هذه الأماني وسعادتنا في السير وراءها. فإن لم نجد السبيل إلى تحقيقها حيث نرى ونسمع رسمنا لها مملكة سامية فوق مملكة الحس والمشاهدات، وآمنا بها إيماناً لا يقل عن إيماننا بالمرئيات والملموسات. على أن ما فينا من عقل يحلل ويبرهن ويعلل يدفعنا إلى الاعتقاد والاستمساك بآراء نتعصب لها وندين بها. فالعقيدة حاجة إنسانية وأثر من آثار قوى النفس على اختلافها. وهي فوق هذا ضرورة اجتماعية وركن هام من أركان التعاون والارتباط. ولا يمكن أن تتصور جمعية بشرية لا يخضع أفرادها لمبدأ واحد وعقيدة مشتركة. واتحاد الدين والعقيدة من أول الخصائص التي يتميز بها الشعب والأمة. وليست العقيدة المتحدة مجرد رمز وشارة للأمة فحسب، بل هي مصدر تأثير كبير وقوة لا نهائية. هي مبعث حرارة تدفئ القلوب فتدفعها إلى الأمام وتملؤها بالأمل والرجاء. ومستودع كهربائية عظمى يرسل في الأفراد ما يرسل من موجات سالبة وموجبة فيتجاذبون ويأتلفون، ويلتقون عند غاية واحدة وغرض أسمى. وإنا لنسير في الحياة غالباً بدافع من عقائد مختلفة بين دينية ووطنية وعلمية وفلسفية. والعقيدة كالأمل الحلو إن لم تبلغك الغاية فقد آنستك ونعمت بها زمناً. على أنها في ساعة الفشل خير عزاء، وعند اشتداد الخطب أقوى ركن تطمئن إليه إن وهنت الأركان كلها. وإذن فالعقيدة للفرد عون ونصير، وللجمعية باعث ومثير وهاد ومرشد
ومن حسن حظ الإنسانية أن المرء ميال إلى الاعتقاد بفطرته، ومدفوع إليه بغريزته؛ فالتسليم أصلي والشك عرضي، ولا أدل على هذا من أن حياة الإنسان الأول كانت سلسلة من العقائد يرتبط بعضها ببعض، وقد توارثها الخلف عن السلف وأذعنوا لها دون بحث وتعليل. والطفل وهو صورة مصغرة للإنسانية في أول نشأتها يسلم بكل شيء يلقى إليه،(146/97)
ويعتقد في السحرة والمشعوذين والجن والشياطين. ولا تبدأ حيرة الشك لديه إلا حين يصطدم عالم الفكر بعالم الواقع، ويتعارض أمامه أمران كان يؤمن من قبل بثبوتهما. فترتاب نفسه وتشعر بشيء من الخيبة لم تكن تتوقعه. ويظهر أن الشك كان في أول أمره ظاهرة عاطفية قبل أن يكون مناقشة عقلية وحساباً منطقياً. وليس الشك شراً كله، بل قدر منه مدعاة البحث ومفتاح الحقيقة، وقديما قالوا: الشك مبدأ الحكمة ومدرسة الحقيقة. وقد استطاع سقراط بين الإغريق بشيء من الشك التهكمي أن يستخرج المعارف من نفوس محدثيه ومناقشيه. ثم جاء ديكارت في التاريخ الحديث فاتخذ من الشك طريقة فلسفية ومبدأ علمياً. للشك حكمته ومنفعته، فهو ينبه الفلسفة إلى أخطائها ويقف العقل عند حده ويرشده إلى نقصه. غير أن قيمة الشك في طريقة استعماله ووضعه في موضعه. فالشك في كل شيء قضاء على المعرفة من أساسها وهدم للحقائق على اختلافها. وقبول المعلومات من غير بحث وتمحيص انقياد أعمى واستسلام مرذول وضعف في التفكير. وغني عن البيان أن الشك ضرب من الحرية واستقلال الرأي. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الشكاك القدامى والمحدثين لفتوا نظر الإنسانية إلى أخطائها الشائعة وكشفوا الغطاء عن كثير من أباطيلها المسلمة. وكل ما يؤخذ عليهم أنهم أرسلوا للشك العنان، وجالوا به في كل ميدان، فقضوا على ما كان فيهم من عبقرية، وأصبح شكهم داء بدل أن يكون دواء، وهدموا بالشمال ما بنوه باليمين. وليس في الشك المقبول امتهان للحقيقة أو اعتداء عليها، بل هو اعتداد بها وتقدير لها وجد في طلبها. حقاً إن الشك حيرة وحمى قد تخشى على النفس مغبتها؛ بيد أنه قل أن يقدر اليقين قدره من لم يغرق في بحار الشك قليلاً. والضال إذا وجد الطريق كان له بهذا فرحة تملأ العين والقلب
اليقين كلمة عذبة الجرس حلوة الرنين سامية المعنى رفيعة المداول؛ تطرب الأذان لسماعها، وتتوق النفس دائماً إلى أن تحظى بحقيقتها. ينشده العالم في بحثه، ويرمي إليه الفيلسوف في درسه، كلاهما يبغي أن يصل إلى الحقيقة الثابتة التي يذعن لها الجميع في مختلف الظروف والأمكنة. وإذا كان الشك اضطراباً وحيرة فاليقين هدوء وطمأنينة. هدوء لأنه راحة بعد عناء. ووصول بعد مجهود، وطمأنينة لأنه حصن حصين، وركن أمين؛ وكيف لا وهو قوة تستمد سلطانها من نور الحقيقة، وحال يشعر المرء فيها بأنه لا يسمع إلا(146/98)
صوت الحق ولا يصغي إلا لندائه. ولو تأملنا لوجدنا أنا في مرحلة اليقين أقوياء ضعفاء؛ أقوياء لأنا نحس بأنا نفذنا إلى قلب الأشياء ووصلنا إلى قمة العالم وتجردنا من قيود المادة والزمن واتصلنا بكل ما هو باق أزلي، وضعفاء لأن جلال الحقيقة التي نعتنقها أسكت كل صوت فينا، فألغى هواجسنا وخواطرنا، وقضى على ميولنا وأهوائنا، وأضعف شخصيتنا أو محاها بحيث نصبح ولغة العالم والإنسانية جمعاء ديدننا وشعارنا
هذا هو اليقين في ظواهره وأثره وشدته وبأسه. فهو إذن العقيدة في أكمل صورها والإيمان في أسمى أشكاله. وكثيراً ما حاول بعض الباحثين فصل اليقين من العقيدة، والمباعدة بين العلم والدين، ووضع حاجز بين العقل والعاطفة؛ إلا أن اليقين لا يتحقق إلا بعد عقيدة سابقة، والعقيدة إن سمت وكملت أضحت يقيناً. والعلم برهن غير مرة على أن له نطاقاً لا يتعداه وحدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها؛ فليدع الدين يتكلم فيما أعد له ويتصرف في دائرته. والإنسان عقل وقلب وتفكير وعاطفة؛ ومن العبث أن يهمل أحد هذين الجانبين أو يلغى، فإن ذلك خروج على الطبيعة وعكس لنظام الأشياء. وليس من عار أن يكون في الأديان قدر كبير يرضى العواطف الإنسانية، بل العار كله أن تخلو من ذلك.
إبراهيم بيومي مدكور(146/99)
سمو الإنسانية في قلب الرسول الأعظم
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (قرآن كريم)
للأستاذ خليل هنداوي
(لا يحسبن قارئ المقال أننا أردنا أن نعطل حدود الشرائع
بدرسنا للعاطفة الإنسانية السامية في قلب الرسول، وإنما هو
بحث جرى على القلم جواباً لمن يزعم أن تعاليم الإسلام تعاليم
صارمة قاهرة لا تفيض - كالشريعة المسيحية - رحمة ومحبة
وحناناً)
(خ، هـ)
لا تزال علة الآثمين الخارجين على حدود الشرائع علة مستحكمة، لا يبت فريق حتى يهب إلى نقضها فريق. وكلا الفريقين له الحجة الساطعة. فمن الشرائع ما يرى في الأثيم العدو للإنسانية، والمريض الذي يخشى انتقال جراثيمه إلى غيره، لأن الأمراض النفسية حكم أكثرها كحكم الأمراض السارية تعصف بالأجساد عصفاً. وهذا المريض - في حكمها - لا يرجى شفاؤه، وإن فكرة الإجهاز عليه هي خير فكرة تتقي بها منه!
وقد تفننت الشرائع الحديثة في تعيين هؤلاء الآثمين والمجرمين وفي عزلهم عن طبقات الناس. ومن الشرائع ما تنظر إلى هؤلاء بعطف ورحمة. لا تنظر إلى الإثم - كالكل في الإثم - وإنما تنظر إلى الظروف التي صاحبته، والعوامل التي ساعدت على خلقه. وهي بعد هذا كله لا ترى في الآثم إلا إنساناً، جبل على طينة الإنسان، يخطئ ويصيب، ويفعل الشر ويصنع الخير. هذه الشرائع التي غلبت العاطفة الإنسانية على كل عاطفة، واستمسكت بالمبدأ الإنساني الذي يعلو على مصطلحات الخير والشر. وهذه فكرة تطير بجناحين من السمو والعلو. ولكن علماء القانون لا يعتقدون بهذه الفكرة المجنحة لأنها بغير حدود، وتنتشر على أبعاد دونها أبعاد الفضاء. وهم يريدون أن يحددوا لكل موقف شأنه، فإذا سرق السارق فما عسى يكون جزاؤه؟ وإذا زنى الزاني فما عسى يعامل به؟ مثل هذه(146/100)
الفكرة الإنسانية قد تجلت في موقف السيد المسيح حين قدموا له زانية ليرى فيها حكم الشريعة - وما كان حكم الشريعة إلا الرجم - وما كان للمسيح أن يعطل هذا الحكم، وهو لم يجيء لنقض نواميس الأنبياء؛ ولكنه تسامى في هذه المرة ما شاء له التسامي، فأمر بأن يحفروا لها حفيرة ووقف قائلاً:
- ليرميها كل من لم ترتكب نفسه خطيئة بحجر!
فوقف الجمع ولم يرموا، وغادروا المرأة وشأنها. ولكن هذه الفكرة تظل جميلة ما ظلت منطلقة حرة من غير قيود، فإذا شئنا حصرها وإخضاعها للعمل ضاع رونقها وفشت الشرور بحجة أن كل نفس فيها من طينة الشر شيء. ولذلك لم يقدر المسيح نفسه على القول بالعفو عن كل زانية وزان وسارقة وسارق، ولم يقدر غيره على القول بذلك. ولكن المسيح أراد بضرب هذا المثل أن يحفظ للآثمين هذه الإنسانية التي تربطهم بغير الآثمين. ويقرر بعد ذلك أن هؤلاء الذين يحكمون على الآثمين هم ملوثون مثلهم، حتى تكون العاطفة الإنسانية عندهم هي العاطفة الغالبة على كل عاطفة
نظرت الشريعة الإسلامية إلى هؤلاء الآثمين كما نضر غيرها، وفرضت القصاص وفي القصاص حياة، وقام الشارع بأحكام ما تنزل، ورأى أن دفع القتل بالقتل أنفى للقتل. وهذه الشريعة هي شريعة من جاء قبله، وهي الشريعة التي يحض عليها العقل ويبعث إليها الإنصاف
ولكن الرسول - برغم لوثة هؤلاء الآثمين - قد ارتفع معهم في كثير من المواقف بعاطفة الإنسانية فوق حدود الشريعة، ونظر هؤلاء المرضى نظرة ملؤها الرأفة والإشفاق، وعطف على كل نفس ضالة - لأن الهدى والضلال على بعدهما متقاربان متلاصقان - وأن إهمال درس هذه العاطفة الإنسانية عند الرسول مما يترك ناحية العواطف الأخرى قاسية صارمة. وأن على أرباب الفقه أن يرتبوا العقود والحدود كما رتبوها أبواباً أبواباً، وأن على آخرين أن يحللوا هذه العاطفة التي تجعل من الرسول قلباً نقياً وعاطفة إنسانية متسامحة
ما عسى تبلغ إليه هذه العاطفة الإنسانية في صدر الرسول؟
أذكر عبارة تلوتها فيما كتب (رينان) عن المسيح (إن المسيح هو أول من سلك في تفهم الله مسلكا جديدا، إذ جعل علاقة الله مع الناس كعلاقة الأب مع أبنائه، علاقة كلها رأفةٍ ومحبة(146/101)
وحنان) وبهذه الرحمة الشاملة تفهم الرسول معنى الألوهية فقال: (جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتزاحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه!)
وإني لأجد الرسول في الصلاة، ومن ورائه أعرابي يدعو في صلاته: (اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً). فقال له الرسول: (لقد حجرت واسعاً) وكأنه أراد أن يقول له: (قل اللهم ارحمني وارحم جميع الكائنات، لأن رحمة الله أوسع من جميع آثامهم وذنوبهم)
وإني لأراه وهو يفكر في هذه الرحمة التي يرجو أن تشمله، وهي الرحمة التي ملكت عليه مشاعره. أراه (وقد وجد امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فالتفت إلى أصحابه وقال:
- أترون هذه طارحة ولدها في النار؟
فقالوا: لا. وهي تقدر على ألا تطرحه؟
فقال: - وقد طغت على قلبه هذه الرحمة الشاملة:
- الله أرحم بعباده من هذه بولدها)
ولقد تتمثل هذه الرحمة في كل جزء فيه، حتى ليحسب أن الكائنات كلها قد اندمجت وأحاطت بها رحمة الله. . . (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة) وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً ضيقاً يمنحها أناساً ويحرمها على أناس لأن الرحمة الشاملة إذا دخلت في قلب غيرت فيه كل الأساليب الموروثة في تفهم الوجود، وجعلته ينظر إلى الوجود كشيء كلي ممتزج فقير إلى هذا البلسم! وجردته من كل الأهواء ليتحد مع الكائنات اتحاداً ثانياً بكل شيء فيه، لا يهدأ قلبه مادام يتعذب هنالك إنسان! وهو لا يفسر الرحمة تفسيراً رمزياً، وإنما يرمي بمختلف الأمثلة إلى تمثيل هذه الرحمة تمثيلاً واضحاً تكاد تتبينه العين وتتقراه اليد باللمس! وقد أثر هذا الفهم في نفسه تأثيراً واضحاً؛ فهو تنهمل عيناه إشفاقاً على قومه، وهو يتحمل بلاءهم بقلب صابر ولسان شاكر ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وهو يستمهل الله فيهم عندما نودي: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك). فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله(146/102)
ولا يشرك به شيئاً)
وقد ملك عليه شعور الرحمة حتى كاد يغلب على كل عاطفة فيه. (يرى الرجل الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ثم خرج يسأل، فأتى راهباً فسأله فقال له: (هل من توبة؟) فقال: (لا) فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي. وقال: قيسوا ما بينهما، فوجده إلى هذه أقرب بشبر فغفر له.) وهل غفرت لهذا الفاتك إثمه إلا عاطفة الرسول الإنسانية التي قدرت فيه قلبه النادم ونيته الساعية وراء التوبة؟ وقلب الرسول مفعم رحمة وشفقة على هؤلاء - مع قوله في معاقبتهم - ولا يستطيع الفكر أن يوفق بين الإثم الكبير البالغ تمحوه حسنة صغيرة! فمن ذلك (امرأة مومس مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك!) ذلك أن قلب الرسول يحاول أن ينقذ هذه الكائنة الشقية، ويلقي في النفس معنى الإحسان إلى الحيوان (وإن لفي كل كبد رطبة أجرا)
وقد تسمو نفس الرسول في النظر إلى هؤلاء الآثمين، فهو لا يفر منهم ولا يزور عنهم لأنه يطمع في صلاحهم
(قال رجل: لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: (تصدق على سارق)! فقال: (اللهم لك الحمد!) لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: (تصدق الليلة على زانية!). فقال: (اللهم لك الحمد!) على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها بيد غني، فأصبحوا يتحدثون: (تصدق على غني!) فقال (اللهم لك الحمد) على سارق وعلى زانية وعلى غني! ولقد يظن المرء لأول وهلة أن هذه الصدقات باطلة لأنها لم تقع في مواضعها، ولكن الرسول حلها من الناحية الإنسانية، فأتى فقيل له: (أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله) فلم يمنع الرسول الرفق بهؤلاء الآثمين ولم يجعل التصدق عليهم حراما. وإذا كان السيد المسيح أطلق الزانية لأنه لم يجد من يأخذ على نفسه معاقبتها فالرسول أطلقها وأطلق السارق(146/103)
وأطلق الصدقة عليهما ليستعفا. . . وبهذا أشفق على المريض وحارب جراثيم مرضه! وهو خلال ذلك ينتظر أن يغمرهم نور التوبة ويصرفهم عما فيه وازعُ الضمير
وقد يعجب المرء من هذه العاطفة التي لو أخذنا بها لعطلت الحدود. إذ كيف نتصدق على سارق أوجب الشرع قطع يده، أو على زانية أوجب رجمها؟ ذلك أن الرسول يدرك أن الغاية من الشريعة الهدى والرحمة، وأن القصاص سبيل يسلكه الشارع إذا عز الوصول إلى الهدى إلا به
فهو بهذا دل على إنسانية سامية تفهم الوجود رحمة ومحبة، وإن روحه لتتصل بالمذنب اتصالها بالبريء، وأنه يحب الناس مهما فعلوا، وأنه يجد في نفسه ميلا إلى الرفق بالآثمين، وهذا الميل جعله يسلك السبل المتعددة ليدفع عنهم آثامهم ويطهرهم من أرجاسهم. ونرى بعد هذا كله - هذه الكتلة من الرحمة والمحبة تقف أمام الرحمة الشاملة تدعو ربها:
(اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب
اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)
أليست هذه الإنسانية بأسرها تتمثل في شخص الرسول تطلب إلى الله أن يشملها برحمته؛ ويغسل خطاياها برأفته حيث تغسل الأوزار وتضيع حدود العقاب في عالم تعمره الرحمة وتسكنه المحبة، لا نهايات له ولا حدود؟
(دير الزور)
خليل هنداوي(146/104)
ذكريات يجتليها محرم
لشاعر السودان الأستاذ عبد الله عبد الرحمن
هو الشوق في أحشائنا يتضرم ... إلى ذكريات يجتليها محرم
إلى ذكريات هن بعث ويقظة ... وهن لآلام الجراحات مرهم
بني الشرق، والإسلام في كل موطن، ... يحييكمو مني على النأي مسلم
تعالوا نجدد من عهود تصرمت ... وما الشأن في عهد الكرام التصرم
تعالوا نجمع من نفوس تفرقت ... شعاعاً ولا نمضي كما نتوهم
ونطَّرِح الواشين تنفث بينا ... سموماً - وفي الواشين أربد أرقم
ونفزعْ إلى التنزيل نبني نفوسنا ... فليس لما يبني الكتاب مهدم
وفي الهجرة الزهراء قربى قريبة ... نمت بأسباب الحنيف إليكُم
فإن نحيها نحيِ الزمان تقدمت ... أوائلنا أهليه وهو لهم فم
وإن نحيها نحي النفوس كبيرة ... وإن جعلت في أرضها اليوم نهضم
وإن نحيها نحي المروءة والندى ... وبأساً من الفولاذ أمضى وأصرم
ألا ليت شعري ما دهى العرب إنني ... أرى الجو في آفاقها يتسمم
أكل بناء غيرهم متساند ... وكل قبيل غيرهم متقدم
أجل كل قوم فرطوا في لغاتهم ... غدوا وصروف الدهر فيهم تحكم
أرى الغرب يعنى باللغات رجاله ... ونمشي أعلامها نتعلم
هم يكبرون من رجال توفروا ... عليها إلى أن أكبر الناس منهمُ
وفي كل يوم يخرجون مؤلفاً ... نفيساً وبحثاً ينشر الفضل عنهمُ
ولا يهجرون للجديد قديمهم ... وذلك خلق عن رقي يترجم
وما ذاك إلا أن حباً يهزهم ... إلى وطن هاموا به وترنموا
أرى أمم الشرق استفاقت من الهوى ... وعاودها سلطانها المتقدم
فجدت وهمت للحياة طموحة ... وحطمت الأغلال فيما تحطم
رعى الله في أرض العراقين نهضة ... أبت لهمُ أن يستذلوا ويهضموا
بنوا دولة أما حماها فمانع ... لحوزتها والمستقلّ بها همُ(146/105)
على العلم والخلق المتين توطدت ... دعائمها والعلم بالخلق يدعم
وقامت فلسطين ترد حقوقها ... وما في طلاب الحر للحق مأتم
وحرك من سورية العسف فانبرت ... تغالبه والشر بالشر يصدم
فإن لم تنل ما قد أرادت نواله ... فمن كَثَبِ منها النجاح المحتم
وهاجت بنا الذكرى لخضراء تونس ... فأبصرت ثكلى نال منها التأيم
وفي مصر أخذ بالذي هو واقع ... وروح وفاق للحقيقة تألم
وغيرة لاوانٍ ولا متخشع ... ونشء إلى سود النوائب يبسم
هوت أنجم بالأمس كن ثواقبا ... إلى ضوئها يعشو الجهول فيعلم
حسين بن والي قد أقض مماته ... مضاجع في السودان فهي تألّمُ
هو المرء أدى للعروبة واجباً ... وعاش لوجه الله يشقى وينعم
وأودى المطيعي حجة الله في الورى ... فغاب به كنز من العلم قيم
قضى يملأ الدنيا علوماً وحكمة ... فويلي على ركن الهدى يتهدم
وأودى رشيد ذو المنار مدفعاً ... جريئاً على رد الضلالة يقدم
ومات الأديب الكاظمي وإنه ... لرزء من الإبداع في الشعر يثلم
وبغداد من بعد الزهاوي أصبحت ... خلاء وكانت من قوافيه تزحم
مضوا وقرنّا بالترحم ذكرهم ... وليس بمجدينا عليهم ترحم
بني وطني إن قمت للضاد داعياً ... فإنيَ ادعوا للتي هي أقوم
لقد وثق الله الروابط بينكم ... فلا تنقضوا بالله ما الله مبرم
أرى الضاد في السودان أضحت غريبة ... وأبناؤها أضحت لها تتهجم
تولت وما دمعٌ عليها بفائض ... وما أحد منهم لها يتألم
وساءت مقاماً فهي ثكلى حزينة ... وعيّت جواباً فهي لا تتكلم
وذلك يفضي لانقراض وذلة ... ويفضي إلى أن في سوى العرب ندغم
عزيز علينا أن تلين قناتها ... وأبناؤها في ضحوة العمر تهرم
عزيز علينا أن نراها هزيلة ... وجاراتها فينا تزيد وتعظم
كفانا هوانا أن ريباً يحوطنا ... وإنا إذا رمنا الحديث نجمجم(146/106)
وإنا برغم العلم في كل بلدة ... يحيط بنا هذا الظلام المخيم
تبدلت الأحوال حتى لقائل ... يقول على قدر التدلي التقدم
ونبئت في السودان قوماً تآمروا ... على اللغة الفصحى فساءوا وأجرموا
وبالأدب القومي قالوا سفاهة ... وما لمحوا حقاً ولكن توهموا
إلا نحن عرب قبل أن لعبت بنا ... صروف الليالي والجهول الغشمشم
أما والليالي العشر والفجر طالعاً ... وما الفجر في الإسلام إلا محرم
إذا لم تحسوا داءها وهو فاتك ... تهونوا وفي غير العروبة تدغموا
فعضوا عليها بالنواجد إنها ... صلاحكم إن تخلعوه هزمتمُ
سلام عليكم إن عدمتم بيانها ... سلام على الفصحى سلام عليكم
عليك يا رسول الله نلقي رجاءنا ... فقد جعلت منا الحوادث تهدم
ونستنزل الإرشاد من روحك التي ... على كل من يلقى السلام تحوّمِ
أصلي عليه ثم أذكركم بما ... يقربكم منه فصلوا وسلموا
(لحب ابن عبد الله أولى فإنه ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم)
(الخرطوم)
عبد الله عبد الرحمن(146/107)
نظر محمد إلى الأديان
للأستاذ مصطفى عبد الرازق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
كان ما تسرب إلى بلاد العرب من اليهودية والنصرانية قبل الإسلام قد نضحت عليه الوثنية الضاربة هناك يومئذ أطنابها، ولم يكن المجوس والصابئة أهل توحيد خالص وإن ألحقوا بأهل الكتاب
قال الشافعي: بعثه والناس صنفان:
أحدهما أهل كتاب بدلوا من أحكامه وكفروا بالله فافتعلوا كذباً صاغوه بألسنتهم فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم، فذكر تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من كفرهم فقال:
(وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ثم قال عز ذكره:
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيدهم وويل لهم مما يكسبون)
وقال تبارك وتعالى:
(وقالتْ اليهودُ عزيرٌ ابنُ اللهِ، وقالتْ النصارَى المسيحُ ابنُ اللهِ، ذلكَ قولهمْ بأفواههمْ يضاهئونَ قولَ الذينَ كفرُوا منْ قبلُ قاتلهمْ اللهُ أنَّى يؤفكونَ؛ اتخذُوا أحبارهمْ ورهبانهمْ أرباباً منْ دونِ اللهِ والمسيحَ ابنَ مريمَ وما أُمرُوا إِلاّ ليعبدوُا إِلهاً واحداً لا إلهَ إلاّ هوَ سبحانهُ عمَّا يشركونَ). وقال تبارك وتعالى:
(ألمْ ترَ إلى الذين أوتُوا نصيباً منَ الكتابِ يؤمنونَ بالجبتِ والطاغوتِ ويقولونَ للذينَ كفرُوا: هؤلاءِ أَهدَى من الذينَ آمنُوا سبيلاً، أولئكَ الذينَ لعنهمْ اللهُ ومنْ يلعنِ اللهُ فلن تجدَ له نصيراً)
وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله ونصبوا بأيديهم حجارة وخشباً وصوراً استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألقوه، ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه، فأولئك (العرب)(146/108)
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا وفي عبادة ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم ونار وغيره، فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم جواباً من جواب بعض من عبد غيره من هذا الصنف فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم: (إنَّا وجدنَا آباءنا على أمةٍ وإنَّا على آثارهمْ مقتدونَ) وحكى تبارك وتعالى عنهم أنهم قالوا: (لا تذرُنَّ آلهتكمْ ولاَ تذرنَّ ودًّا ولا سواعا، ولا يغوثَ ويعوقَ ونسراً وقد أضلُّوا كثيرَا) (كتاب الرسالة ص 2 - 3)
وبين من كلام الشافعي أن الأديان تظل بلاد العرب وما والاها عند ظهور الإسلام كانت ما بين دين وثني يقوم على الشرك من أساسه، وما بين أديان تقوم على الوحي الذي لا يأتي بغير التوحيد، لكنها انحرفت عن سبيل الوحي فأصابها شوب من الشرك
وكان محمد صلوات الله وسلامه عليه يدعو الناس كافة إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، لا يميز في هذه الدعوة بين مشركين وأهل كتاب
وإذا كان القرآن ينادي:
(قل يا أهلَ الكتابِ تعالَوْا إِلَى كلمةٍ سواءِ بينناَ وبينكُمْ ألاَّ نعبدَ إِلاَّ اللهَ ولا نشركَ به شيئاً ولا يتخذَ بعضُناَ بعضاَ أرباباً مِنْ دونِ الله، فإن تولّوْا فقولُوا اشهدُوا بأنَّا مسلمونَ)
فإن القرآن يقول أيضاً:
(إنَّ الذينَ آمنوا والذين هادُوا والنصارَى والصابئينَ مَنْ آمنَ بالله واليوم الآخرِ وعملَ صالحاً فلهمْ أجرُهمْ عندَ ربِّهم ولا خوْفٌ عليهم ولا هُمْ يحزنونَ)
لا تختلف دعوة محمد حين توجه إلى أهل الشرك الصراح من وثنيِّي العرب، أو إلى أهل الكتاب بلا نزاع من اليهود والنصارى، أو إلى من يشتبه أمرهم ويختلط الرأي فيهم من الصابئة والمجوس
دعوة محمد إلى كل أولئك هي الدعوة إلى الدين الحق الواحد الذي لا يتغير بتغير الأنبياء والذي هو هدى أبداً
ولما كان دين الحق واحداً أوحاه الله إلى جميع أنبيائه وبينه في كل كتبه المنزلة فقد كان من الطبيعي أن يعتبر محمد أتباع الوحي ممن لهم كتاب أو شبهة كتاب أدنى إلى دعوته وإن حرفوا في دينهم، وأرجى أن يثوبوا إلى ما في أصول مللهم من إخلاص العقيدة لله وحده(146/109)
من أجل هذا اختلف حكم الإسلام في بعض المعاملات بين المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون لا تؤكل ذبائحهم ولا يتزوج المسلم منهم، وإذا غلبهم المسلمون في الجهاد لم يأخذوا منهم جزية ولم يكن لهم سبيل إلا أن يخرجوا من شركهم إلى حظيرة التوحيد
أما أهل الكتاب فتؤكل ذبائحهم ويزوج المسلمون منهم، وإذا هزموا في الحرب واستولى المسلمون على ديارهم فللمسلمين أن يأخذوا منهم الجزية ليحموهم مما يحمون منه أنفسهم وأموالهم ثم يتركوهم في دينهم أحرارا
ولا خلاف بين المسلمين في أن اليهود والنصارى أهل كتب، وأن وثنيِّ العرب في الجاهلية مشركون
واختلفت الروايات والأقاويل في حكم الصابئة والمجوس هل يلحقون بأهل الكتاب أم يلحقون بالمشركين
ولا شك أن ما عرف من أديان البشر بعد ذلك مما لم يكن معروفاً للعرب، فيه للرأي والاجتهاد مجال من جهة إلحاقه بالشرك أو بأديان أهل الكتاب
وجملة القول أن محمداً يرى التوحيد دين الله الحق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، فالمشركون عبدة الأوثان منحرفون عن فطرة الله، ضالون عن صراطه المستقيم، ومن عداهم قريبون من الإسلام الذي جمع الرسول صلوات الله عليه وسلامه عليه جوهره في قوله لمن سأله عنه: (قل آمنت بالله ثم استقم)
مصطفى عبد الرازق(146/110)
زوجةٌ وفَت!. .
للأستاذ محمد سعيد العريان
هم الفتى (أبو العاص ابن الربيع. . .! ابن عبد شمس) ينصرف من مجلس خالته (خديجة بنت خويلد) رائحاً إلى داره، وإن في نفسه لحديثاً ما إن يحاول بيانه ولا طاقة له بأن يكتمه. . ونظرت خديجةُ في وجه الفتى الذي اتخذته ولداً، وقد ثكلت الولد، فأنكرته وما نَكِرتْ حديث عينيه؛ ثم عادت تنظر إلى ابنتها (زينب) فتطيل النظر، فما لبثت أن ألهمت الرأي مما نظرت في وجه الفتى والفتاة. . . .
وسعت خديجة إلى زوجها تستعينه وتشير عليه: (يا محمد! أرأيت إلى ابن أختي (هالة) - أبي العاص بن الربيع - إنه لذو جاه ومال وأمانة، وهو منا ومنك حيث علمت، نعم الفتى القرشيّ. . . أفترى أن نتخذه ختَناً وولداً فتزوجه زينب. . .؟)
وافتر ثغر النبيّ الكريم عن ابتسامة الرضى، فما كان ليخالف خديجة في رأي تراه، ولها في نفسه ما لها من الحب والإعزاز، وهي في نفسها مَن هي في أصالة الرأي وحسن التقدير. . .
وزفت زينب بنت محمد إلى أبي العاص بن الربيع. . .
ومضت خديجة إلى الزوجين المتحابين تبارك لهما وتدعو، أطيب ما تكون نفساً وأهنأ فكراً. . . ومدت يمناها إلى طوقها لتخلع قلادتها لتجعلها في عنق زينب، هديةَ عروس. .
ونعم الزوجان بالسعادة حيناً في دنيا من الحب والفاء والإيثار. . .!
وأشرقت الأرض بنور ربها، وانبثق الفجر من غار حراء، يسعى محمدٌ في نوره داعياً إلى دين الله وإلى نبذ الشرك وعبادة الأوثان؛ فصدّق من صدّق واتبعه على هدى وبصيرة، ولجّ من لج في الطغيان والعناد، وآمنت زينب فيمن آمن، ولكن أبا العاص لم يَهُن عليه أن يخلع دينه. . . وضرب الزمن ضربته بين القلبين المتحابين فباعد بينهما إلى حين
أسفت زينب، ونال منها إصرار أبي العاص على الكفر أي منال، وأسف أبو العاص، ونال منه إسلامُ زوجته مثلَ ما نال منها كفره؛ وشعر كلا الزوجين أن قوة أكبر من الحب تحاول أن تفصم عروته وتحلّ وثاقه: أما أحدهما فأعلن التمرد والعصيان، وقال لصاحبته: (لن ينال مما بيننا يا زينب أن تكوني على دينك وأثبت على ديني، فلن أسلمك للفراق. . . .!)،(146/111)
وأما هي فقالت: (قليلا يا صاحبي، لست حلاً لك وأنت على ذاك الدين، فأسلمني لربي أو أسلم معي. . لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت!)
واصطرعت في نفس الزوج المحب قوتان تتجاذبانه: حفاظه على ذلك الدين الذي أورثه آباؤه، وذلك الحب الطاغي المستبد الذي يحاول أن ينتزع امرأة مسلمة من دينها الذي آمنت به. . وأطرق الزوجان ساعة، ثم التقى النظران. . . وفرق الدين بينهما جسدين، وظل قلباهما مؤمنين بالحب؛ وعاشا يظلهما سقف واحد ولا يلتقيان إلا نظرات. . . وتصرمت سنون. . .
ودعت قريش إلى النفير العام: (يا أهل مكة، إلى بدر، إلى بدر؛ إن محمدا وأصحابه قد وقفوا لتجارتكم على الطريق بين الشام ومكة، فرُدوا عليهم كيدهم. . .!)
وخرج أبو العاص فيمن خرج من المشركين إلى لقاء محمد وأصحابه في بدر، ليُجازوهم بما اعتدوا؛ وظلت زينب في دارها تنتظر. . . إن هنالك قوتين تصطرعان، وموجتين تتدافعان، ما تدري لأيهما تتمنى الغلبة، بلى؛ إنها لتدري، فهنالك أبوها محمد، لو لم تحببه وتتمنّ له النصر لأنه أبوها، لأحبته وتمنت له النصر لأنه رسول الله، لأنه قائد جيش الإسلام، لأن إلى جانبه في الصف أخوتها في الله. . . ولكن. . . ولكن زوجها. . . وجلست تدعو الله: اللهم اجعل الدائرة على المشركين، ولكن نج أبا العاص. . .!
وعاد الركب المنهزمون ينبئونها: (يا زينب، لقد دارت علينا الدائرة، ونال منا المسلمون كلّ منال، يا زينب، ولكن أبا العاص في الأسرى، لا ندري ماذا سيفعل بهم أصحاب محمد. . .!)
فما توانت الزوجة الوفية هنيهة؛ لقد كان لديها من مال زوجها ما تفتديه به، لديها المال والنعم، ولكنها نظرت أمراً. . . ورفعت يدها إلى صدرها فخلعت قلادتها، ثم شيعت بها الرسول يفتدي بعقد خديجة ابن أخت خديجة وختَنَ محمد. . . وجعلت هدية عرسها من أمها مهر الحرية للزوج الذي فقدته مرتين. . .
وذهب رسول زينب يسعى عن أمرها حتى وقف على محمد: (يا محمد، هذا مال من مال أبي العاص، وهذه قلادة خديجة بنت خويلد، بعثتني بهما زينب في فداء أبي العاص. . .!)
ونظر رسول الله إلى القلادة نظرةً جمعت له الزمان كله في لحظة فكر، واحتشدت صور(146/112)
الماضي أمام عينيه من خلل حبات العقد الغالي، ورفّت في ذهنه صورٌ حبيبة إليه، فكأنما نشرت خديجة من موت، وكأنما انطوت البيداءُ بزينب، فاجتمعتا إليه تسألان العفو عن هذا الأسير. . . ونظر محمد في أصحابه فقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا. .!)
وعاد أبو العاص إلى مكة، وفي نفسه صورة أكثر إشراقاً لهذه الزوجة البرة الكريمة، ولكنه عاد لا ليشكر لها ما منّت عليه، بل ليقول: (عودي إلى أبيك يا زينب!) وفاء بما أخذ عليه رسول الله من عهد بأن يطلقها تسير إليه. . . وخنقته العبرة فما استطاع أن يتمالك ولا أن يشيعها إلى طرف البادية؛ ومن أين له أن يجد في نفسه القدرة على توديع من يحب، وإنه ليعلم أنه الوداع الأخير مادام سلطان هذا الدين قائماً بين القلبين. . .!
ومضى يقول لأخيه كنانة ابن الربيع: (يا أخي، إنك لتعلم موضعها من نفسي، فما أحب أن لي بها امرأة من قريش؛ وإنك لتعلم أن لا طاقة لي بأن أفارقها، فاصحبها عني إلى طرف البادية، حيث ينتظرها رسولا محمد (ببطن يأجج)، وارفق بها في السفر، وارعها رعاية الحرمات ولو نثرت دونها كنانتك، لا يدنو منها رجل حتى تبلغ. . .!)
وافترق الزوجان فلا سبيل إلى لقاء؛ وأقام أبو العاص بمكة لا يعيش في أيامه، وأقامت زينب عند رسول الله بالمدينة معتلّة البدن واهنة القلب، لولا الإيمان والتقى يشدان من عزمها ويربطان على قلبها لأعجلها الموت ولم تظفر بلقاء. . .
ومضت سنوات وسنوات؛ وخرج أبو العاص في تجارة إلى الشام، يحمل من أموال قريش وبضاعتها فوق ما يحمل من ماله وبضاعته، وبلغ حيث أراد، فباع واشترى وتعوض، ثم قفل راجعاً بمال كثير وربح جم؛ وفيما هو على الطريق إذ لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه وأعجزهم هارباً؛ وآب المسلمون إلى المدينة فرحين بما أفاء الله عليهم، ووقف أبو العاص على رأس شاهقة يتلفّت صِفر اليدين، فما وجد إلا الصحراء تبرق بالحصى، ومد النظر إلى البعيد، فما عرف له طريقاً يسلك، وخُيّل إليه أن وراء كل ثنية فارساً معلماً يتربص به لقد فقد ماله ومال الناس، ولا سبيل إلى أن يرد الأمانات إلى أصحابها، وإنه لموشك أن يفقد حياته بعدما فقد ماله وأمانته؛ واجتمع عليه الهم فما درى أين النجاة لنفسه ولعرضه مما عرض له، إن النحس ليلاحقه في كل مسير. . .(146/113)
وعادت إليه الذكرى، ورجع الزمانُ القهقري أمام عينيه، كما يجتمع التاريخ بزمانه ودنياه في لحظة ومكان لعيني محتضر؛ وتذكر من قريب تلك الحبيبة التي أحيته مرتين: حين وهبت له الشعور بالحياة في الحب، ثم حين وهبت له الحياة نفسها وافتدته عند أبيها بقلادة خديجة. . . وخُيل إليه أنه يراها، وأنه يحدثها فتستمع إليه، فهمس: (أتهبين لي الحياة ثالثة يا زينب. . .!)
وأقبل أبو العاص إلى المدينة تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله؛ فاستجارها وطلب إليها أن تعينه على رد ماله، فأجارته. . .
وأصبح الناس يسعون إلى المسجد، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر معه؛ وإذا صوت يهتف من وراء جدار: (أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. . . فهو في حمايتي وأمني!) وكانت زينب هي التي تهتف. . .
وفرغ النبي من صلاته فأقبل على الناس فقال: (أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟. . . أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم. أنه يجير على المسلمين أدناهم. . .!) ثم دخل على ابنته فحدثها وحدثته. وأكبر محمد أن يرى في ابنته هذا الوفاء لزوجها الذي فارقته لأمر الله، وامتنعت عليه لأمر الله، وقطعت ما بينه وبينها من شهوات النفس لأمر الله؛ ثم ما برحت مع كل أولئك تمنحه البر والوفاء والمعونة؛ برّ المسلمة، ووفاء الصديقة، ومعونة الإنسان. . . ونال من نفس النبي ما سمع وما علم، فأضمر في نفسه رجاء إلى الله. . .
ثم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال: (إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً؛ فإن تحسنوا وترددوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك؛ وأن أبيتم، فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. . .) قالوا: (بل نرده عليه. . .). وقال نفر منهم: (يا أبا العاص، هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؟ فأنها أموال المشركين. . .) فقال الرجل: (بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. . .!) واستعلنت كبرياؤه وأمانته وهو بين ذلة المستجير وأسر الفقر، وأطلت نفسه المؤمنة بفطرتها من وراء ظلمات الشرك الذي يجهر به، مستكبراً أن يبيع دينه بالمال. . .!
وردوا إليه ماله، كرامة لرسول الله وإكباراً لزينب، وعاد الرجل إلى مكة بماله ومال(146/114)
الناس، ونفسه تفيض بمعان شتى، وبين عينيه صورة لا تفارقه، وفي قلبه وجيب لا يهدأ، وعلى طرف لسانه كلام. . . فلما بلغ أدى إلى كل ذي مال ماله، ثم قال: (يا معشر قريش، هل بقى لأحدكم منكم عندي مال؟) قالوا: (لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً.) قال: (فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن يظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. . .)
وخرج أبو العاص بن الربيع إلى المدينة يهديه نوران في قلبه وأمام عينيه، وسار في مثل موكب العروس تتدافعه المنى على رمال الصحراء، إلى حيث يجد نور اليقين وأنس الحبيب، في حديث محمد وفي وجه زينب، وتلاقى الزوجان المتحابان مرة ثانية، بعد فراق طويل مر من دونه سنوات وسنوات، ولكن الزوجة الوفية كانت قد أدت واجبها وفرغت من دناياه حين هدتِ الرجل الذي أحبته ووفت له بمقدار ما أحبها ووفى؛ فما مضى زمان بعد هذا اللقاء استكمل فيه الرجل أسباب دينه، حتى كانت هي قد استوفت أنفاسها على الأرض؛ وماتت زينب ولكنها خلفت ذكرى أطيب الذكرى، وضربت المثل أبلغ المثل، في وفاء الزوجة، وإخلاص المحبة، وصدق الإيمان
محمد سعيد العريان(146/115)
على أبواب المدينة
ثنّية الوداع
للأستاذ على الطنطاوي
مضت ساعة كاملة، ونحن نعالج السيارة لنخرجها من الرمل، نرفعها طوراً بالآلة الرافعة وطوراً بأيدينا، ونزيح الرمال من طريقها، ثم نمدّ لها ألواح الخشب لتمشي عليها، ونجرها بالحبال، وندفعها بالأيدي حتى إذا سال منا العرق، ونال منا التعب مشت على الألواح، حتى إذا وصلت إلى نهايتها، عادت فغاصت في الرمال إلى الأبواب. . . . . .
فأيسنا وبلغ منا الجهد، وهدّنا الجوع والتعب والحرّ والعطش، فألقينا بأنفاسنا على الرمل صامتين مطرقين، حيارى قانطين
وتلفتّ فلم أر إلا الرمال المحرقة، تمتد إلى حيث لا يدرك البصر، متشابهة المناظر، متماثلة المشاهد. . .
في مَهمهٍ تشابهت أرجاؤه، كأن لون أرضه سماؤه، فرحت أفكر في هذه السبعة عشر يوماً، وما قاسينا فيها من الجزع والتعب والجوع والعطش، وأتصور الغد الرهيب الذي ينفد فيه ماؤنا وزادنا، ويلفحنا فيه سموم الحجاز وشمسه المحرقة، فأرتجف من الرعب
وجعلت أحدّ النظر في هذا الأفق الرحيب، لعلي أرى قرية أو خياماً، فلا أرى إلا لمع السراب، ولا أبصر إلا هذه الجبال التي طلعت علينا أمس فاستبشرنا بها وابتهجنا وظنناها قريبة منا، فسرنا مائة وعشرين كيلاً وهي قيد أبصارنا، تلوح لنا من بعيد كأنها بحر معّلق حيال الأفق ضائع بين السماء والأرض. . . لم تضِح ولم تقترب
فشققت هذا السكون وصحت بالدليل (محمد العَطَوى)
- يا محمد! إيش تكون هذه الجبال؟
- فقال: هذه يا خوي جبال المدينة، وحّنّا (ونحن) إن شاء الله الظهر فيها
- قلت: ما تقول؟
ووثبت وثبة تطاير منها اليأس والخمول عن عاتقي، وأحسست كأن قد صبّ في أعصابي عزم أمة، وقوة جيش، وظننت أني لو أردت السحاب لنلته، ولو غالبت الأسد لغلبتها، ولو قبضت على الصخر لفتته، وجعلت أقفز وأصرخ، لا أعي ما أنا فاعل. فقد استخفني(146/116)
الفرح، وسرني من هذه الكلمة أكثر ما يسرني أن يقال لي: أنت أمير المؤمنين
وصحت بأصحابي فقاموا كالأسود
عالجنا السيارات حتى أخرجناها من الرمل، وملنا بها عن هذه الكثبان حتى ألقيناها عن أيماننا، وانتهينا إلى أرض شديدة درجت عليها السيارات، فاستندت إلى النافذة، وأطلقت نفسي تطير في سماء الأماني، فلم ادع صورة للمدينة إلا تصورتها، وأقمتها أمام عيني، وأفضت عليها ما أستطيع من الجمال والجلال، فلا أطمئن إليها، ولا أجدها إلا دون ما في نفسي. . . ولم يكن يربطني بالأرض إلا صوت الدليل، وهو يهتف بالسائق:
- سر يميناً، مل شمالاً، لج بين هذين التلين، دع هذه القارة على اليمين، احترس من هذا الشعب، تنكب هذه الرملة. . ثم يعود السكون
سرنا أربعين كيلاً أخرى، ولا تزال هذه الجبال تلوح في الأفق كأنها خيال حلم بعيد، يشع منها نور غريب، يومض من وراء القفر، كما يومض الأمل المشرق في ظلمة اليأس، وكنا قد شارفنا سكة الحديد فتخطيناها مستعبرين، ودخلنا في أودية مالها آخر غابت عنا فيها الجبال التي كنا نراها، فنستأنس بمرآها وقاسينا فيها من الشدائد من التواء الأرض وكثرة الأحجار وتشابه المسالك، ولم يكن فينا من ينبس، إلا أن يعرض لنا جيل أو شعب فأسأل الدليل عن اسمه لأكتبه في دفتري الذي سرق مني في آخر الرحلة. . . ثم أرجع إلى صمتي الطويل
فلما زال النهار، صاح بي الدليل:
- هيه. أنت يال كاتب. أكتب: هذا أحد!
- فصحت: إذن قد وصلنا
- فقال: ما قلت لك الظهر، هذا أحد، بقي نصف ساعة.
لم يكن يدري الدليل الإعرابي أي ذكريات انبعثت في نفسي حين قال: هذا أحد! وأي عالم تجلى لعيني، فرأيت المعركة قائمة والمسلمين ظافرين، قد منحهم الله أكتاف العدو، ورأيت الرماة إذ يزلون عن أماكنهم، يبتدرون الغنائم، وخالداً حين يرتد بخيله على هؤلاء الذين عصوا أمر الرسول وغرتهم الدنيا، ورأيت النبي صلى الله عليه سلم ثابتاً مثل أحد، وحوله صحابته الغر الميامين، يذبون عن الدين، ويحمون حمى النبوة، ثم أبصرت هنداً قائمة على(146/117)
جثة البطل السميذع، سيد الشهداء، وكان قد أكل من بدر كبدها، فأرادت أن تأكل كبده، فشقت عنها فاستخرجتها فلاكتها، فلما وجدت بفيها صلادة الصوان لفظتها
وأبصرت النبي صلى الله عليه وسلم وافقاً عليه يبكي، فلما رأى ما مثل به شهق، ولم يكن منظر أوجع لقلبه منه، ثم قال:
رحمك الله يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منهم، فما برح حتى هبط عليه الوحي، فقام يتلو قول الله جل وعزّ:
(وإن عاقَبتم فَعَاقِبُوا بمثل ما عُوقبتم بهِ) فانصرف وقد عفا
ورنّ في أذني صوت أبي سفيان: أعل هبل، فتلفت، فما رأيت هبل، ولا شيعة هبل، وإذا هو قد درج مع من درج، لم يبق إلا الله الأعلى الأجل، ثم سمعت صوت أبي سفيان يرنّ في أذني مرة ثانية، يخرج من هناك من أرض الشام، التي فتحها لهم سيد العالم، قوياً شديداً، ينادي في المعركة الحمراء، بصوت سمعه كل من في اليرموك:
يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات، يا معشر المسلمين. فثبتوا وجاءهم النصر وملكوا سورية من أقصاها إلى أقصاها فهي لهم ولأبنائهم إلى يوم القيامة، ورأيت مئات من مثل هذه الصور، فأحسست كأنما انتقلت إلى العهد الأول، أشهد هبوط الوحي، وأرى جلال النبوة وعز الإسلام. . .
ونظرت، فإذا أحد لا يزال بعيداً، يعترض هذا الوادي الذي نسير فيه مشرقاً بهياً، تومض عروقه المختلفة الألوان من الأخضر البهيّ، إلى الأحمر المشرق، إلى الأزرق اللامع، فتمتزج هذه الألوان وتختلط، فيكون لها في العين أبهى منظر، وفي القلب أسمى شعور، فازداد بي الشوق، فأقبلت أحتث السائق وأستعجله، أود لو تطوى له الأرض طياً ويطير بنا إلى المدينة طيراناً، فلا أرى السيارة تريم مكانها، أوجد أحداً لا يزال بعيداً، فأعود فأستحث السائق. . . وما لي لا أسرع إلى أحد وأحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه. وما لي لا أزداد شوقاً إلى المدينة، وليس بيني وبينها إلاّ ربع ساعة؟
وأعظم ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيام
ولما خرجنا من الوادي، وانتهينا إلى الفضاء الرحب، رأينا وجه أحد وعلى سفحه النخيل والبساتين، ورأينا سلعاً وهو جبل أسود عال، يقوم حيال أحد فيحجب المدينة وراءه، فلا(146/118)
يبدو منها إلاّ جانب الحرة، وطرف النخيل، فذكرت قول محمد بن عبد الملك وقد ورد بغداد فحنّ إلى المدينة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بسلع ولم تغلق عليّ دروب
وهل أحد بادٍ لنا وكأنه ... حصان أمام المقربات جنيب
يخب السراب الضحل بيني وبينه ... فيبدو لعيني تارة ويغيب
فإن شفائي نظرة أن نظرتها ... إلى أحُدٍ والحرتان قريب
وإني لأرعى النجم حتى كأنني ... على كل نجم في السماء رقيب
وأشتاق للبرق اليماني إن بدا ... وأزداد شوقاً أن تهب جنوب
وكان علينا أرطال من الغبار والأوساخ، فاستحينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل مدينته ونسلم عليه، ونحن على مثل هذه الحال؛ وكانت البساتين والحيطان قريبة منا، فسرنا إليها، نخب في الرمال، فلما دنونا من أحدها، سمعت غناء موقعاً على ناي، كأشجى ما سمعت من الغناء فتعجبت، ثم ذكرت أن أهل المدينة مذ كانوا أطرب الناس وأبصرهم بالغناء، وهممت بالدخول، ثم أحجمت وقلت:
لعل المغني امرأة، فلقد كان الذي سمعت صوتاً طرياً رقيقاً لا يكون إلاّ لامرأة أو غلام، ثم حانت مني التفاتة، من فرجة الباب، فإذا المغني عبد أسود كالليل، وإذا الذي حسبته ناياً ناعورة يديرها جمل، لها مثل صوت النواعير في حماه لكن صوتها أرق وأحلى، وإذا هذا السور الذي تلطمه الصحراء برمالها كما تضرب الأواذيّ صخرة الشاطئ، قد عرش على جانبه الآخر الياسمين، وأزهر عليه الفلّ، وظللته الأشجار وحنا عليه النخل، ورأينا الماء يهبط على الساقية، كأنه ذوب اللجين، ثم يجري فيها صافياً عذباً متكسراً، فجننا برؤية الماء الجاري، ولم نكن قد رأيناه منذ سبعة عشر يوماً، إلا مرة واحدة في العلا، واقتحمنا الباب، وأقبلنا على الماء نغمس فيه أيدينا، وأرجلنا، ونضرب به وجوهنا، ثم لا نشبع منه ولا ننصرف عنه، حتى أرحنا رائحة الحياة، فاستلقينا على الأرض ننظر إلى الصحراء الهائلة، التي أفلتنا منها وضرب بيننا وبينها بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب
اغتسلنا ولبسنا ثياباً بيضاء نظيفة، وتطيبنا، ثم ركبنا في السيارات إلى المدينة، فلم نقطع(146/119)
سلعاً حتى بدت لنا المدينة كصفحة الكف، يحف بها النخيل، وتكتنفها الحرار، وتقوم في وسطها القبة الخضراء، تشق بنورها عنان السماء، وتكتشف لنا دنيا كلها خير وحقيقة وجمال، وعالم كله مجد وفضيلة وجلال
من هنا خرج جند الله الثلثمائة إلى بدر، فدكوا صرح الاستبداد والجهالة، ورفعوا منار الحرية والعلم، أقاموه على جماجم الشهداء، وسقوه هاتيك الدماء، فأضاء نوره الجزيرة كلها، ثم قطع الرمل، فأضاء الشام والعراق، ثم قطع البحر فأضاء الهند وإسبانية، فاهتدى به الناس إلى طريق الكمال الإنسانيّ
من هنا خرج الأبطال الذين هدموا وبنوا وعلموا: هدموا الدول المتفسخة الجاهلة التي وقفت في طريق الحضارة، فلا هي تتقدم بها ولا هي تدعها تمشي في طريقها. وبنوا الدولة التي ألفت بين فلسفة يونان وحضارة فارس وحكمة الهند، وجعلتها جميعاً سِفرا واحداً فاتحته القرآن، وروحه الإسلام، ثم جلسوا على منابر التدريس في جامعات بغداد ومصر وقرطبة ليعلموا العالم، فكان من تلاميذهم ملوك أوروبا وباباواتها. . .
من هنا خرج أبو بكر وعمر، وعبد الملك والمنصور والرشيد وعبد الرحمن الناصر وصلاح الدين وسليمان القانوني
من هنا خرج أبو حنيفة ومالك وسفيان والنووي والغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد
من هنا خرج خالد وسعد وقتيبة وطارق وسيف الدولة والغافقي
من هنا خرج حسان والفرزدق وجرير وأبو تمام والمتنبي والمعري
من هنا خرج الجاحظ وأبو حيان حزم
من هنا خرج ألف ألف عظيم وعظيم
تقدست أيتها المدينة. . . أم المدن، وظئر العظماء؟
وكنا قد بلغنا هذا المضيق الصخري، بين هضبتي سلع، فنظرت في خريطة للمدينة كانت معي، وقلت للدليل: أما هذا ذبِاب؛ قال: بلى والله فما يدريك أنت؟
قلت: أما هذا مسجد الراية؟ قال: بلى. قلت: هذه هي ثنية الوداع، وخفق قلبي خفقاناً شديدا، وخالطني شعور بالهيبة من دخول المدينة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي من الفرح والسرور، وجعلت أتأمل المدينة، وقد دنونا منها، حتى لقد كدنا(146/120)