ترجمة لجالسوير ذي
منذ نحو عام ونصف توفي جون جالسوير ذي عميد الكتاب القصصين الإنكليز ورئيس نادي القلم الإنكليزي؛ ومن ذلك الحين يعنى جماعة من أصدقائه بوضع كتاب جامع عن حياته، وقد صدر هذا الكتاب أخيراً بعنوان (حياة جون جالسوير ذي ورسائله) بقلم الكاتب والنقادة المعروف مستر هـ. ماروت، وهو مجلد ضخم في نحو تسعمائة صفحة، ولكنه ليس بالكثير على رجل كان طليعة القادة والزعماء في الأدب الإنكليزي المعاصر. وفي حياة جالسوير ذي ما يستوقف النظر، فهو لم ينشأ كاتباً ولا قصصياً، ولم ينزل ميدان الكتابة إلا بعد أن طوى مرحلة الشباب؛ وقد هام في صباه بالرياضة والرحلات، وكان أول عهده بهوى الكتابة رحلةٍ قام بها في البحار الجنوبية؛ وشاءت الأقدار أن يلتقي على ظهر السفينة التي أقلته ببحار فتى بولوني يدعى يوسف كونراد، وقد كان هذا البحار الفتى أديباً، وشاءت الأقدار غير بعيد أن يغدوا كاتباً شهيراً، وأن يكتب بالإنجليزية قصصاً رائعة؛ وكانت صحبة تاريخية بين الكاتبين العظيمين، وكان لقاء له أكبر الأثر في تطور حياة جالسوير ذي
وثمة ظرف آخر كان له في حياة جالسوير ذي وفي تكوينه الأدبي أكبر تأثير، وذلك هو حبه لزوجه، وهو حب كان يشوبه الحزن والألم لما كانت تلقاه هذه الزوجة العزيزة من صنوف الأوصاب المبرحة، وقد أذكى هذا الظرف المؤلم عاطفة الحب عند جالسوير ذي، وأذكى مشاعره الإنسانية، فغدا نصير المكلومين والبؤساء، وأضحى القلم في يده أداة للتعبير عن هذا الحب الإنساني؛ وهكذا أضحى جالسوير ذي مصلحاً وزعيما إنسانياً. ويقال إنه كان ينفق نحو نصف دخله لغوث المنكوبين والبؤساء
هذه الظروف والمواقف المؤثرة في حياة جالسوير ذي يعرضها مستر ماروت في عرضاً قوياً بديعاً، ويورد خلال حديثه للكاتب عشرات الرسائل التي لم تنشر من قبل
جائزة فمينا لسنة 1935
منحت جائزة (فمينا) الأدبية الشهيرة عن هذا العام لسيدة شاعرة، هي الكاتبة والشاعرة الفرنسية كلود سيلف أو الكونته دلافوريه ديفون، وقد نالت السيدة هذه الجائزة بكتابها(130/73)
المسمى (البركة) وهو قصة شعرية لقصر قديم ترويها سيدة قارئة في زاوية سحيقة من زوايا القصر، وتذكر خلالها طائفة مدهشة من العجائب والخوارق، وقد وصف الكتاب بأنه قطعة من الأدب الساحر، وأنه صورة قوية للأدب النسوي، يفيض رقة ورشاقة، وهو مكتوب بالشعر الريفي القوي المؤثر، وقد صرحت مؤلفته مدام سيلف أنها ما كانت تنتظر قط أن يظفركتابها بمثل تلك الجائزة الخطيرة، لأنها تعتقد أن جمهور القراء قد انصرف منذ بعيد عن قراءة الشعر، أما الآن فهي تعتقد أن الجمهور ما زال يحتفظ بذوقه الشعري، وأنه في وسع المرء أن يكتب الشعر وأن يقدمه إليه
في أدب الشباب
جرت مجلة (آلاباج) الفرنسية على أن تخصص في ديسمبر من كل عام جائزة أدبية قدرها ألف فرنك (نحو خمسة عشر جنيهاً) تمنح عن أحسن قصة صغيرة يكتبها شاب دون الحادية والعشرين. وقد منحت هذه الجائزة هذا العام لطالب طب يدعى (آلان ليجيه) عن قصة كتبها وقدمها بعنوان (الخلاصة)، وتشرف على تخصيص هذه الجائزة لجنة أدبية مكونة من عدة من أعلام الكتاب مثل جورج دوهامل، وفرنسوا مورياك، وبونار. وقد صرح مسيو دوهامل للصحفين أن القصة التي منحت الجائزة هذا العام هي أحسن قصة للشباب قرأوها منذ أربعة أعوام. والظاهر أن سيكون لهذا الطالب القصصي مستقبل زاهر في عالم الأدب(130/74)
الكتب
الجزء الثاني من شرح الإيضاح تأليف الأستاذ عبد المتعال
الصعيدي
أتمت المكتبة المحمودية التجارية طبع الجزء الثاني من شرح الإيضاح في علوم البلاغة للأستاذ عبد المتعال الصعيدي المدرس بكلية اللغة العربية، وقد نهج فيه نهجه الأول من العناية باللباب في هذه العلوم دون القشور التي يعنى بها فيها، وشرح شواهده، ونسبتها إلى قائليها، وبيان ما دخل هذه العلوم من الأخطاء التي وقعت فيها، ومن ذلك مسألة الوصل والفصل فقد جرى عبد القاهر على أنهما إنما يكونان في الجمل دون المفردات، وفي الواو دون غيرها من حروف العطف، وجرى المتأخرون على أنهما يكونان في الجمل وفي المفردات، وفي الواو وغيرها من الحروف العاطفة، فرد الأستاذ الشارح الحق في ذلك إلى نصابه، وذكر أن العطف في المفردات يجري وراء اشتراكها في الحكم ولو لم يكن هناك بينها مناسبة من المناسبات المعتبرة في مسألة الوصل والفصل، كما جمع بعض الشعراء بين الضب والنون في وصف واد جمع بينهما فقال
زُرْ وادي القصر نعم القصر والوادي ... في منزل حاضر إن شئت أو بادي
ترقيَ به السُّفْنُ والظُّلمانُ حاضرةٌ ... والضَّبُّ والنُّونُ والملاح والحادي
ولو جرت المفردات في ذلك مجرى الجمل لما صح لهذا الشاعر عطف النون على الضب، لأنهم يقولون في الجمل إن الجمع بين غير المتناسبين فيها كالجمع بين الضب والنون؛ وقد تحس مراعاة تلك المناسبات بين المفردات في الخيال الشعري، لأن الأمر فيه يجري على الخيال لا على الحقيقة. وقد اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة فأنشد الكميت:
أم هل ظعائن بالعلياء رافعة ... وإن تكاملَ فيها الدل والشنب
فعقد نصيب واحدة؛ فقال له الكميت ماذا تحصى؟ فقال خطأك، فأنك تباعدت في القول! أين الدل من الشنب؟ ألا قلت كما قال ذو الرمة
لَمياءُ في شفتيها حوّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللثات وفي أنيابها بَرَدُ
فالدل يذكر مع الغنج وما أشبهه، والشنب يذكر مع اللعس وما أشبهه
وكذلك عيب على أبي نواس قوله:(130/75)
وقد حلفت يميناً ... مَبرورَةً لا تكذبْ
برب زمزم والحو ... ض والصفا والمحصب
فإن ذكر الحوض مع زمزم والمحصب غير مناسب، وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان وما جرى مجراهما
وإنما يحسن من ذلك مثل قوله تعالى (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) لما بين ذلك من تقابل التضاد، وكذلك قول البحتري في رثاء المتوكل:
ولم أنْسَ وحش القصر إذ رِيعَ سِرْبُهُ ... وإذ ذُعِرتُ أطلاؤُه وجآذِرُهْ
تحمل عنه ساكنوه فجاءة ... فعادت سواء دوره ومقابره
ولكن ذلك كله يرجع إلى محسنات بديعية، ولا يرجع إلى ما يجب في اعتبار الوصل والفصل بين الجمل
وقد جرى الأستاذ الشارح على هذا المنوال في تحقيق أمثال هذه المسألة، فجزاء الله خيرا، ومنح شرحه ذيوعاً.
(ص)(130/76)
العدد 131 - بتاريخ: 06 - 01 - 1936(/)
الرسالة في عامها الرابع
تُحَيِّ الرسالة عامها الرابع بوجه مشرق بالرضى، وثغر مُفْترٍ عن الأمل، ولسان رطيب بالحمد؛ وتسأل الله سبحانه أن يزيدها نَفَسا في الأجل، وثباتا في العمل، وإخلاصا في النية؛ ثم تقف على رأس هذه المرحلة الجديدة وقفة المستجم الذاكر، تستمد القوة من الإيمان، وتستروح النشاط من الصبر، وتستخرج الصواب من الخطأ، ثم تبادل أصدقاءها الخلص ولاء بولاء ووفاء بوفاء وتحية بتحية.
تعالوا يا رفاق الروح وإخوان الفكرة نتناقل شجون الحديث في هذه البرهة التي ينسدل فيها ستار ويرتفع ستار، وينتهي من رواية الحياة فصل ويبتدئ فصل. ماذا سجل العام المنصرم في صفحته المطوية عن حياتنا العقلية؟ هل استقر لنا أدب خاص؟ هل صدر عنا إنتاج مستقل؟ هل ظهر فينا زعيم موهوب؟ هل غلبت علينا ثقافة واحدة؟ هل تسايرت أفكارنا إلى غاية معينة؟ هل أتصل أدبنا بالأدب العالمي المشترك؟ هل اتسع نطاق الأدب العربي فشمل نواحي الفن؟ تلك أسئلة يتشقق في أجوبتها الرأي، ثم لا يجتمع لك منها ما يوضح مبهماً ويحدد فكرة. وحسبك من ضعف الشيء أن تتعارض الأقوال في وجوده.
مما لا ريب فيه أن هناك أدباً متميز بفنه عن كل عصر، وإنتاجاً أستقل بأصالته عن كل نقل، وأسلوب أنفرد بخصائصه عن كل مذهب، واتجاها تنزه بمراميه عن كل عبث؛ ولكن هنالك أيضاً تنوعاً في مصادر الثقافة يباعد وجوه الرأي، وضلالا في فهم الأدب يزيف حقائق الفن، وإمعاناً في استيحاء الغرب يفسد روح القومية. فأحمد أمين، والرافعي، وطه حسين، والعقاد، والمازني، وهيكل لا تكاد تجد لهم في الأدب الموروث أشباها في سلامة المنطق وعمق التفكير وصدق الأداء وأصالة الإنتاج. وهم على اختلاف ثقافتهم متفقون على بناء الجديد على أساس القديم، وإذكاء الفكر الشرقي بالفكر الغربي، وتلقيح الروحية العربية بالمادية الأوربية، وإيثار الأسلوب البليغ المشرق في حدود الفن البارع السليم؛ وقد ظهر اتحاد وجهتهم جليا فيما نشروه هذا العام من مقالات ومحاضرات وكتب، وسينتهون متى استقرت أمور البلد، واستقلت إدارة الشعب، وهدأت ثائرة النفوس، إلى أدب واضح المعالم، مرسوم الحدود، تحرك جسمه روح، وتجمع أجزاءه وحدة، ويواجه أهواءه غرض.
وعلى هذه الخطة المثلى سارت الرسالة ثلاث سنين كاملة، قطعت فيها ولله الحمد مراحل مطموسة وعرة، ولولا عناية الله لأبدعت المطىٌّ وحار الدليل.(131/1)
لقد كان على الرسالة أن تجاهد خصوماً ثلاثة جمعهم عليها دفاع الطفيلي عن وجوده: زهادة الشباب في القراءة وبخاصة ما كان جدّ يامنها؛ وتلك العلة التي جرها عليهم سوء التعليم وفساد الغيش هي سبب ما نشكوه من بطئ الثقافة وضعف الصحافة وقلة الإنتاج. وطغيان الأدب اللاهي على الأذواق الناشئة، فأصاب الأذهان بالكسل العقلي حتى برمت بالدرس وضاقت بالتفكير وعزفت عن الجد. ثم نفور طائفة من الأدباء لأسباب مرضية من هذه اللغة التي تقرأ، ومن هذا الأدب الذي تذوق؛ فهم يجلبون الأدب الأوربي بمعانيه ومراميه ووحيه، ثم يلبسونه طربوشاً أو عمامة ويقولون له تكلم، فيتكلم على الرضى أو على الكره، ولكنك لا تسمع بالطبع إلا عربية كعربية الرومي في البار، أو الإيطالي في المتجر!
قالت الرسالة لهؤلاء: مادمتم تكتبون بالعربية فلا بد من فنها وأدبها؛ وما دمتم تعيشون في الشرق فلا بد من إلهامه وطابعه. أما أن تحاولوا طمس حدود الأرض، ونسخ قوانين الطبيعة، وقطع سلسلة الزمن، فذلك مجهود لا يضعه الناس إلا في قرارة الحمق.
فقالوا إننا ننشر ثقافة العصور المظلمة، ونجدد أساليب البيان القديم! يريدون بالعصور المظلمة عصر الرشيد وأبنه المأمون في آسيا، وعصر الناصر وأبنه الحكم في أوربا، وعصر العزيز بالله وأبنه الحاكم في أفريقيا! وهي العصور الثلاثة التي جلت عن الأرض دياجير القرون فكشفت الأفق للإنسان، وهيأت العقل للعلم، وراضت البربر على الحضارة! وهم في ذلك أيضاً يقلدون الكتاب الأوربيين في نعتهم عصور الجرمان بالظلام، كأنما ظنوا قبائل البربر من جزيرة العرب!!
ثم يريدون بأساليب البيان القديم تلك الأساليب التي تجري على قواعد الفن فلا يشوهها لحن ولا تتعاورها ركاكة. قطعوا أنفسهم عن الموارد الروحية لهذه اللغة فصاغوها من حروف الهجاء، لا من الأعصاب والدماء، ثم آذوا فطرة الإنسان فجعلوا قوة الأسلوب عيباً، وجمال الصياغة نقيصة.
ليس في أسلوب الرسالة ما يشبه القديم إلا في الصحة. إنما هو اختيار اللفظ الجميل القوي للمعنى الجديد القوي ليس غير. أما اطراد النسق، وحلاوة الجرْس، ونبض الحياة في الكلمة، وإشراق الدلالة في اللفظ، وامتزاج الكاتب بالجملة، وبراءة الأسلوب من اللغو، فذلك هو الفن الذي يعيش ما عاش الناس، ويُعجب ما سلمت الفطرة.(131/2)
فالرسالة بين هؤلاء الخصوم الثلاثة إنما تنحت في الصخر طريقها الطويل! تسير ببطيء ولكنها لا تقف، وتعالج برفق ولكنها لا تهن، وتصطدم بالأحداث ولكنها لا تحيد.
على ذلك تجدد لأصدقائها وقرائها العهد والعزم معتمدة على فضل الله، مطمئنة إلى عطف الأمة، متكئة على عون الشباب، ممتدة بإيمان القلب، معولة على إتقان العمل؛ وفي بعض ذلك الضمان الأوفى والسند الأقوى والمرفأ الأمين.
أحمد حسَن الزيات(131/3)
اجتلاء العيد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء يومُ العيد؛ يومُ الخروج من الزمن إلى زمنٍ وحدَهُ لا يستمرُّ أكثر من يوم.
زمن قصير ظريفٌ ضاحك، تفرضُهُ الأديان على الناس، ليكون لهم بين الحينِ والحينِ يومٌ طبيعيُّ في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.
يومُ السلام، والبشرْ، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنّتم بخير.
يومُ الثيابِ الجديدة على الكل إشعاراً لهم بأن الوجه الإنسانيَّ جديدٌ في هذا اليوم.
يومُ الزينة التي لا يراد منها إلا إظهارُ أثرها على النفس ليكون الناس جميعاً في يوم حب.
يومُ العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلوَ الكلمات فيه. . . .
يوم تعمُّ فيه الناسَ ألفاظُ الدعاء والتهنئة مرتفعةً بقوةٍ إلهية فوق منازعات الحياة.
ذلك اليومُ الذي ينظر فيه الإنسانُ إلى نفسه نظرةً تلمحُ السعادة، وإلى أهله نظرةً تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرةً تدرك الجمال، وإلى الناس نظرةً ترى الصداقة.
ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسُه بالعالم والحياة.
وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكلَّ جمالُه في الكل!
وخرجتُ اجتلي العيدَ في مظهره الحقيقيْ على هؤلاء الأطفال السعداء.
على هذه الوجوه النَّضرة التي كبرتْ فيها ابتساماتُ الرضاع فصارت ضحكات.
وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها؛ وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم؛
وهذه الأجسام الغضة القريبة العهد بالضمات والَّلثمات فلا يزال حولها جوٌّ القلب.
على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياساً للزمن إلا بالسرور.
وكلٌّ منهم ملكٌ في مملكة؛ وظرفهم هو أمرهم الملوكي.
هؤلاء المجتمعين في ثيابهم الجديدة المصبَّغة اجتماعَ قوسِ قُزَح في ألوانه.
ثيابٌ عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأبُ والأمُّ على أطفالهما.
ثيابٌ جديدة يلبسونها فيكونون هم أنفسهم ثوباً جديداً على الدنيا.(131/4)
هؤلاء السَّحرةُ الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين. . .
ويسحرون العيد فإذا هو يومٌ صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللَّعِب.
وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر، فيبقى الفجرُ على قلوبهم إلى غروب الشمس.
ويُلْقُون أنفسهم على العالَم المنظور فيبنون كلَّ شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحبْ الخالص، واللهو الخالص.
ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة، فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة.
هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد.
والذين يرون العالم في أول ما ينمو الخيالُ ويتجاوزُ ويمتدْ يفتَّشون الأقدارَ من ظاهرها؛ ولا يَسْتَبْطِنون كيلا يتألموا بلا طائل.
ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا لها الهمْ.
قانعون، يكتفون بالثمرة؛ ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها.
ويعرفون كُنه الحقيقة، وهي أن العِبرة بروُح النعمة لا بمقدارها. . . .
فيجدون من الفرح في تغيير ثوبٍ للجسم، أكثر مما يجده القائدُ الفاتحُ في تغيير ثوبَ للمملكة.
هؤلاء الحكماءُ الذين يشبه كلٌّ منهم آدمَ أولَ مجيئه إلى الدنيا.
حين لم تكن بين الأرض والسماء خليقةٌ ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضَّر.
حكمتُهم العليا: أن الفكر الساميَ هو جعلُ السرور فكرا وإظهارُه في العمل.
وشِعورهم البديعُ: أن الجمالَ والحبْ ليسا في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح.
هؤلاء الفلاسفةُ الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة.
وبذلك تعيش النفسُ هادئةً مستريحةً كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الُميسرة.
أما النفوسُ المضطربةُ بأطماعها وشهواتها فهي التي تبتلي بهموم الكثرة الخيالية.
ومثَلُها في الهمْ مَثَلُ طُفيليْ مغفَّلٍ يحزن لأنه لا يأكل في بطنين.(131/5)
وإذا لم تكثر الأشياءُ الكثيرةُ في النفس، كثرت السعادة ولو من قلة.
فالطفلُ يقلَّب عينيه في نساءٍ كثيرات، ولكن أمَّه هي أجملهن وإن كانت شو هاء.
فأمه وحدها هي أمُّ قلبه، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب هذا هو السرُّ؛ خذوه أيها الحكماءُ عن الطفل الصغير!
وتأملت الأطفال وأثر العيد على نفوسهم التي وسعت من البشاشة فوق ملئها.
فإذا لسانُ حالهم يقول للكبار: أيتها البهائم اخلعي أرسانك ولو يوماً. . . . . . . . .
أيها الناسُ انطلقوا في الدنيا انطلاقَ الأطفال يُوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة.
لاكما تصنعون إذ تنطلقون انطلاقَ الوحش يُوجد حقيقتَه المفترسة.
أحرارٌ حرية نشاط الكون ينبعث كالفَوضى ولكن في أدقْ النواميس.
يثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف لأنهم على وفاق مع الطبيعة.
وتحتدم بينهم المعارك ولكن لا تتحطم فيها إلا اللعب. . . .
أما الكبارُ فيصنعون المدفعَ الضخَم من الحديد للجسم اللّين من العظم.
أيتها البهائمُ اخلعي أرسانك ولو يوماً. . . .
لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يُولد؛ فهم يستقبلونه كأنه محتاجٌ إلى عقولهم الصغيرة.
ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر الخلق لقربهم من هذا السر.
وكذلك تحمل السنة ثم تلد للأطفال يوم العيد؛ فيستقبلونه كأنه محتاج إلى لهوهم الطبيعي.
ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم، لقربهم من هذا السر.
فيا أََسَفَا علينا نحن الكبار! ما أبْعَدَنا عن سرْ الخَلْق بآثام العمر!
وما أبعدنا عن سِر العالَم بهذه الشهوات الكافرة التي لا تؤمن إلا بالمادة!
يا أسفَا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن حقيقة الفرح! تكاد آثامنا والله تجعل لنا في كل فَرْحَة خَجْلة. . .
أيتها الرياض المنوِّرةُ بأزهارها!
أيتها الطيور المغرِّدة بألحانها!
أيتها الأشجار المصفِّقة بأغصانها!(131/6)
أيتها النجومُ المتلألئة بالنور الدائم!
أنتِ شَتى؛ ولكنك جميعاً في هؤلاء الأطفال يوم العيد!
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(131/7)
الرمز في الأدب الصوفي
للأستاذ أحمد أمين
تدور العقيدة الصوفية على فكرة (وحدة الوجود)، فليس العالم والله شيئين منفصلين، وليس الله في السماء وحدها ولا في الأرض وحدها، بل هو في كل شيء، بل هو كل شيء؛ وليس هناك محب ومحبوب، وعاشق ومعشوق، بل المحب والمحبوب واحد، يختلفان في المظاهر والأحوال ويتحدان في الحقيقة؛ وكل شيء في العالم له مظهر فانٍ متغير متقلب، وله مخبر دائم باق لا يتغير؛ ونفس الإنسان كذلك: نفس ناقصة فانية ظاهرة، ونفس كاملة باقية باطنة؛ والنفس الأولى تشق الطريق لتحقق نفسها الثانية فتتحد بالحقيقة وتتشربها وتفني فيها. وسمى الصوفي هذا المسلك (طريقاً) أو (طريقة)، وسمى نفسه (سالكا)، وسمى المسافات التي يقطعها فيقف عندها للاستجمام (مقامات)، وسمى الغرض الذي يقصده من سلوكه وهو اتحاد نفسه بالحقيقة، وبعبارة أخرى اتحاد ذاته بالله (الفناء في الحق). وقد رسموا (خُرَطاً) لهذا الطريق، وتعددت (خرطهم) بتعدد أنظارهم، وسموا كل مرحلة وكل مقام بأسم، فهي عند بعضهم مقام التوبة، ثم مقام الورع، ثم مقام الزهد، ثم مقام الفقر، ثم مقام الصبر، ثم مقام التوكل، ثم مقام الرضا؛ وفي كل مقام من هذه المقامات يقف السالك فيشعر بمشاعر نفسية خاصة سموها (الأحوال)، فحال الخوف، وحال الرجا، وحال الشوق، وحال الأنس، وحال الطمأنينة، وحال المشاهدة، وحال اليقين الخ؛ ولا بد للسالك أن يستوعب كل مرحلة من هذه المراحل ويؤقلم نفسه بها ليستعد للمرحلة التي تليها، حتى يصل في النهاية إلى حالة اتحاد بالعالم وبالله فيستحق بذلك أن يسمى (عارفاً). ولا بد للسالك أن يقوده (شيخ) في هذه الطريقة الوعرة حتى لا يضل المسلك.
وليس المقام مقام تفصيل لتعاليمهم وعقائدهم وإنما نريد أن نقول إنهم بتعمقهم في هذا المبدأ الذي ألممنا به إلماماً بسيطاً قد أقاموا أنفسهم في عالم غير العالم المادي الذي يعيش فيه غيرهم؛ فلهم خاصة بهم ومسميات لا يعرفها إلا هم - ولكنهم فعلوا في اللغة كما فعل كل العلماء في اللغة العربية، فأخذوا الألفاظ العربية وأطلقوها على مدلولات خاصة كما فعل النحاة بالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والجار والمجرور ونحو ذلك من ألفاظ كان يستعملها العرب في مدلولات عامة فأخذها النحاة ووضعوها لمصطلحات خاصة، حتى أن(131/8)
العربي القح لم يكن يفهمها في معاني النحاة. وهكذا الشأن في البلاغة والعروض والفلسفة - غير أن هناك فرقاً كبيراً بين المتصوفة وغيرهم، فالأوضاع النحوية والصرفية والبلاغية لها مدلولات ترجع إلى العقل في تفهمها، أما المصطلحات الصوفية فلا ترجع إلى العقل، وإنما ترجع إلى الذوق، ولهذا لا يفهمها أحد بعقله فهماً صحيحاً؛ إنما يفهمها من تذوقها ووقف في المقام الذي يقف فيه المتصوف؛ والفرق بين العاقل والمتذوق كالفرق بين شخصين أحدهما لم يذق الكمثرى قط فوصفت له وصفاً لفظياً علمياً، وشخص ذاقها وعرف الفروق الدقيقة بين مذاقها ومذاق الموز والتفاح؛ فأستعمل شعراء الصوفية ألفاظ الشعراء الخليعين من (ليلى) و (الخمر) والوصل والعناق والهجر والعذال، واتخذوها رموزا لأحوالهم ومقاماتهم؛ وكان لهم من ذلك كله أدب رمزي بديع غريب يمتاز عن غيره من الأدب بروحانيته وصفائه، كما يمتاز بغموضه وخفائه.
والسبب في الغموض والخفاء أن الشاعر المادي إذا وصف خمراً أو لوعة حب أو هجراً أو وصالاً، فإنما يصف عواطف يدركها الناس وهي في منالهم، أو بعبارة أخرى هي قدر مشترك بينهم؛ فكل الناس أحب، وكل ذاق لذة الوصل وألم الهجر؛ أما الصوفي فيعبر عن مقام يقفه وحال غلبت عليه، فوصف مقامه وحاله بحيث لا يفهمه إلا من كان في موقفه وحاله، أو كان قد قطع هذه المرحلة إلى مرحلة أبعد منها مدى. ومن أجل هذا لا يفهم الصوفي إلا الصوفي، بل قد لا يفهم الصوفي الصوفي إذا سلك كل منهما مسلكاً خاصاً، أو كان الصوفي الشاعر في مقام بعيد عن مقام الأول؛ ومن أجل هذا شرح بعضهم قصائد لبعض المتصوفة، فكان الشرح غامضاً كالأصل. وصاحب القصيدة معذور كل العذر، لأنه في حال لا يجد فيها ألفاظاً تعبر عما في نفسه في وضوح وجلاء؛ وهناك سبب آخر قد يدعو إلى الغموض، وهو أنه في حال لو أوضح ما في نفسه لرماه من لم يفهمه بالكفر والإلحاد.
على كل حال يمتاز الأدب الصوفي بأنه أدب رموز من ناحيتيه القابلة والفاعلة، فهو يفهم مظاهر العالم على أنها رمز؛ والعالم عنده لا يختلف عن أحلام النائم؛ فكما أن الحلم يعرض حوادثه عرضاً رمزياً فكذلك العالم كل ما فيه رمز، فكل ما يقع تحت عينه وما يسمع بأذنه، وما يتصل بجميع حواسه رموز يستنتج منها ما يغذي عواطفه ومشاعره، وبذلك أنفتح(131/9)
أمامه عالم غريب الأطوار مملوء بالجمال، مفعم بالتخيلات، حتى كأن كل شيء - ولو كان صغيراً - كتاب ملئ علماً، أو لسان ينطق دائماً بالحكمة، هو في العالم دائماً يقرأ ولا مقروء، ويسمع ولا مسموع، ويستخرج من الحبة قبة، ومن القطرة بحراً خضماً. يقرأ في كل حادثة نفسه وعالمه وربه، ويفسرها تفسيراً يتفق ومزاجه وحاله.
وهذا الأدب الرمزي والدين الرمزي والحكمة الرمزية نزعة كانت في الإنسان منذ القدم، فالديانة المصرية القديمة مملوءة بالرموز الدينية، وكذلك ديانة الهنود والفرس الأقدمين، ترمز إلى الحقيقة في بعد وخفاء؛ والميثولوجيا اليونانية ليست إلا رموزاً لما كانوا يرون من حقائق؛ وكثير من شعائر الأديان إنما وضعها فلاسفة متصوفون رمزوا بها إلى بعض الحقائق. فأتى العامة الجهلة، وظنوا نفس الرموز حقائق؛ فما الأصنام ولا النجوم ولا نقوش المصريين في عباداتهم ولا كثير غيرها إلا رموز أتى عليها الزمن فنسى أصلها وعبدت ذواتها، وجرى كثير من الفلاسفة على هذا النحو فيحكى عن فيثاغورس اليوناني أنه كان يكثر من الكلام الرمزي ليدل به على الحقيقة، وكذلك كان من بعده أفلوطن.
ولهذا الأدب الرمزي جماله، فهو يمتاز بأنه جمال مقنع تدركه ولاتلمسه، وتتخيله ولا يسمح لك أن تحدق فيه، فهو جمال تنظره وكأنك لاتنظره، وتسمعه وكأنك لاتسمعه، وتعرفه وكأنك لاتعرفه، قد خلع عليه الخفاء جلالاً فكان جميلاً جليلاً معاً - تسمعه فتلتذ له وتترنم به، فإذا أردت أن تقبض عليه قبضت على هواء؛ ليس لكلماته مدلول محدود، ولا لمعانيه حدود، وإنما هو إمعان في اللانهاية، وسبْح ولا غاية.
يرى الصوفي أن لكل ظاهر باطناً، وفي كل شيء إشارة، وفوق السطح عمقاً، ووراء القناع جمالاً فاتناً؛ ويتيه عجباً على الناس إذ فهم ولم يفهموا، وغنى لهم ولم يطربوا، ويرى أن العقل حجاب يحجب النفس عن إدراك الجمال، وأن كشف هذا القناع إنما هو بالذوق والألهام، لا بالمنطق والقضايا والأحكام.
وبهذا النظر نظر الصوفي إلى العالم فسمى الحقيقة ليلى وسعدي، وأعجب بالخمر وتغنى بها، ورأى في الخمر معاني ليست في غيرها. فهي رمز إلى رقي النفس وتساميها، فالنفس ترقى بالفناء في الحقيقة كما تنشأ الخمر بفناء العنب، فيكون شيء من شيء، ويختلف الشيئان والأصل واحد؛ وإذا خرجت الخمر من العنب بقيت إلى الأبد وصلحت بمرور(131/10)
الزمان، على حين أن العنب نفسه لا يصلح للبقاء، فكذلك النفس إذا تجردت من مادتها الفاسدة ونزعت إلى الكمال صلحت للبقاء، ولم يعتروها فناء، وكلما مرت عليها السنون والأعوام زادت نقاء، ورقت صفاء.
وهكذا ولّد الصوفية من كل شيء أشياء، ورأوا في كل مادة رمزاً لمعان لا عداد لها وبني آخرهم على ما أتى به أولهم ونظروا إلى الدين نظرهم إلى كل ما في العالم، فكل آية في القرآن رمزا، وكل حديث له تأويل. فليسوا يفهمون من الآيات ما يفهم الناس، ولا من الأحداث ما يفهم الناس.
إن شئت مثلاً لذلك فخذ ما فهموا من حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، فعلماء السيرة يروون أنه (ص) شُق قلبه وهو مع رابّته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل به قلبه إلى آخر مارووا؛ والصوفية لا يفهمون هذا إلا على أنه رمز، فقلب الإنسان قد ران عليه الخوف والشهوة والطمع وغير ذلك من السيئات، فأراد الله أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيراً، فأبعد عنه ما غشى قلوب الناس، وفتح قلبه ونقاه من كل سوء حتى يستعد للنبوة. فرويت هذه القصة وفهمها العامة حقيقة، وفهمها الخاصة رمزاً.
وهكذا كان شأنهم فيما عرض عليهم من العالم ومن الدين ومن الأدب؛ وهكذا كان شأنهم فيما أنتجوا من دين وأدب - عاشوا في حلم لذيذ من حب وتضحية، ونعموا بما قرءوا في العالم من رموز، وأخذوا أدب الأدباء وشعر الشعراء فنقلوه إلى أحوالهم ومقاماتهم، فطربوا لشعر مجنون ليلى وأبي نواس وفسروه بليلاهم وخمرهم، فلما شعروا هم أسبغوا على شعرهم من معانيهم ورموزهم، فكان لنا من ذلك كله نوع من الأدب طريف. أرجو أن أعرض لتفصيله في مقال تال.
أحمد أمين(131/11)
فضيحة دولية استعمارية
عصبة الأمم بين المد والجزر
بقلم باحث دبلوماسي كبير
كانت عصبة الأمم في نظرنا دائماً أداة دولية مريبة، لا تتفق أعمالها وجهودها مع المثل والغايات السامية التي أدمجت في دستورها، ولم نستطيع يوماً مدى الخمسة عشر عاماً التي قطعتها العصبة من حياتها أن تحمل على الثقة بها أو الاطمئنان لاستقلالها أو نزاهة وسائلها وغاياتها؛ وإنما رأينا العصبة دائماً أداة مسيرة في يد الدول الغربية القوية توجهها حيثما شاءت لتحقيق مشروعاتها وغاياتها على حساب الأمم الضعيفة، ورأيناها بالأخص سوط استعمار بالنسبة لبعض الأمم الشرقية، تفرض عليها نير الانتداب وتنظمه لمصلحة الدول الكبرى التي تواجهها؛ ولم تقدم العصبة يوماً أي دليل على أنها تعمل لأنصاف دولة ضعيفة أو أمة شرقية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصلحة دولية قوية أو أمة غربية، ولم تنل العصبة توفيقاً في أي ميدان من الميادين العامة أو الإنسانية التي تزعم أنها تعمل في سبيلها، فلم يحقق مشروع نزع السلاح أو تحديده، ولم يوضع نظام ثابت للسلامة العامة أو عدم الاعتداء، ولم تكفل حقوق الأقليات أو الأمم الضعيفة بصورة مستقرة عادلة.
ولكنا رأينا عصبة الأمم تتخذ فجأة لمناسبة النزاع الإيطالي الحبشي صورة أخرى، فتبعث دستورها من قبره وتطبقه بروح جديدة؛ رأيناها تحل السيادة والحقوق القومية مكانتها، وتعمل لاحترام استقلال الأمم الضعيفة، فتصم إيطاليا بما تستحق من وصمات الاعتداء المنكر، وتحرك من نصوص دستورها ما تراه كفيلاً بوقف الاعتداء ورد المعتدي إلى صوابه؛ وتستجمع شجاعتها لتطبيق العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضت على المعتدي، وتطبقها بالفعل على إيطاليا المعتدية، فتحظر تصدير السلاح وجميع المواد الأولية إلى إيطاليا وتبيحه للحبشة، وتطلب إلى أعضائها أن يقطعوا كل العلائق الاقتصادية والمبادلات التجارية مع إيطاليا؛ فيلبي دعوتها نحو خمسين دولة أو ما يشبه الإجماع؛ وهكذا رأينا عصبة الأمم تفتتح عهداً جديداً في سياستها وفي فهم مهمتها الدولية، واستبشرنا بأن يكون العهد الجديد مفتتح الآمال بالنسبة للأمم الضعيفة، فتستطيع أن تطالب بحقوقها وحرياتها، وتستطيع أن تعتمد على ذلك التعضيد الدولي الذي تحمل لواءه عصبة الأمم.(131/12)
ولم يغب عن العالم مع ذلك ما هنالك من وراء ستار، فقد فطن العالم إلى أن عصبة الأمم لم تكن في عملها مستقلة ولا مختارة، وإنها كانت مسيرة موجهة فيما اتخذت من قرارات جريئة؛ ولم يغب عن العالم أن السياسة البريطانية هي مبعث التوجيه والوحي الأول، وأنها اتخذت هذه الخطة لأن الاعتداء الإيطالي على الحبشة، وتوسيع النفوذ الإيطالي في شرقي إفريقية، وما يترتب على ذلك من إذكاء الروح الحربي الفاشستي، يعرض الإمبراطورية البريطانية وسلامة مواصلاتها في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وسيادتها في وادي النيل وشرق إفريقية إلى أخطار جسيمة، وأن إنكلترا لم تحرك أساطيلها الضخمة، وتتخذ هذه الأهبات الحربية الواسعة النطاق في مصر وعدن وشرق إفريقية انتصارا لقضية الحبشة أو دفاعاً عنها، ولكن رداً للخطر الفاشستي الذي ظهر في الأفق فجأة، وأخذ يزعجها بمطامعه وتحديده. بيد أن وقوف العالم على هذه العوامل المستترة الظاهرة معاً، لم يثنه عن التصفيق لعصبة الأمم والإعجاب بموقفها وتصرفاتها في هذا المأزق العصيب؛ ذلك أن الوسائل لاتهم دائماً؛ وكفى أن عصبة الأمم قد انتهت إلى الغاية المقصودة، وسيقت إلى العمل لصون الحريات والحقوق القومية، وإلى الحكم على الاعتداء المنظم بأقسى الأحكام.
ولهذا دهش العالم أيما دهشة حينما أذيعت شروط هذا المشروع الشائن الذي أسفرت عنه المفاوضات الفرنسية البريطانية الأخيرة كتسوية سلمية للمسألة الحبشية، والذي أريد أن يقدم إلى إيطاليا هدية سابغة على اعتدائها المثير لكي تكف عن المضي في أعمالها ومشاريعها الحربية. وقد وقف القراء على هذا المشروع وتطوراته فلا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ويكفي أن نذكر أنه كان يقوم على تمزيق الحبشة تمزيقاً شائناً، وينص على منح أكثر من نصفها لإيطاليا، ويحيط سيادة الحبشة على الأراضي الباقية بقيود خطرة أو هو بعبارة أخرى يقضي بشقيه على الحبشة كأمة مستقلة ذات وجود، ويمهد لاستبعادها النهائي في أعوام قليلة؛ نقول ثار العالم كله لهذا المشروع الشائن الذي يتوج اعتداء إيطاليا بغار ظفر لم تحرزه، ويحقق لها حلماً مازالت تتخبط في غمر الصعاب لتحقيق شطراً منه؛ وأشد ما كانت دهشة العالم لأن السياسة البريطانية التي ثارت من قبل لاعتداء إيطاليا وألبت عليها أمم العالم بواسطة عصبة الأمم وحملت العصبة على أن تقرر العقوبات(131/13)
الأقتصادية، قد أشتركت في وضع هذا المشروع الشائن الذي يقضي فجأة على آمال أمة مستقلة مازالت تناضل عن حرياتها نضالاً يثير الإعجاب والإكبار؛ على أن الصدى العنيف الذي أحدثه المشروع في العالم كله، وفي الرأي العام البريطاني بنوع خاص، كان كافياً لأن يحدث أثره بسرعة في استنكار هذه السياسة الاستعمارية الصارخة، واستنكار المشروع برمته، وكان من جراء ذلك أن استقال السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية الذي أشترك في وضع المشروع، وكان لاستقالته أعظم وقع كما شهدنا، واضطرت الحكومة البريطانية أن تتراجع بسرعة، وأن تعلن أنها لا تؤيد المشروع وأنها تعتبره قد مات؛ هذا بينما كان المشروع مطروحاً أمام عصبة الأمم، يلقي الضربة الأخيرة على يد مجلس العصبة، ويرجئ النظر فيه إلى أجل غير مسمى.
وهكذا مات مشروع تمزيق الحبشة في أيام قلائل تحت ضغط الرأي العالمي واستنكاره، ولم يُسمح لإيطاليا أن تجني ثمرة اعتدائها الشائن وأن تحقق بالدجل السياسي ما لم تستطع أن تحققه على يد جنودها في ميدان القتال. أما الحبشة فقد رفضت مشروع تمزيقها لأول وهلة، ورفضته بمنتهى الأباء والقوة، بل واستطاعت أن تقرن رفضها الأبي بانتصارات محلية أحرزتها الجيوش الحبشية في مختلف الميادين في نفس الوقت الذي طرح فيه المشروع أمام عصبة الأمم. ومع أن العوامل الحقيقية التي أملت بوضوح هذا المشروع، وحملت السياسة الإنكليزية على إقراره، في الوقت الذي ذهبت فيه إلى هذا المدى البعيد في مخاصمة إيطاليا ومقاومتها، لم تتضح إلى الآن وضوحاً كافياً، فأنه يمكن فهمها على ضوء بعض الحوادث والظروف الأخيرة، وأخصها تفاقم الخطر الياباني في الشرق الأقصى، وانتعاش الحركة الوطنية في مصر، وما يذاع من وجود تذمر في الأسطول البريطاني، وما يبدو من تحرك ألمانيا وتربصها؛ هذا إلى بعض الاعتبارات الأوربية والاستعمارية العامة، وهو أنه ليس من حسن السياسة أن تشجع أمة إفريقية سوداء على مقاومة أمة أوربية كبرى، وأن تترك إيطاليا لتطوح على هذه الصورة بشطر كبير من قواها الحيوية في شرق إفريقية، في حين أن هذه القوى ذاتها ضرورية لحفظ التوازن الأوربي ومقاومة مطامع ألمانيا في النمسا؛ ومن جهة أخرى فأن هذه الصعاب والمتاعب الفادحة التي تتخبط فيها إيطاليا قد تدفع بها إلى غمار اليأس فيسقط النظام الفاشستي، وسقوطه في هذا المأزق(131/14)
الدقيق قد يضعف إيطاليا ويصيب التوازن الأوربي بضربة شديدة: فإلى هذه العوامل يمكن أن نرجع تطور السياسة الإنكليزية الفجائي. بيد أن هنالك حقيقة لاشك فيها هي أن أكبر الفضل في هذا التطور يرجع إلى تذبذب السياسة الفرنسية وترددها، وإلى ما تبديه من تحيز ظاهر للاعتداء الإيطالي، وما تبديه من فتور ظاهر في تأييد سياسة العقوبات الدولية التي تعتمد عليها إنكلترا في تحطيم مشاريع إيطاليا. وتذبذب السياسة الفرنسية وتحيزها يرجعان إلى عوامل أنانية محضة، فالحكومة الفرنسية الحاضرة تريد أن تحرص على الصداقة الإيطالية بأي ثمن، وأن تحافظ بكل الوسائل على أن تتقاضى تعاون إيطاليا في أوربا ضد ألمانيا وبالأخص في المسألة النمسوية، ثمناً لما بذلته فرنسا لإيطاليا في الاتفاق الفرنسي الإيطالي الأخير (يناير الماضي) من المنح والمزايا السياسية والاستعمارية؛ وهي تحاول في نفس الوقت أن تحتفظ بصداقة إنكلترا ومعاونتها.
على أن هذه السياسة التي انكشفت عواملها الأنانية بسرعة لقيت حتفها في الحال في إنكلترا وفي الحبشة وفي جنيف؛ ومع أن السياسة البريطانية استطاعت بسرعة مدهشة أن تستدرك الخطأ الذي وقع فيه السير هو وزير الخارجية البريطانية بإقراره لمشروع الصلح، واستقال الوزير في الحال ليخلفه مستر إيدن بطل سياسة السلامة الاجتماعية والعقوبات الدولية على يد عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى بطل سياسة التشديد على إيطاليا، فأن هيبة بريطانيا السياسية قد أصيبت بشيء من التصدع والريب؛ ذلك لأنه لم يكن خافياً ما ينطوي عليه مشروع الصلح المقدم إلى جنيف من معنى مستتر، هو تقسيم الحبشة بين إيطاليا وإنكلترا، واختصاص إيطاليا بالقسم الشرقي الذي تحتل قسماً منه، واختصاص إنكلترا (فيما بعد) بالقسم الغربي الذي تقع فيه منابع النيل الأزرق، والذي تحرص كل الحرص على استخلاصه من يد أية دولة أوربية أخرى؛ بيد أن هذا الرجوع السريع الحازم من جانب السياسة البريطانية إلى خطتها الأولى، أعنى خطة الوقوف في وجه إيطاليا ومقاومتها عن طريق العمل الدولي، قد رد إليها كثيراً مما كادت تخسر من هيبة ونفوذ.
على أننا نستطيع أن نستخلص من هذه المأساة الدولية درساً بليغاً يؤيد ما ذهبنا إليه في صدر مقالنا بشأن عصبة الأمم؛ فما كانت العصبة يوماً ملاذاً للعدالة الدولية وحقوق الأمم الضعيفة، ولاسيما الأمم الشرقية، ولن تكون العصبة يوماً ملاذاً حقيقياً لهذه المثل العليا.(131/15)
وإذا كان موقف العصبة في المسألة الحبشية قد أسبغ عليها هيبة لم تتمتع بها منذ نشأتها، فأن الفضل في ذلك لا يرجع إلى إرادة العصبة ذاتها أو إلى استقلالها ونزاهتها بقدر ما يرجع إلى العوامل السياسية والاستعمارية الخارجية التي شرحناها؛ وكون العصبة تعمل في مثل هذه الظروف أداة مسيرة، لا يؤكد الآمال التي يمكن أن تثيرها نصوص دستورها الخلاب، بل كل ما هنالك يثير الريب دائماً في وسائلها وغاياتها. ومع ذلك فأن عصبة الأمم يمكن أن تكون أداة حقيقية لتأييد السلام العالمي والعدالة الدولية، ولكنها يجب قبل كل شيء أن تحرر من ذلك النفوذ الذي يواجهها وينحرف بها عن العمل للغاية الحقيقية التي أنشئت لها إلى العمل لغايات السياسة القومية والاستعمارية. وقد رأينا في مثل إيطاليا وما نالها من أثر العقوبات الاقتصادية، قوة العمل الإجماعي وتأثيره الفعال في كبح جماح الشهوات القومية؛ فإذا صلح دستور العصبة ليلائم الظروف الدولية الحاضرة، وإذا استطاعت الأمم أن تضع ثقتها في سياسة الضمان المشترك والسلامة المشتركة، فإن العالم يستطيع أن يتجنب كثيراً من الحروب الاعتدائية المخربة. ولكن هل تستطيع الدول الاستعمارية الكبرى أن تتجرد عن غايات الأثرة القومية، أو تعدل عن الالتجاء إلى القوة الهمجية التي تمكنها من أعناق الفرائس الضعيفة المغصوبة؟
(* * *)(131/16)
شهيد من شهداء أحد
أنس بن النضر
للأستاذ خليل هنداوي
كتب الله النصر للمسلمين في غزوة (بدر الكبرى)؛ وكان نصراً رائعاً للدعوة الإسلامية، فأنصرف المشركون وفي كل عضو من أعضائهم جراحة من أثر بدر، وفي كل بيت من بيوتهم مناحة لفقد عزيز من أعزائهم يوم بدر؛ وقد تبرأ هذه الكلوم، وتهدأ هذه المناحات، ولكن المضض كامن في صدور كأنها الدروع المنطوية في النار.
- ألا يعود يوم كيوم بدر نثأر فيه لشرفائنا، ونلوك أكباد أعدائنا! إنه إن يعد - وهبل - نشف منهم النفوس أو تضمنا الرموس. . . . . . . . . .
والمسلمون خلال ذلك تخفق ألوية النصر عليهم، وأصحاب بدر يخطرون طربين بما أوتوا، يجلسون حلقات، هذا يتحدث عن بلائه، وذلك عن بطشه بأحد رؤوس قريش، وقد يسمع النبي لحديث من أحاديثهم فيغلب الإشفاق على قلبه ويود لو أن دماء قومه لم تهدر، ولكن الدعوة تفتقر إلى ضحايا! وقد يغادر المتحدثون هذه الأصناف من الحديث، لا لأن بدراً يفرغ حديثها. . . وإنما يعودون إلى التحدث بينهم: كيف ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم، وثبت منهم الأقدام، وزلزل أقدامهم، ويشكرون الله على صدق وعده لهم، فما أخف نفوس هؤلاء البدريين الذين قاتلت جنود الله معهم! ويكفي أحدهم إذا أراد أن يفتخر أن يقول: (أنا بدري)! وما أشد أسى الذين لم يكتب لهم أن يكونوا من جنود هذه الغزوة المباركة!
كيف يمشي هؤلاء الذين لم يحضروا غزوة بدر، وكيف تطمئن لهم جنوب أو تسكن قلوب، وقد رأوا أن رفاقهم سبقوا بالأجر: أجر بدر؟ وكيف يخالطون أصحابهم الغزاة، وكيف يكلمون الرسول، وهم يرون في أنفسهم منقصة تؤخرهم عن مجالس هؤلاء الغزاة، إنهم ليسوا ببدريين!
حاور أنس بن النضر نفسه فلم يقنعه منها عذر؛ فآثر أن يتوارى عن قومه، وأن يعتزل مجالسهم، مقسما أنه لن يغفر هذه الحوبة لنفسه حتى يلاقي غزوة كغزوة بدر، يحملها ما لم تحمل، ويحمل منها فوق ما حمل أصحابه، فإذا سمع (ببدر) رأيت وجهه اكتأب وأساريره(131/17)
انقبضت، لأن حديث بدر - عنده - حديث ذو شجون، فيسأل نفسه إذا أشتد به الأمر:
- أعهد بدر الثانية عنك بعيد؟ رب أقرب بدراً
وقد عجب أصحابه لوجومه وانصرافه عن مجالسهم، ولم يروا منه إلا كل خلة حميدة، وعقيدة صلبة؛ يرونه يمشي كمن يلوذ بجدار، ويرتاح إلى الليل الأسود كمن يتخذه لباساً، ويجنح إلى العزلة كمن هو على موعد من ربه. . . وتحدث القوم بينهم: ما بال أنس لا يطأ مجالسنا؟ أأذىً به أم عارض؟ وكان الرسول لا يلمحه إلا معتزلاً في زاوية وحده، لا يسمعه سامع إلا هاجساً ببدر، مستفسراً عن بدر؛ وقد أقلق الرسول حاله، فسأله:
- ما خطبك يا أنس؟
فقال أنس:
- (يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع!)
ففهم الرسول أمره، وبارك عزيمته وقال:
- أما وقد نويت:
ولم يقف الرسول على شيء من أمره بعد مقابلته. وهاهي المقادير جاءت تنتقم (لأنس)، وتكتب أسمه في سجل الغزاة الثابتين، وهاهي الأيام كرت تجدد (بدراً) ثانية، ليس موعدها بدراً، لكن أُحُدا! فهب البدريون إلى شحذ سيوفهم البدرية ولا تزال أغرتها مكتسية دماً، ورماحهم ولا تزال ثعالبها حُمرا، ونشط من لم يحضروا بدراً لينالوا من الأجر ما لم ينالوه، فكان الأولون يمشون ثابتي الأقدام، مستخفين بأعدائهم عند الروع؛ وكان الآخرون يمشون خفافاً كمن أُزيح عن صدره ثقل الجبال، وقد ارتاحت من أنس نفسه، ودنا يحدث صحبه كأن لم يكن له عهد بتلك الوحشة.
بزغ الفجر من وراء أُحد، وأفاقت قعقعة الرجال: وتيقظ كل ثأر قديم وكل خصومة قديمة، فلم يمهل بعضهم بعضاً بالبراز وإنهم لا يملكون أنفسهم في مثل هذا اليوم، وقد ود (أنس) قبل زحفه إلى الشهادة أن يكلم الرسول فيكتسب منه دعوة صالحة أو يراه فيذكر الرسول وجومه فيقول له:
- إيه يا أنس! اليوم بدر!(131/18)
ولكن الزحام شديد والقتام ساطع والعدو راصد، والنبي قد وزع عقله هنا وقلبه هناك، يهدي ويوصي ويرشد وقد ذهب أمامه أقرباؤه قروم الحرب وأبطال الشدائد، فأقلع أنس عن رغبته وأدرك أنه لم يكتب له الحظ أن يمس جلده جلد رسول الله قبل آخر العهد، فأنطلق زاحفاً إلى صفوف المشركين يضرب بيديه وبسيفه ورمحه وفرسه، وكأن المقادير أرادت أن تنتقم له انتقاماً حسناً فلم تظهر ثباته وصدقه في جمع ظفر، لكن في جمع تفرق وأنكسر، ولم يثبت فيه إلا كل أروع صنديد؛ فكرام من الصحابة يذودون عن النبي بأرواحهم وأجسادهم! وكرام من الصحابة شدوا على العدو المحيط بهم وقد أبت لهم عقيدتهم أن ينهزموا ويستسلموا! وهذا أنس لا يزال يجول وما زادته جراحه الكثيرة إلا زيادة في الثبات. وهل أكرم من الثابتين عند الله؟ وما زادته سراويله الحمر إلا استقتالاً وطمعاً في ذلك الأجر الذي تلوِّح له به بدر؛ لكن يوم بدر كان يوم ظفر، ويوم أُحد أسود الجلباب! فحيثما يطأ يجد صحابياً جريحاً يئن، وأيان توجه ير قتيلاً تزفه الحور العين.
- بادر يا أنس! فهذا هو يوم الأجر الأكبر، وهذا هو يوم الرضوان، ما ينفع تأجيل الموت وفي الشهادة حياة؟
وإنه ليحدث نفسه بهذا الحديث فيستقبله سعد بن معاذ فيقول له:
- (يا سعد! الجنة ورب النضر، إني لأجد ريحها من دون أُحد. . .)
فيتركه سعد ويود لو يصنع ما يصنع، ولكن رجال الله رجال، فليلتفت أنس إلى قومه فيقول:
- اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!
ويلتفت إلى المشركين فيقول:
- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء!
ثم يحمل مقتحماً صفاً من المشركين المضرجة سيوفهم ونصالهم بدماء أصحابه فلا يزال مقتحماً في حملته وقد أعجز المشركين رده وأحزن قومه فقده. وإن المِعركة لتنتهي وقد بذل فيها الفريقان من فلذات الأكباد والأولاد لها طعاماً، وهيهات أن تشبع! فيقوم أبو سفيان يقول:
- أفي القوم محمد؟ فلا يجيبه أحد. أفي القوم أبن أبي قحافة؟ فلا يجيبه أحد. أفي القوم أبن(131/19)
الخطاب؟ فلا يجيبه أحد
فيقول:
- أما هؤلاء فقد قتلوا
فلا يملك عمر نفسه فقال:
- كذبتَ والله يا عدو الله - إن الذين عددت لأحياء كلهم! إنهم لأحياء، وإن الحياة هي التي أنطقت عمر بالرغم من نهى الرسول، وهل يخنق للحياة صوت؟
إن هؤلاء أحياء، والذين استشهدوا منهم أحياء!
فيجيب أبو سفيان:
يوم بيوم بدر، والحرب سجال! إنكم ستجدون في القوم مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني: أُعلُ هبل، أعلُ هبل!
فيجيبه أصحاب الرسول:
- الله أعلى وأَجل!
فيقول: إن لنا العزى ولا عزى لكم
فيجيبونه: الله مولانا ولا مولى لكم
تنتهي هذه المحاورة ويؤوب أبو سفيان إلى قومه وقد شفوا قلوبهم وغسلوا عار يوم بدر، وهب المسلمون إلى تلمس قتلاهم واستنقاذ جرحاهم وقد راعهم أن يمثل المشركون بالشهداء منهم وهم لو أرادوا تمثيلاً بهم لمثلوا. ولبث النبي في مكانه يعالج أصحابُه نزيفاً منه كاد يودي به، وهو يرتقب جثة عمه حمزة وقد أشجاه ما أشجاه، فجاءت الجثة بغير كبد والوجه معبوث بملامحه. فناب الصمت عن البيان، وحجبت هذه الداهية غيرها من دواهي أحد؛ فجمع المسلمون جثث قتلاهم يدفنونها متراكمة في موضع المعركة وقد أساهم في مصابهم ما أصاب الرسول في عمه. فكان ينظر إلى الذين يغيبهم التراب إلى الأبد نظرة صامتة، وعينه لا تتمثل إلا مصرع حمزة.
لم يعد أنس جريحاً ولم يبن قتيلاً في المعركة، وقد ذهبت أخته تتحرى عنه بين القتلى فيمن تحرى، حتى وقعت على قتيل خفيت تقاسيم وجهه، وذهب جلده قدداً، في بدنه بضع وثمانون من ضربة بسيف وطعنه برمح ورمية بسهم. أهذا هو أنس صريعاً؟ لكن وجهه(131/20)
لايفصح، وبدنه لا يبين عنه. لكن هذه بنانُه قد أبقى عليها المشركون ولم يمسوها بسوء. مثلوا بجسده ما شاءوا أن يمثلوا بعد أن ملأهم ضربه غيظاً وقتاله حقداً، وذهلوا عن بنانه.
- رحمك الله يا أنس لقد بررت بعهدك الذي عاهدت، وأدركت الأجر الذي طلبت. أليس فضل الثابتين في أحد كفضل أصحاب بدر؟
قضى أنس ولم يذكر مصرعه القوم، لأن مصارع أذهلت عن مصارع. والرسول لم تندمل كلومه، ولم يبرح مصرع حمزة قلبه.
لم يقتل حمزة وحده ولم يقتل أنس وحده، بل قتل معهما (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وهؤلاء هم الذين قتلوا في سبيل ما عاهدوا الله عليه.
خمدت وقعة أحد، وكان الرسول كلما مر بأحد أستشعر خشية، والتفت إلى أصحابه كأنما يلتمس في هذا الجبل شيئاً قدسياً يهبط على نفسه. التفت يقول لهم:
- (إن أحداً يحبنا ونحبه!)
وكيف لا يحبونه وقد أطافت به أرواح الأعزاء وثوت فيه أجساد الشهداء وكيف لا يهتز الرسول لأحد وفيه قد أدّوا ثمن العقيدة والصدق والإخلاص من دمائهم وقلوبهم.
أما إن لكل أمة (أحداً) تذكره وتعتز بذكره لأنه رمز ضحاياها الغالية التي عملت لها. وهذه الأمة المشتتة تحت كل كوكب، المعتزة بأيمانها وعقيدتها تقيم في كل زاوية (أحداً جديداً) تقدم له كل يوم ضحايا عزيزة من دمائها وقلوبها! حتى غدت مواطنها: (كل موطن أحد) وشهداؤها: (كل شهيد أنس).
خليل هنداوي(131/21)
نظرية النسبية الخصوصية
المقال الثاني
وحدة قوانين الطبيعة والبعد الرابع في النسبية
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عضوا أكاديمية العلوم الروسية
عناصر البحث
(1) الحد الرابع للمادة في النسبية
(2) ثبات النور ووحدة قوانين الطبيعة
(3) النظام الغاليلي وقوانين التحويل اللورانتزية
- 1 -
تصور سطحاً في حيز منه نقطة مثل (ن)، وأنك تريد تحديد مكانها، فلا شك أنك ستقيس بعدها عن الحافة اليمنى للسطح أو اليسرى، ثم بعدها عن حافة السطح الأمامي أو الخلفي، وبواسطة خطين تحدد مركز النقطة على السطح، أما إذا كانت النقطة المرغوب تحديدها في حجم فلا بد من خطوط ثلاثة تنتهي عندها لنحدد مكانها بالضبط.
لنتصور مكعباً ضلعه 10 امتار، ولنفرض به نقطة مادية مثل (ن) في المكان (م)، ولنشرع في تحديد مكان هذه النقطة المادية، فلا بد من أن نقيس الخط العمودي الساقط على هذه النقطة من السطح السفلي للمكعب، ولنفرض أنه كان مترين، فهذا الخيط بمفرده لا يصح أن يكون محدداً لمكان النقطة إذ في الإمكان تحريك هذه النقطة حركة أفقية ويبقى الخط الممتد من السطح السفلي للمكعب حتى النقطة (ن) مترين بدون أن يلحقها أي تغيير؛ فلا بد من حدْ ثان بخط يمتد من السطح الأيمن أو الأيسر إلى النقطة (ن). فلنفرض أنه كان ستة أمتار، فلنا أن نتساءل: هل في الإمكان الاكتفاء بهذين الخطين لتحديد موضع النقطة؟
إن من السهل تحريك النقطة المذكورة في خط مواز للسطح الأيمن أو الأيسر بحالة لا يختل معها طول الخطين. فلا بد من حد ثالث، هو بعد النقطة عن السطح المعامد للجدار(131/22)
الأيمن والأيسر، ولنفرض أننا ألفيناه ثلاثة أمتار؛ فعليه يمكن تحديد أية نقطة في حجم بثلاثة أبعاد تتعامد على بعضها في النقطة المرغوب تحديد مكانها، وهذا النظام يعرف بنظام المتعامدات الديكارتية.
إن المشاهد الذي يقوم بعملية القياس سيلجأ إلى قواعد فيثاغورس في الهندسة ليحدد أبعاد الخطوط الثلاثة المحددة من مكان النقطة. وقاعدة فيثاغورس التي ترجع إليها هذه المسألة نظريتان:
الأولى: أن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربع الساقين.
الثانية: أن مربع الوتر في مكعب يساوي حاصل جمع مربع خطوط الطول والعرض والعمق.
فتكون المسافة من المشاهد إلى النقطة (ن):
22 + 23 + 26
- 2 -
لنفرض أنّ النقطة المادية (ن) تحرْكت من وضعها الأول في (م) إلى وضع آخر، وليكن (م1) بمعدل سرعة متر واحد في الدقيقة الواحدة؛ ثم لنفرض أنها بلغت وضعها الجديد بعد دقيقتين من تحركها، فالمسافة (م - م1) يستغرق قطعها زمناً. وهذا بلا شك يثبت أن الزمان يتداخل في المكان ويندمج به ليكوْنا البعد الرابع للمادة.
هذه قضية البعد الرابع في النسبية الخصوصية في أبسط صورها، ولكنها ليست كل شيء كما سنرى.
- 3 -
لا يمكن فصل الزمان عن المكان ولا المكان عن الزمان، لأنك لا تتصور حادثة إلا وتتصور أوان حدوثها، ولا تتمثل في ذهنك حركة إلا ويتطرق إلى وعيك الزمن الذي أستغرقه الجسم في الحركة.
إنه لا يمكن تصور شيء في الوجود لا يشغل مكاناً ولا يحدث في زمن. فالبعد الرابع في النسبّية ليس إلا إدماج الحركة في المسافة، إذ تُعبر عن المسافة بحاصل ضرب معدل(131/23)
السرعة في وحدة زمانية بوحدة زمانية أخرى.
هذه العملية نظرية لأننا لم نعمل حساب الزمن الذي تستغرقه شعاعة النوع في التحرك لقطع المسافة من مكان وقوع الحادثة إلى المشاهد؛ ذلك لأن المسافات على سطح كرتنا الأرضية قصيرة، ولا يحس فرق زمني إذا ما انسابت في فضائها موجات النور. أما في المسافات السحيقة بين الأجرام فالأمر يحتاج إلى حساب الزمن الذي تستغرقه شعاعة النور في الوصول إلينا، لأن هذا الزمن يتضخم حتى يبلغ ملايين السنين في المسافات السحيقة. فمن المعلوم أن شعاعة النور تستغرق نحو 9 دقائق للوصول إلى أرضنا من الشمس، كما أن شعاعة تصدر من السدم اللولبية تحتاج إلى مليون عام لتصل إلينا، وقد تحتاج أحيانا إلى مائة مليون عام؛ فهذا النجم يبعد عنا بنحو 124. 264. 801. 625. 000 ميل. فاحسب كم عاماً تحتاج له شعاعة الضوء لقطعه مع أنه قريب إلى أرضنا بالنسبة للسدم والمجرَّات.
لا شك أننا لا نجد الشمس إذا نظرنا إليها إلا كما كانت قبل دقائق؛ فلو فرضنا أن الشمس انكسفت فجأة فأنها تنير لنا نحو تسع دقائق بعد كسوفها تكون خلالها الشعاعة الأخيرة التي صدرت من الشمس قد وصلت إلينا. فكأن المسافة قد تمددت بالنسبة لنا وأندمج الزمان في المكان.
- 4 -
إن قانون ثبات سرعة النور الذي هو نتيجة لتجربة (ميكلصون - مورلي) يقضي بأن قوانين الطبيعة الشاملة للحادثات ثابتة. لأن هذه القوانين قائمة على انتشار النور بسرعة ثابتة في كل الاتجاهات. وما دامت سرعة النور ثابتة والنور يحدد من حدوث الحوادث فقوانين هذه الحوادث ثابتة. هذا المبدأ الذي أستخلصه ألبرت أينشتين في تيه من المعادلات الرياضية الفائقة طبقه العالم مينقوفسكي على حادثات الكون والظاهرات الضوئية والإلكترومغناطيسية. وقد كان هذا المبدأ في صورة أخرى ذائعاً في علم الطبيعة الكلاسيكي إذ كانت تفرض أن الحوادث تحدث في العالم بالنسبة للأثير دون أن تتأثر بحالات الأكوان التي تحدث خلالها من حركة أو سكون. هذا المبدأ المطلق كان موضوعاً جوهرياً في علم الطبيعة الكلاسيكي. غير أن هنري بوانكاريه العالم الرياضي الفرنسي الشهير عدل عن(131/24)
هذا المبدأ وقرر أنه من المحال الاستناد إلى التجارب التي تجري داخل عالم متحرك في استخراج حركته المطلقة استناداً على تجربة (ميكلصون - مورلي) كما سبق.
لقد عمل ألبرت أينشتين على أن يلائم بين سنة ثبات النور في سرعتها ومبدأ ثبات قوانين الحادثات، فقرر أن الضوء يتصف بسرعة ثابتة في انتشاره في جميع الجهات أياً كان الكون الذي ينتشر خلاله. ولتوضيح هذا القانون نفرض عالماً متحركاً مثل (ع) وعالماً آخر مثل (ع1)، ولنفرض أن سرعة الضوء في العالم الأول (ص) وفي الثانية (ص1)، ولنفرض أن السرعة (ص) أكبر من السرعة (ص1)، فستكون سرعة النور في العالم الأول أكبر منها في العالم الثاني. فتكون السرعة النسبية إذن غير ثابتة في كل الأتجاهات، إذ تتأثر بحركات العوالم المنسوبة إليها والتي تنتشر خلالها. ولما كانت تجربة (ميكلصون - مورلي) قد أثبتت أن السرعة (ص) هي عين السرعة (ص1) فاستناداً إلى قانون لورانتز في التقلص ونتيجته في استحالة استخراج الحركة المطلقة وثبات سرعة الضوء نقرر ثبات قوانين الحادثات ووحدتها.
وهنا قد يتبادر إلى ذهننا سؤال: هل في إمكاننا أن نؤلف بين سنة ثبات سرعة الضوء ومبدأ النسبية؟
مبدأ النسبية الكلاسيكية يقرر أن الحادثات الكونية التي تحدث في كون متحرك لا تتبع حركة الكون الذي تحدث فيه، فكأنها تحدث في عالم ساكن غير متحرك. فهل في الإمكان التوفيق بين هذا المبدأ النيوتوني وسنة ثبات انتشار الضوء في الفضاء؟
إن الإجابة على هذا السؤال ترجع بنا إلى مسألة التواقت التي توحي إلينا أن الزمان ليس بفكرة آنية كما تقرر علوم الطبيعة الكلاسيكية، وأن مفهوم السرعة مشتق منه، بل إن سرعة النور وثبات هذه السرعة يجب أن يعدا من المبادئ الأولية ومنها يشتق مفهوم الزمان. فكأننا براصد الحادثات مقيد بآلاته يقرر حسبما تتراءى له الحادثات، والزمان بالنسبة للمكان وليس هو بالشيء الوهمي الذي تصوره لورانتز بل له حقيقة موضوعية طبيعية.
إسماعيل أحمد أدهم(131/25)
في ليلة العيد. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أيها الغافلون. . . إن هذا العيد ليس لنا.
إن أعيادنا مخبوءة في ثنايا الماضي الفخم، ومطاوي المستقبل المنتظر.
(علي)
مشيت ليلة العيد في حاجٍ للعيال، فتأخرت في السوق، فركبت (الترام رقم1) لأروح إلى الدار، فكان مجلسي فيه قبالة شيخ ساهم رازم، عظيم اللحية، كأن رأسه ولحيته ثغامة بيضاء، زريْ الهيئة، رثْ الثياب. . . فأشرت إليه بالتحية وابتسمت له، فلا والله ما طرف ولا تحرك ولا ألقي إليْ بالاً، فجعلت أعجب منه، وأحاول أن أذكر من هو، وأين رأيت هذا الوجه، فلا أدري أين لقيته ولا أعرف من هو. ولا أستطيع أن أميز هذه الصورة من بين المئات من الصور التي اختلطت في نفسي وانطمست وضلّت عن أصحابها، ولكني كنت على مثل اليقين بأن لي بهذه الصورة عهداً. . . فلما بلغنا الدرويشية رأيت الشيخ يتحسس عصاه وبصره عالق بي، فأدركت أنه أعمى وأنه ينظر بعين قائمة، وعلمت سرْ امتناعه عن ردْ السلام. فرثيت له وأشفقت عليه، فلما سقط على العصا أعتمد عليها، فقام يتلمس الطريق، فهاجني الفضول وأثارتني الشفقة فقمت أتبعه، فإذا هو ينزل من الترام فيميل عن الجادْة، ويتجنب هذه البنى الجديدة ويتغلغل في تيك الخرائب، يضرب فيها على غير هدى، وأنا أتبعه مغتماً متألماً، أكره هذه الظلمة الداجية، وهذه الخرائب الموحشة، وأزمع العودة فلا تطيب نفسي بفراق هذا الشيخ وتركه يتخبط وحيداً في هذه المجاهل، فتعوذت بالله (من شرْ غاسقٍ إذا وَقب) ودنوت منه فحْييته وسألته:
- أتريد مساعدة يا عمْ؟
- قال: جزاك الله خيراً يا بني. . . فمن أنت؟
- قلت: عابر سبيل رآك فأحبْ مساعدتك
قال: أحسن الله إليك. . . قل لي: أين نحن؟
- قلت: في خرائب الدرويشية
قال: أعرف ذلك. . . هل وازينا القلعة؟(131/26)
- قلت: نعم
قال: هل ترى قوسين كبيرين قائمين وسط هذه الأطلال؟
- قلت: نعم. . هذه دار آل هـ. . .
- قال: أتعرفها؟ (وبكى)
قلت: نعم أعرفها. فمالك تبكي يا عمْ؟
قال: تلك والله داري يا بني
فلما قالها صعقت وذكرت أين لقيت هذا الرجل، وعرفت من هو. ولكن ما بال هذه الشيبة، ما هذه العصا، ما هذه الثياب؟ ما الذي أناخ عليه فهدّ شبابه؟ أيْ سهم من سهام الدهر أصمى بصره؟ حرت وحزنت ولكني تجاهلت وقلت:
- دارك أنت يا عمْ؟
- قال: إي والله يا بني. . . ألم تسمع بها؟ لقد كانت من أجمل دور دمشق. لقد كان من تحت هاتين القوسين قاعة من أفخم القاعات، يؤمها السيْاح من أوربا وأمريكا ليروها ويعجبوا بما فيها. لقد كان فيها بركة مصنوعة من ألف وثلثمائة قطعة صغيرة من الأحجار الملونة. . . لقد دفعوا لي في سقفها الخشبي ثمانية آلاف دينار. . . ولكن ما فائدة الكلام؟ لقد خسرت ما هو أعزْ عليْ منها: زوجتي وأولادي. . .
(وأنطلق يبكي بكاء موجعاً)
لقد كان ذلك ليلة العيد، في مثل هذه الليلة. . . وكنا قد ذقنا في رمضان الأمرْين من الخوف والرعب، وكنا كأننا في ساحة حرب: بينما نحن جالسون آمنون، إذا بالرصاص يصفر، وإذا هي المعركة: يهجم عشرون من الثوار، فيطردون جيشاً فيلجئونه إلى القلعة ويضطرونه إلى الاعتصام بجُدُرها، ويؤوبون وقد غنموا ما شاءوا من مجد ومال وعتاد، فيخرج أولئك، فيتبخترون بالساحة (يطلبون الحرب وحدهم والنزال)، وتنطلق أفواه المدافع تلقي خطب البطولة على النساء والأطفال:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
آه يا بني. لا تلمني إذا بكيت وأذهب البكاء بصري، فقد سحقت المصيبة قلبي. . . كان(131/27)
ذلك ليلة العيد، وكانت الدار تضحك سروراً، وترقص بهجة؛ وكان الأطفال ينتظرون مدافع العيد، ليفرحوا ويمرحوا، ويأخذوا عيديّاتهم. . . فلما انطلقت هتف الأطفال، وصاح النساء، وأبتسم الرجال، ولكن. . .
آه من لكن. . . لقد هدْت (لكن) كياني؛ لقد طمست بصري؛ لقد جعلتني قبراً يمشي، ولكن هذا السرور لم يدم؛ ولم تكن إلا لحظة حتى استحال الهُتاف بكاء، والصياح ولولة، والابتسام حيرة وجزعاً. لم تكن مدافع العيد، بل كانت مدافع الموت نزلت على أجمل دار في دمشق، وأهنأ أسرة فيها، فجعلت هذه الأسرة موزْعة بين الموت والشقاء، وهذه الدار مقسْمة بين النار والدماء، ثم انجلت العاصفة، فإذا هذه الدنيا الناعمة العريضة تلْ من التراب. . .
لقد حزنا وجزعنا، ولم ندر ماذا نصنع، فحملت الأم طفلها الرضيع، وأمسكت بطفلها الآخر، وكادت تنجو لولا أن عاطفة الأمومة قد عادت بها لتنقذ سائر أولادها، فسدت النار سبيلها فابتغت سبيلاً غيره، فأستقبلها اللهب، فماتت هي وأولادها، يلفّهم كفن من لسان النار الأحمر. . .
أما أنا وولدي الشاب - رحمه الله على شبابه. . . أه! - أما نحن فما زلنا نجيء ونذهب، نحاول أن ننقذ هذا ونخلص هذه، حتى حملنا الجميع وكدنا ننجو، بل لقد نجوت أنا، وتلفت لأراه فحال بيننا اللهب، ورأيته يشير إلىْ بسلام المودع ثم يسقط صريعاً. . .
لم ينج إلا أنا وولدي الصغير، وليته لم ينجُ، ولكن ما ذنبه هو؟ إنه بريء، إنه نشأ على الفضيلة والعفاف، وربي على الاستقامة والشرف، فكان أكمل التلاميذ خلقاً وأجملهم خلقاً، وأقومهم سيرة، وأكثرهم اجتهادا؛ لم يعرف قط إلا طريق المدرسة، حتى إذا وقعت الواقعة لم يع على نفسه إلا وهو يدور في الأسواق ليلاً بإزار النوم، فاستحيا وجزع وعاد إلى الدار. . . فلم يجد داراً، وجد بقعة من جهنم وقودها الناس والحجارة، فأرتد هائماً على وجهه، وكان ذلك آخر عهدي به.
لقد نسى من بعد هذه الفترة من حياته، نسى أباه المفجوع وأمه الشهيد، وأخاه القتيل، وأهله الصرعى، وأستقر في نفسه أنه مخلوق نبت من الأرض، بين سوق علي باشا، والسوق العتيق، وشارع النصر، وميدان المرجة، ثم قادوه بعد إلى معابد الرذيلة، إلى مذابح(131/28)
الأخلاق، إلى هذه المزابل القذرة، إلى العباسية وأولمبيا وتاجادا فقتلوه. . . آه يا بني إنهم لا يقتلون بالقنابل والرصاص والسيوف والخناجر إلا قليلاً، ولكنهم يقتلون دائماً، يقتلون الأمم بالحانات والقينات (الأرتستات) والأزياء والمدارس والقوانين. . .
وأدرك الشيخ العجزُ فهو إلى الأرض وهو يبكي ويشهق، وأن نفسه تكاد تخرج في شهقة من شهقاته.
كانت الأنوار تشع من العباسية، وأولمبيا، وتاجادا، والأمبير، وراديو، وروسكي، وهذه الملاعب الخشبية التي أقاموها على أطلال الدرويشية والسنجقدار احتفالاً بالعيد؛ وكانت أصوات الموسيقى، ورنات الضحك، وصيحات الفرح تشق سكون هذا الليل. . .
وكان الشيخ يجود بنفسه على أنقاض دمشق لا يدري به أحد
أما الشعب الثاكل فكان يرقص على رفات الشهداء، أما الشعب فقد كان يفرح بالعيد. . . . . . . . .
علي الطنطاوي(131/29)
أيها الشبان!
لبول بورجيه
بمناسبة وفاته في 25 ديسمبر سنة 1935
ترجمة الأستاذ عبد الحليم الجندي
إليكم هذا الكتاب يا شباب الوطن، الذين تتراوح أعماركم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، والذين تبحثون في مؤلفاتنا عن جواب عن المسائل الآخذة عليكم مذاهب التفكير، أما الجواب فيعتمد قليلاً على حياتكم المعنوية حياة فرنسا ذاتها، فلسوف تسيطرون في العشرين سنة المقبلة على مصائر هذه الأمة العجوز. . . . . . . . . أمنا جميعاً
ماذا حصلتم من مؤلفاتنا؟ هذا سؤال يخاف الكتاب النزيهون من تبعاته. . . . .
في كتاب (التلميذ) بحث لهذه التبعات، وفيه دليل على أن الصديق الذي يطالعك وأنت تطالعه إنما يملؤه إيمان عميق بسلطان الأدب، ودليل آخر على أنه يفكر فيك أيام درجت تتعلم الهجاء، أيام كنا نحن كاسفي البال نوقع ألحان قريضنا الناشئ على رنين المدافع الفاغرة أفواهها على باريس، أيام كان كبارنا في صفوف المعركة، وكنا نحن الصغار في صفوف الجامعة، ترزح ضمائرنا تحت عبء فادح هو إحياء فرنسا.
كنا نناجيك يا شباب اليوم بما ناجاك به بانفيل: (أقبلوا أيها الفيلق المبارك، يا شباب الأيام التي لم تنفرط من عقد الزمان بعد، أقبلوا كالفجر الطالع، واملأوا آفاق الورى بالنور. . . .) كنا نتمنى أن يشرق فجركم وضاء يغمر الورى إشراقاً، فلقد كان فجرنا يختنق ببخار الدم الذي يسمم الأفق، وكنا نعرف أن علينا أن نعيد لكم فرنسا سيرتها الأولى؛ ولئن كنا صغاراً فلقد كنا نعلم أن أفضل ما علمنا أساتذتنا هو (أن الظفر أو الخذلان في الخارج إنما هما مظهر المنعة أو الانحلال الداخلي) كنا نعلم أن نهضة ألمانيا في فاتحة القرن لم تكن إلا عملاً من أعمال (النفس)، وكنا نعلم أن النفس الفرنسية هي التي انكسرت في حرب السبعين، وأن الأزمة الفرنسية إنما هي أزمة نفسية عبر عنها ديماس حينما قال: (. . . حذار. . . حذار. . . إنها برهة عجلى ما أسرع أن تفوت. . . تلك البرهة التي يمكن أن يكون فيها الفتى حساساً كله عواطف، أو متشككاً أو ساخراً أو مهذاراً. أما الله، وأما(131/30)
الطبيعة، أما العمل والزواج والحب والبنون، فأولئك أمامك دائماً. . . أولئك يجب أن يحيوا أو أن تموت. .)
بلى: هذا الجيل الذي أنا منه والذي زخرت نفسه بالآمال الجسام، كم جاهد لمجد فرنسا!. إن نفسي لتذوب حسرات كلما تذكرت أن رجال السلطة قد تخلوا عنا في غضون هذا الجهاد العاصف، وأن الطبقة الوسطى هي التي غذت فرنسا في العشرين عاماً الماضية بالقادة والساسة والفنانين العباقرة حتى ليتساءل المرء: (ما أقدر هذا الفلك الفرنسي السيار! ما أكبر حيوية هذه الأمة الفرنسية! إن خُطاها لاتني حيث كانت تهلك أية أمة أخرى!) هذه الطبقة الوسطى التي شهدت بعض الزعماء يضحون بالعزيز عليها من العقائد بأسم الحرية، ودجاجلة سياسيين يلعبون على الاقتراع العام فيسمو التدجيل بكفاياتهم المتواضعة إلى أسمى الدرجات. . كم تحملت لتبعث فرنسا في العوالم من جديد. .! ولئن خطر الجند الفرنسيون ذهاباً وجيئة، أو أضمرت الحكومات لنا الاحترام، أو تقدم التعليم العالي، أو كانت الآداب الفرنسية ما برحت تحمل لفرنسا لواء العبقرية والمجد، فلهذه الطبقة الوسطى تلكم اليد العليا. .
كيف تحابك فرنسا وتنهض؟ هذه مسألة الساعة.
إنك لا تتذكر صورة أولئك الخيالة البروسيين وهم يتبخترون على أرض فرنسا، يهزون أعطافهم كبرياء، ويصعرون خدودهم صلفاً؛ أما نحن فكم غصصنا بهذه الرؤى. . وما كنا نحسب أن الصلح يمحوها من الأحلام، أو أنه سيسوي أسباب الخصام والسلام إنني أعلم أنك على استعداد لتهب في سبيل الوطن روحك، لكن ليس هذا الفخر، ولا يكفي أن تعلم كيف تموت، بل يجب أن تعلم كيف تحيا. . .
هل لك مثل أعلى من أمثالنا العليا؟ أفيك أيمان أقوى مما تنطوي عليه أضالعنا؟ هل لك آمال دونها آمالنا؟. . .
أن كان الجواب نعم، فشكراً.
وأن كان الجواب لا. . .
إن كان الجواب لا. . .
إن كان الجواب لا: فإن من شباب هذا الجيل طرازين كلاهما ثري وكلاهما مشئوم.(131/31)
أما الأول فهو ذلك المرح المستهتر بالأشياء، الذي همه وكِبر مناه في الدنيا أن يستمتع، وعلى الأصح أن يصل وأن ينجح، فإذا كان سياسياً أو رجل أعمال أو أديباً أو محامياً أو فناناً أو ضابطاً فإنما (. . ذاته) هي الأمل المشتهى، وهي المبدأ والمنتهى؛ يندفع في تطبيق قانون تنازع البقاء على أساليب عيشه وكفاحه اندفاعا بربرياً؛ هولا يهوى من الحياة إلا النجاح، ولا من النجاح إلا المال؛ ولقد يقرأ ما أكتب كما يقرأ كل شيء ليكون فقط (. . مع الدنيا. .)؛ ولقد يرميني بأني أهزأ بالجمهور وما أنا إلا صورة منه؛ طراز إباحي في كل شيء؛ ليس المثل العالي لديه إلا فكاهة! فإذا مارس الديمقراطية مثلاً فليتبوأ مقعده في مجلس النواب. . . أو ليس ذلك الشيطان الرجيم؟. .
هذا الذي لم يقطع من مراحل الحياة خمساً وعشرين مرحلة وليست نفسه إلا (عداداً) لحساب الملذات.
ثم أرأيت إلى ذلك الأخر الأخلق بالزراية والمقت، هذا طراز قد اجتمعت له أرستقراطية الأعصاب والصلف، أبيقوري مهذب على نقيض الأول؛ فذلك أبيقوري متوحش، وهذا الأرستقراطي إباحيّ لبق؛ طافت كل الأفكار برأسه، فلا تحدثه عن التجديف أو عن المادية، فإن للمادة عنده معنى غير ذي حدود. . . هو أنفذ بصيرة من أن يجهل أن كل دين دانت له الدنيا في إبانة. . . هو لا يدين إلا (لذاته). . ليس الخير ولا الشر، ولا الجمال ولا القبح أموراً ذات بال تعنيه، وإنما نفسه (أداة) متعلمة يلتذ بتجريدها وتعطيل مزاياها كأنها موضوع تجارب، لا يفقه في الحق ولا في الباطل ولا في الإنسانية ولا في البهيمية، بل كما قال (بارس) تناهت به شهواته إلى عبادة ذاته أو لذّاته. . . . .
لا تكونوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أيها الفتيان. . . .
لا إلى الواقعيين المفرطين في عالم الحس، ولا إلى المتفيهقين المستهترين في عالم المعقول؛ ولا يركبنكم شيطان الغرور فيذلنكم للكبرياء والشعوذة، بل عليكم أن تجعلوا شعاركم: (إنما يحكم على الشجرة بما تؤتي من ثمار).
إن ثمة حقيقة لا مراء فيها لأنها بين الضلوع، تبصرونها وتحسون بها: تلك هي النفس. وإن من الفكَر التي تسيطر على أذهانكم لأفكاراً تضعف من قوى الإرادة والمحبة، فأعلموا أنها أفكار زيوف مهما طلاها السحر بالألوان. وزيدوا (المحبة والإرادة) نماء فليس سواهما(131/32)
إلا عار دائم وعذاب مقيم.
وأعلموا أن العلم الصحيح اليوم يعرف أن حدود (العالم المجهول) تتاخم حدوده - وكما قال لتريه: هذا بحر غامض تلاطم شواطئنا لجاته، تشهده نواظرنا وآلهة، لا زورق يسبح بنا فيه ولا شراع. . . . فقولوا للأولى زعموا أن عنده الظلمات والهاوية: (إنكم لا تعرفونه)
وما دامت في جنوبكم هذه النفس فتعهدوها
إن فرنسا تريد من كل فرنسي أن يفكر فيها.
باريس في 5 يونيو سنة 1889(131/33)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
كوخ رابع غزاة المكروب
يكتشف مكروب الكلوليرا في مصر
- 7 -
وفي الرابع والعشرين من مارس عام 1882 اجتمعت الجمعية الفسلجية في برلين في حجرة صغيرة حقيرة بحجمها، كبيرة عظيمة بمن اجتمعوا فيها من أعلام رجال العلم في ألمانيا. فكان في الحاضرين بول أرليس وكان فيهم علاّمتنا الجهبذ الكبير الأستاذ الشهير رودلف فرشو الذي ذكرنا قِدْما ما كان من استهانته لكوخ المأفون ودعواه المزعومة في بشلات الأدواء. وكان في الحاضرين كل مقاتل للأمراض له أسم يذكر في ألمانيا.
ولما أكتمل الجمع، قام فيهم رجل صغير، جَعدُ الأسارير، على عينيه نظارتان، وفي يديه أوراق أخذ يقلبها في خَبلة ظاهرة وهي لا تفتأ ترتعد بين أنامله وأخذ يتكلم فأضطرب صوته اضطراباً خفيفاً. هذا كوخ قام يخبر الجماعة في تواضع رفيع كيف تأتى له أن يكشف عن مكروب هذا الداء الذي يحظى بنصيب الأسد من الأدواء فيفوز برجل من كل سبعة يموتون. وأخبرهم دون أن يُجلجل بصوته، فِعلَ مصاقع الخطباء، أن أطباء العالم يستطيعون اليوم التعرّف إلى بَشلِة السل ودرس عاداتها وخصائصها. وأخذ كوخ في الحديث عن هذه البشّلة، أصغرِ أعداء الإنسان وأكبرها به فتكاً، فعرّفهم بمكامنها ومراصدها وبمظاهر ضعفها ومظاهر قوتها، وأراهم طرائق لو أنهم سلكوها فلعلهم ماحون هذا المكروب القتال من على ظهر البسيطة.
وجلس كوخ، وأنتظر النِّقاش والحِجَاج والمعارضة التي لا بد منها عندما يختم باحث عرض بحث ثوريّ كالذي نحن بصدده. ولكن لم يقف رجل على قدم، ولم تنفرج بكلمة واحدة شفتان. وأخيراً اتجهت الأنظار إلى فرشو، سلطان دولة العلم الألمانية، ومهبط وحي(131/34)
الآلهة، والرجل الرّعاد الذي كان يعبس للنظرية الجديدة تهم بالظهور في تفسير الأدواء فيقضي عليها قبل ولادتها.
اتجهت الأنظار إلى هذا الداهية، فأنتصب قائماً، ووضع قبعته على رأسه، وغادر المكان - فلم يكن عنده ما يقول!
لو أن لوفن هوك كشف هذا الكشف الخطير في قرنه السابع عشر، أي قبل أيام كوخ بمائتي عام، لأستغرق انتشار خبر ذلك في أوربا أشهراً عديدة طويلة؛ أما في عام 1882، فلم ينفضّ اجتماع الجمعية الفسلجية حتى شاع خبر هذا الكشف في الناس، وحمله البرق في نفس الليلة إلى أقاصي اليابان شرقاً إلى أقاصي أمريكا غرباً. وأصبح الصباح فكنت تراه في جرائد الأمم كالقنبلة انفجرت على صفحاتها الأولى. وهاجت الدنيا وماجت لاكتشاف كوخ، وجاءه الأطباء زرافاتٍ في السُّفُن وعلى القُطُر تسأله تعليمهم كيف يُطبخ الفالوذج اللحم، وكيف تُضرب المحاقن مليئةً بالجراثيم في أجسام الخنازير وهي تعتلج وتضطرب.
كشف بستور ما أكتشف، فأثار فرنسا من جرائه إلى التشاحن والتطاحن. أما كوخ فكشف عن مكروبة السل الخطيرة فهزّ بها الدنيا هزّاً. وكلما أجتمع حوله المعجبون صرفهم بتلويحة من يده وهو يقول: (ليس لكشفي كل هذا الخطر الذي تزعمون). وتهرّب منهم، وتهرّب من تلاميذه يتفرغ ما استطاع لأبحاثه الجديدة. وكان مثل لوفن هوك يكره التدريس، ولكنه غُصب عليه فكان يأتيه كاظماً كرهه، إلا تمتمةً وراء شفتيه، فدرّس ليابانيين يتكلمون الألمانية سقيما، وكلامهم بها أيسر عليهم من فهمهم إياها. ودرّس لبرتغاليين كانوا قوماً يستحيل عليهم صيد المكروب ولو تعلموه على كوخ مائة عام. وخاصم بستورَ خصومة كبرى سنأتي عليها في الباب القادم. وقام بين الفينة والفينة بتعليم عونه القديم جَفْكيِ كيف يتصيد مكروب التيفود. وأضطُر اضطراراً إلى حضور استقبالات.
وتقبّل الشارات، فإذا فرغ من هذه عاد إلى عونه الآخر لُفلار وكان من ذوي الشوارب الكبيرة الرائعة فأعانه فيما هو فيه، وكان قد أخذ في سبيل اقتناص ذلك المكروب الذي يَقْطُر سمّاً في حلوق الأطفال الرضّع فيميتهم اختناقاً، وأعني به مكروب الدفتريا.
أكتشف كوخ طريقته لتكثير المكروب على سطوح الأطعمة الجامدة، وهي طريقة مُغرقة(131/35)
في البساطة، إلا أنها على بساطتها فتحت له أبواباً شتى إلى كشوف شتى. ووصفها جَفْكيِ بعدئذ بزمن فقال إنها كانت كالشجرة المباركة، كُثر طرحها، وثقلت به فروعها، فما كان على كوخ إلا أن يهز بجذعٍ فتساقط في حجره بكل جَنيٍ من ثمرها.
لقد قرأت جميع ما كتب كوخ فلم أجد في شيء منها قرينة تدل على أنه عد نفسه يوماً كشافاً كبيراً ومبتكراً ذا بال. وهو لم يستشعر يوماً - كما أستشعر بستور - أنه كان بحق قائداً عظيماً في حربه التي أثارها على المكروب، وقد كانت من أشد الحروب التي أثيرت عليه، ومن أجمل الوقائع التي دبرّها الإنسان لصد غارات الطبيعة ودفع قساواتها. كان هذا الرجل القصير القليل الملتحي لا يطلب إلى الشهرة سبيلاً، ولا يمثل من أجلها في الناس تمثيلاً. ولكنه مع هذا رفع على مسرح الكون ستاراً عن درامة أخذت فصولها تتكشف عن معارك حامية أثارها اللاحقون من العلماء على رسل الموت مترسمين فيها خُطى هذا السبّاق الأول، مخاطرين بأرواحهم إلى حد النزق، وبأرواح سواهم إلى حد الأجرام، كل هذا ليثبتوا أن المكروبات أسباب الأدواء.
ولنضرب مثلاً لهؤلاء رجلاً يدعى الدكتور فِيلَيسِنْ خرج من معمل كوخ، فوجد مكروباً مستديراً كالكرة، وقد تشبث بعضه ببعض فأصبح كحبات السّبحة، فأخذ هذا المكروب من جلد أنتزعه تقويراً من مرضى بداء الحمرة، ثم رّباه، وبناء على نظرية حمقاء تقول إن إصابة من داء الحمرة قد تذهب بداء السّرطان، أطلق صاحبنا البلايين من هذه المكروبات في مرضى مسروطين قلّ الرجاء فيهم، وبعد أيام قلائل التهبت جلود هذه الحيوانات التجريبيّة من بني الإنسان بداء الحمرة وكاد يقضي عليهم قضاء مبرماً، وفاز صاحبنا الأرعن ببرهانه: إن هذه الحبّات السُّبحية سبب داء الحمرة.
ولنضرب مثلاً آخر تلميذاً من تلاميذ كوخ، وبطلاً من الأبطال الذين ذهب بأسمائهم الزمان، وعفى على ذكراهم النسيان، ذلك الدكتور جاريه بمدينة بازل فهذا الرجل سمع بستور يدّعى أن نوعاً آخر خاصاً من المكروب هو سبب الدمامل التي تصيب الإنسان، فما كان منه إلا أن قام إلى أنابيب اختبار ملأى بهذا المكروب فدعك بها ذراعه، فكان جزاءَه خُراجٌ كبير وعشرون دُمّلاً؛ وكان من الجائز أن يذهب ضحية جسارته، ولكنه أحتمل أوجاعه بسن ضاحكة، ووَصف ما لَقَي بأنها تجربة (غير لطيفة)، وصاح اغتباطاً بفوزه(131/36)
قال: أنا الآن أعلم أن هذه الحبوب العنقودية هي سبب الدمامل والخراجات.
وجاء عام 1882 وقارب الختام، وانتهى بانتهائه الخصام الشديد الذي قام بين بستور وكوخ؛ وهو خصام على شدته لم يخل مما يضحك. أما بستور فأنفض يتفرغ بكل حوله إلى غياث الشياه والأبقار الفرنسية مما أصابها. وأما كوخ فأنفض يتشمم كالكلب في آثار مكروب جديد، هو في ذاته سهل القتل سريع الفناء، إلا أنه مع هذا شر المكروبات افتراساً للناس؛ ذلك مكروب الكوليرا. ففي عام 1883 جاءت الكوليرا من آسيا تطرق باب أوربا. فرّت من مخابئها في الهند وتسلَّلَت في خفاء عَبْرَ البحار، وجازت الصحراء والرمال إلى مصر، ثم انبثت بعدواها المخيفة في الإسكندرية، وبقيت أوربا تنظر إليها من وراء البحر الأبيض وَجلِة مرتاعة. خيّمت هذه الوافدة الُمنكَرَة على ميناء مصر الحيّة فخفّ نبض الحياة فيها، وعم السكون شوارعها اكتئاباً لفواجع النهار الحاضرة، وارتقاباً لفواجع الليل التي هي لا بد آتية؛ ولم يكن يدري الناس من أمر هذه الوافدة شيئاً، إلا أنها وباء يسترق طريقه خُفيةَ إلى جسم الرجل السليم في الصباح، فإذا أتى العصر التوى تشنجاً وانطوى ألماً، فإذا خيّم الليل تباعد إلى الأبد ما بينه وبين الآلام.
وتنافس كوخ وبستور في كشف مكروب هذه الوافدة التي طلعت نُذُرها حمراء في الأفق البعيد. وما التنافس بين كوخ وبستورإلا تنافس بين ألمانيا وفرنسا. فقام كوخ وصاحبه جَفْكِي عن برلين قاصدين إلى مصر، وحملا معهما مكرسكوبات وحيوانات؛ وكان بستور في شُغْل شاغل يبحث مكروب الكلَب، فأوفد عنه أميل رُو والصموتَ السَّكوت تويّيه وكان أصغر بُحّاث المكروب في أوربا. وعمل كوخ وصاحبه الليل والنهار، فنسيا النوم والطعام، وقاما في حجرات موحشة يقطّعون جثث الموتى من المصريين. وقاما في معمل شديد الحر شديد الرطوبة حتى كاد جوه يتقطر ماء، كما تقطرت أنفاهما عرقاً على مكرسكوباتهما - قاما يحقنان قردة وكلاباً وقططاً ودجاجاً وفئراناً بالمواد الوبيئة التي استخلصاها من جثث الإسكندريين الذين ماتوا من الوافدة قريباً. ولكن بينما الفريقان الألماني والفرنسي يستميتان في طلب هذا المكروب الجديد، إذا بالوافدة تتزايل لغير ما سبب ظاهر، كما كانت جاءت لغير علة معروفة. ولم يكن منهم من تمكن من معرفة شيء عن المكروب المنظور، فنظروا إلى الموت المتراجع نظرة الآسف على فرصة أمكنت ثم(131/37)
أفلتت.
وهّم كوخ وجَفْكِي بالرجوع إلى برلين، وبينما هما يتأهبان للرحيل جاءهم رسول ينتفض ارتعاداً، فقال لهم: إن الدكتور تويّيه الباحث الفرنسي مات، ومات بالكوليرا.
كره بستور كوخ كرهاً شديداً، وأخلص له بالكره بقدر ما يكره الفرنسي الصميم؛ وكره كوخ بستور كرهاً شديداً، وأخلص له الكره بقدر ما يكره الألماني الصميم. ومع كل فما علم الألمانيان بالخبر خفَّا إلى رُو يقدمان عزاءهما ويبذلان عونهما. وصحب كوخُ رفات توّييه إلى مقره الأخير، وقد حملوه في صندوق بسيط عار من الزخرف. ولدى قبره وضع كوخ على تابوته الإكليل وقال (إنها غاية في البساطة، إلا أنها من الغار. العرف يجري بأن الغار هدية الأبطال). مات هذا الشاب الجسور، أماتته تلك المكروبات الضعيفة التي جاء يتقفاها أقتناصاً، فأقتنصته في الطِّراد من حيث لا يدري.
وانتهت جنازة هذه الضحية الأولى، فعاد كوخ إلى برلين ومعه صناديق بها عينّات كان صبغها بصبغات قوية فتراءت فيها مكروبة على صورة الواو. فكتب تقريره إلى وزير الدولة، وقال فيه: (لقد وجدت جرثومة واحدة في كل حالات الكوليرا التي بحثتها. . . . ولكني لم أثبت أنها سبب هذا الداء، فابعث بي إلى الهند حيث توجد الكوليرا دائماً. . . . ففي الذي وجدته ما يكفي لتبرير إرسالي إليها).
وغادر كوخ برلين قاصداً كلكتّا تصحبه ذكرى (توّييه) وذكرى فاجعته التي كانت. وصحبه خمسون فأراً قام عليها وصياً راعياً. وزاد دوار البحر في عنته. فكثيراً ما تصورت ما خاله ركاب السفينة من أمره، لعلهم ظنوه مبشراً حمله تحمسه على ما هو فيه؛ أو لعلهم حسبوه أستاذاً همه التنقيب عن تراث الهند القديم ووجد كوخ تلك المكروبة الواوية في كل جثة في جثة من الجثث الأربعين التي فحصها. ووجدها كذلك في مَعي المرضى عند أول إصابتهم بالكوليرا. ولم يجد أثراً لها في مئات الهنود الأصحاء الذين أمتحنهم. ولم يجدها في أي حيوان سليم، من الفأر الصغير إلى الفيل العظيم.
وسرعان ما تعلّم كوخ تربية هذه البشلات الواوية نقيةً على فالوذج حساء لحم الأبقار، وما استطاع القبض عليها في أنابيب اختباره حتى درس عادات هذه المخلوقات النباتية الصغيرة الشريرة فعرف أنها تموت سريعاً إذا هي جففت ولو تجفيفاً طفيفاً، وعرف كيف(131/38)
تتسلل إلى الرجال الأصحاء من ثياب الموتى وأفرشتهم بعد أن تتلوّث بأقذارهم؛ واستخرج هذه الواوات عينها من صهاريج الماء الآسن التي أجتمع الهندوس حولها في أكواخ حقيرة، بل زرائب بائسة، تخرج منها توجعات المرضى يستعْدون على الموت وليس من يُعدى ولا من يعين.
وركب كوخ البحر عائداً إلى بلده، فأستقبله الألمان استقبالهم قائداً عاد منتصراً، وأجتمع له العلماء الأطباء فقال فيهم: (إن الكوليرا لا تنشأ من ذات نفسها، فلا بد للمكلور من ابتلاع بَشِلَّتها الواوية، وهذه البشلة لا يمكن أن تنشأ إلا من بشلة مثلها، وهي لا تنشأ من شيء آخر غير هذه البشلة، وهي لا تنشأ من العدم، وهي لا تنمو وتتكاثر إلا في أمعاء الإنسان، وإلا في الماء إذا زاد قذره كماء الهند).
ألا حمدا ًلكوخ ولأبحاث كوخ وشجاعته، فهي التي أمنت أوربا وأمريكا من غارات هذه الوافدة الشرقية، ولم يبق لتأمين العالم منها إلا تمدين الهند ونشر الأنظمة الصحّية فيها.
- 8 -
من يد الإمبراطور نفسه تسلم كوخ وسام التاج بنجمته؛ ومع هذا ظلت قبعته الريفية مطمئنة على رأسه الأكيس؛ وكلما أعجب به المعجبون وأثنى عليه المادحون قال: (أنا إنما أفرغت كل وسعي، فأن كنت نجحت فوق نجاح غيري، فما هذا إلا لأني وقعت اتفاقاً من مجاهل العلوم الطبية على أصقاع بكرٍ بها التِبْر كثير مركوم. فليس لي في الذي وجدت فضل كبير)
كان البحّاث الذين اعتقدوا أن المكروبات أسباب الأدواء وأعداء الإنسان رجالاً شجعاناً، ولكن هذه الشجاعة لم تفت خصومهم من الأطباء الأقدمين وعلماء الصحة المحافظين الذين هزءوا بالأحاديث الجديدة عن المكروبات المزعومة وظنوها ضلالة وخرفاً، ومن هؤلاء الخوارج الأستاذ الشيخ بيتنكوفر أستاذ ميونيخ وزعيم الشكاكين الذين لم تقنعهم تجارب كوخ على بساطتها ووضوحها. فلما عاد كوخ من الهند ومعه هذه المكروبات الواوية التي آمن بأنها أسباب الكوليرا، كتب له بيتنكوفر ما معناه: (أرسل إلي شيئاً من جراثيم الكوليرا المزعومة، وأنا أثبت لك أن لا ضرر فيها)
وبعث كوخ إليه بأنبوبة تعج بهذه الجراثيم القتالة، فما كان من صاحبنا إلا أن رفعها إلى(131/39)
فمه وأبتلعها ابتلاعاً. فأرتاع كل صياد يؤمن بالمكروب، فقد كان في هذه الأنبوبة بلايين من هذه الواوات تكفي لعدوى جيش؛ ولكن الأستاذ تمطى بعد ما شربها استخفافاً وصاح يتحدّى من خلَل لحيته الكثة: (والآن فلنصبر وننظر هل تجيئني الكوليرا كما يزعمون)، وانتظروا ولكن الكوليرا لم تأت لهذا الأستاذ المجنون، ولآي سبب تخلفت؟ لم يعلم أحد عندئذ ولا يعلم أحد إلى الآن من سر هذا شيئاً.
بلغ النزق الجسور بيتنكوفر أن قام بتجربة جاز أن يكون بها قضاؤه، وبلغ كذلك به اليقين بعدها أن زعم أنها قضت له قيما بينه وبين خصومه. فصاح فيهم: (ليس للمكروب شأن في الكوليرا، إنما الشأن لاستعداد الشخص المصاب)، والاستعداد كلمة مبهمة لا مفهوم لمعناها.
فصاح كوخ يجيبه: (لا كوليرا إلا بالبشلات الواوية).
فرد عليه بيتنكوفر: ((ولكني بلعت الملايين من بشلاتك القاتلة في زعمك ولم يصبني حتى وجعٌ في بطني).
كان في هذا الحوار، وأسفاه، ما يكون بكل حوار علميّ شديد: كلا الطرفين مصيب بعض الإصابة، وكلاهما مخطئ بعض الخطأ. فقد توالت الأربعون عاماً التي جاءت من بعد كوخ بحوادث كلها تؤيده في قوله إن الناس لا تأتيهم الكوليرا إلا إذا هم بلعو بشلته الواوية؛ وكل السنين التي توالت علمتنا أن تجربة بيتنكوفر ما هي إلا مثل غامض من كثير أَبَت حُجُب المجهول أن تكشف لنا عن تفسيره، حتى في هذا العصر الحاضر الذي نحن فيه عجز بحاث المكروب عن رفع طرف واحد من تلك الحجب الكثيفة، فالمكروبات الفاتكة تملأ الكون، وتنسّل إلى كل مكان، وهي مع ذلك لا تقتل منا إلا بعضنا؛ أما بعضنا الآخر فإنه يقاوم مقاومة تحير عقولنا اليوم كما حيرت عقول الجيل الصاخب في العقد الخامس من القرن الماضي، حين الرجال لا يبالون بالموت في سبيل إثبات ما يدعون أنه الحق؛ فما كان بيتنكوفر هازلاً فيما صنع. وكيف يهزل من مشى إلى الموت حتى صار منه على مدى شبر واحد. وقد بلع غيره من البحّاث على غير عمد مِثل الذي بلع من مكروب الكوليرا وماتوا على أثر ذلك شر ميتة.
وما قاربت أيام كوخ العظيمة تمامها حتى أخذ بستور وأعماله الكبرى تتراءى مرة أخرى ضخمة هائلة، فتلفت الناس والدنيا وتَزُجّ بكوخ وبغيره من البحاث إلى الوراء في رقعة(131/40)
الحوادث الخطيرة. فلندع الآن كوخ، ولنتركه إلى مواطنيه الطماحين ينصبون له غير عامدين شركا، بل داهية عظمى ومأساة كبرى طمست قليلاً من وهج هذا الاسم الكبير، أسم الرجل الذي أقتنص من أعداء الإنسان والحيوان مكروب الحمرة ومكروب الكوليرا ومكروب السل. وقبل أن أعود إلى بستور فأكشف عن الصفحة الأخيرة الناصعة من سفر حياته الخالد، دعوني أرفع قبعتي وأنحني احتراماً لكوخ - هذا الرجل الذي أثبت يقيناً أن المكروب ألدّ أعدائنا؛ هذا الرجل الذي نظّم بحث المكروب فجعل منه علماء؛ هذا الربّان الذي قاد السفائن في عصر من بطولة وأبطال عفّي الآن عليه النسيان بعض العفاء.
(انتهى كوخ)
أحمد زكي(131/41)
من روائع الشعر الأندلسي
رثاء الأندلس
لشاعر أندلسي مجهول
. . . . قصيدة بليغة من الأدب الأندلسي الرائع تصف أحسن وصف المأساة الأندلسية لم نعثر على قائلها، وقد طبعها لأول مرة على ما يظهر الأستاذ الدكتور صوالح محمد بالجزائر سنة 1914 مع ترجمة فرنسية وبعض تعليقات بالفرنسية ذكر فيها أن هذه القصيدة من جملة قصائد بعث إلى السلطان بايزيد العثماني بقصد الاستغاثة، وأشار إلى أن صحيفة الزهرة التونسية نشرت نتفاً منها منذ سنوات وطلبت من الأدباء أن يعلنوا عن صاحبها إذا عرفوه، ولكن لم يجب الصحيفة أحد: فبقي صاحبها مجهولاً؛ وقد عْرضتها على المؤرخ المغربي الكبير السيد محمد بن علي الدكالي السلوي فذكر لي أن صاحبها كما يفهم من القصيدة من مدينة المرية، ولعله أبو جعفر بن خاتمة، وقد تكون مذكورة في كتاب له يسمى مزية المرية الموجود منه نسخة خطية بمكتبة الأسكوريال.
ولقد أحببت أن أرسل إليكم نصها لكي تنشروه في مجلتكم الحافلة إذا راقكم لعل بين المشتغلين بالأدب الأندلسي من له معرفة بقائلها فيعلنه.
سلا - مراكش
عبد الرحمن حجي
أحقاً خبا من جَوِّ رندَة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازهها ذات العلا وقصورها
أحقاً خليلي أنَّ رندة أقفرت ... وأُزعج عنها أهلُها وعشيرها
وهُدَّت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها
وكانت عقاباً لا يُنال مطارُها ... ومعقل عز زاحم النسر صوُرُها
هوت رندة الغراء ثم حصونها ... وأنظارها شنعاء (كذا) عز نظيرها
وقد كن عقدا زين القطر نظمها ... فقد فتح الآن البلاد نثيرها
وفرق شمل المؤمنين لهيبها ... وقطع من أرحامهم زمهريرها(131/42)
تسلمها حزبُ الصليب وقادَها ... وكانت شروداً لا يقاد نَفورُها
وقد ذهبت أديانها ونفوسها ... وقد دثرت تحت السباء دثورها
فباد بها الإسلام حتى تقطعت ... مناسبها وأستأصل الحق زورها
وأصبحت الصلبان قد عبدت بها ... تماثيلها دون الآله وصورها
لقرع النواقيس اعتلى بمنارها ... كرائه أصوات يروع صريرها
فيا ساكني تلك الديار كريمة ... سقى عهدكم مزن يصوب نميرها
أحقاً أخلائي القضاء أبادكم ... ودارت عليكم بالصروف دهورها
فقتل وأسر لا يفادي وفرقة ... لدى عرصات الحشر يأتي سفيرها
لعمر الهدى ما بالحشا لفراقكم ... سوى حُرَق سُحم تلظى سعيرها
ولوعة ثكل ليس يذهب روعها ... ولا تنقضي أشجانها وزفيرها
ونفس على هذا المصاب حزينة ... يذوب كما ذاب الرصاص صبورها
وقلب صديع ماج فيه بلاؤه ... سويداؤه سوداء جمٌّ ثبورها
سأبكي وما يجدي على الفائت البكى ... بعبرة حزن ليس يرقا عبورها
شآبيب دمع بالدماء مشوبة ... يساجل قطر الغاديات درورها
عويلاً يوافي المشرقين بريحه ... وثكلاً بأقمار قد أطفئ نورها
فوا حسرتاكم من مساجد حولت ... وكانت إلى البيت الحرام شطورها
ووا أسفاكم من صوامع أوحشت ... وقد كان معتاد الأذان يزورها
فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى ... وآياتها تشكو الفراق وسورها
وكم من لسان كان فيها مرتِّل ... وحفل بختم الذكر تمضي شهورها
وكم من فتى ثبت الجنان مهذب ... يود المنايا وهو كان يديرها
يصول على الأبطال صولة ضيغم ... فيرهبه شبل الشرى وهصورها
له في سبيل الله خير نقيبة ... تزان لها عِين الجنان وحورها
له في جناب الكفر أجدى نكاية ... وشعواء غارات يثاب مغيرها
يُراع لها دين الصليب وحزبه ... ويخزى بها غنُصالها ورُمِيرُها
وكم أنفس كانت لديه أسيرة ... فأضحى لعمر الله وهو أسيرها(131/43)
تحكم فيه الشرك وهو موحد ... كما قد قضى جبارها ونذيرها
وكم طفلة حسناء فيها مصونة ... إذا سفرت يسبي العقول سفورها
تميل كغصن البان مالت به الصبا ... وقد زانها ديِباجها وحريرها
فأضحت بأيدي الكافرين رهينة ... وقد هتكت بالرغم منها ستورها
وقد لطمت وَاَحرَّ قلبي خدودها ... وقد أسبلت وأدمع عيني شعورها
وإن تستغث بالله والدين لا تغث ... وإن تستجر ذا رحمة لا يجيرها
وقد حيل ما بين الشفيق وبينها ... وأسلمها آباؤها وعشيرها
وكم من عجوز يحرم الماء ظمؤها ... على الذل يطوي لبثها ومسيرها
وشيخ على الإسلام شابت شيوبه ... يمزق من بعد الوقار قتيرها
وكم فيهمُ من مهجة ذات ضجة ... تود لو انظمت عليها قبورها
لها رَوعة من وقعة البين دائم ... أساها وعين لا يكف هديرها
وكم من صغير حيز من حجر أمه ... فأكبادها حراء لفحُ هجيرها
وكم من صغير بدل الدهر دينه ... وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها
وكم من شقيّ يسرت هذه له ... سبيلاً إلى العسرى يحيف كفورها
كروب وأحزان يلين لها الصفا ... عواقبه محذورة وشرورها
فيا فرحة القلب الذي عاش بعدها ... ويا لعمى عين رآها بصيرها
ويا غربة الإسلام بين خلالها ... ويا عشرة أنَّى يقال عثورها
ويا ليت أمي لم تلدني وليتني ... بليت ولم يلفح فؤادي حرورها
وما خير عيش يعذب الموت دونه ... ويغبط قل الأهل فيه كثيرها
فيا ليت شعري بعد ما صح موتها ... أيرجي على رغم العداة نشورها
ويا ملة الإسلام هل لك عودة ... لأرجائها يشفي الصدور صدورها
وهل تسمع الآذان صوت الأذان في ... معالمها تعلو بذاك عقيرها
ويا لعزاء المؤمنين لفاقة ... على الرغم أغنى من لديها فقيرها
لأندلسَ ارتجت لها وتضعضعت ... وحق لديها محوها ود ثورها
منازلها مصدورة وبطاحها ... مدائنها موتورة وثغورها(131/44)
تهائمها مفجوعة ونجودها ... وأحجارها مصدوعة وصخورها
وقد لبست ثوب الحداد ومزقت ... ملابس حسن كان يزهو حبورها
فاحياؤها تبدي الأسى وجمادها ... يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها
فلو أن ذا ألف من البين هالك ... لذابت رواسيها وغاضت بحورها
على فرقة الدين الذي جاءها به ... بشير الأنام المصطفى ونذيرها
فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة ... قد استفرغت ذبحاً وقتلاً حجورها
وجزت نواصيها وشلت يمينها ... وبدل بالويل المبين سرورها
وقد كانت الغربيّة الجُننَ التي ... تقيها فأضحى جنةَ الحرب سورها
وبلّش قطت رجلها بيمينها ... ومن سريان الداء بان قطورها
وضَحّت على تلك الثنيات حجرها ... فأقفر مغناها وطاشت حجورها
وبالله إن جِئتَ المنكب فأعتبر ... فقد خف ناديها وجفّ نضيرها
وسكّرُها قد بدل اليوم علقماً ... لها رجة نار الهيام تثيرها
وعرجْ على الإقليم فأبك ربوعها ... بسحب يضاهي المعصرات خريرها
وودع بها وفد النعيم فأنها ... لها أدمع فين الدموع يميرها
ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم ... قد أرتج باديها وضج حضورها
بدار العلى حيث الصفات كأنها ... من الخلد والمأوى غدت تستطيرها
محل قرار الملك غرناطة التي ... هي الحضرة العليا زهتها زهورها
فما في العراقين العتيقين مثلها ... ولا في بلاد الله طراً نظيرها
تُرَى الأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستعبر وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها
لها حال نفس قد أصيب فؤادها ... وبتت لها اليمنى وحم تبورها
فأنفسها في الصعق دون إفاقة ... كنفس كليم الله إذ دك طورها
وقد ذعرت تلك البنيّات حولها ... فهن بواكي الأعين الرمد مُورها
وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها ... سكارى وما استاكت بخمر ثغورها
لقد أظلمت حتى لفرط حدادها ... سواء بها نجل العيون وعورها(131/45)
وبسطة ذات البسط ما شعرت بما ... دهاها وأنى يستقيم شعورها
على عظم بلواها وطول وبالها ... وما كابدت من ذا المصاب نحورها
وما أنس لا أنس المرية إنها ... قتيلة أو جال أزيل عذارها
فلو أحرق الثكل المصابين أصبحت ... تأجج من حر الو جيف بحورها
فيا أصدقائي ودعوها كريمة ... أو استدعوها مَن إليه أمورها
منازل آبائي الكرام ومنشئي ... وأول أوطان غذانيَ خِيرها
وأقروا عليها من سلامي تحية ... تجددها آصالها وبكورها
أماناتها ضاعت فضاعت رقابها ... لقد عميت عين تبدد نورها
أضعنا حقوقَ الرب حتى أضاعنا ... وقضت عرى الإسلام إلا يسيرها
وملتنا لم نعرف الدهر عرفها ... من النكر فأنظر كيف كان نكيرها
بما قد كسبنا نالنا ما أنالنا ... كذا السيرة السوأى لدى من يسيرها
بشقوتنا الخذلانُ صاحب جمعَنا ... ويؤنا بأحوال ذميم حضورها
بعصياننا استولى علينا عدونا ... وعاثت بنا أسد العدا ونمورها
نعم سلبوا أوطاننا ونفوسنا ... وأموالنا فيئا أبيحت وفورها
علوها بلا مهر وما غمزت لهم ... قناة ولا غارات عليهم ذكورها
وقد عوت الإفرنج من كل شاهق ... علينا فوفَّت للصليب نذورها
وقد كثرت ذؤبانها وكلابها ... وقد كسرت عقبانها ونسورها
وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا ... جيوش كموج البحر هبت دَبورها
علامات أخذٍ مالنا قِبَلٌ بها ... جنايات أخذ قد جناها مثيرها
فلا تمتحي إلا بمحو أصولها ... ولا تنجلي حتى تخط أصورها
معاشر أهل الدين هبوا لصعقة ... وصاعقة وأرى الجسوم ظهورها
أصابت منار الدين فأنهد ركنه ... وزعزع من أكنافه مستطيرها
أدارت علي غريبة الدهر أكؤساً ... فظاعا بسكر الدهر تقضي خمورها
ودبت أفاعيها إلى كل مؤمن ... وعضّ بأكباد التقاة عَقُورها
أنادي لها عجم الرجال وعربها ... نداء سراة القفر إذ ضل عيرها(131/46)
وأستنفر الأدنى فالأدنى فريضة ... على زمر الإسلام جلت أجورها
على كل محتاج لفضل دفاعها ... فليس يؤدي الفرض إلا نفيرها
ألا وارجعوا يا آل دين محمد ... إلى الله يغفر ما أجترحتم غفورها
أنيبوا وتوبوا واصبروا وتصدقوا ... وردوا ظُلامات يبيد نقيرها
ومن كل ما يردي النفوس تطهروا ... فليس يزكي النفس إلا طهورها
لا واستعدوا للجهاد عزائماً ... يلوح على ليل الوغى مستنيرها
بأسد على جُرد من الخيل سبق ... يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها
بأنفس صدق موقنات بأنها ... إلى الله من تحت السيوف مصيرها
تروم إلى دار السلام عرائساً ... على الله في ذاك النعيم مهورها
وضرب كأن الهام تحت ظلالها ... حثالة نور الورد ذرَّ ذرورها
وطعن يرى الخطِّىَّ في مهج العدا ... كأقلام ذات الخط خطت سطورها
يمين هدى إن تتقوا الله تنصروا ... وتَحْظَوا بآمال يشوق غريرها
فلا يَخذل الرب المهيمن أمة ... تدين بدين الحق وهو نصيرها
وأن أنتمُ لم تفعلوا فترقبوا ... بوادر سخط ليس يرجى فتورها
وأيام ذل واهتضام وفرقة ... يطاول آناء الزمان قصيرها
وأهدوا لدين الشرك كل خريدة ... خبتها على طول الليالي خدورها
وكل نفيس من نفوس كريمة ... وأعلاق أموال خطير خطيرها
وحق العظيم الشأن لا عيش بعدها ... بلايا يمر الطيبات مرورها
فنرفع شَكْوَاهَا لعالم سرها ... فليس لها في الخبر إلا خبيرها
نمد أكف الذل في باب عزه ... بأفئدة خوف الفراق يطيرها
فأن لم يُقِل رب العباد عثارَنَا ... فهذا العدو الضخم حتماً يبيرها
آله الورى ندعوك يا خير مرتجىً ... لكالحة هز الصليبَ سرورها
وشقت جيوب المؤمنين وأسخنت ... عيونهمُ والكفر ظل قريرها
وليس لها يا كاشف الكرب ملجأ ... إذا لم يكن منك التلافي ظهيرها
أغث دعواتِ المستغيثين أنهم ... ببابك موقوفو الحشاشات بورها(131/47)
وليس لهم إلا الرسول وسيلة ... شفيع الورى يوم التنادي بشيرها
أمام الهدى بحر الندى قامع العدا ... وأول رسل الله فضلاً أخيرها
محمد المختار من آل هاشم ... سراج السموات العلى ومنيرها
دعوناك أملناك جئناك خشعاً ... بأنفس استولى عليها قصورها
نجاه العظيم الجاه أدرك ذماءنا ... برحمي يُحلّيِ المؤمنين شذورها
وعفو وتأييد ونصر مؤزر ... وعِزة سلطان يروق طريرها
ولطف وتسديد وجبر لما مضى ... يدال به من كل عادٍ كسيرها
وأرسل على هذا العدو رزيّة ... يروح ويغدو بالبوار مبيرها
يشتت شمل الكفر تشتيت نقمة ... وينظم شمل المؤمنين حصيرها
وصلّ على خير البريةِ أحمدٍ ... وأكرم من قد أنجبته ظهورها
وأصحاب الشهب الهداة وآله ... صلاة مع الآناء يزكو عبيرها(131/48)
2 - سكان أعالي النيل
بقلم رشوان أحمد صادق
كذلك تستعمل الماشية في القرابين، ليكون هناك اتصال بين النويري والآلهة وأرواح أجداده، فمثلاً في أوقات الشدائد مثل المرض والموت والتشليخ (تشريط الوجه) والزواج يجب أن يحوز النويري رضاء الأرواح الطيبة، وذلك بأن يُستحضر عجل أو كبش، ثم يوضع على ظهره مسحوق من الرماد، ثم يقول له صاحبه ما يريده من الأرواح، ثم يطلق إلى حال سبيله لكي يخبر الأرواح بما يريده سيده.
والنويري يرى دائماً أنه لا بد أن توجد علاقة بينه وبين الأرواح، وذلك يكون بإهدائها بقرة، وهذه البقرة تترك في المنزل ولا يحل له ذبحها أو استعمالها لأي غرض من الأغراض ما دام قد وهبها للأرواح. فإذا ماتت فأن أحد أولادها يحل محلها كحلقة اتصال بين النويري والأرواح. والقطيع من الماشية تتعهده مجموعة من الأفراد تجتمع لهذا الغرض، إذ لا يمكن أن يتعهده فرد واحد. ومن ذلك يتبين إلى حد بلغت علاقة النوير بالماشية خصوصاً إذا ما علمنا أن أي فرد من هذه المجموعة لا يمكن أن ينفصل عنها، لأن طعامه اليومي وزواجه ونجاته من شر الانتقام متوقف على بقائه داخلها. وهكذا يظل النويري طول يومه يرعى ماشيته ولا حديث له سواها، ولذا قلما ينادي رجل من النوير باسمه، بل يعرف باسم أحد (عجوله أو ثيرانه)، فمثلاً بدل أن ينادي رجل باسمه ينادي بهذه العبارة: (أيها الثور أو العجل الأسود الأبيض ذو القرنين).
والنوير ينقسمون إلى عدة قبائل كل منها مستقل سياسياً، ولكل منها مقاطعة تتمتع بكل مواردها الاقتصادية، وكل واحد منهم يعرف حدود مقاطعته، وإذا حدث أن أحد أفراد قبيلة أستغل موارد مقاطعة أخرى غير مقاطعته فأن ذلك يعتبر اعتداء يثير الحرب على الأثر، فإذا قامت الحرب فأنها لا تقف إلا إذا تساوى عدد القتلى في الطرفين.
والأستاذ الدكتور أيفانز بريتشاد يشرح النظام الحربي كما يأتي:
تنقسم القبيلة إلى قسمين أ، ب، وكل قسم من هذين ينقسم إلى قسمين، فـ أتنقسم إلى جـ، د، ب تنقسم إلى هـ، و. وهذه الأقسام الصغيرة تنقسم إلى أصغر منها وهكذا.
فإذا نشبت الحرب بين ل، ن لا يتدخل أحد، وإذا نشبت بين ل، م تدخل ن في صف ل،(131/49)
وإذا نشبت بين ل وأي فرع من فروع ن فإن جميع الأجزاء التي تتفرع من جـ، د تشترك مع ل في الحرب.
وإذا كان هناك حرب بين هذه القبيلة وقبيلة أخرى فأن جميع فروع هذه القبيلة المكونة أ، ب تنظم ضد القبيلة الأخرى وعلى العموم فما دامت الحرب بين أجزاء القبيلة فأن القبيلة تتحد ضد أي عدو خارجي.
والنوير عبارة عن عدة قبائل تربطها الحفلات العامة والظروف الحربية والدينية والقصص القديمة، هذا علاوة على الروابط الجنسية كرابطة الدم مثلاً. والعادة المتبعة أن الرجل لا بد أن يتزوج من قبيلة غير قبيلته.
ومن أهم المظاهر الاجتماعية بين النوير مسألة التشليخ (تشريط الجبهة) فكل ولد يبلغ من العمر أربع عشرة سنة لا بد أن تعمل له ستة شروط (أو خطوط) على جبهته من الأذن إلى الأذن الأخرى، وبذلك يعتبر أنه أصبح رجلاً، فتتغير حياته الأجتماعية، ويصبح عليه بعض الواجبات نحو المجتمع الذي يعيش فيه. ومن أمثلة هذا التغير أنه لا يقوم بتربية الماشية، وعليه ألا يحلبها إذ يقال إن البقرة إذا حلبها شخص مشلخ فأنها تموت، وعملية التشليخ هذه أدت إلى ظهور الحلقات الاجتماعية المختلفة، فمثلاً كل الصبية الذين يشلخون في سنة واحدة يكونون حلقة واحدة وعليهم واجبات نحو بعضهم وأخرى نحو الرجال المحترمين في مجتمع النوير. وهذه العملية تعمل كل أربع سنوات؛ فمثلاً إذا أقيمت عملية التشليخ سنة 1930 فأن عملية التشليخ الثانية تكون سنة 1934، وبذلك يمكن تقسيم النوير من الوجهة الاجتماعية إلى قسمين: (1) الرجال المشلخون (2) الأولاد غير المشلخين. والنوير ليس عندهم رجال شرطة أم محاكم أو نظم حكومية، وإنما يعتمدون على بعض الرجال الروحانيين أو رجال الدين، وأهم هؤلاء (اللوبارد)، ويقوم بحل الخصومات وإرغام الخصم على قبول التعويضات، ومع ذلك فسلطته غير عملية، فليس لديه من وسائل العقاب إلا أن يلعن الشخص غير المطيع لأوامره. وهذا قلما يحدث لأن النويري يخاف سلطة هذا الرجل. كذلك يوجد عدد كبير من الرؤساء المختلفين مثل رئيس الماشية ورئيس الأسماك وغيرهما.
الشلك(131/50)
وهم المجموعة الثانية من الزنوج النيليين ويشبهون النوير في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، ولكنهم يمتازون بنظام حكومتهم، فهم يكونون وحدة متينة برآسة ملك مطلق التصرف من حيث السلطة الروحانية والزمنية.
ولدراسة مركز هذا الملك من الوجهة الروحانية يحسن أن نرجع إلى القصة التي يذكرونها عن منشئهم، فهم يذكرون أن (نيا كنج) أخذ أتباعه وسار من موطنه الأصلي شمالاً إلى منطقة شرق بحر الغزال، وأستمر في الفتح والغزو حتى كون أمة وأسرة مالكة. (ويعتبر هذا الرجل بطل الشلك وربما كان ذلك في أوائل القرن السابع عشر) وإنه لم يمت بل تلاشى في الرياح. وبذلك أصبح موضع احترامهم منذ اختفائه. ويعتقدون أن روحه تنتقل إلى كل ملك يحكمهم، وهذا هو السبب في المركز الروحاني لملك الشلك. ولذلك فهم يعتقدون بأن الملك مسئول عن سعادة شعبه؛ ولا بد لكي يكون ذلك ممكناً أن تنتقل روح نيكا كنج إلى ملك قوي صحيح الجسم؛ ونتج عن ذلك الاعتقاد أن الملك إذا أظهر ضعفاً بأي شكل كان لا بد من أن يذبحوه لأنهم كانوا يظنون أن ضعف الملك الجسماني يضعف روح نيكا كانج وبذلك تمرض الماشية ويقل نتاجها ويموت كثير من المرضى ويضعف نتاج الأرض وربما يخيب المحصول.
وتدخل روح نيا كنج جسم الملك أثناء حفلة التتويج. وحسب تقاليد الشلك القديمة كان أي فرد من العائلة المالكة يتمكن من قتل الملك كان يحل محله ولذلك أصبح من المفروض أن الملك ينام نهاراً ويستيقظ ليلاً كيما ينجو من الفتك به على انفراد. ومن المتبع أن الملك لا يطلب المعونة أثناء الاعتداء عليه كذلك القاتل. فكلا الاثنين يرى أنها مسألة كفاح ومن الشرف أن يفوز أحدهما على الآخر. هذه هي الطريقة القديمة لقتل الملك وتنصيب غيره وحديثاً تغيرت تلك العملية إلى حد ما فيقوم بقتل الملك جماعة يسمون (أورورو) وينتخبون من بعض العائلات التي يقال إنها من سلالة الملك الثالث للشلك. ومنذ قرون كانت تعلق جثة الملك على سور كوخ حتى يفنى.
وتعقب قتل الملك عادة فترة يكون العرش فيها خالياً لمدة أشهر وفي هذه المدة يحضرون تمثالاً للبطل نيا كنج من مكان مقدس بجهة أكروا يحملونه إلى فاشودة حيث مقر الملك. ويحضرون معهم أيضاً مقعداً ذا أربعة أرجل يزعمون أنه من بقايا أمتعة نيا كنج وتجري(131/51)
عملية التتويج وأبدع ما فيها أن يوضع التمثال على الكرسي قليلاً ثم يرفع ويجلس الملك الجديد مكان التمثال توا.
والغرض من هذه المسألة هو نقل روح نيا كنج إلى جسم الملك الجديد. وملك الشلك يعتبر مسئولاً عن حفلة نزول المطر إذ يطلب من الملك نيا كنج الذي يعيش في الفلك أن ينزل المطر. وهذه الحفلة تقام في فاشودة وفي نفس الوقت يقوم بهذه الحفلة ممثلوه في أجزاء مملكته المختلفة.
الدنكا
ويشبهون كلا من النوير والشلك في كثير من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية وهم المجموعة الثالثة من الزنوج النيليين. ويحاكون الشلك في مسألة الرئيس الذي يقوم بحفلة المطر فهو ملك مقدس أيضاً. غير أنهم يخالفون الشلك في مسألة قتل هذا الرئيس، فهم لا يقتلونه بل يتركونه حتى يصبح هرماً ويطلب القتل، إذ يرى أنه أصبح غير كفء لقيادة قومه وإرشادهم. وعملية القتل تنفذ كما يأتي: ينام هذا الرجل على لوح من الخشب على شكل (نقالة) ويوضع في قبر أعد له حيث يبقى نحو أربع وعشرين ساعة يتلو في خلالها ملخصاً لأعماله وينصح للجمع المحتشد حول القبر حتى إذا ما خارت قواه وأصبح غير قادر على متابعة الكلام طلب من أتباعه إغلاق القبر فيختنق ويموت. وهو يفضل هذا النوع من الموت على الموت الطبيعي لأنه يرى أنه إذا ترك حتى يموت موتاً طبيعياً فأن أبنه لا يمكنه أن يخلفه وعند ذلك تصبح القبيلة في حاجة إلى رئيس روحاني يقوم بعملية جلب المطر.
(يتبع)
رشوان أحمد صادق(131/52)
الشك لا يهدي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
- 1 -
رأيتُ الهدى في الشكّ والشك لا يهدي ... كأنيَ بالظلماء قد كنتُ أستهدي
فطوراً أقول الروح كالجسم هالك ... وطوراً أقول الهُلكُ عنه على بعد
فيالك من شك يبرّح بي ولا ... يبارحني حتى أُسّدَ في لحدي
وإنيَ لا أدري أرشديَ كان في ... ضلاليَ هذا أم ضلاليَ في رشدي
أأفقد جسمي وحده عند ميتتي ... أم الروح مثل الجسم يشمله فقدي
أروحٌ وجسمٌ أم هو الجسم وحده ... يحرّكني فيما يضلّل أو يهدي
أعذّب حوبائي بما أنا فاكرٌ ... كأنيَ من أعداء حوبائيَ اللُدّ
- 2 -
إذا كان روحي مثل جسمي يَهلك ... فأني لأبكي في مصابي وأضحك
ولو خيروني بين تركي لواحد ... فأني لجسمي دون روحيَ أترك
يحرّك روحي الجسمَ وهو يحلّه ... فمن ذا لهذا الروح فيَّ يحرّك
وقبل وجودي أين كان مكانه ... فهذا هو الشيء الذي لستُ أدرك
وقد يستطيع الروحُ حلاً لمشكلي ... ولكن مجالُ الروح في الجسم يضنك
وأطلب من عقلي الهدى في ضلالتي ... ومن أين يعطي العقلُ ما ليس يملك
دع الموتَ يأتي فتكه بهما معاً ... كما كان هذا الموت بالناس يفتك
- 3 -
عهدتك يا روحي إلى الحق تجنح ... فهل بجواب إن سألتك تسمح
تقول سأبقى بعد موتك خالداً ... أأنت تريد الجدَّ أم أنت تمزح
فإن كان جداً ما تقول فما الذي ... ستصنع بعدي يومَ مني تبرح
تجيب وقد يُغرى جوابك قائلاً ... سألحق أرواحَ الذين تطوحوا
وإن الفضاء الرحبَ ما زال طافحاً ... بأرواح موتى في السموات تسبح(131/53)
فقلت له في سبيلك راشداً ... ولا تنس جسماً ليس بعدك يصلح
فيا روح قبّلني وصافح مُودِّعاً ... فأنيَ لا أدري متى لك ألمح
- 4 -
نهارٌ لسيل النور فيه دفوق ... وليلٌ كأن النجم فيه خروق
ألوفٌ من الأكوان تقصو كأنها ... تريد أتساعاً بالفضاء يليق
وعند أفتكاري في الوجود كأنني ... أخوض خِضماً والخِضمُّ عميق
طريقي لإدراك الشؤون معّبدٌ ... ومالي لإدراك الوجود طريق
فيا نفس سيري في الفضاء طليقةً ... فلا شيء فيه للنفوس يعوق
لأنتِ شعاع طار من مستقرّه ... وكلُ شعاع بالبقاء خليق
تحيق المنايا بالجسوم كثيفة ... وأما بأرواحٍ فليس تحيق
- 5 -
يقولون إن النفس حقٌ وجودُها ... فلا ينبغي إنكارها وجحودها
وبعد الردى تطوى السماء خفيفةً ... وإن بعدت في اللاتناهي حدودها
وما الجسم إلا دولة مستقلة ... لها حكُمها في أهلها وجنودها
وما أهلها إلا خلايا صغيرة ... وما النفس ذات الحول إلا عميدها
وما هي إلاّ ومضةُ من شعاعة ... فإن خلدت ما كان بدعاً خلودها
فقلتُ لهم هذا جميلٌ وعله ... خيالاتُ عقلٍ شاردٍ لا أريدها
ولم يكن الإنسان إلا أبن غابةٍ ... على فُجأةٍ قد أنجبته قرودها
- 6 -
سيطفئ يأسي في المشيب حياتي ... وأذهب من نور إلى ظلمات
ويحملني صحبي إلى القبر إنني ... به بعد حين لست غيرَ رفات
تقَطَّعُ اوصالي وتبلى جوانحي ... وليس بوسعي أَن أبث ّشكاتي
وأجْملْ بأيام الصبِّا فهي لم تكن ... على الفم من دهري سوى بسمات
ولكن أيام الصبا قد تصرّمت ... ولم تبق ذكراها سوى الحسرات(131/54)
وفارقت أيامَ الشباب حميدةً ... وإن كَثرت في عهده عثراتي
قضيت شبابي مُطمئناً وبعده ... أتى الشيب منهوكاً من الشبهات
- 7 -
من الموت مهما مضّ لستُ بخائف ... ولكن وراء الموت ماذا مصادفي
خضعتُ لعقلي في حياتيَ كلها ... وما كنت يوماً خاضعاً لعواطفي
وكنت إلى لمس الحقائق نازعاً ... أنزه سمعي من سماع السفاسف
تعذّبتُ عمراً من مخالفة الورى ... فيا ليتني قد كنت غيرَ مخالف
عجبت لجذعي كيف ظلّ مقاوماً ... فقد كان معروضاً لضرب العواطف
لقد قذفتني بالمسبات ثلّةٌ ... ولم أتجنّب شرَّ تلك القذائف
وكم شنّ ذو جهل على العلم غارة ... وكم كان ذبّي صادقاً في مواقفي
- 8 -
تجمّع يرميني خميس عرمرم ... أأنكص كالمغلوب أم أتقدم
ولكنني اخترتُ التقدّمَ إنه ... لمن كان يستبقي الحياةَ لأسلم
وللعلم أنصارُ وللجهل مثلُها ... ولكن أنصار الجهالة أعظم
لقد حاربوني بالمسبّة والخنا ... وحاربتُهم بالعلم والعلُم مخذم
إذا كان ليلي قد تجهّم وجهُه ... فأن صباحي بعده يتبسّم
يقصّ عليك الشيخُ منهم خرافةً ... فتحسب أن الشيخ في النوم يحلم
تصرّم عهدُ الجهل في الغرب كله ... ولكنه في الشرق لا يتصرّم
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(131/55)
الحق هو القوة
للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي
ذهب السكوت فلا سكوت ... (شعبٌ ينام ولا يموت)
إن كنتً من ذهب فإن ... ك من نسيج العنكبوت
الصمت يطلب عن خناً ... لا عن صلاةٍ أو قنوت
والصمت يحسن في التفا ... خر بالخزائن والبيوت
والصمت يُحمد في التكا ... ثر بالكراسي والدسوت
وعن الأكاذيب المشا ... عة في جهارٍ أو خفوت
والصمت أجمل في المقا ... بر وهي واعظةٌ صموت
أما عن الحق المضا ... ع فليس يحتمل السكوت
لم تكتمون الحق عن ... أوقاته حتى تفوت؟
لم تحبسون الحق في ... أعماقكم كيما يموت؟
الحق حر مطلقٌ ... مهما تعثر في القيودْ
الحق صوت صائحٌ ... في صرخةٍ أو في همود
الحق ضوء نافذٌ ... مهما تكاثفت البرود
مهما تعددت السد ... ود عليه فأخترق السدود
الحق ينطق (فتنةً) ... في اللحظ حيناً والخدود
في الشمس تشرق من أعا ... ليها على هذا الوجود
في البدر. في زهر الكوا ... كب. في الرشاقة والقدود
في البحر مضطرباً وفي ... أمواجه بعد الركود
في الغصن كلل بالزهو ... ر وبالبنفسج والورد
في الروض أيقضه الندى ... في الصدر زانته النهود
الحق ينطق (قوةً) ... والحق أقوى، لا مراءْ
في البحر يضرب موجُه ... حتى ليرتعب الفضاء
في الرعد. في السيل المح ... طم. في العواصف والبلاء(131/56)
في النار تفتك بالحدي ... د، كأنه النسج الخِواء
في ثورة البركان في ... غضب الزلازل وهي ماء
في سطوة الأيام تق ... هر بالمقادر والقضاء
فإذا الملوك أذلّةُ ... وإذا الممالك: لا وقاء
الحق ينصر نفسه ... إن خلّفته الأنبياء
وهو المظَّفر دائماً ... في الأرض (حقاً) والسماء
إن تنصروه فقد نصر ... تم أنفساً لكمو هباء
أو تخذلوه فقد خذل ... تْمِ هذه الروح الغباء
ولقد يصول الحق بالضّعْـ ... فَى فيردي الأقوياء
ولقد يثير الحق شاةً ... تملأ الدنيا مضاء
فإذا الذئاب وهم حيا ... رى هاربون، ولا نجاء
الحق حقٌ فأنطقوا ... أو فأسكتوا فيها: سواء!!
قليوب
إبراهيم إبراهيم علي(131/57)
القصص
صور من هوميروس
19 - حُروب طَرْوَادَة
بعد مصرع هكتور. . .
للأستاذ دريني خشبة
أنتصر أخيل!
وعاد بجثة هكتور ليجد أمه ما تزال تسقي بتروكلوس خمراً! وما تزال تدفع عن القتيل المسجى فوق سرير الموت أسراب الذباب! وما تزال تذرف الدموع الغوالي!
ويهرول زعيم الميرميدون، ويهرول معه جنوده حول جثة صديقه ثلاثاً، ثم يقف فوق الرأس المتشح بجلال الفناء. ويقول: (السلام عليك يا بتروكلوس فلقد ثأرت لك! السلام عليك فأنت خيرٌ حياةً من كثيرين ممن ينعمون بالحياة، وإن تكن تسبح في لا نهاية هيدز!
هاك غريمك هكتور سأتركه جزر السباع وكواسر الطير، وسأضحي لك باثني عشر من خير شباب اليوم. . . . أذبحهم عند قدميك بيدي!
(إبكوا بتروكلوس يا رفاق!. . . .)
فيبكي الميرميدون على بطل أبطالهم، ويعولون حتى تخفق السماء بأناتهم، وتضطرب الأرض بزفراتهم، ويمتلئ الهواء من حولهم أسى وشجوناً!
ويقبل الهيلانيون من كل فج يهنئون ويعزون: يهنئون بقتل هكتور، ويعزون، ويا حرّ ما عزوا، في بتروكلوس!
ويمتلئ بهم شاطئ الهلسبنت؛ ويأمر أخيل رجاله فيؤتى بالشاء والظباء، وبكل عجلٍ جسدٍ وخنزير سمين؛ وتؤجج النيران، ويسطع الشواء حتى ينضج، وتكون وليمة يقبل عليها القوم أيما إقبال. . . إلا أخيل. . . المنعكف وحده يذرف الدموع على بتروكلوس. . .
وأمر أجاممنون بماء ساخن يغسل به أخيل ما عليه من نضخ الدم وغبار المعركة، ولكن أخيل يأبى إلا أن يظل النضخ ويبقي الغبار حتى يتم تحريق بتروكلوس، وحتى تنتهي المراسيم الدينية التي تقتضيها السماء. . . ويفرضها بلوتو على موتاه!(131/58)
وتفرّق الهيلانيون بعد أكل شهي وري، ونهض الميرميدون إلى خيامهم يخلعون عددهم ويستجمون من عناء اليوم الحافل، ولبث أخيل وحده على الشاطئ الشاحب يرقب أواذيه الصاخبة، ويرى إلى أعراف الموج تنتطح هنا وهناك، وترتد وترتد حتى تغيب في لا نهاية الماء!
ثم غفا إغفاءةً فتمدد على العشب، وأسلم جفنيه لنوم عميق ورأى ظلاً حزيناً يُطيف به ولا يكاد يبين، فتقلّب ذات اليمين وذات الشمال مما تأخذه الرؤيا به، ولكن الشبح ما يفتأ يُهوّم ويهوم، ويقترب ويقترب، حتى يكون عند رأسه، وحتى يقر النائم فما تبدو منه حركة، ويسكن فما يتردد فيه نَفَس، ويَحْسِر الزائر لثامه، فإذا هو. . بتروكلوس!!
لقد أقبل روحه الكبير يتحدث إلى مولاه، فيقول:
(أخيل! أهكذا تنام ملء عينيك وتدع صديقك يهيم في مملكة الظلمات دون أن يؤذن له بعبور ستيكس الفائض بالحميم، ليقر في عدوته الأخرى مع المؤمنين! إنني يا صديقي سأبقى طريداً شريداً مادمت متوانياً عن تأدية الطقوس التي يتطلبها بلوتو وتفرضها السماء!
ماذا تبتغي بعد أن ثأرت لي يا أخيل! ألا يشجيك أن أظل معذباً في هذا التيه الذي لا نهاية له، كاسف البال مسبوه اللب، لأنك تأبى أن تؤدي لي فرائض الآخرة!
أتحسب أنا ملتقيان في دنياك كرة ثانية يا أخيل، فأنت تنتظر هذا اللقاء؟ لا، لا، يا صديقي؛ نحن لا نلتقي إلا هنا! في هذه الدار الجميلة الهادئة التي لا صخب فيها ولا ضجيج. . . .
سنلتقي هنا. . . . وسنلتقي سريعاً. . . . ولن أزعجك إذا أخبرتك بما علمته هنا!. . . . إنك ملاق حتفك تحت أسوار طروادة. . . لا تنزعج يا أخيل، فأنت بطل، والأبطال أمثالك لا يرهبون الموت، والبطل الذي لا يجرع الكأس طافحة في حومة الوغى يموت موتةً لا تشرفه. . . فأطمئن! إنما ذكرت لك ذلك لأن لي رجيةً عندك أتمنى لو أديتها لي. . . ذلك أن توصي أن تدفن رفاتك في نفس الرمس الذي يضم رفاتي، لنظل آخر الدهر متقاربين، كما كنا أول الدهر متقاربين، ولنقضي أحقاب الموت في مربعٍ معاً، كما قضينا شرخ الشباب في ملعبٍ معاً. . .
إيه يا ذكريات الماضي السعيد!
أبداً لن أنسى يوم حملني مولاي الأمين أمفيداماس من نجاد أوبوس إلى بلاط بليوس، حيث(131/59)
نشأت وترعرعت في نفس الكنف الذي ترعرعت فيه يا أخيل. . . . وأبداً لن أنسى هذا الحنان الذي كانت تغمرني به ذيتيس، أمك الرؤوم، حتى أشتد ساعدانا، وسار الركبان باسمينا في كل ناد. . .
هلم يا أخيل. . . أنهض يا زعيم الميرميدون. . . وأذكر ما قلته لك. . .)
ويذرف أخيل عبرة غالية، ويجيب بتروكلوس فيقول:
(بتروكلوس! إلىّ يا أعز الناس عليّ! سأفعل كل ما تريد، ولكن. . . أقترب. . . قليلاً. . . لنسرّ من أحزاننا يا أخي! هب لي أن أعانقك فأنا مشوق إليك!)
وهب من نومه مذعوراً مادَّاً ذراعيه لعناق بتروكلوس، ثم ضمهما فجأة. . . . . ولكن!
وا أسفاه!. . . لقد ضم أخيل إليه الهواء. . .! لأن الشبح العزيز قد ولى بعيداً عنه. . . هناك. . . هناك. . . في ظلمات السُّفْل. . . في ديجور الدار الآخرة. . . في مملكة بلوتو الجبار. . . . حيث الأرواح والأشباح. . . . وحيث العذاب والنعيم. . .!!
وصرخ الزعيم المفئود صرخة زلزلت عماد المعسكر، وأجتمع لها القادة مشدوهين مروّعين، وروعهم أكثر هذا الحديث الطويل عن الرؤيا المشجية، فأنفذ أجاممنون الملك عصبة قوية إلى غابات الصنوبر والشاهبلوط القريبة، فجمعت أحمالاً ثقالاً من جذوع الأيك وحطام الدوح اليابس، وأقبلت فكومت ما جمعت كومةً واحدة عالية؛ ثم أمر أخيل جنوده فاصطفوا حول الكومة بعُددهم وخيولهم وعرباتهم، وأقبل فوج منهم يحمل جثمان بتروكلوس، موارًي في شَعرٍ كثير أنتزعه الفرسان من رؤوسهم حزناً على قائدهم بالأمس؛ وكان أخيل يتعثر خلف القتيل وقد حطمه الحزن ورأزته المصيبة في أعز أصدقائه، وغشيه من الهم ما لو كان بعضه بوَضحِ الضحى لأحالة ليلاً من الوجد مظلماً. . . ونزع شعر رأسه هو الآخر فغطى به وجه صاحبه، ومد ذراعيه المرتجفتين فرفع الجثمان الطاهر، يعاونه نفر من الميرميدون، ووضعوه فوق الكومة التي تسامت وسمقت حتى غدا ارتفاعها مائة قدم أو تزيد. وأمر أخيل فذبحت ألوف من العجول والخنازير والنّعم، ونزعت عنها شحومها جميعاً، فوضعها بيده على الكومة من حول بتروكلوس، ثم أشار إلى حَمَلةِ الزِّقاق فطفقوا يصبون الزيت والعسل المصفى ليزيد في ضرام الوقود.
وأرتفع ضجيج بعيد وضوضاء، فتلفت القوم، وإذا فريق من الميرميدون يسوقون الشبان(131/60)
الطراواديين الاثني عشر، الذين أسرهم أخيل في ملحمة الأمس، وقد كبلوا في الأصفاد ورهقتهم قترة مظلمة من الروع والحزن؛ فلما شارفوا، تقدم أخيل المغضب الحنق، فأستل خنجره، وشرع يمسح بأعناقهم ويبقر بطونهم، ويروي سنانه من قلوبهم. . . . . والبشرية البائسة تتلفت يمنة ويسرة. . . . وتتعذب. . . . وتبكي!!
وأمر الزعيم فصفت الضحايا الاثنتي عشرة من حول الكومة أما هكتور! فقد حدجه أخيل بنظرة ساحرة، وأقسم ألا يحرق جثمانه فينفذ روحه إلى هيدز، بل يتركه ثمة حتى تنوشه الطير، وتأكله كلاب البرية، وتلقي عظامه في اليم، غير كريمة ولا مرجوّة!
بيد أن منظراً عجباً خلب الباب القوم، وأذهلهم عن أنفسهم. . . . ذلك أنهم رأو إلى شبح جميل أبيض، يصب دهن الورد فيجعل منه حَنُوطاً مباركاً لجثمان هكتور، ورأوا كذلك إلى ضبابة ذات أفياء وظلال باردة تقف من فوقه فتذود عنه أشعة الشمس المحرقة حتى لا ينتن أو يتعفن. . .!
ماذا؟؟! آه! إنها فينوس الوفية التي تصب دهن الورد فوق هكتور، وإنه أبوللو المحزون الذي ينشر الضبابة من فوقه تحميه من الشمس وتذود عنه حرارتها!!
وصلى أخيل صلاة قصيرة، ونذر لآلهة الريح، إذا هي أقبلت تروح على النيران حتى تذكو، أن يذبح لها ويقرب لها القرابين! وما كاد يفرغ من صلاته، حتى تقلب البحر وأضطرب، ومار اليم وأصطخب، وثارت العاصفة الهوجاء في بطن الدأماء وأقبل زفيروس واخوته آلهة الريح فحاصروا الكومة، وما هي إلا لمحات حتى كانت ضراما في ضرام، ولظّى يتأجج في لظى وسكنت اللهب، وخفت أوار النار، وتقدم أخيل وَحَملة الزِّقاق فصبوا على الجمر خمرا حتى خبأ.
وتقدم نفر فرفعوا رفات بتروكلوس وهم يبكون، وأقدم أخيل فوضعها بيديه في إران من الذهب، وأشار إلى بعض أصحابه فحفروا في الأرض حفرة كبيرة عميقة، فأسرع هو فوضع الاران فيها، بين أنين الجند، وبكاء القادة، وزلزلة الأرض والسماء. . .!!
وهيل التراب على الميت، وعمل الكل في ذلك حتى كانت كومة عالية من الردم، ستظل آخر الدهر رمز البطولة الخالدة، وتحية الدار الآخرة لهذه الدنيا المشحونة بالأشجان!!
وكان من دأب الهيلانيين إذا مات أحد أبطالهم أن يُحرّقوه كما حرّقوا بتروكلوس، ثم تتلو(131/61)
ذلك حفلة ألعاب يشترك فيها أبطالهم، ويساهم فيها الجندي الصغير إلى جانب القائد العظيم، وقد يفوز عليه فينال الجائزة من دونه، وكانوا يعدون هذه الحفلة تتمة للجناز لا يكمل إلا بها؛ فلما انتهوا من إقامة الشعائر الدينية للشهيد الكبير نهض أخيل فأعلن القوم ببدء حفلة الألعاب، ثم دعا للمشاركة في سباق العربات الحربية، وعدّد الجوائز فذكر أن للفائز الأول غانية من أبرع غانيات طراودة جمالاً، وأوفرهن حسناً، وأنبغهن في القيام بشؤون المنزل، ثم آنية عظيمة من الذهب الخالص، غالية الثمن، عالية القيمة، لا تقدر بمال لما بذل في زخرفتها ونقشها من فن، وما أضفي عليها من عبقرية. وأن للفائز الثاني مُهرةً صافناً تسبق الريح وتلحق البرق؛ وللثالث كوباً من الفضة الناصعة، عظيم القدر، غالي الثمن. وللرابع بدرتين من الذهب الأبريز. وللخامس إبريقاً فضياً للخمر، وكأسين للشراب. . . .
وأشترك في هذا السباق لهاذم أبطال الإغريق، وصناديدهم الصيد؛ وكان أول من نزل إلى الحلبة يوميلوس الملك أبن أدميتوس العظيم، وتلاه ديوميد الحلاحل أبن تيديوس؛ ثم منالايوس سليل السماء، وفرع الآلهة بن أتريوس الكبير؛ وكان رابعهم أنتيلوخوس المشهور بن نسطور الحكيم، الذي أخذ أعين القوم بقامته السامقة، وعودة اللدن، وقوامه الأهيف السمهري الممشوق، والذي تقدم إليه أبوه فقبّله في حر الجبين، وزوده بنصائحه الغوالي؛ وكان خامسهم مريونيس الهائل، صاحب الذكر البعيد والشأو الرفيع في كل مثار نقع وفي كل ميدان.
وكان على الفارس العظيم فونيكس أن يلاحظ السباق، فكان في مركزه هذا حكماً عدلاً وقاضياً ماهراً. . . .
وأعطى أخيل الإشارة. . . فانطلقت الجياد تزلزل الأرض، وتثير عجاجة قاتمة من ثرى الميدان، وتضرب الصخر بحوافرها فينقدح الشرر، ويميد جانب الجبل، وتتصل أبصار القوم بالريح الذي يتعثر في أدبار الخيل، ويتحسس كل منهم قلبه، متمنياً قصب السبق لصاحبه الذي هو من شيعته. . . ثم. . . تتدخل الآلهة في هذا اللهو البريء فتغير دفة المقادير، وتتحمس مينرفا للبطل العظيم ديوميد، حينما ينزع أبوللو السوط من يده ويلقي به إلى الأرض، فتعيده إليه؛ وتلحظ أن أبوللو يصنع هذا ليظفر يوميلوس ويفوز بالسبق، فتذهب من فورها إلى أبن أدميتوس وتنزع إحدى عجلتي عربته، فيهوى البطل ويوشك(131/62)
رأسه أن يتحطم على الجلاميد المتراكمة على جانبي الطريق. . .
وتعدو الخيل. . .
وتخفق قلوب القوم. . . ثم ينظرون فيرون إلى ديوميد قد أنهى الشوط، ونزل من عربته فصافح فونيكس، وأستحق بذلك الجائزة الأولى.
وتلاه أنتيلوخوس، ثم منالايوس الملك، ثم مريونيس، وكان أبطأهم.
وسكن القوم قليلاً، وإذا هم يبصرون يوميلوس المقدم يسوق جياده، وخلفها عربته التي حطمتها مينرفا، فيثير مرآه قهقهة عالية وصخباً؛ لا يقطعهما إلا أخيل بصيحة داوية تعيد إلى الملأ وقارهم، ويقضي ليوميلوس بالجائزة الرابعة (لأنه لولا الحظ العاثر كان صاحب الجائزة الأولى!!)
واشرأبت الأعناق حين أعلن أخيل عن دورة الملاكمة وشارك فيها من الأبطال إبيوس بن بنوبيوس؛ فتى مفتول السواعد مكتنز العضل، رحب الصدر، له قبضتان كأنهما حراشف جذور بارزة من جذع شجرةٍ، ألقت بها الريح في يوم عاصف، ونهض إلى جانبه شاب قوي بادي البأس، لم يلبث القوم أن عرفوا فيه يوريالوس بن مسيتوس، الذي طالما شارك في أولمبيات الملك أوديبوس وكان أبداً فتاها وفارس حلبتها.
وأعطيت الإشارة فأنقض الأسد على الأسد، وأرتطم الجبل بالجبل، ولبث البطلان يكيل أحدهما للآخر لكمات كانت تقشعر لها أبدان الآلهة، وتنتفض من هولها أفئدة الرجال، ثم لاحت فرصة للبطل إبيوس كال فيها لخصمه لكمة في ذقنه ألقته فوق أديم الأرض بين هتاف الجند وضجيج القادة، وبذا أستحق إبيوس الجائزة الأولى، وهي بغل أشهب مسرج، في شدقيه لجام من الحديد، يتصل به عنان من الفضة. أما يوريالوس فقد أفاق من اللكمة القاسية لينال كأسين جميلتين أُعدتا للفائز الثاني. . .!
وأرهفت الأسماع حين نهض أخيل يعلن دورة المصارعة التي لم يجرأ أحد أن يتقدم أليها حتى أوشك زعيم الميرميدون أن يلغيها لو لم ينهض أوليسيز ويتبعه أجاكس متثاقلين!!
وأهطعت الرقاب ذاهلة نحو الزعيمين الهولتين، وشخصت الأبصار ترى إلى الجبل يأخذ بتلاليب الجبل، والبحر ذي العباب يصاول البحر ذا العباب، والشهاب الراصد يندق على الشهاب الراصد؛ لا هذا ينال فرصة من ذاك، ولا ذاك يرى ثغرة منها إلى هذا، والقلوب(131/63)
أثناء ذلك تخفق وتخفق، والقشعريرة الباردة تشيع في أصلاب هؤلاء وهؤلاء، كل يتمنى أن يفوز رجله. . . . . . حتى ثارت عجاجة حول البطلين انجلت عنهما صريعين فوق الأرض، لم ينل أحدهما من الآخر!! فكان القضاء العادل من السماء!
وحاولا أن يعودا إلى صراعهما الأول، فحال بينهما أخيل. . . لأن الدورة كانت لا تنتهي إذن. . . فكان بحسبهما أن ينالا جائزتين متساويتين!!
وبدأ سباق العدّائين، واشترك فيه أوليسيز وأجاكس أيضاً، ثم أنتيلوخوس الذي استطاع أن يفوز بالجائزة الأولى، لما كان يبدو على منافسيه من نصب، من جراء صراعهما السابق.
وتبع ذلك سباق المبارزة، وشارك فيه أجاكس أيضاً ثم ديوميد العظيم، الذي استطاع بعد لأي أن يجرح خصمه في عنقه، فينبثق الدم من الجرح، فينال الحزام الفضي بذلك!
ثم كان حمل الأثقال وهو سباق محبوب من الإغريق كثيراً، وقد شارك فيه بوليبوتيس وإبيوس وليونتيوس. . . ثم. . . أجاكس. . .! وفاز أولهم بالجائزة الأولى. . .
وتلا ذلك سباق الرماية، وأشترك فيه البطلان تيوسير ومريونيس، وفاز الأخير بأسنى الجائزتين للبراعة الفائقة التي أبداها في إصابة الغرض (وكان حمامة تنطلق وتنطلق. . . حتى تكون خلف السحب. . .!!)
وكان السباق. . . وها سباق إصابة الغرض بقذف الرمح، وقد تقدم إليه قائد الحملة العظيم. . . أجاممنون الملك. . . ثم. . . مريونيس الشجاع وأحد أتباع الملك إيدومنيوس. . . . . . وقد هال أخيل أن ينافس أحد قائد الحملة، فتقدم إليه معترفاً بتفوقه على الجميع في كل شيء، وقدم له الجائزة الأولى. . . ثم قدم الرمح لمريونيس. . . وكانت مجاملة طيبة من أخيل تقبلها الجميع بثغور باسمة
(لها بقية)
دريني خشبة(131/64)
الَبريدُ الأدَبيّ
وفاة بول بورجيه
نعت إلينا الأنباء الأخيرة قطباً من أقطاب الأدب الفرنسي وكاتباً من أعظم كتاب العصر، هو بول بورجيه؛ توفي في الخامس والعشرين من ديسمبر في الثالثة والثمانين من عمره، بعد أن قضى حياة حافلة، وبلغ الذروة في عالم الشعر والأدب والنقد. كان بول بورجيه عميد الأدب الفرنسي المعاصر بعد أناتول فرانس، وكان يتبوأ مكانة في الطليعة منذ خمسين عاماً؛ ولم يعرف الأدب الفرنسي المعاصر، كاتباً قصصياً - إذا استثنينا أناتول فرانس - في قوة بورجيه وعمق تفكيره وتحليله، أو في بًعد آفاقه ووفرة إنتاجه. وكان مولد بورجيه في سنة 1852 بمدينة أميان من أب روسي وأم إنجليزية؛ فنشأ نشأة حسنة وتلقى دراسة عالية وثقافة متينة؛ وبدأ ينظم الشعر منذ حداثته، ثم أشتغل بالصحافة؛ وفي سنة 1884 أخرج أولى رواياته القوية ' فظهرت فيها براعة الكاتب والقاص، وتجلت فيها مقدرته الفذة على تفهم العواطف البشرية وتحليلها، وهي مقدرة ترجع إلى ذلك المزيج في السلالة الذي كان له أكبر الأثر في تكوين عقلية الكاتب. ثم كتب بورجيه روايتين أخريين هما: , والأخيرة من أعظم رواياته وأقواها، بيد أن بورجيه يبلغ ذروة القوة والطرافة في قصته الشهيرة: (التلميذ) وهي في رأي النقدة أعظم قصصه وأقواها، وأكثرها تمثيلاً لمواهبه وخلاله وفنه؛ ولم يلبث بورجيه أن تبوأ مكانته بين أقطاب الكتاب في هذا العصر: بين زولا، وفرانس، وكوبيه، ودوديه، ورشبان وغيرهم؛ ثم لم يلبث أن أحتل مكانة بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية (سنة 1894).
ولبورجيه تراث حافل من كتب الشعر والقصص والنقد والسياحة نذكر منها:
, - , - , ومن القصص - ' و , وله ديوان شعر كبير، وقطع مسرحية عديدة، وله كتب في الوصف والنقد والسياحة.
وبورجيه كاتب خصب متعدد النواحي والآفاق؛ بيد أنه على العموم كاتب أرستقراطي يكتب للخاصة قبل كل شيء، ويصور مجتمع الخاصة، وما يتصل بحياته من بذخ وأناقة، وما يتخللها من نواحي الجمال والرشاقة والفن؛ وما يغشاها من عوامل الفساد والوهن، وهو من هذه الناحية نقيض قرينه ومعاصره فرانسوا كوبيه كاتب البؤس والطبقات البائسة.(131/65)
وأعظم ما تبدو مقدرة بورجيه ومواهبه في المواقف النفسية وفي تحليل القلب البشري ونزعاته، وفي تصوير مختلف العواطف الإنسانية، فهو عندئذ لا يجاري، بل هو أستاذ هذه المدرسة الفذ، وهي مدرسة نلمس فيها الأدب الروسي. ويكتب بورجيه بلغة قوية، وقد تبدو أحياناً عسيرة الفهم، ولكنه يحمل قارئه بقوته، ويأخذ لبه بسحر عرضه، وروعة بيانه وفنه؛ ومع أنه يميل إلى المفاجآت العنيفة في قصصه، فإنه مع ذلك يجنح إلى الحقيقة ويجانب الإغراق؛ وأكثر ما يميل بورجيه إلى التشاؤم، وقلما يميل إلى الجانب المرح مَن الحياة والصور؛ ويطبع الجد أسلوبه وتفكيره دائما؛ بيد أنه يجنح أحياناً إلى السخرية اللاذعة؛ وهو فوق ذلك فيلسوف عميق الفكرة دقيق الملاحظة بعيد الغور والمغزى، وناقد قوي الجدل والحجة، وفنان من الطراز الأول يعشق الفن ويرعاه؛ وكان حتى آخر أيامه مديراً لمتحف شانتي.
ويتبوأ بورجيه كرسيه بين الخالدين في الأكاديمية الفرنسية منذ أثنين وأربعين عاماً؛ وكان إلى ما قبيل وفاته يوالي الكتابة في كثير من الصحف والمجلات الكبرى، ويكتب منذ أعوام في جريدة (الفيجارو) كلمات في السياسة والاجتماع تلفت النظر بقوتها وطرافتها، وبوفاته ينهار ركن عظيم في صرح الأدب الفرنسي المعاصر.
(ع)
الأستاذ أحمد أمين يحاضر في بيت المقدس
نظمت جمعية الشبان المسيحيين في فلسطين سلسلة محاضرات في (المدينة العربية)، واختارت لها جماعة من صفوة العلماء، منهم الأستاذ أحمد أمين، والأستاذ جيب، والأستاذ مايرهوف.
وسيلقي الأستاذ أحمد أمين محاضرته في (الإسلام كعامل في المدينة) ببيت المقدس في يوم الأربعاء 22 يناير سنة 1936.
حول الاحتفال بذكرى المتنبي
لامنا الأديب السيد فاضل سعيد عقل في شيء من الإسراف على أننا أغفلنا حفلة لبنان حين أشرنا إلى بعض تلك الحفلات في مقالنا عن المتنبي، وعزا ذلك إلى أن المصريين(131/66)
يتعمدون أن يَسْفهوا حق لبنان! ولو تذكر الأديب ساعة كان يكتب أن الحفلة الرائعة التي أقيمت في (سان باولو) إنما أقامها لبنان، وأن الحفلة العتيدة التي ستقام في دمشق إنما تقيمها سورية، وأن الإسكندرية أقامت حفلة كحفلة بيروت لم نشر إليها؛ لو تذكر ذلك كله ساعة كان يكتب رسالة لما سمح له ضميره أن يصطنع هذه العصبية الإقليمية المفرقة في عصر يدعونا فيه الجهاد المشترك إلى أن نمحو كل الفروق العارضة أمام الجوار والقرابة والجنس.
جواب عن سؤال
سألنا (قارئ) من قراء الرسالة عن الحكمة في كتابة اسمها وتأريخ يومها ورقم عددها بالفرنسية، وخشي أن يكون في الأمر تقليد أو حذلقة. والواقع أن ذلك احتياط بريدي اقتضاه انتشار (الرسالة) في البلاد الأجنبية، وعمل اقتصادي استدعته علاقة مكتب الإعلان في المجلة بالشركات التجارية الأوربية، وإذا لم تفعل الصحف الغربية ذلك فلأنها لغاتها مقروءة في كل بلد.
مؤتمر الجراحة الدولي العاشر
في منتصف الساعة الثانية عشر من يوم الثلاثاء الماضي أفتتح مؤتمر الجراحة الدولي العاشر في قاعة المحاضرات بالجامعة المصرية بحضور سمو النائب عن جلالة الملك ووزراء الدولة وأساتذة الجامعة وأعيان الحكومة ورجال الصحافة وطلاب العلم، فكان يوماً مشهوداً من أيام الإنسانية المفكرة العاملة، أزال الفروق بين الناس، ومحا الحدود بين البلاد وجمع بين الأمم المتباعدة المختلفة على فكرة نبيلة هي تسخير الجهود العلمية المشتركة لتخفيف آلام الإنسان.
أفتتحه صاحب السعادة وزير المعارف بخطاب عربي جاء فيه (إن العِلم المصري الذي توالت عليه آلاف السنين ليشعر بشرف وسرور حق، إذ يرى في هذا الاجتماع ثقات الممثلين للجراحة العامة في العالم أجمع، والأعضاء المبرزين لأشهر المعاهد الطبية والعلمية، يستعرضون في هذا الاجتماع الحافل كل ما أمكن تحقيقه في جميع أنحاء العالم من التقدم في فروع الجراحة، ويتجهون نحو ترقية فن من أعز الفنون الإنسانية في جو من(131/67)
السباق النبيل المثمر).
ثم ألقى بعده الدكتور علي إبراهيم باشا عميد كلية الطب خطاباً بالإنجليزية عرض فيه جهود مصر القديمة والحديثة في فنون الطب. ثم قفاه الدكتور فرهوجن رئيس اللجنة الدولية فخطب بالفرنسية شاكراً لنائب جلالة الملك ولجنة تنظيم المؤتمر هاتفاً بآثار مصر في عالم الجراحة.
ثم قام من بعده الدكتور كرفان فأثني وشكر ثم قال:
(لقد رحبت أغلبية أعضاء اللجنة الدولية بدعوة مصر منذ ثلاث سنوات، فهل ذلك لأن مصر والإسكندرية خاصة، كانتا منذ ألفين من السنين واسطة العقد في العالم الطبي، أو لأن ورق البردي يعد أقدم الوثائق لشفاء المرضى؟
قد يكون هذا، ولكن ثمة أمراً آخر، هو أن مصر ظلت منذ أكثر من ألفي سنة بلد الأسرار الذي تتجه إليه أذهان الإنسانية؛ ولأنها من ناحية أخرى وطن الفن الذي يجمع بين القوة والعظمة والدقة.
ثم قال: إن تأريخ الإنسانية يفتح هنا، كأنه كتاب نستطيع تقليب صفحاته واحدة واحدة، وهو إذ نقرأه، يبعث فينا شعور التواضع، وينزل عملنا المنزلة الصحيحة.
ولقد وجدنا جماعات برغم السحب التي تظلل سماء العالم بأسره، ونحن على يقين أن عملنا - بفضل النظام الذي وضعه زملاؤنا في كلية الطب، وعميدها خاصة - سيتم على أحسن صورة.)
ثم خطب بعده الدكتور ماير سكرتير الجمعية الجراحية الدولية خطبة بالفرنسية جاء فيها:
(وبهذه المناسبة أشيد بالجهود العلمية والمادية التي بذلت لجعل هذا المؤتمر يتمشى مع مبادئ جمعيتنا وهي العمل على أتساع العلوم الجراحية، ولا أريد أن أتكلم عن الشخصيات. غير أني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التكلم عن الأعمال التي قام بها علي إبراهيم باشا والدكتور نجيب مقار وغيرهما من الجراحين الأجانب. فقد أوضح كل منهم تجاربه الشخصية بصور مختلفة؛ وكانت كلها بمثابة أبحاث في المسائل التي اختلفت فيها آراء الجراحين، وأعتبر أن هذه الأعمال إنما هي آثار خالدة خلود الأهرام).
وختم الاحتفال الدكتور شوماكر رئيس المؤتمر بخطبة إضافية في أغراض المؤتمر(131/68)
والتنويه بذكر مصر والجامعة.
ولا يزال أساطين الجراحة وأساتذة الطب يوالون أبحاثهم العلمية فجعلوا من القاهرة كما قال أحدهم ميداناً للمناقشة في أحدث ما بلغه الطب من الآراء، وأعوص ما عرفه العلم من مشكلات الجراحة. ومما تناقش فيه الأعضاء (جراحة عصب القطن السمبتاوي)، وجراحة (القولون) عدا السرطان، والأحوال الجراحية للبلهارسيا، وقد ألقى الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك تمهيداً لذلك محاضرة عن (تأريخ حياة البلهارسيا) عرض صورها على شريط سينمائي.
جوائز أدبية مصرية
بارك الله في بنك مصر، وفي قادة بنك مصر، وفي مشروعات بنك مصر؛ فإنها أسطع درة في جبين هذا الوطن الذي يسمو دائماً إلى الطليعة. ولقد شاء بنك مصر بعد أن وضع الأسس الثابتة لنهضة مصر المالية، ونهضتها الصناعية، أن ينزل إلى ميدان الفن والأدب، فأنشأ شركة مصرية للتمثيل والسينما؛ ورأى أن يقرن الفن بالأدب، وأن يغذي الشرائط المصورة بموضوعات وقصص مصرية محضة، فأذاع أنه يخصص لكتاب القصص المصريين جوائز تبلغ قيمتها ألف جنيه منها أربعمائة لجائزة ممتازة، وأربعمائة لأربع جوائز من الدرجة الأولى، ومائتان لخمس جوائز من الدرجة الثانية، وأنه يترك لهم الحرية في اختيار نوع القصة. وتقول شركتنا المصرية في بيانها: (فهذا باب جديد يفتح أمام المجدين من الكتاب لينالوا نصراً عزيزاً يرفع هاماتهم وهامة بلادهم). وفي الحق أنه باب جديد يفتح لكتابنا، بل هو فتح جديد في ميدان الرعاية الأدبية التي ليس لها في بلادنا أثر، والتي تخلت عنها جميع الهيئات الرسمية وغير الرسمية، ونحن نقص في هذا الباب دائماً أنباء الجوائز الأدبية العديدة التي تخصص في جميع البلاد المتمدنة لتشجيع الحركة الأدبية، وتشجيع الكتاب الناشئين بوجه خاص؛ ولكنا لم نجد من قبل ما نذكره عن أية جائزة أدبية مصرية ذات شأن. فالآن يتقدم بنك مصر على يد شركته للتمثيل والسينما لسد هذا الفراغ؛ وهو يتقدم بثقة وكرامة شأنه في كل مشروعاته، فيقدم إلى كتابنا جوائز من الطراز الأول؛ وإذا كان لنا ما نتمناه في هذا الميدان فهو أن يعمل البنك على التوسع في تشجيع الحركة الأدبية ورعايتها من طريق نشر المؤلفات العلمية والأدبية النافعة. وللبنك(131/69)
مطبعة كبيرة مجهزة بأحدث الأدوات والآلات الفنية، ففي وسعه أن يجعل منها في نفس الوقت داراً كبرى للنشر وإحياء الآداب العربية، وهو بذلك يسدي إلى الحركة الأدبية وإلى الثقافة العربية خدمة جليلة.
تأبين فقيد التعليم المغفور له محمد أمين لطفي
قرر مجلس إدارة جمعية خريجي المعلمين العليا بجلسته المنعقدة بتأريخ أول يناير سنة 1936 إقامة حفلة تأبين لفقيد التعليم المغفور له الأستاذ محمد أمين لطفي عضو الجمعية، وقد تألفت لجنة من أعضاء المجلس لتنظيم الحفلة. وسيعلن عن موعدها ومكانها قريباً.
وترجو اللجنة كل من يريد المساهمة في التأبين أن يتصل بها بنادي خريجي المعلمين العليا رقم 1 شارع فؤاد الأول بالقاهرة.(131/70)
النقد
رد على نقد
كتاب تأريخ الإسلام السياسي
للدكتور حسن إبراهيم حسن
مؤلف الكتاب
الآن وقد انتهى ناقد هذا الكتاب من الكلام عما سماه مآخذ تاريخية، فيحق لي - إنصافاً للحق وتمحيصاً للتأريخ - أن أرد عليه بإيجاز حتى يكون القراء على علم بالحقيقة. ولا يفوتني - قبل أن أرد على بعض هذه المآخذ - أن أشير إلى أن فكرة جالت في خاطري: هي إهمال الرد، اتكالاً على أن المطلع على الكتاب يتولى بنفسه تفنيد هذه المزاعم، لولا أن كثيراً من زملائي ألحّ عليّ أن أرد باسمي واضحاً لأضع الحق في نصابه.
يقول حضرة الناقد: (إنه عمد إلى نشر ما تيسر له نشره من الاستدراك خدمة لمادة ناشئة في معاهدنا العلمية واستحثاثاً للمؤلف على تدارك أمره في مادة هو متخصص فيها، وضناً بما لمصر من حسن السمعة العلمية في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن).
وقبل أن أستدرك على هذا الاستدراك وأبين أن ما سماه الناقد مآخذ تاريخية وجغرافية، قد بالغ في بعضها كل المبالغة، وجاَنب الأنصاف في غالبها؛ ألفت نظر حضرته إلى أنه كان يستطيع أن يجنّب نقده بعض عبارات نابية يستغني عنها الموضوع الذي هو بصدده. وما أدري ما شأن تلك المآخذ بنحو هذه الألفاظ: (الألقاب الضخمة، الآثار العلمية المؤلفة والمترجمة، إن المؤلف شغل بنقل شرح التبريزي على القصيدة عن تفهمها وتبيين من قيلت فيه، الأغلاط والتورط، الخلط القبيح.) ولعل الأستاذ المستدرك غاب عنه أن مآخذه التاريخية والجغرافية على فرض صحتها - وسيرى القارئ مبلغ صحتها - لا تقدح في كتاب أربى على ستمائة وخمسين من الصفحات، ولا تدعو إلى كل هذا الإشفاق على حسن سمعة مصر في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن، وغاب عنه أيضاً أن إيراد مثل هذه الألفاظ الشديدة التي لا تتعلق بموضوعه ألبته تعكس الغرض من النقد الذي اشترطوا له أن يقوم على ركن ركين من النزاهة الكافية والخبرة التامة، حتى لا يجد فيه(131/71)
الحاطبون أو ذوو المآرب مجالاً لبث كيدهم أو شفاء لحك حزازاتهم. وشتان بين تجريح عنيف وبين نقد سائغ يراد به الإصلاح، قد أسس على الصدق والحق وتقدم به الناقد في هدوء وسلامة ذوق، فما جرح من عاطفة ولا مس من كرامة، ولا كان رغبة في تشهير أو إلصاق عيب. ومن هنا قالوا إن النقد صعب مرتقاه. ذلك لأن الناقد حكم أو شبيه به، ولا يتسنى له ذلك إلا بالقدرة على ضبط النفس وتجنب مواضع الزلل.
ص34 - أخذ الناقد على الكتاب إطلاق كلمة (أقيال) على ملوك العرب وساداتهم، مع أن هذا اللقب - على رأيه - خاص بملوك اليمن أو مَن دونهم من أمراء المخاليف اليمنية. وألحق أن هذا التخصيص لا محل له. جاء في القاموس أنه يطلق على الملك، أو هو دون الملك الأعلى.
ص36 - أخذ الناقد على الكتاب في قوله: (وكان للعرب نظام ثابت للزواج؛ فكان جمهورهم يقترن بالزوجة بعد رضاء أهلها، كما كان كثير منهم يستشيرون البنات في أمر زواجهن. . . الخ)، أنه لم يقصر هذه الحال على الحجاز بل عممها في شبه الجزيرة.
وإذا لاحظ القارئ أن الحجاز هو قلب بلاد العرب، تحج إليه من قديم الأزمان للعبادة والتجارة والمباراة في الشعر، وأقامت فيه الأسواق لذلك، ومنه تصدر التقاليد والعادات اجتماعية وخلقية، وعلى قالبه يضع القاطنون في أنحاء الجزيرة العربية ويعتصمون بخواطره، وأن الحجاز هو موطن الحركة الدينية والسياسية اللتين يؤرخ لهما المؤرخون، إذا لاحظ القارئ هذا، أدرك لأول وهلة أن الناقد لم ينصف في مأخذه ولم يوفق فيما أستدل به من حديث عائشة في هذا المقام.
ص45 - يقول الناقد إن الفرس لم يزهدوا في بلاد اليمن و (أنهم كانوا حراصاً عليه ليحدوا من نفوذ خصومهم الروم والأحباش في تلك البلاد). ولو أنه أطلع على ما ذكره الطبري الذي أخذ عنه براون في كتابه (تأريخ الفرس الأدبي) , , , 178) وهو - كما لا يخفى - حجة دامغة في تأريخ الفرس، لعلم أن كانوا حقيقة زاهدين في غزو بلاد اليمن. ولا أدل على ذلك من رد كسرى على سيف بن ذي يَزَن الحميري عندما طلب منه مساعدته لاسترداد بلاده من الأحباش إذ يقول له: (بعدت أرضك عن أرضنا، وهي أرض قليلة الخير. إنما بها الشاة والبعير وذلك مما لا حاجة لنا به).(131/72)
ولعل من العجب أن يقيم حضرة الناقد عاصفة حول اختلاف المؤرخين في وصف (وهرز) قائد الحملة الفارسية على اليمن، وهل حاجباه هما اللذان سقطا من الكبرأوأن جفنيه انطبقا أحدهما على الآخر من الكبر!! فالمسألة - كما يرى القارئ - مسألة شكلية خلافية بين المؤرخين، ومؤداها - على كل حال - أنه بلغ من الكبر عتياً، فلا تستحق كل هذا الجهد.
ص61 - 62 - يأخذ الناقد علينا أننا استعملنا لفظاً أجنبياً لنظام عربي، وأن التنظير بين بلاد العرب وبين شبه جزيرة قرشقة يبدو غريباً ونابياً. والمنصف يقدر لنا رغبتنا في عدم إيقاع القارئ في لبس، خصوصاً إذا لم يكن قد قرأ شيئاً عن هذا النظام الذي كان سائداً في جزيرة قرشقة منذ مئات السنين؛ وقد سلكنا هذا المسلك عينه في كتابنا (الفاطميون في مصر وأعمالهم السياسية والدينية بوجه خاص) (ص23) الذي قامت وزارة المعارف بطبع ترجمته العربية على نفقتها سنة 1932.
ص68 - هوّل الأستاذ الناقد تهويلاً عظيماً فيما جاء بسياق كلامنا عن قريش (أنهم اتخذوا جزءاً من الأرض أولوه احترامهم وبنوا به بيتاً حراماً لا يحل فيه القتال وأخذوا على عاتقهم حمايته) مستنداً في مأخذه على أن إبراهيم الخليل هو باني الكعبة، وأن قريش كانت تحتمي بالبيت الحرام.
ويقيننا أن حضرة الناقد، إذا رجع إلى كتب التأريخ والسير والحديث، عثر على ما يناقض استناده - ولو إلى حد كبير. فكما أنه لا يشك مسلم في أن إبراهيم هو أول من بنى الكعبة بنص الكتاب الكريم، كذلك لا يشك مؤرخ في أن الكعبة قد هدمت بعد هذا مرات بفعل السيول أو النار، وأنها بنيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حين كانت سنة خمسة وثلاثين، وأنه هو الذي وضع بيده الكريمة الحجر الأسود وفض بذلك النزاع بين المتزاحمين؛ ولا يشك محدث أن الرسول قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)، وأن عبد الله بن الزبير هدمها أبان خلافته وبناها على أساس قواعد إبراهيم، مستنداً إلى الحديث السابق، فأتى الحجاج بعد هذا وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد الرسول.
أما مسألة الاحتماء بالبيت الحرام أو حمايته، فليبس فيها فارق كبير إذا اعتبرنا الاحتماء للأفراد والحماية للجماعات. وقد حصل في قصة أبرهة الحبشي ما يؤيد ذلك، على أننا قد(131/73)
ذكرنا في كتابنا هذا (ص66، 68، 92، 93، 450) ما يثبت ذلك كله.
ص87 لا أدري وجهة النصح من حضرة الناقد لنا في أن نبرأ من الذهاب إلى أن معنى التحنف التوبة والاعتراف. فليس بخاف أن التوبة هي ميل من حال إلى حال. ومعنى (حنيفاً) مائلاً عن الباطل إلى الدين الحق. راجع تفسير البيضاوي وغيره.
الحق أن هذا النصح لا يبعد عنه في الغرابة إلا دعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأثر تأثراً بريئاً بالجمال حين تزوج صفية بنت حُي!! وليسمح لنا الأستاذ الناقد أن نستعير عبارته (لست أدري ما الذي أبقاه بعد هذا القول لجهلة المبشرين ومتعسفي المستشرقين).
نعم! أيها الأستاذ. إن الرسول - كما قلنا في كتابنا - كان مضطلعاً بمهمة عظيمة تسمو عن الجمال وعن خلجات الفكر، ولعلك تراجع كتب التأريخ الإسلامي لترى أن السبب الوحيد في هذا الزواج هو تأليف قلوب قومها وإسلامهم، ولتكون سبباً في عتقهم ليشتد بهم أزر المسلمين. فهذه هي عائشة أم المؤمنين تقول: (لم أر امرأة أكثر بركةً ومنةً على قومها من صفية. أسلم بزواجها قومها وأعتقوا؛ فقد أطلق الصحابة أسراهم من قومها وقالوا إنهم أصهار الرسول). ثم كيف تستبعد أن يطمع الرسول في إسلام اليهود مع ما جرى منهم، وهو الذي أنزل عليه القرآن محذراً من القنوط لأنه علامة الكفر، وحاثاً على التواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ لعل الناقد أولى بأن يبرأ من هذا القول الجريء وإلقاء تبعته على سبْق القلم.
ص131 - أخطأ الناقد في تفهم قولنا إن الإسلام أحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، وذكر أننا أوردنا عبارة (الدعوة الدينية) مع أنها (الوحدة الدينية!!)، وقد ضم حضرته هذا الخطأ الذي وقع فيه إلى المآخذ التاريخية التي عابها على الكتاب، وأما عن قوله: (إن المراد بالوحدة القومية والجنس هو القبيلة) فهو كلام غير مفهوم بدليل قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فالمقصود هنا الموازنة بين أمة وأمة لا بين قبيلة وأمة، ولعل الناقد يريد بذلك أن يقيس مع الفارق على رأيهم.
ص211 - ثم ما ندري عدم اللياقة في التعبير عن نابليون بالفتى التلياني، مع أن المعنى(131/74)
اللغوي والإطلاق العربي يجيزان ذلك بتوسع. إن نابليون كان فتى، لأنه رجل عظيم أتى بصنوف من العبقرية والمواهب في الحرب والسياسة، وكان العرب يطلقون لفظ الفتى على من أمتاز بموهبة تبعث الإعجاب والثناء، ولقد قالوا قديماً: (لا فتى إلا عليّ)، ونابليون كان فتى بالمعنى اللغوي لأنه حين بزغ نجمه لّما يكتمل العقد الثالث من عمرهُ؛ ثم كان تليانياً (بياء النسبة) من جزيرة قرشقة. لعل لهذه الغيرة النابليونية سبباً تكشفه لنا الأيام.
ص240 - 241 - يرمينا الناقد بالتقصير في تفهم قصيدة (تأبط شراً) ويأخذ علينا نقل شرحها عن التبريزي، وأننا ذكرنا في التعليق عليها لفظ عمه بدل خاله، وقد فات الناقد أننا ذكرنا لفظ خاله مرة قبل ذلك، ثم ذكرنا لفظ عمه سهواً وعن غير قصد: أما نقلنا شرح التبريزي، فمع إشارتنا إلى المصدر الأصلي - وهو ما يعبر عنه المؤرخون بالأمانة في النقل - فأننا لم ننقل هذا الشرح على القصيدة برمته، وإنما نقلناه بتصرف ومع مراجعة القاموس وكتب اللغة. فما ندري أن الخطأ غير المقصود في ذكر لفظ العم بدل الخال في قصيدة يكون معناهُ أننا لم نتفهم معنى القصيدة برمتها. وهكذا يكون الأنصاف وإلا فلا!!
كم أعجبني قول الأستاذ الكبير والمؤرخ المشهور بآثاره العلمية محمد بك كرد علي في تحقيقاته على كتاب: (ذكر المعلق على الكتاب أنه وقعت في طبعته هذه بعض أغلاط مع كل ما عانى في تصحيحه جاء بعضها سهواً منه، وبعضها من خطأ النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التي لا يتنزه عنه كتاب.
ونحن نقيم من كلامه هذا عذراً لكل من أحيا كتاباً للقدامى وليس من الأنصاف أن يحمل على كل من أرتكب خطأ من هذا القبيل بعد بذل الجهد).
ص330 - على الرغم مما ورد في كتب التأريخ بأن عثمان كان يصوم الدهر وأنه قتل صائماً، فأن الناقد يحاول بجرة قلم أن يرفض هذا القول لسبب واحد: هو أن العقل يرفضه!! كأن حوادث التأريخ أصبحت تجري وراء عقل بعض الناس؛ فما رفضه يجب أن يمحى من كتب التأريخ ولو بلغ حد التواتر أو قام عليه ألف دليل ودليل. ألسنا في حل من إن نقول الذي جعل العقل يرفض هذا القول هو أننا نريد أن نثقل كفة السيئات والمآخذ.(131/75)
ص365 - ينفي الناقد ما ذكرناه من أن عثمان أنتخب بمقتضى قانون الشورى الذي سنه عمر. ولم يكف حضرته في ذلك أن عمر سن نظاماً شورياً مناسباً جداً لعصره بتعيينه ستةُ يختار من بينهم خليفة، وجعل أبنه عبد الله أحد من يختارون على ألا ينتخب. فهل كان يريد الناقد لتحقيق هذه التسمية أن يعتبر عمر دفاتر الانتخاب ويرجع إلى دستور سنة 1923؟ ألا إن هذا المبدأ الذي سنه عمر كان حجر الزاوية في قانون الشورى إن لم يكن هو القانون بأكمله. ولو أخذ المسلمون به لما بزغت قرون الفتن، ولما زلزلوا زلزالاً شديداً صدعّ بنيانهم وأسرع في انحلالهم.
(يتبع)
حسن إبراهيم حسن(131/76)
الكتب
كتاب الأوراق
للصولي
للأستاذ محمد بك كرد علي
كان أبو بكر محمد بن يحيى الصولي من الأدباء الظرفاء والندماء العلماء. نادم الراضي بالله وكان أولاً مؤدباً له. ونادم المكتفي ثم المقتدر. وكان من ألعب أهل زمانه بالشطرنج مات مستتراً بالبصرة في سنة 335هـ على أصح الروايات، لأنه روى خبراً في علي بن أبي طالب فطلبته الخاصة والعامة لتقتله. وله كتب كثيرة في الأخبار وتراجم الرجال، ولا سيما الخلفاء والأمراء والشعراء. والغالب عليه (أخبار الناس، وله رواية واسعة، ومحفوظات كثيرة. وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة. مقبول القول) وتآليفه: كتاب الأوراق هذا الذي قال فيه المسعودي (إن الصولي في كتاب الأوراق ذكر غرائب لم تقع إلى غيره، وأشياء تفرد بها، لأنه شاهدها بنفسه. وكان محظوظاً من العلم، مجدوداً من المعرفة مرزوقاً من التصنيف، وحسن التأليف) والأوراق هو الذي أحياه بالطبع جزئين لطيفين أحد المستعربين من الإنجليز السير هودث دن. وكان طبع له كتاب (أدب الكتاب) أحد أدباء بغداد الشيخ محمد بهجة الأثري.
بدئ الجزء الأول من الأوراق أو القسم الذي عثر عليه الناشر بترجمة أبان اللاحقي وأخباره مع الرشيد ومع جماعة من الشعراء وأجزاء من نظمه كتاب كليلة ودمنة وبدأ بقوله:
هذا كتاب كذب ومحنة ... وهو الذي يدعى كليلة ودمنة
فيه دلالات وفيه رشد ... وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم ... حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله ... والسخفاء يشتهون هزله. . .
وفيه ترجمة ثلاثة شعراء وأدباء ظهروا من بيت اللاحقي، وترجمة أشجع السلمي ومختار شعره في المديح وغزله ومراثيه، وأشعار أشجع نحو ربع هذا الجزء. وترجم الصولي(131/77)
لأحمد أخي أشجع كما ذكر أخبار أحمد بن يوسف الكاتب وأسرته ولا سيما أخوه القاسم، لأن الأخوين اقتسما نثر الكلام ونظمه فتقدم أحمد بن يوسف في النثر وأخوه القاسم في النظم. وبنو أحمد بن يوسف من أصل قبطي مصري، أسر جدهم فنشأوا في العراق وما زالوا يعلون وتنبه أقدارهم حتى وزر أحمد يوسف للمأمون. وللقاسم في الشيب والزهد من قصيدة:
ودع شبابك قد علاك مشيب ... وكذاك كل معمر سيشيب
جازت سنوك الأربعين فأزعجت ... منك الشباب تجارب وخطوب
ودعاك داع للرشاد أجبته ... وبما يراك الغيّ ليس يجيب
فأبك الشباب وما خلا من عهده ... أيام أنت إلى الحسان طروب
يسبين لبك بالدلال وتستبي ... ألبابهن فسالب وسليب
طوراً يسامحن الهوى ويطعنه ... ويصبن قلبك بالجوى وتصيب
خلطن معصية بحسن إجابة ... فلهن عندك أنعم وذنوب. . .
ولهذا الشاعر قصائد جميلة قالها في أغراض شتى مثل قصيدة يشكو فيها البق والبراغيث والبرغش، وأخرى في رثاء هرة، وثالثة في الشكوى من النمل والفأر، ورابعة في رثاء الشاه مرخ (الشاهمرد)، وخامسة في رثاء القمري إلى غير ذلك (راجع ما كتبناه في درس هذا الجزء السادس في المجلد من مجلة المجمع العلمي العربي).
وفي الجزء الثاني من الكتاب أخبار الراضي والمتقي وتأريخ الدولة العباسية من سنة 322 إلى سنة 333 وفيه تجلت نفسية الصولي، وكان في الجزء الأول ينقل أخبار غيره فيجيد النقل ويحسن الاختيار؛ أما في هذا الجزء فتكلم فيه عن نفسه، وذكر أحاديثه مع الراضي وقصائد فيه، ومبالغة في محامده وعطاياه له، فظهر الإسفاف عليه بالحافة في الاستجداء من الخليفة وشكوى الزمان من الحرمان، وقول فلان منحني وفلان حرمني، مما لا يتناسب مع جلالة قدر من يدعي أن أهله كانوا من نسل ملوك جرجان، وهو يعاشر الخلفاء والأمراء، وهذا القسم مهم في تأريخ الخليفتين الراضي والمتقي، يتجلى فيه انحطاط الملك العباسي، وما كان يحاك حول الخلفاء من دسائس، وكيف تنزع السلطة من الخوالف شيئاً فشيئاً.(131/78)
والغالب أن بعض المؤرخين اعتمدوا على نصوص الصولي في أكثر المسائل التي ذكرها واقتبسوا عباراته بحروفها، وشعر الصولي الذي شغل به صفحات طويلة من هذا الجزء معجون بالمصانعة، وعلى جانب من التكلف حاول أن يأتي بقصائد ذات قواف مستغربة، فأبهم وعمي، وحاد عن قانون السلاسة. ومما ذكره من شعر تلميذه الخليفة الراضي يفتخر:
لو أن ذا حسب نال السماء به ... نلت السماء بلا كد ولا تعب
منا النبي رسول الله ليس له ... شبه يقاس به في العجم والعرب
فأن صدقتم فأعلى الخلق نحن وإن ... ملتم عن الصدق أعنقتم إلى الكذب
وله من قصيدة:
إني أمروءٌ تصفو موارد رأفتي ... وتحْرُب سطواتي العدو المحرّبا
إذا عدت الأبيات أبصرت بيتنا ... كأن الثريا بالبنيّ مطنباً
رويدك إن النار تظهر تارة ... ويكمن في الأحجار منها تغيبا
وذكر له صفحات من شعره في الفخر والغزل والتشبيب وما أخلى الصولي الخليفة المتقي من تهكم وتعريض، ولعله قال ما رأى في هذا، وأغمض عن أمور رآها في سلفه الراضي، لأنه لم يكن له القبول الذي يحاوله في أيام المتقي، (ذكره ص249) صورة أمر عن المتقي لما غادر بغداد إلى بعض أرجاء العراق وهو خائف من الناس قال: وكتب الخليفة إلى صاحب الشرقية أحمد أبن جعفر الزطي بكتاب يأمره أن ينادي بما فيه فنادى (أمر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بالنداء ببراءة الذمة ممن فتح من العمال والمتصرفين شيئاً من الدواوين، أو نظر في الأعمال، أو طالب بخراج، أو تصرف في عمل من الأعمال السلطانية بعد شخوص أمير المؤمنين، فقد أحل بنفسه العقوبة الموجعة وهجم (داره) وإباحة ماله، فقد أحب أمير المؤمنين ترفيه رعيته والاحتياط لهم، وترك إعناتهم، فليحذر المخالفون لذلك، وليلحق بأمير المؤمنين سائر عماله وأوليائه، ولا يتأخرون عن معسكره، وليلغ سامع هذا النداء الغائب عنه) أي أن الخليفة عطل كل شيء في بغداد لئلا يشغب العامة مدة غيابه عنها. وذكر المؤلف قصة تأديب الراضي وأخيه هارون وكيف أرسلت القهرمانة ريدان إلى المؤدب تقول (ص26) (إن هذه المحاسن من هذا الرجل عند السيدة ومن يخدمها مساوئ، فقل له عني يا هذا ما نريد أن يكون أولادنا أدباء ولا علماء، وهذا(131/79)
أبوهم (المقتدر) قد رأينا كل ما نحب فيه، وليس بعالم فأعمل على ذلك) قال المؤدب فأتيت نصراً الحاجب فأخبرته بذلك فبكى وقال: كيف نفلح مع قوم هذه نياتهم. قلنا ولما اكتفى العباسيون بالجهل لأولادهم تداعت دولتهم شأن كل دولة جاهلة في القديم. وعهد المقتدر وتسلط النساء في القصر العباسي من أغرب أيام بني العباس. ومن هذه الأمور صُورَ صالحة في كتاب الأوراق وصفحات ينبغي لها أن تقرأ بتدبير.
محمد كرد علي(131/80)
العدد 132 - بتاريخ: 13 - 01 - 1936(/)
من أحاديث النيروز
كنا ليلة النيروز المسيحي نسمر في دار صديق؛. . ولهذا الصديق زوجة من لوزان، دقيقة الفهم، رقيقة الشمائل، لطيفة التكوين؛ أغرمت بمصر وأخلاق أهلها اغراماً شديداً، فهي تحاول أن تتكلم الغربية، وتؤثر أن تعيش على الأوضاع المصرية، وتتابع بالنظر العطوف نهضتنا المجاهدة، وتدافع بالحجة القارعة ما تفتريه علينا الألسن الأوربية الجاحدة، وتحب كلما حضرت مجلسها أن تناقلني الأحاديث في مصر والعرب والإسلام والشرق، وهي في كل ذلك واسعة الاطلاع من طول ما تسافر ومن كثرة ما تقرأ.
كان زوجها وفريق من المدعوين يلعبون الورق على المائدة المغرية، وكان فريق آخر يستمع إلى (الراديو) وهو يذيع الأناشيد الكنسية المهللة، وأنا وهي على كرسيين متقابلين أمام المدفأة، نتجاذب على عادتنا أطراف الحديث المشقق، ونتصفح على طريقتنا أوجه الرأي المختلف، فأجد في حديثها الشهي الممتع ما يجده ذلك الذي يلعب، وذاك الذي يشرب، وهذا الذي يسمع!
تناهزت النفوس الحبيبة لذة الصفو في الساعات المودعة، وتجاوبت في البيع القريبة أصوات النواقيس المرنة، وتلاقت الحياة والموت في قلب الليلة المخضرمة، وتهتكت سدول المهد المحجب عن العام الوليد؛ فقالت لي ساعتئذ والرفاق يتبادلون المودة بالعيون، ويتناقلون التهنئة بالشفاه:
انظر كيف يولد العام المسيحي في بقاع الأرض!! إنه يولد كما يولد الأمل المعسول في النفوس المرحة الغضة، فالكنائس تعج بالصلوات المستبشرة، والمنازل تفيض بالمسرات المتجددة، والعالم الغربية كله لا يذكر في هذه اللحظة عاماً دفن مع الأمس، ذوت فيه نواضر المنى، وذهب معه بعض العمر، وإنما يذكرون عاماً يولد مع اليوم، فتستأنف نشاطها فيه، وتستمد رجاءها منه، وتستقبل حدثان الغد بالثغر الباسم والعزم الصارم والنظر الرغيب. . وما أدري - وقد نشأت في ربوع الغرب وطوفت في بعض أنحاء الشرق - لماذا كان المسلمون وحدهم اليوم رماد الموقد المضطرم: يتحرك بهم الفلك وهم ساكنون، وتتفجر عليهم الأحداث وهم غافلون، ويلقون في مراغة الذل وهم راضون، وتؤكل بهم أرزاق الأرض وهم قانعون، ويجادل عنهم خصومهم وهم ساكتون؟ أيرجع ذلك إلى العقيدة أم إلى الطبيعة؟(132/1)
فأجبتها والخجل يكسر من طرفي ويعقد من لساني: ربما كان مرجعه إلى الاثنتين معا!
وكانت تنظر إلى لهب النار يرقص واريا بين وقود المدفأة، فحولت في دهشة وسرعة وجهها إلي وثبتت نظرها في، وقالت: كيف؟! ألم تكن عقيدتهم اليوم هي العقيدة التي ألفت من شتات البدو دولة، وبعثت من جوف الصحاري حضارة، ونفخت في قلوب الصعاليك من روح الله فطمحوا إلى ملك كسرى وهم جياع، وسموا إلى عرش قيصر وهم عراة، وصمدوا إلى حكم العالم وهم سذج؟
ألم تكن طبيعتهم اليوم هي الطبيعة التي تكرمت عن الدون، وتجافت عن الهون، وتسامت إلى القدر الخطير، وتمردت على الطغيان المستبد، وجعلتهم يضعون أنفسهم في كفة، والعالم كله في كفة، فسموا - كما علمت منك - من عداهم بالعجم، كما سمى الرومان من عداهم بالبربر؟
فقلت لها: كلا وا أسفاه! ليست العقيدة هي العقيدة، ولا الطبيعة هي الطبيعة! كانت عقيدتهم كما قلت سامية تبعث الطموح، صافية تكسب الخلوص، بسيطة تنتج الرفاق، جامعة توجب الوحدة؛ توفق بين الدين والدنيا من غير كلفة، وتصل بين الله والإنسان من غير واسطة، فاختلط بها في القرون الأخيرة شعوذة الهنود وأساطير اليهود وصوفية الفرس ولاهوتية اليونان، فأصيبت بالخدر الذاهل والتواضع الجبان، والزهد الكسول، والاتكال المخلف، والجدل العقيم، والاختلاف المفرق؛ ثم تبخر من هذا الخليط المشوه إكسير الحياة فلم يبق إلا الرواسب الغريبة، وتصعد منه عبير الروح فلم يبق إلا الأوراق الجفيفة؛ فالدين اليوم شعائر من غير شعور، وتقليد من غير فهم، واعتقاد من غير تطبيق، وشعوذة من غير حقيقة، وأحكام من غير حكم.
وكانت طبيعتهم كما قلت أبية تأنف الضراعة، طماحة تكره القناعة، وثابة تحاول التفوق، طلاعة تحب المغامرة؛ فامتزجت بها من بعد الفتوح دماء الأجناس المملوكة، وأدواء الأمم المنهوكة، وأوباء الأقاليم القصية؛ ثم قرت فيها صبابة الأحقاب، وانتهت إليها نفاية الأعقاب، وناءت بها أعباء التقاليد. فالعقلية الإسلامية اليوم مشوبة غير صريحة، معقدة غير واضحة؛ وهي من عبث الأحداث متنافرة لا تلتئم، متخاذلة لا تقاوم.
إنما العقيدة الخالصة والطبيعة السليمة لا تزالان في بوادي الحجاز وهضبات نجد؛ ولكن(132/2)
العالم غير العالم، والوسيلة غير الوسيلة، والغاية غير الغاية!
فإذا لم نجل عن عقيدتنا هذا الصدأ العارض، وننف عن ثقافتنا هذا الهراء الغث، ونجُدّ من خلفنا ذيل التقاليد الفاسدة، ظل سيرنا يا سيدتي بطيئاً لا يلحق، وجهدنا باطلاً لا يفيد.
وكانت فورة اللعب والطرب قد قرت في نفوس القوم، فخلت المائدة، وسكت الراديو، وفتر الحديث، وتهيأ السامرون للخروج، فلم تستطع السيدة أن تعقب على هذا الكلام.
احمد حسن الزيات(132/3)
في الحب والمرأة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أنا - كما لا يعرف القارئ وإن كان لا شك لبيباً - أكره أن أُحِب أو أن أحَب. ولهذا النفور من الحب أسباب شتى، منها أنه لا يدلي في الأمر، ولا سلطان لي عليه، والمرء يصاب بالحب كما يصاب بالزكام - بكرهه وعلى الرغم منه - ولو خير لاختار السلامة وآثر النجاة، ومن ذا الذي يطيب له أن يتوعك؟ والحب حين يغمر النفس يذهلها عن لذته وحلاوته، ويشغلها بالوجيب والقلق والخوف والرغبة والغيرة، ولهذا كان أمتع ما فيه ذكراه - أي بعد تفتر الحرارة وتسكن النفس ويزول الاضطراب والقلق - أو تنتفي دواعيهما بفتور الرغبة - وقد يكون البحر الجائش العباب رائعاً ولكن ركوبه لا يحلو، واعتسافه لا يؤمن، والنفس مثله. وقد يسمو بها اضطرام الحب فيها إلى الجلال، ولكن الإحاطة بما تضطرب به والغوص عليه لا يتسنيان إلا بعد الهدوء؛ وقد يلهم المرء شيئاً وهو هائج، ولكن النظرة المباركة هي التي تدور بها العين في أنحاء النفس بعد أن تعود إليها سكينتها وصفوها ويتيسر الوصول إلى أغوارها والنفاذ إلى زواياها والتغلغل في سراديبها.
ومن الأسباب المزهدة أني رجل عادل منصف، أو دع الإنصاف وقل إن الله خلق لي في وجهي عينين، فما خيرهما إذا أنا لم أنظر بهما؟؟ والمرأة مستبدة، ومن استبدادها أنها تغضب وتثور وتسود عيشك إذا نظرت إلى سواها. وعبث أن تحاول أن تفهمها أن الإغضاء عن كل هذا الجمال الذي في الناس، قلة عقل، وقصر نظر - بل عمى -؛ وماذا تصنع العينان إذا لم تبصرا؟ وأي عمل آخر لهما هناك؟ وكون المرأة التي يبتلى الإنسان بحبها جميلة ليس معناه أن النساء غيرها دميمات؛ وحبك إياها لا ينبغي أن يتقاضاك مقت النساء الأخريات وتنقصهن؛ والإعجاب بهن لا يعد ثلباً لحبيبتك، وفي وسعها هي أيضا - إذا شاءت وكان هذا مما تستطيع - أن تعجب مثلك بهن. والرجل الذي يفقده الحب القدرة على الإعجاب بالجمال في صوره المختلفة يكون فاسد الذوق، ولو عقلت المرأة لكان هذا كافيا لتشكيكها في رأيه فيها.
ويزهدني في الحب أيضا أن مناظر العشاق مضحكة، وأحوالهم سخيفة، ومبالغاتهم شديدة، ودعواهم عريضة، وعمى قلوبهم وأبصارهم تام عن كل ما يحيط بهم. وأي عاشق لم يقطع(132/4)
ألف وعد بالوفاء المستحيل؟ بل أي محب لم ينس طربوشه مرة، أو لم يلبس طربوشين واحداً فوق الآخر (ومع ذلك تراه لذهوله يدور باحثا عن طربوشه لظنه أن رأسه عار!) أو لم يبد للناس في الطريق أو الترام ملتاث العقل مخبولاً، يضحك ويقطب بلا سبب ظاهر، ويشير بأصابعه أو يلوح بيده، أو يكلم نفسه؟ والأرق؟ لا أدري لماذا لا ينام العشاق ملء جفونهم كما ينام عباد الله الآخرون؟ ولكن الذي أدريه أن النوم المريح قلما يؤاتيهم أو يسعفهم بسكينته، وتالله إن العاشق لمسكين! لا نوم الليلة يا صاحبي لأنك حين ذهبت إلى بيت حبيبتك رأيتها مطلة من النافذة وناظرة إلى جهة غير التي تعرف أنك آت منها! فهل كانت يا ترى تنتظر سواك؟ وعليك أن تذرع أرض الغرفة مائة ألف مرة هذه الليلة وتقطع خمسمائة فرسخ - جيئة وذهوبا - لأنك وأنت معها جعلت ذراعك حولها وهممت بضمها وتقبيلها فجنحت إلى الدلال ونفرت من العناق، وكانت تبتسم، ولكنها قالت (من فضلك!) من فضلك؟، وهل بيننا (من فضلك!). هذا كلام يقال للأغراب، وتكلف في التعبير لا يكون بين المحبين! ويظل طول الليل يدب على رؤوس النيام تحته. وفي ليلة يسير على وجهه في الشوارع كالمتشردين، ويحدث نفسه بالانتحار، ويجتاز جسر إسماعيل، وعينه إلى الماء الذي يتدافع بين قواعده، وقد يسأم التدخين فيلقي بعلبة السجاير في الماء ويغرقها فيه بدلا منه وفداء له، وبعد خمس دقائق يشتري غيرها. ولا يزال يتمشى حتى يرتاب في أمره الشرطة، ويرى منهم ما يرد إليه بعض ما عزت من عقله، فيرجع إلى البيت مضعضعاً مهدوداً. . . إلى آخره، إلى آخره.
ثم إن الحب إذعان، ومن أحب امرأة فقد أسلم أمره - إلى حد ما - لأهواء لا ضابط لها، ولا كابح، ولا تمييز فيها بين الممكن والمتعذر، أو اللائق وغير اللائق؛ وقد يطير الحب عقل الرجل - بل هو يفعل ذلك على التحقيق - ولكنه لا يستطيع أن يغير أسلوب تفكيره ولا أن يجعله كأسلوب المرأة في تفكيرها. وعسير أن يظل الحب قادراً على إخفاء الفوارق بين أسلوبي الرجل والمرأة في التفكير. وهب وقدته تبقى زمناً طويلاً - وهو ما أشك فيه ولا أومن به - فان توالي اصطدام العقليتين خليق أن ينبه إلى هذه الفوارق وأن يزعج الرجل ويحيره، وقد يفضي به إلى السآمة.
والمرأة التي ترى نفسها محبوبة تتوهم أن الرجل أباحها ظهره فهي تركبه وتركضه كيف(132/5)
شاءت وإلى حيث ينزو برأسها أن تذهب، ولا تبالي ما يصيبه من الإرهاق والجهد والإعياء والملل، ولا يخطر لها أن كده على هذا النحو ولجاجتها في ذلك خليقان أن يخمدا وقدت الحب.
والدلال، ماذا نقول فيه؟ إنه مصيبة كبيرة وبلاء عظيم، ولكن المرأة تحسبه وقود الحب، فلا سبيل إلى شيء إلا بعذاب غليظ من هذا الدلال الثقيل، إذ كانت المرأة تسيء الظن بقيمة الاستجابة السريعة، ولا تؤمن إلا بقول القائل - قاتله الله كائناً من كان، فقد نسيت من هو -: (وَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما منعا).
قلت مرة لامرأة وقعت بينها وبين حبيبها نبوة من جراء دلالها وإبائها عليه قبلة اشتهاها: (يا ستي أنت تحبينه، وهو يحبك - أليس كذلك؟).
فألقت إلي نظرة خبيثة، فهززت رأسي وقلت: (نعم أو لا؟ أيهما؟ قولي بلسانك)
فقالت: (لكأني في مدرسة!)
قلت: (ومن الذي غشك وأوهمك أنك استغنيت عنها؟؟ إنك لم تشبي عن الطوق إلى الآن، ومازلت إلى هذه الساعة بنتاً صغيرة جاهلة، أجدر بك أن تخرجي إلى الشارع، فتلعبي فيه بالحبل. . .).
فلم يسؤها مني هذا الطعن لأنها كانت تعرف عطفي عليها، وحبي لخيرها، فأعدت عليها السؤال، فقالت: (نعم) فقلت: (أشهد ألا إله إلا الله! وقد اشتهى منك قبلة، فهل كنت تأنسين من نفسك استعداد للإجابة ورغبة فيها؟) فضحكت وقالت: (هذا أشبه بالتحقيق. . . شيء جميل والله!)
قلت: (هو تحقيق. . . فأجيبي)
فصاحت: (ولماذا لم يقبلني؟ ماذا منعه؟)
فصحت بدوري: (إيه؟ ماذا تقولين؟)
قالت: (أقول إن روحي كانت على شفتي. . . وكنت أتلهف على قبلته، ولكنه لم يفعل وذهب يتكلم. . . سخيف!)
قلت: (ليس هو وحده السخيف)
فرفعت وجهها إلي، وزوت ما بين عينيها، فقلت: (أنا أيضا مثله. . . فقد كنت أحسبه(132/6)
مؤدباً، وأعده مهذباً، فإذا به مغفل!).
فضحكت. . . وهكذا المرأة أبداً. . . ومن هذا الذي يجرؤ أن يزعم أنه يعرفها معرفتها؟ يفعل الرجل الشيء يطلب به رضاها، فإذا هي ساخطة ضجرة؛ ويتقي الشيء يخشى أن يغضبها بفعله، فإذا هي تلومه وتؤنبه وتعد ذلك من ذنوبه؛ وتختصر الطريق وتمشي إلى غايتك مباشرة، فتراها تؤثر اللف والمحاورة، فتروح تدور فتجدها قد تغير مزاجها، واختلفت رغبتها وانقلبت تؤمن بأن الخط المستقيم أقرب ما بين نقطتين؛ وتهدي إليها تحفة تتعب في انتقائها، وتغرم في سبيلها نصف دخلك، فتقول: (هل استشرتني قبل أن تشتريها؟)؛ وتستشيرها في مرة أخرى فتقول: (لو فاجأتني بالهدية لكان ذلك أحلى وأوقع) فأنت معها أبدا على كف عفريت سكران.
وعقول الرجل في رؤوسهم، أما عقل المرأة فقد يكون في حذائها - ولكنه على التحقيق - ليس في رأسها. وضائع، ضائع، من يجادلها بمنطق الرجال، أو يكلمها كلام العقل، فما عرفت ذلك يجدي معها. ولو أن رجلاً أثنى على عقل امرأة بكتاب في ثلاثين جزءا لما بلغ من نفسها ما هو خليق أن يبلغ بكلمة ثناء مفردة على جمالها - ولو كذباً - أو نظرة إعجاب واحدة إلى حذائها وإن كان أضخم من الباخرة نورماندي، أو مسحة بكفة - في حنو، ولو متكلفا - على شعرها وإن كان كضوء القمر.
ولست أذم المرأة، وكيف أجرؤ، وهي زينة الحياة وسر سحرها؟ ولكني أقول إنها مخلوق آخر، غير الرجل، وهو قول ليس فيه جديد، ولا شك أن الرجل يبدو للمرأة - كما تبدو هي له - مستغرب الأطوار شاذاً في أسلوب تفكيره، وطريقة تناوله للأمور.
إبراهيم عبد القادر المازني(132/7)
2 - المشكلة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لما فرغت من مقالات (المجنون) وأرسلت الأخيرة منها، قلت في نفسي هذا الآخر هو الأخر من المجنون وجنونه، ومن الفكر في تخليطه ونوادره؛ غير أنه عاد إلى أخلاطا وأضغاثا فكأني رأيته في النوم يقول لي: اكتب مقالا في السياسة. قلت: مالي وللسياسة، وأنا (موظف) في الحكومة، وقد أخذت الحكومة ميثاق الموظفين لما عرفوا من نقد أو غميزة ليكتمنَّه ولا يبيِّنونه. فقال: هذه ليست مشكلة، وليس هذا يصلح عذرا، والمخرج سهل والتدبير يسير والحل ممكن. قلت: فما هو؟
قال: اكتب ما شئت في سياسة الحكومة، ثم اجعل توقيعك في آخر المقال هكذا: (مصطفى صادق الرافعي؛ غير موظف بالحكومة). . .
فهذه طريقة من طرق المجانين في حل المشاكل المعقدة، لا يكون الحل إلا عقدة جديدة يتم بها اليأس ويتعذر الامكان، وهي بعينها طريقة ذلك الطائر الأبله الذي يرى الصائد فيغمض عينه ويلوى عنقه ويخبأ رأسه في جناحه ظنا عند نفسه أنه إذا لم ير الصائد لم يره الصائد، وإذا توهم أنه اختفى تحقق أنه اختفى؛ وما عمله ذاك إلا كقوله للصياد: إني غير موجود هنا. . . على قياس (غير موظف).
وقد كنت استفتيت القراء في (المشكلة) وكيف يتقي صاحبها على نفسه وكيف تصنع صاحبتها؛ فتلقيت كتباً كثيرة أهدت إلى عقولاً مختلفة؛ وكان من عجائب المقادير أن أول كتاب ألقي إلى منها - كتاب (نابغة) كنابغة القرن العشرين، بعث به من القاهرة، وسمي نفسه في (المصلح المنتظر)؛ وهذه عبارته بحرفها ورسمها كما كتبت وكما تقرأ؛ فان نشر هذا النص كما هو، يكون أيضا نصاً على ذلك العقل كيف هو. . .
قال: (إن هذا الكون تعبت فيه آراء المصلحين، وكتب الأنبياء زهاء قرون عديدة، ودائما نرى الطبيعة تنتصر. ولقد نرى الحيوان يعلم كيف يعيش بجوار أليفه، والطير كيف يركن إلى عش حبيبته، إلا الإنسان. ولقد تفنن المشرعون في أسماء العادات والتقاليد والحمية والشرف والعرض، وإن جميع هذه الأشياء تزول أمام سلطان المادة فما بالكم بسلطان الروح؟(132/8)
ورأيي لهذا الشاب ألا يطيع أباه ولو ذهب إلى ما يسموه الجحيم (كذا) إذا كان بعد أن يعيش الحياة الواحدة التي يحياها ويتمتع بالحب الواحد المقدر له، ما دام قلبه اصطفاها وروحه تهواها؛ ولو تركته بعد سنين قليلة لأي داع من دواع الانفصال. (كذا)
وهذا ليس مجرد رأي مجرب، وإنما هو رأي أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن، وسينتصر على جميع من يقفون أمامه، والدليل أن هذا المقال سيشار إليه في مجلة (الرسالة)، وهذا الرأي سيعمل به، وصاحب هذا الرأي سيخلد في الدنيا، وسيضع الأسس والقوانين التي تصلح لبني الإنسان مع سمو الروح بعد أن أفسدت أخلاقه عبادة المال.
إن الإنسان يحيا حياة واحدة فليجعلها بأحسن ما تكون، وليمتع روحه بما تمتع به جميع المخلوقات سواه. وإلى الملتقى في ميدان الجهاد)
(المصلح المنتظر)
انتهى
وهذا الكتاب يحل (المشكلة) على طريقة غير (موظف). . . فليعتقد العاشق أنه غير متزوج فإذا هو غير متزوج، وإذا هو يتقلب فيما شاء؛ وتسأل الكاتب ثم ماذا؟ فيقول لك: ثم الجحيم. . .
وإنما أوردنا الكتاب بطوله وعرضه لأننا قرأناه على وجهين، فقد نبهتنا عبارة (أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن) إلى أن في الكلام إشارة من قوة خفية في الغيب، فقرأناه على وحي هذه الإشارة وهديها فإذا ترجمة لغة الغيب فيه: (ويحك يا صاحب المشكلة، إذا أردت أن تكون مجنونا أو كافرا بالله وبالآخرة فهذا هو الرأي. كن حيوانا تنتصر فيه الطبيعة والسلام.
تلك إحدى عجائب المقادير في أول كتاب ألقي إلي؛ أما العجيبة الثانية فان آخر كتاب تلقيته كان من صاحبة المشكلة نفسها. وهو كتاب آية في الظرف وجمال التعبير وإشراق النفس في أسرارها يَمُور موْر الضباب الرقيق من ورائه الأشعة، فهو يحجب جمالاً ليظهر منه جمالاً آخر؛ وكأنه يعرض بذلك رأيا للنظر ورأيا للتصور، ويأتي بكلام يقرأ بالعين قراءة وبالفكر قراءة غيرها. ولفظها سهل سهل، قريب قريب، حتى كأن وجهها هو يحدثك لا لفظها، ومادة معانيها من قلبها لا من فكرها، وهو قلب سليم مقفل على خواطره وأحزانه(132/9)
مسترسل إلى الإيمان بما كتب عليه استرساله إلى الإيمان بما كتب له، فما به غرور ولا كبرياء ولا حقد ولا غضب ولا يكثره ما هو فيه.
ومن نكد الدنيا أن مثل هذا القلب لا يخلق بفضائله إلا ليعاقب على فضائله؛ فغلظة الناس عقاب لرقته، وغدرهم نكاية لوفائه، وتهورهم رد على أناته، وحمقهم تكدير لسكونه، وكذبهم تكذيب للصدق فيه.
وما أرى هذا القلب مأخوذاً بحب ذلك الشاب ولا مستهماً به لذاته، وإنما هو يتعلق صوراً عقلية جميلة كان من عجائب الاتفاق أن عرضت له في هذا الشاب أول ما عرضت على مقدار ما؛ وسيكون من عجائب الاتفاق أيضاً أن يزول هذا الحب زوال الواحد إذا وجدت العشرة، وزوال العشرة إذا وجدت المائة، وزوال المائة إذا وجد الألف.
وبعد هذا كله فصاحبة المشكلة في كتابها كأنما تكتب في نقد الحكومة على طريقة جعل التوقيع: (فلان غير موظف بالحكومة). . . وهي فيما كتبت كالنهر الذي ينحدر بين شاطئيه مدعياً أنه هارب من الشاطئين مع أنه بينهما يجري. تحب صاحبها وتلقاه؛ ثم هي عند نفسها غير جانية عليه ولا على زوجته. . . فليت شعري عنها ما عسى أن تكون الجناية بعد زواج الرجل غير هذا الحب وهذا اللقاء؟
ونحن معها كأرسطاطاليس مع صديقه الظالم حين قال له: هبنا نقدر على محاباتك في ألا نقول إنك ظالم؛ هل تقدر أنت على ألا تعلم أنك ظالم؟
ورأيها في (المشكلة) أن ليس من أحد يستطيع حلها إلا صاحبها، ثم هو لا يستطيع ذلك إلا بطريقة من طريقتين: فإما أن تكون ضحية أبيها وأبيه (تعني زوجته) ضحيته هو أيضاً ويستهدف لما يناله من أهله وأهلها فيكون البلاء عن يمينه وشماله ويكابد من نفسه ومنهم ما إن أقله ليذهب براحته وينغص عليه الحب والعيش، (قالت): وإما أن يضحي بقلبه وعقله وبي. . .
وهذا كلام كأنها تقول فيه: إن أحداً لا يستطيع حل هذه المشكلة إلا صاحبها، وأن صاحبها غير مستطيع حلها إلا بجناية يذهب فيها نعيمه، أو بجنون يذهب فيه عقله. فان حلها ذلك فهو أحد اثنين: إما أحمق أو مجنون ما منهما بد. . . ولسان الغيب ناطق في كلامها بأن أحسن حل للمشكلة أن تبقى بلا حل، فان بعض الشر أهون من بعض.(132/10)
والعجيبة الثالثة أن (نابغة القرن العشرين) جاء زائراً بعد أن قرأ مقالات (المجنون) فرأى بين يدي هذه الكتب التي تلقيتها وأنا أعرضها وأنظر فيها لأتخير منها، فسأل فخبرته الخبر؛ فقال: إن صاحب هذه المشكلة مجنون لو امتحنوه في الجغرافية وقالوا له ما هي أشهر صناعة في باريس لأجابهم: أشهر ما تعرف به باريس أنها تصنع (البودرة) لوجه حبيبتي. . .
قلت: فكيف يرتد هذا المجنون عاقلاً؟ وما علاجه عندك قال: وجه في طلب أ. ش ليجيء، فلما جاء قال له اكتب: جلس (نابغة القرن العشرين) مجلسه للإفتاء في حل المشكلة فأفتى مرتجلاً:
إن منطق الأشياء وعقلية الأشياء صريحان في أن مشكلة الحب التي يعسر حلها ويتعذر مجاز العقل فيها، ليست هي مشكلة هذا العاشق أكرهوه على الزواج بامرأة يحملها القلب أولا يحملها، وإنما تلك هي مشكلة إمبراطور الحبشة يريدون إرغامه أن يتزوج إيطاليا، ويذهبون يزفونها إليه بالدبابات والرشاشات والغازات السامة.
ولو لم يكن رأس هذا العاشق المجنون فارغاً من العقل الذي يعمل عمل العقل، إذن لكانت مجاري عقله مطرودة في رأسه فانحلت مشكلته بأسباب تأتي من ذات نفسها أو ذات نفسه، غير إن في رأسه عقل بطنه لا عقل الرأس، كذلك الشره البخيل الذي طبخ قدراً وقعد هو وامرأته يأكلان. فقال ما أطيب هذه القدر لولا الزحام. . . قالت امرأته: أي زحام ههنا؟ إنما أنا وأنت. قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر فقط. . .
فعقل النهم في رأس هذا كعقل الشهوة في رأس ذلك؛ كلاهما فاسد التقدير لا يعمل أعمال العقول السليمة؛ ويريد أحدهما أن تبطل الزوجة من أجل رطل من اللحم، ويريد الآخر مثل ذلك في رطل من الحب. . .
وإذا فسد العقل هذا الفساد ابتلى صاحبه بالمشاكل الصبيانية المضحكة لا تكون في شيء كبير، ولا يكون منها شيء كبير؛ وهي عند صاحبها لو وزنت كانت قناطير من التعقيد؛ ولو كيلت بلغت أرادب من الحيرة؛ ولو قيست امتدت إلى فراسخ من الغموض.
هاتان المرأتان: (الحبيبة والزوجة)، إما أن تكونا جميعاً امرأتين فالمعنى واحد فلا مشكلة؛ وإما ألا تكونا امرأتين فالمعنى كذلك واحد فلا مشكلة؛ وإما أن تكون إحداهما امرأة(132/11)
والأخرى قردة أو هِرْدة وههنا المشكلة. (حاشية: الهردة من أوضاع نابغة القرن العشرين في اللغة ومعناها الأنثى ليست من إناث الأناسي ولا البهائم. . .)
فان زعم العاشق أن زوجته قردة فهو كاذب، وإن زعم أنها الهردة فهو أكذب. والمشكلة هنا مشكلة كل المجانين، ففي مخه موضع أفرط عليه الشعور فأفسده، وأوقع بفساده الخطأ في الرأي، وابتلاه من هذا الخطأ بالعمى عن الحقيقة، وجعل زوجته المسكينة هي معرض هذا العمى وهذا الخطأ وهذا الفساد؛ ولا عيب فيها، لأنها من زوجها كالحقيقة التي يتخبط فيها المجنون مدة جنونه فتكون مجلي هذيانه ومعرض حماقاته، وهي الحقيقة غير أنه هو المجنون.
فان كانت هذه الحقيقة مسألةً حسابية استمر المجنون مدة جنونه يقول للناس: خمسون وخمسون ثلاثة عشر، ولا يصدق أبدا أنها مائة كاملة؛ وإن كانت مسألةً علمية قضى المجنون أيامه يشعل التراب ليجعله باروداً ينفجر ويتفرقع، ولا يدخل في عقله أبداً أن هذا تراب منطفئ بالطبيعة؛ وإن كانت مسألةً قلبية استمر المجنون يزعم أن زوجته قردة أو هردة ولا يشعر أبداً أنها امرأة.
فان صح هذا الرجل مجنون فعلاجه أن يربط في المارستان ثم يجيء أهله كل يوم بزوجته فيسألونه: أهذه امرأة أم قردة أم هردة؟ ثم لا يزالون ولا يزال حتى يراها امرأة ويعرفها امرأته فيقال له حينئذ: إن كنت رجلاً فتخلق بأخلاق الرجال.
أما إن كان الرجل عاقلاً مميزاً صحيح التفكير ولكنه مريض مرض الحب، فلا يرى (النابغة) أشفى لدائه ولا أنجع فيه من أن يستطب بهذه الأشفية واحدا بعد واحد حتى يذهب سقامه بواحد منها أو بها كلها:
الدواء الأول: أن يجمع فكره قبل نومه فيحصره في زوجته ثم لا يزال يقول زوجتي، زوجتي، حتى ينام. فان لم يذهب ما به في أيام قليلة فالدواء الثاني.
الدواء الثاني: أن يتجرع شربة من زيت الخروع كل أسبوع. . . ويتوهم كل مرة أنه يتجرعها من يد حبيبته، فان لم يشفه هذا فالدواء الثالث.
الدواء الثالث: أن يذهب فيبيت ليلة في المقابر، ثم ينظر نظره في أي المرأتين يريد أن يلقى الله بها وبرضاها عنه وبثوابه فيها؛ وأيتهما هي موضع ذلك عند الله تعالى، فان لم(132/12)
يبصر رشده بعد هذا فالدواء الرابع.
الدواء الرابع: أن يخرج في (مظاهرة). . . فإذا فقئت له عين أو كسرت له يد أو رجل ثم لم تحل حبيبته المشكلة بنفسها. . . فالدواء الخامس.
الدواء الخامس: أن يصنع صنيع المبتلى بالحشيش والكوكايين، فيذهب فيسلم نفسه إلى السجن ليأخذوا على يده فينسى هذا الترف العقلي، ثم ليعرف من أعمال السجن جد الحياة وهزلها، فإن لم ينزع عن جهله بعد ذلك فالدواء السادس.
الدواء السادس: أنه كلما تحرك دمه وشاعت فيه حرارة الحب، لا يذهب إلى من يحبها ولا يتوخى ناحيتها، بل يذهب من فوره إلى حجَّام يحجمه. . . ليطفئ عنه الدم بإخراج الدم؛ وهذه هي الطريقة التي يصلح بها مجانين العشاق، ولو تبدلوا بها من الانتحار لعاشوا هم وانتحر الحب.
قال (نابغة القرن العشرين): فان بطلت هذه الأشفية الستة وبقى الرجل جموحاً لا يرد عن هواه فلم يبق إلا الدواء السابع.
الدواء السابع: أن يضرب صاحبه المشكلة خمسين قناة يصك بها واقعة منه حيث تقع من رأسه وصدره وظهره وأطرافه، حتى يتهشم عظمه، وينقصف صلبه، وينشدخ رأسه ويتفرى جلده؛ ثم تطلى جراحه وكسوره بالأطلية والمراهم وتوضع له الأضمدة والعصائب، ويترك حتى يبرأ على ذلك أعرج متخلعاً مبعثر الخلق مكسور الأعلى والأسفل، فان في ذلك شفاءه التام من داء الحب إن شاء الله.
قلنا: فان لم يشفه ذلك ولم يصرف عنه غائلة الحب؟
قال: إن لم يشفه ذلك فالدواء الثامن.
الدواء الثامن: أن يعاد علاجه بالدواء السابع. . . . . .
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي(132/13)
سفارة أندلسية
إلى ملك النورمانيين في القرن الثالث الهجري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لبث عرب الأندلس منذ الفتح زهاء قرنين في مأمن من الغزوات الخارجية، لا تزعجهم سوى الحروب والمعارك الداخلية، ولم تشعر الأندلس المسلمة بخطر الغزو الخارجي في تلك الفترة إلا من ناحية واحدة، هي ناحية مملكة الفرنج التي بلغت ذروة القوة والبأس في عصر عاهلها كارل الأكبر (شارلمان)، والتي استطاعت من قبل أن تستخلص من يد العرب رباط الثغر وكل أملاكهم في لانجدوك وما وراء جبال البرنيه، وأن تغزو إسبانيا المسلمة من الشمال أكثر من مرة؛ ولكن هذا الخطر الداهم لم يلبث أن خبا عقب انحلال المملكة الفرنجية وتوطد الدولة الأموية في الأندلس.
بيد أن الأندلس لم تلبث أن عرفت خطراً آخر لم تكن لتفطن إليه أو تتحوط لرده؛ ذلك هو خطر الغزوات البحرية النورمانية؛ وقد ظهر هذا الخطر فجأة حينما ظهرت سفن النورمانيين في مياه الأندلس لأول مرة في سنة 230هـ (843م) في عصر أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم، وعاثت في ثغور الأندلس، ووصلت إلى أشبيلية، واقتحم الغزاة بسائطها بالنار والسيف؛ ولم يك لعرب الأندلس يومئذ معرفة بتلك الأمة البحرية التي جاءت من أقاصي الشمال غازية في أقاصي الجنوب، فعرفوها وآنسوا خطرها ومنعتها؛ وعرفوها عندئذ باسم (المجوس)؛ ذلك لأن النورمانيين كانوا يومئذ أمة وثنية تعبد النار والكواكب والعناصر، ثم عرفوها فيما بعد باسم (المجوس الأردمانيين)، أعني النورمانيين؛ وكانت الأندلس حتى ذلك الحين تعني بأسباب الدفاع الداخلية والبرية، ولا تعني كثيراً بأمر الأسطول أو التحصينات البحرية، فلما شهدت جرأة أولئك الغزاة المجهولين، وشدة عيثهم بشواطئها وثغورها، عنيت بأمر الأسطول والثغور، ولم يأت عصر عبد الرحمن الناصر حتى كان للأندلس أسطول فخم يسيطر على تلك المياه، ويحمي ثغور الأندلس من كل غزو واعتداء.
وقد ترددت حملات النورمانيين على شواطئ الأندلس مراراً، في عصر عبد الرحمن بن الحكم، كما قدمنا، ثم في عصر ولده محمد (245هـ - 859م)، ثم بعد ذلك بنحو قرن في(132/14)
عصر الحكم المستنصر (355هـ - 9660م)، ثم في عهد الطوائف (457هـ - 1065م)، وكانت في كل مرة تبث الذعر والروع والخراب أينما حلت، بيد أنها كانت ترد على أعقابها بعد معارك برية وبحرية طاحنة؛ وكانت تقنع دائماً بما تحصل من الغنائم والسبي، ولا تمكن من البقاء أو الاستقرار وسير هذه الغزوات البحرية مشهورة في الروايات الإسلامية والنصرانية، وليس من موضوعنا أن نعي بتفاصيلها، وإنما نعني هنا بحادث دبلوماسي شهير، كان من بعض آثار هذه الغزوات، وهو من الحوادث الدبلوماسية الفريدة في علائق الشرق والغرب والإسلام والنصرانية.
قام النورمانيون بغزوتهم البحرية الأولى لشواطئ الأندلس في سنة 230هـ (843م) في عهد عبد الرحمن بن الحكم، وعاثوا في بسائط أشبونه وأشبيلية ولبلة؛ ولم يستطع الأندلسيون رد أولئك الغزاة الشقر إلا بعد جهود جهيدة ومعارك طاحنة، وبعد أن رأوا من جرأتهم وشجاعتهم وشدة فتكهم ما يؤذن بانتمائهم لأمة قوية عظيمة؛ عندئذ رأى أمير الأندلس عبد الرحمن ابن الحكم أن يسبر غور هذه الأمة المجهولة، وأن يسعى إلى مهادنتها وعقد أواصر الصداقة معها، في نفس الوقت الذي يعنى فيه بتقوية الأسطول وتحصين الثغور، فانتهز فرصة مقدم الرسل النورمانيين إلى قرطبة لعقد الصلح بعد هزيمة الغزاة وجلائهم عن الثغور الأندلسية، وقرر أن يوفد معهم إلى ملك النورمانيين سفارة يؤكد بها المودة والصداقة.
واختار أمير الأندلس لسفارته رجلاً جعلته صفاته الخاصة خير من يستطيع الاضطلاع بتلك المهمة هو يحيى بن الحكم المعروف بالغزال؛ وكان الغزال شاعراً رقيقاً من أهل جيان، وكان يومئذ من أكابر رجال الدول والبلاط، يصطفيه عبد الرحمن ويؤثره برعايته وتقديره لما كان يتمتع به من خلال وكفايات خاصة في الإدارة والسياسة. وكان عبد الرحمن قد اختاره قبل ذلك ببضعة أعوام ليكون سفيره لدى قيصر قسطنطينية الإمبراطور نيوفيلوس؛ وكان الإمبراطور قد بعث إليه سفارة وهدية فخمة ليخطب وده ومحالفته ويرغبه في ملك أجداده في المشرق حقداً منه على المأمون والمعتصم؛ فرحب عبد الرحمن برسل الإمبراطور، وبعث إليه يحيى الغزال بهدية فخمة (225هـ - 836م) فأدى الغزال سفارته ببراعة، واستطاع أن يخلب الباب الإمبراطور وبطانته بذلاقته وحسن بيانه ورقة(132/15)
شمائله؛ واستمر عبد الرحمن بعد ذلك يسند إليه مختلف المهام الدقيقة فيؤديها بكياسة وبراعة؛ وكان الغزال في الواقع رجلاً خلاباً وسيم الطلعة - ومن ثم سمى بالغزال - يتمتع بصفات السياسي البارع وخلاله ومؤثراته، ويستخدمها دائماً بفطنة ونجاح
وقد انتهت إلينا عن هذه السفارة الفريدة رواية إسلامية ضافية لكاتب أندلسي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي وهو أبو الخطاب بن دحية البلنسي في كتاب له يسمى (المطرب في أشعار أهل المغرب)؛ وفيه يسرد تفاصيل رحلة الغزال إلى بلاد النورمانيين، ويورد لنا طرفاً من خلاله وشيئاً من نظمه، بيد أن هذه الرواية الضافية تعني بالناحية الشخصية والأدبية أكثر مما تعني بالتحقيق التاريخي، ومن ثم فان كثيراً من الغموض يحيق بالمكان وبالظروف التي وقعت فيها هذه السفارة ويترك المجال واسعاً لمختلف الفروض.
تقول الرواية إن يحيى الغزال ومساعده يحيى بن حبيب خرجا من مياه الأندلس الجنوبية في سفينة أندلسية خاصة أعدت لهما، وسارت بهما إلى جانب سفينة الرسل النورمانيين؛ واتجهت السفينتان نحو الغرب حتى خرجتا إلى المحيط؛ وشهد السفير المسلم من عصف الرياح وروعة الموج أهوالاً؛ وقد ترك لنا الغزال في وصفها شعراً يقول فيه:
قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال
وتولتنا رياح ... من دبور وشمال
شقت القلعين وانبت ... ت عرى تلك الحبال
وتمطى مل المو ... ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأى العي ... ن حالا بعد حال
ولكن الركب وصل سالماً إلى (بلاد المجوس) بعد رحلة شاقة مروعة؛ وسار الغزال وزميله إلى مستقر ملك النورمانيين. أما عن مستقر مملكة النورمانيين (المجوس) فتقول لنا الرواية ما يأتي: (وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط فيها مياه مطردة، وجنات، وبينها وبين البر ثلث مجار، وهي ثلاثمائة ميل، وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم؛ وتقرب من تلك الجزيرة جزائر كثيرة منها صغار وكبار أهلها كلهم مجوس، وما يليهم من البر أيضا لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية).(132/16)
وهنا موضع الغموض والحدس. إذ ما هو ذلك القطر الذي تعنيه الرواية الإسلامية، والذي كان مستقرا لملك النورمانيين وقت مقدم الغزال؟ لقد كان للفيكنج أو النورمانيين يومئذ ملك في الشمال، في دانماركه، وكان سلطانهم منذ أوائل القرن الثامن يشمل دانماركه وقسماً من اسكندناوه، وألمانيا الشمالية حتى فريزيا؛ ويلوح لنا من تأمل الوصف الذي تقدمه لنا الرواية الإسلامية عن رحلة الغزال في بحار خطرة مروعة، وعن طبيعية القطر الجزرية، إن هذا القطر هو الدانماركه، فهو شبه جزيرة يحيط بها عدد كبير من الجزائر؛ ومن هذه الجزائر كانت تخرج حملات النورمانيين الغازية إلى البحار الغربية والجنوبية. وكان يجلس على عرش النورمانيين في ذلك الوقت (نحو سنة 844 أو 845 م) ملك يسمى (هوريك)، وكان النورمانيون يومئذ أحداثاً في النصرانية، حسبما تقول الرواية الإسلامية، لأنهم بدءوا باعتناقها قبل ذلك بنحو عشرين عاما فقط. بيد أن هناك احتمالاً آخر يمكن الأخذ به، وهو أن القطر الذي زاره السفير الإسلامي ليؤدي رسالته إلى زعيم الفيكنج ربما كان جزيرة ارلندة التي تنطبق طبيعتها وموقعها على أوصاف الرواية الإسلامية، وكان الفيكنج قد فتحوها قبل ذلك بأعوام (840م) واستقروا في شمالها، واتخذوا زعيمهم (تورجيس) أو (ترجستر) قاعدة لملكه.
وعلى أي حال فقد لقي السفير المسلم من ملك النورمانيين كل ترحاب وعطف، وأفرد لأقامته وزملائه منزلا حسناً؛ وتصف لنا الرواية بعد ذلك كيف استقبل الملك الغزال، وكيف أعجب بجرأته وذلاقته ولباقته، وكيف قدم إليه الغزال كتاب الأمير عبد الرحمن وهديته من الثياب والآنية، فوقعت لديه أحسن موقع. ولقي الغزال مثل هذا الإعجاب والعطف في البلاط النورماني كله. ثم تقدم لنا الرواية تفاصيل شائقة عن صلات الغزال بملكة النورمانيين (نود) مواقفه منها، وقد رآها الغزال لأول مرة فراعه حسنها، وصرح أمامها بأنه لم ير في حياته مثل هذا الحسن الشعري الفائق مع كثرة ما شاهد من النساء الحسان في مختلف القصور؛ وكان الغزال يومئذ قد جاوز الخمسين من عمره ولكنه كان لا يزال جذاباً وسيم الطلعة؛ فأعجبت الأميرة بروائه وظرفه وحسن بيانه، وكثيراً ما كانت تستدعيه للتمتع بحديثه الساحر؛ وكان الغزال من جانبه يهرع إلى مجلسها ويكثر من زيارتها حتى حذره أصحابه من ذلك، ولكنه لم يعبأ بذلك لما يلقاه منها من التشجيع(132/17)
والعطف؛ وتقص الرواية علينا بعض مواقفه ومداعباته مع تلك الأميرة الحسناء؛ ومن ذلك قوله ذات يوم في مجلسها يتغنى بحسنها:
كلفت يا قلبي هوى متعباً ... غالبت فيه الضيغم الأغلبا
أنى تعلقت مجوسية ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلقى إليه ذاهب مذهبا
يا نود يا رود الشباب التي ... تطلع من أزرارها الكوكبا
وقوله ذات يوم وقد أمرته الأميرة بأن يخضب شعره الأشيب ففعل، واستحسنت خضابه:
بكرت تحسن لي سواد خضابي ... فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلا كشمس جللت بضباب
تخفى قليلاً ثم يقشعها الصبا ... فيسير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنما هو زهرة الإفهام والألباب
فلدي ما تهوين، ما شأن الصبى ... وطلاقة الأخلاق والآداب
وعاد الغزال إلى الأندلس بعد رحلة دامت عشرين شهراً ومعه كتاب من ملك النورمانيين إلى عبد الرحمن بن الحكم؛ وكان عوده عن طريق شنت ياقوب ثغر جليقية. وقد أدى الغزال سفارته خير الأداء بلا ريب، ولكن ماذا كان موضوع هذه السفارة وغايتها الحقيقية؟ هذا ما لم تفصح عنه الرواية، وإن كنا نعتقد أنها كانت سفارة مودة وصداقة فقط.
وعاش الغزال بعد ذلك أعواماً طويلة، وتوفى بعد الخمسين ومائتين في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقد أربى على الثمانين؛ وكان مدى نصف قرن يتبوأ الزعامة في ميدان الشعر والأدب والحكمة، ويتبوأ في بلاط قرطبة أسمى مقام من النفوذ والثقة والتقدير.
محمد عبد الله عنان(132/18)
تاريخ الأدب النسوي في فرنسا
للأستاذ محمد بك كرد علي
بينما نرى تركيا تقرر مساواة المرأة بالرجل، وتعترف لها بحقوقها السياسية في المجتمع، غير ناظرة إلى ماضيها وحاضرها، ولا لاستعدادها المطبوع والمكسوب، ولا إلى قلة عدد المتعلمات من بنات جنسها في بلادها، يخيل إليها أن تجعل منهن أو أن ترتجل منهن عالمات مفكرات ناخبات منتخبات - بينا نرى هذا في الشرق وتركيا تضع تشريعاً جديداً تجري أحكامه في أمة تغرق كثرتها الغامرة في بحر لجي من الجهالة والأمية، نرى رجال الغرب على كثرة ما بلغته المرأة عندهم من درجات النشوء والرقي، يحاذرون أن تساوى الرجل عندهم في كل الحالات، ناظرين في ذلك إلى عدة اعتبارات نفسية وجسمية وعلمية وأدبية وتاريخية جرأة مستغربة من الترك في محاولة أمر لم تتم أسبابه، ولا بعضها، وتأن لا غرابة فيه من الغربيين ممن بنوا مدنيتهم على العقل، وساروا بسنة التطور الطبيعي في كل مظاهرهم، فأحدثوا هذه الحضارة القائمة على أساس راسخ من العمل والنظر، ولو نسج الغرب خيوط مدنيته بالخيال، تمليها العواطف، ولا يدعمها العقل المولد، ولا التجارب المسددة، لما شهدنا هذه المدينة تتفوق على غيرها، وتكسف شمس المدنيات القديمة التي كان من أعظم ما منيت به عصور جهالات كانت سود لياليها، ونظريات خيالية، فقد فيها التسلسل، ومات منها الإبداع.
حقا إن أهل البصيرة لا يفهمون سيراً لهذه المغامرة في جمهورية الترك، إلا إذا غالطوا حسهم. أليس من أعاجيب الدهر أن ينام الأتراك قروناً عن الأخذ بمذاهب الحضارة، ويهبوا اليوم دفعة واحدة يحاولون أن ينفذوا قوانين الجمهورية السويسرية في سكان آسيا الصغرى. ولا يختلف اثنان أن السويسريين أصحاب هذا القانون وصلوا إليه في عدة قرون، فاستووا أرقى شعب في الأرض، أو أول شعب يجيء في الصف الأول بين الأمم المتفوقة، والترك بلا جدال مهما غرت ظواهرهم، متأخرون في معظم مظاهرهم في سلم المدنية، على ما عرفناهم وعرفهم غيرنا من الباحثين من أهل الشرق والغرب.
وأعجب من هذا كله أن تحرم المرأة السويسرية الراقية من حق الانتخاب وترزقه المرأة(132/19)
التركية.
أمامي الآن (تاريخ الأدب النسوي في فرنسا) لجان لارتكان، قرأته مرتين فما بلغت حظ النفس في تلاوته، لما ضم من الفوائد الأثيرة، وليت العاملين والعاملات لإنهاض الشرق القريب يتدبرون بعض ما فيه. وطبقات البشر تكاد تكون واحدة إذا تساوى أهلها في شروط العيش والبيئة والثقافة. وإن ما يحاوله المقدمون علينا في سلم الحضارة والنشوء الإنساني حري بالمتأخرين عنهم في معظم مقومات الحياة أن يحتذوا مثاله، ويتأدبوا بأدبه، ويأخذوا من مضامينه عبرة وعظة. والمدنية مذ كانت ينقل فيها المتأخر أهخرأخر بتيسبيستبمنيستب بيسنبمتيسمنبتيسبمنيستبنسيتأخر عن المتقدم، ولا ضير في ذلك ولا غضاضة.
قلت يوماً لأحد علماء الترك المنورين: أما بلغك أن دمشق ستنار بعد قليل بالكهرباء، وتسير فيها الحوافل الكهربائية؟ فضحك وأجاب: إن حالكم بهذه الزينة الجديدة تقام بأيدي الغرباء، أشبه بإمبراطور كوريا لبس على رأسه تاجاً من ذهب، ولا سراويلات له تستر عورته. وكان الأولى يا صاح أن تكون للبلدة طرق معبدة، وترزق حظاً من التنظيم قبل الكهرباء. وأنا أقرر الآن أنه كان الأولى قبل أن تمنح المرأة الشرقية حق التشريع في مجالس النواب أن تتعلم وتتربى، حتى إذا استوفت حظها على النحو الذي وصلت إليه المرأة الغربية، ومتى تعلمت القروية كالبلدية كل ما يلزمها في صراع الحياة تتمتع بالحقوق السياسية كالمرأة الإنجليزية.
جملة معترضة ساقت إليها المناسبة. والآن نرجع إلى تحليل الكتاب الجديد فنقول: عالج المؤلف هذا الموضوع أعواماً طويلة في الصحف والمجلات وفي إسناد له ورسائل، وكتابه هذا زبدة تجاربه وعصارة علمه وعمله. بدأه بفصل في تاريخ المرأة في القديم. فقال إن الرجل بينما كان في العصور الخوالي صياداً محارباً عرافاً يسير في العالم على هواه، ويطفر طفراته في سبيل المعرفة كانت المرأة قابعة في دارها، خاضعة خانعة لا يتسع نظرها لأكثر من أعمال بيتها، وتلقين بنيها التربية الأولى. وكان النساء في يونان القديمة لا معرفة لهن بغير غزل الصوف يتعمدن القناعة لا يسألن أزواجهن غير هذا. ولذلك قال أفلاطون: إن القرد قرد مهما كان، والمرأة مهما كان عملها تظل امرأة أي غبية مجنونة. يريد الهزؤ بها، وقد بقى هذا الهزؤ بالنساء قروناً في الأرض حتى كانت النصرانية، ورأى(132/20)
رجال الكنيسة أن يحولوا دون زواج القائمين بأمر الدين فيها، فصوروا المرأة بصورة بشعة تزهيداً منهم فيها، حتى لتساءل أحدهم أن كان للنساء نفس.
وجاء القرن الثاني عشر، والنساء مأخوذات بعوامل كثيرة في نهضتهن، وليس لهن من الحرية ما يتسع لكثير من أسبابها، ولئن أخذ كثير من الأساودة أو الفرسان وخدام الملوك يرون من الشرف رعاية السيدات، ومعاملتهن بقواعد اللياقة والظرف، فان كثيرين من المحافظين في الغاليين (المغول) كانوا يبالغون في وصف النساء بما لا يليق، ويحرمونهن كل حرية. أما النساء فكن يصبرن على هذه المعاملة ويحاولن الخروج من حالتهن السيئة، وبقين بين عوامل الحرمة وعوامل الاحتقار مدداً متطاولة، ولا يعْدمنْ مع هذا أناساً من طبقات مختلفة يحمونهن وبفضلهم يتصدرن ويظهرن، وأما القاعدة العامة فالتشديد عليهن والمبالغة في الاحتفاظ بالتقاليد الموروثة. وقل فيهن من كن يستطعن أن يكتبن كتابة بسيطة، أو ينظمن ولو نظماً سخيفاً.
وأصبحت إيطاليا في القرن السادس عشر مصدر الآداب والفنون الأدبية؛ وسرى الفرنسيس على مثال الطليان، بأن جعلوا المرأة موضع إعجابهم، فأخذ بعض الكاتبين في فرنسا يضعون رسائل وكتباً في تاريخ المرأة، وكان أكثر ما وضع بإيعاز الملكات، فكان هذا القرن قرن رفعة المرأة، جسر فيه كستكليون في إيطاليا أن يقول. لولا النساء لتعذر كل شيء، ولولاهن لما كانت الشجاعة العسكرية ولا الفنون ولا الشعر ولا الموسيقى ولا الفلسفة بل ولا الدين، وما عرفنا المولى في الحقيقة إلا بهديهن.
وبدأ النساء يستعملن قرائحهن، فنشأ بينهن بعض القصصيات وواصفات الحكايات والشاعرات، وقل فيهن من كان لها قريحة يعتد لها. ولم يكن الماهرات منهن أكثر من هواة ينتفن وينتشن من الآداب. وأنشأت مدينة ليون لقربها من إيطاليا، وكانت تدعى (فلورنسة فرنسا) تتذوق الآداب والفنون، وظهرت فيها المطبعة قبل أن تؤسس في باريز، وجعل فرنسوا الأول من مدينة ليون مضم جيوشه خلال حرب إيطاليا فنشأت فيها حركة فكرية ندر وقوع مثلها في مدن الولايات، فكانت منازلها مواطن الظرف واللطف والنساء يصطنعن فيها كل ما يعجب به الرجال. ومنهن من كانت تجيب على ما يوجه إليها من كلمات المديح بأبيات من الشعر، وتجرأ على نقد ذوق الباريزيات، فأصبحن بذلك ملكات(132/21)
الذوق والأناقة والجمال، وفتح كثير من نبيلاتهن قاعاتهن لإنشاء قصائد كان ناظموها يجوزون لأنفسهم تمجيد جسم الحبيبة والتغزل بكل ما فيه، فلقي الأشراف من الأزواج عنتاً من هذا التمجيد، ولطالما احمرت الوجوه بما يقال، وكان يومئذ للحياء سلطان على النفوس.
ففي القرن السادس عشر إذا أحرز النساء مقاماً محموداً في المجتمع بفضل الشعراء والنبلاء، وبقى عليهن أن يطالبن بحقهن في التعليم وحقهن في النبوغ. واشتد الجدال فيما إذا كان للمرأة الحق في التعليم لتكون عالمة. ومن النبلاء من قضى للأميرات والنبيلات بتلقف مبادئ العلم ليستطعن إدارة أرضهن ويحكمن رجالهن، ويدرن شؤونهن، واقتصر الأمر على هذه الطبقة فقط. وبذلك أرجعوا البنات الطامحات من سائر الطبقات إلى عمل المغازل، ونشأ من ذلك حوار طويل دعوه خصام الألف باء، والنساء مع هذا لم يداخلهن اليأس. ولم يقعدهن عن المضي في سبيلهن عائق. وما طلع القرن التاسع عشر حتى دخل النساء في طور العمل بالمطالبة بحقوقهن في التربية، ولم يكن لنساء الشعب معرفة بشيء: أما العقائل فكن يجلبن لبناتهن معلمين أو يبعثن بهن إلى الأديار، وكانت بعض الراهبات تعلم الناس منذ القرن السادس عشر مسائل بسيطة لا يستطيع بها المتعلمات تصحيح الاملاء، ولا حذق شيء من صرف اللغة ونحوها. وقام في ذهن بعضهم إن الواجب إدخال تعديل على هذه الحالة. وقال العالم مالبرانش، بعد أن درس دماغ الرجل ودماغ المرأة: إن الواجب تعليم النساء تعليماً صحيحاً. وارتأت مدام دي سيفينيه، فيما كتبت به إلى ابنتها من الرسائل أن تلقن أولادها قليلاً من العلم تلقيناً حسناً، وأن يلقن الفتيات الأدب خاصة.
وقل أن جسرت امرأة في القرن الذي نشأت فيه مدام دي سيفنيه ومدام دي لافاييت أن توقع كتابتها أو تأليفها، مخافة أن تستهدف للسخرية. وما كان حول لويز الرابع عشر الملك العظيم سوى كاتبات يصرفن أوقات فراغهن في الكتابة، وما اقتدرت واحدة أن تكتب رواية تمثيلية؛ وكان تأليف هذه الروايات وقفاً على الرجال. وعانى النساء فن الرسائل والشعر في قلة. ودعي هذا القرن قرن المجتمعات والمحادثات. ومن هذا القرن خلف الكاتبات رسائل تجلت فيها مواهبهن في الكتابة. ذلك لأن الرسائل غير محدودة الحدود ولا تربكها القواعد، ولا تستلزم أكثر من ذهن وقاد، وتفكر ذاتي، وإرادة في الإعجاب، وحاجة يأمن معها المراسل صاحبه، وهي صفات تفرد بها النساء. وما برز في هذا الباب أكثر من مدام(132/22)
دي سيفنيه، ولا كتب لامرأة أن دانتها في هذا الباب. كانت تعشق المجد؛ ولا نعلم لو رأت من زوجها عطفاً - وكان زير نساء فسيقاً - هل كانت تبرز هذا التبريز؟ ومع هذا كانت تهوى من ترى ذات اليمين وذات الشمال، على مثال أعظم كبريات السيدات في عصرها. وهكذا يقال فيمن أحرز شهرة مثلها، وإن كن أقل منها مكانة. كانت دي سيفنيه أما عاشقة مولهة، وكاتبة متفردة بهذرها، وهذرها عبارة عن شعور قوي فيها تحاول بثه ولا تحتاج في ذلك إلى تأمل كثير. ورسائلها ملأى بالجذل والسرور والتنويع والبديهة، وهي مرآة عصر القرن العظيم. والنساء في هذا الجنس من الكتابة يبرزن ويتفوقن.
أما مدام لافاييت فالناس على أنه كان لها مؤازرون من الرجال يصقلون ما تنسخ قريحتها، أو يضعون لها الخطط التي تسير عليها. وأصبح من المألوف أن يكتب الرجال ما ينشر من الآثار باسم النساء؛ وكان موليير وبوالو يهزأن بالنساء الكاتبات المؤلفات، ولطالما سلقاهن بألسنة حداد. وكان جمهور النساء في ذاك العصر على غاية الجهل، ما خلا بعض العلية والطبقات المختارة؛ ويختلف عدد الأميات بين سبعين وأربعة وتسعين في المائة بحسب الأقاليم، ومنهن من لا يحسن توقيع أسمائهن؛ وأخذ بعضهن يحضرون بعض دروس الرجال ويتعلمن شيئاً من الرياضيات، وظل أناس من أرباب المكانة ينعون على النساء ذكاءهن ويمنعونهن من كل ثقافة. ورأى جمهور من الكاتبين أنه لا يليق الهزؤ بالنساء إلى هذا الحد، وأنشئوا يعتبرونهن ويودون من الناس إجلالهن، يقدمون النساء على الرجال في الموائد والحفلات؛ وإذا أحرز النساء هذا المقام الاجتماعي في القرن الثامن عشر: فذلك بفضل ظهورهن في الأندية الخاصة؛ وكان البلاط الملكي في مقدمة هذا المجالس، وكانت كل امرأة تحررت في الولايات أو العاصمة من بعض القيود تقيم لها ردهة استقبال، يكون فيها دار ندوة للسياسة ومثابة للأدب. وكثرت هذه الأندية حتى حار الكتاب في أيها يختارون. ومنها قاعات بعض نساء أعضاء المجامع العلمية. وعلى هذا أصبح النساء يقدن بأيديهن المملكتين ويحكمن المجتمع، يملين عليه قواعد الحشمة، ويأخذن بزمام الآداب، ويحكن الأحابيل لا ليجعلن من يحمونهن من الرجال في جملة أعضاء المجمع العلمي، حيث كانت لهن الكلمة المسموعة، بل ليسمح لهن بنشر آراء شديدة اللهجة. ولم يكتفين بهذا، بل كن يطمحن إلى المجد الأدبي فينشرن في الصحف والمجلات، ويقرأن(132/23)
ما يكتبن على من يختلف إلى مجالسهن. وغدا الولوع بالآداب من إمارات الظرف في النساء. وكثر عديد النساء اللائى تعلقن من الأدب بسبب، وبلغ عددهن ثلاثمائة مؤلفة في الولايات والعاصمة، وما فيهن واحدة تسهل المقابلة بينها وبين العقيلتين: سفينيه ولافاييت. وصح بهذا أن يقال إن القرن الثامن عشر أمسى في تاريخ فرنسا قرن نهضة المرأة. وما سبق لهن في العصور الخالية أن يتملق لهن الناس ويستمع لكلامهن ويتمتعن بحرياتهن.
كل هذا وجوزيف دي مستر يقول في كتاب له إلى إحدى بناته: إن فولتير ادعى أن النساء قادرات على أن يعملن كل ما يعمله الرجال، وما هذا إلا للتقرب من قلوب بعض الغواني الجميلات، ولم يأت النساء بأثر يذكر في ضروب الآداب، فالنساء لم يؤلفن (الإلياذة) ولا (الانياد) ولا (القدس المنقذة) ولا (فيدر) ولا (أتالي) ولا (وودكون) ولا (الميزانتروب) ولا (تارتوف) ولا (زهرة دي ميديسيس) ولا (أبولون دي بلفيدر) ولا (البرسة) ولا (كتاب الأصول) ولا (خطاب التاريخ العام) ولا (تليماك)، ولم يخترعن الجبر ولا المجاهر ولا المناظر، ولا مضخة النار ولا صناعة الجوارب الخ، وما قامت امرأة عالمة جديرة أن تعد بين العلماء. فالمرأة ليست في حال تستطيع أن تفوق فيها الرجال إلا بأنوثتها، وليست سوى قردة إذا أرادت مساواة الرجل.
محمد كرد علي
(البقية في العدد القادم)(132/24)
للتاريخ السياسي
عشرة أيام بئيسة
مشروع لافال - هور والرأي العالم
دواعي هذه الخطة الوخيمة العواقب
للدكتور يوسف هيكل
شهد العالم خلال الثلث الثاني من شهر ديسمبر الماضي اضطراباً شديداً في السياسة الدولية، وقلقاً عظيماً في الدوائر السياسية، نجما عن الانقلاب الفجائي في سياسة بريطانيا الخارجية بموافقة وزير خارجيتها السير صمويل هور على سياسة مسيو لافال، رئيس الوزارة الفرنسية ووزير الخارجية، وتوقيعه المشروع الذي وضعه لافال لحل المشكلة الحبشية عن طريق سلمية. ويُعرف هذا المشروع بمشروع الصلح، أو خطة السلام، أو اقتراح لافال - هور، أو اتفاق باريس.
فحوى مشروع الصلح
في يوم الثلاثاء الموافق 10 ديسمبر أبرق السير هور بمشروع الصلح إلى سفيري بريطانيا في روما وفي أديس أبابا طالبا منهما أن يذهبا مع زميليهما الفرنسيين ليطلعا السنيور موسوليني والإمبراطور على ما تم الاتفاق عليه بين حكومة جلالته والحكومة الفرنسية. وفحوى البرقية أن الحكومتين اتفقتا على أن يطلبا من الإمبراطور قبول التغيرات التالية في الحدود الإيطالية الحبشية.
1 - التيكري - إعطاء إيطاليا التيكري الشرقية، وحدودها جنوباً نهر (خيطا)، وغربا خط يمتد من الشمال إلى الجنوب ماراً بين اكسوم (في الجانب الحبشي)، وعدوه (في الجانب الإيطالي).
2 - إعطاء إيطاليا مقاطعة (أجادن) وجعل الحدود خطا مبتدئا من نقطة (ثلا) في الحدود الحبشية والإيطالية والصومال البريطانية، وممتدا شمالاً شرقياً قاطعاً (كوراهي) في الشرق، و (وارانادب) في الغرب، وملاقياً حدود الصومال البريطانية حيث يقطعها خط(132/25)
الطول 45.
3 - إعطاء إيطاليا امتيازاً اقتصادياً خاصاً في جنوب الحبشة يضع موارد هذه الإقليم في قبضة إيطاليا ويسمح للإيطاليين بالإقامة فيه. وتكون الأراضي غير المملوكة ملكاً للشركات الإيطالية، على أن تبقى السيادة في هذا الإقليم للإمبراطور.
وحدود هذا الإقليم هي: الحدود الجديدة بين الحبشة والصومال الإيطالي شرقاً، وخط العرض 8 شمالا، وخط الطول 35 غرباً، والحدود بين الحبشة وكينا جنوباً.
4 - إعطاء الحبشة مرفأ (أساب) وممراً إليه على طول حدود الصومال الفرنسي.
وفي ذلك التاريخ أرسل وزير خارجية بريطانيا برقية إلى السفير الإنكليزي في أديس أبابا طالباً منه فيه أن يبذل كل نفوذ في إقناع الإمبراطور على قبول (المشروع) وألا يرفضه دون أن يتأمله جليا (!).
تطور الحوادث السياسية على المسارح الثلاثة
ذلك فحوى مشروع هور - لافال. وحين وقف الرأي العام الدولي عليه انثالت الاحتجاجات عليه إلى عصبة الأمم من جهات الدنيا الأربع، وأخذت الحوادث تتطور، واشتدت الأزمات السياسية، وعلى الأخص في باريس وجنيف ولندن.
على مسرح باريس
غادر السير هور لندن إلى باريس يوم السبت الموافق 7 ديسمبر. وفي منتصف الساعة الثامنة عشرة وصل (كي دورسي) ومعه المستر (كلرك) لمقابلة مسيو لافال. وفي الساعة التاسعة عشر والدقيقة 45 خرج من عنده. وعندها أنبأ لافال الصحافة أن الحكومتين على اتفاق، تعملان معاً للوصول إلى خطة تحل بموجبها المشكلة الحبشية عن طريق سلمية.
وقد تقابل الوزيران في اليوم التالي، ووصلا بعد المناقشة إلى اتفاق وقعاه عن حكومتيهما. وفي صباح الاثنين الموافق 9 ديسمبر تلقى مستر بلدوين رئيس الوزارة الإنكليزية كتاباً من السير هور، طالباً فيه موافقة الحكومة على اتفاق باريس، وقد رأى بلدوين أن من الواجب عليه تأييد زميله الغائب، فوافقت الحكومة على مشروع هور - لافال. وبهذه الموافقة تحملت حكومة بلدوين المسؤولية، وابتدأت إذ ذاك عشرة الأيام البئيسة. . .(132/26)
في الأيام التالية نشرت الصحف الباريسية مضمون الاتفاق بصورة غير رسمية، فانقسم الرأي العام الفرنسي إلى فريقين: فريق يعضد الحكومة ويدافع عن (المشروع) واجداً فيه خير حل للمعضلة الحبشية، وكثرة هذا الفريق من أحزاب اليمين والوسط؛ وفريق آخر ينقم على اقتراح لافال - هور، ويرى فيه الضربة القاضية لعصبة الأمم؛ وللبقية الباقية من الثقة في سياسة (السلام المشترك). والناقمون هم أحزاب اليسار من اشتراكيين وكومنيست. وأخذ كل فريق يدعم رأيه ببراهينه وحججه، ويدحض أقوال الآخرين على صفحات جرائده؛ ومما لا شك فيه أن حجج المدافعين عن سياسة لافال الخارجية كانت واهنة لا تقوم على أساس قانوني. أما نظريات الناقمين على (اتفاق باريس) فكانت مبنية على دعائم قانونية وسياسية متينة؛ وبخاصة ما كتبه الزعيم الاشتراكي مسيو بلوم في جريدته (الببولير)
أما موقف الحزب الراديكالي الاشتراكي فكان حرجاً لاسيما موقف زعيمه (هريو)
والحزب الراديكالي أقوى حزب في مجلس النواب وهو مشترك في حكومة لافال، ورئيسه (هريو) وزير دون وزارة، وقد فقد هذا الحزب شهرته في البلاد بعد فضيحة ستافسكي وتخليه عن مسيو دومرج. والحزب يعلم أنه لا يستطيع في ظروف مجلس النواب الحالية أن يؤلف وزارة ذات أكثرية. ورئيسه هريو لا يود أن يكون على رأس وزارة والانتخابات العامة على الأبواب. . . لهذه الأسباب يتحاشى مسيو هريو حدوث أزمة وزارية في البلاد. ويجد نفسه مضطرا إلى معاضدة مسيو لافال، على رغم مخالفته لسياسته الخارجية. وقد أفضى إلى حزبه بذلك قبل اجتماع مجلس النواب لمناقشة سياسة لافال الخارجية.
فانقسم الحزب أي فريقين؛ فريق معه، وفريق يرى من الضروري تغيير سياسة لافال وإسقاطه بعدم الموافقة على مشروعه لحل المشكلة الحبشية. وكان من بين هؤلاء مسيو (كت)
وفي صباح الثلاثاء الموافق 17 ديسمبر كان اجتماع مجلس النواب. وكان اجتماعاً صاخباً مضطرباً شديد الجدل. وكان أهم المتكلمين في تلك الجلسة ثلاثة: لافال وكت وبلوم.
نهض لافال وألقى خطابه في جأش رابط متزن؛ ودافع عن سياسته الخارجية ولاسيما (مشروع الصلح). وأقوى حججه أن سياسة العقوبات ليست الطريق الوحيدة لحل المشكلة(132/27)
الحبشية، وأن حصر إيطاليا اقتصادياً وعلى الأخص منع البترول عنها مما يقود أوربا إلى حرب لا تعرف نتائجها، وأن روح مبادئ عصبة الأمم توجب حل كل خلاف عن طريق سلمي إن أمكن، وأن الخطة التي وضعها لإيقاف الحرب في الحبشة تتمشى مع مبادئ عصبة الأمم (!). . .
ومسيو كت يرى غير ما يراه مسيو لافال: يرى في اتفاق باريس هدم مبادئ العصبة، إذ هي تقدم إلى المعتدي مكافأة على تعديه ومخالفته واجباته الدولية. ومسيو لافال بعمله هذا يقدم سابقة إلى عصبة الأمم لتحل بموجبها التعدي الذي سيحصل على شرقي أوربا الوسطى. وبذلك يكون لافال قد ساعد الهر هتلر وجرأه على أن يحذو حذو موسوليني!. وقد هاجم مسيو كت لافال وقال إن عمله هذا ليس إلا تقسيماً للحبشة وجعلها فريسة للمعتدي، وهذا العمل مخجل لفرنسا. . .
وقد لاحظ لافال أن الجو مكفهر وأن النقاش إن دام ربما أدى إلى سحب الثقة منه؛ فطلب تأجيل النقاش على سياسته الخارجية إلى يوم الجمعة الموافق 27 منه. ولافال ماهر في أصول المرافعات البرلمانية؛ يعرف كيف يتخلص من المآزق الحرجة، فإنه بطلبه هذا قد حول المناقشة من مهاجمة سياسته إلى البحث فيما إذا كان من الصواب تأجيل المناقشة كما يطلب أو المضي فيها؛ وكان على رأس القائلين بوجوب المضي في المناقشة مسيو بلوم الزعيم الاشتراكي. وبرغم فصاحته وقوة حجته وافق المجلس على تأخير المناقشة بأكثرية 52 صوتاً. ومما تجدر ملاحظته أن الكثرة التي كانت في جانب الحكومة هبطت إلى ما يقرب من مائة نائب بانضمام كثير من الراديكاليين إلى فريق المعارضة.
ومجمل القول أن مسيو هريو الزعيم الراديكالي لم يشترك في المناقشة، ولم يبد حركة ما تدل على أنه يؤيد فريقا على آخر. . .
وفي اليوم التالي ذهب لافال إلى جنيف. . .
على مسرح جنيف
في يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر كان اجتماع مجلس عصبة الأمم: فقام مستر أيدن ولم يدافع عن مشروع لافال - هور - بل قال إن الحكومتين وضعتا هذا المشروع وللمجلس أن يرفضه أو يقبله؛ والحكومة البريطانية ليست مرتبطة به. . .(132/28)
ثم نهض مسيو لافال وقال إن عمله هو وزميله السير هور كان بموجب السلطة التي أعطيت للحكومتين لايجاد حل سلمي للمعضلة الحبشية. . . وللمجلس أن يقول الكلمة الأخيرة في الاقتراح. . .
وقبل فض الاجتماع العام قام سكرتير المجلس وألقى تصريح حكومة الحبشة وهو مؤلف من (5000) كلمة ومبني على نقط قانونية ترمي إلى أن اقتراح باريس مخالف كل المخالفة لمبدأ العصبة
وقد قابل الأعضاء المشروع بمعارضة شديدة. . . وجاء في المناقشة أن السلطة التي خولت إلى بريطانيا وفرنسا لإيجاد حل سلمي قد انتهت، وكل عمل من هذا القبيل يعود إلى مجلس العصبة أو إلى هيأتها العامة - وكان هذا رداً على ادعاء لافال - وفي اليوم التالي قرر المجلس بأسلوب - دبلوماسي دولي - رفض المشروع.
على مسرح لندن
أخذت الصحف الإنكليزية تنقل أخبار اتفاق باريس ومحتوياته عن الجرائد الفرنسية، وأخذت الجرائد التي كانت تناصر الحكومة وعلى رأسها التيمس تعارضها وتظهر سخطها على المشروع، وأخذت جرائد المعارضة تهاجم الحكومة مهاجمة عنيفة وتصفها بأوصاف قاسية منها الجبن وخيانة الشعب وعصبة الأمم والحبشة. . .
وفي اجتماع مجلس النواب الذي عقد في العاشر من ديسمبر دافع مستر بلدوين عن خطة باريس وقال: لو كانت أستطيع أن أميط اللثام عن المشاكل التي تعترضنا، لما كان هناك رجل من أي هيئة ومن أي حزب يعارضنا. . .
ومع ذلك اخذ يزداد عدد الثائرين من حزب الحكومة، مظهرين سخطهم على سياسة الحكومة الجديدة؛ وأخذ آخرون يبدون قلقهم من موقف الحكومة الشاذ. فحدث من جراء ذك انشقاق عظيم في حزب الحكومة. وانقسم أعضاء الوزارة إلى قسمين: قسم مع بلدوين وقسم غير راض عن (اتفاق باريس) ومن بينهن مستر إيدن الوزير لدى عصبة الأمم إذ ذاك، وقد صرح بذلك في جنيف في الثالث عشر من ديسمبر.
ومن الرجالات البارزين الذين عارضوا المشروع في حزب الحكومة السير أوستن شمبريلن: فقد اجتمعت لجنة الشؤون الخارجية التي يرأسها هو في 17 منه لدرس (اتفاق(132/29)
باريس) وإبداء رأيها فيه. وصرح السير أوستن أنه غير راض عن (الاتفاق) ولا يقبله مهما كان تشبث الحكومة به. . . فتبعه أعضاء اللجنة. . . وكان ذلك صدمة عنيفة لمستر بلدوين.
أما الصحافة فقد أخذ يشتد نقدها للحكومة، طالبة منها بلهجة عنيفة التخلي عن (المشروع) والعودة إلى السياسة السابقة، سياسة جنيف والسلام المشترك:
أمام ثورة الرأي العام العالمي على اقتراح هور - لافال، وأمام رفض الإمبراطور (المشروع) وتردد موسوليني في قبوله؛ وأمام هجمات الحزب المعارض العنيفة وأمام انقسام حزبه عليه؛ أمام امتعاض الرأي الإنكليزي من تخليه عن العصبة وسياسة السلام المشترك، وأمام ثبات العصبة ورفضها (الاقتراح)؛ أمام كل هذه الصعوبات رأى مستر بلدوين أنه لا يستطيع أن يسير خطوة إلى الأمام بسياسته الجديدة؛ فقرر أن يكون على رأس القائلين بعدم قبول الاقتراح!. فدعا السير صمويل هور من سويسرا. وجمع أعضاء وزارته في 18 ديسمبر وقرر التخلي عن هور ورفض اتفاق (باريس).
وفي هذا التاريخ قدم السير هور استقالته فقبلها مستر بلدوين
وفي يوم الجمعة الموافق 19 ديسمبر كان موعد اجتماع مجلس اللوردات ومجلس النواب لمناقشة اقتراح هور - لافال، وكان الجميع متفقين على التخلي عن (اتفاق باريس).
كان اجتماع مجلس النواب غير عادي: فقد حضره البرنس أوف ويلز وحضره السفراء. . . وبعد إلقاء الأسئلة والإجابة عليها قام السير صمويل هور مبيناً الأسباب التي قادته إلى توقيع الاقتراح، ومما قاله إنه كان أمام عينيه هدفان:
(اتقاء حرب أوروبية والحيلولة دون نشوب حرب منفردة بين إيطاليا وبريطانيا).
(إن منع البترول عن إيطاليا ربما يؤدي إلى هزيمة إيطاليا وخسرانها الحرب الحبشية، وعندما تجد نفسها في هذا الوضع الذليل تقوم بمهاجمتنا، وعندئذ تنشب الحرب بينها وبيننا دون أن ينهض لمساعدتنا أحد، إذ لم تقدم دولة ما إلى الآن باخرة واحدة ولا جندي واحد في سبيل الأمن المشترك؛ والرأي الفرنسي ضد الحرب ولا يريد أن يتورط في مشاكل جديدة. . . (لهذا اضطررت وأنا في باريس إلى أخذ قرار عاجل لأن مسألة البترول لا يمكن تأجيلها إلى تاريخ آخر.(132/30)
ثم أخذ يدافع عن مواد الاتفاق بحجج واهية. . .
أما مستر أتلي رئيس حزب العمال فقد طلب رفض (اتفاق باريس)، وأثبت أن مسؤولية الحكومة لا تزول باستقالة السير هور. ثم أخذ يسائل الحكومة:
ما فائدة الابتداء في العقوبات إذا كان أمرها سيهمل عند مجابهة أي خطر؟!. لماذا صرح في شهر أكتوبر بأن العمل المشترك مفيد وفي شهر ديسمبر أنه غير مفيد؟! إذا كان يوجد الآن خطر عظيم فخير من الوقوف بجانب المتعدي أن يقال بأن العصبة قد فشلت. . .
ثم ألقى مستر بلدوين كلمة طويلة شديدة، صرح فيها بأن اتفاق باريس قد قضى عليه تماماً، وطلب من حزب الحكومة معاضدته، وأعلن بأن الحكومة عائدة إلى العمل المشترك ضمن مبادئ جنيف. . .
وقال اللورد هارتنكتن إن (عشرة الأيام البئيسة) قد انتهت.
وقد ختم النقاش في كلا المجلسين بقبول وجهة النظر القائلة بأن الحكومة قد ارتكبت غلطة فادحة في توقيعها (مشروع الصلح). وأنها بعملها هذا تقضي على النية الخالصة والأمل القوي في نظام السلام المشترك.
وقد جاء خطاب السير نفيل شمبرلين الذي ألقاه في برمنجهام مساء 20 ديسمبر مؤيداً لتصريح الحكومة، ومما قاله:
(. . . هذه الاقتراحات قد ماتت إلى غير بعث؛ وإنني أعتقد الآن بأن كل سعي للوصل إلى حل سلمي فاشل).
(فيجب أن نعود إلى سياسة العقوبات. . .)
وإن تعيين مستر إيدن وزيراً للخارجية لدليل ساطع على أن الحكومة عائدة إلى السياسة التي تحدث عنها السير شمبرلين على أن الحكومة البريطانية لا تود العمل منفردة، ولذلك أخذت تفاوض أعضاء عصبة الأمم الذين على البحر الأبيض المتوسط، ولقد أجاب حتى الآن كل من تركيا واليونان ويوجوسلافيا بأنهم على استعداد لمساعدة بريطانيا وللعمل على مبدأ عصبة الأمم. . .
(البقية في العدد القادم)
يوسف هيكل(132/31)
دكتور في الحقوق من (حكومة فرنسا)(132/32)
في ميدان الاجتهاد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية بالأزهر
كيف منع الاجتهاد
ينشد المسلمون الإصلاح في هذا العصر، وتنشده جامعتهم الأزهرية الكبرى في مصر، ويعالجون في سبيل ذلك طرقاً ملتوية يمشون فيها إلى أن تنتهي بهم إلى أسوأ مما كانوا فيه، فتعلو كلمة الجامدين بالرجوع إلى قديمهم الممقوت، ويوافقهم على ذلك بعض من يتظاهر بحب الإصلاح إذا أقبل عهده، ويخفى في قلبه كرهه وبغضه. ولو أنعم هؤلاء الناس النظر لرأوا الذنب في لذلك يرجع إلى تلك الطرق الملتوية، لا إلى الإصلاح المنشود الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة، وغيرهما من كبار المصلحين في هذا العصر.
وهذا الإصلاح المنشود يتلخص في كلمتين: فتح باب الاجتهاد في علومنا عامة والعلوم الدينية منها خاصة، وتأليف كتب جديدة في هذه العلوم تسري فيها روح الاجتهاد بدل تلك الكتب الميتة الجامدة؛ أما ما عدا ذلك من أمور الإصلاح فمن الأمور الكمالية ألقى ضرنا الاهتمام بها أكثر من هذه الأمور الأساسية.
ولست بسبيل الكلام في هذا الإصلاح فقد قطعت شوطاً من حياتي في الجهاد فيه، حتى آل الأمر بنا إلى تلك الطرق الملتوية، ووجدت في ذلك غرائب وعجائب صرفتني عن العناية بذلك الأمر إلى أمور أخرى في العلم والأدب؛ وقد حاورت فيها أناسا آخرين وحاوروني، فوجدت علماء الأدب أكرم الناس أخلاقا، وأسلمهم طوايا، وأطهرهم أقلاما، ووجدت الخير فيهم مرجوا، والشر منهم مأمونا؛ ولست أدري وقد تركتهم إلى هذا الموضوع الديني الخطير أأجد أقلاما مثل أقلامهم، ونفوسا سمحة مثل نفوسهم، أم أجد النفوس لا تزال على عهدي بها، وإن تظاهرت بحب الإصلاح والانتصار له؟ وقد أكون مخطئا في ظني، وأرجو من الله أن أكون مخطئا فيه، وأن نكون قد بدلنا نفوساً أخرى تبحث مثل هذه الأمور المهمة في هدوء، وتعرف الصواب للمصيب فلا تحسده عليه أو تتعامى عنه، وتحسن الظن(132/33)
بمن يطلب الصواب فيخطئه طريقه، فتأخذه بالتي هي أحسن، حتى يعرف خطأه واضحا فيرجع عنه، ويشكر للذي دله عليه.
وهكذا كان حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. كان باب الاجتهاد بينهم مفتوحاً على مصراعيه لا يحمل أحد منهم بسببه ضغينة على أخيه، ولا يحاول قهره على موافقته في رأي خالفه فيه، إلى أن نبتت فتنة الخوارج المعروفة، ولعبت السياسة بعقول الناس فيها، فكانوا أول من سن في الإسلام أخذ المخالف في الرأي بوسائل القهر؛ ثم تتابعت الحوادث وأتى عصر بني العباس فرأوا من الأئمة المجتهدين في عصرهم انكماشاً عن سلطانهم فأخذوا ذلك عليهم، وجعلوا يصطنعون الوسائل لإيذائهم، فآذوا في ذلك أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الجماعة، وصاروا ينصرون عليهم خصومهم من المعتزلة، واستباحوا في ذلك ما استباحوا من الحجر على حرية الرأي، وتعذيب المخالف لهم فيه بالسجن والضرب والقتل، وبلغ ذلك شدته في مسألة خلق القرآن المعروفة.
وكان التعليم من أول الإسلام يتخذ المساجد دوراً له، فتتولاه الرعية بعيدة عن الحكومة، كما تتولاه الأمم الآن في الشعوب الراقية في أوربا وأمريكا. وينشأ التعليم في كنفها حراً لا يتأثر بهوى حاكم، وينشأ رجاله أحراراً لا تلين قناتهم لظالم وقد أخذ حكام المسلمين في آخر الدولة العباسية يدخلون في أمور التعليم ليكون لهم نفوذ عليه، وسلطان على رجاله، فأنشئوا له المدارس الخاصة به، وحبسوا عليها من الأوقاف الكثيرة ما رغب العلماء والمتعلمين فيها، وجعلهم يتنافسون على أبواب الملوك والحكام من أجلها، فضاعت كرامة العلم والعلماء، وخضع أهله لمن بيدهم أمر تلك المدارس والأوقاف.
ومن أقدم ما بني في الإسلام من المدارس المدرسة البيهقية المنسوبة إلى البيهقي المتوفى سنة 450هـ، والمدرسة السعيدية بنيسابور بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود حين كان والياً بها، والمدرسة النظامية التي بناها الوزير نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان وابنه ملكشاه ببغداد سنة 459هـ واحتفل بافتتاحها يوم السبت عاشر ذي القعدة من هذه السنة، وجمع الناس على طبقاتهم ليحضروا دروس الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فجاء الشيخ ليحضر فلقيه صبي في الطريق، فقال يا شيخ كيف تدرس في مكان(132/34)
مغصوب؟ فرجع الشيخ واختفى. فلما يئسوا منه ذكر الدرس بها أبو نصر الصباغ.
ولما ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب مصر لم يكن بها شيء من المدارس، فبنى بها المدرسة الناصرية لتعليم المذهب الشافعي سنة 566هـ ثم بنى المدرسة الصلاحية بالقرافة الصغرى سنة 572هـ مجاورة للإمام الشافعي رضي الله عنه، وجعل لناظرها أربعين ديناراً في كل شهر؛ ورتب له في كل يوم ستين رطلاً من الخبر، وراويتين من ماء النيل؛ ثم بنى أخرى مجاورة للمشهد الحسيني، وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية.
وكان من دواعي إنشاء هذه المدارس تأييد المذاهب التي كان السلاطين يشتدون في نصرتها، كما فعل صلاح الدين حين استولى على مصر، فقد حارب فيها مذهب الشيعة الفاطميين الذين حكموا مصر قبله، وكانت دروس هذا المذهب تلقى في الأزهر وغيره من مساجدهم، فأبطل هذه الدروس، وأحيا مذهبي الشافعي ومالك وبنى لهما كثيراً من المدارس.
وفي هذه المدارس أقفل باب الاجتهاد؛ وقبرت المذاهب الفقهية عدا هذه المذاهب الأربعة الباقية؛ وقد كانت هناك مذاهب كثيرة لأهل السنة والجماعة بقى بعضها إلى القرنين السابع والثامن الهجريين؛ ومن هذه المذاهب مذهب البصري والثوري ولم يطل العمل بهما لقلة اتباعهما؛ ومنها مذهب الأوزاعي، وقد بطل العمل به بعد القرن الثاني للهجرة؛ ومنها مذهب أبي ثور، وقد بطل العمل به بعد القرن الثالث؛ ومنها مذهب ابن جرير الطبري، وقد بطل العمل به بعد القرن الرابع؛ ومنها مذهب الظاهري، وقد طالت مدته وزاحم المذاهب الأربعة حتى جعله المقدسي في أحسن التقاسيم رابع المذاهب في زمنه (القرن الرابع) بدل الحنبلي، وذكر الحنبلية في أصحاب الحديث، وعده ابن فرحون في الديباج الخامس من المذاهب المعمول بها في زمنه (القرن الثامن)؛ ثم درس بعد ذلك ولم يبق لأهل السنة والجماعة إلا المذاهب الأربعة. وذكر ابن خلدون أن الظاهري درس بدروس أئمته، وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب، وربما يعكف متكلفو انتحاله عليها لأخذ فقههم منها؛ فلا يحلون بطائل، ويصيرون إلى إنكار الجمهور عليهم.
وهكذا أخذت المذاهب الأربعة تتغلب مع الزمن على غيرها من هذه المذاهب حتى تم لها التغلب عليها في القرن السابع الهجري. وأخذ فقهاء هذه المدارس تبعاً لهوى أصحابها من الأمراء يتعصبون لها، ويفتون بوجوب اتباعها. قال المقريزي في خططه: (فلما كانت(132/35)
سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه؛ ولم يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب. وأفتى فقهاء هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم)
وإذا لم يكف هذا الإجمال في بيان ما أتت به يد السياسة من وسائل القهر والإغراء في إحياء بعض هذه المذاهب وإماتة بعضها، ومحاربة الاجتهاد إلى حد القضاء عليه في تلك المدارس، فأنّا نسوق مثلاً من ذلك في المدرسة المستنصرية التي أمر بانشائها، المستنصر بالله العباسي، وشرع في ذلك سنة 625هـ وقد تكامل بناؤها سنة 631هـ وأنفق عليها أموالاً كثيرة، واحتفل بافتتاحها في تلك السنة احتفالاً عظيماً حضره بنفسه، وحضره نائب الوزارة وسائر الولاة والحجاب والقضاة والمدرسون والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء وجماعة من أعيان التجار الغرباء، واختير لكل مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساً، ورتب لها مدرسان ونائبا تدريس؛ وكان المدرسان محي الدين محمد بن يحي بن فضلان الشافعي، ورشيد الدين عمر بن محمد الفرغاني الحنفي؛ وكان نائباهما جمال الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الجوزي الحنبلي، وأبا الحسن علياً المغربي؛ وجعل لها معيدون لكل مذهب أربعة، وقسمت إلى أرباع، فجعل ربع القبلة الأيمن للشافعية، وجعل ربع القبلة الأيسر للحنفية، وجعل الربع الذي على يمين الداخل للحنابلة، وجعل الربع الذي على يساره للمالكية. وقد شرط المستنصر في وقفه عليها أن يكون عدة فقهائها ثمانية وأربعين ومائتي فقيه، من كل طائفة اثنان وستون، بالمشاهرة الوافرة، والجراية الدارة، واللحم الراتب، إلى غير ذلك من وسائل الإغراء التي لم تتح لغير هذه المذاهب. وقد كان قبر الاجتهاد في هذه المدرسة، وحجر النظر فيها على العلماء بهذا الشكل.
في سنة 645هـ أحضر مدرسوها إلى دار الوزير، فتقدم إليهم ألا يذكروا شيئا من(132/36)
تصانيفهم، وألا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكروا كلام المشايخ تأدباً معهم، وتبركاً بهم. فأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي مدرس الحنابلة بالسمع والطاعة. وقال سراج الدين عبد الله الشرمساحي مدرس المالكية: (ليس لأصحابنا تعليقة، فأما النقط من مسائل الاختلاف فمما أرتبه). وقال شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية، وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني مدرس الحنفية: (إن المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال) فكانا أفضل القوم إجابة. ثم أوصل الوزير أمر ذلك إلى المعتصم بالله، وكان قد ولى أمر الدولة بعد أبيه المستنصر، فتقدم إليهم أن يلزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم فأجابوه بالسمع والطاعة. وذهب إباء مدرس الشافعية والحنفية في الهواء. ولو أنهما استمرا على إبائهما لكان جزاؤهما القتل أو نحوه.
ونستطيع بعد هذا أن نحكم بأن منع الاجتهاد لم يتم إلا في عصور الظلم، وبأن قصر الناس على هذه المذاهب الأربعة حصل بوسائل غير مقبولة من القهر والإغراء. وفي يقيننا أنه لو أتيح لغير هذه المذاهب ما أتيح لها من تلك الأوقاف والرواتب لكان حظها من البقاء مثل حظها، ولبقيت معروفة مقبولة ممن يجهلها اليوم أو ينكرها.
وقد حوّلت هذه الوسائل لإلزام الناس بهذه المذاهب قبل هذه العصور فلم يرض بهذا المسلمون حتى أصحاب هذه المذاهب. روى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه؛ فقلت لا تفعل، فان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبد الله.
وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوا إلى غيره، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.
فنحن إذن في حل من أمر هذه المذاهب التي فرضت علينا فرضاً، وفي حل من ذلك الحظر على الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنه أتى بطريق القهر، ولم يتم برضا المسلمين(132/37)
وتشاورهم، وإنما أمر المسلمين كما حكم الله تعالى شورى بينهم.
عبد المتعال الصعيدي(132/38)
8 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
تتمة
وأراد الجنرال (باراتيري) أن ينسحب إلى (أديكايه) ليقصر خط المواصلات إلا أنه لم يجسر على ذلك خوفاً من تأنيب رومة فقرر القيام باستطلاع تعرضي في اتجاه نهر مارب شأن كل قائد متردد. وكان يرمي بذلك إلى وقف حركات الأحباش في اتجاه غوندت وأسمره، وبعد أن تأهبت الفصائل للحركة سحب أمره. ولا شك في أن هذه الأوامر المتناقضة مما أزال اطمئنان الفصائل وجعلها تخشى العاقبة.
ومما زاد الموقف حروجة قلة الأرزاق. وكلف مدير الميرة والتموين الجنرال بتقليل مقدار الأرزاق اليومي للجنود لأن مواد التموين لا تكفي وأن القوافل أخذت تتأخر والكثير منها يقع في أيدي الثوار، فاضطرت القيادة إلى تقليل أرزاق الجندي اليومي، وكان الجندي الأهلي يأخذ قليلاً من الشعير، ويفضل الدراهم مقابل الأرزاق الباقية، إلا أن الأرزاق كانت مفقودة. وتناول الضباط الأرزاق كالجنود. وأخيرا أضاف القائد العام خطيئة إلى خطيآته السابقة فكانت نذير الخذلان. فانه عقد مجلساً حربياً واستشار القواد فيما يعمل، ومعنى ذلك أنه أراد أن يلقى تبعة الحركات عن عاتقه وكان هو المسؤول الوحيد عنها.
والظاهر أن القائد العام كان يخشى حساب رومة بعد أن تلقى تلك البرقيات المرة منها، وكان قرار أعضاء أكثرية المجلس القيام بالهجوم وعدم الانسحاب لأن البقاء في ادجرات بسبب مجاعة الجيش، ولأن الأرزاق كانت على وشك النفاد برغم تقليل مقاديرها اليومية، لأن القوافل أمست لا تصل بانتظام. أما الانسحاب إلى الوراء فلم يكن من شك في أنه أحسن تدبير لتقصير خط المواصلات وتموين الجيش بصورة منتظمة، وبعد أن يتقوى بالنجدات المرسلة من إيطاليا وتكمل التدابير الإدارية وتنتظم سوق التموين والذخيرة يتقدم للهجوم بخطوات ثابتة متينة، بيد أن القائد العام والقواد الآخرين لم يكن لديهم من حب التبعة (المسؤولية) ما يجعلهم يتخذون هذه الخطة.(132/39)
وفي الوقت الذي قرر المجلس الحربي فيه القيام بالهجوم وردت البرقية التالية من رومة إلى القائد العام:
(رتب الجيش بحيث يقوم الهجوم ويقاوم هجوم العدو) ومعنى ذلك أن الحكومة الطليانية لم توافق على الانسحاب وأنها تريد المقاتلة مهما كانت النتيجة.
نشوب المعركة
يظهر لنا مما تقدم أن أحد الفريقين المتحاربين شعب متوحش ملتف حول ملكه ومتعطش للقتال، ويعرف بلاده، ومستعد للاستفادة من جميع ظاهراتها للضربة القاضية على عدوه، وعلى رأسه ملك يعرف كيف يستفيد من رجاله، فاستطاع بدهائه وحنكته أن يحصل على العدد الكافي من السلاح، ويجمع الأحباش حوله ويقودهم إلى ميادين القتال.
أما الفريق الآخر فيجهل أحوال البلاد، وهو غير قادر على تحمل مناخها، وقد أساء قواده قيادته، فلم يضمنوا له ما يحتاج إليه من مواد التموين وأسباب الراحة التي تمكنه من القتال في هذه البلاد القاسية. وقد أدى التردد في التنفيذ إلى زوال اعتماد الجنود على ضباطهم والضباط على رؤسائهم.
والواضح من هذا أن المعركة سوف تنشب في ظروف غير متعادلة، وقد لا يفيد التدريب المتقن والأسلحة الحديثة في التغلب على كثرة الأحباش المتشوقين إلى القتال.
والغريب في أمر هذه الحركات أن القيادة العامة كانت لا تملك خريطة صالحة تساعدها على وضع الخطط العاجلة. ومن الضروري معرفة حالة الأرض لتسيير القوات عليها. فالخطيئة التي ارتكبت في الحركات السوقية سوف يزداد شمولها بالخطأ في التعبئة، وهذا النقص مما سبب تسيير الأرتال في ميدان المعركة بحيث لا يستطيع بعضها مساعدة بعض، وذلك مما جعل القيادة الحبشية تغتنم الفرصة وتنقض برجالها على الأرتال وتقضي عليها على التعاقب.
عسكرت القوات الطليانية في 29 فبراير سنة 1896 في (صورية) وكانت القوات كما نعلم مؤلفة من أربعة ألوية بقيادة حاكم المستعمرة العام لجنرال (باراتيري)، وكان قواد الألوية الجنرال البرتونه والجنرال دابروميدا والجنرال أريموندي والجنرال اللانا.
وكانت الأوامر الصادرة من معسكر (صورية) ترمي إلى تحريك القوات في الساعة التاسعة(132/40)
على ضوء القمر في اتجاه (عدوى).
وكان يؤدي إلى عدوى طريقان، وهما طريق شمالي وطريق جنوبي، وكلاهما يمتد في منطقة وعرة فيمر الطريق الشمالي بمضيق (رابي أريان)، والطريق الجنوبي بمضيق (شدان موت) قبل وصولهما إلى عدوى، وبين الطريقين جبل (راجو) الوعر الذي لا يمكن تسلقه لشدة انحداره وللصخور المكدسة فيه. وتبلغ المسافة بين المضيقين أكثر من خمسة عشر كيلو متراً. فالتقدم على هذين المضيقين يجعل الأرتال الطليانية معرضة لهجمات القوة الحبشية المتمركزة حيث تتحرك على الخطوط الداخلية، وبلغ الجنرال (باراتيري) أوامره مقتنعا بأن الأرتال بعد اجتياز المضايق يجتمع بعضها ببعض وتتقدم نحو العدو. إلا أن هذا الاقتناع لم يصح، وقد يأمل هذا القائد النصر إذا جمع الرتلين في شرقي جبل (راجو) واستفاد بعد ذلك من كثرة المدافع.
وبدلاً من تقسيم الألوية على الرتلين وتسيير لوائين في كل رتل لكي يكون لكل منها القوة الكافية لمقابلة العدو تقدمت الألوية على الترتيب التالي:
لواء البرتونه في الجنوب نحو مضيق (شدان موت)، ولواء (دابورميدا) في الشمال مضيق (رابي أريان) أما لواء (أريموندي) ففي القلب، وبقى لواء اللانا في الاحتياط إلى الوراء، ولما وصل لواء (أريموندي) إلى سفح الجبل رأى أن له. فوجه الجنرال (باراتيري) إلى الشمال وراء لواء (البرتونه) أما لواء (اللانا) فسار في المؤخرة وراء (البرتونه). وهكذا تكدست ثلاثة ألوية على طريق واحد بينما بقى لواء في الجنوب.
والحقيقة أن مضيق (رابي أريان) لم يكن فيه مجال لانفتاح لواء واحد، وكان اللواءان يتقدمان بصعوبة نحو المضيق، وذلك يجعل لواء (اللانا) يتأخر في الوراء بطبيعة الحال.
وكان القسم الأكبر من لواء (البرتونه) من الأهليين، وتقدم اللواء ليلاً على ضوء القمر، وكان الجنود يسيرون بنشاط، بينما كان الأحباش يترقبون اقترابهم بفارغ الصبر، وكانت طلائعهم تنسحب أمام هذا اللواء دون أن تحرك ساكناً.
وعلى ما يظهر كان النجاشي ينتظر مرور هذا اللواء من المضيق وابتعاده عن الرتل الشمالي لينقض عليه ملتفا حوله من كل جهة. واعتمد قائد اللواء على الخريطة غير الصحيحة فأراد أن يريح لواءه في رابية بعد اجتياز المضيق ظنا منه أن الرابية تسيطر(132/41)
على الأرض في شرقي المضيق. ولما وصل إلى الرابية باغت الأحباش لواءه من كل جانب وهاجموه بحرابهم وخناجرهم.
وفي الساعة السابعة صباحاً سمع الجنرال (باراتيري) صوت النار من الجنوب فكلف لواء (دابورميدا) بنجدة (البرتونه) عندما يجتاز المضيق، بيد أن الأحباش كانوا قد احتلوا الوديان والروابي في جنوبي مضيق (رابي أريان) فاضطر (دابورميدا) إلى مقاتلتهم، إلا أنه بعد مدة قصيرة رأى نفسه أمام قوة فائقة من الأحباش أحاطت بجانبه فألجأته إلى الوقوف للدفاع.
ولما علم (باراتيري) أن لواء (دابورميدا) أيضا اشترك في القتال وتأكد أنه لا يستطيع نجدة (البرتونة) أمر لواء (أريموندي) بألا يعقب لواء (دابورميدا) بل يتوجه رأساً إلى الجنوب لمساعدة (البرتونه).
ولما اجتاز هذا اللواء المضيق وتوجه إلى الجنوب وصل المنهزمون من لواء البرتونه إلى رأس الرتل فعلم منها أن الأحباش قضوا على اللواء بالإحاطة به من كل جانب وأن قائده قتل في المعركة، فتقدم اللواء في الاتجاه الجنوبي الغربي، وكان لواء (اللانا) يسير وراءه، إلا أن وعورة الأرض وكثرة الوديان والأخاديد فيها عرقلت المسير.
وكان الأحباش قد كمنوا لهذا اللواء مستفيدين من الوديان والأخاديد، فلما اقترب اللواء منهم باغتوه من كل جانب، ثم أعادوا الكرة على لواء (اللانا) فكانت مباغتة هائلة، وكان قتال وجها لوجه، فلم تستطع المدفعية مساعدة المشاة لاختلاط الحابل بالنابل. وكان بعض المدافع في المؤخرة فلم تستطع تلك المدافع أن تسلك الروابي لدخول الموضع. وكلما تقدمت قوات الاحتياطي لنجدة الخط الأول كان الأحباش يحيطون بها ويشتتون شملها. وعقب هذا القتال الشديد انسحاب، ولكن لا على الصور المعروفة بل كان أشبه بالهزيمة. فترك المشاة المدافع وولوا هاربين في طلب النجاة، فتكدسوا على الطرق وفي المضايق وفي الوديان فلم يسلم منهم إلا القليل.
أما لواء (دابروميدا) فبقى وحده يقاتل الأحباش ويظهر أن القوة التي هاجمته لم تكن كبيرة فقاتل إلى المساء بعد أن فقد قائده وانسحب بصعوبة في اتجاه آخر. أما القائد العام فلما رأى النكبة التي حلت بجيشه أصدر أمر الانسحاب في الساعة الحادية عشرة وأسرع مع أركان(132/42)
حربه منسحبا إلى موقع (عدي كيه) البعيد عن ميدان القتال مسافة 70 كيلومتراً فكان ذلك فراراً لا انسحاباً.
وبلغت خسائر الجيش الطلياني في هذه المعركة ما يلي: جنرالان مقتولان وهما (دابورميدا) و (إريموندي) وأخذ الجنرال (البرتونه) أسيراً.
زعيمان من سبعة زعماء مقتولان وزعيم في الأسر.
خمسة عشر قائد فوج من (أربعة وعشرين) قتلى.
والخلاصة أن مجموع الخسائر من قتيل وجريح وأسير بلغ 284 ضابطاً و 15. 400 جندي. أما الذين نجوا فكانوا 262 ضابطاً و4369 جندياً منهم 276 جريحاً.
انتهى
طه الهاشمي(132/43)
علماؤنا المجهولون
عبد الرءوف المناوي
952 - 1031هـ
للأستاذ محمد إبراهيم العفيفي
للسائر في شارع باب البحر بالقاهرة أن يعرج على حارة سيدي مدين ليرى بناء متهدماً درست معالمه إلا من جدران قائمة حول مقام وزاوية ومدرسة أهملتها جميعاً وزارة الأوقاف كأنها لا تدري أنه لفخر العلماء وإمام المحدثين ومن تصدى للإفتاء يوما ما، ومن أكب على الدرس والتأليف حتى قاربت تآليفه المائة: ذلك مقام سيدي عبد الرءوف المناوي.
عصره:
انتهى القرن العاشر الهجري والدولة العثمانية تبسط سلطانها على كثير من البلاد الشرقية، فكان لزاما أن تكون الطبقة الحاكمة في مصر عثمانية، وأن تكون اللغة المتداولة بين الأوساط الراقية تركية، يشجعها الحكام ويساعدون على انتشارها بشتى الأساليب؛ فلغة الدواوين ولغة المجالس ولغة التهاني والتناظر والمديح كلها تركية؛ أضف إلى ذلك ما يترتب عليه من ذيوع التأليف ودواوين الشعر بتلك اللغة؛ وأهملت اللغة العربية في شتى الأبحاث، وأقفرت تلك الحقبة من ذيوع لغة القرآن؛ فجفت أقلام المفسرين والمحدثين والمؤرخين والشعراء إلا من نفر قليل قبضهم الله للاحتفاظ بالبقية الباقية من مجدها الأثيل.
مولده
أنجبت القاهرة سنة 952هـ فخر العلم والأدب: زين الدين محمد المدعو عبد الرءوف بن تاج الدين بن علي بن زين العابدين (أو العارفين) الحدادي المعروف بالمناوي.
نشأته
أكب على الدرس منذ حداثته، (وحفظ القرآن قبل بلوغه، ثم حفظ البهجة وغيرها من متون الشافعية، وألفية ابن مالك، وألفية الحديث للعراقي، وعرض ذلك على مشايخ عصره في(132/44)
حياة والده، ثم أقبل على الاشتغال فقرأ على والده العلوم العربية، وتفقه بالشمس الرملي، وأخذ التفسير والحديث والأدب على النور علي بن غانم المقدسي، وحضر دروس الأستاذ محمد البكري، والتفسير والتصوف، وأخذ الحديث عن النجم الغيطي والشيخ قاسم والشيخ حمدان الفقيه والشيخ الطبلاوي؛ لكن كان أكثر اختصاصه بالشمس الرملي وبه برع، وأخذ التصوف عن جمع، وتلقن الذكر من قطب زمانه الشيخ عبد الوهاب الشعراوي، ثم أخذ طريق الخلوتية عن الشيخ المناخلي أخي عبد الله، وأخلاه مرارا، ثم عن الشيخ محرم الرومي حين قدم مصر بقصد الحج، وطريق البيرامية عن الشيخ حسين الرومي المنتشوي، وطريق الشاذلية عن الشيخ منصور الغيطي، وطريق النقشبندية عن السيد الحسيب النسيب مسعود الطاشكندي، وغيرهم من مشايخ عصره، وتقلد النيابة الشافعية ببعض المجالس، فسلك فيها الطريقة الحميدة، وكان لا يتناول منها شيئاً).
أكب على الدرس منذ حداثته؛ وكان يقتصر يومه وليلته على أكلة واحدة من الطعام زهداً في الدنيا واستجماماً للدرس والتحصيل، يميل إلى العزلة.
ثم علق المنقول والمعقول، واستهوته العلوم العويصة كالفلسفة والتصوف حتى أصاب منها بغيته، ثم التفت إلى التاريخ فألف فيه المطولات لمن يريد الاستيعاب، ثم المختصرات لمنم يبغي الاطلاع، كما ضرب بسهم في السياسة والاجتماع. ثم واصل الدرس فتعمق في فقه اللغة وعالج الكتابة غير أنه كان يميل إلى السجع والمحسنات اللفظية مما كن يعجب به أهل زمانه؛ وتعرض للتاريخ الطبيعي حسبما مكنه الأوان، ثم كان محدث عصره فجلس إلى الناس يحدثهم ثم ولى التدريس بالمدرسة الصالحية فحسده أهل عصره؛ وكانوا لا يعرفون مزية علمه لانزوائه عنهم.
ولما حضر الدرس فيها ورد عليه من كل مذهب فضلاؤه منتقدين عليه، وشرع في إقراء مختصر المزني، ونصب الجدل في المذاهب، وأتى في تقريره بما لم يسمع من غيره فأذعنوا لفضله، وصار أجلاء العلماء يبادرون لحضور مجلسه، وأخذ عنه منهم خلق كثير منهم الشيخ سليمان البابلي، والسيد إبراهيم الطاشكندي، والشيخ علي الأجهوري، والولي المعتقد الشيخ أحمد الكلبي، وولده الشيخ محمد؛ وغيرهم.
تصدره للإفتاء(132/45)
أما ما قيل من انه تصدر الإفتاء فذلك يرجع إلى أنه ذكر في مقدمة زائفة لسيرة نسبت إليه: (قال شيخ الإسلام ومفتي الأنام الشيخ عبد الرءوف المناوي) ونحن نشك في ذلك، وربما كان ذلك يرجع إلى أن جده الشيخ شرف الدين يحيى تولى مشيخة الأزهر وأن له مجموعة فتاوى.
وفاته
ومع ذلك لم يخل من طاعن وحاسد حتى دس عليه السم فتوالى عليه بسبب ذلك نقص في أطرافه وبدنه من كثرة التداوي، ولما عجز صار ولده تاج الدين محمد يستملي منه التآليف ويسطرها. ولا ننسى أنه كثيراً ما اعتزل الناس وامتنع من مخالطتهم، وأنه كان إلى أواخر حياته بحراً فياضاً ومعيناً لا ينضب. وافاه قدره في صبيحة الخميس في الثالث والعشرين من شهر صفر سنة 1031هـ ودفن بجانب زاويته التي أنشأها بين زاويتي الشيخين احمد الزاهد ومدين الأشموني بعد أن ترك للأجيال ما يفخر به عصره.
تآليفه
1 - كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق: يشمل على 100000 حديث استخرجها من 44 كتابا ما بين مغاز ومسانيد وسير بينها الكتب الستة رامزاً للأسانيد. فرغ من تأليفه سنة 1026هـ وطبع بمصر سنة 1286هـ، سنة 1305هـ.
2 - الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية: يبدأ بمقدمة في التصوف رداً على آراء المعتزلة، ثم يتبعها بثمانية أبواب في سيرة الرسول ثم بالخلفاء الراشدين، وبلى ذلك تراجم الصوفية مفرداً طبقات كل قرن على حدة حسب سني وفياتهم، مرتبا إياهم أبجدياً؛ فكانت إحدى عشرة طبقة ينتهي الجزء الأول بانتهاء الطبقة السادسة والباقي في الجزء الثاني، فرغ من تأليفه سنة 1011هـ في 880 صفحة ولم يطبع.
3 - الطبقات الصغرى أو إرغام أولياء الشيطان: جمع فيه تراجم صوفية العجم والروم والحجاز واليمن والشام ومصر، وصدره بمقدمة مرتبة على خمسة أبواب: في التنبيه على جلال كرم الأولياء، والرد على منكري كراماتهم بالأدلة النقلية والعقلية، وبيان منازلهم ومقاماتهم والحكمة في ظهور الكرامات على أيديهم، والترغيب في مجالستهم، والأخذ عنهم،(132/46)
وبيان طبقاتهم وأحوالهم ومكان أصحاب الوظائف منهم، وفي ذكر شيء من أصول علم التصوف المهمة التي لا يستغني عنها ثم، ذكر التراجم مرتبة أبجديا. مخطوط في 276 صفحة ألفه بعد سابقه.
4 - آداب الأكل والشرب: في آداب اللياقة يناسب أهل ذلك الزمن. مخطوط في 80 صفحة.
5 - شرح خطبة القاموس: في صفحات قلائل.
6 - الدر المنضود في ذم البخل ومدح الجود: من الأدب الرائع رغم ما به من سجع. مخطوط في 112 صفحة.
7 - إتحاف السائل بما لفاطمة من المناقب والفضائل للمناوي مخطوط ضمن المكتبة التيمورية في مناقب السيدة فاطمة الزهراء في خمسة أبواب:
الباب الأول: ولدت سنة 41 من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل قبل الرسالة بخمس سنين.
الباب الثاني: تزوجت علياً في (خلاف من الخامسة عشرة من عمرها إلى الحادية والعشرين) وعمره إحدى وعشرون سنة في رمضان سنة 2هـ وبنى بها بعد العقد بنحو أربعة أشهر ولم يتزوج قبلها ولا عليها، وأولدها حسناً وحسيناً ومحسناً (مات صغيراً) وأم كلثوم الكبرى التي تزوجت عمر فعون بن جعفر فمحمد فعبد الله أخويه وأمهرها درعاً باعها بمبلغ 480 درهماً وكان جهازها: سرير مشرط بالشريط، وإهاب كبش، ووسادة من أدم حشوها ليف، وقربة، ومنخل، ومنشفة، وقدح.
الباب الثالث: الأحاديث الواردة فيها: 52 حديثاً.
الباب الرابع: مناقبها ومزاياها.
الباب الخامس: عشرة أحاديث روتها ثم أشعار بين فاطمة وعلي ضعيفة التأليف.
8 - غاية الإرشاد في معرفة أحكام الحيوان والنبات والجماد لم أره ولعله يشبه حياة الحيوان للدميري أو الحيوان للجاحظ أو عجائب المخلوقات للقزويني.
9 - الجواهر المضيئة في الأحكام السلطانية: في آداب السلطان وعلم الاجتماع.
10 - سيرة عمر بن عبد العزيز.(132/47)
11 - التوقيف على مهمات التعريف: مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس.
وهو ذيل لكتاب التعريف للشريف الجرجاني ويشمل الاصطلاحات العلمية العربية في عهدهما أفاض فيه المناوي في ذكر المسميات الفنية التي تساعدنا الآن في تسمية أجزاء الآلات وغيرها مما له مساس بأغراض المجمع اللغوي الملكي.
12 - فيض القدير: طبع في مصر:
وهو شرح كبير مستفيض لكتاب الجمع الصغير للحافظ جلال الدين السيوطي في علم الحديث.
13 - 80 مؤلفات تامة ذكرها المحبي في خلاصة الأثر فليراجعها من أراد.
81 - 93 مؤلفات لم تتم.
ونحن نرجو من يعثر على مؤلفات لعبد الرءوف المناوي غير ما ذكرت أن يتفضل بذكر مكان وجودها خدمة للرجل وفضله.
(الزقازيق)
محمد إبراهيم العفيفي(132/48)
الكذب والصدق
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
الكذب أسعدني والصدق أشقاني ... والكذب أضحكني والصدق أبكاني
الكذب صيَّر أعدائي ذويِ مقةٍ ... والصدق أبعد عني كل أخداني
كم ورطة كاد فيها الصدق يوقعني ... وبعد ذلك منها الكذب نجَّاني
حرمتُ أكثر ما عيشي يطيب به ... والصدق قد كان من أسباب حرماني
ما كنتُ أرعى نجومَ الليل في سهري ... بل كان فيه نجومُ الليل ترعاني
لولا أكاذيبُ آمالٍ تخادعني ... من كان يذهب أشجاني وأحزاني
إن الأمانّي تسلى وهي كاذبة ... وليس في الصدق من سلوى لأَسوان
الصدق مستنقعٌ في مائه أَسَنٌ ... فليس يملك إِرواءً لظمآن
والكذب بحر خِضَمُّ لا قرار له ... يحوي جواهر من درّ ومرجان
الصدق يلقاك بالأشواك جارحةً ... والكذب يبسم عن وردٍ وريحان
وقد يفوز أخو صدق بمأربه ... وقد يؤوب أخو كذب بخسران
لكن هذا قليلٌ غير مطرّد ... فليس يبني عليه رأيه الباني
إن الحياة بدنيانا لقائمة ... على الأكاذيب من زور وبهتان
الصادق الحرّ ذو فقر ومسكنة ... والكاذب الغِرَّ ذو مال وسلطان
إذا كذبتَ فقد أصبحتَ ربَّ تقي ... وإن صدقتَ فأنت الملحد الجاني
ما كنت تلعنني لو كنت تفهمني ... أو كان عندك وجدانٌ كوجداني
وربَّ أحدوثةٍ في صدقها سببٌ ... إلى إثارة أحقادٍ وأضغان
ورب أكذوبةٍ أدّت بحكمتها ... إلى زوال حزازات وعدوان
الصدق في بثه نارٌ مؤججة ... فليس يطفئها إلا الدمُ القاني
كم دولةٍ أنشأتها ساسةٌ كذبوا ... فأصبحت ذات أبراج وأركان
ودولةٍ بعد كذْب صان بيضتَها ... أضاعها الصدق، صدقُ العاهل الواني
لا تنكروا ما به قد جئتُ أخبركم ... إني إذا قلتُ فالتاريخُ برهاني
هل السياسة إلاّ كذبُ باقعةٍ ... على جماهير من بُلهٍ وعميان(132/49)
هل الحياة وإن كانت مثقفةً ... سوى نفاقٍ وتدليس وإدهان
إن الحياة لسرٌّ ظلّ مختفياً ... والروح أكبرُ من عقلي وعرفاني
هل كان في الأولين السابقين لنا ... حقاً عبادةُ أصنامٍ وأوثان
الكذب بالحور والغلمان ذو هِبةٍ ... والصدق يقصيك عن حور وغلمان
نزلت في ليلة مقرورةٍ بها ... فالصدق عبّس لي والكذب حياني
الكذبُ كان بما فيه الرغادة لي ... في العيش يأمرني والصدق ينهاني
إذا صدقتُ فان الناس تمقتني ... وإن كذبت فان الناس تهواني
يصحّح الكذبُ ما للصدق من الخطأ ... والكذب والصدق في الإنسان صنوان
وأعذب الشعر ما قد كان أكذبه ... قد قال هذا قديماً كل إنسان
وطالب المثل الأعلى وإن عجزت ... منه اليراع على هذا هو الباني
للنابغين شياطينٌ تساعدهم ... وما شياطينهم أشباه شيطاني
إبليس أنجبَ شيطاني وأدّبه ... وبالأكاذيب أوصاه وأوصاني
جميع ما فيّ أمسى تحت سلطته ... إلاّ ضميري وأخلاقي وإيماني
إما مفارقةُ الشيطان لي فكما ... يفارق الروحُ عند الموت جثماني
ولا يفارقني إلاّ غداة يرمي ... سيري إلى العالم الباقي من الفاني
الشعرُ أنِشدُه كالشعر يقرضه ... على لساني فأنّا فيه سيان
يبكي ويضحك شعري حين أرسله ... إلى الجماهير من أنسٍ وجنّان
لقد جرى الشعر شوطاً في تطوّره ... وظل يُبدل ألواناً بألوان
لم يكبر الشعرُ معتزاً بقوته ... حتى تربيتُه طفلاً بأحضاني
ولست أرضى بسلطانٍ على أدبي ... إن لم يكن ذلك السلطان سلطان
وربّ شعرٍ جميل بعد قائله ... يشدو به الناس من قاص ومن دان
الشعر باللفظ والمعنى يفوق كما ... يطير في الجوّ الجناحان
وأفتنُ الشعر ما قد هز سامعَهُ ... بما به بثّ من وجد وأشجان
وسوف يبقى جديداً في رسالته ... إلى الجماعات ما كَرّ الجديدان
بغداد(132/50)
جميل صدقي الزهاوي(132/51)
أختي
للأستاذ أحمد رامي
رزئ الشاعر الوجداني الرقيق الأستاذ رامي في أخته منذ
أسابيع فبكاها بهذه العبرات المنظومة:
أنا للحزن وما يبعث ... في خيالي من تهاويل الشجن
كلما صرت بنفسي خالياً ... يتبدّى من غيابات الزمن
يغرض الماضي فيسقيني الذي ... ذقت فيه من أفانين المحن
يشتكي ذو الوجد ما يعتاده ... ويغنى فيه مسلوب الوسن
هي أختي درجت في كنفي ... ثم أمست وهي للروح سكن
عُلْتُها طفلاً على بُعد أبي ... وهو نائي الدار عني والوطن
ثم دلّلت صباها فنمت ... كالنبات الغضّ في ظلً الفنن
شربت طبعي وحاكت خلقي ... ثم كانت هي سرّي المؤتمن
إن شكوت الدهر مما نالني ... سكن القلب إليها واطمأنّ
هي أختي صبّرت نفسي على ... فقد أهلي كلما ضمّ كفن
لو تذاكرنا أبي أو اخوتي ... ساجلتني دمع عيني ما هَتَن
قلت ترعاني وترعى ولدي ... وتربيه على قصد السِّنَن
وتواسي علّتي في وحدتي ... وتناجيني إذا الليل سكن
فطواها الموت عني بغتة ... في الشباب الغضّ والوجه الحسن
تركت لي مَلَكاً في صورة ... من جنين واضح النور فتن
وعيون تسحر اللبّ بما ... أرسلته من ذكاء وفطن
وفم حلو اللمى مبتسم ... فرّ عن دّرٍ توارى واستكن
فيه منها ما يعزينَي عن ... بعدها إما هفا قلبي وحنّ
وابن أختي قطعة من كبدي ... أفتديه العمر روحاً وبدن
أحمد رامي(132/52)
صمت الشك
علم أم ضعف
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ألا لا أُبيح العيش مدحاً ولا ذما ... سكتُّ فلا عذراً نطقت ولا لوما
ولا يستقيم القول إلا لمُنْتَش ... من العيش والآمال لا من صحا غما
مللت أساطير الحياة فان أُفِقْ ... فمن لي بحلم قد حلمت به قِدْما
حلمت بحسن العيش والصدق والنهي ... أمانُّي لا صُمًّاً تبدت ولا بُكْماَ
وإنْ لم يكن عيش الفتى حلم حالم ... فما عذر قولي إن حسبت الدُّنى حلما
فان شئت كان الشك ضعفاً وخيبة ... وإن شئت كان الشك منطقه علما
وإن كان أصل الوحش والناس واحداً ... فَلِمْ فقدوا ظلفاً وقد كسبوا لؤما
وكيف أرى في مقبل الدهر للورى ... علاء ومحيىً يجمع الخلق والفهما
إذا كان صدق الناس كذباً وفضلهم ... رياء وود منهم الغدر والسما
صحوت كصحو اَلمْيت من نوم عيشه ... أترجعني للعيش ألعقه رغما
كما يلعق الآسي العلي دواَءه ... وإن مج منه علقما قد نبا طعما
وهل ثقة بالعيش والناس تشتري ... لأّنثرها نثراً وأنظمها نظما
وإن كان مدح المرء للعيش خشية ... من اليأس كان المدح من وجل دما
يسوغ بيان السخط إن كان من هوى ال - حياة وإن أغرى بك الأمل الجما
وإلاّ فإن الصمت أولى بقائل ... إذا قال قولاً جدد اليأس والهما
على تافه لا ينقع الدهر غلة ... ولم يك بين الناسْ ربحاً ولا غُنْما
رأيت زوالَ الكائناتِ فلا أسًى ... إذا لم أُخلَّدْ لي مقالاً ولا نظما
سيحدث بعد القول قول يُذيلُه ... وإن زال أقوام تجد بعدهم قوما
وما الخلد إلا غرة وطماعة ... وأنبلِ كذْب يخدع اللهب والفهما
يكون الفتى في اليأس دهراً وفي المنى ... (كأرجوحة بين الشقاوة والنعمى)
وقد حل بي دهر إذا ما مدحته ... أظل كحاسي المر يفتعل البسما
وإنْ لم يُنِلك القول إلا مذلة ... فمن بر نفسي أن ترى تركه حزما(132/54)
فمن شاء فلينطق ومن شاء فليكن ... صموتاً فحسبي أن أرى الحمق والحلما
مللت نضال الناس في غير طائل ... وإن كان شراً يصقل الذهن والفهما
وكم شبهوا فهما بسهم ومورد ... ويا طالما أشوى الصوابَ وكم أظما
فيا ليت هذا العيش يبدو كصورة ... لعينيَّ أو خطأ على الطرس أو رسما
كما تهدأ الهيجاءُ في رسم راسم ... تراها فلا قتلا تراها ولا كَلْما
ترى حسن إحسان وتجويد صانع ... وقدرة فنان وجهداً له تما
عبد الرحمن شكري(132/55)
القصص
صور من هوميروس
20 - حروب طروادة
بريام الحزين. . .
للأستاذ دريني خشبة
تفرق القوم إلا أخيل. . .
لقد أوهنه الحزن، وشف قلبه الأسى؛ وكأن قتله هكتور لم يشف ما في نفسه من شجو، ولم يخفف عنه ما يلقه من عذاب البعد عن أعز أصدقائه. . . الفقيد بتروكلوس!
وخرج لبعض شأنه فرأى جثة عدوه في طريقه، تثير في نفسه الكوامن الشواجن، فينقض عليها كالمجنون، ويشبعها ركلا بقدمه، وكلوماً بخنجره، ويربط القدمين في عربته، ثم يلهب جياده بسوط نقمته، فتعدو كالريح حول قبر بتروكلوس، جارة وراءها جثمان هكتور، تقلبه في الأديم المندى، وتلته في التراب الهامد. . .
ويكون أبوللو مطلاً من سحابة سارية، فينتابه من الهم على صديقه ما يثير في قلبه الحنان المقدس، ويلقى درعه الذهبي على القتيل المهين، فتقيه الدرع من الصخر والحصى. . .
أما فينوس! فإنها ترف هي الأخرى فوق الجثة، وما تنفك تصب عليها من خمر الأولمب ما تنضح به من دمائها. . . وطلائها. . .
وتطلع الآلهة من ذروة جبل إيدا، فترثي لما يحل بالميت المسكين من هوان، ويلحظ أبوللو ما ينقدح من عيني سيد الأولمب من شر، فيجد فرصته، وينهض خطيباً مصقعاً كيماً يثير زيوس على أخيل. . . عسى أن يحل عليه غضبه. . . بعد إذ حماه طويلاً. . .
وينجح أبوللو في إثارة رحمة الآلهة، وتأليبهم على زعيم الميرميدون، وجعلهم إلباً عليه واحداً؛ لولا أن نهضت حيرا مغضبة، فانطلقت تدفع عن أخيل، وتذكر سادة الأولمب بهذا المهرجان الفخم الذي أقامه بليوس، أخوهم ونجيهم، هناك. . . هناك، في أعماق المحيط احتفاء بقدومهم للمشاركة في عرسه، وبنائه على ذيتيس المسكينة. . . التي يعلم الجميع أنها ثكلى. . . وإن لم تفقد بعد أخيل!!(132/56)
وتذكرهم حيرا بالموثق الحرام الذي قطعوه على أنفسهم أن يباركوا نسل بليوس، وأن يدفعوا عنه الضر. . . حتى تنفذ مشية ربات الأقدار.
ويحار زيوس بين سخط الآلهة، ودفاع حيرا. . . ثم يبدو له أنه ينفذ رسوله الأمين (إيريس) إلى ذيتيس الحالمة في أعماق البحر، فتوقظها، وتلقي إليها برسالة السماء. . .
(. . . أن هلمي من فورك هذا إلى سيد الأولمب. . . فانه يأمرك ان تسعى إليه في مهمة تعرفينها فيما بعد. . .)
وتنتفض الأعماق بالأوسيانيد والنربيد وسائر عرائس البحر وعذارى الماء. . . يسعين خبباً في إثر ذيتيس. . . حتى تكون في أفق جبل إيدا. . . فينثنين. . . تاركات مولاتهن في ثوبها الحريري الأسود، وزنارها القاتم الحزين، تسعى وحدها حتى تكون فوق الثبج، ومن ثمة تعرج في الأديم الأزرق حتى تلج أبواب السماء. . .
وألفت حشد الآلهة ما يزال يتحاور، وما يزال أبوللو يحاج حيرا وحيرا تقرعه، حتى نظر زيوس فرأى ذيتس تتهادى في طليانها الأسود، ووجها المشرق المترع بالمفاتن يزيده الحزن روعة، ويضفي عليه الأسى جلالاً. . . فتبسم سيد الأولمب، واهتز فوق العرش، ثم قال: (مرحبا ذيتيس! فيم هذا الأسى يا فتاة! آه. . . مسكينة. . .! ولكن أصغى إلي: لقد دعوتك إلى الأولمب لتذهبي برسالتي إلى أخيل العزيز، فتوصيه بجثة هكتور؛ لقد أثار بما ينزله بها من هوان غضب الآلهة جميعا. . . بل قد أثار غضبي أنا أيضاً. . . أنا. . . حاميه ومنقذه ومرشده في كل مثار نقع. . . اذهبي إليه فأمريه أن يقلع عن هذه المثلة، فانه لا شيء يحنق الآلهة مثلها. . . وليسلم القتيل لأهله، فهذا خير له، وليقبل القَوَدَ العظيم الذي يقدمه إليه بريام الملك الشيخ الحزين. . . الذي حطمه الرزء، وعظمت عليه البلية، وصدعت قلبه المصائب. . . أما نحن. . . فسننفذ إيريس إلى طروادة تأمر الملك بإعداد القود والتجهز للقاء أخيل في معسكره. . . وسنرسل ولدنا هرمز إلى بريام يحدو ركبه إلى معسكر أخيل، ويعمى أبصار الميرميدون حتى لا يثوروا به، وحتى يكون أمام زعيمهم وجها لوجه. . .
(ذيتيس! حسب أخيل ما حل بابن بريام. . .)
وهمت ذيتيس فانطلقت إلى ولدها، حيث ألفته يتناول وجبة الصباح، فأبلغت إليه الرسالة(132/57)
الأولمبية وعيناها تفيضان بالدمع، وقلبها يخفق ويضطرب، ونفسها تذوب على شبابه الغض حسرات. . .
وهش أخيل لأمه، وتقبل رسالة الإله الأكبر قبولاً حسناً، فنهضت ذيتيس وعادت أدراجها، بعد إذ طبعت على جبين ولدها قبلة خاطفة، كانت. . . وا أسفاه. . . آخر وداع منها له في الحياة. . .
وانطلقت إبريس إلى بريام الملك، فوجدته ما يفتأ يبكي هكتور، ومن حوله أبناؤه التسعة، خضراً كأفراخ القطا، نضرا كأكمام الزهر، والرجل مع ذاك يقلب فيهم عينين تفيضان حسرة، ووجهاً يتشح باليأس والهم. . . وإلى جانبه جلست هكيوبا المرزّأة تئن وتتفجع، وترسل من أعماقها زفرات الهم والأسى. . .
وبلغته إيريس رسالة ربه، وعادت أدراجها إلى الأولمب؛ وما كاد الملك يخبر زوجه بما أوحى إليه من ربه، حتى اضطربت هكيوبا وأعولت، وطفقت تضرب صدرها لتهدم بيديها الوانيتين لما اعتزم زوجها من تنفيذ ما أشارت به السماء، والذهاب إلى أخيل يرجوه أن يهب له جثمان هكتور، خشية أن يأسره زعيم الميرميدون ويستبقيه عنده رهينة حتى يسلم الطرواديون. . .!
ولكن الرجل كان مؤمناً حتى لا يتسرب إلى قلبه الشك بما رسمت له الآلهة، أو يساوره ريب في أي مما تشير به أربابه؛ فزجر الملكة، ونهض إلى خزائنه العامرة بالتحف فتخير أثنى عشر قرطقا من أغلى ما نسجت مصر، ومثلها من المعاطف المصنوعة من القاقم والسنجاب، وعدداً كبيراً من الوسائد الرائعة والطنافس ذات التصاوير؛ ثم أمر بعشر؟؟؟ فأحضرت من بيت المال، وبدستين كبيرين من الذهب، ذوى قوائم من الفضة، وأيد من الجوهر؛ وبأربعة قدور مهداة من ملوك الشرق، أحدها يزن بما يملأ خزائن بن بليوس ذهباً. . . وبكأس من الإبريز الخالص بها من النقوش والصنعة ما يعجز عن مثله عباقرة الجن. . .
أمر بريام بكل أولئك فوضعت في صناديق كانت هي الأخرى تحفاً من صناعات مصر والشام والهند. . . تهيم فوقها تصاوير فارس. . .
وصاح بأبنائه التسعة فهرعوا من كل مكان. . باريس المشئوم وهيلانوس واجاثون؛(132/58)
وبامون وأنتيفون وبوليت؛ ثم ديفوبوس وهيوثوس وديوس. . . كلاب الأزقة كما كان يدعوهم أبوهم. . . (ليت المنية التي تخطفت هكتور تلقفتكم وخلت سبيل هكتور. . . أوليتها أصابت ألف ألف من أمثالكم وعميت عن ليكاون وبوليدور. . .؟)
وأمرهم فرتبوا الهدايا ورفعوها فوق ظهور البغال. . . وما ثقل منها وضعوه في عربة كبيرة يجرها بهيمان؛ وتقدمت هكيوبا فصبت على يدي زوجها خمراً يطهر بها، وأخذ هو في صلاة طويلة لزيوس. . . أن يحميه ويوقيه. . . ويرشده في طريقه إلى أخيل؛ ويرسل إليه الرسول الذي وعد، يقوده إلى فسطاط زعيم الميرميدون!!
ولم يكد ينهض من صلاته، ويختم توسلاته؛ حتى رف فوقه طائر ظل يضرب الهواء بخافيتيه، ويهوّم ويدوم، ويرنق في سماء الهيكل تارة، ثم يستقر عند المذبح أخرى، حتى أيقن الملك وملؤه أنه الرسول المنتظر، والقائد المنشود فخفقت قلوبهم، وفرحوا واستبشروا.
وتقدم إيديوس الحكيم فألجم البغال، وأسرج الخيل، وشد البهائم إلى عربة الملك، وأقبل بريام فركب، وأصدر أمره إلى حكيم طروادة وفيلسوفها فسار بين يدي الركب، يحدوه ويباركه ويضمن له رعاية السماء.
أما الطائر الميمون فقد انتفض انتفاضة هائلة، وراح يحلق فوق طروادة،. . . ثم غاب عن الأبصار. . . إلى أين. . .؟ إلى حيث لا يدري أحد!!
وتهادى الركب. وانطلق إيديوس يحدوه، حتى كان عند مقبرة إليوس الأكبر، وحتى كانت طروادة الخالدة وراءهم، حالمة في غبشة المساء ساهمة مستسلمة، كالفكرة الشاردة في دماغ الشاعر الغرير.
وغابت الشمس في مياه الهلسبنت، واختلط البنفسج الشاحب بسواد الليل، ونقت ضفادع الأبالسة في فضاء البرية، فملأت القلوب وحشة، وأرسلت في المفاصل رعدة، فلم يكن بد من أن ينيخ القوم حتى يأذن القضاء بالرحيل.
وفيما كان إيديوس يسقي الدواب من الغدير النائم في كِلَّة الغسق، إذا شاب يافع يقبل نحوه ويسأل عن الملك. . . ويكون بين يديه بعد لحظات. . .
ويسأله الملك عن شأنه فيحدث أنه جندي آبق من جنود أخيل، وأنه ينصح الملك ألا يجازف بنفسه وبما يحمل من اللُّهى والعطايا في هذه الرحلة المهلكة، التي قد تنتهي بما لا(132/59)
يدور للملك في خلد، أو يقع له بحسبان؛ ولكن الملك يبدي تصميمه ويلح في سؤال الشاب عن هكتور. . . (أما يزال مسجى بين يدي أخيل يشفى بمرآه حرده، أم هو قد أسلمه للسباع وجوارح الطير تنوشه وتغتذي به؟. . .) ويطمئنه الشاب اللعاب الداهية ثم يرثى له فيعده أن يكون قائده إلى فسطاط أخيل. . . (لأن أحداً من الناس لا يستطيع أن يخترق صفوف الميرميدون الدواهي ما لم يكن مخاطرا بنفسه، أو ملقيا بيديه إلى التهلكة. . .) ويستسلم الملك الشيخ، ويلقي في يدي الجندي الشاب بزمامه، ويأذن له فيمتطي الجواد الأمامي الذي يتقدم سائر الدواب. . . وتبدأ الرحلة إلى مرابض الميرميدون. . .
ويتحدث الشاب إلى الملك، ويتحدث الملك إلى الشاب. . . حتى إذا كانا قيد خطوات من معسكر أخيل، مد الشاب ذراعيه المفتولين، ولفهما حول جذع الملك، ثم رقاه رقية قصيرة، وإذا سأله الملك عما يبتغي بها أنبأه. . . (كي لا تمتد إليك عين ولا يلمحك أحد، ولا يحس بمسرانا أي من أولئك الميرميدون. . .) فيسكن جأش بريام الشيخ، ويطمئن قلبه، وتتضاعف ثقته في الجندي الشاب. . .
ويكون فسطاط أخيل تلقاءهما!
فينهض الشاب من جانب الملك، ثم ينتفض انتفاضة تكشف عن حقيقة، ويقول ضاحكاً: (أيها الملك أنت الآن في جوار أخيل، وعليك أن تلقاه في غير هيبة ولا وجل، فادخل غير مستأذن، ولتكن رابط الجأش ساكن الروع، واركع بين يديه ثم ازرف أغلى دموعك حتى تلين ما قسا من قلبه، وتحجر من مشاعره، واذكر له حاجتك فانه راد عليك جثمان هكتور. . . وثق أن السماء قد قضت بذلك، ولا مرد لقضائها. . . أما أنا. . . فلا تنتظر أن أسعى بك إلى زعيم الميرميدون. . . وليس سراً أن أذكر لك أنني. . . هرمز. . . أرسلني أبي إليك لأجيء بك إلى هذا المكان. . . انهض. . . انهض. . . ماذا أخافك مني؟. . . أجل. . . أنا ربك. . . ولكن لتقصر صلاتك هذه، فالفرصة تكاد تفلت. . . تشجع يا بريام. . . قف. . . آمرك)
وينهض الملك من غشيته التي كادت تذهب به حين ذكر له الشاب أنه هو هرمز. . . هرمز نفسه الذي ذكره له إيريس أنه سيقوده إلى فسطاط أخيل. . .
وينظر بريام فيرى إلى. . . الجندي الشاب. . . يرف في الهواء المندى، ثم يرتفع(132/60)
ويرتفع، حتى يكون في السماء التي تتفتح له أبوابها!؟. . .
ويصلح الملك من شأنه، ثم يتقدم بخطى وئيدة إلى فسطاط أخيل، ويدخله. . . ويرى زعيم الميرميدون في الصدر، وبين يديه وزيراه العظيمان أوتوميدون وألكيموس، ثم قادة الجند منتثرين ههنا وههنا. . . يهمسون ولا يكادون يبينون. . .
وكان السماط ما يزال أمام الزعيم، وزقاق الخمر ما تزال تقبل الكؤوس المغرمة، والشواء العظيم يملأ الخياشيم بقتاره. . . فلم يبال بريام. . . بل تقدم وتقدم. . . حتى كان أمام أخيل. . . فركع ذاهلاً عن نفسه، ولف ذراعيه حول ساقي الزعيم، وراح يوسعهما لثماً وتقبيلاً، ويمطرهما بأحر العبرات!. . .
وشده أخيل!. . .
بيد أنه كان يعلم من أمر هذه المفاجأة كل شيء، فلم يزد أن قال: (بريام!؟)
- (أجل يا بني أنا بريام!!. . .)
وبهت القادة مما رأوا، وأذهلهم ما سمعوا!. . .
أهذا حقا هو بريام ملك طروادة يبكي بين يدي أخيل وينتحب؟. . . إذن. . . فيم هذه الحرب؟. . . وختام ذاك الصراع؟. . . وإلام تذهب هذه المهج؟. . .
- (أجل يا بني. . . أنا هو. . . أنا الرجل المرزأ المحزون الذي قتلت أبناءه، وهرقت دماءهم لأنهم يحاربون من أجل وطنهم، ويذودون عن بلادهم. . . سعيت إليك. . . إليك يا أخيل العظيم، لأمطر هذه اليد التي ذبحتهم بدموعي، ولأوسعها لثماً وتقبيلاً؟!
أتمنى يا بني أن تعود قريباً إلى أبويك سالماً، فيهش أبوك للقائك، وتبش أمك لعناقك، ويفرح ذووك بك، لأنك عدت إليهم بالنصر والفخر. . . أستغفر الآلهة، بل عدت إليهم سالماً من نكبات الحرب وكوارثها. . . فهل أكون قاسياً أن أرجوك. . . حين تعود إلى ديارك وتلقى فيها أحباءك. . . أن تذكر أن أبوين آخرين قد خلفتهما وراءك يشقيان ويبكيان، ويلبسان السواد أبد الدهر، لأن أبناءهما لم يعودوا من ساحة الحرب كما عدت أنت، بل هم قد سقطوا فوق أديمها، مضرجين بدمائهم، شاكين إلى أربابهم ما حل فيها بهم، تاركين آباءً شيوخا فانين، وأمهات ضعيفات معولات، وقلوباً تتفجر أسى عليهم، وعيونا تختلط دموعها بدمائها من أجلهم، وأرامل يلطمن الخدود ويشققن الجيوب، ويتامى لا حول(132/61)
لهم ولا قوة على الزمان الغادر، والحظ العاثر، والصبر الجميل. . .؟. . .
هل أكون قاسياً يا بني إذا رجوتك أن تذكر ذلك أو بعض ذلك، حين تعود إلى ديارك وتلقى أبويك الفرحين بك؟. . .
أخيل! لم أسع إليك يا بني إلا بأمر الآلهة، ووحي سيد الأولمب. . . أرجوك في هكتور. . .!. . .
وأحر قلباه يا هكتور. . .! وا أسفاه عليك يا ولدي!. . .
صدرت إليك يا أخيل عن أمر السماء أرجوك في هكتور أن تسلمه إلى حتى نؤدي له فرائض الآلهة، وطقوس الموت، وما أحسبك إلا ملبياً ندائي الحزين، حتى تتيح للآلاف المؤلفة من جنوده وذويه وزوجه وابنه أن يبكوا جميعا عليه، وأن يشيعوه إلى الدار الآخرة بما رضيت أن تؤديه لبعض أصحابك، حتى تقر روحه، ويؤذن لها فتلج إلى هيدز. . .
أخيل. . . لب ندائي أيها الزعيم الباسل. . . لب نداء هذا الشيخ الضعيف،. . . وارحم فيه هذا الذي حمله إليك. . . وأسعده بتقبل هذه الهدية التي أمرت بها السماء. . . وإن تكن يا أشجع المحاربين في غَنَاء عنها، ولا حاجة بك إليها. . .)
وأحس أخيل كأنما تخاطبه السماء كلها بلسان هذا الشيخ المتهدم، وكأنما الآلهة جميعا تنطلق من فمه لتكون بياناً ورحمة في قلبه، فأنهضه من بين يديه، وأجلسه إلى جانبه فوق أريكته ثم أخذا معاً في بكاء حار طويل.
وتقبل أخيل هدايا الملك، وأشار إلى اوتوميدون وزميله فأخذاها إلى الأسطول، ثم أمر الخادمات فغسلن هكتور بالماء الساخن المعطر بدهن الورد، ولففنه في مدارج بأكملها من كتان مصر، وتقدم هو فوضعه على وسادة الموت، وأشار إلى جنوده فرفعوه إلى إرانه، ثم أخذ يهون على بريام ويواسيه، ودعاه إلى تناول العشاء معه، فلبى الشيخ وهو يعول ويبكي. . . بكاء يفتت الأكباد ويذيب نياط القلوب. . .
وكان الليل قد انتصف أكاد، وكان بريام الملك قد لبث الليالي الطوال يتفجع على ولده، ولا يذوق جفنه طعم الكرى فأحس بعد العشاء بإعياء وجهد، وميل شديد إلى النوم، فصفت له ولرجاله وسائد فاخرة، عليها طنافس وملاءات من الهند، واستأذن أخيل واستلقى على متكئه. . . وقبل أن يسلم عينه للكرى، سأله أخيل أن تكون هدنة بين الجيشين المتحاربين(132/62)
حتى تؤدي كل الطقوس اللازمة لتحريق هكتور؛ واتفقا على أن تكون هذه الهدنة لمدة أحد عشر يوماً.
وفي الهزيع الأخير من الليل، أقبل هرمز الكريم فأيقظ بريام الملك، ونبهه إلى الخطر الذي يحيق به إذا أشرقت الشمس وأقبل أجاممنون وسائر القادة الهيلانيين ورأوا كبير أعدائهم، وصاحب إليوم، في معسكر أخيل. . . هنالك يحجزونه لديهم رهينة حتى تسلم مدينته. . . (فهلم أيها الملك وانج بنفسك، وسأقودك إلى طروادة بحيث لا يشعر بك أحد، ولا يحس الميرميدون لركبك رِكزاً. . .)
ويسير الركب في هدأة الفجر، ويحدو هرمز القافلة حتى تكون لدى البوابة الاسكائية الكبرى، فيسلم على الملك ويبارك الميت. . . ويعرج في السماء. . .
وتكون كاسندرا، ابنة بريام الكبرى، أول من يلمح الركب مقبلاً، فتبشر الأهالي المحزونين، ويرتفع اللغط، وتشتد الضوضاء، ويتكبكب المواطنون حول العربة تحمل الأران حتى ليتعذر السير، ويبطئ السعي، فيصيح الملك بالملأ، فتنفرج الطريق، ويعم الصمت، ولا يحس إلا وجيب القلوب وخفقانها.
وتقبل أندروماك فتذرى دموعها، وتندب حظها، وتبكي زوجها، وتمزق قلوب الطرواديين بما يبدو عليها من أسى وحزن ووجد وكمد. . .
وأم هكتور!. . . ويا لمصاب الأمهات في فلذات أكبادهن، وأعز الأبناء عليهن!!. . .
وهيلين!! والعجيب أن تبكي هيلين هي الأخرى!! هيلين الآبقة. . . هيلين الأثيمة. . .!!
ويأمر الملك فينتشر الجند يجمعون الوقود من كل فج، حتى تكون كومة عالية؛ ويوضع الجثمان المبكي فوقها، وتصب الخمر تحية لآله الموت وتكرمة، وتشتعل النار فتكون ضراماً. . .
أنشد يا هوميروس!
يا شاعر الأحقاب الخالية!
يا صدى الزمان القديم!
أيها القيثارة المرنة في أنامل الأيام!
أرسل من الأزل أنشودتك تملأ الأسماع في الأبد!(132/63)
واعصف مع الريح. . .
واهتف مع البلابل. . .
وتقبل تحيات المعجبين. . .
(تمت الإلياذة)
(بقية الحروب في العدد القادم)
دريني خشبة(132/64)
البريد الأدبي
ترجمة لكير هاردي
منذ أكثر من قرنين يتناوب الحكم في بريطانيا العظمى حزبان عظيمان هما المحافظين وحزب الأحرار؛ ولكل من الحزبين في ميدان الكفاح السياسي مواقف وتقاليد عريقة؛ ولكن حزباً ثالثاً ظهر فجأة في ميدان السياسة الإنكليزية هو حزب العمال؛ وكان ظهوره إيذاناً بوقوع الثورة الاجتماعية التي لبثت أسبابها تجتمع طوال القرن التاسع عشر؛ وظهر حزب العمال ونما بسرعة مدهشة، ولم يمض على قيامه نحو ثلاثين عاماً حتى استطاع أن ينتزع مقاليد الحكم من الحزبين القديمين الكبيرين (سنة 1942)، ثم تولاها مرة أخرى في سنة 1929
وقد كان كير هاردي من أقطاب مؤسسي هذا الحزب الجديد ومن أعظم الزعماء الذين أمدوه بأسباب الحياة والقوة؛ وحياة هذا الزعيم المجاهد هي موضوع مؤلف جديد صدر أخيراً بالإنكليزية بقلم هاملتون فايف، وهي مثل رائع من صور الكفاح الخالد بين الطبقات. كان كير هاردي عاملاً منذ نعومة أظفاره، وقد نشأ في بيت فقر وبؤس، وذاق مرارة الكفاح الشاق منذ طفولته، ولم يتلق تعليماً ولا ثقافة، ولكنه تعلم القراءة في منزله، وصقل ذهنه بالدرس المتواضع، ودرس الحياة بصورة عملية، وظهر في مجتمع العمال منذ حداثته، واشتهر بكفاحه في سبيل قضية العمال. وفي سنة 1892 أسس كير هاردي مع نفر من صحبه الحزب الذي قدر له أن يتبوأ بعد قليل مركزاً خطيراً في السياسة البريطانية وهو حزب العمال المستقل؛ وكان هو أول رئيس لهذا الحزب؛ وفي نفس العام دخل البرلمان نائباً عن إحدى المناطق الصناعية، وكان دخوله في هذا المجلس العريق في مظاهرة اشتهر ذكرها في هذا العصر؛ ولبث كيري هاردي يسهر على مصاير حزبه وعلى مصاير قضية العمال، ويبث روح الكفاح والقوة في الحزب الجديد، تارة بقلمه وتارة بخطبه، حتى أصبح حزب العمال قوة يخشى بأسها. وفي سنة 1906 كان لحزب العمال في مجلس النواب زهاء ثلاثين مقعداً؛ وبدأ الكفاح الحقيقي بينه وبين الأحرار والمحافظين، وبدأت الحكومات البريطانية المتعاقبة تحسب حسابه، وتنزل عند مض رغباته، وما زال سائرا في طريق الكفاح الاجتماعي حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من القوة والنفوذ.(132/65)
على أن الكفاح السياسي لبس أغرب صفحة في حياة كير هاردي، ولعل أغرب ما في هذه الحياة هو ما تميزت به حياة هذا المجاهد من بسالة ومقدرة على مغالبة الشقاء والفاقة، وما بذله من عزم وجلد. هنا تبدو حياة كير هاردي بديعة مؤثرة؛ ولعل أحدا من الناس لم يصف في هذه الحياة المؤثرة بقدر ما وصفها كير هاردي نفسه، فقد كتب كثيرا في متاعب هذه الحياة وشقائها. ومما يذكر أنه في صباه تأخر ذات يوم بعض الوقت عن عمله، فطرده صاحب العمل، وكان أبوه عاطلا وأخوه يعاني الحمى، ولم يكن لأسرته عائل غيره. وقد وصف لنا كير هاردي فيما بعد هذا المنظر المحزن فيما يأتي:
(لبثت مدى حين أتجول في الشوارع تحت وابل المطر المنهمل، خجلاً من أن أعود إلى بيت لا طعام فيه ولا وقود؛ وأسائل نفسي دهشا أليس أفضل شيء أن ألقي بنفسي في نهر (كلايد) وأنتهي من حياة كهذه ليس فيها ما يرغب؛ وأخيرا ذهبت إلى الدكان، وقابلت صاحبه وأوضحت له سبب تأخري، ولكني لم أظفر منه بطائل. ولم يدفع لي أجري؛ وإني لأرتجف الآن ويتفطر قلبي كلما ذكرت الحادث؛ ومازلت أرتد إليه وأرتد على أجنحة الخيال، وتصور أنه في نفس الليلة كان ثمة آلاف من التعساء يعانون مثل هذا العذاب؛ وهي فكرة لا يطيق الإنسان احتمالها).
ويصف لنا مستر هامستون فايف حياة كير هاردي المؤثرة في جميع أطوارها؛ وإنها لقصة مؤثرة مبكية من الكفاح في هذه الحياة الشاقة؛ ثم هي في نفس الوقت صورة رائعة من البسالة وقوة النفس، والصبر على المكاره، وعظمة البؤس التي تحمل على الاحترام والإكبار.
وكان كير هاردي صحفياً وكاتباً، وقد كتب كثيرا عن الاشتراكية وتحرير الطبقات العاملة، وتوفى في سنة 1915 دون الستين من عمره، بعد أن نفث في حزب العمال كثيراً من روحه القوى الوثاب.
وثائق هامة عن حياة زعيم مسلم
من أنباء موسكو أن بعض الباحثين في محفوظات الدولة قد عثروا أخيراً على طائفة من الوثائق والرسائل الهامة التي تلقى أقوى الضياء على سياسة القياصرة نحو مسلمي القوقاز في أواخر القرن الماضي، وعلى حياة شاميل الزعيم القوقازي المسلم الشهير، وعلى(132/66)
علاقات مسلمي القوقاز بإخوانهم في تركيا وبلاد العرب وفارس. ويرجع الفضل في اكتشاف هذه الوثائق إلى جهود المعهد الشرقي الروسي؛ وقد كتبت كلها في عصر شاميل واليه بالعربية؛ ومعظمها رسائل أصلية وجدت في بعض محفوظات تقليس وجروزني، وعددها خمس عشرة وثيقة؛ وينتظر أن تنشر بنصها الأصلي خلال انعقاد المؤتمر القادم للمباحث الشرقية.
وقد وجدت إلى جانب هذه الوثائق طائفة من المخطوطات والكتب الأدبية ترجع أيضا إلى عصر شاميل؛ ومنها مؤلف تاريخي وضعه الزعيم شاميل نفسه بالاشتراك مع صديقه وزميله محمد طاهر؛ وهو الآن في المعهد الشرقي قيد البحث والإعداد للنشر. واكتشاف هذه الوثائق والمؤلفات يعدل كثيراً من الوقائع والآراء التي جرت حتى اليوم في شأن علائق القوقاز المسلمة بحكومة القياصرة، وكفاحها ضد مظالمهم، والتي استقيت معظمها من أقوال ووثائق رسمية مغرضة، ويلقي في نفس الوقت ضياء كبيرا على حياة شاميل زعيم القوقاز المجاهد وعلى حسن بلائه في مقاومة سياسة القياصرة، وفي بث روح الوطنية والعزة القومية والدينية في بني وطنه ودينه.
حول كتاب (الإسلام الصحيح)
ألف هذا الكتاب الأستاذ إسعاف النشاشبي منذ أشهر، وكتب عنه في (الرسالة) الأستاذ محمد كرد علي منذ أشهر؛ ثم درجت عليه الأيام دون أن تتاح لنا الفرصة لقراءته؛ ومنذ أسابيع أخذت مجلة (العروبة) تنشر منه فقرات تتصل بالشيعة أخطأ التوفيق فيها المؤلف، فثار على الكتاب والكاتب النقد العنيف من النبطية والنجف، وعاتب بعض فضلاء الشيعة (الرسالة) على قبولها تقريظ هذا الكتاب. والرسالة التي تدعو إلى اتحاد الأمة العربية وائتلاف الملة الإسلامية تبرأ إلى الله من سوء النية فيما نشرت؛ إنما هو رأي أستاذ كبير في كتاب قرأه ولم تقرأه؛ وكل مقال تنشره بإمضاء كاتبه إنما تكون تبعته عليه لا عليها.
ضريح ابن الأثير في الموصل
يشغل ضريح العلامة ابن الأثير بقعة صغيرة من الأرض خارج الموصل على شارع الحزامية المؤدي إلى المستشفى الملكي؛ وقد راع بعض الأفاضل حاله السيئة ففكر في(132/67)
تشييد ضريح غيره يليق بشهرة صاحبه ومكانته في التاريخ العربي؛ وهو عمل جليل نرجو أن تساهم فيه إدارة الأوقاف وإدارة الآثار في العراق؛ فان من حق الذين أولونا الفضل في الحياة، أن نوليهم الإجلال في الموت.
الدكتور الرافعي
عاد من أوربا منذ قريب، الدكتور محمد الرافعي، نجل صديقنا الأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، بعد أن أتم دراسة الطب بجامعة ليون، وكان مبعوثاً إليها على نفقة جلالة الملك، تقديراً لنبوغه وكفايته.
وقد كان الدكتور الرافعي في دراسته، وفي رسالته لنيل الدكتوراه، وفي درجاته العلمية التي حصل عليها، مفخرة مصرية ودعاية ناطقة للشباب المصري في أوروبا.
وحسبه أن يعلن رئيس جامعة ليون في اجتماع لجنة القضاة المحكمين لمناقشة رسالة الدكتور الرافعي: أن هذه الرسالة تعتبر أماً لجميع الرسائل والكتب والمؤلفات التي وضعت في بابها من سنة 1910 إلى الآن، وأنها جاءت بالحل الأخير لمناقشات كادت لا تنتهي. وكان الدكتور الرافعي قد اكتشف مرضاً مما يصيب الأطفال لم يتنبه إليه أحد، ووضع له اسماً خاصاً به.
وقد منحته الجامعة درجة (جيد جداً)، مع (درجة تقدير القضاة)، و (مبادلة الرسالة لجميع الجامعات الأجنبية). وهي درجات رفيعة حقيقة منا بأن نتقدم إليه وإلى والده الكريم بالتهنئة فخورين معجبين.
بعض آراء الزملاء في الرسالة
لا تزال تنثال على (الرسالة) تهنئات الأصدقاء من مصر وسائر الأقطار العربية على دخولها في عامها الرابع؛ وهي تشكر لهم هذا العطف الجميل، وترجو أن تظل من توفيق الله على الحال التي يرتضيها الحق والجمال والخير؛ ثم تثبت هنا بعض آراء الزملاء الفضلاء فيها تسجيلا للوفاء منهم وللشكر منها:
قالت الجهاد الغراء في عددها الصادر في 8 يناير سنة 1936:
دخلت زميلتنا (الرسالة) الغراء في عامها الرابع، فحق لصاحبها الأديب الضليع الأستاذ(132/68)
أحمد حسن الزيات أن يغتبط بما أصاب في رسالته من نجاح، وما كتب لجهوده الصادقة من توفيق ونحن إذ نقول التوفيق لا نشير فقط إلى ما لقيت (الرسالة) من ذيوع في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وإنما نشير إلى السبيل التي سلكها الأستاذ الزيات بمجلته، حتى بلغ بها هذا النجاح الذي يغتبط به كل ذي غيرة على الأدب العربي، فهو لم يسلك إلى النجاح واجتذاب الجمهور تلك السبيل الممهدة الرخيصة وهي النزول إلى مستوى العامة واقتناص الربح منهم بأرخص المغريات، ولكنه تطلع في عزم وإيمان وهمة لا تحد نحو غاية أسمى، وتصدى لمهمة أنبل وأكرم، فراح يرفع الجمهور إلى المستوى الذي يحبب إليه الأدب الصافي القويم.
وقد سلخت (الرسالة) ثلاثة أعوام لم تنثن فيها عن تحقيق هذه الغاية، بل لقيت من النجاح ما حفزها إلى المثابرة والمضي فيما سلكت من سواء السبيل.
فللصديق القدير تهنئتنا الخالصة ولمجلته اطراد التوفيق والنجاح
وقالت (البلاغ) الغراء في عدد 8 يناير سنة 1936:
أتمت مجلة الرسالة لصاحبها ومحررها الأديب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات سنتها الثالثة، ودخلت بالعدد الأخير منها في عامها الرابع من عمرها الطويل المبارك إن شاء الله. والرسالة تؤدي مهمة ثقافية سامية، وتصل ما بين الأقطار العربية، وتسمو بالأدب عن التجارة، وتحرص على الرفعة والجد، وهي تمثل في الأدب المذهب السديد الذي يزاوج بين القديم والجديد، فلا يهمل القديم من كنوز الآداب ولا سيما العربية لقدمها، ولا يفتتن بالحديث لطرافته؛ ومن هنا كانت (الرسالة) كاسمها (رسالة) حقيقية إلى أمم العرب قاطبة، ولهذا فازت بحقها في كل قطر من الأقطار العربية من التقدير والإكبار. فنهنئها بعامها الجديد، ونشكر لزميلنا وصديقنا جهده الصادق المخلص في خدمة العربية والأدب الرصين.
وقالت روز اليوسف اليومية في عددها الصادر في 7 يناير سنة 1936:
دخلت زميلتنا (الرسالة) الغراء في عامها الرابع مزودة بما قدمت لقرائها بل الأدب العربية من خدمات سيرويها التاريخ فخورا بها. وسترى فيها الأجيال القادمة مرآة صادقة للمثل الأعلى في ثقافة هذا الجيل وأدبه.
وإذا كانت (الرسالة) باعتراف قادة الفكر رسول العلم والأدب إلى العقول، فهي باعتراف(132/69)
قرائها الذين أقبلوا عليها طوال هذه السنين رسول الروح المهذبة والعقلية المؤدبة والعاطفة الملهمة، تحمل إلى رواد الأدب والعلم والشعر كل رائع وكل بديع.
وإذا كان واجبا علينا أن نهنئ حضرة الزميل الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات بدخول الرسالة في عامها الرابع فأوجب من هذا أن نهنئ القراء بما سيقرءونه في العام الجديد بين صفحات الرسالة في عامها الجديد.
فهنيئا لزميلنا الكبير رسالته النبيلة، وهنيئا لقرائه ما سيقرءون
وقالت المقطم في عدد 8 يناير سنة 1936:
دخلت مجلة الرسالة الغراء في عامها الرابع بعددها الأخير وقد حفلت مجموعات سنواتها الثلاث بطائفة طيبة من الأدب العربي الصافي المورد، فكانت مسرحا لأقلام فحول أدباء هذا العصر من المحافظين على متانة الأدب العربي القديم، والناهلين من أدب الغرب الحديث، من أدباء مصر وسورية والعراق وغيرها، فنهنئ حضرة الزميل الفاضل الأستاذ احمد حسن الزيات صاحب الرسالة الغراء ونتمنى لرسالته ذيوعاً وانتشاراً حتى يشمل نفعها أكبر عدد من أدباء العرب الذين قدروها قدرها وعرفوا لها منزلتها.
وقالت الأهرام في عدد 8 يناير سنة 1936:
دخلت مجلة (الرسالة) الغراء في عامها الرابع وهي المجلة الأسبوعية للآداب والعلوم والفنون لصاحبها ومديرها ورئيس تحريرها الأديب المعروف الأستاذ أحمد حسن الزيات. وقد برز العدد الجديد في صدر هذا العام بحلة قشيبة تدل على ازدياد العناية بها. وهو يضم مقالات طريفة وقصائد متينة السبك لبلغاء الكتاب وفطاحل الشعراء في موضوعات متنوعة لا تخرج عن الخطة التي نهجتها منذ إنشائها وتنطبق على الحاجة التي تشعر بها الأمة في موقفها الحاضر: فنهنئها ونتمنى لها اطراد التقدم.(132/70)
النقد
رد على نقد
2 - كتاب تاريخ الإسلام السياسي
للدكتور حسن إبراهيم حسن
مؤلف الكتاب
ص398 - يزعم حضرة الناقد أننا قد اتبعنا رأى نيكلسون في أمر انتصار معاوية، وفي أن المسلمين اعتبروه انتصاراً للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الإسلام العداء.
وهذا الزعم غير صحيح، فإننا بنينا هذا الرأي على مقدمات صحيحة رواها ثقاة المؤرخين عن جمهرة المسلمين في القرن الأول الهجري. وهذا علي بن أبي طالب يقول في معاوية مخاطباً أصحابه: (انظروا إلى من يقول كذب الله ورسوله. إنما تقاتلون ابن رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد من قتلى أحد. وإنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ممن أسلم كرها وكان للرسول حربا وكان عن الدين منحرفاً). ربما تقول إن كلام علي لا ينهض حجة في رأي جمهور المسلمين حيال معاوية وشيعته، وإن التنافس في الحكم يدعو إلى أكثر من ذلك، فإن هذا القول في معاوية لم ينفرد به عليّ، فهؤلاء كبار الصحابة والتابعين يرددون هذا القول بل أشد منه. وهذا قيس بن سعد يقول للنعمان بن بشير (انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقاً أعرابياً أو يمانياً مستدرجاً. وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك ولستما والله بدريين ولا عقبيين ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن)، وقول ابن عباس: هذه الحرب بدأها عليّ بالحق وانتهى فيها إلى الغدر؛ وبدأها معاوية بالبغي، وانتهى فيها إلى السرف)، وهذا أبو حمزة الخارجي يقول في خطبته: (معاوية لَعِين الرسول وابن لعينه، وجلف من الأعراب، وبقية من الأحزاب، مؤتلف طليق، فسفك الدم الحرام، واتخذ عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، وبغي دينه عوجاً ودغلاً. . . الخ).
لم نذكر هذه الأقوال معتقدين بصحتها كلها في معاوية، إذ رأينا الشخصي أنه مسلم عظيم خدم الإسلام خدمات جليلة، ولكنا اضطررنا إلى ذكرها لنبرهن على أن من استندوا إلى(132/71)
رأي نيكلسون وجدوا في هذه الأقوال بعض المبررات لما ذهبوا إليه
وليت الناقد راجع تلك الأقوال التي تفيض بها المصادر التاريخية ليعرف أننا نعني بقولنا جمهور المسلمين، فيريح نفسه ويريحنا أيضا من هذا التعليق الطويل.
ص340 - كان خيراً للناقد ألا يرجع إلى هذه الصفحة بعد أن تركها عمدا أو سهوا - لا أدري - ويظهر أن شغفه بالتنقيب وتحميل اللفظ فوق ما يستحق، واستخراج ما توهمه مؤاخذة، هو الذي حمله على عكس الدورة ومعاودة المراجعة لهذه الصفحة بعد أن تركها في أول مرة. ولينظر القارئ إلى ما قال عنها بعد أن أرجع البصر كرتين: إنه لم يرضه إلا أن يرمينا بالخطأ لأننا وقعنا في أمر جسيم حيث تابعنا المصادر العربية التي تعين موقعة (ذات السواري) بزمانها ومكانها، ويريد أن يقسرنا على متابعة المصادر اليونانية في أن تاريخ الموقعة كان سنة 34هـ لا سنة 31 كما تثبته المصادر العربية، وأن مكان الموقعة كان قريبا من ساحل آسيا الصغرى الجنوبي لا قريباً من الإسكندرية.
ولحين اطلاعنا على السبب في ولع الناقد بتفضيل المصدر اليوناني على العربي، نقول له إن رأيك هذا فيه تحكم وترجيح بلا مرجح؛ على أن حضرته لم يذكر لنا ولو مصدراً واحداً من هذه المصادر اليونانية لنقف منها على مبلغ صحة اعتماده وأسباب ترجيحه، اللهم إلا كتاب العصور الوسطى لكمبردج، وهو عبارة عن سلسلة مقالات بالإنجليزية، كما أن حكمه علينا بأننا نتابع السير وليام ميور الذي يأخذ عن جبون هو من قبيل الرجم بالغيب، وأن قوله: (كلا هذين المؤرخين أصبح قديما ولا يصح التعويل عليه بصفة مطلقة) يحتاج إلى فك رموزه وأحاجيه. . .
ص450 - يظهر أن الناقد سريع النسيان. فبينا هو يأخذنا بلاذع اللوم والتعنيف إذا روينا آراء جمهور المسلمين في الأمويين، نجده هنا لا يعجبه أن دافعنا بحق عن أحد خلفائهم بأنه لم يرد أن يحط من شأن الكعبة، وأن رميها بالمجانيق أحدث فيها من غير قصد ما أحدث، وأن الحجاج لما نصب المجانيق على الكعبة جعل هذه الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفاً، إذ كان الأمويون يعتبرونها بدعاً في الدين). وما أسرع هذا الناقد في سحب ثقته من هؤلاء المساكين، فيقول عنهم: (وبنو أمية كانوا إذا تعارضت المصلحة السياسة مع أي اعتبار آخر رجحوا جانب المصلحة السياسة كائناً ما كان ذلك الاعتبار الآخر.(132/72)
وتاريخهم يشهد بذلك!!) ثم ما أدري وجه الضحك من قولنا إن الحجاج جعل الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفا لمجانيقه، وإنه كان من الممكن الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها ثم تنقض الكعبة وتبني على أسسها القديمة. فالواقع يقرر ما قلنا والتقرير غير الرد، والتفسير غير النقد، وأما هذه الزيادة فقد كانت متميزة عن سائر بنية الكعبة يمكن نقضها دون هدم الكعبة، بدليل أن الحجاج بعد أن قتل ابن الزبير عمد إلى تلك الزيادة فأزالها وأعاد الكعبة إلى ما كانت عليه زمن الرسول، وليس من الصعب على العرب، وهم مشهورون بتسديد الرماية، أن يجعلوا الزيادة هدفهم بدون أن يلحقوا بسواها ضررا؛ وقد فصلنا الكلام في ذلك مقالنا الأول. أما قول الناقد إن الهدف الحقيقي للمجانيق هو ابن الزبير نفسه ولما جعل الكعبة حائلا بينه وبين المجانيق ضربت الكعبة، فقول لم يأت الناقد فيه بجديد عن قولنا ولا يتنافى مع ما قررناه.
ص471 - يقول علماء الأصول والتشريع إن الحكم على المجموع لا على الجميع. فإذا حكمنا على الخوارج بأنهم اشتطوا بالحكم على مخالفيهم حتى ساووا بينهم وبين الكفار عبدة الأوثان، فلا يضرنا أن تشذ فرقة كالاباضية عن هذا الحكم، ولا يخفى أن هذه الفرقة لم تشترك مع الخوارج بظفر ولا يناب فيما ألحقوا بالأمة الإسلامية، فليست مقصودة في كلامنا لأنها غير معتبر من الخوارج ذوي البأس الشديد.
ويصدق هذا أيضاً على ما نقلناه عن (السيد أمير علي) على نظام الإمارة على البلدان في العصر الأموي، وبعد أن كان يفرض على ولاة الأقاليم الإقامة في حواضر ولاياتهم أصبحت الولاية في عهد الأمويين تسند إلى بعض أفراد البيت المالك وإلى كبار رجال البلاط، فكانوا يبقون في دمشق ويعينون من قبلهم رجلاً يقومون بحكم الولايات نيابةً (عنهم). وإذا رجع القارئ إلى كلامنا يلحظ أننا نقرر ذلك نظراً لما حدث أثناء حكم هذه الدولة، وأننا لم نجعل تطرق النقص منسحباً على العصر الأموي كله بدليل قولنا إن هناك نقصاً قد تطرق إلى النظام الإداري في عهد بني أمية، وجر إلى أسوأ العواقب فيما بعد، إذ لا يخفى أن التطرق أمر عارض لم يكن موجوداً ثم وجد، فكيف يحمل على التعميم والاستفاضة؟.
ص576 - من المحسنات البديعية أن يذكر الإنسان شيئاً أجنبياً عن موضوعه لمناسبة(132/73)
وفائدة. فإذا كنا تكلمنا عن نظام العدول في معرض الكلام على نظام القضاء في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وقلنا إن سنة التقدم والارتقاء دعت إلى اتخاذ الشهود المحلفين حين فشت شهادة الزور، فقضى النظام الجديد بتعيين شهود عدول عرفوا بحسن السمعة والفقه فصاروا من هيئة المحكمة يعمل برأيهم القاضي فيما له علاقة بالمتقاضين، إذا ذكرنا هذا فليس معناه أننا نجهل تاريخ هذا النظام ونجهل أنه كان في الدولة العباسة لا الأموية. والمنصف يرى أن مثل هذا الاستطراد له شواهد كثيرة من كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب. وقد لاحظ العلماء فيه أنه يكسب الكلام رونقاً وجدة ويذهب بالسآمة التي يشعر بها القارئ أحياناً من موضوع استطال الكلام فيه.
يخيل إلينا أن الناقد أحس بتهافت ملحوظته هذه فعمد إلى ستر الموقف وتدعيم المأخذ بكلام أرسله إرسالا وكال فيه التهم جزافا، فأبرم حكما مقضياً بأن كلامنا لا يجلو هذا النظام على حقيقته وفيه تخليط كثير!! ويا للعجب! هو لم يقبل منا أن نستطرد بذكر نظام العدول موجزين ويريدنا أن نفصل الكلام عنه. ولا بأس أن تترك الكلام عن موضوع الكتاب بالمرة لنفسح له في الميدان ليصول ويجول ويكون لنقده حينئذ بعض القوة!
ص627 - كنا نتفكه بحكاية ذلك التركي الذي كان مغرماً بأن يأمر فيجد مأموراً، وينهي فيجد منهياً، ولما كانت مؤهلاته لم تسعفه بإشباع رغبته اقتعد غارب الطريق ووضع أمامه بعض أباريق مملوءة بالماء، حتى إذا ما أجهد أحد المارين العطش وأراد تناول إحداها ليشرب نهره ذلك التركي قائلا: دع هذا واشرب من ذاك! فإذا ذهب حضرة الناقد في غالب كلامه يلومنا بأننا نقلنا كذا عن فلان، وكان أولى بنا أن ننقله عن سواه، فانه - ولا شك - يذكرنا بهذه الحكاية المضحكة. ولقد رأينا حضرة الناقد يسلك هذا الطريق معنا في أمر موقعة ذات السواري ونفقات المسجد الأموي.
وبعد، فمن شيم العلماء وكرام النقاد ألا يلجئوا إلى التمويه والإيهام عما ينقدون ويمحصون، وإنما عملهم هو قرن الدعوة بالدليل، ووضع الصحيح إزاء العليل، وبذلك يخدم العلم، وتشكر الحقيقة مجليها. أما إذا لجأ الناقد إلى التعميم، وعبارات التفخيم، واعتذر عن الإدلاء بالحجج والبينات بقصر الوقت وبكثرة السيئات، فليس معنى هذا في نظر الناس إلا الرغبة في الهدم، وعدم القدرة على البناء.(132/74)
(يتبع)
حسن إبراهيم حسن(132/75)
الكتب
المقتطف والمتنبي
المقتطف شيخ مجلاتنا؛ كلهن أولاده وأحفاده. وهو كالجد الأكبر، زمن يجتمع، وتاريخ يتراكم، وانفراد لا يلحق، وعلم يزيد على العلم بأنه في الذات التي تفرض إجلالها فرضا، وتجب لها الحرمة وجوباً، ويتضاعف منها الاستحقاق فيتضاعف لها الحق.
وهل الجد إلا أبوة فيها أبوة أخرى، وهل هو إلا عرش حي درجاته الجيل تحت الجيل، وهل هو إلا امتداد مسافاته العصر فوق العصر؟
والمقتطف يكبر ولا يهرم، ويتقدم في الزمن تقدم المخترعات ماضيةً بالنواميس إلى النواميس، مقيدةً بالمبدء إلى الغاية. فلقد أنشئ هذا المقتطف وما في المجلات العربية ما يغني عنه، ثم أسفت الدنيا حوله بأخلاقها وطباعها، وتحولت مجلات كثيرة إلى مثل الراقصات والمغنيات والممثلات. . . وبقي هو على وفائه لمبدئه العلمي والسمو فيه والسمو به، كأنما أخذ عليه في العلم والأدب ميثاق كميثاق النبيين في الدين والفضيلة؛ فبين يديه الواجب لا الغرض، وهمه الإبداع بقوى العقل لا الاحتيال بها، وهديه الحقيقة الثابتة في الدنيا لا الأحلام المتقلبة بهذه الدنيا، وطريقه في كل ذلك طريق الفيلسوف من هدوء نفسه لا من أحوال الدهر، فهو ماض على اليقين، نافذ إلى الثقة، متنقل في منزلة منزلة من يقينه إلى ثقته، ومن ثقته إلى يقينه.
وقد بدأ المقتطف مجلده الثامن والثمانين بعدد ضخم أفرده للمتنبي. ولئن كانت الأندية والمجلات قد احتفلت بهذا الشاعر العظيم، فما أحسب إلا أن روح الشاعر العظيم قد احتفلت بهذا العدد من المقتطف.
ولست أغلو إذا قلت إن هذه الروح المتكبرة قد أظهرت كبرياءها مرة أخرى، فاعتزلت المشهورين من الكتاب والأدباء ولزمت صديقنا المتواضع الأستاذ محمود شاكر مدة كتابته هذا البحث النفيس الذي أخرجه المقتطف في زهاء ستين ومائة صفحة تدله في تفكيره، وتوحي إليه في استنباطه، وتنبهه في شعوره، وتبصره أشياء كانت خافية وكان الصدق فيها، ليرد بها على أشياء كانت معروفة وكان فيها الكذب، ثم تعينه بكل ذلك على أن يكتب الحياة التي جاءت من تلك النفس ذاتها، لا الحياة التي جاءت من نفوس أعدائها وحسادها.(132/76)
ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيت في قراءة هذا العدد - أن المؤلف جاء بما يصح القول فيه إنه كتب تاريخ المتنبي ولم ينقله؛ ثم لم أكد أمعن في القراءة حتى خيل إليّ أنه قد وضع لشعر المتنبي بعد تفسير الشرّاح المتقدمين والمتأخرين تفسيراً جديداً من المتنبي نفسه؛ وما الكلمة الجديدة في تاريخ هذا الشاعر الغامض إلا الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم
إن هذا المتنبي لا يفرغ ولا ينتهي، فان الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ. وقد كان نفسا عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة على غير ما أرادت. فكأنما جعلها بذلك زمنا يمتد في الزمن.
وكان الرجل مطوياً على سر ألقى الغموض فيه من أول تاريخه، وهو سر نفسه، وسر شعره، وسر قوته؛ وبهذا السر كان المتنبي كالملك المغضوب الذي يرى التاج والسيف ينتظران رأسه جميعاً، فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض، ويطلب التاج بالكتمان والحيلة والأمل.
ومن هذا السر بدأ كاتب المقتطف فجاء بحثه يتحدَّر في نسق عجيب متسلسلا بالتاريخ كأنه ولادة ونمو وشباب، وعرض بين ذلك شعر أبي الطيب عرضاً خيل إلي أن هذا الشعر قد قيل مرة أخرى من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها. وبذلك انكشف السر الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم إذ كانت في واعية الرجل دولة أضخم دولة عجز عن خلقها وإيجادها فخلقها شعرا أضخم شعر، وجاءت مبالغته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحققة في صورة من صور الإمكان اللغوي.
ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبه، فقال: إنه كان يحب خولة أخت الأمير سيف الدولة، وكتب في ذلك خمس عشرة صفحة كبيرة، وكأنها لم ترضه فقال إنه كان يؤمل أن يكتب هذا الفصل في خمسين وجهاً من المقتطف. وهذا الباب من غرائب هذا البحث، فليس من أحد في الدنيا المكتوبة (أي التاريخ) يعلم هذا السر أو يظنه. والأدلة التي جاء بها المؤلف تقف الباحث المدقق بين الإثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفيا ولا إثباتا في خبر جديد يكشفه الباحث ولم يهتد إليه غيره، فهذا حسبك إعجاباً يذكر، وهذا حسبه فوزا يعد ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنبي من سيف الدولة لقلت إن المؤلف قد(132/77)
صدق. . . فهناك موضع لابد أن يبحث فيه القلب الشاعر الذي وضعت في الدنيا حكمتها، وطوت فيه القوة سرها، وبث فيه الجمال وحيه، وأصغر هذه الثلاث أكبر من الملوك والممالك، ولكن الحبيبة أكبر منها كلها. . . . . . .
مصطفى صادق الرافعي(132/78)
العدد 133 - بتاريخ: 20 - 01 - 1936(/)
مجمع اللغة العربية الملكي
يفتتح دورته الثالثة
في الضحى الأكبر من يوم الخميس الماضي افتتح مجمع اللغة العربية الملكي دورته الثالثة في حفل متواضع من رجال العلم والأدب؛ فألقى الأستاذ الرئيس خطبة مجمعة، أجمل فيها ما عالج المجمع من المسائل اللغوية في دورته الثانية، وأشار إلى وفوده عن المجمع العربي إلى عيد المجمع الفرنسي، وإلقائه أول الناس خطاب التهنئة (باسم أحدث المجامع نشأة في أقدم بلاد العالم حضارة)؛ ونوه بهدية الأستاذ فيشر إلى المجمع وهي جزازات جمع فيها جمهرة الموثوق بصحته من متداول الكلمات في القرن الأخير للجاهلية، والقرون الثلاثة الأولى في الإسلام، واستهلك في جمعها وترتيبها نيفاً وأربعين عاماً؛ ثم ألم إمامة يسيرة ببعض ما وجه من نقد إلى خطة المجمع.
وقام من بعده الأستاذ حسين والي فألقى محاضرة سابغة سائغة أدلى فيها بحجيج المجمع في القرارات السبعة التي أصدرها في عامه الثاني. ثم نهض على أثره الأستاذ محمد كرد علي بك فدافع عن حداثة المجمع وأشاد بفضل جلالة المليك. وجاء دور الأستاذ جب فعقب على بعض ما قال الخطباء بكلمة بارعة أداها عن ظهر قلبه. ثم ختم الأستاذ الجارم هذا الحفل الوقور بقصيدة من حر الكلام سلسل فيها أطوار العرب وأدوار اللغة، وأهاب (بعصبة الخير) أن ينشطوا لتجديد الفصحى:
فالدهر يسرع والأيام معجلة ... ونحن لم ندر غير الوخد والخبب
كانت حفلة افتتاح هذه الدورة نفثة من روح المجمع، شاع فيها سره، وسطع في فورتها ريحه، فكان اهتمامها برضى القاموس أبلغ من اهتمامها بذوق السامع؛ وكأني رأيت يومئذ في بعض العيون بوادر الدمع رأفة بأولئك السيدات اللائى تظاهرن بالإصغاء إلى حقائق اللغة ودقائق الصرف وهن من الضجر على حال لا تسر! وهذه الحال نفسها ملحوظة بين المجمع والمجتمع في وضع الكلمات للشؤون العامة، فإن من الأعضاء من يسرف في بعث الحوشي الممات، أو الغريب المتنافر، ليحل من لغة الجمهور محل الدخيل الذي لا يثقل في الآذان ولا يعسر على اللسان ولا ينبو على أوزان اللغة، فيضع الجماز للترام، والنهبوع لليخت، والعنقاش للبائع الجوال، والكشَّاءة للكماشة، والضريم للبنزين، والطربال للعمارة!(133/1)
وليس من شك في أن هذه الكلمات المرغوب عنها وأمثالها مما يحاول المجمع طرده من الاستعمال أدق في الدلالة، وأقوى على الحياة وأسهل على الطبع، من تلك الألفاظ الجافية التي نقضها الدهر عن وجه البيان العربي لأسباب طبيعية منذ عمره الأول. . . ما للترام واليخت والفلم والبنزين والكنبة ما دامت سائغة في المنطق جارية على سنن الفصيح واردة على أسلوب المعرب؟ إن الشاكوش أدل من الخصين، والريال أجمل من الرقين، والفسيخ أدنى من القريب، والبشكير أولى من النشير، والمندالة أخف من الميطدة. لقد أفتتن الظرفاء طول العام في الإضحاك مما أشبه الأرزيز والجماز حتى استراب الناس في ذوق المجمع.
والواقع أن الصفة الغالبة على أكثر الأعضاء هي الضلاعة القاموسية المحافظة، فهم يريدون أن يتجاهلون الاصطلاح والعرف، ويتناسوا الكتاب والعامة، ويفرضوا على الأذواق الفنانة كلمات لا تقطر من جمودها على قلم، وعلى الطبقات العاملة لغات لا ينطبق مدلولها على عمل.
أن اللغة العربية لابست مرافق العصر الحديث قبل أن ينشأ المجمع بقرن ونيف، فاستحدثت الضرورة في مدى هذا الزمن ألفاظاً بالاشتقاق والتعريب والترجمة، ربطت اللغة بأسباب المدنية، ووصلت الأدب بمعاني الحياة. ووظيفة المجامع أن تقر ما وجد وتنشئ ما لم يوجد؛ والاستعمال الذي لا يقف ولا ينتهي، يتمم القاموس الذي انتهى ووقف. أما إطلاق العربي المهجور على المعرب المشهور مخافة أن تطغى العجمة (ويصبح الفصيح بين لغتنا أقل من القلة، بحيث لا يصح لنا وقتئذ أن نزعم أننا نتحدث بلسان العرب) كما قال الأستاذ الرئيس، فلا يستقيم في منطق اللغات، ولا يجري في نظام الطبيعة؛ لأن عربية القاموس لا تكاد تجاوز منتصف القرن الثاني، وما اقتبسته اللغة بعد ذلك من حضارة الفرس ومدنية الروم أوشك أن يؤلف قاموساً آخر، ومع ذلك لم تستعجم الفصحى ولم ينهم بيان العرب! ويخيل إلى أن الأستاذ جب كان يرد على معالي الرئيس حين قال في خطبته (ويل للغة مصادرها معجماتها دون الشعور الحي للناطقين بها! وويل كذلك للغةٍ ينطق الناطقون بها ويكتب الكاتبون فيها طوع أهوائهم ويضربون بمعجماتها عرض الحائط!).
إن ما أخذناه وأخذه الناس على ما وضع أعضاء المجمع من الألفاظ إنما ينحصر في شؤون(133/2)
الحياة العامة؛ أما ما وضعوه أو أقروه لعلوم الأحياء والطب فلا وجه فيه لآخذ، ولا سبيل عليه لمنكر، لأنه يتعلق بالعلم ويتصل بالتعليم ويجري بين الخاصة، ومن السهل أن تراض عليه الألسنة في المدارس، وتؤخذ به الأقلام في المعاجم، وتجمع إليه الناس في الكتب. . . كذلك كانت قراراته الأربعة التي تعلقت بالتوسع في طرق القياس صادرة عن رأي حصيف ودرس ناضج. وسيكون لها كما رجا الرئيس أثرها البعيد في التيسير على أهل العلم ومن يعالجون الصناعة ويزاولون الترجمة إن في إقرار المجمع عرض ما يضعه من الكلم على الجمهور قبولاً سابقاً للنقد النزيه والقول الأسد؛ وأن فيما كتب الكاتبون عن خطة المجمع وزانة يجب أن يروى فيها طويلاً قبل أن يمضي على نيته؛ وإن فيما تبيناه من مضامين الخطب في الاحتفال دليلاً على استصغار المجمع لما عمل واستعظامه لما سيعمل! والشعور بالنقص مبدأ الكمال، والنفور من العجز سبيل القدرة، والركون إلى الأمل الحافز دليل الفوز! أيد الله المجاهدين الصادقين بروح من عنده، وسدد خطى العاملين المخلصين في الطريق القاصد.
أحمد حسن الزيات(133/3)
سلطة الآباء
للأستاذ أحمد أمين
رحم الله زماناً كان الأب في بيته الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم؛ تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت، فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت؛ تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندي جبينها، ويصبغ الخجل وجهها، وتنكس بصرها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح؛ والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يحدث وما لا يحدث.
في جملة الأمران أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم عليه وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة ولهم الخضوع، يرسم الخطط وهم ينفذون، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم؛ وويل لمن تبرم أو عارض! فأن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئة إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب؛ إنما يحاور ويداور، ويلمح ويرمز؛ فان أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيراً أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.
وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداء لا قضاء، ويسائلهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضئوا؛ يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصلحاء - وان أنس لا أنس جمال المواسم الدينية - كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذا ينظف، وهذه تعد الأكل الحافل ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعداداً لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض، وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يخرج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جمله فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي(133/4)
نفسه وفي ذريته، ثم يأخذون حظهم لبطونهم، كما أخذوا حظهم لأرواحهم، وشملتهم السعادة وعمهم اللطف والهناءة.
لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره وحلوه ومره، واستقبلنا زماناً صار فيه الأبناء آباء، وأرادوا أن تكون لهم السلطة كآبائهم فأبى عليهم الزمان.
قالت الزوجة لزوجها: الناس أحرار، وأنا إنسان وأنت إنسان، فإن اعتززت أنت بالكسب اعتززت أنا بالإنفاق، وان اعتززت بالرجولة اعتززت بالأنوثة، وان اعتززت بأي شئ فأنا اعتز بمثله وبخير منه؛ فأنا وأنت شريكان، لا سيد وأمة، ولا مالك ومملوك؛ لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون على بعض الواجبات التي عليك، فان سفرتَ سفرتُ، وإن غشيت دور الملاهي غشيتها؛ عليك أن تحصل المال وعلي الإنفاق ولك السلطان التام في اختصار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد أنت للبيت والبيت لي. إن كان لك أم فقد شبعت سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلا أن تأكل، كما ليس لك في حبها؛ فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها؛ والدين لا شأن لك فيه بتاتاً فهو علاقة بين العبد وربه، وكل إنسان حر أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه؛ فأن شئت أنت أن تتدين فتدين، على شرط ألا تقلب نظام البيت، وتقلق راحتي وراحة الخدم، بإعداد ماء ساخن في الشتاء وما إلى ذلك. ورأى الزوج أن الأحكام قاسيه، والشروط فادحة، وهام يبحث عن المتمدنات عمن يرضى به زوجاً على الشروط القديمة فأعياه البحث.
وأخيراً نزل على حكم القضاء، وأسلم نفسه لسلطان الزمان وقدم الطاعة للزوجة، بعد أن كانت هي تقدم الطاعة له؛ ولا يزال في دار الآثار في المحاكم الشرعية قضايا اسمها قضايا الطاعة، يحكم فيها للأزواج على الزوجات؛ حفظ شكلها، وبطل روحها؛ ولو كانت المحاكم محاكم عصرية لحكمت بالطاعة على الزوج لزوجته، وحكمت بالنفقة على الزوجة لزوجها.
وتم الزواج، وفرحت الزوجة بالظفر فغالت في المطالب، وابتدعت كل يوم مطلباً جديداً، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أطَعْن، وطالما خضعن! فليطع هو دائماً وليخضع دائماً، جزاء وفاقاً على ما جنى أبوه وأجداده قالت أن رقصتَ رقصتُ، فذلك حقك وحقي؛ قال نعم. قالت بل أن لم ترقص رقصت لأنك أن أضعت حقك لم أضع حقي؛(133/5)
وأن خاللتَ خاللتُ، فالجزاء من جنس العمل، بل أن لم تخالل ربما خاللت، لأن حياة الزوجية البحت قد يعتريها الركود والسأم والملل. فصرخ ولف الغضب وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت، وسحبت مطلبها الأخير ورأت الحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلغ ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فان لم يسعفها الزمان أوصت بناتها بشروطها الجديدة.
قالت وسيكون من أول ما أوصي به ابنتي أن تتخذ قياس خطيبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفصل له برذعة ولجاماً على قدره، فتضع البرذعة عليه وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يميناً أو شمالاً على غير رغبتها.
وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات.
وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبير التفات فلم يعيروه؛ ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير أذن الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وغذتها تخيلاتهم.
وقال الأبناء لأبيهم: أنّا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان؛ وقد نشأت في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثيابك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا، فان حاولت ذلك فإنما تحول إدخال الثور في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال نعم. قالوا وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوربية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة. وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت (ميزانية) فأنت تعطي (ماهيتك) لأمنا تنفق من غير حساب، فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وأن تقدم الكمال على الضروري فأطعت؛ فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير، والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية لمصلحة، وميزانية الدولة مبعثرة! قال نعم. قالوا وقد أضعت سيادتك على أمنا فلم(133/6)
تفرض سيادتك علينا؟ ورضيت بالخضوع لها فلم تأباه علينا، وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال نعم. قالوا وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبياً، وخضعت للفقيه في المكتب، والمدرس في المدرسة؛ فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك، وغضضت بصرك، وأسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول، فلما صرت (موظفاً) وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائماً وتطيع دائماً - ولم يجر على ذهنك يوماً تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية؛ أما نحن فحريتنا في بيتنا: حررتنا على أساتذتنا، فحملناك كرهاً على تملقنا؛ ونادينا بالحرية فتبعتمونا في شئ من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوتة. قال نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعاً في كل شئ: في البيت وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط: ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنوداً وإلا لم نرض عنكم جنوداً ولا قادة.
وقالت البنات لأبيهن:
يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سراً فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهراً، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حباً فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال نعم. قلن وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها فأنّا نرى شبان اليوم كاخوتنا متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا؛ فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظام عتيقاً. من آثار القرون الوسطى؟ قال نعم. قلن على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فان وقع ما خشينا عشنا أحراراً وعاشوا أحراراً، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رؤوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقداً مدنياً. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن لك الله لا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت(133/7)
أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيراً في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا نحن أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شئ، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسراً فليعش كما يشاء القدر؛ ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طويلاً، ولا يتدخل في شؤوننا كثيراً ولا قليلاً قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيراً فيك.
أما بعد فقد خلا الأب يوماً إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة - قال: لقد قالوا إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة، ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبداد في البيت؛ إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلماناً صغيراً يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي أبنته ورأي زوجه، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء؛ وقالوا تنازل عن سلطاتك طوعاً، وإلا تنازلت عنها كرهاً، وقالوا أن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة، وقالوا أن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ، فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا إياي، ولم أرى البيت برلماناً، بل رأيته حماماً بلا ماء، وسوقاً بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستاناً، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة؛ ولا تسأل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أوربا؛ وإن، وأن، ' إلىما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصي؛ وأخيراً يتفقون على كل شئ إلا على رأي. فوالله لو استقبلت من أمر ما استدبرت ما تزوجت، فان كان ولابد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطاراً إلى القاهرة والإسكندرية، لها يد صناع في عمل الأقراص) ورأس صناع في حمل (البلاص)(133/8)
أيتها الزوجة! وأيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوماً ذل.
أحمد أمين(133/9)
3 - المشكلة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أما البقية من هذه الآراء التي تلقيتها فكل أصحابها متوافقون على مثل الرأي الواحد من وجوب إمساك الزوجة والإقبال عليها، وإرسال (تلك) والانصراف عنها، وأن يكون للرجل في ذلك عزم لا يتقلقل ومضاء لا ينثني، وأن يصبر للنفرة حتى يستأنس منها فأنها ستتحول، ويجعل الأناة بازاء الضجر فإنها تصلحه، والمروءة بازاء الكره فإنها تحمله، وليترك الأيام تعمل عملها فانه الآن يعترض هذا العمل ويعطله، وإن الأيام إذا عملت فستغير وتبدل، ولا يستقل القليل تكون الأيام معه ولا يستكثر الكثير تكون الأيام عليه.
والعديد الأكبر ممن كتبوا إلى يحفظون على صاحب المشكلة ذلك البيان الذي وضعناه على لسانه في المقال الأول ويحاسبونه به ويقيمون منه الحجة عليه، ويقولون له أنت اعترفت، وأنت أنكرت، وأنت رددت على نفسك، وأنت نصبت الميزان فكيف لا تقبل الوزن به؟ وقد غفلوا عن أن المقال من كلامنا نحن وأن ذلك أسلوب من القول أدرناه ونحلناه ذلك الشاب ليكون فيه الاعتراض وجوابه، والخطأ والرد عليه، ولنظهر به الرجل كالأبله في حيرته ومشكلته تنفير الغيرة عن مثل موقفه ثم لنحرك به العلل الباطنة في نفسه هو فنصرفه عن الهوى شيئاً فشيئاً إلى الرأي شيئاً فشيئاً، حتى إذا قرأ قصة نفسه قرأها بتعبير من قلبه وتعبير آخر من العقل، وتلمح ما خفي عليه فيما ظهر له، واهتدى من التقييد إلى سبيل الإطلاق، وعرف كيف يخلص بين الواجب والحب اللذين اختلطا عليه وامتزجا له امتزاج الماء والخمر. وبذلك الأسلوب جاءت المشكلة معقدة منحلة في لسان صاحبها، وبقى أن يدفع صاحبها بكلام آخر إلى موضع الرأي.
وكثير من الكتاب لم يزيدوا على أن نبهوا الرجل إلى حق زوجته ثم يدعون الله أن يرزقه عقلاً. . . وقد أصاب هؤلاء أحسن التوفيق فينا ألهموا من هذه الدعوة، فإنما جاءت المشكلة من أن الرجل قد فقد التمييز وجن بجنونين: أحدهما في الداخل من عقله والثاني في الخارج منه، فأصبح لا يبالي الإثم والبغض عند زوجته إذا هو أصاب الحظوة والسرور عند الأخرى؛ فتعدى طوره مع المرأتين جميعاً، وظلم الزوجة بأن استلب حقها فيه، وظلم الأخرى بأن زادها ذلك الحق فجعلها كالسارقة والمعتدية(133/10)
وقد تمنى أحد القراء من فلسطين أن يرزقه الله مثل هذه الزوجة المكروهة كراهة حب، ويضعه موضع صاحب المشكلة ليثبت أنه رجل يحكم الكره ويصرفه على ما يشاء ولا يرضى أن يحكمه الحب وأن كان هو الحب. وهذا رأي حصيف جيد فإن العاشق الذي يتلعَّب الحب به ويصده عن زوجته لا يكون رجلا صحيح الرجولة، بل هو أسخف الأمثلة في الأزواج، بل هو مجرم أخلاقي ينصب لزوجته من نفسه مثال العاهر الفاسق ليدفعها إلى الدعارة والفسق من حيث يدري أو لا يدري؛ بل هو غبي إذ لا يعرف أن انفراد زوجته وتراجعها إلى نفسها الحزينة ينشئ في نفسها الحنين إلى رجل آخر؛ بل هو مغفل إذ لا يدرك أن شريعة السن بالسن والعين بالعين، هي بنفسها عند المرأة شريعة الرجل بالرجل. . . . .
والمرأة التي تجد من زوجها الكراهية لا تعرفها أنها الكراهة إلا أول أول؛ ثم تنظر فإذا الكراهة هي احتقارها وإهانتها في أخص خصائصها النسوية، ثم تنظر فإذا هي إثارة كبريائها وتحديها، ثم تنظر فإذا هي دفع غريزتها أن تعمل على إثبات أنها جديرة بالحب، وأنها قادرة على النقمة والمجازاة، ثم تنظر فإذا برهان كل ذلك لا يجيء من عقل ولا منطق ولا فضيلة، وإنما يأتي من رجل. . . . رجل يحقق لها هي أن زوجها مغفل وأنها جديرة بالحب.
وكأن هذا المعنى هو الذي أشارت إليه الأديبة ف. ز. وإن كانت لم تبسطه؛ فقد قالت: وإن صاحب هذه المشكلة غبي، ولا يكون إلا رجلاً مريض النفس مريض الخلق، وما رأيت مثله رجلا أبعد من الرجل. . . ومثل هذا هو في نفسه مشكلة فكيف تُحل مشكلته؟ إنه من ناحية زوجته مغفل لا وصف له عندها إلا هذا؛ ومن جهة حبيبته خائن والخيانة أول أوصافه عندها.
وهذا الزوج يسمم الآن أخلاق زوجته ويفسد طباعها، وينشئ لها قصة في أولها غباوته وإثمه، وسيتركها تتم الرواية فلا يعلم إلا الله ما يكون آخرها. وبمثل هذا الرجل أصبح المتعلمات يعتقدون أن أكثر الشبان إن لم يكونوا جميعاً هم كاذبون في ادعاء الحب، فليس منهم إلا الغواية؛ أو هم محبون يكذب الأمل بهم على النساء، فليس منهم إلا الخيبة.
قالت: وخير ما تفعله صاحبة المشكلة أن تصنع ما صنعته أخرى لها مثل قصتها، فهذه(133/11)
علمت بزواج صاحبها قذفت به من طريق آمالها إلى الطريق الذي جاء منه، وأنزلته من درجة أنه كل الناس إلى منزلة أنه ككل الناس، ونبهت حزمها وعزيمتها وكبرياءها فرأته بعد ذلك أهون على نفسها من أن يكون سبباً لشقاء أو حسرة أو هم، وابتعدت بفضائلها عن طريق الحب الذي تعرف أنه لا يستقيم إلا لزوجة وزوجها، فإذا مشت فيه امرأة إلى غير زواج، انحرف بها من هنا، واعوج لها من هنا، فلم ينته بها في الغاية إلا أن تعود إلى نفسها وعليها غباره، وما غبار هذا الطريق إلا سواد وجه المرأة. . . وقد جهد الرجل بصاحبته أن تتخذه صديقاً، فأبت أن تتقبل منه برهان خيبتها. . . وأظهرت له جفوة فيها احتقار، وأعلمته أن نكث العهد لا يخرج منه عهده، وأن الصداقة إذا بدأت من آخر الحب تغير أسمها وروحها ومعناها، فإما أن تكون حينئذ أسقط ما في الحب، أو أكذب ما في الصداقة
ثم قالت الأديبة: وهي كانت تحبه، بل كانت مستهامة به، غير أنها كانت أيضاً طاهرة القلب، لا تريد في الحبيب رجلاً هو رجل الحيلة عليها فتخدع به، ولا رجل العار فتسب به، وفي طهارة المرأة جزاء نفسها من قوة الثقة والاطمئنان وحسن التمكن؛ وهذا القلب الطاهر إذا فقد الحب لم يفقد الطمأنينة، كالتاجر الحاذق إن خسر الربح لم يفلس، لأن مهارته من بعض خصائصها القدرة على الاحتمال والصبر للمجاهدة.
قالت: فعلى صاحبة المشكلة التي عرفت كيف تحب وتجل أن تعرف الآن كيف تحتقر وتزدري.
وللأديبة ف. ع وأي جزل مسدد؛ قالت: إنها هي قد كانت يوما بالموضع الذي فيه صاحبة المشكلة، فلما وقعت الواقعة أنفت أن تكون لصة قلوب، وقالت في نفسها: إذا لم يقدر لي، فإن الله هو الذي أراد، وإني أستحي من الله أن أحاربه في هذه الزوجة المسكينة، ولئن كنت قادرة على الفوز إن انتصاري عليها عند حبيبي هو انتصارها على عند ربي، فلأخسر هذا الحب لأربح الله برأس مال عزيز خسرته من أجله، ولأبقى على أخلاق الرجل ليبقى رجلاً لامرأته فما يسرني أن أنال الدنيا كلها وأهدم بيتاً على قلب، ولا معنى لحب سيكون فيه اللؤم بل سيكون ألأم اللؤم.
قالت: وعلمت أن الله تعالى قد جعلني أنا السعادة والشقاء في هذا الوضع ليرى كيف(133/12)
أصنع، وأيقنت أن ليس بين هذين الضدين إلا حكمتي أو حمقي، وصح عندي أن احسن المداخلة في هذه المشكلة هو الحل الحقيقي للمشكلة.
قالت: فتغيرت لصاحبي تغيراً صناعياً، وكانت نيتي له هي أكبر أعواني عليه، فما لبث هذا الانقلاب أن صار طبيعياً بعد قليل. وكنت أستمد من قلب امرأته إذا اختانني الضعف أو نالني الجزع فأشعر أن لي قوة قلبين. وزدت على ذلك النصح لصاحبي نصحاً ميسراً قائماً على الإقناع وإثارة النخوة فيه وتبصيره بواجبات الرجل، وترفقت في التوصل إلى ضميره لأثبت له أن عزة الوفاء لا تكون بالخيانة، وبينت له أنه إذا طلق زوجته من أجلي فما يصنع أكثر من أن يقيم البرهان على أن يصلح لي زوجاً. ثم دللته برفق على أن خير ما يصنع وخير ما هو صانع لإرضائي أن يقلدني في الإيثار وكرم النفس ويحتذيني في الخير والفضيلة، وأن يعتقد أن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم قالت: وبهذا وبعد هذا انقلب حبه لي إكباراً وإعظاماً وسما فوق أن يكون حباً كالحب؛ وصار يجدني في ذات نفسه وفي ضميره كالتوبيخ له كلما أراد بامرأته سوءاً أو حاول أن يغض منها في نفسه. واعتاد أن يكرمها فأكرمها، وصلحت لها نيته فاتصل بينهما السبب، وكبرت هذه النية الطيبة فصارت وداً، وكبر هذا الود فعاد حباً، وقامت حياتهما على الأساس الذي وضعته أنا بيدي،
أنا بيدي. . . . . .
أما أنا. . . . . .؟
وكتب فاضل من حلوان: إن له صديقاً ابتلى بمثل هذه المشكلة فركب رأسه فما ردَّه شيء. عمد الزواج بحبيبته، وزُفَ إليها كأنه ملك يدخل إلى قصر خيالة وكأن أهله يعذلونه ويلومونه ويخلصون له النصح ويجتهدون في أمره جهدهم، إذ يرون بأعينهم ما لا يرى بعينه، فكأن النصح ينتهي إليه فيظنه غشاً وتلبيساً، وكان اللوم يبلغه فيراه ظلماً وتحاملاً؛ وكان قلبه يترجم له كل كلمة في حبيبته بمعنى منها هي لا من الحقائق، إذ غلبت على عقله فبها يعقل، وذهبت بقلبه فبها يحس، واستبدت بإرادته فلها ينقاد؛ وعادت خواطره وأفكاره تدور عليها كالحواشي على العبارة المغلقة في كتاب؛ واستقرت له فيها قوة من الحب أمرها إذا أرادت شيئاً أن تقول له كن. . .(133/13)
ثم مضت الليلة بعد الليلة وجاء اليوم بعد اليوم والموج يأخذ من الساحل الذرة بعد الذرة والساحل لا يشعر، إلى أن تصر مت أشهر قليلة فلم تلبث الطبيعة التي ألفت الرواية وجعلتها قبل الزواج رواية الملك والملكة، وقصة التاج والعرش، وحديث الدنيا وملك الدنيا - لم تلبث أن انتقلت عليّ فجأة فأدارت الرواية إلى فصل السخرية ومنظر التهكم، وكشفت عن غرضها الخفي وحلت العقدة.
قال: ففرغ قلب المرأة من الحب وظمئ إلى السكر والنشوة مرة أخرى من غير هذه الزجاجة الفارغة. . . وبرد قلب الرجل وكان الشيطان الذي يتسعّر فيه ناراً، شيطاناً خبيثاً فتحوا إلى لوح من الثلج له طول وعرض. . . .
وجدت الحياة وهزل الشيطان، فاستحمق الرجل نفسه أن يكون اختار هذه المرأة له زوجة، واستجهلت المرأة عقلها أن تكون قد رضيت هذا الرجل زوجاً، وأنكرها إنكارا أوله الملالة، وأنكرته إنكارا آخر أوله التبرم؛ وعاد كلاهما من صاحبه كإنسان يكلف إنساناً أن يخلق له الأمس الذي مضى. وضربت الحياة ضربةً أو ضربتين فإذا أبنية الخيال كلها هدم هدم، وإذا الطبيعة مؤلفه لرواية. . . . قد ختمت روايتها وقوضت المسرح، وإذا الأحلام مفسرة بالعكس، فالحب تأويله البغض، واللذة تفسيرها الألم، و (البودرة) معناها الجير. . . . وتغير كل ما بينهما إلا الشيطان الذي بينهما، فهو الذي زوج وهو بعينه الذي طلق. . . .
وكتب أديب من بغداد يقول: إنه كان في هذا الموضع القلق موضع صاحب المشكلة، وأن ذات قرباه التي سميت عليه كانت ملفقة له في حجب عدة لا في حجاب واحد، وقد وصفت له باللغة. . . . وفي اللغة ما أحسن وما أجمل وما أظرف، وكأنها ظبي يتلفت، وكأنها غصن يميل، وكأن سنة وجهها البدر!
قال: وشبهت له بكل أدوات التشبيه وجاءوا في أوصافها بمذاهب الاستعارة والمجاز، فأخذها قصيدة قبل أن يأخذها امرأة. وكان لم ير منها شيئاً وكانت لغة ذوي قرابته وقرابتها كلغة التجارة في ألسنة حذاق السماسرة، ما بهم ألا تنفيق السلعة ثم يخلون بين المشتري وحظه.
قال: فرسخ كلامهم في قلبي، فعقدت عليها، ثم أعرست بها ونظرت فإذا هي ليست في الكلمة الأولى ولا الأخيرة مما قالوا ولا فيما بينهما. . . . ثم تعرفت فإذا هي تكبرني(133/14)
بخمس عشرة سنة. . . . ورأيت اتضاع حالها عندي فأشفقت عليها وبت الليلة الأولى مقبلاً على نفسي أؤامرها وأناجيها وأنظر في أي موضع رأيي أنا، وتأملت القصة فإذا امرأة بين رحمة الله ورحمتي، فقلت إن أنا نزعت رحمتي عنها ليوشكن الله أن ينزع رحمته عني، وما بيني وبينه إلا أعمالي؛ وقلت يا نفسي: (إنها إن تكُ مِثقالَ حَبةً من خَردَلٍ فتكنْ في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله) وإنما أتقدم إلى عفو الله بآثام وذنوب وغلطات، فلأجعل هذه المرأة حسنتي عنده، وما عليّ من عمر سيمضي وتبقي منه هذه الحسنة خالدة مخلدة.
إنها كانت حاجة النفس إلى المتاع فانقلبت حاجة إلى الثواب، وكانت شهوة فرجعت حكمة، وكنت أريد أن أبلغ ما احب فسأبلغ ما يجب. ثم قلت: اللهم أن هذه امرأة تنتظرها ألسنة الناس إما بالخير إذا أمسكتها، وإما بالشر إذا طلقتها، وقد احتمت بي؛ اللهم سأكفيها كل هذا لوجهك الكريم.
قال: رأيتني أكون ألأم الناس لو أني كشفتها للناس وقالت انظروا. . . . فكأنما كنت أسأت إليها فأقبلت أترضاها، وجعلت أُماسحها وألاينها في القول وعدلت عن حظ نفسي إلى حظ نفسها، واستظهرت بقوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)؛ واعتقدت الآية الكريمة أصح اعتقاد وأتمه، وقالت اللهم اجعلها من تفسيرها.
قال: فلم تمض أشهر حتى ظهر الحمل عليها، فألقى الله في نفسي من الفرح ما لا تعدله الدنيا بحذافيرها، وأحسست لها الحب الذي لا يقال فيه جميل ولا قبيح لأنه من ناحية النفس الجديدة التي في نفسها (الطفل). وجعلت أرى لها في قلبي كل يوم مداخل ومخارج دونها العشق في كل مداخله ومخارجه، وصار الجنين الذي في بطنها يتلألأ نوره عليها قبل أن يخرج إلى النور، وأصبحت الأيام معها ربحاً من الزمن فيه الأمل الحلو المنتظر
قال: وجاءها المخاض، وطرقت بغلام؛ وسمعت الأصوات ترتفع من حجرتها: ولد! ولد! فبشروا أباه. فوالله لكأن ساعة من ساعات الخلد وقعت في زمني أنا من دون الخلق جميعاً وجاءتني بكل نعيم الجنة. وما كان ملك العالم - لو ملكته - مستطيعاً أن يهبني ما وهبتني امرأتي من فرح تلك الساعة. إنه فرح إلهي أحسست بقلبي أن فيه سلام الله ورحمته وبركته. ومن يومئذ نطق لسان جمالها في صوت هذا الطفل. ثم جاء أخوه في العام الثاني،(133/15)
ثم جاء أخوهما في العام الثالث؛ وعرفت بركة الإحسان من اللطف الرباني في حوادث كثيرة وتنفست على أنفاس الجنة وفسرت الآية الكريمة نفسها بهؤلاء الأولاد، فكان تفسيرها الأفراح، والأفراح، والأفراح.
ويرى صديقنا الأستاذ محمد حسين جيره، أن صاحب المشكلة في مشكلة من رجولته لا من حبه؛ فلو أن له ألف روح لما استطاع أن يعاشر زوجته بواحدة منها إذ هي كلها أرواح صبيانية تبكي على قطعة من الحلوى ممثلة في الحبيبة. . . . ولو عرف هذا الرجل فلسفة الحب والكره لعرف أنه يصنع دموعه بإحساسه الطِّفلي في هذه المشكلة؛ ولو أدرك شيئاً لأدرك أن الفاصل بين الحب والكره منزوع من نفسه، إذ الفاصل في الرجل هو الحزم الذي يوضع بين ما يجب وما لا يجب.
إنه مادام بهذه النفس الصغيرة فكل حل لمشكلته هو مشكلة جديدة، ومثله بلاء على الزوجة والحبيبة معاً، وكلتاهما بلاء عليه، وهو بهذه وهذه كمحكوم عليه أن يشنق بامرأة لا بمشنقة. . . هذا عندي ليس بالرجل ولا بالطفل إلى أن يثبت أنه أحدهما فان كان طفلاً فمن السخرية به أن يكون متزوجاً، وإن كان رجلا فليحل هو المشكلة بنفسه؛ وحلها أيسر شيء: حلها تغيير حالته العقلية.
ونحن نعتذر للباقين من الأدباء والفضلاء الذين لم نذكر آراءهم، إذ كان الغرض من الاستفتاء أن نظفر بالأحوال التي تشبه هذه الحادثة لا بالآراء والمواعظ والنصائح. أما رأينا ففي البقية الآتية.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
(حاشية): تمثل في نفسي وأنا أُبيض هذه المقالة أنها ستشير في نفس إحدى قارئاتها موضعا ذا شأن وخطر، وان هذه القارئة ستتردد في الكتابة إلي وألا فضاء بمعناها. وقوى ذلك في الخاطر حتى كأنه واقع فما هو ذلك الشأن يا ترى؟ إن سطراً صغيراً فيه شئ من حكمة الدنيا قد تكون فيه مقالات فلا يبخلن أحد على أحد.
الرافعي(133/16)
الشاعر الأندلسي المجهول
رثاء الأندلس وما يحتويه من العناصر واللمحات التاريخية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
نشرت (الرسالة) في الأسبوع الماضي قصيدة رائعة هي رثاء مؤثر للأندلس بقلم شاعر أندلسي مجهول؛ ومهد الأديب المغربي الذي بعث بنصها إلى الرسالة بكلمة ذكر فيها أن هذه القصيدة نشرت بنصها الكامل في الجزائر لأول مرة سنة 1914 وأن صحيفة الزهرة التونسية نشرت منذ أعوام بعض مقاطيعها وطلبت إلى الأدباء أن يدلوا على ناظمها إذا استطاع أحدهم إلى ذلك سبيلا، ولكن أحدا منهم لم يظفر بالجواب؛ وأنه عرضها على مؤرخ المغرب الكبير السيد الدكالي السلاوي، فذكر أن ناظمها ربما كان أبا جعفر بن خاتمة وهو من أدباء المرية كما يستدل من بعض أبياتها، وأنها ربما كانت من محتويات كتابه المسمى (مزية المرية) الذي توجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأسكوريال؛ ويرجو الأديب المغربي في خاتمة كلمته أن يوفق أحد الأدباء المشتغلين بالأدب الأندلسي إلى معرفة ذلك الشاعر المجهول فيعلن اسمه
والحق أن القصيدة رائعة مبكية، وليس من ريب في أن ناظمها أديب كبير وشاعر بارع؛ ومن حق الأدب أن يُعرف هذا الشاعر المبدع وأن تحقق سيرته؛ بيد أننا نترك هذا البحث لمؤرخ الأدب الأندلسي في عصر السقوط؛ وفي رأينا أن أهمية القصيدة ليست في قيمتها الأدبية، بل أن أهميتها ترجع بوجه خاص إلى ما تضمنته من الإشارات واللمحات التاريخية لحوادث المأساة الأندلسية؛ وهي بهذا الاعتبار وثيقة تاريخية لها قيمتها؛ ولهذا رأينا أن نؤثرها بتحليل عناصرها الواقعية، وإيضاح ما فيها من الإشارات واللمحات التاريخية.
وأول ما يجب تحقيقه هو الفترة التي وضعت فيها القصيدة؛ وفي تعيين هذه الفترة تحقيق للعصر الذي عاش عيه الشاعر، وللظروف والملابسات التي أحاطت به؛ هذه الفترة على ما يبدو من كثير من مقطوعات القصيدة هي الفترة التي تلت سقوط غرناطة مباشرة؛ ونحن نعرف أن غرناطة سقطت في أيدي النصارى في صفر سنة 897هـ (ديسمبر سنة 1491) ودخلتها جنود فرديناند الكاثوليكي في الثاني من ربيع الأول (2 يناير سنة(133/18)
1492)؛ وكانت قواعد الأندلس قد سقطت قبل ذلك كلها تباعاً في أيدي النصارى؛ فسقطت مالقة في شعبان سنة 892 هـ (1487م)، ووادي آش والمنكب والمرية في أواخر سنة894 هـ (1489م)، وبسطة في المحرم سنة 895 (ديسمبر سنة 1489)، وهي آخر قاعدة أندلسية سقطت قبل غرناطة؛ أما رندة التي يستهل الشاعر قصيدته بالإشارة إليها فقد سقطت في يد النصارى في سنة 1485 (890 هـ)؛ ويبدو من أقوال الشاعر المؤسية عن رندة أنه ربما شهد سقوطها، وأن هذا الحادث قد ترك في نفسه أثراً عميقاً يتردد بقوة في روعة استهلاله، وهو أبدع مقطوعة في القصيدة:
أحقاً خبا من جو رندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازلها ذات العلا وقصورها
أحقاً خليلي أن رندة أقفرت ... وأزعج عنها أهلها وعشيرها
وهدت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها
بل يلوح لنا أن الشاعر ربما كان من أهل رندة وقت سقوطها، وأن إشارته فيما بعد إلى المرية بقوله:
منازل آبائي الكرام ومنشئ ... وأول أوطان غذّانيَ خيرها
لا يذهب إلى أكثر من أن المرية كانت موطن أسرته ومسقط رأسه، وأنه قضى بها حداثته الأولى وربما كان ذلك حوالي سنة 860 هـ وأنه وقت سقوط رندة كان رجلاً ناضجاً يقف على مجرى الحوادث العامة وقوفاً تاماً.
ولنرجع إلى الفترة التي وضعت فيها القصيدة، فنقول إنه من المحقق مبدئياً أنها كتبت بعد سقوط غرناطة؛ وليس هناك ما يدل على أنها كتبت لترسل إلى السلطان بايزيد الثاني العثماني كما يظن الأديب المغربي الذي تولى نشرها. ذلك أن رسائل الاستغاثة التي وجهها زعماء الأندلس إلى السلطان بايزيد الثاني، وإلى الأشرف قاتيباي ملك مصر، وجهت منذ بدء الصراع الأخير، أعني منذ حصار مالقة وقبل سقوطها في سنة 893 هـ (1487م)؛ ولكن الاستغاثة لم تغن شيئاً، وسقطت قواعد الأندلس تباعاً في يد النصارى على النحو الذي فصلنا ولما اشتد النصارى في معاملة المسلمين بعد سقوط غرناطة؛ وأرغموهم على التنصر، وعصفت بهم محاكم التحقيق (محاكم التفتيش)، كتب بعض كبرائهم إلى بايزيد(133/19)
الثاني في أواخر عهده يستغيث به، وذلك حوالي سنة 1505م، أعني بعد سقوط غرناطة بنحو أربعة عشر عاماً، وقد استطال عهد بايزيد الثاني حتى وفاته في سنة 1512م؛ وقد نقل إلينا المقري هذه الرسالة في كتابه (أزهار الرياض) ونقل إلينا معها شعراً مؤثر يصف به صاحب الرسالة عسف محاكم التحقيق، ويبدو من أسلوب هذه الرسالة والشعر كيف انحدرت اللغة العربية وآدابها في الأندلس في تلك الفترة بسرعة مدهشة، وكيف استطاعت السياسة الأسبانية في مدى قصير أن تخمد جذوة الشعر والأدب.
أما القصيدة التي نحن بشأنها فيبدو أنها كتبت قبل ذلك بحين، والمرجح أنها كتبت في سنة 904 أو 905 هـ (سنة 1500م). ولنا على ذلك أدلة عديدة، منها قوة القصيدة وروعتها مما يدل على أنها كتبت عقب الفاجعة بأعوام قلائل قبل أن يخف وقعها في النفوس، وقبل أن تحدث السياسة الأسبانية أثرها في قتل اللغة العربية؛ ومنها الترتيب التاريخي الذي اتبعه الشاعر، فهو يورد الحوادث تباعاً بترتيبها التاريخي، إذا استثنينا إشارته إلى غرناطة؛ وبيان ذلك أنه يبدأ بالإشارة إلى سقوط رندة، وقد كانت أول قاعدة سقطت في أيدي النصارى سنة 890هـ (1485م) كما قدمنا؛ ثم يتبعها بالإشارة إلى سقوط مالقة في قوله.
فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة ... قد استفرغت ذبحا وقتلا حجورها
وجزت نواصيها وشلت يمينها ... وبدل بالويل المبين سرورها
وقد كانت الغريبة الجنن التي ... تقيها فأضحى جنة الحرب سورها
وفي هذا البيت الأخير إشارة فطنة إلى موقع مالقة ومناعتها وكونها كانت حصن الأندلس من الغرب، فلما سقطت سقطت قواعدها في يد العدو تباعاً؛ ويشير الشاعر بعد ذلك إلى سقوط بلش مالقة في قوله.
وبلَّش قطت رجلها بيمينها ... ومن سريان الداء بان قطورها
وضحت على تلك الثنيات جحرها ... فأقفر مغناها وطاشت حجورها
وكان سقوط بلش وهي حصن مالقة من الشمال الشرقي في جمادى الأولى سنة 892هـ (إبريل 1487م) وعلى أثر سقوطها حاصر النصارى مالقة واستولوا عليها في شعبان من هذه السنة (أغسطس سنة 1487).(133/20)
ولما استولى النصارى على مالقة أخذت ثغور الأندلس وقواعدها الباقية تسقط تباعا في يد النصارى فسقطت المرية والمنكب في أواخر (سنة 894هـ - 1489م)، وسقطت بسطة في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر 1489م)؛ ثم استولى النصارى على وادي آش قاعدة مولاي عبد الله (الزغل) في صفر من تلك السنة (يناير 1490م)؛ ويشير الشاعر إلى هذه الوقائع بعد ذلك في قوله:
وبالله إن جئت المنكب فاعتبر ... فقد خف ناديها وجف نضيرها
وقد رجفت وادي الأشى فبقاعها ... سكارى وما استاكت بخمر ثغورها
وبسطة ذات البسط ما شعرت بما ... دهاها وأنى يستقيم شعورها
وما أنس لا أنس المرية إنها ... قتيلة أوجال أزيل عذارها
ولم يبق بعد سقوط هذه القواعد في يد المسلمين سوى غرناطة، وقد سقطت في يد العدو في صفر سنة 897هـ (ديسمبر سنة 1491م) وإلى ذلك يشير الشاعر خلال ما تقدم:
ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم ... قد ارتج باديها وضج حضورها
بدار العلى حيث الصفات كأنها ... من الخلد والمأوى غدت تستطيرها
محل قرار الملك غرناطة التي ... هي الحضرة العليا زهتها زهورها
ترى الأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستعبر وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها
فهذا الترتيب التاريخي خلال قصيدته من عميق تأثره بالحوادث التي يصفها، مما يدلي بحداثة عهده بالمأساة حسن وضع رثاءه المفجع؛ بيد أن هنالك أيضاً في قصيدته ما يكاد يعين هذا العهد في نظرنا وهو قوله:
وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا ... جيوش كموج البحر هبت دبورها
علامات أخذ ما لنا قبل بها ... جنايات أخذ قد جناها مثيرها
فلا تمتحي إلا بمحو أصولها ... ولا تنجلي حتى تخط أصورها
معاشر أه الدين هبوا لصعقة ... وصاعقة وارى الجسوم ظهورها
أصابت منار الدين فانهد ركنه ... وزعزع من أكنافه مستطيرها
فهذه الإشارات تنصرف في نظرنا إلى أول محاولة قام بها الأسبان لتنصير المسلمين،(133/21)
ونقض عهودهم التي قطعوها لهم عند تسليم غرناطة باحترام دينهم وشرائعهم، وتأمين أشخاصهم وأعراضهم وأموالهم وحرياتهم. وكان ذلك سنة 904هـ (1499م) حينما قرر مجلس الدولة أن يفرض التنصير على المسلمين، وذلك لأعوام قلائل فقط من سقوط غرناطة. بل يلوح لنا أن الشاعر يشير بقوله:
ألا واستعدوا للجهاد عزائما ... يلوح على ليل الوغى مستنيرها
بأسد على جرد من الخيل سبق ... يدعُّ الأعادي سبقها وزئيرها
بأنفس صدق موقنات بأنها ... إلى الله من تحت السيوف مصيرها
إلى الثورة التي حاولت بعض المناطق الإسلامية أن تقوم بها مقاومة لقرار التنصير؛ ويلاحظ هنا أن الشاعر يقف عند هذه الواقعة في الإشارة إلى الحوادث التاريخية مما يدل على أنها آخر حادث أدركه وقت نظم مرثيته؛ فإذا صح الاستنتاج الذي سقناه على النحو المتقدم، فأنا نستطيع أن نقول إن الشاعر وضع مرثيته كما قدمنا حوالي سنة 904 أو 905 هـ (نحو سنة 1500م).
وهذا ومما يلاحظ أيضاً أن الشاعر قد تأثر في مواطن كثيرة من قصيدته بالقصيدة الطائرة الصيت التي نظمها سلفه ومواطنه أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس، وأنه أستمد منه بعض الوحي والمعنى؛ فقوله مثلاً:
فوا حسرتا كم من مساجد حولت ... وكانت إلى البيت الحرام شطورها
ووا أسفا كم من صومع أوحشت ... وقد كان معتاد الأذان يزورها
فمحرابها يشكو لمنبرها أحوى ... وآياتها تشكو الفراق وسورها
مستمد من قول أبي البقاء في مرثيته:
حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي سجادة ... حتى المنابر ترثي وهي عيدان
وقوله:
وكم طفلة حسناء فيها مصونة ... إذا أسفرت يسبي العقول سفورها
تميل كغصن البان مالت به الصبا ... وقد زانها ديباجها وحريرها
فأضحت بأيدي الكافرين رهينة ... وقد هتكت بالرغم منها ستورها(133/22)
مستمد من قول أبي البقاء:
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت ... كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة ... والعين باكية والقلب حيران
وهكذا في مواطن أخرى. بيد أن شاعرنا يفيض في نظمه وفي تصويره قوة وطرافة. وليس من ريب أن مرثيته المفجعة من أبلغ وأروع ما رثيت به دولة الإسلام في الأندلس.
محمد عبد الله عنان(133/23)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
- 1 -
لن يدور بخلدك أيها القارئ أن بستور ترك اسمه للنسيان، وشهرته للنقصان، أثناء الزوابع التي أثارها كوخ في الدنيا وهو يثبت أن المكروب يقتل الناس. وكيف يجوز هذا على بستور وفي عوده ما نعلم من صلابة، وفي أنفه لتصيد المكروب ما في أنف الكلب، وفي نفسه ما في نفس الشاعر من الحس والخيال؛ وهو فوق ذلك رب الدعاية الذي يعرف كيف يأتي الجماهير فيشهدهم فيتركهم صرعى حيارى مما رأوا أو سمعوا؟
في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي - وكان كوخ قد اكتشف بذور داء الجمرة فأدهش الأطباء وأفرغ وأبدع - قام بستور ينفي بهزة من كتفه، وكلمة من أنفه، وتلويحة من يده، ما تمخضت عنه تجارب الأطباء ألوف السنين. يا لها صفاقة من كيميائي! وحكاية ذلك أنه جاءت فترة من الزمان صارت فيها مستشفيات الولادة بباريس مخابئ للوباء، تدخلها الأمهات يملؤهن الأمل ويحدوهن الرجاء، ولكن القدر الصائد الخبيء فيها كان يختطف منهن أما من كل تسع عشرة، تذهب بها حمى النفاس تاركة ولدها يلقى الحياة بغير حب الوالدات. وماتت عشر نسوة متتابعات في مستشفى واحد فأسماه الناس (بيت الإجرام)، وارتاع النساء فلم يثقن بالأطباء حتى أغلاهم أجورا، ًوبلغت بهن الريبة فأخذن يقاطعن المستشفيات، وخشي كثيرات منهن مواجهة مخاطر الحمل فرغبن بحق عن النسل، والأطباء أنفسهم فزعوا وافتضحوا بمرأى رسل الموت قائمة هكذا على أبواب الحياة وهي تولد. وذات يوم اجتمعت أكاديمية الطب بباريس، وقام فيها طبيب شهير يخطب ويجلجل في أسباب حمى النفاس - وهو وا أسفاه يجهلها كل الجهل - وامتلأ خطابه الرنان بكثير من الكلمات الإغريقية الطويلة، وكثير من الألفاظ اللاتينية الفخمة، وبينا هو في إحدى جملهُ الطنانة قاطعه صوت كالرعد جاء من مقاعد البهو الأخيرة. قال صاحب الصوت: (إن الذي يقتل النساء بحمى النفاس ليس الذي تقول، ولا شيئاً يشبه الذي تقول. إن الذي(133/24)
يقتلهن أنتم أيها الأطباء، فأنتم الذين تحملون المكروبات القتالة من المرأة المريضة إلى الأخرى الصحيحة. . .!) وما كان صاحب الصوت إلا بستور، وكان قد قام عن مقعده، وكانت عيناه تتطاير شرراً.
قال الخطيب: (قد تكون على صواب، ولكن أكبر ظني أنك لن تجد هذا المكروب أبداً. . .) وأراد أن يعاود خطابته المقطوعة، ولكن بستور كان في هذه اللحظة قد اخترق الصفوف ومشى إلى المنبر يجر وراءه رجله، وقد كانت شُلت بعض الشلل. ولما بلغ السبورة أمسك بعنف قطعة من الطباشير وصاح في الخطيب وهو في ضيقه، وفي أعضاء المجمع وهم في دهشة مما جرى، قال: (أنت تقول إني لن أجد هذا المكروب. أيها الرجل، إني وجدته، وشكله هكذا!) ورسم بستور على السبورة سلسلة من دوائر صغيرة، فأنفض الاجتماع في اختلاط كالعِقد انقطع نظامه.
كان بستور قارب الستين من عمره، ولكن كان لا يزال به عنف الخامسة والعشرين وتهورها، وكان كيميائياً، واختص في تخمير سكر البنجر، وعلم الخمارين كيف يدفعون الفساد عن خمورهم، وترك هذا العمل فجأة وأخذ في تخليص دودة القز مما اعتراها، وقام في فرنسا بالدعاية إلى تحسين البيرة الفرنسية وفعلاً تحسنت عما كانت، وقضى تلك السنين الطويلة يشتد على نفسه في العمل فأنجز فيها ما يستنفد أعمار عشرة رجال، ولكنه ظل يحلم دائماً طوال هذه السنين بالمكروبات وبأمل إصطيادها، لأنه عَلم عِلم اليقين أنها سبب مصائب الإنسان ومنشأ أمرضه الخبيثة
ولكنه استيقظ يوماً فوجد كوخ سبقه إلى ما أمل فحل العقد التي رجا هو أن يحلها. وإذن تحتم عليه أن ينهض لكوخ هذا وأن يلحق به. وكأني به يتمتم لنفسه فيقول: (وعلى كل حال فالمكروبات من بعض الوجهات من متاعي وحقي، وأنا أول من أبان خطرها منذ عشرين عاماً لما كان كوخ طفلاً صغيراً. . . .)
على أن لحاق بستور بكوخ قامت دونه عقبات. منها أن بستور لم يجس نبضاً قط، ولم يقل قط لرجل مصفور أخرج لسانك. ولقد يشك في قدرته على تمييز الرئة من الكبد. ومن المؤكد أن يده لم تكن تعرف كيف تأخذ بالمشرط. أما تلك المستشفيات القاسيات فبعداً لها وسحقاً، فقد كانت روائحها تبعث الألم في قرارة معدته، وكانت أصوات مرضاها وأناتهم(133/25)
تخرج من حجراتها إلى دهاليزها القذرة فيألم لها صاحبنا فيهم بسد أذنيه ويفر منها هارباً. على أن بستور لم يلبث أن تخطى هذه العقبات وذلل هذه الصعوبات. فهذا كان دائماً دأب هذا الرجل الذي لا يغلب، إذا قامت في سبيله صخرة فلم يستطع أن يقفز من فوقها دار من حولها. فاتخذ لنفسه أعواناً ثلاثة من الأطباء فبدأ أولا بالطبيب جوبرت ثم بالطبيبين وشمبرلاند وكانوا أحداثاً صغاراً. في آرائهم أحراراً، بل بلاشفة ثائرين على الطب القديم وتعاليمه السخيفة. وجلسوا في المجمع الطبي يستمعون لمحاضرات بستور، وكانت مما يزهد عامة الأطباء فيه، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا ينصتون ويغتبطون معجبين ببستور عابدين مؤمنين بكل نبوءة يتنبأ بها من كل وباء فتاك يثيره كل خبيث دقيق يخفي على البصر من الأحياء. تفضل بستور ففتح لهذا الثالوث أبواب معمله، فعلموه عوضاً من هذا تركيب جسم الحيوانات وكيف تعمل وتحيا، وعرفوه المحقن فأبانوا له الفرق بين إبرته وكابسته، وأقنعوه بأن الحيوانات مثل الأرانب والخنازير الغينية لا تكاد تحس إبرة المحقن وهي تضرب في جلدها، وكان رجلا يسوؤه أن يرى الألم أو أن يفعله. وعقدوا الخناصر فيما بينهم على أن يكونوا لوليهم هذا عبيداً طائعين، وأن يكونوا لهذا العلم الجديد رسلاً مبشرين.
إن صيد المكروب ليس له سبيل واحدة يقال لها هذه، وهذه فحسب. وتلك حقيقة لا مراء فيها. ودليلنا عليها السبيلان اللتان اتخذهما كوخ وبستور لنفسيهما، فقد اختلفا اختلافاً بيناً على الرغم من اتفاق الغاية التي قصدا إليها. أما كوخ فكان يطبق المنطق في برود قاتل، حتى لكأنه كتاب هندسة في يد طالب - فقد بحث بِشلة السل بتجاريب غاية في التنظيم، وخال عنها كل الاعتراضات التي يخالها الشكاكون الناقدون، وذلك قبل أن يعلم هؤلاء بوجود شئ ينقد. وكان كوخ ينشط إلى ذكر خيباته كما ينشط إلى ذكر فوزاته، وبمقدار واحد لا يزيد في هذه على تلك أبداً. فقد كان له إحساس بالعدل غير إنسي. وكان ينظر إلى كشوفه نظرة الناقد المتغالي حتى لكأنها لغيره. أما بستور فقد كانت في قلبه شهوة على البحث متقدة، فكانت تخرج من رأسه النظريات الصائبة تتلوها أخواتها الخاطئة في تتابع سريع كأنها صوارخ النيران انطلقت في مهرجان، ولكن في قرية، فخرجت على غير عمد وفي غير نظام.(133/26)
بدأ بستور يبحث عن مكروبات الأمراض فثقب دملا في عنق أحد أعوانه وربّى مما أخرج منه جرثومة؛ وما أسرع ما أيقن أنها أصل الدمامل وسببها. وبغتة ترك ما هو قائم فيه من ذلك وهرع إلى مستشفى فوجد مكروبه المتسلسل في أجسام النسوة وهي تموت، فما أسرع ما قال إنه مكروب حمى النَفّاس! ومن المستشفى طار إلى الريف ليكتشف أن دود الأرض يحمل بشلة داء الجمرة من جثث الأبقار الوبيئة المدفونة في باطن الأرض ويخرج بها إلى ظهرها، ثم هو لا يثبت كشفه هذا إثباتاً كاملاً. كان بستور عبقرياً في العباقرة، غربياً يحس بحاجة دفاعة إلى القيام بعشرة الأمور في آن واحد، ولا يحتفل بمقدار الدقة التي ينجزها بها فهي قد تنقص وقد تزيد، كل هذا ليكشف عن تلك الذرة من الحقيقة التي تتراءى في أكثر أعماله
خبط بستور في كل أرض، وهب مع كل ريح، وليس بعسير عليك أن تدرك في كثرة خبطاته وتنوع هباته أنه كان يتلمس طريقاً تؤدي به إلى سبق كوخ والتفوق عليه. أثبت كوخ في وضوح جميل أن الجراثيم تحدث الأمراض؛ لا شك في هذا. ولكن ليس هذا كل شئ. ليس هذا الإثبات أهم شئ. فأهم منه اكتشاف طريقة تمنع هذه الجراثيم من قتل الناس؛ أهم منه حماية الإنسان من الموت. وفي سبيل هذا ظل بستور يخبط طويلاً على غير هدى. قال رو يصف تلك الفترة من حياة بستور بعد أن فاتت بزمان طويل: (أي تجربة سخيفة لم نبتكر! أي تجربة مستحيلة لم نتخيل! ثم يصبح الصباح فنضحك من أنفسنا من جرائها ملء أفواهنا طويلاً).
لا بد لفهم بستور من تفهم أخطائه وانهزاما ته بمثل ما نتفهم إصاباته وانتصاراته. لم يكن لبستور صبر كوخ ولم تكن له دقته، فلم يهتد إلى ما اهتدى إليه كوخ من تربية الميكروبات نقية. فذات يوم أغلى بستور بولا في قبابة وزرع فيها بشلات الجمرة ثم نظر إليه بعد ذلك فساءه وغلظه أن وجد به ميكروبات دخيلة جاءته من الهواء. وفي الصالح التالي نظر إليه أخرى فلم يجد به من مكروبات الجمرة شيئاً. لقد ذهبت بها جميعاً مكروبات الهواء! وعندئذ يقفز بستور قفزة بارعة إلى الفكرة الآتية: (حيث أن مكروبات الهواء المسالة استطاعت أن تخنق بشلات الجمرة التي في القبابة فلا شك أنها فاعلة ذلك في الأجسام. والظاهرة واضحة: مكروب يأكل مكروب). وما أسرع ما صاح بذلك في الناس! وما أسرع ما كلف(133/27)
عونيه رو وشمبرلاند بإجراء تجربة بديعة في الخيال مؤداها حقن مكروب الجمرة في خنازير غينية ثم اتباعها بحقن مكروبات هادئة مسالمة رجاء أن تطارد في الدم تلك المكروبات الثائرة اللعينة فتقتلها وتزدردها ازدراداً. وأعلن بستور في جِدّ عابس قال: (إن هذه التجربة قد يكون من ورائها انفتاح الأبواب لعلاج الأمراض وشفائها). وهذا آخر ما تسمع منه عن هذه التجربة التي أثارت كل هذا الأمل الهائل. فهكذا كان بستور يخفي إخفاقاته عن العلماء فيحرمهم من درسها، وقد يكون في درسهم إياها الإصلاح والنجاح.
غير أنه لم يمض قليل من الزمن حتى كلفته أكاديمية العلوم أمراً غريباً وبعثته إنابة عنها رسولاً، وفي أداء هذا الأمر وإيجاز هذه الرسالة عثر بستور غير عامد على حقيقة أنارت له السبيل فاهتدى على نورها إلى طريقة يؤنس بها شوارد المكروبات فتنقلب من بعد عدائها للإنسان أمناً عليه وسلاماً. نعم وقع على هذه الحقيقة فأخذ بناء عليها يخط الخطط ويحلم الأحلام، فيجد نفسه قد أثار المكروب الحي بعضه على بعض، وبث فيه الخصام فأباد نفسه بنفسه، فنجا الحيوان والإنسان من الموت، وكفى الله المؤمنين القتال. وقصة ذلك أنه شاع في ذلك الوقت أن بيطرياً اسمه لوفرييه اكتشف علاجاً لداء الجمرة، وذلك في جبال الجور بشرق فرنسا. وذاع أمر هذا العلاج واشتهر. وشهد أعيان الناحية بأن مئات الأبقار شفيت به وهي على باب الموت، وإذن آن أوان العلم أن يقر هذا العلاج الجديد.
- 2 -
وبلغ بستور تلك الناحية من جبال الجورا، وصحبه أعوانه الشباب فوجدوا أن هذا العلاج المعجز يتلخص أولا في أن يقوم نفر من الفلاحين بدعك البقرة المريضة دعكا شديدا لتحتر ما استطاعت إلى الاحترار سبيلا، ثم يشرط جلد البهيمة المسكينة شرطا، ويصب زيت التربنتينة على هذه الشروط صباً، وبعد التمثيل بها هذا التمثيل الشنيع يغطى جسمها إلى رأسها بطبقة سميكة من مادة لا نذكرها تأدباً، وذلك بعد نقيعها في الخل الساخن، وتظل البقرة تصعق بالخوار شديداً من الألم ولا سامع ولا راحم. أما وقد تم كل هذا، وقد ودت البائسة المعذبة لو تموت، فيغطى جسمها أجمع بثوب شامل ليستبقي هذا المرهم الغريب عليها زمناً مقدوراً.
قال بستور للوفرييه: (إن البقر الذي تصيبه الجمرة لا يموت كله بل يشفى بعضه من ذات(133/28)
نفسه. وعندي تجربة لا أرى عدلا لها ترينا هل حقا علاجك هو سبب خلاص هذه الأبقار. فهيا بنا يا عزيزي نجرب)
وأحضر لهما أربع بقرات، وقام بستور في حضرة لوفرييه وبشهود وفد عليه سيما الجد من المزارعين، فطعن الأبقار في أكتافها أربع طعنات من محقنه بعد أن ملأه بزريعة من مكروبات الجمرة، فانساب في أجسامها مقدار يقتل الشاة الواحدة بالتحقيق ويقتل من الخنازير الغينية عشرات. وفي الغد عاد بستور ولوفرييه ووفد المزارعين فوجدوا الأبقار جميعاً قد علت أكتافها أورام حادة محمومة، وهي تتنفس شخيراً. فلم يعد شك في أنها في إبان مرضها.
قال بستور لصاحبه: (والآن يا دكتور، تقدم فاختر بنفسك بقرتين من هذه الأربع المريضة. ولنسمها أ، ب فخذها وعالجها على نحو ما تفعل. أما هاتان البقرتان الأخريان ج، د فدعهما بلا علاج) وقام لوفرييه على البقرتين البائستين يصب عليهما النقمة التي تدعى علاجاً. فكانت النتيجة ضربة قاضية على العلاج وعلى صاحبه الذي أحسن النية وقصد الخير - ذلك إن إحدى البقرتين اللتين عولجتا ماتت وسلمت الأخرى، وإحدى البقرتين اللتين لم تعالجا ماتت وسلمت الأخرى.
قال بستور لصاحبه: (حتى هذه التجربة كان في إمكانها أن تخدعنا، فلو أنك أعطيت دواءك للبقرتين ا، د بدلا من ا، ب وحدث الذي حدث، أذن لظننا أنك وقعت للجمرة على خير علاج) مات في التجربة بقرتان، وسلمت فيها بقرتان وشفيتا لكن بعد أن عانت من الداء الأمر. ففكر بستور فيما هو صانع بهما، قال: (أظن أنه لا بأس من حقنهما مرة أخرى بنسل من مكروب الجمرة أخبث من الأول. إن عندي في باريس نسلاً شديد الفتك لو أنه حقن في كركردن لسود ليلته وأفسد عليه نومته) وبعث بستور في طلبه من باريس فلما جاء حقن منه قطرات في كتف البقرتين، واصطبر ينتظر مرضهما فلم يمرضا، حتى الورم لم يحصل حيث ضرب بإبرة المحقن من كتفيهما. وبقيت البقرتان سليمتان هنيئتين ولم تحفلا بالذي كان!
فقفز بستور إلى إحدى استنتاجاته السريعة، قال: (أن البقرة التي تصاب بالجمرة ثم تشفى لا تأتيها الجمرة مرة أخرى ولو حقنت بما على ظهر البسيطة من مكروب هذا الداء - إنها(133/29)
إذن تصبح حصينة). وأخذت هذه الفكرة تدور بفكره ثم تدور، يلعب بها وتلعب به فلم تسمع أذنه ما ألقت زوجه عليه من سؤال، ولم تر عينه ما وقعت عليه الأشياء. (كيف أستطيع أن أعطي الحيوان شيئا قليلاً من مرض الجمرة، شيئاً يعطيه الداء ولا يقتله، ولكن يتركه من بعد ذلك حصيناً. . . . كيف السبيل إلى ذلك. . . . لا بد من سبيل. . . لا بد أني واجده)
ومضت أشهر وبستور على هذه الحال. وكان يقول لرو ولشمبر لاند (أي سر في الدنيا أشد خفاء من أن المرض الخبيث إذا زار مرة وارتحل، فلن يعود مرة أخرى) وبقى يردد بين شفتيه: (لا بد من الحصانة لا بد أن نحصن من المكروب. . . . لابد. . . . لابد.)
(يتبع)
احمد زكي(133/30)
نظرية النسبية الخصوصية
المقال الثاني وحدة قوانين الطبيعة والبعد الرابع في النسبية
للدكتور إسماعيل احمد أدهم
عضو أكاديمية العلوم الروسية
- 5 -
إنه من غير الممكن التوفيق في نظام غاليلي (نسبة لغاليلو العالم الفلكي الإيطالي) بين سنة النسبية الكلاسيكية ومبدأ انتشار النور بسرعة ثابتة إلا برد مبدأي إطلاق الزمان والمكان والرجوع بهما إلى هيئات القياس، أعني إلى مبدأ نسبتيهما إلى الهيئة التي تقاسان بالنسبة لها. فإذا فرضنا نظاماً مادياً مثل (ع) ومن نقطة مثل (م) فيها لنفرض أن شعاعة ضوئية مثل (ص) صدرت، فستكون سرعة هذه الإشارة الضوئية واحدة في كل الاتجاهات. فإذا فرضنا أن هذه الإشارة الضوئية حددت في زمان مثل (ت) وكان مرموزاً لسرعة الضوء بالرمز (ن) فهذه الشعاعة ستتبع القانون الآتي:
ك2 + ي2 + ز2 - ن2ت2=م
لننتقل إلى نهاية امتداد نظامها، وهنا الرموز ك، ي، ز، تمثل ثلاث حوادث حدثت في الكون (ع) فإذا فرضنا نظاماً مادياً أخر مثل (ع) متعامدة على النظام الأول وتتحرك حركة نسبية إزاءها فأن الدستور أو القانون الدال على الحادثات يتغير من الأول إلى آخر هو:
ك21 + ي21 + ز21 - ن2 ت21=م
وفي هذا القانون يكون الرمز (ت1) لأوان الزمن الذي بدأ فيه انتشار الشعاعة الضوئية والمقادير
ك، ي، ز، ت، ك1، ي1، ز1، ت1
لما كانت ظواهر مستمدة من الإشارات الضوئية حدثت في الكون (ع) كان معنا المعادلة:
ك2 + ي2 + ز2=ن2ت2=أ (ك21 + ي21 - ز21 - ن2ت21=م
وهنا (أ) رمز لسنة التقلص، ولما كان خط الانتقال من النظام (ع) إلى (ع1) لا يؤثر في الحادثات لثبوت قوانين الطبيعة كانت القوانين الطبيعية في النظام (ع) هي القوانين التي(133/31)
بالنظام (ع1)؛ واستناداً إلى ما تقدم نقرر أن: أ=1 فيكون القانون الدال على حركة انتقال الشعاعة من (م) إلى نهاية امتداد حد النظام بالنسبية للنظام المادي (ع) هو نفسه القانون الدال على الانتقالية بالنسبة للنظام المادي (ع1) وينشأ بذلك معنا المعادلة الآتية:
ك2 + ي2 + ز2 - ن2ت2=ك21 + ي21 - ز21 - ن2ت21
لأن سرعة النور تنتشر بسرعة ثابتة في جميع الاتجاهات وإذا ما فرضنا أن في النظام (ع) المادي المحاور: م1ك1، م1ي1، م1ز1
موازية للمحاور م2ك2، م2ي2، م2ز2 في النظام (ع1) وفرضنا أن المحورين (م1ك1) و (م2ك2) موازيان لاستقامة السرعة النسبية (س) فبالنسبة لراصد مثل (ص) يرصد الحادثات ك، ي، ز في النظام (ع) والحادثات ك1، ي1، ز1 في النظام (ع1) أن حدثت في الزمان (ت2) حوادث النظام (ع) فلتحقيق المساواة العليا يجب أن يتحقق أن:
ك2=ق (ك1 - س ت1)
ي2=ي1
ز2=ز1
ت2=ق (ت1 - س ك1ن2)
ك1=ق (ك2 + س ت2)
ي1=ي2
ن1=ز2
ت1=ق (ت2 + س ك2ن2)
حيث كان فيها ق رمزاً لقانون التقلص أعني أن
ق=أ=1 (1 - س2ن2)
هذه المقادير الرياضية شهيرة بقوانين التحويل اللورانتزي نسبة إلى كاشفها العلامة لورانتز الهولندي، وهذه المقادير ما دامت قد استخرجت مرة واحدة فيجب قبول مبادئ الميكانيكا التي أذاعها لورانتز كنتيجة مسلسلة من نظرية النسبية الخصوصية.
- 6 -(133/32)
أوضحنا فيما سبق أن أفكار اينشتين في النسبية الخصوصية تقوم على أساسين:
الأول: انتشار الضوء بسرعة ثابتة في الأكوان المختلفة أعني أن الأمواج النورية ليست تتبع مصادرها من حيث الحركة والسرعة، فبمجرد انطلاق موجة نور من منبعها تستقل عن مصدرها وتنتشر خلال الفضاء وفي رحاب المكان بحركة منظمة ذات سرعة ثابتة
الثاني: الحوادث التي تقع داخل أكوان تتحرك بازاء بعضها تنظم من حدوثها قوانين طبيعية تكون في جميع أطوارها ثابتة لا تتغير.
والمبدأ الثاني نتيجة للأول. ومن هذين المبدأين يستنتج انشتين القاعدتين الآتيتين:
الأولى: أن سرعة النور لها مقدار ثابت لا يتغير
الثانية: ينظم من حدوث الحوادث التي تقع في أكوان تتحرك بازاء بعضها حين انتقالها من كون إلى آخر قوانين التحويل التي كشف عنها العلامة لورانتز.
وبذلك تحافظ معادلات المجال الالكترومغناطيسي على صبغتها التقديمية بينما قوانين غاليلو تغير من هذه الصيغة
إن قوانين لورانتز لا تتفق مع قوانين غاليلو، ذلك لأن الثانية تقوم على مبدأ إطلاق الزمان في الوقت الذي تقوم فيه قوانين لورانتز على مبدأ نسبية الزمان، ومن بين قوانين لورانتز وغاليلو تكونت تجربة (ميكلصون - مورلي)
كان من المنتظر أن تعطي تجربة (ميكلصون - مورلي) نتيجة إيجابية بالنسبية لمجاميع غاليليو التحويلية بينما كانت ترجح لها نتيجة سلبية بالنسبة لمجاميع لورانتز التحويلية من حيث كونها تتضمن مفهوم كل من الزمان والمكان نسبياً.
لقد تأيدت معادلات التحويل التي أذاعها العلامة لورانتز بنتيجة (ميكلصون - مورلي) السلبية وكانت نتيجة هذا التأييد أن رجعت بالميكانيكا الكلاسيكية إلى مبادئ الالكتروديناميكا.
وعلى وجه عام فقوانين المجال الالكترومغناطيسي صحيحة إلا أن قوانين ومبادئ الميكانيكا الكلاسيكية يمكن تطبيقها على السرعات العادية التي هي كسر ضئيل من سرعة الضوء. وفي السرعات الكبيرة يلزم الرجوع لقوانين المجال الالكترومغناطسي. وفي حالة تطبيق المبادئ الميكانيكية الكلاسيكية للسرعات البسيطة يجب أن توفق مع قوانين لورانتز(133/33)
التحويلية.
إن نظرية كلارك ماكسويل في الكهرب مغناطيسية تقوم على أساس ثبات سرعة الضوء، وعلى التأثير القربي في انتشاره، وبذا تتحقق دساتير وقوانين التحويل التي أذاعها لورانتز ويتقرر مبدأ نسبية الزمان وينتفي إمكان وجود أية علاقة تربط أثراً ذا سرعة لا متناهية كالضوء بالمؤثر، أعني منبع الضوء.
وخلاصة القول إن علم الحركات الذي كشف عنه اينشتين هو علم الحركات التجريبي، وهو يستند على دساتير لورانتز التحويلية وتومئ إلى وحدة قوانين علم الحركات.
(تم المقال الثاني)
إسماعيل أحمد أدهم(133/34)
تاريخ الأدب النسوي في فرنسا
للأستاذ محمد بك كرد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وما ظهرت تباشير القرن التاسع عشر، حتى صحت العزائم على تعليم المرأة تعليماً رسمياً، ففي سنة 1836 منحت حق التعليم الابتدائي العالي، وفي سنة 1850 نشر قانون يقضي بإنشاء مدرسة في كل كورة يتجاوز سكانها ثمانمائة إنسان، وبعد سبع عشرة سنة عم هذا القانون الأقاليم بأسرها ولاسيما ما يجاوز سكانه الخمسمائة. وفي سنة 1878 نشر أحد عظماء الكتاب كتاباً أسماه (الجوارب الزرقاء) أورد فيه عدة مقالات في المتأدبات والكاتبات، وقال أن هذا الجنس من النساء الكاتبات قد خرجن عن الأنوثة، وما هن إلا الرجال، بيد أنهن لم يبلغن مبلغهم، يريد بقوله صاحبات الجوارب الزرقاء النساء اللائي كن لكثرة ما صرفن من همتهن العقلية قد بلغت حالهن أن يذهدن في التجميل ويلبسن جوارب زرقاء مثل المعجبات بأنفسهن في إنجلترا.
واستطاعت المرأة بعد هذه الحقبة من الزمن أن تظهر بظهور مدام كوري تلقى دروساً في (كوليج دي فرانس)، وما بقيت قلعة للذكور إلا وتخطاها النساء، حتى ولا مدرسة المعلمين العليا ولا منابر الجامعات، ولم يبق أمامهن عائق يعوقهن عن التعلم، ونشر ما يستهوى قلوبهن، ويرضي نفوسهن، وأصبحن في حل من أن يتعلمن كما شاء لهن الهوى؛ وغدا منهن الأساتيذ والصحافيات ومديرات دور الطباعة، وأخذن ينافسن الرجال في جوائز الأدب والمجامع الأدبية العامة والخاصة، فتمت لهن كل أدوات الثقافة في بيوت العلم، ولكن القرائح تخلق خارج المدارس، وللنساء أن يتوسعن ما شئن، وليس في مقدورهن أن ينبعثن إلى الحد الذي يطمحن إليه، ولا يسرح النساء ويمرحن إلا في ظل الحرية، فإذا أخذن من عنان قرائحهن يفقدن أجنحتهن. ولذا بقين إلى أول القرن العشرين يمشين على أثر الرجال، ولم يتحررن التحرر المطلوب إلا في هذا القرن. حتى لقد قال ستندال إن قلة استعداد المرأة لبلوغ مراتب الكمال في تأليف النساء منبعث من كونهن ما جسرن ذات يوم أن يتحللن من قيودهن إلا نصف تحلل، ومتى حاولن الحرية المطلقة فكأنهن يخرجن بلا(133/35)
خمار، على أنهن بعد هذا القول خرجن بلا براقع، وأحياناً بدون دثار ولا شعار؛ والسعادة لم تحالف العاملات من هذا الطراز، فإنهن إذا أغلقن أبواب غرفهن وصرن إلى خلوة لا يسعهن العزاء بعلمهن العقلي، على حين يحاولن أن يجدن لأنفسهن عزاء، فيأتي الشيطان يعبث بأهوائهن، وقلَّ فيهن من تنسى الحب والغرام، فإذا اشتد إغواؤهن أصبح عسرهن إلى مياسرة، وتداعت كل قوة كن يعتصمن بها.
والواقع أن النساء بأسرهن عبيدات حواسهن وأعصابهن وقلوبهن، لا ينجع فيهن اعتراض إذا خالف قانون الطبيعة وأعني الحب. وكان الأديبات منهن إذا مجدن الحب بالمعنى الوجيز يجهلن حب الأمومة على ما تجلى ذلك في مكتوباتهن، ومع هذا تراهن يتكلفن فيما يكتبن ويتطلبن إلى حواسهن وقلوبهن أن تعطي اكثر مما لها، وما كتب لهن إلا أن يكن أدوات تحس وتهتز، وأن يجعلن من العالم مجموعة أحاسيس. وإذا فحصت الأدب النسوي المعاصر من حيث الإنشاء تسقط فيه على قرائح عظيمة وعلى نبوغ أيضاً، ولكن قل أن تقع فيه على شئ اسمه فن. ويقال إن النساء ما عدا اثنتين أو ثلاث منهن لا يحسن التفريق بين المواد التي تتطلبها الحياة، فمنهن من تجتهد اجتهاداً ينتجن به آثاراً طيبة، وكثيرات يرسلن أقلامهن على فيضها كما يشاء الهوى، لا يحفلن التنقيح ولا سلامة التراكيب. وفيهن من اتخذت الأدب للسياسة، ومنهن من عانين فلسفة الأخلاق، ومنهن من مارسن في التربية وظللن فيها متوسطات لم يأتين بإبداع، وفقد في أدبهن التجدد على حين رأينا الأدباء والكتاب بعد الحرب أحدثوا طرائق لهم جديدة خالفوا فيها طرائق الآداب قبل الحرب العامة.
لا جرم أنهن لم يكتب لهن التفوق على الرجال أن التدقيق يصعب عليهن، حتى أن القصصيات منهن لم يتوخين إلا وصف الحب في كل مظاهره، جعلنه موضوع قصصهن؛ وكذلك كان القصصيون، ولهؤلاء قدرة على معرفة المداخل والمخارج في أقاصيصهم، يتبعون العقل، ويحسنون تطبيق الأصول اللازمة، ولم يعهد لامرأة أن برزت، فكانت مؤلفة في الدرامة، وما جاء منهن مؤرخة. فالمرأة تحسن أن تضحك من مثيلاتها، ولكنها لا تحسن الإضحاك. أما الرجل فيحسن نقد نفسه، كما يحسن أن ينتقد غيره؛ والنساء يحاذرن كثيراً من المزاح الذي يأتي على الاعتبار والحرمة والحب. وهن مجموعة عواطف تحس(133/36)
بالحاجة كل الإحساس وتخشى أن تقع فيها، حتى لتضن بالابتسامة صادرة عن امرأة لا تنافسها، وكذلك حالها في التاريخ، فقد نشأ في النساء مدونات مذكرات بكثرة، وقصصيات، ومنهن اليوم أستاذات في التاريخ وأستاذات في استخراج المكتوبات والمخطوطات، يستطعن بما ثقفن من معارف أن يعملن عملاً علمياً وما كان منهن إلى اليوم مؤرخة من عيار (أوغستين تيري)، ولا (ميشليه)، لأن اللازم للتبريز في هذا الشأن معلومات كثيرة ليس في مكنة النساء احرازها، بل الواجب أن يكون لها مع ذلك فكر نقاد عار عن كل هوى للتمييز بين الحقائق والظنون، وعقل مجرب لإدراك ألوف من الروابط تجمع الحوادث بعضها إلى بعض، ورأي أكيد قادر خال من التفصيل في العواطف، وقدرة على النظر إلى عصر واحد نظرة واحدة؛ ولهذا لم ينشأ من النساء امرأة عظيمة واحدة في باب النقد الأدبي والفني، ولا كان منهن فيلسوفة تلفت النظر. ومن النساء من كانت لهن مقدرة على الاستفادة من دروس أساتيذهن، ليس فيهن واحدة ابتدعت مذهباً، وما قام منهن واحدة استطاعت أن تنتج مثل (خطاب في التاريخ) ولا (الأفكار لباسكال) فهن قاصرات في جميع الفروع التي تستلزم من المؤلف التجرد المطلق من نفسيته، وما لمعت أعمالهن إلا في موضوعات لا فن فيها؛ وقلائل منهن من كتب لهن التفوق في الإنشاء والكتابة، إلا من قادهن الرجال في عملهن، فان (مدام دي لافاييت) أشرف عليها (سكري) و (لاروشفو كولد)، و (مدام دي ستال) سارت بسير أصحابها العديدين، و (جورج ساند) قادها عشاقها، (ومدام كوليت) راقب أعمالها (فنيلي).
فإذا لم تتح مواهب النساء الطموح لهن إلى منزلة في الأدب المجرد، فقد شهدنا في آثارهن أحياناً أنها خالية من الصنعة، فصح أن يقال أن ليس لهن قدرة على التفكير الصحيح، والتوسع اللازم لوضع الفكر المجرد والإنشاء الفني؛ ولذلك تساءل (بول فاليري) عما إذا كانت المرأة ستظل إلى الأبد ظاهرة التوسط في معاناة الأعمال الفكرية، ناقصة في معاني الإبداع والحرية، وعما إذا كان هذا الضعف الملازم هو ثمرة استعبادها زمناً طويلاً. قال: وأنا أود أن يكون الأمر كذلك، ففي الحالة الأولى تكون قد عبثت بها الأقدار الفسيولوجية، وفي الحالة الثانية يحكم عليها بأن انحطاطها ناتج من أخلاقها. قال ولا يخفى ما تؤثره الأخلاق التي تخلق البشر بها والقوانين التي ساروا عليها قروناً في مجموعة التركيب(133/37)
البشري.
ولم يكتب للنساء درجة عالية حتى في فن الطهي، ورأينا كبار الطهاة من الرجال لا من النساء، وتراهن في باب الأزياء، والأزياء من أخص خصائصهن، ينثنين على أنفسهن ليتجملن، فهن في هذا الباب أيضاً مقودات بأيدي الرجل، بل إن النساء الملكات كما لاحظ (باربيه دورفيلي) قد فقدن البداهة والعمل الذاتي وما ساعد الملكة (اليزابيث) الإنجليزية إلا بورليخ، وإذا ذكرت (كاترين) الروسية ذكرت معها بطرس الأكبر.
وقد ظهر من أبحاث العلماء في جميع الأمم أن الطبيعتين الأنوثة والذكورة متخالفتان، لا في ظواهرهما بل في أعمق تراكيبهما؛ والأطباء يقولون إن كلا من الفتى والفتاة ينشأ نشأة طبيعية متخالفة، ويكثر الموت والضعف في الصبيان، ويتجلى الذكاء والإحساس والحكمة في الطفلة، قبل تجليه في الطفل؛ ولا تزال الفروق بينهما تتزايد من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة؛ ويبدو في الصبيان الاستعداد لتعلم الحساب والعلوم المقررة كما يبدو للفتيات بفضل خصوبة إحساسهن، جمال إنشائهن ورقة نشوئهن بالقياس إلى خشونة كتابة الصبيان؛ وبعد اجتياز هذه السن الصعبة يرتقي الصبيان ارتقاء دائماً، أما الصبايا فيقعن فجأة مأخوذات بحالة جديدة، وهي حالة المرأة؛ وكثيرات فيهن من يتركن عندئذ كل عمل. وادعى بعضهم إن ذكاءهن يضمحل في ذاك الدور ليقوم مقامه حس ينصرف إلى الذل، والغزل، والموسيقى، والقراءة، وأعمال الإحسان؛ وكثيراً ما يكون أحسن التلميذات في سن الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة ممن تأخر نموهن؛ وبينما يكون البلوغ في الصبي داعياً إلى توسع فكره، وحاملا له على معاناة المسائل الكبرى فوق الطبيعة، تنثني الفتاة على نفسها، وتمشي مع إحساسها، ثم تعاني مشاكل الحب والأمومة، خلافا لما ادعته (مدام دي ستال) من أن الأرواح ليس لها جنس معين.
وقد قرر العلماء إن تشريح الجنسين متخالف كل التخالف، فالقامة وثقل الجسم أقل في النساء منهما في الرجال؛ وقوة الأعصاب في الفتيات أقل مما هي في الرجال بنحو الثلث؛ وجماجم البنات أقل استعداداً للنمو وأدمغتهن أقل وزناً، حتى بالقياس إلى الوزن العادي. وقرر العلماء أن حاسة الشم والذوق في النساء أقل مما هي في الرجال؛ ولذلك قل أن استخدم أرباب المعامل النساء في الأعمال التي تتطلب التمييز بين الألوان والأذواق، مثل(133/38)
التفريق بين الخمور والشاي، ومراقبة الصوت وإصلاح (البيان). قالت (مدام دي رموزا): إن الحس أكثر ملازمة لنا معاشر النساء من الملاحظة. واستنتج من هذا أن ذاكرة النساء أقل اضطلاعاً بالمسائل من كل وجه من ذاكرة الرجل. واضطراب المرأة اعظم بكثير من اضطراب الرجل. وتزيد في بعض أدوار حياتهن اضطراباً حتى تكون مرضاً وحرضاً تبعث على الغضب، وتصبح مدة الحمل أحياناً في مثل جنون عارض. وهكذا انفرد الرجل بالذكاء والمرأة بالشعور؛ والرجل في كل حين يفكر ويقدر، والمرأة تشعر وتحس. فالشعور فيهن هو كل ما لهن من آيات النبوغ. قالوا إن المولى أبى أن يرزق النساء قرائح لتتجمع كل جذوتهن في القلب.
قال وقد يعترضني أناس كثيراً من الفتيات أحرزن المقام الأول في المسابقات العلمية والأدبية الصعبة، ولكن (خيركوف) بحث في فتيات الجامعات فانتهى به البحث إلى أن الطالبات قد أهبن بالحافظة والمعلومات الجدية التامة المدققة أكثر من الطلاب؛ فالطالبات ينقصهن الاستقلال والتعمق في الفكر. فهن آخذات غير موجدات. وقارن المؤلف بين ثلاثة من الكتاب: (بوسويه) و (فلوبير) و (بول فاليري)، وبين ثلاث كاتبات (مدام دي سيفينه) و (جورج ساند) و (مدام كوليت)، فثبت له أن في إنشاء الرجال منطقاً سليماً، وفكراً مستقيماً، كانت فيه متانة جملهم، ورنة أصواتهم الموسيقية وتساوق المجموع من أقوالهم، على خلاف كتابة أولئك الكاتبات العظيمات.
قال ولا سبيل إلى إنكار تأثيرات العرف من القرون في تربية المرأة. ولعل أوربا تشهد في مستقبل الأيام حالة تشبه ما نراه من مثلها في الولايات المتحدة اليوم، وهي أن الرجل يشتد في اقتناص المال عاملاً له كل ساعة، والمرأة مستغرقة أبداً في تثقيف نفسها، وعندئذ ينشأ من النساء الهواة المنورات، والكاتبات البارعات، والمغنيات الباهرات، يكن مناراً يهتدي به الرجل الساري في الحياة. أما الآن فالنساء ينقلن عن الرجل، والناقل بنقله معترف ضمناً بتفوق من ينقل عنه.
محمد كرد علي(133/39)
للتاريخ السياسي
عشرة أيام بئيسة مشروع
لافال - هور والرأي العام دواعي هذه الخطة الوخيمة العواقب
للدكتور يوسف هيكل
بقية ما نشر في العدد الماضي
موقف كل من الإمبراطور وموسوليني:
في 16 ديسمبر أبدت الحكومة في ديسي رأيها في اقتراح باريس، وهي تعتبر أن إعطاء إيطاليا المعتدية قسماً من الحبشة يكون مشجعاً لها أن تعمل على اكتساح الحبشة مرة ثالثة، وأن الاقتراح القائل بإعطاء إيطاليا امتيازاً اقتصادياً في جزء كبير من الحبشة لأشد ضرراً من الانتداب، وأن حكومة الإمبراطور موقنة بأن مجلس العصبة سوف يرفض الاقتراح عند اجتماعه في 18 من ديسمبر.
وبهذا التصريح أظهر الإمبراطور مهارة دبلوماسية لا تقل عن مهارة كبار السياسيين اليوم. إذ رفض (الاتفاق) بصورة غير مباشرة؛ ووضع عصبة الأمم أمام حقائق قانونية لا يمكن أن تحيد عنها دون أن تحيد عن مبدئها الأساسي.
وقد أجاب الإمبراطور أحد الصحفيين عند ما سأله رأيه في (الاتفاق) قائلاً: (إن جنودي لم تقهر بعد)!.
أما السنيور موسوليني فقد أخذ يماطل في الإجابة. لقد طلب من باريس ولندن إيضاحاً عن بعض النقط في (الاقتراح) وأجل الجواب إلى ما بعد انعقاد المجلس الفاشستي الكبير في 20 ديسمبر.
وفي خلال ذلك أخذت الصحافة الإيطالية تعلن أن (الاقتراح) لا يسد حاجة إيطاليا!. . . .
اختط موسوليني هذه السياسة اعتقاداً منه بأنه يستطيع بذلك أن ينال زيادة على ما جاء في (الاقتراح). وقد فقد بذلك بعض أصدقائه في فرنسا، وأخذ كثير من الصحافيين الذين كانوا يمجدون اسمه ويدافعون عنه ينتقدون سياسته ويلقون عليه تبعة الأزمة الدبلوماسية الحالية.
ولما رأى موسوليني أن الرأي العام العالمي ضد الاقتراح وضد أي اعتراف له بحق(133/40)
الحبشة، عاد إلى سياسته الكلامية التهديدية، فألقى خطاباً في يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر وصرح فيه بأن إيطاليا ستستمر في سياستها الحبشية إلى أن تخرج منها ظافرة.
ومما جاء في قرار المجلس الفاشستي الأكبر الذي انتهى انعقاده صباح السبت الموافق 21 ديسمبر: إن المجلس يثبت بأن عمل إيطاليا سيستمر، وأن القرار لقاطع للوصول إلى الهدف الذي اختطه الدوتشي.
ولما رأى موسوليني إن مجلس النواب في لندن قد رفض (الاقتراح) وأن جمعية الأمم لم تقبله، طلب من سفيريه في باريس ولندن إخبار الحكومتين بأن روما سوف لا ترسل جواباً على (اتفاق باريس) نظراً لموته.
الأسباب الحقيقية التي دعت مسيو لافال إلى وضع
(المشروع):
منذ أن وضع مسيو لافال يده على زمام سياسة فرنسا الخارجية بعد وفاة مسيو برتو في فاجعة مرسيليا وهو يتبع سياسة مسيو (دلكاسيه) المؤدية إلى حصر ألمانيا.
لهذا قام بتصفية الخلاف مع إيطاليا، وبعقد معاهدة مع الروسيا، وقد حاول أن يحتفظ بصداقة بريطانيا ولكن دون أن يثق بها كل الوثوق؛ ويمكن القول بأن هذه المحاولة كانت ظاهرية، إذ أن لافال يكن ضغينة في نفسه لحكومة لندن، وذلك من جراء عقدها المعاهدة البحرية مع برلين دون أخذ رأي باريس في ذلك.
ومن المؤكد أن لافال قد أكد لموسوليني بأنه سوف لا يقف ضد مناهجه في شرق أفريقيا، وأن السياسة التي اتبعها لافال في المسألة الحبشية تثبت لنا ذلك.
لقد حاول لافال قبل إعلان الحرب أن يتوصل إلى إقطاع موسوليني امتيازات كبيرة في الحبشة عن طريق سلمية ففشل في ذلك. ثم أخذ يحاول تخفيف شدة العقوبات الاقتصادية التي وضعتها العصبة على إيطاليا فأخفق سعيه. وأخيراً بذل جهده في تأجيل عقوبة البترول فوفق؛ ولما رأى أنه لا يستطيع تأجيلها مرة ثانية وان لجنة العصبة ستبحثها في الاجتماع الذي حدد لها وذلك في 12 ديسمبر، وضع (المشروع) وورط هور في توقيعه؛ وذلك بإظهاره له أن إيطاليا ستعتبر حظر البترول عملاً حربيا وتهاجم البواخر الإنكليزية.(133/41)
وإذ ذاك تتحول الحرب إلى حرب إيطالية إنكليزية فقط. إذ أن فرنسا لا تستطيع مساعدة بريطانيا فوراً كما انه لا توجد دولة من أعضاء العصبة مستعدة لذلك. أمام هذا التحذير وأمام الصعوبات التي تجابهها حكومة لندن في هذه الأيام من أحزاب عمال مناجم الفحم، ومن الصعوبة التي تجدها في المؤتمر البحري المنعقد في لندن؛ ومن اضطرابات مصر. . . . أمام هذه العقبات خشي هور الحرب مع إيطاليا فوقع (المشروع). وبذلك تمكن لافال من تأجيل مسألة الحصر البترولي بصورة غير مباشرة إن لم يكن قد قتلها.
ولكن لماذا يبذل لافال هذه الجهود الجبارة في مساعدة موسوليني؟.
إن سياسة وزارة خارجية فرنسا كانت منذ حرب السبعين تعمل على توطيد العلاقات مع كبرى الدول الأوربية بعقد معاهدات معها. . . لتكون في مأمن من الخطر الجرماني. ولما وضعت الحرب أوزارها وأنشئت عصبة الأمم، رأت وزارة الخارجية الفرنسية أن تستغل هذه المؤسسة وتستعيض بها وبسياسة السلام المشترك عن سياسة المعاهدات. وقد بذل مسيو بريان في سبيل ذلك جهوداً جبارة. . . .
غير أن لافال حاد عن سياسة فرنسا الجديدة وعاد إلى سياسة ما قبل الحرب: سياسة المعاهدات. . . وحصر ألمانيا وتكوين جبهة قوية ضدها، فتمكن من إيجاد تحالف بين فرنسا وإيطاليا من جهة، وبين فرنسا والروسيا من جهة ثانية. . . .
وهو في سبيل المحافظة على صداقة إيطاليا والعمل معها ضد ألمانيا قد ضحى بمبدأ عصبة الأمم وسياسة السلام المشترك - ضحى بذلك برغم تصريحاته العديدة بأنه لا يزال يعمل ضمن سياسة جنيف ومن اجل المحافظة على صداقة إيطاليا يبذل لافال جهده في تثبيت مركز موسوليني الدولي - إذ هو يعتقد أن زوال حكم موسوليني في روما أو زوال نفوذه ربما يغير مجرى السياسة الإيطالية، فلا تستفيد فرنسا من المعاهدة التي عقدتها مع موسوليني، هذا إذا لم تتقرب إيطاليا من ألمانيا وتكونا جبهة قوية. . . خطرة على فرنسا. وفي سبيل ذلك قد وتر علائقه مع بريطانيا، إذ من المحال الاحتفاظ بمحالفة موسوليني وصداقة بريطانيا معا في الظروف الحالية.
فهل أصاب لافال بسياسته هذه؟ وهل مكن مركز فرنسا الدولي وأبعد عنها كل خطر جرماني؟(133/42)
إن ألمانيا تتسلح الآن بكل ما لديها من قوة، وأنها ستضع قوتها يوماً ما في حيز العمل، غير أنها قد أخذت درساً كبيراً في الحرب العالمية، وهو أنها لا تستطيع قط محاربة العالم، وأن أي حرب تكون فيها فرنسا وبريطانية في صف واحد خطرة عليها. لهذا يبذل ساسة ألمانيا جهدهم في تفريق وحدة دول جنيف وإضعاف سياسة الأمن المشترك من جهة، وفي التقرب من بريطانيا وإبعادها عن فرنسا من جهة ثانية، وهم إن تمكنوا من ذلك اتسع المجال لعملهم وتنفيذ مناهجهم.
ومن الغريب أن نرى أن سياسة لافال الحالية، تعمل بصورة غير مباشرة على تطبيق المنهاج الألماني! وفي تطبيقه زوال مركز فرنسا الدولي، وهو رفيع، وإضعاف سلطانها.
وإننا نعتقد أنه لا أضمن لسلامة فرنسا واستمرار عظمة نفوذها الدولي من تقوية جنيف وتثبيت سياسة الأمن المشترك؛ وبتثبيت هذه السياسة وبالمحافظة على الصداقة البريطانية يزول عن فرنسا كل خطر جرماني.
ومن هنا نرى أن لافال قد أخطأ كثيراً في تضحية هذه القوى الجسيمة في سبيل المحافظة على موسوليني وكيانه، وأن مشروعه كان غلطة فادحة تجر على فرنسا ضرراً جسيماً لو نفذ، ناهيك بالأضرار الجسيمة الأخرى التي تنال السلم العام وحقوق الدول الصغرى.
(لندن)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق من (حكومة فرنسا)(133/43)
3 - سكان أعالي النيل
بقلم رشوان احمد صادق
المجموعة الحامية النيلية
البادي
يسكن جنوبي منطقة الدنكا أي (في أعالي بحر الجبل) عدة قبائل تتكلم اللهجة البادية نسبة إلى شعب البادي، وبهم بعض الشبه من شعب الدنكا، ولابد أنه حصل اختلاط في المنطقة التي يسهل أن يحتك فيها الدنكا بالقبائل البادية خصوصاً في المجموعة المسماة الشير، ومع ذلك فهم ليسوا زنوجاً نيليين، وهم وإن كانوا ثقافة ولغة وجنساً يتبعون النصف حاميين في شرق أفريقيا لتغلب العنصر الحامي في تكوينهم إلا أنهم يعتبرون ضمن مجموعة قائمة بنفسها وهي، (المجموعة الحامية النيلية).
ويمكن تمييز نوعين من الجماعات التي تتكلم اللهجة البادية: جماعة شرقي بحر الجبل، وجماعة غربة. والمجموعة الشرقية تنقسم إلى عدة قبائل، ويظهر أنهم كانوا يتبعون النظام الطوطمي لوجود بقاياه في بعض القبائل، إذ يعتقدون بانتقال روح الميت إلى حيوان مخصوص عندهم.
والرجل الذي يقوم بعملية استنزال المطر هو رئيس القبيلة، ومركزه يختلف عن مركز الرئيسالروحاني عند الزنوج النيليين، فإذا أخفق في استنزال المطر فانه يذبح في الحال، ويدور البحث عن غيره ليحل محله. كذلك يوجد عدة رؤساء يطلق على كل منهم اسم (صاحب الأرض أو الأب)، وهو اسم يعطى لكل من جهز قطعة أرض وزرعها، وكذلك يمنح هذا الاسم لخلفة؛ وينحصر عمل هذا الرئيس في القيام ببعض التعاويذ والسحر عند بذر الحبوب وأثناء نمو النبات وقبل عملية الصيد؛ ولهذا الرئيس مقام محترم بين البادي إذ بدونه يفشل الصيد والزرع.
وحفلة استنزال المطر تعتبر من المظاهر الممتازة بين البادي؛ وتجري هذه الحفلة على النحو الآتي: يحضر الرئيس قطعاً من حجر الكوارتز بعضها ابيض اللون والبعض الآخر أخضره، ثم يضعها في إناء، وبعد غسلها يضعها على صخر كبير يسمى صخر المطر(133/44)
وهو بقايا آلة قديمة لطحن الحبوب , ثم يلطخ الحجر بزيت السمسم، ثم يذبح عنز أسود بجوار هذا الحجر، ويأكل الرئيس ومساعدوه وبعض الشيوخ من لحمه، ثم تؤخذ بقايا الغذاء الذي في معدة العنز وتوضع أيضاً على هذا الحجر، ثم يأتي المطر بعد ذلك. وكثيراً ما تجري هذه الحفلة بجوار مقبرة شيخ مطر قديم أو بعض الأماكن المقدسة التي تنتمي إليه.
اللوتوكو
ولهجة اللوتوكو تتكلمها القبائل الآتية: (1) اللوتوكو (2) الكويَا (3) اللنجو. ويلاحظ في هذه القبائل الثلاث أن الرأس طويل، أما القامة فقامة اللوتوكو أطول منها في القبائل الأخرى بمقدار بوصتين. وهم ينقسمون إلى قبائل طوطمية، وأهم مظهر للطوطمية عندهم هو أن كل فرد بعد موته تنتقل روحه إلى الحيوان الذي تقدسه القبيلة؛ فهناك قبيلة تقدس التمساح، وأخرى تقدس القرد، وثالثة تقدس الفيل، ورابعة تقدس النمل الأبيض، وخامسة تقدس الثعبان وهلم جرا؛ وأقوى هذه القبائل هي التي تقدس التمساح، ومنها ينتخب الرؤساء الذين يقومون بحفلة استنزال المطر، ويستعملون في هذه الحفلات حجر المطر السابق ذكره كذلك يستعملون بعض الحراب المقدسة كمساعد، والمياه التي توضع فيها هذه الحراب تحضر من بركة مقدسة يعيش فيها التماسيح التي تنتقل إليها أرواح أجدادهم رؤساء المطر.
ومن عاداتهم إخراج عظام الميت بعد دفنه بثلاثة أشهر، وأحياناً من ثلاثة إلى ستة عند اللوتوكو، ويعتقدون أن في ذلك سعادتهم ورفعتهم. كذلك عند موت الميت يسرعون إلى دفنه، ثم بعد ذلك يقيمون له تذكاراً ينوب عن الميت حيث يقيمون له المراسم الجنائزية المختلفة.(133/45)
المجموعة الزنجية
الأزندي
رؤوسهم متوسطة، وقاماتهم أقصر من قامة الزنوج النيليين، ولونهم أفتح من لونهم، إذ يختلف ما بين لون (الشكلاته)، ولون بشرة سكان البحر الأبيض المتوسط. وبعض العلماء يعلل ذلك باختلاطهم مع البربر والحامي، وربما كان هذا الاختلاط مع جماعة الفولاني. ويمكن اعتبار الأزندي من زنوج غرب افريقا، إذ تظهر عليهم جميع المميزات التي تميز زنوج غرب أفريقيا من غيرهم. ومن الصعب التفرقة بين رجل من الأزندي وآخر من سكان أفريقيا الاستوائية الفرنسية أو نيجريا. كما أن لغة الأزندي خالية من الأثر الحامي، على حين أنه توجد بها آثار من لغة البانتو، وهذا ينعدم وجوده في لغة الزنوج النيليين السابق الكلام عليهم. والأزندي من جهة الثقافة يتبعون غرب أفريقيا بعكس الزنوج النيليين الذين يتبعون في ثقافتهم شرق أفريقيا. وهذا يتضح تماماً من نظام بناء كوخ الأزندي ومساكنهم وآلاتهم الحربية والموسيقية مثلا.
والأزندي عبارة عن عدة قبائل ولهم حكومة مركزية عليا وهم ينقسمون إلى ولايات مستقلة عن بعضها، وهي في حرب دائمة مع جيرانها، ولكنها جميعها تخضع لملك واحد من أسرة أرستقراطية مالكة ينتخب دائماً منها الملوك، وهذه العائلة المالكة تسمى (الافنجارا) ومنها ينتخب أيضاً رؤساء الإدارة والحكومة الذين يساعدون الملك، والملك هو الذي ينتخبهم ويوزع عليهم العمل. والملك وهؤلاء الرؤساء لا يشتركون في الحروب
ويتلخص النظام الإداري فيما يأتي:
1 - الملك وهو الرئيس العام ويحكم في العاصمة وهو المرجع الأعلى ويحرم عليه أن يدخل الحرب بنفسه.
2 - مقاطعات أو مديريات يديرها أبناء الملك أو أخوته أو غيرهم من العائلة المالكة، وكل من هؤلاء مطلق السلطة إلا أنهم مسئولون أمام الملك مباشرة عن حفظ الأمن والعدل كما إن عليهم واجبات نحو الملك؛ مثلا إذا أراد الملك عملا لبناء منازله أو جنداً للحرب فعلى هؤلاء المديرين أن يقوموا بجميع العدد اللازم حسب طلب الملك، وهؤلاء المديرون لا يدخلون الحرب.(133/46)
3 - تنقسم كل من هذه المديريات إلى عدة أحياء أو مناطق على كل منها نائب أو وكيل، وهذا النائب يباشر الأمور المختصة بالعدل بواسطة عقد مجلس يكون هو عضوا فيه يساعده الرجال المعترف بكفاءتهم في حيه أو منطقته. فإذا ظهر نزاع بين فردين وجب أن تعرض المسألة على نائب الحي أولا، فأن كان موضوع النزاع بسيطاً حله النائب، ولكن إذا كانت المسألة معقدة مهمة فان النائب يحولها مباشرة إلى المدير الذي يحكم المديرية، وهو طبعا أحد أفراد العائلة المالكة؛ ولا يمكن عمل استئناف من المدير إلى الملك، لأن المدير مستقل بشؤون مديريته.
فإذا أراد الملك أن يعلن حرباً أو يقوم بعمل اقتصادي مهم فانه يرسل في الحال إلى المديرين يخبرهم بالعدد اللازم، وعند ذلك يقوم كل مدير بعقد مجلس برياسته يدعو إليه جميع النواب الذين يحكمون الأحياء التي تنقسم إليها مديريته، ويشاورهم في العدد الذي يمكن أن يقدمه كل منهم؛ وهؤلاء النواب يقومون بعد ذلك بجمع العدد اللازم من كل منهم بواسطة قرع الطبول. وبذلك يمكن إرسال العدد المطلوب من العمال والجنود إلى الملك. والملك نفسه يدير مقاطعة في وسط بلاده وهي بمثابة العاصمة وضواحيها، ولكنه يستعين بالمديرين في المسائل القومية المهمة.
(بقية في العدد القادم)
رشوان أحمد صادق(133/47)
بمناسبة أربعين الزعيم الخالد
يوم هنانو
للأستاذ أمجد الطرابلسي
صُعق الناسُ حَسرةً فأهابوا ... مَنْ صَريعُ الِحمى فقيل الشِّهابّ
ضربوا في الدُّجى البهيمِ سُكارى ... أين منهمْ هُداهُمُ والصواب
وَسَروا خُشَعَ النواظر يَغشا ... هُم من الليلِ والدموعِ حجاب
يتناجوْن بالِّلحاظِ من الهو ... لِ؛ أصدقٌ ما قدَرووْا أم كذاب
شرِقوا بالدموع إذ هَتف النَّا ... عي مُهيباً، ومادتِ الألباب
هَتفاتٌ فوق المآذِن تعلو ... فيضجُّ الباكونَ والندّاب
ورنيُن الناقوس من كلِّ فج ... تَتَفَرَّى له القلوبُ الصِّلاب
زفراتٌ هي الكبوُد تَلظَّى ... ودموعٌ هي النُّفوسُ تُذاب
هاهُنا لِلُّبى عويلٌ مُرِنُّ ... وهنا ثَمَّ للِشِّبالِ انْتحِاب
من يواسيهُم وكلُّ طعينٌ! ... من يُعزيهمُ وكلٌّ مصاب!
لا تُلمْهُمْ! خلا العرينُ، فمن يد ... فعُ عنهمُ إذا اسُتبيح الغاب
زُلزلت دارةُ الوليد ومادت ... تحت عِبْءِ المُصابِ فيها الهِضاب
فَعليها من الهُزالِ شُفوفٌ ... وعليها من الشُّحوبِ نقِاب
لبَسَتْ في نهارِها اللَّيلَ وجداً ... وتوارى السُّمَّارُ والأصحاب
وتباكت حمائِمُ النَّيْربَ السا ... جي وَأوْدى غِرِّيدُهُ المِطرب
ليت شعري أذاك (مروانُ) أوْدى ... فَأهَلَّ الورى وَسَحَّ السحاب
أم تدعى عرشُ (الوليدِ) غَداةً ... فتداعت منابرٌ وَقبِاب
يا لَسُورِيَّة الشَّهيدَةِ كم ذا ... تتهاوى أبناؤُّها الأنجاب
يهْبطُ الكوكبُ اُلمحَجَّلُ منهم ... أو يُقَدُّ المهَّندُ القِرْضاب
فإِلى صدرها تَضُمُّ الضحايا ... وعلى صدرِها يُهال التراب
مَلأوا قلبها نُدوباً وشَجْواً ... ليس يخبو وقودُه الَّلهّاب
أبداً للدموع فيها انسْكابٌ ... أبداً للدِماء فيها انصْبابِ(133/48)
رَوِيَتْ منْ دماءِ أَبنائِها الغُرِّ ... م وفاضت رِباعُها والرَّحاب
أمس في الغَوطةِ الرَّؤوم تهاوَت ... شُهبٌ كلها منُىً وَشباب
وعلى ميسلونَ سالت دِماءٌ ... علَّمتْنا أنى يكونُ الغِلاب
شهداءٌ أعزةٌ عَدَدَ الزهْـ ... رِ أيحُصْى زَهْرَ الشاّم كتِاب!
يا هنانو أَثَرْتها ذِكريَاتٍ ... َضَمَدتها السِّنونَ والأحقاب
فلياِليَّ بعدَ منعْاك سُهدٌ ... وشرابي قذىً وَشَهْدِيَ صاب
كنتُ في قريتي الوديَعةِ سهوا ... نَ فلا غُصةٌ ولا أَوْصاب
تستبيني مِن الرُّعاةِ لحون ... وأغانٍ عُلويَّةٌ، ورَباب
وَمِنَ الطَّيرِ في الرُّبى نغماتٌ ... هن لِلُّبِّ مِزْهَرٌ وشراب
أدْفِنُ الهمَّ في ظِلالِ التمَنِّي ... والأعاليلُ مورِقاتٌ رِطابُ
وأَُغَنيَ مع الطفولةِ لحناً ... ذِكَرُ كله وشهد مذاب
وحواَلَيَّ صِبيةٌ كالعصف ... ير مِراحٌ، أهِلَّةٌ، أتراْب
يتبارَوْنَ عابثين فما يد ... رون ما الهمُّ، ما الأسى، ما العذاب
كدِتْ أسلو لَذْعَ الحنين وأنسى ... بينهم ما يهيجُهُ الاغتراب
فأتاني الناعي يجُمَجْمُ في القْو ... لِ فما إنْ يبينُ منه الخطاب
قالَ: مات الزَّعيمُ، قلْتُ: هوى الصَّر ... حُ رُكاماً وَقُوِّضَ المحراب
يا الهي أكلما سُدَّ باب ... من شَقاءِ الشام حُطِّم باب!
يا فقيدَ الآمالِ قُم فتأملْ ... كيف تبكي آمالنُا والرِّغاب
رَزَحَ الموْطنُ الجريحُ وناءت ... أُمَّهٌ لم يذلَّهَا الإرهاب
كنتَ في السَاح والندِىِّ زعيماً ... ما دَعَوْتَ الشبالَ إلا أجابوا
ومشوا خْلفَ ضغيمِ الغابِ صفاً ... ليس يخشى الردى وليس يَهاب
كلهم باسمون خلفَكَ للمو ... تِ، سِراعٌ إلى الطِّعانِ طِراب
كنتَ حِصْناً فدكَّ ذيْالك الحِص ... نُ وَحِرْزاً فَقُدِّتِ الأطناب
وشهِاباً يفترُّ في أفُقِ المج ... د بهِيِاً لا يعتريه غياب
شَعَّ دهراً فأُرشِد ابن الدياجي ... وأُنيَرت مسالكٌ وَشِعاب(133/49)
ثم غشّاهُ من سكون المنايا ... سُحُب مكْفِهَرَّة وَضبابُ
وطن سار خلف نعشِك يبكي ... يا لهُ اللهُ صارخاً لا يجاب
كان يرنو إليكَ كالطِّفل إما ... عَضَّهُ من أراقم الظلْم ناب
موِكب كالخِضمِّ سارَ خَشوعاً ... جَلَّ ذا موْكبِاً وَجَلَّ الرِّكاب
مَن رأى محشراً يموجُ زِحاماً ... وَعُباباً يبكي عليه عُباب!
ولواءً قد كنَت تفديهِ إمّا ... رَوّع الغَابَ عاصِفٌ صَخّاب
ضمَّك اليومَ لوعةً وحناناً ... أنت منه الشَّباةُ وْهوَ الِقراب
من لهُ اليومَ إن أناخ عليه ... مُستبيح أو راعه غَصاب!
إيه (شهباءُ) أيُّ سِفرِ جِهادٍ ... غالهُ فيكِ ريَّاب
وخَفوق يغْلي مُنىً وإباءً ... وفتىً لا تغُّره الألقاب
كان تاجاً في مفرقيكِ وَدِرْعاً ... لكِ تنبو عنه القنا والحراب
وأباً بالبنينَ براً شفيقاً ... كلهم في فنائه أحباب
هزهُم للعُلى فكانوا صفوفاً ... وْهَو ليث بين الصفوف مهاب
لهفَ نفسي أن غاض فيك نمير ... كان بالنُّور والهُدى ينساب
تنتوي ساحَهُ الحيارى وتهفو ... حول شطًّيْهِ عُطًّشٌ وسِغاب
جسد هدَّه الكِفاحُ فأبلا ... هُ وقلب على المدَى وثّاب
كلما هاجه الإسارُ تنزَّى ... فتنَزِّى فيه الصبى والشباب
إن مشى للأمامِ هان عصيب ... وتوارت عن الطريق صعاب
حمل السيف طاوياَ في الصحارى ... عادةٌ الليث عِزة وضراب
يرشُف الموت بالرماحِ ولا ير ... ضيه هَضم لحقَّه واغتصاب
ذاب في حَوْمةِ النَضال شهيداً ... ذاكُمُ المجدُ ساطعاً لا السراب
إنما المجدُ ثورة وجهاد ... لا كلام مُنَمَّق وخطاب
يا جيوش الشبابِ، يا أُسُدَ الغا ... بِ، ويا أيها الشبالُ الغضابِ
قد مضى القائدُ العظيمُ إلى الخُلْ ... دِ وقد عاجلَ الرئيس التباب
فارقأوا هذه الدُموع الجواري ... ليسَ في الدمعِ للفقيد مآب(133/50)
ولسكبوا خلفهُ الدماء الغوالي ... إنما الدمع هِّينٌ مْخِصاب
وصليل السيوف أجملُ لحنٍ ... لبِكُاء الشهيدِ لا التِّنْحاب
لا تخوروا فإنَّ معركة النَّص ... ر بدا فجُرها الضُحوك العُجاب!
أمجد الطرابلسي(133/51)
سحر الطبيعة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كؤوس من النور هذي الزهو ... ر أم هي أخْيلة الشاعر
وليست ِبحُلم ولكنها ... أجل من الُحلُم الباهر
وما خلَّفت لفنون الخيا ... ل فتنة حسن لدي الخابر
وما الحياة ونبع الخلو ... د في مائها لسلسل المائر
وعشب قشيب وظل ظليل ... أدنيا أرى أم مُنَى الساحر
ومما يزيد رواء الزهور ... أذى العيش والقدر الجائر
لقد خفت أن تنطوي مثلما ... يزول الخيال عن الناظر
فأسلمت نفسي لسحر الخيال ... لأخلد في حسنها الزاهر
وغبت عن الحِسِّ حِس الوجود ... كأنيَ روح لدى العابر
كأني نقلت إلى عالم ... سينشأ في دهر أو غابر
كأني نقلت إلى جنة ... نأت عن سطا القدر الدائر
ومما يزيد رواء الزهور ... أذى العيش والقدر الجائر
عبد الرحمن شكري(133/52)
قبلة الحب
بقلم فريد عين شوكه
هاتها هاتِها فإِنيَ ظمآ ... نُ إلى وِردْك العفيف الطهور
هاتِها قبُلةً تهُدهدُ أحشا ... ئي، وتشفي من الجنون شعوري
عطشت مهجتي إليك وضاقت ... جَنبَاتي بما بها من سعير
فارْوِ ما جفَّ من حشاي وَرفِّهُ ... عن فؤادي وخاطري وضميري
ويك يا قلبُ! ما لخفقك يشتد ... وما للحشا يلجُّ وثوباً؟
إنها خمرة الهوى فارتشفها ... لهباً في الضلوع حتى تذوبا
ضلِّةً للفؤادِ! رفَّ على النا ... ر ولم يخش جمرها المشبوبا
كلما ذاق حَرَّها عاد لهفا ... ن إليها حتى استحال لهيبا
يا لها قبلةً أحرَّ من الجم ... ر على قلبَي اللهيف المعذَّب
رشفة كالندى النديِّ استحالت ... شعلة في الدماء أيان تذهب
هيه يا ثغره الحبيب أنلني ... منك ما يشعل الضلوع ويلهب
قبلة الحب لفحةٌ من جحيمٍ ... هي أشهى من النعيم وأعذب
فريد عين شوكه(133/53)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
26 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
لكل فلسفة أجل موقوت، تظهر فيه حجتها على الناس. وكل فيلسوف يضم شتات فلسفته ويحبسها ضمن نظام منطقي كأنها عمل عقلي محض، ألا إن هذا باطل، فأن الحياة الواعية في كل إنسان لها جذور تمتص من الحياة غير الواعية فيه؛ وإن حبه لمعرفة الحقيقة يعود إلى غريزة فيه قوية خفية. عد إلى المذهب الفلسفي العددي المجرد من كل شخصية ومن كل هوى تجد شيئاً ينزل منزلة الإيمان فيه؛ وما نظريات الفيلسوف في الحقيقة إلا بنات مذكراته واعترافاته. إن هذا الفيلسوف ليس في الحقيقة - كما يخيل إلينا - مفكراً خالصاً، ولكنه محام خبيث يذب عن اعتقاداته الوهمية ولا سيما الأدبية منها. يجرب أن يجعل من اعتقاداته حقائق ثابتة ودساتير نافذة. على أن هذه الاعتقادات التي تنطوي عليها المذاهب الفلسفية التي تريد أن توجه الحياة في سبيلها، إنما هي اعتقادات مستمدة من المثل الذي يبشر بالزهد والمسكنة. . . وهكذا لم يكن الكاهن والفيلسوف بخصمين كما يبدو ظاهر الأمر - وإنما هما صاحبان وان كانا لا يدريان.
هذا هو (كانت) أبو الفلسفة الألمانية لا يرى فيه نيتشه إلا كاهناً مسيحياً تطور في بعض حالاته. وخلاصة فلسفته أنها تضع (شعبتين) من شعبها خارج القوة العقلية؛ في الأولى تلهج بعالم حقيقي مباين لهذا العالم المبني على الظواهر والحوادث، وفي الثانية تؤمن بالشريعة الأدبية الخلقية أنها مقدرة تقديراً. وإذا جرد المحقق هاتين الشعبتين وجد أنهما وليدتا نظريات الشريعة المسيحية ذاتها. إذ ما هو الإيمان بعالم حقيقي غير هذا العالم؟ أليست هذه الفلسفة تنطوي على الفكرة التي يبشر بها علم اللاهوت، فالإله هو العلة الأولى للوجود الذي تتلقفه الحواس، وحياة الإنسان الحقيقية هي الحياة في الله، وهكذا أخذ النظريون فكرة القول بإله صالح، بإله للمتألمين، ودققوها وسموا بها وبدلوا لونها حتى(133/54)
أحالوها عنكبوتاً ضخماً ينسج الوجود من خيوطه. فكان منه (المثل الأعلى) والعقل الخالص، والواحد المطلق، والشيء القائم بذاته؛ على أن هذا الشيء القائم بذاته، وهذا العالم الحقيقي إن هما - إذا تجردا - إلا العدم الخالص.
إن إله المسيحيين - كما يراه نيتشه - هو إله كل ما يتألم، وكل ما يجنح إلى الموت؛ وهو بدلا من أن يبشر كالآلهة الوثنية بما يفيض على الحياة من بهجة ونعيم، ويبث الإرادة القوية التي تقول للحياة: (بلى)، ولكن ما تحمله (بلى)؛ نراه يحمل الناظر إلى كل منحط خسيس في فؤاد الإنسان، يكره الحياة الحقيقية ولا يحمل لها إلا مقتاً؛ ويجعل رجاءه في حياة وهمية ثانية. إن عالم النظريين يماثل في حقيقته هذا العالم المسيحي. أنه كلمة فارغة من كل حقيقة؛ إن الإله هو علامة (سلب الحياة)، وإله الفلاسفة هو العدم الخالص.
وتلك الإرادة التي تمثل هذا الإله إن هي إلا الجنوح إلى الفناء. وإن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين يعتقدون بأنهم مارقون من كل دين وكل إيمان هم في الحقيقة رجال إيمان لا يتزعزع. إن هؤلاء العلماء والفلاسفة اللابسين أثواباً مختلفة إنما لباسهم لباس واحد يلفهم ويضم بينهم، هو لباس الزهد.
لنحلل معتقدهم: أن إرادة إدراك الحقيقة مهما كان ثمنها - تتهيأ في طريقين مختلفين: تقول (لا أريد أن أخدع!) أو تقول (لا أريد أن أخدع نفسي ولا أخدع أحد) أما القول الأول فهو بعيد عن الحقيقة، لأن الإنسان ليقدر على أن يسمو إلى الحقيقة بفطنة منه أو خشية إذا كان يثق في نفع هذه الحقيقة السامي إليها. ولكن الحقيقة هي أنه إذا كانت هنالك حقيقة بدأت تنجلي شيئاً فشيئاً للعقول المستنيرة فهي أن الوهم ذو فائدة للوجود وضروري له كالحقيقة. وفي اعتقاد نيشته أن الوهم والكذب هما من الجواهر اللازمة للحياة.
إن مسألتنا التي نبتغي حلها ليست بجملة اعتراضات، ولا فوز في المنطق، وإنما مسألتنا هذه: (ما هو الأجدى نفعاً لحفظ الحياة وصيانة النوع ووقاية الحيوان؟) وأنّا لنستطيع أن نقول بدون تردد: أن الأفكار والأحكام الأكثر بعدا عن الحقيقة هي عندنا من الأشياء التي لا منصرف عنها: ولو أن البشرية استغنت عنها لما استطاعت الحياة، إذا كان الجحود جحوداً بالحياة نفسها وإعداماً لها.
ولكن لو فرضنا أن الكذب أكثر يمناً والحقيقة أكثر شؤماً، فأن رجل العلم لا يجنح - إذ ذاك(133/55)
- إلى الحقيقة طمعاً في فائدة أو رهبة من شئ، وإنما يجنح إليها ويتواقع عليها لأنه نشأ على ألا يخدع نفسه ولا غيره مهما كلفه ذلك. تراه يضحي بسعادته وبالبشرية في سبيل الحقيقة، هذه الحقيقة المقدسة التي راح يسميها المسيحي إلهاً.
ومما لا ريب فيه أن ناشد الحقيقة يضع إيمانه في وجود غير هذا الوجود، وحياة غير هذه الحياة. فماذا تراه يضع في وجودنا هذا بعد انصرافه عنه؟ هل يجد غير الجحود به؟ ولكن رويداً! أريد أن أقول: إن اعتقادنا العلمي مبني على اعتقادنا النظري. وإننا نحن مفكري اليوم، الجاحدين الناكرين نستمد النار التي تحرضنا وتثيرنا من المجمرة التي أضرمتها نار العقائد كثيراً، ومن ذلك الإيمان المسيحي الذي شابه الإيمان الأفلاطوني القائل بأن الله هو الحقيقة وأن الحقيقة هي ألهيته.
إن رسول الجيل الحاضر لم يجرؤ على أن يشك في القيم الحالية الموروثة، لم يجرؤ على القول: ما هي قيمة الحقيقة وما هي قيمة ذلك الأمر المطلق للفضيلة التي تأمرنا بسلوك طريق الحقيقة؟ إنه وقف مكتوف اليدين إزاء مسألة الحقيقة والفضيلة. إنه لم يقل لماذا وجب على الإنسان أن يعرف كنه هذه الطبيعة التي نحسها اليوم كقوة عمياء، غير عاقلة لا تعبأ بالخير ولا بالشر، فيها قوة الخصب والتوليد؛ تنجب دائماً مخلوقات جديدة لتضحي بها لغايات لا معنى لها، ولا عاطفة في صدرها. . . . وإذا كانت هذه حالتها فلماذا كتب الإنسان على نفسه التضحية بها في سبيل مثل هذه الألوهية؟
يرى نيتشه أن الرغبة في الحقيقة مثلها مثل الصبغة العصرية لصرامة التنسك والزهد التي دفعت الإنسان إلى أن يضحي - في سبيل إلهه - بكل ما تملك يداه، فكان الإنسان يقرب له الضحايا البشرية، يضحي بأول غلام يأتيه، حتى إذا جاء العهد المسيحي أصبح الزاهد يضحي للإله بكل غرائزه وميوله الطبيعية.
والآن ماذا يملك عليه ليضحي به؟ ألم ينته دور التضحية له بكل عزيز؟ أليس الأجدر الآن تضحية الإله نفسه؟ وعبادة الحجر والمبهم والثقل والحظ والعدم إمعاناً في مجافاته؟ وهكذا تجد رسول المعرفة الذي لم يهو في مهواة الشك، المؤمن بالحقيقة، الجريء على خلق مثل أعلى، الشديد إيمانه بالعقل السامي والفضيلة، تجده إذا نزعت رداءه - زاهداً ينكر الوجود، ومتشائماً يفر من الحياة، لأنه يأبى أن يستسلم إلى الوهم، إلى الكذب اللازم للحياة، انه(133/56)
عدمي كالمسيحي بعمل على أن يقذف بالإنسانية في هاوية العدم.
(يتبع)
خليل هنداوي(133/57)
القصص
صور من هوميروس
21 - حروب طروادة
1 - مصرع أخيل
2 - انتحار بوليكسينا
3 - سهام هرقل
4 - مقتل باريس
5 - نهاية إيونوليه
للأستاذ دريني خشبة
انتهت الهدنة، واندلعت نيران الحرب كرة ثانية، والتحم الجمعان تؤجج العداوة بينهما ثارات وثارات؛ ولم يجد الطرواديين أن تنضم إليهم مليكة الأمازون تحارب بفصائلها في صفوفهم وتشد بجموعها أزرهم، فان أخيل هو هو لم ينقص ولم يزد. . . بل هو يزيد كل يوم ظمأ إلى دماء قاتلي صديقه وأحب الناس إليه. . . بتروكلوس الشهيد. . .
لقد انقض أخيل على مليكة الأمازون التي انقضت بدورها على جحافل الهيلانيين فأوقعت الروع في نفوسهم، وقذفت الرعب في قلوبهم. . . فلم يزل بها يصاولها ويطاولها حتى نهز منها نهزة أنفذ بها رمحه في صدرها، وعفر جبينها الملتهب بثرى المعمعمة، وجردها من سلاحها إذ هي جثة هامدة، وانكفأ أتباعها وبهن من الحزن على صاحبة الأمر فيهن. . . ما صرفهن عن طروادة والطرواديين.
وإن أخيل ليصول في الميدان ويجول، وإنه ليرتفع بصره عفواً، وعن غير قصد، إلى البرج الشاهق من أبراج إليوم، فوق البوابة الاسكائية، إذا به يلمح قمراً مطلاً من شرفة البرج يرنو بعيني ظبي، ويهطع بجيد رئم، ويشرق بخدين ناضجين من خدود ربات الخدور، يرسلان على الساحة كلها سناءً ورواءً. . . .(133/58)
من هي؟. . .
من هذه العذراء البارعة التي تشرف هكذا على الساحة الحمراء فتطفئ جذوات الغل المتقدة بين أضلاع أخيل، وتضع حداً لهذه الثورة التي ظلت إلى تلك اللمحة تعصف بنفسه الغضبى، وتحز في قلبه المحزون؟. . .
أوه. . .!! إنها الأميرة الفتانة بوليكسينا، صغرى بنات الملك الشيخ. . . بريام البائس الباكي الحزين. . .
لقد أرسلتها العناية لتشرف على الساحة الصاخبة، ولينظر إلى هذا البطل الخرافي الجبار الذي لم يعد بيت في طروادة كلها إلا وفيه لسان يلهج بذكره، ويتحدث عن شجاعته، ويخوض في جبروته. . . ثم لم يعد بيت في طروادة كذلك، إلا وفيه عين مؤرقه تبكي على عزيزها الذي قتله هذا البطل، أو الذي سيقتله، أو الذي يخشى منه عليه أن يقتله. . . كأنه أصبح سفير هيدز إلى اليوم، أو وزير بلوتو العظيم!!
وأبصر أخيل بها. . . ويالها من نظرة أنبتت في قلبه دوحة من الحب وارفة، ذات ظلال وذات أفياء. . . .
وظل الرمح يهتز في يده. . . ولا يصيب أحداً. . . وظل هو يسارق قمر البرج المطل نظرة فنظرة، وظل مشدوهاً مسبوهاً. . . لا يعرف لم شبت هذه الحرب، ولم يقتتل هذان الجمعان؟!. . . وانثنى من الميدان ينظر في هذا الغرام الجديد. . .
ولم يجد بداً من العمل لإحلال السلم محل تلك الحرب التي طالت وتتابعت عليها السنون، من غير أن يظفر الهيلانيون بالطرواديين، أو الطرواديين بالهيلانيين، ومن غير أن يفكر أحد في هذه المجزرة الشائنة التي تفتدي كل يوم بقطوف الشباب من زهرات الأمتين على السواء.
فيا له من حب مهد السلم، لولا قساوة في القلوب زادتها الثارات عنفواناً، ولولا شرف أمة بأسرها تعبث به امرأة، ولولا الأحن التي ذهبت بأبناء الملوك الصيد!
واستطاع أخيل أن ينفذ رسله إلى بريام يستعتبه، ثم استطاع الرسل أن يخاطبوا الملك في بوليكسينا على أن تكون أحب أزواج أخيل وآثرهن إلى قلبه، فوعدهم الملك، بعد إذ لحظ من افتتان ابنته هي الأخرى بزعيم الميرميدون، أن تتم مراسيم الزواج حين تضع الحرب(133/59)
أوزارها، وحين تنكشف هذه الغمة القاسية عن طروادة. . .
بيد أن الهوى المبرح قد ألح على قلب أخيل، والصبابة العاتية قد جمعت أفانين من السهاد في عينيه، وطيف بوليكسينا يراوحه ويغاديه، ويملأ عليه أخيلته، ويتهادى أمامه في كل نظرة ينفرج عنها هدبه، أو غمضة يتناعس بها جفناه! فلم يطق إلى صبر من سبيل!
وأنفذ رسله كرة أخرى فاتفقوا مع الملك على إجراء مراسم الخطبة، عسى أن تفل من غرب هذه الحرب القاسية، أو تبزغ منها تباشير السلام المنشود!
وأعلنت هدنة ليوم أو بعض يوم؛ وأقيم المهرجان الفخم في صميم الحومة الرائعة، وتقدم أخيل فصافح الملك، وأعلنت الخطبة، وانثنى الزعيم العظيم وقلبه يطفر من الفرح، أن أصبحت له بوليكسينا. . .
وما كاد البطل ينقلب إلى جنده، حتى كانت فينوس توسوس إلى باريس أن ينتهز الفرصة العزيزة النادرة، ويريش سهماً من سهامه المسمومة إلى أخيل التي لم تغمرها مياه ستيكس فيصميه. . . فيرديه!!
ووتر باريس قوسه، وأرسل السهم المسموم إلى عقب أخيل فنفذ فيه، وأنفذ فيه قضاء ربات القضاء. . . اللائي فرغن الساعة فقط من غزل خيط حياته، وقطعته أتروبوس الهائلة بمقصها الجبار الفظيع.
وهكذا أنهى باريس الخائن تلك الحياة الحافلة بغدرة سافلة من غدراته التي توشك أن تنتهي!
واستطير الميرميدون! وانقض أوليسيز كالعاصفة ينافح عن جثمان صاحبه، واستطاع أن يستنفذ القتيل العزيز من أيدي أعدائه الجبناء؛ وكان أجاكس العظيم يعاونه في دفع الجموع الحاشدة التي تكاثرت حول الجثة تطمع في عدة فلكان. . .
وانصرف الجيش الحزين يذرف دموعه على أخيل!!
واجتمعوا حول الجثة المضمخة بالطيب وحنط المسك يحرقونها!
ووقفت ذيتيس تلقى على ابنها نظرة الوداع. . . وتذرف عليه عبرة الوداع!!
وكانت ثيابها السود تبكي معها. . . وكانت السماء كلها تذرف شئونها على أخيل. . .
وعرائس البحر ساهمات على شواطئ الهلسبنت الفائض بالدم!(133/60)
وبليوس المحزون يضطرب في الأعماق فيجعلها ضراما: والأولمب كله، ما عدا عصابة فينوس يعزى بعضه بعضاً!! وليس أولئك جميعاً شيئاً إلى ما حدث من بعد، قبيل أن تخمد النيران فوق أخيل. . . فقد ضج المكان الصامت بصيحات مفاجئة، نبهت ما سكن من هول هذا المحشر الرهيب. . . ونفت القوم، فإذا أجاكس العظيم قد أصابه طائف من المس، وإذا به يرغى ويزبد، ويعول وينشج، ثم يقذف من فمه صبياً من الدم، يتلوه شوب من العلق، وينبطح على الأرض ثم يثب على قدميه، ويروح ويغدو دون أن يلوا على شئ. . . ثم يستل جرازه ويركزه فوق الأرض، ويتكئ بصدره على سنانه، فينفذ السنان من ظهر أجاكس، ضحيه جديدة لهذه الحرب التي لا تشبع، وخيط حياة حافلة يمر وشيكاً بين الشفرتين من مقص أتروبوس!. . .
ويحك أجاكس! وللآلهة ما وفيت لأخيل يا بطل الأبطال!
وذهل القوم لانتحار أجاكس ولم يفيقوا من ذهولهم إلا ليروا إلى مأساة ضعضعت ما أبقى عليه الحزن من ألبابهم، وأطاشت ما بقى من حلومهم، وتركتهم سكارى وما هم سكارى
هذه بوليكسينا!!
إنها تقبل من طروادة كأنما بها مس. . .
وهي تطوي الساحة المزدحمة بالأشلاء. . . المضرجة بالدماء، بقدمين عاريتن، لا يقيمها حذاء. . . وأن الدم ليتفجر منهما. . . وهي تصرخ. . . وتلطم خديها الشاحبين، بكفيها الواهيتين
وهي تجفل كالظبية المراعة، وتدور حول نفسها. . . ثم تقف لحظة. . . وتنطلق. . . .
وهي تفعل هذا حتى تكون أمام البركان الخافت، المشتمل على رفات أخيل. . .
وإنها لتقف تلقاءه جامدة كأنها دمية. . . . ذاهلة كأنها تمثال. . . .
يا للهول!!
لقد انطلقت الفتاة فخاضت النيران. . . ودست رأسها في جمرات الغضى تبحث عن حبيبها المرجو. . . . . . عن أخيل. . . . . .!!
أخيل الجبار. . . قاتل ليكاون وبوليدور. . . وهكتور!!
ويجزع الهيلانيون مما ألم بهم من مقتل أخيل، وانتحار أجاكس حزناً عليه، فينصرفون عن(133/61)
الحرب إلى استيحاء آلهتهم؛ وينفرد كالخاس يرسل نظرة في النجوم، ويناجي سكان السماء، ثم يقبل على القادة وقد فرغت قلوبهم من الصبر، وتبلبلت أفكارهم من طول الانتظار. . . فيقول: (سهام هرقل!! لا بد من سهام هرقل!! لن يفتح عليكم طروادة إلا سهام هرقل. . .!!)
سهام هرقل؟؟ وما سهام هرقل هذه؟؟)
آه! لعلها هذه السهام التي غمسها هرقل في دم هيدرا فتسممت به، وادخرت من الموت ما يكفي لإبادة الطرواديين جميعاً. . .
ولكن أين هي هذه السهام اليوم! وأنى للهيلانيين أن يهتدوا إليها؟!
جلس القادة يفكرون. . .
وذهب العرافون يقلبون صحف الغيب. . .
وطفق مشايخ الجند يفتشون في زوايا أدمغتهم. . .
ثم ادّكر أوليسيز، بعد لأي، أن هذه السهام المنشودة قد تركت مع الجندي القديم فيلوكتتيس الذي غادره الجيش فوق جزيرة لمنوس، في طريقه إلى طروادة. . . فجر الحملة. . . منذ عشر سنوات!
ولقد كان فيلوكتتيس قد أصيب بجرح كبير في قدمه جعل أصحاب الحملة له من المحال، لما كان يلقى أوانئذ من الآلام المبرحة، وما كان يملأ به آذان الجند من الصراخ والأنين. . . فأضطر أوليسس إلى تركه في جزيرة لمنوس، حيث أوى الجندي المسكين إلى كهف منعزل عكف فيه على جرحه يعالجه. . . دون جدوى!
واتفق القادة على أن يذهب أوليسس مصطحباً معه بيروس ابن أخيل؛ (أونيوبتلموس كما كانوا يسمونه أحياناً) إلى جزيرة لمنوس ليريا هل الجندي الجريح ما زال يحيا هنالك، وقد بحثا عنه في أنحاء الجزيرة حتى عثرا به يئن في كهفه ويتوجع، ويشكو إلى غير سميع، فعرضا عليه أن يصحبهما إلى طروادة فأبى وجعله يشتد في الأباء تذكره هذا اليوم الأغبر الذي آثروا فيه تركه فوق تلك الجزيرة القاحلة لا أنيس ولا سمير، ولا لسان يرفه عنه وحشة الألم ووحشة المنفى الذي لا يدله فيه؛ وكبر عليه أن ينطلق مع هذا الجيش الذي جحده وغمطه حق الجهاد في سبيل الوطن، والذود عن شرف هيلاس واسمها المقدس. . .(133/62)
وتركه أوليسس ليبروس يأخذه بالحيلة والرفق. . . ولكن بيروس ما يستطيع قط أن يقنع فيلوكتتيس. . . فيكاد يدعه برما متسخطا. . لولا أن يظهر طيف هرقل فجأة مرفرفاً في العلو ثم يأمر فيلوكتتيس، بعد تهويمة هنا وتهويمة هناك، أن ينصاع لما يأمره أوليسس به.
ولا يسع الجندي الكريم إلا أن ينطلق مع أوليسس. . . فيركب الجميع في السفينة إلى طروادة، ويلقاهم العسكر المشتاق بالبشر، ويهرع إليهم بالإيناس!
أليس في سهام هذا القادم الأعرج. . . النصر كل النصر؟!
ونفخ في صور الحرب، واشتجرت الأسنة، واستحر القتال، وتبوأ فيلوكتتيس مقعداً للرماية لا يبصره فيه أحد؛ في حين يبصر هو منه كل ما في الميدان! وراش سهامه!
وتتطايرت المنايا عن قوسه المرنان! وسعت إلى الطرواديين مصارعهم تهدهدها سهام هرقل، وتمهد لها يمين فيلوكتتيس! ومرق سهم منها إلى باريس!. . .
وكان يشرف على المعركة من أسوار إليوم!. . . فوقع يتشحط في دمه، ويغص بريقه، ويصرح من الألم الذي يسري في عروقه مع الدم. . . والسم!!
واجتمع حول باريس أبوه وذووه وعشيرته. . . وهيلين!. . .
وطفق الجميع يبكون في باريس إخوته، والذكريات السود التي أقبلت من كل صوب ترف فوقه وترنق على جبينه. . .
وأخذ الألم من باريس مأخذه. . . وراح المسكين يصرخ ويتلوى. . . غير آبه لما تغرقه به هيلين من قبلات دنسة، ودموع مسمومة، كانت الويل كل الويل على طروادة والطرواديين
وذكر، وهو يتجرع غصص العذاب أن حبيبته الأولى وزهرة صباه، ووردة حبه القديم، أيونونيه، كانت قد ذكرت له أنها تعرف من خواص الأعشاب المختلفة ما يشفي أقله أشد أوجاع الجروح وأنكاها وصبأً. . . فأشار إلى بعض أهله، وطلب إليه أن يذهب إلى سيف البحر عله يجد إيونونيه. . . فإذا لقيها فليخبرها بما انتهى إليه (حبيبها!) باريس، والآلام التي تعذبه وتشقيه، من جراء جرح هذا السهم المسموم. . . . . . بيد أن إيونونيه التعاسة. . . إيونونيه المعذبة. . . إيونونيه التي أخلصت لباريس الحب حتى عبدته. . . ذكرت ما كان من هجر هذا الحبيب وقلاه؛ وذكرت دموعها التي ذرفتها مرة تحت قدميه ضارعه(133/63)
متوسلة. . . وتلك القساوة التي كافأها هو بها لما أن خدعته فينوس. . . وأوقعته في أحبولة هيلين. . . . . . فرفضت أبية شماء أن تذهب إليه. . .؛ والآلهة وحدها تعلم مقدار ما كانت تكنه له برغم هذا الرفض من الحب النقي. . . والصبابة الحزينة. . . والهوى المتأجج المشبوب!!
وقضى باريس!!. . .
وأعدت النيران الضخمة لتحرقه، فما هو إلا أن أشعلت من حوله حتى شوهدت إيونونيه المتبولة تخرج من لجة الهلسبنت وتعدو، كأن قد أصابها مس، حتى تكون تلقاء النار. . . فتقف باهتةً. . . وتتنهد طويلاً. . . وتقذف بجسمها الجميل المرمري الممشوق في اللهب. . وتصرخ صرخة مشجية. . . و. . . وتنتهي قصة حبها الباكي. . .
وتخط بيدها آخر سطر في كتاب باريس. . .
(البقية في العدد المقبل)
درني خشبة(133/64)
البريد الأدبي
الأدب قبل هوميروس
يقدرون أن هوميروس عميد الشعر اليوناني وصاحب الإلياذة الشهيرة قد عاش قبل المسيح بنحو ألف عام؛ والمعروف أن هيرودوت (أو هرشيوش) أبا التاريخ قد عاش في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ولكن انتهى إلينا نص كامل من الإلياذة، وانتهى إلينا نص كامل لتاريخ هيرودوت مع أن الأثرين الخالدين وضعا في عصور لم تعرف الكتب، فكيف كانت حال الأدب والتاريخ، وكيف كانت تتناقل الآثار الأدبية في هاتيك العصور؟ كانت الرواية السماعية ولا ريب هي أنجع الوسائل لتوارث التفكير والأدب، وأن كانت الآثار والنقوش والكتابات البردية أيضاً من وسائل تدوينها، وهذا ما تناوله العلامة الإنكليزي الأستاذ طومسون في كتاب ظهر حديثاً عنوانه (فن الرواية) وكلمه (لوجوس) رومية معناها (ما يقال) والأستاذ طومسون حجة الأدب اليوناني القديم، وهو يتناول في بحثه العلمي القيم فن الرواية في عصور ما قبل التاريخ وكيف كان هذا الفن يشمل التاريخ والشعر والقصص، وكيف أنها جميعاً تكاد تمتزج بعضها ببعض ويعني الأستاذ طومسون بوجه خاص لتحليل رواية هيرودوت وما فيها من الحقائق التاريخية الخالدة؛ ثم يعني ببحث الأساطير اليونانية الكبرى وأصولها ومراميها، وأصل الإلياذة، والأوذيسة؛ وتأثير الرواية في تطور العقلية الشعبية خلال هذه العصور، كل ذلك بأسلوب علمي محقق، ممتع في وقت معاً
وما يتناوله الأستاذ طومسون في كتابه هو نفس الحالة التي كان عليها الأدب العربي قبل الإسلام، فالشعر الجاهلي الذي ورثه الأدب الإسلامي، ووقائع العرب وايامها، وما يتخلل ذلك كله من القصص والأساطير، والمنثور والمنظوم، إنما انتقل خلال العصور بالرواية والسماع؛ وقد كانت الرواية في الجزيرة العربية بلا ريب أقوى وأنفذ، وكان أثرها بلا ريب أقوى في تكوين الأدب الجاهلي؛ وتقدم إلينا كتب الأدب الكبرى مثل الأغاني، والعقد الفريد صوراً بديعة مما كان عليه أدب الرواية في عصور قد ترجع إلى ما قبل الإسلام عدة قرون.
من كنوز البردي المصرية
يذكر القراء تلك الضجة التي قامت منذ أشهر حول تسرب الآثار المصرية القديمة خارج(133/65)
القطر ومنها مجموعات ثمينة من أوراق البردي التي ترجع إلى العصر الروماني؛ وقد ظهرت فداحة الخسارة الأثرية والعلمية التي أصيبت بها مصر من جراء تسرب آثارها على هذا النحو في حادثين: الأول ظهور مجموعة ثمينة من أوراق البردي المصرية في برلين، وهي بإقرار الخبراء أثمن مجموعة من نوعها لأنها تحتوي على نصوص عدة كتب كاملة من كتب ماني الفيلسوف الفارسي وصاحب المذهب المشهور؛ والثاني ظهور بعض قطع وشذور من أقدم إنجيل معروف، وقد كتب باليونانية على ورق البردي الذي تسرب من مصر أيضاً.
وقد اقتنت مكتبات رايلاندس الإنكليزية الشهيرة بمنشستر طائفة من هذه الأوراق الثمينة منذ أعوام، وبدأت بنشرها، فأصدرت مجلداً يحتوي على نصوص طائفة من أوراق البردي المصرية منذ العصر اليوناني؛ وأصدرت أخيراً مجلداً جديداً يحتوي على نصوص طائفة من أوراق البردي المصرية منذ العصر الروماني؛ وأهمية هذا الجزء الأخير هي أنه يحتوي على مقتطفات من الإنجيل الرابع (إنجيل يوحنا) هي أقدم نصوص من نوعها؛ وهي باللغة اليونانية، ولكنها كتبت بمصر في عصر يقدره العلماء والخبراء بالنصف الأول من القرن الثاني للميلاد؛ وقد كان المظنون حتى اليوم أن إنجيل يوحنا يرجع إلى عصر متأخر نوعاً، يقدر بأواخر القرن الثاني؛ ولكن ظهور هذه القطع من إنجيله، وما اقترنت به من شواهد في الكتابة والحبر والهجاء تدل على أنها كتبت بمصر في عصر الإمبراطور هادريان، مما يحمل العلماء على تغير نظريتهم، والرجوع بإنجيل يوحنا إلى أوائل قرن الثاني أعنى إلى نحو سنة 120 م أما مجموعة برلين من أوراق البردي المصرية التي تحتوي على كتب ماني الفيلسوف فيجري بحثها اليوم بمعرفة العلماء الأخصائيين تمهيداً لنشرها والتعريف عنها وهكذا يتسرب تراثنا الأثري والعلمي على هذا النحو، ونحن شهود نرمق هذه الاختلاسات المتوالية باسم العلم والبحث.
مذكرات صحافي شهير
هنري نفنتون من أشهر الصحافيين الإنكليز الذين جابوا أنحاء العالم وشهدوا عظائم الحوادث في مختلف الأقطار والمناسبات، وقد عرف خلال حياته الطويلة الحافلة مختلف الشخصيات في ميادين الحرب والسياسة والأعمال؛ واتصل بالعظماء والأقوياء وزعماء(133/66)
الثورات، وتجار الرقيق وبالشعراء والأدباء، والقتلة واللصوص؛ وشهد بنفسه كثيراً من الحوادث والانقلابات التي وقعت في أنحاء العالم منذ أواخر القرن الماضي؛ ففي سنة 1897 شهد الثورة اليونانية في كريت ضد الترك، ودرس الفظائع التركية في البلقان كما درس تجارة الرقيق في أفريقية وشهد في سنة 1905 مؤتمر الشباب الروسي لإلغاء عقوبة الإعدام، ورأى فلول الجيش الروسي المنهزم أمام اليابان؛ وعرف تولوستوي وتحدث إليه في منزله الريفي فذكر له إن ما يراه ليس ثورة وليس انقلابا، ولكنه يرى خاتمة عهد مضى؛ وشهد في سنة 1907 جهود آني بيزانت ودعايتها في الهند؛ وتجول في ميادين الحرب أثناء الحرب الكبرى، وشهد وقائع الدردنيل، وانسحاب الإنكليز من غاليبولي؛ ثم شهد بعد ذلك الثورة الإرلندية الوطنية، ومؤتمرات الصلح، وشهد احتلال الجنود السود لمناطق الرور في ألمانيا سنة 1923، وتجول في بيت المقدس وبغداد، وكتب عن دراساته ومشاهداته مقالات ومذكرات لا نهاية لها.
وقد اخرج مستر نفنتون أخيراً كتاباً ضخماً ضمنه كل هذه المشاهدات والدراسات بعنوان (نار الحياة)؛ وكتبه بأسلوب قوي شائق يمتزج فيه صدق المؤرخ وخيال القصصي، ويمتاز الكتاب بما يطبعه من روح إنساني قوي؛ ذلك إن مستر نفنتون رجل يضطرم فؤاده إنسانية ورحمة، ويجيش ذهنه بأشرف المثل فهو يطري الثورات الوطنية أنى وقعت، ويحمل على سياسة العنف والغصب أياً كانت، وينوه بالحقوق حيثما استحقت، ويندد بكل ما فيه قسوة أو تحامل، وينصر المثل السليمة والإنسانية أياً كان مصدرها، ويعتبر كتابه سجلاً بديعاً لحوادث نصف القرن الماضي.
الإذاعة المدرسية
كان يوم الاثنين الماضي بدء الإذاعة المدرسية التي شرعتها وزارة المعارف في عهد سعادة وزيرها الحالي - لفائدة تلاميذ المدارس. والمشروع جليل يستحق الاحتفال والثناء والشكر لوزير المعارف وكانت أولى المحاضرات بعد كلمة سعادة وزير المعارف في مفتتح الإذاعة، كلمة الأستاذ مهدي علام في: (عتاب بين الأدب العربي والإنجليزي!) ماذا يوحي هذا العنوان؟ أما عندنا، فكنا ننتظر أن نسمع حواراً بديعاً طريفاً بين العربية وأختها، وما اكثر ما يقتضي العتاب بين اللغتين! ولكنا. . . ولكنا لم نسمع إلا قطعتين من نماذج العتاب(133/67)
في الأدبين، نشرهما المحاضر من محفوظاته، ثم ربط بينهما بهذا العنوان. . .!
قد يكون اختياره حسناً، ولكن لغة الكتابة غير لغة الإذاعة، وهذا مشروع جديد في وسائل التربية، فما كان أحوجه إلى الجديد من أقلام أهل التربية. . .!
ثم جاء دور المدارس الابتدائية، فأرهفنا السمع على شوق وأمل. . . وكانت تلاوة شعرية في (عمرية حافظ)، وعمرية حافظ لون من الشعر التاريخي، حبيبة إلى نفوسنا، يسرنا ويرضينا كل الرضى أن يفهمها ويعيها أولادنا؛ ولكن هل كانت الإذاعة المدرسية من أجل ذاك؟ فماذا يعمل مدرس المحفوظات. . .! وهنا أيضاً كما هناك، كان أدب ولغة، وخطابة وشعر؛ ولكن للكتاب لا للمذياع. . .!
واسألوا التلاميذ بعد ذلك ماذا سمعوا مما كانوا يترقبون أن يسمعوا؟
إن مئات من المدرسين في الوزارة يحسنون التحدث إلى التلاميذ بأحسن مما سمعوا يوم الاثنين؛ لا لأنهم خير من الذين أذاعوا، أو أفهم لروح الطفل؛ ولكن لأنهم قد يكونون أقدر على خلع شخصياتهم حين يتحدثون إلى الطفل.
ما نريد من هذه الإذاعة أن نجتلي علم فلان وفلان فما نشك في ذاك، وإنما نريد أن نعرف كيف يتجاهل العلماء حين يريدون الحديث مع هؤلاء العقول الصغيرة الفارغة، حتى يعيش الأطفال في دنياهم على حقيقتها.
إن في الأدب القديم وفي الأدب الجديد كثيراً مما يروق التلاميذ صغاراً وكباراً أن يسمعوه، أكثر مما يروقهم أن يقرءوه، وما نرى التلاميذ يؤثرون أن يسمعوا شيئاً أكثر مما يؤثرون القصص. وفي ثنايا القصص يقال كل شئ؛ وهذا رأي لا نحسبه غريباً عن المكتب الفني في وزارة المعارف، وإن كان غريباً عن هذه الإذاعة المدرسية.
وللمعلمين أيضاً إذاعة كما للتلاميذ، وكانت الإذاعة لهم (في الخاتمة) محاضرة قيمة في شؤون التربية والتعليم، ألقاها الأستاذ أمين مرسي قنديل. وليس في المحاضرة مما ينقد إلا شيئاً واحداً، هو أن أستاذاً في التربية يحاضر المعلمين عامة في القطر ثم لا يصحح نطق الجمل ولا إعراب الكلام.
يا معلمينا الأجلاء. افهموا تلاميذكم قبل أن تحاولوا تفهيمهم. . .!
معلم(133/68)
أشعة الإخفاء
من أنباء بودابست أن كيميائياً مجرياً فتي يدعى ستيفان بربيل أذاع أنه قد اكتشف نوعاً جديداً من الأشعة يخفي الأشياء إذا سلطها عليها، وأنه اخترع في نفس الوقت مادة تحول دون اختفاء الأشياء إذا سلطت عليها هذه الأشعة؛ وإنها إذا سلطت أخيراً على باب أو جدار أمكن رؤية ما وراءه. وقد أثارت هذه الدعوى في المجر دهشة واهتماماً عظيمين، ولكن المخترع الشاب لم يجد كالعادة ما يطمح إليه من التشجيع الجدي؛ ولذلك يمم شطر لندن ليقوم هنالك بعرض اختراعه، وقد صرح إلى الصحف الإنكليزية بأن الأشعة التي اخترعها إذا سلطت على سيارة اختفت في الحال عن الأنظار؛ وأنها إذا سلطت على غرفة تضم عدة أشخاص، فأن أولئك الأشخاص يتوارون عن العيان ولا يبدو منهم سوى أشباح كالظل؛ وهنالك أشياء عجيبة أخرى يحققها هذا الاختراع المدهش، فمثلا يمكن استعمال هذه الأشعة في المسرح وفي السينما، فتأتي بنتائج عجيبة في تسهيل المناظر وتغييرها
ومع أن ماهية هذا الاختراع لم تثبت بصفة قاطعة، فإنه يذكرنا بأي حال بما نقرأه في كتب القصص القديمة من طلاسم كانت تستعمل للاختفاء عن الأنظار، وليس بعيداً بعد الذي نشاهده اليوم من أعاجيب العلم أن يتحقق اختراع الفتى المجري وغيره من الأمور التي كانت تبدو فيما مضى مستحيلة، فإذا هي اليوم موضع المحاولة والبحث الجدي.
زينة المرأة الحديثة
هل يسير الجمال النسوي بما تختاره المرأة اليوم لنفسها من صنوف الزينة والتجميل إلى الكمال؟ أم أن المرأة أسرفت في الالتجاء إلى الصناعة حتى أصابت من جمالها الطبيعي؟ يقول الأستاذ أولان دي لو رئيس قسم الفنون الجميلة بأكاديمية بروكسل في محاضرة له عن (أحوال الجمال في عصرنا) إن المرأة الحديثة تؤذي نفسها وجمالها ومن حيث لا تريد، وإنها تبدو اليوم شاحبة سقيمة، وأن الأصباغ والمساحيق المختلفة تجعل من وجهها (قناعاً من الورق المقوى). أما تجميل الأظافر واحمرارها فمما يجعل المرأة الأنيقة تبدو كأنها وصيفة أو طاهية عاطلة.
بيد أنه يلاحظ من جهة أخرى أن الحكم المطلق على وسائل التجميل والزينة فيه تحامل(133/69)
على المرأة، فمما لا ريب فيه أن المرأة في حاجة إلى التجميل، فقد نستطيع مثلا بالقلم الأسود أن نصحح عيباً في الحاجب، وليست وسائل التجميل كلها مغرقة أو مضحكة، والمرأة الفنانة ذات الذوق الحسن تستطيع أن تسبغ على وجهها من حسن الصنعة جمالا لم تمنحه إياها الطبيعة، وفي وسعها أن تعتدل في استعمال الدهان أو التلوين؛ أما الحكم فيجب أن ينصب على التجميل المفرق وعلى الإسراف في وسائله؛ والزينة هي بلا ريب ضرورة للمرأة الحسناء لا تستطيع عنها غنى، كما أنها لا تستطيع دون إضرار بجمالها وذاتها أن تهمل في زينة ثوبها أو شعرها أو قبعتها؛ ولو أن النساء الأنيقات عملن بنصح الأستاذ أولان وتركن ما يلجأن إليه من وسائل الزينة لفقدن كثيراً من أناقتهن وجمالهن.(133/70)
النقد
رد على نقد
3 - كتاب تاريخ الإسلام السياسي
للدكتور حسن إبراهيم حسن
مؤلف الكتاب
لاحظ القارئ في مقالينا السابقين مبلغ تلك المآخذ التي أوردها الناقد من الصواب وأنها لا تغني من قيمة كتابنا شيئاً. فأي تجنٍ وأي ظلم إذا ذهب هذا الأستاذ، بعد أن شغل قراء (الرسالة) بمقالين طويلين يزهو مقسماً بعمره - وليس بهين - إن هذه الأغلاط التي كشفها يذهب بعضها بمحاسن أي كتاب يرد فيه، فكيف بها كلها؟
نترك حضرة الناقد يزهو في غير عجب، ويتعلق بلا سبب؛ ونهمس في أذنه بأن إيراد تلك العبارة التي قدم بها كلمته الثالثة تذكرنا بالحكمة العربية (كاد المريب أن يقول خذوني). ثم نكِر على بعض تلك العيوب التي لحظها على طريقتنا في الأخذ من المصادر التاريخية لنتبين إن حظه فيها ليس بأحسن من حظه فيما سماه (مآخذ تاريخية وجغرافية)، وإذا كان يقول إن سوء حظه أبى عليه أن يقدم الثناء للمؤلف، فهناك من اطلعوا على كتابنا - وهم كثيرون - قد شاء حسن حظنا أن ننال تقديرهم ونغمر بفضلهم وتشجعهم. ولا أدل على هذا مما نشر في الصحف والمجلات في مصر والشام والعراق وغيرها، ومن أن الطبعة الأولى من الكتاب كادت أن تنفذ؛ ولا يعدم الحق مؤيداً وظهيراً.
يتهمنا حضرة الناقد بأننا حملنا متن الكتاب من الشروح والحواشي حملاً ثقيلاً، وكلفنا نفسنا شططاً وقراءنا مشقة وعنتاً، حيث أننا راعينا الأمانة في النقل، فنسبنا كل قول لقائله، وأسندنا كل رأي إلى مرجعه. ويرى حضرته أننا لم نقصد بذلك إلا ابتغاء السمعة، وأن نلقي في روع القارئ أننا في التاريخ واسعوا الاطلاع طويلو الباع ما كتبه الأوائل والأواخر!
لندع هذا الكلام الذي ينم عن الغرض من نقده، ونناقشه بكل هدوء في هذه العيوب التي حال تبينه وبين كلمة ثناء يكيلها لنا جزافاً.(133/71)
كل من اطلع على كتابنا يدرك لأول وهلة أننا أردنا أن يكون مرجعاً علمياً تاريخياً لمن يريدون التوسع في التاريخ الإسلامي
وليس من المعقول أن كتابا سيقع في ستة مجلدات لا ينقص أحدها عن ستمائة صفحة قد قصد في وضعه أن يكون في متناول الطلاب الذين لم يتموا الدراسة الثانوية - فإذا أكثرنا من ذكر المصادر، وإحالة من يريد التوسع عليها، فليس الغرض أننا نبغي السمعة عند الناس كما يتهمنا الناقد - سامحه الله - وإنما هو انتهاج الطريقة الحديثة، مراعاة للأمانة، وكشفاً للطريق لمن يريد زيادة التحصيل، وتبرؤاً من قول قد لا يتفق ورأينا الشخصي. أما الزعم بأن كتابنا من الكتب المدرسية التي جرى العرف بأن يقتصر فيها من ذكر المراجع في صلب الفصول على الضروري فزعم لا يتفق ووضع الكتاب وطريقة البحث فيه، ويدرك ذلك من عنده أدنى تأمل؛ وإذا كان حضرة الناقد كلف نفسه بعض المشقة لوجد أننا عمدنا إلى الطريقة الثانية المختصرة في كتابنا (تاريخ العصور الوسطى في الشرق والغرب) للسنة الثانية الثانوية.
وليت شعري كيف يحكم حضرة الناقد بأن كثرة المراجع التي اعتمدنا عليها صورية لا حقيقة، وكيف يدعي بأن حرصنا على التكثر والتزيد قد حملنا في كثير من الأحيان على أن ندلل على ما لا يحتاج إلى دليل، وأن نعدد المراجع ولو كانت في مرد أمرها ترجع إلى مصدر واحد؟ أليس أحق بالغرابة والإشفاق أن يتخذ من إحالتنا القارئ لخطبة أبي بكر على أربعة كتب قديمة اختلفت رواياتها بعض الاختلاف، سبباً في أننا ندلل فيما لا يحتاج إلى دليل؟ أننا لا نشك في أن البحث التاريخي الحديث يوافقنا، بل يطلب أن نعدد المراجع ما استطعنا، ولو لم تخلف الروايات من تقديم أو تأخير، ما، أو إبدال لفظ بلفظ. فما بالك وتلك المصادر الأربعة قد ذكرت في كل منها الخطبة مختلفة عن زميلاتها بعض الاختلاف؟ على أننا لم ندر ما هو الضرر الذي يلحق بالكتاب ويصيبه في نظر الناقد من ذكر المصادر، أربعة أو أكثر أو أقل، حتى عن خطبة قيمة يعرفها طلاب المدارس وينكرها بعض الأساتذة.
ولقد طوح القلم بحضرة الناقد، ودفعه الحرص على إلصاق العيوب إلى التهجم على كتاب يعتبر أصح الكتب بعد كتاب الله بإجماع المسلمين، ذلك هو صحيح الأمام أبي عبد الله(133/72)
البخاري. وإننا بدورنا نبادر ونطلب من الناقد أن يستغفر من ذنبه، فان إمام المحدثين البخاري هو الذي روى ذلك الحديث الذي جرى بين أبي سفيان وبين هرقل قيصر الروم في الشام (راجع باب بدء الوحي في البخاري)؛ كما أن هذا الحديث، وقد أجمع على صحته المحدثون، لم يحمل في ثناياه أدلة ضعفه وانتحاله - كما يقول الناقد - وأنه ذو خطر عظيم؛ فأنه يوضح بأجلى بيان كيف كان المشركون وعظماء قريش ينظرون إلى الرسول قبل إسلامه، وكيف كانوا يعرفون صدقه وأمانته كما يعرفون آبائهم وأبنائهم. وكيف لا يقدم هذا الحديث الصحيح في فهم سيرة الرسول ولا يؤخر؟ وقد كان أيضاً سبباً مباشراً فيما عرضه هرقل على بطارقته من الإسلام لولا أن حاصوا حيصة حُمر الوحش إلى الأبواب (راجع هذا الباب في البخاري)
أما أننا لم نقصد إلى مناقشة هذه النصوص التي وردت في شرح البخاري ومقارنة رواياتها المختلفة بعضها عن بعض، وأننا لم نبين ما اتفقت فيه وما اختلفت من حيث اللفظ والمعنى الخ، فان هذا ليس بذي خطر؛ فضلاً عن أنه يخرج بنا عن المقام. ومالا يترك كله
ولعل من الغرابة أن يجعل الناقد من أسباب الخطر على مقدرتنا في نقد المراجع وتقويمها أننا وافقنا على نسبة كتاب (فتوح الشام) للواقدي، وأننا استعنا به في الفصل الذي عقدناه لفتح العرب الشام، ثم أنبرينا لمناقشته ومجادلته، وأننا كذلك اعتمدنا في عدة مواضع على كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة. ويقول الناقد إن الكتاب ليس للواقدي، وان كل شئ في الكتاب الثاني يدل على أنه ليس لابن قتيبة، وإنما هو لكاتب أندلسي.
أما إن نسبة هذين الكتابين لهذين المؤرخين أو غيرهما فلا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، - على كل حال - يوضحان الحياة العامة السياسية في العصور التي تناولناها في كتابنا. وقد تضافرت المصادر الأخرى على صحة القدر الغالب مما ورد فيهما. على أن مجرد إنكار نسبة الكتابين للواقدي وابن قتيبة لا يكفي، بل يدعو إلى الابتسام، اللهم إلا إذا اعتمد المنكر على غير (غالب الظن)، و (الاعتماد على بعض ما كتبه الإفرنج)، مما لا يعتد به المنطق التاريخي ولا يدعمه دليل مبين. وإذا كان الظن في كل المسائل لا يعني من الحق شيئاً، ففي المسائل التاريخية خصوصاً يكون أبعد من الحق منالا وأدنى للباطل مجالا.
(يتبع)(133/73)
حسن إبراهيم حسن(133/74)
الكتب
1 - الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير:
لابن الساعي
2 - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة:
لابن الفوطي
للأستاذ محمد بك كرد علي
- 1 -
كتبت في مجلة المقتبس (م 3ص 93 - 1326 - 1908) مبحثا لفت فيه أنظار المشتغلين بالتاريخ إلى جزء من (الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير) لابن الساعي البغدادي (674) كان عثر عليه العلامة احمد تيمور باشا في دشت وضمه إلى خزانته رحمه الله. واليوم نشر الأستاذ مصطفى جواد بمعونة الأب انستاس ماري الكرملي هذا الجزء بعينه وهو التاسع من كتاب طويل. وللمؤلف اكثر من ثلاثين تأليفاً منها ما يدخل في بضعة مجلدات، وأكثرها في التاريخ والتراجم، ساعده على الاستكثار من التأليف كونه كان خازن كتب المدرسة المستنصرية ببغداد، إلى ما خص به من الدؤوب وثقوب الذهن ووفرة العلم. ولابن الساعي وهو على بن أنجب كتاب صغير طبع في المطبعة الأميرية بمصر 1309 وهو مختصر أخبار الخلفاء، يبدأ بظهور الدولة العباسية وينتهي بانقضائها.
وفي هذا الجزء التاسع من الجامع المختصر حوادث سنة 595 إلى 606 هـ يذكر فيها مجملة تم يترحم لمن ماتوا في تلك السنة من الأعلام، وفيه كثير من الفوائد التاريخية. ومعلوم عند الباحثين أن هذا العصر أحط عصور بني العباس، ولا ندري كيف يثبت ناشر الكتاب أن (العصر الذي تناول حوادثه هذا التاريخ من أزهر عصور بني العباس وأعظمها قوة ونظاماً)، وعصر الناصر على غلو المؤرخين من الشيعة فيه - لأنه تشيع - كان في الواقع عصر تراجع سلطان العباسيين، فاكتفوا ممن سلبوهم حكم بلادهم بالسكة والخطبة، وما كان يخطر ببالهم أن يتكرموا به على الخليفة من إتاوة، والخلفاء يكيلون لكل متغلب ما(133/75)
شاء الله من الألقاب ويطلقون على أحد العلماء (ص234): (الأجل السيد الأوحد العالم ضياء الدين شمس الإسلام رضى الدولة عز الشريعة علم الهدى رئيس الفريقين تاج العلماء. . .) ويكتبون عن أنفسهم: (المواقف الشريفة المقدسة النبوية الأمامية الطاهرة الزكية المعظمة المكرمة الممجدة الناصرة لدين الله تعالى. . .).
وفي الكتاب تراجم بعض المشاهير في تلك الحقبة وعهود وتقاليد صدرت عن خليفة الوقت بأقلام المنشئين في ديوانه. وقد وقعت للناشر هفوات لغوية وتحريف بعض آيات الكتاب العزيز منها (ص 196) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك الظالمون). وغلط (ص87) بأن حرف الآية هكذا (الذين كفروا بعضهم أولياء بعض) وصحة الآية الكريمة (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) إلى غير ذلك.
- 2 -
طبع الجامع المختصر في بغداد وقبله طبع فيها كتاب الحوادث الجامعة لابن الفوطي (بالفاء) البغدادي المتوفى سنة 723 بدأه بحوادث سنة 626 وانتهى بأخبار سنة 700. وللمؤلف يد طولى في التاريخ ووقوف تام على سياسة عصره، وأورد في تاريخه الممتع من الحوادث ما كملت به سلسلة التاريخ في العراق على عهد الانحطاط العباسي. ومن أهم فصول الكتاب وصف المؤلف فاجعة هولاكو التتري سنة 656 وقضاءه على الخليفة المستعصم وعلى جميع آل العباس مع ذراريهم وحرمهم وتخريبه بغداد ووضعه السيف في أهلها. وقد قدر القتلى منهم بأكثر من ثمانمائة ألف في بغداد فقط (عدا من ألقي من الأطفال في الوحول، أو من هلك في القنى والآبار وسراديب الموتى جوعا وخوفاً) (واحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد) وصف ذلك وصفاً ممتعاً لا إفراط فيه ولا تفريط وقد ساعد المؤلف على هذا التوسع والتبسط في الحوادث التي عرض لها أنه كان كأستاذه ابن الساعي أيضاً خازن كتب المدرسة المستنصرية. وذكر في حوادث سنة 631 ترجمة محمد بن يحيى بن فضلان، وفتح المدرسة المستنصرية، وأبن فضلان هذا كان من العلماء درس في النظامية والمستنصرية (وولى النظر بديوان الجوالي - أي جزية أهل الذمة. حكى عنه انه كتب للخليفة الناصر لدين الله لما كان يتولى ديوان الجوالي رقعة طويلة يقول فيها إن أجرة سكنى أهل الذمة في دار السلام والارتفاق بمرافقها لا يتقدر(133/76)
في الشرع بمقدار معين، في طرف الزيادة، ويتقدر في طرف النقصان بدينار؛ وطلب إلى الخليفة أن يتضاعف على كل شخص منهم ما يؤخذ منه. وقال انهم ضروب وأقسام، منهم من هو في خدمة الديوان وله المعيشة السنية غير بركة يده الممتدة إلى أموال السلطان والرعية من الرشا والبراطيل؛ ولعل الواحد منهم ينفق في يومه القدر المأخوذ منه في السنة؛ هذا مع ما لهم من الحرية الزائدة والجاه القاطع والترقي على رقاب خواص المسلمين. . . ثم ليس لهم في بلد من الحرمة والجاه والمكانة ما لهم في مدينة السلام، فلو تضاعف المأخوذ منهم مهما تضاعف كان لهم الربح الكثير؛ ومنهم الأطباء أصحاب المكاسب الجزيلة بترددهم إلى منازل الأعيان وأرباب الأموال ودخولهم على المتوجهين في الدولة؛ والناس يتحملون فيما يعطون الطبيب زائداً على القدر المستحق، وهو أمر من قبل المروءات، فلا ينفكون عن الخلع السنية والدنانير الكثيرة، والطرف في الموسم والفصول، مع ما يخطئون في المعالجات ويفسدون الأمزجة والأبدان، ويخرج الصبي منهم ولم يقرأ غير عشر مسائل حنين، وخمس قوائم من تذكرة الكحالين، وقد تقمص ولبس العمامة الكبيرة، وجلس في مقاعد الأسواق والشوارع على دكة حتى يعرف، وبيديه المكحلة والملحدان، يؤذي هذا في بدنه، ويجرب على ذا في عينه؛ فيفتك من أول النهار إلى منزله ومكحلته مملوءة قراضة، فإذا عرف بقعوده على الدكة وصار له الزبون قام يدور، ويدخل الدور. ثم ذكر أصناف الحرف التي كان يحترفها أهل الذمة في ذاك العهد ويغشون فيها. وهذه الرقعة أو التقرير على ما يلمح فيه من التعصب يحمل حقائق من وصف المجتمع البغدادي في القرن السابع. وهذا التاريخ مجموعة حوادث وأفكار مهمة جداً. وقد قدم له العلامة رضا الشبيبي من علماء العراق مقدمة ذكر فوائده؛ ونظر فيه وعلق عليه الأستاذ مصطفى جواد.
محمد كرد علي(133/77)
العدد 134 - بتاريخ: 27 - 01 - 1936(/)
ملك وشاعر
حل أصدق المواعيد في يومين متعاقبين بالملك جورج الخامس، وبالشاعر رديارد كبلنج، فأرفضّ لخطبهما الصبر الإنجليزي الذي يتماسك بطبعه على مض النوازل، وتجاوبت بأصداء الأسى الوقور أقطار المُلك البريطاني الشامل، وشعر القلب الإمبراطوري برجفة صماء لموت الملك، وأحس اللسان الاستعماري بعقدة بكماء لموت الشاعر؛ ذلك أن صاحب الجلالة كان يمثل شعبه في نبله وديمقراطيته، وصاحب العبقرية كان يمثله في طموحه ووطنيته؛ فأولهما كان رمز السمو الخلقي في طبع السياسة، وثانيهما كان لحن الغرور القومي في معنى الأدب!
كان الملك جورج معنى جديداً من معاني الملكية الجديدة؛ وفق بين غطرفة الملك وتواضع الديمقراطية، وألف بين قيود الحكم ونوازع الحرية، وصالح بين حفاظ التقاليد وطبيعة التطور، ولاءم بين إرادة العاهل وسلطة الدستور، وواءم بين سياسة الدولة ورغبة الأمة، واستبدل بالسلطة الزمنية التي أماتها فيه الزمان، وورثها عنه البرلمان، سلطة روحية أحلته من شعبه محل القداسة، ورفعته في أفقه مكان العلم، وجعلته في حكمه سلام الحزبية إذا احتدمت، وقرار السياسة إذا اضطربت، وصلة الإمبراطورية إذا تقاطعت، ومواساة المرضى من برح الألم، وتعزية البؤس من مس الحاجة؛ ثم تكرم عن أثرة الملوك وتميز السادة، فكان في الحرب يأكل ما يأكل الناس، وفي الأزمة ينفق ما ينفق الأوساط، وفي المحنة يكابد ما يكابد الشعب، وفي الرخاء يكاد الإحسان العام لا يترك في يديه من مخصصاته النصف مليون إلا قرابة الألفين
كانت ملكية الملك جورج كما رأيت لفظاً معناه الحب والخير والواجب؛ ومن هنا وجدت الأحزاب على اختلافها مضامينها فيه؛ فهي تثور فيما بينها وتسكن إليه، وتختلف في رأيها وتتفق عليه، وتفترق في طرقها وتلتقي عنده، حتى قال زعيم من زعماء الأحرار هو مستر اسكويث: (إن العرش لَتَهَاوى حولنا، لأن بعضها قائم على أساس من الظلم، وبعضها مرفوع على غثاء من التقاليد، ولكن عرش هذه البلاد محمول على مشيئة الشعب البريطاني، فهو مستقر لا يتزعزع، راسخ لا يميد)، وحتى قال زعيم من زعماء العمال هو مستر استافورد: (إن الملكية الدستورية ستظل طويلاً في هذه الأمة خير أداة لاختيار رأس الدولة)(134/1)
من أجل ذلك الخلق الأقوم كان حزن الإنكليز على مليكهم خالصاً من الرياء الرسمي، صادراً عن الشعور الصادق بالحب لرجل غلّب الأبوة على المُلك، واستغنى بالطيبة عن البراعة، وسد بكمال الخلق نقص القدرة
وكان الشاعر كبلنج مفتوناً بعظمة الإمبراطورية؛ صاغ من نسبها النضار شعره، وألف من لجبها المتناسق أغاريده؛ ثم شدا بالمجد الطوّاف على أثباج الماء، وهتف بالنصر الرفاف على وجوه الأرض، وجعل من شعره الجواب نشيداً قومياً تردده الآفاق البريطانية كما تردد نشيد الملك!
ولد كبلنج في بلاد قال فيها: (إنها أعجب بلاد خضعت للمخلوق وفتحت للخالق): ولد في الهند ببمباي كما يولد الهنود، ولكنه وعى فوجد نفسه سيداً، ووجد الهندي الذي ولد معه عبداً، يعيش على كده وهو ناعم بين وِسكبِه وحسانه، ويرقى على ظهره إذا همّ بركوب حصانه! الخلقة هي الخلقة، والبيئة هي البيئة، والطبقة هي الطبقة، ولكن كبلنج رأى بشرته ودمه من لون العلم الخفاق، ورأى بشرة الهندي ودمه من لون الأرض المستغلة، فأدرك علة الامتياز وسر التفوق: عرف أن البريطاني بحكم الجنس قد يدعى ذكياً وهو فدْم، وكيّساً وهو أخرق، وكافياً وهو عاجز، وسابقاً وهو متخلف، فاستهام بهذه القوة التي تشع مع الشمس في كل أفق، وتنتشر مع الحياة في كل قطر، وتنبسط على حواشي البر والبحر أمناً وحماية، فحبس على إعلان مفاخرها لسانه، ووقف على تسويغ عدوانها عقله؛ فموه حجج الاستعمار بالشعر، وألهب سعار العصبية بالحماسة، وشوه جمال الوطنية بالأثرة، وجعل الأدب وهو شعاع الروح دليلاً لبغي القومي ولؤمه، ومهد لأساطيل الطغيان، استبعاد الإنسان للإنسان، بحجة (أن الشرق شرق والغرب غرب فلا يلتقيان) إلا على شر، ولا يفترقان إلا على ثأر!
من أجل ذلك الإخلاص الملهم كان مرض كبلنج تحت الرعاية الملكية، وكانت جنازة كبلنج جنازة (شبه رسمية)!
إن في مثل سياسة الملك جورج لأماناً من طغيان الرءوس وثوران النفوس، وقيام الدعوات الباطلة، وشيوع المذاهب الجريئة، وانقلاب الحكم في الدولة، واضطراب السلم في الأمة، واغبرار العيش في أوجه العامة. إن في مثل أدب الشاعر كبلنج لروحاً مزهوة تعتلج(134/2)
بالشعور الوطني، وتختلج بالغرور القومي، وتدفع بالهمم الوانية إلى اللحاق، وتنزع بالنفوس الضارعة عن المذلة، وتكشف للقلوب المنخوبة عن معاني الرجولة!
إن في كل حادث ذكرى؛ وإن في كل حديث بلاغا!
احمد حسن الزيات(134/3)
4 - المشكلة
تتمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
صاحب هذه المشكلة رجل أعور العقل. . . . يرى عقله من ناحية واحدة، فقد غاب عنه نصف الوجود في مشكلته؛ ولو أن عقله أبصر من الناحيتين لما رأى المشكلة خالصةً في إشكالها، ولوجد في ناحيتها الأخرى حظاً لنفسه قد أصابه، ومذهباً في السلامة لم يخطئه؛ وكان في هذه الناحية عذاب الجنون لو عذبه الله به، وكان يصبح أشقى الخلق لو رماه الله في الجهة التي أنقذه منها، فتهيأت له المشكلة على وجهها الثاني
ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن زوجتك هذه المسكينة المظلومة التي بنيت بها، كانت هي التي أُكرهت على الرضا بك، وحُملت على ذلك من أبيها، ثم كنت أنت لها عاشقاً، وبها صبّاً، وفيها متدلهاً؛ ثم كانت هي تحب رجلاً غيرك، وتصبو إليه، وتفتتن به، وقد احترقت عشقاً له؛ فإذا جلَوَها عليك رأتك البغيض المقيت، ورأتك الدميم الكريه، وفزعت منك فزعها من اللص والقاتل؛ وتمد لها يدك فتتحاماها تحاميها المجذوم أو الأبرص، وتكلمها فتُحَمّ برداً من ثقل كلامك، وتفتح لها ذراعيك فتحسبهما حبلين من مشنقتين، وتتحبب إليها فإذا أنت أسمج خلق الله عندها، إذ تحاول في نذالة أن تحل منها محل حبيبهاً وتقبل عليها بوجهك فتراه من تقذّرها إياك واشمئزازها منك وجه الذبابة مكبّراً بفظاعة وشناعة في قدر صورة وجه الرجل ليتجاوز حد القبح إلى حد الغثاثة، إلى حد انقلاب النفس من رؤيته، إلى حد القيء إذا دنا وجهك من وجهها. . . .؟!
ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن مشكلتك هذه جاءت من أن بينك وبين زوجتك الرجل الثاني لا المرأة الثانية؟ ألست الآن في رحمة من الله بك، وفي نعمة كفّت عنك مصيبة، وفي موقف بين الرحمة والنعمة يقتضيك أن ترقب في حكمك على هذه الزوجة المسكينة حكم الله عليك؟
تقول: الحب والخيال والفن، وتذهب في مذاهبها؛ غير أن (المشكلة) قد دلت على أنك بعيد من فهم هذه الحقائق، ولو أنت فهمتها لما كانت لك مشكلة ولا حسبت نفسك منحوس الحظ محروماً، ولا جهلت أن في داخل العين من كل ذي فن عيناً خاصة بالأحلام كيلا تعمى(134/4)
عينه عن الحقائق
الحب لفظ وهمي موضوع على أضداد مختلفة: على بركان وروضة، وعلى سماء وأرض، وعلى بكاء وضحك، وعلى هموم كثيرة كلها هموم، وعلى أفراح قليلة ليست كلها أفراحاً؛ وهو خداع من النفس يضع كل ذكائه في المحبوب، ويجعل كل بلاهته في المحب، فلا يكون المحبوب عند محبه إلا شخصاً خيالياً ذا صفة واحدة هي الكمال المطلق، فكأنه فوق البشرية في وجود تام الجمال ولا عيب فيه، والناس من بعده موجودون في العيوب والمحاسن
وذلك وهم لا تقوم عليه الحياة ولا تصلح به، فإنما تقوم الحياة على الروح العملية التي تضع في كل شيء معناه الصحيح الثابت. فالحب على هذا شيء غير الزواج، وبينهما مثل ما بين الاضطراب والنظام؛ ويجب أن يُفهم هذا الحب على النحو الذي يجعله حباً لا غير، فقد يكون أقوى حب بين اثنين إذا تحابا هو أسخف زواج بينهما إذا تزوجا
وذو الفن لا يفيد من هذا الحب فائدته الصحيحة إلا إذا جعله تحت عقله لا فوق عقله فيكون في حبه عاقلاً بجنون لطيف. . . . ويترك العاطفة تدخل في التفكير وتضع فيه جمالها وثورتها وقوتها؛ ومن ثم يرى مجاهدة اللذة في الحب هي أسمى لذاته الفكرية، ويعرف بها في نفسه ضرباً إلهياً من السكينة يوليه القدرة على أن يقهر الطبيعة الإنسانية ويصرّفها ويبدع منها عمله الفني العجيب
وهذا الضرب من السمو لا يبلغه إلا الفكر القوي الذي فاز على شهواته وكبحها وتحملها تغلي فيه غليان الماء في المرجل ليخرج منها ألطف ما فيها ويحولها حركة في الروح تنشأ منها حياة هذه المعاني الفنية؛ وما أشبه ذا الفن بالشجرة الحية، إن لم تضبط ما في داخلها أصح الضبط لم يكن في ظاهرها إلا أضعف عملها
ومثل هذا الفكر العاشق يحتاج إلى الزوجة حاجته إلى الحبيبة، وهو في قوته يجمع بين كرامة هذه وقدسية هذه لأن إحداهما توازن الأخرى، وتعدّلها في الطبع، وتخفف من طغيانها على الغريزة، وتمسك القلب أن يتبدد في جوه الخيالي
والرجل الكامل المفكر المتخيل إذا كان زوجاً وعشق، أو كان عاشقاً وتزوج بغير من يهواها استطاع أن يبتدع لنفسه فناً جميلاً من مسرات الفكر لا يجده العاشق ولا يناله(134/5)
المتزوج، وإنه ليرى زوجته من الحبيبة كالتمثال جمد على هيئه واحدة، غير أنه لا يُغفل أن هذا هو سر من أسرار الإبداع في التمثال إذ تلك هيئة استقرار الأسمى في سموه؛ فإن الزوجة أمومة على قاعدتها وحياة على قاعدتها؛ أما الحبيبة فلا قاعدة لها، وهي معان شاردة لا تستقر وزائلة لا تثبت، وفنها كله في أن تبقى حيث هي كما هي، فجمالها يحيا كل يوم حياة جديدة مادامت فناً محضاً ومادام سر أنوثتها في حجابه
ومتى تزوج الرجل بمن يحبها انهتك له حجاب أنوثتها فبطل أن يكون فيها سر، وعادت له غير من كانت، وعاد لها غير من كان؛ وهذا التحول في كل منهما هو زوال كل منهما من خيال صاحبه؛ فليس يصلح الحب أساساً للسعادة في الزواج، بل أحْرِ به إذا كان وجداً واحتراقاً أن يكون أساساً للشؤم فيه، إذ كان قد وضع بين الزوجين حداً يعين لهما درجة من درجة في الشغف والصبابة والخيال، وهما بعد الزواج متراجعان وراء هذا الحد ما من ذلك بد، فإن لم يكن الزوج في هذه الحالة رجلاً تام الرجولة - أفسدت الحياة عليه وعلى زوجته صبيانية روحه فالتمس في الزوجة ما لم يعد فيها، فإذا انكشف له فراغها ذهب يلتمسه في غيرها وكان بلاءً عليها وعلى نفسه وعلى أولاده قبل أن يولدوا، إذ يضع أمام هذه المرأة أسوأ الأمثلة لأبي أولادها ويفسد إحساسها فيفسد تكوينها النفسي؛ وما المرأة إلا حسها وشعورها
فالشأن في تمام الرجولة وقوتها وشهامتها وفحولتها إن كان الرجل عاشقاً أو لم يكنه. وما من رجل قوي الرجولة إلا وأساسه ديانته وكرامته؛ وما من دين أو كرامة يقع في مثل هذه المشكلة ثم تظلم به الزوجة أو يحيف عليها أو يفسد ما بينه وبينها من المداخلة وحسن العشرة، بَلهْ أن يراها كما يقول صاحب المشكلة (مصيبة) فيجافيها ويبالغ في إعانتها ويشفي غيظه بإذلالها واحتقارها
وأي ذي دين يأمن على دينه أن يهلك في بعض ذلك فضلاً عن كل ذلك؟ وأي ذي كرامة يرضى لكرامته أن تنقلب خسة ودناءةً ونذالةً في معاملة امرأة هو لا غيره ذنبها؟ إن أساس الدين والكرامة ألا يخرج إنسان عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورط في مشكلة؛ فمن كان فقيراً لا يسرق بحجة أنه فقير، بل يكد ويعمل ويصبر على ما يعانيه من ذلك؛ ومن كان محباً لا يستنزل المرأة فيسقطها بحجة أنه عاشق؛ ومن كان كصاحب(134/6)
المشكلة لا يظلم امرأته فيمقتها بحجة أنه يعشق غيرها؛ وإنما الإنسان من أظهر في كل ذلك ونحو ذلك أثره الإنساني لا أثره الوحشي، واعتبر أموره الخاصة بقاعدة الجماعة لا بقاعدة الفرد. وإنما الدين في السمو على أهواء النفس؛ ولا يتسامى امرؤ على نفسه وأهواء نفسه إلا بإنزالها على حكم القاعدة العامة، فمن هناك يتسامى، ومن هناك يبدو علوّه فيما يبلغ إليه. . . . . .
وإذا حل اللص مشكلته على قاعدته هو فقد حلها، ولكنه حل يجعله هو بجملته مشكلة للناس جميعاً حتى ليرى الشرع في نظرته إلى إنسانية هذا اللص أنه غير حقيق باليد العاملة التي خلقت له فيأمر بقطعها.
وعلى هذه القاعدة فالجنس البشري كله ينزل منزلة الأب في مناصرته لزوجة صاحب المشكلة والاستظهار لها والدفاع عنها مادام قد وقع عليها الظلم من صاحبها، وهذا هو حكمها في الضمير الإنساني الأكبر وإن خالف ضمير زوجها العدو الثائر الذي قطعها من مصادر نفسه ومواردها. أما حكم الحبيبة في هذا الضمير الإنساني فهو أنها في هذا الموضع ليست حبيبة ولكنها شحّاذة رجال. . . . . . . . .
لسنا ننكر أن صاحب هذه المشكلة يتألم منها ويتلذع بها من الوقدة التي في قلبه؛ بيد أننا نعرف أن ألم العاقل غير ألم المجنون وحزن الحكيم غير حزن الطائش؛ والقلب الإنساني يكاد يكون آلة مخلوقة مع الإنسان لإصلاح دنياه أو إفسادها، فالحكيم من عرف كيف يتصرف بهذا القلب في آلامه وأوجاعه، فلا يصنع من ألمه ألماً جديداً يزيده فيه، ولا يُخرج من الشر شراً آخر يجعله أسوأ مما كان. وإذا لم يجد الحكيم ما يشتهي أو أصاب ما لا يشتهي استطاع أن يخلق من قلبه خلقاً معنوياً يوجده الغنى عن ذلك المحبوب المعدوم، أو يوجده الصبر عن هذا الموجود المكروه، فتتوازن الأحوال في نفسه وتعتدل المعاني على فكره وقلبه. وبهذا الخلق المعنوي يستطيع ذو الفن أن يجعل آلامه كلها بدائع فن وما هو فكر الحكماء إلا أن يكون مصنعاً ترسل إليه المعاني بصورة فيها الفوضى والنقص والألم، لتخرج منه في صورة فيها النظام والحكمة واللذة الروحية
يعشق الرجل العامي المتزوج، فإذا الساعة التي أوبقَته في المشكلة قد جاءته معها بطريقة حلها؛ فإما ضرَب امرأته بالطلاق، وإما أهلكها باتخاذ الضرة عليها، وإما عذبها بالخيانة(134/7)
والفجور، لأن بعض العبث من الطبيعة في نفس هذا الجاهل هو بعينه عبث الطبيعة بهذا الجاهل في غيره، كأن هذه الطبيعة تطلق مدافعها الضخمة على الإنسانية من هذه النفوس الفارغة. . .
وليس أسهل على الذكر من الحيوان أن يحل مشكلة الأنثى حلاً حيوانياً كحل هذا العاميّ، فهو ظافر بالأنثى أو مقتول دونها مادام مطلقاً مخليً بينه وبينها. والحقيقة هنا حقيقته هو والكون كله ليس إلا منفعة شهوانية؛ وأسمى فضائله ألا يعجز عن نيل هذه المنفعة
ثم يعشق الرجل الحكيم المتزوج فإذا لمشكلته وجه آخر، إذ كان من أصعب الصعب وجود رجل يحل هذه المشكلة برجولة، فإن فيها كرامة الزوجة وواجب الدين وفيها حق المروءة، وفيها مع ذلك عبث الطبيعة وخداعها وهزلها الذي هو أشد الجد بينها وبين الغريزة. وبهذا كله تنقلب المشكلة إلى معركة نفسية لا يحسمها إلا الظفر ولا يعين عليها إلا الصبر، ولا يفلح في سياستها إلا تحمل آلامها، فإذا رزق العاشق صبراً وقوةً على الاحتمال فقد هان الباقي؛ وتيسرت لذة الظفر الحاسم، وإن لم يكن هو الظفر بالحبيبة، فإن في نفس الإنسان مواقع مختلفة وآثاراً متباينة للذة الواحدة، وموقع أرفع من موقع، وأثر أبهج من أثر؛ وألذ من الظفر بالحبيبة نفسها عند الرجل الحكيم الظفر بمعانيها، وأكرم منها على نفسه كرامة نفسه. وإذا انتصر الدين والفضيلة والكرامة والعقل والفن، لم يبق لخيبة الحب كبير معنى ولا عظيم أثر، ويتوغل العاشق في حبه وقد لبسته حالة أخرى كما يكظم الرجل الحكيم على الغيظ، فذلك يحب ولا يطيش، وهذا يغتاظ ولا يغضب. والبطل الشديد البأس لا ينبغ إلا من الشدائد القوية، والداهية الأريب لا يخرج إلا من المشكلات المعقدة، والتقيّ الفاضل لا يعرف إلا بين الأهواء المستحكمة. ولعمري إذا لم يستطع الحكيم أن ينتصر على شهوة من شهوات نفسه أو يبطل حاجة من حاجاتها فماذا فيه من الحكمة وماذا فيه من النفس؟
وما عقّد (المشكلة) على صاحبها بين زوجته وحبيبته إلا أنه بخياله الفاسد قد أفسد القوة المصلحة فيه، فهو لم يتزوج امرأته كلها. . . وكأنه لا يراها أنثى كالنساء، ولا يبصر عندها إلا فروقاً بين امرأتين: محبوبة ومكروهة، وبهذا أفسد عينه كما أفسد خياله؛ فلو تعلم كيف يراها لرآها، ولو تعوّدها لأحبها
إنه من وهمه كالجواد الذي يشعر بالمقادة في عنقه؛ فشعوره بمعنى الحبل وإن كان معنى(134/8)
ضئيلاً عطل فيه كل معاني قوته، وإن كانت معاني كثيرة. وما أقدرك أيها الحب على وضع حبال الخيل والبغال والحمير في أعناق الناس.!.
وقد بقي أن نذكر توفية للفائدة أنه قد يقع في مثل هذه المشكلة من نقصت فحولته من الرجال فيدلس على نفسه بمثل هذا الحب ويبالغ فيه ويتجرّم على زوجته المسكينة التي ابتليت به، ويختلق لها العلل الواهية المكذوبة ويبغضها كأنه هو الذي ابتلي بها وكأن المصيبة من قبلها لا من قبله؛ وكل ذلك لأن غريزته تحولت إلى فكرة فلم تعد إلا صوراً خيالية لا تعرف إلا الكذب. وقد قرر علماء النفس أن من الرجال من يكره زوجته أشد الكره إذا شعر في نفسه بالمهانة والنقص من عجزه عنها، فهذا لا يكون رجلاً لامرأته إلا في العداوة والنقمة والكراهية وما كان من باب شفاء الغيظ، وامرأته معه كالمعاهدة السياسية من طرف واحد. . . لا قيمة ولا حرمة؛ وإذا أحب هذا كان حبه خيالياً شديداً لأنه من جهة يكون كالتعزية لنفسه، ومن جهة أخرى يكون غيظاً لزوجته ورداً بامرأة على امرأة. . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(134/9)
ريح التعصب الجنسي تهب على أوربا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
مضى الآن أربعة أشهر على نشوب تلك الحرب البربرية التي تضرم إيطاليا نارها في الحبشة باسم الاستعمار والمدنية؛ والحبشة ترد هجمات المعتدين عليها بشجاعة وجلد يثيران إعجاب العالم وعطفه؛ والعدو المغير يتخبط في غمر فادحة من الصعاب والخيبة واليأس، ويرتد شيئاً فشيئاً عن الأرض التي احتلها في البداية دون مقاومة، وظن أن احتلالها مقدمة للظفر الشامل
وقد سنحت لإيطاليا المعتدية أكثر من فرصة للفوز بقسط معقول من أسلاب الفريسة، قبل أن تصطدم بأية مقاومة حقيقية، وقبل أن ينكشف ضعفها وعجزها عن تحقيق أطماعها الفادحة بالقوة القاهرة؛ ولكنها لم تحسن انتهاز الفرصة وذهبت بعيداً في غلوائها وتحديها، ولم تحسن تقدير المقاومة السلبية الدولية التي استطاعت السياسة البريطانية أن تنظمها ضدها على يد عصبة الأمم، والتي أملت تنظيمها على السياسة البريطانية بواعث حيوية خطيرة تتعلق بسلامة الإمبراطورية وتأييد سيادتها في البحر الأبيض المتوسط، وفي وادي النيل وشرق أفريقية؛ بيد أن إيطاليا استطاعت بسياستها العنيفة وما تحمل في ثنيتها من احتمال إضرام نار حرب أوربية، أن تحمل السياستين الفرنسية والبريطانية على وضع مشروع للصلح، يقضي في الواقع على الحبشة بالإعدام كأمة مستقلة، ويحقق لإيطاليا السيادة الفعلية على معظم أراضيها، ويتوج حملتها الاستعمارية بظفر شامل لم تستطع أن تنال منه شيئاً بالحرب؛ ولكن المقاومة الحبشية كانت قد بدأت عندئذ تحدث أثرها في وقف الزحف الإيطالي، وظهر عجز إيطاليا وضعفها جلياً، واستقبل العالم مشروع الصلح بالاستنكار والسخط، ورفضته الحبشة بتاتاً، فلم يلبث أن قضي عليه في مهده؛ وكانت فضيحة دولية حقيقية أصابت هيبة السياسة البريطانية، واضطرت أن تتراجع أمامها بسرعة وأن تعود إلى موقفها الأول
وقد عرضنا من قبل إلى ذلك التطور المدهش في سير الحرب الحبشية، وأشرنا إلى بعض العوامل التي يظن أنها كانت سبباً في تحول السياسة البريطانية؛ ومنها ما يقال من أن مسيو لافال رئيس الوزارة الفرنسية استطاع أن يقنع السير صمويل هور وزير الخارجية(134/10)
البريطانية المستقيل بأن تعريض الحملة الإيطالية للفشل، وتمكن الأحباش من إحراز نصر حاسم على البيض مما يعرض سيادة الدولة الأوربية في أفريقية للخطر، ويصدع من صرح أوربا الاستعماري كله، ويبعث في الشعوب السوداء أو الملونة رغبة الانتقاض والمقاومة، وذلك ليس من مصلحة بريطانيا التي تحكم مئات الملايين من الشعوب الملونة في أفريقية وأسيا
ومما يلاحظ أن هذه النغمة الجنسية تقوى وتشتد في أوربا يوماً عن يوم، وأن الدوائر والصحف الاستعمارية أخذت تضرب عليها بطريقة منظمة، وخصوصاً بعد الانتصارات المتوالية التي أحرزها الأحباش على الإيطاليين في الأسابيع الأخيرة، مما يدل على إنها قد أخذت تحدث أثرها في تكييف السياسة الاستعمارية الأوربية: بيد أنه مما يلاحظ أيضاً أن هذه النغمة التي بعثتها الحرب الحبشية من رقادها ليست سوى ناحية واحدة من نواحي الفورة الجنسية العامة التي اشتدت بوادرها في أوربا في الأعوام الأخيرة، والتي ظهرت بصورة جلية في كثير من المناسبات السياسية والدولية
وقد نرجع إلى الوراء قروناً إذا حاولنا أن ندرس كل التطورات التي مرت بها تلك النزعة الجنسية الأوربية؛ فتاريخ هذه النزعة هو تاريخ الصراع بين الشرق والغرب وبين الإسلام والنصرانية؛ ولكننا نكتفي بأن نعرض إلى أحدث طور من أطوارها، وهو الذي نرى اليوم آثاره ماثلة في سياسة أوربا العامة، وفي السياسة المحلية لبعض الدول الأوربية. وفي وسعنا أن نقول إن هذا الطور الحديث من هذا الصراع الجنسي يرجع إلى الحرب الروسية اليابانية في سنة 1904، فقد كانت الفكرة الجنسية تجثم قوية وراء هذا الصراع بين دولة أوربية عظمى وبين دولة آسيوية استطاعت أن تنفض عنها غبار الماضي بسرعة وأن تتبوأ مكانتها بين الدول القوية؛ ومع إن أوربا كانت تسيء الظن بمقدرة روسيا القيصرية واستعدادها، فإنها لم تكن تتوقع أن تصاب الجيوش والأساطيل الروسية بمثل ما أصيبت به من الهزائم الساحقة، وأن تحرز اليابان ما أحرزت من نصر باهر
ولكن اليابان خرجت من تلك الحرب ظافرة قوية، وكان من نتائجها أن بسطت سيادتها على أقاليم شاسعة من الصين؛ وحدث لأول مرة في التاريخ أن انتصرت دولة آسيوية على دولة أوربية عظمى؛ ولهذا استقبلت أوربا انتصار اليابان في دهشة وروع، واستقبلته(134/11)
مقروناً بصيحة الخطر الأصفر؛ ولما سما شأن اليابان بعد الحرب الكبرى وضاعفت جهودها في سبيل التوسع الاستعماري في الصين، وكشفت عن نيتها في مقاومة النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، مستترة بشعار الجامعة الآسيوية، واستطاعت في الأعوام الأخيرة أن تبسط سيادتها تباعاً على منشوريا وأقاليم أخرى من الصين؛ زادت أوربا شعوراً بما تسميه الخطر الأسيوي، أو الخطر الأصفر إشارة إلى تفوق اليابان أو الجنس الأصفر؛ وما ينذر به من تحطيم النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، والحلول مكان الدولة الأوربية في استعمار الشعوب الآسيوية التي وقعت تحت سيادتها.
وهذه النعرة الجنسية تشتد اليوم في أوربا وتتخذ صوراً محلية إلى جانب صورتها العامة. ففي ألمانيا الهتلرية مثلاً تتخذ نظريات الجنس والسلالة أهمية خاصة، وترتب عليها مزاعم مدهشة، ويبدو أثرها جلياً في اضطهاد اليهود ومطاردتهم بأساليب عنيفة منظمة، وفي الدعوة القوية إلى بغض الأجناس السامية والشرقية واحتقارها واعتبارها أجناساً منحطة لا يليق أن تتبوأ مكانها مستقلة أو حرة، ووجوب إخضاعها واستغلالها بواسطة الشعوب الآرية الأوربية؛ ويزعم هتلر ودعاته أن الجنس الجرماني هو أشرف أجناس الخليقة، وأعظمها في الخواص والخلال، وينكرون على الشعوب السامية والشرقية بوجه عام أنها ساهمت أو تستطيع أن تساهم في إنشاء الحضارة؛ بل يذهبون في غلوهم إلى اعتبار أن اليابان أمة مقلدة لا يصح أن توضع في مصاف الشعوب العظيمة المبتكرة، إلى غير ذلك من المزاعم التي تنم عن تعصب جنسي عميق؛ ونرى مثل هذه الريح الجنسية تعصف بأمم ثانوية مثل بولونيا والمجر ورومانيا، وتتخذ صورتها في اضطهاد اليهود ومطاردتهم. أما الصورة العامة التي تتخذها النعرة الجنسية اليوم في أوربا، فتظهر جلياً في أمرين: الأول صيحة الخطر الأصفر، وذلك لمناسبة توغل اليابان في الصين وتوجس الدول الأوربية من مطامع اليابان وخوفها من انهيار سيادتها الاستعمارية في الشرق الأقصى، وقد أخذت تنهار فعلاً بتخلي روسيا عن مصالحها القديمة في منشوريا؛ والثاني في صيحة البيض والسود التي ذاعت لمناسبة الحرب الحبشية الإيطالية، وقصور إيطاليا في إدراك غايتها الاستعمارية بعد أن لبثت طويلاً تنظم قواها وبعد أن جردت على الحبشة نحو ثلث مليون جندي مجهزين بأحدث الأسلحة والمخترعات المهلكة؛ وهذه الصيحة تشتد اليوم في البيئات(134/12)
والدوائر الاستعمارية كلما اشتدت مقاومة الأحباش وزاد عجز إيطاليا وضوحاً، وبدا إزاء ما يحرزه الأحباش من انتصارات متوالية أن مغامرة إيطاليا الاستعمارية ستمنى بالفشل الذريع. وهذه النغمة هي التي يضرب عليها اليوم غلاة الاستعماريين الذين يشدون بأزر إيطاليا تحقيقاً لغايات السياسة القومية، مثل مسيو لافال رئيس الوزارة الفرنسية الذي يحاول أن يستبقي الصداقة الإيطالية بأي الأثمان ويخشى أن يؤدي انتصار الأحباش أعني السود على الإيطاليين إلى كارثة استعمارية تهز الأمم السوداء والملونة إلى الأعماق، وتعصف بنير الاستعمار الأوربي في أفريقية، ولفرنسا في أفريقية الشمالية والغربية والوسطى إمبراطورية استعمارية ضخمة؛ ومثل زعماء ألمانيا الهتلرية الذين يرون في سياسة إيطاليا الاستعمارية، وفي تحقيق غايات الاستعمار الإيطالي سنداً جديداً لمطامع ألمانيا الاستعمارية في استرداد بعض مستعمراتها القديمة تحقيقاً لنفس الغايات الاقتصادية التي يزعم موسوليني أنه يعمل لتحقيقها بالقضاء على حريات الحبشة واستقلالها
وهذه النعرة الجنسية حرية بأن تحدث أثرها في السياسة الإنكليزية؛ فإنكلترا كفرنسا تسيطر على إمبراطورية شاسعة من الشعوب الملونة ولاسيما في شرق أفريقية حيث تضطرم الحرب الحبشية، وسحق إيطاليا في الحبشة يحدث بلا ريب أثراً عميقاً في عقلية هذه الشعوب ويذكي فيها روح التمرد والمقاومة للنير الأجنبي؛ ولكن الظاهر أن إنكلترا مع تقديرها لهذا العامل ترى أن تضعه في المحل الثاني بالنسبة لعوامل جوهرية أخرى تضطرها أن تعمل في وجهة أخرى. ذلك أن إنكلترا ترى في العسكرية الفاشستية خطراً داهماً على سيادتها في البحر الأبيض، وترى في ظفر إيطاليا باجتياح الحبشة خطراً داهماً على أملاكها في شرق أفريقية وعلى سيادتها في وادي النيل؛ وترى على الجملة في استمرار هذه الفاشستية الطامحة المتجنية المشبعة بروح الاعتداء والتحدي، خطراً على سلامة إمبراطوريتها وسلامة مواصلاتها الإمبراطورية، وخطراً على السلم الأوربي بوجه عام؛ والمسألة الحبشية ثانوية في نظر السياسة الإنكليزية كما بينا أكثر من مرة، ولكنها تغدو في يد إنكلترا وسيلة ناجعة لمحاربة الفاشستية وتقويض دعامتها العسكرية والسياسة
على أن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هو أن هذه النعرة الجنسية التي تهب ريحها اليوم على أوربا وتروجها الدوائر الاستعمارية، ليست جديدة ولا حادثة في أوربا، إنما هي نزعة(134/13)
أصيلة في هذه الشعوب الأوربية التي استطاعت بأساليب العنف والغدر والخديعة أن تفرض سيادتها على معظم الأمم الأفريقية والآسيوية، والتي تحرص كل الحرص على استغلال هذه الأمم واستصفاء ثرواتها لكي تزيد بها في قوتها وفي نعمائها ورخاء بنيها على حساب هذه الأمم المهيضة؛ وأوربا اليوم هي كما كانت بالأمس، وكما كانت منذ العصور الوسطى مهد التعصب الجنسي والديني؛ وليس من الضروري أن نعود إلى أيام الحروب الصليبية لكي نصور أوربا المتعصبة على حقيقتها، وإنما يكفي أن نذكر أن الاستعمار العسكري والسياسي الذي تفرضه أوربا على الشعوب الشرقية باسم المدنية والتهذيب والتفوق الجنسي والثقافي والاجتماعي، تؤيده في نفس الوقت حملات البعثات التبشيرية، وتمهد له بالعمل على تقويض العقائد الدينية الشرقية؛ فإذا كنا نسمع في أوربا اليوم صيحة الخطر الأصفر لمناسبة التقدم الياباني في الصين؛ وصيحة البيض والسود لمناسبة انهيار مشروع إيطاليا الاستعماري في الحبشة، فإنما ذلك يتفق تمام الاتفاق مع ماضي أوربا وتقاليدها في الاضطرام بنزعات التعصب الجنسي والديني وخصوصاً كلما خشيت على صرحها الاستعماري من الانهيار.
(* * *)(134/14)
في الحب أيضاً
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كتبت إليّ سيدة أعرفها فاضلة لبيبة تسألني عن الحب كيف أقول فيه ما قلت؟ وعن المرأة كيف أبسط لساني فيها كل هذا البسط؟ وعن الحب الأفلاطوني ماذا ترى رأيي فيه؟ وختمت كتابها باتهام الرجال بقلة الوفاء، وبالغدر وكثرة التقلب
وقد استخلصت من كتابها أن مقالي الذي تفضلت بنشره (الرسالة) لم يصادف منها ارتياحاً ولم يلق قبولاً. ولست استغرب هذا، أو أنكر عليها امتعاضها، فإني أعرف أن كل رأي فيه من الهوى أثر؛ والمرء يميل بمزاجه إلى ما هو أحب إليه من الآراء وأكثر موافقة أو مجاراة لهذا المزاج؛ وما يزال الإنسان يوحي إلى نفسه حتى يصير الأمر عنده عقيدة راسخة لا تتزعزع ولا يسهل زحزحته عنها؛ ولو أن إنساناً استطاع أن يتبين مبلغ أثر الإيحاء الذاتي في آرائه لهاله ذلك، ولذهب إيمانه بالعقل وقدرته على النظر المجرد، ولأيقن أنه ما من رأي إلا وهو وليد عاطفة، فمولد عاطفة؛ والإنسان يعيش بالطبع أكثر مما يعيش بالعقل. واحسبني لا أخطئ جداً حين أقول إن عقل كل فردٍ يصب في قالب من طباعه، فليست هذه التي نفكر بها (عقولاً)، وإنما هي طباع وأمزجة اتخذت صوراً مزورة؛ وأصل الخطأ أنّا سميناها (عقولاً) فصار لها في وهمنا، على الأيام، استقلال لا وجود له
وليس الذي نشرته لي (الرسالة) رأياً في الحب، وإنما هو بيان لحالات يجر إليها، ومواقف يستدعيها، ولا أرى لي صبراً عليها؛ أما الحب فليس لغزاً، وما على من يريد فهمه على الوجه الصحيح إلا أن ينضو عنه كل ما خلع عليه الشعراء ولفوه فيه، حتى أخفوه وحجبوه؛ وليس هذا كل ما جنى الشعر، وما هو إلا بعض ما مسخ من حقائق الحياة. والشعراء كالكهان الأقدمين - دأبهم التهويل على الناس وإيهامهم أنهم وحدهم دون خلق الله أهل العلم والإحاطة والبصر والاتصال بالحقائق العليا والأسرار المحجوبة - لا، بل الشعر ضرب من الكهانة، ومظهر من مظاهرها - أي نوع من الدجل. ولا نكران أن الشاعر والكاهن يبدأن مخلصين صادقي السريرة - وكذلك كل غرير قبل أن يجرب - ولكن الأمر يتحول شيئاً فشيئاً إلى صناعة، فلا تصدق من يقول لك إن الشاعر يظل عمره - إلى آخره - طفلاً كبيراً، فإن هذا ليس إلا بعض دجل الشعراء - أو هو بعض ما يوحون إلى(134/15)
نفوسهم ويلحون به عليها ليكونوا أقدر على الدجل، والدجال يحتاج إلى اكتساب (مظهر) الإخلاص ليستطيع إقناع الناس. وقد رأيت في زمني دجالين كثيرين كان أبرز صفاتهم قدرتهم على مغالطة أنفسهم بالإيحاء إليها؛ والشعراء أبرعهم جميعاً لأنهم ألح على نفوسهم، وأكثر استلهاماً منها، وسبباً للتأثير فيها، ودؤوباً على مناجاتها
أعود إلى هذا الحب فأقول إنه ليس فيه سر، فهو ضرب من الجوع، أو هو إذا شئت نوع من التنبيه تلجأ إليه الطبيعة لتغرينا بما يكفل المحافظة على النوع كما تنبهنا بالجوع، فنبغي ما نحافظ به على ذواتنا. وعلى ذكر الجوع أقول إني أذكر أني أيام كنت أقول الشعر نظمت قصيدة نشرت في الجزء الأول من ديواني وفيها أن الحب أصاب مني (شبعه) فاستبشعها صديق لي أكبر رأيه وذوقه، وأنكر عليّ أن أذكر (الشبع) في معرض كلام على الحب، فوافقته على رأيه، ولكني تركت البيت على حاله، عجزاً عن تنقيحه، أو إهمالاً؛ ولولا أني أرفض شعري كله لقلت إني الآن أراني أحسنت
فالحب - كالجوع - اشتهاء، أي إيذان بأن الجسم يطلب أن تسد له حاجة، وليس الطعام هو الغاية من الأكل، بل ما يفيده من الصحة والقوة واستمرار الحياة؛ كذلك ليست المرأة هي الغاية من الحب، بل ما تعين عليه من بقاء النوع بالإنتاج؛ وكما أن المرء يغلط فيأكل ما لا خير فيه ولا صحة تستفاد منه ولا قوة، بل ما لعله يضر ويورث المرض، كذلك يغلط الإنسان فيحب ما لا يحقق الغاية التي ترمي إليها الطبيعة. والمرء يكون مترفاً في حبه كما يكون مترفاً في طعامه وملبسه وما إلى ذلك؛ ومن الناس من يأكل طعامه جرفاً، والمبطان الذي لا ينتهي منه، والمخلّط من صنوفه والمستقصي لها، والقَرون الذي يأكل لقمتين، والذي يكره معدته على الزيادة بعد الشبع، والذي يسرع في الأكل كراهة لطول الجلوس له، والذي يضع يده على ما أمامه لئلا يتناوله الغير، والذي يجيل اللقم ولا يمضغها، والذي يلوك، والذي يأكل نصف اللقمة ويرد نصفها، والزهيد القليل الأكل، والمريض، والضعيف الاشتهاء، والمتعجّف. وكذلك أرى الناس يكونون في حبهم، بل الإنسان الواحد يكون مرة هكذا، ومرة هكذا؛ والتوابل وما إليها لازمة للحب أحياناً لزومها للطعام؛ واللحم هو هو كيفما طبخته، ولكنه تارة يكون أشهى مشوياً، وتارة أخرى يكون ألذ وهو مسلوق، أو مقدد أو مشرح أو معلق في السفود، أو مخلوط بالرز أو البيض أو الخضر أو غير ذلك؛ وقل(134/16)
مثل ذلك في غير اللحم من الآكال فما أردنا إلا التمثيل؛ وكذلك المرأة، فمن كانت يعنيها أن يبقى حب الرجل لها أطول زمن ممكن، فلتكن على كل لون وعلى كل صورة تُشتهى
ولا أحتاج بعد هذا أن أقول: إني لا أومن لا بالحب الأفلاطوني ولا بالوفاء، ولست أعني أني استهجنهما أو أعيبهما، فليس الأمر أمر استهجان أو عيب، وإنما أعني أنهما لا يوجدان مع الصحة والسلامة؛ وإذا كان من الممكن أن يشبع الجائع بالنظر إلى الطعام في أطباقه على السفرة، وأن يحيا المرء بأن يأكل بعينه أو خياله، فإنه يكون من الممكن أيضاً إرضاء عاطفة الحب عند الرجل السليم المعافى بالنظر إلى المرأة والاستماع إلى حديثها والتمتع بابتسامتها ورشاقة وقفتها أو حسن جلستها. والذي يقنع من المرأة بذلك يكون أحوج إلى الطبيب المداوي منه إلى المرأة.
أما الوفاء فأكرم به وأنعم! ولكن أين في دنيانا من يصبر على طعام واحد وفي وسعه ألا يفعل؟ وأقول (من يسعه ألا يفعل) وأنا أعني ما أقول، فما يلتزم الوفاء إلا من يعجز - بسبب ما - عن خلافه. وأسأل القارئ وأعفيه من الجواب العلني: أي رجل لم ينقض عهداً بالوفاء بالفعل أو بالنية أو بالخاطر أو بالخيال - على حسب الأحوال؟ والمرأة كالرجل وشأنها كشأنه. وكذاب من يقول - وكذابة من تدعي - غير ذلك. ولست أدعو إلى شيء - وحاشا أن أفعل - ولكني أصف واقعاً، وأقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن ينتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة. والذي يجعل الوفاء مستحيلاً في الواقع أن الحياة قائمة على التحول لا على الثبات، والمرء يتغير حتى ليمكن أن يقال أنه يخلق كل يوم خلقاً جديداً مولداً من الخلق السابق أو أنه يموت ويجيء غيره باسمه؛ وكل يوم يحياه هو يوم ماته، وبعث بعده كرة أخرى في صورة تخالف الأصل من بعض الوجوه. وقد شرحت هذا من قبل في مقالات شتى في (البلاغ) (والأهرام) ولا أذكر أين أيضاً، فلا أعيد هنا ما قلت. . . . . .
وليس هذا رأياً جديداً لي، فقد نظمت فيه شعراً كثيراً نشر بعضه، ولن ينشر البعض الآخر؛ وأذكر مما نشر هذه الأبيات:
أكلما عشت يوماً ... أحسست أنيَ متُّهْ
(من قصيدة الملل من الحياة)(134/17)
إني أراني قد حلتُ وانتسخت ... مع الصبي سورة من السور
وصرت غيري فليس يعرفني ... - إذا رآني - صباي ذو الطرر
ولو بدا لي لبت أنكره ... كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا ... في العيش إلا تشبث الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى ... من مازن غيرُه على الأثر
(من قصيدة كأس النسيان)
هذه كفي على خون العهود ... لا على الرعى - فهذا لا يكون
إنها دنيا كِذاب وجحود ... ولصدق النفس أولى - لو يهون
هذه كفيِ على وشك الملال ... كل نار سوف يعلوها رماد
آهِ لو أستطيع تصديقَ الخيال! ... أو يكون الجهل شيئاً يستفاد
يا عقيدي طامن الله حشاك! ... لن تراني شاكياً وهْيَ حبالك
أين من طينتنا - أين - الفكاك؟ ... أنت إنسان على فرط جمالك
(من قصيدة معاهدة غرامية)
وحسبي هذا القدر، وعسى أن يكون كافياً في جواب السؤال
إبراهيم عبد القادر المازني(134/18)
رفعة المرأة
للأستاذ محمد بك كرد علي
تحارب فرنسا فكرة إعطاء الحقوق السياسية للنساء ومساواتهن بالرجال؛ وقد جعلت ألمانيا وإيطاليا في جملة نظمها الجديدة أن تعود بالمرأة إلى سالف عهدها من التزام البيوت والقيام على تربية الأطفال ومنعهن ما أمكن من معاطاة أعمال الرجال؛ وتكتب في هذا الشأن كتب ورسائل، وتنشر صحف ومجلات. ومن الكتب التي ظهرت مؤخراً في فرنسا فأحدثت دوياً في الأوساط المعتدلة وأظهرت المرأة بمظهرها الحقيقي كتاب (رفعة المرأة) للدكتور روبرتوتش بدأه بكلام لثلاثة من مشاهير الكتاب أحدهم تيودور جوران قال: إن رفعة المرأة بلية صدرت إلينا من البلاد الأجنبية ولاسيما من أمريكا وجرمانيا وبلاد الشمال. وكان هذا النفوذ المتألف من كل غريب يكفي أن يكون منه نتاج قد لا يتلاءم كثيراً مع تركيبنا الفرنسي. وقال روبر كييو: من السهل الدلالة على أن دعوى رفع شأن المرأة كانت أبداً وليدة المذهب الاشتراكي، فأنّا نرانا نسقط فيها على أفكار اشتراكية بعينها، وعلى معان لهم وتعبيرات وعلى كلمات ما برح الاشتراكيون يرددونها مع سفسطات كانت ولا تزال مألوفة لهم؛ وما المرأة إلا أعدى عدو لرفعة شأنها، فهي موقنة بأنها تخسر من نفوذها الخاص أربعة أضعاف ما تربحه من نفوذها العام، ولا يتأتى مما ترمي إليه إدخال أدنى إصلاح على النظام الاجتماعي. وقال الثالث مارسل تينابر: إن حقوق النساء وتحريرهن الأدبي وطموحهن إلى الحياة السياسية، كل هذا حسن وجميل، ولكن يا سيدتي حررن أنفسكن أولاً من الخياط، فإن لم تكن لكن هذه الشجاعة فلا تتطاللن إلى أن تحصلن على ما بقى
قال المؤلف: إن مسألة إعطاء المرأة حقوقها ما زالت منذ ثلاثين سنة من الموضوعات الطريفة، ولو كان الأمر يقف على إعطاء المرأة جميع حقوقها ولاسيما السياسية التي لم تهيئها لها لا طبيعتها ولا عملها الخلقي لهان الأمر، ولكنهن يرمين من المطالبة بذلك إلى التفلت من كل قيودهن ولاسيما قيود البيت والأمومة. تريد إنقاص شأن الرجل وتطمح إلى الاستيلاء على كل عمل لم تخلق هي له. تريد الابتعاد عن المنزل وعدم المبالاة بأعماله والإقلال من الأولاد والقضاء على الأسرة وينتهي ذلكبانقراض العنصر والجنس. وبتأثير(134/19)
الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في معظم البلاد الممدنة ولاسيما في فرنسا، راجت دعاية المفرطين ثم دعاية الرجال والنساء في هذه الحرب الحديثة، فكان من تلك الدعاية إخراج المرأة عن طورها وحملها على أن تتناسى أو تستنكر عملها، فصبغت المرأة بصبغة بشعة من محاكاة الرجل ليكون منها شريكة مبغضة له أحياناً، ومنافسة وخصيمة يخشى بأسها. ومن العدل ألا نغفل عن التصريح بأن أسباب حياة المرأة بعد الحرب الكبرى قد تبدلت تبدلاً خاصاً فيه كثير من القسوة، لأن أجور كثير من الرجال لم تعد كافية لإعاشة البيوت فاضطرت المرأة بكسل الرجل أن تدخل أحياناً لتعمل في البيوت التجارية والمعامل والمصانع لتكتسب ما تستلزمه حاجتها أو حاجة ذويها، مما لم تحتج إليه فيما سبق من الأيام، اللهم إلا إذا كان زوجها مصاباً بعلة طال أمرها، أو بعاهة في جسمه تمنعه العمل؛ وعلى ذلك كثر عدد العزبات المتجردات، والمعوزات والأيامى المطلقات، ممن لا معرفة لهن بصناعة؛ وكثيراً ما يكون لهن أولاد يضطررن لإعالتهن. وإذا لم ترغب فيهن النفوس أو كن بشعات ممسوخات يعشن خليلات للرجال أو يتدهورن في العهر السافل. ولطالما كان من الفتيات من جمعن شيئاً من المال، وانتظرن السنين خاطباً أو راغباً! ومن هذه الطبقة أيضاً عوانس خرجن عن طبائعهن، وحاولن أن يعشن عيشة جديدة، ويخرجن من افقهن الضيق فاستلزم ذلك اختلاطهن بكثيرات من بنات جنسهن وغير أبناء جنسهن، فتيسر لهن إيجاد علائق كان من أثرها زواجهن؛ وشق على كثيرات منهن لما أخفقن في الحصول على عروس لهن أن يبقين بلا حب، فاخترن خليلهن بحسب أذواقهن، وكل أولئك كان يحسن ويحب لو وقف الأمر عنده، ولكن هناك نساء سطا عليهن الكبر والحقد، فاحتقرن الرجل والزواج والولد، وهن قادرات على أن يكن طاهيات ووصيفات وساعورات ودلاكات ومنظفات أيد ومنظفات أرجل وحاسبات وخزانات وكاتبات ومدرسات وبائعات وسمسارات بل وقصصيات ومحاميات وطبيبات، ويتوهمن أنهن أسمى من الرجل أو على الأقل مساويات له، ويحاولن أن يقمن مقامه في معاناة سامي الأعمال مما لسن له خليقات
بهذه الصفحة وصف المؤلف ما تحاول المرأة بلوغه في بلاده، أو تنزعه من قيودها الطبيعية لتتلبس طبائع غير جنسها. وقد قال في وظيفة الحيض: ما برح دعاة تحرير(134/20)
المرأة منادين صاخبين أن المرأة مساوية للرجل، وما كان تشريح الجنسين ونفسيتهما وطبيعتهما متشابهة قط؛ وإذا كان الحال كما يدعون، فلماذا نرى البقرة غير الثور، والنعجة غير الخروف، واللبوة غير الأسد؟ ولماذا يتناسى دعاة هذا التحرير العمل العظيم الذي يؤثر في طبيعة المرأة وعقليتها وما كتب عليها من الحيض فيخرجها إلى طور غريب، وتفعل أيام الحيض في خلقها، وبعض الصحيحات منهن أو المريضات تعاودهن العادة مرتين في الشهر، فيدفق الدم منهن في الشهر الواحد مرتين، وينقطع مرتين، فيتأثر المجموع العصبي فيهن من هذه الموجات الدموية. وأسهب في شرح هذه الحال على ما يجوزه لسان الطب، ولا يجوز نقله لسان الأدب الحديث في صحيفة سيارة، مستشهداً بآراء أعاظم الحكماء والأطباء؛ ونقل عبارة أحدهم من أن المرأة لا تشعر بالحرارة ولا بالبرودة، والدليل أنها تتدثر بالفرو في الصيف؛ وإذا قيل إن ذلك من جملة الأزياء الحديثة، فأنّا نشهدها تتعرى في الشتاء إلى خاصرتيها، دون أن تحس بما يضرها؛ فالمرأة ما بردت قط، وإن أظهرت أنها صردة تتأثر من البرد، وأنها تضع الفرو عليها فذلك لأن هذه الحركة هي من الحركات الجميلة فيها. وعرض لغرامهن بالأزياء من كشف الأيدي والأرجل والسوق والصدور والظهور على ما تأباه قواعد الحشمة قال: ولو عقلن لسترنها، لأن في سترها مصلحة لهن على خلاف ما يعتقدن، وبذلك إغواء الشباب إلى ما يحمل ذلك من الموبقات المخجلة
إن إعطاء الحقوق السياسية لم ينتج منه الإصلاح المدهش في شمال أوربا وفي أمريكا وأوستراليا، حيث أخذن يتمتعن بحقوق الناخب والمنتخب؛ ففي الدانمرك لم يأت النساء بشيء أحسن مما كان للبلاد يوم كان نساؤها يسلمن للرجال الأعمال، ولم يُقض على الغول (أو الكحول) في بلاد السويد والنرويج وفنلندا وأوستراليا والولايات المتحدة؛ أما الفحش فكثير جداً في هاتيك الممالك، وهو مشوب برياء وتصنع
خرج المتعلمات في الجامعات الأمريكية من البيوت الفقيرة؛ وأظهر الفتيات في فرنسا وغيرها اجتهاداً في طلب العلم؛ وقد يتعلمن بدَعة وسرعة كل ما يتطلب إجهاد الذاكرة؛ وقد يبرزن في المسابقات، ولسن كذلك عندما يخرجن إلى الحياة، عندما يضطررن إلى القيام بمسألة تحتاج إلى تفكير وشخصية وحكم؛ وقل فيهن من ينجحن في المحاماة والطب، وقل(134/21)
أن يقبل أرباب المصالح على توكيلهن في القضايا أو استشارتهن في الأمراض؛ ومن تزوج منهن من رجال لهم مثل صنعتهن، كأن تتزوج الطبيبة بطبيب، والمحامية بمحام، لم يحمدن غبّ زواجهن، لأن التفاوت في قريحتي الزوجين يؤدي إلى أن تحسد الزوجة زوجها على توفيقه في عمله، فتبغضه وتشنأه؛ وثلث المتعلمات في أمريكا لا يظفرن بأزواج، وكلما أحرزن شهادات تخوف الرجل الإقدام على التأهل بهن، ولذلك يحببن الانطلاق بأفكارهن أن أسفن لما صارت إليه حالتهن؛ وثبت أن من تزوجن في فرنسا لم يقدمن على الزواج إلا بعد الثلاثين، وأحياناً في الأربعين، وكان معدل العقم من هذا الزواج تسعة وثلاثين في المائة لا تنسل فيه صاحبته ولا تلد
فتحت في الحرب معظم الأعمال في فرنسا أمام النساء، فأثبت لهن الاختبار أن من الأعمال ما هو من شأن الرجال كقادة الترام، وسوق السيارات، والمحاماة، والطب، فأخذ يرجع بعضهن عن تعاطي هاتين الصناعتين؛ وأثبت النساء الموظفات في الإدارات الحكومية والخصوصية أن امرأة عندما تجلس من وراء كوة أو نافذة للقيام بعملها، تصبح أشبه بالحيوانات المفترسة، وكانت خارج عملها من الساحرات الفاتنات بلطفها وظرفها. قالوا إن النساء إذا شاركن في السياسة يدمثن الأخلاق، ويبطلن الحروب، ويشرعن تشريعاً إنسانياً أكثر من تشريع الرجل، والواقع خلاف ذلك، لأن من الموظفات من إذا رضخ لهن بشيء من المال يبسمن ويغيرن معاملتهن، فما بالك بهن إذا قبضت الواحدة المئات؟ ومن تولين أعمالاً لا شأن لها كثيراً لم ينجحن النجاح المطلوب؛ ومن نجحن كن بتراكيبهن الجسمية أشبه بتراكيب الرجال، من حيث العضلات والقوى. وما نجح النساء في تولي الحكومات لو لم يكن لهن مؤازرون عظماء من الرجال يعملون كل شيء وينسبون ما عملوا للملكات، وإذا رجعنا إلى تراجم الملكات والأميرات نجد كثيرات منهن على جانب من التهتك والخلاعة، وما تعففن عن غمس أيديهن بالدماء - ويكون ذلك أحياناً لمآرب لهن - أو للتخلص من رجال تمتعن بهن، ثم أردن إطفاء ذكرهم. وإذا أردنا أن نذكر شهيرات النساء في الأدب لا نرى غير الرجال يعملون لهن من وراء ستار على الأكثر، وما تركت فيه المرأة وشأنها من الآثار الأدبية كان إلى التفاهة والفهاهة
وعدد المؤلف المساوئ التي تنتج للمجتمع من إعطاء النساء حق الانتخاب وما يتبع ذلك(134/22)
من شرور تنبعث من الناخبات، وفسوقهن وفجورهن كثير. وعقد فصلاً طويلاً في آراء عظماء الرجال منذ القديم في النساء ورفعة شأنهن، وفي الأبناء والشباب. قال بركليس: إن خير النساء من لا يتحدث الناس في أمرها. وقال موليير: إن النساء أتين العالم لعمل الحساء وإنسال الأولاد، وما عدا ذلك فإنهن يظهرن بمظهر مزعج خطر. وقالت مدام دي منتنون: ما عرفت النساء قط إلا نصف معرفة، والقليل الذي يكتب لهن معرفة يصبحن به متعجرفات هزّاءات مهذارات بعيدات عن الرصانة والرزانة. وقالت الآنسة دي سكودري: إن فتاة تنسى النظر إلى السماء لا تحسن شيئاً على الأرض. وقالت مدام دي دوفان: إن النساء يحرصن على الاضطرابات حتى إن معظمهن يؤثرن البؤس على الراحة. وقالت الآنسة دي لسيناس: متى تعلمت المرأة الإملاء يأخذها العُجب، فالواجب تعليم النساء لا تخريجهن عالمات. وقالت العقيلة دي بوز يولكس: مهما بلغ من خبث الرجل لا يقل في النساء من المقابح أكثر مما يتصورن بأنفسهن. وقالت مدام دي ستال: لما لم يكن في النساء تعمق في نظرهن ولا تسلسل في أفكارهن، كان النبوغ متعذراً عليهن وإذا كتب للنساء أن اتسعت أفكارهن فلا يتم لهن ذلك إلا بألم شديد. وقالت إن مجد المرأة حداد ظاهر على سعادتها
وقال برودون: إن المرأة التي تبتعد عن جنسها تسقط إلى مستوى أنثى مهذارة وقحة كسلانة قذرة خائفة قوادة مسممة، هي طاعون أسرتها والمجتمع. وقال لوكوفيه: إن المرأة الطبية يتقزز منها، والمرأة التي تتولى كتابة الصكوك يضحك منها، والمرأة المحامية يفزع منها. قال: كان أوجست كونت يعرف النساء كثيراً ويغرم بهن كثيراً، ويخالف في تحريرهن، ويعرف أنهن ماعدا القليل منهن جداً لم يخلقن للعمل ولا للحرية ولا لتحمل التبعات
(البقية في العدد القادم)
محمد كرد علي(134/23)
في مقبرة جنوى حيث تتجاور الحياة والموت
للأستاذ فتحي رضوان
الساعة العاشرة في الصباح. . . . . .
وجنوى تشملها شمس إيطاليا الهادئة، ونحن على أبواب مقبرة جنوى
يا عجبي! لم أسمع من قبل أن أجمل ما في مدينة مقبرتها، وأن السياح والراغبين في التفرج عن النفس، والجارين وراء لذائذ العقل والفكر، يهبطون جنوى، فلا يطلبون حدائقها، ولا يقصدون متاحفها، ولا يسألون عن حماماتها أو أسواقها، بل يستحثون الخطى وغايتهم (المقبرة)!!
فأي مقبرة هذه التي يهواها الناس؟ أليست مكاناً اضطجع فيه الناس بعد هذه الرحلة الطويلة التي يقطعونها في الدنيا، بحثاً عن المال، أو هياماً بالجمال، أو عدواً وراء جاه المنصب. . .؟ أما تضم الرفات بعد أن ذاب عنها اللحم الوردي؟ أما تجمع العظام بعد أن تشتتت وانتثرت وانحلت روابطها؟ أما تفوح منها رائحة الذكريات الحزينة: ذكريات الحبيب الذي ترك وراءه قلباً دامياً وعيناً دامعة، وذكريات الولد الذي خلف الأم الولهة، وذكريات الزوج الذي من ورائه أرملة ثكلى. . .؟
أتكون مقبرة جنوى شيئاً يمحو من صدور اليتامى والأيامى والبؤساء والحزانى أحزانهم ويهدئ آلامهم؟ إن تكن كذلك فهي أعجوبة أحْرِ بالناس أن يقصدوها لا ليفرجوا عن أنفسهم برؤيتها، بل ليحملوا إليها كل من فارقهم وكان عندهم عزيزاً، ليشعروا ببرد العزاء وحلاوة السلوان
دلفنا نحو المقبرة؛ ولست أعرف إحساسي وقت أن دنونا من بابها، فقد وقفت بنا السيارة أمام باب ضخم مفتوح على المصاريع، وإلى جانبه حارس؛ فلما اقتربت من الباب نظرت إلى الحارس، وقد حسبت أن طول اقترابه من قبور الموتى جعل له مظهراً خاصاً به، فإذا هو رجل عادي، يرى كل يوم النعوش الرخيصة تتبعها أسر فقيرة، والنعوش الغالية الثمينة، ووراءها الأغنياء الذين يتأنقون في الموت كما يتأنقون في الحياة، والموت يهزأ بهم، وإن كانت الحياة تدللهم!
لقد تعود حارس المقبرة أن يرى أحزان الناس وصور شقائهم، فبردت أعصابه، وتفهت(134/24)
مآسي الناس عنده، إذ رأى المتباكين الذين لا يحسون بألم، والمفجوعين الذين لا يجدون دمعة يلطفون بها نار صدورهم. . .
ولكن يا ترى ماذا يفعل الحارس إذا أصابه القدر في ابنه أو زوجته أو أمه أو حبيبته؟ أتبقى أعصابه في برودتها، ونفسه في شدتها، ودموعه في تحجرها؟ أم أنه سيفهم آلام الناس من جديد على ضوء النيران المشبوبة في صدره، الملتهبة في قلبه؟
تركنا حارس المقبرة، ورأينا في طريقنا عشرات من الحراس يلبسون على أكتافهم مآزر زرقاً من الصوف، تقيهم برد الشتاء، وتكسبهم وجاهة القواد والوجهاء، وهم يتبخترون في مشية عسكرية وخيلاء، وقد جملوا شواربهم ورفعوها، وحلقوا لحاهم وعطروها، فما عاد هيناً أن تعرف إذا كان هؤلاء حكاماً جاءوا يتنزهون، أم هم أشباح موتى ثقلت عليهم رقدة الموت، فخرجوا يتمشون ويتنفسون. . . إي وربي إنهم أشباح! فالواحد منهم على جلال مظهره، وجمال ملبسه، لا يعدو أن يكون تمثالاً؛ فالأيام تذوب وتدور، وهم في مماشي المقبرة واقفون، يرفعون رؤوسهم إلى السماء، ويخفضونها إلى الأرض، ويضعون خناصرهم وبناصرهم في خواصرهم، لا يشغلهم شاغل! حسبهم من الحياة أنهم وقفوا على أبواب الموت، تاركين وراءهم ضجات الناس وصيحاتهم. . . بل حسبهم من الحياة أنهم يحملون أقل أعبائها، ويرون أصدق حقائقها، فإذا جاءهم بعد ذلك الموت، وجدهم كالموتى، لا أوزار ولا أطماع، ولا ماض يحاسبون عليه؛ ثم وجدهم في المقبرة، يعرفون لحودها ويحفظون حدودها، ويدركون مكانهم اللائق بهم فيها
لقد قسوت على حراس المقبرة! وأحسب أن مظهرهم قد غرني وخدعني. . فكم تخفي الوجوه الهادئة نفوساً ثائرة! وكم يحترق الذين يحسبهم الناس كسالى ونائمين! ومن يدري؟ فلعل أحد هؤلاء الحراس شاب مغامر طاف بالأرض وجازف بالمال القليل الذي كان بين يديه، وبالحياة الغالية التي بين جنبيه، ثم قذف به القدر حارساً لمقبرة، وهو أبعد الناس عن الموت وفكرته، مشغولاً بالحياة ولذتها. . ولكنه يسير كما يسير بقية الحراس، مطرقاً متأملاً، شمخاً، متألهاً، وهو مستغرق في أفكار نفسه وبوده لو يواتيه القدر فينطلق من جديد. . .
لقد طالت وقفتي بحراس المقبرة. . .(134/25)
هذه هي المقبرة، وقد لاحت من بعيد شواهد القبور، فأفلتت مني ضحكة أعرفها من نفسي كلما جاشت فيها خواطر، واحتدمت ضحكة يحسبها الذين معي أنها استخفاف بالذي أرى أو انصراف عما أرى، وهي ضحكة النفس التي أسأمتها صور الحياة المتشابهة، وقد أفرحها أن ترى الحياة والموت متجاورين، فلا الموت جعل مظهر الحياة عابساً، ولا الحياة جعلت مظهر الموت تافهاً. . . ضحكة الذي رأى الحياة وقد حنت على الموتى، فجملت لهم مساكنهم وزينت لهم حدائقهم، بل ضحكة الذي سره أن يرى مظاهر الحب الإنساني وقد تجسدت تماثيل وشواهد. . بل وقد تضوعت زهوراً وعطوراً. . .
هذه هي مقبرة جنوى. فأي فرحة شملت نفسي! وما بالي أرى الدنيا من حولي ضاحكة؟ هل أستخف أمام الموت بالموت الذي جمع في هذا المكان مئات الألوف من الموتى: صبياناً لم يتجاوزوا العقد الأول من أعمارهم، وفتيات صبايا أرى صورهن على قبورهن فأرى وجوهاً تترقرق بماء الحياة وتفيض بفتنة الأنوثة. . . ورجالاً قصف القدر عمرهم وعلى أكتافهم عبء عمل ناضج؟. . .
الشمس في السماء شمس رحيمة لا تحرق البدن، ولا تلفح الوجه؛ تحف بها السحب، والمكان هادئ لا جلبة حتى ولا بكاء. . وأنا مستغرق في تأملاتي، وأخواني قد سبقوني وأصواتهم تصل إليّ من بعيد! لقد هدأت نفسي، وذابت في أعماقها الضحكة التي كنت أسمعها بإذني صوتاً، ويراها صحبي بشراً. . . ما بال الدموع قد ملأت عيني؟ ما بالي لا أرى شيئاً، ولا أسمع شيئاً. .؟
لقد أفقت على وقع أقدام من بعيد: أقدام تطرق الأرض طرقاً حاداً، ولكنه رفيق. . . عالياً، ولكنه موزون. . فما تحركت ولا تركت مكاني، بل بقيت مسترسلاً في هذه الخواطر التي لم أكن أعرف لونها ولا سرها، لأنها كانت تبدو لتختفي، وتتعارض وتتقابل، وتجتمع وتفترق، وتهدأ وتشتد. . خواطر أشبه بهواجس النائم الذي شغلت ذهنه قبل نومه ألف فكرة، فتحركت جميعاً حينما أغفى
لعلي لمت نفسي وأنا مطرق على قسوتها على الذين أحبوني وأخلصوا الحب، فشغلتني عنهم شواغل الحياة، فتألموا صامتين، وودعوني عند السفر باكين، بل صابرين. . . أو لعلي لمت نفسي إذ رسمت لنفسي طريقاً محفوفاً بالصعاب، فوهنت حيناً، وأغفيت حيناً،(134/26)
وجدفت وتشككت أحياناً. . ولعلي لمت نفسي لأني أحببت ألوان الجمال جميعاً، فما تغذيت بلون منها، ولا شبعت بها جميعاً. . .
لعلي لم ألم نفسي. . .
اقتربت الأقدام مني، فإذا بشبح أسود يمر سريعاً دون أن أراه. . ولكني أفيق فأتبين في الشبح فتاة تلبس الرداء الأسود الحزين وفي يدهاطاقة ورد، وعلى وجهها مسحة ألم، وهي في مشيتها لا تلقي بالاً لما حولها
هذه الفتاة ليست إلا قصة حزن من قصص الحزن التي سجلها الحفار تمثالاً، والتي سجلها الزمن أجساداً تسير في الدنيا بلا أرواح، مشغولة بالذين راحوا، ولا عودة لهم بعد الرواح. .
تبعتها، ولم أر بعد وجهها، وقد أحسست أن نصف حزنها قد خف ولطف، فقد قاسمتها الهم الذي تنوء من تحته، والألم الذي تشكو من وخزه، والحرمان الذي تبكي لطوله وعنفه. لقد بدت لي هذه الفتاة في ثوبها الأسود، ووشاحها المسدل، وإطراقتها الطويلة، الإنسانية التي تنبعث آلامها من آمالها، فقد تكون هذه الفتاة قد أقبلت لتضع على قبر حبيبها طاقة زهر، أو تنثر فوقه دموع عينيها، وقد كانت بالأمس تمني نفسها أن تكون له ويكون لها. . .
انطلقت الفتاة وكأنها تعدو؛ واخترقت الدهاليز، واجتازت الأبهاء؛ وبعدت عن صحبي، ولعلي بعدت عن نفسي، وخيل إليّ أن الفتاة لا تقصد قبراً، وأن القبور تساوت أمامها فكلها من الحجر الغالي، وكلها منقوش ومصور، وكلها أصم أبكم، بارد جامد لا يلين تحت يد، ولا يلتهب لوقع قبلات المحزونين المكروبين.
أتقودني هذه الفتاة إلى مجهول، أم أن دنيا الأحزان هكذا متسعة، والطريق إليها يطول ويطول. . .؟ ولكن الفتاة لم تلبث أن انحرفت إلى دهليز ضيق، ثم خطت خطوتين، وركعت أمام قبر من الرخام الأسود، ورسمت الصليب، وأغمضت عينيها. . . كان النور ضعيفاً، باهتاً، وكان المكان ساكناً ساكتاً، فابتعدت عنها خطوتين ووقفت أتأملها، ولكن الشمس لم تلبث أن خطت في السماء خطوتين، ثم سقط نورها من نافذة من الزجاج زرقاء، فرأيت هذه الفتاة تمثالاً افتنت فيه يد صانع الطبيعة، فاجتمع فيه ألف معنى، فلو سألتني أهذه الفتاة طفلة تتشبث بصدر أمها، ولم تتجاوز بعد الأعوام الأولى من عمرها، لقلت(134/27)
(نعم!). ثم لو عدت وسألتني: أهذه الفتاة صبية لاهية تائهة في الدنيا ساهية، لقلت (نعم!). ثم لو رجعت إلى السؤال فقلت: أهذه الفتاة شابة اكتملت أنوثتها، ونضجت فتنتها، لقلت (نعم!) ثم لو ألححت في السؤال فقلت: أهذه الفتاة امرأة أثارت الدنيا شهواتها، ولم تضعف الأيام نزواتها، لقلت (نعم!). ثم لو كان بعد ذلك في مكنتك أن تسأل فقلت: أهذه عجوز شيبت السنون رأسها، وهدت البأساء نفسها، لقلت (نعم!). لقد أطلت النظر إلى وجهها، فرأيت الرجاء والتوسل، والبكاء والتهدم، والاطمئنان والاستسلام، والثورة الجائحة، والشك في رحمة الرحمن. . .
لمست القبر وقبلته، واقتربت منه وعانقته، وأسلمت رأسها وقد انسدل وشاحها على ظهرها، وبدا لي أنها شرقى تطلب ماء لغصة في حلقها، ولكنها رنت إلى السماء بوجهها، فرأيت أنها تطلب من الله ماء العيون. . فلقد تحجرت عيناها فلا بكاء ولا دموع. . .!
انتصبت الفتاة واقفة، ثم رفعت من فوق القبر قنديلاً صغيراً كادت تخبو شمعته إذ أوشك زيته على النفاد، وملأت القنديل بزيت من زجاجة كانت معها فاشتعل القنديل وتوهج، ثم ذهبت إلى الناحية الأخرى من القبر وملأت القنديل الموجود هناك، ثم رفعت طاقة الزهر التي كانت معها فوضعتها على القبر وتمتمت ثم رسمت الصليب وانطلقت وقد زاد وجهها شحوباً، ووقفت حيث كنت متأملاً في نور هذا القنديل، مشفقاً على هذه الإنسانية التي لا تدري كيف تعبر عن حزنها ولا عن ألمها. . . ماذا يفعل هذا النور الخافت في هذا الدهليز الضيق؟ وما الذي يفيده الفقيد الراحل من الزهر المنثور على القبر ومن القنديل ومن تجديد الفتيل. . . إنه ذهب ولن يعود. . . ولكن الحياة لا تعترف بأنها فقدت من الموتى كل شئ، فهي تحدثهم بلغة الأنوار والأزهار، وهي تناجيهم بالتماثيل والتهاويل، وهي تسمعهم الأغاني والتراتيل. . . . أهي تفعل ذلك كله من أجل الموتى؟ أو من أجل نفسها؟ أهي تتشبث بالذين ذهبوا أم تتعلق بالدنيا التي تتجدد وتتطور وتزداد كل يوم جمالاً وافتناناً؟. . . وما أقوى الحياة في بدايتها وما أقواها في نهايتها!
لكن هذه الخواطر الغامضة لا تنتهي، لأن كل شيء في المقبرة يفجر في النفس ينابيع التأمل والاستذكار، فلابد لزائر المقبرة من شيء أو شخص ينتزعه من هواجس نفسه وخواطرها. وقد كان الذي انتزعني دليلاً من إدلاء المقبرة، تقدم إليّ وعلى عينيه مناظر(134/28)
لامعة، وسألني كم من الوقت أريد أن أقضي في المقبرة. قلت لأصرفه عني: (دقائق قليلة)؛ فقال حسناً. اتبعني. فتبعته وأنا أسائل نفسي ماذا يستطيع أن يقول هذا الدليل وقد تكلمت التماثيل والأحجار، ونطقت القبور والأنوار، وسالت الفجيعة من كل ركن من أركان المقبرة؟ ولكنه قادني إلى تمثال أنيق لراهب وانطلق يذكر صانع التمثال وشهرته، وتاريخه وبدائعه، فأحسست أن الجو الشعري الذي اشتملني قد تبدد أرجه وعطره، وشعرت أنني خرجت إلى دنيا التوافه. . . دنيا الأرقام والإحصاء، الدنيا التي لا ترى فيها إلا مكافحاً في سبيل الرزق، أو مدجلاً من أجل الشهرة، أو مغلوباً على أمره، يبغي البقاء ويخشى أن يدهمه الفناء. . .
قل أيها الدليل كل الذي في جعبتك فإنك لا تهوى الفن ولا تعشقه، وليست هذه التماثيل في حسابك إلا بقدر ما تدخل الجثة المسجاة في سرير في حساب (النادبة) التي تؤجج نيران الأسى في قلوب ذوي الفقيد وهي لا تحس ألماً، بل تنتظر لعويلها ثمناً. مرّ بي على تمثال الجندي الشاب الذي صرع في ميدان القتال فأقامت له أمه نصباً خلدت به ابنها، فأبرز المثال صورته، وقد أصابته الرصاصة في صدره، فوضع يده حيث اخترقته القذيفة ووقفت أمه من ورائه تحنو عليه. . .
مر بي أيها الدليل على تمثال الفتاة التي زفت إلى خطيبها، فماتت في شهر عسلها؛ وعلى تمثال الغواص الذي هبط إلى أعماق البحر ولم يخرج. . .
مر بي أيها الدليل في الدهاليز. . . وأشر بإصبعك إلى القطع البارعة التي أحرقت أعصاب أصحاب الفن قبل أن تبرز إلى الوجود. . . لخص أيها الدليل أجمل معاني الدنيا في عباراتك الباهتة وقل هنا (قبور الأغنياء)، وهنا قبور القرن الماضي، وهنا قبور المتوسطين من الناس. . . كأني جئت هنا لأضع الموتى في مراتبهم الاجتماعية، ولأسأل عن وظائفهم ومقادير ثرواتهم وما حصلوا من مجد، وما لاقوا من عنت. . . قف أيها الدليل أمام أجمل فتنة فنية؛ ثم لا تدعني أتأملها لأنك تحسب أنك قلت لي عنها كل شيء إذ تقول إنها تكلفت أموالاً كثيرة. . .
ولتدخل بي أيها الدليل إلى دهليز طويل، لأرى في جداريه أدراجاً فأحسب أنها أدراج مكتبة وقفها بعض ذوي الثراء على الراغبين في العلم الباحثين عن المعرفة حتى في(134/29)
المقبرة، ثم قل لي إن في كل درج جثماناً. . . وأن الأدراج امتلأت بالموتى ولم يبق إلا اثنان ينتظران ميتين. . .
إنها لمكتبة حافلة! ولكن من يستطيع فك مغاليقها وفض أختامها؟ واخرج بي أيها الدليل إلى مقبرة الفقراء والمساكين الذين لا يقيمون لموتاهم نصباً ولا تماثيل. ولا تقل لي عدد الموتى ولا أعمارهم. . . فإني هنا في حديقة جميلة غناء، بودي أن أقف فيها والشمس الهادئة تغمرني، والجبل الأشم يطالعني، والموتى الساكنون يغسلون بسذاجة قبورهم نفسي. . .
ولكن قل لي أيها الدليل ما بال هذا القبر يبدو عاطلاً من كل حلية.؟ (نعم يا سيدي لأنه قبر رجل غريب!)
أيتها الإنسانية المسكينة! تشبثي بالفروق، وتأنقي في الموت، وتأنقي في الحياة، وأقيمي لموتى الأغنياء قباباً، واحفري لموتى الفقراء لحوداً، ثم انظري آخر الأمر ماذا بقي لديك في يديك؟ الموتى جميعاً أصبحوا (معروضات) في متحف، يرتزق بالتحدث عنهم دليل جاهل، ويتسلى بالنظر إلى صورهم زائر عابر، ولا تبقى وراءهم إلا عبرة في عين، وحسرة في قلب، وعبرة لمن أراد أن يعتبر!
(جنوى)
فتحي رضوان المحامي(134/30)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وأخذ بستور ورجاله الخلصاء يصوبون مجاهرهم على مواد يستخرجونها من أجسام موتى من الإنسان والحيوان. ماتت بأمراض مختلفة الأجناس بلغت العشرات عداً، وقضوا في هذا ما بين عام 1878 وعام 1880. كان بحثهم في هذه الفترة به شيء من التخليط، وتحسسهم فيها على غير هدى. ثم شاء القدر أو إرادة الله أن تضع تحت أنف بستور طريقة رائعة للتحصين من الأدواء، ذلك التحصين الذي حلم به طويلاً. ليس في استطاعتي أن أؤدي قصة ما جرى في ذلك بالضبط، لأن الذين كتبوا عن بستور اختلفت رواياتهم فيها، ولأن بستور نفسه لم يشر في كتاباته العلمية إلى الذي حدث، ولم يقل قط إن الذي جرى له في ذلك كان حظاً واتفاقاً. ومع هذا فأنا أقصها على أحسن ما أستطيع، وأسد خللها على قدر الإمكان
ففي عام 1880 كان بستور يلهو بتلك المكروبة الصغيرة البالغة الصغر التي تصيب الدجاج فتميته بالداء المعروف بكوليرا الدجاج، وكان الدكتور بيروُنسيتو اكتشفها فوجدها ضئيلة بالغة في الضآلة فلا تُرى المكروسكوب منها غير نقطة صغيرة ترتعد تحت أقوى العدسات، وكان بستور أول باحث استطاع تربيتها نقية، وذلك في حساء صنعه لها من لحم الدجاج، وبعد أن راقب هذه النقطة الراقصة، وهي تتكاثر في هذا الحساء فتبلغ الملايين الكثيرة في الساعات القليلة، قام فأخذ من الحساء قُطيرة فأسقطها على فُتيتة خبز ألقمها دجاجة، فلم تمض ساعات حتى انتهت وقوقة هذا الطائر المنكود ورفض الطعام وانتفش ريشه واستدار فكان ككرة من العِهن. فلما أصبح الصباح جاءه بستور فألفاه يترنح على رجلين ضعيفتين، وعيناه في اغتماض من نوم غامض انقلب سريعاً إلى نوم أبديّ عميق
وقام رو وشمبرلاند على هذه المكروبات الصغيرة يربيانها ويرعيانها تربية الحاضن ورعايتها. فكانا يغمسان عوداً من البلاتين في حساء يعجّ بها، ثم يغمسانه بما حمل من البلل(134/31)
ويحركانه في حساء جديد خال من الأحياء، فلا يلبث أن يعجّ هذا بالخلائف الجديدة من ذلك المكروب. وقاما على هذا يوماً من بعد يوم، ويكثرون من القليل الذي على العود البليل العدد الهائل الكبير من هذه المكروبات، حتى ازدحمت مناضد المعمل بزريعات متروكة قديمة بلغت أعمار بعضها أسابيع كثيرة، وتفكر بستور فيها فقال: (غداً نُنحّي كل هذا الركام وننظف المناضد)
وهنا جاء الحظ يهمس في إذن بستور، فما كان من صاحبنا أن غيّر رأيه، فقال لرو: (نحن نعرف أن مكروب كوليرا الدجاج لا يزال حياً في هذه القبابة. . . نعم إنه قديم، فقد تركناه في مكانه بضعة أسابيع. . . ولكن برغم هذا أرى أن تحقن قطرات قليلة منه في بعض الدجاج. . .)
وأنفذ رو ما سأله بستور، وإذا بالدجاجات يجيئها المرض فيذهب عنها المرح والخفة والنشاط، وتهوّم كأنها تطلب النعاس. وأصبح الصباح فأتى بستور يطلبها في المعمل لتشريحها وفحصها مؤقتاً أنها لاشك ماتت كالعادة، فإذا بها تجري على عينه هنيئة سعيدة. قال بستور: (هذا عجيب إن المكروب من زريعاتنا كان قبل الآن يحقن في العشرين دجاجة فتموت العشرون كلها، أما هذه. . .!) على إنه لم يكن قدّر لبستور في هذا اليوم أن يكشف كشفه الخطير المنظور؛ ففي الغد قام هو وأسرته ورو وشمبرلاند لقضاء عطلة الصيف، وقبل سفره أودع الدجاجات التي برِئت ذمة حارس المعمل ونسي أمرها
وعاد بستور من سفره. وذات يوم طلب إلى خادم المعمل أن يحمل إليه بعض الدجاج الصحيح الجديد، وأن يجهزه للحقن، قال الخادم: (ولكن يا سيد بستور لم يبق من دجاجنا الجديد الذي لم يحقن غير زوج أو زوجين، أما البقية فأنت تذكر إنك حقنتها قبل سفرك بمكروب من زريعات قديمة فمرضت ولكنها لم تمت). فتسخط بستور على الخدم الذين يهملون فلا يحتفظون بوفرة من الدجاج لتكون دائماً كافية حاضرة، ثم قال: (إذن فأحضر ما عندك من دجاج جديد، وزوّدنا كذلك بزوج أو اثنين من الذي حقناه فأبى أن يموت. . .)
وأحضرت الدجاجات وهي تملأ الجو صياحاً، فضرب أحد الأعوان محقنه في عضلات صدورها بملايين المكروب في صدور تلك التي كانت حقنت من قبل، وكذلك في صدور الجديدات، ومضى النهار؛ وأصبح صباح الغد، فأقبل رو وشمبرلاند إلى المعمل، وبينما(134/32)
هما يدخلان سمعا صوت بستور خافتاً يأتي من تحت السلم من بيت الدجاج وهو يصيح بهما: (رو! شمبرلاند! انزلا إليّ وأسرعا!) وكان بستور يسبقهما دائماً إلى المعمل بساعة أو نحوها
ونزلا إليه فوجدا أمام الأقفاص يذرع الأرض بخطواته. فقال لهما: (انظرا! إن الدجاج الجديد الذي حقناه أمس مات. وكان يجب أن يموت. ثم انظرا إلى هذا الدجاج القديم الذي كنا حقناه من شهر مضى، فمرض ثم طاب، هذا الدجاج أخذ بالأمس نفس الحقنة القاتلة التي أخذها ذلك الدجاج الجديد، ولكنه لم يمت. . . لقد قاوم فعل الحقنة أتمّ مقاومة، إنه فرح مرح. . . إنه يأكل!)
فاختبل رو وشمبرلاند، وانبهم عليهما الأمر حيناً. فقال بستور: (ألا تدركان مغزى هذا؟ مغزاه أني وجدت كل ما أردت! لقد وجدت الآن كيف أعطي الداء قليلاً إلى الحيوان - قليلاً بحيث يمرضه ولا يميته فيشفى وشيكاً. . وكل الذي علينا أن نعمله هو أن ندع هذه المكروبات الحادة القاسية تشيخ في زجاجاتها. بدل أن نستخرج منها بالزرع أنسالاً كل يوم. . . إن المكروبات تَقدُم فتشيخ فتهدأ حدتها، وتضعف ثورتها، فإذا أنت حقنتها في الحيوان أعطته مرض الكوليرا، ولكن بعضاً قليلاً منه لا كله، فإذا طاب استطاع بعد ذلك أن يصمد لأخبث مكروب في العالم. . . فإنما تريان أن فرصتنا في هذا عظيمة؛ وأن هذا أخطر اكتشافاتي، هذا اللقاح الذي كشفت، وهو أكثر تأكدا من لقاح الجُدري وأكثر منه حظاً من العلم، فالجدري لم ير أحد له جرثومة. . . فهيا بنا نطبق هذا على داء الجمرة. . . وعلى كل الأدواء الخبيثة. . . ونخلّص حياة الإنسان والحيوان!)
- 3 -
لقد كان الذي وجده بستور مصادفة واتفاقاً، فلم يكن من تدبير العقل الإنساني. ومع هذا فلو أن رجلاً دون بستور قدراً وقع على الذي وقع عليه لقضى السنين الطويلة يحاول تفسير هذه الظاهرة الخفية لنفسه دون أن يأتي أمراً مذكوراً، أما بستور فما كاد يقع اتفاقاً على حماية دجاجتين حقيرتين من جرثومة قتالة حتى رأى في هذا فرصة سانحة عظمى لحماية بني الإنسان من الموت، فابتدع عقله الوثاب طريقة جديدة يختل بها الطبيعة التي شاءت أن يستسلم بنو الناس كلما هبت عليهم تلك بالعداء أحياؤها الصغيرة(134/33)
كان بستور بلغ الثامنة والخمسين من عمره، فلم يبق فيه من الشباب بقية. ولكن هذا اللقاح الجديد الذي اكتشفه بغير قصد فنجا به الدجاج من الكوليرا، هذا اللقاح نفخ في جمرة حياته فاستعرت، فعاش من بعد ذلك ست سنوات هي أملأ سنواته بالحركة وأشدها احتداماً بالحياة، سنوات امتلأت بحجاج شنيع، وانخذال فظيع، ونصر غير منظور. في هذه السنوات الست صب بستور من الطاقة ما يصبه مائة رجل، وأحدث فيها من الحوادث ما يحدثه هذا العدد من الرجال متظاهرين
وقام بستور وصاحباه يؤكدون أمر هذا اللقاح، فتركوا مكروباً للكوليرا يقدُم في حسائه وزجاجته، فلما ضعفت شرته حقنوه في عشرات من الدجاج الصحيح، فمرضت سريعاً، واشتفت سريعاً؛ وبعد أيام قلائل حقنوها بذريعة خبيثة من المكروب نفسه تكفي لقتل العدد الوفير من الدجاج الصحيح الذي لم يحقن بعد، وأخذ ثلاثتهم يرقبون هذا الدجاج تياهين معجبين باحتماله تلك الملايين من المكروبات وصموده الغريب لها
هكذا أغرى بستور بذكائه مكروباً بمكروب. بدأ بتأنيسه، فلما تم له ذلك حشده وسلطه بأسلوبه الغريب على مكروب من جنسه
ولو أنه لم يكن عندئذ فعل ذلك في غير مكروب كوليرا الدجاج، فقد اندفع على عهده في غطرسته وتعجرفه على الأطباء، وفي حملته على آرائهم العتيقة، وهزئ برطانتهم اللاتينية، وسخر بوصفات جرّت بها أقلامهم على الورق سريعة كالبرق الخاطف، وانعقدت الجمعية الطبية فقام يخبر الأطباء في أدب جم أن لقاح الدجاج الذي كشفه يفوق كثيراً لقاح الجدري الخالد الذي كشفه يينار قال لهم: (فأنا الآن قد دللت على لم يكن يينار ليستطيع التدليل عليه، وذلك أن المكروب الذي يقتل الحيوان هو نفسه الذي يقيه من الموت!)
وضجر الأطباء ذوو الآراء القديمة والأزرّة الزرقاء ببستور أن نصّب نفسه إماماً ليينار العظيم. وقام الدكتور جول جيران يسخر من بستور أن أثار هذه الثائرة كلها من أجل تخبيص في دجاج - واستمرت الحرب في استعارها. وقام بستور في غضبة ثائرة، وأعلن على رؤوس الأشهاد رأيه في سخافة إحدى العمليات الجراحية التي يقوم بها جيران ويُعجب ويُغرم بها. فتلا ذلك منظر من أقبح المناظر وأفضحها يسوؤني أن أصفه وتضيق نفسي لاضطراري لذكره. نهض جيران من مقعده، وكان شيخاً في الثمانين من عمره،(134/34)
وأراد أن ينقض على بستور ذي الستين، وما كاد يفعل حتى صوب إليه لكمة، ولكن تدخل بينهما الأصحاب فمنعوا اشتباك هذين الشيخين اللذين حسبا أن الحقيقة تظهر باللكم والرفس وبكسر العظام وخمش الوجوه
وفي الغد أرسل جيران العتيق شاهديه إلى بستور يتحداه إلى المبارزة. ولكن يظهر أن بستور لم يشأ أن يخاطر بحياته وأن يموت على هذا النحو، فأعطى صديقَي جيران رسالة يحملانها إلى كاتب الأكاديمية، وقال فيها: (لم يبق لي الواجب من سبيل أسلكها إلا أن أعرب عن استعدادي إلى تغيير كل ما قلته فيما يرى المحررون أني خرجت به عن حدود النقد المباح والدفاع المعقول عن النفس). وبذلك هرب بستور من النزال فأثبت مرة أخرى أنه إنسان ولو فاته أن يكون ما نسميه في العادة رجلاً
(يتبع)
احمد زكي(134/35)
لفكتور هوجو
ترجمة السيد فؤاد نور الدين
وا حسرتاه! ما أكثر ما رأيت من غادات هصرتهن يد المنون!
هذه سنة القدر! الفريسة ينتظرها الهلاك،
والعشب تنتظره المناجل المشحوذة القاطعة،
والزهور توطأ تحت أقدام الراقصين الناعمين في الحفلات،
والماء ينفد من وديانه، والبرق لا يومض إلا قليلاً،
وأبريل الحسود يحرق بصقيعه أشجار التفاح المزهوة ذات الأزاهير الفواحة، التي تتساقط كأنها ثلج الربيع.
نعم، هذه سنة الحياة. يعقب الليل الشاحب النهار الضاحك. وتعقب اليقظة كل شئ، إما في النعيم وإما في الجحيم.
ويلتف المدعوون الجشعون حول المائدة الكبيرة،
إلا أن كثيراً منهم يهجرونها قبل نهاية الطعام
- 2 -
ما أكثر ما رأيت من غادات يمُتن! إحداهن وردية اللون بيضاء البشرة؛ وأخرى كأنها لم تنصت إلا للألحان السماوية؛ وأخرى ناحلة قد أسندت جبينها المحنّى على ذراعها؛ ثم فارقتها الروح كما يفارق العصفور غصن الدّوح وفنن الروض
إحداهن شاحبة ضالة، استولى عليها الهذيان فما تنطق إلا اسماً لا يدّ كره أحد، وثانية تفنى كما يفنى النشيد على الأوتار، وثالثة كانت تحتفظ بابتسامة الملاك الجميل الرحيم، لما لفظت نفسها الأخير
فما أشبههن جميعاً بالزهور المرتجفة التي أعجلها القدر إلى الموت!
وبالطيور الحائمة التي غمرتها الأمواه مع أعشاشها الطافية!
وبالحمائم الوديعة اللطيفة التي وهبها الله العالم!(134/36)
فوا لهف نفسي عليهن! طواهن الثرى في غياهبه، وما قضيْن بعد من العمر لبانة!
دعوني أتيه في ظلمات الغاب الدامسة، وأطأ بأقدامي أوراق الشجر اليابسة، فأنا لا أصدق أن جميع هؤلاء الفتيات الساحرات قد متن، وذوت نضرتهن وخمدت أصواتهن؛ ولا أكاد أصدق أن هذه المشاعل البراقة قد خبت أنوارها، وتلك الورود الزاهية قد هصرت أعوادها
ما نفسي إلا أخت لهذه الطيوف الجميلة، أما الحياة والموت فلا يفصلهما فاصل ولا قانون
فأنا طوراً أساعد خطواتهن وطوراً آخذ أجنحتهن فأموت مثلهن أو يعشن مثلي في رؤى عجيبة لا توصف
وتلبس أفكاري أشكالهن وصورهن ويخاطبنني قائلات: تعال!
ثم يتراقصن متشابكات مترابطات حول رموسهن ويتوارين عن عياني بهوادة، لا يخلفن لي غير الحلم والذكرى
- 3 -
إنما أذكر منهن واحدة أسبانية: ملاك غض الصبى؛ أبيض اليدين. قد رفعت النهدين وعقدتهما زفرات بريئة. العين حوراء تلمع فيها نظرات فتنة وسحر
والجمال مجهول أمره، هذا الجمال الذي يتوج بهالة من النور والضياء جبين من بلغت الخامس عشر ربيعاً.
لم يقض الحب عليها، فالحب لم تخطر بعد لذائذه ومعاركه في فؤادها العاصي بالرغم من هتاف الناس عند مرورها: ما أجملها! كانت تهوى الرقص وهذا الرقص قضى عليها
فرفاتها لا يزال يرتعش رعشة الهدوء والسكون كلما رقصت حول كوكب السماء في الليلة المصحية غيمة بيضاء
كانت تعشق الرقص أشد العشق، وكانت تظل قبل كل حفلة ثلاثة أيام ولياليها تفكر فيه وترى من أجله أحلاماً زاهية، وترى نسوة وعازفين وراقصين كلهم يحفون بها
وترى الحلي اللامعة، والعقود الساطعة، وهذه النسائج الرقيقة الناعمة، وتلك النفائس البراقة المتلألئة، وهذه الشرائط الخفيفة التي تشبه أجنحة النحل اللطيفة: كلها وزهور وورود كانت تملأ في الحلم عينيها وتسحر نفسها
فإذا كانت الحفلة، ألفيتها لاهية ضاحكة مع رفيقاتها، تقبل حيناً وتدبر حيناً في المخامل(134/37)
الحريرية
والمروحة بين أصابعها تضغط عليها والألحان المرحة تنتشر من حنجرتها
فتوافقت الموسيقى الصادحة ونغمات البيانة السابحة
لله ما أبهج النفس التي تتمتع برؤية هذه الكاعب ترقص وتزهو!
ثوبها يهتز بنجومه المتلألئة اللازوردية، وعيناها السوداوان النجلاوان تلمعان تحت خمارها الحريري الرقيق لمعان نجمتين تضيئان على جبين الليل من خلف سحابة مظلمة
كل ما كان يكمن فيها كان رقصاً ضحوكاً ومرحاً متوثباً.
ما أشبهها بالطفل! - كنا نبتهج بالنظر إليها في دعتنا الكئيبة؛ لأن القلب لا يجد متعة في الرقص فحسب، فالرماد يعلو حول الألبسة الحريرية
والسأم يظهر وسط اللذائذ السماوية
أما هي فكان الرقص يهيجها ويثيرها، وكانت تحلق - وهي نشوى بنفحات القيثارة الفخور - في فضاء من الحبور، وفي جو من السرور
وكانت الزهور الجميلة، ومصابيح الذهب المتوهجة، وجلبة الأصوات المرتفعة، وضجيج الخطوات المنتقلة، تستهويها وتلذها
ما أسعدها وهي تثب وسط الجمع، كأن مشاعرها تضاعفت وازدادت ونمت!
فلا تدري حينذاك أتتدحرج خلال السحب، أم تصطاد خلال الغاب، أم تطأ بأقدامها أمواج البحار؟
وا حسرتاه! إذا ما قرب انبثاق الفجر وجبت العودة إلى القصر
وهنا تضطر الراقصة الساذجة إلى الوقوف على عتبة الباب منتظرة المعطف
وهنا تحس وهي ترتجف أن نسيم الصباح الندي يلامس كتفها العاري الفضيّ
فيعقب الغد الحزين واليوم الكئيب ليلة الرقص الهائجة!
وداعاً أيتها الرقصات الصبيانية، وداعاً أيتها الزينة؛
أيتها الحفلات الجميلة، أيتها الأغاني العذبة، واللذائذ الحلوة، والعيون المشرقة!
فلقد خلفتكنّ جميعاً عيون منطفئة، وأدواء معضلة
- 4 -(134/38)
ماتت فتاتنا - وما جاوزت ربيع الخامسة عشرة من عمرها!
ماتت في وفرة شبابها، وروعة جمالها، بين نظرات تعبدها، وعيون تقدسها
ماتت على أثر خروجها من حفلة راقصة، فتفتت أكبادنا حسرة عليها؛ ولبسنا لباس الحداد من أجلها
ماتت وا أسفاه! بين ذراعي أم ضاع صوابها وغاب رشادها،
لم يرحمها الموت فانتزعها انتزاعاً بيديه الباردتين لكي يضعها في القبر، وهي ما تزال في أهبة لحضور حفلات تالية
لله ما أسرع الموت في اختطاف تماثيل الجمال!
أما تلك الزهور التي كانت تزين بالأمس رأسها، وتتفتح أكمامها على صدرها، فلقد ذبلت في الرمس، قبل أن تنشد فتاتنا نشيد الهوى والعرس
- 5 -
وا رحمة لأمها التاعسة! إنها تجهل حظها العاثر
تلك الأم التي أضمرت لابنتها من الحب والحنان شيئاً عظيماً؛
ألم ترع طفولتها الشاكية الحزينة؟
ألم تقض لياليها ساهرة تهدهد لها المهد لتغفو وتنام؟
رحماك رب! لم يفدها ذلك.
فالفتاة ماتت، وهي ترقد الآن في تابوتها القاتم شاحبة اللون، كاسفة الوجه، فريسة للحشرات والديدان
فإذا ما أيقظتها في ليلة جميلة من ليالي الشتاء حفلة خاصة بالموتى، تقدم إليها - ليتولى أمر زينتها - شبح رهيب ذو ضحكة مروعة
فيقول لها: هلمي حان وقت الرقص!
ويطبع على شفتها البنفسجية قبلة باردة جليدية، ويمر أصابعه العقداء، أصابع هيكل عظمي، على خصلات شعرها الطويلة المتموجة، ثم يسوقها مرتجفة مهتزة، إلى الرقص النادب المشؤوم، إلى تلك الموسيقى الجوية المتصاعدة في الظلام، حيث يكون القمر في(134/39)
الأفق القاتم شاحباً عريضاً، وقوس قزح مصبوغاً ببريق الياقوت والعسجد، وتكون الغيوم ذوات أهداب من لجين
- 6 -
يا أيتها الفتيات اللواتي تشوقهن ملاهي الرقص الضاحك!
لا تنسين تلك البنت الأسبانية التي انطفأت شعلتها إلى غير عودة! ولا تنسين أنها كانت تنتقل من حفلة إلى حفلة باشة فرحة، فتقتطف بيد مسحورة، أزاهير العمر العبقة، وتكسب روحها لذائذ الحياة الطاهرة، وتملأ عينها بزاهي الألوان الساحرة
على إنها مضت إلى عتبات الموت سريعاً، فقضت كما قضت أوفيليا التي جرفها السيل وهي تقطف الورد والزهور، فراحت غريضة الشباب والجمال في ظلمات القبور
حلب
فؤاد نور الدين
معلم الترجمة بمدرسة الزهراء النسائية(134/40)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
27 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
- 1 -
إن أوربا الحاضرة قد انسل إليها الداء، ترى فيها حيث نظرت مظاهر العلة والانحطاط. فكأن نصباً بالغاً حل على الإنسان فكبّل قواه وأضوي عزمه. وهو بعد أن قطع سبيله من دودة أرضية إلى قرد، ومن قرد إلى إنسان أصبح يجنح في هذه الساعة إلى راحة بعد هذا التطور الذي شقي فيه. لا يحفل إذا كانت الراحة في الوقوف أو في الموت، وهنالك مذاهب كثيرة تتعلق بأطراف ثوبه تغريه بعوامل جميلة وآفاق مطرزة. هذا يعده بالمساواة المطلقة، وهذا يعده بحياة ما أجمل أفقها! المذهب الديموقراطي مذهب منحط في الجماعات، ومذهب ديانة الألم هو مذهب الضعفاء. وأولئك الشكوكيون الناقمون المارقون الذين ألفوا (مثوى) لهم عند زرادشت، هم منحطون يتألمون من وجودهم، ويكادون يختنقون سأماً من أنفسهم واحتقاراً لها كلما وقعت أنظارهم على الإنسان الحاضر
أليس هذا هو الإنسان المتشائم الإلهي الذي ينطق بمواعظ الموت قائلاً: (كل شيء باطل الأباطيل) (لا شيء يجدي! السعي باطل). (لا جزائر سعيدة وراء المحيط)!. هنالك متشائمون كثيرون أووا إلى كهف زرادشت، منهم الملكان اللذان هجرا مملكتهما لأنهما لم يخلقا أول الرجال، والآن يريدان ألا يأمرا ولا ينهيا أحداً. وهنالك العالم الذي يعكس صور الأشياء، ويضحي بحياته ابتغاء أن يدرس دماغ علَقة. وهنالك الساحر المشعوذ الذي يعبث كثيراً بحقائق الأشياء ويخدع كل الناس دون أن تجوز عليه خدعة. ثم يتحرى - وقلبه مفعم سأماً وكآبة - عن مجد مشروع صحيح. وهنالك (البابا الأخير) من لم يستطع أن يجد لنفسه عزاء عن موت الإله. وهنالك أقبح الرجال، قاتل الإله، لأن الإله خنق إشفاقه على(134/41)
بؤس الناس وشقائهم. وهنالك السائل الذي مقت الإنسان المتمدن، يتحرى إزاء قطعان البقر السارحة في المروج، يتحرى عن السعادة. وهنالك الشكوكي الذي قذف به جموح عقله إلى إضاعة نفسه، فضل وغوى وانطلق - بدون أمل - يسبح في أرجاء الوجود. كل هؤلاء يئنون من داء عميق يحز في قلوبهم حزاً. فهم يطوفون في الآفاق وقد أخذ القلق منهم كل مأخذ. فالناس وكل ما يؤمن به الناس من السعادة لا يزيدهم إلا سأماً. فهم أمسوا ولا إيمان لهم بكل الرموز التي يقدس الشعب ألفاظها ومعانيها. فلا ما وصلت إليه المادة بمغنيهم نفعاً، ولا الإيمان بالمثل الأعلى يغمر قلوبهم، فماذا يجب على الإنسانية إذاً أمام هذه الهاوية؟ فهل تقف مشيها وتطلب نفي الحياة وتنشد العدمية؟
يجيب نيتشه: لا! لأن الانحطاط لا يؤول إلى العدم، بل قد يكون الانحطاط بشائر حياة جديدة وعافية قوية، وإن مما لا ريب فيه أنه لا يمكن الرجوع بالإنسانية إلى الوراء. (يجب الإقدام، الإقدام إلى أمام. . . تقدموا رويداً رويداً في الانحطاط، وكما أن أوراق الأشجار تصفر في الخريف وتتناثر على الحضيض، كذلك الانحطاط قد يكون طليعة سلالة جديدة، والإنسانية تهب باحتضارها حياة سامية، إن الإنسانية تتمخض وتتألم من أوجاع الولادة؛ ولذلك لم يحمل زرادشت تعاسة الرجال السامين إذ يعتقد بأن الإنسان ينبغي له أن يتألم كثيراً ليستطيع الوثوب على القمم العالية. أن شقاء الرجال السامين وسأمهم من الناس ومن أنفسهم ضروريان، ليصرفاهم إلى المواطن العالية وليزيداهم جرأة وإقداماً على الوثوب. وإذا كان هؤلاء الرجال السامون هم بأنفسهم نماذج ناقصة للإنسانية فما همّ ذلك؟ يجب أن يكون هنالك انحطاط ونقص حتى يجيء النموذج كاملاً من كل وجه. إن الإنسان السامي هو كالإناء، يتهيأ فيه مستقبل الإنسانية، وفيه تتألف وتتجاذب وتعمل كل الجذور التي ستظهر يوماً لمعانقة أشعة الشمس، على أن أكثر من إناء واحد ووعاء واحد بين هذه الأوعية سيتصدع وسيتحطم! ولكن ما هم ذلك؟ أإذا ساءت ولادة فرد ما فهل ساءت الإنسانية كلها؟ وإذا ساءت ولادة الإنسانية كلها فما هم ذلك؟ إن الإنسان خاضع لهذا التشبيه الذي فرضه نيتشه. (إن الإنسان هو حبل ممدود بين الحيوان والسوبرمان، ليس الإنسان بغاية، إنما الإنسان مجاز وممر، وليفن الإنسان في سبيل حياة السوبرمان). يقول زرادشت للشعب الحاشد حوله:(134/42)
(إني أعلمكم السوبرمان؛ الإنسان يجب أن يفوق الإنسان! ماذا فعلتم لتفوقوا الإنسان؟
كل الكائنات سارت في طريق الإبداع إلى ما هو أسمى: وأنتم يا بني الإنسان شئتم أن تكونوا من الموجة جزرها لا مدها، بل آثرتم العودة إلى الإنسانية على السمو فوق الإنسانية
ما هو الفرد في عين الإنسان؟ إنه لخزي وعار. وهذا ما يجب أن يكون الإنسان في عين السوبرمان: خزي وعار. ها إنني أعلمكم السوبرمان:
إنه هو ابن الأرض، فلتقل إرادتكم، بلى. ليكن السوبرمان ابن الأرض)!
- 2 -
من هو السوبرمان؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يكونه؟ يمكننا تحديد السوبرمان بأنه هو الإنسان الذي يصرف عن نفسه كل التقاليد الموروثة من مذاهب وشرائع سارية في جسد أوربا. يصرفها عن نفسه ليعود إلى تقاليد وضعها رجال نبلاء وأسياد خلقوا بأنفسهم هذه القيم ولم يقتبسوها من غير أنفسهم. وليس معنى ذلك أن نعود بالإنسان إلى الوراء - إلى عصر الوحشية - وإنما نريد من الإنسان أن يبقى محتفظاً بمعارفه وبتجاربه التي شقي فيها أدهاراً طويلة. . . ولكنه يجب عليه أن يحطم مجموعة التقاليد والشرائع التي تعوق سيره وتحول بينه وبين التقدم المنشود
إن الإنسان بذهابه من الوجود يفتح الطريق للسوبرمان. وما أشبه هذا الاجتياز بالحركة التي تولد الرجل الزاهد عند (شوبنهاور). يعتقد المتشائم الكبير بأن الألم قد يقود الإنسان إلى الانعتاق من إرادته الشخصية، ويسير به إلى الانتحار في النهاية. ولكن هذا لا يغني وحده في نقله، وإنما لا ينبغي له إذا أراد الخلاص أن يقنع بالتنازل عن حياته الخاصة التي يحرزها، بل أن يتنازل عن الحياة عامة، وبهذا الثمن يستطيع أن يحس بالهدوء. أما عند نيتشه فإن الألم هو الواخز الذي يخز الإنسان فيقوده إلى السلام. إن الإنسان يتألم من كل شيء ذاتي، فيدرك السآمة الحادة الفاشية في نفسه، وهذه السآمة هي التي تسوقه إلى طلب الزهد والتشاؤم. وهذه هي حالة الرجال السامين الذين جمع بينهم (زرادشت) في كهفه. ولكن النبي يعظهم قائلاً لهم (إنكم لم تبلغوا في الألم الدرجة التي أريدها. لأنكم ما زلتم تتألمون من حالتكم وما أنتم عليه. إنكم لم تتألموا من حالة الإنسان الحاضر!) فإذا بلغ(134/43)
الإنسان هذه الدرجة البالغة من الشقاء والسأم توارى وأباد نفسه تاركاً الأرض للسوبرمان. إن التشاؤم الحاد العنيف هو الذي سيولد التفاؤل الظافر
(يتبع)
خليل هنداوي(134/44)
أشبعوا غيرهم وباتوا جياعا!
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
إن مَن كدّوا يزرعون البقاعا ... أشبعوا غيرهم وباتوا جياعا
ربحَ المالكون للأرض غصباً ... ومضى كدُّ الزارعين ضَياعا
يُفقِرُ الدهرُ ألفَ بيتٍ ليغني ... واحداً من أفراده جمّاعا
لا ترى بين أوَّليهم ثرياً ... كانزاً للأموال أو منّاعا
ومن العدل أن يكون نتاج ال ... أرض بين المستثمرين مشاعا
إن بين الحق المحصحِصِ والبا ... طل منذ الدهر القديم نزاعا
والآلي قد حسبتَهم بَشَرَاً إن ... ظفروا كانوا أذؤباً وضباعا
عرفتكم عيونُ من أبصروكم ... لو رفعتم عن الوجوه القناعا
وعسى أن يغير الله ربُّ الن ... اس في القوم الظالمين الطّباعا
رضى العاملون بالوهد مأوىً ... وأبى المالكون إلا اليفاعا
أفريقٌ يفوز بالعيش رغداً ... وفريقٌ يكابد الأوجاعا
إنما الدين وهو أكبر هادٍ ... لا يراعي الألوانَ والأوضاعا
وكتاب الله العظيم يساوي ... بين من كانوا سادة ورعاعا
ما بكم من جبن ولكنكم لم ... تستطيعوا عن الحقوق الدفاعا
مشهد يملأ العيونَ دموعا ... وأحاديث تجرح الأسماعا
إن للباطل الذميم لأشيا ... عاً وللحق لا ترى أشياعا
يتنزى قلبي الجريح بصدري ... موشِكاً أن يحطم الأضلاعا
وإذا الأرض زُلزلت فترقّب ... أن تكون الوهاد منها تِلاعا
إنما الآمر الذي يُلزم الأحَ ... رارَ بالإثم لا يكون مطاعا
أيها العدل أنت شمسٌ فأرسل ... لعيونٍ تبغي الضياَء شعاعا
لقد امتاز بالشجاعة ناس ... صارعوا الفقرَ يحسنون الصراعا
والذي كان في الحياة قوياً ... كال للمعتدين بالصاع صاعا
وإذا لم ترهف حسامك للذو ... د فأَرهف إذا استطعت اليراعا(134/45)
أيها المبتغي انتحاراً تأخر ... فمن الجبن أن تكون شجاعا
بئس قلباً ما كان بالصادق الودّ ... وعقلاً ما إن يجيد الخداعا
وإذا ما أتت صر وف الليالي ... فهي تأتي بالرغم عنك تباعا
أيها القوم إن أردتم لحاقا ... بالألى أَبْعَدُوا فكونوا سراعا
إنني قد دعوتكم للذي في ... هـ لكم خير إن أردتم سماعا
فسلاماً إذا رضيتم سلاما ... ووداعاً إذا أبيتم وداعا
لا يرى مشرق السعادة رحباً ... غيرُ من كان للعُلا طلاّعا
رُبّ أرضٍ تشكو الصدى وسماءٍ ... لا ترى فيها كوكباً لمّاعا
كبرت جرأتي فجئت بشعر ... أنا فيه أخالف الاجماعا
حاسباً أن ما بنيتُ جدار ... ليس في الظن أنه يتداعى
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(134/46)
الغابة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قد حكيت الآباد كالبحر والصح ... راء من طول أرضك الشجْرَاءِ
وحجبت الأفق البعيد عن الطر ... ف فأنسيت منتهى الأشياء
فكأْنْ لا مَدَى لدوحك يرجى ... حين تُدْحَى مطارح الغبراء
ورياح تشدو على ورق الدو ... ح بألحانِ شدة أو رخاء
منطق لم يدع لنفس شجوناً ... لا يُحاكى صفاتها في الغناء
ثم تبدو الغصون في هدأة الري ... ح كنايٍ معلق بالهواء
وكأني أصغي إلى غابر الده ... ر وما كان فيك من أرزاء
وكأن المساء ظلَّل دوحاً ... يتسامى ولات حين مساء
وكأن الظلام دس كميناً ... رابضاً في آجامك الدكناء
خطرت في ظلام دوحك أروا ... ح وناجت مسامع القدماء
لبث القوم فيك دهراً فناجا ... هم سِرارُ الفنون بالإيحاء
عُمُداً شيَّدوا وسقفاً كَبَهْوٍ ... واستمدوا من غابة وسماء
حين شادوا للدين بيْعة إيما ... نٍ تبدت كالغابة اللّفْاءِ
صرتِ ملهى وكنت غيلا مخوفا ... وملاذ اللصوص والطرداء
وارتضيت الأمان من بعد ذعر ... لم يزل في المدينة الشماء
غابة شادها ابن آدم نزلا ... دوحها من قصورها الزهراء
ربما عرّشت وضاقت فلا شم ... س لديها ولا مراح الهواء
ومَخُوفٍ من الفجاءة فيها ... كمخوف في الغابة القتماء
واحتيال ليُقْنَصَ الرزقُ والصي ... دُ سواء في مكرة كسواء
كم وحيد لا يعرف الأنس فيها ... أصبحت نفسه كقفرٍ خلاء
ضاق ذرعاً بنفسه فغدا ين ... شد طباً في معرض الأحياء
عذبته لو احظ الشمس حتى ... أخذته لوا عج الظلماء
وأفاعٍ في دورها وقرود ... ووحوش - من ناسها بالعَرَاء(134/47)
وغريب ومعدم وطريد ... قد عداه حتى خداع الرجاء
فكأنَّ الأقوام لم يخرجوا من ... ك ولا زال عهدك المتنائي
سُنَّةٌ قد سننتها في نفوس ... إنْ دعتها كانت جواب النداء
عبد الرحمن شكري(134/48)
تحية يا شباب!
للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي
دعنا نحييكَ يا شبابْ! ... تحيةَ المعجَب الفخورْ
ونجمع الأهل والصحاب ... نطرب في غمرة الشعور
أنت مجيبٌ ومستجاب ... وأنت نار بها نور
دعنا نحييك يا شباب
تحية العاجزِ المدين ... لآخذي النصر باليمين
تحيةً يا شبابَ مصرا ... يا فتيةَ النيل يا جنود
وذخرنا إن عدمتِ ذخراً ... يا مصر في ذلك الوجود
يا فيضة النيل بعد أخرى ... تمضي، ولكنها تعود
دعنا نحييك يا شباب
تحية العُرف للأمين ... وفاتحي فتحها المبين
تحيةً للدم الصبيبِ ... إلى الردى. أو إلى الحياه
يجري هنا من فتىً حبيبِ ... أو يخضب الوجه من فتاه
في ساحة الملتقى العصيبِ ... شلت من المعتدي يداه!!
دعنا نحييك يا شباب
يا ضاربَ الشك باليقين ... وقاطعاً ذلك الوتين
وفادياً مصر بالغوالي ... وبالأمانِيِّ، والرجاء
وخائض النار والعوالي ... لتستوي مصر في العلاء
لا بغيةَّ الجاه، أو لمال ... لكنها نفحة السماء
دعنا نحييك يا شباب
يا فاتح الصدر للمنون ... وباذلاً كل ما يكون
المجد! يا غبطةَ الضمير ... والمجدُ لله والبلاد
وشعلةَ الروح في الصدور ... ورفعةَ الرأس بالجهاد
ونشوةَ المدمع الغزير ... وغرةَ الحق والجلاد(134/49)
دعنا نحييك يا شباب
قولوا هنا: مصرُ لا تليني ... فلعنة الذل أن نلين
تحيةً! صخرة الأساسِ ... مصر على الرأس واليدين!!
تجهل ما الحكم والكراسي ... وتذكر الدين أيَّ دَيْنْ
وتبتغي شدة المراس ... فما سبيل الهوى بِهَيْن
دعنا نحييك يا شباب
تحية الليث للعرين ... لا يُظلمِ القلب أو يرين
نحب مصراً ومن عليها ... وإنما مصر في بنيها
صعيدَها قبل شاطئيها ... قبطيَّها قبل مسلميها
ومن أعزُّ الورى لديها ... إلا الشباب الأعزُّ فيها
دعنا نحييك يا شباب
ابن بلادي هو ابن ديني ... وإنما بالهوى أدين
جهدَك يا جندُ لا يمارى ... مجدك يا جندُ لا يرام
خصمك يا جند لا يجارى ... في سطوة الحرب والسلام
لكنها مصر! من أغارا ... على حمى مصر لن ينام
دعنا نحييك يا شباب
اللهُ. في ركنها الركين ... وحصنها الراسخ المكين
الحق والنصر صاحبانِ ... وما من الحق أن نذلاّ
وليس في الحق من توان ... ولا على الحق أن نضلاّ
إن لم أصن مصر عن هوان ... وأبذِل الأعظمَ الأجلاّ
نعم وحاشاك يا شباب
خسئتُ من كاذبٍ مهينٍ ... أعرف ما الكاذب المهين
أجل، وحاشاك يا شباب ... يا نجدةَ الحق يا نصير
حييتمو أيها الصحاب ... جهادكم ههنا كبير
(القوم) دعواهمو اغتصاب ... وأمرهم في الهوى غرور(134/50)
أجلْ! وحاشاكَ يا شباب
فاضربه في سره الدفين ... فكم له ثمَّ من كمين
كن واحداً يا شباب مصرا ... وادع إلى وحدة اللواء
ولا تكن للذئاب سخراً ... ولا تكن سلّماً لشاء
يا جند في مصر: لن تفرَّا ... حتى يقروك في السماء
دعنا نحييكَ يا شباب
في صرخة الدهش والسكون ... أوْلا! فمن ذا إذن نكون
يا باذلَ المهجةِ احتساباً ... والرأسَ. والعينَ. والشبابا
وحامياً ذلك الجنابا
وفاعلاً ههنا العجابا
دعنا نحييك يا شباب
إبراهيم إبراهيم علي المحامي(134/51)
القصص
تتمة من فرجيل ولمعة من يوريبيدز
22 - حروب طَروادة
1 - الحصان الخشبي
2 - سينون
3 - مصير لاوكون
4 - رؤيا إيناس
5 - نهاية بربام
6 - أنخيسيز
7 - العاصفة
سقوط إليوم
للأستاذ دريني خشبه
لم يبرح فيلوكتيتس يرسل سهامه على الطرواديين، ولم تبرح المنايا تتخطفهم. . . ولكن المدينة ذات الكبرياء ما برحت أمنع من عقاب الجو على الغزاة الجبارين. . .
وذهب كالخاس عراف الحملة، إلى آلهته يستوحيها، ثم هرع إلى سادته قادة الجيش فذكر لهم أنه ما دام تمثال منيرفا المقدس - البالاديوم المشهور - في طروادة فلن يفتحها على أهلها فاتح، ولو عاونته الأرباب جميعاً!
وانطلق أوليسيز، وانطلق معه ديوميديز، فتنكرا واحتالا على حارس البوابة الاسكائية الكبرى ففتحها لهما، وذهبا قدماً إلى هيكل مينرفا، وسرقا البالاديوم المقدس، وعادا به، وكل همهما أن تبطل نبوءات العم كالخاس التي أخذت تترى، ويأخذ بعضها برقاب بعض. . . . وكرت الأيام. . . . ومع ذاك لم تفتح طروادة!؟(134/52)
ثم بدا لأوليسيز أن يصطنع الحيلة. . .
فعرض على زعماء الحملة أن يدعى مهرة النجارين والمثالين فيصنعوا حصاناً هُولةً كبير الحجم. . . خاوي الجسم، فيكون بداخله جمهرة من أقوى شجعان الهيلانيين وأبسلهم، ثم يوهم الأسطول أنه أبحر بجنود الحملة، فإذا مضى شطر من الليل، وأقبل الطرواديون على الحصان فأدخلوه مدينتهم تذكاراً لهذه الحرب الضروس التي أكلت أخضرهم، وأحرقت يابسهم، وذهبت بالزهرة اليانعة من شبابهم. . . ثم إذا كان الهزيع الأخير من الليل. . . خرج الأبطال المختبئون ففتحوا أبواب إليوم، وينقض الجيش المرابط، فيحتل المدينة العاتية التي رغمت تحت أسوارها أنوف، وذلت جباه، وذابت أنفس، وذهبت أرواح، دون أن ينال منها أحد. . . .
وطرب القادة لهذه الحيلة التي بدههم بها أوليسيز. . . . وانصرفوا عن القتال وهم له كارهون. . . وانصرف الطرواديون فاعتصموا بأسوارهم، ورابطوا داخل صياصيهم، ومهرة النجارين وكبار المثالين دائبون على حصانهم الهولة حتى فرغوا منه. . .
وأقلع الأسطول. . .
وانكشفت الساحة من هذا الجراد المنتشر الذي لبث ينوء فوقها عشر سنين. . .
واختبأ أوليسيز داخل الحصان ومعه نخبة من شياطين الميرميدون، وعلى رأسهم ببيروس النجيب، ابن أخيل الخالد، وعصبة قوية من فرسان الإغريق البواسل. . .
ودق الطرواديون البشائر. . .
وجاءوا يُهرعون إلى الساحة، ويتكبكبون حول الحصان الهولة، ويكلمون سينون الذي تركه الهيلانيون عند الحصان ليخدع الطرواديين ولينصح لهم بنقله إلى المدينة ليكون آخر الدهر تذكاراً لهذه الحرب التي شنها قومه على طروادة ظلماً، فباءوا منها بالبوار. . .
(. . . . . . هؤلاء الهيلانيون اللؤماء، الذين انصبت عليهم أحقاد الآلهة، وثار بهم كبير الأولمب وسيده الأعظم، وسلطت عليهم الزوابع والأنواء حتى كادت تفنيهم، لولا أن أمروا بتضحية قربان بشري ينجيهم من غضب السماء. . . ولكن؟. . . من منهم أصاخ إلى الأمر المقدس؟ ومن منهم سمع إلى هتاف الأولمب؟ لقد جبنوا جميعاً! ولم يشأ واحد منهم أن يضحي بنفسه لينقذ الجميع، حتى أوليسيز! أوليسيز نفسه؟ هذا الداهية المغفل! لقد جبن(134/53)
هو أيضاً! وفي الوقت نفسه حاول أن يرغمني أنا! أنا سينون المسكين، على أن أقبل التضحية، وأن أهب دمي للآلهة لتهدأ ثورتها. . .
ولكني رفضت في شمم، وامتنعت في إباء. . . لا خوفاً من الذبح؛ ولكن ضناً بدمي النقي الطاهر عن أن يهرق في سبيل هؤلاء الجبناء. . . الذين تكأكأوا وفزعت نفوسهم من صيحة السماء. . .!
وهربت يا مولاي! يا مولاي بريام العظيم. . . ولذت بظلال طروادة الخالدة، طروادة المنيفة القوية، وجعلت أصلي لأربابي حتى استجابت لي، وأرسلت إليهم من أنذرهم بسوء المنقلب إذا هم لم يقلعوا هذا المساء. . .!! قاتلهم الله السند! وقاتلتهم الآلهة جميعاً!!. . .
والآن!. . . هاهم أولاء قد تركوا هذا التمثال الرائع الذي أعدوه ليوم نصرهم، فجعلته الآلهة آية فشلهم!. . . انقلوه يا مولاي إلى المدينة، واجعلوه تذكار هذه النوبة الجنونية التي شنوها عليكم، فحاق بهم سوء ما كانوا يمكرون. . . ألا فليكن قربة لمنيرفا. . .!
ولقد سمعت هاتفاً في صلاتي يقول: (. . . الويل لمن يصيب هذا التمثال بشر! تنقض عليه رجوم السماء، وتنخسف من تحته الأرض، وتميد من فوقه الجبال!. . . وطوبى لمن احتفظ إلى الأبد به!. . . إذن يحميه شر حدثان الزمان وعوادي الأيام. . .)
وكان سينون يمزج كلماته بدموع الصلاح والورع، ويشعل فيها جمرات الإخلاص والصدق. . . وكان يرسل آهاته من الأعماق. . .! حتى استطاع أن ينفذ إلى سويداء الملك، ويستولي على مشاعر الطرواديين؛ وحتى ثار الطرواديون أنفسهم على قديسهم الوقور لاوكون، راهب نبتون الأكبر حين نصح ألا تجوز عليهم هذه الكلمات المعسولة، والنفثات السحرية التي يتلجلج بها لسان سينون، وأن يدعوا الحصان مكانه (فإنه إن دخل طروادة جلب عليها الشر وكان فأل السوء للضحايا والشهداء. . . ولا تصدقوا أن الهيلانيين قد تركوا هذا الحصان تكرمة لنبتيون كما يدعي هذا الأفاقي المأمون، بل هم قد صنعوه حيلةً منهم لغرض سيئ. . . وهاهي ذي ابنتك أيها الملك. . . كاسّندرا العزيزة فاسألها. . . فإن لديها سر السماء. . .)
وسأل الملك كاسندرا فأفتت بما أفتى به لاوكون. . .
ولكن. . . من يصدق كاسندرا وما تزال نقمة أبوللو تنصب فوق رأسها. وقد جعلها إله(134/54)
الشمس عرضة لكل مستهزئ وضحكة كل ساخر لعّاب!
وزاد الناس استهزاء بالقديس لاوكون، حين رأوا إليه تفترسه حيتان عظيمتان على سِيف الهلسبنت إذ هو يقدم قربانه لربه لنبتيون فنقنلانه وولديه، عقب تحذير الطرواديين ألا يقربوا الحصان المشؤوم وألا يدخلوه مدينتهم!!
وتعاون الطرواديون جميعاً فجروا الحصان الهولة، وهدموا بأيديهم جزءاً كبيراً من سور إليوم المنيع لتتسع البوابة للتمثال الهائل فكانوا كالتي نقضت غزلها أنكاثاً!!. . .
وكان الأسطول قد اختبأ في ظلال الأيك النامي فوق جزيرة تندوس، فلما كان النصف الثاني من تلك الليلة الخرافية الحالكة، وكانت طروادة كلها قد استسلمت للنوم العميق الذي يسبق القضاء الصارم عادة في مثل هذه الأحوال، هب سينون الخبيث ففتح الباب السري الذي لا يعرف إلا هو مكانه من الحصان، وخرج الأبطال فقتلوا الحراس النائمين لدى الأبواب، وأشعلوا النيران فرآها الجنود الذين عاد بهم الأسطول في دجى الليل، فانطلقوا سراعاً إلى إليوم الخالدة. . . المستسلمة. . . فدخلوها. . . وأعملوا السيف، وشرعوا الرماح، واستباحوا المدينة، وهتكوا الأعراض النقية، وأحلوا حرمة الهياكل، وأضرموا النيران في القصور، وأتلفوا الحدائق الفينانة، وهشموا تماثيل الآلهة في الميادين العامة، وقتلوا الصبية والأطفال، وجعلوا المدينة أطلالاً في أطلال!!
وهكذا!! وفي سكرة الليل، وهدأة الظلام، تم للهيلانيين الاستيلاء على تلك المدينة العتيدة وهبت من تحت الثرى عشرة أعوام طوال مضرجة بالدم، ملطخة بالإثم، حافلة بالذكريات، غارقة في الدموع. . . تشهد إلى الفتح المجرم، وترى إلى المأساة الظالمة في آخر فصولها!!
وكان إيناس اليافع ابن فينوس الهلوك من أنخيسيز، فتى طروادة وأميرها الجميل ذا القسمات، يغط في نومه العميق، ملء سريره الذهبي الوثير. . . مطمئناً آمناً. . . لا يدور بخلده أن تحل تلك الكارثة بإليوم هذه الغفوة من الفجر. . .
وكان إيناس محبباً إلى الآلهة. . . ولم يكن قد جاء أجله بعد. . . فسخرت إليه ربات الأقدار طيف هكتور يزوره في نومه، ويريه حلماً مفزعاً. . . وينذره. . . (أن هب إيناس فقد سقطت طروادة، وانج بنفسك وبأهلك فالأسطول ينتظرك، واستنقذ التحف المقدسة(134/55)
والآثار العلوية. . . فقد دنسها الفاتحون!!)
وذعر إيناس، وهب من نومه لهفان صعقاً. . . وفزع إلى سلاحه ثم أشرف على المدينة المروعة فشهد المأساة تحل بها. . .
وهاله أن يرى الوحوش الضواري من بغاة الميرميدون، وغزاة الهيلانيين، يسوقون أتراب طروادة وبيَّض خدورها المكنون. . . عاريات أو نصف عاريات. . . إلى الأسطول. . . ليكنّ إماء في بيوت هيلاس. . . ورقيقاً في أسواقها!؟
وكاسندرا؟! كاسندرا نفسها!! ابنة بريام الملك. . . حبيبة السماء وصفية الآلهة!! التي حذرت أباها يوماً من قبول باريس. . . أن يحل البلاء بالمملكة وينزل الشؤم بالناس!! هاهي ذي مسوقة في قبضة أجاممنون نفسه. . . أجاممنون سيد القوم وقادهم العام. . . إلى. . . سفينته!!
وفكر إيناس، فلم يجد لإنقاذ المدينة وأهلها من سبيل. . . فأشار إلى بعض رجال قصره فقتلوا نفراً من جند الإغريق المتخلفين عن الجيش الغازي، كانوا مشغولين بالسلب والنهب في متجر قريب، ثم نزعوا عنهم ثيابهم فلبسها إيناس وصحبه ليستخفوا بها عن أعين المغيرين؛ وانطلقوا إلى القصر الملكي، وبودهم لو استطاعوا أن يحموا الملك في هذا الروع الأكبر. . . ولكن وا أسفاه!! لقد كان ببروس بن أخيل قد سبقهم إليه في عسكر مجر من أبالسة الميرميدون؛ وكان بوليتيس بن بريام، وآخر فرع من دوحته الباسقة آبقاً أمامه، مكروباً مفزعاً، فاراً إلى ذراعي أبيه الضعيف الشيخ، يلتمس الحماية في أوهى حمى. . . فلم يزل ببروس ينهب الأرض في أثره. . . حتى قتله بين يدي أبيه، وانقض على الملك التاعس فوضع حداً لهذه الحياة الطويلة المملوءة الشقية التي لطخها الدم البريء وصهرتها جحيم الشدة. . . ولم يغن عن بريام المسكين توسلات هذه الزوجة المعذبة التي وقفت بينه وبين بيروس. . . هكيوبا!! الملكة المرزأة! التي بقيت وحدها لتجرع الثمالة الباقية في كأس الحياة. . . مراً وعلقماً. . .
وهكذا صعدت روح الملك إلى سماء طروادة تتلفت حولها! ترى إلى المدينة الخالدة تضطرم النيران في جنباتها. . . وتندك صروحها العزيزة في الرغام. . . وتتهاوى أبراجها المنيفة التي كانت تسجد تحتها آسيا الجبارة. . . والآن! هاهو ذا على ثرى إليوم(134/56)
لقيً لا نَفَس فيه! وجثة هامدة لا تحمل اسمها بعد. . . ورأساً معفراً. . . . . . من غير جسد!!
وزاغ بصر إيناس حين شهد هذا المنظر الرهيب، ووقر في نفسه أن مثل هذه النهاية المحزنة قد تحل بأبيه الشيخ، أنخيسيز؛ وبزوجته الهيفاء كروزا، وبطفله المعبود أيولوس. . . فلم يبال أن يقتحم صفوف الأعداء إلى قصره الذي خلا غابه اليوم من أسْده، وبُدل الشوك من ورده، وعاث فيه جنود الهيلانيين فأصبح قاعاً صفصفاً. . . كأن لم يشدُ في دوحه بلبل. . . ولم يحن في فؤاد إلى فؤاد!
وهناك. . . في إحدى الردهات المنعزلة. . . وجد هيلين!! نعم، هيلين! سبب هذه الكوارث المتلاحقة التي حلت بطروادة والطرواديين. . . هيلين التي لم تبال أن تتزوج ديفبوس - أخا باريس - عقب مقتل حبيبها بأيام معدودة!!
وجدها هنالك. . . تنقدح المصائب شرراً من عينيها، وتتدجى غواشي الكروب فوق هامتها، وتنعقد ظلمات الكوارث على جبينها المغضن الكريه. . . . . . الجميل!!
وهم إيناس أن يفتك بها، لما ذكر من الأرزاء التي حاقت بطروادة من جرائها. . . لولا أن بدت له أمه. . . فينوس!. . . فأنذرته ألا يفعل. . . ثم كشفت له حجاب الغيب المحرم على أعين البشر، فرأى إلى الآلهة أنفسهم يعملون بأيديهم في تخريب طروادة، وتدمير الطرواديين، وعلى رأسهم شيخ الأولمب وسيده. . . زيوس. . . كبير الأرباب!!
(. . . فانج بنفسك يا بني. . . ولذ بالبحر. . . ولتنزح عن هذه الديار. . .)
وانطلق إلى أبيه فنصح له أن يهرب معه. . . ولكن أباه استكبر وأبى. . . بحجة أنه ينتظر نبوءة من السماء توحي إليه بما توحي. . . فغيظ إيناس وأغلط لوالده القول؛ ثم أمره أن يقبض بيديه اللاريتس والبينيتس، وأن يركب كاهلي ابنه وإلا قتلوا في الحال!
فلم يسع أنخيسيز إلا أن يطيع. . . فسار ابنه يحمله، وسار ولده الصغير أيولوس بجانبه، وتبعتهم زوجه الجميلة كروزا. . .
وكان قد أتفق مع أتباعه، قبل أن يقصد إلى قصر الملك، أن ينتظروه في هيكل خرب قريب من مياه الهلسبنت. . . فلما أقبل نحوهم يحمل أباه اتفقوا على أن يبحروا في الحال. . . ولكنه. . . وا أسفاه! افتقد زوجه فلم يجدها. . . زوجه كروزا التي كانت الساعة فقط(134/57)
تتبعه!! لقد قتلها كلب من شياطين الميرميدون. . .! ولما رجع إيناس ليبحث عنها لقيه طيفها الجميل. . . عند تمثال مينرفا. . . فخاطبه قائلاً. . . (هلم يا إيناس! غادر هذه الديار في الحال. . . واذهب إلى شطئان التيبر. فإن الآلهة قضت أن تبني بيديك. . . رومة أم القرى!!) وأبحر إيناس. . . وأبحرت فلول الطرواديين معه
وفي غبشة الصبح المضطرب، كان صوت الطبل الكبير يقصف كالرعد في خرائب طروادة. وكانت الجموع الحاشدة تهرول نحو الأسطول، وكان السبي الكثير عذارى من طروادة وسائر نسائها يهرولن هن الأخريات نحو البحر. . . فكنت ترى هكيوبا الملكة. . . واندروماك الحزينة التي اغتصبها بيروس لنفسه. . . وكاسندرا. . . تلك النبية التي أحبتها السماء. . . فأصبحت في جملة السبي من سريات أجاممنون وغانياته. . . وكنت ترى غيرهن يهرولن في الصباح الباكي إلى شاطئ الهلسبنت، ليركبن البحر فيغبن عن أرض الوطن إلى الأبد. . .
وكانت كاسندرا تنظر إلى المأساة وتبتسم. . .
وكانت أمها ترمقها بعينين دامعتين. . . وتسألها عن سبب ابتساماتها. . . فتفتر كاسندرا وتقول. . . (أماه ليس حظ هؤلاء الغزاة المنتصرين بخير من حظ أبطالنا. . . هأنذى أقرأ ألواح القضاء. . . انظري. . . هاهو ذا مصرع أجاممنون بيد زوجته كليتمنسترا العاشقة. . . إنها تفضل اليوم حضن عاشقها الآثم على جنة يكون فيها زوجها. . . إنها ستقتله، ستذبحه بيديها. . . حينما تطأ قدماه أرض الوطن. . .!
وانظري يا أماه. . . هاهو ذا أوليسيز تعصف به الريح. . . ويلعب به الموج. . . ويؤرجحه البحر المجي. . . عشر سنين يا أماه يقضيها ملك إيثاكا في تيه هذا الماء. . . والعشاق يتقاتلون من حول زوجته. . . وتليماك المسكين يضطرم غيرة ولا يستطيع أن يفعل شيئاً. . .
وانظري يا أماه. . . هاهو ذا منلايوس. . . بائس. . . كم أنت بائس يا منالايوس. . . لقد ظن المسكين أن هيلين نقية كما هي!. . . لقد نسي التاعس أنها تقلبت في أحضان أزواج غيره!. . . انظري إليه يقذفه البحر إلى شطئان مصر. . . وانظري إليه ذليلاً بين يدي هيلين يتوسل إليها وكان أحرى لو أنه قتلها. . . . . . . . .(134/58)
ونسي الهيلانيون في نشوة النصر أن يقربوا القرابين للآلهة التي نصرتهم وأيدتهم وأظفرتهم بأعدائهم؛ قبل أن يبحروا. . . فأثاروا غضب الأولمب. . . واستنزلوا لعنة السماء واستحقوا حنق حيرا ونبتيون ومينرفا. . . ونقمة زيوس!!
لقد ثارت ثائرة مينرفا. . . فانطلقت إلى أبيها وشكت إليه ما فرط هؤلاء الجاحدون في جنبها وجنب الآلهة. . . واتفق الجميع على أن يسخر نبتيون الجبار. . . إله البحر. . . أرياحه العاتية على أساطيلهم فتمزقها. . . وتضلها تضليلاً. . .
فما كادت الأساطيل تمخر عباب الماء. . وما كادت تبتعد عن شواطئ إليوم. . حتى بدأت العاصفة تدوّم. . وحتى أخذت الأمواج ترسل أعرافها حول السفائن، وحتى نثر الثبج حبابه فوقها. . . وحتى ارتعدت فرائص القوم. . . ونظر بعضهم إلى بعض. . . كأنهم في يوم حشر. . . ولا يتساءلون
ولقد صدقت كاسندرا!
فهاهي ذي الأساطيل الكثيفة تتمزق فوق سطح البحر. . . وهاهي ذي جواري منالايوس المنشئات تدفعها العاصفة في طريقها إلى. . . مصر. . . وهاهي ذي مراكب أجاممنون تتكسر على الصخور الناتئة في عرض اليم. . . وما كاد يصل هو إلى مملكته أرجوس حتى تقتله زوجه العاشقة. . . مؤثرة عليه أحضان عاشقها الأثيم إيجستوس. . . وهاهي ذي سفين أوليسيز تضل في البحر الشاسع، وتتكسر بما عليها من سلب،. . ويظل البطل المغوار في نقلة وترحل. . . عشر سنوات. . . وتظل زوجه بنلوب تنتظره. . . وعشاقها يقتتلون حول قصرها. . . وتليماك البائس ابنها ينتظر أوبة أبيه. . . حتى يعود بعد شدة وبعد لأي فيدمر العشاق الآثمين. . .
وهاك بيروس بن أخيل يعود ومعه أندروماك التي تظهر له الحب، عاملة بنصيحة هكيوبا لها. . . حتى تنشئ ابنها. . وكانت تعتزم مضايقة بيروس ومناوأته ليقتلها. . . . ولتستريح بالقتل من عذاب العيش بعد هكتور. . . .
دريني خشبة
قصة(134/59)
الرجوع
إن ما ندعوه (قضاء) ليس إلا ما نقضيه على أنفسنا
(ميخائيل نعيمة)
بقلم الأديب عبد الوهاب الأمين
لم يكن صبياً غراً عندما فتنته تلك الغادة، بل لقد حاول جهده أن يسيطر بعقله على جموح تلك العاطفة، فغره لأول وهلة شيء من النسيان أحس به، وظن أن الوقت قمين باستئصال ذلك الحب الفاسق، وطاوعته نفسه بعد أسابيع أن يمزق صورتها ليلقيها في الموقد أمامه، وقد عاوده طيف (العائلة) والزوج الحنون، وأطفاله في الغيب، وبسمة السعادة التي ستشيع على الوجوه، فتنهد!
وكان دائم اللجاجة في (التحليل)، فخيل إليه أن الأمر بلغ نهايته، وإن جذوة الشباب فيه قد قرت، وما عليه إلا أن يحنو على زوجته فتحنو عليه، فيثمر ذلك الحنو حباً شريفاً. . . لا ذلك الحب المجهد، حب المومس الذي تثيره غلمة وتقتله كلمة! وأنه بعد هذه السنين الثلاثين جدير به الإقلاع عن إجهاد نفسه وعاطفته الجامحة بالتطوح في مثل هذه المجازفات!
وماله قد فتنه تصوير! ألا يجوز أن يكون ليد المصور الفنانة فضل في هذه الفتنة وهذا السحر؟ بل هذا هو المنطقي المعقول، فليس لإنسانة أن تمتلك مثل هذه النظرة المغرية، وهذا السحر الفاتن! إنها ولاشك فعلة الرسام!
وأطل عليه وجه زوجته في تلك اللحظة، فتمثل فيه الطهارة والإخلاص، وابتسم على رغمه لأن روحه الشابة المرحة لم تطق أن تقاوم البشر المنطلق من عينيها، والطرب الشائع في نظرتها! ورمته بقشر وهربت! وانهزم معها فرحها الحي الطروب! فتمثل لخياله الفرق بين هدوء حياته هذه التي سيقبل عليها، وجموح تلك التي عزم على فراقها، فاستشعر شيئاً من الحزن طاف به على هذا الفراق، وسرت في ذهنه صور سريعة من ساعات اللذة واللهو يكاد ينسخها مر الأيام. . . غير أنه عاوده شعوره بقوة عزمه السابق ومسؤولية الرجل الرزين الذي سيكونه عما قريب، فمزق بقايا الصورة ورماها في الموقد ونظر إلى اللهب الصغير المتصاعد منه، وشرد ذهنه(134/61)
تقدمهم الصبي بخفة إلى باب المقصورة وفتحها بتؤدة وعلى فمه ابتسامة متكلفة. وأخذ يفرك يده متظاهراً بالبشر لقدوم (سيده) الذي طالما نفحه بالعطايا الصغيرة التي كانت تتسع وتكبر حسب ما يقوم به من خدمة! وكان يبتهج كلما أبصر (سيده) بصحبة امرأة، فإن وجودها معه يعني ضرورة الحاجة إلى خدمته ورعايته اللتين يستدرهما عند ارفضاض السيد نقوداً يطبق عليها أنامله بخفة، وعلى وجهه تلك الابتسامة التي لقيه مساء اليوم بها، والتي يكرهها (سيده) منه فلا يرفع بصره إليه!
وكان (العِرض) مهماً. والمقاصير كلها ملأى بالمخلوقات الجميلة، وكانت عين الناظر تلقف في كل ثانية وأخرى عضواً بارزاً نسوياً جميلاً بين تلك المناظر السينمائية الخلابة والإعلانات الملصقة على الجدران، وتعلو بين تلك الضجات المختلطة بضعة أصوات ناعمة تتطور بعض الأحيان إلى قهقهات صافية الجرس، تعلوها رنة النعيم!
وكان وهو ينزع عن كتفيه معطفه الثقيل ويدير عينيه بين المقاعد يلحظ أن صوتاً في المقصورة إلى جانبه يرن في أذنه فيترك صدى غير اعتيادي. . . جذاب! ساحر! غير إن انتقاء المقعد شغله وصرف ذهنه هنيهة عن تتبع أثر ذلك الصوت في روحه، ولما جلس أخيراً لم يكن في ذهنه غير ذلك الصوت وصاحبته اللعوب! وبدرت منه - من غير قصد - إلتفاتة إلى المقصورة فاصطدم نظره المستريح بها. . .! نعم هي! وقد ظهرت في ثوبها البهيج أشد فتنة من صورتها، وزاد في جمالها الأخاذ سحر التجمل، فأدرك أن قوته تخونه، وأنه أمام شخص يملك سحراً يزيد على سحر المرأة، فعادت إليه فجأة وبسرعة كل خيالاته التي نسختها عزيمته أولاً، واستعادت مخيلته أويقات التأمل التي كان يقضيها في مناجاة تلك الصورة على أشد وأقوى حالاتها، وأحس وهو يدير نظره عن وجهها الذي بدت عليه البغتة أنه يقتلعه اقتلاعاً، وأن شيئاً من قلبه وحسه قد تعلق بتلك الأهداب السحرية التي زاد جمالها الطبيعي الأخاذ اعتناء خاص بتنسيقها وتجميلها، وأدرك في قرارة نفسه أن سيطرة هذه المرأة عليه أمر محتوم وقضاء لا يرد!
وانتهز فرصة (الفاصلة) فاحتج برغبته بالتدخين وأصر عليها، ثم حسم المشكلة بخروجه من المقصورة، وكان شيء في رأسه يدور ويدور! وهو عراك نفسي بين عاطفتين قويتين لا يكاد يركن لإحداهما حتى تبرز نتائجها ملموسة لعينيه! أيحب هذه المومس وهو يعلم أن(134/62)
حبها يفقده أشياء كثيرة وعزيزة عليه؟ أيتركها ولا يلتفت إلى تلك النظرة الصارخة في عينيها، وقد بدت الليلة بوضوح في ملامح وجهها وشفتيها، ولم تستطع البغتة أن تخفيها من عينيها الأخاذتين! وهل هو قادر على أن يهمل اهتمامها الظاهر به، وهو الذي كان يقضي الساعات في مناجاة صورتها؟ وما يدريه! لعلها تصطنع كل ذلك لاستمالته! إنها خبيرة ولاشك بفعل هذه النظرات في القلوب! إنها تاجره تريد أن تغبنه بصفقة خاسرة، تريد منه قلباً بروح، لتعطيه قلباً بلا روح! كلا إن ذلك لن يكون!
ووقف ذهنه عند هذا الحد، فقد بدت من مقصورتها ومشت إلى ناحيته بتؤدة، ولما وصلت إليه أسرت قائلة:
- كازينو أنترناسيونال، منتصف الليل
ومنحته فوق ذلك ابتسامة!
عاد بسيارته بعد أن أخبر زوجته أنه سيقضي السهرة مع صديق له، وأنه سيتأخر عن وقت قدومه المعتاد، وانطلق كالسهم بها على غير قصد، ثم خطر له أن يشرب فوقف عند أول حانة!
وبعد الكأس السادسة نظر إلى الساعة فوجد أن بينه وبين الموعد ما يقارب الساعة، فخطر له أن يقضيها متجولاً لأنه شعر بالاكتفاء من الشرب وقام
ولم يكن (التجول) في مخيلته غير السير إلى طريق الكازينو! فوقف على بابه وفي صدره عراك، وفي خطواته تردد وإحجام، وألقى نظرة تائهة على الوجوه فلم يجد بينها غادته، فساقته قدماه إلى الباب وعاد إلى مقعده في السيارة وقد خطر له أن موقفه ناطق بالذل والعبودية، وأنه يسيء إلى نفسه بذلك العمل، وأن شعوره بكرامته وكبريائه قد ثلم، وبدت على وجهه غضون وغيوم!
وفي تلك اللحظة فقط شعر أنه تعب منهوك، وأن حاجته إلى النوم شديدة، فقبض على محرك السيارة وأداره بخفة ولباقة، وشعر أن كل ما فيه في تلك اللحظة عزيمة قوية! وأن في تلك العزيمة قضاء لا يرد!
واختلطت في ذهنه الأفكار والصور وعجز عن متابعة نتيجة عمله، وشعر بشيء من الكلال والفتور والإعياء، وكانت ابتسامته لزوجته جامدة، وكان على غير عادته في النوم(134/63)
السريع بدون مزاح ولا دعابة
ولما سيطر سلطان الكرى على جفنيه كانت الساعة تؤذن بانتصاف الليل، وكان ذهنه الكليل يدرك أن في دقاتها أمراً!
غير أنه لم يدرك دقاتها الأخيرة!
عبد الوهاب الأمين(134/64)
البريد الأدبي
وفاة روديارد كبلنج عميد الشعر الإنكليزي
منذ أسابيع قلائل كان عميد الشعر الإنكليزي المعاصر روديارد كبلنج يحتفل ببلوغه السبعين من عمره؛ ولكن الشاعر الأشهر لم يلبث أن مرض بعد ذلك بقليل، ثم توفي في الثامن عشر من يناير الجاري
وقد ولد روديارد كبلنج في الهند بمدينة بومباي سنة 1865 وكان أبوه جون كبلنج فناناً أديباً؛ وكان وقت مولده يشغل منصباً في مدرسة الفنون الجميلة ببومباي؛ وتلقى كبلنج تربيته في إنكلترا في كلية ديفون؛ ثم عاد إلى الهند في سن السابعة عشرة؛ واشترك في تحرير صحيفة إنكليزية تصدر في لاهور. وفي سنة 86 أخرج كبلنج أول آثاره الشعرية في مجموعة سماها (الأغاني الإقليمية)؛ وأعقبها بمجموعة قصصية عنوانها (قصص من التلال) وتوالت آثاره القصصية بعد ذلك فأخرج منها، (الأبيض والأسود) و (الشبح ركشو) و (وي ولي وتكي) وغيرها؛ فذاعت هذه القصص في الهند والصين واليابان، وطارت شهرة كبلنج إلى ما وراء البحر، واستقبل كبار النقدة فيه قوة أدبية جديدة، وتجول كبلنج في بضعة الأعوام التالية في الهند والصين واليابان وأمريكا، ثم عرج على إنكلترا حيث سبقه صيته، واستقبل بما يليق بأدبه وشعره من التجلة والتكريم؛ وتجول بعد ذلك حيناً في أفريقية، ونشر عن سياحاته العديدة كتاباً سماه (من بحر إلى بحر) وفي سنة 1890 أخرج كبلنج مجموعة قصصية عنوانها (نضال الحياة) وأتبعها بأخرى اسمها (النور الذي خبا) بيد أن عبقرية كبلنج الأدبية تصل الذروة في كتابيه الشهيرين: (كتاب الغابة) وكتاب (الغابة الجديدة)، وهما كتابان قصصيان عن حياة الحيوان في الغابة على مثل كتاب (كليلة ودمنة) في أدبنا العربي، وعلى مثل بعض قصص الحيوانات والطيور التي وردت في ألف ليلة وليلة؛ وفيها يعرض كبلنج بعض خواص الحيوان الطبيعية والنفسية عرضاً رائعاً ساحراً؛ وكان ظهور هذين الكتابين الأول في سنة 1895 والثاني في سنة 1896، أعني حينما بلغ كبلنج الثلاثين من عمره. ويعتبر النقدة كتابي (الغابة) أروع ما في أدب كبلنج وإنتاجه.
واستمر كبلنج في إنتاجه الأدبي يخرج المجموعات القصصية والشعرية تباعاً، ويرتفع باستمرار في سماء المجد والشهرة. ومن مجموعاته الشعرية الشهيرة غير ما تقدم (الأمم(134/65)
الخمس) (سنة 1903) و (أناشيد من الكتب) (سنة 1913) و (الديوان الشامل)، وفيه يجمع طائفة كبيرة من شعره المتفرق. وكتب كبلنج أيضاً (تاريخ إنكلترا) بالاشتراك مع صديقه فلتشر؛ وفقد كبلنج ولده في الحرب الكبرى، فرأى أن يخلد ذكرى الفرقة التي حارب معها في كتاب عنوانه (الحرس الأرلندي في الحرب الكبرى) (سنة 1923)؛ وكتب كبلنج غير ذلك كتباً أخرى من القصص والشعر يضيق المقام عن ذكرها
ويلقب كبلنج في الأدب الإنكليزي بأنه (شاعر الإمبراطورية)؛ وهذه في الواقع أبرز خواص الشاعر الأكبر؛ وربما كان في هذه الخاصة ما يباعد بين أدبه وبين العقلية الشرقية؛ فقد كرس كبلنج كثيراً من نظمه ونثره للإشادة بعظمة الإمبراطورية البريطانية وما أحرزت من سيادة واسعة على كثير من الشعوب، وما أصابت من النعماء والغنى، وما يجب عليها أن تتذرع به لاستمرار هذه السيادة الشاملة على الشعوب المحكومة؛ وفي هذه المواطن يبدو كبلنج استعمارياً مغرقاً في القومية. بيد أن كبلنج، فيما عدا ذلك، يتمتع بخواص أدبية وشعرية باهرة؛ وأسلوبه قوي ساحر يفيض بياناً وبلاغة؛ وقد انقسم النقدة في شأنه إلى فريقين، فريق يرتفع بأدبه إلى الذروة، ويرى فيه المثل الأعلى للشعر المعاصر، ومن هؤلاء روبرت لند الذي قال عن كبلنج (إن عبقريته تشرق على جيله في البلاغة والفكاهة) وفريق وهو الأقلية ينتقص من مكانة كبلنج، ويرميه بأنه سطحي في شعره وفي نثره، وأنه يكتب بأسلوب براق يرضي الجماهير فقط. وزعيم هذا الفريق جورج مور. بيد أنه مهما قيل عن كبلنج وعن مواهبه وخلاله، فلا ريب أنه يتبوأ أرفع مقام في الأدب الفيكتوري
وقد نال كبلنج طائفة كبير من الجوائز والأوسمة الأدبية الرفيعة، فنال جائزة نوبل للآداب في سنة 1907، ونال الوسام الذهبي لجمعية الآداب الملكية، ومنح عدة إجازات فخرية من الجامعات الكبرى، ولبث مدى أعوام مديراً لجامعة سنت أندروز
قضايا التاريخ العظمى
أصدر الأستاذ هنري روبير المحامي الفرنسي الكبير جزءاً جديداً من كتابه الشهير (قضايا التاريخ العظمى) ' وهو الجزء العاشر من ذلك الأثر الحافل الممتع؛ ويعرف عشاق الأدب الفرنسي كتاب الأستاذ هنري روبير حق المعرفة ويقرءون أجزاءه المتوالية بشغف(134/66)
ولذة، وهو كتاب يفيض في الواقع طرافة وقوة وسحراً، وفيه يتناول المحامي الأشهر طائفة كبيرة من أشهر القضايا التاريخية والجنائية المروعة، ومعظم هذه القضايا والحوادث معروف للقارئ المثقف، ولكن الجديد فيها حقاً هو الأسلوب الرائع الذي يعرضها به الأستاذ هنري روبير على قارئه؛ فهو محام بارع تخرج على يد الأعلام من أقرانه السابقين مثل لاشو وديمانج ولابوري أعلام البيان والدفاع في القرن الماضي، ثم هو كاتب من الطراز الأول يتشرف بالانتماء إلى الأكاديمية الفرنسية والانخراط في سلك الخالدين؛ وهو بهاتين الصفتين يقدم إلى القارئ تحفة قضائية وأدبية رائعة، عرضت في أسلوب قضائي وتاريخي واضح، ونظمت فيه الأدلة والفروض القضائية إلى جانب التعليلات التاريخية والاجتماعية البارعة. وربما كان عيباً في هذا الأثر الحافل أن يخصصه هنري روبير كله تقريباً لاستعراض قضايا التاريخ الفرنسية (وإن كان يقص فيه قليلاً جداً من القضايا الأخرى) ولكن ربما كان ذلك أيضاً من عوامل قوته ودقة معلوماته ووثائقه
ويتناول الجزء الجديد الذي أصدره هنري روبير عدة فصول أولها فصل خصص لحوادث السموم والنسوة المسممات في القرن السابع عشر، وهي حوادث تناولها من قبل المؤرخ البارع فونك برنتانو في كتاب قوي ساحر؛ وفصل خصص لفضيحة بناما الشهيرة التي انتهت بإفلاس الألوف وضياع مئات الملايين، ومحاكمة نفر من كبار الممولين والساسة يومئذ والحكم على بعضهم بالسجن؛ ثم فصل خصص لحياة كاترين دي مديتشي ملكة فرنسا ووالدة هنري الثالث وفرانسوا الثاني وشارل العاشر ملوك فرنسا، وهي امرأة رائعة وافرة الدهاء والخبث؛ ولكن الأستاذ هنري روبير يحاول أن يخفف عنها حكم التاريخ القاسي، ويتلمس لها أعذار السياسة والملك
والأستاذ هنري روبير يخرج فصوله الساحرة دون نظام معين، ففي كل جزء من كتابه أربعة فصول أو خمسة لا تجمعها رابطة العصر أو النوع؛ ولهذا لا يعتبر الجزء الجديد خاتمة الكتاب، وليس يعرف من جهة أخرى أنى يقف الكتاب وأيان ينتهي
شكسبير والسينما
سنرى قريباً أول رواية لشكسبير على ستار السينما؛ وهي فكرة جريئة للفنان المشهور مكس رينهارت، فهو يعمل الآن لإخراج شريط مصور من رواية شكسبير المسماة: (حلم(134/67)
ليلة صيف)؛ وقد سبق أن عمل رينهارت لإخراج روايات شكسبير الكبرى على المسرح، ونجح في ذلك نجاحاً عظيماً؛ فهو الآن يعالج إخراجها على ستار السينما؛ وكذلك عمل رينهارت لإخراج روايات أعظم كتاب المسرح مثل موليير، وابسن، وبرناردشو، وشترندبرج وغيرهم؛ وكان مكس رينهارت أول فنان وأول مخرج مسرحي في ألمانيا حتى جاء الهتلريون في الحكم فلم يشفقوا على علم ولا فن، وأطلقوا العنان لتعصبهم الجنسي الشنيع، وشردوا أقطاب الفن لأنهم يهود؛ وكان رينهارت في مقدمة أولئك الذين رفضوا البقاء في ظل هذا النظام البربري؛ وهو يتجول الآن في عواصم القارة فيلقى فيها أعظم حفاوة وتقدير
ومكس رينهارت نمسوي الأصل؛ وقد ولد في سالزبورج سنة 1873، فهو الآن في نحو الثانية والستين من عمره؛ وقد شاءت بلدية مدينة سالزبورج أخيراً أن تكرمه وأن تخلد ذكراه فأطلقت اسمه على شارع من أهم شوارعها، وسالزبورج هي مدينة الفن والموسيقى(134/68)
النقد
رد على نقد
4 - كتاب تاريخ الإسلام السياسي
للدكتور حسن إبراهيم حسن
تتمة
ومن الغرابة أيضاً أن نجد الناقد يأخذ علينا أننا كثيراً ما نستمد ونقتبس من كتب (تاريخ العرب) لسديو، و (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي، و (الحضارة العربية لجوستاف لي بون، و (أتباع محمد) لواشنجتن أيرفنج، لأنها في نظره أصبحت قديمة قاصرة من حيث المستوى العلمي في الوقت الذي نراه فيه يشيد بمدح المستشرق مرجليوث، ويستدل به في نفي الكتاب عن ابن قتيبة. وقد يدعوه الإعجاب بمرجليوث فيدافع عنه ضمناً بأننا لم نحسن الرد عليه حين قال: (في صدد الرجلين اللذين أرسلهما عامل كسرى على اليمن ليأتياه بالرسول، فلما قدم الرجلان على الرسول (صلى الله عليه وسلم) أخبرهما بأن كسرى قتل وأن ابنه هو الذي قتله)، أن الرسول كان له من يأتيه بالأخبار!! أما والله لولا أن الناقد مسلم كما نعتقد!! لضننا أنه يردد صدى هذا المستشرق الذي ينكر كل معجزة للرسول ويذهب في التأويل بعيداً بحجة المعقول وغير المعقول، ولو كان حصوله أوضح من الشمس في وضح النهار
انظر إلى هذا الناقد يجعل من عيوب كتابنا أننا لم نبطل هذه الرواية الدالة على المعجزة أو نتأولها على الرغم من تعرض كتب السنة الصحيحة لها وإثباتها، وعلى الرغم من أنه يعلم كيف يتغلب التعصب الديني أحياناً على روح العلم والبحث عند بعض المستشرقين، فينظرون إلى ما ورد عن الرسول من خلال مذاهبهم الدينية لا أبحاثهم التاريخية، ولسنا في حاجة لإيراد الأمثلة والشواهد على ذلك، فهي في متناول كثير من الناس
ولشد ما أعجب من حضرة الناقد حين يأبى أن يكيل لنا المدح جزافاً، ولكنه لا يأبى أن يكيل الذم كذلك ويخطئنا تخطئة لا حق له فيها، من ذلك أننا لما روينا قول بعض المؤرخين أن بعض الخوارج كانت تصدر منهم أمور متناقضة تدل على أنهم يخبطون(134/69)
خبط عشواء، كلومهم آكل الرطبة بدون دفع ثمنها، واسترضائهم أ
ذمياً بدفع ثمن خنزير له قتلوه، وقتلهم عبد الله بن خباب وزوجه وبعض النساء - علقنا على ذلك فقلنا إن هذا ليس من التناقض في شئ، وإنما هو أقرب إلى أن يكون غلواً في تطبيق مذهبهم، وحجتنا في هذا أن الخوارج يرون وجوب قتل المسلم الذي لا يدين برأيهم لأنهم يعتبرونه مرتداً؛ وحروبهم المتعددة مع علي بن أبي طالب ومع الأمويين، بل وأشعارهم وأراجيزهم تنطق بذلك. أما الذمي فلا سلطان لمذهبهم عليه، كما إنهم كانوا لا يستحلون أكل المغصوب أياً كان صاحبه، ولو أنهم يستحلون قتل النفس التي حرّم الله قتلها. فمن أين يأتي التناقض يا ترى؟ حبذا لو أرشدنا الناقد إلى وجه آخر في هذه المسألة خلاف ما ذهبنا إليه! فليس إلقاء الكلام على عواهنه مما تُخدم به (المادة الناشئة في معاهدنا العلمية أو يحفظ لمصر سمعتها في الأقطار الشرقية!)
لا يقل خطأ الناقد في هذا عن خطئه في دعواه، بأننا مع استشهادنا ومباهاتنا بتلمذتنا لبعض المستشرقين ننسى ما ننقله عنهم أحياناً وننسبه لنفسنا، وأننا جرينا على ذلك في الفصل الذي عقدناه لمكتبة الإسكندرية، ويكفي في الرد على هذه الدعوى الجريئة أن يرجع القارئ إلى كتابنا عمرو بن العاص فيجد أننا ذكرنا هناك رأي (بطلر) مفصِلاً في إحراق هذه المكتبة، وعلّقنا عليه بما يستحق من تقدير. فإذا أحلنا القارئ إلى كتابنا المذكور، فذلك لأنه يعتبر خاصاً بهذه المواضيع مدوناً فيه آراء بعض العلماء منسوبة إليهم عن هذه الحادثة العظيمة الشأن
ولقد كنا نربأ ببعض الأقلام أن تنزلق عن منهج النقد الخالص إلى إلقاء التهم والظنون بين الناس وغرس ما لا يستحسن غرسه بين التلميذ وأستاذه أو بين المؤرخ والمؤرخ. وحاشا لله أن ندعي ما ليس لنا أو أن نجهل فضل من جلسنا أمامه مجلس التلميذ، فإذا رغبت بعض الأقلام في أن تتهمنا بالتدليس مع بعض الأساتذة المستشرقين، أو بالعقوق مع أستاذنا المرحوم الشيخ محمد الخضري بك الذي نقدره ونجله، فإنما تحاول عبثاً هذه الأقلام وتمكن من نفسها وتدل على مصرعها. إن المتصلين بنا يعرفون أن ليس من خلقنا إنكار الجميل. ونحمد الله أنه في الوقت الذي كان الناقد يفكر في هذه الوقيعة بيننا وبين أستاذنا المرحوم الشيخ محمد الخضري بك كان أحد أفراد أسرته يتكرم بزيارتنا ويعرض علينا أن نشرف(134/70)
على نشر ما خلفه المرحوم من الكتب التي لم تنشر في حياته. ويا للعجب إذا كانت الجرأة والضمير يطوحان ببعض الناس إلى إثارة الضغينة بين الحي والميت، فكم تبلغ عفتها في أن توقع بين الحي والحي!! ألا فليرح الناقد باله من هذه الناحية فلن يجد غرسه أرضاً خصبة ولا يشفي به غيظاً
كيف يمكن أن يوفق القارئ بين قول الناقد إن هذا الكتاب عرض لنواح شتى من الحياة الإسلامية القديمة: عرض لنواحي الدين، والسياسة، والاجتماع، والعقل، والأدب، وبين قوله - عفا الله عنه - (إن المؤلف غير موفور الثقافة الإسلامية وقد أداه تفريطه في جانب الثقافة الإسلامية إلى الإفراط في الأخذ عن المصادر الأجنبية)، ومن يدري؟ فلعل هذا تقريظ قلعت عيناه فأبصر
جرت العادة أن يسمى الكتاب بأبرز نواحي موضوعاته، اللبيب يدرك بداهة أن فتح عمرو بن العاص مصر مما ينطبق عليه انطباقاً كلياً لفظ السياسة ومعنى السياسة، ويدرك كذلك أنه كان لعقائد الفرق الإسلامية ومذاهبها المكان الأول في إحلال دول مكان دول، وتقويض عروش وتدعيم عروش. فهذه الدولة العباسية استطالت أعاليها بسبب انتشار العقائد الشيعية وتغلبها؛ وتلك دولة الفاطميين خلقتها المذاهب الدينية أيضاً. ودع عنك القرامطة، والباطنية، والخوارج وغيرهم؛ فتلك أمور يطول شرحها. فأنت ترى مبلغ تأثير تلك العقائد في الاتجاهات السياسية ركوداً وهبوباً، وماذا تكون السياسة إذا لم تكن هي خلق منشآت جديدة، وتنظيم أمور الناس وفق مشارب ملوكها وأمرائها، وطبع المجتمع على غرار ما يراه الحاكمون سواء بسواء؟ لكن ناقدنا يأتي مع هذا معنفاً بأن عنوان الكتاب قاصر لا يجمع مثل هذه البحوث، فما كانت تصح نسبتها إليه ولا وضعها فيه، ويتعطف فيرشدنا إلى أنه ينبغي - إذا لم تكن مندوحة عن ذكر هذه الأبحاث - أن نصوغ عنوان كتابنا بما يدل على الشمول، ويزداد تعطفاً فيذكرنا بكتاب (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي الهندي الذي نعرفه حق المعرفة! ولقد كان بودنا أن نتبع نصحه - ولو مرة واحدة - تشجيعاً للنقد، وثقة بنية صاحبه، لولا أنه سها عن أننا بسبيل وضع جملة أجزاء لكل جزء عصر خاص به. فإذا اقتدينا بمن ذكره لحق علينا قوله ليس لدينا غرض واحد محدود نرمي إليه ونسير على هديه، ولعله تذكر أخيراً أن هناك خمسة أجزاء باقية ستصدر بعد هذا الجزء - إن شاء الله(134/71)
- فلم يشأ إلا أن يزودنا - كعادته - بنصحه، وبأن نكون في وضعها أشد تحفظاً وأكثر تثبتاً
على أننا نضحك أشد الضحك حيث يرشدنا الناقد إلى الاقتداء يوضع السيد أمير علي لاسم كتابه (موجز تاريخ العرب) ذلك الكتاب الذي وصف مؤلفه بأنه (متوسط المكانة التاريخية) كما وصف أيضاً المؤرخ المشهور السير وليام ميور الذي خلف لنا كتابه في سيرة النبي وكتابه الآخر في الخلافة بأنهما قديمان. ونحب - قبل أن نترك هذه النقطة - أن نهمس في إذن الناقد بأن المؤلف الأول السيد أمير علي، الذي لم يرق في نظره أن أخذنا عنه بعض ما أخذنا، يقول عنه الأستاذ أدوارد براون في كتابه تاريخ الفرس الأدبي , , 4 188) في سياق كلامه على مبدأ ظهور الإسلام ما نصه:
(هذه المسائل قد ناقشها في مؤلفاتهم بكفاءة ولباقة كل من سيل، وسبرنجر، وميور، وكرهل، ونلدكه، وبوزول سميث، والسيد أمير علي
والسيد أمير علي هو ذلك المسلم العصري الواسع الفكر والاطلاع، جمع بين الثقافتين الشرقية والغربية، وهو حقيق بأن يطلع على كتابه كل من يرغب في تفهم ذلك النفوذ القوي الذي لا يزال يتمتع به الإسلام ونبيه، حتى في نفوس هؤلاء الذين أشربوا روح الثقافة الأوربية)
ونعود إلى بعض ما أورده حضرة الناقد - أستغفر الله! بل إلى الإرشاد ما نقده - ليعدل في المستقبل عن تكلف ما لا يحسن - على رأيه فينا - وليستوعب ما يقرأ ويصرف نشاطه في مدارستها، فما يكون الإنسان كاتباً إلا بعد أن يكون قارئاً، وإنها لكبيرة أن يعمد واحد إلى كيل التهم والتشكيك غير مراع للتاريخ حرمته، ولا للقارئ عقليته، ولا للحق كلمته
يقول: (إن تشريع القبلة وحكمته يظفران في كتابنا بثلاث صفحات، في حين أن غزوة بدر التي تعتبر بحق أهم وقائع الإسلام، ومن وقائع التاريخ الفاصلة لا تكاد تظفر بصفحة واحدة؛ وأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك تخص بصفحتين، في حين أن الأحداث الجسام التي وقعت زمن الخليفة يزيد ابن الوليد بن عبد الملك تركز وتضغط في أسطر قلائل)
وبحسبنا أن يرجع القارئ إلى كتابنا ليرى كيف تفتل بعض الأقلام من الهواء حبالاً،(134/72)
وتخلق من الواقع محالاً. إن غزوة بدر ومقدماتها ظفرا وحدهما من صفحات الكتاب بنحو ثلاث عشرة صفحة (صفحة 136 - 148)، وإلا فهل كان الناقد يظن الكلام في الجهاد وأسبابه، والغنائم وشرعيتها، وهل الدعاية إلى الدين كانت من طريق السلام أو الحسام - كل هذا يظنه بمنأى عن غزوة بدر ولا يتعلق بها، وأننا لم نفصل الكلام على هذه المواضيع بمناسبة تخالف تلك الغزوة الخالدة؟ وهل كان يريد أن نستبدل هذه الأحداث الهامة بذكر ما قيل في رثاء قتلى المشركين، وما تقدمت به قتيلة تعاتب الرسول لقتل أخيها النضر، وما وقع في قتل أبي جهل مما تختص به كتب السير؟ أما إن الأحداث الجسام التي وقعت زمن يزيد بن الوليد ركزت وضغطت في أسطر قلائل فدعوى غريبة، يكفي لوأدها صفحات الكتاب من 523 إلى 550، وفيها أسباب سقوط الدولة الأموية، والتعرض بالتفصيل لهذه الأحداث الجسام التي وقعت أيام يزيد وغيره
إنما اللوم على من يحسبها ... ظلمة من بعد ما يبصرها
في الأمثال (لا يشكر الله من لا يشكر المحسن من الناس) وإذا كنا في كلمتنا السابقة أخذنا على بعض المستشرقين أنهم أحياناً ينظرون إلى تاريخ الإسلام من خلال مذاهبهم الدينية، لا أبحاثهم التاريخية، فإننا لا نكتمهم حق الشكر على إنهم عاونوا في رفع الحجب التي أسدلتها العصور المظلمة على تاريخنا، وسلوكه في سلسلة تصل أوله بآخره، وتمد القابض عليها السائر حذاءها بما يمكنه من إدراك ما فيه من قوة وضعف واعتلاء وابتلاء. هذا ما كتبه فون كريمر، وبروان، وكرهل، والسير توماس أرنولد، وأميل درْ منجم وغيرهم، يدل على توفيق كبير في استخراج الوقائع والعبر التاريخية واضحة جلية بعد أن اختلطت أحداثها وتعددت نظمها وآراؤها، وبعد أن كان التاريخ سيراً يتفكه بها الخالون ويحتقرها العالمون، صار بفضل تلك الأبحاث العلمية الحديثة فناً كريماً تقرن فيه الموقعة بالموعظة، وتلحق فيه البينات والشواهد آثار رجالاته وبيئاته، حتى غدت منابعه عذبة للواردين وطرقه معبدة للمدلجين. فليس من الأصناف ما ذهب إليه الناقد من أن التاريخ الإسلامي لم ينهض بعد في الشرق نهضته المستقلة المنشودة، وأنه لا يزال قصصاً يقص وسيراً ساذجة تتلى. أجل! كان من حسن الحظ - أو من سوئه - أن الناقد بعد أن نعى علينا ما نعى، وبعد أن ملأ مقالاته الأربع بما يستر هب بعض الألباب حتى ظنته إمام هذه الصناعة،(134/73)
ذهب بعيداً جداً في الاعتداد والإرشاد، وعمم بعد تخصيص، وألقاها كلمة داوية بأن التاريخ الإسلامي في الشرق لم ينهض نهضته ولمّا يجد من يقيل عثرته، وأن روح الجماعات وأثر البيئة والتقاليد وعمل المبادئ والعقائد، والقوى الاجتماعية والاقتصادية لا تزال في العربية أسراراً لم ترفع عنها الحجب. فهذا الكاتب يرى أن كل ما ألف أو درس في التاريخ الإسلامي من أصول وفروع وبيئات وتقاليد لغو وباطل، سواء أكان الدارسون شرقيين أو مستشرقين
كان الظن بمن ينقد شيئاً أن يرينا مثلاً أعلى لما ينبغي أن يكون عليه طريق البحث ويدلنا عما صنع هو للاحتذاء والأسوة، فالنفس دائماً مولعة بأن تتبع ذا الفعال، وقلما تفيدها الأقوال (ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتعظيم من معلم الناس ومؤدبهم). ويظهر أن الناقد استشعر هذا الإشكال الجديد، فهو يحاول النجاة بأن الذي يحول دون نمو الروح التاريخي الصحيح في الشرق هو ما يعترض الباحث من وعورة المسلك وبعد الشقة وصعوبة المنال. مرحى مرحى!! كأنه يعتذر عن عدم إخراجه ولو مؤلفاً واحداً بما ذكر، ويتهم كل المؤرخين بأن التاريخ في كتبهم لا يزال قصصاً يقص وسيراً ساذجة تتلى، ويكتب أربع مقالات ينقدنا فيها نقداً لاذعاً، ويدعونا إلى الأخذ من هذا وترك الأخذ من ذاك. وما عهدنا واعظاً حكيماً يهدي إلى طرق لم يسلكها، ويكلف الناس بواجبات لم يتذوقها، أو يثقل عاتق الناس بما عجز عن حمله، أو يسهو عن أن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره. عفا الله عن ابن المقفع، فقد ذكر في ترجمة (كليلة ودمنة) أمثالاً صالحة لمن يغشى حلبة السباق وهو مقعد، أو يتولى سدة الوعظ وهو محتاج إلى الرشد
وبعد فما كان أغنى قراء (الرسالة) عن هذا كله، وما كان حق النقاد ألا يشرعوا قلمهم إلا لله والمصلحة العامة، لا تنزو بهم نازية من خوف أو طمع. ولكن هكذا قدر (ولو شاء ربك ما فعلوه)
ولقد رأى حضرات القراء أن هذه الزوبعة التي هول في أمرها وأطال بذكرها لم تكن بذات خطر تمد له في تجريحه مداً. ولله الحمد قد آن لنا بعد أن حصحص الحق أن نمسك القلم شاكرين (للرسالة) والقراء، معتذرين - بدورنا - عما عسى أن يكون يدر به القلم - فالبادئ أظلم. ومن لا يغار على الحق وكرامته يتهم في رجولته. (فأما الزبد فيذهب جفاء،(134/74)
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
انتهى
حسن إبراهيم حسن(134/75)
الكتب
مفتاح كنوز السنة
من عمل الأستاذ ا. ي. فنسنك
ترجمة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي
بقلم الأستاذ محمد حامد الفقي
مطبعة مصر: ثمنه ستون قرشاً مصرياً
كان الباحث الذي تتوجه نفسه إلى معرفة علم الحديث والاشتغال به يجد نفسه أمام كنوز ملأى بالجواهر النفيسة، فإذا ما حاول فتح مغلقها أخذه من العناء والمشقة الشيء الكثير المضني، لأنها جمعت على طرق من التأليف كانت آخر ما وصل إليه تفكير المتقدمين حين لم تكن مطابع، ولم تخرج العقول هذه الفنون المدهشة من الفهارس، والمفاتيح التي وصل إليها عقل العلماء اليوم بكثرة المران
كان يجد أمامه هذه الصعاب، فيضرع إلى الله تعالى أن ييسر بفهرس يكون مفتاحاً لهذه الكنوز، يهون عليه الوصول إلى بغيته؛ ولقد طال أمد هذه الضراعة حتى خرج علينا الأخ الفاضل محمد فؤاد عبد الباقي بهذا المفتاح المبارك الذي ما ترك كنزاً مغلقاً إلا فتحه على مصراعيه، ونثر دره بين يدي الطالب يأخذ منها حاجته التي يبتغيها
فالكاتب، والخطيب، والمدرس، والفقيه، والمحدث، وكل من تعوزه صنعته، أو تقواه وعبادته، إلى شيء من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفزع إلى هذا المفتاح فيضع في يده بسخاء كل ما يبتغي ويريد. وقد قدم له الإمام الكبير محدث عصره السيد رشيد رحمه الله، والمحدث الفاضل الشيخ احمد شاكر بمقدمتين، نقتطف منهما جملاً تنبئ القارئ الكريم عن عظيم الحاجة إلى هذا المفتاح إذ قال السيد رشيد رحمة الله عليه ورضوانه:
(ولو وجد بين يدي مثل هذا المفتاح لسائر كتب الحديث لوفر عليّ أكثر من نصف عمري الذي أنفقته في المراجعة. ولكنه لم يكن ليغنيني عن هذا الكتاب (مفتاح كنوز السنة) فإن ذاك إنما يهديك إلى مواضع الأحاديث القولية التي تعرف أوائلها، وهذا يهديك إلى جميع(134/76)
السنن القولية والعملية، وما في معناهما، كالشمائل والتقريرات والمنقب والمغازي وغيرها، فلو كان بيدي هو أو مثله في أول عهدي بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها)
وقال الأستاذ الشيخ احمد شاكر (وقد عني الصديق فؤاد أفندي بالدقة في الترجمة أتم عناية، فإنه لم يترجم معنى من المعاني حتى رجع إلى الأحاديث في مصادرها التي أشار إليها المؤلف وعبر عنها بالعبارة الصحيحة التي تدل عليها الأحاديث. ولذلك مكث في ترجمته أربع سنين ثم لم يضن على طبعه بالمال، فاختار أرقى المطابع في القاهرة وانتقى له أجود أنواع الورق، فأبرز الكتاب كاملاً. . .)
(هذا الكتاب جعله مؤلفه فهرساً لثلاثة عشر كتاباً من أمهات كتب الحديث. وهي: مسند الإمام احمد بن حنبل. صحيح البخاري. صحيح مسلم. سنن الدارمي. سنن أبي داود. سنن الترمذي. سنن النسائي. سنن ابن ماجه. وهذه الثمانية هي أصول السنة ومصادرها الصحيحة الموثوق بها. ويندر أن يكون حديث صحيح خارجاً عنها. ثم موطأ الإمام مالك. ومسند أبي داود الطيالسي. . . ثم سيرة ابن هشام. ثم كتاب المغازي للإمام محمد بن عمر الواقدي. . . ثم أعُظم كتاب جمع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتراجم الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو كتاب الطبقات الكبير لابن سعد. والكتاب الرابع عشر المسند المنسوب إلى زيد بن علي بن الحسين. . . وقد رتب الأستاذ فنسنك كتابه على المعاني والمسائل العلمية، والأعلام التاريخية، وقسم كل معنى أو ترجمة إلى الموضوعات التفصيلية المتعلقة بذلك، ثم رتب عناوين الكتاب على حروف المعجم، واجتهد في جمع ما يتعلق بكل مسألة من الأحاديث والآثار الواردة في هذه الكتب. . . . . ولعل نشر هذا الكتاب بلغتنا العربية الشريفة يكون سبباً في إقبال المتعلمين من جميع الطبقات على الاشتغال بالسنة النبوية، وعلى الاستفادة من كتب الحديث التي هي كنوز العلم والحكمة التي أعرض عنها أكثر الناس، إما جهلاً بفائدتها، أو عجزاً عن المراجعة فيها عند الحاجة)
وقد وضع الأستاذ فؤاد عبد الباقي لهذا المفتاح فهارس أخرى تيسيراً للمنفعة به وبالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، صدر منها فهرس البخاري ومسلم والترمذي. ولعلنا نتكلم عنها وعن المعجم المفهرس في فرصة أخرى(134/77)
محمد حامد الفقي(134/78)
القصص المدرسية
يصدرها الأساتذة سعيد العريان - أمين دويدار - محمود
زهران
المدرسون بالمدارس الأميرية
ماذا يقرأ الطفل في وقت فراغه؟
بل ماذا يقرأ الطفل في مدرسته؟
ولماذا ينقطع أكثر شبابنا الذين أتموا دراستهم، عن المطالعة والدرس فلا يتذوقون لذة القراءة، ولا يلتمسون متاع الروح ورياض العقل بالاطلاع والنظر في الكتب؟
هذه أسئلة تعرض لكل ذي رأي في هذا البلد، فيذهب يلتمس الجواب، ويعرض الرأي، ويناقش الفكرة، فلا يهتدي إلا إلى رأي واحد: هو أن الطفل العربي لا يجد ما يقرأه فيلذه ويفيده في وقت معاً؛ فما بين يديه من الكتب واحد من ثلاثة: كتاب مدرسيّ يراه همّ النهار والليل، وكتاب في مكتبة أبيه يعيا من دونه فكره ويقصر إدراكه، وصحيفة بين هذين أو في مذهب ثالث، ليس من الحكمة أن تصل إليها يده. والطفل بين ذلك كله لا يجد ما يجذبه إلى القراءة أو يحببه إلى الاطلاع فينشأ نشأته كما نرى أكثر شباب هذا الجيل
ومن هنا بدأ تفكير بعض أدباء العربية في تلافي هذا النقص فاتجهوا بعنايتهم إلى محاولة إيجاد (أدب الطفل)، ويعنون بأدب الطفل، ذلك الأدب السهل الذي يلذ الطفل ويشوقه، ويحمله - بالرغبة والميل الطبيعي - على المطالعة وحب الكتب، منبثاً في ثناياه ما يُراد أن يزود به الطفل من علم وفن ومعرفة وبيان، فيتناوله مقبلاً عليه بقلبه وعقله وطبيعته؛ وكانت محاولات مجدية، أضافت إلى العربية فناً جديداً، وأوجدت بينها وبين نفس المتعلم سبباً وثيقاً
على أن هذه (القصص المدرسية) التي نتكلم عنها اليوم - اتجاه جديد في هذا الباب من الأدب؛ فلم يقتصر مؤلفوها على الترجمة من أدب الغرب، أو النقل من كتب الأدب القديم، كما فعل من سبقهم إلى هذا الباب؛ بل تراهم يحاولون أن ينشئوا (أدب الطفل) أصيلاً في العربية، مصوراً من هذا الجو الذي يعيش فيه طفل اليوم؛ وبذلك أوجدوا الصلة بين الطفل(134/79)
ولغته، وبينه وبين أهله، وبينه وبين الجو الذي يعيش فيه، فلا يعييه بعد إذ أن يتابع القصة بخياله، كأنه بطل فيها، مؤثر في حوادثها؛ وهذا - لعمري - نهج سديد، خليق بأن ينشئ من أطفالنا جيلاً جديداً، له مُثُله العليا على مقداره، وله رأيه فيما يحيط به
وقد استقبلنا هذه القصص لأول ظهورها منذ عام، فرحين آملين، مشفقين على مثل هذا المشروع أن يقف في طريقه ما يقف في سبيل أكثر الجهود النافعة في بلدنا فيحول دونها أن تبلغ التمام. ولكنا اليوم إذ تطالعنا القصة الخامسة من هذه القصص الدورية - نستبشر ويزايلنا الإشفاق على مصير هذا العمل النافع. على أن جهداً كهذا الجهد الذي يبذله مؤلفو القصص المدرسية صامتين - جدير بأن يلقى ما يستحق من عناية الآباء والمعلمين ليدلوا تلاميذهم عليه، ويرشدوهم إلى سبيل الانتفاع به. لينجح المشروع ويؤتي ثمرته في أولادهم وتلاميذهم
وما نحاول أن نصف هذه القصص بأكثر مما وصفها الأستاذ الرافعي في رسالة كتبها إلى المؤلفين بخطه يقول فيها: (إنها رجولة عالية تساق إلى التلميذ في أسلوب التلميذ!)
(م)(134/80)
العدد 135 - بتاريخ: 03 - 02 - 1936(/)
محمد
لتوفيق الحكيم
وهذا كتاب آخر قد نسقه فن آخر، ليعين رواجح الأحلام على اجتلاء، شخصية سمت ببطولتها عن البيان، واكتناه سيرة جلت بقداستها عن الفهم. وشخصية الرسول الكريم وسيرته أصبحتا اليوم في الشرق والغرب موضوع الدرس المفصل، وموضع التحليل العميق. وأنى للبصر المحدود أن يدرك ما لا يحد؟ وللبصيرة المتناهية أن تبلغ ما لا يتناهى؟!
حاول هيكل تعريف هذا الإشراق الإلهي من طريق العقل فأتخذ الدليل، وحاول طه حسين أن يصوره من طريق القلب فأصطنع الأسطورة، وحاول توفيق الحكيم أن يمثله من طريق الغريزة فأستعمل الحوار، والحوار ولاشك غريزة الحياة وأسلوب المجتمع، تجري به الحوادث، وتنتقل عليه الأحاديث، وتتردد فيه المآرب، وتوشك لغة الخطاب لا تعرف من ضروب الكلام غيره. هو لسان الوجود اليومي، يترجم عن رغائب النفس في غير كلفة، وينقل عن سوانح الذهن من غير إجالة، وينم على مرامي الهوى في نبرات الصوت، ويكشف عن طوايا الصدر في لحن الكلام، ويشف عن أحاسيس الروح في لهجات الحديث، ثم يصطبغ بصبغة الزمان والمكان والموقف والمناسبة؛ فإذا أنت سجلته بالحق أو مثلته بالصدق، فقد صورت الوجود المعدوم أكمل صورة، وجلوت الماضي المبهم أتم جلاء؛ ولكن تسجيل الحوار على عمومه عمل من وراء الإمكان ومن فوق القدرة، فقصارى جهد الإنسان أن يروي معناه بالسند فيكون التاريخ، أو يموهه بالخيال فتكون القصة، أو يزخرفه بالوهم فتكون الأسطورة. أما تمثيله على النمط الذي جرى عليه فهو الفن المبدع الذي يمده الإلهام وتهديه الطبيعة. يجرد الحادث من فضول الرواية ونافلة الحديث فيرده إلى جوهره ويحيله إلى بساطته، ثم يبعث الأشخاص، ويجدد الأمكنة، ويعيد الملابسات، ويحيي البيئة، ويرجع بالقارئ إلى عصره، فيحيا حياته، ويعايش أهله، فيرى بعينه ما يعملون، ويسمع بأذنه ما يقولون، ويدرك بنفسه موانع الحال ودوافع الموقف؛ وذلك ما عمله توفيق الحكيم في كتابه الجديد (محمد): عمد إلى المواقف الخطيرة في حياة الرسول، والمواقع العظيمة في تأريخ الرسالة، فمثلها على الوضع الذي كانت عليه، بالعمل الذي حدث، وبالحوار الذي(135/1)
جرى، وبالروح الذي انتشر، ثم صور البواعث النفسية التي أغفلها المؤرخ، وأظهر الألوان المحلية التي أحاطها الزمن، فاتصلت الأسباب، استبانت العلل، وتحددت الفروق، ووقع الأمر من حك موقع المألوف من غير التواء ولا فلسفة. أقرأ في كتاب توفيق الحكيم موقعة بدر أو حديث الأفك أو وفاة الرسول، ثم أقرأها في كتاب من كتب التاريخ تجد ما قلته لك قد صار أوضح في المثال وأوكد بالموازنة.
لم يرد توفيق الحكيم أن يجعل من سيرة الرسول رواية؛ فإنه لو أراد ذلك لما سلم من لوم رجل الدين، ولا برئ من نقد رجل الفن؛ إنما هي مناظر مجلوة على أسلوب الحوار لا يجمعها قانون الوحدة، ولا يربطها تسلسل الزمن. ولقد ظهر هذا النوع أول ما ظهر في (الرسالة) حين اقترحت على الأستاذ الحكيم أن يكتب على طريقته هجرة الرسول في أول عدد من أعدادها الممتازة؛ فتهيب الأمر بادئ ذي بدء، ثم تخوف المتزمتين أن ينكروا عليه فعله، ثم أقدم فعالج الموضوع في حذر وحيطة، ثم ترقب ما يكون من رأي الناس، فإذا هم يقرءون في لذة ويحكمون في نزاهة، فمضى بعرض جوانب السيرة هذا العرض الواضح في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة طوى عليها هذا الكتاب. والأرجح أن هذا الأسلوب سيجد مكانة في تأريخ الأدب المعاصر، فإن شاعراً من شعراء مصر نحا نحوه في مقتل حمزة، وكاتباً من كتاب الشام حذا حذوه في موقعة بدر.
هذه كلمة عجلى كتبناها عن طريقة الكتاب على قدر ما أتسع المكان والوقت؛ وفي أكثر المناظر منه مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للإعجاب وفي أقلها مواقف للمؤاخذة، وسيقف الناقد النزيه منها موقف العاذر أو العاذل على حسب رأيه في الفن وحريته. ولست اليوم بسبيل الكشف عن سر الكتاب وفنه، إنما هي تقدمة وتحية؛ وسنقرأ عنه ثم تقرأ في باب النقد أو في باب الكتب.
وبعد فإن للرسالة أن تغتبط بتفوق الله فيما تجاهد له، فلقد كان لها نصيب منتج في توجيه الأدب العربي الحديث في مصر وفي غير مصر إلى هذه الغاية العليا. كان أدبنا منذ قليل يتخلق بغير خلقه، ويتزيا بغير زيه؛ يرد المنابع البعيدة ونهره قريب، ويستجدي الأنامل الكزَّة وخيره عمم، حتى جف ما بينه وبين أصله، وانقطعت الأسباب بينه وبين أهله، فأصبح اليوم بفضل هذا التوجيه الحميد موصول الحبل بماضيه، معقود الرجاء بمستقبله،(135/2)
مطوي الفؤاد على قصده، وما دام على الدرب الأمين القاصد فهو لا بد في القريب أو في البعيد واصل.
أحمد حسن الزيات(135/3)
7 - كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ليس في الشرف كأداء الواجب بشرف
الوعد السياسي جريء في الكذب، جريء في الاعتذار، حتى أنه ليعد بإحضار القمر حين يستغني عنه الليل في آخر الشهر. . . فإذا لم يجيئوا به قالوا: سيتركه الليل في الشهر القادم. .
الزمن ضعيف في نصرة الضعيف؛ فإذا قالت دولة أوربية لدولة شرقية: سأدعك في سنة (كذا)، فمعناها في سنة (دائماً) التي لا أعرفها لا أنا ولا أنت ولا الزمن. . .
كما تضرب السياسة بقنابل حشوها البارود والرصاص؛ تضرب بقنابل حشوها المطامع والمناصب. . . .
لا يجيء الاتحاد القوي من وحدة الأحزاب المختلفة، ولكن من وحدة الحالة الواحدة في الأحزاب المختلفة.
للسياسة أحياناً أسلوب كأسلوب المرأة ذات العشاق، إذا وافق بعضهم بعضاً على النكاية بها، فرقت بين حظوظهم منها، فما أسرع ما يختلفون.
قال ذئب سياسي لخروف سياسي: أريد الاتفاق معك (حالاً). فقال الخروف: ويلك! إذا كنت أنت ذئباً للحمى، فهل تكون (حالاً) هذه إلا ذئباً آخر لعمري؟
لم يضيع الشرقيين ضعف القوة أكثر مما ضيعهم ضعف البصيرة.
تالله ما أذل الشرق إلا هذا التصوف، وتالله ما يعز الشرق إلا هذا التصوف بعينه، إذا أنتقل عن رجاله إلى رجال المال والحكم والسياسة.
كنت مرة في ضيافة رجل من أهل القرى مع أحد علماء الفقه، وذهبنا مع القروي إلى أرضه وفيها نخلة متهافتة ليس أهون منها على صاحبها. فقال له الفقيه: أحب أن تهب لي هذه النخلة في مغرسها بحدودها الأربعة. قال قد وهبتها لك. قال الفقيه بحدودها الأربعة؟ قال الرجل الطيب: نعم.
فقال له الفقيه: الآن وهبت لي أرضك كلها وخرجت منها شرعاً. . . فهذا فضاء ولا حدود للنخلة إلا آخر ما تملك منه في الجهات الأربع. هكذا يملك دهاةُ الفقه السياسي البلاد(135/4)
العريضة إذا ملكوا ولو نخلة فيها، غير أنهم يسمون حدود النخلة (تحفظات) النخلة. . .
يكاد يقال اليوم إذا عدت العناصر الأرضية: أنها النار والماء والهواء والتراب والأسطول الإنجليزي. . .
كل ما استعنت به على الحبيب الملول، أعان الملل في نفسه
لا تعاتب حبيبك الذي مل، فإذا مرض الحب مات العتاب
أكثر صبر العشاق من قلة الحيلة. . .
كذب الحبيب كذب مر، لأنه خرج من الفم الحلو
جمال التواضع في الصديق أن يستمر دائماً في شكل تواضع، وجمال الخضوع في الحبيب ألا يستمر دائماً في شكل خضوع.
تنظر المرأة بقلبها إلى أشياء لا تراها بعينها
أحترس في العداوة مما تبدأ به العدوة؛ وأحترس في الحب مما ينتهي به الحب
لا تنسى الإساءة امرأة لأنها قليلاً ما تذكر الحسنة
كيف تتحرر المرأة إذا كان حكم الطبيعة أن أفضل ما تحرر به نفسها أن تجد من تقيد به نفسها؟
يا ويل المرأة من قلبها حين يكون محروماً! يا ويل المرأة من قلبها حين يكون فيها كالمنفي في غربة!
أبت الدنيا أن تفسر كل عجيبة إلا بما هو أعجب منها. وهذه هي العجيبة
لو كانت اللذة في اللذة نفسها لما شقي أحد، لتيسرت لكل الناس كما تيسرت لكل البهائم؛ ولكن أكثر اللذات لا يلذ إلا في التركيب الوهمي الذي أكثره في الخيال وأقله في الواقع.
ما دامت أخلاق البهائم في الناس، فصلاح الإنسانية سيبقى دائماً في هذه المعاني الثلاثة: الراعي، والحبل، والعصا. . .
من لؤم الكذب وشره أنك لو صدقت بكلمتين وكذبت بثالثة، كنت كأنك صدقت باثنتين وكذبت بثلاث.
كيف تصلح الدنيا وفي كل أرض يعمل على عكس قوانينها - قانون الجو وقانون الأرض؟
شقاء العبقري من نفسه؛ فإن ظل يعمل تعبت به، وأن ترك العمل تعب بها.(135/5)
أين الحقيقة الكاملة من العقل الإنساني ونحن نرى كل عقل لا يعطي منها إلا قدر ما يسع منها؟
أسكت عن السفيه فإن ذلك إلا يجعله كريماً مثلك لا يجعلك لئيماً مثله.
قيل لمغرور متكبر يُخَنخِنُ في خياشيمه إذا تكلم: لماذا تتكلم من أنفك؟ قال. لأني لا أجد في العالم من أكلمه بملء فمي. . . . . .
لو رد العالم على هذا المغرور لقال له: كل الحمير تنهق بملء أفواهها إلا أنت. . . . .
إذا صغرت النفس من لؤم صاحبها، كبرت بلسان صاحبها.
الصورة الثانية للرجل المضحك جداً، هي أن يظهر نفسه عظيماً جداً.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(135/6)
السياحة في مصر
ومتى تغدو موردا قوميا؟
بقلم سائح
مصر بلد الآثار الباقية والذكريات الخالدة؛ آثارها وذكرياتها ترجع إلى أقدم عصور الخليقة، وتراثها الأثري والفني منوع في عظمته، ممتد على كر العصور والمدنيات؛ ومنذ عصر الفراعنة، حيث يغيض التاريخ في ظلمات المجهول، ومنذ الحضارة المصرية اليونانية، والحضارة المصرية الرومانية، إلى الحضارة المصرية الإسلامية، تتكدس الآثار والذكريات الخالدة في أرض مصر صنوفاً متعاقباً، حتى غدا تراث مصر الأثري والفني في روعته وفي عراقته وتباين أعصره وصنوفه، أغنى وأثمن ما عرف من بقايا الحضارات الذاهبة القديمة والوسطى.
وقد كان حرياً ببلد كمصر يتمتع بمثل هذا التراث الثري الباهر إلى جانب ما يتمتع به أثناء الشتاء من طبيعة ساحرة وشمس وضاءة ودفء لذيذ، أن يغدو كعبة حقيقية للسياحة والسياح من سائر أنحاء الأرض، وأن يجعل من السياحة مورداً قومياً لا بأس به، وأن يستغل هذا المورد بوسائل وأساليب جذابة مجدية، وان يسيطر على مرافقه ونواحيه بطرق عملية شاملة، وألا يدخر وسعاً في الحرص عليه كمورد قومي ثابت، أو في السعي بتنميته بجميع الوسائل والنظم.
ولقد غدت السياحة في كثير من البلاد مورداً قومياً للكسب، وأضحت وسائل استغلاله وتنميته في بلاد كثيرة لا تتمتع بمثل تراثنا الأثري، ولا مثل جونا الساحر، صناعة حقيقية؛ لكن مصر ما زالت في المؤخرة من حيث دراسة هذه الصناعة المحدثة وفهمها والانتفاع بوسائلها. نعم أن في مصر موسماً للسياحة، وما زالت مقصد ألوف من السياح من مختلف البلاد في كل شتاء ولكن هذا الموسم لا يقوم على أسس ثابتة، بل يترك أمره للظروف والمصادفات الخارجية، وتكاد مصر تقف منه موقفاً سلبياً محضاً؛ فإذا كان الموسم حسناً مزدهراً، فأن ذلك يرجع عادة إلى ظروف خارجية لا دخل لمصر فيها، وإذا كان الموسم سيئاً مجدباً، كما هو الشأن منذ أعوام، فأن مصر لا تبذل من جانبها أية جهود عملية مجدية لاجتذاب السياح، والعمل على مقاومة العوامل والأسباب التي يمكن أن يرجع إليها مثل هذا(135/7)
الكساد.
على أن موسم السياحة المصري ليس في الواقع مصرياً إلا بالاسم، ومن الظلم أن يحسب على مصر بصورته الحالية، فليست مصر أو الهيئات المصرية هي التي تجني ثماره، وتستغل موارده بقدر ما يجنيها ويستثمرها الأجانب والهيئات الأجنبية؛ ذلك أن كل ما تجنيه مصر من هذا الموسم يكاد ينحصر في أجور السكك الحديدية ورسوم المتاحف والآثار وأجور التراجمة وأثمان بعض السلع والمنتوجات القليلة التي تعرض للبيع أثناء الموسم، وهذا كله قليل بالنسبة إلى ما تجنيه الوكالات والفنادق والمتاجر الأجنبية من الأرباح الطائلة؛ وهكذا يستغل موسم السياحة المصري باسم مصر، ومصر تقنع منه بالفتات الضئيل.
وهذه حقيقة مؤلمة؛ بيد أن أشد ما يؤلم فيها هو أن هذا الغبن الفادح الذي يلحق مصر في مورد من مواردها المشروعة ترجع التبعة فيه إلى مصر ذاتها، والى ما تبديه هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية من قصور وتقصير في تنظيم الدعاية لمصر في الخارج، وفي تنظيم شؤون السياحة الداخلية بوسائل مجدية وطرق جذابة وفي توفير أسباب اليسر والراحة للسائحين؛ ومن الحقائق المعروفة في أوساط السياحة الخارجية أن نفقات السياحة في مصر تصل إلى حدود مرهقة، ولا يكاد يتحملها سوى كبار الأغنياء والموسرين، وأن السياح المتوسطي الحال يقاسون فيها من فداحة الأجور وعدم توفر أسباب الراحة؛ وهذه الحقيقة وحدها تبعد عن مصر عشرات الألوف من السياح الذين تسرهم زيارتها لو توفرت فيها أسباب الإقامة المعتدلة، كما هو الشأن في معظم مراكز السياحة في أنحاء العالم.
ولنبدأ بمسألة الدعاية، فنقول أن مصر ما زالت متأخرة في هذا الميدان بصورة يرثى لها؛ وما تنفقه مصر في هذا السبيل من الألوف العديدة يذهب هباء؛ إذ يغدق معظمه على بعض الصحف الأجنبية التي لا تفيد في الدعاية الحقيقية؛ والدعوى المنظمة هي روح السياحة الحديثة، ومصر مشهورة في الخارج بتراثها الفني ومزاياها الإقليمية، وميدان الدعوى إلى زيارتها خصب ممهد؛ على أن مما يؤسف له أن مصر لم تقم حتى اليوم بتنظيم هذه الدعاية بطرق عملية ناجعة، فليس لنا في الخارج مكاتب ولا وكالات مصرية للسياحة، وقنصلياتنا لا تبذل أي جهد في هذا السبيل؛ على حين أن جميع الأمم التي بها مراكز للسياحة تنظم(135/8)
دعايتها في جميع أنحاء العالم تنظيماً عملياً واسع النطاق، فتنشئ لها مكاتب للسياحة في الداخل والخارج، وتذيع عن آثارها ومزايا السياحة فيها كتباً ونشرات بديعة جذابة توزعها بالألوف من مكاتبها وقنصلياتها، ولا تدخر في ذلك مالاً ولا جهداً.
ولكن مصر تقنع في هذا الميدان بنشرات قليلة تذيعها في بعض الصحف الأجنبية، وبعض لوحات تعلقها في عربات السكك الحديدية؛ هذا إلى أنه هناك دعايات مغرضة تنظم ضد مصر من منافسيها في ميدان السياحة، ومصر لا تبذل أي جهد لدحض هذه الدعاية السيئة.
ولقد أنشئ بمصر أخيراً مكتب رسمي للسياحة، وبدأ أعماله في ظروف سيئة عاقته عن القيام بالمجهود الذي تقتضيه هذه الحالة؛ وأنّا نؤيد الفكرة في ذاتها، ونرجو أن تتاح الفرص الملائمة ليقوم هذا المكتب الجديد بمهمته في بث الدعاية لمصر وفي العمل على اجتذاب السياح إليها. بيد أن مهمة المكتب لا تقف عند هذه المهمة؛ وفي رأينا أن مهمة المكتب الحقيقية هي وجوب العمل على تمصير موسم السياحة وجعله جهد الاستطاعة مورداً قومياً يتاح للهيئات المصرية ولأبناء البلاد قبل غيرهم إجتناء فوائده وثماره؛ وهذا يتطلب من مكتب السياحة أن يعمل في دائرة واسعة متعددة النواحي.
وإذا كانت السياحة قد أضحت كما قدمنا في بلاد السياحة صناعة وفناً، فأنه يجب علينا في مصر أن نفهمها بهذا المعنى؛ وعلينا إذا شئنا أن نجتني مغانم هذا الموسم أن نعنى بإنشاء الفنادق الفخمة والمتوسطة، وإنشاء المطاعم والأبهاء الأنيقة، وتنظيم السياحة الداخلية، وترقية طائفة التراجمة والمرشدين، وتخفيض أجور السكك الحديدية ورسوم الآثار والمتاحف.
وإذا أريد حقاً أن يكون موسم السياحة في مصر مورداً قومياُ، فعلى هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية أن تبادر قبل كل شيء إلى العناية بصناعة الفنادق، فهي عماد الموسم في جميع مراكز السياحة؛ ولا ندري لماذا لا يفكر الممولون المصريون في النزول إلى هذا الميدان الذي ما زال يستأثر به الأجانب في جميع عواصم القطر؟
ولماذا لا يتجه الشباب المصري إلى المساهمة في هذه الصناعة وهي لا تحتاج إلى مجهودات فنية صعبة؟ ولا ريب أن عدم توفر الفنادق الأنيقة المعتدلة الأجور من أهم عوامل الضعف في موسم السياحة المصري، لأن للفنادق الأجنبية الفخمة التي تستأثر الآن(135/9)
باستقبال السياح ترهقهم بفداحة أجورها ونفقاتها؛ وإذا تذكرنا الأرباح الطائلة التي توزعها شركة الفنادق المعروفة على حاملي أسهمها كل عام استطعنا أن نقدر إلى أي حد يرهق السياح النازلون في فنادقها؛ وهو إرهاق يترك أثراً سيئاً في نفوس ضيوفنا الأجانب حتى الأغنياء منهم.
ولا يسد هذا النقص سوى إنشاء فنادق مصرية أنيقة معتدلة الأجور؛ وهي صناعة رابحة يجب ألا يتوانى المصريون عن النزول إلى ميدانها. ولا ريب أن بنك مصر هو أقدر الهيئات المصرية الاقتصادية على فتح هذا الباب خصوصاً وهو يضم بعض الشركات والمرافق التي يتصل عملها بشؤون السياحة كشركة الملاحة وشركة الطيران ومكتب مصر للسياحة؛ وغزو هذه الصناعة التي يستأثر بها الأجانب وبجانبها المصريون بغير حق، يحقق لمصر غايتين: الأولى تمصير صناعة الفنادق واجتناء أرباحها، والثانية تيسير أسباب الإقامة للضيوف الأجانب وتشجيعهم بذلك على زيارة القطر المصري.
ونعتقد أن مكتب السياحة المصري مجالاً للعمل في هذا الباب من الناحية الحكومية؛ ذلك أن الحكومة المصرية لا يفوتها ما يترتب على إحياء صناعة الفنادق الأنيقة المعتدلة من توفير أسباب الراحة للسياح وتشجيعهم لا على زيارة القطر فقط، بل على إطالة مكثهم به أيضاً؛ ولا بأس من أن تتولى الحكومة نفسها أو إدارة السكة الحديدية، وهي من أوثق الإدارات الحكومية اتصالاً بشؤون السياحة، القيام بأول خطوة في هذا السبيل، وإنشاء فندق أو أكثر من طراز نموذجي يجمع بين الفخامة واعتدال الأجور.
بقيت مسألة نرجو أن يعنى بها مكتب السياحة عناية خاصة، وهي مسألة التأشيرات التي تمنحها القنصليات المصرية في الخارج لراغبي زيارة القطر. ومن المعروف أن نظام التأشيرات الحالي يكاد يقضي على كل اختصاص حقيقي لقناصلنا في هذا الشأن، ويجعل الاختصاص الحقيقي في منح التأشيرات ورفضها لقلم الجوازات التابع لإدارة الأمن العام (ورئيسه إنكليزي). وفي معظم الأحوال يضطر القناصل المصريون إلى مراجعة إدارة الأمن العام قبل المنح أو الرفض، وتستغرق هذه المخاطبات وقتاً ليس بالقصير، وإذا كانت تلغرافية فأنها تجري على حساب الطالب. وبذلك تمضي أسابيع وربما مضت أشهر قبل أن يبت في طلب الطالب، ولا تستطيع القنصليات أن تمنح تأشيرة دخول القطر من تلقاء(135/10)
نفسها إلا للكبراء والأشخاص المعروفين. فهذا النظام المعقد يزهد الكثيرين في زيارة مصر. ولا ريب أنه يحق للسلطات المصرية في الداخل أو الخارج أن تعمل لمنع العناصر الأجنبية السيئة وغير المرغوب فيها من دخول القطر، ولكن الحرص على هذه الغاية يجب ألا يكون عقبة في سبيل العناصر الشعبية الطيبة التي ترغب في الزيارة البريئة. وأملنا أن يوفق ولاة الأمر إلى وضع نظام جديد للتأشيرات يسهل مهمة القناصل المصريين وبذلك العقبات الحالية.
هذه خواطر وملاحظات في شؤون السياحة أملت بها أزمة الموسم الحالي، وما نقرأ من آن لآخر عن الدعايات المغرضة التي تذاع ضد مصر وأحوالها في الخارج تنفيراً للسياح من زيارتها؛ فإذا أرادت مصر أن يكون لها موسم للسياحة يتناسب مع مكانتها الأثرية والإقليمية، وإذا أرادت أن تجتني كسبه وثماره، فعليها أن تعنى قبل كل شيء بجعله موسماً قومياً يكون لمصر وللمصريين في استغلاله أوفر نصيب.
(سائح)(135/11)
رفعة المرأة
للأستاذ محمد بك كرد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وعاد المؤلف فعقد فصلاً في الأعمال التي تبرز فيها المرأة على الرجل، وهي الإحسان وتعهد المرضى وتربية اليتامى إلى غير ذلك من أنواع البر. ومما نقله لمديرة عصبة الخير أن الناس يتوخون أن يعرفوا ما نشكو منه من الأوجاع، وما تشكو منه كل الأمم، ومنشؤه إفلاس تربية القلوب، فقد وسع القائمون بالتربية درجات الذكاء بالتأديب الذي أدبوا الناس به، وشددوا في تلقين التربية الجسمية، وظنوا في ذلك الكفاية وهو دون حدها. فقد رأينا في العهد الأخير أن خمسمائة مليون طن من الحنطة جعلت وقوداً، أو ألقيت إلى البهائم تقضمها، على حين نجد ملايين من البشر في الصين يموتون جوعاً. وألقوا في البرازيل 49500 كيس من البن في البحر، ثم 60000 ألفاً جعلوها سماداً للأرض. وأبادوا في ألمانيا مقادير من السكر. ودفنوا في أوستراليا مليون خروف في الأرض لئلا يستفاد منها؛ وفي كل مكان يطرحون الأثمار والبقول والأسماك التي لم تنفق، أو التي زادت على الحاجة، ولا يفكرون في أن بيوتاً كثيرة تشكو العوز وتصاب بالمخمصة. ويزيد هذا الانحطاط في الأخلاق كل يوم، وتزيد معه ويا للأسف هذه الأنانية كغيرها من النقائض التي تئن منها الإنسانية، وتردها إلى أرذل أطوارها. فالشعور بالإحسان والإخاء سواء في الحكومات أو في الشعوب لم يستثمر ولم يرب. وعصبة الإحسان تعاون على تربية عقلية الأطفال في المدارس التي تربي على حب الفضائل. وتعلم الإحسان ضروري في الحياة الاجتماعية كتعلم الصناعات والأعمال
وأفاض في وصف عقليات الأمم التي تخالف العقلية الفرنسية؛ فمما قال في وصف عقلية الأمريكان في الولايات المتحدة إنها مخالفة كل المخالفة لعقلية الفرنسيس في مسائل الزواج، فالزواج عند الفرنسيس بالنسبة إلى العزب نوع حديث من الحياة يتحتم أن يكون ثابتاً يسبقه على الأكثر شعور صادق عميق، اللهم إلا عند بعض شبابنا في السنين الأخيرة. واغلب الأمريكيين والأمريكيات (ما خلا الفلاحين والعملة في المدن وجمهور الفقراء) يعتبرون الزواج فقط حادثاً يبقى ما تيسر له البقاء، ويمكن حله لأسباب تافهة، أو لأنه فقد(135/12)
فيه الرضا، كأن الزواج عندهم بحسب ما عرف شامنور الحب تعريفاً فيه سخرية بقوله أنه (تبادل هويتين واحتكاك بشرتين). وليس من النادر في الولايات المتحدة أن امرأة رجلاً كانا بالأمس لا يعرف أحدهما الآخر أن يتلاقيا ذات صباح ويتأهلا في نفس ظهر ذاك اليوم بمعرفة القس الذي يجمع وظيفة ضابط الأحوال الشخصية إلى وظيفته.
ووضع فصلاً عنون له (كلمات للتأمل) جاء فيه أن مدام ماكدلين شوميون قالت في جملة مقالات لها في جريدة النهار الباريزية: إن الفتاة عندما تبدأ في فهم الحياة تتمثل أن تدخل في ميدانها وحيدة بدون معين ولا استنصاح أحد. فيقال إنها تريد أن تعيش مستقلة وأنها تتجافى عن قبول آراء غيرها وتوبيخ أهلها، وأنها تود أن تعمل لتربح مالاً وتنفق على هواها، وأن تبدو للناس، وتسيح إذا اقتضت الحال، وهذا غاية أمانيها. وهذا الجمهور الذي لا يحصى من الفتيات والنساء ممن يخرجن عن أطوارهن هو الذي يدعونا إلى اللهفة والأسف. ولقد رأينا محاميات انقلبن خادمات في البيوت، ولدينا براهين كثيرة على انه خير للمرء أن يحسن صناعة من أن يحمل شهادات حسنة. ولقد نال كثير من النساء لقب دكتورات في الحقوق فاصبحن كاتبات بسيطات على الآلة الكاتبة. يتعلمن علماً كثيراً ولا يعرفن احتياجهن على كسب قوتهن. وذكر المؤلف ما تحمله السينما من مفاسد، ولا سيما للفتيات والصبيان، وقبح الأبوين اللذين يستصحبان أولادهما لمشاهدة هذه المناظر التي لا تعلم في الأكثر إلا المقابح والمفاسد.
وروى ما قاله أميل بيكارد العالم الطبيعي الرياضي أن مستوى الأخلاق في الجنس البشري يسفل بمقياس واسع، ولعلهم يقولون إن ذلك نشأ من الحرب العظمى؛ والحقيقة أن هذه الحرب لم تعمل غير تعجيل هذا الفساد كما عجلت في مسائل أخرى. وانتهى الحال ببعضهم أن ادعوا أن ذلك نشأ من العلم، وهذه الدعوى تصدق بعض الشيء، ذلك لأن الآلة قد أحدثت جنوناً في الإنتاج الصناعي، فأن السرعة التي تمت في المسائل الفنية لم تسمح للزمن أن يعمل عمله. والزمن يهزأ بشيء يعمل دون تدخله، بل ينتقم من صاحبه. ولم تكتف الآلة بإغراق العالم في الرفاهية بل قامت مقام الإنسان المنتج القوي، وأبطلت في الإنسان اعتياد العمل الشاق العميق الطويل، فأصبح سطحياً واستغرقته السهولة، وما نمت فيه القدرة المادية بل قل فيه العنصر الأخلاقي، والجسم إذا أتسع توقع أن يكون له ملحق(135/13)
من الروح كما قال برجسون. وقد احتقرت الوطنية والتجارب وفقدت الحرمة الناتجة من الصبر والسن واختلاط العبقرية المريضة بالعبقرية السليمة وهي وليدة القوة
ونقل أقوالاً لعظماء من علماء العصر الحاضر تأييداً لقضيته؛ ومنها أن نصف علم يحرزه المرء يتولد منه من الأوهام ما يكون أضر على صاحبه من الجهل، لأن صاحبه يكلب على العمل فلا يأتي بكبير أمر، وتزداد عاقبته الشؤمى بالضرورة لامتزاجها بالمصالح الشخصية والشهوات والأهواء الرائجة في سوء الجدال الاجتماعي، وما يتبعه من عبث العابثين بالسياسة المتجرين بها. وحمل على الاشتراكية التي تحارب المثمرين والمتمولين، وتحاول القضاء على الطبقات الاجتماعية، وعلى رؤوس الأموال، وعلى النفرة من الحرب؛ ونقل أن رؤوس الأموال إذا انعدمت تموت الاشتراكية، لأنها لا تجد ما تحاربه فلا يبقى لها ما تقسمه من المال بين الاشتراكيين؛ والاشتراكية تؤدي إلى (البلشفة) البشعة. ومن المتعذر قيام الدعوى الاشتراكية إذا فقد المال، ولا شيء يعمل بلا مال. وما البلشفة إلا وضع حياة البشر في يد عصابة تزعم إنها تمثل الدولة. ومعنى ذلك بسط السلطة العامة على الناس في كل أمر يصدر من مصادر خفية. وقال هذا جنون شرقي ينساب على التدريج في عقل الغرب.
وختم كتابه بفصل في انتشار العهر والأسباب الداعية إليه في الغرب. وقال في الخاتمة إن الفرنسيس ما خلا أربعة أو خمسة آلاف امرأة ومثلهن من الرجال يطمعون في إعطاء حق التصويت للنساء لا يهتمون بتة في منح الحقوق المزعومة للمرأة لإدخالها في الحياة السياسية. ويخشى إذا تمتع النساء بحقوق الرجال أن يقلبن أوضاع الأمة إلى التي لا تريدها، شأن كثير من المتغلبين على الحكم في الأمم يعملون ما تزين لهم أهواؤهم، ويملون إرادتهم على من يتعذر عليهم طاعتهم. وكان على هؤلاء الدعاة أن يبدءوا أولاً بإقناع ملايين من النساء لا يريحه رأيهن في الاشتراك في الحياة السياسية. هذا والأفكار تسير سيرها؛ ولعله يأتي اليوم الذي تستعد فيه المرأة الفرنسية للاشتراك مع الرجل في الحياة العامة حذو القذة بالقذة. ويقضي على القائمين بهذه الدعوى ريثما تتحقق أمنيتهم أن يبدءوا بإصلاح أخلاق المرأة الحاضرة وتهذيبها على أسلوب لا يقبل كل رأي يدلى به إليها، ويحررها على الأقل من سلطان أزيائها وتبرجها، وأن يجهد الحاكمون أن يسيروا هذه(135/14)
الدعوة في المجرى الصالح لخير المرأة والرجل والحب والسلام الاجتماعي، ومستقبل العنصر، والأخذ بأسباب الارتقاء الحق. والمرأة مهما حاولنا وصفها بالرقي الآن لا نخرج عن كونها تطمح في استقرار حياتها وفي الخلوة إلى دارها، وإن ألبسوها اليوم لباساً غير لباسها من النزوع إلى الاستقلال. وقد أخذ كثير من الشبان يحولون اليوم وجهتهم متقززين من النساء المولعات بالألعاب الرياضية والمدخنات والشريبات والراقصات والساهرات أي من طبقة النساء ممن قد يكون فيهن العفيفات وظاهرهن أنهن بنات سرور ومرح، ومن الطبقة التي يقول فيها الإنجليز إنهن لسن نساء ولم يبلغن مبلغ الرجال.
قال: أيتها المرأة إنك مهما فعلت مسوقة بنابل من الكبرياء وبعوامل أكرهتك على خوض غمار أزمة هذه الأيام لتخرجي عن حظيرة جنسك وتقطعي صلتك بعملك الأبدي السامي، لن تكوني إلا محبة وزوجة وأماً. وإذا أنسيت رسالتك فأن الطبيعة ستتولى عاجلاً أو آجلاً تذكيرك أن الأقدار ما خرجت بك إلا لتكوني شريكة الرجل، وأم أولاده، وجزؤه المتمم، ونصفه، وأحياناً الموحية إليه والمنقذة له. أنت أبداً مهد الآلام البشرية وستظلين على ذلك إلى يوم البعث والنشور.
محمد كرد علي(135/15)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
حقن بستور في دجاج مكروباً قديماُ ضعيفاً لداء كوليرا الدجاج، فمرض الدجاج ولكن لم يمت. وكان ذلك مصادفة. ثم حقن فيه مكروباً جديداً فتاكاً فلم يمت. فتوصل بذلك إلى طريقة لتحصين الدجاج ضد الكوليرا، إلى طريقة اللقاح أو الفكسين المعروفة اليوم.
قلت فيما مضى إن بستور يضمر في نفسه عبادة هذا الشيء العظيم الرائع الخفي في هذا العالم المجهول، وكثيراً ما ركع وسجد لهذه اللانهائية المستورة. ولكن أحياناً كان يأتيه الأمل فيطلب القمر وينسى رب السماء. وكلما رفعت إحدى تجاربه الجميلة ستاراً عن خفية من خفايا ذلك المجهول الضخم الرائع بأسراره، ظن أن كل الخفايا انكشفت، وأن كل العقد انحلت. هكذا كان حاله ومزاجه في هذه الساعة التي نحن فيها. إنه استطاع حقاً أن يحمي الدجاج حماية تامة من داء مميت بأن أحتال له تلك الحيلة الجميلة فحقن في الدجاج شيئاً من المكروب القتال بعد تأنيسه وإضعاف شرته، ولكنه ما كاد يستيقن من نجاح حيلته حتى قال لنفسه: (وما يدريني؟ فلعل مكروب هذه الكوليرا يحمي الدجاج من كل داء خبيث آخر). وما عتم أن حقن عدداً من الدجاج بمكروب الكوليرا بعد إضعافه، ثم أتبع ذلك بحقنة من المكروب الجمرة الخبيث، واصطبر فلم يمت الدجاج! فهاج وماج وكتب إلى أستاذه القديم دوماس، ولمح له أن مكروب كوليرا الدجاج قد يكون لقاحاً عاماً يحصن من كل الأدواء. وكتب إليه يقول: (فإذا تأكد هذا، جاز لنا أن نأمل من النتائج أخطرها، حتى فيما يتعلق بأدواء الإنسان)
وفرح دوماس الشيخ بالذي قرأ، فنشر الخطاب في التقارير الرسمية لأكاديمية العلوم،(135/16)
وهاهو ذا إلى اليوم ماثل في صفحاتها، يشهد باندفاع بستور وتسرعه، ويكذب من يقول أن بستور لا يقول دائماً إلا حقاً. ولقد بحثت ما استطعت فلم أجد أن بستور أسترد الذي قال، ونفى الأمل الخادع الذي أحيا في الناس. وبستور لم يطل به الزمن بعد ذلك طويلاً حتى عرف خطل هذا الرأي، واستيقن من أن النوع الواحد من البشلات لا يحصن من كل الأمراض على نحو ما كان أدعى، وإنما يحصن من المرض الواحد الذي هو سببه، وحتى هذا قد لا يدفعه أحياناً.
ولكن كان من خصائص بستور المحمودة أنه كان كلما انهدم له أمل، قام على أنقاضه له أمل جديد؛ وإذا احترق له رجاء، انبعث له من رماده رجاء طريف. يحدق به الخيال الوثاب حتى يصل به إلى السحاب، ثم يخونه جناحاه، فيهوى كالقنبلة على الأرض، فتحسب هذا الدوي هو آخر ما تسمع منه، ثم لا تلبث أن تراه قائماً من تلك الأنقاض على رجليه، يجري التجارب البارعة، ويبحث بجد عن كل حقيقة صلبة صماء. لذلك لا تستغرب أن تسمع انه في عام 1881 كان يعمل مع عونيه رو وشمبرلاند ليكشف عن طريقة جميلة لتأنيس مكروب الجمرة وتحضير لقاح منه. فبمجيء هذا العام اشتد البحث وراء الألقحة اشتداداً لم يدع لرو وصاحبه وقتاً لراحة. حتى الآحاد اشتغلاها، وأيام العطلة لم يتعطلاها، والإجازات تجنباها، وناما في المعمل إلى جانب الأنابيب والمجاهر والمكروبات. وهنا، وبإرشاد بستور، أضعافا بشلة داء الجمرة إضعافاً متدرجاً. فمن الضعيف ما قتل الخنازير الغينية وأبقى على الأرانب، ومن الضعف ما قتل الفئران وأبقى على الخنازير الغينية. وحقنا الميكروب الأضعف في الخراف، وأتبعاه بالأقل ضعفاً، فمرضت الخراف ولكنها شفيت، وبعد ذلك صمدت على ما يظهر لمكروب الجمرة القوي الذي يقتل الأبقار.
وما لبث بستور أن أذاع نصره الجديد في أكاديمية العلوم - وكان قد ترك أكاديمية الطب بعد عراكه الذي كان مع الدكتور جيران - وبشر لهم بلقاحات يرجو استحداثها قريباً تمحو كل الأدواء، من النكاف إلى الملريا. وصاح فيهم: (وهل أيسر من لقاح الجمرة هذا! سموم تضعف بالتدريج من شِرتها فتعطى الخراف والأبقار والخيول بعض الداء دون أن تقتلها، ثم تتعافى، فتعفى من الداء أبداً!) وظن بعض زملاء بستور أنه يبالغ في يقينه، ويغلو في(135/17)
ثقته بهذا اللقاح، وتجاسروا على الجهر برأيهم، فانتفخت أوردة بستور في جبهته، ولكنه كظم غضبه هذه المرة واستطاع أن يحبس لسانه حتى خرج هو ورو وسارا في الطريق إلى منزليهما، وعندئذ انفجر بستور على هؤلاء وعلى أمثالهم ممن يعجزون عن الإيمان بالحق المحض الذي احتوته فكرته قال: (أنا لا أعجب إن أنت ذهبت إلى منازل أمثال هؤلاء فوجدتهم يضربون أزواجهن ضرباً)
صدقني، ما كان العلم لدى بستور جمع الحقائق بنفس مطمئنة باردة، فقد أثار فيه نفس الشيء الذي يثير الحيوان الآدمي إلى البكاء عند موت طفله، أو إلى الفرح والغناء عند نعي عم أو خال قد ترك له من بعد موته نصف مليون دولار.
وأخذ أعداء بستور يتبعون أثره ليثأروا منه شر ثأره. ولم يكن أعداؤه من الأطباء فحسب، بل كذلك كان البيطريون وهم رجال لهم مقام في الناس ونفع لهم. أساء بستور إلى هؤلاء وهؤلاء فتصدى له بيطري فنصب في طريقه فخاً عظيماً وأغراه بالوقوع فيه. وكان أسم هذا البيطار روسنيول قام ذات يوم في الجمعية الزراعية بميلان يغري بستور بإجراء تجربة عامة، يجريها على الملأ في سبيل العدالة العلمية ظاهراً، وفي سبيل القضاء على بستور وأم باطناً. قال للجمعية: (إن بستور يقول إن أسهل شيء في الدنيا صنع لقاح يحصن الشياه والأبقار من داء الجمرة تحصيناً كاملاً. فأن حق هذا القول عاد على زرّاع فرنسا بالنفع العظيم، ووفر عليهم عشرين مليون فرنك يخسرونها كل عام بسبب هذا الداء. إن بستور لو كان يستطيع حقاً إخراج هذا اللقاح العجيب، لما وجد على نفسه غضاضة أن يثبت لنا أنه يستطيعه. فهيا بنا ندعوه إلى تجربة عامة يجريها في الجمهور، فأن أصاب كان لنا الغنم نحن معشر المزارعين، والبيطريين، وان خاب سكت عن هذه الثرثرة الكاذبة ودعاويه الباطلة عن كشوفات هائلة تنجي من كل شيء، من ديدان الأرض إلى حيتان الماء). هكذا تمنطق هذا البيطار الماكر
وسرعان ما جمعت الجمعية مالاً كثيراً لشراء ثمانٍ وأربعين شاة، وعدد من الأبقار، وجَديَين، واختارت البارون دي لاروشت لمكانته وشهرته، فبعثت به إلى بستور ليدخل إليه من عجبه ليوقعه في هذه التجربة وفيها من الخطورة ما فيها.
ولم يشعر بستور أبداً بالذي يراد به، فقال للبارون: (بالطبع أنا راضٍ بالذهاب إلى جمعيتكم(135/18)
لأريكم أن لقاحي ينقذ الحياة - إن علاج أربع عشرة شاة في معملي لا يفترق عن علاج ستين في ميلان!)
هذا هو الشيء الغريب العظيم في بستور: يريد أن يخرج البيضة من الديك، والأرنب من القبعة، ويدهش العالم، فيقوم بكل هذا في إخلاص عظيم وإيمان بما يصنع كبير، كان عرّاضاً كبيراً بارعاً، وكان يجوز عليه أن ينزل في سبيل ذلك أحياناً إلى ملاعيب بهلوانية يسيرة، ولكنه لم يكن يعمد إلى التدبير والتخطيط لشيء من هذا أبداً. وتعين موعد امتحانه في الملأ، فكان مايو ويونيه من ذلك العام.
وكان رو وشمبرلاند قد تعبا من العمل المتواصل تعباً كبيراً أثر في أعصابهما، فأخذا يريان رؤى مفزعة، فتارة تفلت في النوم إلى الأرض من أيديهما قبابة خطيرة بالذي فيها، وتارة يجدان نفسيهما ينظران إلى حيوانات غريبة نصفها دجاجة ونصفها الآخر خنزير. أو لا يأتيهما النوم فيأخذان في حقن الملايين من الأرانب وهم في الفراش راقدون، فلما ساء حالهم إلى هذا الحد طلبا الراحة في الريف، وما كادا يستقران فيه حتى جاءهما التلغراف الآتي:
(أرجعا إلى باريس حالاً. على وشك تجربة عامة أن لقاحنا يحمي الشياه من الجمرة - ل. بستور)
فرجعا مسرعين. فقال بستور للقوم: (في مزرعة بويي - وفي حضرة الجمعية الزراعية بميلان، سألقح أربعة وعشرين شاة وبضع بقرات وعنزة واحدة. وسأدع بدون لقاح مثلها في العدد عنزة وشياهاً ابقراً، فإذا جاء الوقت الموعود سأقوم وأحقن كل هذه الحيوانات بأخبث زريعة لدينا من بشلة الجمرة، أما الملقحات فستكون في حِمى من الداء، وأما الأخرى فستموت طبعاً في يومين أو ثلاثة.) تحدث بستور كالفلكي يتنبأ بكسوف الشمس.
قال صاحباه: (ولكن يا أستاذنا إنك تعلم أن عملنا هذا كالمشي على الصراط، فنحن لا يمكننا أبداً أن نأمن أمناً تاماً إلى ألقحتنا، فهي قد تقتل الشياه التي نريد أن نحميها. . .)
فزعق بستور فيهما: (إن اللقاح الذي يعمل بنجاح في أربع عشرة شاة في معملنا لا شك ناجح في خمسين شاة في ميلان). فإنه عندئذ لم يرد أن يسمع بالخيبة، أو أن يذكر أن(135/19)
الطبيعة لها سر لا يفشى وخدعات لا تؤتمن، أو أن الغيب قد يخبئ كثيراً من العثرات ويأتي بكل غريب لا يحتسب. بل لقد تراءى هذا الغيب في عينيه رائقاً كالماء، شفافاً كالهواء، سهل القراءة كما تقول اثنان من اثنين ينتجان أربعة. فلم يكن لرو وشمبرلاند بدٌّ من رفع الأكمام وكشف السواعد والأخذ في تجهيز الألقحة.
وجاء يوم الامتحان الأكبر، فكانت المحاقن جاهزة، والقبابات حاضرة، وكل قبابة عليها أسمها. وصاح بستور فيهما وقد هموا جميعاً بركوب القطار: (إياكما يا ولدي أن تخلطا بين الألقحة). وكان قلبه مليئاً بالثقة ووجهه يطفح بشراً. ولما بلغوا بويي لو فرت - وصلوا إلى الحقل الموعود حيث الثماني والأربعون شاة وبضع الأبقار والعنزتان؛ تقدم بستور إلى الميدان، فدخله دخول مصارع الثيران، وانحنى وطيئاً للجمهور المحشود، وكان فيه أعضاء من مجلس الشيوخ الجمهورية، وكان فيه علماء وبيطريون وكثير من ذوي الأحساب ومئات المزارعين. فسار بستور بين صفوفهم يعرج قليلا ً - عرجة العظم والوجاهة لا عرجة الضعف والاستعطاف - فحيوه تحية صارخة، وتسخر به قليل.
وحضر جماعة من رجال الصحافة، وكان من بينهم رسول جريدة التيمس السيد دي بلاوتز هذا الرجل المعروف الذي أصبح اليوم في التاريخ كأنه شخص خرافي مما يحكى عنه من الأعاجيب.
وسيقت الغنام إلى فرجة من الحقل، وقام رو وشمبرلاند إلى مصابيح الكحول فأشعلاها، وإلى المحاقن الزجاجية فأخرجاها بحذر من لفائفها، وجاءا بلقاح الجمرة الضعيف الأول الذي يقتل الفئران ويبقى على الخنازير الغينية، فحقنا منه خمس قطرات في أفخاذ أربع وعشرين شاة وفي عنزة وفي نصف البقر. ونهضت البهائم وهزت برؤوسها، وأعلمت بثقب في آذانها. ثم قاد بستور جموع الناس إلى إحدى الزرائب، وخطبهم نصف ساعة خطبة فخمة في هذه الألقحة الجديدة، وبشر فيهم بالرحمات التي تحملها الإنسانية المعذبة.
ومر اثنا عشر يوماً، وجاء الناس مرة أخرى إلى الحقل واحتشدوا فيه، فقام أعوان بستور إلى اللقاح الثاني الأقوى الذي يقتل الخنازير الغينية ولا يقتل الأرانب، وحقنوا منه المواشي مرة ثانية، ونهضت بعد الحقن نشيطة كما يجب أن تكون الشياه والماعز والأبقار السليمة الصحيحة، وأقترب الموعد الخطير للحقنة الثالثة، وهي أقوى الثلاثة فتحرج جو(135/20)
المعمل، وثقل هواؤه، وأشتد العمل على رجاله، فجرى الحديث بينهم اقتضاباً من وراء المصابيح. وصمت بستور صمتاً مخيفاً لم يعهد فيه أبداً، وكان يطلب ما يريد آمراً صارخاً يكاد ينط له صبية المعمل في إنقاذه نطاً. وكان أنضم إلى أعوان بستور عون جديد يسمى تويبيه كان أصغرهم سناً، فهذا كان يخرج إلى الحقل ليضع مقياس الحرارة تحت أذيال البهائم يرقب سير الحقنة فيها، ولكن حمداً لله لم يجد بها حمى، وكانت جميعاً قائمة على خير حال، صامدة للقاح الشديد صموداً عجيباً.
وبينما قلق رو وشمبرلاند وشاب رأسهما همَاً وحذراً وانتظاراً، احتفظ بستور بثقته بنفسه. كتب يتحدث برأيه القديم الصريح الجميل عن نفسه قال: (لو تم النجاح الذي أرجوه، فسيكون هذا مثلاً من أروع الأمثلة لتطبيق العلم على الحياة في هذه البلاد، وسيسجله التاريخ كشفاً من اخطر الكشوفات وأكثرها ثمراً).
قال أصدقاؤه همهمة، وهم يهزون الرؤوس ويرفعون الأكتاف: (نابليونيات رائعة أيها العزيز بستور!).
قال بستور: (نابليونيات ولا نكران يا أعزائي الأصدقاء)
(تتبع بنتيجة هذه التجربة في العدد القادم)
أحمد زكي(135/21)
على هامش حوادث دمشق
أطفال دمشق
بقلم الأستاذ (ع)
لمن هذه الرشاشات منصوبة في الميادين والطرقات؟ لمن هذه المصفحات وهذه الدبابات، تروح وتغدو في الشوارع والساحات؟ لم تحوم في الجو هذه الطيارات؟
لماذا يساق هؤلاء الجنود من كل جنس وكل لون، فمن الشقر الفرنسيين الذين علموا أمم الأرض كيف تكون الثورة على الظالمين، وكيف تنتزع الحرية من بين أنياب الأقوياء المستبدين؛ إلى السمر المغاربة المسلمين، الذين جاءوا راغبين أو راهبين، ليحاربوا إخوانهم المسلمين؛ إلى السود السنغاليين،
من كل أشمط تدنى الموت طلعته ... ينساب في لهوات الليل ثعبانا
زعانف وعباديد برابرة ... لا يعرفون لهذا الكون ديانا
إلى الصفر الهنديين الصينيين؛ إلى هؤلاء (المتطوعة) أنصار الباطل، جزاة الخير بالشر، الذين أكلوا خبزنا وحاربونا!! أكُل ذلك لأن هذا الشعب الأعزل تحرك؟ أكُل ذلك لأن دمشق غضبت؟
تيهي إذن يا دمشق واعتزي، فما أنت بالضعيفة ولا بالهينة، وقد حشدوا لك مالا يحشدون أكثر منه لقوم هتلر، وشيعة ستالين!
كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرع حزنها على (إبراهيم) في صمت رهيب، وسكوت هائل، فلم تحرك ساكناً، وما دمشق بالتي تعرف أنه المكلوم، أو استغاثة العاجز، ولكنها تعرف الصبر الذي لا يصبر عليه الدهر، أو الصرخة التي تصدع الصخر، وتخرج الميت من القبر؛ وما دمشق بالتي تعرف هذا الاحتجاج الضعيف، احتجاج (أوسعته شتماً وأودي بالإبل). . . ولكنها تتلقى الضربات بصدر كأنه الجلمود لا يشقق ولا يرفض ولا يلين.
وباتت دمشق على هذا الصمت، فلم يمض هزيع من الليل حتى سمعت الصريخ، فأفقت فزعة، تسأل: - ما الخبر - قيل: اختطفوا (فخري البارودي)
ابن دمشق يختطف من حضن أمه وهي نائمة؟. . . يا للهول الأكبر! يا لهبة دمشق! يا لغضبة البطل الغَشَمْشَم!(135/22)
أقبل أبناء دمشق بأيديهم، وأقبلت هذه الجيوش بحديدها ونارها، وكانت المعارك. . . التي يصطرع فيها الحق والقوة، والدم والنار، والصدور والحديد، فبينما معركة من هذه المعارك على أشد ما تكون عليه وإذا. . .
وإذا ماذا؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يُقدر ماذا كان، إلا هؤلاء الشاميون، وهؤلاء الفرنسيين الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروا مثلها التاريخ. . .
وإذا خمسون من الأطفال الذين لا تتجاوز سن أكبرهم التاسعة، ينبعون من بين الناس، يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة، قد فر من مدرسته وقمطره لا يزال معلقاً في عنقه، وحمل مسطرته بيده. . . ومنهم صبي اللحام، وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعاً، وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة، التي تشبه الآلة السحرية التي غنى عليها الفارابي، فأضحك وأبكى. . . هذه الأنشودة البلدية المعروفة:
وصغارنا تحمل خناجر ... وكبارنا عالحرب واصل
يا بِالوطن ... يا بِالكفن
فوقف الناس ينظرون إليهم، وقد عراهم ذهول عجيب. فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص. . . حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها فأشتعل الدم في عروقهم، وفي أقحاف رؤوسهم، فأنشدوا أنشودة الموت:
(يا سباع البر حومي. . . . . .)
وهم يرعدون بها. فتهتز من جهْجَهتها الغوطة، ويرتجف قاسيون. وأقبلوا كالسيل الدفاع. . .
ولكنهم رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب، ثم أنفتح برجها، وخرج منها شاب فرنسي يبتسم للأطفال، وإن في عينيه لأثر الدمع من التأثر، ويداعبهم، ويقدم لهم كفاً من الشكولاته، ثم يعود إلى مخبئه!
إنسانية قد توجد حتى في الدبابات!
ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا، وكان صغيراً جداً ما أظنه قد أكمل عامه السابع، فدعوته فأقبل حتى أخذ بيدي، وجعل يرفع رأسه إلي يحاول أن(135/23)
يتثبت من وجهي، فقلت:
- لماذا عملتم هذا العمل يا بابا؟
- فقال: أخذوا فخغي الباغودي (يريد فخري البارودي)
- قلت: ومن قال لك ذلك؟
- قال: أمي. وقالت لي هّلي يموت بالغصاص يغوح عالجنة (يريد: من يموت بالرصاص يذهب إلى الجنة)
- قلت: وإذا أرجعوا فخري البارودي، هل ترضى؟
- قال: لأ. خلي يغوحوا (يروحوا) هدول كمان ما بدناياهم! (يريد فليذهب هؤلاء أيضاً، لا نريدهم)
فسكت. فقال:
- أستاذ، ليش الإسلام ما لهم عسكغ (عسكر)؟
فأصابتني كلمته في القلب، ووجدت كأن شيئاً جاشت به نفسي، ثم صعد إلى رأسي، ثم وجدته في قصبة أنفي، وآماق عيني، ودق قلبي دقاً شديداً، فتجلدت ومسحت عيني، وحككت أنفي، وقلت له:
- أنتم يا بابا عسكر الإسلام.
- قال: نحن صغار!
- قلت: ستكبرون يا بابا، أنتم أحسن منا، نحن لما كنا صغاراً كنا نخاف من البعبع، ونخشى القط الأسود، وأنتم تهجمون على الدبابة، فالمستقبل لكم لا (لهم). . .!
وبعد، فلمن هذه الرشاشات؟ ولمن هذه المصفحات وهذه الدبابات؟ ولمن هذه الجنود وهذه الطيارات؟ إنها لم تصنع شيئاً، ففتشوا عن شيء أكبر من الموت، لتفزعوا. . . (أطفال دمشق)!. . .
(ع)(135/24)
علم غير مفيد
للأستاذ قدري حافظ طوقان
في النشرة الأخيرة للجامعة الأمريكية في بيروت مقال افتتاحي عنوانه (علم الفلك - علم غير مفيد) وقد أوحت إلي قراءته أن أكتب هذه العجالة في الفوائد التي جناها الإنسان من علم الفلك. ويلاحظ أن المتعلمين وطلاب المدارس العالية والكليات والجامعات يختلفون في نظرهم إلى هذا الفرع من المعرفة اختلافا بيناً فمنهم من يقول بوجوب تدريسه والاعتناء به، إذ فيه فوائد ومنافع عادت على البشرية بأطيب الثمار، ولولاه لما شعر الإنسان باللذة الروحية شعوره الحالي، ولبقى نظرنا إلى الكون في نطاق محدود، وفي محيط ضيق؛ وفريق آخر يقول بعدم فائدة علم الفلك، وبأن في تدريسه إضاعة للوقت فيما ليس فيه غناء، وأن الأولى لنا أن نهتم بشيء يعود على المدنية بالمتاع والنفع. ولا يقف هذا الفريق عند هذا الحد، بل يتعداه إلى الجهر بأن الاعتناء بعلم الفلك وإنفاق الأموال الطائلة على مراصده وآلاته ضرب من الهوس والسخف؛ ويتساءل هذا الفريق قائلاً: ماذا يستفيد الإنسان من معرفته أن الأرض كوكب من كواكب أخرى تدور حول الشمس، وأن لهذا الكوكب تابعاً - القمر - يدور حولها؟ وهل يزيد في سعادة البشر ورفاهيتهم إذا عرفوا أن لبعض الكواكب توابع كما للأرض؟ وهل في القول أن في السماء نجوماً لا عديد لها بعضها أكبر من الشمس وبعضها أصغر، وأن هناك أنظمة أخرى وسدماً ومجرات وعوالم، هل في كل ذلك ما يعود علينا بالتقدم؟ هذه بعض أسئلة الفريق الذي لا يؤمن بأهمية علم الفلك ومنافعه. ويسرني ألا أكون من هذا الفريق وأنني أخالفه وأن أكون من الفريق الأول القائل بسمو علم الفلك وأثره الفعال في تطور نظر الإنسان إلى الكون وما يحويه من أعاجيب
وفي رأيي أن علم الفلك من العلوم الواجب تدريس مبادئها لطلاب المدارس العالية والكليات والجامعات وجعله إجبارياً، حتى يخرج الطالب وقد جمع إلى العلوم العملية والفنون النافعة علماً ومعلومات عامة وهي أسمى أنواع المعلومات، توسع أفق التفكير وتنير العقل، وتزيد في الاعتقاد بقدرة الخالق وعظمته المبدعة. وأرجو ألا يساء فهم القصد من تدريس مبادئ علم الفلك لطلاب التعليم العالي، فقد يُظن أني أطلب تدريس الفلك على وجه مفصل حيث المعادلات العويصة والأرقام المخيفة والعمليات المرعبة. . .! أنا لا(135/25)
أطلب هذا، إذ لا يتيسر الوقوف على كل ذلك إلا لمن كان له ميل إلى الرياضيات ورغبة في الطبيعيات وولع في علم السموات. ولكن أقول إن علم الفلك برغم دقة بحوثه وما يحويه من عويص الموضوعات فيه كثير من البسائط سهلة التناول قريبة المأخذ تسهل الإحاطة بها وفهمها بدون تكلف أو صعوبة فنية. وهذه هي التي أدعو إلى إدخالها في مناهج التعليم العالي حتى يخرج الطالب ولديه فكرة عن هذا الفرع السامي مما يعود عليه بأجل الفوائد من الناحية الروحية والمعنوية فيرفعه إلى ما هو أسمى من عالمه وأعلى من محيطه المادي
ولعلم الفلك فوائد عدة جليلة أهمها أنه وسع نظر الإنسان وأفق تفكيره في الكون، وجعله يدرك بوضوح وجلاء أن الكون وما يحويه من أجرام تسير على أنظمة ثابتة لا تتغير وأن الظواهر الجوية والطبيعية لا تحدث عفواً وأتفاقاً، بل إنها سائرة حسب قوانين ونواميس لا فوضى فيها ولا شذوذ، عرف الإنسان بعضها ولا يزال يجاهد في معرفة البعض الآخر، وأصبح في استطاعة الفلكي أن يتنبأ عن الخسوف والكسوف وغيرها من ظواهر طبيعية قبل حدوثها ووقوعها بعشرات السنين.
لقد كان العلماء في القرون الماضية يعتقدون أن أكثر ما يجري في هذا العالم هو من قبيل المصادفة وأن ليس هناك نظام شامل أو ناموس مسيطر، ولكن بحوث علم الفلك أفسدت هذا الاعتقاد وأقمت الأدلة على بطلانه، فثبت أن كل ما يجري حولنا سائر على أنظمة خاصة وسنن ثابتة، وأن ما يسيطر على أصغر أجزاء المادة يسيطر على أكبرها؛ فالنظام الذي تسير عليه الذرة بألكتروناتها ونواياها هو النظام بعينه الذي يسير بموجبه النظام الشمسي والنظم الأخرى بكواكبها ونجومها وشهبها ونيازكها، وهذه الفائدة هي من أجل الفوائد التي جناها العالم من علم الفلك، فكانت سبباً في تقوية أيمانه بوجود قوة خارقة منظمة مبدعة عن طريق البحث والاستقصاء والتفكير العميق.
وكيف لا يكون علم الفلك علماً مفيداً وقد حذر الإنسان من الانخداع بالظواهر وعدم الاعتماد عليها في كثير من الأحيان وعلمه كيف يعمل العقل والفكر في اكتناه حقيقة هذه الظواهر والوقوف على أسباب حدوثها. ألم يعتقد الإنسان في العصور الأولى والمتوسطة بأن الأرض هي محور هذا الوجود، وأن الشمس وغيرها تدور حولها، وأن كل شيء في(135/26)
الكون تابع للأرض، فهي مركز دائرة هذا العالم والعنصر الأساسي فيه؟ كان هذا الاعتقاد سائداً يدين به كثير من نوابغ العلماء وفحول رجال الفكر، وبقى الأمر على هذا الحال إلى أن تقدم علم الفلك فرمى بهذه الأوهام عرض الحائط وبَيّن للناس أن الأرض ليست إلا ذرة تدور في فضاء الله الواسع، وأن الشمس وكواكبها وتوابعها ليست إلا جزءاً يسيراً جداً من هذا الكون الذي لا يعلم مداه إلا العليم القدير. لقد بين لنا أن علم الفلك أن الإنسان جرم متوسط بين الكوكب والذرة، وأنه يستطيع بفعل ذلك وبفضل ما وهبه الله من قوى روحية ومعنوية أن يدرك حقيقة الأشياء الصغيرة من جهة والكبيرة من جهة أخرى، واستطاع فوق ذلك أن يعرف الشيء الكثير عن حركات النجوم وطبائعها والعناصر التي تتكون منها، وثبت له أن النجوم ليست إلا معامل كيمياوية وبوادق هائلة ذات حرارة عظيمة جداً من الصعب تصورها؛ وقد يأتي يوم يستطيع فيه الفلكي أن يكشف أسراراً مغلقة عن كيفية تفاعلات عناصرها بعضها مع بعض، وسيجدون في هذه الاكتشافات ما يعود على البشرية بخير عميم. وما يدرينا لعلهم يستطيعون من دراسة النجوم وكشف غوامضها أن يقفوا على سر الحياة وهو ما يصبو إلى الوصول إليه كبار العلماء وعباقرة الفلاسفة ونوابغ المفكرين.
والذي لا أشك فيه أن في إدراك الإنسان لبعض هذه الحقائق وفي وقوفه على النواميس والأنظمة المسيرة لهذا الكون في صغار محتوياته وكبارها لمن العوامل الرئيسية التي جعلته يسيطر على كثير من عناصر الطبيعة وأفعالها، ومن هنا نتجت فوائد مادية عجيبة لم تكن في الحسبان ولا خطرت على قلب إنسان. وزيادة على ذلك استطاع الفلكيون أن يصلوا إلى نتائج باهرة في تاريخ الكون وعمره فثبت لهم أن الإنسان لا يزال عند مبدأ حياة جنسه، وأنه لا يزال عند فجر يقظته العقلية، وأن تاريخه كله إلا طرفة عين إذا قيس بأعمار النجوم، وأنه ليس في استطاعته أن يتفهم كل عجائب الأكوان وغرائب الوجود، ولما يمض على ظهور عقله إلا دقة واحدة من دقات ساعة الفلك، وأنه كلما تقدم في الزمن وقف على مدهشات وعجائب تحير العقل، وتخلب اللب، وتثير الدهش، وتزيد في العبر.
والآن. . . وبعد أن ظهر لك بعض الفوائد التي جنتها البشرية من هذا العلم السامي المبني على أدق القوانين الرياضية والطبيعية، وبعد أن تبين لك أثره بحوثه على عقلية الإنسان، بعد كل ذلك هل من الأنصاف أن يقال إنه علم غير مفيد؟(135/27)
أو ليس الأنصاف والعدل يقضيان على الإنسان أن يعترف بسموه وسحره الحلال الأخاذ؟
أليس الوقوف على أسراره ومحاولة كشف غوامضه مما يزيد المرء اعتقادا بضآلته وشعوراً بأن الواجب عليه أن يكون كثير التواضع وفي الذروة العليا من سمو الخلق؟
ثم أليس هذا التواضع وذاك الخلق السامي من العوامل الأساسية في سعادة البشر وطمأنينتهم؟
وأخيراً أليست السعادة والطمأنينة هما الغاية التي يصبو إليها الإنسان على سطح هذه الكرة العجيبة. . . . . .؟؟
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(135/28)
بيوولف
أقدم ملاحم الإنجليز الشعرية
للأستاذ حسن عبد الحليم اليماني
تمهيد تاريخي:
يرجع أصل الإنجليز إلى قبائل الأنجلو سكسون التي كانت تنزل الأراضي المنخفضة الألمانية في الجزء الممتد من مصب نهر الألب إلى شاطئ البلطيق، وذلك قبل أن يدعوهم البريتون سكان الجزر البريطانية الأصليون في عام 449م لطرد قبائل الغال التي وفدت على بلادهم مستعمرة. وحلا لهم بعدها البقاء، وتكاثروا حتى غلبوا أهل البلاد على أمرهم؛ فبرزت إلى الوجود ثلاث ممالك إنجليزية ضمت تلك القبائل المتفرقة؛ وهي ممالك: نورتمبريا، ومريشيا، ووسكس , وذلك في أواخر القرن السادس الميلادي. وكان الإنجليز قد حملوا معهم نصيباً من الأدب المتوارث تواتراً عن موطنهم الأول. ولم تكن لهم حروف صالحة لتدوينه؛ حتى إذا اعتنقوا المسيحية، عرفتهم إلى حروف الرومان الهجائية، فسجلوا به ما وعته حوافظهم من ذلك التراث. وقامت في هذا الصدد محاولات ناجحة، أزدهر بها سوق الأدب ونفق، وخصوصاً على يد أهل نورثمبريا التي قامت على رعاية الأدب وحفظه، فدونوا الملحمة الشعرية (بيوولف) التي سنتكلم عنها كما سجلوا غيرها من آدابهم وتواريخهم. ونمت تلك الحركة إلى أن صدمها الغزو الدنماركي الذي عاود البلاد مرتين؛ ثم شلها بعد الغزو النورماندي عام 1066م، فأوقف نماءها قرابة قرن ونصف قرن. فالذي خلص لنا من تراث ذلك العهد إنما يمثل لنا في صدق صميم الروح الإنجليزية، قبل أن تسمها مياسم جديدة من أثر الاختلاط بين الإنجليز والبربتون ثم بينهم وبين الدانماركيين والنورماند اجتماعياً وسياسياً؛ وقبل أن تطبعهم المسيحية بطابعها. كما أنها ترسم لنا تلك المحاولات الأولى التي قام بها الإنجليز في سبيل تدوين أدبهم والتعبير عنه؛ وتوقفنا على التدرج الطبيعي الذي لازم تلك الجهود من دور إلى دور.
بيوولف(135/29)
بيوولف ملحمة شعرية طويلة فيما يزيد على ثلاثة آلاف بيت نظمت - على الأرجح - في مستهل القرن الخامس الميلادي، قبل أن يزايل الإنجليز موطنهم الأول إلى بريطانيا. وطابعها المميز لا يقوم على إنها أقدم قصائد الإنجليز عهداً، بل على إنها أصدق صورة للمجتمع الأنجلو سكسوني القديم، توضح لنا في جلاء حياة القوم في وطنهم الأول، وترسم لنا أخلاقهم وعاداتهم، وتنفذ إلى أكواخهم ودخائل معايشهم، وتسجل تاريخهم وأيامهم. فقيمتها لهذا لا ترتكز على الناحية الفنية فحسب. أما عبارتها فأنيقة موجزة، تطرد كل الطراد مع الموضوع الذي تؤرخه وتروي حوادثه الحربية، في سرعة وتسلسل لا يفقدانها توازناً، أو يبعثان إلى سطورها مللاً وسآمة. وهي أن كادت تخلو من التشبيهات التي لا تعدو خمسة، فيها كثير من الاستعارات الجميلة البسيطة. والشعر السكسوني لا يأبه للوزن والقافية، وإنما يعتمد كل الاعتماد على النبرات والمقاطع المشددة، يكاد يلتزمها في كل جزء من أجزاء البيت، فلا يكاد يخلو جزء من ثلاث كلمات مشددة، تتشابه كلها في حرفها الأول غالباً.
وبيوولف قطعة رائعة نادرة من الأدب القديم، ظلت حبيبة إلى قلوب الإنجليز ومشاعرهم خلال عدة قرون، وإن كادت تختفي اليوم وتنسى إلا من كتب الأدب. وكثيراً ما أوحت إلى الشعراء وأمدتهم ببضاعة حية زاخرة، وآخر من نلمس أثرها فيه منهم شاعر اسكتلندا الكبير وليام دنبر (من حوالي سنة 1460 إلى سنة 1513م). وهي إلى هذا لا تخلو من سطوة الخرافة عليها، شأن الملاحم القديمة، تلك الخرافة التي أنتجها الخيال الآري الخصب، والتي تظهر لنا واضحة جلية في آداب الإغريق والرومان والتيوتون (آباء الأنجلو سكسون)، والتي نراها تتسلسل إلى أساطير الفراعنة أيضاً. وهي في كل حالاتها تحاول أن تمجد الإنسان وترفعه - على صور عدة - إلى مصاف الآلهة وأنصاف الآلهة، وحتى تنتظمه وإياها في وشائج وأنساب متشابكة متداخلة؛ على أن أسطورتنا هذه لا تسمو ببطلها إلى حيث يختصم الآلهة وينتضل الأرباب، بل تقنع بتوجيهه إلى أغوار الجن والمردة، يصارعها وتصارعه، حتى يغلب أشدها مراساً وأقواها أيداً.
ولغة القصيدة لا تكاد تفهم اليوم، فقد نبت واستوحشت. وحوادثها تدور حول البطولة الوثنية وحول حياة قبائل البلطيق فتتخذ لها مسرحاً أرض زيلند وجوتلند وخليج البلطيق(135/30)
الذي يفصلهما.
حكم زيلند - في الماضي السحيق - الملك روثجار وكان أبداً مظفراً في حروبه ظاهراً في غزواته، تضفي عليه تلك اسماً عريضاً، وتدر عليه هذه أسلاباً وغنائم، حتى إذا أتخمه الخير، وفاضت خزائنه غنى، أبتني له ولفرسانه قصراً منيفاً جميل الأبهاء فسيح الأرجاء، موشي الجوانب مستفيض الرونق، يقيمون فيه نهارهم لاهين فرحين، وليلهم قاصفين ثملين - وإلا فمن أولى من الأبطال الميامين بساعات تروح عنهم أكلاف الحرب وأثقال النزال؟
قام القصر على أرباض شاطئ رملي، ينداح حتى ينتهي إلى مجاهل موحشة تتاخم أغوار الماء حيث يقيم المارد جرندل المخيف في رفقة أمه، وكان الفرح والنور أعدى أعداء ذلك المارد؛ جرى في دمه بغض متأصل لهما، ما يكاد ينفذ إلى حواسه منهما دبيب أو بريق، حتى يثور داءه، وحتى يود لو ألتهم هذا القصر الذي ما عرفت حياته غير الفرح والنور، وبعث به إلى فمه لقمة تنساغ بالبرد والراحة إلى جوفه، وبيت أمراً ما زال يتربص له الفرص متلصصاً حول القصر، حتى إذا آنس من أهله غفلة ران بها عليهم كرى ثقيل، وذبلت الأضواء وخرس الصخب، أنساب إلى القصر خفية، ثم كر عنهم وفي قبضته ثلاثون فارساً. حتى إذا تنفس الصبح ألهب القصر شجيً وأقام بأرجائه مناحة!
وتمضي أثني عشر عاماً قاسية مريرة، يفجع فيها المارد قصر هيوروث في كل ليلة، وينفلت سالماً في كل مرة بضحاياه لا تطفأ له حفيظة أو يرد سغب، حتى أوشك القصر أن يقفر من رجاله، وحتى تهاوى الملك روثجار منحدراً إلى الضعف والهرم، يثقله الحزن وتتلقفه الفواجع وترامت الأنباء ومَلك الأسى كل قلب، حزناً على ذلك الملك المجيد، وعلى ما ألم به من مصائب لا تكاد تبين!
وفي قصر هايجلاك ملك جوتلند، حيث يعيش قريبه الفتى بيوولف ترددت أنباء الفجيعة، فدلفت من أسماع الفتى إلى قلبه، وحركت فيه توقاً إلى ملابسة هذا المشهد، والى الاستمتاع بمصارعة ذلك المارد، الذي طغى وطغى حتى لا مزيد على طغيانه. كان فتى خارق القوة، يختزن كفه بأس ثلاثين رجل، يملك على نفسه حب المخاطرة سعياً وراء الاسم ونشوة النصر، وفي خمسة عشر من صفوة رجاله احتواه السفين فجرا، ميمماً مملكة زيلند، حتى طالعتهم صخورها تلتمع في أضواء الغسق الخفيفة في فجر اليوم التالي. وقابلهم حارس(135/31)
الشاطئ في شك، وما عتم أن صحبهم إلى القصر كما طلبوا. وهنالك على الأبواب ألقوا بتروسهم ومزاريقهم، وخفوا إلى لقاء الملك في خوذاتهم الذهبية وقد زادتهم بهاء وروعة (ودب إلى روثجار بمرآهم دبيب الصبا وعاودته أحلام الفتوة) وأفضى إليه بيوولف إنه جاء في طلب المارد، عله يريح الشعب الصديق من شره وأذاه. ورحب الملك بمعونته شاكراً. ودوت أبهاء القصر مرحبة بالضيوف البواسل، ومضى النهار وشطر من الليل في قصف وشراب وغناء ورقص. حتى إذا دنى موعد قدوم المارد تسلل كلاً إلى فراشه وخلا البهو لبيوولف، يلتفع الظلال ويتخفى بها متحفزاً للقاء معداً له عدته.
برز المارد من مكمنه فما هي إلا أن ولج باب القصر، حتى احتواه بهوه، تومض عيناه شرراً، وتنطلق ضحكاته عريضة، وقد وجد سبيله ممهدا؛ فالكل غاف مستغرق. وتناول أقرب النوّام إليه فعب دمه ثم التهمه، ودار إلى فريسة أخرى، وإذا بقبضة بيوولف الجبارة تشل ساعده. أذهلته فجاءة، ولكنه ما لبث أن أفاق إلى صراع عنيف مع بيوولف - وأهتز القصر تحت أقدامهما، وتهاوت السرر، وتحطمت المقاعد، وفزع النوام على ذلك المشهد المروع. وجاهد المارد طويلاً وأستجمع بطشه، لا ليحطم بيوولف كعهده ببني البشر، وإنما ليقنع بالإفلات تاركاً لقبضته كتفاً مخلوعاً وذراعاً مفصولاً!
وجاء الفجر، فخرج بيوولف برجاله في أثر دمائه المنزوفة، وهنالك على الشاطئ طالعهم الماء أحمر قانياً وقد صبغه الدم المسفوك، فأيقنوا أن المارد قد ودع الحياة إلى القاع قبراً يطويه، فلا نشور له ولا رجعى. فيا للفرح يثير البلاد ويملك عليها المشاعر! ويا بيوولف يخب في الخلع، وتثقله الجوائز!
استطاعت الأجفان أن تطعم النوم في ليلتها تلك، ولكنها نامت عن أم ثكلى، قرح الدمع أجفانها، وتحلبت شفتاها قرماً وعصف بها طلب الثأر. وفي هدأة الليل هاجمت أم المارد القصر، وأهله تستغرقهم أحلام النصر، ومضت عنه ومعها ذراع ابنها وأحد النبلاء انتقاماً للقتيل، وإرواء لهامته! وهب الغافلون فزعاً فإذا بها تمضي إلى وكرها كالريح الخاطف، الأمر الذي أحنق بيوولف فأقسم ليلحقنها بابنها وشيكاً.
خرج بيوولف برجاله صباحاً يقتصون أثرها، ويذرعون تلك المجاهل الموحشة، فإذا بها أرض عذراء تكتنفها الخوانق، وتقطعها الأخاديد، وترقشها برك ومستنقعات آسنة، تعج(135/32)
بحياتها وثعابينها، يتحدر عليها الماء من شعب خفية في الصخور، فكأنه ينضح عن مزن ملئ وسحاب عامر، ثم تغوص هذه البرك مدومة إلى كهوف غائرة، بينما تلتهب هنا وهنالك - على سطح الماء - نيران خاطفة غريبة. (فلو أن قنيصة أنهكها الطراد، وحوم على عنقها الشرك، رأت في أكنافها خلاصاً من موت محقق، لآثرت عليها ذلك الموت، ولوجدت في ورده مشرعاً أعذب من وردها!) وإذا وصلوا في تطوافهم إلى حيث صرع جرندل المارد بالأمس فخضب الماء بدمه، رأوا الصخور تعمر أحجارها بنفر من الجن، وخف بيوولف إلى قوسه فأردى بسهم منها واحداً من هذا النفر - ثم استل سيفه الماضي وغاص بعيدا بعيدا إلى الأعماق في أثر الجن الغائص هرباً. ظل بيوولف على غوصه يوماً كاملاً، حتى إذا قارب القاع أطبقت عليه أم المارد - وكان خلقها وسطاً بين الإنسان والذئب - ثم حملته إلى كهفها، حيث ثار بينهما نضال لم يغن فيه سيفه ولم ينل من لحمها الصفيق العضب، وإنما أجدى عليه كفه الجبار يمسك الجنية فلا تحير منه خلاصاً، وواتته الفرصة فلمح سيفاً حديداً من سيوف المردة، سرعان ما خطفه وأهوى به على رأسها فعزله. وأدار بيوولف بصره فإذا جثة المارد صريع الأمس - لقي لا روح فيها، وبالسيف الذي أودي بالأم فصل به رأس الابن، وسبح بيوولف بالرأسين - مخلفاً وراءه كنوزاً لم يلهه لألاؤها - وما زال يعلو إلى السطح ورأس المارد ينزف دماً، حتى صبغ الماء، وملأ قلوب رفاقه عليه فزعاً، وقد طاف بهم أن دمه هو ذاك الذي خالط الماء ومازجه. وما كان أروع اللقاء وقد برز إليهم سالماً صحيحاً! وحمل الرفاق رأس المارد ورأس أمه وألقوا بهما تحت أقدام الملك، وأستأذنه بيوولف في الرحيل قائلاً: (آن لك أيها الملك أن تهدأ بالاً، وأن يعرف النوم سبيله إلى عيون فرسانك) انقلبت البلاد إلى شعلة من الفرح، وأقلع بيوولف في عصبته إلى جوتلند، تنوء رحالهم بالهدايا، وتسير بذكرهم الركبان.
وأتى حين بعد ذلك سعى فيه عرش جوتلند إلى بيوولف، واعتلى تاجها رأسه، فحكم شعبه خمسين عاما عادلا شجاعا، لا يمل الغزو والجلاد. وكان آخر عهده بهما خروجه لقتال مارد مخيف أقام في كهف من الكهوف يحرس فيه كنزاً نادراً. وفعلت قبضة بيوولف فعلها في المارد فأوردته الردى، إلا أن حر أنفاس الجني أتلفت جسمه، ونفذت إلى دمه فسممته، نتيجة لاشتباكهما في صراع عنيف طويل، واحتواه بعدها فراش السقم حيث غلبه الداء(135/33)
ومات. وعلى صخرة عالية يستشرقها البحر، وتشرأب إليها المروج الخضراء، أقام أهل جوتلند نصباً من خشب الصنوبر الثمين، علقت عليه الدروع، ورفت عليه السيوف، مثوى لجثمان مليكهم العزيز. وتنفيذاً لوصية بيوولف أضرموا النار تلتهم النصب ووديعته، وتلاشت من أمام أعينهم رويدا رويدا صورة مليكهم الدنيوية، حيث وجدت طريقها إلى السماء على ألسنة اللهب الصاعدة مع الهواء!
حسن عبد الحليم اليماني(135/34)
مكانة مصر في المغرب العربي
للأستاذ محمد السعيد الزاهري
يشاع اليوم في الجزائر أن الآنسة أم كلثوم قد أزمعت أن تقوم بسياحة في بلاد المغرب وأن حكومة مراكش قد رفضت أن تسمح لها بدخول المغرب الأقصى. قالوا ولذلك عدلت الآنسة عن زيارة المغربين الآخرين (الجزائر وتونس) وهذه هي المرة الرابعة التي نسمع فيها هذه الإشاعة تتردد في أرجاء المغرب العربي وتكون مشغلة الرأي العام فيه ويهتم لها الناس ويندفعون في شرحها والتعليق عليها بمختلف الآراء والأقوال: فهذا يقول لقد أحسنت السلطات بذلك إلى أهل مراكش ووفرت عليهم أعراضهم وأموالهم بمنع المطربة المصرية من دخول هذه البلاد، إذ لو أن هذه الآنسة زارت مراكش لملكت على أهليها قلوبهم وأهواءهم، ولذهبت بعقولهم وألبابهم، واستولت على أموالهم وعلى ما كسبت أيديهم، ولكانت عليهم في الآخرة نكبة مالية كبرى لا تقل في فداحتها وقسوتها عن هذه الضائقة العاتية التي أهلكت الزرع والضرع وأخذت بمخانق الدنيا كلها؛ ولذلك يقول لقد ضيقت السلطة بذلك على المغاربة حريتهم الشخصية ومنعتهم مما تهوى إليه أفئدتهم وحالت بينهم وبين ما يشتهون؛ وهنالك آخر يقول غير هذا
ومهما أختلف الناس في تفسير هذه الإشاعة وفي تأويلها فأنها تدل على شيء واحد وهو أن هذه الآنسة قد غزت بصوتها الملائكي الطروب قلوب هؤلاء الناس، وأن منزلتها في بلاد المغرب العربي لا تقل عنها في مصر، وأن المغاربة يتذوقون فنها وغناءها كما يتذوقهما المصريون.
قالت مجلة (السلام) الغراء التي كانت تصدر في مدينة تطوان في بعض أعدادها أن المغاربة مولعون بالموسيقى المصرية وبالتلحين المصري إلى حد الهيام، حتى أن العواتق في خدورهن ليهتفن بأم كلثوم ويترنمن بألحانها وأغانيها. ولقد رأينا بعض المراكشيين المشهورين بالتدّين والصلاح قد طرب وانشرح ونسى انه من أهل الورع والتقوى، ولم يزل به الطرب والانشراح حتى خرج عن رزانته ووقاره إلى حالة من العبث والطيش تشبه أن تكون جنوناً وذلك حين سمع في (الفونوغراف) صوتاً للأستاذ محمد عبد الوهاب. ولا تجد في المغرب الأقصى داراً فيها (فونوغراف) إلا وتجد كل أسطواناتها أوجلها(135/35)
مصرية لأم كلثوم وعبد الوهاب وسامي الشوا ومن إلى هؤلاء. وتباع الأسطوانات المصري هنا بثمن مرتفع قد يفوق ثمنها الأصلي أضعافاً مضاعفة. ولقد مرت علينا أيام رأينا فيها أسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب تباع الواحدة منها بثلاثة جنيهات إنكليزية قبل هبوط الإسترليني.
والواقع أن الألحان والأغاني المغربية التي كانت إلى عهد قريب منتشرة شائعة في المغرب العربي قد اختفت اليوم من الميدان، وتخلت عن مكانتها من الذوق المغربي العام لألحان مصر وأغانيها، ولا نستثني هذا التراث الذي بقى بأيدينا من فن الأندلس وغنائها فقد تزحزح هو الآخر عن مكانه للغناء المصري وترك له المجال واسعاً فسيحاً.
ولما أعلنت الحكومة المصرية إنها ستفتح في القاهرة محطة للإذاعة اللاسلكية تهالك الناس في الجزائر وتونس ومراكش على أجهزة المذياع (الراديو) يشترونها ويقتنونها رجاء أن يستمتعوا بسماع ما تذيعه مصر من الأغاني والمحاضرات، ولكنهم عادوا فجعلوا يبيعون أجهزتهم ببعض قيمتها عندما تبين لهم أن المحطة المصرية لم تكن محطة عالمية يمكنهم سماعها.
كل هذا دليل على أن الذوق العام في بلاد المغرب العربي هو نفس الذوق العام في مصر ليس بينهما شديد خلاف. ولعل تونس ومراكش هما أرقى من هذه الناحية، فالحياة فيهما مترفة ناعمة تؤثر الطرب والسماع، وتميل إلى اللهو والاستمتاع، بخلاف الجزائر فأنها عريقة في البداوة مطبقة الجهل والأمية، لا تزال تغلب عليها حياة العشائر الأولى، تشعر القبيلة فيها بأنها قبيلة وكفى، وقلما تشعر بأنها شعبة من الجزائر فضلاً عن أن تشعر بأنها من الأمة المغربية أو الأمة العربية الكبرى. ولعل مدينة وهران قد ضربت الرقم القياسي في البداوة والأمية وفي البعد عن العالم العربي دون أنحاء الجزائر كلها، ومع ذلك فكل مقهى من مقاهيها، وكل بيت عربي فيها، فيه (فونوغراف) لا يخلو من الأسطوانات المصرية، وإننا لنسمع فيها الأنغام الساذجة البسيطة التي تحاكي رسيم النجائب وخبب الجياد إلى جانب الفن والإبداع في أنغام أم كلثوم وعبد الوهاب.
ولما عرض فيها للمرة الأولى الشريط المصري (أنشودة الفؤاد) أقبل عليه هذا الجمهور العربي في وهران إقبالاً منقطع النظير طيلة ثلاثة أسابيع، وبعد بضعة أشهر عرض للمرة(135/36)
الثانية وأستمر عرضه ثلاثة أسابيع أخرى فكان الناس إلى الحفلة الأخيرة يتدافعون إليه بحماسة وشوق لا نظير لهما حتى أن منهم من شاهده عشر مرات!
وعندما أزمعت فرقة مصرية للتمثيل الهزلي أن تقوم برحلة في بلاد المغرب قالت عنها جريدة مصرية محترمة إنها ستبوء بالفشل الذريع، وستقنع من الغنيمة بالإياب، أو أنها على الأقل ستكابد في مهمتها ألواناً من المشقة والعناء ما لم تترجم مسرحياتها من اللغة المصرية إلى اللغة المغربية. وقامت هذه الفرقة برحلتها ونجحت في مهمتها نجاحاً باهراً لم يكن يخطر لها على بال، وتذوق المغاربة رواياتها وفكاهاتها وأدركوا مغزى (النكتة) المصرية من ملهياتها من غير أن تضطر إلى ترجمة كلمة مصرية واحدة إلى اللغات المغربية؛ وبعبارة أخرى أن هذه الفرقة وجدت نفسها في بيئة عربية مغربية لا تختلف عن مصر إلا كما تختلف الهيئة المصرية نفسها باختلاف المديريات والأقاليم، ووجدت أن كل ما يقال من وجود لغة مصرية ولغات مغربية هو من الأوهام الباطلة لا أصل لها، وإنما يوجد لسان عربي واحد تتكلمه الشعوب العربية (مصر وأخواتها) بلهجات تختلف اختلافاً لا يحول دون التفاهم بين الناطقين بالضاد، ولا توجد في الدنيا لغة إلا ولها لهجات تختلف فيما بينها اختلافاً كثيراً أو قليلاً.
وكثير من الغربيين من يعتقدون أن الشعوب العربية تتكلم اليوم لغات مختلفة متباعدة فيما بينها، وبعيدة كل البعد عن العربية الفصحى التي أصبحت في نظرهم لغة مواتاً. كما أن الشعوب اللاتينية تتكلم اليوم لغات متباعدة فيما بينها جداً حتى لا يمكن للفرنسي أن يفهم الأسبانية أو الإيطالية دون أن يتعلمها، وهذه اللغات هي الآن بعيدة عن اللغة اللاتينية التي هي أصلها.
وفي هذه الأيام نشرت صحيفة فرنسية تصدر بالجزائر مقالاً عن الحج إلى بيت الله الحرام عنوانه: (اللغة الفرنسية في مؤتمر مكة) زعم فيه كاتبه أن حجاج الجزائر ومراكش وتونس وطرابلس ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق سيتفاهمون في (مؤتمر مكة) لهذا العام باللغة الفرنسية، لأن لكل فئة من هؤلاء الحجاج لغة قومية لا يفهمها الآخرون، ولأن الفرنسية منتشرة بين جميع الطبقات في هذه الأقطار. وأبى أن يرجع إلى الصواب إلا بعد أن رأى بعينيه وسمع بأذنيه بحارة مصريين يتحادثون مع بعض العملة الجزائريين(135/37)
والمراكشيين من غير أن يكون بينهم ترجمان!
وكان عالم فرنسي من علماء المشرقيات جاء بلاد المغرب مندوباً من وزارة المعارف الفرنسية لدرس اللهجات العامية المغربية، فلبث في هذه البلاد يبحث ويدرس ويستقرئ، ثم رفع إلى الوزارة تقريراً بالنتائج انتهى إليها في دراسته وأبحاثه، ونشر هذا التقرير وأطلعنا عليه فإذا هو مملوء بالأغاليط والأضاحيك، فقد زعم فيه أن عربياً تونسياً تزوج فتاة عربية من بجاية (الجزائر) فلم يستطع الزوجان أن يتفاهما - لتباعد لغتيهما القوميتين - إلا بالفرنسية التي لم تكن تلم بها الزوجة إلا إلماماً قليلا. والحق أن هذا التقرير هو دعوة صريحة إلى إيجاد فروق بين اللهجات المغربية والى تجسيم ما يكون منها موجوداً بالفعل.
وحدثني ذات يوم فنان فرنسي قال: (كنت أعتقد أنه لا بد أن يأتي يوم على المغاربة يصيرون فيه فرنسيساً خُلصاً من حيث تذوق الفن والشعور بالجمال، غير أني رجعت الآن عن اعتقادي هذا، فقد مضى على فرنسا في الجزائر مائة وبضع سنين لم تستطع أثناءها أن تجعل العرب الجزائريين أن يقبلون على الأفلام الفرنسية، أو يطربون لسماع عازف فرنسي مهما كان محسناً بارعاً، أو يتذوقون غناء فرنسياً مهما كان منسجماً ساحراً يستهوي القلوب ويأسر الألباب، على حين نرى المغاربة جميعاً يقبلون الإقبال الذي لا نظير له على الأفلام المصرية وتستهويهم مصر بأنغامها وأغانيها، ويعجبون الإعجاب كله بالفنانين المصريين). ثم قال (ولقد راعني إقبال هؤلاء الناس على شريط الوردة البيضاء وتهالكهم على مشاهدته، فشاهدته أنا أيضاً، ولكنني لم أجد في هذا الشريط ما يعجبني، على أن جميع من في المسرح كانوا يشاهدون عبد الوهاب وكأنما هو ملك كريم قد هبط إليهم من السماء وينصتون لصوته وكأنما هو نغم إلهي يتنزل عليهم من الملأ الأعلى)
وما من شيء له أثر في حياة المغرب العقلية أو الاجتماعية إلا وهو مصري غالباً فمثلاً كتاب (مختصر قليل) في الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك بن أنس هو كتاب مصري قد جعل أفئدة من الناس في المغرب تهوى إلى مصر، له منزلة سامية في قلوب المغاربة يخصونه بكثير من التقديس والاحترام، ومنهم من يتعبدون بتلاوته كما يتعبدون بتلاوة القرآن الكريم؛ ولم يعد خافياً أمر ذلك الفقيه المرحوم الذي كان يصلي (النافلة) بهذا الكتاب ويقوم به الليل عابداً متهجداً؛ ولا أذيع سراً حيناً أقول أن هذا (المختصر) لا يزال له إلى(135/38)
الآن في كلية القروبين بفاس (حزّابة) كما للقرآن (حزّابة)، وهم يتقاضون أجوراً أوفر وأسنا مما يتقضاه (حزابة) القرآن العظيم؛ ولتلاوته هذه الراتبة أوقاف كما لتلاوة القرآن أوقاف. وفي بلاد المغرب طبقة من المحافظين يقولون عن أنفسهم إنهم (خليليون)، وأهل المغرب جميعاً هم مالكية ماعدا وادي ميزاب بالجنوب الجزائري وجربة بالقطر التونسي، فأن اكثر أهلهما أباضية، ولكنهم قليلون جداً فعددهم لا يتجاوز الخمسين ألفاً، بينما تعد الجزائر وتونس ومراكش من الأنفس خمسة عشر مليوناً يجلون هذا الكتاب ويرفعونه إلى أعلى مقام، حتى النساء في خدورهن لا يفصل الخصومات التي تثور بينهن إلا الحلف بهذا الكتاب!
ولا يزال المغاربة ينظرون بعين الاعتبار إلى كل من طلب العلم بالأزهر الشريف، ولو أنه كان قليل التحصيل، ويعترفون بالفضل لكل من أقام في مصر أو رآها.
وفي بلاد المغرب طرق صوفية منتشرة بين سائر الطبقات لها أكبر الأثر في العقائد والأخلاق، وأكثر هذه الطرق مستمد من الشيخ البكري المصري، فأتباع هذه الطرق ومريدوها يحبون البكري ويرون لهم فيه (الشيخ الممد) فيرفعونه فوق كل الاعتبارات.
وما أنت بواجد ولا مغربياً واحداً إلا وهو يحفظ كثيراً أو قليلاً من شعر أبن الفارض الصوفي المصري المشهور.
وكل حركة دينية أو أدبية في مصر لها صداها القوي في هذا المغرب العربي، فالأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده المصري أنصار ومريدون. وفكرة الإصلاح الإسلامي التي كان يدعوا إليها أصبحت اليوم في الجزائر مذهباً اجتماعياً تعتنقه الكثرة الكثيفة من الناس وتقوده (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). وكل أديب كبير في مصر له أنصار وأشياع في بلاد المغرب، فللأديب الإمام الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أنصار ومعجبون وهو أكثر الأدباء المصريين تلامذةً وقراءً في هذه البلاد. وللمرحوم قاسم أمين أنصار يدعون المغربيات إلى السفور وترك الحجاب، غير أن دعوتهم لم تجد ملبياً ولا مجيباً فأخفقت إخفاقاً شديداً. وللزعماء المصريين منازلهم من قلوب الناس هنا. والمطبوعات المصرية تحتل المقام الأول عندنا، سواء في ذلك الصحف والكتب والمجلات. والصحف المغربية لكثرة ما تروي عن مصر وما تنشر من أخبارها تكاد تكون طبعات مغربية لزميلاتها(135/39)
المصريات. على أن هذه الصحف المصرية الكبرى لا تهتم لبلاد المغرب إلا قليلاً، ولا تتكلم عنها إلا كما تتكلم عن مجهل من المجاهل التي لم تطأها قدم إنسان، فمن خلط في أسماء المدن المشهورة بالمغرب وفي أسماء الأشخاص البارزين إلى حوادث تحوكها عن المغرب وتخبط فيها خبط عشواء.
ويقول الشبان المغاربة الذين يطلبون العلم في جامعات فرنسا إنهم تعرفوا إلى الطلبة السوريين فعرفوا فيهم العروبة والاعتزاز بها ووجدوا منهم إخوانهم وذوي قرباهم، وتعرفوا إلى الطلبة المصريين فعرفوا فيهم رقة الشمائل ودماثة الأخلاق وما شئت من لطف وأدب، وأنكروا منهم هذه (الفرعونية) الجافية التي تجعلنا وإياهم كما قال شاعر العروبة الأستاذ إبراهيم طوقان:
أحب مصر ولكن مصر راغبة ... عني فتعرض من حين إلى حين
أن تأريخ هذه البلاد حافل بالشواهد والبينات على أن المغرب يرتبط بمصر منذ العصر الحجري بكثير من روابط النسب والحضارة والدين
وإن الذي هو ما بيننا ... وما بين مصر لمحض النسب
رباط العروبة يجمعنا ... ويجمعنا ديننا والحسب
ولكن هل يمكن أن يبعث من جديد ما كان بين المغرب ومصر من الروابط وصلات القربى؟
وهران (الجزائر)
محمد السعيد الزاهري(135/40)
رسائل حاج
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التأريخ بجامعة بودابست
لثلاثين عاماً خلت وأمنيتي الوحيدة الاشتراك في موكب الحجيج والذهاب إلى مكة، حيث بزغ فجر الإسلام، وانتشرت دعوة النبي الكريم وتعاليمه المقدسة. وقد انبثق في نفسي هذا الشعور أثر مشاهدتي رسوماً فوتوغرافية نشرت في إحدى الصحف الأوروبية الكبرى عن سياحة قام بها أحد الرحالين وتحدث فيها عن عجائب الشرق حيث تسطع الشمس طول النهار، ويريق القمر أشعته الفضية فوق رمال الصحراء في الليل.
وكان الأثر الذي تركته هذه الرسوم والمناظر الفتانة عميقاً في نفسي وباعثاً لإقبالي على تعلم اللغة التركية، وعلى زيارة الشرق مهد الديانات الحديثة ومهبط الوحي المقدس.
ولكن الأمور جرت في شيء من البطء، أي أكثر مما تخيلته في البدء، فمشاغل الحياة والواجبات اليومية الملقاة على عاتقي وقفت عقبة في سبيل تحقيق تلك الأحلام الذهبية التي تطوف بذهني وتجذبني نحو الإسلام. . . وأخيراً دعيت إلى زيارة الهند حيث قضيت بين ربوعها سنوات ثلاثاً لإلقاء محاضرات عن التأريخ في جامعاتها، وهناك اعتنقت الدين الإسلامي في مسجد دلهي العظيم، ومن تلك الساعة أحسست من أعماق روحي بأنني أقترب من الغاية التي أرنو إليها بحيث يصبح في مكنني الطواف بالبقاع الإسلامية المقدسة في مكة، والتعريج على المدينة مقر القبر النبوي الطاهر ومثوى سيد الحق. . . .
ولكن كيف أذهب إلى الحج وأنا لا أعرف من العربية حرفاً واحداً؟. . . . كيف أدرس (أم اللغات) وأنا في أوربا وبالأخص في بلاد نائية كالمجر لا يوجد بها من يتكلم بهذه اللغة التي هي في نظري أصعب من تعلم أربع لغات أوروبية معاً!!؟ وتلك لعمري كانت من أقوى العقبات التي وقفت حائلاً بيني وبين تنفيذ رغبتي أو تحقيق أمنيتي في حينها.
على أنه كان لي من قوة الأيمان وثبات اليقين ما دفعني إلى الإقبال على تعلم هذه اللغة مهما بلغت العقبات وقامت الصعاب، فبدأت أولاً أدرس العربية بدون معلم وبواسطة كتب(135/41)
حصلت عليها من المكتبات الأوروبية، ثم عكفت على قراءة القرآن الشريف بمساعدة المعاجم اللغوية، وحفظت عن ظهر قلب معاني الكلمات المبهمة والألفاظ المعقدة. وتابعت السير على هذه الخطة عدة شهور إلى أن أصبحت بفضل الله ورعايته ملماً بأصولها. وفي خلال شهور الصيف أخذت أطالع قصص (ألف ليلة وليلة) والمعجم إلى جانبي، وكثيراً ما لاقيت صعابا كادت تفت في عضدي وتوهن من قواي، كالشعر الجاهلي الذي كان يبدو على الرغم من جماله وموسيقاه مبهما معقدا، فكنت من حين لآخر أقذف بالكتب جانبا وقد قر في عزمي ألا أعود إليه مرة أخرى ليأسي من التقدم
وبمرور الزمان انتصرت على جميع الصعاب، ورحت أتفهم العربية في شيء من السهولة واليسر، مع إنني لم أسمع في حياتي صوت متكلم بها؛ ولما أيقنت مقدار ما تبطنه الظروف وأن هناك بعض النقص في إلمامي بالأدب العربي والشريعة السمحاء صممت قبل الشروع في زيارة البقاع الإسلامية المقدسة إلى أن أقيم فترة طويلة من الزمن في مصر حيث الأزهر الشريف مركز الثقافة الإسلامية ومحط العلماء.
وفي الواقع كنت أسعد مخلوق في العالم عند ما ألفيت نفسي أدخر مبلغاً من المال يساعدني على أن أطيل إقامتي على ضفاف النيل السعيد مهد المدنية والسلام.
وعندما وطئت قدماي أرض القاهرة قوبلت بحفاوة عظيمة من جانب أدباء مصر وصحفييها وغيرهم ممن مهدوا السبيل أمامي لاستكمال نواحي دراستي في الأدب العربي، والتعمق في شعاب الدين الحنيف، بحيث أصبح قادراً على صد هجمات كل من تسول له نفسه الاقتراب أو التشويه من عظمة الإسلام في أوربا.
وكانت فكرتي مقترنة دائماً بأن أدرس العربية دراسة جامعية لا دراسة هواية، شأن الكثير من المترفين ممن يعكفون على تعلم اللغات لغرض السياحة أو بقصد القراءة الخفيفة المسلية؛ وكنت أرمي من وراء دراستي إلى القيام بخدمة الإسلام والمسلمين الذين وقعوا تحت نير الاستعمار الأوربي منذ قرون؛ وقد كانت هذه الغاية من أقوى العوامل التي دفعتني للتقرب من المسلمين في الهند وتركيا ومصر. وإن أنس لا أنس الظروف التي لاقيت فيها كثيراً من فقراء المسلمين الهنود، وهم يعيشون في بطون أكواخهم المشيدة من القش، ويستضيئون بأنوار الإسلام فتتحول تلك الأكواخ في أنظارهم إلى قصور وجنات(135/42)
بحيث يحتقرون مظاهر الجاه والثروة ويطئونها تحت أقدامهم
فالقرآن هو المثل الأعلى لتوجيه الإنسان إلى الطريق السوي الذي يحتم على كل مسلم غيور ألا يحيد عنه قيد شعرة؛ والمسلم الذي لم تعم بصيرته عن تلك الحقائق ويفقه تعاليم دينه فقهاً صحيحاً يرى أن القبس الروحي يتأجج في قلوب المسلمين جميعاً ممن لا ينكصون من التضحية وبذل الواجب، والذين يفنون ذواتهم في ذات الغرض الأسمى، ويأخذون على عواتقهم التغلب على كل أمر والتجول في أنحاء العالم لنشر الدعوة وإظهار فضائل دينهم ومحاسنه
والواقع أننا قد نجد بعض مظاهر هذه القوة في الأيمان عند بعض الأمم الأجنبية الأخرى، لكنني ألفيت في قلوب إخواني المسلمين كنوزاً تفوق في قيمتها الذهب والأحجار الكريمة؛ ولقد عاشرت مسلمين فقراء كانوا لا يحجمون عن أن يقاسموا رفاقهم آخر كِسرة يملكونها من الخبز. . . كم استضافوني في بيوتهم المتواضعة وأعطوني أعظم شيء في الوجود!. . إنهم منحوني إحساس الحب والتآخي، ولقنوني عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما أطلقوني من ضيافتهم فاهوا بحكمة نبيهم الكريم: (اطلبوا العلم ولو في الصين)
وعقب وصولي القاهرة قصدت فوراً للإقامة في الحي الوطني المعروف (بسيدنا الحسين)، لكني لم أوفق للحصول على سكن ملائم
لقد كنت من خلال إقامتي الطويلة بتركيا أقطن في غرفة رحبة مؤثثة بالطنافس الوثيرة والرياش الفخم، وكنت أتناول أفخر المآكل الشرقية وأشهاها؛ فمن مظاهر الحياة الإسلامية فن الطهي، إذ يؤثر على النبي الكريم أنه كان يحث الناس على العناية بمسائل الطعام وبالذبيح المحلل، ولا تخفى الفائدة من وراء ذلك، فاتباع الطرق الصحية ووسائل النظافة والعناية باللحم مما يزيد في صحة الأجسام ومناعتها
كانت آمالي إذن قبل القدوم إلى القاهرة أن أقيم في بيت من تلك البيوت العربية الطراز، وبين قوم يرتدون اللباس الشرقي الفضفاض ويتناولون الطعام بأيديهم، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فأنني لم أوفق في الحصول على سكن ملائم، فاضطررت إلى الإقامة في نزل أوربي.(135/43)
ولكم تألمت إذ ألفيت أهل القاهرة لا يلبسون الثياب الشرقية المزركشة، ويستبدلون بالقفطان والعمامة شعار الإسلام - الأزياء الأوربية، كما راعني في البيوت المصرية التي زرتها خلوها من الأثاث الشرقي، وأن أجد الشباب المصري يوجه عناية خاصة للإلمام بأنواع الثقافات الأوربية المتعددة، ويفرطون في جانب لغتهم وقوميتهم ودينهم!!
ولقد قال أحد أصدقائي المصريين في معرض حديث له معي: (يستحيل علينا أن نعود إلى تلك الأثواب الطويلة المهلهلة عندما نبغي الصعود إلى المركبات أو عربات الترام).
ولكني رأيت كثيراً من الناس يرتدون تلك الأثواب وما كان أجملهم في نظري وهم يتسلقون الترام أو السيارة بكل خفة ورشاقة والواقع أن تلك الملابس أفضل بكثير من الأثواب الأوربية الضيقة، ولا سيما القبعات التي نضطر إلى أن نحملها بين أيدينا عندما نجلس أو نزور أو نحيي أحداً
ومن رأيي أن الحصول على الأثاث الشرقي واللباس العربي والتطبع بالعادات الشرقية أمور يسهل اتباعها في القرن العشرين من غير أن يفقد المصريون خصائصهم ومميزاتهم، أضف إلى ذلك أن إحياء الصناعات القومية وإنعاش حال الأسواق الشرقية متوقف على إقبال المصريون على عاداتهم الأصيلة، أما التقليد الأعمى والاتجاه شطر أوربا وترك الثقافة والتراث القومي جانبا فصفات يجب التخلي عنها. وليت الأمر وقف عند الحد الذي شرحته، بل أن آمالي انهارت دفعة واحدة بمجرد أن زرت الأزهر وتفقدت الأروقة التي كثيراً ما قرأت عنها في شبابي وتخيلتها في أحلامي،. . . فمقاعد التدريس لا تزال كما كانت منذ ألف سنة، وبرامج التعليم ناقصة وغير مستوفاة لشروط الثقافة الحق؛ ولم أر في الأزهر سوى خلية للحكمة وبث التعاليم الإسلامية وقشور من العلوم الحديثة؛ أما المعاهد الدينية فهي نماذج مصغرة لجامعاتنا إذ أن هذا النوع من التعليم يقود الطلاب في سبيل البحث والاستقصاء والتعلم
(يتبع)
عبد الكريم جرمانوس(135/44)
4 - سكان أعالي النيل
بقلم رشوان احمد صادق
وكان أهم ما يميز الملك والمدير أن كلاً منهما قادر على التكهن في الفصل في الخصومات وكذلك في الأمور القانونية، فكل الأمور التي تؤدي إلى المنازعات مثل القتل والموت كل هذه كان يفصل فيها بواسطة التنجيم والتنبؤ، وكانت هذه مصدر ربح عظيم للأسرة المالكة
والملك هو مصدر القانون وهو مطلق التصرف، فله الحق أن يقتل من شاء حسب إرادته، فسلطته استبدادية. وجماعة الأزندي يكونون وحدة سياسية، ومركز الفرد وسلامته واستغلاله لموارد بلاده الاقتصادية كل ذلك متوقف على قيامه بالواجب عليه نحو النائب والمدير والملك
وكل قبيلة تعرف باسم عميدها، فمتى مات أو قتل تشتت أفرادها. والقبائل هنا ليس لها أي صبغة سياسية ولا اقتصادية ولكنها ذات صبغة دينية. فنظام القبائل مؤسس على النظام الطوطمي، إذ لكل قبيلة حيوان تقدسه وتحرم على أفرادها أكل لحمه، إذ يعتقدون أن أرواح موتاهم تنتقل إليه. والرجل واخوته وأنجالهم يسكنون سوياً على ضفة مجرى مائي، ويعملون معاً في الزراعة والصيد وغير ذلك من شؤون الحياة. ويهتمون بشؤون كل فرد منهم كما يشتركون في الدفاع عن أي فرد يصيبه أذى منهم؛ وأكبرهم سناً يقوم بإلقاء الوعظ والإرشاد على الصغار أما من حيث الزواج، فإذا أراد الرجل أن يتزوج فعليه أن يعطي أقارب زوجته من عشرين إلى أربعين حربة، وهذه الحراب لا تشترى بماله الخاص، بل يهديها إليه والده وأعمامه، وهذا قد أدى إلى توثيق صلة الابن بالأب والأعمام
ومن أهم المظاهر الاجتماعية الشائعة بين الأزندي، والتي يهتم بها كل فرد في مجتمع الأزندي سواء في ذلك الملك والصعلوك هي مسألة الحسد، تلك المسألة التي تلعب دوراً هاماً في حياة الأزندي الاجتماعية، فهم يعتقدون أن أناساً كثيرين يحملون في معدتهم الحسد، وهذا الداء ينتقل من شخص إلى آخر بواسطة الوراثة، فالرجل الحسود أبناؤه الذكور حسودون، وأما بناته فلسن كذلك؛ والمرأة الحسود بناتها حاسدات وأبناؤها بعكس ذلك؛ وكانوا يشقون بطون موتاهم لمعرفة ما إذا كانوا حسدة أم لا
وفي اعتقاد الأزندي أن السبب في سؤ الحظ هو الحسد. فالمرض والموت وفشل الصيد(135/45)
وقلة المحصول كل ذلك سببه الحسد. ولذلك عند حدوث شيء من هذا القبيل يبحثون عن الحاسد الذي سبب المرض أو غيره، وبعد معرفته يخبرون الرئيس عنه وهو يستدعيه إليه ويأمره أن يكف حسده وأذاه عنهم
والطريقة التي يستعملها الأزندي لمعرفة الحاسد هي طريقة التكهن أو التنجيم وأهم طريقة يستعملونها للتكهن هي الطريقة التي يسميها الأستاذ بريتشارد (بنج والتي يسميها الأستاذ سلجمان - وهذه تتلخص فيما يأتي: يحضرون بعض أنواع السم ويعطونه لدجاجة ويسألونها عند إعطائها هذه المادة عن الرجل الذي يشتبهون في أنه هو الحاسد، هل هو متهم أو برئ؟ فان ماتت الدجاجة التي أكلت هذه المادة السامة فمعنى ذلك أن الرجل متهم، وأنه هو الحاسد، وأما إذا لم تمت فأن الرجل برئ. فان أعيدت العملية مرات وكانت النتيجة ثابتة كان ذلك زيادة في التأكيد، فإذا مات رجل فان أسرته تبحث عن الحاسد الذي كان سبب موته فان عرفوه بطريقة التكهن السابقة الذكر فأنهم يقتلونه أو يدفع غرامة، وهذه الغرامة تقدر بامرأة وعشرين حربة
وإذا قتل رجل فأنه يحنط، والمدير مسئول عن البحث عن الحاسد الذي تسبب في قتله وذلك بواسطة التكهن ولا يقوم بهذا العمل غيره.
وأما في الأحوال الأخرى التي تدل على سؤ الحظ من مرض وغيره كما سبق شرحه فانهم يقومون بالبحث لمعرفة الحاسد بواسطة هذا النوع من التكهن، فإن عرف فإنهم يخبرون النائب عنه حيث يستدعيه ويأمره بأن يكف عن أذاه وحسده عنهم.
وهكذا يفصل في كل الأمور القانونية والمشاكل الاجتماعية بواسطة التكهن، والحكم الأوروبي الآن يرفض الاعتراف بمسألة التكهن الذي شرحناه على الوجه السالف. ولكن الأزندي تمكن من إيجاد مفر من تشديدات الأحكام الجديدة فلجأ إلى السحر، فإذا مات شخص فأن ذويه يحضرون ساحراً ليقوم بعمل السحر والتعاويذ اللازمة لهلاك من تسبب في موته بواسطة الحسد. ثم ينتظرون أياماً وأشهر ليروا النتيجة، فإذا سمعوا بموت أحد من جيرانهم أو من أعدائهم أو ممن يشتبهون فيهم فأنهم يقومون بعمل التكهن بواسطة الدجاجة كما سبق ذكره ويسألونها فيما إذا كان هذا الشخص الذي مات هو الحاسد الذي أهلكه السحر أم لا(135/46)
وهذه طريقة أخرى للتخلص من النظام الأوربي الجديد للانتقام من الشخص الذي يتخذ الحسد حرفة له
وللأزندي اهتمام كبير بزراعة الأرض بعكس (الزنوج النيليين أو الحامي النيلي الكثيري الاهتمام بتربية الماشية). فهم يهتمون بتنسيق حدائقهم ومزارعهم بشكل يستحق الإعجاب. وتبدأ الزراعة في شهر مارس إذ يعدون الأرض فيزيلون بقايا الحشائش ويقومون ببعض الأعمال لتطهير الأرض. وأهم المحاصيل التي تزرع عندهم:
1) الذرة تزرع في مارس وتحصد في يوليو
تزرع في أبريل ومايو
2) الحبوب وتحصد في أغسطس
- وسبتمبر
3) الذرة (العويجة) تزرع في يوليو وتحصد في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر.
وعندهم نوعان من الدورة الزراعية: (1) الدورة الخماسية (2) الدورة السنوية والأحادية. فأما الدورة الخماسية، وتكون لمدة خمس سنوات، فهي كما يأتي:
السنة الأولى تزرع ذرة رفيعة وحبوباً زيتية
السنة الثانية تزرع ذرة رفيعة وحبوباً زيتية
السنة الثالثة تزرع ذرة رفيعة وحبوباً زيتية
السنة الرابعة تزرع حبوباً زيتية فقط
السنة الخامسة تترك الأرض للراحة (شراقي)
وأما الدورة السنوية أو الأحادية فهي في سنة واحدة حيث يزرع محصولان في سنة واحدة: الذرة والبطاطا ويلاحظ أن البطاطا تزرع كسماد وتترك في الأرض بعض الأحيان.
والدورة الخماسية هي الدورة التي يتبعها الأزندي في حديقة منزله أيضاً، كما أن الذرة تزرع كسياج يحيط بمنزل الأزندي ويقوم مقام السياج الحديدي حول حدائقنا.
والأستاذ سلجمان يقول إن الأزندي يعتقدون في مخلوق عظيم يسمونه (مبول) ولكنهم لا يدعونه إلا عند الجفاف والقحط.
ويقول إنهم يعتقدون أن الإنسان بعد موته تخرج منه روحان: إحداهما تذهب إلى الحيوان(135/47)
الذي تقدسه القبيلة (الطوطم) والروح الأخرى تذهب إلى القبر فتبقى فيه إلى حين، ثم بعد ذلك تغادره إلى رأس مجرى مائي حيث تبقى مع أرواح أجدادها وهم الآن يقومون بعملية الختان.
الفروق في الحياة الاجتماعية
لكل من الزنوج النيليين وأصحاب الرؤوس المتوسطة
الزنوج النيليون
رعاة
الماشية عماد الحياة
ليس عندهم ضحايا بشرية
لا يأكلون لحوم البشر
الرجال عراة الأجسام وأحياناً يلبسون جلوداً على الكتف، يزينون الشعر بأشكال مختلفة
النساء يرتدين نصف جلباب (ملكوف من الجلد يغطي النصف الأسفل من الجسم من الوسط حتى الركبة ويلبسن أساور من العاج في أعلى العضد،
بعضهم يخلع أسنانه الأمامية مثل النوير
ليس عندهم رؤساء للحكومات وهم ديمقراطيون يحترمون السحرة والمشعوذين ويأخذون رأيهم في بعض الأمور والرابطة الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية مبنية على القرابة والجنسية
أصحاب الرؤوس المتوسطة (الأزندا)
زراع ويربون الدجاج
ليس عندهم ماشية
الزراعة هي أهم ما يحترفه السكان وكذلك الصيد
عندهم تضحيات بشرية
كذلك أكل لحم البشر قلت الآن بعد الحكم الأوربي
الرجال يرتدون جلد الأسد أو قميصاً من الخيش أو الخوص أو سراويل. يضفرون(135/48)
شعورهم من منبت الشعر إلى الكتف، ويلبسون قلنسوات من الخوص محلاة بريش الديكة
النساء يستترن بشبكة من ورق الشجر من الأمام والخلف تربط بحزام حول الوسط وأحياناً يرتدين (مريلة) ولا يستعملن الأساور المصنوعة من العاج إلا نادراً
لا يخلعون أسنانهم
حكومتهم منظمة لها صبغة سياسية ورؤساء سياسيون، والرابطة العائلية قوية بينهم
رشوان أحمد صادق(135/49)
سليل القرد
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
عاش في الغاب القرد دهراً طويلاً ... قبل أن يلقى للرقيّ سبيلا
وُلد القردُ قبل مليون عام ... بشراً فارتقى قليلاً قليلا
إنما هذه الطبيعة في تَجْ ... ديدها للحياة ليست عجولا
أيّ شيٍء ألمّ بالقرد حتى ... هجر الغابَ نجله والقبيلة
إنه لولا العقل كان ضعيفاً ... وعليه الحياةُ عبئاً ثقيلا
واقتنى فطنةً وكان غبيّا ... وابتنى عزّةً وكان ذليلا
وعلى رجليه مشى بعد أن سا ... ر على أربعٍ زماناً طويلا
تخذ الصخرَ بعد نحتٍ سلاحاً ... يتّقي الوحش ضارياً أن يغولا
حادثٌ لم ير الزمانُ على الأر ... ض له في كل الدهور مثيلا
ليس إنسانُ اليوم في كل أرض ... غيرَ قرد في وسعه أن يقولا
منح الدهرُ الأرضَ خيرَ وليٍّ ... وبه كان في القديم بخيلا
إنه في لقائه للضواري ... لم يكن خَوًّاراً ولا إجْفيلا
إن عقل الإنسان خيرُ سلاحٍ ... ولقد تفْضل العقولُ العقولا
ياله من تطوّرٍ حَوَّلَ القر ... دَ لإنسانٍ يُحسنُ التخييلا
سنةُ الله في النشوء على الأر ... ض فما إن ترى لها تبديلا
ليس من قدره يحطّ فيَخزَى ... إنه كان للقرود سليلا
ولقد فارق القبيلةَ إلاّ ... أنه ظلّ حبلُهُ موصولا
قبلَ إخلادِه لعائلة لم ... يك إلاّ عن نفسه مسؤولا
ولدته عروسة الغاب من قر ... دٍ جميل فكان قرداً جميلا
عاش أبناؤه دهوراً وما إن ... عرفوا تحريماً ولا تحليلا
بعد فجر الإنسان كان غدُوٌّ ... وأرى أن للغدوّ أصيلا
إن للشمس بعد كل شروق ... يملأ الأرضَ بالضياء أفولا
دُوَلٌ فوق الأرض ذات احتشام ... غير أني في خشية أن تدولا(135/50)
إنني أخشى للنشوء انقلابا ... فيعود الإنسان قرداً كسولا
وإذا ما خلا من الناس وجهُ ال ... أرض كان الخلوُّ خطباً جليلا
وإذا ما بالعكس عاشوا وجدّوا ... فسيمحون الموتَ حتى يزولا
وليأتي باسم السبرمان نسلٌ ... هو أرقى منهم وأهدى سبيلا
يتقصى كنه الطبيعة حتى ... ليس يبقى شيءٌ له مجهولا
إنما في حياته الصدقُ دينٌ ... لا خداعاً يأتي ولا تضليلا
وترى فوق المنكبين له رأ ... ساً كبيراً وساعداً مفتولا
وعلى رأسه الكبير ترى شع ... راً أثيثاً تخاله إكليلا
وإذا ما أبصرت عند اللقاء ال ... عينَ منه حسبتها قنديلا
وإذا ما تكاثروا حكموا الأر ... ض بعدل جبالَها والسهولا
أخضعوا أصناف الأشعة حتى ... جعلوا منها للسماء رسولا
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(135/51)
البعث!
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
مات الغرام وقد بكيتهْ ... ورثيته ما قد رثيتهْ
كفنته ودفنته ... وبدمعيَ القاني سقيته
وأتى الزمان يَصُوْرني ... عن ذكره حتى سلوته
يا ليت شعري، كيف عا ... دَ إلى الحياة اليوم مَيْته؟
أحببته عفَّ اللِحا ... ظ سمعت عنه وما رأيته
كالخلد يرجوها أخو ال ... تقوى ولم يرها - رجوته!
فكرت فيه فشاقني ... وثوى الفؤاد وما دعوته
وطفقت أعبد طيفه ... وأنا الذي بيدي بَرَيته!
بفمي اسمه، أروي به ... ظمأ الفؤاد وما شفيته!
كالثلج فيه، وكلما ... أمسسته قلبي كويته!
بيني الزمان وبينه! ... وتجاورا بيتي وبينه!!
سميته (لولا) مخا ... فة أن يساء وما كنيته
أوحى إلي وما دري! ... وكتبت عنه وما نويته!
ماذا عليه لو صغا ... وعلى مسامعه تلوته!
وهَمَي على عيني سنا ... هـ، وسال في أذنَيَّ صوته!
علي أحمد باكثير(135/52)
الحرمان
بقلم محمود حسن إسماعيل
أسدلت سترها! وقالت رويدا ... عابد الحسن، واتئد في صلاتك
غب قليلا عن العيون وأنشد ... خفقات الغرام في خلواتِكْ
إن همساً يرفُّ في ساحة المعْ ... بد أخشى ذيوعه من وشاتِكْ!
غب قليلا وفي دمي لك عَهْدٌ ... أنا والحبُّ. . والمنىَ. . لحياتِكْ
خمرتي شعرك العفيف، ويا طُهْ ... ري إذا ما انتشيت من (كاساتك)
وجلالُ الهوى وقُدْس جمالي ... صَبَواتٌ نفحن من أُغنياتِكْ
ريُّ روحي إذا ظمئتُ خيالٌ ... مستطار يَرنُّ من أبياتِك
فترنم! فإن روحيَ تصغي ... خلف أستارها إلى نغماتك!
قلت: والنار في دمي كيف تهدأ ... إن حجبت الضياء من قسماتك
إن زادي من الحياة وميض ... رشفته العيون من بسماتك
فتنتي إن رنوت موجة نورٍ ... أشرقت في الجنان من نظراتك
كم طغى البؤس عابثاً بشبابي ... فقبست النعيم من وجناتك
وتوجعتُ فانتحبتِ لشجوي ... سكبت الهناء من قبلاتك
كيف أحيا وفي دمي تُقلق الرو ... ح نوازٍ مفجعاتٌ فواتك!
أنا لهفان والنعيم بكفَّي ... ك دعيني أمت على عتباتك!
قالت: اهدأ! فما عهدتك يوماً ... تستثير النوى دفين شكاتك
كم غزا البين قربنا فتصبر ... ت، ورمت السلوان من ذكرياتك
قلت: يا لوعتا لظمآن جنّت ... روحه لهفة على رشفاتك!
كم وقفنا حيال قصركِ نبكي ... وخلسنا الغرام من شرفاتك!
وشدونا الهوى ملاحن سحر ... رقرق النور طيفها من سماتك
وشكونا النوى فكاد يطير الحس ... ن فرط الحنان من غُرُفاتك!
آه يا زهرتي! لقد شفَّ روحي ... ظمأ محرق إلى نفحاتك
فارفعي الستر بيننا، ودعيني ... أتحسى الضياء من هالاتك(135/53)
رب ومض من لحظ عينيك ساج ... فجر السحر من سنا لمحاتك
نهلته عيناي فانساب شعراً ... عبقرياً يفيض من نظراتك
وهنا. . أسدل الستار! ورنت ... خفقة: لهفتا على أمنياتك!
(دار العلوم)
محمود حسن إسماعيل(135/54)
نسيم الفجر
بقلم وهيب رشيد
(من الشاعر الإنجليزي
هب عند الفجر يجتاز البحار ... قائلاً للسحب خلي الطرُّقا
هاتفاً بالسفْن قد جاء النهار ... بزغ الفجر جميلاً عبقاً
أيها الملاح قم شُدَّ القلوع
وسرى في الأفق حراً جذلا ... مرَّ بالناس جميعاَ نائمين
سيطر النوم عليهم فَجَلاَ ... سلطة النوم ببرهان مبين
صائحاً قد آن للشمس طلوع
مرَّ بالزهر مكباً نائماً ... في ربى الغابة وسْنان العيون
فجرى فيها نشيطاً باسماً ... يوقظ الزهر بتلويح الغصون
ومضى والغاب بالعطر يضوع
دخل العشَّ على الطير الجميل ... راقداً يحلم أحلام المنى
فأحس الطير بالريح العليل ... هز برديه سروراً ورنا
لحقول القمح بالعين الولوع
وغدا يقطع أرجاء الحقول ... قاصداً ديك الصباح الغَرِدا
فتلقاه بلطف وقبول ... وبلحن ساحر جذل شدا
مرحباً بالصبح، بالفجر الوديع
واتى المعبد قفراً موحشاً ... ما به غير سكون مطبق
أيقظ الحارس فيه فمشى ... يقرع الناقوس قرع المحنَقِ
يا نسيم الفجر أَحييت الربوع(135/55)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
28 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
وهذه هي الميزات التي يراها نيتشه تميز السوبرمان من الإنسان، يرى أن فضيلة الإنسان فضيلة تحمل إلى الناس جميعهم بدون فرق ولا استثناء، بيناً يرى أن فضيلة السوبرمان لا تعني إلا فريقاً منتخباً ضئيلاً سامياً. ألا ترى أوروبا اليوم جميعها تؤمن بديمقراطية تساوي بين طبقات الناس مهما اختلفت أصولاً وفروعاً. ونيتشه لا يرى في هذه الديمقراطية شيئاً طبيعياً، وهو يؤمن (باللامادة) ويريد أن يخلق طبقة أرستقراطية تتألف من أنواع محدودة، لكل نوع تعاليمه وأعماله وواجباته المكتوبة عليه، وأسفل هذه الأنواع هو مجموع الفئات المتوسطة التي يدور بأيديها دولاب المجتمع. فالنقش والتجارة والصناعة والعلم والفن تحتاج إلى عمال يخدمون برضاهم هذه الصناعات. يطيعون مختارين ويعملون مريدين. هؤلاء هم عبيد لأنهم ينفذون إرادة من هم أسمى منهم. وحق لهم أن تكون منهم الطاعة، وأن يحتملوا من الألم كثيراً لأن الحقيقة قاسية. على أن هؤلاء يجب أن تضمن لهم أسباب حياتهم فيكونون أكثر هناء واطمئناناً وسعادة من رؤسائهم، لا شغل لهم إلا أن يواصلوا دورة الحياة. . . أما الأيمان الديني عندهم فهو نعمة لا تثمن، لأنه كأشعة الشمس فاقة وجودهم المظلم، يعلمهم القناعة والسكينة ويجعل واجباً عليهم احتمال إرادة غيرهم. وهو الذي يبث في أرواحهم هذا الوهم الجميل القائل بأن هنالك نظاماً للأشياء. وأنهم هم أنفسهم لهم مكان نافع في نظام الكائنات والأشياء. هؤلاء يقول لهم زرادشت: (لكم لكم العبودية والأيمان!). وفوق هذا الفريق المديرين وحارسي الشريعة والذائدين عن النظام والبلاد والمقاتلين وأمير البلاد. أن هؤلاء يدبرون الأمر ويسوسون الملك بسلطتهم. أن هؤلاء هم الذين تخضع لهم إرادة العبيد حين يريدون. أما الفريق الأول فهو فريق السادة والعقلاء وخالقي (القيم الاجتماعية). هؤلاء يجب أن ينفذ تأثيرهم في قلب المجتمع، هؤلاء يجب أن(135/56)
يهبطوا إلى الأرض ينزلون فيها بين الناس منزلة الآلة الذي يقدسه النصارى. هؤلاء هم السادة ولهم وحدهم صنعت فضيلة السوبرمان.
وهذه الفضيلة لا تتميز من غيرها بأنها فضيلة أرستقراطية فحسب، ولكنها تخالفها في المثل الأعلى الذي ضربته، أما الإنسان الفاضل في الشريعة المسيحية أو شريعة الزهاد فهو الذي يخضع حياته لمثل أعلى، ويضحي بميوله ورغابه في سبيل عبادة الخير والحق. أما العاقل في شريعة نيتشه فهو غير ذلك. العقال هو خالق (القيم) وليست مهنته إلا خلقها! لا شيء في الطبيعة له قيمة بنفسه، أن عالم الحقيقة هو مادة واحدة لا معنى لها ولا غاية إلا المعنى أو الغاية التي نراها نحن فيها ونعطيها إياها. الفيلسوف الحقيقي هو الرجل الذي ينطوي على شخصية قادرة على خلق الوجود، ويبعث في الناس الرغبة ويستهويهم، هو الشاعر العبقري الذي تتألف في نفسه (القيم الاجتماعية) التي يؤمن بها رجال العصر! هو مفكر في الأشياء، لكن تفكيره ليس إلا الشريعة السامية التي تهتز لها أمم! يبدع بحرية ما يشاء مستقل الفكر سائماً من الخير والشر، من الحقيقية وغير الحقيقة. هو يبدع حقيقته، ويخلق شريعته وفضيلته. إنه رجل مجرب لا يفتأ يتحرى عن صور لعوالم جديدة. تراه يضحي بحياته وبسعادته، ويفادي بحياة الآخرين الذين يجرون في مضماره وبسعادتهم دون أن يتزعزع. إنه لاعب جريء يتحدى الحظ، لا يحفل إذا كانت لعبته الحياة أو الموت.
أن العاقل عند نيتشه ليس بذي لروح الهادئ المسالم. هو من لا يعد الناس بالسلام وبالفرح الهادئ باقتطاف ثمرات عملهم. ولكنه يدفعهم إلى الحرب يلمع بين عيونهم الرجاء بالنصر والأمل بالظفر يقول زرادشت:
(إنكم ستتحرون عن أعدائكم، إنكم ستقاتلون وستحاربون من أجل فكرتكم، فإذا غلبت فكرتكم فليدفعكم إخلاصكم إلى السرور بهزيمتها. إنكم تحاربون السلم كوسيلة لحروب جديدة، على أن السلم الصغير هو خير من السلم الكبير
أنا لا أنصح لكم بالعمل، ولا انصح لكم بالسلم، ولكن أوصيكم بالظفر. ليكن عملكم حرباً وسلمكم ظفراً.
يقولون: أن السبب الشريف يقدس الحرب. وأنا أقول لكم: أن الحرب الشريفة هي التي تقدس كل سبب.(135/57)
لا يجب أن يكون لكم من الأعداء إلا المبغضون لا الحقيرون، وإذ ذاك تكونون أولي زهو وكبرياء بأعدائكم، حتى ليغدو ظفرهم عليكم ظفراً لكم.)
أن القتال عند نيتشه هو خير سبب يعمل على التقدم، لأنه يرى مواضع الضعف ومواضع القوة. يرى الصحة والمرض في المادة والأخلاق. وقد يكون القتال تجربة خطرة يريده العاقل ليزيد في حيوية الحياة ويزيد آفاقها سعة. وليدرك قيمة فكرة ما وقدرتها على الإحاطة بمعاني الحياة. الحرب نعمة حسنة في ذاتها وتنبأ نيتشه بأن أوروبا ستدخل في عصر قتال تتطاحن فيه شعوبها في سبيل سيادة العالم.
وبينما كانت (القيم الاجتماعية) الأولى تضع الشفقة في رأس هذه القيم، كان زرادشت يِعلم رفاقه بأن الإرادة هي الفضيلة العليا (هذه هي الشريعة الجديدة التي أوصيكم بها، كونوا قساة أشداء) إذ يجب في الحقيقة على المبدع بأن يكون قاسياً عنيفاً إذا أراد أن يخضع الحظ، أو أراد أن يوحي بتعاليم جديدة. أن الشفقة ليست عنده بفضيلة، ولكنها خطر من أكبر الأخطار التي تلاقيه.
ألم يسمع (زرادشت) حول كهفه أصوات اليأس يرددها الرجال الذين يدعونه (تعال! تعال! قد حان الوقت) فلو أن الشفقة عليهم استهوته إليهم لكتب عليه الغلبة. إنه يحتاج إلى قوة قاسية تصرف عنه تأثير هذا الدعاء الباكي.
بينما كان زرادشت يغادر بيته لاحقاً اليائسين الذين يجأرون له، نزل مكاناً موحشاً خيل إليه إنه مدينة الموتى. هناك الصخور البارزة السوداء والشماريخ الحمراء، حيث لا تنبت عشبة ولا ينجم كوكب ولا يزقزق عصفور. هذا هو واد ينفر منه الحيوان، لا يأوي إليه إلا الأفاعي العظيمة الزرقاء، تأتيه في كهولتها لتعانق الموت فيه. في هذا المكان المروع أبصر (زرادشت) هيكل إنسان قبيح، فلم يشأ أن يتأمله، وَهَمَ بأن يركض ما استطاع فراراً من هذا المسخ. ولكن صوتاً أهاب به كأنه غرغرة محتضر أو بقية ماء في منحدر.
- زرادشت، زرادشت! نبئني بِسري! ما هو الانتقام من الشاهد؟
وفجأة استولت على زرادشت شفقة غريبة، ولكنه سرعان ما استعاد قسوته وصرامته، فأجابه
- أنا أعرفك. . . أنت قاتل الإله، دعني أسر في طريقي؛ أنت لم تحتمل من كان يراك(135/58)
ويطلع عليك في كل ارتعاشك وشناعتك واشمئزازك أنت يا أقبح الرجال! فأخذت ثأرك من هذا الشاهد) خرج زرادشت ظافراً من هذه التجربة التي هلك فيها الإله. أن إله المحبة قد مات وقد خنقته شفقته بإطلاعه على كل نقائص الإنسانية وشناعاتها الخفية. أن شفقته لا تعرف حداً. إنه وطأ الأماكن الأكثر عمقاً والأسحق بعداً من النفوس البشرية. ولهذا مات، لأن الإنسان لم يعد بقادر أن يحتمل شاهداً يقظ العين على خزيه وعيوبه. أحس زرادشت بموجة الحياة تغمر نفسه إزاء هذا المشهد، فغض من طرفه وَهَمَ بان يتابع سبيله، معتقداً بأن متابعته للطريق أجدى عليه من أن يهدر أيام عمره هدراً في سبيل الجلوس إلى (جسد) لا ينفع فيه دواء. وفي صنعه هذا لم ينج من الموت وحده فحسب، بل اكتسب مع نجاته حب هذا الإنسان الكريه. أما الإنسان الكريه الذي كان يبغض الإله والرحماء فانه انحنى خضوعاً إزاء صرامة زرادشت وقبل أن يكون أحد الطارقين باب مثواه
(يتبع)
خليل هنداوي(135/59)
القصص
من صورة الحياة
الآباء البيض
بقلم حبيب الزحلاوي
عرفته في المدرسة فتى وسيم الطلعة، صبوح الوجه، حيي الطبع، هادئ النفس، فتوددت إليه واكتسبت صداقته
عرفت من خصاله العبوسة والخشونة والتجهم والغضب كما عرفت منها الطيبة والسلاسة والصدق والوفاء.
كان تارة عنيف الحركة حتى الجنون، وطوراً ساكناً كأنه غارق فيها!
عرف معلموه فيه الإقدام بدون تردد، والأحجام بغير سبب، وعرفوا فيه الاندفاع نحو تحقيق رغباته وإرضاء ميوله وبداوته، كما عرفوا فيه الانصراف عنها كأن ليس له رغبات ولا ميول وبداوات!
تسرعوا فسموه (المتناقض) ثم اعتدلوا فأطلقوا عليه أسم (ذي الحدين) الأقصى والأدنى.
كان انكبابه على الدرس، ودقته في المحافظة على الواجب يثيران إعجاب المعلمين به وغيرة رفاقه منه، كما كان توقفه عن الدرس، وإضرابه عن تلقيه بدون سبب، وانتفاضه على الواجب، وتمرده على العلم، وقيامه على النظام، مدعاة للدهشة والاستغراب.
كنا تلميذين متلازمين متجاورين، يفضي كل منا لصاحبه بطوية نفسه ودخيلة أمره، إلا أني كنت ألمح فيه حرصاً على دفن سر شاغل خطير يكتمه عني في أعماق نفسه تفضحه نظراته الحزينة الباكية الذابلة.
كان (ذو الحدين) خشناً في لعبه، بريئاً في تعبيره عن خواطره كالأطفال، صدوفاً عن المعاشرة، مستغرقاً في الوحدة والانفراد كالنساك، وكانت بسماته النادرة حلوة كالجمال الصامت في مظهر عروس ترملت بُعيد الزواج
ما كان أقرب نفسه إلى الرضا والطمأنينة والبشر عندما يكون في المدرسة بين دروسه وفروضه ورفاقه، وكم كان يفارقه مرح النفس وغبطة الروح عندما يعود إلى البيت إذ كان(135/60)
تلازمه فيه الوحشة والكآبة والحزن!!
كانت ثياب (ذو الحدين) تختلف عن ثياب وهندام التلاميذ، وكان لأمه شغف في إبراز وحيدها بثياب مخملية ليكون بين رفاقه - على حد تعبيرها - كالكوكب بين النجوم، ولعل ولع أمه به وعنايتها بملبسه واهتمامها ببزته هي التي نمت فيه خاصية التأنق والملاحظة والانتقاد، وصيرت لكلامه أداء فريداً ووقعاً خاصاً في النفوس ولكن أنى الخلاص لفتى مثله حسن البزة، صبوح الوجه، لامع الذهن، غريب الأطوار، عريق المحتد، صدوفاً عن المعاشرة، عزوفاً عن مخالطة الناس، أنى له الخلاص من مخالب فتيان تتوثب فيهم غرائز القوة البكر وإبراز قدرتها وسلطانها على الأقران، وتتمطى فيهم الغيرة الآكلة لفقدهم أكثر الصفات والمزايا المتوفرة لهذا الفتى الرفيق؟!!!
ولكن صاحبي كان يتخطى هذه البواعث الشائكة على قنطرة من تبين الفتوة وتعمل الكبرياء واصطناع الترفع عن الاختلاط بتلاميذ في غير ترتيبه! بذلك نمت فيه ملكة العنجهية والتسامي.
كانت ظاهرة الكبرياء عنده دخيلة على طبعه الرضي، غير أنه توسل بها لدرء عوارض طارئة لا شأن له في وجودها، فكان يداريها بالعطف الأخوي، والإحسان الإنساني، والشفقة التي كان يشمل بها كل محتاج من إخوانه التلاميذ، وما أكثر المعوزين في تلك المدرسة التي كانت تضم جميع أبناء العمال في ذلك الحي.
جاءني مرة بثغر باسم ووجهه متهلل متلألئ يقص علي خبر اعتزامه على الالتحاق ببعثة (الآباء البيض) ليتلقى العلم في مدرستهم (الصلاحية) في القدس ويقول: إن الآباء رضوا أن يلحقوه بها، وأنه دفع لهم مبلغاً من المال كان يدخره، وأن رئيس البعثة وعده بأن يصحبه معه وينتزعه من أهله إذا مانعوا، وأنه سيتعلم علوم القساوسة ويعود فيرغم جميع الناس على تقبيل يده باحترام، والاستماع إلى أقواله والإنصات إلى عضاته بخشوع!
لم يكن اهتمامي بالخبر ليوازي فضولي الحافز إلى معرفة العامل الذي جعل صاحبي يطرب للرحيل عن أهله كطرب عصفور في قفص يسقسق ويصفق بجناحيه، وأنت في الحقيقة لا تدري إذا كان طربه للطعام المقدم أو للانطلاق الموموق.
لم يكن الخبر هاماً في ذاته، إنما كانت الأهمية عندي في اكتشاف الدوافع التي جعلت هذا(135/61)
الفتى دائم التأرجح بين كفتي الفرحة القصوى والحزن الأقصى، فتوهمت الفرصة موانيه تدنيني من مكمن السر!!
رفيقي هذا الذي يحدثني عن سفره بطرب، وعن اعتزام رئيس البعثة انتزاعه من أهله بسهولة، هو وحيد لوالديه، محبوب منهما حتى العبادة.
ما الذي في نفسه منهم يا ترى من البيت ومن أبويه حتى يؤثر المدرسة والتلاميذ عليهم؟
ما الذي في نفسه منهم وهو يفزع إلى الآباء البيض هرباً من والديه مفضلاً الرحيل على البقاء معهما؟
لم يكن في وسعي تحويل الأمر آنذاك وقد كنت فتى أملك قوة اختزان الحوادث لا تعليلها، أدخر عوارض الأشياء لا أنقدها، أنظر إلى كليات المسائل لا جزئياتها، وهكذا صرفت برهة في استقبال خبر السفر كأنها كانت برهة الاستجمام لأعود بعدها إلى صاحبي بنفس قوية، وعزم قاطع، أصرف بهما ذهنه عن هذا الخاطر الطارئ المستحيل التحقيق.
داورت صاحبي بحجة معرفة بواعث هذا السفر المفاجئ، لمحت بالكلام إلى أمر حسبت أنه يكون بمثابة مفتاح للسر، فانقبض مكتئباً وأشاح بوجهه عني كأنه ندم على ما قال؛ لم يمهلني لأعتذر عن سوء تصرفي وتوضيح قصدي وانصرف، أسقط في يدي وأضاع الفضول الفرصة المواتية. . . . . . ولكني صممت على عمل شيء.
نجحت أولاً في إبلاغ والده خبر سفره سراً مع الآباء البيض وحاولت إقناع صاحبي بأني لم أكن واشياً نماماً بل كنت المحب صادق المودة، أوثر صداقته وأرعى اطراد تقدمنا معاً في مسالك الدراسة. . .
لم ينصت إلى أقوالي؛ غضب مني وبكى من والديه؛ قاطعني وانقطع عن الإيواء إلى البيت، وصار كمكوك الحائط ينصرف من بيت عمته الأرملة وليس فيه رفيق أو صديق، إلى المدرسة التي لم يبق له فيها سوى الوحدة والانفراد ورفقة الكتب وحفظ الدروس.
عبثاً حاولت استرضاءه واسترداد وداده. قطع الرأي على قطيعتي، وثبت على عناده، وهكذا صرنا صديقين متباعدين.
جزنا الامتحان سوية، انتقلنا معاً من مدرسة إلى أخرى، زودتنا الكلية البطريركية بشهادتها العليا، طوحت بنا الأقدار فألقت بواحدنا في مصر وبالثاني في أمريكا لا يعرف الواحد عن(135/62)
صاحبه شيئاً.
في شارع تتماوج فيه عشرات الألوف من نساء مستهترات وسيدات فضوليات من كل جنس متفرجات، يعج بأضعاف الآلاف برجال من كل سن وعمر وقطر ومصر، فيهم العابث المتهتك، وفيهم من هو غير متهتك ولا عابث.
في هذا الشارع الذي لا تهدأ فيه حركة، لا في الليل المنار بمصابيح أضواؤها الجمال والحسن والفتنة، ولا في النهار الذي ينزع فيه الإنسان الدرهم من بين فكي أخيه الإنسان لينفقها في الليل على مباذل المرأة.
في هذا الشارع المكتظ بخلائق كأنها في مهرجان؛ في هذا الشارع تطلق البسمات من الشفاه والغمزات من العيون، وترشق القلوب بسهام النظرات الساحرات؛ فيه يطلق الرجل أعنة الحياء وينضو ثياب الخجل؛ فيه تخلع المرأة العذار وتتشح بالفتنة والشهوة؛ فيه يرتجل الأكمة أبرع عبارات الإطراء الغزلي، وتفتن المرأة في ابتداع شباك الاصطياد؛ في هذا الشرع أنقذني خاتم في إصبع يدي اليسرى من إغراء حسناء لعوب من بائعات البدن؛ في هذا الشارع تصدم البريئات والبريئين من الفضوليين الأغراب بمن لا براءة عندهم ولا فضول، فيحسب المصطدمون والمصطدمين الانزلاق حرية، والاستهتار مدنية، والفجور طابع الأمة.
هذه سيدة قلقة تنتظر المتخلف عن الميعاد! هذا الرجل واقف مطمئن إلى لقاء من وعدته. هذا يعانق تلك، وهذه تقبل هذا قبلات مسكرات، وهذا غريب مشدود يرى ويبصر وكأنه لا يرى ولا يبصر.
في هذا الشارع البهيج الذي يجمع قلب باريس في قبضة الحياة سمعت من يذكر اسمي ولقبي بصوت أيقظ في حاسة غريبة مدفونة في الأعماق منذ أيام الحداثة، فاتجهت صوب رفيق المدرسة الذي لقيني هنا فعرفني، فناداني فاستجبت.
مشينا على غير هدى، تبادلنا ألف تحية وأشواق، يممنا مقهى أعرفه، ولما جلسنا في زاوية منفردة فيه تأملت صاحبي فإذا بالأعوام بدلت من ملامحه وتركت في وجهه بعض التغضن حول العينين، وثنيات واضحة في الجبين، وشعرات رمادية ظاهرة في السالفين، قرأت في نظراته معاني التوطد والثقة بالنفس، ولمحت فيها بقية من آثار الذبول والحزن. أخذنا نتكلم(135/63)
ونعيد تلاوة صحائف الماضي ونستعرض ذكريات المدرسة بلذة وفرح، ونسرد فصول رواية الحياة الكبرى بين مآسي المرآة وفواجع كسب المال.
أنبلج الصبح انطفأت مصابيح الكهرباء، تبدلت وجوه رواد القهوة وقد أورمها السهر وخنقتها الخمر بوجوه نضرة فياضة بقوة الراحة المستمدة من النوم تستقبل النهار لتستأنف الجهاد في ميادين العمل، بقيت وصاحبي وحدنا الجالسين الهانئين بذكر حوادث الماضي ثم افترقنا على موعد للتلاقي.
كان الليل يجمعني وصاحبي في باريس على مائدة طعام أو شراب، وكان لنا في كل جلسة جولة أو جولات في معترك الحياة، غير أن جلسة الليلة اختلفت عن سابقاتها في الجو الذي هيأه وجود كاهن شرقي أعرفه بصحبة سيدة في المطعم.
جال خاطر مفاجأ في ضميري فابتسمت، استطلعني صاحبي معنى الابتسامة فرغبت إليه أن يقرع بكأسه كأسي فنشرب النبيذ البكر على ذكر صداقتنا البكر!!
نظر إلى متعجباً وقال: هل من طارئ جديد؟
قلت: بلى قال: ما هو قلت: هل في وسعك الآن وقد طويت مرحلة من الشباب واكتملت رجولتك أن توضح لي أسباب حزنك في حداثتك ونفورك من والديك، وتوقك إلى البعد عنهما، وقطيعتك إياي وقد أفسدت عليك تدبير التحاقك بالآباء البيض؟
أبتسم صاحبي فذكرني بسمة العروس الأرملة وقال: أحسب وجود الكاهن في المطعم بثوبه الأسود الفضفاض ولحيته المسبلة على صدره هو الذي نبه ذهنك إلى هذا الموضوع.
قلت: هو ذاك
سكن صاحبي هادئاً كأنه يفيض ذهنه في قلبه، وأطبق أو كاد يطبق أجفانه كمن يقرأ سطور الضمير في سفر الغيب، وطفق يقول: اشكر لك هذا السؤال، لأن في الإجابة عليه تفريجاً عن كرب مستعص آن أوان البرء منه.
كانت عقدة نفسية عقدتها الحساسية المرهفة والشعور الوجداني فحللتها لوحدي على مهل. أُكرهتْ والدتي على الزواج من والدي الأرمل ولما يكن له من العمر تسعة عشر عاماً بعد، فكان جمالها، ووجاهة أهلها، وزواجها من فتى أرمل، علة جرحت كبرياءها بين أترابها الفتيات، وبثرة تنكأ النكد الأليم والنفور المتواصل ونزق الشباب، فكنت أستشعر أني(135/64)
الجسر الذي يربط قلبين متنافرين.
كنت ثمرة زواج أنضجتها عناصر الجسد ولم تشملها موجات الروح بوحدات من الحنان والعطف الوالدي إلا بمقدار ما كانت الوسيلة تمهد للغاية!!
ودت لو أكون الوسيلة لإقرار الغاية المثلى من الزواج، ألا أن الغاية كأنها تكونت للاتصال الوقتي الذي يعقبه النفور، فكنت أتمنى لو يتهدم الجسر فيبقى كل قلب على ضفة يشطرها عن أختها نهر الحياة!!
آثرت الصدوف عن مرآي زهرة نبتت عفواً في ارض رملية، وعزفت عن تربة لا حياة فيها ولا رجاء، فلذلك كنت أنكر نفسي وأشفق على الناس يلمّ بهم حزني، وأبكي لشقاء والدي.
كان يعرف والدي في حدة الإحساس والشعور المرهف فأستبدل أبوته لي بأخوة.
أقنعني، لما أبلغته أنت خبر اعتزامي على الالتحاق بالآباء البيض، بأن في ابتعادي عنه مهدمة عاجلاً لحياة تنهار من نفسها ببطء، ويتمنى أن لا أتعجل انهيارها فيبلغ القبر قبل أن أشب وأقوى، وقال دع البيت يحترق بنار هادئة ثم أعمل أنت على بناءه من مواد لا تقبل الاحتراق.
ثم قال لي: لا فائدة من علوم الكهنوت للذين يتهيئون لأن يطلوا على أرجاء الحياة السحيقة من كوات الدين الضيقة، وأن علوم الدين على وجاهتها وقداستها، تغل العقول، وتضيق الأذهان، وتبلد طبيعة الرجولة في الإنسان، وأن الكهنوت صناعة يحترفها الكسالى والبلداء، وأن الرجل الذي يعارك الدهر ويظفر منه بسلاح من الخلق السامي ونبالة القصد، والذي ينصر الإنسانية بروح منبعث من فيض إنسانيته هو، لا من تعاليم تحورت فصيرت جماعات الإنسان عبيداً للأفراد من بني الإنسان.
رأيت دموعاً جالت في عيني صاحبي وتحدرت كالبرد على خديه، ولمحت صور نفسه تشرق وتتجلى في صفحة جبينه وتقاطيع وجهه، وتكور جفونه، وانقباضات حاجبيه وشفتيه.
تناولنا كأسينا فأفرغنا ما بقي فيهما، أترعناهما بالرحيق من جديد، زودت غليوني بالتبغ، وقبيل إشعاله سألت صاحبي: ماذا كان مصيرك لو ذهبت صحبة الآباء البيض وتعلمت(135/65)
تعاليمهم، وتلقحت بمبادئهم، ونذرت الطاعة والعفة والفقر مرضاة لله وطمعاً في الآخرة؟
لا، لا، قال صاحبي: هذا سؤال لي أطرحه عليك، هذا عبء ألقيته عن ضميري منذ اتجهت صوب المادة أعالج شؤونها معالجة عامل عقله في ساعديه وذهنه بين ساقيه، وقلبه في (كرشه)، أجب أنت يا صديقي على هذا السؤال لأني آليت منذ هجرت الأهل والوطن أن ألتزم الآلة فأكون مثلها، تحركها القوة الدافعة، يغذيها الحريص على بقاءها بالزيت والشحم!! قل، أجب، أشرح لأني أتوق إلى معرفة ذلك المصير، مصيري لو صرت كاهناً، لأنه كثيراً ما أقض هذا الخاطر مضجعي، وعكر راحتي، وسلب الرقاد من جفوني على كره مني.
أشعلت غليوني، أخذت أنظر الدخان لأعقد حلقات تتمدد وتتبخر كخواطر الإنسان، وأرى النار تتأجج وتهمد في قلبه كالرغبات في ضمير رجل، ثم سمعت نفسي تناجيني وضميري يسارني فقلت:
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟ هل كانت تتبلد مشاعري، ويتحجر إحساسي وتتكور نظراتي، ولا تعود آرائي تدور إلا حول نقطة مجهولة في مصير مزعوم طمعاً في وهم ملفق؟
هل كنت أتعامى عن الدنيا وما فيها من بدائع صنعها الإنسان بقدرته فصيرها جنة لمن يطيب له النعيم في الجنات، وجهنم لمن يرتاح إلى الشقاء في الجحيم؟
هل كنت أنطوي على جوفي الخالي ورأسي القحل كما تنطوي الحية على نفسها في الرمال تتلمظ السم من أنيابها في انتظار حياة رغده في فصل الربيع الذي لا شك في إقباله بالخيرات
هل كنت أتوسد فراشاً محشواً بشوك الحرمان!، التحف الكبد أتقلب على جمرات من عذاب الجسد، ليس لي من مجير سوى حقنات الكافور تخمد إلى حين ثورة الأعصاب المتشنجة، والنفس المحمومة، والروح الحائر؟
هل تراني كنت أتوجه صوب السماء الصامتة أطلب الغوث من سكانها الصامتين؟
ماذا تراني كنت أكون لو فعلت تلك الفعلة؟
هل كنت ألبس المسوح وأسكن الأديار النائية، أعد دقائق العمر بين السأم والملل، والرجاء(135/66)
والخيبة، والشكوك والريب، والاستسلام والخمود؟ هل كنت أعزف عن الدير ومساجينه، والزهد وقتلاه، وأطمئن إلى سكن المدن حيث الزلفى إلى الأغنياء، والسلطان على الفقراء، والراحة للجسد، والشبع للمعد؟
هل تراني كنت أنطوي مع من انطوى قبلي من الأغنياء، أو أتمرد وأأتمر فأصل ذروة العرش فأحمل صولجان، وألبس تاج أتدثر طيالسة القياصرة، وأترك الصليب الثقيل للمتجردين، وأرغم الضعفاء على طاعتي باسم الصليب المقدس؟
صمت قليلاً وكان صديقي يصغي إلي، تجرعت جرعة من الشراب هدأت بها نفسي مما ساورها وباعدت بها عني حمم التصورات والتخيلات وقد ازدحمت في الذهن وأخذت تتدفق كسوائل صهرها البركان لتصل إلى العقل الذي يوازن ويقارن ويفاضل وإذا بي أسالها من جديد أسئلة عالجها لويجي بيرانديللو من قبل، وهي:
(أية سيادة لنا على عواطفنا وأفكارنا وإرادتنا وشخصياتنا؟ ألسنا كلنا خاضعين لضروب التأثيرات النفسية والجسدية وأن ليس لنا وجود شخصي معين؟ ألسنا وجدنا لنكون تبعاً لأعمال الآخرين؟ ألسنا نلعب الدور الذي يفرضه علينا مجتمعنا وبيئتنا وضعتنا، وأننا ننتهي إلى حيث لا نعرف أين نحن، وأننا لا ندري ما إذا كانت شخصيتنا الحقيقية هي التي نحلم بها، وهي التي نحياها، أو هي التي تتظاهر بها أمام الناس)
أسمع يا صاحبي وأصغي إلي، أن إنساناً واحداً في هذا الوجود له السيادة المطلقة على الفكر والعاطفة والإرادة الشخصية، وأنه وحده غير الخاضع لتأثيرات النفس على الجسد، هو وحده المتمرد على البيئة والمجتمع والعرف والقانون، هو الفريد في هذا الوجود، له وجود شخصي معين يعرف البداية كما يعرف النهاية هو صاحب الرسالة، الرسالة التي يضعها الإنسان لأخيه الإنسان، رسالة غير منزلة على القلب، ولا مكتوبة على الحجر، ولا مبعوث بها مع رسول، إنما هي أناة المجاميع، وتوجعات العبيد، وعويل الإجراء، يصورها بالقلم ضمير إنسان مثلي ومثلك يشعر بالأنين والوجع والعويل أكثر مما يشعر بها أولئك الصادرة عنهم أنفسهم، ويحس بالظلم والجبروت والطغيان والقهر الصادرة عن أفراد أشرار يعبثون بالمجاميع، يلهون ويلغون في جسومهم وأبدانهم ودمائهم كما لو أنها نازلة فيه ومنصبة عليه، هذا الإنسان من القلائل الذين يحملون رسالة مساواة الإنسان بأخيه، هذا(135/67)
الرسول الذي تتمخض الإنسانية فتلده، لا يمكن مطلقاً أن تقيده قيود إكليريكية، أو علمانية، أو تغله سلاسل الملكية أو الإقطاعية، أو تعوقه البرجوازية أو الرأسمالية لأنه خلق في الأصل لأن يكون صاحب رسالة!!
شتان يا صاحبي بين رجل روحاني تطوح به الأقدار والمصادفات فتلقيه بين مخالب المادة فتكتنفه من كل جانب فتغرقه بين طيات لذاذاتها، وبين رجل موهوب لو اجتمعت عناصر الطبيعة، وأتمر الوجود على طمسه والطغيان على وجوده لسخر من الطبيعة والوجود وبرز كالظاهرة الكوكبية في أجواء الفضاء يلمع ويسطع بين عناصر الكون ليتمها بوجوده!!
شتان بين البارقة من الروح وإشعاعاتها كلها، في كل إنسان نسمة من هذا الروح. أما صاحب الرسالة فهو روح بذاته.
ستعود إلى أمريكا وأرجع أنا إلى مصر، وقد نتلاقى ثانيةً، وقد لا نتلاقى لا في هذا العالم ولا في العالم المجهول، وستبقى أنت كما كنت مجداً في تنظيم مشاريعك الاقتصادية تموه بها على نزعة النسمة من روحك التي أكسدها الاستغراب في المادة، وسأرجع أنا إلى مثل ما أنا كنت عليه في تصوير الجمال بالألفاظ المتناسقة إرضاء لنسمة الروح المصقولة باندماجي فيها، وستلد الأمهات الآلاف مثلك ومثلي، وسيكون لكل منهم اتجاهه الخاص. نعم، وقد تعوق اتجاهه بعض العوامل الخارجية وتعرقله في إظهار ما في وسع نسمة الروح إظهاره من رسالة، ولكنها لم تصده عن إتمامها على الوجه المقنن في خصائصها وعناصرها المقننة!!
كلنا أبناء الطبيعة الهوجاء، والقدر الأرعن، والمدبر العابث، كلنا صرعى الفوضى وضحايا التشتت، إنما الرسول الملهم هو الذي يستجمع من الهوج والرعن والعبث ألواناً زاهية يرسم فيها للحياة صوراً جميلة فاتنة مغرية تجتذب الجماعات المغمورة بالجهالة صوب الغاية من وجود الحياة!!
باخرتان: اتجهت الواحدة صوب الغرب تحمل رجلاً ينزف دمه في عبادة المال حيث أربابه هناك، وألقت الثانية مراسيها في ميناء شرقي تعيد إليه عابداً من عباد الحب والجمال والفن حيث آلهتها هنا!(135/68)
حبيب الزحلاوي(135/69)
البريد الأدبي
التعصب اللغوي بعد التعصب الجنسي
ظهرت في إيطاليا أخيراً حركة للعمل على تطهير اللغة الإيطالية من العبارات والكلمات
الأجنبية؛ وبطل هذه الحركة كاتب معروف هو السنيور باولو مونيلي، وقد أذاع دعوته في كتاب شديد اللهجة يدعوا فيه إلى تحرير اللغة القومية العريقة من ذلك السيل من الكلمات والعبارات الأجنبية (البربرية) ويعترف السنيور مونيلي بأن هناك كلمات أجنبية في دوائر الأعمال والرياضة يصعب الاستغناء عنها، ولكنه يرى أنه يمكن الاستغناء عن الكثرة الساحقة من الكلمات والعبارات الدخيلة التي تشوه جمال اللغة الإيطالية وتظهرها بمظهر القصور والفقر في حين إنها من أعرق لغات الأرض وأغناها.
وهذه الحركة التي يدعوا إليها الكاتب الإيطالي بالنسبة للغة الإيطالية ليست إلا طرفاً من الحركة العامة التي ظهرت من قبل في تركيا الكمالية وفي ألمانيا، ثم ظهرت أخيراً في إيران؛ ومما يلاحظ بنوع خاص إنها من أثار النظم الطاغية التي تسيطر على هذه الأمم وتمعن في فهم النزعة القومية وتدفعها إلى حدود التعصب الجنسي والعلمي. ففي تركيا تضطرم الحكومة الكمالية بنزعة بتعصب عميق نحو الإسلام ونحو اللغة العربية التي هي من أبرز مظاهره، وتبذل منذ بضعة أعوام مجهوداً عنيفاً لاستبعاد الألفاظ العربية من اللغة التركية مع إنها تكاد تتفوق فيها على العناصر التركية الأصلية، وإحياء الألفاظ التركية القديمة؛ بيد إنها مع ذلك تضطر إلى الاشتقاق من اللغات الأوربية بكثرة ظاهرة، مما يدل على أن الغاية الحقيقية ليست تحرير اللغة التركية من الألفاظ الأجنبية، بل قتل العناصر العربية فيها تحقيقاً لبرنامج الكماليين في محو كل آثار للإسلام والعربية من الحياة التركية الجديدة. وفي ألمانيا الهتلرية تجري حركة لاستبعاد الألفاظ الأجنبية وتطهير الجرمانية منها. وهذه حركة نستطيع فهمها، في أمة عظيمة كألمانيا ذات لغة عريقة محدثة، وإن كانت فكرة الهتلريين لا تخلوا مع ذلك من عناصر التعصب القومي والجنسي. كذلك أخذت إيران أخيراً تحذو حذو تركيا في حذف الألفاظ العربية من اللغة الفارسية؛ بيد أن حكومة الشاه تجري في ذلك هوادة واعتدال، وتؤكد للعالم العربي أنها لا تبغي سوى غاية لغوية ثقافية ترى تحقيقها بأحياء مجد اللغة الفارسية القديمة.(135/70)
كتاب عن ضحايا الثورة الفرنسية
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب جديد عن الثورة الفرنسية بقلم دونالد جرير؛ وعنوانه (حوادث عهد الإرهاب) فهو إذن يتناول هذه الناحية من حوادث الثورة فقط، وهي بلا ريب من أخصب نواحي الثورة وأحفلها بالحوادث الرائعة.
وقد ظهرت عن الثورة الفرنسية في معظم الآداب الحية كتب ومؤلفات لا حصر لها، ومنها آثار جليلة شاملة، ولكن الثورة الفرنسية تبقى أبداً موضوعاَ للتأمل والدرس، ولا ينضب معين الطرافة والجدة في حوادثها وأسرارها الدفينة. ومؤلف اليوم ليس قصة، وإن كان ما يورد من الحوادث يفوق القصص من غرابته وروعته، بل هو تأريخ محقق من الوثائق والسجلات والمراجع المحترمة؛ وفيه يقص المؤلف حوادث عهد الإرهاب الذي أزهقت فيه عشرات الألوف، ويصور لنا حالة الفرائس المسوقة من الكبراء والنبلاء، ويسرد حوادث محاكمتهم وإعدامهم في روية واعتدال، وقد انتهى المؤلف إلى القول بأن من اعدموا خلال هذا العهد بواسطة المقصلة يبلغون 594 , 16 نفساً، وأن هناك عدداً أكبر يقدر بين ثلاثين وأربعين ألفاً هلكوا في السجون من المرض والبرد والمعاناة النفسية؛ وتقديره النهائي هو أن خمسة وخمسين ألفاً هلكوا ضحية الثورة الفرنسية، هذا بينما يقدر بعض الباحثين من هلكوا في الثورة الروسية الأخيرة (الثورة البلشفية) بخمسين ألف فقط، ويعرض لنا الكاتب في أسلوب قوي شائق العوامل والأسباب التي يعتقد أنها مبعث هذا العنف والسفك المنظم.
مشروع علمي جليل: سلسلة المعارف العامة
اعتزمت لجنة التأليف والترجمة والنشر إخراج كتب لطيفة الحجم يتناول كل كتاب منها موضوعاً خاصاً علمياً أو أدبياً؛ وترمي بذلك إلى تكوين سلسلة تشمل جميع النظريات الحديثة في الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والتربية والطبيعة والكيمياء وغير ذلك؛ وقد سلكت في ذلك طرقاً مختلفة، فأحياناً تترجم كتباً أجنبية إذا رأتها صالحة كل الصلاحية، وأحياناً تؤلف في الموضوع بما يتفق وذوق الجمهور العربي.
وقد بدأت هذا الشهر في إخراج ثلاثة كتب.
(الأول) عرض تاريخي للفلسفة والعلم تأليف أ. وولف وترجمة الأستاذ محمد عبد الواحد(135/71)
خلاف، وهو كما يدل عليه أسمه نظرة عامة في تأريخ الفلسفة والعلم من بدء نشأتهما إلى الآن.
(الثاني) الآراء الحديثة في علم الجغرافيا تأليف ل. ددلي ستامب وتعريب الأستاذ أحمد محمد العدوي مدرس الجغرافيا بالجامعة المصرية.
(الثالث) سكان هذا الكوكب تأليف الدكتور محمد عوض أستاذ الجغرافيا في الجامعة المصرية يبحث في سكان الكرة الأرضية من بني الإنسان من حيث نشأة النوع البشري وتعدد الأجناس ونمو السكان وتوزيعهم على سطح الأرض مع دراسة تفصيلية لحالة السكان ومشاكلهم في مختلف الأقطار.
وستخرج اللجنة في شهر فبراير سنة 1936.
(1) كتاب (البراجماتزم) أو الفلسفة الأمريكية تأليف الأستاذ يعقوب فام.
(2) كتاب (النقد الأدبي) تأليف لاسل أبر كرومبي وترجمة الدكتور محمد عوض.
(3) كتاب (علم التاريخ) وهو بحث في النظريات الحديثة لعلم التاريخ ترجمة الأستاذ عبد الحميد العبادي.
وهكذا ستسير اللجنة على هذا النمط في إخراج أجزاء السلسلة تباعاً في فروع العلم المختلفة.
وقد شجعت وزارة المعارف العمومية اللجنة على هذا العمل بمساعدتها المالية والأدبية.
وترجوا اللجنة باستمرارها في هذا العمل أن تكون منه دائرة معارف عامة تشمل كل الموضوعات العلمية والأدبية.
رئيس لجنة التأليف والترجمة
أحمد أمين
تجربة لاختبار الذكاء
قامت بعض دوائر التربية في اليابان بتجارب عقلية لاختبار ذكاء التلاميذ في المدارس الابتدائية، وجعلت الحد الأعلى لمقدرة التلاميذ 150 درجة واختبرت بهذه الطريقة سبعة آلاف تلميذ فلم ينل منهم الحد الأعلى أعني 150 درجة سوى 165 تلميذاً فقط وظهر من(135/72)
التجربة أن اختلاف السن بين الوالدين لا يؤثر تأثيراً سيئاً على الصفات العقلية للنسل؛ ذلك لأنه وجد بين هؤلاء المائة وخمسة وستين تلميذاً النابغين عدد كبير من الأبناء الذين ولدوا من آباء سنهم بين الثالثة والأربعين والخامسة والأربعين، وأمهات بين الخامسة والعشرين والسابعة والعشرين. بيد انه وجد في معظم الحالات أن هؤلاء التلاميذ ولدوا من آباء في نحو الثلاثين وأمهات في نحو الرابعة والعشرين.
وقد ظهر أيضاً أن الوالدين الفتيان لم ينجبوا أبناء في منتهى الذكاء، وأن الزواج الباكر جداً ينتج أبناء لا تفتح مواهبهم العقلية تفتحاً تاماً؛ هذا وقد لوحظ مع الدهشة أن الموظفين والمستخدمين الصغار هم آباء أذكى التلاميذ، ثم يأتي بعدهم التجار، ثم أرباب الصناعات فالمربون فالأطباء فالعمال.
ومما أظهرته التجربة أيضاً أن أذكى التلاميذ هم كذلك أصحهم بنية وجسماً.
آثار العمالقة
يقدم إلينا القصص القديم كثيراً من سير العمالقة والمخلوقات الضخمة التي لم تعرفها عصور التاريخ المدون؛ والظاهر أن أولئك (العمالقة) لم يكونوا مجرد خيال فقط صوره القصص القديم؛ ففي الأنباء الأخيرة أنه اكتشفت في منطقة مانيتوبا في كندا (أمريكا الشمالية) هياكل بشرية ضخمة يبلغ طولها نحو ثمانية أقدام (نحو مترين وثلاثة أرباع المتر)، وأحدها في حالة جيدة من الحفظ، وكان اكتشافها على عمق أربعة أقدام في أحد المحاجر التي تستغل في تلك المنطقة.
وقد استدعيت بعثه من الأخصائيين من علماء التشريح وعلم طبقات الأرض برآسة الأستاذ ديلوري أستاذ علم طبقات الأرض بجامعة وينبج، فصرح بعد بحث الهياكل أنها ترجع إلى عدة آلاف من السنين، وأنها تنتمي إلى جنس من العمالقة كان يسكن غرب كندا قبل مجيء الهنود الحمر بأحقاب بعيدة.
هذا عن العمالقة من بني الإنسان. أما المخلوقات الضخمة التي يذكرها القصص القديم، فتدل الأبحاث العلمية الحديثة على أنها كانت توجد في غابر الأزمان في بعض جهات الصين وأفريقية الجنوبية كما تدل على ذلك بقايا العظام والهياكل الضخمة التي اكتشفت في تلك الأنحاء. وأما الأحياء المائية الضخمة فما زالت توجد حية في بعض البحار وإن كانت(135/73)
قد غدت نادرة بحالة تؤذن أنها أضحت على وشك الانقراض.
أثر خطي نفيس
لا تزال الأديرة القديمة في مختلف أنحاء أوربا تحتفظ بكنوز من الآثار الخطية القديمة؛ ومن هذه الأديرة دير كرمز منستر بالنمسا، فهو يحتفظ بطائفة من مخطوطات العصور الوسطى، وفي الأنباء الأخيرة أن مكتبة الدولة في بافاريا قد حصلت من هذا الدير على مخطوط اثري نفيس للشاعر الألماني هنيرنخ فون منخن وهو مخطوط يرجع إلى القرن الرابع عشر، وفيه قصص شعرية رائعة مأخوذة من التوراة، وقصص أخرى من العصر القديم حتى عصر كارل الأكبر، وقد تولى شراءه لحساب مكتبة بافاريا الهير فون بابن سفير ألمانيا في النمسا.
وفاة مؤلف موسيقي
من أنباء فينا (النمسا) أن المؤلف الموسيقي الشهير البان برج قد توفي، وكان مولده في فينا منذ خمسين عاماً، ومع انه من تلاميذ المدرسة الإمبراطورية القديمة، فأنه نحا في التأليف الموسيقي نحواً جديداً، وله مقطوعات موسيقية كثيرة، وقطعة (أوبرا) تسمى (فوتسك) نالت نجاحاً عظيماً، وكان إلى ما قبل وفاته بأيام قلائل يقود حفلاً موسيقياً عظيماً في أحد المسارح فينا الكبرى، فأثارت طريقته الجديدة استحساناً عظيماً كما أثارت نقداً عظيماً، ويرى النقدة أنه لم يبلغ ذروة قوته وفنه، وأن الموت عاجله، فأصابت الموسيقى النمسوية بفقده خسارة لا تعوض.
جوائز أدبية نمسوية
ومن أنباء النمسا أيضاً أن جائزة الدولة النمسوية عن الأدب لسنة 1935 قد منحت إلى الأستاذ بركونج، ومنحت جائزة الدولة للموسيقى إلى الأستاذ يوسف مسنر رئيس فرقة سالزبورج الموسيقية؛ ونال جائزة التأليف الموسيقي المؤلف الموسيقي الشهير الدكتور فريدريخ ريدنجر.(135/74)
الكتب
كتاب اللآلئ
شرح امالي القالي
للأستاذ أحمد أمين
أخرجت المطابع الشرقية، آلاف الكتب العربية، ولكن - مع الأسف - لم يكن الإخراج في أكثر الأحيان على نمط علمي ولا قريب منه؛ فكثير من الناشرين تجار لا علماء، يهمهم الربح أكثر مما تهمهم الدقة والضبط، فهم يعهدون في تصحيح كتبهم إلى من ليسوا محل ثقة، ولا أمانة، فلا يكلفون بنفسهم عناء جمع النسخ من الكتاب ليستعينوا بها، بل يعتمدون على نسخة واحدة وقد يكون غيرها خيراً منها، ثم لا يرعون الأمانة فيما بين أيديهم. فقد لا يفهمون جملة فيغيرونها أو يحذفونها، وقد لا يستطيعون قراءة كلمة فيضعون كلمة أخرى من عندهم محلها، من غير إشارة ولا تنبيه، فخرج كثير من الكتب وعدمها خير من وجودها، والنار أولى بها من المكتبات. وأمامي الآن وأنا أكتب هذه السطور كتاب الحيوان للجاحظ فلا أستطيع أن أقرأ صفحة منه من غير أن أعثر فيها على عدة عثرات، من نقص، إلى تصحيف، إلى زيادة حرف، إلى لحن، إلى ما شئت من كل ضروب الخطأ - مع أن في مكاتب العالم نسخاً يمكن بموازنتها إخراج نسخة أقرب إلى الضبط أدنى إلى الكمال. ومثل كتاب الحيوان غيره من الكتب الأخرى يطول القول بتعدادها، فنحن إذا عددنا الكتب الصحيحة أو القريبة من الصحة سهل علينا عدها، وإذا عددنا السيئة المغلوطة أعيانا العد، وقد أعرنا بعض العناية لكتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكتب اللغة كالقاموس واللسان. فأما غير هذين النوعين فقد كان مجال الخطأ فيه فسيحاً وفي ميدانه متسع للجميع.
وقد سبقنا المستشرقون في النشر وطرقه بمراحل ووضعوا له قواعد وأصولاً؛ ولست أنسى المحاضرات القيمة التي ألقاها في سنة المرحوم (برجستراسر) في كلية الآداب بالجامعة المصرية في كيفية معارضة النسخ القديمة بعضها ببعض وكيفية النشر وما يجوز للناشر وما لا يجوز. . . الخ
وكان كثير من الكتب التي أخرجها المستشرقون مثالاً صالحاً، لأنهم يعدون نشر الكتاب من(135/75)
الناحية العلمية لا يقل قيمة عن التأليف، فالعالم كما يعد من مفاخره أنه ألف كتاباً، يعد من مفاخره كذلك انه نشر كتاباً؛ وكما لا يضن بجهده ووقته فيما ألف، لا يضن بهما فيما ينشر. ومن الأوليات عندهم أن يجمعوا كل النسخ من الكتاب الذي يريدون نشره من مكاتب العالم ما استطاعوا، ويصرفوا الزمن الطويل في مقابلة بعضها ببعض والتعليق عليها وضبط أعلامها وغريها، ولا يألوا جهداً في إيضاح الغامض وتبيين الشكل، ووضع الفهارس للأعلام والبلدان وما إلى ذلك. فلا عجب أن يصرف الأستاذ (ريت) عشر سنوات في تصحيح كتاب الكامل للمبرد ونشره لأول مرة؛ وفضله وجده ظاهران في الطبعات المصرية التي نشرت بعد، حتى سهل على العالم أن يدفع الثمن الغالي لكتاب طبع طبعة أوربية ولا يدفع الثمن البخس في طبعة له مصرية. أن شئت فوازن بين كتاب الشعر والشعراء لأبن قتيبة المطبوع في أوربا والمطبوع في مصر، فهو في مصر ناقص أكثر من نصفه، ومحرف تحريفاً شنيعاً، وهو في أوربا كامل مضبوط صحيح بقدر الإمكان.
ومما نغتبط أن نرى من أهل اللغة العربية أنفسهم من حذا حذو المستشرقين في نشر الكتب، بل فاق بعضهم أحياناً، فبذل الجهد في التصحيح والتعليق ومعارضة النسخ وعمل الفهارس، وهذه طليعة حسنة نرجو أن تستمر وترقى. فرأينا مثلاً من ذلك فيما تنشره دار الكتب من كتاب الأغاني ونهاية الأرب وغيرهما، وفيما تنشر لجنة التأليف من كتاب السلوك للمقريزي.
ولعل من أجل الأعمال في هذا الباب ما فعله صديقنا الأستاذ عبد العزيز الميمني في نشر كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي للوزير أبي عبيد البكري، فقد اختار كتاباً للنشر فأحسن الاختيار، لأن كتاب الأمالي عدّ - من قديم - أصلاً من أصول الأدب التي اعتمد عليها الأدباء في العصور المختلفة إلى الآن، وقد كان النواة الأدبية الأولى التي بذرها أبو علي في بلاد الأندلس من علوم المشرق فنمت وأثمرت ونضجت وآتت أكلها كل حين بإذن ربها وقد كانت أماليه المدرسية التي تخرج عليها مشهورو الأداء في الأندلس ولقيت منهم من العناية ما هي جديرة بها. وكان للأمالي طابع خاص غير الطابع الذي غلب على أمثالها من كتب الأدب كالبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد؛ فكتاب البيان والتبيين طابعه مختار من الأدب صبغ بصبغة الجاحظ من ميل للاستطراد الكثير وتحدث في الشؤون الاجتماعية،(135/76)
واقتباس من الثقافات الأجنبية، كالثقافة الفارسية والهندية واليونانية، وميل إلى الفكاهة والأحماض؛ وكتاب الكامل غلبت عليه طبيعة المبرد من ميل إلى النحو والصرف، لأن المبرد كان أديباً نحوياً فأحسن ما يعجبه من الأدب ما استطاع أن يخرج منه إلى مسألة نحوية أو صرفية ثم يطيل النفس في ذلك حتى كان الكتاب كتاب نحو؛ وهو لا يستطرد في الشؤون الاجتماعية كما يفعل الجاحظ، ولكنه يعنى بالثقافة العربية مصبوغة بالصبغة النحوية؛ فمظهر الجاحظ مظهر المتكلمين من سعة الإطلاع وتفتيق الموضوع، ومظهر المبرد مظهر النحويين الأدباء من تشقيق اللفظ وتخريجه وإعرابه واستعراض معاني الكلمات في أوضاعه المختلفة.
أما القالي فقد غلب عليه الأدب واللغة اكثر من غلبة النحو والحديث؛ وأكثر ما ألف في اللغة والأدب، فقد ألف البارع في اللغة، وشرح المعلقات، وكتب في الإبل ونتاجها، والخيل وشياتها الخ. فثقافته ثقافة عربية لغوية؛ ثم هو ليس عربياً كالجاحظ والمبرد بل هو مولى للأمويين: كان جده سلمان مولى لعبد الملك بن مروان، ولعل هذا ما حدا به إلى أن يرحل من الشرق إلى دولة مواليه الأمويين في الأندلس؛ وهذا يميزه عن الجاحظ والمبرد بأن علمه كان علم حفظ وجمع ورواية لا تعتمد على السليقة كما يعتمدان. فهو إذا أراد أن يخطب أرتج عليه، ولكنه في درسه واسع العلم غزير الرواية وكان كتابه الأمالي مظهراً لذلك، ينقل القطعة المختارة من العرب في شعرهم ونثرهم وحكمهم وخطبهم ووصاياهم - واكثر ما ينقل عن أستاذه أبي بكر بن دريد - ثم يتبع نقله بتفسيره بما ورد في القطعة الأدبية من ألفاظ لغوية، ويشقق الكلمة اللغوية ويبين معانيها، وكثيراً ما يستشهد على معنى الكلمة ببيت من شعر قديم أو مثل سائر أو نحو ذلك. وكتابه يمتاز بأنه يروي كثيراً من القصص العربية الأدبية، وهي نزعة أتت له من أبن دريد، فقد كانت على ما يظهر محباً لهذا النوع من القصص اللطيف. فأكثر ما يرويه القالي في أماليه من هذا القبيل: فأعرابيات يصفن آباءهن، ومحاورة للفرزدق مع بعض الأعراب، ووصف أعرابي للدنيا وقد سأل عنها، ووصايا رجل لبنيه وامرأة لبناتها الخ؛ فمختاراته ليست جافة جفاف (الكامل)، ولا أدباً بحتاً كأدب (الكامل)، إنما هو أدب فرش له فرش جميل وعد له إعداد أنيق. لم يجرد فيه الظروف من ظرفه، ولم تسلب فيه الحسناء حليها؛ وقل أن يتعرض فيه(135/77)
للنحو والصرف الثقيلين كما يفعل المبرد ولا للاستطراد الخفيف الروح كما يفعل الجاحظ. إنما خفة روح الأمالي من نمط آخر غير نمط البيان والتبيين، نمط فيه التاريخ والقصص والأساطير أحياناً ممزوجة بالأدب، ثم تفسير لما ورد فيها من غريب اللغة.
ولكن أخذ عليه بعض أشياء في تأليفه، فجاء أحد موطنيه وهو أبو عبيد البكري الأندلسي أمير لبلة وصاحب جزيرة شلطيش، فأراد أن يخدم الأمالي بتكميل نقصها، وتحلية عاطلها، فألف في ذلك (كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي) وأجمل غرضه فيما قدم بين يدي كتابه فقال: (هذا كتاب شرحت فيه من النوادر التي أملأها أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي ما أغفل، وبينت من معني منظومها ومنثورها ما أشكل، ووصلت من شواهدها وسائر أشعارها ما قطع، ونسبت من ذلك إلى قائلي ما أهمل. . . وذكرت اختلاف الروايات فيما نقله ذكر مرجح ناقد، ونبهت على ما وهم فيه تنبيه منصف لا متعسف ولا معاند، محتج على جميع ذلك بالدليل والشاهد والمستعان الله).
ثم جاء الأستاذ عبد العزيز الميمني الهندي أستاذ اللغة العربية بجامعة عليكره فقام في هذا الكتاب مقام يستحق الإعجاب حقاً، ويستحق التقدير حقاً، وقد دلنا منه على علم غزير وإطلاع واسع وأن لم يكن ذلك خافياً علينا من قبل.
فقد أخرج كتاب (اللآلئ في شرح أمالي القالي) إخراجاً علمياً على النمط الذي ننشده، فعارض بين نسخة المختلفة من مكية وألمانية؛ وبذل أقصى الجهد في تصحيحها، ولاقى عرق القربة في ضبط أعلامها وبلدانها وأشعارها وغريبها، ووقف في كثير من المواضع موقف الحكم بين أبي على وأبي عبيد، ينتصر لهذا حيناً وذاك حيناً بالدليل والبرهان؛ ورأى أن أبا عبيد البكري أقتصر في شرحه ونقده على كتاب الأمالي دون الذيل فوقف الميمني موقف البكري في ذلك، وشرح الذيل ونقده - وراجع في كل ذلك مئات من أمهات الكتب. وسيعجب القارئ كيف وقف على الأبيات المختلفة المنتثرة في هذه الكتب العديدة وعرف مواضعها، ووفق إلى استخدامها، ثم ختم ذلك بتصحيح أغلاط وضبط روايات، وتقييد زيادات، لكتاب الأمالي وذيله المطبوع في مطبعة دار الكتب، فأوفى في ذلك كله على الغاية.
ومنطقه في أحكامه على القالي والبكري منطق صحيح غالباً، وأن أخذ عليه شيء فاستعماله(135/78)
أحياناً عبارات قاسية في النقد مثل (أغلاط مستنكرة) و (متناهية في الاستبشاع) ونحو ذلك مما كنا نود أن يرفق فيه قلمه.
وعلى كل حال فقد أسدى (الميمني) إلى اللغة العربية خدمة لا تنكر، وقدم مثلاً للنشر يجب أن يحتذى.
وكان من فضل كتابه أنه (عصبة أمم) في كتاب، فأبو علي القالي شرقي استوطن قرطبة، والبكري أندلسي الأصل والنشأة، و (الميمني) هندي، ولجنة التأليف ناشرة الكتاب مصرية. فأنعم بهذه الرابطة بين القديم والحديث، وبين المحدثين في أوطانهم المتنائية وأرواحهم المتقاربة!
أحمد أمين(135/79)
العدد 136 - بتاريخ: 10 - 02 - 1936(/)
على ذكر حوادث دمشق
تاريخ يثور. . .
على ضفاف الوادي، وهضاب فلسطين، ورياض سورية، يثور تاريخ، ويغضب مجد، ويستغيث مظلوم. . .!!
على الوطن الذي ورفت على نيله أول حضارة، والبلدِ الذي هبط على طُوره أول دين، والقُطر الذي انبثقت من ساحله أول ثقافة، تُمتْحن الحرية بمن فرضوا على الملك أول دستور، وتُمْتهن العدالة ممن حملوا للهِ أول كتاب، وتُبتلى الإنسانية بمن أعلنوا للإنسان أول حق. . .!!
على هذه الأقطار الثلاثة التي شع منها السلام والإسلام والخير، يستكلب الطمع، ويشتجر الهوى، وينفجر البغي؛ فالمفاوضات وعيد، والاحتجاجات حديد، والمواعيد مراوغة، كأنما عيِّ المنطق من طول ما مارس العلم! ومات الضمير من كثرة ما دارس الخُلق! وزهق العدل من شدة ما زاول القانون!!
في القاهرة وأورشليم ودمشق، شباب يحمَي على لذع البنادق، ودم يفور على مسِّ الأسنة، وأمل يشرق فيالوجوه الوضيئة، وطموحٌ يومض في العيون الرغيبة، وماضٍ تميز في إبهام الدهر يتمثل في الأذهان الصافية، ومجدٌ تأثَّل في أربعة عشر قرناً يعصف بالنفوس الفتيَّة! فماذا تصنع مُدية اللص في قلب تدرَّع بالأيمان؟ وماذا تبلغ سطوة الباطل من حق تسجَّل في لوح الزمان؟!
يا لله! ألم يَأْن لدعاة المدنية. . . وحماة الحرية. . . ورسل العلم. . أن يروضوا عقولهم على الحقيقة، ويفتحوا عيونهم على الواقع؟! إن هذا الشعب الذي تتحلب أفواههم قَرَما لأكله، لا يزال يعيش في ملك آبائه الفاتحين، ولا يزال مطويَّ الحنايا على العزيمة التي قبض بها من قبل على زمام الدنيا، وشارك في تصريف الأقدار، وأملى إرادته على سجل الزمن! إن حلمه لثقيل، ولكن غضبته مفزعة؛ وإن نومه لطويل، ولكن يقظته مروَّعة! إنه على اختلاف أقطاره لا يزال يحمل في نفسه سر (الجزيرة) التي يعيش فيها الجمل الوقور الصابر، والأسد الهصور المتوثب!!
إن في كبد أوروبا جمرة من العرب منذ غزتها بالدين والمدنية والعلم سفائنُ طارق! ولقد(136/1)
انطفأت البراكين ولما تنطفئ هذه الجمرة! أجْلت العرب عن أرضها بالبربرية الهوجاء والتعصب الحاقد والقسوة الجامحة، ثم كتَّبت الكتائب الحليفة وغزتهم في عقر بلادهم باسم الدين المظلوم في عهد (صلاح الدين)، ثم بالعلم المسموم في عصر (عبد الحميد)، ثم بالمدينة المغشوشة في عهد (عصبة الأمم)! فما كان الدين والعلم والتمدن إلا ألفاظاً حُمِلت بالكره على معاني الثأر والاستعمار والغصب! ثم أغروا بنا الجهالة والمجاعة والفوضى، ومضوا في ظلال الأمن، يعقدون من دمائنا الذهب، ويتخذون من لحومنا القوت، حاسبين أننا مخدَّرون بالأباطيل فلا نفيق، مُثْقلون بالتقاليد فلا ننهض؛ ولكن المعدن ياغُلْفَ القلوب كريم! وهذا الذي يعلوه غبار لا صدأ! وهاهي ذي سياسة الإرهاب والاغتصاب تجلوه عن شباب عرفوا كيف يموتون، أكثر مما عرفوا كيف يعيشون!! وهاهم أولاء يمشون على ما بلي من هياكل الشيوخ، كما يمشي المَرحون على ما جف من سفَير الشجر!! إنهم يسرعون الخطى إلى الربيع الباسم والجو الطليق، وفي أسماعهم المرهفة دويُّ لا ينقطع بهذا الهتاف: (لقد فتح آباؤكم ثلاث قارات في ربع قرن، أفتعجزون عن تحرير ثلاثة بلاد في نصف قرن؟!
إن شباب العرب مصريين وسوريين قد أخذوا موثقهم من الدم الشهيد أن يعيشوا أعزة أو يموتوا كرامَا! فلا تَتَحَدَّوا بالعذاب السفيهِ جنساً برمته وتاريخاً بأسره، ولا تعبثوا بالمعاجم التي تعب فيها اللغويون والمجامع فتسموا النهب تنظيماً والقتل تعليماً والغزو صداقة! جربوا الصداقة بمعناها اللغوي الصحيح تَفِرُوا المال والرجال والسمعة، فان هذا الشعب الذي وقعتم في صفوه، وتعبتم من غزوه، ويئستم من خداعه؛ كان له في السياسة العالمية شأن، وفي اللغة الدولية اصطلاح، وفي قيادة الإنسانية محل، ومن إصلاح المجتمع نصيب! فهو يفهم الصداقة، ويَقْدِر المعاونة، ويكبر التضامن، ويعقد صِلاته بالناس على ضوء شريعته وقرآنه!
إن سلام الشرق منوط بسلام العرب؛ وإن السلام والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد؛ وليس من معاني السلام المهانة، ولا من دلالات الإسلام الاستكانة! إنما هما الحياة القائمة على الحرية والإخاء والمساواة، وهي الأقانيم الثلاثة التي رسمتها الثورة على عَلَمكم المثلث!(136/2)
بِغير هذا لا يرضى العرب! وبدون هذا لا يحيا العرب! فراجعوا في سياستكم العقل السالم من الهوى، والضمير الخالص من الرِّيبة، وحكموا بينكم وبينهم مبادئ الناس، فانهم - كما تحسون وتلمسون - من الناس!!
احمد حسن الزيات(136/3)
في وقع الموت
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ضمني مجلس قال أحد من فيه - وقد ذكر بعضنا وفاة الملك جورج الخامس، وقول الأطباء إنهم لم يشهدوا أعراض مرض معين، وأن قواه كانت تهبط شيئاً فشياً -: (إن من الصعب على الإنسان أن يواجه الموت وهو محتفظ بعقله)، فقال آخر إن الذي يخفف عنه في هذه الساعة أنه يستسلم للموت ولقضاء الله فيه، فسألته: (هل معنى هذا أنه يقبل على الموت راضياً ويتلقاه مغتبطا؟
فكان جوابه: (نعم. . . . يستسلم فيفقد الموت لذعه ورهبته). . . ولست طبيباً ولا شبهه، ولكني لا أرى هذا ولا أستطيع أن أقتنع به؛ وعندي أن الإنسان لا يزال إلى آخر عمره يثور على الموت وبجاهد أن يدفعه عنه ويقي نفسه منه؛ ولكن جسمه يفقد الحيوية فتذهب معها الإرادة - لا إرادة الحياة، فإنها لا تفارقه أبداً، بل إرادة المقاومة والكفاح بعد استنزاف القوة، ويظل المرء كارهاً للموت مشتهياً للحياة متعلقاً بها، ولكنه يعرف من نفسه أنه لم يعد قادرا على المجاهدة، ويخطئه العون اللازم من الجسم فيكون كالذي فقد في المعركة سلاحه، أو فرغت ذخيرته والأعداء مطبقون عليه، فيوطن نفسه على الموت يأساً من النجاة
والمرء إنما يقاوم الموت بجسمه، وقد يستطيع بقوة الإرادة أن يطيل أمد المقاومة؛ ولكن استمرار المقاومة معناه أن جسمه لا يزال محتفظاً ببقية من القوة مذخورة - بالغة ما بلغت من الضآلة - وبهذه البقية يستطيع أن يجعل لإرادته أثراً ولمقاومته لعدوان الموت مظهراً، فإذا زالت هذه البقية ونضب المعين، لم يبق للإرادة عمل، لأن الأداة التي تعمل بها الإرادة تكون قد فنيت وذهبت
ولا فرق هناك بين من يكافح الموت - في الأحوال العادية الطبيعية - وبين من يقاتل مع جيش. فكما أن الجندي يثبت ويصمد ويتسنى له أن يكر ويفر، ويهاجم ويدافع ما بقي معه سلاحه وعدته، حتى إذا فقد ذلك لم يبق له عمل، كذلك يكون المرء حيال الموت الذي يدلف إليه ويدنو منه على الأيام ليثبت عليه آخر الأمر. وكل ما هنالك من الفرق أن الموت كامن فينا، وأن أداته الضعف الذي يصيبنا، والهرم الذي يدركنا، والعجز الذي يستولي علينا في النهاية، فهو ليس عدواً يهجم علينا، بل حالة نصير إليها حينما تنفد الحيوية لسبب من(136/4)
الأسباب
وقد راقبت الموت أكثر من مرة، وشهدت كثيرين وهم في سياقه، ثم ماتوا بين يدي، وكان الموت في هذه الحالات كلها على أثر نضوب الحيوية ونفاد القدرة على المقاومة. وكانت إحدى الميتات بسبب النزف، فظل العقل حاضراً لا يغيب ولا تغيم سماؤه، ولا يتعكر صفوه؛ وكان الإحساس بدنو الأجل قوياً، ولاشك أن الرغبة في الحياة كانت عظيمة، والجزع من الفناء كان شديداً، ولكن الجسم لم تكن له قوة تستخدمها الإرادة، فخرج النفس الأخير في سلام ومن غير أن يبدو للناظر أثر للصراع. وبأي شيء يكون الصراع؟؟
وميتة أخرى شهدتها، كان الصراع فيها كأعنف ما يمكن أن يكون، لأن الجسم بوغت بعدوان المرض المنذر، فتنبه فيه كل كامن من قوته، وهبت إرادة الحياة تدفع هذه الغائلة، وكان يخيل إلى وأنا أنظر، كأن إنساناً ألقي به في الماء وهو لا يعرف من السباحة إلا لفظها، وكما يفعل المرء حين يلقي نفسه في الماء ويخشى عليها الغرق، فتراه يضرب بيديه ورجليه بغير حساب أو تفكير ويهز رأسه هزاً عنيفاً، وينفخ ويرغى، كذلك كنت أرى أمي لما أصابتها الذبحة؛ وسكنت الآلام بفضل العلاج يومين، وبدأنا نستبشر، ولكن النكسة جاءت، أو لا أدري ماذا حدث، فجعلت نوبات من الاختناق تعتريها، وبينها في أول الأمر فترات طويلة جعلت تقصر شيئاً فشيئاً حتى صارت دقائق. وكانت أول الأمر تقاوم الاختناق بشدة، وتعالج التنفس بجهد عنيف، يظهر أثره في كل عضلة من عضلات الوجه والعنق، وفي اضطراب الصدر وخفق القلب، وفي دفع اليدين والرجلين؛ وكان همي أن أقوي إرادة الحياة في نفسها وأن أمدها بما يكفي من الأمل والثقة والشجاعة، ولكن كرات الاختناق أوهت قوتها واستنفدت مجهودها، ولم يفارقها الحرص على الحياة، والنفور من الموت، وإنما خذلتها قواها؛ ولم يذهب عقلها ولا ضعف أو كل، ولكن ما خير العقل وما غناؤه وحده؟؟ وبأي شيء يشتد أزره؟ فلما جاءت آخر النوبات كان كل ما وسع الجسم أن يكافح به هذه الغارة أن الشفة السفلى اختلجت مرة أو مرتين، فهمد الجسم وكف القلب عن النبضان وانقطعت الأنفاس
وقد سقت هذه الأمثلة لأقول إن الإنسان لا يستسلم ولا يزهد في الحياة، ولا تفتر رغبته فيها، ولا يضعف كرهه للموت واستهواله للفناء، ولكنه لا يجد مؤازراً من جسمه فييأس؛(136/5)
وليس هذا استسلاما وإنما هو إدراك لحقيقة بغيضة لا يبقى مفر من مواجهتها وتوطين النفس عليها، والإذعان لها كرها. وخليق بهذا أن يكون مؤلماً، ولكن فترته أقصر من أن يكون للألم فيها قيمة أو حساب، وعلى أن عجز الجسم عن المقاومة، يذهب في رأيي بالألم، لأن الألم فيها أعرف نوع من الاستجابة لوقع الشيء أو الحالة، ومتى فقد الجسم القدرة على الاستجابة للمؤثرات فانه يفقد أيضاً قدرته على الإحساس بالألم أو الحزن أو الجزع أو الفزع، لأن شعوره بذلك يقتضي أن تكون هناك بقية من الحيوية، ولو كانت هناك بقية، لاستمرت المقاومة ولظلت رحى الكفاح بين الحياة والموت دائرة
فلست أوافق الذين يستهولون أن يكون المرء مدركا لمجيء الأجل، لأن إدراك المرء لذلك، معناه أنه يدرك أن جهده نفد، وأن مَعين حيويته نضب وجف، وهذا الإدراك وحده وبمجرده، رياضة سريعة للنفس على السكون إلى المصير المحتوم، لأنه إشاعة للموت في الجسم قبل تجربة وقعه، فكأن الإنسان يوحي إلى نفسه الموت - بفضل هذا الإدراك وبقوته - قبل أن ينزل به، فإذا زاره ألفاه مستعدا له، مهيأ لتلقيه؛ والإدراك تهيّؤُ، والتهيؤ ينفي الألم ويستل اللذع.
ومن هنا كانت الشيخوخة - أي الضعف - والمرض الطويل أو المضني، بمثابة التدريب على الموت. وكل امرئ يقرن الشيخوخة أو المرض بالموت، ولا يستغربه حين يحل بالهرم أو الذي خامره الداء، ولكن موت الشاب يصدم النفس ويرجها، لأن الشباب - وهو أوان الحيوية الزاخرة - لا يقترن في الأذهان بفكرة الموت. أما الشيخ الهِمُّ فأن كل من يراه يجري بخاطره أنه هامةُ يوم قريب، وأخلق أن يكون الموت أقرب إلى خاطره وأجرى بباله، وأشد مثولاً وأكثر حضوراً، لأنه أحسَ بنفسه وأدق إدراكا لما خسر من قوته، وعلما بما صار إليه من الوهن والفتور بالقياس إلى ما كان عليه من المنة والنشاط والخفة والمرونة. ويَّألف المرء الضعف واليبس فيألف المصير الذي يرى نفسه ينحدر إليه بسرعة أو على مهل، فيكون هذا كالرياضة له على السكون إلى المآل المحتوم، وهذا هو معنى قولي إن الشيخوخة أو المرض تدريب على الموت.
وهذه الرياضة النفسية - أو التدريب الذاتي - على الموت أفعل وأوقع من كل ما يشاهده الإنسان من عدوان الفناء على الحياة في مظاهرها المختلفة. وأحسب أن المرء حين يرى(136/6)
غيره يموت، أو يسمع بذلك، يستثني نفسه من هذا المصير وإن كان على يقين جازم من أنه حتم لا رادَّ له ولا حيلة فيه؛ ولعله في ضمير الفؤاد يهنئ نفسه بالنجاة ويشكر الله على أن الموت لم يخطفه هو، وعسى أن يكون الأمل المستمد من غريزة المحافظة على الذات هو الذي يغريه بالتعليق بوهم الاستثناء المستحيل، وهو على كل حال يخفف وقع الخبر، ويجعله محتملا، ويذهب ببواعث الجزع على النفس قياساً على المشهود.
ولكن قدرة المرء على مغالطة نفسه تضعف أمام دبيب الموت إليه على الأيام. ذلك شيء يحسه في نفسه فلا سبيل إلى تجاهله والإغضاء عنه. وكيف يسعه أن يتجاهل اليبس الذي في أعضائه، والتصلب الذي في شرايينه، والفتور الذي يجده، والضعف الذي يعتريه حين يهم بأيسر الأشياء، والعجز عن احتمال ما كان يمر به فلا يعيره لفتة، إلى آخر ذلك؟؟ وكل يوم يمضي به يزيده وهناّ على وهن، ويدنيه من القرار الذي يُلفي نفسه هابطاّ اليه، فلا يبقى سبيل إلى مغالطة النفس. وكل ما يقدر عليه أمله هو أن يرجو أن يُنسئ الله في أجله، على الرغم مما يكابد من ذلة الشيخوخة ومهانة الضعف والحاجة المتفاقمة إلى الإسناد. فهو مضطر أن يوطن نفسه على الموت، وأن يقصر الأمل على طول المهلة، وليس أجدى عليه ولا أفعل في تخفيف وطأة الموت من هذه الرياضة البطيئة. ومن هنا كان موت الفجاءة مزعجاً لنفوس الأحياء، لأن صدمته لها تجيء على غير انتظار. والله أعلم، فما جربَ الموت أحد وعاد إلينا ليقول لنا كيف كان وقعه - هذا طريق لا يحمل المسافر فيه (تذكرة) ذهاب وإياب، كما يقول ويندل هولمز.
إبراهيم عبد القادر المازني(136/7)
الوزير أبن كلّس
واضع الحجر الأول في صرح الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
سألني سائل كيف نشأت صفة الأزهر الجامعية، ومن صاحب الفضل الأول في إسباغها عليه؟ فرأيت أن أنتهز هذه الفرصة لأعرض في هذا الموضوع شيئاً من الشرح والتفصيل ويجب أولا أن ننفي فكرة ذائعة، هي أن الجامع الأزهر أنشئ ليكون جامعة أو معهداً للدرس، فليس ثمة في ظروف إنشائه ما يدل على أنه أنشئ لمثل هذه الغاية، وإنما أنشئ الجامع الأزهر ليكون مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة، ومنبراً لدعوتها، ورمز لسيادتها الروحية. أما فكرة الدراسة بالأزهر فقد كانت حدثاً عارضاً ترتب على فكرة الدعوة المذهبية الجديدة؛ ففي صفر سنة 365 هـ، في أواخر عهد المعز لدين الله منشئ الأزهر، ولنحو أربعة أعوام من إنشائه، جلس كبير القضاة علي بن النعمان القيرواني بالجامع الأزهر وقرأ مختصر أبيه في فقه الشيعة في جمع حافل من العلماء والكبراء، فكانت هذه أول حلقة للدرس عقدت بالجامع الأزهر؛ ثم توالت حلقات بني النعمان بالأزهر بعد ذلك، وكان بنو النعمان من أكابر علماء المغرب الذين اصطفتهم الخلافة الفاطمية وجعلتهم دعاتها وألسنتها الروحية، فلحقوا بها إلى مصر، واستأثروا في ظلها برياسة القضاء زهاء نصف قرن؛ وكانت الخلافة الفاطمية تعتمد في توطيد سلطانها بمصر على عصبيتها المغربية، ثم على صحبها وخاصتها من الموالى الأجانب وجلهم من الصقالبة؛ وكانت حلقات أولئك العلماء المغاربة بالأزهر حلقات دعاية روحية وسياسية، تعقد في الغالب للأكابر والخاصة، ولم تكن لها في البداية صفة الدرس العام.
كانت هذه بداية جامعية في معنى من المعاني، بيد أنها لم تكن عامة ولا مستقرة؛ ولكن حدث في عهد العزيز بالله حدث جامعي آخر؛ ففي رمضان سنة 369 هـ جلس يعقوب بن كلِّس وزير المعز لدين الله، ثم وزير ولده العزيز من بعده بالجامع الأزهر، وقرأ على الناس كتاباً ألفه في الفقه الشيعي؛ وكان ابن كلس كما سنرى شخصية ممتازة، تجمع بين السياسة والعلم، وكان نصيراً كبيرا للعلماء والأدباء؛ وكان يعقد مجالسه الفقهية والأدبية تارة بالأزهر وتارة بداره فيهرع إليها العلماء والطلاب من كل صوب، وكانت في الواقع(136/8)
أول مجالس جامعية حقة عقدت بالجامع الأزهر.
والظاهر أن ابن كلس كان أول من فكر في جعل الجامع الأزهر معهداً للدراسة المنظمة المستقرة؛ وعلى أي حال فهو أول من فكر في تنفيذ هذا المشروع الجامعي؛ ففي سنة 378 هـ استأذن ابن كلس العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس يحضرون مجلسه ويلازمونه، ويعقدون مجالسهم بالأزهر في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر؛ وكان عددهم خمسة وثلاثين؛ وقد رتب لهم العزيز أرزاقاً وجرايات شهرية وأنشأ لهم داراً للسكنى بجوار الأزهر، وخلع عليهم في يوم الفطر، وأجرى عليهم ابن كلس أيضاً رزقاً من ماله الخاص.
وهنا نجد أنفسنا أمام حدث جامع حقيقي، فق كان أولئك الفقهاء الذين رتبهم ابن كلس للقراءة والدرس بالأزهر، وأقرهم العزيز بالله، أول الأساتذة الرسميين الذين عينوا بالجامع الأزهر، وأجرت عليهم الدولة أرزاقاً ثابتة وباشروا مهمتهم العلمية تحت رعاية الدولة بطريقة منظمة مستقرة؛ وإذن فهنا نستطيع أن نقول إن الأزهر يكتسب لأول مرة صفته الجامعية الحقيقية كمعهد للدراسة المنظمة، وأنه يبدأ هنا حياته الجامعية الحافلة المديدة.
- 2 -
وإذا ما تقررت هذه الحقيقة، فأنّا نستطيع أيضاً أن نقول إن أكبر الفضل في تتويج الجامع الأزهر بهذه الصفة الجامعية الجليلة يعود إلى الوزير ابن كلس الذي أسبغ عليه لأول مرة صفة المعاهد الدراسية العامة، ورتب له أول فريق من الأساتذة الرسميين.
ولقد كان ابن كلس وزيراً عظيماً وعالماً جليلاً؛ بل كان عبقرية سياسية حقيقية؛ وهو أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس؛ واسمه يدل على أصله الذمي؛ أجل، فقد كان ابن كلس يهودياً، نشأ ببغداد، وغادرها في شبابه إلى الشام واشتغل هنالك حينا بالتجارة، وأثقلته ديون عجز عن أدائها ففر إلى مصر في عهد كافور الأخشيدي؛ واتصل به وقام له ببعض الأعمال والمهام المالية فأبدى في أدائها خبرة وبراعة، وطاف بريف مصر يحصل الأموال ويعقد الصفقات، حتى تمكنت منزلته لدى كافور، وأثرى وكثرت أمواله وأملاكه؛ ثم ثابت له فكرة في الأخذ بنصيب من السلطة والولاية، ورأى الإسلام خير طريق لتحقيق هذه الغاية، وكان قد بلغه أن كافوراً قال في حقه لو كان هذا مسلماً لصلح أن يكون وزيراً،(136/9)
فدرس قواعد الإسلام وشرائعه سراً، وفي شعبان سنة 356 هـ، دخل جامع مصر (جامع عمرو) وصلى به الصبح في موكب حافل؛ ثم ركب في موكبه إلى كافور، فخلع عليه، واشتهر أمره، وعلت منزله، وقوي نفوذه؛ فتوجس وزير مصر جعفر بن الفرات من تقدمه وتمكن نفوذه شراً، وأخذ يدس له الدسائس، ويوغر عليه الصدور؛ فخشي ابن كلس العاقبة، وفر إلى المغرب في شوال سنة 357 هـ، ولحق بالمعز لدين الله الخليفة الفاطمي، وهو يومئذ ينظم مشروعه لغزو مصر، فقدر المعز مواهبه وكفاياته، ووقف منه على أحوال مصر ومواطن القوة والضعف فيها؛ ولبث ابن كلس في خدمته حتى تم فتح مصر على يد جوهر الصقلي. ولما قدم المعز إلى مصر بأهله وأمواله وجيوشه في رمضان سنة 362 هـ، قدم معه ابن كلس، وقلده المعز شؤون الخراج والأموال والحسبة والأحباس وسائر الشؤون المالية الأخرى، فأبدى في إدارتها وتنظيمها براعة وزاد الدخل زيادة واضحة، ثم عهد إليه المعز بشؤون الخاص؛ ولما توفي المعز بعد ذلك بقليل في ربيع الآخر سنة 365 هـ فوض العزيز بالله ولد المعز وخليفته إلى ابن كلس النظر في سائر أموره ثم لقبه بالوزير الأجل؛ ووقعت في حقه وشايات من بعض خصومه فاعتقله العزيز بالقصر بضعة أشهر، ثم أطلقه ورده إلى مناصبه؛ وتضاعفت منزلته لدى العزيز وغدا أقوى رجل في الدولة؛ وبذل ابن كلس جهوداً عظيمة في تنظيم الإدارة والدواوين، وكان من أكبر بناة الدولة الفاطمية بمصر وموطدي دعائمها ونفوذها.
وليس غريباً أن يحرز رجل مثل ابن كلس تلك المكانة الرفيعة في ظل الدولة الفاطمية مع أنه يهودي الأصل والنشأة؛ فقد كانت الخلافة الفاطمية تصطنع الذميين والصقالبة، وتولهم ثقتها؛ وقد ولى وزارتها فيما بعد، في عصر الحاكم بأمر الله، وزراء يهود ونصارى خلص مثل ابن رسوين، وابن فهد، وعيسى ابن نسطورس، وابن عبدون؛ وتولى بعد هؤلاء كثيرون في عهود مختلفة؛ ونستطيع أن نفهم سر ما كانت توليه الخلافة الفاطمية لوزرائها الذميين من العطف والثقة إذا ذكرنا أنها تتهم من بعض خصومها بالانتماء إلى أصل يهودي، وإنها كانت تتهم في عقائدها.
ولم يكن ابن كلس وزيراً وسياسياً عظيما فقط، بل كان عالماً وأديباً كبيراً أيضاً، وكان يعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء؛ وكان(136/10)
يشرف بنفسه على هذه المجالس، ويشترك في أعمالها، ويغدق العطاء على روادها. وقد أخذ ابن كلس بقسط حسن في التأليف والكتابة، فوضع كتاباً في القراءات، وكتاباً في الفقه، وكتاباً في آداب رسول الله، وكتاباً في علم الأبدان والصحة، ومختصراً في فقه الشيعة مما سمعه من المعز لدين الله، وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. وكان يقرأ كتبه على الناس تارة بالجامع الأزهر وتارة بداره، ويجتمع لديه الكتاب والنحاة والشعراء فيناظرهم ويصلهم؛ وكانت موائده دائماً منصوبة معدة للوافدين؛ وكان كثير الصلات والإحسان، وبالجملة فقد كان هذا الوزير والعالم الأديب مفخرة في جبين عصره، وقد أشاد شعراء العصر بجلاله وجوده، ومن ذلك ما قاله أحدهم حين أصابت الوزير علة في يده:
يد الوزير هي الدنيا فان ألمت ... رأيت في كل شيء ذلك الألما
تأمل الملك وانظر فرط علته ... من أجله واسأل القرطاس والقلما
ومرض ابن كلس في شوال سنة 380 هـ، فجزع عليه العزيز أيما جزع، ولبث يعوده ويرعاه، حتى توفي في الخامس من ذي الحجة؛ فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتجهيزه تجهيز الأمراء والملوك، وخرج من القصر إلى داره في موكب صامت محزن، وشهد تجهيزه وصلى عليه بنفسه، ووقف حتى تم دفنه وهو يبكي بدمع غزير، واحتجب في داره ثلاثاً لا يأكل على مائدته والحزن يشمل الخاص والقصر كله؛ وأفاض الشعراء في رثاء الوزير الراحل ومديحه، فوصلهم العزيز جميعاً؛ وعلى الجملة فقد سما ابن كلس في ظل الدولة الفاطمية إلى أرفع مكانة، وترك بوفاته فيها أعظم فراغ، وكان له أعظم الأثر في توطيد حكمها وإدارتها بمصر.
- 3 -
هكذا كانت حياة ذلك الوزير الخطير الذي يدين إليه الأزهر بأول خطوة عملية حقيقية في سبيل الحياة الجامعية؛ ومن المحقق أن تلك الخطوة الأولى في ترتيب الأساتذة والدروس بالأزهر بطريقة منظمة مستقرة، كان لها أثر كبير في تطور الغاية التي علقتها الخلافة الفاطمية بادئ ذي بدء على إنشاء الجامع الأزهر؛ فقد كانت هذه الغاية كما رأينا أن يكون المسجد الجامع الجديد رمز الخلافة الجديدة ومنبرا لدعوتها؛ ولكن يلوح لنا أن الخلافة الفاطمية لم تكن ترمي في المبدأ إلى توجيه الأزهر إلى تلك الناحية الجامعية؛ ذلك لأن(136/11)
الجامعة الفاطمية الحقيقية أقيمت بعد ذلك في عصر الحاكم بأمر الله باسم دار الحكمة أو دار العلم الشهيرة في سنة 395 هـ (سنة 1005 م)؛ ولكن الأزهر كان يومئذ بفعل الظروف والتطورات التي أشرنا إليها قد بدأ حياته الجامعية؛ ومع أن دار الحكمة لبثت مدى حين تنافس الأزهر وتستأثر دونه بالدراسة المتصلة المنظمة، فإنها لم تنبث لصرامة نظمها وإغراق برامجها في الشؤون المذهبية، أن اضطربت أحوالها وضعف نفوذها العلمي؛ هذا بينما كان الأزهر يسير في سبيل حياته الجامعية الوليدة بخطى بطيئة ولكن محققة، ويسير في نفس الوقت إلى التحرر من أغلال تلك الصبغة المذهبية العميقة التي كادت في البداية أن تقضي على مصايره الجامعية الصحيحة.
ونحن نعرف أن هناك مشروعاً للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر - وهو عيد يقع بعد نحو أربعة أعوام - ونعرف أن من مظاهر ذلك الاحتفاء بتلك الذكرى الجليلة أن يكتب تاريخ حافل للجامع الأزهر منذ إنشائه إلى يومنا؛ فمن حق الوزير العالم ابن كلس أن يتبوأ في ذلك التاريخ مقاماً يجدر بفضله في وضع الحجر الأول في صرح تلك الجامعة الكبرى.
محمد عبد الله عنان(136/12)
الفلم المصري
بمناسبة فلم دموع الحب
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لا يسع المصري إلا أن يغتبط أعظم الاغتباط عندما يرى تلك الأفلام المصرية الجديدة التي أقدم أبناء مصر على إخراجها بين حين وحين؛ ولا شك في أنها فتح جديد يجب أن نفخر به، ونحرص على المزيد منه؛ وإذا كان الجمهور المصري قد أقبل على رؤيتها ذلك الإقبال الباهر فان في ذلك دليلاً قوياً على مقدار تطلعه إلى أن يرى تلك الصناعة تنمو وتنجح. فالشعب يؤدي واجبه في تشجيع أبنائه من أهل الفن ويجيب مجهود المقدمين منهم إجابة كريمة مستنيرة.
والفلم المصري له مكان لا يستطيع فلم آخر أن يحل محله. فانه يشبع من عواطف المصريين مالا يشبعه خير الأفلام العالمية الأخرى، وذلك أثر من آثار النهضة المباركة التي نحسها في كل ناحية من النواحي. فالشعب المصري يحس بنفسه ويريد أن يرى تلك النفس مصورة أمامه تصويراً فنياً كما يحتاج الإنسان إلى أن ينظر في مرآة ليرى صورة وجهه أو هندامه، وكما يرتاح إلى أن يسمع ترديد آماله ونزعات نفسه ومُثُله العليا.
فكل فلم من تلك الأفلام حديث نفسي يتحدث به الفنان إلى بني قومه. فهي ليست قطعة من الفن فحسب. بل هي رسالة عاطفية يرسلها الفنان من نفسه إلى نفوس الجماهير المتعطشة إلى الحياة والعلو والقوة. ولهذا فنحن إذا ذهبنا لإجابة الداعي إلى فلم مصري كانت إجابتنا أولاً قومية وثانياًفنية.
ومن هذا الاعتبار لا يسع المصري أن يقارن أو يوازن بين الأفلام المصرية، وبين ما تخرجه الشركات العالمية من آيات الفن. لأن الأفلام العالمية إنما تؤدي رسالة واحدة وتشبع ناحية واحدة هي رسالة الفن المحض والناحية الأدبية الصرف، ومنهما كانت تلك الناحية الفنية فهي في المحل الثاني من نفوسنا، ولا يمكن بأي حال أن تحل المحل الأول الذي استولت عليه الآمال والأماني، والرغبة القوية في الحياة، والسمو والاعتزاز بالنفس.
غير أنا نطلب من النفس المصرية أكثر مما تستطيع بذله إذا نحن وقفنا عند حد الأماني القومية؛ بل أن تلك الأماني نفسها قد تخيب ولا تجد ما يستثيرها، أو يعبر عنها إذا لم تتقدم(136/13)
الناحية الفنية وتعلو إلى المستوى الذي تتطلبه النفوس من الجمال والقوة؛ ولهذا نجد من أنفسنا جرأة على أن نتناول ما يظهر من الأفلام المصرية بالتحليل والنقد حتى نشير إلى ما كنا ننتظر، وما كانت نفوسنا تصبو اليه؛ ولهذا نرجو أن يدرك قراء هذه الكلمة قصدنا منها، وهو أن نشير إلى أمور نحب أن تراعى في الأفلام التي يقدمها المخرج المصري. فإذا ظهر أننا على حق فيما نذهب إليه كان مخرج الفلم المقبل على هدى فيما يتطلبه الجمهور المصري منه فيعمل على تحقيقه، وبذلك يكون الغد أقرب إلى الكمال من اليوم. إننا لا نستطيع أن ننكر فضل أولئك الرواد الذين قدفتحوا باب ذلك الفن، ولا نستطيع أن ننكر ما مهدوا من العقبات، ولا ما عانوا من المشقة في سبيل عملهم المجيد، وإنما ندعو بهذه الكلمة إلى التطلع إلى العلا، وبلوغ درجات جديدة من الإتقان. فإذا تكلمنا هنا عن فلم دموع الحب فلسنا نريد أن نخصه بالنقد، بل إنا نتخذه مثلاً في النقد لأنه أحدث الأفلام وأقربها مثولاً في الأذهان.
إن الفلم لا يكون ذا أثر بالغ في النفس إلا إذا كان يخدع الناظر عن المقصد المباشر الذي يرمي إليه الفنان. فان الناظر إذا استغرق في تأمل القصة التي أمامه، كان ميالاً إلى نسيان الحقيقة وأنه إنما ينظر إلى قصة - بل يخال أنه يعيش ويتأمل منظراً من مناظر الحياة؛ وتبلغ مقدرة الفنان ذروتها إذا استطاع أن يخدع الناظر فيجعله لا ينتبه إلى أنه إنما يطالع صفحة صور متحركة بل ينظر منظراً من مناظر الحياة الحقيقية، ويكون هذا الخداع ممكناً إذا عمل الفنان على أن تكون كل الوقائع المعروضة تسير سيراً طبيعياً لا تكلف فيه، وتتابع تتابعاً طبيعياً من غير تعسف ولا شطط. فإذا شعر الناظر أن هناك قفزة في الوقائع، أو أن هناك ثغرة في التسلسل، انتبه إلى نفسه وصحا من سحر المنظر، وفسدت عليه الغاية التي يقصدها الفنان.
وإذا أردنا أن نضرب أمثلة من فلم دموع الحب على تقصير الفنان في هذا الجانب النفسي لم يصعب علينا الأمر. فأن تصور أية حادثة من الحوادث في تلك القصة يتيح لنا فرصة للتمثيل. فلنأخذ الموقف الأول الذي ظهر فيه فكري أفندي (عبد الوهاب) في حديقة المنزل وقابل الفتاة ابنة صاحب المنزل، فأن المنظر لم يزد على مقابلة جاءت عفواً، ولم يطل أكثر من مدة صب الشاي، ثم استأذن فكري أفندي في الخروج لمقابلة صديق، ومع ذلك قد(136/14)
كانت هذه المدة الوجيزة كافية لأن تجعل الشاب فكري أفندي يهوى الفتاة، ولأن يجعل الفتاة تحب ذلك الشاب، كأنما قد عزم كل منهما ابتداء على أن يحب الآخر إذا رآه! حقاً إن هناك نوعاً من الحب ينشأ للنظرة الأولى، ولكن ذلك الحب لا يستطيع أن يكون من نظرة عابرة جاءت عفواً؛ ولئن كانت النظرة السريعة تعقب الحب فلا بد أن يكون هناك عامل قد ساعد عليها، وأنه من حق النظارة أن يروا ما هو ذلك العامل الذي أسرع بالحب إلى هذا الحد.
على أننا إذا سلمنا أن الحب قد ينشأ من النظرة العجلى، فأنا لا نستطيع أن نسلم أن تبادل ذلك الحب يكون بغير تدرج ولا تقديم، وذلك على الأقل بين أصحاب النفوس المثقفة المهذبة، فكان لا بد للمخرج أن يدبر من الحوادث ما يساعد على إتاحة الفرص لتبادل ذلك الحب وإنمائه، ولكن فلم دموع الحب سار من المقابلة القصيرة الأولى إلى نزهة في الفجر في الحديقة يلتقي فيها الشاب بالفتاة ويبادلها أول ألفاظ التعارف فلا يكادان يسيران معاً دقائق قليلة حتى ترتفع الكلفة، وحتى يندفع الاثنان في تصريحات ودية، وحتى تبادلا الحب تصريحاً. ثم يسير الفلم بعد ذلك إلى نزهة لا مناسبة لها، ولا تفسير يعلل حدوثها، وفيها يتبادل المحبان العهود والمواثيق على أقدس أنواع الارتباط.
ومثل آخر لا يستطيع الناظر إلا أن يصطدم به وهو عندما عاد فكري أفندي من السفر بعد أن تبسم له الحظ ليحمل إلى حبيبته بشرى تحقيق الأمل في الزواج فيجد حبيبته في الحديقة إلى جوار حلمي صديقه، ولم يكن يعرف أن ذلك الصديق له أية علاقة بحبيبته وكذلك لم يكن ينتظر أن يجد تلك الحبيبة في مثل تلك الجلسة الخاصة مع شاب آخر. ومع ذلك فأنه لم يفعل شيئاً أكثر من أن وقف وجعل يتكلم عما جاء له، وكأنه لم يلاحظ شيئاً في وجود حبيبته في الحديقة منفردة مع شاب يناجيها وحيداً. ألم يكن من حق الناظر أن يرى علامة من علامات الاستياء على وجه المحب المتيم؟ ألم يكن على الأقل من حقه أن يرى علامة من علامات الدهشة أو الارتياع على وجه الشاب الذي أتى يحمل كل آماله إلى حبيبته فلا يجدها تطير نحوه كما كان ينتظر؟ وأين كرامته المجروحة؟ وأين حبه الثائر؟ وأين غيرته ونيران حقده؟ ثم ذلك الصديق الذي خانه مع سابق إخلاصه إليه وآسر على سعادته مع ما قدمه له في الأيام الماضية من وده وإخائه. ألا يستحق منه غير ذلك الموقف الفاتر الخامد؟(136/15)
ويعود فكري أفندي بعد ذلك إلى الدار التي كان قد بناها لتكون داره مع زوجته المنشودة فيبكي ويتضاءل حتى يبلغ مكان صورة تلك الحبيبة الغادرة - ولكنه يقف فيطيل البكاء إلى جانبها ولا تحدثه نفسه بثورة ما - أحقا هكذا يفعل المحب الثائر الحب؟
إننا نخطئ كثيراً لو زعمنا أن الفلم يستطيع أن يبلغ المستوى المطلوب بالغناء وحده، فإذا شئنا الغناء فليكن الفلم صورة لعرض غنائي لا محاولة فيه للتمثيل. فإذا كان ولا بد من المزج بين الغناء والتمثيل فليكن الدور الأكبر مسندا إلى من يستطيع أداءه، وليختر موضوع الفلم اختياراً يسمح بأن يكون للمغني دور لا يحتاج إلى كبير دراية في فن التمثيل. فالحق أن الأدوار الثانوية في فلم دموع الحب كانت لا نسبة بين أدائها وبين أداء الدور الأكبر. فلقد أتقن المعلم حنفي (عبد القدوس) ما شاء له الفن وكذلك أتقن حلمي أفندي (سليمان نجيب) دور الصديق الغادر والغني المستهتر اتقانا يستحق كل الإعجاب، ولو كان هذان الفاضلان هما بطلا القصة لكان الإخراج الفني أبرع وأبدع.
وأما عن الغناء فلست أدري ماذا يرى كل من شهد الفلم فيه، لأن الغناء مرجعه إلى الذوق ولا يستطاع فيه النقد المنطقي الذي يصح في التمثيل، على أني لا أستطيع أن أكتم ما أحسست به، وذلك أنني لم أسمع إلا تلك الأغاني التي اعتدنا سماعها في الصالات، وفي ليالي الغناء المعتادة، وفي أسطوانات الأدوار الشائعة. وبعد فأنّا نتساءل: أهذا هو الغناء المقصود في روايات الأوبرا أو الأوبريت؟ إننا لم نشهد بعد من تقدم الغناء ما كنا شهدنا بوادره في روايات السيدة منيرة المهدية أمثال كرمن وروزينا وتابيس وغيرها مما عرضته تلك الفنانة الماهرة في وقت ما منذ عشرات السنين، وقد كنا ننتظر أن يسمو الغناء المسرحي بعد ذلك إلى درجة أعلى من تلك، فإذا بنا نعود إلى تلك الأغاني الساذجة المكررة التي اعتدنا سماعها على التخوت أو في الصالات. وإنا لا نشك في أن تلك الأغاني لها جمالها الخاص، ولا سيما عند بعض الأذواق التي يجب أن تخرج عن قيود المألوف إلى التعبير عن عواطف النفوس، وتستدرج السامعين إلى أنواع منوعة بدل تلك الآهات المكررة والأنغام الواحدة المعتادة. وإنه لمن العجيب أن نسمع صوت العود والكمان، بل نقر الدف لحفظ الوحدة في تلك الأغاني كأنما نحن نستمع إلى تخت لا إلى شخص حي يفيض بعواطفه ويترجم عن وجدانه! والحق أن تلك الآلات الموسيقية وذلك النقر الناشز(136/16)
كان له أثر عظيم في تحويل العقل عن الاستغراق في القصة، وإلى إزالة غشاء الخيال عن جو القصة وإعادتها إلى جو آخر تنبه فيه العقل إلى أن الصور التي أمامه إن هي إلا صور متحركة وليست قصة حياة.
ولقد جرى مخرجو الأفلام المصرية إلى الآن على عادة لا نظنها تؤدي بهم أبدا إلى التفوق المنشود، وذلك أنهم يحاولون الاستغناء عن المؤلف الأديب. ولو كان المؤلف الأديب غير ضروري لكان لهم العذر فيما يذهبون اليه، ولكانت رغبتهم في الاقتصاد مفهومة واضحة، إذ لا نستطيع أن نلومهم على اقتصاد مبلغ من المال بدل أن يبذلوه للأديب الذي لا فائدة منه، ولكن الأمر على غير ذلك، فان أول أساس لنجاح القصة أن تكون قصة صالحة مكتوبة كانت أو مترجمة. ولقد رأينا فيما مضى أن أقوى مهارة في التمثيل تضمحل وتنتهي إلى الفشل التام إذا لم يكن دعامة ذلك التمثيل موضوعاً سامياً وقصة رائعة ذات جمال وفن وأدب؛ ونحن إذا استعرضنا المحاولات التي حاولها المخرجون إلى الآن لم نجد أنهم خصصوا لناحية القصة عناية تذكر. وقد يشكو المخرجون من أن الأدباء لا يواتونهم بالمؤلفات اللائقة كما أنهم قد يشكون من أن الأدباء يظهرون لهم من صعوبة المراس ما يجعلهم ييئسون من تعاونهم، ولكننا مع ذلك نريد أن نذكرهم ببعض أرقام قد تكون لها دلالة كبرى فان متوسط ما يناله الأديب الإنجليزي نظير قصة من قصص الأفلام يتراوح بين خمسمائة جنيه وألف جنيه، في حين أن متوسط ما يناله الأديب من هوليوود أكثر من ألف جنيه بلا نزاع؛ وليس من العجيب ولا المحرم أن يفوز المغني بآلاف الجنيهات؛ وكذلك ليس من العجيب ولا المحرم أن يفوز المخرج أو الممثل أو عارض الأفلام بآلاف مثلها، ولكنا نضيف إلى ذلك أنه ليس من العجيب ولا من المحرم أن يفوز الأديب ببعض تلك الألوف، لأنه شريك أساسي في المجهود الفني. ولهذا نرجو أن يعني المخرجون باختيار الموضوعات وألا يضنوا على الأدباء بما يشجع المبرز منهم على التخصص في إخراج ما تحتاج إليه الأفلام المصرية من القصص.
هذه كلمة لا نقصد بها إلا خدمة ذلك الفن الوليد ونحن على يقين من أن القراء مدركون قصدنا منها، وكذلك نرجو أن يحملها المخرجون والفنانون على المقصد السامي الذي نرمي إليه.(136/17)
محمد فريد أبو حديد(136/18)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور المسعور
وصل الفائت
نصب أعداء بستور له فخاً فدعوه إلى أن يجري تجربته عن اللقاح الذي اكتشفه في جمع عام. فأجابهم إلى ذلك، وحقن البهائم على رؤوس الأشهاد بالمكروب الأضعف، وبعد أيام حقنها بالضعيف ثم بعد أيام بالأقل ضعفا. واصطبر إلى اليوم الذي يحقنها فيه بالمكروب الحي القتال.
- 4 -
وجاء اليوم الكبير الموعود، اليوم الحادي والثلاثين من مايو، فحقنت المواشي جميعها - ما حُصّن منها باللقاح وما لم يحصن - بحقنة قاتلة لاشك فيها من مكروب الجمرة، وقام بحقنها رو، فنزل في الوحل إلى ركبتيه، ومن حوله مصابيح الكحول وقوارير المكروب، فأدهش النظارة بحسن ضربه الإبرة في جلود الحيوانات، وبهدوئه ورزانته وبروده وهو يضربها.
أودع بستور كل سمعته العلمية هذه التجربةَ الدقيقة التي لا تؤتمن، وما فرغ منها حتى أدرك حقيقة الموقف، وأيقن أنه أجاب داعي الرجولة والشجاعة برضائه إجراءها، ولكنه أيقن إلى جانب ذلك أنه أذن للجمهور، وهو المتلوّن المتذبذب، في تقدير علمه والحكم عليه. فلم يطب له نوم تلك الليلة، وقصاها يتلوى ويتقلب على فراشه، وكلما عزه النوم قام عن سريره يطلب الراحة في القيام، ثم هو لا يجده فيعود إلى النوم، وهكذا دواليك، وأوصته زوجته بالصبر ومنّته خيراً فصمت عنها، ودخل معمله وخرج منه مُقطِّب الجبين عابساً، ولا شك عندي أنه هرع إلى الله فصلى ورجا وابتهل، ولو أني لم أقرأ شيئاً من(136/19)
ذلك في الأوراق.
كره بستور الصعود في البالونات، وخشي دائماً عواقب الخصومات في المبارزات، ولكنه لم يجبن ولم يتردد لما دعاه هؤلاء البيطريون إلى هذه التجربة وساقوه عامدين إلى هذا المأزق الخطير.
وجاء اليوم الأكبر الموعد، يوم الثاني من يونيو عام 1881، فجاء الناس من كل حدب وصوب لحضور اليوم المشهود، يوم يحكمون في أمر بستور، فإن خيراً فله، وإن شراً فعليه، وكثر عددهم حتى ضاق بهم المكان الرحيب، وتضاءل إلى جانب هذا الاجتماع كل اجتماع سبقه، وكان في الحاضرين نواب الأمة وشيوخ من شيوخها، وكان فيهم عظماء، وكان فيهم كبراء، ومن كل حسب ونسب لا يظهر في الناس إلا في أعراس الأمراء وجنائز الملوك، وكان فيهم الصحافي الشهير دي بلوفتس حوله جمهرة من رجال الصحافة ومكاتبيها.
ودقِّت الساعة الثانية، فخرج بستور إلى الميدان يصحبه رجاله، وفي هذه المرة لم يكن له ولهم من الجمهور إلا الترحيب الصارخ والهتاف المتعالي. فأما الشياه الأربعة والعشرون التي كانت لُقّحت ثم حُقنت فيها الملايين من المكروبات القاتلة فقد وجدوها قائمة تأكل وتجري فرحة مرحة هانئة بالحياة، ولم يجدوا بواحدة منها أثراً من الحُمىِّ، فكاْن مكروب الجمرة لم يخالط دمها، وكأنما كان بينه وبينها ما بين الأرض والسماء.
أما الشياه الأربعة والعشرون الأخرى التي لم تُلقِّح، تلك الأربعة والعشرون التي حقن المكروب القتال تحت جلدها من غير أن تُحمى منه وتُحصّن، فقد وجدوا اثنين وعشرين منها راقدة على جنوبها في خط واحد رقدةً تبعث الأسى والحزَن. أما الاثنتان الأخريان فكانتا لا تزالان قائمتين على أرجلهما ولكن في غير اتزان، تجاهدان في سبيل العيش هذا العدوَّ الأخفى الذي ما غالب الحياة إلا غلبها، وكان دم أسود ينضح من أنفيهما ومن شفتيهما ينذر بقرب لحاقهما بالشياه المنبطحة الصريعة من أخواتها.
صاح بَيْطار لأخيه البيطار: (انظر، انظر، فهذه أخرى من التي لم يلقِّحها بستور قد سقطت إلى الأرض!).
- 5 -(136/20)
حضر عيسى المسيح عرس (كانا) الشهير، فلما نَفِد الخمر وكاد يتعرض أهل العرس للفضيحة شاء يسوع أن يستحيل الماء خمراً فاستحال، ولم يذكر لنا الإنجيل تفصيل ما ظن الناس بصاحب هذه المعجزة، ولا ما فعلوا به عندها. وهذا بستور في الثاني من يونيو عام 1881 يأتي في هذا العصر الحديث بمعجزة لا تقل إعجازا عن تلك التي وقعت في ذلك العصر المقدَّس العتيق فيقوم هذا الجمع الحاشد، على الرغم مما كان من اختلاف أهوائه يحنون رؤوسهم لهذا الرجل القليل، المشلولِِ بعضُه، الذي حمى مواشيهم تلك الحماية التامة الرائعة من قرصات هذه الخلائق الصغيرة التي تقرص فتقتل في الظلام قتلاً مُؤكّدا. إن هذه التجربة الجميلة التي أجراها بستور على الملأ في بُحبوحة هذا الحقل تقع في نفسي موقعاً شاذاً غريباً، لأنها قصة شاذة غريبة في تاريخ الإنسان وجهاده هذه الطبيعة القاسية. أما شذوذها ففي هذا التهليل والتكبير الذي صحبها، وهذا الترحيب الصاخب الذي ناله بستور من أجلها. فعهدنا بكشوف العلم ألا تقدِّر في حينها، وعهدنا بها أن ينال صاحبها الأذى من أجلها. ألم يودع جاليليو السجن من أجل أبحاثه التي تسببت أكثر من غيرها في الانقلاب الهائل الذي أدى بالدنيا إلى حالها الحاضرة؟ وكم لجاليليو من أشباه وأمثال. كذلك عهدنا بصاحب الفكرة أن تبقى فكرته ويزول فلا يَنْعم حتى بالذكر طيباً كان أو خبيثاً. وإلاّ فما العباقرة الأولون الذين اخترعوا النار واصطنعوا العجلات وابتدعوا الشراع وأنّسوا الخيل؟.
- 6 -
أما بستور فحظه غير حظ هؤلاء جميعاً. فهذا هو قائم في هذا الحقل ومن حوله الأغنام الأربعة والعشرون تشطح وتمرح بين جُثثٍ أربعِ وعشرين لأخوات لها ماتت شر ميتة. رجلٌ قدير في تمثيله، ومسرحٌ فخم في بشاعته، ورواية خالدة على الدهور، وقد اجتمعت الدنيا إليه تسمع وتنصت، وتُثبت ما تسمع، ثم تدخل في دينه أفواجاً تحارب معه الموت لَّما بان لها أن النصر قريب أكيد.
وأحدثت هذه التجربة في الناس تحوّلاً كبيراً. مثال ذلك رجل يدعى الدكتور بَيُوت كانت صناعته علاج الخيل والسخرية ببستور سخريةّ مُرَّة. فلما رأى أخيرة الشياه تموت جرى(136/21)
مندفعاً إلى بستور يصيح به: (بالله عليك يا سيدي إلاّ ما حصنتني بهذا اللقاح كما حصَّنت هذه الشياه، ثم حقنتني بذلك المكروب القاتل كما حقنتها فنجَّيتها، فالعالم لابد أن يقتنع بصدق هذا الكشف العجيب!).
وجاءه خصيم آخر مخفوض الجناح يقول: (حقاً إني قصفت بالنُّكات الكثير عن هذه المكروبات، أما اليوم فأنا مخطئ توَّاب!). فأجابه بستور مقتبساً من الإنجيل: (سيكون الفرح في السماء لخاطئ واحد يتوب أكثر منه لتسعة وتسعين من العُدوُل الذي لا يحتاجون إلى التوبة).
أما الصَّحفيِّ الكبير دي بلوفتس فهتف لبستور وهرع يرسل تلغرافه إلى جريدة التيمس والى جرائد الدنيا. قال فيه: (إن تجربة قرية بولي - نجاحاً كاملاً لم يسبق له مثيل.
وتلقت الدنيا هذا الخبر، وأخذت تنتظر ما بعده، فكأنما حسبت في شيء من التخليط أن بستور بعض الأنبياء أرسله الله رحمة بالناس، يحمل عنهم الأثقال ويدفع عنهم الآلام. وخرجت فرنسا عن وعيها فيه فسادت به أعظم أبنائها ومنحته وسام الكردون لأكبر لليجيون دونير وبعثت إليه الجمعيات الزراعية والبياطرة وفقراء الفلاحين ممن حلّ بحقولهم داء الجمرة اللعين، بعثوا أجمعين إلى بستور برقيات عديدة يسألونهُ ألوف الحُقَن من لقاحه الشافي، وأجاب بستور وأعوانه الثلاثة رجاء هؤلاء في نخوة مجيدة أنستهم صحتهم - والعلم كذلك. وكان بستور شاعراً، فأثارت شاعريته في قلبه ايماناً بتجربته، التي كانت، زاد حتى أربى على إيمان من دخلوا في دينه حديثاً.
نعم أجاب بستور السائلين، فقلب معمله الصغير بشارع مصنع للقاح، فكنت ترى الأوعية الكبيرة بأحسيتها على النار تغلي وتتفقَّع ليزُرع فيها مكروب الجمرة بعد إضعافه وتأنيسه. وكنت ترى رو وشمبرلاند يقومان على إضعاف البشلة القوية والتخفيف من عنفها لتعطى شياه فرنسا بعض المرض دون أن تقتلها، وتوخيا الدقة فيما يعملان، ولكن أين الدقة من المسرع الهلع؛ وتهيأ اللقاح، فقام الأعوان جميعاً والعرق يتصبب منهم بتعبئة الجالونات الكثيرة منه في زجاجات تسع الأوقيات القليلة. وكان لا بد أن تكون الزجاجات طاهرة من المكروب كل الطهارة فطهروها؛ كل هذا دون أن يكون لديهم كل الأجهزة اللازمة لضمان العاقبة، يا عجبا لبستور! كيف قام بذلك كله؟ بل هي تجربة واحدة واضحة ابتدعها - أم(136/22)
هو القدر أعثره بها؟ - ملأنه ثقة عمياء ليس عهدي بالتجارب الفُرادى الواحدة أن تملأ رجلا بمثلها.
وفي أثناء تحضير هذه الألقحة كان الأعوان الثلاثة يتحينون الفرص فيفلتون منها ليلقحوا البهائم في شمال فرنسا وفي جنوبها، وأدى بهم المطاف يوما إلى هنغاريا. لقحوا مائتي شاة هنا، ولقحوا خمسمائة وستا وسبعين شاة هنالك، حتى بلغ ما لقحوه في دون العام مئات الألوف منها؛ ثم يعود هؤلاء اللقّاحون الأفّاقون يجرون أرجلهم من التعب إلى باريس، وفي حلوقهم عطشةُ إلى شراب يسوغ، وفي قلوبهم عطفةٌ إلى حُبّ يطيب، أو لعلهم كانوا يتوقون إلى ساعة هادئة يقتلونها على دخان الطُبّاق: ولكن أين لهم ذلك وبستور كان يكره رائحة الطباق، أما الحب والشراب فكيف يجوز أن عنده وشياه فرنسا تثغو ثغاء عالياً تطلب الخلاص ممن عنده الخلاص، فلا يكون لهؤلاء الثلاثة الأرقاء رغم شبابهم مندوحة من إطاعة هذا المجاهد المجنون الذي تعبِّدوا له اختياراً، هذا المأمون الذي تجمع فكره وتركّز كيانه وانحشد عزمه على إيجاد هذا المكروب الذي يقتل بعضه بعضاً. فيقومون بالتخففّ من ملابسهم والتشمير عن سواعدهم ثم يقضون الساعات الطويلة إلى جانب مجاهرهم يُحملقون فيها حتى تحمرَّ جفونهم وتتساقط رموشهم. وفي أثناء ذلك يزداد الفلاَّحون صياحا طلباً للقاح، ويزداد أصحابنا انهماكا في تجهيزه فيقعون أثناء ذَلك ومن جرائه في متاعب غربية لم تكن في الحسبان: دخلت بعض الجراثيم الغريبة إلى الأحسية مع مكروب الجمرة، وإذا باللقاح الضعيف الذي يكفي لقتل الفأر صار يقتل الأرنب الكبير. فقام هؤلاء الأبالسة يتعرفون أصل الخطأ حتى عرفوه، ويتعقبون مدخل هذا المكروب الضال فسدوه، فيأتيهم بستور بعد هذا كله ساخطا صاخبا. ولم ذا؟ لأنهم أضاعوا في هذه التجارب وقتا طويلا ثمينا!.
وأراد بستور أن يكشف عن جرثومة داء الكَلَب.
كان ليل المعمل هادئاً إلا من صوت الخنازير وعراك الأرانب، أما الآن فقد غطى على هذا نباح الكلاب المسعورة، وهي تعوي عواءاً يملأ الآذان وقرا والقلوب رعباً، ويطير بالنوم عن أعين الأعوان الثلاثة رو وشمبرلاند وتويبيه. . . لهم الله من ثلاثة! ليت شعري ما كان يصنع بستور في حربه رسلَ الموت لولا هؤلاء الثلاثة.(136/23)
ومضى عام أو دون عام على المعجزة التي جرت على يدي بستور في قرية - حتى أخذ يتضح للناس أن بستور، هذا الصياد الماهر في صيد الميكروب، ليس إلّها معصوماً بل بشراً مخلوقا يخطئ ويصيب. وجاءته كتب عدة تراكمت على مكتبه من مونت بتييه وعشر مدنٍ أخرى في فرنسا، وكذلك من هنغاريا، وكلها تشكو أن الشياه تموت من الجمرة، لا الجمرة الطبيعية المألوفة، ولكن جمرة جاءتها من هذا اللقاح الذي قصد إلى خلاصها، وأنت الأنباء بالسوء من أصقاع أخرى تقص حكايات أخرى عن خيبة هذا اللقاح. ففي بقعة من تلك البقاع اشترى الفلاحون هذا اللقاح، ودفعوا ثمنه نقدا، ولقحوا به قطعانا كاملة من الأغنام، ولما جاء المساء عادوا إلى منازلهم وأراحوا جنوبهم في مضاجعهم وهم يقولون حمدا لله الذي منَّ علينا برجلنا العظيم بستور، ثم طلع الصباح عليهم، فما انفتحت عيونهم حتى وجدوا الحقول قد غطَّتها جثث الشياه النافقة - تلك الشياه التي زعموها حصينة قد ماتت من بزور الجمرة التي تخبَّأت في ثرى هذه الحقول.
وأخذ بستور يكره كل صباح أن يفضّ الكتب التي تأتيه إشفاقاً على نفسه مما كتب كاتبوها، وودَّ لو سدَّ أذنيه فلم يسمع بسخرية الساخر وضحكة الهازئ يأتيه صداها من وراء الأركان. وأخيراً حدث شر ما يحدث له: تقريرٌ خرج من معمل كوخ، تقريرٌ محكمُ في بروده، دقيقٌ في فظاعته، كتبه ذلك الرجل الألماني القصير الخسيس، وفيه نَفى أن يكون للقاح الجمرة لدى التطبيق نفع أبداً. وزاد همَّ بستور علمُهُ أن كوخ أدق صَيادٍ للمكروب في الدنيا.
قطف بستور القطفة الأولى من ثمار تجربته فكانت حلوة طيبة، ثم أتى يقطف القطفة الثانية فأجزعته مرارتها يقيناً. ولكنه، طيَّب الله ثراه، كان شهماً لا يثنيه الحَدَث الجليل. فلم يكن في جِبلَّته أن يعترف للناس أو لنفسه بأن دعاواه العريضة الطويلة ليس لها هذا العرض ولا هذا الطول الذي ادعاه. وكأني بك تسمعه يتمتم لنفسه: (ألم أقل إن هذه الألقحة تُمرض الشياه قليلاً ولا تقتلها، ثم هي بعد ذلك تحصَّنها من الداء تحصيناً تاماً كاملاً. فهو ذاك، فلألزمْ ما قلت فليس عنه من مَحَيد)
ياله من باحث عظيم! ومع هذا فما أقل حظه من تلك الصراحة النبيلة التي نسى فيها سقراط نفسه ذاته، فلم تخدعهما عن الحق المظاهر، ولم تستهوِهِما عنه المنافع. على أن(136/24)
بستور لا يلام هذا اللوم كله، ففرْقُ ما بينهما واسع واضح، فهذان إنما طلبا الحق على الأسلوب الذي ارتأياه ولم يتطلبا شيئاً سواه، أما بستور فقد ساقه بحثه رويداً رويدا إلى حيث يفقد المرء لبَّه ويُضيَّع رشدَه، إلى صناعة تخليص الأرواح من براثن الموت، وهي صناعة ليس الحق بأهمَّ ما فيها.
وفي عام، 1882 بينما التقارير مكدسة على مكتبه تحمل أنباء المصائب الكثيرة من هنا وهنا، قام بستور وسافر إلى جنيف وألقى على الزبدة المختارة من مجاهدي الأدواء في العالم خطبة رنَّانة موضوعها: (كيف نخلص الأحياء من خبيث الأدواء بحقنها بالمكروبات بعد إضعافها).
وفيها أكَّد لهم بستور: (أن المبادئ العامة قد وجدناها فلا يستطيع المرء أن ينكر أن المستقبل ملئ بآمال عظام. وصاح فيهم: (إننا جميعاً مدفوعون بعاطفة قوية نبيلة، هي حب الحق وحب التقدم بالإنسانية إلى خير مما هي فيه). ولكنه وا أسفاه لم يذكر في هذا الخطاب البديع شيئاً عن الشياه الكثيرة التي ذهب لقاحه بها وقد كان لحفظها وتحصينها.
وكان كوخ حاضراً في الاجتماع، وظل يَطرِف إلى بستور بعينه من وراء نظارته الذهبية ويبتسم في لحيته الكثَّة كلما سمع بستور يقصف بالجمل الرنَّانة، قد عَمِرت باللفظ البديع وأقفرت من العلم الصحيح. وكان بستور يخطب وهو يحس كأن سيفاً خفياً مُصلَتا فوق رأسه. ولما فرغ من خطابه تحدّى كوخَ أن يجادله على رؤوس الأشهاد علماً منه أن كوخ في صيد المكروب خير منه في الحِجاج. فقام كوخ فقال: (سأقنع نفسي بالرد كتابةً على السيد بستور، وسيكون هذا قريباً). وكحَّ، ثم جلس.
(يتبع)
أحمد زكي(136/25)
الحياة الأدبية في دمشق
للأستاذ علي الطنطاوي
لا شك أن (الرسالة) بسموها عن الفكرة الإقليمية الضيقة، وفتحها أبوابها لأبناء العربية جميعاً، ودعوتها إلى الاجتماع على التوحيد في الدين، والفضيلة في الأخلاق، والوحدة في السياسة، والصحة في اللغة، والجمال في الأسلوب، والتجديد في الأدب. . سيكون لها أثر كبير في تاريخ الصحافة العربية بما سنت من هذه السنة الحسنة التي لم تعرفها من قبل كبريات مجلات مصر إلا قليلا، وبما بلغته من الجمال والإتقان، في الشكل والموضوع؛ وسيكون لها أثر كبير في تاريخ الأدب العربي، بما وضعت للأدب من منهج مستقيم، وما أحيت من الأسلوب العربي، وما قبست من روائع الآداب الأجنبية؛ وسيكون لها أثر كبير في التاريخ العربي العام، بما دعت إليه من الوحدة العربية، وما نشرت من أمجاد السلف، وما وضعت في نفوس الناشئة من قرائها، من العمل للجامعة العربية الواسعة، لا للإقليمية الضيقة. . .
ولا شك أن (الرسالة) اليوم للأقطار العربية كلها، لا لمصر وحدها؛ فكما تفتح (الرسالة) أبوابها للمقالات الوصفية والقصصية، وللقصائد والبحوث التي يبعث بها إليها أدباء الشام والعراق وغيرهما، فلتفتح أبوابها للفصول النقدية، والبحوث المستفيضة عن الحركة الأدبية في هذه البلاد، ولو كانت قاسية شديدة على النفوس، ولو كشفت عن حقائق يحب بعض الناس ألا ينكشف عنها الستار؛ وليس من مصلحة الأدب في شيء أن يظل أدباء مصر والعراق جاهلين مدى الحركة الأدبية في الشام - مغترين بها - وليس من المصلحة أن يبقى أدباء الشام ومصر جاهلين مدى الحركة الأدبية في العراق، بل يجب أن يصف أدباء كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في قطرهم، ومبلغ قوتها أو ضعفها، وسبب تقدمها أو علة قصورها، وأن يحللوا أدواءها وأمراضها، لنتعاون جميعاً على علاجها ومداواتها، وتقويتها وشد أزرها؛ والحياة الأدبية في الشام أحوج شيء إلى المداواة والعلاج، إذا كان في الشام حياة أدبية، لها وجود، ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها؛ وأنا أشك في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى علامة من علامات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها، لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن(136/26)
دمشق - كما يعلم الناس جميعاً - عاصمة من عواصم البيان العربي. . . .
ولقد رجعت أعرض تاريخ الأدب في دمشق منذ عهد الاحتلال إلى اليوم، وأنظر الآثار الأدبية الخالصة التي أخرجها أدباء دمشق هذه الخمسة عشر عاماً، فلا أجد إذا استثنيت مجلتي الرابطة الأدبية والميزان، ورواية سيد قريش لمعروف الأرناؤط، وكتابي المتنبي والجاحظ لشفيق جبري، ورسائل أئمة الأدب لخليل مردم بك، إذا استثنيت هذه الكتب، وكتابين آخرين أو ثلاثة قد أكون نسيتها، لا أجد أثراً أدبياً له قيمة. وهناك كتب محمد بك كرد علي: خطط الشام، والإسلام والحضارة، وغيرها، ولكنها ليست من الكتب الأدبية الخالصة، وإنما هي كتب تاريخ لا تدخل في موضوع مقالي.
على أن هذه الكتب التي استثنيتها ليست في درجة واحدة من حيث قيمتها الأدبية، فبينا نعد (سيد قريش) عملاً فنياً كبيراً على ما فيها من ضعف العقدة الروائية، وتشابه المناظر، وتكرار الأوصاف، وغلبة النصرانية على أجمل صفحاتها، نعد رسائل (أئمة الأدب) لخليل مردم بك، كتباً مدرسية، موضوعة لطلاب البكالوريا لا تبلغ أن تعد في الدراسات القوية التي تستند إلى طريقة في البحث معروفة، وتكشف عن نواح مجهولة من حياة الأديب الذي تبحث عنه ومن أدبه؛ ثم إن هذه الكتب نفسها إذا قيست بمدينة كدمشق، في مدة طويلة كهذه المدة، لا تعدو أن تكون أثراً ضئيلا لا يدل على حياة. . . . وهذا الأثر على ما فيه من ضعف ينحصر في فنين من فنون الأدب هما: القصة التاريخية، والدراسة التحليلية؛ أما سائر فنون الأدب كالقصة التمثيلية، والأقصوصة القصيرة، والصورة الوصفية، والمذكرات الأدبية، التأملات الفلسفية والشعرية، والدواوين القيمة، والخطب البليغة، وغيرها من فنون الأدب، فلا نكاد نجد لأدباء دمشق فيها أثراً يذكر.
من أجل ذلك لم أقل إن في دمشق حياة أدبية، لأن ما نحن فيه ليس بالحياة ولا بشبه الحياة، ولم أنف هذه الحياة لأن في دمشق أدباء ينتجون، أو يستطيعون أن ينتجوا شيئاً، وإنما أقول إن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل، والحياة الصحيحة، هي السبات العميق، والنوم الطويل الذي يشبه نوم الضفادع طول الشتاء، إذ تدخل في ثقب من الثقوب، فتلبث الفصل كله كأنها قطع الحجارة، لا تأكل ولا تشرب، ولا تنق ولا تتحرك. . .
وإلا فما يصنع كتاب دمشق وشعراؤها؟ وأين هي منتجاتهم الأدبية؟ وهل يكفي الشاعر أن(136/27)
يقول كل خمسة أعوام قصيدة واحدة تضطره إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون فيها أثر من نفسه، ولا تصف شيئاً من عواطفه؟ وهل يكفي الكتاب أن ينشر كل عامين مقالة تطلب منه، أو مقدمة كتاب يسأل كتابتها؟ بل هل يستطيع أن يملك لسانه الشاعر فلا يقول شيئاً وهو يرى كل يوم ما ينطق الصخر بالشعر من مصائب الأمة ونكباتها، بل وهمومه هو ومصائبه وما يشاهده في حياته في بيته، وحياته في عمله؟. . أليس في حياته سرور وألم، وأمل وقنوط، وضحك وبكاء؟ أفيضحك الشاعر فلا يغني، ويبكي فلا ينوح، وتهز قلبه الحادثات فلا يقول شيئاً؟ أنا لا أستطيع أن أتصوَّر كاتباً أو شاعراً، لا يكتب ولا ينظم، وكل ما حوله يهيج نفسه، ويثير عاطفته. . .
إن أدباءنا يحتجون بأنهم لا يجدون مكاناً ينشرون فيه، وإذا لم يجد الأديب سبيلاً إلى النشر ضعفت همته، وانكسر نشاطه، ولم يجد حافزا إلى العمل، لأن فقد عنصر النشر من أكبر الأسباب في هذا الركود الأدبي. . . وهذا صحيح لا غبار عليه.
وليس في دمشق مجلات أدبية، إلا مجلة صغيرة اسمها (الطليعة) يصدرها نفر من الشباب المثقفين الذين يحملون الشهادات العالية من أكبر معاهد أوربا، ولكن لها منحى خاصاً لا يرضى عنه الناس كلهم، وهي تمشي بخطى مضطربة. وربما اضطر أصحابها إلى إغلاقها كما اضطر من قبل أصحاب (الثقافة) إلى إغلاقها، برغم أن أصحابها من صفوة أدبائنا ومفكرينا، كخليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني؛ ثم إن الجرائد اليومية لا تعنى بالأدب عناية كبيرة، ولا تخصص له صفحات دائمة تنفق عليها بسخاء، وإن هذه الصفحات الأدبية التي تزيَّن بها صدور بعض جرائدنا اليومية صفحات فارغة، لا أظن أن أحداً ممن له صلة بالذوق الأدبي يرضى عنها، وما أظن أن أصحاب الجرائد والقائمين عليها يرضون عنها، أو يجدون فيها وفاء مما يؤملون. وإذا ألَّف الأديب كتابا أو قصة لم يجد الناشر، وإذا أنفق عليها من ماله لم يشترها أحد، لأن دمشق بلد تقرأ كثيرا ولكنها لا تشتري؛ وهذه مجلة (الرسالة)، لا تجد في دمشق أديباً أو متأدباً إلا اعترف لك بأنها خير مجلة أخرجت للناس، وأن العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدبا إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمائة عدد. . .(136/28)
هذه حجة الأدباء في تقاعسهم عن النشر، وهي كما ترى حجة مقبولة، ولكنك إذا سألت القراء لم لا يشترون، احتجوا بأن الأدباء لا ينشرون، وإن تقاعسهم وكسلهم علم القراء الزهد في الآثار القيمة والانصراف عن شرائها.، وأنه لابد من أن يضحي الأدباء بقسط من أموالهم وشهرتهم حتى يستعيدوا القراء الذين فقدوهم. على أن الذنب في رأيي ذنب المدارس والمدرسين، لا ذنب الأدباء ولا ذنب القراء، فليس في الشام اليوم من دروس الأدب إلا هذا المقدار القليل الذي يتعلمه الطالب في مقرر البكالوريا. وهذا المقدار لا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تبغيض الطلاب في الأدب، وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شعب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق عوجاء أبعد ما تكون عن بث الملكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوِّن الملكة الأدبية طائفة من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، ويحتفظ بها دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدَّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظن أن معنى (بكالوريوس في الآداب) كاتب أو أديب، فزهد في المطالعة، وانصرف عنها أو طالع ما يقع تحت يده من الكتب والمجلات حتى ابتلى بسوء الهضم، وأصيب بالتخمة العقلية. . . فترْك القراءة وذهب إلى الندَّى (القهوة) يقطع عمره في النرد والشطرنج ثم يعمد إلى الكتابة في موضوع علمي أو فلسفي دوَّنت فيه عشرات المجلدات من غير أن يقرأ منها شيئاً. . .
ثم إن طلاب شعب الأدب في صفوف البكالوريا لا يستطيعون أن يستعينوا بالثقافة العامة التي يتلقونها في المدرسة، ولا يعرفون كيف يستفيدون من علم الغريزة (الفسلجة) أو علم النفس أو التاريخ في بحوثهم الأدبية ولا يعرفون شيئاً من مناهج النقد، وقواعد التحليل الأدبي، لا لأن الطلاب كسالى أو بلداء، فالطلاب يدرسون الأدب الفرنسي فيسيغونه، ويدرسون الرياضة فيفهمونها، ويدرسون أشياء كثيرة غير هذه يضيقون ببعضها ويتبرمون به، ويقبلون على بعضها ويحبونه، ويجدون لذلك كله أثراً في نفوسهم، فإذا جاء الأدب العربي وجدت أكثر الطلاب لم يلذَّوه ولم يبق في نفوسهم أثراً.
وسبب ذلك أن أكثر المدرسين عاجزون عن أداء هذه المهمة التي انتدبوا أنفسهم لها، أو اندبهم لها من بيدهم مقاليد الأمور، لشهرتهم الأدبية أو لشهادتهم العالية، أو لشيء غير ذلك له صلة ضعيفة، أو لا صلة له بالأدب قط. وأكثر المدرسين اليوم بين رجلين: رجل ثقف(136/29)
الأدب العربي القديم ثقافة حسنة، وضرب بالسهم الوافر في علوم العربية نحوها وصرفها، وبلاغتها وعروضها، ونقدها وروايتها، وحفظ أيام العرب وأمثالهم واستطاع أن يفهمها حق فهمها، وينقدها نقد بصير بها، ولكنه عجز عن أن يدرسها ويدرس رجالها دراسة تحليلية صحيحة لجهله الآداب الأجنبية، وجهله قواعد النقد الحديث.
ورجل درس الآداب الأجنبية أو واحداً منها دراسة عميقة، وعرف مناهج البحث، ومذاهب النقاد، وأحسن نقلها إلى الأدب العربي، ولكنه عجز عن فهم الشعر العربي، وجهل علوم العربية، فغدا لا يستطيع إدراك معنى النص العربي فضلا عن نقده أو الحكم عليه.
ثم إن أكثر المدرسين من غير رجال الأدب؛ وإن فيهم من لم يعرفه الناس شاعراً مطبوعاً، ولا كاتباً مجيداً، ولا ناقداً بصيراً، ولا أكثر من ذلك ولا أقلّ. فكيف لعمري نطلب منه غرس الملكة الأدبية في نفوس الطلاب؟ إن مثل هذا الطلب هدم للمنطق الذي يقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه.
هذه قيمة الحياة الأدبية في الشام؛ وهذا موطن الضعف فيها؛ فلا صلاح لها إلا بتقويته، ولا نجاح لأمة لا تسخّر أدبها لخدمة قضيتها. فهل يبدأ في حياتنا الأدبية (عهد الإصلاح) المنتظر؟
علي الطنطاوي(136/30)
أزمة أوربا الدينية في العصر الحاضر
بقلم محمد جلال
يخيل إلينا - كما يرى الكثيرون - أن التصوف هو أظهر حالات النفس وأقدرها على محاسبة الضمير وكشف حقيقته. قال ابن خلدون: (وأصله - أي التصوف -. . . طريقة الحق والهداية) وقال أيضا: (ويتم (بالمجاهدة) وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك) وقال الأستاذ لاَلَنْد:
. , ? ' ' ,
أي أن التصوف هو اعتقاد في إمكان حصول اتحاد تام مباشر بين الروح وحقيقة الإنسان. وقال الفيلسوف بِرْجِسون:
? ' , '
ومعناه أن الصوفي الحقيقي هو الذي يتخطى حجاب الحس الذي وضعته الطبيعة البشرية ليواصل بذلك العمل الإلهي.
يتضح من ذلك أن التصوف يحقق شرطي الدين وهما الاعتقاد والعمل. فتلاحظ إذاً أن معظم المتصوفة قد نشأوا في بيئة دينية إلا القليل منهم من ظل يعمل بعيدا عنه في الظاهر. ولما كان للروح العلمية اتجاه يختلف عن الاتجاه الديني في كثير من أغراضه وميوله، مال العلماء إلى التخلي عن الدين ورميه بالنقص. لهذا سنقصر بحثنا الآن على حقيقة الإيمان مع اتصاله بالعلم والفلسفة والتاريخ.
1 - العلم:
أحدث تقدم العلم في القرن التاسع عشر اضطرابا في الحياة الدينية أفضى إلى تمحيص الدين على ضوء القوانين العلمية. من ذلك لوحظ أن نظرية خلق العالم في سبعة أيام - كما هو وارد في معظم الكتب المقدسة - لم تتفق وقوانين العلم الكوني.
فإن اليهودية والمسيحية والإسلام ومعظم الأديان الأخرى نشأت كلها في الشرق فمن المحتمل إذا أنها تكاد تتحد في فكرة علمية واحدة. في فلسطين مثلاً ساد الاعتقاد قديماً أن الأرض محاطة بطبقة صلبة معلقة فيها الكواكب يعلوها عرش الله الذي يثبت الأرض وما عليها وهو منفصل عنها؛ ولكن علم الفلك أثبت أن العالم لا نهاية له، فيكون عرش الله(136/31)
واقعاً في حيز العالم تجرى عليه سنة هذا الوجود من حركة وسكون. أدى هذا الخلاف إلى رأيين: الأول اتحاد العلم والدين، والثاني انفصالهما
أما الرأي الأول فانه يقرر - على رغم ظواهر الأشياء وما في الكتب المقدسة من اختلاف - أن هناك صلة بين العلم والدين يسهل تحديدها إذا اتفق العلم والدين على معاني الكلمات؛ ففي المثال السابق مثلاً جاء في التوراة أن معنى كلمة يوم: مدة مقدارها عصر لا أربعاً وعشرين ساعة كما نعتقد نحن اليوم؛ على هذا الاعتبار تكون الأرض قد تم تكوينها في ستة عصور - وهذا هو رأي علماء الجيولوجيا.
ويقول الرأي الثاني إن للعلم والدين أسباباً ودواعي خاصة بكل منهما، وقد يتفاوت محيط أحدهما بالنسبة لمحيط الآخر دون أن يتعارضا في شيء. فمقتضى الدين اعتقاد وأمر ثم عمل؛ وأما مقتضى العلم فكشف قوانين هذا الوجود - بما في ذلك الإنسان - وتحقيقها بالطرق التجريبية. وليس من العلم في شيء أن تحمل الجماعة على اتباع هذا النظام أو التخلي عن هذا العرف.
يستوي عنده البار والفاجر؛ وبعكس ذلك الدين، فانه حب وعاطفة ومفاضلة بين البار والفاجر؛ فهو لذلك ضرورة للنظام الاجتماعي، وهذا رأي برجسون في كتابه المشار إليه آنفاً.
أفي ذلك طمأنينة للنفوس؟ قد يكون ذلك. . ولكن ظاهر الشيء غير حقيقته؛ إذ النفس لا تعرف السكون الذي يُزيَّن لها التخير بين طريق وطريق؛ فهي إن خضعت للدين بالأمس فذلك من طبيعتها، وإذا خضعت للعلم اليوم فذلك أيضاً من طبيعتها. وقد لا تخضع غداً لا لهذا ولا لذاك، وعليه فإن هذا التقسيم لم يحقق مأرباً.
2 - الفلسفة:
أما في الفلسفة فالنزاع قائم بين أنصار مذهب الفكر وبين أنصار مذهب العمل يقرر الفكريون أن الذكاء هو خير وسيلة لفهم الحقيقة الواقعة، وفي رأي العمليين أنه وسيلة لتكوين صور لأعمالنا نستعين بها على فهم الأشياء.
فعند الفكريين (أي معظم فلاسفة الغرب والفرنسيين منهم خصوصاً يتقدمهم ديكارت) تتعين الحقيقة بنفسها؛ وليس في مستطاع الفرد - مهما كانت قدرته - أن يحددها دفعة واحدة،(136/32)
ولكننا نقرب منها شيئاً فشيئاً مع وفرة مجهودنا الفكري خلال العصور المتطاولة. كان العلم عند اليونان مثلاً مبادئ وأوليات، وقد ترقى بعض الشيء عند العرب، وفي عصر النهضة بأوربا، ومازال يرتقي وستخلص أسسه من شوائب كانت سبباً في تغيير معالم الحقيقة التي لم تغير جوهرها بالنسبة لحاجة الإنسان.
ويرى آخرون أن ليس للحقيقة وجود ذاتي، فهي محض فكرة دعت إليها حاجة الإنسان. فعند اليونان تدل كلمة حقيقة على شيء نسبي - أي أن حاجة الإنسان الفكرية تتطلب حقائق مختلفة حسب الزمان والمكان، وهي بدورها تحقق رغبة علمية واحدة؛ وبما أن حاجة الإنسان غير ثابتة فتكون تلك الحقيقة أيضاً غير ثابتة، وذلك لاختلاف وسائل تحقيقها. فمطرقة الحداد مثلاً كانت حقيقة في الماضي - كذلك مطرقة النجار هي حقيقة اليوم، ورغم ما أثبته العلم والعمل حتى عهد قريب من صحة نظرية نيوتن الخاصة بتجاذب الأجسام، فان أبحاث اينشتين تثبت حقيقة أخرى بعد ما هدمت الأولى؛ أعني أن هناك تناسباً خاصاً في الحياة الفكرية لكل عصر؛ ولا غضاضة إذا أقبلنا بجميع جهودنا على تلك الحقيقة المتغيرة فهي لم تتحدد بغير منفعتها.
مثل وليم جيمس هذا الرأي في أمريكا - وأخذ برجسن ببعض منه، أي الجزء الخاص بتطور الفكر، وتبع المسيو ادوارلروا أستاذه برجسون في ذلك إذ رأى أنه يصعب على الرجل العملي فهم الدين من الوجهة المنطقية. وعليه فان عبارة (الأب والابن وروح القدس) معناها تصوير حقيقة واقعة تنشأ عن ارتباط الفرد بغيره. ويقال مثل ذلك في تفسير وجود عبادة الله وحده - أي كونه ماثلا حقيقة روحاً ودماً (عقيدة سر القربان عند المسيحيين)؛ ويراها آخرون أنها صيغة أمر، أي وجوب تصور حالة العبد أمام ربه كما يجب أن يكون عليها أمام إنسان يرى فيه أصل الحب والتقديس. هو أصل اليقين والشعور الطاهر، وقال بمثل ذلك الأب بالمعهد الكاثوليكي بفرنسا في إحدى جلسات مجمع باريس الديني الأخير إذ رأى أن أوضاع الدين لم تكن غير نواميس للحياة.
3 - التاريخ
شك علماء التاريخ في مصادر التوراة، لأن فيها أجزاء وضعها قديسون، وقد نُقحت من بعدهم. وللآن لم يستقر الأمر على معرفة كيفية حصول ذلك لعدم توفر الوثائق التاريخية(136/33)
الكافية؛ فلا يبعد إذن أن يكون قد وقع فيها بعض التغيير أو الحذف. مثال ذلك أسفار موسى الخمسة فانه لم يزل أمرها غامضاً حتى اليوم. يوجد عدا هذا بعض تناقض في الآيات من حيث الصورة والمعنى. آمن عيسى عليه السلام في عودته ثانية إلى الأرض، وإن الساعة آتية قبل أن ينقضي العهد الذي نزل هو فيه.
يلاحظ هنا تباين نشأ عما رمز إليه في التوراة من أعمال دنيوية، إذ انقضى عهده وانتهى النظام الوراثي للملك وهو لم يعد بعد. أدى هذا الاعتراض إلى أحداث انشقاق في الكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن التاسع عشر. أخذ رجال الكنيسة من جديد يدرسون الإنجيل من حيث التاريخ والجغرافيا والتشريع، وقد قضى الأب لوازي حياته في التوفيق بين الدين والتاريخ.
نشأ عن تلك الحركة اتجاه جديد في الرأي سمي بمذهب (المثل الاعتقادي) يرى أخذ الأشياء على أنها أمثلة بسيطة شأنها أن تحدث معتقدات تتناسب مع قوة إيمان الفرد؛ فيكون مرمى نظرية نزول المسيح تحديد قيمة مثلى.
على رغم كل ذلك ما زال في النفس بقية تدعوها إلى كشف معتقد جديد وحقيقة أخرى، فيرى برجسن وهنري بوانكاريه أن العقل غير كاف وحده لكشف الحقيقة التي دأب وراءها الإنسان منذ نشأته. فلا بد له أن يتبع هدى روحه كما فعل أفلاطون وغيره.
ويرى أوجست كنت وأتباعه أن الدين نظام اجتماعي قابل للتطور مثل الجماعة في تاريخها من تشريع وأخلاق. ويرى الأستاذ شارل مورا الدين الكاثوليكي لإصلاح النظم الاجتماعية في فرنسا لما فيه من عناصر السلام
ما هي حالة الفرد النفسية إزاء ذلك الانقسام؟
عبر علماء النفس عن ذلك بأنه شعور جديد بشخصية الفرد يدعوه إلى تحديدها من حيث اتصاله بالجماعة، ومن حيث اتصاله بنفسه، مما أدى إلى ترك بعض المعتقدات والتمسك بأخرى. ولما كانت الجماعة تحمل في ماضيها عناصر مدنيات مختلفة فهي إذاً الدافع إلى هذا الشعور في الفرد. ويختلف الأفراد في قبول ذلك حسب استعدادهم النفسي، وهذا ما نشاهده في القديس بولس إذ اضطربت نفسه متأثرا بعصره، فخرج على الدين ثم عاد إليه متحمساً لتجديده، وذلك بالدرس والمجاهدة النفسية.(136/34)
يرى بعض رجال الدين أن مثل هذا النوع من المجاهدة محاولة من العبد أن يتصل بالله ليظفر بالغفران. ولكن بعض أتباع لوثر ليسوا في حاجة إلى ذلك، إذ الغفران في رأيهم ملك للجميع، وثقتهم بالله عظيمة لتوزيع هذا الغفران، فلم يكن عندهم إذا هذا النوع من المجاهدة.
وهناك فريق آخر يقال لهم الوصوليون وغايتهم فعل الخير لأنهم مجبرون عليه، وهذا عمل خلو من الشعور بالاتجاه نحو الله كما رأى ذلك رينان
عرضنا في تلك الكلمة الموجزة نشوء بعض تطورات الدين بأوربا، مما يدعونا إلى الاعتقاد أن هناك عوامل أخرى أدت إلى تلك الاختلافات الطائفية غفل عنها رجال الدين والفلاسفة، وهي التي دعت علماء الاجتماع للتعبير عنها بطريقة أخرى غير ما سبق. وذلك موضوع كلمتنا القادمة.
باريس
محمد جلال
بجامعة باريس(136/35)
بين الماضي والآتي
للأستاذ أديب عباسي
(وصلنا عدد (الرسالة) المائة والسادس والعشرون، وقد انتهينا إلى جزء هذه المقالة الأخير، وكم كانت دهشة المفاجأة إذ فضضت غلاف الرسالة ووجدت بين بحوثها مقال الأستاذ الكبير أحمد أمين (أمس وغداً). وكانت بادرة الفكر التي تلت دهشة المفاجأة أن أهمل الموضوع وأوفر على نفسي عناء المراجعة والتنقيح. ولكنني عدت وقلت قد أكون طرقت الموضوع من ناحية غير التي طرقها الأستاذ، وقد أكون على خلاف معه في الرأي أو بعضه. وقرأت المقال فوجدت أننا نسير والأستاذ بعض الطريق ونفترق في بعضه الآخر. ومن أجل هذا الافتراق أبعث بمقالي هذا إلى (الرسالة) العزيزة).
تمرُّ بزمرة من الشيوخ خلوا إلى أنفسهم وأرسلوا أحاديثهم إرسالاً لا تحده موضوعية البحث الجدي، ولا اندفاع العاطفة المثارة، ولا عصبية الجدل؛ فتكاد لا تحسُّ في حديثهم إلا اللهفة العميقة، والالتياع الشديد على الزمن الفائت، حيث اللذة لا يكدرها ألم، والصفو لا يرنَّقه كدر، وحيث النعيم أبداً مقيم، والمنى أبداً حُفَّل دانية! وينبثُّ إليك من صدق اللهجة واجتماع الرأي وخلوص النية في حديثهم ما يوحي بأن أعصر السعادة المطلقة قد تلكأت عند شبابهم، وترخَّصت فقط لماضيهم، فأقامت ثمِّ لا تبرح ولا تريم؛ لهذا أقحل الحاضر، وعقم المستقبل، وغادر الناس طيب العيش وبشاشة الأمل!
تسمع هذا وخلافه مما تفيض به بقايا العمر وأعقاب السنين من الشيخوخة، فتتدسَّس إليك الحسرة ويغمرك الألم إن تأخر بك الزمن، ولم يحشرك في زمرة الشيوخ هذه، ويجعلك في حشدهم، فيكون لك من السعادة مثل ما يتحدثون ويصفون.
وتقودك رجلاك من حيث أنت إلى زمرٍ أخرى وأفراد آخرين، بعضهم ما يزال - في رأي نفسه - يستعدُّ لخوض معركة الحياة، وبعضهم الآخر - كذلك في رأي نفسه - قد أعدَّ لها العدَّة، وهيأ السلاح، فهو الآن يخوض غمارها ليصطلي بنارها، أو يستاف العطر الذكي عن أزهارها.
وتقف تتسمع، فما يروعك من هذه الزمر مثلُ انشغالها بمستقبلها عن حاضرها، وغفلتها عما في اليد إلى ما يمنيها به الغد، كأن حياة اليوم ليست في العمر ولا في تقدير الزمن،(136/36)
ويمضون هذا المضي، الغفلةُ عن حاضر الحياة غريبة مدهشة، والثقة في المستقبل قوية آسرة، ويظلُّ هذا دأبهم إلى أن يؤذَّن بركود الشباب، ووشك الانخراط في سلك الشيخوخة المتهدمة. عندها - وعندها فقط - يصحون، ولكن لات ساعة صحو.
وهنا ينقلب الوضع وينكفئ الاتجاه، فتحل الذكرى القريبة أو البعيدة محل العزم، والركود محل النشاط، والعجز محل القدرة، وهكذا بي ماضي الحياة وآتيها، يُسقط الناس كل رصيدهم فيها، ويجعلون منها - على حد تعبير الرياضيين - الكمية المهملة.
وليست هذه الصور التي رسمنا بالصور الخاصة أو الطارئة طروءاً زائلاً، إنما هي صور لها من طبيعة الشعور وخصائص الإحساس ما يجعلها من ألزم الصور للحياة وأكثرها لصوقاً بها وشيوعاً فيها. فالشيخ، أو من كان في حكمه من شبان السنين، يتَّجه إلى الماضي ليلطف عنده مرارة الحاضر، وليتعوض بذكراه عما يفيته العجز وضعف الُمنة من لذائذ راهنة يراها ولا يرى السبيل إليها كيف يكون. وقد تقول: لم يؤثر الشيخ أن يرتد بخياله إلى ماضي العمر ولا يرى أن يرسله في مطاوي المستقبل ليلتمس عنده الفرار وينشد السلوان؟ والجواب سهل هين إذا علمنا أن خيال الشيخ يخونه هنا، كما يخونه كذلك منطق الواقع ومنطق الاحتمال. فالشيخ يدرك أن سبيله من بقية العمر هي سبيل نازلة لا صاعدة، وأن كل يوم يمضي يدنيه من النهاية ويقلص لديه بقايا الأمل وأصداء السعادة؛ وإذاً فالحاضر فسحة مسدودة، والآتي سبيل مظلم مخيف؛ أما الماضي فهو السبيل الوحيد الذي يستطيع أن ينساب فيه الخيال دون أن يشله برد الواقع أو تروِّعه بشاعة الحاضر.
وقد تسأل: ألم يكن في ماضي الشيخ الألم كاللذة، والنعيم كالشقاء، والحرمان كالإنالة؟ فكيف يؤثر أن يعيش في ماضيه دون حاضره وآتيه؟ وهنا نرجع إلى حقائق الشعور الراهنة، فيستبين لنا أن الألم الفائت يفقد قيمته مع الزمن حتى لا يبقى منه إلا ذكراه وصداه. وهذه الذكرى - إذا لم يصحب أسباب الألم عند نشوئه حالات ملازمة - تضحى باعثاً على الاطمئنان والراحة. فأنت إذ تفقد كل ما تملك أو تصاب إصابة جائرة في سمعتك أو تجلس إلى حبيب إليك علَّقه المرض بين فكي الفناء والبقاء، بشعر بالغبطة وانفراج الشعور بزوال الخطر، حينما يعوض عليك السعي بديلاً من مالك، وحينما يردُّ إليك الوضع العادل سمعتك، وحينما يتخطى غول الفناء حبيبك فيرده سليماً معافى تنعم بلقائه نعمتك بكل عزيز(136/37)
عليك. وعليه فتلك الأحداث التي كانت يوماً ناراً يقلب عليها الإحساس ويضرَّم الشعور أضحت بعد زوالها مجلبة للراحة والاطمئنان، فلا عجب إذاً من ارتداد الخيال إلى الماضي وعكوفه عليه.
بيد أننا لا ننكر أن ثمة عللاً أخرى غير ما أسلفنا لهذا العكوف من الشيخ على ماضيه وانصرافه إليه عن آتيه وحاضره: منها أن الشيخ إذ يرتدُّ إلى ماضيه يُسِّير الشعور في مسارب أضحت بتكرار الحدوث ممهدة لا تعترضه فيها عقبة ولا تتصدى له عثرة. ومن هنا فكرة (الماضي السعيد) عند الشيوخ، ومن هنا أيضاً ميلهم الميل الشديد إلى المحافظة وإبقاء القديم على قدمه وتجنب كل جديد يصدم الشعور ويدعو إلى تحويله من مجراه المعتاد.
ومن هذه العلل أيضاً ذهاب الرفقة وتخطُّف الموت أبناء الجيل الواحد، بحيث يجئ اليوم الذي يشعر فيه الشيخ أنه غريب في بيئة غريبة، فيزداد حنينه إلى ذلك الرهط الذاهب من جيله، فيستعيد بخياله ذكراهم المحبَّبة وأيامه وأيامهم الحافلة.
يضاف إلى هذا لون معهود من ألوان الدفاع عن النفس بتهوين الحرمان عليها وطلب العزاء لها عنه في الماضي؛ وهو نوع من أنواع تخدير الإحساس ينشأ أول الأمر في دائرة الوعي، ولكنه مع الزمن وتوالي الحدوث والتأثير يتسرب إلى دائرة العقل الباطن ويتخفى في تيه اللاشعور. وعندها يصدر ذمُّ الحاضر عن عقيدة وينطلق عن يقين. وهذه الظاهرة تبدو أجلى وأوضح في حياة الجماعات منها في حياة الأفراد. ومن هنا أن الأمم كلما أهمل حاضرها وأزداد تخلفها عن غيرها من الأمم ازدادت حفولاً بالماضي وتفطناً إليه وعكوفاً عليه. ولعل عبادة السلف عند بعض الشعوب ترجع في معظم الأمر إلى هذا الميل النفسي العميق.
ونعود إلى صورة الشعور كما يرسمها طماح الشباب ويحددها أمله، فنجد أن الشاب إذ يتجه في أمانيه وأخيلته وعمله إلى المستقبل، إنما يجري على طبيعة الشعور وبموجب قواعده. فالحاضر لدى الشاب الذي لم يحدد الضعف وقصر المجال وضيق المضطرب أمله فيه وحدود مسعاه، هو مرقاة منها يرقى إلى غيرها. وإذاً فحاضر الحياة من الشاب هو الدرب، والمستقبل الأفق، ما يفتأ متجدداً مغرياً بالسعي والسير ما بقيت في النفس حوافز السعي(136/38)
والسير. ثم أن حاضر الحياة مزيج من الخير والشر واللذة والألم والنجاح والفشل. أما آتيها فهو كما يرسمه الخيال ويحدده الأمل، خير ونعيم ونجاح. أما الماضي فقد كان يكون من خياله ما يكون من خيال الشيخ لولا أن صورة المستقبل صورة قوية رائعة لا تدع للتفكير في الماضي إلا ما يدعه القوي للضعيف. وعلى كل فقد ترى من الشباب من ينزوي عن مستقبله ويتجه إلى ماضيه، إن يكن له ماض، فعل الشيوخ الذين غادرهم الأمل وأحالهم الكبر
هذا تحليل مجمل لصور الشعور في ثلاثة أطوار الحياة وفي أزمنتها الثلاثة، لا نعتقد أننا نتحكم فيه أو نفرضه فرضاً على القارئ، لاسيما إذا أزلنا من الصورة جانبي المبالغة والإغراق من تفاؤل رخيص يجعل الحياة ابتسامة طويلة كاذبة، وتشاؤم عبوس دائم التقطيب، كما يتمثلان في حياة نفر من الناس، شأنهم الحقيقي من الحياة شأن الهامش من الصحيفة، فيها وليسوا فيها.
مما وصفنا ترى جليّاً أن حاضر الحياة - وهو كل حقنا فيها - لا ينال من فطنة الشعور إلاّ قدراً ضئيلاً عابراً إذا قيس بما يملأ أخيلتنا ويكظها من صور الماضي والآتي.
وقد تقول: ماذا علينا - إذا كان هذا هو الحال - لنخلِّص الحياة من هذا العبث الذي يضيع فيه العمر بين لهفة على الماضي وغفلة عن الحاضر واستشراف للمستقبل؟ وجوابنا أن من طبيعة الحياة أن يتمازج فيها الخير والشر وتُساير اللذة الألم، وانه يستحيل أن تكون الحياة خيراً كلها أو شراًّ كلها، وانه لهذا أضحى واجباً أن يقبل عليها الناس إقبالاً لا يُفيتهم ما يتيسّر لهم من نعيمها، ولا يفيتهم - كذلك - النظر إلى المستقبل والسعي في سبيله؛ ولن ينقص نظر الناس إلى المستقبل من استمتاعهم بلذات الحاضر إذا عرفوا كيف يحسنون السير في سبيله سيراً معتدلاً حتى لا يضحى مشغلة لهم تزحم حاضر الحياة على نصيبها الذي يجب أن يكون لها من وعي الشعور، بل نحن نعتقد أن المرء يتيسّر له من سعادة الواقع، مع السعي السليم والتطلع إلى المستقبل الذي لا يقطعُ المرء من حياته الحاضرة، أكثر مما يتيسّر له حينما ينقطع عن ماضيه وآنيه ليكبّ على الحاضر وحده يرضع فيه اللذة ويترشف النعيم على الطريقة الخيَّاميَّة.
وهذه الحالة السليمة من الشعور لا تحلُّ حلولا مفاجئاً، كما يحلُّ الوحي، ولا تجئ بالسعي(136/39)
الهين أو المعتدل، إنما هي حالة تقتضي السعي الأكيد، والتعاون الشديد، من جميع مصادر التوجيه النفسي. ولعل البيت والمدرسة يفوقان في هذا الشأن جميع مصادر التوجيه الأخرى في طول مدى التأثير وعمقه، فالبيت والمدرسة يستطيعان أن ينشئا الجيل الذي لا يقتله الفشل فيرتد إلى الماضي يخدِّر فيه الشعور، ولا يستخفه النجاح، فيستعبده المستقبل ويستذله. ويكون ذلك بأن يتعاون البيت والمدرسة على تعويد الطفل بالتلقين والإيحاء تلقى مؤثرات الحياة برحابة في الصدر، وتوطين للنفس على خير الحياة وشرها على السواء.
ويساعد على تكوين هذه الحالة السليمة من التصور مثل التربية الاستقلالية التي يُرباها أبناء الأمم السكسونية، حيث يتخذ الألم معنى الواقع الذي لابدَّ منه، واللذة معنى الخير يجئ بالسعي، فلابدَّ من تذوُّقه واستمتاعه إلى أقصى حدود الاستمتاع.
ويجب كذلك أن يتعاون البيت والمدرسة تعاوناً حكيماً في الحد من أنانية الصغار الصارخة، وإفهامهم أن فرص النجاح مثل حقهم؛ فلا تمضي حياتهم آمالاً مخيَّبة، وآلاماً موصولة.
كذلك على المدرسة والبيت أن يعوِّدا الناشئ كيف يقف من حوادث الحياة موقف الحياد والاستقلال في التقدير، ومن نفسه موقف المحاسبة والتحليل الدقيق للأوضاع التي تسوقه إليها مجريات الحياة. بذلك يكتسب ثقة في النفس وتقديراً عادلاً للأوضاع، يربحانه من خصومة النفس وغربة الوضع وغرابة الإحساس. . . .
ومن واجب البيت والمدرسة - كذلك - أن يعتاد الصغار تقدير آلام الغير ويستيقنوا أن الناس يتألمون كما هم يتألمون، وأن ما نشاهده من ظاهر السعادة عندهم هو في أغلب الأحيان دون ما نقدِّر ونتوهم.
ومن أول واجبات البيت والمدرسة أن ينشئا الصغار على التفطن إلى جميع مظاهر الجمال وتذوقه في الطبيعة والحياة والفن، فأن في ذلك توسيعاً لمدى اللذة وتغليباً لأسباب السعادة على أسباب الشقاء.
وأخيراً يجب على البيت والمدرسة أن يفقهاأن عملية التربية ليست إعداد المرء للحياة كما تصر نظم التربية القديمة، إنما هي - كما يقول جون ديوي - فيلسوف النزعة الحديثة في التربية: (الحياة) بذاتها.
أديب عباسي(136/40)
الرابطة الثقافية بين مصر والشرق العربي
دعوة إلى توثيقها
للأستاذ رفيق اللبابيدي
أحب أن أقرر أولاً أن الأمة العربية مهما تكن شتى في نوازعها السياسية، هي أمة متماسكة ذات وحدة أو كيان واحد في ثقافتها وفي تفكيرها.
وقد اختلفت على هذه الأمة أدوار من الزمن، كما اختلفت فيها أطوار من التاريخ، وكانت تجتمع كلما حز بها أمر من الأمور عند هذه الوحدة الفكرية في قوالب شتى، فالدين كان ولا يزال واحداً، واللغة كانت ولا تزال لغة واحدة، والخوالج النفسية العامة واحدة، والأدب في مقاييسه ونوازعه كان واحداً؛ ولو عدنا رَجْعَنا إلى التاريخ وقلبنا صفحاته، لوجدنا أن الأقطار العربية كانت تجتمع عند الاحتفال بالشاعر النابه والأديب مهما يكن موطنه ومهما تكن نزعته؛ وقد كان الشعر أو الأدب يطوفان في أرجائها يحملان أسم الشاعر أو الأديب طواف الفكرة الدينية أو المذاهب الفقهية، أو النحل الشتى من بلد إلى آخر، أو من قطر إلى قطر.
وبينا كانت هذه الأقطار تسودها النزعات السياسية المتباينة كانت تفسح صدورها للآراء الدينية والمذاهب الكلامية، والاستنباطاتِ التشريعية، تتسرب إليها عن طريق السفارات العلمية بارتحالِ العلماء في مختلف العصور.
وفي بغداد، وفي دمشق، ثم في القاهرة، وبين هذه العواصم التاريخية العريقة في تاريخنا الواحد وماضينا أمثلةٌ صادقة تسجَّل هذا الاتحادَ الثقافي أو هذه الرابطة العلمية، وإن تكن في غير ما نألفه الآن من وسائل يسَّرتها عواملُ الرقي، وسننُ التطور.
ولقد كانت رحلات الفقهاء، وجماعات الأدباء، ورجالات التاريخ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تُوثِّق من عُرَى هذه الروابط فاجتمع للعرب من هذا تراث واحد يمثل ذلك الاتجاه الفكري، وإن تكن قد اختلفت طرقه إلى النتائج، وتباينت وسائله فيها؛ ومذاهب الفقه، والنحل المبسوطة في المدوَّنات والمظان التي تسربت إلى المغرب الأقصى والأندلس في أيام ازدهارها ومن هذه إلى الشرق - لونٌ من ألوان هذا الاتجاه كما كان من قبل ذلك للأدب سفاراته في طواف الشعراء والكتاب من دولة إلى دولة، ومن إقليم إلى آخر، ولم(136/42)
تستطع الأحداث السياسية أن توهن من هذه الروابط أو تفلَّ منها، وإن استطاعت بعضَ الاستطاعة أن تعوق وسائلها، وتقف تقدمها؛ على أني لا أزعم أن أثر هذه الأحداث لم يكن قوياً، ولكني أجيز لنفسي أن أقول إن هذه الرابطة لم تضعف بالرغم من هذه الحوائل، بل صمدت لها حتى اجتاحها الزمن، وانطلقت الأقطار العربية من عقالها فعادت إلى طريقها الأولى ماضية فيها تساير أطوار التاريخ رفعة وضعة، سنة الله في الكائنات جميعها.
ولمصر في نهضتها العلمية والأدبية الآن يد لا تُجحد على الشرق العربي؛ ففي صحافتها روح قوية توحي بهذه الرابطة التي لم تنهزم أمام أحداث الزمن، وفي نتاج بنيها النابهين، وعلمائها ومعاهدها وما تخرجه المطابع من مختلف الكتب والمؤلفات، وما يظفر به القراء في الأقطار العربية من ثمرات هذه الجهود المشكورة - ما يُحِلَّ مصر الكريمة محلَّ الزعامة المختارة المصطفاة؛ والشرق العربي أحوج ما يكون اليوم إلى توثيق الروابط بمختلف ألوانها وأشكالها منه في آونة أخرى؛ فقد تدافعت هجمات الأحداث عليه من كل جانب، وما أشده حين يكون كتلة واحدة على دفعها، وما أهونه عليها حين تتسع شقة البين في روحه وفي تفكيره بين بعضه وبعضه الآخر؛ وأقول في كثير من الاطمئنان إن دعامة هذه الجبهة الشرقية القوية لا تقوم إلا على وحدة في الثقافة ترتكز على رابطة متينة بين الأقطار العربية وبين مصر الزعيمة.
وبعد، فلست أقترح رأياً فطيرا لا يدعمه البحث أو الأخذ والرد بين الأدباء والقامة على هذه الرابطة؛ ولكني أقدم بين يدي هذه العجالة كلاماً يصح أن يكون دعوة إلى خطوات تمهيدية لمعالجة هذا الغرض المنشود، ويشجعني على القولِ أن الأستاذ الزيات في زيارتي الأخيرة له في دار (الرسالة)، قد ارتاح إلى ما بسطته من رغبة في توثيق هذه العُرَى الثقافية، وتعهد أن تقوم الرسالة بالسفارة الأدبية بين أشياع هذه الرابطة.
وإيماني ازداد رسوخا بنجاح هذه الفكرة أو هذه الدعوة، حين تحدثت بها إلى أكثر من أخ من إخواننا هنا في مصر، وهناك في سوريا وفي فلسطين؛ وأعتقد أن الحاجة ماسة إلى زورات علمية يقوم بها شباب مثقفون مؤمنون بفكرة هذه الرابطة الثقافية بين الآونة والأخرى، لا يكون الغرض منها متعة النفس فحسب، بل يكون مع هذا اتصال وثيق بين البيئات العلمية والأدبية هنا وهنالك بإعداد بحوث تبسط فيها الأحاديث في الشؤون(136/43)
الاجتماعية والأدبية والعلمية، وأن تكون من ثم حلقاتٌ في كل بلد من البلدان العربية تضع لها ميثاقا واحدا ينتظم الجهود الثقافية فيها، مع الحرص على ما للشرق من تقاليد تفرضها أو تحتمها أوضاع الكيان القومي، فقد أخر الشرق كثيرا هذا الاقتباس المشوَّه عن الغرب في أكثر من ناحية من النواحي التي لا تتفق مع تقاليده وروحه، وحالت دون أن يكون له لون من ألوان الامتياز الاجتماعي والأدبي والاستقلال العلمي إلى حد ما يحفظ كرامته. واتجاه الشباب المثقف في مختلف الأقطار العربية يكاد يكون متأثرا بأوضاع شتى ونواح كثيرة متباينة، وهذا يوسع من شقة الخلاف، ويباعد على الزمن بين ما ورثناه من هذه الروابط؛ ذلك لاختلاف الثقافات، واختلاف المناهج التي تفرضها هذه الثقافات؛ وقد يجوز أن يكون مثل هذا في الشرق العربي لو كانت اللغة غير واحدةِ، أو لو كان التاريخ غير واحد؛ ولكن الأمة العربية مهما تباعدت سياسياً، أمةٌ تراثها واحد روحا وتقاليد؛ فيجب أن يكون اتجاهها واحداً في الثقافة حتى يظل لها هذا التماسك القوي المتين.
فتنظيم هذه الرحلات بين الشباب المثقف وسيلة من الوسائل لتكوين هذه الحلقات الثقافية في الشرق العربي أو خطوة أولى إلى توحيد الاتجاه الثقافي فيه، وتلي هذه الخطوة مرحلة أخرى تكون بعقد المؤتمرات الأدبية وتناول ما تقترحه هذه الحلقات من اتجاهات قوية في النهضة الأدبية والاجتماعية، ووراء هاتين المرحلتين مراحل تقترح ليس هذا مجال بسطها؛ وبين يدي الأستاذ الزيات صاحب الرسالة وشباب مصر المثقف هذه الدعوة، ولعلنا إلى تحقيق هذه الأمنية واصلون.
القاهرة
رفيق اللبابيدي(136/44)
رسائل حاج
2 - من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري
الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ بجامعة بوادبست
وشعرت وأنا أجتاز دهاليز الأزهر وأستقبل لأول مرة أروقته وحلقات دروسه بنوع من الرهبة والخشوع والتسليم. فهذا المعهد العظيم موئل الإسلام ومعقله، ومنبع الثقافة الدينية، وحامي حمى اللغة العربية. كان من أسمى أماني أن أندمج في سلك طلابه. وكم كنت في شوق لاهف إلى أن أنهل من ينبوعه الفياض روح الإسلام الحق، وأضيء شمعة معرفتي الخافتة بحيث تتحول إلى شعلة وقادة، وإلى حماسة فائقة داخل جوانحي، وأتعرف إلى شيوخه الذين يقودون العالم الإسلامي بآرائهم وأفكارهم، كما كنت على يقين وثقة أنني بمعاونة هؤلاء العلماء الفطاحل سأمضي في ترجمتي للقرآن الكريم إلى اللغة المجرية بحيث أجعلها في متناول آلاف المسلمين من مواطني.
ومع أن هذه الترجمة كانت عملاً شاقاً مضنياً، فإني كنت أحس من أعماق روحي أنها فرض واجب علي كمسلم مخلص يريد أن يعلي منار الإسلام ويطمح في أن يضيف لبنة صغيرة إلى صرحه العظيم.
وخيل إليَّ وأنا في نشوة روحية عميقة أنني بدأت أظفر ببغيتي وأُجزى خير الجزاء عن تلك الليالي الطويلة التي لم أذق فيها طعم الكرى، بل أمضيتها منكباً على دراسة الإسلام وتفهم قواعده وأصوله، وأن كل ما حاق بي من مصاعب سيتبدد، وفشلي سيتحول إلى فوز عظيم وانتصار رائع بمعاونة شيوخ الأزهر ومدهم يد المساعدة إلى عملي المتواضع.
ولكنني رأيت والأسف يملأ جوانحي أن آمالي تنهار دفعة واحدة بحيث أصبحت عاجزاً عن خدمة الغرض الأسمى الذي خصصت حياتي له. علمت بأن هناك وشاة أوعزوا إلى الشيخ الظواهري بأنني دخيل أرمي إلى الوقوف على أسرار الإسلام وإذاعتها في البيئات العلمية في أوربا! وعلى الرغم من الظنون والشبهات السيئة التي حامت حولي بذلت جهداً(136/45)
عظيماً لمقاومتها؛ وكان رائدي في تلك المقاومة أن الحق على الدوام في جانبي، وقد كانت سيرة المرحوم الإمام الشيخ محمد عبدة وما لقيه من خصومة صماء خفية، وانتصاره على خصومه أكبر مشجع لي في الثبات أمام حجة خصومي. وقلت لنفسي: أين أنت أيها المصلح العظيم لترى كيف ابتعد الأزهر عن مبادئك العالية، وتجاوز عن رسالتك الرفيعة التي سموت بها فوق الأغراض الوضيعة والمطامع الدنيوية والمنافع المادية.
وعلى الرغم من جهادي الضعيف في مقاومة خصومي، ما كنت لأستطيع أن أبرهن لفضيلة الشيخ الظواهري على إخلاصي وحبي للدين الحنيف، وأني لست دخيلا، ولكنني رجل يؤمن من أعماق روحه بالرسالة المحمدية النبيلة، وأريد أن أحصل على معاونة رجال الأزهر للوقوف على تعاليم الإسلام، مع علمي بأن هذه الشريعة السمحاء ليس بها أسرار يمكن إذاعتها في البيئات العلمية، لأنها ديانة مؤسسة على ثقافة ثابتة مكشوفة للعالم لا تمييز فيها بين الأجناس والألوان. وليس الأزهر سوى الجامعة الإسلامية الحق التي تضئ شعلة الحق، فلا أسرار في جوانبها يمكن إخفاؤها عن رجل أجنبي مهما كانت صفته. ألا يعاقب الله كل مسلم يرمي أخاه بالشرك والكفر والتشكك في عقيدته المقدسة؟ ألا يعاقب أيضاً أولئك الذين لا يقومون بواجب الدعاية والإرشاد للإسلام، والذين يخفون أسرارا في قلوبهم؟ يشهد الله أنني لا أرمي من وراء ذلك أن أوجه التهم جزافا، أني لا أملك هذا الحق، ولكنها صرخة ضعيفة أردت أن أنفس بها عن صدري.
إن الأزهر بحسب نظامه الحالي لا يستطيع أن يؤدي رسالة الإسلام كما يجب. فالنظام الحديث الذي أدخل عليه، والحيلولة دون اجتماع الطلاب في حلقات الدرس كما كانوا قبلا حول شيوخهم، مسخ الأزهر وشوهه، وأفسد ما كان قد بقي له من جمال وجلال وحرمة، وأفقده سيطرته الدينية والاجتماعية في العالم الإسلامي، تلك السيطرة التي ظل متمتعاً بها قرونا عدة. ويلوح لي أن البرامج الحديثة لم تقدم الأزهر خطوة واحدة، لأن المشرفين على تنفيذها جعلوا هدفهم الأسمى فتح أبواب العمل في وجوه الطلاب، وتمكينهم من احتلال الوظائف المدنية دون أن يفكروا في تحميلهم ثقافة الإسلام على وجهها الصحيح وإرشاد المسلمين إلى الخير وتفقيههم، ودعوة غير المسلمين إلى الدخول في دين الله كما نص ذلك القرآن الكريم. يجب إذن أن يترك الأزهر ليكون جامعة الإسلام الحق، وأن يعد طلابه(136/46)
لحمل رسالة الحق، وتهيئهم للوعظ والارشاد؛ أما فتح أبواب العمل واحتلال الوظائف المدنية فأشياء ثانوية قد تصرف الأزهر عن الغاية التي أنشئ من أجلها.
وعلى الرغم من وجود عدد كبير من العلماء الجهابذة في هذا العهد الإسلامي العظيم فان الضغط أطفأ في قلوبهم روح المعرفة والتعطش إليها. على أن الإسلام في عرفي يحتاج إلى حرية كاملة في البحث والتنقيب والفكر. ولقد ولد الإسلام في مهد الحريات فيجب أن يظل كذلك، لأنه يحث على حب الحقائق والصدق والتغلغل في أعماق المعرفة. وتقدم الأزهر لا يتم بتشييد العمارات المهيبة العظيمة، وإقامة عمد من الرخام والمرمر، وصنع مقاعد الدراسة من الأخشاب الثمينة، وإنما يتم بالتمسك بالعروة الوثقى، وإزالة الصدأ الذي ران القلوب من التمسك ببعض التقاليد والعقائد المزيفة، وفي الإجماع على توحيد كلمة الحق ووضع الأنظمة الإلهية في المكان اللائق بها. ألم يقل الله عز وجل: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) أو كما قال الرسول الكريم (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا).
ولما يئست من معاونة رجال الأزهر قر في عزمي أن أقوم بدراستي وحدي مستعيناً بمعلم خاص تكرم بتضحية جزء من وقته لتعليمي، كما ألفيت مساعدة عظيمة من بعض أصدقائي بالقاهرة، كالأستاذ محمود تيمور الذي يجمع بين ظرف الشباب وطهارة الشيوخ، والشاب النابه محمد أمين حسونه الذي عرفني إلى طائفة من أدباء مصر وصحفييها، وأعارني مكتبته طيلة إقامتي في مصر، والباحث محمد عبد الله عنان الذي يعد حجة في التاريخ الإسلامي، والشيخ الوقور عبد الوهاب النجار الذي له أتباع وتلاميذ منتشرون في أنحاء الأرض، وقد كان سبباً في تعرفي بكثير من إخواني المسلمين، وكانت كتب توصيته بمثابة مفتاح يفتح أمامي كل باب.
وفي أواخر فبراير زودني الأستاذ النجار بكتب توصية بمناسبة عزمي على أداء فريضة الحج؛ وكان له الفضل الأكبر في تقديمي إلى (بنك مصر)، ذلك الصرح المالي العظيم الذي يتناول من جملة مشروعاته الاقتصادية تنظيم سبل السفر إلى الأقطار الإسلامية المقدسة. ومما يذكر مع الأسف العميق أن أعمال الحج كانت تقوم بها قبل ذلك شركات ملاحة أوربية لا علم لها بما تتطلبه حاجات الحجاج المسلمين، فكانت بواخرها تحمل المشروبات(136/47)
الروحية، وتقدم إلى الركاب الطعام الأوربي، ولا تكترث بأن تهيئ لهم الماء الكافي للوضوء ولا إقامة مصلى يؤدون فيه الفرائض الشرعية.
أما (بنك مصر) فقد نظم للحج باخرتين كبيرتين تعدان من أكبر البواخر، وزودهما بكل ما يحتاج إليه الحجاج من وسائل الراحة والمأكل بحيث يشعر المسافر أنه لم يفارق بلاده. وقد كانت بغيتي أن أستقل إحدى هاتين الباخرتين، لأنني عددت نفسي مصريا بعد أن شربت من ماء النيل، ولكني لم أتمكن وا أسفاه من نيل بغيتي، فان قانون شركة كلاحة مصر يمنع من نقل الحجاج الأجانب على هذه البواخر، وعلى الرغم من المجهود الذي قمت به وتوسط الهلباوي بك لم أوفق، واضطررت إلى السفر على إحدى بواخر الشركة الخديوية.
وقامت بنا الباخرة باسم الله مجراها تشق برزخ السويس، فرحت أفكر في تاريخ ذلك المضيق الذي كان سبباً في فصل أفريقيا عن آسيا، بل كان فاصلا بين حقبتين من أحقاب التاريخ؛ ومع أنه قرب مصر من أوربا فقد جعل لمصر مركزا سياسياً ممتازاً بحيث أصبحت جزءا من أوربا. وبينما أنا غارق في غمار تلك الأفكار إذ اقترب مني فريق من الحجاج وبدأ التعارف بيننا بسرعة. كان بينهم طبيب هندي تصحبه كريمته، ولكن لسوء الحظ لم يكن هذا الطبيب يعرف اللغة العربية حرفا واحدا، فاضطررنا أثناء السفر إلى التحدث باللغة الإنجليزية. وفي ذات يوم نظر إلى نسخة من القرآن الكريم في يدي، وهي الطبعة التي تولتها المطبعة الأميرية، فأعجب بها أيما إعجاب، وطلب إليَّ أن أبتاع لحسابه ألف نسخة من هذه الطبعة ليبعث بها إلى الهند إذ لا توجد هناك مصاحف جميلة من هذا النوع.
وكان بالباخرة أيضاً حاج مراكشي، يشغل وظيفة قاض في فاس، وكان صبوح الوجه، وقوراً، أميل إلى التزام الصمت، لكنه ما كاد يسمعني أتحدث بالعربية مع أحد الحجاج الأتراك حتى أقبل إلينا واشترك في الحديث. ولشد ما أعجبت بتبحر الرجل في العلوم الإسلامية والفقه، كما أن لباسه الشرقي الفضفاض كان يخلع عليه طابعاً من الرزانة والوقار؛ أما صاحبنا التركي فكان أحد ضباط الشرطة في دمشق، وبعد اعتزاله الخدمة آثر أن يبقى في سورية حيث تعلم اللغة العربية؛ وكان طيلة السفر يشكو مر الشكوى من الأنظمة الحديثة في تركيا وبالأخص ترجمة القرآن وتشويه هذه الترجمة بحيث لا تؤدي(136/48)
المعاني المقصودة، ويظهر سخطه وتبرمه بالغازي الذي يحول دائماً بين المسلمين الأتراك وبين أداء فريضة الحج، ويرهق كل من أراد الحج بالضرائب الفادحة.
من ذلك ترى أننا كنا على ظهر الباخرة من بلاد متباينة، ولكن تجمعنا جامعة الإسلام، وتؤلف بين قلوبنا وتجعلنا نعيش كأفراد أسرة واحدة. فلما اقترب موعد العشاء أخذنا أماكننا على المائدة، وكان يخيل إلى كل من يرانا أننا في برج بابل، فكل منا يتكلم بلغة لا يفهمها الآخر، بيد أننا سوف نصل بعد بضعة أيام إلى جدة وتطأ أقدامنا الأرض المقدسة فنخلع عن أنفسنا تلك الملابس التي تفرق بيننا لنستبدل بها لباس الإحرام الفضفاض بحيث لا يصبح أي فارق بيننا بل نكون سواسية في حضرة رب البيت الكريم.
وبعد انتهاء طعام العشاء بقليل صفرت الباخرة صفيراً عالياً فغادرنا المائدة وتهيأنا للوضوء، ثم صلى كل منا ركعتين قرأ فيهما سورة الإخلاص وقل يا أيها الكافرون.
وكان البحر هادئاً والهواء ندياً والنجوم تتألق في القبة الزرقاء، وراحت الباخرة التي كانت تحمل على ظهرها أكثر من 700 حاج تلقى مراسيها بين هتاف الحجاج ودعواتهم الحارة.
وهكذا ظل الحجاج في هرج ومرج، فكنت ترى البعض يهتف بقوله: لبيك اللهم لبيك، والبعض الآخر مستغرقاً في صلاته، وآخرين صامتين لا يبدون حراكاً، شاخصين بأبصارهم في ذهول نحو الأرض المقدسة التي خرج منها سيد الخلق ورسول رب العالمين.
وما كنت بأقل من هؤلاء الحجاج شعوراً بالغبطة والابتهاج، ولزمت مكاني خاشعاً راكعاً لا تقوى قدماي على الحركة، ودقات قلبي تثب في قوة وعنف بينما يردد لساني في خفوت: لبيك اللهم لبيك. ثم انهمرت الدموع من مآقي ولم أملك أن أمنع نفسي من الاسترسال في البكاء. أجل! أدركت الحق الصحيح ولمست عظمة هذا الدين الحنيف، وعبثاً حاولت النوم في تلك الليلة، بل شرد عقلي واتجهت بتفكيري إلى أعمال الخلفاء، رضوان الله عليهم، وإلى رعايتهم الأمم الإسلامية، وتوزيع أسباب العدالة عليها طبقاً لأصول الشريعة السمحاء.
(يتبع)
عبد الكريم جرمانوس(136/49)
رثاء
محمد جلبي الشهبندر أحد سراة العراق
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
- 1 -
تحطْمت الآمال من بعد محمود ... فيا سلوتي شحّى ويا عبرتي جودي
قد اجتُثّ روحٌ كان قبل اجتثاثه ... يزين بأثمارٍ له ألفَ أملود
خلا القصرُ ممن كان للقصر مالئاً ... كأن لم يكن في رُدهتيه بموجود
لقد غمدوا السيفَ الصقيلَ بحفرة ... ويا ليت ذاك السيف ليس بمغمود
تجرّد من جسم تضيق حدودُه ... يجوب فضاءً واسعاً غير محدود
نعاه ليَ الناعي فكان نعيُّه ... كصاعقة أو مثل صدمة جلمود
فأدركني يومٌ من الدهر أسودٌ ... فكان لحزني شرَّ أياميَ السود
- 2 -
لقد غاب محمودٌ عن الصحب مضطراً ... ولم يبق منه للصديق سوى الذكرى
كأن لم يكن قد سُرّ أصحابهُ به ... ولا هو في يومٍ بأصحابه سُرّا
بربك لا تَلحُ الحزينَ على البكا ... فإنك لا تدري بما فيه قد أورى
تقول عيوني للسحابة أقلعي ... فأنكِ لا تبكين من كبدٍ حَرّى
على كل قبر مقلةٌ ذات عبرة ... وماذا انتفاع القبر بالمقلة العَبرى
قسمتُ بكاَء الشعر بيني وبينه ... فأعطيتُه شطراً وأبقيتُ لي شطرا
ولا تقترح قولاً على الشعر إنه ... بموقفه في يوم محنته أدرى
- 3 -
لقد ظلَّ للموت الزؤامِ يجاذب ... إلى أن علاه الموتُ والموتُ غالب
أطال الردى همساً بأُذن مريضة ... كأن له ديناً فجاء يطالب
ولو حزتُ علماً بالمقادير جئتُها ... أؤّنبُها فيما أتت وأعاتب
يقولون أمراض به أغرت الردى ... وما هي أمراضٌ ولكن نوائب(136/51)
فيا دمعُ أنت اليوم كالقلب نابضٌ ... ويا قلب أنت اليوم كالدمع ذائب
لقد ندبته نسوةٌ حول نعشه ... وأَشْجِ بما كانت تقول النوادب
إذا انطفأ النجمُ الذي كان ساطعاً ... فليس ببدعٍ أن تسود الغياهب
- 4 -
أمحمودُ كنتَ الراجحَ العقل والخلق ... من الباطل الخدّاع تفزع للحق
وكنتَ كنجم لا قرار لسيره ... فتطلع من أفق وتغرب في أفق
وكان لموتٍ قد أصابك سهمُه ... دوىٌّ بغرب الأرضِ أجمعَ والشرق
ولا رُزَء إلاّ كان رتقٌ لشقه ... وليس لشقٍ يفتق الموت من رتق
مضى بصديقي الحرِّ يستعجل الردى ... فليت الردى للحر قد كان يستبقي
بكتك عيون العارفيك بأدمع ... تفيض وللأرض التي ظمئت تسقي
تجنبتَ ضوضاَء السياسة آخذاً ... بأيديك أسبابَ التجارة في حذق
- 5 -
حياةٌ ومن بعد الحياة. مماتُ ... وجمعٌ على الأعقاب منه شتات
وهل تغسل القلبَ الحزين من الأسى ... إذا العين منها انصبّت العبرات
وإن أثقلت نفسَ الوفيّ فجيعةٌ ... فلا النورُ يُسليها ولا الظلمات
أقول لقومي إن يكن عندكم لمن ... تَفَجَّعَ سلوى في المصاب فهاتوا
وما أجَملَ الأيامَ إمّا لنا وفت ... ولكنما الأيامُ منتقلات
لقد حملوا نعشَ الفقيد لقبره ... فساروا وسارت خلقَه السروات
فما كنت من تلك الجماهير سامعاً ... سوى صرخات بينَها شهقات
- 6 -
على الأرض أمجادٌ كثير قصورُها ... وأكثر منها في العراء قبورها
وما من بقاع ليس يهلك أهلُها ... ولا من سماءٍ ليس تردى نسورها
وما خيرُ دنيا بالزلازل أرضُها ... تميد وبالأمواج تغلي بحورها
إن الجسمُ أودى فالبوارُ نصيبُه ... ولكنما الأرواح ماذا مصيرها(136/52)
إذا ما حياةُ المرء للمرء فارقت ... فهل من حياة غيرها يستعيرها
وليس لنفسٍ أن تخِيرَ حمامَها ... ولا هو إمّا زارها يستشيرها
إذا النفس دبّ الداء فيها فعالجت ... منيتَها ماذا يكون شعورها
- 7 -
هل الحزنُ إلاّ مقلةٌ تتفجّر ... وألاّ قلوبٌ نارُها تتسعّر
تبعثر شمل البيت بعد اجتماعه ... وأيّ جميع عَوضُ لا يتبعثر
وأجساد موتى في القبور تأسّرت ... وأرواح موتى للبقاء تحَّرر
على أن موتى السابقين إلى الردى ... حياةٌ لأبناءٍ لهم قد تأخّروا
ولم يك يوماً للطبيعة غايةٌ ... سوى النوع إن النوع أبقى وأثمر
لقد عرف الإنسان منها ظواهراً ... ولم يدرِ ماذا في البواطن مُضمر
إذا مات طفل البيت فالخطبُ فادح ... وإن مات ربُّ البيت فالخطب أكبر
- 8 -
لقد جاء ما قد كان يبنيه ذا حسن ... فما تمَّ حتى قام يهدم ما يبني
حزنتُ وما حزني سوى ابن رزيئةٍ ... وما دمعتي في العين إلاّ ابنة الحزن
وما أحدٌ في الناس يدري مصيرَه ... ومن كان لا يدري فيفزع للظن
لقد زيّنت بالزهر قبرَك صحبةٌ ... وعن كل هذا الزهر قبرك مستغن
يخال الفتى علماً له بحقائق ... ولم ينتبه أن الحقائق في الذهن
وليست حياة المرء بعد مشيبه ... وإن قل شكواه سوى التعب المُضني
سمعتُ أحاديثاً وإني لمبدلٌ ... لما نظرت عيني بما سمعت أذني
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(136/53)
نذالة التعاسة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
كدت أنسى دواعيَ الرفق مما ... قد أرتني نذالة التعساء
يقضمون اليد التي تنتحيهم ... بسخاء ونجدة وإخاء
ويكيدون في الخفاء أو الجه ... رة أَلْئِم بجهرهم والخفاء
عشش اللؤم حيثما عشش البؤ ... س سوى في القليل من كرماء
ليس بِدْعاً أليس ما نغص العي ... ش من البؤس باعث الشحناء
كل قلب يبيت من حسك البؤ ... س ملئ بخسة الأدنياء
يتلظى شراً ويرشح غدراً ... ويداجي خوناً بثوب رياءِ
يلؤم المرء وهو غير شقى ... كيف ينأى عن لؤمه في الشقاء
ليزيدنَّهُ اغتيالاً وحقدا ... وافتراساً على حطام الرخاء
وسعُاراً لو أَنه نال من أر ... ض لُجَنَّتْ زلازل الغبراء
وهو غلٌ لو حاق بالشمس أمسى ... مثل ذر الرماد وجه ذُكاء
ليس شر البأساء قصراً على النح ... س ولكن كم أشعلت من عداء
وحقود وخسة وسعار ... واغتيال ومكرة ورياء
تفسد الأنفس الكرائم حتى ... تغتدي مقل أنفس اللؤماء
ضاع عطف الرحيم إذ ضاع حسن ال ... خلق في خيم أنفس التعساء
وعظيمٌ ما أفسد النحس من خل ... ق هضيمٍ ورحمة الرحماء
كم شقاء يمضى وفي النفس منه ... أثر واضح لغير فناء
من عوادي سخائم لست تدرى ... هي بالمرء علة الأدواء
أم هي النفس سقمها مثل سقم ال ... جسم من احنة ومن شحناء
مثل ذل الشعوب خَلَّف لؤماً ... بعد فوت من عهده وانتهاء
وصفات الشعب الضعيف لَتُلْفىَ ... في جسوم صحيحة أقوياء
من رياء واحنة واحتيال ... وتعادى تخاذل وافتراء
شيم يدرأ الذليل بها من ... عجزه سطوة من الأعداء(136/54)
أصبحت شيمة النفوس وإن لم ... يك ذل ولم يكن من عداء
فمنى يلبس الخلائق طرا ... طيب نفس في شملة النعماء
ليس إلا بها نجاء نفوس ال ... ناس طرا من خسة الغبراء
فاطلبنْهُ فيها وإلا فدع نشد ... ان أمر بغير داعي الرجاء
عبد الرحمن شكري(136/55)
الأمة العربية
بقلم حبيب عوض الفيومي
قد أصبحت وطعامها جِرَّاتُها ... وتعَرَّفَتْ لِعَليمها نَكِراتُها
مبذولةً حُرُماتهُا مفتوحةً ... أسدادها ملحوظةً غِرَّاتها
غلبت مطامعها على أخلاقها ... فهوت بها أحقادها وتِرَاتها
فتخالفت من حقدها غاياتها ... وتشابهت من موتها فتراتها
فكأن خالد لم يَفُزْ بدٍمَشقِها ... يوماً ولا خَدَمَ الرشيدَ فُراتها
يا مُخْفِقَ الأسفارِ طَيَّاراً بها ... قد أنجحت بك آنفاً بَكَرَاتُها
نَهَضَت بنفسِكَ فارساً أخلاقُها ... وهَوَت بنفسك طائراً عَرَّاتُها
انظر لنفسك أين موضع فضلها ... لا تلفحنَّك جامحاً جمراتها
ما بالغِنَى فتح البلادَ محمدٌ ... بل بالهدَى دانت له داراتُها
ينجو الكريم مَعَ القليل صِيَانةً ... وتُمِيتُ صاحب حاجةٍ حَسَرَاتُها
وكأنَّ ذلكم البريقَ غِشَاوةٌ ... للنفس تَكْمُنُ تحته عَثراتُها
ومن الدليل على شقَاوَةِ أُمَّةٍ ... أن يستنيم إلى النعيم سَرَاتُها
والأرض دارٌ إن تفاضل أهلُها ... بغنى البطون فخيرهُم حشراتُها
الفيوم
حبيب عوض الفيومي(136/56)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
29 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
لا ينبغي للعاقل أن يكون قاسياً على نفسه فحسب، ليكن قاسياً على الآخرين أيضاً لا يحفل بهدوء ولا بسلام؛ هو يدرك أن الإنسانية لا تنشط نحو غاية معينة معلومة؛ ولكنه يرى كل شيء في استحالة وتطور؛ يرى من واجب الحياة نفسها أن تعمل على أن تفوق نفسها، ويدرك أن الإنسان ليس من حقه أن يعلل نفسه بأنه بلغ المرفأ سالماً. ليكن كل سلام عنده ذريعة لحرب جديدة، ولتكن حياته طافحة بالحوادث العظام؛ هو لا يتحرى عن السعادة ولا يجهل أن الفرح والحزن هما توأمان متقارنان. وفي استطاعة الإنسان أن يجوز الحياة بدون فرح كبير يعروه، أو شقاء كبير يغزوه، على أن ينقص من قوة حيويته. أما الذي يريد أن يتذوق الأفراح الكبيرة فمن واجبه أن يعرف الأحزان الكبيرة، إذ كل ارتجاج في ناحية يقابله ارتجاج في ناحية أخرى. (أما خالق القيم المؤمن بالحياة، من يريد الحياة عنيفة قوية ما شاءت القوة، فهو يريد أن تكون الارتجاجات واسعة حول نقطة الموازنة؛ يريد أن يعرف القمم العالية للسعادة والشقاء. يريد أن يعرف الانتصارات المسكرة والهزائم الشنيعة. يجب عليه أن يمشي في وقت واحد إلى النصر والى الاندثار. وزرادشت نفسه قد هلك حين بلغ (قمة) وجوده. والسوبرمان هو - في وقت واحد - الظفر اللامع والاندثار القوي للإنسان.
وبينما ينبغي للعاقل أن يكون قاسياً على نفسه، لا يلتوي إزاء الألم، ينبغي له كذلك أن يكون قاسياً على الآخرين؛ هنالك مصائب وآلام يُعد مخففها فاقداً للإنسانية، وهنالك منحطون ناقصون، جاءوا الحياة اختلاساً، فلا يجوز تأخير فنائهم!.
يقول زرادشت: (في كل مكان ترن أصوات الذين يعظون بالموت، والأرض مفعمة بالذين يجب أن يوعظوا بالموت، أو (بالحياة الأبدية) حتى يقلعوا عن الحياة سراعاً. وللمتشائمين(136/57)
والشكوكيين والمنحطين الذين يئنون ويقولون (ما الحياة إلا شقاء)، لهؤلاء يجب أن يقول العاقل (إذن! ضعوا لحيتكم وآلامكم حداً تنتهي تنتهي عنده وآلامكم، ولتكن شريعتكم مبنية على هذه الكلمة (الانتحار واجب، والانهزام من الحياة واجب)، إذ لا ينبغي للأرض أن تغدو داراً آهلة بالمرضى والبائسين، حيث يفني الإنسان الخالص الجوهر سأماً وشفقة. إذا أردنا أن نستنقذ السلالات الآتية من مشاهد الفاقة والشناعة فلنترك الموت ينزل بمن هو ناضج للموت. ولتكن فينا جرأة على ألا نصرف الساقطين عن السقوط؛ لندفعهم ولنقذف بهم قذفاً حتى يهووا سريعاً. ينبغي للعاقل أن يعرف كيف يتحمل مشهد الألم عند الآخرين، وأن يعرف كيف (يؤلم) ويبث الألم دون أن تجد الشفقة إلى قلبه سبيلا.
هذا هو ما تطلبه النفس العظيمة. يقول زرادشت: (أبالغ أنت شيئاً عظيماً إذا لم تشعر بقوتك وإرادتك التي تعاقب بآلام كبيرة. عرفانك أن تتألم، هذا شيء حقير؛ فالنساء الضعيفات والعبيد يصبحون أسياداً في فن الألم. ولكن ثبات جأشك وعدم انحنائك أمام المصائب المؤلمة والصيحات المؤلمة، هذان هما مظهر العظمة وسرها الصريح).
ينبغي للعاقل أن يتصف - في كل فصول حياته - بطهارة الطفل اللاعب، وصفاء الراقص الباسم، وهناء اللاعب المجدود، وفي مثل (الاستحالات الثلاثة للروح) ينبئ زرادشت بأن النفس الإنسانية يجب أن تكون في استحالتها الأولى (بعيراً) يحتمل بصبر أثقل الأعباء على ظهره، حتى يستطيع أن يجمع الشيء الكثير من التجارب، ثم يستحيل (البعير أسداً) يجأر قائلا: (أنا أريد!) ويتوعد بمخالبه الحادة كل من يحاول العبث بحريته. يجب عليه أن ينتصر على تنين الشريعة المكتوب على كل جزء من جسده بأحرف ملتهبة (يجب عليك!) ثم يسرع في نزع أثقالالمثل الأعلى والحقيقة والخير عن ظهره مما كان يظن حمله خيراً له، وأخيراً، لكي يستطيع أن يدخل في دور (الإنتاج والإبداع للقيم الجديدة) بعد تهديم القيم القديمة، يجب عليه أن يستحيل طفلا يلهو ويلعب؛ (إن الطفل هو صفاء ونسيان، هوأبتداء، هو لعبة، هو دولاب يدور بنفسه حول نفسه). وهكذا يجب على النفس التي تتوق إلى الصعود فوق قمم الحكمة أن تتعلم أن تلعب، وأن تفرح وتمرح طاهرة صافية، يجب أن تكون خفيفة غير واعية تنعتق من التشاؤم والكآبة، ومن كل ما يجعل حياتها سحابة دكناء.(136/58)
تقول الشريعة القديمة: (ويل لمن يضحك)! وهذا القول عند زرادشت منكر قبيح. أما العاقل فيجب عليه أن يضحك الضحكة الإلهية؛ يجب أن يدنو من محجته وغايته بخطوات خفيفة راقصة طائرة، لا بليدة نادمة؛ إنه يتعزى بالضحك عن نقصه؛ إنه بالرقص والطيران يجوز مستنقعات الكآبة كالرياح العاصفة. يجب على الإنسان أن يتعلم الرقص بنفسه والضحك بنفسه وأن يرتفع وأن يسمو فوق نفسه، وأن تفوق نفسُه نفسَه على أجنحة الضحك والرقص.
يقول زرادشت: (إن إكليل الضحك، هذا الإكليل من الورد، ضفرته أنا على رأسي، وأنا قدست ضحكتي المرحة. إن إكليل الضحك، هذا الإكليل من الورد، أُلقى به إليكم يا رفاقي! أنا أقدس الضحك أيها الرجال السامون، فتعلموا أن تضحكوا).
- 3 -
(إن من كان مثلي مدفوعاً بشوق غريب للتأمل في مذهب التشاؤم إلى أقصى حد، قد يكون - من حيث لا يريد بذاته - فاتحاً عينه على المثل الأعلى للرجل الحي الطروب المبتهج بالحياة الذي لم يتعلم أن يتحمل الماضي والحاضر فحسب، بل يعمل على إحيائهما معاً، مهما كان الماضي ومهما ذهب المستقبل.) ولعل هذا التشاؤم المبطن عمقه بالتفاؤل هو الذي حدا بنيتشه إلى أن يطلب الحياة لنفسه، ولهذه الرواية الإنسانية الشاملة الكاملة، وللوجود الذي يقوم بتمثيل هذه الرواية.
في شهر أغسطس من عام 1881 هبت في رأس نيتشه فكرة القول بالرجعة الخالدة التي أصبحت أساس فلسفة السوبرمان، وما لبثت هذه الفكرة أن ملكت عليه مشاعره كلها. وقد تتلخص هذه الفكرة في هذه الكلمة: إن شحنة القوى التي تهيمن على العالم تتراءى لنا ثابتة سرمدية؛ لا نقدر على أن نفترض لها نقصاً لأنها لو كانت كذلك لوجب زوالها في هذا الدهر الطويل، ولا نقدر على أن نفترض لها نمواً - كالنمو العضوي الذي نعرفه - إذ لو كانت كذلك لافتقر نموها إلى غذاء؛ وما هو هذا الغذاء أو هذا الوقود؟ وعلى هذا لم يبق لدينا إلا الاعتقاد برسوخ هذه القوى وثباتها.
(يتبع)(136/59)
خليل هنداوي(136/60)
القصص
مأساة من أسخيلوس
أجامْمنون
للأستاذ دريني خشبة
(ولد أسخيلوس سنة 525 ق. م وعاش سبعاً وستين سنة، وحارب في موقعة ماراثون، وكتب تسعين درامة لم يبق منها غير سبع. وكان يكتب درامات ثلاثية أي تتركب الواحدة منها من ثلاث درامات - أو قل فصول - تستقل كل منها بنفسها، وتكون مع الأخريين وحدة رائعة. وكانت مآسي أسخيلوس غرة في حين عصر بركلس، أزهى عصور الأدب في التاريخ القديم؛ ودرامة اليوم (أجاممنون) هي الحلقة الأولى - أو الفصل الأول - من إحدى ثلاثيات إسخيلوس (الأورستية) نسبة إلى جل المأساتين الأخريين (أورست) بن أجاممنون وضحية الأمومة الأثيمة، ويعدها نقاد الأدب الكلاسكي أروع طرف الأدب اليوناني.
(وإسخيلوس هو أول من سار بتقاليد المسرح القديمة، بل ربما كان واضع أول لبنة في المسرح القديم. وقد كانت الدرامة - أو المأساة - قبله غير معروفة، وكانت المقالة هي المتداولة، وكان القصاصون يقومون بتأدية الأدوار جميعاً. فلما كان أسخيلوس حتم أن يخصص لكل دور ممثل بعينه، والمنشدون أو (الخورس) لهم مكانة رفيعة في درامتي اسخيلوس وسوفوكليس، وأناشيدهم هي شرح الأحداث التي تمهد للدرامة أو تتصل بها.)
- 1 -
نحن في الـ (بلوبيديه)، ذلك القصر العتيق الشاهق، الذي تكتنفه الأسرار، وتهوم في أبهائه وردهاته الألغاز. . .
ومن الـ (بيلوبيديه) تصدر الأوامر، فتصدع بها مملكة آرجوس. . . وتُجيّش الجيوش، وتتحرك الأساطيل. . . وتسيل الدماء أنهاراً!
ومن هذا القصر، يحكم الملكان الشقيقان أجاممنون، ومنالايوس. . . أما أولهما فقد تزوج من الفتاة الكاسرة، ذات الصولة، كليتمنسترا، بطلة المأساة التي نحن بصددها الآن. . .(136/61)
وأما ثانيهما، فقد تزوج من الفتاة اللينة الغضة؛ المترعة بالمفاتن، هيلين! التي فرت مع عشيقها المجرم باريس. . إلى. . طروادة؟. . والتي شبت بسببها تلك الحروب الطويلة المروعة فذهبت بالنخبة الناضرة من شباب هيلاس وإليوم. . .
والفتاتان شقيقتان، وقد تبناهما تنداريوس العظيم، وزوجهما من هذين الملكين الشقيين، ليزيدا في شقائهما، وليكونا حرباً عليهما وعلى شعبهما البائس لا تنتهي! وليكونا كذلك، ليلاً على هذا القصر العتيق الشاهق - الـ (بيلوربيديه) مظلماً. . . لا تنجاب غواشيه. . . ولا تنقشع دياجيره!!
- 2 -
وفرت هيلين الآبقة، مع باريس الآثم،. . . فهاجت هيلاس، وهبت ريح الحرب، وتدفقت الجيوش إلى أوليس حيث الأساطيلِ في انتظارها، لتمخر بها البحر اللجي إلى مدينة بريام. . .
وودع أجاممنون زوجته. . . وذرفا، وهما يتعانقان، دموعاً حارة سخينة! وأنطلق مع شقيقة الملك البائس المفضوح في عرضه، منالايوس، إلى أوليس. . . ليركبا مع بقية الجند. . . وليبحرا إلى إليوم. . .
بيد أن البحر المضطرب كان ينذر بتحطيم الأسطول إذا هم أن يقلع.
والعاصفة التي أطلق بوسيدون عنانها كانت تثير في اليم موجاً كالجبال. . . وكانت تراوح الشاطئ المرتجف وتغاديه، فتهيل التراب وتسفيه، وتحط صخره من علٍ وتغرق به ما تهاوى عليه من أسطول هيلاس. . .
وانتظروا طويلاً حتى تسكن العاصفة، ويهدأ البحر المصطخب. . . ولكن. . . بلا جدوى!
ثم قيل لهم إن الآلهة عطشى، وأرباب الأولمب ظماء، وإنها لا يرويها إلا دم عزيز غال يسفح، ومهجة شابة غيداء تطل، وإن الآلهة لا ترضى بإحدى أبنتي أجاممنون بديلا!!
لا ترضى الآلهة أن يسفك دم إلا دم إفجنيا العذراء، أو أختها الكاعب إفياناسا، فإذا لم ترو الآلهة فلن تهدأ العاصفة، ولن يسكن العباب، ولن يفتأ البحر يضطرب، ولن يقلع هذا الأسطول اللجب.
وتردد أجاممون! وأضطرم قلبه بحنان الأبوة! ولكن القادة تكبكبوا حوله يلحفون عليه أن(136/62)
يصغي إلى وحي السماء، ويستجيب لأمر الآلهة. . . فقبل. . . وبكى. . .
- 3 -
وجئ بالعذراء البريئة إفجنيا، ليحتفل بخِطبتها إلى أخيل فيما ادعى الوالد المحزون في رسالته إلى زوجه. . .
ولكن الزوجة تكتشف أن لا خطبة هناك. . . بل هناك قتلة شنيعة تنتظر ابنتها. . . لا لشيء. . . إلا أن تروى الآلهة. . . كما أرجف المرجفون!
وتصبح أضواء الحياة كلها ظلمات في عيني الأم. . . وتحاول إنقاذ الفتاة. . . ولكن. . . عبثاً!. . . لقد تقدمت إفجنيا إلى الكاهن الجلاد بقدم ثابتة، وجأش رابط، ونفس مطمئنة. . . وأعلنت أنها تهب نفسها للوطن. . .! ودمها للآلهة. . . وإنها تستودع الأولمب أباها. . . وأمها!. . .
وأهوى الجلاد. . . الكاهن. . . بسكينه. . . فهريق الدم العزيز الغالي!!
- 4 -
وعادت الأم المضعضعة إلى القصر الشاهق العتيق. . . إلى الـ (بيلوبيديه). . . تجتر هذه المصيبة الدامية، وتغص بتلك الداهية الحمراء!
وتحزن أياماً. . .
ويشمل السواد كل شيء. . . حتى أضواء الشمس، وأفواف الزهر، وآراد القمر!!
كل شيء أسود حالك. . . لا سيما. . . قلب الملكة. . .!
لقد انفردت في هذا القصر العتيق، فهي صاحبة الأمر والنهي فيه، وكل شيء يصدر عن إذنها ويقضى بأمرها. . . والمملكة بأسرها بيديها. . . ومع ذاك. . . ومع كل ذاك. . . فليس في الدنيا العريضة ما ينسيها افجنيا! أو يبعد عن عينيها ذلك المنظر الرائع الرهيب. . . منظر السكين اللامعة تهوى على عنق الفتاة. . .!
إنها أمامها أنى ذهبت وأيّان وجهت. . .
هاهي ذي تمرح في هذه الغيضة من حدائق القصر. . . وتلعب في تلك الردهة من الطابق العلوي. . . وتغرق في هذه اللجة من ديباج السرير. . . وتداعب الظباء في الحظيرة. . .(136/63)
وتضفر أعواد الزنبق للتماثيل. . . وتنثر الورود والرياحين تحت أقدام الدُّمى. . . ثم. . . . . .
ثم هاهي مسجَّاة فوق المذبح يتفجر من غلاصمها الدم!!
- 5 -
وسكنت العاصفة، وهدأ البحر الجياش، وأقلع الأسطول بمن عليه. . . وحوصرت طروادة. . . وقتل الأبطال الصناديد من الفريقين. . .
وكرت أعوام عشرة. . .
- 6 -
(كيف يقتل ابنتي هذا الملك الذي قُد قلبه من صخر؟ كيف سوَّلت له نفسه أن يأذن لجلاديه بذبحها؟ أين حنان الوالد؟ قربان للسماء؟ أي سماء هذه التي تشره لدماء العذارى؟ لا ظفر أجاممنون بأعدائه! ولا حمله البحر إلى آرجوس كرةٌ أخرى! وروى ثرى طروادة من دمه، كما رويت آلهته من دم ابنتي!!).
ووقر في قلب كليتمنسترا أن تثأر لابنتها. . . ولكن. . . ممن؟ من أجاممنون. . . من أبيها أجاممنون. . .! إذن. . . فلتدبر غيلته في هذه السنين العشر، ولتحشد حولها أعداء هذا القصر العتيق الباذخ. . . ولْنُعَشَّش الأحقاد القديمة، والترات التي تتقلب في أحشاء الماضي. . . ولتجتمع عصابة الشرور فتدبر وتأتمر. . .
- 7 -
ترك أتربوس مُلْك أرجوليس العتيد لولديه، أجاممنون وأخيه، وترك لهما كذلك إرثاً عتيداً من الدم لم يسمع الناس بمثله. . . لن يسمعوا بمثله. . . لأنه دم أعز الأبناء. . . وشِواء لعين أيما شِواء. . .
ذلك أنه كان للملك أتريوس أخ يناوئه من أجل عرش أرجوليس ومايتاخمها من الاقطاعات. . . وكان هذا الأخ (ثيذتيس) يحاول أن يجعل الملك في أبنائه. . . من دون أبناء أخيه. . . ولكن أتريوس وقف على التدبير السيئ الذي يرسم خطط أخوه في الظلام؛ فما كان من أتريوس إلا أن دبر هو تدبيراً دموياً هائلاً. . . قضى به على أخيه وعلى أبناء أخيه. . .(136/64)
إلا واحداً! تودد إلى أخيه أياماً، وعاتبه في هذه الجفوة التي لا يكون مثلها بين أخوين، فأعتبه. . . ثم دعاه إلى وليمة فاخرة يقيمها له في الـ (بيلوبيديه). . . فقبل ثيذتيس!
وفي اليوم المحدد. . . وبعد تدبير أحكمت حلقاته. . . أقبل ثيذتيس ليؤا كل أخاه، وليتصافح القلبان اللذان ينطوي كل منهما لصاحبه على الحب. . . واصرم الغل والحقد. . .
وحان موعد الغداء. . .
فنهضا إلى خوان عامر مجلل بما لذ وطاب من لحم يملأ قتاره الخياشيم الجائعة، ويسيل لعاب الأفواه المتلمظة. . .
وجلس ثيذتيس المنهوم فأكل حتى امتلأ. . . وما كاد ينتهي حتى كشف له الغطاء عن تلك الغيلة القاسية، التي يتنزه عنها أضرى الوحوش!!
لقد أكل ثيذتيس حتى امتلأ من الشواء الفاخر الذي أعد له من لحم أبنائه. . . وأكبادهم وقلوبهم. . . وهاهي الأصابع والأيدي والرؤوس والأقدام في سفط كبير على مقربة من الوالد البائس. . . شهيد على ذلك!!
وجن جنون الأب المسكين!
ولكنه عوجل هو الآخر بقاصمة الظهر. . . فذهبت روحه تتردى في ظلمات هيدز!
فيا للوحشية. . . وويل للمتوحشين!!!
- 8 -
وكان إبجستوس يتقلب على وجهه في البلاد.
فلما علم بالمأساة التي ذهبت بأخوته، وبأبيه. . . شرد في الأدغال، ونفر في التيه الذي لا أول له ولا آخر من غاب هيلاس وأنس إلى الوحشية، وسمر إلى الذئاب، وصحب اللصوص وقطاع الطرق. . . وتلبَّث حتى اسند ساعده، واشتد عوده. . . وعاد مستخفياً يدبر أمر هذا الثأر الثقيل، ويرسم الخطط لهذا الدم المطول. . .
ولكن. . . لقد مات أتريوس. . . وحكم من بعده ابناه أجاممنون ومنالايوس. . . وهما اليوم تحت أسوار طروادة يصطرعان مع الطرواديين.
فهل تزر وازرة وزر أخرى؟(136/65)
أجل!! (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خانوا عليهم. . . فليتقوا الله!!).
إبجستوس!! هذه فرصتك فلا تُفلتها!!
- 9 -
وأتصل إبجستوس بالقصر، وتأكدت بينه وبين كليتمنسترا أواصر الود أولا؛ ثم انقلب الود واتحاد المقصد وبغض أجاممنون وأسرة الـ (أترديه) فصارت غراماً أثيماً وعشقاً فاسقاً ولذاذةً مجرمة.
وعمى قلب الأم. . . وحجبت الغواية بصيرتها؛ فنفت ولديها: أورست الغلام الحَدَث، وإفياناسَّا الفتاة الناعسة بعيداً عنها، لتزداد إغراقا في اللذة، ولينام ضميرها الميت فلا يوقظه هذا النسل البريء من صلب أجاممنون!!.
- 10 -
العاصفة تهب بشدة، والحارس المتعب يلفحه البرد القارس فوق سطح القصر الملكي العتيق، الـ (بيلوبيديه)، والليل الرهيب ينظر إلى القصر الفائض بالأسرار بعين قلقة من تلك النجوم المحملقة؛ وسنوات عشر قد تصرمت، وهذا الحارس المسكين في مكانه من هذا الميدان المعلق بين الأرض والسماء. . . أجل عشر سنين طوال كأنها عشر أحقاب كاملة، وهو يروح ويجئ كأنه آلة الزمن، أو قوس من دائرة الفلك. . وهو يشكو، ويحاول أن، يتسلى بأغنية أو صفير، ولكن الأسرار الهائلة التي يعج بها القصر من تحته تفزعه، فيعزف عن الغناء وعن الصفير. . . ويصل شكواه، ويرسل بثه.
وهن هناك فوق سطح القصر الملكي منذ قيام تلك الحملة المشئومة إلى طروادة. . . وهو إلى هذه الليلة يرقب النيران التي إذا تأججت في رؤوس الجبال كانت بشرى سقوط طروادة!.
وأومض البرق في الظلماء فجأة!. . . واندلعت النيران المنشودة! واستطير الحارس من الفرح؛ وفرك عينيه ليستيقن أنه ليس في حلم. . . ولكن النار تندلع وتندلع. . . إذن انتصرت جيوش هيلاس. . . وسقطت مدينة بريام!.
وأي بأس في أن ينطلق هذا الحارس المسكين فيزف البشرى إلى الملكة. . . لا بأس!(136/66)
ولكنه ما يكاد يخطو خطوة واحدة، مفتراً في ظلمات الليل البهيم عن ابتسامة الجذل، حتى يذكر الأسرار الهائلة التي نسجتها عناكب القدر في القصر. . . فتقلب ابتسامته الجدلة إلى عبوسة قاتمة. . . فيقف مكانه ويصمت!!.
- 11 -
ويدخل المنشدون حديقة القصر، ويهزجون بنشيد طويل حلو ثم تقبل الملكة فيتقدم إليها رئيس الخورس محبياً ويتساءل: (هل من نبأ عن الحملة يثلج الصدر المكروب ويهج النفس المحروبة؟) وتبتسم الملكة ابتسامة خبيثة صفراء، ثم تزف بشرى انتصار الهيلانيين.
- (وكيف؟ لا نصدق! ولكن تكلمي. . . تكلمي أيتها الملكة!).
- (إليوم في قبضة رجالنا! هل أراك فهمت؟)
- (إنها مفاجأة تملأ أعيننا دموعاً. . .)
- (وإنها دموع تؤكد إخلاصكم وطهارة قلوبكم)
- (ولكن هل من برهان أيتها الملكة؟)
- (ما لم يكن بعض الآلهة يخدعني!)
- (ألا تكونين قد استسلمت لغفوة لذيذة فشهدت رؤيا طارئة؟)
- (إن أوهام المنام لم تخدعني قط!)
- (إذن منذ كم سقطت طروادة؟)
- (في نفس هذه الليلة التي كاد صبحها يتنفس؟)
- (وأي رسول حمل إليك النبأ في مثل هذه السرعة؟)
- (النار الآلهية ألمعت به إلى هنا من ذروة جبل إيدا. . . وهشيم الحلنج المتأجج في شعاف الجبال ورؤوس الآكام. . .).
واستطردت كليتمنسترا فذكرت كيف أشعل الهيلانيون النيران في قُلَل الشاطئ الأسيوي، ثم كيف تنقل الوميض فيالسماوات حتى عكسه أفق أرجوليس. . . وطفقت تحشد الكنايات في حديثها، وتنثر الألغاز في ثناياه. . . صادرةً عن غلها
المقيم وحقدها القديم على أجاممنون!(136/67)
- (يا لطنين النصر في طروادة اليوم؟. . . . . . أحسب ألا يستطيع أحداً، يميز صيحات السادة الظافرين من صيحات العبيد المقهورين بين جدرانها! إنهم سواء منكودو الحظ، سود الجدود، حقيقون بالرثاء! ومن يدري؟ فلعل الآلهة تغضب فتنتقم ممن دنس هياكلها، وسطا على طُرفها وتحفها بجعلها في جملة الغنائم والأسلاب!. . . ولعل أرواح الضحايا (!) والشهداء تهب من مراقدها مغضبةً حانقة فتقف في سبيل الأبطال الظافرين فلا يعودون إلى أوطانهم!. . . ولكن قلما ساد حق. . . دون أن ترتكب ألف مذمة باسمه!. . .)
- 12 -
ويفطن الخورس إلى ما كان يتناثر في حديث الملكة من ألغاز، ويفطنون إلى هذا الفتور وذاك الضيق الذين كانت تزف في ظلامهما بشرى سقوط طروادة. . . فيعزونه إلى أسبابه التي باتت لا تخفى على أحد في المملكة. . . ثم يتشككون في كل ما انطلق به لسانها ويحسبونه هذياناً في هذيان!.
وما يكادون يفرغون من نشيد طويل رائع حتى يحضر البشير فيزف إليهم النبأ الصادق ويبشرهم بأوبة الملك، ثم يصف لهم شطراً مما لقيه الجنود تحت أسوار إليوم: (بل ما لقيه الطرواديون يومئذ من مصائب الحصار وكوارث القتل، ثم هذه النهاية التي أبادت دولتهم وقوضت بنيانهم. . .).
بيد أنه سرعان ما يفطن البشير إلى تلك الكآبة التي تُغشَّى نفوس القوم، فيسألهم، ويجيبه رئيسِ الخورس:
- (لقد كان الصمت. وسيظل. . . ملاذنا أيها البشير!)
- (وكيف؟ أترهبون أحدا في هذا القصر غير مولاكم؟)
- (. . .؟. . .!. . .)
- (أسرار. . . أسرار. . .
- 13 -
وتقبل الملكة كرة ثانية فتلمح تثلج مشاعر المنشدين وتحاول أن تخدعهم عن خافية نفسها فتقول: (هل صدقتم الآن أن إليوم قد سقطت؟! لقد كنتم في مرية من بشراي التي زففت(136/68)
إليكم لأنكم لم تروا أماكم تلك الفتاة المزهوة التي تكاد تجن من الفرح لهذا النصر المفاجئ الذي انتظرناه طويلاً. . . يا لكم أيها الرجال! وأنت أيها البشير! أترى إلى قرباني الجسد ذي الخوار الذي أعددته أُضحِية لما بشرتنا به؟. . . وسترى كيف ينتشر البخور من مجار المد ومخارق العنبر فيؤرج أجواء آرجوس تحية لملك. تعال. . . تعال أيها البشير فقص علىَّ كيف سقطت طروادة وكيف رغم أنف ملكها!. . . ولكن. . . لا. . . ليست لي فيك حاجة. . . اذهب. . . فلن أسمع قصة ذلك إلا من رجلي. . . أجاممنون. . . ملك أرجوليس ومعقد آمالها!. . . أي فخار للمرأة أكبر من أن تستقبل فيض النور السماوي يتنزل عليها من العلو. . . حين يعود إليها بعلها وعلى رأسه! كليل من غار النصر؟ وأي فخار للرجل أكبر من أن يعود من حلبة الحرب فيجد زوجه وفية له كما تركها مخلصة كآخر عهده بها!؟ حريصة على أسراره. . . قائمة على بيته. . . ساهرة على أبنائه ككلبه الأمين!! ما تزال تحمل ذكرى عناقه الأخير، وتشدو بآخر قبلاته كأحسن أغاريد الحياة!
(يا للفخر. . . يا للفخر. . .)
وتخرج الملكة. . . ولا ينطلي ما زخرفت من قول على أحد!
- (ها قد سمعت مقالة الملكة، فلتكن أذنك ترجمانك الأمين!. . . ولكن. . . حدثنا بأربابك عن أمير هذه البلاد المحبوب، جليل المقام منالايوس. . . هل قدم معكم في أمان إلى أرض الوطن!. . .
ويربد وجه البشير، ثم يمهد لحديثه بمقدمة مجلوة، ويذكر كيف ثارت العاصفة فبعثرت الأسطول المنتصر. . . (وفصلت سفائن منالايوس عن سائر الأسطول، فلا يعلم أحد أين رست به إن كانت قد سلمت من غضبة البحر الذي طفق يتدجى فوقنا كأنه الليل. . .
. . . ولم نصدق أننا نجونا من فورة هذا العباب حتى انبلج الصبح، فصلينا للآلهة، وشكرنا للسماء. . . وابتهلنا إلى الأولمب أن يحفظ منالايوس، وأن يرده سالماً إلى أرض الوطن. . .)
ويأخذ الخورس في نشيد بعضه شدو وبعضه شجو. . . وبعضه سخط على هيلين. . . التي فاز بها من فاز بالحرب. . . وتزوج بها من تزوج بالحرب. . . والتي كانت على جميع من اتصل بها حرباً أي حرب!)(136/69)
- 15 -
وبينا المنشدون يتغنون بألحانهم، إذا عربة مطهمة، تجرها صافنات جياد، تدخل فجأة فتكون تلقاء القوم. . .
ويكون في العربة أجاممنون الظافر المنتصر، قاهر طروادة؛ والى جانبه تلك النبية المباركة. . . حبيبة الآلهة. . . الفتاة العذراء. . كاسَّندرا ابنة بريام العظيم ملك إليوم المقتول. . . عاد بها أجاممنون من جملة السَّبْي لتكون له. . .
ويحي الخورس مليكهم بلحن حلو من موسيقى السماء، يبللونه بدموعهم ويصهرونه بحرارة قلوبهم، فيشكر لهم ويثني عليهم، ويقول:
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(136/70)
البَريد الأدَبيّ
حلم ليلة صيف
ظهرت أخيراً أول قطعة من مسرحيات شكسبير الخالدة على ستار السينما؛ وهو بلا ريب حادث عظيم في تاريخ الإخراج السينمائي؛ وقد كان رأى النقدة والفنانين أن مسرحيات شكسبير إنما خلقت للمسرح، ومن الصعب أن لم يكن من المستحيل إخراجها بنجاح على ستار السينما؛ ذلك أن مناظرها وخيالاتها لا تسمح رغم روعتها بذلك السبك الذي يطلب في الشرائط المصورة، ولأنها ترتفع أحياناً فوق الوسائل الفنية التي يسمح بها الإخراج السينمائي؛ ولكن فناناً عظيماً هو ماكس رينهارت رأى في مسرحيات شكسبير رأياً آخر، وجالت بذهنه فكرة جريئة هي الأقدام على إخراج بعض هذه القطع الخالدة على لوحة السينما؛ وقد تم إخراج المسرحية الأولى وعرضها، وهي (حلم ليلة صيف)، وقد أتيح لنا أن نشهد هذا الشريط الرائع أخيراً في إحدى دور السينما بالقاهرة، فألفينا فيه عبقرية المخرج العظيم تتجلى إلى جانب عبقرية الشاعر الخالد، ورأينا خيال الشاعر المبدع يبدو على صفحات الواقع الملموس في أروع ثوب؛ ولم يحل دون تحقيق هذه الأمنية. أن القصة كلها أحلام في أحلام، وأن هذه الأحلام تبلغ ذروة الخيال المغرق، وتفيض في عالم الأرواح والأشباح والعالم الآخر.
وسر هذا الإبداع المدهش في إخراج هذه القطعة الخالدة هو بلا ريب في عبقرية المخرج؛ والواقع أن ماكس رينهارت قد بلغ الذروة من قبل في إخراج المسرحيات الخالدة: مسرحيات شكسبير، وجيتي، وشيللر، ولسنج وغيرهم، على المسرح؛ وماكس رينهارت نمسوي يهودي، ولد في مدينة سالزبورج، موطن الفن والموسيقى الخالدة؛ وتلقى تربيته وخبرته الفنية في مدينة فينا أعظم موطن للثقافة الفنية والموسيقية، وظهر قبل الحرب بجهوده المسرحية في أعظم مسارح فينا وبرلين، ثم أستقر في برلين بعد ذلك، وهنالك تبوأ ذروة الفن، وأضحى مرجع المسرح في ألمانيا وكوكبه الساطع؛ ولكن حكومة هتلر جاءت منذ ثلاثة أعوام لتسحق العلوم والفنون والآداب في ألمانيا بكل ما وسعت من شهوات التعصب الجنسي والسياسي، فلم يطق الفنان العظيم - وهو يهودي غير مرغوب فيه - أن يعيش في هذا الجو الكدر، فغادر ألمانيا حيث سطع مجده، ليعمل حيثما تزدهر الأفكار(136/71)
والحريات الفنية؛ وطاف بفينا وباريس ولندن وغيرها، ومر منذ شهر بمدينة سالزبورج مسقط رأسه، فلقي فيها أعظم مظاهر الحفاوة والتكريم، وأطلقت البلدية أسمه على شارع من أشهر شوارعها.
وفي (حلم ليلة صيف) تتجلى عبقرية شكسبير الرائعة في مزج المبكي بالمضحك، وإبراز المفاجآت والمدهشات في ثوب يأخذ باللب، ويذكي العواطف إلى الذروة؛ ومع أن القطعة كانت في بعض تفاصيلها مسهبة، فأن الموسيقى الرائعة التي اقترنت بمناظرها، وهي من مقاطيع مندلزون وفاجنر، كانت ترفع بجمالها وسحرها كل ميل إلى السأم.
والمفهوم أن ماكس رينهارت سيمضي في إخراج قطع أخرى من مسرحيات شكسبير؛ وربما رأينا قريباً هملت أو مكبث، أو تاجر البندقية أو يوليوس قيصر أو غيرها من آثاره الخالدة على مسرح السينما بفضل عبقرية ماكس رينهارت.
بييردي نولهاك
في الأنباء البرقية الأخيرة أن الكاتب والمؤرخ الفرنسي الكبير بييردي نولهاك قد توفي في السادسة والسبعين من عمره. وكان دي نولهاك عضواً بارزاً من أعضاء تلك المدرسة التاريخية الباهرة التي استطاعت أن تجمع بين التحقيق التاريخي والعرض الساحر، والتي تزعمها كتاب ومؤرخون يمتازون بالقوة والطرافة مثل فرانز فونك برنتانو، ولينوتر، ودي نولهاك، وقد كان لهذه المدرسة أكبر الفضل في الكشف عن طائفة من الوثائق والمحفوظات الشهيرة، ودرس دي نولهاك الفلسّفة والأدب القديم، وتفقه في الدراسات اليونانية واللاتينية، وعني منذ فتوته بالتنقيب في أقبية المكاتب العامة؛ ودرس مدى حين فيمدرسة الآثار الفرنسية برومة، وعثر في مكتبة الفاتيكان على طائفة من الوثائق التاريخية النفيسة، ونشر عن مباحثهعدة مؤلفات منها (مكتبة زعيم إنساني في القرن السادس عشر) و (ثبت المخطوطات اليونانية لجان لسكاريس) و (مباحث عن رفيق بومبونيوس لاكثوس) وغيرها، ووقع دي نولهاك أثناء هذه الفترة على خطية من كتاب (كانزونير) للشاعر الأشهر بترارك وبخطه أيضاً، وقدمها لأكاديمية الآثار، فكانت نقطة باهرة؛ وأثار هذا الاكتشاف اهتمام دي نولهاك بدراسة بترارك، فقدم عنه رسالته الشهيرة عنوان (بترارك والإنسانية) في سنة 1892.(136/72)
والتحق دي نولهاك منذ سنة 1886 بوظيفة في المكتبة الأهلية، وانتدب للتدريس في نفس الوقت بمدرسة الدراسات العليا؛ ثم عين بعد ذلك مديراً لها واستمر في هذا المذهب حتى سنة 1900، وعين أيضاً أميناً لمتحف فرساي واستمر في هذا المنصب حقبة طويلة، وفي أقبية المكتبة والمتحف بدأت مباحث دي نولهاك المؤرخ، وهي مباحث دلت فيما بعد على أنه في هذا الميدان عبقرية بارزة، ووقع في الأقبية على طائفة من الوثائق والمحفوظات التاريخية النادرة، واستطاع أن يستخرج منها مادة بديعة لكتبه، وأشهر مؤلفات دي نولهاك التاريخية: (فرساي في القرن الثامن عشر) و (الملكة ماري انتوانيت) و (لويس الخامس عشر ومدام دي بومبادور) وغيرها، وفيها تبدو عبقرية نولهاك كمؤرخ وكاتب، ذلك أن حقائق التاريخ تعرض فيها في أثواب ساحرة كأنها الخيال المرسل، وتسطع فيها الصور حتى يخيل إليك أنها حية تغدو وتروح وكأنك تعيش معها وفي عصرها.
وكتب دي نولهاك عدة كتب أخرى ارتفعت باسمه إلى مصاف أقطاب النقد والتفكير الفلسفي منها: (رونسار والإنسانية)، ومنها (قصائد إيطاليا وفرنسا). وانتخب نولهاك عضواً بالأكاديمية الفرنسية وانتظم في سلك الخالدين قبل وفاته بأعوام طويلة.
كتاب عن ذكرى ابن ميمون
احتفلت الطوائف اليهودية في مصر وفي سائر أنحاء العالم، وكذلك احتفلت معظم الهيئات العلمية في مختلف الأقطار بذكرى العلامة والفيلسوف والطبيب اليهودي العربي الأندلسي موسى ابن ميمون، وكان الاحتفال في إبريل من العام الماضي، وذلك لمناسبة انقضاء ثمانمائة عام كاملة على مولد الطبيب الأشهر؛ ولابن ميمون في مصر ذكريات خاصة، فقد كتب فيها معظم مؤلفاته، وتوفي فيها، وكان كبير الربانيين بالقاهرة، وكان طبيباً للسلطان صلاح الدين الأيوبي؛ وكان مولد ابن ميمون في قرطبة في 30 مارس سنة 1135م، في عهد المرابطين، ثم نزح مع أسرته إلى المغرب فالقاهرة حيث اتصل بالسلطان صلاح الدين وعينه طبيبه الخاص. وعكف ابن ميمون على دراسة التلمود وكل ما يتعلق بالقصائد والفلسفة اليهودية، وألف فيها بالعربية، ولكن بحروف عبرية، طائفة من الكتب الفلسفية والدينية مازالت تتبؤا المقام الأول بين تراث اليهودية.
وقد عنيت الحاخامية اليهودية بالإسكندرية بإصدار مجلد ضخم عن هذا العيد العلمي(136/73)
بالفرنسية بعنوان: (الذكرى المئوية الثامنة لابن ميمون) وضمنته ترجمة وافية للطبيب الفيلسوف، وشرحاً قيماً لأهم نظرياته ونصوصه، وشذوراً من مصنفاته بالعربية والعبرية والفرنسية والإيطالية، وأشرف على وضعه وإخراجه الأستاذ دافيد براتو حاخام الطائفية اليهودية بالإسكندرية، ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن لابن ميمون بين مفكري اليهود وفلاسفتهم المقام الأول، حتى لقد اعتبره بعضهم الرجل الثاني في اليهودية بعد موسى. ولابن ميمون نظريات فلسفية ودينية عويصة، وله شرح نفيس للتلمود ما زال هو الحجة في موضوعه.
القصة في التعليم
في وزارة المعارف اليوم حركة تجديد تسير إلى غايتها بنشاط وقوة، نؤمل من ورائها انقلاباً في وسائلنا التعليمية يدنينا من الهدف الذي نقصد إليه من تعليم أبنائنا.
وقد كان آخر هذه المحاولات، هذا المشروع الذي أشارت إليه الصحف في الأسبوع الماضي، بأن الوزارة تفكر في تدريس كثير من المواد بالمدارس الابتدائية عن طريق القصة. وهو مشروع جدير بأن يثمر ثمرة طيبة لو حَسُنتْ القوامة عليه؛ فما نعرف شيئاً يروق الصغار ويجذب انتباههم مثل القصة، وما نعرف بابا من أبواب الأدب يتسع لكل شيء كما تتسع القصة، فالقصة عند الطفل لون من ألوان اللعب يقبل عليه بشوق ولذة، ولكنه عند أهل التربية فن من فنونهم يبلغون به مالا يبلغون بسواه من أساليب العلم.
وإذا كان لنا أن نغتبط بهذا المشروع، فإننا نخشى أن تؤدى طريقة تنفيذه إلى ما لا نرجو من جَدْواه، فان القصة فنٌّ واستعداد لا يتوفران لكل شخص، ولا يحسنهما إلا الموهوب؛ فلو أن وزارة المعارف وكلت أمر إنشاء هذه القصص إلى غير القادرين عليه لقضت على الفكرة بالموت قبل أن تظهر لها ثمرة؛ وفي وزارة المعارف رجال درسوا القصة وعالجوها فنجحوا فيما عالجوا إلى حد كبير، وإن لم يكونوا من رجال التعليم. وفي مختلف مدارس الوزارة مدرسون حاولوا القصة ووُفِّقوا في كثير مما حاولوا، فلعل الوزارة تنتفع برأي هؤلاء وهؤلاء.
الإسلام في اليابان(136/74)
كتبت مجلة (آسيا) في عددها الأخير أنه لن تنقضي أعوام حتى تصبح اليابان كلها إسلامية.
وقد أشارت المجلة إلى الدعاية الإسلامية القائمة بين الشعب الياباني وقالت إن 32 ألفاً من اليابانيين اعتنقوا الديانة الإسلامية منذ ثلاثة أعوام، وإن الإقبال على الإسلام لا يزال مستمراً.
وقد تم إنشاء مسجد (باب الله) في الأسبوع الماضي واحتفل اليابانيون بافتتاحه احتفالاً عظيما.
ويتألف هذا المسجد من ثلاثة طوابق، ويمتاز بمآذنه الشائقة المزدانة بأجمل النقوش كما يمتاز بأبهائه وحدائقه والنقوش العربية التي تزين جدرانه.
وقد رأس حفلة الافتتاح مياه عبد العزيز، وكان يرتدي العباءة والكوفية والعقال؛ وقد ألقى خطاباً شكر فيه لجنة المسجد ثم قال:
(إنه ليسرني أن أرأس هذه الحفلة في اليابان إمبراطورية الشرق الكبرى، وأعتقد أن (باب الله) سيجد كثيراً من اليابانيين الذين يرغبون في دخوله. .).
وبعد أن أشار الخطيب إلى موقف الحكومة اليابانية من الديانة الإسلامية وتنشيط القائمين بالدعوة إليها شرح للحاضرين التعاليم الإسلامية ومبادئ المسلمين السامية وقال:
(إن الديانة الإسلامية التي أجمع العالم على أنها أفضل الديانات لابد أن تنتشر في جميع أنحاء العالم وخاصة في اليابان، ولابد أن تجد من الأنصار ما يجعلها سيدة العالم).
وأشار الخطيب إلى إعجاب العرب المسلمين بالشعب الياباني، وقال إن اليابان تسير في طريق الإمبراطورية الآسيوية الكبرى، وإن الإسلام سيكون في أول هذا الطريق.
من أعاجيب الراديو
أضحى (الراديو) أعجوبة الأعاجيب في عصرنا، يستعمل في كل ما لا يمكن أن يخطر في البال من عظائم الأمور وصغائرها؛ وسنرى في الأعوام القادمة إلى أي حد يمكن أن تقف أعاجيب هذا الاختراع المدهش؛ ومما قرأناه أخيراً في صحف فيينا أن الراديو كان وسيلة مدهشة لنجاة مريض من تناول دواء خاطئ؛ فقد وفد مريض على صيدلي وقدم إليه تذكرة(136/75)
دوائه ليعدها، ثم أخذ المريض الدواء وانصرف، وبعد قليل تذكر الصيدلي أنه ارتكب في صنع الدواء خطأ قد يؤدي بحياة المريض، ولم يكن يعرف عن المريض أو اسمه أو طبيبه شيئاً؛ فهرع إلى شركة للإذاعة اللاسلكية، وفي الحال أذاعت الشركة خلال برنامجها نبأ هذا الخطأ في جميع أرجاء النمسا؛ ووقف الطبيب المعالج مصادفة على هذا النبأ حين كان يستمع إلى الإذاعة، فهرول إلى المريض في منزله ولحق به قبل أن يتناول الدواء القاتل.(136/76)
الكتب
(محمد)
كتاب توفيق الحكيم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
عملُ الأستاذ توفيق الحكيم في تصنيف هذا الكتاب أشبهُ شيء بعمل (كريستوف كولمب) في الكشف عن أمريكا وإظهارها من الدنيا للدنيا؛ ولم يخلق وجودها ولكنه أوجدها في التاريخ البشري، وذهب إليها فقيل جاء بها إلى العالم، وكانت معجزته أنه رآها بالعين التي في عقله، ثم وضع بينه وبينها الصبرَ والمعاناةَ والحذق والعلم حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة.
قرأ الأستاذ كتب السيرة وما تناولها من كتب التاريخ والطبقات والحديث والشمائل، بقريحة غير قريحة المؤرخ، وفكرة غير فكرة الفقيه، وطريقة غير طريقة المحدَّث، وخيال غير خيال القاصَّ، وعقل غير عقل الزندقة، وطبيعة غير طبيعة الرأي، وقصد غير قصد الجدَل؛ فخلص له الفن الجميل الذي فيها إذ قرأها بقريحته الفنية المشبوبة، وأمرَّها على إحساسه الشاعر المتوثب، واستلَّها من التاريخ بهذه القريحة وهذا الإحساس كما هي في طبيعتها السامية متجهةً إلى غرضها الإلهي محققةً عجائبها الروحانية المعجزة.
وقد أمدته السيرة بكل ما أراد، وتطاوعت له على ما اشتهى، ولانت في يده كما يلين الذهب في يد صائغه؛ فجاء بها من جوهرها وطبيعتها ليس له فيها خيال ولا رأي ولا تعبير، وجاءت مع ذلك في تصنيفه حافلة بأبدع الخيال، وأسمى الرأي، وأبلغ العبارة؛ إذ أدرك بنظرته الفنية تلك الأحوال النفسية البليغة، فنظمها على قانونها في الحياة، وجمع حوادثها المدوَّنة فصورَّها في هيئة وقوعها كما وقعت، واستخرج القصص المرسَلَة فأدارها حواراً كما جاءت في ألسنة أهلها؛ وبهذه الطريقة أعاد التاريخ حياً يتكلم وفيه الفكرة وملائكتُها وشياطينُها، وكشف ذلك الجمال الروحاني فكان هو الفن، وجلا تلك النفوس العالية فكانت هي الفلسفة، وأبقى على تلك البلاغة فكانت هي البيان. كانت السيرة كاللؤلؤة في الصدفة، فاستخرجها فجعلها اللؤلؤة وحدها.(136/77)
إن هذا الكتاب يفرض نفسه بهذه الطريقة الفينة البديعة، فليس يمكن أن يقال إنه لا ضرورة لوجوده، إذ هو الضروريَّ من السيرة في زمننا هذا، ولا يُغْتَمَزُ فيه أنه تخريف وتزوير وتلفيق، إذ ليس فيه حرف من ذلك؛ ولا يردُّ بأنه آراء يخطئ المخطئ منها ويصيب المصيب، إذ هو على نص التاريخ كما حفظته الأسانيد؛ ولا يُرمى بالغثاثة والركاكة وضعف النسق، إذ هو فصاحة العرب الفصحاء الخُلَّص كما رُويت بألفاظها؛ فقد حصنه المؤلف تحصيناً لا يُقتحم، وكان في عمله مخلصاً أتم الاخلاص، أميناً بأوفى الأمانة، دقيقاً كل الدقة، حَذِرا بغاية الحذر.
ومن فوائد هذه الطريقة أنها هيأت السيرة للترجمة إلى اللغات الأخرى في شكل من أحسن أشكالها يرغم هذا الزمن على أن يقرأ بالإعجاب تلك الحكاية المنفردة في التاريخ الإنساني؛ كما أنها قرَّبت وسهلت فجعلت السيرة في نصها العربي كتاباً مدرسياً بليغاً بلاغة القلب واللسان، مربياً للروح، مرهفاً للذوق، مصححاً للملكة البيانية.
وحسبُ المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي: إن ابن هشام كان أول من هذَّب السيرة تهذيباً تاريخياً على نظم التاريخ، وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيباً فنياً على نسق الفن.
مصطفى صادق الرافعي(136/78)
1 - علم تكوين الجنين (طبع دمشق)
للدكتور شوكت موفق الشطى
2 - دليل الحج والسياحة (طبع الرباط)
للأستاذ أحمد الهواري
للأستاذ محمد بك كرد علي
- 1 -
أصدر الدكتور الشطي في دمشق الجزء الأول من هذا الكتاب، وهو (يبحث في التناسل والجهاز التناسلي في الذكور والإناث، والألقاح والذكورة والأنوثة والوراثة)، وقد تقدم للمؤلف أن نشر كثيراً من الأبحاث الطبية في كتب ورسائل ومقالات. والذي يعنينا هنا أن نقوله إن هذا الكتاب وبعض الكتب الطبية والعلمية التي ظهرت في العهد الحديث في جمهورية سورية تدل على اضطلاع المؤلفين الجدد بعلمهم، مضافاً إليه تمكنهم من العربية. وقد رأينا مصنف هذا الكتاب المفيد يضع ألفاظاً لبعض الكلمات الطبية والعلمية، هذا إلى ما في مجموع كلامه من الرشاقة والجزالة. أما البحث في موضوع الكتاب ودرجته من العلم فهو من شأن الأطباء.
- 2 -
جاءت رحلة الأستاذ الهواري الفاسي من الغرب الأقصى إلى الديار الحجازية المباركة في 310 صفحات محلاة بالرسوم البديعة. وقد قال في وصف كاتبها الأستاذ السيد عبد الحي الكتاني عالم فاس إنه رحل (ونقب، وسأل وكتب، وجمع وحطب، وإن كانت وجهة قلمه غلبت عليها نشوة الوظيف والاهتبال بالموظفين، والإدارات والمديرين، ولكن إذا عُلم أنه يكتب لأبناء هذا العصر زال العجب). ووصفه بأنه (صاحب القلمين واللسانين)، يعني العربية والفرنسية. وقد أورد الأستاذ الكتاني ثبتاً بديعاً بأسماء من رحلوا من القديم إلى اليوم، إلى الحجاز من بلاد الغرب والأندلس، ودل على أماكنها، ومنها المطوط المحفوظ في الخزانة الكتانية بفاس.(136/79)
ولاحظنا أن المؤلف عني عناية خاصة بذكر أصحاب القبور أكثر من التنويه بأعمال الإحياء في مصر والشام. والقبوريون يظفرون متى شاءوا بما يحبون من الزيارات في كل بلد من بلادالإسلام، ولكن ما يحفظ على هذه الأمة دينها ودنياها هو اليوم الاستمداد من الأحياء، ولذا كان على المؤلف أن ينوه بما يجب أن يقتبسه بنو قومه من جلائل أعمال الحياة في البلاد التي زارها. وقد قدم صاحب الجلالة سيدي محمد سلطان المغرب الأقصى تقريظاً للكتاب على سبيل التنشيط. وعبارة المؤلف تدل على أنه عانى صناعة الكتابة في بلاده، بيد أنه جرى في تدوين رحلته على ما يرضي العامة وأرباب السلطان. . . .
محمد كرد علي(136/80)
العدد 137 - بتاريخ: 17 - 02 - 1936(/)
العزة
للأستاذ أحمد أمين
استعملت العرب كلمة (العزة) في مقابل (الذلة) فقالوا رجل عزيز ورجل ذليل. وجاء استعمال (العزيز والذليل) في القرآن متقابلتين، فقال تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين). وحكي عن المنافقين أنهم قالوا في حرب الغزوات: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وهي كلمة قالها ابن أُبي، ويريد بالأعزة نفسه وصحبه، وبالأذلة محمداً (ص) وصحبه، فرد عليهم الله بقوله: (ولله العزة ولرسوله والمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون). وقد تصدى بعض المسلمين لأبن أُبي وسل سيفه عليه ومنعه من دخول المدينة، وقال: والله لا أغمده حتى تقول: (محمد الأعز وأنا الأذل) فقالها. والسبب في كل هذا أن العرب في الجاهلية كانوا يفهمون العزة في المال والجاه والرياسة والولد ونحو ذلك، فجعلها الإسلام في الدين الحق، وأداء الواجب للناس والله.
وأكثَر العرب من استعمال هذه الكلمة في الجاهلية والإسلام، فكان أبو جهل يقول: (أنا أعز أهل الوادي وأمنعهم)، وقال الشاعر:
بيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم ... في كل نائبةٍ عِزَازُ الآنُفِ
وفسر الراغب الأصفهاني (العزة) بأنها حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب، وجعل اشتقاقها من قولهم أرض عَزَاز أي صلبة، وتعزز لحم الناقة أشتد وصلب.
والحق في أن تحديد معنى العزة في منتهى الصعوبة، وأصعب ما في ذلك رسم الحد الفاصل بين العزة والكبر، وبين الذل والتواضع: وقديماً حاول الناس أن يفرقوا بينهما، فقد روى أن رجلاً قال للحسن بن علي: (إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً) فقال: (ليس بتيه ولكنه عزة). وروي عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (اخشَوشِنوا وتَمَعْزَزُوا) كأنه خشي إذا أمر الناس بتعود الخشونة أن يلجئهم ذلك إلى احتقار النفس وذلتها فاستدرك ذلك بطلب المحافظة على العزة.
وحاول السهروردي أن يفرق بين العزة والكبر فقال: (العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها، كما أن الكِبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منازلها)
ولست أدري لم أهمل علماء الأخلاق من المسلمين هذا الخلق فلم يكثروا الكلام فيه إكثارهم(137/1)
في غيره من الصدق والعدل الكرم والتواضع.
ولو وضعت أنا (قائمة) الأخلاق مرتبة حسب أهميتها للمسلمين لوضعت في أعلاها (العزة)، ولاخترت من الأخلاق ما يبعث القوة والاعتداد بالنفس والرجولة والأنفة والحمية، ولأقللت جداً من الكلام في التواضع والزهد والخوف ونحو ذلك، لأن قائمة الأخلاق يجب أن تخضع في ترتيبها وتقويمها لعاملين: روح العصر، وموقف الأمة إزاء بقية الشعوب؛ بل أحياناً تنقلب الفضيلة إلى رذيلة، ويكون الحث على هذا النوع من الفضائل داعية إلى الإجرام. فإذا أفرطت أمة في التواضع كانت الدعوة إليه إجراماً، وإذا أفرطت أمة في الزهد كانت دعوة الأخلاقيين إليه دعوة إلى الموت والفناء.
كنت زمناً قاضياً في (الواحات الخارجة) وهي بلاد في منتهى الفقر والبؤس، أغناهم من ملك نُخَيلات وسُوَيعات في عين من عيون الماء، بؤس شامل، وجهل شائع، وضنك يستذرف الدمع، ويستوجب الرحمة. فذهبت يوماً إلى صلاة الجمعة في مسجدها البائس الفقير أيضاً. . فما كان أشد عجبي من خطيب يخطب من ديوان مطبوع يستحث الناس على ألا يقضوا صيفهم في أوروبا، وأنا على يقين أن الخطيب والمسلمين لم يعرفوا أوروبا، ولم يفهموا لها إلا معنى غامضاً، ولم تحدث أحداً منهم نفسه بالسفر إلى مصر فضلاً عن أوروبا، ولكنها قلة ذوق الخطيب وسماجته، وجهله التام بالواقع.
وأؤكد أن أكثر المتكلمين في الأخلاق من المسلمين في مثل حال هذا الخطيب، لا يعرفون زمانهم، ولا يعرفون أمتهم، ولا يعرفون موقف أمتهم من زمانهم. يرونهم أذلة فيدعون إلى الذلة، ويرونهم متواضعين فيلحون في طلب التواضع، ويرونهم زهاداً بالطبيعة لا يجدون الكفاف من العيش فيمعنون في طلب الزهد. فإن هم تلطفوا قليلاً طلبوا منهم الرضا بالبؤس وألصقوه بالقدر، وجعلوا ذلك كله ضرباً من التقوى والإيمان، وهم بذلك يداوون جوعاً بجوع، وجرحاً بجرح، وسماً بسم؛ وكان يجب أن يداووا جوعاً بشبع، وجرحاً بضماد، وسماً بترياق.
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا ندعو إلى خلق يزيد الأمة ضعفاً، فلا ندعوها إلى الرضا بالقليل وفي إمكانها الكثير، ولا ندعوها إلى الاستسلام للقدر وفي وسعها مكافحة الصعاب ومواجهة الشدائد، ولا ندعوها إلى الذلة وفي استطاعتها أن تعز. والواقع أن أبيات(137/2)
العزة وأدب العزة وأمثال العزة وقصص العزة إنما تكثر في الأمة أيام عزتها وتختفي أيام بؤسها، فلما كان العالم الإسلامي عزيزاً أنطقتهم بالعزة رماحهم، ثم غلبوا على أمرهم فنطقوا بالتواضع، وتواصوا بالاستكانة، وألفت الكتب والخطب من ذلك الحين تروّح على البائسين حتى لا يشعروا ببؤسهم ولا يملوا أشقاءهم، وما زال الحال على هذا المنوال حتى صار الداء صحة والدواء مرضاً.
وليس غريباً أن يسير الناس على هذه الخطة، ولكن غريباً أن يسير القادة عليها، وكان المفروض أن يكونوا أبعد نظراً، وأطهر قلباً، وأعرف بحقائق الأمور.
أريد بالعزة أن يشعر كل إنسان بكرامة نفسه ويشعر بما لها من حقوق، فلا يسمح لمخلوق كائناً من كان أن ينال منها مثقال ذرة، كما يشعر بما عليه من واجبات فلا يسمح لنفسه أن يعتدي على حقوق الناس مثقال ذرة أيضاً.
وللعزة مظاهر متعددة ووسائل مختلفة، فالناس كثيراً ما يتطلبون الغنى وسيلة من وسائل العزة، وآخرون يطلبون المنصب الحكومي أو العضوية البرلمانية أو العضوية في الجمعيات الراقية أو صداقة العظماء أو حسن الملبس على إنها وسائل العزة، والمتعلمون يطلبون العزة عن طريق الشهادات من ليسانس ودكتوراه ودبلوم ونحو ذلك، وهذه كلها عزة شخصية، وهناك عزة أخرى قومية وهي اعتزاز الفرد بنسبته إلى أمته كاعتزاز الإنجليزي بإنجليزيته والفرنسوي بفرنسيته والألماني بألمانيته، ولهذه كذلك مظاهر متعددة كاحترام كل أمة أعلامها والمحافظة على بعض تقاليدها والافتخار بلغاتها والفخر بآثارها ونحو ذلك؛ وليس يهمني الآن هذا ولا ذاك، إنما يهمني نوع من الشعور يتملك المرء ويشعر منه بأنه إنسان في الحياة لا يمتاز عنه أحد في الوجود في إنسانيته. قد يمتاز الناس عنه في المال أو في الجاه أو في المنصب ولكن لا يمتاز عليه أحد في أنه إنسان، فسائق السيارة وصاحب السيارة سيان في احترامهما أنفسهما وشعورهما بحقوقهما وواجباتهما.
ويسوءني أن أرى الشرقي لا يشعر بالعزة الشعور الواجب، ولا ينزل هذه الفضيلة من نفسه المنزلة التي تستحقها، وأكبر ما يؤلمني في ذلك مظهران:
الأول: استخذاء الشرقي أمام الأجنبي الأوربي وشعوره في أعماق نفسه كأنه خلق من طينة غير طينته، وكأن الطبيعة جعلت أحدهما سيداً والآخر عبداً، ترى هذا الشعور في المصالح(137/3)
الحكومية وفي الحوانيت التجارية وفي المجتمعات وفي الشوارع، وفي كل معاملة وفي كل خطوة. بالأمس كنت في محطة السكة الحديدية فذهبت إلى شباك التذاكر وسألت الموظف - في أدب - هل هنا محل صرف التذاكر إلى بلدة كذا؟ فلم يجب، وأعدت السؤال فلم يجب فتولاني شعور ممتزج من غضب وخجل واحتمال لبرودة السؤال وغير ذلك، وما لبث أن جاء أجنبي فسأل مثل هذا السؤال بلغته الأجنبية، فترك الموظف ما في يده وأقبل عليه يكلمه، وأجابه إجابة فيها كل معنى التبجيل والتعظيم، وأختتم كل جملة من جملة بكلمة (سيدي)!، فدهشت من هذا الحال وثرت في نفسي، وتجمع الدم في وجهي، ونلت من الموظف بقدر ما نال مني، ولم أكسب من ذلك كله إلا أن أكتب هذا المقال.
وموقف هذا الموظف تقفه كل الأوساط على اختلاف في مقدار اللياقة والكياسة ولكن الجوهر واحد، فذلك هو الشأن في الأوساط العلمية والتجارية والسياسية، يتكلم الأجنبي كلمة عادية فتكون المثل، وتكون الحكمة، وتكون القول الفصل، ويبدي الرأي فيكون الرأي الناضج والقول الحكيم والغاية التي ليس وراءها غاية، ويطلب الطلب فلا بد أن يجاب، وإذا لم يكن فالاعتذار الحار والوعد بإجابته في ظرف آخر؛ ويدخل المحل التجاري أو يركب القطار أو يدخل النادي فموضع رعاية خاصة؛ ويعمل العمل فيقدر التقدير الغالي في قيمته الأدبية ومكافأته المادية إلى ما يطول شرحه.
وفي هذا من غير شك مذلة للشعور وكبت للنفس واستعباد للمواطن، ومع ذلك يطالبنا السادة الأخلاقيون بالتواضع! لابد أن يفهم الناس في كل مناسبة وفي كل ظرف أن القوم أناس مثلنا لهمك ما لنا وعليهم ما علينا، وأن هؤلاء القوم على أحسن تقدير ضيوفنا لا سادتنا، ومن لحم ودم كلحمنا ودمنا، ولهم عقل ولكن كعقلنا، وسلوك في الأخلاق كسلوكنا، وتصدر منهم الفضيلة والرذيلة كما تصدر عنا، وأنهم ككل البشر يستذلون من أذل نفسه، وأن واجبنا أن نحترمهم في غير مذلة، ونحترمهم لا على حساب احتقار المواطن، وأننا نبادلهم احتراماً باحترام واحتقاراً باحتقار، وأنه إذا حدثتهم أنفسهم بالاعتداء علينا لم نمكنهم، وأن الحكم بيننا وبينهم دائماً أن لنا حقوقاً وعلينا واجبات كحقوقهم وواجباتهم، فإذا طلبوا المساواة فالسمع والطاعة، وإذا طلبوا الإذلال قلنا (لا) بملء أفواهنا.
والأمر الثاني من مظاهر الذلة الذي لا يقل خطراً عن هذا، فهمُ الرئيس لمعنى الرياسة،(137/4)
فهو يفهمها على إنها غطرسة من جانبه، وذلة من جانب مرءوسه، وإلا لم يكن المرءوس مؤدباً. فرئيس المصلحة ليس لأحد رأي بجانب رأيه، ولا لوكيله ولا لمديري إدارته، عليهم أن يسمعوا في ذلة والعزة له وحده، ثم يتكرر تمثيل هذا الدور من أعلى فنازلاً، فكل من بعد الرئيس الأعلى رئيس من جانب ومرءوس من جانب، فهو كمرءوس حاله ما بيّنا، وهو كرئيس يقلد تقليداً تاماً رئيسه في اعتزازه وإذلاله، وهكذا دواليك، حتى يصل الأمر إلى ما نرى من الباعة في الشارع والجندي، فمثلهم كالقاطرة تصدم العربة التي تقابلها ثم كل عربة تصدم ما بعدها إلى آخر القطار.
ليس لهذا من علاج إلا فهم العزة بمعناها الدقيق، وهو احترام نفسك في غير احتقار أحد، وأن تقف موقفاً له جانبان، فإن نظرت إلى من هو أعلى منك في المنصب والجاه والجنسية فلا تمكنه أن ينال من نفسك ولو ذرة، ولا أن يتعدى حدوده ولو شعرة؛ وإذا نظرت إلى من هو أسفل منك فلا تتعد حدودك، وإذا شعرت باستخذائه وذلته فأرفع مستواه ما استطعت حتى يصل إلى الحدود على أنه ليس هناك أسفل ولا أعلى إلا في مواضعات سخيفة، فمن الذي قال إن كناس الشارع وضيع وفراش المصلحة وضيع، والخادم في المنزل وضيع؟ نعم إن الحالة الاجتماعية فرقت بين الناس في المرتب ونحوه، ولكن القيمة الحقيقية للإنسان وهي ما له من حقوق وواجبات قدر مشترك بين الجميع.
فليس من حقك أن تنادي بائع الجرائد (يولد) ولا خادمك بأحقر الأسماء، ولا فراش المصلحة بما يشعر باحتقاره، وهو مطالب بالأدب معك، وأنت مطالب بالأدب معه، وليس للجندي حق أن يرفع عصاه على بائع لم يتجاوز حدوده، ولا لأي رئيس أن يخرج عن الأوضاع الأدبية في مخاطبته مرءوسه. فإذا فرغ الرئيس والمرءوس من العمل، وفرغ سائق السيارة ومالكها، وفرغ الضابط والجندي والمعلم والتلميذ فكلهم سواء في الحياة الاجتماعية، وكلهم سواء في الحقوق، لا ذلة لأحد على أحد، ولا اعتزاز من أحد على أحد
(مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!)
احمد أمين(137/5)
السمكة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حدَّث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال: حصلت في مدينة (بلخ) سنة ثلاثين ومائتين، وعالمهما يومئذ شيخ خراسان أبو عبد الرحمن الزاهد صاحب المواعظ والحكم، وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كأنه يلقى عليه فيما زعموا، وكان يقال له عندهم (لقمان هذه الأمة) لما يعجبهم من حكمه في الزهد والموعظة. وقد حضرت مجالسه وحفظت من كلامه شيئاً كثيراً كقوله: من دخل في مذهبنا هذا، (يعني الطريق) فليجعل على نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت أخضر، فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرِّقاع بعضها على بعض (يعني ليس المرقعة والخَلَق من الثياب).
وقلت يوما لصاحبه وتلميذه (أبي تراب) وجاريته في تأويل هذا الكلام: قد فهمنا وجه التسمية في الموت الأخضر ما دامت المرقعة خضراء، فما الوجه في الأبيض والأسود والأحمر؟ فجاء بقول لم أرضه، وليس معه دليل، ثم قال: فما عندك أنت؟ قلت: أما الجوع فيميت النفس عن شهواتها ويتركها بيضاء نقية، فذلك الموت الأبيض؛ وأما احتمال الأذى فهو احتمال سواد الوجه عند الناس فهو الموت الأسود؛ وأما مخالفة النفس فهي كإضرام النار فيها، فذلك الموت الأحمر.
قال أحمد بن مسكين: وكنت ذات نهار في مسجد (بلخ) والناس متوافرون ينتظرون (لقمان الأمة) ليسمعوه، وشغله بعض الأمر فراث عليهم، فقالوا: من يعظنا إلى أن يجيء الشيخ؟ فالتفت إلي أبو تراب وقال: أنت رأيت الإمام أحمد بن حنبل، ورأيت بشراً الحافي وفلاناً وفلاناً، فقم فحدث الناس عنهم، فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوَّة، ثم أخذ بيدي إلى الاسطوانة التي يجلس إليها إمام خراسان فأجلسني ثمَّة وقعد بين يديّ.
وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي! البغدادي! وكأنما ضوعفت عندهم بمجلسي مرة وبنسبتي مرة أخرى، فقلت في نفسي: والله ما في الموت الأحمر ولا الأخضر ولا الأسود موعظة، ولو لبس عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه،(137/6)
وإنما يجب أن يكون كما يجب أن يكون. ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله ليكون عملاً فيتحول في النفوس الأخرى عملاً، ولا يبقى كلاماً؛ وإنه ليس الوعظ تأليف القول للسامع يسمعه، لكنه تأليف النفس لنفس أخرى تراها في كلامها، فيكون هذا الكلام كأنه قرابة بين النفسين، حتى لكأن الدم المتجاذب يجري فيه ويدور في ألفاظه.
وكنت رأيت رؤيا (ببلخ) تتصل بقصة قديمة في بغداد، فقصصتها عليهم، فكانت القصة كما حكيتها أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين؛ وانحسمت مادتي وقحط منزلي قحطاً شديداً جمع علي الحاجة والضر والمسكنة؛ فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعها في أذرع لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من بغداد. وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين السحب، ومرت الشمس على داري في بغداد مرورها على الورقة الجافة المعلقة في الشجرة الخضراء؛ فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي إذ لم يكن في الدار إلا ترابها وحجارتها وأجذاعها، ولي امرأة ولي منها طفل صغير وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفاً كما تهبط الأرض، فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذاناً فنقرض الخشب، وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألماً إلى جوعها، وكنت بهما كالجائع بثلاثة بطون خاوية، فقلت في نفسي: إذا لم نأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها؛ وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها وإن كان خروجي منها كالخروج من جلدي لا يسمى إلا سلخاً وموتاً؛ وبت ليلتي وأنا كالمثخن حُمل من معركة فما يتقلب إلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها.
ثم خرجت بغَلَسٍ لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن السماء تكون فيه، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة. ولما قُضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله تعالى وجرى لساني بهذا الدعاء: اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي يُصلحني بطاعتك، وأسألك بركة الرضى بقضائك، وأسألك القوة على الطاعة والرضى يا أرحم الراحمين.
ثم جلست أتأمل شأني وأطلت الجلوس في المسجد كأني لم أعد من أهل الزمن فلا تجري علي أحكامه، حتى إذا أرتفع الضحى وابيضت الشمس جاءت حقيقة الحياة فخرجت أتسبب لبيع الدار وانبعثت وما أدري أين أذهب، فما سرت غير بعيد حتى لقيني أبو نصر الصياد(137/7)
وكنت أعرفه قديماً، فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار فقد ساءت الحال وأحوجت الخصاصة، فأقرضني شيئاً يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك.
فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك وأنا على أثرك لاحق بك إلى المنزل. ثم ناولني منديلاً فيه رقاقتان بينهما حلوى وقال: إنهما والله بركة الشيخ.
قلت: ما الشيخ وما القصة؟
قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد أنصرف الناس من صلاة الجمعة فمر بي أبو نصر بشر الحافي فقال: مالي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله المستعان؛ احمل شبكتك وتعال إلى الخندق، فحملتها وذهبت معه، فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين، ففعلت، فقال سم الله تعالى وألق الشبكة، فسميت وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل فجعلت أجره فشق علي؛ فقلت له ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة، فجاء وجرها معي فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمناً وعظماً وفراهةً. فقال: خذها وبعها وأشتر بثمنها ما يصلح عيالك. فحملتها فاستقبلني رجل اشتراها، فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت أهدي له شيئاً، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى وأتيت إليه فطرقت الباب فقال: من؟ قلت أبو نصر! قال: أفتح وضع ما معك في الدهليز وأدخل، فدخلت وحدثته بما صنعت فقال: الحمد لله على ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئاً وقد أكلوا وأكلت ومعي رقاقتان فيهما حلوى.
قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! أذهب كله أنت وعيالك.
قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفاً لحسبته مائدة أنزلت من السماء، ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني بمعانيها شبعاً ليس من هذه الدنيا كأنما طعمت منها ثمرة من ثمار الجنة. وطفقت أرددها لنفسي وأتأمل ما تفتق الشهوات على الناس، فأيقنت أن البلاء إنما يصيبنا من أننا نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة، فإذا أستقر في أنفسنا لفظ من ألفاظ هذه الشهوات، استقرت به في النفس كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطين هذه المعاني تحوم على قلوبنا فنُصبح مُهيَّئين لهذه(137/8)
الشياطين عاملين لها ثم عاملين معها، فتدخلنا مداخل السوء في هذه الحياة وتقحمنا في الورطة بعد الورطة وفي الهلكة بعد الهلكة. وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، لا تحوم إلا على رائحة تجذبها فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه تفرقت ولم تجتمع، وإذا ألمَّت الواحدة منها بعد الواحدة لم نثبت. فلو أننا طردنا من أنفسنا الكلمات التي أفسدت علينا رؤية الدنيا كما خلقت، لكان للدنيا في أنفسنا شكل آخر أحسن وأجمل من شكلها، ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن وأطهر من أعمالنا.
فالشيخ لم يكن في نفسه معنى لكلمة (التلذذ)، وبطرده من نفسه هذا اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها وصلح له دينه وخلصت نفسه للخير ومعاني الخير. ولو أن رجلاً وضع في نفسه امرأة يعشقها لصارت الدنيا كلها في نفسه كالمخدع ما فيه إلا المرأة وحدها بأسبابها إليه وأسبابه إليها.
وقد كنتُ سمعت في درس شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث: لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات! فما فهمت والله معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة وقد علمنيها هذا الصياد العامي. فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجدها اللفظ المستقر في القلب استقرار فرض أو شهوة أو طمع؛ فإذا خلا القلب من هذه المعاني فقد أمن منازعتها له وشغله إياه فيصبح فوقها لا بينها، ومتى صار القلب فوق الشهوات ولم يجد من ألفاظها ما يعميه ويعترض نظره إلى الحقائق، انكشفت له هذه الحقائق فانكشف له الملكوت. فإذا وقع بعدُ في واحدة من اللذات ولو (كالرقاقتين والحلوى) استملت الأشياء عليه فحجبته، وعاد بينها أو تحتها، وعميَ عمى اللذة، والحجاب على البصر كأنه تعليق العمى على البصر.
وكنت لا أزال أعجب من سير شيخنا أحمد بن حنبل وقد ضرب بين يدي المعتصم بالسياط حتى غُشي عليه فلم يتحول عن رأيه، فعلمت الآن من كلمة السمكة أنه لم يجعل في نفسه للضرب معنى الضرب، ولا عرف للصبر معنى الصبر الآدمي، ولو هو صبر على هذا صبر الإنسان لجزع وتحول، ولو ضُرب ضَرب الإنسان لتألم وتغير، ولكنه وضع في نفسه معنى ثبات السنة وبقاء الدين وأنه هو الأمة كلها لا أحمد بن حنبل، فلو تحول لتحول الناس ولو ابتدع لابتدعوا؛ فكان صبره صبر أمة كاملة لا صبر رجل فرد، وكان يضرب(137/9)
بالسياط ونفسه فوق معنى الضرب، فلو قرضوه بالمقاريض نشروه بالمناشير لما نالوا منه شيئاً إذ لم يكن جسمه إلا ثوباً عليه، وكان الرجل هو الفكر ليس غير.
هؤلاء قوم لا يرون فضائلهم فضائل ولكنهم يرونها أمانات قد ائتُمِنوا عليها من الله لتبقى بهم معانيها في هذه الدنيا؛ فهم يزرعون في الأمم زرعاً بيد الله ولا يملك الزرع غير طبيعته، وما كان المعتصم وهو يريد شيخنا على غير رأيه وعقيدته إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح.
قال أحمد بن مسكين: أخذت الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله أن الإنسان فيها يلبس وجهه كما يلبس نعله. فلو أن إنساناً كانت له نظرة ملائكية ثم أعترض الخلق ينظر في وجوههم لرأى عليها وحولاً وأقذاراً كالتي في نعالهم أو أقذر أو أقبح، ولعله كان لا يرى أجمل الوجوه التي تستهيم الناس وتتصبّاها من الرجال والنساء إلا كالأحذية العتيقة. . .
ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخ ورأيتهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير، فقلت على بركة الله ومضيت إلى داري؛ فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي فنظرت إلى المنديل وقالت: يا سيدي هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع فأطعمه شيئاً يرحمك الله، ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها حسبت فيها خشوع ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا، بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يُروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة. إن شدة الهم لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين في عين من يراها من الآباء والأمهات، لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه يقول: يا رباه يا رباه!
قال أحمد بن مسكين: وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه، والناس عمي لا يبصرونها، وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرور الحمير بقصر الملك، لو سئلت فضلت عليه الإسطبل الذي هي فيه. . .
وذكرت امرأتي وأبنها وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد؛ بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها، فأسقطتهما عن قلبي ودفعت ما في يدي(137/10)
للمرأة وقلت لها: خذي وأطعمي أبنك، ووالله ما أملك بيضاء ولا صفراء وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، ولولا هذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك. فدمعت عيناها وأشرق وجه الصبي، ولكن طمّ على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة ولا للبسمة معنى البسمة.
وقلت في نفسي: أما أنا فأطوى إن لم أصب طعاماً، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام، وكان أبن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم؛ ولكن من للمرأة وأبنها بمثل عقدي ونيتي؟ وكيف لي بهما؟
ومشيت وأنا منكسر منقبض وكأني كنت نسيت كلمة الشيخ (لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة) فذكرتها وصرفت خاطري إليها وشغلت نفسي بتدبرها وقلت: لو أني أشبعت ثلاثة بجوع أثنين لحرمت خمس فضائل وهذه الدنيا محتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل هذا العمل، وهذا العمل محتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستقيم الأمر إلا كما صنعت.
وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقت الضحى الأعلى، فملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار ومن يبتاعها، فأنا كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مُستَطار فرحاً فقال: يا أبا محمد ما يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى؟ قلت: سبحان الله! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر؟
قال: إني لفي الطريق إلى منزلك ومعي ضرورة من القوت أخذتها لعيالك ودراهم استدنتها لك، إذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال، فقلت له أنا أدلك ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبيك. فقال: إنه تاجر من البصرة وقد كان أبوك أودعه مالاً من ثلاثين سنة فأفلس وأنكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان فصلح أمره على التجارة هناك وأيسر بعد المحنة، وأستظهر بعد الخذلان، وأقبل جده بالثراء والغنى فعاد إلى البصرة، وأراد أن يتحلل فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة وإلى ذلك طرائف وهدايا.
قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري فإذا مال جم وحال جميلة! فقلت: صدق الشيخ: (لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة)! فلو أن هذا الرجل لم يلق في وجهه أبا نصر في(137/11)
هذه الطريق في هذا اليوم في هذه الساعة لما اهتدى إلي، فقد كان أبي مغموراً لا يعرفه أحد وهو حي، فكيف به ميتاً من وراء عشرين سنة؟
وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة، فلم تكن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وأبنها فكفيتهما وأجريت عليهما رزقاً، ثم اتجرت في المال وجعلت أربِّه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص حتى تمولت وتأثَّلت.
وكأني قد أعجبتني نفسي وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، والهول هول الكون الأعظم على الإنسان الضعيف يسأل عن كل ما مسه من هذا الكون. وسمعت الصائح يقول: يا معشر بني آدم! سَجَدَت البهائم شكراً الله أنه لم يجعلها من آدم. ورأيت الناس وقد وسعت أبداًنهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقةً مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مُخزيات!
وقيل: وضعت الموازين وجيء بي لوزن أعمالي. فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم بلفافة من القطن. .
ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس كالرياء والغرور وحب المحْمَدة عند الناس وغيرها فلم يسلم لي شيء وهلكت عني حجتي، إذ الحجة ما يُبينه الميزان، والميزان لم يدلّ إلا على أني فارغ.
وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا
وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وأبنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربةً واحدة فما أغنت عني ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئاً معلقاً كالغمام حين يكون ساقطاً بين السماء والأرض لا هو في هذه ولا هو في تلك.
ووضعت الرقاقتان وسمعت القائل: لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد. فانخذلت انخذالاً شديداً حتى لو كسرت نصفين لكان أخفُّ علي وأهون. بيد أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ورجحت بعض الرجحان.(137/12)
وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقبل: بقي هذا
وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم! وإذا هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية. وثبت الميزان على ذلك فكنت بين الهلاك والنجاة.
وأسمع الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل بقي هذا
ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف في نفسها ومن إيثاري إياها وأبنها على أهلي. ووضعت غرغرة عينيها في الميزان ففارت فطمّت كأنها لجّةٌ من تحت اللجة بحر. وإذا سمكة هائلة قد خرجت من اللجة وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع، فجعلت تعظم ولا تزال تعظم، والكفة ترجح ولا تزال ترجح، حتى سمعت الصوت يقول: قد نجا!
وصحت صيحة انتبهت لها فإذا أنا أقول: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة!
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(137/13)
أساليب الكفاح الدولي بين الأمس واليوم
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تثير المشاكل العسكرية والسياسية المالية الحاضرة كثيراً من التأملات؛ وأول ما يلاحظ فيها أن أساليب الحرب والكفاح المادية بين الدول قد طرأ عليها تغيير جوهري حاسم، هذا بينما نرى أساليب الكفاح السياسي تقوم في جوهرها على نفس الأسس التي قامت عليها منذ قرون، ويكفي أن نرجع إلى عشرين عاماً فقط، أعني إلى الحرب الكبرى، لنرى إلى أي مدى هائل تطورت أساليب الحرب؛ ففي أثناء الحرب الكبرى كانت الحرب الجوية لا تزال في بدايتها، وكانت المخترعات والأسلحة الجديدة المهلكة مثل الغازات السامة والدبابات لا تزال في دور التجربة، ولم يعلم يومئذ مبلغ فعلها أو أثرها في تطور أساليب الحرب. أما اليوم فقد غدت الأساطيل الجوية أروع وأفعل وسائل الحرب السريعة المهلكة، وغدت الغازات السامة سلاحاً يعتمد عليه ويحسب حسابه ويتحوط لدرئه والوقاية منه في جميع الأمم المتمدنة، وغدت الدبابات الضخمة وحدة فنية ثابتة في معظم الجيوش الكبرى؛ وهذه أمثال فقط مما ذاع وعرف من أسلحة الحرب المعاصرة، ولكن لا ريب أن هناك أسلحة ووسائل مهلكة أخرى لم تعرف ولم تذع بعد، وإن كنا نسمع عنها بعض الروايات الغريبة المدهشة، ومن المحقق أنها يوم تنشب حرب عالمية جديدة، أو حرب طاحنة بين دولتين عظيمتين، ستقع على العالم وقع الصواعق، وتحدث ثورة جديدة هائلة في أساليب الحرب والقتال.
ونرى من الجهة الأخرى منظراً غريباً من مناظر الكفاح الدولي الحديث هو العقوبات الدولية، فهناك اليوم زهاء خمسين دولة من دول العالم، وبينها عدة من الدول العظمى، تبحث في جنيف في فرض عقوبة جديدة على إيطاليا تكون حاسمة في وقف اعتدائها على الحبشة، وذلك بعد أن فرضت عليها العقوبات الاقتصادية الإجماعية وأحدثت في شؤونها الداخلية والاقتصادية أزمات ومتاعب شديدة، وهذه العقوبة الجديدة تنحصر في حظر تصدير البترول والحديد والفحم إلى إيطاليا، والمقدر إن تنفيذ هذه العقوبة يكون ضربة قاضية على المغامرة الإيطالية في الحبشة، وإنه يؤدي سريعاً إلى شل الحركات العسكرية الإيطالية، لأن إيطاليا تعتمد على الخارج في استيراد هذه المواد الحيوية اللازمة لتموين(137/14)
أسطولها وطياراتها ودباباتها، وكل حركاتها ومشاريعها العسكرية، وحرمانها من هذه المواد يقضي على كل هذه المشاريع والحركات، ويجعل من أساطيلها وطياراتها ودباباتها قطعاً من الحديد والصلب لا حياة فيها؛ ثم نرى الدول تذهب في تفكيرها إلى أبعد من ذلك، فتقدر أن إيطاليا قد استوردت من هذه المواد ما يكفيها زمناً، أو أنها ستظفر على أي حال باستيراد البترول من إحدى الدول التي لا توافق على حظره، فتفكر في وسيلة أخرى هي حظر نقل البترول إلى إيطاليا على سفن الدول المشتركة في توقيع العقوبات، وهذه الدول محدودة معروفة، وإيطاليا لا تملك من سفن نقل البترول ما يكفي لاستيراد ما تبغيه
فهذه وسائل جديدة مبتكرة في ميدان الكفاح الدولي؛ ولكنها لا تخلو من روح القديم أيضاً، بل لا تخلو من وسائله، فهي في الواقع نوع من الحصار السلمي العام، وهي تؤدي إلى نفس النتائج التي يؤدي إليها الحصار العسكري أو البحري، وكل ما هنالك أنه قد أسبغ عليها تأييد دولي عام يجعلها بعيدة عن صفة النضال الشخصي أو المباشر؛ ويقدم إلينا التاريخ الحديث مثلا من هذا الحصار العام الذي يراد به إذلال دولة أو سحقها بالوسائل الاقتصادية، وهو القرار الشهير الذي نابوليون في سنة 1806 والذي يعرف بقرار برلين نسبة إلى البلد الذي صدر فيه؛ فهذا القرار يقضي بوضع الجزائر البريطانية في حالة حصار تام، وبأن تقطع فرنسا وجميع الأمم التابعة لها جميع علائقها الاقتصادية والمالية مع إنكلترا، وأن تقفل جميع الثغور الفرنسية وثغور الأمم التابعة لها في وجه السفن البريطانية؛ وكان نابوليون يرمي بتنظيم هذا الحصار الاقتصادي المطبق إلى سحق تجارة إنكلترا التي هي سر عظمتها وغناها بعد أن عجز عن مكافحتها بالوسائل العسكرية، ولكن إنكلترا أجابت على هذا الحصار بتنظيم المقاطعة التجارية والبحرية ضد فرنسا واتخاذ الإجراءات الانتقامية المماثلة؛ وقد عانت إنكلترا مدى حين آثار هذا الحصار المرهق، ولكن فرنسا عانت أيضاً من آثاره، ولم يوفق نابوليون إلى تحقيق غايته، إذ كانت سياسته قائمة على الغايات والاعتبارات الشخصية، ولم تفز بنوع من التأييد الدولي العام؛ ومن الواضح أن العقوبات الاقتصادية التي توقعها الآن عصبة الأمم على إيطاليا تقوم على فكرة مماثلة في القصد إلى إضعاف الدول المعتدية (إيطاليا) وإخضاعها بالوسائل الاقتصادية، وهي وسائل فعالة في عصرنا، ولكن الفرق بين قرار برلين، وقرار عصبة الأمم أن قرار العصبة يفوز(137/15)
بما يشبه الإجماع الدولي، وبذلك يتخذ طابعاً دولياً عاماً بدلاً من أن يتخذ طابع الكفاح الشخصي بين دولتين، ويغدو أثره أشد وقعاً وفعلاً.
أما وسائل الكفاح السياسي الذي يضطرم اليوم في أوربا، والذي يراد أن يمهد به للصراع الحربي المقبل، فما زالت تقوم على نفس الأسس التي عرفتها أوربا منذ قرون. وقد مرت عقب انتهاء الحرب الكبرى فترة لاح للعالم فيها أن وسائل الكفاح الدولي القديمة قد عفت، وأن العالم سوف يستقبل عهداً جديداً من الوئام والتفاهم الدولي، وأن المنازعات الدولية يمكن أن تسوى بالوسائل السلمية مثل التحكيم أو الالتجاء لمحكمة دولية عليا؛ وكان للعالم عذره في هذا الاعتقاد وهو يرى عصبة الأمم ومثلها العليا، ومواثيق السلام وعدم الاعتداء يتوالى عقدها منذ ميثاق لوكارنو، ثم يرى ميثاقاً يعقد بتحريم الحرب ونبذها كأداة للسياسة القومية وتنضم إليه أسرة الدول الكبرى كلها؛ ولكن سرعان ما تبدد هذا الحلم، وارتفع الطلاء الخلب الذي كان يغشى هذه المظاهر والدعاوى، وبدت السياسة الدولية في ثوبها الحقيقي القديم، قائمة على نفس الأسس القديمة التي تدفع أوربا ما بين آونة وأخرى إلى معترك الحروب القومية الكبرى.
أما هذه الأسس التي يقوم عليها معترك السياسة الدولية اليوم، فهي اعتبارات السياسة والخصومات والمطامع القومية القديمة، والتوازن الأوربي القديم، الذي يقسم القارة إلى كتل سياسية وعسكرية متشادة متكافئة، لا تكاد تهم إحداها بالتفوق حتى تناهضها أخرى أقوى وأكثر تحفزاً؛ وقد كانت السياسة القومية القديمة تلعب دورها من وراء الستار دائماً حتى إبان ازدهار الدعوة إلى السلام والتفاهم الدولي، أما اليوم وقد اضمحلت هذه الدعوة وانهارت المواثيق السلمية التي عقدت باسمها وفي ظلها، فإن السياسة القومية تسيطر في ميدان النضال بصورة ظاهرة غير منكورة؛ وأوربا القديمة تتجاذبها اليوم عدة جباه سياسية وعسكرية خصيمة؛ وإذا كانت هذه الجباه قد تغيرت أوضاعها عما كانت عليه قبل الحرب الكبرى لتغير في الأوضاع السياسية والجغرافية التي ترتبت على الحرب، فإنها ما زالت تحتفظ في جوهرها بهيكلها القديم؛ فالخصومة الفرنسية الألمانية ما زالت محور التجاذب السياسي والعسكري في أوربا، وحول هذه الخصومة تجتمع القوى المختلفة، فروسيا الشيوعية لأنها تخشى ألمانيا الهتلرية تجنح اليوم إلى الجبهة الفرنسية، بعد أن كانت تجنح(137/16)
من قبل إلى الجبهة الألمانية؛ وفرنسا تحاول أن تستبقي إلى جانبها جميع حلفائها بالأمس؛ أعني بريطانيا العظمى وبلجيكا وإيطاليا؛ وهي تبذل في سبيل استبقاء صداقة إيطاليا جهودا واضحة، ولا ترى بأساً من أن تمالئها في مشروع اعتدائها على الحبشة لأنها تخشى إن هي سلكت سبيلاً آخر أن تلقي بإيطاليا في أحضان ألمانيا، وألمانيا رابضة متربصة تحاول أن تحدث هذه الثغرة في الجبهة الخصيمة؛ ثم إن فرنسا من جهة أخرى تبذل نفوذها في تسيير دول الاتفاق الصغير - يوجوسلافيا، ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا - نحو الغاية التي تعمل لها دائماً، وهي إحاطة ألمانيا بسياج قوي من الدول الخصيمة؛ والواقع إن ألمانيا ما زالت تشعر أنها بازاء هذه الحركة تقع في نوع من العزلة لسياسية والعسكرية يدفعها إلى البحث عن أنصار وحلفاء، وهي قد استطاعت أن تسلخ بولونيا من أحضان فرنسا، ولكن بولونيا ليست قوة كبرى يعتد بها؛ أما بريطانيا العظمى، فهي تشق سبيلها في هذا المعترك، إلى جانب فرنسا في الغالب، ولكن دون خصومة ظاهرة لألمانيا؛ وهي تخاصم اليوم إيطاليا من أجل المسألة الحبشية ومطامعها الاستعمارية في شرق أفريقيا، ولكنها تحاول أن تجتذب فرنسا إلى جانبها في هذه الخصومة، وقد استطاعت أن تحرز بعض النجاح في هذا السبيل.
والخلاصة إن المعترك الدولي في أوربا يقوم اليوم على نفس الأسس القديمة التي كان يقوم عليها قبل الحرب الكبرى: السياسة القومية، والتوازن الأوربي السياسي والعسكري؛ وإذا لم يكن هذا التوازن قد استقر الآن بصورة فعلية فإنه يسير في سبيل الاستقرار، ومتى تم هذا الاستقرار استطعنا أن نعين المعسكرات الخصيمة التي تشترك في الحرب الأوربية القادمة؛ وإذا قلنا الحرب الأوربية فإنما نعني الحرب العالمية، لأن التوازن الأوربي هو أساس التوازن العالمي؛ وليس في العالم بعد أوربا قوة يعتد بقوتها السياسية غير اليابان وأمريكا؛ فأما اليابان فإنها تتخذ لنفسها موقفا خاصا، ولا يمكن تصورها متحدة مع أي دولة أوربية في ميدان غير الشرق الأقصى، وأما أمريكا فإنه يصعب تصورها ملقية بنفسها في غمر المعركة الأوربية مرة أخرى، ومن المحقق أيضاً إن الذي يقود أوربا إلى ميادين الحرب أو السلام هي نفس الدول التي قادتها إلى الحرب الكبرى وهي ألمانيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى وإيطاليا.(137/17)
وهنالك عنصر لا يمكن إغفاله في تطور هذا المعترك، هو عنصر الدبلوماسية السرية؛ وقد بلغت الدبلوماسية السرية ذروتها قبيل الحرب الكبرى وفي خلالها، وكانت مبعث طائفة من المفاجآت والتطورات الخطيرة التي غيرت مصاير الحرب، ولم ينقطع هذا العنصر السري في الدبلوماسية الأوربية عن العمل في أي وقت، ولكنه هدأ قليلاً عقب الحرب، أمام اضطرام صيحات السلام والتفاهم الدولي؛ بيد إنه يستعيد الآن كل أهميته القديمة، وإذا لم يكن من المستطاع أن نتلمس آثاره الآن في المعترك الأوربي، فإنه بلا ريب سيحدث أثره في الوقت المناسب. وعلى أي حال فإن السياسة الصريحة لم تكن يوما عماد دول عسكرية استعمارية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وروسيا؛ وقد رأينا كيف لعبت المساعي السرية دورها في سلخ إيطاليا عن التحالف الثلاثي أثناء الحرب الكبرى فمثل هذه المساعي يبذل اليوم من جميع النواحي، وإيطاليا ما زالت تقف بين الخصمين القديمين - ألمانيا وفرنسا - في مفترق الطريق، ولا ريب أن المستقبل فياض بمختلف التطورات والمفاجآت(137/18)
الاستعمار والتعليم
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير التعليم العام في وزارة المعارف العراقية
عندما طلب إلي نادي المعلمين إلقاء محاضرة عامة في هذه القاعة خطرت على بالي موضوعات عديدة، اخترت منها موضوع (الاستعمار والتعليم) ولما ذكرت هذا الموضوع في حديث لأحد أصدقائي اعترضني بقوله: (لم اخترت هذا الموضوع وقد تخلصنا من شبح الاستعمار؟) فقلت له حقاً لقد تخلصنا من الاستعمار ولكن بلادنا في اتصال ببلاد لا تزال تلعب فيها أيدي الاستعمار. ولا يسوغ لنا وهذه هي الحال أن نتغاضى عما يضمره الاستعمار من الكيد للأمم المستضعفة؛ زد على ذلك أن للاستعمار أساليب خداعة، فقد عرف المستعمرون كيف يدسون أساليبهم هذه تحت أستار جذابة قد تفوت المرء لأول مرة قبل أن ينفذ إلى دقائقها. وأخشى أن بعض هذه الأساليب قد يصل إلينا ويتسرب إلى أذهاننا وينخر في جسمنا من غير أن نشعر به وننتبه إلى منابعه. لذلك وجب علينا كأمة فتحت عينيها للحياة أن تهتم بهذه المباحث وتمعن في درسها.
لقد أخذ الأوربيون بعد الحرب العظمى يهتمون بسياسة التعليم تنفيذاً لأغراض الاستعمار. وقد عقدوا مؤتمرات عديدة - بعضها قومية وبعضها أممية - للمداولة في هذه الشؤون، وخليق بنا أن ندرس سياسة الاستعمار من حيث علاقتها بالتعليم، ولهذه الملاحظات جئت أتتحدث إليكم هذا المساء عن (الاستعمار والتعليم).
تتعلمون أيها السادة أن كل نظام تعليمي يتكيف عادة بمطالب السياسة العامة، لذلك لا بد لنا ونحن نبحث هذا الموضوع أن نعرف أهداف الاستعمار لنصل إلى أهداف السياسة التعليمية فيه. فلننظر ما هي غاية الاستعمار.
لقد اعتاد علماء الاجتماع أن يقسموا المستعمرات إلى ثلاثة أصناف أساسية من حيث الغايات المتوخاة من الاستعمار وهي: (1) مستعمرات الاتجار (2) مستعمرات الاستغلال (3) مستعمرات الاستيطان.
يبدأ المستعمرون عادة بالاستعمار التجاري، فيختارون ميناء أو نقطة جغرافية مهمة في بلاد ما، فيؤسسون فيها مستعمرة صغيرة يتخذونها مركزاً للاتجار، ومن هذا المركز يعقدون(137/19)
صلاتهم مع داخل البلاد، فيعملون بذلك على احتكار تجارتها، دون أن يستولوا على داخليتها. فغايتهم من هذه المستعمرة تنحصر في (الاتجار)، غير أنهم كثيراً ما لا يقفون عند هذا الحد بل يتغلغلون في داخلية البلاد، ويستولون على جميع منابع الثروة الموجودة فيها، وهم في هذا السبيل لا يكتفون بتأسيس ما تحتاج إليه التجارة من مؤسسات، بل يتوسعون في مؤسساتهم داخل البلاد ويستولون على كل ما يجب الاستيلاء عليه لاستغلال مرافقها. فالغاية الأصلية من مثل هذه المستعمرات تكون (الاستغلال).
غير أن بعض المستعمرين لا يكتفون بذلك أيضاً، فإنهم لا يقصرون حظهم على استغلال المرافق الاقتصادية والثروة، وإنما يرمون أحياناً إلى تركيز سياسة الاستيطان جاعلين من البلاد التي يستعمرونها وطناً جديداً لأبناء جلدتهم. وهذا أهم أنواع الاستعمار وأشدها خطراً.
وهذه الأنواع لا يختلف بعضها عن بعض اختلافاً كلياً لأن كثيراً ما يحول جشع المستعمرين البلاد التي يستعمرونها من شكل إلى شكل آخر من الأشكال الثلاثة التي ذكرناها.
إن أبرز الأمثلة على (مستعمرات الاتجار) هي المستعمرات التي أحدثها الأوربيون في سواحل الصين. أما أحسن الأمثلة على (مستعمرات الاستغلال) فهي الهند حيث تغلغل الإنكليز وكانت أغراضهم الأولية استنزاف المنافع الاقتصادية من تلك البلاد الغنية المترامية الأطراف. وأما أوضح النماذج لمستعمرات الاستيطان فنجده ماثلاً في كندا وأوستراليا حيث أتخذ المهاجرون من الإنكليز وغيرهم وطناً جديداً لهم فيها.
وقد يتطور الاستعمار في بعض المستعمرات من طور إلى آخر. مثل ذلك تحول الاستعمار في الهند من شكل الاتجار إلى شكل الاستغلال، وتطور الاستعمار في كندا وأوستراليا من الاستغلال إلى الاستيطان، ونجد بعض المستعمرات ينفذ الاستعمار فيها بشكلين في وقت واحد. فقد حل الفرنسيون الجزائر مستعمرين لاستغلالها، ثم ما لبثوا أن أخذوا يرمون إلى سياسة الاستيطان في بعض أقسام الجزائر كما هو واقع.
إن الغايات الثلاث التي ذكرناها هي الغايات الأساسية التي عملت عملها في تأسيس المستعمرات. غير إن المستعمرين أخذوا يتوخون من الاستعمار غايات أخرى لا تقل أهمية(137/20)
عنها. منها الغاية العسكرية، فبعض الدول تقصد من وراء استعمارها بلداً ما إيجاد قواعد ارتكاز وحركة لجيشها وأسطولها، وبعض الدول لا تكتفي بذلك بل تعمل على إيجاد جنود من أهل البلاد المستعمرة تضيفه إلى جيشها معززة به قواتها المحاربة، وقد تجللت هذه المطامع في الحرب الكبرى، إذ حاولت كل دولة من الدول الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من مستعمراتها، فلم تكتف باستنزاف الثروة منها واستغلال خيراتها لمعيشة جنودها، بل عملت على أخذ أفراد من أهالي المستعمرات زادت بهم جيشها.
وإني لأذكر المارشال (ليوتي) الذي يعتبره الفرنسيون مؤسساً للإمبراطورية في أفريقية الشمالية، وقد أسهب هذا القائد الكبير في الخطبة التي ألقاها عند دخوله عضواً في الأكاديمية الفرنسية في وصف (فوائد المستعمرات للجيش) وأعترف بأن أبناء المستعمرات الذين جندوا في خلال الحرب العالمية قد وفروا على فرنسا بما قدموه من تضحيات بأرواحهم ملايين من الأنفس الفرنسية)
وزيادة على ذلك فقد بين المارشال ليوتي في خطبته أن فرنسا استفادت من مدرسة المستعمرات استفادة كبيرة من جهة (تكوين الضباط والقواد) أيضاً، لأن جل قوادها الذين بلغوا بها إلى النصر الأخير قد نشأوا في بيئة المستعمرات، وشب كبار رجالها على المعيشة في البلاد المستعمرة فنشأوا خير نشأة لأن حياة المستعمرات تربي في المستعمر الناشئ القوة المعنوية التي هي دعامة من دعامات الجيش. فالقادة المستعمرون في بلاد الاستعمار يضطرون إلى التذرع بالحزم والتدرب على اتخاذ القرارات الآنية وهم بذلك يتكونون رجالاً أشداء في عقولهم وأخلاقهم.
إن الكتاب والمفكرين من رجال الاستعمار لا يقفون عند هذا الحد في تعداد فوائد المستعمرات، بل يسترسلون في شرح فوائدها المعنوية أيضاً، فيقولون إن المستعمرات لا تكون للدولة المستعمرة مناجم ثروة مادية فحسب، بل هي مباءة استغلال للقوة المعنوية أيضاً، إذ تجد هذه الأمم في المستعمرات مجالاً واسعاً للجد والنشاط والإقدام فيزدهر أملها المرجو في المستقبل. فإن الأمم القانعة بحدودها تعتاد التراخي والكسل، بينما تغير المستعمرات نفسية الأمة وتخلق فيها نشاطاً حياً وآمالاً جديدة، ويمكننا أن نشبه تأثير المستعمرات في نفسية الأمم بتأثير الأولاد في نفسية العائلات، فالولد ينشئ للعائلة أمل(137/21)
للمستقبل ويحملها على العمل، وكذلك المستعمرة تقدم للأمم المستعمرة دافعا جديداً للحياة والكفاح.
بعد أن ألقينا هذه النظرة العامة عن غايات الاستعمار ومراسيها نستطيع أن ننتقل إلى بحث (سياسة التعليم) في الاستعمار.
إن هذه السياسة تتجلى في ثلاثة أنواع من المعاهد التعليمية
أولا - المعاهد التي يؤسسها المستعمر في وطنه الأصلي لخدمة الاستعمار.
ثانيا - المعاهد التي يؤسسها المستعمر في المستعمرات لتربية أبنائه.
ثالثا - المعاهد التي يؤسسها في المستعمرات لتربية أولاد الأهلين في القطر المستعمَر.
فالنوع الأول من المعاهد التعليمية الاستعمارية سيبقى خارجاً عن نطاق بحثنا هذا، أما النوع الثاني من المعاهد التعليمية التي ينشئها المستعمر في المستعمرات لتربية أولاده فهي أيضاً لا تستدعي اهتمامنا كثيراً لأنها تشبه بوجه عام المعاهد التعليمية التي تنشأ في الوطن الأصلي ولا تختلف عنها إلا من حيث زيادة بعض الدروس لإعداد أولاد المستعمرين للقيام بأعمال استعمارية.
والمهم أن ندقق في النظم التي يرسمها المستعمر لتعليم أولاد الأهلين في المستعمرات وأن نستعرض السياسات المختلفة التي ابتدعت في ذلك. إن أقدم هذه السياسات كانت السياسة السلبية في التعليم، وهي تتلخص في عدم تعليم أحد من أبناء الأهلين، وقد ترمي إلى بذل الجهد في محو المتعلمين، وهذه سياسة تجلت بوضوح تام في أوائل القرن التاسع عشر في أمريكا.
ففي أمريكا الجنوبية عندما ثار الأهلون على المستعمرين الأسبانيين كتب القائد العام إلى مليكه يبشره بانتصار جيشه في إحدى المعارك، وكان مما قال في تلك الرسالة التاريخية: (إنه عامل المتعلمين من أبناء البلاد معاملة العصاة وقضى عليهم قضاء ومحاهم محواً، وإنه استأصل بهذه الصورة فكرة التمرد والعصيان من جذورها استئصالاً تاماً). وحتى في أمريكا الشمالية مثلا كان يحظر في الولايات المتحدة الأمريكية تعليم الزنوج القراءة والكتابة؛ وكان كل أبيض يعلم زنجياً يعاقب بالحبس والجلد. وعلى هذا المنوال كانت سياسة الاستعمار في التعليم بادئ ذي بدء في موقف عدائي مطلق تسعى إلى عدم التعليم،(137/22)
وتعمل على محو المتعلمين.
غير إن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية ولاسيما في المستعمرات الاستغلالية، لأن المستعمرين وجدوا أنفسهم في تلك المستعمرات في حاجة شديدة إلى الاستعانة بأهل البلاد لاستغلال المرافق الاقتصادية والثروات الطبيعية، وشعروا بضرورة تعليمهم لإعدادهم لتلك الأعمال، ولذلك أخذوا يؤسسون معاهد التعليم في المستعمرات؛ وكان العامل الأساسي لتأسيس هذه المعاهد تخريج طائفة من أهالي المستعمرات يخدمون المستعمر في مصالح الحكومة والشركات؛ وفي المشروعات المختلفة التي تتطلبها مقاصد الاستغلال والاستعمار، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فكر بعض المستعمرين في مسألة التعليم تفكيراً آخر فذهبوا إلى إنه يجب أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي، بحيث يقترب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجاً، وقد فكروا في سبيل تحقيق هذا الغرض أولاً بنشر لغة المستعمر، وثانياً بتعليم أهالي المستعمرات تعليماً ينشئ في نفوسهم حب المستعمر فيستسلمون له عن طواعية.
وقد برز النوع الأول من سياسة الاستعمار أكثر وضوحاً في الهند في ظل الاستعمار الإنكليزي، كما تجلى النوع الثاني في الجزائر بالاستعمار الفرنسي.
وكان الفرنسيون يأملون من سياستهم هذه تقريب المستعمرين إليهم، وظنوا أنهم بنشرهم لغتهم بينهم وإشرابهم ثقافتهم يغرسون حبهم في قلوب الأهلين، لذلك جعلوا للغة الفرنسية محوراً لكل درس في مناهجهم، وقالوا بصراحة إن المدرسة يجب أن تكون قبل كل شيء معهداً لتعليم اللغة الفرنسية، وكذلك اهتموا بمناهج الأخلاق في المدارس لتعليم أولاد المستعمرات كل ما يحبب الأهلين في الفرنسيين، فنجد في مناهج الأخلاق في مدارس الجزائر مثلا قسماً خاصاً في واجبات الأهلين نحو فرنسا، يشغل حيزا مهماً بين الواجبات الأساسية كالواجبات نحو الله، والواجبات نحو الناس. ومما جاء في هذا المنهج (ما يترتب على أهل الجزائر من الواجبات نحو فرنسا، مقابل الحماية التي تسديها إليهم والعدل الذي أدخلته إلى بلادهم، والأمن الذي نشرته في ربوعهم، ونعم التعليم والحضارة التي أغدقتها عليهم. . . الاحترام الذي يجب أن يشعروا به نحو من يدير البلاد باسم فرنسا، والاحترام الذي يجب أن يظهروه نحو العلم الفرنسي)(137/23)
وهكذا نجد الاستعمار بعد أن ترك السياسة السلبية في التعليم التي وصفناها سلك طريقاً آخر يمكننا أن نسميه: (التعليم لتسهيل عمل الاستعمار)
على إن التجارب القاسية لقصر التعليم على خدمة الاستعمار وحده قد أسفرت عن نتائج سيئة إذ ما عتمت أن أحدثت رد فعل عند أولاد المستعمرات فقد تغيرت أحوالهم بعد مدة قليلة أو كثيرة من تخرجهم من المدارس، وبدلاً من أن يكونوا مطبوعين على حب المستعمر يتفانون في سبيل خدمته وفق الثمرة التي كانت مرجوة من التعليم الاستعماري، أصبحوا على نقيض ذلك يكرهونه ويكافحونه. فأسقط في أيدي المستعمرين وطفق ساستهم وعلماؤهم يفكرون في الموضوع ويدرسونه فيجدون أنفسهم كلما أمضوا في تعليم أولاد المستعمرات بطرائق تضمن محبة الأهلين لهم، تذهب الجهود سدى، إذ لا يلبث أكثر هؤلاء الأولاد بعد تخرجهم أن يقلبوا للمستعمر ظهر المجن، ففكر علماء المستعمرين في هذه المعضلة فوجدوا أن هذه نتيجة طبيعية، لأن ابن المستعمرات إذا ما قرأ تاريخ الأمة المستعمرة ودرس الثورات وقف على مطالب الشعب من الحكومة يتحمس بهذا الحس برغم أنف المستعمر فيشب راغباً في تطبيق ما درسه. وهكذا تطورت آراء المستعمرين في سياسة التعليم ووقعوا في حيرة مربكة لا يدرون ماذا يفعلون.
هل يركنون في المستعمرات إلى عدم التعليم؟ ولكنهم يعلمون إن عدم التعليم لا يمكنهم من استغلال البلاد المستعمرة، إذ يجبر المستعمر في تلك الحالة على ممارسة الاستغلال في المستعمرات بقواه الذاتية فيضطر إلى الإتيان بالعمال من وطنه الأصلي وهو لا يجد في أمته العدد الكافي منهم، وإذا وُجد فاستقدامهم إلى المستعمرات وتشغيلهم فيها يكلفه كثيراً فيغدو المنتوج الاقتصادي أغلى سعراً بحيث لا يستطيع أن ينافس منتوجات غيره في الأسواق العالمية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يكون العامل مفيداً في أي عمل ما لم يكن قد أخذ بنصيب من التعليم في عصر الصناعة الذي نعيش فيه.
وقد ظل المستعمرون في حيرة من هذه المشكلة: التعليم في المستعمرات يؤدي إلى ثورة الأهلين عليهم، وعدم التعليم في المستعمرات يعيقهم عن الاستغلال! ففكروا كثيراً وأخيراً وجدوا ضالتهم بطريقة مبتكرة في سياسة التعليم وهي: (التعليم بغير تثقيف). فقالوا نعلم أولاد المستعمرات من غير أن نثقفهم. نعلمهم تعليماً ضيقاً جداً يجعلهم آلات صماء في(137/24)
أيدي الاستعمار. وقد بذلت الدول المستعمرة جهودها في وضع نظام للتعليم على هذا الأساس، بجعل التعليم وسيلة ميكانيكية بحتاً إذ يكون لغايات محدودة معينة بدون أن يدخل على هذا التعليم أي عنصر من عناصر الثقافة العامة. وقد تقننوا في إيجاد هذه الأساليب وابتكار طريقة خبيثة لتدريب أبناء المستعمرات على أن يكونوا مسامير في صفحة خشبية، أو عجلات في آلة ميكانيكية، محرومين من أي لون من ألوان الثقافة العامة
وهكذا اتفقت سياسة الاستعمار التعليمية على وجوب الأخذ بالتعليم بدون تثقيف، وهذا آخر ما وصلوا إليه لحل معضلة التعليم في المستعمرات. وقد بدأ المستعمرون من يوم تفتحت قرائحهم بهذا الابتكار يجاهدون في تحقيق غاياتهم، وقد أرادوا أن يموهوا على الناس ويستروا مقاصدهم المعلومة تحت أستار حيل مختلفة، فقالوا بأن هذا النوع من التعليم الابتدائي والعملي هو الذي يفيد أولاد المستعمرات أنفسهم؛ وادعوا بأن التعليم الثانوي والعالي وكل نوع من أنواع التعليم الأوربي بغير الأهلين؛ وقد بذلوا جهوداً عظيمة ليقنعوا الأهلين بذلك، وقاموا بدعايات كثيرة نشروها لبث هذه الفكرة وتوجيه الأمم المستعمرة إلى هذا الضرب من التعليم
مع هذا جابه المستعمرون مشاكل كبيرة: جوبهوا بحقيقة مرة وهي تعذر السيطرة التامة على التعليم في المستعمرات، إذ في وسع ابن المستعمرات الذي يرغب في التعليم ولا يجد في بلاده العلم الذي يريده أن يقصد إلى بلد آخر في طلب العلم
ويجدر بنا أن نذكر في هذا الصدد المناقشات التي جرت في إيطاليا لمعالجة مسألة التعليم في طرابلس الغرب، فعندما أقدموا على إلغاء المدارس الثانوية والعالية والدينية قال أحد رجال التربية في روما خلال مناقشة لهذا الموضوع: إنني لا أوافق على إلغاء هذه المدارس، إذ يجب أن نعلم أننا إذا ألغينا هذه المدارس لا نستطيع أن نمنع الذين يريدون الذهاب من أبناء طرابلس الغرب إلى الجامعة الزيتونية في تونس أو الجامع الأزهر في مصر، وهؤلاء الشبان يحتكون هناك بشبان من أمم مختلفة ويتلقون ثقافات واردة من أنحاء العالم ويرجعون بأفكار أشد وبالاً على سياستنا الاستعمارية. فخير من إلغاء هذه المدارس إذا أن نحدد التعليم في داخل طرابلس الغرب لنؤسس مدرسة عالية نحدد تعليمها ونجعل النشء مرتبطين بها فلا يضطرون إلى السفر إلى الخارج في طلب العلم ويعودون إلى(137/25)
بلادهم وقد تسممت أفكارهم كما قلت.
إن الخطط التي وضعها المستعمرون في هذا الباب مختلفة باعتبار المشاكل العديدة التي يريدون حسمها فيعمدون لتحقيق كل مأرب من مآربهم بخطة منها. ومما يلفت النظر انتباههم إلى أمر انتقال الطلاب من أبناء المستعمرات من بلد إلى آخر حيث يقتبسون آراء جديدة ويستفهمون نزعات حديثة، لذلك عمدوا إلى تدابير يقدرون من ورائها فصل الأقطار عن بعضها لجعلها مختلفة اللغة.
فقد أخذ الفرنسيون في المغرب يفرقون بين البربر والعرب وغيرهم بحرمان البربر من تعلم اللغة العربية حتى يجعلوهم بعيدين عن التأثر بالمدارس التي تدرس العربية أو ما يكتب بهذه اللغة في الأقطار الأخرى.
وهناك فكرة أحيت بعض الأمل في نفوس المستعمرين وهي السعي لنشر اللغة العامية، وهذه الوسيلة تباعد بين الأقطار العربية وتسهل على المستعمرين أغراضهم. وقد بثوا لهذه الفكرة دعايات منوعة: دعايات بدأها المستعمرون فانطلت مع الأسف على بعض أبناء البلاد المستعمرة إذ أن بعضهم خدعوا بها وروجوا لها، وقد طلا المستعمرون هذه المكيدة تحت عنوان نشر التعليم بين طبقات الشعب وقالوا (ما دام الجمهور في الأقطار العربية لا يعرف اللغة الفصحى غالباً، فيجب تعليمه بلغته المحلية العامية. ولماذا نضيع عليه الوقت في تعليم الفصحى وقواعدها الكثيرة وأساليبها العويصة؟) وقد وجدت هذه الفكرة بعض الأنصار ولا يزال لها مؤيدون في بعض الأقطار العربية مع إنها وليدة الاستعمار!
ومن حسن حظ الأمة العربية أن هذه الفكرة لم تعمر كثيراً في حينها. مع هذا نجد بعض الأوربيين قد أخذوا يعودون إلى هذه الفكرة وصاروا يعتقدون بأن السينما الناطقة والراديو من المسائل التي ستجبر البلاد العربية على أن تفسح مجالاً أوسع للغة العامية لأن التمثيل والكلام باللغة العامية يرضي الدهماء أكثر من الفصحى؛ فيجب علينا نحن أن ننتبه إلى هذا الخطر الأخير خطر انتشار اللغة العامية كما يشتهيه المستعمرون، وهذا الخطر الذي يتمثل أمامنا ربما كان خطراً كبيراً لأن الموضوع يخالطه شيء كثير من المنفعة المادية: لأن التمثيل بالغة العامية يكسب الممثلين أكبر عدد من النظارة، ولا ريب في أن على كل مفكر عربي أن يحارب هذا السلاح الأخير الذي يرجو منه المستعمرون خيراً عظيماً لمقاصدهم(137/26)
على حساب الضرر البليغ بالبلاد العربية.(137/27)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
أكتشف بستور لقاحاً يحصن الشياه من داء الجمرة، وذلك بإضعاف مكروبها ثم حقنه في الشياه، فتقوى بعد ذلك على مقاومة الداء. ونجح اللقاح واهتزت الدنيا له. وبعد زمن أخذت ألقحة بستور تقتل بعض الشياه بدل تحصينها وكثرت الشكوى. فألقى بستور محاضرة في اللقاح ولم يذكر تلك الشكاوي، وتحدى كوخ وكان حاضراً إلى الحجاج فقام وقال إنه يجيبه بالقلم لا باللسان.
ولم يمض زمن طويل على هذا حتى جاء كوخ بجوابه الموعود، فكان جواباً بين الجد والهزل، شديداً فظيعاً؛ بدأ كوخ بقوله إنه أتى من بعض وكلاء بستور بشيء من هذه المادة الثمينة الغالية التي يقال لها لقاح الجمرة، ثم استطرد يسلقه بلسان سليط:
أحقاً قال بستور إن اللقاح الأول يقتل الفئران ويعفي الخنازير الغينية! إذن لقد قام كوخ بتجربته فوجده لا يقتل حتى الفئران. وبعض عينات غريبة منه قتلت الشياه!
وهل حقاً قال بستور أن لقاحه الثاني يقتل الخنازير الغينية ويعفي الأرانب؟ إذن لقد قام كوخ بتجربة هذا اللقاح أيضاً في دقة وعناية فوجده يقتل الأرانب، ويقتلها في الأغلب قتلاً سريعاً. ووجد أنه يقتل الشياه أحياناً، تلك الشياه التي أراد بستور من هذا كله أن يحصنها من الموت.
ثم أحقاً يعتقد بستور إن هذه اللقاحات لقاحات من مكروب الجمرة، ومن مكروب الجمرة وحده؟ إذن فقد قام كوخ على حذر بامتحانها، فوجدها تعج بمختلف الأحياء، فمن كل كُرَيّة ومن كل عصية دخلت إليها دخول الضيف الثقيل لا أهلاً به ولا سهلاً
وأخيرا، أحقاً إن بستور يتحرق تحرقاً إلى كشف الحقيقة خالصة؟ إذن فلم لم يخبر الناس بجميع النتائج التي جاءت من لقاحه بعد أن شاع استخدامه وذاع؟ لِمَ لَمْ يخبرهم بالحالات الفاشلة الخائبة كما أخبرهم بالحالات الناجحة الصائبة؟(137/28)
ثم ختم جوابه بقاصمة الظهر، قال: (إن هذا مسلك قد يستساغ في الدعاية لبيت من بيوت التجارة، أما العلم فيجب أن يقيئه قيئاً)
فأجاب بستور على هذا النقد بنشرة تضمنت حجاجاً غريباً لا يجوز حتى على محكّمين في مناظرة بقرية في الريف. استكبر على كوخ أن يدعي أن ألقحته تحوي أخلاطاً من مكروبات. قال: (لقد كانت صناعتي من قديم فصل المكروب وتربيته خالصاً من كل شائبة. صناعة اصطنعتها عشرين عاماً قبل ميلاد كوخ في عالم العلم سنة 1876، فدعواه أني لا أعرف كيف أربي المكروب نقياً لا يمكن أن تكون إلا هزلاً وهذراً)
وأبت الأمة الفرنسية بوطنية صادقة أن تؤمن بأن كوخ استطاع أن يزحزح بطلها العظيم عن عرشه العالي، وأن يبطل ربابته للعلم، وشرك صغراء الأمة في ذلك كبراؤها، وعلى كل حال فما كان ينتظر الناس من ألماني غير هذا؟! وما أسرع ما انتخبوا بستور عضواً في المجمع الفرنسي فمنحوه كبرى المنح التي يطمع فرنسي فيها، وفي يوم جلوسه بين أعضاء المجمع الأربعين الذين يسمونهم بالخالدين قام ارنست رينان بالترحيب به، وهو العبقري الزنديق الذي جعل من يسوع الرب بشراً رجلاً غفر كل شيء لأنه فقه كل شيء؛ عرف رينان أن بستور لو كان ستر الحق لما ذهب هذا بكل فضله، ولم يكن رينان عالماً، ولكن كان له من الحكمة والفطنة ما يدرك به أن بستور أتى بشيء فخم عظيم لما أثبت أن الجراثيم الضعيفة تمنّع الأجسام فلا تنالها الجراثيم القوية، حتى ولو لم تبلغ هذه المناعة مائة في المائة
التقى هذان الرجلاًن في هذا اليوم المهيب، فالتقى منهما نقيضان: بستور المغامر المحارب الوثاب المليء بشتيت من عقائد هوشت عليه أحياناً وجه الحق، ورينان في ضخامته كالجبل يخاطبه جالساً من علٍ بنفس ساكنة مطمئنة لا تهزها الرياح الهوج، وكيف يهتز جسمه لشيء أو تتحرك نفسه لأمر، وهو قد بلغ به الشك أن أرتاب في وجود نفسه، وارتاب في قِيَم الأعمال فلم يقم لعمل فصيره طول القعود من أسمن رجال فرنسا.
رحب رينان ببستور إلى المجتمع فأسماه عبقرياً، وقرن أسمه بأسماء أكبر من عرف من العباقرة، ثم عرج يُقرّع صياد المكروب الشيخ المشلول المضطرب تقريعاً خافتاً خافياً، قال: (إن الحقيقة يا سيدي كالمرأة الغَنِجَة اللعوب، لا تملك بالعاطفة الكثيرة تُبذل لها،(137/29)
وكثيراً ما تأتيك منصاعة بإعراضك عنها. وقد تسلم إليك قيادها فتظن أنك ملكتها فإذا بها تُفلت من قبضتك، فإذا أنت اصطبرت عليها عادت فوضعت عنقها في يدك. ولا يمنعها وداع وما سقط فيه من دموع أن تعود إلى الظهور، ولكنك إذا أحببتها فغلوت لم يكن لك منها غير البين والقطيعة)
لا أظن أن رينان، وهو الحكيم، خال أن كلماته الجميلات هذه سيكون لها أثراً ولو قليلاً في إصلاح المعوجّ من بستور، ولكنها كلمات ترينا في اختصار علة ما لاقى بستور في حياته من فواجع، وهي تعلمنا ما يجر الرجل المجنون على نفسه من المآسي والأحزان إذ هو خال أنه يستطيع قلب العالم في السبعين عاماً التي أذن الله له أن يحياها
- 7 -
بعدئذ أخذ بستور بضع أنابيب من الزجاج في حلوق الكلاب وهي تتلوى وتتضور من داء الكلَب. وكيف استطاع أن يضع هذه الأنابيب في هذه الحلوق لهذه الضاريات؟ لا يعلم هذا غير الله. هذان خادمان قائمان على فكي كلب قوي عصيّ يفتحان فاه كَرْهاً واغتصاباً. وهذا بستور قائماً في وجه هذا الكلب تكاد لحيته تمس هذه الأنياب وفيها الموت المرير. وهذا هو يمص في أنبوبته من حلق الكلب بعض رغائه، ليأتي منه بعينة يبحث فيها عن مكروب الداء. وأحياناً يناله الرشاش من هذا الرغاء فلا يأبه له وقد جاز أن يكون فيه القضاء
أريد الآن أن أنسى ما قلته عن حب بستور للدعاية، فتصوري عينيه الزرقاوين وهما تحدقان في حلق هذا الكلب الهائج المسعور لا يتفق مع هذه الذكرى
ليت شعري ما الذي وجه بستور إلى صيد مكروب الكلَب؟ لقد كان في الوجود عشرات من الأدواء يجهلها العلماء، أدواء قتلت من الناس أضعاف ما قتل داء الكلَب، ولم يكن بها من الخطر على بحّاثة مغامر مثل الذي كان بهذا الداء اللعين الذي لا ينجو صاحبه أبداً، فما هو إلا أن ينفك الكلب من قيده فتقع الواقعة التي لا مردّ لها
يترجّح عندي أن شاعريته، والفن الخفي في نفسه، هما اللذان دفعاه إلى اختيار هذا الداء على الأدواء جميعاً. قال بستور: (لطال ما ساورتني صرخات ضحايا هذا الذئب المجنون الذي كان يهبط على الناس في شوارع اربوا لما كنت طفلاً. . .). عرف بستور من صباه(137/30)
كيف كانت دماء الناس تبرد لصوت كلب مسعور. وكر أنه قبل مائة عام أو دونها كان الفرنسيون يشتبهون في الرجل يحسبونه مصاباً بالكلب فيُذعرون فيقومون عليه فيَسُمونه أو يخنقونه أو يطلقون عليه الرصاص. وشاع هذا حتى سنت القوانين لحماية هؤلاء المساكين. ذكر بستور كل هذا فأعتزم أن يعيد في الناس السلام، ويمنع عنهم هذه الآلام والآثام
بدأ بستور هذا البحث الذي انتهى بأن كان أبدع أبحاثه وأصدقها، فإذا به يبدؤه على عادته بالأخطاء. جاء إلى طفل يموت من داء الكلب فأخذ بعض ريقه وامتحنه فوجد فيه جرثومة غريبة ساكنة فأسماها اسماً لا يتصل بالعلم كثيراً، أسماها (مكروبة الثمانية)، وما أسرع ما حاضر أعضاء الأكاديمية وأشار إلى هذه المكروبة بأن لها صلة بالسبب الخافي لداء الكلب، واستقر على هذا الرأي، واستمر يجري في اطمئنان وراء هذا المكروب، ولكنه لم يلبث غير قليل حتى اتضح له أنه إنما جرى وراء برق خُلّب. فإنه بمعونة عونيه وجد هذا المكروب في أفواه أناس أصحاء كثيرين لم يقتربوا من كلب مكلوب أبداً
على أن هذا الضلال لم يدم طويلاً حتى حملت بستور قدماه إلى الطريق الهادي إلى مخابئ هذه الأحياء، قال لنفسه: (لقد قلّت الكلاب المسعورة في هذه الأيام، والشيخ البيطار بوريل لا يبعث الآن لي منها إلا عدداً يسيراً، والمكلوبون من الناس أشد ندرة من الكلاب؛ فلا بد لنا من إحداث داء الكلب في حيوانات في معاملنا كي نستطيع دراسته في تواصل واستمرار)
وكان بستور فات الستين وكان مُتعباً مجهوداً
وذات يوماً جاءوا إلى المعمل بكلب سعران اصطادوه بالوهق ضربوه في عنقه ثم شدوا عليه، فأمرهم بستور فأدخلوه وهو ينذر بالشر إلى قفص به كلاب أخرى كي يعضها ويعطيها من الداء مثل الذي به، وجاء رو وشمبرلاند فأخذا من رُغاء فمه بعض الشيء ومصاه في محقن وحقنا به من الخنازير الغينية ومن الأرانب، واصطبرا ينتظران ظهور الداء فيها، فكان يظهر في بعضها أحياناً ويتخلف عن بعضها أحياناً أخرى فساءهما تخلفه، وعض الكلب المجنون أربعة من الكلاب، ومضت ستة أسابيع فإذا كلبان منها هائجان يضربان في جوانب القفص ويعويان، أما الآخران فمضت أشهر لم يظهر فيها عليهما من(137/31)
الجنون شيء. أمر يحير الباحث ويغيظه، فهو دائماً ينتظر النتائج الواحدة تأتي من المقدمات الواحدة، وقد اتحدت المقدمات هنا فكيف اختلفت نتائجها؟ لقد ضاع اتساق العلم وانسجامه، لا في هذه الكلاب وحدها، بل في الخنازير والأرانب كذلك، فقد يصاب من الستة الأرانب المحقونة اثنان، يمدان برجليهما الخلفيتين إلى الوراء من الشلل، ثم يموتان بعد ارتجاجات من الصرع عنيفة، أما الأربعة الباقية فتظل قائمة تقضم الحشيش قضماً، فكأنما جرثومة الكلب لم تخلط دمها أبداً
وذات يوم خطرت فكرة على بستور، فأسرع إلى رو يحدثه بها، قال: (إن جرثومة الكلب تدخل أجسام الناس بالعض عن طريق الجلد، ثم هي تستقر بعد ذلك في أمخاخهم وقفار ظهورهم. . . . إن كل الأعراض تدل على أن هذه الجراثيم التي لا نراها ولا نستطيع كشفها تغير دائماً على الجهاز العصبي. ففي هذا الجهاز العصبي إذن يجب أن نبحث عن هذه الجرثومة. .
ومن هذا الجهاز قد نستطيع تزريعها وتربيتها حتى ولو لم نرها. . . ولعلنا نستطيع أن نتخذ من مخ الحيوان طعاماً لها فننمّيها في جمجمته بدلاً من قبابة الحساء. أن نتخذ من الجمجمة والمخ قبابة وحساء أمر غريب، ولكن من يدري؟. . . ثم إننا اعتدنا أن نحقن الرُّغاء الخبيث تحت جلد هذه الأرانب والخنازير، فما أدرانا أن الجرثومات التي به لا تضيع في أجسام هذه الحيوانات قبل وصولها إلى أمخاخها، لوددت والله أن أرشق هذه الجراثيم مباشرة في هذه الأمخاخ رشقاً)
أنصت رو لهذه الأحلام، وانفتحت عيناه وسعهما ولمعتا لهذه الخيالات. . . لو أن رجلاً غير رو سمعها لظن بستور أصابه مس من جنون. يريد أن يتخذ من مخ الكلاب والأرانب بديلاً من الأحسية! ويريد أن يتخذ من جماجمها بديلا من القبابات! أي عبث هذا وأية خرافة تلك! أما رو فكان أفهم لبستور من أن يظن به خبالاً. قال: (وما منعك من وضع المكروب في مخ الكلب مباشرة يا سيدي الأستاذ؟ أنا أستطيع أن أثقب لك به ثقباً صغيراً لا يؤلم الكلب ولا يفسد مخه. وهذا أمر علي يسير. . .)
فصرخ بستور في وجه رو حتى أخرسه. ولم يكن بستور طبيباً، فلم يدر إن الطبيب يستطيع أن يفعل هذا حتى في الإنسان وهو آمن. لهذا أجزعته الفكرة جزعاً كبيراً. (ثقب(137/32)
يخترق جمجمة الكلب إلى مخه! يا للفظاعة! والكلب كيف يكون ألمه؟ والمخ بعد هذا كيف يكون صلاحه، إن الكلب يشل حتما! لا، لا آذن بهذا؟)
حنان قلب بستور كاد يفقده أكبر كشف أتاه، ويضيّع عليه بل على الإنسان أثمن تحفة أهداها إياه. وأمام هذه التجربة القاسية الغريبة خارت من بستور قواه، ولكن رو، رو الأمين لسيده، رو الذي نسيه اليوم الناس أو كادوا، رو هذا قام يحمي سيده من خور نفسه، فنجاه بأن عصاه. ذلك أنه اصطبر أياماً قلائل حتى غادر بستور المعمل لبعض حاجته، وعندئذ قام إلى كلب سليم فشممه قليل من الكلوروفورم حتى أفقده الإحساس، ثم ثقب رأسه ثقباً كشف عن مخه الحي، فكان يدق بالنبض دقاً بيناً، ثم أتى بقليل من مخ كلب كان قد مات مكلوباً فسحقه وحقن سحيقه في مخ الكلب النائم برفق شديد وهو يقول لنفسه: (لا شك إن سحيق هذا المخ مليء بمكروب الكلَب، فلعله مكروب دقّ فلم يكن باستطاعتنا أن نراه)
وأصبح الصباح فأخبر بستور بالذي كان. فصاح بستور فيه: (ويلك ماذا صنعت بالكلب المسكين! أين المخلوق التعيس. . . لا شك إنه شل. . . لا شك أنه يموت. . .)
ولكن رو كان سبق فنزل بسرعة على السلم، وفي لحظة عاد والكلب ينط أمامه، وإذا بالكلب يتمسح بساقي بستور، ثم يدور يتشمم بين قبابات الأحسية القديمة تحت مناضد المعمل. عندئذ أدرك بستور قدر رو ومبلغ ذكائه. وأدرك كذلك أن طريقاً جديداً للتجربة أنفتح أمامه. ولم يكن بستور يغرم بالكلاب، ومع هذا فإن اغتباطه بالذي سمع ورأى أغراه بملاعبة هذا الكلب خاصة. قال لسانه: (أهلا بكلبي العزيز! أهلا بسيد الكلاب). وقالت أحلامه: (إن هذا الكلب سيثبت أن فكرتي عن هذا الداء صائبة)
ولم يمض أسبوعان حتى تحققت أحلامه، فسيد الكلاب أخذ يعوي عواء أليماً حزيناً، وصار يمزق فراشه ويعض قفصه، ثم مات بعد أيام، نعم مات هذه الميتة القاسية، ولكنه ماتها ليحيا من بعده على نحو ما سنعلم ألوف من الناس كانت تموت مثل ميتته
بهذه الطريقة اهتدى بستور ورو وشمبرلاند أخيراً إلى نقل هذا الداء إلى الحيوانات نقلا أكيداً؛ أعني إنهم إذا حقنوا المكروب في مائة كلب أو خنزير أو أرنب أصاب الداء المائة كلها، وكأني بك تستمع إلى بستور يقول لصاحبيه: (إنّا لا نستطيع أن نرى المكروب ولا بأقوى العدسات، فلا بد أن هذا يرجع إلى شدة صغره. ولسنا نعرف طريقة واحدة لتربيته(137/33)
في الأحسية بالقبابات، ولكن في استطاعتنا أن نبقيه حياً في مخ الأرنب، فهذه هي الطريقة الوحيدة لحفظه ونمائه)
أوجِد أو يوجَد أعجب من هذه التجربة في كل الذي كان ويكون من صيادة المكروب، أو في أي علم آخر من العلوم! أم هل مارست تلك العلوم أمراً أبعد ما يكون عن المألوف فيها مثل الذي مارسه بستور وصاحباه: مكروبةٌ غير منظورة، كل الذي يعلمونه عن وجودها أنهم يستطيعون نقلها في الأمخاخ والحبال الفقرية في سلسلة طويلة من الأرانب والخنازير والكلاب، وكل برهانهم على كونها، وأن للكلب مكروباً هي مكروبته، موت تلك الأرانب المحقونة في تشنج وارتعاص، والعواء المزعج لتلك الكلاب التي أعملوا في رءوسها المثقاب
ثم أخذ بستور وأعوانه يحاولون أمراً عجباً لا يقول عاقل بإمكانه، ذلك تأنيس تلك المكروبة الفتاكة التي تُرى. وتعطّلوا في محاولتهم هذه بعض التعطل، فذهب رو وتويييه إلى مصر يدافعون مرض الكوليرا ومات تويييه في سبيل ذلك على ما علمت، وذهب بستور إلى بعض زرائب الخنازير في الريف يبحث عن مكروب داء كان تفشى فيها ويطلب لها لقاحاً منه، ولم يطل هذا التعطل طويلاً. واجتنب بستور تلك المنازعات والحجاجات الوضيعة التي كانت تنتهي على الأغلب بذمه والنيل من اسمه وكرامته. وحبس نفسه مع عونيه والحيوانات الشلاّء الخطيرة في معملهم بشارع أُلْم وفي هذه الحبسة أتوا على عدد لا حصر له من التجارب
ووضع بستور رقباء على مساعِدَيه الشابين وأنزلهما المعمل على منضدتيهما فكنت تراهما مكبّين عليها صباح مساء كأنهما بعض الأرقّاء. وكان ينظر ما يصنعانه بإحدى عينيه، وينظر بالأخرى الباب الزجاجيّ للغرفة التي كانا يعملان فيها، فإذا هو رأى أحداً من أصحابهما جاء يدعوهما إلى كأس ببيرة في شُرفة مقهى قريب، أسرع فخرج إلى الدخيل فقال له: (لا، لا، ليس هذا وقته. ألا ترى أنهما مشتغلان؟ إنها تجربة في غاية الخطر ليس في الإمكان أن يقطعاها!)
ومضت على هذه الحال أشهر غبر حسبوا جميعاً عند ختامها أنه لا سبيل إلى إضعاف هذه الجرثومة التي لا ترى، فالمائة من الحيوانات التي يحقنونها بالمكروب بعد محاولة إضعافه(137/34)
كانت تموت كلها، ومن ترى كان أقرب إلى اليأس في ختام هذه الأشهر؟ أضنك تقول الشيخ العجوز بستور، وأن عونيه الشابين، وقد ملأهما دم الشباب الحار، كانا أعصى من أن يثنيهما هذا الخذلان. إذن لقد أخطأت الحسبان يا سيدي، فالأمر كان على نقيض ذلك
(يتبع)
أحمد زكي(137/35)
في ميدان الاجتهاد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
كيف يعود الاجتهاد
ولا بد من عودة إلى ذكر نصوص أخرى فيما كان للسياسة من أثر في نصرة بعض هذه المذاهب على بعض، ولتلك المدارس وأوقافها من أثر في القضاء على الاجتهاد في نفوس العلماء؛ قال الشيخ أبو زرعة في شرح جمع الجوامع: قلت مرة لشيخنا البلقيني: ما يقصر بالشيخ تقي الدين بن السبكي عن رتبة الاجتهاد وقد استكمل الآلة؟ وكيف يقلد؟ ولم أذكره هو استحياء منه لما أريد أن أرتب على ذلك، فسكت عني، ثم قلت ما عندي أن الامتناع من ذلك إلا للوظائف التي قررت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من استفتائه، ونسب إلى البدعة، فتبسم ووافقني على ذلك.
وقال الحافظ الذهبي في كتابه (بيان زغل العلم والطلب) عند الكلام على علم أصول الفقه: (أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد، ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهداً، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يضع شيئاً، بل أتعب نفسه، وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرؤه لتحصيل الوظائف وليقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخيال)
وجاء في نيل الابتهاج أن أهل الأندلس التزموا مذهب الاوزاعي حتى قدم عليهم الطبقة الأولى ممن لقي الإمام مالكاً، كزياد بن عبد الرحمن، والغازي بن قيس، وقرعوس ونحوهم، فنشروا مذهبه، وأخذ الأمير هشام الناس به، فالتزموه وحملوا عليه بالسيف إلا من لا يؤبه له
وجاء في نفح الطيب أن سبب حمل ملك الأندلس الناس على هذا المذهب في بعض الأقوال أن الإمام مالكاً سأل عن سيرته بعض الأندلسيين فذكروا له عنها ما أعجبه، فقال نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم، أو كلاما هذا معناه، لأن سيرة بني العباس لم تكن(137/36)
مرضية عنده، وقد لقي منهم ما لقي مما هو مشهور، فلما بلغ قوله ملك الأندلس مع ما علم من جلالة مالك ودينه، حمل الناس على مذهبه وترك مذهب الأوزاعي
والآن فللشرع في بيان الطريق إلى عود الاجتهاد، وإنه ليس هناك فرصة تنتهز لهذا أقرب من هذه الفرصة التي يتولى فيها أمر الأزهر شيخ من أنصار الاجتهاد، وهو الأستاذ الكبير محمد مصطفى المراغي، ولا ننكر أنه يحيط به هذه المرة عوامل من جهات كثيرة جعلته يصير إلى أمور لم يكن يصير إليها في المرة الأولى، وقد كان يأخذ بالإصلاح فيها غير متأثر بتلك العوامل، ومن هذه الأمور محاولة القضاء على العلوم الرياضية في الأقسام الثانوية بالمعاهد الدينية لتحشر حشرا في الأقسام الأولية، فلا يكون هناك فائدة من دراستها فيها، وكثير منها ليس في نفس طالب القسم الأول الاستعداد لدراسته. ويقال إن الغرض من هذا تفريغ طلاب الأقسام الثانوية لدراسة الكتب الأزهرية كما كانت تدرس قديماً في الأزهر، ولا شك أن ستتبع هذه الخطوة خطوة أخرى في القضاء على هذه العلوم في الأقسام الأولية لتفريغ طلابها أيضاً لدراسة الكتب الأزهرية على تلك الطريقة التي كانت تدرس بها، لأنه لا فرق عند علماء التربية بين هذين القسمين في حياة الطالب، وكلاهما في حياته طور ثقافة عامة لا طور تخصيص لناحية من النواحي العلمية، فما يجري عندنا على أحد القسمين لتلك العلة السابقة لا بد أن يجري على القسم الآخر من أجلها أيضاً، وهناك نعود كما كنا قبل أن نقطع في الإصلاح هذه الأشواط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإنه إذا كانت العلوم الرياضية قد زاحمت حقاً العلوم الأزهرية في الأقسام الثانوية، فطريق ذلك أن تختصر دراسة هذه العلوم فيها، لا أن يقضى عليها فيها لتحشر حشراً في الأقسام الأولية
ومن هذه الأمور ما نحن الآن بسبيله من أمر الاجتهاد والعمل على فتح بابه، إذ يخطو الأستاذ المراغي في ذلك خطوة لا يرضاها منه أنصار الاجتهاد، ويجعل دستور (لجنة الفتاوى) التي ألفها من علماء المذاهب الأربعة على هذا النحو (أن تجيب الطالب على المذهب أو المذاهب التي يريد الإجابة على مقتضاها، فإذا لم يعين المستفتي مذهباً أجابته بحكم الله المؤيد بالأدلة من غير تقييد بمذهب من المذاهب الشرعية) فلست أدري معنى لهذا التفريق بين المستفتين، وقصر الإجابة بحكم الله على من يريده منهم، وإنه ليجب أن(137/37)
تخضع لحكم الله مذاهب الفقهاء لا أن يخضع هو لها، فلا يجاب به المستفتى إلا إذا لم يطلب الفتوى على مذهب من مذاهب الفقهاء، فإذا طلب الفتوى عليها أفتى له بها ولو كان حكم الله المؤيد بالأدلة على خلافها، وأنّا لننزلها بهذا منزلة لم يردها لها أصحابها، ونجعل حكمها فوق حكم الله الذي كانوا يطلبونه فيها، وهم بشر يصيبون ويخطئون، ولم يدع العصمة أحد منهم في اجتهاده. وقد حكى ابن عبد البر عن معن بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيبفانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه
وحكى أبن القيم عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وذكر صاحب الهداية في كتابه (روضة العلماء) أنه قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال اتركوا قولي بكتاب الله؛ فقيل إذا كان خبر الرسول يخالفه؟ قال اتركوا قولي بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بقول الصحابي
وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت
وذكر الشعراني في كتابه (الميزان) أن الأئمة كلهم قالوا: إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة
فإذا ثبت لنا الآن حكم مؤيد بالأدلة فهو حكم الله الذي يقول به أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، ولو كانت أقوالهم في حياتهم على خلافه، ولا شك أنا إذا أفتينا في ذلك على المذهب الذي يريد المستفتى الإجابة على مقتضاه نكون بذلك قد خالفنا حكم ذلك المذهب الذي جعل صاحبه حكم الله رائده، وتبرأ من قوله إذا صح حكم الله بخلافه؛ وقد كان من الواجب على الأقل أن يكون دستور هذه (اللجنة) ما ذكره الإمام الشوكاني، فإنه بعد أن ذكر أن المقلد لا يصلح للقضاء وأنه لا يحل له أن يفتي من يسأله عن حكم الله في أمر من الأمور قال: فإن قلت هل يجوز للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معين وينقله له؟ قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالا يصرح به أو يلوح ان الحق خلاف ذلك، فإن الله أخذ على العلماء البيان(137/38)
للناس، وهذا منه، لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي أو المذهب المخالف للصواب
ومن المهم في ذلك أن الإمام الشوكاني لم يبح للمفتي المقلد أن يفتي إلا من يسأله عن قول فلان أو رأي فلان، ولم يبح له أن يفتي من يسأله عن الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يحرم عليه، لأن المقلد لا يدري واحدا من هذه الأمور على التحقيق، بل لا يعرفها إلا المجتهد؛ وهكذا إن سأله السائل سؤالا مطلقا من غير أن يقيده بأحد الأمور المتقدمة، فلا يحل للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهرة، لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي. وهذه (اللجنة) قد ألفت من علماء المذاهب الأربعة، فهم مقلدون لا مجتهدون؛ وقد أبيح لهم أن يفتوا من لم يبين مذهبا في فتواه بحكم الله المؤيد بالأدلة، من غير تقيد بمذهب من المذاهب الشرعية ولا يمكن لهم أن يفتوا بهذا إلا إذا خلعوا عن أنفسهم صفة التقليد، وادعوا لأنفسهم صفة الاجتهاد، ولا شك أن أكثر هؤلاء الأعضاء إن لم يكونوا كلهم لا يدعون لأنفسهم هذه الصفة وإنه ليسرنا أن يدعوها لأنفسهم. ولكنه يحول دون ذلك قبولهم أن يفتوا بحكم المذاهب الفقهية من يسألهم عنها وألا يبينوا حكم الله إلا لمن لا يعين في فتواه مذهبا من هذه المذاهب، اللهم إلا أن يدعوا لأنفسهم الجمع بين الصفتين، ويكون هذا من غرائب دستور (لجنتهم) ولكننا نجل إخواننا من أعضاء (اللجنة) عن هذه الدعوى، ونعتقد أنهم سيعملون على إصلاح وجهتها، وصرفها إما إلى الاجتهاد الخالص أو التقليد الخالص، ليكونوا إما مجتهدين بحق وإما مقلدين
فتلك الخطوة التي خطاها الأستاذ المراغي إلى الاجتهاد خطوة ضئيلة جدا، ولا يصح أبداً أن تكون نتيجة لذلك الجهاد الطويل الذي قام به الداعون إلى الإصلاح وفتح باب الاجتهاد من عهد جمال الدين الأفغاني إلى الآن، وهي خطوة من السهل أن ينظر إليها أنصار التقليد إذا آل الأمر إليهم وكأنها لم تكن، ونحن نريد أن نفتح باب الاجتهاد فتحاً صريحاً يكون في المستقبل حجة لأنصاره، وتكأة يعتمدون عليها، وحجة على أنصار التقليد يؤخذون بها، والفرصة الآن سانحة بالتفاف رجال الأزهر حول الأستاذ المراغي، واختيارهم له جميعاً على أنه رجل الإصلاح وخليفة الإمامين الصالحين: محمد عبده، وجمال الدين(137/39)
فلنبادر من الآن بالدعوة إلى عقد مؤتمر يجمع علماء الدين الإسلامي في سائر البلاد الإسلامية على اختلاف مذاهبهم، من رجال المذاهب الأربعة، إلى رجال الشيعة الزيدية، إلى رجال الشيعة الإمامية، إلى رجال الأباضية الباقين من فرق الخوارج، إلى أنصار الاجتهاد الذين لا يأخذون بمذهب من هذه المذاهب ليكون فتح باب الاجتهاد في هذا المؤتمر أمراً حاسماً لا يمكن أن يجادل فيه بعد هذا أنصار التقليد، وينظم فيه أمر الاجتهاد تنظيما يفتتح بابه لأهله، ويغلقه دون من ليس أهلا له، ويخط له الطريق إلى معالجة المسائل المهمة التي أدت إلى جمود الفقه الإسلامي، وعدم تمشيه مع حاجة المسلمين، ويعلو به عما نشتغل به الآن من الخلاف في أمور لا أهمية لها، من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والزيادة المعروفة في الآذان، وما إلى ذلك من الأمور التي نضيع وقتنا سدى في الخلاف فيها
ولقد أراني أبعدت في الأمل بعد أن سكنت من زمن بعيد إلى اليأس، ومضيت في سبيلي لا ألوى على أحد؛ على أني سأمضي في هذا السبيل الجديد بعد أن فتحت بابه على نفسي؛ وأنا امرؤ لا يعرف الإحجام، ولم يعود نفسه إلا الإقدام.
عبد المتعال الصعيدي(137/40)
رسائل حاج
3 - من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس أستاذ التاريخ
بجامعة بودابست
كنت لا أزال منزويا في مقدم الباخرة، حينما أسفرت أضواء الفجر الشاحبة عن هذه البقاع الإسلامية المقدسة، فإذا (بجدة) تسمو في السماء اللازوردية، بينما تترامى أمواج البحر على أقدامها، تشقه عشرات البواخر والزوارق في حركة متواصلة، يتصاعد منها صخب داوٍ اختلطت فيه كافة لغات الشرق، فأعادت إلى ذهني المكدود بابل بأسواقها وشعوبها، إلا إن المدينة الخالدة كانت تبدو فوق هذه الحياة اللاغطة، كأنما تسمو خلوداً فوق مظاهر مدنيتنا الحديثة الزائلة وقد برزت منها مآذن في دقة الحراب وقباب كانت شاحبة البياض قبل أن يدنسها دخان بواخر الغرب فكانت ترسو في ظلها المراكب الشراعية حاملة طوائف المسلمين من الهند وجاوة وسومطرا والصين وشواطئ أفريقيا
وأقترب الصباح فاستعد الركاب للنزول وبدءوا يستقلون الزوارق الخفيفة، وكان النساء يرتدين تلك الملابس البيضاء، سافرات الوجوه، لا يجرؤ أحد على أن يتطلع إليهن بنظرة، ومن ذا الذي في قلبه مرض فينظر إليهن في هذه الساعة الرهيبة نظرة اشتهاء؟ وفي الواقع إن الجاذبية الجنسية كانت منعدمة تماماً؟ وقد أبعد الحجاج عن خواطرهم شتى صور الحياة حتى لا يحول شيء بينهم وبين الوصول بقلوبهم إلى نور الله الواحد القهار
وكان على الشاطئ حشد من الحمالين والمطوفين ومراقبي جوازات السفر وفريق من موظفي الحكومة لجباية الضرائب وهم جميعاً يتكلمون لغات شتى. فما إن يهبط عليهم أحد الحجاج حتى يلتقطه المطوف ويقوده إلى الموظفين المختصين وبعد إتمام الإجراءات الرسمية يصحبه إلى المسكن المعد لإقامته
وجاء دوري، فلما سئلت أمام مراقب الجوازات تطلع إلى وسألني عن جنسيتي فأجبته: من بلاد المجر. . . عند ذلك أظهر ارتباكاً، إذ لم يسبق له أن سمع قبل اليوم ببلادنا؛ وأخيراً أسر إليّ بأن مسألتي من المسائل التي يبت الأمير فيها بنفسه. وأشار إلى أحد رجال الشرطة وأمره بأن يقودني إلى دار الأمير لأنه هو الذي بيده سلطة التصريح لي بالسفر(137/41)
إلى مكة. وكانت دار الأمير تبعد عن الميناء مسافة لا تقل عن نصف ساعة سيراً على الأقدام. ولبيت الأمر فسرت مع ذلك الشرطي نتجاذب أطراف الحديث في طرق معبدة ملساء، غير أنه كان من سوء حظي أن أحد مسامير الخف الذي كنت أنتعله، برز من موضعه ودخل في قدمي فأحدث لي ألماً شديداً ظل أثره أياماً طوالاً
وما إن انتهت مقابلتي للأمير، وقد استغرقت نحو ساعة، حتى عدت إلى الباخرة، وكنت قد نسيت أني تركت أمتعتي في الزورق البخاري، ولقد كان أسفي لضياعها عظيماً، وكم عنفت نفسي لوقوعي في مثل هذا الإهمال الذي كانت نتيجته ضياع الأمتعة بما فيها الكتب! وكدت أقطع الأمل من العثور عليها، ولكن الله سلم، فإن النظام المحكم الذي يقوم به رجال الشرطة في الحكومة السعودية أتاح لي أن أعثر عليها بسهولة في إحدى قاعات الجمرك وعليها بطاقة باسمي. وبعد ساعة قادني المطوف إلى دار الأستاذ محمد ناصيف الذي كنت أحمل إليه كتاب توصية، وما كاد يتلوه حتى رحب بي على طريقة العرب في شوق وترحاب، وغمرني بكل صنوف الكرم التي لن أنساها؛ وتلك لعمري إحدى مفاخر الإسلام التي تتجلى عظمتها في كل مناحي الحياة
والأستاذ محمد ناصيف فوق أنه من سراة الحجاز رجل مثقف ثقافة عربية ناضجة، وتضم داره مكتبة زاخرة لا يكاد الإنسانيرى مثيلها في بعض الأقطار الأوروبية أو الأسيوية، وله رفاق يلتفون حوله كأسراب الطيور، ليلتقطوا من حديثه الشهي الحكم البالغة والآيات البينات
تبعد جدة عن مكة بمسافة 79 كيلومترا، وتشبه مبانيها الاستحكامات العسكرية، ودورها مرتفعة ارتفاعاً شاهقاً، وهي مكونة من جملة أدوار، بينما تتوج جدة قباب المساجد المقدسة، واسمة إياها بذلك الطابع الفريد الذي يميزها دون سائر مدن العالم
ومن الغريب أن قناصل الدول والوزراء المفوضين يقيمون في جدة دون أن يتخطوها إلى داخل الأراضي المقدسة؛ ويستحضر رجال الهيئة السياسية طعامهم من الخارج، حتى الماء يجلبونه من مصر، لأن مياه جدة أجاجية غير صالحة للشرب
وتستقبل أسواق جدة عادة زبائن من كافة بقاع العالم، ولا يفتأ تجارها يستحضرون أنواعا من السلع لا تناسب بينها مطلقاً، بل هي خليط من أذواق مختلفة ومشارب متباينة وبعد أن(137/42)
قضيت في ضيافة الأستاذ محمد ناصيف بضعة أيام صدرت الأوامر بالسماح لنا بالسفر إلى مكة. والواقع أن الفترة التي قضيتها في دار ذلك الشيخ الجليل دفعتني إلى الإيمان الشديد بأن الفوارق الجنسية لا أثر لها مطلقا في الإسلام، بعكس ما نشاهده في الحضارة الأوربية من الإشادة بالقوميات والعصبيات وغيرها من المشكلات الاجتماعية التي تثيرها روح التعصب الأعمى. وصادف أن رافقني في السيارة إلى مكة خمسة عشر زنجياً من أهالي الصومال، وكنا في خلال الطريق لا ننقطع أن نهتف: لبيك اللهم لبيك! وهنا يجدر بي أن أنوه للمرة الثانية بعظمة الإسلام التي تتجلى في عدم التفرقة بين الكبير والصغير والرئيس والمرءوس، فالكل سواسية؛ وقد شعرت بتلك الحقيقة وأنا بصحبة هؤلاء العبيد الفقراء، وقارنت بين ذلك وبين الفروق الشاسعة في أوربا الموجهة نحو احتقار العناصر الضعيفة والتفرقة ين الألوان
كانت السيارة تنطلق بنا في طريق ممهد لا يمله النظر في كل جزء من أجزائه، الطريق سلكه قبلنا ملوك وعظماء وأنبياء منذ مئات السنين، وكانت السيارة كلما مرت بقافلة من القوافل نظر الأعراب إلى تلك الآلة الجهنمية التي تنبعث منها أصوات منفرة وروائح كريهة، في شيء من الحنق والغيظ. فقد أصبح النقل اليوم في أكثر طرق الحجاز بالسيارات تمشياً مع مقتضيات الحضارة الحديثة، مع إن البدو كانوا يربحون الشيء الكثير من نقل الحجاج بالإبل، وكانت النقود التي تدفع إليهم تبقى في حوزتهم، أما السيارة فإن ثمنها وأثمان وقودها وقطع تغييرها تتسرب الآن إلى خارج البلاد، فلا عجب إذا نظر إليها البدو في شيء من الحنق ونقموا على من كانوا سبباً في إدخال تلك (الآلة الجهنمية) إلى الصحراء، وهم يقولون إن الإنسان يجب أن يركب في سبيل الحج أشد الأمور، فلا يخال نفسه ذاهباً إلى سياحة هادئة، ويتذرع بوسائل الراحة والرفاهية مما يلقاه في السيارة؛ وبمقارنة الإبل بالسيارة، نجد إن للأولى قوة احتمال على الجوع والعطش، بعكس السيارة التي تحتاج إلى تجديد الماء كل أربعة ساعات، والوقود كلما نفد، فضلاً عن جهل السائق بميكانيكيتها مما يسبب عطلها في الطريق وتترك الحجاج في العراء إلى أن تقدم سيارة أخرى
أجل! لقد أزعجت السيارة ذلك الهدوء الشامل في الصحراء وأقضت مضاجع الأعراب(137/43)
وحولت طمأنينتهم إلى نوع من الثورة على الحضارة الأوربية وما تقدمه إليهم من كهرباء وطيارات ولاسلكي
دخلت سيارتنا مكة في منتصف الليل تقريباً فراعني أن أرى الناس في الشوارع، يغطون في نومهم ويحلمون بالجنة التي هم بها موعودون، لا سيما وأنهم أصبحوا على قاب قوسين منها. أهاج هذا المنظر خاطري فأنبثق في نفسي شعور خفي وأنا أستقبل تلك الأرض المقدسة التي وطئتها قدما الرسول وكانت خير منارة للحق، فهددت الناس إلى السبيل القويم
وقصدت لساعتي إلى دار مطوفي، وهي دار رحبة عالية البنيان، بها غرف في الدور الأسفل، أعدت لاستقبال الحجاج الجدد عند وصولهم إلى مكة. وبعد أن رحب بي المطوف سألني عما إذا كنت في حاجة إلى طعام أو شراب فأجبته بالنفي، إذ كنت لا أزال غارقا في نهار من الأحاسيس الخفية، معللا النفس بقرب بزوغ النهار للطواف بالكعبة المقدسة
وما أن غشيت غرفتي واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني واستولى عليّ النعاس، فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، يكاد يخطف الأبصار، وكأنما هو ينشر كلمة الله فيضئ بها العالم يدعو الخلق إلى كلمة الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس طبقا لقواعد الدين الحنيف، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد وهو يجول أناء الليل في شوارع بغداد ويجوس في خلال أزقتها ودروبها، فيكافئ الأتقياء وينزل عقوبته بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة وقد سادها حكم العرب، فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفلسفة والفلك والفقه حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء، وأظلت بأوراقها اليافعة الخضراء تجاه مكة المكرمة والكعبة الشريفة؛ ولا يظن أحد أن ما شهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث أحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق العقيدة متوجه إلى الله بقلب نقي طاهر
وعند انبثاق الفجر نهضنا من النوم على أصوات ملائكية، كأنها هابطة من السماء، تلك هي أصوات المؤذنين يدعون المؤمنين إلى صلاة الفجر التي هي خير من النوم، فقمت مهرولاً، وبعد أن توضأت يممت شطر المسجد الحرام ومعي مطوفي، وكنت أؤدي الصلاة المفروضة طبقاً لإرشاده، ثم بدأت أطوف بالكعبة فسرني أن رأيت ألوفاً من الحجاج، من(137/44)
كافة الألوان والأجناس، يقبلون في لهفة على لثم الحجر الأسود، وهو رمز تاريخي للإسلام، كان الرسول الكريم يتبرك به ويقبله؛ وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون، وظلت تلك العادة متبعة للآن؛ وقد حاولت ولقد حاولت مراراً أن أقترب منه فكان يبعدني عن بلوغه كثرة الزحام، وبعد مشقة لمست بيدي سطحه الرمادي الأملس، ولكن ما كدت ألثمه حتى رأيت سيدة من أهالي فرجانة تقع على الأرض إثر صدمات عنيفة من الخلف، وكانت تحمل على ظهرها طفلتها المسكينة التي ستصبح حاجة بعد حين، ولقد قدمت هذه المرأة التقية إلى الحج ممتطية صهوة جواد مع بقية أفراد أسرتها، من بلدها في أواسط آسيا فاستغرق سفرهم أربعة أشهر؛ ولقد أخبرتني هذه الحاجة أنها كانت تدخر لهذه الزيارة المقدسة من سنوات بعيدة، وأخيرا حققت حلمها وكانت مبتهجة أشد الابتهاج
وقمت بعد ذلك للسعي بين الصفا والمروة، وهناك نالني كثير من الشقاء والعناء، فجلست بجوار حلاق أخذ يقص خصلة من شعري المبعثر عملاً بالسنة الشريفة، ولبثت في انتظار مطوفي ليأخذني إلى جبل عرفات
إن اللقاء على جبل عرفات لهو الغرض الأساسي تقريباً للحج، فالحجاج الذين يفدون إلى جدة متفرقين، يجتمعون كلهم في يوم واحد ويحشرون إلى صعيد واحد، وهنا تظهر عظمة الدين الحنيف وحكمته، فقد كان مجموع الحجاج فوق عرفات لا يقل عن خمسين ألفاً، مع إن مكة بمساحتها الشاسعة لا تستطيع أن تأوي مثل هذا العدد الوافر
وجبل عرفات من أجمل جبال العالم، يصل الماء إليه من (عين زبيدة) في أنابيب، وهو عمل عظيم في ذاته، لأنه يخفف من متاعب الحجاج للحصول على الماء. وهناك تل يطلقون عليه (جبل الرحمة) به مصلى كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي فيه
ولقد رأيت الحرس الوهابي يقيم على تلك البقعة ليمنع الحجاج من إقامة الصلاة بالقرب منها، كما إنهم يحرمون على الحجاج السجود أمام العمد الحجرية المسندة إليها
والوهابيون يعارضون أشد المعارضة في تدخين التبغ، ولكني رأيت أن هذه العادة تكاد تتلاشى، وألفيت كثيراً من الناس يدخنون في الطرق العامة حتى في الجبل وبجوار المصلى، كما أبطلوا عادة الخطابة التي كانت تلقى على ظهر البعير
(يتبع)(137/45)
عبد الكريم جرمانوس(137/46)
بين الثريا والثرى
للأستاذ عبد الرحمن شكري
الحمل والجدي والسرطان: هي الأبراج المعروفة بهذه الأسماء، والمعنى هو أن الشباب لا يهتم بما يخبئ له القدر، كما يهتم من يرصد الأفلاك والأبراج ليعرف منها ما يخبئه له القدر
(الناظم)
الشباب
تذكرني الشباب، وقد علونا ... به فوق المجرة والنجوم
ونحن الخالدون، وكان حقاً ... خلوُّ الخالدين من الهموم
سوى الحزن الذي عقباه ضِحْكٌ ... يرن صداه في ضحك الهزيم
وطئنا فوق أطلال الدرارى ... وأشرفنا على بيد السديم
فلا حمل ولا جدي رقبنا ... ولا السرطان ذو البرج العظيم
وما من صولة الأقدار خفنا ... ولا لاحت لنا مثل الغيوم
بأرواح لها في الأفق مسعى ... وتحليق على العيش البهيم
ركضنا في السماء لكل نجم ... حُنُوَّ الطير للزهر العميم
وحوَّلنا وجوه الكون كأسا ... حسوناها ولم تَكُ من كروم
ولم نعبأ بما تُخْفِي الليالي ... ولم نَخْشَ المنية في الهجوم
وأسْلَفَنا الزمان نعيم عيش ... ولم نحذر مقاضاة الغريم
وكنا في ائتلاف الشمل نحكي ... نظام الشهب والدر النظيم
المشيب
سكنا الأرض بعد الأفق دارا ... وأُنزِلنا إلى بطن الأديم
وأُفْهِمْنَا القضاَء، ما فهمنا ... وقُلْ ما شئتَ في لغو العليم
وكُسِّرَت القوادم والخوافي ... وهِيض العظم في الجسم الكليم
صحونا للحياة، وما تراه ... من الخُلُقِ المُقَبَّحِ والذميم(137/47)
فمن حذر إلى بخل وذل ... وسوء الظن بالخلِّ الحميم
أَطَلَ الموت من كَثَبِ علينا ... وظِل الموت أصبح كالنديم
تُرَوِّعُنَا الصروف بكل خطب ... وخطب الموت أهون للفهيم
وضاعت جِدَّةُ الدنيا وصارت ... كأطمار على جسم العديم
يحاربنا التذكر والتمني ... كلا الأمرين يُفْضِي للهموم
وقدما قد نعمنا بالتمني ... وأمَّلْنَا الخلود على النعيم
وليت الذكر، وهو نذير شجو ... يدوم بروقة العهد القديم
سننسى أننا كنا قديماً ... على هام الثريا والنجوم
عبد الرحمن شكري(137/48)
الليلة الثانية عشرة
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
إحدى روايات شكسبير الخالدة يترجمها إلى العربية شعراً الشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير، وقد تصرف تصرفاً لا يضير بجمال الأصل، بل يزيده أحياناً وضوحاً وحسناً؛ كما فعل في التورية اللفظية التي قصد إليها شكسبير في كلمتي (الوعل) (القلب) فقد نقل المترجم الصيد من البر إلى البحر ليتسنى له الإتيان بمثل هذه التورية في اللغة العربية، وإلى القارئ المشهد الأول من الرواية:
المشهد الأول - في قصر الدوق
يدخل الدوق و (كريو) وأشراف آخرون، حيث فرقة الموسيقى على استعداد للدوق:
هات ألحانك يا عازف إن ... تكن الألحان للحب غذاء!
هاتها! زدنيَ منها فعسى ... أن يلاقي حتفَه منها امتلاء!
أعِدِ اللحن الذي غنّيتَه! ... إنه طاب على السمع غناَء
كاد من رقته يفنى! فلم ... يَدَعِ الشجو له الاذماَء!
رفَّ بالسمع جَنوباً عَطِراً ... سرق الروض شذاه ثم جاَء
قَدْكَ! قف لحنك هذا لم يَعُدْ ... عندي الآن وما قبلُ سَواَء
آه رُوحَ الحب! ما ألطف مس ... راكِ في النفس وأقواك مضاَء
قوةٌ هائلة أنت، فقد ... كدت تطغين على ماضي القضاءْ
قوة حُوَّلَةٌ قُلبه ... أبداً تَبْدين في ألف رواءْ
أين منك البحر عُظماً وقُوَىً؟ ... إنه ماءٌ وأنتِ الكهرباءْ!
تسقط الأنهارُ في البحر فلا ... تعدم التأثيرَ فيه والثّواء
وهمومُ النفس مهما عظُمت ... وسمت أوجا، وشطّت في غلاءْ
دون أمواجكِ في ثانيةٍ ... تتلاشى كالتماعٍ من ضياءْ!
فإذا الغالي رخيصٌ، وإذا ال ... أوج قعْر، وإذا الأسْر عياء
كريو:
مولاي! هل لك في صي ... د البال؟ فالجو حالي(137/49)
الدوق:
ويلك! هل أنا إلاّ ... في الصيد! والبال بالي!
أعزُّ شيءٍ بجسمي ... قدراً. وأنفَسُ غالِ
أوّلَ ما زلزلْتني ... بطَرْفها القتَّال
(أوليفيا)، وهدتني ... للحبّ بعد الضلال
هناك صُيِّرتُ بالاً ... مضرِّساً بالنكال
مطارَداً طول أيّا ... مه وطول الليالي!
اكتنفَتْه شِباكٌ ... من كل وجه وحال
خيوطها من همومي ... ونجما من خيالي!!
(يدخل فالنتين)
- هات عنها! ماذا وراءك؟
- ما ير ... ضيك مولاي! لو رُزِقتُ القبولا
سلّمتْني عنها الوصيفةُ هذا ال ... ردَّ منها - وما أُراه جميلا -:
لن يرى الكون نفسه وجهَها السَّا ... فرَ سبعاً كسبع يوسف طولا!
نذرَت أن تبقى كراهبة الدَّيْ ... ر عليها نقابُها مسدولا
كل يوم تطوف بالبيت بالدم ... ع يبل الثَّرى ويُحفى المسيلا
كل هذا من أجل موت أخ كا ... ن إليها المحبب المأمولا
رُزئَتْه فأقسمتْ لَتُديمَنَّ (م) ... أساها عليه دهراً طويلاً
الدوق:
زِهِ! ضمَّتْ إذا - إلهي لك الحم ... د ُ! - إلى حسنها الشّعورَ النبيلا!
كان هذا وفاءها لأخيها ... كيف بالله لو أحبّت خليلا!
لَوْ إليها (كوبيد) سدّد يوماً ... سهمه المُذْهَب اللطيف القتولا!
فغدا في فؤادها كلُّ همٍّ ... شاغلٍ - دونه صريعاً قتيلا
واعتلى عرشَ قلبها مَلِك فرْ ... دٌ كفرعونِ مصر دانَ النيلا!
سِرْ أمامي إلى أريكٍ من الزَّه ... ر أهدهِدْ بها الفؤادَ قليلا!(137/50)
حيث تُلفى خواطرُ الحب في أك ... نافها مرتعاً خصيباً ظليلا!!
علي أحمد باكثير(137/51)
الشاعر
للسيد رياض معلوف
من كتابه (الأوتار المتقطعة) الذي صدر حديثا
شاعر في شفتيه ... كلمات مُنْزَلهْ!
ضاقت الأرض عليه لطموحهْ
وخيالهْ
جذوة في مقلتيه ... رُوحه المشتعلهْ
قطرة من محجر الله ورُوحِه
وجمالهْ
شاعر إن شدا وردَّدا شعرا ... فنياط القلوب من أوتارهْ
ما ابتسام الربيع ألطف ثغرا ... منه حتى لو كان في نَوَّارهْ
ودموع الصباح أطهر دمعا ... منه فوق الخدود من أزهاره
أين شدْو الهزار في الروض منه ... لا يجاريه روضه بهزاره
هو (مُوسِّيهُ) هل سمعت نواحا ... في الليالي أرق من أشعاره
وهو (دَنْتِي) هلا رأيت جحيما ... بكتاب حروفُه جَمْرُ ناره
والمعرى، رغم العمى (ضوء سقط) ... يهتدي التائهون من أنواره
رياض معلوف(137/52)
يد الأيام
للسيد الياس قنصل
لو كانت الأيام تقضى مرةً ... للمرءِ ما يصبو إليه، معجبا
لخلعتُ عن نفسي ثيابَ رزانتي ... ورجعتُ مسروراً إلى عهد الصَّبى
هي حقبةَ في العمر يحرس صفوَها ... ظلٌّ من الطهر الصميم ظليلُ
وكأنها لخلوِّها من كلِّ ما ... يئدُ العواطفَ للكمال سبيلُ
يسخو الزمان بما لديه على الذي ... رضىَ الوجودُ بأن يريه ضياَءهُ
لكن حُمَّاه ترافق جودَه ... سراً، وتتلف ما يفوق عطاَءهُ
إني بلغتُ إلى الشباب مضيّعا ... من حيث لا أدري جمالَ هنائي
في كل يومٍ كان يهلك بعضُ ما ... زخرتْ به نفسي من الآراءِ
فإذا التفتُّ إلى الوراء رأيتني ... أشلاء ضمّتها الليالي الماضيَه
ووجدت حولي ما يماثل غربةً ... تغشى بلاقعَها الأماني الذاويَه
والحق أني قد غُبنتُ ولم أفزْ ... إلا بساعات من الآلامِ
ما خبرتي إلا شعور طهارةٍ ... خنقْته في صدري يدُ الأيامِ
(عاصمة الأرجنتين)
الياس قنصل(137/53)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
30 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
لنفترض أن هذه القوى يتفاعل بعضها ببعض تتبعاً لقانون المصادفة والتدابير المتعاقبة، وأن الترتيب اللاحق مؤثر في الترتيب السابق، فما عسى يقوم في أزلية الزمان؟ أرانا إذ ذاك مضطرين إلى القول بأن هذه القوى لم تبلغ بعد نقطة التوازن ولن تبلغها أبداً، إذ لو كان هذا الترتيب في استطاعته أن يظهر يوما ما، لاستطاع إذا أن يظهر لتطاول الزمن الغابر. والعالم - عند ذلك - يصبح جامداً ساكناً لا يتحرك، لأن من المحال أن تضل هذه القوى عن (نقطة التوازن والاستواء) بعد أن أدركتها ووصلت إليها. فنحن إذا أمام القول بأن شحنة من القوى الثابتة المعينة تولد - في هذه الآماد - تدابير لا تنبتر وحالات لا تتناهى. وبما عن الزمان لا نهاية له، وبما إن هذه الشحنة من القوى هي معينة محدودة، فسوف تأتي لحظة - مهما كانت هذه القوى عظيمة ومهما كانت آثارها الناشئة عنها كثيرة - نرى فيها هذه اللعبة الطبيعية غير العاقلة تولد (تدبيراً) أو تهتدي إلى حالة تستقر عندها وتقف عليها.
ولكن هذه الحالة أو هذا الانتقال سيجر وراءه سلسلة تامة من الحالات المتسببة عنه، من حيث أن الحركة العالية تولد ذات الأشياء وتمشي باستمرار على دائرة واسعة. كل حياة خاصة هي جزء من هذا الدور الكلي. وكل فرد قد عاش الحياة ذاتها مرات لا تحصى وسيعيشها إلى الأبد. كل الحالات التي يمكن للوجود أن يبلغها قد بلغها في الماضي مرات متعددة. قد كان مرة، ومرات عديدة سيكون وسيعود. وكل القوى السابقة متوزعة اليوم توزعها بالأمس
أيها الإنسان! إن الحياة كلها كمرملة ترش دائماً وتجمع دائماً. وكل خليقة من هذه الخلائق لا تنفصل عن الأخرى إلا بقدر تلك اللحظة الطويلة الضرورية لها حتى تعود تلك(137/54)
الضرورات التي كانت سبب ولادتها، فتعود إلى الظهور. والولادة حالة محلها في (الدور العالمي) وعند ذلك ستجد كل شقاء وكل غبطة، وكل صديق وكل عدو، وكل أمل وكل ضلال، وكل غرسة وكل شعاعة من الشمس، وكل نظام الأشياء، وهذا الدور الذي أنت فيه مثله مثل الحبة سينبثق من جديد
في كل دور من أدوار الوجود الإنساني، لكل إنسان - على الأغلب - ساعة تظهر فيها الفكرة القوية القائلة (بالرجعة الدائمة) لسائر الأشياء. وهذه الساعة التي تبلغها الإنسانية هي ساعة (الهاجرة)
وما إن بدأ نيتشه هذا المذهب حتى سرى في روحه، وغمر فكره، وغلب على قلبه؛ وقد عزم على أن يغامر بعشرة أعوام من عمره، يدرس التاريخ الطبيعي لكي يستطيع أن يبني مذهبه هذا على قواعد علمية ثابتة، ولكنه لاذ بالصمت وأدرك خيبته في زعمه هذا. ولكن فكرة الرجعة الدائمة ظلت تتجاذب فكره، وظل يدور حولها. وهذه الفكرة كانت إحدى هبات (زرادشت) الكبرى إلى رجاله
وقد وضح جلياً تأثير هذه الغمة التي غشيت نيتشه يوم أصبح يؤمن بهذه الرجعة الدائمة. ولن نستطيع أن نتخيل حلاً لمسألة الوجود أظلم وأبهم من هذا الحل، فالوجود لا يعني شيئاً، إنه وليد مقادير عمياء، ينتج من وراء مصادفاته الخالية من الشعور قوى يمتزج بعضها ببعض، فيخلق بعض النماذج على حسب المصادفات. أما الحركة الشاملة للوجود فهي لا تقود جزءاً منه ولا قسما. وإنما هي تدور حول نفسها بدون انقطاع في نفس الدائرة، وهذه الحياة التي نحياها سنكررها إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك رجاء في التغير. وفي كل لحظة مشحونة بالكآبة والشقاء والسأم سنحياها مرات لا تحصى. فهل في الإمكان أن نتخيل ما يصنع هذا الافتراض في جماعات المنحطين والمرضى والمتشائمين، وفي كل من نرجح كفة شقائهم على كفة فرحهم؟ إن عند أغلب الناس - كما يبدو - فكرة تشبه فكرة العودة الدائمة؛ تظل وإن لم تكن مبنية على مبدأ معين - غير مؤذية ولا ضارة، لأنها تبغي فكرة مجردة خارجة عن الإدراك، لأن مخيلتنا غير قادرة على إخراج هذه الفكرة إلى حيز الحقيقة، ولأن المعارف التي يتلقاها عقلنا لا تعين إلا قليلاً من قوتنا الحاسة. ولكن نيتتشه هو الذي يهب الحياة لتعاليمه، وهو يتفلسف بكل وجوده(137/55)
وقد يشاهد أن الرجعة الدائمة أخذت تظهر في بعض اللحظات ككابوس شيطاني يملأ قلبك رعباً ويقف دقات قلبك، وقسوته على المنحطين والأشقياء بدأت الآن ترتدي غير رداء، وقد وضح ما يريد في صيحته هذه (ليموتوا سريعاً. ليقتلوا أنفسهم، أو ليقتلوا، هؤلاء المنحطون. . . .!! من قبل أن يتمكنوا من قياس هاوية الآلام التي غرقوا فيها، وقبل أن يفقهوا معنى القدر الوحشي الذي يقضي عليهم بان يجرجروا صلبانهم بدون أمل في نجاة، وإذ ذاك تفهم إذا كانت الإنسانية في استطاعتها أن تتحمل هذا المذهب دون أن تزل سريعاً في هاوية اليأس والخوف، أو أن تعتبر فكرة العودة الدائمة كابتلاء يهوى به من لا تصلح حيويتهم
لابد من قوة نفسية خارقة لاحتمال فكرة العودة الدائمة وهذا هو صاحب هذه القوة النفسية يستطيع أن يقول (إذا لم يكن للحياة معنى بذاتها فأنا أعطيها معنى. إنما أنا قطعة من الطبيعة تريد أن تكون دائماً جديدة، تسعى بدون سأم ولا نصب إلى ما لا نهاية في الحلقة ذاتها. إنني سأرتفع وأصعد حتى يتسنى لي أن أتأمل كفنان روعة الحياة المخصبة التي لا تفهم. وسأهتز طرباً إلى لعبة هذه القوى التي أنتجت وحصلت كثيراً من الآثار اللطيفة الرائعة. والتي ولدت الإنسان وستلد السوبرمان. سأتمنى بكل قلبي وإيماني من القوة العمياء أن تبدع شيئاً لامعاً ساطعاً يسمو على الإنسان. وسأحيا يراودني هذا الأمل، وسأجعل وجودي كله وعاء لهذه الفكرة. أريد أن للدائرة التي تتحرك فيها الحياة تحور إكليلا باهراً زاهراً. سأقضي حياتي فرحاً مرحاً، راجياً أن يؤول دوري الذي أمثله إلى نتيجة حسنة. وإذا خسرتُ - في هذا الدور - فلي رجاء كبير فيمن يليني ويأتي بعدي. وهكذا لا يتلاشى من الوجود ضياء الحياة ولا يكفهر. وهكذا الإنسان المأخوذ بهذه الفكرة التي تزيده نشوة، يصبح في حالة يبصر فيها هزائمه وانكساراته كفدية يسيرة لأفراحه وانتصاراته. يجدها كالنخس الذي يدفعه دائماً إلى التعالي والتسامي، إلى تفوقه على نفسه. وهكذا إذا رجع إلى محاسبة نفسه يرى إن مقدار سروره كان أرجح من مقدار ألمه وإذ ذاك يرضى بكل حمية وشوق فكرة الحياة الخالدة، وفكرة القبول بالحياة التي يكررها إلى الأبد
ولهذه النتيجة تسامى أولئك الرجال المسلمون الذين جمعهم زرادشت في مغارته. فحين عرض عليهم تعاليمه الجديدة وفضائله الجديدة، وفتح عيونهم على جمال الحياة وروعة(137/56)
الحياة، وحين شفاهم من تشاؤمهم ورفع نفوسهم التي أوشكت أن تنحني تحت أثقال الكآبة والسآمة، جمعهم تحت جنح الظلام أمام المغارة تحت قبة السماء
(جلسوا صامتين متهيبين. كلهم في سن الكهولة ولكن قلوبهم تفيض قوة وحياة، وكل منهم راضٍ بنفسه عن نفسه إذ غدا شيئاً صالحاً على الأرض، وكان سكون الليل المفعم بالأسرار يناجي قلوبهم. عند ذلك تمت أعجوبة الأعاجيب. فالإنسان الأكثر قبحاً جلس ينفخ للمرة الأخيرة، وحين دعاه داعي الكلام قال: هذا السؤال الذي خرج من فمه طاهراً نقياً عميقاً، وجميع من كان حوله يصغون إليه أحسوا إن قلوبهم تهتز وتخفق طرباً
قال: (هأنا - لأول مرة - غدوت راضياً عن حياتي
جميلة الحياة على الأرض. إن يوماً واحداً، إن عيداً واحداً مع زرادشت علماني بأن أحب الأرض
سألت الموت: هل - هنالك - الحياة؟
ألا لتأت مرة أخرى
أصحابي! ألا تريدون أن تقولوا للموت مثلي: هل هنالك الحياة؟ وفي سبيل محبة زرادشت لتكن مرة أخرى)
أفلح إذ ذاك زرادشت. فإن الرجل الأكثر قبحاً، والمسخ الذي قتل بعضه الإله، الذي يتمثل فيه كل قبح وشر وسوء في الإنسانية قد تلقى الآن جمال الحياة، وأدرك أن الألم هو فدية لا مندوحة منها للسعادة، فقال: - بلى للوجود. وبينما كان النبي محاطاً بأتباعه، يتذوق خمرة هذا النصر كان يتهادى ناقوس قديم ذي رنين حاد يعلن ببطء - مجيء نصف الليل - أن نصف الليل هو الساعة الواحدة التي يلتقي فيها النهار الذي انتهى بالنهار الذي سيبتدئ، حيث يصافح الموت الحياة. نصف الليل هو ساعة الصمت الأكبر، حيث النفس المتأملة تتفتح لها التأملات والأسرار الخفية. وبينما كان الناقوس القديم، الرسول الذي يقرع لأفراح الإنسانية وأوجاعها، يعلن بدقاته الأثنتي عشرة عن تلك اللحظة التي يجوز فيها الموت إلى الحياة؛ نرى زرادشت يترك رجاله السامين يلمحون الفكرة الكبرى للرجعة الدائمة غارقة في الألغاز كأنها مزمور رمزي ممطر بالنشوة الدينية
1: ألا احترس أيها الإنسان!(137/57)
2: ماذا يقول منتصف الليل العميق؟
3: كنتُ أنام، كنت أنام
4: هأنا قد تيقظت من حلم عميق
5: الوجود هو عميق
6: اعمق مما لم يفكر فيه النهار
7: وعميق شقاؤه
8: وفرحه أعمق من ألمه
9: الشقاء يقول لك: اهلك
10: ولكن كل فرح يبتغي الخلود
11: يبتغي الخلود، الخلود العميق
(انتهى البحث في فلسفة نيتشه)
(خليل هنداوي)(137/58)
القصص
مأساة من أسخيلوس
2 - أجاممنون
للأستاذ دريني خشبه
(آرجوس!)
(وطني العزيز!)
(أربابي!. . .)
(لكم في عنقي دين أبدي من الشكر، وفي فمي لسان رطب لا يفتر عن ثناء؛ فلولاكم ما نسمت هذا العبق الحلو الذي يتأرج به هواء هذا البلد، ولا ظفرت باليوم الخالدة، دولة بريام، ودرة هذا الزمان! أجل! فلقد بدء الآلهة ما ألم بشرفنا القومي، وحاق بعزتنا الوطنية، فقضت أن تكون طروادة نهباً مقسماً لا يحل إلا للهيلانيين، فلا تزال ألسن النيران تعلن في الخافقين حكمة السماء من أبراجها الشاهقة، وصياصيها السامقة، وقصورها الشماء. . . وغداً تصبح صعيداً جُرُزاً وطللاً بالياً. . . من أجل من؟ من أجل امرأة!
أما أنتم يا رعاياي فأشكر لكم إخلاصكم ووفاءكم وتعلقكم بهذا العرش الذي يستمد قوته منكم وما يزال يرتقي بتأييدكم. . . وسننظر فيما تم إذ نحن نازحون عن الديار فنجزى كلاً بما عمل، ولا نقضي عن إساءة المسيء، ولا نتسامح في تألب المتألبين. . .
يا آلهة النصر. . . لك الحمد ولك الثناء. . . لا زلت تباركين آرجوس، ولا برحت أياديك تُنَضِّر هذا الوطن)
- 16 -
وما يكاد الملك ينتهي من كلمته حتى تدخل الملكة. . . الملكة كليتمنسترا. . . أو الحية الرقطاء!. . . التي لا تفتأ تتحدث إلى الملأ من حبها للملك، وعن الآلام المبرحة التي عصفت بقلبها أثناء غيابه، والوحشة التي ظلت تخيم على!! (بلببوديه) العتيق الشاهق طيلة هذه السنين العشر. . . وتتحدث عن الإشاعات المحزنة التي تناقلتها الألسن عن الملك المفدى في ميدان إليوم. . . ثم. . ترى ألا بد من كلمة عن هذا الأمير الصغير المنفي. . .(137/59)
أورست. . . الذي هو (ثمرة حبنا وواسطة عقدنا، والنور الإلهي الذي يغمر قلبينا ويؤلف بين روحينا. . . إنه ينشأ ويشب ويترعرع في كف صديقنا وحليفنا، وحافظ ودنا، الأمير ستروفيوس، صاحب فوسيز، الذي تفضل فحماني في غيبتك، وذاد عن قصرك المنيف تكالب الأرجيف. . .
ولقد كنت أتقلب على إبر الشوك حنيناً إليك، وشوقاً إلى لقائك. . . وكنت أبداً حزينة كاسفة لأن النيران لم تشتمل مؤذنة بأوبتك. . ولكن. . . ها أنت تعود فنعيد الآمال إلى القلوب الواجفة، والإيمان إلى النفوس التي نكأها اليأس، والرجاء إلى كل من عزه الرجاء. . . .)
ثم تختل الملك وتخدعه، عسى أن تنطلي عليه تدبيراتها السود فيلج معها في القصر، وتنفذ فيه الغيلة الرائعة الرهيبة التي رسمتها له، والتي آلت إلا أن تكون بيدها. . . وبسلاح عاشقها الآثم إبجستوس. .
(. . . والآن هلم يا ملكي. . . يا رجاء آرجوس وفخر هيلاس كلها. . . هلم فترجل من تلك العربة الفخمة الفاخرة ذات الأوشية، وطأ أرض القصر العتيد بقدميك الراسختين كما وطأت بها عز طروادة ومنعتها.)
وتكون الملكة قد أعدت بساطاً كبيراً من الخز الأحمر الأرجواني ليمشي عليه الملك، فتأمر قيانها وجواريها أن يبسطنه على المرمر الناصع. . . (ليخطر عليه ملكي، وليتم بهاء اليوم. . . . وأبهة النصر. . . بما عاد رب البلاد ظافراً!)
- 17 -
وتصدع الجواري فيبسطنه
ولكن أجاممنون، الذي كان الوسواس يملأ قلبه، والشك يذوب في كل قطرة من دمه، وسرطان الهم ينهش نفسه الحائرة. . . ظل في عربته متردداً. . .
ذلك إن كاسندرا، تلك النبية الجالسة بجانبه، ابنة بريام التي جلبها معه لتكون خليلة له في الـ - (بلببوديه) - كانت قد تحدثت إلى الملك، فكشفت له أستار الغيب، وتنبأت عما ينتظره من دم. . . وغدر. . . وما ينتظرها هي أيضاً من مثل هذا المصير الأحمر. . . والقدر المخبوء. . .
وكانت أصداء النبوءة التي ملأت بها كاسندرا روع الملك، ما تزال تتجاوب أصداؤها في(137/60)
قلبه، وتهتف به بألف لسان أن. . . يحترس! فقال للملكة:
(إيه يا ابنة ليداء، وحارسة عرشي وحامية صولجاني! لقد استطالت تهنئاتك بقدر ما استطال نأيي وشط نزوحي عن آرجوس! بيد أنني كنت أؤثر الثناء الموشى من غيرك، وكنت أؤثر ألا أرى فيك تلك الغادة اللعوب من غادات الشرق السحري. . . تتحوى وتتلوى. . وتلقي رجلها بكل مصنوع ومجلوب! ثم ما هذا البساط الأحمر الحريري؟ هل أصبح أجاممنون إلهاً؟ إن البسط الحمراء لا يخطر عليها غير الآلهة. . . فهي حق مقدس لهم. . أما بنو الموتى، فليس أجلب للذعر، وأدنى للرهبة، من أن يتطاولوا على حقوق الأولمب، ويؤثروا أنفسهم بما ينبغي أن يبقى للسماء!. . . . والمجد. . . . بعد كل ذلك. . . لا يعوزه أن يسير على مهاد من المخمل، أو أن يهز أعطافه في حلل الدمقس. . . إيه! الخلود والمجد لمن تنتهي حياته الحافلة في أمان وسلام!)
- (ماذا أيها الملك؟ هلم فحدثني. . . واجل في خافيتك؛ ماذا تريد أن تقول؟)
- (سأجلو لك كل شيء حتى لا يكون خفاء بيننا:)
- (قد تكون نذرت هذا في ملمة نزلت بك!)
- (بديهة حاضرة يا ابنة ليدا؟)
- (وما كان من أمر بريام؟ وبم أستحق هذه النهاية إذن؟)
- (أغلب ظني أنه فرش طريقه بالخز والديباج. . .؟ فحنقت عليه الآلهة؟)
- (أنت تأبه كثيراً لما عسى أن يتقول الغوغاء!)
- (وأي شيء هو أعنف من تقولات الغوغاء؟)
- (من لا حسود له، لا معجب به!)
- (آفة المرأة أنها أبداً تثير الشغب والاضطراب!)
- (حاشاي! بيد أنه من العظمة للمرأة أن تخضع فاتحاً عظيماً (كفاتح طروادة!))
- (أفنحن إذن في معركة حتى يشتد حرصك على الغلبة فيها؟)
- (هلم. . ترجل. . دعني أنتصر على قاهر طروادة!)
- (إذا كان لابد من هذا، فمري أحداً بنزع حذائي، فقد يطلع أحد الآلهة من ذروة الأولمب فيرى إلى أطأ الخز الأحمر الأرجواني بهما، فينقم علي ويثور بي. . . كم أضطرب حين(137/61)
أخطو خطوة واحدة على هذا الديباج؟. . .)
(تتقدم جارية من جواري الملكة فتنزع حذاءه)
- (إيه. . . قُضي الأمر. . . ولكني أرجوك أن تتقبلي هذه الغريبة النازحة في حنان وفي حب. . . فما تزال السموات يتبسمن كلما اطلعن فشهدتنا نتلطف في استعمال جبروتنا!. . . لقد منحني الجيش إياها من سبي اليوم. . (يترجّل وتظل كاسندرا بمكانها من العربة). . . فأما وقد ظفرت بطلبتك، فإني أمشي على هذا الأرجوان إلى قاعة العرش)
وتتملقه الملكة بكلمات فيدخل إلى قاعة العرش، وتضرع كليتمنسترا إلى سيد الأولمب أن يحرس ما دبرت، وأن يتولى الغيلة التي أعدت للملك ببركاته!!
- 18 -
ويترنم الخورس بأنشودة شفافة، ينعكس في صفائها غدر المرأة وشدة مكرها. . .
ثم تتحضر الملكة فتشير إلى كاسندرا قائلة: (. . . هلمي فادخلي أنت أيضاً يا كاسندرا. . . أدخلي. . . ما دامت السموات قد ساقتك إلى هنا لنتقاسم أمواه هذا المطهر القرباني. . . هلمي. . . انزلي من هذه العربة المطهمة التي يبدو أنها نفخت أوداجك بريح الكبرياء!. . . . انزلي ولا يؤلمك ما أنت فيه من أسر وذلة ونفي. . . فما أنت بخير من ابن ألكمين العظيم الذي قضى ردحاً طويلاً في ربقة الأسار. . . عند ملك جبار. . . هنا. . . . في نفس هذا القصر! إنه لشرف أي شرف أن تخدمي في الـ (بيلوبيديه)، ما دمت قد استسلمت لنزوة أحلامك حتى فقت بها حدودك يا فتاة! انزلي. . . فآن لك أن تشمخي بأنفك، وتتيهي على أندادك، لأنك ستكونين جارية من جواري ملكة آرجوس!)
رئيس المنشدين: (لقد قالت وقد سمعتِ! وكلامهما بين. . . أوه! مالك مكدودة هكذا؟. . . قد تفكرين في الطاعة. . . ولكن. . قد يتجلى اشمئزازك بعد حين!)
كليتتمنسترا - (رضخت أو لم ترضخ. . . لابد من أن تصغي لي!)
رئيس الخورس - (أطيعي يا فتاة. . . قد يكون هذا لصالحك. . . انزلي!)
كليتتمنسترا - (إن النيران المتأججة تنتظر بفارغ الصبر أن تلتهم فرائس المذبحة، وقد نضب معين الرحمة، وغاض ماء الحنان، وليس هناك وقت نضحي به من أجل بكمك أيها الفتاة، فإذا لم تستطيعي التكلم بلساننا فلتؤد يدك ما تريدين أن تجيبي به. . . تكلمي!)(137/62)
ولكن كاسندرا ما تزداد إلا صمتاً، وما تزداد إلا سكوناً، فيقول رئيس الخورس:
- (يبدو إنها في حاجة إلى ترجمان. . . . . .)
وتتميز الملكة من الغيظ، فتحدج الفتاة بعينين تقدحان الشرر. . . وتنطلق داخل القصر. . . .
- 19 -
ويرثي الخورس للفتاة المنكودة، ويروعه هذا الأسى الذي يتشح به وجهها، وتلك الكآبة التي تجلل جبينها، فيعطف عليها، ويدعوها لتنزل من العربة. . . فأسمع إذن إلى هذا الحديث الشجي:
- (انزلي. . . أصيخي للقضاء، وسلمي للقدر. . . انزلي!)
- (آى. . . آى. . . أوه. . . أبوللو. . . أبوللو!)
- (فيم ههتافك الباكي بأبوللو. . . .؟)
- (آى. . . أبوللو. . . أبوللو. . . أبوللو. . . آى، آى، أوه أبوللو. . .؟)
- (ما تنفكين تهتفين بالإله الذي أصم أذنيه عنك؟)
- (آه يا أبوللو يا إلهي! أيها الباني العظيم والمخرب العظيم! بنيت طروادة. . . وحطمتني! وها هي يدك تمتد في غير رفق مرة أخرى فتعبث بي!)
- (اسمعوا يا رفاق! إنها تتنبأ عما يخبئ لها القضاء. . . كأن فيها جذوة من السماء!)
- (أبوللو. . . أبوللو. . . يا باني طروادة. . . يا هادم بنياني. . ماذا هنا؟ أي سماء؟ فيم جئت بي هنا؟)
- (هذا قصر ألا تريديه إن لم تكوني تعرفينه بعد!
- (آه!. . . حاشا! بل هو كهف رهيب رائع! ممقوت من السماء! ملطخ بدماء الإثم، مضرج بأرواح الشهداء تجثم الجريمة في كل ركن من أرجائه!)
- (يا للآلهة! إنها تشم رائحة الدماء. . . وكأنها قريبة منها بل هي بين ناظريها لا شك!)
- (أجل!. . . أجل. . هناك. هناك. هناك. وهاكم برهان قاطع. . . تشمموا معي. . ولكن. . . لا. . . إني أرى. . . إني أنظر. . . الأطفال الأطهار الذين ذبحوا. . . هاهم يتصايحون بقاتلهم وهاهي لحومهم. . . الشواء!. . . مسكين أبوهم لقد أكل. . .! لقد قرت(137/63)
لحومهم في بطنه!)
- (أيتها الفتاة! لقد طبقت شهرتك الآفاق كنبية تكشف الغيب ما كان منه وما يكون! ولكنك هنا. . . ولا حاجة لهذا المكان الرهيب بأنبياء!
- (آه!. . . وما ذاك أيضاً! ويلي! جريمة جديدة وحزن جديد، ثمرة مرة من ثمرات الطغيان! إنها تدبر الآن. . . تحت سقفك أيها القصر الهائل! طاعون! طاعون مهلك لا سبيل إلى الفرار منه! من عمل البغضاء العمياء للمحبة المبصرة! الغوث! ويلاه لا غوث!)
- (لا أكاد أستبين هذه النبوءة! لقد كانت الأولى جلية واضحة! وكل مدينتنا ما تزال تتحدث حديث الوليمة المجرمة!)
- (يا شقية! زوجك يا شقية! كيف تجسرين؟ ها هي! إنها تمد يدها الأثيمة! إن الضربة الهائلة تتلو الضربة الهائلة!. . .)
- (ولم أفهم بعد! إن نبيتنا تلغز. . . إن نبوءاتها طِلِّسمات)
- (يا للشبح! ويلاه! ما عساه أن يكون؟ شراك من الموت. . . . ومن الجحيم! بل هو شرك الغرفة السوداء. . . غرفة الشريك المجرم! هلمي يا غربان الويل. . . يا أبابيل الأثيم! هوى فوق هذا القصر. . . أو إن اسطعت فارجميها. . . . أرجميها. . . . .!)
- (أية أبابيل تستنزلين رجومها على القصر؟ إن دعاءك يذهلني! عن قطرات الموت المسمومة تتسرب إلى شغاف قلبي؛ حينما تتسرب لمع الحياة من جراح القتلى. . . . .! أوه. . . . ما أسرع الحزن انحداراً في القلوب؟. .)
- (ماذا أرى؟ آه. . . أسرعوا. . . أسرعوا فاحجزوا البقرة واحموا العجل! انظروا! انظروا؟ إنها تأخذ بتلابيبه. . . وتخوض في لبته بسلاحها. . . آه. . . . لقد سقط المسكين يتشحط في دمه الغزير. . .!)
- (لقد كنت أفخر بما أقدر عليه من كشف للغيب، أحدس الآن أن هذا الهذيان لا يدل على خير!! يا للآلهة؟ أبداً لم يكن الترجيم جلياً بيّناً! وأبداً لم يضف الأنبياء إثارة حبور على هذا الكون! إن الأشجان بضاعتهم دائماً، وإن للغو من القول آلتهم إلى أذهان الناس، وهم لا يضربون إلا على أوتار الذعر ليصلوا إلى غور قلوبنا!)
- (ويلي! يا لحظي العاثر! لقد أترعت الكأس بما رويت من قصتي السادرة! لم جئت بي(137/64)
إلى هذا القصر معك أيها التعِس؟ ألأموت معك! وماذا أيضاً؟ لأموت؟ لأموت؟)
- (ما تزدادين إلا هذياناً وهذراً!؟ وما بك إلا مس؟ وأنا لا ندري: هل حملك إله إلى هذا القصر للتغني حظك العاثر، كما تفننت أختك البلبلة الحزينة من قبل. . .)
- (يا ويح لي! ومن لي بنصيب مثل نصيبها! الحورية الجميلة التي منحتها الآلهة ريشاً وأجنحة؟ لقد سلمت وودعت وفازت بحياة طيبة. . . أما أنا. . . فقريباً أشق بنصل حاد فأكون شطرين!. . .)
- (يا عجباً! أنى لك هذا؟. . . من بذر فيك هذه البذرة السوداء؟ أنى لك تلك الأغنية الكئيبة، وهذا اللحن الحزين؟ من أين تتنزل عليك موسيقاك الباكية؟ من أوحى إليك بهذا الوسواس الخبيث؟. . .)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة(137/65)
القفاز
بقلم حسين شوقي
(س) عنده الصفات التي تكفل عادة للمرء النجاح في ميدان الحياة: الذكاء والشباب وحسن المنظر. . ولكنه خجول لسوء الحظ إلى حد بعيد، وقد أفسد عليه خجله أموراً كثيرة وعاق مستقبله، إذ أن س لا يعمل غير عمل متواضع، في محل تجاري متواضع. .
ماذا يفعل (س) في خجله؟ ماذا؟ لماذا عالج هؤلاء الإغريق الحكماء الفهاهة بوضع قطع من الحجر في الفم ولم يفكروا في معالجة الخجل؟. .
وإذا كان خجل (س) عاق مستقبله المادي، فإنه كان اشد عليه ضرراً في ميدان العاطفة. . إذ انه برغم كونه في ريعان الصبا لم يعرف الحب بعد. . أو على الأصح لم يتصل بفتاة ما. . مع انه تواقاً بشدة إلى الحب. . كم خفق قلبه في (السينما) عندما يتلاقى المحبان على الشاشة بعد فراق طويل!. وكان إذا عاد إلى منزله بعد مشاهدة مثل هذه المناظر الغرامية، يرتمي إلى المخدة ليدفن فيها حزنه وألمه، ويأخذ في البكاء الشديد. . لم يجد (س) في حياته الجرأة لمغازلة الفتيات، حقيقة إن بعضهن غازلنه، ولكن س لم يكترث لهن، لأنهن كن يتفاوتن في الدمامة، و (س) لا ينظر إلا إلى الجمال، لان الحب في نظره أمر سماوي مقدس. . وكثيراً ما كان يذهب إلى المتنزه العمومي، حيث كان يأمل التعرف بسهولة إلى حبيبة القلب المرتقبة. . فهناك ربما تنسى فتاة منديلها، (أو حقيبة يدها) على أحد المقاعد، فيلتقطه ويقدمه لها، فتتم بهذه السهولة المعرفة بينهما. .
يا للعجب! هاهي أمنية (س) تتحقق، لان المقادير التي تضن علينا بكسب سباق (الدربي)، لاتضنّ علينا بتحقيق أمانينا المتواضعة. .
إليك كيف تحققت أمنية (س):
شاهد (س) ذات يوم سيدة رائعة الجمال (كما تخيلها في أحلامه) تجلس في المتنزه على أحد المقاعد وهي تقرأ كتاباً في يدها باهتمام شديد، فجلس (س) حيالها على مقعد يترقّب فرصة التعرف إليها. . ثم لم يمض زمن طويل على هذا، حتى نهضت السيدة من مكانها ونسيت حقيبة يدها على المقعد (كما تمنى س) فنهض من فوره ليلتقط الحقيبة ويقدمها إليها، ولكن قدوم شرطي في هذه الأثناء أفسد عليه الأمر إذ خشي س إن يحسبه الشرطي(137/66)
لصاً. . وكان من حظ الشرطي تقديم الحقيبة لها، وقد شكرته السيدة بابتسامة ساحرة وانصرفت. .
مسكين (س)، كم كان مغتماً لخروجه من المتنزه في ذلك اليوم!. .
ولكنه لم ييأس، فعاد في اليوم التالي إلى الحديقة في المكان نفسه، عساه يجدها هناك مرة أخرى، فإذا بالسيدة الحسناء جالسة على المقعد نفسه تقرأ!. . وكان من حسن حظه إن السيدة نسيت في هذه المرة أيضاً حقيبتها على المقعد، لدى انصرافها، فالتقطها وهرع فقدمها إليها، قائلا في تردد شديد:
- إنها المرة الثانية التي تنسين فيها حقيبتك يا سيدتي!
- هذا حقيقي! ولكن كيف عرفت ذلك؟
- كنت هنا بالأمس عندما فقدتها، لقد هممتُ وقتئذ بالتقاطها وإعادتها إليك، ولكن قدوم الشرطي أفسد عليّ الأمر فقد خشيت أن يظنني سارقاً. .
فضحكت السيدة عندئذ ضحكة عالية لسذاجة الشاب وبساطته. . ثم أذنت له في مرافقتها في السير، كما تولت إدارة الحديث بعدما رأته على هذه الحال من الخجل:
- إني لا بد أن أنسى شيئاً عندما أقرأ كتاباً. .
- إن ما تقرئينه لا بد أن يكون ممتعاً جداً حتى ينسيك حقيبتك يومين متواليين. .
- هي رواية بوليسية. . إني شديدة التعلق بالروايات البوليسية لأن حبك الدسائس يتطلب ذكاء نادراً. .
كم أسف (س) عندئذ لعدم قراءته قصصاً بوليسية، ولقد بدا عليه الآسف واضحاً. .
قالت - ربما كان المشي يتعبك؟
- أبداً!
يا لسذاجتها! إن (س) ليصعد معها جبال الهملايا عن طيب خاطر!
- إني مضطرة إلى المشي كل يوم. . لمعالجة الأملاح. . .
تذكر (س) عندئذ اسم دواء للأملاح كان أوصى به طبيب لأخته فصاح قائلا:
- هناك دواء نافع للأملاح أسمه. . . .
ولكنها قاطعته في سحرية:(137/67)
- دواء؟ صدقني ليس هناك ما هو خير من المشي. . .
وبعد أن تنزها نصف ساعة وصلا إلى باب الخروج فاستأذنت وانصرفت بعد أن وعدته بالحضور إلى الحديقة في اليوم التالي للتريض. . .
كم كان سعيداً في ذلك اليوم! هاهي ذي أحلامه تتحقق! إن جمال هذه السيدة هو أسمى ما يطمح إليه! أما هي، فقد شعرت من فورها (باستلطاف) نحو هذا الشاب الساذج الخجول، لأنها لم تشاهد حولها في وسطها الراقي (إذ كانت من طبقة الأشراف) غير رجال أشبه بالطيور الجارحة. .
وفي اليوم التالي بكر في الذهاب إلى الحديقة، حيث التقى بسيدة أحلامه، وقد تروضا هذه المرة ساعة بدل من نصف ساعة. . .
ثم تقابلا في الأيام التالية. . .
وكانت هذه السيدة الحسناء تلبس دائماً قفازاً أسود طويلاً، ودّ (س). لو نزعته حتى يستطيع أن يطبع قبلة على يديها المحبوبتين. . .
وكان كلما طلب منها ذلك رفضت في لطف. .
وقد ألح يوما عليها فقالت:
- سوف تندم يا عزيزي لو نزعت قفازي. . .
- هل تعنين إن يدك غير جميلة؟
- أجل إن يدي اليمنى بها ست أصابع. . .
- إذن الثم اليد اليسرى
- اليد اليسرى ينقصها إصبع. . .
- فليكن ذلك
- أقول لك إنك سوف تندم
ولكنه ألح إلحاحاً شديداً اضطرت السيدة إزاءه أن تخلع القفاز، ولكنه بدلاً من أن يلثم يدها التي نزعت عنها القفاز، صرخ صرخة مؤلمة ثم سقط مغشياً عليه إذ لمح في يدها خاتم الخطوبة. . .
حسين شوقي(137/68)
البريد الأدبي
كتاب لزعيم الاشتراكية الفرنسية
منذ بضعة اشهر توفي الفريد دريفوس الضابط اليهودي الفرنسي وبطل القضية الشهيرة التي هزت فرنسا منذ ثلاثين عاماً وكادت تدفعها إلى غمر الحرب الأهلية؛ وقد صدرت عن هذه المأساة القضائية الشهيرة أثناء وقوعها وبعد عشرات من الكتب بمختلف اللغات، وصدرت بمناسبة وفاة بطلها عدة كتب ورسائل جديدة؛ ومن ذلك كتاب صدر أخيراً بقلم الزعيم الاشتراكي الفرنسي ليون بلوم وعنوانه (ذكريات عن القضية) ' أعني قضية دريفوس؛ ومسيو بلوم رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي، وله ولحزبه مكانة قوية في الحياة السياسية والبرلمانية الفرنسية؛ وقد كان لموقفه أثر فعال في التطورات السياسية الأخيرة وفي سقوط وزارة مسيو لافال، ومسيو بلوم فضلاً عن كونه سياسياً وخطيباً كبيراً؛ كاتب كبير أيضاً، وهو يتولى تحرير المقالات السياسية في جريدة (بوبولير) الاشتراكية، وله فيها جولات رنانة، وقد كان مسيو بلوم وقت وقوع مأساة دريفوس فتى في عنفوانه ولكنه كان قد شق طريقه السياسي، وخاض غمار الحوادث السياسية والحزبية التي أثارتها القضية الشهيرة؛ ونحن نعرف الآثار السياسية والاجتماعية والعقلية العميقة التي أحدثها النضال ببين أنصار دريفوس وبين خصومه، وكيف انشطرت الحياة العقلية الفرنسية يومئذ إلى شطرين: أحدهما يتجه إلى تأييد ما يسميه (الحقيقة والعدالة) بتأييد دريفوس، والآخر يتجه إلى تأييد النزعات القومية والعسكرية المغرقة التي أثارت هذه المأساة الشهيرة، ويصور مسيو بلوم في كتابه هذه الحوادث والتطورات تصويراً قوياً، ويشرح لنا البواعث النفسية والعقلية التي كانت تدفع أنصار دريفوس إلى العمل لنصرته وتبرئته، فهؤلاء كما يقول مسيو بلوم كانت تربطهم عواطف قوية هي الثقة في (قوة الحقيقة)، وتدفعهم حماسة مضطرمة إلى ما فوق أنفسهم، ويرى مسيو بلوم شبهاً قوياً بين حادث انهيار شركة بناما ومأساة دريفوس وهي أعظم حوادث هذا العصر، وبين نكبة استافسكي الأخيرة وما تلاها من الحوادث الدموية في فبراير سنة 1934؛ فقد كان من ورائها العسكريون والوطنيون دائماً يثأرون لهزيمتهم في انتخابات سنة 1932؛ وقد كانت دسائس العسكريين والوطنيين مثار قضية دريفوس، والخلاصة أن مسيو بلوم يقدم إلينا في أثواب اشتراكية واضحة، فإنه(137/70)
مع ذلك يسبغ عليها بقلمه وبيانه كثيراً من الأناقة والطرافة. وكتابه جدير باهتمام أولئك الذين تذكي خيالهم وتشجيعهم حوادث المأساة الشهيرة.
وفاة مؤرخ وصحفي كبير
نعت إلينا الأنباء الأخيرة مؤرخاً وصحفياً فرنسياً كبيراً هو فرنسوا جاك بانفيل؛ توفي في نحو الخمسين من عمره، وفي ذروة حياته الأدبية وكان بانفيل كاتباً وصحفياً كبيراً، يحرر القسم السياسي في جريدة (لاكسيون فرانسيز) لسان الحركة الملوكية بفرنسا وكانت مقالاته وبحوثه يطبعها دائماً نفس الطابع الذي عرفت به هذه الجريدة المجاهدة والذي يسبغه عليها كتاب عظام ملكيون مثل شارل موراس وبانفيل. بيد أن بانفيل كان يحرر في صحف أخرى مثل (بتى بريزيان) و (لاليبرتيه) ليس لها مثل هذا الطابع. ومع إن بانفيل كان صحفياً بارزاً يدفعه الغمار الصحفي دائماً إلى المعترك، فإنه لم ينس نزعته الحقيقية، وهي نزعة المؤرخ الذي ينظر إلى الحوادث بروح علمي مستقل؛ وقد ترك لنا عدة كتب تاريخية تشهد ببراعته النقدية وحسن تقديره للحوادث والأشخاص منها تاريخ لفرنسا، وتاريخ للجمهورية الثالثة، ومنها تاريخ لألمانيا المعاصرة حتى قيام هتلر، وتاريخ للطغاة المعاصرين مثل ستالين وموسوليني وغيرها؛ وتمتاز كتبه وبحوثه بقوة التصوير، وسلامة العرض، والبحث العميق.
علم المثلثات والعرب
تعليق على مقال في مجلة نايتشر
في الشهر الماضي ظهر في مجلة نايتشر الإنكليزية مقال من قلم أدجر سمث تناول فيه البحث عن نوابغ العلماء والأدباء الذين ولدوا في الأعوام 1536، 1636، 1737، 1836 بمناسبة حلول العام الميلادي الجديد 1936، وقد جاء في هذا المقال أن ريجيو مونتانوس كان من أعظم رياضي زمانه، ومن رجالات العلم البارزين في عصره، وإنه كان أيضاً موضع إعجاب وتقدير من ذوي السلطات الزمنية والروحية، وإليه يرجع الفضل في نقل بعض علوم اليونان والمسلمين إلى الغرب، وفي تعريف الأوربيين إليها - كل هذا صحيح لا سبيل إلى نكرانه ولا يختلف فيه باحثان. . . ولكن هناك شيئاً واحداً أحببت التعليق عليه(137/71)
وهو القول: (بأن ريجيو مونتانوس ألف في الرياضيات وأن كتاب المثلثات هو أول ثمرة من ثمار ريجيو مونتانوس، ومجهوداته في المثلثات على نوعيها المستوية الكروية، كما أنه أول كتاب بحث فيها بصورة منظمة علمية. . .)
اختلف العلماء في محتويات كتاب الذي وضعه ريجيو مونتانوس، وفي نسبتها إليه، فبعضهم يدعى أن كل محتويات الكتاب هي من وضع ريجيو مونتانوس وأنه لم يستعن في ذلك بأحد، وبعضهم يقول بخلاف ذلك، وبقي هذا الاختلاف زمنا طويلاً إلى أن ثبت حديثاً أن ريجيو مونتانوس أعتمد في بحوثه في هذا الكتاب على مؤلفات العرب والمسلمين. ولا عجب في هذا فإليهم يرجع الفضل الأكبر في وضع كثير من نظريات علم المثلثات وموضوعاته، وإليهم لا إلى غيرهم يرجع الفضل أيضاً في تقدمه ورقيه، ولولاهم لما وصل الغربيون فيه إلى ما وصلوا إليه
وينقسم كتاب ريجيو مونتانوس إلى خمسة فصول كبيرة منها ما يبحث في المثلثات المستوية، ومنها ما يبحث في المثلثات الكروية، وقد ثبت لدى الباحثين أن الأصول التي اتبعها ريجيو في الفصل الخامس هي بعينها الأصول التي اتبعها العرب في الموضوع نفسه في القرن الرابع للهجرة - هذا ما توصل إليه العالم المحقق التركي صالح زكي بعد دراسة مؤلفات ريجيو مونتانوس وأبي الوفاء اليوزجاني، ومما يزيد المرء اعتقاداً بهذا كله اعتراف كاجوري بأن هناك أموراً كثيرة وبحوثاً عديدة في علم المثلثات كانت منسوبة إلى ريجيو مونتانوس ثم ثبت حديثاً أنها من وضع المسلمين والعرب، ويوجد غير كاجوري أمثال سمث وسارطون وسيديو وغيرهم من اعترف بأن بعضاً من النظريات والبحوث نسبت في أول الأمر إلى ريجيو مونتانوس وغيره ثم ظهر بعد الاستقصاء خلاف ذلك.
نابلس
قدري حافظ طوقان
كتاب جديد لبول موران
بول موران من أعظم كتاب فرنسا المعاصرين، وهو بلا ريب أحدثهم نزعة، وأوفرهم طرافة؛ وربما كان ذلك يرجع إلى تكوينه وظروف حياته؛ فقد درس في باريس،(137/72)
وأكسفورد، وأدنبورج، ودرس الأدب والقانون، وهيأت له حياته كموظف في السلك السياسي فرصة واسعة للسياحة والدرس؛ واتخذت أشعاره وقصصه الأولى أحدث طابع؛ وظهرت كتبه الأولى ومنها مجموعة القصص المسماة (مفتوح بالليل) و (مغلق بالليل) فكانت تحفا بديعة جديدة في الأدب الفرنسي؛ وأشد ما تبدو قوة بول موران وطرافته في تصوير حياة المدينة، وقد اشتهر بكتابيه عن لندن ونيويورك حيث يصور فيهما الحياة الظاهرة والخفية في تينك العاصمتين الكبيرتين أقوى تصوير وأبدعه؛ وبول موران سائح لا تخمد له رغبة أو هوى، يضرب في أنحاء العواصم الكبرى وينفذ إلى أعماقها وخفاياها، وقد أصدر أخيراً كتاباً عن عاصمة جديدة هي (بوخارست) وذلك بعد أن أقام في رومانيا ردحاً من الزمن؛ وعنوان الكتاب الجديد لا يثير لأول وهلة اهتماماً كبيراً لأن بوخارست ليست من العواصم الكبرى ذات الشهرة الرنانة، ولكن بول موران يسبغ عليها بكتابه سحراً وروعة؛ وهو يرى أن يثير بهذه المناسبة ذكرى بيزنطية وذكرى روسيا القيصرية؛ بيد أنه يتناول المدينة الحديثة وحياتها. ويرى فيها مفترق المدنية الأوربية، وبدء انسيابها إلى الحياة الآسيوية؛ ويصف المجتمع الروماني وخلاله، وميله إلى الطرب والاستهتار، وما يمتاز به من الدعابة والنكتة؛ ثم يصف مجتمع الريف في صور ساحرة، ويرى في خلاله وعاداته طرافة ليست لمجتمع المدينة؛ ويخصص موران فصولاً ونبذاً عديدة لحياة (النور) الذين يكثرون في رومانيا وخلالهم وفنونهم، ويقدم إلينا عن مختلف طبقات الشعب الروماني كثيراً من المعلومات والحقائق المفيدة الطريفة معاً
وبول موران لا يجاوز اليوم الثامنة والأربعين من عمره، ومع ذلك فهو يتبوأ منذ أعوام طويلة المقام الأول في ثبت الكتاب المحدثين
ذكرى مخترع القاطرة
احتفل أخيراً في إنكلترا بالذكرى المئوية الثانية لمولد جيمس وات مخترع القاطرة البخارية، واتخذ الاحتفال صيغة رسمية، فأقيمت صلاة على روحه في (وستمنسترابي)، ورفع الستار عن لوحة تذكارية أقيمت في بلدته (جرنيوك) من أعمال اسكتلندة، ونثرت زهور كثيرة على أثره التذكاري ببلدة برمنجهام أعظم مصنع لصناعة القاطرات في إنكلترا؛ وأقيم في لندن معرض علمي عرضت فيه نماذج من الآلات والقاطرات البخارية(137/73)
منذ اختراعها إلى اليوم؛ وقد خصص المعهد الميكانيكي الإنكليزي بهذه المناسبة جائزة تعطى لمن يقوم بأفضل اختراع في ميدان الهندسة الميكانيكية، سواء في إنكلترا أو في غيرها من البلاد
وقصة وات شهيرة في تاريخ الاختراع، فقد ولد في سنة 1736 وكان طفلاً سقيماً فلم يتلق تربيته قبل الثالثة عشرة؛ ودرس الهندسة العملية، واشترك في أعمال وتجارب هندسية خطيرة؛ وفي سنة 1764 توصل إلى الوقوف على سر البخار كقوة محركة، وذلك أثناء إصلاحه آلة بخارية وضع تصميمها جون نيوكمن؛ وفي العام التالي استطاع أن يصنع جهازاً لحفظ قوة البخار، ثم وضع تصميماً لآلة بخارية جديدة صنعت في معامل سوهو بالقرب من برمنجهام، وكان هذا مولد القاطرة الحديثة.(137/74)
الكتب
الفن الإسلامي في مصر
للدكتور زكي محمد حسن المساعد العلمي بدار الآثار العربية
هذا الكتاب الثمين ليس سوى الجزء الأول من ثلاثة أجزاء وعد المؤلف بإصدارها. إذ رأى أن لتاريخ الفن الإسلامي في مصر حلقات ثلاثا: تبدأ الأولى بالفتح العربي وتنتهي بسقوط الدولة الطولونية، وتشمل الثانية عصر الفاطميين، وتحتوي الثالثة على عصر المماليك. وخص هذا الجزء بالحلقة الأولى وكشف في مستهله عن سر النزعات في هذا الفن بإيراده مقدمة تاريخية سياسية تفصح للقارئ عن أثر كل تطور خاص بسياسة الدولة المصرية في الفن الإسلامي
وطبيعي أن يعني المؤلف الفاضل بناحية البحث في تاريخ فن العمارة وزخرفة البناء الإسلامية عناية خاصة. وليس ذلك لمجرد مطابقة هذه الناحية من الفن لطابع العرب الديني، بل ولأنه أيضاً استرعى أنظارهم وهم البدو ومساكنهم الشعر، ولاءم مزاجهم الرياضي الفني، واتفق وغرضهم من التعمير - على حد ما نعتقد
ولم يستكمل الفن الإسلامي في مصر وضوحه إلا في عصر الطولونيين. وكان فناً مستقلاً عن الفن الذي ازدهر في سامرّا مدينة المعتصم
واستعرض المؤلف تاريخ تلك المدينة منذ نشأتها، ثم واصل عرض آراء العلماء في شان فنها، وأخذ يوازن بين الخطأ في تلك الآراء والصحيح منها
ومن أهم النظريات التي أثبتها اعتبار زخارف سامرّا غير متأثرة بأساليب الفن السيتي إلى حد كبير، كذلك اعتبار أن الجند الترك لم يكن لهم من الناحية الفنية شيء يذكر في عهد الخلفاء العباسيين، وان الفرس بماضيهم الفني المجيد أكثر استعداداً من الترك للتأثير في الفنون الإسلامية، ولو أن ذلك الرأي قال به غيره، إلا أنه عززه بأدلة مما عثر عليه من صور في سامرّا، ولم يفت المؤلف ذكر توافد مهرة الصناع العراقيين والفارسيين والإغريق وغيرهم على سامرّا، فأصبح الفن هناك خليطاً
وتكلم المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب عن العمارة الدينية، ولا شك أن العمارة بلغ بها المسلمون شأواً بعيداً، إذ هي عندهم أجلّ الفنون، فابتدعوا فيها وأبدعوا؛ ويعد جامع احمد(137/75)
بن طولون أهم الآثار العربية في مصر وأقدم شاهد على المدنية الإسلامية فيها. ودحض المؤلف فكرة أن هذا الجامع كان من مساجد المعسكرات. وهي فكرة رائجة بين عدد من علماء الفرنجة
ثم جاء في الفصل الثالث على ذكر العمارة الحربية والمدنية التي لم يبق منها لعهد الأسرة الطولونية سوى قاطر بن طولون. إلا أن مؤرخي العرب ومؤلفي الخطط أفاضوا في وصف مدينة القطائع والبيمارستان وكذا القناطر. وذكر المؤلف بعض تفاصيل شائقة عن تأسيس مدينة القطائع وعن قصر ابن طولون بها الذي حاكى به قصور الخلفاء في سامرّا. وجاء بوصف ممتع للقصر وما حوى وما أضافه ابنه خمارويه عليه من أبنيه وحدائق. وكان لتنقيب دار الآثار العربية وعثورها في صيف سنة 1932 على أطلال منزل طولوني بالتلال المجاورة لأبي السعود الفضل في الاستدلال على بعض قواعد وأصول العمارة المدنية الخاصة بالعصر الطولوني. وذكر المؤلف أن قناطر ابن طولون شيدت في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة القطائع. ولازالت بعض عقود القناطر قائمة حتى اليوم ومنها يستدل على متانتها وبديع الصناعة فيها: والمعروف أن المهندس النصراني الذي تولى لابن طولون بناء هذه العيون هو نفس المهندس الذي شيد له فيما بعد المسجد الجامع
أما زخرفة المباني للعهد الطولوني التي وردت في الفصل الرابع من الكتاب، فهي اكثر الفنون التي تأثرت بالصناعة العراقية والفن الذي ازدهر في سامرّا. وعالج فيها المؤلف مشكلة اختلف فيها العلماء وهي هل كان موطن هذه الزخارف ومكان نشأتها البلاد المصرية، أم أن الزخارف الطولونية مأخوذة عن الزخارف العراقية في سامرّا؟ ورأى المؤلف في الجمع بين الرأيين حلا لمشكلة: وقد حلل الدكتور محمد حسن الزخارف إجمالاً تحليلاً دقيقاً، لا نستطيع إلا أن نحيل القارئ إلى ما كتبه عنها
ثم انتقل في كتابه إلى الفنون القديمة، ومهد لها بكلمة جامعة قيمة. وأتى في الفصل الأول على تاريخ صناعة النسج في مصر وتطورها، فاستغنى شيئاً فشيئاً عن الرسوم الآدمية والحيوانية التي كانت في الفن القبطي، وقوى الميل إلى الزخارف الهندسية، كما لعبت الكتابة دوراً هاماً في هذه الصناعة. وكانت صناعة الحرير والقطن والكتان من الجودة بدرجة إن المباراة بين الكنائس والمساجد والأسواق الخارجية كانت تتزاحم للحصول على(137/76)
منسوجات مصر. ومع كل فلم يطبع النسيج بطابع إسلامي إلا ابتداء من العصر الفاطمي.
ثم تكلم المؤلف عن الحفر على الخشب، وأبواب استعماله في مختلف أنواع المباني والزخرف. ويمكن اعتبار أن هذا الفن الفتي بقي حافظاً للتقاليد القبطية زمنا طويلاً، بدليل ما كان بقصر ابن طولون؛ وأبان المؤلف ذلك كما أبان النزعة إلى الكتابة على الخشب في عهد ابن طولون. ثم عالج في اقتضاب تطور الخط العربي، ورأى إن المناسبة حسنة لذلك.
وانتهى من ذلك إلى الكلام عن الخزف، ولو أن دراسة الخزف الإسلامي لا زالت صعبة المنال، ولكن مما لا جدال فيه أن الخزف الإسلامي يمتاز بالجودة عن الخزف المصري في العهد القبطي فكان الخزف في العهد الطولوني يصنع من طينة رقيقة. ويمتاز بزخارف ذات بريق معدني، ذي لون أصفر أو زيتوني على أرض بيضاء أو بيضاء مشوبة بالصفرة. وهذه المميزات نفسها نجدها في الخزف الذي عثر عليه في سامرّا
ثم ختم أبحاثه ببحث عن التصوير طريف. وفيه ذكر إن التصوير الذي ينسب إلى مدرسة بغداد كانت تعد سورية أو العراق أو إيران مصدره، وإن فن التصوير لم يزدهر إلا في تلك الأقاليم متأثراً بالتعاليم الفنية التي أخذها العرب عن المانويين واليعاقبة والصينيين. وظلوا لا يفكرون في مصر كمهد لمدرسة من مدارس التصوير الإسلامي حتى كان الاكتشاف المشهور في الفيوم، ذلك الاكتشاف الذي أثبت وجود صور مصغرة إسلامية ترجع إلى القرن التاسع والعاشر والحادي عشر. ولم يترك المؤلف هذا الفصل دون أن يعالج ما يسمونه تحريم التصوير في الإسلام، وقد أجمل القول بأن نظرة في الكتاب الكريم، وفي كتب التفسير، وفي أسباب النزول كافية لأن تثبت إن هذا الزعم باطل لا أساس له وإن كان مكروهاً
وعقد المؤلف للكتاب خاتمة ألم فيها بالصناعات التي عرفتها مصر في فجر الفنون الإسلامية، وذكر في لمحات سريعة تطورها حتى نهاية العصر الطولوني، وأشار إلى أن رجال الفنون والصناعات في القرنين الأول والثاني بعد الهجرة، كانوا من المصريين سواء في ذلك من أعتنق منهم الإسلام ومن ثبت على المسيحية
ولا شك في أن الدكتور زكي محمد حسن قد أحسن دراسة موضوعه وسار ببحثه سيراً هادئاً؛ وكان قديراً في مناقشة حجج علماء الفنون الإسلامية، وفي تدعيم آرائه بالبينة،(137/77)
وليس ذلك بالأمر الصعب على مثله، وقد راجع عشرات الكتب، ومحص عديد التحف قبل أن يستقر على رأي يبديه في جملة متواضعة، وفي أسلوب سهل رصين، وكان موفقاً في تنسيق بحثه تنسيقاً محكماً حتى كاد يبدو تحفة في ذاته، وساعده جمال الطبع والورق والتجليد على زيادة بهائه ورونقه، وقد يهم القارئ أن يعرف إن المؤلف لم يترك كتاباً قرأه في ذلك البحث إلا وذكره ضمن مراجعه، كما ذيل الكتاب بتراحم أهم الأسماء الواردة في الكتاب وكذلك ذيله بلوحات فوتوغرافية غاية في الإتقان لإيضاح ما تكلم عنه
ولسنا وحدنا الذين نثني على حضرة الدكتور زكي محمد حسن وعلى عمله وجهده هذا، ولا عيب عليه سوى أن يتركك بعد قراءة هذا الكتاب، أو قل دراسته، تتلهف لقراءة المطولات من كتبه.(137/78)
العدد 138 - بتاريخ: 24 - 02 - 1936(/)
مصر في المعرض!
- 1 -
أليس من حسن توفيق الله أن يجلس المفاوض المصري في قصر الزعفران، ومن ورائه مصر العالمة العاملة محشودة كلها بسودانها وصعيدها وريفها في المعرض! تشدد قوته بروح النهضة، وتؤيد حجته بدليل الحس، وتسند هيبته بروعة الواقع؟
أليس من الجميل عون الله أن يتألف من ذات مصر ومعناها على النحو الذي تراه في المعرض قياس عجيب الإنتاج، وقصيد قدسي الإلهام، وخطاب سحري البيان، ودفاع قوي الأثر، في الوقت الذي بسَّ فيه اللورد لويد عقاربه هنا وهناك، يلسعون بالتمائم، ويدبون بالأراجيف، ويُقَسِّمون رأيهم في الأمر على أن مصر بطبيعة ضعفها متخلفة لا تلحق وتابعة لا تستقل؟!
تعالوا يا طلائع الاستعمار، وصنائع الامتيازات، وثعالب الكرامة! هذه هي مصر الحقيقية قد عرضت عقلها ويدها في ستين فدانا من الأرض لتيسِّر لكم وسيلة الحكم، وتقصر عليكم مدى النظر؛ فلطالما خدعكم عن حقيقتها مغرورٌ يريد الحكم، أو منهوم يرغب المال، أو محروم يطلب الوظيفة.
زوروا المعرض الزراعي الصناعي تجدوا مصر التي لا تقرئونها في صحيفة، ولا تسمعونها في خطبة، ولا تبصرونها في مظاهرة، ولا تقابلونها في ملهى، ولا تحادثونها في حزب! هي تجري مع الزمن في سكون، وتعمل مع الطبيعة في صمت، وتتشقق عن ثمار النبو غ كما تتشقق الأكمام عن أريج العطر في هدوء الغسق!
زوروا أيها المفاوضون عن الحليفة المتجنِّية معرض الجزيرة قبل أن تدخلوا سراي العباسية، تلمسوا في كل ناحية من نواحي النشاط الصناعي ألف دليل ودليلا على نضوجنا المدني؛ لأن الإنتاج الزراعي إذا رجع إلى عمل الله وفطرته، فأن الإنتاج الصناعي مرجعه إلى فكرة الإنسان وقدرته؛ وقد عَدَوْنا ذلك الطَّور منذ سنين، وأصبحنا نُصَرِّف عمل الطبيعة، ونستخدم ثروة الأرض، ونساهم بحذق في ترفيه الإنسان
بين الهرم والنيل شاهدي القرون وعَيْني الأسلاف، احتشدت مصر الحديثة حكومةً وأمة، تقدم إلى أمْسها الحساب الذي يبرى الذمة، وإلى يومها الذي يجدد الطريق، وإلى غدها(138/1)
الأمل الذي يحدد الغاية!
الزارع والصانع والتاجر والعالم والأديب والموظف قد اثبتوا بهذا العرض الموفق في إخلاص غير غالٍ ولا مفتعل، أن مصر التي تسير في مؤخرة الدول بسياسة الكلام، تجرى في مقدمة الشعوب بسياسة العمل!
ودلالة ذلك أن بين الأمة وقادتها حجاباً من الجهل والعزلة لا ينفذ منه الشعاع، ولا تنعكس عليه الروح، ولا ترتسم فيه مقاييس التقدم! على أن أكثرنا لا يزيد علمه بهذا البلد المظلوم على علم هؤلاء القادة؛ فقد كنا نرى في المعروضات الأهلية والحكومية نفائس الصناعة ودقائق الفن، من ضروب اللباس والأثاث والآنية والزينة، فيداخلنا الشك في أنها مصرية؟ ولكنا نرى بجانبها الآلة تدور، والصانع يعمل، والمنتوج يخرج كالمعروض في دقته وأناقته، فيستولي على المرء شعور قوى غريب، فيه الخجل من سوء الظن، وفيه اللذة من دهشة المفاجأة، وفيه الاقتناع بصحة النهضة، وفيه الاطمئنان على سلامة الوطن. هذا الإنتاج الفاخر هو الذي يقدمه إليك التاجر الأوربي في بيوت البيع الكبيرة بلسانه المعسول وغلافه المقبول وكلمته الواحدة وسِمَته المزورة، فتشتريه بالثمن الغالي على أنه وارد من البحر، قد تجشم اكلاف النقل، وتكلف رسوم الجمرك وتكبد أضرار الخسارة، وهو مصري اشتراه الأوربي بالغبن وباعه بالخديعة، وحرم الصانع المصري المسكين أجر العمل بسرقته القِيمة، ومجد الصنعة بسرقته النسبة. وعلة ذلك كله أن المنتج المصري قد جعل الكذب جزءاً من رأس المال، وأن المستهلك المصري قد جعل المساومة شطراً من الثمن، فكان لابد من هذا الوسيط الأجنبي بينهما ليستر بخداعه كذب المنتج، ويبطل بمهارته مساومة المستهلك!
معرض هذا العام قطعة من الفن العجيب عملت فيها يَدٌ صَاعٌ وفكرةٌ فنَّانة؛ فالوزارات والمصالح تتقدمها وزارة المعارف ووزارة الزراعة من جهة، والشركات والجمعيات تتزعمهما شركات بنك مصر والجمعية الزراعية من جهة أخرى، تضافرت كفاياتها وتسايرت رغباتها على تمثيل النشاط المصري هذا التمثيل الناطق الصادق المعبر، فلا تجد عملاً من أعمال اليد، ولا أثراً من آثار الذهن، إلا منظوماً بفن، ومعروضاً بذوق، ومشروحاً بخبرة، حتى أخلاق الموظفين والمنظمين والعارضين والمتفرجين - إذا استثنيت(138/2)
جزءاً من إدارة المعرض - تجري على هذا النسق البديع من الجمال والنظام والدقة! وسنقف بعد هذه النظرة الخاطفة والكلمة العجلى على كل قسم من أقسام المعرض فنستنبئه عن أمره، ونستكشفه عن سره، ثم نطالعك بما نلاحظ من أسبوع لأسبوع. . .
احمد حسن الزيات(138/3)
2 - الزاهدان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال أحمد بن مسكين: وانتشر حديث السمكة في أهل (بلخ)، واستفاض بينهم، وكنت قصصتُه عليهم يوم السبت. فلما دار السبت من أسبوعه لقيني شيخهم حاتم أبن يوسف (لقمان الأمة) ومعه صاحبه أبو تراب، فقال: يا أحمد! لكأنك في هذه المدينة قمرٌ طلع بليلٍ فلا يعظ الناس في يوم السبت غيرك؛ ومن سمع فكأنه عاين، وليس على ألسنة أهل بلخ منذ تحدثتَ إلا بِشْرٌ وأبن حنبل، ولا على بال أحد منهم إلا موعظتك وحديثك. والكلام عن الصالحين في مثل ما وصفت وحكيت قُربٌ من حقائقهم، وسموٌّ إلى معانيهم؛ وليس في القول بابٌ له موقع كموقع القصة عن هؤلاء الذين يخلقهم الله في البشرية خلقَ النور، يضيء ما حوله من حيث يُرى، ويعمل في ما حوله من حيث لا يُرى، وفي ظاهره الجمال والمنفعة، وفي باطنه القوة والحياة. ولست أقول لك أذهب فحدِّث الناس، ولكني أقول أذهب فأعط الناس عقلا من الحديث
قال أبن مسكين: فلما صلينا العصر قدمني أبو تراب فجلست في مجلسي ذاك، وهتف بي الناس يريدون الحديث عن بِشر الحافي وما سقط لي من أخباره على الطريقة التي حدثتهم بها من قبل، فابتدئت بذكر موته رحمه الله وأن يومه كأنما اجتمع له أهل خمسٍ وسبعين سنة، إذ خرجت جنازته بعد صلاة الصبح فلم يحصل في قبره إلا في الليل مما احتشد في طريقه من خلق، حتى لكأن في نعشه سرا من أسرار الجنة في هذا، فخرجوا ينظرون إليه، وكانوا يصيحون في جنازته: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة
ثم قلت: حدثني حسين المغازلي أن بشراً رحمه الله كان لا يأكل إلا الخبز تورعاً عن الشبهات واكتفاء لضرورة الحياة بالأقل الأيسر، وكان يقول في ذلك: يدٌ أقصر من يد، ولقمة اصغر من لقمة. وسئل مرة: بأيّ شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافيةَ فاجعلها إداماً. وقد أعانه على ذلك أنه لم يتزوج، وكان يرى هذا نقصاً في نفسه حتى فضَّل الإمام احمد بن حنبل بأشياء منها أن له أهلا؛ غير أنه قيل له ذات يوم: لو تزوجت تمَّ نُسْكك؛ فقال: أخاف أن تقوم الزوجة بحقي ولا أقوم بحقها، فكانت هذه النية في نفسه افضل من زواجه
وكان مع هذا لا يؤاكل أحدا ولا يسعى إلى لقاء أحد حتى أنه لما رغب في مؤاخاة الزاهد(138/4)
العظيم معروف الكرخي أرسل إليه الأسود بن سالم وكان صديقا لهما، فقال لمعروف: أن بشر بن حارث يريد مؤاخاتك وهو يستحي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد بها، إلا أنه يشترط فيها شروطاً: أولها أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها ألا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة؛ فقال معروف: أما أنا فإذا أحببتُ أحداً لم احب أن أفارقه ليلا ولا نهارا أزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل حال؛ وأنا اعقد لبشر أخوةً بيني وبينه ولكني أزوره متى أحببت، آمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي
قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفاً في بغداد لا يجهله أحد من أهلها إذ لم يكن لبغداد إماما غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان اكثر عجبي حين كنت عنده يوماً وقد زاره فتح الموصلي، فقام فجاء بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام، وأطيب ما تجد من الحلوى، وأطيب ما تجد من الطيب؛ وما قال لي مثل ذلك قط، وهو الذي رأى الفاكهة يوماً فقال: ترك هذه عبادة! وهو القائل لأبى نصر الصياد: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة
فذهبت فاشتريت وانتقيت وتخيَّرت، ثم وضعت الطعام بين أيديهما فرأيته يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، ورايته منبسطاً إليه ومالي عهد كان بانبساطه إلى أحد. وقد كنت أخبرته في ذلك النهار بخبر احمد بن حنبل عَلمتُه من إدريس الحداد؛ فانه لما زالت المحنة بعد أن ضُرب بين يدي المعتصم وصُرف إلى بيته، حمل إليه مال كثير من سروات بغداد وأهل الخير فيها، فردَّ جميع ذلك ولم يقبل منه قليلاً ولا كثيراً، وهو محتاج إلى أيسره، وإلى الأقل من أيسره، وإلى الشيء من أمله، فجعل عمَّه اسحق يحسب ما ورد في ذلك اليوم فكان خمسين ألف دينار، فقال له الإمام: يا عم أراك مشغولاً بحساب ما لا يفيدك. قال: قد رددت اليوم كذا وكذا ألفاً وأنت محتاج إلى حبة من دانق. فقال الإمام: يا عم لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه
قال المغازلي: فنمت تلك الليلة وأنا أفكر في صنع الشيخ وقد تعلق خاطري به كيف انقلبت الحال معه، وأي شيء هذه الحال، وجعلت أكدُّ ذهني لأعرف الحقيقة العقلية التي سلَّطت عليه هذه الضرورة فتسلط النعيم على نفسه، وأنا اعلم أن للقوم علوماً روحانية ليست في(138/5)
الكتب، فمنها ما لا يتعلمونه إلا من الفقر، ومنها ما لا يتعلمونه ألا من البلاء، ومنها ومنها، ولكن ليس منها ما يتعلمونه من اللذات والشهوات؛ وذهب قلبي إلى أوهام كثيرة ليست في جميعها طائل ولا بها معرفة حتى غلبتني عيناي وأنا من وهج الفكر نائم كالمريض وقد ثقل رأسي واختلط فيه ما يُعقل بما لا يُعقل
فرأيت أول ما رأيت ملكاً جباراً يحكم مدينة عظيمة وقد أطلق المنادي في جمع كل أطفال مدينته فجيء بهم من كل دار، ثم رأيته قد جلس على سريره وفي يده مقراض عظيم قد اتخذه على هيئة نصلين عريضين لو وضعت بينهما رقبة لفصلاها عن جسمها؛ فكان هذا الجبار يتناول الطفل من أولئك فيضع إصبع إحدى قدميه في شقي المقراض فيقرضها فإذا هي تتناثر أسرع مما يقرض المقَص الخيط، ثم يرمى بالطفل مغشياً عليه ويتناول غيره فيبتر أصابعه والأطفال يصرخون؛ وأنا أرى كل ذلك ولا أملك إلا غيظي على هذا الجبار من حيث لا أستطيع أن أمضِيَ فيه هذا الغيظ فاقرض عنقه بمقراضه
ثم رايته يأخذ طفلاً صغيراً، فلما جاءت قدم الطفل بين شقي المقراض صاح: يا رب، يا رب! فإذا المقراض يلتوي فلا يصنع شيئاً وكأن فيه حجراً صلداً لا قدماً رَخْصَة. فتميز الجبار من الغيظ وقال مَن هذا الطفل؟ فسمعت هاتفاً يهتف: هذا بشر الحافي! لا يبلغ تاج ملك في الأرض أن يكون لقدمه الحافية نعلاً عند الله!
وكان إلى يميني رجل يتضوأ وجهه صلاحاً وتقوى، فقلت له: من هذا الطاغية؟ ولم اتخذ المقراض لأقدام الأطفال خاصة؟
فقال: يا حسين أن هذا الجبار هو ذل العيش، وهذا وسمُه لأهل الحياة على الأرض يحقق به في الإنسان معنى البهيمة أول ما يدب على الأرض حتى كأنه ذو حافر لا ذو قدم
قلت: فما بال هذا الطفل لم يعمل فيه المقراض؟
قال: أن لله عباداً استخصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل؛ فإذا اطرح أحدهم الشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد نية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة، كما يحمل البطل الأروع أسلحة الجسم في معاركه الدامية. هذا يُتعلم(138/6)
منه فن وذاك يُتعلم منه فن أخر، وكلاهما يرمى به على الموت لإيجاد النوع المستعز من الحياة، فأول فضائله الشعورُ بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة
قال المغازلي: وضرب النوم على رأسي ضربة أخرى فإذا أنا في أرض خبيثة داخنةٍ قد ارتفع لها دخان كثيف أسود يتضرب بعضه في بعض، وجعلت أرى شعلاً حمراً تذهب وتجيء كأنها أجسام حية، فوقع في وهمي أن هؤلاء هم الشياطين: إبليس وجنوده وسمعت صارخاً يقول: يا بشرى! فلتبك السماءُ على الأرض، لقد أكل بشر الحافي من أطيب الطعام وأطيب الحلوى بعد أن استوى عند حجرها ومدرُها، وذهبُها وفضتها! فعارضه صائح أسمع صوته ولا أرى شخصه: ويلك يا زَلَنْبور! أن هذا شر علينا من عامة نُسكه وعبادته. فهذا ويحك هو الزهدُ الأعلى الذي كان لا يطيقه بشر؛ أنه إعنات سلَّطه على نفسه، فإني دفعت هذا (المغازليّ) الأعمى القلب ليزين له ما فعل احمد بن حنبل من رده خمسين ألف دينار على حاجته، زهداً وورعاً وقوة عزم ونفاذَ إرادة؛ وقلت عسى أن تتحرك في نفسه شهوة الزهد فيحسد أو يغار، أو تعجبه نفسه فيكون لي من ذلك لمَّةٌ بقلبه فأوسوس له فأنا نأتي هؤلاء من أبواب الثواب كما نأتي غيرهم من أبواب المعاصي، ونتورَّع مع أهل الورع كما نتسخَّف مع أهل السخف، ولكن الرجل وفيه حقيقة الزاهد، فقد أعطى القوة على جعل شهوته في اللذة قتل اللذة، وإذا جعلتها في الكآبة قتل الكآبة، وليس الزاهد العابد هو الذي يتقشف ويتعفف، ويتخفف ويتلفف، فإن كثيراً ما تكون هذه هي أوصاف الذل والحمق ويكون لها عمل العبادة وفيها إثم المعصية، ولكن الزاهد حقَّ الزاهد من أدار في الأشياء عيناً قد تعلمت النظر بحقه والإغضاء بحقه؛ فهذا لا يخطئ معنى الشر أن لبَّسناه عليه في صورة الخير، ولا معنى الخير أن زوَّرناه في صورة الشر، وبذلك يضع نفسه في حيث شاء من المنزلة، لا في حيث شاءت الدنيا أن تضعه من منازلها الدنيئة
وما أكل بشر من هذه الطيبات إلا ليبادر بها وسوستي ويردَّني عن نفسه وعن اللَّمة بقلبه، فلو أنه أعجبه زهد ابن حنبل ونظر من ذلك إلى زهد نفسه لحبط أجره. فبهذه الطيبات عالج نفسه علاج مريض، وقد غير على جوفه طعاماً بطعام، كما يبدِّل على جلده ثوباً بثوب، ولا شهوة للجلد في أحدهما
قال المغازلي: وثقل النوم على ثَقلةً أخرى فرأيتني في واد عظيم في وسطه مثل الطود من(138/7)
الحجارة وقد ركم بعضها على بعض. ورأيتني مع بشر أقصُّ عليه خبر احمد بن حنبل؛ فقال أنظر ويحك؛ أن الناس يسمونها خمسين ألف دينار وهي هنا في وادي الحقائق خمسون ألف حجر لو أصابت احمد لقتلته ولكانت قبره آخرَ الدهر
إن المال يا بني هو ما يعمله المال لا جوهره من الذهب والفضة، فإذا كنت بمفازة ليس فيها من يبيعك شيئاً بذهبك فالتراب والذهب هناك سواء. والفضائل هي ذهب الآخرة؛ فهنا تجدد بالمال دنياك التي لا تبقى اكثر من بقائك، وهناك تجدد بالفضائل نفسك التي تخلد بخلودها
ومعنى الغنى معنى ملتبسٌ على العقول الآدمية لاجتماع الشهوات فيه، فحين يرد احمد بن حنبل خمسين ألفاً، يكون هذا المعنى قد صحح نفسه في هذا العمل وجهاً من التصحيح
قال حسين المغازلي: وغطَّني النوم في أعماقه غطَّةً أخرى فإذا أنا في المسجد في درس الأمام احمد وهو يحدث بحديث النبي صلى عليه وسلم: إذا عظَّمت أمتي الدينار والدرهم نزع منها هيبةُ الإسلام؛ وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حُرموا بركة الوحي. وهم أن يتكلم في تفسيره ولكنه رآني فمسك عنه وأقبل عليّ فقال: يا حسين! إذا اجتزأ شيخك بالرغيف فهذا عنده هو قدر الضرورة، فان أكل الطيبات فقد عرضت حالٌ جعلت هذه الطيبات عنده هي قدر الضرورة. وفي هذه النفوس السماوية لا يكون الجزء الأرضيُّ إلا محدوداً، فلا يكون محصوله إلا ما ترى من قدر الضرورة
ولما صغُر الجزء الأرضي في نفوس المسلمين الأولين ملكوا الأرض كلها بقوة الجزء السماوي فيها، إذ كانت إرادتهم فوق الأطماع والشهوات، وكانت بذلك لا تذل ولا تضعف ولا تنكسر؛ فالآدمية كلها تنتهي إلى بعض صورهم هؤلاء الذين محلُّهم في أعلاها
يا حسين! ألا وإن ردَّ خمسين ألف دينار هو كذلك قدرُ الضرورة
قال حسين: وذهبت أعترض على الإمام بما كان في نفسي من أن هذا المال وان لم يكن من كَسْبه، فقد كان يتحول في يده عملا من أعمال الخير؛ أنسيتُ أن هذه الصدقات هي أوساخ الناس وأقذار نفوسهم، فلم أكد أفتح فمي حتى رأيت الكلام يتحول طيناً في فمي ليذكرني بهذا المعنى؛ وكدت أختنق فانتفضت أتنفَّس فطار النوم والحلم
طنطا(138/8)
مصطفى صادق الرافعي(138/9)
اثر الحضارة الإسلامية في الإحياء الأوربي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عصر الإحياء أو إحياء العلوم من أعظم عصور التاريخ الأوربي؛ وهو بلا ريب مطلع النور والعظمة في حياة أوربا الحديثة وفي تكوينها السياسي والفكري الاجتماعي؛ وفي معترك الإحياء الساطع تذوب ظلمات العصور الوسطى التي خيمت على أوربا منذ سقوط الدولة الرومانية، ويفتر ليلها الطويل عن حياة جديدة تسرى إلى جنبات القارة القديمة، فتلقي من حولها غمر الماضي بقوة، وتستقبل عصوراً جديدة من القوة والعظمة والسيادة في جميع مناحي الحياة
وإنا لنشعر ونحن نستعرض تاريخ الإحياء أننا لا نتلو تاريخ أمم أو شعوب معينة، وإنما نتلو صفحة من أنبل صفحات الإنسانية تبهرنا بما حوت من المظاهر والمعاني السامية للعبقرية البشرية. ولقد كان تراث الإحياء وما يزال تراث الإنسانية كلها، ذلك أن ثمرات التفكير البشري هي ملك الإنسانية في كل زمان ومكان؛ ولم يكن تاريخ الإحياء مدى قرن ونصف في معظم الدول الأوربية سوى تاريخ العلوم والفنون والآداب التي تفتحت في ذلك العصر كما تتفتح الأزهار، والتي بثها إلى ظلمات العصور الوسطى أرواح وأذهان وعقول ارتفعت فوق العصور والمجتمعات التي ازدهرت بها، وسمت بمبادئها ومثلها كما سمت بعبقريتها
ولقد كتب تاريخ الإحياء مدى القرون وما زال يكتب في كل عصر؛ ولكنه يتخذ دائماً طابعه القومي أو المحلي، وقلما يكتب من الناحية الإنسانية المحضة؛ وانك لتشعر حتى فيما يكتب من الناحية الإنسانية أن العوامل القومية والمحلية تتبوأ دائما مكانتها وتغشى فيه كل نزعة أخرى؛ وكثيراً ما تساءلت وأنا استعرض هذه الصفحة الباهرة من تاريخ الإنسانية، كيف يغفل مؤرخو الغرب حين يكتبون تاريخ الإحياء عن استعراض صفحة أخرى من تاريخ الإنسانية لا تقل عن صفحة الإحياء قوة وجمالا وروعة هي الحضارة العربية الإسلامية، وما كان لها من اثر بارز في بعث عصر الإحياء الأوربي؟
والحقيقة أن هذه الناحية من تاريخ عصر الإحياء كثيرا ما تغمط حقها وتنكر علائقها وآثارها في بعثه وتكوينه. بيد أنها تستحق منا نحن الذين يفهمونها ويقدرونها عناية خاصة؛(138/10)
وليس يكفي أن نكتب تاريخ الحضارة الإسلامية، بل يجب نعالج آثارها في تكوين مختلف المدنيات والحركات العقلية الأخرى؛ ولقد كان الإحياء الأوربي حركة عقلية عظيمة ومطلع حضارة جديدة رائعة، وكان لحضارة الغرب الإسلامي أثرها في بعث هذه الحركة، فمن واجبنا أن نستقصي هذا الأثر وأن نعرضه إلى جانب ما يعرض لنا من تطور حركة الإحياء الأوربي
ومن الصعب أن نحاول استعراض هذا الأثر في مقال أو فصل، ولكنا نحاول فقط أن نلم ببعض أطرافه العامة؛ وأخص ما يبدو هذا الأثر في النواحي الفكرية والاجتماعية من عصر الإحياء؛ ونلاحظ أن طوالع الإحياء ظهرت بادئ بدء في إيطاليا وبدت في الشعر بوجه خاص، وحمل لواءها الأول شعراء عظام مثل دانتي وبترارك، حاولوا أن يعيدوا مجد الشعر الروماني القديم؛ ولم تكن هذه النهضة الشعرية الرائعة رغم اتجاهها إلى مثل فرجيل عميد الشعر الروماني خالية من تأثير المثل الشعرية في غرب أوربا. ذلك أن النهضة الشعرية التي ازدهرت قبل ذلك بنحو قرن في بروفانس (جنوب فرنسا) والتي كانت حركة (التروبادور) الأدبية في الشعر والقصص من أقوى مظاهرها، كانت قد أحدثت آثارها في الحركة الأدبية في شمال إيطاليا حيث بزغ فجر الإحياء؛ ولم يكن شعر دانتي بعيداً عن التأثر بعوامل الشعر البروفنسي ووحيه، بل لم يكن أسلوب دانتي نفسه بعيداً عن التأثر بالأساليب البروفنسية، ويرى علماء اللغة فوق ذلك أن اللغة الإيطالية الحديثة والتي وضعت أسسها في عصر الإحياء قد تأثرت في تكوينها إلى حد كبير بالروح والتراكيب البروفنسية القديمة؛ ويشيد دانتي نفسه في بعض قصائده الكبرى بعبقرية زعماء الشعر البروفنسي ومثلهم الشعرية، ويرى في تيبول ملك نافار مثلاً أعلى للشاعر؛ فهذه الظواهر والعوامل كلها تدلل على آثار النهضة الشعرية الغربية في شعر الإحياء
هذا ومن جهة أخرى فقد كان الشعر البروفنسي ذاته عرضة لمؤثرات قوية، من الجنوب فيما وراء البرنيه. وكانت الحضارة الإسلامية في الأندلس تنفث آثارها منذ القرن التاسع في شمال أسبانيا وفي غاليس (جنوب فرنسا)، وكان أثرها بالأخص قوياً واضحاً في بروفانس التي كانت مركز الحركة الأدبية في الجنوب منذ القرن العاشر؛ وكانت بروفانس ذاتها مدى حين مستقراً لبعض المستعمرات العربية الغازية التي حملت إلى تلك الأنحاء(138/11)
كثيراً من التقاليد والمؤثرات الإسلامية، ولاسيما في شعر الفروسية، بل لقد سرت هذه التقاليد والمؤثرات إلى الحركات الفكرية والأدبية في أنكربرديه (لومباردي)؛ فليس غريباً أن نستخلص من تفاعل هذه المؤثرات والعوامل كلها أن شعر الإحياء لم يكن بدايته بعيداً عن التأثر بمؤثرات الحضارة الإسلامية ومؤثرات الشعر الأندلسي عن طريق الشعر البروفنسي
ومما يبعث حقاً إلى الدهشة أن نجد شبهاً عجيباً في الموضوع والخيال والتصوير بين (جحيم دانتي) وهي أعظم وأروع آثاره وبين أثر عربي أقدم هو رسالة الغفران للشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، مما قد يحمل البعض على الظن بأن دانتي قد وقف بطريقة من الطرق على موضوع رسالة الغفران، وقد كتبت قبل عصره بأكثر من قرنين، ومع أن هذا الرأي لم يؤيد بصفة علمية واضحة، إلا أنه مما يلاحظ في تأييده أن كثيراً من علوم العرب آثارهم العلمية والعربية كانت معروفة في شمال إيطاليا عن طريق البندقية منذ القرن العاشر الميلادي
هذا ونستطيع من الناحية العلمية العامة أن نقول أيضاً أن بعث الإحياء الأوربي لم يكن بعيداً عن التأثر بمؤثرات العلوم الإسلامية؛ فنحن نعرف أن الأندلس كانت منذ القرن التاسع الميلادي نبراس الغرب كله في العلوم، ونعرف أن مدارس قرطبة واشبيلية وغرناطة كانت فيما بعد كعبة الطلاب من سائر أنحاء أوربا، وأن النهضة العلمية في أوربا بدأت قبل عصر الإحياء على يد جماعة من الرهبان النصارى الذين تلقوا العلوم في مدارس الأندلس مثل جربرت الراهب الفرنسي الذي ارتقى عرش البابوية فيما بعد باسم سلفستر الثاني (سنة 999 م) وآبيار وهو أيضاً راهب فرنسي تفقه في الفلسفة والعلوم المعاصرة وطار صيته في أوائل القرن الثاني عشر؛ وكان اعظم ما يتلقى الرهبان العلماء - وهم يومئذ دعاة العلم في الغرب الأوربي - الفلسفة اليونانية عن طريق العلماء والفلاسفة المسلمين، ولاسيما ابن رشد الأندلسي الذي كان أول من عرف العالم الغربي بالفلسفة الأرسطوطالية، وقد ترجمت شروحه المستمدة من الفلسفة الأرسطوطالية في المنطق وما وراء الطبيعة اللاتينية منذ القرن الثاني عشر، وكانت أساسا لكثير من المباحث الفلسفية التي ازدهرت أيام الإحياء الأوروبي في شمال إيطاليا، بل يرى مؤرخو الفلسفة أن(138/12)
الفلسفة الجدلية الأوربية استمدت من العرب والفلسفة العربية أكثر مما استمدت من قسطنطينية التي كانت مستودعاً لتراث المدنية اليونانية؛ وليس من ريب في أن جهود العرب في ميدان الكيمياء والطب كانت أكبر مستقي للغرب في هذا الميدان؛ فقد كانت الكيمياء العلمية علماً عربياً محضاً، وقد بلغت ذروة ازدهارها في العصور الوسطى في معامل قرطبة واشبيلية وغرناطة، وكان أطباء الأندلس أساتذة الطب في أوربا كلها، وإليهم كان يهرع الطلاب من سائر الأمم الشمالية؛ وكانت مدرسة سالرنو الطبية في جنوب إيطاليا تقوم على تراث الحضارة الإسلامية التي سادت صقلية وجنوب إيطاليا زهاء قرنين؛ وكانت آثار الطب العربي تبدو في هذا الميدان بصورة قوية بارزة؛ ويمكن أن يقال مثل ذلك على بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والرياضيات، وقد بلغت أيضاً في الأندلس شأواً عظيماً
والخلاصة أن آثار الحضارة والعلوم الإسلامية في بناء النهضة العلمية الأوربية واضحة لا يمكن إنكارها؛ وإذا استثنينا ميدان الفنون في نهضة الإحياء، فأنه يصعب علينا أن نتصور ناحية من نواحي هذه النهضة الفكرية الرائعة؛ سواء في العلوم أو الآداب تبعد كل البعد عن التأثر بعبقرية التفكير الإسلامي، سواء مباشرة أو بواسطة عوامل أخرى. بيد أنه مما يؤسف له أن هذه الناحية لا تلقى في المباحث الغربية ما يجدر بها من الشرح والتقدير؛ ويلاحظ أن مؤرخ الإحياء الأوربي يكاد يغفلها بصفة مطلقة، هذا في حين أن مؤرخ العصور الوسطى لا يستطيع أن يغفلها
ولكن معظم مفكري الغرب ومؤرخيه ما زالوا ينظرون إلى تاريخ العرب والإسلام والحضارة الإسلامية ومؤثراتها نظرة خاصة قلما تنجو من مؤثرات الدين والقومية، بل لقد درج فريق منهم على اعتبار العرب ضمن القبائل والأجناس البربرية التي حطمت صرح الدولة الرومانية، واعتبار الغزوات الإسلامية لجنوب أوربا كوارث دينية وقومية؛ وما زالت المباحث التاريخية تبالغ في تقدير مؤثرات الحضارة الرومانية في أمم العصور الوسطى وتعتبرها دائما عاملاً حاسماً في كل تطور فكري أو اجتماعي، هذا بينما نراها تغفل تقدير الحضارة الإسلامية ومؤثراتها؛ ويلوح لنا أن الوقت قد حان لنعمل من جانبنا على تصحيح هذا الموقف، ورفع هذا الإجحاف الذي يلحق بتراث المدنية الإسلامية في(138/13)
أوربا، والتنويه بما لهذا التراث من الآثار الحاسمة في المدنية الأوربية بوجه عام، وبما له من آثار خاصة في معظم الحركات الفكرية التي قامت في أوربا خلال العصور الوسطى
بيد أنه من الإنصاف أيضاً أن نقول أننا نلمح في بعض المباحث الغربية المستنيرة، أثر هذا التطور في فهم المهام الإنسانية التي أدتها الفتوحات الإسلامية في العصور الوسطى، وفي تقدير التراث العظيم الذي خلفته الحضارة الإسلامية، وما كان لها من آثار خطيرة حاسمة في تطور الحركات العقلية والاجتماعية في تلك العصور؛ ومن الحق أن نقول أن بحوث أولئك العلماء المستنيرين قد رفعت كثيراً من الحيف والإجحاف والريب التي لحقت ذكريات العرب والإسلام في أوربا من جراء الصور والروايات الخاطئة المغرضة التي مازالت تقدم منذ أحقاب عن العرب والإسلام إلى المجتمع الأوربي الحديث
محمد عبد الله عنان(138/14)
الفردوس الإسلامي المفقود
تحت قناطر جامع قرطبة
للشاعر الألماني هنري هين
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
ترجمة الأستاذ معروف الارناءوط
محرر فتى العرب ومؤلف سيد قريش
(. . . . . أيتها القبة الرفيعة من المنار، لقد ظللت في
الماضي بيت الله. . .)
(هنري هين)
أرأيت سيدي السائح إلى مسجد قرطبة الجامع! أرأيت إلى تلك العُمُدِ المرمرية وقد نهضت على قباب فيحاء واسعة الأرجاء؟
أرأيت إلى مفاتن الفن العربي وقد راحت تطفو على القباب والحنايا والقناطر؟ أرأيت إلى سُوَرٍ من القرآن كيف أذابها الذكاء في شتى الألوان؟
في سبيل الله، وفي سبيل مجده الذي لا يبلى قام هذا الصرح المُشمَخر ثم تنَكَّر الزمن وجَهُمت نواحيه، فتنكرت الأشياء وجَهُمت المشاهد، وأرعد في الأفق الذي تسرب إليه صوت المؤذن حلواً صافياً، صوت النواقيس، وقام الرهبان يدعون في أغانيهم الشجية الكئيبة إلى المسيح في محراب كان بالأمس مزهواً بالمؤمنين، وامتلأت السُّوح بالدُّمى والتماثيل، وتقاصرت ظلال الشمس أمام أنوار شاحبة تريقها الشموع والمصابيح!
وقف (المنصور بن أبي عبد الله) في مسجد قرطبة تحت القبة المرمرية وهو يحدِّق إلى العُمُد والحنايا هادئا ناعم الجأش، ثم مضى يتخافت بصوته:
(أيتها القبة الرفيعة المنار، لقد ظللت في الماضي بيت الله، ثم عدت إليك فرايتك تظللين بيتاً غريباً، ثم أصغيت إليك، فإذا بك ترددين صلاة ما كانت لبناتك الأولين!
لقد هَدْهَد الزمن حماستك، وأطفأ كبرياءك، فجمدت على خطبك الكريه، وصبرت لبؤسك(138/15)
الأليم، ولكن نفسي وقد صاغها الله من معدنٍ ضعيف مازالت - وا رحمتاه لها - ملتاعةً أسوانة حتى أعجزها اليأس عن الصبر فما عادت تطيق شجنها المجاهد!)
وانثنى الفتى العربي إلى الماء المقدس يمسح به رأسه ويغسل جبينه، ثم جفا المسجد وراح إلى فرسه فنهض على ذؤابته فانطلق به يعدو في الطريق، واخذ الهواء المستفيض في الأفق يعبث بغدائره المرسلة ويلاعب ريش قبعته المطرزة!
اشرف الفارس العربي على طريق القلعة حيث تجرى أمواه الوادي الكبير متطامنةً هادئة، فبدت له الخضرة والرياحين والأعناب وشجر اللوز الباسق المتهدل وأزهار البرتقال الكاسية الضافية فلذّ الغناء فغنى، وراحت نغماته العذاب تختلط بأغاني الطيور!
وإنه لكذلك إذا قصر القلعة يلوح له عن بعد فطفر إليه مستروحاً إلى غناء رقيق يستفيض من حواشيه!
في هذا القصر عزلات هانئة أوت إليها (كلارا الفاريس) وهي فتاة طفّارة وثّابة فارق أبوها مغناه إلى أرض (النافار) فاستغدى الغرق في المرح والأهواء خلال غيبته عن القصر!
وقف المنصور بن أبي عبد الله في ناحية دانية من القصر وطفق يُصغي إلى عزيف لذٍّ هادئ، وقد بهرته الأنوار وأشجته الأعراف، فتمايد من الطرب، فنحى ناحية القصر يريد التوغل في جنته بين ورده وأقحوانه!
وكان القصر يعج بالحسان والفرسان، فزرف المنصور إليه فإذا هو بين الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات، ثم عاد ينظر إلى نفسه فإذا هو أملح فرسان هذه الليلة الساهرة شباباً وأعذبهم حديثاً، بل لقد كان أمضاهم في الإغراء والاستهواء؛ ولما استوثق من فتون عينيه، مضى إلى هذه الأسراب الناعمة الطفَّارة، يحدث غانية عن حب أجَنَّهُ في قلبه وحرص ألا يذيعه إلا على مسمع منها، حتى إذا أمله العبث والمجون، طفر إلى غانية أخرى فاحتبسها بين ذراعين محمومتين مشبوبتين، ثم شعر بالملل فارتد عنها إلى ثالثة يعانقها ويخاصرها تحت قباب من المرمر، ثم جفاها إلى أختها ملولا من هوى شديد التقلب!
وكان يمضى إلى حسناء من حسان القصر فيسألها أن كانت عنه راضية وبه ناعمة، ثم يومض بيديه إلى صليب من الذهب يَخطِف بريقه على صدره، ويقسم للكاعب اللّعوب أن(138/16)
مكانها من صدره مكان هذا الصليب! وإنه لنصرانيته على وفاء غريب!
سكن القصر، فسكنت فيه اللذات والأهواء، وانطفأت تحت قبابه الأنوار والأضواء، وأنقلب الفرسان إلى مضاجعهم صرعى هوى وصهباء، وخلا القصر إلا من ربته الحسناء، وفارسها العربي ذي البهاء، وإلا من شمع ضعيفة السنا والسّناء!
جلست الحسناء الأسبانية إلى فراش ناعم وثير، والفتى العربي جاثم على ركبتي الحبيبة، صريع سهد وأرق، يُريدُ عينيه على إغفاءة لذيذة فتملس هذه الإغفاءة من عينيه الضحوكين!
وإنه لسادرٌ في حمى شديدة من أرق شديد، إذا تلك الحسناء اللعوب تريق على غدائره ماء الورد من قوارير حفّت بالعجب، وازينت بالذهب، وهي بعد منزوفة سكرى من الحبّ والطرب، لقد كانت تفعل ذلك سادرة حيرى، والفتى العربي غريق هواجس وأحلام، وشهيد ذكريات وأوهام، وكان صدره يلوح محتدماً مشبوباً تمزقه الزفرات، وتقطعه الآهات!
ثم ابتعث الحب في قلبه سكراً فسلبها صحواً، فأقبلت إلى فتاها تسعى، وراحت تَلثمُ شفتيه وقد عادتا كاللّظى، وهو في سبحه غريق حب وهوى
وحدَّقت إليه مبهولةً واجمة، فرأت على جبينه وقد عاد مسفوعاً مقروراً غمامةً بلون الدجى! فشجيت حتى لقد هدَّها الشجى، وبكت وأنصبّ دمعها على جفنيه فاستفاق راعشاً من هذا الندى!
لقد هزَّته وهو يحلم! بلى لقد كان يحلم! وقد رأى في حلمه القصير كأنه لا يزال في مسجد قرطبة الجامع، وخيل إليه أنه لا يبرح يطوف بالماء المقدَّس يغسل به جبينه كأنه عريقٌ في النصرانية أشجاه هذا الذي تمثل ورأى، وشعر بأن جوانب المعبد تميد ميداً، وإن ألوف الأصوات أخذت تطفو على نفسه فلا يستطيع لها رداً!
ثم خيل إليه أنه يسمع قعقعة العمُد، وصليل القباب وهي تنهار، كأن مسجد قرطبة الجامع قد عاف عيشه الخابي، فتداعى مغيظاً مُحنقاً
وتمثّل الناس والرهبان وآلهة النصرانية وقد طوتهم الأنقاض، فاستفاق راعشاً، وأنطلق يعدو في القفر البعيد النواحي شاجناً ناشجاً، وقد خلف حبه في القصر يائساً
معروف الارناءوط(138/17)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
لم يستطع بستور رؤية مكروب داء الكلب لصغره ومع هذا رباه في مخ الأرانب فتربى، وذلك لان حقن لعاب كلب مسعور في أرنب، ثم أخذ نخاع هذا الأرنب فحقنه في مخ كلب فمات. فعلم بذلك أن مخ الأرنب ونخاعه غذاء طيب يتربى المكروب عليه. واتجه مع أعوانه الشباب إلى تأنيس المكروب ليصنعوا منه لقاحا ففشلوا، ويئس الأعوان الشباب، أما بستور الشيخ العاجز فلم تضعف عزيمته ولا قل رجاؤه
قال الشابان: (انه يا أستاذنا لا فائدة من كل هذا)، وأشاحا بأيديهما في تخاذل إلى الأقفاص بحيواناتها الشلاء وإلى ركام الأنابيب والقوارير
فصوب الشيخ عينه فيهما تصويباً شديداً، وعلته جَهمة خالا معها أن شعره الأشيب المخِفّ تصلب واستقام، وصاح فيهما: (أعيدا هذه التجربة نفسها مرة اخرى، ولو أنها خابت آخر مرة. قد تتراءى لكما الحماقة في الذي اقول، ولكن الشيء المهم الآن أن تظلا غامرين أيديكما في الموضوع الذي أنتما فيه فلا تغسلاها منه فتنفضا عنه). هكذا ظل ينخّسهما حتى يعيدا مرة بعد أخرى تجارب لا أمل فيها ولا رجاء. فهذا كان دأبه دائما؛ تُعْوِزه الحجة، ويصرخ المنطق والحقائق غاضبة في وجهه، ومع هذا يتشبث بالتجربة العقيمة، ويتغافل جنوناً عن وحي الرأي العادي السليم، ولكنه تشبثٌ وتغافلٌ يُفضيان أحيانا من طريق الخيبة إلى النجاح المأمول
لكأني بك تسألني لم كان عقيما محاولة تأنيس مكروب الكلب هذا؟ ولم وجبت إضاعة الرجاء في ترويضه؟ أوْجَبَ ذلك يا سيدي أن تاريخ الإنسان كله لم يذكر حالة واحدة(138/19)
أصيب فيها إنسان أو حيوان بهذا الداء ثم اشتَفى. أن هي إلا أعراضه تظهر على المريض، وتبلغ جرثومة الداء إلى نخاعه ومخه، حتى يضيع فيه الرجاء. وأي جرثومة فتّاكة قتّالة! وهذه الجرثومة يا سيدي هي التي حملها بستور وأصحابه عارية على أطراف مشارطهم تكاد تهمّ أن تسقط البلاء عليهم. هذه الجرثومة هي التي مصها بستور وأعوانه في أنابيب الزجاج حتى بلغت إلى شفاههم إلا بوصة واحدة، وإلا قطعة من القطن فصلت بينها وبين أفواههم
وفي ظلمة اليأس الذي هم فيه أشرقت بارقة من الأمل؛ وفي صموت الكآبة التي هم فيها سمعوا نغمة موسيقية حلوة بعثت فيهم الرجاء. ذلك أنهم ذات يوم وجدوا كلباً من الكلاب حُقنت بالمادة الوبيئة شُفي بأعجوبة بعد أن ظهرت عليه أعراض الداء من ارتعاد وعواء، وبعد أسابيع قاموا في لهفة إلى هذا الكلب، وهو أول مشتفِ من هذا الداء، فحقنوا الوباء في مخه حقناً، ولكن ما أسرع ما أندمل جرح رأسه! وتربص بستور به الموت، ولكن الموت لم يأته، وظل أشهراً يلعب ناشطا في قفصه وقد تمت حصانته كل التمام
قال بستور لرجاله: (الآن أنفتح لنا ما استغلق، وعلمنا أن لنا أملاً في النجاح. . . أن الحيوان إذا جاءه داء الكلب ثم أشتفى منه فلن يعود إليه هذا الداء من بعد ذلك. . . فلم يبق علينا إلا أن نجد طريقة لإضعاف الجرثومة وتأنيسها). فأمّن رجاله على ما يقول وفي قلوبهم أن لا سبيل إلى تأنيس هذه الجرثومة أبداً
وأخذ بستور في اختراع تجارب مما لا يستطيعها الجن بَلهَ البشر، وانتثرت على مكتبه تخطيطات عدّة منها كأنها الخط الهيروغليفي، وكانت تجتمع عنده في صباح اليوم نتائج تجارب الأمس فيدعو إليه في الساعة الحادية عشرة صباحا عَوْنيه رو وشمبرلاند، فيقرأ عليهما خطة جامحة أخرى يختطّها ليصل بها تحسساً في الظلام إلى هذه الجرثومة التي لا تُرى ولا تُنال رجاء أن يُضْعفها - خطة تأخذ بإصبعه إلى باطن الأرض فتحط به على رأس الجرثومة حطاً
كان يقول لهما بستور: (جرّبا هذه التجربة اليوم)
فيقولان له في اعتراض: (ولكن هذا غير ممكن عملاً)
فيقول بستور: (ومع ذلك أجْرياها، أجرياها بالطريقة التي تتراءى لكما بشريطة أن(138/20)
تُحسناها)
كان مثل بستور في ذلك مثل بتهوفن يُضمن سِنْفُونياته الموسيقية دورا لا يلعبه إلا البوق وهو ليس عنده، ولكنه لا يلبث بعد خلق الدور أن يخلق بوّاقاً. كذلك كان بستور في تلك الأيام يفتن في التجارب افتناناً، ثم بعد ذلك يجد من ذكاء عونيه وحرصهما ضميناً لإنجاحها
وأخيراً اهتدوا إلى طريقة لتأنيس جرثومة الكلب، وذلك بأن استخرجوا قطعة من نخاع أرنب مات من الداء، ثم علقوها مدة أربعة عشر يوماً في قارورة لا تدخلها جراثيم الهواء، فلما جفّت وانضمرت حقنوها في أمخاخ كلاب سليمة فإذا هذه الكلاب لا تموت!
قال بستور: (مات الجرثوم! أو خير من ذلك أُضعف إضعافاً كبيراً)، وتلك النتيجة الأخيرة نطّ إليها بستور نطاً بلا سبب مقبول ولا مبرر معقول. قال: (والآن فلنجفف قطعاً أخرى من النخاع الوبيء اثني عشر يوماً، ثم أخرى عشرة أيام، فأخرى ثمانية ثم ستة، ثم نرى أنستطيع بهذه القطع أن نعطي كلابنا قليل من الداء. . . إذن والله لتحصنت منه
وأخذوا جميعاً في سبيل هذه التجربة الخالية، ومضت أربعة عشر يوما ذرع فيها بستور أرض المعمل رائحاً غادياً بين القوارير والمجاهر والأقفاص المنثورة فيه، وعبس وتسخط، وخط في كراسته الشهيرة ما شاء له الخاطر أن يخط؛ وفي اليوم الأول حقنت كلاب بالنخاع الوبيء الذي جفف أربعة عشر يوماً، وفي اليوم الثاني حقنت بالنخاع الأقوى وباء، ذلك الذي جُفف في القارورة ثلاثة عشر يوماً، وهكذا إلى اليوم الرابع عشر وفيه حقنت الكلاب بالنخاع الذي جفف يوماً واحداً، وبه وباء لا شك يقتل الكلاب لو أنها فوجئت به أول مرة
وظلوا جميعا ينتظرون هذه الكلاب أياماً شابت فيها رؤوسهم، ولكن شيء من داء الكلب لم يظهر عليها أبداً. فانبسطت أسارير هذه الأغوار الثلاثة التي قامت تحارب الموت فتكشر له كما كشر. حقنوا في الكلاب أربعة عشر حقنة وبيئية فلم يصبها من الضرر قليل أو كثير. ولكن هل هي حقاً تحصنت من الداء؟
وخشي بستور أن لا تكون، فأجفل من ذكرى ضياع كل هذه الأعوام في عمل غير نافع. لكأني بك تسمعه يقول لنفسه: (أنا اليوم شيخ عاجز، والأيام تجيء فلا تزيدني إلا عجزاً. . .)، وكان لابد من إجراء التجربة الفاصلة الأخيرة. وكان لابد لبستور أن يتجلّد على(138/21)
إجرائها مهما كانت عاقبتها. كان لابد له أن يعلم أتحتمل هذه الكلاب بعد كل الذي جرى لها حقنة قوية غير مضعفة من التي تحقن في الكلاب المائة السليمة فتقتل منها المائة
وذات يوم ثقب رو في رأس كلبين من هذه الكلاب ثقبا حقن فيه وباء قوياً لم يُضعف. وفعل مثل ذلك في كلبين سليمين لم يحقنا بحقنة أبداً
وبعد شهر أيقن بستور وأصحابه أن النصر أتاهم أخيراً بعد عمل ثلاث سنين. فالكلبان اللذان كانا حقنا أربع عشرة مرة ظلا يجريان في قفصيهما ويلعبان ولم يتوعكا أصلاً، أما الكلبان الآخران اللذان لم يتحصنا فنبحا آخر نباح وماتا من الداء
إن بستور له شخصيتان، فهو مخلص الأرواح وبحّاثة في آن، وهما شخصيتان دائماً متنازعتان، ودائما تجور أولاهما على أخراهما. لذلك ما كاد يطمئن إلى النتيجة الطيبة التي خرج عليها من هذه الكلاب، حتى دارت رأسه بالخطط الكثيرة يرسمها ليمحو بها داء الكلب من على ظهر هذه البسيطة. فكانت له في ذلك مئات المشروعات كلها سخيفة، دار منها في عالم أدكن من الخيال، وسلك فيها من الفكر سُبُلاً كثر ضبابها واشتد، فلم يستطيع رو وشمبرلاند أن يخترقاه فضلا فيه وضلت فيه زوجه كذلك. وكان ذلك عام 1884، وفي هذا العام نسي بستور مما هو فيه عيد زواجه، فأساء هذا النسيان إلى زوجه، وهي التي عانت في حياتها ما عانت، فكتبت إلى أبنها تشكو: (إن أباك غارق في أفكاره؛ وهو قليل الكلام، قليل النوم، وهو يستيقظ مع الفجر؛ واختصاراً هو يجري في هذا اليوم على نفس الأسلوب الذي جرى عليه منذ التقت حياتانا من خمس وثلاثين سنة كاملة)
ومن تلك الخطط الجامحة أنه رأى أن يحقن هذا المكروب المضعف في كل كلاب فرنسا في دفعة نابليونية واحدة. قال للبيطار الشهير نوكار (يجب أن نذكر أن الإنسان لا يصاب بداء الكلب أبداً إلا إذا هو عضه كلب مكلوب فإذا نحن محونا هذا الداء من الكلاب محوا كاملا. . .) فضحك نوكار من قوله وهزّ رأسه إنكارا، ثم قال له: (إن في باريس وحدها مائة ألف من كلاب وجِراء. وفي فرنسا مليونان ونصف مليون منها، فإذا أنت أردت أن تحقنها دفعة واحدة، وأن تحقن كلا منها أربع عشرة حقنة في أربعة عشر يوما، فمن أين لك بالرجال؟ ومن أين لك بالزمان؟ ومن أين لك يا عزيزي الأفخم بهذا العدد من الأرانب؟ بل من أين تأتي بأنخعة وبيئة تصنع منها ألف لقاح فحسب؟(138/22)
وأخيراً طلعت على بستور فكرة بسيطة أخرجته من ورطته. قال لنفسه: (ليست الكلاب هي التي نعطيها الألقحة، بل الرجال التي عضتها الكلاب. ألا ما أحصر! ألا ما أيسر! يعض الكلب المسعور رجلا فلا يختمر الداء فيه ولا تظهر أعراضه عليه إلا بعد أسابيع. . . إن الجرثومة إذن تستغرق كل هذه الأسابيع لتصل من مكان العضة إلى مخ الرجل. . . إذن نحن نستطيع في هذه الفترة أن نحقن في الرجل حقناتنا الأربع عشرة وبذلك نحميه من المرض قبل اختماره.) وما أسرع ما دعا إليه رو وشمبرلاند وقاموا بتجربة هذا الرأي في الكلاب أولا
فوضعوا كلابا مريضة في أقفاص واحدة مع أخرى سليمة فعضتها. كذلك جاء رو بكلاب أخرى سليمة وحقنها بحقنة فاتكة من نخاع أرنب وبئ، ثم جاءوا بجميع هذه الكلاب، المعضوضة والمحقونة بالوباء، تلك الكلاب التي لاشك هي لاقيةٌ حتفها إذا تُركت لشأنها، فحقنوها جميعا بالأحقنة المحصنة الضعيفة فالأقل ضعفاً حتى استتمت أربع عشرة لكل منها، فما الذي كان؟ كان الفوز كل الفوز، فكل مخلوق من تلك الخلائق صد عن نفسه في استكمال وخفاء هجمة هذا الوباء. وبستور الذي عانى من ألقحة الجمرة الذي عانى، صاح يدعو إلى تأليف لجنة من خير رجال الطب في فرنسا تقوم بامتحان تجاربه والحكم لها أو عليها. وجاء حكم اللجنة فإذا به يقول: (إن الكلب إذا حُصِّن بأنخعة الأرانب الوبيئة التي ماتت من هذا الداء، بأن يُحقن بالتدرج بضعيف الوباء فالأقل منه ضعفاً، فهذا الكلب لا يأتيه الكَلَب أبداً)
فتساقطت الرسائل على بستور من كل صوب، رسائل هالعة من كتب وتلغرافات جاءت تنصب عليه أنصباباً من أطباء مداوين، ومن آباء جازعين، وأمهات راجفات يطلبن الغياث لأطفال لهن عضتها كلاب مسعورة. حتى إمبراطور البرازيل العظيم تنازل من عليائه فكتب إلى بستور سائلاً راجياً
ولن أحدثك كثيراً عن هم بستور في تلك الأيام، ذكر ما كان قاساه من لقاح الجمرة وشتان ما بين الجمرة والكلَب. ففي الجمرة إذا ازدادت قوة اللقاح عن القدر المقدور ماتت شياه من جراء ذلك. أما هنا في الكلَب فخطأ في التقدير يفضي إلى ضياع أرواح البرايا من رجال وأطفال. . . لم يقع أحد من صيادي المكروبات في حيرة مثل هذه، ولم تقع عليه مسئولية(138/23)
كتلك. . قال بستور لنفسه: (لم يمت كلب من كلابي بسبب لقاحي أبداً. والذي عُضَّ منها فحقن بهذا اللقاح احتمى من الداء احتماء كاملاً. فلا شك أن الذي حدث في الكلاب يحدث في الإنسان. . . ولكن. . .)
ومرة أخرى عاود الأرق هذا البحّاثة المسكين من أجل أنه كشف كشفاً بلغ من الإبداع مبلغاً بعيداً. فكان يرقد على ظهره في سريره وينظر في كتل الظلام التي فوقه فيرى فيها خيالات من أطفال تصرخ في طلب الماء لحلوق جافة مخنقة بالداء، أول شيء تأباه وتخافه هو هذا الماء، ويخال أنه هو الذي جاءها بداء الكلَب بسبب خطأ في لقاحه فيُجفل من تلك الخيالات إجفالاً
ومرت به ساعة عاوده فيها حب المباغتات على نحو ما يجري على المسارح من المفاجآت، أراد أن يكون بطل الدرامة، فكتب إلى صديقه القديم فرسيل يقول: (أميل كثيراً إلى أن أبدأ بنفسي فاحقنها بهذا المكروب القاتل ثم أدفع فعله بلقاحي، فقد والله بدأت أحس في قلبي الثقة بنتائجه)
ولكن رحمة الله به ساقت إليه أخيراً من حل في التجربة محله فوقته شر ما أعتزم عليه في أمر نفسه: جاءته امرأة من الألزاس تسعى إليه دامعة العين، ودخلت معمله تجر وراءها ولداً لها اسمه يوسف في التاسعة من عمره جرحه كلب مسعور في أمسه الأول أربعة عشر جرحاً، وكان ينشج بالبكاء، وقد ملأه الرعب وارتعدت فرائصه فلم يكد يستطيع سيراً
صاحت ألام راجية: (سيدي بستور، أنقذ ولدي!)
فسألها بستور أن تعود إليه في مساء اليوم، وقام هو لزيارة طبيبين يدعى أحدهما يليبان ويدعى الآخر جرانشيه وكانا من أحبابه ونُصرائه، وكانا في معمله فرأيا فيه كيف استطاع أن يخلص الكلاب من بلواها بعد أن عضتها كلاب مسعورة عضاً شديداً، وفي المساء ذهبا معه إلى الطفل فلما رأى يليبان جروحه عابسة متقيحة ألح على بستور أن يقوم بتلقيحه تواً. قال: (قم يا رجل وابدأ علاجك، فانك أن لم تفعل مات هذا الغلام لا محالة)
وفي هذه الليلة، الليلة السادسة من يوليو عام 1885، حقنت أول حقنة من لقاح الكلَب في أدمي، وقضى الطفل أربعة عشر يوما أخذ فيها أربع عشرة حقنة من إبرة تحت الجلد فلم يصبه سوء، ثم عاد إلى الألزاس فلم يأته بعد ذلك عرض من أعراض هذا الداء المخوف(138/24)
أبداً
في العدد القادم آخر مقال عن بستور
احمد زكي(138/25)
أندلسيات:
ابن بسام صاحب الذخيرة
والشاعر أبو مروان الطُّبني
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
ومادمنا قد ترجمنا للفتح بن خاقان صاحب مطمح الأنفس وقلائد العقيان، وقد بان لك من هذه الترجمة أن ابن بسام كان معاصراً للفتح، وأنهما يتشابهان من وجوه شتى أن لم يكن منها إلا أنهما كليهما تصديا للكلام على أدباء عصرهما وشعرائه لكفى؛ نقول مادام الأمر كذلك كان جميلاً بنا أن نردف ترجمة الفتح بترجمة ضريبه ابن بسام. . . .
وسيمر بك قربا ما نتعرف به سبب ذكرنا الشاعر أبا مروان الطُّبْني مع ابن بسام في ترجمة واحدة. . .
(ثم وإما بعد) فإنا إلى هذه اللحظة التي تترجم فيها لابن بسام لم نعثر على ترجمة قد عقدها له وأفردها للقول عليه، وإن كان مؤرخو الأندلس وغير الأندلس كثيراً ما ينقلون عن هذا الأديب كعمدة لهم، وثبت فيما يعالجون من تاريخ أدباء الأندلس، حتى أن المقري ذكره في نحو من أربعين موضعاً من نفح الطيب ولم يفرد له على ذلك ترجمة، وكذلك كثيراً ما ينقل عنه ابن خلكان وغير ابن خلكان. . . .
ومن غريب الأمر في هذا الباب، ومن سوء حظ هذا الأديب، بل من تخبط الناس في أمره، أنك ترى النسخ المخطوطة للذخيرة في دار الكتب سواء أكانت المكتوبة بخط مغربي أم المنقولة عنها بخط مصري قد غُمَّ على نساخها وشبه لهم، واختلط الليل بالنهار، فظنوا أن صاحب الذخيرة هو ابن بسام المعروف بالبَسَّامي الشاعر الهجاء البغدادي المتوفى سنة ثلاث وثلثمائة، ونقلوا ترجمة هذا الشاعر من ابن خلكان كما هي وألصقوها بصاحب الذخيرة، وصدق فيهم بهذا التخبط الغريب قول عمر ابن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عْمرَكَ الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقال يمان
واقْعَدُ من هذا في باب التخبط والتخليط أن خطبة الذخيرة الحقيقية كما سيمر بك. . وقد مر(138/26)
على واضعي فهرس دار الكتب هذا التخليط فلم يتفطنوا إليه، وظنوه صحيحاً، وقالوا إن الذخيرة هي لابن بسام المعروف بالبسامي الشاعر الخ الخ ونقلوا نتفاً من هذه الخطبة المفتلة، وإن كان لهم في هذا الصنيع كل المعذرة. . . (وبعد) فأنا على هذا كله سنقدم إليك صورة وان مُصغَّرة لهذا الأديب الأندلسي العظيم لقد التقطنا أجزاءها من ههنا وههنا
أزلفنا في ترجمة الفتح أن أبا الحسن علي ابن بسام صاحب الذخيرة كان في زمن الملثمين - يوسف بن تاشفين وأولاده - ونزيد هنا أن حياته امتدت إلى أيام أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي رأس دولة الموحدين الذين أدبل لهم من الملثمين وآضوا بذلك ملوك المغرب والأندلس، إذ جاء في نفخ الطيب ما نصه: (وتأخرت وفاته - أي وفاة ابن بسام - إلى سنة 524) ويبدو من هذا أن ابن بسام عاش بعد الفتح بن خاقان نحواً من سبعة عشر عاماً. . .
ولد ابن بسام في شنترين وهي بلدة من الُكوَر الغربية البحرية من أعمال بطليوس، ومن ثم يقال له الشَنْتريني، ومن مؤرخي الأندلس من يقول الشَّنْتمَري نسبة إلى بلدة بالأندلس في الشمال الشرقي لقرطبة يقال لها شنْت مَريّه (أي مريم المقدسة)، وفي هذه البلدة يقول الأديب النحوي أبو محمد بن السيد البطليوسي:
تنكرت الدنيا لنا من بُعدكم ... وحفَّت بنا من معضل الخطب ألوان
أناخت بنا في أرض َشنْتَ مرِيَّة ... هواجس ظن خان والظٌّن خَوّان
رحلنا سَوامَ الحمد عنها لغيرها ... فلا ماءها صدَّا ولا النبتُ سعدان
ولم يحدثنا المؤرخون عن مولده ونشأته، ولا عن مشيخته وكيف تعلم، فلا علينا إذا نحن تخطينا هذا واكتفينا بالكلام عليه من ناحية منزلته الأدبية وإيراد شيء من منظومه ومنثوره والقول على أثره الخالد كتاب الذخيرة. . .
كان أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة أديباً كاتباً شاعراً، وكان المنثور أغلب عليه من المنظوم، مثله في ذلك مثل الفتح، فكان منثوره فائقاً بارعاً جميلاً وأن كان يغلب عليه السجع كسائر معاصريه، أما شعره فقد كان دون نثره. ومما عثرنا عليه من شعره أبيات أوردها العالم الأديب أبو الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي الأندلسي المتوفي سنة 629 في رسالته البديعة التي يفضل فيها الأندلس وأهل الأندلس على بر العُدوه - مراكش - وأهل(138/27)
بر العدوه، قال الشقندي: وهل منكم من يقول منادياً لنديمه، وقد باكر روضا بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك وهو أبو الحسن بن بسام:
ألا بادر فلا ثان سوى ما ... عهدت الكأس والبدر والتمام
ولا تكسل برؤيته ضبابا ... تغص به الحديقة والمدام
فان الروض ملتثم إلى أن ... توافيه فينحط اللثام
وجاء في نفح الطيب ما نصه: (وقال أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة، وشهرته تُغني عن ذكره، ونظمه دون نثره يخاطب أبا بكر بن عبد العزيز
أبا بكر المجتَبىَ للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب
أيلحن فيك الزمان الخؤون ... وُيعرب عنك لسان العرب
وان لم يكن أفقنا واحدا ... فينظمنا شمل الأدب
أَصَدَّقْتَ أن منظومه دون منثوره! أذن لا تتوقع من ابن بسام الأديب الكاتب شعراً من النسق الأعلى، وهكذا شأن أكثر الكتاب كما نبهنا في كلامنا عن الفتح بن خاقان؛ وكذلك ترى أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون المنثور وأظنك لا تجهل ما أورده العلامة ابن خلدون في مقدمته شرحاً لهذه الظاهرة: ويبدو لنا أن لابن بسام شعراً كثيراً في أكثر أبواب الشعر لم يتيسر لنا الوقوف عليه، يدل على ذلك تلك الأبيات التي يقولها الشاعر الوشاح الأندلسي أبو بكر بن عبادة القزَّاز في ابن بسام وهي:
يا منيفا على السماكين سامى ... حزت خصل السباق عن بسام
أن تحك مدحة فأنت زهير ... أو تشيب فعروة بن حزان
أو تباكر صيد المها فابن حجر ... أو تبكي الديار فابن خذام
أو نذم الزمان وهو حقيق ... فأبو الطيب البعيد المرامي
وعلى هذا فلنضرب عن ابن بسام الشاعر، ولنعرض لابن بسام الكاتب ولأثره الفذ الخالد كتاب الذخيرة. . .
نقول أن ابن بسام يمتاز من الفتح بأشياء: أهمها أنك لا ترى في أسلوبه ذلك التقعّر وتلك الطنطنة التي تراها في أسلوب الفتح، وإنما ترى أسلوبا هادئ متزنا رصينا جميلا،:. وانك(138/28)
ترى ابن بسام ناقداً بارعاً كثيراً ما يُعقب على ما يختار تعقيباً يدل على تمكنه ورسوخه في الأدب، ومن ثم كان أكثر من الفتح تقييداً، وعلماً مفيدا،. . وانك تراه أعفَّ لساناً، وأنزه بياناً من الفتح، فلا ترى منه ذلك الإقذاع الذي تراه من الفتح. واليك نموذجاً من تراجمه هو مصداق لما نقول، وهو ترجمته للشاعر الأندلسي أبى مروان بن زيادة الله الطُّبْني
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي(138/29)
قصة واقعة:
أعرابيّ في حمام. . .
الأستاذ على الطنطاوي
صحبنا في رحلتنا البرية إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد، يقال له (صْلَبّي) ما رأيت أعرابياً مثله، قوة جنان، وفصاحة لسان؛ ولولا مكان النبرة البدوية من لسانه، لقلت قد أنصرف الساعة من سوق عكاظ لبيان لهجته، وقوة عارضته، وكثرة ما يدور على لسانه من الفصيح. . . وكان أبيّ النفس، أشم المعطس، عالي الهمة، كريم الطباع، ولكن فيه جفوة الأعرابي. . .
رافقنا أياماً وليالي، فما شئنا خلة من الخير إلا وجدناها فيه: كان يواسينا إذا أُصبنا، ويؤثرنا إذا ضقنا، ويحمينا إذا هوجمنا، ويحرسنا إذا نمنا، ويقنع إذا قسمنا، ويشكر إذا أعطينا، ويصبر إذا منعنا، ويعذر إذا اعتذرنا، ويعفو إذا أسأنا ولين إذا اشتددنا، ولا يشتدّ إذا لنّا. . . على خفة روح، وسرعة جواب، ونكتة حاضرة، وشجاعة نادرة. . . قلنا له مرة:
- إن (صْلبة) في عرب اليوم، (كباهلة) في عرب الأمس، قبيلة لئيمة خسيسة، يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيد كريم، من سادة كرام، وليس لك في هذه القبيلة نسب، فما بالك تدعى (صْلبي) ولا تغضب؟
- فقال: صدقتم والله، ما أنا من (صْلبة) ولا (صُلبة) مني، أني لكريم العمّ والخال، ولكن لهذا الاسم قصة وأنا قاصّها عليكم
- قلنا له: هات
- قال: كان أبواي مُثكلَين لا يعيش لهما ولد، فلما رزقا بي تاسع تسعة ماتوا جميعاً، وأعجزتهما الحيلة، احتسبا عند الله مصيبتهما بذل الاسم، وسمياني صْلبي
- قلنا: أن سمياك صْلبي عشت؟
- قال: نعم! أن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلبي؟ وأرفع من أن يمسه بيد. . .
- وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلبي؟
- قال لقد كنت متزوجاً بشر امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إلي حتى(138/30)
ضقت باحتمالها ذرعاً، فطلقتها ثلاثاً وثلاثين
- قلنا: أنها تبين منك بثلاث، فلم الثلاثون؟
- قال: صدقة مني على الأزواج المساكين الذين لا يجدون ما يطلقون. . .
وطال بنا الطريق إلى تبوك، وكاد ينفذ ما كان معنا من ماء، وخشي القوم الموت، فاقبلوا كلهم على صْلبي، يتذمرون من بُعد تبوك وطول الطريق، فتركهم حتى إذا أنفض كلّ جعبته قال لهم ضاحكاً:
- معكم الحق، أنها بعيدة، ولكني اقسم لكم بالله أني لم أضعها هناك. . . وليس لي في بعدها يدان
ولم يكن صْلبي يعرف المدن الكبيرة، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك قرية فيها ستون بيتا. . .) فلما بلغنا - قافلين - مشارف الشام: أغريناه دخول الدينة، وجعلنا نصف له الشام: رياضها وأنهارها، وعظمها وعمرانها، فيأبى؛ وكنت صفيّه من القوم خليله ونجيّه، فجعلت أحاوله وأداوره وبذلت في ذلك الجهد، فلم أصنع معه شيئا، لما استقر في نفسه من كراهية المدن وسوء الظن بأهلها. . . فتركناه مرغمين، وودعناه آسفين!
وعدت إلى دمشق، فانغمست في لجة الحياة، وغصت فيها إلى أذنيّ، ونسيت صْلبي وصحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها؛ ومرت على ذلك شهوراً. . . وكان أمس فلمحت في (باب الجابية) وسط الزَّحم الهائل وجهاً أعرفه، فذهبت أنظر إليه، فإذا هو وجه صْلبي بعينه وأنفه. . . فأقبلت عليه مسروراً:
- صْلبي. . . هذا أنت؟
- قال: لا صْلبي ولا ملبي. . .
- قلت: لم ويحك؟
- قال أنا في طلبك منذ ثلاث، ثم لا تأتي إلي
- فقلت له ضاحكا: وأيّ ثلاث، وأيّ أربع، وأيّ خمس؟ أتحسبها تبوك فيها ثلثمائة إنسان؟ إنها دمشق يا صْلبي فيها ثلثمائة ألف؟. . .
- قال: صدقت والله!(138/31)
وأخذت بيده فاستخرجته من هذه الزحمة، وملت به إلى ندىّ (مقهى) قريب، فجلسنا فيه ودعوت له بالقهوة العربية والشاهي فسر وانطلق يحدثني، فقال:
لما فارقتكم ورجعت أسير في هذه البادية وحيداً، شعرت بالوحشة وحننت إلى هذه الأيام التي قضيتها معكم، فاستعبرت وجعلت ألوم نفسي وأقول: يا نفس ما كان ضرك لو أجبت القوم ورددت الشام فرأيت ما لم تري؟ وانصرفت إلى أهلي فلبثت فيهم شهراً، ثم دعاني الأمير فارتحلت إليه، فإذا عنده رهط من أهل الحضر يريدون دليلاً، فسرت معهم أدلهم حتى بلغت بهم مشارف الشام، فدعوني وألحوا عليّ فاستجبت لهم فدخلوا بي دمشق. . .
فلما بلغنا (الميدان) وصرنا بين البيوت، رأيت سيارة كسياراتكم تلك، ولكنها أكبر وأضخم، ولها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فقال صاحبي: هذا هو الترام، فتعال نركب فيه
قلت: لا والله ما أحب أن أركبه
فزينوه لي وحببوه إليّ، حتى استحييت منهم لطول ما يسألونني وآبى، فدخلت ويدي على خنجري أن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني إلى النافذة أن رابني أمر قفزت إلى الطريق، وجلست حذراً، فما راعني إلا رجل بثياب عجيبة، قد شق إزاره شقاً منكراً، ثم خاطه حول فخذيه، وارتدى برداء ضيق، قد عمد إليه فصفف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فبدا كأنه قرد. . . ولم أدر ما هو، ثم رجع إليّ ما غرب من عقلي، فقلت رومي مجنون من هؤلاء الروم الذين يحكمون الشام، وخف إن أنا لنت له أن يسطو عليّ، فسللت خنجري لأغمده في صدره إذا هو انتهى إليّ، فقام إليّ صاحبي يقول:
- مالك يا صْلبي، ماذا عراك؟
- قلت: ألا ترى الرومي المجنون؟
- قال: أي رومي يا صْلبي؟ وأي مجنون؟
- قلت: هذا؟ آما تراه؟
- قال: هذا جابي الترام
- قلت: جبّك الله!!
وسكت فقد أقبل هذا القرد على صاحبي، فمد إليه يداً كأنها حجر الرحى، فوضع فيها جُبنة(138/32)
قرشين، فأعطاه بهما فتاتة ورق فما رأيت ولله صفقة أخسر منها، وعجبت من صاحبي إذ يشترى بقرشين اثنين ورقة ما تصلح لشىء، ولكني جلست صامتاً، وما هي إلا هنيهة أخرى حتى أقبل علينا رجل كالأول، رومي خبيث، إلا أنه أجمل ثياباً وأحسن بزة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها. . . فثأرت ثائرتي وقلت: هذا والله الذل، فقبح الله أعرابيا يقم على الضيم، ويرضى أن يسام الخسف. . . وقمت إليه فَلَبَّبتُه وقلت له: يا ابن الصانعة. . . أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا فيه قروشنا فتمزقه، والله لأمزقن جلدة وجهك. . . .
وحسبت صاحبي سيدركه من الغضب لكرامته، والدفاع عن حقه مثل ما أدركني، فإذا هو يضحك، وإذا الناس يضحكون لما يرون مني، لأن عمل هذا الرجل - فيما زعموا - تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم!
ولما نزلنا من هذه الآفة، قال لي صاحبي:
- هلم إلى الحمام؟
- فقلت: مالي وللحمام؟
- قال: تغتسل وتلقي عنك أدران السفر
- قلت: أن كان هذا هو الحمام، فمالي بالحمام من حاجة، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل
- قال: هيهات. . . أن الحمام لا يعد له شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟
- قلت لا والله. ما سمعت:
- قال: إذن تسمع وترى. وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة يتدفق منها الماء فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور، ثم ينثني وينكسر ويهبط وله بريق ولمعان: صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان. وعلى أطراف الدار دكك كثيرة مفروشة بالزرابي والأرائك والمتكئات كأنما هي خباء الأمير. فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد يصيحون علينا صياحاً غريباً، ويصرخون صراخ من به مسّ، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، فانتضيت خنجري وصحت بهم: مكانكم، فوالله لا يدنو مني رجل إلا قططت رقبته. . . فأحجموا، وعجبوا ورعبوا، فقال صاحبي: أنه يمزح. ومال علي يعاتبني عتاباً(138/33)
شديداً، فقلت: أفلا ترى صنيعهم بنا، أفتحب أن ندعهم حتى يأخذونا، قال إنهم يرحبون بنا، ويسلمون علينا لا يريدون حرباً ولا قتالاً
فصدقته وأغمدت الخنجر، وظن القوم أنه المزاح، فعادوا إلى حركاتهم وضجتهم، يدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون، حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاؤا ينزعون عنا ثيابنا، فتحققت أنها المكيدة وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم، فقد عجزوا أن ينالوني وبيدي الخنجر فأبيت وهممت بالخروج. فجعل صاحبي يكلمني ويحلف لي، حتى أجبت واستسلمت، والموت أهون علي من أن أنزل عن سلاحي، وأمنحهم سلبي حتى يسلبوني، ولكنها المدينة دار المذلة والمهانة، وليست بالصحراء، ولو أني لقيتهم في الصحراء لجعلتهم طعمة للوحش والطير. . . حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق إلا الإزار، أرادوا نزعه عني، فقلت: أما من مسلم في هذا البلد؟ أما من عربيّ؟ أتكشف العورات فلا يغير أحد، ولا يغضب إنسان؟
فهدأني صاحبي، وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟
قلت: لعن الله نظافة الجسم إذا كانت لا تأتي إلا مع نجاسة النفس، ويحك أتراني أضيع ديني وشرفي وأنكشف بعد هذه الشيبة، وتذهب عني في العرب، فتكون فضيحة الدنيا والآخرة؟
قال: ومن أنبأك أنك ستنكشف؟ هلا انتظرت؟
ودعا غلاما من أغلمة الحمام فقام دوني يسترني، ستره الله، حتى خلعت إزاري واتّزرت بإزار أبيض أعطونيه. . . وكان صاحبي قد تعرّى كما تعريت فأخذ بيدي فأدخلني إلى باطن الحمام فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتوية معوجة يضل فيها الخرّيت، وهي مظلمة كالقبر، قد انعقدت فوقه قباب فيها قوارير من زجاج، تضيء كأنها النجوم في الليلة الداجية، وفي باطن الحمام أناس جالسون إلى أجران ضخمة من الصخر، عرى لا يسترهم شيء، فعلمت أنهم من الجن. وتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أجدها، فأيقنت لما نسيتها أن جنياً منهم لابد راكبني، وجعلت أبكي على هذه الشيبة أن تكون سخرية صبيان المدن. . . وإني لكذلك إذا بالخبيث يعود إلى يريد أن ينزع عني هذا الأزرار الذي كسانيه. . . فقلت: ويل(138/34)
أمهاتكم! ما ألأمكم! أتأخذون ثيابي وسلاحي، ثم تضنون عليّ بثوب يسترني؟ الرحمة يا مسلمون، الشفقة يا مؤمنون! أأفتضح في الأنس والجن؟
ووثب الجن عليّ وحدقوا بي وهم عرى، فَقفَّ والله شعر بدني، وامتلأت فزعاً؛ فقال صاحبي وهو يضحك: أعطهم الإزار لقد أضحكت الناس علينا
قلت: ويحك، وهل أبقى عريان؟ قال: لا، سنعطيك غيره. أن هذا جديد يفسده الماء
فاستخذيت وأطعت، وما خوفي إلا من هؤلاء الجن أن ينفخ على أحدهم فيحرقني، أو يدفعني دفعة فيلقيني وراء جبل قاف!
ودخلت إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلست إلى الجرن حزيناً كئيباً لا أعلم ماذا يجري علي، فبينما أنا على تلك الحال - وإذا بجني عار كأنه قفص عظام، له لحية كشوك السعدان - وودت أنها عشاء لجملي. . . وقد تأبط ليفاً غليظاً - يا شر ما تأبط! - وحمل ماعوناً كبيراً يفور فوراناً فتشهدت واستغفرت وعلمت أنه السم، وأنه سيتناثر منه لحمي - وقصد الجنيّ إليّ - فجعلت أفر منه، أتوثب من جانب إلى جانب، كأنني دجاجة تفر من سكين الجزار وهو يلحق بي ضاحكاً، ويعجب من قبلي ويظن أني ألاعبه وأداعبه، وصاحبي يقسم لي أنه الصابون.
- قلت: وما الصابون لا أم لك - أمصابون أنتم في عقولكم؟ هذا هو السم، لقد عرفته. . .
- قال: لا وأبيك أنه الصابون، ولا ينظف شيء مثله.
- قلت: ألا شيء من سدر؟ ألا قليل من أشنان؟
- قال: والله ما أغشك فجرب، ونطق الجني فإذا هو والله كلام الناس، وإذا هو أدمي من أمثالنا، فاطمأنت وجلست بين يديه، وأقبل على يدلكني دلكاً شديداً، وأنا أنظر هل تساقط لحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً فضننت أنه قد أحسن إلي، وهممت بشكره، لولا أن ظهر أنه شيخ سوء من القوم الذين أهلك الله، فقد كان يتغافلني ويمد يده تحت الإزار، فيمس فخذي وساقي، فقلت: لو نجا منه أحد، لأنجتني هذه الشيبة، وجعلت أهم بهشم أنفه، وهشم أسنانه ثم أدعه، حتى انتهى وصبَّ على الماء سخنا، فشعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست بالزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي، فقلت: ماهذا؟ أينطق على لساني مغن من الجن؟ وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً، فاستخفني الطرب وجعلت(138/35)
أغنى وأحدو، فقال لي صاحبي: هل أستطبت صوتك؟
قلت: أي والله، قال: أفلا أدلك على باب القاضي؟
قلت: فض الله فاك. مالي وللقاضي؟ هل أحدثت حدثاً؟ هل آويت محدثاً؟ هل. .
قال: ألا تعرف قصة جحا؟
قلت: لا والله! فمن جحا؟ وما هي قصته؟
قال: كان جحا عالماً تحريراً، إلا أن فيه لوثة، وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته، فخرج من فوره إلى القاضي فسأله أن ينصبه مؤذناً، وزعم أن له صوتاً جميلاً، لا يدخل أذن رجل إلا حمله حملاً فوضعه في المسجد
فقال له القاضي: فقم على المنارة فأذن نسمع، فقام فأذن، فلم يبق في المسجد أحد إلا خرج هارباً يتعوذ. . .
فقال له القاضي: أي صوت هذا؟ هذا الذي ذكره الله في الكتاب
قال اصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟
ولمح (صلبي) أعرابياً من أهل نجد يمر في الطريق، فقال لي: أنتظر! وخرج يعدو وراءه. . .
. . . . ثم لم يعد!
على الطنطاوي(138/36)
وقائع كأنها القصص
السر
بقلم محمد مصطفى حمام
دخلت على الباشا والمجلس حافل والسرور شامل، فلقيني بما عود زائريه من بشاشة وترحيب، وأقبل بعدى آخرون يخلفون أعماراً وألواناً، فمنهم الشيخ العتيق المحطم والفتى الأنيق المهندم، ومنهم الحضري الناعم والفلاح الخشن، فتقبل الجميع بقبول حسن، وأفاض عليهم من عطفه مثل ما أفاض عليهم من عطفه مثل ما أفاض عليّ
وجاء الخادم يبشر بزائر جديد شعرت عند سماع اسمه بكثير من السرور، فهو اسم أحد السراة الظرفاء الذين سمعت عنهم دون أن ألقاهم، وما كان أشوقني إلى هذا اللقاء!
ولم ينتظر الزائر آذن الباشا بالدخول، بل اقبل في أثر الخادم، وإذا نحن نستقبل رجلاً سمهري القامة، بهي الطلعة، وافر الحظ من المهابة والروعة، ولقد أهتز له المجلس تعظيماً وإكباراً، إلا الباشا فلم يعبأ بمقدمه، ولم ينشط لاستقباله، بل صافحه وهو لاصق بكرسيه، ثم أشاح وجهه عنه، وأقبل بالحديث على سواء
وأخذتني من هذا اللقاء السيئ دهشة وعجب، وجعلت التمس للأمر كثيراً من العلل
قلت لنفسي: قد يكون القادم من الأنسباء أو ذوي القربى، فلا حاجة بصاحب الدار إلى المبالغة في تكريمه، أو لعل اقتحامه المجلس دون انتظار الإذن هو الذي أغضب الباشا عليه
ورأيت جو المجلس قد أظلم بعد استقرار الضيف الجديد في مكانه، وبد على الباشا ضيق وضجر، وحاول الرجل أن يظفر من صاحب البيت بلفتة إليه، أو إقبال عليه، فلم ينل إلا جفاء وإعراضا
ثم انحنى على الباشا يحاول أن يسر إليه حديثاً، فنهره كما ينهر السائل، وصاح به وشرر الغضب يتطاير من عينيه:
لقد أنقطع ما كان بيني وبينك، فلا تعكر صفاء مجلسي بقدومك، ولا تحاول استرداد مودتي فذلك ما لن يكون
وانصرف الزائر خاسئ البصر، لا يكاد يرى مما حوله شيئا، وودعناه راثين لحاله! وأخذ(138/37)
المجلس يتبدد، حتى لم يبق إلا أنا وصاحب الدار، فلما هممت بالانصراف استبقاني
قال الباشا: لعلك أسأت الظن بأدبي؟
قلت: معاذ الله
قال: أضنك في دهشة من سوء لقائي لضيفي، وربما أهمك أن تعرف السر
قلت: لا أرى في معرفته باساً
قال: لا يزال الصديق محباً إلى قلبك، رفيع القدر في عينك، حتى تكشف لك الأيام منه عن عورة لا تستطيع الإغضاء عنها، فمالك يومئذ من ذنب إذا سقط عندك مقداره، وتمكن من نفسك احتقاره
هذا رجل صاحبني خمسة أعوام كاملة، ملأ في خلالها جوانب قلبي، واستأثر دون الأصدقاء بحبي، وجمعت بيننا مجالس بعضها لله وبعضها للشيطان، وفي أمثال هذه المجالس أسخو بالمال وأكون المتلاف المبذال
وكان هذا الرجل زميلي في كل هذه المجالس، ودليلي إليها في أكثر الأحيان
وقادني إلى بيت في حي من اجمل أحياء المدينة. نادمنا فيه نسوة ثلاثاً كأنهن الحور العين، فقطفنا منهن ورد الخدود، وداعبنا غصون القدود، وصار هذا البيت معهد غرامنا نسعى إليه بين الحين والحين، ولكن في جنح الليل، وفي غفلة من الجيران
وما هي إلا اشهر معدودات، حتى علمت علم اليقين إن هذا البيت الذي نعبث بنسائه ونلهو، هو بيت صاحبي دون سواه! وان نديماتنا هن امرأته وقريبتاه! هن اللائى نغازلهن ونقبلهن! وهن اللائى ينلن مني أجر العبث بهن، أدفعه سخياً كريماً، ويتقبلنه راضيات فرحات!
ولقد أخذني من هذه الحقيقة المؤلمة هول وفزع، فقد تكشف لي صديقي عن نفس خبيثة وعرض ممزق!
قلت: فهلا كاشفته بما علمت من دخيلته؟
قال: لقد كان عذره اقبح من ذنبه، فقد أفهمني أنه وقد عرف فيّ البعد عن الجريمة المنكرة، وجرب عليّ القناعة بالقبلة والمنادمة، وشهد سخائي في البذل، رأى أن يؤثر نفسه ونساء بيته بمالي، فهو وهن أحق بذلك المال الذاهب هباء، والملقى إلى أناس آخرين، ولم يجد في(138/38)
الأمر ثلماً للعرض ولا نقصاً من الشرف، وما دام الغزل لا يصل إلى نهايته الأثيمة!
وتراءت في عيني صورة الرجل حين رأيته لأول مرة، وقارنت بين جمال المنظر وسوء المخبر، فذكرت قول الشاعر:
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأعراض غير حسان!
محمد مصطفى حمام(138/39)
نظرية النسبية الخصوصية
البحث الثالث
مبادئ الميكانيكا الحديثة
للدكتور إسماعيل احمد ادهم
عضو أكاديمية العلوم الروسية
- 1 -
لقد قررت سنّة لورانتز في التقلص أن سرعة النور أقصى سرعة يمكن أن توجد في الكون، وهذه السنّة نتيجة لكون سرعة الجسم كلما أخذت في الزيادة أخذت كتلتها تتقلص من اتجاه حركتها بنسبة رياضية ثابتة، حتى إذا ما قاربت سرعتها سرعة النور بلغ التقلص حداً لا متناهياً، لا يمكن أن يتقلص الجسم المتحرك بعده. فلو فرضنا جسماً يتحرك بسرعة معينة ولتكن (س)، فهذا الجسم حسب قانون التقلص يتقلص بمقدار ثابت مثل (ث) ومقدار هذا التقلص:
1
ث=ــــــــــ
1 - ن2س2
لا يمكن أن تتجاوز السرعة (س) فأي وقت سرعة النور (ن) لأن هذا القانون يتلاشى إلى حيث لا يكون له معنى
لنفرض كتلة مادية مثل (ك) مقدار الطاقة الحركة التي بها (ط ح)، وهذه الكتلة تتحرك بسرعة مثل (س)، فهذه الكتلة تقرر قواعد الميكانيكا الكلاسيكية أن طاقتها الحركية:
(ط ح) =21ك س2
غير أن مبادئ النسبية استناداً على قوانين المجال الالكترومغناطيسي، ونظرية (ماكسويل - لورانتز) تقرر أن
ك ن2(138/40)
ط ح=
__________
ن2 - س2
فمقدار حركة الكتلة الماديّة (ك) لا يمكن أن تتجاوز في سرعتها سرعة النور، حيث أن سرعة الكتلة الماديّة المرموزة لها بالرمز (س) تستنفذ في حركتها جزءاً من مقدار طاقة الحركة (ط ح) حتى إذا ما بلغت سرعة النور سرعتها تكون الطاقة قد استنفذت كلها
- 2 -
لو فرضنا قوتين: سرعة الأولى (س) وسرعة الثانية (س1) وأن هاتين النقطتين أثرتا على نقطة مادية في اتجاه واحد. فتكون سرعة هذه النقطة المادية محصلة هاتين السرعتين ولنرمز بالرمز (س2) فقانون الحركات الكلاسيكي يقرر أن
س2=س + س1 (معادلة 1)
وهذا القانون النيوتوني يتبدل عند اينشتيجا ويتشكل في صورة رياضية أخرى تقررها المعادلة:
س + س1
س2=ـــــــــــ (معادلة 2)
1 + ن2س + س1
وهذه الصيغة الجديدة نتيجة لمبدأ ثبات انتشار النور
فمثلا لو فرضنا نظاماً مادياً يبتعد عن الشمس بسرعة 13000 كيلومترا في الثانية، فشعاعه النور الصادرة من الشمس والتي تتحرك نحو هذا النظام بسرعة 00 , 000 ك م في الثانية تكون سرعتها بالنسبة لراصد في النظام المادي:
300. 000ك م + 13. 000 ك م=313. 000 ك م في الثانية حسب مبادئ الميكانيكا الكلاسيكية. أما قواعد النسبية فتقرر أن سرعة شعاع الضوء للمشاهد حسب قانون تركب السرع كما تقرره الميكانيكا الحديثة هي:
300. 000 + 13. 000
ـــــــــــــــــــ=300. 000 ك م في الثانية(138/41)
300. 000 13. 000
1 + ــــــــــــ
300. 000 2
وهذه النتيجة توضح لنا تماماً أن سرعة النور سرعة مطلقة لا تتغير
- 3 -
إن علم الحركات يرى في الزمان حداً رابعاً للمادة، ولكنه لا يخرج عن كونه ملاحظة رياضية، حيث أن الزمان مطلق ومستقل عن المكان، وقد كان أستاذنا هنري بوانكاريه الشهير يفرض أن الزمان بعد رابع موهوم للمادة ويستند في إثبات ذلك على الرياضيات الثابتة إلا ألبرت اينشتين ومينقوفسكي تمكنا من إثبات أن الزمان له شأن طبيعي كحد رابع للحوادث
إذا فرضنا وقوع حادثتين غير معينتين وكان الخط الواصل بين الحادثتين (خ) مثلاً. فانتقالنا من نظام إلى آخر لا شك سيؤثر في الخط الواصل بين الحادثتين وسيتأثر الخط بانتقالنا ويتغير (راجع مقال وحدة القوانين الطبيعية)
وإذا كان الزمان الفاصل بين أوان وقوع الحادثتين (ت) مثلا ورمزنا لسرعة الضوء بالرمز (ن) كان معنا المعادلة
ف2= (ن2ت2) - خ2 (معادلة 1)، وهذه المعادلة ثابتة لا تتغير حيث فيها (ف) رمز لفاصلة الزمان المطلقة، والحادثات
ك، ى، ن، ت؛ ك1، ى1، ن1، ت1 لو طبقت على قانون التحويل الذي وضعه لورانتز كانت النسبة بين مجموع حوادث الكونين ثابتة حيث أن:
ف2=ن2 (ت1 - ت) 2 - (ك1 - ك) 2 + (ى1 - ى) 2= (ن1 - ن) 2 (معادلة 2) فإذن ليس الزمان بذلك الموجود المستقل عن المكان بل أنه مندمج فيه، وليس الزمان والمكان بمطلقين بل هما نسبيين إلا أنهما يندمجان في الفاصلة الثابتة الرياضية (ف)
ليس للزمان ولا للمكان شأن طبيعي وإنما اندماجهما يولد معنا حقيقة واحدة. فالمكان امتداد للزمان، أعني أن فواصل حوادث العالم تندمج في (ف) 2 الثابتة الرياضية وتكوّن وحدة هوكون (الزمان - المكان)(138/42)
هذا الكون لا يتبع نسب وقياسات الحوادث، بل هو مطلق فلكل حادثة أو مجموعة من الحادثات مكانها وزمانها الخاص بها. أما كون (الزمان - المكان) فهو ذو حقيقة مطلقة غير تابعة لقواعد القياس. والمكان في حد ذاته ليس إلا مجموعة فواصل الحوادث، فواصلها الفراغية المتساوية أعني أنه قطاع للعالم في زمان خاص، أو بلغة أبسط هو العلاقة الانتشارية بين الحادثات واندماج المكان بالزمان في الثابتة الرياضية (ف)، توجد علاقة ثابتة بين الحوادث هي الفرق بين مربع الفاصلة الفراغية وحاصل ضرب سرعة النور بمربع الفاصلة الزمانية. هذه العلاقة تؤلف بين الحادثات وحدة ممتازة تحيل الكون عالماً مطلقاً هي منه الصفة المطلقة الوحيدة
- 4 -
لنفرض نظاما ماديا مثل (ظ) يتحرك حركة نسبيةند نظام مثل (ظ1) ولنفرض أن (خ) خط ثابت بالنسبة للنظام الثاني متحرك بالنسبة للأول بسرعة محدودة لترمز لها بالرمز (س) فطول هذا الخط بالنسبة لمشاهد في النظام الأول غيره بالنسبة لمشاهد في النظام الثاني
ولنفرض أن (خ) يمتد من النقطة (م) إلى النقطة (م1) فستبدو كل نقطة حادثة مستقلة عن الأخرى لكل من المشاهدين. وسيرى المشاهد الذي في النظام (ظ1) الحادثين متواقتين. أما المشاهد الذي في النظام (ظ) فان (خ) ستبدو له أطول مما تبدو للمشاهد الذي بالنظام (ظ1) كما وأن كل نقطة من نقطتي الابتداء والانتهاء ستبدوان له حادثتين مستقلتين عن بعض غير متواقتين
ولنفرض أن المحورين (ك م؛ ك1م1) منطبقين على بعضهما كل الانطباق وأنهما موازيين استقامة السرعة (س) للخط (خ) في كل من الكونين (ظ) و (ظ1) فإذا كانت المحاور
م ك، م ي، م ن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)
موازية للمحاور
م1ك1، م1 ى1، م1ن1. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (2)
في كل من النظامين (ظ) و (ظ1) كان:
ك1=ث (ك - س ت) معادلة رقم (1)(138/43)
ولابد من أن يكون:
ك1=ث كمعادلة رقم (2)
ليتحقق معنا تعادل المركز (م) مع الزمان (ث) ومن انطباق المركز على الزمان نستنتج أن
ك1
ك=ـــــ معادلة رقم (3)
ث
وهناتؤدي إلى أن
اس2
ــ=ـــ
ثن2
حيث أن ارمز لمعادلة التقلص
ولما كان المقدار العالي أصغر من (ا) كان ك1ك1
إن الخط (خ) بالنسبة للمشاهد الذي بالنظام (ظ1) أطول مما هو بالنسبة للنظام الأول. ومسألة تقلص الأطوال شيئاً فشيئاً كما تقرره ميكانيكية لورانتز ليست راجعة لتقلص الأجسام في اتجاه حركتها وإنما هي نتيجة لنسبية الأطوال. وليس هذا التقلص حقيقيا بل هو ظاهري حيث أن الواجب لا يمكنه ترتيب حدوث الحادثات كما تقع وإنما يرتبها حسب ما تتراءى له. وتقسيم الزمان والمكان تقسيماً مطابقا لموضوعها في صورة مستقلة عن بعضها لا يمكن إجراؤها في أي حال حيث أن سرعة اندفاع الجسم إذا بلغت سرعة انتشار النور أو ما قاربها بلغ التقلص أقصاه ولم يصبح للجسم عمق لدى النظر، لان الأجسام عندما تبلغ من السرعة هذا الحد تلوح كصفائح رقيقة
وحاصل القول أن الأطوال تابعة لحالات المشاهدين الطبيعية من الحركة والسكون
- 5 -
لنفرض ساعة في النظام (ظ). فهذه الساعة سيبدو إشعارها للزمان متأخراً بالنسبة لساعة النظام (ظ) فهذا التقلص في الزمان نتيجة العلاقة بين (ت، ت1) حيث أن:
خ ت=ث خ ت1 معادلة (1)(138/44)
ولما كان تقلص الأطوال نتيجة للقانون:
خ ك=ثخ ك1 معادلة (2)
فقليل من البحث والاستفاضة في الدرس يكشف عن تساوي كل من
خ ك خ ت=خ ك1 خ ت1
حيث أن
خ ك، خ ى، خ ن، خ ت=خ ك1، خ ى1، خ ن1، خ ت1معادلة رقم (4)
ونخرج من هذا التساوي بحجم الجسم في عالم ذي أبعاد أربعة أو طوله في ذلك العالم
(للبحث بقية)
إسماعيل احمد ادهم(138/45)
رسائل حاج
4 - من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التاريخ بجامعة بودابست
تتمة
وقف جلالة الملك ابن السعود فوق ذروة (جبل الرحمة) كرمز خالد لعبقرية الأمة العربية، يذرع الفضاء بعين نسر جبار، ويشرف على راحة الحجاج الضاربين بين خيامهم في السهول المجاورة. لكم كان منظره فاتناً خلاباً، والشمس تكنفه وتشرق عليه، بينما يلتف حوله الحرس الوهابي بملابسهم المزركشة وخناجرهم التي تلمع مقابضها في وهج الظهيرة.
وقبيل الغسق تحرك الركاب الملكي شطر (المزدلفة) فظهر في الجو غبار كثيف امتزج بصيحات الوهابيين الذين كانوا يهتفون (نحن أنصار التوحيد، اخوة من أطاع الله) وليس لأي كاتب مهما بلغت عبقريته أن يصف هذا المنظر وصفاً شافياً، ومن لي بالفصاحة والبيان لأصوره على حقيقته؟
وعند وصولنا إلى (منى) بلغ مسامعنا نبأ محاولة اغتيال الملك، فان ابن السعود ما كاد ينتهي من طوافه للمرة الثالثة حتى داهمه أربعة من اليمنيين وهم يصيحون بأعلى أصواتهم: الله اكبر! الله اكبر! محاولين أن يطعنوه بخناجرهم. فان لليمنيين مهارة وحذقاً خاصاً في استعمال الخناجر، لكنهم لم يصيبوا سوى ولي العهد وهو يهم بإنقاذ أبيه. ثم حمل الجنود على الجناة وحاولوا أن ينزعوا سلاحهم. ولما لم يفلحوا اضطروا إلى رميهم بالرصاص، وأريقت دماؤهم فوق ثرى هذه الأرض المقدسة. وكان الملك الذي طالما خاض غمار حروب ومعارك حتى لم يخل جسمه من شبر واحد من آثار الجروح، هادئا ساكنا فلم تبدُ على وجهه إمارات الجزع، بل قصد لساعته بئر زمزم فتوضأ، ثم عاد إلى إتمام طوافه بالكعبة
وكان للحادث أثره المؤلم في نفوس الحجاج، فاستنكروا بشاعة الاغتيال، وتوغل بعض(138/46)
القتلة في الصفوف فخشي أن يحدث فرارهم رعباً في القلوب. ولقد أحسن الملك صنعاً بعودته السريعة إلى منى ليزيل ما علق بنفوس الحجاج من الرعب، فانه ما كاد يستقر في سرادقه حتى هرعت إليه جموع الحجاج ووفود البلاد لتقدم تهنئتها بنجاته من يد الآثمين. هنا سنحت الفرصة لان أقف وجها لوجه مع العاهل العربي الذي يحكم بلاده بالعدل والشريعة، ويسودها العطف والمحبة؛ فقد كان ابن السعود يجلس في سرادقه تحيط به ثلة من الحرس النجدي، وهم من صفوة الرجال الأشداء، وكانت ملابسهم المزركشة تخطف بسناها الأبصار، يتوج رؤوسهم العقال البدوي، وتتدلى من تحته ضفائر الشعر الكثيف الأسود حتى تصل إلى صدورهم، بينما أقداح القهوة العربية وأكواب الليمون المثلج تطوف على الوفود بين حين وأخر. وعندما غشيت مجلس الملك كان الخطيب الماثل بين يديه قد انتهى من خطابته، فلما التقى طرف الملك بطرفي أومأ إلى أن أتقدم، فجمعت شجاعتي وأنا في نشوة روحية عميقة، ورفعت يدي إلى رأسي إجلالاً واحتراماً ثم تقدمت. . .
لقد قابلت في شبابي وأنا في استامبول، السلطان عبد الحميد، ورافقت السلطان محي الدين في إحدى سياحاته، وزرت السلطان رشادا، وتحدثت إلى كثير من الرؤوس المتوجة في أوربا، لكنني لم أشعر مطلقاً أني وقفت وجهاً لوجه أمام التاريخ ألا في تلك المقابلة، لاسيما عندما رفعت عيني إلى وجه ابن السعود، ولمحت في ثناياه دلائل الحزم والقوة والشفقة والحنان والمهابة والجلال. ولقد لاحظت أن بطرف عينه اليمنى حولاً، بينما العين الأخرى قوية سليمة، والمعروف عن الملك أنه شجاع مقدام، تضرب القبائل بشجاعته المثل، فعندما كان في الحادية عشرة من عمره، قاتل في إحدى المعارك خصما له فقضى عليه بضربة من حسامه: وهو رجل شديد الإيمان بالله، ولقد كان إيمانه من أقوى الأسباب في تأسيسه المملكة السعودية وإحياء مجد الجزيرة العربية
وما كدت أقف أمام الملك حتى خاطبته بصوت جهوري فيه كل معاني الإخلاص: السلام على أمير المؤمنين، أنني أحمد الله على نجاتك من يد ذلك القاتل الأثيم عدو الدين
ومدَّ إليّ ابن سعود يده وصافحتها ثم طلب إلى أن أزوره في قصره؛ وبعد أن شهدت حفلة الاستعراض العسكرية التي أقيمت (بوادي الشهداء) ورأيت ضروباً من الفروسية العربية، تلك الفروسية التي خلقت من الحب أدباً عالياً ومن المرأة صنماً معبوداً توجهت إلى القصر(138/47)
الملكي بناحية (المعلى) بالضواحي، وهو قصر عظيم شامخ البنيان، يشبه الحصون العسكرية، ويشتمل على عدد كبير من الغرف المتسعة الأرجاء والردهات والأبهاء ذات العمد
وجلست بقاعة الاستقبال، في انتظار التشرف بالمقابلة، فسرني أن التقيت بكثير من أعيان العرب، الذين يأتون للمثول بين يدي الملك بملابسهم الفخمة، فيحادثهم كإنسان يستشير اخوته، ويرسم معهم كل ما يتعلق بسياسة الدولة وتدبير وسائل الرفاهية والراحة للحجاج. ولقد راعتني البساطة التي ألفيتها متمثلة في الملك والشعب معا، فالرسميات المعقدة التي تتبع في بلاط ملوك أوربا لا وجود لها في هذا البلاط العميق الديموقراطية. والواقع أن ابن السعود هو عاهل الجزيرة العربية بلا منازع، ولم يؤل الملك إليه عن طريق الوراثة، بل آل إليه عن جدارة واستحقاق
وطفقت أستوعب الدقائق إلى أن يحل دوري فأتشرف بالمثول بين يدي الملك؛ وكنت من خلال فترة الانتظار جالساً في مكتب سعادة فؤاد بك حمزة وزير الخارجية، الذي ذكر لي أني أول حاج قدم إلى مكة من بلاد المجر؛ وما كاد يحل دوري حتى تقدمني فؤاد بك حمزة وغشينا مجلس الملك، وبعد أن صافحته أومأ إلى أن أجلس بجواره، وقدمت إلينا القهوة، فرأيته يرشفها بشغف ولذة. ثم بدأ الملك يتحدث إلي فقال: (لقد قدمت من نجد إلى بلاد الحجاز وجبت البلاد من الشرق إلى الغرب لزيارة بيت الله وتفقد حالة الحجاج. وغاية ما أرمى إليه أن أؤلف بين قلوب رجالي متوسلاً إلى الله أن يلهمني وإياهم الصواب في أعمالنا. لقد عنيت عناية خاصة بإقامة الشرائع المحمدية ونشرت الأمن والسلام في أنحاء الجزيرة العربية، وفي وسعك الآن أن تتجول في أقصى بقعة من بقاع الجزيرة دون خوف ولا وجل. وسترى عما قريب أنني سأعيد إلى هذه البلاد عظمتها القديمة حتى تصبح موئل الإسلام كما كانت أيام سيد المرسلين)
إن هذا العاهل العربي العظيم يلمس تماماً مواطن الضعف في كل ركن من أركان بلاده ويعمل على إصلاحه وتقويمه ما استطاع إليه سبيلا؛ فالسلام مع الرقى والتقدم هما الأمران اللذان يعني بهما عنايته بطعامه وشرابه، وإقامة حدود الله مع المحافظة على استقلال الجزيرة هما الغايتان اللتان يسترشد بهما في تأدية واجبه، وهو لعمري الطريق السوي(138/48)
الذي يجب أن يسير فيه. وملك هذه صفاته وأعماله جدير حقا بأن يخلد التاريخ ذكره في ثبت الوجود
وبعد أن انتهيت من زيارتي استأذنته في الانصراف فقام من مجلسه منتصباً وبسط إلي إحدى يديه الغليظتين وظل قابضاً على يدي برهة وهو يرمقني بعينه المتسعة، وكانت ملامحه تدعو إلى الهيبة والاحترام إلى حد ألفيت نفسي عاجزاً عن أن أرفع إليه بصري، ثم ما لبثت أن هويت بفمي على راحته ألثمها في إكبار وإجلال
ولما أزفت ساعة الرحيل ودعت أصدقائي من سادة العرب وكبار العلماء كالأستاذ محمد شطا شيخ قضاة مكة، ورئيس الشرطة، وبعض الأطباء النابهين، ووصلت إلى جدة حيث قضيت أياماً في ضيافة الشيخ محمد علي وهو رجل علامة يحذق لغات شتى، وقد تجول في أنحاء أوربا، ويعرف الشيء الكثير من عادات الشرق والغرب
أقلعت الباخرة فوقفت في مقدمها واجماً ساكناً تتناهبني شتى العواطف، وأنا أودع هذه الأراضي المقدسة التي ربما أراها للمرة الأخيرة. وكلما بعدت بنا الباخرة اغرورقت عيناي بالدموع، فقد خلفت في تلك الديار صداقة جديدة تكاد لعذوبتها تشبه الحب، وذكرى عزيزة هي ثمرة عقيدتي في الإسلام واليوم الآخر. فما اعظم الفرق بين مدنية أصدقائي العرب، إخواني في الله، الذين تشبع في قلوبهم فكرة الاتصال بالواحد القهار فيصدفون عن الماديات، وبين مدنية المغرورين الذين يتهالكون فرقاً وراء قضبان المادة وينقعون غلتهم في شهوة المال!
عبد الكريم جرمانوس(138/49)
مديرية أسوان
والحد الفاصل بين مصر والسودان
بقلم رشوان أحمد صادق
في الجغرافيا
أتحدث اليوم عن علاقة مصر بالأقاليم الجنوبية واهتمام المصريين بالحدود المصرية الجنوبية منذ بدء التاريخ إلى اليوم فأقول:
أول من أهتم بالجهات التي تتاخم حدود مصر الجنوبية هو الملك بيبي الأول ثاني ملوك الأسرة السادسة فأرسل القائد أونا إلى كروسكو ليجمع بعض أنواع الأخشاب فساعده قبائل تلك الجهات على أداء مهمته واعترفوا بسيطرة الملك بيبي عليهم. ثم أرسل الملك متوسوفيس (وهو الملك الثاني عشر من الملوك الأسرة السادسة) القائد هرخف لغزو بلاد بنت فعاد يحمل البخور والآبنوس والعاج والجلود حملها على ثلثمائة حمار وحمل معه قزماً من الدنقس أتى به من (بر الأظلال). فلما وصل مصر كان الملك متوسوفيس قد مات وخلفه أخوه الملك بيبي الثاني فسر بخبر القزم فكتب إلى هرخفف يأمر بإحضاره إلى منف، وهذا نص الكتاب: (واصحب معك في السفينة بعض الخفراء لحراسته كي لا يقع في الماء أو يفلت في الليل، لأني أسر برؤية القزم أكثر من جميع ما أحضرت من بلاد بنت)، فحفر هرخفف هذا الخطاب مع خبر غزوته على واجهة قبره في جزيرة الفنتين
وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أرسل (اوسرتسن) الأول ثاني ملوك هذه الأسرة القائد هونو إلى بلاد بنت بطريق قفط والقصير لجباية الجزية من أمراء تلك البلاد، فأدى مهمته ثم عاد. وقد جرد هذا الملك حملة بطريق النيل فامتدت حدود مصر الجنوبية حتى الشلال الثاني، وقد عثروا على حجر في هيكل جهة حلفا (نقل الآن إلى فلورنسا) وعليه صورة هذا الملك وبجانبه المشايخ الثمانية لرؤساء القبائل التي تغلب عليها؛ وفي عهد (اوسرتسن) الثالث خامس ملوك هذه الأسرة امتدت حدود مصر إلى شلال سمنه جنوباً، وتوجد آثار هيكل من بقايا أعمال ذلك العصر، كما وجد حجران جعلا الحد الجنوبي للبلاد المصرية مكتوباً على أحدهما ما معناه: (هذا حد مصر الجنوبي الذي عين في السنة الثامنة من حكم(138/50)
الملك أوسرتسن الثالث الخالد الذكر، فلا يجوز لأحد من السود أن يتعداه إلا في سفن تحمل البقر والماعز والحمير)، ووجد على الحجر الثاني ما معناه: أن الملك شيد هذا الحجر في السنة السادسة عشرة من حكمه وجعله حداً فاصلاً بين مصر وأثيوبيا، وله تمثال في تلك الجهة، وتوجد قلعة من آثاره في معتوق. وفي جزيرة ارقو توجد تماثيل وأطلال من آثار الأسرة الثالثة عشرة
وفي عهد الأسرة الخامسة عشرة التي أسسها العمالقة كانت مصر في حالة اضطراب، وهاجر كثير من المصريين إلى أثيوبيا وكونوا معاقل أهمها معقل ارقو، وحملوا معهم كثيراً من طرق الصناعة والفنون المصرية وأصبحوا دولة منظمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولم يتم الملك لأحمس الأول أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة إلا بمساعدة ملك أثيوبيا الذي زوجه من ابنته وساعده على طرد الهكسوس من مصر؛ ويظهر أن عاصمة بلاد الأثيوبيين هي مدينة نبته عند جبل البرقل بالقرب من مروى ويعرف بالهيروغليفية باسم الجبل المقدس، ودامت العلاقات الحسنة بين مصر وأثيوبيا إلى عهد تحتمس الأول ثالث ملوك الأسرة الثامنة عشرة إذ غزا الأثيوبيين وانتصر عليهم
وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة غزا رمسيس الثاني بلاد أثيوبيا وأقام هيكلاً في كلايشه تذكاراً لانتصاراته ويعرف الآن عند سكان كلايشه باسم بيت الولي. ورسم على الهيكل صورة رمسيس الثاني وهو يحارب في عربة، وعدة صور يتضح منه هزيمة الأعداء وتقديمهم القرابين له مثل الخواتم وأكياس الذهب وجلد الفهد وسن الفيل وبيض النعام. وجدد استخراج الذهب والزمرد من وادي العلاقي المعروفة قديماً باسم اكيتا وعلى هذا الطريق قلعة يظن أنها من أعمال رمسيس الثاني
ودامت سلطة مصر على أثيوبيا حتى الأسرة العشرين
بعد ذلك أنفصل أثيوبيا عن مصر، وذلك أن (سمنتوميامون) أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين نفى بعض الكهنة المصريين إلى أثيوبيا فخرجوا عن طاعته واستقلوا تحت إمرة أحدهم وبذلك رجعت حدود مصر إلى ما كانت عليه قبل الغزو
وفي آخر حكم الأسرة الثانية والعشرين هاجم الأثيوبيون مصر وأخذت حدود مصر الجنوبية تتراجع شمالاً حتى استولى الأثيوبيون أيام الأسرة الثالثة والعشرين على صعيد(138/51)
مصر. على أن بمنخي ملك أثيوبيا بعد أن استولى إلى مصر فوجئ بخروج البلاد عليه وتقاسمها الأعيان لمدة خمسة عشر عاماً إلى أن قام أحدهم ويدعى (ابسمانيك) واستعان بجنود يونانية واستولى على جميع الأراضي المصرية وطرد الأثيوبيين وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان. ولقد ذكر (هيرودوت) خبر فرار بعض الجنود المصرية في عهد ابسمانيك مؤسس الأسرة السادسة والعشرين فقال انهم ذهبوا إلى أثيوبيا واستوطنوا هناك وأطلق عليهم اسم (الأوتومولي) وعرفوا بهذا الاسم حتى القرن الأول للميلاد
وفي عهد البطالسة زحف ثامن ملوك هذه الأسرة على مملكة مروى وفتحها ثم سار جنوبا ففتح مدينة أكسوم، ودون خبر فتوحاته باللغة اليونانية على حجر من الرخام في ميناء (أدولس) المعروفة الآن بميناء (زولا) على عشرين ميلاً جنوبي (مصوع وهي ميناء أكسوم) ومع ذلك فقد عادت الحدود مرة أخرى إلى المحرقة في عهد سلفه
وبعد وفاة كليوباترا آل حكم مصر إلى الرومان. وأول من تولى مصر من الرومان هو كرنيوليوس جالسن وقد ظهر من بعض النقوش على بعض الآثار أن الملك (نويا كوتاس خوانوس)، ويظن أنه ملك نوبه، أرسل رسلاً في أيام هذا الحاكم إلى فيلة ودخل في حامية الرومان. وحاولت أثيوبيا غزو مصر في عهد ملكتها (كنداكه) حينما كان الرومان مشتغلين بغزو بلاد العرب ولكنها لم تفلح. وفي عهد (نيرون) أرسل حملة للكشف عن منابع النيل فوصلت إلى إقليم كثير المستنقعات ربما كان إقليم السدود الحالي، وكانت المحرقة آخر حدود مصر أيام الرومان كما كانت أيام اليونان، فرأى الإمبراطور (دبوقلشيان) أن خراج البلاد التي بين المحرقة وأسوان لا يفي بنفقات الجند اللازمة لجمعه فلا فائدة من الاحتفاظ بهذه البلاد فاقطعها للنوبة وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان وقوى حامية الفنتين
وفي عهد الحكم العربي غزا المسلمون النوبة. قال ابن الأثير (فغزا المسلمون النوبة فرجعوا بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم فسموهم رماة الحدق) وفي سنة 21 هـ بث عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عشرين ألفاً إلى النوبة فمكث بها مدة ثم صالحهم وقرر عليهم الجزية ثم، استدعاه عمرو إلى مصر ثانية؛ وبعد موت عمر بن الخطاب رضى الله عنه تولى عثمان بن عفان فعزل عمرو بن العاص وولى عبد الله مكانه، وكان أهل النوبة نقضوا الصلح ووصلوا إلى الصعيد فردهم وغزاهم مرة ثانية(138/52)
وصالحهم على أن يدفعوا 360 رأساً من الرقيق سنوياً على إن يرسل عبد الله إليهم بعض الحبوب. ويقول المسعودي (ولمن بأسوان من المسلمين ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدون خراجها إلى ملك النوبة وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدد الأمان في دولة بني أمية وبني العباس، وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم بوفد أوفدهم إلى الفسطاط ذكروا عنه إن أناساً من أهل مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وإنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه الضياع تملك العبيد العاملين فيها. فرد المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ومن بها من أهل العلم والشيوخ
وعلم من أبتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم، فاحتالوا على ملك النوبة بأن تقدموا إلى من ابتيعت منهم من أهل النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم لا يقروا لملوكهم بالعبودية، وأن يقولوا سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم، يجب علينا طاعته وترك مخالفته، فان كنتم أنتم عبيداً لملوككم وأموالكم له فنحن كذلك. ولما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه مما وقفوا عليه من هذا المعنى، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت، وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس المجاورة لأسوان. وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين: نوعاً من وصفنا أحراراً غير عبيد، والنوع الأخر من أهل مملكته عبيد هم من سكن النوبة في غير بلاد مريس). من ذلك يتبين أن الحدود الجنوبية لمصر لم تكن محددة تماماً أيام العرب، إذ أن بعض المصريين كان يملك أراضي داخل حدود النوبة. ويقول المقريزي انه في سنة 870 م وذهب أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمري إلى محاربة النوبة ورجع غانماً. ويفهم من كلام المقريزي أنه في سنة 956 م أغار ملك النوبة على أسوان وقتل جمعا من المسلمين فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل (أنوجور بن الإخشيد) سنة 957 م براً وبحراً وأسروا بعض النوبيين الذين ضربت أعناقهم بعد ما أوقع بملك النوبة، وسار الخازن حتى فتح مدينة أبريم، وقدم إلى مصر سنة 345 هـ بمائة وخمسين أسيرا. وقال أبن الأثير (في سنة 1173 م سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى(138/53)
النوبة فوصل إلى أول بلدهم. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر، فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فإن قووا على منعه أقاموا بمصر وإن عجزوا عن منعه ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها. فجهز شمس الدين وسار إلى أسوان ومنها إلى بلاد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم فسلمت، فأقام بها ولم ير للبلاد دخلا يرغب فيه، فتركها وعاد إلى مصر بما غنم من العبيد والجواري). وقال المقريزي عن توران شاه هذا ما يأتي: (وأعطاه صلاح قوص وأسوان وعيذاب، وجعلها له إقطاعا، فكانت عيرتها في تلك السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار، ثم خرج لغزو النوبة سنة 1174 م وفتح قلعة ابريم). واستمر غزو المماليك لبلاد النوبة مثل الظاهر بيبرس وقلاوون وغيرهم. ويقول ابن خلدون إن قلاوون عندما غزا النوبة أرسل السفن بالبحر. ويقول ابن خلدون (ثم انتشر أحياء العرب من جهينة في بلاد النوبة واستوطنوها وملكوها أيام الناصر بن قلاوون وملئوها عيثاً وفساداً، وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا، ثم صاروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم، لان أمهاتهم من بنات ملوك النوبة على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم، وليس في طريقة استيلائهم شيء من السياسة الملوكية للأمة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد). إلى أواخر القرن الثامن الهجري. وبقوا كذلك شيعاً على كل شيعة منهم رئيس أو ملك إلى أن قام الفنج في سناد سنة 1505 م إلى الشلال الثالث ثم كان الفتح العثماني لمصر بيد السلطان سليم سنة 1520 فأرسل جيشاً إلى النوبة فملكوها من أسوان إلى الشلال الثالث وعرفوا (بالغز) وعرف حكامهم (بالكشاف) وهكذا انقسمت بلاد النوبة بين ملوك الفنج والكشاف إلى أن كان الفتح المصري للسودان سنة 1820م أي سنة 1236 هـ فخضعت لمصر
وفي عهد محمد علي امتدت حدود مصر جنوباً بعد فتحه للسودان وكانت تدخل أسوان في مديرية أسنا، ثم أحدث تعديلاً بأن ضم مديرية أسنا إلى مديرية قنا وصارتا واحدة، ثم انفصلتا بعد ذلك وامتدت الحدود المصرية إلى أعالي النيل أيام خلف محمد علي خصوصاً(138/54)
في عهد إسماعيل. واستمرت مديرية أسنا حتى سنة 1887 وكان مركزها أسنا. ولما ازدادت الثورة المهدية في السودان وكادت تمتد إلى الحدود رأت الحكومة تحصين الحدود المصرية بقوة عسكرية وجعلت البلاد هناك تحت الأحكام العسكرية فصدر قرار مجلس الوزراء في 26 أبريل سنة 1888 بقسم مديرية أسنا إلى قسمين: الأول يشمل الجهات التي بين وادي حلفا وجبل السلسلة تتكون منه مديرية الحدود ومركزها أسوان. وأما الأقاليم شمالي جبل السلسلة فتضم إلى مديرية قنا وعلى ذلك ألغيت مديرية أسنا وتكونت مديرية الحدود من مراكز ادفو وأسوان وكرسكو (الآن الدر وحلفا) وضمت بقية البلاد إلى قنا واستمرت مديرية أسوان باسم مديرية الحدود إلى أوائل سنة 1899 حينما تحددت الحدود بين مصر والسودان، وذلك أنه لما أعيد إخضاع السودان عمل اتفاق بين مصر وبريطانيا في 19 يناير 1899 بأن يصبح السودان حكومة مصرية إنجليزية واصبح خط العرض 22 شمالاً هو الحد الفاصل بين مصر والسودان وبناء على ذلك دخلت عشرة بلاد من قرى مصر العليا في حكومة السودان وهي: سرة شرق. فرس. جزيرة فرس. دبيرة. شرة عزب. اشكيت. ارقين. ادغيم. عنقش. دبروسة (وتعرف ألان بالتوفيقية) وبعد هذا التغيير أطلق على مديرية الحدود اسم مديرية أسوان ابتداء من سنة 1899.
رشوان احمد صادق(138/55)
الخريف
مهداة إلى رفيقي الأستاذ حلمي اللحام
لشاعر الشباب العربي أنور العطار
أَسِىَ القَلْب ' فاسْتَرَاحَ إلى الصم ... تِ وَللصَّمْتِ عَاَلمٌ مَسْحورُ
تتَرامَى بهِ الشجُونُ فَيَعْيَا ... ليسَ شكو الضنى وَليس يثورُ
هَيْكَلٌ مُتْعَبٌ تَكادُ من السُّق ... مِ تَدَاعى أرْكانُهُ وَتَخُورُ
مُوِحشٌ كالخريفِ تَطْفوُ عَلَيْه ... صُوَرٌ جَهْمَةٌ وَخَطَبٌ نكِيرُ
كلُّ شَيْءًّ أَرَاهُ يَذوِي وَيَفْنى ... ثمَّ يمشِي على حِماهُ الدُّثوُرُ
مَلْعَبٌ للحياةِ يَطْفَحُ بالسُّخْ ... رِ ويَشقْى بِسَاحِه اَلمغْرُورُ
أَينَ زَهْوُ الِّريَاض في مُتع العي ... شِ وَأَينَ الهَوَى وَأَينَ السُّرُورُ
رَقدَتْ في الُغُيوب قُمرية الدَّوْ ... حِ وَطَاحَ الهَزَارُ وَالشحُّرْورُ
فَجنَاحٌ على السُّفوحِ هَشيمٌ ... وَجَناحٌ على الوهَادِ كسيرُ
وَتجَافى السنا عن الأُّفقِ الُحل ... و َوَغشَّى رَفيقهُ الَّديجورُ
وَتوَلَّت بشائِرُ الأُّنسِ عَنهُ ... وَاسْتفَاضَ الأَسى وَصاحَ النذَّيرُ
لمْ تَعُدَ تكْرَعُ الندى شَفَةُ الزَّ ... هرِ وَلم تُسكِر النسِيمَ العُطورُ
وَانْطوَت منْ مَبَاهجِ الرُّوحِ دُنيا ... كُلُّها نَائِلٌ وُجُودُ وَخيرُ
هَمَدَ اَلحقلُ فالعِشاشُ خَراَبٌ ... هَجَرتْها على الَّليالِي الطُّيورُ
فَعَلى ضَاحِكِ الُمُروجِ اكتئَابٌ ... وَعَلَى بَاسمِ الدَّغَالِ فُتورُ
وَإذَا الغيمُ في الفَضَاءِ رُكامٌ ... وَإذَا النَهرُ مُغدرٌ مَحروُرُ
وَالعَصافِيرُ ُنوَّمٌ ليس تصحُو ... وَالَفرَاشاتُ جُثَّمٌ لاَ تَطيرُ
وَرَقٌ مائَتٌ تَهاَوى عَلَى السَّه ... لِ وَغنَّتْ بهِ الصَّبَا وَالدَّبورُ
مَلأَ الوَهدَ وَالمَسَاربَ وَالسُّو ... حَ اغِتمامًا بسَاطُهُ الَمنشُورُ
غَمَرَ الَمشعْبَ الَبعيدَ وَغَطى ال ... واديَ السَّمحَ عصْفُه المَنثُورُ
خَشخَشتْ في الرحابِ أوراقُهُ الغُب ... رُ وَللرَّيحِ بَينَهَّنَ صَريرُ
صُفرةٌ تُوقظُ النؤوم من الشَّج ... وِ وَرَمزٌ إلى الزوَالِ يُشيرُ(138/56)
تَعصِفُ الصَّرصُر العتيَّةُ بالغَا ... ب فَيهوِى الدَّوحُ الأغَنُّ الشجَّيرُ
وَتضيعُ الألحان في هبَّة الَوي ... لِ وَيرغو الأذى وَتَطغَى الشرورُ
ليسَ َيقرِى الأسماع إلا عويل ... وصراخٌ وأنة وَزفيرُ
تَمَّحى فرحةُ الطبيعةِ في الأر ... ضِ وَيُطوَى حُلْمُ الحياة النظيرُ
وَتُعَفى أرائَكُ الحبَّ وَالِعط ... رِ وَيَبلى الروْضُ الندِىُّ الخضيرُ
تطفحُ السُحبُ في عَناَنِ السموا ... تِ وَيخبو منها السراجُ المنيرُ
وَيَعجُّ الفضاء بالزبَّد المن ... دوفِ والأُفقُ كالخِظمَّ يفورُ
وَتغيبُ الأنوارُ إلاَّ شُعاعاً ... يختفي تارةً وأُخرى يَنُور
تَتعزَّى بهِ النفوسُ الوجيعا ... تُ وَيحيا بدِفئهِ المقرورُ
أيَظلُّ الصَّرَّارُ يَرتَعُ في الحق ... لِ وَينأى عن عُشِّه العصفورُ
تِلكَ أُحجَّيةُ الوجودِ تَناَهى ال ... فهمُ عنْها وَاستغلقَ التفسيرُ
يا حبيبي أراكَ من حُجُب الغي ... بِ فيزهُو الكونُ السليبُ الحسيرُ
وَيغوصُ الظلامُ في نهرِ الفج ... رِ وَيبهى الصبحُ الأنيقُ الطَّريرُ
يُنشدُ السفحُ وَالتلالُ تُغني ... حيثٌ لا مطربٌ وَلا مزمور
تُمرعُ الأرضُ بالنباتِ وَتهت ... زُّ منَ الدفءِ وَالحياةِ الجذور
وَتذوبُ الأنداءُ في اكؤسِ الزه ... رِ وَيُحيى الثرى وَالشرابُ الطهور
وَيطيبُ الهوى وَيحلو التَّساقي ... وَمنَ الحبِ روضةٌ وَغدير
أيها الهاجري أطلت التنائِي ... وَتعايا من صدِّكَ المهجور
سِهدَت مُقلتي وَناَجاك قلبي ... وَهفا خاطري وَحن الضمير
عشتُ من طولِ حسرتي بالتمنَّي ... وَقليلٌ من التمني الكثير
تتراءى لناظِري فأنادي ... كَ كأني مُخَبّل ممرور
أنتَ ريحانتي وأنتَ أحادي ... ثي وأنت المُنى وأنت السمير
يا نصيري إذا أظلَّني اله ... مُّ ألوى بي الشقاءُ المرير
طُف بُروحي كما تطوفُ الشُّعاعا ... تُ وَيسري ضياؤُّها وَينير
ودعِ الحبَ يزدهر في خيالي ... وَتهدهد به العصورَ العصور(138/57)
غفَلت عنَى المنونُ فغني ... تُ وَلحنُ الحياةِ قصير
أتعامى عن الفناءِ وَحولي ... محنٌ ليس تنقضي وَثُبور
ألمي صارخٌ وَجرحي ضرىٌ ... وَالهوى يائسٌ وَجَدِّمي عثورُ
وَبنَفسي قيثارةٌ تتشكى ... وأنا الدمعُ وَالأسى وَالشعور
أتسلَّى عن الضَّنى بلُحون ... هي روحُ الحياةِ وَالإكسير
الشَّجا المُّر في حِماها شفاءٌ ... وَالدجى الشاملُ المروَّعُ نور
خاطِري من نشيِدها مستثارٌ ... وَفمي من سُلافِها مخمور
عالَمي مهبطُ الرُّؤى وَمِهادي ... ذهبُ خالصُ وَتبرٌ نثير
وَفضائي مُوشُّحٌ بالغوادي ... وَهِضابي ندًى وَجوِّي مَطير
وَسمواتَي الفسيحاتُ تابو ... تٌ عليهِ من الغيوم سُتُور
أُفُقٌ شاحبٌ تَدثَّر بالُّسحبِ وأغيا في الضبابُ الغمير
لا السَّنا ضاحكٌ بابهَائه السح ... م وَلا النور في مَداَه يمور
فمن الحزنِ وَالجهامةِ قبرٌ ... وَمن الهمِ وَالكابةِ سور
وَتعرى المساءُ من القِ السح ... رِ فلا روعةٌ وَلا تَصوير
التعاشِيبُ أَعُينٌ جامداتٌ ... هي من طولِ ما ُتحدِّقُ صور
أطفأ العاصفُ الُملحُ سَناَهَا ... وَغَزَاهَا الصقيعُ وَالزمهرير
هاهنَا للجمالِ عرسٌ تَقَضَّى ... مِلءُ أعطافهِ شذاً وعبير
هاهنا كان للجداولِ الحا ... ن لِطافٌ وَللنسيم سَرير
هاهنا حَنَّت العَشَّيات للضِّح ... ك وَبشَّ الضُّحى وَهشَّ البكور
لا الروابي تفيضُ بالعبق الطُّه ... ر وَلا يطربُ الحقولَ الخرير
هَدأَت من جَوى الغرام قلوبٌ ... وَاستراحت من الهَديل ثغُور
وَحشة ما تكادُ تحمله النف ... سُ وَشجوٌ تضيقُ عنه الصدور
أراد الُمَزَّوقُ الُحلمَ داجٍ ... وَحِمَى الأنس مُجفلٌ مَذعُور
أَينَ وادٍ رفَّت عليه البشاشا ... ت وَرَنت أَعشاشه وَالوكور
ماج فيه الهَوى فعاشت حوافي ... هـ وَضجت من الحياةِ الصخور(138/58)
أَينَ لا أَينَ عالم مستطابٌ ... عاث فيه ركبُ الفناءِ المغير
فأَّمحى كالظِّلالِ تنتهبُ الأر ... ضَ وَيخفى انطواؤها المصير
أنور العطار(138/59)
بين ماض وحاضر
أنشودة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
عهدي بالعيش على رَغَد ... عذباً كالماء حساه صَدى
نغم والدهر يُوَقِّعُه ... يسرى كالنشوة في الجسد
يا ليت الهر كمن يشدو ... بأغانٍ أن يُطربْ َيزِد
إن قلتُ أعد نُعمًى عادت ... كترنم ذي النغم الغرد
حسنات كنت بها ثملاً ... ذهبت في الدهر فلم تَعُد
آمال كنت بها شغِفاً ... نظر الولهان إلى الخُرُد
أحلام كنت بها جذلاً ... قد شح النوم وَلم تجُد
وَشباب ذقت به خلداً ... في طرفة عين من أبد
لو دام دوام الخلد لما ... نقع الظمآن من الصَّفد
لو عاد بذلت له ذخري ... من مُطرفي أوَ مُتلَّدي
بشعاع من أعيش مدى ... دفءٌ للشمس على بُعُد
آب التذكارُ له شبحاً ... أو قبراً شِيدَ لِمُفتَقَد
ما خلَّفَ لي دهرٌ ثقة ... بمآل فيه أو أحد
يا نبع الماضي لو عاد ال ... وُرَّادُ إليك على جَدد
لرجعت إليك رجوع صَدٍ ... لم ينهل قبل وَلم يَرد
وَغدا ماذا يا دهر ترى ... قد قُدِّر لي بضمير غد
عبد الرحمن شكري(138/60)
صورة. . .
(من صور دمشق في هذه الأيام)
بقلم السيد احمد عبيد
ما أروَعَ القَومَ إذ ضَنُّوا بِعزَّتِهِم ... فسَالتِ الشامُ فِتياناً وَوِلدانا
تدفَّقوا كأَتيِّ السيلِ مُقتَحِماً ... لظى جَحيمٍ تُذيقُ الموتَ ألوانا
فلا الأتيُّ بمُخْبٍ من توقدِها ... وَلا الجحيمُ تَصُدُّ السيلَ إن دانى
إذا التَقَوا وَالعِدى في وَقْعةٍ فُهما ال ... بُركانُ يقذِفُ (نيراناً) وَ (صوَّاناَ)(138/61)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
31 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
تعليق المؤلف على فلسفة نيتشة
للأستاذ خليل الهنداوي
يتمتع نيتشه بما لا يتمتع به فيلسوف أخر، لان تفكيره قد تناول بالبحث أرباب الفلسفة وغير أربابها. وقد طغت (النيتشية) في الأعوام الأخيرة أي طغيان، فأما المعجبون به فهم يرون فيه المفكر الفرد الصارم العميق في جرمانيا الحديثة، له منزلة (دارون) في الأخلاق. وأما خصماؤه فهم لا يرون فيه إلا ولداً مريضاً، له خطره ومبدؤه الفاسد. وبينهما يقف الشعب حائراً، تراه من ناحية معجباً بآثار هذا الجبار ومظاهر تفكيره الغريب، ومحترساً من ناحية ثانية من مفكر ناقم على الأخلاق والتقاليد؛ والآن سنعمل على تبيان الأسس الرئيسية التي ترتكز عليها فلسفة نيتشه، والأهمية التي تنشأ عنها.
هدم النقاد فلسفة نيتشه من وجهين: في الوجهة الأولى أبدوا أخطاءها العملية. وفي الوجهة الثانية بينوا خطرها على الأخلاق
إن نيتشه في الطور الثاني من حياته لم يكن يكتسب شيئاً ولم يكن في استطاعته أن يكون عالماً؛ ولقد علمت رداءة صحته التي تحول بينه وبين مواصلة جهوده في البحث. فهو قد بدأ حياته العلمية بدراسة اللغات، ثم لم يلبث أن غادر هذا الميدان إلى غيره؛ وهو لم يكن في سائر العلوم إلا هاوياً، لا يسعى وراء ترقية هذا الفرع وذلك الفرع في العلوم، ولكنه يريد من وراء ذلك أن يبدع مسائل جديدة، أو يكسو المسائل القديمة ثياباً جديدة! فهو لا يؤثر في العلم نفسه ولكن في روح العالم. فان اشتقاقاته التي استنبطها في دراساته للغات القديمة لم تكن لتلائم الحقيقة، ولكن ذلك لم يكن ليحفل به، فهو يبغي أن يظهر طرق درس المسائل الاجتماعية بواسطة الدراسة اللغوية، فالقيمة الجوهرية لملحوظاته الخاصة هي شيء ثانوي عنده، سواء عنده حياتها ومماتها، فهو يكفيه فضلاً أن ينفخ في نفوس هؤلاء الدارسين روحاً جديدة ويفتح لهم آفاقاً جديدة.
ولذلك نراه في آخر أدواره جد قلق، يسعى بواسطة الدراسات اللغوية إلى أن يستكشف(138/62)
الحياة الاجتماعية، وحضارة ما قبل التاريخ مستعيناً بدرسه ومقارنته بين اللغات
وإذا شئنا أن نوضح بعض خطيئات نيتشه فلا ننس أن آثاره كلها (ذاتية) والحقيقة - غير الذاتية - يراها نيتشة ضرباً من ضروب العاطفة الدينية؛ وإننا لنطلب إلى العالم ألا يحترم إلا الحقيقة، وأن يكون في بحثه عنها خالياً من الأهواء متجرداً عن شخصيته - على قدر الإمكان - وإننا لنعلم أن التجرد عن الذاتية في البحث عن الحقيقة هو خديعة، ونعتقد أن ليس في مقدور أحد أن يتجرد عن شخصيته وينظر إلى الأشياء نظرة خالصة لا تجتلي إلا الأشياء؛ وبهذا ليست كل حقيقة ذاتية قبل كل شيء: وجوهر الموضوع - في البحث العلمي - لا يقف عند ما اغترفه الكاتب من حقيقة، ولكنه يقف على مقدار ما أودع في هذه الحقيقة من ذاته. ونحن على رغم هذا أرانا نؤمن بالحقيقة المجردة، الحقيقة البارزة بحقيقتها خارج إدراكنا وحواسنا، وأرانا نؤمن بالمؤلف ويزيد احترامنا له كلما دنت أفكاره مما ندعوه (الحقيقة المتجردة من الذاتية)
لنا الحرية في أن نزن آثار نيتشه بهذا الميزان، ولكن نيتشه كان قبل كل شيء يفتش عن نفسه ويسعى وراء معرة نفسه؛ ولقد كان اهتمامه ضعيفاً في الاطلاع على الأشياء بحقائقها، وإنما وقف اهتمامه كله وجهوده على ما يمثل شخصيته، فخلق من الأشياء خرافات كاذبة، وقد علم أنه بما وصف نفسه حين كتب عن (شوبنهاور وفاجنر) أنه حول الحقيقة إلى خرافات جذابة غريبة، ولأن تكون مظاهر لشخصية نيتشه أجمل وأحرى من أن تكون مظاهر تمثل حقيقة الوجود الخارجي، وبهذا يصبح عبثاً سعينا وراء الحقائق التي عالجها نيتشه والعمل على توفيق بينها وبين الواقع
وهنالك تأثير معاصريه فيه - سواء أحس هو هذا التأثير أم لم يحسه - وفكرته التي جاء بها - إذ جردت من أثوابه الخاصة - تبدو فكرة قديمة ليست بابنة ذاته. فكل الآراء التي عالجها، من قوله بالذاتية وعبادة النفس والثورة على قانون المساواة وعبادة الإنسانية قد سبقه إلى معالجتها أحد معاصريه كما سبق (فلويير) و (رنان) إلى الكتابة عن المذهب الأرستقراطي. وقد وجد نيتشه في الكاتب (أوجين دوهرنك) عضداً له في محاربة التشاؤم. واتحد مع (هارتمان) في النفور من الاجتماعيين والفوضويين، واتفق معه في القول باستحالة المساواة بين الناس، فقالا بفضيلة الحرب المدنية، واتفقا على جعل الشفقة مادة(138/63)
غير صالحة للفضيلة. وكذلك نرى مذهب الرجعة الدائمة يتجلى في كتاب (لبلانكى)! وفي كتاب الدكتور (لوبون: الرجل والمجتمعات). ولكنا - وإن قارنا بين نيتشه وبين هؤلاء المعاصرين - فان هنالك تبايناً شاسعاً مهما كانت الأفكار متقاربة متآلفة. وعلة هذا التباين شخصية نيتشه. ولقد نراه في بعض خطرات يتحامل على هؤلاء الأحلاف، فمقت من (رينان) روحه الكاهنة، ونعت (هارتمان) بالمشعوذ. وليس نفوره هذا وليد حقد أو حسد، وإنما هو وليد طبيعة تختلف جد الاختلاف عن طبائع خصومه. هذه الطبيعة التي تؤمن بأن الشخصية في الفيلسوف هي أكبر قيمة وأجل خطراً من آثار الفيلسوف
على أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى إنكار فضيلة كل حقيقة غير ذاتية إكراما لقوة الشخصية عند نيتشه، وإذ ذاك يعم الجور والخطأ في الحكم. وأنني لمعتقد بان المؤرخ والفيلسوف يستطيعان أن يجدا عند نيتشه حقائق جميلة بذاتها. وهنالك آراؤه في (فاجنير) يراها المؤرخ جديرة بالاعتبار لأنها تبدى قيمة الفنان العظيم. وهنالك آراء لنيتشه يجدر بها أن تكون محل مناقشة ومجادلة، على أنني أقول أن عبقرية نيتشه لا تستقر إلا في (الذاتية)
الآن أراني أستشهد بكلمة (لبراندس) قالها في موضع التحدث عن فيلسوفنا حينما قارن بينه وبين خصومه فلاسفة الإنجليز. (قال: وحين نقبل عليه. . . (نيتشه) بعد مغادرتنا لفلاسفة الإنجليز نرى عالماً جديداً حولنا. فالإنجليز هم عقول متشابهة في الصبر والجلد، غرضهم أن يتقنوا الشيء جزءاً جزءاً ثم يجمعوا هذه الأجزاء الصغيرة المتفرقة ليؤلفوا منها شريعة وقانوناً؛ يعملون غير متأثرين بذاتهم؛ وقيمة فلسفتهم تتوقف على ما يعملون لا على ما ترقى إليه ذاتهم؛ أما نيتشه فهو على نقيض هذا المذهب، هو مثل شوبنهاور متنبئ فنان، تستهويك شخصيته قبل أن تستهويك آثاره.) وإذ شئنا إبداء قيمة آثاره فليس لنا أن نتلوها تلاوة كتاب علمي لا تتوقف روعته على روح صاحبه. نتلوها لنرى الروعة فيما بث هذا الرجل من معارف قديمة بسطها وجديدة وضعها
يرى نيتشه في معرض كلامه عن شوبنهاور (أن مذهب المفكر لا شأن له، فكل فيلسوف ممكن انخداعه. أن ذلك الشيء الذي هو أجل من مذهبه - هو نفسه - في كل فيلسوف شيء لا تجده في فلسفته. علة كل الفلسفات والمذاهب هي الإنسان، الإنسان العظيم(138/64)
(التتمة في العدد القادم)
خليل هنداوي
القصص
مأساة من أسخيلوس(138/65)
3 - أجاممنون
للأستاذ دريني خشبة
تتمة
- (باريس! لقد خربت زيجتك وبيتك. . . أجل. . . أنت وأختك. . . أوه يا نهر سكمندر المصطخب! لقد جرع أبي منك جرعة، وعلى ضفافك شببت وترعرعت، فيا لشقوتي! أما ألان. . . فإن نبوءاتي تتواثب على شطئان كوكيتوس واشيرون. . .)
- (أو ضحى بحق أربابك عليك أيتها الفتاة! إن آلامك تثب في صدري فتخز أشواكها حبة قلبي. . .)
- (طراودة!! أهكذا سقطت إلى الأبد!! أهكذا تندلع النيران في أبراجك الشواهق! أهكذا ينبطح أبي الملك الشيخ مضرجاً بدمه؟. . . ويلاه. . . بعد لحظات أغرق في لجة من دمي مثلك يا أبي. . .)
- (عود إلى النغمة الملغوزة السالفة!! ما أحسب إلا أن ألهاً قاسياً يدريك بعنف في هذه الحمأة المسنونة!!)
- (نغمة ملغوزة!! لا! لن ألغز يا رفاق! سأجد لكم السر الهائل الذي خبأته الجريمة السنين الطوال في هذا القصر! هنا! تآمر الآثمون في الظلام. . . وكان الظمأ إلى الدم يشد عزائمهم جميعاً! كانوا يدلفون إلى كهفهم فيتغنون آلامهم ويستنزلون اللعنة على. . . خصمهم. . . وهو منهم، وهم مع ذاك منه. . . أخوهم. . . وهم أخوته وأقاربه. . . قتلوه. . . قتلوه وهو مستسلم للكرى الهادئ. . . أليس كذلك يا سادة؟ أهذه ثرثرة، أم أنا أهذي؟. . .)
- (بل أنت قد صورت ما حدث منذ أعوام وأعوام كأنك ترين إليه الآن. . .)
- (هذا من فضل أبوللو عليّ! لقد أمدني بروح من عنده)
- (ولمه؟ هل شغفه حبك مرة؟)
- (. . .؟. . . . . .؟. . . لا أقدر أن أقول؟. . .)
- (ما كان ضرك لو تلطفت معه. . . . . .!)
- (إيه. . . كم كان رقيقاً حينما كان يصارع فؤادي؟)(138/66)
- (وهل في وسعك أن تضعي حداً لمغامراته؟)
- (لقد وعدته. . . ولكنه خان ميثاقي!. . . أواه! وا أسفاه! تعالي! لقد ثارت الزوبعة من جديد! لا أطيق أن أكتم الحقيقة! انظروا يا رفاق! أول الشجو! ما هذه السمادير التي تغشى سماءكم؟ يا لأفلاذ الأكباد! يا للصغار! إنهم يذبحون بنفس الأيدي التي كان أجدر لو ترفقت بهم وحنت عليهم!. . . يا للهول!. . . أبوهم يمد يده البريئة فيأكل شرائح مشوية من أكبادهم وضلوعهم!. . . إن لهذا قد دبر انتقام دموي هائل. . . وهاهو ذا الأسد! الأسد الجبان النذل، الذي تقلب في سرير صاحب الجلالة - بحر اللذة والدنس!. . . إذ صاحبه نازح يغزو!. . . لا ضير أن يكون أحد أسيراً مرة، ولكن هذا الفاتح العظيم! غازي طروادة! سيد الأسطول اللجب! إنه لا يدري السر الهائل الذي تقبره زوجته. . . السفاحة. . . التي تتحوى كالأفعى، وتهسهِس في الظلام المنتشر حول نفسها، وتوسوس إلى شركائها بأفسق الجرائم. . . لقد فاقت في الحب كل مثل فما أدرى بم أشبهها؟ آه! إنها أشنع من سكيلا (هذه الهولة الرائعة، ذات الرؤوس الستة التي تنفث السم، وتغتال رواد البحار!. . .) الآن! الآن ينفذ سهم القضاء عن قوس غدرها. . . والآن! ستعترفون أنني ما ألغزت، وما قلت غير الحق!. . .
- (الحق كل الحق يا فتاة. . . لقد رويت ما كان من وليمة ذيسيس، وما تم فيها من نهشه لحم أطفاله وهو لا يدري. . . يا للهول. . . ما نزال نقشعر كلما روعنا رجع تلك الذكريات. . .)
- (إذن سيموت مولاكم أجاممنون. . . وسترون بأعينكم!)
- (يا شقية! لا تهرفي بهذا الهراء!)
- (ولن أدعو أرباب الخلاص هذه المرة!)
- (وهل خلاص من الموت؟ ولكن عسى ألا يكون قريباً!)
- (أنتم ترجون، بينا غيركم يذبحون. . . أو يكادون!)
- (وأيما إنسان يا ترى يضطلع بهذا النكر؟)
- (أيما إنسان! إن السهم المراش يطوي ما بين المشرقين؟)
- (أجل، ونحن لا نستطيع أن نحدس من يجرؤ على هذه الفعلة!)(138/67)
- (أنا أقولها؛ وحسبي أنني استطعت أن أكلمكم بلسانكم الهيلاني كواحدة منكم!)
- (وهكذا استطاعت البيثونة من قبل. . .! وكان كلامها ملغوزا دائما كذلك!)
- (يا للشجي! يا للجمر المتقد! إنها تقدم! الغوث يا أبوللو! يالي من تاعسة! هذه اللبؤة الآدمية! إنها تضطجع مع الذئب بينا أسدها الهصور نازح عن الديار. . . وأنا! أنا التاعسة قد جئت لأضاعف أحقادها عليه؟ جئت لأجعل السكين مسنوناً أكثر! ها هي ذي تحدث ذئبها أني أنا أيضاً ينبغي أن أذبح جزاءً لي!. . . فيم إذن أبقي على مسوحي وعصاي! عصاي السحرية! لأمزق المسوح ولأحطم العصا! (وتمزق وتحطم) اذهبا إلى الفناء فأني لاحقة بكما! كونا قائديّ إليه! سأتبعكما، أتْعِسا حياةً ثانيةً غير حياتي!. . . انظروا انظروا! إن أبوللو ينزع عني المسوح بيديه! آه! أقبلت لترعاني في هذه الأجمة الوبيئة! لتسر قلبك بإهانتي ووخزاتي! بسخرية أهلي من قبل، ولعنات أعدائي ولعنات وطني اليوم! إنهم يزعمونني قديسة شحاذة! أو كاهنة أفاقية! يا للهول؟ ماذا خبأت لي أيها القدر؟ ويْ! الوَضم! السكين المشحوذ! الضربة اللازبة التي تتم بها التضحية!. . . يا سماء! إن الذي يأخذ بثأر الأبرياء ما يزال حياً!. . . ويحك يا قاتل أمه أين أنت؟ خذ بثأر أبيك أيها الجائل في الآفاق!. . . ويْ! فيما بكائي، وهاهو قاهر طروادة وقاتل بريام يلقى جزاءه وفاقاً! مرحباً يا موت! أنا لا أهاب الردى!
- ولكن!. . . الصلاة!. . . الصلاة يا أربابي! أضرع إليكم أن يكون جرحي بالغاً مميتاً فلا يعذبني طويلاً! لتتفق منه حياتي فلا يعترضها شيء. . .)
أيتها الفتاة التي تطعمها الهواجس، حسبك فقد بلغت المدى! وللآلهة أنت! كيف تتقدمين إلى حتفك بقدم ثابتة، ونفس رابطة، وأنت تعلمين الغيب كل شيء؟ لم لا تفرين؟)
- (وأين نفر من المنايا وقد جاء أجلنا؟)
- (كيف! إن لكل مهلة قيمتها!)
- (حم القضاء، قلت لكم يا رفاق! أية مهلة أذن؟ إن الهرب لا يجدي فتيلا!)
- (إيه! رب قتلة شريفة تختم حياة مليئة!)
- (ويلي عليك يا أبي. . . وعلى أبنائك التاعسين!)
(وتتقدم إلى باب القصر. . ثم تقف مذعورة)(138/68)
- (ماذا يفزعك يا فتاة!؟
- (ويلاه!
- (ماذا؟
- (تلك الغرف السود تضج بزفير الجريمة! القتلى يسبحون في لجة من الدم!)
- (إنها دماء القرابين فلا تفزعي ولا تراعي!
- (بيت كأنه قبر! لولا هذه الدماء. . .! ولولا ذاك الصلول)
- (تزودي من الصلول فقد ورمت أنوفكم من عطور الشام وطيوبه!)
- (لأدخل إذن. . . ولأرو بالدمع حظي العاثر، وحظ الملك التاعس. . . أجاممنون! سئمت تكاليف الحياة يا رفاق! لابد أن تقتل امرأة بامرأة، ورجل برجل. . . وتلك أخرى نبوءاتي. . . سيقتص لي،، ولكل مقتول بريء!. . .)
(وتنطلق داخل القصر)
- 20 -
ويقف الخورس مشدوهين لما ألم بهذه الفتاة، ويتحدث بعضهم إلى بعض عما حشدت في حديثها من ألغاز، وبثت من طلاسم وأسرار. . . وتقطع حديثهم صرخة داوية داخل القصر!. . .
- (آه! أهكذا أذبح في قصري!؟)
وتزداد دهشة الخورس، وتزداد ثقتهم بنبوءات كاسندرا. . . فالصوت صوت أجاممنون لا غيره!. . . ويهمون أن يدخلوا. . . ولكنهم يتريثون. . . ويعود الملك إلى صراخه:
- (آه. آه! أهكذا وبهذه اليد أضرب حتى أموت!؟
ويعود الخورس إلى لغطهم فبعضهم يشير بالدخول ليكونوا شهداء مقتل الملك - ويتقاعس بعضهم كأن الأمر لا يهمه. . . . . . ثم يشير رئيسهم أن يتريثوا حتى تنكشف جلية الأمر. . .
وإنهم ليهمون أن يقتربوا من باب القصر حتى تنفضح الملكة بينما تلف جثمان القتيل في الوشى الذي أعد لاستقبال الملك الظافر. . . قاهر طروادة!
ولا تستحي أن تعترف بما اقترفت، بل تصرح أنها دبرت الأمر وأخذت له أهبته، وأنها(138/69)
فرحة به مسرورة له. . .
- (يا للجرأة أيتها الملكة الآثمة!. . .)
- (آثمة أو غير آثمة. . . تمدحون أو تقذعون. . . سواء لدي! إنها جثة ملككم أجاممنون، هذه الجثة المدرجة في لفائفها أمامكم. . . وأنا مزهوة بأن قتلته. . .!)
- (أيتها المرأة! أي سوء أختلط بدمك، وإثم خامر قلبك، فتقتلين رجلك وأمير المملكة. . . ابشري بلعنة الجماهير وغضب الآلهة!. . . اليوم يفلت من يديك زمام الأمور. . .)
- (لعنة الجماهير، وغضب المملكة. . . وزمام الأمور! مضحك! سرعان ما تحكمون على ما لا تعلمون! وأين كنتم يا سادة؟ وأين كانت جماهيركم وآلهتكم يوم ذبح أجاممنون الحش طفلته؟. . . أين كنتم يوم أهوى على عنقها بالسكين كما يهوى على رقبة شاه! إفجينا! ابنتي! قطعة قلبي وكبدي!؟ ذبحها أبوها الوحش! لماذا؟ لتهدأ العاصفة، وتسير السفين باسم الشر مجراها ومرساها!! ماذا تقولون إذن؟ وأين كنتم يا سادة؟ ولم يفلت من يديه زمام أموركم يومئذ؟ لم لم يقصّ عن عرشكم، وتنزل عليه لعناتكم، ويحل عليه غضب آلهتكم؟ آه! ولكنكم تخلطون المين بالحق. . . ودأبكم أن تسارعوا إلى الحكم دون روية ولا تبصرة!)
- (حماسة وقحة وتبجح أثيم! ويل لك حين تؤدين الدين من دمك، إذن تفيقي!)
- (أقسم بأيتيه وأيرينيس، آلهة القوة والمجد!)
- (تقسمين على فسقك وغرامك الدنيء الدنس؟. . .)
- (أجل! على غرامي وحبي. . . حبي لهذا البطل المظلوم إيجستوس الذي دبر لي كل شيء وأعانني على كل شيء. . . وشاركني في هذا الدم! أنا لأن ملككم قتل أبنتي، وذهب إلى طروادة ليغازل خريسيز ويرشف الرضاب الحلو من فم بريسيز، ثم يعود ظافراً وفي ركابه هذه القينة الفاجرة التي جلست بجانبه تسكره بخمر حديثها. . . . . . وهو، إيجستوس (لأن له أخوة ذبحوا وأكل أبوهم من لحومهم وشرائح من أكبادهم. . . ثم قتل بعد ذلك!. . . ومن قتله؟ أخوه؟. . . يا للهول!. . . هو الذي ذبح الأطفال الأبرياء! وأطعم أخاه لحومهم وقلوبهم. . .!)
- (المرأة! دائماً المرأة! يا أخت هيلين!! كم أرواح مطهرة فاضت لأن أختك أثمت،(138/70)
وتردت في حمأة الفسق! الفاجرة التي فرت مع عاشقها من خدر زوجها! ثم أنت؟ أنت أختها؟ ومن البذرة السيئة نبتت مثلها؟)
- (عليكم أنفسكم مالكم ولهيلين!
- (. . . آه أيها الغراب الناعب! رنقي على جثة زوجك، وانعقي. . . هات أغنيتك المنكرة، ورتلي أنشودة جريمتك في جناز رجلك!. . .)
- (حاشاي أن أكون صنعت ما صنعت وأنا بعد زوجته أو هو بعد رجلي! بل صنع هذا وليمة أتريوس! أتريوس أبو أجاممنون! الوحش الذي أطعم أخاه لحم أبنائه! هو الذي ترك لابنه الملك هذا الإرث العظيم. . . قتل. . . فليقتلْ! وليقتل من بعد أبناؤه. . . فيا للقصاص!؟)
- 21 -
وتستطيع الملكة بذلاقتها وقوة برهانها أن تخدع الخورس وأن تقنعهم - إلا قليلاً! فقد قتل الملك ابنته حين قيل له إن السماء تطلب دماً، وهذا منتهى الظلم، وقد قتل أبوه أبناء أخيه وأطعمه لحومهم. . . وهو بذلك ورث أبناءه العذاب. . . والقتل. . . والدم. . .!
وما يكاد الخورس تهدأ ثورتهم. . . حتى يحضر أيجستوس حبيب الملكة. . . وشريكها. . . ومدبر الأمر معها. . . والذي ذبحت اخوته وأطعمت لحومهم أباه المسكين!. . . يحضر والبشر يقطر في وجهه. . . وللنصر المؤزر سورة في قلبه. . . فما يكاد يذكر الماضي المؤلم الذي حل بلاؤه باخوته، وهذه الخاتمة التي حلت بابن أتريوس المسكين (أجاممنون) حتى يثور ثائر الخورس، ويهتف رئيسهم:
- (أكان هذا النذل يتقلب في أحضانك أيتها الملكة على فراش الملك؟. . . أكنتما في نشوة الفسق، وسكرة الغرام، ترسمان للملك هذه القتلة المدبرة،)
ويهم إيجستوس أن يفتك بالخورس وبرئيسهم قبلهم، لولا تدخل الملكة، وأنها ترجو أن تضع حداً للمجزرة!. . .
فيتوعدهم إيجستوس حين يصبح الأمر له، وحين يحمل رأسه المجرم عرش آرجوس. . . . . . ولكن. . . هيهات!
دريني خشبة(138/71)
البريد الأدبي
وفاة الأستاذ الشيخ محمد زيد بك
استأثرت رحمة الله بالأستاذ العلامة المغفور له الشيخ محمد زيد الابياني، فرزئت بفقده الشريعة الإسلامية التي كان علماً من أعلامها، ورزئ العلم الغزير، والإفتاء الصائب، والخلق الكريم، والتواضع الجم. كان الفقيد من أبناء مديرية الغربية، وتلقى دراسته بدار العلوم، وعين منذ تخرجه فيها لتدريس الشريعة الإسلامية بمدرسة الحقوق؛ ومازال زهاء أربعين عاماً يتبوأ منصة التدريس في هذا المعهد الجليل، متوفراً في نفس الوقت على دراسة الأصول والمسائل الشرعية حتى غدا بحق مرجعها الفذ وحجتها الثقة؛ وكانت الشريعة الإسلامية إلى هذا العهد تدرس بأساليب عتيقة مضنية، قلما تعاون على خلق العقلية الفقهية الصحيحة، فاستطاع الفقيد بذكائه ومثابرته وعقليته الفقهية المستنيرة أن يختط لتدريسها منهجاً بديعاً قريب المأخذ جم الفوائد؛ ووضع لهذه الغاية عدة مؤلفات قيمة، تشهد له بغزارة المادة وبراعة الاستقراء والعرض هي: شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية، وشرح المعاملات الشرعية، مباحث المرافعات الشرعية، مباحث الوقف. وما زالت هذه الآثار التي تضارع في وضوحها ودقتها وحسن تنظيمها أقوم الشروح القانونية الأوربية، مرجعاً نفيساً لطلاب الحقوق والأزهر، ونبراساً قيماً لرجال القضاء والمحامين
ولا نعرف أستاذاً من أساتذة الجيل المنصرم له ما للعلامة الراحل من فضل وأثر سابغين في بعث النهضة الفقهية الحديثة، وتكوين العقلية الشرعية المعاصرة، بل لا نعرف أستاذاً من أساتذة الجيل المنصرم تخرج على يده مثل تلك الجمهرة الحافلة الممتازة التي تخرجت على يد الشيخ زيد. وقلما تجد بين عظماء مصر وبين زعمائها وساستها ومفكريها وكتابها - وجلهم من خريجي الحقوق - من لم يدرس على يد الشيخ، وليس بين أعلام القضاء وأعلام المحاماة المعاصرين، بل ليس بين رجال القانون والقضاء المصريين جميعاً من لم يتلق عنه ويتخرج على يديه؛ فهؤلاء جميعاً أحداثاً وفتياناً، ونهلوا من غزير مورده، واستطاعوا جميعاً أن يقدروا مواهبه ورفيع خلاله
وكان الفقيد يتمتع فوق علمه الغزير، بأخلاق طاهرة وشمائل باهرة؛ فقد كان جم التواضع والأدب، كثير الحلم والرفق، سباقاً إلى الخير، يعامل طلابه معاملة الأب البار، ويتمتع(138/73)
بحبهم وتقديرهم جميعاً
طيّب الله ثراه، وشمله بواسع رحمته، وعوض عنه الأسرة القضائية خير عوض
(ع)
كتاب عن إبراهيم باشا
صدر أخيراً كتاب بالإنكليزية عن إبراهيم باشا المصري (ابن محمد علي) عنوانه (ترجمة جديدة لإبراهيم باشا بقلم الأستاذ ب. كرابتيس الأمريكي الذي ظل منذ أعوام طويلة قاضياً بالمحاكم المختلطة بمصر؛ والأستاذ كرابتيس يعنى أثناء إقامته الطويلة بمصر بالشؤون والمسائل المصرية الفقهية والتاريخية والاجتماعية ويكتب عنها في مختلف المجلات الأجنبية؛ وقد تزود في وضع مؤلفه الجديد عن إبراهيم باشا بطائفة من الوثائق والمراجع الرسمية وغير الرسمية التي يحتفظ بها سراي عابدين، واستطاع أن يجمع أشتاتاً قيمة أخرى من المعلومات والوقائع المجهولة عن تاريخ ذلك العهد وعن حياة القائد الكبير
وقد كانت حياة إبراهيم دائماً تعتبر في المرتبة الثانية إزاء حياة والد العظيم؛ ذلك أن شخصية محمد علي وجهوده السياسية والإصلاحية الجبارة كانت تلقي حجاباً على جهود ولده إبراهيم، ولم يكن إبراهيم في نظر التاريخ سوى ساعد والده الأيمن وقائد جيشه؛ ولم يكن له ضلع في السياسة أو الشؤون العامة، ولكن الأستاذ كرابتيس يحاول أن ينفي هذا التصوير؛ فقد كان إبراهيم في نظره سياسياً عظيماً كما كان قائداً عظيماً؛ وكان له في السياسة والشؤون العامة أثر فعال؛ بيد أنه لم يكن يتفق دائماً في الفكرة مع أبيه، فقد كان يرى مثلاً أن فوزه بتحطيم الوهابية في الحجاز خطوة أولى في سبيل تحقيق حلمه العظيم بإنشاء إمبراطورية عربية إسلامية، ولكن محمد علي كان دائماً يجانب هذه الفكرة مؤثراً مصانعة السلطان والتفاهم مع الدولة العلية
ويستعرض المؤلف حياة إبراهيم العسكرية، وحملاته وغزواته المختلفة بدقة وإفاضة، ويقول لنا إن أطماع محمد علي لبثت في سبيل التحقيق والنجاح ما بقيت محصورة في بلاد العرب، ولكنها مذ بدأت تتجه نحو الشمال، أخذ الحظ يجانبه والمصاعب تتفاقم في وجهه؛ وقد كان اشتراك مصر في حوادث اليونان ظرفاً مشئوماً جنت منه مصر شر(138/74)
العواقب. بيد أن محمد علي لم تفتر همته وأطماعه، حين حطم أسطوله في نافارين، فأنشأ دار صناعة جديدة بالإسكندرية؛ وكان ذلك الرجل بعيد النظر يعلق دائماً أهمية كبيرة على قوة مصر البحرية
ويقول لنا الأستاذ كرابتيس إن الزمن لم يفسح مجالاً لإبراهيم ليثبت عبقريته السياسية بصورة فعالة، ولكن الموت عاجله، ولما يمض على صدور الفرمان بتعيينه والياً لمصر سوى ستة أسابيع؛ وقد توفي في التاسعة والخمسين من عمره، بعد أن عانى تباريح الآلام والمرض ردحاً من الدهر
الحياة الأخرى
ما زالت مسائل الروح والحياة الأخرى تثير على كر العصور طلعة الإنسان وروعه؛ وقد اشتركت أديان الأرض جميعاً؛ والمدنيات في كل قطر وعصر، في التحدث عن الحياة الأخرى، ولكن التفكير الإنساني لم يهتد حتى اليوم إلى نتائج حاسمة في هذا الموضوع الخفي، ومازال في كل عصر يحوم حوله بمختلف الفروض والنظريات. وقد صدر أخيراً كتاب بالفرنسية في هذا الموضوع عنوانه: (الحياة بعد الموت في معتقدات الإنسانية) بقلم كاتب أمريكي هو جيمس تاير أديسون، وقد اتّبع المؤلف في كتابه الأسلوب العلمي، ولكنه يعرض لنا من جهة أخرى في عدة فصول وصور قوية بعض ما ينتاب الإنسانية من أسباب المخاوف والروع من جراء تصور الحياة الأخرى وما وراء الموت. وما زال الموت يروع الأحياء الذين يرون ملايين الموتى يذهبون تباعاً إلى عالم لا يعرف كنهه، ولكن الأحياء يخضعون حتماً إلى قدرهم. ويبسط لنا المؤلف مختلف المعتقدات والنظريات الإنسانية والعلمية في مسألة الحياة والموت، في كل عصر وكل قطر؛ وهذا القسم أمتع أقسام الكتاب، ويلاحظ أن التباين في المعتقدات الإنسانية على كر العصور وفي مختلف الأمم لم يمنع من وجود بعض التماثل بين معتقدات الإنسان الأول وبين معتقدات أرقى المجتمعات؛ والظاهر أن هذا التماثل إنما يرجع إلى أن غريزة الفضول والروع لا تختلف في جوهرها عند الإنسان الهمجي والإنسان المتمدن، فكما أن الجميع سواء أمام الحياة والموت، فكذلك يشعر الجميع بنفس الجزع والفضول والروع
ويحدثنا المؤلف أيضاً عن مختلف النظم والرسوم التي تتبع في مختلف الأديان والأمم(138/75)
للعمل على سلام الروح، وتزكية الراحلين عن هذا العالم إلى العالم الآخر(138/76)
النقد
(محمد)
كتاب الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ محمد سعيد العريان
أيكون لي أن أكتب عن توفيق الحكيم في كتابه (محمد) بعد إذ كتب الزيات والرافعي، أم يكون من فضول القول أن يعرض مثلي لذاك وقد كتب الأستاذان الجليلان فأبلغا وبلغا ما لا مطمح لي وراءه. . .؟ ولكن كتابا يصنفه (توفيق الحكيم) عن (محمد) جدير بأن يثير الفضول، وأن يعذر من يقول فيطيل القول. . .
وما لتوفيق الحكيم ولمحمد؟
أما المؤلف فشابٌّ من شباب هذا الجيل درس دراسة أهله في هذه المدارس المدنية التي نقول لمن يدخلها (أنت لست من هذه الأمة التي نسلت من العرب، واهتدت بهدى الإسلام، ونمت من روح الشرق وسر روحانيته؛ فاذهب فالتمس أمة غير أمتك تفخر بمجدها وتباهي بماضيها. . .!)
وأما (محمد) فهو ذلك السر الأعلى الذي يستغلق على من لم يتصل بروحانية هذا الشرق، ويغمض على من لم يتعرف سر هذا الدين، ويستخفي على من لم ينشأ موصول النسب بتاريخ الأدب القديم. . . وأين توفيق الحكيم من ذاك. . .؟
على أم هذا البون البعيد بين توفيق الحكيم وتاريخ (محمد) هو الذي دعاه إلى أن يمد نظره إلى بعيد يتنور هذا السر من مطالعه، ويستشرف لهذا النور من مشارقه! فحياة محمد كانت إلى قريب وقفا على طائفة من أهل العلم، لا يتناولها إلا من أوتي كثيراً من الصبر على المعاناة في استخراجها، وكثيرا من القدرة على تنقيتها من فضول القول وحشو الرواة ولغو القُصّص، وقل من يملك القدرة والصبر على مثل ذاك؛ ثم جاءت طائفة من كرام العلماء. فجهدوا جهدهم في جلاء هذا التاريخ والكشف عنه، فكتب المرحوم الخضري بك، وكتب جاد المولى بك، وكتب الدكتور هيكل، وكتب رضا، فبلغوا مبلغهم في ذاك، واستطاع الناس أن يقرءوا (السيرة) كما ينبغي أن تُقرأ، وأن يعرفوا من تاريخ الرسول ما لم يكن يعرف إلا(138/77)
الخاصة من علماء هذا الدين.
ولكن أتُرى هؤلاء العلماء - على ما بلغوا من التوفيق فيما جاهدوا، وما أصابوا من الإجادة فيما عملوا - قد استطاعوا أن يحملوا واحداً لا يهتم بسيرة الرسول على أن يقرأ سيرة الرسول، أو ودعوا نفراً من شبابنا الذين لا يحسنون إلا اللهو والعبث إلى التماس الحد في حياة محمد وابتغاء المثل العليا في تاريخه. . .؟ لو أن واحداً من هؤلاء الشباب قرأ شيئاً من ذلك لأفاد وانبعثت نفسه، ولكن أين ما يحمله على أن يقرأ. . .؟ إن هذه الكتب على ما أجدت قد عجزت أو كادت عن اجتذاب هذا النوع من الشباب الذي لا يعرف شيئاً عن محمد ولا يهتم أن يعرف؛ ولكن لرجل الفن سبيلا غير ذلك، وقد عرف توفيق الحكيم سبيله
قصد المؤلف من كتابه إلى عرض حياة الرسول الكريم عرضاً يكشف عن دقائقها ويجلو صورها على أسلوب من الفن بعيد عن فلسفة العاِلم وتحقيق المؤرخ، على أن فيه من الفلسفة كما ترى الحادثة بصورتها في حياتنا العادية مرئية مسموعة، تفعل فعلها في النفس وتترك أثرها الفلسفي من غير تعليق ولا بيان؛ وللأستاذ توفيق في فنه باعٌ وذراع. . . فهو قد درس (القصة) دراسة العلم، وفقهها فقه الأدب، وعالجها علاج الفنان المبتكر، وانتج فيها إنتاجاً سيخلد به بين أدباء العربية؛ ولا أغلو إذا قلت إنني لم أقرأ حواراً تمثيلياً في العربية ويلذّني مثل حوار يصنعه توفيق الحكيم
بهذه المقدرة الفنية قرأ توفيق مكتب القدماء عن السيرة، وبحاسة الفنان تمثلت له (مناظرها) كما نقلها في كتابه. وهو ضرب من الرواية لا نستطيع أن نضع له اسماً من أسماء الرواية، فهو ليس قصة، وهو ليس رواية، وهو ليس ترجمة تاريخية، ولكنه منها جميعاً؛ وهو مناظر حواريّة، يباعد بينها الزمان والمكان، وتجمع بينها وحدة الموضوع والغرض؛ على انه ليس لمؤلفها شيء من لغة الحوار ولا أسلوب الكلام، فليس له منها أكثر مما للمصور يرسم لك جزءا من الزمان في ورقة، لا ينقل إليك الزمان الماضي ولكن ينقلك إليه، فإذا أنت ترى منه أكثر مما تريك الصورة، وتسمع منه ما لا يُسمعك الرسم الصامت
ولا شك أن المؤلف قد جهد جهداً غير يسير في إخراج كتابه على ما يشتهي، فهو نوع لم يسبق إليه، وباب اخترعه في فن الرواية ليس له حدود مرسومة تهديه السبيل؛ هذا إلى أن الموضوع دقيق، يقتضي الصبر والأناة وحسن الاحتيال؛ وما ظنك بالكاتب المسلم يؤلف(138/78)
شبه رواية عن محمد، يجري الكلام فيها على لسانه من غير أن يخترع أو يتزيَّد؛ ثم هو مع ذلك يحاول أن يرضي الفن ويلم بدينه في وقت معاً. . .؟ ولكن المؤلف بسبيل هذا الفن قد تصرف في موضعين: أما أولهما فانه كان يجد بعض ما وري عن النبي محكيا بلغة الخبر لا بلغة الحديث، واتجاهه في الموضوع أن يجعل القصة حواراً: كلاماً يجيب كلاما، وخبراً يرد خبرا، فلم يجد أمامه إلا أن يترجم الخبر إلى لغة الكلام لتستقيم له طريقة في الأداء. فمن ذلك مثل ما تقول كتب السيرة: (استأذن فلان على النبي، فأذن له.) يؤديه المؤلف حوارا كما يلي:
-: أيذَن لفلان يا رسول الله. . .
-: أذِنْت
وهذا وإن لم يكن قول النبي - لأن عبارته في الإذن لم تنقل إلينا في الحديث - جائرٌ فيما أراه، فهو باب من رواية الحديث بالمعنى، وقد أجازها رجاله. على أن هذا النوع في الكتاب قليل جداً لا يتجاوز بضع عبارات؛ ولعل أطول عبارة أجراها المؤلف على لسان النبي، هي ذلك الدعاء الذي ترجم له كتاب السيرة بقولهم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنّث في غار حراء. . .) فرأى المؤلف من تمام موضوعه أن يجعل على لسان النبي كلاماً يدعو به ربه في تحنُّثه (ص 31)، وأحسب أن المؤلف كان كثير الحرج في مثل ذاك، فإني لأحس في أكثر من موضع من الكتاب أر كلاما هناك كان ينبغي أن يقوله محمدٌ فلم يقله (المنظر الثالث ف1، النبي وورقة بن نوفل ص 37)
أما الموضع الثاني الذي تصرف فيه المؤلف، ففي ترتيب مناظر الكتاب، فهو لم يلزم الترتيب الزمني الذي جرت عليه السيرة، فقدَّم وأخر، ومازج حوادث وحوادث؛ وليس في هذا - على إجماله - ما يعيب المؤلف، فهو لم يقصد إلى أن تكون للكتاب وحدة القصة، بحيث تبنى حادثة على حادثة، وتأتي مقدمة بنتيجة، بل جرى على أن يجعله مناظر يعطي كل منظر منها أو مناظر صورة خاصة لفكرة أو حادثة بعينها، ثم أن يكون للقارئ من مجموع هذه الصور في النهاية، صورة محدودة للنبي الكريم كما يجب أن يعرفها المسلم
الآن قد فرغت من عرض الكتاب كما أراد مؤلفه وكما دلني على نفسه، وإني لأشهد أن مؤلفه قد وفق توفيقا كبيراً فيما حاول، وبلغ بهذا الكتاب ما لا يبلغ غيره؛ وما أحسب أن لي(138/79)
في هذه الناحية أن أتكلم عن توفيق الحكيم في فنه، فمن للعربية في فن الرواية مثل توفيق؟ على أن هذا الكتاب باب جديد هو زادَه وأنشأه في فن القصة، فمن الفضول أن تقول له: أنت اخترعت وأنت لم تبلغ حد الكمال. . .!
ولكن طابع توفيق الحكيم وشخصيته الفنية لم يكونا ظاهرين مميزين في أسلوب الحوار وفي تساوق القصة ظهورهما وتميزهما في سائر ما ألَّف. وسر ذلك واضح، فهو هنا لم يضع الكلام، ولم يخترع الحادثة، بل نقل وصنف، وداخل ومازج، وإنما تجد طابعه وشخصيته حيث يجد لنفسه الحرية فيما يقول أو فيما يضع: (اقرأ الحوار بين إبليس والحية ص 153 - 157، وموت أبي طالب، وغزوة بدر، وحديث الإفك، وعائشة الغيور) فانك واجد فيها وفي كثير غيرها روحاً وحياة وفناً، فكأنك معها ترى وتسمع وتحس
وأكثر الكتاب من لغة الرواة، لاءم بينها المؤلف ما استطاع ليربطها على أسلوب من البيان منسجم، فأيّ جهد حمل من ذاك؟. . . ولكن عبارات وكلمات نقلت على غير وجهها مما أخطأ الأقدمون على نسخه، وعبارات وكلمات جاءت متداخلة من وضع المؤلف، فأخلَّت بنظم الكلام في غير موضع، ونبا بها مكانها من ذلك البيان العربي المشرق. على أن ذلك لا يعدو بضع عشرة كلمة في الكتاب كله، فما نراها إلى جانبه بشيء ذي بال
وقد كان جهد المؤلف كبيراً في ربط الروايات المختلفة والتوفيق بينها، ليخلص منها إلى الرأي الذي يرى؛ وكان إلى ذلك حريصا على أن تكون (المناظر) قليلة بقدر ما يتأتى له، فجاء من ذلك أن يجعل الحوار في منظر واحد لأكثر من موضوع، وأذ كان الحديث كله بين المتحاورين من الآثار المروية - لم يغير ذلك شيئاً من نص الكلام كما نقله السلف، ولكنه غير جوه فتغير من ذلك مدلوله؛ فمن ذلك حديث النبي عن زوجاته في الجنة، إلى خديجة وهي تُحتضر، (وفاة خديجة ص 100)؛ ومنه حديث (حُبِّبَ إليّ الطيب والنساء) روايتُه على مسمع عائشة في غيرتها المشبوبة وقد جاءها النبي يهمّ أن يتزوج جويرية بنت الحارث. . .!
وجاء في خبر عثمان بن مظعون أن ملاحاةً كانت بينه وبين لبيد بن ربيعة قبل هجرته إلى الحبشة، وأحسب ذلك كان بين الهجرتين؛ فقد كان عثمان على رأس الفوج الأول إلى الحبشة، ثم عاد فاستجار الوليد بن المغيرة حيناً، ثم خلع جوارَه وكان بينه وبين لبيد(138/80)
الشاعر ما كان بعد خلْعه جوار الوليد، ثم هاجر ثانية إلى الحبشة (ص105)
ونقل الكتاب في حديث الإفك (ص376 - 377) أن أمَّ مِسْطح قالت: تَعس مسطح. إذ وجدت ما وجدت في وجه عائشة من إعياء المرض؛ والذي أذكره أن أم مسطح قالت ذلك لغير هذا السبب، ولا أرى داعية للعدول عن المأثور في الرواية
أما بعد، فما حاولت بما أسلفت أن أنقد، ولو أنني حاولت لما وجدت؛ وإنما أذكر هذه الهنات كشهادة على براءة الكتاب وكماله؛ وحسب توفيق الحكيم أن يخرج كتاباً عن محمد على نهج جديد في الفن، ثم لا يجد الناقد فيه غير ما قدمت، وإنه لتوفيق من الله أن يتهيأ لحياة محمد أديب كبير مثل توفيق يربط أسمى ما في الفن بأقدس ما في تاريخ الإسلام. وما احسبنا - وهذا الكتاب بين أيدينا - سنشكو القطيعة بعد اليوم بين شبابنا الذين يعشقون الجديد ويقدرون الفن، وبين سيرة النبي الكريم، وإني قد فرغت من قراءة هذا الكتاب منذ قليل لأشعر بالحنين إلى الساعات السعيدة التي قضيتها منه كأني أعيش عصر النبوة، ومارى هذه الحنين سينقضي حتى أعود إلى الكتاب فأقراه مر ومرة ومرات حتى أروي ما بنفسي من ظمأ إلى هذا الكوثر العذب، وهيهات أن أشعر بعد بأني شربت حتى رويت. . .
(شبرا)
محمد سعيد العريان(138/81)
العدد 139 - بتاريخ: 02 - 03 - 1936(/)
شباب العراق في مصر
قل لأولئك الذين زعموا أن مصر نَبَتْ على العروبة فقطعت الأسباب الموصولة، وأيبست الأرحام المبلولة: تعالوا فانظروا كيف بَثَّتْ بالعراق بشاشة الألفة، ورفَّت لبنيه رفيف القرابة، وأشبلت عليهم أشبال الأمومة! تعالوا فأسالوا شباب الفراتين: هل كانوا على ضفاف النيل في ارض غير أرضهم، وقوم غير قومهم، وبيئة غير بيئتهم؟ لقد كان إقبالهم على محطة لقاهرة كإقبال الربيع، واستقبالهم فيها كاستقبال العافية! نزلوا من القطار على أكتاف البهاليل من شباب النيل، وحلوا في قلوب الميامين من رجال الوادي، وهتفت الجموع الحاشدة بأسمى فؤاد وغازي، وجرت الألسن الخاطبة بلفظي القرابة والوحدة، وتلاقت العواطف الظامئة على وِرْدي الإخاء والمودة. ودخل الطلاب العراقيون في غمار الألوف المتهللة، فتجاذبت الدماء، وتمازجت القلوب، وتعاطفت الذكريات، وتجاوبت الأماني، وترجمت اللغة! ثم كانوا طوال الأسبوع المنصرم غبطة القاهرة وبهجة الأندية وحديث الصحف، يظلون من مطلع النهار إلى مقطع الليل غرقى في احتفاء المدينة بين ترحيب يومض في العيون، وتسليم يفتَرُّ في الشفاه، وإعجاب يدوِّي في الأكف، وكرم يفيض على الموائد، ثم لا يسعفون كل مَشُوق لسعة الحركة ولا يجيبون كل داع لضيق المدة
والحق أن الشباب العراقيين كانوا كما قال الدكتور محجوب: طاقة من شتيت الزهر النضير قدمتها بغداد إلى القاهرة في العيد! مثلوا العراق في الرجولة والعزة، ومثَّله الأستاذ منير القاضي في الوقار والنبل، فكانوا بهذا المظهر الجميل دليل اليقين لمن يطيع في أمتهم الشك، وشاهد الاطمئنان لمن يعقد على نهضتهم الأمل!
كان مبعث الجفاء بين أقطار العرب انقطاع الأسباب وبُعدِ الشقة؛ ثم غشيت كل سماء من سمواتها الزُّهر غمةٌ من أطماع الغرب، حجبت عن العيون الضياء، وعن النفوس الصفاء، وعن العقول المعرفة، فذهب القوم أشتاتاً يتلمس كل امرئ في الظلام طريقه! حتى إذا استيقظ في الوجدان شعور العروبة، وعاد فأشرق في الأذهان نور الدين، أبصرنا فإذا بيننا من بغى الإنسان حواجز تتقاصر عندها الخطى، وتتناكر دونها المعارف!
أزيلوا قائم الحدود، وجدوا دارس الطريق، تتلاق الوجوه وتتعارف الاخوة؛ واعملوا ما يعمل في العراق رسول الوحدة ياسين، وفي مصر أمثال الوزير محمد علي، والزعيم(139/1)
طلعت حرب، تجدوا الاتحاد العربي جارفاً كدعوة محمد، سريعاً كفتوح أمية، خصيباً كحضارة العباس!
هذه هي مصر الصحيحة يا شباب الرافدين! لا يزال دينها دينكم، ولغتها لغتكم، وهواها هواكم! أنها لم تركم ولم تروها لأنها في جوف الحوت! وهأنتم أولاء تسمعون حشرجتها الأليمة في حلقه، وستجيش بين معدته وأضراسه جَيَشان السم الزعاف حتى يلفظها حيةً سليمة كيونس! حينئذ تتجه (ابنة الشمس) إلى مطلع الشمس! وهناك يكون مجد العرب اليوم كما كان هناك مجدهم بالأمس! وليس الشرق موطن الديانات والمدينات بضيق ولا جديب
إن الأرض لتُزَلزَل في كل مكان بالدخيل يا بَنِي (الهلال الخصيب)! وإن تاريخ الجدود لينبجس فواراً حاراً من صحون المساجد الجامعة! هل تذكرون ثورة بغداد في جامع الحيدرخانة؟ هل رأيتم غضبة دمشق في الجامع الأقصى؟ هل علمتم وثبة القاهرة من الجامع الأزهر؟ إن لذلك معنى عجيباً لا يندُّ عن خاطر ولا يلتوي على ذهن، ذلك أن المنارة التي يذكر عليها اسم الله، وأن المحراب الذي يقوم فيه الدين، لا يزال هو الركن الذي يأوي إليه الحق، وإن الإسلام الذي ألف شتيت البدو في الأول، هو النظام الذي يجمع شمل العرب في الآخر!
لقد كانت زيارة الطلاب العراقيين فرصة ميمونة لتوثيق الصلات التاريخية المقدسة، صافحونا بالأيدي، وخاطبونا بالألسن، وسمعونا بالآذان، فانمحت الفوارق العارضة، وانجابت الحجب الكثيفة، واستبان أن الخيال جانٍ على الحقيقة، وإن السماع كاذب على العِيان، وإن الوحدة المستحيلة أمر من الواقع!
نعى البرق شاعر العراق الزهاوي والمصريون والعراقيون في حفلة اتحاد الجامعة، فكان وقع المصاب في نفوس الفريقين واحداً لا يختلف؛ وقام كبير الأدباء فأبن كبير الشعراء بكلمة تلقاها الأخوان بعاطفة واحدة وشعور مشترك، لأن الزهاوي كان يهزج بأغاريد الفجر على ضفاف دجلة، فتردد أصداؤها الموقظة في ربوات بَرَدى وخمائل النيل وسواحل المغرب! وأدب الزهاوي وأمثاله هو الذي وصل القلوب العربية في مجاهل القرون السود بخيوط إلهية غير منظورة، ولولاها لم تكن هذه الزورة! وبهذه الزورة وأمثالها نتعارف(139/2)
ونتآلف ونتحد! فتعالوا يا أخلاق المجد الفقيد وأسلاف المجد الوليد نتعاون على دفع الأذى عن العزة المهانة! تعالوا نقرَّ في سمع الزمان أن أمة الرسالة تريد أن تؤدي الأمانة! ولكن قبل ذلك كله: تعالوا نجدد دارس العهد بيننا=كلأنا على هذا الجفاء ملوم
أحمد حسن الزيات(139/3)
أغنية
للأستاذ أحمد أمين
تعجبني أحياناً بعض الأغاني الشعبية، إذ أراها تمثل روح الشعب وآماله وآلامه - وأراها أصدق في وصف الحياة المتنوعة مما يفعل أدباء اليوم، فكل أغانيهم لا تمثل إلا عاطفة الحب البائس، وما يتبعه من ألم ممض، ولوعة مضنية؛ أما الأغاني الشعبية ففيها الحب البائس، والحب الباسم، وفيها التغني بالبطولة، والشكوى من الظلم
أحياناً فيها فلسفة اجتماعية كالأغنية التي سأعرضها اليوم؛ ومرماها تصوير الهيئة الاجتماعية في صورة الجسم الواحد تتعاون أعضاؤها لتحقيق المصلحة العامة - وهو معنى عرض له الفلاسفة والأدباء في الأمم المختلفة قديماً وحديثاً - فمثّله اليونان مرة بإضراب أعضاء الجسم. قال القلب: لماذا أوزع الدم على سائر الأعضاء ولا ينالني أنا منه إلا قطرات؟ فلأضربَ. وقالت المعدة: ولماذا أهضم أنا أيضاً الأكل كله وليس يصيبني منه إلا قليل، أفما كان الأولى ألا أهضم إلا ما ينالني؟ فلأضرب. وقالت الأسنان: ومالي أنا كالطاحون تطحن دائماً ولا ينالني من الغذاء إلا قدر السمسمة؟ فلأضرب. وقالت الرجل: وأنا دائبة السعي يميناً وشمالاً وليلاً ونهاراً في جمع العيش وتحصيل القوت، ثم حظي من كل هذا فتات الموائد؟ فلأضرب. وقال كل عضو هذا القول أو شبهه، فأضربت الأعضاء جميعاً، فلا الرجل تسعى، ولا اليد تحمل الغذاء إلى الفم، ولا الأسنان تمضغ، ولا المعدة تهضم، ولا القلب يوزع
ثم بعد قليل شعرت المعدة بالجوع ولم تستطع الرجل المشي ولا اليد، أدركت كلها أنها سائرة إلى الفناء السريع، فاجتمعت على عجل وقررت فض الإضراب إذ رأت أن كل عضو يعمل لنفسه ولغيره، وان غيره يعمل لنفسه ولغيره، فالغرم بالغنم والربح على قدر الخسارة
ولحظ هذا المعنى شعراء العرب فقال أبو العلاء المعري فيه:
المرء كالنار تبدو عند مسقطها ... صغيرة ثم تخبو حين تحتدم
والناس للناس من بدو وحاضرة ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وكل عضو لأمرٍ ما يُمارسُه=لا مَشيَ للكف بل تمشي بك القَدَم(139/4)
أما هذه الأغنية التي أشرت إليها فتمثل هذا المعنى من ناحية أخرى ظريفة، وهي ارتباط الصناع وأرباب الأموال برباط وثيق، لا يمكن أن يستغني أحد عن أحد. وهاهي بعد حذف ديباجتها:
(وحصاني في الخزانة، والخزانة (عاوزة) سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزه قمحة، والقمحة عند القماح، والقماح عاوز فلوس، والفلوس عند الصريف، والصريف عاوز عصافير، والعصافير في الجنة، والجنة عاوزه حِنّا) الخ. . .
أغنية لطيفة حقاً، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنون بها بتوقيعهم الظريف، وصوتهم الشجي، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنون بفلسفة عالية، وفكرة سامية
قد يلاحظ علنها أن الربط في بعضها محكم كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار، وبعضها غير محكم كحاجة الحداد إلى البيضة، وحاجة الصريف إلى العصافير، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسائر الفنون مجاوزة للحد، فالأغنية ظريفة لطيفة رغم المنطق
ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه (جمال الدوران) أو جمال التسلسل مثل قولهم (لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل)
وقولهم: (الحجر يكسر الزجاج، والحديد يكسر الحجر، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والريح تلعب بالماء، والإنسان يتقى الريح، والخوف يغلب الإنسان، والخمر تزيل الخوف، والنوم يغلب الخمر، والموت يغلب النوم)
ومثل قوله: (العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً) الخ
وبعد فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لابد أن يكون فيلسوفاً أو حكيماً بعيد النظر. ومما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يعن عناية الأدب الأرستقراطي، فبينا يعني العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله، والقصيدة إلى منشئها، ويحتدم بينهم القتال على ذلك، إذا بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية، وهذا(139/5)
نوع مما أصاب الأدب الشعبي من الظلم. وكم أصابه من أنواع! وها هي الأغاني التي تخترع في عصرنا نجدها على الأفواه ونستعذبها، وتهش لها نفوسنا، ولا نكلف أنفسنا مئونة البحث عن منشئها
ولكن من حسن حظ هذه الأغنية، أو من حسن حظنا نحن، أننا نجد ظلاً لتاريخها، فقد ذكرها الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1143 هجرية، فيكون عمرها أكثر من قرنين وظلت الأجيال تتعاقبها إلى يومنا
ويظهر من كلام الجبرتي أن واضعها عالم كبير جليل من أكابر علماء الأزهر في القرن الثاني عشر، هو الشيخ الحفناوي أو الحفني؛ كان سيد الأزهر في أيامه، له حلقات الدروس الحافلة بنوابغ الطلبة، يقرأ فيها أعوص الكتب وأصعبها، كجمع الجوامع والأشموني وحاشية السعد؛ وله التآليف الكثيرة في البلاغة والميراث والجبر والمقابلة، كما كان بيته ساحة كرم يغشاه أعيان مصر وعلماؤه وأدباؤها، ويلجأ إليه الفقراء وذوو الحاجات؛ وكان راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الإردب، وطاحون بيته دائرة ليل نهار، ويجتمع على مائدته الأربعون والخمسون والستون، إلى هيبة ووقار، حتى يهاب العلماء سؤاله لجلاله
وهو مع هذا كله ظريف أديب، سمع تلميذاً له يوماً يقول:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار ... والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار
فضحك الشيخ وقال أنا لا أحبه بالزيت الحار، وإنما أحبه بالسمن، ثم قال:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلي ... والبيض مشوي تحبه؟ قلت والمقلي
وله المواويل الظريفة كقوله:
بحياة يا ليل قوامك وصوم الحَرْ ... تحجز لنا الفجر دا فوت الرفاقه حَرّ
لما يجي الفجر يصبح ركبهم منجرّ ... أزدادِ لَوَعه ولا عمري بقيت انْسَرْ
إلى غير ذلك. فيحدث تلميذه أن الشيخ الحفني قال له يوماً (أحدتك حدوته، بالزيت ملتوته، حلفت ما آكلها، حتى يجي التاجر، والتاجر فوق السطوح، والسطوح عاوز سلم الخ) فحكاية التلميذ ولم يكن سمعها من قبل وروايته لها عن شيخه ترجح الظن أنها من عمل الشيخ الحفني
وقد زاد الشيخ على ذلك فشرح الأغنية على طريقة الصوفية ففسر التاجر بالمرشد الكامل(139/6)
والمربي الواصل، والتاجر فوق السطوح في مستوى عال، والسطوح لا يمكن صعوده إلا بمعراج الخ وقد كان للشيخ جانب آخر صوفي عظيم
فالأشموني وجمع الجوامع، والحواشي والتقارير، كلها لم تمنع الشيخ العالم الأزهري الجليل من أن يكون أديباً وزجالاً ظريفاً يضع الأغاني والمواويل يتغنى بها الشعب. وهذا يذكرني بما سمعت عن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعه المفتي الأسبق - مد الله في عمره - من أنه واضع الدور المشهور: (الله يصون دولة حسنك)
فمن لنا بعلماء الأزهر بين اليوم يشرفون على الأدب كما يشرفون على الدين، ويتعرفون حياة الناس الاجتماعية، ومناحيهم الأديبة، ويضعون الأناشيد الظريفة، والأغاني اللطيفة، ويكونون عنوان الدين وعنوان الظرف، يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا
أحمد أمين(139/7)
مواكب سلاطين مصر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
أن أفئدتنا المتعلقة بمصرنا العزيزة تتوق إلى كل ما يرتبط بهذا الوطن المجيد، فكما أن نسميها حبيب وحرها حبيب؛ وكما أن سماءها تأخذ بالألباب في صفائها، وتنعش فيها الأمل بسحابها ومطرها؛ وكما أن حاضرها نزهة الأعين وبهجة الأنفس، كذلك تجد النفس في ماضيها مسارح محبوبة للخيال والفكر. فلنعد إلى عصر من تلك العصور الماضية المجيدة، ولنتجرد من عصرنا الحاضر إلى حين لنفرغ إلى استجلاء بعض لذات تلك الأيام الغابرة، ولنشارك بالفكر مواطنينا الأعزاء الذين ملئوا أيامهم جلالاً وبهجة
لنعد إلى القرن الثالث عشر، ولنتخط إليه ستمائة عام على أجنحة الخيال، ولنقف حول ركاب ملوكنا الأمجاد الذين كانوا زينة العصر وحماة الديار عند ذلك، ولنشارك مواطنينا من الأجداد الذين كانوا يصطفون على جوانب الطرق وقلوبهم خفاقة ونفوسهم مملوءة بالإجلال الممزوج بالحب والعطف لهؤلاء الحماة، وللنظر إلى السلطان العظيم وقد أقبل في موكبه والناس يضجون بالدعاء له فيتلقونه بأحسن الاستقبال. حتى إذا ما صار منهم على كثب رفعوا الأكف وقرءوا الفاتحة ودعوا له بالنصر والقوة على حماية البلاد، ولنشارك مواطنينا في ذلك فلقد كان أولئك السلاطين تفيض قلوبهم بخير ما تفيض به قلوب الملوك من حب لخير الرعية وتفان في سبيل مصلحتها العامة.
كان أحد هؤلاء السلاطين الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وكان يلقب بالعلائي البندقداري نسبة إلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري أحد أمراء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو الذي اشتراه عندما كان مملوكاً صغيراً ثم آل ملكه إلى السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، ولهذا يلقبه التاريخ أيضاً بالصالحي النجمي. وقد تعلم وترقى في الوظائف على النظام البديع الذي كان يسير عليه أمراء ذلك العصر في تعليم مماليكهم وترقيتهم حتى صار أميراً قائداً، وذلك لما أظهره من الشجاعة في الحرب ولا سيما في موقعة المنصورة في أيام الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح أيوب، وهي الموقعة التي هزم فيها الفرنج وأخذ ملكهم لويس التاسع أسيراً، وما زال حتى صار (أتابكاً) للعساكر أي قائداً عاماً لهم(139/8)
ثم استولى على الملك، فكان الثالث من سلاطين الأتراك الذين جرى العرف بتسميتهم سلاطين المماليك
وكانت مصر في أيامهم تحيط بها عنون الأعداء من كل الجهات، فبينا كان أهل أوربا يدبرون الخطط ويجندون الجيوش الجرارة لغزوها، كان أحفاد جنكيز خان ملوك التتار العظام يدفقون جموعهم نحو الشام بعد أن اجتاحوا بلاد العراق وخربوها وأسالوا فيها الدماء أنهارا، فكان العصر عصر حرب ودفاع، وكانت الروح الغالبة روح الحرب والدفاع، وكان واجب الأمة الحرب والدفاع، وكان بيبرس من خير من مثل تلك الروح واستعد بكل قوة للحرب والدفاع، فكانت كل مظاهره مصبوغة بصبغة النضال والكفاح. كان الخليفة العباسي قد جاء إلى مصر مطروداً مشرداً بعد أن نكب التتار بلاد العراق، جاء إلى مصر يطلب فيها الأمن ويلتمس الحماية من سلطانها الأعظم بيبرس، وأحب أن يكافئ ذلك السلطان على حمايته ومساعدته مقدماً، فقلده السلطنة المصرية بصفته الحاكم الشرعي للدولة الإسلامية، وبذلك عمل على تثبيت مركزه وجعله حاكماً شرعياً إلى جانب كونه حاكماً بالسيف. فأمر السلطان فضربت لهذه المناسبة خيمة كبيرة في المطرية، وجلس السلطان على كرسي عظيم في صدرها، وكان طويل القامة مليح الشكل أبيض الوجه مستدير اللحية، وقد اختلط سوادها بالبياض يكاد يغلب عليه. وقد اصطف الأمراء حوله بحسب مراتبهم، لا يلتفت أحد منهم إلى يمين ولا إلى يسار، ولا يكلم أحد من إلى جواره ولا يشير إليه، فلقد كان هذا خروجاً على الآداب المقررة في المجلس السلطاني، ولم تكن ملابس هؤلاء الأمراء قد بلغت بعد ما بلغته من الزينة والزركشة في أيام السلاطين الذين أتوا فيما بعد كالسلطان قلاوون وابنه الملك الناصر محمد، وذلك لأن بيبرس كان لا يجد من فراغه متسعاً للتفكير في غير عدة الجهاد والنضال. فلم تكن ملابس هؤلاء الأمراء غير أقبية (أو جيب) بيضاء واسعة ضيقة الاكمام، ومناطق ساذجة لا ذهب فيها ولا جواهر، بل كانت من القطن المصبوغ، وكانت أخفافهم من جلد بلغاري أسود، فوق تلك الأخفاف خف ثان اسمه السقمان، وكان فوق الأقبية أو الجيب كمران فيهما حلق وأبزيم ومعلق فيهما صوالق (أو جيوب) جلد كبار يسع الواحد منها أكثر من نصف ويبة من القمح، ويغرز فيه منديل طوله ثلاثة أذرع، وكانت شعورهم مضفورة، وضفائرهم مدلاة في كيس حرير أحمر(139/9)
أو أصفر، وفوق رؤوسهم قلانس صفراء مضربة تضريباً عريضاً
وجلس عن يمين السلطان الخليفة والقضاة من المذاهب الأربعة، فان بيبرس جعل لكل مذهب قاضياً كبيراً بعد أن كانت ولاية القضاة لقاضٍ واحد من علماء المذهب الشافعي. ثم جلس عن يمين القضاة واحد بعض موظفي الدولة مثل وكيل بيت المال أو (وزير المالية كما نسميه الآن)، ثم ناظر الحسبة أو (هو محافظ القاهرة)، وكلاهما من القضاة وأرباب القلم. وجلس عن يساره الوزير ثم كاتب السر أو (الأمين الأول)، وجلس أمامه ناظر الجيش وجماعة من الكتاب الكبار أو كما كانوا يسمونهم الموقنين
ووقف من وراء السلطان صفان فعن يمينه ويساره من الأمراء الكبار وهم رؤساء الأمراء والقواد في الجيوش، وجلس إلى اليمين واليسار على بعد نحو ثمانية أمتار من السلطان ذوو السن من الأمراء القواد وهم أمراء المشورة في الدولة. وجلس بعد ذلك من هم أدنى منهم مرتبة من أكابر الأمراء، والقواد بحسب درجاتهم، فكان أقربهم من السلطان أمراء المئين وهم مقدمو الألوف، وكان كل منهم أميراً على مائة فارس، وقد يزيد عدد فوارسهم عشرة أو عشرين فوق المائة؛ وكان يليهم أمراء الطبلخاناه، وكان كل منهم أميراً على أربعين فارساً، وقد يزيد عدد فرسانهم إلى السبعين؛ وكان بعد هؤلاء جميعاً أمراء العشرات ولكل منهم الإمارة على عشرة فرسان، وقد يزيد عدد فرسانهم إلى العشرين
ونصب منبر وصعد عليه كاتب السر الشريف، فقرأ على الأمراء في ذلك الحشد الحافل كتاب الخليفة العباسي أحمد المستنصر بالله الذي لجأ إلى مصر وأحسن السلطان استقباله، وفيه ثناء طيب من الخليفة على السلطان العظيم فأصبح بذلك ملكاً على البلاد بحق الاستيلاء والسيف، وبحق تقليد خليفة المسلمين الذي كان العالم الإسلامي يرى فيه رمز الحق الشرعي للحكم.
ثم حملت إلى السلطان خلعة الخليفة، فلبسها وهي جبة سوداء، وعمامة بنفسجية، وطوق من ذهب، وقلد بسف عربي. فلما انتهى الاحتفال ركب السلطان بالخلعة والطوق والأمراء حوله وأمامه حسب ترتيبهم، وحمل الصاحب بهاء الدين محمد بن علي ابن حنا تقليد الخليفة، على رأسه وسار قدام السلطان. ثم سار الموكب حتى دخل القاهرة من باب النصر ومر في الشارع الأكبر من المدينة، والسلطان في خلعته الجديدة راكب على فرس عربي(139/10)
عليه كسوة بديعة من الحرير الأصفر، وقد ركب إلى جواره أحد أمراء المئين راكباً على فرس يحمل المظلة وهي حبرة من الأطلس الأصفر المزركش بالذهب، من أعلاها قبة من الحرير نفسه، وفوقها طائر من الفضة المذهبة
وتلقت الجموع الزاخرة من أهل القاهرة ذلك الموكب بالتهليل والطرب؛ وكان السلطان كلما مر بجماعة ضجوا بالدعاء له بالنصر والفتح وقرءوا الفاتحة تبركاً وتيمناً؛ ومازال ذلك الموكب حتى بلغ القلعة فلم يبق ركن من أركان القاهرة لم يهتز لرؤيته والاشتراك في الحفاوة به
والآن فلنخرج مرة أخرى لنشارك أجدادنا أهل القاهرة في التمتع برؤية موكب آخر سائرين في ركاب السلطان إلى ميدان بجوار القاهرة كان ملوك مصر إذ ذاك يقصدونه للرياضة والتنزه ويلعبون فيه لعبتهم المشهورة وهي (الكرة)؛ وكانوا يخرجون لذلك إلى أحد ميدانين: الأول الميدان الناصري الكبير، والثاني ميدان سرياقوس. وكان الخروج إلى كل من هذين الميدانين في أوقات معينة من السنة، فالركوب إلى الميدان الكبير الناصري كان يقع في شهري سبتمبر وأكتوبر؛ وذلك الميدان على ضفة النيل في جهة بستان الخشاب فيما بين القاهرة ومصر القديمة. وكان الخروج إليه في كل يوم سبت من الشهرين المذكورين. وقد كان بودي لو استطعت في هذه الكلمة أن أصف مواكب خروج السلاطين إلى كل من هذين الميدانين، ولكنني أكتفي بوصف موكب واحد وهو موكب الخروج إلى الميدان الكبير الناصري
خرج السلطان الملك الناصر صباح أول يوم السبت بعد وفاء النيل بادئاً موسم لعب الكرة والصولجان في ذلك الميدان الفسيح؛ وكان خروجه في الصباح، ولكن الشمس كانت قد بسطت سلطانها على الأحياء فبدأ حرها يشتد وتكاثر الناس وازدحموا على الطريق ليروا السلطان وهو يخرج سائراً نحو الغرب إلى قناطر السباع القائمة فوق الخليج، وذلك في موضع ميدان السيدة زينب الآن، ومن هناك سار نحو النيل إلى الميدان. وكان في أول الموكب فارسان يلبسان ثياباً من الحرير الأصفر وعلى رأس كل منهما كوفية من الذهب على هيئة طاسات الحرب، وكانا يركبان فرسين أبيضين بحلية بديعة من الذهب، وكان على كل من الفرسين كساء من الحرير الأصفر المزركش بالذهب يغطي من تحت أذنيه(139/11)
إلى موضع السرج. فلما مر هذان الفارسان أقبل في أثرهما السلطان هو راكب على فرس عربي أصيل هيئته وكسوته مثل هيئة فرسي الفارسين المتقدمي الذكر لا فرق بينه وبينهما، حتى كان الناظر إلى الفرسين المتقدمين يظنهما قد أعدا لركوب السلطان نفسه؛ وكان أمام فرس السلطان غاشية السرج يحمله بعض أمراء المماليك الخواص، وهذه الغاشية عبارة عن جلد مزركش بالذهب ليُغطي به سرج السلطان إذا نزل، وكان حامل تلك الغاشية يحركها زهواً وافتخاراً ذات اليمين وذات الشمال، والى جانب حامل هذه الغاشية فارس أخر يضرب على شُبابة، وهي آلة موسيقية لا يقصد بنغمها الإطراب، بل يقصد بها إيقاع المهابة في النفوس
وكان فوق رأس السلطان العصائب السلطانية، وهي من الحرير الأصفر المزركش بالذهب منقوشة باسمه وألقابه. وكانت العادة أن تحمل هذه العصائب فوق رأس السلطان عند الركوب إلى هذا الميدان خاصة وفي يوم العيد، وعندما يدخل إلى القاهرة عائداً من السفر أو إلى مدينة من مدن الشام
ولم يكن في هذا اليوم يستظل بالمظلة، فإن رفعها كان خاصاً بأيام العيد أو عند دخول المدينة أو في المواكب التقليدية الكبرى
وجاء خلف السلطان جماعة الأمراء أولهم المشاة يحفون به على هيئة دائرة، وهم الطبردارية الذين يحملون الأطبار المشهورة ولعلها السيف المعوجة التي يسميها الفرنج (السابر)، وكانوا في العادة من كبار الأكراد، ويليهم بعد ذلك الأمراء الفرسان يسيرون بحسب مراتبهم: فنائب السلطنة، ثم الوزير وأرباب الوظائف الكبرى، ثم المئين مقدموا الألوف، ثم الطبلخانات، ثم أمراء العشرات، ثم المماليك
فإذا ما انتهى الركب إلى الميدان واستقر مجلس السلطان هنيهة في ظلال الأشجار الوارفة التي حول الميدان أمر ببدء اللعب واشترك هو مع الأمراء الكبار فلعبوا الكرة بالصوالج وهم ركوب على الخيل، وانتهزوا فرصة اللعب فاظهروا من المهارة في ركوب الخيل والتحرك فوقها أثناء جريها ما يدهش الألباب
فإذا انتهى اللعب في ذلك اليوم دعا السلطان الاثنين اللذين برزوا في اللعب من الأمراء وانعم عليهما بحوائص الذهب وهي مناطق ثمينة من الذهب يبلغ ثمن الواحدة أحياناً مائتي(139/12)
دينار أو يزيد؛ وكان هذا التقليد مخصوصاً لكبار الأمراء المقدمين، فكان السلطان بذلك ينعم بالحوائص على كل الأمراء المقدمين تدريجاً حتى يتم إنعامه على الجميع مرة في مدى ثلاث سنوات أو أربع
وبعد أن ينتهي من الإنعام بالحوائص يدعو المبرزين من كل طبقات الأمراء ويهدي إليهم الخيول الجياد، فكان يعطي الأمراء الكبار من أمراء المئين والطبلخانات خيولاً مسرجة ملجمة، ثم يختار بعض أمراء العشرات فيجعل لهم حظاً من ذلك الإنعام أيضاً، ويزيد عطاؤه للمقربين من كبار أمراء حرسه الخاص فيجود عليهم بالجياد عشرات لا آحادا
فلقد كان خروج السلطان إلى ذلك الميدان أحد موسمين للإنعام بالخيول على الأمراء، وكان الموسم الآخر عند خروجه إلى مرابط خيله في الربيع
وبعد، أفلم تكن تلك التقاليد المقررة جديرة بأن نذكرها ونحتفظ بذكراها ليكون جيلنا الحاضر مرتبطاً بالأجيال الماضية ارتباط البناء بالأساس؟
محمد فريد أبو حديد(139/13)
الجوع الروحاني
لأستاذ جليل ينم عليه أسلوبه
أتحفنا الأستاذ المازني منذ أيام بمقال ممتع (في الحب)، ثم أعقبه بمقال آخر تحدث فيه عن (الحب الأفلاطوني) و (الوفاء في الحب)
فقال عن الحب أنه (ضرب من الجوع، أو هو إذا شئت نوع من التنبيه تلجأ إليه الطبيعة لتغرينا بما يكفل المحافظة على النوع)
وقال عن الحب الأفلاطوني والوفاء: انهما لا يوجدان مع الصحة والسلامة، وإذا كان من الممكن أن يشبع الجائع بالنظر إلى الطعام في أطباقه على السفرة، فانه يكون من الممكن أيضاً إرضاء عاطفة الحب عند الرجل السليم المعافى بالنظر إلى المرأة والاستماع إلى حديثها، والتمتع بابتسامتها، ورشاقة وقفتها، وحسن جلستها؛ والذي يقنع من المرأة بذلك يكون أحوج إلى الطبيب المداوي منه إلى المرأة)
وقال الأستاذ عن الوفاء: (أما الوفاء فأكرم به وأنعم! ولكن أين في دنيانا من يصبر على طعام واحد وفي وسعه ألا يفعل؟ وإني أسأل القارئ وأعفيه من الجواب العلني: أي رجل لم ينقض عهداً بالوفاء؟. . . والمرأة كالرجل، وشأنها كشأنه، وكذاب من يقول - وكذابة من تدعي - غير ذلك، ولست أدعو إلى شيء. وحاشى أن أفعل، ولكني أصف واقعاً وأقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن ينتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة)
وأورد الأستاذ في هذا المعنى بيتين من الشعر قالهما قبل أن يهجر القريض - مأسوفاً عليه من مقدري فضله:
يا عقيدي طامن الله حشاك ... لن تراني شاكياً وهي حبالك
أين من (طينتنا) أين الفكاك ... أنت إنسان على فرط جمالك
وإني مع فرط احترامي لآراء الأستاذ وإعجابي بها دائماً، بل وعلى الرغم من إعجابي بأفكاره هذه التي عرضها في مقالة الأخير، أقول إني أحسست بأني شخصياً قد سُببت. وكلما مر نظري على قوله: (كذاب من يقول، وكذابة من تدعي انتفضت وأحسست بالدم يصعد إلى رأسي شأن من يكون مقبلاً على شجار والعياذ بالله! وكلما أعدت البصر في قوله أنه (يقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن يفعل كذا وينتحل كذا)، أحسست كأنما(139/14)
تتحشرج في حلقي عبارة: (اختش يا رجل) أو: (أحفظ مقامك يا أخينا أنت وإلا. . . .) أو غير ذلك من العبارات التي تسبق التماسك عادة بين الغريمين!
ذلك باني أنا أومن بالحب الأفلاطوني، وأومن بالوفاء؛ وإن كان الأستاذ قد قال في معرض الكفر بهذين المذهبين: (وأنا لا أدعو إلى شيء وحاشاي أن أفعل)؛ فهأنذا أقول باني أدعو إلى الإيمان بالحب الأفلاطوني وبالوفاء.، وقصاراي أن أفعل!
ولأبدأ أولاً بأن أقول مع الأستاذ أن الحب اشتهاء؛ فإلى هنا نحن متفقان. ولكن يبدو لي مع الأسف أن هذا هو كل ما بيننا من توافق، فانه يقول بعد ذلك رأسا إن الحب تنبيه للجسم ليعمل على حفظ النوع. بينما أنا أتابع الحديث بأن الجوع أنواع، وأن الأصل فيه جوع المعدة إلى الطعام، وأن لكل حاسة من حواس الجسم نوعا من الجوع تكابده وتعمل على إشباعه، وان الأذن مثلاً تجوع وغذاؤها الموسيقى؛ ويحس الجائع في هذه الحالة باشتهاء مُلِح إلى استماع الألحان. والعين كذلك تجوع ولكنها تجوع إلى الجمال، وقد يبلغ من جوعها أن تضطرب أعصاب صاحبها وتفسد عليه شؤونه إلى أن يمن الله عليه بصورة جميلة تقر لها عينه وتطمئن بها نفسه، مع أنه لا يبغي من هذه الصورة أكثر من أن يجلو بها عينيه. وأجهزة الجسم جميعها تجوع. ولعل الحب الذي كتب عنه الأستاذ هو جوع الجهاز التناسلي، وهو الجوع إلى المرأة وليس الجوع إلى الجمال، فأن جميع (الأعراض) البادي في ذلك المقال (تشخص) هذه الحالة
وإذا كنت موفقاً في التعبير فأني أعتقد أن هذا القول فيه ما يكفي لفتح الطريق أمام الحب الأفلاطوني الذي سد الأستاذ في وجهه الأبواب ووقف من دونها يقول: (أين الكذاب الذي يقول أن شيئاً يقوم وراء هذا الباب؟! وأنت أيها المكابر يا من تريد أن تنتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة: يا منافق. . يا بن الـ. . .) إلى أخر تلك الثورة التي لا سبيل لي مع الأسف إلى اتقاء أذاها غير أن أنشر هذه الكلمة بدون توقيع، وأترك الفضل بعد ذلك في انتحالها لمن شاء وأمري إلى الله!
أن الحب الأفلاطوني نوع من المغناطيسية الآدمية. وكل متعة المحب فيه أن يكون قريباً من حبيبه. لأن حبه هو حب الروح التي تعمل على حفظ (المزاج) لا حب اللحم والأجهزة السفلية التي تعمل على حفظ (النوع)(139/15)
ولعل من أبرع الأمثلة على هذه الحالة قول قيس في بعض أشعاره:
تعلقت ليلى وهي ذات تمائمي ... ولم يبد للنظار من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... صغيرين لم نكبر ولم تكبر البهم
فأنت ترى أن هذا الصبي المحب كان محباً قبل أن يتنبه فيه جهازه الجنسي، ولم يكن يصلح مطلقاً للمحافظة على النوع، بل أن ليلاه لم يكن قد تفتح في جسمها شيء من منبهات ذلك الجهاز. أفلست تسمعه إذ يقول: ولم يبد للنظار من ثديها حجم!
وأنا إذ أقول بوجود الحب الأفلاطوني لا أنكر حب (النوع) ولا أعيبه - وحاشاي أنا أيضاً أن أفعل - بل إني لأقول بإمكان اجتماعهما في نفس واحدة، ولكن الذي يعنيني هنا أن أثبت وجود هذا الحب الأفلاطوني الروحاني البريء الذي أحسه أحياناً، والذي يهمني جداً أن أطمئن غيري على وجوده ليتعلم كيف يحسه هو الآخر عند اللزوم. ذلك لأنه ضرورة من ضرورات الرجل المهذب الذي يريد أن يشعر أحياناً أنه ليس حيواناً دائماً، وأنه قد يسمو في بعض الأوقات فوق اعتبارات هذه المادة المظلمة التي هي جسمه وأجهزته الدنيا
يروى عن (المهدي) أنه لما هرب من المأمون ذهب إلى عمته فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت هذه غاية في الحسن فاحبها المهدي - أعني على طريقتي أنا لا على طريقة الأستاذ المازني - فكره أن يحدثها حديث (النوع)، وأنه قد حصل لجسمه تنبيه ليعمل على بقاء السلالة البشرية في دولة أمير المؤمنين، ولكنه تسامى بحبه إلى الغناء، فبينما هي قائمة على رأسه ذات يوم تَغَنى بهذين لبيتين:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء الض ... يف إحسان إليه
فلما انصرفت الجارية من عنده أخبرت سيدتها بما سمعت من مولاها، فوهبتها له؛ فلما رجعت الجارية إليه بعد ذلك أعاد غناءه، فاكبت الجارية عليه، فدفعها عن نفسه قائلاً: كُفي! ما أنا بخائن! فقالت له أن سيدتي وهبتني لك، فقبلها قائلاً: أما الآن فنعم!
هذه هي كلمتي عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء. وأرى أن القول بأن (طينة) الإنسان لا تتفق مع هذا الخلق العظيم كما يقرر الأستاذ في شعره إنما هو محاجَّة بالأساطير، وتدليل بشيء لم يقل أحد أن له قوة الدليل. ونظيره أن يتقدم الشاهد إلى المحكمة مثلا ليقول أنه(139/16)
سمع (بالإشاعة) أن فلاناً قتل فلاناً، فان كان مثل هذا الشاهد يجد المحكمة التي تقيم لشهادته وزناً، فسوف يجد حديث (طينتنا) من يستمع له!
وبعد. فما هي مهمة الكاتب الاجتماعي؟ أهي أن يقرر الأمر الواقع أمام الأشهاد الذين يشهدونه، فإذا فرغ من ذلك انصرف عنهم يقنع نفسه بأنه أدى رسالته؟ أم هي أن يتسامى بقرائه إلى المُثل العليا التي تملأ أحلامه وتتجسم في تفكيره حتى ليعتقد فعلاً بوجودها ولو لم تكن موجودة؛ فيبشر لها في كتاباته، ويصبح بذلك أهلاً لحمل هذا اللقب الكبير.
لقد قال فولتير: (إن الله لو لم يكن موجوداً لوجب على الناس أن يوجدوه)، والمعنى أن الناس لا تستقيم لهم حال إلا على أساس أن الله موجود، وانه من ورائهم محيط، يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وهذا ما يصح أن نقوله الآن عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء، فان شيئاً من هذا إن لم يكن موجوداً لوجب علينا أن نوجده
أن المغريات المادية أصبحت تحيط بالإنسان من كل جانب، وهي تعمل دائبة على أن تعلق بأقدامه وتهوي به في القرار. فما لم يكن له نصيب من تلك المثل العليا ليحتفظ له بمستواه الآدمي العالي ينحط إلى الدرك الأسفل الحيواني
فالأفلاطونية والحالة هذه مزاج لابد منه للمذهب المادي الذي يطغى الآن على المجتمع، ويكاد يوقعه في شر أعماله. فمن لهؤلاء الناس باليد التي تنتشلهم مما هم فيه إن لم يجدوها عند الأستاذ المازني - وأضرابه - وهم كما يحس الأستاذ نفسه قليلون؟
(أفلاطوني)(139/17)
حوادث الشرق الأقصى
الصراع بين اليابان وأوربا حول سيادة الصين وآسيا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يضطرم الشرق الأقصى كما تضطرم أوربا ويضرم شرق أفريقية بحوادث خطيرة سياسة وعسكرية؛ وتتخذ هذه الحوادث لأول وهلة صبغة محلية، وتبدو متفرقة لا تربطها رابطة عامة؛ ولكن هذه النظرة السطحية لا تعبر عن الحقيقة المستترة؛ ذلك أن هذه الحوادث الخطيرة التي تجوزها القارات الثلاث تربطها جميعاً عوامل وظروف مشتركة: فالحرب الإيطالية في شرق أفريقية هي نتيجة لتطورات السياسة الاستعمارية الأوربية، وتوغل اليابان في الأراضي الصينية هو نفثة من نفثات الصراع بين الجنس الأصفر والاستعمار الغربي، ونتيجة لتطورات السياسة الأوربية العامة، وانشغال أوربا بمعاركها السياسية الداخلية، بل إن هذه الحوادث التي تقع في أماكن وأقطار متباعدة تكون في الواقع وحدة متماسكة الاطراف، فهي جميعاً ثمرة تلك الثورة العميقة الجامعة التي تجيش بها السياسة الدولية منذ بضعة أعوام، والتي تسفر عن نتائجها الخطيرة تباعاً في سلسلة من الحوادث متصلة الحلقات برغم تباعدها وتباينها
وفي الشرق الأقصى في سهول الصين الشاسعة، تضطرم بين أوربا وآسيا معركة هائلة، ربما كانت حاسمة في مصاير الجنس الأصفر والاستعمار الأوربي؛ فاليابان التي هي اليوم زعيمة الجنس الأصفر بلا منازع، تتوغل في أقطار الصين الشاسعة تباعاً غير مكترثة بأية مقاومة محلية أو خارجية؛ وقد كانت الصين قبل الفورة اليابانية الأخيرة تعتبر دائماً ميداناً خصباً للاستعمار الغربي؛ ولا تزال الدول الأوربية الكبرى تبسط نفوذها الاقتصادي على مناطق غنية شاسعة في شرق الصين وجنوبها، وهذه الدول تنظر اليوم إلى مركزها في الصين بعين التوجس والجزع؛ بيد أن المعركة الكبرى تنشب في الحقيقة في شمال الصين الشرقي حيث تلتقي اليابان وروسيا وهما العدوتان الخالدتان اللتان يتمثل في صراعهما اليوم صراع الجنسين الأصفر والأبيض؛ وقد وقعت أخيراً في شمال الصين حوادث ومعارك خطيرة تؤذن بأن هذا الصراع يتخذ اليوم صورة حاسمة؛ فاليابان التي غزت منشوريا واحتلتها منذ سنة 1931، وأقامت فيها إمبراطورية صورية باسم منشوكيو،(139/18)
تتقدم اليوم في الصين صوب الجنوب وصوب الشرق. ونظرة سريعة إلى خريطة الصين ترينا إلى أي حد وصل التوغل الياباني في الصين الوسطى حتى شمل اليوم مقاطعات برمتها في شهيلي وشاهار، وتعدى السور الكبير إلى حدود بكين عاصمة الصين القديمة؛ وقد استطاعت اليابان أخيراً بحركة ضغط عسكرية وسياسية قامت بها أن ترغم الحكومة الوطنية الصينية (حكومة نانكين) على الموافقة على إقامة نظام سياسي وإداري خاص في بعض المناطق الوسطى بحيث تخرج عن نفوذ الحكومة الوطنية وتقع تحت نفوذ السلطات اليابانية؛ بيد أن اليابان لا تلقى أعظم مقاومة في هذه النقطة من الصين، بل يلوح لنا أن الصين ذاتها قد أخذت تذعن أخيراً للأمر الواقع، وترى التقدم الياباني أمراً لا مندوحة عنه ولا سبيل إلى رده؛ وترى الحكومة الوطنية وعلى رأسها الجنرال شانج كاي شك، أن تطور مصاير الصين على هذا النحو خير من بقائها فريسة لمشاريع الاستعمار الغربي؛ أولاً لأن الصين لا تستطيع مقاومة اليابان، وثانياً لأنها تنشد السلام الداخلي، وتطمح إلى إلغاء المعاهدات الأجنبية التي استطاعت الدول بمقتضاها أن تتوغل في شؤونها ومرافقها، وكذلك إلى استعادة سلطانها ونفوذها في منغوليا والتركستان الصينية، حيث يسود النفوذ الروسي، والتبت حيث يسود النفوذ البريطاني، ولا تستطيع الصين أن تطمح إلى تحقيق هذه الآمال ما لم تعتمد على معاونة حليف قوى كاليابان، هذا فضلاً عن أن هناك من الروابط الجنسية والاجتماعية بين اليابان والصين ما يخفف وقع النفوذ الياباني، ويحمل الشعب الصيني على تفضيله على أي نفوذ أجنبي آخر
وإنما يضطرم الصراع الحقيقي في شمال الصين بين اليابان وروسيا. وقد كانت الحرب اليابانية الروسية في سنة 1904 عنواناً للصراع بين الجنس الأصفر والجنس الأبيض، وكانت هزيمة روسيا في تلك الحرب فاتحة النصر الحقيقي للجنس الأصفر ومثاراً لمخاوف أوربا والاستعمار الغربي في آسيا؛ ذلك لأنه لأول مرة في التاريخ تنتصر دولة آسيوية لم تنفض عنها بعد غمر الماضي المظلم على دولة أوربية عظمى، وترغم أوربا على الاعتراف بتفوقها العسكري والسياسي؛ بيد أن روسيا استطاعت رغم هزيمتها أن تحتفظ بمعظم أملاكها ومناطق نفوذها في الصين؛ ومع أن اليابان خرجت من تلك الحرب بمغانم استعمارية كبيرة منها استيلاؤها على بورت أرثر، ونصف جزيرة سخالين، والسكة(139/19)
الحديدية الشرقية، وتوطد نفوذها في كوريا التي غدت فيما بعد مقاطعة يابانية، فإنها لم تفتأ منذ انتصارها تحاول توسيع نفوذها في تلك المنطقة على حساب النفوذ الروسي، وما زالت روسيا من جانبها تقاومها بكل الوسائل، وتعمل على وقف أطماعهما ومشاريعها؛ ولم يحد البلاشفة عن سياسة القياصرة في هذا الشأن، فقد عملت روسيا السوفيتية بكل ما وسعت على توطيد سياستها ونفوذها في الصين، ووقفت تناضل اليابان وجها لوجه، وكادت في الأعوام الأخيرة أن تشتبك معها غير مرة في حرب استعمارية، ومع أنها اضطرت أخيراً أن تبيع لليابان حقوقها في السكة الحديدية الشرقية تجنباً للاصطدامات الخطرة، فان النضال السياسي ما يزال بين الدولتين على أشده، وقد أسفر في الأسابيع الأخيرة عن عدة حوادث ومناوشات دموية دلت على تفاقم خطر الحرب في الشرق الأقصى
ويدور الصراع الآن بين اليابان وروسيا حول منغوليا التي تشغل مساحة شاسعة في شمال الصين والتي تجاور منشوكيو من الغرب؛ وتنقسم منغوليا سياسياً إلى قسمين أحدهما منغوليا الشمالية أو منغوليا الخارجية وهي تجاور سيبيريا وتقع تحت السيادة الروسية، وقد حولها البلاشفة منذ أعوام إلى جمهورية سوفيتية باسم (تشيتا)؛ ومنغوليا الجنوبية أو منغوليا الداخلية، وقد كانت من قبل وحدة سياسية مستقلة داخلياً تحت حماية الصين، ولكمن السياسة البلشفية استطاعت منذ سنة 1924 أن تجذبها إلى حظيرتها وأن تجعل منها جمهورية مستقلة حليفة لموسكو؛ ومن جهة أخرى فان التركستان الصينية تقع تحت النفوذ السوفيتي، وقد وقعت فيها أخيراً حوادث وتطورات أدت إلى انفصالها عن الصين؛ وهكذا تسيطر روسيا على معظم أنحاء الصين الشمالية والغربية، بينما تسيطر اليابان على الأقاليم الشرقية الشمالية وبعض الأقاليم الوسطى؛ ويحتدم النضال بين الدولتين الاستعماريتين الكبيرتين حول السيادة والغلبة في تلك الإمبراطورية الصينية الشاسعة التي تنقسم اليوم إلى وحدات سياسية عديدة تمهد بتنافسها وخصامها المستمر إلى تسرب النفوذ الأجنبي وتوطيده
وتمثل اليابان هذا الصراع الهائل الجنس الأصفر والجامعة الآسيوية، وتستعد لخوضه بجميع قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ وتمثل الروسيا فيه مصالح الجنس الأبيض والاستعمار الغربي في آسيا؛ ومع أن روسيا السوفيتية لا تحظى بكثير من عطف الدول الغربية، فإنها تعتبر مع ذلك حاجزاً منيعاً في سبيل الزحف الياباني نحو الغرب، وتؤيدها(139/20)
الدول الاستعمارية الكبرى في هذا الصراع؛ ذلك أن تقدم اليابان نحو الغرب والجنوب يكون معناه انهيار صرح أوربا الاستعماري في الصين، ويكون نذيراً بتقويض السيادة البريطانية في الهند، والسيادة الفرنسية في الهند الصينية، والسيادة الهولندية في جاوه وسومطره؛ ونذيراً بتقويض سيادة السوفيت في منغوليا والتركستان؛ وتقويض صرح الاستعمار الغربي في هذه البلاد والأقاليم الشاسعة الغنية، معناه تقويض سيادة أوربا الاقتصادية في آسيا وضياع تلك الأسواق الرابحة التي غنمتها في ظل هذه السيادة التي تؤيدها جميع الوسائل والقوى الاستعمارية المادية والمعنوية
وليس من شك في أن اليابان تتقدم في هذا السبيل بخطى واسعة تزعج أوربا وتروعها؛ فالصناعة اليابانية التي تدعمها ظروف محلية مدهشة تتقدم في جميع الميادين بخطى هائلة، وقد غزت التجارة اليابانية الأسواق الآسيوية القديمة بسرعة مدهشة، وتخطى هذا الغزو إلى أوربا وأخذ يحدث الارتباك والذعر في أسواقها، وأخذت أوربا تفكر في مصايرها الاقتصادية التي تدعمها في آسيا وأفريقيا سيادة استعمارية تجوز اليوم في آسيا أمام الغزو الأصفر مأزقاً من أخطر المآزق، والواقع أن اليابان تخوض غمار النضال مع الغرب في ظروف حسنة جداً، فأوربا تشغل اليوم إلى أقصى حد بمشاكلها ومسائلها الخاصة؛ وبينما تشخص الأبصار نحو ألمانيا ونهوضها الحربي، وبينما تشتغل فرنسا بالتحوط لمقاومة ألمانيا وتوطيد تحالفها مع السوفييت، وتشتغل إيطاليا بحلمها الاستعماري، وتشتغل إنكلترا بمقاومة مشاريع إيطاليا الاستعمارية، إذا باليابان تحصر اهتمامها ومشاريعها في الصين، وتنذر أوربا وأمريكا في جرأة وصراحة أن ارفعوا أيديكم عن الصين، وتعلن عزمها على مقاومة أي تدخل أو محاولة استعمارية جديدة من جانب الدول في الصين، على نحو ما يقرره مبدأ مونرو الأمريكي بالنسبة لأمريكا؛ وقد كانت الدول الأوربية تعتمد من قبل على اضطرام المنافسة بين اليابان وأمريكا حول السيادة في المحيط الهادي، واشتغال اليابان بأمر هذه السيادة والتحوط لضمانها وتوطيدها، وكانت السياسة الأمريكية منذ أعوام تتجه فعلا إلى مناوأة اليابان والحد من أطماعها، ولكن أمريكا اليوم ترتد إلى سياستها القديمة، وتنظر إلى مشكلة الباسفيك بعين أخرى، وترى أن تقتصر على تأمين سلامتها البحرية في شرق المحيط، يدل على ذلك أنها تنازلت عن حمايتها على جزائر الفليبين التي كانت(139/21)
ترمى إلى اتخاذها من قبل قاعدة لمقاومة اليابان ومناوأتها؛ وإذاً ففي وسع اليابان اليوم أن تعمل حرة من هذه الناحية مطمئنة إلى موقف أمريكا وحيادها؛ وليس في وسع الدول الأوربية من جهة أخرى أن تقوم في الوقت الحاضر بأية حركة مشتركة لوقف الزحف الياباني نحو الغرب، ولا يقف في وجه اليابان اليوم سوى روسيا السوفيتية التي تشتبك معها كما بينا في عدة ميادين ومصالح خطيرة؛ وروسيا السوفيتية تعمل دائماً لمواجهة الخطر الياباني ورده، لأنه ينصب أولاً على سيادتها الاستعمارية الباذخة في آسيا، وهي من جهة أخرى تمثل قضية الغرب في هذا الصراع الجنسي والاقتصادي الخطير؛ ولكن روسيا تواجه في أوربا أيضاً خطراً أخر هو الخطر الألماني. وهو نفس الخطر الذي تواجهه فرنسا، ومن ثم تحالف الدولتين ضد الخطر المشترك؛ والسياسة البريطانية تشد أزر روسيا في هذا الصراع أيضاً، ولكنها تنظر من جهة أخرى بعين الارتياح إلى اشتغال روسيا بمقومة الخطر الياباني لأنه يحول أنظارها عن العمل لمناوأتها في الهند وأفغانستان
والخلاصة أن خطر الحرب يجثم في الشرق الأقصى، كما يجثم في أوربا، وتطورات الحوادث في الشرق والغرب تسير مرتبطة متفاعلة؛ وقد تضطرم شرارة الحرب الأولى في الشرق الأقصى، كما قد تضطرم في الغرب، ولكنها كفيلة بأن تفضي في أي الحالتين إلى إضرام نار الحرب العالمية الجديدة
(* * *)(139/22)
إبليس يعلّم. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال أحمد بن مسكين: ودار السبتُ الثالث وجلستُ مجلسي للناس وقد انتظمت حلفتهم؛ فقام رجل من عُرض المجلس فقال: أن الحسن بن شجاع البلخي تلميذ الإمام أحمد ابن حنبل كان منذ قريب يحدثنا بأحاديث عن الشيطان، حفظنا منها قوله صلى الله عليه وسلم: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدُكم بعيره في سفره. وكان الحسن يقول في تأويله: أن شيطان الكافر دَهينٌ سمينٌ كاسٍ، وشيطان المؤمن مهزول أشعثُ أغبرُ عار. فهل يأكل الشيطان ويدّهن ويلبس ليكون له أن يجوع مع المؤمن ويعرى ويتشعَّث ويغبر؟
قال أين مسكين: فقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله! ما أرى السائل إلا شيطان هذا السائل؛ فإن إبليس إذا أراد أن يسخر من العالم ويُسمعه طنزَه وتهكمه حرَّك من يسأله عنه ما هو وكيف هو؛ كأنما يقول له تنبَّه ويحك على معناي فأنت تتكلم وأنا أعمل، وأنت صورة من الرد عليَّ، ولكني حقيقة من الرد عليك، وأنت في محاربتك لي بالوعظ إلا كالذي يريد أن يضرب عنق عدوه بمائة اسم وضعت للسيف. .
قال: وكنت قد سمعت خبراً عجيباً عن أبي عامر قبيصة ابن عقبة الكوفي المحدِّث الحافظ الثقة أحد شيوخ أحمد ابن حنبل؛ وهو الرجل الصالح العابد الذي كان يقال له (راهب الكوفة) من زهده وعبادته واحتباس نفسه في داخله كأنما جسده جدار بين نفسه وبين الدنيا، فقلت والله لأغيظن الشيطان بهذا الخبر، فان أسماء الزهاد والعباد والصالحين هي في تاريخ الشياطين كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش، وما الرجل العابد إلا صاحب الغمرات مع الشيطان، وكأنه يحتمل المكاره عن أمة كاملة بل عن البشرية كلها حيث كانت من الأرض؛ فالناس يحسبونه قد تخلى من الدنيا ويظنون الترك أيسر شيء، وما علموا أن الزهد لا يستقيم للزاهد حتى يجعل جسمه كأنه في نظام آخر غير نظام أعضائه ولا أشق من ذلك على النفس؛ ومعجزة الزاهد أنه مكلف أن يخرج للناس أقوى القوة من المعاني التي هي عند الناس أضعف الضعف؛ ولو أن ملكاً عظيماً تعب في جمع الدنيا وفتح الممالك حتى حيزَتْ له جوانب الأرض لكان عمله هذا هو الوجه الآخر لتعب الزاهد في مجاهدة هذه الدنيا وتركها(139/23)
قال أحمد بن مسكين: وقصصتُ عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عُقبة كثير الفكر في الشيطان يود لو رآه وناقله الكلامَ، وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودُها فيه ويفسر معنى الشيطان بأنه الروحُ الحيُّ للخطأ على الأرض؛ والخطأ يكون صواباً محولاً عن طريقته وجهته، ولهذا كان إبليس في الأصل ملكاً من الملائكة وتحوَّل عن طبيعته حين خلق آدم عليه السلام، أي وجد في الكون روحُ الخطأ حين وجد فيه الروح الذي سيخطئ. فلما هبط آدم من الجنة وحرمها هو وزوجه وذريته كان إبليس لعنه الله هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أُخرجت من الجنة وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها ليضطربا في الكفاح ملياً من زمن هو عمر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي، لم يعرف آدم حق الجنة فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر
وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوَّم فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العينُ نائمةً والعقل لا يزال منتَبهاً، فكأن العينَ متراجعةٌ تبصر من تحت أجفانها بصراً يشاركها فيه العقل. فرأى شيخُنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زيّ رجل زاهد حسن السَّمْت طيب الريح نظيف الهيئة، وكاد يشَبَّه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدميِّ قَفَر فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة
وظهر الشيطان زاهداً عابداً تقياً كأنه دين صحيح خلق بَشَراً فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟
قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية أنها طاعة لم يقارفها أحد. وهل خلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجعل كل منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية. أولا ترى يا أبا عمر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنى ولا عمل؟
قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خلق إلا رداً عليك أنت ليتبين الناسُ انك الممتلئ الممتلئ ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية بك وردّ عليك، فلا طعم للذة(139/24)
من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة قد انتهيت، فقد وصفت نفسها أبلغ الوصف
قال إبليس: يا أبا عامر ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يبقيها حية، فهي تلد الحنينَ إليها وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد
قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها. ولكن عليك لعنة الله لماذا جئتني في هذه الصورة؟
قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبةَ القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها؛ وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؟ أفتدري يا أبا عامر إني لا أعتري الحيوان قط؟ قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة هي نظره وفهمه معاً، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم: (هل أُنَبِّئكم على من تَنَزَّل الشياطين؟ تَنَزَّلُ على كل أفّاكٍ أثيم) فأنت أيها الشيطان التزوير، والتزوير موضعه الكذب. فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء فليس لك عنده عمل
قال إبليس: يا أبا عامر! وهل ترى رحمك الله أعجب وأغرب وأدعى إلى الهزء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد والعبّاد هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟
قال الشيخ: عليك وعليك؛ إن الحيوان شيء واحد فهو طبيعة مسخَّرة بنظامها، ولكن الإنسان أشياء متناقضة بطبيعتها، فألوهيته أن يُقرّ النظام بين هذه المتناقضات كأنما امتُحن فأعطى من جسمه كوناً فيه عناصر الاضطراب وحوله عناصر الاضطراب ثم قيل له دبِّره
فضحك إبليس. قال الشيخ: مم ضحكت لعنك الله؟
قال: ضحكت ممن أنك أعلمتني حقيقة الإبليسية، فالزهاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة
قال الشيخ: عليك لعنة الله فما هي تلك الحقيقة التي زعمت؟
قال إبليس: والله يا أبا عامر ما غلا إنسان في زعم التقوى والفضيلة إلا كانت هذه هي الإبليسية؛ وسأعلمك يا أبا عامر حقيقة الزهد والعبادة. فلا تقل أنها ألوهية تقر النظام بين متناقضات الإنسان ومتناقضات الطبيعة(139/25)
قال الشيخ: وتسخر مني لعنك الله؟ فمتى كنت تعلم الحقيقة والفضيلة؟
قال إبليس: أولم أكن شيخ الملائكة؟ فمن أجدر من شيخ الملائكة أن يكون عالمها ومعلِّمها؟
قال: عليك لعنة الله فما هي حقيقة الزهد والعبادة؟
قال إبليس: حقيقتها يا أبا عامر هي التي أعجزتني في نبيكم
قال الشيخ: صلى الله عليه وسلم فما هي؟
قال إبليس: هي ثلاث بها نظام النفس ونظام العالم ونظام اللذات والشهوات: أن تكون لك تقوى، ثم يكون لك فكر من هذه التقوى، ثم يكون لك نظر إلى العالم من هذا الفكر. ما اجتمعت هذه الثلاث في إنسان إلا قهر الدنيا وقهر إبليس
فان كانت التقوى وحدها كتقوى أكثر الزهاد والرهبان، فما أيسر أن أجعل النظر منها نظر الغفلة والجبن والبلادة والفضائل الكاذب؛ وإن كان الفكر وحده كفكر العلماء والشعراء فما أهون أن أجعل النظر به نظر الزيغ والإلحاد والبهيمية والرذائل الصريحة
قال الشيخ: صدق الله العظيم: (إن الذين اتقوا ربهم إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مُبصرون)
قال إبليس: يا أبا عامر! ما يضرني والله أن أفسّر لك فإن قارورة من الصَّبغ لا تصبغ البحر، وأنا أعد الزهاد والعلماء المصلحين فأضع في الناس بجانب كل واحد منهم مائة ألف امرأة مفتونة ومائة ألف رجل فاسق ومائة ألف مخلوق ظالم، فلو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنسانيَّ بالزاهد والمصلح ما دام المصلح شيئاً غير السيف، وما دام الزاهد شيئاً غير الحاكم
قال الشيخ: لعنك الله من شيطان عارم، فإذا وضعت المصلح بين مائة ألف فاسد فهل هذه الطريقة شيطانية لإفساده؟
قال إبليس: ومائة ألف امرأة فتانة مفتونة يا أبا عامر كل واحدة تحسب جسمها. . .
فصرخ الشيخ: أغرب عني عليك لعنة الله!
قال إبليس: ولكن الآية يا أبا عامر. لقد لقيتُ المسيح وجرّبته وهو كان تفسيرها
قال الشيخ: عليه السلام! وعليك أنت لعنة الله! فكيف قال؟ وكيف صنع؟
قال إبليس: ألقيتُ به جائعاً في الصحراء لا يجد ما يطعمه ولا يظن أنه يجد ولا يرجو أن(139/26)
يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمر هذا الحجر ينقلب خبزاً. فكان تقياً فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. فمثل هذا لو مات جوعاً لم يتحوَّل، لأن الموت إتمامُ حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزاً وهو جائع لم يتحول، لأن له بصراً من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ فليس بالخبز وحده يحيا بل بمعانٍ أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها
ثم ارتقيت به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين كشفتها كلَّها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقياً فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جسَّمته له وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كما يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى، ثم لا يبقى من كل ذلك باقٍ غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن ملك الدنيا نفسها لم يبق لها إذا بقيت له، فهي خيال في جرعة الحياة كما هي خيال في جرعة الخمر
يا أبا عامر؛ أن هذا النظر الذي وراءه التذكر الذي وراءه التقوى التي وراءها الله، هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفّيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر وآخر وجودها التلاشي
فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السر
قال الشيخ: لعنك الله فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر هذا سؤال شيطاني. . . تريد ويحك أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك. ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شقَّ على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها. إنما الإيمان وضعُ يقين خفيّ يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة. وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقيناً ثابتاً بما هو أكبر من الدنيا فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيُبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان
والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله انظر بعينيك فيصدق أنها أكبر من الشمس(139/27)
ومتى صغر هذا اليقين وكانت الحقائق الدنيوية أكبر منه في النفس، فأيسر أسباب الحياة حينئذ يفسد المعتقد ويسقط الفضيلة، وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذ
أما إذا ثبت اليقين فالشيطان مع الإنسان يصغر ثم يصغر، ويعجز ثم يعجز، حتى ليرجع مثل الدرهم إذا طمع الطامع أن يجعل الرجل الغني الكثير المال لصاً من اللصوص بهذا الدرهم
قال الشيخ: لعنك الله! فإن لم تستطع إفساد هذا اليقين فكيف تصنع في فتنة المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عمر أن لم استطع إفساد اليقين زدته يقينا فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة. وبأي عجيب يكون الشيطان شيطاناً إلا بمثل هذا؟
قال أحمد بن مسكين: وغضب الشيخ فمد يده فاخذ فيها عنق إبليس وقد رآه دقيقاً، ثم عصره عصراً شديداً يريد خنقه فقهقه الشيطان ساخراً منه. وينتبه الشيخ فإذا هو يشد بيده اليمنى على يده اليسرى. . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(139/28)
الضمير
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور مدرس الفلسفة بكلية الآداب
غامض في لفظه غموضه في معناه، ومستتر رغم ما يبرز من آثار؛ هو أقرب الأشياء منا والزمها لنا، بل يكاد كل شيء فينا: (والمرء بأصغريه قلبه ولسانه) بيد أنا إن حاولنا توضيحه توارى بالحجاب وأمعن في الاستتار والخفاء. نؤمن بوجوده دون أن نراه أو نفهم في وضوح حقيقته؛ وكيف ننكره وفي إنكاره إنكار لأنفسنا وهدم الدعامة الأولى من دعائم شخصيتنا؟ يأمر فيطاع، وينهى فيستمع له، ويسر ويحزن، ويخالط عواطفنا وأحوالنا النفسية على اختلافها؛ يعقد محكمته في أسرع من لمح البصر، ويصدر أحكاماً غير قابلة للنقض والإبرام. لذلك اتجه إليه الواعظ في وعظه؛ وناداه رجل الدين في نصحه، وجعله الأخلاقي أساساً لدرسه، وتولاه عالم النفس بالبحث والتحليل
يغلب على الظن أن العرب لم يستعملوا كلمة (ضمير) بمعناها الخلقي والنفسي الذي اصطلحنا عليه الآن؛ فانهم أطلقوها على القلب والباطن والسريرة فحسب. وهذا المعنى، وإن كان يقرب من العرف الحاضر، متميز منه تمام التميز. وفلاسفة الإسلام ومتصوفوه، برغم تحليلهم الدقيق لبعض العواطف النفسية كالعشق والشوق والندم والتوبة لم تجر كلمة (ضمير) على لسانهم إلا في دوائر تختلف كثيراً عما نحن فيه، ويظهر أن العرب قد استعاضوا عن هذه الكلمة بلفظ (زاجر) التي تؤدي معناها بعض الأداء: (من لم يكن له من نفسه زاجر، لا تنفعه الزواجر) فكلمة (ضمير) بمدلولها الفلسفي وضع حديث واستعمال يرجع به العهد فيما نعتقد، إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حين بدئ في ترجمة كلمة الأجنبية؛ وهذه الترجمة - وإن تكن صادقة في جملتها - مثار غموض واشتباه؛ لأنها تعبر عن الضمير الخلقي والنفسي بلفظ واحد. إلا أن اللغة الفرنسية وقعت في هذا الغموض من قبل واستعملت لفظاً مشتركاً للدلالة على الضمير من حيث مظاهره الخلقية وأحواله النفسية. وقد تنبه الألمان والإنجليز إلى هذا فخصوا الضمير النفسي بلفظ يميزه من الضمير الخلقي، وأصبح لعالم النفس كلمة يدل بها على الضمير غير تلك التي يستعملها الأخلاقي وما أجدر كل اصطلاح بأن يوضع له لفظ خاص يناسبه؛ غير أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن هذه التفرقة اللفظية إنما يراد بها فقط فصل العلوم بعضها(139/29)
عن بعض وقصر كل فن على مصطلحات معينة.، وإلا فالواقع يشهد أن الضمير الخلقي هو الضمير النفسي ملحوظاً فيه معنى الخير والشر. فليس في الإنسان ضميران يفصل أحدهما في الأحكام الخلقية ويتولى الآخر الأحوال النفسية. لكل منا ضمير واحد قد تتنوع أسماؤه بتنوع مظاهره ووظائفه
لم يعن الإغريق بموضوع الضمير ولم يدرسوه الدراسة اللائقة به لا من الناحية الأخلاقية ولا من الناحية النفسية، ذلك لأن الأخلاق كانت تعتمد عند فلاسفتهم الأُوَل على أساس اجتماعي. فأفلاطون كان يتعزى عن شقاء الأفراد بما كان يرجو من سعادة الجمعية؛ وارسطو لا يكاد يفصل الحياة الخلقية من الحياة السياسية. نعم أن الأبيقوريين والرواقيين قد نحوا بالأخلاق منحى فرديا، وحاولوا أن يؤسسوا سعادة الفرد على الفرد نفسه؛ ولكنهم ذوو نزعة مادية تتنافى مع التحليل الروحي للضمير. ومن الناحية السيكولوجية نلاحظ أنه فات الإغريق، بل القدامى عامة أن يتميزوا وحجة الظواهر النفسية، التي هي أثر من آثار الضمير. وإن من جهل هذه الوحدة أو قال بنظريات تناقضها لا يستطيع أن يفهم الضمير على وجهه الصحيح. وفوق هذا فانهم كانوا يخلطون بين الضمير وبعض الأحوال النفسية؛ فأفلاطون مثلاً لا يفرق بينه وبين المعرفة، وأصحاب الرواق يطلقونه على معرفة الحق والباطل. وقد بقي أمر الضمير مهملاً إلى أن جاء صوفية القرون الوسطى من مسيحيين ومسلمين فأعاروه جانباً من العناية والدرس. والتصوف، وهو علم القلوب، لا يمكنه أن يغفل مشكلة الضمير وينسى ركناً تقوم عليه المناجاة الروحية. لذلك نسمع رجلاً كأبيلارد بين المسيحيين يحدثنا عن الضمير وأثره في الأعمال الخلقية؛ كما نرى الغزالي مثلاً بين المسلمين يشرح مراقبة النفس وقوة المحاسبة التي يمكن أن تنطبق على الضمير بمعناه الحديث. غير أن هذه المحاولات في جملتها محدودة وجزئية. وإلى رجال العصور الحديثة يرجع الفضل في شرح موضوع الضمير ومنحنه ما يتطلب من عناية ومجهود. وتكاد تكون المدرسة الأيقوسية أول من تنبه إلى هذا الجانب الهام من النفس والى أثره في الأخلاق. ثم تبعتها مدارس أخرى اعتنقت رأيها أو ردت عليها، إلى أن جاء وليم جيمس وبرجسون فدرسا الضمير دراسة نفسية قضت على كثير من النظريات القديمة، وغيرت مجرى التفكير في علم النفس إلى حد كبير. ولم يفت الاجتماعيين المعاصرين أن يعرضوا(139/30)