ويصحب ظهور الأشباح عادة تغيير في الأنوار، فنرى ريشارد الثالث بتغير في الأضواء قبل ظهور الشبح؛ وفي رواية يوليوس قيصر نرى نفس الظاهرة بجلاء ووضوح، فيرى بروتس تغيراً في ضوء الشمعة يسترعي انتباهه ويهتف قائلاً: (ما لهذه الشمعة قد شحب ضوؤها؟ من القادم؟).
وتظهر الأشباح بصورة عادية مرتدية نفس الملابس التي كان أصحابها يرتدونها قبل موتهم. ففي رواية هملت يظهر الشبح بنفس الأردية التي كان يرتديها الملك قبل وفاته، وهذا ما دعا هورايتو إلى الهتاف قائلاً: (إنه ليشبه والدك تمام الشبه مرتدياً نفس الملابس والأسلحة التي كان يرتديها قبل وفاته؛ وفي رواية مكبث يظهر شبح بانكو بنفس الحلة التي وجد فيها قبل وفاته لساعات قليلة.
ولهذه الأشباح طبائع غريبة وأخلاق شاذة، فهي لا تستطيع احتمال الأسئلة الكثيرة بل تهملها. وفي رواية هنري السادس نرى الشبح وقد ضاق ذرعاً بالأسئلة الكثيرة التي وجهت إليه فأجاب سائله بقوله: (اسأل ما بدا لك ولكني لا أجيب إلا عما أريد الإجابة عنه) ز
وكانت الأشباح تفضل الصمت على الشغب والضوضاء، ولذا نرى بروسبيرو يطلب الهدوء التام عند ظهور الأشباح. وتختلف هذه المخلوقات الغيبية عن سابقتها بكونها لا تستطيع الظهور مطلقاً إلا عند سدول الظلام، فلا يظهر الشبح في رواية هملت إلا بعد غروب الشمس؛ وعندما يشعر باقتراب النهار يفر مسرعاً إلى عالمه العلوي. فالنهار والضوء عدوان لدودان للأشباح.
قال جبسن في ختام بحثه عن الأشباح: (إن المهارة والمقدرة التي أظهرها شكسبير في تصوير الأشباح لما يؤكد لنا اعتقاده الجازم بها) وهذا الحكم الذي يصدره ناقد معروف كجبسن لجدير بالتفكير والبحث. نعم إن شكسبير لم يوفق في بحثه عن الأشباح وتصويرها كما وفق في الساحرات والجنيات؛ فخياله المبدع الذي رأيناه سابفاً لا نشاهده في الصورة الحالية؛ وقد يكون هذا النقص ناتجاً عن عدم اعتقاده بالأشباح؛ خصوصاً وأن الرجل لا يحسن ما لا يؤمن به ويعتقد فيه، فكان بحثه تعوزه المقدرة، وينقصه الخيال الواسع والفكر العميق.
العفاريت:(122/44)
كان من السائد على معتقدات الناس في ذلك العصر أن العفاريت هم من سلالة الآلهة القدامى. وما عفاريت شكسبير إلا صور مصغرة من آلهة الرومان واليونان والفلسفة الشمالية، فهم مصدر شقاء وينبوع آلام. نعم إن مقدرتهم لم تصل إلى تلك الدرجة من القوة التي وصلت إليها مقدرات الساحرات، ولكنهم رغماً عن ذلك كانت لهم القدرة الكافية على الاختفاء بالشكل الذي يريدون.
وفي رواية تايمون أثينا نرى وصفاً مسهباً لهذا النوع من العفاريت عندما يتكلم المهرج قائلاً: (إنها روح شريرة تظهر مرّة بشكل سيد من الأسياد، وأخرى بشكل محام بارع، وثالثة بشكل فيلسوف شهير).
وكانت في بعض الأحيان تتخذ لها وسيطاً من بني البشر، فيكون لهن من روحه مكاناً يقمن فيه، ويعامل هذا الرجل (المسكون) عادة أشد المعاملة وأقساها، فهو عرضة للشتائم وشتى أنواع العذاب والهوان. وفي رواية (مهزلة الأخطاء) نرى بنسن يخبر خليلته بأن زوجها وخادمه قد أصابهما مس من الجنون، وأن العفاريت قد اتخذت من روحيهما مسكناً مريحاً، فمن الواجب إذن القبض عليهما وإيداعهما حجرة مظلمة.
وفي حديث غرامي بين روزاليذ وعاشقها رولاندز في رواية (كما تريد نرى الفكرة نفسها واضحة جلية؛ فهي تقول له: (إن الحب جنون، وما العاشق إلا مجنون يجدر به أن يكون حبيس غرفة مظلمة لا يدخلها الضوء؛ ولكن المحب لا ينزل به هذا النوع من العقاب، لأن الحكام والقضاة قد كانوا في نفس الحالة يوماً ما، ولذا كان من الواجب مداواته بالنصيحة والمشورة).
يندر أن تجد عفريتاً من هذه العفاريت يظهر بشكله الحقيقي على مسرح شكسبير؛ ولا أذكر في رواياته كلها غير مرة واحدة تراءى العفريت فيها للنظارة، وهذه المرة تقع في رواية هنري السادس عندما تدخل العفاريت المسرح بعد إلحاف شديد من الساحر (لابوسيل)، فيقومون بأعمال كثيرة تعد في حكم المستغربة الشاذة، فيدخلون دون أن ينطقوا بأية كلمة، ومن ثم يلقون برؤوسهم إلى الأسفل، ثم يرفعونها مرة ثانية ويغادرون القاعة حيث لا رجعة بعد ذلك.
من هذه الأعمال الغريبة التي كان العفاريت يقومون بها نستنتج أن هذه المخلوقات تعد من(122/45)
أغرب أنواع المغيبات، وتختلف عن سائر الأنواع الأخرى باختفائها الدائم في الهواء؛ وقد ختم جبسن بحثه عن العفاريت بقوله: (إن شكسبير لم يهتم بهذه المخلوقات اهتمامه بالأنواع الأخرى المشابهة لها؛ وإن معاملته الشاذة لها لجديرة بالاستهزاء بدل الإجلال والتقدير) وهذا الحكم على درجة كبيرة من الصحة والصواب؛ فلا نجد هنالك إلا عدداً قليلاً من الأماكن التي يأتي ذكرها فيها؛ ولو فرضنا جدلاً أن شكسبير ذكرها في عدة أماكن لرأينا أن ذكره لها لا يتجاوز عدداً من الأسطر؛ ثم يتركها على ألا يعود إليها ثانية. ومن هذا يظهر جلياً أن شكسبير كان يحتقر هذا الاعتقاد في العفاريت فلم يولها جانباً من اهتمامه.
(يتبع) خيري حماد(122/46)
الدكتور محمد إقبال
فلسفته
معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب
للسيد أبو النصر أحمد الحسيني
إن أول مَن لَحِظَه التوفيق بين فلاسفة الغرب في أن يثبت بالدلائل القاطعة والشواهد الصادقة أن الإنسان لا يقدر على حل العقد المستغلقة والمعضلات الغامضة في هذه الكائنات بالعقل المجرد، هو الفيلسوف الألماني الكبير (كانت). وعلى هذا أثبت كانت عن طريق فلسفي ضرورة وجود الله ولزوم الإيمان به، وبرهن في مصنفه (نقد العقل العملي) على أن قواعد عقل الإنسان العملي ودعائم عمله ووطائد اختباره ثلاثة: حرية الإرادة، وخلود الروح، والإيمان. ووضح أن الإنسان لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن أعماله إذا لم يكن فيها بالخيار. لذلك كان (كانت) بكشف هذه الحقائق وأمثالها في عالم الفلسفة قد قام للإنسانية بخدمة عظيمة.
ونحن قد أبنا لك في المقال السابق أنه على حسب فلسفة إقبال أيضاً يكون لكمال الإنسان وتقدمه ثلاث دعائم: إحراز الغاية القصوى من الحرية والاختبار بنيل الأنانية العظمى، ونيل الخلود باتصاف الأنانية بحالة الجد المستمر، ثم بلوغ منزلة الخلافة الإلهية التي هي نهاية عليا لذلك الكمال والتقدم: فعلى هذا يتفق إقبال مع كانت في التصورات الثلاثة أساسياً، ويختلف عنه في أن ليس لدى كانت تصور الخلافة الإلهية. وأما تصور (كانت) الثالث وهو الإيمان فهو أساس جميع تصورات إقبال، لذلك لم يحتج إقبال إلى إثبات ضرورة وجود الله والإيمان به في فلسفته كما احتاج إليه كانت، ولأن مبدأ فلسفة إقبال الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. وآخر الجد المستمر الإيمان كما هو أوله، لأن الإنسان لا يقدم على عمل ويستمر فيه إذا لم يك مؤمناً بنتيجته ونجاحه فيه، وكذلك إقبال لم يحتج إلى إثبات قانون أخلاقي خارجي كما احتاج إليه كانت في بيان نظريته الأخلاقية، لأن قانون الأخلاق عند اقبال ينجم عن ضروريات الأنانية الباطنية، فكل شئ يقوي الأنانية عنده خير وحسن، وكل ما يضعفها شر وقبيح؛ فكأن أنانية الإنسان المتصفة بالجد المستمر(122/47)
عنده ضمنية لإنتاج ذلك القانون، فلا يحتاج إلى البرهان والدليل.
ويختلف إقبال عن كانت في أن اكتساب الحرية والاختيار ونيل الخلود والدوام في فلسفته ثمرة الجهد المستمر لا يفوز بها إلا الذي اتصفت أنانيته بتلك الصفة، أي الجد المستمر. فكل من رغب فيها وطمح ' ليها ينبغي له عنده أن يسعى لذلك بعزم وحزم لا يشوبها على الزمن خلل ولا وهن، وأما كانت فقد تصدى لفكرة الحرية والاختيار والخلود والدوام في فلسفته ليقول إن العدل جار في الكائنات وإنه يوجد فيها المطابقة بين الأعمال ونتائجها، وبين الأمور وعواقبها.
إن فلسفة إقبال فلسفة تفاؤل لأنه تخلق في الإنسان الأماني تتري، وتبعث فيه الهمة القصية المرمى، وتحفزه لبذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيقها بالمثابرة والمواظبة. فهي لذلك تخالف فلسفة التشاؤم التي كان أكبر أئمتها الفيلسوف الألماني شوبنهاور. كان شوبنهاور هذا متأثراً بأفكار البوذية الهندية، فنظر إلى العالم نظرة التشاؤم، وقرر أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، لكنها لا تقدر أن تملك لقصدها مشمولاً خاصاً يمكن أن يعرض عملياً في الذهن، لأن كل مشمول مثل هذا يتعلق بخارجها. فلذلك تملك الإرادة الكونية لقصدها نفسها، أي هي تريد لأن تريد. هي تريد لأن تكون حقيقياً، فإن كل شئ حقيقي ليس إلا الإرادة الممثلة. فبهذا المفهوم سمى شوبنهاور تلك الإرادة (إرادة الحياة)، ورأى أنها جوهرياً شر، فإنها لا يمكن أن تقع؛ هي ألم. هي ألم غير القانع؛ وعلى هذا فالحياة حمأة الطموح الذي لا يشبع، وثورة التوقان الذي لا يقنع. لذلك كانت نهاية الإنسان دائماً في الشكوى، ولن يتم له حسن الحظ أبداً. ولكن إقبالاً يرى أن سوء الحظ وآلام الحياة أكثر فائدة للإنسان إذ بها تربى أنانيته وتدرب، فيطأ بها أعراف المجد، ويتسور شرفات الكمال؛ ثم شوبنهاور ينكر الفردية أي وجود الأشياء المنفردة أو (الإرادات المنفردة) كما يقول، ويرى أنها وهم تتوقف على الفروق الزمنية والمكانية، بينما أساس فلسفة إقبال هو الفردية.
أما من يوجد بين فلسفته وفلسفة إقبال معالم المشابهة وملامح المماثلة أكثر فهو الفيلسوف الألماني الكبير نيتشه. والمزية الكبرى لنيتشه هذا بين فلاسفة الغرب أن عبقريته صبغت الفلسفة بصبغة الإلهام، ولم تكتف في المباحث الفلسفية بانتقاد الفن، بل أتت للعالم بمقياس جديد للحسن والقبح، والخير والشر. وفلسفته ثمرة مزيج من أفكار كانت، وشوبنهاور،(122/48)
وداروين. فقد استنبط من نظرية العلم لكانت أن ليس هناك شئ يقال له علم، بل كل شئ خيال ووهم، وذلك لأن الحقيقة لا يكشف عنها بل تُخلق، ولا يبحث عنها بل تُخترع، وهو أيضاً قد قرر مثل شوبنهاور أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، ولكن ليست (إرادة الحياة) كما رأى شوبنهاور بل (إرادة القوة)، وهي عنده مصدر كل خير وفلاح كما أن (إرادة الحياة) عند شوبنهاور منبع كل شر وخسران. وما أحسن قول البعض أن ما يراه شوبنهاور شيطاناً يراه نيتشه إلهاً.
يرى نيتشه أن (إرادة القوة) هذه دافع قويّ غريزيّ سارٍ في الكائنات، فهو مركز الحياة الإنسانية، بينما إقبال يرى أن مركز حياتها هي الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. ولكنهما يتفقان في أن خوض غمار الآلام ومكابدة المصائب، ومعاناة النوازل، مما لا محيص عنه لصعود الإنسانية في معارج الشرف ولبلوغ تقدمها غاية الكمال. ويتفقان أيضاً في أن هذا العالم المادي هو ذريعة إلى تلك البغية ووسيلة إلى ذلك المطلب، وأن الفن يجب أن يكون ملتقى الجمال والقوة كما يتفقان في أن فلسفة الأخلاق المسيحية غير وافية لضروريات تقدم الإنسان وتسمنه ذروة الكمال. غير أن نيتشه قدح فيها قدحاً شديداً وانتقدها انتقاداً لاذعاً وصرح بأن المسيحية تدعو إلى (أخلاق العبيد) في حين أن إقبالاً اكتفى بالإشارة إلى أنها غير مفيدة للإنسانية لأنها لا تقدر على إماطة اللثام عن قواها الخفية، ولا على الكشف عن استعداداتها المكنونة، وذلك لأنها تدعو إلى الرهبة وترك العالم. وبناء عليه فدعوة إقبال خلاف ذلك كما قال في بيت ترجمه:
غص في البحر وحرب الأمواج ... فإن خلود الحياة في المحاربة
يتفق إقبال ونيتشه في تصور كمال الإنسانية؛ بيد أن نيتشه يراه ممثلاً في سوبرمان (أي فوق البشر) وإقبال يراه في خليفة الله. والفرق الأساسي بين تصوريهما هو أن نيتشه ينكر وجود الله ويقول: (اقتلوا الله! كل شئ مباح. إن الطبيعة والدوافع الطبيعية ليست شراً. ابْعدوا الحياء والكظم! ابْعدوا الأدب والتقيد! إن أخلاق الرجل الحر ستكون الأخلاق المعبرة عن الذات حقيقة)، وعلى هذا فسوبرمان نيتشه محصور في نفسه ومحدود في ذاته، ليس لديه غاية يجري إليها ولا هم يتفرّغ له. وأما الخليفة عند إقبال فحياله الأنانية العظمى، أي الله ذو الرحمة الواسعة، وصاحب العطاء المتصل، فله عنده الدرجات العلى، يجزي بها بما(122/49)
يسعى؛ ثم سوبرمان نيشته عارٍ عن العاطفة جافي الطبع، شديد الوطأة، لأن روح أفكار نيشته أرستقراطية، فرأى أن حقيقة الكائنات القصوى (إرادة القوة)؛ وقرر أنها هي الدافع الغريزي الأقوى في الإنسان فعليه أن يطلبها، ولكن هذا الطلب غير المشروط كان ينجم عنه نظام القِيَم الذي ظلت الحضارة مشتبكة فيه إلى الآن. فهنا أتى نيشته بفكرة (وراء الحسن والقبح) فإرادة القوة عنده لا تعرف حدود الحل والحرمة، والحسن والقبح، لأن كل شئ مصدره ونهايته قوة، عندها حلال وحسن، وكل شئ مصدر ونهايته ضعف، عندها حرام وقبح، والعقائد كذلك ليست عندها متساوية متماثلة، فالفرق الحقيقي بينها ليس عندها من حيث كونها حقاً وباطلاً، بل من حيث كونها مفيدة وغير مفيدة. وهكذا شعرت أرستقراطية نيشته بضرورة أي تغيير جميع القِيَم، فمثل في أن واحد دور الفيلسوف، والمصلح الأخلاقي، والشارع، وخالق الحضارة الجديدة. وكان في دور ارتقاء أفكاره الأخير شاعراً بمهمته هذه.
فعلى هذا النمط وصل نيشته إلى تصور كمال الإنسانية في صورة (سوبرمان) بازاء عامة الناس الذين هم موضع قنوطه ويأسه. فأنشأ فكرته الجديدة للحضارة بتوزيع الاجتماع الإنساني في طبقتين متناقضتين: ذات أخلاق السادة وذات أخلاق العبيد. وقرر أن الأولى منشأ سوبرمان، وأن لأفرادها وهم الأقوياء حق معاملة أفراد الأخرى وهم الضعفاء بالظلم والعدوان، وإن واجب القوى في شريعة الارتقاء وتنازع البقاء الولوغ في دماء الضعيف وفتح جميع أبواب الجور عليه بكل وحشية، فإن السوبرمان أو الإنسان القوي الكامل الصالح للحياة لا يظهر إلا بتدمير الضعيف غير الكامل وغير الصالح للحياة. وأما طبقة الضعفاء أو (ذوو أخلاق العبيد) كما يسميهم هو فقد خلقوا لأستمال الأقوياء فقط، وهم موضع بأس نيشته، لذلك سد عليهم نيشته جميع أبواب التقدم كما سدت ديانة البراهمة على المنبوذين في الهند.
فلذلك كان تصور الخليفة لدى إقبال خيراً من تصور السوبرمان عند نيتشه، لأن روح أفكار إقبال الديمقراطية الإسلامية فالخليفة عند إقبال شخصية محبوبة إلى جميع طبقات البشر تسعى لخيرهم، وتسبغ من خصب طبعها عليهم وتقربهم إلى نفسها؛ فكلما تتقربوا إليها تتدرج حياتهم في مدارج الكمال؛ وهي تمثل اللين كما تمثل الشدة. وهاتان الصفتان لا(122/50)
محيص عنهما لتقدم الاجتماع البشري. قال إقبال في بيتين ما ترجمتهما:
اخلق من حفنة ترابك ... جسما أوطد من حصن منيع
وليكن في داخله قلب رقيق ... كالنهر في جنب الجبل الراسي
إن ما حدا بنيتشه إلى هذه التصورات الأرستقراطية هو خوضه غمار الأدب اليوناني، وهو لم يشعر بأن النظام الاجتماعي اليوناني في هذا الأمر كان ناقصاً. فلو شعر بذلك لم يحسب العبودية كالجزء الضروري للتمدن. فظهور سوبرمانه في الحقيقة على حساب تلك العبودية، وهو يحوز قصب السبق على جهود هؤلاء العبيد، وعلى هذا فشخصيته عند فلسفة إقبال ليست بأكثر من شخصية مستجد
(للمقال بقية) السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(122/51)
كلمات
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
حياةٌ ولكن الحياة تزول ... ودنيا ولكنَّ البقاء قليل
ودهرٌ طويلٌ ماله من نهاية ... ولكنَّ فيه العيشَ ليس يطول
وشمسٌ يسرّ الناظرين طلوعُها ... ولكن لها بعد الطلوع أفول
وفي كل يوم للنهار إذا أتى ... غدوٌّ ومن بعد الغدو أصيل
ربيعٌ ولكن لا يطول زمانهُ ... وزهرٌ ولكن يعتريه ذبول
وإن حياة المرء آفةُ نفسه ... فإن لم يَغُله الموت فهي تغول
وفي القبر قد تبقى من الميْت أعظم ... ومما بناه أرسمٌ وطلول
وما الموت للإنسان إلا ضرورة ... فينشأ من جيل تقاعس جيل
يواري الفتى تحت التراب صديقَه ... ويدفن في الأرض الخليلَ خليل
كأن الأسى جمرٌ له من لهيبه ... ذوائب أصلى نارَها وذيول
كأن فؤادي يستحيل بها إلي ... دموع ومن عيني الدموع تسيل
أمامي أرى ماءً نميراً وبي صدى ... ومالي إلى الماء النمير سبيل
يبيتُ ابن أرض الرافدين على الطوى ... ويشبع من خير البلاد دخيل
وما الأرض بين الرافدين شحيحةُ ... ولا الماء يسقي الرافدين قليل
تهون فلول السيف في حومة الوغى ... إذا لم تصب نفسَ الكماة فلول
أفكّر في الماضي فلا هو عائدٌ ... إليّ ولا عن ناظريّ يزول
ولو كنتُ ممن يؤثرون نفوسهم ... لملت مع الأيام حيث تميل
طريقي طريق الصدق لو كان منجياً ... فما ليَ حتى الموت عنه نكول
ولي كبدٌ أخشى عليها من الجوى ... إذا ما نأى بالظاعنين رحيل
وكم مرّة واريتُ صحبيَ للثرى ... على وجه مَن عزُّوا عليّ أهيل
يقولون ما للدهر يقسو بصرفه ... عليك ويبغي غِرَّةً ويصول
ومن أنا من دهري فيطلب غِرَّتي ... ويغريه بي بعد المشيب ذُحول
أكوّن رائي في الحياة مفكّراً ... ولكنَّ رائي في الحياة يفيل(122/52)
ورب عويصٍ في الحياة أمامه ... يظلّ سواءً عالمٌ وجهول
من الدهر تبغي خَلْقَ ذي عبقرية ... ولكنه بالعبقريّ بخيل
من الغُرّ أما عقله فهو راجح ... يصيب وأما وجهه فجميل
ويعرف من نور السهى ما بجوفها ... على أن ما يأتيه منه ضئيل
إذا الشمس ذرّت من وراء حجابها ... فللأرض منها غرّة وحجول
أُلام على نَيْلي من الشعر شهرةً ... ومَن ذا يعاف المجدَ وهو أثيل
يجيش بصدري الشعر من سورة الأسى ... فأشدوا به مستعبراً وأقول
ورب يراع جاء في كف شاعر ... بما لم يجئه السيف وهو صقيل
إذا امتلك الذعرُ النفوسَ فجاءة ... فأوَّل ما يَلقي الضياع عقول
وإن حياة الشيخ بعد صراعه ... وخيبتِه عبءٌ عليه ثقيل
لقد حال مني كل شئ عرفته ... سوى ذكرياتٍ لا تكاد تحول(122/53)
الموت
للأستاذ فخري أبو السعود
أيا قادماً تخشَى النفوس قُدُومَه ... لأنْتَ صديقٌ في ثياب غريم
قدومُك تحريرُ الأُسارى ولو درتْ ... لما أنكرتْك النفسُ يوم قدومِ
كما يُنكرُ الطفلُ الطبيبَ وعنده ... له بُرْءُ أسقامٍ ودَمْلُ كلوم
بَلَوْتَ نفوسَ الخلْق من عهد آدم ... فأنتَ بها يا موت جدُّ عليم
إذا قسَت الدنيا على مُتعَب بها ... بسطتَ له لأْياً جناحَ رحيم
ومن شَفَّهُ قيظُ الحياةِ أغَثتَهُ ... بِبَرْد نسيم في الأصيل رخيم
فأنت لِنِضْوِ العيش من دون صحبه ... ومن دون قُرباه أُبَرُّ حميم
وأنتَ دواءُ الجسم قد خيلَ داَءهُ ... تميط الأذَى عن مُوجَع وسقيم
وأنت بلاغُ النفس حَيْرى مَرُعَةً ... بوادي شكُوكٍ جمةٍ وهموم
وفيك ابتعادٌ عن جهالة جاهل ... وعن قول مَأْفونٍ وفعل لئيم
وعندك نسيانٌ وطول زهادة ... لكل مُراد في الحياة عقيم
فأنت - وإن غُلْتَ المنى - أطْيَبُ المنى ... وفيك نعيمُ المرءِ أيّ نعيم
لعمرك ما حَيٌّ بأرْوَحَ منزِلاً ... على الأرض من بالٍ بها ورميم
ولو علم الجاني لما جادَ عامداً ... على خَصمه بالموت جُود كريم
وتمحو يداك الحقدَ والخوفَ والأسى ... وكلَّ بلاءٍ في النفوس قديم
وكلُّ بلاءٍ لم يسِغ طعمَه الفتى ... عليه طَوَى بالأمس كشح كظيم
وأنت تُريح الفكر من كلِّ مُعْضِلٍ ... يَظَلُّ لَهُ في حَيرةٍ ووجوم
وتطوِي عن الأجفان صفحة عالمٍ ... مَليءٍ بأنواع الشرور ذميم
وتطوي كتاب الأمس طياً وما مضى ... به من بغيضٍ ذكرُه وأليم
عزاءٌ لبعض الناس أنك قادمٌ ... وأن شقاَء العيش غيرُ مقيم(122/54)
المادة
للأستاذ محمود غنيم
فتَّشتُ بين الناس عن زاهدِ ... فلم تقع عيني على واحدِ
ما أزهدَ المرَء إذا لم يجدْ ... وأبعدَ الزهدَ عن الواجد
لا يُزْهَ إنسانٌ بآدابه ... أو يفتخر بالسلف البائد
المجد إما سطوةٌ أو غنىً ... ما العاجزُ المعدِمُ بالماجد
فقيمةُ الشعب إذا قستها ... بقيمة الصَّادر والوارد
وقيمةُ الفرد بما يملك الْ ... فَرْدُ من الطّارف والتَّالد
كم طفلةٍ أوْدَعَ من هِرَّةٍ ... حَوَّلها الجوعُ إلى مارِد
قد يُحسدُ المرءُ على رزقهِ ... ولا أرى للفضل من حاسد
لم يفتتن بالمكْرُماتِ امرؤٌ ... والغانياتُ فتنةُ العابد
العلمُ والأخلاق ما قُدِّسا=إلا لنفع منهما عائدِ
لا يَردَعُ التاجرَ عن غشِّهِ ... إلا اتِّقاءُ المتجرِ الكاسد
لم يَخْتَر الناسُ دياناتهم ... بل أخذوا بالمذهَب السائد
ليس جمالُ الطبع في غادةٍ ... مثلَ جمال اليَدِ والسَّاعد
يا زاعمَ العِّفةِ في حبهِ ... ما تبتغي من كاعبٍ ناهد؟
لم يتَّقِ اللهَ امرؤٌ للتقى ... بل لنعيم الجنة الخالد
تَيمَت الناسِكَ حُورِيةُ ... ذاتُ قوامٍ أهْيَفٍ مائد
تَسقيه كأساً حُلوَةَ الطعم من ... خمرِ الجنانِ السيِّغ البارد
لولا جمال الحورِ ما لامَسَتْ ... أرضَ المُصلَّى جَبهةُ الساجد
هل كنتَ تلقي في الورى ساعياً ... لو كان يسعى الرِّزقُ للقاعد
سِيَّان مَنْ يسعى إلى قُوتِهِ ... بالسلْبِ أو بالوَرَع الزائد
كم لحيةٍ أجْدَى على ربِّها ... من ألفِ سهمٍ بِيَدِ الصائد
جُرْحُ يد المرءِ لَهُ قائدٌ ... وما لجُرح العِرْضِ من قائد
كم مُجرمٍ يقتُل روحاً ولا ... يُجزَى جزاَء القاتل العامد(122/55)
قد يُتركُ الأولادُ من جهلهم ... صَرْعى ولا حدَّ على الوالد
صاح دَع الرُوحَ ودع قُدْسها ... نحن عبيدُ الجسد الفاسد(122/56)
حمامتي!
للشاعر الإنجليزي (كيتس
بقلم عيسى وهب الله الشمبيري
أظنها من حزنها قد ذوت ... ورفرف الموت على وكرها
ويلاه! ماذا ساءها فانزوت ... تطفئ بالحزن سنا عمرها
كانت على سيقانها الناعمة ... خيوط خز صنعتها يدي
تزهو بها، كالوردة الحالمة ... على غُصين مائس أمْلد
جفت وأبلى السقم سيقانها ... واحسرتا من سكرات السقام!
يا زهرة أذبل عيدانها ... عصف الردى كيف أتاك الحمام؟
قد ضمك زماناً مضى ... لم تسعدي فيه بنجوى الحبيب
والآن قلبي وكرك المرتضى ... فكيف هدت جانبيك الكروب
والحمص الأبيض كم أشرقت ... في ثغرك المحبوب حباته!
والشاعر المحزون كم صفقت ... فوق لماك العذب قبلاته!
فَلِمْ هجرت الدار لم تسعدي ... بين يدي فيها بعيش مصون!!
لو كان أمر الموت طوع اليد ... فديتك اليوم بروحي الحزين!(122/57)
القصص
صور من هوميروس
12 - حروب من طَرْوادَة
بتروكلوس
للأستاذ دريني خشبة
إن يكن قد أصاب الطرواديين قَر {حٌ فقد أصاب الهيلانيين قَرحٌ مثله.
ذلك أنه ما كاد يغادر نيتيوما حومة الوغى، صادعاً بأمر الإله الأكبر، حتى أفاق الطرواديون وأحلافهم، كما أفاق الهيلانيون من قبل حين غادر الحومة مارس وزبانيته.
أفاق الطرواديون إذن، وصحا زيوس من رُقْية حيرا، فأقسم إلا أن تدور الدائرة على جنودها من شانئ أخيل، وإلا أن يحيق بهم مكر هذا السحر ملأ جفنيه، وغلّق سمعيه، وأطلق أيديهم في أبناء طروادة يضربون منهم كل عنق كريم وكل بنان!!
وما هي إلا أن لم الطرواديون شعثهم، ورتقوا فتقهم، حتى استطاعوا أن يعيدوا الزحف، ويأخذوا أعدائهم المزهوين بنشوة النصر، على غرة منهم؛ ويطّلع سيد الأولمب من ذروة جبل إيدا فيمكن لهم من أبناء هيلاس، ثم يسلط عليهم صواعقه، ويفتح عليهم السماء فتمطرهم بعذاب واقع، ليس له من دونه دافع، إلا أن يُثأر لابن ذيتيس، حبيبة القلب. . . ومنية النفس!
وفزع أوليسيز إلى رمحه. . .
وأجاممنون إلى سيفه. . .
وديوميد إلى صَعْدته. . .
وأجاكس إلى جُرازه. . .
وفزع الجنود إلى أسلحتهم يشحذونها، وإلى دروعهم يلبسونها، وإلى الجياد الصافنات يمتطون صهواتها. . . . وإلى الواقعة فيخوضون خُبارها، ويثيرون عجاجتها. . .
ولكن!. . . بلا جدوى. . .!
فلقد طوردوا حتى بلغوا سيف البحر؛ وضُيّق عليهم حتى نظروا إلى الهزيمة تأخذهم من(122/58)
هنا وهنا؛ ورأوا إلى هكتور كالأسد الهصور يزلزل الساحة بزئيره؛ ويثير في قلوب جنوده الحمية بافدامه، وأينما توجه الموت في ركابه، وقطرت المنية من سنان سيفه، وانقدح الشرر من حوافر خيله، وتناثر الزبد من أشداقها، فيكون سُماً في قلوب الهيلانيين.
وطرب الطرواديون لهذا النصر المفاجئ، وشاعت الخيلاء في أعطافهم حين أبصروا فرأوا أوليسيز يغادر الميدان متأثراً بجراحه، وأجاممنون يفر بنفسه كأحقر الأجناد، وديوميد محمولاً إلى سفينته كمن يجود بروحه، وأجاكس العظيم يولي دبره غير متحرّف لقتال. . . . فأوقدوا مشاعلهم، وأججوا نيرانهم، واعتزموا إضرامها في أساطيل الأعداء، ليكفوا طروادة شرورهم، وليأمنوا آخر الدهر مكرهم، وليتم نصرهم. . .
وهنا. . . . . . . . . . . . . . .؟!!
انتفض بتروكلوس! بتروكلوس الكبير، صديق أخيل، وأعز الناس عليه، وجذوة الحماسة المتأججة في ضلوع الميرميدون!
لقد نظر بتروكلوس فرأى جموع الهيلانيين تنهزم إلى البحر فتلقى بعتادها فيه، ثم يسبح منهم من يسبح إلى الأسطول الحزين بدا عليه كأنه يرثى لرجاله، ويبكي على أبطاله، ثم يغرق منهم خلق كثير، فيبتلعهم اليم. . . إلى غير عود. . . ونظر فرأى الطرواديين وأحلافهم وعلى رأسهم هكتور الهائل كأنه زوبعة يأخذون أبناء هيلاس غير راحمين. . . ثم نظر أخيراً فرأى إلى حَمَلة المشاعل والنيران يزحفون إلْباً فيكونون غير بعيد من السفائن اليونانية، لو أعملوا منجنيقهم في قذفها لأصبح الأمر غير الأمر، ولأتوا على آخر قوة لبني قومه، ولباء بنو قومه بالفشل العظيم! ولعاد الميرميدون كاسفي البال يحملون إلى هيلاس أنباء مصارع إخوانهم، الذين تخلى عنهم أخيل وجنوده وهم أقصى ما يكونون حاجة إليهم؛ ولكن أخيل لا يرضى أن ينسى الضغينة التي بينه وبين أجاممنون حتى في هذه الساعة العصيبة، فينهض لنصرة إخوانه اليونانيين، وليدفع عنهم هذا البلاء الذي حاق بهم، وليرد عنهم عادية هذه الكلاب التي تنوشهم وتمزق صفوفههم. . . . . . . . . . . .
ورأى يتروكلوس أنه لا سبيل لعودة الميرميدون إلى وطنهم بفرض نجاتهم من نيران الطرواديين، يجرون أذيال الخيبة، ويلملمون أكفان الفشل، فثارت في قلبه نخوة الجندي الباسل، واشتعلت في أضالعه نيران الغيرة من مفاخرات هكتور ومنابذاته التي يملأ بها(122/59)
السهل والجبل، ثم تفطر قلبه أسى وحسرة على هذه الجموع الهيلانية التي تتدافع إلى البحر. . . . . . فكأنها تفر من موت إلى موت، وتنجو من حمام إلى حمام. . . . . . فذهب من فوره إلى أخيل، واقتحم بابه غير مستأذن؛ وقال:
(أخيل!)
(فتى هيلاس وغَوْثَها في كل رَوْع!)
(يا سليل الآلهة، المترفع عن الدنايا!)
(أرأيت؟!. . .)
(ماذا تتحدث القرون إذا قيل إن الهيلانيين باءوا بالهزيمة، فلم ينهض أخيل لنصرتهم؟ وماذا تحمل إلى هيلاس إذا أُبنا غداً غير أنباء السوء ووقائع تلك النهاية المحزنة؟ وكيف نلقى الأمهات المعولات على أبنائهن؟ وماذا نقول للوطن إذا طالبنا بصحيفة الحساب عن هذا اليوم الأسود الذي بدت بوادره، وأخيل العظيم لا يحرك ساكناً؟ وكيف نتقي نقمة الشعب الذي ندبنا لهذا الأمر إذا خُنا أمانته، وبددنا ثقته، وحطمنا آماله؟ وأين تذهب الشهرة الطويلة التي أحسبنا خدعنا بطراوة العيش فيها والأحاديث الممسولة عنها؟).
(أخيل!)
(بل فكر معي إذا تم النصر لهذه الذئاب الوالغة في دمائنا، هل يكون بحسبها أن تستأصل شأفة هذا الجيش المنهزم، وتحرق سفنه، ثم لا تعتزم غزو هيلاس العزيزة، لتتأثر لهذه السنين السوداء التي أذقناهم طوالها رهق الحياة وخباثة العيش!!).
(ثم أين لوطننا قوة بعد هذه القوى المبعثرة، وأنى له جيش بعد هذا الجيش المُراع، ومن لنا بأسطول يعنو له الموج، وتذل لعزته البحار؟)
(أخيل!)
(أنظر إلى الميرميدون تكاد تقتلهم الحُنْقَةُ على هذه البلادة التي أخمدت سورة الحرب في نفوسهم، وأطفأت جذوة البطولة في قلوبهم. . . أنظر إليهم يكادون يقذفون بجموعهم من سفائنك لنصرة إخوانهم، وليلقوا على هكتور درساً في النزال لا ينساه آخر الحياة!)
(مالك لا يحركك هذا اللظى يا أخيا؟! إن هذا يوم ينسى فيه أمثالك أحقادهم، ويدفنون سخائمهم، ولا يبالون ألف متعسِّف أفاقٍ مثل أجاممنون! إن هذا يوم هو كله للوطن من دون(122/60)
أيام الدهر جميعاً، فإذا أفلتت فرصته من أيدينا، أفلتت عزة الحياة وكرامة العيش من أيدي الهيلانيين جميعاً؛ ولن يقال في سبب ذلك إلا أن أخيل العظيم قد تقاعس بجنوده عن نصرة الوطن، وفي سبيل إشباع شهوة الخصومة قامر بالوطن، وأبناء الوطن، ومستقبل الوطن!. .)
(إيه يا فتى هيلاس، وحامي ذمارها إذا اشتد بها الكرب!)
(مالك تصمت هكذا كأنك تسمع إلى ألف قرن تناديك، وتضع ثقتها فيك؟!)
(أنا زعيم لك يا فتى هيلاس، أن هذه الجحافل الطروادية سترتد على أعقابها فتكون للهيلانيين الكرّة عليهم إذا رأوْا خوذتك التي تكسف بلألإها شمس الضحى، وشاهدوا هذه الشعرات البيض التي تزين ذؤابتها!)
(أخيل!)
رد على أعز الناس عليك، فالظرف أحرج من المطل، وأقصر من هذا الصمت! والساعة مفزعة مروعة، وإخواننا في الوطن والآلهة يصرخون ويموتون!
(أخيل!)
إن كان يعز عليك أن تحنث في عزمتك التي عزمت، فأذن لي أن ألبس خوذتك، وأمتشق سيفك، وأحل في دروعك السوابغ، ثم أسوق الميرميدون باسمك، فأرد عادية القوم، وأجير إخواننا الهيلانيين!. . . . . . . . .
وكان بتروكلوس يكلم أخيل وكأنما وحي السماء يتنزّل على قلب البطل، بلاغة وحرارةً وقوةً إيمان وثبات يقين، ونفساً تجيش بالحب وأقدس المنى لوطنٍ مصابٍ في أبطاله، منقوصٍ في عزائم بنيه، يتلفَّت من خلف البحار، يرى ماذا يصنع أخيل في هذا الروع، وجنوده الميرميدون!!
وهب أخيل من جلسته الخاملة، وأخذ يدَيْ بتروكلوس في كلتا يديه، وطبع على جبينه المرتجف قبلةً مهر بها صك التضحية في سبيل الوطن الشقي، وقال لصديقه:
(بتروكلوس! أخي! يا أعز جنودي عَليّ!
(أما أن أذهب أنا فأرد هذه الذئاب، فلا! ولكني آذن لك بكل ما أردت من قوة وعتاد، ما دمت تؤثر صالح الوطن، وتحرص على حقن دماء الهيلانيين)(122/61)
بتركلوس! لا يَدُرْ بخلدك يا صديقي الكريم أنني انتويت أن أغضب غضبةً لا انتهاء لها؛ ولكنني أُمرت أن أنتظر حكم السماء بيني وبين خصمي الذي لم يتورع أن يهتك أمر السماء، فيسلبني ثمرة خلعها رمحي علي، وقدمها لي جيش بأسره. . . هلم يا بتروكلوس فالبس دروعي واسبغ عليك لأمتي، وشرف خوذتي بجبينك، ولأذهب أنا فأعد لك الميرميدون، ولتبرهنوا لناكر الجميل أننا سبب مجده وخير جنده، وذخيرته كلما حز به كرب، أو ألم به خطب
(هلم. . . . . هلم. . . . .)
وانطلق أخيل فصاح بجنوده، فهرعوا إليه في سُفُنِه الخمسين، الراسية بمعزل من سائر الأسطول الهيلاني. . . . وكم كان رائعاً أن يتحرك أسطول أخيل، في أحرج ساعةٍ مرت بهذا الجيش المغير، الذي وقع فريسة كله في قبضة الطرواديين! لقد كان أجاممنون وجنوده ينظرون إلى سفن أخيل؛ وكأنها الخلاص من الموت الذي يلاحقهم، والمنايا التي ترقص فوق هاماتهم، وهي مع ذاك فيما خُيل لهم تزور عنهم، وتشيح عن نجدتهم، لأنهم لؤموا مع زعيمها، وأنكروا عليه ما اعترفت به السماء أنه حقه خالصاً له!
أقلع أسطول أخيل، ولكنه لم يقلع ليفر من واجبه، بل أقلع نحو الشمال ليكون جنده بمأمن، يهبطون إلى الشاطئ من كبسة الصفوف الظافرة، المشغولة باستئصال شأفة الهيلانيين.
وما هي إلا ساعة حتى رسا شمال طروادة، وحتى أخذ سيل الميرميدون ينهمر على شاطئها الشاحب فيملؤه، وكأنهم كِسف من العذاب أرسله نيتيون، رب البحار، من أعماق أليم ليقذف بها في قلوب الطرواديين!
وطفق أخيل يجيشهم، فجعل منهم خمسة جحافل كقطع الليل البهيم؛ فكان على رأس الجحفل الأول البطل الحلاحل، والقائد المناضل، منستيوس بن سبرخيوس، ابن السماء وصاحب العزة القعساء.؛. وعقد لواء الجحفل الثاني لابن هرمز المقدام، الفتى يودوروس، الذي طالما كان جزعاً في فؤاد الردى، ووجلاً في قلوب المنايا!!. ووضع على رأس الجيش الثالث القائد بيزاندر، ابن ميمالوس، صفي الآلهة وهبة الأولمب. وأقام على الجيش الرابع صديقه فونيكس، الذي آثر البقاء إلى جانب أخيل حين أقبل مع أوليسيز وأجاكس، يفاوضون في الصلح من قبل أجاممنون؛ أما الجيش الخامس فقد عقدت رايته لابن ليرسيز،(122/62)
الكميدون العظيم، أخي الغمرات وصاحب الثارات.
أما بتروكلوس! فقد أقدم يتخايل فوق عربة أخيل، يجرها جواداه الأشبهان، إكسانثوس وبليوس، أعز خيل زفيروس، وأحب دوابه إليه، ولقد كان مظهره الوقور يبعث الروع في النفوس: فهذي خوذة أخيل تتألق فوق هامته، والريح العاصف تداعب شعراتها فتجعل منها بركاناً يقذف الحمم. وهذي دروع أخيل سابغة فوق الصدر والفخذين والذراعين، كأنها لبدٌ نبتت فوق حيدْ جبل شامخ ينطح السماء برَوْقيه.
وتقدم أخيل فصافحه، ومنحه شرف القيادة العامة، وخطب الجنود فقال:
(إيه أيها الميرميدون! هذا يومكم!
لقد كنتم تنظرون إلى الساحة، وبكم من الظمأ إلى اقتحامها ما لو أن بعضه بكم الآن لزلزلتم الجبال وخرقتم الأرض؛ ولقد كنتم تعذلونني فتقسون علي في أني أحتجزكم هنا ووقفت في سبيلكم دون نصرة إخوانكم، فها هو الميدان أمامكم فاشفوا صدوركم وأنقذوا أجاممنون مما حاق به، ولا يجرمنكم شنآنه ألا تغيثوه، أغيثوه فنصره عز لكم؛ شد الإله أزركم، وباركت الأرباب أسيافكم، وأحبت مجد الوطن بما أنتم قادمون عليه؛ سيروا على بركة زيوس، وفي حمى حيرا، وعين ميزفا تكلؤكم).
وانطلق الميرميدون فانطوت الأرض من تحتهم، ورجف الوادي رجفة أجفل منها السهل والجبل؛ إذ كانوا ينسابون فلا يربعون على شئ، ويتدفقون فما تحجزهم لابة، ولا يعوقهم جُرفُ، وتسجد من دونهم حزون الأرض وآكامها.
وانتظم خميسهم؛ فبرز القلب تتبعه الميمنة، تلقاءها الميسرة؛ وهرول الجناحان فأخذا السبيل على جحافل الطرواديين.
ونفخ في البوق فانقض الميرميدون على مؤخرة الأعداء الظافرين، فبدّلو نشوة ظفرهم بأنكر من سكرة الموت، وانطفأ في أبصارهم بريق النصر فكان أغطش من ظلام الهزيمة؛ ونظروا فرأوا تلك الخوذة المذهبة التي طال عهدهم بها، وحسبوا أنهم أصبحوا بنجوة منها: خوذة أخيل التي كانت تكفي وحدها لإلقاء الرعب في قلوب الطرواديين، وقذف الوجل في نفس كل منازل أو مناجز.
وتصايح بعضهم ببعض: (يا للهول يا صاح! لقد أقبل أخيل! النجاء النجاء! أين كان(122/63)
الطاغية؟. . . . . .) ثم تنادوا يحذر بعضهم بعضاَ: (أي أيها الطرواديون! خذوا حذركم! الفرار الفرار من الداهية الجبار! لقد قطع الميرميدون رجعتنا! دعوا الهيلانيين وانشدوا خلاصكم، إلى البوابة العظمى! أيها المقاتلون! لا تزحموا الجسر! القهقري القهقري!. . . . . . (إلى أخر هذا النداءات المنزعجة الواجفة. . .
ولكن أين يهرب الطرواديون من بتروكليس؟!
لقد كان إكسانثوس وبليوس - الجوادان الكريمان - زوبعتين مُغْضَبتين، تثيران الرهج وتعقدان العجاجة، في جميع أنحاء الميدان: في القلب، في الميسرة، في الميمنة، في الجناح الأيسر، في الجناح الأيمن. . . . . . بل. . . في السماء!!
وكانت الشمس، شمس طروادة الملتهبة، تعكس أضواءها على خوذة أخيل، فتذهب أفئدة الطرواديين!
واختلط نظام القوم، وتدافعت جموعهم مذعورة مولية نحو الجسر الكبير، الذي نصبوه فوق الخندق حول اليوم. ولم يحتملهم، فهوى بالألوف المؤلفة في جوف الخندق؛ ولكن المؤخرة، وكانت غالبية الجيش، لم تنتبه لما حل بأكثر المقدمة وكذلك تدافعت لا تلوي على شئ، فجعلت من جثث الموتى قنطرة تعبر فوقها إلى. . . طروادة!!
وأخذ الميرميدون السبيل على كتائب كثيفة فأبادوها، ثم جال بتروكلوس جولة هنا وجولة هناك، يبحث عن أصحاب النداءات المنكرة التي كانت تملأ الساحة شماتة بالهيلانين، منذ لحظات، فلقي منهم برنوس فصرعه، ثم ثستور فجند له، ثم اريالوس فأرسل به إلى الجحيم، وعشرات غيرهم من بني طروادة النجب.
وكانت أعز أمانيه أن يلقى هكتور؛ فسعى إليه وضيق الحصار عليه، وأرسل إليه طعنة لو أصابت جانب الجبل لصدعته، ولكن، يا لهكتور!! لقد ريع من هول ما رأى من مقاحمة بتروكلوس، فألهب جياده الضاريات فعدت به وأنقذته من قتلةٍ محققة وموت مبين.
ولشد ما شده بتروكلوس إذ رأى إلى جانبه فتى هيلاس، ومحاربها الصنديد أجاكس، يقود فلول الهيلانيين، ويقتحم بهم الحلبة كرة أخرى!؟ غير مبال بجروحه التي يتدفق من أفواهها الدم صبباً.
وكم كان سرور الهيلانيين عظيماً حين استيقظوا من سكرة هزيمتهم فرأوا جنود أخيل(122/64)
الأنجاد يذودون عنهم، ويردون عادية الموت والقتل والغرق عن جموعهم!؟
ونشبت ملاحاة بين بتروكلوس قائد الميرميدون، وساربيدون البطل الطروادي الكبير، أدت إلى مبارزة دامية، وانتهت إلى فجيعة طروادة في أشجع فتيانها بعد هكتور! إذ شكه بتروكلوس شكة جرعته غصة الردى، وقربت إليه ورد الحمام!!. . . . .
وانكشفت غمة الهيلانيين
ولكن الميرميدون هم الذين دفعوا ثمن هذا النصر، ودفعوه غالياً وعزيزاً!! يا للهول!
لقد قُتِل بتروكلوس!!
فمن لك بعده يا أخيل!!
(لها بقية) دريني خسبة(122/65)
رحلة إلى حدود مصر الغربية
مرسى مطروح، سبوه، السلوم
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
وللقوم عادات عجيبة في الأفراح، فإذا ما تم الاتفاق على المهر وقدره ستة ريالات (ومن هنا جاءت الأغنية القديمة: بستة ريال بابا جوزني) تعهد به الزوج على أن يدفع عند حلول أحد الأجلين الموت أو الطلاق، ثم يقدم قطعاً من القماش، وفي ليلة الزفاف يدعى الأحباب إلى الطعام، ويطوف عليهم خلال ذلك كشف بأسمائهم، فيتبرع كل منهم بما تجود به نفسه، وقد شهدت فرحاً اكتتب المدعوون فيه بأربعين جنيهاً، وذلك الاكتتاب يعد ديناً عليه يؤديه كلما دعي في أفراحهم؛ وجل تكاليف الفرح تقع على عاتق أهل الزوجة؛ وفي ليلة (الحنة) تمشط رأس العروس في حفل كبير يحضره نساء من الفريقين وتلبس حلي ثقيلة من فضة، تكاد تغطي جسمها كله، والعجيب أنها مقترضة من الغير فلا يجوز لها أن تلبس حليها الخاصة إلا بعد الزفاف، وتلك الحلي المقترضة ترد لأصحابها بعد الزفاف بأيام؛ وفي ليلة الزفاف يقوم بين الفريقين شبه شجار ومشادة يشترك فيها نساء الفريقين، طائفة تحاول أخذ العروس بالقوة، والأخرى تحاول منعها، وعند بزوغ الفجر تخطفها إحدى السيدات وتجري بها إلى بيت الزوج، وبعد أن يدخل الزوج بها يظل الثلاثة الأيام الأولى نافراً من أهله وصحبه، يخرج قبيل الشمس ويظل في الحقول إلى المساء لكيلا يراه أحد منهم، وفي ذلك شئ من التأدب والاحتشام لا بد منه! ثم يعد أهل العروس صحافاً من طعام (الرقاق) أو من العدس والحمص يسمونه (أطقاع) يحمل إلى بيت الزوج، ويحاول أهل الفريقين أن يتخاطفوه في الطريق، فإن وصل إلى الزوج سالماً أكله وإلا التهمه الناس في الطريق تيمناً. وفي صباح اليوم الأول من الزفاف (الصباحية) يعد أهل الزوج (شجرة العرس) وهي من جمار (لباب) نخلة طيبة تخرط في شكل أنيق وفي طول العروس تم تزين بالأعلام وسائر أنواع الفاكهة، وتعلق عليها الحلي الفضية التي كانت قد اقترضتها الفتاة، ثم تحمل تلك الشجرة وسط حفل يكاد يحضره كل أهل البلدة، ويطاف بها في الطريق إلى أن تصل بيت العروس، وهناك تقوم وسط البيت أياماً وكأنها عروس قامت تعوضهم عن فتاتهم، وإذا ما قاربت اليبس قطعت وأكل منها المحبون، وبخاصة الفتيات(122/66)
اللواتي يرغبن في الزواج تيمناً وتبركاً؛ وإذا ما رزق الزوجان مولوداً سارع المحبون بتقديم قطع من قماش أبيض إن كان المولود ذكراً أو قماش ملون إن كانت أنثى، وقد تبلغ تلك القطع بضع مئات تسد حاجة الطفل من الملابس شطراً كبيراً من عمره. وإذا مات الزوج عكفت الأرملة في معزل من الناس جميعاً لتقضي عدتها وقدرها ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي صبيحة اليوم الأخير تخرج لزيارة قبر زوجها، والويل لمن لاقاها في طريقه إذ ينصب عليه نحسها، لذلك ينبه الناس بعضهم بعضاً ألا يخرجوا في الصباح لأن (الغولة) ستكون في طريقها إلى المقابر؛ وقد يطوف بالنبأ مناد ينبه الناس، وبعد عودتها تقصد إحدى العيون (عين طموس) فتغتسل فيها، فإن اتفق أن لاقاها شخص أصابه نحسها كله، وإلا استأجر أهلها فقيراً يلقاها ليرفع عنها وصمة النحس، وبعد ذلك تسير حرة ولا ضير على من لاقاها أو تحدث إليها أو رغب في زواجها. وعادة الندب ولطم الخدود شائعة لديهم، ومقابرهم متجاورة، إلا من اشتغل بالذبح (القصابون)، أو بعصر الزيتون، فهؤلاء يدفنون في أماكن نائية، فكأنهم من المنبوذين.
ومن أشهى الأطعمة لديهم (لِمْصَفَّة) وهي مزيج من القرع والطماطم واللحم والزيت، ثم (إنْقطة) وهي فطير بالزيت والعجوة، وكل غذائهم بالزيت، ولا يكادون يعرفون (السمن) قط؛ وأحب المشروبات عندهم (اللقبي) يتخذ من عصارة لباب النخيل، وذلك بأن يكشف عن لباب النخلة وتجرح وتوضع تحتها آنية يتجمع فيها السائل، وقد تدر النخلة منه صفيحة كبيرة (4 جالون) في اليوم الواحد، وتظل تعطي النخلة هذا القدر زهاء نصف عام، ثم تموت، لذلك تراهم لا يأخذون من النخيل الجيد إلا القليل كل يوم لكيلا يؤثر ذلك على حال الشجرة فيضنيها. وطعم ذلك الشراب وهو طازج حلو لذيذ، لكنه إذا ترك قليلاً تخمر فأصبح مسكراً قوياً، وهم يشربونه متخمراً، وبعضهم يدمن تناوله.
ويدهشني تقاعد الناس هناك عن استغلال موارد تلك الواحة الغنية، فالأرض المنزرعة محدودة جداً وهم لا يحاولون زيادتها رغم وفرة المياه وسهولة الري فيها، وحتى البساتين لا تلقى من عنايتهم إلا القليل رغم أن المنطقة جد صالحة لسائر أنواع الفاكهة والزيتون والحبوب، وقد تمثل الفرق أمامي مجسماً بين الناس هنا وبين أهل (الواحات الخارجة) فهم هناك يستنبتون الحبوب وبخاصة الأرز والقمح والشعير بكثرة هائلة، وينتجون غلتين في(122/67)
الأرض الواحدة كل عام، ويعنون بتسميدها ولا يفتأون يوسعون المساحة المنزرعة يوماً بعد يوم وينقبون عن ينابيع جديدة؛ أما أهل سيوة فمتواكلون قانعون حتى ملاك الأراضي يتركونها لطبقة العمال (الزجالين) ولا يكاد المالك يزور بستانه مرة كل أعوام. وعندي أن الحكومة لو أوفدت طائفة من (الصعايدة) وأقطعتهم مساحات في مجاورة الينابيع في سيوة لكان لتلك الواحة شأن آخر في الإنتاج خصوصاً وأن الطرق المعبدة الجيدة تربطها بالسلوم وبمطروح والسيارات تقطعها في أقل من عشر ساعات.
قمنا نودع سيوة عائدين إلى مطروح، ثم أقلتنا إحدى الطوافات وكانت أجمل البواخر وهي (الأميرة فوزية) إلى السلوم فقضينا يوماً كاملاً ونحن نسير إزاء السواحل المصرية الوطيئة.
وفي باكورة الصباح دخلنا خليج السلوم الذي حاكي (الحويصلة) في تقوسه ورسونا على شاطئه الرملي فأشرفت الجبال من ورائه في طوق هائل أظهر لنا متعة الموقع من الناحية العسكرية؛ وتلك الجبال هي حافة الهضبة الصحراوية الداخلية التي تؤدي إلى الحدود الطليانية وارتفاعها 190 متراً. وما كادت الباخرة ترسو حتى تهافت أهل البلدة عليها في جموع لا حصر لها من سائر الطبقات، وكانت تبدو عليهم علائم الفرح والسرور لأنها تحمل إليهم مؤونتهم من الطعام والخضر والفاكهة وحتى الماء لأن موارد ماء الشرب هناك معدومة تقريباً، فالباخرة تملأ لهم مستودع الماء الذي منه توزع على الموظفين يومياً بمعدل (صفيحة واحدة) لكل فرد، وإن اعوزهم الماء بعد ذلك أتموا حاجتهم من المياه المكثفة من البحر وقد قامت الآلة المكثفة (كندنسر) على حافة الماء. على أن ماءها رغم نقاوته غير صحي لخلوه من المواد اللازمة للجسم التي لا يخلو منها ماء الشرب عادة.
ويوم وصول الباخرة عندهم هو يوم (الملوخية)، لأن الناس جميعاً يطبخونها لأنها أسرع الخضر تعرضاً لليبس والعطب، ولقد خلقت الباخرة جو عمل وحركة غير عاديين وسط تلك الجهات الساكنة، فقد تهافتت سيارات النقل والحمالون وبدأت العربات المعلقة الهوائية تشحن حاجات الجيش المعسكر فوق المرتفعات، فترى العربات تجري معلقة على الأسلاك إلى قمة الجبل ثم تعود فارغة، وحتى زوارق صيد الإسفنج تبتاع ماء الشرب لها من الطوافة؛ والمنطقة غنية جداً بالإسفنج الجيد وأصحاب امتياز صيده طائفة من اليونانيين(122/68)
يفدون من بلادهم في موسم الصيد ومعهم زوارقهم، وهم لا يفهمون من العربية شيئاً قط. أما أهل السلوم فمن فقراء الأعراب يعيشون عالة على الموظفين أو خدماً لهم، وترى خيامهم القليلة مبعثرة في سفح الجبل، وهم يحصلون على مائهم العذب بطريقة عجيبة بسيطة، فهم يحفرون الرمل بجوار البحر إلى عمق نصف متر فينز الماء ويملأ الحفرة ماء لا بأس بمذاقه، وهم في فقرة مدقع وبؤس مبيد خصوصاً بعد أن اجدبت منابت الشعير إجداباً تاماً هذا العام. ولقد أثر ذلك في حالتهم الصحية والخلقية تأثيراً سيئاً؛ وتلك فئة جديرة بعطف ذوي البر، وقد تبرعت لهم الحكومة ببعض الغلال ويا حبذا لو ضاعفت إحسانها فحفظت طائفة من سكان مصر من أن يلقوا بأنفسهم إلى أحضان الطليان في حدود طرابلس مستسلمين كأسرى البال؛ ونساء العرب هناك سافرات لهن جمالهن الخاص في أرديتهن الحمراء، وعند زواج إحداهن يجتمع الناس لتقدير المهر ويبدأ بنحو خمسين جنيهاً، ثم لا يفتأ يتدخل شيخ منهم ويقول (وعشان خاطري) فينزل المهر إلى أربعين. ثم إلى ثلاثين، وهكذا حتى ينزل إلى خمسة جنيهات. ويكاد الفرح يقصر على حفلات الرقص، ولهم حركات في غاية الرشاقة والخفة، وجل الرقص يوقع وفق تصفيق الجماهير؛ ويغلب أن تكون الراقصة ويسمونها الحجالة من الأوانس اللاتي يرغبن في الزواج، وهي ترقص وعلى وجهها قناع، وليالي الفرح أربع، وفي ليلة الزفاف تحمل العروس على جمل تحت هودج يسمونه (كرمود)؛ ويمسك بالخطام الفتيات البكر تفاؤلاً ويقتادها إلى بيت الزوج. ومن عاداتهم أن الفتاة إن طلبها أحد ذوي قرباها فضل على غيره حتى ولو لم يكن كفؤاً لها، وإن حصل ما يخالف ذلك فرضت على المعتدي الدية التي يختلف قدرها باختلاف مكانة الفتاة.
حدث مرة أن أجمل فتاة في قبيلة المعابدة هناك طلبها كل فتيان قبيلتها فرفضت لأنها كانت تحب فتى من قبيلة أخرى، وذات ليلة دبر ذلك الفتى أمر اختطافها، فكانت الدية ألف جنيه. والعجيب أن سائر رجال القبيلة لابد أن يتعاونوا على جمع تلك الدية ودفعها وإلا لحقهم العار ولزمهم الحق جميعاً، وأنت إذا مررت على (خيشة) من خيامهم وحييتهم وجب أن تعرج لتشرب الشاي. ولا بد من تقديمه ثلاث مرات: الأولى شايها ثقيل أسود مر لا يوضع به سكر قط، والثانية أخف منه وأحلى، والثالثة يقدم شايها وكأنه العسل وغليه النعناع،(122/69)
ويدور السقي إلى اليمين مهما كان من أمر الجالسين؛ وهم يدمنون الشاي إدماناً أثر على صحتهم ولو أنه أفاد من ناحية التطهير ضد بعض الأمراض.
وإذا اعتدى أحدهم على غيره وأصابه بسوء أرسل المصاب إلى (التَّطَّار)، وهو يقابل الطبيب الشرعي عندنا لتقدير الدية، وقوله نافذ على الجميع، وتلك الدية تسمى (كبارة)، والقاتل لا يقتل في عرفهم متى دفع الدية التي يقضي بها المحكمون، وهي حوالي مائتي جنيه في العادة، ويتعاون كل أغنياء القبيلة على دفعها.
طفنا ببلدة السلوم فإذا بها قرية شبيهة بمطروح في نظام بيوتها البيضاء الوطيئة، على أنها تفوقها وحشة، إذ يشعر الواحد فيها بأنه في معزل عن العالم. تسلقنا المرتفعات في طرق لياتها من الأعاجيب، وكلما علونا بدا مشهد خليج السلوم رائعاً بديعاً، وفوق الهضبة زرنا المعسكر وتوابعه في أبنية بالحجارة، فاخرة الإنشاء، لم أكد أصدق أنها أقيمت لجنودنا المصريين، وهنا تعسكر أورطة مصرية بكامل رجالها ومعداتها، وتشرف على الخليج إلى جانب المسكر طابية قديمة أسسها عصمت التركي سنة 1322، وعليها الطغراء العثمانية، ويشغل القسم الأكبر منها اليوم السجن. ولقد أخذنا نشق تلك الصحاري المجاورة، ومررنا ببعض الآبار الرومانية القديمة، ومن أكبرها بئر وعرة نزلناها فإذا بها تجويف في الصخر الهائل، له شعاب ممدودة تحت الأرض فإذا ما أمطرت السماء سال الماء إليها خلال فتحات ضيقة وترشحت أوساخه مع الرمال الراسبة واستقى منها الناس. ثم سرنا حتى وصلنا الحدود الطليانية، وهم يمدون على طولها أسلاكاً شائكة. وزرنا طابية (مساعد) التي كانت لهم وتنازلوا عنها لمصر عند تحديد التخوم بعد أن أخذوا هم جنوب وما جاورها، وتركوا لنا تلك الطابية ومسافة قدرها زهاء عشرة كيلو مترات حول السلوم. وعجبت جداً لما لم أجد من الاستعداد لدفع طوارئ الهجوم على تلك الناحية المكشوفة من حدودنا، فعدد الجنود غير كاف ولم يزودوا من الأسلحة بشئ يدفع عنهم أذى، وحتى معسكر المدفعية رأيته يضرب خيامه أسفل الخليج بعيداً عن المرتفعات، لذلك يوجس الناس هناك خيفة هجوم العدو بين يوم وآخر. فهلا اهتمت وزارة حربيتنا بأمر تحصين ذلك الركن الهام من حدودنا فأمنتنا أخطاراً جسيمة وألقت شيئاً من مسئولية الدفاع عنا على عواتق أبنائنا المخلصين.
قمت من السلوم عائداً إلى الإسكندرية في الطوافة، وكان أجرها زهيداً جداً، إذ للموظفين(122/70)
جميعاً أن يدفعوا ربع الأجر فقط، والأجر الكامل للذهاب والإياب خمسة جنيهات في الدرجة الأولى، وبتنا فيها ليلتين، ثم دخلنا الإسكندرية في باكورة الصباح.
محمد ثابت(122/71)
البريد الأدبي
مشاكل الشرق الأقصى - كتاب طريف عنها
في العهد الأخير لفتت مسائل الشرق الأقصى أنظار العالم؛ وأثار توغل اليابان في الصين في بعض الدول التي تهتم بمجرى الحوادث في الشرق الأقصى شكوكاً ومخاوف جديدة، وأبدت اليابان رغبتها جلية واضحة في الاستئثار ببسط نفوذها على الصين ومقاومة النفوذ الأوربي، وما تزال مشكلة الشرق الأقصى جاثمة في الأفق تثير اهتمام السياسة الأمريكية، والسياسة الروسية، والسياسة البريطانية؛ وقد صدر في أمريكا أخيراً كتاب عنوانه (سحب الحرب في آفاق الشرق الأقصى). بقلم المحامي توم إيرلاند، تناول فيه المؤلف مسائل الشرق الأقصى بإفاضة، وذهب فيه إلى رأي جديد لا يبدو أنه متفق مع اتجاه السياسة الأمريكية الحاضرة. وخلاصة هذا الرأي هو أن أمريكا يجب أن تنفض يدها من التدخل في مسائل الشرق الأقصى، وأن تترك الصين لمصايرها؛ ويستند المؤلف في عرض رأيه إلى ما يأتي:
(1) أن التجارة الأمريكية في الشرق الأقصى لا تبرر هذا التدخل من حيث أهميتها.
(2) أن أمريكا مضطرة إلى إنشاء أسطول ضخم تكون نسبته للأسطول الياباني كنسبة 5 إلى 3، إذا أرادت أن تتدخل لمقاومة اليابان تدخلاً فعلياً، وهذا يكلفها نفقات باهظة.
(3) وحتى لو سلمنا بأن في استطاعة أمريكا أن تنشئ مثل هذا الأسطول فإنه لا يفيدها كثيراً، بعد أن فرطت في جزائر الفيليبين، وأصبح من المتعذر أن تتخذ منها قاعدة بحرية للعمل في المحيط الهادي.
(4) أن اليابان سائرة في طريق التوسع، ومن حسن الحظ أنها وجدت في منشوريا (منشوكيو) مجالاً لنشاطها، وفي ذلك ما يدفع تيار الخطر الأصفر عن أمريكا.
وقد أريد بهذا الكتاب أن يصدر قبيل انعقاد المؤتمر البحري إذ ينتظر أن تطالب اليابان فيه بزيادة نسبة أسطولها نظراً لما تتطلبه حماية أملاكها الجديدة، ولأن أمريكا ما زالت تطالب في الصين بسياسة الباب المفتوح، وهي سياسة عتيقة أضحت لا تبررها الظروف.
ويقرن المؤلف عرضه بإحصاءات ووثائق اقتصادية كثيرة عن نشاط مختلف الدول ذات المصالح في الشرق الأقصى، وإحصاءات عن نفقات الحرب، وعن القوى البحرية، وسير(122/72)
المهاجرة، وسير المواليد، ويثبت فيه كل المعاهدات التجارية، ويتحدث طويلاً عن سياسة روسيا ونشاطها. والكتاب بموضوعه وتدليله يعتبر وثيقة هامة في التاريخ السياسي والاقتصادي المعاصر.
محنة الصحافة الألمانية في ظل الإرهاب الهتلري
من أنباء برلين الأخيرة أن جريدة (كرويتس تسيتونج) الشهيرة (جريدة الصليب) قد احتجبت واختتمت حياتها الصحفية الحافلة. وقد كانت (الكرويتس تسيتونج) من أعظم الصحف الألمانية وأقدمها، وأعرقها في الهيبة السياسية؛ وقد أنشئت سنة 1848 لتكون لساناً للحزب المحافظ الذي أنشأه البرنس بسمارك عميد السياسة الألمانية في القرن التاسع عشر؛ وكان شعارها منذ نشأتها العبارة الشهيرة الآتية: (إلى الأمام مع الله، في سبيل الملك والوطن. نحن الألمان نخاف الله، ولا نخاف شيئاً آخر في العالم)؛ وكان هذا الشعار ما يزال يطبع في صدر الصحيفة حتى أيامها الأخيرة أعني حتى 31 أكتوبر المنصرم وهو آخر أيام حياتها؛ وكانت عند نشأتها تسمى (نوية برويسشه تسيتونج) أو الجريدة البروسية الجديدة، وقد اختطت لها منذ نشأتها نزعة بروسية محافظة تعبر عن آمال العسكرية والأرستقراطية وكبار الملاك؛ وتظهر صباحاً ومساءً في حجم كبير وتفوق في الانتشار معظم جرائد برلين الكبرى مثل التاجبلات وجرمانيا، والدويتشه الجمينة وغيرها؛ وكانت ما تزال حتى العهد الأخير تتمتع بمركز حسن وذيوع لا بأس به؛ ولكنها كانت تعاني منذ قيام الحكم الهتلري صعاباً جمة في التعبير عن آرائها؛ وكانت من الجرائد القليلة التي لم تقبل أن تخضع لأغلال النازي ونظرياتهم؛ وقد كان مصيرها الإغلاق والمصادرة منذ بعيد لو لم تكن تتمتع بتأييد نفوذ بعض الهيئات العسكرية والمحافظة القوية؛ ولو لم تكن تعتبر أثراً من آثار منشئها بسمارك. بيد أنها رأت أخيراً أنها لا تستطيع المضي في رسالتها تحت تأثير الضغط والوعيد الذي يفرض على الصحافة الألمانية في العهد الجديد، ولهذا آثرت الاحتجاب من تلقاء نفسها. وهكذا تختفي الصحف الألمانية الكبرى واحدة بعد الأخرى وتنحط الصحافة الألمانية تباعاً إلى عداد صحف الدعاية الحزبية. وباختفاء (كرويتس تسيتونج) ينهد ركن متين من أركان الصحافة الألمانية العريقة، وتسجل ضحية صحفية جديدة لحكم الإرهاب السائد في ألمانيا.(122/73)
مدينة للسينما في إنكلترا
كانت الأفلام الأمريكية قد اكتسحت بلدان العالم، وكادت الصناعة السينمائية تصبح وقفاً على أمريكا وعلى هوليوود مدينة الكواكب الشهيرة؛ ولكن كثيراً من الأمم تنبهت إلى هذا الخطر الذي يهدد صناعتها وثقافتها المحلية، فنهضت تنشئ لها صناعة سينمائية خاصة، وكانت بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وإيطاليا في مقدمة هذه الدول، فشجعت صناعة الأفلام القومية، ووضعت قيوداً مختلفة على عرض الأفلام الأجنبية. وقد قرأنا في البريد الأخير أن إنكلترا قد بدأت بإنشاء مدينة خاصة للصناعة السينمائية على نمط مدينة هوليوود الأمريكية. وموقع هذه الضاحية الفنية في دنهام من مقاطعة بوكنهام شير حيث تكثر المناظر الطبيعية البديعة؛ ومساحتها مائة وخمسة وستون فداناً من الأرض؛ وتبنى فيها الآن أبهاء التصوير (ستديو) بإشراف المهندس والرسام جاك أوكي، وستكون أعظم أبهاء من نوعها في القارة الأوربية، وهي ثمانية سيكلف صنعها 400 ألف من الجنيهات، وسيكون في كل منها مسرح مجهز بالألوان لا يضارعه أي مسرح في أمريكا، وسيجهز بمولد كهربائي يكفي لإنارة مدينة كبيرة.
وينتظر أن ينفق نحو مليوني جنيه سنوياً على صناعة الأفلام في دنهام، وأن تخرج كل عام 24 فلماً من الأفلام العظيمة، وستشترك في العمل فيها شركتان أمريكيتان كبيرتان إلى جانب شركات لندن الكبرى، وينتظر أيضاً أن يهرع إليها عدد كبير من نجوم هوليوود.
ولم ينته إلى اليوم من المدينة السينمائية العظيمة سوى الهياكل الحديدية، ولكن المنظور أن تنتهي بعد بضعة أشهر؛ وتحتوي الأرض المختارة على غابات وأشجار ورياض وأنهار وشواطئ بديعة؛ وستنشأ بها مكاتب ومطاعم وفنادق وكل ما يجب لتوفير الوقت والرفاهة لساكنيها من نجوم وغيرهم.
مجمع اللغة العربية الملكي
تقرر أن يبدأ مجمع اللغة العربية الملكي دورته القادمة في يوم الأربعاء 20 من شهر شوال سنة 1354 الموافق ليوم 15 من يناير سنة 1936، وقد أرسلت سكرتارية المجمع رقاع الدعوة إلى الأعضاء في مصر وفي الخارج. وقد استأنفت لجانه أعمالها بعد فترة الصيف؛(122/74)
وقد انعقدت مساء يوم الجمعة الماضي بدار المجمع لجان الآداب والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية؛ وستوالي جميع اللجان اجتماعاتها لتعد ما سيجري البحث فيه في الدورة المقبلة، وقد استدعت اللجان بعض الخبراء الفنيين للاستعانة بهم في دراسة المصطلحات العلمية. هذا وستعجل إدارة المجمع بإصدار الجزء الثاني من مجلته تمهيداً لإصدار الجزء الثالث منها، بحيث يكون الجزءان بين أيدي الأعضاء في مفتتح الدورة المقبلة.
ذكريات عن أكابر الكتاب
ظهر في لندن أخيراً كتاب طريف عنوانه: (الصلات) بقلم المستر كورتس براون. ومستر براون ليس كاتباً بمهنته، ولكنه من أكبر (وكلاء الأدب) في إنكلترا، وله صلات وثيقة بمعظم الكتاب الإنكليز؛ وقد تعاقد مع كثيرين منهم على حقوق كتبه. ويعرف مستر براون جيل الكتاب المنصرم معرفة وثيقة، ويعرف الكثير عن أحوالهم وعاداتهم ومشاربهم، وأساليبهم في التفكير والكتابة؛ وقد وضع كتابه المشار إليه متضمناً ما يعرفه عن كثيرين من أقطاب الكتابة في أواخر القرن الماضي مثل توماس هاردي، وهول كين، وجورج مور، والسير كونان دويل، ولورانس وغيرهم. وكتب أيضاً عن بعض الكتاب الهواة مثل مستر لويد جورج واللايدي اسكويث وغيرهما. ونستطيع أن نستخلص من قراءة هذا الكتاب حقيقة مدهشة هي أنه وإن كان هؤلاء الكتاب يشتغلون دائماً بعالم التفكير والخيال، فإن بنهم رجالاً يحسنون فهم الأعمال التجارية والمالية، ويحرصون على مصالحهم المادية حرصاً عجيباً. بيد أن الكاتب يروي لنا أيضاً أن بعض هؤلاء الكتاب كان يفرط في حقوقه المادية تفريطاً مدهشاً، ويضرب لنا مثلاً بتوماس هاردي، ويقول لنا إنه لم يتقاض عن حق تأليف روايته الشهيرة: (تحف شجرة الغابة الخضراء) سوى ثلاثين جنيها!(122/75)
الكتب
1 - البُحَاثة اللغوية
عن قاعة البحث اللغوي بدار العلوم
2 - القبس للإنشاء العربي
تأليف:
محمد رزق الدهشان - مدرس بالمدارس الثانوية
عبد الغني الصاوي - مدرس بالمدارس اثانوية
للأستاذ محمد سعيد العريان
في دار العلوم اليوم نهضة موفقة، يساهم فيها الشباب والشيوخ من أبناء هذه الدار التي قامت على العربية ستين عاماً، فأحسنت القوامة، ورعت الأمانة، وأدت حق العلم وحق اللغة أوفى أداء، وأثرت تأثيرها المبارك فيما ينتج الشعراء والكتاب من أدباء هذا الجيل؛ وهي نهضة حكيمة، بادية النشاط، بادية الأناة، تسير على سننها في رفق وقوة، وتمضي إلى غايتها في حماسة ووقار؛ فمن ثم لا تحاول أن تنسلخ جملة من ماضي التاريخ، وهي تأبى كذلك أن تصمّ أذنيها عن دعوة إلى الابتكار والتجديد.
وهذا أثر جديد، هو مجْلى من مجالى نشاطها الدائب؛ تحاول به أن تثبت للحاقدين من خصومها، والعاقِّين من بنيها، أن عندها هي وحدها تلتمس الأسبابُ لحياة هذه اللغة حياةً تكون بها بين اللغات ما كانت بينها في تاريخها المجيد.
ولقد أنشئت في دار العلوم منذ أكثر من عام (قاعة البحث اللغوي) لتكون ميداناً حراً لكل ذي فكر جديد، يتناول شأناً من شؤون اللغة. والعلم اليوم عرض وبحث ومذاكرة، لا تلقٍ وحفظٌ واستذكار؛ من أجل ذلك أنشئت هذه القاعة في دار العلوم، غير مسبوقة بمثال لها تتخذه قدوة وتسير على نهجه؛ على أنها قد أجدَّتْ فأجْدَتْ، واخترعتْ ففرعتْ؛ وهذا كتابها الثاني (البحاثة اللغوية) يدل على جهد مشكور، وعمل له ما وراءه.
وهو نهج جديد في فقه اللغة. وفقهُ اللغة عند القدماء أبوابٌ موضوعة، تضم من أشتات اللغة كلَّ معنى إلى ما يشاكله، وكل تعبير إلى ما يضاهيه، وكل لفظ إلى ما يرادفه؛ فهو عندهم معجم يرتِّب اللغة على أبواب المعاني لأعلى أبواب الحروف؛ وإذْ كانت اللغات(122/76)
تتطور، وحاجات العصر تطلب حقها من كل لغة، وأن تتعرف اسمها على كل لسان - كان همّ فقهاء اللغة من هذا الجيل أن يحاولوا الربط بين ألفاظ اللغة وحاجات العصر، وأن يكشفوا عن أوجه المشاكلة بين كل اسم ومسماه وما يتصل به، في أبواب يضعونها، وترتيب يخترعونه، إلا أنه لا يخرج في جملته ومعناه عن طريقة القدامى في الوضع والترتيب.
ولكن فقه اللغة شئٌ غير الكلمات الجديدة، وغير الجمع والترتيب والتبويب، وغير النحت والاشتقاق والترجمة - وإن يكن أولئك هو كل ما نطلبه من فقه اللغة لنساير بها حاجات العصر؛ إنما فقه اللغة أن نحاول الكشف عن أسرار اللغة، وتفهم طبيعتها، وفقه ألفاظها على حقيقتها وفي معناها الذي عناه الواضع الأول؛ ثم البحث في نشأة الكلمات، وتاريخها، واشتقاقها، وتطورها، وما استعملت فيه ودلت عليه من المعاني في مختلف العصور، وما صارت إليه وعرفت به في لغة الأحياء؛ ثم ما يهدي إليه هذا البحث مما تزيد به ثروة اللغة، ويصح به أسلوب الكلام.
وهذا هو ما رآه الأستاذ (محمد عبد الجواد) أستاذ فقه اللغة بدار العلوم، فدعا طلابه إليه، فهيأ لهم قاعة البحث اللغوي، فكان من عملهم هذه البحاثة اللغوية.
وهو كتاب دوريّ، سبقته البحاثة الأولى إلى الظهور باسم: أنابيش لغوية.
وهذه البحاثة كما يدلّ عليها اسمها والغرض منها هي خلاصة البحث اللغوي لطلاب دار العلوم في السنة الدراسية الماضية بتوجيه أستاذهم؛ ويبلغ الكتاب ثلثمائة صفحة، ثلثاها مما اختير من بحوث الطلاب أنفسهم في (رياضة لغوية في قراءة القاموس المحيط)؛ وقد نهج بهم أستاذهم منهجاً حسناً، هو يصفه في مقدمته لهذا الباب:
(. . . رأينا أن توزع عليهم أوراق من القاموس المحيط للبحث فيها واستخراج كنوزها ودفائنها، كي يوجه النظر إلى استعمالها، والانتفاع بها في حركة التجديد اللغوي. . . وقد طلب إليهم قراءتها بإمعان وتدبر، ووضع خط بالقلم الرصاصي تحت ما يصح أن يوضع لمسمى لم يعرف له اسم عربي، أو كلمات يتوهم أنها عامية وهي عربية، أو ما خرج به التحريف أو التصحيف عن عربيته الخ، أو أية لفظة يرى أنها جديرة بالنشر. وإذا كان لأحدهم مقترح، أو أراد التوسع في بحثه، شفع ما قرأ من الأوراق بتوضيح كتابيّ. . .)(122/77)
ولقد كانت رياضة لغوية مثمرة، تدل على جدوى هذا النهج الجديد في دراسة فقه اللغة؛ وإننا لنرى فيها جهد الطلاب ظاهراً قوياً، وقد وفق الكثير منهم توفيقاً يدعو إلى الإعجاب والرضى ويبعث على كثير من الاطمئنان والأمل؛ على أنه من التواضع أن يسمى كل هذا الجهد (محاولة)؛ فما أغلو إذا ادعيت أنه قد أضاف إلى العربية ثروة جديدة، وكشف عن دفائن تزيدها قوة وغنى.
على أن في الكتاب غير ذلك بحوثاً طريفة، وأبواباً قيمة، وطرائف من اللغة تروق الأدباء والمتأدبين. وإذا كان لنا أن نأخذ شيئاً على الكتاب، فذلك أنه كان في حاجة إلى العناية بترتيبه وتقسيم فصوله خيراً مما رُتِّب وقُسِّم، ليتأتى للمستفيد أن يقع منه على ما يريد من غير عناء، ولكننا نحب أن نعتذر عنهم من ذلك، بأنهم أرادوه ليكون أشبه بسجلّ يصوِّر مجهودهم، أكثر مما أرادوه كتاباً يتناوله القراء للبحث والانتفاع، وإن كان هو عندنا لأكثر من ذاك.
القبس للإنشاء العربي
وهذا كتاب آخر للإنشاء العربي، متين العبارة، قويّ الأسلوب، جميل التقسيم، أنشأه مؤلفاه الفاضلان ليستعين به التلاميذ في دروس الإنشاء العربي، فجاء وافياً بما يريدان من قوة السبك، وحسن الأداء، ودقة التقسيم.
ولكننا نعود فنسأل عن مدى استفادة التلاميذ مما يسمونه (كتب الإنشاء)؟
ليس من شك في أن تعليم اللغة تلقين ومحاكاة، يهيئان التلميذ من بعدُ للخلق والابتكار، ولكن وسائل التلقين ليست هي هذه الكتب التي توضع بين أيدي التلاميذ لغرض واحد، هو أن يقرءوها فيحاكوها، أو ينبشوها فيقتبسوا منها، والتي لا ينظرون فيها إلا على نية الأخذ عنها، والاستعانة بها على تجويد العبارة وصقل الكلام؛ إنما ينبغي أن يلقن التلميذ من حيث لا نشعره أنه يلقن: بأن نحمله على القراءة في كتب شتى، ونبعث فيه الشوق إلى المطالعة والنظر في كل كتاب، ونعوده حسن الاستماع لجيّد الكلام؛ فما يقبل التلميذ على مثل كتب الإنشاء هذه بقلبه وعقله، بل بحافظته؛ فمن ثم لا تراه ينظر فيها إلا ليسترق أو يقلد، فيؤول ذلك إلى أن تكون كتابته أشبه بطبع الرواسم (الأكلشيهات): عبارات محفوظة، وربط سقيم، وفكر بليد؛ ثم هي تجعل التلميذ لا يحاول أن يطالع أو أن يقرأ، إلا إذا طلب إليه أن يكتب(122/78)
أو أن ينشئ، للمدرس، أو للامتحان؛ لأنه لم يتعود أن يقرأ ليلذ نفسه ويرضي عاطفته، بل ليستعين على أداء تكليف ثقيل. . .!
وهذه الكتب الكثيرة للإنشاء، أثرٌ من إيحاء مناهج الدراسة ونظم التعليم في بلادنا، هذه النظم التي تقيس العلم بعدد الناجحين ونسبة النجاح، ومن ثم كانت أكثر محاولات المدرسين في مدارسنا للوصول إلى هذه الغاية؛ أما تربية الملكات، وصقل العقل، وإرهاف الحس، فذلك شئ قلما ترى من يحاوله منهم، ولعل لهم عذراً كبيراً من ذاك. . .!
ولقد يكون من الخير الكثير لو أن المؤلفين الذين يحاولون تأليف الكتب للإنشاء اتجهوا في ذلك اتجاهاً آخر، فوضعوا همهم وجهدهم في تأليف كتب أخرى مما يروق التلاميذ صغاراً وكباراً، ويشوقهم إلى قراءته غير محمولين عليه، مثل: القصص، والرحلات المشوّقة، وغيرها، ثم ليجعلوا في ثنايا ذلك ما يريدون أن يضيفوه إلى ثروة التلاميذ اللغوية والعلمية. فلعلهم إن فعلوا ذلك يكونون قد أضافوا إلى اللغة ثروة جديدة من أدب الأطفال، وعوَّدوا الأطفال أن يقرءوا التماساً للذة العقلية ومتاع الروح، بدل أن يقرءوا رغبة في النجاح وحسب.
وما نعني بهذه الكلمة - هذا الكتاب الجديد وحده، فلعله من خير ما أُلف في موضوعه، وإنما هو رأي نحب أن يسمعه كل القائمين على تعليم الإنشاء في المدارس المصرية.
محمد سعيد العريان(122/79)
العدد 123 - بتاريخ: 11 - 11 - 1935(/)
في الجمال. . .
- 2 -
لعل جمال المرأة أبرع مثل للجمال الطبيعي لو تدبرته؛ وسر الإعجاب
فيه هو سر الإعجاب في جمال الرجل: أعني الذكاء؛ والذكاء كما قلت
من قبل إبداع الوسائل الملائمة للغاية، ثم تطبيق هذه الوسائل على
غايتها في نظام دقيق محكم؛ فأنت لا تستطيع أن تفقه جمال المرأة إلا
إذا وقفت على حكمة الله فيها، وغرض الطبيعة منها، وأدركت ما بين
طبيعة خَلْقها وعلة وجودها من المواءمة التي تسترق الأفئدة وتدق على
إفهام البشر.
فالعلة الغائية لخلْق المرأة هي أن تكون زوجة وأُماً، وسبيلها أن تروق الرجل وتدمث خُلقه وترقق طبعه ليسكن إليها ويُشبل عليها بالمعونة والنجدة؛ وسكون الزوج إلى زوجه تدبير إلهي يقوم عليه بناء المجتمع وبقاء النوع، لأن المرأة وهي زوج تحمل، أو أم ترضع، لا تملك لنفسها ولأولادها غذاء ولا حماية؛ فما دام الولد في حاجة إلى أمه، فالأم في حاجة إلى أبيه. ولكن غريزة الاستقرار والاستمرار في الرجل ضعيفة، فلا بد لهذا الوحشي الشريد من صلة أخرى غير صلة الدم تحبسه على زوجه وتعطفه على بنيه؛ والحب وحده هو الذي مكن الطبيعة من هذه البُغية؛ فبفعل الجاذبية سكن النافر، وبسحر الجمال ثبت العَزوف. وللحب خصيصتان قويتان: الرغبة والحشمة؛ ومن ذلك كان جمال المرأة داعيَ الرغبة خافض الجناح حيي الطبع؛ والرجل مزهوٌّ على المرأة يُدل بحيازته لها، ويتعزز بقيامه عليها؛ فهو يريدها (ريحانة لا قهرمانة)، وحبيبة لا جليبة، لها سلطان ولكنه رفيق، وفيها إباء ولكنه رقيق.
ومن ذلك كان جمالها مزيجاً من الوداعة والعزة، وخِلطاً من الضعف والدلال، وطباقاً من الهيبة والنبل.
وجمال المرأة يحتفظ بدوامه وسحره ما دامت له روح من العاطفة تشع في نظراتها، وتنسم(123/1)
في بسماتها، وتشيع في قسماتها، وتنشر أضواءها السحرية على أعصاب الرجل - وهو بطبعه ولوع - فيتمتع بنعمة اختياره ولذة إيثاره، ويجد في الضعف الذي يستلم ويستكين، الحبَّ الذي يطول ويحكم.
إن شبهة الخداع والتصنع تمحق كل شيء: لذلك كان في مخايل الطيبة والنزاهة، وفي سمات الظرف الغرير يتراءى وهو يختفي، وفي أسرار الهوى المكتوم تفضحه البسمة الحنون من شفة مطبقة، وتعلنه الومضة الخاطفة من نظرة حبية، وفي دلائل الملامح المعبرة في الوجوه والعيون تقول وهي تنصت، وتريد وهي ترفض: كان في كل أولئك بلاغة الجمال؛ فإذا أصيب الحب بالفتور ابتُلي الجمال بالخرَس.
وسلطان المرأة القوي على قلب الرجل إنما يأتيها من ذلك الذكاء المستسرِّ ترعاه معه وفيه على غير علمه؛ فكان من مزايا جمالها أيضاً أن تلوح هذه البصيرة الدقيقة على أسرَّة وجهها، وتشرق على الأخص في تلك النظرة الوديعة التي تتغلغل في طوايا القلب فتنسخ ظلال الفتور، وتبدد ظلام الكآبة، وتشعل خمود الحب. . . . . .
ومن خصائص جمال المرأة الاحتفاظ بالقلب الذي تصبَّاه وسباه؛ ووسيلته أن يطرد السأم عنه، ويجدد الشوق فيه، فيعير العادة المملة ألوان الجدَّة، ويقبس الحياة الرتيبة حرارة التنوع؛ وذلك هو السر العجيب الذي وضعه الله في الجمال النسوي، فيتكرر ولا يُمل، ويستعلن ولا يُفهم، ويتجدد ولا يتناهى، ويتنوع ولا يختلف، ويتولد ولا يبيد!!
إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس؛ وإن في تجميع النهر، وتكوين الجبل، وتصريف الريح، وإثارة البحر - لجمالاً رائعاً يجري في كل شعور، ويستولي على كل قلب، لأنه يعلن القوة الخارقة؛ والقوة أروع خصائص الجمال وأشدها أخذاً بمدارك الحس؛ كذلك تجد في صغار الأشياء مفاتن للجمال الطبيعي تهز النفس وتصبي المشاعر؛ فورقة الزهرة، وجناح الفراشة، يبعثان في قلبك من الإعجاب ما يبعثه الطود المتموج بالثلج، والمحيط الملفف بالعاصفة؛ ولكن خصيصة الجمال في الزهرة والفراشة هي فرَة الألوان، ونصاعة الأصباغ، وتعدد الصور؛ وخصيصة الفرة أضعف من خصيصة القوة لتأثرها بالذوق، وخمودها بالألف والعادة.
ولعل خصيصة الذكاء أخفى الخصائص الجمالية جميعاً، لأن مرجعها إلى التأمل والفهم،(123/2)
وهذان لا يتيسران في كل وقت، ولا لكل شخص؛ فالبركان والإعصار يروعان القلب بالقوة المجردة، ولكن الجمال إذا قام على خصيصة الذكاء وحده، وهي الترتيب والمواءمة والإنتظام، خبا أثره في الناس إلا إذا كان محسوساً شديد الغرابة! أليس الواقع أن براعة القدرة وسر الإبداع سواء في العظاية والأسد، وفي القصبة والدوحة؟ ولكنك تعجب بالأسد والدوحة، ولا تكاد تأبه للعظابة والقصبة، لأن سلطان القوة غالب، وسحر العظمة عجيب.
فاجتماع الخصائص الثلاث إذن ضروري لحصول الجمال الصحيح في مشاهد الطبيعة وروائع الوجود.
(للبحث بقية)
أحمد حسن الزيات(123/3)
اللون الأصفر
للأستاذ أحمد أمين
لفت نظري - وأنا أدرس الحياة الاجتماعية في العصر العباسي - ما رأيت من كثرة ما كتب عن اللون الأصفر في هذا العصر، وحلوله محلاً كبيراً غطى على كل الألوان الأخرى، وكثرة ما قيل فيه من أدب، فرأيت أن أعرض على قراء (الرسالة) شيئاً منه وأترك لعلماء الجمال ما يدل عليه انتشار اللون الأصفر في الشعوب من تحديد درجة الذوق في الرقي، وعلاقته بانتشار التهتك والخلاعة، ودلالته على مقدار ما وصلت إليه الأمة من حضارة.
رأيت العراقيين هاموا باللون الأصفر وتغزلوا بالوجوه الصفر، وصبغوا ثيابهم بالصفرة، وافتتنوا بالزهور الصفر، وأكثروا من اتخاذ الطعوم الصفر، ومدحوا الجواهر الصفر، وهكذا.
روى الجاحظ من الأمثلة المشهورة قولهم: (أهلك النساءَ الأصفران: الذهب والزعفران)، وهذا يدل على غرام النساء باللون الأصفر، وظهور هذا الغرام بحبهن للذهب والزعفران؛ أما حبهن للذهب فللونه ولأنه خير أنواع المال. وقد ظُلم النساء برميهن وحدهن بحب الذهب، فمن من الرجال كذلك لم يذله الذهب ويسترقه المال ويستعبده الدينار؟ ومن منهم لم يقس أخلاقية العمل بمقياس الذهب؟. . . لقد كان الحريري أصدق قولاً إذ يقول:
أكْرمْ به أصفرَ راقت صفرتهُ ... جوّابَ آفاقٍ ترامت سفْرته
مأثورةً سمعتُه وشهرته ... قد أودعت سر الغنى أسرَّته
وقارنت نجحَ المساعي خطْرته ... وحُببت إلى الأنام غرَّته
لولا التَّقى لقلت جلت قدرته
وأما الزعفران (وهو نبت له أصل كالبصل وزهر أصفر إلى حمرة) فقد كان له سلطان في بغداد أي سلطان حتى لو سميْتَ بغداد في ذلك العصر مدينة الزعفران لم تُبعد؛ وقد جعلوا له قوة سحرية فقالوا: (إنه إذا كان في بيت لا يدخله سام أبرص) وإذا حسن في عينهم شيء أصفر شبهوه بلون الزعفران كما قال آدم بن عبد العزيز:
شربت على تذكر عيش كسرى ... شراباً لونه كالزعفران(123/4)
وأكثروا من تلوين الطعام به؛ قال بديع الزمان في إحدى مقاماته: (ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان، وتأخذ وجوه الزعفران).
وكان البغداديون يلونون الطعام ويكرهون أن يقدموه بلا تلوين، ويسمون الطعوم غير الملونة (الطعوم المُعتدَّة) تشبيهاً لها بالمرأة في العدة، لأنهم يكرهون منها أن تلبس الثياب الملونة، فكانوا يلونون الطعام بالزعفران وبالعصفر وهو أصفر أيضاً.
قال ابن حمدون:
هاتوا أطايب ثورٍ فائق سمناً ... كالفيل قدّاً وان عدُّوه في البقر
وسكْبجُوها ووفوها توابلها ... وزَعفروُها وصفوها عن الغير
وصبغوا بالزعفران ملابسهم؛ حكى الأغاني أن الرشيد دخل على أخته علية بنت المهدي في يوم قائظ فوجدها قد صبغت ثياباً بزعفران وصندل وجعلتها على الجبال لتجف، فجعلت الرياح تمر على الثياب فتحمل منها ريحاً بليلة عطرة فوجد لذلك راحة من الحر.
وكتبت جارية على قباء معصفر:
وما البدر المنير إذا تجلى ... هدوا حين ينزل بالعراق
بأحسن من بثينة يوم قامت ... تهادَى في معصفرة رقاق
وقد كثرت أسماء الثياب الصفر فسموا
التَّخمَةَ: الثياب المخططة بالصفرة
والرَّادعة: القميص لُمّع بالزعفران والطيب
والسبنيّة: نسبة إلى سَبَن قرية بنواحي بغداد وهي ثياب من حرير فيها أمثال الأترجّ (الأصفر)
والثياب المحرَّضة: وهي المصبوغة بالاحْريض وهو العصفر.
والثوب المُمصّر: قيل هو المصبوغ بصفرة خفيفة
والثوب الموَرّس: المصبوغ بالوَرْس وهو نبت أصفر يصبغ به.
وأكثر ما كانت العصائب التي تتزين بها النساء عصائب مصبوغة بالزعفران وشيتْ بخيوط من حرير وطرزت بسلوك من ذهب.
وقالوا أجمل شيء غلالة معصفرة على جارية(123/5)
ويروي الوشاء في كتابه الموشي أنه لا يحسن بالرجال لبس المصبوغ بالزعفران في مظاهر الجد لأن ذلك من لبس النساء والقيان؛ وقد يلبسه الرجال في أوقات الفصد والعجلات وأوقات الشراب، وربما استعملوا ذلك في وقت قصفهم وتظرفوا بها في مجالسهم. . . والظهور بها قبيح من السوقة مستحسن من أهل النعم وأبناء الخلفاء).
وحكى التنوخي في نشوار المحاضرة (أن الخليفة المتوكل اشتهى أن يجعل كل ما تقع عليه عينه في يوم من أيام شربه أصفر، فنصبت له قبة صندل مذهبة مجللة بديباج أصفر، مفروشة بديباج أصفر، وجعل بين يديه الدستنبور والأترج الأصفر وشراب أصفر في صواني ذهب، ولم يُحضر من جواريه إلا الصفر، عليهم ثياب قصب صفر، وكانت القبة منصوبة على بركة مرصعة يجري فيها الماء، فأمر أن يجعل في مجاري الماء إليها الزعفران على قدر ليصفر الماء، ويجري من البركة أصفر، ففعل ذلك وطال شربه فنفد ما كان عندهم من الزعفران، فاستعملوا العصفر، ولم يقدروا أنه ينفد قبل سكره فنفد، فلما لم يبق إلا قليل عرّفوه وخافوا أن يغضب إن انقطع. . . فلما أخبروه أنكر أنهم لم يشتروا أمراً عظيماً، وقال إن انقطع هذا تنغص يومي، فخذوا الثياب المعصفرة بالقصب فانقعوها في مجرى الماء ليصبغ لونه بما فيها من الصبغ. . . فحسب ما لزم ذلك من الزعفران والعصفر ومن الثياب التي هلكت فكان خمسين ألف دينار).
ونسبوا إلى أفلاطون أنه قال إن رائحة الزعفران تسكن الغضب، وإذا قرن اللون الأحمر بالأصفر تحركت القوة العشقية.
ولإعجابهم باللباس المعصفر أو المزعفر شبهوا به الخمر، فقال ابن وكيع:
فاشربْ مُعَصْفَرَةَ القميصِ سُلاَفة ... من صنعة البَرَدَان أو قُطْرَبُّلِ
وقال ابن المعتز:
لبسَتْ صفرةً فكم فتَنَت من ... أعينٍ قد رأيْنَهَا وعقول
مثل شمس الغروب تسحب ذيلا ... صبغته بزعفران الأصيل
وقال ابن الرومي في وصف شواء:
وسميطة صفراء دينارية ... ثمنا ولونا زَفَّها لك جُؤْذر
وأكثروا من مدح المرأة الصفراء واستحسنوها، ففي الأغاني أن متَيَّم الهاشمية، ومحبوبة(123/6)
المتوكلية، ودنانير البرمكية، كن صفراوات مولدات، وسميت دنانير لصفرتها. وقال بعضهم في وصف جمال الصفرة:
وعهدي بها صفراء رود كأنها ... نضى عرق منها على اللون مجسدا
ومدحوا الزهور الصفر والثمار الصفر
فمدحوا الآذَرْيْون وهو زهر أصفر في وسطه خمل أسود، قال فيه ابن المعتز:
كأن آذَرْيُونَها ... والشمسُ فيه كاليه
مداهنٌ من ذهب ... فيه بقايا غالية
كما مدحوا (الخِيريْ) وهو المنثور الأصفر.
وكان عندهم نوع من الياسمين أصفر قال فيه الشاعر:
كأنما الياسمين حين بدا ... يشرق من جوانب الكثب
عساكر الروم نازَلَتْ بلداً ... وكل صُلْبَانها من الذهب
ومدحوا التفاح الأصفر والخوخ الأصفر:
وتغزلوا بصفرة الخمر فقال أبو نواس:
صفراءُ لا تنزل الأحزانُ ساحتها ... لو مسها حجرٌ مسته سراء
ويقول آدم بن عبد العزيز:
إسقني واسقي خليلي ... في مدى الليل الطويل
لونها أصفر صاف ... وهي كالمسك الفتيل
وبالغوا في حب الصفرة حتى كانت القينة أحياناً تلبس الثياب المعصفرة أو المزعفرة وتطلي ما ظهر من يديها ومن عنقها بالورس.
روى بعضهم قال: (رأيت جارية ببغداد وقد طلت يديها بالورس وفي عنقها طبل وهي تنشد:
محاسنها سهام للمنايا ... مُرَيَّشةٌ بأنواع الخطوب).
وكثيراً ما قرنوا هذا اللون بالدلالة على الميل إلى الشهوات والفجور، فقد رأينا ولوع القيان بهذا اللون؛ ورمزوا للخليع بقولهم إنه (يلبس المُوَرَّس) واعتقدوا أن الورس يزيد الميل إلى النساء؛ وقرر ذلك الفيروزآبادي في القاموس وهو المولع دائماً بالنص على ذلك.(123/7)
هذه ظاهرة غريبة رأيتها وهي ظاهرة تستحق الدرس، وأحق الناس بالفتوى فيها علماء الجمال الاجتماعي.
أحمد أمين(123/8)
المُشكِلَة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قالت لي صاحبةُ (الجمال البائس) فيما قالت: إن المرأةَ الجميلة تخاطب في الرجل الواحد ثلاثة: الرجلَ وشيطانه وحيوانه؛ فأما الشيطان فهو معنا وإن لم نكن معه. . . وأما الحيوان فله في أيدينا مقادةٌ من الغباوة، ومقادةٌ من الغريزة، إذا شمَسَ في واحدة أصحب في الأخرى وانقاد؛ ولكن المشكلة هي الرجل تكون فيه رجولة.
نعم إن المشكلة التي أعضلتْ على الفساد هي في الرجل القوي الرجولة يعرف حقيقةَ وجوده وشرفَ منزلته، ولهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يكون بين الوقت والوقت في اليوم الواحد خارجاً من صلاة.
وإنما الرجولةُ في خلالٍ ثلاث: عمل الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلِّها قبل أن يكون في هواه؛ وقبوله ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم؛ والثالثة قدرته على العمل والقَبول إلى النهاية.
ولن تقوم هذه الخلال إلا بثلاثٍ أخرى: الإدراك الصحيح للغاية من هذه الحياة؛ وجعل ما يحبه الانسانُ وما يكرهه موافقاً لما أدرك من هذه الغاية؛ والثالثة القدرة على استخراج معاني السرور من معاني الألم فيما أحبّ وكره على السواء.
فالرجولة على ذلك هي إفراغ النفس في أسلوب قوي جزل من الحياة، مُتساوقٍ في نَمط الإجتماع، بليغ بمعاني الدين، مصقول بجمال الإنسانية، مسترسل ببلاغة وقوة وجمال إلى غايته السامية.
ولهذه الحكمة أسقطت الأديان من فضائلها مبدأ إرضاء النفس في هواها، فلا معاملة به مع الله إلا في إثم أو شر؛ وأسقطه الناس من قواعد معاملتهم بعضهم مع بعض، فلا يقوم به إلا الغش والمكرُ والخديعة، وكلُّ خارج على شريعة أو فضيلة أو منفعة اجتماعية، فإنما ينزع إلى إرضاء لنفسه وإيثاراً لها وموافقة لمحبتها وتوفيةً لحظها؛ وعمله هذا هو الذي يلبسه الوصفَ الإجتماعي الساقط ويسميه باسمه في اللغة، كالرجل الذي يرضي نفسه أن يسرق ليغتني، فإذا أعطى لرضاه فهو اللص، وكالتاجر في إرضاء طمعه هو الغاش، وكالجندي في إرضاء جبنه هو الخائن، وكالشاب في إرضاء رذيلته هو الفاسق، وهلمّ جراً وهلم(123/9)
جرجرة. . .
وأما بعد، فالقصة في هذه الفلسفة قصةُ رجل فاضل مهذب قد بلغ من العلم والشباب والمال، ثم امتحنته الحياة بمشكلة ذهب فيها نومُ ليله وهدوءُ نهاره حتى كسفت باله وفرّقت رأيه وكابد فيها الموت ليس بالموت وعاش بالحياة التي ليست بالحياة.
قال: فقدت أمي وأنا غلام أحوجَ ما يكون القلب إلى الأم، فخشي عليّ أبي أن أستكين لذلة فقدها فيكون في نشأتي الذلُّ والضراعة، وكبر عليه أن أحس فقدَها إحساس الطفل تموت أمه فيحمل في ضَياعها مثل حزنها لو ضاع هو منها. فعلمني هذا الأب الشفيق أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنه غير شأن الصبي لأن له قوة وكبرياء، وألقى في روعي أني رجلٌ مثله، وأن أمه قد ماتت عنه صغيراً فكان رجلاً مثلي الآن. . .
وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل، وإذا أعطاني شيئاً قال: خذ يا رجل، وإذا سألني عن شأني قال كيف الرجل؛ وقلّ يومٌ يمرُّ إلا أسمعنيها مراراً حتى توهمتُ أن معي رجلاً في عقلي خلقته هذه الكلمة: وتمام الرجل بشيئين: اللحيةُ في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية لتكون كلتاهما قوةً له، أو وقاراً أو جمالاً، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معاً سوادين في الوجه والحياة. . .
أما اللحية لي أنا أيها الرجل الصغير فليس في يد أبي ولا في حيلته أن يجئ بها، ولكن الأخرى في يده وحيلته؛ فجاءني ذات نهار وقال لي: أيها الرجل! إن فلانة مُتسماةٌ عليك منذ اليوم فهي امرأتك فاذهب لترى فيك رجلها. وفلانة هذه طفلة من ذوات القربى، فأفرحني ذلك وأبهجني؛ وقلت للرجل الذي في عقلي: أصبحتَ زوجاً أيها الرجل. . .
وكان هذا الرجلُ الجاثمُ في عقلي هو غروري يومئذ وكبريائي، فكنت أقع في الخطأ بعد الخطأ وآتي الحماقة بعد الحماقة، وكنت طفلاً ولكن غروري ذو لحية طويلة. . .
ونشأتُ على ذلك صلب الرأي معتدّاً بنفسي إذا هممتُ مضيت، وإذا مضيت لا ألوي؛ وما هو إلا أن يخطر لي الخاطر فأركبَ رأسي فيه، ولأن تكسرَ لي يدٌ أو رجل أهونُ علي من أن يكسر لي رأي أو حكم؛ وأكسبني ذلك خيالاً أكذب خيال وأبعده، يخلط عليَّ الدنيا خلطاً فيدعني كالذي ينظر في الساعة وهي اثنا عشر رقماً لنصف اليوم الواحد، فيطالعها اثني عشر شهراً للسنة. . .(123/10)
وترامت حريتي بهذا الخيال فجاوزت حدودها المعقولة. وبهذه الحرية الحمقاء وذلك الخيال الفاسد، كذبتْ علي الفكرة والطبيعة.
ولست جميل الطلعة إذا طالعتُ وجهي، ولكني مع ذلك معتقد أن الخطأ في المرآة. . . إذ هي لا تظهر الرجل الوضيءَ الجميل الذي في عقلي؛ ولست نابغة ولكن الرجل الذي في عقلي رجل عبقري؛ وهذا الذي في عقلي رجل متزوج فيجب عليَّ أنا الطفلَ - أن أكون رزيناَ رزيناً كوالد عشرة أولاد في المدارس العليا. . .
وذهبتُ بكل ذلك أرى زوجتي، فأغلقت الباب في وجهي واختبأت مني، فقلت في نفسي: أيها الرجل إن هذا نشوزٌ وعصيانٌ لا طاعةٌ وحب. وساءني ذلك وغمّني وكبر عليّ فأضمرت لها الغَدْر، فثبتت بذلك في ذهني صورةُ (الباب المغلق) وكأنه طلاق بيننا لا باب. . .
قال: ثم شب الرجلُ فكان بطبيعة ما في نفسه كالزوج الذي يترقَّبُ زوجته الغائبة غيبةً طويلة؛ كلُّ أيامه ظمأ على ظمأ، وكل يوم يمرّ به هو زيادة سنة في عمر شيطانه. . . وكان قد انتهى إلى مدرسته العالية وأصبح رجلَ كتب وعلوم وفكر وخيال. فعرضتْ له فتاة كاللواتي يعرضن للطلبة في المدارس العليا، ما منهن على صاحبها إلا كالخيبة في امتحان. . . بيد أن (الرجل) لم يعرف من هذه الفتاة إلا أوائل المرأة. . . ولم يكد يستشرفُ لأواخرها حتى سمِّيت على غيره فخطبت فزفَّت، زُفَّت بعد نصف زوج إلى زوج. . .
وعرف الرجل من الفلسفة التي درسها أنه يجب أن يكون حراً بأكثر مما يستطيع وبأكثر من هذا الأكثر. . . فقالها بملء فيه، وقال للحرية: أنا لك وأنت لي
قالها للحرية، فما أسرعَ ما ردت عليه الحرية بفتاة أخرى. . .
نقول نحن: وكان قد مضى على (الباب المغلق) تسع سنوات فصار منهن بين الشاب وبين زوجته العقلية تسعة أبواب مغلقة. ولكنها مع ذلك مسماةٌ له يقول أهله وأهلها (فلان وفلانة). وليس (الباب المغلق) عندهم إلا الحياء والصيانة؛ وليست الفتاةُ من ورائه إلا العفافَ المنتظِر؛ وليس الفتى إلا ابنَ الأبِ الذي سمَّى الفتاة له وحَبَسها على اسمه؛ وليست القربى إلا شريعة واجبة الحق نافذة الحكم.(123/11)
وعند أهل الشرفِ، أنه مهما يبلغ من حرية المرء في هذا العصر فالشرفُ مقيَّد.
وعند أهل الدين، أن الزواج لا ينبغي أن يكون كزواج هذا العصر قائماً من أوله على معاني الفاحشة.
وعند أهل الفضيلة، أن الزوجة إنما هي لبناء الأسرة؛ فإن بلغ وجهها الغاية من الحسن أو لم يبلغ، فهو على كل حال وجهٌ ذو سلطة وحقوق (رسمية) في الإحترام؛ لا تقوم الأسرة إلا بذلك ولا تقوم إلا على ذلك.
وعند أهل الكمال والضمير، أن الزوجة الطاهرة المخلصة الحبِّ لزوجها، إنما هي معاملةٌ بين زوجها وبين ربه؛ فحيثما وضعها من نفسه في كرامةِ أو مَهانة، وضع نفسه عند الله في مثل هذا الموضع.
وعند أهل العقل والرأي، أن كل زوجة فاضلة هي جميلةٌ جمال الحق، فإن لم توجب الحبَّ وجبت لها المودة والرحمة.
وعند أهل المروءة والكرم، أن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإن نبذها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة.
أما عند الشيطان لعنه الله، فشروط الزوجة الكاملة ما تشترطه الغريزة: الحب، الحب، الحب.
قال الشاب: وإذا أنا لم أتزوج امرأة تكون كما أشتهي جمالاً وكما يشتهي فكري علماً، كنت أنا المتزوج وحدي وبقي فكري عزبَا. . . وقد عرفتُ التي تصلح لي بجمالها وفكرها معاً، وتبوَّأتْ في قلبي وأقمت في قلبها. ثم داخَلْتُ أهلَها فخلطوني بأنفسهم وقالوا شابٌ وعَزَبٌ. . . ومتعلم وسريّ. . . فلم يكن لدارهم (بابٌ مغلق) حتى لو شيءت أن أصل إلى كريمتهم في حرام وصلت، ولكني رجل يحمل أمانة الرجولة. . .
أما الفتاة فلست أدري والله أفيها جاذبية نجم أم جاذبية امرأة! وهل هي أنثى في جمالها أو هي الجمالُ السماوي أتى ينقح الفنونَ الأرضية لأهل الفن؟
إذا التقينا قالت لي بعينها: هأنذي قد أرخيتُ لك الزمام فهل تستطيع فراراً مني؟ ونلتصق فتقول لي بجسمها: أليست الدنيا كلها هنا، فهل في المكان مكانٌ إلا هنا؟ ونفترق فتحصر لي الزمن كله في كلمة حين تقول: غداً نلتقي.(123/12)
كلامها كلامٌ متأدب، ولكنه في الوقت نفسه طريقة من الخلاعة تلفتك إلى فمها الحلو. والحركة على جسمها حركة مسْتَحِيَةٌ، ولكنها في الوقت عينه كالتعبير الفني المتجسم في التمثال العاري.
إنها والله قد جعلت شيطاني هو عقلي؛ أما هذا العقل الذي ينصح ويعظ ويقول هذا خير وهذا شر، فهو الشيطان الذي يجب أن أتبرأ منه. . .
قال: وألمَّ الأبُ بقصة فتاه، ويحسبها نزوةً من الشباب يُخمدها الزواج، فيقول في نفسه: إن للرجل نظرتين إلى النساء: نظرة إليهن من حيث يختلفن فتكون كل امرأة غير الأخرى في الخيال والوهم والمزاج الشعري؛ ونظرة إليهن من حيث يتساوَينَ في حقيقة الأنوثة وطبيعة الإحترام الإنساني، فتكون كل امرأة كالأخرى ولا يتفاوتن إلا بالفضيلة والمنفعة. ويقرر لنفسه أن ابنه رجل متعلم ذو دين وبصر، فلا ينظر النظرة الخيالية التي لا تقنع بامرأة واحدة بل لا تزال تلتمس محاسن الجنس ومفاتنه، وهي النظرة التي لا يقوم بها إلا بناءُ الشعر دون بناء الأسرة، ولا تصلحُ عليها المرأة تلد أولاداً لزوجها، بل المرأة تلد المعاني لشاعرها.
ثم احتاط في رأيه فقدَّر أن ابنه ربما كان عاشقاً مفتوناً مسحوراً ذا بصيرة مدخولة وقلبٍ هواء وعقل ملتاث، فيتمرد على أبيه ويخرج عن طاعته ويحارب أهله وربَّه من أجل امرأة، بيدَ أنه قال إنه هو والده وهو ربّاه وأنشأه في بيت فيه الدينُ والخلقُ والشهامةُ والنجدةُ، وأن محاربة الله بامرأة لا تكون إلا عملاً من أعمال البيئة الفاسدة المستهترة حين تجمع كل معاني الفساد والإباحة والإستهتار في كلمة (الحرية). وقال إن البيئة في العهد الذي كان من أخلاقه الشرف والدين والمروءة والغيرة على العِرض، لم يكن فيها شيء من هذا، ولم يكن الأبناء يومئذ يعترضون آباءهم فيمن اختاروهن، إذ النسل هو امتداد تاريخ الأب والابن معاً، والأب أعرفُ بدنياه وأجدر أن يكون مبرأ من اختلاط النظرة، فيختار للدين والحسب والكمال لا للشهوة والحب وفنون الخلاعة؛ ولا محل للإعتراض بالعشق في باب من أبواب الأخلاق، بل محلُّه في باب الشهوات وحدها.
ثم جَزَمَ الأبُ أن الولد الذي يجيء من عاشقين حريٌّ أن يرث في أعصابه جنون اثنين وأمراضهما النفسية وشهواتهما الملتهبة، ولهذا وقف الشرع في سبيل الحب قبل الزواج(123/13)
لوقاية الأمة في أولها، ولهذا يكثر الضعف العصبي في هذه المدينة الأوربية، وينتشر بها الفساد فلا يأتي جيلٌ إلا وهو أشد ميلاً إلى الفساد من الجيل الذي أعقبه.
ولم يكد ينتهي الأبُ إلى حيث انتهى الرأي به حتى أسرع إلى (الباب المغلق) يهيئ للزفاف ويتعجل لابنه المطيع. . . . نكبة ستجيء في احتفال عظيم. . . .
قال الشاب: وجن جنوني؛ وقد كان أبي من احترامي بالموضع الذي لا يلقى منه، فلجأتُ إلى عمي أستدفعُ به النكبة وأتأيَّد بمكانه عند أبي، وبثثته حزني وأفضيت إليه بشأني، وقلت له فيما قلت: افعلوا كل شيء إلا شيئاً ينتهي بي إلى تلك الفتاة، أو ينتهي بها إليّ. وما أُنكر أنها من ذوات القربى، وأن في احتمالي إياها واجباً ورجولة، وفي ستري لها ثواباً ومروءة، وخاصة في هذا الزمن الكاسد الذي بلغت فيه العذارى سن الجدات. . . والقلب العاشق كافر بالواجب والرجولة، والثواب والمروءة، وبالأم والأب، فهو يملك النعمة ويريد أن يملك التنعم بها؛ وكل من اعترضه دونها كان كاللص. . . . . .
قال: قَبح الله حباً يجعل أباك في قلبك لصاً أو كاللص
قلت: ولكني حر أختار من أشاء لنفسي. . . . .
قال: إن كنت حراً كما تزعم فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها؟ ألا تكون حراً إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟
قلت: ولكني متعلم، فلا أريد الزواج إلا بمن. . . . . .
فقطع علي وقال: ليتك لم تتعلم، فلو كنت نجاراً أو حداداً أو حوذياً لأدركت بطبيعة الحياة أن الذين يتخضّعون للحب وللمرأة هذا الخضوع، هم الفارغون الذين يستطيع الشيطانُ أن يقضي في قلوبهم كلَ أوقات فراغه. . . . . .
أما العاملون في الدنيا، والمغامرون في الحياة، والعارفون بحقائق الأمور، والطامعون في الكمال الإنساني، فهؤلاء جميعاً في شغل شاغل عن تربية أوهامهم، وعن البكاء للمرأة، والبكاء على المرأة: ونظرتهم إلى المرأة أعلى وأوسع؛ وغرضهم منها أجل وأسمى. وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في النساء، أي انظروا إليهن من جانب تقوى الله فإن المرأة تقدِم من رجلها على قلب فيه الحبُّ والكراهةُ وما بينهما ولا تدري أي ذلك هو حظها، ولو أن كل من أحب امرأة نبذ زوجة لخربت الدنيا ولفسد الرجال، والنساء جميعاً.(123/14)
وهذه يا بني أوهام وقتها وعمل أسبابها، وسيمضي الوقت وتتغير الأسباب، وربما كان الناضج اليوم هو المتعفِّن غدا، وربما كان الفجُّ هو الناضج بعد!
وهبك لا تحب ذات رَحِمك ثم أكرمتها وأحسنتَ إليها
وسترتها، أفيكون عندك أجمل من شعورها أنك ذو
الفضل عليها؟ وهل أكرم الكرم عند النفس إلا أن
يكون لها هذا الشعور في نفسٍ أحرى؟ إن هذا يا بنيّ
إن لم يكن حبا فيه الشهوة فهو حب إنساني فيه
المجد. ووقعت (المشكلة) وزفَّت المسكينة؛ فكيف
يصنع الرجل بين المحبوبة والمكروهة؟
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(123/15)
المأساة الفاشستية
بقلم باحث دبلوماسي كبير
في الثامن والعشرين من أكتوبر احتفلت إيطاليا باختتام العام الثالث عشر لظفر الفاشستية الإيطالية وقيام النظام الفاشستي؛ فمنذ ثلاثة عشر عاماً زحف موسوليني وأنصاره من ذوي الأقمصة السود على رومة، وانتزعوا مقاليد الحكم؛ ومنذ ثلاثة عشر عاماً يسيطر موسوليني وحزبه على مصاير إيطاليا ومصاير الشعب الإيطالي؛ ولكن الفاشستية الإيطالية تحتفل بعيدها لأول مرة في ظروف خاصة؛ فهي الآن في مأزق خطر، بل هي تجوز معركة الحياة والموت؛ وهي تشعر لأول مرة بمرارة الخيبة وانهيار الآمال، وترى مشاريعها الاستعمارية العريضة في ميزان القدر تكبدها من الخسائر والمشاق الفادحة ما لم تكن تحلم بتكبده ولا قبل لها باحتماله، وترى فوق ذلك نفسها تواجه كتلة عالمية من الأمم الناقمة الساخرة تحيطها بسياج من الحفيظة والبغض، وتنظم ضدها مقاومة مادية فعالة وتزمع أن تقضي على كل مطامعها وأحلامها.
والفاشستية هي التي جنت على نفسها وعلى إيطاليا، وهي التي زجتها إلى ذلك المأزق الذي تتخبط فيه ولا ترى سبيلاً إلى الخلاص منه؛ فهي التي أقدمت عامدة مصرة على غزو الحبشة وانتهاك المعاهدات الدولية؛ وهي التي لم تخجل أن تصرح في جرأة منقطعة النظير أنها تغزو الحبشة وتعتدي على استقلالها لأنها في حاجة إلى التوسع والإستعمار واستغلال الثروات الطبيعية التي تبطنها وهاد الحبشة؛ وهي التي أثارت بعدوانها وغرورها وقحتها السياسية إشمئزاز كل الشعوب المتمدنة؛ وهي الآن في محنتها ويأسها تحاول أن تتشح بثوب الظافر، لأن الجيوش الإيطالية استولت على بعض الأراضي الحبشية في الشمال وفي الجنوب؛ ولكن العالم يعرف جيداً أن هذا النصر اليسير لم يكن نتيجة معارك حقيقية ولا بطولة عسكرية، وأنه مع ذلك قد كبد إيطاليا أعظم الجهود والخسائر، وأن المعارك الفاصلة ما زالت تنتظر إيطاليا في الوهاد الحبشية السحيقة التي لن تبلغها إلا بأفدح تضحية من المال والرجال.
لقد كان قيام الفاشستية في إيطاليا أول ضربة حقيقية للديموقراطية والحريات الشعبية بعد الحرب الكبرى؛ وكانت الديموقراطية قد استطاعت غداة النصر أن تكتسح النظم(123/16)
الإمبراطورية في ألمانيا والنمسا؛ ولكن الديموقراطية انساقت في فورة الظفر إلى ألوان خطرة من التطرف والفوضى؛ وكانت إيطاليا لهذا التطرف، ففي غمر الإضطراب العام وثبت الفاشستية تؤيدها العسكرية، وتؤيدها الصناعات الكبرى والمالية العليا، وقبضت على زمام الحكم بقوة؛ وظن خصومها في المبدأ أنها فورة الساعة وأن ريحها لن تلبث أن تركد، ولكن فورة الفاشستية كانت أشد وأقوى مما تتصوروا، وكانت المعركة قصيرة المدى، فلم يمض سوى قليل حتى سحقت الفاشستية خصومها، وسحقت الإشتراكية والديموقراطية، وكل النظم البرلمانية الحقيقية، وأخضعت الصحافة لصولها، ولم تبق متنفساً للشعب الإيطالي سوى طريقها، ولم تسمح له بأن يفكر إلا برأيها أو أن يرى إلا بعينها، وامتزجت الدولة بالحزب، فغدت الفاشستية هي الحكومة وهي الدولة، وهي مصدر السلطات وهي كل شيء في حياة إيطاليا العامة، وفي مرافقها ومصايرها.
كان ظفر الفاشستية سريعاً، وكان مطلقاً، ولكنها لم تدخر لتحقيق هذا الظفر أية وسيلة مثيرة؛ ولسنا نقف طويلاً بهذه الوسائل الهمجية التي أصبحت روح النظم الطاغية في عصرنا، سواء في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية أو إيطاليا الفاشستية أو ألمانيا الهتلرية، والتي تقوم على القتل والسجن والنفي والمصادرة وغيرها من أساليب العنف المنظم؛ ولكنا نقول أيضاً في إنصاف هذه الفاشستية الهمجية أنها لم تكن شراً مطلقاً، بل كانت لها آثار داخلية حسنة، وقد أسفرت جهودها في سبيل الإنشاء والتنظيم عن نتائج مادية ظاهرة الأثر في تكوين إيطاليا الحديثة وفي تطورها وتقدمها؛ فقد سحقت عوامل التفرق القديم الذي خسرت إيطاليا من جرائه مغانم الحرب في معاهدة الصلح، وسحقت عوامل الفوضى التي كادت تشل الحياة الإقتصادية في إيطاليا، وبثت في الشعب الإيطالي روحاً جديداً وعزائم جديدة في ميادين النشاط والتفكير والعمل، فخطت الزراعة والصناعة والتجارة إلى الأمام خطوات واسعة، ونظمت موارد الثروة القومية تنظيماً مدهشاً؛ وبذلت الفاشستية جهوداً محمودة لمعالجة الركود الإقتصادي والعطلة، وحماية الإنتاج القومي، وقامت بمئات المشاريع العمرانية النافعة، ولم تترك وجهاً من وجوه الحياة العامة إلا عملت لإصلاحه وتقويمه؛ ولم تقف عند العمل في ميادين النشاط المادي، بل عملت أيضاً في النواحي المعنوية، فطهرت الحياة الإجتماعية من كثير من أدرانها القديمة، وبثت في الشعب(123/17)
الإيطالي روحاً جديداً من العزيمة والخلال الحسنة، وقد كان قبل قيام الفاشستية في حالة يرثى لها من الإنحلال الفكري والأخلاقي، ونظمت الشباب والنشء تنظيماً بديعاً؛ والخلاصة أنها من حيث الوجهة الداخلية، خلقت إيطاليا خلقاً جديداً، وسارت بها في سبيل التقدم شوطاً بعيداً. وأما من حيث الوجهة الخارجية فقد عملت الفاشستية أيضاً لتقوية إيطاليا في البر والبحر والهواء، ورفعتها من حيث القوة العسكرية والهيبة الدولية إلى مصافي الدول العظمى ذات الرأي المسموع.
كل ذلك عملته الفاشستية في أعوامها الثلاثة عشر؛ ولكنها عملته فوق أكداس من الجرائم والضحايا، وعلى أنقاض الحريات العامة والكرامة البشرية والاستقلال الروحي والفكري؛ والفاشستية مادية مغرقة في المادية، والمعنويات في نظرها وسيلة إلى تحقيق المصالح المادية؛ ومن ثم جعلت من الجبل الإيطالي الجديد، في تفكيره وعقليته وتصرفاته قطيعاً من البشر مسلوب الرأي والإرادة، توجهه الزعامة العنيفة أينما شاءت. وكان من أكبر وأخطر جرائم الفاشستية أنها بثت في الشعب الإيطالي روحاً خطرة هي روح الغرور المغرق؛ ولا بأس من أن يتصف الشعب بالكبرياء القومية وأن يستمد من ماضيه المجيد وعظمته الحاضرة أسباب العزة القومية، ولكن الفاشستية بثت في الشعب الإيطالي أخطر عوامل الكبرياء والتحدي الفارغة؛ فالإيطالي الجديد يعتبر نفسه اليوم أرقى الخليقة، وأنه خلع بارتداء الفاشستية أثواب أوربا البالية، وأنه غدا يشرف من ذروة عظمته الجديدة على بؤس القارة القديمة وتدهورها، وأنه سيقود أوربا الجديدة طبق مبادئه وآرائه؛ ثم هناك ما هو أخطر من هذه الأوهام المعنوية؛ فقد بثت الفاشستية في الجيل الجديد روح العداء لأوربا القديمة، وروح التطلع والتحفز والعدوان، ولقنته نظرية جديدة هي أن إيطاليا الفاشستية خليفة الدولة الرومانية القديمة وقرينتها؛ وأن موسوليني إن هو إلا قيصر يقودها في سبيل الفخار والمجد، وغمرت هذه الروح القيصرية ذلك الشباب المغرور المتحدي، فأصبح يتصور أنه سيعيد حدود الدولة الرومانية القديمة، وأنه سيفتح مصر والأناضول وسورية وشمال أفريقية، ويجعل من البحر الأبيض بحيرة رومانية؛ ومضت إيطاليا الفاشستية تسخر بلسان زعيمها من كل دعوة للسلام ونزع السلاح، وكل دعوة إلى تفاهم الأمم، وآثرت نغمة الوعيد والتهديد، والحرب والإنتقام.(123/18)
غير أن ذلك الروح الحربي المضطرم لم يتمخض عن إحياء الدولة الرومانية، ولا استعادة شيء من حدودها أو أملاكها القديمة، ولكنه تمخض عن مشروع استعماري مثير وضيع معاً: ذلك هو غزو الحبشة وافتتاحها لاستخلاص ثرواتها الدفينة، وليكون منها ومن الصومال والأرترية لإيطاليا القيصرية إمبراطورية استعمارية ضخمة؛ وقد كان زعيم الفاشستية يحلم بأن جيوشه ستكتسح الفريسة في سيل من النصر الباهر يدهش العالم ويروعه معاً. ولكن الفريسة صمدت للمعتدين عليها وأفهمتهم أن دون إزهاقها أهوالاً وتضحيات فادحة؛ وقد كانت الفاشستية في ذلك معتدية أثيمة تنكر أبسط مبادئ الحق والعدالة، بل تنكر ماضيها وعهودها وتصريحاتها التي أذاعتها لأول عهدها بلسان زعيمها. وإليك مبادئ السياسة الخارجية الفاشستية كما أذاعها موسوليني في أول برلمان فاشستي: (لا نريد استعماراً، ولا نريد اعتداء، ولكنا سنتخذ موقفاً يقضي على سياسة الإذلال التي جعلت إيطاليا أقرب إلى وصيفة وخادمة ذليلة للأمم الأخرى؛ إحترام للمعاهدات الدولية مهما كلفنا ذلك؛ إخلاص وصداقة نحو الأمم التي تقدم لإيطاليا أدلة صادقة على مبادلة هذه العواطف؛ تأييد للتوازن الشرقي الذي يقوم عليه سلام الدول البلقانية، ومن ثم يقوم عليه سلام أوربا وسلام العالم)، ولكن الفاشستية وهي حركة عنيفة تقوم على القوة وتعتبر الحق للقوة، لا يمكن أن ترتبط بعهد أو ذمام، ولا يمكن أن تؤمن بالحق لذاته أو العدالة لذاتها؛ وقد نمت الفاشستية واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت أن تخلق من إيطاليا قوة يخشى بأسها. بيد أنها بدلاً من أن تقف هذه القوة لتأييد الهيبة والمصالح القومية المشروعة، اتخذت منها أداة لتهديد سلام أوربا وسلام العالم، وجعلتها وقفاً على تحقيق الشهوات الحربية والاستعمارية، ولم تحجم عن أن تعرض سلام العالم للخطر فغي سبيل شهواتها وغاياتها.
واليوم وقد انساقت الفاشستية إلى مغامرتها الخطرة، فإنها تشعر لأول مرة في تاريخها بصدمة حقيقية؛ وقد كان موسوليني يظن أنه يستطيع افتراس الحبشة بأيسر أمر وعلى مرأى ومسمع من العالم، وأن صيحات الوعيد المتكرر تكفي لإخماد كل معارضة وتدخل: ولم يكن موسوليني ليقيم وزنا لعصبة الأمم، وقد سحق مبادئها من قبل يوم احتل جزيرة كورفو ليرغم اليونان علة تنفيذ مطالبه لخلاف نشأ بينهما من جراء مقتل بعض الرعايا(123/19)
الإيطاليين في الأراضي اليونانية؛ وكان موسوليني على حق في استخفافه بالعصبة وجهودها؛ ولكن من كان يظن أن عصبة الأمم ستضطرم فجأة بروح جديدة؟ ومن كان يعتقد أنها ستجرؤ على اتخاذ تلك القرارات التاريخية الشهيرة فتلقى تهمة الاعتداء العمد في وجه إيطاليا وتقضي عليها بالعقوبات الإقتصادية؟ ولكن عاملاً جديداً لم يكن يتصوره موسوليني قط هو الذي وثب فجأة ووقف للفاشستية ولإيطاليا بالمرصاد، واستطاع أن يقلب الأوضاع الدولية في أسابيع قلائل: ذلك هو تدخل إنكلترا وتحرك الإمبراطورية البريطانية. ولقد كانت إنكلترا تبغض الفاشستية منذ قيامها، وتعتبرها خطراً على السلم الأوربي؛ ولكنها مذ اشتد ساعد الفاشستية وذكا وعيدها وتدفقت جيوشها إلى شرق أفريقية، أدركت أن الفاشستية قد أصبحت بمطامعها ومشاريعها الاستعمارية خطراً داهماً على الإمبراطورية البريطانية، وعلى دولتها الاستعمارية في وادي النيل وشرق أفريقية، وعلى سيادتها في البحرين الأبيض والأحمر؛ ويجب لتأييد سلام الإمبراطورية وأمنها، أن تسحق هذه الفورة الخطرة؛ وهناك عامل معنوي آخر يقتضي في نظر إنكلترا الحكم على الفاشستية، هو أنها رمز النظم الطاغية العنيفة التي يمقتها الشعب الإنكليزي، ويراها خطراً على الديموقراطية التي غدت ملاذها وحصنها الأخير بعد أن اجتاحت معظم الدول الأوربية؛ وهكذا تستحيل المعركة اليوم إلى نضال خطير بين الفاشستية وبين الإمبراطورية البريطانية مستترة وراء عصبة الأمم؛ ولقد كان نجاح إنكلترا عظيماً في حشد أمم العالم ضد إيطاليا باسم العصبة، وفي تنظيم هذه العقوبات الاقتصادية التي ستشل عما قريب كل موارد إيطاليا وقواها المالية والاقتصادية؛ وهكذا تنهار تدابير الفاشستية فجأة، وترى نفسها وحيدة في الميدان، تواجه سخط العالم وتألبه، وتواجه الإمبراطورية البريطانية؛ وفي رأينا أنه ليس ثمة شك في نتيجة هذه المعركة، فالفاشستية تجوز معركة الحياة والموت، وهي تسير بلا ريب إلى انحلالها، وليس في وسعها أن تثبت طويلاً أمام هذه الصعاب الفادحة التي تواجهها في الخارج وفي الداخل؛ وتدل الطوالع على أن الحرب الحبشية التي أريد أن تكلل جبين الفاشستية بهالة من الظفر ستغدو قبراً للفاشستية؛ ومن المرجح أن يقترن فشل الفاشستية في مشروعها الاستعماري بانهيار سلطانها في الداخل، وعندئذ تختتم تلك المأساة الطويلة بانقلاب حاسم، وتتحرر إيطاليا من تلك الأغلال الحديدية التي صفدتها مدى ثلاثة عشر(123/20)
عاماً، ويتنفس العالم سعيداً إذ يرى مصرع تلك الفورة الطاغية الخطرة التي مازالت منذ قيامها تهدد أمنه وسلامه.(123/21)
كيف كسبت الرهان!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه - الحادثة ليست شخصية - وليس لي أخت)
غام الزجاج أمامي من كثرة ما سقط عليه من ندى الفجر، وكنت - كلما قطعنا بضعة فراسخ - أمسحه بمنديل ثم أجلوه بورقة، وكان ذلك يحوجني إلى الوقوف ثم استئناف السير، وهذا مضيعة للوقت، والشقة بعيدة، والرهان جسيم؛ فقلت أرفع الزجاج، فإن التعرض للهواء البارد أيسر محملاً، وأهون من النظر من زجاج عليه ضبابة، وإن كانت رقيقة؛ وصحيح أن أختي كانت تصف لي الطريق وتسمي لي ما يعترضنا عليه، وتعين لي مواقع الأشياء، ولكن السائق لا يستطيع أن يعتمد على غير عينيه؛ ثم إن وصفها كثيراً ما كان يحيرني ويحدث لي اضطراباً، فقد كانت تقول مثلاً: (هذا رجل في وسط الطريق. . لا لا لا. . إنه أقرب إلى اليسار. . . إنتظر. . . بل هو يمشي يميناً. . . إمض على بركة الله. . . لا خوف).
فأتنهد، وأمضي على بركة الله، فما ثم شيء آخر أمضي عليه؛ وبودي لو تبين لي كيف أستطيع أن أتريث وأنتظر حتى تتثبت هي وتقطع الشك باليقين! ثم إني لم أكن أومن بأن نظرها أصح وأسلم وأقوى، وأنه يسعها ما أعياني من اختراق هذا الضباب - أعني النظر من خلال الزجاج المتغيم. لذلك توكلت على الله ورفعت الزجاج.
وقال زوجها: (لا بأس! ولم لا؟ إنه لن يصيبنا شر من الإلتهاب الرئوي.
فرمت إليه زوجته شيئاً وقالت: (تلفع بهذا).
فرده إليها وهو يقول: (الكلب لا يعض أذن أخيه. . . صدق والله!).
فثاروا به وشغبوا عليه، ولما قرت الضجة قلت:
(غط صدرك إذا كنت تخشى الهواء، وفمك أيضاً - فإني نويت أن أعوض ما خسرت الآن).
وضغطت بقدمي فانطلقت السيارة كالسهم، وانحنت أختي تنظر إلى العداد، وجعلت تعلن إلى الرقم كلما تغير، وتصيح: (40. . . . 43. . . . 47. . . . 50. . . . أوه! لقد وصل إلى الستين. . . .! السبعين. . . .).(123/22)
ثم أمسكت، فقد كان الهواء قوياً، ودفْعُه في الصدر شديداً، فلولا أن النظارة على عيني لما وسعني الصبر عليه؛ وكان الطريق مستقيماً، والتراب راقداً لكثرة ما نزل عليه من الطل؛ وبدت لعيني مركبة فسألت نفسي: ترى على أي ناحية من الطريق هي؟ ولكني جزتها ومرقت كالسهم في نفس اللحظة التي رأيتها فيها، فلا جواب لسؤالي؛ وأحسست أن سيارة مقبلة علينا، ثم تبينت أنها ماضية في اتجاهنا فما عتمت أن صارت وراءنا، وأحسب أن سائقها قد أوسعني شتماً ولعناً، فما نبهته ولا حذرته؛ وظهرت ضيعة، ورأيت بيوتها الواطئة المبينة من الطين، وأخذت عيني الأشجار المغروسة أمامها - أو خلفها، لا أدري - فقد غابت عن عيني بأسرع مما بدت لها؛ وكنت لا أجرؤ أن أصوب لحظي إلى عداد السرعة، ولكني كنت أحس كل كيلو نقطعه ومضيفه إلى ما فرغنا منه؛ وزاد ضغط قدمي، فتجمعت أختي ونظرت ثم قالت:
(89. . . 90. . . 91. . . 92. . .)
ثم رأتني كالمسمر في مكاني، وكأنما أدركها العطف علي، أو قواها إصراري على الفوز، فعادت تنظر وتبلغني ما ترى.
(إلى اليمين شيء. . . عربة. . . خال. . . عربة. . . تتحرك. . . دراجة إلى يسارك. . . سيارة مقبلة. . . خال. . . لا. . . رجل يمشي. . . خال. . .)
فسألتها: (كم كيلو قطعنا؟ وكم الساعة الآن؟)
وكانت الساعة الرابعة صباحاً، ولا يزال أمامنا مائة وعشرة كيلومترات إلى دمنهور، ونحو ثلاثين أخرى إلى القرية، وثلاث ساعات نقطعها فيها.
فجعلت أدافع اليأس؛ ذلك أن الطريق إلى (بنها) واسع، ولكنه بعد ذلك يضيق، إلى قريب من طنطا، وسيزدحم بالجمال والأبقار والأغنام والدواب والسيارات، فسألت القوم: (هل ورد ذكر لدمنهور في الرهان؟).
فقالت أختي: (أظن. . . لا لا. . . لم يرد لها ذكر).
وقال زوجها: (أو ورد. . . . . . سيان. . . . . . . . . . . .).
فقاطعته ابنة عمه، وكانت معه على المقعد الخلفي وقالت:
لا، على التحقيق. . . كل ما اشترط هو الوصول إلى القرية الساعة السابعة صباحاً،(123/23)
والأسبق هو الفائز. . . . . . ولكن لماذا تسأل؟).
قلت: لأن هناك طريقاً أخصر. . . . . . من طنطا إلى دسوق مباشرة).
قالت: (وما الفرق؟).
قلت: (ثلاثون كيلو. . . مسافة لا يستهان بها. . . والطريق أضيق ولكنه معبد).
قالت: (وهل تظن أنه يجهل هذا الطريق؟).
فهبط قلبي من صدري إلى حذائي، ولي العذر، فإن قريبنا هذا - ومراهننا، وصاحب الضيعة وداعينا إليها - أبرع مني وأعرف بالسكك المؤدية إلى قريته، ولاشك أنه أهمل النص على دمنهور في الرهان عمداً، لظنه أني لا أعرف غير سكة دمنهور، ثم لا أشك أنه تلكأ وراءنا ليغافلنا في طنطا، ويميل هو إلى الطريق الأخصر. . . . . . . . .
وزاد الطين بلة أني أحسست ونحن ندخل بنها كأن قدمي قد شكت بمسمار محمي، فصرخت، ورفعت رجلي، واضطررت أن أميل بالسيارة إلى الرصيف.
وخلعت الحذاء وجعلت أنظر، وأتحسس قدمي وأفركها، فقالت أختي:
(ماذا جرى؟).
وقال أخوها: (هل أدلكها لك؟ كلا، لا بأس! إذن لم يبق إلا العلاج بالإيحاء. إسمع! متى قلت: (واحد) فإن عليك أن تفرغ رأسك من كل شيء - وهذا سهل جداً ولن يكلفك عناء - ومتى قلتُ: (اثنين) فأعتقد أن الألم الذي لا تحسه، ليس إلا وهماً. . . ومتى. . .).
فصحنا به نسكته، ولما انقطع اللغط قلت:
(طول الضغط فعل هذا. . . على كل حال لا أظنني أستطيع أن أسوق السيارة، فعليك أن تتفضل وتجلس في مكاني، وأمرنا إلى الله، وأرواحنا في وديعته، وعوضنا الله خيراً، فقد ذهب الرهان والأمل في كسبه).
فصاحت أختي: (ولكنه لا يحسن القيادة. . .).
قلت: (وما الحيلة؟ سأجلس إلى جانبه - وأرشده).
فقالت: بنت عمه: ولكنه سيقصر عمرنا. . .).
فقلت: (وماذا نصنع غير ذلك؟).
وقالت زوجته: (ولكني أخاف. . . أعني. . . إنه. . .).(123/24)
فقلت: (اطمئني. . . لا خوف عليه. . . ولا علينا، إذا كان هذا يعنيك).
فالتفت إلينا وقال:
(إن الذي فهمته هو أن هناك اقتراحاً منكم بأن تتمتعوا بقيادتي لهذه السيارة. . . حسن جداً. . . فلتبلغ الصحف، وليدع الشعراء).
فقلت: (إن المسألة لا تحتمل هذا المزح. . .).
وقالت أختي: لا تحتمله أبداً. . . عدني ألا تسرع. . . سر ببطء. . . على مهل. . . ولنصل بعد أسبوع. . . ماذا يهم؟ واحذر أن تسابق شيئاً. . .).
فقال: (لا تخافي يا نور عيني. . . إذا صادفت في طريقي سيارة فإني أعدك أن أعطل المحرك، وأذهب فأختبئ تحت شجرة).
ودخلت بينهما وقلت: (إن وعداً كهذا لا سبيل إليه، فإن علينا أن نصل إلى القرية في وقت معقول، إذا لم يكن علينا أن نكسب الرهان، ثم إني سأكون إلى جانبه وسأرشده، وسيكون هو السائق إسماً، فقط، فلا خوف.).
فالتفت إلينا، بعد أن قعد في مكاني وقال: ولكني أشترط أن يكون الإرشاد بلغة مفهومة، أما أن تصيح بي (الهوا) أو (اكسر). . . فلا يا صاحبي. . . قل كلاماً مفهوماً أطعك! ولا تقلد ذلك الذي علمني، وصاح فجأة: (حش. . . حش) فوثبت عن المقعد، ولم أدر ماذا أحوش، ووثب الرجل الذي دعاني معلمي أن أحوش السيارة عنه. . . وعلى ذكر ذلك أقول إني لم أر في حياتي أحداً يثب كما وثب ذاك الرجل يومئذ!).
فصاحت زوجته، وهي تنزل من السيارة: (إني لم أكن أعرف هذا الخبر، ويستحيل أن أدعك تسوق السيارة).
وقعدت على الرصيف.
وجعلت أنظر منها إليه، ومنه إلى بنت عمه، في صمت؛ ومضت دقائق كأنها الدهر طويلاً، مشيت بعدها إلى مقعد القيادة وقلت:
(إنزل من فضلك. . . فإنك مطرود) فنزل وهو يقول:
(ولكن رجلك. . . ثم إن هذا. . .).
قلت: (لا بأس، سأجرب على الأقل).(123/25)
فدنت منا بنت عمه ووضعت كفيها على كتفينا وقالت لي (ألا تدعني أسوق؟. . . ربما. . . استطعت. . .).
قلت: (حباً وكرامة، ولكن كيف يمكن؟ إنك. . .).
قالت: (لست جاهلة جداً. . . وسأحتاج إلى إرشادك. . . والطريق خال).
فقال: (نعم خال. . . جداً، إلا من البقر والجمال. . .).
وركبنا جميعاً، وقلت لها: (الآن ضعي ناقل السرعة في. . . برافو. . . أنقليه برفق. . . برافو جداً. . . أظن أنه يحسن التأني حتى تبعد عنا هذه السيارة).
فقالت: وهي تحول ناقل السرعة إلى المكان الثالث: (كلا أظن أن الأوفق أن نمر به).
ومرقت كالسهم بجانبه، فالتفت إليها متعجباً، فما كنا نعرف أن لها دراية بالسيارات أو خبرة بقيادتها، ونظرت إلى العداد فإذا هو يشير إلى الخمسين. . . فالستين، فرفعت عيني إليها، فألقيت على ثغرها ابتسامة فاتنة، وقالت وهي تخطف بالسيارة:
(أظن أن الأمل في الرهان لم يذهب. . . على كل حال (عبده) لا يزال وراءنا).
فقالت أختي: (وراءنا؟ من قال هذا؟ لقد مرق وأنتم واقفون. . . رأيته بعيني).
فعدنا إلى اليأس بعد أن كاد ينتعش الأمل، ولكن الفتاة قالت:
(هذا أحسن. . . خيراً صنع. . . وأنا الآن مطمئنة).
قلت: (ولكن كيف؟ أليس قد سبقنا؟).
قالت: (سترى. . . معنا الله).
وشارفنا طنطا، ولمحنا سيارة (عبده)، فتباطأت، وأبت أن تسبقه كما أشرت عليها؛ فلما صرنا في قلب المدينة، إغتنمْتُ فرصة الزحام، وتركْته يمضي في طريق، وضربت هي في طريق غيره، وأطلقت للسيارة العنان.
وقالت بعد أن خرجت إلى السكة الزراعية: (إنه يعتقد الآن أننا وراءه، واعتقاده هذا ربح لنا، وبقي أن يغلط ويأخذ طريق دمنهور).
فسألتها: (ولكن من أدراك أنه لم يسبقنا؟).
قالت: (كلا. . . إن طريقي أخصر جداً. . . كن واثقاً).
ومضينا على سكة دسوق، وكنا لا ننفك نلتفت وراءنا لعلنا نرى سيارة (عبده)، فلما طال(123/26)
ذلك علينا أيقنا أنه أخذ طريق دمنهور، فقد كان في وسعه أن يدركنا بسهولة.
وسكة دسوق ضيقة كما أسلفت، وكانت إلى هذا كثيرة الزحاليق، وكانت السيارة تتلوى على المواضع البليلة، كالحية، ولكن سائقتنا كانت حاذقة، فسكن روعنا جميعاً، ووسعنا أن نضحك ونمزح.
وقلت لها - همساً - (إني أحس غيرة. . . هنا) وأشرت لها إلى موضع القلب فابتسمت وقالت: (لماذا؟
قلت: (لأن على جبينك خصلة صغيرة جميلة يداعبها النسيم - أعني يقبلها - علناً وعلى مرأى منا جميعاً - وهذا. . . هذا. . . مخجل. . . فعسى ألا يُعديني بالجرأة).
فتكلفت الجد وقالت: (إذا فعلت، فسأمضي إلى هذه الترعة. . . مباشرة).
فهمست: (هش. . . لا تمزحي. . . إنها مسائل لا تحتمل المزح. . . ومن يدري؟؟ فقد تصيبك العدوى. . . ثم إنك لن تحسني التعبيس ما دام لك هذا المحيا الواضح الذي يضيئه الجمال، ويضحك فيه أيضاً).
فلوت مُوَجِّه السيارة بلا كلام فصاح ابن عمها:
(إلى أين بنا يا هذه؟).
قالت بابتسام: (إلى الترعة. . . إذا لم يسكت).
قال: (إذا كنت تريدين أن تستحمي فإن في البيت الذي نرجو أن نبلغه سالمين حماماً بديعاً، ولكن بغير ماء! على كل حال، أظن أن جارك مستعد أن يملأ لك الجرار، ويصبها عليك أيضاً).
قالت: (إذا وعد بأن يكون حسن السلوك. . .).
واستأنفنا السير بسرعة، ويطول بنا الحديث إذا أردت أن أسرد ما عانيناه من الغنم والبقر والجمال والسيارات؛ ولكن حادثاً واحداً وقع لنا لا أرى بداً من ذكره، ذلك أنا وقعنا في وحل عظيم، ولم يكن لنا مفر، ولا كان لنا مهرب، فقد كنا مقبلين بسرعة فإذا أمامنا - وإلى مسافة طويلة - ماء وطين ووحل شديد فارتطمنا فيه قبل أن ندرك ما حدث، وصارت العجلات تنزلق دائرة ولا تتقدم. فأوقفت المحرك وقالت:
(هل مع أحد منكم سيجارة؟)(123/27)
وأشعلتها، ونفخت دخانها ثم قالت:
(هذا أوان الحاجة إلى الرجال. . . فأخرجا، وابحثا عن قش تلقيانه تحت العجلات، أو اجرفا الطين أمامها وشقا لها طريقاً).
فقال ابن عمها: (هذا بديع. . . لقد تركت أظافري تطول لمثل هذا اليوم. . . قم بنا يا أخي).
ولكنا فعلنا غير ذلك، ودعونا أحد الفلاحين إلى معونتنا، فزعق فاجتمع حولنا نفر من الرجال والنساء، أعملوا أيديهم في الطين حتى رفعوه من طريقنا، فشكرنا لهم مروءتهم ومددنا لهم أيدينا بنقود، فأبوها كل الأباء؛ وقال الذي جمعهم: (عيب يا أفندي) فألححنا، فأصر على الأباء، وعلى أن هذا عيب، فكررنا له الشكر، وصافحناه ثم نظرنا في أيدينا فإذا كلها طين! فاستحيينا أن نقول شيئاً على مسمع منه.
بلغنا البيت قبل صاحبه وقبل الموعد المضروب بنحو ربع ساعة، وكان الفضل لهذه السائقة البارعة التي كنا نجهل أن هذه من مزاياها؛ ولما أقبل مضيفنا بعد دقائق قال له نسيبي:
(ليكن هذا درساً لك. . . هات الرهان).
قال: (ولكن من أين جئتم؟) ثم كأنما تذكر فرفع يده إلى جبينه وصاح: (ما أغباني!) فقال نسيبي: (تمام. . . اعرف نفسك. . . هكذا قال الحكماء. . . وهذا هو ربحك اليوم. . . وأولى أن تسأل كيف جئنا. . . حدثه يا هذا، فإن بي كسلاً بعد الذي تجشمته من متاعب القيادة).
فصحنا به منكرين هذا الكذب. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(123/28)
حول السنيين والشيعة
للأستاذ محمد بهجة البيطار
قرأت ما كتبه العلامة الأستاذ أحمد أمين في الرسالة الغراء (عدد 121) تحت عنوان (السنيون والشيعة) فرأيته يدعو إلى نبذ كلام الطاعنين من الفريقين، وإلى عقد مؤتمر للوحدة الإسلامية، يمهد له بالتماس وسائل الوفاق من الآن؛ ولعمري أن السنة والشيعة هما أكبر مظهر للمسلمين اليوم، وهم الموجودون لوراثة تلك الوحدة الدينية، وتجديد ذلك المجد الدارس علماً وديناً وأخلاقاً؛ وإن أضر شيء علينا هو هذه العصبية الموروثة، والعداوة الممقوتة، والتفرق الديني الذميم، (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء).
أيها الشيعة الكرام: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أنتم تحبونها منا وهي تسرنا منكم، وهي أن نأخذ بأدب سيدنا علي وهديه، ونقف من محاربيه عند حدود أمره ونهيه، وإن لم تتجاوزا قوله ولا فعله، فأهل السنة معكم، وأنتم منهم وهم منكم، وها هي ذي أقواله وأعماله تعرض عليكم: لقد بايع الإمام علي للأمة الثلاثة من قبله، وتنازل ولده الحسن عن الخلافة لمعاوية من بعد، وأصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين طبقاً لما أخبر جده الصادق الأمين عليه وآله الطاهرين وصحبه الطيبين أفضل الصلاة والتسليم:
في نهج البلاغة أن علياً عليه السلام سئل عن الخوارج: أكفارٌ هم؟ قال من الكفر فروا؛ قيل: أفمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى؛ قيل فما هم؟ قال قوم بغوا علينا فقاتلونا وقاتلناهم. وفي نهج البلاغة أيضاً أنه عليه السلام قال وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين: (إني لأكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر)
أقول ومعلوم من حال أهل السنة أنهم يقصون ما جرى بين الصحابة (رض) ويصفون أعمالهم، ويذكرون حالهم، ويرون أن الحق في جانب عليّ عليه السلام، وأن محاربيه هم الفئة الباغية على الإمام الحق، وهم المخطئون في اجتهادهم، ولكنهم يؤولون التشاجر بينهم تأدباً واحتراماً لصحبتهم، وحفظاً لكرامتهم، وحسن بلائهم في نشر الدعوة الإسلامية، ويقولون: الكل ينشدون مصلحة الإسلام.(123/29)
أيها الأخوان الكرام: أليست الدعوة إلى عقد مؤتمر يعيد الوحدة الإسلامية على هذا الأساس الديني، السُّني العلَوي هو المطلوب ولا سيما في هذا الزمن العصيب؟
فنحن نعزز رأي الأستاذ الجليل أحمد أمين، ونرجو أن يعقد مؤتمر في الكنانة أو في دار السلام تزول به تلك الإحن، وتحول تلك المشاحنات إلى ما يعود على الأمة بالنفع العام من توحيد الكلمة، وتقوية الملة، وإنشاء دور العلم المشتركة، وإحياء ذكرى أئمة آل البيت عليهم السلام بتجديد هديهم وإصلاحهم.
(دمشق)
محمد بهجة البيطار(123/30)
أثر تشجيع الأمراء
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
نالت الآداب العربية من تشجيع الأمراء في مختلف العهود ما لم تكد تظفر به آداب أمة أخرى؛ ومن الأقوال المتواترة في كتب الأدب العربي وتاريخه أن ذلك التشجيع كان من أهم أسباب ازدهار الأدب، ولكن الحقيقة التي يراها المدقق أن ذلك التشجيع لم يكن له ذلك الأثر الطيب المعزوّ إليه، بل كان له في الأدب العربي أثر وخيم بعيد المدى.
ذلك بأن الأمراء حين شجعوا الشعر وقربوا الشعراء وأغدقوا عليهم لم يقصدوا إلى تشجيع الفن لذاته أو إكرام أصحابه، وإنما كانت لهم غاياتهم الشخصية ومأربهم السياسية المعروفة، فكانوا يريدون من أولئك الشعراء التزكية وإعلاء الصيت ومناضلة أعدائهم والذب عن دعواهم في الملك والسيادة، ولذلك لم يطلبوا عندهم سوى فن واحد من فنون الشعر هو المدح، ولم نعلم عن أمير أجاز شاعراً لنبوغه في الوصف أو النسيب أو قول الحكمة وصرب الأمثال.
فالشعر الذي شجعه الأمراء هو المدح دون غيره، وليس المدح بخير فنون الشعر ولا هو من الشعر على الإطلاق لمنْ طلب في الشعر تعبيراً عن شعور صادق قيم؛ وما كان المدح الذي أفشاه أولئك الأمراء في الشعر العربي إفشاء لا نظير له يحوي شعوراً صحيحاً ولا تفكيراً مستقيماً.
إن أول خصائص الشعر الجيد صدوره عن دافع وجداني داخلي، وهذه صفة كانت تنقص شعر المدح الذي كان لا يصدر إلا عن دافع مادي هو صلة الممدوح، وإن لم يحسَّ الشاعر بحب له ولا إعجاب به، حتى ولو أضمر له البغض والإزدراء. فلا غرو، وقد فقد شعر المديح هذه الصفة الأساسية أن خالطه الكذب وأسرع إليه التهويل والمبالغة والتهافت والإسفاف والإحالة، وأغرى معالجيه بسد نقص الشعور بالتلاعب باللفظ واصطناع محسناته، وأولعهم بالسرقة من متقدميهم وتعَاوُر معانيهم توليداً وتخريجاً وابتذالاً، حتى لم تَعُدْ غاية قرض الشعر التعبير عن الشعور الصحيح - لأنه لم يكن هناك في الغالب شعور - بل عادت الغاية إبداء البراعة ومعارضة المتقدمين واستدرار أكبر الصلات.(123/31)
وشعر المديح استتبع ضرباً آخر من الشعر ليس أقل منه حطة في المرتبة وبعداً عن أغراض الشعر الصحيح، وهو الهجاء: لأن إرضاء الممدوح كان يستتبع ذم خصومه، ولأن المادح المخيَّب كان ينقلب في الغالب هاجياً مفحشاً لممدوحه أو للشاعر الذي زاحمه ونال الحظوة دونه، ولأن بعض الأمراء كان يشجع تراشُق الشعراء ببذيء القول شَغْلاً لأذهان الناس، وكان من ثمار هذه الخطة مقذعات جرير والفرزدق والأخطل.
واستتبع شعر المديح ضرباً آخر من النظم بعيداً عن الشعر الصحيح والشعور المستقيم امتلأ أيضاً بأنواع الأغراب والإغراق والإسفاف، ذلك هو النسيب الاستهلالي الذي ألتزمه الشعراء المدَّاحون من أهل الحضر تشبها بالمداحين من الجاهليين وإمعاناً في تقليدهم.
وكل هذه الرذائل التي تجمعتْ في شعر المديح - لخلوه من الدافع الوجداني والشعور الصادق - إنتقلت إلى ضروب القول الأخرى ففشت في الشعر كله عيوب التقليد والمبالغة والصناعة اللفظية ومحاولة إبداء البراعة.
واسترقَّت هباتُ الأمراء - للأسف الشديد - رِقَابَ معظم أقطاب الشعر العربي، فلم ينزِّه شعرَهُ عن طلبها إلا القليل جداً ممن أبت لهم ذلك ظروف خاصة، كالشريف الرضي وأبي العلاء، وأضِيعَ جانبٌ من عبقريات أبي نواس والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي وغيرهم من الفحول في نظم الأكاذيب والمفارقات طلباً لجوائز الأمراء، فكان من أقوال هؤلاء الفحول:
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبضٍ لم تطعه أنامله
تكاد عطاياه يجن جنونها ... إذا لم يعوذها بنغمة طالب
وقد زعموا أن النجوم خوالد ... ولو حاربته ناح فيها الثواكل
وكشفن عن بَرَدٍ خشيتُ أذيبه ... من حر أنفاسي فكنتُ الذائبا
والمتأمل لهذه الأبيات يرى إلى أي حد من تفاهة المعاني وكذبها واستحالتها قد خرج المديح بالشعر وبفحول الشعر؛ بيد أن النُّقَّاد انساقوا في ذلك التيار، فعدُّوا هذا السفساف من غرر أولئك الشعراء وراحوا يقابلون بين هذه الأقوال ويفاضلون بين قائليها، والأديب الذي يريد من الشعر التعبير الصادق عن الشعور الصحيح لا يرى لأحدٍ من قائليها فضلاً بل يحذفها من عداد الشعر جملة.(123/32)
ولو أعرض أولئك الشعراء عن تلك السبيل وقَصَرُوا القول على بيان شعورهم الصحيح وأفكارهم الصادقة وتوفروا على الفن الذي حبتهم به الطبيعة جاعليه غاية لنفسه، إذن لربح الشعر العربي ربحاً جزيلاً ولَوَسَّعُوا من أغراضه وأوضاعه ورحّبوا من أطرافه وآفاقه.
هذا أثر تشجيع الأمراء للشعر وصلتهم للشعراء: إدخالٌ لفارغ القول وكاذبه وسفسافه، وإزاغة للنظرة إلى الغرض منه، وتقييد لأغراضه ومذاهبه، وقعود بهمم رجاله عن استيفاء غاياته، وصرفٌ عن جِدِّ التفكير ونافعه؛ ولو أراد الأمراء بالشعر خيراً لكفُّوا عن رجاله صِلاتهم فطلب الشعراء الرزق من أبوابه التي يطلبه الناس منها، ونَّحوا الشعر عن المادة، وأبقوه كما يجب أن يبقى ترجمانا لمشاعر النفس ووصفاً لروائع الكون فجاء الأدب العربي أشد انطباعاً بطابع الصدق مما كان.
لم يكن للأدب الإنجليزي - لحسن حظه - مثل هذا الاتصال الوثيق ببلاط الأمراء، ولم يتخذ حلية من حلي القصور وآلة من آلات السياسة إلا فترة وجيزة في أواخر القرن السابع عشر خالطه فيها الضعف والاستهتار والمجون وملاحاة، ثم كانت للأدباء بالنبلاء في بعض القرن الثامن عشر صلة، ولكن شتان بينهم وبين صلة من تقدم ذكرهم من الشعراء بالأمراء من العرب: كان الأديب يؤلف فيما عنَّ له ونال اهتمامه من موضوع ثم يهدي كتابه عند نشره إلى النبيل الذي يتولاه برعايته، وليس في هذا ضرر يقاس بالأضرار التي تقدم ذكرها في الأدب العربي.
وقد نشأ منصب شاعر الملك في إنجلترا منذ زمان، ولكن الشعراء الذين شغلوه لم يتوفروا على الملوك توفر شعراء العربية، ولم يشغل المنصب من كبار الشعراء إلا القليل، وكان اختيارهم لملئه تقديراً صحيحاً لسالف جهودهم في عالم الأدب، ولم يكن ما قالوه بصفتهم شعراء الملك بخير ما قالوا، ولم يكن بالكثير، ولم تزل وظيفة شاعر الملك تتضاءل حتى صار المنصب إسمياً فخرياً لا أكثر.
وقد جاء الأدب الإنجليزي لخلاصه من لوثة تشجيع الأمراء - أو بالأحرى تسخير الأمراء - وزلفى الأدباء إليهم حرَّ النزعة طليق الفكرة بعيد المرمى صادق التعبير، يعبر عن إحساسات الفرد ويترجم عن عواطف الجماعة، وانفسحت أمامه الآفاق إذ خلا من القيود، فتعددت أغراضه وتكاثرت أوضاعه، إذ كانت وجهته دائماً وجهة كل الفنون الرفيعة:(123/33)
التعبير الجميل عن شعور الإنسان الصحيح بروائع الحياة، بعيداً عن ذلك الغرض المادي الدخيل الذي تعثر الأدب العربي في قيوده طويلاً.
فخري أبو السعود(123/34)
معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
ثانياً - الأوربيون والأحباش
وفي نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر إحتك الفرنسيون بالأحباش على عهد ملكهم (ياسو الأول) الذي أرسل سفيراً حبشياً إلى بلاط الملك لويس الرابع عشر. وفي سنة 1705 أرسل الفرنسيون المسيو رول سفيراً إلى الحبشة وتشجع الرهبان اليسوعيون الفرنسيون على الذهاب إلى بلاد الحبشة وأخذوا يحلون محل الرهبان اليسوعيين البرتغاليين.
ولما مات ياسو الأول ثار الأهلون وقتلوا رجال السفارة الفرنسية، وأراد خلفه أن يحمي اليسوعيين فلم يوفق؛ وحدثت إضطرابات داخلية في المملكة استمرت مدة طويلة فاستفاد الصوماليون والغالا المسلمون من ذلك وهجموا بقوات كبيرة علة بلاد الحبشة فتوغلوا فيها وأمعنوا فيها قتلاً وتخريباً. والذي زاد الطين بلة أن الرهبان الكاثوليك أرادوا الاستفادة من هذه الاضطرابات وسعوا سعياً حثيثاً لاستمالة الأحباش إلى مذهبهم طالبين منهم أن يتركوا المذهب اليعقوبي. وفي سنة 1838 إستولى رأس مقاطعة شوعا على العرش فأصبح ملكاً على البلاد وعقد معاهدة مع الفرنسيين.
ثالثاً - علاقات الدول المستعمرة
في سنة 1855 استولى (عالي) أحد أغنياء الغالا على مملكة شوعا ونصَّب نفسه ملك ملوك الحبشة. ولم يوطد عالي حكمه فعلاً في البلاد فاستفاد صهره من الموقف فأصبح عاهلاً على جميع بلاد الحبشة باسم (تيودوروس الثاني) بعد أن استمال قبائل الغالا والأمحرة والتيجري إلى جانبه ونقل عاصمته إلى أنكوبار ولبس تاج الملك في القاعدة الدينية (أكسوم) أعلن ذلك على أوربة وغدا ملك ملوك الحبشة. ولم يكن تيودوروس من سلالة الملوك؛ وكان الملك الشرعي (هاتيلو ملكوت) ملك شوعا ووالد (ساهالا مريام) (منليك الثاني المنتظر) وتغلب تيودوروس على هذا الملك وعامله بإحسان.(123/35)
ومن الأمور الإصلاحية التي قام بها إلغاء المخصصات التي كان يتمتع بها الرؤوس بالإرث فلقي معارضة منهم واستطاع أن يقهرهم. وعاكسه الرهبان فتغلَّب عليهم، ولما علم بأن الرؤوس اجتمعوا في قصر خلسة ليدبروا ثورة عليه ذهب بنفسه إلى القصر المذكور وباغتهم وقتلهم جميعاً ما عدا الأمير الصغير (ساهالا مريام) الذي استطاع أن ينجو بنفسه فاراً.
وفي دور الإضطراب كان ملوك الحبشة قد حرموا على الأجانب دخول بلاد الحبشة، بيد أن تيودوروس ألغى هذا التحريم زاعماً أن دخول الأجانب الحبشة يفيد أهل البلاد. فأرسل وفوداً إلى ملكة إنكلترا فكتوريا وإلى إمبراطور فرنسا نابليون الثالث وكلف هذا الأخير بتجديد المعاهدة المعقودة سنة 1848.
وكان البريطانيون قد أرسلوا قنصلاً إلى الحبشة إلا أنه قتل في الاضطراب الذي حدث في سنة 1860. وفي سنة 1862 أوفدت ملكة بريطانيا قنصلاً مع الهدايا، كما أن نابليون الثالث أيضاً أوفد قنصلاً.
ولما رأى البريطانيون أن تيودوروس لقي مقاومة في الداخل وأن جيشه أخذ يضعف بالحروب المدبرة لم يميلوا إلى الاعتماد عليه، لذلك لما أراد إرسال سفير إلى إنكلترا لم يلب طلبه فضلاً عن أن القناصل البريطانيين أخذوا لا يعبأون به.
واشترى الفرنسيون جزائر دسس وزولا في سنة 1859 وميناء عبق في سنة 1862 وجعلوها قاعدة لتموين بواخرهم بالفحم، وأرادوا تيودوروس أن يرسل سفيراً إلى فرنسا فلم يتلق جواباً من إمبراطورها. ولما اطلع على مخابرات القناصل إغتاظ من الأوربيين جميعاً وحبسهم في قلعة (مجدلة).
فأرسل البريطانيون في سنة 1864 وفداً برآسة السر هرمز رسام ليطلق سراح الأجانب، إلا أن تيودوروس امتنع وحبس رئيس الوفد أيضاً؛ فلما رأى البريطانيون ذلك وسَّطوا الخديو إسماعيل باشا فأرسل كتاباً إلى ملك الحبشة ولكنه لم يتلق جواباً عنه. .
وفي سنة 1866 ترك العثمانيون ميناءي مصوع وسواكن لخديو مصر فأصبحتا بعد ذلك من الممتلكات المصرية، وأضاف المصريون إليهما منطقة زولا أيضاً.
واستفاد البريطانيون من هذا الحادث فقرروا الحملة على الحبشة فجهزوا جيشاً في بمبي(123/36)
بقيادة السير روبرت نابر بقوة (16 , 000) جندي وأنزلوها في زولا. وساعد الخديو البريطانيين في هذه الحركة وأمر محافظ مصوع بالمساعدة، كما أنه كلف أسطوله في البحر الأحمر بأن يكون بجانب البريطانيين وأمدهم بالسفن النقلية، وقوى البريطانيون هذا الجيش بجنود أهليين وجهزوه بالوسائط النقلية فبلغت قوته (40 , 000) جندي.
ومال بعض رؤوس الأحباش إلى جانب البريطانيين فلم يساعدوا ملكهم على القتال وامتنع رأس شوعا من إرسال الجند. أما رأس تيجري فاتفق مع البريطانيين الذين طمأنوه قائلين له إنهم لا يقصدون الإستيلاء على الحبشة و؟ إنما جل ما يريدونه خلع تيودوروس وتنصيب رأس تيجري بدلاً منه وأنهم سوف ينسحبون بعد ذلك.
وساعد هذا الاتفاق على حركة الجيش فتقدم من طريق (سنافة - أدجرات - مكالو - انتالو) ووصل إلى أمام حصون مجدلة؛ ولما حبطت مساعي تيودوروس لاستمالة الرؤوس إلى جانبه التجأ إلى حصون مجدلة ولم يكن لديه سوى 7000 جندي وستة وعشرين مدفعاً.
وفي 13 نيسان سنة 1858 احتل البريطانيون حصون مجدلة واستمر تيودوروس على المقاومة في آخر حصن، ولما تيقن من أن المقاومة لا تجدي نفعاً مات منتحراً.
فأخذ البريطانيون تاج تيودوروس ومعطفه الملكي وحفظوهما في المتحف البريطاني في إنكلترا، وأعادوهما إلى الرأس تفري لما زار إنكلترا في سنة 1924. وانسحب الجيش البريطاني بعد أن أطلق سراح الأسرى الأجانب وأخذ معه ابن تيودوروس رهينة خشية أن ينتقم لأبيه وأرسله إلى إنكلترا فمات فيها.
وفي الملاقاة التي تمت بين قائد الجيش البريطاني ورأس تيجري أهدى السير روبرت نابر 900 بندقية إلى الرأس مكافأة له على صداقته.
بعد أن بقي هذا الأمير في الأسر سبع سنوات هرب من منفاه، وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، ودخل مملكة أبيه شوعا. وبعد حادثة مجدلة أعلن استقلاله فحذا حذوه رأس أمحرة، واستقل الغالا ببلادهم وأخذوا يغيرون على بلاد الحبشة الداخلية جرياً على عاداتهم. وهكذا تجزأت المملكة الحبشية التي استطاع تيودوروس أن يجمع كلمتها ويؤلف منها مملكة كبيرة في مدة قصيرة.
أراد رأس تيجري كاسيا أن يملك البلاد ويوحدها فتحرك على رأس جيشه البالغ 12 ,(123/37)
000 جندي فتغلب في عدوى على جيش رأس أمحرة البالغ 80 , 000 بفضل البنادق التي أخذها من البريطانيين.
وفي سنة 1872 أعلن نفسه إمبراطوراً على الحبشة باسم (يوحانس السادس) وبعد اثنتي عشرة سنة تفاهم مع رأس شوعا وزوج ابنه من ابنته. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح ساهالا مريام حاكماً على مقاطعة شوعا وجميع بلاد غالا، وذلك ما ساعده بعد ذلك على توحيد المملكة والقبض عليها بيد من حديد فاعترفت باستقلالها الدول الإستعمارية مرغمة.
رابعاً - المصريون والأحباش
وبعد تتويج يوحانس في أكسوم شرع الخديو إسماعيل باشا في التأهب للزحف على الحبشة جاعلاً سواكن ومصوع قاعدتين لحركته. ولعله كان يطمع في ضم مقاطعة هرر التي يكثر فيها المسلمون إلى أملاكه والاستيلاء على منابع النيل الأزرق، أو أنه فكر في أن توسع الحبشة وتقوية جيشها مما يضر بمصالح المصريين ويجعل بلاد السودان معرضة للغارات، أو أن الدول الطامعة في بلاد مصر أرادت أن تشغل الجيش المصري القوي بالفتوح في الحبشة وتقضي عليه بالتدرج، ويجوز أن رغبة الخديو الشخصية كانت ترمي إلى التوسع. والظاهر من مجرى الأحوال أن توجيه المصريين أنظارهم إلى الحبشة قربت النكبة التي أصابت المصريين بعد ذلك.
ولا شك في أن تجهيز الجيوش وإرسالها على التعاقب مما أحرج الموقف المالي الذي ساء من جراء بذخ إسماعيل باشا.
وفي سنة 1872 أنزل المصريون جيشهم إلى سواحل الصومال في زيلع، وتقدموا نحو مقاطعة هرر، ودخلوا شوعا، إلا أن الرأس ساهالا مريام أجلى الجيش المصري عنها وقضى عليه بالقرب من بحيرة (أوسة).
وفي سنة 1874 احتل المصريون هرر وأنزلو جيشاً بقوة 14 , 000 في مصوع، فتقدم نحو عدوى، فتظاهر رأس تيجري في بادئ الأمر بالولاء له، وفي ليلة ظلماء باغته من كل جهة وقضى عليه، فلم يفلت منه إلا النزر القليل.
وفي سنة 1876 أراد الخديو أن ينتقم من الأحباش، فجهز جيشاً بقوة 20 , 000، وناط قيادته بابنه الأمير حسين باشا وأنزله في مصوع؛ ولما تقدم قابله الأحباش بقوة 200 ,(123/38)
000 جندي، وفي المعركة التي نشبت في جرة إنكسر الجيش المصري بعد أن خسر 13 , 000 رجل، فوقع الأمير حسين باشا في الأسر مع هيئة أركانه، ولم يخل الأحباش سبيلهم إلا مقابل فدية من المال.
والغريب في هذه الحركات أن الأجانب كانوا يتولون قيادة الجيش كأن المصريين من أهل البلاد لا يستطيعون القيادة، بينما التاريخ يشهد لهم ببراعتهم في ذلك، فالجيش الأول كان قائده موزنجر باشا، وكان يقود الجيش الثاني ضابط دنمركي الأصل، أما رئيس أركان الجيش الثالث وأركانه فكانوا أميركيين.
وفي الوقت ذاته كان المسلمون في السودان بقيادة المهدي يهاجمون الحبشة من الشمال، فدخلوا جوندار وأحرقوها، وكان من أمر ذلك أن أرغم يوحانس المسلمين القانطين في الحبشة على الخروج منها، وأدى ذلك إلى هجرة كثير من المسلمين من الحبشة بعد أن كانوا متنعمين فيها، فتشتتوا هنا وهناك؛ أما الذين بقوا فيها فاضطهدهم الأحباش حتى اضطر بعضهم إلى التنصر، ولو لم ينزل الطليان إلى الساحة الإستعمارية في بلاد الحبشة لظل المسلمون مضطهدين، إلا أن محاولة الطليان التوغل في بلاد الحبشة اضطرت ملوك الحبشة إلى التساهل مع المسلمين تمهيداً لتوحيد المساعي إزاء هذا العدو الجديد.
وبعد أن احتل البريطانيون أرض مصر لم يتدخلوا في الحروب التي وقعت بين السودانيين والأحباش. ولكي ينتقم يوحانس لوقعة جوندار جهز جيشاً كبيراً وتقدم على رأسه نحو قوات المهدي، وفي المعركة التي وقعت في متمة 13 آذار أواخر (مارس) سنة 1889 وقع جريحاً ومات فانكسر جيشه.
والحقيقة أن قيام المهدي وبسط نفوذه على السودان وانتصاره على الأحباش جعل البريطانيين يفكرون في العاقبة، لأن القوات البريطانية والمصرية وحدها لم تكن كافية للتغلب عليه.
ولعل نزول الطليان إلى الساحة كان بتشويق من البريطانيين للتغلب على المهدي من جهة ولمشاغلة الحبشة بقوات جديدة من جهة أخرى لكيلا تسيطر دولة قوية على مياه النيل فتهدد مصالح البريطانيين المتوقعة في السودان.
(يتبع)(123/39)
طه الهاشمي(123/40)
مذاهب الفلسفة
المذهب الطبيعي
للأستاذ زكي نجيب محمود
هو ضرب من ضروب الفكر ونحو من أنحاء النظر، لا يذهب في بحثه وراء حجب الطبيعة وأستارها، بل يحصر نفسه في نطاق الطبيعة وحدها، يتقصى بالنظر ما شاء من وجوهها، ثم يقنع بهذا فلا يعدوه قيد أنملة. عنده أن الحقيقة التي لا حقيقة بعدها هي هذه الطبيعة التي تراها بعينك وتلمسها بيديك، وهي هذه الأرض وتلك السماء وما بينهما من أحياء وأشياء؛ أما أن تبعثك الطُّلَعة فتحاول أن تنفذ ببصرك إلى ما وراء ذلك، زاعماً أن ما تدركه الحواس عبث باطل، وأن الحقيقة الخالدة هي شيء مستور وراء هذه الحجب الصفيقة، فخداع وجهل في رأي هذا المذهب، إذ يرى أشياعه أن الطبيعة لا تبطن شيئاً وتظهر شيئاً آخر، بل هاهي ذي قد عرضت بضاعتها لمن شاء تحت السمع والبصر، وهي تسير وفقاً لقانون صارم جازم لا يشذ ولا يلين، فهو يسيطر بقوته على الكون بكل ما يحوي بين دفتيه؛ ثم ينهانا أتباع هذا المذهب أن نلقي بالا إلى ما قد يزعمه الزاعمون أن هنالك فوق الطبيعة حقيقة خالدة يدركها الفكر وتقصر عن إدراكها الحواس، فهم لا يصدقون أن يكون ثمت غير ما نرى أو أن يكون في الطبيعة شيء لا يخضع لقانونها خضوع الجماد الصامت، ولا يستثنون من قاعدتهم الإنسان بكل ما فيه من حياة وفكر وخيال لأنه في رأيهم هباءة في يد الطبيعة تطوح بها يمنة أو يسرة كيف شاء لها قانونها الجبار، وإن الإنسان ليخدع نفسه حين يوهمها أنها أرفع من الجماد منزلة وأسمى مقاماً؛ فإن اعترضت على رجال المذهب الطبيعي بأن قانون الطبيعة لا يفسر كل شيء، وأن هنالك آلافاً من الحقائق التي تنتظر الشرح والتعليل أجابوك أن ذلك رهين بالعلم وحده. فلن يفتأ العلم يجد في كشفها ويسعى، ولن تزال هي تبدو في ضوئه واحدة في إثر واحدة.
وينقسم المذهب الطبيعي إلى شعب تتعدد بتعدد إدراك الإنسان لماهية المادة التي تملأ الكون؛ فإن رأيتَ أن قِوام الطبيعة ذرات مادية تتحرك في المكان، وأن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة لا تعدو أن تكون مجموعة متراكمة من تلك الذرات فذلك هو المذهب المادي؛ وإن اعتبرت المادة نفسها ضرباً من ضروب الطاقة والقوة، فذلك هو المذهب(123/41)
الطاقي وأما إذا غضضت البصر عن أصل المادة الأول، ونظرت إلى الحقائق كما هي، مرتبطاً بعضها ببعض ارتباط العلة بالمعلول، فذلك هو ما يسمى بالمذهب الوضعي. . . وكثيراً ما يطلق اسم (المادية) على هذه الشعوب كلها. لأنها مهما اختلفت فهي لم تزد على أن تناولت ظواهر الطبيعة المادية بالشرح والتعليل.
وإن هذا المذهب الطبيعي ليبلغ أقصى قوته حينما يقف موقف الإنكار والرفض بإزاء ما يتعلق به الإنسان من صنوف العقائد وضروب الخيال، فهو لا يتردد في أن يتناول الأديان بكفه الباردة فيسحقها بين أنامله، لأنه لا يرضيه أن ينظر إلى الأشياء والحقائق نظرة مجردة عارية من كل ما ألبسها الإنسان من زخرف العقيدة وطلاء الخيال، فبقذفه واحدة ألقى في اليم كل ما أنتج الفكر البشري من آراء عن عالم الغيب المجهول، ولعله بذلك قد كفى نفسه مؤونة البحث في هذا المطلب الشاق العسير.
وما دام هذا المذهب الفلسفي قد رفض عالم الغيب رفضاً قاطعاً، فهو إذن لا يعترف بالله إلا أن يكون ذلك هو الطبيعة نفسها، أو الإنسانية، أو ما شئت من ظواهر الكون المحسوس؛ وهو كذلك لا يقر الخلود إلا إذا قُصد به آثار الإنسان الخالدة وظهوره في أعقابه وما إلى ذلك من ضروب البقاء؛ أما أن يذهب الظن بالإنسان أنه باق بعد الحياة بقاء روحانياً فوهم خاطئ في رأي هذا المذهب، إذ ما بقاؤه وهذا جسده قد تبدد أشتاتاً فكان منه الشجر والحجر؟ ستقول إنه باق بروحه دون جسده، ولكن ما هو ذلك الروح؟ أهو جزء من الطبيعة أو عنصر شاذ لا يستقيم مع مادتها ولا يخضع لقانونها؟ اللهم أن كان هذا فلا روح، لأنه ليس في الطبيعة إلا الطبيعة نفسها!
وهذه الطبيعة تسير وفق سنن معروفة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فلكل ظاهرة من ظواهرها أسباب لا بد أن تنتج مسبباتها، دون أن تحول بينها وبين ذلك معجزة أو خارقة، ودون أن يكون في مقدور الإنسان أن يغير من مجراها بما يزعم لنفسه من إرادة حرة، فليس الإنسان حراً فيما يفعل وفيما يترك، إنما هو آلة مجبرة على السير في طريق رسمتها له الطبيعة كما رسمتها للأنهار والأشجار والأحجار والكواكب وسائر ألوان الجماد. ولكن الإنسان المغرور كثيرا ما يلقي في روع نفسه أنه حر التصرف برغم أنف الطبيعة، فيقول مثلاً: إني لم أقرر بعد ماذا أصنع في كذا وكذا، ونسي المسكين أن مجموعة الذرات التي تتكون(123/42)
منها مادته قد قررت له ما يصنع - جهل بذلك أو علم - ولم تكن فيما قررت بمعزل عن سائر الكون، بل اشتركت في تقريره مع العالم كله، مع الطبيعة بأسرها. فخفف من غلوائك أيها الإنسان، واعلم أنك لا بد فاعل ما أريد لك أن تفعله، إذ ليس لك عن فعله منصرف ولا محيص.
ومن منا لا يلوي شفتيه من الغضب، كلا، بل من ذا الذي لا يبتسم ساخراً من هذا المذهب الذي يريد أن ينتزع من الإنسان أعز جوانبه وأنفس عناصره؟ إنه يريد أن يسلبه إرادته فإذا هو صخرة تتحدر من قمة الحياة إلى واديها مدفوعة بقوة القانون! وليس له أن يقف حيث شاء ولا أن يسلك من السبل ما يشاء! كيف أكون مكتوف الإرادة وهأنذا أحب هذا فأعمله وأكره ذلك فأتركه؟ فبماذا تسمي هذا إن لم يكن إرادة حرة مطلقة التصرف؟ ولكن هاك ما يجيبنا به (سبنسر): نعم إنك تعمل ما تحب وتترك ما لا تحب، ولكن هل علمت أنك لا تحب إلا ما رغبت فيه الطبيعة؟ أن مولاتك الطبيعة قد حببتك فيما تراه هي صالحاً لسيرها، ونفَّرتك مما رأته مضراً بها معطلاً لها عن المضي في سبيلها. فما أحببت أن تعمله إن هو إلا ما أرادتك الطبيعة على حبه: (إنك تستطيع أن تعمل كما تحب، ولكنك لا تستطيع أن تحب كما تحب). فاختيارك هذا الشيء ورفضك ذاك، هو الوسيلة التي تتخذها الطبيعة لتنفيذها إرادتها في سلوك الإنسان.
وأين المفر من الطبيعة وهي لا تني تذكرنا بما لها علينا من نفوذ وسلطان؟ فطر بالخيال إلى حيث شئت، فأنت مضطر آخر الأمر أن تنزل في معمعان الحياة لكي تضعك بين مطرقة الحقائق الواقعة وسندانها، تنظمك في سلكها، ولا تخلي بينك وبين خيالك! تحدَّ الطبيعة ما استطعت إلى تحديها من سبيل، وسترى نفسك بعد حين قصير مرغماً على التسليم والخضوع، وإلا فماذا أنت صانع أمام غائلة الجوع سوى أن تقتات بما يقيم الأود؛ ثم ماذا أنت صانع إذا أضناك الإجهاد وأعياك العمل إلا أن تسلم بضرورة النعاس؟ ثم ماذا تجدي إرادتك مهما بلغت قوتها أمام الموت إذا دنا الأجل؟ فالطعام والشراب والنوم والموت إعتراف متواصل بخضوع الإنسان لضرورات الطبيعية مهما يكن طاغياً جباراً.
وكأني بالعلوم جميعها تناصر هذا المذهب وتؤيده، وتكاد تضطر العقل اضطرارا إلى اليقين بأن ما يقع في الطبيعة من أحداث مهما اختلف لونها وتباين شكلها خاضع للعلم وقوانينه(123/43)
التي تضرب بنفوذها على أطراف الكون فلا تدع جمالاً ينفذ إليه شيء من القوة المزعومة فيما وراء الطبيعة. وإن احتججت على العلم بأنه مبالغ في شأن نفسه مسرف في تقدير عمله، وأنه لا يزال قاصراً عن إدراك الحقائق كلها، فكيف يحق له أن ينكر شيئاً قد يكون جزءاً مما لم يدركه بعد؟ نقول إن احتججت على العلم بهذا أجابك في يقين ثابت، وكله أمل ورجاء: هأنذا أسير وأتقدم، ويستحيل ألا يؤدي هذا السير المطرد إلى حل ألغاز الكون كلها، ولا بد لي أن أصل يوماً إلى غاية الطريق، فإن لم يكن ذلك بعد حين قريب فامتداد الزمن كفيل بكل شيء، وإن العلم ليتمسك بتطبيق قانون (العلة الواحدة) الذي صاغه (وليام أوكام)، والذي مؤداه أن ما أمكن تعليله بعلة ما لا يجوز تعليله بعلة أخرى. وبناء على هذا القانون لا ينبغي أن نضيف إلى الظواهر الطبيعية التي أمكن تعليلها بقوانين العلم عللاً أخرى مما وراء الطبيعة، فإن تمكن العلم أن يتتبع حقائق الكون بالتفسير واحدة فواحدة وجب حتماً ألا نتردد في إنكار كل قوة أخرى.
ولكن إذا كان أنصار هذا المذهب يريدون أن يحتكموا إلى العلم في كل شيء، وأن يفسروا به كل ظاهرة من ظاهر الوجود، فماذا هم قائلون في تعليل ظاهرتي الحياة والعقل اللتين تبدوان كأنهما شاذتان نابيتان لا تخضعان لقوانين الطبيعة التي تنتظم الجماد؟ وأين الجماد من الحياة المتوثبة والعقل المفكر؟ إنه إن صح مذهبهم للزم أن تكون الحياة قد تفرعت من الجماد الذي لا حياة فيه، ويستحيل أن يتفرع شيء من أصل لا يحتويه! إنك تستطيع أن تعلل بالعلم كل ما هو آلي رتيب، ولكن كيف بالحياة عامة والعقل بنوع خاص، وبينهما وبين الجماد الآلي من مسافة الخلف ما يكاد يجعلهما ضدين نقيضين؟
إن للكائنات الحية طابعاً يميزها عن الجماد تمييزاً واضحاً، ولعل خير ما يوضح ذلك الطابع المميز هو كلمة (بنفسها). فالكائن الحي يبني نفسه بنفسه، ويصلح عطبه بنفسه، ويدبر أمره بنفسه، ويعمل على حفظ بقائه بنفسه؛ نعم هنالك آلات تطعم نفسها ولكنها لا تنمو بما تطعم، وهنالك آلات تكتب من تلقاء نفسها، وسابحات في الماء تقود نفسها، ولكن هذه جميعاً لا تصلح لنفسها ما يصيبها من عطب، ولا تستطيع أن تلائم بين دخيلة نفسها وبين الظروف الخارجية المحيطة بها كما يفعل الكائن الحي؛ وليس بين الآلات أو صنوف الجماد ما ينشئ في باطنه نواة في مقدورها أن تنمو إلى ما يشبه الأصل الذي تفرعت منه،(123/44)
ثم يكون فيها بدورها قوة إنشاء نواة أخرى تعيد تاريخها وهكذا. . . . وأجدر من هذا كله بالذكر من خصائص الحياة التي تنفرد بها وتتميز عن الجماد هو أن الحياة في كل فرد من الأحياء لا تحصر عملها في حدود هذا الفرد الذي هي حالة فيه، بل يمتد نطاقها حتى يشمل النوع بأسره، أعني أن الحياة في كل فرد لا تكتفي بحفظ بقائها هي، بل تعمل على حفظ النوع كله.
تلك هي خصائص الحياة؛ أما العقل فطابعه الذي يميزه هو علمه بالنفع والضرر، وهما ما نسميهما باللذة والألم؛ فكل الكائنات الشاعرة تعرف ما ينفعها فتقبل عليه وما يضرها فتنفر منه، هذا عما لها من قوة التفكير التي تستطيع بها أن تكون آراء عن الأشياء الخارجية ثم اتخاذ تلك الآراء وسيلة إلى فهم حقائق تلك الأشياء والوصول إلى ما يسيرها من قوانين وما تقصد إليه من أغراض.
(يتبع)
زكي نجيب محمود(123/45)
الذكرى الرابعة لشاعر البادية
الشيخ محمد عبد المطلب
للأستاذ فايد العمروسي
الذكرى لا تتسع لدراسة أو تحليل، وحسبها أن تكون للقراء خاطرة وفاء، ونفحة تقدير؛ وعبد المطلب أحد شعراء العربية الذين خلفوا لنا تراثا ممتازاً يضاف إلى تراثي المرحومين (شوقي) و (حافظ)؛ غير أن هذا الرجل عاش مغبوناً، ومات مغبوناً، شأنه شأن (حافظ) بعد موته، فلم يفز ديوانهما بما كان ينبغي من عناية وتقدير، اللهم إلا مقالات كتبها كاتب هذه الكلمة في جريدة البلاغ بعد صدور الديوان في الجو الأدبي، وليس هذا بكاف في تقدير الأدباء للشعر، وخاصة لأعلامه وفحوله النابغين. والناظر إلى عبد المطلب لا يعرفه في ديوانه فحسب، لأنه ديوان ذو روح خاص، واتجاه صبغته الصنعة في أكثر مقاصده من فخر وحماسة وشكر ومديح وغزل ونسيب. . الخ وهذه ظواهر ما كان له أن يتخلى عنها وأن حاول، وما كان للفترة التي عاش فيها غير هذه المقاصد الشعرية تمشياً مع ميول الحياة التي ترغم الشاعر أن يتلون بلونها، والتي تكوِّن العناصر الأولى لفكره وخياله!
وقد كان رحمه الله شخصية عربية صميمة، تنبئ مظاهره الخلقية أنه من سكان نجد أو الحجاز، في ضآلة من الجسم، وقليل من القصر المتزن، تنطوي هذه الضآلة على قوة الأسد في عرينه، تبدو بها عيناه الواسعتان البراقتان اللتان تفيضان قوة وثقة واعتزاز؛ وكان ذا نفس أبيّة، وضمير حي، وشعور متقد، وإحساس صادق، يهيج لأتفه أسباب الخلاعة أو اللهو، فينفجر بأشد ما تكون الخلاعة قسوة وإيلاماً؛ وكان رجلاً بأسمى ما تكون الرجولة صفاء ونبلاً، رجلاً جم العطف، وافر الرحمة فياض الحنان. ولقد رأيته - رحمه الله - أكثر من مرة يسكب الدمع من عينيه لأمور لا تهيج عواطف الناس، ولكنها تهيج ذوي النفوس السامية، والإحساس المرهف القوي.
وشخصيته على ما كان فيها من خشونة البداوة كانت تذوب رقة وحناناً، وتفيض عطفاً ووداعة؛ وديوانه حافل بصور من هذه العاطفة التي فتشت في نواحي المجتمع المصري فعالجته بأثمن النصائح وأغلى الحِكم؛ وكم ودَّ تطهير النفوس، وتهذيب الوجدان، وصقل الإدراك؛ وكم ودَّ الرقي بالإنسان إلى درجات العفة والصفاء. وما أشبه الثلاثة بعضهم(123/46)
ببعض: (حافظ والمنفلوطي وعبد المطلب) في هذا المجهود! فترى الأخير يصف أسرة يتيمة بقطع من نفسه، وذوب من فؤاده، في قصيدته العصماء التي استهلها بقوله:
أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعها ... غلب الأسى عبراتها فأسالها
وفيها يقول:
ببعض: (حافظ والمنفلوطي وعبد المطلب) في هذا المجهود! فترى الأخير يصف أسرة يتيمة بقطع من نفسه، وذوب من فؤاده، في قصيدته العصماء التي استهلها بقوله:
أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعها ... غلب الأسى عبراتها فأسالها
وفيها يقول:
حتى إذا رقد الأسى بجفونها ... وهفا النعاس برأسها فأمالها
خلب الطوى أحشاءها فتفزعت ... حيرى تعاني سهدها وملالها
وله وطنيات حارة، ووصف رائع لمشاهد القومية المصرية، وله علويته المشهورة التي أنشدها على (جمل) متشبهاً بالشعراء في (عكاظ).
والشاعر على ما أعتقد ليس إنتاجاً من قصائد عريضة طويلة، تطن بالرصانة، وترن بجودة السبك والإيجاد، وإنما هو نفس قبل كل شيء، وشعور يصدق فيما يحس أو يشاهد، شعور يمتزج بالمظاهر فيصير جزءاً منها أو تصير هي مزيجاً منه، لا يتخللها التفريق، ولا تحتوي هذه المواهب إلا النفوس الممتازة التي لا تتفتح في دائرة ضيقة محدودة، ولا تحيط في نظرها السطحي من الكائنات. وعبد المطلب كان هذه النفس التي تضيق بما فيها من عوالم تائهة، فتنبعث على الكون طائفة سابحة، تستشعر ما فيه من جمال فتطرب، وتحس ما فيه من آلام فتألم؛ نفس خلقت لغيرها فنال منها كل شيء، وهي لم تنل من شيء أي شيء؛ وروح قسمته العاطفة، ومزقته الرحمة، فراح يوزع فيه كأنه نهب مستباح، وهو إلى ذلك مطمئن الخاطر هادئ البال. . . وإنه شخصية ممتازة في جوهرها، قبل أن تكون ممتازة في شعرها وصنعتها؛ وكم من قائل إن عبد المطلب قديم في شعره، قديم في عاطفته، جاهلي في جميع نواحيه؛ ولست أدري كيف تكون العاطفة قديمة، وهي شعور إنساني لا يتغير في ذاته وجوهره، وإن تغير في اتجاهاته وميوله، فالشعور الذي يتجه إلى الألم فيستعذبه، وإلى الدمع فيسكبه، هو الشعور الذي تطربه المسرات، ويثمله النعيم، إلا أن انفعالات الشعور الأول من نوع فاتر حزين، وانفعالات الشعور الثاني من نوع متفتح مرح، وكلا الشعورين له قيمته وخطره؛ فالشعور بالألم يكون معظم عناصر الحياة، كما أن الشعور بالنعيم يمس طبيعتها الأولى وحقيقتها الواقعة، وهما شعوران تخلقهما في النفوس(123/47)
طبيعة الحياة التي تحياها. فليس في عبد المطلب قديم، إذ ليس هناك قديم أو جديد في الأدب، فهو فن والفن لا يتغير في قيمته الجوهرية، وإن تغير في عوارضه والمظاهر التي تسدلها عليه نوازع الإبتكار. وبعد، فتلك كلمة لذكرى شاعر البادية عبرة للشعراء، وتذكرة للأدباء الذين هم أحق بهذه الذكرى، وتلك الخاطرة. . . . . .
فايد العمروسي
من تراثنا الأدبي(123/48)
3 - أبو العيْنَاء
بقلم محمود محمود خليل
لقد مات المأمون؛ ولقد حزن أبو العيناء حقاً عليه، حتى بكى بكاء مراً، وتقرحت عيناه؛ ويظهر من بكائه وحديثه عنه أنه راعا حق النعمة، وقام بإسداء الشكر لصاحبها، حتى بكاه بعد وفاته؛ وسواء أكانت خلة الوفاء موجودة فيه وهو ما لا أظنه، أم كان بكاؤه هذا لمنفعة شخصية فاتته، وخاف من انقطاع الرزق الذي أجراه عليه المأمون من بيت المال، فإن هَمَّ ضمان قوته كان يخالج فؤاده، ويخشى من يأتي بعده.
ولقد تحققت مخاوفه، فإن عهد المعتصم والواثق لم يظهر فيه شأن أبي العيناء كثيراً، ويرجع هذا إلى الخصومة التي كانت قائمة بين الوزير في ذلك العهد محمد بن عبد الملك الزيات، وبين القاضي أحمد بن أبي دؤاد، تلك الخصومة التي اشتدت إلى درجة كبيرة، حتى جعلت ابن أبي دؤاد يأنف أن يقوم عند دخول ابن الزيات، وكان قد أوجب الخليفة الواثق أن ينهض قياماً له جميع الحاضرين في المجلس، ولم يرخص في ذلك لأحد، فاشتد الأمر على القاضي، ولم يجد لمخالفة الواثق سبيلاً، فالتجأ إلى حيلة لطيفة تخلصه من ذلك الموقف الحرج، فوكل بعض غلمانه بمراقبته، وموافاته بخبر قدومه، فإذا أقبل نهض يصلي، فقال ابن الزيات في ذلك:
صلى الضحى لما استفاد عداوتي ... وأراه يمسك بعدها ويصوم
لا تعدمَّن عداوة موسومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم
ويرجع سبب هذه العداوة إلى المنافسة في الرياسة التي كانت بين هذين الرجلين الفذين.
لم يقف أبو العيناء إزاء تلك العداوة موقف الحياد، بل انضم إلى القاضي ابن أبي دؤاد، فأبعده هذا إلى حد ما عن مجلس الخليفة المعتصم والواثق ووزيرهما ابن الزيات؛ وقد انقسم الأدباء أيضاً إلى حزبين، حتى رأينا الجاحظ يميل إلى ابن الزيات ويكون من حزبه. ولقد سأل أبو العيناء الجاحظ مرة أن يشفع لصاحب له عند ابن الزيات، فكتب الجاحظ الكتاب، وناوله الرجل، فسار به إلى أبي العيناء، وقال له: قد أسعف بالمراد، قال: فهل قرأته؟ قال: لا. إنه مختوم. قال: ويحك فُضَّه لا يكون صحيفة المتلمّس؛ ففَضَّه فإذا فيه: موصل كتابي هذا سألني فيه أبو العيناء، وقد عرفتَ سفهه وبذوء لسانه، وما أراه لمعروفك(123/49)
أهلاً، فإن أحسنتَ إليه فلا تحسبه عليَّ يداً، وإن لم تحسن إليه لم أعده عليك ذنباً والسلام. فركب أبو العيناء إلى الجاحظ، وقال له: قرأت كتابك يا أبا عثمان، فخجل الجاحظ وقال: يا أبا العيناء هذه علامتي فيمن أعتني به، قال: فإذا بلغك أن صاحبي قد شتمك فاعلم أنها علامته فيمن شكر معروفه.
وصلت العداوة إذن بين الكاتبين القديرين الجاحظ وأبي العيناء، وكان هذا أثراً لتشيع الحاشية وانقسامها على نفسها كما سبق؛ وها نحن أولاء نرى أبا العيناء يغشى مجلس القاضي ابن دؤاد في تلك المدة، ويتودد إليه، ويروي عنه أحاديث كثيرة آثرنا أن نثبت منها شيئاً؛ قال أبو العيناء للقاضي: إن قوماً من أهل البصرة قدموا إلى (سُرّ مَنْ رأى) يداً على، قال: يد الله فوق أيديهم، فقلت: إن لهم مكراً، فقال: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقلت: إنهم كثير، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، فقلت: لله در القاضي، فهو كما قالت الصموت الكلابية:
لله درك أي جُنة خائف ... ومتاع دنيا أنت للحدثان
متخمط يطأ الرجال شهامة ... وطء الفنيق مدارج القِرْدان
ويكبهم حتى تظل رءوسهم ... مشجوجة تنحطّ للغربان
ويفرّج الباب الشديد تاجُه ... حتى يصير كأنه بابان
وقال أبو العيناء: كنا عند القاضي ابن أبي دؤاد في جماعة من أهل العلم والأدب، فوفد عليه رسول الحاجب أبي منصور يقرئه السلام ويبلغه ألا يقصد القاضي إلى الحاجب، لأن ذلك يضر بسمعته عند الوزير ابن الزيات، فقال القاضي: أجيبوه عن رسالته، فلم ندر ما نقول، ونظر بعضنا إلى بعض، فقال: أما عندكم جواب؟ قلنا: القاضي أعزه الله أعلم بجوابه منا، فقال للرسول: اقرأ عليه السلام، وقل له ما أتيتك متكثراً بك من قلة، ولا متعززاً بك من ذلهٍ، ولا طالباً منك رتبة، ولا شاكياً إليك كربة؛ ولكنك رجل ساعدك زمان، وحركك سلطان، ولا علم يؤلف، ولا أصل يعرف، فإن جئتك فبسلطانك، وإن تركتك فلنفسك. فعجباً من جوابه.
على أنه لا يغرنا مجالسه أبي العيناء للقاضي، فإنه قد وقعت بين الرجلين خصومة، فكان لا يرحمه فيها أبو العيناء، مما يدلنا على أنه كان من الرجال النفعيين الذين يؤثرون المنفعة(123/50)
الشخصية على تلك الصداقة التي لا تفيده شيئاً من المال الذي يحبه ويفضله على كل عزيز وحميم. ولكن ينبغي إلا نفهم من هذا أن أبا العيناء انضم إلى حزب ابن الزيات. كلا. بل أبغض الرجلين جميعاً، وذمهما معاً، وهذا حديث طريف أتى به صاحب زهر الآداب وقد آثرت أن آتي بجزء صالح منه حتى يكون معيناً لنا على الوقوف على مقدار بلاغة الرجل وأسلوبه في الكتابة.
قال أبو العيناء: لما حبس الواثق إبراهيم بن رباح، وكان له صديقاً، صنعت له هذا الخبر راجياً أن ينتهي إلى أمير المؤمنين فينتفع به؛ ولقد سمعه الواثق فضحك واستظرفه، وقال ما صنع هذا كله إلا أبو العيناء بسبب إبراهيم بن رباح، وأمر بتخليته. والخبر هو: قال لقيت أعرابياً من بني كلاب، فقلت له ما عندك من خبر هذا العسكر؟ قال قتل أرضا عالمها؛ قلت فما عندك من خبر الخليفة؟ قال بخبخ في عزه، وضرب بجرانه، وأخذ الدرهم من مصره، وأرعف قلم كل كاتب بجنايته؛ قلت فما عندك في أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: عضلة من العضل لا تطاق، وجندلة لا ترام، ينتحي بالمدى لتنحره فيجوز؛ وتنصب له الحبائل، حتى تقول الآن، ثم يطفر طفرة الذئب، ويخرج خروج الضب؛ والخليفة يحنو عليه، والقرآن آخذ بضبعيه. قلت فما عندك من خبر ابن الزيات؟ قال ذلك وسع الورى شره، وبطن بالأمور خيره، فله في كل يوم صريع، لا يظهر فيه أثر ناب ولا مخلب، إلا بتسديد الرأي. قلت فما عندك من خبر إبراهيم بن رباح؟ قال ذاك رجل أوبقه كرمه، وإن بقره للكرام قدح، فلا عزّ بهجائه؛ ومعه دعاء لا يخذله، ورب لا يسلمه، وخليفة لا يظلمه. ثم يأخذ في الحديث عن شأن أناس كثيرين من رجال الدولة مثل الخصيب والحسن بن وهب وأخيه سليمان، وهذا لا يعنينا في شيء لأننا لا ندرس أولئك الرجال الآن، ثم يقول قلت له: أين نزلت فأؤمك؟ قال مالي منزل تؤمه، أنا أستتر في الليل إذا عسعس، وأنتشر في الصبح إذا تنفس.
ويلوح لي أن تلك الأحاديث هي التي فتحت باب المقامات، وأوجدت الفكرة الرئيسية فيها، حتى نسج على منوالها بديع الزمان الهمداني والحريري فيما بعد.
قد عادى أبو العيناء ابن أبي دؤاد، ولكنه لم يمض في الخصومة إلى حد كبير، بل حفظ له جميل كرمه وقضاء حوائجه التي كثيراً ما كان يضايقه بها إبقاء على وده وصداقته ما(123/51)
دامت تجر عليه المنفعة حينا. قال له المتوكل يوماً: من أسخى من رأيت؟ قال ابن أبي دؤاد، فقال المتوكل تأتي إلى رجل رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع من المواضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود، لأن سخاء البرامكة منسوب إلى الرشيد، وسخاء الفضل والحسن ابني سهل منسوب إلى المأمون؛ فإذا نسب الناس الفتح وعبيد الله ابني يحيى بن خاقان إلى السخاء، فذلك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال صدقت.
فمن هذا نعلم مبلغ تلك الخصومة وأنها كانت طفيفة، ويظهر أن سببها كان عدم إجابة طلب لأبي العيناء أو قبوله شفاعته، أو نحو ذلك من الأشياء التي كان يتطاول بها أبو العيناء على الرؤساء.
دامت المنافسة على الرياسة بين ابن الزيات وابن أبي دؤاد مدة خلافة المعتصم والواثق حتى تولى المتوكل، وفي السنة الثانية من خلافته نكب ابن الزيات وأحرقه في التنور، وخلا الجو بهذا لحزب ابن أبي دؤاد، ووجد أبو العيناء الميدان أمامه فسيحاً، فاتصل بالمتوكل وحصلت له معه مجالس أدخل الرواة بعضها في بعض؛ ويظهر أن أعداءه قد وشوا به إلى الخليفة كي يوقعوه فيما وقع فيه ابن الزيات، ولكنه بفصاحته وذلاقة لسانه نجا. قال له المتوكل: بلغني أنك رافضي، فقال يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وليس يخلو القوم أن يكونوا أرادوا الدين أو الدنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع الناس على تقديم من أخروا، وتأخير من قدموا وإن كانوا أرادوا الدنيا، فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك. وكانت تلك الوشاية كفيلة بأن تقضي عليه، لأن المتوكل كان يكره الرافضة الذين يدينون بحب علىّ بن أبي طالب (ض) ولكنه تخلص بذكائه.
ودخل أبو العيناء المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له الخليفة ما تقول في دارنا هذه؟ فقال يا أمير المؤمنين إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. فاستحسن كلامه وقال: كيف شرابك للخمر؟ قال أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره؛ فقال له الخليفة دع عنك هذا ونادمنا، فقال لا أطيق ذلك، وما أقول هذا جهلاً بمالي في هذا المجلس من الشرف، ولكني رجل مكفوف البصر، وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا(123/52)
محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض، وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء. قال صدقت، ولكن تلزمنا، قال لزوم الفرض الواجب اللازم. فوصلني بعشرة آلاف درهم.
تلك كانت منزلة أبي العيناء عند المتوكل يتمنى أن ينادمه، ويود ولو بجدع الأنف أن يتاح له حضور شخص فكه المحاضرة، عذب الحديث كأبي العيناء في مجلس شرابه، وقد كان المتوكل يمزح معه كثيراً قال له مرة: هل رأيت طالبياً حسن الوجه قط. قال يا أمير المؤمنين أرأيت أحداً قط سأل ضريراً عن هذا! قال لم تكن ضريراَ فيما تقدم، وإنما سألتك عما سلف؛ قال نعم رأيت منهم ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه. قال المتوكل: تجده كان مؤاجَرا، وتجدك كنت قوادا عليه، فقال أبو العيناء: أو فرغت لهذا يا أمير المؤمنين، أتراني موالي على كثرتهم، وأقود على الغرباء، قال اسكت يا مأبون! قال مولى القوم منهم، قال المتوكل أردت أن أشتفي منهم، فاشتفى لهم مني.
على أن عدم قبول أبي العيناء لمنادمة المتوكل قد عصمه إلى حد ما من القصف والمجون اللذين كان يجري في قصر الخلافة، وإن كنت أعتقد أن شخصاً متوقد الذكاء كأبي العيناء قد حمى نفسه من معاقرة الخمور، خوفاً من أن تضيع عقله، وتغلب على لبه، فيخرج عن صوابه، وهو ما كان يأباه على نفسه، فجوابه إذاً للمتوكل حين سأله عن الشراب بقوله: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره لم يكن للتخلص من منادمته، وإنما كان صادقاً في هذا القول، وإن كان قد ذهب إلى الإستمتاع بملذات الحياة من غير طريق الشراب، كلما حان له ذلك، ولكن ذهابي إلى هذا الرأي ليس معناه تنزيه أبي العيناء وجعله في عصمة الأنبياء والصديقين بل ربما يكون قد شرب ونادم وأفرط في الشراب وأخذ بحظه من اللهو والمجون مع غير المتوكل، لكنني لا أميل إلى اتهامه بأنه كان من المعاقرين للشراب والمدمنين على قرع الكؤوس، كالمتوكل أو وزيره الفتح بن خاقان مثلاً، كلا. وإنما كان لا يميل إلى تعاطي الكثير من الخمور لأنها تجره إلى الإفتضاح كما يقول.
(يتبع)
الزقازيقمحمود محمود خليل(123/53)
1 - عمرو بن العاص
بقلم حسين مؤنس
أصبح الرجل محزوناً كاسف البال، لم يبرح غرفته بل لم يبرح مكانه، وإنما هو مقيم حيث تركه ابنه عبد الله أمس، ساكنا لا يريم، صامتاً لا ينبس؛ وقد ارتسمت على وجهه أسارير من الحزن لا تخفى، وتراءت في قسماته ملامح من القلق الممض المشجي. . . بل كانت لا تخفى في عينيه علائم السهر الطويل. . . ومن يدري فربما انقضت هذه الليلة ولم يغمض له جفن، وربما أرق ليلة الأمس كذلك، وربما طواهما مسهداً في هذه الغرفة التي لا يبرحها. . . إنه يفكر تفكيراً طويلاً. . يفكر ويخاطب نفسه ويقلب كفيه، ويهمهم وإنه لينظر نظر الشجي (استعملتك على ظلمك وكثرة القالة فيك. .) والله لقد خلتها يا عثمان. . .! ثم يعود فيردد: (لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت!). . إن الحزن ليشتد بالرجل وإن الدمع ليترقرق في عينيه وإنه ليحني رأسه ويصمت صمتاً طويلاً. . وبينما هو في ذلك إذا يد خفيفة تمر على كتفه في رفق، وإذا صوت رقيق يهتف به: (رويدك يا ابن العاص. .) فيلتفت إليه ويقول: (حتى نحن يا سلامة. .). فيجيبه: (لقد متع الضحى) فيسترسل الرجل مرة أخرى في تفكيره ثم يقول: (رحمك الله يا ابن حنتمة. . والله لقد كانت فيك على شدتك رقة، وعلى جفائك وداً. . أما هذا. . أما هذا. .) فيقاطعه سلامة قائلاً: فليغفر له الله. . . (فيرد عليه محتداً. .) لا يا ابن روح. . لا غفر الله له أبداً. . لا غفر الله له أبداً. . لقد وليها عامرة. . ولن يعفيها حتى ينعق عليها البوم. . لقد عملنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرضى عنا، وعملنا لخليفته فأكرمنا. . وعملنا لعمر فانصرف عنا قرير العين، ثم جاءت أيامك يا ابن عفان. .! ويصمت الرجلان صمتاً بليغاً، ويسرع بهما الفكر إلى الجزيرة التي فرا بنفسيهما منها. . واطمأنا إلى الراحة في هذا القصر الذي يملكه عمرو في فلسطين، فهذه جزيرة العرب تموج موجاً وتضطرب اضطراباً، وقد فوقت إليها الفتنة سهاماً صائبات. . واصطلحت عليها من الشر حادثات. . وهذا عثمان في بيته بالمدينة وحيداً لا يطرق بابه أحد، فريداً لا يذكره أخ ولا ناصح بعد الذي كان من تقريبه آل أمية وآل مروان، وبعد الذي كان من خصومته مع علي وازوراره عن طلحة والزبير وعزله الصالحين من ولاة عمر. . وهاهي ذي الفتنة تتحرك في(123/54)
مضاجعها. . . والثائرون يتواصلون ويتابعون الشكوى ويجمع بينهم الظلم. . وهذا أبو ذر الغفاري يطوف ببلاد الإسلام يثير الفتنة ويقلب الأرض على عثمان. . . وهذا علي يباعد ما بينه وبين الخليفة مخافة أن يصيبه آل أمية بشر! وهم الساعة أصحاب الأمر وذوو السلطان على الخليفة الورع اللين الرقيق. . . وهم اليوم لبني هاشم بالمرصاد، وإن للبيتين فيما مضى لشأناً. وإن لهما فيما يقبل من الأيام لشأناً أكبر وقد أسخطته من عثمان أمور ونفرته منه شرور. وما يطيق الرجل صمتاً على ابن أبي سرح وآلياً على مصر، مكان ابن العاص القدير. فما زاد عثمان على أن قام على الناس رجلاً كرهه الرسول ولم يرض عنه إلا شفاعة وسماحة. . . ثم سكت طويلاً ثم أخذ يردد هذا الرجز الذي سيكون له في المحنة المقبلة أي شأن، والذي ستردده الجموع في الشام وتهتف به الجحافل في العراق. . . ويتردد صداه بعد ذلك على مدى الأيام:
أصبحت الأمة في أمر عجب ... والأمر مجموع غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب ... إن غدا تهلك أعلام العرب!
ثم بدا له فقام من مجلسه. . وأطل من النافذة على فناء (العجلان) فإذا أعرابي يسعى على راحلته وهو يردى بها مسرعاً. فهتف به فوقف، وسأله كيف عثمان:
فقال الأعرابي: قد تركته محصوراً شديد الحصار
ثم تركه وتولى مسرعاً
وأي هلاك.! خليفة الله محصور. إن الأمر ليشتد وإن العاصفة لتنذر وإن العقبى لوخيمة. ترى أعيل صبر العرب فأتوا يقومون الخليفة بالسيوف. هنا أحس عمرو أنه لم يحسن الصنيع حين ترك عثمان وحده في المدينة، وأخذ يسأل: ترى ماذا يصنع علي وماذا تصنع البقية من الصحابة. إن فيهم لعصمة لابن عفان مما يراد به. . ولكن ما عساهم يصنعون وقد أبى عثمان أن يلقي لهم بالاً. فلتنفعه عصبية بني حرب لو كان فيهم خير. وليعصمه ابن أبي سرح لو كان يستطيع. أما الصحابة فها هم أولاء يعتزل منهم نفر فيهم سعد بن أبي وقاص، ويعلن العداء منهم نفر وفيهم أبو ذر الغفاري، ويشتد منهم نفر ولا يتحرج أن ينقد عثمان النقد الجارح الشديد وفيهم علي، وتنصرف منهم طائفة إلى ذات نفسها تجمع المال وتؤلف الأنصار وتعد العدة لما عسى أن يحدث من الأحداث وفيهم معاوية. ثم نظر(123/55)
فإذا شرذمة من الأعراب على الخيل والجمال يسعون نحو الشمال. وكان انصراف العرب عن الحجاز قد كثر هذه الأيام، وإذا بهم يعلنون مقتل عثمان في شيء من الإنكار والخوف والهلع. فإذا استوقفهم وسألهم فوصفوا له الأمر وصفاً دقيقاً، ثم تولوا وتولى، فإذا سلامة قد ترك المصحف الذي كان يقرأ فيه ووقع الخبر في نفسه موقع الصاعقة. وريعت نفسه ولم يطلق على الأمر صبراً. فنهض من مجلسه ونظر إلى عمرو فإذا به شجى يشرق بالدمع فقال له وإنه ليعاني ألماً بليغاً: (يا معشر قريش! إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟) فقال عمرو وإنه لذاهل: (أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الحق شرعاً سواء.).
وهل أصبح الناس الآن في الحق شرعاً سواء. .؟ أجل! وقد ذهب ولي الأمر وأصبح السيف بين الناس حكماً. . وليطلب الأمر من يجد في نفسه الإقتدار على النهوض به. . ترى من يكون هذا المقتدر الذي سيملك ناصية الأمر ويقدر له الفوز بهذا الغنم العظيم؟ كذلك كان ابن العاص يسائل نفسه. . وكذلك كان يمضي في نظر المسألة والتدقيق فيها. . . بدأ يستعرض جوانب القوة واحداً فواحداً ويوازن بين ما لديهم من (القدرة) لا من (الحق) موازنة طويلة حتى لا يخفى عليه منها وجه من وجوه الرأي. . وهذا رجل يتقن الحساب ويجيد المساومة. . . ولا يخطئ في تقدير ربحه من أي النواحي. . ولقد كان هذا موقفه في كل أزمة. . وتلك حالة قبيل كل عاصفة. . يقف ساكنا ويفكر طويلاً. . ثم يساوم في حرص. . وأخذ يستعرض ما انقضى من أيامه عسى يلقي الماضي على الحاضر ضوءاً. . . إنه ليذكر موقفه قبيل إسلامه. . . وقد بدأ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر شيئاً فشيئاً. . . وبدأ الخوف من ناحيته يدب في قلوب قريش. . . وإن طائفة منهم لتشتد في عداوته شدة جاهلية. . . وإن طائفة أخرى لتسرع إلى رايته فتنضوي تحتها. . . وإن طائفة ليثقل عليها الأمر فتدع الميدان وتعتزل الحياة. . . ولكن عمراً لا يميل إلى أحد الجانبين ولا يعتزل بل يزن كل ناحية على مهل. . . ويقدر تقديراً طويلاً بل هو يبتعد عن الميدان كله إلى بلاد الحبشة. . . وهناك يرقب الأمور في صبر وحرص كما يرقب التاجر أسعار السوق. . . فإذا استبان له رجحان كفة الإسلام. . . وإذ رأى كنوز النصر تخفق. . . في بدر وفي الخندق، فقد أقبل إقبال الواثق ليتمم الصفقة وليشتري عن ثقة. . . ولكنه(123/56)
بعد ذلك كله يرجو أن يكون كسبه من الأمر أكثر من كسب الآخرين، إنه ليعود من الحبشة مسرعاً وقد حزم أمره على الدخول في الإسلام. . . ولكن انظر كيف أقنع نفسه بالبيعة للرسول، لقد بعثت إليه قريش تسأله ما عقد عليه النية. . . فلا يعلن إسلامه إعلان عمر، ولا يفسر إيمانه تفسير أبي بكر أو عثمان. . . وإنما هو يقول للرسول: أنحن أهدى أم فارس والروم؟ فيقول الرسول: (بل فارس والروم) فيقول عمرو. . . فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أكثر فيها أمراً، قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق. . . هذا منطق الرجل في الإيمان وهكذا يستوثق لنفسه من أنه لا (خسارة) عليها في ذلك، ثم يمضي حتى إذا أقبل على الرسول الكريم ومد يده فقد قبضها، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (أردت أن أشترط!) نعم يريد أن يشترط. . . يريد أن (يكسب) شيئاً في هذه البيعة الجديدة. . . فإذا سأله الرسول ما يشترط فقد تريث لحظة. . . وبدا له فطوى ما كان يريد أن يقول. . . وساعفته بديهته. . . فقال (يا رسول الله. . . إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! بايع فإن الإسلام يجبُّ ما قبله وإن الهجرة تجبُّ ما قبلها). . . إنه يريد أن يشترط دائماً. . . هكذا كان موقفه في كل أمر.
(للبحث بقية)
حسين مؤنس(123/57)
تحطّمي تحطّمي!
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
يا ليل للنجم اكتم ... ويا نهار أَظلم
يا أدمعي فيضي ويا ... نار فؤادي اضطرمي
نفسيَ لي قد آلمت ... فقل لها تألمي
كمثل ما حطمتِني ... تحطّمي تحطّمي
مسؤولةً يا نفس أن ... تِ عن حياتي ودمي
ندمتِ مما جئتِه ... ولات حين مندم
بكِ العِدى تهكمت ... وأنتِ للتهكم
من قال إن لاقيت نا ... راً تلتظي فاقتحمي
ألم أقل تريّثي ... فيما عزمتِ تسلمي
مشيتِ بي في مزلق ... صعبٍ فزلّت قدمي
ما أنتِ من دمي بري ... ئةٌ فلا تختصمي
من ذا الذي أغراكِ يا ... نفسي على التقحم
قولي، أجيبي، بيني ... شيئاً، أزيلي تُهَمي
لا تلبثي ساكتة ... تكلّمي تكلّمي
يا نفس هذا وقت إن ... تبكي فلا تبتسمي
يا نفس من نفسِك قب ... ل أن تموتي انتقمي
بالكف يا نفسيَ قد ... صفعتِني في الهرم
للشيب في رأسيَ وال ... قذال لم تحترمي
أصبحتُ من موتي قري ... باً فأقيمي مأتمي
أنت حقيرة بعي ... ن الفيلسوف الفهم
وإن تردّيتِ ثيا ... بَ السيّد المحترم
أخرجتِني من ساحة ال ... نور لساح الظلم
فصرتُ في مشيي على ... وجهي اللطيم أرتمي(123/58)
هل عائدٌ إليّ عه ... دُ عيشيَ المنصرم
ماذا أقول والأسى ... قيدُ لساني وفمي
وإن تكلمتُ فهل ... تردَ حقي كلِمي
الهمُّ في رأسي كأن ... هـ لظى جهنم
وهو إلى قلبي كجي ... شٍ زاحفٍ عرمرم
نحسبه مخيّماً ... وليس بالمُخيّمِ
لا أستطيع الخوضَ بع ... د الشيب في الغطمطم
أخاف أن يبلعني الت ... يّارُ بلعَ النَهِم
أإنني في يقظة ... أم إنني في حُلُم
المرءُ بالأفعال لا ... بالقول والتكلم
لقد رميتُ أسهماً ... فارتدّ نحوي أسهمي
جرحن جلدي ثم لح ... مي وبلغنَ أعظمي
فيا له من حادث ... للروح مني مؤلم
أنتِ به مسؤولةٌ ... ما أنا بالمتّهَم
في الموت كلُ راحتي ... وبالردى مُعتَصَمي
إذا هلكتُ فادفنو ... ني بالمكان الأشأم
قد عششت فيه على ال ... أرماس أمّ قشعم
بغداد جميل صدقي الزهاوي(123/59)
النجاح
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أنت رب الأوشاب والأعلياء ... وجماع الجهود والأهواء
تُلْبِسُ المرَء منك حُلَّةَ فضل ... يلهج الناس حولها بالثناء
أي فضلٍ للمرء إنْ لم تَحُكْهُ ... وذكاءٍ إنْ لم تكن في الذكاء
فُرَصُ العيش كلها لك جند ... والعطايا مواثلٌ كالإماء
وصروف الأقدار طراً عبيد ... للذي تصطفيه للآلاء
لا يضير الذي اصطفيت عداءٌ ... لا ولا يُزدرى لفرط الغباء
ويود الذكي لو كان غِرّاً ... ثم تكسوه حُلة الأذكياء
أنت سِحْرٌ يكسوه القبيح جمالاً ... ويُنِيلُ الوضيعَ أُفْقَ العلاء
وينيل القَمِيَء أجنحة النس ... ر فيغدو لقومه كسماء
يرتجي الناس غيثها وعلاها ... بخشوعٍ وذِلة ورياء
إيهِ يا مالك القلوب قلوب ال ... ناس طراً طوع اللُّهَا والعطاء
رُبّ قلبٍ مُمَاكِسٍ لك في البي ... ع وذاك المِكاس غير الإِباء
تنثر التبر مثلما تبعث الشم ... س بأضوائها على الأرجاء
فوق وغدٍ أو فوق غِرِّ حَظِيٍّ ... أو على ظافر من الفضلاء
لك ثوب يُخفي العيوبَ ويحبو ال ... فضلَ فضلاً من روقة اللألاء
قَدَرٌ حاكه وليس صَنَاعٌ ... كصناع يدعونه بالقضاء
معدن الخير والفضيلة والحك ... مة من يرتدي بذاك الرداء
أي فضلٍ تعطي القوىَّ قواه ... إن عداه النجاح في الأحياء
أي صيتٍ يُجْدِي الذكيَّ بيانٌ ... لم يُصِبْ نهزة من الإصغاء
أي فضلٍ تحبو الحكيمَ نُهَاهُ ... وهو لولا الأنصار كالأغبياء
سَرَفٌ أنْ أضاعه الدهرُ لا يُفْ ... قِر دهراً أضاعه من ثراء
أترى التبر لو يضل دفيناً ... كان يجبي أطايب الأشياء
أترى الحسن كان يُعتدُّ حسناً ... وهو في خفية عن البصراء(123/60)
يغنم الظافر السعيد وإن ك ... ذَّب منه النقاد بُطْلَ الطلاء
وهو في أعين الآنام نضار ... وسواه في الخلق كالدقعاء
يغفر الناس شَرَّه وأذاه ... ويمدونه بمحض الولاء
إنما الحق ما رأى الناس حقاً ... ثابتاً في عقيدة الأهواء
والشريف الذي يرون شريفاً ... نال أولم ينل مدى الشرفاء
والكريم الذي يرون كريماً ... حاز أو لم يحز هوى الخبراء
صاحِ لو يُنْبَذُ المُزَيَّفُ طراً ... حَرَبَ الناسَ كلُّ هذا الاباء
ثم باءوا بحيرةٍ وضلالٍ ... في دعوى العقول والآراء
وإذا النجح لم يكن منه ميزا ... نٌ فكلُ مُزَيَّفُ الأنباء
كن جديراً به وإنْ لم تنله ... إنما الحقد آلة الأدنياء
ويضير الأنامَ كيْدُ حَقُودٍ ... صد عن خير مطمح وعلاء
فدع الناس يكفلون بما شا ... ءوا وَعِشْ في حقيقة الأشياء
إنْ تجدها أو لم تجدها فللع ... يِّ وللجد نشوة الصهباء
نشوة النجح نشوة السعي والخا ... سر من لم يَفُزْ له بطلاء
ولعل الأحقاد ما صَغَّرَ النج ... ح وأنحى عليه بالإزراء
ورجاءُ للنجح خير من النج ... ح فعش من طلابه في رخاء
إنَّ بَعْدَ الرجاءِ أَنْ تبلغ القص ... د ولا قصد بعد نيل الرجاء
ولقد ينكب النجاح أُناساً ... بالذي فاق نكبة للشقاء
والسعيد المحروم من أسلم الأط ... ماعَ طُرّاً لصرف حكم القضاء
ويود الذي تود له الأق ... دار يبغي فيها رخاء الرضاء
ذاك خُبْرٌ يغري الحكيم وإن شَقْ ... قَ فَيُلْفِي رخاءه في العزاء
ولقد يحبط الطَمُوحُ إذا زح ... زحه الهَمُّ عنه بالإعياء
وفُرُوضُ الحياة أخلق يالسع ... ي وأحجى من اقتعاد السماء
إنَّ أعلى من العلاء خليقاً ... بعلاء لا حائزاً للعلاء
والسعيد الحظيُّ من رُزِقَ الجدْ ... دَ وفي الجد مصرع الثؤباء(123/61)
هو طب الملال إنْ أعنت العي ... شُ وغالت غوائل البأساء
وسواء نُجْحٌ وفوتٌ إذا أح ... مدت ما في مسعاته من دواء
والشقي المحروم من لا يرى في ال ... عيش فرضاً ينأى به عن شقاء
ذاك من مات قلبه وهو حي ... وغدت نفسه كقفر خلاء
خاصمته النعماء في كل أمر ... وبدت فيه وحشة البيداء
خيبة المرء أن يمل مُنَاهُ ... لا تمادي الحرمان والإبطاء
ولعل الإبطاء في النجح أهنا ... وقصارى المبذول للإزراء
ويمُلُّ العطاءُ بعد أوان ... كعزوفٍ من طول بُعْدِ الغذاء
والذي لا يمل فرضاً مُعاداً ... كل يوم مُوَفَّقُ السعداء
لا ينال البعيدَ من لا يرى الأد ... نى سبيلاً يُدْنِي إلى البعداء
خطوة إثْرَ خطوة هكذا س ... نة عيشٍ وسنةُ في الجراء
وامتناع الطليب أهون من أنْ ... يندب المرء خيبة الأهواء
هو خطب أدهى من الفوت وقعاً ... وهو داءُ أشد من ذا الداء
كالذي يستطب بالخطب من خط ... ب ويُقْصِي الأدواء بالأدواء
ليس يُدْعَى الرضاء يأساً فكم را ... ضٍ وفي سعيه دبيب الرجاء
والذي يستدر نجحاً من الخي ... بة أحجى برفعةٍ وعلاء
فإذا ما نكصت في العيش فاعْلَم ... ليس في العيش موطن للنجاء
يُدْخِلُ المرء نفسه في الرزايا ... كي يُدَاوَى من رعدة الجبناء
مثلما أسمعوا الجيادَ صليلاً ... كي يهون الصليل في الهيجاء
صاحٍ ما العيش بالمُخَلَّدِ في الده ... ر فترتد ناكصاً للوراء
وإذا ما ارتخصتَ ما هو مبذو ... ل ويا رُبَّ مُرْخَصٍ مِنْ سخاء
فالهواء الحياةُ وهو مُذَالُ ... لو نأى كان مُنْيَةَ الأحياء
لا تَقلْ خيبة الرجاء سموم ... فالشقيُّ الشقيَّ بالأسماء
إنَّ بعض السموم منه دواء ... كدواء الرمداء بالظلماء
وإذا ما هممتَ بالخير لا تو ... لعْ بكسب الإجلال والإطراء(123/62)
ليس بين الإطراء والذم إلا ... كانطباق الجفون في الإغفاء
واللبيب العليم بالناس لا يغ ... تر بالمدح منهمُ والهجاء
غايظوا الراجح السعيد بمَنْ خا ... ب ولو فاز كان في البغضاء
يزعمون الخُيَّابّ أحجى بفوزٍ ... قد لواه القضاء ذو الأخطاء
زعموا الدهرَ يظلم الندب إذ يس ... مو بشأو اللئام والأدنياء
فإذا الندب نال شأوأً أَعَدُّوا ... ما أعدوا له من الإيذاء
ولعمري لو بُيِّنَ النقص والفض ... ل لكانوا في النقص كالشركاء
باتِّفَاقٍ أو باقتدار نجاح ... كان أو لم يكن لدى الفضلاء
ولو أن المفضولَ لم يُلْفِ نُجْحاً ... ضاعف الفَوْتُ غبنَ صرف القضاء
نابَهُ النقص من قضاء فإن خا ... ب فغبنٌ مضَاعَفٌ في الجزاء
ليس فوزُ الأباة قدرَ شقاء ... هزم الذل نخوةَ الأحياء
لا بل الفوز صحة واقتدار ... وببذلٍ للذخر أو للحياء
وبأَنْ تَطَّبى رضاء ذوي الجا ... هـ وأهل الجدود والأقوياء
وبإحباط من يكيد بكيد ... رب فوزٍ مستجلب بالدهاء
وبإطراء من ترى منه نفعاً ... وبإرضاء كل دانٍ ونائي
واحتذاءِ الحياة ترضي الذي تر ... ضاه من شيمة ومن سيماء
وَبِأَنْ لا تعاف كسباً ولا خُلْ ... قاً يداني من مَطْلبٍ ورجاء
فإذا عفت كان سعدك في الخي ... بة والنجح من صنوف الشقاء
رُبَّ قُوْتٍ للمرء منه سقام ... وهو في جسم آخرٍ كالدواء
وكذا النجح منه عِزٌّ ونعما ... ء ونجح يُلِمُّ بالبرحاء
عبد الرحمن شكري
القصص(123/63)
صور من هوميروس
13 - حُروب طَرْوَادَة
مقتل بتروكلوس
للأستاذ دريني خشبة
قتِل ساربيدون ملك ليسيا وقائد فرسانها، وأشجع مقاتل في جيش طروادة بعد هكتور؛ ووقف بتروكلوس على جثته يصليها سخرية وهزوا، ناسياً أنه إنما يهزأ بابن زيوس سيد الآلهة، من آثر زوجاته إليه، أوروبا الجميلة المفتان، التي وقفت من ذروة جبل إيدا تنظر إلى المعركة الحمراء، وتشهد مقتل ابنها. . . وتبكي!!
وتثور ثائرة الأم التاعسة، وتهيب بالإله الأكبر أن يحمي جثة ولدها، بعد إذ عجز عن حمايته حياً، إذ عجز عن دفع ما قضت به ربات القدر.
وينظر زيوس فيري إلى بتروكلوس واطئاً بقدمه صدر ساربيدون، عادةَ الجاهلية، ويسمع إليه يقذفه بأشنع عبارات التهكم والاستهزاء، غير راث لهذه الروح التي تفيض، أو معتبر جلال الموت الذي تخشع أمامه القلوب؛ فيثور الإله، ويحنق على بتروكلوس وجند بتروكلوس، ويأمر من لاتونا. . . أبوللو العظيم. . . فينطلق من فوره إلى معمعان الحرب، ويرسل إلهي النوم والموت فيحميان جثمان القتيل، ويدفعان عنه سباع الميرميدون التي تكاثرت حوله تريد لو تسبي سلاحه، وتستنقذ دروعه.
أما الجثة، فيحملها الإلهان الكريمان إلى ليسيا؛ وثمةَ، يخلطان بها حنوط المخلود، ويلفانها في ثوب سماوي من ثياب الرحمة، ويجمعان حولها عرائس الفنون تبكيها وتنشد لها أوجع ألحانها، وأشجى ما تكن موسيقاها.
ويبدو لبتروكلوس أن طروادة، بعد ساربيدون، لقمة سائغة، وغنيمة باردة، فيهتف بالإغريق مرة، وبالميرميدون مرة أخرى، أن يقاحموا نحو أسوارها، وأن ينتهزوا فرصة تفتح عليهم فيها المدينة الخالدة.
ولا تدري كيف يستيقظ الطرواديون وأحلافهم من سكرة الروع التي غشيتهم فينكشف لهم أن البطل الذي قتل ساربيدون وعشرات غيره من صناديدهم، ليس هو أخيل العظيم، وإن(123/64)
يكن يحمل خوذته، ويقنّع في دروعه، ويذرع الساحة بعربته. . فتهدأ أعصابهم، ويثبت جأشهم، ويأخذون في مناهضة الميرميدون والإغريق جميعاً.
ولكن بتروكلوس يهجم غير هياب، ويجندل من حوله الأبطال المذاويد، ويقود جنده إلى البوابة الكبرى حيث وقف هكتور ينظر إلى المعركة بعينين مشدوهتين، ونفس مذهوب بها، وقلب حيران متصدع. . .
ووقفت الآلهة دون البوابة تحمي طروادة الخالدة. . .
ذلك أن بتروكلوس كان كلما بلغ ثمة. . . وجده وجنده ينسحبون إلى وراء بقوة خافية لا يدرون سرها، ولا يعرفون من أين تأتيهم فتتخطفهم، وتردي جحافلهم. . . وهي على قاب قوسين من داخل المدينة. . . أو أدنى!
وفي الهجمة الثالثة، سمع بتروكلوس إلى صوت إلهي يقول: (بتروكلوس! ليس على يديك تفتح هذه المدينة الخالدة! بل هي لن تفتح على أخيل العظيم الذي هو أقوى منك، ومن عشرة من أمثالك! عد من حيث جئت، واحذر أن تكون آخرتك اليوم، في هذا الميدان المضرج بدماء ضحاياك).
وتلفت بتروكلوس فرأى الهاتف هو إله الشمس، أبوللو، أيوللو بعينه، رب طروادة العظيم، واقفاً فوق برجها الباذخ يقلب قوسه في يديه الجبارتين، مرسلاً في عساكر الميرميدون والجنود الهيلانيين، نظرات تقدح الشرر، وتوري نيران الكيد والجبروت!
واقشعر جسم بتروكلوس، وأيقن أن أبوللو هو الذي رفع جثمان ساربيدون من مكانه من المعمعة، وأنه أيضاً أقبل ليلعب دوره ضد الميرميدون وضد الإغريق، وضد بتروكلوس قبل كل شيء!!
ولكن بتروكلوس محارب، وقلب المحارب العظيم لا يعرف الجبن، ولا يتلجلج لقصف المنايا في المعركة، فكيف به يخفق فرقاً إذا رأى الآلهة نفسها تحارب في صفوف الأعداء!
أقبل يا بتروكلوس وأقدم، ولا يهولنك أبوللو، وألف ألف أبوللو، مادام العمر واحداً، والساعة آتية، ولن يفلت أحد مما قدر له!
وبهت الجمعان المقتتلان حول جثمان ساربيدون حين رأوْا إليه يرتفع في الهواء، ثم يتهادى إلى جهة ليسيا، موطنه الذي يبكي عليه، فعلموا أن السماء تعمل!(123/65)
وأحس الليسيُّون هذا الفراغ المفزع الذي خلفه ملكهم المقتول فيهم، فذهب رئيسهم المغوار، جلوكوز، نائب الملك وخير وجوه ليسيا، إلى حيث وقف هكتور ينظر إلى المعمعة قريباً من البوابة الكبرى، فوقف تلقاءه محطم القلب، دامع العين، موهون القوى، وقال: (يقف هنا بطل أبطال طروادة العظيم، ويدع أحلافه البواسل يجودون بأرواحهم من أجل اليوم، ويسيلون نفوسهم على ظبي الرقاق البيض التي يرهفها في وجوههم أعداؤكم! ولأي شيء!؟ لأنكم استجرتم بنا فأجرناكم وأسرعنا إليكم نفتديكم بالمهج الغالية والدماء الزكية! هكتور! لقد قتل ساربيدون، فهل علمت! هل علمت هذه النفوس التي يمضها الأسى، والعيون التي تقرحها الدموع، ويعصف بها الدم!؟ فيم وقوفك هكذا ترمق الساحة وقد رأيت من فتك الميرميدون بنا ما رأيت. هل فكرت في حماية مولانا الملك، أو على الأقل صيانة جثمانه العزيز؟! لقد سبوا دروعه وسلاحه، فأي عار يصمنا في طويل الأحقاب والآباد؟ يا لثأرنا. . . يا لثأرنا. . .؟
ولم ينبس هكتور!
ولكنه شاهد الميرميدون يعيدون الكرة بعد الكرة على الطرواديين، فينالون منهم ويمزقون صفوفهم، وشاهد البطل الإغريقي المشهور إيجيوس، يصول بين الجيشين ويجول، ويجندل الأبطال وببيد لها ميم الرجال، فأحذ هكتور حجراً كبيراً وانتهز فَرّة من إيجيوس، وقذف بالحجر فوق رأسه فشجعه، وبرز المخ، وتدفق الدم، وتردى البطل فوق الحدور حتى استقر في بسيط الساحة!
واستشاط بتروكلوس غضباً! ويود لو كان قريباً من هكتور فيضغط على عنقه ضغطة تذهب به إلى الجحيم! ولكنه لم يستطع إلا أن يثأر للقتيل بمثل ما صنع هكتور؛ فقد تناول جلموداً كبيراً، وقذف به ستينلاس الهائل، أشجع شجعان طروادة الأحياء، فأطاح جمجمته، وهوى الجلمود على مفرش جواده فقتله، بين عجب الطرواديين وشدة تحيرهم!!
ولكن جلوكوز - رئيس الليسيين - يرى إلى ذلك فيتسخط، وينقض على البطل الهيلاني الكبير باثيسيز، فيشكه برمحه شكة تذهب به، وتتركه يتشحط في دمه. وتستمر المعركة. . .
أما أبوللو! فيغيظه من هكتور هذا الجمود الذي استولى عليه، وذلك الموقف الجبان الذي(123/66)
يحول بينه وبين الميدان، وفي الحق، لقد كان هكتور ينظر إلى شياطين الميرميدون ولا يصدق أنهم مقاتلة من البشر، بل وقر في قلبه أنهم زبانية من جحيم بلوتو سلطتهم المقادير على الطرواديين يسومونهم الخسف وسوء العذاب!
وتنكر أبوللو؛ فبدأ في زي محارب في عنفوان الشباب، ثم أجرى في عروقه من دماء بني الموتى، وغضَّن قليلاً من جبينه، وسوى من ساعديه، ونثر فوق عدته من ثرى المعمعة، ولوَّح وجهه بملامح (أسيوس) العظيم، أخي هكيوبا، وخال هكتور؛ وسار قُدُما إلى حيث وقف فتى طروادة المسحور بروع الساحة الهوجاء:
(هكتور! فيم إحجامك عن لقاء الأعداء يا بني؟ هلم، هلم! فَوَ أرباب الأولمب لو كان لي شبابك وعنفوانك، لصاولت هؤلاء الميرميدون الألداء، ولأخليت منهم تلك الحومة التي ملأتك هلعاً! أقدم يا هكتور ولا تحجم هكذا! إلق بتروكلوس فقد تصرعه، وإنك لصارعه، وإنك لعاقد إكليلاً من المجد فوق رأسك لا يذبل أبد الدهر، وحسبك أن أبوللو صاحبك وحاميك ومسدد خطاك، ومضاعفٌ بتأييده ضرباتك! هلم، هلم، وعش عزيزاً يا هكتور، أو مت كريماً يا بني، بين طعن القنا وخفق البنود!)
وانفتل أبوللو فانخرط في صفوف المقاتلين، وطفق يُصرع أبطال الهيلانيين ليضرب المثل لهكتور، وليشحذ من همته الخابية، وليوقظ شبابه النائم.
فلما رأى هكتور جلائل هذه الفعال التي أبداها خاله - وما هو بخاله - انكشفت عنه هذه الغمة التي غمرته، وأمر سِبْريونيس، سائق عربته، أن ينطلق به إلى الحومة. فانطلق السائق المسكين نحو بتروكلوس، حتى إذا كان على مقربة من شباة رمحه، ترك صاحبه وجهاً لوجه معه. وكان السائق من مغاوير أبطال طروادة، فأخذ يناوش بتروكلوس هو الآخر، فما كان من قائد الميرميدون العظيم إلا أن قذفه بحجر هشم رأسه، وصدع فقاره، وطار بروحه إلى هيذر.
واقشعر هكتور من هول الضربة، وعز عليه أن يودي سبريونيس وهو بين يدي مولاه، فلا يجد له حامياً. ولكن الطرواديين تكبكبوا حول القتيل، يذودون الهيلانيين الذين كان كل همهم أن يفوزوا بعدته، أثراً حربياً خالداً!!
واشتد صيال القوم حول جثمان السائق، وصخبت زوبعة القتال فوقه، واشترك هكتور(123/67)
وبتروكلوس مع أجنادهما؛ فكان جماعة يشدون القتيل من قدميه، بينما جماعة أخرى تشده من الرأس، وهم يعفرونه فيما بين هذا وذاك بالتراب، ويلطخونه بالدم!
ووجد أبوللو فرصته!
أبوللو الخائن! أبوللو سيد الشمس الذي لا يستحي! أبوللو الإله الذي يفرق أن يلقى بتروكلوس وجهاً لوجه، فيأتيه من الظهر! كأجبن الجبناء!!
يا للآلهة! ومسكين يا بتروكلوس!!
لقد تقدم أبوللو، مستجمعاً كل قوته في قبضة يمينه الجبارة فأهوى على قفا بتروكلوس بضربةٍ خائنةٍ كضربات اللصوص، حين ينسلون تحت أستار الليل، فأطار صواب البطل، وأوقع الخوذة الأخيلية الهائلة، وغودر الرأس العظيم مكشوفاً في متناول كل ظباةٍ وكل سنان!
ولم يدع هكتور فرصته تمضي، بل سرعان ما أبصر بتروكلوس يتلفت يرى صافعه، حتى أرسل رمحه الرعديد الخائر، إلى الرأس العاري، فأقصده. . .
وسقط بتروكلوس المسكين. . . مضرجاً بدمه!!
ووقف هكتور يتشدق، ويفاخر تلك المفاخرة الكاذبة: (بتروكلوس! أرأيت؟ لقد انتهيت! ولقد طاحت آمالك وذهبت أمانيك فوق هذه الساحة أباديد! بتروكلوس! أكنت تحلم بأن تُفْتح طروادة عليك، فتسوق بيض خدورها إماء بين يديك إلى بلادك وتُقَرّن في الأصفاد أبطالها البهاليل!؟ أيها التاعس. لقد ترديت من عربة أخيل التي لم تكن يوماً أهلاً لها، وبعد قليل تنوشك سباع الطير، وتغادرك فوق ثرى طروادة صعيداً جرزاً ورفاتاً سحيقاً!!
بتروكلوس! يا أتعس قتيل في هذه الساحة الحمراء!
كم كنت تحدث نفسك أن لو كان هكتور، هكتور الحلاحل، قاتلك، وسافح دمك، هو الذي ينام تلك النومة الساعة بين يديك!!
وكم كنت تمني نفسك أن لوعدت بعدة هكتور وعتاده إلى مولاك، إلى أخيل الذي أرسلك إلى الحومة، ولم يجازف بنفسه فيها، وهو يعلم أن أسدها الهصور لا بد قاتله، فافتدى نفسه بك، وضحاك في سبيل خلاصه، من هذه الصرعة التي زلزلتك!
بتروكلوس!(123/68)
أهكذا قد غرر بك أخيل، فأطلقك إلى حيث تلقى حتفك وتسبح في دمك، وتغص بآلامك؛ وإنه ليسبح الآن في شهواته ويقارف لذاته، ولا يدري مصيرك المحزن، ولا يعرف ما حل بك من موتة زؤام!!. . . . . .)
وكان بتروكلوس العظيم يجود بروحه، ويسمع إلى هذا الهذر، ويبكي! فلما انتهى هكتور تأوه القتيل آهة عميقة، وقال:
(هكتور!
حق لك أن تفتخر الآن)
أما قبل هذه اللحظة، فقد كنت تبحث عن قلبك الرعديد فلا تجده، لأنه طاش من شدة ما عاينت من ضربات الميرميدون!
على أنك لو كنت رجلاً، لآثرت أن تدفن وجهك في الرغام، دون أن تفخر بنصر ليس لك في أقله يدان!
لست أنت الذي رميت يا هكتور، بل هو سيد الأولمب، وولده أبوللو، هما اللذان رميا، وهما اللذان كتبا هذا القضاء، وأبرما هذا القدر!!
وإلا، فو أرباب هيلاس، لو صاولت عشرين كلباً مثلك، لما أفلت منهم أحد أبداً؛ ولأرسلت أرواحهم الخبيثة تتردى في نار جهنم!!
أجلي هو الذي أعجلني يا هكتور، وأبوللو هو الذي فتك بي تلك الفتكة البكر، أما أنت، فلم تصنع شيئاً، أكثر من أن رميت رمية الجبان!!
على أني أقولها لك قولةً غير كاذبة
إنك ستشرب بالكأس التي شرب بتروكلوس، ولن تبسم لك الدنيا أكثر مما فعلت، فانتظر، فسيأتيك عذاب يشقيك، وسينتفض أخيل العظيم حين ينتهي إليه نبأ مصرعي، فيهرع إلى هذه الساحة، والويل لك من رمحه الظامئ إلى دمك!)
وكانت هذه المقالة قد أجهدته، فسكت قليلاً، ثم أغمض عينيه إغماضة متعبة، وفتحهما فجأة، ونظر إلى جنوده، وقال:
(ميرميدون!
وداعاً. . . سلامي. . . إلى. . . أخيل!!)(123/69)
وفاض الروح الكبير، وسكنت الساحة الحزينة كلها. . . كأنها تبكي. . .!
وكأنما هزت كلمات بتروكلوس فؤاد هكتور، وكأنما خشع بطل طروادة لجلال الموت، فصمت طويلاً. . . وقال، مخاطباً القتيل:
(بتروكلوس!
من يدري إذا كان أخيل هو الذي يقتلني، أو كنت أنا الذي أقتل أخيل!
هذه آجال يا أخي. . . فالسلام عليك!!)
ولم يتورع هكتور أن ينزع حربته من رأس البطل، ولم يتورع كذلك أن يأمر فينزع رجاله عدة أخيل. . .
تذكاراً حربياً!
وعتاداً مؤقتاً!
(لها بقية)
دريني خشبة(123/70)
البريد الأدبي
مؤتمر الشباب الأخلاقي - نداء لسعادة رئيسه
إلى شباب مصر:
أبنائي الأعزاء. . .
كان بودي أن أجمعكم في صعيد واحد لأقص عليكم هذا النبأ السار الذي تلتقيه بالغبطة والسرور من شباب رابطة الشباب المصري. . . وعهدي بكم سباقين إلى طريق الخير، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وهانحن أولاء نتقدم إليكم بفكرة هي أساس لهذا المعروف الذي جبلتم عليه وتسعون إليه. . .
ما أطيب أن تدعوكم هذه الجماعة الفتية لوضع دستور للشباب يتمخض من بين جموعهم، فيدعوهم إلى توحيد الصفوف توحيدا يبشر بالنجاح، وينظم حياتهم الخاصة والعامة تنظيماً يهيئ منهم جيلاً صالحاً نحن في أشد الحاجة إليه - ذلك لأن هذا النقص الذي نراه في بعض البيئات منا هو نتيجة لعدم تركيز حياتنا على أسس يجب أن تتوافر فينا جميعاً في هذا العصر وفي جميع العصور، فتجعل منا رجالاً يشرفون أنفسهم ويشرفون بلادهم؟ فإذا ما فهم الشباب حقيقة المقصد ونبل الغاية، فقد قدر لنا أن نحقق رسالتنا على يديه، ذلك لأنه الروح الدافعة، والقلب النابض في الأمة.
أبنائي: من منكم لا يريد الهداية لهذا الخلق الحائر. . . . المغمور فيما لا يرضي نفوسكم الطاهرة، فضموا الصفوف وتعالوا إلى كلمة سواء لتسمعوا آراء كبار مفكريكم في مؤتمر الشباب الأخلاقي، ثم نتناقش معاً في جو من الحرية ونزاهة القصد حتى يستقر عزمنا على تحقيق ما قمنا من أجله من وضع دستور تهذيبي يهيئ للشباب سبل الرشاد؛ هدانا الله سواء السبيل.
رئيس مؤتمر الشباب الأخلاقي
الأستاذ ساطع الحصري
قدم القاهرة منذ يومين الأستاذ الجليل ساطع بك الحصري الوكيل الفني لوزارة المعارف العراقية ومدير دار الآثار ببغداد، ليتصل برجال العلم وقادة الفكر في مصر، ويقف على(123/71)
نظم التربية وطرق التعليم ومناهج الدراسة في المعارف، فيقتبس من الأساليب ويختار من الكتب ما يلائم الحال في مدارس العراق، توثيقاً لرابطة الفكر وتحقيقاً لوحدة الثقافة بين البلدين الأخوين.
والأستاذ ساطع أحد الأعلام المعدودين في التربية؛ وقد كان عميد هذا الفن في تركية قبل الثورة العربية؛ فلما قامت الدولة الفيصلية في دمشق كان وزيراً للمعارف فيها، حتى إذا ما انتقلت إلى بغداد انتقل معها وتولى إدارة المعارف هناك، فوضع أساس التعليم للحكومة الجديدة على أساس الوحدة القومية وأحدث الطرق الفنية بالرغم من ندرة المعلمين ومشاكل الطائفية وعراقيل الإنتداب. وأفضل مزايا الرجل أنه صحيح المبدأ، منطقي الفكر، صليب الرأي، حي الضمير، يتقن العمل الذي يعمله، ويملأ المنصب الذي يَشغله.
له مؤلفات قيمة في التربية، ولكن أنفع آثاره وأخلدها مجلة التربية والتعليم التي كان يصدرها في بغداد، فإن مجموعتها سفر جليل حافل في التربية والأخلاق والأدب؛ وهو ولا شك ركن أساسي قوي من أركان النهضة العلمية في العراق؛ فأهلاً به وسهلاً.
حول قبر الصفدي
إلى الأخ (الصفدي) الفاضل، صاحب الكلمة الطيبة المنشورة في بريد الرسالة الحادية والعشرين بعد المائة. . . .
المعروف يا سيدي أن الصلاح الصفدي جاء إلى دمشق في آخر حياته، وتولى فيها وكالةً بيت المال وكتابة الدست وأقام عليهما إلى أن توفي سنة 764. فلما قرأت كلمتك شككت في ذلك ورجعت إلى ما في خزانتي من مراجع، فإذا الذي في طبقات السبكي (6: 94) والسبكي معاصره وصديقه، والشذرات (6: 201)، وتاريخ آداب اللغة العربية لزيدان (3: 161) والأعلام لخير الدين (1: 296) أن وفاته في دمشق، وزاد في الذرات أنه دفن بالصوفية، ومقبرة الصوفية قد درست وقام عليها بناء الجامعة السورية والمستشفى الوطني، ولم يبق منها إلا قبر شيخ الإسلام ابن تيمية قائما وسط المستشفى، وهي في أنزه موضع في دمشق معروف بمقبرة البرامكة.
فكيف يكون القبر الذي وصفت في صفد قبره؟ وعلام استند الأستاذ المحقق أحمد زكي باشا رحمه الله في تأييد ذلك؟ هل وجد نصاً يطمئن إليه الباحث، ويثق به المنقب، أم اكتفى(123/72)
بالسماع، والشائع على ألسنة الناس؟
هذا وقد وقع لي مرة أني كنت ماراً في الزقاق الذي ينتهي إلى سوق الحميدية، وفيه دور المَرْدميين، والذي يسمى زقاق الفخر الرازي، فلمحت في خربة قذرة قد اتخذها الناس لمثل ما تتخذ له المراحيض. . . . . . لمحت حجراً أبيض مصقولاً عليه كتابة يبدو طرفه، وسائره غائص في الطين والأوساخ والتراب، فعالجته ودعوت من أعانني على استخراجه، فإذا هو الحجر الذي كان على قبر الإمام المصنف العظيم، علامة المسلمين، فخر الدين الرازي، وإذا عليه اسمه، فحملت الحجر إلى المدرسة التجارية، وذهبت مغتماً ثائراً، أقيم الأرض وأقعدها. . . ثم بدا لي فرجعت إلى ترجمته، فإذا من المتفق عليه أنه توفي رحمه الله ببلدة هراة يوم الاثنين في عيد الفطر سنة 606 ودفن فيها!
ولعل هذه من تلك؛ ولعل هذه المزبلة التي في صفد قبر رجل أخر غير الصلاح صاحب الوافي بالوفيات وتلك المصنفات. وإذن فلله الحمد، وإن كنا من قبل لفي خطأ مبين.
والسلام عليك أيها الأخ ورحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي
الشيخ عبد العزيز الميمني
قدم القاهرة الأستاذ العلامة الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي أستاذ اللغة العربية في جامعة عليكرة في الهند، وأحد أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو صاحب المصنفات والآثار الممتعة التي تمتاز بالتحقيق المنقطع النظير، ومنها:
(1) أبو العلاء وما إليه، وفي آخره فائت شعره ورسالة الملائكة.
(2) تنكيتات وتعقبات على خزانة الأدب للبغدادي ,
(3) اقليد الخزانة، وهو فهرس لما تضمنته خزانة الأدب من الكتب المنسوبة.
(4) تحقيق (ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد للمبرد).
(5) تحقيق (أبواب مختارة للأصبهاني في مجازات العرب).
(6) شرح (ما تلحن فيه العوام للكسائي ومقالة كلا لابن فارس).
(7) النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف.(123/73)
(8) ابن رشيق حياته والبيئة التي نشأ فيها.
(9) زيادات ديوان شعر المتنبي.
(10) تحقيق كتاب المداخل لأبي عمر الزاهد المطرز غلام ثعلب.
(11) تحقيق كتاب جاويزان خِرَد (أي العقل السرمدي)، كان ترجم أيام المأمون من الفارسية القديمة إلى العربية، وهو أقدم كتاب في العالم على رأي الفرس إذ ينسبونه إلى حفيد آدم.
(12) وقد عني في هذه السبع السنوات الأخيرة بكتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري فصححه على نسختين بألمانيا ومكة، ونقحه بما لا مزيد عليه من العناية، وخرج كل ما فيه، وشاطر المؤلف في جميع المباحث، وذيله بإتمام الكلام على ذيل الأمالي بطريقة البكري نفسه. والأستاذ الميمني بعمله هذا قد أتى بفلقة من الفلق في هذه الأزمنة المتأخرة، ودل على اطلاع واسع في آداب اللغة العربية في زواياها المترامية الأطراف، وقد سد الفراغات وما بيض له البكري في كثير من الأمكنة التي كانت تحتاج لمزيد بحث وتدقيق.
إلى غير ذلك من مباحث مفيدة ومقالات مستفيضة نشرت في مجلتي المجمع العلمي والزهراء. والله نسأل أن يمتع الأدب العربي بطول بقائه.
محمد شفيق
سرقة أدبية
نبهنا الأستاذ علي الطنطاوي والأديب محمد يوسف قوره إلى أن القصيدة التي نشرت في عدد الرسالة الماضي تحت عنوان: (حمامتي) وفوق إمضاء (عيسى وهب الله الشمبيري) هي للشاعر محمود حسن إسماعيل صاحب (أغاني الكوخ) ترجمها ونشرها في مجلة الأسبوع عدد 4 أبريل سنة 1934! وأعجب ما في الأمر أن هذا السارق أرسل إلينا قطعة أخرى، ويرجو أن نشير إلى أن اسمه (عيسى وهب الله عبد المسيح) لا عيسى وهب الله الشمبيري كما نشر، فكأنه ساعد الحق على فضيحته!!
السياسة والتاريخ(123/74)
أضحى تعليم التاريخ في عصرنا من أكبر العوامل في تكوين العقلية والثقافات القومية. وقد لعبت الثقافة التاريخية أكبر دور في تكوين الجيل الألماني الذي قام بالحرب الكبرى، وكانت من أهم العوامل المعنوية في إذكاء الفكرة الجرمانية. وحيثما كانت السياسة تسيطر على سير الثقافة القومية نرى التاريخ يلعب دوراً كبيراً في تكوين النشء، ويصور بالألوان التي تلائم غايات الدعاية السياسية؛ ففي إيطاليا الفاشستية وفي روسيا البلشفية، وفي ألمانيا الهتلرية، يدرس التاريخ بالأساليب السياسية، ويستعمل أداة قوية لصوغ عقول الشباب وتوجيهها نحو الآراء والنقط الحساسة التي تستطيع السياسة متى حان الوقت أن تضرب على أوتارها. ولم ينس الدعاة الهتلريون في ألمانيا هذه الحقيقة بل عملوا علة استغلالها، وأنشأت الحكومة الهتلرية معهداً جديداً للتاريخ أسمته (المعهد القومي لتاريخ ألمانيا الجديدة) وفي أنباء برلين الأخيرة أن هذا المعهد قد أفتتح بالفعل في حفلة رسمية عقدت ببهو جامعة فردريش ولهلم، وشهدها جمهور كبير من زعماء الحزب النازي ومندوبي الجامعات الألمانية. وتحدث مدير المعهد الجديد الدكتور والتر فرانك عن (الوجهة الاشتراكية الوطنية لفهم التاريخ) وأفاض في استعراض المناهج السلبية القديمة لدراسة التاريخ وحمل عليها بشدة قائلاً: (إن صراعنا العلمي ممتزج بصراع أمتنا القومي، ولسنا نستطيع أن نكون في حياتنا وفي عملنا أكثر من تعبير عقلي عن التطور العظيم والعصر العظيم اللذين اضطلع بهما أدولف هتلر)
وشرح الدكتور والتر مهمة المعهد الجديد في ميدان الدراسة التاريخية ولخصها في أربع نقط هي:
أولاً - غزو الأفكار الغربية لألمانيا منذ سنة 1789 (أعني منذ الثورة الفرنسية) إلى سنة 1848.
ثانياً - الحركة القومية الدينية في القرن التاسع عشر.
ثالثاً - ألمانيا وتطور الفلسفة في القرن التاسع عشر.
رابعاً - المسألة الألمانية اليهودية منذ الثورة الفرنسية إلى الثورة الألمانية الوطنية الاشتراكية.
وظاهر من هذا الشرح أن مهمة المعهد الجديد هي توجيه الدراسة التاريخية بما يتفق مع(123/75)
النظريات النازية في شرح التطورات القومية. فالأفكار الغربية التي غزت ألمانيا، كما غزت العالم كله، منذ الثورة الفرنسية هي أفكار خطرة منحلة لأنها تذهب إلى أبعد الحدود في تصوير الفردية والحقوق والحريات العامة، بينما تذهب المبادئ الهتلرية في الحكم وفي تصوير حقوق الفرد إلى أبعد حدود الطغيان وإنكار الفردية؛ والمبادئ النازية تصور بأنها أمثل طرق الحكم وتكوين الفرد. وأما فيما يختص بالتطور الديني والتطور الفلسفي، والمسألة اليهودية، فلا ريب أنها ستصور جميعاً بصور مغرقة تبرر سياسة النازي وتؤيدها، وتبرر بالأخص نظريات الجنس والتفوق العقلي الجرماني وغيرها.
وسيكون المعهد الجديد مصدر الوحي والإلهام لدراسة التاريخ وكتابته في جميع المعاهد والمدارس الألمانية.
كتاب جديد عن لورد بيرون
كانت حياة اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي الأشهر موضع التأمل والدرس لأكثر من كاتب ومؤرخ، فصدرت عنها بالإنكليزية وباللغات الأحرى كتب لا حصر لها، ولكن حياة لورد بيرون ما تزال في عصرنا، أعني لأكثر من مائة عام على وفاته مادة شائقة للدرس؛ وقد صدر أخيراً عن بيرون كتاب جديد عنوانه (بيرون: أعوام الشهرة) بقلم الكاتب الإنكليزي بيتر كنيل؛ وهو كتاب ضخم يفيض بالعرض الشائق ويتناول حقبة صغيرة من حياة بيرون هي ما بين سنتي 1812 و 1816، وهي الفترة التي استقبل بيرون فيها مجده الباذخ وغدا عزيز المجتمع المدلل.
وقد ولد بيرون سنة 1788، من أسرة تشرفت بالنبل، ولكن عرف أفرادها بسوء الطباع وانحلال الخلق، ولم يكن بيرون يشذ عن هذه القاعدة؛ ولكن بيرون كان شاعر الطبيعة العبقري؛ بيد أن هذه العبقرية التي تفتحت بسرعة مدهشة، وغمرت كل ما حولها، لم تدم سوى فترة قصيرة هي التي اتخذها مستر كنيل موضوعاً لدراسته؛ ففي هذه الأعوام الأربعة أو الخمسة يبدو بيرون في ذروة قوته وخلاله، وقد استعرض المؤلف نفسية الشاعر وخواصه بإفاضة وبراعة، ونوه بنوع خاص بذلك المزيج المؤلم الذي يجثم في نفسيه بيرون وفي صفاته، والذي يجعل حياته الباهرة قطعة من العذاب المستمر؛ وذلك التباين المدهش الذي يجمع في صعيد واحد بين الخليع الصاخب والحيّ النقي، وبين المدنف الشره(123/76)
والقنوع الزاهد.
ومنذ سنة 1816 يأخذ نجم بيرون في الأفول، ولكن شهرته تصمد ردحاً آخر، وتنتهي حياته المضطربة الصاخبة بأن برغم على مغادرة إنكلترا إلى إيطاليا ثم إلى اليونان؛ وقد كان اسم اليونان الطامحة إلى حرياتها يجذب يومئذ كثيراً من عشاق الحرية، وكان بيرون في طليعة أولئك الذين جذبهم وسحرهم ماضي تلك الأرض القديمة؛ فغادر إيطاليا إلى اليونان في أوائل سنة 1824 حينما علم بأن اللجنة الثائرة انتخبته عضواً فيها؛ وذهب إلى اليونان ليعمل في سبيلها بقلمه وماله وشخصه؛ ولكن جراثيم الداء الذي قوض حياة الشاعر كانت تعمل عملها، فلم تمض أشهر قلائل حتى توفي، واختتمت تلك الحياة الباهرة الصاخبة بسرعة، ولكن اسم الشاعر ما يزال بعد مائة واثني عشر عاماً من وفاته يفيض حوله أسمى معاني العبقرية والعظمة والخلود.(123/77)
الكتب
(1) المعجم الفلكي - للدكتور أمين المعلوف باشا
(2) خصائص اللغة العربية - للأستاذ حبيب غزالة بك
(3) الزراعة العملية الحديثة - للأستاذ الأمير مصطفى الشهابي
(4) في أصول الأدب - للأستاذ أحمد حسن الزيات
(5) تاريخ الأدب العربي - للأستاذ أحمد حسن الزيات
للأستاذ محمد بك كرد علي
- 1 -
بعد بحث الأستاذ أمين المعلوف في الحيوان سنين طويلة ألف كتاب معجم الحيوان، فوقع من نفوس العلماء أجلَّ موقع، وهاهو الآن ينشر المعجم الفلكي وهو يشمل الثوابت والكواكب السيارة والصور النجومية وبعض المصطلحات الفلكية. وقد جاءت فيه أسماء كثيرة أخذها الإفرنج عن العرب للدلالة على النجوم كانت على الدهر شاهدة بفضلهم في هذا العلم. وقد حقق الأستاذ المعلوف ألفاظاً لم يسبقه إليها أحد، وعلق شروحاً وحواشي مهمة وهو في 140 صفحة طبع في دار الكتب المصرية.
- 2 -
يكتب الأستاذ حبيب غزالة بين حين وآخر أبحاثاً صغيرة مفيدة، ومنها ما نشره في جزيرة رودس وتاريخها، ونشر اليوم رسالة في خصائص اللغة العربية قال فيها إن مما امتازت به اللغة العربية من الخصائص المترادفات والتفصيل والتقسيم والأسماء المشتركة والتضاد والاشتقاق والقلب والنحت والتجوز والتعميم والتخصيص والاستعارة والمقصور والممدود والمثنى ومزدوج الكلام والاتباع والتكرار والزيادة والتأكيد والتصغير والكتابة والكنية والتفاؤل والتمويه والأمثال والجزاء أو المشاكلة والتزويج والتعويض والإدغام والتخفيف والإضمار وجمع الجمع والتناسب بين المعنى والاسم والبديع والاعتراض والإعراب والتصريف والحروف وخصائص الحروف. وأورد لكل ذلك أمثلة. وقد شفع هذا البحث بدرس في اللغات العربية العامية.(123/78)
- 3 -
عرف الأمير مصطفى الشهابي في الأندية العلمية بأبحاثه الزراعية والاقتصادية واللغوية. وقد نشر إلى الآن عدة كتب في الزراعة ومنها كتاب (الزراعة العملية الحديثة) في خمسمائة صفحة، طبعه طبعة ثانية منقحاً مزيداً مزيناً بالصور بعبارة سلسة قل أن كتب في الزراعة مثلها. وللمؤلف معجم مفيد في الألفاظ الزراعية، وضع لكل لفظ من الألفاظ بالإفرنجية ما يقابلها بالعربية، ومنها ما كان من وضعه خاصة وهو بضع مئات؛ فحبذا لو صحت عزيمته على طبعه خدمة للعلم.
- 4 -
أحسن الأستاذ أحمد حسن الزيات بنشر محاضرات له ومقالات في كتاب خاص؛ ومن أحق من بلاغة ابن الزيات بالتخليد؟ وقد درس في هذا الجزء عدة موضوعات ومن أهمها الأدب وحظ العرب من تاريخه والعوامل المؤثرة فيه، وتاريخ ألف ليلة وليلة، وبحثه في الروايات المسرحية كالمأساة والملهاة والدرامة والغنائية (الأوبرا)؛ ولاشك أن الكلام على ألف ليلة وليلة والروايات المسرحية من الأبحاث الممتعة التي وفق الأستاذ إلى وضعها ولم يسبقه أحد إلى تجليتها وتجويدها. وحبذا لو جمع أيضاً في كتاب بعض ما خطته أنامله على صفحات الرسالة من المقالات الممتعة، فإن الكتاب تتناقله الأيدي في كل زمان ومكان على صورة لم يكتب للمجلات حتى الآن مثلها.
- 5 -
قلَّ في الكتب حتى المدرسية ما طبع بعض طبعات. وصدور الطبعة السادسة من تاريخ الأدب العربي دليل بيِّن على احتياج الطبقات المتأدبة إليه، وقد زاده المؤلف إمتاعاً فنقحه وذيله بمعجم فسر ما غمض من الألفاظ والتراكيب، حتى لا يحتاج طالب هذا الفن إلى الرجوع إلى كتاب آخر. وحبذا لو صحت عزيمة المؤلف الكبير على البحث في سني ولادات من ترجم لهم من الأدباء والعلماء، فللولادات كالوفيات دخل كبير في تصوير المترجمين؛ مثال ذلك عبد الله بن المقفع، فقد ذكر أنه قتل في السادسة والثلاثين، وعلى هذا جرى كل من ترجموا له ومنهم كاتب هذه الكلمة في (رسائل البلغاء) (طبعت طبعة(123/79)
ثانية في القاهرة سنة 1913م - 1324هـ)، وتبين بعد ذلك أن ابن المقفع عاش أكثر من ذلك، فقد ذكر الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب الذي طبعه في فينا السيد موجيك من علماء المشرقيات سنة 1345 - 1926 أن ابن المقفع كان يكتب لدواوين عمر بن هبيرة على كرمان؛ وعمر بن هبيرة عزله هشام بن عبد الملك عن العراق والشرق سنة خمس ومائة، وقال إنه كتب للمسبّح بن الحُوَّاري في نيسابور في ولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قبيل تقلص الدولة الأموية، وبهذا يصدق التخمين بأن عبد الله بن المقفع ولد في عشر التسعين ظناً، ولا يعقل أن يكتب لأحد قبل أن يتم له نحو خمس وعشرين سنة على الأقل، وإذا حسبنا ذلك كان ابن المقفع يوم قتل ابن ستين أو نحوها؛ وهذا هو المعقول لأنه كتب أكثر من عشرة كتب، والعمر الذي قال به من قال لا يتسع لكل هذا.
محمد كرد علي(123/80)
العدد 124 - بتاريخ: 18 - 11 - 1935(/)
على هامش الموضوع
في الجمال؟!
حاولت أن أتابع البحث (في الجمال) فنبا علىّ الفكر، وشرد عني الخيال، واستبهم أماميَ المسلك. وكيف يستطيع أن يبحث في الجمال من يرى القبح الشنيع قد هجم على المشاعر من وراء البحر، فآذى الأحداق، وسمم الأذواق؛ وشوه كل منظر؟ ومَن أقبح من قادر يختل، ومعاهد ينكث، وصديق يروغ، ومتمدن يعالن الناس بسخف الذمة، وذائد عن الحق يتبجح باهتضام الحق، وغارق في الثراء يتحلب ريقه على كفاف الفقير، وكابوس من الأنس يجثم على صدرك نصف قرن، تريد أن تزحزحه فيثقل، أو تخاطبه فيغبى، أو تغاضبه فيبرد؟
إن في بعض أعمال اللصوص جمالاً إذا نمّت جراءتها على القوة، أو دلت حيلتها على الذكاء؛ ولكن أي جمال في صوت يتحنن بالرياء في (جنيف)، ويتخشن بالعداء في (جلد هول)، ثم لا يختلف في مقامه وقراره عن عواء الذئب في روما؟ أليس هذا وذاك مظهرين وضيعين قبيحين من ضراوة الحيوانية في الإنسان الضعيف؟
على أن من يسطو وفي يده الخنجر، أدنى إلى الرجولة ممن يسطو وفي يده المسبحة؛ لذلك كانت قهقهة (الدوتشي) من تصريح (هور) سخرية أليمة، خنس لها الرياء، وخجل منها الدهاء، وفرت أمامها الحجة!
الحياة جميلة؛ ولكن هذا الإنسان يلونها بلونه فتقبح؛ وقد جاهد المرسلون والمصلحون أن يجلوها على صبغة الله فعجزوا أمام بغيه وجشعة!
ماذا يبتغي الإنسان من الإنسان إذا كان يفسح له في أرضه، ويفضل عليه من رزقه، ويقول له: هواك هواي، ورضاك رضاي، وعدوك عدوي، ولكن لي وطني ولك وطنك، فلينعم كلانا بسلطانه الطبيعي على ما يملك، وليكن بيننا ما بين الحليف والحليف من تعاهد في شرف، وتعاون في استقلال، وتعامل في حرية؟ هذا كلام على بساطته وصراحته ووضوحه ما يزال يعجز الإفهام في أمة تفاخر بالعلم والحكم، وتباهي بالديمقراطية والعدل؛ لأن الأنانية المسلحة إذا عصفت في النفوس غشّت على الحواس فلا تشعر، ورانت على الأذهان فلا تدرك، وأنبهم في الخواطر مفهوم الفضيلة في الإنسان، ومدلول الجمال في الطبيعة، فلا تدرك من معنى البحر غير الأسطول، ولا من دلالة الأرض غير الجيش، ولا(124/1)
من جمال غير الاستعمار الوقح.
من شذوذ هذه العقلية الغالبة في الغرب ما نعاني ويعاني الشرق من أرزاء ومحن!
ومن شذوذ هذه العقلية الطاغية ما تصبَّب أمس من نفوس الشباب على أديم الأرض! فدحتهم تركة الآباء الغارمة، وأحفظتهم سياسة الأصدقاء الجارمة، فغضبوا للحق الطعين، وفزعوا للأمل المخيَّب، ففاضت أرواح طاهرة، ودميت وجوه حرة، وضجت بالأنين مستشفيات، وجأرت بالشكوى سجون، وتجاوبت بالحزن بيوت، وتألف من هذه السطور الحمر صفحة بيضاء من تاريخنا الوطني الحديث.
جف اللسان وحفى القلم من استعداء القانون واستصراخ العدالة؛ والقانون والعدالة كلمتان لا تعنيان إلا إرادة القوى ومنفعة الغاصب؛ فإذا لم يكن بجانب الحق قوة تؤيده، وبازاء العدل سلطان يقيمه، كان استمساك الضعيف بهما استمساكاً بالهباء المنتثر!
إذا أعوزتك اليوم قوة السلاح فلا تعوزك قوة الخلق؛ وقوة الخلق ميسورة لك متى أقنعت نفسك بأنك إنسان له إرادة قبل الوظيفة، وكرامة فوق المال، وواجب مع الحق، وتاريخ بعد الموت. وقوة الخلق هي التي تجعل للأمة كلمة لا تتعدد، وسياسة لا تتردد، ومهابة في الصدور تكسر من طرف المحتقر، وتكف من شرة الطامع، وتصد من عادية الدخيل.
جربنا كل شئ في جهاد العادين فما أغنى عنا جهاد ولا تجربة، لأن العُدة كانت قوية إلا من ناحية الخلق. وإذا لم يكن الخلق كانت الشهوة والأثرة والتحاسد والتخاذل والتواكل والهوى؛ وهذه الرذائل مجتمعة ومتفرقة كانت في مدى أعوام الجهاد الستة عشر وباءً ذريعاً تسلطه الأقدار من حين إلى حين على جهود الشباب فيفنيها، وعلى آمال الأمة فيذويها، ثم يقطع ما بيننا وبين الزمن المتقدم فنسقط في هوة الماضي على الموقف الأول.
هانحن أولاء على جلَد الصخرة التي وثبت من فوقها الأمة: وراءنا الهدنة التي قُسمت عليها الأسلاب ووُزعت بينها الغنائم؛ وأمامنا أطلال من الجهود العافية، وأنقاض من الأماني المحطمة؛ وعن أيماننا وعن شمائلنا آثار أقوام كانوا قبلنا فغبَّروا في وجوهنا وانطلقوا خفافاً متساندين إلى الأمد البعيد. فهل لسادتنا الذين يتولون استئناف الجهاد أن يجربوا في قيادتهم قوة الخلق؟ إنهم إن فعلوا ذلك أمنوا ولا ريب نكسة العلة، ورِدَّة الهزيمة، وضلة الطريق. جاهدوا أنفسكم قبل أن تجاهدوا العدو، فإن من لم ينتصر على نفسه لا(124/2)
ينتصر على غيره، ومن لم يقد نفسه الواحدة، لا يستطيع أن يقود النفوس المتعددة.
أحمد حسن الزيات(124/3)
6 - كَلِمة وكُلَيمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أصوبُ الصوابِ عند المأفون غلطةُ تجلِبُ له الشهرة.
يرى المغرورُ أنه كالمسجد، إذا هدمه الناسُ بقيت أطلاله تصلي وتسلم على نفسها. . . .
عقلُ النملة يصوِّرُ لها ظلام الليل جيشاً من النمل قد ملأ العالم. . . . . . . . . . . . . .
تعدُّدُ الأحزاب في أُمة تحتاج إلى الحرية، كتعدد الأنبياء في أمة تحتاج إلى العقيدة؛ إذا وجد فيها نبيان كان اتفاقهما معاً دليلاً على كذبهما معاً، وكان أقل ما في اختلافهما أنه دليل على كذب أحدهما.
إنما أضعفَ السياسيين في الشرق أن ربحهم وخسارتهم من (الوظائف) لا غير.
من مصائب هذا الشرق أن الخصامَ السياسيَّ فيه لا يدلُّ على سياسة. . . تَبَرَأ متبوعٌ من تابع فاختصما، فكانا كرجُل وحذائه؛ يقول الرجل: أنا خلعتُ الحذاء، ويقول الحذاء: بل أنا خلعت الرجل. . . إذا كانت المشكلةُ بين الذئب والحَمَل، فلن يكون حلها إلا من أحد اثنين: إما لحم الخروف، أو عصا الراعي. . .
كلُّ دجال له أساليبُه التي صار بها دجالاً، وليس للمنخدعين إلا أسلوبٌ واحد في الغفلة؛ وشرٌّ من الشرِّ تعدُّدُه. . .
إذا اصطنعتَ سفيهاً يُسافِهُ عنك، فاحذَرْه لليوم الذي لا يكون فيه سفيها إلا عليك.
من أحْسَنَ تملُّق المرأة أحسنَ إخضاعها لا تملُّقَها.
ما رأيت امرأةً حمقاءَ إلا كان حمقُها من سخفه كأنه امرأةٌ أخرى حمقاء. . .
إذا أحببت ففكر في البغض لعله يكون، وإذا أبغضتَ ففكر في الحب لعله يعود؛ بهذا وهذا تكون دائماً محباً وإن أبغضت.
ما أعجبَ تناقُض المرأة! هي تريد أن تستقلَّ فتخرجَ عن طاعة الرجل، وهي لا تسعد إلا حين تجد رجلاً تشعر من حبه بوجوب طاعته.
من بلاءِ الحب أنه ينزِّه جمالَ المحبوب عن كل عيبٍ وكل نقص؛ ولكنه بذلك يدفع طبيعةَ العاشق إلى البحث عن كل نقص وكل عيب في أعمال المعشوق.
قاعدةُ الرجل مع المرأة التي يحبها أن تنتصر إرادته وإن ذلت كبرياؤه؛ وقاعدة المرأة مع(124/4)
الرجل أن تنتصر كبرياؤها وإن ذلت إرادتُها.
سؤال فيه جوابه: لماذا يكون حَقدُ المرأة الخائبةٍ في حبها حقداً شديداً على الرجل الذي أحبته حتى كأنه حقدُ أمٍ على قاتل أطفالها. . .؟
المرأةُ التي لا زوج لها منفيةٌ وإن كانت في دارها، لأن وطن قلبها الرجل.
إذا استسلمت المرأةُ لمحبها ظنت الحبَّ قد ابتدأ، وعلِمَهُ الرجلُ قد ابتدأ ينتهي. . . أذاك فرقُ ما بينهما في الحب أم فرقُ ما بينهما في الظلم؟
ما أعجبَ هذا! أرادت حبيبةٌ ظريفةٌ أن تكون مرةً سخيفة عند محبها، فلم تستطع أن تكون سخيفة إلا كما يحب.
ما هو السُّلوان في الحب؟ هو رجوعُ العقل من سَفَره الخياليّ في جسم المحبوب.
الرذيلة الصريحةُ رذيلةٌ واحدة، ولكن الفضيلةَ الكاذبةَ رذيلتان.
يرى الملحدون أن من حقهم أن يعملوا في النفس الإنسانية كما يعمل أهل الدين؛ فهل من حق أصابع الرجلين أن تمشي على البِيَانة كأصابع اليدين؟
لكل إنسان عقلٌ تحكمه الغريزة، وحقيقةُ الدين أن يكون للغريزة عقلٌ يحكمها.
إذا جئتَ بالنكتة وبالغتَ فيها، كنت كمن أضاء المصباح وأطفأه حين أضاء.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(124/5)
2 - مدينة الزهراء وحياتها الملوكية القصيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة البحث
وقد انتهت إلينا هذه الضاحية الملوكية الشهيرة أوصاف وأرقام مدهشة تنبئ عما كانت عليه من الضخامة والفخامة، فقد ذكر ابن حيان مؤرخ الأندلس أن الزهراء كانت تشغل مسطحاً قدره تسعمائة وتسعون ألف ذراع، وأن مبانيها اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين صغيرة وكبيرة، منها ما جلب من مدينة رومة، ومنها ما أهداه قيصر قسطنطينية، وأن مصاريع أبوابها كانت تبلغ زهاء خمسة عشر ألفاً، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه؛ وذكر مؤرخ آخر أن عدد الفتيان بالزهراء كان ثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلثمائة، يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم سوى الدجاج والحجل وغيرها. وقد لا نجد في المنشآت الملوكية الحديثة ما يذكرنا بهذه الأرقام المدهشة سوى القصر البابوي أو قصر الفاتيكان الشهير برومة وما انتهى إليه خلال العصور المتعاقبة من الضخامة والفخامة والجلال، فإن هذا المقام الكنسي الملوكي الفخم يحتوي على أربعة آلاف غرفة وعلى مئات الأبهاء والساحات والأروقة، ويضم عدة أجنحة ومجالس رائعة أسبغ عليها أبدع ما عرف الفن الرفيع من آيات الزخرف والنقش والتصوير.
- 2 -
ولم تعمر الزهراء طويلاً كقاعدة ملوكية؛ فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، مذ نزل بها الناصر سنة 329هـ حتى نهاية عهد ابنه الحكم المستنصر سنة 366هـ؛ ولم يكن ذلك لأن الزهراء قد عفت كقاعدة ملوكية، ولكن لأن تحولاً خطيراً قد وقع في سلطان بني أمية؛ فقد ترك الحكم الملك لابنه الوحيد - هشام المؤيد - وهو طفل لم يجاوز الحادية عشرة؛ وسرعان ما استولى الوزير محمد بن عبد الله بن أبي عامر على مقاليد الحكم بمؤازرة صبح أم المؤيد ووصية العرش، ولم يمض قليل حتى استأثر ابن أبي عامر بكل سلطة ورياسة في الدولة؛ وفي سنة 368هـ أنشأ له ضاحية ملوكية جديدة(124/6)
بجوار قرطبة على نهر الوادي الكبير وأسماها الزاهرة، وجعلها قاعدة الحكم، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودوائر الحكومة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور.
وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها وخلفه الذي أكمل بناءها. وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أُمية، ولم يبق لهم بعد ذلك من الملك سوى الاسم؛ وقد بقيت الزهراء حيناً آخر مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه، ولكنها فقدت إلى الأبد أهميتها السياسية، وروعتها الملوكية.
ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أُمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي سنة 401هـ (1011م) زحف سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من المؤيد وواضح الحاجب التغلب عليه، ثم هاجم مدينة الزهراء واقتحمها، وفتك أنصاره البربر بسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر؛ والظاهر أن الضربة كانت قاضية، فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة سوى أطلال دارسة، ولا يكاد اسم الزهراء يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي إلا كأثر عصفت به صروف الدهر؛ وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد تغزل بجمالها وفخامتها جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة؛ ومما قاله ابن زيدون أعظم شعراء العصر يشيد بالزهراء ورائع ذكرياتها:
خليلي لا فطر يسر ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعاني في الأماني بها قدحا
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح ... تقضت مبانيها مدامعه سفحاً
مقاصر ملك أشرقت جنباتها ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا
يمثل قرطبها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا(124/7)
هناك الحمام الورق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا
تعوضت من شدو القيان خلالها ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا
ونقل إلينا الشيخ محي الدين بن العربي أبياتاً قال إنه قرأها على بعض جدران الزهراء بعد خرابها، رثاء في المدينة الشهيرة وهي:
دَيار بأكناف الملاعب تلمع ... وما إن بها من ساكن وهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب ... فيصمت أحياناً وحيناً يرجع
فخاطبت منها طائراً متغرداً ... له شجن في القلب وهو مروع
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي ... فقال على دهر مضى ليس يرجع
ويرثي الفتح معاهد الزهراء خلال رواية نقلها عن جولة لبعض الكبراء في تلك الأطلال: (وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض إطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأوفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت، أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، ورعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤى وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها؛ وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد. . .)
ويحدثنا الرحالة البغدادي ابن حوقل عن الزهراء - وقد زارها أيام الحكم - فيصف موقعها، ويقول إن العمارة اتصلت بينها وبين قرطبة، وأن لها مسجداً جامعاً دون جامع البلد (قرطبة) في المحل والقدر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال وسعة تملك، وابتذالاً لجيد الثياب والكسى، وفراهة الكراع وكثرة التحلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع).
وكانت أطلال الزهراء ما تزال قائمة حتى القرن السابع، الهجري (القرن الثالث عشر) وقد ذكرها الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في منتصف القرن السادس وذكر أن بينها وبين قرطبة خمسة أميال؛ وذكرها أيضاً ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في أوائل القرن السابع الهجري. وفي سنة 636هـ (1236م)(124/8)
كانت نكبة الأندلس، ونكبة الإسلام بسقوط قرطبة في يد النصارى، فطويت بذلك أسطع صحف الإسلام وصحف الخلافة في الأندلس؛ وكانت قرطبة قد فقدت أهميتها السياسية منذ الثورة وسقوط الدولة الأموية، ولكنها لبثت بعد ذلك عصراً تحتفظ بهيبتها الخلافية القديمة. ومن المرجح أن أطلال الزهراء بقيت بعد سقوط قرطبة في يد النصارى عصراً يصعب تحديده؛ غير أن قرطبة فقدت في ظل سادتها صبغتها ومعالمها الإسلامية بسرعة؛ ولم يبق اليوم من آثارها ومعاهدها الإسلامية الشهيرة سوى مسجدها الباهر الذي حوله الأسبان منذ افتتاحها إلى كنيسة جامعة؛ وقد شوهت بذلك معالمه ومناظره الأولى، ولكنه ما زال يحتفظ بكثير من أروقته وأبهائه القديمة، وما زال يلفت نظر الزائر المتجول بمسحته العربية والإسلامية، بل ما زال يعرف حتى اليوم بكلمة (مزكيتا) أي المسجد؛ ولم يبق غير المسجد من معاهد قرطبة وأبنيتها الفخمة القديمة سوى أنقاض بالية. أما الزهراء، فقد اختفت معالمها منذ عصر بعيد، ولم يبق منها اليوم أثر ما. بيد أن موقعها ما زال يعرف بالتقريب، في شمال غربي قرطبة، ويطلق عليه اليوم (قرطبة القديمة) ويقوم إلى جوار موقعها القديم إلى اليوم دير (سان جيرونيمو) ويقال إنه بني بأنقاض قصر الزهراء وقد عنيت الهيئات الأثرية الأسبانية في العهد الأخير بإجراء الحفر في تلك المنطقة محاولة استكشاف مواقع الزهراء ومعالمها الحقيقية.
وقد كان لهذا المصير المحزن الذي انحدرت إليه مدينة الناصر بسرعة مؤسية شبيه بين مصاير القواعد الملوكية الإسلامية؛ ذلك هو مصير مدينة القطائع الملوكية التي أنشأها ابن طولون إلى جانب الفسطاط، وأسبغ عليها ولده خمارويه آيات رائعة من الفخامة والبهاء، ثم شاء القدر أن تنهار دعائم الدولة الطولونية، وأن تمحى القطائع بين يوم وليلة، بعد حياة قصيرة لم تجاوز ثلث قرن؛ فكانت مأساة مؤثرة تشبهها مأساة الزهراء من وجوه كثيرة مع فارق في العظمة والمنزلة السلطانية، وفي ظروف العصر، وصروف الأحداث.
محمد عبد الله عنان(124/9)
مذاهب الفلسفة
2 - المذهب الطبيعي
للأستاذ زكي نجيب محمود
إذن فالجامد والحي شيئان مختلفان أشد ما يكون الاختلاف، وليس من اليسير أن يسيغ العقل أنهما جانبان لحقيقة واحدة هي الطبيعة، وأنهما يسيران وفق قانون واحد هو قانون الطبيعة؛ ولعل أعقد المشاكل التي يصادفها المذهب الطبيعي هي هذه:
كيف أنتج الجماد عالم الأحياء وبين موات الجماد وحياة الأحياء ما رأينا من فروق؟ هنا تقدمت نظرية التطور لتأخذ بيد المذهب الطبيعي فتنجو به من هذا المأزق العسير بأن تفسر لنا كيف نشأت الحياة وكيف نشأ العقل.
أما دارون فلم يستطع ذلك، أو هو على الأصح لم يحاوله، فقد سلم بوجود الحياة تسليماً وفرضه فرضاً، ثم بدأ سيره من هذه النقطة بأن أخذ يبحث فيما يطرأ على الحياة من تغير وتحول، ومعنى ذلك أن دارون قد فرض أن الكائن الحي قد تسلسل من كائن حي قبله، وهذا من كائن حي قبله، وهكذا دواليك. فهو على ذلك لم يزد في بحثه على أن تتبع حلقات الاتصال بين أنواع الأحياء أي بين الكائنات السفلى والكائنات العليا، وإذن فدارون لم يقدم في نظريته حلاً للمشكلة الأولى: مشكلة المذهب الطبيعي، وهي، كيف نشأت الحياة من الجماد، وكيف نبت العقل مما لا عقل فيه؟
ثم جاء في أثره هربرت سبنسر وتناول بعقله الجبار نظرية دارون فأكمل نقصها وأتم مطلبها. فأقام الحجة على أن الحياة إن هي إلا ضرْب من ضروب المزيج الكيميائي بين أجزاء المادة، فإذا كنا نبغي الوصول إلى الحلقة التي تصل الحياة بالجماد، فما علينا إلا أن نلتمس علماء الكيمياء!. . . ولقد رأى سبنسر مما وصلت إليه العلوم في عهده أنه ليس بين قطع الجماد وكائنات الأحياء تلك الشقة الفسيحة التي توهمها الأولون، فالفرق كل الفرق بينهم اختلاف في درجة التعقيد والتركيب. أما العقل فضرب من ضروب الطاقة كالحرارة والكهرباء والضوء.
ولكن ما بالنا نركب رءوسنا فلا يرضينا إلا أن يقوم الدليل على أن العقل قد نشأ من الجماد نشأة تدريجية معقولة وإلا كان الأمر في أعيننا لغزاً مغلقاً؟ فلم لا تكون الحياة قد خرجت(124/10)
من الجماد خروجاً فجائياً مباغتاً بغير مقدمة ولا تمهيد؟ قلب النظر في جوانب الكون تر آلافاً من الأشياء التي جاءت إلى الوجود من غير مقدمة منطقية؛ خذ طعم الملح مثلاً وسائل نفسك من أين جاء؟ هو لم يكن في عناصر الملح الأولى التي من مزيجها نشأ الملح، وإذن فقد جاء هذا الطعم الذي نعرفه للملح طارئاً مباغتاً. فلماذا لا تكون الحياة ولا يكون العقل قد نشأ كلاهما على هذا النحو، فيكون لهما من الخصائص ما ليس لعنصرهما الأول: أعني ما ليس في مادة الطبيعة الجامدة. . . تلك حجة جديدة يؤيد بها المذهب الطبيعي رأيهم.
ولكن دعك بعد هذا كله من تطور العقل سواء أكان تدريجياً أم مفاجئاً، وحسبنا أن نأخذه كما بين أيدينا. فهل يستطيع المذهب الطبيعي أن يفسر كيف يعمل العقل؟ كيف يمكن لقطعة من اللحم أو الشحم أن تخلق فكراً وتبدع خيالاً كما نرى؟ إنه إن استطاع أن يعلل ذلك هان عليه بعد ذلك كل شئ، ولهذا تراه اليوم يجاهد جهاد الأبطال في ميدان علم النفس لعله واجد عنده نصيراً وظهيراً؛ وهاهو ذا علم النفس منذ منتصف القرن الماضي ينحو في بحثه نحواً فسيولوجياً، أي أنه يعتبر العقل وظيفة للمخ لا أكثر ولا أقل، فهو لذلك خاضع كبقية أعضاء الجسم لقوانين العلة والمعلول. وكثير بين علماء اليوم من يزعم أن كل ظواهر الإنسان الروحية والعقلية لا تعدو أن تكون نتائج كيميائية لبعض إفرازات الجسم. وليس بعيداً عن هؤلاء أن يحين الحين الذي يسيطر فيه الإنسان على قواه العقلية، بأن يبتكر طعاماً معيناً إفرازاً خاصاً يرفع الفدم الوضيعْ إلى مرتبة الفلاسفة والحكماء!!
المذهب الطبيعي والدين:
لما كان أنصار هذا المذهب يتشبثون بالطبيعة وحدها، فهم ينكرون أشد إنكار أن يكون وراءها أية حقيقة أخرى، وبعبارة موجزة واضحة: هم ينكرون الدين وكل ما يتصل بالعقيدة الدينية من حقائق لا تمت إلى ظواهر الطبيعة بسبب من الأسباب. فإن ساءلتهم قائلاً: إن كانت العقائد ضلالاً في ضلال فما الذي حدا بالإنسان بادئ ذي بدء أن ينظر إلى العالم بمنظار روحي، ومن أين جاءه هذا الاتجاه في التفكير؟ أجابوك إنه خطأ بشري ككل ما يقع فيه الإنسان من أخطاء، ولكنه في رأيهم خطأ واجب مفيد لم يكن للإنسانية عنه بد في حياتها الأولى.
إنما ينشد الإنسان الحقَّ في الرأي لا لشيء إلا أن تكون الحقيقة عوناً له في طريق الحياة؛(124/11)
إذ الفكرة الصائبة توضح السبيل وتيسر الطريق، وتعمل على استمرار البقاء واجتناب الخطر؛ وعلى نقيضها الفكرة الخاطئة، فهي مضللة للإنسان مبعثرة لجهوده في غير ما طائل، بل إنها قد تضره وتؤذيه وتؤدي به إلى الموت. ولما كانت العقائد الدينية مجموعة آراء نسجها الإنسان ووشج بينها، كان لنا أن نقول إنه كلما بعدت العقيدة عن الصواب كانت أدنى إلى إيذاء الإنسان والعمل على تدهوره، ولكن مما يهون الأمر أن الفكرة الخاطئة لا يستفحل خطرها وأذاها إلا إذا مست حياة الإنسان العملية فأثرت فيها أثراً مباشراً، فإن لم تكن كذلك كانت قليلة الخطر أو عديمته؛ فلما كان الإنسان مثلاً في العصور القديمة لا يتعدى بأسفاره ورحلاته نطاقاً محدوداً ضيقاً، لم تكن لتؤذيه فكرة أن الأرض مسطحة على خطئها، فالخطأ والصواب في مثل هذه الحالة سواء، بل كثيراً ما يكون الخطأ أنفع للإنسان من الرأي الصحيح كأن توهم المشفى على الموت بأنه قوي سليم.
وعلى هذا النحو كانت فائدة النظرة الروحية في مراحل الإنسانية الأولى، إذ كانت العقيدة أقوى حافز يدفعه إلى العمل والنشاط حينما كان الإنسان أشد ما يكون حاجة إلى التشجيع. فقد كان أول أمره يهيم مع أوابد القفر وضواري الغاب، يعيش لساعته عيش الحاجة والضرورة، فلما أراد أن يعلو على مستوى الحيوان وأن يتخذ لنفسه في الحياة منزلة رفيعة ومكانة ممتازة بين الأحياء، مستعيناً بما أوتي من عقل وخيال، رأى أن الوسيلة الأولى هي أن يحطم أغلال الضرورة ما استطاعت حيلته، وأن يوسع من أفق زمانه فينفذ ببصره إلى الغد، مهنا يعيش في جو من أحلام ينسجها لنفسه بقوة خياله، وسرعان ما ألقى في روع نفسه أن هناك - فوق العالم الذي يرى - قوة سامية سترعاه وتأخذ بيده مما يصادفه في حياته من عسر وإشكال، وتمكنت من نفسه العقيدة بأن تلك القوة العليا ستكون له خير هادٍ ومرشد في طريقه نحو الكمال الذي أخذ يرجوه ويبتغيه بعد أن نقض حياته الحيوانية الأولى، وتحرر من رق الضرورة واستعبادها.
تلك كانت نواة العقيدة الدينية التي عملت فيما بعد على تماسك الأفراد وترابطهم في تكوين المجتمع، إذ أوحت إلى الناس ضرورة احترام العادات والتقاليد التي هي الأساس الأول في بناء المجتمع، كما خلعت على السلطة المدنية مسحة مقدسة زادت من هيبتها واحترامها؛ وبديهي أنه لا بقاء لمجتمع بغير سلطان محترم مهيب، وهكذا كان الدين عماداً قويماً في(124/12)
بناء المجتمع أول الأمر كما كان خير مدرب لمشاعر الإنسان وعواطفه، إذ راضها وصقلها وأجراها في سبيل صالح مستقيم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله كان الدين كنفاً ترعرعت في ظله الفنون الجميلة على اختلافها إبان طفولتها.
كل هذه حسنات للدين مشكورة غير منكورة، ولكن قد يكون هذا الذي عاون الإنسان على السير في أول الطريق عائقاً يحول اليوم دون تقدمه، وقد يكون (فرويد) العالم النفسي الكبير مصيباً في رأيه بأن الدين صالح لتقويم الأخلاق إبان الطفولة حتى إذا ما نضج الإنسان كان لزاماً عليه أن يواجه مشكلات الحياة العملية في صرامتها وجدها، ولا ينبغي أن نطيل الوقوف عند هذه المرحلة الأولى - مرحلة الأحلام الجميلة والآمال الحلوة بأن قوة سامية ستحول بين صدورنا وبين ضربات القدر وسهامه، فلئن كان الدين قد ساهم بقسط وافر في تطور الحياة البشرية ورقيها فلقد فرغت رسالته وأصبحت الإنسانية اليوم في مرتبة من رشد الكهولة تجعلها في غنى عنه.
ويقول أوجست كونت في هذا الصدد إن طريقة تفكير الإنسان بازاء العالم قد سارت منذ نشأتها إلى اليوم في مراحل ثلاث: الأولى هي المرحلة اللاهوتية حيث كانت تُفسر. الأحداث بقوى الآلهة؛ والثانية، وهي المرحلة الغيبية حيث كان الإنسان يعلل حوادث الكون بمجموعة من القوى، فيعزو الحياة إلى القوة الحيوية، والنار إلى الحرارة، وسقوط الأجسام إلى قوة ثقل الجسم؛ والمرحلة الثالثة هي المرحلة الإيجابية التي فيها يفسر الناس ظواهر الوجود بأسباب مباشرة تسبق حدوث الظاهرة المعينة، فإذا وقعت العلة جاء في أثرها المعلول تبعاً لقانون معروف؛ وهذه المرحلة كما يقول كونت هي أسمى مراحل العقل البشري، وهي المرحلة التي تجتازها الإنسانية اليوم. وهكذا يدعو أصحاب المذهب الطبيعي إلى نبذ العقائد على الرغم من رسوخ قدمها في النفس وتأصل جذورها في القلوب، ويهيبون بالناس أن يواجهوا حقائق الكون الواقعة في شجاعة وإقدام.
والعجيب أن هذا المذهب الطبيعي لم يعدم في كل عصر من عصور الفكر ظهيراً ونصيراً، فقد وجد بين فلاسفة الإغريق من يقيمه ويؤيده كديمقريطس؛ ووفق في مستهل العصر الحديث إلى رجل مثل (توماس هويز) الذي أخذ على نفسه أن يفسر كل شئ في الوجود على أنه مادة متحركة ليس إلا، فتناول العقل نفسه وقال إنه نتيجة لجملة الأحاسيس التي(124/13)
تنفذ إلينا خلال الحواس الخمس، ولما كان هذا الإحساس أثراً مباشراً لتحرك الأعصاب، وهذه نتيجة لأزمة لما يقع بين الأشياء المادية من حركة، كان العقل بكل ما فيه من ذاكرة وخيال وما إليها ضرباً من ضروب الحركة المادية لا أكثر ولا أقل - هذا وإن ديكارت الذي يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة وواضع أصولها قد نادى بأن الكائن الحي لا يزيد على آلة صماء عمياء تسير في حياتها كما تسير الآلة الميكانيكية، وقال إن جسم الإنسان أيضاً آلة كسائر صنوف الحيوان ولو أنه استثنى العقل من هذه الآلية وقال إنه عنصر ممتاز. ثم جاء القرن التاسع عشر، وهو عصر ازدهرت فيه المادية ووجدت طائفة كبيرة من المشايعين، على رأسهم دارون وسبنسر وبخنر وهيكل وهكسلي ونيتشه، فسار المذهب الطبيعي على أيديهم شوطاً فسيحاً في تدعيم قواعده.
(يتبع)
زكي نجيب محمود(124/14)
النقد والمثال
الجمال الذاتي في بعض المعاني البسيطة
للأستاذ أحمد الزين
تحدثتُ في الفصل السابق عن نوعي المعنى الأصليّ والشعريّ؛ وقلت في المعنى الأول: إنه أول ما يخطر على الخاطر، وتتحدث به نفس الشاعر، وذكرتُ أنه لا يسمى شعراً، وليس من الشعر في قليل ولا كثير، وبينت المعنى الثاني الذي تصرفت فيه الملكة الفنية بإضافة شئ من المحسّنات الشعرية إليه، وقلت: إنه هو الذي يعدّ من مقومات الشعر وعناصره، ومثلت لكلا المعنيين بما فيه الكفاية من شعر المتقدمين والمحدثين.
وأقول في هذا الفصل:
إن بعض هذه المعاني الأصلية التي لم تتصرف فيها ملكة الشاعر قد يكون الحسن فيها أصلياً، والجمال فيها من ذاتها، فلا تتصرف فيها ملكة الشاعر تصرفاً كثيراً ولا قليلاً، ولا تتكلف فيها تحسيناً ولا تجميلاً، بل إن تصرف الشاعر فيها قد ينقص من جلالها، ويشوه من جمالها، ويحجب هذه الطبيعة الجميلة بثوب من التكلف يحول بينها وبين مشافهة الأذواق بجمالها، ومباشرة الاحساسات بتأثيرها؛ فهي أشبه بغانيات أبي الطيب اللاتي استغنين بما فيهن من جمال مطبوع، عما يُكسبهن الافتنان في الزينة من جمال مصنوع إذ يقول:
حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوب
أفدي ظِباء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغَ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمّام مائلة ... أردافهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركتُ لون مشيبي غير مخضوب
وليس على الشاعر في أمثال هذه المعاني إلا ما يتعلق بالصياغة البيانية، من عذوبة العبارة، ورقة النسج، وشرف الألفاظ، واختيار الأسلوب الملائم لغرض الشاعر، وما إلى ذلك مما يتصل بالألفاظ والعبارات، دون المعاني والأغراض، وإنما يكون هذا الجمال الطبعيّ في المعاني البسيطة إذا صدرت عن عاطفة قوية في النفس، وتحدرت عن ينبوع صافٍ من الحِسّ، وكانت صُوَراً دقيقة للشعور الصادق في القلب الخافق، فهنالك لا يعد(124/15)
الشاعر إلا لساناً ناطقاً، لا مبتدعاً خالقاً.
وترى هذه المعاني الجميلة بطبيعتها مستفيضةً شائعةً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين إلى أواسط العصر الأموي، وإنما استفاضت هذه البساطة في شعر الأمويين لقرب عهدهم بعيش البساطة في البادية، ومشافَهة الطبيعة في صحراء الجزيرة، فهم رغم تفرقهم في الممالك التي فتحوها وانتشارهم في الأمصار التي مصّروها، ومفارقة الفطرة في بواديهم، لم يزل صوتها يناديهم، فيجيبونها في أشعارهم بالبساطة في معانيهم وأفكارهم.
وإنك لتستجلي ذلك في شعر النسيب وما هو بسبيله، من الحنين إلى الأوطان وما قضاه الشاعر فيها من لبانات وأوطار وما لقيه بعد فراقها من مِحَن وآلام وذِكر الشباب الزائل، وما كان فيه من لهو وباطل، ونفور الحسان من هذا الشعر الأبيض الذي يُقذي العيون، ويذهب باللهو والفتون، كما ترى هذه البساطة الفاتنة فيما تقرؤه أوائل قصائدهم في صفة الديار والأطلال، وما فعلت بها الرياح والأمطار، وما بقي فيها بعد من رحلوا عنها، وتحديد مواقعها بين الأمكنة التي تتصل بها أو تقرب منها.
وترى ذلك أيضاً في شعر الذكريات حين تنزل بالشاعر محنة من سجن أو إسار فيعزّي نفسه عن تقييد ساقيه بإطلاق فكره في تذكر أيامه الذاهبة، ولذاته الفائتة؛ وذِكر ما كان يحضره من مجالس الشراب والقيان، وبقائه رغم القيد على الوفاء لمن كان يجالسه من القدامى والصحاب، وإقدامه في القتال، وصبره على مقارعة الأقران ثم يأخذ في الافتخار بقومه وعشيرته ولومِهم على تركه لأعدائه، وبطئِهم عن فدائه؛ كلُّ ذلك في حسرة وألم يفريان الضلوع، ويستنزفان الدموع.
وأنا أعرض عليك في هذا الفصل أمثلةً يسيرة لما ذكرت مما اخترته من حفظي.
أما جمال هذه البساطة في النسيب، فكقول المجنون (وهو من أصوات الأغاني).
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لكِ عاشقُ
لقد صدق الواشون أنت حبيبةٌ ... إليّ وإن لم تَصْفُ منكِ الخلائق
ووجه الجمال في هذا الشعر مخالفةُ الشاعر غيرَه من المحبّين باحتقاره الوشاة، وعدم استحقاقهم لتكلّف المصانعة والمداراة وهو بذلك يصف حبَّه بالنقاء من الريبة، وأنه أسمى من أن يستره بحيلة، وأشرفُ من أن يُعمِل في إخفائه الوسيلة.(124/16)
ثم انظر إلى سحر هذه البساطة في ضد ذلك وتصوير الخوف من الوشاة والارتياع من مقالتهم؛ وشكوى الشاعر إلى حبيبته قلّة الرسل إليها، وأن الحيل قد أعوزته في لقائها، ثم إشارته بعد ذلك إلى عتابه عليها، وضراعته إليها؛ كل ذلك في بساطة ساحرة وجمال رائع يشبه جمال الأزهار التي كستها الطبيعة من ألوانها الفاتنة ما تقصُر عنه ريشةُ الفن بما تزوِّره من أصباغها الحائلة.
أريد شعر يزيد بن الطَّثرية حيث يقول:
أيا خُلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل
أما من مقام أشتكي غربة النوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل
فديتكِ، أعدائي كثير، شقتي ... بعيد، وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئتُ بعلة ... فأفنت علاتي فكيف أقول
فما كلَّ يوم بأرضك حاجةٌ ... ولا كلَّ يوم لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوماً والعتاب طويل
فلا تحملي ذنبي وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
ومثل هذه البساطة الساحرة ما تراه في شعر عبد الله بن الدُّميْنة حيث يقول:
ألا لا أرى وادي المياه يثيب ... ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أحب هبوط الواديين وإنني ... لمشتهر بالواديين غريب
أحقاً عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا عليَّ رقيب
ولا زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب
وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب
أما جمال هذه البساطة في معاني الحنين إلى الوطن فمن أحسن ذلك قول بعض الأعراب:
أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقول عبد الله بن نمير:
تعز بصبر لا وجدِّك لن ترى ... عراص الحمى إحدى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكره الحمى ... وأهم الحمى يهفو به ريش طائر(124/17)
وقول الصمة بن عبد الله القشيري:
قفا ودِّعا نجدا ومن حل بالحمى ... وقلَّ لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى ... وما أحسن المصطاف والمتربَّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تَصدَّعا
فهل ترى أحد هؤلاء الشعراء الثلاثة قد زاد في هذا الحنين على ما يتحدث به إليك متحدث نأى عن بلده، وفارق أهله وعشيرته، من الحنين إليهم، والألم لفراقهم، وتذكر ما مضى له من عهود، وزمن لا يعود، وتَمنيه العودةَ إلى وطنه تمني اليائس من الأمنية، وتأميله الرجوع إلى بلده تأميل من يثق بالخيبة ويوقن بامتناع الأمل واجتهاده في الدعاء له وتوديعه إياه، وتفديته بالنفس؛ فلم يخترع أحدهم في الحنين معنىً جديداً، ولم يفكر تفكيراً بعيداً، ولم يُغرِب في خيال، ولم يبالغ في تصوير ما يشعر به من ألم الفرقة، ووحشية الغربة، ولم يُثقِل شعره بالمجازات والاستعارات، ولا بشيء من تلك الحُلي الظاهرية الزائدة على الحاجة في هذه المعاني وأشباهها.
ولما كان هذا الشعر خطاباً صادراً عن نفس الشاعر منبعثاً عن عاطفته كان لا بد من مشافهته لنفس السامع ومباشرته لها، ولا نزاع في أن إثقاله بتلك الحلي الظاهرية من الاستعارات والمجازات مما يحول بين معانيه ومشافهتها للنفس، ويباعد بينها وبين الحس، ويجعلها أشبه بالغناء الجميل تسمعه بواسطة (الحاكي) فإنه لا ينال من نفسك ما يناله الغناء المشافه.
وفي هذه الأمثلة التي رويتها لك فوق البساطة الساحرة في معانيها من رقة الأسلوب الملائم لمعاني الحنين، وعذوبة العبارة، وحلاوة الألفاظ - وهي كلُّ عمل الشاعر في أمثال هذه المعاني - ما يثير الشجن ويوقظ اللوعة، ويجتذب قلب السامع إلى قلب الشاعر حتى يصيرا قلباً واحداً متحد الإحساس، متفق الشعور، حتى يخيل للسامع - وهو في وطنه بين أهله وعشيرته - أنه غريب عنهما، وأن النوى قد قذفت به إلى مكان سحيق، فهو يشكو الغربة كما شكاها الشاعر، ويتمنى العودة كما تمناها؛ وقد كان بعض علماء الأدب المتقدمين ينشد أبيات الصّمّة بن عبد الله السابقة على تلامذته في مسجد الكوفة، ثم يبكي حتى تخضل(124/18)
لحيته، ويقول: ما أصاب أكبادكم! ألا تبكون عشيات الحمى؟
وسرّ الجمال في هذه المعاني مشافهتها للعاطفة ودخولها إلى النفس الإنسانية من ناحية الضعف الموجب للمواساة والرحمة؛ ونفوذها إلى إحساس العطف المشترك بين الأسرة البشرية الباعث على المشاركة في الألم والمحنة. أما بساطة هذه المعاني في أشعارهم إذا بكَوا الشباب وعهده، وذموا المشيب ووفدَه؛ ووقفوا على الأطلال والديار، فلا أريد أن أطيل عليك في هذا الفصل القصير بذكر أمثلتها، فإن ذلك مستفيض شائع في كلامهم بل هو جُلُّ شعرهم، وأكثرُ ما يبدأون به قصائدهم؛ فلا تكاد تجفّ قصيدة لأحدهم مهما يكن غرضها من دمعة حارّة يذريها الأسف على شباب ذاهب والارتياع من مشيبٍ طارق، والوقوف على طلل ما حل، ورسمٍ حائل، وذِكر ما قضاه الشاعر في أفياء هذه الرحاب وأكناف هذا الجناب، من أيامٍ عِذاب وليال قصرتها مُتَعُ الصِّبا ولهوُ الفتوّة إلى غير ذلك.
ولعلّهم جرَوا على ابتداء قصائدهم بهذه المعاني وتقديمها على الغرض المقصود بالشعر لتحريك القرائح الراكدة، وإيقاظ الشاعرية الراقدة، وتنبيه الأذهان التي قد تغفو، واقتياد الأفكار التي قد تعزب؛ ولما كانت هذه المعاني معروفة لديهم، معبدة طرقها لهم، محفوظاً أكثرها عندهم، كانت تجربة قرائحهم فيها أيسر، وتنشيط شاعريتهم في ميدانها أسهل، كما يجرب الجواد بإجرائه شوطاً قبل الانتظام في الحلبة، وكما ترى أرباب الموسيقى إذا قصدوا إيقاع إحدى النغمات، أوقعوا على الأوتار ما يقاربها من النبرات حتى يسَهل عليهم الخروج منها إلى النغمة المقصودة.
أما روعة هذه المعاني في قصائد الذكريات إذا نزلت بالشاعر محنةٌ من سجن أو إسار، فأنا أذكر لك أمثلة منها لقلتها وانتثارها في كتب الأدب، وصعوبة الظفر بها في دواوين العرب، وأكثرها من شعر لصوص البادية والمُغيرين على أموال القبائل وهم أفصح العرب شعراً، وأصرحُهم عربية؛ وكان بعض علماء الأدب المتقدمين وأحسبه الأصمعي يقول: (إذا أتاك بيت لصّ فاحتفظ عليه) وذلك لإخلادهم إلى سكنى البادية، وعدم اتصالهم بالحضر.
ومن أحسن ذلك شعر عبد يغوث بن وقّاص الحارثي، وكانت تيم قد أسرته وشدّوا لسانه، فقال من قصيدة
ألا لا تلوموني كفى اللوم ما بيا ... فمالكما في اللوم خيرٌ ولا ليا(124/19)
أيا راكباً إمّا عرضت فبلّغن ... نداماي من نجرانَ ألاّ تَلاقِيا
أقول وقد شدّوا لساني بنسعةٍ ... أمعشر تيمٍ أطلِقوا عن لسانيا
أحقّا عباد الله أن لستُ سامعاً ... نشيدَ الرِّعاء معزِ بين المتاليا
وقد علمت عرسي مُلَيكة أنني ... أنا الليث معدوا عليّ وعاديا
وقد كنت نحّار الجزور ومُعمِل ال ... عطيَّ وأمضي حيث لاحيَّ ماضيا
وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا
وكنت إذا ما الخيل شمسها القنا ... لبيقا بتصريف القناة بنانيا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كُرّي نفِّسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزِّق لبرَّويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظِموا ضوء ناريا
وإنك لتقرأ هذا الشعر بيتاً فلا ترى ملكة الشاعر قد تصرفت في هذه المعاني البسيطة الفاتنة ببساطتها تصرفاً قليلاً ولا كثيراً، ولا أضافت إلى هذا الجمال الطبعي الرائع بطبيعته من المحسنات الفنيّة ما يزيده روعة وحسناً؛ ولم يزد الشاعر على أن عرض صوراً دقيقة من حياته الماضية ولذاته المنصرفة، كما يتحدث به المتحدث، لا كما يتخيله الشاعر المتكلف؛ ودَعْني أيها الأديب المتذوق أعتمد على ذوقك في إدراك الجمال في هذا الشعر فإني أرى الإطالة في شرح الجمال الشعر والإبانة عن وجوه الحسن فيه كما يفعله علماء البلاغة مما يسخفه ويسمّجه، ويخرجه عن كونه احساسات نفسية، إلى جعله قواعد علمية. وسيمر بك أيضاً كثير من أمثلة هذا الجمال منتثرة في هذه الفصول.
أحمد الزين(124/20)
4 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
علاقة الطليان بالحبشة
نشأت هذه العلاقة من اشتراك إيطاليا في سياسة الاستعمار. ففي اليوم الذي نال الطليان وحدتهم تامة غير منقوصة بعد حرب 1870 أخذت الجرائد الطليانية تطالب بالمستعمرات الإيطالية بحجة أن الطليان في زيادة مستمرة في بلادهم فيحتاجون إلى أرض أخرى للسكنى فيها.
فاستأجرت في سنة 1870 شركة (روباتينو) أرضاً من الأهلين في جوار (عصب) لمدة عشر سنوات. وكانت أرض مصوع وما يجاورها ملكاً للعثمانيين ولكنهم تنازلوا عنها لخديو مصر مقابل خراج سنوي. وعند انقضاء مدة الإيجار اشترت الشركة الأرض المذكورة. ولما احتل البريطانيون أرض مصر أعلن الطليان أن (عصب) مستعمرة طليانية فأخذت البعثات الطليانية تتجول في أرض دناكل والحبشة برغم هلاك بعضها بيد سكان البلاد، وكان البريطانيون في هذا التاريخ منهمكين في مقاتلة جماعة المهدي في السودان. وأراد الطليان أن يقلدوا البريطانيين في تشكيل القوات في المستعمرات فأخرجوا قوة طليانية صغيرة إلى (عصب) لحماية الشركة هناك وجعلوا هذه القوة نواة لتشكيلات أهلية أخرى أسوة بالبريطانيين.
وعقيب انتصارات المهدي في السودان اضطر المصريون إلى إخلاء مصوع وهرر وأرض الصومال والانسحاب إلى الشمال. فاستفاد الفرنسيون من ذلك فعقدوا معاهدة مع سلطان هرر واحتلوا خليج تاجورة بأجمعه. فارتاب البريطانيون في ذلك فأسسوا لهم مستعمرة في الصومال في جنوبي جيبوتي وجعلوا قصبة (زيلع) مركزاً لها وألحقوها بمستعمرة عدن وجعلوا سلطان هرر تحت حمايتهم.
ويظهر أن بريطانيا أرادت أن تشرك إيطاليا في حركاتها على المهدي وتجعل لفرنسا رقيباً في أرض الصومال فوافقت على أن تحتل إيطاليا مصوع في 5 شباط 1885، فخرجت(124/21)
يومئذ قوة طليانية إلى مصوع ورفعت العلم الطلياني على دار الحكومة. فلم يحرك خديو مصر ساكناً. بيد أن الفرنسيين لم يرتاحوا إلى ذلك، وبعد أن رسخت أقدام الطليان في مصوع وجهوا أنظارهم إلى الداخل للتوغل في أرض الحبشة، وكان هناك طريقان تجاريان يربطان مصوع بالداخل: أولهما طريق (مصوع - كرن - كسلا - الخرطوم). أما الطريق الثاني فكان متجهاً إلى الجنوب ويقطع جبال الحبشة من الشمال إلى الجنوب إلى أن يصل إلى شاطئ البحر الأحمر.
ولما كان هواء مصوع الحار الرطب غير ملائم للأوربيين فكر الطليان في الحصول على مركز في الداخل صالح للسكنى. فارتفاع قصبة كرن حوالي 1340 متراً عن سطح البحر. أما كسلا فارتفاعها يبلغ 530 متراً ولكنها محاطة برواب بشكل قلعة، ولكي يحصل البريطانيون على مساعدة الطليان في مقاتلة المهدي في السودان لوحوا للطليان بالطريق الأول.
فقررت الحكومة الطليانية تجهيز قوة لإنزالها في مصوع تأهباً لاحتلال الحبشة من جهة أخرى وذلك رغم كون القيادة في مصوع لفتت نظر ساسة الطليان إلى عاقبة الحركة في اتجاه كسلا. وكان في جنوبي مصوع ميناء عرفالي الذي كان الأحباش يعتبرونه من الموانئ الحبشية لأنهم كانوا يجلبون الملح منه، ولما رأى النجاشي (يوحانس) أن الطليان احتلوا هذا الميناء احتج على ذلك.
والحقيقة أن الحوادث بعد ذلك جعلت الحبشة وإيطاليا تقفان وجهاً لوجه لأن البريطانيين قضوا على حركة المهدي بعد وفاته واحتلوا السودان وثبتوا أقدامهم فيه.
لذلك لم يخش الأحباش خطراً من هذا الجانب. أما الطليان فأخذوا يوسعون نفوذهم في مستعمرة مصوع التي أطلقوا عليها اسم (أريترة) (أي الزنبقة الحمراء) ووسعوا ساحة الساحل باحتلالهم ميناء زولا وخليج (عدولي) ومنعوا الأحباش من أخذ الملح فاحتج النجاشي على ذلك أيضاً فلم يعبأ الطليان باحتجاجه بل سلكوا سبيل تخدير أعصاب الأحباش بإرسال البعثات وكانوا قبل ذلك أرسلوا بعثتين من (عصب) فقتلهما الدناكليون. وأرسلوا بعثة أخرى في سنة 1886 فذبحت برمتها في هرر. وفي سنة 1887 أرسلوا بعثة أخرى. ولما وصلت إلى ملك تيجري ألقى الرأس القبض عليها وحبسها. فأرسل(124/22)
الطليان قوة مؤلفة من 500 جندي قضى عليها الأحباش فاغتاظ الطليان لذلك فأبلغوا قوتهم في مستعمرة أريترة إلى 18 , 000 جندي وقرروا الحرب.
وحشد الأحباش رجالهم في آذار سنة 1888 أمام موضع دفاع الطليان وكان عددهم بالغاً زهاء 100 , 000. فخشي الطليان عاقبة الأمر ومالوا إلى المسألة فانسحب الأحباش لأن المهدي كان يهدد مقاطعة أمحرة فهاجمها بجيوشه ودخل عاصمتها جوندار فدمرها، فظن الطليان أن القتال بين الحبشة والمهدي سوف ينهك الأحباش فيجيبون مطالبهم لذلك أعادوا قواتهم إلى إيطاليا وتركوا 8000 جندي في أريترا.
وفي أوائل سنة 1889 جهز الأحباش بقيادة النجاشي (يوحانس) جيشاً بقوة 180 , 000 كما سبق ذكره وتقدموا نحو المهدي فوقعت معركة في (متمة) مات فيها النجاشي جريحاً وبعد أن ترك الأحباش 30 , 000 قتيل في ميدان المعركة رجعوا إلى بلادهم خاسرين.
منليك ملك الملوك
كان ملك شوعا أقوى ملوك الحبشة كما نعلم وكان من سلالة الملوك الذين يمتون بنسبهم إلى النبي سليمان وزوجته بلقيس ملكة سبأ. فاحتل منليك مدينة هرر في سنة 1887 وبسط حكمه على الغالا كلها، واستولى على مقاطعة كانا وما يجاورها فأصبح بذلك ذا نفوذ عظيم، فأراد الطليان أن يستفيدوا من حرب داخلية بالانحياز إلى جانب منليك متألبين على النجاشي (يوحانس) فأعطوه 5 , 000 بندقية و 200 , 000 طلقة ليبقى على الحياد عندما يقاتل الطليان النجاشي (يوحانس)، وكان الكونت (انطونلي) على رأس الوفد الموفد إليه فتذاكر الوفد مع منليك في الوقت الذي مات (يوحانس) في معركة متمة. فقبل منليك شروط معاهدة (أوكسالي) في سنة 1889 وكانت خلاصة أحكام المعاهدة ما يلي:
(تبادل الممثلين السياسيين، قبول خط الحدود بصورة عامة، دفع رسوم جمركية بمقدار ثمانية في المائة عن الأموال الطليانية التي تدخل أرض الحبشة عن طريق مصوع وضرب النقود الحبشية في إيطاليا، وقرض الحبشة أربعة ملايين ليرة ذهباً، وحرية التجارة على أن ينفذ حكم المعاهدة في بلاد الحبشة برمتها).
وكانت المادة السابعة عشرة تقضي على الحبشة بأن ترضى بتوسيط إيطاليا في علاقتها بالحكومات الأخرى. وكانت هذه المادة سبب الحرب بين الحبشة وإيطاليا.(124/23)
فاستفاد الطليان فوراً من أحكام المعاهدة واحتلوا الأراضي التي تركت لهم بموجب المعاهدة قبل أن يوقع عليها ملك إيطاليا واحتلوا أرضاً في بلاد الحبشة.
ولم يرض ملك تيجري بأن يتعاهد الطليان مع ملك شوعا وهو الذي ورث الملك عن أبيه يوحانس واعتبر نفسه ملكاً للملوك.
واحتل الطليان في حزيران 1889 (كرن) وفي آب (أسمرة) واستمالوا أحد رؤساء تيجري إلى جانبهم. وهكذا استطاعوا أن يدخلوا (عدوى) عاصمة تيجري بسهولة.
وبهذه الواسطة تقدموا من مصوع مسافة 130 كيلو متراً فتوغلوا في أرض الحبشة واعتبروا أنفسهم حماة الحبشة بالملحق الذي أضافوه إلى المعاهدة بسهولة حتى أم ملك إيطاليا أضاف إلى ألقابه لقب (حامي بلاد الحبشة).
ولما ذهب الرأس (ماكونن) ابن عم منليك إلى رومة حاملاً مواد هذا الملحق لنص المعاهدة هلل الطليان فرحاً واستبشاراً. وكان من حقهم أن يهللوا لأنهم حصلوا على صك استعمار الحبشة دون أن يسفكوا دماً إيطالياً.
وفي تشرين الثاني سنة 1889 وقع الرأس (ماكونين) على الملحق باسم منليك وقدموا إليه مقابل ذلك أربعة ملايين فرنك و 38 , 000 بندقية و28 مدفعاً وعتاداً كثيراً عربوناً لإخلاصه.
فاعترفت الدول جميعاً بالمعاهدة وملحقها ما عدا روسيا. وفي سنة 1891 رضي البريطانيون بأن يحتل الطليان قصبة (كسلا) بصورة مؤقتة لأن قضية المهدي لم تكن قد انتهت.
أما النجاشي منليك فعني بتوحيد الحبشة وتوقيتها ونقل عاصمة البلاد من (جوندار) بعد أن أحرقها المهديون إلى أديس أبابا. ومنح الفرنسيين امتيازاً بإنشاء سكة حديدية تربط العاصمة بالساحل. ومن الطبيعي أن البريطانيين والطليان لم يرتاحوا إلى عمل منليك فاحتجوا عليه وحرضوا الرهبان عليه بدعوى أن السكة الحديدية من عمل الشيطان.
ولم يستطع الطليان أن يعملوا أكثر من ذلك لأنهم كانوا مكلفين بمساعدة البريطانيين في محاربة المهدي. وكانوا أرسلوا قوة في اتجاه كسيلا بدعوى حماية الأهلين من ظلم دراويش المهدي واحتلوا (أجوردة) وفي سنة 1894 تقدمت قوات طليانية بقيادة الجنرال (باراتيري)(124/24)
نحو (كسلا) وبعد معركة حامية طردوا أتباع المهدي منها واحتلوها.
أما النجاشي منليك فكان يسعى لتوحيد البلاد فاستند في السياسة الخارجية إلى صداقة فرنسا وأخذ يستميل الرؤساء المخالفين إلى جانبه في الداخل واتفق مع رأس تيجري فاعترف هذا بمنليك ملكاً لملوك الحبشة وهكذا أصبح النجاشي يحكم فعلاً بلاد الحبشة برمتها.
وأول عمل قام به بعد إعلانه ملكاً لملوك الحبشة أنه أخذ يذيب كل العملة التي ضرب الطليان عليها رسم ملك إيطاليا ويضع بدلاً من رسم الملك الإيطالي رسم النجاشي منليك ويكتب اسمه فيها بالكتابة الحبشية ويضع في الوجه الثاني للعملة شعار الحبشة الأسد والتاج.
(يتبع)
طه الهاشمي(124/25)
شكاة واعتذار
قصة معلم
فمن كان يرثي قلبه لمعذب=فأجدر شخص بالرثاء المعلم
الرسالة 117 (الأستاذ محمود غنيم)
للأستاذ علي الطنطاوي
قلت لصديق لي أديب:
- إني لأقرأ لك منذ عشر سنوات، فما رأيتك أسففت إسفافك في هذه الأيام، وإني لأشك أأنت تكتب ما تكتبه، أم يجري به قلمك وأنت نائم، فتأخذه فتضع عليه اسمك؟ فماذا عراك أيها الصديق فأضاع بلاغتك ومحا آيتك؟
- قال: دعني يا فلان دعني. . . فإن سراج حياتي يخبو، وشمعتي تذوب؛ وما اخالني إلا ميتاً عما قريب، أو دائراً في الأسواق مجنوناً. . . إنني انتهيت. . . بعت رأسي وقلبي برغيف من الخير. . . . . . . .
- قلت: أربع عليك أيها الرجل وأخبرني ما بك، فلقد والله أرعبتني. . . . . . . . . .
- قال: وماذا بي إلا أني معلم. إني معلم في مدرسة ابتدائية. . نهاري نهار المجانين، وليلي ليل القتلى، فمتى أفكر، ومتى أكتب. . . . وأنا أروح العشية إلى بيتي مهدود الجسم، مصدوع الرأس، جاف الحلق، فلا أستطيع أن أنام حتى أقرأ مائة حماقة، حتى أصحح مائة كراسة، فأعمي عيني بقراءتها، والإشارة إلى خطئها، وبيان صوابها، وتقدير درجاتها، فإذا انتهيت من هذا كله - ولا يقرأ تلميذ من كل هذا شيئاً، ولا ينظر فيه - عمدت إلى دفتر تحضير الدروس، وهو الموت الأحمر، والبلاء الأزرق، الذي صبّ علينا هذا العام صباً، فكتبت فيه ماذا أنا فاعل غداً في الفصل، دقيقة دقيقة، ولحظة لحظة. . . وماذا أنا قائل من كلمة، أو مقرر من قاعدة، أو ضارب من مثل، حتى إذا بلغت آخر كلمة فيه، استنفدت آخر قطرة من ماء حياتي، فسقطت في مكاني قتيلاً، فحملت إلى السرير حملاً. . فنمت نوماً مضطرباً ملؤه الأحلام المزعجة، والصور المرعبة، فأحس كأن أمامي ركام الدفاتر التي سأصححها غدا، فلا أنجو منها حتى أبصر المفتش يتكلم من فوق المآذن، فلا يدع قاعدة من(124/26)
قواعد التربية، ولا نظرية من نظريات التعليم، ظهرت في فرنسا أو إنكلترا، إلا أرادني على تطبيقها، في فصل فيه سبعون تلميذاً قد حشيت بهم المقاعد حشواً، وصفوا على الشبابيك، ووضعوا على الرفوف، ممالا يرضى عنه منهج من مناهج التربية، ولا قانون من قوانين الصحة؛ فإذا انمحت هذه الصورة، رأيت كأني أفهم تلميذاً وهو يصغي إليّ ولا يفهم، فأكرر وأعيد فلا يفهم، فأقوم إليه أنظر ما يصنع، فإذا هو منصرف إلى دُبيرة يربط رجلها بخيط. فإذا شتمته أو أخرجته من الفصل، ذهب يستنجد القانون الذي حرّم العقوبات كلها، وكفّ يد المعلم، وشد لسانه بنسعة. . . ولا أزال في هذه الأحلام، تنوء بي، فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأفيق مذعوراً، أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول إلى المدرسة لا أستطيع التأخر عنها ولو طحنتني الأوجاع، أو أحرقتني الحمىّ، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة، وعنده أربعة أشهر (عطلة الصيف) يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض، حرم الراتب ومنع العطاء!
أغدو إلى المدرسة، فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي، لم يجدوني أهلاً لأكبر منهم. . . فلا أنفك أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم، ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم؛ فأنفق ساعة كاملة، أقلّب أوجه القول، وأستقري عبارات اللغة، لأفهمنهم كيف يكون (الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءاً منه) فلا يفهمون من ذلك شيئاً، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي وأهري ثم أقول: من فهم؟
فيرفع ولد إصبعه. فأحمد الله على أن واحداً قد فهم، وأقول:
- قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف
- فيقول: يا أستاذ! هذا داس على قدمي. فأصيح به ويحك
أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم إن هذه الشكاوي ممنوعة أثناء الدرس؟
- فيقول: ولماذا يدوس هو على رجلي؟!(124/27)
- فأصيح بالآخر: لم دست على رجله يا شيطان؟
- فيقول: والله لقد كذب، ما دست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني فأغضب وأصرخ في وجهه:
- وكيف يعضك وأنا قاعد هنا؟
- فيقول: ليس الآن، ولكنه عَضّني أمس ويتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدعي وللمدعى عليه، ويزلزل الفصل فأضرب المنصة بالعصا وأسكتهم جميعاً مهدداً من يتكلم بأقسى العقوبات، ولا أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه؟. . . فيخنسون ويُبْلسون فأعود إلى الدرس فإذا هو قد طار من رؤوسهم، على أنه ما استقر فيها قط!
وينفخ في الصور، فتقوم القيامة، ويخرج الأولاد إلى الفرصة، ثم نرجع إلى درس القرآن. فأقول:
- من يحفظ سورة الفاتحة؟
- فيتصايحون: أنا. . . أنا. . . أنا
- سكوت! واحد فقط. . . اقرأ أنت
- الحمد لله رب العالمين. . . إياك نعبِد
- فأقول: إياك نعبُد. - فيقول: نعبد
- ويحك: نَعْ بُ د
- فيقول: نَعْ بِ د
- انتبه يا بني: نَعْ بود
فيقولها. حسن. قل نعبُد. فيقول: نعبِد فلا نزال في نعبُد ونعبِد حتى ينتهي الدرس. ولا يلفظونها إلا بالكسر لأنهم حفظوها من السنة الأولى خطأ.
ولا أزال في هذا البلاء بياض نهاري، ولا يأتي المساء وفيّ بقية من عقل، أو أثر من قوة، ثم لا أنا أرضيت الوزارة، ولا أنا نفعت أبناء المسلمين، ولا أنا انصرفت إلى مطالعاتي وكتابتي.
وهذه مكتبتي لم أدخلها منذ أول العام المدرسيّ، وهذه مشروعات المقالات والبحوث التي أكتبها، وهذه مسوّدات الكتاب الجديد الذي أؤلفه مبثوثة في جوانب الغرفة، ضائعة مهملة.(124/28)
أفتلومني بعد، على أني لا أجوّد في هذه الأيام؟ قلت: هذه والله حالي فلست ألومك؛ فرّج الله عني وعنك!
دمشق
علي الطنطاوي(124/29)
آيتان من آيات الله
للأستاذ قدري حافظ طوقان
حدثت منذ أسبوعين حوادث جوية في نابلس لا عهد لنا بها، ولا لمن هم أسن منا، أزعجت الناس وأدخلت خوفاً كثيراً إلى نفوسهم؛ هالتهم وعظمت عليهم، أقضت مضاجعهم ونفت الكرى عن عيونهم؛ أرجعتهم إلى الله يسألونه اللطف بالكهول والأطفال، وقام المؤذنون من أعلى المآذن يستنجدون بخالق السموات والأرضين أن ينظر بعين الرأفة إلى هذه الأمة التي توالت عليها المحن والمصائب من كل جانب؛ وكان صوت: (يا رب - يا لطيف) يدوي في الأجواء، ويرن في الآفاق، ترجعه الأصداء إلى الآذان، فيدخل إلى النفوس خشوعاً أحاطه الخوف، واستسلاماً أحاطه الإيمان والعقيدة، فاطمأن المؤمنون وقالوا: ليفعل الله ما يشاء؛ هو العليم وهو الحكيم، بيده الخير إنه على كل شئ قدير. وقال آخرون: إنها لعلامات تدل على قرب الساعة. وقال غيرهم: إنها لأشارات تنذر بالحروب والكوارث. وكيف لا تشغل هذه الظواهر أفكار الناس، وكيف لا تصبح حديثهم وموضع تنبؤاتهم وخوفهم وقد شغلت السماء كلها، بما على الأرض من رياح ومياه وأشجار ومبان؟؟. .
لاحظ الناس في مساء يوم الأحد الموافق 21 من الشهر الفائت أن الحالة الجوية غير طبيعية قبل غروب اليوم المذكور، فقد كانت تظهر في بعض جهات المشرق والجنوب بروق ولمعات فجائية، دامت إلى ما بعد الغروب، ثم ما لبثت هذه البروق وتلك اللمعات أن استحالت إلى بروق متواصلة متعاقبة الحدوث والظهور في نواحٍ عديدة إلى أن شملت السماء كلها، فإذا أضواء شديدة تنبعث من بين الغيوم من شرارات كهربائية كثيرة الشعب والتعاريج، كانت تظهر للناظرين وقد خيل إليهم أن السماء مفتحة الأبواب، تخرج منها أنوار تخطف الأبصار، مصحوبة برعود متعاقبة، لها قعقعة مختلفة الشدة، تبعها برد وأمطار غزيرة ورياح هائجة أحارت الناس وأذهلتهم.
ومما لا ريب فيه أن هذه الظواهر الجوية لا تحدث عفواً ومن دون أسباب، بل إن وقوعها لا يكون إلا حسب أنظمة خاصة لا تتعداها، خاضعة لنواميس طبيعية لا تشذ عنها، عرف الإنسان بعضها ووقف على أسرارها؛ وقد ثبت أن مدبر هذا الكون سائر بكونه على أساس من القواعد والقوانين متين، وقد أتبع كل شئ سبباً، وكلما عرف الإنسان شيئاً عن هذا(124/30)
النظام وهذا الناموس وتلك القواعد والقوانين تجلت لنا عظمته تعالى واضحة في آياته، وتجلت لنا حكمته في أفعاله وأعماله؛ وما البرق والرعد وما إليهما إلا آيات من آيات الله لا تحدث لموت أحد، ولا تنبئ عن وقوع حروب، بل هي ظواهر تسير حسب أنظمة تمكن العلماء من اكتشافها، وثبت لديهم أنها دلائل ساطعة على قدرته تعالى وأُلوهيته جل وعلا. . . . . . . . . .
لقد حسب كثير من الأقدمين أن هذه الظواهر الجوية من أفعال الشياطين تجري بموجب قدرة إلهية لتوقع القصاص على الكفار والمذنبين. هذا الرأي كان سائداً في الغرب وعند كثير من العلماء؛ ومن الغريب أن العرب لم يأخذوا بهذا الرأي، وقد استعملوا في تعليل بعض هذه الظواهر الجوية العقل والفكر فكان رأيهم في تعليل حدوث البروق والرعود والصواعق، مع بُعده عن الحقيقة، يدل على دقة في الملاحظة، ويدل أيضاً على أنهم كانوا لا يقبلون الآراء والنظريات المبنية على أوهام وخزعبلات فنجد أحد علمائهم وهو القزويني يقول في تعليل البرق والرعد ما يلي:
(إن الشمس إذا أشرقت على الأرض حللت منها أجزاء أرضية تخالطها أجزاء نارية ويسمى ذلك المجموع دخاناً، ثم الدخان يمازجه البخار ويرتفعان معاً إلى الطبقة الباردة من الهواء فينعقد البخار سحاباً ويحتبس الدخان فيه، فإن بقي على حرارته قصد الصعود، وإن صار بارداً قصد النزول، وأيَّا ما كان يمزق السحاب تمزيقاً فيحدث منه الرعد، وربما يشتعل ناراً لشدة المحاكة فيحدث منه البرق إن كان لطيفاً، والصاعقة إن كان غليظاً كثيراً فتحرق كل شئ أصابته، وربما تذيب الحديد على الباب ولا تضر بخشبه، وربما تذيب الذهب في الخرقة ولا تضر الخرقة، وقد يقع على الماء فيحرق حيتانه وعلى الجبل فيشقه. . . . .) وقال في سبب رؤية البرق قبل سماع الرعد. . . (واعلم أن الرعد والبرق يحدثان معاً لكن يُرى البرق قبل أن يسمع الرعد لأن الرؤية تحصل بمراعاة البصر، وأما السمع فيتوقف على وصول الصوت إلى الصماخ، وذلك يتوقف على تموّج الهواء، وذهابُ النظر (أي سير النور) أسرع من وصول الصوت. . .)
ولقد بقي تعليل البرق والرعد وغيرهما من الظواهر الجوية غامضاً إلى أن جاء فرنكلين الأمريكي في القرن الثامن عشر للميلاد فأوضح هو وغيره بأن في الجو كهربائية يمكن(124/31)
الحصول عليها، وقد أثبت وجودها بتجارب عديدة، وبين أيضاً أن هذه الكهربائية موجبة في غالب الأحيان، وأن كهربائية السحب تكون عادة سالبة، وقد تكون موجبة في بعض الأحيان، وأن هذا كله يتبع التغيرات الجوية، وعوامل عديدة بعضها معروف والبعض الآخر غير معروف؛ وقد قدم فرنكلين بنتيجة تجاربه تقريراً إلى جمعية الملكية بلندن؛ ومع أن أعضاء هذه الجمعية عدو تجاربه وآراءه خيالاً في أول الأمر إلا أنهم أقروا أخيراً نظرياته وأخذوا بآرائه ومنحوه نوطاً رفيعا الشأن اعترافاً بفضله وانتخبوه عضواً في جمعيتهم.
واختلف العلماء في منشأ كهربائية الجو والسحب؛ ومن الغريب أن هذا الاختلاف لا زال قوياً، إذ لم يستطع أحد البت في هذا الشأن. يقول بعض العلماء إن سبب وجود الكهربائية في الجو يرجع إلى تبخر الماء المحتوي على مقادير ضئيلة من الأملاح؛ ويقول آخرون إن منشأ الكهربائية الجوية بما فيها السحب هو الاحتكاك بين القطرات المائية الدقيقة بالثلج الموجود في الطبقات العالية من الجو. وهناك عوامل أخرى لها علاقة بمنشأ هذه الكهربائية لا تزال غامضة وفي حاجة إلى الاستقصاء وزيادة البحث. . . ولكن الثابت
المحقق أن في الجو كهربائية، وأنه يوجد سحب كثيرة مشحونة بكهربائية سالبة أو موجبة، فقد يصادف أن تمر سحابة مشحونة فوق سحابة أخرى أو فوق شجرة أو بناية، فتؤثر فيما تمر عليه وتجذب إليها الكهربائية المخالفة لها، وينتج عن ذلك اتحاد نوعي الكهربائية برغم الهواء ومقاومته، ومن هذا الاتحاد تتكون شرارة كهربائية ينبعث منها ضوء شديد نسميه (البرق)؛ وكثيراً ما يكون سير هذه منعرجاً، ويرجع العلماء سبب هذا إلى مقاومة الهواء الشديدة عند اتحاد نوعي الكهربائية؛ ويختلف طول الشرارة بحسب مقادير الشحنات الموجودة في السحب وعلى سطح الأرض فقد يبلغ ميلاً وقد يزيد على ذلك. ويلاحظ أن لون البرق يختلف، فبينما نراه أبيض في أسفل الجو نراه في أعلاه ضارباً إلى اللون البنفسجي أو مائلاً إلى الحمرة، وذلك لتخلخل الهواء في تلك الجهات المرتفعة.
والبرق على أنواع: منها برق كثير التعاريج وقد ظهر جلياً في تلك الليلة التي دفعتنا إلى كتابة هذا المقال.
وبرق يرى عند الأفق وهو في حدوثه كاللمعة الفجائية، وبرق كروي يمتد من السحاب إلى(124/32)
الأرض في بطء ويمكن العين أن تتبعه. وقد اختلف العلماء في منشأه وفي أسباب حدوثه ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى نتيجة قاطعة في ذلك؛ وهناك برق يرى في ليالي الصيف برغم صفاء السماء، ويرجع منشأ هذا البرق إلى الغيوم الموجودة تحت الأفق، وهذه الغيوم تكون عادة بعيدة، وبعدها هذا من العوامل التي تحول دون سماع أصوات الرعود التي تحدث كنتيجة لهذا البرق. وقد أثبتت التجارب أن البرقة تتكون من شرارات عديدة يتبع بعضها بعضاً وإن مدة لبث ضوء البرق أقل بكثير من عشر الثانية.
أما الرعد فهو الصوت الذي يعقب البرق، وهو يسمع دائماً بعد رؤية البرق، والسبب في ذلك يرجع إلى أن سرعة الصوت أقل بكثير من سرعة الضوء، فالصوت يسير في الثانية الواحدة نحو ربع كيلومتر، بينما الضوء يقطع ثلثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة - فتأمل!!. .
وسبب حدوث الرعد يرجع إلى أنه عند ما يتحد نوعاً الكهربائية أي عند التفريغ الكهربائي بين سحابتين، أو بين سحابة والأرض، يتمدد الهواء في منطقة التفريغ ويحدث ضغطاً على الهواء المجاور ثم يأتي الهواء ثانياً إلى تلك المنطقة لتخلخل هوائها، وهكذا تتكرر هذه الحركات وينتج عن تعاقبها صوت نطلق عليه اسم (الرعد)، فإذا كان التفريغ في منطقة قريبة منا سمعنا صوتاً مزعجاً جداً؛ أما إذا كانت بعيدة فحينئذ يكون للرعد أصوات ليس فيها شدة نسمعها متتابعة آخذة في الازدياد من أزيز إلى قرقرة إلى قعقعة؛ وإذا حصل برق ولم يعقبه رعد فمعنى هذا أن التفريغ الكهربائي حدث في أماكن بعيدة أو في مناطق مرتفعة حيث الهواء قليل الكثافة.
وكثيراً ما نسمع بأن صاعقة وقعت على شخص فأفقدته حياته، وانهالت على بعض مواد قابلة للاشتعال فألهبتها، وأنها أصابت حيواناً فأماتته، وأنها نفذت إلى الأرض فأحدثت فيها فوهات عميقة، وقد تقع على قضبان من الحديد فتمغنطها وتظهر عليها آثار المغناطيسية بصورة ملموسة. فما هي هذه الصاعقة التي تحدث مثل هذه الأعمال؟ ما سبب حدوثها؟ لقد أثبتت التجارب أن الصاعقة ليست إلا تفريغاً كهربائياً بين سحابة مشحونة وبين الأرض. فالأرض تشحن بالتأثير بكهربائية مخالفة كهربائية السحابة فيحصل اتحاد بين نوعي الكهربائية وينتج عن ذلك شرارة كهربائية وهي ما نسميها بالصاعقة. وهي تتجه في(124/33)
سيرها في الطرق الأقل مقاومة لها من الهواء فتمر على المباني والأشجار وتؤثر فيها؛ وقد تحدث فيها أضراراً جمة، فإذا مرت على شخص أو حيوان فقد تفقدهما الحياة، ولهذا لا يستحسن أن يجلس الإنسان في الليالي الكثيرة البرق في أماكن مرتفعة (تحت السماء) أو تحت شجرة، ففي ذلك كله يعرض نفسه للخطر. وتسلح الأبنية في البلدان التي يكثر فيها وقوع الصواعق بجهاز خاص يطلق عليه اسم (مانعة الصواعق، أو مترسة الصاعقة) اخترعها فرنكلين لحفظ المباني والأماكن العامة من الأضرار التي تحدثها الصاعقة: وبرغم معارضة رجال الدين لهذا الاختراع الجليل في بادئ الأمر فقد انتشر انتشاراً كبيراً في أمريكا وأوربا، وذاع اسم مخترعه (فرنكلين) وأصبح حديث الحلقات العلمية وموضع إعجاب العلماء ورجال الأعمال. ولا بأس من الإشارة إلى أن فرنكلين لم يكن عالماً فقط، بل خدم العلم وقام بقسط كبير في تقدم الكهرباء، وإليه يرجع الفضل في إنشاء الجمعية الفلسفية الأمريكية وفي تأسيس جامعة بنسلفانيا الشهيرة، وفوق ذلك فقد كان من كبار سياسي زمانه الذين جاهدوا كثيراً في سبيل استقلال بلادهم، ومات وقد تحقق كثير من غاياته السياسية التي من أجلها ضحى وناضل. وهذا المخترع العالم جدير بأن يكون قدوة صالحة ومثلاً عالياً لعلمائنا الذين يقبعون في بيوتهم أو في معاهدهم ولا يبذلون شيئاً من مجهوداتهم وتفكيرهم لخير بلادهم.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى أنهم لا يسيرون في ميادينهم العلمية سيراً قومياً، فلست ترى إلا نادراً من خصص بعضاً من وقته في ناحية الكشف عن مآثر أمته في الطب مثلاً أو التاريخ أو الرياضيات أو الآداب أو الطبيعيات أو الفلسفة أو في أي فرع من فروع المعرفة الأخرى وأثرها (أثر الأمة) في تقدم المدينة وسير الحضارة؛ وقد غرب عن بالهم أن علماء الأمم في هذا الزمان وفي الأزمنة السابقة قد خصصوا (ويخصصون) جانباً كبيراً من وقتهم وتفكيرهم في ناحية بعث الثقافة القومية وتبيان آثار أممهم في ميادين العلوم والفنون. نحن لا نقول بألا يواصل علماؤنا بحوثهم وألا يهتموا بالتنقيب، ولكننا نقول بأن يخصصوا جانباً من وقتهم للاشتغال في تحرير بلادهم من النير الأجنبي ولتوجيه بعض بحوثهم توجيهاً قومياً يخلق في النشء روح الاعتزاز والاعتقاد بالقابلية، وفي هذا قوى تدفع بالأمة المستعمَرة إلى ما تتمناه من رفعة وسؤدد واستقلال.(124/34)
ولنرجع الآن إلى مانعة الصواعق فنقول إنها تتركب من ساق وموصل، فالساق يتركب من قضيب حديدي مدبب في نهايته العليا لا يقل طوله عن خمسة أمتار ولا تقل مساحة مقطعه عن 25 سنتيمتراً مربعاً يوضع في أعلى البناء المراد تسليحه، ويغطى طرفه الأعلى عادة بطبقة من البلاتين لكي تمنع تراكم الصدأ، وبذلك يبقى القضيب جيد التوصيل؛ أما الموصل فهو سلك من حديد أو عدة أسلاك تمتد من نهاية الساق إلى الأرض، ومن الضروري ملاحظة هذه النقطة - نقطة الاتصال الأرضي - إذ يجب أن يكون الاتصال (بالأرض) محكماً، وإلا لما كان للمانعة فائدة عملية، ويستحسن أن تكون نهاية الموصل في أرض مبللة أو في بئر، وإذا لم يمكن ذلك فمن الضروري عمل حفرة في الأرض تدخل فيها نهاية الموصل، ويراعى في هذه الحفرة أن تكون دائماً رطبة وذلك بتسليط مجرى مائي عليها، أو باستعمال طرق يمكن بواسطتها حفظ رطوبتها؛ ولكي يضمن الإنسان الفائدة العملية من المانعة يجب عليه أن يجعل لنهاية الموصل شعبتين أو ثلاثة. . وهناك طرق أخرى اخترعت لحفظ المباني من الصواعق وأضرارها يمكن لمن يريد الاطلاع على تفاصيلها أن يراجع الكتب الخاصة بذلك.
ولمانعة الصواعق عملان: الأول أنها تمنع تراكم الكهربائية على سطح الأرض؛ والثاني أنها ترجع السحب المكهربة إلى حالة التعادل؛ وهذان العملان يحولان دون حدوث الصاعقة ويحفظان الأبنية من آثارها؛ وقد تكون المانعة غير قادرة على منع حدوث الصاعقة، فحينئذ يحدث التفريغ وينتج عنه البرق، ولكن يقع التأثير كله وتقع الصدمة كلها على المانعة لأنها جيدة التوصيل، وبهذه الطريقة يصان البناء ويبقى سالماً.
لقد تكلمنا بإيجاز عن البرق والرعد والصاعقة، وعن كيفية حدوثها، ومن أراد زيادة البحث والاستقصاء فعليه أن يرجع إلى الكتب الموضوعة في علم الطبيعة وغيرها، ففيها الكفاية والتفصيل.
ويظهر لنا مما مر أن هذه الظواهر كغيرها تسير على قانون ونظام لا تخرج عنهما، وترتكز على أسس ومبادئ يسعى الإنسان للتعرف عليها والوقوف على دقائقها؛ وإن في تعرف الإنسان عليها ووقوفه على دقائقها لما يقوى فيه الاعتقاد بوجود قوة الله المدبرة الحكيمة المنظمة التي تشرف على هذا الكون وتسيطر على حركاته. أليس في البرق(124/35)
والرعد والصاعقة وفي كيفية حدوثها، وفي المبادئ الطبيعية التي تسودها ما يزيد المرء اعتقاداً بضآلته؟ أليس في عدم استطاعته اكتشاف كثير من القوانين التي تسود الكون، وفي عدم وصوله إلى نتائج حاسمة في الوقوف على أسرار بعض الظواهر الجوية ما يزيد الإنسان اعتقاداً بأنه لا يزال على عتبة اليقظة العقلية؟
أليس في معرفة شئ عن حقيقة هذه الظواهر الجوية ما يزيد في وداعة الإنسان وفي تواضعه، ويسمو به إلى عالم أسمى من عالمنا؟
أليست هذه الظواهر الجوية دلائل قاطعة على عظمة الله المبدعة وقدرته الخارقة؟
وأخيراً أليست هذه الظواهر من آياته فيها عبرة وعظة للذين يتفكرون في خلق السموات والأرض وما بينهما؟
نابلس
قدري حافظ طوقان(124/36)
بين الأدب والسياسة
للأديب أحمد الطاهر
نقصد بتاريخ الأدب - هنا - كل ما يتناول الحياة الأدبية للأمة، مما يطرأ عليها من القوة أو الضعف، والصعود أو الهبوط، وأسباب ذلك، وما ينتجه أصحاب البيان في مختلف مناحي القول، ودراسة حياة أولئك المنتجين، وأثر ما انتضحت به قرائحهم في اللغة.
ونقصد بالتاريخ السياسي والاجتماعي - هنا أيضاً - ما يطرأ على الأمة من أحداث وتغيير في نظامها السياسي وعلاقة الحاكم بالمحكوم ونظام الحكم فيها، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وكذا حالتها الاقتصادية والمالية، وعلاقة ذلك بمرافقها.
وما سقنا هذا التعريف - وهو غير جامع ولا مانع - إلا لنحد به موضع البحث في الصلة بين التاريخين، وهي صلة وثيقة واشجة. فقلّ أن يتأثر أحدهما بعامل من العوامل دون أن يبدو لذلك أثر في الآخر يبدل وجهته ويغير ديباجته - ذلك مالا خلاف فيه. أما ما اشتجر فيه الرأي وظهر الخلف: فأيهما يسبق الآخر فيمهد له الطريق ويعبد له المسلك؟ وأيهما أبلغ أثراً في الآخر؟ وفي هذا نسوق الحديث:
فجمهرة الأدباء على أن التاريخ الأدبي يسبق السياسي والاجتماعي: فينهج له السبيل، ويمهد له المنبت: فينشأ قوياً أو ضعيفاً، منتجاً أو عقيماً، حسبما تهيأ له.
وأغلب الظن أن هذا القول على إطلاقه لا يقصد به أن يكون قاعدة يعتبر ما شذ عنها استثناءً؛ ذلك بأن استقصاء تواريخ الأمم وتقريه يقف بنا في مراحل عدة نجد فيها التاريخ السياسي والاجتماعي سابقاً للتاريخ الأدبي، مؤثراً فيه أثراً عليه طابع السياسة وسمتها. بحيث لا يسع مؤرخ الأدب إلا أن يعترف بفعل السياسة فيه، وأثرها في أكثر مظاهره ونواحيه؛ ونزول الأدب على حكم السياسة، وكثرة هذه المراحل لا نطمئن معها إلى القول بأنها استثناء للقاعدة، ولعل من الخير ألا نقرر قاعدة بعينها في تحديد هذه العلاقة.
فالأمم الحية القوية التي نالت حظاً من الحضارة والحرية، إذا وقع فيها انقلاب سياسي أو اجتماعي، أو قلبت صفحة جديدة في سجل حياتها السياسية قل أن يحدث فيها هذا الانقلاب دون أن تسبقه نهضة أدبية تهيئه للوجود، وتعده للنهوض بما تفعل في الشعب من إيقاظ الشعور حتى الإحساس بضرورة التغيير، وحفز الهمم حتى تصدق العزائم على المضي إلى(124/37)
الغاية، وتمحيص الرأي حتى لا يتعثر في درجه مع سيل الحوادث.
ذلك فضل الأدباء والشعراء والخطباء والكتاب، وموضع الأدب هنا موضع السابق من المسبوق، والمتبوع من التابع.
ولا نغفل هنا أن الأدب لا يكتفي بالسبق، ولا يقنع بالقيادة: بل إنه ليلقى الانقلاب السياسي في الميدان بعد أن أفسح له الطريق فيدارجه ويرعاه بما يقويه، ويبعث النشاط في نواحيه، ويهدي الأمة في جهادها فيه، ويقف التاريخ السياسي والاجتماعي حيث قدر له أو حيث أراد، ولكن التاريخ الأدبي لا يقف عند هذه الغاية. بل يسير بعد ذلك ويمتد أثره: فما يزال أهل الأدب بعد الحدث السياسي أو الاجتماعي يحبُون الأمة بفضلهم، ويتعهدونها ببرهم، ويخرجون لها جميل آثارهم، ونتاج قرائحهم: يتحدثون عن الماضي وما كان فيه، ويذكرون الحاضر، ويستشرفون بالأمل في المستقبل، فتربو ثروة الأدب وتنمو. ويتسع مجال القول، وتخلد للأمة آثار تبقي ما شاء الله على تطاول الزمن.
ولا نُغفل كذلك أن الأدب في هذا الوضع يفضل السياسة من حيث ما تفيد الأمة من كليهما: ذلك بأن الانقلاب السياسي أو الاجتماعي غير مأمون العاقبة: فالأمة في سبيلها إلى الغاية السياسية أو الاجتماعية التي تقصد إليها يعرض لها ما يعرض للضاعن في طريقه: فقد تعيا فلا تصل إلى الغاية، أو تتكاءدها عقبات تحول دون الفوز بالمقصد؛ وقد تهب عليها من أية ناحية إعصار وأنواء تصدف بها عن المحجة، وتلوي بها عن القصد، وتضلها عن السمت، فلا تبوء الأمة بعد جهادها الطويل أو القصير إلا بالفشل فيما قصدت إليه، وخسران الأنفس والأموال فيما سمعت له، بَلْهَ جزيرة ذلك على حاضرها ومستقبلها.
أما النهضة الأدبية فقاعدتها بقاء الأصلح. وحكمها فناء السقيم: فمتى نهض أهل الأدب وبرزوا للناس بفضل أقلامهم فذلك هو الخير الذي لا سبيل إلى التشكك فيه من حيث هو ثروة وعتاد في الأدب. والبقاء مكفول لهذه الثروة ما بقي في الدنيا أدباء ومؤرخون؛ ولا بقاء للأدب الرخيص فإنه يذهب جفاء في اللحظة التي يظهر فيها للوجود. ومهما تكن النتائج السياسية أو الاجتماعية التي مهدت لها النهضة الأدبية أو كانت سبباً فيها فهذه النهضة الأدبية لها قيمتها في ذاتها وفيها خيرها من ساعة ميلادها: لا يغض من شأنها، ولا ينقص من قدرها، ولا تمتد إليها يد غاصب، ولا تعبث بها يد ظالم. ولا نقصد بقولنا إن(124/38)
الأدب الرخيص أو السقيم لا يقوى على الحياة أن أدب الأمة ما بقي لا يكون إلا قيماً ثميناً، إنما قصدنا إلى أن الأدب في فضله وما يتروى الناس منه كالكنز يخرج من بطن الأرض له قيمته وقدره، وقد يكون الكنز ذهباً أو فضة أو معدناً دون الذهب والفضة، ومهما يكن من شئ فهو ثروة لها قدرها ووزنها.
ولكن هناك شروطاً لا بد من وفائها حتى يفيض الأدب فضلاً على أمته، ويبلغ القصد من محجته، في هذا الوضع الذي بيَّنا: أولها أن تكون في الأمة حياة أدبية تثبت وجودها قبل الأحداث السياسية، وتستطيع أن تشق طريقها في ظلمات الانقلاب، وتسلك نهجها تحت عواصف الثورة، وتقوى على البقاء بعد أن تهدأ العاصفة؛ وثانيها أن تكون الأمة موفورة الحق في المتعة بحرية القول والبيان عن جدارة واستحقاق فلا تكتم عن الحق أفواه الخطباء، ولا تكتم عن الصدق أنفاس الشعراء، ولا تزم عن الكتابة أنامل الكتاب. وثالثها: أن يكون سواد الأمة مثقفاً ثقافة أدبية؛ فبغير هذا لا ينبت لأهل الأدب زرع، ولا يدر لهم ضرع، ولا يصيخ لهم سمع. وأقرب المثل لهذا الوضع وهذه النتائج الثورة الفرنسية ونهضة الأدباء قبلها وأثناءها وبعدها. وذلك مالا يحتاج إلى بيان.
أما الأمم الواهنة المستضعفة فالعلاقة بين تاريخها السياسي والاجتماعي وتاريخها الأدبي مضطربة متبلبلة، لا تسير على نهج واضح، وتنقطع حيناً وتتصل حيناً، وتضعف وتقوى؛ ذلك بأنها لضعفها واستكانتها وفرط ما كرثتها الحوادث تسلم سجل تاريخها السياسي للقدر، أو لمن بيده أمرها؛ يقلب صحافته كما يشاء، ويمحو ويثبت فيه ما يشاء. فلا موضع للقول بأن لأدبائها أو لتاريخها الأدبي أثراً في خلق انقلاب سياسي فيها، أو التمهيد له، أو تقويته، أو تعهده. فإذا حدث فيها انقلاب سياسي فهو في أغلب الأحيان مقطوع الصلة بحالتها الأدبية؛ على أنه إذا جد الجد، وقويت حركة الانقلاب السياسي وغلت مراجله حتى تنفست عن ثورة حادة، أو ما يشبه الثورة الحادة، فقد يؤثر ذلك في تاريخ الأمة الأدبي، فيطلق الألسنة من عقالها، ويمد القرائح بغذائها، فتنطلق في الجو صيحات تكون خافتة في مبدئها، وتستسلم بعد ذلك للأقدار، فأما أن تقوى وتشتد، وأما أن تضعف وترتد.
وهنا نرى للأدب فضلاً آخر لا يجوز إغفاله: ذلك بأن الأمة التي وصفنا قد تعوزها في جهادها السياسي وسائله وعدته، أو يقعد بها ضعفها عن النهوض له فتستخذى وتستسلم(124/39)
لضعفها أو قوة غلبها. أما أهل الأدب فلا ينضب لهم معين، ولا يقفر بهم منبت، فهذه الظلمات المحيطة بالأمة ينسجون من خيوطها شعراً، وهذه صخور الظلم والاستعباد يفتتونها بأسنة الأقلام ويبسطونها للناس نثراً، ومن هذا يحاولون إحياء شعور أماته الظلم، وإثارة همم قعد بها الخنوع. وقد يفلحون فيصلون بالأمة إلى غاية سياسية محمودة، وقد يخفقون ولكن بعد أن يتركوا للأمة ثروة أدبية؛ ولا تنس أن جهادهم شاق وعسير، وأن بلاءهم مرهق ومرير.
وهنا نجد التاريخ السياسي سابقاً ومتبوعاً، والتاريخ الأدبي لاحقاً وتابعاً؛ والأول مؤثر في الثاني أثراً قوياً أو ضعيفاً، وقد يبرز الأول في الميدان فلا يتبعه الثاني ولا يجاريه، وإن تبعه ففي تؤدة ووناء. على أنه يشترط أيضاً في هذه الحالة أن تكون الأمة مثقفة إلى حد معين حتى تستطيع في وسط هذا المضطرب أن ترى قبس النور ينبعث من قصبات الأقلام فتمشي على هداه، وأن تسمع صوت الحق من الخطباء فتلبي نداه. ذلك أن أتيح للأديب أن يكتب، وللخطيب أن يخطب.
ولا يتداخلنا العجب من أن يسبق التاريخ السياسي ويتقدم والمثل أمامنا واضحة بينة. فتاريخ الأدب الإسلامي إنما تأثر بما سبقه من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية كان من مظاهرها نشوء الأحزاب السياسية وما فتح الله للمسلمين من بقاع الأرض؛ ذلك أثر في العقلية العربية فغير في أسلوب الشعر والخطابة والكتابة وموضوعاتها تغييراً ظاهراً. وأقرب من هذا المثل تلك الحرب الأوربية التي اندلعت نارها في الغرب، وامتد لهيبها إلى الشرق، فحركت النفوس وحفزت الهمم، وأثارت المطامع، وأبرزت في الشرق طبقةصالحة من الكتاب والأدباء، ما زالوا يعملون وما زال الشرق يرجو من غيثهم خيراً في الأدب وفي السياسة؛ أليست هذه نهضة أدبية قامت على أثر حركة سياسية؟
وليس سبق التاريخ السياسي على الأدبي قاصراً على الأمم الضعيفة أو المستضعفة، فقد يقع هذا في الأمم القوية كما يتضح من أثر تلك الحرب في الغرب، وأكثر أممه قوية متحررة، فقد تقدمت الحرب وأحداثها، ثم تبعها تغيير في الآداب من حيث الأسلوب ونظام القصة وطريقة التفكير، وكان تغييراً مستوياً كاملاً قوياً، بل كان نهضة حادة فتية.
أليس من الخير بعد هذا ألا نلتزم قاعدة بعينها نجري على سننها الأدب والسياسة ونقيد بها(124/40)
موضع أحدهما من الآخر وأثره فيه؟
ذلك ما أراه في هذا البحث، فإن رأى أئمة البيان وأهل الأدب غيره وجلوا لي وجه الصواب وبصروني مساقط الرأي فإنني لشاكر وسعيد.
اليوزباشي أحمد الطاهر(124/41)
2 - عمرو بن العاص
بقلم حسين مؤنس
ثم انظر كيف فهم الرسول صلى الله عليه وسلم نفس عمرو: لقد قال: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) لقد أسلم الناس حباً في الإسلام وقد دفعتهم عواطفهم وهدتهم طبائعهم، أما عمرو فقد حسب لأمر حسابه، ووزن ربحه وخسارته، حتى إذا اطمأن فقد آمن. وقد أقبل واثقاً. . هكذا أصاب الرسول الكريم في فهم الرجل الجليل. وأن الرسول ليعرف أن عمراً كان تاجراً داهية ومساوماً ماهراً. . . وأنه قد بذل الثمن وينتظر الربح، فهو لا يضن عليه بما يريد فيؤمره على سرية ذات السلاسل، ويؤمره على المدد الذي أرسله إليه وفيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ونفر من الأنصار والمهاجرين. . . إن الرسول ليعرف أن هؤلاء كلهم لا ينظرون إلى ولاية أو إمارة. . . لأنهم لا يلقون جزاءهم عن الأيمان إلا عند الله. . . أما عمرو فيجادل أبا عبيدة على الإمارة. . . ويقول له: (إنما قدمت على مدد، وأنا الأمير ولا أمارة لك. . .) فينزل له أبو عبيدة عن الأمارة وكفاه شرف الجهاد. . . ثم انظر كيف يفهم أبو بكر نفس عمرو. . . إنه ليفرده بفتح فلسطين. . . إنه ينقده ثمن ما سيبذل من جهد في الفتح ومهارة في القتال. . . ولو قد طلب إليه أن يكون مكان يزيد بن أبي سفيان مثلاً على جيش دمشق. . . لربما كره عمر. . . وربما لم يبد من المهارة ما أبدى في أجنادين، ولكنه خليفة رسول الله، كان يعرف عمراً خير المعرفة. . . فنزل له عما يريد. ولم يقصر الفاروق في هذا فتركه حراً في فلسطين، لم يعزله كما عزل خالداً. . . وكان عمر يعرف كذلك أن عمراً مغامر. . . وأي تاجر لا يغامر؟ وأي رجال المال لا يرتاح إلى المضاربة والمغامرة والتعرض للغنم العظيم أو الغرم الذي يقصم الظهر. . . ولكنه كان يعرف فيه حذق المضاربة. . . وأنه لا ينزل السوق إلا كاسباً، ولهذا. . . أقره على فتح مصر ولم يفرغ بعد من فتح الشام. . . وكان عمرو في ذلك مساوماً ماهراً ومقنعاً ذا حجة ودهاء. . . فلم تثبت اعتراضات عمر الثبت الحصيف الدقيق الذي يضن بمسلم واحد على أن يجازف به وإنما اقتنع سريعاً. . . كان عمرو ماهراً لسناً بارعاً حين خلا بابن الخطاب وهما عائدان من فتح فلسطين. . . وكان أمهر حين انساب في جنح الليل يسعى إلى مصر سعياً. . . لقد خشي أن يعود أمير المؤمنين فيقبض يده. . . وقد خشي أن يراجع عمر(124/42)
نفسه. . . أو خشي أن يثنيه أحد عن عزمه. . . وما أخطأ عمرو في ذلك. . . فها هي ساعات لا تنقضي على مسيرة عمرو حتى يقبل عثمان فيعلن إليه عمر نبأ غزاة مصر. . . فما يكاد عثمان يسمع الأمر حتى يراع ويصيح به: (يا أمير المؤمنين: إن عمراً لمجرَّؤ وفيه إقدام وحب للأمارة، فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا. . .) فيشفق عمر على المسلمين إشفاقاً شديداً. . . وتحدثه نفسه أن يستوقف عمراً، ولكن عمراً قد مضى من أيام. . . ولعله قد دخل حدود مصر، ولعل الرسول لا يبلغه إلا وقد دخلها. . . وما ينبغي لجيش إسلامي أن يدخل بلاداً ثم يبارحها من غير فتح. . . تلك إذن هزيمة لا تليق بجند الإسلام.
. . . إذن فليسرع بالكتابة إليه، فإن أدركه الرسول قبل أن يدخل حدود مصر فليرجع، وما في ذلك حرج. . . وإذا كان قد دخلها. . . فليمض على بركة الله، وليبعث إليه الإمداد سراعاً تباعاً. . . كأنما كان عمرو يقرأ ذلك لكنه من كتاب! وكأني به وقد قدر أن الخليفة لا بد أن يستدعيه، وأن أحداً لا بد لائمه في ذلك الأمر. . . فها هو ذا يقرأ كتاب الخليفة دون أن يفتحه!. . . وها هو ذا يحتال حتى يدخل أرض مصر. . . لا لأنه يعلم أن الخليفة قد قال ذلك. . . بل لكي يقول للخليفة إذا أمره بالرجوع: (وكيف أنسحب وقد دخلت أرض مصر. . . فكأني بالروم تقول: خافتنا العرب. . .)
إلى هذا الحد بلغ ذكاء هذا الرجل وحسن تقديره ودقة بصره. . . حتى عمر نفسه على ما عرف عنه من الذكاء الخارق لم يدرك شأو ابن العاص في فن الحساب والتقدير!. . . . . . . . .
وأي صفقة هذه. . . لقد ربحها ابن العاص. . . إنها مصر التربة الغبراء. . . والشجرة الخضراء. . . (طولها شهر وعرضها عشر) كما يقول في وصفه البليغ لعمر. . . ثم انظر كيف يعرف الرجل سبيل استغلال (هذه اللقمة) السائغة. . . إنه يقول: (ألا يتأذى خراج ثمرة إلا في أوانها. . . وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها. . . . فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال. . . تضاعف ارتفاع المال. . .)
وتلك هي سبيل التاجر الذي يحسب مكسبه وطرق الفائدة منه. . . ثم استمع إلى ما يوصي به الناس غداة الفتح. . . إنه لا يقف كثيراً عن حض الناس على الصلاة والصيام. . .(124/43)
فتلك أمور بينهم وبين ربهم. . . أما هو فحسبه أن يقول (يا معشر الناس! إياكم وخلالا أربعة فإنها تدعو إلى التعب بعد الراحة. وإلى الضيق بع السعة. . . وإلى الذلة بعد العزة. . . إياكم وكثرة العيال. . . واخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل والقال بعد ذلك في غير نوال، ثم يوصي الناس بالخيل ويطيل في ذلك. . . لأنها (رأس مال العربي) في الفتح والزرع!. . . وهكذا. . . كان الرجل يعرف قدر الصفقة التي كسبها من عمر، ويعرف سبيل الفائدة منها. . . وإحسان القيامة عليها، وإلى هنا ويبدأ الخلاف بينه وبين غيره. . . حتى عمر نفسه لا يداني ابن العاص في مسائل المال والاستثمار. . . فها هو ذا يكتب إليه يقول: (أما بعد فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة قد أعطى الله أهلها عدداً وجلداً. . . وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم وكفرهم. . . فعجبت من ذلك. . . وأعجب ما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحط ولا جدب!) فيرد عليه عمرو الرد الحكيم فيقول: (ولعمري. . . للخراج يومئذ (أي أيام الفراعنة) أوفر وأكثر، والأرض أعمر، ولأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم، أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام. . .).
هنا نلمس الفرق بين عمرو وغيره من ساسة الإسلام، إنه يجيد الاستثمار، ويحسن القيام على المال. . . . . . وهل كان الولاة الأولون يعرفون من هذه الأمور كثيراً أو قليلاً؟ أترك الجواب على ذلك لابن خلدون فله من ذلك شكوى لا تنقطع. . .! وهنا سر الخلاف بين عمر وعمرو، ومبعث هذه المراسلات التي كانت تشتد وربما وصلت إلى التعريض. . . فهذا عمر يقول: (وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق المبين، ولم أقدمك مصر أجعلها لك طعمة!. . .) ثم يقول له في كتاب آخر: (إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن حين وليت مصر!).
إن ابن الخطاب يعرف أساليب عمرو بن العاص، إنه يخشى أن يدخر المال. . . إنه ليبعث إليه محمد بن مسلمة (ليقاسمه ماله) في ظاهر الأمر، وليكون عليه رقيباً حسيباً!. . . في باطنه؛ كان عمر يعرف في ابن العاص صفة التاجر المغامر. . . فعامله على حذر، وأفاد منه ولكن في حذق. ولكن عثمان قد عزله عن مصر. . . فأي خطأ هذا. . . وأي(124/44)
جهل بطبيعته. . . لو أنه وجه إليه كلاماً أفعل من كلام عمر لسكت. . . لو أنه فعل به أي شئ آخر لما أهاجه ذلك هذا الهياج. . . ولكن (الصفقة) ضاعت من يده؛ لقد عزل عمر بن الخطاب خالد ابن الوليد عن إمرة صد الشام فلم يحزن ولم يبتئس، ولكن ابن العاص لا يسكت. . . إنه يعرض بعثمان حيث جلس. . . إنه يخف إلى المدينة مسرعاً وإن الثورة على عثمان لتضطرب بين جوانحه. . . وأي ثورة هي أشد من هذا الحديث البديع الذي رواه لنا الطبري كاملاً:
قال عثمان: يا ابن النابغة!. . . أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بوجه آخر؟
عمرو - إن كثيراً مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك.
عثمان - استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك.
عمرو - قد كنت عاملاً لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض.
عثمان - لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت عليك فاجترأت، أما والله لأنا أعزمنك نفراً في الجاهلية، وقبل أن ألي هذا السلطان.
عمرو - دع هذا، فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهدانا به، قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك عفان، فو الله للعاص أشرف من أبيك.
عثمان - ما لنا ولذكر الجاهلية!
هكذا تنتهي المحاورة بين الخليفة وعمرو. . . ويخرج هذا الأخير وقد دبر في نفسه أمراً. . . إنه ليثير الناس على الخليفة ويقضي وقته متنقلاً من مجلس إلى مجلس يبسط للناس أخطاء عثمان. . . ويحرضهم على الثورة عليه. . . فإذا وفق إلى إثارة الناس وأنذرت الفتنة فقد انحاز إلى قصره (العميلان) بفلسطين. . . حيث وجدناه في أول هذا الحديث. . . فإذا بلغه مقتل عثمان فقد طرب لذلك ولم يكتم فرحه به. . . وصاح يقول: (أنا عبد الله. . . إذا حككت قرحة أدميتها، أنى كنت لأحرض عليه، حتى لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.
والآن! (قد خرج الحق من خاصره الباطل، وأصبح الناس في الحق شرعاً سواء!. مات ولي الأمر وأصبحت دولة الإسلام كلها (صفقة واحدة) تحسن المساومة فيها جملة، ولهذا(124/45)
أرق عمرو وسيأرق طويلاً، إنه ليتدبر الأمر تدبيراً، وإنه ليقلبه على وجوهه ويحسب مكسبه منه، وخسارته فيه، ثم يمضي على حذر، وسنرى.
للبحث بقية
حسين مؤنس(124/46)
في الأدب الإنكليزي
5 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
الأحلام:
إن اهتمام شكسبير بالأحلام ليفوق اكتراثه للعفاريت، فقد جعل منها في كثير من الأحيان قسماً من أقسام الرواية الأساسية بحيث تشكل ما نسميه موضوع الرواية. وهناك عدد من الأحلام في رواياته كان له أثر غير قليل في مجرى الرواية وسياقها التمثيلي. فحلم كلوسستر في القسم الثاني من رواية هنري السادس، وحلم كلارنيس في رواية ريشارد الثالث، وحلم كلبورنيا في رواية يوليوس قيصر، وحلم العرّاف في سمبالين، كلها تكون جزءاً غير قليل من هيكل الرواية التي ذكرت فيها.
وجميع هذه الأحلام التي ذكرتها عدا حلم العراف سمبالين تنبئ عن الموت والخراب؛ فكلوسستر يرى في نومه غلاماً قد لدغته أفعى سامة فقتلته على الفور؛ وكلارنس يحلم أن أخاه قد رمي به في بحر خضم فأغرقه حيث لا رجعة له بعد ذلك؛ وكلبورنيا أبصرت في نومها زوجها قتيلاً بين أيدي مغتاليه ورأت جسده يسيل الدم من جوانبه وقد اجتمع جميع الرومانيين حوله ليرشفوا من دمائه.
وكان الناس على اختلافهم يعتقدون أن الملكة ماب تبعث هذه الأحلام في الصدور؛ وتتجلى لنا هذه الفكرة من أجابه مركونيو لرفيقه روميو إذ يقول: (وإني لأظن أن الملكة ماب قد لازمتك ليلة البارحة)
لقد تحققت جميع الأحلام التي وردت في روايات شكسبير؛ ومن هذا يظهر لنا أن الشاعر كان يعتقد اعتقاداً جازماً في الأحلام وتأثيرها على المجتمع البشري، وهذا الاعتقاد هو ما نسميه اليوم بعلم تفسير الأحلام.
التنبؤ والتنجيم:
تحتوي روايات شكسبير على عدد كبير من النبوءات التي تختلف بحسب أهميتها وكونها(124/47)
قسماً رئيسياً من أقسام الرواية. وأهم هذه النبوءات التي يطالعنا بها شكسبير هي نبوءة مرجريت في رواية ريشارد الثالث. فهي تتنبأ للملكة اليصابات بقدوم وقت قريب تحتاج في أثنائه لمعونة كل إنسان، وهي تنبئ كلوسستر بقرب ذلك اليوم الذي تقطع فيه الأحزان نياط قلبه؛ وإن من الغريب أن كلتا هاتين النبوءتين تتحقق في سياق الرواية.
وأما النبوءات التي فاهت بها الساحرات في رواية مكبث، فقد تحققت كذلك في نهاية الرواية. وهذه النبوءات كما ذكرنا سالفاً كانت على نوعين: أحدهما حدث قبل أن يكون ملكاً على اسكتلندة، والآخر بعد رُقيه العرش، وقد تحققت هذه النبوءات كما تحققت سالفتها.
وفي رواية (ترويلس وكريسييدا نرى هناك عدداً آخر من النبوءات التي تصدر عن أميرة حمقاء تدعى الكسندره، فقد تنبأت بقتل هكتور ودمار طروادة، وهذا ما حدث حقيقة في نهاية الرواية؛ وترى في بعض الروايات عرافين يتكهنون بحدوث الأمور قبل وقوعها؛ ففي رواية يوليوس قيصر يتكهن العراف يقتل قيصر، وهذا ما يتم فعلاً لننتقل الآن قليلاً إلى البحث في التنجيم والفلك، ونرى هل اهتم شكسبير بهذا النوع من المغيبات. لقد وردت إشارات عدة في كثير من رواياته إلى التنجيم وقدرته على حل رموز الغيب والمستقبل؛ فنرى في كل من هملت، ويوليوس قيصر، وكوريولانوس، والعاصفة، وهنري السابع، ومكبث، وقصة الشتاء ' ' عدداً من الظواهر الطبيعية التي تحدث عادة قبل وقوع أمر جلل.
سيطول بنا البحث كثيراً إذا أسهبت في وصف كل من هذه الظاهر الطبيعية وشرح أسبابها ونتائجها، ولذلك اقتصرت على ذكرها دون شرح أو تفسير، فمن هذه الظاهر الكثيرة ظاهرة سقوط المذنبات وارتفاع أمواج البحر وقدوم بعض الطيور وسخط الطبيعة وانتقال بعض أنواع الحيوانات من مكان إلى آخر، كلها كانت أموراً خارقة للمادة تنبئ عن حدث جلل ومصاب عظيم.
الملاك الحارس
يعرّف جونسون هذا النوع من المغيبات بأنه القوة السماوية التي تحفظ الإنسان من الشرور والآلام؛ وبولكير في كتابه (العقائد الإنكليزية) يقدم لنا تعريفاً أوسع وأكثر شمولاً، فهو يقول: (يكون الملاك الحارس ملاكاً خيراً أو شيطاناً مريداً).(124/48)
وقد ذكر شكسبير هذا النوع من المغيّبات في سبعة مواضع، وفي كل واحدة منها اتخذها عنواناً للفضيلة ومعنى من معاني الخير والصلاح إلا في روايته العاصفة عندما يصف فردناند هذا النوع من المغيّبات قائلاً: (إن شيطاني الحارس لن يكون قادراً على إيداع شرفي في الرغام، ولن يكون في استطاعته قط أن يغير معالم السرور التي تحيط بي الآن).
من هذه الفقرة يظهر لنا أن للإنسان ملاكاً وشيطاناً حارسين. يؤكد هذه النظرية خطاب فلستاف إلى بونيز قائلاً: (إن لهذا الغلام ملاكاً حارساً بعثه، ولكن له في نفس الوقت شيطاناً يعمي بصائره ويقوده إلى ما فيه شره ومضرته).
ولا يظهر هذا الملاك الحارس للملأ إلا بعد وفاة صاحبه، فيظهر في كل شبح من الأشباح يرتدي نفس الملابس التي كان صاحبها يرتديها قبل وفاته. ولننظر إلى حالة الذهول التي تستولي على الناس عند نهاية الرواية (مهزلة الغلطات فيرون رجلين متشابهين لا يمكن تمييز أحدهما من الآخر. اسمعهم يتهامسون (إن أحد هذين الرجلين ملاك للآخر أو صورة مطابقة له).
وهذا الملاك يلازم صاحبه تمام الملازمة في غدواته وروحاته وفي نومه ويقظته، وهنالك لا يحدث نزاع بين رجلين إلا ويصحبه نزاع آخر بين ملاكيهما الحارسين. ولنستمع إلى مكبث يقول عن بانكو: (إنه الشخص الوحيد الذي أخافه وأرهبه. إن ملاكي الحارس لا يستطيع القيام بأي أمر من الأمور مخافة غضبه وسخطه، كما كان ملاك أنطونيوس خاضعاً تمام الخضوع لملاك بروتس).
مما تقدم يتجلى لنا أن شكسبير عني بالملاك الحارس شيئاً غير الروح وغير الشبح. فما الملاك إلا باعث من بواعث الخير وداعٍ من دعاة الفضيلة بقي صاحبه ويحفظه من كل ما يهاجمه ويناوئه.
(للبحث بقية)
خيري حماد(124/49)
من تراثنا الأدبي
4 - أبو العَيْناء
للأستاذ محمود محمود خليل
تتمة
قلت أن أبا العيناء اتسع أمامه الميدان أيام المتوكل، وظهر نجمه، وسعدت أيامه، فلم يقتصر الأمر على اتصاله بالخليفة، بل اتصل بوزيره الفتح وأخيه عبيد الله ابني يحيى بن خاقان واستفاد من عطاياهم وسخائهم مالاً كثيراً؛ ولقد مدح عبيد الله لدى المتوكل حينما سأله عنه فقال: (نعم العبد لله ولك، مقسَّم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عادَلَ بصلاح ملكك كل لذة). وله كتاب طويل كتبه إلى عبيد الله يستوهبه دابة يركب عليها حينما وهب له ابنه محمداً دابة، فزعم أنها غير فاره. وهذا الكتاب تستطيع أن تجده في كتب الأدب، وهو يدل على التلطف في المسألة، والاحتيال على هؤلاء الرؤساء بتلك الأحاديث الحلوة الفكهة، مما حبب أبا العيناء إليهم، وجعلهم يغضون عن بذاءته ويلبسونه على علاته.
انقضت دولة المتوكل ووزيريه الفتح وأخيه عبيد الله، واضطربت الأمور من بعده، حتى استتب الأمن، ورجعت المياه إلى مجراها، وتولى الوزارة عبيد الله بن سليمان بن وهب في خلافة (المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي) فاتصل به أبو العيناء وحضر مجالسه؛ وطالما حدثنا الرواة عن كثير من حوادثه معه. دخل عليه ذات يوم فقال: أقرب مني يا أبا عبد الله. فقال أعز الله الوزير! تقريب الأولياء، وحرمان الأعداء. قال: تقريبك غنم وحرمانك ظلم، وأنا ناظر في أمرك نظراً يصلح من شأنك إن شاء الله. وقال له يوماً: اعذرني فإني مشغول. فقال: إذا فرغت من شغلك لم نحتج إليك، وأنشده:
فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
ثم قال يا سيدي قد عذرتك، فإنه لا يصلح لشكرك من لا يصلح لعذرك. ودخل عليه يوماً فقال من أين يا أبا عبد الله؟ قال من مطارح الجفاء. وأقبل يوماً إليه، فشكا سوء حاله، فقال له أليس قد كتبنا إلى إبراهيم بن المدبر في أمرك؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصَّر من همته(124/50)
طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفق سعيي، وخابت طلبتي. فقال أنت اخترته قال: وما علىَّ أعز الله الوزير في ذلك، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رجل رشيد، واختار النبي (ص) عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتباً فرجع إلى المشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب (ض) حكماً له فحكم عليه؟! وإنما قال أبو العيناء ذل الأسر لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره صاحب الزنج بالبصرة وسجنه فنقب السجن وهرب.
ولما نكب الخليفة المعتمد على الله عبيد الله بن سليمان وولي الوزارة صاعد بن مخلد حصل خصام بين الوزير وبين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الكاتب، فانضم أبو العيناء إلى حزب أبي الصقر ولكن ذلك الموقف الذي وقفه من صاعد لم يمنعه من أخذ عطاياه واستجدائه، وحضور مجالسه. وقد عادى أبو العيناء رجلاً يقال له أبو العباس بن ثوابة لمعاداته لأبي الصقر، حتى إن الرجلين اجتمعا في مجلس صاعد يوماً، وكان ابن ثوابة قد سبّ أبا الصقر قبل ذلك بيوم، فقال ابن ثوابة لأبي العيناء: أما تعرفني؟ فقال: بلى أعرفك: ضيق العطن، كثير الوسن، خاراً على الذقن، وقد بلغني تعديك على أبي الصقر، وإنما حلم عنك لأنه لم يجد لك عزاً فيذله، ولا علوا فيضعه، ولا مجداً فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله وينهكه، ودمك أن يسفكه. فقال ابن ثوابة: ما تسابّ إنسانان إلا غلب آلامهما. فقال: لهذا غلبت أمس أبا الصقر!
ولقد كان من جزاء أبي العيناء من أبي الصقر على وقوفه منه هذا الموقف في سبيله أنه عندما تولى الوزارة خيّره فيما يحبه حتى يفعله به، فقال أريد أن تكتب إلى أحمد بن محمد الطائي تعرفه مكاني، وتلزمه قضاء حق مثلي من خدمة، فكتب إليه كتاباً بخطه فوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر واحد مقدار ألف دينار وعشرة أجمل، فانصرف بجميع ما يحبه. وله أحاديث كثيرة، ومجالس طريفة مع الوزير أبي الصقر. ويظهر أن هذا آخر وزير اتصل به أبو العيناء من وزراء الدولة العباسية فإنه لم يعش بعد ما نكب الموفق أبا الصقر إلا قليلاً، وتوفي سنة 282 أو سنة 283هـ.
مهاترته مع كاتبين في عصره
على أننا نرى من الواجب علينا أن نأتي بشيء مما جرى بين أبي العيناء وبين كاتبين(124/51)
قديرين في عصره، هما محمد بن مكرم، وأبي علي بن جعفر الضرير؛ أما مكرم فكانت له معه مداعبات، وكان يهاتره كثيراً؛ كتب إليه ابن مكرم يوماً: قد ابتعت لك غلاماً من بني ناشر ثم من بني ناعظ ثم من بني نهد. فكتب إليه: فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. وولد لأبي العيناء ولد، فأتى ابن مكرم فسلم عليه، ووضع حجراً بين يديه وانصرف، فأحس به فقال: من وضع هذا؟ فقيل ابن مكرم، فقال: لعنه الله إنما عرض بقول النبي (ص): الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لابن مكرم وقد قدم من سفر: مالك لم تهد إلينا هدية؟ قال: لم آت بشيء، وإنما قدمت في خِف، قال: لو قدمت في خف لخفت روحك. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكذبين بالبصرة؟ فقال: مثل عدد البغائين ببغداد!
وأما أخباره مع أبي علي الضرير فكثيرة، وكم أتمنى أن يتيح لي الزمن فرصة الموازنة بين هذين الرجلين، فإن بينهما شبهاً قوياً، وقد وجدا في عصر واحد، وكانا في البلاغة نسيج وحدهما، ولكن كانت بينهما منافسة قوية أدت إلى أن تجري بينَهما مساجلات ومفاخرات كثيرة، حتى إن فتى من أبناء الكتاب في بعض الدواوين تعرض لأبي العيناء، وكان فيه جرأة فقال: كل الناس يا أبا العيناء زوجة، وأنت زوجة أبي علي البصير. فقال له أبو العيناء: قد ملكنا عصمتك بيقين فحواك، ثم ننظر في شكوك دعواك، وقد طلقت الناس كلهم سواك، ذلك أدنى ألا نعول، وفيك ما يروي الفحول، ويتجاوز السول. ففضحه بهذا الكلام ولم يجبه.
وهذا الحديث يدل على أنه قد كان بين الرجلين تصادم؛ وإن شئت فسمه مشاكسة وجدلاً عنيفاً وصراعاً قوياً بالألسن وأنه كثيراً ما يكون الغلب في جانب أبي علي الضرير.
أدب أبي العيناء
ونقصد بهذا الأدب الشعر والنثر؛ أما الشعر فلا نستطيع أن نعد أبا العيناء شاعراً مكثراً من فحول الشعراء لأننا لم نجد له في كتب الأدب والتراجم التي بأيدينا شعراً كثيراً؛ إنما الذي نقدر أن نحكم له به أنه كان من شعراء الكتاب أضراب أحمد ابن يوسف الكاتب والوزير للمأمون فيما بعد، وقد تقدم له بضعة أبيات مدمجة في أحاديثه تؤيدنا في حكمنا هذا.
وأما النثر فقد كان أبو العيناء سباقاً فيه، وتمتاز كتابته بأنها تارة تكون مفرغة في قالب(124/52)
فكاهي مضحك، تقرؤها فلا تكاد تملك نفسك من الضحك، ولكنه إذا أفرغها في قالب الجد أتى بالفقر القصيرة حيناً والطويلة حيناً آخر؛ وكثيراً ما تكون مرسلة، وقد يقيدها بالسجع. فأسلوبه من السهل الممتنع كما يقولون، ويكفيه في منزلته من البلاغة تعجب المتوكل منه، إذ سأله: أكان أبوك في البلاغة مثلك؟ فأجابه بقوله: لو رأى أمير المؤمنين أبى لرأي عبداً له لا يرضاني عبداً له. ونرى كاتباً معاصراً له يشهد له شهادة قيمة وهو محمد بن مكرم الكاتب قال: من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحس بكرم أو شرع في طمع فقد ظلم. ونحن إن كنا نعتقد أن في كلامه غلواً مراعاة للصداقة المحكمة الأواصر بينهما، إلا أن الحال التي وصف فيها أبا العيناء بالإجادة خليقة بتقدير النقد الأدبي لها. فإننا نرى الرجل يأتي برسائل ممتعة حقاً نعجب كيف صدرت عنه، ولكننا لو علمنا أن الدافع له إحساسه بالكرم، أو شروعه في الطمع كما يقول ابن مكرم لا نستغرب هذا.
وإني أريد أن أؤيد كلامي بنماذج من رسائله، ولقد كنت في غنى عن هذا لما تقدم من أحاديثه وكتاباته، ولكني لم أر بداً من الإتيان بنبذ يسيرة منها، فمن رسائله الفكاهية: ما كتبه إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان حينما أهدى إليه ابنه محمد دابة زعم أنها غير فاره:
أعلم الوزير أعزه الله أن أبا علي محمداً أراد أن يبرني فعقني، وأن يربكني فأرجلني: أمر لي بدابة تقف للنبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عَجَفاً، وكالعاشق المجهود دنفاً، قد أذكرت الرواة عذرة العذرى، والمجنون العامري. يساعد أعلاه لأسفله،. . . مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيت، أو أفرد لتعزيت، ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، تضحك من فعله النسوان، وتتناغى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح داوه بالطباشير، ومن قائل يقول نقّ له من الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق، لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفي، وعامر الشعبي، وإنما أتيت به من كاتبه الأعور، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر. فإن رأى الوزير أن يبدلني ويريحني بمركوب يضحكني كما ضحك مني، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطره العيب بقبحه ودمامته، ولست أرد كرامة، سرجه ولجامه، لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يُهديه، أو ينقض ما يمضيه.(124/53)
فوجه إليه الوزير برذونا من براذينه بسرجه ولجامه؛ ثم اجتمع مع محمد بن عبيد الله عند أبيه، فقال الوزير شكوت دابة محمد، وقد أخبرني الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار، وما هذا ثمنه لا يشتكي. فقال أعز الله الوزير لو لم أكذب مستزيداً لم أنصرف مستفيداً، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين، فضحك الوزير وقال: حجتك الداحضة بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة.
ومن رسائله الجدية ما كتبه إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب: أنا أعزك الله وولدي وعيالي زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى، وقد مسني منك جفاء بعد بر، وإغفال بعد تعاهد، حتى تكلم عدوّ، وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً، ولهم مجرّساً. ولله درّ أبي الأسود في قوله: -
لا تهني بعد إكرامك لي ... فشديد عادة منتزعه
وتلك الرسالة كانت كافية في أن تطلق يد عبيد الله بالعطاء فوقع في رقعته: أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت، وميلي إليك كما علمت، وليس من أنسأناه أهملناه، ولا من أخرناه تركناه، وقد وقعت لك برزق شهرين، لتعرفني مبلغ استحقاقك، لأطلق لك باقي أرزاقك، إن شاء الله والسلام.
وكتب إلى الوزير أبي الصقر يشكوه: أنا أعزك الله طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي عند عثرة الدهر، وكبوة الكبر، وعلى أية حال حين فقدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذين يفهمون في غير تعب، وهم الناس الذين كانوا غياثاً للناس فحللت عقدة الخلة، ورددت إلى بعد النفور النعمة، فأحسن الله جزاك، وأعظم حماك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك، فقد أنفقت علي مما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسره الله لي، والله عز وجل يقول لينفق ذو سعة من سعته، فالحمد لله الذي جعل لك اليد العالية، والرتبة الشريفة، لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط فيها من عدلك، وبث فيها من رفدك والسلام.
الزقازيق
محمود محمود خليل(124/54)
وداع والد
للأستاذ محمود خيرت
أخوان ما آب المسافر منهما ... حتى استطاب أخوه هجران الحمى
فالقلب بينهما الغداةَ موزَّع ... حيرانُ يخفق نشوةً وتألُّماَ
ولشدّ ما يجد المُفارِقُ ما انتهى ... مِن جنة اللّقيا إليه جهنما
يا أكبر الأبناء خلّف بعده ... صبراً تقطّع حبلُه وتصرّما
لم تَدْرِ يوم البين ما فعَل الأسى ... بأبيك لما أن دنوتَ وسَلّما
عقد الذهولُ عن الكلام لِسَانَه ... فتكلَّم الدمع العَصِيُّ وترجما
ومشى إليك مشرّداً متخاذلاً ... يأبى عليه الهول أن يتقدّما
حتى إذا نأتِ السفِين بركبها ... وغدوتَ بالبُعد الطويل ملثَّما
بَدَتِ الحقيقة كالخيال فها أنا ... إما أراك غداً أراك توهّما
والدار تنعى أُنسها الماضي وقد ... أمسى على ظَمْأَى النفوس محرّما
يا من كساها مِن بشاشته سَنىً ... عكسَت جوانبُها صداه تبسّما
للدور أرواح تحِنّ لأهلها ... وتطوف مِن خَلل الحواجِز حُوّما
وضّاءة بهمُ الزمانَ فإِن هُمو ... نزحوا تغشاها الظلام وخيّما
كم كنت ترعاني وتأسُو علَّق ... وتحولُ دون الدّاء أن يتحكَّما
ولكَم سهرتَ عليّ فيه ليالياً ... لا عابساً فيها ولا متبرِّما
وتخِذتُ منك وأنتَ منّي عدّة ... عند الزمان إذا الزمان تجهّما
فالبعد أقسى ما يمُرُّ به أبٌ ... ثقُلت عليه همومُه فتهدّما
لكنْ رحلتَ ونصبُ عينك غايةٌ ... كانت أعزّ من البقاء وأكرما
وطَّنتَ نفسك في أمانيها على ... أن تركب الأخطار كي تتعلّما
محمود خيرت(124/56)
سليل الأكابر
بقلم رفيق فاخوري
حَسِبَ الدنَى قيدتْ له ... والكونَ مخلوقاً معهْ
يحيا له ويموتُ إذ ... تطوي الليالي أجمعَهْ
لم يبك من حظٍ يجدِّ ... د للفقير على المدَى
بؤساً ويرسم في محيّ ... اه اكتئاباً سرمداً
فإذا أصاب الدمعُ في ... عين الشجيّ مسيلَهُ
رقصتْ بكفيه المنَى ... فشفى بهنَّ غليله
ورثَ الجهالة فاستعا ... نَ على الجهالة بالغنَى
ويُرَى وضيعاً وهو في ... عُرْف الدراهم فوقنا
أبداً تواكبه وفو ... دُ السعد أنىَّ يمما
وتصوغ أحلامُ الفرا ... غِ له المكارة أنعُما
يمسي ويصبح سادراً ... يأتيه سعياً رزقُهُ
ونظل نطلب ما حَيي ... نا والمطالبُ حقهُ
تُفْدَى سلامته بأرْ ... واح لنا لا تفتدى
الويلُ للخَوَلِ الأصا ... غرِ إن أضاعوا السيدا
إنا بنو الفقر ابتني ... نا بالمساعي مجدنا
وشروا بماء الوج ... هـ حظاً خاسراً لا يقتنَى
ليس الغنَى ما أورثَ ال ... آباءُ أو ما خَلَّفوا
فاشحذْ قواكَ لغَدوةٍ ... تُندي الجبينَ وتُرْعف
يا ويحَ للقوم النيا ... مِ على تصاريف الزمن
الوادعينَ الآكلي ... ن جَنَى العِباد بلا ثمن
يغدو النعيمُ جسومَهمْ ... أبداً فتعتلُّ النُّهَى
لكأنهم إبِلٌ هوا ... ملُ غفلةً أو دونها
جمعوا فما أغناهمُ ... مالٌ عصارتُه الندمْ(124/57)
إن لم تكن بالنفس ذا ... مالٍ فأنت أخو العدم
حمص
رفيق فاخوري(124/58)
أسمى
[مهداة إلى الأستاذ الكبير المازني]
للأستاذ الياس قنصل
يروق له اصطداميَ بالصعابِ ... ويعجبُه اتصاليَ بالعذابِ
فيغريني حديثٌ منه خافٍ ... يخدّرُني بآمالٍ عِذابِ
ويدفعُني إلى بحر الرزايا ... أصارع منه أمواج العباب
إذا سلّمت نفسي من بلاءٍ ... أشارَ على سواه باطّلابي
أريد البعد عن كل اضطرابٍ ... ويأبى أن أكون بلا اضطرابِ
وقفتُ على كرامته حياتي ... وصنتُ علاءه من كلّ ناب
وفضّلتُ الكفاف على ثراءٍ ... يلطّخُ عزَّه برشاشِ عاب
وشدتُ له بآي الفنّ قصراً ... متين الأُسّ مرفوع القباب
تذيع قصائدي منه دوياً ... ستصحبه إلى يوم الحساب
نصيبيَ أن أهيئ وهو يحبني ... وينعم من جهادي بالثواب
فإن أنشرْ مقالاً أو كتاباً ... تخايلَ في مقالي أو كتابي
وإن أسعفْ صديقاً مستجيراً ... تبختر بين أفواهِ الصحاب
وإن أبعثْ إلى أحد خطاباً ... تخطّر في الخطابِ وفي الجوابِ
وإن أرحلْ وإن البثْ مكاني ... تمايل في المجيء وفي الذهاب
فلستُ حياله إلاّ خيالاً ... يجدُّ - متى يجدّ - إلى سراب
نكبت بشرِّهِ وأنا وليد ... ورافقني أذاه في شبابي
وسوف يظلُّ مرصوداً لرزئي ... إلى ما بعد درجي في التراب. .
(عاصمة الأرجنتين)
إلياس قنصل(124/59)
القصص
صور من هوميروس
14 - حُروب طَرْوَادَة
أخيل يبكي بتروكلوس
للأستاذ دريني خشبة
قتل بتروكلوس!
وانقلب هذا النصر المؤزّر إلى ذهول استولى على أفئدة الميرميدون، صيرته الصدمة الهائلة أشبه شئ بالهزيمة المؤكدة!
وبينما كانت أبصارهم زائغةً تنظر إلى ما حل بمولاهم، وبينما كانوا ينظرون إلى أشباح المنايا ترف فوق الساحة، وتُدَوّم على رؤوسهم، تكاد تخطفهم، كان هكتور وملؤه ينزعون عدة أخيل، دون أن يلقوا أقل معارضة!. . . . . . . .
ثم أفاق الميرميدون بصيحةٍ من منالايوس العظيم، اقتحم الحلبة نحو زعيمهم قُدُماً، وناضل وحده عن الجثمان العزيز، الذي كان هكتور يمني نفسه بحمله إلى طروادة ليجعله مَعْرِضاً هنالك، يشهد له بالشجاعة المغتصبة، والجراءة المزوّرة، والبطولة التي لم يكن لها أهل؛ ثم ينبذه بعدها بالعراء فتنوشه الطير، وتغتذي بلحمه المر سباع طروادة وكلابها!. . . . . .
وانقض الميرميدون يذودون عن الجثة مع منالايوس، ولكنه انقضاض المهموم المحزون، وهجمة المرَزّأ المكدود؛ فلم تكن ضرباتهم الواهية تخيف الطرواديين بعد إذ أُنقذوا من بتروكلوس الداهية، ولم تكن صيحاتهم الوانية تهز بضعة من قلوب أعدائهم الذين أصبحت لهم الكرة عليهم. . . . . . . . . .
واستطاع منالايوس، بعد لأي شديد وجهد أن يحمل الجثة، يساعده مريونيس الكبير، وأن يقتحما بها المعترك المصطخب إلى الصفوف الخلفية، يحمي ظهورهما أجاكس وجنوده وذعر قادة الهيلانيين حين رأوا شدة هجمات الطرواديين بعد مقتل بتروكلوس، وحين نظروا فوجدوا الميرميدون يشتغلون عن المعركة بالبكاء على مولاهم، والرثاء لما حل بهم من بعده، والفزع الأكبر للقاء أخيل. . . . لا يتقدمهم إليه قائدهم. . . .(124/60)
ولجأ منالايوس إلى الحيلة، وفكر من فوره في إثارة النخوة في قلب أخيل، عسى أن يقدم فيقود أجناده، ويتم النصر للهيلانيين، فأرسل إليه أنتيلوخوس يحمل النبأ العظيم، ويزلزل من تحته الأرض حين يقص عليه ما لغط به هكتور.
ولو قد علم أنتيلوخوس ما يثيره هذا النعي في قلب أخيل، ما آثر أن ينفذ إليه به! فلقد صرخ ابن ذيتيس صرخة اضطرب لها البحر، وماد الشاطئ، وتجاوبت لها جنبات الجبال، ثم بكى، فاربد أديم السماء واعتكر، واحتلك الضحى وبسر، وشاعت في العالم ظلمه أهول من ظلمة القبور!
(بتروكلوس!. . . . . . . . . . . .)
أفي الحق يا أعز الأصدقاء أنك أوديت! وا حرباً! أإذا لقيتك الآن فأنت ما تحرك شفتيك لتكلمني، وما تفتح عينيك لترى إلى أخيل؟! ألا ينبض قلبك بعد اليوم يا بتروكلوس، حتى ولا بحبي؟!. . . . . .
أإلى حتفك كنت تستأذنني إذن؟. . . . . . . .
ويلي عليك يا بتروكلوس! ويلي عليك يا أعز الأحباب. . .
ولم يُطق، فطفق يحثو التراب على رأسه، ويشد شعره، فيكاد ينزعه، ويرسل في السماء وفي الأرض والبحر صرخاته الداويات.
وانتفض الموج، وفار الماء؛ وكأنما اتصل قلب أخيل باليم فاضطرب بما فيه من وجد، واصطخب بما يؤوده من كمد، وشاعت فيه أشجانه وأحزانه، حتى وصلت إلى الأعماق. . . . حيث تأوي ذيتيس إلى زوجها، رب البحار السفلية، فشعرت الأم المحزونة بما ينتاب ولدها في أسطوله الراسي على هامش طروادة، وأحست بما يأخذه من ألم، ويمزق حشاه من عناء؛ فصرخت ثمة صرخةً اجتمع لها كل عرائس البحر، وعذارى الماء، من حوريات نريوس، وأخذن يلطمن خدودهن الوردية تحت الثبج، ويذرين من نرجس عيونهن فيضاً من الدمع الدري، ثم انتظمن صفوفاً صفوفاً، ورحن يتاهدين وراء ذيتيس، مرسلاتٍ في الأعماق أناشيد الحَزَن، طاوياتٍ ذلك الرحب الذي يفصل بين مملكة مولاهن، وبين شطئان اليوم؛ حتى إذا كُنّ عند الأسطول الهيلاني طفون فوق الماء، فانقلبت اللجة بجمعهن جنة، وارتد البحر بربربهن فردوس نعيم!!(124/61)
وبرزت ذيتيس فَرَقَت سفينة ابنها أخيل الباكي الآنَّ الحزين؛ وتقدمت فضمته إلى صدرها الحنون، وجعلت تُهوِّن عليه أمر صاحبه، وتصرفه عن هذه الحرب التي يفرق من هولها قلبها الخفَّاق أشد الفَرَق، لما تعلمه منذ قديم من القتلة التي تخترم ولدها تحت أسوار طروادة، كما أنبأتها بها ساحرات الماء. .
وأن أخيل أنة شديدة، وقال لأمه: (أماه! هكذا قدر لنا أن نلقي ما حتمه القضاء علينا، وهكذا شاء سيد الأولمب الكبير المتعال، ولكن خبريني بربك ما قيمة هذه الحياة ما لم يعد بتروكلوس ينضرها ويزين حواشيها، وما دام أعز أحبابي وأودائي ملقى هذه الساحة النكراء، ذبيحاً بين أشقى الخصوم الألداء!!
أه يا بتروكلوس! لقد شفي هكتور غلة قلبه حين سفك دمك غادراً، وحين انتزع عدتك غادراً، وحين يفاخر بكل أولئك غادراً!
وهذه العدة يا أماه! أيلبسها هذا الشقي وهي هدية الآلهة إلى بليوس، أبي، رب الأعماق، وهدية من أبي إلي؟!
أبداً لن أعود معك إلى حيث العار الأبدي ينتظرني، ما لم أثأر لأوفى أحبائي بتروكلوس، من هذا النذل، هكتور، وما لم أرو هذه الصعدة الظامئة من دمه النجس، وأقذف في وجهه بمفاخراته الكاذبة وإهاناته للقتيل الكريم. . .
لا. لا، لا تتحدثي إلي عن أوية تصمنا بالذل إلى الأبد يا أماه، وإني لأقسم بالسماء ومن فوقها، لن أبرح الأرض حتى ينفذ هذا السنان في صدر هكتور!)
وصمتت ذيتيس قليلاً، ثم لم تطق أن تخفي ما تخشاه على ولدها من ذلك القضاء المحتوم، فأخبرته بما تحدثت به العرافات عام ولُد؛ وما تخافه من أمر هذه النهاية المحزنة، والفجيعة التي لا تكون مثلها فجيعة.
ولكن أخيل تبسم ابتسامة محزونة، وتحدث إلى أمه عن المجد الخالد الذي سيحمله اسمه آخر الدهر: (واستبشار الهيلانيين بعودتي لمناصرتهم ووضوح الحق وجلائه لأجاممنون إنني روح الجيش وحماسة الجند، والقوة المذخورة لدحر الطرواديين! صه يا أماه! فلن تزعجني مخاوفك، ولن تلقي في روعي أقل الجزع. . . لأنه إن كان حقاً ما تحدثن إليك به، فأين يهرب أحدنا من القضاء!؟!)(124/62)
وبهتت الأم مما صمم عليه ولدها؛ ولما أيقنت أن لا سبيل لها إلى قلبه الجريء، بدا لها أن تعاهده على ألا يخوض الكريهة حتى تعود إليه من عند فلكان، الإله الحداد؛ الذي ستذهب هي إليه تكلفه بعمل درع وخوذة تحملهما إليه، ليحمياه في كل يوم روع!! وعاهدها أخيل.
وأمرت ذيتيس عذارى الماء فانثنين إلى مملكة بليوس، يحملن إليه أنباء ولده. أما هي، فانطلقت إلى فلكان. . . هناك. . . هناك فوق ذروة جبل إطنة، حيث وجدته ينفخ في لظى كيره الضخم. . . يصنع الدروع والعُدد. . .
ولقيها الإله الحداد بالترحاب، وشرع من فوره يصنع عدة لم تر العين مثلها، ولم يأبه أن يصنع مثلها حتى للآلهة!!. . . (وكيف لا، وأخيل الحبيب سيدّرع بها وتحميه من أوشاب الطرواديين، وأوغاد هذا الأخ اللئيم مارس، الذي تعلمين مما كان من أمره مع فينوس ما تعلمين. . لقد فضحني السافل فضحته المقادير. . . . . .)
ولكن الساحة كانت تضطرب، وجموع الطرواديين تأخذ الهيلانيين من كل فج؛ وكانت حيرا، ملكية الأولمب، تطلع من عليائها فتأخذها الرهبة لما يحيق بعبادها من تصريع وتقتيل؛ وكانت مينرفا كذلك تهلع عليهم هلعاً شديداً. . .
وتشاور الرّبتان، واتفقتا على أن تُنفذا إيرليس إلى أخيل، تأمر أنه يخوض الكريهة في جانب الهيلانيين. ولكنه قص على الرسول ما عاهد أمه عليه فعاد الرسول إلى الأولمب يحمل نبأ هذه المعاهدة. . .
بيد أن حيرا أشارت على مينرفا أن تنفذ الرسول إلى أخيل يحمل إليه درعها، وكان لمينرفا درع اسمه ايجيس لم يَصْنع مثله لأحد من قبلُ فلكان؛ وأن يَنهي إليه أنهما تأمرانه بالتوجه إلى الساحة فيطلع عليها ليراه الطرواديون، فإنه بحسبهم أن يروه فيولوا الأدبار!!
وانطلق إيرليس برسالته إلى أخيل؛ فاهتز البطل من نشوة الطرب، وشاعت الكبرياء في أعطافه لأنه سينال شرفاً لم ينله أحد من قبل، وذلك بأنه سيدّرع بقميص مينرفا، المسرودة من حديد!!
وعندما نهض ليلبس الدرع رأى مينرفا نفسها تساعده بيديها الطاهرتين النقيتين كالبلور وتضع فوق جبينه إكليلاً وضاءً من الذهب، ثم تقوده إلى الساحة!!
وهناك، وقف أخيل العظيم فوق ربوة عالية تشرف على الساحة كلها، ثم أرسل في الآفاق(124/63)
صيحةً داوية، كانت تنفخ فيها مينرفا فتزيدها قوة وعنفواناً، فزلزل قلوب الطرواديين وجعلها تدق في صدور ذويها كالنواقيس!!
وما كاد الأعداء يستيقنون أن الصيحة صيحة أخيل، وما كادوا ينظرون إلى هذه الآراد المُنتشَّرة فوق رأسه، والأضواء المتلألئة من إكليله، حتى سقُط في أيديهم وارتعدت فرائصهم وولوا على أعقابهم مدبرين! وكانت خيولهم المذعورة تولي هي الأخرى فتطأ الفرسان هنا وهناك، وتسقط في الخنادق المحيطة بطروادة، فتلقي فيها حتفها بمن عليها!!
وتوارت الشمس بالحجاب.
فتحاجز الجمعان وذهب كل ليستريح من هذا اليوم العصيب وكانت صيحة أخيل أكبر عون لمنالايوس وزميله في الإسراع بجثة بتروكلوس إلى مؤخرة الجيش، حيث الأمان والاطمئنان؛ فلما عاد أخيل كانت جثة صديقه أول ما وقع بصره عليه. . . فبكى. . . وبكى. . . واجتمع حوله الميرميدون يبكون.
ثم رثاه بكلمة دامعة، ترجمت عن نفس مكلومة؛ وأمر فأوقدت نار كبيرة وضع عليها دست ماء كبير؛ وأخذوا جميعاً في غسل الجثة المعفرة بالتراب، ودهنها بالطيوب ثم تحنيطها بالأفاوية والبهار والقرنفل، ولفوها في مدارج طويلة من الحبر الغاليات البيض.
واجتمع قادة الطرواديين يتشاورون في هدأة الليل، فخطب بعضهم ناصحاً بوجوب التحرز داخل الأسوار في غد، مخافة أن يبطش بهم أخيل وشياطينه، لا سيما وهم سيخوضون الوغى بقلوب جرحها مصرع بتروكلوس، وهم لا بد مثئرون له، مهما كلفهم الأثئار من أرواح ودماء!
ولكن هكتور أبى إلا أن يخرج للقوم، وكأن قتله بتروكلوس غيلة قد خدعه عن شجاعة أخيل، وما قدر له مما سيلقاه من بطشة أخيل. . . وهل غد بعيد!!؟؟
وفي اللحظة أيضاً، كان زيوس يتحدث إلى حيرا حديث الذي أُظفر بأعدائه وكأنما أطرب الإله الأكبر أن أخيل يعود إلى المعركة بعد أن أديل له من الهيلانيين ومن الطرواديين على السواء.
وكانت حيرا تسمع إليه وهي تطفر فرحاً! كيف لا؟ وهذا أخيل يعود إلى أعدائها في الغد، فيصليهم عذاباً، ويجرعهم غصصاً ما ذاقوا مذ ترك الحلبة أمثالها!؟ ولتحزن فينوس!(124/64)
وليحل غضب السماء على باريس، ولتذهب التفاحة المشئومة إلى الجحيم. . .
وأشرقت شمس الغد.
ولاحت ذيتيس تتهادى فوق الزبد في الأفق الغربي، تحمل الدرع التي لم يصنع مثلها فلكان.
حتى ولا للآلهة أنفسهم!
والويل لك يا هكتور!!
(لها بقية)
دريني خشبة(124/65)
غريب
بقلم حبيب الزحلاوي
لم يكن باقياً من سنة 1913 سوى شهر واحد وبضعة أيام وقتما وصلت مصر قادماً من دمشق هرباً من مطاردة الحكومة إياي.
الليلة عيد، وأجراس الكنائس تدق، والناس بين داخل البَيع بوجوه تعلوها سيماء الرضى والإيمان، وبين خارج منها مسرع الخطى إلى الفنادق الكبرى والمنتديات الخاصة تطلعاً إلى الاشتراك في حفلات العيد.
كنت مع الماشين إلى النادي الشرقي وكأني منساق معهم إليه؛ ولما دخلته حسبت الناس ينظرون إلي نظرات الاستيحاش والاستغراب.
أهاجت فرحة الناس نفسي فتذكرت والدتي وأهلي وإخواني وقد خلفتهم في غير هذا البلد الذي كل ما فيه يناديني: (غريب)
تركت صحبي ومواطني هناك؛ تركت قلباً وذريات تتأجج نارها كلما طال البعاد، وما أحراها بالاضطرام ليلة العيد إذ ذهبت وحدي إلى ذلك النادي أقضي ساعات مع أناس يعرفونني ولا أعرفهم من أبناء الجالية السورية.
كان كل ما في النادي في تلك الليلة ينم عن المرح والحبور، وكنت الصامت المستوحش الساهم وحدي بين الجمع، لأني (غريب).
انقضت سنوات عدة كنت خلالها لا أنقطع عن زيارة النادي، إذ أصبح لي فيه إخوان وأصدقاء لا يقلون حباً لي ولا يقل تعلقي بهم وإخلاصي لهم عن أولئك الأصدقاء والأخوان الذين خلفتهم في دمشق.
زرت النادي في ليلة الأحد وأنا متأبط ذراع فتاة عرفتها فيه، وقد صارت لي زوجة، وصرت لها بكليتي، وعقدت حظها بحياتي، ووقفت على إسعادها وجودي، وأحسب أني كنت في تلك الليلة من أسعد الناس، وأوفرهم غبطة، وأحرصهم على تكييف كل شيء بالهناء المرفوف على نفسي؛ وحينما كان يطوف بذهني خيال والدتي وأنا وحيدها، وصورة شقيقتي المحبوبة كنت أحاول استهواء ذاتي وإقناعها بأن قد صار لي في امرأتي حنان كحنان الأم، وألفة كألفة الأخت، فوق حب الزوج لزوجه، بحيث أضحى محالاً أن يطوف(124/66)
بخاطري طيف (الغريب) أو وحشة البعيد عن أهله ووطنه.
طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت فيّ روحها، وألهمتني وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حرّ، ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إليّ. .
حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها الجميل بجميل والوفاء بوفاء؛ لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيخ بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم، وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين؛ وكنت أعمل، وسأعمل على أن أجعل من تفاعلات تمازج الأنات المؤلمة ما يزيل العلة الموجعة.
انقضت سنوات أخرى كنت لا أنفك خلالها عن المجيء إلى النادي الشرقي؛ وحدث في عصر يوم من أيام الشتاء أن ذهبت إليه، وكنت متعب الجسم، مكدود القوى، موزع الخاطر، مشرد الفكر، فرحت تواً إلى صالة الرقص وانتحيت ناحية فيها أرفه عن خاطري بقدح من الشراب.
ما كنت لأعبأ بالراقصات والراقصين رغم ما فيهم من رشاقة ودلال جذابين؛ وما كنت لأحس ضربات (الجازبند) العنيفة المؤذية للنفس لأني كنت في شاغل عن كل ذلك.
طال بي الجلوس؛ هممت بالنهوض؛ رفعت رأسي عفواً وإذا بي ألمح سيدة جالسة قبالتي على قيد أمتار مني، ما كدت أتبينها حتى نهضت مسرعاً لتحيتها.
عرّفتني السيدة إلى زوجها، واكتفت بقولها عني: (صديقنا) وذكرت اسمي، فكان هذا التعارف على ما فيه من بساطة واقتضاب كافياً لاستذكار الزوج، فنهض مسلماً سلام مودة وصداقة، داعياً إياي إلى مجالستهما. . . . . . . . انطلقت ألسنتنا بالحديث، تارة عن الحياة الزوجية وسعادتها القائمة على التضحية، والتفاهم، والطمأنينة، وطوراً على الأبناء وعناء تربيتهم، وعما يضحي الآباء في سبيلهم من عواطف زوجية يستغرقها الحنان الوالدي. كنا نتكلم عن كل شئ، وعن كل إنسان نعرفه في لبنان بسرور، ولم ننس الغدير(124/67)
وأحراج الصنوبر، ودير (القرقفة) في قرية كفر شيما مسقط رأس السيدة حيث عرفتها هناك، وكنت أُلمح من طرف خفي إلى حوادث الشباب، ولم يصدنا عن الاسترسال في التنقل بالكلام كالأطفال من موضوع إلى آخر إلا دعوة الزوج زوجه إلى الرقص معه، واعتذارها بلطف إليه بحجة الرغبة في الرقص معي رقصة (التانجو).
رقصنا. . . . . . وكنت إبان الرقص كالساهم الغارق في حلم لذيذ؛ كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلمها؛ لم أجتل محياها؛ كنت نشوان بها؛ لم أسمع كلمة منها، بل شعرت بجسمها اللين البض يسترخي شيئاً فشيئاً بين ذراعي. كنا سوية كنبرة وتر مزدوجة عزفها موسيقى ماهر، فصدرت كأنها من وتر واحد، يدفع خطانا وينقلها نقلاً إيقاعياً متناسقاً. . . . . . . . . . وقبل الانصراف تواعدنا على اللقاء في النادي في الليلة القادمة.
طافت بي الخواطر، ثم ألحت عليّ، فآثرت العودة إلى البيت ماشياً لأطلقها في أوسع مجالات الفكر.
رجعت بي الذكريات إلى دمشق يوم بارحتها ويوم لذت بلبنان بقرية صغيرة رابضة فوق ربوة تطل على سهول (الشويفات) ثم البحر، تكتنفها أحراج الصنوبر وقد انتشر منها أرج الأصماغ؛ ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة أشبه بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأحلام!! وتراءت لي أطياف سكان القرية وهي تحج إليه متسلقة الربوة بهمة ونشاط، يتهادون في ابتسام الفجر الساحر المغبر تحية الصباح.
ذكرت إقبال رجال القرية للسلام عليّ ودعواتهم إياي إلى زيارتهم. ذكرت الساعات الطوال التي كنت أقضيها بين الأحراج أفترش الأرض، وأناجي الشجر، وأملأ من جمال الطبيعة قلبي وروحي؛ تراءت أمام عيني صور شيوخ القرية جالسين في القهوة يدخنون النارجيلة ويحلمون، والشباب يلعبون الورق أو يشربون ويغنون؛ كنت أطرب لسماع أغنيتهم المستمدة من وحي روح الطبيعة الساذجة الهادئة، والمعبرة عن دوافع الغريزة بأبسط الكلمات والإشارات.
ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الحري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق،(124/68)
وخطواتها المتزنة الحازمة.
كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلاتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!؟ لقد حيرها سؤالي فارتبكت وسكتت عن الجواب؛ وذكرت أيضاً زيارتي لها في بيت أهلها وكيف اعترفت لها بحبي وعاهدتها على الزواج، وتلك الأوقات الحلوة التي كنا نقضيها تارة في النقاش وقراءة الكتب، وطوراً في التطلع إلى المستقبل والتمهيد لبناء عش سعادتنا.
تمثلت يوم عودتي إلى دمشق، والاضطهاد الذي أصابني من حكومتها، وفراري من السجن والتجائي إلى مصر بعد الحكم علي وعلى زملائي بالنفي المؤبد، لا لشيء إلا لأننا من دعاة الاستقلال الظامئين إلى الحرية.
ذكرت كل هذا والطريق يمتد أمامي؛ كانت ظلمته تبعث في نفسي رؤيا تلك الأيام التي ودعتها منذ سنين في أرض الوطن وطويتها بين ضلوعي، وبدا لي كأن ماضي يبعث من جديد وينشر فجأة؛ تجسمت أمامي الحوادث كأنما لم يمر عليها ساعات، ذلك العهد الباسم الذي أمضيته وإياها، خيل إلي أن هذا الماضي الماثل القريب قد ضاع مني كله، كأن بيني وبينه برزخاً. . . فجوة الزمن، والحنث بالعهد، تفصل بيننا!!!
ارتدت بي الذكرى فجأة إلى النادي الشرقي، فاستشعرت تلك الذراع الغضة منبسطة فوق كتفي، والصدر المليء ما برح يتموج مختلجاً بين ذراعي؛ جاشت نفسي بالذكرى، وعضضت شفتي ندماً وقلت: ليتني، ليتني ما حنثت باليمين. . . . . . . .
ما كنت أحسبني استعيد مرح الصبا ونشوة الرقص، وقد أرهقني الزواج المبكر بأحمال من الرزانة، وبأثقال من الوقار، وبكل ما تفتعله أكاذيب العادات ونفاق التقاليد.
لم أكن أنشد في الرقص ما ينشده شبان ينتقلون كالنحلة من زهرة إلى زهرة، يرتشفون من ندى زهرات الحياة ما يرتشفون. . . لم أكن كعقلاء العزّاب أو جهالهم أبحث عن فتاة فيها من أوصاف الجمال الجثماني، أو طيش الطباع النزاعة إلى العبث واللهو، أو وفرة المال للزواج، بل كنت مكبوت النفس بحب قديم لم تقو صروف الزمان ومناسباته ولا تطورات الفكر على خنقه؛ لا غرابة في خمود ذلك الحب طوال السنين، بل الغرابة لو لم يستيقظ ويستنهض فيّ دوافع الميول المستقرة في أعماق قلبي بكامل ما فيها من قوى الحياة تهليلاً(124/69)
للحب البكر البريء.
لقد كنت والسيدة أحرص ما نكون على إخفاء أمارات الحب في عيوننا؛ لم يكن في مظاهرنا ما يلهم غريزة المرأة استشعار الواقع بدليل أن امرأتي لم تدرك شيئاً منه؛ أما زوجها فقد كان له من أقداح الوسكي وأحاديث البورصة والمضاربات ما يشغله عنا، فلم يع شيئا من ذلك أيضاً؛ وهكذا كانت تنقضي ليالي الاجتماع بمظهرين: مظهر النفس المتأججة بلاعج من حب باطني، ومظهر السكوت الدال على الاندماج الكلي في وحدانية الحب المقدس، وعلى التجاوب الروحي والتفاهم الجسدي حين المخاصرة.
لم يعد طبيعياً أن تطاوعنا عناصر الوجود على استدامة هذه الحال، فلما همست أخفتَ همسة في أذن (حبيبتي) أطلب منها لقاء على انفراد، أومأت بهدب جفنها إيماءة الرضى وأتبعتها بلمحة من بسمة ارتسمت على جانب شفتها، ونظرت إلي نظرة طويلة. . . ثم فتحت فاها كأنها تريد أن تقول شيئاً، ولكنها أحجمت وأطبقت شفتيها. . . ثم عادت فاشترطت أن يكون اللقاء في الريف على ضفاف النيل، وألا يرى أحدنا الآخر إلا في الموعد المضروب؛ رضيت بهذا الشرط الصارم وحرماني منها طيلة عشرة أيام.
عبثاً كنت أحاول إخماد حدة الأزمة النفسية التي ساورتني ففزعت إلى (الأقصر) أستمد السكون والهدوء من مشاهدة آثار العصور الخوالي في وادي الملوك، ولكن متى كانت صور الفن تصرف الذهن عن الصور الحية، وكيف يهدأ قلب استفاق من هجعة الحب الأول على صراخ تأنيب الضمير؟
عجباً! لم جعلت اللقاء بعد عشرة أيام ودعمته ألا يرى أحدنا الآخر خلالها؟ هل رمت من وراء هذا التباعد إلى إثارة قوى الدفع والجذب التي تكون وليدة الآمال المرتجاة؟ هل شاءت بباعث من غرائزها التي يعمل عقل الرجل مجتهداً في حل رموزها أن تمتحن الفوارق بين اللقاء المكظوم في صالة الرقص وبين اللقاء الموعود في الريف؟ هل أرادت أن نستجم للقاء كما يستجم الشاعر لإبداع قصيدة، والعابد لتمتمة صلاة غير مسطورة في كتاب، والصوفي للاندماج في وحدانية الله؟ وإنما رغبت في أن يكون لقانا اللقاء الأخير وموقف الوداع قبل السفر!!
. . . . . . دنا الموعد، اقتربت ساعة اللقاء، وقفت أنتظر قدوم سيارتها وأرقب دقائق(124/70)
الساعة بضجر ملحّ، وأعدّ الثواني باضطراب. تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن والزمن لا ينفك منذ الأزل وسيبقى مدى الآباد يسير بنظام محكم الضبط إلا أنا، أنا الشاذ المضطرب، الصاخب الهادئ، المفكر المبلبل، أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك، أنا الذي أعيش في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة!!!
لمحت سيارتها مطلة من بعيد فشعرت بدمي يندفع حاراً في عروقي وسمعت بأذني وجيب قلبي. . . وقفت السيارة، وإذ فتح بابها رأيت السيدة جالسة وإلى جانبها صبي صغير، وكانت مرتدية ثوباً أزرق وقد أمالت رأسها إلى جانب من السيارة، رأيت في عينيها الحالمتين فتوراً ساحراً غريباً؛ وقفت زهاء نصف دقيقة ذاهلاً مبهوتاً لم أستطع النطق حتى بالتحية؛ خيل إلي أني قد استجمعت في هذه الفترة كل ماضينا. . . والتفت فوقعت عيناي على الصبي. . . وانقبض قلبي؛ غام الضوء في نظري وشعرت بحزن طارئ يستولي علي، كبحت جماح عواطفي، وتعملت الابتسام، وكانت قد أفسحت لي مجالاً فوثبت إلى المقعد ورأيتني بالقرب منها.
لم أدر السبب الذي حدا بي كي أستجيب وأصعد إلى السيارة؛ لقد غمرني مرأى الصبي بإحساس مؤلم قوي لم أكن أتوقعه حتى لقد وددت أن أفر بنفسي.
وكأنما قد أشفقت علي، فلم تتكلم، بل مدت بأطراف الأنامل يدها وتلاقت يدانا في مصافحة صامتة، وكانت يدي باردة كالثلج بينما كان الدفء يسري من كفها. ثم قربت يدها شيئاً فشيئاً حتى احتوتها يدي، فضغطت عليها ضغطة قوية كأنما أردت أن أهرب من برودة قارسة إلى حرارة الحياة.
استأنسنا بالصمت، ثم تلاقت عينانا؛ كان في نظراتي شبه استعتاب لمجيء الصبي معها، وكأنها فهمت ذلك بالنظرة الخاطفة فشاءت أن تعدل عنها، وتبسمت واهتزت يدها في يدي تريد أن تذكرني بأني أضغط في عنف عليها، وتألق في عينيها لمعان. . . هذا اللمعان الذي أبصرته في مقلتيها الكستنائيتين أول مرة عرفتها، لمعان قوي كضوء باهر في ليلة شتاء يسطع بين السحب ثم يختفي. . . أجل؛ بدا لي أنني أعثر في تلك السيدة على أشياء ما رأيت قط مثلها في امرأة من قبل، وكان هذا محور حياتي معها وتاريخ حبي لها. . .(124/71)
فيها أشياء كالنور حيناً والحرارة حيناً؛ فيها صمت لا أدري قراره. . . شممت عطرها القديم الذي طالما ملأت منه رئتي، فاسترحت.
السيارة ماضية بنا تنهب الطريق الممتد بين حقول القطن تظلله غصون الشجر، لم أكن لأستطيع في هذا الحين جمع خواطري لأنها كانت تتناثر كالشرر، إنما كنت أحس كأني انفصلت عن العالم وانقطعت صلتي بالناس، بالحياة وبالواجب أيضاً.
هاهي إلى جانبي، المرأة التي كنت ركزت عليها آمال الشباب، هاهي مبعث الحلم البعيد الذي يصطخب في قرارة تصوراتي، هاهي الومضة الخاطفة التي بإشاعتها تنير أجواء التفاؤل في حياتي، لقد حققت بوجودها جميع صور الخيال وأطياف الأحلام، هاهي بروحها وجسمها إلى جانبي لا يحتجزها عن الالتصاق بي سوى طفلها الجالس في هدوء كأنه يحلم مثلنا.
. . . علام أتجاهل حياتها الواقعة، بل لم أتغافل عن الأمر الواقع الصارخ؟ إن قوانين الحياة وتقاليدها البغيضة تسري علينا سوياً، فلماذا أحاول أن أبعث في نفسها أنانية متمردة شرهة كالتي تعج بها نفسي؟ كلنا أسرى العواطف، عبيد الشهوات، أفلا يليق بنا وقد ولجنا عالم الإنسانية من أبواب الشعر أن نقيم لسيول الشهوة العمياء سدوداً تحول دون اجترافنا؟ أجل، إني لأنزه الحب عن أن يكون مجرد مادة، كما أني أتبرم به متى كان حرماناً صرفاً. يسمو الحب على الحقائق ولكنه لا يستطيع أن ينكرها أو يستهين بها؛ فلماذا تتألم نفسي من وجود الصبي بيننا؟
يسمو الحب على الحقائق، ولكنه متى نما واكتمل وازدهر، وتسنم ذروته العليا فقد يخضع لهذه الحقائق عن رضى لأن سر عظمته في اللين والخضوع!!
لماذا أفزع من وجود الصبي؟ لقد جاءت به لتفصلني عنها، لتضع سداً بيني وبينها، لتنقذ حبي من التردي في مهاوي الواقع والفناء في ظلمة الحقيقة. . . إنها تحبني، أشعر بهذا من رعشات يدها، ورجفات جفنيها، من شفتيها المختلجتين وعينيها المتقدتين شهوة وحسرة، تحبني ولكنها لا تريد الاستسلام، تحبني وتخشى إن هي استسلمت ثم افترقنا على مضض، كما يقضي بذلك الواجب، أن تعذبني الحسرة وتشقيها اللوعة، وأن تترك من شخصها في خيالي صورة بشعة ملوثة تهبط بهذا الحب الرائع القدسي إلى درك الحيوانية الأولى!!(124/72)
إنها تريد أن تكون بكليتها لي، أولا تكون لي أبداً، وما دامت سترحل في الغد، عائدة إلى لبنان، فهي تؤثر أن تحرمني كل شئ على أن تسقيني من كأس بدنها الشهي جرعة واحدة لا تنقع غلتي ولا بد أن تسمم في المستقبل كل حياتي.
أواه! لقد أدركت ما يجول بخاطري، هاهي تتفرس في وتتأملني وتشفق علي منذ الآن، ويكاد الدمع يطفر من عينيها.
لماذا؟ لماذا تبكين يا حبيبتي؟! أخذت رأسها بين ذراعي ألاطف شعرها بينما كانت تنتفض ودموعها الحارة تتساقط على يدي.
تجاه هذه الدموع لم أجد بداً من الإذعان لها، أشفقت عليها كما أشفقت علي، سموت بحبي كما أرادت أن تسمو بحبها، عولت على ألا أعترض القدر، وأن أنزل ما استطعت على حكم هذه المرأة التي علمتني أن في وسع الإنسان أن يعيش بالروح أكثر مما يعيش بالجسد، وأن الحب الكبير قد يستطيع أن ينتصر لا على المادة فقط، بل على الزمن أيضاً.
أرسلت نفساً طويلاً فرّج عن صدري، وضاعف أعصابي صلابة وقوة، فتنحيت قليلاً ومددت رأسي إلى حيث سائق السيارة وغمغمت بهذه الكلمات: (عد من حيث أتيت).
حدَّقت فيّ وأشرق وجهها بغتة، ثم أطرقت برأسها وتلمست يدي ورفعتها برفق إلى شفتيها، فشعرت بالقبلة الهادئة تجمع بيننا إلى الأبد.
عادت بنا السيارة تنهب الأرض، والأشجار تتعاقب، والهواء يصفر، والصبي يضحك، وأنا أردد في نفسي هذه الكلمات: غريب! غريب! غريب!
حبيب الزحلاوي(124/73)
البَريد الأدَبيّ
أسبوع المتنبي في الجامعة المصرية
اعتزمت كلية الآداب أن تقيم أسبوعاً حافلاً للمتنبي بمناسبة انقضاء ألف سنة على وفاته في أوائل العشرة الثانية من شهر رمضان سنة 1354 في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية، وسيلقي أساتذة الكلية محاضراتهم على الترتيب الآتي:
الدكتور طه حسين: المتنبي في شبابه (من مولده إلى اتصاله بسيف الدولة)
الأستاذ عبد الحميد العبادي: سيف الدولة
الأستاذ أحمد أمين: المتنبي وسيف الدولة
الدكتور حسن إبراهيم: كافور الأخشيدي
الأستاذ أحمد الشايب: المتنبي في مصر
الدكتور عبد الوهاب عزام: المتنبي من لدن خروجه من مصر إلى وفاته
الأستاذ إبراهيم مصطفى: المتنبي والنحاة
الأستاذ عبد الوهاب حمودة: أسلوب المتنبي
الأستاذ مصطفى عبد الرزاق: فلسفة المتنبي
وسيتخلل هذه المحاضرات إنشاد بعض قصائد المتنبي وغناء قطع من شعره
سيلفان ليفي حجة التاريخ والحضارات الهندية
نعى إلينا من باريس العلامة والمؤرخ الفرنسي الكبير الأستاذ سيلفان ليفي أستاذ التاريخ الهندي وحضارات الشرق الأقصى بالكوليج ده فرانس. توفي في الثانية والسبعين من عمره بعد أن قطع زهاء نصف قرن يدرس الحضارات الهندية والصينية، وكان مولده سنة 1863 من أسرة يهودية؛ وكان سيلفان ليفي علامة واسع الثقافة، ولغويا ضليعاً، وحجة في شؤون الحضارات الهندية والصينية واليابانية، وفي حل المخطوطات والرموز الهندية والصينية القديمة. وقد ظهر منذ شبابه بميله إلى هذه الدراسة الفريدة، فكتب (رسالته) لنيل العالمية عن (المسرح الهندي) وتاريخه وتطوراته وخواصه، ودرس الديانة البوذية دراسة واسعة، وكذلك الفلسفة البوذية والبرهمية ووضع عنها رسائل وبحوثاً عديدة؛ وقام الأستاذ ليفي بعدة رحلات علمية واستكشافية في بلاد الهند والهند الصينية واليابان وجاوة، وفي(124/74)
بلاد التبت وسيبريا، وكتب على أثر رحلاته الهندية كتاباً عن بلاد (نيبال) والتبت، وهو يعتبر من أعظم كتبه إن لم يكن أعظمها. ثم نشر بعد ذلك مؤلفاً ضخماً عن (الهند والعالم) شرح فيه الدور الذي قامت به الحضارة الهندية في تكوين الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية.
وقد كان سيلفان ليفي أستاذاً في معهد الدراسات العليا، ثم أستاذاً في الكوليج ده فرانس منذ سنة 1894؛ ثم تولى رئاسة قسم العلوم الدينية في معهد الدراسات العليا. وكان عضواً عاملاً ومراسلاً في معظم الجمعيات العلمية الكبرى التي تعنى بالمشرقيات، وكان منذ سنة 1828 رئيساً (للجمعية الأسيوية).
ومنذ نحو أربعين عاماً يشغل سيلفان ليفي بين علماء المشرقيات مركزاً فريداً، فهو الحجة الثقة، وهو المرجع المفرد في أخص المسائل التاريخية والاجتماعية والأثرية الهندية والصينية؛ وفي قراءة اللغات الهندية القديمة ولا سيما السنسكريتية التي كان من أعلامها والتي تلقاها على أستاذه بورجيني أشهر علمائها في القرن الماضي.
وكان لسيلفان ليفي أكبر الفضل في إحياء كثير من اللهجات الأسيوية القديمة، وكان لمباحثه وجهوده الدراسية والأثرية أكبر الفضل في إلقاء ضوء كبير على الدور الخطير الذي قام به التفكير الهندي القديم في توجيه التفكير الأوربي وفي تكوين الحضارة الحديثة. وأخيراً كان سيلفان ليفي حجة الشؤون الاستعمارية في الشرق الأقصى، ترجع إليه وزارة الخارجية الفرنسية فيما يمس الشؤون الاجتماعية والنفسية لشعوب الهند الصينية، وفيما تقوم به من المشروعات الإصلاحية والعمرانية.
وكان يتمتع بحيوية مدهشة، فقد لبث حتى أواخر أيامه منكباً على مباحثه ودراساته؛ وقد حضر مؤتمر المستشرقين الأخير في رومة وألقى فيه خطبه باللاتينية كانت موضع التقدير والإعجاب؛ وكانت وفاته فجأة وفي ذروة القوة والنشاط.
حول قبر الصفدي - إلى الأستاذ علي الطنطاوي
أذكر حين زيارة المرحوم زكي باشا لقبر الصلاح الصفدي في حارة يهود صفد أن مؤرخ فلسطين الأستاذ عبد الله مخلص ذكّر الباشا أن الصلاح الصفدي، خليل بن أيبك مرموس في دمشق؛ وكأن هذا التذكير لم يرق للباشا الذي يريد أن يزرع كل أقطاب الإسلام في(124/75)
فلسطين فلعل فيهم سياجاً يدرأ ما ينتابها من المحن - رحمه الله! ولما لحظ عليه الأستاذ المخلص هذا ساق إليه حديثاً آخر، وهو أن عالماً دمشقياً قبر في صفد، وكان معاصراً لابن أيبك، وبعد مدة نقل ذووه رفاقه إلى دمشق؛ وأضاف: لعل عادة الرفات كانت أمراً شائعاً في ذلك الزمان، ولا يستبعد أن يكون أهل الصلاح نقلوه من دمشق إلى صفد وقبروه في هذا المنزل الذي كان عامراً بذكر لا إله إلا الله!! فضحك الباشا وقال بلهجته لمصرية الحلوة: أيوه جبوه! جبوه؟ لقد فرجت عني والله!
وكان من مساعي شيخ العروبة أن بنت جمعية الشبان المسلمين قاعة كبرى في موقع ممتاز في البلد لتكون غرفة مطالعة باسم (مكتبة الصلاح الصفدي)، وعلى أن تضاف إليها غرفة مقببة تنقل إليها رفات هذا القبر المهين، فتكون مزاراً لعارفي فضل ابن أيبك ولكن (الله يعمرك يا صفد) والسلام
صفدي آخر
نظريات الجنس والسلالة
صدر أخيراً في إنكلترا كتاب تثير قراءته كثيراً من الاهتمام وعنوانه: (نحن الأوربيين) وضعه كاتبان عالمان هما جوليان هكسلي وا. هادون، وموضوعه استعراض نظرية الجنس والسلالة التي تثير اليوم كثيراً من الجدل. وهو على صغر حجمه بفيض مادة ووضوحها؛ وقد استعرضت فيه النظرية الحديثة الخاصة بالوراثة البيولوجية وظروف تطبيقها على الإنسان وما يكتنف تكوين الأمم الأوربية من العوامل؛ وفيه شرح شائق لنظرية السلالة المزعومة التي اتخذت في ألمانيا ستاراً لأغراض السياسة. ويذهب المؤلفان إلى أن البيولوجيا لم تبق بعد داروينية النزعة (نسبة إلى داروين) بل غدت مندلية النزعة (نسبة إلى مندل صاحب مذهب الوراثة). والمعروف أن الوراثة البيولوجية تحدث خلال آلاف الوحدات، ولكن الخواص العقلية والجسمية تتأثر أيضاً بمؤثرات المحيط والطبيعة والتربة، ومن الممكن أن يصقل العقل والخلق بالمران؛ ويدلل المؤلفان بطريقة بديعة على أن معظم الخواص التي يزعم هتلر ودعاته أنها جنسية ترجع إلى فعل السلالة، إن هي في الحقيقة إلا خواص ثقافية محضة. فإن الإنسان له وراثة اجتماعية كما أن له وراثة بيولوجية، ومن الصعب علينا أن نستخرج الخواص القومية من غيرها؛ بيد أننا نستطيع(124/76)
أن نعين المؤثرات الاجتماعية بطريقة حاسمة. ويدلل المؤلفان على نظريتها بأمثلة جنسية وقومية واضحة غير اليهود الذين هم اليوم هدف لمطاعن الجنس والسلالة. ويذهب المؤلفان أيضاً إلى أنه لا توجد ثمة أجناس نقية، ذلك أن الإنسان يتأثر خلال الأجيال بمئات الأجداد والأسلاف، ويشتق منهم جميعاً؛ والواقع أن كلمة (الجنس) قد فقدت معناها بالنسبة للجماعات الإنسانية. وأما هذه المزاعم الحديثة التي تنسب إلى الجنس والسلالة فليست سوى (علم مزعوم) ينظم لتستتر وراءه غايات السياسة.
وفاة شاعر روسي
توفي أخيراً في باريس شاعر روسي فتي هو بوريس بوبلافسكي. وباريس هي كما نعلم مهجر الروس البيض الذين يخاصمون البلشفية ويمقتونها، وفي باريس يترعرع أدب روسي ناشئ هو أدب المهجر، يتأثر تأثيراً كبيراً بالأدب الفرنسي؛ وقد كان بوريس بوبلافسكي من أعلام هذه الحركة الأدبية ومن أقوى ممثليها، وفد باريس حدثاً، وتكون فيها تحت تأثير الأدب الفرنسي، فنشأ يمثل مزيجاً بديعاً من الأدبين الروسي والفرنسي وظهر بنظمه القوي المؤثر حتى شبهه بعضهم ببعض أكابر الشعر المعاصر مثل رمبو وأبولنير.
وكان بوبلافسكي ينشر قصائده ومقطوعاته في بعض المجلات التي يصدرها الروس المهاجرون مثل مجلة (الأخبار المعاصرة) ومجلة (تفينو) ومجلة (تسسلي)؛ وكان علماً بارزاً بين أدباء المهجر على رغم حداثته. وفي سنة 1931 نشر مجموعة شعرية بالفرنسية عنوانها (الأعلام) وقد ترك عند وفاته مجموعة شعرية أخرى لم تنشر، وكذلك قصتين. وكان بوبلافسكي أيضاً كاتباً مجيداً وباحثاً؛ وكان حركة مضطرمة، وقد توفي في أوج قوته وعنفوان شاعريته، وأحدث موته فزعاً كبيراً في أدب المهجر. وأثار بين مواطنيه في المهجر أيما حزن وأسى.
جائزة نوبل
منحت الجائزة الأولى من جوائز نوبل هذا العام، وهي جائزة الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) لعالم ألماني هو الأستاذ هانز شييمان من أساتذة جامعة فريبورج: ومما يجدر ذكره أن هذه هي المدة الرابعة التي يرشح فيها الأستاذ شبيمان نفسه لنيل هذه الجائزة(124/77)
الشهيرة.
والأستاذ شبيمان في نحو السبعين من عمره؛ وهو يخصص حياته منذ ثلاثين عاماً للعمل في سبيل التكوينات الميكروسكيبية، وقد نجح أثناء مباحثه في نقل بعض الأعضاء الحيوية إلى (الأجنة) وجعل فيها مخلوقات جديدة، وهذا ما يسمى في اللغة العلمية (بالخياليات).
وقد انتهت مباحثه في هذه (الخياليات) إلى نتائج تلفت الأنظار؛ وكان أن أستحق معها جائزة نوبل وقدرها نحو سبعمائة ألف فرنك فرنسي (أعني نحو عشرة آلاف جنيه)، وبذلك تنتهي هذه الحياة الباهرة بحياة رغد وثراء.
ومما يذكر بهذه المناسبة أن العلماء الألمان والنمسويين هم أكثر العلماء نيلاً لجوائز نوبل وخصوصاً في النواحي العلمية المحضة مثل الطب والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضة؛ ولم يمر عام لم يظفر فيه واحد منهم أو أكثر بجوائز نوبل. أما جوائز نوبل الأدبية فأكثر ما يظفر بها الكتاب الإنكليز أو الأمم اللاتينية.(124/78)
الكتب
(1) المختار للأستاذ عبد العزيز البشري
(2) المرشد العربي للسيد سهيل للسيد
للأستاذ محمد كرد علي
- 1 -
خُصَّ الأستاذ البشري بالإجادة البالغة في ضروب الكلام. وكتابه (في المرآة) شاهد بتفوقه في الصناعة، وأنه نسيج وحده في أسلوب الجد في الهزل والهزل في الجد، ساعده على هذا الإبداع والإمتاع تمكنه من ناصية اللغة، وقبضه على قياد الآداب، إلى ما فُطر عليه من ظرف شفاف، إذا تنادر وإذا تهكم، وأتى يودع الآن كتابه (المختار) بعض ما أبدع فيه من المقالات والمسامرات والمحاضرات، فكان له المنّة على أبناء هذه اللغة بما ينوّع لها من أصناف القول، وبما يحمل إلى مختلف الطبقات من ألفاظ ومعان وتراكيب لا يكادون يقعون عليها إلا في كلام نبغاء البلغاء.
البشريّ كالجاحظ إذا عرضت له النكتة قالها لا يبالي، وإذا اقتضته الحال أن يتهكم تهكم، يدخل السرور على قلب قارئه ويعلمه ولا يشقُّ عليه، وقليل جداً في فصحاء جيلنا من تهيأت له الذرائع إلى إتقان فنه هذا الإتقان، وقليل مثله من عرفوا الحياة ولابسوها كما أرادت ثم قابلوها بالضحك والسخرية، وقليل جداً من خبروا المجتمع المصري خبرته، فكتب ما توقع منه نفعاً في رفع مستواه الأدبي.
أحسن الأستاذ خليل بك مطران بقوله في تقدمه كتاب البشري إنه متحف حافل بالمفاخر، وإن كل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر وروية وقد كسر كتابه هذا على ثلاثة أبواب (الأدب) و (الوصف) و (التراجم). فعالج في الأدب فصولاً في القصص، والنقد الأدبي، والأدب بين القديم والجديد، والأدب القومي وغير ذلك، وفي باب الوصف جوّد في مقالة (الراديو)، كما يصفه أعرابي قادم من البادية و (في الطيارة بين الماظة والدخيلة) وفي غيرها من الفصول. وفي التراجم ترجم لحسين رشدي باشا من رجال السياسة وللشيخ علي يوسف من أرباب الصحافة ولمحمد بك المويلحي من أهل الأدب. ترجم بروح جدّ فكانت ترجمته على مثال التراجم المتعارفة. أما يوم ترجم (في المرآة) مثلاً للشيخ أبي(124/79)
الفضل الجيزاوي ولأحمد مظلوم باشا وللدكتور محجوب ثابت فإنه أتى بالمرقص المطرب، وربما لم يكتب لأحد من المحدثين إن وُفّق إلى مثل هذه الإجادة في تصوير الصفات والحركات بهذه الطريقة.
وبعد فإن أدب الشيخ البشري لا يتذوقه كما قال شاعر العرب مطران إلا من يدرسه ويعاود دراسته بروية وتبصر. وصاحبه واحد من بضعة المنشئين في هذا العصر، يحاولون بأسلوبهم - ولكل واحد منهم أسلوبه على حياله - أن يعيدوا إلى العربية رونقها القديم من الجزالة والسلاسة، والبعد عن السجع إلا إذا جاء عفو الخاطر.
ولعلهم موفقون إلى بلوغ الغرض الذي سددوا سهام أقلامهم إليه.
- 2 -
أعجبني من هذا الدليل في القسم الإسرائيلي منه وصف عمال اليهود في فلسطين و (لعل أرفه حياة يعيشها عامل في العالم كله هي حياة العامل اليهودي في فلسطين) بفضل (الهستدروت) أي النقابة العامة لعمال اليهود. وهي جمعية توزع العمل على العمال وتدافع عن حقوقها وتكره أصحاب الأعمال على التقيد بأنظمتها وتؤمن حياة العمال وتجد لهم عملاً وتوزع العمل بينهم في الأزمات وعند تكاثر العمال وهبوط الأعمال. وللهستدروت شركات تعاون وقرى يعيش ساكنوها عيشة اشتراكية. قال إن الفلاحين في القرى الاشتراكية يعيشون حياة غريبة الشكل بالنسبة للشعوب الأخرى. خصوصاً الشعوب العربية. فهم لا يتناولون أجراً ولا يعرفون قيمة الدراهم. بل يعملون في قراهم بدون أجر، يأكلون ويشربون ويلبسون وينامون ويتنزهون ويتطببون ويتزوجون ويتناسلون، من غير أن يكلفوا بدفع فلس واحد، لا يعترفون برئيس ولا زعيم، ولا يجعلون للأديان السماوية سلطاناً كبيراً عليهم، وكلهم في نظر إخوانهم يتساوون في الحقوق والواجبات؛ وقد لاحظ الكاتب أنه يصعب على كل إنسان أن يعيش عيشاً اشتراكياً كما يعيش هؤلاء إلا إذا كان على جانب من العلم والثقافة، ويميل بفطرته إلى الحرية المطلقة، على ألا يستعمل هذه الحرية في خرق الأنظمة والقوانين؛ ومن أهم شركات التعاون شركة المساكن، ولها بنايات ضخمة في البلدان التي ينزل فيها العمال مثل حيفا وتل أبيب، وتتألف هذه البنايات من 150 بيتاً، ولا يختلف بعضها عن بعض إلا بالسعة، وكلها مبنية على طراز واحد استكمل شروط(124/80)
الصحة والفن.
ويعيش الأولاد في القرى الاشتراكية حياة مستقلة تختلف عن حياة الكبار، فلهم بيوت ومطاعم خاصة ومطبخ مستقل ومربيات خصوصيات، قال: والإنسان الاشتراكي لا يعيش هنا لنفسه فقط، بل للمجموع، وعليه أن يجدّ لسعادة المجموعة الاشتراكية أو الأخوية الاشتراكية التي يعيشها، ولا يحاول أن يعتلي على زملائه أو يتحكم فيهم، فهو عامل وشريك، ورأس مالي وفقير معدم في وقت واحد؛ والأغرب أن على هذا الإنسان الذي يعيش بدون أمل في الرفعة والسؤدد الشخصي أن يجد ويجتهد، ويعمل بهمة ونشاط كما لو كان يعمل لمستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده؛ وإذا لاحظ إخوانه في الاشتراكية أنه كسول خامل، يعمل أقل مما يقدر على عمله، لا يتوانون عن إفهامه بلطف وجوب مغادرتهم، فإن تجاهل أفهموه صراحة وحكموا بطرده؛ ومتى زهد في الحياة الاشتراكية تقدم له الجمعية نفقات سفره إلى المكان الذي يقصده، وإن رغب أحد الاشتراكيين في زيارة أهله نقدوه نفقات سفره ذهاباً وإياباً إلى أقصى الأرض ليعود إليهم بعد انقضاء مدة الأذن، ومن كان له فقراء من أهله في مدن أخرى، تقدم له المجموعة الاشتراكية مبلغاَ شهرياً لا يتجاوز الجنيهين، وفي هذا الدليل فوائد كثيرة ينبغي للفلاح المصري والشامي والعراقي أن يتعلموها، وينسجوا على منوالها بما يلائم طباعهم وعاداتهم.
محمد كرد علي(124/81)
العدد 125 - بتاريخ: 25 - 11 - 1935(/)
على هامش الموضوع السابق أيضاً
عطف جميل. . .
وجَّه الكاتب الفرنسي النابه فكتور مرجريت نداء صارخاً إلى (الضمير البشري والعالَم الحر)، أهاب فيه بذوي الوجدان من بني الإنسان أن يتعاونوا على دفع الظلم وكف الأذى عنمصر التي كابدت أضرار الرق، وعالجت آصار الذل، ثلاثاً وخمسين سنة لم يفتُر لصَرْخاها استغاثة، ولم يكن لصرعاها أنين؛ ثم ناشد أعلام الذكاء الفرنسي أن يظاهروه على هذا النداء، فأمضاه منهم خمسمائة وثمانية آلاف من العلماء والأدباء والفنانين من بينهم جول رومان، واندريه جيد، ورومان رولان، وهادامار.
عَرَض الكاتب الشكور في ندائه المحَن التي انفجرت على ضرب مصر منذ توقح على ضرب الإسكندرية ذلك الأسطول الذي يتقلب اليوم بين شواطئها ومرافئها تقلب العزيز المقتدر والمختال المملك؛ ثم عَرَّض بتلك الوعود الفواجر التي جرت على لسان غلادستون وغرفيل وسالسبورى وأضرابهم من الَمذَّاعين الذين بنوا هذا الملك الضخم على مراوغة اللسان ومماطلة الزمان ومغافلة الناس؛ ثم ذكر اضطراب مصر في الأصفاد، واستشهاد شبابها في الجهاد، وذياد الحلفاء وفْدَها المختار عن مكانه في مؤتمر السلام؛ وعجب أن يتسع إنجيل وِلْسُنَ لحرية الحجاز وأرمينية وألبانيا، ثم يضيق عن تحرير مصر وهي ما هي في وحدة الأرض وقوة الدولة وتجانس الأمة، فيذرها معلقة على رغمها بين حق حليم الطبع وباطل سفيه السلاح، ثم أعاد إلى الذاكرة قول الكاتب الخالد اناطول فرانس: (أن ساستنا أنقذوا من يد العدم انشروا من طوايا القبور عشرين أمة، فانتهت إلى الحرية بولونيا وعادة إلى الحياة أرمينية؛ ولكن العدل الإنساني يأبى أن يبرأ من تناقضه ونقصه، فكان من نقص هذا العدل، ومن حمق المدعين للحزم والعقل، أن صارت مصر وحدها هي الضحية الكبرى لأكذوبة السلام).
غضبة سامية، وصرخة داوية، ودعوة كريمة وصدورها عن حفدة الذين أعلنوا بأقلامهم حقوق الإنسان، وأطلقوا بأسيافهم حرية العالم، أمر جار على مألوف الطبع والعادة؛ ولكن الأستاذ فكتور ينادي غير سميع، ويخاطب غير واع! لقد هوى ذلك الضمير الإنساني صريعأ أمام الجشع، وجثت حرية العالم ضارعة إلى الحرص، واستحال الإنسان الجديد(125/1)
إلى معدة مسحوتة هائلة لا تكف عن القضم، ولا تعيا عن الهضم، ولا ترسل الميول والعواطف إلا في نواحي المنفعة. أين كان ذلك الضمير الحر حين رجفت باسمه الرجفة الكبرى، وأصاخت إلى صوته الهدنة العظمى، ثم جلس على أقدار الشعوب لويد جورج وكليمنصو وويلسن، وأيديهم على منضدة الصلح فوق أعواد الزيتون وأغصان الغار، يتقاسمون الحقوق الممزقة، ويتهادون الحريات المسلوبة، ويقيمون أنفسهم أوصياء على فرائس اقتطعوها، ثم عجزوا أن يبلعوها، فقدموها إلى الوصي كما تقدم الشاة إلى الأفعوان، يزدردها في سكون،؟ ويهتضمها على مهل أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر حين تجاوبت بالأنين ضحايا السلام في تركية ومصر وفلسطين وسوريا والعراق؟ تستغيث بالولاء للحلفاء فلا تغاث، وتُلوِّح بالوثائق والوعود فلا تبالَي، وما ذنبها أنها ضعيفة، ففيهم أضعف منها وإنما ذنبها أنها مسلمة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر وصرخات مصر الشهيدة تتعاقب على أسماع المدينة من غير فترة، فتمزق أغلفة الأذهان بالحجة، وتلمس لفائف القلوب بالرجاء، ثم لا ترتد أصداؤها إلا بالخيبة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر والوعود الستون بالجلاء تتساقط من فوق المنبر الدستوري العريق تساقط الشهب، يخطف البصر سناها في جو السماء، ثم تكون حجارة باردة على الأرض؟ هؤلاء أبناؤنا الأعزة يا مسيو فكتور كما سمعت هناك ورأى إخوانك هنا: يشترون بأنفسهم الغالية الهتاف للحرية، لعلهم ينبِّهون العامِهَ، فيبصر، ويرشدون المبطل فيُقصر ويُسمعون المخطئ فيصيب. ولكن الطوائر، تئز والبواخر تصفِر، والمصانع تضج، والمناورات الحربية ترعد، والخطب الخداعة تهدر، فكيف تجد الأصوات الرقيقة العذبة سبيلها في هذه الضوضاء العنيفة إلى آذان هي بطبيعتها موقورة عن مثل هذا النغم؟ ولو كان الضمير الإنساني لا يزال حياً لرأى من خلال الحجب، وسمع من وراء الآفاق، ثم وخز النفوس وخزته الإلهية، فيشعر القوي أنه زل، ويدرك الغوي أنه ضل، ويفطن الإنسان أنه إنسان.
لقد كنت أود يا مسيو فكتور أن ينبسط عطفك حتى يشمل أخواناً وجيراناً يعانون من الذكاء الفرنسي مثل ما نعاني من الدهاء الإنجليزي، ولكننا سئمنا الكلام وأنفنا الاسترحام واحتقرنا الحجج.
لقد بلُد الشعور حتى لا يحس ألا ذبابَ السيف، وثقل السمع حتى لا يدرك ألا قصفة المدفع،(125/2)
وكَلَّ الذهن حتى لا يفهم إلا كثافة المادة؛ فأين يقع من ذلك بيان الأدب ومنطق العلم وخيال الفنان يا مسيو فكتور؟؟
أحمد حسن الزيات(125/3)
المجنون
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء يمشي هادئاً يتخيَّلُ في مِشْيته، يَرْجُفُ بين الخُطوة والخطوة كأنه من كِبره يُشعرك أن الأرض مُدركة أنه يمشي فوقها. . . . ولا ينقلُ قدمَه إذا خَطَا حتى يَنْهضَ برأسه يُحركه إلى الأعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئنَّ إلى أن رأسَه معه. . . . أم يُخَيَّل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة فهو يهزُّه هزَّ الراية. . . .
وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طولُ غرفةٍ وعرضها - فهو إذا زائغُ البصر كأنما واقع في صحراء يقلَّب عينه في جهاتها متحيَّراً متردِّداً، ثم كأنما رُفِعَ له في أقصاها جبَلٌ فأخذ إلى ناحيته. . . . .
ورحبتُ به، وأجلستهُ إلى جانبي، فأخذ يَسْتَعَرِفُ إليَّ بذكر أسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئاً كأنه عنترةُ بني عَبسٍ، لأرضه من طبيعتها جغرافياً، ومن أسمه جغرافياً على حدة. فلما رآني لا أُنْبِتُه معرفة قال: أن بك نسياناً قلت: وكثيراً ما أنسى، غير أن أسمك غير من ذلك الأسماء التي تذكّر بتاريخ.
قال: هذه غلطة الجرائد. . . ومهما تنسَ من شيء فلا تنسَ أنك أستاذاً (نابغة القرن العشرين). . .
فسرَّحتُ فيه نظري، فإذا أنا بمجنونٍ ظريفٍ أمردَ أهيفَ، يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلاً، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.
وتوسمتُ فإذا وجه ساكن منبسطُ الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن الدنيا ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه.
وتأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنوناً لا هو طفل ولا رجل.
وتفرَّستُ فإذا آثارُ معركةٍ باديةٍ في هذه الصَّفحة قَتْلاها أفكارُ المسكينِ وعواطفُه.
وتبَّينتُ فإذا رجلٌ مُستَرْخٍ، مُتفتّرُ البدن، خائرُ النفس، وكأنه قائم لِتَوَّه من النوم فلا تزال في عينه سِنَةٌ، وكأنه يتكلم من بقايا حُلُم كان يراه. . .
وخُيِّل إليَّ من هذا الخُمول في هذا الشاب أن عليه جوَّا من تثاؤبه وان المكان كله يتثاءبُ،(125/4)
فتثاءبت.
فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: أن (نابغة القرن العشرين) رجلٌ مغناطيسيّ عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم. . . وحسبُكَ فخراً أن تكون أستاذَه وأخاه وثقتَه، (فليس على ظهرها اليوم أديبٌ غيري وغيرك. . .).
قلت في نفسي: إ تا لله، ما يعتقد الرجلُ أن على ظهرها مجنوناً غيره وغيري، وكأنما ألمَّ بذلك فقال: لستُ مجنوناً، ولكني كنت في البيمارستان. . .
قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟
قال: لا. إن هذا الذي تسميه أنت هو مستشفى المجاذيب، أما الذي سميتُه أنا فهو مستشفى فقط. . .
وذكرتُ عندئذٍ أن من المجانين قوماً ظُرفاء يَدخُلُهم الفسادُ في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونُهم جنوناً إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير انهم بذلك طيَّاشون متقلبون، إذا ازْدُهِىَ أحدُهم لم يُطقْهُ الناس من زهوه وكبريائه وتنطُّعِه، كأنه واحدُ الدنيا في هذه الفكرة وكأن بينه وبين الله أسراراً؛ ويظن عند نفسه انه اعقلُالناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونُه إلا في هذه الطبقة وحدها.
ومثل هذا لا بد له ممن يستجيبُ لهذَيانه كيما يحركَ فيه خفتَه وطيشَه وزهوه وليكونَ عنده الشاهدَ على هذا الوجود الخياليِّ المُبدَع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل. فإذا هو ظفر بمن يُحاسنُه، أو يصانعُه، أو يجاريه حَسبَِه مُذْعِناً مؤمناً مصدِّقاً، فلا يَدَعُه من بعدها ويتعلق به اشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه. . . فيتخذه صفيَّاً وهو يعتقد انه رقيق؛ وقد يَزُعمُه أستاذَه لِيُفهِمَه من ذلك بحساب عقله. . . أنه تلميذُه.
وخشيتُ أن يكون (نابغة القرن العشرين) لم يُسمِّني أستاذَه إلا بحسابٍ من هذا الحساب، فهو سيُعطى الأستاذيةَ حقَّها، ولكن كما هو حقّها في لغة جنونه. . . فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعتَه، ومحدِّثَ هذيانه، وثقتَه وملجأه، والمحاميَ من ورائه؛ قلت في نفسي: إذا أنا تركتَه جالساً كان هذا المجلسُ مَثابَتَه من بعد فلا يعرف له محلاً غيره ويصبح كما يقال في تعبير القانون (محلّه المختار)، فَيتَطَرَّأُّ إليَّ لسبب ولغير سبب، ويقعُ في أوقاتي وقوعَ السَّهوِ لا حسابَ عليه ويضيعُ فيه ما يضيع. فأجمعتُ أن أصرفَه راضياً باليأس وقد انتهت(125/5)
نفسُه من معرفتي وانتهى عقله إلى الرأي أني لا اصلح له أستاذاً، لا بحسابه هو ولا بحساب الناس.
فقلت له: ظني بك انك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذ، واراك قد فرغتَ للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه وتكاد لا تفي به الساعاتُ الباقيةُ من الوقت و. . فقطع عليّ وقال: أن الوقت ليس في الساعة، والدليل أني أعطلها فيتعطل الوقت ولا يكون فيها يوم ولا ساعة ولا ثانية ولا دقيقة.
فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمسُ التي تعيّن منازلَ النهار، فسيمرُّ الظهر ويحينُ العصر و. . .
قال: ويأتي غد، وإنما أنا معك اليوم فقط. . . ويجب أن تغتبط بأنك أستاذ (نابغة القرن العشرين)، فقد قرأت الكثير في الأدب وقرأتك، فما كان لي رأي إلا رايتّه لك، ولا صحَّت عندي نظرية إلا رايتك قد أبديتَها، وأنا لا اعتقد أدباً في مصر إلا ما توافَيْنا عليه معاً (ولا أسلّم جدَلاً، ولا جدَلاً أسلّم أن في مصر أدباء ينالون مني شيئا، فهو أنا وأنا هو)، ولئن لم يذعنوا (لنابغة القرن العشرين) فلَيعلمُنَّ انهم (وقعوا مني موقعَ نملةٍ على صخرة). هذا من جهة، ومن جهة أريد سجائر وليس معي ثمنها). . .
فتهللْتُ واستبشرتُ، وقلتُ له: هذا قرش فهلمَّ فأشتر به دخانك، وفي رعاية الله. ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقم، بل تمكَّن في مجلسه. . .
وكرهتُ أن أتَغَير له وما اشك انه في هذا صحيحُ التمييز؛ فما أسرعَ ما قال: أن (نابغة القرن العشرين) فتى قويُّ الإرادة، فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعاتٍ فما هو بصبور. . . . وإذا لم يُثْبتْ لك هذا الأمرَ عن مُعَايَنَة. . . . فما أعطيتَه حقَّه.
فقلت في نفسي: لقد غرستُ الرجلَ من حيث أردتُ اقتلاعَه، وأيقنت انه من عقلاء المجانين الذين تتغير فيهم العاطفة أحياناً فتُلهمهم آياتٍ من الذكاء لا يتفق مثلها إلا لنوابغ المنطق؛ وذكرت (بهلول) المجنون الذي حكوا عنه أن إبراهيم الشيباني مرَّ به وهو يأكل خبيصاً فقال له: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته أليَّ لآكله لها. . .(125/6)
وقالوا: انه مر بسوق البزَّازين فرأى قوماً مجتمعين على باب وكان قد نُقِب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا اعلم
فقالوا هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشَونه فالْطِفُوا به لعله يخبركم. ثم قالوا: اخبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سَنيّ وحلواء، فلما شبع قام فنظر في النقْب وقال: هذا عمل اللصوص. . . . .
وكانت مجلة (الرسالة) في يد (نابغة القرن العشرين)، فصل الكلامَ بها وقال: أنه يقرأ كل مقالاتي وأنه وأنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنتَ منها؟ قال: (مقالة السيما). . .
فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس
قلت: فأنا لم اكتب مقالاً عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلماً في مقالة
فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا (نابغة القرن العشرين) فاقرأ مقالتك في العيب من قبل أن تكتبها. . . .
قلت: انك تكثر أن تقول عن نفسك (نابغة القرن العشرين) وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه، فلو قطعتَ الكلمة وقلت (نابغة القرن) لصحّ أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر وما قبلهما وما بعدهما.
فرأيت به شَدْهَةً كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا. لا. وان هاهنا موضع نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول إني نابغة قرن خروف. . . .
فقلت في نفسي: حمأةٌ مُدَّتْ بماء. وان هذه الوساوسَ لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه، والأفكار في ذهنه مجتمعة مختلطةٌ مسترسلةٌ كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.
وسكتُّ وأعرضت عنه فجعل طائفة يعتريه، وكان السكوت قد سلَّط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمانُ الطرق بالمجنون لا يزالون به حتى يُجْردُوه ويفقدوه البقيةَ من صبره وعقله معاً. فغضب (نابغة القرن العشرين) ونقله الغضبُ إلى حالة زَمْهَرَتْ فيها عيناه وكلَحَ وجهه حتى خفتُ أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعلّلتُ بسؤاله ألك اخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة. . .؟(125/7)
قال: أن له أخاً يعذبه ويُوقِعُ به ضرباً ويغلله بالسلاسل ويشدُّه (بأمراس كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدل) وأنه أنزل به من العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم
قلت: فأنت في حاجة إلى راحة ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه
قال: أني منصرف وسأجلس في نديّ كذا (هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة)
قلت: فهذا قرش تدفعه ثمناً لها فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندىّ فالمكان هاهنا كثير الضجيج والحركة.
واستُوفزت للقيام، ولكنه لم يَتَحَلْحَلْ من مجلسه
ثم قال: أراك الآن مُسْتَبْصِرا أني (نابغة القرن العشرين) بعينه
قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معاً. . .
قال: لا. لا. أنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينهُ ونفسهُ وذاتهُ. (أي أنا نابغة القرن العشرين بعينهِ ونفسهِ وذاتهِ، فليس غيري نابغة القرن العشرين)
وكادت نفسي تخرج غيظا ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى الصَّدقة، وقلت أن أدباء المجانين كثيرا ما يتفق لهم الإبداع الظريف إذا علَّلوا شيئا كذلك القاصّ الذي كان يقصُّ على العامة سيرة يوسف عليه السلام، فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا هو اسمُ الذئب الذي لم يأكل يوسف. . .
فقلب للمجنون: فما العلةُ عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وانفه وفمه ويده ورجله؟
فنظر نظرةً في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاتهُ ودراهمهُ. (هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان).
قلت: هذه هي أجرة السيارة وصَحِبتك السلامة، ونهضتُ واقفا، ولكنه لم يتحرك.
ثم قال: انك لم تعرف بعدُ (أنى أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر، أني في الخطابة قُسُّ بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، أني صخر لا ينفجر. . . يابس لا ينعصر، لست كالحجَّاج بل كعمر).(125/8)
قلت: هذا شئ يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها فقد آمنت انك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسُّل.
قال: والفلسفة وكل معقول ومنقول. وقد انتهينا على ذلك
قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممروراً (كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكريّ أو لذكائي الطبيعي وهو الأصح. . . فبّين لهذه الجرائد أني خرجت أني سأطبع الأدب بطابع جديد).
قلت: ولكني لست مراسل جرائد. قال (فاجعلني رسالةً وراسلها عني أو اكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية، فضلا عن أنى كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ. وهذا قليل من كثير، فهل أعوّل عليك في صلتي بالجرائد أولا؟)
قلت: انك تعرفهم ويعرفونك وقد بَلَوتهم وَبَلَوْا منك فلست في حاجة إلى عندهم.
قال: (انهم يخشون بآسي وقد حسبوني مجنونا استهوته الشياطين، وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك. . . هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء ولا أكلفك شيئا. . .).
قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب. وهم الآن يتعدون ويوشك إذا أبطأتَ أن توافقهم وقد استنفذوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة.
قال: صدقت؛ يوشك أن أوافقهم وقد فرغوا من طعامهم وغسلوا الآنية. فلا بْقِِ هذا للعَشاء وسأطوي إلى الليل. . .
قلت: فمعك الآن ثمن الدخان، والقهوة، والغداء، وأجرة السيارة إلى بلدك. وقد كان نابغة القرن الثالث للهجرة واسمه (طاق البصل) يغني بقيراط ولا يسكت إلا بدانق. هذا من جهة، ومن جهة فخذ هذا القرش ثمناً لسكوتك وانصرف.
فشقَّ ذلك عليه وقام مُغْضَباً، وتنفسَّتُ بعده الصعداء الطويلة. . . . وفتحتُ النافذة واستقبلتُ الهواء النقيَّ أخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب فإذا (نابغة القرن العشرين) مقبلٌ مع نابغة قرنٍ آخر. . . . . . .
(لها بقية)(125/9)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(125/10)
في مائة عام
الصراع بين الطغيان والديموقراطية ومحنة الديموقراطية
المعاصرة
بقلم مؤرخ كبير
منذ نحو قرن ونصف كانت ريح الثورة الفرنسية الكبرى تهب على الملوكية الفرنسية، فلما انفجر بركان الثورة بعد ذلك بنحو عامين أو ثلاثة، سقطت الملوكية الفرنسية وكل صروحها ونظمها القديمة صرعى الفورة المضطرمة، ولكن الثورة الفرنسية لم تقف عند حدود فرنسا، ولم تقف عند سحق الملوكية الفرنسية، ولم تلبث أن غدت ثورة عالمية ترتجف لها كل العروش والنظم في أوربا القديمة، وتتحد جيوش أوربا القديمة قلى مقاومتها وإخمادها. ولكن جيوش أوربا القديمة ارتدت منهزمة أمام القوى المعنوية الجديدة الني تضطرم بها جيوش الثورة؛ ولم تسحق الثورة أمام العدو الخارجي، ولكنها سحقت في غمر من المعارك الداخلية على يد قادتها وزعمائها أنفسهم، ولم تلبث أن استحالت إلى حركة خانعة ذلول تحملها موجة من الطغيان العسكري لتحقيق نفس الشهوات القومية والمبادئ المطلقة التي قامت لسحقها.
غير أن الثورة الفرنسية تبقى مع ذلك حركة تحرير عالمية، بل هي من بين الثورات التحريرية الكبرى أوسعها مدى وأبعدها أثراً في تاريخ الإنسانية؛ ذلك أنها قامت قي الأصل على حقوق الإنسان، وجعلت غايتها تحرير الحقوق والحريات العامة من أصفادها، وسحق كل النظم الطاغية، وتقديس الفرد وحقوقه، واعتبار الدولة خادم الأمة في مجموعها، وخادم الفرد والأمينة على حقوقه ومصالحه؛ ولهذا كان ظفرها عظيما، وأثرها عميقا في بث المبادئ الديمقراطية والتحريرية في أمم أوربا القديمة؛ ومنذ فاتحة القرن التاسع عشر نجد معظم الأمم الأوربية التي تسودها النظم المطلقة مثل روسيا القيصرية، وإمبراطورية النمسا والمجر تجيش بفورات تحريرية متوالية، وتطالب بإقامة النظم والدساتير الحرة، ونجد الملوكيات القديمة المطلقة تجد بكل ما وسعت في قمع هذه الحركات التحريرية.
وقد تجلى هذا الصراع بين الطغيان والديمقراطية على اثر سقوط نابوليون وسحق الفورة(125/11)
العسكرية البونابارتية التي شغلت أوربا مدى خمسة عشر عاما، وقامت الملوكيات الطاغية القديمة تأتمر وتتحد على قمع المبادئ والحركات التحريرية التي اتسع نطاقها وسرت إلى معظم الأمم الأوربية، واضطرت معظم الحكومات المطلقة أن تنزل عند ضغطها ووعيدها وان تبذل بعض المنح الدستورية؛ وأسفرت هذه الحركة الرجعية التي نظمها ودبرها إسكندري الأول قيصر روسيا عند عقد (المحالفة المقدسة) الشهيرة بين روسيا وبروسيا والنمسا (سنة 1815)، وكان غرضها الظاهر أن تنظم الدول الثلاث شؤونها الداخلية والخارجية طبق التعاليم المسيحية، وان يحكم الملوك الثلاثة بين شعوبهم بالعدل والمساواة، وان يقوموا بتأييد السلام، ولكن كان غرضها الحقيقي أن تتهاون الملوكيات الثلاث على قمع الحركات التحريرية التي تضطرم بها أمم القارة، وعلى تأييد الحقوق الملوكية المطلقة، وعلى مقاومة الروح الدستورية الحقيقة وإخضاعها لهوى العرش وأرادته؛ وقد انضمت معظم الدول الأوربية الأخرى إلى هذه المحالفة الشهيرة، عدا إنكلترا التي كانت تمثل النزعة الديموقراطية الخصيمة.
ولكن الروح الدستورية كانت قد نفذت إلى الأعماق وحمل تيار الحركة التحريرية أمامه كل شئ، فلم تنجح حركات القمع إلا قدر ما يؤيدها العنف؛ وكان العنف كالعادة يغذي هذه الوثبات الشعبية ويذكيها؛ فلم تلبث عير بعيد حتى عادت إلى الاضطرام؛ ومنذ سنة 1830 نرى الثورات الشعبية تتفجر هنا وهنالك في أوربا. ثم كانت سنة 1848، التي يمكن أن تسمى بحق عام الثورة الديموقراطية، وفيها سقطت الملوكية في فرنسا أمام إرادة الشعب مرة أخرى، وقامت الجمهورية الفرنسية الثانية؛ وفيها اضطرمت الثورات التحريرية في ألمانيا، وفي معظم أنحاء الإمبراطورية النمسوية، وفي كثير من الدول الإيطالية، واجتاحت أوربا من أقصاها إلى أقصاها ريح تحريرية قوية اهتزت لها كل النظم الطاغية والعروش القديمة المطلقة؛ ولم يلبث أن لاح فجر الديموقراطية الحديثة في الأفق قوياً ساطعاً.
وبلغت الديموقراطية ذروة ظفرها عقب الحرب الكبرى، فانهارت القيصرية الروسية، وانهارت الإمبراطورية النمسوية، والإمبراطورية الألمانية، والسلطنة العثمانية، وقامت جمهوريات فتية، في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتركيا، وفي عدة أخر من الدول الجديدة الناشئة التي خلقتها معاهدة الصلح لأغراض عسكرية وسياسية؛ ثم قامت الجمهورية(125/12)
أخيراً في أسبانياٍ بعد أن سقطت ملوكيتها القديمة التالدة أمام الفورة العامة.
ولكن هذا الظفر الذي أحرزته الديمقراطية عقب الحرب الكبرى كان خليا، ولم يقم على أسس أو روح ديمقراطية حقيقية، بل استمد من الفوضى العامة التي أحدثتها الحرب؛ هذا إلى أن هذه الديمقراطية الظافرة لم تكن رزينة عاقلة، بل انساقت غير بعيد إلى ألوان خطرة من العنف والتطرف والفوضى. ومن جهة أخرى فقد كانت الديمقراطية قناعا للطغيان المطلق في روسيا السوفيتية وفي تركيا. وقد أدى تطرف الديمقراطية وتفرق كلمتها ووهن جبهتها غير بعيد إلى انهيار صروحها في إيطاليا حيث قام الطغيان المطلق باسم الفاشستية، ثم إلى انهيار صروحها في ألمانيا حيث قام الطغيان المطلق باسم الاشتراكية الوطنية، وانهارت الديمقراطية أيضا في بولونيا وفي النمسا وفي دول أخرى حيث قامت أنظمة قومية أو عسكرية طاغية بألوان وأسماء مختلفة، وهكذا لقيت الديمقراطية في بضعة الأعوام الأخيرة من ضروب الفشل والمحن ما لم تلقه قط في حياتها القصيرة الظافرة؛ والديمقراطية اليوم تناضل عن مبادئها وعن كيانها، ولكنها تناضل في غمر من الصعاب واليأس لأنها لا تناضل فقط أنظمة ومبادئ خصيمة، وإنما تناضل أيضا قوى عسكرية طاغية هي التي تعمل باسم المبادئ والنظم الجديدة.
غير أن الديمقراطية ما زالت تحتفظ بميزتها الكبرى، وهي أنها ما زالت تعتبر قانون الحكم العام، وما زالت مبادئها هي المبادئ الشعبية الخالدة، وهي المبادئ التي ترتكز إليها الحقوق والحريات العامة في كل الأمم المتمدنة؛ وهذا هو سر بقائها وسر قوتها، وهذا ملاذ آمالها ومستقبلها.
أما هذه النظم الطاغية التي تقوم اليوم باسم الشعب أو باسم القومية في دول مثل روسيا وتركيا وإيطاليا وألمانيا، فهي في الواقع نظم عنف وإرهاب محض؛ وهي ابعد النظم عن المبادئ الحرة والمبادئ الإنسانية: ذلك لأنها تمثل النزعة الفردية الحزبية قبل كل شئ، وفي هذه النزعة الفردية الحزبية تذوب فكرة الدولة والأمة والحقوق العامة؛ وقد قامت البلشفية في روسيا باسم الكتلة العاملة واسم سيادتها مناقضة لسيادة الرأسمالية في الدول الأخرى؛ بيد أن هذه السيادة المزعومة للكتلة العامة في روسيا، ليست سوى سيادة الحزب البلشفي، بل هي في الواقع سيادة عصبة من الزعماء والساسة يحكمون تلك الكتلة الشعبية(125/13)
الهائلة بوسائل العنف والإرهاب. نعم تزعم البلشفية أن لها غاية عالمية هي بث مبادئ الثورة العالمية وتحطيم النظم الرأسمالية كلها؛ وتعمل على البلشفية منذ أعوام طويلة لبث مبادئها ودعايتها في معظم أنحاء العالم،
ولكن البلشفية ما زالت وقفا على روسيا وحدها حيث تؤيدها القوة الطاغية العنيفة وحيث تتصرف حفنة من الطغاة الدمويين في مصائر الشعب الروسي وفي عقوله وأرواحه. ولقد نسجت الفاشستية في إيطاليا على هذا المنوال في تمكين قبضتها من الشعب الإيطالي، مع فارق في الأسس التي تقوم عليها فهي تقوم على فكرة السيادة القومية والعسكرية، بيد أنها كالبلشفية سيادة حفنة من الرجال، (بل رجل واحد) يؤيدهم حزب وجيش، ويفرضون أرادتهم على الشعب بوسائل العنف؛ وليس في الفاشستية ما يميزها إلا أنها من حيث التنظيم السياسي تقوم على الفكرة النقابية. وقد كانت الاشتراكية الوطنية (النازية أو الهتلرية) في ألمانيا احدث ألوان الطغيان المعاصر، بيد أنها من اشدها إمعانا في العنف وسحق الحريات والحقوق العامة؛ واهم مميزاتها وقواعدها الفكرة الجنسية أو فكرة السلالة والدم؛ وهي تذهب في تطبيق هذه النظرية التي تتخذها ستارا لغايات السياسة مذهب الإغراق المثير، وتصدر باسمها اغرب القوانين التعسفية وترتكب أشنع ألوان الاضطهاد والمطاردة؛ ومع أنها تتظاهر بأنها بطارد اليهودية في الواقع وتعمل على سحق نفوذها العنصري والاجتماعي في ألمانيا، فأنها في الحقيقة تذهب بعيدا في تأكيد النعرة الجنسية وتتخذها مثارا لعاطفة من التعصب الجنسي والقومي الشنيع، وهي بذلك من اخطر الحركات القومية التي تنذر بالانفجار المسلح؛ وللاشتراكية الوطنية خاصة أخرى، هي أنها تمعن في التسلط على شخص الفرد وعقله وروحه، فتسلبه كل إرادة وكل حق في التفكير أو التصرف المستقل، وربما كانت في ذلك اكثر إمعانا من البلشفية ذاتها؛ فالفرد لا وجود له في نظر الاشتراكية الوطنية؛ والدولة هي كل شئ. بيد أن الدولة والحكومة والزعامة ومصدر السلطات كلها ليست سوى العصبة الهتلرية ومن ورائها القوات النازية المسلحة؛ وهذا الإمعان في تطبيق الفكرة الحزبية لا يقتصر على الدولة والتشريع، بل يمتد إلى الاقتصاد والثقافة وكل ما هنالك مما له مساس بتكوين الفرد أو توجيهه، سواء في جسمه أو عقله وروحه(125/14)
وكما أن البلشفية تزعم أنها حركة ومبادئ عالمية لإصلاح الدولة والمجتمع، فكذلك تزعم الفاشستية الإيطالية والنازية الألمانية. بيد أن الفاشستية لم تنجح كحركة عالمية، وان كانت قد ظهرت آثار يسيرة منها في بعض الدول الأخرى ويمكن القول بأنها لقيت وما زالت تلقى في جميع أنحاء العالم المتمدين اشد صنوف المعارضة، بل ما زالت رغم كل ما عملته لإصلاح شؤون إيطاليا الداخلية تثير بوسائلها عواطف الاشمئزاز والمقت؛ كذلك الدعاية الهتلرية لم تجاوز حدود ألمانيا، ولم تلق مزاعمها الجنسية بالأخص صدى، وقد وصفت نزعاتها بأنها وثنية بربرية؛ والخلاصة أن هذه الحركات الطاغية التي قامت بالعنف والإرهاب وما زال يسندها العنف والإرهاب بقيت حركات محلية، ومن المحقق أن مصائرها ترتبط بمصائر زعمائها ومصائر القوى العنيفة التي تسندها، ومن المرجح أنها ستنهار عند حدوث أول انفجار عام. على انه لا ريب أن هذا الطغيان الشامل الذي يسحق شعوبا عريقة بأسرها، وذلك التطور المدهش في شؤون الزعامة والحكم وهو تطور ترتب عليه أن تثب أحط العناصر والطبقات إلى أسمى الزعامات السياسية والقومية؛ وذلك الاستعباد المزري لكرامة الفرد ولشخصه وعقله وروحه؛ وتلك الوسائل البربرية لتدعيم الشهوات الحزبية والمذهبية، وهي وسائل تذكرنا بالعصور الوسطى؛ وتلك الأحقاد القومية والجنسية التي تثيرها أذهان متعصبة منحطة: نقول لا ريب أن هذه الخواص التي تلازم نظم الطغيان الحاضرة، والتي هي ملاذ قوتها وحياتها، هي في الواقع دلائل واضحة على انحلال المدنية الغريبة الحاضرة، وعلى قرب انحدارها إلى غمر جديدة من الاضطراب والفوضى
(مؤرخ)(125/15)
الفلسفة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
كلمة تثير في النفس ما تثير من غموض وإبهام، وتؤذن بشيء من الغرابة والخفاء. يقال: تفلسف فلان إذا ظن انه يمعن في الغريب ولا يأتي بما ألفه الناس. وقد يرمى الفلاسفة بأنهم (يعيشون مع الملائكة) ويسبحون في عالم الخيال، لا يشعرون بما يشعر به من حولهم، ولا يقيسون الأمور بما توارد عليه العرف المألوف. يقال: هذا فيلسوف، وما لنا ولهذه الفلسفة، إذا أريد عد المحدث عنه وحديثه في عالم النظريات حيث لا تنال الحقيقة الواقعة ما تستحق من تقدير. لذلك انتبذت الفلسفة، وانصرف الناس عنها، ونظروا إليها نظرة ازدراء واحتقار، أو توجس وخيفة. فالعصريون والمتحضرون ينتقصون الفيلسوف مدعين انه لا يعيش في عصره، ولا يأخذ بقسط وافر من شؤون الحياة، والجامدون والمتأخرون يرمونه بالإلحاد والزندقة والخروج على الأديان.
والفلسفة في بلدنا بوجه خاص غريبة عديمة النصير والأعوان، لا تكاد تجد من يتحبب إليها، ويأخذ بيدها، ولا من يصورها للناس في شكلها الواضح ومظهرها الصحيح. فالنظم التعليمية العامة لا تعمل على نشرها، ولا تقف النام على حقائقها؛ والجمهور يفر منها، ولا يحاول أن يتفهمها ليؤمن بما لها من اثر في تهذيب الأفراد والجماعات ورفع مستواهم العقلي والخلقي؛ والخاصة يتبادلون منها أفكاراً بالية وأراء عتيقة قل أن تُعرض عرضاً مستقيما، وكأن الفلسفة في نظرهم ما جاء به أفلاطون وأرسطو دون أن يكون للقرون الوسطى والعصور الحديثة أبحاث يعتد بها أو نظريات يقام لها وزن. وهناك طائفة أخرى جنت على الفلسفة جنايات شنعاء، وزادت الناس فيها بغضا وكراهية، وهي جماعة أدعياء الفلسفة الذين يتهجمون عليها، ويكتبون فيها وينشرون، ويناقشون ويعترضون، دون أن ينفذوا إلى صميمها ويدركوا كنهها؛ وفي الصحف اليومية والأسبوعية من أمثلة هذه الجرأة العظيمة الشيء الكثير. وكان العلوم الفلسفية في هذا البلد حمى مباح، وسلعة تعرض في مختلف الأسواق، ومتاع يستخدمه من عرف ومن لم يعرف قدره. بل نلاحظ فوق هذا انه كثيراً ما كتب في الفلسفة من لم يجد السبيل إلى الكتابة في موضوع آخر؛ وبذا انعكست(125/16)
الآية وأصبحت الأبحاث الدقيقة مجال من لا طاقة لهم بها، وظهرت الفلسفة في ثوب مشوه منقوص؛ وإذا كنا نعيب على هؤلاء الأدعياء جرأتهم فلا يفوتنا أن نأخذ على الفلاسفة المختصين تقصيرهم في التعريف عن أنفسهم وتهاونهم في الدفاع عن فنونهم وعلومهم.
ليست الفلسفة غريبة بالقدر الذي يدعيه المعرضون عنها، ولا خيالية بدرجة تباعد بينها وبين الحياة وشؤونها. فللزارع فلسفته في حقله، وللرجل فلسفته مع زوجه، وللزوجة فلسفتها مع بنيها. لكل من هؤلاء وهؤلاء طريقة خاصة في تفهم الأمور المحيطة به والحكم عليها ووزنها بميزانها الصحيح؛ وتلك ولا شك فلسفة ذات مغزى عظيم. وما اصدق أرسطو إذ يقول: الإنسان حيوان فيلسوف. على أن الفلسفة بمعناها الدقيق لا تخرج عن دائرة الحياة العملية والتجارب اليومية؛ وكل همها أن تشرح هذه التجارب وتفسرها تفسيرا يرتضيه العقل ويطابق الواقع. فظواهر سرورنا، وألمنا، وقواعد سلوكنا، ومعاملتنا وآراؤنا ومعتقداتنا، هي في جملتها موضوع الدراسات الفلسفية، ومن منا يمر عليه يوم - بل ساعة - دون أن يحكم على شئ بأنه خير أو شر، وعلى آخر بأنه صواب أو خطا، وعلى ثالث بأنه جميل أو قبيح؟ وهذه الأحكام الثلاثة هي شغل الفيلسوف الشاغل وعمله الدائم، يعنيه أن يدرس ظواهرها، ويضبط قوانينها، ويبين للناس كيف يكونونها التكوين الصحيح. فالفلسفة إذن من الحياة في صميمها، أو إن شئت هي الحياة كلها؛ وكيف لا وفي دراسة للإنسان في مختلف أحواله الفردية والجمعية، الفكرية والخلقية.
وإذا كانت هذه منزلة الفلسفة فمن العبث أن نهملها؛ أو أن نضعها في الصف الأخير من أبحاثنا، وهل حاجتنا إلى تعرف المادة في تمددها وانكماشها، والجسام في مغناطيسيتها وجذبها، أمس من حاجتنا إلى تعرف أنفسنا في ميولهما ومشاعرها، وتنافرها وتآلفها؟ نعم أن دراسة الإنسان عسيرة ودقيقة، غير أنها لهذا السبب نفسه ضرورية ولازمة؛ ولا أظنها اقل تشويقا من أية دراسة أخرى. فعناصر الثقافة العامة التي تشغل الأذهان الآن لا يصح أن تقصر على الجغرافيا الإقليمية، والاقتصادية، والهندسة النظرية والفراغية، والكيمياء، والطبيعة وما إليها دون أن يكون للفلسفة فيها نصيب كبير. على أن هذه العلوم نفسها نشأت في حجر الفلسفة وتربي في كنفها؛ فقد كان الإغريق الأول يطلقون كلمة فلسفة على أية معرفة كيفما كان نوعها، وكان العلم والفلسفة متآخيين ومتآزرين، وكثيرا ما كان الفيلسوف(125/17)
عالما يقنن القوانين العلمية ويوضحها، وكثيرا ما اهتدى إلى نظريات علمية على ضوء الدراسات الفلسفية. فطاليس وفيثاغورس الفيلسوفان الإغريقيان كانا رياضيين وعالمين في الطبيعة، وقد كتب أفلاطون على باب مدرسته: (لا يدخل هنا أحد ممن لم يلموا بأصول الهندسة)، وإذا جاوزنا العصور القديمة وجدنا أن ديكارات أبا الفلسفة الحديثة هو مخترع الهندسة التحليلية، وان ليبنتز كبير فلاسفة الألمان في القرن السابع عشر هو مبتكر حساب الجزئيات. ولئن كانت العلوم قد انفصلت عن الفلسفة الواحد بعد الآخر وكونت دراسات مستقلة لا تزال جمعها مسودة بلهجة وروح فلسفية، وفلسفة العلم النوم هي النقطة الحساسة والرئيسية كل مادة من مواد الدراسة الإنسانية. فالعلم ينزع ثانية إلى أن يكون فلسفيا وان يعود أيضاً إلى كنف أم غذته بلبانها من قديم، والأدب أيضا يتأثر بالفلسفة في أسلوبه ومعانيه، وغاياته ومراميه، وربما كان السر في نجاح كثير من الأدباء المعاصرين تلك النزعة الفلسفية التي رق بها شعورهم، ودق تفكيرهم، وسمت عبارتهم.
فليس ثمة بد من أن نتذوق الفلسفة ونذيقها للناس ما دامت الحياة تملي علينا درسها، والعلم الصحيح يعتمد عليها، والأدب الراقي ينهل من حياضها؛ ومن العار أن نبقى إلى اليوم وليس في لغتنا أبحاث فلسفية سهلة يجد فيها العامة سلوتهم، ولا دراسات عميقة يشحذ فيها الخاصة أذهانهم. أن البحث الفلسفي، ككل الأبحاث الأخرى، ضرب من التثقيف لا يصح أن تحرم منه أمة من الأمم؛ هذا إلى انه يجدر بنا أن تكون لنا فلسفة متميزة ذات لون خاص ومبادئ خاصة، وان ينقل الغرب عنا كما ننقل عنه، وبذا تنتظم دورة الفلك، ويعود التاريخ إلى مجراه، وتتصل الفلسفة العربية الحديثة بالفلسفة الإسلامية القديمة، وإذا كان الناس يتحدثون عن فلسفة إنجليزية وأخرى فرنسية وثالثة ألمانية، فلم لا يتحدثون عن فلسفة مصرية وشامية وعراقية؟
إبراهيم بيومي مدكور(125/18)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم
رابع غزاة المكروب
طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض في مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور واثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وان لكل مرض مكروبا يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصا خاليا من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على ارض مصر في أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها ارفع بنوده، وقاتلته على أرضها افتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالما قد أخطأته سهامها قضاء وقدرا.
المترجم
في السنوات ذات الأحداث العجيبة والمفاجآت الغريبة من عام 1860 إلى عام 1870، بينا بستور يخلص صناعة الخل ويكشف عما دهى دود القز فيدهش الملوك ويرضى الأمم، كان شاب قصير القامة قصير البصر، تبدو عليه ملامح الجد، يدرس الطب في جامعة (جوتنجن) وكان اسم هذا الشاب روبرت كوخ وكان طالبا مجتهدا. إلا أنه بينما كان يجري بمشار يطه في جثث الموتى فيقطعها إربا، كان يحلم بغابات إفريقيا وبصيد الأنمار فيها. بينما كان يحفظ في رغبة واجتهاد أسماء المئات من عضلات الإنسان وعظامه، كانت صفارات السفن الذاهبة للشرع ترن في أذنه فتذهب من رأسه بكل تلك الأسماء اللاتينية والرطانات الإغريقية.
كان كوخ يود أن يضرب في الأرض ليكشف عي مجاهلها، أو أن يكون جراحاً في الجيش ليكسب الشارات والأوسمة، أو ينال منصب طبيب في سفينة تمخر به عباب البحار الواسعة فيذهب فيها إلى حيث لم يذهب قبله إنسان. ولكن القدر خيب آماله، فانه لم يكد يتم دراسته عام 1866 حتى وجد نفسه في مدينة هامبرج في مستشفى للمجاذيب يتولى فيه منصب طبيب مقيم؛ وفي هذا المستشفى للمجاذيب يتولى فيه منصب طبيب مقيم؛ وفي هذا(125/19)
المستشفى امتلأ سمعه بصراخ المجانين وأحاديث البلهاء فلم تكد أذنه تسمع أصداء بستور ونبوءاته بوجود مكروبات فظيعة تفتك شر فتك بالإنسان؛ وظل ينصت لصفير السفن، وفي الأمساء كان يطلب المشي للرياضة فيصطحب صديقة له كانت تسمى: (ايمي فراتس) وكان يهبط بها إلى شاطئ البحر حيث السفائن تغدو وتروح، وسألها الزواج منها، وخال أن يغريها بالقبول فذكر لها أمله في طوافه حول الأرض ومسيره إلى الشرق ورؤية البلاد والشعوب، فقالت له إنها تتزوجه على شريطة أن يصحو عن أحلامه وينسى الشرق ومغامراته ويفتح لنفسه عيادة في بلد ألماني فينفع أهله وبلاده وأنصت كوخ إلى ايمي والى صوتها الساحر ساعة، وازدحمت في خياله صور شتى من سعادة خمسين عاماً يقضيها في العيش الهنيء معها، فطردت هذه الصور صور الفيلة والأنمار من رأسه، واستجاب نداء عروسه فاستقر لممارسة الطب، وفي سبيله اخذ ينتقل من قرية بروسية إلى أخرى على يمط من الحياة لا يختلف - حياة رتيبة ليس فيها صخبات الحياة وما تتضمنه من متع ولذائذ وفي هذه الفترة من الزمان، حين كان كوخ يكتب الوصفات للمرضى وينتقل في سبيل صناعته بين ديارهم المتباعدة على ظهر حصانه، يستقبل وكْفات المطر من فوقه، ويشق لنفسه طريقا في الوحل من دونه، ويسهر الليالي في ديار النُّفساء من أهل الريف، في هذه الفترة من الزمان كان (لستر) بأسكتلندا آخذاً في إنقاذ حياة الكثيرات من النساء عيد الوضع بدفع غائلة المكروب عنهن، وكان أساتذة الطب وطلابه في أوروبا اخذين في الإصغاء إلى ما يقول به بستور من نظريات، وما يعزوه إلى المكروب من أمراض، واختلفوا في الذي يقول واشتجروا، وقام من بينهم رجال يجرون تجارب أعوزها حذق المجربين وذكاء الباحثين، وكان كوخ بمعزل عن كل هذا، كان منقطعاً عي بيئة العلم انقطاع (لوفن هوك) عنها قبل ذلك بمائتي عام، عام قام لأول مرة في مدينة دلفت بهولاندا ينحت العدس بيد ما عرفت من قبل للعدس نحتاً: وخيل للناظر إلى (كوخ) أن القدر قسم له أن يكون طبيباً عادياً متواضعاً يواسي المرضى ويحاول ما استطاع تخليصهم من الموت، وعزَّ ذلك مطلباً عليه وعلى أطباء ذلك الزمان، ورضيت ايمي بقسمة القدر، وفخرت بزوجها لما كسب خمسة وعشرين مركاً في يوم كثير العمل وفير المرضى ولكن كوخ كان غير راض، وانتقل في منصبه من قرية بليدة إلى قرية اكثر بلادة، حتى أدى به المطاف(125/20)
إلى قرية فُلِشْتين في بروسيا الشرقية، وفي هذه القرية أتم عامه الثامن والعشرين، فأهدت إليه زوجته في عيد ميلاده مكرسكوباً يلهو به ويتسلى.
وكأني بهذه المرأة الطيبة تقول في نفسها عن إهداء هذا المجهر إياه: (لعل هذا المجهر يبعد فكره عن عمله الذي لا يرضاه. . . لعله يروح عن نفسه قليلاً ويكسبها شيئاً من الرضاء. . . إنه دائم التحديق إلى كل شئ بعدسة جيبه الصغيرة العتيقة. . .).
وا بؤسى لهذا المرأة الطيبة الساذجة! لقد أهدت إليه هذا المكرسكوب غير عالمة أنها بهذا الإهداء إنما فتحت له باب مغامرة تتضاءل إلى جانبها مغامرات كانت كان يحلم بها في أقطار الهند وجزائر الأقيانوس السفلي. فتلك الرؤى التي رآها بستور جاءت كوخ على يأس تتأوّل عند بابه وفي نفس تلك الغرفة التي أستقبل فيها مرضاه تلك الغرفة المليئة بالدواء تلك الغرفة التي ضاق بها وضاق بها وبدوائها تلك الغرفة التي عاف بها الطبَّ حتى كاد يصبح داء نعم في تلك الغرفة استحالت أحلام بستور حقائق أرتاها كوخ في جثث الأبقار ورِمَم الأغنام من خلال عدسات ذلك المجهر الذي أهدته زوجته إياه للهو والسلوى كأني بكوخ يقول لزوجته: (أنا أكره هذه الخدعة التي يُسْمونها طبّاً. . . وليس ذلك لأني أكره تبرئة الأطفال من الدفتيريا. . . ولكن الأمهات يأتينني صارخات مستغيثات يطلبن النجاة لأبنائهن وبناتهن. . . فماذا أنا صانعه لهن؟ أتحسس لهن في الظلماء أطمئن وأرجّيهن حين لا طُمَأنينة ولا رجاء وكيف لي بعلاج الدفتيريا وأنا أجهل حتى أسبابها وأكثر أطباء ألمانيا يجهلون أسبابها كذلك). يَبُثّ صاحبنا شكواه المرّة لأيمى فتضيق نفساً وتحتار فكراً وتغتاظ من هذا الزوج الذي لا يرضى أبداً لأنها كانت تعتقد أن واجب الطبيب الشاب يَتَأدَّى وينتهي إذا هو بذل كل ما في وسعه استعان بعلمه الكثير الذي حصله في مدرسة الطب يوم كان طالباً.
وعلى الرغم من هذا فكوخ كان لا شك على حق. فما الذي كانت الأطباء تعلمه من أسباب الأمراض الوبيئة؟ لا شئ. نعم قام بستور بتجارب رائعة ولكنها لم تثبت شيئاً من سبب اقتباس الإنسان الوباءَ ولا من كيفية اقتباسه رفع بستور بيمناه مشعلاً وضاء كبيراً وسبق به إلى تلك الظلمات صارخاً بالأمل داعياً للنصر يحدث الناس عالياً بانهزام الأوبئة قريباً ومحو الأمراض من سطح الأرض وشيكاً ولكن الأوبئة لم تكن بدأت تتخاذل والأمراض لم(125/21)
تكن أخذت تتزايل والفلاحون في قرى روسيا التي خرَّبتها الجائحات بقوا على أسلوبهم في دفعها وظلوا على عادتها يربطون أربعاً من أراملهم إلى محراث ثم يدورون بهن في سكون الليل وراء القرية يرسمون حولها أخدوداً هو في حسبانهم خير نطاق يدفعون به شر الوباء وهل كان لدى الأطباء أسلوب في دفعه خير من هذا!
كأني بمدام كوخ تحاول أن تجد لزوجها مخرجاً مما هو فيه: (ولكن يا روبرت أن أساتذة برلين وكبار أطبائها لابد عالمون أسباب هذه الأدواء التي لا تستطيع أنت علاجها) كان هذا من خمسين عاما أو تزيد ولكني أعود فأقول أن أكبر الأطباء في هذا الزمان لم يكن يدرون عن الوباء أكثر مما درى هؤلاء الريفيون الذين ربطوا الأرامل جهلاً إلى المحاريث. قام بستور في باريس يتنبأ بأن البحث لا بد كاشف عن قريب تلك المكروبات التي هي لاشك سبب السل وحتف المسلولين فنهض له رجال الطب أجمع يتقدمهم بيدو ذو المقام الرفيع والأزرة البارقة الصفراء يدفعون خرف هذا النبيَّ المأفون.
صرخ بيدو كالرعد يقول: (أجرثومة خاصة تحدث السل وتقضي على المسلولين! خرافة مؤذية وخاطرة مخطرة! أن السل مفرد وجمع في آن. غايته موت الأنسجة في عضو بالعدوى وذلك عن طرقات عدة من واجب الطبيب وخبير الصحة محاولة سدّها) بمثل هذا الهُراء وهذا الكِلم الفارغ الذي لا معنى له يدفع الأطباء تنبؤات بستور.
- 1 -
أخذ كوخ يقضي أمساءه يلهو بمجهره الجديد ويتعرّف كيف يحرك مرآته ليعكس بها على منظوراته من الضياء على القدر الذي يريده ويتعلم ضرورة تنظيف صفائح الزجاج وتلميعها قبل أن يضع عليها قطرة الدم من أجسام الخراف والأبقار التي قضى عليها مرض الجمرة
وكان هذا المرض الخفي الغريب قد أخذ يقلق بال المزارعين في جميع أقطار أوربا فكان تارة ينزل على المزارع صاحب الألف من الأغنام فيقضي عليها بالهلاك وعليه بالخراب وقد ينزل على الأرملة الفقيرة وبقرتها الوحيدة فيصّبحها وقد عزّها الرزق وساءت مصيراً. لم يكن لهذا المرض أسباب معروفة أو خطة مرسومة يجري عليها في تخيّر ضحاياه. فقد يُصْبح الصباح على القطيع من الغنم فتأخذ عينَك منه شاةٌ سمينة صحيحة جميلة لا تكاد(125/22)
يستقر على أرجلها نشاطاً مرحاً فلا يأتي عليها المساء حتى تعاف الطعام وتميل برأسها بعض الميل ولا تشرق عليها شمس الغد حتى تلقاها باردة هامدة متصلّبة وقد استحال دمها إلى دم أسود كالليل ثم يعود فيحدث نفس هذا لشاة ثانية فثالثة فسادسة فسابعة لا يقف عند حد ثم يأتي دور الفلاح ودور الراعي ودور فرّاز الأصواف ودور تاجر الجلود فتتفجر جلودهم عن خراجات مؤلمة قبيحة أو يلفظون آخر أنفاسهم من التهاب رئوي لا يُمهلهم طويلاً.
بدأ كوخ، كما بدأ من قبله لوفن هوك، بدأ يستخدم مجهره لغير غاية معروفة وغير قصد محدود. فأخذ ينظر به كل شئ، ويحدق من خلاله في كل ما يلقى، حتى وقع على دك الأغنام التي قتلها داء الجمرة وعندئذ أخذ يتجمع فكرة على غاية، ويقف جهده على قصد، وعندئذ أخذ يتناقص نصيب مرضاه من هم نفسه، فقد يقصد إلى مريض فيلقى في طريقه بين الحقول شاة نافقة فينسى المريض وعيادته إياه، واخذ يساور الجزارين يسألهم عن الضياع التي بها تقتل الجمرة الشياه. ولم يكن لكوخ من فراغ الوقت مثل الذي كان للوفن هوك فكان يتحين الفرص بين تطبيبه لطفل يصرخ من وجع بطنه وبين خلعه ضرس قرويّ جاء يفزع إليه من ألمه ففي فترة من تلك الفترات جاء بدم أسود من بقرة ماتت بالجمرة فوضع منه قطرات بين رقيقتين من رقاق الزجاج النظيف البارق ونظر إليها بمكرسكوبه فوجد بين كُرَيات هذا الدم المخضرَّة السابحة أشياء أخرى غريبة تراءت كأنها عصيّ صغيرة وكانت هذه العصيّ أحياناً قصيرة وأحياناً قليلة العدد تسبح في ارتعاد قليل بين كريات الدم وتراءت له كذلك عصيّ أخرى تعلق بعضها في أطراف بعض من غير مفصل يجمعها وقد يتشابك العدد الكثير منها حتى تصير خيطاً طويلاً أرفع ألف مرة من خيط الحرير.
(ما هذه العصيّ؟. . . أهي مكروبات. . أهي حيّة. . . أنها لا تتحرك. . أم هو الدم السقيم في هذه الحيوانات المرزوءة يستحيل إلى هذه العصي والخيوط؟). على هذا النحو دار فكر كوخ في الذي رآه. وكان رجال العلم قبله فد رأوا ما رآه. فدافان ورايان في فرنسا أبصروا نفس هذه الأجسام في دم الأغنام النافقة وأعلنا أن هذه العصي بَشِلّات وأنها مكروبات حيّة وأنها لاشك سبب الجمرة الذي لا مراء فيه - ولكنهما لم يثبتا ذلك بالدليل(125/23)
ولم يصدقهما فيما زعما أحد في أوربا غير بستور. على أن صاحبنا كوخ لم يكن ينصت كثيراً إلى ما يقوله الناس ولم يكن يهتم كثيرا بما يرتئيه البحاث كان الأطباء من حوله يرتابون في الذي يراه، ويضحكون منه في الذي يأتيه فلا يصغي لارتيابهم ولا يهتز لضحكهم، حتى حماس بستور لم يُغره يوماً بالوثوب إلى نتائج لم ينضجها البحث ويمحصها التجريب؛ ومن حسن حظ كوخ أنه لم يكن سمع به أحد فلم ترتفع إلى ظهره سواعد الأشياع والمريدين تدفعه قُدُما إلى فتوحات في عالم المكروب عاجله غير ناضجة كان في خمول ذكره رب نفسه ومالك أمرها.
حدث كوخ نفسه قال: (أنا لا أستطيع الآن الاهتداء إلى طريقة اعرف بها أهذه العصيّ والخيوط حيّة ام ميتة، فلأدع هذا مؤقتاً ولأدرس خواصها الأخرى. . .) ولم يلبث أن أوقف دراسته للأغنام المريضة، واتجه يدرس الأغنام الصحيحة، فذهب إلى مذابحها، وزار الجزارين وخالط تجار اللحوم ونادمهم، ورجع بدم كثير من عشرات البهائم السليمة، واسترق من زمن مرضاه ليفرغ لمكرسكوبه، فكان يجلس إليه ساعات متصلة طويلة ينظر منه إلى هذا الدم الكثير الصحيح الذي جمع، فقلقت زوجه من إهماله عيادته.
قال كوخ: (إني لا أجد في دم هذه الحيوانات الصحيحة تلك العصي والخيوط أبداً، وهذا حسن جميل، ولكنه لا يدلني أهذه الأجسام بَشِلاّت أم لا، لا ينبئني أهي حية في استطاعتها النمو والتوالد والتكاثر، أم هي كبعض الجمادات؟)
ولكن كيف السبيل إلى معرفة ذلك؟ كيف السبيل إلى إثبات أن هذه العصي حية؟ أخذ هذا السؤال يملأ نفسه ويملك عليه حسه، وطلبه المسلولون الذين أعيا الأطباء داؤهم، وطلبه الأطفال وقد سدت الدفتريا عليهم منافس الهواء، وطلبته العجائز استشفاء من مرض موهوم غير كائن، ولكن اشتغال صاحبنا بأمر هذه العصي لم يبق منه غير فضلة قليلة لمرضاه، حتى لنسي أن يكتب اسمع على وصفاته لهم. وآنست فيه زوجه الهم والغمّ وكسوف البال. ودعا النجّار يوما وسأله أن يقيم في حجرة العيادة حاجزا خشبيا. وقضى الدماء السوداء وفئران بيضاء بمرح وتلعب في أقفاص اخذ عددها يزيد على الأيام.
وكأني بك تنظر إلى هذا الحاجز الخشبي فتجد على جانب منه مريضة انتظرت طويلاً فأخذت تحط الأرض بنعلها ساماً وقلقاً، وتجد على الجانب الآخر طبيبنا الفاضل يتمتم(125/24)
لنفسه فيقول: ليس لي من المال ما اشتري به أغناماً وأبقاراً لتجاربي. ولو كان لي هذا المال لكان من المتعذر إحضارها إلى هذا المكتب الصغير. أما هذه الفئران فصغيرة رخيصة، وهي لا تشغل حيزاً كبيراً، ولعلي أستطيع أن أعطيها مرض الجمرة. . . ولعلي إذن اثبت أن هذه العصي تنمو حقاً فيها. . .)
يتبع
احمد زكي(125/25)
مذاهب الفلسفة
- 3 - المذهب الطبيعي
للأستاذ زكي نجيب محمود
ولكن مهلا! فلأنصار الروحية من البراهين على وجود الله ما يقوض هذا المذهب ويدكه من أساسه دكاً، لأنه إذا ثبت وجود الله فقد نهض الدليل على صدق العقائد الدينية قوياً دافعاً، وبطل هذا الهراءُ الذي يهرف به الطبيعيون، ونحن نتخير من تلك البراهين ما يلي:
(1) أن ما في الطبيعة من نظام دقيق وجمال خلاب يستحيل عقلاً أن يكون قد جاء عرضاً بغير تقدير وتدبير، فإذا كانت الظواهر المادية تسير وفق طائفة من القوانين الثابتة المطردة، فلابد أن يكون هنالك من صاغ لها هذه القوانين واكسبها ما لها من قوة وثبات. كذلك يستحيل أن يكون جمال الطبيعة وتناسق أجزائها مصادفة طارئة، وإلا كنا كمن يزعم أن الساعة إذا تحطمت عُددها وانتثرت أجزاؤها، أمكنها أن تلتئم من تلقاء نفسها، وان تبدأ السير والحركة من جديد!
(2) أن مجرد وجود فكرة الله في أذهاننا دليل على حقيقة وجودها في الخارج؛ وذلك لأننا نتصور بعقولنا كمالاً مطلقاً، وهذا الكمال لا يتم إطلاقه إلا إذا وجد وجوداً فعلياً، فإن لم يوجد كانت فكرتنا عن الكمال ناقصة صفة الوجود، وفن هذه الحالة - أي في حالة اقتصار فكرة الكمال على مجرد التصور الذهني - نناقض أنفسنا، فنكون كمن يقول: (أني أتصور كمالاً مطلقاً ولكنه ناقص!) مع أن الكمال والنقص لا يجتمعان.
وهنالك من الأدلة الأخرى على وجود الله ما هو شائع معروف.
وبعد هذا كله فهل ترى هذا المذهب الطبيعي قد فسر لنا شيئاً؟ إن قضيته باختصار هي أن الكون كله مادة يسيرها القانون، وأن العقل الإنساني كسائر الظواهر قطعة من المادة تتبع في سيرها نفس القوانين التي تسيطر على قطعة من الحجر!
(1) أما أن الكون مادة فقط، فلا يقدم ذلك في القضية ولا يؤخر، لأنه قول لا يقلل شيئاً تعد أن خلصت الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن الذرة المادية ليست كائناً بسيطاً، بل أن كل واحدة منها عالم دقيق على جانب عظيم من التركب والتعقد وأنها قادرة من تلقاء نفسها على التكون والانحلال والتحول، كذلك لم يعد الحد الفاصل بين المادة والقوة محدداً واضحاً(125/26)
كما كان من قبل، فقد يظهر أنهما درجتان من حقيقة واحدة، وأن ذرة أو الذرة إلى قوة، وإذن فلا يكفي في تعليل الكون أن نقول إنه مؤلف من مادة، لأن في هذه المادة نفسها ما يحتاج إلى التعليل.
(2) وأما زعم الماديين بأن العقل ظاهرة مادية، وأن حقيقة الإحساس كما يقول هوبز إن هي إلا حركة في الجهاز العصبي، وإن الفكر سلسلة من الاحساسات الماضية، أي أنه مجموعة حركات متعاقبة، فيكفي لهدمه أن نطالبهم مثلا بشرح هذه العبارة: (أنا أحب هذه الوردة الجميلة) إنها حقيقة فكرية أحس بها ولا شك في وجودها؛ فهل يقول الماديون أن هذا الحب هو هزة الأعصاب على نحو معين؟ خذ مجهرك وانظر إلى الأعصاب فسترى قطعة من المادة تهتز وتتحرك حقاً، ولكنك لن ترى (حباً) ولو حدقت في مجهرك عاماً كاملاً!! هذا، وان لنا أن نسائل الماديين: لماذا لا تنتج الحركة في كل ظواهر الوجود المادي إلا حركة مثلها، ثم هي في الإنسان تنتج إحساساً وفكراً؟ وما احسبنا ظافرين منهم بالجواب! وإذن فقد عجز هذا المذهب الطبيعي عن تفسير ظاهرة عن ظاهرة العقل كما فشل في شرح المادة نفسها.
(3) وأخيراً، يقول أنصار هذا المذهب أن حوادث الكون يمكن تفسيرها بما يسيرها من القوانين العلمية، ولكن أي عقل يكفيه هذا التفسير؟ أني أرى مثلاً هذه القطعة من الحديد تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون أنه قانون الحرارة المعروف الذي تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون إنه قانون الحرارة الذي تتمدد المادة على سننه وقواعده، ولكن لماذا تمدِّدُ الحرارة الجسام؟ فإن أجبت عن هذا السؤال بما يجيب به أرباب العلم من أن ذلك ناشئ عن تصادم الذرات أثناء تحركها، فسأعود إلى استجابتك: ولماذا يحدث هذا، حتى تقر معي بأن هنالك آخر المر ما يتعذر تعليله بأصول هذا المذهب، وإن القوانين التي يلجأون إليها لتعليل ظواهر الكون هي بدورها تحتاج إلى التعليل.
مذهب الذرائع
لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد، فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا تحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلا، فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت(125/27)
تسائل: ما المادة وما الروح وما مبعثهما؟ ولكنها باءت بعد طول الكدح والعناء بالفشل والإفلاس. . . حتى جاء الفكر الأمريكي الحديث الذي يقدس العمل ويمقت البحث النظري المجدب العقيم، وأراد أن ينحو بالفكر نحواً جديداً، فلا يكون من شأنه كنه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه. ولقد كان أول من صاغ هذا المذهب وليام جيمس (1842 - 1910) الذي اعترف أنه قد استمد أصوله وقواعده من أشتات قديمة، وانّ له فضل الصياغة والتعبير. أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه فهي في أوجز عبارة: أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً.
أنه لمن الغفلة والشطط أن نُؤتى هذه القوة العقلية فنبددها في البحث عما وراء الطبيعة، من قوى مما لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء؛ أن العقل إنما خلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يصور بريشته عالم الغيب المجهول، الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب. . وليكن مقياسه الذي يفصل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العلمية، فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته. وكل شئ يؤثر في الحياة أثراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مطابقته أو عدم مطابقته لما يخلقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يُعَوِّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدها؛ فإن كان الرأي مثمراً نافعاً قبلناه حقيقة، وإلا أسقطناه من حسابنا وهما باطلاً.
والواقع أن معظم الناس يتبعون في حياتهم العلمية أصول هذا المذهب، فهم ينتقون لأنفسهم من الآراء ما يعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل إلى رقي الإنسانية وتقدم البشر بصفة عامة. خذ العقيدة في الله مثلاً، فالأكثرية العظمى تأخذ بها لا لأن الدليل قاطع بوجوده، (فذلك ابعد عن متناول الدهماء) ولكن لأنها ترى أن هذه العقيدة تبث في حياة الناس روحاً قوية، وتفسح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي لولاه لضقنا ذرعا بفداحة عبئها. . . فليس منا من لا يقيس الآراء بظروف(125/28)
عَيشْه ثم يختار منها انسبها له وافعلها في أداء مهمته، فسلوكنا العمليُّ هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا. وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً أنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وانه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.
وأن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه فيقرر أن البطل إذا كان وسيلة ناجعة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع، فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. انظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل انظر كم يبدل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على الأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء احفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.
ولا يقتصر الأمر في ذلك عامة الناس، بل أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الطاقة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته، وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لان تكون تلك الآراء صحيحة إنها توجهنا في حياتنا توجيهاً صحيحاً، فلا يعنينا في كثير ولا قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه. وعلى هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المشاكل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فان لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.
يتبع
زكي نجيب محمود(125/29)
أندلسيات:
1 - قصة الفتح بن خاقان
للأستاذ عبد الحمن البرقوقي
تمهيد:
آما وقد خطت (الرسالة) هذه الخطى الرغيبة الموفقة، وبلغت المبالغ في الفخامة والضخامة والطرافة والإحسان، والحشد والاحتفال، والعناية بالدراسات الدبية الممتعة الموفقة، والترحيب بكل ما يقدم إليها من الموضوعات القيمة الفائقة، فلماذا لا أُلقي دَلوي أنا الآخر في الدلاء، وانشر في (الرسالة) من الآن شيئاً مما تنطوي عليه أضابيري الأندلسية الزاخرة بشتى الموضوعات في هذا الفردوس الإسلامي المفقود - كما كان يسميه فقيد العروبة صديقنا المرحوم احمد زكي باشا - فمن ترجمة أديب إلى قصة شاعر إلى تاريخ فيلسوف إلى حياة علام إلى طرفة أدبية إلى نبذة فلسفية إلى تحفة علمية إلى شطحة صوفية، إلى ما شئت مما تهيأ لي أن اكف على دراسته منذ نيف وثلاثين عاماً حتى صرتُ أطول له عِشرة، وأبطن به خِبرة. . . ولا تسلني لماذا تولعت هذا التولع بدراسة الأندلس وكل ما يمت إلى الأندلس بسبب، فذلك ما اجهل أنا أيضاً علته. . وقد جفت الأقلام وطويت الصحف وقضى الله أن أكون ممن شغفه حباً هذا الفردوس الذي إذا أنت حاولت أن تنزه نفسك بين رياضه النضرة المهرة المثمرة، تجتلي أنوارها، وتجتني من أَمَمٍ أثمارها، وتستمع إلى تغريد بلابلها، وتتروّى من رحيق جداولها، ألفيت ما ينبعث له عجبك وإعجابك، وتشتهي مذاقه حتى يسيل له لعابك، ويتأرجح عبيرهُ المفعَّم فيملأ خياشيمه طيباً، ويستخفّك تغريده المغم فتترنح له تطريباً؛ بيد أنك إذا أنت حاولت هذا الإمتاع من طريق الأسفار التي وضعت في الأندلس قديماً للقيتَ من الألاقى ما لقيت مما لا يكاد ينهض به إلا الأفراد أوتوا من الشوق ما يجلدهم على معاناة البحث والتنقيب والارتياض بتذليل كل صعب عسير. ومن ثم استخلصت لك من نادرة الأسفار، ومغرِّبة الأخبار، باقة جمعت مختلف الأزهار، وسفطاً يحتوي شتى الأثمار، وحاكياً يسمعك احسنَ النغم، وناجوداً تحتسى منه شراباً لا إثم فيه ولا لمم.(125/31)
أوّه لقد شط القلم، وسجعت ثم سجعت، وتلك التي تستك منها المسامع. . . ومن عذيري من الفتح بن خاقان إذا هو أعداني بسجعه، وتأثر طبعي بطبعه، وان لم يدرك الظالع شأو الضليع؟ ولكن لا تُرَع فسوف أتجنب السجع ما أمكنني تجنبه، وكذلك لا تتوقع ما دمت بصدد هذا الفتح أن ستسمع سجعاً أندلسياً كثيرا قد يضجرك ويسلمك إلى السأم والملال. فسوف أشعشع كل أولئك بما يلطفه ويسيغه أن شاء الله. . .
وإذا كنت اقدم بين يدي كلماتي قصة الفتح بن خاقان فليس ذلك عن قصد قاصد، ولعل الذي وجّه الذهن إليه الآن هو ما أخذته عيني أخيراً في بعض التواليف الحديثة الموضوعة في بلاغة العرب في الأندلس لبعض أصدقائنا من أساتيذ الجامعة إذ يقول: انه لم يترجم للفتح بن خاقان غير ابن خلكان، وإن المقَّري لم يترجم له في نفح واحد. . . واليك بعد ذلك قصة هذا الأديب الأندلسي:
الفتح بن خاقان
ظهر أبو نصر الفتح بن محمد بن محمد بن عبيد الله بن خاقان عبد الله القبيسي الإشبيلي في عصر هو من خير العصور ومن شر العصور في وقت معا: كان عصراً ذهبياً من ناحية الثقافة، إذ كان عصرا يفقه بكل أنواع المعارف، من علم وأدب وفلسفة، وكان في الوقت ذاته عصر اضطراب سياسي مزعج. . وبَينا الأندلسيون زمَن ملوك الطوائف متمتعون بحرية لاحد لها، يتبجحون فيها ما شاء لهم التبجح، ويلاقي مُثَقَّفُوهم من ملوكهم أقصى غايات الأريحية والإكرام يعيشون في إذرائهم عيشاً تلين لهم مثانيه ومعاطفه، وتدنو عليهم مجانيه ومقاطفه، إذ أنملوكهم كانوا كذل أدباء أفاضل، وعلماء أماثل، أثرت فيهم الحضارة لأندلسية أثرها، فرققت من حواشيهم، وألانت من جوانبهم - بيْناهم كذلك، وجفون الخطوب عنهم نيام، إذ قلب لهم الدهر الخؤون ظهر المجن، وليس لهم جلد النِمر، فكلب عليهم الإسبانيون من الشمال، وطمع فيهم برابربَرٌ العُدوة - مراكش - من الجنوب، فغزاهم المرابطون الخشنون وأزالوا ملكهم، فاستحالت حال الأندلسيين ولا سيما في زمن علي بي يوسف بن تاشفين ذلك الملك الذي كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين اقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين كما يقول المراكشي صاحب المغرب، ويقول عنه أيضاً: واشتد إيثاره - أي إيثار علي بن يوسف بن تاسفين ملك مراكش والأندلس - لأهل الفقه(125/32)
والدين فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، وكان إذا ولي أحداً من قضاتِه كان فيما يعهد إليه إلا يقطع أمراً ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم طول مدته، فمعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول ابن البنّي - شاعر أندلسي سنترجم له: -
أهل الرياء لبستمو ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتمو الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتو الأموال بابن القاسم
وركبتمو شهب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
(ابن القاسم وأشهب واصبغ هم من أئمة مذهب الأمام مالك الذي كان المذهب الوحيد المعمول به في المغرب والأندلس إلى أن يقول: (ولم يكن يُقرَّبُ من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِمَ عِلْمَ الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وَحديث رسول الله (صلعم) فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء. ودانَ أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شئ من علوم الكلام - التوحيد - وقرّر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شئ منه، وانه بدعة في الدين وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شئ منه، وتوعد من وجد عنده شئ من كتبه. ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد حتى سفك الدم واستئصال المال إلى من وجد عنده شئ منها. وأشتد الأمر في ذلك؛ ثم قال: ولم يزل أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كأبي القاسم بن الجد، وأبي بكر محمد المعروف بابن القَيْطُرْنه، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وأخيه أبي مروان، وأبي محمد عبد المجيد(125/33)
بن عبدون - صاحب القصيدة المشهورة التي يرثى بها بني الأفطس من ملوك الطوائف والتي مطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصوَر
(وسترى تراجم هؤلاء الأفاضل قريباً) في جماعة يكثر ذكرهم. إلى أن قال: ولم يزل أبو عبد الله بن أبي الخصال وأخوه أبو مروان كاتبين لأمير المسلمين إلى أن أخّرَ أمير المسلمين أبا مروان عن الكتابة لموجدة كانت منه عليه سببها انه أمره وأخاه أبا عبد الله أن يكتبا عنه إلى جند بلنسية حين تخاذلوا وتواكلوا حتى هزمهم ابن ردمير هزيمة قبيحة، فكتب أبو عبد الله رسالته المشهورة في ذلك وهي رسالة كاد أهل الأندلس قاطبة أن يحفظوها احسن فيها ما شاء، منعني من إيرادها ما فيها من الطول: وكتب أبو مروان رسالة في ذلك الغرض افحش فيها على المرابطين واغلظ لهم في القول اكثر من الحاجة؛ فمن فصولها قوله: أي بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، آلام يزيفكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد؛ فليت لكم بارتباط الخيول ضأناً لها حالب قاعد، لقد آن أن نوسعكم عقابا، وألا تَلُوثوا على وجه نقاباً، وان نعيدكم إلى صحرائكم، ونطهر الجزيرة من رحضائكم. . . في أمثال لهذا القول فاحنق ذلك أمير المسلمين وأخره عن كتابته وقال لأبي عبد الله أخيه: كنا في شك من بغض أبي مروان المرابطين والآن قد صح عندنا. فلما رأى ذلك أبو عبد الله استعفاه فأعفاه، ورجع إلى قرطبة بعد ما مات أخوه أبو مروان بمراكش وأقام هو بقرطبة، ثم قال: واختلت حال أمير المسلمين بعد الخمسمائة اختلالا شديدا فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد ودعواهم الاستبداد وانتهوا في ذلك إلى التصريح فصار كل منهم يصرح بأنه خير من علي أمير المسلمين وأحق بالأمر منه. . . وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغفله ويقوى ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين وبما يرفع إليه من الخراج وعكف على العبادة والتبتل فكان يقوم الليل ويصوم النهار مشتهراً عنه ذلك وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس.
نجم أبو نصر الفتح بن خاقان في هذا العصر الذي هو كما أسلفنا من خير العصور لأندلسية من ناحية الثقافة واكتظاظ الأندلس بالعلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء، وفي الوقت ذاته هو من شر العصور إذ كان عصرا سياسيا سخيفا كما ترى.(125/34)
ولد الفتح بن خاقان سنة 480هـ - 1087م، أي قبل أن يدال للمرابطين من ملوك الطوائف بسنتين. أما وفاته فقد اضطربت فيها كلمة المؤرخين فحكى ابن خلكان إنها كانت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة - 1140م - وقال ابن الأبار القضاعي في معجم أصحاب الصدفي انه توفي ليلة عيد الفطر من سنة ثمان وعشرين وخمسمائة قال: وقرأت ذلك بخط من يوثق به، وقال الوزير الخطير لسان الدين بن الخطيب أن وفاته كانت ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام 529 والفرق بين ما رواه ابن الأبار وبين ما رواه لسان الدين بن الخطيب هو قريب من أربعة اشهر كما ترى. على أن ابن خلكان حكى ما رواه لسان الدين بن الخطيب أيضاً. . . وقال لسان الدين بن الخطيب: وأبو نصر الفتح بن خاقان من قرية بعرف بقلعة الواد من قرى يحصِب. وبضم كلام لسان الدين هذا إلى قول الحجاري في المسهب في حق الفتح: طلع من الأفق الاشبيلي شمسا طبق الآفاق ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها - يبدو لنا ان قرى يحصب هذه من كورة اشبيلية، وقد تكون من كورة أخرى من كور الأندلس نزح منها الفتح إلى إشبيلية واتخذها مقاماً له؛ وقد يريدلسان الدين بن الخطيب أن اصل الفتح من هذه القرية، آما هو فقد ولد بإشبيلية بعد أن نهد إليها آباؤه الأقربون وأقاموا بها؛ وأياً كان مسقط رأسه فقد نشأ في أشبيلية وفيها كما يظهر اخذ الأدب - كما يحدثنا لسان الدين بن الخطيب - عن أبي بكر بن سليمان بن القصيرة - أحد مشهوري الكتاب وسترى ترجمته - وأبن اللبانة من كبار شعراء الأندلس، وابن محمد بن عبدون الشاعر الكاتب صاحب قصيدة: الدهر يفجع بعد العين بالأثر، وابن دريد الكاتب وأبي جعفر بن سعدون الكاتب، وأبي الحسن بن سراج، وأبي خالد بن تستغير، وأبي عبد الرحمن بن طاهر، وأبي عامر بن سرور وأبي الوليد بن حجاج. هكذا سرد مشيخته لسان الدين بن الخطيب.
نشأ الفتح بن خاقان نشأة أدبية كما ترى، ومن ثم غلب عليه الأدب حتى انصرف إليه فن كلما عداه ولم يؤثر عنه من المعارف سواه، قال ابن خاتمة: انه لم يعرف من المعارف بغير الكتابة، والشعر، والآداب. أقول: وقلما ترى أديباً أندلسياً إلا وله مشاركة في كثير من العلوم الدينية وغير الدينية. على أن قارئ الفتح بن خاقان يرى انه واسع الاطلاع إلى أقصى حد، وانه أديب كل الأديب وان معارفه العامة وثقافته الشاملة التي لا بد منها للأديب(125/35)
في تلك العصور متوافرة. واليك أقوال مترجميه: قال لسان الدين بن الخطيب: كان آية من آيات البلاغة لا يشق غباره ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقَها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزا في باب الحلي والصفات. وقال في موضع آخر: وشعره وسط، وكتابته فائقة. وقال ابن سعيد في المغرب: فخر أدباء أشبيلية بل الأندلس ذكره الحِجَاري في المسهب، الدهر من رواة قلائده، وحملة فرائده. طلع من الأفق الاشبيلي شمسا طبق الآفاق ضياؤها، وعم الشرق والغرب سناها وسناؤها، وكان في الأدب ارفعالأعلام، وحسنة الأيام، إلى أن قال: وهو وأبو الحسن علي بن بسام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييدا، وعلما مفيدا، وإطناباً في الأخبار، وإمتاعاً للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلقاً وتعشقاً بالأنفس، ولولا ما اتسم به مما عرف من أجله بابن خاقان لكان أحد كتاب الحضرة المرابطية بل مجليها المتولي على الرهان، وإنما أخلّ به ما ذكرناه مع كونه اشتهر بذم أولي الأحساب، والتمرين بالطعن على الأدباء والكتاب، وقد رماه الله بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر بن ماجه فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد اسود خلا معه بما اشتهر عنه بتركه مقتولاً. .
نرجئ القول على قتله ولماذا قتل ونمضي الكلام على منزلته الأدبية والمفاضلة بينه وبين معاصره وتوأمه أبي الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة.
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي(125/36)
إلى الأستاذ الفاضل مصطفى صادق الرافعي
المشكلة
للأديب أحمد الطاهر
لا فضل لي فيما اعرض من رأي في هذه المشكلة التي عرضت في (الرسالة) يوم الاثنين ليلة النصف من شعبان، بل الفضل لصاحبة (الجمال البائس) فيما أوحت به إليك من رأي في رجولة الرجل.
فإذا استوت للرجل رجولته فسبيل الحياة له يكون كما أراده الله أن يكون: خيراً، ويسراً. أما ما يلقى الرجال فيه مما يسمونه بأسماء تضاد الخير واليسر فمرجعه في أكثر الأحوال إلى أن الرجل لم تستو رجولته ولم تكمل. والنقص في الرجولة زيادة في الشقاء، وإذا لقي الرجل في سبيل الحياة نتوءاً يتعثر فيه ففي وجولته ثغرة قد قدت على قدر هذا النتوء.
ونعود إلى صاحب المشكلة - وفقه الله - فنمتحن رجولته فنجدها ناقصة من بعض نواحيها، سقيمة في بعضها الآخر؛ ولكن نقصها ليس مما يستعصي على الكمال، وسقمها ليس مما يحمل على اليأس في أي حال، فمشكلته ليست عسيرة والحمد لله شهد الفتى على نفسه فقال أن الرجل الجاثم في عقله هو غروره - يومئذ - وكبرياؤه يقع في الخطأ بعد الخطأ، ويأتي الحماقة بعد الحماقة؛ ونشأ صلب الرأي، معتداً بنفسه، إذا هم مضى، وإذا مضى لا يلوى، وما هو إلا أن يخطر له الخاطر فيركب رأسه. . .)
اللهم غفراً ورحمة لهذا الفتى!!
انه قد عرف عيب نفسه، ومن عرف عيبها وأصحر به فقد نهج السبيل إلى علاجها، وانه لواصل إلى غايته عاجلا أو آجلا، لا ينقصه إلا أن يذيقها مرارة الحق لتشفى بعد أن استساغت حلاوة الباطل فسقمت.
البلاء الذي لا يشبهه بلاء، والسقم الذي لا يرجى منه شفاء، هو أن يجهل الرجل عيب نفسه، أو يعلمه ناقصا يلتمس فيه الأسباب والعلل المبررة.
آما صاحبنا فكما نعلم من القصة: رجل فاضل مهذب ذو ميسرة، وبيته بيت فيه الدين والخلق والشهامة والنجدة؛ وبعض هذا فيما أرى كفيل بتيسير العلاج له برعاية الله التي لا تتخلى عن بيت فيه الدين. فان ضل واحد من أفراد هذا البيت، ففي قلبه من أثر الدين الذي(125/37)
بسط سلطانه على البيت منذ نشأته بقية صالحة يكشف عنها غطاؤها فتقود هذا القلب إلى الخير في عجلة أو وناء. فلندع رجل المشكلة الآن ولننظر إلى فتاتها.
هذه الفتاة التي سميت للفتى - سامحها الله - لِمَ أغلقت الباب في وجهه؟ لم يذكر لنا عارض المشكلة سبباً صريحاً لهذه الفعلة. على أن إدراك السبب ليس بعسير، فلقد نستطيع أن ندركه (بالاستنتاج والمقارنة)؛ فالفتاة الثانية التي عرفها صاحب المشكلة فاحبها لم تغلق في وجهه الباب لأنها كانت فتاة جذابة (أمسكت بإحدى يديها عنانه) فمضى قدما، فإذا التفت إلى الوراء قرأفي عينيها كلمات: ((أتستطيع فرارا مني؟) فيقول: (لا) ويمضي. . . (ثم يلتصق بجسمها) فتسرى منها إلى قلبه رسالة يقرؤها بقلبه المريض، فإذا هي: (الدنيا كلها هنا). . . .
هذا شانها، وما احسب أن من ظالم الأحكام أن نصف الفتاة بان في حياتها لينا ورخاوة، ولذا لم تغلق في وجهه الباب وهي لم تصبح زوجا له بعد. ولا أحسب أن الفتاة الأولى قد أغلقت الباب إلا لان في حياتها شدة واستمساكا.
إلا فاعلم يا صاحب المشكلة، أن حياء المرأة إذا أصيب باللين والرخاوة ثغر فيه الشيطان ثغرة يجلس على بابها ويصيح: (هلموا أيها الفتيان!) وسرعان ما يستجيب الفتيان لصيحة الشيطان. واعلم وقاك الله أن هذه الفتاة التي فتحت لك الباب أن تزوجتها فستتزوج معها الشيطان الجاثم على ثغرة حيائها وسينضم إلى شيطانك فتصبح بين ثلاثة: امرأة وشيطانين! وأنت واحد! وستكون بين أمرين أحلاهما مر: آما أن يأتمر بك الشيطانان فيوسعا في ثغرة حياتها حتى يدخل فيها غيرك من الفتيان. وإما أن تضيق أنت بما وسع الشيطانين أن يفعلا فتلجأ إلى ابغض الحلال إلى الله - الطلاق! وأدعو لك مرة أخرى: وقاك الله. على أن الشيطانين أن أعياهما صبرك أو سعة في حلمك دارا بوجهيهما إلى المرأة فصوراك لها بصورة بشعة قبيحة، وبذرا في قلبها حبا مراً اسود ينبت في القلوب المريضة فيثمر ثمراً مراً اسود يسمى البغضاء ويسمى الكراهية ويسمى المقت: ولا يزال هذا الثمر ينمو ويربو حتى ينضج ويستوي فلا يتسع له قلب المرأة فتحاول أن تجتثه من اصله فلا تستطيع، فتعمد إلى الزوج تحاول أن تجتثه، فان أفلحت فذلك ما أرادت وتستريح ويشقى الرجل شقاء المحروم من أهله، وإن لم تصبه أصابت شرفه ويشقى الرجل شقاء(125/38)
المثلوم في عرضه؛ أقبل أيها الرجل على تلك التي أغلقت الباب في وجهك: -
أتدري لم أغلقته؟
لأنك لم تكن وحدك حين طرقت بابها! لقد رأت معك شيطانك وما يتسع بابها لدخول إنسان وشيطان. لقد رأت معك الشيطان متمثلا في (غرورك وشبابك وكبريائك وعنادك) فأشفقت عليك وعلى نفسها من ثالث يدخل بينكما. ولو أفسد الشيطان وأنتما لم تصبحا زوجين بعد فيا للشقاء ويا للعار!
إنها أغلقت الباب في وجهك وأنت خطيبها المسمى لها وأحكمت إغلاقه من الداخل حتى لا تستطيع أنت أن تدخل عليها، فكان الأجدر برجولتك أن تحكم إغلاقه من الخارج حتى لا يستطيع غيرك أن يدخل أليها.
حتى إذا حان موعد الزواج فضضتما الإغلاق في وقت واحد وفي حضرة نفر من الأهل وذوي القربى، وعسير على الشيطان يومئذ أن يندس بينكما.
ما عليك أيها الرجل إلا أن تفتح قلبك لهذه المرأة الحيية الخفرة فتصل ما بينها وبينك، وتغمض عينيك عن كل ما يصوره لك غرورك ونزقك وكبرياؤك وصلفك، ولن تلبث طويلا حتى ترى هذه الفتاة جندا من جنودك يحارب معك أعداء نفسك ويعالج معك أدوَاءَها، وستصلان إلى الحب الزوجي النقي وفيه منك العطف والحنان، وفيه منها الوفاء والإخلاص.
ستجد في هذا عناء ونصبا، وسوف تتمثل لك الفتاة التي أحببت بين حين وآخر وأنا أدلك على ما يجب أن تعمل:
انظر بعقلك الذي تبرأ منك حين صدت عنك الفتاة:
تلك الفتاة التي قد أحببت وضَعَتْ جمالها ورقتها وفتنتها وذكاءها في إناء ولم تحبسه عن الناس ولم تتخذ لصيانته سببا من الأسباب. وهذه الفتاة التي كرهت لقد وضعت عفتها ووفاءها وشرفها وحياءها في إناء وأغلقت دونه الأبواب. فأيهما أبقى على الزمن؟ وآيهما أخلص لك؟ وأيهما لا يعبث به نزق الفتيان؟
وان كان في صدرك حرج مما لا تجد في زوجتك الخفرة من جمال ورقة وفتنة وذكاء وما يتراءى لك في الفتاة الجذابة فخذ واحدة مما زُيِّنَ لك من صفاتها وضَعْها إلى جوار واحدة(125/39)
مما ترى من صفات زوجتك: خذ الجمال من تلك وضعه إلى جوار الشرف من هذه: وانظر في نصيبك من الاثنين:
ألست ترى جمال الجميلة ملكا لها تجود منه بما تشاء ومتى تشاء ولمن تشاء؟ وشرف الشريفة لك ولزوجتك تنعمان بفضله ما بقى، وتستظلان بفيئه ما كان؛ لا يستأثر به واحد منكما وحده، ولا يبخل بخيره أحدكما على الآخر؟ إلا تجد الجمال متاعا تستهلكه أنوثة المرأة، والشرف متاعا تستبقيه رجولة الرجل؟
ثم خذ الذكاء من الحبيبة إليك وضعه إلى جوار الحياء من البغيضة إليك وانظر إلى حظك من الاثنين:
إلا تجد الذكاء سلاحا في يد الأولى تحارب به كل الناس وزوجها: والحياء سلاحا في يد الثانية تحارب به كل الناس إلا زوجها؟
خذ الفتنة من تلك والوفاء من هذه إلا ترى الفتانة تنادي بفتنتها: هلموا إلي أيها الناس، وترى الوفية تنادي بوفائها: هلم ألي أيها الزوج؟
وبعد، فهاتان اثنتان إحداهما وقفت بالباب، والأخرى أغلقت الباب
آما التي وقفت بالباب فأنها تستقبل الدنيا وتستدبر الدار، وأما التي أغلقت على نفسها الباب فأنها تستقبل الدار وتستدبر الدنيا. والدنيا للناس جميعاً، والدار لك وحدك.
فانظر أيتهما الصالحة لك، الجديرة بحبك، الأمينة على بيتك، الحفيظة على شرفك.
سترى في زوجتك عيوباً ونقصاً، وستتجسم هذه العيوب، لأنك تنظر إليها بغير عين الرضا؛ وخير لك ألا تفكر في هذه العيوب حين تبدو لك إلا بمقدار ما تحاول إصلاحها، وأن تروض نفسك على اليقين بأن المرأة الكاملة لم تخلق بعد، ولن تخلق بعد، فلو خلقت الزوجة الكاملة خلُقاً وخلْقاً لتعطل في الرجل كثير من صفات الرجولة، ولما شعر الرجل بما مازه الله به على المرأة، ولخرجت المرأة من أنوثتها، ولتزحزح الرجل عن رجولته؛ ولما كان الرجال قوامين على النساء.
ولا أجد في الرد على ما تدعيه لنفسك من الحرية أبلغ مما أجابك به عمك حين قال: (إن كنت حرا كما تزعم فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها)، وحين يسائلك: (إلا تكون حرا إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟).(125/40)
وان كنت تبيح لنفسك تحت ظل هذه الحرية أن تحب غير امرأتك لا لسبب إلا لأنك رأيت فتاة غيرها تفوق زوجتك جمالا ورقة وعذوبة منطق، فبم سينتهي بك هذا؟
إلا تدري انك أن وثبت إلى الفتاة تراها فتعجبك فتتخذها زوجة دون زوجتك أو تضمها إليها فما زالت في الدنيا وما زال فيها من هي أجمل وأذكى وأدعى للفتنة من تلك التي أعجبتك: أتثب إليها أيضاً وتتخذها زوجة ثالثة، أم تطلق الاثنتين وتتزوج الثالثة؟ ألاتعلم أن هذا لا ينتهي بك إلى نهاية، ولا يقف بك عند غاية، ولو أباح الناس جميعاً لأنفسهم هذه الفعلة لما قامت زوجية صالحة، ولا نعم الأولاد بالحنان الممتزج من الأبوة والأمومة، ولأفضى الحال بالناس إلى أن يتواثب الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، ولفسدت بذلك الأرض؟
يا أخي: إن المتزوج الذي يشتهي جمالا اكمل من جمال زوجته أو فضلاً لم يجده في زوجته فيثب إليه إنما هو رجل قد اسقط مروءته وأهدر رجولته وظلم زوجته أشد الظلم، وكفر بأنعم الله أشد الكفران، وديث شرفه بالصغار. وحسبك لتقدر هذا أن تزن الفعلة وزنها لو انعكس الوضع فأباحت الزوجة لنفسها ما يبيح الرجل لنفسه؛ لا تقل أن الله أباح للرجل أن يتزوج بأكثر منواحدة إلى أربع دون المرأة، فلذلك حكمة وقيود لا يسقط بها حق المرأة على الرجل وواجب الرجل قبل المرأة.
ما أحسبك إلا فهمت هذا وأحسنت تقديره، وأنت القائل لعمك انك تقدر الرجولة والثواب والمروءة
اتق الله في الزوجة، وأشعر نفسك قوة الرجولة، وانظر إلى ضعف الأنوثة؛ وليكن لك على قلبك السلطان القوي، وهيئ بالقطف والحنان مهادا للحب الزوجي تجد أن زوجتك احب الناس إليك، وأقدرهم على إسعادك.
اليوزباشي أحمد الطاهر(125/41)
عمرو بن العاص
بقلم حسين مؤنس
والآن، فيم طول التفكير وبعد التقدير، وقد صار الأمر لعلي، واستقامت البيعة له في الحجاز، وترامى سلطانه إلى العراق، وامتدت خلافته فشملت مصر، وأولئك هم ولاته تَرْدِى بهم الإبل خفافاً إلى ولاياتهم، وهؤلاء صحابه وأنصاره يبعثون في النفوس ظلالاً من الخوف والرعب بعد الذي كان من قتلهم عثمان، وان عمراًليحس مطالع هذه الخلافة الجديدة في الشك وقلة التقدير، وانه ليجد انقباض نفسه عن طاعتها ورغبتها عن العمل في ظلها. . . بل إنه ليعمل الفكر ليجد من سلطانها مخرجاً ومن طاعتها مهرباً. . . ولعله يستوي في هذا مع أترابه من الصحابة والقادة. . . ولعله كان يرجو أن يتصل ببعضهم ليستطلع فكره وليبادله الرأي. . . وربما ود لو يتصل بعلي نفسه، إذن لأقنعه بالتخلي عن هذه الطوائف القلقة التي وصل حباله بحبالها، والتي تضر بقضيته كل الضرر. . . فإن في هذه الطوائف لنفراً لا زال دم عثمان يجري على أيديهم، وان فيهم لأوباشاً لا يليق بالخلافة أن تتصل بهم ويكونوا عدتها في الفتح والجهاد، وان فيهم لأحداثاً لا يستقيم بهم الأمر، ولا يحسن أن تكون بأيديهم أمور العباد؛ وماذا عسى ابن العاص أن يفعل مع هؤلاء وهو يرجو أن يكون سيداً لا مسوداً، وقائداً لا مقوداً، ثم هو يريد قبل ذلك (أن يشترط)، فما ينبغي لمثله أن يخطو دون أن يقدر للخطو موضعه. . . أو يمضي دون أن يعلم أين يؤدي به السير، أو يعمل دون أن يقدر ربحه وخسارته من هذا العمل الذي هو مقبل عليه. . . أليس هو القائل: (الكرار في الحرب، وإنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب؛ كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة؛ ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء، لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته، وأني ما ضربت إلا فريت، ولا يخبو ما شببت. . .)
أليس هو الفاتح النابغة، والسائس الذي لا يشق له غبار. . . فما باله يبذل قياده طائعاً، ويقدم نفسه مختاراً. . . كلا. . . وليكن له في الميدان الجديد شأن عظيم. . . فما هؤلاء الذين يتولون الأمور إلا أترابه ولداته الذين لا يفضلونه في ماض ولا في حسب ولا مقام. . . والذين لا يساوونه في مكر ولا سياسة ولا تدبير. . . ففيم يكون ذنباً والرؤوس لا تزيد(125/42)
عليه شيئاً؟ وفيم يؤمر وهو من طبيعة الآمرين؟. . ولو أن علياً بعث إليه يستعين برأيه ويستنير بفكره؛ إذن لقام إلى جانبه وأخلص له المودة، وأفاده الفائدة العظيمة، فانه (شيخ يضر وينفع) كما يقولون في بعض ما يدس عليه من الشعر؛ ولكن علياً منصرف عنه لا يكاد يذكره، وهذه شهور تنطوي على خلافته وهو مستقل بنفسه بصحابه، ما يلقي إلى أحد من الصحابة بالاً. . . بل ها هو ذا يؤدب العصاة منهم وينهض لهم بالسيف. . . وهذه الأخبار تترامى عن الهزيمة النكراء التي منيت بها عائشة، والقتلة القاسية التي صار إليها الصحابيان طلحة والزبير. . . وماذا بعد؟. . . أغلب الظن أن دوره مقبل ولا ريب، وأنه مخير بين الطاعة أو الحرب عن قريب فمادا تراه فاعلا؟. . . هنا كان الرجل يحس قلقاً شديداً. . . فيقلب فكره ويتأمل حاله، عله ينتهي إلى رأي يستقر أليه. . . ثم خطر بباله فسأل نفسه: ومعاوية؟. . . كيف ترى حال معاوية. . . أغلب الظن أن أبن أبي طالب لن يعفيه، وهو وال على الشام وما حواليه. . . وانه لمرسل إليه بالطاعة أو عازله. . . ثم بدا له خاطر جديد فابتسم. . . وهم من مجلسه ومضى يذرع الغرفة جيئة وذهاباً. . . انه يفكر في معاوية. . . ويحسب الأمر حساباً دقيقاً؛ أن لمعاوية جندا كثيفاً، ونفرا أقوياء. . . وانه لفي منعة بأهل الشام ومال الشام. . . ومن يعرف فضل جند الشام كعمرو الفاتح المجرب الخبير؟ أن فيهم لخيرا، وان عليهم لمعتمداً. . . وأنهم ليفضلون جند العراق وجند الجزيرة. . . وانهم ليثبتون في الحرب ثباتاً عظيماً. . . فلم لا يعتمد عليهم ويستفيد منهم؟ ولم لا تكون جبهة قوية من جند الشام وقدرة معاوية وحيلة عمرو. . . فما عسى أن يفعل جند العراق وشجاعة علي وتهور أنصاره أمام هؤلاء. . . فإذا فرغ من ذلك الحساب والتقدير فقد هم يريد ليذهب لمعاوية ليرى رأيه في ذلك الأمر، وانه لكذلك إذا طارق قد اقبل، وإذا به رسول من معاوية!. . . يحمل إلى عمرو كتاباً. . . ويبتسم ابن العاص، فقد فهم ما في الكتاب؛ وما يقصر مثله عن ذلك وقد قدر الأمر كله كما رأينا. . . ثم يتناول الكتاب، فإذا به يقول: (آما بعد فانه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد قدم علىّ جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فأقدم على بركة الله تعالى).
الآن يستطيع ابن العاص أن يمضي عن ثقة، فقد عرف ابن أبي سفيان قدره واستنجد به، وفي استطاعته الآن (أن يشترط)، وأن يطلب ما يريد من أجر وجزاء. . . وهل هو يرجو(125/43)
إلا مصر وخيرها وأمنها. . . وهل هو واجد في مناصب الدولة منصباً هو آمنأو احسن من ولاية مصر الفياضة بالخير والبركات. . . بلى وإنها لأجدى على صاحبها من الخلافة نفسها. . . فما يغنم الخليفة إلا التعب والجهد في غير طائل. . . وما جزاؤه من ملكه الواسع إلا أن يتوسد الغبراء، فذا رق ومال إلى الدنيا كان نصيبه القتل دون رحمة ولا غفران. ثم أي مكان هو اعز من هذا الركن الأمين الذي لا يصله الجند إلا بمشقة، ولا يقصر في أمر يطلبه الخلفاء. . . الخير الخير إذن في المبادرة إلى جانب معاوية والانضمام لرايته، والحزم الحزم في الإسراع إليه والوقوف في صفه فما في هذا خطر ولا خوف. . . وليزود نفسه من رأيه باستشارة ابنيه محمد وعبد الله. . . فقد عود نفسه أن يدقق الحساب جداً. . . وألا يترك ناحية من نواحي الرأي ولا مذهباً من مذاهب الفكر إلا بحثه ووزنه وزناً دقيقاً؛ وها هو ذا يستمع إلى ابنه عبد الله. . . انه يلومه في ذلك لوماً شديداً، ويرده عن هذا الجشع الذي تحدثهنفسه به: (أيها الشيخ، أن رسول الله قد ذهب وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان، فلا تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية). . . وان محمداً ليسخر من أخيه، ويريد لأبيه مكانا ممتازاًفي عالم السياسة العربية، ويقول: (بادر إلى هذا الأمر فكن فيه رأساً قبل ان تكون ذنباً. . .).
بلى لقد قال محمد الصدق، ومس شغاف قلب أبيه. . وماذا احب إلى ابن العاص من أن يكون رأسا في كل خطوة يقوم بها وألا يأتمر برأي أحد وان يكون حراً، فلا تؤذيه مضايقة مثل عمرو، وان معاوية لقادره قدره ورافعه في درجات الرياسة والامارة، ولا يعدم ابن العاص بفكره أن يتسلط بعد ذلك فيكون صاحب الرأي في الجماعة دون معاوية. . وما عسى تفعل (الحية في أصل الشجرة) إلا ذاك. . نعم وليمض على بركة الله.
وكان معاوية في حيرة من أمره لا يدري ما يفعل؛ كان رأيه قد استقر على حرب علي، ولكنه لم يدر كيف يمضي إلى ذلك، وقد بدأت دعوة علي تتسرب إلى الشام، وانشأ المسلمون يتحدثون في سر سكوت معاوية عن طاعة الخليفة الجديد، وكان هو نفسه يسكتهم ويهدئهم بما له من المكانة في نفوسهم والقدر في أعينهم، ولكنه كان يحس أن لذلك آخراً وانهم منفضون من حوله أن لم ينته في هذا الموقف إلى رأي، وهل هو إلا وال من الولاة عليه أن يطيع، وقد وصلت دعوة علي وتحدث بها البعض ومال إليها البعض الآخر، وبدأ(125/44)
القلق يساور معاوية، وانتهى به الأمر إلى الاستنجاد بابن العاص، وكان يعرف فيه ميلاً عن بني هاشم وكرها لهم، وكان يقدر أنه لابد كاره لأمر علي فبعث إليه يتعجل حضوره فخف إليه كما رأينا. . وجلس الرجلان يتبادلان الرأي، وربما أحس عمرو من حديث معاوية انه اخطأ في هذه المغامرة التي أقدم عليها، وان هذه (الصفقة الجديدة) ربما كان فيها بعض الخطر. . ورأى أن ما كان قدره من الاعتماد على جند الشام كان فيه كثير من الوهم وسوء التقدير. . وكيف يمكن إقناع هؤلاء بمناهضة الخليفة وحربه وهم مسلمون مؤمنون يرون طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضاً واجباً؟ وكيف يمكن التعويل عليهم، وهذه طاعة علي تكاد تبدو على ألسنتهم؟ ولكنه اطمأن إلى أن لا خطر على مركزه في هذا الأمر الذي انضم إليه. . فإنما هو صاحب الرأي المسموع والكلمة النافذة. . وها هو ذا يستطيع أن يشترط (أخذ مصر كلها أو مصر ومعها غيرها). وقد تقدم فما ينبغي له أن يتأخر. . وقد ألقى يده في يد معاوية ولن يخلص له على بعد ذلك أبدا.
ثم انه مضى يفكر في الأمر تفكيرا طويلا، وقلبه على وجوهه. . حتى هداه الرأي إلى حيلة ربما أفلحت في إقناع جند الشام بعدالة قضية معاوية. . فان هؤلاء الناس لا بد أن يكون قد ساءهم مقتل عثمان، ولا بد أن يكونوا ساخطين على قتلته راغبين في الثأر والاقتصاص منهم؛ وقد ترامى إلى سمع ابن العاص أن عليا يأوي هؤلاء المجرمين ويمد لهم في نعمته ويضعهم من حزبه موضع القادة والرؤساء. . فلم لا يقال للشاميين أن معاوية يقبض يده عن علي لأن عليا يعين قتلة عثمان ويدعهم أحراراًطلقاء، بل لم لا يقال لهم أن مقتل عثمان قد صادف من نفس علي موقعاً طيباً؟. . بل لم لا يقال لهم أن علياً نفسه عمل على هذا القتل وعاون عليه لكي يصير الأمر إليه أخيراً؟. . ولم لا تلتمس البراهين على ذلك، وقد كان علي في المدينة ساعة قتل عثمان، وكان في ميسوره أن يمضي لنجدته فلم يمض. . . وكان الأمر لا يكلفه إلا مشية من داره إلى دار عثمان عطشان يجهده العطش. . . وعلي في داره روِىٌّ مسرور. . . بلى. . . وهذا ابن أبي بكر قاتل عثمان بيده مكرم من علي، أثير عنده، مقام على مصر واليا. . . بلى، والحق ابلج لا تنقصه البينة ولا يعوزه البرهان!
للبحث بقية(125/45)
حسين مؤنس(125/46)
في الأدب الإنجليزي
6 - الكائنات الغيبية في شعر
بقلم خيري حماد
تتمة البحث
فلسفة الدينية:
أن من الصعب علينا أن نرجع إحدى رواياته العديدة إلى أصل ديني صريح، ولكن هناك عدداً غير قليل من العقائد الدينية أودعها شكسبير ثنايا شعره ومؤلفاته، وتختلف هذه العقائد باختلاف الروايات التي ورد ذكرها فيها.
ففي رواية الملك هنري الخامس نرى فكرتين دينيتين أودعهما الشاعر في روايته. وأولى هذه العقائد هي عقيدته في أصل خطأ الإنسان، وثانيتهما هي عقيدته في المعمودية. آما خطأ الإنسان فكان منشؤه تلك الخطيئة العظيمة التي اقترفها آدم أبو البشر. اجترم ذلك الجرم فتلوثت نفسه بتلك الخطيئة وكان جديراً بعد ذلك أن تتطهر نفسه مما لحق بها من الأدران، فأرسل الله إليه أحد الملائكة واخرج منه تلك الروح الطائشة ووضع بدلاً منها روحاً طاهرة نقية، وما اقتراف الناس للآثام إلا سير على السنن الذي اختطه والدهم من قبل واحتذاء لحذوه.
وهناك عقيدة ثالثة أدرجها شكسبير في رواية هملت، فهو يعتقد أن الدعاء والابتهال إلى الله لا يصل إلى السماء إلا إذا كان صادراً عن نفس طاهرة وقلب صادق الإخلاص، وهذه حقيقة دينية تثبت أن شكسبير كان رجلاً ورعاً تقياً يؤمن بصدق النية وخلوصها من الرياء والنفاق.
نظر شكسبير إلى هذا العالم الملئ بالشرور والموبقات نظرة احتقار وازدراء فكان دائم التوق إلى الخلاص منها والانتقال إلى حياة أروع منها وأطهر، وقد ذكر عقيدته هذه على لسان بطله هملت الذي كان يقصد الترفع عن الأمور التافهة الشريرة والسمو بنفسه في عالم أرقى، عالم ملؤه التقى والصلاح والسعي إلى ما فيه خير الناس.
وفي رواية الملك يوحنا نرى شكا في عالم آخر يلقى الناس فيه أبنائهم وأصدقاءهم، ذلكم(125/47)
هو يوم البعث والحساب، وشكه هذا يظهر على لسان الأميرة كنستانس عندما تخاطب الكردينال قائلة: (أن كان حقا ما تقول عن وجود حياة أخرى مجتمع فيها بأصدقائنا فأني لا شك واجدة ولدي الذي فقدته في المهد صبياً).
آما اعتقاد شكسبير في وجود الإله فكان عقيدة ثابتة لا شك فيها ولا مراء. فهو دائما يذكر الإله في عدد من رواياته وعندما يقصد إظهار أمر عظيم يقسم بالإله الأعظم الذي تطأطئ له جباه البشر؛ فهو يقول على لسان بانكو: (أني لأقسم إمام الإله القدير أن أحارب جميع المكائد التي يقصد منها خراب الأمة والبلاد).
وفي رواية روميو وجولييت تظهر لنا عقيدته في المعمودية، فالإنسان إذا اقترف أمراً منكرا وجب عليه أن يتعمد مرة أخرى فيصبح كأنه حديث النشأة والولادة ويتخلص بواسطة ذلك مما لحقه من ذنوب ومعاص.
واهم هذه العقائد الدينية الكثيرة التي ضمنها شكسبير رواياته عقيدتان: أولاهما حق الملك الآلهي، وثانيتهما عقيدة تناسخ الأرواح؛ وقد ذكرت العقيدة الأولى في موضعين من روايات شكسبير: أحدهما في رواية الملك ريشارد الثاني عندما يهتف الملك قائلا: (أن جميع مياه المحيطات لعاجزة عن أن تمحو الزيت المقدس عن الملك المنصب من قبل الآلهة). والآخر في رواية مكبث عندما يتقدم الطبيب إلى مالكولم بقوله واصفا الملك القديس: (ولمسة من يده التي وضع فيها الإله قدسية وطهارة لم يضعهما في غيره كانت كافية لان تشفى المرضى والمصابين).
من هاتين الفقرتين يتبين أن شكسبير كان يؤمن بحق الملك الآلهي، وانهم نفر من الناس اختارهم الله لإدارة شعوبه، فعليهم طاعتهم وتنفيذ أوامرهم. وليس من العجيب أن يعتقد هذا الاعتقاد وقد وجد في عصر سادت فيه هذه العقيدة وآمن بها الناس على اختلاف ملكهم ونحلهم، ولم تكن لأفكار الحرّة قد انتشرت بعد، بل كان الناس يفضلون كل ما هو قديم موجود.
وأما العقيدة الثانية كما ذكرنا فهي عقيدة تناسخ الأرواح، وهذه تؤلف قسما من النظرية المعروفة لدينا بنظرية فيثاغورس التي تقول بانتقال بعض الأرواح من أجسادها إلى أجساد أخرى، فروح الرجل التقى الورع تنتقل إلى جسد كريم تحل فيه وتتخذ منه مكاناً لأقامتها،(125/48)
وأما روح الرجل الشرير فتحل في جسد أحد الحيوانات الشريرة؛ وقد ذكر شكسبير هذه العقيدة في (الليلة الثانية وفي تاجر البندقية، وفي كل من هذين الموضعين ينظر شكسبير إلى هذه العقيدةنظرة استخفاف وازدراء، فهو يقول على لسان كراشيانو في الرواية الثانية: (انك لتجعل من عقيدتي موضعاً دائماً للشك فيسهل علي حينئذ الاعتقاد بنظرية فيثاغورس التي تقول بانتقال أرواح الحيوانات إلى أجساد البشر).
وفي رواية (الليلة الثانية عشرة) نرى حواراً بين المهرج وبين مالفوليو. واليك نصه:
المهرج: (ما هي نظرية فيثاغورس؟)
مالفوليو: (أنها تعني انتقال روح جدتي إلى جسد أحد الطيور)
المهرج: (ماذا تعتقد في هذه الفكرة؟)
مالفوليو: (أني للأنزَّه الروح أن تنزل إلى هذا المستوى ولذلك فآني اعتقد بأنها نظرية خاطئة)
المهرج: (وداعاً يا صاح! لتبق على جهلك، وستعتقد بهذه العقيدة قبل أن أعيد إليك عقلك، وعندئذ ستتردد في ذبح أحد الطيور مخافة أن تحل روحه محل روح جدتك)
من هذا الحوار يتبين أن شكسبير كان يستهزئ بهذه العقيدة وينظر إليها نظرةاحتقار وازدراء؛ فعقائده الدينية لا تسمح له بهذا التفكير، ولذلك كان جديراً به أن يوليها ظهره وألا يهتم اهتماماً جدياً.
وقبل أن اختم هذا البحث في فلسفة شكسبير الدينية أورد ما قاله جبسن عنه: (إن الاحترام الزائد الذي أبداه شكسبير في رواياته نحو الديانة المسيحية الأساسية لتجعلنا أميل إلى الاعتقاد في نصرا نيته لولا عدم وجود أحد الأدلة لنثبت لنا انه كان مسيحياً صادقاً) ولكنه لم يكن يوماً ما معتقداً بجميع الاعتقادات التي آمن بها أهل عصره. نعم لقد عاش مسيحياً ومات مسيحياً، ولكنه اظهر في بعض الأمور شكا وتساؤلاً عن صحتها وصدقها. نعم كان شديد الاحترام للكنيسة وعقائدها ولكنه خالفها في كثير من المواضع.
خاتمة:
لو تتبعنا نظريات شكسبير في الأمور المغيبة التي ذكرناها سابقاً لرأينا الاهتمام الذي أبداه نحوها، نعم عاش في عصر سادت فيه الخرافات والأوهام، ولكنه تطلع بعين ثاقبة فرأى(125/49)
أشياء كثيرة يعجز الرجل العادي عن رؤيتها. كانت له القدرة الكافية على تفهم الأشياء المغيبة ففهمها بطريقة تخالف الطريقة التي فهمها الغير.
ولم تكن العقائد الشائعة المصدر الوحيد الذي اعتمده شاعرنا في أبحاثه عن المغيبات، بل كانت هناك مصادر أخرى من الفلسفة الرومانية والإغريقية القديمة مضافا إليها الابتكار الذي أوجده شكسبير دون أن ينقل عن غيره. سمع بأذنه ما يدور بين الناس من هواجس وأوهام فجمعها في شعره إلى ما نقله عن مخلفات السلف وأخرج منها روائع تعد من أعظم مبتكرات الأدب، وأخص بالذكر منها رواية (حلم منتصف ليلة من ليالي الصيف).
وأما الشبح في رواية هملت فيحوي نوعين من الأشباح أحدهما كان من ابتكار الشاعر العبقري والآخر مما نقله عن سابقيه من الكتاب الذين رووا حادثة الأمير هملت بشكل قصصي.
وأما ساحرات مكبث فقد اقتبسها شكسبير عن ويتبين لنا هذا مما قال في هولنشد: (بينما كان مكبث راجعاً إلى العاصمة إذا به يصادف ثلاثاً من النسوة وقد ارتدين ألبسة تشبه ما كان يرتديه النساء في ذلك العصر)؛ وأما شبح بانكو فهو ابتكار ابتدعه الشاعر العظيم؛ وأما رواية العاصفة فيغلب على الظن أنها الأولى من نوعها، وذلك لعدم وجود من كتب في موضوعها من الشعراء والكتاب الذين دونت كتبهم في السجلات وكتب القصص والتاريخ.
تقع حياة شكسبير بالنسبة إلى بحثه في المغيبات في أربعة أطوار: الطور الأول منها هو طور ظهور روايته (حلم في منتصف ليلة من ليالي الصيف) فاستعماله للجنيات مبتكر ومحدث. . وهو سلس في كتابته بعيد كل البعد عما يرهق الذاكرة ويمل القارئ. وقد وصف كلارك كتابه هذا بقوله: (أن استعمال شكسبير المغيبات لأول مرة لمما يدل على سروره ومرحه: فكل روايته هذه ملأى بالبهجة والحبور، ويندر أن تجد هنالك ما يكدرك إلا ما يقع في الأسطر القليلة التي بحثت في الأشباح).
وأما الطور الثاني من أطوار تأليفه فهوة الدور الذي ظهرت فيه روايته الثانية هملت؛ وفي هذه الرواية التمثيلية نشعر بالأرواح والأشباح تتصل ببني البشر اتصالاً لا يكاد يكون تاما، فان هذه القوى الخفية لا تستطيع أن تؤثر في مجرى حياة الإنسان وتحوله في الجهة التي تريدها، ولا يقوم الشبح في هذه الرواية بأي عمل من الأعمال إلا إذا كان بطريق وسيطه؛(125/50)
وكان شكسبير في هذا الطور قد بلغ الثلاثين من سنه وبدأت نظرته في الحياة تتحول من تفاؤل إلى تشاؤم وأخذت الأفكار والظنون تنتابه فتجعل منه عرضةً دائمة للتفكير والتخيل، فاعتقد أن وراء الإنسان قدر يسيره حسبما يريد، وما الإنسان إلا فريسة لهذا القدر الغاشم.
والطور الثالث ينتهي بإخراج مكبث. ازدادت هذه المخلوقات المغيبة ولكها عاجزة عن إيقاع الضرر بالناس مباشرة ودون أية واسطة، ولم تكن كلمات الساحرات الحقيقة إلا صدى يردد ما كان يدور في خلد بطل الرواية، وكان شكسبير يشعر بالشرور والموبقات تحيط به من كل جانب فأظلم أفكاره وتناوبته الهواجس المختلفة، واصبح في خوف مستمر من هذه القوى الخفية التي تقوم بأعمالها تحت ستار من الظلم والخفاء. وهنا يصل إيمانه بالخرافات إلى القمة ويصبح شكسبير مؤمنا مصدقاً لكل ما يقال له عن هذه الأمور المخيفة المرعبة.
وفي الطور الرابع أو الأخير نراه يخرج للناس رواية العاصفة وفيها يسترد رباطة جأشه وقوة عقيدته فيرجع إلى أفكاره المرحة الطلقة مرةً ثانية. فما الأرواح والقوى الخفية إلا عبيد يستخدمها الإنسان في مهامه وأغراضه، وليس لها من القوة والسلطة على شئ؛ وفي هذه السنوات الأخيرة يصل خياله الابتداعي أقصى غايته. فيشعر بحقيقة الوجود وطبيعة الأمور دون أي ستار أو غطاء.
وقد تخلص شكسبير من هواجسه ومخاوفه وعاد مرة ثانية إلى مرحه وسروره الذي أظهره في صورته التي صورها للجنيات فانطلقت مخيلته في الفضاء مجتازة جميع العوائق من عقائد وأفكار رجعية. وسجلت في روايته الأخيرة نتيجة عبقريته ونبوغه.
وفي كل من هذه الأطوار الأربعة رأينا شكسبير يتخذ مواضيعه مما كان يدور في خلده من المسائل والمشاغل العقلية، فهي مفكر واسع التفكير، مصور حسن التصوير، وشاعر خصب الخيال؛ تجلى تفكيره في كل هذه الأمور العقلية التي بحثها، وظهر تصويره في هذه الرسوم الرائعة التي رسمها لمخلوقات خيالية بأبدع تكوين واحسن تصوير.
نابلس - فلسطين
خيري حماد(125/51)
14 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تتمة
محاسنه ومآخذه:
إذا كان لأبي العتاهية ذلك الفضل في الشعر العربي بطريقته الجديدة التي أحدثها فيه، وتوخيه فيه السهولة التي تجعله قريب النفع، وتجعل منه أداة صالحة لتقويم الشعب، فانه كان أحياناً يفرط في هذه السهولة، فينزل فيها إلى اللغة الدارجة، والواجب أن يتوسط في ذلك ويسلك في الشعر لغة بين هذه اللغة ولغته القديمة الجافة؛ ومما يؤخذ عليه من ذلك قوله:
إلا يا عُتْبَةُ الساعَهْ ... أموتُ الساعَةَ الساعَهْ
وقد قيل لأبي برزة الأعرابي أحد بني قيس بن ثعلبة: أيعجبك هذا الشعر؟ فقال: لا والله ما يعجبني، ولكن يعجبني قول الآخر:
جاء شقِيقٌ عارضا رُمحَهُ ... أن بني عمك فيهم رماحْ
هل احدَثَ الدهرُ لنا نكبةً ... أم هل رَقتْ أمُّ شقيق سلاح
أي نفثت فيه حتى لا يعمل شيئاً. ولا يفوتنا أن نأخذ على هذا الأعرابي أن هذا الشعر لا يصح أن يذكر مع ذلك الشعر، ولكن يجب أن يذكر معه غزل من نوعه، وفي معنى يمت بسبب إلى معناه، لتكون الموازنة صحيحة بينهما، وتظهر الفروق بين الشعرين تمام الظهور.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكان ممن ينكر على أبي العتاهية: أنكر الرشيد علي طعني على أبي العتاهية في شعره، فقلت يا أمير المؤمنين هو أطبع الناس، ولكن ربما تحرف، أي شئ من الشعر قوله:
هُوَ الله هُوَ الله ... ولَكِن يغفر الله
وقال أبو عبيد الله المرزباني: ومما أنكر على أبي العتاهية من سفساف شعره قوله في عتبة:(125/53)
ولَّهَني حبُّها وصيرني ... مثل جُحى شهرة ومشخلَبَهْ
وقوله:
يا وَاهَا لذكر الل ... هـ ياوَاهَا ويا وَاهَا
لقد طَيَّبَ ذكر الل ... هـ بالتسبيح أفواها
أرى قوماً يتيهونَ ... حُشوشاً رزقوا جاها
فما أنْتنَ من حُش ... على حُش إذا تاها
وقال علي بن أبي المنذر العروضي: لما مات سعيد بن وهب الشاعر حضر أبي جنازته، وحضرها الفضل بن الربيع، وكان قد ظهر أيام المأمون، فلما دفن أثنى عليه الفضل، وأقبل على أبي العتاهية يحدثه انه أودع القضاة والعدول أموالا فما وفوا له، وانه أودع سعيد بن وهب مالا فوفى به، فقال أبي لأبي العتاهية: ألا ترثيه؟ قال: بلى، قال أبي: ثم صرت بعد أيام إلى الفضل ابن الربيع فأخرج إليّ رقعة، فقال: اقرأ مرثية أبي العتاهية لسعيد بن وهب، فإذا فيها:
مات والله سعيدُ بن وهب ... رحم الله سعيَد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيتَ عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي
فقلت ما ادري ما أقول؟ فقال الفضل: أبو العتاهية بأن يرثى في حياته أولى من سعيد بعد موته، قال الصولي: وله شبيه بهذا في محمد بن يزيد المسلمي:
قد مات خِلي وأُنسي ... محمد بن يَزِيدِ
ما الموتُ والله منا ... خلافه ببعيد
قال أبو عبيد الله المرزباني: وقوله في مرثية عيسى بن جعفر أشبه بقوله في سعيد بن وهب مما ذكره الصولي وهو:
بكت عيني على عيسى بن جعفر ... عفا الرحمن عن عيسى بن جعفر
ويمكن أن يعتذر عن هذا وأشباهه بأنه مما كان يقوله أبو العتاهية في حديثه السائر ولا يريد به الشعر، وقد روى أبو الفرج رثاءه لسعيد بن وهب بطريق آخر فقال: اخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد، فال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية، قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده فساره في شئ فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال(125/54)
لك هذا الرجل يا أبا اسحاق فأبكاك؟ فقال وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعراً:
قال لي مات سعيد بن وهب ... رحم الله سعيد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيت عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي
قال فعجبنا من طبعه، وانه يحدث فكان حديثه شعراً موزونا، وإنا نرجح هذه الرواية بورودها عمن شاهد هذا الشعر حين يقال وعاينه بنفسه، ولعل الفضل غير فيه هذا التغيير، ثم رواه بذلك الشكل ليزري به على أبي العتاهية بعد أن فسد ما بينهما على ما ذكرنا
ومما أنكر على أبي العتاهية قوله:
حلاوةُ عيشك ممزوجةٌ ... فما تأكل الشهد إلا بسَم
فالمعنى صحيح لأنه جعله مثلا لبؤس الدنيا الممازج لنعيمها، والعبارة غير مرضية، لأنا لم نر أحداً أكل شهدا بسم، وأجود من قوله لفظاً، وأصح معنى، قول ابن الرومي:
وهل خُلةٌ معسول الطعم تجْتَنى ... من البيض إلا حيثُ واشٍ يكيدُهَا
مع الواصل الواشي وهل تجْتَنِى يَدٌ ... جَنَى النحل إلا حيثُ نحْلٌ يذُودُها
وأنكر عليه أيضاً قوله:
يا ذا الذي في الحب يَلحَى أمَا ... والله لو كُلِّفتَ منه كما
كلفتُ من حبْ رخيم لَمَا ... لمتَ على الحب فذرني وما
ألقى فإني لستُ أدري بما ... بُلِيتُ إلا أنني بينما
أنا بباب القصر في بعض ما ... أطوف في قصرهم إذ رَمَى
قلبي غزالٌ بسهام فما ... أخْطَأ بها قلبي ولكنما
سهماه عينان له كلما ... أراد قتلي بهما سَلمَّا
فانه من الشعر المضمن، والتضمين عندهم عيب شديد في الشعر، وخير الشعر عندهم ما قام بنفسه، وخير الأبيات ما كفى بعضه دون بعض، مثل قول النابغة:
ولست بمستبق أخاً لا تَلمهُ ... على شعثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ
فلو تمثل إنسان ببعضه لكفاه، إن قال (أي الرجال المهذب) كفاه، وان قال (ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث) كفاه، وقد سبق أني لا أرى رأيهم في عيب هذا التضمين، ولست(125/55)
أدري لماذا لا نجيز في الأسلوب تفصصي هذه القطعة الشعرية البارعة المتماسكة، فيكون لنا من تماسكها وحدة شعرية ملائمة لوحدة قصتها، كما يكون لنا في الحكم ونحوها أبيات مستقلة، فيها يقوم كل بيت منها حكمة قائمة برأسها.
أما محاسنه وعيون شعره فنذكر منها ما اثر عنهم، واستحق به التقديم عندهم، قال موسى بن صالح الشهرزوري: أتيت الخاسر فقلت له أنشدني لنفسك، قال لا ولكن أنشدك لأشعار الجن والإنس، لأبي العتاهية، ثم أنشدني قوله:
سكنٌ يبقى له سَكنُ ... ما بهذا يؤذن الزَّمَنُ
نحن في دار يُخَبّرُنا ... ببَلاهَا ناطق لَسِنُ
في سبيل الله أنفسُنَا ... كلنَا بالموت مُرْتهَنُ
كلُّ نفس عند ميتها ... حَظُّها من مالها الكفن
أن مَالَ المرء ليس له ... منه إلا ذكرُهُ الحسن
وقال بشار لأبي العتاهية: أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول:
كم مِنْ صديق لي أُسَا ... رِقُهُ البكاَء من الحياءِ
فإذا تأمل لامَنِي ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبتُ لأرتدي ... فطرفتُ عيني بالرداء
فقال له أبو العتاهية: لا والله يا أبا معاذ ما لذت إلا بمعناك ولا اجتنيت إلا من غرسك حيث تقول:
شكوت إلى الغواني ما ألاقي ... وقلت لهن ما يومي بَعِيد
فقلن بكيتَ قلتُ لهن كلا ... وقد يبكي من الشوق الجَلِيد
ولكني أصابَ سوادَ عيني ... عُوَيْدُ قَذَى له طَرفٌ حديد
فقلن فما لدمعهما سواء ... أكِلْتَا مقلتيك أصاب عود
وقال أبو سلمة الباذغيسي: قلت لأبي العتاهية في أي شعر أنت أشعر: قال قولي:
الناسُ في غَفَلاتِهمْ ... وَرَحا المنية تَطَحنُ
وقال الفضل بن البيع لأبي العتاهية: يا أبا إسحاق ما أحسن بيتين لك وأصدقهما! قال قولك:(125/56)
ما الناس إلا للكثير المال أو ... لَمُسَلُّطٍ ما دام في سلطانه
فإذا الزمان رماهما بِبَلِيَّةٍ ... كان الثِّقَاتُ هناك من اعوانه
وقال عبد الله بن الحسن بن سهل الكاتب: قلت لأبي العتاهية أنشدني من شعرك ما يستحسن فأنشدني:
ما أسْرَع الأيام في الشَهْرِ ... وأسرع الاشهُرَ في الْعُمْر
ليس لمن ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خير من الصبر
فاخْط مع الدهر إذا ما خَطا ... واجْر مع الدهر كما يجري
من سَابَقَ الدهر كَبَا كبوة ... لم يُستَقُلْها آخر الدهر
وقال أبو تمام الطائي: لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد، ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر، وهي قوله:
الناسُ في غَفَلاتِهمْ=ورحا المنية تطحنُ
وقوله لأحمد بن يوسف:
ألم تر أن الفقر يُرجَى له الغنى ... وأن الغني يخْشَى عليه من الفقر
وقوله في موسى الهادي:
ولما اسْتَقَلوا بأثقالِهمْ ... وقد أزمعوا للذي أزمعوا
قرنتُ التفاتي بآثارهم ... وأتبعتهم مُقْلةً تدمع
وقوله:
هب الدنيا تصير إليك عَفْواً ... أليس مصير ذاك إلى زَوَال
وقال العتبي: رؤى مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر كئيباً آسفاً ينكت بسوطه في معرفة دابته، فقيل له يا أبا السمط ما الذي تراه بك؟ قال أخبركم بالعجب: مدحت أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها، ووصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضاً أرضاً، ورملة رملة، حتى إذا أشفيت منه على غناء الدهر، جاء ابن بياعة النخاخير - يعني أبا العتاهية - فانشده بيتين فضعضع بهما شعري، وسواه في الجائزة بي، فقيل وما البيتان؟ فأنشد:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... تطوى اليك سباسباً ورمالا(125/57)
فإذا رحلن بنا رحلن مخفَّة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
وهذا قليل من كثير من عيون شعر أبي العتاهية، وديوان شعره في جزأين كبيرين أولهما في الزهد، وثانيهما في الأغراض الأخرى، وقد جمعه أحد القسوس اليسوعيين نقلا عن رواية النمري وكتب مشاهير الأدباء كالأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه والمسعودي والماوردي والغزالي وغيرهم، وهو مطبوع في بيروت سنة 1305هـ سنة 1886م.
وليس في هذا الديوان كل شعر أبي العتاهية، لأنه كان أحد ثلاثة لم تمكن الإحاطة بشعرهم لكثرته، وهم بشار والسيد الحميري وأبو العتاهية، وكان في هذا أكثرهم شعرا، ولعلنا بما كتبناه في حياته وشعره نكون قد قربناه لمن يجهله أو يجحد به، وقدمنا للأدباء مثلا من الشعر لنبيل الذي يجب أن ينسجوا على منواله.
عبد المتعال الصعيدي(125/58)
الرأي
للشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين
سأحمل في الرأي مَضَّ الألم ... واصبر للخطب إما ألمّ
واحمل نفسي على مُرّها ... إذا ضامها ما يضيم الكرم
ولا اشتري كل هذا الوجود ... ولا العيش فيه ببعض الشمم
وازهد فيما بناه الرياء ... واصدع بالرأي مهما هدم
فأهونْ عليّ بدنيا النفاق ... وجاه يُنال ببيع الذمم
هو الرأي روحك فاحرص عليه ... فما بعد روحك غير العدم
وحكم القلوب بإلهامها ... وما اصدق القلب فيما حكم
فلا تطلبن وداد الصديق ... بمدح تزوِّره أو بذمّ
فإن اللسان رسول القلوب ... يحدّث عنها بلا أو نعم
وإن العقيدة عِرضٌ فصنه ... إذا كنت ممن يصون الحُرَم
سَرت في فؤادك مسرى الدماء ... فلا تبذل الدم إلاّ بدم
أمانة ربك في خلقه ... فمن كتم الحق فيها ظلم
وميثاقه قبل خلق الجسوم ... تلقّته أرواحنا في القِدم
بها رفع الله تلك النفوس ... وميّزها عن سوام النَّعم
فلا تغبطنَّ أخا حظوة ... فما نالها برخيص القيم
ولكنه باع فيها الضمير ... وألقى العقيدة تحت القَدم
وساوم بالنفس فعل البغيّ ... رمت بالحياء ابتغاء اللقم
وكم اسخط الحق في موطن ... وكم البس النور ثوب الظلم
تكاد مظاهره الخالبات ... تشف لعينيك عما طوى من تُهَم
ويوشك منظره المجتلي ... يحدّث عما طوى من تُهَم
فلا تغترر ببهاء الوضيع ... فكم من حذاء صقيل الأدم
وعش العقيدة عيش الكرام ... ومت رجلا تحت هذا العلم
ولا تعتدد بالأُولى خالفوك ... وكن أمماً أن عصتك الأمم(125/59)
أحمد الزين(125/60)
الجبل
(ذكرى)
للأستاذ عبد الرحمي شكري
جلالك أهدى من ضياء المناثر ... ومنبرك الأعلى اجل المنابر
لقد كنتَ عرشَ المجد في الأرض عزة ... ومسكن أرباب الدهور الغوابر
فيامعبداً سقف السماء غطاؤه ... وعمدانه الدوحات ملء النواظر
جلالك يُلْهِي المرَء عن كل زائل ... فيخشع مسحور النهى والضمائر
توحدت كالرهبان يا رُبَّ راهب ... رأى عصمةَ الأطواد طهرَ السرائر
تُطِلُّ على السهل الفسيح كأنما ... تُفَكِّرُ في عيش القرى والعمائر
أَلاَ أنِّ للأهرام مجداً وروعةً ... ولكنها أنْ لُحْتَ لهْو الأصاغر
فأنت بِنَاءُ الله لم يبنِ مثلَه ... قديرٌ ولم تعبث به يدُ جائر
ومعتصم في معقل منك مانع ... كما اعتصم الملاَّح بين الجزائر
عَلَوْتَ براسٍ في السماءِ مُبَاعِدٍ ... أَكَيمْا تناجي السحب أم كبر قادر؟
وينساب فيك الماء جذلان لاهياً ... وآناً له روع كروعة هادر
عليك اعتراكٌ للعواصف رائع ... وبرقٌ ورعدٌ طيَّ سُحْبٍ مواطر
وأنت وَقُورٌ لم تُرَعْ من رعودها ... ولم تتهَّيبْ دورةً للدوائر
يُغَيِّر مَرُّ الدهر حياً وهامداً ... سواك فهل أوقفت خطو المقادر
فيا مَلِكاً بُرْدُ الجليد كساؤه ... ومِنْ فوقه تاج النجوم الزواهر
تشاهد جيلاً بعد جيل كأنما ... تمر بك الأجيال مَرَّ العساكر
ترى مولد الدولات ثم مماتها ... وتبصر مجد اليوم بعد الغوابر
خلطتُ بك النفسَ الطَّموحَ إلى العلا ... ومرأى جلالٍ منك ملءُ الخواطر
عبد الرحمن شكري(125/61)
عذراء الهوى
بقلم سليم الزركلي
هدأ الشاعر في خلوته ... وانثنى يقرأ أسفار الحياةِ
فتجلّى الشك في صورَتِه ... كوميض البرق بين الظلماتِ
زهرة لم تتفتح للهوى ... كالملاك الطفل في مهد الدلال
لمست وجنتها بنت الندى ... فأضاء النور مصباح الخيال
بسم النور على أجفانها ... فتجلى في معانيها الأمل
وارتمى البشر على أحضانها ... غارقاً في أغاريد القبل
قبلتها الشمس في وجنتها ... فنما في ِدفئها وَرد العفاف
وحنا البدر على طلعتها ... فحلا للعين والقلب المطاف
يا ملاك الحب في المهد ويا ... شعلة الإلهام والوحي المصون
يا ضياء النفس في النفس ويا ... غاية الحسن وتمثال الفنون
منية منيتها القلب اللهيف ... فغدا في صبره يلقى العذاب
بسمةً واحدة يهْدَ الوجيف ... وافتراراً عن ثناياك العِذاب
في حنايا النفس آمال جسام ... تتلوى كأفاعي الهاجره
أطفئِي غلتها بالابتسام ... وبإغضاء الجفون الساحره
ما لهذا الكون معمور الجناب ... وفؤادي في سراه حائر
فإذا ما مزّق الدهر الإهاب ... ماالهوى؟ ما العيش؟ جَدٌّ عاثر!
عاشق الزهر في ميعتها ... يحتسي في الكأس معسول الرُّضاب
إنه يقطف في صورتها ... بهجة الدنيا وأحلام الشباب
فإذا قبل خدّ الزهَرات ... وهي سكرى كالعيون الناعسه
سمع القلب شجيّ النغمات ... فهفا وهي تغني هامسه:
(أنت لاتبصرني بعد غدِ ... سوف يجلوني عن الغصن القدر
فتمتع من جمالي وأسدد ... ولتمثلني خيالات الفكَر
لاتُضع أيامك الغرّ سدى ... واتخذني مثلاَ تنشده(125/62)
يذهب العمر هباَء بَدَداَ ... أن تولى عنه من يسعده
يا نسيم الروض خفف وطأتك ... لم اعد أستطيع حمل النغمات
سر على مهل وخفِّف حدتك ... أصبحت تؤذَي خدودي النسمات
واحنُ يا طيف على أحلامنا ... وابتسم تشرق أزاهير السعود
واسر ممراحاَ على أيامنا ... بنشيد من أناشيد الخلود)
فانحنى يغمرها بالقبلات ... ويواري في حناياه دموعهْ
وَدَّ لو ينفحها روح الحياة ... حانياً فوق أمانيها ضلوعه
طهِّري القلب بحب وغرام ... ودعي الأيام في غفلتها
أنت أن أيقظتها جَدَّ الخصام ... وتداعى العمر في يقظتها
واغنمي اللذات في أوقاتها ... وارتعى مثل فراشات الربيع
واعطفي القلب على باقتها ... إنها تحنو على الطفل الوديع
دمشق سليم الزركلي(125/63)
الزَّوَاجُ
رَأَيْتُ زَوَاجَ الْمَرْءِ أَسْعَدَ حاَلَة ... مِنَ الْمُكْثِ بَيْن النَّاس وَهْوَ فَرِيد
شَرِيك الْفَتَى فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ زَوْجُهُ ... فَكَيْفَ يَعِيشُ الْمَرْءُ وَهْوَ وَحِيدُ
وَلَوْلاَ زَوَاجُ النَّاسِ في الْكَوْنِ لانْقَضَى ... وَلاَ كانَ للإنْسَانِ فِيهِ وُجُودُ
يُخَلدُ ذِكْرَ الْمَرْءِ فِي الدَّهْرِ نَسْلُهُ ... وَمَا لامْرِئٍ فِيهِ سِوَاهُ خُلُودُ
(بيبان)
عبد الهادي الطويل(125/64)
الوداع
بقلم الياس قنصل
يا قلبُ لا تجنحْ إلى الش ... شَكوى فتؤلمك الكِلامْ
ودع الكآبةَ فالشبا ... ب إذا انقضى لا يرجع
وتأمّل الدنيا، فقد ... أبدى هناها الابتسام
والناس ترفل بالمسر ... رة والطبيعة تسمعٌ
لحناً أثيريّ الجما - ل يعيد أنباض الأمَلْ
أن كان أحزنك التأه ... بللوداع فما العمل
والدهر لا يرثى واح ... كام القضا ليست تُرَدُّ؟
أنا لا ألومك يا فؤا ... د إذا عراك الاضطرابْ
فقد جرعتَ - وانتفي ... عهد الصبى - كأس النوى
وخبرت أدواَء البعا ... دِ وما تجرّ من العذابْ
فاصبر على جور الزما ... ن، ولا تهبْ منهم الجوى
فالصبر ينفث في الحيا ... ة الانشراح والابتهاجْ
لا تيأسنَّ، فقد يرو ... ق البحر من بعد الهياجْ
ولربما انجلت الغيو ... م عن السما وبدا القمرْ. . .
(عاصمة الأرجنتين)
الياس قنصل(125/65)
القصص
صور من هوميروس
15 - حُروب طَرْوَادَة
صلح. . .
للأستاذ دريني خشبة
أشرقت الشمس أو كادت، وبدت ذيتيس تتهاوى في الأفق الغربي فوق الشبح، وهرعت عرائس الماء وعذارى البحر تحييها وتنشد لها الحان الفجر، ظلّها الندى. . .
وكانت تتأوّد تحت حملها الثقيل، فما إن بلغت سفينة أخيل حتى ألقت بالدرع المسرودة، وحتى هب ولدها يحييها بعين شَكْري، ومهجة حَري، وقلبٍ مُوجع حزين.
ما يزال جالساً أمام جثة بتروكلوس يبكيها، ويكلم فيها الإخاء والوفاء، ويناجي في لفائفها الود والولاء، وكان ما يزداد إلا لوعة، وكان ما يزداد إلا أنيناً!
وحنت عليه أمه تواسيه؛ ثم لفتته إلى الدرع والخوْذة، فحدجهما بنظرة قاتمة، وشكر لها هدية فلكان، ثم أوصاها بالجثة خير ما يوصى به الصديق. . . (ذودي الذباب فلا يمسها يا أماه، وارفعي عنها أذى أسرابه، واسقيها من المعتقة الصفراء، حتى تأذن الآهة فأعود إلي بتروكلوس بثأره. . . . . .)
وانطلق في غبشة الصبح يطوف بمعسكر الهيلانيين، داعياً إلى مجلس حربي.
وكان يهتف بالجند النائم هُتافاً عالياً، فينتفض المقاتلون وقد خفقت قلوبهم، واهتزت جوانحهم، وفاضت عبراتهم من الفرح للقاء أخيل!
وكان أجمل ذلك جميعاً أن ينهض اوليسيز متهالكا إلى نفسه، وديوميد مترنحاً في عطفه، ونسطور مرتجفاً كأنه في يوم حشر،. . . و. . . اجممنون، كان الحياء والحجل يصبغانه بحمرة الجحيم!!. . . . . . .
لقد كانت جروح القادة انطق برهان على ما جرّت تلك الخصومة الوضيعة بين اجاممنون وأخيل من هزيمة للجيش، وضياع للجهود، وعبث بآمال أمة ترقب أبناءها من وراء البحار! وانتظم عقد القادة، ووقف أخيل يتكلم، فأرهفت الآذان، وصغت القلوب، وتحركت(125/66)
الألسن تبحث عن بلل من الريق تبتلعه:
(أين أتريوس العظيم)
(أخي في الوطن)
(يا أمير هذه الجيوش الغازية)
أرأيت؟! أي جدوى عادت عليّ أو عليك من هذه القطيعة التي أججت نارها، واندلع بيني وبينك أوارها، وأي غنم أفدت من شحناء لم تكن بعظيم بن عظيم، بل سليل آلهة عظماء؟!
ألا ليتها أودت تلك الفتاة التي أثارت كل تلك العداوة، وأغرت جميع تلك البغضاء بيننا! أي وأرباب الأولمب، ليتها أودت يوم غنمناها من مدينة ليرناسوس، حتى لا تفرح طروادة بما تم لها من نصر، وما حاق بجحافلنا من خذلان، لم يكن شئ منه يقع لولا ما أثارته بريسيز بيننا!
ولكن لا! فالفتاة نقية وطاهرة وبريئة، لأنها لا تزر وازرة وزر أخرى؛ ولكننا، معشر الهيلانيين، ينبغي أن نذكر أبداً أن لنا ثأراً عند هؤلاء الطرواديين، لا محيص لهم من أن نأخذهم به، وان نطلبه عندهم، فلا نرتد عينهم حتى يُدال لنا منهم، وتكون لنا الكرة عليهم حين يظفرنا اتحادنا بهم. . .
لنكبح جماح نفوسنا إذن! وليطفئ كل من غيظه في سبيل هيلاس؛ ولتندمل تلك الجراح التي تفثأ قلوبنا فتكاد تقضي على آمال أمة؛ وتطيح بأماني الوطن!
اجاممنون! بن أتريوس العظيم!
تلك يدي أضعها في يدك، عهداً مخفوراً وذمةً وفيةً، ألا ندع أهواءنا تهدم ما طمحت إليه نفوسنا من قبل، وان نكون من الساعة يدا على عدونا، وإلباً واحداً. . . . . . . . . . . . . . .
والويل بعدها لمن يجرؤ من جند طروادة أن يتصدى لنا، أو يجازف بنفسه أمامنا. . . . . هذا رمحي! وتلك قناتي! ويا طالما قد ظمئت آلي الدماء. . . . . . . . . .!)
وتدفقت الدماء في عروق القادة، وشعروا كأن السماء ترفعهم إليها فتطهرهم وتزكيهم، وتعود بهم إلى الثرى قوماً آخرين!
ونهض أجاممنون من مكانه، ولم يستطع أن يتقدم إلي مكان الخطابة، فقال: (أيها الأصدقاء!(125/67)
يا أبطال هيلاس! يا وزراء مارس!
لست ادري ما أقول ردّاً على أخيل العظيم، بيد أنني سأفتح له قلبي، واكشف لكم أمامه عن سريرتي، وسيد الأولمب على ما أقول وكيل!
أبداً والله ما كنت سبب هذه المأساة التي أغرت بيننا العداوة، وأججت نيران هذه البغضاء! وأبداً والله ما آثرت أن يكون بيننا ونحن في هذا الأمر ما نحن، شئ من تلك القطيعة التي دفعنا ثمنها غاليا: أرواحاً مطهرة ودما زكياً وشبابا أنظر الشباب!!
أبداً والله ما أثرت من ذلك شيئاً قط؛ ولكنها المقادير، ومشيئة سيد الأولمب، وهذه الربات الغالبات (ارينيس) اللائي تحالفن علي، فغشّين بصيرتي، وأذهلنني عن نفسي، فأتيت ما أتيت على غير وعي مني، ولا هدى ولا برهان مبين!. . . ولقد ثاب إلى رشدي، وارتفع الحجاب عن بصيرتي، ساعة إذ أبصرت هكتور يأخذ جموعنا فيحصرهم بينه وبين البحر، كأشد ما يكون حصار بين موتين! عندها، ذكرت أخيل! وذكرت أنني آثم في حق أخيل، وان أخيل لو كان في هذه الحلبة لما ملك هكتور رشاده، وما ملكت رجلاه أن تحملاه! فزاغت عيناي، واستبنت ضلالتي، واستغفرت الآهة من أجل آثامى!
أخيل:
ما أعظمك حين نسيت غضبتك، وسعيت إلى خصمك، ومددت إليه بيمينك من اجل الوطن! مرحبا بك يا أخي؟ ومرحبا بصلح يغسل الضغن، ويذهب بالجفوة، ويرأب ما أنصدع من شملنا جميعا!
على أنى أرى أن أمهر صلحي وأؤكد محبتي، ياللهي الغالية، والهدايا العالية، وبكل مذخور ثمين؛ فهلم يا ابن بليوس هلم؛ هيئ الصفوف وجيّش الفرق، حتى أعود إليك بتذكاراتي. . .)
وأبى أخيل أن يلهو أحد في تلك الساعة، أو يشتغل إلا بالحرب. والاستعداد ليوم الفصل؛ فشكر اجاممنون، ورجاه أن يلبث معه حتى يأخذ كل عدته؛ ولكن اوليسيز الجريح يتدخل، ويرجو أن ينطلق اجاممنون فيأتي بالعطايا واللهى،. . . وبالغادة المفتان، بريسيز، فتنة الفتن، ونادرة الجمال؛ نقية كما هي، أخيلية كما فَصَلت من خِدْر مولاها يوم الخصام الأكبر. وأنا اقسم لأخي على ذلك ويقسم عليه ويؤكده اجاممنون).(125/68)
ويقسم عليه ويؤكده اجاممنون، ويغسل أقسامه بالدمع السخين؛ ثم يأمر خادمه (تلثبيوس) فينطلق إلى حيث يأتي بخنزير سمين يذبحه ويطعم القادة منه. . . ويحلف أخيل لا يذوقن من طعام حتى يعود بثأر صديقه واعز الناس عليه: (بتروكلوس!).
ويلح عليه اوليسيز في أن يأكل: (لان الحرب شاقة، ويومها دهر بأكمله، ومقارعة الأقران مجهدة للأبدان. . .) وما يزيد أخيل إلا إباء!
وعاد اجاممنون
وكان اوليسيز نفسه يتقدم الراكب الذي اقبل من سفينة القائد العام يحمل هداياه لأخيل. ونهض اجاممنون فأشهد الآهة على نقاء القلب وصفاء النفس، ورضاء الضمير، ثم قدم الهدايا إلى ابن بليوس الذي كان يشهدها ويبكي!
وفي الحق، لقد كانت لُهىً أحسن اللُّهى، وهدايا على قدر مُهديها!
فهذه صناديق سبعة مقفلة، ملئت بالدر واليواقيت والزبرجد وبكل ما غلت قيمته من كتان مصر، وخز الهند، وحبر الشام. . . وهذه اثنا عشر من صافنات الجياد كأنما ولدت في ليلة واحدة ولوَّنتها الآلهة بألوان واحدة، وأضفت عليها عرائس الفنون من سحرها، فكانت كخيل أورورا!
وهذه أيضا عشرون دستاَ من النحاس المزركش، حليت سطوحها بالميناء والفُسيْفِسَاء، وتبارت في حفرها كل يد صناع وفكر عتيد. وفيها من أصناف الجوهر ما يبهر اللب ويشده القلب، ويذهب سنا برقه بالأبصار!
وهذه بدَرٌ عَشْر من الذهب الخالص يحملها اوليسيز ويتقدم بها أبكاراً سبعاً من جملة اللَّهى، كل منهن كأنها فينوس حقيقة، تميس كأنها بانة، وتبسم كأنها أقحوانة، وتبدي عن الدر النضيد!!
ثم. . .
هذه بريسيز! بريسيز الهيفاء، واصل هذا البلاء؛ الدمية التي أترعت بالمفاتن، وفاضت عيناها بسحر الهوى!
هذه بريسيز تبرز فتخطف الأبصار، وتتقدم فثب القلوب، تود لو تغمرها لمحة من جمالها النضر، وشبابها الفينان!(125/69)
فهل رأيت إلى العاصفة تقتلع الدوح، وتطيح بالأيك، وتهب على اليم النائم فيصطخب، والبحر الوادع فيضطرب. . . و. . . على الغدير ذي الخرير فيرقص من رعشة كان به مسّاً من الخَدَر!!
تلك هي بريسيز حين تبدت للقوم!
لقد هتف اوليسيز هتفةً ضاعت في إنذهال الملأ بما يرى، على ما تعرف من جبروت اوليسيز، وشدة أيده. . . . . . ثم هتف فتلفَّت الناس، وراح الرجل يكرر ما قيل من نقاء بريسيز وتمام طهرها؛ أخيل مطرق ساهم، لا يكاد يعي مما يقال شيئا!. . .
واستل اتريديس خنجره، وأهوى به على عنق الخنزير يذبحه، وهو في ذلك كله يصلي لأربابه، ويسبح بحمد السماء، ويشكر لسيد الأولمب ما أتم من صلح شريف بين سليلي الآهة. . . ونهض اجاممنون فقدم بريسيز إلى سيدها، وعقَّب بكلمة طيبة، ثم أشار أخيل إلى المرميدون فحملوا الهدايا، وانطلقوا إلى أسطولهم بها، ومعهم فتاة مولاهم في صفوف موسيقية، وفي موكب رهيب!
وانصرف القادة إلى زادهم، والجنود إلى ميرتهم، ولا حديث لهم إلا أخيل وفتاة أخيل، والصلح الذي باركته السماء، وكسبوا منه أن يكون فيهم أخيل!
أما بريسيز فقد وصلت إلى سفينة مولاها؛ فشدها أن ترى إلى جثة بتروكلوس في لفائفها وأكفانها، والى هذه الأم البارة، ذيتيس، جالسة عندها تبكي، وتدفع أسراب الذباب، وتسقي القتيل خمراً!!
لقد كانت بريسيز تعجب بالبطل منذ قريب، ولقد تركته ممتلئاً صحة، موفوراً شباباً؛ نضر الصبى، ريّانَ الأهداب! ثم عادت فكان اشق عليها أن تراه مُسَجَّى هكذا! لا نأمة! لا حركة! لا نَفَس! قتيلاً كأدنى من كان يقتل كل يوم روع، طعيناً كأقل من كان يطعن كل يوم نزال!!
ودارت الدنيا بالفتاة، فراحت تملؤها ندبة وبكاء!. . . واجتمع لديها الفتيات الأخريات يندبن ويبكين. . .
فما كان أروعه منظراً، وما كان أحره إخلاصاً!!
واقبل فونيكس على أخيل يواسيه
ولكن أخيل ما يرقأ له دمع، ولا ينقطع له نحيب. . . واطلعت أرباب الأولمب، فشهدت ما(125/70)
يأخذ البطل مت ن رُحَضَاء الحزن، وبُرَحاء الأسى، فأشار زيوس إلى مينرفا، فهبت إلى أخيل ترعاه، وتخفف عنه من بلواه. فلما كانت قاب قوسين من ابن بليوس، هالها أن ترى إليه يعصف به الحزن، ويوهنه الجزع، والجند مع ذاك قد بُوَّئُوا مواقف للقتال! فما هي إلا أن أمرت فونيكس بأن يصب الخمر المعتقة على صدر صديقه لينقذه من ضيقه، وليخفف عنه من وطأة الجوع. ويصدع فونيكس، فيتقدم إلى أخيل كاشفاً عن صدره، وصب السلافة الأولمبية فيشربها الجسم الضاوي، ويسترجع بها ما فقد من قوة. . . وما يفتأ فونيكس فوينكس يصب الخمر، وما يفتأ أخيل ينظر إليه مشدوها، حتى يكون في كل قوته من اثر الخمر، فيصيح صيحة الحرب. . . التي تهتز لها أبراج طروادة!. . .
فانظر إليه مُقَنَّعاً في حديد فلكان، وانظر إليه تحت تلك الخوذة التي لم تصنع مثلها يد الإله الحداد، وانظر إليه يداعب حربة شيرون، أستاذه السنتور العظيم؛ ثم انظر إليه كالبركان المضطرب يقذف النار من عينيه المغْضَبَتيْن، ومن حوله الميرميدون يملؤون الرحب ويسدون الشَّعاب. . .
ويل لك يا هكتور!
(لها بقية)
دريني خشبة(125/71)
البريد الأدبي
اللغة السيوية بربرية
إلى الرحالة الأستاذ محمد ثابت، سلام واحترام:
ذكرتم يا سيدي في العدد 121 من (الرسالة الغراء) أن لأهل سيوة لغة خاصة يتكلمونها في رطانة هي ابعد من اللهجات الأوربية عنا، وأنكم تسمعتم إليها فلم تهتدوا إلى كلمة واحدة تمت إلى العربية أو اللاتينية بسبب؛ وبعد أن ذكرتم أمثلة من هذه اللغة الغريبة الشاذة قلتم: (ويقال إن اصل تلك اللغة بربري مازجته العربية ثم الرومانية).
والأمثلة التي ذكرتموها تدل دلالة قاطعة على أن هذه اللغة هي بربرية لا شك فيها، وهذه الألفاظ التي استغربتموها هي نفسها لا تزال مستعملة في أفواه البربر في هذه البلاد إلى الآن.
والذي انتهيت إليه - بعد البحث الطويل في اصل هذه اللغة وفي علاقتها بالعربية - هو أنها إن لم تكن لهجة من العربية الأولى بعدت عن اصلها بتراخي الزمن وطول الأمد حتى صارت كأنها لغة مستقلة، فما لا شك فيه أنها لغة سامية (انظر بحثنا (هل البربر عرب؟ وهل لغتهم لغة ضاد أخرى؟) في مقتطف يوليو 1934).
وأما أن العربية المدونة في القواميس قد مازجت البربرية بعد الفتح الإسلامي لبلاد البربر، فهذا أمر واقع لا شك فيه، فكلمة (تَلَشْلَشَتْ) التي قلتم إنها من أسماء الأعلام عند السيوويين هي كلمة عربية من (لشْلَشَ) إذ تردد واضطرب (بُرْبرَتْ) بادْخالِ علامة التأنيث في اللغة البربرية عليها وهي التاءان معا في أولها وفي آخرها؛ وترجمة هذه الكلمة (اللشلشة أو اللشلاشة) وكلمة (لشلاش) من أسماء الأعلام هنا في الجزائر بين العرب.
ولقد وجدت وأنا انظر في اللغة البربرية أن القاف المعقودة فيها ينطقها بعض البربر جيما مصرية، وينطقها بعضهم جيما عربية، وينطقها آخرون منهم عربية تارة ومصرية تارة أخرى، فقلت في نفسي: من يدري فلعل الجيم المصرية جاءت من هنا.
وبرابرة برقة كما يحدثنا التاريخ أغاروا على مصر أقاموا بها واثروا في لغتها، وجئتم اليوم أيها الأستاذ الرحالة فرويتم لنا أن نفس اللغة البربرية لا تزال مستعملة كلغة منزلية إلى الآن في بعض زوايا مصر، ونشرتم صورة فتاة سيوية عليها مسحة من الجمال(125/72)
المغربي، فافدنا منكم ما لم نكن من قبل نعلمه ولا ندريه، فلكم الفضل والشكر على ما وليتم.
وهران (الجزائر)
محمد السعيد الزاهري
قصة رائعة وفلم مبتذل
عرض أخيراًفي بعض دور السينما بالقاهرة شريط مصور (فلم) عنوانه (الشيطان امرأة) وقيل في مدحه والترغيب في رؤيته أن النجمة الألمانية الشهيرة مرلين ديتريش هي صاحبة الدور الأول فيه، وهي التي تقوم بتمثيل هذه (المرأة الشيطان)؛ ولكن الذي لم يقل في شان هذا الفلم ولم ينوه به هو انه مأخوذ من قصة بيير لوئيس الشهيرة المسماة (المرأة وقراقوز) أي الرجل الذي لا إرادة له.
وقد أذيع أخيراً أن الحكومة الأسبانية أمرت بمنع عرض هذا الشريط في جميع أنحاء أسبانيا لأنه يعرض سمعة الضباط الأسبان - وبطله الرجل هو ضابط أسباني - إلى المهانة والسخرية ويعرض سمعة المرأة الأسبانية - وبطلته هي فتاة أسبانية راقصة - إلى الزراية، وذلك أنها تبدو في الفلم في شخص الفنانة الحسناء امرأة عاهرا مبتذلة تعرض اخطر ضروب الإغراء النسوي وأسفلها بصورة مثيرة ملهبة، تلك هي (كونشيتا) بطلة هذه القصة الشهيرة.
بيد أن الحكومة الأسبانية لم تقف عند هذا المنع المحلي بل تقدمت بمذكرة احتجاج سياسي إلى الحكومة الأمريكية، فتدخلت في الأمر ونصحت إلى شركة بارامونت التي أخرجت الفلم بسحبه من جميع أنحاء العالم؛ فلم يسع الشركة إلا النزول عند هذه الرغبة وتنفيذها، وبذا يختفي أحدث مخرجات مرلين ديتلايش عن الأنظار، ولكن تبقى بعد ذلك القصة الأصلية التي تعتبر من أبدع ما كتب بيير لوئيس؛ بل هي في سحر أسلوبها ورائع عرضها لا تقل اضطراما وحياة عن الشريط المصور ذاته؛ وهكذا يستطيع من حرم مشاهدة هذا الشريط (العاهر المبتذل) أن يقرا في بيير لوئيس، ما يرفع روجه إلى ذروة الفن والخيال الرائع.(125/73)
وفاة لاوردس برون
قرأنا في البريد الألماني الأخير نعى الكاتب القصصي الدنمركي الشهير لاوردس برون توفي في الحادية والسبعين من عمره، وكان برون سليل هذه المدرسة القصصية الدنمركية الزاهرة التي اشتهرت بروعة خيالها وسحر أسلوبها وخفة روحها، والتي أنجبت هانز آندرسن معبود الطفولة والحداثة، وكان مثل مواطنه وسلفه الكبير اندرسن يكتب للشباب قصصاً رائعاً ممتعاً؛ واشتهر على الأخص بسلسة من القصص التي تصور الحياة في البحار الجنوبية، واسم بطلها فان سانتن؛ واخرج منها ثلاثة مجلدات عنوان أولها (فان سانتن في أيام سعده) وعنوانه الثاني (جزيرة السعادة لفان سانتن) وعنوانه الثالث (الأرمل المحزونة)؛ وتدور القصة كلها حول حياة تاجر ورحالة، وهو فان سانتن، يجوب البحار الجنوبية، وينزل بإحدى جزرها، ويتزوج إحدى نسائها وهي ابنة ملك هذه الجزيرة، ويعيش معها سعيداً؛ ويصف برون هذه الحياة وصفاً رائعاً ساحراً؛ وعبرة القصة تذهب إلى عكس ما ذهب إليه دانيل ديفوني في قصته (روبنصن كروزي)، وهي أن الحياة البدوية في هذه البقاع النائية اسعد مما يتصور الناس.
وكتب لاوردس برون أيضاً عدة مجموعات من القصص الصغير منها مجموعة: (إلى الوطن)، وأسلوبه بسيط ساحر، ويمتاز بمقدرة فائقة على تصوير الحياة والصور الطبيعية فيما وراء البحار، وذلك في ألوان شعرية بديعة؛ وهو يذهب في كتابته مذهب الدعوة إلى الحياة الطبيعية، والطبيعة احب الأشياء والناظر إليه، وهي أروع ميادين قلمه وخياله.
الأستاذ الزنجاني
من أخبار طهران أن وزارة المعارف الإيرانية عينت الأستاذ أبا عبد الله الزنجاني مؤلف كتاب (تاريخ القرآن) أستإذا للفلسفة الإسلامية وتفسير القرآن الكريم في جامعة (سبهالار) في طهران
أسبوع المتنبي في دمشق
تألفت في دمشق لجنة من العلماء والأدباء برياسة الأستاذ المغربي رئيس المجمع العلمي العربي لإعداد الأهبة لإقامة مهرجان شعبي عظيم تحت رعاية وزارة المعارف السورية(125/74)
يستمر أسبوعا بدمشق في فصل الربيع، وسيقام في المعرض الصناعي السوري الذي يفتتح في شهر أبريل سنة 1936. وقد أرسلت لجنة المهرجان الدعوة إلى علماء العرب وشعرائهم في مختلف الأقطار، وكذلك إلى أفاضل المستشرقين ليساهموا في هذا المهرجان ببحث ناحية من نواحي أبى الطيب، وستنشر اللجنة كل ما يقال في هذا الاحتفال في كتاب خاص.
وفاة فنان كبير وانتحار كاتب شهير
توفي أخيراً في فينا المؤلف الموسيقي الشهير الأستاذ بيلا لازكي؛ وكان لازكي مدى الثلاثين عاما الأخيرة من أعلام التأليف الغنائي والموسيقي؛ وهو مجرى المولد، ولد سنة 1867، وتلقى علومه في فينا عاصمة الفن الزاهر في ظل الإمبراطورية القديمة، وعاش فيها منذ شبابه؛ وظهر في التأليف الموسيقي، فوضع مئات الأناشيد والمقطوعات والغاني الألمانية، وامتاز بالبراعة في نوع خاص منها هو القطع الغرامية والشعبية التي تعزف وتلقى في النوادي الليلية (الكابريه)؛ وكانت تعاونه في فنه زوجته الفنانة والمغنية الحسناء ميلا مارس التي لبثت مدى حين تخلب الباب المجتمع النمساوي الرفيع؛ ولكنها توفيت شابة ومضى لازكي يطوي ذلك حياته الفنية وحيداً، ويخرج كل عام عدداً كبيراً من المقطوعات والأناشيد التي تذاع في جميع أنحاء العالم، وفي أواخر أعوامه عرف لازكي متاعب البؤس والمرض، إذ خسر معظم أمواله مضاربات عقيمة، وداهمته أوصاب الشيخوخة، فقطع أيامه الأخيرة محزوناً بائساً، وتوفي في الثامنة والستين من عمره.
ووقفنا في أنباء فينا الأخيرة أيضاً على حادث محزن هو وفاة الكاتب النمساوي الأشهر الدكتور فكتور درزتي وزوجه البارونة كلارا؛ وقد وجدا منتحرين بالغاز في منزلهما في شارع بليز في ضواحي فينا؛ ولم تتضح أسباب المأساة تماماً، ولكن المعتقد أن الحادث يرجع إلى مرض عصبي شديد كانت تعانيه البارونة؛ وكان الدكتور درزتي من النبلاء، وكان أديباً وكاتباً كبيراً، واشتهر بمقالاته الاجتماعية والنقدية، وله مؤلفات وكتب قصصية ذائعة.
شهادة لله(125/75)
سيدي الأستاذ الفاضل (صاحب الرسالة)
سلام عليك
ربك العظيم يقول في كتابه القديم:
(ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فانه آثم قلبه)
صدق الله العظيم
وإني أعيذ نفسي برحمة الله من آثام القلب، فضلا عن تأثم القلوب
سيدي الأستاذ:
هي شهادة لا أبتغي منك عليها جزاء ولا شكوراً
لقد كنت يا أستاذ الزيات بليغاً دائماً، بليغاً علم الله فوق ما نسمع ونقرا من بلاغات سحبان وأكثم بن صيفي وعبد الحميد وإخوانهم من كرام البلغاء الأقدمين.
أما في مقالك الأخير في عدد (الرسالة) الأخير، لمعنون (في الجمال) (على هامش الموضوع) فلقد كنت أبلغ من نفسك بكثير.
أتدرى لماذا يا سيدي الزيات؟
لان موقف اليوم، الذي أرسل قلمك، بعد إرساله شجنك، بمقال اليوم، موقف من ابلغ مواقف التاريخ. لشد ما قال لنا التاريخ والزمن في أنفسنا قولا بليغاً.
وليس للمواقف البليغة في الأمم والشعوب إلا قلوب البلغاء، بل إلا القلوب البليغة، ودعني لا أقول هنا: السنة البلغاء، فطالما والله أودت السنة البلغاء بحقوق وكرامات وأوطان!
ولعل هذا ما يثبت في قلبك البليغ، فوق تثبيته في قلمك البليغ، أنك حقاً قبل أن تحمل في وطنك أو في وطن العربية قلما، فانك تؤدي فيها (رسالة).
رسالة لا تكذب الناس، وهي تتسمى إلى الناس باسم (الرسالة)، وكثيرا ما تسمت الأشياء على هذه الأرض بغير أسمائها، وهي الأرض التي قام عليها يوما مسيلمة يقول: أنا نبي! وقام من قبله فرعون من فراعنة مصر يقول:
أنا ربكم الأعلى!
هذه شهادتي إليك. كما ويسرني كما يشرفني، بل استحلفك بالله أن تجعلها شهادتي إلى الناس، لأنها أيضاً شهادتي إلى الله، ألقى بها الله فيما ألقي به وجهه (الذي أشرقت له(125/76)
الظلمات، وصلح عليه آمر الدنيا والآخرة) كما دعاه يوماً اعظم مخلوقاته، لأنه أخلص المخلوقات: محمد بن عبد الله، عليه صلوات الله.
وهذه والله شهادتي، ولو أنى لا انفي أن لي عندك عتابا قديماً، لعلك كنت لا تصغي إليه لو أنى كتبته إليك قبل اليوم، أو بادهتك به وجهاً لوجه، لأننا لم نتعارف قلوباً، بيد أنا تعارفنا وجوها، مرة واحدة أو مرتين، في يومين فقط من الأيام.
فارفع بيدك (رسالتك) يا أستاذ، فهي من رسالات الله، لأنها من رسالات الحق والوطن والقوة والجمال.
ارفع بيدك هذه (الرسالة) من النور، تخدم وطنك فوق ما يخدمه كثير من دعاته وأدعيائه البارزين فوق المسرح هنا وهناك لن تفلح هذه الأمة في نهضتها الوطنية، حتى تفلح أولا في نهضتها الأدبية، أو قل نهضتها الأخلاقية، نهضة النفوس والأرواح في أعماقها لا على سطوحها التي يراها أو يسمع بها الناس. . . . .
إبراهيم إبراهيم علي
المحامي بقليوب(125/77)
الكتب
خيوط العنكبوت
تأليف الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
للأستاذ محمد سعيد العريان
الأستاذ المازني أديب من أدبائنا المعارف، يجري اسمه في ابتسام عذب على شفتي كل من يتحدث عنه حين يذكر الأدباء، وقل من لا يتحدث عنه حين يعرض ذكر أدبائنا الذين انشئوا في الأدب وزاد بهم. وان له فيما يكتب لطابعاً وروحاً يتميز بهما ويعرف؛ وما الأديب إذا لم يتميز بطابعه وروحه، ويبرز اسمه وصورته وراء كل سطر مما يكتب؟
على أن للأستاذ المازني غير ذلك فناً وحده، تفرد به، واقتصر عليه أو كاد؛ فما يستطيع أن يجاريه فيه أديب من أدباء العربية؛ يرسم لك به الصورة الملموسة، فيضيف إليها فنا من فنه، ويخلق لك فيها الجديد الذي لم تبصره عيناك، ولم تتناوله حواسك؛ على انك لا تستطيع إلى ذلك أن تنكر انك ترى شيئا مما يرى ويحس، وان أعجزك أن تراه وتحسه كما رآه المازني وأحسه، أو كما جلاه عليك من صور، هي هذه النواحي الضاحكة المضمرة وراء ما يبدو لك من عبوس المناظر والصور والأشكال؛ فهو حين ينظر، وحين يفكر وحين يكتب، يستطيع أن يريك موضع الابتسامة من كل معنى كئيب، وإشراقة السرور من وراء كل ظل عابس؛ وله من ذلك في كل أليم تأخذه عيناه روح من السرور مضمرة مستخفية، لا تدري اهو يخلع عليها من فنه فتضحك من عبوس، وتنبسط من تقطيب؛ أم أن له عينا انفذ بصيرة إلى ما وراء المحسوسات، هي تكشف له عن حقيقتها وسرها، فما هو إلا أن يجلوها عليك كما رآه ببصيرته وإحساسه العميق؟
وكما تجد للمازني فنه الخاص به، تجد له كذلك أسلوبه ولغته؛ واحسبه لا يفكر في اللفظ والعبارة عندما يهم أن يكتب، اكثر مما يفكر في المعنى والموضوع؛ فهو هنا وهناك لا يكلف نفسه الغوص والتعمق، واستخراج المعنى من المعنى، وتوليد الفكرة من الفكرة؛ بل تراه أسلوباً متساوقاً مطرداً، وفكراً قريباً من قريب، وموضوعاً مما يقع عليه الحس وتألفه النفس. واحسبه أيضاًً يلتمس فيما يكتب أن يرضى قراءه ويسرهم، أكثر مما يلتمس أن(125/78)
يكون إنشاء يخلد به في الأدب، واختراعا يزيد ثروة اللغة معنىً أو موضوعا أو فكرة. وما حاجة المازني إلى الخلود وهو لا يراه إلا خرافة، اخترعها الإنسان ليضل بها نفسه ويرضى ناحية من غروره وكبريائه؟
على انه - من حيث يريد، أو من حيث لا يريد - قد كتب لنفسه في تاريخ الأدب صفحة، وأثبت صورة، سيخلد بها وتخلد به.
وأنت حين توازن بين ما يكتبه المازني الآن، وما كان يكتبه أو يحرره منذ بضع عشرة سنة - لا تجد فرقاً كبيرا، إلا أن ذلك الأديب الطموح الذي كان يكتب ليقول الناس: (ما اجمل ما كتب. . .!) قد قست عليه الحياة ونالته أحداث الزمن، حتى عاد يكتب، لأنه مطلوب منه أن يكتب؛ ولكنه هو المازني الذي يعجب القراء به ويجتمعون إليه، وإن لم يعنه هو اجتمعوا أم تفرقوا إلا بمقدار ما يعني صاحت الصحيفة الذي يطلب إليه أن يكتب!
والمازني حريص على سلامة لغته، حرصه على أن تكون اسهل على آذان القراء وأطوع لألسنتهم؛ وهو بسبيل ذلك كثيراً ما يحاول تصحيح الكثير من لغة العامة وأساليبهم، فيخطئ في ذلك ويصيب، وما على المجتهد في أن يخطئ باس؛ وقد يمر القارئ العادي على ما يكتب المازني، فيراه بعض أولئك الضُلاَّل الذين يدعون إلى العامية ويرجون لها؛ ويمر الأديب المطلع، فيرى لغة أن لم تكن إلى لغة القدماء فهي منها، وان كان فيها من لغة العامة، فهو الجديد الذي تتقبله العربية ولا يأبه البيان الصحيح، لأنه يزيدهما ثروة إلى ثروة، ويفتح الباب إلى الأدب القومي في لغته التي يتحدث بها أهله، غير نابية ولا مستكرهة ولا أعجمية ولكنك إذ ترى المازني يحرص على هذه الناحية القومية في اللغة، قل أن تراه كذلك في الموضوع الذي يحاوله؛ وما اكثر ما يشطح خياله إلى قصة أو حادثة، فيصورها بأسلوبه الساحر، على أنها مصرية وقعت في مصر، وجرت في الجو المصري، وتحدثت بها ألسنة مصرية، وكان حقها أن تكون مما يقع في لندن، أو برلين! أتكون مما يقعمطالعات المازني في مصر هي بعض الجو المصري الذي يراه وينقل عنه. . .؟ على أنه أدب جديد في العربية على كل حال سواء أكان من إيحاء الجو المصري إلى فكر المازني، أم من إيحاء جو غريب.
وبعد، فهذا كتاب المازني الجديد (خيوط العنكبوت)، فمن لم يكن يعرف المازني فليعرفه(125/79)
فيه، ولعله أن يرى هناك ما رأيت وأسلفت وصفه. تبدو لك فكاهة المازني لأول صفحة من الكتاب، حيث يهديه إلى ولديه: (اعترافاً بفضلهما، وشكراً لمعونتهما. . فلولا عبقريتهما لظهر هذا الكتاب قبل عامين!) وتقرأ فاتحة الكتاب فلا تدلك أي كتاب هو، ولكن سِرْ إلى نهايتها ثم اقرأ: (وبعد، فقد لا يكون هذا الكلام اصلح ما يكتب على سبيل التمهيد لمجموعة من الصور والقصص، ولكن ما يكتب على روح الفاتحة من روح الكتاب، وهذا شفيعها عندي فعسى أن يكون شفيعها عند القراء. . .!).
ولقد قرأت المقدمة، وقرأت الكتاب؛ ولكني لم استطع أن افهم قوله (. . . . روح المقدمة من روح الكتاب) أما المقدمة ففضل اجتماعي ما كنت أقدّر أن يكتب المازني مثله، لا عجزاً منه، فانه لقدير؛ ولكني أعرفه أكثر اعتزازاً بقوميته، وافخر بمصريّته، فما كان ينبغي أن يتهكم بمصر ويزرى بها، كل هذا التهكم وهذه الزراية في فاتحة الكتاب! وقد يكون فيما عاب على المصريين واخذ عليهم محقّا بعض الحق، وقد يكون بعض ما قاله أو اكثر ما قاله صحيحا بعض الصحة، ولكن، أما كان ينبغي أن يستر على قومه؟ والجمود والبلادة، والضعف - عيوب طالما رُميتْ بها مصر من أعدائها، ومن بنيها أنفسهم، ولكن هذا على ما قد يكون فيه من رغبة الإصلاح، يؤثر أثره في القراء، ويكون أشبه بالإيحاء يستقر في الواعية الباطنة فيعمل عمله، فلا يكون من ورائه إلا الجمود والبلادة والضعف حقا وصدقا لا تهمة بغير دليل. ويحاول الأستاذ المازني في ختام الفاتحة أن يعتذر وان ينفي التهمة؛ أفتراه قد بلغ في اعتذاره بمقدار ما بلغ في تجريحه؟
وان القارئ ليعجب لذاك يصدر عن المازني المصري الفخور بقوميته، ولكن، أرأيت إلى المازني إذ يكتب فلا يتحرج أن يسخر من نفسه، وأهله، وولده؟ فها هو ذاك يسخر أيضاً من مصر. . .!
أما الكتاب، فكل شئ فيه جميل، إلا الفاتحة: وهو قسمان: (صور من الأمس)، و (صور من اليوم) هما مجموعة صور وأقاصيص، لا تجد لها شبيها مما كُتب في العربية، جمعت إلى الرقة في الوصف، حُسْنَ الأداء وسلامة التعبير، إلا قليلا احسبه من اثر السرعة التي يكتب بها المازني. وأنت ترى فيما تقرا من هذا الكتاب صورة المازني الطفل، والمازني العابث، والمازني الأديب الذي يسحر قراءه بسلامة الفكر وحُسْنَ الأداء؛ فحياته منشورة في(125/80)
كتابه مصورة، على حين يحاول اكثر كتابنا أن يكون ما يتصل بشخصه ابعد ما يكون عن قرائه. وقد تجد المازني يجنح أحياناً إلى المبالغة في تصويره وفي عباراته، وقدتجده يسترسل في الكلام فيكتب في القصة ما لا يطلبه موضوع القصة؛ ولكن هذا وذاك لا يعيبانه ولا ينقصان من مقدرته القصصية وفنه البارع.
وبعد، فمن أراد أن يمتع نفسه ساعات من فراغ، ويلذ نفسه، فحسبه أن يقرأ (خيوط العنكبوت)؛ ولو أن أحدا طلب أليّ أن أدله على خير ما قرأت في هذا الأسبوع فلذني وأمتعني؛ فليقرأ فيما يقرأ من الكتاب (الراعيان)، (سيرة من السير)، (التدخين)، (الشيخ قفّه)، (ساسة المرأة)، فسيجد فيها ما وجدت من متاع ولذة، ألذًّ متاع وأمتعَ لذة.
محمد سعيد العريان(125/81)
العدد 126 - بتاريخ: 02 - 12 - 1935(/)
في الجمال. . .
- 3 -
إذا عرفت الجوهر الذي يتحقق به الجمال الطبيعي سهل عليك أن تعرف الجوهر الذي يقوم عليه الجمال الصناعي، لأنه إما وحيه وإما نموذجه. فالجمال الصناعي يتعلق بالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفنان ثم عن الفن نفسه إذا كان ابتكارياً، وبالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفن نفسه وعن الفنان ثم عن الطبيعة إذا كان تقليديا. ولننظر بادئ الأمر فيم تنشأ منه عاطفة الجمال في الفن الابتكاري كالريازة مثلا. ففي أي بنية من البنايا تجد الوحدة، والتنوع، والترتيب، والتناظر، والتناسب، والتوافق، تؤلف منها كلاًّ منتظما ما في ذلك شك؛ ولكنك لا تجد في ذلك الكل جمالا إذا لم يكن من العظمة أو الوفرة أو الذكاء على درجة تثير في نفسك الإعجاب والدهش. وهل تجد في العمارة البسيطة مهما اتسق بناؤها واتفقت أجزاؤها ما تجد في معابد الفراعين من الجمال والجلال والروعة؟ خذ بنظرك قصراً من قصور القاهرة الحديثة شيد على قدر عادي من العناصر الجمالية الثلاثة، ثم أطل الوقوف أمامه ما شئت، تجد الفن فيه نازلا على حكم القواعد الموضوعة، ولكنه عيي صامت لا يحدثك لا عن نفسه ولا عن صانعه؛ ثم قف تلك الوقفة أمام معبد الكرنك أو هيكل الأقصر أو هرم الجيزة، تجد نفسك المسبوهة المشدوهة موزعة بين سمو الفن في ذاته، وعظمة الفنان في حقيقته. لا جرم أن هذه الأبنية الضخمة الفخمة أقل تناسقاً وتوافقاً من تلك، ولكن القوة التي أقامت هذه الأعمدة، ورفعت تلك الصخور، ونصبت هذه التماثيل، وصنعت تلك المحاريب؛ والوفرة التي تراها في الشكول المختلفة، والصور الناطقة، والرسوم الدقيقة، والكتابة الرمزية، والأصباغ الحية، والمادة العجيبة؛ والذكاء الذي يروعك في ابتكار الوسائل الميكانيكية لنقل هذه الأجرام الهائلة من مناحتها في الجبل، إلى مثابتها في الجو، لتصارع الفناء الذي لا يفتر، وتضارع الدهر الذي لا يبيد؛ هي التي حققت فيها ذلك الجمال، وألقت عليها هذه الروعة، وربطت في ذهنك بين فكرتك عن الصنيع وفكرتك عن الصانع. ولو كانت نسبة الذكاء فيها على مقدار نسبة القوة، لبلغت ما لم تبلغه نواطح السحاب الأمريكية من الغاية التي ينقطع دونها الدرك!
على أن الجمال الطبيعي قد يقوم في بعض مظاهره على القوة والوفرة دون الذكاء، كما(126/1)
ترى في العواصف والبراكين، ولكن الذكاء إذا أعوز في الفن ذهبت عاطفة الجمال فيه بددا بين التنافر والغرابة، إذ الطبيعة مجهولة الأسرار محجوبة المقاصد؛ وقد استراحت عقولنا منذ النشأة إلى أن تلتمس لجهالتها العلل، وتفترض لسفاهتها الحكمة؛ وليس كذلك الفنان، فأنه مسئول أمام العقل عن العلة التي أجهد من أجلها قوته، والغاية التي بدد في سبيلها ثروته. وحسبه من الذكاء ما ينفي عنه العبث؛ فإذا تيسرت له عظمة القوة في ظاهر من النظام، كفاه ذلك في إنشاء الإعجاب واتقاء النقد، لأن القوة والوفرة هما المصدران الأولان لنشأة الجمال في الفن
على أن فكرة القوة تختلف اختلافا شديدا عن فكرة الجهد؛ فكلما قلت الدلائل على هذه، كثرت الدلائل على تلك. فالخفة والظرافة والأناقة والسراح من صفات الجمال، لأنها تظهر من القوة أكثر مما تظهر من الجهد؛ ولكن إنشاء مقامة من الحروف المعجمة أو الحروف المهملة كما صنع الحريري، أو كتابة سورة من القرآن على حبة من الرز كما يصنع الخطاط السوري، عمل لا يحدث في النفس شعور الجمال، لأنه يدل على الجهد أكثر مما يدل على القوة، ويدعو إلى الرثاء أكثر مما يدعو إلى الدهش. وفي التفصيل المحكم من كلام الله، وفي السهل الممتنع من كلام الناس، كل الفروق بين القوة والجهد
كذلك لا يستعمم الفرق بين الوفرة الصناع وبين الزخرف الأخرق؛ فإن سر الإبداع في الوفرة أنها تضع اللون في مظهره، والحسن في جوهره، والمعنى في لفظه، والشيء في مكانه؛ أما الزخرف الأخرق فترف لا ينبئ عن غنى، ورهق لا يسفر عن قدرة، ولجب لا يبلغك من ورائه نغم! هو كل ما يملك الصانع من ثروة نثرها أمام عينيك في غير لباقة ولا تحفظ، ليخفي بالرياء حقيقة العجز، ويدفع بالزور تهمة العوز
إن ما قلته في الريازة ينطبق على الخطابة والموسيقى وسائر الفنون الابتكارية التي تفصح عن قوى كبيرة ووسائل وفيرة. فالخطيب الذي يبلبل الآراء بقوة كلامه، ويسترقّ الأهواء بسحر بيانه، ويملك على الشعب نوازع القلوب فيرسله على رأيه، ويصرفه على إرادته، قد أوتي من القوة في الفن والعبقرية ما يحمل النفوس على الإعجاب بقدرته والانقياد لأمره. كذلك الموسيقي الذي يصبي المشاعر بسحر أنغامه، والشاعر الذي يسبي العقول بقوة أسلوبه وسمو إلهامه، كلاهما يعلن الجمال في قوة الفن التي يفرضها، ووفرة الوسائل(126/2)
التي يعرضها، وذكاء الروح الذي يفيض على عمله النظام والانسجام والمناسبة. والقوة والوفرة هما كذلك روح هذا الجمال وسره؛ فإذا كان الانفعال الذي ينشئه الصوت أو القصيدة لطيفا يحدث اللذة، ولكنه ضعيف لا يحدث الطرب، مدحت قريحة الفنان وأطريت عذوبته الفن، ولكن الإطراء شيء آخر غير هتاف الإعجاب يبعثه سمو العبقرية وقوة الإلهام في روائع الموسيقى وبدائع الشعر(126/3)
أمس وغداً
للأستاذ أحمد أمين
قرأت مرة أن سرياَ أمريكياً كان له مصانع ومتاجر، كأفخم ما يكون من مصانع ومتاجر أصابتها النار فاتت عليها وقدرت الخسائر بملايين الدولارات
وكان هذا السري في السابعة والستين من عمره، ليس له قوة الشباب، ولا أمل الشباب، ولا طموح الشباب؛ وكانت ثروته الضائعة ثروة العمر، ومجهود العمر، ونتيجة العمر
أتى إليه (مكاتب) يسأله عن هذه الكارثة وأسبابها ومقدارها فأجابه: (لست أفكر في شيء من ذلك، إنما يملك على كل فكري الآن: ماذا أنا صانع غدا)
يعجبني هذا الاتجاه العملي في التفكير، فانه دليل الحياة، وعنوان القوة، ومبعث النشاط؛ فما دمتَ حيا ففكر دائما في وسائل الحياة؛ وتلك كلها أمامك لا خلفك، وفي الغد لا في الأمس
لقد دل هذا السري بإجابته على أنه يقتني عقلية أقوم مما رعته النار، ونفسية لا تفنى بفناء المال
إن الحياة الناجحة تفكر في الغد، والحياة الفاشلة تبحث في الأمس. وقديما قالوا: (إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة). وقال الشاعر وقد رأى بني تغلب لا يعملون عملا جديدا مجيدا، ويكتفون برواية قصيدة قالها عمرو بن كلثوم التغلبي في مدحهم:
أُلْهي بني تغلب عن كل مكرمةٍ ... قصيدةُِ قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذْ كان أوَّلهم ... يا لَلرَّجال لشعر غير مسئوم
ولأمرٍ ما خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العين تنظر إلى الأمام ولا تنظر إلى الخلف، وأراد أن يجعل لنا عقلا ينظر إلى الأمام وإلى الخلف معا، وأن يكون نظره إلى الخلف وسيلة لحسن النظر إلى الأمام؛ فعكس قوم الفطرة الإنسانية ونظروا بعقولهم إلى الخلف وحده، وقلبوا الوضع فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة
من هؤلاء الذين نُكّسوا في الخلق من إذا حدثتهم فيما هم صانعون غدا حدثوك عما صنعه آباؤهم الأولون، وكيف حاربوا وكيف انتصروا، وكيف سادوا العالم، وكيف وكيف. وهذا حق لو أتخذ وسيلة لعمل مستقبل، واستحثث به الإرادة لعمل مستقبل، وضرب مثلا لمعالجة مشاكل المستقبل؛ أما أن يكون غرضا في نفسه فحديث العجزة ومن أصيبوا بأنيميا(126/4)
(الفكر) وضعف الإرادة
وممكن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين يثيرون العداوات القديمة والأحقاد القديمة بين رجال الأمة وقادتها؛ فإذا طالبتهم أن ينظروا إلى الأمام، ويتكيفوا بما يتطلبه المستقبل، أبوا إلا أن يذكروا لك تاريخ الأمس، وحزازات الأمس، وسخائم الأمس، وما دروا أنهم بهذا يعطلون مصلحة المستقبل وخير المستقبل، أو دروا ولكنهم الماكرون الخادعون. فليس يصح أن ينظر في الأمس إلا لتجنب أغلاط الأمس في المستقبل، والانتفاع بصواب الأمس وخطئه في المستقبل
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين جمدت عقولهم فاعتقدوا أن كل شيء كان خيره في الأمس وشره في الغد؛ فخير النحو ما وضعته سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما قاله أبن سينا وأبن رشد والفارابي، وخير عصور الدين ما سبق من العصور، وخير الأخلاق أخلاق آبائنا، وأنه لم يبق في هذا الزمن إلا الحثالة من كل علم وأدب ودين وخلق، وأن العالم في ذلك كله سائر إلى التدهور دائما، فأمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد. فهذه العقلية لا تنفع للحياة وإنما تنفع للصوامع؛ ولا تنفع للجهاد وإنما تنفع للفناء؛ ولا تنفع لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانا في الحياة وإنما تنفع من أرادوا أن يتبوءوا مكانا في القبور. إن النحو الذي ننشده هو في المستقبل لا في الماضي؛ واللغة التي تصلح لنا وتؤدي مطالبنا في الحياة هي في المستقبل لا في الماضي؛ والأدب الذي يمثل نزعاتنا حق تمثيل هو في المستقبل لا في الماضي؛ والأخلاق التي تلائم الموقف الاجتماعي الذي نقفه اليوم هي في المستقبل لا في الماضي؛ وليس لنا من الماضي إلا ما يصلح للمستقبل بعد غربلته وإبعاد ما تعفن منه. إن موقفنا بين الماضي والمستقبل يجب أن يكون كموقف وجهنا فينا؛ وضعه الطبيعي في الأمام؛ ولكن الإنسان قد يلوي عنقه وينظر إلى الوراء إذا دعت الضرورة، ثم يعود سيرته الأولى من النظر إلى الأمام ويسير ويمضي قدما لشأنه؛ ولن ترى إنسانا طبيعيا لوى عنقه، ونظر إلى الخلف دائما
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين ينتظرون القدر؛ أولئك لم ينظروا للمستقبل، ولكن ينظرون إلى ما يفعل بهم المستقبل؛ أولئك ينفعلون ولا يفعلون، ويتأثرون ولا يؤثرون؛ وإنما مستقبلك في يدك ولك دخل كثير في صياغته، فان شئت تكن فقيرا، وإن شئت تكن(126/5)
غنيا إلى حد كبير وإن شئت تكن سعيدا، وإن شئت تكن شقيا؛ وليس يستسلم للقدر إلا من فقد إرادته وأضاع إنسانيته
لقد أتى على الناس زمان كان الاستسلام للقدر عنوان (الولاية) ورمز القداسة، وكلما أمعن الإنسان في التجرد عن الدنيا أمعن الناس في تعظيمه وتبركوا به ولثموا يده؛ ولكن هذا تقدير الماضي أما تقدير اليوم والمستقبل فالولاية والقداسة في العمل، والولي أو القديس المصلح، وهو الذي يبني المجد بعمله لأمته وللإنسانية؛ وهو الذي يواجه العمل في شجاعة وإقدام، لا الذي يفر من الميدان؛ وهو الذي يرسم خطة العمل وينفذها، لا الذي يعزى عن الكوارث ويعود المرضى ويلطف وقع البؤس؛ وهو الذي يشق الطريق لمحو الفقر عن الفقراء والبؤس عن البؤساء، لا الذي يذرف الدمع ويوصي بالصبر على احتمال الفقر من غير حث على العمل، والتفكير في طرق الخلاص من البؤس؛ وليس الولي والقديس من يحلم بل من يعمل
مضى الزمن الذي كنا نرصد فيه النجوم لنتطلب السعادة من سلطانها، ونتجنب الشقاء في أوقات نحسها، وأصبحنا نشعر بان النحس نحس الخلق وموت الإرادة، والسعادة حياة النفس وتفتح الأمل، والمشي في مناكب الأرض، وإعمال اليد والعقل في جلب الرزق، وجلب الخير، ودفع الشر، ودفع البؤس والفقر
خير لك إن كنت في ظلمة أن تأمل طلوع الشمس غدا من أن تذكر طلوعها أمس؛ فلكل من الظاهرتين أثر نفسي معاكس للآخر، ففي ترقبك طلوع الشمس غدا الأمل والطموح إلى ما هو آت، وفي هذا معنى الحياة؛ وفي تذكرك طلوعها أمس حسرة على ما فات، وألم من خير كنت فيه إلى شر صرت فيه، وفي ذلك معنى الفناء
وفرق كبير بين من يُلطَم اللطمة فلا يكون له وسيلة إلا البكاء، وتذكر اللطمة ثم البكاء، ثم تذكر اللطمة ثم البكاء، وبين من يلطم اللطمة فيستجمع قواه للمكافحة. والحياة كلها لطمات، وأعجز الناس من خارت قواه أمام أول لطمة فهرب. ولو أنصف الناس لقوموا الناس بمقدار كفاحهم، لا بمقدار فشلهم ونجاحهم
شر ما ألاحظ في الشرق حنينه الشديد إلى الماضي، لا أمله القوى في المستقبل، واعتقاده أن خير أيامه ما سلفت لا ما قدمت، وإعجابه الشديد بأعمال الماضين وإهمال المعاصرين؛(126/6)
له منظاران: منضار مكبر يلبسه إذا نضر إلى الماضيومنظار مصغر اسود يضعه إذا نظر إلى الحاضر والمستقبل. يلذه أن يطيل البكاء على الميت، ولا يلذه أن يتدبر فيما يجب أن يفعله الأحياء؛ يستسهل النفقات مهما عظمت على الميت، ويستكثر نفقات الطبيب وأثمان الدواء للمريض. يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تدل على عظم الماضي، ولا يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تبعث الأمل في المستقبل؛ ففي أعماق نفوسهم أن قول القائل: (ما ترك الأول للآخر) خير من القول: (كم ترك الأول للآخر). ويلوكون دائما: (لا جديد تحت الشمس)، ولا يعجبهم أن تقول إن كل ما تحت الشمس في جدة مستمرة، والمستقبل مملوء بالجديد. وإذا رأوا كلمة في كتاب قديم تدل ولو دلالة كاذبة على نظرية جديدة طاروا بها فرحا، لأن ذلك يلائم ما نفوسهم من تعظيم الماضي وتحقير الحاضر والمستقبل. هم يعيشون في أحلام، ولا يريدون أن يعيشوا في حياة واقعة، وحول هذه المعيشة الحالمة ينسجون دائما ما يوافقها ويمازجها ويسايرها؛ يكتفون بالأمل أن ينعموا بالآخرة؛ وماذا عليهم لو عملوا لينعموا في الدنيا والآخرة؟
أحمد أمين(126/7)
2 - المجنون
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ورأيت المجنونين يدخلان معا فكأنما سدا الباب وسوياه بالبناء، وتركا الغرفة حائطا مصمتا لا باب فيه مما اعتراني من الضيق والحرج؛ وقلت في نفسي: إنه لا مذهب للعقل بين هذين إلا أن يعين كلاهما على صاحبه، فأرى أن أدعهما وأكون أنا أُصرفهما؛ ويا ربما جاء من النوادر في اجتماع مجنونين ما لا يأتي مثله من عقلين يجتمعان على ابتكاره؛ غير أني خشيت أن أكون أنا المجنون بينهما، ثم لا آمن أن يثب أحدهما بالآخر إذا خطرت به الخطرة من شيطانه، فرأيت أن يكون لي ظهير عليهما، إن لم يحق به العون فلا أقل من أن يطول به الصبر. . وكان إلى قريب مني الصديق ا. ش. فأرسلت في طلبه
أما هذا المجنون الثاني الذي جاء به (نابغة القرن العشرين) فقد رأيته من قبل، وهو كالكتاب الذي خلطت صحفه بعضها في بعض فتداخلت وفسد ترتيبها، وانقلب بذلك العلم الذي كان فيها جهلا وتخليطا يثب الكلام بعد كل صفحة إلى صفحة غريبة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها
وهو طالب أزهري كان همه أن يصير حافظا كالحفاظ الأقدمين من الرواة الفقهاء، فجعل يستظهر كتابا بعد كتاب ومتنا بعد متن؛ وكانت له أذن واعية فكل ما أفرغ فيها من درس أو حديث أو خبر، نزل منها كالنقر على آلة كاتبة، فينطبع في ذهنه انطباع الكتابة لا تمحى ولا تنسى
ثم التاث هذه اللوثة وهو يحفظ متنا في فقه الشافعي رضي الله عنه، فغبر سنين يتحفظه، كلما انتهى إلى آخره نسيه من أوله؛ فيعود في حفظه وربما أثبت منه الشيء بعد الشيء، ولكنه إذا بلغ الآخر لم يجد معه الأول؛ فلا يزال هذا دأبه لا يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته.
وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ وأجمع أن لا يدع هذا المتن أو يحفظه كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك؛ وأصبح كالذي يرفع الماء إلى البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر. . .
وجاء ا. ش فقلت له وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين(126/8)
قال: وهل انتهى القرن العشرون فيعرف من نابغته؟
فقلت للمجنون: أجبه أنت. فسأله: وهل بدأ القرن الواحد والعشرون؟ قال لا
قال: فان هذا الذي إلى جانبي نابغة القرن الواحد والعشرين. . . فكما جاز أن يكون هو نابغة قرن لم يبدأ، جاز أن أكون أنا نابغة قرن لم ينته
قلت: ولكنك زدت المشكلة تعقيدا من حيث توهمت حلها. فكيف يكون معك في آن وبينك وبينه خمس وستون سنة؟
فنظر نظرة في الفضاء، وهو كلما أراد شيئا عسيرا نظر إلى اللاشيء. . . ثم قال: هذه الأمور لا تشتبه إلا على غير العاقل. . . وكيف لا يكون بيني وبينه خمس وستون سنة وأنا أتقدمه في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة. . .؟
قلت للآخر: أكذلك؟
قال: مما حفظناه عن الحسن: أدركنا قوما لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو أدركوكم لقالوا شياطين. . .
فضحك الأول وقال: إنه تلميذي
قال الثاني: لقد صدق فهو أستاذي ولكنه حين ينسى لا يذكّره غيري. . .
قلت: لا غرو؛ (فما حفظناه) عن الزهري: إذا أنكرت عقلك فقدحه بعاقل. . .
فغضب نابغة القرن العشرين وقال: ويح لهذا الجاهل، الأحمق، الجاحد للفضل، مع جنونه وخبله. أيذكّرني وهو منذ كذا وكذا سنة يحفظ متنا واحدا لا يمسكه عقله إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟ صدق والله من قال: عدو عاقل خير؛ خير؛ خير. فقال الثاني: خير من صديق جاهل، ها أنذا قد ذكرتك من نسيان، وهانت ذا رأيت
فضحك النابغة وقال: ولكني لم أرد أن أقول هذا، بل أريد أن أؤلف كلاما آخر. . . . . . عدوا عاقل خير، خير، خير؛ خير من مجنون جاهل. . . . . .
ورأيت أن في التقاء مجنونين شيئا طريفا غير جنونهما، وصح عندي أن المجنون الواحد هو المجنون؛ أما الاثنان فقد يكون من اجتماعهما وتحاورهما فن ظريف من التمثيل إذا وجدا من يصرفهما في الحديث، ويستخرج ما عندهما، ويستكشف منهما قصتهما العقلية. . . . . . . . . . . .(126/9)
ولم أكن أعرف أن (نابغة القرن العشرين) من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى
وبينما أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثلي من الحوار بين هذين المجنونين، إذ قال (نابغة القرن العشرين): صه، إن جرس (التلفون) يدق
قال ا. ش: لا أسمع صوتا وليس ههنا تلفون
فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقتحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر، والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا وأراك الآن تنكر (تلفونه). . . . .
قال ا. ش: وأين التلفون وهذه هي الغرفة بأعيننا؟
فضحك (نابغة القرن العشرين) وقال: صه ويحك لقد خلطت على؛ إن الجرس يدق مرة أخرى وأنا لا أريد أن أكلملها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك
قال المجنون الآخر: هي صاحبته التي يهواها وتهواه؛ وقد استهامها وتيمها وحيرها وخبلها حتى لا صبر لها عنه، فوضعت له تلفونا في رأسه. . . . . . . . .
قال (النابغة): وهذا التلفون لا يسمعني صوتها فقط، بل ينشقني عطرها أيضا. وقد تكلمني فيه الملائكة أحيانا، وأنا ساخط هذه الحبيبة فأنها غيور تخشى سطواتها على اللاتي تغار منهن؛ ولولا ذلك لكلمتني في هذا التلفون إحدى الحور العين. . . قلنا: أو تغار منها الحور العين؟
قال المجنون الثاني: بل الأمر فوق ذلك، فان الحور العين يشتمنها ويلعنها؛ (فمما حفظناه) هذا الحديث: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا
قال (نابغة القرن العشرين): ويلي على المجنون! إنه يريد أن يخلوا له موضعي فهو يتمنى(126/10)
هلاكي وانتقالي وشيكا من هذه الدنيا. وهو يقول بغير علم لأنه أحمق ليس له عقدة من العقل، فيزعم أنها تؤذيني، ولو هي آذتني لغضبت قبل ذلك، ولو غضبت لرفعت التلفون. صه إن الجرس يدق
قال ا. ش: إن للنوابغ لشأنا عجيبا، ففي مديرية الشرقية رجل نابغة ماتت زوجته وتركت له غلاما فتزوج أخرى وهو يعيش في دار أبيه. فلما كان عيد الأضحى سأل أباه مالا يبتاع به الأضحية فلم يعطه. وهو رجل يحفظ القرآن فذكر قصة إبراهيم عليه السلام ورؤياه في المنام أنه يذبح أبنه، فخيل إليه أن هذا باب النبوة وأن الله قد أوحى إليه، فأخذ الغلام في صبيحة العيد وهم بذبحه. ولولا صرخ الغلام فأدركه الناس فاستنقذوه. . .
قال (نابغة القرن العشرين): هذا مجنون وليس بنابغة؛ بل هذا من جهلاء المجانين؛ بل هو مجنون على حدته. وقد رأيته في البيمارستمان حين كنت أنا في المستشفى. . . فكان يزعم أنه ائتمر في ذبح غلامه بإرادة الله. ولو كانت إرادة الله لنفذت بالذبح، ولو كان الأمر وحيا لنزل عليه من السماء كبش يذبحه. . .
وهكذا أنا في المنطق (نابغة القرن العشرين)
ثم إنه أشار إلى المجنون الثاني وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة كاملة
قلت: ولكنك ذكرت هذا من قبل فلم عدت فيه الآن؟
قال: إن السبب قد تغير فتغير معنى الكلام؛ وقد بدا إلى أنه يتمنى هلاكي ليكون هو نابغة القرن العشرين. فمعنى الكلام الآن: أنه لو عاش خمسا وستين سنة (يحفظ المتن) لما بلغ مبلغي من العلم. هذا رجل نصفه ميت جنونا موتا حقيقيا، ونصفه الآخر ميت جهلا بالموت المعنوي
قال ا. ش: حسبه أن يقلدك تقليد العامي لإمامه في الصلاة؛ وعسى ألا تستكثر عليه هذا فأنه تلميذك
قال المجنون الثاني (مما حفظناه): لو صُوِّر العقل لأضاء معه الليل، ولو صور الجهل لأظلم معه النهار. . . ونابغة القرن العشرين هذا لا يعرف كيف يصلي، فقد وقف منذ أيام يصلي بالشعر. . . ولما رأيته ناسيا فذكرته ونبهته أن الصلاة لا تجوز بالشعر، التفت إلي(126/11)
وهو راكع فسبني وشتمني وصرخ في وقال: ما شأنك بي هل أنا أصلي لك أنت. . .
فغضب (النابغة) وقال: والله إن تحسبونني إلا مجنونا فتريدون أن يقلدني هذا الأحمق الذي ليس له رأي يمسكه. ولولا ذلك لما اعتقدتم أن تقليدي من السهل الممكن، ولعرفتم أن نابغة القرن العشرين نفسه لم يستطع تقليد نابغة القرن العشرين
قلنا: هذا عجيب، وكيف كان ذلك؟
فضحك وقال: لا أعدّكم من الأذكياء إلا إذا عقلتم كيف كان ذلك
قال ا. ش: هذا لم يعرف مثله فكيف نعرفه، ولم يتوهمه أحد فكيف نتوهمه؟
وقلت أنا: لعلك رأيت نفسك في الرؤيا
قال: لو لم تكن أستاذ نابغة القرن العشرين لما عرفتها؛ وهذا نصف الصواب؛ وما دمت أستاذي، فلو أننا اختلفنا في رأي لكان لي صوابا لأنه منك، وكان خلافي لك صوابا لأنه مني؛ فأنت (غير مخطئ) وأنا مصيب، وإذا أسقطنا كلمة (غير) أضل أنا مصيبا وتكون أنت مخطئا. . .
أنا لم أر (نابغة القرن العشرين) في الرؤيا ولكني رأيته في المرآة عند الحلاق. . . ورأيته يقلدني في كل شيء حتى في الإشارة والقومة والقعدة، ولكني صرخت فيه وسببته ففتح فمه ثم خافني ولم يتكلم. . .
وأومأ إلى المجنون الآخر وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة
قال ا. ش: لقد قلتها مرتين كلتاهما بمعنى واحد، فما معناك في هذه الثالثة؟
قال: هذا الغِرّ يزعم أني لا أعرف كيف أصلي، ويستدل بذلك بأني صليت بالشعر وأني شتمته وأنا راكع؛ ولو كان عاقلا لعلم أن شتمي إياه وأنا راكع ثواب له. . . ولو كان نابغة لعلم أن الشعر كان في مدح دولة النحاس باشا وأولى النُّهى
قلنا: ولكن الشعر على كل حال لا تجوز به الصلاة ولو في مدح دولة النحاس باشا
قال: لم أصل به ولكن خطر لي وأنا أصلي أني نسيت القصيدة فأردت أن أتحقق أني لم أنسها. . . فإذا أنا نابغة القرن العشرين في الحفظ وهي ستة أبيات. لا كهذا المعتوه الذي صبر على المتن صبر الغريب على الغربة الطويلة ومع ذلك لم يحفظه(126/12)
قال ا. ش: فأملِ علينا هذا الشعر. فأملى عليه
يا حليف السُّهْد قل لي ... أين مَنْ في الدهر خالْ
إن تكن تهوى غزالا ... أكحل العينين مالْ
أنا أهواها ولكن ... لا سبيل إلى الوصالْ
منذ ولَّت قلتُ مهلاً ... منذ غابت في خيالْ
أنا مجنونٌ بليلى ... ليلَ يا ليلى! تعالْ
قلنا ولكن ليس هذا مدحا. فضحك وقال: أردت أن تعرفوا أني أقول في الغزل، أما المديح فهو:
شغفَ الورى بمناصبٍ وأماني ... وشَغَفْتَ يا نحاسُ بالأوطان
حسبوا الحياةَ تفاخرا وتنعّما ... وحسِبتها للهِ والأوطان
ثم ارتَجّ عليه فسكت. قال المجنون الآخر: إنها ستة أبيات، وقد نسيت أربعة، ولست أريد أن أذكرك
فقال (النابغة): أظنه قد حان وقت الصلاة وأريد أن أصلي. . . ونظر إلى اللاشيء في الفضاء ثم قال. والبيت الأخير:
لا أبتغي في المدح غيرَ أولي النُّهى ... أو صادق أو شوقي أو مطران
ثم أمر ا. ش أن يقرأ عليه الشعر فقرأه، فقال: أحسنت، أنظر إلى فوق؛ فنظر، ثم قال انظر إلى تحت؛ فنظر ثم سكت
قال ا. ش: وبعد؟ قال: وبعد فإن الناس ينظرون إما إلى فوق وإما إلى تحت. . .
وكان الضجر قد نال مني، فرجوت ا. ش. أن يلبث معهما وأذنت لنابغة القرن العشرين أن يلقاني في الندى وانصرفت
قال ا. ش وهو يُنبّئني: فما غبت عنا حتى أخذ المجنون يشكو ويتوجع ويقول: لقد حاق بي الظلم، وإن (الرافعي) رجل عسوف ظالم لأني أكتب له كل مقالاته التي ينشرها في (الرسالة). . . وأجمع نفسي لها، واجهد في بيانها، وأذيب عقلي فيها، وهو مستريح وادع، وليس إلا أن ينتحلها ويضع توقيعه عليها ويبعث بها إلى المجلة ثم يقبض هو فيها الذهب وينال الشهرة ولا يدفع لي عن كل مقالة إلا قرشين. . .(126/13)
قال ا. ش: فما يمنعك أن ترسل أنت هذه المقالات إلى المجلة فتقبض فيها الذهب، قال: إن هناك أسرارا أنا محصنها وكاتمها، ولا ينبغي أن يعلمها أحد فأنها أسرار. . .
قال له فدع (الرافعي) واكتب لي أنا هذه المقالات وأنا أعطيك في كل مقالة ذهبين لا قرشين
قال هذه أسرار ولا أستطيع أن اكتب ' إلا للرافعي، لأن (نابغة القرن العشرين) لا يجوز أن يدعي كلامه إلا أستاذ نابغة القرن العشرين، ولو ادعاه غيره لكان هذا حطا من قدر نابغة القرن العشرين. وهذا بعض الأسرار لا كل الأسرار. . .
قلت ثم جاء المجنونان في العشية إلى الندى
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي(126/14)
1 - الصقالبة في الرواية العربية
وفي الدولة الأندلسية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لم يعن العرب في فتوحاتهم الأولى بتعيين الأمم والأجناس الأجنبية تعيينا واضحا، وإذا استثنينا الفرس والروم والقبط والبربر والقوط، فإن هذا التصنيف للأمم والأجناس الأجنبية يتخذ في الرواية الإسلامية صفة التعميم الغامض، فنجد كلمات (الأعاجم) و (النصارى) و (الفرنج) تطلق على أمم وأجناس متباينة لا يمكن تحديدها وتعيينها إلا على ضوء الحوادث والظروف؛ بل نجد كلمة (الروم) ذاتها تطلق في الرواية الإسلامية الأولى على الرومان وعلى سكان الدولة الشرقية (الدولة البيزنطية) اليونانيين أحياناً على سكان المستعمرات الرومانية مثل الشام وطرابلس؛ وتطلق كلمة الفرنج لا على أمة الفرنج (الفرنكيين) وحدها، بل على معظم الأمم والممالك النصرانية التي كانت تعيش يومئذ في غرب أوربا وفي وسطها؛ ولم تعن الرواية الإسلامية بالتصنيف والتحديد في هذا الميدان إلا منذ القرن الثالث الهجري، وفي القرن الرابع نجد هذا التصنيف القومي أكثر وضوحا سواء من حيث اللفظ أو المعنى، فنجد الرواية الإسلامية تحدثنا عن الفرنج والألمان (الألمان) والبلغار والروس والصقالبة، وعن انكبردية (بلاد اللومبارد) والفرنسة وبريطانية؛ وهذا التقدم في تصنيف الأجناس والأمم يرجع إلى تقدم مماثل في الجغرافية الاسلامية، وإلى تقدم العلائق والصلات الدبلوماسية والتجارية بين الأمم الإسلامية والأمم النصرانية
وقد كانت كلمة (الصقالبة) من أغمض الكلمات التي أطلقت في الروايات الإسلامية على الأجناس الأجنبية الدخيلة؛ ولم يبق اليوم ثمة غموض في تعريف البلدان والأمم الصقلبية، فهي تشمل قسما من بلاد البلقان وتشمل صربيا ورومانيا وروسيا حتى الشرق الأقصى وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وشرق ألمانيا؛ وبعبارة أخرى هي الأمم التي تعرف اليوم بالأمم (السلافية) أو السلافونية ; ولكن كلمة (الصقالبة) في الرواية الإسلامية كانت بعيدة جداً عن أن تشمل مثل هذا التصنيف الواسع، ومع أننا نراها مستعملة في الرواية الإسلامية منذ القرن الثاني للهجرة، فأنها لبثت دائما لفظا غامضا متباين المعنى. فمثلا يستعملها البلاذري، وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية في أكثر من مناسبة؛ فيقول لنا إن المنصور (نقل(126/15)
الخصوص وهم فرس وصقالبة وأنباط ونصارى من المصيصة وكان مروان أسكنهم إياها)؛ ومن الصعب أن نضبط المعنى الذي ينصرف إليه لفظ (الصقالبة) في هذا العصر المتقدم. بيد أنه يلوح لنا أن الكلمة كانت تطلق حتى القرن الثالث على سكان بلاد الخزر (قزوين) والقوقاز وما إليها، ثم اتسع معناها نوعا وأطلقت على سكان البلقان المتاخمين للدولة البزنطية مثل البلغار؛ وقد كان الصقالبة في الواقع يستعمرون هذه الأنحاء في تلك العصور، وكانت لهم في بلغاريا مملكة (صقلبية) حقيقية. وكان معنى الكلمة أوضح وأدق في الغرب الإسلامي في الأندلس وصقلية والمغرب، حيث كانت تطلق على الأجناس الصقلبية الحقيقية التي تسكن حوض الدانوب الشرقي والأوسط وألمانيا وضفاف الادرياتيك، ويؤتى منها إلى الأندلس والمغرب بالخصيان والأسرى؛ ويعرف الشريف الإدريسي بلاد الصقالبة بأنها هي شبه جزيرة البلقان، وهو في الواقع معنى أقدم من عصر الإدريسي، بيد أن الإدريسي يشير على ما يظهر إلى التحديد السياسي حيث كانت مملكة الصقالبة (بلغاريا) تسود يومئذ بلاد البلقان
وعرف الصقالبة وعرفتهم القصور الإسلامية في عصر مبكر جدا، فمنذ الدولة الأموية نجدهم في بلاط الخليفة وفي الجيش؛ ولكن نفوذهم الحقيقي في القصور الإسلامية يبدأ منذ القرن الرابع الهجري، فنراهم عندئذ يتقلبون في الوظائف والمهام العليا بعد أن كانوا يقتصرون على تقلد الوظائف والمهام الصغرى في البلاط وداخل القصر، مثل وظائف الخدمة السلطانية والنظر على الشؤون المنزلية المحضة كشؤون المائدة والثياب والرياش، ونراهم يسيطرون على شؤون الدولة العليا، فيتولون الوزارة والقيادة والوصاية أحيانا ويسود نفوذهم في القصر وفي الحكومة. وقد كان هذا النفوذ يرجع في الغالب إلى سياسة الدول والأسر، تعمل لرعايته وإيثاره لبواعث سياسية واجتماعية؛ وسنقتصر هنا على معالجة مركز الصقالبة ونفوذهم في الأندلس حيث كانت لهم دولة وكان لهم أيما نفوذ
- 2 -
كانت سياسة الدولة الأموية بالأندلس تقوم منذ البداية على اصطناع الموالي والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة؛ وكانت الظروف العصيبة التي أحاطت بقيام الدولة الأموية في الأندلس، والخطوب والثورات الجمة التي تفجرت حول عبد الرحمن الداخل والتي أثارها(126/16)
خصومه ومنافسوه من زعماء القبائل العربية، هي التي حملته على الاسترابة بالعرب وعلى اصطفاء البربر والموالي الذين آزروه وقت المحنة ومكنوه من توطيد زعامته وإمارته؛ وقد حافظ خلفاء الداخل على هذه السياسة في جوهرها منذ البداية لشعورهم بأهميتها وضرورتها لمقاومة نفوذ القبائل الخصيمة التي كانت تتقاسم السلطان والنفوذ قبل قيام الدولة الأموية؛ وظهر الصقالبة بكثرة لأول مرة في البلاط الأندلسي في عهد الحكم المنتصر حفيد عبد الرحمن الداخل (188 - 206هـ)؛ وكان الحكم يعشق مظاهر الفخامة والملك فغص البلاط الأموي في عصره بالخدم والحشم من المماليك والصقالبة حتى بلغ عددهم زهاء خمسة آلاف وأخذ نفوذ أولئك الصقالبة يقوى شيئا فشيئا داخل القصر والبطانة. بيد أنه لبث مدى حين بعيدا عن الشؤون الدولة العليا قاصرا على شؤون القصر والخاص
وفي عهد الناصر قوى نفوذ الصقالبة وازدهر؛ وكان الناصر يجري على سنة سلفة عبد الرحمن الداخل في الاسترابة بالقبائل العربية ذات العصبية والبأس وفي إقصاء زعمائها عن مناصب النفوذ والثقة؛ وكان يمعن في الاستئثار حتى لقد ألغى وظيفة الحاجب، وجمع مقاليد الحكم كلها في يده؛ وعهد بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة والموالي المعتقين أو الأرقاء؛ وهم رجال لا إرادة لهم يوجههم كيفما شاء؛ وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص ويوليهم من النفوذ مالا يوليه سواهم
ومنذ أواسط عهد الناصر يبدأ نفوذ الصقالبة الحقيقي في بلاط قرطبة. وقد كانت كلمة الصقالبة تطلق في الأندلس كما قدمنا على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية الحقيقة؛ ولكنها غدت تطلق بمضي الزمن على جميع الأجانب الذين يخدمون في البطانة وفي الجيش؛ ولما استحكم نفوذ الصقالبة واستأثروا بحماية الخليفة والقصر، أضحت الكلمة تطلق منذ عهد الحكم المستنصر على الحرس الخلافي وقد انتهت إلينا عن صقالبة الأندلس في العصر رواية شاهد عيان هو الرحالة البغدادي أبن حوقل الذي زار قرطبة والزهراء في أواخر عهد الناصر أو أوائل عهد أبنه الحكم المستنصر وبحث أحوال الصقالبة وكتب عنهم في رحلته ما يأتي:
(وبالأندلس سلاح كثيرة ترد إلى مصر والمغرب، وأكثر جهازهم الرقيق من الجواري(126/17)
والغلمان من سبي فرنجة وجليقية. والخدم الصقالبة وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب الأندلس، لأنهم بها يخصون، ويفعل ذلك بهم تجار اليهود عند قرب البلد؛ وجميع ما يسبى إلى خراسان من الصقالبة فباقي على حالته، ومقر على صورته. وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتد على القسطنطينية واطرابذنده يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقية وأفرنجة وانكبرده وقلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير الباقي على حاله)، ومعنى ذلك أن الصقالبة الأندلسين كانوا مزيجا من الجليقيين (النصارى الأسبان) والألمان والفرنسيين (أهل افرنجة) واللومبارديين (أهل انكبردة) والايطاليين من (قلورية) وكذلك الروس وهم أهل القسم الأول من بلاد الصقالبة. وكان معظم هؤلاء الصقالبة يؤتى بهم أطفالا من الجنسين بواسطة خوارج البحر (القرصان) وتجار الرقيق، وتحملهم سفن القرصان أو سفن البنادقة إلى مختلف ثغور البحر الأبيض؛ وكانت الكنيسة تقاوم هذه التجارة المثيرة وتحرمها؛ بيد أنها كانت تجري في روما عاصمة النصرانية ذاتها؛ وفي معظم الثغور الإيطالية. وكانت الحرب مصدرا آخر لجلب هؤلاء الصقالبة، ففي كثير من الغزوات الإسلامية المنظمة لأمم النصرانية؛ وفي الحملات والغزوات البحرية الناهبة كان المسلمون يغنمون كثيرا من السبي والأسرى صغارا وكبارا، ومنهم الصقالبة الذين يخدمون جندا مرتزقة في معظم الجيوش النصرانية؛ هذا عدا الرقيق والأسرى من مختلف الجنسيات والأمم يتدفقون على الثغور والعواصم الإسلامية عقب كل فتح أو غزوة ناجحة وكان الصقالبة يختارون في الغالب أطفالا من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادئ الإسلام؛ وقد بلغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد، وبلغوا في عهد الناصر قسطا وافرا من السلطان والنفوذ، واحتلوا الوظائف الكبرى في القصر وفي الإدارة والجيش، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة؛ وفاق عددهم في عهد الناصر أي عهد آخر حتى قدر بعض المؤرخين عددهم يومئذ في القصر والبطانة بثلاثة عشر ألفا وسبعمائة وخمسين، وبلغوا في رواية أخرى ستة آلاف وثمانين، وفي رواية ثالثة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين؛ وعلى أي حال فقد كان منهم الحرس الخلافي، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم في السلطان والنفوذ(126/18)
ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم ليذل بذلك أنوفهم ويسحق هيبتهم بل كان كل منهم في الناصر قائد الجيش الأعلى نجدة، ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم أفلح صاحب الخيل ودرى صاحب الشرطة؛ ومنهم ياسر وتمام صاحبا النظر على الخاص وكان لهذه السياسة غير بعيد أسوأ الأثر في انحلال الجيش وفتور قواه المعنوية لما جاشت به صدور الضباط والجند العرب من الحفيظة والسخط على هذه السياسة المهينة؛ وكانت هزيمة الناصر في موقعة الخندق الشهيرة (الانديجا) أمام نصارى الشمال (327هـ - 939م) ترجع من وجوه كثيرة إلى هذا الانحلال المعنوي الذي سرى إلى الجيش من جراء الأحقاد القومية والطائفية
للبحث بقية
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(126/19)
من ذكريات لبنان
الحذاء الذهبي
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(استيقظت!)
وكانت قد أغفت، وهي قاعدة على دكة تحت شجرة صنوبر، وذراعها على سور النافورة، ويسراها على حجرها، ثم فركت عينيها فقلت:
(والآن أرجو أن يلهمها الله ألا تغير جلستها، فإنها هكذا أحلى!)
فحطت ساقا عن ساق، وتناولت حقيبتها الصغيرة وفتحتها ونظرت في المرآة، ثم أخرجت منديلا، وجعلت تلمس به وجهها في مواضع فقلت:
(ولها جيد جميل أيضا - وأناملها مخضبة. . . الآن صرت لا أرى عيبا في قول من يقول إن هذا من دم العشاق!)
فابتسمت وقالت - كأنها تحدث نفسها - (ماذا يقول هذا الرجل؟)
فقلت، وأنا أنكث الأرض بعود صغير في يدي: (إنه يسأل: أتراك زوجته؟)
فزوت ما بين عينيها وقالت: (زوجته؟ زوجة من؟)
قلت: (زوجتي أنا!)
فصاحت: (إيه؟)
قلت: (زوجتي. . . تعرفين الكلمة؟. . يتهجونها هنا بالزاي والواو والجيم، أتهجاها أنا بالحاء والباء و. . .)
وكانت تنظر إلي مبهوتة، ثم ابتسمت وسألتني:
(هل تعني أنك لا تستطيع أن تعرف زوجتك حين تراها؟)
فأهملت السؤال وقلت: وأنا أشير بالعود الذي في يدي:
(إنك هي. . . أو أنت عيناها، وجيدها وساقاها. . .)
فخيل إليها أنها فهمت وقالت: (أوووه! ألك زمان طويل لم ترها؟)
قلت: (طويل جدا. . . ربع ساعة!)
فصدمها هذا فقطبت وقالت: (إنك تسخر مني) ومدت يدها إلى الحقيبة(126/20)
فقلت: (لا تعجلي! ألم أقل إنك هكذا أحلى؟ وعلى ذكر ذلك أسألك: كيف يمكن أن تأكلي بهذا الفم الصغير؟)
فقالت: (إني ذاهبة. . . اسمح لي)
قلت: (إنها ذاهبة؟؟ هل سمع أحد بمثل هذا؟ ليت شعري كيف تستطيع أن تمشي بمثل هذا الحذاء الدقيق؟ ثم تجيء زوجتي فتوسعني تأنيبا!)
وكانت تهم بالقيام، فترددت، ثم سألتني:
(من أنت؟ أني أريد أن أعرف)
فقلت، وعيني إلى الأرض: (إنها تسأل؟ بداية حسنة على كل حال - خطوة في الطريق القويم - ومتى رأيت امرأة تعنى بأن تسأل من يكون الرجل، فاعلم بأن الأمل في. . . .)
فانتفضت ئمة وقالت وهي عابسة: (سأذهب)
ولكنها لم تكد تخطو خطوة واحدة حتى صرخت وارتدت فانحطت على الدكة، وانحنت فمدت يديها إلى قدمها اليمنى، فأسرعت إليها أسألها ما الخبر، وكانت قد خلعت الحذاء ودست فيه إصبعين تتحسس بهما، فقالت: (مسمار! ماذا أصنع؟)
فأخذت الحذاء ونظرت فيه ثم قلت: (من كان يتصور أن هذا الحذاء الصغير يمكن أن يسكنه مسمار ضخم كهذا؟ والآن هل يمكن أن يكون في حقيبتك عتلة أو معول أو فأس أو أي شيء أصغر أو أكبر ندق به هذا المسمار الملعون؟)
فقالت وهي تضحك: (لا تمزح من فضلك!)
قلت: (هذا أحسن - نعم يجب أن نضحك إذا لم نستطع أن نفعل ما هو خير من ذلك؟)
فقالت: (ولكن ألا تستطيع شيئا؟)
وتلفتت وقلت، أستطيع أن أضع النعل على وجهي، وأقبض على رأس المسمار بأسناني، وأشد. . . هكذا)
فصاحت بي وهي تتلوى من الضحك (أرجو. . أرجو. .)
فقلت: (أعرف ما تريدين بغير حاجة إلى رجاء. . . أن أحملك إلى حيث تقصدين)
فغاض الابتسام، واعتدلت في جلستها وقالت: (أتظن أني أسمح لك بذلك؟ مستحيل!)
قلت: (ولما لا؟ إنك أخف من الريشة، وفي وسعي - بعد قليل من التدريب - أن أظهر بك(126/21)
على المسرح، وأمشي بك على الحبل، محمولة على أسناني)
فضحكت ثم قالت: (إنك فظيع!)
قلت: (بالعكس. . . إني لطيف جدا. . .)
فقاطعتني ضاحكة وقالت: (دع لطفك الآن. . .)
- قبل أن تعترفي به؟ هذا مطلب بعيد!
- وقل لي ما العمل؟
فقلت: (العمل أن تجلسي حيث أنت - وإن كنت سأحرم منظرك الفاتن وأعود إلى (القهوة) ثم أكر إليك بالحذاء في يدي - لا في رجلي - بعد أن نطرد هذا الطفيلي)
وانحدرت إلى حيث (القهوة) وعثرت مرتين أو ثلاثا، فآمنت أن العجلة من الشيطان، ولكني مع ذلك، وعلى الرغم مما أصابني، ظللت أعدو كأن ورائي ألف كلب من كلاب الصيد، وحرت بين أشجار القهوة فوقفت أنادي (يا حاج الياس! يا حاج الياس!)
فأقبل علي اثنان من أعوانه؛ فأشرت إليهم بالحذاء وطلبت شيئا أخرج به المسمار
وكانت زوجتي - مع أولادنا - على مقربة مني، وكانت تراني ولا أراها، فقالت: (ما هذا؟)
فدرت حتى واجهتها وقلت، وأنا أمشي إليها:
(هذا؟ آه! هذا حذاء جميل. . . . . .)
فدهشت وسألتني: (من أين جئت به؟ أين وجدته؟)
قلت: (لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم. . . صدق الله العظيم. . . خذي جربيه! اخلعي هذا. . .)
وانتزعت حذاءها الأيمن، وذهبت أعدو به
(ولكن هذا ليس حذائي؟)
قلت: (يا فتاتي المتبطرة. . هو حذاء والسلام. . تستطيعين أن تلبسيه وتمشي به وتقطعي أربع مائة متر، ثم تخلعيه لا شاكرة ولا مشكورة، ثم تلبسي حذاءك الجميل، وتقعدي به كما أنت الآن. . . رشيقة أنيقة. . . فاتنة الجيد. . . ساحرة العينين. . . وتروحي تهذري مع زوجتي التي تصب على رأسي الآن أحر اللعنات. . . ومن يدري؟ إذ لم تعجلي قبل أن(126/22)
يطغي بها الحنق والسخط، فقد تلقي بحذائك في البركة. . . إن النساء هكذا. . . حذاؤك جميل، ولكن كل امرأة تعتقد أن حذاءها هي أجمل وأنفس. . . هيا بنا!)
فوقفت وهي تقول: (ولكني لا أستطيع أن أمشي به. . . واسع. . .)
قلت: (لا تذمي زوجتي - أعني قدمها، فأنها جميلة. . . ثم إن المشي في الحذاء واسع خير من المشي في حذاء في جوفه مسمار. . . تعالي بالله قبل أن يغرق في البركة)
فتوقفت وصوبت عينها إلى قدميها وقالت: (ولكنه فضي وحذائي ذهبي؟)
قلت: (قوس قزح. . . تعالي. . . أترانا في معرض أزياء هنا؟ نحن في الجنة المغروسة على جبال (الشوير) ولا أحد معنا ولا ثالث لنا إلا. . . . إلا الهوى. . . كآدم وحواء. . . وعلى ذكر ذلك أظن أن حواء كانت تلف ذراعها بذراع آدم إذ يسيران في الجنة)
وقالت زوجتي ونحن مقبلان عليها:
(لم أر مثلك أبدا في الدنيا!)
قلت: (صدقت يا امرأة! وأين تجدين في هذه الدنيا نظيري)
قالت محتجة: (تخطف حذائي وترمي إلي هذا الـ. . .)
وأشارت بازدراء إلى حذاء الفتاة، وكان ملقى على الأرض
فقلت: (هس! إن اللص معي، أعني المسئولة عن الجريمة والمحرضة على ارتكابها)
فصاحت الفتاة وضربت بكفها على صدرها: (أنا؟)
ونظرت زوجتي إلى قدمي الفتاة ثم نهضت وأقبلت عليها وقالت، وهي تمد إليها يديها:
(أوه! لم أكن أعرف؟ ولكن كيف استطعت أن تمشي فيه؟ أنه واسع. . . ورجلك أصغر. . . وأجمل أيضا؟)
فالتفت إلى الفتاة وقلت: (أتسمعين يا هذه؟ إنها تقر لرجلك بالمزية! وجيدها؟ أليس ساحرا يا امرأة؟ ألست معذورا إذا اشتهيت أن آكله؟ وعيناها؟ وهذا الفم العجيب الذي لا أدري كيف يتسع للكلام، وأن كان يتسع جدا الذم حذائك يا امرأة!)
فريعت الفتاة وصاحت: (أنا ذممته؟ حرام عليك!)
فقلت: نعم. . . جدا. . . قلت أنه واسع عظيم، وأنه يذكرك بالباخرة تايتانك، وأنه يسع جيشا عرمرما من الأقدام الكبيرة الغليظة، وأنه. . .(126/23)
وكانت زوجتي تضحك، أما الفتاة فقد خيل إلي أنها ستسقط على الأرض
وقالت زوجتي: (فظيع! ألا تقفل هذه البوابة! لا تعبأي به يا حبيبتي ولا تلفتي إليه. . . أنه هكذا دائما. . . والآن خذي هذا المسمار واحتفظي به للذكرى)
فقلت: (وأنا؟ ما أجري على التعب؟ لقد قطعت كيلو مترا في الذهاب والإياب - قطعته عدوا. . . وهذه الأحذية على راحتي الطاهرة. . . .)
فقالت زوجتي: (جزاؤك أن تقعد مع الأولاد، ونذهب نحن نتمشى. . . .)
قلت: (هذا جزاء سنمار. . لا بأس! مجنون من يصنع معروفا في بنت من بنات حواء. . . .)
فقالت زوجتي: (هذا رأيك؟ إذن لن أدعوها إلى العشاء معنا!)
فصحت: (لا لا لا. . . إنما أعني بنت من بنات آدم)
فضحكت الفتاة، ورمتني زوجتي بفستقة. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني(126/24)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
كوخ رابع غزاة المكروب
طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض عن مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور وأثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وأن لكل مرض مكروبا يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصا خاليا من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على أرض مصر في أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها أرفع بنوده، وقاتلته على أرضها أفتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالما قد أخطأته سهامها قضاء وقدرا
المترجم
كان كوخ قد أعتزم أن يسيح في الأرض ويضرب في مجاهلها ضربا، ثم خاب، وهاهو ذا يبدأ سياحات غريبة في مجاهل أشد غرابة. إني أحيانا أقرن كوخ بلوفن هوك فأجد الأول أعجب وأغرب في صيادته المكروب وأكثر إبهاما، وأجد كليهما على السواء عصاميا في كسب العلم. كان كوخ رجلا فقيرا يرتزق من صناعة الطب، وكل ما عرف من العلم هو ما تضمنته مقررات الطب في مدارسه، وعلم الله ما كان في هذه الدراسة شيء يعلم ممارسة التجارب ويدرب في فن التجريب. ولم يكن لدى كوخ من أدوات التجربة غير ذلك المكرسكوب الذي أهدته إليه زوجه المخلصة إيمي في عيد ميلاده، أما عدا هذا من الأدوات فكان عليه أن يحتال لتدبيره وتصميمه وأن يصنع بيده من قطع الخشب وخيوط القنب وشمع الأختام. وترك يوما مكرسكوبه وفئرانه وجاء زوجه يخبرها في تحمس بالجديد المعجب الذي وجد، فما كان من السيدة الطيبة إلا أن قلصت قصبة انفها في اشمئزاز ظاهر وقالت له: ولكن يا روبرت، إنك كريه الرائحة جدا(126/25)
بعدئذ وجد طريقة أكيدة ينقل بها مرض الجمرة إلى الفئران. لم يكن لديه محقن يحقن به الدم القاتل فيها في سهولة، ولكن بعد خيبات ولعنات وخسارة عدد طيب من الفئران السليمة، اهتدى إلى أن يأخذ فلقاً من الخشب فينظفها جيدا ثم يسخنها في الفرن ليقتل ما قد يكون عليها المكروبات العادية، ثم يغمسها في قطرات من دم الأغنام التي قتلتها الجمرة، ثم يدخل أطرافها بما عليها من الدم في جرح جرحه بمشرط نظيف في أذناب تلك الفئران. ولا تسألني كيف قبض عليها فسكنها وهي تترعص وتلتوي بين يديه. وكان يضع هذه الفئران في أقفاص وحدها ثم يغسل يديه، ويخرج ليعود طفلا مريضا في سبيل تخليص الذمة، ورأسه لا يزال مليئا بالأشتات من كل شيء: (أيموت هذا الفأر بداء الجمرة. . . . . نعم يا مدام اشميت، يستطيع أبنك أن يعود إلى المدرسة في الأسبوع القادم. . . . . أرجو ألا يكون هذا الدم الملوث بالجمرة دخل إصبعي من الجرح الذي فيه. . .). هكذا كانت حياة كوخ موزعة بين بحثه وطبه
وأصبح الصباح، وجاء كوخ إلى المعمل البيتي الذي صنعه بيده، فوجد الفأر ملقى على ظهره وأرجله إلى السماء، وقد تصلب جسمه وأنتفش شعره ووقف على جلده وكان بالأمس منبسطا على ظهره في ملامسة ونعومة. وبعد أن كان أبيض صار أزرق رصاصيا، فأحمى كوخ سكاكينه في النار، وربط الفأر المسكين على شريحة من الخشب، وشق بطنه فكشف عن رئتيه وكبده، وشرحه حتى وصل إلى كل ركن من جسمه وحدق فيه: (نعم. نعم. إن باطنه يشبه باطن الشاة المجمورة. . . . وهذا طحاله، ما أسوده وما أضخمه!. . . ' نه يكاد يملأ كل بطنه. . . .) وأسرع كوخ وشق الطحال المتضخم فجرى منه الدم الأسود، فأخذ منه قطرات ووضعها تحت مجهره، وتمتم أخيرا لنفسه: (ها هي العصي وها هي الخيوط بعينها. . . . إنها تكاد تملأ دم الفأر كما ملأت دم الشاة (وفرح كوخ فرحا شديدا لأنه أيقن أنه بذلك يستطيع أن ينقل إلى الفئران أمراض الشياة والأبقار والإنسان، والفئران قليلة الثمن، صغيرة في اليد، سهل تناولها عند التجريب. وفي الشهر الذي جاء من بعد ذلك لم يكن لكوخ عمل إلا حقن فأر حي من بعد فأر ميت. يأخذ قطرة الدم من طحال الفأر الميت فيحقناها في ذيل فأر حي صحيح. ثم يصبح الصباح فيجد هذا الفار قد مات من داء الجمرة، فيمتحن دمه فيجد به الملايين من تلك الخيوط المتخالطة والعصي المتكاثرة يجدها(126/26)
ساكنة لا حراك بها، صغيرة متضائلة لا يزيد طولها على جزء من ألفين من الملليمتر الواحد
وأخذ كوخ يتفكر: (هذه العصي لا حركة فيها، ولكن مع هذا لا بد أن تكون حية. إن قطرة الدم التي أحقن بها الفأر ليس بها غير مئات من هذه العصي، ولكنها لا تلبث في دمه أربعا وعشرين ساعة حتى تكون قد تكاثرت فبلغت البلايين، ويكون الفأر قد مرض بها ومات. . . . ولكن كيف السبيل إلى رؤيتها وهي تتكاثر!؟ كيف السبيل وجلد الفأر لا يشف عما تحته؟!
وأخذ هذا السؤال يرن في أذنه وهو يجس نبض مرضاه وينظر في ألسنتهم. فإذا جاء العشاء أكل عشاه سريعا، وغمغم لزوجته تحية المساء لتنام، وذهب هو إلى تلك الغرفة الصغيرة قد ملأتها رائحة الفئران والمطهرات الكيميائية وأغلقها على نفسه، ثم أخذ يفكر يكثر تلك العصي خارج جسم الفأر. وكان كوخ في هذه الوقت لا يدري شيء عن إحساء الخمائر التي صنعها بستور ولا عن قباباته، أو أن هو درى، فالنزر القليل منها؛ لذلك كانت تجاربه لتكثير تلك العصي تجارب المبتكر الأول، فيها التواء وفيها تعقد؛ كانت كتجارب الرجل الأول يريد أن يصنع لنفسه نارا
قال كوخ: (سأحاول أن أكثر هذه الخيوط في سائل أقرب ما يكون إلى سوائل الجسم، سائل مصنوع من مادة الأجسام نفسها). وأتى بعين ثور وأخرج منها بعض مائها، ووضع في هذا الماء فتيتة كسن الدبوس من طحال فأر قتله المرض. ثم قال: (هذا غذاء لا شك مستطاب لهذه الخيوط، ولكن لعلها تتطلب غير الغذاء الطيب حرارة أجسام الفئران كذلك) وصنع بيديه مدفئا غير جميل وسخنه بمصباح زيت، ثم وضع في هذا المدفأ المرتجل شريحتين متلاصقتين من الزجاج الرقيق كان قد وضع بينهما سائل عين الثور وفتيتة الطحال. وذهب لينام. ولكنه لم ينم. ففي منتصف الليل قام ليخفض فتيلة المصباح بمدفئه، وكان قد ملأه منها الدخان. وبدل أن يعود فينام، أخذ ينظر العصي بين شريحتي الزجاج مرة بعد أخرى. وخال أحيانا أنه يرآها تتكاثر، ولكنه لم يكن على يقين من ذلك، لأن مكروبات أخرى من التي تسبح وتثب وجدت سبيلها بين الشريحتين على عادتها، وزادت في تكاثرها على عصي صاحبنا الدقيقة المهلكة وطغت عليها(126/27)
قال كوخ لنفسه: (هذا عمل غير نافع! هذه العصي لابد من تكثيرها هي وحدها خالصة نقية من كل مكروب آخر) وأخذ يفكر في الوصول إلى هذا حتى أكده الفكر. وأخذ يحتال ويتدبر حتى صار الاحتيال هما والتدبر غما
وذات يوم تراءت له طريقة يروض بها عصيه وهو يراقبها. طريقة غاية في البساطة غاية في السهولة لا تحتاج للفكر الكثير قال كوخ: (سأضع تلك العصي في، قطرة عالقة، فلا يصلها من المكروبات الغريبة شيء). ثم جاء بقطعة صغيرة رقيقة مفرطحة من الزجاج الرائق، وسخنها حتى يقتل ما قد يكون عليها من المكروب، ثم وضع عليها قطرة من سائل عين ثور سليم قضى عليه الجزار حديثا، ثم غمس في هذه القطرة قطعة غاية في الصغر من طحال فأر مات من داء الجمرة حديثا. وبعد ذلك جاء بشريحة غليظة مستطيلة من الزجاج، كان قد نقر في وسطها نقرة عميقة واسعة، ودهن سطحها مما يلي حافة النقرة بشيء من الفزلين ثم قلب هذه الشريحة الكبيرة السميكة على الأخرى الصغيرة الرقيقة التي عليها سائل العين وطحال الفأر بحيث تقع النقرة فوق القطرة ولا تمسها، فالتصقت الزجاجتين بالفزلين فكانتا كقطعة واحدة. ثم عاد فقلبهما معا في سرعة وحذق فصارت قطعة الزجاج الصغرى هي العليا وتعلقت منها قطرة السائل بما فيها من الطحال وعصيه الكثيرة، وقد انحبست في تلك النقرة انحباسا كاملا فلا تستطيع المكروبات الأخرى الدخول إليها. تلك هي (قطرته العالقة). ولعل كوخا لم يقدر كل التقدير هذه الطريقة الجديدة، ولم يدرك كل الإدراك مكانها من تاريخ بحث المكروب ومحاربة الإنسان أسباب الموت. وسواء قدرها أو فاته تقديرها فقد كانت ساعة من أخطر الساعات تلك التي أخطرت هذه الفكرة على باله، ساعة لا يعدلها إلا تلك التي رأى فيها لوفن هوك أحياءه الصغيرة في ماء المطر أول مرة
ووضع كوخ (قطرته العالقة) تحت مكرسكوبه وجر كرسيه وجلس وهو مضطرب ينظر ما تكشف له العدسة وهو يقول لنفسه: (لا يستطيع شيء أن يدخل إلى تلك القطرة، وهي ليس بها إلا العصي، فلأرقبها علي أعلم من أمر نموها شيئا، فكشفت له العدسة عن مجال أغبر لم يجد فيه غير قطع الطحال وقد نسلت وتقطعت وتراءت ضخمة تحت المجهر، وغير عصية هنا وعصية هناك طافية بين نسائل الطحال؛ وظل ينظر ساعتين، وينظر في(126/28)
الساعة الواحدة وخمسين دقيقة، ولكن لم يحدث شيء. وأخيرا بدأت الرواية التي اصطبر لمرآها طويلة، وأخذت صورة المجال تحت بصره تتغير وتتبدل كأنما امتدت لها بالسحر يد الساحر، واهتز صاحبنا واضطرب، وجرت في ظهره رعدة بعد أخرى كلما اختلفت صورة المجال تحت عينه. إن العصي الطافية القليلة أخذت فعلا في التكاثر! ففي هذا المكان توجد الآن اثنتان حيث كانت واحدة. وتلك عصية أخرى تطول بطيئة ولكنها تطول كثيرا، وهي في استطالتها تنثني كالأفعى وتنال أطراف المجال. ولم تمض ساعتان حتى كثرت تلك العصي كثرة غطت على قطع الطحال فاختفت وبلغت أعدادها الملايين فأصبحت في اختلاطها وتداخلها وتلبدها ككرة من غزل، انحل فاختلط فلا رجاء في تسليكه إلا أنه غزل حي، غزل صامت قاتل
وتنفس كوخ الصعداء: (الآن أعلم أن هذه العصي حية والآن أعلم أنها تتكاثر بالملايين في فئراني الصغيرة المسكينة، وفي الشياه، وفي الأبقار. فالعصية الواحدة (البشلة الواحدة) أصغر من الثور بلايين المرات، فإذا دخلت الثور نمت وتعددت وصارت ألوفا تنسل ألوفا تنتشر في نواحي الحيوان الكبير فتتحشى بها رئته ويكتظ بها مخه وينسد بها دمه، لا عن ثأر لها عنده، أو كراهة لها فيه
أصبح كوخ لا يعي الزمن، ولا يهتم لواجباته، ولا يصغي لمرضاه إذ ينتظرونه طويلا فيملون فيشكون. فكل هذه الأمور فقدت حقيقتها من نفسه، وأصبح رأس كوخ لا يعي إلا صورا مخيفة من خيوط الجمرة وهي في اختلافها واختلاطها. وأخذ يعيد تلك التجربة التي يخلق فيها من البشلة الواحدة ألوف الألوف من البشلات. فأعادها ثماني مرات في ثمانية أيام متابعات. فبدأ بأن أخذ غمسة يسيرة جدا من (قطرته العالقة) وهي تعج بتلك العصيات فزرعها في قطرات نقية جاء بها من سائل عين ثور سليم. فوجد بكل قطرة من هذه ألوفا من هذه العصيات. ثم أخذ من هذه القطرات الحادثة ليزرع في قطرات جديدة نقية من عين ثور. وهلم جرا حتى أستتم له من ذلك ثماني زرعات قال كوخ: (لقد نسلت هذه البشلات ثماني ذريات متعاقبات، كلها خالصة من مكروب غريب، خالصة من طحال الفأر الذي اختلطت به أولا. وهذه البشلات في هذه الذرية الأخيرة هي أحفاد البشلات الأولى التي قتلت الفأر. فهل يا ترى تقتل هذه البشلات الأخيرة الفأر والشاة كما كانت تفعل أمهاتها(126/29)
الأولى؟. . . . . . أفتنمو يا ترى هذه البشلات في الفئران وفي الشياه إذا حقنتها فيها؟ أهي يا ترى سبب الجمرة الذي لا مرية فيه؟)
وأخذ كوخ قطيرة يسيرة من (قطرته العالقة) - وكانت تتراءى للعين العادية عكرة بما تعج به من المكروب - ونشرها على فلقة من الخشب صغيرة، ثم غرس هذه الفلقة تحت جلد فأر صحيح ونجا هو فلم يمسسه سوء. نجاه منه تلك العناية الإلهية التي تقوم إلى جانب البحاث الجريئين المتهورين وتحرسهم وتدفع عنهم بمشيئة الله شر ما هم فيه
وفي اليوم التالي كان كوخ قائما على هذا المخلوق الصغير وقد دبسه إلى لوحة تشريحه، وقد انحنى عليه عن قصر في البصر ليراه من قريب. ثم أخذ يحمي مشارطه في النار وقد ملأه الرجاء. ولم تمض دقائق ثلاث حتى كان جالسا إلى مكرسكوبه ينظر منه قطعة صغيرة من طحال الفأر قد وضعها بين رقيقتين من الزجاج ثم تمتم لنفسه: (لقد تحقق المأمول، فها هي الخيوط، هاهي العصيات وتلك البشلات الصغيرة التي في قطراتي العالقة، تلك البشلات التي أوجدتها بالتنسيل سلالات متعاقبة ثمان، لها من القدرة على القتل مقدار ما تلك التي يأخذها الآخذ مباشرة من طحال الشاة النافقة من داء الجمرة)
رأى كوخ هذه البشلات أول ما رأى في دم تلك البقرة التي نفقت من داء الجمرة زمانا مضى، يوم كان مجهره جديدا ويده تضطرب عليه من قلة التجربة والمران، واليوم يرى نفس هذا المكروب دم الفأر المسكين، وهو هو نفسه المكروب الذي رباه في سلسلة طويلة من الفئران، وفي عدد كثير متعاقب من قطراته العالقة
هاهو ذا كوخ يثبت أول مثبت أن النوع الواحد من بعض المكروب يسبب نوعا واحدا من الأمراض، وأن هذه المخلوقات الصغيرة قد تعتدي في حقارتها على مخلوقات كبيرة عظيمة في ضخامتها فتوردها موارد الموت سريعا. سبق كوخ كل الرجال في إثبات هذا، وسبق فيه بستور كذلك، وهو الذي على سننه جرى وبهديه اهتدى. رمي كوخ بخيطه وصنارته ليصطاد تلك الأسماك الضئيلة في المحيط الأعظم وهو واسع بهيم. وتقفاها وتجسس بها وهو لا يعلم من صفاتها شيئا، ولا من عاداتها شيئا، وهو لا يدري من جرأتها وشراستها شيئا وهو لا يعرف متى ولا بأي سهولة تثب عليه من مراصدها ومخابئها؛ والشيء إذا دق هذه الدقة فكل مكان مخبأ وكل طريق مرصد(126/30)
يتبع
أحمد زكي(126/31)
أندلسيات:
2 - قصة الفتح بن خاقان
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
يتشابه الفتح بن خاقان وأبو الحسن بن بسام في أنهما كانا متعاصرين، وفي أنهما تصديا للكلام على أدباء الأندلس من العلماء والشعراء والكتاب والوزراء والملوك ممن عاصرهما ومن كان قبل عصرهما، وفي أنهما كانا يرسلان إلى معاصريهما يعرفانهم عزمهما ويسألانهم إنفاذ شيء من منثورهم ومنظومهم ليذكراه في كتابيهما: الأول في قلائد العقيان ومطمع الأنفس، والثاني في الذخيرة. قال العماد الكاتب صاحب خريدة القصر: حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين بن أكرم قال: لما عزم أبن خاقان على تصنيف كتاب قلائد العقيان جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة ويعرفه عزمه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه. وكانوا يعرفون شره وثلبه فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكل من أرضته صلته، أحسن في كتابه وصفه وصفته. وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه. وكان ممن تصدى له وأرسل إليه أبو بكر بن باجه المعروف بابن الصائغ، وكان وزير أبن فلويت صاحب المرية. وهو - أي أبن الصائغ - أحد الأعيان وأركان العلم والبيان. شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أهل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبهونه في المغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوي نحوها عطفه، وذكر أبن خاقان بسوء بلغه، فجعله ختم كتابه، وصيره مقطع خطابه، وقال: هو رمد جفن الدين الخ وبلغ ذلك أبن الصائغ، فأنفذ له مالا استكفه به واستصلحه؛ وصنف أبن خاقان كتاب آخر سماه مطمح الأنفس وصله بقلائد العقيان افتتحه بذكر أبن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناء جميلا الخ وكذلك نرجئ الكلام على ما كان بين أبن خاقان وبين الفيلسوف أبن باجه أو أبن الصائغ إلى ما بعد الفراغ من الموازنة بين أبن خاقان وبين أبن بسام. . . وقد ظهر لك مما أوردناه هنا من كلام العماد أن أبن خاقان كان يرسل إلى أعيان الأندلس ليرسلوا إليه آثارهم، وكذلك كان يفعل أبن بسام صاحب الذخيرة. . . قال المراكشي صاحب المعجب: فمما أختار له - أي لأبي عبد الله محمد بن أبي(126/32)
الخصال أحد كتاب الأندلس البلغاء النابهين - فصول من رسالة كتب بها مراجعا لبعض إخوانه عن رسالة وردت عليه منه يستدعي فيها منه شيئا من كلامه، وهذا الرجل صاحب الرسالة هو أبو الحسن علي بن بسام صاحب كتاب الذخيرة. . . وهذا هو محل الشاهد. . . ودونك الآن فصولا من هذه الرسالة - أي رسالة أبن أبي الخصال إلى أبن بسام فأنها من طرف الأندلسيين. قال: وصل من السيد المسترق، والمالك المستحق، وصل الله إنعامه لديه، كما قصر الفضل، كتابه البليغ، واستدراجه المريغ. فلولا أن يصلد زند اقتداحه، ويرقد طرف افتتاحه، وتقبض يد انبساطه، وتغبن صفقة اغتباطه، للزمت معه قدري، وصنت سريرة صدري. ولكنه بنفثات سحره يسمع الصم، ويستنزل العصم، ويقتاد الصعب فيصحب، ويستدر الصخور فتحلب، ولما فجأني ابتداؤه، وقرع مسمعي نداؤه. فزعت إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر، فطاردت من الفقر أوابد قفر، وشوارد عفر، تغبر في وجه سائقها، ولا يتوجه اللحاق لوجيهها ولا حقها، فعلمت أنها الاهابة والمهابة، والإصابة والاسترابة، حتى أيأستني الخواطر، وأخلفتني المواطر، إلا زبرجا يعقب جوادا، وبهرجا لا يحتمل انتقادا. وأنى لمثلي والقريحة مرجاة، والبضاعة مزجاة ببراعة الخطاب، وبزاعة الكتاب. ولولا دروس معالم البيان، واستيلاء العفاء على هذا الشان، لما فاز لمثلي فيه قدح، ولا تحصل لي في سوقه ربح. . . وأنا أعزك الله أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النتف الأخيرة. وأرى إنها قد بلغت مداها، واستوفت حلاها، وأنا أخشى القدح في اختيارك، والإخلال بمختارك. . . إلى أن يقول: وعذرا أعزك الله فأني خططت ما خططته والنوم مغازل، والقر منازل، والريح تلعب بالسراج، وتصول صولة الحجاج، فطورا تسدده سنانا، وتارة تحركه لسانا، وآونة تطويه حبابه، وأخرى تنشره ذؤابه، وتقيمه إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب. أو حمة عقرب. وتقوسه حاجب فتاة، ذات غمزات، وتسلطه على سليطه، وتزيله عن خليطه، وتخلعه نجما، وتمده رجما، وتسل روحه من ذباله، وتعيده إلى حاله، وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد. ومشقته حروف برق، بكف ودق، ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله، فلا حظ منه للعين، ولا هداية في الطرس لليدين، والليل زنجي الأديم، تبرى النجوم، قد جللنا ساجه، وأغرقنا أمواجه، فلا مجال للحظ، ولا تعارف إلا بلفظ، لو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، أو خضبت به الشيبة لما نصلت،(126/33)
والكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه. والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الحباب، وجلده الجليد، وصعد أنفاسه الصعيد، فحماه مباح، ولا هرير ولا نباح، والنار كالرحيق، أو كالصديق، كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرب، استوى الفصل، ولك في الإغضاء الفضل، والسلام. . .
وقد حدثنا الفتح في قلائده أنه هو الآخر كتب إلى أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال مستدعيا من كلامه ما يثبته في الديوان - يريد قلائد العقيان - وينبته في زهر البستان، فكتب إليه أبن أبي الخصال رقعة يقول فيها: الحذر - أعزك الله - يؤتي من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة؛ وقد كنت أرضى من ودك وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى فشخصه مقتحم مزدرى، ولا سيما من لا يجلى ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقال والقيل يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتخفيه وتخترمه، أولى به من كشف القناع، والتخلف عن منزله الامتناع، وفي الوقت من فرسان، هذا الشان، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المناهل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرى، لا نكرى، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأفراد مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وخواطرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استبقت لمتأخر متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد، إلا أن يعود به جماله، ويحرس نقصه كماله، وهبه أعزه الله قد استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في اتبابه يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما أخالك ترضاها مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستغل غبينها ولا يبل طعينها. . . الخ الخ فهي رسالة طويلة وإن كانت على طولها ممتعة جميلة. . . .
موازنة ومفاضلة
والآن فلنعرض للموازنة بين الفتح وبين أبن بسام ما دام بينهما هذا التشابه الذي ذكرنا. . .(126/34)
قال الحجاري صاحب المسهب: وهو - الفتح - وأبو الحسن بن بسام الشتتمري مؤلف الذخيرة فارسا هذا الأوان، وكلاهما قس وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن أبن بسام أكثر تقييدا، وعلما مفيدا، وإطنابا في الأخبار، وإمتاعا للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلقا وتعشقا بالأنفس. . . هذا هو كل ما عثرنا عليه للمتقدمين من مفاضلة بين هذين الفاضلين، ونحن فنقول: إن المتفقد لكتاب الذخيرة لأبن بسام، وكتابي القلائد والمطمح لأبن خاقان، يتبن له أن الفتح في الحق أضخم عبارة، وأجزل أسلوبا، وأقدر على التنميق والتزويق والتهويل، ويغلب ذلك على أكثر تراجمه؛ وقد يتعمل حتى يرى أثر التقعر محسا ملموسا، وهو مع هذه الجزالة والضخامة، أقل تقييدا وعلما مفيدا، دع تقصيره في تراجمه من ناحية التحقيق التاريخي فلا يذكر أسم المترجم كاملا ولا نسبه ولا بلده ومنشأه، ولا تاريخ مولده ووفاته، فكأنه يترجم مترجمة لناس يعرفونهم كل المعرفة، وإنما الذي ينقصهم هو أن يلموا ببعض آثار أولئك المترجمين المعروفين، وأن يقفوا على بلاغة الفتح وبراعته، وحذقه ومهارته، وكيف يرفع من يبغي أن يرفعه ويخفض من يريد أن يضعه، ومن هنا لا تعد كتب الفتح كتب تراجم بالمعنى المعروف، وإنما هي بكتب المختارات أشبه. أما أبن بسام صاحب الذخيرة فهو وإن كان أكثر تقييدا وعلما مفيدا، وإطنابا في الأخبار، وإمتاعا - من هذه الناحية - للأسماع والأبصار - كما يقول الحجاري - وإن كان أقل تزويقا وتهويلا وإن كان أعف لسانا، وأنزه بيانا، إلا أنه هو الآخر يقارب الفتح في أغفاله تاريخ من ترجم له مولدا ووفاة ونسبا ومنشأ، ومثل الاثنين في ذلك مثل الثعالبي صاحب يتيمة الدهر، ومثل الثلاثة العماد الكاتب صاحب خريدة القصر وجريدة أهل العصر والباخرزي صاحب دمية العصر وعصرة أهل العصر، كل أولئك يجتزئون ببلاغتهم عن تحقيقاتهم، فكانت كتبهم لذلك نوعا غريبا بين أسفار الأدب في لغة العرب، فلا هي بالمختارات المحضة ول هي بالتراجم الوافية، ولا هي من قبيل العقد والكامل وما إليهما. ولعل أول من ابتكر هذا النوع هو الثعالبي
(للقصة بقية)
عبد الرحمن البرقوقي(126/35)
5 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
أسباب الحرب
لقد ظهر لنا من المباحث السابقة أن الطليان اعتبروا الحبشة مستعمرة طليانية، وحملوا الدول الأوربية على الاعتراف بذلك بعد نشرهم المعاهدة وذيولها، واستفادوا من حاجة البريطانيين إليهم فتقدموا إلى كاسيلا واستولوا قبل ذلك على عدوى
ومع أن منليك كان يتظاهر بعدائهم عند منحه امتياز السكة الحديدية للفرنسيين وإذابته العملة النقدية التي ضربها الطليان في بلادهم لم يتمكن الطليان من التضييق عليه لأنهم كانوا مكلفين بمساعدة البريطانيين في قتالهم المهدي، ولم يرض البريطانيون بان يترك الطليان جبهة السودان ويتقدموا بقواتهم على الأحباش
والحقيقة أن السياسة البريطانية من حيث أهدافها العامة لم ترغب البتة في توسع نفوذ الطليان في الحبشة وتوطيد كلمتهم فيها لأنها كانت ترمي إلى احتلال مصر والسودان والمحافظة عليهما بترك حراسة جبال الحبشة بيد أهل الأحباش
أما النجاشي منليك فكان يرمي إلى توحيد المملكة وتقويتها ثم إعلان استقلالها للعالم. ولا شك في أن رغبة الطليان في توطيد نفوذهم في الحبشة وسعي نجاشي الحبشة لاستقلال البلاد أديا حتما إلى الاختلاف بين إيطاليا والحبشة برغم المعاهدة وذيولها
وسترى كيف حدث هذا الاختلاف فأدى إلى الحرب بينهما. والحقيقة هي أن بريطانيا لم تكد تقض على حركة المهدي فتبقي إيطاليا حرة في العمل إلا وشرع الطليان بحشد قواتهم في مستعمرة أريترة للتوغل في بلاد الحبشة
ولما تأكد منليك من قدرة جيشه البالغ عدده زهاء 145000 أعلن استقلال الحبشة إلى جميع الدول. ولمجاملة إيطاليا طلبت ألمانيا وفرنسا من النجاشي أن يرسل هذا البلاغ بواسطة إيطاليا
فبلغ منليك ملك إيطاليا أن المادة السابعة عشرة من معاهدة أوكسالي لا ترغمه على توسيط(126/37)
إيطاليا في جميع علاقته بالدول الأوربية، والنص الحبشي من المعاهدة صريح في هذا الباب، فهو يخول للنجاشي حق طلب التوسيط إذا أراد ذلك. لذلك رجا من ملك إيطاليا أن يخبر الدول الأوربية بذلك لكي لا يحدث سوء تفاهم في المستقبل
والواقع أن المعاهدة كانت مكتوبة باللغة الأمحرية والمادة السابعة عشرة منها تنص على ما يلي: (جلالة إمبراطور الحبشة مختار في استخدام الوكلاء الطليان). أما الطليان فلما ترجموا المعاهدة إلى لغتهم وضعوا كلمة (الإجبار) بدلا من كلمة (الاختيار) فجاء النص الطلياني كما يلي: (جلالة إمبراطور الحبشة مكلف باستخدام الوكلاء الطليان)
فانتبه الساسة الطليان إلى خطئهم، فلما تيقنوا أن القلم لم يجد نفعا في الحصول على رغبتهم في بلاد الحبشة قرروا استخدام السيف، مع أن منليك لم يرغب في الحرب في تثبيت علاقاته بإيطاليا. فتظاهر الفرنسيون بالولاء للطليان، بينما كانوا في الخفاء يؤيدون النجاشي، لأن توسع نفوذ الطليان في بلاد الحبشة يخالف مرماهم. وكان الحكم الفرنسي في المستعمرة الصومالية همزة الوصل بين الحكومة الفرنسية والحكومة الحبشية، أما الحكومة الروسية فلم تعترف بالمعاهدة وكانت تساعد الحبشة بإرسال الضباط وأصحاب المهن والرهبان والسلاح إليهم
فرأى رئيس الحكومة الطليانية (كريسبي) إرسال رجل محنك إلى بلاط النجاشي عسى أن يقنعه ويزيل الخلاف. فأرسل الكونت (انطونلي) إلا أن هذا لم يتمكن (رغم ذلاقة لسانه ووعيده) من إقناع منليك الذي كان جوابه للوزير الطلياني ما يلي:
(ما دام قد حدث غلط في نص المادة السابعة عشرة فالأولى أن نلغيها تماما، ولنتذاكر من جديد على نص المعاهدة؛ ثم إن بلادي تحتاج إلى منفذ إلى البحر فلنقرر هذا أيضا)
ولم يغير منليك رأيه ولم يحد عن فكره. فكان في جميع مذاكراته مع الوزير المفوض يؤيد هذا الطلب عينه. وأخيرا بلغ الحكومة أن المادة السابعة عشرة من المعاهدة ملغاة. وفي الوقت عينه أعاد الأربعة ملايين فرنك إليها. وكان من نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بين إيطاليا والحبشة وانتهت إلى الحرب
ساحة الحركات
تقرب سلسة الجبال من مصوع وتسيطر على سهلها الضيق وفي امتدادها إلى الشمال تكون(126/38)
موازية للشاطئ. أما في امتدادها إلى الجنوب فتبعد عنه، وتتكون منها الصحراء الدنا التي تشح المياه فيها، وهذه الصحراء وعرة ذات مفازات ووديان ورواب
وهذه السلسلة ذاتها تتصل بالسلاسل الأخرى التي تتكون منها معاقل الحبشة الداخلية
جرت الحركات على طرفي الحدود في جنوبي (أسمرة) عاصمة أريترة بعد مصوع. والأرض في هذه المنطقة جبلية وهي واقعة على سفوح السلسلة الأولى التي تؤلف الضلع الغربي للمثلث، والارتفاعات فيها تتفاوت بين 1500و2500 متر. والانحدارات في السفوح الشرقية على ما نعلم مائلة شديدة الوعورة، وتسلقها صعب، والأرض متقطعة بوديان وفيها وهاد ومضايق. والروابي يعلو بعضها بعضا، والكثير منها مكسو بالغابات والأحراش. أما الطرق فمسالك وعرة يصعب على الحيوانات المحملة السير فيها
والمنطقة بأجمعها تصلح للدفاع أكثر منها للهجوم. ولا تمكن الحركة فيها بقوات كبيرة ما لم يكن السير فيها بأرتال مختلفة متباعدة تفرقها الودن والمضايق عن بعضها فتصعب المواصلة بينها. وفضلا عن ذلك فالمياه فيها شحيحة وموارد الإعاشة قليلة، الأمر الذي يقتضي تجهيز القوات بوسائل النقل الكثيرة والسير فيها يقتضي بطبيعة الحال اتخاذ تدابير الحماية. لذلك كان لا يجوز أبدا تطويل الارتال لأنها تمسي أهدافا ملائمة للمباغتة. والخلاصة أنها من أفضل الأراضي الصالحة للحروب الصغرى بالكمين والمباغتة فهي من هذه الوجهة تفيد الأحباش الذين يعرفونها حق المعرفة ويعلمون بنجدها وغورها فضلا عن تعودهم على إقليمها
والطرق التي تربط مستعمرة إريترية بهذه الساحة تبدأ من ساحل البحر وتمتد إلى الجنوب الغربي فإلى الجنوب، منها طريق شمالي يبدأ من مصوع ويمر بأسمرة بعد أن يتسلق الجبال ويدخل الهضبة. وارتفاع أسمرة 2372 مترا. وقبل أن يقطع نهر مأرب الفاصل للحدود يمر بقرية (غوندت) ثم يصل إلى عدوة وارتفاعها 1965 مترا وهي واقعة بالقرب من أكسوم وإلى شرقيها
والطريق الثاني يبدأ من زولا على خليج عدولى. وبعد أن يمر بقريتي (حلبى) و (كواتيت) يقطع الحدود إلى جنوبي سنافة ويصل إلى قلعة ادجرات وهي من المراكز الحبشية الخطيرة، فيتوجه الطريق بعد ذلك إلى الجنوب ويمر بقلعة (مكا) إلى أن يصل إلى (هرر)(126/39)
ويجري في هذه الساحة تابعا نهر عطبرة وهما مأرب وتكاسه
ومن جملة الأهداف التي كان يتوخاها الطليان في حركاتهم استمالة الرؤوس إلى جانبهم وإثارة الحروب الداخلية في الحبشة لكي يسهل عليهم التغلب على العدو
فكانوا على اتصال برأس مقاطعة تيجري، وبعد هذه المقاطعة تأتي مقاطعة أمحرة الداخلية، وفي جنوبيها مقاطعة شوعا المختصة بالنجاشي، وهي خلف مقاطعة غوجام الداخلية، وفي جنوبي هذه المقاطعات أرض الغالا في منتهى البلاد الحبشية
فيتضح من ذلك أن الحركة يجب أن تجري بمراحل لاحتلال المقاطعات على التوالي، وهذه المقاطعات جميعا وعرة منيعة
قوات الفريقين - الجيش الحبشي
استخدم الطليان رئيسا لتجسس أحوال الحبشة وبالنظر إلى المعلومات التي توصل إليها هذا الضابط من أن أنفس مقاطعات تيجري وأمحرة وغوجام زهاء 2 , 500 , 000 نسمة. أما أنفس مقاطعة شوعا وحدها فتبلغ 2 , 000 , 000 نسمة وهذا مما يجعل لهذه المقاطعة مركزا خطيرا يتجلى بحكمها على المقاطعات الأخرى
ولما لم يكن للحبشة جيش منظم فمن البديهي أن تقدر القوات بالرجال المسلحين الذين تجهزهم المقاطعات المذكورة وعلى هذا الأساس تبلغ قوة الجيش ما يلي:
رجل
20 , 000جيش تيجري
35 , 000جيش أمحرة
20 , 000 جيش غوجام
70 , 000 جيش شوعا
ـــــ
145 , 000المجموع
ونقصد بالجيش القوة الجاهزة التي يستطيع أن يستخدمها الرأس أو ملك المقاطعة، متى شاء بمعنى أنها مستعدة للعمل في كل وقت. أما عند الاقتضاء فيمكن إخراج قوات أخرى بكل سهولة لأن الأحباش جميعا جنود بالطبع لا فرق بين شابهم وشيخهم.(126/40)
أضف إلى ذلك مقاطعة الغالا وعاصمتها هرر التي تبلغ نفوسها زهاء 3 , 000 , 000 نسمة ومع أنها بعيدة عن ساحة الحركات إلا أنها تستطيع أن تجهز جيش النجاشي بالخيالة.
ولدى الجيش الحبشي أربعون مدفعا على أنواع مختلفة. والأحباش جنود بالطبع فيتحملون السير الطويل دون تعب، ويعسكرون ويسيرون بلا جلبة ولا ضوضاء، ويحصلون على معيشتهم بالتكاليف الحربية ولا يستخدمون وسائل لذلك. فالجندي يحمل أرزاقه معه وهي مقدار قليل من الذرة. والأرزاق التي تكفي الجندي الأوربي ثلاثة أشهر يعيش بها الحبشي سنة كاملة. فالحبشي من هذه الجهة قانع بما يتيسر له.
والوحدة السوقية في الجيش الحبشي هي الفرقة أو القوة التي يخرجها الرأس أو الملك. وهذه القوة تختلف باختلاف مساحة مقاطعة الرأس أو الملك فيتفاوت مقدارها بين 5000 و10 , 000 رجل أو أكثر
واملك أو الرأس يجهز جنوده بالسلاح والحكومة تمده بالسلاح والعتاد عند الاقتضاء. ومع ذلك نرى بعض جنود الأحباش يدبر بنفسه أمر سلاحه وعتاده.
وقد علمنا أن الطليان دون أن يحسبوا حساب المستقبل جهزوا النجاشي بأسلحة حديثة فمنحوه 5000 بندقية و200 , 000 طلقة في المرة الأولى و38000 بندقية و8 مدفعا في المرة الثانية. أما البريطانيون فكانوا قد أهدوا إلى رأس تيجري 900 بندقية. وإذا أضفنا إلى ذلك السلاح الذي استطاع أن يشتريه منليك في المدة الأخيرة علمنا أن لدى الأحباش عدد كبير من البنادق الصالحة للاستعمال
ومن عادة النساء الحبشيات أن يرافقن الجيش فيحملن مواد الإعاشة والماء لرجالهن ويهيئن الطعام في المعسكر ويداوين الجرحى ويشجعن الجنود على القتال
أسلوب التعبئة عند الأحباش
يمتاز الأحباش بالهجوم السريع وبالشدة. ويحسن المشاة الرمي فلا يطلقون النار إلا من مسافات قريبة حرصا على ذخيرتهم وعندما يقتربون من أعدائهم يحملون عليهم صارخين فيستعملوا سيوفهم العريضة في الحملة وجها لوجه، وبرغم وعورة الأرض يحسن الأحباش الركوب. وإذا ما وقع في أيديهم بغل أو جواد ينقلب المشاة حالا إلى خيالة، ويسير المشاة بسرعة ويستخدم الأحباش في الأغلب الخيالة في المجنبة، وذلك للالتفاف حول العدو وقطع(126/41)
خط الاتصال عليه وإذا ما انتصروا عليه قضوا عليه القضاء المبرم بقتل رجاله جميعا. أما في الدفاع فيحسن الأحباش الاستفادة من الأرض ويعمدون إلى الكمون والمباغتة بنجاح
الجيش الطلياني
يتألف الجيش الطلياني من القوات الطليانية والأهلية المرابطة في مستعمرة إريترية والقوات التي يمكن جلبها من إيطاليا
واستخدم الطليان في بادئ الأمر السودانيين والصوماليين وبقايا الجنود المصريين في المستعمرة بعد أن جعلوا نواة القوة من الطليان
وكانت القوة بعد الاحتلال بثلاث سنوات مؤلفة من ألف جندي، وفي سنة 1894 نسق الطليان جيش المستعمرات بتأليف من وحدات طليانية ووحدات أهلية بقيادة الضباط وبعض ضباط الصف الطليان
وكانت القوة الطليانية في بادئ الأمر مؤلفة من فوج مشاة وفصيل مدفعية. أما القوات الأهلية المختلطة فكانت مؤلفة من بطارية وفصيل هندسة ووحدة درك وجنود نقلية
(يتبع)
طه الهاشمي(126/42)
المشكلة. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
دخل الشاب مستأذنا؛ فخلع طربوشه، وألقى عصاه، ثم جلس مبهوراًتتتابع أنفاسه، ويزدحم الكلام على شفتيه، لا يكاد يبين معنى من معنى، أو يستقر خاطره على شيء؛ فما استبنت إلا قوله يختتم الحديث بكلمات متقطعة منهوكة: (نعم، وقعت المشكلة! وقعت المشكلة! فأين أجد الخلاص؟)، وكنت وقفت عند قول أستاذنا الرافعي في مقاله بمجلة (الرسالة الغراء) (ووقعت المشكلة. . .) فعرفت ما يعني صاحبي، وهو كان صاحب هذا الحديث، ومحور رحاه، على أن الرحى لم تطحن إلا قلبه هو، وكان قد كتب إلى أستاذنا يطلب الخلاص، فأين رأى الخلاص من نصح طبيبه. . ما أمر الدواء لو يجدي، وما أقسى الطبيب. .! وقلت في نفسي: (وا أسفاه لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت، وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ، فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان؟)
ثم استوى الشاب في مجلسه وقد اطمأن قليلا وسرى عنه بعض ما كان فيه من اضطراب وقلق، ثم قال: (أترى ما فعل بي أستاذنا؟ لقد كنت - بادئ الرأي - في عينه مهذبا، متعلما. ذا رأي وبصر؛ فما هي إلا دورة الكلام فإذا أنا ساقط، مرذول، ضعيف الرأي! أفترى على الشاب من حرج أن يحلق في سمائه، يفتش عن قلبه الطائر حتى يرى ضالته. .؟ والطائر الغريد - يا صديقي - ينقب عن أنثاه التي تساكنه عشه، وترعى أفراخه. أفيكون لأبيه أن ينتقي له أنثاه من بين عصافير الغاب، أم تراه هو. .! أو تحسبها هي تستقر إليه إذا لم تر في ظل جناحه الرأفة والحنان والحب! أرأيت يا صديقي؟ أرأيت هذا الطير، يطير عن أنثاه إلى غيرها، وهو نفسه الذي تعلقها، وفتنه ما فيها من أنوثة وجمال؛ وهو نفسه الذي اختارها لتشاركه حياة الطير، وزقها وزقته، وبادلها وبادلته الحب والحنان؛ أم كان ينتقص من حريته، ويسلب رأيه لو كان تعلم. . .؟
إن الذي تعلم منا، قد تعلم ليمسك بمفتاح القيد الذي ضمت به إحدى رجليه إلى الأخرى، وشدت إحدى يديه إلى الثانية، وماذا يكون وراء العلم إن لم يكن هذا؟. وإذا كان الرجل يقول: (هذا أبي، وتلك أمي، وهؤلاء أهلي) لينتسب إليهم، أفيخرج عن أهله إن هو قال:(126/43)
(وهذه زوجتي؟) وإذا كنت رجلا تنفذ إليه المرأة بين الشيطان والحيوان منه، ويصده عنها الرجل الذي في عقله، أفكنت غير الرجل الذي يريد أن يتمم القصة التي أتمها الله لآدم بحواء؟ وهل قال الله لآدم: (هذه متسماة عليك؟) أم قال لملك الحب: (ضع سحرك، وابذر لغرسك؟) فهم آدم ليعانق حواء، وهمت هي لتعانقه، فبدت الطبيعة أجمل ما تكون في عين رجل وامرأة، ورأى بعين الحب التي تشع نظراتها من القلب، وهو كان يرى بعين الجسد فما وراء نظرته معنى ولا عاطفة. ثم خلق من حبهما شاعرا، وأديبا، وفيلسوفا، وعبقريا و. . . وعاشقا وعاشقة
قلت: وي! كأنك طرت من الدنيا فلم تهبط إلا في الفردوس؛ كأنك لا ترى أنك في حجرة إن لم تكن ضيقة فهي ليست بالواسعة!
واندفع الشاب في خياله، وكأنه أراد أن يجمع إلى كتبه التي يطالعها؛ ويرى الجمال في صفحاتها، صفحة أخرى من جمال الطبيعة، وثالثة من جمال المرأة؛ وظن الجمال في عقله عند الكتاب، وفي نظرة تحت ظل شجرة وارفة على ضفاف الوادي، في قلبه عند امرأة جميلة يميل إليها ويحبها ويرافقها إلى حيث يشبه الطائر الذي تحدث عنه؛ وفي أذنه عند زقزقة العصافير، وفي حديث هذه الفتاة التي يزعم عندها الجمال والرقة والعقل؛ وفي شمه عند نسيم الصباح وشذى هذه المحبوبة التي عرفها وهيمها وهيمته، وخيل إلي أن تعاويذها قد فعلت فيه، وأن قارها قد نالت منه، وأنه قد أسلس لها وانقاد، فقلت: أما أنت منها فكالذي نوم فهو يسير على غير إرادته، أو سحر فهو ينظر بغير عينيه، أو التاث فهو يمشي في غير طريقه؛ وأن كان أستاذنا قد قال: فما يملك أن يرفع السحر عنك، ولكن في كلماته سحرا من نوع آخر. . .
قال: والذي يذهب بعقلي أن يقول الناس: إنك مسحور أو بك لوثة؛ وقد تعلمت - فيما تعلمت من حياتي - أن أفكر بعقل الفيلسوف، وأن أطير في سماء الخيال إلى حيث أقع؛ ولئن كان الخيال قد أضر بي قليلا، إنه لقد شب معي مقدار ما شب عقلي معي، فكان عقلي وخيالي، ثم كانت حياتي وكلها دراسة عميقة فلسفية - فحجب عقلي خيالي حينا، ثم عاد خيالي للظهور مع هذه، ولكنه لم يحجب عقلي، وكانت هي عقلا إلى عقلي، وليست خيالا إلى خيالي؛ فكان عقلي أولاً ثم خيالي الصغير، وكانت تقول: (أنا لك بعد عملك ومستقبلك،(126/44)
ولست لك إلا أن تكون رجلا فذا) فتدفعني بكلماتها وقلبها وعقلها إلى المثل الأعلى. فيا ضيعة الأمل إن خاب هذا المثل، ورددت إلى منزلي لأرى فيه مصيبتي!! ويا خيبة الرجاء إن صرت كذلك الحداد أو النجار أو الحوذي، أو. . . أو غيرهم ممن لا يرون في الحياة إلا أنها اللقمة والثوب والمأوى، ثم. . . ثم ذلك الضجيج البيتي الذي يصبح فيه هو وزوجته ويمسي، والذي يشب عليه أبناؤهما فيأخذون من سوء الخلق، وضعة الأخلاق، وسفالة الطبع، والشقاق، والتنابذ، مما رأوا عليه أبويهم
إن أستاذنا ليقول: إنها فتاة الشعر والخيال، وما هي كذلك، وما قابلتها مرة، أو حاولت ذلك إلا بعد أن خلع عني خيالي، لأخاطبها بلسان الفيلسوف، وعقل الحكيم، وكم أردت أن أقول لها: (أي فتاتي. . . . . .) لأندفع في غزل رقيق، فكانت تنظر إلي بعين تقول منها: (ليست هذه لغتنا. . .) فأرتد لأقول: (ولقد قرأت. . . . . .) ثم أخلو لنفسي لأشبع رغبتي في الحديث الآخر. . . بيني وبين نفسي. . .!
قلت: أفترى أن الفيلسوفة العالمة تستطيع أن تكون زوجا وربة دار، وأن تكون أما ومديرة بيت؟ وهل تراها تنشئ لك الحياة التي قدرتها في خيالك؟ إن الحياة - يا صديقي - شيء غير هذا كله، وإنك لمن بيت فيه الدين والاحتشام والشهامة؛ أفليس من ذلك كله أن تمسك عليك زوجك التي اختار أبوك، وأن تمنحها من نفسك ما يمنح الزوج؟
قال: إنك تنحو منحى أستاذك. أفتريد أن تضيف إلى همومي هماً آخر، وأنا جئتك أستعينك على همي. . .! لقد كان أستاذك في مقاله كالذي ينزع سكينا هو أغمدها في صدري ليداوي جرحا هو الذي بلغ به هذا العمق العميق، حتى إذا ما التأم أو كاد، عاد فنكأه، ثم عاد ثالثة ليداويه. . .! وصاحبتي التي اصطلحتما عليها لم تكن مني إلا بمنزلة المنظار من عين الأعشى ينظر من خلاله إلى هذا العالم فيرى ما يراه ذو العين الصحيحة؛ ولم تكن من قلبي إلا بمنزلة الاطمئنان من قلب مضطرب، ولم تكن من عقلي إلا بمنزلة الطبيعة تفتح فيه طرقا معبدة؛ ولم تكن من حياتي إلا بمنزلة الصديق الوفي. ولعلك تذكر يوم أن كتبت إليك وكنت بعيدا: (لقد أبللت من مرضي. . .) كان أخي في منأى عني، ووقفت زوجتي جوار سريري، لا تعرف كيف تصب الدواء في فنجانه، ولا متى يكون. وهفت نفسي إلى التي أحبها حين خيل إلي أني أموت فكتبت إليها وألححت؛ فزارتني على استحياء، ثم ألححت(126/45)
فوقفت مني موقف الطبيب من مريضه. . . ثم كتبت إلى أهلي تقول: (إن أبنكم يحتاج إلى من يقوم عليه. . .) كتبت ذلك حين رأت أن في زيارتها شيئا، ثم. . . ثم لم تعد
ولم أبللت وخرجت للقائها قالت: لقد كنت قاسيا، وما استطعت أن أرفض حين رأيت الخطر. وما كان أجدر بي وبك ألا نقطع هذه المرحلة. يا لشقائي بك! ويا لشقاء زوجك بك! لقد أصبت قلبين بسهم.
وقالت لي وقلت لها، ثم افترقنا، وأردت أن أهب إلى التي في داري بعض نفسي فأشعرها بأننا أنثى ورجل؛ فارتد قلبي عنها، ثم أرغمته فارتد أخرى، وأظلم منزلي من بهجة العزوبة ومن جمال الزواج معا. وأصبحت الدار التي جعلتها لسكناي هي جحيمي، ففررت إلى الشارع وإلى عملي؛ وشعرت الأخرى أنها لا تملك في هذا المنزل ما تملكه الزوجة ففرت إلى حجرتها وإلى خادمتها؛ واعتزلتها، واعتزلتني؛ ورجعنا إلى ما كان، حين كان بيننا (الباب المغلق) سنوات تسعا
قلت أن أولى الناس بإحسان المحسن، هو القريب، فالجار الجنب، فالصاحب بالجنب؛ وقد عرفتك محسنا، وهذه من ذوي قرابتك، وأقرب إليك من جارك؛ أفلا تكون محسنا معها؟
قال: لقد كنت أستطيعه لو وجدت النور. إنها لظلام وظلام وظلام. . . أما الظلام الأول ففي منزلي، وأما الظلام الثاني ففي قلبي، وأما الظلام الثالث ففي عقلي. . .!
وصمت وصمت؛ وكان كأنه يسترجع الذكرى، ذكرى أيام خلت، ذاق فيها حلاوة العيش، وسعادة الرضى، وكأن حياته بماضيها ومستقبلها قد جمعت في أشهر كانا فيها. . .
ثم التفت إلي كالمذعور وقال: أما أنني كنت معها غير الرجل الذي فيه الرجولة فقط، وأما أنها كانت معي غير الأنثى التي فيها الأنوثة فقط - فلا. إلا أنها كانت توحي إلي بكلام هو من لغة السماء، وتصب في حياة هي حياة أهل الخلد؛ وكنت إلى ذلك مطمئنا وقد اطمأنت هي أيضا إليه. وقنعت وقنعت. والناس يرون في الحب الفاحشة ولا يرون فيه المجد. والذي يعيش في حياته بلا حب كالشجرة العانس. ليس إلا هي في الحديقة، ولا سبيل إلى أن تجد الشجرة الأخرى. . . فلا هي بالذابلة الجافة، ولا هي بالمثمرة؛ ولكنها بارتفاعها وفقرها تقول: (أنا. . . أنا الموجود الذي لا وجود له.) فما أسرع ما تمتد إليها يد لتقتلعها، وحين ترى نفسها وقد نالتها فأس الحطاب تقول (. . أنا. . ويلي!. . أنا الضائعة). أن(126/46)
الذي لا يحب الجمال ولا يلتمسه في امرأة؛ ثم يفاخر غيره بذلك، إنه لا يقول للناس (أنا لا أحب ولا أقدر الحب.) بل يقول (أنا. . ما أنا في الأحياء!. . أنا. . أنا ميت الأحياء) والضعف الذي يراه في الذين عرفوا الحب وآمنوا به، إنما هو ضعف في إنسانيته هو لا في إنسانيتهم، والذي لا يدرك الجمال في المرأة لا يدركه في الطبيعة؛ لأن المرأة هي المنظار المكبر الذي ينظر الرجل من ورائه إلى ما حوله. وإلا فهو لا يرى موضعه من الأحياء. .)
أنا. . أنا إنسان ولا أستطيع أن أقول إن كل شيء جميل، وإن كان القبح جمال فقد يكون الجمال قبح؛ ولكن هذه التي يقولون عنها إنها جميلة. . . ثم أرغموني عليها وأرغموها على لا أرى في قبحها جمالا ولا في بؤس الحياة معها فنا. . .
قلت: ويك: لقد اصطرعت في نفسك عوامل رانت على بصرك وتركتك في بيداء من الوهم والخيال، كأنك تريد أن تخلع ثوبك؛ وقد يكون في الذي تخلعه جمال!
قال: أما أن أظل شريدا، فلا. وأما أن أحتمل مع عبئ عبئا آخر، فلا. وأما أنني أهتم بنفسي، فنعم. وماذا يضيرني ويضير هذا العالم بما فيه أهلي وأهلها إذا لبست فوقي ثوبي القديم ثوبا آخر، فيخفي عن عيني وعين الناس هذا القبيح الذي كنت ألبس؟
ثم تركني، وأنا أقول: وا أسفا لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك يتكلم بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان!
كامل محمود حبيب(126/47)
4 - عمرو بن العاص
بقلم حسين مؤنس
تتمة
وانتظمت جيوش معاوية واتخذت سبيلها إلى الشام لتثأر لعثمان الشهيد. . . ولم يعد في نفس أحد منهم شك في أن عليا هو قاتل عثمان. . . وأن حربه والانتقام منه فرض واجب على المسلم الصادق الأمين، ومضى معاوية وعمرو على حصانيهما يتحدثان في الطريق وإن معاوية ليحس خطر هذا الرجل الصامت إلى جانبه. . . إنه ليعجب من هذا العقل الكبير الذي لا يقصر عن غاية ولا يعجز عن أمر. . . وإنه ليخشاه ويرى سلطانه مهددا بوجوده. . . ولكنه يحتاج إليه ولا يكاد يستغني عنه في هذه الملحمة المقبلة. . . ولم يكن عمرو ليفكر في غير ذلك! ولكنه لم يكن منصرفا إليه هذا الانصراف كله. . . فهو يعرف حاجة معاوية إليه ولا يخشى منه أمرا. . . بل هو يفكر في أمر آخر، إنه ليفكر في علي وقوته. . . ويحسب حسابها ويسأل نفسه، ترى ماذا افعل لو أنتصر عليَّ علي وهو أمر معقول جدا. . . وإن عليا لفارس العرب وسيف الله البتار؛ وإنه لصاحب الأيام البيض الخوالد والغزوات الزهر الباقيات، وأن معه لنفراً من الفرسان الصناديد الذين يخشى منهم أي خشية. . . فيهم الأشتر النخمي وفيهم من أصحاب الرأي أبن عباس، وإن في هؤلاء لغناء ومنعة من الفشل. . . فما ترى أبن العاص فاعلا والأمر خطر والبلاء شديد؟
وانتهت الجيوش إلى ضفاف الفرات، واقتربت من طلائع علي وعسكرت في موضع سهل ومنعت الماء من علي. . . وباتت قوات علي عطشى حتى عيل صبرها فحملت على الشآميين فأجلتهم عن موضع الماء. . . وبات الشآميون عطشى فندبوا من يسأل عليا الماء فأجاب!. . . وتلك كانت علة الرجل التي انتهت به إلى الهزيمة في ذلك الميدان، فكيف يثبت الطيب للخبيث، والرقيق للقاسي، والأيمان للحيلة والدهاء! وزاد الأمر بلاء أن عمرا أدرك موضع الضعف من علي، وسنراه سباقا إلى الاستفادة من إيمان علي وشهامته. . . انظر إليه قبيل صفين. . . إنه يدور بعينيه في معسكر علي ليختار الدهاة والخبثاء ويتصل بهم ويشككهم في أمرهم. . . هذا الأشعث بن قيس يتفاهم مع عمرو، وهذا أبو موسى يبدأ يشك في حق علي. . . ثم تبدأ الدعاية القوية في جيش علي نفسه فتقعد همم الناس وتفتر(126/48)
عزماتهم. . . ويرون قتال أعداء علي تعبا لا طائل وراءه، وإن عليا ليلزم جنوده شدة لا يطيقونها، وإنه ليمنيهم بالجنة دون الغنائم والأسلاب؛ وهؤلاء جنود الشام عليهم النعمة ظاهرة والخير وافر: وذلك عدل معاوية، وكياسة عمرو! ثم انظر إلى ميدان صفين: كيف تهم طائفة من أصحاب علي فتكتسح العدو اكتساحا وتكاد تأتي على معاوية، وكيف تتقاعس طائفة أخرى تكاد تفر من الميدان، وكيف يلقى علي مقاومة من أنصاره ومعارضة من قواده. لقد تغيروا. لقد داخل نفوسهم الشك في عدالة قضيته؛ وإنهم ليرون ظل عثمان ملقى على خلافة على ثقيلا رهيبا. بلى وهذا الأشعث يقعد عن المضي، وهذا الأشتر يمضي، حتى تكاد الهزيمة تحيق بمعاوية. ويشتد الأمر بجند الشام وينظر عمرو حواليه، فإذا الأمر مقضي، وإذا الهزيمة قاضية، فينحى على معاوية ويلومه لوما شديدا. لقد بدا له أنه (خسر الصفقة) وأن السوق قد أتت بغير ما كان يقدر. إنه لثائر مغضب يلوم معاوية، فيشتد في لومه، وإنه ليعتبره مسئولا عن الخسارة التي حاقت به، وإنه ليصارحه برأيه وبمكنون سره ويقول له: (يا معاوية: أحرقت قلبي بغصصك؛ ما أرى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه! لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنا بذنك).
وإنه ليندم على ما أتى من انضمامه، وقد نسي قدر علي وقوة جنوده؛ ولآن اتضح له الحق فهو يلوم ويندم، ولكن ماذا يجدي، , عن الخطر ليقترب، وإن جنود علي لتكاد تمس جفاء معاوية؛ وإنه ليركب حصانه، ويهيب بعمرو: (الله. . . الله. . . في الحرمات والنساء والبنات: هلم مخبآتك يا أبن العاص فقد هلكنا)، ولكن كيف يسرع أبن العاص إلى مخبآته، ويطوي خيامه ويلوي هاربا، وما بعد؟. . . إنه لينظر بعيدا، وإنه ليرى عليا متعقبا إياهم حتى يقبض عليهم في عقر دارهم. . . كان هذا أمرا يخيف أبن العاص. . . فانظر كيف يستغيث وكيف يحتمي بكتاب الله. . . لقد عرف أن في بعض رجال علي ميلا إلى المهادنة وترك القتال. فرأى الاستفادة منهم. . . ثم أخذ يسأل نفسه قائلا: ترى أي شيء يجله هؤلاء القوم في هذه اللحظة التي تنكروا فيها لكل شيء؛ فتجيبه نفسه: كتاب الله. . . فيجيبها: فلنعتصم منهم بكتاب الله، ولنرفع المصاحف على الرماح؛ فيجب نفسه. . . بلى. . . هو الرأي الصواب. فترفع المصاحف على الأسنة ويراها أصحاب علي، وكأنما كانوا يترقبون فرصة يكفون فيها عن القتال فيرون في هذه حجة كافية، ويكفون ويحتجون بكتاب الله،(126/49)
ويدور علي بعينه في معسكر عدوه ليرى مطلع هذه البدعة فيجد انه عمرو. وهنا ينكشف لعينه سرها. . إنها خدعة. . إنها حياة، ولكن قومه لا يسمعون. وهاهي صفين تنفض، والأشتر يؤمر بالرجوع، وينجو معاوية، ويحول أبن العاص المعركة من حرب السيوف لحرب الفكر واللسان لكي يشل قوة علي، ولكي يكون هو في ميدانه الصالح له. ثم انظر إليه يتدخل حتى في اختيار علي لمندوبه. . . إنه ليتصل بالخونة من أنصار علي ويوعز إليهم فيرفضون عبد الله بن عباس لأنه فتى ذكي مخلص لقضية علي. ثم يرفضون الأشتر لأنه متفان في خدمة أبن أبي طالب، ولكنهم يؤيدون الأشعري لأن عمرا يعرف أن بينه وبين علي شيئا، وأن التفاهم قد يجدي معه كثيرا، وينفض الجمع ليلتقي في دومة الجندل
ترى فيما يفكر أبن العاص في هذه الفترة. . . في مصر وأمورها. . . لأنها ستعود إليه بعد قليل. . إنه يكيد لواليها الجديد قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فيشيع في حزب علي أن قيس قد أنضم لحزب معاوية، فيعزله علي ويضع مكانه الأشتر النخمي فيموت الأشتر مسموما عند (مسروره) بالقلزم في 5 رجب 37. . . أترى لعمرو يد في ذلك؟
ثم يكون التحكيم الذي لم يرو التاريخ مثله أبدا، والذي لم يوفق مؤرخ في روايته على أصله أبدا، والذي يرفض العقل أن يقبله في صورته التي وصلت إلينا. . . ولكننا نستطيع أن نفهم منه كيف كان الناس ينظرون إلى عمرو! وكيف اعتبرته الأجيال اشد الناس لؤما وأكثرهم خبثا. . . لقد وفق عمرو توفيقا عظيما. . . ولم يكن توفيقه راجعا إلى مهارته في الكيد وحدها، بل إلى وجود الضعاف والخونة في صفوف خصمه وحسن استفادته من هؤلاء. . . هذا هو يتدخل في انتخاب مندوب علي ويرضى أخيرا عن أبن موسى الأشعري لا لأنه أبله أو شيخ كما يزعم الرواة، بل لأنه غير راض الرضى كله عن علي. . . ولأنه قابل للفتنة مستعد للمساومة؛ وهذا عمرو يخلو به ساعات طوالا يتحدث إليه في الأمر: ويتفنن في إقناعه. . . وينفذ إليه من شتى السبل حتى يوفق إلى تشكيك الرجل في عدالة قضية علي، بل إلى اتهامه بمقتل عثمان. . . فإذا خلص من هذا فقد أفهمه أن لعثمان أولياء يطلبون ثأره من القاتلين. . . وأن الأولياء هم معاوية وعامة آل أمية. . . فإذا خلص إلى هذا فقد أقنع خصمه بعدالة ثورة معاوية. . . ثم يسأله: فماذا يا ترى؟. . فيصمت الشيخ فيقول عمرو: أننا نرضى بتنازل علي ثمنا لدم عثمان؛ فلا يرى أبو موسى(126/50)
حرجا في ذلك. . . ويطرب لذلك عمرو، فقد خسر منافسه الخلافة ولم يخسر هو شيئا. . . وهو إنما يرجو أن يخلع الخلافة عن علي ليصير هو ومعاوية صنوين. . . ثم إنه يعرف أن أنصار علي ملتفون حوله لأنه خليفة، فإذا زالت عنه هذه الخلافة تفرقوا. . . وقد أفلح. . . بل أن أنصار علي ليتفرقون قبل خلعه في التحكيم. . . ويصبح معسكره فوضى. . . وينفض الخوارج ويتفرقون ويحاربهم في النهروان. . . كل هذا يرضي عمرا لآن فيه أضعافاً للخصم، فإذا تم الأمر ونزعت الخلافة لم يصبح لعلي بعد ذلك شيء ويذهب أمره هباء
ثم يعلن الحكمان ما وصلا إليه: لقد رأينا خلع علي. . . لقد ثارت الفتنة واضطرب الأمر وأسقط في يد علي وأنصاره. . . وقد كسب عمرو كل شيء وأصبح علي عاجزا عن استنهاض همم جنوده لحرب معاوية. . . وقد قوى أنصار هذا الأخير فخافهم الناس واتحد جند معاوية وقوى أمرهم واشتد ساعده بهم، واستطاع أن يفصل عن علي بلاده جزءا جزءا حتى إذا قتل سنة 40هـ لم يكن قد بقي في يده من الأمر شيء
هكذا فعل عمرو: فرق الصفوف وأشاع الفتنة وأقام هذه الفوضى التي لم يخلص الإسلام منها إلى أواخر أيامه. . . لكي يصل إلى شيء واحد. . مصر. . لقد باع الحق وارتهن الفضيلة، وساوم على طمأنينة الدولة الإسلامية ليكسب شيئا واحدا، هو مصر بخيرها وبركاتها
وانظر إليه لقد أسرع إلى مصر ستة آلاف مقاتل، يقطع بهم سيناء على عجل سنة 38هـ، فإذا أشرف عليها فقد أرسل يهدد محمد بن أبي بكر الصديق ليخلي بينه وبين ما يريد. ولكن محمدا رفض، ولم يدر أن غريمه قد باع الدنيا والآخرة بهذا الذي يعارضه فيه؛ والتقى الجمعان، وفر محمد وتبعه معاوية بن حديج وقتله في المنشأة
ثم انظر صراعه مع معاوية على مصر. إن الأول ليستكثر عليه هذا البلد الغني الطيب، وإنه ليراه غير أهل لتلك النعمة الوارفة. فإنه لجالس ذات يوم في نفر من صحبه وفيهم عمرو فيقول:
- ما أعجب الأشياء؟ فيجيب يزيد أبنه:
- أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض. . . وقال آخر:(126/51)
- حظ يناله جاهل، وحرمان يناله عاقل. وقال عمرو:
أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق. فيسرع معاوية ويقول:
- بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحق إذا كان لا يخاف
بلى فهو أعجب الأشياء. . . وهل يستحق عمرو مصر وهولا يخاف (الله)
ذلك رأي معاوية في عمرو. . . ثم انظر إلى معاوية يحترس من عمرو في كتاب توليته فيكتب: (على ألا ينقض شرط طاعة. . .) فيمسك عمرو بالقلم ويبدلها: (على ألا تنقض طاعة شرطا)
وعاش عمرو بعد ذلك ما شاء الله له أن يعيش، وأنجاه الله من يد قاتله لكي ينعم قليلا بالشجرة الخضراء التي خسر في سبيلها كل شيء. وتردد بين الشام كثيرا، ليجلس إلى معاوية. . ثم ليخلو إلى أولاده، وكانت مصر قد صارت له طعمة، فاطمأن باله وترك الكفاح والجلاد، ولكنه لم ينس الكسب والخسارة إلى آخر أيامه؛ فإنه لجالس مع معاوية يوما إذ سأله هذا ما بقي منك يا عمرو؟ فيجيب. مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته. . .)
أجل لازال في سن السبعين يفكر في غرس المال والإصابة من ثمرته وغلته؛ وهكذا ينبغي أن يفهمه الناس، فأن اجتهاده في السياسة ونبوغه في الحرب كان مصدرهما شيئا واحدا: الرغبة في الكسب والربح. . وقد انتهت جهوده إلى شيء واحد، لا هو الملك ولا هو الثواب. . بل ليست هي الآخرة نفسها وإنما هي مصر. . أغنى ولايات الدولة وأوفرها مالا. وقد مات وخلف ألف ألف درهم كما يقول المسعودي ودورا عديدة كان يمتلكها في مصر والشام.
(تم البحث)
حسين مؤنس(126/52)
الصحراء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أرُحبُكِ أم صمتٌ الأرض على غالب ... غدا مُصحِرٌ من روعه وهو هائب
كصمت الخشوع المطرقين تروعهم ... مقابرُ صرعى للردى وخرائب
وصمتٍ لِذِي المحراب في بيت ربه ... يقاربه في صمته ويخاطب
توَقَّعَ من قد غاله الصمت هاتفاً ... يكلمه من فرط ما الصمت راعب
كمخترق الظلماء لاح لعينه ... إذا جال فيها اللحظُ ما هو غائب
حَرّي أن يناجي النفس فيك أخو الحجا ... ويخشع صمتاً راكب فيك ذاهب
ويخشع من رُحبٍ كأن لا مدى له ... حكى أبداً ما حَدَّهُ الدهرَ حاسب
ويخشع أَن لا شيَء إلا مجانسٌ ... فلم يُلفَ إلا مُشبِهٌ أو مناسب
وكم راع رأى العين إِن كان لا ُيرَى ... سوى الشَّبهِ يتلوه الشبيه المصاقب
حكى خدعة الآمال آلك رافعاً ... على الأُفق بُشرّى كذبتها العواقب
سراب الأماني في الحياة خديعةٌ ... وقد تُهلِكُ المرَء المنى والرغائب
ومن ضل في خرق من العيش لبه ... كمن خذلته في الفيافي المذاهب
تَفَتَّحُ أبواب الجحيم عن اللظى ... كأن شواظ القيظ يسفيه دائب
سموم كَدُفَّاعِ البراكين أو لظى ال - حرائق يصلاه الحصا والنجائب
ويصلاه ركبٌ خال دنيا تقلَّصت ... عن النار لو يسعى جحيمٌ مقارب
ويَسوَدُّ وجه الأفق حتى كأنما ... ذُكاءُ دجت أو يكسف الشَّمسَ حاجب
وكم حار ركبٌ من فجاءة صحوة ... كما راعَ مرأى الحسن والعُرى سالب
إذا الجو كالِبلَّورِ أُخِلصَ لونه ... وصب عليه من سنا الشمس ساكب
كذلك غب الغيث ريعان بهجة ... كأن طلاءً قطره وهو صائب
كأن ضياءً في سواد سَحَابةٍ ... تكاثر حتى ثَقَّبَ الدجنَ ثاقب
تَفَجُّرَ ينبوع من النور غامر ... كما غمر الأرضَ المياه السوارب
ضياءٌ ترى المألوفَ من كل منظرٍ ... به فإذا المألوف منه الغرائب
وما فرحة الولهان عاد حبيبه ... بأصدق منها فرحةً وهو آيب(126/53)
نهارك أم ليل الدارىِّ نائل ... من اللب نيلاً لم تنله الكواعب
أديم سماءٍ يُبْرِزُ الشهبَ صَفْوُه ... فأحسبها تدنو به وتقارب
أما يخشع السُّمَّار من كثرة الدنى ... ويذهل من رحب الفضاء المراقب
يبيت يناجي النجم والنجم سامر ... فتُفْضي إليه بالحِوارِ الكواكب
كأن لحاظ النجم من لحظ عاقل ... وأن رقيباً في السماء يراقب
يسائله عن عيشه أين سره ... كأن وراء النجم ما هو طالب
إذا خط فيك الدهر سطراً محوته ... كذا اليم، لا يقوى على اليم كاتب
وتُرْقل فيك اليعملات وإنما ... سفائن لج البيد تلك الركائب
وللبحر أمواج وللبيد مثلها ... إذا هب إعصارٌ على الركب كارب
فيغرق في لجٍ من الترب حائن ... كما احتشدت فوق السفين السوارب
ورحبك رُحْبُ البحر يطويك هائب=ويركبه ذو مطلب وهو هائب
بافقكما للشهب رهب وروعة ... جلالكما شِبْهٌ وشبهٌ مقارب
وذي دولة في اليم قد دال أمره ... وآخر أردته لديك المطالب
ويصغر عيش المرء في اليم مثلما ... تضاءل فيك عيشه والرغائب
لِمَحْلِكِ يلقى مكرم الضيف ضيفه ... بخير، وأما خصمه فهو سالب
وتشحذه الأخطار حتى كأنما ... بنوك سيوف ينتضيها المحارب
لقد صقلتها نار قَيْنٍ وصيقل ... كما صقلتهم في الحياة النوائب
تَنَسَّكْتِ في بُرْدِ التقشف لم يَلِنْ ... معاشٌ ولا ترجى لديك الأطايب
عبد الرحمن شكري(126/54)
لُبْنَان
(تهدى إلى أخي الأستاذ علي طنطاوي)
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
غاَبَ لُبْنَانُ في رَقيقٍ من الغَي ... مِ كما غَابَ في مَدَى اليَمّ زَوْرَقْ
ضَفَرَ الثَّلْجَ والسَّحَائِبَ تَاجاً ... وَاخْتَفَى في الضَّباَبِ ثُمَّ تَعَلَّقْ
الهِضَابُ الشمُّ اكتَسَتْ وَرَقَ الخُلْ ... د وَطَافَ الرَّبيعُ فيها وَأحْدَقْ
والرَّوَابي تَوَسَّدَتْ رَاحة السُّحْ ... بِ ونَامَتْ على وِشَاحٍ مُرَقَّق
والذُّرَى البيِضُ في العَلاءِ نُسُورٌ ... حَوَّمتَ تَكشِف الخَفيَُّ المُغَلَّقْ
نَشَرَت في الفَضاءِ أَجنُحَها الزُّه ... رَ فأَسنى بها الوجودُ وأشرَقْ
والقُرَى غلغلَتْ بأَخبيِةِ الغيْ ... بِ وَضاعت بين الغَمامِ المنمَّقْ
غَرَقٌ ملؤُهُ فُتُونٌ وسَحرٌ ... ونعيمٌ ضافٍ وحُلمٌ مزوَّقْ
والينابيعُ ضاحكاتٌ من الزَّهْ ... وِ ترامى فيها السَّنا وتأَلقْ
سردتْ قِصَّةً من النَّغمِ الحُلْ ... وِ ومنْ سجعةِ الحَمامِ المُطوقْ
ضَجَّتِ الرَّبوةُ الأنِيسةُ بالشَّدْ ... وِ وغنَّى السفحُ الحَبِيبُ وزقزَقْ
وتَمَشَّتْ بالغابِ موجةُ أُنَسٍ ... فَشَدا الأَرزُ والصَنوبرُ صفقْ
وتَرَاَءى البحرُ البَعيدُ كَحُلمٍ ... مُبهمٍ راجِفِ الخيالِ مُلفَّقْ
سَرَقَتهُ في السماء الأُفقِ النَّا ... ئي فمن أَبصرَ الخضمَّاتِ تُسْرَقْ
حَبّذا في رِباعِ (زَحْلَةَ) وادٍ ... برعمَ الحبُّ في حِماهُ وأورَقْ
وبِأفْياَئِهِ اللِّطافِ الحَوَاني ... سَرَبَ النَّهرُ كاللَّجينِ المُطرَّقْ
وترامى الصَّفصافُ في مائِهِ الرَّق ... راقِ يَسجُوا على الضَّفافِ ويغرَقْ
وعلى السّفحِ تَسترِيحُ الدَّوالي ... في نِظامٍ حلوٍ ونهجٍ مُنسَّقْ
والعناقيدُ بينهُنَّ نَشَاوى ... ثَمِلاتٌ مِنَ الرَّحيقِِ المُعتَّقْ
رَنَّتِ الخَمرُ في ظُرُوفٍ من النُّو ... رِ وَكادَ الشذا يُشمُّ وينشَقْ
ذاكَ (صِنِّينُ) فَيلَقٌ في السموَا ... تِ وفي الأرضِ جاثمٌ منه فيلقْ
هوَ جارُ النُّسورِ حَطَّ على الغي ... مِ وَأَسرى إلى العَلاءِ وحَلقْ(126/55)
والسُّهولُ الفِساحُ دُنيا من الإلْ ... هامِ تَندَى مِنَ الطُيوبِ وتعبَقْ
والمساءُ السَّاجي البهيُّ رُسُومٌ ... وَرُؤىٌ كلها تحبَّ وتُعشَقْ
والقطيعُ المِمرَاحُ غَنَّاهُ راعيِ ... هِ فأصغى مستمهِلاً وتشوَّقْ
هَدهَدَتهُ الرَّبابُ فَانسَابَ كالنْه ... رِ وأهوى من الرُّبى يتَدَفَّقْ
ملأَ الكونَ بالثُّغاءِ فما تَس ... مَعُ إلاَّ صدى يطِنُّ وَيزعَقْ
عَادَ واللَّيلُ مُتعَبٌ هبطَا لأَر ... ضَ وأَغيا على الجِبَالِ وَأَطبَقْ
إِيهِ لُبنَانُ يا نَشيدَ الأَناشي ... دِ ويا صُورَةَ النّعِيمِ المُحَقّقْ
عَالَمٌ أَنتَ للهَوَى والأَماني ... يُشتَهَى السَّحرُ في حِماكَ فيُخلَقْ
دَرَجَ الحُبُّ في ثَرَاكَ نَقِيَّا ... ولهُ فتنةٌ تَرُوعُ وَرَونقْ
وبِأعطافِكَ الرَّقاقِ الحَوَاشِي ... وَقفَ الحُسنُ خاشِعا ًثُمَّ أَطرقْ
. . . وتطَلعتُ مِنْ مشارفِ لُبْناَ ... نَ أُناجي منْ صفحةِ الغَيْبِ جلّقْ
تلكَ مأْوَى رَغَادَتِي وَخَيالِي ... وبها قَلْبَي اللهيفُ مُعَلقْ
أنور العطار(126/56)
جنازة السلام
بمناسبة الحرب بين إيطاليا والحبشة
للأستاذ محمود غنيم
أرأيت إذ وُلِدَ السلامْ ... فنَعَوْهُ من قبل الفطامْ
وضعته (أُورُبَّا) لنا ... يا ليت (أوربا) عُقَام
طفلٌ بريءٌ ذاق مِنْ ... يد أمهََّ كأسَ الحِمام
نحروا الغلامَ ضحيةً ... في عيد ميلاد الغلام
لهفي عليه ممزَّقَ الْ ... أوصال مُنْتَثِرَ العظام
عصفت به ريحُ الوغى ... عصفاً وغطّاه القتام
فمضى شهيداً ما له ... قبرٌ يُزارّ ولا مقام
ليس السلامُ بسائد ... مادام في الدنيا حُطام
ما الناسُ إلا الناسُ في ... عصر الضياء أو الظلام
سيَّان مَنْ سكن القصو ... رَ الشمَّ أو سكن الخيام
بِسوَى الدمّ المسفوح لا ... يُرْوَى لظامئهم أوام
وأحبُّ ما وقعت علي ... هـ عيونُهم جُثَثٌ وهام
وهو ابنُ آدمَ ينتشي ... من حُمْرَة الدم والمدام
الذئب كالإنسان لو ... يتعلم الذئبُ النظام
فكلاهما وحشٌ حد ... يد النّاب يلتمس الطعام
سِيَّان عند الفتكِ نا ... بُ الليث أو حدُّ الحسام
قالوا السلامُ فقلت ما ... أقوى اللسانَ على الكلام
وتعاهدوا فسألتُهم ... ما حَدُّ مَنْ خَفَرَ الذمام
أبغصن زيتون يُجا ... زى أم بصارم الانتقام
قالوا السلامُ فقلتُ كم=قد حارب الرُّسُلُ الكرام
لا (الفاتيكانُ) من الحرو ... بِ نجا ولا البيتُ الحرام
قد كانت الخلفاء تُص ... لَبُ بين زمزمَ وَالمقام(126/57)
كلٌّ يُشيرُ إلى السلا ... مِ بعين ذئبٍ لا تنام
وأمامهُ أُسطولهُ ... ووراَءه الجيشُ اللُّهام
فَقَدَ المهنّدُ عرشَه ... والمُلكُ ليس له دوام
نارٌ وغازٌ فاتكٌ ... بدلَ الأَسنة والسَهام
شبح المنَّية جاثمٌ ... فوقَ المياهِ أو الرغام
أو في الفضاء مرفرفٌ ... بجناحه مثلَ الحمام
جبَّارَ رُوماَ سوف تَلْ ... بَسُ تاج قَيْصَرَ في المنام
أتريدُ ويحك أن تُؤَ ... خِّر أهْلَ جيلِك ألفَ عام
ولّى زمانُ القيصر ... يَّةِ والقياصرةِ العِظام
أوَ ما رأيتَ الحكم با ... ت الآن في أيدي الطّغام
ولقد مشَيتَ القهقَرى ... ومشى الزمانُ إلى الأمام
أإذا صفا جوُّ السلا ... مِ زَفَرْتَ فانتشر الغمام
رُحماك هل تشكو إلي ... ك الأرضُ من هول الزحام
لم تَخْبُ نارُ الفتنة ال ... كبرى وجُرْحُ الكون دام
ولقد تحديْتَ الأنا ... مَ فكنت سخريةَ الأنام
أسرفتَ ويحك فاتئد ... ماذا جنى أبناءُ حام
لا تحسبَنَّ مرابضَ الْ ... آسادِ سهلَةَ الاقتحام
هذي معاقلُهم فمن ... لك بالبواذخ من شمام
هاهم خصومُك حول شَ ... طَّ المَنْشِ إن شئتَ الخصام
القابضون على جني_فَ ورهطهِا مثلَ السوام
قالوا الحصارُ فأذعنت ... (والقول ما قالت حذام)
أخذوا على روما المسا ... لكَ فهْي في ضيق المسام
عَجَبي على باغٍ يقو ... لُ لمن بغى: هذا حرام
استَعْمَرُوا فتلثّموا ... وخرجتَ مكشوفَ اللثام
رمتَ التّنَمُّرَ مثلَهم ... فظهرت في ريش النّعام(126/58)
شررٌ بروما طار يو ... شِكُ أَن يكون له ضِرام
الشعبُ هُدَِّدَ بالطّوى ... والجيشُ بالموت الزؤام
يتساءل الأقوامُ هل ... (نيرونُ) بعد الموت قام
زعزعتَ أركان السلا ... مِ فَذُقْ مرارة الانهزام
كوم حماده
محمود غنيم(126/59)
القصص
أقصوصة عراقية:
أبو جاسم
للأستاذ محمود. ا. السيد
- 1 -
حدثني صديقي إبراهيم والذكرى تؤلمه، قال:
(كنت في المدرسة الثانوية - السلطانية العثمانية - قبل احتلال الجيش البريطاني بغداد بسنة أو أقل، أصاحب طالبا من ذوي الذكاء الواعد والخلق الجميل. كنت في السادسة عشرة من العمر. وكان هذا الصديق - وأسمه علي بن حسن - خير عون لي في المدرسة. وكنت أعجب بذكائه. . وكان طليقا جريئا يسمو على أقرانه بكثير من المزايا والصفات
وكان إلى جانبنا طالب آخر يكمل لنا (ثالوثا) مقدسا بالإخاء والود أسمه عبد العزيز. وهو من أبناء الطبقة العاملة. وكان أكبرنا سنا وأقلنا تهذيبا، وأجرانا قلبا، يقلدني وعليا في الاعتزاز برجال التاريخ الإسلامي العربي: أجدادنا الأولين. وذلكم كان ديدننا في ذلك العهد: فجر الحرب العالمية الاستعمارية الكبرى وضحاها
وكان أكثرنا حبا لبغدادنا وإيغالا فيها. . . يعاشر خارج المدرسة فتية من أبناء طبقته المكدودة فيشاركهم فيما يعتقدون من باطل العقائد والخرافات. وكان يرى - فيما يرى من غريب الآراء - أن القبعة العسكرية (الأنورية) التي ابتدعتها الحكومة الاتحادية إبان الحرب لرجالها ولطلبة المدارس، قبعة إفرنجية، حرام على المسلمين لبسها، أن رباط العنق رمز للصليب. ولم يلبس القبعة حتى أخر يوم من أيامه في المدرسة، فكان الطالب الوحيد البارز من بين الطلبة بطربوشه الأحمر القديم. أما أنا وعلي فقد لبسنا القبعة تلك لأننا لم نستطيع أن نشذ عن الجماعة شذوذه.
وكان هذا الصديق الجريء، يقضي أغلب أوقاته في منازعة الطلبة وتحديهم، فكنت أنصحه راجيا منه أن ينصرف عنهم وعن منازعاتهم إلى التوفر على دروسه فما كان النصح يجدي
وكان يؤسفني أنه عرف آخر الأمر بأنه شكس سيئ الخلق، وإن كان في الحقيقة طيب(126/60)
السريرة خيرا. ولعلهم كانوا يعيبون عليه كرهه للبس القبعة (الأنورية) لغير ما سبب معقول. وكانوا يتخذونه وطربوشه القديم الذي أوشك أن يبلى هزوا؛ وهذا ما كان يهيجه. ولم يزده عقاب المدرسة إياه على شغبه إلا جرأة واستمرارا في الشغب والنزاع والخروج على (النظام)
وكما كان يكره القبعة، كان يكره الحكومة - الاتحادية - أشد الكره، لأنها حين اضطرمت نار الحرب جندت أخاه الكبير وأرسلته مع من أرسلت من أبناء العراق إلى سوح الوغى في القوقاز، ففقدت بذلك أسرته قوامها وسبب حياتها، كان قائما مقام أبيه الشيخ الكبير الذي لا يستطيع عملا، وكان يحسب أنه لاحق به في العاجل القريب
وظاهر أن هذا المسلك الذي سلكه عبد العزيز يومئذ كان يجب أن يؤدي إلى الشر. وكان يجب أن يكون مصيره (الطرد) من المدرسة والحرمان من العلم. وكان متوقعا كذلك أن ينالني بعض الأذى من أجله، فقد كان المدرسون والطلبة - إلا القليل منهم - يناوئوننا معا ويكرهوننا ويعادوننا أشد عداء. . .
واشتدت الحرب في العراق. وطغى سيل الغزاة الفاتحين. غلب البريطانيون، وأصبحوا على أبواب بغداد، فتنكرت الأيام للناس، وجندت الحكومة طلبة الصفوف العالية، وأكبت على طلبة الصفوف التالية الأخرى تعلمهم كما تعلم الجند فنون الحرب والضرب وتقحمهم في أشق الرياضات العسكرية لتلحقهم بهم. وهنا كان صحبنا الطلبة جميعا - في مدرستنا - جبناء، يملأ قلوبهم الرعب والخوف
أما عبد العزيز فقد استيقظ في نفسه من جراء ذلك شعور بغض للمدرسة، بغض للخروج مع الطلبة - على ما كانوا يفعلون في كثير من الأحيان - إلى استقبال القواد وحضور الحفلات الحكومية، بغض لمدرس الرياضة الذي أرسل إلينا آنئذ من الجيش، وهو ضابط فظ بدين، ذو شاربين غليظين منتصبين كالصياصي. . . وكان يخشاه
وكان - من بعد - حين يخرج من بيته صبحا يتلكأ في الذهاب إلى المدرسة، ويحاول أن يتمارض لكي ينقطع عنها أياما قليلة أو كثيرة. كان يغادر البيت كل صبح، وكأنه - كما كان يقول لي - يساق إلى سجن لا إلى دار علم وعرفان
وجاءنا إذ ذاك مدير المدرسة جديد. وهو رجل عنيد، كان يحسبنا مجموع دمى من الشمع(126/61)
يسهل عليه إذابتها ثم صنعها ثانية على الغرار الذي يريد. وكان أول من لفت نظره إليه من الطلبة: عبد العزيز؛ فقد أعار سلوكه اهتمامه وعنايته، وراح يرهبه ويعالج تأديبه وتهذيبه بالعصا. وأذكر أن طالبا من أبناء الضباط الذين جاءوا بغداد في أواخر أيام الحرب من البلاد الشمالية، سفهه ذات يوم ثم عيره بالعامية والفقر، فقابله بالصفع والضرب الموجع المهين، فما كان نصيبه من المدير إلا الإهانة و (الطرد). وبذلك أسدل الستار على حياته المدرسية، وألجئ إلى التشرد والعطلة! وا أسفاه!!
ولقيته بعد ذلك فألفيته جزعا، وقص علي قصة النزاع بينه وبين ذلك الطالب - ولا أذكر أسمه الآن - قال:
(غادرت البيت صبحا وأنا كئيب محزون، لأن أمي التي لا تفتأ تذكر أخي الجندي ليلا ونهارا بالحسرات والدموع، وأبي المقبل على أخرته غير آسف على شيء في الدنيا، وهو يحبه حبا جما، لم يصل إليهما كتاب منه منذ شهر وبعض شهر. فأفرغ ذلك صبرهما بل أفقدهما الرشد. وإذ كنت أمشي في الشارع فاجأني خمسة من الشرط يعدون وراء رجل علمت من بعد أنه جندي هارب. وصرخ أحدهم قائلا: (خائن! قف!) ثم أطلقوا عليه الرصاص من بنادقهم فأردوه. وسقط تعبا جريحا يلهث وعيناه تنظران إلى السماء. ووقفت على مقربة منه أنظر إليه في لهفة وفرق؛ وهو ملقى وقد اصفر لونه وجللت وجهه سحابة من قتر الطريق، وتشنجت أعصابه من الخوف، وأقبل الشرط يتراطنون يريدون أن يحملوه. . . أعرضت عن هذا المشهد الذي آلمني أشد إيلام وانصرفت صامتا، ولحظت أن الشمس تملأ الأرجاء نورا، فعرفت أنني تأخرت عن موعد الدرس الأول. وكنت أمشي متباطئا ذاهلا، فما انتبهت إلا وأنا على باب غرفة صفي. . . طرقت الباب طرقا خفيفا مرة فمرتين وحاولت الدخول فجابهني المعلم ناهرا إياي بقوله: (أخرج، أخرج، اندفع يا حمار!) أو كنت حمارا فيإسطبل أبيه؟! وكنت حتى حين خروج الطلبة في الصف إثر الفراغ من الدرس ثائرا مهتاجا، فلقيني ذلك النذل فلاغاني فلكمته، وماذا كان يجب على أن أفعل؟ وسحقا للمدرسة بعد أن ينالني من هؤلاء فيها أذى)
وقال صديقي إبراهيم وقد حدثني بحديثه هذا بعد انتهاء الحرب ومرور سبعة أعوام على نهايتها:(126/62)
(ثم احتل البريطانيون بغداد، وفرقت صروف الزمن بيننا - بعد ذلك - إذ رحل بي أبي وأسرتنا كلها إلى الحلة، فأقمنا فيها قرابة سنين أربع، فلما عدنا إليها لم أسمع لصاحبي عبد العزيز ذكرا)
- 2 -
وكتبت هذا الحديث لطرافته عام 1929. ثم مضى على ذلك أعوام ثلاثة، فبدا لي يوماً أن أسأل إبراهيم!
(هلا بحثت في هذه المدة الطويلة الماضية عن رفيقك القديم؟ رفيق المدرسة وطريدها عبد العزيز؟)
فأجابني وهو شاعر بما يتضمنه سؤالي من ملامة:
(لقد بحثت عنه في الأيام الأخيرة، فبلغني من أنبائه، أنه كان هاجر قبل مدة غير محدودة بالضبط إلى البصرة، ليتكسب فيها ويعيش عاملا لدى إحدى الشركات الأجنبية، فأنه أضحى في عنفوان شبابه، وبلغ السن الذي يستقل فيها المرء بالكفاح والجهاد في سبيل الحياة، وإن أخاه الجندي المحارب لما يعد، وهلكت أمه ومات أبوه فقيرا معدما، لم يترك له إلا ديونا ودارا، بل كوخا باعه الدائنون؛ ولم يف ثمنه بعشر معشار تلك الديون. ولم يكن متعلما حرفة، ونسي ما تعلمه في المدرسة العثمانية من مبادئ العلوم. وكان يزاول بعض الأعمال الشاقة التافهة التي يزاولها العمال الذين من أدنى الدرجات؛ ولا يأخذون عليها أجرا يستحق ذكرا. هذا كل ما سمعته عنه. ولا يعلم أحد على التحقيق أذهب إلى البصرة أم إلى جهة أخرى)
قلت:
(أو لا ترى من واجب الوفاء إتمام البحث عنه لاستئناف الصلة به والوقوف بجانبه في معترك الحياة، في هذا المجتمع الذي طغت فيه المادية والأنانية والفردية، المجتمع الجائر القاسي الذي لا يرحم الفقير، وأن تنفعه وتعينه على اكتساب الرزق، فأنك موسر بعض اليسر.)
قال:
(وهل تحسب عبد العزيز المشاغب في المدرسة، الذي لم يعرف سوى عزة النفس والأباء(126/63)
في أيامه الماضية عدة وخلقا، والذي لم يستعن أحدا من صحبه يوما لو وجدته الآن لمد لي ولأمثالي يده في إبداء حاجة واستعانة مهما كان معسرا تنقض ظهره الشدة والفاقة؟ كلا. أنا لا أحسب ذلك؛ بل أحسب أن تلك الفترة من أيام مراهقته وفاتحة شبابه، كانت مقدمة وعنوانا لما كان مقبلا عليه من أيام شبابه ورجولته)
ثم سكت وسكت
وبعد شهرين أو ثلاثة أقبل علي يزورني في داري، وما عتم أن راح يحدثني عن رفيق صباه عبد العزيز الذي عثر به آخر الأمر فقال:
(ولقد وجدته آخر الأمر وصافحته. . . ولكن أين؟ احزر أين وجدته؟ في السجن! ولا تستغرب؛ فقد ذهبت يوم الجمعة - أمس - إلى هناك لأزور صديقي الصحافي عبد الصمد الذي سجن متهما بنشر ما لا تجيز الحكومة نشره، وإذ كنت أدخل الحجرة التي يسمح بمقابلة السجناء فيها ألفيتني أمامه وجها لوجه. وكان يكلم زائرا غريبا يرتدي بزة العامة، ربما كان صديقا له. ولم أعرفه إلا بعد تأمل فيه قليل، لأن سحنته قد غيرتها السنون؛ وحييته فحياني وبسم لي، ثم سألني (أو قد نسيتني يا إبراهيم يا حبيبي؟ يا رفيق الأيام الحلوة التي لن تعود! وهل نسيني علي كذلك؟ وكيف هو؟. . . الخ) ودمعت عيناه من شدة الفرح بلقياي، وكان طليقا جريئا، كما كان في المدرسة، في محادثته السجانين وصاحبي الصحافي عبد الصمد الذي لم يكن يعرفه من قبل، ورأيت أن لهجته في الكلام أصبحت عامية سوقية خالصة، تميزها التعابير والألفاظ التي تجري - عادة - على ألسنة هؤلاء الذين عرفوا بفعال (الشقاوة) - كما نسميها - التي تظهر فيها، في أغلب الأحيان، شجاعة نادرة في غيرهم و (أريحية) ونجدة وكرم على فقر، وجرأة في احترام الجرائم، وكراهية شديدة لكل من يمت إلى الأجنبي الغاصب بصلة باقية من عهد الاحتلال المظلم، على ما تعرف. ولا أدري كيف أدركت أنه محكوم عليه بعقاب السجن لإجرامه جريمة قد لا يفخر المرء بها عندنا، فلم أشأ أن أسأله عما أدى به إلى حاله تلك. ومن الغريب أنه لم يكن يرى في أمره غرابة؛ وكأنه كان معلوما عندي ما اجترم فلم يخبرني به؛ وسرعان ما راح يودعني، إذ كانت الفرصة المسموح بها لزيارة المسجونين ضيقة جدا، متمنيا أن يلاقيني عقب خروجه من السجن، و (أن يكون تحت النظر) على حد تعبيره الشعبي الرمزي(126/64)
الجميل، (فأنه لا يزال على وده القديم، وذلك الصاحب الذي لا ينسى الصحب على طول الزمان، ولا يرضى عن الوفاء بديلا). وترك المجلس لي ولصاحبي منصرفا عنا في لباقة وحسن أدب، كما ينصرف الواحد منا عن أثنين لديهما سر، ولم يكن لدينا - في الحقيقة - سر غير أمره. فأنني كنت في أشد الشوق إلى سماع قصته، وبتعبير أوضح أحجمت عن سؤاله عما أدخله السجن ساعة لقيته لكي لا أجرح منه شعورا طالما كنت أقدره، بل أقدسه في أيامنا التي خلت، في أزهى زمان وأحلاه، زمان الدرس والتحصيل. وقال لي عبد الصمد: (هذا فتى باهر الخصال يا أخي، ولا أرى فائدة في أن أقص قصته عليك في إسهاب وتفصيل، فهو الآن مجرم محكوم عليه بالسجن ثلاث سنين لأنه جرح رجلا من الأجانب، كان يحترف عملا فنيا لدى شركة أجنبية في البصرة؛ وكان عبد العزيز (يشتغل) هناك بيده كعامل لا شأن له، ورئيسه ذلك الأجنبي، على أنه كان شخصا مخيفا بين العمال، خشن الطباع، شرسا، كذلك قالوا عنه. وليس في حادثته التي طوحت به إلى السجن ما يستغرب منه ومن أمثاله في العراق اليوم، فقد انتهره الأجنبي ذات يوم، وشتمه وأهانه، لأنه أخطأ في عمله بعض الخطأ، فما كان منه إلا أن قابل إهانته إياه بطعنه بمديته، فجرحه، ولم يصب منه مقتلا. انتهت قصته. أما هو فما يزال يذكر الحادثة غير مكترث به صار إليه من جرائها، فهو يرى لها سببا من أسباب التفاخر بالجرأة والشجاعة، ولا سيما أن المجني عليه أجنبي من بقايا الذين جاءوا في الحرب في (الحملة) على العراق، وهو يقول لنا عنه في سذاجة ويكرر قوله مرارا: (ليته كان من أبناء أمتنا أمثالي، إذن والله لما جرحته، لما جرحته)، فانظر إلى رقة شعوره وشدة كرهه للأجانب الذين أرهقوا البلاد في الحرب الاستعمارية الكبرى وبعدها. . . والعبرة ليست فيما حدثتك، بل فيما أرى عند هذا العبد العزيز الذي لقبوه في السجن بأبي جاسم كما يلقب العراقيون عادة فتيانهم ذوي (الأريحية) والنجدة والشجاعة، مجرمين كانوا أو غير مجرمين، من فلسفة القوة والأمل والتفاؤل والاستهزاء بصروف الحياة، فأنني - وقد خصني بصداقته وترحابه منذ أن دخلت السجن - قد أسفت على حالي كثيرا، وطالما اسودت الدنيا في وجهي يأسا وتشاؤما، فلا أكاد أسمع نصائحه الساذجة في ظاهرها، وضحكاته ذات الرنين العالي، وأغانيه الشعبية التي يرسلها من نفس زاخرة بالأحلام والآمال، حتى تتفرج نفسي من اليأس، وتبدد عني(126/65)
سحب التشاؤم والأسى؛ فو الله ما نفعتني في هذه الأيام العابسة الكتب وفلسفاتها المهذبة المصقولة، بقدر ما نفعتني نصائح وضحكات وأغاني هذا الصديق الجديد في السجن، بل في مدرسة الرجال والأبطال، على ما يسميه؛ وأنا ناقل لقوله فما علي من لوم، فالناس تسمي السجن مدرسة المجرمين)
قال محدثي إبراهيم:
ثم زايلت السجن وكلي أسف على حياة صاحبي القديم، التي أحسبها ضائعة بعد هذه الحال التي صار إليها؛ وهذا ما كنت أتوقعه منذ طرد من المدرسة السلطانية العثمانية. تلك مقدمة هذه نتيجتها. . . وفي نيتي أن أزوره يوم الجمعة القادم)
قلت وأنا مصغ له في غير أسف:
(ولكن عبد العزيز أبا جاسم، وهو جدير بلقبه هذا، كان شريفا من بعد؛ ورب مجرم معذور؛ فأما أنه كان فقيرا وسوف يغدو كما كان، فما في الفقر من عيب. وما ضاعت حياة من كان مثله إباء وعزة نفس. . . .)
العراق - الأعظمية
محمود. أ. السيد(126/66)
البريد الأدبي
تولستوي لمناسبة الاحتفال بذكرى وفاته
تحتفل روسيا السوفيتية خلال شهر ديسمبر بإحياء ذكرى كاتب روسيا وفيلسوفها الكبير ليون تولستوي، وذلك لمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على وفاته. ولقد محت الثورة البلشفية كثيرا من معالم روسيا وذكرياتها وتقاليدها القديمة، ولكن روسيا السوفيتية ما زالت تحرص على رعاية الآداب والعلوم والفنون، وما زال هذا الحرص يتجلى في كل موقف ومناسبة، وذكرى تولستوي تتبوأ في الأدب الروسي بل وفي الأدب العالمي أسمى مكانة، وما زالت الثورة البلشفية تنحني إجلالا لذكرى هذا الذي رفع الأدب الروسي إلى السماكين، واتشح بنوع من القدسية تجعل ذكراه وتراثه فوق كل ثورة وانقلاب
توفي تولستوي منذ خمسة وعشرين عاما، وفي 20 نوفمبر سنة 1910؛ وكان مولده سنة 1828 في قرية باسينا بوليانا من أعمال مقاطعة تولا في أسرة قديمة عريقة في النبل؛ وتوفيت والدته وهو في الثانية من عمره، ثم توفي أبوه في التاسعة من عمره؛ فكفلته وأخوته إحدى عماته، وتلقى معهم تربية خاصة على يد معلم فرنسي؛ وفي سنة 1843 أرسل إلى جامعة فازان ليدرس فيها؛ ولكنه لم يبد براعة خاصة في الدرس، فقضى بها حينا، وغادرها ملولا، وانكب على اللهو بضعة أعوام؛ ولما بلغ الثالثة والعشرين من عمره انتظم في سلك الجيش في قسم المدفعية وأرسل إلى القوقاز، واشترك في حرب القرم تحت إمرة البرنس جور نشاكوف، وقاتل في موقعة سلستريا سنة 1854، وفي موقعة سباستبول سنة 1855. وكان تولستوي قد ظهر في عالم الأدب قبل ذلك ببضعة أعوام، فكتب في بعض المجلات الكبرى، وكتب كتبه الثلاث الأولى وهي (الطفولة) (سنة 1852) ثم (الحداثة) (سنة 1853) ثم (الشباب). كتبها في القوقاز قبل أن ينزح إلى ميدان الحرب، ووصف فيها طفولته وحداثته وشبابه في صورة مؤثرة. وفي أثناء الحرب، وتحت قصف المدافع كتب تولستوي عدة صور وقطع حربية قوية أسماها (قصص سباستبول) وفيها ظهرت روعة مواهبه الأدبية، فطارت شهرته وكان بدء مجده الخالد. وفي (قصص سباستبول) تبدو شخصية تولستوي قوية، ويبدو إجلاله للحقيقة والشمائل الإنسانية والحب الأخوي؛ ويبدو مقته لكل مظاهر الطغيان والعنف. ولما انتهت الحرب عاد إلى بطرسبرج(126/67)
تسبقه شهرته، واتصل فيها بكل مجتمع رفيع وشخصية بارزة؛ واتصل بأقطاب الكتابة والأدب، ولا سيما تورجنيف وجوتشاروف وتكراسوف، وتوثقت علائقه بتورجنيف مدى حين، ولكنها لم تلبث أن فترت لاختلافهما في كثير من الآراء والمبادئ. ذلك أنٍ تولستوي كان ثوري المبدأ والعقيدة، يحرر العبيد في ضيعته، ويغدق العطاء للفقراء؛ ولكنه كان في أعماق نفسه (انفراديا) وكان بعيدا عن الحركة الاشتراكية التي كانت تجرف روسيا يومئذ ويتزعمها جناح قوي من الكتاب والأدباء. هذا إلى أن تولستوي كان عبد الحقيقة يصورها في تفكيره وكتابته؛ بينما كان أولئك الكتاب يكتبون غيرها ما يعتقدون، ويفعلون غير ما يقولون. وقد كانت كتب تولستوي صورة صادقة لشخصه ومبادئه، وكل ما فيها مستمد من حياته ومن نفسه؛ وهذا ما يقرره تولستوي نفسه في بعض كتاباته إذ يقول: (إن الحقيقة هي بطلة مؤلفاتي، وهي دائما نفثه روحي وكل جوارحي)
وفي سنة 1862 تزوج تولستوي من صوفيا بيرس؛ ولم يمض قليل على هذه الحياة الهادئة حتى كتب تولستوي أعظم كتبه قصة (الحرب والسلام) وظهرت لأول مرة سنة 1869 ثم كتب قصته الخالدة (حنه كارنينا) وظهرت سنة 1877؛ وفي هذين الكتابين يصل تولستوي إلى ذروة قوته وروعته. وفي القصة الأولى أعني (الحرب والسلام) يصف تولستوي حوادث الغزوة النابليونية لروسيا؛ ومما يلفت النظر أنه يصف فيها والدته في شخص الأميرة ماري. وقد رأينا أن تولستوي فقد والدته وهو في الثانية، ولكنه مع ذلك يؤكد لنا أنها تركت في ذهنه صورة قوية وأنه احتفظ في ذهنه الفتي بكثير من ذكرياتها وصورها. وأما قصة حنا كارنينا، وهي فيما يرى النقدّه أعظم كتب تولستوي، فهي القصة الخالدة لزواج نكد، وما يترتب على ذلك الزواج من المحن؛ وهي القصة الخالدة لزواج عادي وما يحيط به من العوامل والظروف. هي قصة فتاة تزوجت في سن العشرين رجلا يكبرها بعشرين عاما، وعاشت معه ردحا من الزمن أمينة مخلصة؛ ولكنها في الثلاثين اضطرمت بفورة من الهوى فأحبت ضابطا فتى جميلا واستسلمت إليه؛ ولما ارتاب زوجها في الأمر اعترفت له لأول وهلة؛ وأدرك الزوج بعد التفكير أنه يحمل تبعة هذه الجناية، لأنه جنى على امرأة شابة فتزوجها وهوليس أهلا لحبها، وكأنه اختلسها اختلاسا وارتكب بذلك جرما يعاقب عليه؛ وعلى ذلك فقد شعر أنه يستحق ما أصابه، وترك زوجته الفتية (حنه)(126/68)
وفارقها، وعاش بلا أسرة. ولكن هل كانت حنه سعيدة بهذه الحرية؟ كلا فقد شعرت هي الأخرى باثمها؛ وسرعان ما دب الفتور إلى حبيبها، وأضحت تشعر أنها غدت عبئا ثقيلا عليه، وهكذا حطمت حياتها. وأما العاشق (فرونسكي) فقد كان فتى جم العبث والأهواء، وكان يهوى حنه هوى الفورة والساعة؛ ولكنه شعر أنه أثم أيضا وأن إثمه يوجب عليه أن يبقى إلى جانب تلك التي حطم حياتها ففر معها إلى الخارج وقضى بذلك على مستقبل زاهر كان في انتظاره، ثم كانت خاتمة المأساة ذات يوم في حلبة السباق إذ سقط المحب القديم من فوق ظهر جواد كان يمتطيه فقتل لساعته.
تلك هي الفلسفة الإنسانية الرائعة التي يبسطها لنا تولستوي في أعظم كتبه. وفي سنة 1880 نشر تولستوي كتابه (اعترافي) وفيه يبسط لنا آراءه ونظرياته الدينية. وفي هذا الميدان كما في غيره يبدو تولستوي في صور مختلفة متناقضة، فبينا نراه الرجل المؤمن العريق في الإيمان إذا بنا نراه ملحدا منكرا، وإذا بنا نراه وثنيا وطائفيا. وكتب تولستوي بعد ذلك كتب عدة ورسائل أخرى يغلب عليها طابع التصوف، منها (ايفان ايليتش) و (الكورتيس سوناتا) و (مملكة الله في قلبك) و (ما هو الدين). وساح تولستوي في ألمانيا وسويسرا وغيرهما وكتب صور سياحته في كتابين: أحدهما يسمى (لوسره) ولآخر (مذكرات نخليودو) وغدا تولستوي في كهولته فيلسوفا ومصلحا اجتماعيا يحرر عبيد ضيعته، ويقسم أرضه بين الفلاحين ويعنى بتربيتهم وإرشادهم، ويغيث البؤساء والمنكوبين؛ ومن أثر ذلك أنه نزل عن أملاكه لزوجه وأولاده، وحاول أن يعيش عيشة الزهد والتقشف مثل ما يعيش أفقر أبناء الريف. وكان ذلك سببا في تنغيص حياته العائلية، وفي تسميم علائقه بزوجته. ولما شعر في أواخر حياته أنه غدا بين أسرته كالغريب المنبوذ، فر من منزله سرا. وكان قد تبوأ ذروة مجده منذ أعوام طويلة وغدا يكنفه نوع من القداسة، وكان قد أشرف على نهاية حياته الحافلة فتوفي بعد ذلك بقليل في بلدة استابوفو في 20 نوفمبر سنة 1910، واختفت بذلك شخصية من أعظم شخصيات الأدب الحديث
وكان تولستوي شاعرا وفيلسوفا وناقدا وفنانا، وكانت حياته كلها حياة كفاح واضطراب، ولكنها متناقضات مدهشة؛ فمن أرستقراطية عريقة، إلى ديمقراطية ساذجة؛ ومن إيمان مؤثر إلى الحاد مطبق؛ ومن شغف بالنساء إلى احتقار لهن؛ ومن إنسانية فياضة إلى انانية(126/69)
عميقة. بيد أن تولستوي كان يسمو بروحه ومشاعره إلى أنبل ما يمكن أن تسمو إليه النفس الإنسانية؛ وقد كان لفلسفته وكتبه أثر عميق في تطور المشاعر الروسية، وفي تكوين النفس الروسية الحديثة
وقد بلغت مؤلفات تولستوي في الطبعة الروسية زهاء مائة مجلد، وترجمت إلى كثير من اللغات الحية؛ وترجم له كثيرون من أكابر الكتاب في مختلف الأمم
رسالة ملوكية ضخمة
من أنباء استنبول الأخيرة أن السلطات المختصة قد وجدت في محفوظات متحف الدولة رسالة ملوكية ضخمة من الورق المشمع وطولها تسعة أمتار وعرضها سبعة؛ وظهر من البحث أنها رسالة أرسلها شاه الفرس في القرن السادس عشر إلى السلطان سليمان الأكبر. وقد تقرر أن تعرض لأنظار الجمهور
موت زعيم كريم، إبراهيم بك هنانو
وا أسفاه!! في الساعة التي اشتبهت فيها معالم السياسة في سورية، فتدسست الأماني الخوادع إلى الشعب، وتفرقت السبل الجوامع بالزعامة، يغيب القطب الهادئ، ويهدم المنار الدال، ويخبو الضرام المذكى، ويخفت الصوت المجمع، ويموت الزعيم هنانو؟! روعت سورية من شمالها إلى جنوبها بنعي هذا الزعيم الكبير، ونالها من خطبه ما غلب على الصبر ومنع من القرار، فهبت كلها تندبه وتريثه، وتبكي بطلها وأملها ودليلها فيه. والحق أن الفقيد العظيم كان مثلا نادرا في الزعامة البريئة الجريئة المخلصة: كان صلبا في الرأي على قدر إيمانه، ومتمردا على الباطل على سواء حقه، ومهيمنا على الشعب بقوة نفسه ونبل غرضه. جرد على الواغل الدخيل جيشا من الوطنية الصابرة والحمية الثائرة والعروبة الغضبى، ثم صمد له بالعدد القليل بعد سقوط دمشق سنة كاملة لم يلن لمغمز ولم ينكل عن خطة، حتى آل أمره إلى فلسطين فسلمته حكومتها إلى فرنسا فحوكم وبرئ؛ ومن ذلك اليوم كان معقد آمال السوريين يفزعون إليه في المعضلات، ويستنيرون برأيه في المشكلات، وينضوون إلى رايته في المواقع. كان رحمه الله على خلق الزعماء أولى العزم والرسالة: نظر إلى أمته نظر الحكيم المصلح فألف بين قلوبها ووفق بين ميولها وقرب بين(126/70)
عقائدها، ثم دافع عن مرافقها دفاع المؤمن النزيه، فلم يسف إلى دنيء المطامع، ولم يغتر بمظاهر الجاه، ولم يطمح إلى عزة السلطة، وإنما ظل جنديا يقود، ومحاميا يذود، وخطيبا يرأب بلسانه صدوع الفرقة، حتى أضناه الجهاد المستمر، وأقعده المرض المخامر، فكان زعيما بالفكرة، قائدا بالمبدأ، مرشدا بالقدوة. ثم قبضة الله إليه فأحدث ذلك الفراغ المخيف، وهز أمته تلك الهزة العنيفة، لأن الزعماء الذين يصوغهم الله على هذا الطراز يكونون في النهضات الاجتماعية من أممهم مكان السماط من حبات العقد، ينظمون وحدتها، ويجمعون كلمتها، ويمسكون نظامها، ويعقدون أمانيها؛ فإذا قطعت المنون ذلك الخيط ذهب العقد بداد ما لم يكن له من الله ناظم وعاصم - سقى الله بصيب الرحمة ثراه، وعزى فيه الأمة العربية خير العزاء
الاحتفال بالجاحظ
في السنة القادمة (1355هـ) يتم أحد عشر قرنا لوفاة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري المتوفى سنة 255هـ؛ ويا حبذا لو تقدم علماء العراق وأدباؤه إلى الاحتفال بذكراه في مدينة البصرة، واشتركت الأقطار العربية كلها بتعديد مناقب أعظم رجل جمع بين علوم الدين والدنيا في الإسلام.
محمد كرد علي
جوائز نوبل
ذكرنا في العدد الماضي أن جائزة نوبل للطب والفسلجة قد منحت عن هذا العام إلى العلامة الألماني الدكتور هنز شبيمان من أساتذة كلية فريبورج. ونضيف اليوم أن جائزة نوبل للكيمياء قد منحت للأستاذ جوليو الفرنسي من أساتذة جامعة باريس ولزوجته السيدة كوري جوليو، وهي ابنة مدام كوري الكيميائية البارعة التي اشتهرت بمباحثها واكتشافاتها في الراديوم وخواصه. ومنحت جائزة نوبل للطبيعيات للأستاذ جيمس سادويك الإنكليزي ومن أساتذة جامعة كمبردج اعترافاً بفضله في اكتشاف (النوترون). وقيمة كل جائزة من هذه الجوائز الشهيرة كما أسلفنا سبعمائة ألف فرنك (نحو تسعة آلاف جنيه).
وأما جائزة نوبل عن الآداب فلم يتقرر منحها هذا العام، وتقرر أن يعاد النظر في أمر(126/71)
منحها في العام القادم. وقد سبق أن عطل منح هذه الجائزة زهاء خمس عشرة سنة من 1901 إلى سنة 1914، ثم استؤنف منحها بعد ذلك.(126/72)
النقد
1 - تاريخ الإسلام السياسي
تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن
بعض مآخذ تاريخية
لأستاذ كبير
الدكتور حسن إبراهيم حسن من الشبان المصريين الذين يحملون في مادة التاريخ الإسلامي طائفة غير قليلة من الألقاب العلمية الضخمة ما بين مصرية وأجنبية، ثم هو قد زاول تدريس التاريخ الإسلامي في الجامعتين المصرية والأزهرية سنين طوالاً أخرج فيها من الآثار المؤلفة والمترجمة شيئاً كثيراً؛ وقد طلع على الناس في هذه الأيام بسفر ضخم في تاريخ الإسلام السياسي تناول الكلام فيه على عصر الجاهلية، وعصر النبوة، وعصر الخلفاء الأربعة، وعصر بني أمية.
تلقاء هذه الألقاب الضخمة، والخبرة الواسعة؛ وتلقاء جلال العصر الإسلامي القديم، استشرفت نفسي لمطالعة كتاب الدكتور الأخير منذ علمت بظهوره؛ ولم أكد أصل إلى نسخة منه حتى عكفت على قراءته؛ وقد قرأته من أوله إلى آخره. وإني مع اعترافي بالمجهود الكبير الذي أنفقه الدكتور في كتابه، قد تبين لي في الكتاب من السقط والزلل مالا يحسن السكوت عليه، لذلك عمدت إلى نشر ما تيسر لي نشره من الاستدراك خدمة لمادة ناشئة في معاهدنا العلمية، هي مادة التاريخ الإسلامي، واستحثاثاً للمؤلف على تدارك أمره في مادة هو متخصص فيها، وضناً بما لمصر من حسن السمعة العلمية في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن. وإني قاصر كلمتي اليوم على إيراد شيء من مآخذ الكتاب التاريخية تاركاً بقية المآخذ لكلمات أخرى أنشرها تباعاً على صفحات (الرسالة) الغراء.
يطلق المؤلف في ص 34 كلمة (أقيال) على ملوك العرب وساداتهم، مع أن هذا اللقب خاص بملوك اليمن أو من دونهم من أمراء المخاليف اليمنية.
يقول المؤلف في ص 36: (وكان للعرب نظام ثابت للزواج: فكان جمهورهم يقترن بالزوجة بعد رضاء أهلها، كما كان كثير منهم يستشيرون البنات في أمر زواجهن. وينبغي(126/73)
ألا نخلط بين هذا الارتباط بالزواج وبين غيره مما عرف عن بعض العرب من اجتماع الرجل بالمرأة بغير هذه الطريقة) ولو قصر المؤلف هذه الحال على الحجاز لاستقام قوله؛ أما وهو يعمم الحكم فكلامه لا يطابق الواقع؛ والدليل على ذلك حديث البخاري المنسوب إلى عائشة، والذي يبين الأنحاء الأربعة للأنكحة في الجاهلية (البخاري جـ7 ص 15).
يذكر المؤلف في ص 45 أخذاً بظاهر الرواية العربية، أن الفرس كانوا زاهدين في ملك اليمن؛ والصحيح الثابت أنهم كانوا حراصاً عليه ليحدوا من نفوذ خصومهم الروم والأحباش في تلك البلاد.
يقول المؤلف في ص 45 في وصف وهرز قائد الحملة الفارسية على اليمن: (ويصفه المؤرخون - ومنهم المستشرق نولدكه - بأنه قد بلغ من الكبر عتياً لدرجة أن جفنيه انطبقا أحدهما على الآخر) والوارد في الروايات أن حاجبيه هما اللذان كانا قد سقطا على عينيه لكبره فكان يعصب له حاجباه ليحسن الإبصار (الطبري جـ2 ص 119).
يقول في ص 58 (ويستفاد من أخبار العرب أن بني جفنة استولوا على سورية)، ولو استبدل (بادية الشام) بسورية لاستقام قوله.
يقول المؤلف في ص 61 - 62 (وكان لكل قبيلة رئيس منهم حسب نظام القبيلة المسمى الذي كان مألوفاً لدى العرب في جاهليتهم، وكان لهذا النظام مثيل بجزيرة قرسقة (كورسيكا) واستعمال لفظ أجنبي لنظام عربي لا محل له هنا كما أن التنظير بين بلاد العرب وبين قورشقة خاصة يبدو غريباً ونابياً في هذا المقام.
يزعم المؤلف في ص 63 أن الحجاز (ظل محافظاً على استقلاله أيام الإسكندر المقدوني الذي صده العرب حين أغار على ملك الفرس) فمتى، وأين، وكيف صد العرب الإسكندر المقدوني الكبير؟ لاشك أنك إن فصلت ما أجملت في عبارتك تكشف عن ناحية خطيرة مجهولة من تاريخ الفاتح المقدوني الكبير.
يقول المؤلف في ص 68 في سياق كلامه على قريش (واتخذوا جزءاً من الأرض المجاورة أولوه احترامهم، واعتبروه مقدساً، وبنوا به بيتاً حراماً لا يحل فيه القتال وأخذوا على عاتقهم حمايته) وهذا كلام يضر قائله ولا ينفعه، وإني أنصح للدكتور أن يبادر إلى التبرؤ منه وإلقاء تبعيته على قائله الأصلي. فالدكتور لاشك يعرف أن إبراهيم الخليل هو(126/74)
الباني للكعبة، وأن قريشاً كانت تحتمي بالبيت والحرم، بدلاً من أن تحميهما، بدليل قوله تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم). (سورة العنكبوت)
يقول المؤلف في ص 87 في صدد الكلام على الحنيفية ببلاد العرب: (ويطلق على هذه النزعة التحنف، وعلى أصحابها الحنفاء أو التائبون المعترفون) وهنا أيضاً أنصح للمؤلف أن يبرأ من هذا القول فليس معنى التحنف (التوبة والاعتراف).
ويقول في ص 97 بعد أن يورد أسماء السابقين الأولين إلى الإسلام: (وقد سموا السابقين الأولين كما سمى من أسلم بعدهم بالمستضعفين) وظاهر أن ليس التأخر في الإسلام هو السبب في وصف المستضعفين بالاستضعاف إنما السبب في ذلك أمر آخر يعرفه من يقرأ الجزء الأول من سيرة ابن هشام بشيء من الروية والتفكير.
ويقول في ص 129 - 130: (ولم يكد الرسول يفرغ من بناء السجد حتى أخذ يبث الدين في نفوس أصدقائه وأتباعه ويحثهم على الخضوع والإذعان لإرادة الله، ومن ثم سمى هذا الدين بالإسلام لما فيه من الانقياد والخضوع المطلق لإرادة الله تعالى. والذين يدينون به يسمون المسلمين، أي الذين يخضعون لأمر الله ورسوله) وعلى فرض صحة هذا القول ماذا كان يسمى الإسلام والمسلمون قبل بناء المسجد وطوال العصر المكي؟
ويقول في ص 131: (وأحل (الإسلام) الدعوة الدينية محل الوحدة القومية) ثم يقول بعد: (وهكذا أصبح الدين دون الجنس المرجع الوحيد في تحديد العلاقات بين الحكومة والرعية) والظاهر أن المؤلف ينقل هنا عن أصل أجنبي، وأن المراد بالوحدة القومية والجنس هنا إنما هو (القبيلة).
ويقول في ص 134: (فقد تزوج (الرسول). . . صفية بنت حُيَيٍّ سيد بني النضير ليتم له إسلام قومها، لا لتأثير جمالها كما يقولون فهو أعلى نفساً من أن يتأثر بذلك) وهذا الكلام إن دل على شيء فإنما يدل على قلة الاطلاع الصحيح وعلى سذاجة التفكير وإلا فهل كان الرسول لا يزال يطمع في إسلام اليهود بعد الذي جرى بينه وبينهم من الأحداث الجسام بالمدينة وخيبر؟ ثم متى كان التأثر البريء بالجمال دليلاً على نزول النفس وعدم سموها؟
ويقول المؤلف في صفحة 154: (سرية بني الرجيع) ويعيد ذلك القول في هامش صفحة 174 ظناً منه أن هناك قبيلة تسمى (بني الرجيع) والواقع أنه إنما يريد (بني لحيان) الذين(126/75)
كان لهم ماء يسمى (الرجيع) وقعت عنده الحادثة المعروفة في كتب السيرة.
ويقول في صفحة 170: (وصفوة القول أن معاملة الرسول إياهم (اليهود) كانت أيسر وأخف من معاملته قريشاً وغيرها) ولو عكس المعنى فقال: (كانت أحزم وأشد) لكان كلامه منطبقاً على الواقع من غير نزاع.
ويقول في صفحة 183 في صدد الكلام على غزوة الطائف: (وأقام الرسول على حصارهم (ثقيف) حتى إذا دنا شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فك الحصار عنهم ليرجع إليهم بعد انقضاء الأشهر الحرم) ومع أن الأشهر الحرم لا تمنع من مباشرة القتال في الإسلام فإن الرسول لما رأى أن الحرب طالت بينه وبين ثقيف علم أنه لم يؤذن له فيها وأسر ذلك إلى أبي بكر وعمر ثم ارتحل عن الطائف تاركاً أمر إسلامها للزمن. وقد صحت فراسته فقد جاءه وفد ثقيف بإسلامها في رمضان سنة 9هـ.
ويسمي المؤلف في صفحة 211 نابليون بـ (الفتى الطلياني) وذلك تعبير لا يليق صدوره ممن يتخصص في التاريخ.
في صفحة 240 - 241 يزعم المؤلف أن القصيدة التي مطلعها:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطل
قالها قائلها في رثاء عمه، والصحيح الثابت من سياق القصيدة نفسها أنها قيلت في رثاء خال الناظم لا عمه وذلك بدليل قول الشاعر:
فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل
والظاهر أن المؤلف شغل بنقل شرح التبريزي على القصيدة عن تفهمها وتبين من قيلت فيه.
ويقول في صفحة 247 في كلامه على أبي بكر الصديق: (وكنى بأبي بكر لمبادرته إلى الإسلام) ولست أدري ما الذي أبقاه المؤلف بعد هذا القول لجهلة المبشرين ومتعسفي المستشرقين؟
ويقول في ص 278: (لقد رحب الفرس بالعرب حباً في الخلاص من ظلم الحكام أولاً ورغبة في معافاتهم من الخدمة العسكرية ثانياً. .) وهو كلام بعيد عن الواقع بعد السماء عن الأرض.(126/76)
يظهر المؤلف في هامش ص 295 ضجره من اضطراب تاريخ فتح العرب الشام ويقول (وعلى كل حال فليس غرضنا ترتيب الوقائع لأن ذلك ليس من شأننا) فهل ترى يا دكتور أن من شأنك أن تنقل شرح التبريزي على قصيدة تأبط شراً، وأن ليس من شأنك أن ترتب وقائع فتح العرب للشام؟
ويقول في ص 310 عند كلامه على فتح عمرو الإسكندرية: (وهزم الروم براً وبحراً) وقد أخطأ هنا من وجهين. فإن عمراً أو غيره من العرب لم يهزم الروم براً وبحراً عند الإسكندرية، وإنما استولى عليها بمعاهدة نابليون التي تمت بينه وبين المقوقس (أنظر كتاب فتح العرب مصر لبطلر) ثم كيف استطاع عمرو أن يهزم الروم بحراً؟ هل كان معه أسطول يا ترى؟
يزعم المؤلف في صفحة 314 أن المؤرخين لم يجزموا برأي في أمر حريق مكتبة الإسكندرية. والصحيح أنهم فعلوا. فقد جزم بطلر بأن العرب لم يحرقوها، وجزم جورجي زيدان في تاريخه بأنهم أحرقوها.
يقول في ص 330 ضمن كلامه على عثمان بن عفان: (وكان يصوم الدهر)، والعقل الناقد يرفض هذا القول وإن كان وارداً في كتاب قديم. هذا فوق ما ورد في الأثر من النهي عن صوم الدهر.
يقول في ص 341 أن عثمان ترك للأغنياء أمر الزكاة يدفعونها كما يشاءون، وتلك دعوى لا يقوم على صحتها دليل.
يقول في ص 353 أن قتلة عثمان ضربوا عنقه وأن بعضهم قطع بالسيف إصبع نائلة زوج عثمان، والخليفة المظلوم قتل دون أن يضرب عنقه، وأن أصابع يد نائلة أطنت بالسيف لا إصبع واحدة.
يقول في ص 365: (ولما توفي عمر انتخب عثمان بمقتضى قانون الشورى الذي سنه عمر) وعمر لم يسن قانوناً للشورى وإنما عين ستة نفر يختار المسلمون من بينهم خليفتهم.
في ص 398 يتابع المؤلف المستشرق الإنجليزي نيكلسن في قوله في انتصار معاوية في أمر الخلافة: (اعتبر المسلمون انتصار بني أمية وعلى رأسهم معاوية انتصاراً للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء) والأمر هنا ليس أمر وثنية(126/77)
وإسلام إنما هو أمر أحزاب سياسية تتنافس في الحكم وفاز بعضها في النهاية.
وهو يتابع في ص 425 السيد أمير علي في قوله في وقعة الحرة (ولا غرو فقد حول جند الشام المسجد الجامع إلى إسطبل لخيولهم وهدموا الحرم والأماكن المقدسة لسلب ما فيها من أثاث ومتاع) وهذا كله غير ثابت.
يقول في ص 507 عند كلامه على المرجئة: (وقد ظهر من بينهم أبو حنيفة صاحب هذا المذهب المشهور الذي لا يزال باقياً إلى اليوم) واتهام الإمام الأعظم بالإرجاء أمر قديم وقد كفانا مؤنة تفنيده السلطان أبو المظفر عيسى الأيوبي في رده على الخطيب البغدادي.
(يتبع)
مؤرخ(126/78)
العدد 127 - بتاريخ: 09 - 12 - 1935(/)
في الجمال. . .
- 4 -
ذلك إجمال القول في الفن الصناعي المرتجَل؛ أما الصناعي المنقول فالسر فيه أن يبعث في ذهنك فكرتين: عن الطبيعة المقلَّدة، وفكرة عن الفنان المقلِّد. فتماثيل فِدْ وصور رفائيل، تجمع بين الجمالين: جمال المثال في أصله، الفن في تقليده. وكذلك في وصف مغرب الشمس لابن نجد الإعجاب الناشئ عن القوة والوفرة والذكاء موزعاً الصورة الناطقة التي أبدعتها الطبيعة، وبين المحاكاة الصورية التي أخرجتها القريحة.
إن روعة الجمال الطبيعي آتية من ناحية الحرية في الطبيعة وحرية الطبيعة هي قانونها العام، لا تقوم عظمتها إلا به، ولا فخامتها إلا فيه؛ فالغيضة اللّفّاء أجل مظهراً في النفس من الحياة المنمنمة، وشلالات النيل أجمل منظراً في العين من النوافير المنضمة لأن الجمال المطلق يملأ خيالك بالتأمل الحالم، وذهنك بالتفكير الرفيع، وشعورك بالطرب الباسط؛ ومظنة العبودية في الجمال أو في الجماد تضيف إليه معنى من الحقارة والقبح يحطه ويشوهه. ولكن الجمال الصناعي لا بدَ أن يتقيد بالقواعد ويتحدد بالأصول؛ فإذا لم يكن الفنان من البراعة بحيث يخفي تلك القيود، ويحجب هذه الحدود، ويظهر السمة الدالة على الطبع المرسل والإلهام الحر، همدت في فنه الحياة، وخبا في جماله السحر، وضاقت في عمله الفكرة.
ليس الجمال في الفن المعنوي أو الحسي أن تحاكي الطبيعة محاكاة الصدى، وتمثلها تمثيل المرآة، وتنقلها نقل الآلة؛ تلك هي التبعية التي تنفي الذكاء، والعبودية التي تسلب القوة؛ إنما عظمة الفن أن يفوق الطبيعة؛ وإنما براعة الفنان أن يزيد في ترتيب صورها بالذكاء، وفي تنويع تفاصيلها بالوفرة، وفي توجيه مقاصدها بالعظمة، وفي بيان تعبيرها بالحياة، وفي سلطان تأثيرها بالقوة، وفي حقيقة وقائعها بالسحر الموهم والوشي الخادع.
انظر إلى تعاجيب الطبيعة وتهاويل الفلك، من العواصف والصواعق والبراكين، تجدها في ذاتها جليلة رائعة، ولكنك تجدها في فن الشعراء والمصورين والمثَّالين أجل وأروع. لقد فيها شهوات النفوس، وسلطوا عليها تصادم الأهواء، وصوروها للأذهان في عالم من الآلهة الكَمَلَةِ في قواها المختلفة، تتنافس في العجائب، وتتصارع بالأهوال، وتتفانى على اللذة.(127/1)
وسحر الفن الإغريقي في صمته وفي نطقه قائم على تجميل الظواهر المروعة في الطبيعة، بالنوازع المتضاربة في النفس.
ومن المعلوم في بدائه العقل أن يكون ما يقلده الفنان في الطبيعة حقيقاً بالتقليد، حتى يمكن الجمع بين جمال الشيء في أصله، وبين جماله في نقله؛ فالمصور الذي يرسم وضعاً من أوضاع الرأس، أو معنى من معاني الوجه، أو لوناً من ألوان الحياة، يكون أسمى في الفن من المصور الذي يتحامل على براعته حتى يصور أرنباً تكاد من دقة التقليد أن تلحظ وثبته وتعد وبره. والشاعر الذي يصف عاطفة من عواطف القلب، أو ظاهرة من ظواهر الكون، يكون أبلغ في فنه من الشاعر الذي يجهد قريحته في وصف حادثة من هَنَوات الحوادث لا تقوم في ذاتها على فائدة ولا لذة.
قد يكون الشيء المنقول في حقيقته قبيحاً، ولكن صدق التعبير عنه، ودقة التصوير فيه، والتماس المنفعة منه، تجعل تقليده جميلاً، كالوجه الشتيم يرسمه المصور المبدع بريشته، والخلق الذميم يصوره الشاعر المفلق بقلمه؛ والملهاة المسرحية موضوعها رذائل الناس ونقائص المجتمع، ولكنها ارتفعت إلى أوج الفن الجميل بتحليلها العميق، وتصويرها الدقيق، وغايتها النبيلة. كذلك الحوادث المؤلمة والمناظر المحزنة والمواقف المؤثرة ليس فيها من الجمال شئ. ولكن استبطان الفنان لدخيلة البائس، وتصويره الفاجعة ماثلة مثول الواقع، وإعانته الحقيقة على التأثير بالجمل النفاذة، والصور الأخاذة، والظلال الرهيبة، يجعل تقليدها من أجمل الأشياء، ويضع المأساة من الفن موضع الواسطة من العقد.
فأنت ترى أن التقليد لا يثير الإعجاب في نفسك، ولا يُشيع اللذة في شعورك، إلا باعتماده على الفن؛ والفن لا يتحقق جماله إلا بالعظمة في عمله، والسعة في وسائله، والحكمة في غايته؛ فإذا قلدت أصوات الطبيعة من غير تأليف ولا تنسيق ولا معنى، وأقمت شلالاً من الماء والحجر تضارع به شلال أسوان، وسردت بالكلام الموزون حادثة عادية من حوادث اليوم، أخطأك الفن وانزوى عنك الجمال؛ لأنك صغرت الطبيعة، وحقرت الواقع، وتعلقت بالتافه، واستعنت بالمادة، من غير قوة ولا ثروة ولا علة. ولو أنك رحت تستقري مفاتن الجمال في الطبيعة، أو في الفن، أو في الأثر الذي ينشأ من ائتلاف الطبيعة والفن، لما وجدتها في غير ما يعلن القوة والوفرة والذكاء مجتمعة أو متفرقة.(127/2)
ولعلك واجد ما يدعم هذه الفكرة عن الجمال في قول (شيشرون): (إن الطبيعة أبدعت الأشياء على صورة تجعل ما يكون منها جَمَّ المنفعة يكون كذلك جليل المكانة موفور الجمال.
إن جلالة هذا المعبد نتيجة لازمة لمنفعته؛ فلو أنك تخيلت (الكابتول) قائماً في السماء على هام السحب، لما وجدت له جلالاً في نفسك ما لم يكن قيامه هناك علة لسقوط المطر).
وهل المنفعة التي أرادها شيشرون في صنع الطبيعة وفي نتاج الفن إلا الذكاء الذي أردناه في الجمال وقصدنا به حكمة الغرض وانتظام الخطة؟
أحمد حسن الزيات(127/3)
3 - المجنون
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وكنا في النَّديِّ ثلاثة: أنا وأ. ش وس. ع؛ وقد هيَّأت تدبيراً تَوافَقْنا عليه لتحريك هذين المجنونين وتدوين ما يجئ منهما. فلما أقبلا تحفَّينا بهما وألْطَفْنَاهما، وقمنا ثلاثتُنا ببسطهما وإكرامِهما، حتى حسبا أن في كلمة (مجنون) معنى كلمة أمير أو أميرة. . . . . ورأيت في عيني (نابغة القرن العشرين) - وهو أعْيَنُ أنجَل - ما لو ترجمتُه لما كانت العبارةُ عنه إلا أنه يعتقد أن له نفساً أنثى أعشقها أنا. . . . فكان مُسَدَّدا فكِهِ اللسان تُسْتَملَحُ له النادرة وتُستظرف منه الحركة.
ولما تمكن منه الغرور واحتاج الجنون كما يحتاج الجمال إلى كبريائه إذا حاطته الأعين - أدار بَصره في المكان ثم قال: أُفٍ لكم ولما تصبرون عليه من هذا الندىَّ في ضوضائه ورعاعه وغوغائه. إن هؤلاء إلا أخلاطُ وأوشابُ وحثالة. هذا الجالس هناك. هذا الواقف هنالك. هذا المستوفِز. هذان المتقابلان. هؤلاء المتجمعون. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. ما هي؟ ما هي؟
هذا التصايح المنكر. هذا الصرب بحجارة النرد. هذه الزحمة التي انغمسنا فيها. هذا المكان الهائج من حولنا. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. هي، هي، هي.
فانزعج المجنون الآخر، ووقع في تهاويل خياله. ونظر إلينا تدور عيناه، وتوجَّس شراً، ثم زاغ بصره إلى الباب، واستْوفَزَ وجمع نفسَه للقيام؛ فلما رأى صاحبه ما نزل به، قهْقه وأمعن في الضحك وقال: إنما خوَّفتُه الصبيان والضرب ليثبت لكم أنه مجنون. . .
فَحردَ الآخر واغتاظ وجعل يتمتم بينه وبين نفسه.
قال (النابغة) ما كلامٌ تطن به طنينَ الذبابة أيها الخبيث؟
قال: (مما حفظناه) أن من علامات الأحمق أنه إذا استنطق تجلَّفَ، وإذا بكى خار، وإذا ضحك نهق. . كما فعلت أنت الساعة تقول هاء، هوء، هيء. . .
فتغير وجه (النابغة)، ونظر إليه نظرة منكرة، وهم أن يقتحم عليه وقال: أيها المجنون. لماذا تضطرني إلى أن أجيبك جواب مجنون. . . لا نجوت إن نجوت مني.
فأسرع أ. ش. وأمسك به واعترض من دونه س. ع. وقال له: أنت بدأته والبادئ أظلم.(127/4)
قال: ولكن ويحه كيف قال هذا؟ كيف لم يقل إلا هذا كيف لم يجد إلا هذا يقوله؟ أنابغة القرن العشرين أحمق وقد أوْحدَهُ الله في القرن العشرين؟ لهممْتُ والله أن أكسر الذي فيه عيناه فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين.
قلتُ: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه، ففي الحديث الشريف: ليس من أحد إلا وفيه حَمْقَةٌ، فبها يعيش. والحياة نفسها حماقة منظمة تنظيماً عاقلاً؛ وما يُقبِلُ الإنسان على شئ من لذتها إلا وهو مقبل على شئ من حماقاته؛ وأمتع اللذات ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة. أليس يخيَّل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضرٌ فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحلم وما يشبه الحلم، كأنك خُلقت في كوكب وهبطت إلى كوكبنا هذا، فما فيك له ولا فيه لك إلا القليل يلتئم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافر أو متناقض أو متراجع؟ قال: بلى.
قلت: فهذا القليل هو الحمْقَةُ التي تعيش، وهي أرضية الأرض فيك. أو سماوية السماء فبعيدةٌ لا تحتملها طبيعة الأرض. ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذين غرتهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة؛ فكلما أتوا عملا من الأعمال السامية انتهى إلى الحمقى معكوساً أو محوّلاً أو معدولاً به. ولعل هذا أصحَُ تفسير للحديث الشريف: أكثر أهلِ الجنةِ البُله.
قال المجنون الآخر: (مما حفظناه) أكثر أهل الجنة البُله.
فقال (النابغة): المصيبة فيك أنك أنت هو أنت. ألا فلتعلم أنك من بلهاء البيمارستان لا من بُلْه الجنة.
قلت: ثم إن الموت لا بد آت على الناس جميعاً فيسلبهم كل ما نالوه من الدنيا ويُلحق من نال بمن لم ينل؛ فمنذا الذي يُسرُّ بأن ينال ما لا يبقى له إلا أن يكون سروره من حماقته؛ ومنذ الذي يحزن على أن يفوته ما لا يبقى له إلا أن يكون حزنه حماقة أخرى؟ وأي شئ في الحب بعد أن ينقضي الحبُّ إلا أنه كان حماقةً ضربت في الحواس كلها حتى ملأت النفس؛ ثم ملأت النفس حتى فاضت على الزمن. ثم فاضت على الزمن حتى خبَّلت العاشق تخبيلاً لذيذاً تصغر فيه الأشياء وتكبر ويجعل الواقع في النفس غير الواقع في دنياها؟ يُشبِّه كلُّ عاشقٍ حبيبته بالقمر: فهب القمر سمع هذا وفهمه وعناه أن يجيب عنه، فماذا عساه(127/5)
يقول إلا أن يعجب من هذا الحمق في هذا التشبيه؟
فهدأ (النابغة) وسكن غضبه وقال: صدقت ولهذا أنا لا أشبه حبيبتي بالقمر.
قلت: فبماذا تشبهها؟
قال: لا أقول لك حتى أعلم بماذا تشبّه أنت حبيبتك.
قلت: وأنا كذلك لا أشبهها بالقمر.
قال: فبماذا تشبهها؟ قلت: حتى أعلم بماذا تشبه أنت. . .
قال: هذا لا يُرضي منك وأنت أستاذ (نابغة القرن العشرين) ولك حبائبُ كثيراتٌ عدد كتبك، وقد أعجبتني منهن تلك التي في (أوراق الورد) وأظنك أحببتها في شهر مايو من سنة. . . من سنة. . .
قال المجنون الآخر: من سنة 1935؛ هاأنذا قد نبهتك.
قال: يا ويلك! إن (أوراق الورد) ظهرت من بضع سنين، إنما أنت من بُلهاء البيمارستان لا من بله أوراق الورد. . . ماذا كنت أقول؟
قال أ. ش. كنت تقول: هذا لا يرضي منك ولك حبائب كثيرات.
قال: نعم لأنك إذا شبهت واحدة منهن بالقمر انتهى القمر وفرغ التشبيه فيظل الأخريات بلا قمر. . . ثم إن كلمة القمر لا تعجبني، فلونها أدكن مغبر يضرب أحياناً إلى السواد. . .
فإذا عشقتُ زنجية فههنا محلُّ التشبيه بالقمر. . . أما البيض الرعابيب فتشبيههن بالقمر من فساد الذوق.
قال س. ع.: وللألفاظ ألوان عندك؟ قال: لو كنت نابغة لأبصرت في داخلك أخيلةً من الجنة. ألم يقل أستاذنا آنفاً عن (نابغة القرن العشرين) إنه هبط من كوكب إلى كوكب؟ فقي كوكبنا الأول يكون لنا سمع ملوَّن وحسٌ ملوَّن، نسمع قرع الطبل أزرق، ونفخ البوق أحمر، ورنين النغم الحلو أخضر، والوجود كله صورٌ ملونةٌ سواءٌ منه ما يرى وما يحس وما هو مستخفٍ وما هو ظاهر.
ثم أومأ إلى المجنون الآخر وقال: واسم هذا الأبله كلفظ الحبر لا أسمعه إلا أسود. . .
وسكت (النابغة) وسكتنا؛ فقال له س. ع. مالك لا تتكلم؟ قال: لأني أريد السكوت. قال: فلماذا تريد السكوت؟ قال: لأني لا أريد أن أتكلم. . .(127/6)
وتحرك في نفسه الغيظ من المجنون الآخر فرمى بعينه الفضاء ينظر اللاشئ وقال: إذا أصبح كلُّ النساء ذوات لحى أصبح هذا عاقلاً. . . فدقَّ الآخر برجله دقاتٍ معدودة؛ فثار (النابغة) وقال: من هذا يشتمني؟
قال س. ع؟ لم يشتمك أحد، هذا خفقُ رِجلٍ على الأرض.
قال: بل شتمني هذا الخبيث وسمعي لا يكذُبني أبداً، وأنا رجل ظنونٌ أسيء الظن بكل أحد، وعلامة الحازم العاقل سوء ظنه بالناس. فهبه كما قلت قد خفق بنعله أو خبط برجله فهو يعلم ما يعني من ذلك وأنا أسمع ما يعنيه. لقد طفح الشعر على قلبي فلا بد لي من هجائه، ولا بد أن أذبحه ولو بالكلام، فإني إذا هجوته رأيت دمه في كلماتي، وأريد أن أجعله كالعنز التي كانت عندنا وذبحناها.
ثم انتزع قلم س. ع. وقال: هذه هي السكين. ولكن أسألك يا أستاذي أن تذبحه أنت بكلمتين وتصف له جنونه فقد عزَب عني الشعر. إن خفْقَة رجلٍ على الأرض تستطير الأرانب فزعاً فينفرن إلى أحجارهن ويتهاربن، وما كانت أبيات الشعر في ذهني إلا أرانب. . .
أنتم لا تعرفون أن من كان حصيفاً ثبيتاً مثلي كان دقيق الحس، ومن كان فدماً غبياً مثل هذا كان بليد الحس غليظاً كثيفاً. فإذا أنا استشعرت البرد رأيتني قد سافرت إلى القطب الشمالي؛ أما هذا المجنون فهو إذا استشعر برداً سافر إلى عباءته أو لحافه. . . .
إذ هو لا يعرف جغرافياً ولا يدري ما طحاها.
قلت: هذا منك أظرف من نادرة أبي الحارث. قال: وما نادرةُ أبي الحارث؟ وهل هو نابغة؟
قلت: جلس يتغذى مع الرشيد وعيسى بن جعفر، فأتى بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلها، والرشيد ملك عظيم لا يأكل أكل الجائع وإنما هو التشعيث من هنا وهناك. فكان رغيفه لا يزال باقياً. فصاح أبو الحارث فجأة: يا غلام، فَرَسي. ففزع الرشيد وقال: ويلك ما لك؟ قال: أريد أن أركب إلى هذا الرغيف الذي بين يديك. .
قال (النابغة): ولكن فرقاً بين أبي الحارث وبين (نابغة القرن العشرين)، فإن من العجائب أني ربما نظرت إلى الرجل وهو يأكل فأجد الشبع حتى كأنه يأكل ببطني لا ببطنه. ولكن من العجائب أن هذا لا يتفق لي أبداً حين أكون جائعاً.(127/7)
أما هذا المجنون الذي أمامنا فربما أبصر الحمار على ظهره الحمل فيشعر كأن الحمل على ظهره هو لا على ظهرالحمار. .
قال الآخر: (مما حفظناه) أنه سرق لأعرابي حمار، فقيل أسُرِق حمارك؟ قال نعم وأحمد الله. فقيل له على ماذا تحمده؟ قال على أني لم أكن عليه حين سرق. . فأنا إذا رأيت حماراً مثقَلَ الظهر حمدت الله على أن الحمل لم يكن علىّ، لا كما يقول هذا. ثم دقّ برجله دقات. .
فاستشاط (النابغة) وقال: أسمعتم كيف يقول إني مجنون، ثم لا يكتفي بهذا بل يقول إني حمار على ظهره الحمل؟
قلت: ينبغي أن تتكافأ وهذا لا يعيبك منه ولا يعيبه منك، فإن من تواضع النوابغ أن يشعروا ببؤس الحيوان، فإذا شعروا ببؤسه دخلتهم الرقة له، فإذا دخلتهم الرقةُ صار خيالُ الحمل حملاً على قلوبهم الرقيقة؛ وقد يصنعون أكثر من ذلك. حكى الجاحظ عن ثمامة قال: كان (نابغة) يأتي ساقيةً لنا سحراً فلا يزال يمشي مع دابتها ذاهباً وراجعاً في شدة الحر أيام الحر، وفي البرد أيام البرد، فإذا أمسى توضأ وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجاً ومخرجاً؛ فكان كذلك إلى أن مات.
قال المجنون الآخر: (مما حفظناه) ثمرةُ الدنيا السرور ولا سرور للعقلاء، فلو لم يكن هذا أعقل العقلاء لما مُحق سروره في الدنيا هذا المحق إلى أن مات غماً رحمه الله.
قال س. ع. فاعف الآن عن صاحبك ولا تذبحه بالهجاء.
قال: لقد ذكرتني من نسيان، وهذا المجنون يرى نسياني من مرض عقلي، وكان الوجه لو تهَدَّى إلى الحقيقة أن يراه شذوذاً في العقل أي نبوغاً عظيماً كنبوغ ذلك الفيلسوف الذي أراد أن يعرف في كم من الزمن تسلق البيضة؛ فأخذ بيده الساعة وبيده الأخرى بيضة ثم نسي نسيان النبوغ فألقى الساعة في الماء على النار، وثبتت عينه على البيضة ينظر فيها على أنها هي الساعة. ولو قد رآه هذا الأبله لزعمه مجنوناً كما يزعمني، فإن المجانين يرون العقلاء مرضى بمواهبهم وأعمالهم التي يعملونها.
وأنا فليس يهيجني شيء ما تهيجني كلمات ثلاث: أن يقال لي مجنون، أو أبله، أو أحمق. فمن رغب في صحبتي فليتجنب هذه الثلاث كما يتجنب الكفر والكفر والكفر. . .(127/8)
قال أ. ش. فإذا قيل لك مثلاً مثلاً. أي على التمثيل: مغفَّل. . .
فحك رأسه قليلاً وقال: لا، هذه ليست من قدري. . .
قلت: فبعض الكلمات إذا قطعت عندك غيرت الحقائق، كذلك القرن الذي قُطع فَرَد البقرة فرساً؟
قال وكيف كان ذلك؟ قلت: زعموا أن أعرابياً خرج أخوته يشترون خيلاً، فخرج معهم فجاء بعجل يقوده. فقيل له ما هذا؟ قال فرس اشتريته. قالوا: يا مائق هذه بقرة أما ترى قرنيها؟
فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ثم قادها إليهم وقال لهم: قد أعدتها فرساً كما تريدون. . .
قال (النابغة) هذا غير بعيد، فقد رأيتُنا حين ذبحنا العَنز وكسرنا قرنيها أعدناها كلبة سوداء، فتقذَّرتها وعفتُ لحمها ولم أطعم منها.
ثم أومأ إلى الآخر وقال: هذا لا يدري ما طَحاها، وهو مثل العنز تحسب قرنيها للقتال والنِّطاح ومنهما تمسك للذبح. فقل في هذا يا أستاذ (نابغة القرن العشرين).
قلت للآخر: أيرضيك أن أقول في المعنى لا فيك أنت. . .؟ قال نعم، فكتبت هذه الأبيات على ما يريد النابغة:
قل لعَنز ناطِحَاها ... لقتالٍ سلَّحَاها
مالها قد طَرَحاهَا ... في يَدَين ذَبَحَاها
شِيمةٌ مني نحَاهَا ... عقلُ غر فلحَاهَا
ليس يدري ما طحاها ... بل يرى شمسَ ضُحَاها
حَجَرا مثلَ رَحَاهَا ... ويرى الليل مَحَاها
ظُلماً طالت لِحَاها
وسر (النابغة) وازدهى وجعل يقول طالت لحاها، طالت لحاها؛ وما كان هذا إلا السرور الأصغر؛ أما سروره الأكبر فمجيء ساعي (البريد المستعجل) إلى النديّ وفي يده رسالة عنوانها: نابغة القرن العشرين فلان بنديّ كذا.
وجعل الرجل يهتف بالعنوان يسأل عن صاحبه؛ فتطاولت أعناق الناس ورفعوا أبصارهم ينظرون إلى (نابغة القرن العشرين) وقد مدَّ يده يتناول الرسالة وكأنه ملك من القدماء أسقط(127/9)
له كتابٌ بالفتح العظيم وبضم دولة إلى دولته.
ثم ترك الرسالة بين أصابعه يقلبها ولا يفضُّها ونحن في دهشة من أمره؛ فنظر فيها المجنون الآخر وقال له: هذا عجيب يا أخي كيف هذا؟ إن هذا لا يصدَّق. إنك لم تُلقِها في صندوق البريد إلا منذ ساعة. . . . . . . . . . . .
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي(127/10)
2 - الصقالبة في الرواية العربية وفي الدولة
الأندلسية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ونلاحظ أنه بينما كان نفوذ الصقالبة يقوى ويشتد في بلاط قرطبة وفي الدولة الأموية في الأندلس، إذا بنفوذ الصقالبة يغزو بلاطاً إسلامياً آخر ودولة إسلامية أخرى هي الدولة الفاطمية؛ ومما يدعو إلى التأمل أن يزدهر النفوذ الصقلي في البلاط الفاطمي في نفس العصر، أعني في أواسط القرن الرابع الهجري، وفي ظروف مماثلة؛ وقد قامت الدولة الفاطمية في المغرب بمؤازرة القبائل المغربية القوية، واستأثر زعماؤها مدى حين بمناصب الثقة والنفوذ؛ ولكن تطوراً وقع في السياسة الفاطمية؛ ومنذ عهد المعز لدين الله يغزو نفوذ الصقالبة البلاط الفاطمي ويغالب نفوذ المغاربة؛ وقد كان جوهر الصقلي أعظم أعوان المعز وكبير قادته من أصل صقلبي، وكان له في الدولة وفي الجيش أعظم نفوذ؛ وفي عهد العزيز سما نفوذ الصقالبة وساد في القصر وفي الوزارة؛ وبلغ ذروة قوته في أوائل عهد الحاكم بأمر الله الذي تولى الملك صبياً وتولى الوصاية عليه صقلبي هو برجوان؛ وفي عهد وصايته القصير سيطر الصقالبة على القصر والدولة، واستأثر بمناصب النفوذ والحكم نفر من الفتيان الصقالبة مثل يانس وميسور ويمن وغيرهم؛ ولكن الحاكم لم يلبث أن تخلص من هذا النفوذ الخطر بمقتل برجوان ونكبة الفتيان الصقالبة، وبذلك انهار نفوذ الصقالبة في البلاط الفاطمي.
وكان ذلك في أواسط القرن الرابع وفي أواخره حيث كان يزدهر نفوذ الصقالبة في بلاط قرطبة في عهد الناصر حسبما بينا، ثم في عهد ولده الحكم المستنصر من بعده. ولما توفي الناصر كان نفوذ الصقالبة أشد ما يكون بسطة في القصر وفي الحكومة؛ وكان فتيان القصر الصقالبة وهم المعروفون بالخلفاء الأكابر أول من أخذ البيعة للحكم المستنصر؛ وكان حاجب الحكم، جعفر بن عبد الرحمن الصقلي أقوى وأعظم رجل في الدولة؛ وكان الحرس الخلافي المكون من الفتيان الصقالبة سياج البيعة الخلافية وأبرز مظاهرها؛ وكان من وزراء الحكم أيضاً زياد ومحمد ابنا أفلح الصقلبي صاحب الخيل في عهد الناصر؛ وفي عهد الحكم غدا الحرس الخلافي كل شيء في القصر، وغدا عصمة الخلافة والخليفة يسهر(127/11)
على سلامة عرشه وشخصه، ويحميه من المؤامرات والدسائس الخارجية؛ وكان أولئك الجند الصقالبة يعتدون بقوتهم وسلطانهم ويمرحون في العاصمة ويسيئون أحياناً إلى أهلها، وكان الحكم يخشى بأسهم ويغضي عن تصرفهم وسوء سلوكهم؛ وكان عدد الحرس الخاص من الفتيان الصقالبة يبلغ زهاء ألفن، بيد أنهم كانوا يتمتعون بوفرة في الوجاهة والثراء، ويملكون الضياع الشاسعة، ويسيطرون على كثير من الأتباع والحاشية.
وهكذا أصبح الحرس الخلافي أو الفتيان الصقالبة في بلاط قرطبة أصحاب الحول والقوة، وغدوا عاملاً يحسب العرش حسابه، بل غدوا قبل بعيد حكماً في مسألة العرش وولاية العهد، مثلما غدا الحرس التركي في بلاط بغداد. وما توفي الحكم (سنة 366هـ - 976م) كان الصقالبة هم سادة الموقف وأصحاب الكلمة في ولاية العرش والخلافة. وكانت زعامتهم بيد فائق النظامي صاحب البرد والطراز، وجوذر صاحب الصاغة والبيازرة، وإليهما كان أيضاً أمر الغلمان الفحول خارج القصر. وكان رأي الصقالبة أن يصرف النظر عن تولية ولي العهد هشام بن الحكم، وهو يومئذ غلام في نحو الحادية عشرة حتى لا يفقدوا نفوذهم في ظل وصاية جديدة، وأن يولى الخلافة أخو الحكم المغيرة بن عبد الرحمن الناصر فيكون لهم بذلك فضل يمكنهم من توطيد نفوذهم وسلطانهم عليه؛ ولكن الحاجب جعفراً المصحفى أدرك ما يضمره الصقالبة من وراء هذا المشروع ولم يقرهم على ائتمارهم بولي العهد؛ ونظم البيعة لهشام ولي العهد بمعاونة الوزير محمد بن أبي عامر؛ ودبر الاثنان مقتل المغيرة بن الناصر خشية مناوأته، وتولى ابن أبي عامر تنفيذ الجريمة، وبذا استقر هشام المؤيد في العرش الخلافي، وانهار مشروع الصقالبة؛ ودبت الوحشة على أثر ذلك بين الصقالبة والحاجب جعفر، فأخذ يتحين الفرصة لسحقهم؛ وكان ابن أبي عامر يستميل الصقالبة ويداريهم بادئ ذي بدء حتى تمكن نفوذه في القصر وفي الجيش؛ وعندئذ اتفق مع الحاجب على نكبة الصقالبة وتشريدهم، ولم يدخر في ذلك وسيلة ظاهرة أو مستترة حتى شرد زعماؤهم واستصفيت أموالهم وأخمدت شوكتهم، ونفي زعيمهم فائق إلى الجزائر الشرقية (جزائر البليار)، وفي ذلك يقول شاعر معاصر هو سعيد الشنتريني:
أخرِج من قصر أمام الهدى ... كل فتى منبسط جائر(127/12)
فمن رأينا منهم قال لا ... مساس قبل الناس بالشاكر
فخف ظهر الملك المرتضي ... قد خف من ثقلهم الظاهر
وسال ماء العلم من وجهه ... مذ مال عن حبلهم الخاثر
فلازم الميدان في قصره ... مع الوزير الخير الطاهر
ولما سما أمر ابن أبي عامر وسحق كل خصومه ومنافسيه واستبد بالسلطة، رأى أن يتخذ من البربر بطانة له وخولا وأن يستعين بهم على العرب، فقدمهم في الحكومة والجيش، وعمل على تمزيق القبائل العربية؛ وكانت العصبية العربية قد اضمحلت منذ بعيد، فلم تلق السياسة الجديدة معارضة تذكر؛ وهكذا حل البربر مكان الصقالبة في الالتفاف حول السلطة العليا والتمتع برعايتها، بيد أن الصقالبة لم يفقدوا كل نفوذ بعد، فقد استمر عدد كبير منهم يشغل وظائف الخاص بالقصر؛ ولما أنشأ ابن أبي عامر حاضرته المعروفة بالزاهرة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور، عاد إلى اصطناع الصقالبة، واتخذ منهم إلى جانب البربر حاشية وبطانة؛ وحشد منهم كثيراً في الجيش؛ والظاهر أن هذه الطائفة أعني الصقالبة كانت تتمتع بصفات وخلال خاصة تجعلها أداة لينة صالحة في يد السياسة القوية الحازمة، وإذا كان الصقالبة قد بدوا في أحيان كثيرة خطراً على الدولة والعرش فقد كان من أثر السياسة التي تمد لهم في السلطة وتسمح لهم باستغلالها، وتغضي عن صلفهم وتمردهم؛ وقد كانت هذه حال الصقالبة في عهد الحكم المستنصر وحين وفاته، فقد بلغ من سلطانهم ونفوذهم أن اعتزموا التصرف في أمر العرش طبق أهوائهم، ولولا أن سحقتهم يد ابن أبي عامر القوية لاستمر سلطانهم المطلق. بيد أن ابن أبي عامر لم يجد بأساً بعد أن أخمد شوكتهم وشرد زعماءهم من أن يستخدمهم أداة لتنفيذ إرادته، بل لم يجد بأساً من أن يرفع بعضهم إلى أسمى المناصب، كما حدث في شأن مولاه الفتى واضح الصقلبي، فقد منحه حكم الولايات الجنوبية وولاه قيادة الجيش الذي بعثه لمحاربة أقوى وأخطر خصومه زيري بن عطية البربري حاكم المغرب الأقصى؛ وقد كان لواضح هذا وعصبته الصقالبة شأن عظيم فيما تلا من الحوادث والخطوب.
ولم يستطع الصقالبة في ظل حكومة المنصور القوية أن يتدخلوا في شؤون الدولة أو يؤثروا في سيرها وتوجيهها؛ فلما توفي الحاجب المنصور (393هـ - 1002م)،(127/13)
وانهارت الدولة العامرية بعدئذ بقليل، رأى الصقالبة الفرصة سانحة للعمل، فانضموا إلى الحزب الأموي الذي عمل لإسقاط الدولة العامرية وسحق البربر الذين آزروها ومكنوا لها؛ ولما ظفر محمد بن هشام زعيم هذا الحزب ببغيته واستولى على قرطبة وتلقب بالمهدي، انضم إليه الفتى واضح وعصبته الصقالبة واتخذ واضحاً لحجابته وانضم فريق آخر من الصقالبة بزعامة خيران العامري وزميله عنبر إلى سليمان المستعين خصيم المهدي ومنافسه، وجرت بين الفريقين مواقع جمة، واستتب الأمر للمهدي؛ ولكن الصقالبة لم يخلدوا إلى السكينة ورأوا صالحهم في إبعاد المهدي عن العرش، فتفاهم الصقالبة من الحزبين وائتمر واضح وخيران بالمهدي فقتله الصقالبة، في الحمام (سنة 400هـ) وأخرج واضح الخليفة المؤيد هشام المحجور عليه، وكان سجيناً بالقصر منذ أيام المنصور، وأجلسه على العرش؛ وتولى واضح حجابته، واستأثر بكل رأي وسلطة؛ وقبض على ناصية الأمور في قرطبة مدى حين؛ ولكن سليمان المستعين لم يلبث أن هاجم قرطبة في مجموعة البربر ثم دخلها رغم كل ما اتخذه له واضح من الأهبة لمقاومته، وفتك جنده بالسكان أيما فتك، واقتحموا مدينة الزهراء وخربوها (401هـ)؛ فعندئذ رأى واضح السلامة في خيانة المؤيد واللحاق بالمستعين؛ ولكن الجند الصقالبة وقفوا على نيته في الوقت المناسب فقتلوه؛ واستمر الصقالبة في الدفاع عن قرطبة وعن المؤيد وعرشه، والمستعين يحاول استمالتهم عبثاً، واضطرمت الحرب بين الفريقين مدى حين، وانتهت باستيلاء سليمان على قرطبة في مناظر هائلة من السفك والعيث (403هـ) وانهار سلطان الصقالبة بانهيار عرش المؤيد؛ وبدأ سلطان البربر، واستأثروا بحكم الثغور والنواحي، وانتثر عقد الخلافة وانقسمت الأندلس إلى دويلات وإمارات صغيرة، وبدأ عهد الطوائف.
بيد أن الصقالبة لم ينسحبوا نهائيا من الميدان، ولم يختفوا نهائياً كعامل يؤثر في سير الحوادث فقد اجتمع فلهم حول زعيم منهم، من صنائع الدولة العامرية، هو خيران العامري؛ واستقر خيران بعصبته ومن لحق به من خصوم المستعين والبربر إلى المرية بعد أن أستخلصها من يد البربر؛ وفي الوقت نفسه عبر علي بن حمود حاكم سبتة في جيش من البربر إلى الأندلس محاولاً أن يشق له خلال الاضطراب طريقاً، وتفاهم مع خيران العامري والصقالبة وتحالفا على محاربة المستعين، ثم زحفا بجموعهما على قرطبة،(127/14)
ونشبت بين الفريقين حرب رائعة هزم فيها سليمان وأسر ثم قتل مع أفراد أسرته؛ وجلس علي بن حمود على العرش وتلقب بالمتوكل (407هـ). ولجأ في الحال إلى سياسة الإرهاب والشدة، ولم يترك أي مجال أو سلطة للصقالبة، فسخط عليه خيران وتركه، وأظهر الخلاف عليه. وأثار المتوكل ببطشه وشدته زعماء العرب، واشتدت عليه النقمة، ولم يلبث أن قتله الصقالبة في الحمام (أواخر سنة 407هـ) وبذلك استطاعوا أن يؤثروا في سير الحوادث كرة أخرى.
ولما توفي المتوكل خلفه أخوه القاسم بن حمود وتلقب بالمأمون، وعدل عن سياسته الشدة إلى اللين والمسالمة، واستمال خيران العامري الذي استعصم بالمرية، وأقطع زميله زهير العامري ولاية جيان؛ وكانت الحوادث تتطور بسرعة، وكان الخلاف يضطرم فيما بين آل حمود؛ فانتهز الزعماء العرب تلك الفرصة وتفاهموا مع الصقالبة ضد أل حمود والبربر، واستخلصوا قرطبة من يد المتغلبين عليها؛ بيد أن نجم الصقالبة كان بدأ بالأفول، ولم يكن يسطع يومئذ إلا غرارا؛ وكانت دولتهم قد انهارت في الواقع وتفرقوا بين مختلف الصفوف والأحزاب؛ وكانت آخر مظاهر سلطتهم أن تولوا الحجابة لإدريس بن حمود الذي استقر في مالقة وتلقب بالمتأيد بالله، فتولى حجابته نجا الصقلبي مدى حين، ولكن دون عصبية ظاهرة.
وكان هذا آخر العهد بتدخل الصقالبة في سير الحوادث الأندلسية بصورة بارزة. ومن ذلك الحين يختفون من ميدان الشؤون الأندلسية كقوة فعالة لها أثرها الحاسم في توجيه الحوادث، ومن ذلك الحين يبزغ نجم البربر؛ وتتحول المعركة الداخلية إلى نضال مزدوج، نضال ملوك الطوائف فيما بين أنفسهم، ثم نضالهم ضد العدو المشترك أعني أسبانيا النصرانية؛ ثم يجيء دور البربر في السيادة المطلقة بسرعة، فتنهار دول الطوائف الصغيرة تحت ضرباتهم القوية، وتسقط الأندلس في يد المرابطين ثم يفتتحها الموحدون، فتستمر سيادة البربر عصراً آخر؛ ثم تنهض مملكة غرناطة في تلك الغمار والخطوب العصيبة فتسطع في الأندلس حتى يحل الصراع الأخير.
تم البحث
محمد عبد الله عنان(127/15)
مذاهب الفلسفة
مذهب الذرائع
للأستاذ زكي نجيب محمود
لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا نحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلاً فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت تسائل: ما المادة وما الروح وما مبعثها ولكنها باءت بعد طول الكدح والعناء بالفشل والإفلاس. . حتى جاء الفكر الأمريكي الحديث الذي يقدس العمل ويمقت البحث النظري المجدب العقيم، وأراد أن ينجو بالفكر نحو جديداً، فلا يكون من شأنه كنه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه. ولقد كان أول من صاغ هذا المذهب وليام جيمس (1842 - 1910) الذي اعترف أنه قد استمد أصوله وقواعده من أشتات قديمة. وأن له فضل الصياغة والتعبير. أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه فهي في أوجز عبارة: أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم على السير بالحياة نحو السمو والكمال ثانياً.
إنه لمن الغفلة والشطط أن نُؤتى هذه القوة العقلية فنبددها في البحث عما وراء الطبيعة من قوى مما لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء؛ إن العقل إنما خلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يصور بريشته عالم الغيب المجهول، الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب، وليكن مقياسه الذي يفصل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العلمية، فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته. وكل شيء يؤثر في الحياة تأثيراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مطابقته أو عدم مطابقته لما يخلقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يُعَوّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدها؛ فإن كان الرأي مثمراً نافعاً قبلناه حقيقة، وإلا أسقطناه من حسابنا وهما باطلاً.(127/17)
والواقع أن معظم الناس يتبعون في حياتهم العملية أصول هذا المذهب، فهم ينتقون لأنفسهم من الآراء ما يعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل على رقي الإنسانية وتقدم البشر بصفة عامة. خذ العقيدة في الله مثلاً، فالأكثرية العظمى تأخذ بها لا لأن الدليل قاطع بوجوده، (فذلك أبعد عن متناول الدهماء) ولكن لأنها ترى أن هذه العقيدة تبث في حياة الناس روحاً قوية، وتفسح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي لولاه لضقنا ذرعاً بفداحة عبئها. . فليس منا من لا يقيس الآراء بظروف عيشه ثم يختار منها أنسبها له وأفعلها في أداء مهمته؛ فسلوكها العملي هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا، وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً إنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وإنه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.
وإن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه، فيقرر أن الباطل إذا كان وسيلة ناجحة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عاملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع؛ فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. أنظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل أنظر كم يبذل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على لأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء أحفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.
ولا يقتصر الأمر في ذلك على عامة الناس، بل إن أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أم ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته؛ وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لأن تكون تلك الآراء صحيحة أنها توجهنا في حياتنا توجيها صحيحاً، فلا يعنينا في كثير أو قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه، وعلى(127/18)
هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المسائل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فإن لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.
وهكذا يريد مذهب الذرائع أن تكون كل فكرة وسيلة لسلوك عملي معين، أعني أن تكون الفكرة تصميماً لعمل يقوم به الإنسان، أو لا تكون على الإطلاق؛ فالفكرة التي تحيا في الذهن وحده ليست جديرة بهذا الاسم، ولا خير فيها إلا أن كانت مرشداً للإنسان في حياته وسلوكه، فيكون مثلها مثل اللون الأحمر أو الأخضر على السكة الحديدية يراهما سائق القطار فيوجهان تصرفه توجيهاً معيناً، أو كالعلامات الموسيقية كل قيمتها في توجيه حركات الموسيقيِّ، فإن لم تُفد ذلك كانت عبثاً صبيانياً لا يعني شيئاً؛ فيجب على هذا الأساس أن تكون كل فكرة في أذهاننا مرشداً عملياً يرسم لنا سلوكنا ويضع لنا القواعد التي ينبغي أن نسير على مقتضاها في حياتنا اليومية. أو بمعنى آخر تكون أساساً لعادة معينة. ففكرة الجاذبية مثلاً معناها محصور في تكوين عادات أستعين بها في سلوكي، فأعرف كيف أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيماً ملائماً، فأحمل كوب الماء مثلاً وفمه إلى أعلى حتى لا ينسكب الماء بفعل الجاذبية؛ وأمشي معتدل القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأشيد مسكني مستقيم الجدار لئلا ينهار بفعل الجاذبية، وهلم جرا. أما إن كانت حياتي لا تتأثر بهذه الفكرة، وكنت لا أصادف لها آثارا فيما أصادف من تجارب، كانت في اعتباري وهما وخطأ، بغض النظر عن حقيقة وجودها في العالم الخارجي أو عدم وجودها؛ فالرأي الصحيح هو ما ييسر لي سبيل الحياة ويعمل على توفيقها ونجاحها، والرأي الخاطئ هو ما يفعل عكس ذلك، أو ما لا أرى له أثراً في الحياة.
وظاهر أن نظرية التطور تؤيد هذا المذهب وتدعمه، لأن العقل عندها ليس إلا عضواً كسائر الأعضاء يتذرع به الإنسان في تنازع البقاء، وأنه لو لم يكن العقل أداة من أدوات البقاء لما وجد أصلاً؛ وإذن فالفكرة التي تنشأ فيه لا تكون صادقة بمقدار مماثلتها للحقيقة الواقعة في الخارج، كلا، بل مقياس صدقها هو في مقدرتها على إجابة الظروف المحيطة بنا على النحو الذي يمكن لنا في البقاء. ولتوضيح ذلك نقول إنه من المعلوم أن الأشياء(127/19)
الخارجية في ذاتها لها ألوان، إنما الألوان من صنع أعيننا، ولكني ما دمت أستطيع بفكرة اللون التي في ذهني (وإن لم تكن موجودة في الخارج) أن أميز الأشياء فأعرف التفاحة الناضجة مثلاً باحمرارها؛ والفجة باخضرارها، ففكرة اللون صحيحة صادقة. كذلك قل في الصوت، فليس للأصوات وجود في الخارج، إنما هي أمواج تقصر حيناً وتطول حيناً، حتى إذا ما قرعت الأذن، ترجمتها هذه بما نعهد من أصوات، ولكن ماذا يعنيني من عدم مماثلة فكرة الصوت في ذهني للأمواج الخارجية في الهواء، ما دمت أعرف أن هذا الصوت المعين يدل على سيارة قادمة فأنجو بحياتي من الخطر؟ إن فكرة الصوت حقيقة ما دامت تعمل على نجاح الحياة وبقائها. . . إن الحياة كما يعرفها سبنسر هي ملاءمة حالات الإنسان الداخلية بالظروف الخارجية، وإذن فالعقل الصالح للحياة هو ذلك الذي يدرك اختلاف الظروف الخارجية لنعدل من سلوكنا بما يلائم الموقف الجديد، وليس يعنينا بعد ذلك في كثير ولا قليل أن تكون الصورة الذهنية التي رسمها لنا العقل من الأشياء الخارجية، مطابقة لأصلها أو مشوهة محرفة، فالحقيقة العليا في الوجود هي الاحتفاظ بالبقاء أولاً، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال. فكل ما يؤدي ذلك هو حق صريح. وفي ذلك يقول (ديوي) العالم الأمريكي المعروف: إن الفكر أداة لترقية الحياة وليس وسيلة إلى معرفة الأشياء في ذاتها. ويقول (شلر): إن الحقيقة هي ما تخدم الإنسان وحده. وكلا الرجلين من دعاة هذا المذهب.
ونحن نجمل فيما يلي ثلاثة الشروط التي يضعها مذهب الذرائع لصدق فكرة ما:
1 - فأولاً يجب أن يكون للفكرة قيمة فورية - ومعناها أن الإنسان يجب أن يشاهد صحة رأيه أو خطأه في تجربته العلمية، فإن جاءت هذه التجربة العلمية موافقة للفكرة كانت الفكرة صحيحة وإلا فهي خاطئة.
2 - وثانياً أن تكون الفكرة منسجمة مع سائر أفكاري وآرائي. فلا يكفي أن تكون كل فكرة صحيحة على حدة بالنسبة لقيمتها الفورية، ولكنها يجب كذلك ألا تناقض الأفكار الأخرى. فلا يجوز مثلاً أن أفرض نوعاً من الذرات في علم الطبيعة، ثم أفرض نوعاً آخر منها في علم الكيمياء، حتى ولو كان كل منهما صحيحاً في ميدانه الخاص - فإذا وجدنا أمامنا فكرتين عن شئ ما، كل منهما صحيح بالنسبة لقيمته الفورية، وجب أن نختار إحداهما على(127/20)
أساس البساطة، فأبسط الفكرتين أصحهما؛ فمثلاً لما أتى كوبرنيك برأيه الجديد عن الكون يعارض به رأي بطليموس القديم، كانت كلتا الفكرتين صادقة إذا قيستا إلى ما ينجم عنهما من النتائج العملية في حياة الناس، ولكن ما دامت فكرة كوبرنيك أقل تعقيداً من الأولى، كان لزاماً أن يقع عليها اختيارنا.
3 - ولا بد للفكرة بعد هذا وهذا أن تطمئن لها نفس الإنسان وترضى ما دام لا يتعارض مع القيمة العملية. فالعقيدة الدينية مثلاً، على الرغم من أن ليس لها قيمة فورية في حياتنا إلا بمقدار ضئيل، إلا أنها واجبة، لأنها تخلع على حياتي صبغة من التفاؤل، وهي في الوقت نفسه تنسجم مع الأفكار الأخرى ولا تتعارض معها. ومعنى ذلك أنه إذا تساوت ظروف فكرتين، ثم كانت إحداهما تبعث التفاؤل والأخرى تبعث التشاؤم، كانت الأولى بالنسبة لنا أصدق وأصح. فالمؤمن والملحد كلاهما لا تؤثر عقيدته في شؤون حياته! ولكن الأول متفائل يرجو الآخرة، والثاني متشائم لا يرجو شيئاً؛ إذن فالإيمان أصدق من الإلحاد وأحق، لأنه أجدى على الإنسان وأنفع.
تلك هي الحقيقة في عرف هذا المذهب؛ ولقد يعترض بحق أنها قد تؤدي إلى التنافر بين الناس، وإلى عدم انسجامهم في سلك المجتمع، لأن كل فرد سينتقي لنفسه الرأي الذي ينفعه بغض النظر عما يتخذه سواه من آراء؛ وإذن ففلسفة الإنسان ستعتمد على مزاجه وظروفه، ولكننا نسارع فنقول إن مذهب الذرائع قد أحس في نفسه بهذا النقص، فحاول أن يوفق بين قواعده وبين مصلحة الجماعة لا الفرد، فقرر أن الرأي الصحيح هو الذي يكون له فائدة عملية لأكبر عدد ممكن من الناس، بل ويحسن أن تشمل نتائجه النافعة الإنسانية بأسرها، وإذن فلا ينبغي أن نحكم على رأي بالصواب أو بالخطأ إلا بعد تجربة اجتماعية طويلة الأمد. ولكن يؤخذ على مذهب الذرائع وجوه أخرى من النقص نرجو أن نعرضها في مقال تال.
زكي نجيب محمود(127/21)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
كوخ
رابع غزاة المكروب
طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض عن مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور وأثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وأن لكل مرض مكروباً يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصاً خالياً من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على أرض مصروفي أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها أرفع بنوده، وقاتلته على أرضها أفتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالماً قد أخطأته سهامها قضاء وقدراً.
المترجم
- 3 -
كان كوخ مستقرّ النفس، بارد العاطفة؛ فلما نجا من هذه المخاطر بسلام، وأصاب بها ما أمّل من نجاح، لم يَدُرْ بخلده أنه أصبح في عداد الأبطال، ولم يخطر بباله أن ينشر أبحاثه في الناس. واليوم إذا أنجز الرجل الباحث عملاً بارعاً كهذا، وكشف عن أسرار لها مثل هذه الخطورة، استحال عليه أن يعقد لسانه فلا يتحدث بها.
وظل يسخّر نفسه في العمل تسخيراً، ويذلها فيه تذليلاً، وهو في ذلك ساكت صامت، حتى ليكاد المرء يتهم هذا الطبيب الريفيّ الألماني العبقريّ بأنه لم يدرك مقدار الجمال والخطر الذي كان في تلك التجارب التي أجراها وحيداً في عزلته وانزوائه.(127/22)
نعم تابع العمل وصابره، فلا بد له أن يعلم فوق الذي علمه؛ فأخذ يحقن الخنازير الغينية والأرانب، والشياه أخيراً، بذلك السائل ذي المظهر الطاهر والمخبر القاتل من قطراته العالقة. ولم تكد تدخل هذه الآلاف القليلة من المكروب إلى دم هذه الحيوانات حتى يتضاعف عددها بلايين المرات بسرعة واحدة، وبفظاعة واحدة، في الفأر الصغير والشاة الكبيرة على السواء؛ ولا تمضي ساعات حتى تعج بها أنسجة كانت سليمة تزدحم في الشرايين الصغيرة والأوردة الرفيعة حتى تختنق بها، وحتى يستحيل الدم الأحمر القاني إلى دم رهيب أسود - فتنفق الشياه، وتفنى الخنازير والأرانب.
كان كوخ في الأطباء واحداً من سوادٍ كثير، فلم يكن له اسم، ولم يكن لحاله ذكر، ولكنه فارق هذا السواد بغتة، وارتفع مصعداً إلى صفوف الأمجاد الخالدين من الباحثين؛ وكان كلما مهر في اصطياد المكروب ساءت عنايته بمرضاه بقدر ذلك؛ صاحت أطفالٌ رُضّعٌ في ضياع بعيدة، ولكن الطبيب لم يحضر؛ واحتد الألم في أضراس فلاحين، فاصطبروا على أوجاعهم ساعات مضنيات، ولكن دون جدوى؛ واضطُرّ كوخ أخيراً أن يحول نصيباً من مرضاه على طبيب آخر؛ وقل حظ زوجته من رؤيته وزاد همها، وودت إليه ألا يخرج إلى مرضاه وبه رائحة كيميائياته وحيواناته. أما هو فلم تصله شكوى زوجه، ولا صوت مرضاه، فلو أنهم وهم القريبون منه صاحوا له من وراء النصف الأبعد للقمر ما زادوا ولا نقصوا في أسماعهم إياه - ذلك أن قضية خفية جديدة ساورت رأسه، وملكت لبه، وأسهرته الليالي، قال لنفسه:
هذه البشلات تموت وشيكاً على قطعة الزجاج تحت المجهر، فأنى لها وهي بهذا الضعف أن تنتقل في الطبيعة من حيوان مريض بالجمرة إلى الحيوان جدّ سليم؟
وكان فلاحوا أوربا والبيطريين فيها يؤمنون بخرافات غريبة عن أسباب هذا المرض، وعن تلك القوة الخفية لهذا الوباء، وقد أُصلِت كالسيف فوق رقاب أغنامهم وأبقارهم لا يدرون متى يهبط عليها بالقتل المروع الذريع. أما هذه البشلات الصغيرة الضئيلة التي لا يبلغ طول الواحدة منها جزءاً من ألف من المليمتر، فلن يتصور عاقل أنها سبب هذا المرض الفظيع.
قال البقارون والغنامون لكوخ: (يا سيدنا الدكتور، هب أن مكروباتك الصغيرة تقتل أبقارنا(127/23)
وأغنامنا، فقل لنا بالله إن كان هذا حقاً، كيف أن القطيع يكون سليماً في مرتع، يأكل ويشرب، ويثب ويلعب، فإذا نقلناه إلى مرتع آخر، كثير العشب، وافر النعمة، امتنع أكله، وذهب لعبه، وتساقطت وحداته، وماتت سريعاً كأنها الذباب).
كان كوخ يعلم أن هذه الوقائع حقاً لا كذب فيها، كان يعلم أن في أوفرن بفرنسا جبالاً خضراء لا تذهب إليها قطعان الأغنام حتى يأخذها الموت واحدة واحدة، أو عشرة عشرة، حتى ومائة مائة، بسبب هذا الداء الأسود داء الجمرة؛ واجتمع الفلاحون حول نيرانهم في ليالي الشتاء الباردة وأخذوا يتهامسون: (إن حقولنا ملعونة مسكونة).
وحار كوخ في أمره - وكيف تقوى هذه البشلات الدقيقة على العيش سنوات عديدة في مثل هذا الشتاء، فوق هذه الحقول، وعلى تلك الجبال؟ كيف يكون هذا؟ وهو حين أخذ شيئاً من طحال فأر وبئ، ونشره على شريحة من الزجاج، وأخذ ينظر إليه من المجهر، وجد المكروب قد عجز عن الحياة، فانبهمت حدوده، وانتشر جرمه، واختفت صورته اختفاء؛ نعم كيف يكون، وهو لّما وضع من بعد هذا على المكروب فوق شريحة الزجاج سائلاً من عين ثور، وهو نعم الغذاء الطيب، لم ينم المكروب، ولم يتكاثر، وهل تتكاثر الأموات؟ ثم هو لما جفف هذا الدم الوبئ وحقنه في فئران، ظلت في أقفاصها تلهو وتمرح ناعمة بالحياة؛ إذن هذه المكروبات ماتت؛ نعم ماتت هذه المكروبات التي كانت تقتل الشاة السمينة والبقرة الضخمة الكبيرة على السواء.
وتسائل كوخ: (هذه المكروبات تموت على زجاجاتي النظيفة اللامعة في يومين اثنين، فكيف استطاعت أن تواصل الحياة على الحقول زماناً طويلاً؟).
وذات يوم وقع بصره على حَدَث غريب تحت مجهره - تحولٍ عجيب أدى به إلى حل الطلسم الذي أعجزه. وجلس كوخ على كرسيه بمعمله الصغير في بروسيا الشرقية وكشف السر المخبوء في حقول فرنسا وجبالها؛ وحكاية ذلك أنه جاء بقطرة من قطراته العالقة، وهي حبيسةٌ في نقرتها الضيقة من شريحة الزجاج، وتركها في مدفأ درجة حرارته كدرجة جسم الفأر، وخلفها هناك أربعاً وعشرين ساعة، فلما عاد قال: (لا بد أن يكون المكروب قد نما في القطرة واستطال خيوطاً طويلة كطول تلك التي تنمو في أجسام الفئران). ونظر في المكرسكوب فوجد غير الذي أمّله. وجد أن الخيوط بعد أن استكملت طولها، أخذت حدودها(127/24)
تنبهم، وتنقط الخيط بأجسام بيضاوية لمعت كحبات الزجاج، وانتظمت على طوله كعقد اللؤلؤ، بَرَق واستقام.
استاء كوخ أول الأمر، فسخط ولعن، وحسب أن غريباً من المكروب دخل إلى مكروبه فأفسده، ولكنه لما أعاد النظرة وجد حُسبانه الأول خاطئاً، فالحبات اللامعة كانت في داخل خيوط المكروب، وهذه الخيوط نفسها هي التي تحولت إلى تلك الحبات. وجفف كوخ قطرته العالقة، وحفظ ما بقي منها على الزجاج شهراً أو بعض شهر. ثم شاء القدر أن يعود فينظر إليها من خلال عدسته، فوجد العقود لا تزال على لمعانها؛ فخطر له أن يجري شيئاً من التجارب عليها. فأتى بقطرة صافية من عين ثور، فأسقطها على تلك المكروبات التي استحالت عقوداً، وأخذ ينظر إليها فإذا بالحبّات تنمو فتصير إلى بشلات، ثم إلى خيوط طويلة مرة أخرى. عام رأس كوخ اختلاطاً واندهاشاً.
قال: (إن هذه الحبات البارقة الغريبة قد عادت فاستحالت بشلات تارة أخرى، فهذه بذور المكروب، صوره الأمتن التي تصمد للحر الشديد والبرد القارص والجاف القاتل. . . . . . لا بد أن المكروب على هذه الصورة يستطيع البقاء طويلاً في الحقول، لا بد أن البشلات تستحيل إلى هذه البذور).
وقام كوخ عندئذ بجملة من التجارب الدقيقة البارعة، أجراها ليمتحن صحة ظنه في هذه البذور، فاستخرج طحالات من فئران مجمورة، استخرجها الآن بحذق ظاهر بعد الخبرة والمران، ورفع هذه الأطحلة، وفيها الموت، على مشارط وبملاقط طهرت في النار، واحتاط ما استطاع الحيطة ألا تمسها مكروبات من التي تسبح على ضلال في الهواء، وحفظها يومياً في درجة حرارة كالتي لجسم الفأر. فلم يكذب ظنه، فخيوط المكروب استحالت إلى حبات من البذور بارقة كالزجاج، وتلا هذه بتجارب عديدة حبسته طويلاً في حجرته الصغيرة القذرة، خرج منها على أن هذه البذور تبقى حية أشهراً كثيرة، وأنها من بعد ذلك تنفقص على التو عن تلك البشلات القاتلة إذا هي وضعت في قطرة من سائل عين ثور، أو إذا هي أُدخلت على فلقة خشب في قاعدة ذنب فأر.
قال كوخ: (إن هذه البزور لا تتكون في حيوان وهو حي أبدا، وإنما تظهر فيه بعد وفاته إذا احتُفِظ بجسمه حاراً).(127/25)
وأثبت ذلك إثباتاً جميلاً بأن وضع أطحلة وبيئة في ثلاجة، ثم عاد إليها بعد أيام فأخذ منها وحقن الفئران، فلم يصيبها سوء، فكأنما حقن فيها لحماً طازجاً سليماً.
وكان العام عام 1876، وكان كوخ قد بلغ الرابعة والثلاثين فخرج لأول مرة من عُشّه، من قرية فُلِشْتَين ليخبر الدنيا في شئ من الفأفأة، أنه قد ثبت ثبوتاً قاطعاً بعد طول الشك أن المكروبات أسباب الأدواء. لبس كوخ أفخر ثيابه، ووضع على عينيه نظاراته وقد تأطر الذهب حولها، وحزم مجهره، وعدداً من القطرات العالقة في محابسها من الزجاج وقد تنغشت بمكروب الجمرة القاتل، وأضاف إلى متاعه قفصاً أخذ يهتز ببضع عشرات من الفئران البيض الصحيحة، وركب القطار ووجهته بلدة برسلاوة ليعرض فيها مكروب الجمرة الذي كشفه، وليبين للأشهاد كيف يقتل هذا المكروب فئرانه، وكيف أنه يستحيل تلك الاستحالة الغريبة فيصير عقوداً كالُّسبَح - وأراد بخاصة أن يطلع الأستاذ كُون على كل هذا، وهو أستاذ النبات بجامعة برسلاوة، وكان يكتب أحياناً إلى كوخ مشجعاً حامداً.
أعجب الأستاذ كون بتجارب كوخ التي أجراها وحيداً لا يسمع به أحد، وعلم أنها ذات خطر كبير لم يفطن له كوخ نفسه، وتصور في ابتسام وخبث ما يكون من أثرها في نفوس جهابذة الجامعة وأعلامها، وهم ما هم من رفعة القدر وشيوع الذكر، وكوخ هو ما هو من الضعة والخمول، فبعث إليهم يدعوهم لحضور الليلة الأولى للمعرض الذي يقيمه طبيب القرية الصغير.
ولبوا الدعوة، نعم لبوها ليستمعوا إلى هذا الذي جاء من أقصى الريف يحدثهم عن العلم؛ ولعلهم جاءوا رعاية لحرمة الأستاذ الشيخ كون. ولقيهم كوخ، ولم يحاضرهم في الذي أتى له، فلم يكن قط ممن يحسن صناعة الكلام. انعقد لسانه، ولكن يده انطلقت ثلاثة أيام ولياليها ترى هؤلاء السفسطائيين ما كان من أبحاثه طوال تلك السنين، وما كان فيها من تلمس في الظلام، وتحسس في دياجير المجهول، وما كان فيها من عثرات تبعتها نهضات، ومن نهضات تلتها عثرات؛ فلم ينزل أحد من كبريائه، ولم يهدئ من ادعائه، نزول هؤلاء الجهابذة وهدوءهم، وقد كانوا في كثرتهم يستمعون لرجلنا القليل، وقد كانوا طامنوا أنفسهم على التسامح، وألا يأخذوا عليه المآخذ، بل يدعونه يرسل القول إرسالاً، فما عند مثله يطلب الجدل، ولا لمن هم في منزلته يثار النقاش. ولم يجادل كوخ قط ولم يتفيهق قط، ولم(127/26)
يحلم الأحلام، ولم ينطق عند الغد بصنوف النبوءات، وإنما ظل يضرب فِلَق الخشب في ذيول الفئران فكانت كالسهام سرعة ودقة، وفتح أساتذة البثلجة عيونهم وسعها لما رأوه يتناول تلك البشلات والبزور والمكرسكوب بيد صناع لا تكون لعالم إلا في ستّينه. كان انتصاراً رائعاً روعة الصباح الضاحي.
وكان من بين هؤلاء الأساتذة الأستاذ كون هايم وكان من أمهر علماء أوربا في دراسة الأمراض، فلم يستطيع صبراً على الذي سمع ورأى، وخرج ثائراً من صالة العرض وذهب إلى معمله واندفع على التو إلى حيث يعمل الشباب من مساعديه في أبحاثه، فصاح فيهم: (أبنائي، دعوا ما بأيديكم وانصرفوا فاستمعوا إلى الدكتور كوخ، فإن هذا الرجل كشف كشفاً عظيماً) واسترجع الأستاذ أنفاسه.
قال الطلاب: (ولكن يا سيدنا الأستاذ منْ كوخ هذا فما لنا به من علم؟).
قال الأستاذ: (مهما يكن من أمره، فالكشف الذي أتاه عظيم، كشفٌ غاية في الدقة، غايةٌ في البساطة، غايةٌ في العجب. وكوخ هذا ليس أستاذاً. . . ولم يتعلم قط كيف يجري الأبحاث. . . وإنما تعلمه من ذات نفسه، وصنع كل ما صنع بمجهوده وحده).
قال الطلاب: (ولكن ما هذا الكشف يا سيدنا الأستاذ؟).
قال الأستاذ: (أقول لكم اذهبوا، واذهبوا جميعاً، وانظروا بأعينكم، واسمعوا بآذانكم، فإنه عَلِم الله أخطر كشف في عالم المكروب. . . كشف نتضاءل جميعاً إلى جانبه. . . .
اذهبوا. اذهبوا. .)
ولم يتم الأستاذ قوله إلى التلاميذ حتى كانوا قد خرجوا من الباب واختفوا عن بصره فلم يسمعوا آخر نبراته، وكان من بينهم بول إرليس
قال بستور قبل هذا اليوم بسبع سنوات: (إن الإنسان في مقدوره محو الأمراض المعدية من على ظهر البسيطة)؛ وعندئذ قال أحكم أطباء ذلك العصر: (إنه رجل مأفون)؛ ولكن في هذه الليلة خطا كوخ بالدنيا أول خطوة في تأويل الحلم الذي أرتاه بستور. وختم كوخ حديثه إلى الأساتذة الأمجاد قال: (إن أنسجة الحيوانات التي تموت بداء الجمرة لا تعدي بهذا الداء إلا إذا هي حملت بشلاته أو بزور هذه البشلات، سواء أكانت هذه الأنسجة صالحة أو فاسدة، متعفنة أو جفت أو مضى عليها عام. وفي وجه هذه الحقيقة يجب أن يزول كل ظلّ(127/27)
من شك في أن هذه البشلات هي سبب هذا الداء) ختم حديثه إلى الأساتذة بهذا القول حتى لكأن تجاربه التي أراها إياهم لم يكن بها كفاية من إقناع؛ وزاد على ما قال بأن أبان لمستمعيه، وقد أخذتهم الدهشة، طريقاً لمكافحة هذا الوباء، طريقاً أرته تجاربه إياه لمحو هذا الداء، قال: (إن كل حيوان يموت بالجمرة يجب إعدام جثته في الحال، فإذا لم يكن في الإمكان حرقها، فلا أقل من دفنها عميقة في الأرض حيث البرودة شديدة فلا تأذن للبشلات أن تستحيل إلى بزور تقاوم شدة الحياة وجبروتها طويلاً. . . . .).
وهكذا علم كوخ الناس في هذه الثلاثة الأيام كيف يبدأون في محاربة المكروب ويدفعون عن أنفسهم أسباب المهالك التي تكمن لهم خفية في الظلام؛ وهكذا بدأ في حمله الأطباء على الإقلاع عن اللعب الهازل بالحبوب والعلق في مدافعه الأدواء، وإحلال العلم والمنطق محل السحر والخرافات.
وقع كوخ بذهابه إلى المدينة برسلاوة في زمرة من رجال أمناء كرماء مخلصين، بذلوا له من صداقتهم ومن عونهم الشيء الكثير، نخص بالذكر منهم الأستاذين كون وكون هايم ذلك لأنهما أولاً لم يسرقا أبحاثه، ولصوص العلم ليسوا أقل عدداً من اللصوص في مناشط الحياة الأخرى. وثانياً لأنهما صّيحا له وهتفا هُتافاً ترددُ أصداؤه في أوربا، حتى لأوجس بستور خيفة على مكانه سيدا لبُحّاث المكروب، وأخذ هذان الرجلان يرسلان الكتاب تلو الكتاب إلى مصلحة الصحة الإمبراطورية ببرلين يعرفانها بأمر هذا الرجل الجديد، مفخرة ألمانيا؛ وصنعا ما صنعاه ليمكناه من ترك عيادته، وهي لا تكسبه غير البلادة، وتيسير الرزق والمال له ليفرغ لدرس المكروب ودفع أدوائه. ومن يدري ماذا يكون من أمر كوخ لو أنه جاء برسلاوة فلم يجد بها غير الزجر والمهانة والصدود، إذن لعاد إلى قريته واكتفى بمعاودة صناعته من جس النبض والنظر في السنة المرضى، ولما كان من أمره الذي كان. إن رجل العلم لا ينجح إلا أن يكون فيه بعض خُلُق الدلالين وأرباب المعارض - وهكذا كان اسبلنزاني الفخم العظيم، وهكذا كان بستور الحساس الصخاب - وإلا أن يكون له من أرباب الجاه وذوي السلطان من يحميه بجاهه، ويدفعه ويزجه في معترك الحياة.
يتبع
أحمد زكي(127/28)
نظرية النسبية الخصوصية
البحث الأول
الزمان ونسبيته
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عضو أكاديمية العلوم الروسية
- 1 -
لنتصور قطاراً يتحرك من محطة القاهرة الساعة الثامنة، فما معنى تحركه الساعة الثامنة؟ لا خلاف في أن معناه أن آونة تحرك القطار وحادثة وقوف العقرب الكبير في الساعة على الرقم (12) والصغير على الرقم (8) متوافقان.
ولقد يجول بخاطر الكثيرين أن في هذا البيان الكشف عن حقيقة الزمان. وهذا ظن صحيح فيه من الوثوق الشيء الكثير لو كان العالم كله الساعة وما حولها. ولكن مثل هذه الفكرة هل تنطبق على حادثتين: الأولى حدثت في مكان قصي عن مكان الأخرى؟ فمثلاً لو فرضنا حادثة مثل الحادثة (أ) حدثت في الشمس، وحادثة أخرى مثل الحادثة (ب) حدثت على الأرض؛ فهل في الإمكان النظر في تواقُتِهما؟
إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة تتطلب منا أن نذكر أن مسألة التواقت مسألة ترجع لتساوي سير حركة الساعات في مختلف الأمكنة، وهذا الأمر يرجعنا إلى واسطة التعيين.
لنفرض كرة مثل (ك) بها نقطتان ثابتتان، الأولى (أ) والثانية (ب) وبكل نقطة من هاتين النقطتين توجد ساعة، ولنرمز لساعة النقطة الأولى بالرمز (سأ)، ولساعة النقطة الثانية بالرمز (سب)، ولنفرض أن المسافة بين هاتين النقطتين هي (م)؛ فلكي نوحّد سير الساعتين نجد أمامنا إحدى طريقتين نسلك إحداهما لتوحيد سير ساعتي النقطتين: الطريقة الأولى تنحصر في نقل الساعة (سأ) والساعة (سب) إلى مكان واحد، ثم ضبطهما هنالك على زمان واحد، ثم إعادة كل ساعة إلى المكان الأول. والطريقة الثانية تستند على إشارة ضوئية من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) مثلاً، فتضبط بناء عليها الساعة (سب) زمانها حسب زمان الساعة (سأ).(127/30)
وهاتان الطريقتان لا زالتا مستعملتين إلى يومنا الحاضر في حياتنا العملية؛ فالسفن تتبع الطريقة الأولى عندما تضبط وقت ساعاتها حسب أزمنة الموانئ التي ترسو عليها؛ وتتبع الطريقة الثانية بمراجعتها أزمنة ساعاتها وكرونومتراتها خلال سيرها بإشارات التليفون اللاسلكي لتصحح الفروق الناشئة في الزمن من اختلاف خطوط الطول والعرض على سطح الكرة الأرضية. ويمكننا استناداً إلى هذه الظاهرة تقرير اختلاف الزمان؛ غير أن هذا التقرير لا تكون له قيمة علمية إلا بعد تعميمه على الأكوان.
فلنفرض في كون مثل (ك) ساعة مثل (س)، فهل في الإمكان جعل ساعتين مثل (س1) و (س2) في كونين مثل (ك1) و (ك2) تتحركان حركة انتقالية مستقيمة متساوية في الزمان مع زمان الكون (ك)؟
الإجابة عن هذه المسألة خارجة عن نطاق علم الطبيعة ما دامت هذه الأكوان يتحرك بعضها إزاء بعض حركات انتقالية؛ ومهما كانت هذه الفروق المتولدة من هذه الحركات ضئيلة فمسألة تساوي الزمان في هذه الأكوان أو عدم تساويه لا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى الإشارات الضوئية. والاستناد على الأمواج النورية في تقرير تواقت الزمان قائم على ثبات سرعة النور، وهي وإن كانت سرعة محدودة إلا أنها سرعة فوق كل سرعة.
وقضية ثبات سرعة النور تجرنا إلى معرفة حركات الأكوان المطلقة خلال الفضاء الأثيري.
إذا أرسلنا شعاعة نور في اتجاه سرعة الأرض فستكون سرعة هذه الشعاعة بالنسبة للمشاهد الذي أرسلها من فوق الأرض: (300 , 000 كم - سرعة الأرض في الفضاء الأثيري).
وفي حالة إرسال شعاعة النور في عكس اتجاه سرعة الأرض فستكون سرعة الشعاعة متضخمة بسرعة الأرض بالنسبة لمرسلها (300 , 000 كم + سرعة الأرض في الفضاء الأثيري).
وكل التجارب التي أجريت في هذا الصدد أسفرت عن نتيجة سلبية.
- 2 -
لنفرض شعاعة نور مثل (س) تقع على مرآة نرمز لها بالرمز (م)، وهذه المرآة نصف(127/31)
عاكسة، فتشق شعاعة النور (س) شعاعتين: المعكوسة (س1) والمكسورة (س2)، وقد وضعت المرآة (م) بالنسبة لاتجاه الشعاعة (س) بحيث تجعل الشعاعتين (س1) و (س2) متعامدتين إحداهما على الأخرى؛ ولنفرض أنه قد وضع في خط سير هاتين الشعاعتين وعلى بعد ثابت من المرآة (م) مرآتان أخريان، الأولى (م1) والثانية (م2) بحيث تردان الشعاعتين (س1) و (س2) إلى المرآة (م)؛ وهناك عند التقائهما ثانية تعكسان عكساً نصفياً فيتحد الجزء المعكوس من الشعاعة (س2) مع الجزء المكسور من الشعاعة (س1) في الشعاعة الأخيرة (س3)، فإذا ما سارت الشعاعتان مسافة واحدة من نقطة افتراقهما إلى نقطة التقائهما ثانية: أعني إذا كانت المسافة من (م) إلى (م3) تعادل المسافة من (م) إلى (م1) تعادلاً تاماً، فإنك إذا ما وضعت عينيك في الوضع (د) شاهدت الشعاعة (س3) كاملة لا نقص فيها؛ أما إذا كانت المسافة (م - م1) تنقص أو تزيد على المسافة (م - م2) بما يعادل نصف موجة النور أو حاصلاً صحيحاً لنصف موجة النور، فإن الشعاعتين تكونان قد سارتا منذ انفراجهما إلى اتحادهما ثانية غير متعادلتين، فينجم عن ذلك تداخل نوري بين حركة الموجتين يشف عن نظام تداخلي يتظاهر في شكل حلقات من النور والظلمة.
ولو فرض وأزحنا (م1) أو (م2) قليلاً بمعنى أننا غيرنا تعادل المسافتين (م - م1) و (م - م2) ألفينا هذه الحلقات تتحرك، أو قل تتقلص شيئاً فشيئاً إلى أن تختفي في الوسط المشترك بينهما، ثم تظهر حلقات جديدة من خارج النظام، ويكون عدد ما يختفي معادلاً عدد ما يظهر من الحلقات؛ ومن مقدار تغير (م - م1) أو (م - م2) نستطيع حساب الحلقات الواجب اختفاؤها على هذا المنوال. لهذا لو كان هنالك راصد مشاهد لهذا النظام، وطفقت حلقاته تتقلص بغتة، أمكنك أن تحكم يقيناً إن كانت المسافة (م - م1) أو (م - م2) قد شرعت في التغير؛ وإذا حسبت عدد الحلقات المختفية استطعت التنبؤ بمقدار تغير المسافتين.
أجرى الدكتور ميكلصون والأستاذ مورلي تجربتهما بحيث كانت حركة الشعاعة موازية لحركة الأرض (ح) حول محورها مثلاً، أي وضعت (م1) بحيث تكون المسافة (م - م1) ممتدة شرقاً غرباً، فتكون لذلك الشعاعة (س1) متعامدة على اتجاه حركة الأرض حول محورها، أي تكون ممتدة شمالاً جنوباً في الاتجاه (ح).(127/32)
ولكن عندما تنفصل الشعاعتان (س1) و (س2) عند النقطة (ن) تسير كلتاهما بسرعة واحدة بالنسبة للفضاء الأثيري، لأنهما كلتيهما تموّج أثيري، والاختلاف لا يكون إلا بإسنادهما إلى شيء آخر، وليكن الجهاز: (جهاز ميكلصون - مورلي) فتكون سرعة (س1) بالنسبة للجهاز غير سرعة (س2) بالنسبة له، لأن هذه الآلة تدور مع الأرض في دورانها حول محورها، والشعاعة (س1) متعامدة على السير بينما الشعاعة (س2) موازية له؛ فمن هذا الاعتبار ينتج أن سرعة (س2) بالنسبة لجهاز ميكلصون عندما تكون الشعاعة (س2) سائرة نحو (م2) هي:
ص - ح. . . . . . . . . (معادلة 1)
حيث أن (ص) رمز لسرعة الضوء المنطلقة خلال الأثير، و (ح) رمز لسرعة الأرض حول محورها. وعندما تنعكس الشعاعة (س2) عن (م1) تصبح سرعتها بالنسبة للجهاز هكذا:
ص + ح. . . . . . . . . (معادلة 2)
أما الشعاعة (س1) فلها نفس السرعة في سيرها نحو (م2) لأنها مركبة من سرعتين متعامدتين مثلاً، ولكنها في ذهابها وإيابها في كلتا الحالتين ستكون متعامدة على اتجاه سير الآلة أو الجهاز، وستكون مقدار هذه السرعة:
. . . . . . . . . (معادلة 3)
. . . . . . . . . (معادلة 3)
وذلك لأنها مركبة من سرعتين.
على هذا الأساس رتب الدكتور ميكلصون وزميله الأستاذ مورلي جهازهما في الأوضاع السابق ذكرها، وأخذا يرقبان الشعاعة (س3) من النقطة (د) فارتسم أمامهما نظام متداخل ناجم عن تداخل الشعاعتين في بعض، وعندما أديرت الآلة بكامل أجزائها حول المحور (ن) بحيث أصبحت (م - م1) متعامدة على اتجاه حركة الأرض بعد أن كانت موازية، واتخذت الشعاعة (م - م2) وضعاً موازياً لحركة الأرض بعد أن كانت متعامدة. فكان المنتظر أن هذا التغيير يسفر عن تغير سرعة الشعاعتين بالنسبة للآلة في الزمن الذي تستغرقه كل من الشعاعتين في سيرها من المركز (ن) إلى المرايا المعاكسة ورجوعها إلى(127/33)
(ن) ثانية. ومن البديهي أن الزمن الذي تستغرقه الشعاعة (س2) في وضعها الجديد أقل من الزمن الذي استغرقته وهي في وضعها القديم؛ أعني أن شعاعة النور في سيرها في اتجاه متعامد - بشرط أن تعكس الشعاعتان وتردا إلى مصدرهما، وإدارة الجهاز حول محوره تسعون درجة - لابد وأن تسفر عن إبطاء الشعاعة الواحدة في رجوعها إلى (ن) وإسراع الشعاعة الأخرى في هذا الرجوع.
هذا الإبطاء والإسراع يؤثران في النظام الداخلي، إذ تنقص بعض الحلقات وتختفي حلقات الوسط وتبدو حلقات جديدة تتسرب للنظام من طرفه الخارجي. ذلك لأن تباطؤ الموجة الواحدة في رجوعها يفضي إلى تداخل جديد مع حركة الموجة الثانية التي أسرعت في الرجوع.
ولما كانت سرعة الأرض حول محورها معلومة، وسرعة النور في الفضاء الأثيري معلومة كذلك، فمن المستطاع قياس الفاصلتين (م - م1) و (م - م2) واستخراج طول موجة النور، وبذلك يصبح من الممكن حساب التأخير اللازم حدوثه إذا ما أديرت الآلة ومقدار التغير اللازم طروؤه على عدد الحلقات من تقلص واحتجاب.
على مثل هذا الأساس العلمي الدقيق أجريت تجربة ميكلصون، ولكنها أسفرت عن نتيجة سلبية إذ لم تتغير الحلقات ووصلت الشعاعتان معاً. ثم أعيدت التجربة مع الدقة الشديدة ولكن لم تسفر عن نتيجة.
(بقية البحث في العدد القادم)
إسماعيل أحمد أدهم(127/34)
أندلسيات
3 - قصة الفتح بن خاقان
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
أخلاق الفتح
نقول إن ابن بسام كان أعفّ لساناً، وأنزه بياناً. أمّا الفتح ابن خاقان فقد كان مقذعاً هجاء إلى أنه كان مداحاً فصالاً، فمن أرضاه وألهاه، مدحه وفتح لهاه؛ ومن لا يرضخ له من ماله بما يرضيه، هجاه وأقذع وولغَ فيه. وربما دسّ له لدى أولى الأمر وضرّاهم عليه. ومن ذلك ما كان منه مع فيلسوف الأندلس أبي بكر بن الصائغ وطبيبها الأكبر أبي العلاء بن زهر كما سيمر بك قريباً. . . وقد كان مع ذلك سكيراً معربداً إلى هنوات أخرى لقد يندى لها جبين الأدب، وقعدت به عن بلوغ المراتب التي بلغها أمثاله ومن هو دونه. قال الوزير لسان الدين بن الخطيب في حق الفتح: كان آية من آيات البلاغة لا يُشَق غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوباً بأطراف الكلام، معجزاً في باب الحلي والصفات، إلا أنه كان مجازفاً مقدوراً عليه، لا يملّ من المعاقرة والقصف حتى هان قدره، وابتذلت نفسه، وساء ذكره، ولم يدع بلداً من بلاد الأندلس إلا دخله مسترفداً أميره. وأغلا في عليته. . . وقال ابن بشكوال في الصلة: وكان - الفتح - معاصراً للكاتب أبي عبد الله بن أبي الخصال، إلا أن بطالته أخلدت به عن مرتبته. وجاء في النفح أن الفتح قصد يوماً إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض - صاحب الشفاء - مخمّراً، فتنسم بعض حاضري المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبتوحدّه حداً تاماً. وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحد بثمانية دنانير وعمامة. . . فقال الفتح حينئذ لبعض من أصحابه: عزمت على إسقاط القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم بقلائد العقيان، قال: فقلت له: لا تفعل، وهي نصيحة، فقال: وكيف ذلك؟ فقلت له: قصتك معه من الجائز أن تنسى وأنت تريد أن تتركها مؤرخة، إذ كل من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسأل عن ذلك فيقال له، فيتوارث العلمَ عن الأكابرِ الأصاغرُ؛ قال: فتبين ذلك وعلم صحته وأقرّ اسمه في (القلائد).(127/35)
ولقد أزلفنا أنه هجا الفيلسوف ابن الصائغ وأقذع في ترجمته له في القلائد، ثم مدحه وأثنى عليه في المطمح؛ وقد حدثنا الوزير لسان الدين بن الخطيب عن سبب هجائه إياه أولاً، قال: وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجه أبي بكر آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس ما كان من إزرائه به في تكذيبه إياه في مجلس إقرائه إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ووصف حلياً، - وكان يبدو من أنفه فضلة خضراء اللون، فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزُمرّدة التي على شاربك. . . فثلبه في كتابه بما هو معروف. . .
أما مدحه إياه بعد إذ هجاه فقد ذكر لنا العماد أن ذلك كان منه بعد أن أنفذ إليه مالاً استكفّه به واستصلحه. . . وإليك نُتَفاً مما كتبه في القلائد هاجياً، ثم مما كتبه في المطمح مادحاً: قال في القلائد: (هو - أي ابن الصائغ - رَمَد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، فما يتشرع، ولا يأخذ في غير الأضاليل ولا يشرع، ناهيك من رجل ما تطَهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده بِتَوار في جدث ولا أقر ببارئه ومصوره، ولا قر بتباريه في ميدان تهوره، الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم. الخ الخ). وقد أورد له متعمداً أبياتاً ليست من جيد شعره. وأين هذا من تحليته له في المطمح بقوله فيه ما هذا بعضه: (نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار، وقام وزن المعارف واعتدل، ومال للأفهام فنناً وتهدّل، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد، الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور، الخ الخ). وأورد له شعراً جيداً. وكل أولئك تراه في ترجمتنا لهذا الفيلسوف الأندلسي العظيم. . . أما ما كان من الفتح من الكيد للفيلسوف الكبير والطبيب النطاسي الأشهر والوزير الخطير أبي العلاء زهر لدى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فقد جاء في نفح الطيب ما نصه:(127/36)
(وكان بينه - أي بين أبي العلاء زهر - وبين الفتح صاحب القلائد عداوة، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته:
أطال الله بقاء الأمير الأجل سامعاً للنداء، رافعاً للتطاول والاعتداء، لم ينظم الله الملك بلبتك عقداً، وجعل لك حلاً للأمور وعقداً. وأوطأ لك عقبا، وأصار من الناس لعونك منتظراً ومرتقباً، إلا أن تكون للبرية حائطاً، وللعدل فيهم باسطاً، حتى لا يكون منهم من يضام، ولا ينال أحدهم إهتضام، ولتقصر يد كل مُعتدي في الطلام. وهذا ابن زهر الذي أجررته رَسَنا، وأوضحت له إلى الاستطالة سُنَنا، لم يتعدّى من الأضرار إلا حيث اشتهيته، ولا تمادى على غيّه إلا حين لم تنهه أو ألهيته، ولما علم أنك لا تنكر عليه نكراً، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكراً، جرى في ميدان الأذية مِلء عنانه، وسرى إلى ما شاء بعدوانه، ولم يراقب الذي خلقه، وأمد في الحظوة عندك طلقه، وأنت بذلك مرتهن عند الله لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور، ولتسكن بك الفلات والغور، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق، وأخفق به كل فريق، وقد علمت أن خالقك الباطش الشديد يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يخفى عليه نجواك، ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك، وستقف بين يدي عدل حاكم، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم، قد علم كل قضية قضاها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فبما تحتج معي لديه، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه؟ أترى ابن زهر منجيك في هذا المقام، أو يحميك من الانتقام، قد أوضحت لك المحجة، لتقوم عليك الحجة، والله النصير، وهو بكل خلق بصير، لا رب غيره والسلام. . . هذا جانب من خلائق الفتح: تحوّل وتقلُّب، ونقض لما أبرم، وإبرام لما نقض، وهجاء ثم مدح، ومدح ثم هجاء، ومناوأة للفلاسفة، واستعداد للملوك والأمراء عليهم، إلى ما أشرنا إليه آنفاً من خلعه العذار واستهتاره، وإهماله المعاقرة وفسوقه، حتى كان ذلك سبباً - كما يقول المؤرخون - في تخلفه عن لداته وقعوده عن بلوغ علياً الرتب التي بلغوها. ومن هنا كان حبه المال حباً نال من كرامته ونقص من قيمته وصّيره شهرة لدى العلماء والأمراء وسائر العلية والسروات. ومما يؤخذ عليه أيضاً غروره واعتداده بنفسه إلى أقصى حد؛ ولا أدل على ذلك من قوله في خطبة قلائده: (الحمد لله الذي راض لنا البيان حتى انقاد في أعنتنا، وشاد مثواه في أجنتنا، وذلل لنا من الفصاحة ما تصعب فملكناه، وأوضح لنا من مشكلاتها ما تشعب(127/37)
فسلكناه، فصار لنا الكلام عبداً يجيب إذا ناديناه، ومهما يصيب الغرض إذا رميناه).
وبعد فقد كان هذا الأديب الألمعي الموهوب من أولئك الأدباء الذين أدركهم داء الانحطاط، ومثله كثير بين أدباء العرب والعجم والمشرق والمغرب قديماً وحديثاً. . . وهذا الصنف من الأدباء والفنانين جدير بالرحمة والرثاء، لأن عبقريتهم هي سر انحطاطهم، إذ العبقرية في الحق شعبة من الجنون كما شرح ذلك لمبروزو وماكس نوردو وغيرهما. وقد كان انحطاط هذا الأديب سبباً في قتله. . . وفي أنفة مؤرخ كبير وأديب نابغ هو ابن الأبار القضاعي من ترجمته والتعرض لذكره، فقد قال هذا ابن الأبار في معجم أصحاب الصدفي: إنه لم يكن مرضياً وحذفه أولى من إثباته. ولذا لم يذكره في التكملة. أما قتله فقد قال ابن سعيد في المغرب - بعد كلام - ما نصه: (وقد رماه الله تعالى بما رمى به إمام علماء الأندلس أبا بكر ابن باجَّه، فوجد في فندق بحضرة مراكش قد ذبحه عبد أسود خلا معه بما اشتهر عنه وتركه مقتولاً. . . . . . . . .). . . وقال ابن دحية إنه قتل ذبحاً بإشارة على بن يوسف بن تاشفين. . .
(يتبع)
عبد الرحمن البرقوقي(127/38)
6 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
كانت القوة مؤلفة من أربعة أفواج وسرية خيالة وبطرية جبلية. وكان لدى كل سرية مشاة يبلغ عددها (200) جندي، أربعة طليان وهم رئيس وملازمان وضابط صف. أما الملازمان الآخران فمن الأهلين. ونظراً إلى التنسيق الجديد بلغت القوة في المستعمرة ما يلي:
171 ضابطاً طليلنياً
1400 جندي طلياني
37 ضابطاً أهلياً
4400 جندي أهلي
-
6 , 008 المجموع
وفي سنة 1895 أحدث الحاكم العام الجنرال (باراتيري) احتياطاً من الجنود المسرحين يتألف من ثماني سرايا تبلغ قوتها 1700 جندي.
وأطلق الطليان على الجندي الأهلي اسم (عسكري).
ولما توترت العلاقات أنجد الطليان جيش المستعمرة بقوات أخرى جلبوها من إيطاليا. وفي الشهر الأخير من سنة 1895 بلغت النجدة أربعة أفواج قوة كل منها 60 جندياً. ثم جعلوا القوة الأهلية ثمانية أفواج بعد أن كانت أربعة أفواج. وزادوا قوة السرية فيها من 200 إلى 300 جندي، وهكذا بلغت قوة الجيش 14 , 000، منها 2 , 800 جندي طلياني.
وبإضافة قوة الاحتياط إلى ذلك أصبحت قوة الجيش 18 , 000 جندي، وفي معركة عدوى كانت قوة الجيش كما يلي:
لواء الجنرال (البرتونة) وكان مؤلفاً من أربعة أفواج أهلية وبطريتين طليانيتين وبطرية أهلية.
لواء الجنرال (دابورميدا) وكان مؤلفا من ستة أفواج طليانية وفوج أهلي وأربع بطريات(127/39)
طليانية.
لواء الجنرال (اريموندي) وكان مؤلفاً من خمسة أفواج طليانية وسريتين أهليتين وبطريتين طليانيتين.
لواء الجنرال (اللانا) وكان مؤلفاً من ستة أفواج طليانية وفوج أهلي وبطريتين طليانيتين سريعتي الرمي وسرية هندسة.
فالجيش كان مؤلفاً من ثلاثة وعشرين فوجاً، وسريتي مشاة، واثنتي عشرة بطرية، وسريتي هندسة؛ وكان مجموع القوة:
510 ضباط، و 12 , 411 جندياً إيطالياً، و 7 , 330 جندياً أهلياً و 64 مدفعياً، ومجموع رجاله 20 , 251 رجلاً، وهكذا يصيب كل ألف جندي 311 مدفعاً، وكانت هذه النسبة جيدة في ذلك الزمن.
أسلوب التعبئة الطليانية
كانت كتب التعليم الطليانية شائعة في جيش المستعمرة، إلا أن بعض أحكامها عدل نظراً إلى حالة العدو. وكان بعض هذا التعديل، الحركة في ميدان المعركة بالنظام المنظم، والانتشار بصف واحد، على أن يكون الجنود متجانبين دون فرجات.
وظهر من حركات البريطانيين على المهدي أن هذا الأسلوب لا يفي بالمرام تجاه صولة الأحباش الذين يظهرون شجاعة فائقة في حملاتهم، فاستفادت القيادة الطليانية من حركات البريطانيين وقررت أن تترك قدمات احتياط في الخلف لتنجد الخط الأول عند الحاجة أو لتكون متأهبة للطوارئ. إلا أن الضباط لم يتعودوا هذا الأسلوب تماماً لما وقعت معركة عدوى، ولا سيما أنهم كانوا قد تدربوا على أساس التعبئة الأوربية قبل مجيئهم إلى المستعمرة.
ليس من السهل دخول القتال في مستعمرة بعيدة عن الوطن ما لم تنظم أمور السوقيات؛ والظاهر من تدابير الطليان أنهم لم يضعوا خطة ناجحة لشؤون النقلية ولم يمهروا فيها، فاتخذوا الميناء (مصوع) قاعدة للحركات وأرسلوا إليها القطعات والتجهيزات على التعاقب دون ترتيب. فكانت التجهيزات ومواد الإعاشة تكدس هنا وهناك بصورة يصعب نقلها من الميناء إلى الداخل.(127/40)
والأغرب من كل ذلك أن الحكومة الطليانية كانت ترغب في إدارة رحى الحرب دون إنفاق المال. ولما طلب الجنرال باراتيري المال أجابه رئيس الحكومة (كريسبي) بأن نابليون الأول كان يحارب حروبه بمال العدو؛ قال هذا ناسياً أن الساحة التي يتحرك الجيش فيها هي أرض قفراء لا ماء ولا أقوات كافية فيها.
الشروع في القتال
توترت العلاقات في مايو 1894. وفي آخر شهر من هذه السنة ظهرت علائم التمرد في جنوبي أسمرة. وكان المحرض على ذلك رأس تيجري (منيغسيا)، ولما سمع الطليان أنه يجمع الجنود طلبوا منه تسريحهم فلم يجب طلبهم.
وعلى أثر ذلك تقدمت القوة السفرية المكلفة بستر أسمرة ومصوع بقيادة الجنرال (باراتيري) إلى شمال نهر مارب وعسكرت هناك.
وفي 13 يناير 1895 عبر (منيغسيا) نهر بلزة فتقدم الجنرال نحوه ونشبت المعركة في كواتيت. ورتب باراتيري ثلثي قوته مع البطرية الجبلية في الخط الأول، وترك باقي القوة في الخط الثاني لحماية جانبه الأيسر.
وكان الأحباش يسعون للالتفاف حول هذا الجانب إلا أن إرسال الوحدات الأهلية للنجدة، وثبات الطليان في الجبهة، واشتراك جميع القوات في القتال على التدريج مما ساعد باراتيري على الاحتفاظ بموقفه، وتوقف القتال بعد الظهر واستمرت المناوشات الخفيفة إلى المساء وانسحب الأحباش ليلاً.
وشرعت القوات الطليانية في المطاردة في 15 يناير 1895 وتقدمت طول النهار ولحقت بالأحباش في سنافة. وبعد إطلاق بضع طلقات انسحب الأحباش، وتقدم الطليان على طريق الهضبة دون أن يضطروا إلى عبور الأنهار، ودخلوا ادجرات في 25 أبريل 1895. وفي شهر مايو بدأ موسم الأمطار الغزيرة فتوقفت الحركات.
أما الأحباش فأخذوا يجمعون قواتهم لمقاتلة الطليان، وكانوا يأملون أن يتم الحشد في الخريف، فشرع الأحباش في الهجوم على الطليان لإخراجهم من البلاد. أما الطليان فأنجزوا تحكيم موقع ادجرات في شهر يونيو. والموقع كما نعلم يرتفع عن سطح البحر 2545 متراً وهو صالح لإقامة الأوربيين من حيث الهواء. وهو أيضاً موقع خطير في حد(127/41)
ذاته. ففيه تلتقي الطرق الممتدة إلى مقاطعة شوعا ومقاطعة أمحرة، فضلاً عن كونه واقعاً في نقطة ملتقى الجبال، ومنه تتشعب سلسلة عدوى التي تفصل حوض (تكاه) وتوابعه عن حوض (مارب) وتوابعه.
وقرية عدوى عاصمة المقاطعة، وعلى مسافة خمسة وعشرين كيلومتراً منها تقع أكسوم العاصمة الدينية، حيث يتوج عواهل الحبشة. واحتل الطليان عدوى أيضاً في شهر أبريل، وبذلك استولوا على خط (ادجرات - عدوى) فسيطروا على المسالك المؤدية إليه، وجعلوا حوضي النهرين تحت نفوذهم.
واستمروا على التقدم من ادجرات سالكين المرتفعات التي تفصل بين أحواض الماء، ودخلوا قصبة (مكلة) أيضاً وحكموها.
وعلى هذا الأسلوب تحركوا بحذر وشيدوا القلاع على طول الخط بمراحل 3 إلى 5 أيام. وكان من الضروري الاهتمام بالمواصلات التي تربط هذه القلاع بالساحل. ولا شك في أن توسيع دائرة احتلالهم على هذه الصورة جعلهم ضعفاء في كل محل، لأن القوة لم تكن تكفي لحراسة خطوط المواصلات، والدفاع عن هذه القلاع وتهيئة قوة سيارة تتحرك عند الحاجة لضرب الأحباش، لأن القوة لم تزد حينئذ على 18 , 000 رجل. أما الخط الذي انتشرت عليه القوة فيبدأ من (كسلا) ويمر بخط (كون - اسمرة - ادجرات) وينتهي في (مكلة). وكانت الأخبار تؤيد تأهب الأحباش للمعركة الفاصلة. ولم يكتف الطليان بنشر قواتهم على ذلك الخط الطويل بل أوفدوا قوة ستر مؤلفة من فوج أهلي وفصيلة مدفعية إلى جنوبي (مكلة) في مرحلتين إلى (امبا - الاغى).
وفي نهاية السنة هاجم الأحباش هذا الموقع فدافعت القوة دفاعاً مستميتاً، ولم يتلق آمرها أمر الانسحاب إلا متأخراً بعد أن قضى الأحباش على قوته وغنموا مدفعيته، بينما كان الموقف يتطلب أن يبلغ هذا الآمر واجبه الأصلي وهو الدفاع الرجعي دون دخول قتال فاصل.
وكانت القوة الحبشية مؤلفة من 30 , 000 رجل يقودها الرأس (ماكونين) والد الرأس (تفري).
وكان الجنرال (اريموندي) بكوكبه (بقسمه الأكبر) في مكلة، ولما تيقن أن الأحباش سوف(127/42)
يهاجمونه وأنه لا يستطيع الدفاع أمامهم قرر الانسحاب، فانسحب بسرعة إلى (اداجاموس) ثم إلى (ادجرات) وترك في مكلة فوجاً أهلياً مع مدفع جبلي فقط.
أما النجاشي منليك فكان مهتماً بجمع الجيش ليملي إرادته على الطليان ويهيئ سبيل الخلاص لبلاده. وبعد أن جمع المال المطلوب من مقاطعة الغالا، وأنجد جيشه بخياله الغالا، وصل إلى أديس أبابا وأعلن إلى الجميع أن الحبشة لا تحتاج إلى أحد بل تمد يدها إلى الله، فتولى قيادة جبشه بنفسه وجمع جميع الرؤوس في (بروميدا) وصرح لهم ولجميع المشايخ والأشراف برغبته في طرد الطليان من البلاد وإنقاذها من مخالب الاستعمار. فوافقه الرؤوس على ذلك بالإجماع، وكان المشهد مما يثير الحماسة في الصدور، وكانت قوة الجيش الحبشي مع قوة جيش (ماكونين) تبلغ 160 , 000 رجل. فحاصر ماكونين قلعة مكلة وأخذ يدكها بنار مدافعه، وقطع عليها طرق الماء. فاضطرها إلى التسليم في 25 ديسمبر 1896 ووافق النجاشي على عودة الأسرى الطليان إلى بلادهم لينشروا الرعب في قلوب الطليان الآخرين.
ولما انتشرت أخبار انتصار الأحباش في المستعمرة ساد القلق والرعب في قلوب الناس، وفكر الطليان في الدفاع عن ميناء مصوع أيضاً. وقررت القيادة حشد جميع القوات في ادجرات لصد تقدم الأحباش ما عدا الحاميتين اللتين في كرن وكسلا، وكانت قوة الحامية منها مؤلفة من فوج وسرية خيالة وفصيل مدفعية.
(يتبع)
طه الهاشمي(127/43)
مؤتمر القلوب
للأستاذ السيد محمد زيارة
سألت نفسي بعد تأمل وتفكير: (ماذا يكون لو أمكن كلُّ إنسان أن ينكمش حتى يختفي في قلبه، وأمكن قلبه أن يتسع حتى يحويه؛ فيظهر للناس عارياً لا يكسوه إلا الشغاف، ويصبح الشخصُ المنطوي على قلب قلباً منطوياً على شخص، وتمشي القلوب وتنتقل، وتدب حيث تحب؟ أتنكشف السرائر، وتسفر الخفايا، وتباح الأسرار؛ ويستطيع كل قلب أن يعرف ما له عند الآخر بغير حاجة إلى رسول بينهما قد يصدق وقد يكذب، ويتبين المرء ما يكنُّه له حبيبه أو صديقه خالياً من الزيف والرياء؟).
وكان سؤالا غريباً جديداً، فحيرني الجواب عليه؛ ثم رأيتني في الرؤيا أجرب هذا. . . فانقبضتْ أطرافي إلى بدني، وانحصر بدني في قلبي، فأصبحت قلباً ومضيت لشؤوني في الحياة؛ ووجدتني مقبلاً عليها بتلهف وشوق كما يقبل على الحرية سجين أطلقوه. فهو يندفع إليها بقوة، ويتقلب على رحبها بشغف، كأنه يريد أن يجنح فيها فيملأها. وهي تتلقاه هاشة باشة، وتتفتح له حيث اتجه، وكأنها تريد أن يمتزج بها فيصير منها.
ثم وجدتُني هنا وهناك طلْقاً موزّعا متحيراً لا أستقر، ولا أعرف كيف استقر، ولا أفهم معنى الاستقرار. وزعمت أنني لم أوجد في الحياة إلا لأتحسس الجمال وأتلمس الحب، وخيَّل إلى وهمي أن الجمال في كل لحظة يناديني، وأن الحب في كل بقعة ينتظرني؛ فجننت بالجمال والحب، وحلَّقتُ في سمائها بأجنحة الخيال حتى كدت أتحطم أو تحطمتُ. . بين شقاء يجرُّني إليه الهجر، وشقاء يجرني إليه الوصال.
ورأيت العيون من حولي تلتهمني بنظرات هي التعجب والاستغراب، وكأنها تتخاطب قائلة: (ما لهذا القلب لا يهدأ؟) حتى كادت تشعرني بأنني وحدي أصفق للجمال وأخفق بالحب. ولكني لم أحفل بالنظرات ولم أهب العيون، وسرت في طريقي كما أنا قلباً مهموماً شديد الخفقان.
ثم رأيتني مدعوَّا إلى مؤتمر دعيتْ إليه القلوب جميعاً؛ ففرحتُ بهذه الدعوة ونشطت إلى الائتمار. وتوافدنا نحن القلوب يسابق بعضنا بعضاً، ويحمل كل منا في أعماقه ما يحمل.
فهذا قلب صاف لا رنق فيه ولا غبار عليه؛ وهذا قلب درِنٌ غلب على بعضه الدرنُ وغلب(127/44)
على بعضه النقاء؛ وهذا قلب أسخمُ لم يبق أثر لطبيعته؛ وهذا قلب كبير؛ وهذا قلب صغير.
ووقفتُ أرنو إلى ذلك الحشد الحافل وأستمتع بما فيه من مشاهد غريبة كانت محجوبة عني أو كنت محجوباً عنها؛ وأخذ كلُّ قلب يتطلع إلى القلوب حوله، ويستمتع استمتاعي وكأنه يحس ما أحسه من دهَش يصحبه فرح، ومن رهَب تصحبه لذة.
ورأيت على بعد غير سحيق من مكاني قلباً تقلص أديمُه، وشاه مظهرُه؛ فدلَّنا على باطن غاسق كالليل؛ والقلوب كلها نافرة منه صادفة عنه، كأنه قتاد يشوك من يقربه، أو مخلوق وحشي يلتهم من يلمسه. وهو في مكانه يوزع عليها نظرات ممتعضة ساخطة ملأى بالتمرد والتوعد. فسألتُ: (ما لهذا القلب لا يجد منا صاحباً ولا نجد فيه أهلاً للصحبة؟) فقالوا: هذا قلب رجل لا يعيش إلا ليبثَّ الفساد بين قلوب عارفيه، ولا يستريح حتى يشي بين صديقين متفقين، أو يعكر ما بين حبيبين ناعمين، أو يسيء إلى أحد ما. فتراه يبتسم لهذا، ويداعب ذاك، ويوسوس إلى ذلك؛ حاسباً أن في ابتسامته ودعابته وريائه ستاراً لحقده وخبثه وخسته؛ ولكن هيهات. . فكلنا يعرف ما في جوفه، وكلنا يحتقره وينبذه ويلعنه، وكلنا يود الآن لو يسحقه فيريح الوجود من وجوده.
ورأيت في ناحية أخرى قلباً شفَّ لونه، وأضاءت سحنته، فدلّتنا على دخيلة بيضاء كالشمس، والقلوب كلها - إلا ذلك القلب الداكن وأمثاله - متهافتة عليه، متوددة إليه، تصافحه وتحييه؛ فيصافحها ويلاقيها بتحيات زكيات ملأى بالبر والقناعة - فسألت: (ما لهذا القلب لا يجد منا قالياً ولا نجد منه داعياً للقلى؟) فقالوا: (هذا قلب رجل تقي كريم يعرف الله ويخشاه، نصب نفسه لهداية الناس، وقضى أيامه يجاهد الرذيلة ليحي الفضيلة، ويكره الشر، ويحب الخير. فطالما سعى ليوفق بين صديقين مختلفين، أو يصلح ما بين حبيبين تاعسين، أو يحسن إلى أحدٍ ما؛ فتراه يرشد هذا، ويعلم ذاك، وينتزع الغواية من ذلك، صادقاً في كل ما قال وكل ما فعل، مصلحاً أينما حل. فكلنا يعرف فضله ويقدره ويحترمه ويود لو يرفعه فيجعله في السماء.
ولفتَ بصري قلبٌ غلا دمه، وتصاعد البخار من فتحاته، وكاد يندلع اللهب من جنباته؛ حتى خلتُه تنُّوراً تنصهر فيه جدرانه جزءاً فجزءاً، ويشتد أزيزه كلما استعر جوفه. يروح ويغدو بين القلوب هائجاً كالمشرّد، حائراً كالنصال، لا تفتر قواه ولا ينقطع خفوقه. فتساءلنا(127/45)
عما به فوجدناه قلب محب فارقه حبيبه فبرّح به الشوق، وأضناه الألم؛ فهو ظمآن لهفان يبحث عنه بيننا علّه يلقاه فينقع اللقاء غلته، ويبرد لهفته. فقلت: آه!! ما أعظم سلطان الحب. . آمنت بأن في الحياة قلوباً تحار حيرتي وتكابد ما أكابد.
وكان بين القلوب قلبٌ خالٍ كالبيضة إذا أفرخت، سافر كالمرأة إذا تهتكت، باهت كالشمس إذا تنقبتْ بالسحاب. فكان أشبه شيء بالإسفنجة؛ وأعجبني منظره الفاتر الخالي من كل قرائن الحياة، لأنه شاذ بفتوره وخلوه منها، وأخذتُ أراقبه مليا لأقف على سره لو كان لمثل هذا القلب سر؛ فوجدته إمعة يظل ساكنا كالنائم فلا يتحرك حتى يحركه غيره، ولا يتوجه حتى يوجهه غيره، ولا يعمل إلا ما يمليه عليه غيره.
يدنو منه قلب من تلك القلوب السوداء هامساً موسوسا فلا يلبث حتى يسودّ ويتشكل بشكله، ثم يدنو منه قلب من تلك القلوب البيضاء الناصعة محدثاً مبشراً، فلا يلبث حتى يبيضّ ويتشكل بشكله، وهكذا هو في كل أحواله مقود لا إرادة له ولا صفة.
فسألتُ عنه فقيل لي: هذا قلب شاب ساذج أبله مغرور بنفسه، مخدوع بغروره، لم ينكبه الدهر، ولم تكرثه العوادي؛ فعاش كما تراه سليماً من الشر ومن الخير، بعيداً عن الحزن وعن الفرح، وحسب أنه عاش كذلك برغبته وقدرته، وأنه استطاع أن يهزأ بالأحداث لأنه فوق متناولها؛ ولم يعرف أن الله خلقه ضعيفاً فأنكره الدهر، وهزأت بوجوده الأحداث.
ووقع بصري على قلب تراه واقفاً فلا تحسبه واقفاً لدأبه على الدق والتوثب، ولا تفهم من خفقانه المتواصل معنى خفقان القلوب. وإنما تفهم معنى الجبروت والصولة والعربدة!! ينظر إلينا شزرا ويتطلع إلى محيطنا باستخفاف؛ ثم يصرف عنا بصره ويتطلع إلى أبعد من محيطنا باستخفاف؛ كأنه لا يشعر بنا وكأنه يعتبر الكون أضيق من أن يَسَع قوته وعظمته، فلا يروح ولا يغدو إلا في تيه وخيلاء، ولا يقف إلا وقفة المتمرد المتحفز، وهو مع هذا أبكم، أصم، أعمى، كافر، لا يؤمن بالرحمة، قاس لا يعرف الآلام؛ فهو أشبه شئ بكرة من الحديد.
قلت: قلب من هذا القلب القوي المتكبر؟ قالوا: قلب رجل شجاع جبار لا يهاب الصعاب، ولا يرضى الاستكانة، ولا يعرف التسامح، مفطور على الكبر والعظمة واستصغار الكبائر؛ واستضعاف الأقوياء، واستعباد الضعفاء. فهو يعتقد أنه مخلوق للغلبة والانتصار.(127/46)
ونظرت على يميني فرأيت قلباً استحق مني أن أطيل النظر إليه لما هو فيه من هم وكآبة، وقطعت فترة طويلة من الوقت شاخصاً إليه، متأملاً مشفقاً وأنا أحس أنه بائس وأن بيني وبينه صلة من البؤس مهما يكن بؤسه ثم ملت إليه وسألته: ماذا بك أيها القلب الحزين الباكي، ومالي أراك ساكناً ساكناً. . . تبدو في سكونك كاليائس المقشعر من يأسه، وكأني بك تستكثر على نفسك أن تعيش لأنك برم بالعيش!! إنك منا ولكنك غريب عنا؛ لا تخالطنا كما نتخالط ولا تحادثنا كما نتحادث؛ فما رأيتك منذ رأيتك إلا زافراً تكبت الزفرات، أو مستعبراً تخبأ العبرات، وأحسب أنك نكبتَ في حب فعشت في ذكرياته، وأن تلك الذكريات التي وصلت ما بينك وبين الماضي قطعت ما بينك وبين الحاضر: فماذا بك، وقلب من أنت؟
فانتفخ، ثم صعدت من فوهته زفرة ملتهبة، ثم صمت قليلاً، ثم رنا إليّ طويلاً، ثم قال: دعني لمأساتي فاللهب لا يحرق إلا من ألقي فيه.
قلت: ولكني أريد أن أعرف مأساتك؛ فعسى أن أعينك أو أواسيك أو أتوجع لك.
فصعدت من فوهته زفرة أخرى وقال: أواه. . . هذا شعور جديد في الحياة أو جديد في حياتي أنا فقط، وهذه كلمات لم أسمع مثلها منذ حين. فيالك من قلب طيب!
إن مأساتي هي أنني بحياتي مأساة في الحياة!! لقد كنت محباً واليوم قد مات الحب، بل أنا محب؛ كنت هانئاً، واليوم قد مات الهناء. . . بالأمس كنت قلب فتاة عذراء مؤمنة، واليوم أنا قلب امرأة متخالعة متماجنة. . . امرأة مومس أقدمت على الدعارة مكرهة، ثم مستسلمة، ثم راضية،. . . امرأة ساقطة تبيع عرضها في سوق الفجور (الرسمي) كل يوم لكل من يدفع الثمن. . .
مسكينة هذه البائسة المجروحة التي تحملني بين حناياها بائساً مجروحاً!! إنها تحاول كثيراً أن تسكتني وتخفيني، ولو استطاعت لقطعت ما بيني وبينها من شؤون وصلات، لتخلو لشؤون وصلات ذلك العالم الداعر الكافر الذي تعيش فيه بين ذبّاحي الإنسانية وهدّامي البشرية، وأنا في صدرها ألتاع وأتألم وأبكي وليست لي دموع إلا الدماء أستوردها من بدنها فيهزل قوامها، وهزال قوامها يذبل شبابها، وذبول شبابها يضيع جمالها، وجمالها هو حياتها الفانية التي لا خير فيها.(127/47)
الرجال يحدثونها دائماً عن مواضع الفتنة ومواطئ اللذات فيها، فلا تسمع رجلاً واحداً يحدثها عن مواطن الحسرة ومدافن الذكريات في أعماق نفسها، ويسألونها كل يوم عن شهوة بعد شهوة، ولا يسألونها: أي حزن دخيل ثقيل تحملين، وكيف تتعذبين!! إنها تضاحكهم وتداعبهم ترويجاً لخلاعتها بينما تباكيني وتناجيني تفريجاً لكآبتي، وهي في ذلك مضطرة إلى التظاهر بأنها امرأة بلا قلب ولا ضمير، وإلا اتهموها بأنها تحمل قلباً حياً وضميراً مستيقظاً، وعدوها بذلك خائنة لحرفتها غير حافظة لنعمتها.
لقد حبستْني وحرَّمتْ علي أن يسمعني أو يشعر بي أحد، وما جئت إلى هنا إلا خلسة منها. فهي الآن في أحط أوقاتها بين أحط الرجال.
ولكني لا ألومها فأنا الجاني الأول عليها،. . . لقد قادني الحب فقدتها أنا إلى معمعة العواطف، ثم قادتها العواطف المطلقة إلى مغانم الشهوات، ثم قادتها الشهوات الغريرة إلى مساقط الفساد، ثم إلى الهاوية التي لا مقيل لها منها إلا الموت.
وبكى وبكيت له ورحت أواسيه بالقول لأن مأساته أكبر من أن أعالجها بالعمل.
(البقية في العدد لقادم)
السيد محمد زيادة(127/48)
عويل الدم
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
من وحي مقالة: (على هامش الموضوع)
بقلم جورج وغريس
(في يوم مشئوم، في بلد مجهول، جرى دم الشهداء على أديم الغبراء، وظل سحابة يومه شاهد الأرض للسماء؛ وفي الصباح الباكر مر عابر السبيل، فألفى الدماء قد استحالت إلى كلمات، فأخذ يلتقطها بيد مرتجفة ويلقيها في سلال حمراء وسوداء. . . وهاؤم اقرءوا تلك الكلمات. . . . . . . . . . . . . . . .)
لقد قالوا للسان اصمت فتكلمنا.
نحن القطرات المتساقطة من عيون الفناء، وحيث سقطنا ستظل الحقيقة قائمة إلى الأبد.
إنما يعيش الإنسان بالدم الذي يجري في عروقه، فإن مات شهيداً عاش الناس بما يلقيه من الدم في عروقهم.
لقد كذبت معاجم اللغة في كلمتين: (قعقعة السلاح) وصوابها (قعقعة الدم).
ليس معنى الموت الموت دائماً، فقد يكون معناه الحياة أحياناً.
أليس غريباً أن نهتف للحق مرتين: مرة في حنايا القلب، ومرة من ثنايا الأرض؟
لو أننا عدنا إلى حيث أتينا ثم خُيرنا في مصيرنا ما اخترنا غير هذا المصير.
لقد فهمنا حاجة الأرض فأطفأنا ما بها من ظمأ. . . .
أيها الثري الجائع. . . . لقد أتخمك الشبع!
لقد قالوا لنا عيشوا في معاقلكم فانطلقنا منها أحراراً لما أحجم القوم تقدمنا، وحين أطفأ الناس أنوارهم أتينا لهم بالمشاعل.
نحن مادة الحياة أينما حللنا. . . . . . عشنا في القلوب فخفقت، ولمسنا الأرض فنبضت. .
ليت الإنسان يفهم أن للحياة معنى غير الذي دارت عليه أيام الأنعام، والحياة بغير هذا المعنى لا معنى لها.
أنصتوا أيها الباكون حولنا واستمعوا، فإن قيثارتنا ترسل أنغامها السحرية.(127/49)
إن تفجرنا من القلوب أو جمدنا في العروق فنهايتنا واحدة: الأرض مثوانا وهي الأم الرءوم.
أليست تلك أرض الوطن. . .؟ لقد خالطنا حبها فاختلطنا برغامها وتوغلنا في أعماقها وأضفنا إلى تربتها عنصراً جديداً لن يزول إلى الأبد. . . . . . أليس في كيميائها (المادة لا تفنى؟. . .).
للمظالم البشرية سهام مسمومة وللنفس الشريفة دم كريم. . . . . . إن أصاب ذلك الدم سهم من تلك السهام أبت كرامته أن يعيش إلى جواره فيفلت من مكانه ناقماً عليه ثائراً على عدوانه.
جبلت نفس الظالم من صخر لا قلب له ولا دم. فهو ينتقم لتلك الطبيعة الناقصة. فإن صادف قلباً أرهقه، وإن لاقى دماً أهرقه.
لا تقوم في نفس ابن آدم نزعة إلى الشر إلا ويكون مبعثها شيطان فيه. ولا يجئ منه الخير إلا يكون مصدره الإنسانية في الإنسان. ونحن - وا أسفاه - نتيجة صراع بين النزعتين في نفسين مختلفتين.
تضافرت الفضائل فغلبتها التضحية، وتنافرت الرذائل فجمعتها الأنانية.
يا عابر السبيل. . اخلع نعليك، فإن الأرض التي تطؤها مقدسة!
يا عابر السبيل. . . نحن غرباء مثلك، مطاردون مثلك، وقد أحاطتنا الحياة بهوانها حتى زجرتنا عن محيطها، وقذفت بنا الأرض قطرة حارة وزفرة متأججة تحرق الأديم وتلفح الوجوه. فإن بلغتك أنفاسنا المحترقة فخذ من حرارتها قوة لأنشودتك، ومن فيض آلامها املأ أنغامك سحراً وجلالاً وروعة. . . . . .
يا عابر السبيل. . . . . . لا تخش أن يكون سبيلك سبيلنا وطريقك طريقنا. . . فإنما السبيل للمجد وعر والطريق إليه شائك، فلا تكتئب أو تحزن فمن وخزات ألمك تعيش الكرامة، ومن زفرات بكائك يشتق الخلود آيته. . .
نحن الورود الحمراء التي سقتها الدموع وأنبتتها الأهوال. ستعيش جذورنا في أعماق الصخرة وتصمد أعوادنا المخضلة في وجه العاصفة، تتفتح أكمامنا للأجيال فتملأ النسمات بأريج عاطر ينعش الأنف ويغذي القلب ويثير الفؤاد.(127/50)
لنا في أذن الأجيال همسات، أسمِعوها يا هؤلاء لأولادكم وأحفادكم إن كان لكم ولهم آذان. واكتبوها على شغاف قلوبكم وقلوبهم بحروف من عصارة تلك القلوب. فإن كانت دماً نقياً رفعكم ورفعهم، وإن كانت دماً مارقاً خذلكم وخذلهم.
(إسكندرية)
جورج وغريس(127/51)
أحلام وذكريات
للآنسة فردوس مصطفى
من مشكاة الطفولة اللاهية الغافلة كان قلبي الخلي يطل على قوافل الحياة فيراها ويحس بها غير ما يراها ويحس بها الآن، وكان إحساسه بها حينذاك إحساساً قوي الفطرة جامح الغفلة يبهره من قافلة الحياة تناسقها ومظاهرها غير مدرك سرها وجوهرها. وكان يرقبها طوال الأعوام الثلاثة عشر، حتى إذا ما تحول إحساسه بها إلى بعض إدراكه لها نشأ عن هذا الإدراك الحسي شعور جديد دفع به إلى السير مع القافلة، فاندمج فيها ولم يعد يراها، ولكنه بدأ يعرف سرها ويدرك مداها. وعندما أذكر أحلام الأعوام الثلاثة عشر، وقد كانت كلها أحلاماً، أشعر بالماضي يجذبني نحوه وبالحنين يعاودني إليه؛ فأحلام الصغار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بسبائك من الذهب، ولأحلام الكبار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بحبائل من النصب، ويا شد ما يهفو القلب إلى القفزات المرحة في رحبة المدرسة، وإلى تلك الدمى المتراصة في الدار من مختلف اللعب، وإلى فساتين الأعياد الزاهية الألوان؛ كل ذلك له أثر في القلب، لأنه بدء علوقه وأول صباباته. فلما شب عن طوقه وبارح مشكاته أصبحت له صبابات غير تلك الصبابات، وأماني وأحلام غير تلك الأماني والأحلام، بذل فيها من دمه ونعيمه الشيء الكثير، فثار على الحياة يثأر لدمه الغالي ونعيمه الذاهب؛ وللقلب حين يثور فلسفة يحتار في غاياتها العقل؛ وللقلب حين يثور أفانين يقصر عن إدراكها الفكر، ولكنها فلسفات وأفانين هي أقرب إلى السماء منها إلى الأرض؛ تدمجه في الروح الخالص فلا يشعر بما على الأرض من مادة طاغية، ولا يحس من بهرج الحياة وظاهرها بسعادة خاوية. فهناؤه فوق المادة، ونعيمه موصول بالسماء، وبين الفينة والفينة يعاوده الحنين إلى ذكريات الطفولة وأحلامها، وإلى المشكاة وأيامها، فيخيل إليه أنه يستطيع أن يطل على الحياة كما كان يطل، وأن يرقب القافلة كما كان يرقب، ولكن هيهات!
فردوس مصطفى
عجز التجارب(127/52)
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ما زاد مَرُّ حياتي غير أشجاني ... فَزَوَّدَتْنيَ رجحاناً كنقصان
يا دهر لا تُنْسِني في ضيق عادية ... محاسن العيش من صبر وغفران
وقَوِّنِي بتجاريب أزاولها ... فإنها لم تزدني غير عرفان
وكيف يُلْهِمُ خُبْرٌ صَبْرَ مصطبر ... يَمْرِي له الخُبْرُ عرفاناً بإيهان
يزيده العمر من وَهْيٍ ومن كِبَرٍ ... ما زاده العمر من خُبْرٍ بِحِدْثَانِ
فكيف ينفع تجريبٌ ومانحه ... يوهي جلادة أعصاب وجثمان
بعض التجارب يُنْسِي بعضها زمناً ... إذا تعاور لبَّ المرء ضدان
فإن تيقَّظ في تجريب طارقةٍ ... فإنما هو يقظانٌ. كوسنان
ضرورة العيش أن ينسى ليذكر ما ... يغدو يعالج من أمرٍ له ثان
فالمرء ما عاش من حال لثانية ... مَنَقَّلٌ بين نسيانٍ ونسيان
فإنْ تذكَّرَ أمراً واحداً أبداً ... قضى الحياة غريراً جد غفلان
وإن تناسى فلا نَفْعٌ لخبرته ... وكيف يُجْديهِ مَنْسِيٌ بغنيان
فإن تذكر منسياً تبادهه ... منه فجاءة ما يقضي الجديدان
كأنه مُستَجَدٌّ لم يُلِمّ به ... ولم يُحوَّلْ إلى طبع ودَيْدان
ورب طبع بلا خُبْرٍ وتجربةٍ ... أسخى على المرء من خبر وعرفان
ذُخْرُ التجارب ذخرٌ لا رواج له ... ولم يُخَصّ بأرباح وأثمان
ذخر الأقاصيص مسحوراً ومُخْتَزَناً ... فليس للعين منه غير ريعان
إلاَّ تجارب علمٍ يُستَجَدُّ بها ... ما يملأ العيش من حسن وإحسان
لولا انتفاعك من عادٍ مُفَضَّلَةٍ ... قد تجتبيها مع التجريب في آن
لما خُدِعْتَ بأشباهٍ إذا اختلطت ... فعادةُ المرء والتجريبُ أمران
والخُبْرُ ليس بنافٍ عادةً شنأت ... ولا يُداوَى به من وهي أبدان
يزيدك الخُبْرُ علماً بالحياة وما ... تُغْرِي به الناس من شرٍّ وطغيان
حتى تسير على مجرى سجيتهم ... فلا يزيدك فيها غير إمعان(127/53)
فإن أبيت سجايا الناس من شمم ... قضيت عيشك في هم وأحزان
إلاَّ إذا ما لبست الدهْرَ عافيةً ... فهيأت لك من صبر وغفران
عبد الرحمن شكري(127/54)
السجينة
للأستاذ فخري أبو السعود
لك الله كم ذا تطمحين وأعزف ... وأثنيك عما تبتغين وأصرف
ويا نفس كم أزوّرُّ عما اشتهتِهِ ... وأُعنى بما لا تشتهين وأكلف
وأحجم عما رمتني فيه مُقْدماً ... وأُقدِمُ فيما تكرهين وأسرِف
وأبدي سوى ما تضمرين مكتِّماً ... جوى لك في الجنبين لا يتكشف
تُجِنِّين تهياماً ووجداً ولهفة ... وأُظهر أني الزاهد المتعفف
وتخفين إشفاقاً وأُبدي جلادة ... وأَغلُظ يا نفسي عليك وأَعنُف
وأكظم غيظاً قد أطاشك فرطه ... وأُجمل للباغي المسيء وألطف
كأنك في الجنبين منِّي سجينةٌ ... تعذب في ظلمائها وتحَيَّف
وتُكبح عما تشتهيه وتبتغي ... وتُقمع أشواقٌ لها وتَشوُّف
ظلمتك لم أظلِم سواك من الورى ... وما من خلالي قسوة وتعجرُف
ظلمتك، لا يا نفسُ بل تظلمينني ... وأصفح عما تُسلِفين وأصْدِف
أما كلّ يوم مذهبٌ لك شائق؟ ... أما كل حين مأربٌ بك مُلْحف
أما كل آن غايةٌ إثْرَ غاية ... أكلّفُ في إدراكها ما أكلّف
وسيان محمودُ العواقب نافع ... لديك ومذمومُ المغبة مُتْلِف
أما تشتهين اليوم ما يُجْتَوى غداً ... ويُقْلى لديك اليوم ما كان يشغَف؟
وهل أنا مُسطيعٌ رضاك لو أنني ... على العالمين الحاكم المتصرف؟
ولو أنني عمرْي أُجاريك لم أعِشْ ... عن النهج إلا حائداً أتعسف
كلانا أيا نفسي بلاءٌ لخدنه ... نعم وكلانا ناقم ومعنِّف
نعيش كأنّا اثنان لم يتعارفا ... وما لهما في الدهر شمل يُؤَلف
ظلمتكِ خدناً صاحباً وظلمتِني ... فَعَلّ فراقاً آتياً هو أنصف
فخري أبو السعود(127/55)
أُغنية
بين يدي الشمس تشرق تحت السحاب
للأستاذ إبراهيم إبراهيم علي
وجهُ من يا فجر هذا ما بدا ... من وراء الغيب في الأفق الجميلْ؟!
سحَرَ الطيرَ، فغنّى وشدا ... وترامت بهجة الدنيا تسيل
لهبٌ يندى على الكون ندى! ... ناضر الجمرة كالخد الأسيل!
وجمالٌ في جمالٍ في جمالْ
ية للحق في عليائها ... تختفي في السحب شيئاً وتبين
يقف العقل لديها تائهاً ... وهي أم العقل والصبح المبين
غيمة واحدة تلهو بها ... تحجب الغرّاء حيناً بعد حين
أفسحْرٌ، ليت شعري، أم دلال؟
أفهزلٌذاك يا أم الحياه؟ ... لعبٌ في الأفق، لهو في السحاب!
هاهو الكون جميعاً يا فتاه ... يرقب الأضواء من خلف الحجاب
يسكب النور، ولكن لا نراه! ... ثم يبدو من ثنيّات الضباب
في العلا نورٌ وفي الأرض ظلالْ!
بل هو الجدّ، ولا هزل هنا! ... بل هو الحق، ولا حق سواه
بل هو الله، تجلى ودنا ... وتباركت قديماً يا إله!
تبعث الشمس كأطياف المنى ... كالرؤى يوماً، ويوماً كالمهاه
وجمالاً في جمالٍ في جمالْ
(قليوب)
إبراهيم إبراهيم علي المحامي(127/56)
حَنين
للأستاذ رفيق خوري
واهاً على زمنٍ ما كان أقصرَهُ ... فديتُهُ بدمي لو صانه الزمنُ
نفضتُ منه يدي والحرصُ يُمسكه ... والمرءُ حيثُ أراد الدهر مرتهَنُ
إن الذين دعتهم نيَّةٌ قذُفٌ ... سر الضمير، وقد فارقتهمْ علنُ
لا يستجيبون للمضنَى، فدىً لهمُ ... نفسي، وكنتُ إذا ناديتُهمْ أذِنوا
أكلما لاح برقٌ من ديارهمُ ... أجابه من دموعي عارضٌ هتن؟
ما حيلةُ المرء في الدنيا بنافعةٍ ... إذا أُريد به الترنيقُ والحَزَنُ
ضَلّ الفؤاد الذي طار الفراقُ به ... لهفي على هائم ما إنْ له سكن
يا ليت شعري يدانينا السرور كما ... كنا، ويجمعنا بعد النوى وطن؟
حمص
رفيق خوري(127/57)
القصص
صور من هوميروس
16 - حروب طَرْوَادَة
فزع الآلهة. . .
للأستاذ دريني خشبة
قلق زيوس من اعتزام أخيل اقتحام الحرب
وكيف لا يقلق سيد الأولمب وكل من الفريقين يصلي له، ويطلب منه العون، ويتوسل إليه أن يُظفره بعدّوه، فتنجاب هذه الغاشية التي صرّعت الرجال، وضرجت أديم الثرى بدماء الأبطال!!
ودعا إليه أربابه فعقد منهم مجلساً للمشورة، فانتظمهم ديوان الأولمب، وحفلت بهم ذروة جبل إيدا، وطفق الإله الأكبر يقلّب الرأي على جميع وجوهه، ويبحث المسألة من شتى أطرافها، والأرباب فيما بين ذلك يحملق بعضهم في وجوه بعض، وتضطرم في أفئدتهم نيران العداوة والبغضاء؛ لأنهم كانوا جميعاً وقلوبهم شتى! فهذا فريق منهم يعطف على طروادة، ويشيد بذكر طروادة، بل منهم من اشترك في بناء طروادة وأقام أسوارها، وتحصين صياصيها؛ والطرواديون من أجل هذا قد أخلصوا العبادة لهؤلاء، وأقاموا لهم الهياكل المشيدة، والمعابد المنيفة، وهم في طويل الأحقاب والآباد ما يفترون عن عبادتهم والأخبات لهم، وتقديم القرابين والضحايا بأسمائهم.
وفريق آخر من الآلهة يعتبر الشعب الهيلاني شعبه المخلص؛ فهو لذلك يحدب عليه، ويرجو الخير له، وهو أبداً يستأذن سيد الأولمب فيحارب في صفوفهم، ويشد أزرهم، ثم الهيلانيون يخلصون العبادة لهذا الفريق، وهم أبداً يتعلقون بهم، ويقيمون المعابد لهم في كل حنية من جبالهم، وبكل منعرج من شعابهم، ومنهم كل مثّال صناع اليد، مرهف الحس، رفيع الذوق؛ وهم لذلك قد ملأوا المعابد والهياكل بتماثيل الآلهة، حتى ما تقع العين على أجمل منها!
وفريق ثالث لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينقم على هذه الحرب الشعواء التي سُعِّرت لغير(127/58)
ما سبب يستأهل كل تلك الضحايا ويستحل كل هذه المهج؛ وهذا الفريق يحنق على طروادة ويحنق على هيلاس على السواء. ويود لو يأذن سيد الأولمب فيزلزل بهما الأرض، أو يرسل عليهما كِسَفاَ من السماء، فلا يبقى على أحد منهم أبداً!!
واتفق الآلهة على أب يذهب فريق منهم فيكون في صفوف الطرواديين يرشدهم، ويدفع عنهم عادية أخيل، ثم يذهب فريق آخر فيكون في صفوف الهيلانيين يفل من نشاطهم، ويكسر من سورتهم، حتى تكون الحرب بين الجمعين سجالاً؛ وإلى أن يرى الآلهة في شؤون خلقهم رأياً آخر.
وانطلقت حيرا مليكة الأولمب، ومينرفا ربة الحكمة، ثم هرمز رسول الآلهة وقائد الأرواح إلى هيدز. وفلكان الحداد وإله النيران، الذي فضحه مارس في زوجه، ونبتيون رب البحار العتيد الذي روّع الطرواديين في هذه الحرب أيما ترويع.
انطلق هؤلاء فكانوا في صفوف الهيلانيين.
وانطلقت فينوس إلى صفوف الطرواديين، وراح في أثرها أبوللو وأمه لاتونا وديان ومارس وإكسانثوس، وفئة غير هؤلاء من عشاق فينوس؟.
وانبث الآلهة ينفخون في أبواق الحرب.
وصاح أخيل في شياطين الميرميدون صيحة داوية. زادتها مينرفا قوة، فما تركت فؤاداً إلا زلزلته، وما غادرت نفساً إلا تركتها ترجف من خوف وفزع.
وكان أبوللو ينظر إلى أخيل فيتميز من الغيظ، ويود لو يبطش به بغدره من غدراته التي أودت بيتروكلوس من قبل، ولكنه أحس بفرائصه ترتعد، وفقاره يندك من الرعب، لما رأى حول أخيل من هذه الأرباب المتعطشة للدماء، لا سيما الإله الوحش نبتيون الذي يرسل من عينيه بركانين من الغضب يضطرمان اضطراماً.
وآثر أبوللو أن يستخفي في زي ليكاون بن بريام وصورته، وأن يذهب من فوره إلى إينياس العظيم مستشار طروادة وأبسل شجعانها بعد هكتور، فيثيره على أخيل، ويلهب فيه نخوة الجاهلية التي سداها التفاخر بالأنساب، ولحمتها التباهل بالأحساب، والتبجح بأنا ابن من سمك السماء، ودحا الأرض، وأنبت فيها من كل زوج بهيج!
واستطاع أبوللو أن يهون على إينياس من شأن أخيل، وأن يحقر في ناظريه خطبه،(127/59)
واستطاع ببيانه الموسيقي، وطلاقته السحرية، أن يدفعه إلى ناحية أخيل، الذي وقف مكانه يقذف الرعب في قلوب الطرواديين وأحلافهم، باحثاً عن غريمه البغيض، هكتور بن بريام، يود لو يخلي بينه وبينه فيبطش به، ويشفي هذا اللظى الذي يتأجج في جوانحه، بما قتله أعز أصدقائه، وأحب الناس إليه.
ووقف إينياس تلقاء أخيل، فتبسم زعيم الميرميدون، ووعظ المحارب أن ينثني فلا يلقي حتفه، وذكره بما حدث بينهما قديماً، حين ساق أخيل قطعان إينياس السائمة في سفح جبل إبدا؛ وما كان من فرار إينياس، هذا الفرار المضحك، الذي أشمت به الأعداء، وأثار عليه سُخرية الأصدقاء والأوداء!
ولكن إينياس، الذي كان ما يزال مأخوذاً بسحر أبوللو وموسيقاه، أبى واستكبر، وهز أعطافه، ثم أخذته العزة بالأثم، وانطلق يقذف في وجه أخيل بهذا التفاخر الذميم الذي لا يجدي في حلبة الحرب نفعاً، ولا يجر على صاحبه مغنماً، يوم لا حكم إلا للمرهف البتار، ولا قول إلا ما يقول الفيلق الجرار.
والتحم المحاربان العظيمان!
وارتطم الصخر بالصخر، وثار النقع في الميدان وأظلم حتى قد تهاوت كواكبه، ونظر الجمعان نظرة القلق الحيران، وأخذ الذهول يضرب إطنابه على الساحة الحمراء، ونظروا فرأوا إينياس يستجمع كل قوته، ويقذف برمحه العظيم فترده درع فلكان، وإن تكن الطعنة قد شقت منها طبقتين، وفترت، فلم تصل إلى فؤاد أخيل.
وهنا!
اشتعلت نيران الدنيا في عيني زعيم الميرميدون، وذاب في أعصابه حميم من الغضب، وأرسل بدوره رمحه الهائل يرن على درع إينياس فلا يصيبه بأذى، ولكنه، لعظم الطعنة، يصرعه ويطرحه فوق أديم الثرى فريسة رخيصة لغوائل الردى، وضربات الرقاق البيض.
وينحني أخيل من عربته الفخمة، فيتناول حجرا عظيماً، قد يتعب عشرة من صناديد الرجال في حمله، ثم يرفع الحجر ليقد به جمجمة إينياس. . .
ولكن!. . . . . .(127/60)
لا! ينبغي ألا يقتل إينياس، لأنه ابن زيوس سيد الأولمب، وهو لو قتل لم يرض به أبوه ألف ألف أخيل، وألف ألف ميرميدون كملأ أخيل!. . .
هكذا قدّر نبتيون! وقُتل نبتيون كيف قدر!!
لقد أرسلها إلى حيرا، مليكة الأولمب التي كانت قريبة تشهد الحدث الأعظم، قولة غير صادقة إلا في زعم نبتيون!
وعارضت حيرا في تدخل نبتيون، ولكنه، لشدة حبه أخيل، لم يسعه إلا أن يسرع إليه فينشر أمام ناظريه ضبابةً كثيفة حجبت عنهما هدف إينياس، ثم أنكفأ يحمله بعيداً من أخيل، حتى انتهى إلى صفوف الطرواديين الخلفية، فسجاه على العشب الأخضر، وأخذ في نصحه ألا يجازف بنفسه أمام أخيل كرة أخرى!!
وكان الجمعان ينظران إلى إينياس محمولاً في الهواء. . فيأخذ العجب منهما كل مأخذ!!
وامّحت الضبابة، وبطل السحر، ونظر أخيل فلم يعثر لإينياس على أثر، وشدهه أن ينجو خصمه من قتلة محققة، فيُلقى في روعه أن إينياس سليل الآلهة كما ادعى منذ لحظة؛ ثم يشدهه أكثر تجابن الميرميدون والهيلانيين على السواء، بعد إذ رأوا إلى إينياس محمولاً في الهواء!
ويحضهم أخيل على خوض المعمعة، ويستطيع بحماسياته أن يلهب في صدورهم روح الإقدام. . .
ويكون هكتور في هذه اللحظة قائماً في جنوده يحضهم هو الآخر ويطمئنهم أن الآلهة معهم فلا يخافون ولا يحزنون. ويراه أخيل فيخفق قلبه، ويعلو صدره ويهبط كأنه الخضم الغاضب. ويدفع عربته نحوه، فتندفع الخيل، وكأنه النيران تندلع من عيونها وأنوفها. . . .
وكان أبوللو إلى جانب هكتور، فلم يرض أن يلقى أخيل الذي ما خاض المعمعة إلا ليثأر لصديقه بتروكلوس.
وكاد هكتور لا يأبه لكلام أبوللو، وتقدم فعلاً ليلقى أخيل، ولكن الإله الكبير زجره زجراً شديداً، ثم أمره بالتقهقر في الحال. . . فانسحب بطل طروادة، وترك أخيل يحرق الأرّم مكانه، إذ أفلته هذا الصيد الثمين!!
وانقض أخيل يشفي غيظه بقتل عشرات وعشرات من أبطال طروادة فصرع إيفتيون(127/61)
العظيم ابن عذراء البحر، ثم ثنّى بالكمىّ الكبير ديموليون، شج رأسه فانبثق الدم يتفجر منه، وبرز المخ، وذهبت روحه إلى هيدز! ثم ثَلّث ببطل الأبطال هبوداماس، شكه شكة فتركه يخور كخوار الثور، مسوقاً إلى مذبح الآلهة. . . ثم انقض على بوليدور بن بريام، ملك طروادة، فطعنه في ظهره طعنة صرعته، ونشرت ظلام الموت في عينيه، فهوى إلى الأرض يئن أنيناً مؤلماً، أبكى الجند. . . وأحزن أخيل نفسه. . .
لقد كان بوليدور أحب صغار بريام إليه، وكان يجري فيسابق الريح، وينازل القروم الصيد فيصرعهم عشراتٍ ووحداناً، فيا حزن أبيه عليه بعد اليوم!!
وكأن ظلام الموت الذي خيّم على عيني بوليدور امتد حتى ظلل عيني هكتور! ولم تكن الحياة رخيصة في نظر بطل طروادة مثلها اليوم، فقد فجعه أخيل في بوليدور، فلا بد أن يفجع ذيتيس وبليوس، والدي أخيل، في أخيل نفسه. . .
وألهب جياده فاندفعت بعربته ناحية أخيل. . .
واستبشر زعيم الميرميدون حين رأى هكتور يسرع ناحيته قدماً، وذكر أنه قاتل بتروكلوس فدارت به الأرض، وذكر أن بتروكلوس ينتظر ثأره ميتاً ولا بد أن يعود أخيل إليه به، فتقدم نحو هكتور وقال له:
(هلم يا بن بريام فتعجل قتلتك، وودع الحياة الحلوة التي لن تهنأ بها بعد اليوم!!) وتجهم هكتور، وكلم أخيل فاعترف أنه أقوى منه، وأطول في مواقف الحرب باعاً، ولكنه حذره من الغرور؛ (ومن يدري؟! هل أوحت إليك السماء أنك تقتل هكتور؟ وهل أخذت على المقادير والأقضية عهداً ألا يصرعك هكتور. . .) ثم انقض بن بريام فأرسل حربته الظامئة إلى صدر أخيل، ولولا أن مينرفا كانت إلى جانبه تحرسه، ولولا أنها زحزحته قليلاً فتفادته الطعنة. . . لكان أخيل حديثاً من الأحاديث.
وبهت أخيل، ثم صاح صيحة رجف لها جانب الجبل، وجاوبتها أسوار طروادة، ورددت أصداءها أجواز السماء؛ وانقض على هكتور يود لو يقتلعه من عربته فيخبط به الأرض، وتذهب روحه بعدها إلى الجحيم!. . .
وكان أبوللو إلى جانب هكتور هذه المرة، كما كان إلى جانبه دائماً؛ وراع الإله الأكبر أن يهجم أخيل تلك الهجمة التي يعجز عن مثلها مارس الجبار نفسه. . .(127/62)
وذهل أبوللو ماذا يصنع، ليقي بطله من رمح أخيل؟!
ثم ذكر ما صنعه نبتيون من أجل إينياس، فنشر ضبابةً كثيفةً أمام ناظري أخيل، وتقدم إلى هكتور فحمله، وذهب به إلى حيث يكون بنجوة من مصير محزن، كان يوشك أن ينتهي إليه. . . . .
وظل أخيل يطعن الضبابة، مشدوه اللب حيران!!
طعنها مرةً، ثم مرة ثانية، ثم ثالثة، ثم ما كاد يطعنها الرابعة حتى امحت وبطل السحر، وانكشف له الميدان يضج بالجند، ويعج بعدة الحرب، ولكنه مع ذاك، وغير ذاك. . . . خلو من هكتور!!. . . . . . . . . . . .
(جميل يا هكتور!! صل للإله الذي أنقذك اليوم مني! صل لربك أبوللو! لقد أنجاك من قتلة بينة، وموتة محققة. . . صل له يا هكتور! ولكن ثق أننا سنلتقي بعدها، ولا أدري هل ينقذك إلهك عندها؟! إن لي أربابي التي تحميني، والتي إن فوجئت بغادر فهي تنجيني. . . . . سنلتقي يا هكتور. . . . فصل الآن لأبوللو واشكر له. . . . .)
وثار أخيل فكان زوبعة!
وطفق يصرع أبطال طروادة، فطعن دريوبس طعنة اخترمت حياته، ثم جندل ديماخوس وأسرعت روحه إلى أمواج ستيكس المنصهرة، وتقدم فأطاح رأس دردانوس العتيد، وجال جولة هنا وجولة هناك، فكانت المنايا نتعثر أنىّ ذهب، وأيان صار، فهذا تروس البطل ملقى على الأرض والدم ينبثق من كبده، وموليوس الصنديد زائغ العينين يتوجع مما ألم به، وإخكلوس ابن أجينور تساقط نفسه حشاشات، ثم ديكاليون الذي دوخ الجيوش وروع الأبطال، وبث اليتم في كل دار. . . هاهو ذا فوق الثرى صعيداً جرزاً، وجثماناً يتدافق الدم من جرحه. . . نهاية حمراء لحياة حمراء. . . كلها حرب وتقتيل!
ورجموس!!
رجموس بن بريوس! الذي شد رحله من تراقية لينصر الطرواديين على بني وطنه. . . قائداً جموعه التي لا حصر لها؛ مؤلباً القبائل والأفخاذ على الأرض التي أنجبته، والآلهة التي نشّأته. . . . لماذا؟ لا سبب معقول!! ولكنه طيش الملك وغروره وكبرياؤه. . . ولأن الهيلانيين لم يختاروه قائداً لهم في هذه العشوزْنة الزبون!!(127/63)
لقد امتشق أخيل سيفه، وأصلته على رأس رجموس، ثم أهوى به، فخر الخائن يتشحط في دمه. . . . . . . . وانتهت بموته حياة ذميمة.
وزلزل قلب أريثوذ. . . حارس رجموس وسائسه. . . فود لو فر بعربة سيده، لولا أن عاجله أخيل بضربة قدت أضالعه، وذهبت بروحه إلى حيث ذهبت روح مولاه. . . . . . . .
(لها بقية)
دريني خشبة(127/64)
البريد الأدبي
كتاب عن المسألة الحبشية
أثارت المسألة الحبشية واعتداء الاستعمار الإيطالي على الحبشة نشاط المؤرخين والكتاب كما أثارت اهتمام الساسة والرأي العالمي، وظهرت في الآونة الأخيرة عدة كتب ومباحث تاريخية وسياسية واقتصادية وعسكرية عن إيطاليا والحبشة وكل ما يتعلق بتلك المشكلة الخطيرة التي ما زال يضطرب لها العالم كله منذ أشهر , وكان مما ظهر أخيراً في ذلك الموضوع كتاب للكاتب الإنكليزي أميل بيرنز عنوانه (الحبشة وإيطاليا) واميل بيرنز كاتب اشتراكي، وكتابه حملة قوية على الاستعمار الغربي، وأحدث فوراته ونزعاته أعني الاستعمار الإيطالي. ويقول الكاتب في مقدمته إنه يقصد بما يكتبأن يبين الأسباب التي تجثم وراء الحوادث ووراء ستار المظاهر الدبلوماسية؛ والحوادث الظاهرة هي اعتداء إيطاليا المسلح على الحبشة، وعمل إنكلترا وفرنسا السياسي في عصبة الأمم أو خارجها، وليس هذا العمل في نظر اميل بيرنز سوى مؤامرة استعمارية.
ويستمد أميل بيرنز أدلته من حوادث التاريخ الحبشي منذ سبعين عاماً؛ فتاريخ الحبشة يحفل خلال هذه الحقبة بمشاريع إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ودسائسها المستمرة، وكل تغالب الأخرى في سبيل الحصول على النفوذ الأوفر في الحبشة؛ والرأسمالية الاستعمارية من وراء السياسة تحاول أن تضع قدمها في تلك الأرض الغنية. وليس عمل إيطاليا إلا اعتداء في سبيل الاستغلال والسلب؛ ذلك أن أحداً في العالم لم يصدق أن إقدام إيطاليا على اتخاذ هذه التدابير العسكرية كان من باب الضرورة والتحوط وليست لها صبغة اعتدائية، وأنها ليست إلا ضمانا للسلام والأمن ضد أمة همجية، ولم يدهش إنسان بعد ذلك أن يرى هذه الإجراءات تتخذ فجأة صبغة الغزو المسلح، وأن تتحدى إيطاليا رأي العالم المتمدن كله، ولم تقم الدول الاستعمارية الأخرى بعمل حاسم لمنع هذا الاعتداء، وإذا كانت قد فعلت شيئاً فذلك لأن الموقف النبيل الذي وقفه النجاشي كان مثاراً لإعجاب العالم وعطفه.
وقد كانت الحبشة فريسة الاعتداء المدبر، وكان لإيطاليا أن تحمد الفرصة السانحة من كل وجه وخصوصاً لأن موقف الحكومة القومية الإنكليزية في تأييد سياسة النازي (الهتلريين) في ألمانيا قد دفع فرنسا إلى أحضان إيطاليا وانتهزت إيطاليا هذه الفرصة لتضمن تأييد(127/65)
فرنسا لها في افتراس الحبشة. بل لقد حاولت إنكلترا أن تعمل على اقتسام الحبشة مع إيطاليا، ومن أجل ذلك قدمت مشروعها بالتنازل عن زيلع إلى الحبشة.
ويتناول المؤلف بعد ذلك العوامل الإقتصادية التي دفعت بالحكومة الفاشستية إلى اعتدائها، ويسرد الأدلة على أن (التمركز المالي) هو الذي يدفع إلى هذه النزعة الإمبراطورية ثم يتحدث بعد ذلك عن (الفاشستية وعصبة الأمم) ويبين لنا كيف أن الرأسمالية من وراء كل حركة وإجراء تعمل باسم الأقليات وباسم الانتدابات؛ وكيف أن الرأسمالية الخصيمة تحاول أن تقضي على أي مشروع للصلح يتضمن أي مغنم للرأسمالية الفاشستية، وهذا بصرف النظر عن قضية الحبشة وعدالتها. والآن تسنح فرصة بديعة لسحق الفاشستية ونظمها الطاغية، ولكن هل تنتهز الدول هذه الفرصة؟ ويقول لنا الكاتب إن الواقع أن حكومة إنكلترا القومية إن هي إلا حكومة فاشستية بمعنى الكلمة لا ينقصها سوى الاسم.
ويعرض المؤلف نظرياته وأدلته بقوة ووضوح ولا سيما فيما يتعلق بالمسألة الإيطالية الحبشية، ويسبغ على عرضه صبغة اشتراكية واضحة ولكن معقولة متزنة، وكتابه يعتبر من خير الكتب التي أخرجت أخيراً في موضوعه، ويمتاز بالنسبة للشعوب الشرقية بأنه حملة قوية منظمة على الاستعمار وأساليبه تثلج صدر كل شرقي يرى أساليب الاستعمار الهمجية تعمل في وطنه وأمته.
ذكرى غزوة بدر الكبرى
تألفت بالقاهرة لجنة من الشباب للاحتفال بذكرى غزوة بدر الكبرى في 17 من رمضان لأنها أول نصر حاسم في تاريخ الإسلام. وستكون الحفلة برياسة الدكتور محمد حسين هيكل. ومن خطبائها الأساتذة الدكتور محمد حسين هيكل، الشيخ عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين، السيد محمد الغنيمي التفتازاني، الدكتور عبد الرحمن شهبندر، محمد أفندي عبد الباقي سرور نعيم، الشيخ أحمد البهي مندوب الأزهر، أحمد أفندي شوقي مندوب كلية الحقوق.
وسيكتب في هذا الموضوع الأساتذة محمد جاد المولى بك، أحمد حسن الزيات، حفني محمود، محمد علي غريب، عبد الحميد المشهدي.
كتاب (محمد) للأستاذ توفيق الحكيم(127/66)
كتب الأستاذ توفيق الحكيم رسالة إلى أحد أصدقائه الفرنسيين في أكتوبر سنة 1934، جاء فيها عن كتابه (محمد) ما يأتي: (إن كتابي عن محمد (ص) لا يزال في طور التحضير والتهيئة، وعسى أن أتمه في الشتاء المقبل. وسأبرز فيه النبي الكريم متكلماً بكلامه المأثور، في صورة تستوعب حياته المجيدة، كما يتصورها الفنان، لا كما يفهمها العالم والمؤرخ. . .)
الصقالبة في الرواية العربية
إلى الأستاذ المحقق محمد عبد الله عنان
قد قرأت لحضرتكم في عدد الرسالة (رقم 126) مقالاً تحت هذا العنوان، وفيه عبارة لابن حوقل عن صقالبة الأندلس، جاء فيها: (فنصت بلدهم (الصقلب) يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقة وإفرنجة وانكبردة وفلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير). ثم استنتجتم من ذلك أن لفظة الصقالبة كانت تطلق على سكان هذه البلاد المذكورة، والذي يغلب على ظني أن هذه العبارة لم يرد بها ذلك، بل المراد وصف الطريق التي كان يسلكها سبي الصقالبة، حتى يصل إلى الأندلس، فهل عند الأستاذ ما ينفي هذا الظن؟
(قنا)
عطية الشيخ
الإنسان والكون - آراء علمية جديدة
ألقى العلامة الطبيعي الإنكليزي الأشهر سير جيمس جينس أخيراً محاضرة عن (الإنسان والكون) حمل فيها بشدة على مادية العلم القديمة، وقال إنه يعتقد أن الإنسان ليس آلة صماء، وأنه يناضل في الواقع من أجل مصيره، وأنه قد أحرز أخيراً نجاحاً لا شك فيه. بيد أنه ما زال عليه أن يناضل من أجل مركزه في المجتمع، فإذا أخفق في هذا النضال فقد يستأصل ويقضى عليه كما قضى على أجناس وفصائل أخرى من قبل، وفي هذه الحالة يكون الإنسان ضحية جنس آخر من صغار المخلوقات، ربما كان هو الميكروبات التي لا(127/67)
يراها لصغرها.
وإذا نجح الإنسان في هذا الصراع واستطاع أن يظفر بتوطيد مركزه، فإن مواهبه وكفاياته قد تتسع وتزيد تدريجياً حتى يتحول إلى شئ آخر غير ما هو اليوم عليه وربما كان شيئاً أرفع مما هو عليه. وقد تختلف عنا سلالتنا بعد عشرة ملايين سنة كما نختلف نحن عن أسلافنا المنحطين منذ عشرة ملايين سنة. وشر ما يخشاه الجنس الإنساني هو الهزيمة والعدم، وخير ما يؤمله هو أن يغدو قنطرة منسية للطريق إلى أشياء أسمى.
وقد لاح في وقت ما أن نظرية (النسبية) قد وضعت حداً لكل الآمال التي تساور الإنسان في جعل العالم أكثر رفاهة وسعادة وجمالاً وأكثر نبلاً وعدالة طبق مثله الخاصة.
أما الآن فلدينا أسباب كثيرة تحملنا على العودة إلى اعتقادنا في أن الماضي والحاضر والمستقبل لها في الواقع معنى موضوعي وليست هواجس تهجس في عقولنا، وبعبارة أخرى يجب علينا أن نعتقد أن الزمن إنما هو حقيقة مادية.
واستعرض السير جينس بعد ذلك ما وصل إليه العلم في شأن (الذرّة) وما يقال من أنه لا يمكن سير الذرات، وأن سير الطبيعة يقوم على غير نظام وتقرير سابق؛ ومن رأيه أن العلم عاجز عن أن يقدم أي تحديد أو أي تدليل على مسألة (الحير) القديمة؛ وقد يكون الإنسان أو لا يكون آليّاً، ولكن العلم لا يستطيع أن يبرهن على أنه ليس آلياً، ثم هو لا يستطيع أن يبرهن أنه آلي قال؛ وإذا استعرضنا تاريخ العلوم في جملته، فإنا نرى المعارف العلمية ما تزال ترغم الإنسان على أن يخفض من تقدير نفسه ومركزه في الكون حتى بدء القرن الحالي، أما أنا فأرى أن التيار قد أخذ يتطور، وإننا على ضوء المعلومات التي ترتبت على نظرية النسبية والكمية، نستطيع أن ننظر إلى مركزنا في شيء من التفاؤل لم يسمح به العصر الفيكتوري).
شرعية الانتحار
يعرض في القريب العاجل على مجلس اللوردات الإنكليزي مشروع قانون فريد في نوعه، يراد به تقرير شرعية الانتحار، أو بعض أنواع القتل؛ ففي العهد الأخير وقعت في إنكلترا عدة حوادث رنانة مؤثرة؛ قتل فيها الابن أباه، والزوج زوجته، والعاشق حبيبته، ولم يكن قتلاً عادياً أو له صفة الجريمة، بل كان قتلاً مبعثه الإشفاق والحب، وكان في الغالب بناء(127/68)
على طلب المجني عليه؛ وكان المجني عليه أو القتيل في معظم الأحوال يشكو مرضاً لا يرجى برؤه ويعاني آلاماً مروعة يريد أن يتخلص منها بالخلاص من حياته، فيطلب إلى أحب الناس إليه أن يقوم بهذه المهمة الأليمة. وقد وقعت عدة حوادث من هذا النوع، وقدم (الجناة) أو الذين ارتكبوا القتل بهذه الطريقة إلى القضاء فحكم القضاء في الغالب بالبراءة إزاء الظروف المؤثرة التي وقع فيها القتل، وإزاء انعدام نية الجريمة من جانب المتهم ولكن بعض (الإنسانيين) وأنصار هذا النوع من الإعدام يخشون أن يقسو القضاء فيعامل المتهمين في هذه الحوادث بالشدة وينال قصاصه المؤلم، لأن الانتحار يعتبر في القانون الإنكليزي جريمة ويعاقب كل من اشترك فيه أو ساعد عليه؛ ولذلك رأى بعض اللوردات أن يقدم إلى المجلس مشروع قانون يبيح القتل في مثل هذه الأحوال، وقد روعي في هذا المشروع أنه توجد حالات أليمة يشتد فيها المرض والألم على الفريسة فيتمنى كل من حولها لها الخلاص من هذا العذاب ويعتبرون من واجبهم المقدس أن يلبوا طلبها في الإجهاز عليها وإنقاذها من ذلك الجحيم؛ ولكن روعي من جهة أخرى أنه قد توجد حالات يتمنى فيها أهل المريض المعذب وفاته بسرعة ليحظوا بالإرث والثراء؛ وقد ينتهزون فرصة آلامه، وهذيانه فينتزعون منه إقراراً كتابياً بطلب الموت، ثم يجهزون عليه؛ ويتذرعون بهذا الإقرار للإفلات من العدالة؛ ففي هذه الحالة يتطلب القانون الجديد أن يقع مثل هذا الإقرار على يد موظف عمومي، وذلك بعد أن يصدر الطبيب المختص قراره بأن المريض لا يرجى برؤه وأنه يعاني آلاماً لا يمكن احتمالها مع الحياة؛ ويشترط مشروع القانون أيضاً أن الذي يقوم بعملية الإعدام أو الإجهاز على الفريسة طبيب مرخص له بذلك.
وهكذا يراد أن يشرع حق الانتحار، وأن يمنح حق الإعدام في ظروف معينة؛ وسنرى ما إذا كان مجلس اللوردات يقر هذا القانون المدهش.
معرض الفن الصيني
أفتتح أخيراً في لندن في (برلنجتون هاوس) معرض الفن الصيني الذي كانت تتخذ العدة لافتتاحه منذ أشهر. وقد عرضت في هذا المعرض تحف وآثار صينية نفيسة يرجع الكثير منها إلى نحو ثلاثة آلاف سنة. ومعظم هذه التحف الرائعة ملك للصين ولكن الحكومة(127/69)
الوطنية الصينية ارتضت أن تعيرها للسلطات الفنية البريطانية بعد مفاوضات طويلة؛ ونقلت المعروضات في طرادة بريطانية مسلحة وأخذت إلى لندن لتعرض هنالك على أنظار العالم المتمدن. وتدل هذه التحف على أن الصين كانت قبل آلاف السنين تتمتع بحضارة رائعة تضارع في ازدهارها وروعتها حضارة مصر القديمة، وتدل على إن الفنون الصينية بلغت مبلغاً عظيماً من الافتنان. وقد كان الابتكار يقترن لدى الفنان الصيني مع الصبر وتخير النماذج الفائقة. وأقدم التحف المعروضة هي آنية للمراسيم الدينية صنعت من البرونز ويرجع صنعها إلى سنة 1766 قبل الميلاد؛ وكان البرونز أول مادة استعملت في الفن الصيني؛ ولم يبدأ النحت البوذي إلا في القرن الرابع أو الخامس الميلادي. وقد كان افتتاح المعرض الصيني حادثاً فنياً عظيماً في إنكلترا، وهرعت الجماهير الحاشدة لرؤيته من أنحاء الجزر البريطانية وأمم القارة الأوربية.(127/70)
الكتب
كتاب التشريح المرضي والجنائي
تأليف الدكتور محمد زكي شافعي
بقلم الدكتور محمد الرافعي
لا أسهل في العلوم من اختصارها، ولا أيسر من إخراج الكتاب الضخم محصلاً في جزء لطيف. وقد كانت هذه طريقة علمائنا المتقدمين؛ فليس من كتاب ذي خطر إلا وقد اختصروه مرة أو مراراً، يريدون إما تقريبه من الأذهان وإما حصر فوائده، وإما جعله كالمذكرات. وقد يعجز بعض العلماء عن التأليف ويريد مع ذلك أن يكون مؤلفاً فيجد مادته من الكتب المطولة يؤلف منها ما يسميه المختصر أو الموجز أو نحو ذلك. وهذا كله سهل، بل بعضه أسهل من العبث إلا في الطب، وخصوصاً حين يكون الاختصار في فرع من فروعه التي اختص بها علماؤها كهذا الكتاب الذي نحن بصدده.
إن وضع كتاب مختصر في فرع من الفروع الطبية وخصوصاً باللغة العربية هو عمل من أشق الأعمال، وأدقها إذا أريد أن يكون الكتاب مع اختصاره وافياً في موضوعه، محققاً لفائدة الأصل المطوَّل، جامعاً لفوائد جديدة تعطي الكتاب حكم التأليف مع تسميته المختصر. وما دام الطب شرحاً للجسم المعجز في تركيبه وأعماله ودقائقه المحيرة للعقول؛ فالتأليف فيه لا ينتهي، واختصار المؤلفات فيه لا يكاد يوفق إليه إلا النوابغ المحيطون أوسع إحاطة، والمتمرنون تمريناً طويلاً، والمتتبعون لكل جديد.
ومن هؤلاء مؤلف كتاب (التشريح المرضي والجنائي) الدكتور محمد زكي شافعي، مدير المكتب الفني بمصلحة الصحة العمومية بمصر. وقد قال في مقدمة كتابه هذا: (لقد اشتغلت حوالي العشرين عاماً بالطب الشرعي، ولا أزال أعمل الآن مراجعة بعض الأعمال الخاصة به، وكثيراً ما استرعى نظري أن الحاجة ماسة أشد مساس إلى كتيب خاص بالتشريح المرضي والجنائي، يرجع إليه الطبيب الكشاف إذا أعوزه الأمر للإطلاع العاجل، فإنه كثيراً ما يجد نفسه في مأزق حرج، إذ يطلب إليه - وهو بعيد عن مراجعه - الفصل في مسائل فنية دقيقة الخطورة، يتوقف على الإجابة عليها مصير متهم قد يكون بريئاً.(127/71)
ولقد كنت أشعر بهذه الحاجة في أثناء ممارستي التشريح، ولا سيما في الجهات التي أكون فيها بعيداً عن مراجعي، وكل الأطباء يدركون دقة هذا الموقف.
ولقد عرضت على زميلي (الدكتور لبيب شحاته) أن نعمل على سد هذا النقص، فوضعنا معاً هذا الكتاب، وتوخينا فيه أن يكون عملياً أكثر منه نظرياً، وجعلناه واضح العبارة، سهل المأخذ، حتى ينتفع به كل مشتغل بالطب الشرعي، وانتقينا أحدث المعلومات، وأرجحها قبولاً لدى جمهرة الأطباء الشرعيين ولذلك اضطرتنا الحال إلى الإطلاع على مراجع عديدة علاوة على المذكرات الشخصية).
ومع أن الكتاب كما يصفه حضرة مؤلفه فقد وقع في 490 صفحة، وبلغت المراجع التي اعتمد عليها واضعاه عشرين مرجعاً، يضاف إليها اختبار المؤلف وتحقيقه مدة عشرين سنة، وذلك فضلاً عن رجوعه في بعض مسائل كتابه إلى كثير من الأساتذة المختصين، بحيث جاء الكتاب عظيم الفائدة للمشتغل بالطب الشرعي، وللطبيب المشرح، ولمن يتصلون بالحوادث الجنائية من القضاة ورجال النيابة والمحامين فهؤلاء جميعاً يهتدون فيه إلى أدق المسائل الفنية بأيسر طريقة وأسرع وقت، ويصيب كل منهم غرضه الفني أو القضائي. وقلما يحتاج مع هذا الكتاب إلى الأصول المطولة إلا في التدريس، على أنه في التدريس ذو قيمة ثمينة إذا جعل للطالب كالتذكرة التي يدون فيها خلاصة علمه. هذا وإن ضم التشريح المرضي إلى التشريح الجنائي في كتاب واحد عمل فني بديع لم يُسبق إليه.
وأنا وقد درست هذا العلم على الفحول من رجاله في فرنسا، لا يسعني إلا أن أهنئ الدكتور محمد زكي شافعي، ومساعده الفاضل الدكتور لبيب شحاته بكتابهما وبما وفقا فيه، فهو توفيق يستحق التهنئة العلمية.
الدكتور محمد الرافعي
خريج جامعة ليدن بفرنسا
لباب الآداب لابن منقذ
تحقيق وتعليق الأستاذ أحمد محمد شاكر
للأستاذ محمد بك كرد علي(127/72)
بنو منقذ أصحاب قلعة شيزر من عمل حماة في الشام كانوا معروفين على عهد الحروب الصليبية بالفروسية والسياسة والأدب والأمارة، وقد خلد أسامة بن منقذ (488 - 584 هـ) أحد رجال هذا البيت بأدبه ذكر آله في التاريخ. ولما طبع له العلامة درنبرغ كتاب (الاعتبار) في سنة 1884م بمدينة ليدن في هولاندة اشتهر أسامة بين الأدباء في الشرق والغرب، لما حوى كتابه من أخبار البطولة والشجاعة، ولأنه صُنّف على غير مثال. وقد طبع له درنبرغ أيضاً كتاب العصا وغيره في باريز، وعُني بجمع أخباره بالفرنسية وخدمه وأولع به.
والآن طبع الأديب لويس سركيس في القاهرة كتاب (لباب الآداب) لأسامة أيضاً، وتولى تحقيقه والتعليق عليه الأستاذ أحمد محمد شاكر، وحلاّه بفهارس الأعلام وأيام العرب والأماكن والقوافي، وشكله تقريباً بالشكل الكامل، فقرّب فوائده من يد المستفيد، وأضاف إلى ما طبع من كتب الأدب القديم سفراً آخر قال في وصفه إنه من أجود كتب الأدب، وإن فيه أقوالاً من نثر ونظم لم يجدها في كتاب غيره من الكتب المطبوعة.
قسم المؤلف كتابه إلى عدة أبواب فيها عظة وتعليم وأهداه لابنه الأمير مرْهِف، وجعل أبوابه في الوصايا والسياسة والكرم والشجاعة والآداب وكتمان السر والأمانة والتواضع وحسن الجوار والصمت وحفظ اللسان والقناعة والحياء والصبر والرياء والإصلاح بين الناس والتحذير من الظلم والإحسان وفعل الخير والصبر على الأذى ومداراة الناس وحفظ التجارب وغلبة العبادة والبلاغة. وهناك فصول من كلام رسول الله والصحابة وغيرهم، ومن كلام سليمان الحكيم وبرسين الحكيم وأفلاطون، ونوادر فيثاغورس وسيخانس، ومحاسن شعر الحكماء، وأبواب في المديح والتشبيه ومشي النساء والخفر والشيب والاعتذار والعتاب والمراثي والغزل والحكمة. يبدأ المؤلف كل فصل بآيات كريمة ويشفعها بما ورد من الأثر ثم الشعر ثم أقوال الحكماء في هذا المعنى.
وذكر المعلق على الكتاب أنه وقعت في طبعته هذه بعض أغلاط، مع كل ما عانى في تصحيحه، جاء بعضها سهواً منه، وبعضها من خطأ النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التي لا يتنزه عنها كتاب. ونحن نقيم من كلامه هذا عذراً لكل من أحيا كتاباً للقدامى؛ وليس من الإنصاف أن يُحمل على كل من ارتكب خطأ من هذا القبيل بعد بذل الجهد، فقد تسرع(127/73)
الناظر في هذا الكتاب وقال (ص 26) إن كتاب العصا هو كتاب القضاء لا العصا، وليس في جريدة مؤلفات أسامة كتاب في القضاء وإنما هو كتاب العصا المطبوع. وذكر (ص 22) (الأمير معين الدين أنَر وزير شهاب الدين محمود) وليس في التاريخ الإسلامي من اسمه أنر، وإنما هو اتسنر وهي كلمة تركية معناها لا لحم له، أو الرجل الضَرْب الخفيف اللحم غير الجسيم. واتسنر هذا هو مملوك جد مجير الدين أرتق بن محمود ابن بوري بن طغتكين، وكان عاقلاً ديناً محسناً لعسكره (راجع كتابنا (خطط الشام) م2 ص 21). ومن ذلك في صفحة 192 (تباة البلد) قال ولعلها جمع تاب بوزن غاز وغزاة من قولهم تبا إذا غزا وغنم وسبى. ونحن أميل أن تكون (تُنّاة البلد) أي سكانه من تنأ تنوءاً أقام، ويقولون (الطراء والتناء) أي النزلاء والمقيمون وهي الأولى بالمقام.
وتسرع أيضاً (ص 28) ونقل ظن بعض أهل العلم أن كتاب (الأدب والمروءة) الذي نشرناه في مجلة المقتبس، ثم ضممناه إلى الطبعة الثانية من (رسائل البلغاء) في سنة 1331هـ 1913 هو لصالح بن عبد القدوس لا لصالح بن جناح كما ذكر ناشره أستاذنا العلامة الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله؛ قال (ولعله - أي صالح ابن عبد القدوس - أخفى نفسه بهذا الاسم في بعض الأوقات خوف الطلب). والحقيقة أن كتاب الأدب والمروءة هو لصالح بن جناح ترجم له ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق، فقال إنه صالح بن جناح اللّخمي الشاعر أحد الحكماء؛ حكى عنه أبو عثمان الجاحظ أنه ممن أدرك الأتباع بلا شك، وكلامه مستفاد في الحكمة. وقد أخذ عنه الجاحظ في نيسابور وقال عنه دمشقي؛ ونشر ابن عساكر طائفة من شعره الجميل. وبذلك انتفى ظن بعض أهل العلم أن كتاب الأدب والمروءة هو لصالح بن عبد القدوس بل هو لرجل عربي دمشقي ينسب إلى لخم من أتباع التابعين ومن أساتيذ عالم الأمة الجاحظ.
ومثل هاته الهنات المعدودة لا تقدح في كتاب طويل وقع في خمسمائة صفحة، الله أعلم كم قاسى ناشره من المتاعب حتى استخرجه من خطوط قديمة سقيمة. وليس لنا بعد هذا إلا الشكر نقدمه للأستاذ شاكر على عنايته وتجويده.
محمد كرد علي(127/74)
النقد
2 - تاريخ الإسلام السياسي
تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن
بعض مآخذ تاريخية وجغرافية
لأستاذ كبير
أتيت في كلمتي السابقة على قليل من المآخذ التاريخية التي تورط فيها مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) وقد لحظ بعض الذين قرأوها أنه كان الأفضل ألا أورد هذه المآخذ مسرودة على نحو ما فعلت بل أن أوردها مقرونة بأسبابها الجوهرية. وأجيب عن هذه الملحوظة التي لها وجاهتها العامة بأن من المفيد في نقد كتب التاريخ أن ينصب النقد أولاً على الوقائع مجردة. فإن التاريخ من الناحية التحليلية البحتة يقوم على الوقائع التاريخية التي هي مادته الأولية. وبمقدار تزود المؤرخ من هذه المادة الأولية وتمكنه منها إحاطةً، وتقويماً، وفهماً، تكون متانة أحكامه التي يستنبطها وافتراضاته التي يذهب إليها، والعكس بالعكس. وإذاً فلا بأس أن أمضي في كلمتي هذه في إتمام ما أخذت فيه في كلمتي السابقة من الإتيان على أجسم ما في الكتاب من المآخذ التاريخية، مقفياً على أثر ذلك بإيراد شيء مما وقع فيه المؤلف من الأغلاط الجغرافية، والتاريخ والجغرافيا صنوان مؤتلفان، وهما ظرفا الزمان والمكان لما يسمى بوقائع التاريخ.
قال المؤلف في ص 340 في معرض الكلام على الوقعة البحرية العظيمة المعروفة في كتب العرب بذات الصواري: (وفي سنة 31هـ نشب القتال بين ابن أبي سرح وبين الروم تحت قيادة ملكهم قسطنطين في البحر الأبيض المتوسط، على مقربة من الإسكندرية، وكان النصر للعرب في هذه الحرب، وقد عرفت هذه الموقعة بموقعة السواري أو ذات السواري) والمؤلف يخطئ هنا من حيث زمان الوقعة ومكانها، فأما من حيث الزمان فالوقعة قد ذكر في المصادر العربية أنها كانت سنة 31هـ ولكن هناك رواية أخرى تجعلها في عام 34هـ، وقد ظهر من المصادر اليونانية أنها تؤيد الرواية الثانية، وإذاً يتعين الأخذ بها واطراح الأخرى. وأما من حيث مكان الوقعة فالمصادر اليونانية تعينه فتجعله قريباً من(127/75)
ساحل آسيا الصغرى الجنوبي لا قريباً من إسكندرية مصر (أنظر تاريخ العصور الوسطى لكمبردج ج2 ص 353) والمؤلف لا شك يتابع في كلامه هنا السير ويليم ميور الذي يأخذ عن المؤرخ الإنجليزي جبون، وكلا هذين المؤرخين أصبح قديماً ولا يصح التعويل عليه بصفة مطلقة.
جاء في ص 370 عن وقعة الجمل المشهورة (ونشب القتال وعائشة راكبة في هودجها على جمل يسمى عسكرا واقتتل الناس حوله سبعة أيام حتى صار كالقنفذ من النشاب) والصحيح أن وقعة الجمل لم تدم أكثر من سحابة يوم واحد. فإن السبئية من أصحاب علي أجمعوا إنشاب القتال حتى لا يتم صلح بين الفريقين. وقد حملوا بالفعل ليلاً على جيش عائشة وما تعالى النهار حتى كان الفريقان قد اشتبكا في وقعة دامية ولم يكد النهار ينصرم حتى كان جمل عائشة قد عقر وأخذت عائشة وانتهت الوقعة. ولعمري إن جيشاً يرشق كله أو بعضه بالسهام جملاً ساعة واحدة لحري بأن يحيل الجمل كالقنفذ، ولا يقتضي الأمر سبعة أيام!
ومن الخطأ الجسيم ما وقع فيه المؤلف عندما أراد أن يبدي رأيه في خروج عائشة وطلحة والزبير على علي، فهو يقول في ص 372 (نرى أنه لا مبرر لعمل طلحة والزبير وعائشة ما دام للأمة إمام ينفذ الأحكام ويقيم الحدود ولاسيما وقد وعدهم علي ابن أبي طالب بالنظر في أمر عثمان والبحث عن قاتليه والقصاص منهم عندما تستقر الأمور. على أننا نرى من جهة أخرى أن مجرد قبول علي في جيشه أعوان ابن سبأ الذين قتلوا عثمان في الوقت الذي يطالب فيه بدمه كاف لأن تحوم الظنون حوله وتبرر اتهامه بالاشتراك في دمه) فالمؤلف ينظر هنا إلى كل من الفريقين من وجهة نظر الآخر، وقد خرج من الموضوع ولا رأي له على التحقيق. والوضع الصحيح للمسألة هو ألا مبرر مطلقاً لخروج عائشة وصاحبيها، وأما علي فلعل أصدق وصف له في الفتن التي اضطر إلى خوض غمارها أنه كان على إخلاصه مغلوباً على أمره.
ويقول المؤلف في هامش ص 450 تعليقاً على كلامه على ضرب الحجاج الكعبة بالمجانيق: (لم يرد عبد الملك بن مروان أن يحط من شأن الكعبة وإنما اضطر إلى قتال ابن الزبير فحدث ما حدث من غير قصد. وذلك أن الحجاج لما نصب المجانيق على الكعبة(127/76)
جعل هدفه هذه الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة، إذ كان الأمويون يعتبرون ذلك بدعاً في الدين) وهذا تخيل عجيب للحال، فإن مجرد استحلال القتال في الحرم فضلاً عن رمي الكعبة بالمجانيق عمل ينطوي في نفسه على حط كثير من شأن الأمكنة المقدسة من غير نزاع. على أن الأمر كان أمر سياسة قبل كل شيء وبنو أمية كانوا إذا تعارضت المصلحة السياسية وأي اعتبار آخر رجحوا جانب المصلحة السياسية كائناً ما كان ذلك الاعتبار الآخر، وتاريخهم كله يشهد بذلك. وقد يكون من المضحك أن يقال إن الحجاج جعل الزيادة التي زادها ابن الزبير في الكعبة هدفاً لمجانيقه! أفما كان من الممكن الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها ثم تنقض الكعبة وتبني على أسسها القديمة؟ ثم هل كانت هذه الزيادة متميزة عن سائر بنية الكعبة بحيث يمكن نقضها دون هدم الكعبة؟ كلا ثم كلا! لقد كان الهدف الحقيقي للمجانيق هو ابن الزبير نفسه، ولما جعل ابن الزبير الكعبة حائلاً بينه وبين المجانيق ضربت الكعبة.
ويقول المؤلف في ص 471 وقد استعرض أشهر فرق الخوارج في العصر الأموي: (وإن الناظر إلى مبادئهم ليجد أنهم اشتطوا جميعاً في الحكم على مخالفيهم حتى ساووا بينهم وبين الكفار عبدة الأوثان) وهذا الحكم على إطلاقه غير صحيح فهو إن صدق على بعض فرق الخوارج كالأزارقة لا يصدق على بعضها الآخر كالأباضية.
ومن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المؤلف متابعته مؤرخاً متوسط المكانة التاريخية هو السيد أمير علي الهندي في الكلام على نظام الإمارة على البلدان في العصر الأموي. يقول المؤلف نقلاً عن هذا المؤرخ: (إن هناك نقصاً قد تطرق إلى النظام الإداري في عهد بني أمية وجر إلى أسوأ العواقب فيما بعد. وذلك أنه كان يفرض على ولاة الأقاليم الإقامة في حواضر ولاياتهم. أما في عهد الأمويين فقد أصبحت ولاية الولايات تسند إلى بعض أفراد البيت المالك وإلى كبار رجال البلاط فكانوا يبقون في دمشق ويعينون من قبلهم رجالاً يقومون بحكم الولايات نيابة عنهم. وكان من أهم أغراض هؤلاء الإثراء على حساب بيت المال، وإرضاء هؤلاء الولاة بما كانوا يدرونه عليهم من الأموال) ونبادر إلى القول بأن هذا النقل غير دقيق فالسيد أمير يؤرخ النقص الذي تطرق إلى النظام الإداري من عهد يزيد بن عبد الملك بن مروان أي من عام 101هـ في حين أن كلام الناقل يجعل تطرق(127/77)
النقص منسحباً على العصر الأموي كله.
ومع ذلك فكلام السيد أمير علي لا ينطبق على الواقع، فإنه إذا كانت الولاية على الأمصار قد أسندت في بعض الأحوال إلى أمراء من بني أمية كمسلمة ومروان بن محمد فإن ذلك إنما كان لما عرفوا به من الكفاية الممتازة لا لقرابتهم من الخلفاء. ثم إنه لم يكن لبني أمية بلاط بالمعنى الصحيح يولي كبار رجاله على الأمصار كما أن الأمراء لم يكونوا يقيمون بالعاصمة ويستنيبوا غيرهم على الأمصار، إنما كانوا يقيمون في حواضر الأقاليم نفسها. هكذا كان خالد القسري أمير العراق، ونصر بن سيار أمير خراسان وحنظلة بن صفوان أمير مصر. وإذا انتفت الاستنابة فلا نيابة ولا إثراء ولا رشوة. ولا شك أن السيد أمير علي كان يفكر وهو يكتب هذا الكلام في نظام الولاية على الأقاليم في العصر العباسي الثاني عندما غلب الأتراك على الدولة العباسية، وهو خلط لا مبرر له.
ويتكلم المؤلف (ص 576) على نظام (العدول) في معرض الكلام على نظام القضاء في عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية فيقول (وقد دعت سنة التقدم والارتقاء إلى اتخاذ الشهود (المحلفين) حين فشت شهادة الزور، إذ جرت العادة أن تقبل شهادة من يتقدم لأدائها، سواء أكان ممن عرف بالخير أو بالشر. فقضى النظام الجديد بتعيين شهود عدول، عرفوا بحسن السمعة والفقه، فصاروا من هيئة المحكمة، يعمل برأيهم القاضي فيما له علاقة بالمتقاضيين.
وكان من اختصاصاتهم أيضاً الشهادة على ما يصدره القاضي من الأحكام وأنه غير مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية) لاشك أن المؤلف تناول هذا الموضوع لاعتقاده أن نظام العدول وجد في العصر الذي اتخذه موضوعاً لكتابه. وهو اعتقاد خطأ فأول ما سمع عن نظام العدول إنما كان زمن الرشيد أي في الدولة العباسية (أنظر كتاب تاريخ القضاء في الإسلام ص 132) ثم إن كلام المؤلف لا يجلو هذا النظام على حقيقته وفيه تخليط كثير (راجع الكتاب المذكور).
ويقول المؤلف في ص 627 وهو يتكلم على الجامع الأموي بدمشق: (وقد تأنق الوليد في بناء هذا المسجد حتى قيل أنه أنفق على عمارته خراج دولته سبع سنين وما ذلك إلا ليتقرب إلى الله بهذا العمل الديني الجليل). والمؤلف ينقل هنا عبارة المستشرق فون(127/78)
كريمر، وفون كريمر يعتمد على ابن الفقيه. ووجه المبالغة غير المعقولة في تقدير نفقات الجامع ظاهر. وكان ينبغي العدول عن رواية ابن الفقيه والأخذ برواية أخرى متواترة قال بها الأصطخري وابن حوقل والمقدسي. ومؤداها أن النفقة استغرقت خراج الشام وحده سبع سنوات.
وبعد فلو أردنا استقصاء الأخلاط التاريخية الواردة في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) لطال الأمر. فنكتفي بهذا القدر. ونختم كلمتنا اليوم بإيراد أغلاط جغرافية جرى بها قلم المؤلف.
فبلدة (صحار) تكتب الصاد المهملة لا بالسين كما كتبت على خريطة جزيرة العرب الواردة في أول الكتاب، وبلدة عينتاب تكتب بالياء المثناة بعد العين (أنظر نفس الخريطة)، وإذا أريد تعيين وادي اوطاس فلا يقال إنه بين مكة والبصرة (ص 31) فالتعيين على هذا النحو وعدمه سواء. ولا يقال في تحديد ملك الغساسنة (إنه كان حول دمشق وتدمر. وكانوا يجولون في الجهات الجنوبية لدمشق وخاصة لبنان وفلسطين والبلقاء وحوران) فماذا بقي للروم من الشام (ص 56). ولا يقال أن الطبيعة وهبت نهر اليرموك أسراراً وألغازاً (ص 289)، وإلا فما تلك الألغاز والأسرار؟ ومن أقبح الخطأ أن يقال ص 335 (وقد أنشأ معاوية أسطولاً حارب البيزنطيين حتى وصل إلى عمورية في آسيا الصغرى كما استولى على جزيرتي قبرص ورودس) فعمورية لا تقع على البحر ولكنها في صميم آسيا الصغرى. كما أن هرقلة ليست واقعة على البحر الأسود ولكنها في شرقي آسيا الصغرى مما يلي منطقة الثغور الإسلامية. (الخريطة ص 274) ثم أن خريطة الأندلس ملأى بالخطأ والتحريف.
مؤرخ(127/79)
العدد 128 - بتاريخ: 16 - 12 - 1935(/)
بين الأمس واليوم
17 رمضان يوم الاتحاد والجهاد والنصر
كان الإسلام المهاجر من مكة الجاهلية لا يزال خافض الجناح في يثرب؛ وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يزالون تحت البلاء: يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة، ليمحص الذين يجتبيهم لنشر الدعوة، ويَعْلم الذين يصطفيهم لجهاد الرسالة؛ فالقرشيون يُوَثّبون عليهم القبائل، واليهود ينصبون لهم الحبائل، والمنافقون يدسون لهم الغدر في الملَق. فلما أذن الله لدينه أن يعود ولمجده أن يسود ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلثمائة إلى وادي بدر، يتعاقبون على سبعين نِضواً من أباعر المدينة، ويستعينون بصبر المجاهد على القلة، وبعزة المؤمن على الذلة، وبعفة الزاهد على الفاقة؛ ويسيرون في استغراق الصوفي المدَلَّه إلى ما وعدهم الله من إحدى الطائفتين: العِير أو النفير، وإحدى الحُسْنَيَيْن: النصر أو الشهادة؛ ولكن العير الذي يفهق بالثراء الضخم نجا به أبو سفيان على الساحل، فلم يبق إلا مكة الغاضبة لثروتها وسطوتها ودينها قد نزلت بالعُدْوة القصوى من الوادي مع أبي جهل! تسعمائة وخمسون من فلذات كبدها أرسلتهم في الخيل والحديد يجيشون على محمد بالغِل، ويفورون على صحبه بالحفيظة، ويرون الإسلام في هذا العدد القليل والمظهر الهزيل قد أمكنهم من نفسه، ودلهم على مصرعه
التقى الجمعان في صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، وكان المسلمون على فقرهم وضرهم ثلث المشركين، وكان المشركون على كثرتهم وعُدَّتهم صفوة قريش، فموقف الإسلام من الشَّرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العُدْوتين في بدر مفرق الطرق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدينة الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب!! فكان طريق وعَقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان! فأما أن يتمزق تراث الإنسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر؛ وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه الطريق، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة!(128/1)
(اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَدَ في الأرض!) ذلك كان دعاء الرسول أمام العريش ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيرده الصِّدِّيق ويقول: بعض هذا يا نبي الله فأن ربك منجز وعده! وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان، لا يرسم في أخيلتهم إلا الحُور، ولا يصور في عيونهم إلا الملائكة؛ وقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القَتَم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلثمائة على قرابة ألف!!
موقعة بدرٍ الكبرى لا تذَكر بخطتها وعدتها ونفقتها وعديدها في تاريخ الحرب، فلعلها في كل ذلك لا تزيد على معركة بين حيين في المدينة؛ إنما تذكر بنتائجها وآثارها في تاريخ السلم، لأنها كانت حكما قاطعاً من أحكام القدَر غيَّر مجرى التاريخ، وعدَّل وجهة الدنيا، ومكَّن للعرب في دَوْرهم أن يبُلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسة العلم
لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمار السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمار الإيمان والصدق؛ والإيمان الصادق قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل والمثَل، وفيها الحب والإيثار، فلا تبالي العَدد ولا ترهب السلاح ولا تعرف الخطر!
بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في بدر والقادسية واليرموك؛ وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية الجديبة والعروبة الشتيتة عمرانا طبق الأرض بالخير، وملكا نظَّم الدنيا بالعدل، ودينا ألَّف القلوب بالرحمة
بهذا الشعور القدسي الذي يحس وينهض ويقود، وبهذا اليقين النفسي الذي يجاهد وينتصر ويسود، وقف الشباب المصري الباسل من دخلاء الجيش، موقف البدريين من كفار قريش، يشقون بهتافهم أذن الأصم، ويقرعون باحتجاجهم ضمير المصِرِّ، ويجدعون بثباتهم أنف المستكبر! لا ينكلون أمام الرصاص، ولا يرهبون وحشة السجن، ولا يجزعون عند الفاجعة. وعاطفة الوطنية كعقيدة الدين: فناء في الغيرية، واندماج الجمعية، وتوجيه الأمل(128/2)
الطموح إلى المقصد الأعلى؛ وأجمل ما في وطنية الشباب المصري اليوم، هو أجمل ما كان في عقيدة الشباب العربي أمس: اتحاد قائم على الألفة، وتضامن مبني على الوحدة، ومزاج مركب من الشعور الدافق والإيمان الصادق والتفكير المنظم
إن اليوم السابع عشر من رمضان سيظل يوماً مشهوداً في تاريخ الأمة العربية بنزول القرآن وغلبة الحق، وفي تاريخ الأمة المصرية بنصرة الشباب ووحدة الأحزاب وعودة الدستور
احمد حسن الزيات(128/3)
4 - المجنون
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وضاق (نابغةُ القرن العشرين) بحُمق المجنون الآخر؛ ورآه داهية دَوَاهٍ كلما تعاقل أو تحاذق لم يأتِ له ذلك إلا بأن يكشفَ عن جنونه هو؛ فلا يبرَحُ يُجرَّعُه الغيظَ مرةً بعد مرة، ولا يزال كأنه يسُّبه في عقله؛ فأراد أن يحتالَ لصرفه عن المجلس، فدفع إليهالرسالة التي جاء بها (البريد المستعجل)، وقال له: خذ هذه فاذهب فألقِها في دار البريد، فسيجيء بها الساعي مرة أخرى، ثم تذهب الثانية فتلقها، ويعود هو فيجئ بها، وتكونُ أنت تذهب ويكون هو يجئ فنضحك منه ويضحكون. . . . .
قال س. ع: ولكن كم يذهب هذا وكم يجئ ذاك؟
فغمزه (النابغة) بعينه أن اسكت، فتغافل س. ع. وقال: كم تريد أن يجيء الساعي ليهتف بنابغة القرن العشرين؟
قال المجنون الآخر: هذا هو الرأي، فلست قائماً حتى أعرف كم مرةً أذهب، فان الساعي لا يجيء إلا راكباً، وأنا لا أذهب إلا راجلا، وإن لي رجلي إنسان لا رجلي دابة
قال (النابغة): سبحان الله! بقليل من الجنون يخرجُ من الإنسان مجنونٌ كامل مُسْتَلَبُ العقل. بَيْدَ أنه لا يأتي النابغةُ إلا من كثيرٍ وكثير، ومن النبوغ كله بجميع وسائله وأسبابه على تعدُّدها وتفرّقها وصعوبة اجتماعها لإنسان واحد (كنابغة القرن العشرين) فهو الذي توافتْ إليهكلُّ هذه الأسباب، وتوازنت فيه كل تلك الخلال. إنه ليس الشأنُ في العلم ولا في التعليم؛ ولكنما الشأنُ في الموهبة التي تبدع الابتكار كموهبة (نابغة القرن العشرين)؛ فيها تجئ أعماله منسجمةً دالة بنفسها على نفسها؛ ومتميزة مع كونها منسجمة دالة بنفسها على نفسها؛ ومتلائمة مع كونها متميزة دالة بنفسها على نفسها. . هذا س. ع. كان الأولَ بين خرّيجي مدرسة دار العلوم، مدرسة الأدب والعربية والمنطق والتحذلق وبلاغة اللسان وصحة النظر، وهو يعرف أن الكتاب يُلقي في البريد وعليه طابعٌ واحد، فيصل إلى غايته بهذا الطابع؛ ثم يرى بعيني رأسه أربعة طوابع على هذه الرسالة المعنونة باسم (نابغة القرن العشرين) فلا يدرك بعقله أن معنى ذلك أن من حق هذه الرسالة أن تصل إليَّ أنا أربع مرات. . . .(128/4)
فطرب المجنون الآخر واهتزّ في مجلسه، وصفَّق بيديه، وقال: (مما حفظناه) هذا الحديث: يحاسِبُ الله الناس على قدر عقولهم؛ فلا تؤاخذ س. ع. فان مدرسة دار العلوم تعلمهم (فيها قولان)، وفيها ثلاثة أقوال، وفيها أربعة أوجه؛ ولكنها لا تعلمهم فيها أربعة طوابع. . . . . .
ثم التفت إلى س. ع. وقال له: لا عليك، فأنا صاحبُه وخَليطُه وحاملُ عِلمه وراويةُ أدبه وأكبر دُعاتِه وثقاته، وما علمتُ هذه الحكمة منه إلا في هذه الساعة
قال ا. ش: فإذا كان هذا، فان لقائلٍ أن يقول: لماذا لم يضع على كتابه عشرة من الطوابع فيجيء به الساعي عشر مرات
قال (النابغة): وهذا أيضاً. . .
وما شرُّ الثلاثةِ أُمَّ عمرٍو بصاحبك الذي لا تصحبين؛ إن الشمعة في يد العاقل تكون للضوء فقط، ولكنها في يد المجنون للضوء ولإحراق أصابعه. . . كم الساعة الآن؟
قلنا: هي التاسعة
قال: ومتى ينصرف أهل هذا الندىّ؟
قلنا: لتمام الثانية عشرة
قال: فإذا كان الساعي يتردد في كل ساعة مرة، فهي أربعُ مرات إلى أن ينفضَّ المجتمعون هنا، وبين ذلك ما يكون قد ذهب قومٌ عرفوا (نابغة القرن العشرين)، وجاء قوم غيرهم فيعرفونه، وأما بعد ذلك فلا يجد الساعي هنا أحداً فلا تكون فائدة من مجيئه
فصفَّق المجنون الآخر وقال: هذا وأبيك هو التهدّي إلى وجه الرأي وسداده، وهذا هو الكلامُ الرصينُ الذي يقوم على أصول الحساب والجغرافيا. . . (ومما حفظناه) هذا الحديث: لا مالَ أعودُ من العقل. فأربعة طوابع، لأربع مرات، في أربع ساعات، وما عدا ذلك فإسرافٌ وتبذير، ولا مال أعودُ من العقل. . .
ورضى (النابغة) عن صاحبه وقال له: لئن كانت فيك ضَعْفةٌ إن فيك لبقيةً تعقل بها. . . ثم أخذ منه الرسالة ودسَّها في ثوبه. قلنا: ولكن ألا تفضُّها لنعرف ما فيها؟
فضحك وقال: أئن جارَيتكم في باب المطايبَة والنادرة، وجاريتُ هذا الأبلهَ في باب جنونه وحمقه - تحسبون أن الأمر على ذلك، وأن الرسالة فارغةٌ إلا من عنوانها، وأن نابغة(128/5)
القرن العشرين هو أرسلها إلى نابغة القرن العشرين كما قال سعد باشا: (جورج الخامس يفاوض جورج الخامس). . .؟ لحقٌ واللهِ أن العقل الكبير الذي يأبى الصغائر هو الذي تأتي منه الصغائر أحياناً لتثبت أنه عقل كبير، وهكذا تسخر الحقيقة من كبار العقول (كنابغة القرن العشرين)
فغضب المجنون الآخر وهمَّ أن يتكلم. فقال له (النابغة): أنت كاذبٌ فيما ستقوله
قلنا: ولكنه لم يقل شيئاً بعد، فكما يجوز أن يكون كاذباً يجوز أن يكون صادقاً
قال: وسيخطئ في رأيه الذي يبديه
قلنا: ولم يبد شيئاً من رأيه
قال: ولا يعرف الحقيقة التي سيتكلم عنها
قلنا: ويحك أدخلت في عقل الرجل أم تعلم الغيب؟
قال: لا هذا ولا ذاك ولكنه قياسٌ منطقيٌّ يتَوهَّم اطرادُه. إنه سيقول إني مجنون. . . فأخرج الآخر لسانه. . . قال (النابغة): تباً لك لقد رأيتُ الكلمةَ في لسانك كأنها مكتوبة بحروف المطبعة. ويحك يا مَرْقعان ألا تعرف أن لك دماغاً مخروقاً تسقط منه أفكارك قبل أن تتكلم بها، ولولا أنه مخروقٌ لحفظت المتن! إن كل تخطئةٍ لي منك بصواب
فنظر إليهالآخر نظرةً كان تفسيرها في حواجبه إذ مطَّ حواجبه ورقَّصها. فقال (النابغة): ونظراُته خبيثةٌ، مِلْحةُ الطعم، مزعوقةٌ كماء البحر المرَّ، أُخذ من البحر وأُضيف إلى ملحه الطبيعي ملح. أكادُ أتهوَّعُ من هذه النظرة فأقئ
الآن فهمتُ معنى قولهم: (ملحةٌ في عين الحسود) فان الملح لا يغلبه إلا الملح، كالحديد بالحديدُ يفْلجْ. هاتوا كأساً من معتقة الخمر لينظرْ فيها الخبيث هذه النظرةَ فان الخمر لابد مستحيلةٌ شربة ملح إنجليزي. . . هذا الأبله ثقيل الدم كأن دمه مأخوذ من مستنقع. . . أهذا الذي لا يستطيع أن يقول لشيء في الدنيا: هو لي، إلا الفقر والجنون والخرافة - يكذّب ما في الرسالة التي جاء بها البريد المستعجل ولا يصدق أنها مرسلة إلى نابغة القرن العشرين من صاحب السمو الأمير؟
هذا الذاهب العقل هو كالجبان المنقطع في وحشة القفر في ظلام الليل، إذا توجَّس حركةً ضعيفة انقلبت في وهمه قصةَ جريمةٍ ملؤها الرعب وفيها القتل والذبح. ولهذا يخشى ما في(128/6)
الرسالة التي جاءت من صديقي صاحب السمو. هاؤم اقرءوا الرسالة
وفضضنا الغلاف فإذا ورقتان ممهورتان بتوقيع أمير معروف أحدهما صِكً بألف جنيه تُدفع (لنابغة القرن العشرين)، والثانية أمرٌ بالقبض على المجنون الآخر. . . وإرساله إلى المارستان
وذهبتُ أصْلح بينهما فقلت: إن في الحديث الشريف: بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ مرّ به رجل، فقال بعض القوم هذا مجنون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصاب، إنما المجنونُ المقيم على معصية الله
فقال صاحب المتن: (مما حفظناه): إنما المجنون المقيم على معصية الله
قلت: وليس فيكما مقيم على معصية الله. . . .
قال المجنون: (مما حفظناه) وليس فيكما مقيم على معصية الله
قلت: هذا ليس من الحديث ولكنه من كلامي. قال (النابغة) أنبأتكم أن هذا البله يضلّ في داره كما يضلّ الإعرابي في الصحراء؛ وأن الأسطول الإنجليزي لو استقرّ في ساقية يدور فيها ثور، لكان أقرب إلى التصديق من استقرار العقل في رأس هذا الأبله؟
فاحتدَمَ الآخر وهمّ أن يقول (مما حفظناه) ولكني أسكتّه وقلت (للنابغة): إنك دائماً في ذِروة العالم فلا غَرَو أن ترى المحيطَ الأعظم ساقية. والنوابغ هم في أنفسهم نوابغ، ولكنهم في رأي الناس مرْضىَ بمرض الصمود الخياليّ إلى ذروة العالم. ومن هذا يكون المجانين هم المرضى بمرض النزول الحقيقي إلى حضيض الآدمية. فهناك يعملون فتكون أفكارهم من أعمالهم، ثم تكون عقولهم من أفكارهم، فيكون هذا الجنون في عقولهم. وذلك معنى الحديث: إنما المجنون المقيم على معصية الله
قال (النابغة): لَعَمري إن هذا هو الحق. فنبوغُ العقل مرضٌ من أمراض السموّ فيه؛ فالشاعر العظيم مجنون بالكون الذي يتخيّله في فكره، والعاشق مجنون بكون آخر له عينان مكحولتان؛ والفيلسوفُ مجنون بالكون الذي يدأب في معرفته؛ ونابغة القرن العشرين مجنون. . . لا. لا. قد نسينا ا. ش فهو مجنون وس. ع فهو مجنون
وكلُّ الناس مجنونٌ بليلى ... وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا
ومن حقّ ليلى ألا تقر لهم إذ هي لا تقر إلا لنابغة القرن العشرين وحده. وما أعجبَ سحرَ(128/7)
المرأة في الكون النفسانيِّ للرجال؛ أما في الكون الحقيقي فهي أنثى كأناث البهائم ليس غير. وأعقلُ الرجال من كان كالحمار أو الثور أو غيرهما من ذكور البهائم. فالحمار لا يعرف الحمارة إلا إنها حمارة، والثور لا يعرف البقرة إلا إنها بقرة؛ ولا ينظمون شعراً ولا يكتبون (أوراق الورد). . . . . وإناث البهائم أُمَّاتٌ لا غير، ولكن العجيب أن ذكورتها ليست آباءً؛ فهذه الذكورة طفيليةٌ في الدنيا، والطفيليُّ لا يأكل إلا بحيلة يحتال بها فيكون صاحب نوادر وأضاحيك وأكاذيب. ولهذا كان عشق الرجال للنساء ضُروبا من الخداع والأكاذيب والأضاحيك والحيل والغفلة والبلاهة. وإذا نظرنا إليه من أوله فهو عشق، أما آخره فهو آخر الحيلة والأكذوبة، وهو قول الطفيلي قد شبعتُ وقد رويت. . . ويحكم أين أولُ الكلام؟
قلنا: أوله ما أعجب سحر المرأة في الكون النفساني للرجال
قال: نعم هذا هو. إنه سحر لا أعجب منه في هذا الكون النفساني إلا سحر الذهب. فلوُ مسِخت المرأةُ الجميلة شيئاً من الأشياء لكانت سبيكةً ذهبيةً تلمع. ولهذا يُوجدُ الذهبُ اللصوص في الدنيا، وتوجد المرأةُ الجميلة لصوصا آخرين، فيجب أن يصان الذهب وأن تصان المرأة
قلت: ولكن أليس من المال فضة وهي توجد اللصوص كالذهب؟
قال: نعم، وفي النساء كذلك فضة وفيهن النحاس. ولو أنت ألقيت ريالاً في الطريق لأحدثتَ معركة يختصم فيها رجلان ثم لا يذهب بالريال إلا الأقوى. ولو تركت قرشاً لتضارب عليه طفلان ثم لا يفوز به إلا من عض الآخر. . .
ولكن (فورد) الغني الأمريكي العظيم الذي يجمع يَده على أربعمائة مليون جنيه لا يتكلم عن القرش؛ (ونابغة القرن العشرين) الذي يملك (ليلى) لا يتكلم عن غيرها من قروش النساء
قلت: فإني أحسبك أعلمتني أن اسمها فاطمة لا ليلى
قال: هل يستقيم الشعر إذا قلت: وكل الناس مجنون بفاطمة وفاطم لا تقرُّ لهم؟ قلت لا.
قال: إذن فهي (ليلى) ليستقيم الشعر. . . أما حين أقول: أفاطمُ مهلاً بعد هذا التدلّل، فهي فاطمة ليصح الوزن
قلت: يُشبه والله ألا يكون اسمها ليلى ولا فاطمة؛ وإنما هي تسمى حسب الوزن والبحر،(128/8)
فاسمها فَعُولنْ أو مُفَاعَلتنْ
ثم قلنا له: فما رأيك في الحب، فانه ليقال: إنك أعشقُ الناس وأغزل الناس؟
قال: إن ذلك ليقال (وهو الأصح). ثم أطرق يفكر. وبدا عليه أنه مندهش ذاهب العقل كأنه من قلبه على مسافة أبعد من المسافة التي بينه وبين عقله. وخّيل إلي أن النساء قد حُشِرن جميعاً في رأسه ومرت كل واحدة تعرض مفاتِنها وغَزلَها وتلائم هَذيَانه بهذيان من جمالها، فهو يرى ويسمع ويَعْرض ويَتخيّرْ. ثم اضطرب كالذي يحاول أن يسمك بشيء أفلت منه؛ فلم ينّبهه إلا قول المجنون الآخر: (مما حفظناه) أن أعرابية سئلت عن العشق فقالت: إنه داء وجنون. . .
قال: اسكت يا ويلك لقد أطفأت الأنوار بكلمتك المجنونة. كان في رأسي مرقص عظيم تسطع الأنوار فيه بين الأحمر والأخضر والأبيض؛ وترقص فيه الجميلات من الطويلة والقصيرة والممشوقة والبادنة، فجئتَ بالداء والجنون قبحك الله فأخرجتني عنهن إليك. أحسبُ أنِك لو انتحرت لصلح العالم أو صلحتُ أنا على الأقل، فإذا أردت أن تشنق نفسك فأنا آتيك بالحبل الذي كنتُ مقيدا فيه أي الحبل الذي عندي في الدار. . على أن رأسك الفارغ مشنوقٌ فيك وأنت لا تدري.
قال الآخر: ما أنت مُنذُ اليوم إلا في شنقي وتعذيبي أو في شنق عقلي على الأصح. (ومما حفظناه) قول الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق ساعةً فأتَبينُ ذلك في عقلي. .
فلم يَرُعْبنا إلا قيامُ المجنون مسلَّحاً بحذائه في يده. . . وهو حذاء عتيق غليظ يقتل بضربة واحدة؛ فحلنا بينهما وأثبتناه في مكانه. وقلنا: هذا رجل قد غُلِب على عقله فلا يدري ما يقول؟ فإذا هو دل على أنه مجنون، أفلا تدل أنت على أنك عاقل؟ ما سألناك في انتحاره وجنونه، بل سألناك رأيك في الحب؛ وما نشك أنك قد أطلتَ التفكير ليكون الجواب دقيقاً، فانك (نابغة القرن العشرين)، فانظر أن يكون الجوابُ كذلك
قال: نعم إن العاقل إذا ورد عليه السؤال أطال الفكر في الجواب. فأكتب يا فلان (س. ع):
(جلس نابغة القرن العشرين مجلس الإملاء مُرتجلاً فقال: قصةُ الحب هي قصة آدم، خلق الله المرأة من ضلعه. فأول علامات الحب أن يشعر الرجل بالألم كأن المرأة التي أحبها كسرت له ضلعاً. . وكل قديم في الحب هو قديم بمعنى غير معقول، وكل جديد فيه جديد(128/9)
بمعنى غير مفهوم؛ فغيرُ المعقول وغيرُ المفهوم هو الحب
والجمرةُ الحمراءُ إذا قيل إنها انطفأت وبقيت جمرة فذلك أقرب إلى الصدق من بقاء الحب حياً بمعناه الأول إذا انطفأ أو بَرَدَ
والعاشق مجنون. وجنونه مجنون أيضاً، فهو كالذي يرى الجمرةَ منطفئةً ويرى مع ذلك أنها لا تزال حمراء، ثم يُمْعِنُ في خياله فيراها وردة من الورد. . وإذا سألته أن يصف الجمالَ الذي يهواه كان في ذلك أيضاً مجنونَ الجنون كالذي يرى قمر السماء أنه قد تَفَتَّت وتناثر ووقع في الروضة فكان نِثارُه هو الياسمينَ الأبيض الجميل الذكي. . .
والمجنون يرى الدنيا بجنونه والعاقل يراها بعقله؛ ولكن العاشق المخبول لا ينظر من يهواه إلا ببقية من هذا وبقيةٍ من ذلك فلا يخلُصُ مع حبيبته إلى جنون ولا عقل
(والمجهول) إذا أراد أن يظهر في دماغ بشريّ لم يسمعه إلا أحدُ رأسين: رأسِ المجنون ورأسِ العاشق
ولا صعوبة في الحكم على شيء بأنه خير أو شر إلا حين يكون الخير والشر امرأة معشوقة. أما أوصاف الشعراء والكتاب للجمال والحب فهي كلها تقليد قد توسعوا فيه؛ والأصل أن ثوراً أحب بقرة فكان يقول لها: يا نجمة القطب التي نزلت من السماء لتدور في الساقية كما دارت في الفلك. . .
قال (النابغة): هذا رأيي في حب العاشقين، أما حبي أنا (نابغة القرن العشرين) فيجمعه قولك: فلّ، ورد، زهر. . .
قلنا ما هذه الألغاز، وهل للحب مَنْن كقولهم: حروفُ القَلْقَلة يجمعها قولك (قُطْبُ جَدٍ)، وحروف الزيادة يجمعها قولك (سألتمونيها)؟
فتضاحك (النابغة) وقال: تكاثرت الظباءُ على خَراش، فلكيلا ننسى. . . إن كل حرف هو بدءُ اسم، الفاء فاطمة، واللام ليلى، والواو وردة، والراء رباب، والدال دلال، والزاي زكية، والهاء هند، والراء رباب
قلنا: رباب قد مضت في (ورد). قال: كنا تهاجَرْنا مدةً ثم اصطلحنا بعد هند. .
قلت: هكذا النوابغ فان رجلا أدبياً كانت كنيته (أبا العباس) فلما (نبغ) صيّرها (أبا الِعبر) وفَتَق له نبوغه أن يجعلها تاريخاً يعرف منها عمره. قالوا فكان يزيد فيها كل سنة حرفاً(128/10)
حتى مات وهي هكذا:
أبو العبر طَرَدْ طيل طَليرِي بَك بَك بَك
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(128/11)
حوادث الشرق الأقصى
مشروع اليابان في الاستيلاء على الصين
بقلم باحث دبلوماسي كبير
بينما تشتغل أوربا والعالم بأسره بتطورات المشكلة الإيطالية الحبشية وما يترتب على تفاقمها من أخطار داهمه على سلام أوربا وسلام العالم، إذا بالشرق الأقصى يجيش بحوادث خطيرة قد يكون لها أكبر الأثر في مصير الصين والشرق الأقصى كله، ولكن يحجب عنا خطورتها، نأيهاً وغموضها وانحصارها في ذلك الركن من العالم؛ وهي ليست في جوهرها جديدة أو مستقلة، ولكنها حلقة جديدة في ثبت الحوادث التي يضطرم بها الشرق الأقصى منذ أربعة أعوام، والتي تضرمها وتذكيها السياسة اليابانية كلما آنست فرصة صالحة للعمل
وليس من الصعب أن نتلمس في حوادث الصين الجديدة رغم غموضها، وجه الصلة بينها وبين الحوادث المماثلة التي تقع في الصين بين آونة وأخرى، فالسياسة اليابانية هي التي تنظمها وتوجهها بأساليب متماثلة، وتتذرع لاضرامها بنفس المعاذير: اعتداء على المصالح اليابانية في ناحية من النواحي، أو مقتل أحد الرعايا اليابانيين، أو اضطراب الأمن وعيث العصابات، أو دسائس الشيوعية؛ كذلك ليس من الصعب أن نتحرى العوامل والبواعث الدفينة التي تحمل هذا الغزو الياباني المنظم إلى داخل الصين بين آونة وأخرى تارة بالقوة العنيفة، وتارة بالوسائل السياسية، فاليابان تكاد تفصح عن نياتها ومقاصدها الاستعمارية البعيدة في كل مناسبة، وإن كانت ما تزال تستتر وراء بعض المظاهر والعبارات الخلابة التي يمهر الاستعمار في صوغها
وقد بدأت اليابان منذ بضعة أسابيع في القيام بمحاولة جديدة لبسط نفوذها على مناطق جديدة من الصين؛ ومهد قادة الجيش الياباني في شمال الصين لذلك بمؤتمر عقدوه في دايرين ثغر منشوريا الجنوبي، ووجهوا على أثره بلاغاً نهائياً إلى الحكومة الصينية الوطنية (حكومة نانكين) ضمنوه المطالب الآتية:
1. قمع الدعوة الشيوعية في الصين، وهي دعوة مهدها ومصدرها منغوليا
2. قمع أعمال (الكومن تانج) (الحزب الوطني الصيني) وأعمال الجمعية الوطنية الصينية(128/12)
المسماة بجمعية (ذوي الأقمصة الزرقاء) في شمال الصين
3. تعهد الحكومة الصينية بأن تتبع منذ الآن سياسة ودية نحو اليابان
وبينما كانت حكومة نانكين تدرس ذلك البلاغ، إذ وقعت عدة حوادث في منطقة الحياد الشمالية في شمال بكين اقتضت تدخل السلطات اليابانية، وقامت ثورات محلية صغيرة في عدة مناطق طولب خلالها بتخفيض الضرائب والاستقلال عن حكومة نانكين؛ ولم يكن أصبع العسكرية اليابانية بعيداً عن هذه الحوادث
ولم تلبث السياسة اليابانية أن أفصحت عن غرضها الحقيقي من القيام بهذه الحركة؛ فقد أبلغت السلطات المحلية في ولايات الصين الشمالية، وأبلغت حكومة نانكين بوجوب إنشاء حكومة إدارية مستقلة في ولايات خمس هي: هوبي، وتشاهار، وشانصي، وسويان، وشانتونج، وتكون عاصمتها بكين، العاصمة الإمبراطورية السابقة؛ وقصد اليابان منذ ذلك أن تقيم دولة متوسطة بين أملاكها الصينية في الشمال أعني منشوكيو وجيهول، وبين وادي النهر الأصفر حيث يبدأ نفوذ حكومة نانكين الحقيقي
وقد أفرغت اليابان مطلبها في صيغة بلاغ نهائي، وأنذرت الحكومة الوطنية الصينية بأنها ستتخذ الإجراءات العسكرية اللازمة إذا لم تحقق رغبتها؛ ولكن حكومة نانكين لم تذعن لهذا الوعيد، وكذلك لم يذعن زعماء الشمال، ولم تنفذ اليابان وعيدها في الحال، ولكنها آثرت أن تعمد مؤقتاً إلى العمل السياسي؛
وفي الأنباء الأخيرة أن الضغط الياباني قد أحدث أثره الأول وذلك بحمل حكومة نانكين على الموافقة على إنشاء إدارة مستقلة في مقاطعتي تشاهار وهوبي يكون مركزها في بكين، ويتولى إدارتها مجلس مؤلف من زعماء الشمال، ويكون لها طابع الاستقلال التام في شئونها الداخلية وعلائقها الخارجية، ما عدا الجمارك والبريد فتحتفظ حكومة نانكين بإيرادها؛ ومعنى ذلك أن اليابان قد فازت بتحقيق الخطوة الأولى في مشروعها لفصل الشمال عن الجنوب ووضعه تحت نفوذها السياسي والاقتصادي
ونظرة بسيطة إلى خريطة الصين توضح لنا فداحة هذا المشروع الياباني، فالولايات الخمس التي يراد فصلها عن الحكومة الوطنية من أهم وأغنى الأقاليم الصينية؛ وفصلها على هذا النحو يشطر الصين إلى شطرين، ويمهد إلى بسط النفوذ الياباني على الأقاليم(128/13)
الشمالية حتى النهر الأصفر (الينج تسي)؛ وتتظاهر السياسة اليابانية بأنها في هذه المحاولة إنما تعبر عن رغبات سكان هذه الأقاليم، والواقع أنها تعتمد في ذلك على مؤازرة الجنرال (شنج تشي يوان) زعيم الشمال وخصم الحكومة الوطنية، وتعتمد من جهة أخرى على محالفة حكومة (كوانتونج) الجنوبية (حكومة كنتون) وهي أيضاً خصيمة الحكومة الوطنية؛ فالحكومة الوطنية أو حكومة نانكين تجد نفسها بين نارين في هذا الصراع الذي يوشك أن يقوض دعائمها
ويجب أن نذكر إلى جانب أن اليابان قد استولت قبل ذلك بأربعة أعوام على إقليم منشوريا الغني، ولم تعبأ بتدخل عصبة الأمم وقراراتها النظرية؛ وأنشأت فيه جمهورية صورية تحت الحماية اليابانية (منشوكيو)؛ ولبثت بعد ذلك تتحين الفرص للزحف جنوباً متذرعة بمختلف الحجج والأعذار حتى اقتحمت قواتها (السور الكبير) واستولت على قسم كبير من إقليم جيهول، وبسطت نفوذها على جميع الأراضي الواقعة شمال بكين؛ وليست الحركة الانفصالية الجديدة التي تدبرها السياسة اليابانية إلا حركة غزو جديدة، تستأنف بها اليابان نشاطها في سبيل تنفيذ مشروعها الاستعماري الضخم الذي تتحين الفرص لتحقيقه كلما شغلت الدول الغربية بأزماتها الخطيرة
والظاهر أن السياسة اليابانية كانت تعبر عن نيتها ومشاريعها المستقبلية تعبيراً صادقاً حينما ألقت إنذارها الشهير منذ نحو عام ونصف إلى أوربا وأمريكا وهو: (ارفعوا أيديكم عن الصين) أو بعبارة أخرى حينما صرحت بأنها تجري في سياستها الصينية على مبدأ (آسيا للأسيويين) مثلما تجري أمريكا في سياستها على مبدأ (مونرو) الشهير أو على مبدأ (أمريكا للأمريكيين)، وقد كانت اليابان ترقب دائماً مشاريع الدول الغربية وتوغل نفوذها في الصين بمنتهى الاهتمام والتوجس؛ وتعمل على مقاومة نفوذها وامتيازها بالوسائل الاقتصادية والعسكرية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ولكنها جرت في الأعوام الأخيرة على سياسة عملية يؤيدها التدخل العسكري، وكان استيلاؤها على منشوريا تحت سمع أوربا وأمريكا ورغم تدخل عصبة الأمم تجربة عملية ناجحة عجمت بها عود الدول الكبرى ذات المصالح في الصين مثل بريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا وأمريكا، واستطاعت أن تقف على مدى المقاومة التي يمكن أن تتذرع بها الدول لمعارضتها؛ بيد أن الدول عدا روسيا لم(128/14)
تبد معارضة نظرية، ومع أن روسيا وأمريكا قدمتا على غزو اليابان للأراضي الصينية احتجاجات شديدة، فان اليابان لم تحفل بأي احتجاج أو معارضة؛ ولما توسعت اليابان في مشروعها وغزت ثغر شنغهاي لترغم الصين على الاعتراف بالحالة الواقعة في منشوريا، احتجت الدول الغربية بنصوص معاهدة الدول التسع (معاهدة سنة 1922) التي تنص على احترام سيادة الصين ووحدتها الإقليمية والإدارية، ولكن اليابان لم تنسحب من شنغهاي إلا أمام المقاومة العنيفة التي استطاعت أن تنظمها حكومة نانكين
والآن تمضي اليابان في تنفيذ مشروعها لاحتلال الصين واستعمارها مرحلة أخرى. وهي تعمل في ظروف صالحة جداً؛ فالدول الغربية وأمريكا مشغولة بالأزمة الدولية الخطيرة التي أثارتها المشكلة الحبشية، والصين في حال من التفرق والتمزق لا تمكنها من أية مقاومة عملية، فحكومة الجنوب أو حكومة كوانتونج (وعاصمتها كنتون) تخاصم الحكومة الوطنية وتناوئها، والحكومة الوطنية (حكومة نانكين) لا تكاد يتعدى سلطانها الأقاليم الوسطى. أما الأقاليم الشمالية وهي مسرح النشاط الياباني، فتكاد تخرج جميعاً عن قبضتها ولا تكاد تتمتع فيها بأية سلطة أو نفوذ يذكر؛ والسلطة فيها موزعة بين جماعة من القادة العسكريين المحليين، أهمهم وأقواهم الجنرال (شنج تشي يوان) زعيم الشمال وهو من أنصار سياسة التفاهم مع اليابان. ويجب أن نذكر أن اليابان تعمل الآن مطمئنة من جانب روسيا التي اضطرت إزاء تطور الحوادث وتفاقمها في أوربا أن تترك ميدان الصراع مع اليابان في الشرق الأقصى، وأن تنسحب نهائياً من منشوريا بعد أن باعت لليابان نصيبها في السكة الحديدية الشرقية؛ وبذلك خفت عوامل الاحتكاك القديمة بين اليابان وروسيا، وهي عوامل كانت تحسب اليابان حسابها كلما أقدمت على عمل جديد في هذا الميدان
أما الدول الغربية فليس من المنتظر أن تقوم في الظرف الحاضر بعمل ذي شأن، وخصوصاً بعد ما تصدعت جبهتها المشتركة، وأضحت كل تعمل بمفردها؛ بيد أن الصين تحاول من جانبها أن تحمل الدول الغربية على التحرك، وذلك بإثارة التمسك بمعاهدة الدول التسع لدى الدول الموقعة عليها، وهي الولايات المتحدة (أمريكا) وبريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والبرتغال والصين واليابان ذاتها؛ وتنص هذه المعاهدة على احترام سيادة الصين واستقلالها ووحدتها الإدارية والإقليمية، وعلى معاونتها على النهوض(128/15)
والتقدم بكل الوسائل، واستعمال الدول الموقعة لنفوذها في تأييد مبدأ الفرص المتساوية في النشاط التجاري والصناعي في الصين لجميع الأمم، وعلى عدم انتهاز ظروف الصين للحصول على امتيازات خاصة؛ فهذه المعاهدة هي التي تثير الصين وتثير الدول نصوصها اليوم احتجاجاً على عمل اليابان في شمال الصين، بيد أنه من المشكوك فيه أن يسفر هذا الاحتجاج النظري عن أية نتيجة عملية؛ فاليابان تمضي دائماً في طريقها غير حافلة بالنصوص التي تعرقل مشاريعها
على أن هناك عاملاً يحسب حسابه؛ فان اليابان إذا استمرت في سياسة التوغل في الصين على هذا النحو، فنها تقترب شيئاً فشيئاً من حدود الهند البريطانية، وحدود الهند الصينية الفرنسية؛ وبريطانيا العظمى لا تستطيع السكوت طويلاً على هذه الحركة التي قد تفضي إلى تهديد سيادتها في الهند؛ كذلك تشعر فرنسا بالخوف على مستقبل الهند الصينية، إذا ما اقتربت اليابان من جنوب الصين. والواقع أن بريطانيا رغم انشغالها بالمشكلة الحبشية واحتمالاتها المزعجة، لم تفتر عن العمل لمقاومة التوغل الياباني في الصين، والصراع يضطرم دائماً بين الدولتين وإن كان ما يزال يقتصر على الوسائل المستترة؛ وآخر محاولة بريطانية لمقاومة النفوذ الياباني، هي اتفاق بريطانيا مع حكومة نانكين على القيام بتنظيم المالية الصينية على يد خبير بريطاني، وعقد قرض للصين في إنكلترا، وهي محاولة تفطن لها اليابان وتعمل لمعارضتها؛ وإذا كانت الدلائل تدل على أن أمريكا قد أخذت تبتعد شيئاً فشيئاً عن التمسك بسيادة المحيط الهادي وعن التعرض لسياسة التوسع الياباني في الصين، فأنها من جهة أخرى تدل على أن بريطانيا العظمى ما زالت تعتبر قيام التوازن الدولي في الصين أمراً حيوياً لسلامة الهند وباقي أملاكها في الشرق الأقصى؛ ولم يكن إنشاء إنكلترا لقاعدة سنغافورة البحرية الهائلة بعيداً عن التحوط للزحف الياباني نحو الجنوب
وليس بعيداً أن يكون تقدم التوسع الياباني في الشرق الأقصى على هذا النحو المزعج عاملاً جوهرياً في التقرب بين إنكلترا وروسيا، واتحادهما معا على مقاومة هذا الخطر الياباني الذي تشعر كلتاهما باشتداد وطأته؛ فإذا تم ذلك، فانه يسجل انقلاباً خطيراً في السياسة الدولية، قد يكون له أبعد الأثر في تطور الحوادث في الشرق الأقصى(128/16)
المرأة كما يراها شوبنهور
للأستاذ زكي نجيب محمود
إن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضطلع بجليل الأعمال - الجسمي منها والعقلي على السواء، وإن رسالتها في الحياة لتنحصر في الانسال وتعهد الأطفال، مع وجوب طاعتها للرجل وخضوعها له؛ فقد شاءت لها الطبيعة أن تسلك في حياتها سبيلا هادئاً مطمئناً وادعاً، لا تصادف فيه ما يصادف الرجل في حياته من التطرف في اللذة والألم كليهما - وإذا كانت الحياة قد ركنت إلى المرأة في أداء هذه الرسالة الكبرى، وأرادت بها أن تكون أداة لتربية النشء في مدرج الطفولة الباكرة، فقد أعدتها إعدادا عقلياً يلائم الغرض من وجودها، فجاءت ضعيفة العقل قصيرة النظر، حتى لكأنها طفل كبير، لكي يتم بينها وبين أطفالها شيء من التناسق والانسجام، أو إن شئت فقل إنها مرحلة عقلية متوسطة بين الطفولة والرجولة، فالرجل هو الكائن البشري الحق الذي قصدت إليهالحياة
عرفت الطبيعة في المرأة ضعفها فوهبتها الجمال تغزو به أفئدة الرجال لينهض هؤلاء بعبئها عن رضى وطواعية، ولكن الطبيعة في عطائها كانت كعهدنا بها مقترة مغلولة اليد، فلم تهب المرأة من الجمال إلا بمقدار ما تستطيع أن تتخذ منه أداة لحفز الرجل على التناسل ليستمر البقاء، حتى إذا ما انقضت مهمتها في ذلك عادت الحياة فسلبتها ما كانت وهبتها من فتنة وجمال، وتركتها ذابلة ذاوية تنعى شبابها المفقود. . . وإن الفتاة مهما اشتعلت حماسة لحريتها، واصطنعت لنفسها مهن الرجال، لَتَشعرُ في أعماق نفسها أنها ما خلقت إلا للمعركة الجنسية، تتوسل لها بالحب وما يتصل به من تزين ودلال
ومما يلاحظ أنه كلما ارتفع الكائن الحي في سلم الكمال كان أبطأ وصولا إلى مرتبة النضوج، فبينما المرأة تكتمل نضوجها العقلي في سن الثامنة عشر، ترى الرجل لا يكاد يبلغ نهاية هذا النضوج إلا بعد الثامنة والعشرين، على أن المرأة لا تدرك من القوة العقلية إلا حدا ضئيلا لا يمكنها من أن تنفذ إلى حقائق الأشياء، ولذا يسهل انخداعها بالظواهر الباطلة، كما أنها كثيرا ما تتعلق بتوافه الأمور دون الهام منها والخطير؛ كذلك تتميز المرأة بأنها تعيش في حاضرها فقط، نظرا لعجزها عن أن تنفذ بفكرها إلى الماضي أو المستقبل، فبالقوة العقلية وحدها يستطيع الرجل أن يحطم حدود الزمن التي تقيد المرأة كما تقيد(128/18)
الحيوان الأعجم، فيرسل بصره إلى الأفق النائي البعيد، ويضم في نفسه أطراف الزمان من الأزل إلى الأبد؛ ولعل هذه الخاصة هي التي يتميز بها الرجل دون المرأة، وأعني بها النظر الشامل العميق، هي العلة فيما يلاحظ عليه من هم وانقباض كثيرا ما يغلبان عليه حتى ينسياه ما قد يحيط به من عوامل الهناءة والسرور. أما المرأة فهي تنعم بضعفها العقلي لأنها تلهو بلذائذ يومها غير حافلة بما يأتي به الغد من ويلات وكوارث. فهي في ذلك كالحيوان الأجهر (ضعيف البصر) الذي يرى ما هو قريب منه في وضوح وجلاء، ولكن بصره لا يمتد إلى أبعد من أنفه؛ أي أنها قد تستطيع أن ترى الحوادث الحاضرة أدق مما يراها الرجل، ولكنها عاجزة كل العجز عن اجتياز حاضرها إلى ماضيها ومستقبلها، وربما كان هذا النظر الضيق المحدود هو الذي دفع المرأة إلى ما تتصف به عادة من إسراف قد يصل إلى حد الحماقة والجنون؛ فهي تريد أن تنعم (الآن) وليأت بعد ذلك الطوفان! ولكن اشتغال المرأة بحاضرها واستمتاعها بلذائذ يومها لا يخلو من حكمة بالغة، لأن ذلك يكسبها مرحاً وابتهاجاً بالحياة يمكنانها من القيام بواجبها الخطير نحو الرجل، وهو الترويح عن نفسه مما يعانيه من شقاء وعناء، فما أكثر ما تكون المرأة جنة فيحاء تزيل بسحرها عن كاهل الرجل المتعب المضني عبء الهم الثقيل
ولكن لا ينبغي أن يتيه الرجل بما أوتي من العقل فلا يصغي لرأيها ولا يحفل بما تقول، بل خير له إذا ما حزب الأمر واشتد الخطر أن يستشيرها الرأي ويستهديها السبيل، وذلك لأن طريقة المرأة في فهم الأشياء تخالف طريقة الرجل كل المخالفة، فهي تحب بطبعها أن تسلك أقصر الطرق التي تؤدي إلى الغاية المقصودة، هذا فضلاً عن مقدرتها على رؤية القريب بسبب ضعف قواها العقلية الذي أشرنا إليه، فهي بذلك قد تلفت نظر الرجل إلى ما يغفل عن إدراكه لقربه منه، إذ هو كما قدمنا مفطور بطبعه على النظر البعيد؛ أضف إلى ذلك أن المرأة ألصق بالحقائق الواقعة فترى الحوادث كما هي لا تضيف إليها ولا تنقص منها، أما الرجل فإذا ما اضطرمت عواطفه، انطلق خياله يهول في الأمر ويزيد عليه فتضيع الحقيقة في ثنايا الأوهام ويستحيل عليه التفكير السليم
وقد كان هذا الضعف العقلي الذي تتميز به المرأة قيداً حصرها في دائرة الحقائق والوقائع المحسوسة دون أن تكلف نفسها مؤونة التفكير المطلق المجرد، فنتج عن هذا شدة عطفها(128/19)
على البائسين وحدبها على الأشقياء، لأنها لا تدري من حقائق الكون إلا هذه الحقائق الجزئية التي تراها وتلمسها؛ وليس في مقدورها أن تنظر إلى العالم كله وحدةً متصلة وحقيقة واحدة ينمحي في خضمه المتلاطم كل ما فيه من بؤس الأفراد وشقائهم، ولكن إن كان هذا النظر الواقعي المحدود قد أكسب المرأة عطفها الجميل، فقد جنح بها كذلك إلى ألأم الطباع وأخسها، فهي أبعد ما يكون الإنسان عن العدل والشرف ويقظة الضمير وما إليها من الصفات الخلقية التي لا تستساغ إلا بالنظر المجرد العميق، وقد ألجأها ما أحسته في نفسها من ضعف إلى أساليب المكر والحيل والخداع، فهيهات أن تجد بين النساء امرأة واحدة قد خلص طبعها من الخيانة والغدر والكذب؛ فبهذه هي عدتها التي وهبتها إياها الطبيعة لتدافع بها عن كيانها ووجودها كما امتدت الضواري بالمخالب والأنياب، فليس عند المرأة من عتاد تدرأ به عن نفسها ما يتهددها من خطر إلا المكر والخداع، لا فرق في ذلك بين امرأة وامرأة، وهي تلجأ إلى هذا السلاح الفكري في كل ظرف دون أن تشعر أنها ترتكب بذلك ما يناقض فضيلة أو شرفاً، بل إنها على نقيض ذلك تعتقد أنها إنما تستخدم قوة طبيعة فيها لها كل الحق في استخدامها كما يستعين الأسد بمخالبه ساعة الخطر؛ ولما كان الخداع مفطوراً في دماء النساء كُنَّ أقدر من الرجل على إدراك خداع الناس. ولذلك كان من الغفلة والبلاهة أن يحاول الرجل خداع المرأة لأنها في هذا الميدان فارسة لا يشق لها غبار. ولقد نشأ من هذا الجانب في النساء ميل غريزي إلى العقوق والخيانة ونكران الجميل؛ وما أهون على المرأة أن تحنث في يمينها، وما أيسر عليها أن تمد يدها إلى السرقة حتى ولو لم تكن في حاجة إلى ما تسرقه
لقد اتخذت الحياة من المرأة وسيلة للتعبير عن إرادتها في البقاء، وإن المرأة لتعلم في أعماقها أنها خلقت لحياة النوع قبل أن تخلق لشخصها، ولذا تراها تسعي جهدها لأداء واجبها الأول نحو النوع وإن تعارض ذلك مع واجبها نحو الرجل الذي يتعهدها ويرعاها، فهي تأبى مثلا إلا أن تلد وترضع وتربي مهما كلفها ذلك من عناء؛ وهنا تختلف المرأة عن الرجل اختلافا جوهريا، فبينما هي تتوفر لخدمة النوع وبقائه، ترى الرجل لا ينصرف بمجهوده إلا لبقاء شخصه؛ أعني أن المرأة خلقت وسيلة لبقاء النوع، أما الرجل فهو غاية في حد ذاته - ومن هذا الفارق بين الجنسين تفرع وجه اختلاف آخر بينهما: فالرجال لا(128/20)
يكاد بعضهم يأبه ببعض، بل كل منهم منصرف إلى سبيله لا يحفل بغيره، وذلك لبعد ما بين أعمالهم من تباين وخلاف؛ أما النساء فبينهن عداوة غريزية فلا يسع الواحدة منهن إلا أن تضمر في نفسها أشد المقت لغيرها من بنات جنسها. وعلة ذلك مدعاة للغيرة والكيد والتنافس؛ فنظر مثلا إلى سيدتين تقابلتا في الطريق كيف تنظر إحداهما إلى الأخرى بعين كلها الغل والكراهية؛ وإنه لما يبعثك على الضحك أن تستمع إلى امرأتين تتعارفان أو تتبدلان تحية اللقاء أو الوداع، فلن ترى إلا سخفاً منشؤه أن التودد والتعاطف والمحبة ليست من طبيعة المرأة نحو المرأة، وأن هذه العداوة الفطرية بينهن لتتضح لك في جلاء إذا رأيت كيف تعامل المرأة الأرستقراطية من هي دونها في المنزلة الاجتماعية من النساء؛ عندئذ ترى صلفا أي صلف وغطرسة وكبرياء، لماذا؟ لأنها تشعر أن الفارق بينهما في حقيقة الأمر جد ضئيل. استغفر الله بل إنه لا فارق البتة بين امرأتين. فهذه تحفظ النوع بنسلها كما تحفظه تلك سواء بسواء؛ ولعمري أن الحياة لم تقصد بهن إلا هذا، وهذا وحده. تشعر المرأة الأرستقراطية بانعدام الفارق في الجوهر بينها وبين المرأة الوضيعة فتلجأ إلى الصناعة والتكلف تخلق بهما ما تريد هي أن يكون بين المرأتين من تفاضل؛ أما الرجل فتراه على النقيض من ذلك: يعامل من دونه بالحسنى، لأنه يعلم أن الطبيعة قد فرقت بينهما في القوة والعمل، فليس به لإظهار منزلته حاجة إلى الصلف والكبرياء
ولشد ما أعجب لهذا الاسم الذي يطلق على النساء جزافاً: (الجنس اللطيف)؛ ولست أشك أن من أطلق هذا اللقب على ذلك الجنس الضئيل القصير الشائه، هم أولئك الذين أفسدت غرائزهم الجنسية عقولهم. فجمال المرأة كله قائم على الغريزة الجنسية وحدها، وإنه لأقرب إلى الصواب أن نسمي النساء بالجنس الذي لا ذوق له ولا فن، إذ ليس في مقدورهن تقدير الجمال في شتى الفنون، ولكنهن كثيراً ما يغالطن في الحقائق فيدعين أنهن ذوات فن جميل، بأن يعزفن على الآلات الموسيقية أو يعالجن التصوير، ولكن ذلك منهن كذب ورياء، فهن لا يُشغفن إلا بما خلقن من أجله: حفظ النوع. . . . . . إن الرجل يجاهد في العلوم والفنون لتتم له السيطرة على الأشياء، إما بفهمها أو بالتحكم فيها، أما المرأة فهي بطبيعتها لا تحب أن تسيطر على الأشياء سيطرة مباشرة، ولكنها دائماً تقصد إلى السيادة على الأشياء عن طريق سيادتها على الرجل، فالرجل وحده هو ما تصبو المرأة إلى التحكم(128/21)
فيه والسيطرة عليه - ومعنى ذلك بعبارة أخرى - أن المرأة ترى في كل شيء وسيلة فقط لغزو الرجل، فإذا ما تظاهرت بميل إلى الموسيقى أو الشعر مثلاً فليس ذلك ناشئاً عن رغبة طبيعية فيها نحو هذه الفنون، إنما هي تتخذ منها أداة تتجمل بها لتروق في عين الرجل. وما أصدق روسو حين قال: (إن النساء بصفة عامة لا يحببن الفنون ولا يعرفنها، ومحال أن يبلغن فيها حد النبوغ) وهل تريد دليلاً على نفورهن من الفنون الرفيعة أقطع من هذا الذي تراه في دور التمثيل؟ أنظر إليه ن كيف يواصلن الحديث في أتفه الكلام، معرضات عما قد يكون على المسرح من أروع آيات الفن! ولئن صدق ما يقال من أن الإغريق لم يسمحوا لنسائهم بمشاهدة تمثيل المآسي، فو الله لقد أصابوا. . . ثم استعرض التاريخ وحدثني مَنْ من النساء قد أبدع في الفن آية فيها الأصالة والنبوغ؟؟
ولقد شاءت الطبيعة للمرأة أن تثير في الرجل أحط جوانبه، فهي لا تنفذ إلى الرجل من ناحية عقلية وهو مظهر قوته وسيادته ولكنها تأتيه من نواحي ضعفه ومجونه. فيجمل بالرجل أن يتخلص من ضعفها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أما أن يكرمها ويرفع من قدرها فذلك ما أعجب له أشد العجب! إن إكرامك للمرأة واحترامك لها انحطاط لك في عينها، لأنها تدرك بفطرتها أنها أحط من الرجل وأضعف. فلا يضعها في غير موضعها إلا الضعيف العاجز - المرأة يجب أن تكون أماً فيجب ألا نعد بناتنا إلا لهذا مع تدريبهن على طاعة الرجل وقسرهن على الخضوع؛ وفي ذلك يقول بيرون الشاعر الإنجليزي (على النساء أن يعنين بالمنزل، وعلينا أن نحسن لهن في الطعام واللباس، ولكن لا يجوز لهن مخالطة المجتمع، فان تعلمن شيئاً فليكن ذلك هو الدين، على شريطة ألا يطالعن شعراً ولا سياسة، وألا يقرأن إلا كتب العبادة والطبخ)
إن كل قانون للزواج يعامل المرأة على أساس مساواتها بالرجل باطل من أوله، فإذا أراد القانون أن يسويها في الحقوق بالرجل فليعطها أولاً عقلاً كعقول الرجال! ومع ذلك فتأبى سخرية القدر إلا أن تعاني المرأة نفسها ما وراء المساواة من وخيم العواقب، لأنه كلما جارت القوانين على الرجل وأجحفت بسيادته الطبيعية على المرأة وطالبته بأن يقف منها موقف الند للند، أعرض الرجل ونفر، فليس من الهين عليه أن يقوم على مثل هذه التضحية وأن يطوح بما أوتيه من قوة وسيادة، وبذلك الإعراض يزداد عدد النساء غير(128/22)
المتزوجات اللواتي قد يدفعهن الفقر والحاجة أما إلى عمل لا يتفق مع طبيعتهن، وإما إلى السقوط في هاوية الفساد، وعندئذ تكون الطامة الكبرى. ويستطرد شوبنهور في استحسان تعدد الزوجات وفي وجوب عدم توريث المرأة مال زوجها لأنها مسرفة بطبعها، وقد نشأ إسرافها من تعلق أطماعها بالأشياء المادية فتراها تبذل بغير حساب في تجملها وزينتها، وهي في ذلك مخالفة للرجل الذي يتوجه بطموحه إلى نواح غير مادية كالعلم والشجاعة وما إليهما، فهو يستنفذ مجهوده فيما لا يحتاج إلى البذل والإسراف
يقول أرسطو في كتاب (السياسة): إنه إذا سمح للمرأة بالزيادة من حقوقها كان ذلك نذيرا بزوال الدولة ودمارها، وهو يستشهد على ذلك بأسبرطة. وقد جاء التاريخ الحديث بأمثلة كثيرة تؤيد ما ذهب إليهالفيلسوف العظيم، فزيادة نفوذ المرأة في فرنسا منذ عهد لويس الثالث عشر أدى إلى تدهور الحكومة والبلاط، وهذا بدوره أنتج الثورة الفرنسية الكبرى وما أعقبها من ثورات
وشهد شاهد من أهلها
لقد عرضت على القراء آراء شوبنهور في المرأة بمناسبة ما قرأته في إحدى الصحف الإنجليزية لسيدة تنكر على المرأة حقها في الحرية، قائلة إن الحرية تستتبع التفكير والمسئولية وهما ضد طبائع المرأة التي خلقت لتستعبد لشخص ما: زوجها أو طفلها. وهي تؤيد قولها بأنصع الأدلة وأقوى الحجج، وتروي لنا أنها كانت تحاضر في ناد نسوي فسألت الحاضرات: لو لم تكوني من بنات هذا القرن فأي زمن تختارين؟ فأجابتها فتاة ذكية: كنت أحب أن أعيش في أي عصر لا يتطلب من المرأة التفكير!!
زكي نجيب محمود(128/23)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
كوخ غزاة المكروب
وانتقل كوخ بزوجه ومتاع بيته إلى برِسْلاوة، وعُيّن فيها طبيبا للبلدية براتب قدره تسعون جنيها في العام، وكان قد افتُرِضَ عند تقدير المرتب أن كوخ لا شك سيضاعفه أضعافا بما يكسبه من مرضاه، وأن المرضى لا شك آتون إليهزرافات ووحدانا إذا شاع في البلد أنه قد حلّ به مثل هذه العبقرية الفذّة. هكذا ظن الأستاذ كوُن، وهكذا ظن الأستاذ كُون هايم؛ وفتح كوخ داره للناس، فلم يقرع بابه طارق واحد. عندئذ تعلم كوخ أن من مساوئ الطبيب أن يكون فِكِّيرا يبحث في علل الأشياء. وعاد أدراجه إلى قرية فُلِشتين عودة حنين بخُفيه، وفيها ظل يقتفي آثار المكروب، ويتجسّس الجراثيم، ويقتنص تلك الخلائق الدنيئة في أجحارها، تلك الموجودات المعدومات في حكم العين، التي تصل إلى جروح الإنسان والحيوان فتبُثّ فيها سمّا قاتلا. وظل يحرز في هذا الميدان السبق بعد السبق من عام 1878 إلى عام 1880، وتعّلم أن يَصْبُغ كل نوع من أنواع البشلاّت صَبْغاتٍ مختلفات لتظهر صُغرها بَيْنة الجرم فيما حولها واضحة الحدود. واقتصد شيئا من المال، ولا يدري إلا الله كيف اقتصده، وأشترى كمِرةً ربط عدستها بمكروسكوبه، وتعلم وحده كيف يصوّر بها تلك الخلائق الصغيرة
قال كوخ: (ليس في استطاعة المرء أن يقنع العالم بحقيقة هذه المكروبات حتى يريهم صُوَرا منها. وفوق هذا فالمجهر الواحد لا يستطيع النظر فيه اثنان في آن، وهما إذا نظرا استحال عليهما أن يَنْقلا عن المكروبة الواحدة صورةً واحدة، وإذَنْ يكون خصام وانقسام. أما الصور الفوتوغرافية فلا تكذب، ويستطيع العشرة من الرجال أن ينظروها معاً، ويدرسوها سوياً، ويخرجوا منها على نتيجة واحدة لا سبيل للخُلف فيها) على هذا النحو أراد كوخ أن يدخل في هذا العلم الوليد شيئاً من النظام والانسجام مكان الهرجلة والتخليط، وشيئاً من الموسيقى والنغم المتسق بعد النشوز الذي آذى الآذان ردحا طويلا من الزمان(128/24)
وفي هذه الأثناء لم يغب عن بال أصدقائه؛ ففي عام 1880 لم يدر إلا والحكومة تدعوه إلى الحضور إلى برلين ليتعين بها زميلا فوق العادة لمصلحة الصحة الإمبراطورية. وفي منصبه الجديد أعطت له السلطات معملا جميلا، ووفرة كبيرة من الأجهزة لم يكن يحلم بها، ومساعدين، ومالا كافياً فيه غناءٌ عن طلب الرزق، وتمكينٌ له من قضاء ست عشرة ساعة أو ثماني عشرة في اليوم الواحد بين صبغاته وأنابيبه وخنازيره الغينية
وفي هذا الوقت كانت اكتشافات كوخ شاعت في معامل أوربا جميعها، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أمريكا، فقام لها أطباؤها وقعدوا، وتحمسوا لها، واتقدوا من جرائها اتقادا؛ ودارت معركة حامية الوطيس واسعة النطاق حول نظرية الجراثيم وبلغت في هذا الأوان أشدها. واتخذ كل طبيب وكل أستاذ في علم الأمراض عرف المكرسكوب وخفاياه، أو خال أنه عرفه وعرف خفاياه، اتخذ عدته وعتاده، وقام بتقفي المكروبات يؤمل اصطياد جديد منها؛ وأخذت تنجلي الأسابيع عن اكتشافات مزعومة فرح الناس لها عن جراثيم خال أصحابها أنها سبب السرطان أو السل أو التيفود. وصرخ صارخ منهم صرخة تردد صداها في القارات الخمس زعم فيها أنه وجد مكروبا واسع الأثر يعطيك من الأمراض على هواك، من التهاب الرئة إلى زكمة الدجاج. وهدأت هذه الصرخة، وتلاشت موجاتها في الهواء، لتَتْبعها أخرى من سخيف آخر يدعي أنه أثبت أن الداء الواحد كالسل مثلا قد تسببه مئات من أنواع مختلفات من المكروبات
ازداد تحمس القوم لفكرة الجراثيم، وزاد تخليطهم فيها، حتى خِيف على اكتشافات كوخ ذاتها أن يضحك الناس منها ضحكهم من هذه الخُزَعْبِلات التي ملأت الكتب والمجلات في هذا السبيل، وأن ينسوها نسيانهم تلك الأباطيل
ولكن قُدّر لأعمال كوخ أن تحيا؛ واليوم صيحة الأمم أقوى في طلب زيادةٍ في المعامل، وزيادة في قنّاص المكروب، وزيادة في أجور البُحّاث الذين يعملون جهدهم في دفع السوء عنا، ولا سبيل إلى التقدم إلا أن يبعث الله لنا رجالا ككوخ ذوي صدق وبصيرة
كان ما كان من هذا الحماس الجاهل المشئوم الذي لا يكون من نتيجته إلا القضاء على علم المكروب وهو وليد ناشئ. ولكن كوخ حفظ اتزانه في وسط هذه الجلبة الضارة، وجلس في هدوء وسكون يتعلم كيف يربي النوع الواحد من المكروب خالصاً من أخلاطه. قال: (أنا(128/25)
أومن بأن النوع الواحد من الجراثيم يسبب نوعاً واحدا من الأدواء، وأن كل داء له جرثومته الخاصة) آمن بذلك قبل أن يُثبته، فكأنما أُوحي إليه. قال: (. . . . . فلا بد لي أن أجد طريقة أكيدة يسيرة أُكّثر بها الجنس الواحد من المكروب دون أن تختلط به الأجناس الأخرى التي هي دائماً حوله تحاول الدخول إليهخلسة واستراقا)
ولكن كيف السبيل إلى اقتناص جرثومة واحدة بادئ ذي بدء؟ اخترع المخترعون عدة مكنات غريبة لفصل المكروبات، ونصب آخرون منهم أجهزة مركبة معقدة، طويلة لا شك أنهم من طولها وتعقد تركيبها نسوا بعد أن أتموا الغرض الذي من أجله نصبوها. وقام بحاث غير هؤلاء، لا يبالون الموت، فحقنوا المكروب الذي حقنوا في جو سام قتال من الكيميائيات المطهرات ليقتلوا جراثيم الهواء التي تسبح فيه على ضلال كي لا تقع في المكروب الذي يحقنون
- 5 -
وذات يوم نظر كوخ إلى فِلْقة من البطاطس المسلوق تُرِكت عفوا في معمله، نظر إليه اتفاقاً وأقر هو بذلك؛ نظرها فوجدها قد تبقعت بعدة بقع ذات ألوان، فهمس لنفسه قال: (هذه بقعة شقراء، وهذه بقعة حمراء، وهذه ثالثة بنفسجية، ورابعة صفراء. لابد أنها تكوّنت جميعاً من جراثيم الهواء). وأخذ يحدق فيها من قريب لقصر نظره حتى كادت تمتزج بها لحيته الخفيفة، وهّم ينظف عدسات مجهره ويهيئ رقائق الزجاج. وأمسك بعود رقيق من معدن البلاتين فغمسه بخفة في بقعة من البقع الشقراء ورفعه بشيء منها؛ ثم وضع هذا الشيء القليل، ومزاجه كالمخاط، على رقيقة من تلك الرقائق الزجاجية، ودافه بقطرة من الماء، وحدق فيه من خلال المجهر فإذا جماعات البشلات تتهادى في الماء عموماً، وتشاكلت جميعها فلم يكن بها على كثرتها بشلة واحدة غريبة عن أخواتها. وأخذ من البقعة الصفراء ومن البنفسجية ومن الحمراء، فوجد لمكروب في إحداهما مستديرا، وفي الأخرى عصيا عائمة، وفي الثالثة حلزونيات كالبريمات دبت فيها الحياة؛ وليس في هذا جديد، وإنما الجديد أن المكروبات في البقعة الواحدة متشاكلات لا تختلف واحدة عن أختها
وفي سرعة البرق الخاطف تجلى لكوخ جمال هذه التجربة التي اصطنعتها له الطبيعة: (كل بقعة من هذه البقعات زريعة خالصة من نوع واحد من المكروبات. . . الأمر واضح(128/26)
وتفسيره حاضر! فالمكروبات عندما تقع من الهواء في الأحسية السائلة التي نستخدمها، هي أنواع عدة، تتكاثر جنباً لجنب، وتعوم فتختلط فلا ينتج إلا مزيج من أخلاط عدة. أما اذا هي وقعت على سطح البطاطس، وهو صلب، لصقت وحداتها في المكان الذي وقعت فيه، فتكاثرت الواحدة حيث هي فصارت ألوفاً، ولكن من نوع واحد لا يخالف)
وكان يعين كوخ طبيبان في الجيش، يدعى أحدهما لُفْلار والآخر جفكي فدعاهما كوخ في هدوء وأطلعهما على ما وجد، وأراهما مدى التغيير الذي سيطرأ على دراسة المكروب بسبب التفاتته السانحة إلى قطعة البطاطس المتروكة، نقول التغيير، وما كان إلا الثورة! وبدأ الرجال الثلاثة يدرسون صحة ما خال كوخ بجد لا حد له، وبدقة ألمانية إذا وصفها الفرنسي المتعصب سماها سخفاً. بدأ الثلاثة يعملون فكنت تراهم صفاً واحدا على كراسيهم الثلاثة، منكبين على مجاهرهم الثلاثة ينظرون في ضوء ثلاث نوافذ وقد توسطهم كوخ. ثالوث أي ثالوث! يبذلون الجهد الجاهد لا ليثبتوا الذي ظنوه، بل ليكذبوه، فإذا النتيجة تؤمن على الذي قاله كوخ وقالوه، وكانت طريقتهم في ذلك أنهم خلطوا من المكروبات نوعين أو ثلاثة؛ فتكوّن منها مزيج تعجز الأحسية السائلة عن فصل أنواعه مهما طال زرعها فيها وتكثيرها. ثم جاؤا بقطرة من هذا المزيج ونشروها نشرا واسعاً على سطح مستو لبطاطسة مسلوقة مشقوقة؛ فاستقرت المكروبات من هذا السطح على أبعاد غير متقاربة، وتكاثرت المكروبة الواحدة حيث استقرت فخرج منها الملايين ولكن من نوعها، ومن نوعها فحسب
بشق بطاطسة عتيقة استحدث كوخ طرائق جديدة لاقتناص المكروب، وأرسى هذا العلم على قواعد صحيحة يطمئن إليهاأولو الفكر اطمئنانهم إلى سائر العلوم، من بعد أن كان ظناً ورجماً بالغيب؛ ثم أخذ كوخ يتجهز لاقتناص المكروبات التي تسبب عشرات الأمراض التي تفتك بالناس، ولم يكن كوخ لقي بعد من رجال العلم انتقادا يذكر ولا اعتراضاً كبيرا، ذلك لأنه لم يفتح فمه إلا بعد ذلك أن كان يتم تأكده من نتائجه، ثم لأنه كان اذا تحدث بعد ذلك عن اكتشافاته ذكرها في كثير من التواضع فتخاذل خصومه ونام الشر في قلوبهم، وفوق هذا وهذا لأنه كان دائماً يصوّر لنفسه شتى الاعتراضات الممكنة، والانتقادات الجائزة، ويجيب عليها قبل إخراج عمله للناس
وامتلأ كوخ ثقة بنفسه، فاعتزم أن يلقى الأستاذ رودلف فرشو وما أدراك من هو؟ هو(128/27)
أشهر بحاث ألمانيا في أصول الأدواء، وأكبر جهابذتها وأعلامها؛ إذا حدثته في موضوعات شتى أراك فيها من العلم ما لا يريك عشرات العلماء، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. كان فرشو عمدة الطب الألماني، درس تجبن الدم وقال آخر كلمة تقال فيه، واخترع ألفاظاً من أروع الألفاظ مثال الهتربوبيا وأجنيسيا والأكرونوسس وكثير غيرها مما يسهر طلاب الطب لياليهم في محاولة تفهمها، ونظر بمكرسكوبه في ستة وعشرين ألف جثة، ووصف فيها حال الأنسجة وقد غيرتها شتى الأمراض، ونشر بلا مبالغة ألوفا من الأبحاث في كل موضع يخطر بالبال، من دراسة أشكال رؤوس الذكور من تلاميذ المدارس الألمانية، وتفحص أصواتهم، إلى قياس الأوعية الدموية، وقد بلغت الغاية في الصغر في أجسام بنات اخضرت وجوههن مرضاً واعتلالا
ذهب كوخ إلى صاحب هذا الصيت الكبير وفي قلبه رعب، فدخل الى حضرته على أطراف قدميه احتراماً وخشية أن يتحرك الهواء فينزعج رب المكان
قال كوخ وهو مطرق: (سيدي الأستاذ! لقد كشفت طريقة لتكثير النوع الواحد من المكروب خالصاً لا شائبة فيه)
فقال الأستاذ: (إذن فقل بالله كيف تصنع، ففي ظني أن هذا لن يكون)
قال كوخ: (بتربيته على طعام جامد. نعم أستطيع أن أولد منه على قطعة من البطاطس مستعمرات لا يسكنها غير نوع واحد منه. . . . فبدل البطاطس أذيب الآن الجلاتين في حساء من لحم البقر، فإذا برد انعقدا جميعاً وصار لمزيجهما سطح جامد، وعندئذ. . . . . .)
لم يتحرك فرشو لهذا الكلام؛ ولما نطق قال في استهزاء الحاقد: (إن منع المكروب من أن تختلط أنواعه عسير جداً، إلا إذا شاء كوخ أن يبني لكل نوع معملا خاصاً. .) واختصاراً لم يجد كوخ عند صاحبنا غير البرود والتثبيط؛ ولا عجب، فالرجل كان قد بلغ من الشيخوخة تلك السن التي عندها يعتقد الرجال أن كل شيء عُرِف، فلم يبق في الدنيا ما يُكتشف؛ وتولى عنه كوخ وفي نفسه شيء من الكآبة، ولكن عزيمته لم تهن، ولم يفعل ما كان غيره فاعله، فلم يجادل فرشو في الذي كان، ولا كتب المقالات، ولا خطب الخطب في النيل منه، ولكنه اتجه بكل ما فيه من حول إلى بحثٍ هو أبدع بحوثه، إلى تقفَّي أثر أخبث(128/28)
مكروب عرف، إلى كشف ذلك القتال الخفي الذي سبق المكروبات جميعا في حصد أنفس الرجال والنساء والأطفال، فتقاضى روحاً من كل سبع صعدت إلى ربها. شمر كوخ عن ساعديه، ومسح نظارته، وبدأ رحلته الكبرى لاقتناص جرثومة السل المروع
(يتبع)
أحمد زكي(128/29)
في طريق المدينة
للأستاذ علي الطنطاوي
أفاق سحراً - ولا يبدو السحر على أتمه إلاّ في البادية، فلا ليل في الجلال كلَيْلها، ولا صبح في الجمال كصبحها، ولا نهار في الشدة كنهارها - فجلس ينظر إلى هذه الصحراء التي تمتد من حوله؛ يغيب أوْلها في بياض الفجر المقبل، وآخرها في سواد الليل المدبر، وهي ساكنة سكون الموت، واسعة سعة السماء، فأحس في نفسه بشيء لم يحسّ به قط؛ فقال: لا إله إلا الله! فخرجت من أعماق قلبه. . . وأي امرئ تلقيه الأيام في البادية، فيرى ليلها ونهارها، وشمسها ورمالها، ثم لا يكون أشد الناس بالله إيماناً، وعليه اتكالا؟ وهو يرى أبداً من جلال المخلوق ما يخشع منه قلبه لجلال الخالق؛ وهو يعلم أنه ليس بينه وبين أن يموت عطشاً، أو يهلك جوعاً، إلا أن يحيد عن طريقه ذراعاً، أو ينحرف عن وجهته شبراً. . . وكيف يكفر بالذي لا يرجو النجاة إلا منه، ولا قوّة إلاّ به، وليس له من يدعوه إلاّ إياه؟
وكانت تلك صبيحة اليوم السابع عشر من أيام البادية، فطفق يذكر هذه الأيام، وينظر ما أفاده فيها، فإذا هو قد عرف من خبر العرب، في سبعة عشر يوماً، ما لم يعرفه في سبع عشرة سنة، يقرأ فيها أسفار العرب، ويتلو أشعار العرب، ويدرس لغة العرب، وتاريخ العرب، وإذا هو قد سافر ألفاً وثلثمائة سنة في الزمان، لا ألفاً وثلثمائة كيلٍ على الأرض؛ وسلك الطريق التي سلكها الغزاة الأوّلون، فعلم أن سرّ قوةّ العربي الأوّل الذي عمل ما لم تعمله الجن، ولا تقوى عليه المرَدَة، حتى بنى للحضارة هذا الصرح العظيم، فأوت إليه، وتفيأت ظلاله، وإنّ سر عجز العربيّ الأخير، حتى نام عن هذا الصرح، وأباح العدوّ حماه، إنما هو (بعد الإسلام) هذه الصحراء
هذه الصحراء الذي لا يعيش فيها الجبان العاجز، لأن الحياة فيها بين عيني الأسد، لا ينالها إلاّ شجاع مقدام، أخو غمرات، صّبار على النكبات، ضحّاك في الملمّات، وإلاّ ابن الشمس، صديق الرمال، حليف الجوع والعطش، ذو إرادة لا تنثني، وهمة لا تطاول، وعزيمة لا تفلّ
ولا يعيش فيها المريض، لأنها لم تخلق مستشفى للمرضى، ولكنما خلقت ميداناً للأبطال، وأنىّ يأتي البدويّ المرض، ما دام لا يؤتى من قبل معدته (والمعدة بيت الداء)، وما دام كل(128/30)
طعامه التمر والسّمن واللحم والأقط، وكلّ شرابه اللبن والماء، فإذا مرض يشرب قارورة من شعاع الشمس، وشمس الصحراء أنفع من مجموعة صيدليات باريز! فإذا لم تجده نفعاً، أجداه الكي، وما بعد الكيّ إلا حياة كاملة أو موت كامل، هو خير على كل حال من حياة ناقصة. . . وقديماً قالوا آخر الطب الكيّ!
ولا يعيش فيها الفقير، لأن أهلها كلهم أغنياء. . . وهل الغنى إلاّ أن تنال كل ما تطلب؟ وهل يطلب البدويّ إلاّ ماء له وكلأ لمواشيه؟ فإذا أمحلت الدار أم غيرها:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
ولا يعيش فيها المنافق المتملّق الخدّاع، الذي يلبس جلد الحمل على جلد الذئب. . . . لأن الصحراء منبسطة مستوية متكشّفة، ظاهرها كباطنها، وليس فيها سقوف ولا جدران، ولا مغارات ولا سراديب، وكذلك نفس العربيّ ما في قلبه على لسانه؛ فان عاداك فعداوة الشريف، يستقبلك بالشر ولا يستدبرك به؛ ويحمل إليك الموت على شفرة السيف، لا يقدمه في كأس من الذهب، قد خلط فيها السمّ بالدسم؛ وإن صافاك آخاك، فأخوّة الشريف يفديك بنفسه وماله، ولا يرغب عنك حتى ترغب به، وإذا أنت أنكرت من العرب جفاء في الطبع، أو خشونة في المقال، فلن تنكر منهم عَوْضُ تلوّناً ولا تملقاً، ولا تنكر منهم لين الحيّة ولا لطف المستعمر. . . على أنّ الجفاء ليس من شأن العرب، ولا هو في جميعهم، وإن فيهم للطفاً، وإن فيهم لظرفاً، وإن لهم لأحلاما. . .
وطفق يذكر كيف كان يتبرم بهذه الأشعار التي تندب الديار وتبكي الأطلال، ويستثقلها ويراها كأنها الدّمى فيها جمال وليس فيها روح؛ فلما كانت أول ليلة قضاها وأصحابه في البادية، وحطّ الركب في قاع الدغيلة فوقفت السيارات الخمس، ووضعت الأحمال، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران، ورفعت القدور، وبسطت البسط، ومدّت الفرش، وكمل المجلس حتى قام المذياع (الراديو) يسمعهم بين الشّيح والقيصوم، أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم
ف. . . باتوا بأنعم ليلة حتى بدا ... صبح تلوَّح كالأغرّ الأشقر
فنادى منادي الرحيل؛ فما هي حتى طويت الخيام، ولفّت البسط، وشدّت الأحمال، فإذا كل شيء كأنه حلم، أو كأنه صفحة طويت، ولم يبق إلا الؤى المهدم، وإلاّ موقد النار، فامتلأت نفسه حزناً، وانطلق لسانه يترجم عن أصدق عاطفة، وأعمق شعور، بكلمة النابغة التي(128/31)
استثقلها، وعدها من القول المعاد، والكلام الفارغ:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار. . .
وانطلق يقف إخوانه لحظة، يحيّ فيها هذه البقعة التي ترك فيها ليلة من حياته، وطائفة من ذكرياته، وقطعة من نفسه؛ ثم عاد فسخر منهم كيف يقفون على أحجار قد سوّدتها النار، وحفرة حفروها من حول الخيمة خشية الأمطار. .
ماذا تحيوّن من نؤى وأحجار؟
ويجد القاع بعد أن تقوّضت الخيام، وطويت البسط، وضاع المكان الذي سوّاه لنومه، وأعدّه لجلوسه
أقوى وأقفر من نعم وغّيره ... هوج الرياح بهابي الترب موّار
ويطول به الوقوف، وأصحابه يستحثّونه، والسيارات (تصرخ) مستعجلة، فيمشي وهو يفكر في هذا القاع. هل يحفظ هذه الذكريات؟ ويسأل هذا القاع: هل يذكر أبداً هذه الليلة التي قضاها فيه، والعواطف التي استودعه إياها؟ فلا يسمع مجيباً، ولا يجد إلا أحجار الموقد، وإلا هذا الثمام الضعيف الليّن، الذي جمعوا منه فأوقدوا به النار، واتخذوه فراشاً، فينشد قول النابغة:
وقفت فيها سراة اليوم أسألها ... عن آل نعم أمواناً عبر أسفار
فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار
فما وجدت بها شيئاً ألوذ به ... إلا الثمام وإلا موقد النار
وتعدو به السيارة عدو الظليم، وهو لاهٍ عما حوله، يتمثل الشاعر وقد يممّ الديار، فلم يجد بها سائلاً ولا مجيباً:
ناديت: أين أحبّتي؟ ... فأِجبت: أين أحبّتي؟
فبرّح به الشوق، واشتعلت في صدره النار، وكواه الهجر فذهب يذكر نعماً، وقد كان يسايرها حتى ينأى بها عن الحيّ، ثم يجلسان حتى تغيب الشمس، ويلفهما الظلام برداء الأمن من الرقباء، ويسبغ عليهما نعمة الحبّ، فلا يكون بينهما إلا كل خير: يبثها حبّه، فتشكو له حبّها، ويكشف لها عن قلبه، فتكشف له عن قلبها، ولا يخفي عنها شيئاً، ولا تكتمه شيئاً:(128/32)
وقد أراني ونعما لاهيين بها ... والدهر والعيش لم يهمم بامرار
أيام تخبرني نعم، وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
وجعل يذكر كيف فهم في تلك الساعة قصيدة النابغة، ونفذ إلى روحها، وقد كان يتلوها، ويدرّسها، ويشرحها، فلا يفهم منها إلا كلماتها وجملها، وعروضها وإعرابها؛ وجعل يذكر ما حفظ من أشعار الديار، فيبصر فيه جمالاً لم يبصره من قبل، فيعلم أنه قد كان منه في ليل مظلم، لا يرى فيه إلا سواداً فطلعت تلك الساعة بدراً، أراه أن وراء الظلام دنيا واسعة، وفتنة وجمالاً، وروضة وأنهاراً. . .
وجعل يذكر كيف كان يقرأ أمثال العرب فلا يفهم من قولهم: (أن ترد الماء بماء أكيس) إلاّ أن ذلك أحزم، فلما خرجوا من القاع وأقبلوا على ماء الهزيم الذي طالما وصفوه لهم وحببوه إليهم، وجده بئراً منتنة خبيثة، تقتل من يشمها، فكيف بمن يشرب منها؟ فعلم أن معنى أكيس: أنك لا تشرب ماء خبيثاً فتمرض!
فلما وردوا ماء الفجر، بعد مسيرة يومين في الشعب لم تر السيارة فيهما كيلين متتابعين على أرض كالأرض، ولكنها كانت تعلو صخرة، أو تهبط حفرة، أو تغوص في رملة، لما وردوا الماء وجدوه جافاً، فعلم أن معنى أكيس: أنك تبقى بلا ماء فتموت
ثم نظر فرأى الفجر قد انبثق، فأيقظ المؤذن، وكان قوي الحنجرة حسن الصوت، فأذن فزلزل البادية بـ (الله أكبر) فلما قال (أشهد أن محمداً رسول الله)، لم يتمالك صاحبنا نفسه أن تضطرب وقلبه أن يخفق، وعينه أن تدمع:
هذا آخر يوم من أيام البادية. لم يبق بيننا وبين المدينة إلاّ نصف مرحلة. . . فهل يكتب لنا أن ندخل من باب السلام ونقوم أمام الحجرة ونسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
علي الطنطاوي(128/33)
نظرية النسبية الخصوصية
بقية البحث الأول
الزمان ونسبيته
للدكتور إسماعيل احمد أدهم عضو أكاديمية العلوم الروسية
- 3 -
علل هذه الظاهرة فتزجرالد بقوله إن المتحركات تتقلص في اتجاه سرعتها، فالأرض تتقلص في اتجاه سرعتها بقدر الفرق النظري بين رحلتي الشعاعتين بحيث تعودان كما هما عمليا في وقت واحد. وقام العلامة لورانتن الهولندي فاستخرج مقدار هذا التقلص في عملية رياضية دقيقة
لو رمزنا بالرمز (ر) لمسافة رحلة الشعاعة (س1)، وبالرمز (ر2) لرحلة الشعاعة (س2)، وبالرمز (ص) لسرعة الضوء، وبالرمز (س) لسرعة الأرض، لكان:
وهذا معناه تقلص الأرض حتى تصير بمقدار:
وبذلك تقرر استحالة استخراج الحركة المطلقة للمتحرك، وبذا صار من المحال معرفة التواقت
- 4 -
لابدّ من فاصلة زمانية لمعرفة سرعة الضوء؛ هذا إلى أن معنى الزمان قائم على معرفة سرعة انتشار النور. هذا التضاد استخدمه العلامة ألبرت اينشتين في سبيل استخلاص مبادئه الأولى في النسبية الخصوصية
لنفرض كوناً مثل (ك) به نقطة مثل (أ) ثابتة، وبهذه النقطة راصد ومعه ساعة؛ ولنفرض أن هذا الراصد يعين حدوث الحادثات في كونه بموجب زمن الساعة التي يحملها، ولكنه بلا شك يفشل في تعيين زمان الحادثات عينها بالنسبة لنقطة ثابتة في كون آخر يتحرك حركة انتقالية ازاءه؛ ما لم يوحّد سير ساعته مع سير الراصد القائم في الكون الآخر
وتوحيد سير الساعتين لا يقوم إلا على إشارة ضوئية؛ والضوء كما قلنا سرعته واحدة في كل الجهات؛ ومعنى هذا أن الفترة التي تستغرقها شعاعة الضوء لقطع المسافة من الكون(128/34)
الأول إلى الثاني هي عين الفترة التي تستغرقها للعودة من الكون الثاني إلى الأول
هكذا يتحول معنى المسافة الممتدة بين النقطتين (أ) في الكون الأول، و (ب) في الكون الثاني من امتداد الأجسام الصلبة إلى أمواج النور، أعني أنها تتحول من خط امتداد الأجسام الصلبة إلى السافة التي تقطعها أمواج النور في آماد متساوية
هذا التبدل يؤدي إلى تغير موضوع الهندسة الأوقليدية، إذ تتحول الأشكال والخطوط الأوقليدية التي ترسمها الأجسام الصلبة في تحركها إلى الأشكال والخطوط الاينشتينيّة التي يرسمها سير أمواج الضوء
- 5 -
لقد رجع اينشتين بعالم الحادثات إلى الهندسة. ومن المعلوم أن هنالك ضربين من الرياضيات: ضربا ذهنيا محضا، وضربا حسيا. فالضرب الأول هو الذي تقوم عليه مبادئ الرياضة، وخاصة التحليلية منها، والضرب الثاني يتفق والأول في الماهية الرياضية، إلا أنه يختلف في كونه راجعاً إلى الحس والتجربة. والمدرسة الأكسيومانيكية تجد في مكان الرياضة المحض مكان المنطق الصوري والذهن الخالص
على هذا الأساس لو مضينا ندقق موضوع الهندسة الأوقليدية لألفينا هندسة ترجع لخواص الأجسام الصلبة وعلاقتها ببعض، فهي ضرب من الهندسة التجريبية، وبذا تعد ضرباً من الطبيعيات. والهندسة الأوقليدية ليست قضاياها منطقية تحليلية فحسب، بل هي تنطوي على أحكام تجريبية مستمدة من الاختبار والمشاهدة، وبذلك كانت بعيدة عن ساحة الهندسة الصرفة
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال من حول الهندسة الأوقليدية وعمليتها بمعنى: هل هي تلتئم من حول حوادث هذا العالم؟ وللاجابة على هذا السؤال نلجأ للتجربة، فهي الأداة العلمية الوحيدة التي تمكننا من الاجابة على هذا السؤال، فان قياس أي طول في علم الطبيعة يرجع لمبدأ انتشار النور في خطوط مستقيمة، وبذا نلفي الأطوال ترجع ضرب من الرياضة التجريبية؛ وهذه الحقيقة نخرج منها بنتيجة هامة. فالنقطة والخط. . . . . . . . . . . . . . .؛ ليس من المهم أن نقول إن معرفتنا بها عقلية، لأننا في الحقيقة نفرض صحة بعض المبادئ، ومن حول هذا الفرض نقيم هندستنا الصورية التي لا ترجع معرفتنا(128/35)
بمبادئها إلى التجربة؛ إذ هي مبادئ أوجدها العقل الانساني وصرح بامكانها. غير أنه من المهم أن نقول إننا بارجاعنا الهندسة إلى مبدأ انتشار الضوء نقرر ضمناً ارجاع الهندسة إلى الطبيعيات الحديثة أو العكس، ويكون مقدار ما في الهندسة من الصواب بمقدار ما فيها من المرونة للالتئام من حول حقائق العالم الخارجي، وهكذا نرى الهندسة الأوقليدية تنهار حيث لا تتفق ومبدأ انتشار النور
- 6 -
(موضوع النسبية الخصوصية: تقوم على أساس أولى في تحويل موضوع الهندسة من الأشكال التي ترسمها الأجسام الصلبة اللا متغيرة إلى الأشكال التي ترسمها الأمواج النورية الثابتة)
برتر اندرسل
لنفرض ساعة في نقطة مثل (أ) حيث صدرت منها شعاعة نور في الآونة (أ) إلى النقطة (ب) فوصلتها في الآونة (ب1) ثم رجعت إلى (أ) في الآونة (أ2) فنكون:
(ب1) - (أ1) = (أ2) - (ب1) أو أن:
بمعنى أن الساعة التي في (أ) تكون متساوية في سيرها مع الساعة التي في (ب) ويكون إعلان الساعتين للزمان واحدا. فلو أردنا أن نعين زمان الساعتين في وقت واحد فما علينا إلا أن نرسل إشارة نورية بزمان النقطة (أ) إلى (ب) فتضبط استناداً عليها نقطة (ب) زمنها. وعليه تكون النقطتان متوافقتين في زمنهما، وهنا يوحي التواقت إلى الذهن فكرة أن الزمان ليس أكثر من مجرد الفواصل التعاقبية للحادثات
- 7 -
ما معنى التواقت؟
حدثت حادثة مثل (ح) في (أ) وحادثة أخرى مثل (ح1) في (ب)؛ فما معنى تواقتهما؟
للاجابة على هذا السؤال نفرض أن الحادثة (ح1) حدثت في الزمن (أ2)، كما أن الحادثة (ح) حدثت في الزمان (أ1)، فلو كان سير ساعة النقطة (أ) هو سير ساعة النقطة (ب)، وما تعلنه الساعة الأولى من الوقت هو ما تعلنه الساعة الثانية فالحادثتان متواقتتان.(128/36)
على هذا الأساس يمكننا أن نعرف الزمان استناداً على إشعارات الساعات؛ ولكن لنا أن نتساءل: هل يصح القول بتواقت حادثتين حدثت احدهما في كون مستقل عن الآخر وهما يتحركان بالنسبة لبعض حركة انتقالية؟
للاجابة على هذا السؤال نرجع لمثالنا السابق فندقق فيه النظر فسنرى أن ساعات كل كون يمكن أن تتساوى في سيرها مع آخر، وعليه يمكننا تعيين زمان حدوث أية حادثة بأية ساعة في هذا الكون لانتشار النور خلاله بسرعة ثابتة؛ أما في أكوان متعددة تتحرك بالنسبة لبعضها حركات انتقالية كما هو جار في العالم الخارجي فلا يمكن القول بالتواقت لانعدام واسطة استخراج الحركة المطلقة. ولبيان هذا نفرض خطاً يمتد من النقطة (م) إلى (م1) طوله 9000 وحدة طولية، وأن هنالك شعاعا من النور يقطع هذا الخط من اتجاه (م) إلى (م) بسرعة 300 وحدة طولية في الساعة، ولنفرض كذلك طيارة بها راصد تتحرك من جهة (م) إلى (م1) مع شعاعة النور بسرعة 75 وحدة طولية في الساعة؛ ولنرمز للراصد الذي بداخل الطيارة بالرمز (ص1)، ولنفرض أن في منتصف المسافة بين (م) و (م1) على بعد 4500 وحدة طولية من كل من النقطتين يقوم راصد مثل (ص2) في النقطة (ن) ومعه جهاز كهربائي يمتد طرفا إلى نهاية الخط من الجهتين، وبكل طرف مصباح كهربائي يبين بإشارة نورية تأتيه من الجهاز الكهربائي الذي مع الراصد (ص2) وبالطبع ستتلاقى الشعاعتان معاً عند (ص2) في آونة واحدة
لنفرض أن الراصد (ص2) ضغط على جهازه الكهربائي فصدرت منه إشارتان كهربائيتان إلى النقطتين (م) و (م) حينما صارت الطيارة براصدها (ص1) أمامه تماماً. فهل تبدو الشعاعتان الواردتان عن المصباحين متواقتتين لكل من الراصدين (ص1) و (ص2) لأن كلا منهما في منتصف المسافة بين (م) و (م1) حينما ضغط (ص2) على الجهاز الكهربائي الذي معه؟
إن الإشارة الكهربائية ستقطع المسافة من (ن) إلى كل من النقطتين (م) و (م1) في 15 ساعةوستقطع الموجة النورية الصادرة من المصباح الذي في (م) المسافة من (م - ن) ومن (م1 - ن) في نفس المدة. فبعد ثلاثين ساعة يشاهد الراصد (ص2) الشعاعتين قد وصلتا أمامه في (ن) في آونة واحدة. هاتان الحادثتان متواقتتان للراصد (ص2)، ولكن هل(128/37)
هما متواقتتان بالنسبة للراصد (ص1)؟
لا. لأن الراصد (ص1) يكون قد غادر النقطة (ن) عندما ضغط (ص2) على الجهاز، فيأخذ في الاقتراب من نقطة (م) بمعدل 75 وحدة طولية في الساعة، وحينما تتلاقى الشعاعتان عند (ص2) يكون هو قد قطع 2250 وحدة طولية، ويستقبل الشعاعة الواردة من النقطة (م1) قبلما تصل إلى (ن)، فعنده تجري حادثة وقوع شعاعة (م1) قبل أن تجري حادثة وقوع شعاعة (م)؛ أعني أن الحادثتين غير متواقتتين عنده. ونستنتج من هذا أن التواقت نسبي حسب المشاهد وكذلك الزمان
- 8 -
إن التواقت نسبي في أكوان تتحرك بالنسبة لبعضها حركة انتقالية كما هو حاصل في عالمنا هذا. ويصح التواقت بين حوادث كون ساكن؛ أما في أكوان متحركة فلا يصح القول بالتواقت حتى ولو وصلت الحادثات إلى المشاهد متواقتة في وقوعها، إذ يلزم أن تكون الحوادث في وضعها متواقتة؛ ولما كان السبيل إلى ذلك قائماً على معرفة الحركة المطلقة للأكوان، وكانت الحركة المطلقة مستحيلاً استخراجها، كان القول بالتواقت المطلق لغواً، وكان لكل حادثة زمان خاص نسبي لها حسب المشاهد؛ كذلك يكون التواقت نسبياً حسب المشاهد، فما هو متواقت عندك يكون غير متواقت عند غيرك
من هنا نخرج بأن الزمان نسبي، وأن التواقت نسبي، وأن زمان كل حادثة نسبي لمشاهدها
(تم البحث الأول)
إسماعيل أحمد أدهم(128/38)
في الأدب الأمريكي
مارك توين
(بمناسبة انقضاء مائة سنة على ميلاده)
- 1 -
في يوم السبت الماضي 30 من شهر نوفيمبر سنة 1935 احتفل الأدباء في أغلب أقطار الأرض بانقضاء مائة عام على مولد الكاتب العبقري الأمريكي الفكه مارك توين. ومَن من الناس لا يحي ذكرى مؤلف: (مخاطرات توم ساوير)، و (هيلكبري فن)، و (الأمير والشحاذ) وغيرهما من القصص التي استهوت قلوب الصغار لفكاهتها وطرافتها، وعقول الكبار لحكمتها وبلاغتها؟ أن الذين قرأوا مارك توين قد علموا بعض العلم عن الرجل، لأنه انما يتحدث في الغالب عن نفسه او عن ذويه في قصصه؛ وقد روى ذكريات طفولته في تلك المخاطر التي عزاها إلى أولئك الأطفال الذين عاشوا على ضفاف (المسيسبى)؛ وليست العمة الشهيرة (بولي) في قصته (توم ساوير) إلا أمه. ولعلنا نستطيع أن نزيد في هذا العلم شيئاً بحكاية تاريخ حياته المضحكة المبكية المملوءة بالمخاطر والأحداث والطرف، فانها في ذاتها لا تقل امتاعا للقارئ عن سائر كتبه
فى 30 نوفمبر سنة 1835، وفى قرية (فلوريدا) بولاية (ميسوري) ازدادت أسرة المحامي (جون كليمانس) واحدا بولادة طفل خامس سموه (صمويل)، ثم صار بعد حين من الدهر (مارك توين)؛ وكان يؤكد أنه لم يكد يولد حتى وجد له محلا بين عظماء الناس، لأن ولادته زادت في عدد قريته واحدا في المائة، إذ كان تعداد سكانها مائة بالضبط
وفي سنة 1839 عين أبوه العابس القاسي قاضياً في (هانيبال) على شواطئ المسيسبي فلحقت به أسرته، وهناك قضى صمويل شطرا من طفولته. وكانت الطباع في ذلك البلد شرسة، والأخلاق منحلة؛ فالمقامرة والمعاقرة والعراك والقتل أمور مألوفة وحوادث فاشية، وصمويل قد شهد بنفسه أربع حوادث من حوادث القتل، وقد اختزن في ذاكرته جملة من مشاهد هذه الحياة وصفها في مؤلفاته. وكان في هانيبال عدد وفير من العبيد؛ وكان لأسرة كليمانس منهم ثلاثة أعبد جاءت بهم أم صمويل مهراً لأبيه. وكان هؤلاء المساكين يحبون(128/39)
صمويل حباً جماً لرقته وعطفه؛ ولهم من ذكرياته في مؤلفاته حظ عظيم
كان صمويل في المدرسة شديد الكسل ردئ العمل، يؤثر على درسه وكتبه الاجتماع بطغمة من رفاقه الأشرار الذين أتى وياهم من المنكرات والسيئات ما قرأناه بعدُ في قصصه. وقد يئست أمه من صلاح أمره؛ وكانت سيدة جميلة ذكية متسلطة تؤثره وترعاه، ولها عليه سلطان قوي مدى عمرها الطويل إلا في الجانب الذي يتعلق بدراسته. كان تقويمه من طريق الاقتناع عبثاً، فعمدت أمه إلى تقويمه بالضرب والأذى؛ وفي ذات يوم قالت له وهي تضربه: صدقني يا بني أني حين أضربك أتألم بشدة، فأجابها بقوله: هذا ممكن، ولكنك تألمين في غير الموضع الذي أتألم منه. وهذا الجواب الذي صار مثلا يشهد هو وغيره أن صمويل كان حاضر البديهة سريع الجواب
كان من عادة مارك توين أن يقول: (إن السيد الحقيقي للانسان هو المصادفة). وذلك قول صحيح بالنسبة له، فان المصادفات الطارئات والظروف المفاجآت كثيرا ما غيرت مجرى حياته. فقد كان صمويل لا يزال على مقاعد الدرس حين فجعه الموت في أبيه، فاضطرت أمه أن تخرجه من المدرسة وتجعله (صبياً) عند صاحب جريدة (هانيبال كورييه) يعمل له من غير أجر إلا الطعام والمأوى؛ ولكن الجراية كانت وا أسفاه قليلة لا تسد رمقه. ولما أصدر أخوه الأكبر (جريدة هانيبال) في سنة 1850 ضمه إليهوعمره يومئذ لا يزيد على خمس عشرة سنة؛ ولكن النجاح لم يكن على قدر الأمل فقل عدد الموظفين واضطر صمويل إلى أن يجمع بين صف الحروف وبين ترتيب المواد، وأن يجوب بعد ذلك شوارع المدينة للتحصيل، فيعود مملوء اليدين بالحبوب لأن أغلب المشتركين كانوا يؤدون قيمة اشتراكاتهم عيناً. كان العمل كثيراً، ولكن صمويل مع ذلك كان يجد الفراغ لكتابة مقالة أو أقصوصة تظهر فيها دلائل قريحته الفكهة المنتظرة؛ وكان ينتهز الفرصة في غياب أخيه لبعض أعماله، فينشر في الجريدة ما يكتب؛ وكان أكثر ما يطرق من الموضوعات التعليق اللاذع على الحوادث المحلية، فيؤنبه على ذلك أخوه؛ ولكن الجمهور كان شديد الاعجاب بها، وأكثر القراء كانوا لا يشترون الجريدة إلا ليقرأوها
وفي ذات يوم رأى في غيبة أخيه أن يلهو مع القراء فنشر أقصوصة عن صحافي أمريكي مدع كان مولعاً بالأسفار، فوقع في بعض رحلاته في أواسط أفريقية أسيراً في قبيلة تأكل(128/40)
لحوم البشر، فكان مصيره الأليم لا شك فيه، إلا أن شيخ القبيلة أراد أن يستجوبه طويلا عن حرفته، وعن الغاية المقصودة من رحلته، فلما سأله في ذلك أجابه المسكين وعيناه الزائغتان تنظران إلى معدات الوليمة: أنا لست إلا صحافياً متواضعاً يا مولاي العظيم. فقال له الشيخ: صحافي؟ تريد أن تقول انك مدير جريدة؟ فأجابه: أوه! كلا يا مولاي القادر ما أنا إلا وكيل حقير، فقال له اطمئن ايها الرجل الأبيض! سترقى بعد أن نصنع منك الحساء إلى مدير!!
كانت هذه النوادر المضحكة تستهوي ألباب القراء، ولكن أخاه (أوريون كليمانس) كان لا يجد لها مذاقاً ويرجو منه ألا يستمر فيها. على أن صمويل لم يحرص على البقاء في الجريدة، فقد كان نزوعاً بطبيعته إلى الاستطلاع والنقلة، ولكن افلاسه كان يحول بينه وبين قضاء هذه النزعة. وقد طلب من أمه أن تقرضه خمسة دولارات فأبت عليه ذلك حتى لا تشجع فيه هذه النزعة التي تحسبها نوعاً من التشرد والصعلكة؛ فاضطر إلى أن يتذرع بالصبر حتى يجمع المبلغ المطلوب بارة فبارة، حتى اذا ظن أنه أصبح غنياً يستطيع مواجهة العالم الفسيح فر في ليلة من الليالي يريد (أن يحيا حياته) على حد تعبيره، فكسبه الترحال والتجوال ثروة في اختباراته، ووفرة في انطباعاته، أفادته كثيراً فيما بعد حين تكتشف مواهبه النادرة عن الكاتب النابه (مارك توين)
- 2 -
على أن من النادر أن تأتي الشهرة والنباهة دفعة واحدة، فقد كان أول الطريق على صمويل وعراً، طوّف في البلاد ما طوّف حتى بلغ نيويورك، فأتقن فن الطباعة، ثم ارتد إلى هانيبال، وكان عمره إذ ذاك ثمانية عشر عاماً؛ وكان أخوه في غضون ذلك قد تزوج وأصبح مديراً لإحدى المطابع، فصار صمويل عاملا من عمالها، ولكنه كان قد تذوق الحرية وقرأ كثيراً من كتب الرحلات، فما كان يحلم إلا بانتجاع أمريكا الجنوبية على ضفاف الأمازون؛ وكان للمصادفة مرة أخرى يد بيضاء في توجيه الشاب الحالم. فقد عثر ذات يوم في الطريق على ورقة مالية من ذات الخمسين دولارا، ولما لم يجد لها طالباً في الصحف احتفظ بها وعاد من جديد يضرب في الأرض. سار على ضفاف المسيسبي منحدرا مع مجراه حتى بلغ بعد خمسة عشر يوما (أوليان الجديدة)، وهنالك أدركته خيبة(128/41)
الأمل؛ فقد علم أن ليس في البواخر ما يسافر إلى الجنوب، وإذن لا يستطيع أن يبحر كما فكر وقدر. صفرت يده من المال، وهدده الشرط أن يعاملوه معاملة المتشرد، وأخذت حاله تسوء من يوم ليوم. . . ولكن إله المصادفة كان يرعاه، ففي الوقت الذي بلغت فيه حاله من الحرج وحياته من الضيق مبلغا شديدا، ألفى في طريقه بحاراً يدعى (بكسبي) تقدم إليهصمويل ليكون تلميذاً بحرياً في سفينته دون أن يفكر في المصاعب التي يلقاها الملاح في نهر كالمسيسبي طوله اثنا عشر ألف ميل، وبه من التعاريج ما يجب على راكبه أن يعرفها على التفصيل والجملة. ولكن وساطة بعض الأصدقاء ذللت له العقبات وسهلت عليه القبول. قضى المغامر الشاب عهد التعلم الشاق في ثبات وصبر وشجاعة، حتى غدا قائدا ماهرا للسفينة. . . أصبحت حجرة الدفة مأواه، والنهر المتنوع الحي مدرسته، فكانت هذه الحياة العاملة التي قضاها في النهر بعد تلك المقالات التي نشرها في جريدة أخيه مدرسة ناجحة لهذا الصحافي المنتظر؛ ومن مِلاحته في الماء العذب أخذ صمويل اسمه المستعار (مارك توين)، فقد كان في بعض مواضع النهر كثبان من الرمل، فإذا ما اقتربت السفينة منها سبر العامل المختص غور الماء، وقال وهو يلاحظ المسار: ارقم ثلاثة أرقم اثنين وهلم جرا. . . فأعجبت صمويل كلمة مارك توين فاتخذها اسما له. راغ صمويل من حرب الانفصال طول شبوبها، ثم سافر بعد ذلك مع رفيق له يبحثان عن الذهب، ولكن ما معه من المال نفذ سريعاً، فاضطر إلى العمل أجيرا في منجم من مناجم الذهب بعشرة دولارات أسبوعيا، وهي أجرة ساخرة إذا قيست بالعمل المرهق المنهك الذي كان يؤديه هذا المسكين. وذلك كان رأيه، فانه حين ظفر يوماً بمقابلة المدير طلب منه زيادة الأجر فقال له المدير: إنك لا تساوي شيئاً؛ ومع ذلك فأنا أحب أن أعرف ادعاءك. فقال له صمويل بأدب: إني رجل معقول، لذلك أقنع بأربعمائة ألف دولار في الشهر! فما كان جواب المدير إلا أن طرده لتّوه. ولما لقيه بعد ذلك مصادفة سأله ألم تندم على شيء؟ فقال له: بلى (بعد أن علمت ما هو العمل في المنجم كان ينبغي أن أطلب سبعمائة ألف دولار أجرة في الشهر لا أربعمائة ألف كما طلبت)
بعد هذه التجربة القاسية عزم صمويل أن يبحث عن الذهب على حسابه، فاشترك مع رفيق له، وحصل على امتياز ومضى في العمل. ولكنه تعلم على حسابه أن الثروة لا تواتي(128/42)
الجسورين دائماً. فقد أهمل هو ورفيقه أن يسورا الأرض التي يملكان فيها الامتياز، فنازعهما على ملكها بعض الناس، وأعوزهما الدليل فآلت إلى هؤلاء المنازعين، وبحثوا فيها فعثروا على عروق خصيبة من الذهب. وكانت الصدمة قوية على الشابين. ولكن المصادفة أدركت صمويل في ساعة المحنة. إذ طلب إليهأن يكون وكيلا للإدارة في جريد (انتربريز)، وهذا المنصب في نظر صمويل كان عرقاً ذهبياً من نوع آخر، إذ أدخله على غير انتظار في حلبة الأدب. وكان دخوله في تحرير هذه الجريدة فرصة حسنة تمكنه من ناحية الإنشاء والقصص، فصقل بالتحرير أسلوبه، وهذب بالمران حكاياته، ولكن طبعه الهجَّاء وروحه المداعب الفكه لم يخمدا فيه؛ وأوشك في البداية أن يقع منهما في ورطة شديدة، وذلك أنه نشر في بعض الأيام بيانا عن حادثة قتل وقعت في محطة (دوتش نيكس) أطلق فيه لخياله العنان، فذكر أن القاتل بعد أن طعن زوجته وأطفاله التسعة بالخنجر وضرب نفسه فقطع عنقه من الأذن إلى الأذن، امتطى جوادا عدا به حتى بلغ (كنساس ستي) ثم خر صريعاً هناك. نقلت ذلك الخبر جرائد كليفورنيا كلها ثم حملت في تعليقاتها على وحشية القاتل وفظاعة جرمه، ولكن جرائد بعض الولايات القريبة روت ذلك الحادث الغريب وقالت انه حديث خرافة. فكان ذلك فضيحة طريفة للكاتب أوشكت أن تخرجه من عمله
ثم انتقل إلى (سان فرنسيسكو) واستمر يكتب في الصحف كتابة رفعت شأنه وأذاعت اسمه في ولاية (كليفورنيا)، ولكنه بعد أن نشر كتابه (قصة الضفدعة التي تثب) أصبح نابه الذكر بعيد الصيت في أمريكا أولا، ثم في سائر البلاد بعد ذلك؛ واحتل من الأدب العالمي مكانا ممتازاً لا يتبوؤه إلا القليل. كذلك في هذه المدة نال مارك توين شهرته الذائعة في فن المحاضرة، وأضاف إلى علمه العميق بفن القراءة وقدرته العجيبة على زخرف الحديث، موهبته الساحرة لجذب قلوب السامعين باللهو والضحك. ولما عزم أن يحاضر الجمهور لأول مرة كتب في الإعلان الذي ألصقه على الجدران: (فتح الأبواب في الساعة السابعة والنصف، وابتداء الضجة الفاضحة في الساعة الثامنة تماما. ولما زار إنجلترا ليلقي فيها بعض المحضرات أحس في أول اختلاطه بالجمهور اللندني بعض الفتور وشيئا من عدم الثقة، فعلم أن ليس من اليسير التغلب على الطبع الإنجليزي المتزمت المحتشم، فطفق(128/43)
يتحدث عن أخبار رحلاته وعن انفعالات نفسه أمام جبل (يبرد الهواء على قمته بردا يجمد له مخ الإنسان في التو، وأثر ذلك في كل من يصعدونه أن يصبحوا عاجزين عن قول الحقيقة) ثم سكت قليلا وقال في لهجة نادمة ساذجة: (إني أعرف شيئا عنه لأني صعدت فوقه!) فانفجرت قاعة المحاضرة بالضحك الغرب، واعتقد ساعتئذ أنه ربح الصفقة واكتسب السامعين
وكان يلقي ذات مرة محاضرة في (بوستن) فقاطعه أحد السامعين وسأله رأيه في الجنة والنار، فأجابه (لا أريد أن أبدي رأيي فيما تسأل، لأني لي أصدقاء كراما في هذه وفي تلك!)
كان مارك توين ذكي القلب متوقد الذهن، ولكنه لم يكن على شيء من حسن السمت وجمال الشارة، فقد كان هندامه مهملاً ولقاؤه فجاً ومعاملته خشنة؛ على أن السنين صقلت هذا الفلاح فاكتسب سمت النبلاء بفضل امرأته (أوليفيا كليمنس) التي بنى عليها في سنة 1870. وكانت هذه السيدة أنيقة مثقفة ذكية، فأثرت تأثيرها الجميل في زوجها، ودامت حياتهما الزوجية خمسا وثلاثين سنة لا يكدر صفاءها حادث، ولا ينغص هناءها خلاف. وقد جاهدت هذه الزوجة الكريمة في إصلاح زوجها، فلمت شعثه وحالت بينه وبين بعض الأمور التي لا تلائم مكانته. كانت ترعاه رعاية الأم لطفلها، فلا تدعه يخرج إلى مكان ما قبل أن تفحص هندامه فحصاً دقيقاً مخافة أن يكون في شكله وزيه ما يخالف العادة
وكانت تنبه إلى كل شيء حتى إلى خلع معطفه في المدخل قبل أن يدخل البهو. فإذا غابت ذات يوم كانت الطامة، فقد اتفق مرة وهما في واشنجطون أن خرجت السيدة كليمنس لبعض شأنها، وكان على مارك توين زيارة لابد أن يؤديها إلى سيدة من سيدات الطبقة العليا. فارتدى ثيابه بنفسه وخرج دون أن يخضع هذه المرة لتفتيش زوجه. أدى الزيارة وعاد إلى مكتبه في زيه الفاخر وطفق يعمل. وكانت زوجته قد عادت في هذهالاثناء فدخلت عليه تلاطفه وتسأله عن الزيارة. ولكنها لم تكد تلقي على السيد نظرة حتى رفعت يدها إلى السماء وصاحت قائلة: يا الله! أفي هذه الهيئة زرت السيدة فلانة؟ فأجابها: وهو قلق يعيد النظر في نفسه خلسة: ماذا؟ ألست في زي أنيق وشارة حسنة؟ فقالت: ولكن أين رباط رقبتك؟ لقد نسيت رباط رقبتك! يا للفضيحة الفظيعة يا عزيزي!! فأجابها بلهجة(128/44)
مصالحة: (أهذا كل ما هنالك؟ لا تضايقي نفسك فسأسوي الأمر) وما كان أشد دهشة الزوجة حين علمت في اليوم التالي كيف سوى زوجها الأمر! علمت أنه أرسل رباط رقبته مع الخادم إلى السيدة التي زارها مصحوباً ببطاقة كتب عليها: (هذه تكملة زيارتي)
على أن الدهر لم يسالم الكاتب النابغ طويلا، فقد فجعه الموت في ثلاث من بناته قضين صغيرات، وجل الخطب وفدح الرزء بفقد زوجته المحبوبة؛ ولكنه عاد فتصرف على هواه، وقرر بعد موت زوجته ألا يرتدي غير الثياب البيض وقد حرص على اتخاذ هذا اللون بقية عمره
كان مارك توين رقيق القلب شديد العطف على الناس يقابل ضعفهم بالتسامح، وبؤسهم بالرحمة، وجرمهم بالعفو؛ وذلك في شيء من الفكاهة الحلوة والدعابة الخبيثة. دخل اللصوص ذات ليلة في منزله في (إستار مفليد) وسرقوا كل ما وجدوه من الأواني الفضية؛ وكانت هذه السرقة شغل البيت وحديث أهله بالطبع، فأخطروا الشرطة وأذاعوا الخبر وتقاسموا الهم، إلا مارك توين، فقد كان في هذه الضجة هادئاً لا يعبأ بشيء ولا يقوم بحركة؛ فلما هم بالانصراف ليلاً إلى مخدعه علق في مكان ظاهر من مدخل الدار ورقة كبيرة كتب فيها هذه الكلمات
(اعلان للصوص في المستقبل)
ليس في المنزل بعد الآن أوان فضية بل مفضضة، وهي في ركن من أركان قاعة المائدة بجانب السلة التي تنام فيها القطط الصغيرة؛ وإذا احتجتم إلى هذه السلة فلا تنسوا أن تضعوا القطط في درج البوفيه الأسفل. أرجو ألا تحدثوا ضوضاء، وأن تغلقوا الباب وراءكم، وتقبلوا خالص احتراماتي.
(س. كليمانس)
ومن السهل أن نتصور ما قابلت به الأسرة هذا الاعلان من الدهش العظيم والضحك الشديد. وهكذا عاش ممثل الذكاء الأمريكي حتى توافاه الله في 21 ابريل سنة 1910 وهو في أوج مجده(128/45)
حول السنين والشيعة
إلى الأستاذ أحمد أمين
للأستاذ السيد محمد صادق الصدر
يسرني ويسرني جداً أن أقرأك أيها الأستاذ الأمين على صفحات (الرسالة) - صحيفة الأدب الخالدة - حاملاً لواء الوحدة، داعياً إلى الاتحاد والألفة. وإن في لحنك الجديد العالي - يا أستاذ - لذة ومتاعا، وإن فيه كل ما تصبو إليهالنفوس الحساسة الشاعرة، وإن تفسيرك للفظة الشيعية التي وردت في كتابيك الجليلين وسفريك الثمينين: فجر الإسلام وضحاه، وتصريحك بأنك لم تقصد من لفظ الشيعة الأمامية الاثني عشرية منهم، وإنما قصدت المغالي الممعن في غلوه، كل ذلك منك عاطفة مشكورة هذه لدليل أقوى دليل، وبرهان أسطع برهان، على أدب نفسك وطهارة ذاتك، وعظيم أخلاقك وخلالك. وكن على يقين معي بأن تصريحك هذا قد رفع سوء التفاهم وأزال من نفوس إخوانك الشيعة البررة كل ملامة وعتب؛ وإذا قرأت أو سمعت عن مفكريهم شيئاً لا يرضيك، فإنما كان ذلك غيرة على طائفتهم ودفاعاً عن آرائهم ومعتقداتهم، وهذا طبيعي لكل أمة تحتفظ بكرامتها، وتحرص على سمعتها؛ واسمح لي بأن أقول إنهم لم يخطئوا إذ فهموا من لفظ الشيعة أنك عنيتهم ما دام لفظ الشيعة مطلقاً غير مقيد؛ وليس في كتابيك (فجر الإسلام وضحاه) عبارة واحدة على تقييد الشيعة بالغالية لتخرج الاثني عشرية عن لفظ الشيعة المطلق الذي يشمل فرق الشيعة المتعددة؛ ومن المقرر في أصول الفقه أن المطلق إذا لم تقم قرينة تدل على تقييده يحمل على إطلاقه. وقد تكون ثمة قرائن - لا قرينة واحدة - قامت لدى الشيعة على الإطلاق وحملتهم على ما فهموه، فان ذكرك للفظ الشيعة مطلقاً أيضاً في كتابك (ضحى الإسلام) - بعد أن زرت العراق وطفت بمدن الشيعة، واجتمعت برجالاتها، وعرفت الشيء الكثير من عقائدها وآرائها - سوغ لهم هذا الفهم وحملهم على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد؛ ولست أريد بكلامي هذا أن أثبت أنك تقصد ما فهموه، وإنما أريد أن أقول إنهم لم يخطئوا في فهمهم ما دام إطلاق اللفظ كان يحتم عليهم فهم ذلك. وعلى كل حال سترى من الشيعة إخواناً شاكرين أفكارك وآراءك الأخيرة
وأود أن ألفت نظرك إلى نقطة مهمة وردت في مقالك القيم، فقد قلت: (وليست الأمامية(128/46)
التي يدين بها أهل العراق وفارس إلا فرقة واحدة من فرق عديدة بعضها باق إلى اليوم، وبعضها عفى عليه التاريخ). إن الطائفة الاثني عشرية هي الطائفة الوحيدة اليوم من طوائف الشيعة وهي مبثوثة في العراق وفارس والهند وأفغان وسورية والبحرين والحسا والقطيف وفي غيرها من الأقطار الإسلامية، وكل ما يبرز للعالم من آثار علمية ومنتوجات أدبية هو مما دبجته أقلام علماء هذه الفرقة وكتابها وشعرائها، ولم يبق من طوائف الشيعة المتعددة غير هذه، اللهم إلا بعض طوائف ضئيلة لا تذكر. لذلك أصبح لفظ الشيعة اليوم خاصاً بهذه الطائفة يتبادر إلى الذهن لدي إطلاقه؛ وقد بادت - والله الحمد - أكثر هاتيك الطوائف الضالة التي شوهت سمعة الشيعة. وأملي وطيد ألا تعرض في الجزء الثالث من فجر الإسلام إلى غير هذه الطائفة لأنها هي الطائفة الوحيدة من بين طوائف الشيعة المتعددة، التي يطلق عليها لفظ الشيعة بكل ما لهذه اللفظة من معنى؛ فهي التي شايعت علياً عليه السلام وتابعته في أفعاله وأقواله، وليست طوائف الشيعة الضالة من التشيع في شيء ما دامت أفعالهم وأقوالهم لا تتفق وأقوال أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم. ومن الخطأ جداً أن نجعل المقياس والجامع للتشيع حب علي (ع)، لأنا إذا أردنا أن نجعل المقياس هذا العنوان وجب أن نطلق على السنيين لفظة الشيعة أيضاً، لأنهم يحبون الأمام ويقدسون شخصيته، فالمقياس للتشيع إذن هو المشايعة والمتابعة، وهو الذي يقتضيه لفظ الشيعة؛ أما الطوائف التي لا نجدها مطابقة لهذا اللفظ فليست من الشيعة في شيء وإن ألصقت نفسها إلصاقا واتخذت لها هذا الاسم وساماً
أما ما رجحت من عقد مؤتمر في بغداد يجمع بين علماء الطائفتين، ويؤلف بين الفرقتين فهذه فكرة ناضجة، وأصبحت اليوم محتمة. وجدير بكل مسلم أن يبث هذه الدعوة، ويسعى لتحقيق هذه الفكرة فقد آن أن نتفق ونتحد، وآن لنا أن نوحد الصفوف ونجمع الكلمة، وآن لنا أن ننبذ النعرات الطائفية التي كانت السبب الوحيد في شق عصا المسلمين وبث روح الخصام في نفوس الأمة المسلمة التي كان يسودها الاتفاق، ويعلو سماءها الحب والوئام. وحري بنا - ونحن في هذا العصر الذي كثر فيه أعداء الإسلام ومناوئوه - أن نتناسى الماضي ونسدل حجاباً كثيفاً على كل ما من شأنه أن يكدر الجو ويثير العداوة والبغضاء. وإذا فرقتنا المذاهب بالأمس فستجمعنا المصائب اليوم. وإني أتذكر كلمة خالدة في هذا(128/47)
الموضوع لعلامة جبل عامل الأكبر الأمام السيد عبد الحسين شرف الدين نوهت عنها مجلة المنار الإسلامية، فقد قال عن الطائفتين: (فرقتهما السياسة، وستجمعهما السياسة)؛ فالسياسة التي فرقت بينهما طيلة الأعصر الماضية هي هي التي ستجمع بينهم في هذا العصر وتوحد صفوفهم في الأعصر الآتية؛ وإن الواجب ليحتم على كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية أن يبث روح الاتفاق الحية، ويسعى جهده في كل ما يرجع إلى صالح الأمة، (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ولكن مما لا شك فيه أن المسؤولية العظمى تلقي على عاتق العلماء والمفكرين من الأمة، فانهم هم القادة، وهم الذين يقدرون الواجب، وهم الذين يحسون بمسيس الحاجة إلى بث روح الاتفاق والألفة، وهم قادرون - بما أوتوا من علم وحكمة وقوة بيان - أن يخضعوا العامة لآرائهم ونظرياتهم؛ وإذا قام العلماء ببث هذه الروح، وقاموا بإيجاد مؤتمر إسلامي عام، فإنما يقومون بواجب تفرضه عليهم حالة الأمة الإسلامية الحاضرة، وتحتمه آي القرآن الكريم ونصوص السنة المقدسة؛ فالقرآن الكريم يحض على الاتفاق، ويحث على الألفة فيقول: (إنما المؤمنون اخوة)، ويقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، ويقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) ويقول (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) إلى غير ما هنالك من الآيات الكريمة التي تحتم على المسلمين أن يتفقوا، وتحذرهم أن يتفرقوا فتذهب ريحهم، ويخسروا عزهم ومجدهم. ونحن لو رجعنا إلى السنة النبوية المقدسة لوجدناها تضرب على هذا الوتر وتلحن أحاديثها الشريفة على هذا التلحين، وتواجه المسلمين بنحو هذا الأسلوب فتقول: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم يد على ما سواهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل) والأحاديث في ذلك كثيرة. وكان صلى الله عليه واله وسلم يبث هذه الروح المباركة ويحض عليها بمختلف التعبير، وكان لإرشاداته (ص) وتعاليمه القيمة دوي عظيم في أنحاء الجزيرة العربية، وأثر في نفوس المسلمين الأثر الذي جعل فيهم روحا وثابة حية كانت هي السبب الوحيد في رقيهم الباهر، وتقدمهم العظيم. فالأمة الإسلامية ما اجتازت تلك المراحل، وما وصلت إلى ما وصلت إليه من المجد والعظمة إلا بالتمسك بالاتفاق والاعتصام بحبله المتين؛ بفضل الاتفاق أصبحت الأمة الإسلامية أمة(128/48)
حية، وبفضل الاتفاق تربعت على دست الحكم وقبضت بيدها الحديدية على أنحاء المعمور. وإذا أردنا أن نسترجع مجدنا القديم ونسترد عزنا السالف لتحتم علينا أن نتقدم للعمل حاملين هذه الروح الوثابة المباركة. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
بغداد - الديوان
محمد صادق الصدر(128/49)
وا أُمَّاهُ!!
للأستاذ الحاج محمد الهراوي
تكَشفْتُ للأَحداثِ بعدكِ يا أُمَّي ... فيا طولَ ما أقَي من الحزنِ والهمَّ
ليَ الله يا أُمَّاهُ ما أَنا بالّذي ... تعَوَّد أَنْ يَقْوَى على الحادثِ الجَهْم
تلمَّسْتُ حَزْمِي في المصاَب فعزَّني ... لقد غاب عنَّي في الثرى مَصْدر الحزم
فقَدْتُ الّتي كانتْ إذا شطَّ بي النَّوَى ... تُساَئِلُ عنَّي في الدُّجى سَارِيَ النَّجم
وإن تَرْمِنِي الأقدارُ منها بحادِثٍ ... تَلَقَّفُه عنَّي على الرُّوح والجِسْم
وإن تَرِبَتْ كفِّى تجودُ برُحها ... مخافةَ ما لَمْ أحتمِله من العُدْم
وإن مسني سُقْمٌ ثوَتْ عند مَرْقدي ... لِزاماً فلم تَبْرَحْهُ إلاّ معَ السُّقْم
عَلى أَنَّها والسُّقْمُ يَرْى عِظَامَها ... تُحاوِلُ أن تُخْفيهِ عَنَّيَ بالكتْم
ولو أنها استطاعت لأَخْفتْ حِمامَهاَ ... وقد حُمَّ، إشفاقاً عليَّ من الضّيْم
فيا رَحْمَتاَ للفاَقِدِي أُمَّهاتِهِمْ ... من الناسِ مِثلي أو من الطيْر والبُهْم
فإِن الحنَانَ الحقَّ في الأمَّ وحدهاَ ... وغيرُ حناَنِ الأُمَّ ضَرْبٌ من الوهْم
هِيَ الأُمُّ شِرٌّ لستَ تَعرِفُ كُنهَه ... وإن خِلْتهاَ في صورةِ الدَّمَّ واللَّحم
يقولون فانظُرْ رسمهاَ بعد موتِها ... فقُلتُ لهم في الرَّمْسِ أُمِّيَ لا الرَّسم
فإِن فاتَني ذاك الحنَانُ التَمَستهُ ... على حسْرَةٍ من ذلك القَبر باللَّثْيم
دَفَنْتُ به من لا يني إن دَعَوْتُه ... إلى معشَرٍ صُمّ إذا ما دُعُوا بكْم
فإن قلتُ يا أُمَّاهُ أَغْنَاني اُسْمُهاَ ... عن الأَبِ والأبناء والخالِ والعَمِّ
عصامِّية كانت على حينَ أنَّهَا ... لها نسبٌ فوق النّقيصةِ والذَّمِّ
وأُمِّيَّة كانت ولكنَّ رَأْيهاَ ... لدي مُعْضِلاَتِ الأمرِ فوقَ ذوي العِلْم
فقَدْتُ أبي طْفلاً فلم أَدْرِ ما اُلأَسَى ... وأُفقِدْتُهاَ كهلاً فَهدَّ الأسى عَزْمي
سَلونِي أُحَدِّثْكُمْ عن اُلْيتمِ بَعْدها ... فإنَّ الْيتيمَ الكَهْلَ أَعْرَفُ باليُتْم
فيا ليتَ أَيامَ الحياةِ وقَفْنَ بي ... لدى مَوضعِي منها من اللثْمِ والضّيمِ
ويا لْيت لمَ يَقطَعْ بنا الدهرُ شَوطَهُ ... فإِن خُطَاهُ للِقطيعةِ والصَّرْ
سَرَي لِيَ يا أُمَّاهُ طَيفُك في الكَرَى ... فغَابَ خَيَال الأُمِّ عن زَوْرةِ الأُ(128/50)
وأنَّى لِيَ السَّلْوى وقد حالَ دُونَها ... مِثاَلكِ في عيني وطَيفكِ في حُلمِ
سأَخْضَعُ يا أُمِّي لقلبي ومَدْمَعِي ... على رَغمِ ما أسْديتِ من نُصْحِكِ اُلجَميل
وأبكيكِ بالقلبِ الذي تَعْرِفينَهُ ... وللدَّمْع شأنٌ غير ذلك في الحُكم(128/51)
ليلة حوراء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
رق الظلام بليلة ... حوراء كالطرف الكحيلْ
سحر العيون كسحرها ... بين الشواهد والشكول
هي فتنة الحدق الملا - ح ونعسة الطرف العليل
رق الظلام كأنه ... مُتَفيَّأُ الظل الظليل
في روضة فينانة ... هجر الهجيرُ بها المقيل
وصفا الدجا فكأنما ... مزج النهار به الأصيل
فتمازجا كتمازج ال ... ماء المُصَفّى والشَّمُول
في جنحها وصفائها ... قُرِنَ الجليل إلى الجميل
وتصالحا من بعد ما اف ... ترق السبيل عن السبيل
تحنو علينا مثلما ... يحنو الخليل على الخليل
وتخالها حُلُماً بسع ... د جل عن قيد العقول
ولرب ليلٍ فاحم ... فيكاد يُقْطَعُ أو يسيل
لا مثل لَيْلَتيَ التي تندي على الوجد الدخيل
في سحرها وصفائها ... ونجومها برء الغليل
عم السكون كأنه مَلَكٌ على الدنيا نزيل
فكأنها رسم بدا ... وكأنها حُلُمٌ مخيل
في مثلها من هدأة ... سكن القضاء فلا يصول
وكهدأة في معَبد ... للخاشعين به مثول
وكأنما أغفى الهو ... ء كغضة الطرف الكليل
والبدر طيف في المنا ... م يطيف كالحِبَّ الوَصول
في مثلها من ليلةٍ ... عبد الداني أهل الحلول
ورأوا تَجَلِّي الله في ... كونٍ عراه له ذهول
والزهر كالمسحور وس ... نان المحاسن في ذبول(128/52)
والنهر غافٍ راكد ... نَسِيَ الترقرق والميل
وسنان يحلم بالريا ... ض وظلها فيه الظليل
في مثلها من ليلةٍ ... يقف الزمان فلا يحول
يصغي إلى نجوى القلو ... ب وذكرها العهد المحيل
كوقوف نجم سمائها ... يثنيه من سحر ذهول
كذهول مسحور بما ... تجلو من الحُلُمِ الجميل
يا ليل بل يا سحر بل ... يا حُلْمُ ليتك لا تزول
عبد الرحمن شكري(128/53)
الحياة
للأستاذ فخري أبو السعود
ليت شعري لأي أمرٍ مُراد ... قد سرتْ منكِ نفحةٌ في الجماد؟
فاستقلت أجزاؤه من همود ... وصحا بعد طول ذاك الرقاد
دائبَ السعي لا يمل حراكاً ... مستمراً ولا طويل جلاد
ساعياً دون غاية يجتليها ... سعي ذي غاية جَلَّيِ المراد
صابراً للصروف كيف توالت ... مستجما للنازلات الشداد
فيك بؤس له وفيك نعيم ... وهو في الحالتين لهفان صاد
يبلُغ الجوعُ منه والخوف والحز ... ن وعادتٍ من نازل الداء عاد
باسماً للرجاء يشرق بعد ال ... كد منه وبعد وَعْزِ الجهاد
آملاً كيفما تمادى شقاءٌ ... أن يدورَ الزمان بالإسعاد
وهو مهما أصاب خيراً مُريغٌ ... غيره منك طامعٌ في ازدياد
وهو مهما طال البقاء به را ... ج بقاءٌ وراغبٌ في التمادي
وحريصٌ على هواكِ وأنْ لم ... تتْق غير الجفاء والإبعاد
فرط حبٍ قد استوى أفتَكُ الفُتّ - اكِ فيه وأزهدُ الزُّهَّاد
ليس يدري سواكِ أصلاً وفصلاً ... ليس يَسْبيه غيرَ وَاديكِ واد
يكره الموتَ جُهْدَهُ وهو رَوْحٌ ... وقرارٌ له على الآباد
وإذا حَنَّ للخلودِ تَقِيٌّ ... يبغي بالصلاح دارَ الرشاد
فهو يبغي في الخْلدِ ما فيكِ من نُع ... مى ومن فتنةٍ ومن إرغاد
وهو يبغي جميع ذلك صفواً ... من صفوف القذى وَريْب العوادي
وهو يبغي جميع ذاك مُقيماً ... مستمراً له لغير نفاذ
جَنّةُ الُخلدِ صورةٌ منكِ تَغْذُو ... منه شتّى المُنى وحاج الفؤاد
فخري أبو السعود(128/54)
فراق
للأستاذ رفيق فاخوري
يا خدينَ الصِّبا رعى الله عهداً ... لم يلد مثله الزمان المقلُّ
لا أرى لي عمراً سواه فأولا ... ظله لم يكن لمحيايَ ظل
هو فصلٌ من النعيم نهبنا ... هُ قصيراً، ولذةٌ لا تُمل
لُممعٌ من سعادةٍ ورخاء ... أَعقبتْ حسرةً تَمُرُّ وتحلو
زعموا البعدَ منتهى كلِّ أُنسٍ ... وفراقَ الأحبابِ خطباً يَجِلُّ
قلتُ: إنْ أزمعَ الخليطُ احتمالاً ... ففؤادي بالوجد لا يستقل
نحن كلٌ بَحدة الروح يحيا ... وجميعٌ على العُداة مُطِل
فإذا ناله التفرقُ يوماً ... لم يكنْ فيه للحياة مَحلُّ
يا مَعين السلوان ليت لقلبي ... ما يُميت الحنينَ فيه فيسلو
آتهِ جرعةً تغول حجاه ... عَلّة من بواعث الهم يخلو
كاد من لوعةٍ وفرط اشتياقٍ ... عن حماهُ بين الأضالع يجلو
ضاقَ عن حُبّبه فتىً ذا مراسٍ ... واشتكى من عذابه وهو طفل
حمص
رفيق فاخوري(128/55)
القصص
صور من هوميروس
17 - حروب طَرْوادة
طوفان للأستاذ دريني خشبة
تفَزّغ الطرواديون مما أخذهم به أخيل؛ وزادهم خبالا هذا الظلام الذي راحوا يضربون فيه على غير هدى، والذي تمد حيرا في دياجيره فيتدجى فوق الساحة الصاخبة، ويمكن لابن بليوس من أعدائه فيضرب في أقفيتهم، ويهوي على أعناقهم، ويمسح بِسُوقهم ويضرب كل بنان
وضاق الجسر بجموع الفارين، فاضطروا إلى خوض عباب النهر الزاخر، وخَوَّضوا فيه بخيلهم ورجلهم. . وتطامن لهم سكمندر فسكنت أواذيه، ونامت جراجره، وانكشف قاعه عن حصباء كالدر النضيد. . . .
وتبعتهم أخيل فخاض مياه النهر، ثم أعمل سيفه ورمحه، فكانت شآبيب الماء تختلط وشآبيب الدماء، وأنين القتلى يمتزج وأصداء المنهزمين، والجماجم المنتثرة تصطدم بالأشلاء الطافية هنا وهناك، والسماء الكاسفة ترسل عقبانها تغتذي بالجزر المتساقط في رحب المعركة، من بطون مبقورة، وهام مُفَلّةٍ، ولحم مقروم. . . . . . . . .
واستطاع أخيل أن يحصر اثني عشر شاباً فيأخذ عليهم سبيل الفرار، وفضل أن يرسلهم إلى سفائنه أسرى حتى لا يثخن في الأرض، وحتى يشهدوا ثمة ذلك القتيل المسجي، تسقيه ذيتيس الحزينة خمرا؛ فكبل أرجلهم وأيديهم من خلاف، ووكل بهم جماعة من رجاله فقادوهم إلى الأسطول، بعد ما وقفوا هنيهةً أمام جثة بتروكلوس، يؤدون لها تحية المعركة التي دارت رحاها عليهم، واصطلوا من بعده بنارها
وطفق أخيل يأخذ الجموع من كل حدب، ويلقاهم في كل صوب، حتى كان وجهاً لوجه أمام ليكاون بن بريام، الذي كانت له معه قصة قديمة مشجية، زمان إذ أسره أخيل واستاق قطعانه، وحبسه في جزيرة لمنوس، حتى افتداه أهله من الحرس الموكل به، ورشوهم بمائة ثور جسد ذي خوار ليطلقوا سراحه!(128/56)
مسكين ليكاون بن بريام! لقد فر من جزيرة لمنوس منذ اثني عشر يوماً فقط، وسعى إلى هذه الساحة النكراء ليلقى فوق أديمها حتفه، كما لقيه أخوه بوليدور من قبل
ودهش أخيل إذ رأى ابن بريام يذرع الميدان أمامه، وعجب من أفلته من منفاه السحيق في عرض البحر. . . ثم أيقن أن في الأمر مكيدة. . فانقض على الفتى المسكين انقضاض الباشق، وأرسل إليهطعنة نجلاء كادت تخترم أجله، لولا هذه اللفتة الرشيقة التي أنفتلها الشاب فأنقذت حياته. . . ولو إلى حين!
وفتح الفتى عينيه فنظر إلى شبح الموت تنتشر سماديره من ظباة أخيل، وأحس كأن هذا الشبح يلاحقه في كل مكان فيقبض على عنقه ويضغطه، ثم ينشب فيه أظافره فيسري السم في هيكله الخاوي فلا يكاد يبين!
وحاول أن ينجو من روع هذا الموقف. . ولكنه كان أبطأ من حتفه الذي يسابقه، فلما أيقن أن لا سبيل إلى الفرار، ألقى سلاحه وتقدم إلى أخيل فقبل ثرى الساحة عند قدميه، ثم لف ذراعيه المرتجفتين حول ساقْي زعيم الميرميدون، وطفق يضرع إليهألا يقتله. . (فان لي أماً محزونة ما تفتأ ترسل دموعها على أخي بوليدور الذي قتلته منذ لحظة، والذي أذويت شبابه النضر ولم تبق على عوده الفينان، ولم ترحم فيه قلوباً تعطف عليه، وأباً شيخاً أصبته في ولده بقاصمة الظهر. . .
أرسلني يا أخيل تباركك الآلهة، وترعاك أرباب الأولمب، ولا تفجع فيّ ذيْنك القلبين الحنيين على، الحفيين بي. . .)
وكان الفتى يغسل توسلاته بعبرات شبابه، ويصهرها بآهات صباه. . . ولكن أخيل الذي يضطرم حزناً على بيروكلوس، لمتأخذه رحمة في ابن بريام المسكين، وأخي هكتور الذميم. . .! بل استل جزاره البتار وأهوى به على عنق الفتى. . . فطاح الرأس الطروادي الكريم!
وكان البطل الطروادي العظيم، سترابيوس بن بلجون، رب البركات، الذي يدين له بحياته أكسيوس رب النهر الشرقي الكبير. . . كان سترابيوس على مقربة من أخيل وهو يصرع ليكاون بن بريام، فجزع - شهدت الآلهة - على ابن الملك، وأحزنه ألا يرق أخيل لتوسلاته؛ ووقر في نفسه أن يقتص له من هذا الشيطان، ويخلص الطرواديين منه، فيطير(128/57)
ذكره في الخافقين ويقترن اسمه بما لم يقترن به اسم أحد في العالمين. فيمم شطر أخيل والكبرياء تنفح أوداجه، والغرور يشيع في أعطافه، ثم هز رمحه هزة المتحدي الخصيم. . .
وزجره أخيل فلم يزدجر، فانقض عليه انقضاض الحتف، وأخذه أخذ المنية، لا تجدي فيها إذا أنشبت أظافرها النمائم، ولا تدفعها الرُّقي، ولا تُفلت من أقصدته ولو كان في برج مشيد!
وأرسل أخيل رمحه كالصاعقة، لو لقي الصخر لقده، أو الجبل لنفذ فيه، ولكن سترابيوس كان أرشق من أن يلقي الطعنة فانزلق انزلاقه خفيفةً أذهبت الرمح في الهواء، ثم هوى إلى الأرض فغاص فيها؛ ومن ثمة راح يداعب أخيل حتى أحنقه وحتى بلغ الغيظ منه، فامتشق بن بليوس سيفه وصرخ صرخة رجفت لها السماء، وانصدع من هولها جانب الجبل، وهجم على سترابيوس هجمة رابيةً فلم يفلته، بل أرسل السيف في بطنه فخرج سنانه من ظهره، وبرزت الأمعاء فاجتمعت حولها أسماك الماء، تنوشها وتتغذى بها.
وريع سكمندر، رب النهر العظيم، إذ نظر فرأى ابن ضيفه المقدام، يلفظ أنفاسه، ويُساقط نفَسه، فدارت الأرض به، وضاقت عليه بما رحبت، وتجهم من تَوّه لأخيل، وود لو انشق فابتلع ابن بليوس آخر الدهر، أو لو يأخذ هو سيفاً فيقد به أضلاعه، ويطيح به رأسه، ويريح العالم من بأسه. لكنه آثر، كأله له وقاره، أن ينذر أخيل ويأخذه بالحيلة، فخاطبه من القرار، قال: (أخيل! يا ابن بليوس العظيم! أنا لا يهمني أن تصطلم الطرواديين جميعاً، ما دام زيوس قد سلّطك عليهم ورماهم بك. . . أنا لا يهمني من ذلك شيء. . . ولكن الذي يحزنني ويضيق به صدري هذه الجثث الكثيرة التي يعج بها عبابي، وينتشر منها الخبث في أرجائي. . . لقد أنتنت يا أخيل، وخالطت عذوبة مائي، ولم يعد لي بها طاقة، ولا عليها جلد. . . وهي إلى ذلك كادت تقف تياري، وتشل حركتي. . . فهلم فارفعها عني، وقف التصريع والتقتيل حتى تطهر مجراي من أدرانها وحتى ألفظ أنا إلى البحر ديدانها. . .)
وتبسم أخيل قائلا: (أما أن أقف هذه الحرب فلا سبيل إلى ذلك حتى آخذ بثأر بتروكلوس، وحتى أدك طروادة على رأس هكتور، فاما أن ألقاه فأقتله وإما إن يلقاني فيقتلني؛ وأما أن أطهر مجراك من هذه الجثث الطافية فوقه فليس لي الآن بذلك يدان. . . أو تضع هذه(128/58)
الحرب أوزارها. . .)
وحنق سكمندر العظيم، وانطلق إلى أبوللو يكلمه في أمر أخيل، ولم يدعه أبوللو حتى أغراه بابن بليوس أعدى أعدائه، وأشد شانئيه، وحتى أثاره عليه، وهاج فيه كل حقد دفين. وعاد سكمندر فأشار إلى الماء فعلا وفاض، وإلى الموج فتلاطم وجرجر، وإلى الأواذي فدوّمت وهوّمت، ولاحقت أخيل من ههنا ومن ههنا؛ وظن ابن بليوس إلى الخطر الذي أوشك أن يحيق به فهرع يحاول الفرار. . . ولآت حين فرار. . . فقد أزبد الموج، وانساب العباب، وتشققت الأرض عيوناً ومسايل، وعَمُقت اللجة، وبعد ما بين سطحها وبين قدمي أخيل، أو ما بينه وبين قرارها، فأطلق المسكين ذراعيه يسبح في أغوارها، ويتعلق بالجثث الطافية فوقها
وأشتد الخطب، وعظم الكرب، وصرخ أخيل يستنجد أربابه، فما كادت حيرا تسمعه حتى فزعت إليه، وأمرت فلكان ابنها فانطلق يجفف الأمواه بنيرانه، ويرسل على الطوفان بدخانه، ويستعين في كل ذلك بآلهة الريح التي هرعت إليهمن كل صوب تساعده، وكان زفيروس الكريم يهب على النهر اللجي سجسجاً، ويذهب منه بكل مزنةٍ مثقلة، وديمة محملة، فلم يمض غير بعيد حتى صفا الجو، وغيض الماء، وبرز أخيل يحمل عدته، فطربت الآلهة لنجاته، وانقض فلكان على سكمندر يحاول أن يثأر لأخيل منه. . .! ولكن بعد أن عاهد حيرا - إذ هي صدت عنه ولدها فلكان - أن يحصر الطرواديين بموجه، فلا يمكنهم من الدخول إلى مدينتهم، ويجعلهم بذلك هدفاً لأخيل يصنع بهم ما يشاء!!
وتثار الخصومة بين الآلهة لموقف فلكان من سكمندر. . . ويغيظ مارس من مينرفا أنها تؤيد فلكان وتحرضه على رب النهر المسكين الذي أفزعته النيران تأخذه من كل حدب. . . فتقدم إليها وطفق يقرعها وتقرعه، ويرميها بالمثالب وترميه بها. . . ثم تناول رمحه العظيم واستجمع كل قوته، وأرسله يود لو يقضي به على ربة الحكمة الحازمة، ولكن، ويل لك يا مارس! لقد ارتد الرمح فلم يستطع إلى درع مينرفا من سبيل. . . وانحنت الآلهة المغيظة فأخذت حجراً من أكبرا حجارة الجبل وقذفت به مارس فدكت عنقه، وتركته على السفح الشاحب لَقًي من ألقاء هذه الحرب!
وظل مارس ممدداً على السفح يخور ويئن، ويتلوى بجثته العظيمة التي كانت ترتطم(128/59)
بالجيل فتميد به، وتهزه هزاً ظاهراً
وأقبلت فينوس فوقفت تواسي مارس وتهون عليه ما فعلت به مينرفا، ثم أنهضته وانصرفت به، ولكن حيرا أرسلت في إثرهما مينرفا، ترى ما يكون من أمرهما. . . بعد كل تلك الفضائح التي لوثت شرفهما، وجعلت اسمهما مضغة في جميع الأفواه. . .
وأقبلت فينوس على مارس تشفي حرقةً في قلبه، وتنيله من قبلاتها ما تنسيه به بعض الذي لقيه من أذى. . . ولكن مينرفا أهابت بهما. . .! وطفقت تنصح لهما أن يدعا اليوم فلا ينصرانها على شعبهما المختار. . . هيلاس العزيزة! ولكن. . .! لقد أسمعت لو ناديت حياً. . .! فلقد أعطيت فينوس موثقاً، وان فينوس لصادقة. . .!!
وانطلق نبتون يعظ أبوللو، ويصرفه هو الآخر عن مؤازرة الطرواديين، فذكر له أيام أن نفاهما زيوس إلى أقصى الأرض، فأتيا إلى طروادة، وعملا في خدمة أميدون الجبار، الذي لم يتورع أن يرسل أبوللو فيرعى له قطعانه، ويسمّن نعمه وشاءه، كأن لم يكن أبوللو أبن إله عظيم، وكأن لم يكن هو نفسه إلهاً عظيماً!!. . . (أتذكر هذه الأيام يا أخي أبوللو!!. . أتذكر أيام أن كان هذا العاتية العنيد يسومنا الذل، ويقهرنا أرهق القهر، وينزل بنا أشد ألوان الخسف، متذرعاً بغضب سيد الأولمب علينا، لا تأخذه فينا رحمة، ولا يهمه أن نبرم ونتسخط ما دام - فيما كان يزعم - يؤدي ما أمره به أبوك زيوس!!
فيم هذه المناصرة كلها لطروادة يا أبوللو؟. . . ماذا تذكر من حسنات لملكها اللعين أوميدون؟! أنسيت يوم أسخطناه بالتراخي قليلاً في عملنا، فأمر بنا فقطعت آذاننا وشد وثاقنا، وأصبحنا ضحكة كل راء؟!. . . لا لا يا أبوللو. . . أنا لا أرتضي لك أن تكون غبياً إلى هذا الحد. . .)
وعملت فيه كلمات العم نبيتون عملها، فعاهده ألا يخوض غمار هذه الحرب كرة أخرى، وقاسمه ألا يسدد فيها بعد اليوم سهما. . . ولو عيرته أخته ديانا ألف تعيير!!!
وماذا لو عيرته ديانا، ورمته بالجبن أمام نبيتون؟! ها هي ذي حيرا تسمع إلى ربة القمر، فتقذفها أشنع القذف وأمره، ثم تهجم عليها فتكبلها، وتنثر كنانة سهامها، وتمضي بعد ذلك لشأنها. . . وتأتي لاتونا - أم ديانا الباكية - فتواسيها وتذهب وإياها إلى زيوس. . . المتربع فوق سدة الأولمب، فتشكو إليهما لحق ابنتها من زوجه. . . ويغضي الآلة. . . لأنه(128/60)
ليس له على حيرا يدان. . . . . .!
ويتم الظفر لأخيل وجنده بعد إذ ينسحب أبوللو من المعركة، فيأخذ الطرواديين أخذ عزيز مقتدر؛ ويقف بريام الملك في برج شاهق يطلع على الساحة، ويشهد هزائم جنده، فتدمع عيناه. . . ويأمر بالبوابة الكبرى فتفتح، ويهرع الجنود ناحيتها فراراً من أخيل وشياطين أخيل، ولكن أخيل وشياطين أخيل تشطر الجنود الفارين شطرين، بل يستطيع أخيل وكوكبة قوية من الميرميدون أن ينفذوا إلى البوابة الكبرى، ويدخلوا طروادة فاتحين. . . . . . . . .!!
وهناك! يثبت لهم أجينور البطل الطروادي الحلاحل، ويأخذ مع أخيل في ملاحاة عنيفة، ثم يتقارعان برهة، ويصاول أحدهما الآخر. . .
ويكون. . . أبوللو. . .!! إلى جانب أجينور يحضه ويحرضه، ويثبت قدميه. . . ناسياً مواثقه التي قطعها على نفسه أمام نيبتون. . . . . .
ويهم أخيل أن يبطش بفتى طروادة
لولا أن يعز على أبوللو أن يلحق أجينور بصاحبه استرابيوس من قبل، وبعشرات الأبطال من مثل سترابيوس، فيتقدم إلى أجينور يحميه، ويرسل عليه سحابة بيضاء فيحمله فيها. . . . مضللا أخيل عن خصمه. . . ومبعده خارج البوابة التي يقفلها الطرواديون من دونه. . . . . .
(لها بقية)
دريني خشبة(128/61)
البريد الأدبي
الصقالبة في الرواية العربية رد على ملاحظة
وجه إلى قارئ فاضل هو الأستاذ عطية الشيخ في عدد الرسالة الماضي ملاحظة بشأن ما ورد في مقالي (الصقالبة في الرواية العربية) تفسيراً لرواية الرحالة ابن حوقل البغدادي عن (صقالبة الأندلس). فقد ذكر ابن حوقل في رحلته المسماة بالمسالك والممالك عن الصقالبة ما يأتي: (وذلك أن بلد الصقالبة طويل فسيح، والخليج الآخذ من بحر الروم ممتد على القسطنطينية واطربزنده يشق بلدهم بالعرض، فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون ويصلون، والنصف الشمالي يسبيه الأندلسيون من جهة جليقة وأفرنجة وأنكبردة وفلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير باق على حاله) (ص75)؛ قلت: (ومعنى ذلك أن الصقالبة الأندلسيين كانوا مزيجاً من الجليقيين (النصارى الأسبان) والألمان والفرنسيين (أهل افرنجة) واللومبارديين (أهل انكبردة) والإيطاليين (من فلورية))، ولكن القارئ الفاضل يريد أن يفسر قول ابن حوقل بأن الصقالبة كانوا يصلون إلى الأندلس عن طريق البلاد المذكورة، لا بأنهم كانوا يجلبون منها
وردي على ذلك هو أن المعنى الثاني هو الأرجح، وهو الذي اخترت الأخذ به، ذلك أن من بين البلاد التي يذكرها ابن حوقل أقطاراً كانت تقع في صميم بلاد الصقالبة في تلك العصور مثل لومبارديا (أنكبردة) وشرق افرنجة (ألمانيا)؛ وفي الوقت الذي زار فيه ابن حوقل الأندلس في أواخر عهد الناصر (أو أوائل عهد الحكم المستنصر) كانت كلمة الصقالبة تطلق في الأندلس على جميع الأجانب الذين يخدمون في البطانة أو الجيش؛ ولم يكن يقتصر في فهمها على الصقالبة الخلص، أعني سكان شرق أوربا وحوض الدانوب، وفي القسم الأول من مقالي شرح واف لتطورات هذه الكلمة، وذكر بعض المراجع التي تلقي ضوءاً على الموضوع.
م. ع. ع
التاريخ والسينما
كانت حوادث التاريخ وما زالت أعظم غذاء للمسرح والسينما؛ والمسرح القديم عريق في(128/62)
الاقتباس من حوادث ووقائعه الشهيرة؛ ولكن السينما استطاعت على حداثتها تتوسع في هذا الاقتباس سواء من حيث الوقائع أوالمناظر لتفوق وسائلها الفنية، وقد بدأت السينما باقتباس كثير من حوادث التاريخ القديم وشخصياته، فرأينا على ستارهاحياة كليوباطرة، وصفحات كثيرة من التاريخ الروماني قبل رواية (كوفاديس) الشهيرة؛ ثم كان عهد القصص التاريخية الكبيرة مثل (الفرسان الثلاثة)، و (مونت كريستو)، و (الفرنسية) لاسكندر ديماس وغيرها، وفي الأيام الأخيرة رأينا ممثلاً نابغاً هو السير أرليس يحي لنا طائفة من أشهر شخصيات التاريخ الحديث مثل ريشيليو، وفولتير، والدوق ولتون وغيرها
وفي الأنباء الأخيرة أن شركة فنية إنجليزية قررت أن تخرج شريطاً مصوراً يمثل حياة أَلفرد نوبل المخترع السويدي جوائز نوبل الشهيرة للعلوم والآداب والفنون، وكان نوبل صورة رائعة التناقض، فقد قضي حياته في اختراع أصنافجديدة من المفرقعات المهلكة، ثم جعل كل ثروته بعد وفاته وقفاً على تشجيع العلوم والفنون، ورصد منها جائزة كبيرة تمنح كل عام لمن يقدم أجل خدمات لقضية السلام. وقد رأى نوبل قبل وفاته نتائج اختراعاته المهلكة في الحرب الفرنسية (سنة 1870) ورأى رائع فتكها ببني الإنسان فحزن لهذه النتيجةأيما حزن وغدت حياته عذاباً مستمراً، ورأى أن خير ما يكفر به عن هذا الإثم هو أن يهب كل ثروته التي جمعها من اختراع المهلكات لتشجيع أعمال السلام من علوم وفنون، وهذه المأساة المؤلمة وما يترتب عليها من العبر البالغة هي التي يريد مخرجو الشريط الجديد أن يبرزوها للناس
والظاهر أن التعاون بين السينما والتاريخ لن يقف عند تمثيل الحوادث التاريخية وإخراجها على هذا النحو، وانه لن يمضي وقت طويل حتى تقوم السينما بدور أهم في خدمة التاريخ؛ ففي باريس يعرض الآن شريط مصور (فلم) عنوانه (السينما في خدمة التاريخ) وهو عبارة عن شرح مصور لأشهر الحوادث التاريخية التي وقعت في الثلاثين عاماً الأخيرة، ومادته مأخوذة من الصور المعاصرة التي سجلت عن هذه الحوادث نفسها. ومعنى ذلك أن المؤرخ قد يرى في الغد القريب في السينما نوعاً من المحفوظات التاريخية التي يمكنه أن يرجع إليها ليحقق بعض المناظر والحوادث. ولا ريب أن تسجيل الحوادث بطريق التصوير وسيلة مؤكدة لإجراء مثل هذا التحقيق؛ وفي وسع المؤرخ أن يعتمد كثيراً على(128/63)
صورة لاجتماع برلماني، أو اجتماع دولي، أو مناظر ثورية، أو عسكرية، أو غيرها صورت وقت حدوثها، بأفضل مما يعتمد على الروايات المعاصرة ذاتها
مصادرة مؤلف ألماني
من أنباء النمسا أن الحكومة النمساوية قررت أن تصادر كتابا صدر أخيراً بالألمانية وعنوانه (الإمبراطورة اليزابيث وأنا) بقلم السيدة ماري لويز فون فالرسي لاريش، وقد أخرجته إحدى المطابع الألمانية في لايبزج. والإمبراطورة اليزابيث هي قرينة الإمبراطور فرانز يوسف وإمبراطور النمسا والمجر، وقد اغتالتها بعض الجمعيات الفوضوية في سنة 1898، وكان لمصرعها دوي كبير في أوربا. وقد كانت المؤلفة وصيفة في البلاط الإمبراطوري، وكانت صلاتها بالقصر والبلاط تهيئ لها فرصة الاطلاع على كثير من الأسرار والحقائق الملوكية؛ والظاهر أنها خرجت في مؤلفها المذكور عن حدود التحفظ المألوف
العيد المئوي لصمويل بتلر
احتفل أخيرا في إنكلترا بالعيد المئوي لمولد الكاتب والشاعر الإنكليزي الكبير صمويل بتلر، وكان مولده في نوفيمبر سنة 1835 في مقاطعة نوتنهام شير؛ وقضى طفولته فيما وراء البحار في زيلاندة، وتلقى بعد ذلك تربية جامعية حسنة في كمبردج. وكان بتلر ذا خلال ومواهب خاصة، فقد كان مصوراً بارعاً يتمتع في عالم التصوير بشهرة ذائعة، ولكنه نزل إلى ميدان الأدب فجأة وأخرج قصته الشهيرة (ايرهوم) وهي قصة طريفة تدور حول وصف عالم خيالي غير عالمنا وبلاد لا وجود لها إلا في مخيلة الكاتب على مثل (رحلات جوليفر) الشهيرة وهي قطعة تفيض بالمخاطرات والحوادث المدهشة، ولكنها تفيض أيضاً بالسخرية اللاذعة والتهكم المر؛ وقد قفاها في أواخر حياته بقصة أخرى من طرازها وعلى منوالها في سرد الحوادث وسماها (ايرهوم المنقحة) سنة 1901؛ وكتب بتلر أيضاً كتاباً أخرى منها (الحياة والعادة) و (التطور قديماً وحديثاً)، وهو مؤلف علمي يحاول فيه بتلر أن يدحض نظريات دارون في التطور؛ وكان آخر ما كتبه بتلر قصته الشهيرة تركها مخطوطاً ولم تظهر إلا بعد وفاته في سنة 1903؛ وله قصائد ومقطوعات شعرية كثيرة؛(128/64)
وأهم ما يؤثر عن بتلر أنه كان بمثابة الأستاذ الروحي لكاتب من أعظم الكتاب الإنكليز المعاصرين ونعني به برنارد شو؛ وقد تأثر أيما تأثير بتفكيره وأساليبه في التهكم والسخرية اللاذعة. وكانت وفاة صمويل في سنة 1902
نادي الجامعيين
يدرس الآن أساتذة الجامعة المصرية فكرة إنشاء ناد لهم يقضون فيه بعض الفراغ، فيتبادلون المعرفة، ويتواضعون الرأي، ويتساهمون المودة. والفكرة حكيمة ولا شك، لأن توثيق الصلات الحرة بين ممثلي الذكاء المصري وأئمة الثقافة العالية له أثره البالغ في توجيه النهضة الفكرية، وتمهد السبل لها، وتوحيد الغاية منها
والمأمول أن نرى قريباً تحقيق هذه الفكرة
الفرقة القومية المصرية
افتتحت الفرقة الحكومية موسمها التمثيلي الأول مساء الخميس الماضي برواية (أهل الكهف) الأستاذ توفيق الحكيم، فسمعنا من وراء الستار قارئاً حلو النغم يقرأ قول الله تعالى في هذه القصة من سورة الكهف؛ ثم ابتدأ الفصل الأول بمقدمة موسيقية رائعة تترجم الصور الخيالية التي كانت تمر على الستار الأبيض مصورة اضطهاد المسيحيين في عهد دقيانوس قبل حادثة الرواية؛ وسنكتب عن الإخراج والتمثيل والرواية في عدد قادم(128/65)
الكتب
في الأدب القديم
1 - اعجام الأعلام: للأستاذ محمود مصطفى
(أخرجته جماعة دار العلوم بإقرار لجنتها العلمية)
2 - الفروق اللغوية: لأبي هلال العسكري
3 - معجم الشعراء: للموزباني
4 - المؤتلف والمختلف: لأبي القاسم الآمدي
(نشرتها مكتبة القدسي)
للأستاذ محمد سعيد العريان
كيف نفهم الأدب القديم، وكيف نتروَّاه، وإلى أي مدى نستفيد منه، وما وسيلتنا إلى ذلك. . .؟
هذه أسئلةٌ كثيراً ما تعرض لي، حين يضمني مجلس إلى بعض المتأدّبين من ناشئتنا الذين يدعون إلى الجديد؛ وإن أعجب ما يلقاك في مثل مجلس هؤلاء، هو الدعوة العريضة، والإنكار الساخر - أو سمَّه الإنكارَ الجاهل - والاعتداد بالنفس في غير مُعتدّ، ثم الحكم الجامع لا نقض فيه ولا استثناء. ما ايسر أن تسمعمن واحد من هؤلاء. (الأدب القديم. . .! وما الأدب القديم؟ وماذا فيه. . .؟) فلا أدب عنده إلا هذا اللغو الذي تنشره له الصحف، أو هذه الرطانة العجماء تحاول أن تستعرب على لسانه؛ ولا إنشاء إلا على مثال برقيات (روتر) و (هافاس)، التي يترجمها (فلان) ويدعو إلى احتذاءها فيما يكتب الأدباء وينشئون. . .!
ولو أنك ذهبت تحاول أن تحمل واحداً من هؤلاء على غير ما يرى في الأدب القديم، أو أن تقنعه بما فيه من حياة وقوة - لأعياك أن تبلغ إليه؛ وأنى لك أن تبلغ وما يعرف أكثر هؤلاء ولا يفهمون من الأدب القديم إلا محفوظات المدارس. . . وما حصلوا من فنون اللغة إلا القليل من قواعد النحو والبلاغة في حجرات التعليم. . .؟ بل لو أنك أردت واحداً من هؤلاء على أن يحقق لفظة في معجم، أو يقرأ سطراً غير مشكوا في كتاب - لكنت كمن يطلب إليهأن ينقل صخرة، أو يحفر بئراً. . .! فمن أين لمثل هذا أن يتذوق ما تجلوه عليه(128/66)
من روائع الأدب القديم؟
وطائفة أخرى من هؤلاء المتأدبين آمنت عن تلقين، أو تقليد، أن في الأدب القديم ثروة مخبوءة، ومنجماً حقيقياً بالجهد وحسن الاستغلال؛ فراحت هذه الطائفة - طمعاً في الثورة وحسن الاستغلال وحسب! تحاول أن تعثر بشيء تستسيغه، أو تجد لَقًي تسعى إليه، ولكنها لم تأخذ الأهبة، ولم تهيئ الأسباب، وحسبت أن في أظفارها اللينة غَناءً عن الفئوس والمساحي في الحفر والتنقيب؛ قلما آبت أوبتها الخاسرة، عادت تعيب ما كانت تباهي به، وتنكر ما كانت تعترف؛ ولو أنصفت لعابت الجهد الكليل والعزم الخائر
وقد جلست مرة إلى آنسة متأدبة تشتغل بشؤون التعليم، فلقيتني متعبة مكدودة وهي تقول: (حسبي منك يا صاحبي ومن أدبك القديم!) قلت: (ماذا يا آنسة؟) قلت: (هذا (نهاية الأرب) بين يديّ منذ أيام ثلاثة، أحاول أن أجد فيه شيئاً يفيد تلميذاتي فأترجمه لهن في كتاب المطالعة الذي أشتغل بتأليفه فما وجدْت. . .!)
وكان هذا أول عهد صاحبتي بالأدب القديم، وقد لجأت إليه أوّل ما تلجأ، لتجد بغيتها تحت عينيها؛ فلما استيأست ونال منها الجهد، ورمت الكتاب وهي تسب الأدب القديم، وتعيب الأدب القديم!
وإنما يتأنى الفوز بمثل ذلك لمن أدمن الاطلاع والنظر، وداوم البحث والاستقرار، فيقرأ أولاً ليدرس ويلذّ نفسه، حتى إذا بلغ من ذلك ما بلغ، جاءته الثمرة من حيث لا يطلبها، ووجد الفائدة تحت عينيه تدلّ على موضعها وهؤلاء الباحثون جميعا لم يؤدوا إلينا نتائج ما بحثوا مستوفاةً ناضجة لأنهم أرادوا أن يبلغوا هذه النتائج أوّل ما قرءوا؛ إنما كانت القراءة أولا؛ ثم شعاع الفكرة، ثم عناصر البحث، ثم هذه الثمرات التي نقرؤها فتعجب بها فنثني على ما جاهدوا وظفروا؛ ولو أنهم أرادوا موضوع البحث قبل أن يقرأوا، لكان غاية جهدهم أن يخترعوا عناوين البحوث. . .!
وهذا أديب آخر يظفر بالشهرة والجاه عند دعاة الجديد، ويحسبونه واحداً منهم، لأنه يكتب بأسلوبهم وعلى طريقتهم، لقيته مرة فحدّثته وحدّثني، فقال لي: (دعهم يقولون عني، وينسبون إلي وينتسبون؛ ولكني لا أكذبك، فكم تمنيّت أن يكون حظّي من الأدب القديم أكثر مما عندي، وسأبلغ ذاك، وسيعلم أصدقائي يومئذ أنني لم أكن في المجددين لأني أنكر(128/67)
القديم، بل لأن زادي وثروتي من اللغة لم يكن يبلغ بي أن أكون مع غير الذين يسمونهم مجددين. . .!)
أفينكر إخوانُنا في اللغة أن هذه النهضة التي ينتسبون إليها لم تكن من صنعهم؟ وإنما هّيأ أسبابها وأذكاها تلك الكتب القديمة التي يسبّونها اليوم حين نهض لنشرها أدباؤنا منذ قرن فدرسوها مخطوطٍات باليةً مركومة، وخلّفوها لنا مطبوعةً مصحّحة مجلوّة
ولكل عمل أدته ووسيلته، وإنما الوسيلة لدراسة هذه اللغة هي النشاط الدائب في التحصيل، والجهد المتصل في الاستقراء، والمحاولة المستمرة للكشف والبحث والاطلاع. ولهذه اللغة أصول لابد من الإحاطة بها قبل الشروع، وعندها طرف الخيط، فمن شاء فليبلغ إلى الغاية. . .
أما بعد فهذه كتب أربعة، لم أكن بحاجة في تقديمها إلى كل ما أسلفت، ولكنها جميعاً من الأدب القديم؛ وللأدب القديم ملمس خشن، أفيدري اللامسون ما وراء. . .؟
1 - اعجام الأعلام:
أكثر ما يعاني المطالع في الكتب القديمة، هذه الأعلام الكثيرة في كل سطر وفي كل عبارة مما يقرأ؛ على أن أشق ما يعانيه في هذه الأعلام، هو ضبطها والتميز بينها؛ وحسبك أن تعلم أن أكثر هذه الأعلام ليس مما يسمى به في هذا الزمان، فلا سبيل إلى تصحيح نطقه إلا بالسماع والرواية، ولا سبيل إلى الترجمة لمسّماه - إنسانا كان أو بلدا - إلا بالبحث الطويل والجهد المضني، على أن ذلك لا يتأنى لكل طالب؛ فأنت لا تجد كتابا في العربيةُ يستغني به عن سواه في هذا الباب
والأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية الأزهرية، رجل دءوب كثير البحث، طويل الأناة؛ وهو قد لقي في شتى مطالعاته ضروبا من العناء في ضبط الأعلام والتعرف إلى أصحابها؛ فاجتمع له بسبيل ذلك فيما أجتمع من ثمرات المطالعة طائفةٌ كبيرة من أعلام الأناسيّ والبلاد مضبوطة مترجمة لا تجتمع لمثله حين ينشدها إلا بجهاد سنوات وسنوات؛ فرأى أن يقدّم هذه الثمرة الجليلة إلى أدباء عصره، ليخفف عنهم بعض ما لقي، على أنه لم يثقل عليهم بما لا حاجة بهم إليه. فاكتفى من عمله بضبط الأعلام وتصحيحها، ثم إيجاز ترجمتها بما يقصر على ما يفيد، بعيدا من الاختصار المخلّ(128/68)
والتطويل الممل؛ وقد أعانته على إخراج كتابه (جماعة دار العلوم) بإقرار لجنتها العلمية؛ ومن غير جماعة دار العلوم تعرف قيمة هذا العمل الجليل؟ على أن ذلك وإن يكن من واجبها، لا يمنعنا أن نذكر عملها شاكرين، فقلَّ في هذا الزمان من يذكر واجبه بمقدار ما يفكر في وسائل الفرار منه!
وأكثر الكتاب في ضبط أعلام الأناسيّ، وأقله لأعلام البلاد. ولو أنني حاولت الإنصاف لما وسعني إلا أن أعترف بأن هذه الصفحات المائتين والأربعين، تغني عن مكتبة حافلة بكتب التراجم ومعاجم الأعلام
ولكن إعجابي بالكتاب وثنائي عليه لا يمنعان أن آخذ على مؤلفه العالم أنه أهمل الإشارة إلى المراجع التي منها استمدّ؛ وأحسبه كان يجمعه لنفسه فلا يهتم بحفظ المصادر، فلما اجتمع له هذا القدر الكبير أخرجه كتاباً. أفيدفع عنه النقد هذا الاعتذار. . .؟؟
وفي الكتاب أشياء كانت تقتضي جهداً أوسع، وعناية أدق، فالتعرف بالأماكن قليل مخل، وأرى المؤلف في هذا الباب لم يُفد إلا ضبط أعلام المواضع، أما تحديدها وتعيين أماكنها فما بلغ منه إلى كثير. وتراه في أكثر من موضع من الكتاب، قد أوجز الحديث وأحال إلى موضع آخر، فإذا انتقلنا إلى ذلك الموضع لم نجد شيئاً مما أحال إليه، أو نجد شيئاً ولكنه لا يغني كل الغناء؛ فمن ذلك في ص76 (. . . . بسطام، وهي بلدة مشهورة من أعمال قومس)، فإذا بحثت عن (قومس) هذه في أعلام البلاد وجدت (القوامس) كثيرة، فلا تعرف إلى أيها تنتسب (بسطام). وفي ص94: (كان منزل رهط (جميل) في وادي القرى (أنظره). . .) وتنتظر في أعلام البلاد، فلا تجد ذكراً لوادي القرى. ومثل ذلك في ص128 ترجمة السُّهْرَوَرْديّ (ونسبته إلى سهرورد، وهي بلدة (أنظرها)) ولكن أين؟ وغير ذلك كثير
على أن الكتاب مع ذلك لا يستغني عنه متأدب، وإن فيه لغناء عن كتب ومكتبة، وأكثر مصادره مما لا تتناوله الأيدي، وهو مجهود مشكور، جدير بالثناء والإعجاب
2 - الفروق اللغوية
أبو هلال إمام من أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري، تحتفظ له المكتبة العربية بآثار خالدة؛ أكثرها معروف متداول، وهو إلى أنه شاعر وأديب، عالم فحل، واسع المعرفة،(128/69)
صنَّف في أكثر من فن من فنون العربية، وهذا كتابه (الفروق اللغوية) يبحث في الفرق بين الألفاظ التي تؤدي معاني متقاربة، والتي يسميها علماء اللغة مترادفات، وهو في هذا الكتاب يقرر مذهباً في اللغة: (أن كل اسمين يجريان على معنى من المعاني وعين من الأعيان في لغة واحدة، فان كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلا لا يحتاج إليه. . . لأن في ذلك تكثيرا للغة بما لا فائدة فيه. . . إلا أن يجئ ذلك في لغتين، فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظان والمعنى واحد كما ظن كثير من النحويين واللغويين. . .)
فهو يرى كل لفظين مما نسميه مترادفاً، يختلفان في المعنى، أو في الصفة، أو الاستعمال. أو الاشتقاق. . . وتراه على هذا المذهب يسير في كتابه، يبين الفرق بين اللفظ ومرادفه، في أبواب مقسمة على معاني الكلمات، تريك دقة أبي هلال، وسعة علمه، وصدق نظره في فقه اللغة العربية، والكتاب كله أمثلة على ما ذكرت ولو أن كاتباً من أبلغ أدباء هذا الزمان، عرض كلامه على كتاب (الفروق اللغوية)، لبانت له قيمة ما يكتب بازاء ما يجب أن يكتب، ولعرف مقداره بين كتّاب العربية حين يعرف أين عربيته من العربية الصحيحة. وهذا وحده الدليل كلُّ الدليل على جدوى هذا الكتاب في كل زمان، لا سيما هذا الزمان!
3 - معجم الشعراء:، 4 - المؤتلف والمختلف
يعترض القارئ في أثناء مطالعته في الأدب القديم، أسماء شتى لشعراء من مختلف العصور، فتختلف عليه، وتَشْعَب فكره، وتتشابه في مسمعه، ويا أكثر ما يشترك شاعران أو أكثر في اسم واحد، فتتداخل الصور وتزدحم عليه، فما يتأنى له أن يحكم حكمه في موضوعه، أو يتضح له منهاج بحثه، إلى أن يعرف ترجمة كل شاعر من هؤلاء، معرفة تحدد في الذهن صورته وتكشف عن ابهامه، وسبيل هذه المعرفة لا تكون إلا بمثل هذين الكتابين
والمرزباني والآمدي عَلمان من أعلام القرن الرابع الهجري، لهما في الأدب العربي فكر وفنٌ وبيان
والكاتبان على ما اختلفا في الغرض يلتقيان في الموضوع، فأوّلهما يترجم لشعرائه ترجمة تعرّف بهم في إيجاز مفيد مع استشهاد رائق، على أن الذي بين يدينا من كتابه هو جزء(128/70)
منه أحسبه يبلغ ثلثيه
وأما الآمدي فيترجم للشعراء المشتبهة أسماؤهم وحسب، ترجمةً تزيل الشبهة وتكشف اللبس، ويجمع هذا الكتاب مع الجزء الموجود من معجم الشعراء - أكثر من ألفي شاعر، بأسمائهم، وكُناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبعض شعرهم. وقد أحسن ناشرهما إحساناً كبيراً بضم بعضهما إلى بعض في مجلد واحد، ليكون النفع بهما أتم والغاية أوفى
ولا نشك أن مكتبة (القدسيّ) بنشرها هذين الكتابين، وكتاب (الفروق اللغوية) قد بذلت جهدا، ويسرت نفعاً، وعممت فائدة، وهذا باب في خدمة العربيةُ يُذكر فيه العاملون.
(شبرا)
محمد سعيد العريان(128/71)
النقد
3 - تاريخ الإسلام السياسي
تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن
مصادر الكتاب لأستاذ كبير
ألممت في كلمتي السابقتين بما تأخذه النظرة العجلى من الأغلاط التاريخية والجغرافية الواقعة في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) وهي لعمري أغلاط يذهب بعضها بمحاسن أي كتاب يرد فيه فكيف بها كلها: وأريد في هذه الكلمة أن أعرض في شيء من النقد لمصادر هذا الكتاب، وأن آتي بعد ذلك على بعض عيوب لحظتها على طريقة المؤلف في أخذه عن المصادر المذكورة، وكم كنت أود، علم الله، أن تكون كلمة اليوم كلمة ثناء أكيله للمؤلف جزافاً لعلي أمحو ما عساه أن يكون قد علق بنفسه من جراء المقالين السابقين، ولكن شاء سوء حظي أن يجئ الأمر على غير ما أريد
كل من يطلع على (تاريخ الإسلام السياسي) تبهره من غير شك كثرة المصادر التي تدل على أن المؤلف رجع إليها في وضع كتابه، فما من صفحة من صفحاته، ولا فقرة من فقرة إلا وهي تحتوي على أقل تقدير إحالة واحدة للقارئ على مرجع من مراجع التاريخ الإسلامي القديمة والحديثة. ثم إن المؤلف لا يكتفي بذكر مراجعه منثورة مفرقة على الفصول والصفحات والفقر والأسطر، بل هو يوردها في آخر كتابه مجموعة منسوقة في بضع صفحات تروع النظر والفؤاد جميعاً
وإيراد المراجع العلمية على هذا النحو واجب محتوم في البحوث العلمية الدقيقة التي يراد فيها الإدلاء بنظرية علمية جديدة أو بسط وجهة نظر مستطرفة. أما في الكتب العامة التي يقصد أن تكون في متناول الطلاب المثقفين فقد جرى العرف بأن يقتصر من ذكر المراجع في صلب الفصول على الضروري، ثم يذيل كل فصل بذكر المراجع التي استعان المؤلف بها في كتابة الفصل تبرئة لذمته وتوسيعه على الطلب والقارئ الراغب في سعة الاطلاع وكثرة التحصيل. ومما يبعث على سلوك هذه الطريقة أن الأصل في الكتب المؤلفة للطلاب وراغبي الثقافة، أن يكون واضعوها من أعلام العلماء وجهابذة الأساتذة، ممن لهم في العلم(128/72)
قدم راسخة ومكانة عالية تحمل قراءهم على تصديقهم فيما يقررون وما إليهيذهبون
ومع أن كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) من الصنف الثاني فقد آثر المؤلف ركوب الطريقة التي تتبع في الصنف الأول، فحمل متن كتابه من الشروح والحواشي حملا ثقيلا، وكلف نفسه شططا وقراءه مشقة وعنتا. ولم كل هذا؟ لا لشيء سوى ابتغاء السمعة عند الناس وأن يلقي في روع القارئ أنه في التاريخ واسع الاطلاع، طويل الباع، قد وعى ما كتبه الأوائل والأواخر
على أن نظرة ناقدة إلى المراجع المذكورة كفيلة بأن تثبت أن كثرتها إلى حد بعيد صورية لا حقيقية. فان حرص المؤلف على التكثير والتزيد قد حمله في كثير من الأحيان على أن يدلل على ما لا يحتاج إلى دليل، وأن يعدد المراجع ولو كانت في مرد أمرها ترجع إلى مصدر واحد. فمن من تلاميذ المدارس لا يعرف نص الخطبة التي افتتح بها أول الخلفاء الراشدين عهده؟ إنها أشهر من أن تجهل. ومع ذلك فالمؤلف الكريم يحيل قارئه عند إيراده نص هذه الخطبة على أربعة كتب قديمة متضمنة لها ذاكرا اسم الكتاب واسم المؤلف ورقم الجزء والصفحة والطبعة ومكان الطبع! كذلك الحديث الذي يزعم رواة العرب أنه جرى بين أبي سفيان وبين هرقل قيصر الروم في الشام. وهو حديث يحمل في ثناياه أدلة ضعفه وانتحاله، وهو على فرض صحته ليس بذي خطر، ولا يقدم في فهم سيرة الرسول ولا يؤخر. ومع ذلك، فالمؤلف يورده بنصه على طول ذلك النص ثم يحيل القارئ على الكتب القديمة التي ذكرته، وقد ذكر منها خمسة أكثرها شروح مختلفة على متن البخاري. لو أن المؤلف قصد إلى مناقشة هذه النصوص ومقارنة رواياتها المختلفة بعضها ببعض، وبيان ما تتفق فيه وما تختلف من حيث اللفظ والمعنى، ثم الوصول بعد ذلك إلى حكم يكون لها أو عليها، لكان للمشقة التي عني نفسه وقارئه بها ما يجيزها ويسوغها. أما وهو لم بقصد إلى شيء من ذلك فقد انتقلت المزية وبقيت المشقة
ثم إن هذه الكثرة صورية من وجه آخر أكثر خطرا وأضر بقيمة الكتاب العلمية وبمقدرة مؤلفه على نقد مراجعه وتقويمها ذلك بأن المؤلف كثيرا ما يأخذ عن كتب أثبت البحث العلمي الدقيق أنها لا يصح الاعتماد عليها بحال في معرض التدليل العلمي الصحيح. فهو يعتقد أن الكتاب القصصي المسمى (فتوح الشام) للواقدي حقا، ثم يذهب يستعين به في(128/73)
الفصل الذي عقده لفتح العرب الشام، وينقل عنه صفحات برمتها، ثم لا يكتفي بذلك بل ينبري لمناقشته ومجادلته. فليأذن لنا الدكتور أن نقول له إن هذا الكتاب ليس للواقدي، بل ليس من آثار عصر الواقدي، وإنما هو كتاب كتب بعد زمن الواقدي بمئات السنين: كتب على أغلب الظن إبان الحروب الصليبية لبث الحمية الدينية في نفوس الجمهور وترغيبه في مجاهدة الصليبيين بتذكيره بفعال آبائه في الشام. ونفس عبارة الكتاب من النوع القصصي الحماسي. جاء في دائرة المعارف الإسلامية في ترجمة الواقدي ما يأتي:
, ; ' , وترجمتها (إن كتابي فتوح الشام والعراق قد فقدا. أما الكتابان المتدولان بهذا الاسم فيرجعان إلى عصر متأخر، وهما مضافان إلى الواقدي خطأ.)
كذلك يعتمد المؤلف في عدة مواضع من كتابه على كتاب آخر زائف هو كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب إلى ابن قتيبة وكل شيء في هذا الكتاب يدل على أنه ليس لابن قتيبة. وإنما هو في غالب الظن لكاتب أندلسي أراد تسلية الخاصة باسم الحياة السياسية الإسلامية فوضع هذا الكتاب الذي يعتبر من الناحية الأدبية قطعة فنية، وإن كان من الناحية التاريخية لا يعول عليه على الإطلاق. وفي ذلك يقول المستشرق الإنجليزي مرجوليوث في كتابه (مؤرخو العرب) في ص125)
' وترجمته (أن ما في هذا الكتاب من تكذيب للتاريخ أم جهل به، لفاضح بحيث لا يمكن أن يكون من تصنيف ابن قتيبة.)
ثم إن المؤلف كثيراً ما يستمد ويقتبس من كتب منها ما قد أصبح قديماً قاصراً من حيث المستوى العلمي، ومنها ما هو ثانوي الأهمية، ومنها الضعيف، ومنها ما قصد بكتابته إلى التثقيف العام. من هذه: (تاريخ العرب) لسديو، و (موجز تاريخ العرب) للسيد أمير علي، و (الحضارة العربية) لجوستاف لوبون)، و (أتباع محمد) لواشنجتن أيرفنج
إن هذه الكتب وكثيراً غيرها قد وضعها في أغلب الأحوال هواة قصدوا بها ناحية الثقافة العامة والتصوير المجمل، فكثيرة الاستدلال بها في مقام البحث الجدي ترخص لا مسوغ له
هذا عن مبلغ نقد المؤلف أمهات مصادره. أما مذهبه في الانتفاع بهذه المصادر إجمال فلنا عليه بعض الاستدراك. فهو مفرط في الأخذ عنها والاقتباس منها، بحيث أنك في كثير من فصول الكتاب تبحث عن شخصية المؤلف فلا تجدها أو تجدها ضئيلة ضعيفة، خذ لذلك(128/74)
مثلا الباب الأخير من أبواب الكتاب الخاص بالحضارة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وهو باب كان يمكن المؤلف أن يجول فيه ويصول، ومع ذلك فهو لا يخرج عن كونه مجرد تلخيص لكتاب (الحلافة) لارنولد، وكتب الحضارة الإسلامية والأدب العربي لفون كريمر والسيد أمير علي ونيكلسن. أن الأمر هنا أمر تكرار لا ابتكار
وقد يخطئ المؤلف بعض من يأخذ عنهم تخطئه لا حق له فيها. من ذلك أنه عند كلامه على الخوارج استشهد بقول صاحب كتاب (الفخري): (وصدرت منهم أمور متناقصة تدل على أنهم يخبطون خبط عشواء، منها أن رطبة سقطت من نخلة فتناولها رجل ووضعها في فيه، فقالوا له أكلتها غصبا وأخذتها بلا ثمن، فألقاها، ومنها أن خنزيراً لبعض أهل القرى مر بهم فضربه أحدهم بسيفه فعقره فقالوا هذا فساد في الأرض، فمضى الرجل إلى صاحب الخنزير وأرضاه، ومنها أنهم كانوا يقتلون النفس التي حرمت إلاّ بالحق، قتلوا عبد الله بن خباب، وكان خباب من كبار الصحابة، وقتلوا عدة نساء وسبوا، وفعلوا أفاعيل من هذا القبيل) هذه العبارة التي يصح أن تعتبر مثلاً للتناقض يعلق عليها المؤلف بقوله: (نرى أن هذا ليس من التناقض في شيء، وإنما هو أقرب إلى أن يكون غلوا في تطبيق مذهبهم)!!
ومن ذلك نقدم الهادم لحاجي خليفة، لا لشيء سوى أنه أورد خبراً لم يرضي المؤلف فيقول: (ومثل هذا المؤرخ لا يؤخذ بكلامه ولا يعول عليه في المسائل التاريخية الهامة لأنه كان متأخراً في الزمن فقد توفي سنة 1067هـ) وهو تعسف في الحكم من غير منازع، ومن هذا القبيل أيضاً تصديه لمرجوليوث في أمر الرجلين اللذين تزعم الرواية العربية أن كسرى أمر عامله على اليمن أن ينفذهما إلى الرسول ليأتياه به، فلما قدم الرجلان على الرسول أخبرهما النبي بأن كسرى قتل وأن أبنه هو الذي قتله. فمرجوليوث يأخذ من هذه الرواية أن النبي كان له من يأتيه بالأخبار. أما المؤلف فبدلاً من أن ينقد الرواية العربية، ليرى هل من المعقول أن ينفذ كسرى من طريق عامله على اليمن رجلين اثنين إلى سيد الحجاز ليأتياه به، فانه يأخذ في الرد على مرجوليوت لأنه لم ينظر إلى المسألة نظر المسلم المؤمن بنبوة محمد (ص)، ولو عمد إلى نقد الرواية أو تأولها على أقل تقدير لأنهارت دعوى مرجوليوت من تلقاء نفسها(128/75)
والمؤلف يسهو أحياناً فيذكر أنه أخذ من مصدر بعينه أخذاً مباشراً، في حين أنه يكون قد أخذ عنه بالوساطة، فهو يحيل القارئ في ص80 وغيرها على ما يسميه هو المجلد الثاني من كتاب (بقية الوثنية العربية) المستشرق الألماني فلها وزن. والواقع أن الكتاب المذكور يقع في مجلد واحد فقط، ولكنه طبع مرتين، فلو أنه رجع إليهحقاً لما وقع هذا الخلط القبيح
وعلى كثرة من يستشهد المؤلف بهم في كتابه وذكره أسماءهم مباهياً بتلميذته لبعض المستشرقين منهم، كأرنولد ونيكلسون، نراه ينسى أن يذكر أن الفصل الذي عقده لمكتبة الإسكندرية كله ملخص من كلام دكتور بطلر في كتاب (فتح العرب مصر) والغريب أنه يحيل في ختام هذا الفصل على كتابه هو (عمر بن العاص)
وبهذه المناسبة نقول أن المؤلف غمط حق مؤرخ جليل وعالم كبير طالما جلس المؤلف منه مجلس التلميذ من الأستاذ، ذلك هو المرحوم الشيخ محمد الخضري بك الذي طوى الموت ما بينه وبين هذه الدنيا بما فيها من غدر ومحال، وباطل وغرور. لقد انتفع المؤلف بعلم هذا الشيخ حياً وميتاً كما يدل كلامه على شرعية القتال، ثم هو يبخل بأن يذكر اسمه ضمن من أخذ عنهم. فيا ليت شعري إذا كنا لا نظفر بالوفاء عند تلاميذنا، فعند من سواهم يكون الظفر بالوفاء؟.
(يتبع)
مؤرخ(128/76)
العدد 129 - بتاريخ: 23 - 12 - 1935(/)
أبو الطيب المتنبي
بمناسبة ذكراه الآلف
في مثل هذا الأسبوع من سنة أربع وخمسين وثلاثمائة للهجرة طل في سواد بغداد دم الرجل الطموح.
والبطل الشاعر أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، فهمدت بهموده نفس دائبة الشبوب وعزيمة دائمة الوثوب وهمة رفيعة المصعد! وكان المأمول أن يكون هذا العدد من الرسالة ديواناً لما يلقيه أساتذة الجامعة المصرية من المحاضرات في (أسبوع المتنبي)، ولكن العواصف الهوج التي ثارت بالبلاد فروعت قلوب الناس، وزعزعت سلام الجامعة، حالت من دون هذا الأمل. وأبو الطيب الذي رزق السعادة في شعره، وأوتي النباهة الخالدة في ذكره، لا يزال حظه العاثر لعبة الأيام وألهية القدر! هذا العراق الذي ولد به ودفن فيه قد أعرض بسمعه عن ذكراه، وهو المثل الذي يرتجيه لشبابه، والروح الذي يبتغيه لنهضته! وهذه حلبالتي جعلها نشيدا في فم الزمن، قدقسم الهوى رأيها على ذكراه فجاءت بما لا يتفق مع قدره، ولا يسمو إلى جلاله! وهذه مصر التي كان أول من أخذها بالخضوع الضارع، وعابها بالزهد الوضيع، ونبه عينها الوسنى إلى فساد الحكم قد دفنت ذكراه بين وعد من (رابطة الأدب العربي) عفى عليها النسيان، ونية من الجامعة المصرية ثبطت عنها الحوادث؛ فلم يظفر شاعر القوة وشهيد المجد إلا بحفلتين جديرتين بفضله: حفله قومية أقامها شباب العرب الأبرار في (سان باولو)، وحفلة رسمية سيقيمها رجال الأدب الأخيار في (دمشق)! وسان باولو لم تخلق في دنيا، ودمشق لم تذكر في شعره.
كان أول عهد بالمتنبي أن والدي - بقى الله ثراه - أهدى إلى في يوم من الأيام ديوانه، وكنت لا أزال غلاماً يافعاً قد ارتفع قليلاً عن سن الحداثة، فأنا إقراء القصص، وأحفظ المتون، وأتلقى الدروس الأولية في الأزهر، وأكثر من نظم الشعر في المناسبات المختلفة على معاناً سقيمة وقوالب مشوشة؛ فأراد أبي أن استعين بالنظر في هذا الديوان على تقويم ملكتي وتهذيب طبعي؛ فأقبلت عليه إقبال المنهوم المحروم، لأنه الكتاب الوحيد الذي أملك، والغذاء الشهي الذي احب، والحنان الأبوي الذي أقدس. أقرأه فأدرك موسيقاه بشعوري، وأن كنت لا أدرك معناه بعقلي، وأحس أن شعاعاً سحرياً ينبثق عن سطوره، فيغمر القلب(129/1)
بالنشوة، ويرفع النفس بالحماس، كاللحن القوي ينساب في الأذان الأمية نغما من غير معنى، وجمالا من غير تحديد، ووحياً من غير بيان، ولذة من غير وعي.
ازداد على الدرس والأيام فهمي للمتنبي، فصار للذوق الساذج حجة من الفن، وللحب الذي صادف خلاء من القلب قوة من المنطق. وكان أستاذنا المرصفي - تغمده الله بالرحمة - لا يصح في رأيه أحد من الشعراء المولدين وبخاصة أبو الطيب، فدس في أذواق تلاميذه الكراهة له والنفور من شعره؛ وتأثر بذلك الإيحاء رفيقاي طه حسين ومحمود زناتي، وقاومه في نفس تلك العوامل الأولى فلم أر رأيهما فيه، ولم أمالي تعصبهما عليه؛ وكثر ما كنا نتمادى في أدبه، ونتهاجى بسببه! ولا زلنا نتذاكر تلك المداعبات الأدبية الأخوية فنستروح منها شميم الصبي الغريض، ونسيم العيش الأبله، ونفخ الولاء الخالص.
إن أبلغ ما أثر في نفسي من حياة المتنبي منذ عرفته هي هذه النفسية المعذبة بين الطموح والعجز، وتلك الشخصية المذبذبة بين الوسيلة والغاية: سمت نفسه منذ أيفع إلى معالي الأمور، ولم يجد معيناً عليها غير المال والقوة. أما القوة فقد ألتمسها في قيادة الأعراب باسم الدين أو باسم العدالة فأخفق، وأما المال فأحتال عليه بوحي العبقرية وقوة الشاعرية فأصاب. وكان الشاعر المغامر من هذه الوسيلة الأرضية، ومن تلك الغاية السماوية، بين عاملين مختلفين: عامل يرفعه فيدل على الملوك، ويتأبى على السوقة، ويتجافى عن الهون. ويقول لبعض الأمراء:
وفؤادي من الملوك وأن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
وعامل يضعه للهبة هشاشة السائل، ويحرص على المال حرص الشحيح، ويعفر خده الأصعر في البحث عن درهم، ويقول لبعض الأغنياء:
تهلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ماله قبل الوساد
ولكنه في كلتا الحالين كان طالب ملك، وعاشق مجد وخاطب دولة
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(129/2)
5 - المجنون
للأستاذمصطفى صادق الرافعي
ثم إن (نابغة القرن العشرين) استخفه الطرب لذكر صواحبه وجميلاته من فاطمة إلى رباب؛ ومن طبع المجنون أنه إذا كذب صدق نفسه، فان قوة الضبط في عقله إما معدومة وإما مختلة، وكلوجه تخيل منه خيالا فهو وجه من وجوه العالم عنده إذ كان عالمه أكثره في داخله لا في العالم، فإذا توهم أو أحس أو شعر فإنما يكون ذلك بطريقته هو لا بطريقة الناس العقلاء، فليس يحتمل عقله إلا فكرة واحدة تمضى منفردة بنفسها مستقلة بمعناها كأنها قدر غالب على جميع أفكاره الأخرى، فلا شأن لها بالواقع ولا شأن للواقع بها، وإنما هي تحقق معناها كما تخطر له لا كما تتمثل فيما حوله. فبين كل مجنون وبين ما حوله دماغة المتدجي بالغيوم القليلة، لا تزال تعرض له الغيمة بعد الغيمة من اختلال بعض المراكز العصبية فيه، وفساد أعمالها بهذا الاختلال، وقيام الطبيعة فيها على هذا الفساد. ومن ذلك تنقلب الكلمة من الكلام وإنها لحادثة تامة في عقل المجنون كالقصة الواقعة لها زمان ومكان وبدء ونهاية، لا يخامره فيهاالشك، ولا يعتريها التكذيب؛ وكيف وهي قائمة في ذهنه من وراء سمعه وبصره قيام الحقيقة في الأبصار والأسماع؟ ولحواس المجنون جهتان في العمل لأنها بين كونين أحدهما الكون الخرب الذي في دماغه؛ وفي هذا يقول (نابغة القرن العشرين): إن في داخل عينيه منظارا يرى به الأشياء في غير حقائقها، أي في حقائقها.
وحدثنا الدكتور محمد الرافعي قال: إن في دار المجانين بمدينة ليون بفرنسا نابغة كنابغة القرن العشرين ذكرت إمامه قيصرة روسية وخبر مقتلها، فأحفظه هذا وأرمضه وقال يا ويحهم! كذبوا عليها وعلي. . . فسأله الدكتور: وكيف ذلك؟
قال: كان من خبر القيصرة أنها رأتني فأحبتني وعلمت من كل وجه يمكن أن يعلم منه قلبها أني أنا رجلها لا القيصر.
فما زالت بعدها تناكد القيصروتلتوي عليه ولا تصلح له في شيء حتى يئس منها فطلقها. فحملت كنوزها وحلاها ولجأت إلى حبيبها. ثم تبعتها نفس القيصر ولم يطق العيش بعدها فانتحر. . . ثم طلبها الشيوعيون لما معها من كنوز فأخفاها هو في مكان حريز لا يعلمه إلا هو؛ ثم إنه هو لا يصل إلى هذا المكان الذي أحرزها فيه إلا إذا نام. . . كيلا يراه أحد من(129/3)
الشيوعيين فيتعقبه فيعلم مقرها. ولهذا كان من الحكمة أن ينسى المكان إذا استيقظ. . . فقد يزل مرة فيخبر به أو يغلبه الشوق مرة على عقله. . . فيذهب إليه فعسى أن يراه من ينم بذلك فتفتضح الحبيبة وتؤخذ منه، قال: وإن القيصرة هي تحتاط أيضا مثل ذلك فتراسله كل يومباللاسلكي رسائل تقع من الجو في دماغه فيقرؤها وحده. وإن أخوف ما يخافه أنيغلبها جنون الحب يوما فتطيش طيش المرأة فتزوره في هذا المارستان. . . فقد تقتل إذا رآها الشيوعيون.
قال الدكتور: وهناك (نابغة) آخر ثبت في ذهنه أن امرأة من أجمل النساء قد استهامت به وأنها مبتلاة في حبها إياه بجنون الغيرة، وقد تناهت فيه حتى إنها لتقتل نفسها إذا علمت أن لصاحبها هوى في امرأة أخرى. وخبلته هذه الفكرة فاعتقد أنحبيبته من جنون غيرتها واقعة بين السلامة والتلف؛ ثم توهم ذات يوم أن واشيا قد أعلمها أن النساء افتتن به؛ فطار صوابها فهي آتية إليه في المارستان لتوبخه وتشفى غيظها منه ثم تنتحر إمام عينيه. وأدار (النابغة) الفكر في إقناعها لتعلم أنه لم يخنها بالغيب. . . فلم يهتد إلى مقنع تستيقن به المرأة أن لا أرب للنساء فيه إلا أن. . . ففعل وجب خصيتيه بيده ليقدمهما برهانا أنه لها وحدها. . .
قلنا: وطرب نابغة القرنالعشرين، لذكر صواحبه وجميلاته فجعل يترنم بهذا الشعر:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين
فقال المجنون الآخر: (مما حفظناه): ما لذة (الخبر) إلا للمجانين. . .
فضحك (النابغة) وقال: ما أسخفك من أحمق. إذا كان هذا هو المعنى فقل ما لذة (الكعك). ألم أقل لكم إن هذا الأبله لو تهجأ كلمة خبز لقال إنها ل. ح. م. ولو تهجأ كلمة لحم لقال ف. و. ل. . .
إنه طفل عمره ثلاثون سنة وفيه دائما غضب الطفل ونزقه وحماقته، وفيه كذلك سرور الطفل وطيشه وأحلامه؛ غير أنه ليس فيه عقل الطفل. وهو من الضعفوشدة الحادة إلى العناية في حياطته وسياسته والبر به كطفل صغير - بحيث يخيل إلى أحيانا أنني أمه. . .
قلنا: وتنسى في هذه الحالة أنك رجل؟
قال: وأنتم كذلك تهمونني بالنسيان وهو شرعا جهة ملزمة للحكم بالجنون. فما النسيان إلا(129/4)
الكلمة الأخرى لمعنى ضعف العقل؛ وضعف العقل هو اللفظ الآخر لمعنى جنوني، وقد أعلمتكم ما أكره من الكلام.
قلت: لا، إن النسيان لا يكون منك نسيانا بمعناه في المجانين، بل بمعناه فيك أنت من تواثب الأفكار النابغة وتزاحمها في تواردها على العقل. فإذا تواثبت وتزاحمت كان أمرها إلى أن ينسى بعضه بعضا فلا ينطلق منها إلا القوي النابغ حق نبوغه، فيجيء كالمنقطع مما قبله، فيحسب ذلك نسيانا وما هو به. وقد تصطلح الأفكار في هذه المعركة الذهنية إذا كان النابغة مسرورا محبورا يرقص طربا. . . فيكون أمرها إلى أن تجيء كلها معا على اختلاف معانيها وتناقضها؛ فحسب ذلك ضربا من الذهول عند من يجهل العلة النبوغية؛ وعذره جهل هذه العلة وهي في دلالة العقل ليست نسيانا ولا ذهولا.
قال: فأعلمني كيف نسيان المجانين فقد خفي علي أن أدرك هذا الأمر العجيب فيهم، ولست أدري كيف يفوتهم ما استدنى لهم من الفكر بعد أن يكون قد استقر وحصل في عقولهم؟
قلت: لا يكون النسيان تهمة بالجنون إلا في أحوال ثلاث جاءت بكلها الرواية الصحيحة المحفوظة:
فأما الأولى فما يروى عن رجل كان سريا غنيا وعمر حتى أدركه الخرف؛ فجاء كاتبه يوما يستعينه على تجهيز أمه وقد ماتت فدفع إلى غلام له دنانير يشتري بها كفنا ودنانير أخرى يتصدق بها على القبر؛ ثم قال لغلام آخر: إمض إلى صاحبنا وغاسل موتانا فلان فادعه يغسلها. قال الكاتب: فاستحييت منه وقلت يا سيدي ابعث خلف فلانة وهي جارة لنا تغلسها. قال يا فلاناً تدع عقلك في حزن ولا فرح. كيف ندخل عليها من لا نعرفه؟ قال الكاتب: نعم تأذنبذلك. قال لا والله ما يغسلها إلا فلان.
فضاق الكاتب بهذا الحمق وقال: يا سيدي كيف يغسل رجل امرأة؟
قال: وإنما أمك امرأة.،.؟ والله لقد أنسيت
وأما الحالة الثانية فما يروى عن رجل كان نائما في ليلة باردة فخرجت يده من الفراش فبردت، فأدناها إلى جسده وهو نائم فأحس ردها فأيقظته، فانتبه فزعا فقبض عليها بيده الأخرى وصاح: اللصوص. اللصوص. . . هذا اللص قد قبضت عليه أدركوني لئلا تكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قابضا بيده على يده وقد نسى أنها يده.(129/5)
وأما الثالثة فهي رواية عن رجل قد ورث نصف دار، ففكر طويلا كيف تخلص الدار كلها له ثم اهتدى إلى الوسيلة؛ فذهب إلى رجل وقال له: أريد أن أبيعك حصتي من الدار وأشترى بثمنها النصف الباقي لتصير الدار كلها له. . .
قال (النابغة) لعمري إن هذا لهو الجنون، وما يذكر مع هؤلاء مجنون المتن ولا غيره. . .
فقال الآخر: تالله لولا أن (نابغة القرن العشرين) يدفع نفسه عن الجنون لجاء في الجنون بما يذهل العقول. . .
ثم نظر فإذا النابغة يتحفز له. . .؛ فأسرع يقول: (مما حفظناه) كنحذرا كأنك غر، وكن ذاكراً كأنك ناس. فهذا هو نسيان نابغة القرن العشرين، نسيان حكماء لا نسيان مجانين.
قال (النابغة) ولكن قد فسد قول الشاعر، ما لذة العيش إلا للمجانين؛ فما بقيت مع الجنون لذة.
قلت: إن الشاعر لا يريد المجانين الذين هم مجانين بالمرض وإنما يريد العشاق المجانين بالجمال؛ وجنون العاشق في هذا الباب كعيوب العظماء من أهل الفن، وهي عيوب تدافع عن نفسها بحسنات العظمة فليست كغيرها من العيوب.
قال: فيجب أن أصنع بيتاً آخر يفسرذلك الشعر ليستقيم لي التمثل به. ثم فكر وهمهم، ثم كتب في ورقة ثم طواها وقال: اصنع أنت أول، وسأئتمن س. ع. على شعري ودفع إليه الورقة.
فنظرت وقلت: يجب أن يكون الشعر هكذا:
قالوا جُنِنت بمن تهوى فقلتُ لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين
العقلُ إن حَكَم العُشّاقأثقلُ من ... فقرٍ تحكَّم في رزقِ المجانين
ونشر س. ع. الورقة فإذا فيها:
قالوا جُنِنت بمن تهوى فقلتُ لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين
إن العيوب عن المجنون دافعةٌ ... بأنه نابغ في القرن العشرين. . .
وضحكنا جميعا؛ فقال النابغة: أبعدك الله يا س. ع. إن من ائتمن المجنون على سر وقال له أكتمه فكأنما قال له انشره.(129/6)
ثم قال: وددت والله أن يكون س. ع. هذا نابغة، ولكني سأجعله نابغة، فقد صار له علي حق الصديق وهو حق لا أضيعه ولا أخل به. فإذا احتجت يا س. ع إلى خطاب رنان تلقيه في حفل عظيم، أو قصيدة تمدح بها وزير المعارف، فالجأ إلي فإني ملجأ لك. ومتى انتحلت شعري كنتعند الناس المتنبي أو البحتري أو ابن الرومي، فان هؤلاء القدامى لم ينفعهم إلا أنني لم أكن فيهم، ولما لم أكن فيهم أعجبوا الناس إذ أنني لم أكن فيهم.
قلنا فما حكمك عليهم في الأدب؟
قال: إذا حكمت عليهم فقد جعلت نفسي بينهم، فمن الطبيعي إلا يعجبني منهم أحد. إن (نابغة القرن العشرين) لا يقول لمعنى هذا أحسن فانه هو فوق الأحسن، ولا يقول عننابغة هذا أشهر فانه هو فوق الأشهر.
قلت: كأن الدنيا تحت قدميك وأنت فيها الزاهد العظيم الذي لا يقول في حسن هذا أحسن لأنه فوق الشهوة، ولا في نعيم هذا أطيب لأنه فوق الطمع، ولا في مال هذا أكثر لأنه فوق الحرص. وأحسبك لو كنت ترعى غنما لكنت الحقيق في عصرنا بقول تلك الراعية الزاهدة: أصلحت شأني بيني وبين فأصلح بين الذئب والغنم.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: حكي عنبعض الصالحين أنه فكر ذات ليلة فقال في نفسه: يا رب. من زوجتي في الجنة؟ فأرى في منامه ثلاث ليال أنها جارية سواء في أرض كذا. فجاء تلك الأرض فسأل عن الجارية، فقال له رجل ما هذا؟ تسأل عن جارية سوداء مجنونة كانت لي فأعتقتها؟ قال وماذا رأيتم من جنونها؟ قال: كانت تصوم النهار فإذا أعطيناها فطورها تصدقت به، وكانت لا تهدأ الليل ولا تنام فضجرنا منها.
قال: فأين هي؟ قال ترعى غنما للقوم في الصحراء.
فذهب إلى الصحراء فإذا هي قائمة في صلاتها، ونظر إلى الغنم فإذا ذئب يدلها على المرعى وذئب يسوقها. فلما فرغت من صلاتها سلم عليهافأنبأته أنه زوجها في الجنة وأنبأها أنه بشر بها؛ ثم سألها ما هذه الذئاب مع الأغنام؟ قالت: نعم أصلحت شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم.
قال (النابغة): هذا كذب لأنه عجيب، وهو عجيب لأنه كذب.(129/7)
قلت: وأي عجيبفي هذا؟ إن الذئب والشاة، والأسد والغزال، والثعبان والعصفور، وكل آكل ومأكول من الأحياء، لو هي دخلت في دائرة الصلاة الحقيقية لانتظمت كلها صفا واحدا يركع ويسجد. فهذه الجارية نشرت روح الصلاة والتقوى علىكل ما حولها من قلبها الطاهر المطمئن بالإيمان، فوقع الذئب منها في دائرة مغناطيسية، فسلب وحشيته ورجع مسخرا لفكرة الصلاح والخير إذ تجانست فيه الحياة بما حولها، وانسجم النوع والنوع في حركة متجاوبة انسجام الرجل المغناطيسيهو ومن ينومه في إرادةواحدة وفكرة واحدة.
قال (النابغة): فإذا دخل الذئب مسجدا يرتج بالمصلين، أتراه يصف أربعته ويقف بينهم للصلاة، أم يصلي صلاته الذئبية في لحومهم؟
قلت: وأين هم الذين يصلون بحقيقة الصلاة فيخرجون بها من النفس إلى الكون، ومن الزمن إلى الأبد، ومن الأسباب إلى مسببها، ومما في القلب إلى ما فوق القلب؟ إن هؤلاء جميعا يصلون بجوارحهم وبينهم وبين أرواحهم طول الدنيا وعرضها؛ وما منهم إلا من يتصل فكره بما يغلب عليه كما يتصل فكر اللص بيده، وفكر العاشق بعينه، وفكر الطفيلي بمعدته. . .
فاسمعها عندهم الصلاة وحقيقتها عند الله كما ترى.
قال (النابغة) ولكنه ذئب من طبيعته أن يأكل الشاة لا أن يرعاها، فلا أفهم شيئا.
وقال الآخر: (مما حفظناه) رتع الذئب في الغنم، ولم يقولوا صلى الذئب في الغنم، فلا أفهم شيئا.
قلت: سأزيد كما عدم فهم. . . إن قلب تلك المرأة العظيمة الطاهرة متصل بالله، وليس فيه شيء من طباعها الإنسانية ولا ظل من ظلال الدنيا؛ وقد تجلى فيه سر الحياة، وهو السر الذي لا يطعم ولا يشرب ولا يلبس ولا يشتهى ولا يطمع في شيء ولا يحرز شيئا، وإنما طبيعته أشواقه الكونية واتصاله بنفحات القوة الأزلية المسخرة للوجود كله. فانتشرت هذه الموجة الكهربائية الأثيرية حول الجارية من قلبها، وجاء الذئب فلتج فيها وغمرته الروحانية الغالبة فإذا هو يفتح عينه على كون غريب قد تجلى السلام عليه، فليس فيه إلا قوة آمرة أمرها بائتلاف كل شيء مع كل شيء، واجتماع المتنافرين في حالة معرفة لا في حالة إنكار. فصار الذئب مستيقظا، ولكن في روح النوم، وشلت فيه الذئبية الطبيعية فإذا(129/8)
هو يحمل الأنياب والأظافر وقد أنسى استعمالها، وبقيت حركته الحيوانية ولكن تعطلت بواعثها فبطل معناها.
ومن كل ذلك اختفى الذئب الذي هو في الذئب، وبقى الحيوان حيا ككل الأحياء، فناسب الشاة وفزع إليها إذ لم تعد العلاقة بينهما علاقة جس الآكل بجسم الأكيلة، بل علاقة الروح الحي بروح حي مثله. قال (النابغة): أما أنا فقد فهمت ولكن هذا المجنون لم يفهم. أكتب يا س. ع: جلس نابغة القرن العشرين مجلسه للفلسفة على غير إعداد ولا تمكن، وبدون كتب البتة. . . وكان هذا أجمع لرأيه وأذهن له وأدعى لأن يتوفر على الإملاء بكل مواهبه العقلية؛ ولما أن فكر النابغة وأعطى النظر حقه وجمع في عقله الفذ جزالة الرأي إلى قوة التفنن والابتكار، قال مرتجلا: إن فلسفة الذئب والشاة حين لم يأكلها ولم تنطحه، هي بالنص وبالحرف كما قال أستاذ نابغة القرن العشرين. . .
(حاشية) وإن مجنون المتن لم يفهم هذه الفلسفة.
فامتعض الآخر وقال: (مماحفظناه):
وبات يقدح طول الليل فكرته ... وسر الماء بعد الجهد بالماء
فقال (النابغة): ويلك يا أبله! أما والله لو كنت نفطويه أو سيبويه لما كنت عندي إلا جحشوية أو بغلويه. . .
لقد كنت أرى الكلام في تلك الفلسفة طريقا نزها جميلا حفته الأشجار والأزهار عن جانبيه، واندفعت في سوائه (تمبيلات) الأفكار خاطفة كالبرق. فلما تكلمت أنت انتهينا من سخافتك إلى طريق حجري تقعقع فيه عربات النقل تجرها البغال البطيئة.
فقال الآخر وهو يتعذر إليه: ما أردت والله مساءتك ولو أردتها لقلت وفسر الماء بعد الجهد بالسبرتو. . . فهذا هوالخطأ، أما تفسير الماء بعد الجهد بالماء فهو صحيح.
قال النابغة: ولكنه تفسير مفرط السقوط كتفسير المجانين، فهو يقول إني مجنون.
قلت: كلا، إن تفسير المجانين يكون على غير هذا الوجه كالذي حكاه الجاحظ قال: سمعت رجلا يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقا. قال الآخر: وأي شيء الزنديقا؟ قال الذي يقطع المزيقا. قال: وكيف علمت أنه يقطع المزيقا؟ قال رأيته يأكل التين بالخل. . . .
(طنطا)(129/9)
مصطفى صادق الرافعي
إلى (الحضرمي): أنامن زمن لا اقرأ شيئا لهذا الزنديق الذي سميته في كتابك؛ وقد عرفته رجلا لو أيقن أن حبل المشنقة يرفعه مترين فقط في جو الشهرة لمد له عنقه. . . فكل ما تقرؤه له من الطعن في العربية والعرب والإسلام، فإنما نيته فيه أن يتناول الكتاب ولو بالصفع إذا رن الصفع في العالم العربي. . .
الرافعي(129/10)
1 - بعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان الخفاء وما يزال الفضول والروع، ومصدر الأساطير الغريبة الشائقة؛ وفي عصور ومواطن كثيرة كان الخفاء عماد دعوات وثورات سياسية واجتماعية خطيرة، وكان مبعث دول قوية قامت في ظروف غامضة، واستندت في قيامها إلى دعوات ومبادئ خفية؛ وكان هذا الخفاء نفسه مصدر قوتها وحياتها. وقد شغلت هذه الفورات والدعوات الخفية فراغا كبيرا في التاريخ الإسلامي، وخصتها الرواية الإسلامية بكثير من التفصيل والجدل؛ ومازلنا نلمس آثارها حتى اليوم في بعض الطوائف والمجتمعات التي تلوذ في عقائدها وتقاليدها بكثير من الغموض والخفاء.
وقد كانت قصة المهدي المنتظر بلا ريب من أشد مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي وكانت أخصبها موردا للأساطير، واحفلها بالدعوات والفورات الخفية؛ ويكفي أن هذه الأسطورة الغريبة كانت مبعثا لطائفة من الدول القوية التي كان لها أكبر الأثر في سير التاريخ الإسلامي كما أنها كانت مصدرا لطائفة من الدعوات والمذاهب الدينية والاجتماعية التي شغلت مكانا كبيرا في الكلام الإسلامي. كانت أسطورة المهدي عماد الدولة الفاطمية التي قامت في قفار المغرب الأوسط حول تلك الشخصية الخفية - شخصية المهدي المبعوث - وحول رسالتها وإمامتها؛ ثم افتتحت مصر والشام وبسطت سيادتها على قلب العالم الإسلامي فيما بين آسيا الصغرى والحرمين؛ وكانت عماد دولة الموحدين التي قامت في قفار المغرب الأقصى، وسادت بسائط المغرب والأندلس أكثر من قرن؛ وكانت عماد طائفة كبيرة من الثورات والفتن الدينية التي وقعت في مختلف العصور في أنحاء العالم الإسلامي. وكان الخفاء صفة ملازمة لأسطورة المهدي قبل البعث وبعده، يسبغ على القائم ودولته وخلفائه نوعا من القداسة الروحية أو السمو فوق بني الإنسان.
ومنذ عصر الإسلام الأول تتبوأ هذه الأسطورة مكانها في الكلام الإسلامي، وتقوم على عناصر الغموض والخفاء، فنرى من غلاة الشيعة من يقول إن عليا بن أبي طالب لم يمت، ولكنه حي غائب عن أعين الناس، مستقر في السحاب، صوته الرعد والبرق في سوطه؛ ونرى منهم من يقول مثل ذلك القول في ولده محمد بن الحنفية، وأنه مستقر في جبل(129/11)
رضوى من أعمال الحجاز؛ ثم نرى الأسطورة تتخذ بعد ذلك صبغتها السياسية وتدعم بالأسانيد الكلامية والشروحي التاريخية، ولكن مع اقترانها بصفة الخفاء دائما. وخلاصة الأسطورة (أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من آل بيت يؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويعيد مجد الإسلام ودولته ويسمى بالمهدي). أما هذا الإمام الخفي فمن هو؟ هو من ولد علي بن أبي طالب؛ ولكن يختلف الشيعة في مساق الإمامة أصولا وفروعا؛ وليس من موضوعنا أن نتعرض لهذا الجدل؛ ولكننا نذكر فقط أن أشهر فرق الشيعة الإمامية، وهم الاثنا عشرية، يقولون إن الثاني عشر من أئمتهم، وهو محمد بن الحسن العسكري، هو المهدي، وإنه لم يمت؛ ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ثم يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؛ وزاد بعض الدعاة على ذلك فحددوا لظهروا المهدي تواريخ معينة، وكلهم يستتر لتأييد مزاعمه وراء الرموز والإشارات الغامضة، مما يسبغ على دعوتهم دائما لون السرية والخفاء.
وكما كان الخفاء مبعث القداسة والخشوع قبل تحقيق الظفر السياسي، فكذلك كان الخفاء بعد تحقيق هذا الظفر مصدر القوة والنفوذ للدولة أو الأسرة التي تتشح بثور الدعوة أو الإمامة أو الرسالة، ولنا أسطع مثل على ذلك في الدولتين، الفاطمية والموحدية. بيد أن هنالك أمثلة محلية كثيرة للاعتصام بهذا الخفاء المروع، وما كان يترتب على هذا الاعتصام من النتائج المادية والمعنوية المدهشة؛ ويكفي أن تكون هذه الغمر الخفية مبعثا لأكثر من دعوة بالنبوة، بل مبعثا لدعوة الألوهية ذاتها، وأن تقوم عليها عقائد ومذاهب كان لها أثر قوي في سير العالم الإسلامي وما زالت تمثل في عصرنا.
- 2 -
ويقدم لنا التاريخ الإسلامي أمثلة عملية مدهشة قوامها الخفاء المادي والروحي؛ ومن الصعب أن نستوعب هذه الأمثلة أو أن نحصيها جميعا في هذا المقام المحدود، ولكننا نقدم منها بعض أمثلة شهيرة.
ففي أواخر القرن الثالث من الهجرة ظهرت دعوة القرامطة مستظلة بالدعوة الشيعية والإسماعيلية وقوامها التبشير بالمهدي المنتظر؛ وظهر داعية القرامطة الأول الفرج بن(129/12)
عثمان القاشاني الملقب بذكرويه في جنوب العراق، ولبث حينا يبث دعوته سرا وخفية؛ وتلاه تلميذه وصاحبه (قرمط) مؤسس المذهب الحقيقي يبث الدعوة جهرا، ويدعو إلى إمام من آل البيت هو المهدي الذي يظهر فيملأ الأرض عدلا، فلما ذاع أمره قبض عليه عامل الكوفة وألقاه إلى ظلام السجن، ولكنه استطاع أن يفر من سجنه في ظلام الليل بمساعدة جارية للحاكم؛ وكان هذا الداعية الجريء يدرك سر الخفاء وفعله في نفوس الكافة فاختفى على أثر فراره حينا، وألقى في روع أنصاره أنه رفع إلى السماء فازدادوا به فتنة؛ ثم ظهر بعد ذلك وكأنه قد بعث، ثم فر إلى الشام ولم يوقف له على خبر بعد ذلك، فكان هذا الاختفاء في ذاته عاملا في ذيوع الدعوة القرمطية واضطرامها.
ورأى الفرج بن عثمان أو ذكرويه أن يخوض أيضا غمر الخفاه، ليحدث مثل الأثر الذي أحدثه اختفاء قرمط، فنزح إلى القفر وتوارى عن الأنظار في مكان ناء، في مغار أنشأه لذلك، واستخلف أولاده للدعوة، ولبث أعواما طويلة يعمل ويدبر الخطط من وراء ستار، ويوجه أكابر أنصاره وخاصته حتى اشتدت دعوة القرامطة بعد قتال رائع، وجرح ذكرويه وأسر، وحمل إلى بغداد حيث توفى من جراحه بعد أيام، ومثل بجثته أشنع تمثيل (سنة 294هـ) بيد أن فورة القرامطة كانت قد اجتاحت يومئذ أنحاء البحرين، واستقرت هنالك قوية منذرة، واستمرت خطرا داهما على الشام ومصر وأطراف الجزيرة حتى أواخر القرن الرابع.
- 3 -
على أنا نجد أروع مثل للخفاء فيالدولة الفاطمية، في قيامها، وفي وسائلها، وفي خلفائها؛ فقد نشأت هذه الدولة القوية في قفار المغرب على يد دعاتها السريين وشيعتهم من القبائل البربرية المتعصبة الساذجة، وكان أول خلفائها عبيد الله المهدي شخصية خفية غامضة لم يستطع التاريخ أن يقف على حقيقتها أو يتقصى نسبتها؛ واستمر هذا الخفاء يغمر شخصية الخلفاء الفاطميين، وهذا الريب يغمر أصلهم ونسبتهم، حتى أننا نجد أشراف مصر يطلبون إلى المعز لدين الله حيث مقدمه إلى مصر أن يوقفهم على، نسبه، فيجمعهم في مجلس عام ويسل نصف سيفه ويقول لهم هذا نسبي، ثم ينثر عليهم ذهبا ويقول لهم هذا حسبي، ونجد خصوم الفاطميين ولا سيما بني يتخذون هذا الريب في نسبهم مثارا للطعن في إمامتهم وفي(129/13)
ذممهم وعقائدهم مما لا يتسع المقام لبسطه؛ بيد أن هناك حقيقة تلفت النظر، هي أن الخلفاء الفاطميين، ولا سيما الأوائل منهم كانوا يزعمونعلم الغيبومعرفة الخفاء، ومما يروى في ذلك أن العزيز بالله الفاطمي صعد المنبر ذات فرأى رقعة مكتوب فيها.
بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة
إن كنت قد أعطيت علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقة
وذلك إشارة إلى دعواهم علم الغيب؛ وقد اتخذ تعلق الفاطميين بالخفاء واستظلالهم برموزه صورا واضحة لهم أثرها القوي في بناء الدولة الفاطمية وفي خططها ووسائلها؛ بل كان هذا التعلق بالخفاء سياسة مقررة للخلافة الفاطمية؛ فنراها منذ استقرت بمصر مجالس الحكمة الشهيرة في القصر وفي الأزهر وتعني بأن تكون هذه المجالس مبعثا لتعاليمها المذهبية؛ ثم نرى هذه المجالس يتسع نطاقها شيئا فشيا وتغدو، جزءا من نظم الدولة الروحية والاجتماعية، ونراها تعقد للنساء والكافة، وينصب للأشراف عليها رجل من أكبر موظفي الدولة هو قاضي القضاة، وينعث في هذا المنصب (بداعي الدعاة). وفي عهد الحاكم بأمر الله تتخذ الخطوة الأخيرة والحاسمة في تنظيم مجالس المحكمة، وتنظيم الدعوة السرية الفاطمية بصورة رسمية وتنشأ دار الحكمة الشهيرة، لتستأثر بتنظيم الدعوة وبثها على يد نخبة من الدعاة والنقباء (سنة 395هـ)؛ وقد اتخذت دار الحكمة منذ قيامها صبغة مذهبية واضحة قوامها بث الروح والمبادئ الدينية الفاطمية، وكانت هذه مهمتها الظاهرة؛ بيد أنها كانت تعمل في الظلام لغاية أخرى يغمرها الخفاء، هي بث الدعوة السرية الفاطمية. ولا يتسع المقام للإفاضة في تفاصيل هذه الدعوة الغريبة ورسومها، ولكنا نقول فقط أنها كانت من أغرب الدعوات السرية المذهبية؛ وكانت موزعة على مراتب تسع يتدرج فيها الطلبة على يد الدعاة، ويدفعون تباعا إلى حظيرة التعاليم الفلسفية والالحادية؛ ويبدأ الطالب في جو من الإيمان العيق، ولكنه لا يصل المرتبة السادسة أو السابعة حتى يكون قد انحدر إلى غمر الإنكار المطبق؛ ويبدو مما نقل إلينا من تفاصيل هذه الدعوة الغريبة ومن موضوعات مراتبها، أن الغاية الأخيرة التي كانت تعمل لها الدعوة السرية الفاطمية هي هدم كل اعتقاد وكل عقيدة دينية، والانتقال بالطلبة والصحب إلى حظيرة الإلحاد المطبق والترفع عن العقائد الروحية العامة التي تؤكد الدعوة أنها لمتوضع إلا(129/14)
للكافة، ولا يلزم بها ذوو الإفهام الرفيعة وقد استمرت هذه الجامعة الغريبة، أعنى دار الحكمة، عصرا ثبت العقائد والمبادئ الفاطمية، الخفية والظاهرة، وكانت جهودها السرية أخطر وأشد أثرا في توجيه الحركة الروحية في مصر؛ بيد أنها لم توفق إلى تحقيق الغاية التي عملت لها، ولم تستطع أن تطبع المجتمع المصري بطابع عميق من الدعوة التي كانت مبعثها ومستقرها، وكانت جهودها بالعكس عاملا في بث أسباب السخط على تلك السياسة التي رسمت للاستئثار بتوجيه العقائد وبث الإنكار والإلحاد؛ واضطرت الخلافة الفاطمية غير بعيد أن تعدل عن هذا الإغراق في بث العقائد المذهبية، فتضاءلت أهمية دار الحكمة، ثم أغلقت بعد ذلك؛ بيد أن هذه الدعوة السرية ذاتها تمخضت كما سترى عن نتائج مدهشة سريعة الأثر.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان(129/15)
المتنبي في ديوانه بمناسبة ذاكره الألفية
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
اختلفت مذاهب الأدباء في المتنبي بين المدح والذم اختلافا شديدا منذ العصور الذي كان يحيا فيه إلى الآن، وقد مر على وفاته عشرة قرون كاملة. وانك لتجد اليوم بعد هذه الأجيال الطويلة من يتكلم عن المتنبي بلسان الصاحب بن عباد خصمه العنيدالذي جعل وكده النيل من المتنبي وإنكار فضائله بالحق أو الباطل، ومن يدافع عنه ويتعصب له أكثر من ابن جني وأبي العلاء. ولقد كان حريا أن تضيع حقيقة المتنبي بين التفريط والإفراط من الفريقين كما هو الشأن في كل ما يتعاوره هذان العاملان المختلفان، ولكن المتنبي كان شخصية فذة تأبى إلا الإعلان عن نفسها والظهور بمظهرها الحقيقة مهما حالت الحوائل بينها وبين الناس فالمتنبي لا يجهل أحد من المثقفين اليوم أنه من أكبر شعراء العربية إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق. رفع من شأن الشعر العربي فأحله مرتبة لم تكن له من قبل، بما نفى عنه من الزخارف اللفظية والأساليب التقليدية والأغراض السافلة، وما نفخ فيه من روح العظمة والابتكار والسمو إلى الغايات البعيدة المنال. حتى انه إذا مدح شخصا فان مدحه له يكون كالتلقين لمبدأ سام لا يجد الإنسان مندوحة عن الاستجابة له من أعماق نفسه. ولا نستدل على ذلك بأكثر من مطلع هذه القصيدة التي يمدح بها سيف الدولة، فان فيه وحده بلاغا لمن يتشكك في هذا القدر، وهو قوله:
على قَدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائم ... وتَأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المكارِمُ
وتَعْظَمَ في عَيْنِ الصَّغير صغارُها ... وتصغُرُ في عين العَظِيم العَظاِئمُ
وكما يعرف الجمهور هذه الحقيقة من أمر المتنبي اليوم، فانه كان يعرفها بالأمس وفي نفس عصر المتنبي. يدلنا على ذلك هذه العناية الكبيرة من الأدباء بشعره؛ فمن شرح له، إلى انتقاد، إلى تقريظ، إلى غير ذلك مما لم ينله شاعر قبله ولا بعده. وفي حياة المتنبي قال ابن العميد لأحد خلصائه: (انه والله ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في إخماد ذكراه، فقد ورد على نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ... فَزِْعتُ منه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقه أملاً ... شَرِقت بالدمع حتى كاد يَشرَقُ بي(129/16)
ولاحظ الأستاذ العقاد عن المدة بين نظم القصيدة التي منها هذان البيتان وموت أخت ابن العميد التي كانت التعزية فيها، أنها لا تزيد كثيرا على سنة واحدة. فانظر كيف كان تلقف الأدباء لآثار المتنبي وتلقيهم لها بالقبول، برغم وجود كثير من المنافسين له والعاملين على إخماد ذكراه كما يعبر الرئيس ابن العميد!
فمقام المتنبي دائما أرفع من أن يتطاول إليه أحد، وشأنه أكبر من أن يؤثر فيه مقال أهل الحسد. وما كثرت هذه التبعات لشعره فكثرت بسببها العثرات التي يأخذها عليه خصومه، إلا لأن نبوغه كان أكمل وأتم، وعبقريته أجل وأعظم؛ والناس منذ كانوا مولعون بالعظماء يتلمسون عيوبهم فيظهرونها، ويتكشفون عوراتهم فلا يسترونها. على أن جل ما أخذ على المتنبي قد رده المحققون وبينوا أن الصواب ما ذهب إليه هو؛ وبعض الباقي هو مما لم يخل منه كاتب ولا شاعر في القديم والحديث، وأي صارم لا ينبو؟ وأين الجواد الذي لا يكبو؟
نعم، هناك هنات لا تزال لاصقة بالمتنبي فتزري بشخصه الكبير؛ ولا زال البحث العلمي بعيدا عن أن يصل فيها إلى نتيجة حاسمة، فنريد أن نلقي عليها بصيصا من نور التحقيقمعتمدين في الكثير على شعر المتنبي الذي هو أصقل مرآة لنفسيته وأخلاقه. وسيكون اعتمادنا في الأكثر على نسخة خطية عتيقة من ديوانه توجد بالخزانة الكنونية. وهذه الهنات التي نقصد إلى الكلام فيها هي تنبؤه وعقيدته وأخلاقه.
فأما تنبؤه فهو الزلة الكبرى التي تؤخذ على ذلك العقل الجبار، وهو في الحقيقة أمر لو صح لكان ذريعة إلى اتهامه في سلامة الادراك. ولكن من المعروف أن المعري كان يشك في صحة ذلك، ويقول في هذا اللقب الذي غلب على أبي الطيب: إن اشتقاقه من النبوة أي الارتفاع، لما كان من ترفعه على الخلق، لا من النبأ الذي منه اشتاق النبئ. وهذا الخبر وحده كاف في نفي هذه التهمة عنه، لا لتشكك المعري فيها، ولكن لما يتضمنه ذلك من إخفاء قضية التنبؤ وعدم شهرتها بين الخاصة فأبله بالعامة، وإلا لما سأل ابن القارح أبا العلاء عن حقيقتها فأجابه أبو العلاء بذلك الجواب. وهذا على أن ما بين المتنبي وأبي العلاء من الزمن لا يجاوز العقد الواحد من السنين. فكيف خفي هذا الأمر ودفن مع المتنبي حتى أن اثنين من كبار أدباء ذلك العصر لا يجدان سبيلا إلى التوثق منه، مع أن العادة في(129/17)
مثله إذا وقع ولو ممن هو أدنى من المتنبي مقاما، أن يشتهر ويتعالم فيتناقله الناس ولا يبقى إحدى ليس عنده نبأ منه!
وأكثر من خبر المعري دلالة على هذا المعنى، خبر ابن جني الذي ذكر له أبو القاسم الشريف (الشريف الغرناطي) في شرح مقصورة حازم، قال: (وحكى أبو الفتح ابن جني قال: سمعت أبا الطيب المتنبي يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا تِرْبُ الندَى وربُّ القوافي ... وسمامُ العدَى وغيظُ الحسودِ
أنا فِي أمةٍ تدارَكها الله ... غريبٌ كصالح في ثُمودِ)
فهو لو كان تنبأ حقيقة لما جهل ذلك من أمره حتى يحتاج إلى البيان، وإلا كان كالمعتذر بأقبح من الزلة. وصفوة القول أن قضية تنبئه لم تثبت حتى في زمن حياته. وهي إن لم تكن من إشاعات خصومه الكاذبة فهي على الأرجح مما نبز به لتشبيهه نفسه بالأنبياء كما في البيتين السابقين والبيت الآخر الذي يقول فيه:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وننظر في ديوانه فلا نجد ما يدل على هذه القضية لا تصريحا ولا تلويحا إلا ما كان من أمر سجنه في صباه بسبب وشاية بعض الناس به إلى الوالي. فنقول ما هي هذه الوشاية؟ أتراها مما له علاقة بهذا الأمر؟ وتجيب نسختنا عن ذلك بما كتب فيها على القصيدة التي مدح بها الوالي فتقول: (وكان قوم في صباه وشوا به إلى السلطان وتكذبوا عليه وقالوا له قد انقاد إليه خلق من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه. فاعتقله وضيق عليه فقال يمدحه). فالوشاية إذا هي خروجه على السلطان لا ادعاؤه النبوة. واستمع إلى ما يقوله في استعطاف الوالي من تلك القصيدة:
أمالك رقي ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلي ... وأوْهن رجلىِ ثقلُ الحديد
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
يريد المسجونين من اللصوص والجناة المختلفي الطبقات السيئي السلوك(129/18)
تعجل فِيَّ وجوب الحدود ... وحدِّيَ قبل وجوب السجود
يريد أنه صغير لم تجب عليه الصلاة فكيف يجب عليه الحد؟
وقيل عدوت على العالميـ ... ن بين ولادي وبين القعود
يريد أنهم اتهموه بالعدوان على العالمين في حال الطفولة قبل أن يستطيع القعود. وليلاحظ القارئ نوع التهمة فهي منحصرة في الخروج، ولو كانت ادعاء النبوة لما قالت عدوت على العالمين:
فماَلك تَقبلُ زُ ورَ الكلام ... وقدرُ الشهادة قدرُ الشهود
يريد أن الشهود من سفلة الناس فشهادتهم مردودة لعدم تورعهم عن الكذب:
فلا تسمعنَّ من الكاذبين ... ولا تعبأنَّ بمحكِ اليهود
وكن فارقا بين دعوى أردت ... ودعوى فعلتُ بشأو بعيد
وفي جود كفك ما جدت لي ... بنفسي ولو كنت أشقي ثمود
فهذا كلامه في حال صباه قبل أن يناصبه العداء أحد من المنافسين له والحانقين عليه، لم يتضمن شيئا من الإشارة إلى دعوى النبوءة، ولا يمكن ان تفهم منه بحال. فلو كان قال هذه القصيدة في إبان شهرته وانتشار ذكره لقلنا إنه جمجمفيها ودارى عن نفسه، ولكنه كما علمت قالها في صباه، وهي من أوائل شعره بلا نزاع عليها وصحة الاستشهاد بها. بل نحن نسلم جدلا انه أدعى النبوة وبسببها سجن، فكيف يصح قوله حينئذ:
بين دعوى أردت ... ودعوى فعلت بشأو بعيد؟
وهل من يريد إدعاء النبوة متنبئ بالفعل؟ وهل هذه الإرادة مما يمكن الاطلاع عليه قبل إظهارها حتى تأتي الوشاية به؟ وذلك بخلاف الخروج فان بوادره تظهر للناس قبل الإقدام عليه، لأنه لا بد له من دعاوة كبيرة، إذ أن الفرد لا يمكن أن يرفع وحده علم الثورة في وجه الدولة! ومع تأكيدنا أن الذين وشوا به لم يتهموه إلا بالخروج، لا نستبعد أنهم الذين لمزوه بذلك اللقب المشنوء لما رأوا تعاليه عليهم وتقريعه لهم مع تشبيههم باليهود وتشبيه نفسه بالأنبياء كما في قوله:
ما مقامي بأرض نخلةَ إلا ... كمقام المسيح بن اليهود
وقوله:(129/19)
فلا تسمعن من الكاذبين ... ولا تعبأنَّ بمحك اليهود
بل إننا لا نكاد نميل عن هذا الرأي في سبب تلقينه بالمتني حتى تقوم الحجة، والحجة القاطعة على خلافه. وأما أقوال خصومه في ذلك فمرجد ادكار قوله انه سمام العدا وغيظ الحسود تضعف وتضمحل حتى لا يبقى لها اعتبار ما.
وأما عقيدته فهي مما كثر كلام الناس فيه؛ ولسوء حظ المتنبي لم يتناولها إلا منتقد، وليس هناك معتقد فيما نعلم تولي رد ما رمى به من الزبغ والإلحاد. فنحن نبين ما يعتمد إليه متهموه فيها ونعقب عليه بما يلوح لنا من ذلك صحيحا أو باطلا. غير أنه لابد من القول أن مثل المتنبي في أدبه وشعره وروحه الفلسفية لا يطمع منه أن يكون متدينا خالصا إلى حد التبتل والانقطاع للعابدة ومحاسبة نفسه على الخطرات وحبس لسانه عن فضول الكلام، فان التدين بهذه الصفة مما لا يكاد يفهمه إخوانه من الشعراء وأهل الأدب على وجه العموم. وقديما مثلوا برقة إيمان الأدباء، فكيف نريد منالمتنبي أن يتستر على جمهورهم ويقدم لنا من نفسه (أويسا) في ثوب شاعر، أو شاعار في ثوب (أويس)؟ ولئن قال علي بن حمزة عن المتنبي إنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن فلقد قال عنه إنه ما كذب ولا زنا ولا لاط. وهذه إن لم تقم بتلك فان تلك لا اعتداد بها مع هذه. وهل كان الشعراء الذين لم يتنزهوا عن الكذب والزنا واللواط يصمون ويصلون ويقرأون القرآن؟
وبهذا تعلم أن عدوان الخصومة على المتنبي قد ستر من محاسنه ما لو ظهر لكان له في النفوس مكان أسمى مما له فيها الآن ولأقص على سمعك بعد هذه المقدمة بعض الأبيات التي يزن بسبها بضعف العقيدة. قال يمدح بدر بن عمار:
تَتَقاَصرُ الأفهامُ عن إدراكه ... مِثُل الذي الأفلاكُ فيه والدُّنى
فقالوا: لقد أفرط جدا لأنه شبه ممدوحة بالحق سبحانه وتعالى، لأن الذي فيه الأفلاك والدنى هو علمه عز وجل. ونقول إن هذا تعسف ظاهر، فمن الذي نقل عنه أنه يريد ما ذكرتم؟ وماذا حسن في بلاغتكم؟ التعبير عن علم الله بالذي الأفلاك فيه والدنى حتى رجحتموه على أن يكون المراد به هذا الفضاء الواسع الذي يحتوي الأفلاك والدنى حقيقة ممتدا وراء الآفاق التي تتقاصر عن إدراكها العقول؟
وقال المتنبي:(129/20)
أنا مُبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالآله فأحلما؟
فقالوا: هذه مبالغة مذمومة وإفراط وتجاوز حد، ثم هو غلط في إنكار رؤية الله تعالى في النوم فان الأخبار يقد تواترت بذلك ونقول: إن البيت رواية أخرى وهي الأشهر هكذا:
من كان يحلم ما يراه فاحلما، وهي كذلك في نسختنا، والمعنى عليها أظهر من الأولى فلا يبعد أن تكون تحريفا
(البقية في العدد القادم)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني(129/21)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
كوخ
رابع غزاة المكروب يكتشف مكروب السل
- 6 -
إن بشلات الجمرة بشلات في المكروبات كبيرة يسهل الكشف عنها إذا هي قورنت بمكروب السل، ذلك المكروب القتال الخداع. ومكروب الجمرة يكثر في أجسام الحيوان قبيل موته كثرةً هائلة، فلا يخطئه البصر ولو لم يكن حديدا، أما مكروب السل - ولم يكن كوخ على يقين من وجود مكروب له - فقد طلبه الطالبون وتقفاه الباحثون ولكن بغير جدوى. ولو أن لوفن هوك نفسه، وهو أحد البحاث عيناً، نظر في مائة رئة مريضة، ثم نظر، ثم أعاد النظر، ما خرج من نظراته الحديدة الكثيرة على شئ. ولو ان اسبلنزاني حاول ما حاول لوفن لعجزت مجاهره عن إبلاغه تلك الغاية. أما بستور، وهو الباحث القدير، فلم تكن طرائقه من الدقة بحيث ترفع الغطاء عن هذا الفاتك الغادر. أو لعل صبره كان ينقذه دون أن يحقق شيئاً.
ولم يكن يعرف قبل كوخ من داء السل شئ كثير، فكل ما عرف عنه أنه داء تنقله مكروبات، وذلك لأمكان نقله من حيوان سقيم إلى أخر سليم. سبق إلى هذا الدليل عالم شيخ اسمه فلمان وحققه من بعده كون هايم أستاذ برسلاوة الكبيرة، فاستطاع أن ينقل داء السل إلى الأرانب، إذ أخذ فتيتة من رئة مسلولة فأدخلها في الخزانة الأمامية لعين أرنب، فأخذت أنسجة العين تتدرن، وأخذ الدرن يتمدد ينذر الموت. وظل عالمنا القدير يرقب حوادثهذه التجربة البديعة من خلال أغنية العين الشفافة فكأنما يرقب دوراً على مسرح يلعب من وراء زجاج كان كوخ قد أطلع على تجربة كون هايم، ودرسها درساً طيباً.
قال: (ليس في المقدور أن أجرب تجارب السل في آدمي، وقد أمكن الآن نقل هذا الداء إلى الحيوان، فهناك يا نفس فرصة غالية لدراسته، لكشف مكروبه، فلا بد من مكروب ينشأ عنه هذا الداء. . . .).(129/22)
وبدأ كوخ عمله، وكان لا يعمل إلا على خطه يرسمها، وكانت خططه قاسية لا صلةهلا بعاطفة بني الانسان، ولا تمت بسبب إلى الحنان القلوب. وأجرها ببرود قلب لو أطلعت عليه في تقاريره عنها لأقشعر بدنك منها. وحصل على مادة سله الأولى من عامل يفعل في الأرض؛ وكان رجلا قوي البنية، مفتول العضل شديداً، وكان عمره ستة وثلاثين عاماً، وكان منذ ثلاثة أسابيع في صحة هي الغاية مما يرجوه إنسان، فلم يلبث أن جاءته سعلة باغتة، اخترقت صدره الآم فاجئه، نفذ منه نفوذ السهام. وأخذ جسمه في الهزال السريع حتى أصبح كأنه الشمعة احترقت فأخذت تسيح. ودخل المستشفى ولم تظله سقفه أربعة أيام حتى صعدت روحه إلى السماء، وتخلف جسمه حيث هو من سريره، وقد عمه الدرن وتنقط كل عضو فيه بتلك الحبيبات الغبراء الصفراء كأنها الفلفل بعثره مبعثر فيها.
بدأ الكوخ عمله في هذه المادة الخطيرة وحيداُ، فمساعداه كانا قد افترقا عنه، أما لفلار فأخذ يتقفى مكروب الدفتريا، وأما جفكي فكانا ينقب عن مكروب التيفود. بدأ كوخ العمل وحده، فجمع الدرن الأصفر من جثة العامل المنكود بين مشرطين أحماهما في النار، ثم سحق الدرن، ثم حقن سحيقة بلطف في عيون طائفة من الأرانب، وحقن منه تحت جلود طائفة أخرى من الخنازير الغينية، ووضع الأرانب والخنازير في أقفاص نظيفة، وأخذ يعني بها ويلاطفها ويداعبها مداعبة الأم الرؤوم؛ وبينا هو ينتظر انبعاث السل فيها ملأ وقته بالنظر بأقوى مجهر في الأنسجة المريضة التي خلفها العامل المسكين.
نظر ثم نظر، ثم داوم النظر أياما بمجهر يكبر الأشياء مئات المرات، فلم يكشف بصره شيئاً إلا الحطام الذي تخلف من كبد تهدمت أورئةتخربت. قال كوخ: (إن يكن للسل مكروب فلا بد أنه يداورني ويغالبني حتى يفلت من عيني فلن أستطيع بعد الآن رؤية وهو حيث هو من الأنسجة بصبغة شديدة، فلعله يتراءى من بعد ذلك فيها. . .)
ومضى اليوم تلو اليوم، وكوخ قائم قاعد في صبغ الدرن الذي جمعه، يصبغه بالأسمر والأحمر، وبكل لون من ألوان الطيف استطاعه. كان ينشره على شريحة من الزجاج نظيفة، ثم يغمرها بما عليها فيمحلول صبغة قوية زرقاء، ويدعها الساعات فيها، ثم يعود إلى شريحة ثانية ويصنع بها ما صنع بالأولى، فيغمرها في صبغة أخرى، ثم يعاود ثالثة ورابعة، وكلما مست يداه شيئاً مستراباً غمسها في محلول مطهر من السليماني حتى تقشف(129/23)
جلدهما وأسود.
واصبح صباح يوم، فقام كوخ إلى شرائحه الزجاجية فأخرجها من محلول الصبغات التي كانت بها، ووضعها واحدة بعد أخرى تحت مجهره،، واخذ يبؤئره عليها، فاخذ مجال بصره يتضح رويداً رويداً حتى خرج له من العلماء الأغبر صورة جلية بينة، وإذا عينه ترى بين خلايا الرئة التي تقوضت من الداء مجموعات غريبة من بشلات صغيرة كالعصي زرقاء، رقت في بصره فلن يستطع تقدير سمكها، أما طولها فأقل من جزء من خمسة عشر آلف جزء من البوصة الواحدة قال كوخ: (ما أجملها بشلات! إن بها انحناء قليلا والتواء، فهي ليست في استقامة مكروب الجمرة، وهناكأسرابا منها اجتمعت واكتنزت كأنها حزم السجائر، وهاك بسلةً عفريتة دخلت وحدها خلية من خلايا الرئة المتآكلة. . . أحقاً هذا مكروب السل وقعت عليه هكذا سريعاً؟) وواصل كوخ عمله بدقته المعهودة، فظل يصبغ الدرن يستخرجه من كل ناحية من نواحي جثة العامل، وحيثما صبغ أرته صبغته الزرقاء تلك البشلات الدقيقة الحنواء؛ تلك الخلاق الغريبة الجديدة وقد اختلفت عن كل ما كان رآه في أجسام ألوف الحيوان والإنسان سليمة وسقيمة.
ولم يلبث فيما هو فيه طويلا حتى بدأت الفاجعة المحزنة تقع في الخنازير الغينية والأرانب. أخذت هذه الخنازير يتزاحم بعضها لصق بعض في أركان القفص في كآبة بينة، وانتفش فروها، وأجسامها الصغيرة التي دأبت بالأمس على الوثب واللعب، آخذت تنهزل ويذوب عنها ما كساها من اللحم والشحم فصارت كأنها العظم حوته صرة من جلدها. ولزمتها الحمى فهمدت وتخاذلت عن طعامها من الجزر الطيب قد زها لونه، والحشيش الطازج قد فاح شذاه. ثم آخذت تموت واحدا فواحده، وكلما مات واحد منها إرواء لغلة عالنا من البحث، وافتداء لسلامة للاتسان، قام صاحبنا إليه فدبسه على لوحة تشريحه، وبلل جلده بمحلول السليماني ثم اخذ مشارطه فطهرها ثم شق جثة الخنزير وشرحها في دقة زائدة وعناية بالغة سكتت لها أنفاسه مخافة الزلل.
وفي بطون هذه الضحايا، التي جهلت بما ضحت، وجد كوخ نفس ذلك الدرن الأصفر الأرمد المرعب الذي امتلأت به جثة العامل. فقام يبسطه على لوائح زجاجه الذي لايفني، ثم يغمره في صبغته الزرقاء، وفي كل حالة وبكل جسم كشفت له الصبغة عن نفس تلك(129/24)
العصي الحدباء التي أرته إياها أول مرة في رئة ذلك العامل فدعا عونيه الأقدمين - لفلار الشغال، وجفكي المخلص - فتركا ما هما فيه من مكروبات أخرى يبحثانها، فلما جاءاه أراهما ما وجد. قال: (انظر كلاكما فآني وضعت في هذا الحيوان منذ ستة أسابيع فتيتة صغيرة من الورق لا يتجاوز ما فيها مائة من هذه البشلات، وها هي اليوم قد تكاثرت فيه فبلغت البلايين. أي مخلوقات هذه! فلقد إنتشرت من حيث حقنت في فخذ هذا العيني إلى كل أجزاء جسمه، فنفذت كالأرضة إلى اقاصيه، واخترقت جوانب الشرابين. . . . وحملها الدم إلى عضامه. . . وحملها إلى ابعد زوايا في مخه. . . .) وذهبت إلى مستشفيات برلين، كائنة حيث ما كانت، يستجدي منها جثث الموتى رجلًا ونساءً من صرعى السل، واخذ يقضي أيامه وحيدا مستوحشاً بين هذه الجثة حيث هي من بيوتها، ويقي امساءه عند مكرسكوبه في معمله، وهو ساكن كالقبر إر من أصوات خنازيره الغينية وحركاتها، واستخرج من أجساد الموتى أنسجتها المريضة فحقن منها في مئات من هذه الخنازير، وفي كثير من أجساد الموتى أنسجتها المريضة فحقن منها في مئات من الخنازير، وفي كثير من الأرانب، وفي ثلاثة كلاب، واثنتي عشرة حمامة، ثلاثة عشرة قطة خداشة، دجاجات دفاقةقواقة؛ ولم يقف من جنونه إلى هذا الحد من جقن هذا العدد الكبير من الحيوانات، بل انه حقن هذه المادة الجبنية القاتلة في أنواع عدة من الجرذان والفئران أبيضها وأرمدها، وما يرتاد الجبال منها، بلغت دقة كوخ في صيد المكروب حداً لم يبلغه صائداً قبله.
وتفكر كوخ لما أجهده الحذر قال: (يا لله من عمل يهز الأعصاب هزاً). قال هذا وقد خال ما كان حاله لو أن مخلب هذه الهرة امتد كالبرق إلى محقنه فأرتشق في جلده بكروبها القاتل! لم يكن كوخ برغم هدوئه ووحدته وانفراده في محاربة هذه الأعداء الخفية خلوا من هزات الحياة وانفعالاتها، إلا أنها لم تكن انفعالات من التي تنعش وتسر، ولكن من تلك التي تنذر بالفواجع والمآسي.
وصمد صاخباً للمأساة المنذرة فلم تزل يده إنما ازدادت على الأيامجفافاً وتجعداً واسوداداً لغمسه إياها في محلول السليماني، هذا المحلول الطيب الذي وجد بحاث الكروب في تلك الأيام أمنهم فيه، فغمروا يه كل شيُ حتى أجسامهم. وتتالت الأسابيع وكوخ بين مواء القطط وقيق الدجاج ونباح الكلاب، وبشلته الحنواء تتكاثر تكاثراً سريعاً قاسياً فظيعاً في هذه(129/25)
الحيوانات، ثم أخذت هذه الحيوانات تتساقط واحدة بعد اخرى، وتعجلها الموت فازدحمت بين يدي كوخ، فاشتغل من يومه ثماني عشرة ساعة قضاها في شق جثتها وتفحص ما بها، ثم في امتحان ما وجد فيها تحت المكرسكوب بعينه العمشاء.
قال كوخ لتلميذيه الأقدمين لفلا وجفكي: (إني لا أجد هذه العصي الزرقاء إلا في الرجل أو في الحيوان المسلولين. ولقد نظرت كما تعلمون في مئات من الحيوانات الصحيحة فلم أجد لهذه العصي أثراً).
فقال صاحباه: (ومعنى هذا يا سيدنا الدكتور أنك وجدت البشلة التي هي أصل هذا الداء).
فيقول كوخ: (لا. لا. للساعة لم يتم الأمر. . . إن الذي أتيته قد يقنع بستور، أما أنا فلم أقتنع بعد، فلا بد لي من استخراج هذه البشلات من أجسام هذه الميتات، ولا بد لي بعد ذلكمن زرعها في فالوذج حساء اللحم الذي كنا اصطنعناه. . . (لا بد من الحصول علة زريعات خالصه من هذه البشلات من أجسام هذه الميتات، ثم لا بد لي بعد نسل عدة اشهر، بعيدة عن كل مخلوق حي. ثم بعد ذلك أحقن النسل الأخير الخالص في حيوانات سليمة، فاذا جاءها السل. . . .) وعندئذ انبسطت أسارير كوخ وعلت فمه ابتسامة قصيرة. وعاد لفلار وجفكي إلى أبحاثهما، وفي قلبيهما روعة المعجب خجلة المتسرع الذي يجني النتائج فجة غير ناضجة.
ورسم كوخ في رآسة كل الصور الممكنة لزرع خذا المكروب وبدأ بزرعه على فالوذج حساء البقر. وصنع عشرات من مختلف الأحسية، وصبها في أنابيب وقنيناته ووضعها في درجات من الحرارة مختلفة؛ فبعضها في درجة حرارة غرفته، وبعضها في درجة حرارة جسم الإنسان السليم، وبعضها الآخر في درجة جسم الإنسان المحموم. وأتى ببشلاته من رئات خنازير غينيه فجاءت حالص من كل مكروب ضال يخشة منه أن يكاثرها وهي دقيقة فيسج عليها مسالكها. وزرع هذه البشلات النقية في مئات الأنابيب والقناني، ولكنه خرج من كل هذا - بالخيبة! فهذه البشلات الدقائق التي تتكاثر في أجسام حيواناته تكاثراً سريعاً ذريعاً، هذه البشلات التي تناسلت في أجسام المرضى من بني الإنسان حتى بلغت الملايين، هذه البشلات رفعت أنوفها - على فرض إن لها أنوفاً - عن طعام كوخ اشمئزازاً من احسائه وفواليذهذات يوم خطر لكوخ خاطر فيسبب إخفاقه قال: (إن بشلات السل لا(129/26)
تنمو إلا في أجسام حية، فلعلها آذن تتطفل على هذه الأجسام، وعلى إذن أن أجهز لها طعاماً أقرب ما يكون إلى مادة جسم الحيوان).
هكذا اكتشف كوخ طعامه الشهير - فالوذ مصل الدم اكتشفه طعاماً لكل مكروب أرستقراطي مترف يعاف طعام السوق ' طعاماً لكل مكروب أرستقراطي مترف يعاف طعام السوقة من المكروبات، وذهب إلى القصابين وجاء منهم بدم طازج من أبقار قتلت لوقتها، فلما أنجمد وتجبن، شققه، فسال منه عصير زلالي يضرب إلى صفرة التبن. ثم سخن هذا المصل بمقدار يقتل ما سقط فيه من مكروبات الهواء الضالة، ثم صبه على حذر في عشرات من أنابيب اختبار ضيقة، أمالها في مواضعها إمالة كبيرة ليتسع سطح المصل الذي بها، فعلى هذا السطح سيبسط مادة المكروب. ثم سخن الأنابيب وهي على ميلانها تسخيناً يكفيلانعقاد مصلها وتحوله إلى مزاج فالوذي جامد جميل في روقانه.
ومات في صباح هذا الغد خنزير غيني خرمه السل تخريماً، فشرحه واستخرج منه درنة أو درنتين، نشرهما بعود من البلاتين على سطح فالوذ المصل وهو ندى، وانتقل منأنبوبة إلى أخرى حتى لقح الجميع. ثم استنشق نفساً كبيراً، ثم زفر زفرة طويلة فكأنما نفض فيها الهم الذي ملأه في هذه العسلية الدقيقة وقد نجحت بعد خشية الزلل، وقام كوخ فأخذ الأنابيب فوضعها في مدفأ درجة حرارته تعدل تماماً تلك التي في جسم الخنزير الغيني ومضت أيام ذهب كوخ فيها كل صباح إلى هذا الفرخ الدافئ، ورفع أنابيبه إلى نظارته في إطارها الذهبي، وحدق فيها وحملق، ولكنه لم ير شيئاً. قال كوخ: (هذه خيبة أخرى! كل المكروبات التي زرعتها تكاثرت في يومين، وهذا هو اليوم الرابع عشر، فما لهذا المكروب التعس لا يتكاثر أبداً. . .) لو أن رجلاً غير كوخ صادف ما صادفه من الخيبات لكب أنابيبه وسكب مصله، ورجع عما قصد إليه. أما كوخ طبيب القرية الأشوع، فله شيطان يحفزه ويغريه، فقام عندئذ يوسوس إليه من وراء عاتقه: (صيراً سيدي صبراً. أنسيت أن جرثومة السل بطيئة تستغرق في قتل الرجال الأشهر والسنين. فلعلها أذن بطيئة كذلك في تكاثرها في مصل أنابيبك) فأستمع كوخ لشيطانه، فلم يرم بأنابيبه وأمصاله، واستمهلها لليوم الخامس عشر. فلما كان صباحه نزل إلى مفرخة فوجد الفالوذج المصل قد تبعثرت على سطحه الناعم حبات صغيرة لامعة. فمد كوخ يده في لهفة إلى جيبه يستخرج منه عدسته وألصقها(129/27)
بعينه وأخذ يحدق في الأنابيب أنبوبة أنبوبة، فلما كبرت هذه الحبات في عينه تراءت قشوراً جافة صغيرة فأمسك كوخ وهو ذاهل بإحدى الأنبوبات، فنزع عنها سداد القطن الذي يسدها، ووضع فاها وهو غائب الفكر في اللهب الأزرق لمصباح بنسن ليعقمه، وأدخل فيها عوداً من البلاتين فلقط على طرفه حبة من تلك الحبات التي ظهرت على الفالوذج المصل، وهو يكاد يوقن أنها مكروبات. فوضعها تحت مكرسكوبه، وهو لا يكاد يدري ما وضع، ونظر فعلم أن البحث تجري طريقه شاقه في صحراء لفاحة جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، ولكن المسافر فيها يأتي الفينة بعد الفينة على واحة ظلها وارف، ونبعها بارد، وثمرها وفير مستطاب، نظر فعلم أنه هبط بعد الجهد والجلد على واحة من تلك الواحات، أفليست ملايين المكروبات هذه التي تكشف لبصره الآن هي عينها تلك البشلات الحنواء التي رآها في رئة ذلك العامل المسلول زمناً مضى، وتراءت له لا حراك بها، ولكنها حية بدليل تكاثرها، وتراءت له دقيقة صغيرة، رقيقة المزاج، أنيقة المطعم، سريعة الرغبة عما لا ترضاه منه، ولكنها مع هذا كبيرة النهم شديدة الفتك مخربة هدامة، أكثر تخريباً من غزاة التتر، وآكد في الموت من الحيات والأفاعي.
(يتبع)
احمد زكي(129/28)
أبو الطيب المتنبي
شاعر الأدب القوي بمناسبة ذكراه الألفية
مهداة إلى الأستاذ الكبير أحمد أمين
بقلم السيد كامل حريري
في مثل هذا اليوم منذ ألف سنة خلت، فقدت آلهة الشعر والبيان رسولها الأمين ونبيها العظيم أبا الطيب أحمد المتنبي، بعد إذ أدى رسالتها ونشر دعوتها أربعين عاماً لا تأخذه كلالة ولا تتكاءده ملالة، وأنبياء البيان كأنبياء الأديان شديد عنتهم كثير اضطهادهم صعبة دعوتهم، وهممع ناكري رسالتهم في بلاء وجهد ما أنزلت عليهم إلهة الشعر رائع آياتها وخالد أبياتها، وما بي عرض رسالة المتنبي وما كان يلقى بسببها من كفر العبقرية وجحود الفضل ونكران العظمة، فكل أحس ذلك في شعر شوقي ورسالته، إن ما أخذت نفسي به هو ذكر أبى الطيب الفيلسوف المهذب، (كورني) العرب في القرن الرابع؛ وأنا إذ أقول هذا لا أقصد إلى قول الفيلسوف الشاعر أبى العلاء المعري: (إنما أبو تمام وأبو الطيب حكيمان والشاعر البحتري) بل أعني ناحية خطيرة في شعر المتنبي هي وحدها سر خلوده وعظمته وبقاء شعره على الزمن.
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مردداً ... وغنى به من لا يغنى مفردا
ولكن هذا يقتضيني ذكر القرن الرابع الهجري، وقد تهاوى بناء الدولة العباسية، ورث حبل العروبة، وفشت فاشيةُ ملوك الطوائف في البلاد العربية الاسلامية؛ فآل بويه وبنو حمدان فيالعراق وفارس والشام، ودولة الأخشيديين وبنو رائق في مصر وفلسطين يتواثب بعض على بعض، وإن للفساد والرذيلة لسوقاً رائجة، وان للخيانة والنفاق لبضاعة نافقة؛ أما عن الأخلاق الواهية والعزائم الوانية والمروءات الساقطة فحدث ولا إثم.
فدهري ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
أرنب غير أنهم ملوك ... مفتحة عيونهم نيام
ذلكم القرن الرابع الذي ولد فيه فجر الشعراء أبو الطيب المتنبي قد عرضته عليك بعجره(129/29)
وبجره وخيره وشره. لأن للعصر أثراً بيناً فيما ينظم الشاعر ويكتب الأديب، وهو عصر ما أخلقه بشاعر كالمتنبي ينشر بين أهله الضعفاء فرقان القوة ورسالة المجد والمثل الأعلى.
وكما ابتعث (جوبيتير) آله الحرب والقوة نيتشه فيلسوفا يوقظ بإنجيله همم الألمان الراقدة وعزائمهم الهامدة ويلقنهم آيات تنازع البقاء وبقاء القوي الغالب، ابتعث المتنبي قبله بثمانية عصور إلى الأمم الإسلامية يقول:
فالموت أعر لي والصبر أجمل بي ... والبرُّ أوسع والدنيا لمن غلبا
تطاول العهد بالجاهلية الأولى، فنسى الشعراء نغمة التفاخر بالعديد، والتكاثر بالوليد، والاعتداد بالقوة، والاعتزاز بالمنعة، والتفاضل بمنع الجار وحفظ العشيرة، فأصبحوا وقد رقت حاشيةالحياة، ولانت أعطاف العيش، تشوقهم اللذة، ويروقهمالترف، ويستعبدهم الهوى، وتتصباهم الطريقة النواسية، فما منهم إلا عاشق مفتون، وقيس بليلاه مجنون، وما فيهم إلا نضو ردف ثقيل، وخصر نحيل، وطرف سقيم، وثغر نظيم؛ ومن لا يحب الخصور والنحور واللواحظ والثغور إذا كن مما يشتهي ويستملح!.
طغى سيل الأدب اللين بنوعيه الشعر والنثر على الحياة الإسلامية العربية في القرن الثالث والرابع حتى ماعت الأخلاق الصلبة البدوية، وذابت الرجولة القاسية الجاهلية، وتفككت الفضائل من رابطتها الوثيقة، وتحللت الأخلاق من أزمتها المتينة، وسرى داء الضعف والتخنث في نفوس الشيوخ والشبان بله الكواعب والغلمان. فكان من ذلك جيل مترف متنعم، مسخت الحضارة رجولته، وألان الترف شكيمته، وأماتت النعمة طموحه. فما تتراقى إلى مجد له همةٌ، ولا تتسامى إلى مثل أعلى له عزمةٌ، وما جنى على هذا الجيل ما جنى إلا شعراؤه الخليعون الماجنون وفي طليعتهم بشار وأبو نواس. فان من يقول:
ولو أن مالي يستقل بلذتي ... لأنسيت أهل اللهو كسرى وقيصرا
لا يبشر إلا بجيل خائر ضعيف كهذا الجيل الذي ولد فيه المتنبي. وما لنا لا نقول في صراحة وصدق، إن الأدب القوي في غير عنف، الشديد في غير عسف، ظل يتيماً بعد الفرزدق وجرير حتى جاء أبو الطيب فرأب الصدع، وسدَّ الثأى وحمل الراية؛ ثم فتح للشعراء طرائق الخلد، وسنَّ لهم سنن المجد؟(129/30)
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الرجال وأن تُرى ... لك الهبواتُ السود والعسكر المجرُ
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تدوال سمع المرء أنمله العشر
أنا لا أريد لهذا النشء المتفكك من شبابنا (الشيك) أن يقحم نفسه الحرب، ويحملها الطعن والضرب، كي ينشأ شجاع النفس شديد البطش منيع الجانب عظيم الرجولة، ولكني أنصحه بقراءة ديوان المتنبي شاعر القوة والبطش والرجولة الحق، وأنا زعيم له بعد ذلك بما يتطلبه من رجولة وإقدام.
ولو أن الحياة تبقى لحر ... لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا
أما أنتم أيها الذين أضلهم المجد وقعدت بهم الهمة عن طلب العلا، فأستوطأوا مهاد الضعة، وأساغوا صاب الذل، ورضوا بخطة الخسف، فإليكم أتوجه ببيتي شاعر المجد والعظمة
إذا غامرت في شرق مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
وبعد: فأن في ديوان المتنبي جبهة حربية تعلم شبابنا الشجاعة والقتال، ومدرسة أسبارطية تنشئ أطفالنا على احتمال الشدائد والأهوال، وجماعة فلسفية توحي إلى رجالنا جلائل الأعمال. فلنمجد شاعر الأدب القوي الذي يدعو إليه نيتشه في عصره، والأستاذ أحمد أمين في عصرنا، والذي توجبه حالنا الاجتماعية والخلقية، وتفرضه سنة البقاء على الناس.
وليحْن قراء (الرسالة) معي رؤوسهم خشوعاً وإجلالاً لنبي الشعر، وفارس الدهر، وملء أذن العمر، وعبقري لو تقدم به الزمن في عهده الإغريق لخلده هومير مع الأبطال وسما به إلى سماء الآلهة! ولا عجب.
وأبو الطيب القائل عن نفسه:
وقت يضيع وعمر ليت مدته ... في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم.
(حلب)
كمال حريري(129/31)
أندلسيات:
4 - قصة الفتح بن خافتان
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
تتمة
تواليف الفتح وشئ من منظومه ومنثوره
الشائع المعروف أن ليس للفتح بن خاقان غير قلائد العقيان، ومطمح الأنفس، ولكن يجب أن يلحظ أن المطمح نسختان صغيرة وكبيرة؛ وقال أبن خلكان إن المطمح ثلاث نسخ صغرى ووسطى وكبرى. وللفتح غير قلائد العقيان والمطمح كتاب أسمه بداية المحاسن وغاية المحاسن، ذكر ذلك المقري وقال إن له أيضاً مجموعاً في ترسيله وتأليفاً صغيراً في ترجمة ابن السيد البطليوسي نحو الثلاثة كراريس على منهاج القلائد. . . ولمناسبة ذكر ابن السيد البطليوسي الأندلسي الأديب الكبير وصاحب شرح أدب الكاتب لابن قتيبة نقول: إنه كان بينه وبين الفتح علقة ومودة، ومن ثم قرظ ابن السيد كتاب القلائد بهذه الرقعة التي أرسلها إلى الفتح، قال: (تأملت - فسح الله لسيدي ووليي في أمد بقائه - كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتاباً سينجد ويغور، ويبلغ حيث لا تبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدى له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدى بنجومها، وتردى برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعرى من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيراً وسبقت، ودعي أخيراً وتقدمت، لأعدمت شفوفاً، ولا برح مكانك بالآمال محفوفاً. بعزة الله. .). وقلائد العقيان كتاب قدمه الفتح لأبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين أخي أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ونائبه في الأندلس، وقد ألمعنا فيما سلف إلى بعض صفات هذا الكتاب وأنه هو والذخيرة لابن بسام، واليتيمة للثعالبي، والخريدة للعماد، ونظائها، لا تعد كتب تراجم بالمعنى المتعارف؛ وإنما هي حليّ وصفات لبعض أفاضل العصر وبلغائه بأسلوب منمق بليغ. ومختارات من منظومهم ومنثورهم.(129/33)
أما تاريخ المترجم له ومنشؤه ونسبه ومولده ووفاته وكيف تصرفت به الأحوال فهذا ما ليسوا منه بسبيل ولا هو من عملهم وإنما هو من عمل المؤرخ. أما هم فأدباء يحلون أدباء معاصرين أو قريبين من عصورهم. . . وأسلوب الفتح في كتبه أسلوب لاشك جزل متين وإن كان كله مسجعاً؛ ومن ثم قد يعلو وقد يسفل، وقد يرى مطبوعاً وقد يرى عليه أثر التكلف والتعمل. وقد كان بلغاء الكتاب في تلك الأعصر يظنون السجع عملا فنياً في الذروة من الفن تلي مرتبته مرتبة الشعر للموسيقية التي فيه وإن كان النقدة من المتقدمين ينكرون الولوع به والإفراط فيه كما ننكره نحن اليوم. وقد اشترطوا به شروطاً أهمها: أن يكون اللفظ فيه تابعاً للمعنى، ولم يشترطوا ذلك في السجع فحسب؛ وإنما اشترطوه في كل المحسنات البديعية، قالوا: إن هذه المحسنات ولاسيما اللفظية منها لا تحل محلها من القبول، ولا تقع موقعها من الحسن، حتى يكون المعنى هو الذي استدعاها وساقها نحوه، وحتى تجدها لا تبتغي بها بدلاً ولا تجد عنها حولاً؛ ومن هنا ذم الاستكثار منها والولوع بها، لأن المعاني لا تدين في كل موضع لها، إذ هي في الغالب ألفاظ، والألفاظ خدم المعاني مصرفة في حكمها، فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظبة من الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين. ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع ولزموا سجية الطبع أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح للمراد، وأسلم من التفاوت، وأبعد من التصنع الذي هو ضرب من الخدع بالتزويق. والرضا بأن تقع النقيصة في نفس الصورة وذات الخلقة إذا أكثر فيها من الوشم والنقش؛ وأثقل صاحبها بالحلي والوشم، قياس الحلي على السيف الددان والتوسع في الدعوى بغير برهان، كما قال المتنبي:
إذا لم تشاهد غير حُسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
هكذا يقول إمام النقاد عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471هـ - سنة 1078 ميلادية - ويقول: وقد تجد في كلام المتأخرين كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ماله اسم في البديع - ومنه السجع - إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليُبِين؛ ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن ثقل على(129/34)
العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها. . . ولن تجد أيمن طائراً، وأحسن أولاً وآخراً، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تلبس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأما أن تضع في نفسك أنه لابد من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقع في الذم الخ. (وبعد) فإن الكلام في هذا الموضوع يطول، ولنجتزئ بهذا المقدار. والآن، إلا يسمح لنا القارئ بأن نعرض عليه شيئاً من منظوم الفتح ومنثوره؟ وأنت تعلم أن شعر الكتاب في الأعم الأغلب إن هو إلا مقطعات من جهة، وليس من النسق العالي كشعر فحول الشعراء من الجهة الأخرى. ومن ثم كان ما رأيناه من شعر الفتح على قلته شعراً وسطاً كما قال لسان الدين بن الخطيب. فمن شعره مما لم يرد في كتبه:
لله ظبي من جنابك زارني ... يختال زهواً في ملاء ملاح
ولي التماسك في هواه كأنه ... مروان خاف كتائب السفاح
فخلعت صبري بالعرا ونبذته ... وركبت وجدي في عنان جماح
أهدي لي الورد المضعف خده ... فقطفته باللحظ دون جُناح
وأردت صبراً عن هواه فلم أطق ... وأريت جدا في خلال مزاح
وتركت قلبي للصبابة طائراً ... تهفو به الأشواق دون جَناح
ومنه قوله وقد أورده في قلائد يخاطب أبا يحيى بن الحاج:
أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر
هنيئاً لملك زار أفقك نوره ... وفي صفحتيه من مضائك أسطر
وأين لخفاق الجناحين كلما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطر
وقد كان واش هاجنا لتهاجر ... فبت وأحشائي جوى تتفطر
فهل لك في ود ذوى لك ظاهراً ... وباطنه يندى صفاء ويقطر
ومن منثوره مما لم يرد في القلائد ولا في المطمح قوله:
معاليك أشهر رسوماً، وأعطر نسيماً، من أن يغرب شهاب مسعاها، أو يجدب لرائد مرعاها، فان نبهتك فإنما نبهت عمرا، وإن استنرتك فإنما أستنير قمراً؛ والأمير أيده الله(129/35)
تعالى أجل من أعتصم في ملكه، وأنتظم في سلكه، فإنه حسام بيد الملك طلاقته فرنده، وشهامته حده، وقضيب في دوحة الشرق رطيب، بشره زهره، وبره ثمره، وقد توسمت نارك لعلي أفوز منها بقبس، أو تكون كنار موسى بالوادي المقدس. وعسى الأمل أن تعلو بكم قداحه، ويشف من أفقكم مصباحه. فجرد أيدك الله تعالى صارم عزم لا يفل غروبه، وأطلع كوكب سعد لا يخاف غروبه. . . (وأما بعد) فان أردت التروي من منثور الفتح وبدائعه، فعليك بالقلائد والمطمح، فهما بحق نهران يزخران بالمعجب والمطرب، رحمة الله على هذا الأديب الأندلسي العبقري المبدع. .
(تم البحث)
عبد الرحمن البرقوقي(129/36)
بمناسبة ذكرى المتنبي الألفية
دنيا المتنبي
إن أهنت الدنيا فانك دنيا ... كلها عزة ونبل وجود
للسيد أمجد الطرابلسي
هكذا المجدُ! هِمَّةُ وصُعودُ ... وَحَياةٌ بعدَ الرّدى، وَخُلودُ
هكذا المجدُ! صَيْحَةٌ تَمْلأ الأر ... ضَ كما تَملأُ الفضاَء الرُّعودُ
هكذا المجدُ! وَمْضَةٌ تَبْهَرُ العَي ... نَ، وَتُجْلى بها اللَّيالي السّودُ
هكذا المجدُ! فَرحةٌ لِبَني الأَر ... ضِ وللارضِ والسّماءِ وَعِيدُ
هكذا المجد مَجْدُ (أَحْمَدَ) لَحْنٌ ... في سَماعِ الدّنيا لَهُ تَرْديد
نَفْحَةٌ مِنْ خَمائِلِ الخُلْدِ رَيّا ... بِشَذاهُ، وَبُلْبُلٌ غِرِّيد
يا نَبِّي القَريض كَمْ لكَ بَيْتٍ ... مَلأَ الخاِفَقْينِ وَهْوَ شَرودُ!
كم خطاب فَصْلٍ، وَكم مَثَلٍ سا ... رَ فَأبلى القُرونَ وَهْوَ جَديد!
سائِلِ الأَعْصُرَ الطِّوالَ أَأَوْدى ... لكَ فيها بَيْتٌ وماتَ قَصيد؟
يَتوإلى المَدى وشِعْرُكَ باقٍ ... وَتَشيخُ الدّنيا وَأَنْتَ وَليد
شِعْرُكَ المُسْتَفيضُ في عُنُقِ الأَ ... يّامِ دُرٌّ وَلُؤْلُؤٌ مَنْضود
أيُّ سَلْوى عَنِ الزّمانِ يَراها ... في قَوافيكَ بائِسٌ منْكود
أي سَلْوى عنِ الحَبيبِ يَراها ... في قوافيكَ ثاكِلٌ مفؤْود
شِعْرُك النارُ للجَبانِ سِلاحٌ ... وَعَتادٌ وَعَزْمةٌ وَجُنود
وَهُتافٌ يُهيبٌ بالنِّكْسِ حَتى ... يَرِدَ الكالِحات وَهْوَ جَليد
يَستَثِيرُ الاسْرى على الظْلمِ حَتى ... يَتَبَزَّى المُقَيَّدُ المَصْفود
وَيَهزُّ الدنْيا على الجَوْرِ حَتى ... تَتَفَرى سَلاسِلٌ وَقُيود
أَيُّها الشاعِرُ الذي أَطْرَبَ الأَجْ ... يالَ مِنْهُ الإنْشادُ والتَّغْريد
وَغَدا الدهْرُ راوياً وَمُعيداً ... لأَغاريدِهِ، وَجَلَّ المُعيد
أَيُّها الشّاعِرُ الذي سَحَرَ الأسْ ... ماعَ حَتى كأنَّهُ داوُد
وَتَغَنَّى بِلَحْنِهِ الفَلَكُ الدَوَّا ... رُ وَاليَمُّ وَالرُّبى وَالبِيد(129/37)
مِلءُ صَدرِ الزَّمانِ حِكْمَتُكَ المُث ... لى وَإرْشادُكَ القَويمُ السَّديد
(أَنْتَ في شِعْرِكَ العظيمِ نَبِيٌ) ... مُرْسَلٌ مُلْهَمٌ وَأُفْقٌ مَديد
وَفُحولُ القَريضِ بَعْدكَ يَرْوي ... هِمْ عَلى الدهْرِ بَحْركَ المَرْفود
هكَذا الشّعْرُ نِعْمَةُ اللهِ في الأَرْ ... ضِ تَغَنَّى بِها الهُوى والنُّجُود
يَتَخَطَّى الزَّمانَ جيلاً فَجيلاً ... وَيُبيد القرونَ وَهْوَ خَلود
يا ابْنَ حَمْدانَ أَنْتَ لَولا أبو الطِّيِّ ... بِ أنّى لِذِكرِكَ التّخْليد
أَنْتَ أَوْلَيْتَهُ العَطايا جُزافاً ... والعَطايا مَعَ الزَّمانِ تَبيد
وَحَباك الخُلودَ في مُصْحَفِ العِزِّ ... م وَهذا هَو النَّدى والجود
أَنت لولاهُ ما رَأَيناكَ في السا ... ح، وَلْلحَرْبِ ضَجَّةٌ وَبُنود
تَصدعُ الجَحْفَلَ الألَفَّ بِسيْفٍ ... مُصْلتٍ حُرِّمتْ عَلَيْهِ الغُمود
باسماً تَطْلُبُ الرَّدى مُستميتاً ... وَالرَّدى مِنْكَ خائِفٌ مكدود
وَفلولُ الأعداءِ تبَغْي عَنِ المْو ... تِ مَحيداً وليس ثَمَّ مَحيد
كلهم يصرُخُ النجاةَ ويطوي ... صفَحاتِ القِفِار وهْوَ شَريد
صورَةٌ للنِّضالِ عَيني تراها ... في ارتِياعٍ، ومنْظرٌ مشْهود
ياأبا الطّيّبِ الزَّكِّي مِنَ الوَحْ ... ى ويا أيها الحديثُ الفَريد
إنْ أهْنت الدُّنيا فإنَّكَ دُنْيا ... كلها عِزَّة ونُبْلٌ وجود
قد أبيت الرِّياَء والكونُ خَتْلٌ ... ورِياءٌ وخُدْعَةٌ وسجود
وحَقَرْتَ الدنيا يموجُ بها الش ... رُّ وتَغْلي مطامِعٌ وحُقود
وسَئِمْتَ الحياةَ رَتَّقَها الظلْ ... مُ وأَوْدى بصفْوِها التَّصْريد
يَتلوَّى النَّبيغُ فيها من الجو ... عِ ويَعْلو عروشَها الرِّعديد
آفةُ المرءِ في الحياةِ شُعورٌ ... مستفيضٌ وخافِقٌ مَجْهود
ونصيبُ الإنْسانِ بين الجلامي ... دِ عذاب وحُرْقَةٌ ونكود
وأخو النُّبلِ والإباء بغيضٌ ... تتجافى عنهُ الرِّفاقُ، وحيد
مُستضامٌ يطوى الحياةَ كميداً ... وهْوَ في مُرِّ عيشِه محسود
ئِدُ العمرَ في تُرابِ التمني ... والأمانِيُّ لَوْعةٌ وجهود(129/38)
يا أبا الطيِّب السَّنيِّ منَ الذك ... رِ ويا أيُّها الثَّناءُ الحميد
ما الذي أشتكى إليكَ وقَلبي ... مُفْعَمٌ مُوجع، ودَمعي بدِِيد
قد شكوتَ الزَّمانَ والمجدُ مجد ... عربيٌّ، وغُصنُه أُمْلود
وملِلْت الحياةَ في ظِلَّ (سيفٍ) ... وهْوَ فَحْلُ العُروبةِ الصِّنْديد
فلعَمري ماذا نبُثُّ ونشكو ... بعدَ أن صوَّح التراثُ المجيد؟
قد عفا المُلكُ وانطوى كلُّ عزٍّ ... وهوى العرشُ والبناءُ المَشيد
(وغدا الحُرُّ من بني الصِّيد عبداً ... بينما العبدُ سيِّدٌ معبود)
وتمشي الصَّغارُ فوق شبابِ ال ... مجد يختال هازِئاً ويسود
وبنو الصِّيد نائمونَ على الضَّيْ ... مِ فلا غُصَّةٌ ولا تنكيد
يا أبا الشِّعر أين منك دويٌّ ... هو للظلْم والطغاةِ وعيد
أين صَيْحاتُكَ التي تتنادى ... بصداها يومَ الزِّحامِ الأسود
قُم وصَرِّخْ بين الغُفاةِ مُهيباً ... فلقد طالَ بالنِّيامِ الهجود
وأثِرْ نخوَةَ الضّراغِمِ حتى ... يُرْخِصوا كلَّ مُهجةٍ ويجودوا
وصْمةٌ للخلودِ أن تمَّحى العُرْ ... بُ، ويَبلى لِواؤُها المعقود
ويصيحُ العفاءُ في رَبْعِها القَفْ ... رِ، ويُطوى حديثُها الممدود
يا أخا المجدِ والمكارِمِ ماذا ... في حياةٍ نعيمُها تعقيد؟
لو تَركتَ الدنيا وأهْوالَها السُّحْ ... مَ، فإِن الحياةَ فيها جُدود!
أنتَ تَبغي السماَء والجَدُّ يأبى ... وتروضُ الزَّمانَ وَهْوَ عنيد
قد رَكبتَ الأهوالَ في دَرَكِ المُلْ ... كِ فلا راحةٌ وَلا تهجيد
وقطعتَ القِفارَ يحمِلُك الشَّو ... قُ ويحدوكَ حلْمكَ المنشود
عْزمةٌ دونَها السُّيوفُ المواضي ... وإباءٌ، وَهِمَّةٌ لا تميد
وَمَضاءٌ يستعذِبُ الموت وِرْداً ... ويفُلُّ الصُّروفَ وَهْو حديد
وإذا النفس دُلِّهت بمُناه ... فالمنايا خمائلٌ ومُهود
حلُمُ يستيبك في أُفق المج ... دِ بَهِيٌّ، لا أعيُنٌ وخدود
وقدود القَنا سَبتْكَ غراماً ... لا قدود عاجِيّةٌ وَنُهود(129/39)
رُضتَ صَعبَ الفلا وجُبْتَ الصحارى ... ظامئاً يطَّبيك وِرْدٌ بَرُود
(وشَققْتَ النّوى إلى العِزِّ حتى ... جاَءك الموت في المطاف يصيد
فرميتَ السِّلاح بعد حياةٍ ... كلها ثورَةٌ وجَهد جهيد
ولقيتَ الجَمامَ في كنفِ المو ... تِ وقد عزَّ في الحياة الهُمود
ثُم ضاقَ الثرى الرحيب وضقت ... عنك يا ابْنَ الخلودِ هذي اللُّحود
فمحتْ قبرَكَ السِّنون المواحي ... ومشى فوقُه الزمانُ المبيد
مُتَّ إلا صداك فَهْو مُرِنٌ ... هازئٌ بالمَدى الطويل، شديد
إن عفا قبرُكَ الضئيل فأنت ال ... يوم في كلِّ خافقٍ ملحود
أوْ خبا لحنُك الجميل فأنتَ ال ... يوم في مِسمع الزمان نَشيد
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(129/40)
الشتاء في إنجلترة
(ذكرة)
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
يسقط الثلج في إنجلترة شتاء على شكل حبات الدقيق فيعلو الأرض والمنزل والأشجار، فيخيل للرائي كأنما قد كسيت الدنيا كساء من القطن، وكأن النهار ليلة مقمرة، وكأنمابياض الثلج من أثر بياض أشعة القمر؛ وتذكى النار في المواقد في البيوت، فكأن ألوان النار ألوان الأزهار الزاهية في جنة الربيع؛ وتذكى نار المواقد وجنات الوجوه، فكأن في المواقد جمراً، وفي الوجوه جمراً؛ وتبحث في القلوب فترى نار الحياة وشرتها، وترى الحب والآمال لم يغض منها برد الشتاء وثلجه.
(الناظم)
نشر الضريبُ على البسيطة ... حلة بيضاء تمحو غبرة الغبراء
يسعى على وَضَح النهار كأنما ... يسري الفتى في ليلة قمراء
فكأنَّ نُورَ البدر ما حَلَّى الثرى ... برواء تلك الحلة البيضاء
غلب البياض على اصفرار أشعة ... تهب النهارَ من اصفرار ذُكاء
وعلى المساكن كسوة منه كما ... تعلو المفارقَ شيبةُ الشمطاء
فإذا مشابهة المشيب كدعوةٍ ... للنفس أن تنأى عن الأهواء
وإذا استراح لِمُقْمِر من لونه ... راء ترى الأحلامَ عينُ الرائي
وكأنما زهرا أبيضاً غطَّى الثرى ... برواء ثوب الروضة الغناء
ولكل لون حسنه كالليلة ال ... ليلاء أو كالقبة الزرقاء
ولربما اختلف الجمال وفعله ... متشابهٌ في أخذة الصهباء
وإذا المواقد في البيوت تضاحكت ... من شدة الإيقاد والإذكاء
خلت الربيعَ سعى إليك بحلفه ... والنارَ زهرَ الجنة الفيحاء
يُذكى الوجوهَ لهيبُها فتراهما ... جمرين يشتعلان في الظلماء(129/41)
ما غض من دفءِ الحياة ونارها ... ثلج الشتاء على ثرى الغبراء
الحب والآمال فوق متونه ... كالحب والآمال في الصحراء
والقلب قلبٌ حيث كان إذا ذكت ... نار الشباب وشِرَّةُ الأحياء
عبد الرحمن شكري(129/42)
مؤتمر القلوب
للأستاذ محمد السيد زيادة
بقية المنشور في العدد 127
وبقيت حزيناً مطرقاً أتفكر في أساليب الشقاء على الأرض حتى أخرجني من الحزن قلب رأيته حائراً بين القلوب موزعاً عليها مجنحاً فوقها!! يجد قلباً آسيا فيميل إليه مشفقاً عاطفاً يسأله عن قصته ثم يواسيه ويعزيه، ويظل مائلاً إليه بشفقته وعطفه حتى يتأكد أنه خفف عنه بعض ألمه. ثم يتركه ويمضي في المجتمع نائحاً يردد في نوحه صدى القصة التي سمعها من ذلك القلب، ويذيع سرها منمقا، ويصورها مجسمة ليتأسى صاحبها ويستعبر سامعوها. . ثم يصادف قلباً آخر متربة فيبذل له قسطه من دموعه ومن عزائه، ثم يمضي إلى سبيله في المجتمع موضحاً ما غمض شارحاً ما تعقد. وهكذا رأيته كالطائر الغريد يقضي كل وقته متنقلاً بين الأدواح والغصون يتسمع الهمس والنبض والأنين، ويتغنى بما يصل إلى حسه من شجو القلوب وأساها، فيصرف في ذلك راحته وهدوءه. ويتهافت على ذلك كأنما هو يؤدي وظيفة يحتم عليه الواجب أن يؤديها.
قلت: قلب من هذا القلب المؤمن العطوف الذي يعذبنفسهفي راحتنا، ويصب علينا من مشاعره حنانا ورحمة، وينساب بيننا كما ينساب الجدول في الحديقة بين مختلف الزهور يغيث منها الظامئ، وينعش الذابل، ويرقص المنتعش؟.
قالوا: هذا قلب شاعر. . . وما خلق الشعراء إلا رحمة للعالمين. . . قلب كريم يتعذب بين الناس بحنانه، ليزرع الحنان في قلوبهم بعذابه؛ فترينا حياته كيف تكون حياة الملائكة إذا صاروا من بني الإنسان. إن في أحنائه لعالماً فسيحاً تمتزج فيه آلام الناس بآلامه هو فتكون كتلة واحدة من الألم يتفجر من بينها ينبوع فوار من الرحمة ينهل منه كل بائس.
لكأنما هو مكلف باستخراج مصيبة لنفسه، من كل مصيبة تنزل بغيره، أو مرسل من عند الله لتخفيف أشجان مخلوقاته. فكم يفتش في مناحي الحياة عن مآسيها وعبرها ليتحمل نصيباً منها! وكم ينقب في أغوار الكيان عن خفاياه ومكنوناته ليحدثالناس عنها! وكم يكد ليخلق من كل ما حوله جنة لكل من حوله!.
ولما أنى للمؤتمر أن يبدأ عمله وجدت قلب الشاعر أظهرنا اهتماماً، وأشدنا فرحاً، وأكثرنا(129/43)
حركة. وما كدت أعجب لهذا حتى عجبتُ لأكثر منه إذ علمت أنه هو الداعي إلى هذا المؤتمر.
وساد الكون فترة ثم وقف قلب الشاعر يقول: دعوتكم إلى هنا اليوم يا إخواني لأنادي فيكم بالوئام فهل أنتم مجيبون؟ إذا كان ذلك، وما أظن إلا ذلك، فلنجمع إذاً أمرنا على إقرار المحبة، وتبادل الوداد والإخلاص بيننا؛ ولنترك إذن كل ما يتعلق في أهداب الحياة من المساوئ والمكارة التي إذا وقع أحدنا في إحداهاوقعفي أخس الصفات وبات مذموماً ممقوتاً؛ ولنتنصُّل إذن من شئ بغيض اسمه البغض، ومن شئ كريه اسمه الكراهية؛ ولنتجنب الوضاعة في تجنب الحقد، ولننبذ الأنانية في نبذ الحسد. ْ
لنشرع لنا يا إخوتي سنناً جديداً، ونمشي في نوره إلى المثل الأعلى لنقاوة القلوب. كونوا جميعاً عصبة واحدة كلمتها الدائمة: نحن إخوة فليس بيننا إلا مافي الإخاء من إخلاص ووفاء - كونوا جميعاً قلباً واحداً لا يحمل غير الأيمان والحب.
قال قلب الشيخ المصلح: أكرم بك يا قلب الشاعر!! لقد قلت ما أحب دائماً أن أقوله وأن أعمل له. إنك لصورة مني في قالب الجرأة، وأنى لصورة منك في قالب الحياء.
ثم تحول إلى الجمع وقال: أنصتوا له يا أعضاء المؤتمر، وأطيعوه، إنه يدعوكم إلى السلام.
قال قلب الشاب الساذج المغتر وهو يرقص كالطفل يرى لعبة جديدة له في يد أمه: مرحى. . . مرحى. . . جاء السلام. . . نعم السلام؛ فلنتسارع جميعاً إليه ولنستبشر بالهدوء والطمأنينة.
قال قلب الرجل المفسد: كأن لك غرضاً خفياً من وراء ندائك هذا يا قلب الشاعر!! فأنت تدعونا الآن إلى الانصراف عما خلقنا له من عمل وجهاد، والركون إلى ما خلقنا لنحاربه من خمود واستسلام.
قال قلب الشاعر: صه يا هذا القلب المتكلم. . . ماذا في السلام من الخمود والاستسلام؟ وهل معنى العمل والجهاد أن نتسابق في الضغائن والأحقاد؟ أعملوا وجاهدوا ولكن فيما فيه الخير والنفع تعيشوا في حدود السلام سالمين.
قال قلب المفسد: وكيف نسلم إذا كانت نواميس الطبيعة تحتم علينا إن تختلف طباعُنا، فنختلف بها، فيأخذ كل منا منهجاً لنفسه، فتتعدد الأحوال بتعدد المناهج، فتنجم المشاكل(129/44)
فتخلق العناد، وتستلزمالعمل والجهاد.
قال قلب الشيخ المصلح: ما أخطرك أيها القلب على كل محيط تندس فيه!! إنك لخبيث وتدافع عن الخبث بقوة هي فجور الخبث وتسلطه وانتقاله من طور الداء إلى طور الوباء.
لماذا لم يتكلم غيرك منابذاً دعوة السلام، محاولاً تفنيد الرسالة التي حملها ألينا قلب الشاعر؟ ولماذا لم تبدر من غيرك نذر الخلف ووسائل الشر؟ أليس هذا لأنك مجبول على الخسة وحقارة المبدأ؟. . . ما أقل شأنك عند الله، وماأبعدك عن رحمته، وما أحقك بأن تكون سخرية لكل ساخر!.
قال قلب الشاعر: لقد فسد خلقه، ثم أعلن في هذا المؤتمر فساده، ثم دافع عنه الصلاح، ثم أرادأن يجعله نهجاً نتسقل فنعمل به جميعاً. . . ليس بعد هذا حضيض لمنحط، أو قرار لنازل من مستوى الآدميين على دركات منها الوقيعة، ومنها النميمة، ومنها الدس، ومنها الرياء؛ وآخرها التبجح في كل ذلك!! أخرجوه عنا وأبعدوه.
فانقضضنا عليه وطردناه، وكان كل منا يشعر إذ ذاك بأن هذا القلب رذيلة تتحكك به، فاتحد شعورنا فشعرنا كلنا بأنه رذيلة تريد أن تسلك سبيلها المظلم في المجتمع، فوجب علينا أن نصدها، بل وجب علينا أن نمحوها. . . ولما طرد من بيننا ذلك القلب الشرير، أو ذلك الشر المتسلط، أو ذلك الخطر المتسلل، أسوأ الطرد كانت لا تزال بيننا قلوب من طبقته، تعمل على شاكلته، فتوجست خيفة، وتضاءلت، والتمست النجاة، وانتدحت المخابئ. ولكنها كانت مع هذا حريصة على أن تظل مدسوسة في المؤتمر، أو مخبوءةفي مسمع مما يدور فيه لتشبع غريزة الحب الاستطلاع التي هي إحدى لوازم عملها، وإحدى دعائم حياتها.
وعرفناها فألحقناها بزميلها الذي فضح نفسه حين تكلم، فكان شراَ على نفسه حين أراد أن يكون شراً علينا، وانقلبت عليه سيئات ما عمل قبل أن تصل إلينا.
ووقف قلب الشاعر يكرر نداءه، ويستكمل رسالته ويقول: أحسب الآن أننا نجونا من الرذائل بطرد دعاتها ومحبذيها، وأعتقد أننا سنحارب القلوب المضرة ما استطعنا حتى تصير مثلنا أو تنقرض، وأن كلاً منا قد آمن بنعمة السلام، وأننا قد أصبحنا أخوة، ولكن تظل أخوتنا ناقصة حتى نسبغ عليها شيئاً ضرورياً لها هو روح الاخوة. . . فينظر بعضنا إلى بعض دائماً نظرة الاحترام الخالية من الاستصغار أو الاستنكار أو الاستهتار، فليكن(129/45)
بيننا كبيراً في مقداره، كثيراً في اعتباره، وليكن شعوره محترماً ككل شعور.
فاستاء قلب الجبار وقال: عجباً!! كيف يساغ أن نعامل الضعيف كما نعامل القوى؟؟ وكيف نجل ذاك كما نجل هذا؟ وكيف نعتبر ذاك في ضعفه كما نعتبر هذا في قوته؟ إلا يكون في ذلك خلط، وتزييف في حقائق، وغبن للكرامة، وتشويه للحياة؟. . . . . إنها لمساواة فاشلة باطلة، كالمساواة بين الخادم وسيده، أو بين الطفل وأبيه. فلا العقل يتصورها، ولا الطبيعة تقيمها، ولا ظروف المعايش تبيحها.
قال قلب الشاب الساذج المغتر: أجل. . . . أجل. . . هذا هو الصواب؛ فالقوي لا يمكن أن يقبل الضعيف عديلاً له أو شبيهاً به، لأن القوي لا يستطيع أن يهبط حتى عيشه الضعيف، والضعيف لا يستطيع أن يعلو حتى يعيش عيشه القوي، فليكن القوي فوق الضعيف، ولتكن القوة موضع الاحترام.
قلت أنا أخاطب قلب الجبار: أنت واهم أيها القلب المتجبر تحسب أن الصدارة للقوي يعمل ما يشاء فيرتاح الجميع لما يعمل؛ ثم يأبى عليك جبروتك أن تساوي بمن يقل عنك قوة ومكانة؛ ولكن هون عليك فانك لم تدع إلى ما فيه غبن لكرامتك أو حطم لكبريائك، وإنما دعيت إلى ما تعد كريماً لو فعلته.
دعيت إلى تبادل المحبة مع القوي والضعيف على السواء؛ فبقدر قوتك يحسب على الضعيف كرمك، وبقدر كرمك يعتبر تواضعك، وبقدر تواضعك يكون سموك.
نحن نعرف أنك قوي، ونعرف أنك لست وحدك القوي، فأكثرنا ذو قوة. . . وإن لم تكن قوته في بنيته ففي صلابة إيمانه، أو في طيبة عنصره، أو في طهارة نزوعه، أو في عزته وإبائه؛ وقد ينقصك شئ مما في غيرك من هذا كما ينقص غيرك شئ مما فيك من القوة. فلنقدر كل هذه الصفات، ولتعلم أن القوة ما هي إلا واحدة منها.
قال قلب الشاعر: ليس ذنب الضعيف أنه ضعيف، لأنه خلق كذلك فلم يدخل شيئاً جديداً على خلقته؛ والقوي يكون مذنباً إذا اختال بقوته، لأنه يدخل باختياله عيباً كبيراً على خلقته. . .
وكنت أظن أن عمل المؤتمر قد انتهى إلى هذا، ولكن وقف قلب الشاعر مرة أخرى يستكمل رسالته ويقول:(129/46)
ما دمنا أخوة، ومادمنا نشعر بروح الأخوة. . فعلينا واجب هو آخر واجباتنا غير أنه أهمها، هو أن نقدم العون والمواساة لمن كان منا منكوباً أو مكروباً؛ فمثل هذا القلب - وأشار إلى قلب المومس بجانبي فيكي - كم بألم، وكم يكتم ألمه، لأنه لا يجد من يشكوه إليه، وإن وجد فأنه لا يجد من يواسيه فيه، فيكي وحده كلما انفرد فتذكر، أو كلما اجتمع فتفكر - بكاء الصابرين على غير أمل، والأحياء في غير رجاء.
فأقبلنا جميعاً على هذا القلب المسكين نواسيه، حتى انفرجت كربته؛ ثم أخذنا نتشاكى ونتناجى ونتواسى، ثم أقبلنا على قلب الشاعر نكبره ونصافحه ونحييه، ثم انفض المؤتمر.
ولما خرجت من التفكير والحلم، ثم عدت كما أنا شخصاً في صدره قلب، قلت: آه!! كم يعيش العالم سعيداً لو اتحدت قلوبنا فاتحدنا؛ وكان ٍأساس اتحادنا الإخلاص!.
(طنطا)
السيد محمد زيادة(129/47)
بين المتنبي وسيف الدولة
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
غادر المتنبي أرض مصر وشعوره لأميره السابق سيف الدولة نستطيع أن نجمله في بيتين قالهما المتنبي وهما:
فارقتكم فإذا ما كان قبلكم ... قبل الفراق أذى، بعد الفراق يد
إذا تذكرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشوق الذي أجد
فهو قد خرج من مصر ونفسه تواقة إلى سيف الدولة، مشتاقة إلى الاستظلال بكنفه، لأن آماله التي غرسها عند غيره لم يجن منها غير الخيبة والندامة؛ ولم يكن اشتياق سيف الدولة إلى لقاء المتنبي بأقل من ذلك، فقد أحس بعد فرقته بفراغ لم يملأه شاعر ممن حوله، ورأى بلبله الغريد قد طار عن أبكته، وحط عند غيره، ولم يكن أحب إليه من عودته، كما دلت على ذلك فعال سيف الدولة بعد أن فارق المتنبي أرض مصر، وهو إحساس كان من السهل على المتنبي أن يستثمره وأن يقصد تواً أرض سيف الدولة، ولكنه لم يفعل لأمور نستطيع تلخيصها فيما يأتي:
أولاً ما فطر عليه المتنبي من سمو النفس والعظمة التي كانت تملأ جنبيه، فقد عز عليه أن يلجأ إلى من فارقه مغضباً منه، وأن يذهب إلى من فرّط فيه ولم يبق عليه، بل سمع فيه قول الوشاة.
وثانياً هذا الشعر الكثير الذي قاله مضطراً تحت عوامل نفسية، وعوامل خارجية وثورة واضطرام عواطف وسب فيه سيف الدولة، فلم يجد من اللياقة أن يقصد من هجاء، ورأى في ذلك غضاضة لا يسبغها ولا يقبلها.
لم يذهب المتنبي إذاً إلى سيف الدولة ولكنه قصد الكوفة، وهناك كثيراً ما ذكر أيامه السالفة لدى الأمير وعهده الغابر؛ أما سيف الدولة فقد نسى كل ما ذكره المتنبي عنه حينما كان بمصر وأرسل إليه ابنه بهدية، فلم نجد المتنبي ما يشكره به سوى شعره، فكتب إليه قصيدة بدا فيها ما يكنه من جميل الذكرى وفيها يقول:
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا، وأنت السبيل
والممَّون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمول(129/48)
الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
نقص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي هزيل
إن تبوأتُ غير دنياي دارا ... وأتاني نَيْل فأنت المنيل
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو ... ر ولي من نداك ريف ونيل
ولا ينسى في تلك القصيدة أن يسمعه تلك النغمة القديمة التي كان يطرب بها مسامعه أيام كان في كنفه، فهو يحدثه عن حربه مع الروم وطول عراكه معهم، لأن تلك النغمة أعذب نغمة لدى سيف الدولة، فهو يقول له:
وموال تحييهم من يديه ... نعم غيرهم بها مقتول
فرس سابق، ورمح طويل ... ودلاص زُعف وسيف صقيل
أنت طول الحياة للروم غاز ... فمتى الوعد أن يكون القفول
تلك القصيدة تشعرك حقاً بأن المتنبي يحفظ أجل الذكريات لأميره ولا ينساها. ثم لما ماتت أخت سيف الدولة وورد نعيها العراق وسمع به المتنبي أبت عليه نفسه إلا أن يكون له نصيب من الحزن عليها فرثاها بقصيدة تدلك حقاً على وجدان متألم، وأنه يحزن لحزن أميره القديم ويرثى لمصابه، وفيها يقول:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
يظن أن فؤادي غير ملتهب ... وأن دمع جفوني غير منسكب
بلى وحرمة من كانت مراعية ... لحرمة المجد والقصاد والأدب
فأنت ذا تراه ينفى عن نفسه أنه لم يشارك أميره في الحزن ويقسم له بحرمة الفقيدة ثم يقول:
يا أحسن الصبر زر أولى القلوب به ... وقل لصاحبه يا أنفع السحب
وأكرم الناس لا مستثنياً أحداً ... من الكرام سوى آبائك النجب
ولعل رغبة سيف الدولة قد اشتدت في أن يكون المتنبي إلى جانبه فأرسل إليه كتاباً بخطه إلى الكوفة يطلب منه أن يسير إليه، فأجابه بقصيدة فيها عتاب جميل واعتذار عن التخلف،(129/49)
ومدح لسيف الدولة؛ ولعل المتنبي بذلك المدح يريد أن يعوض على سيف الدولة فقده؛ واستمع إليه يعتذر ويقول:
وما عقني غير خوف الوشا ... ة، وإن الوشايات طرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
وقد كان ينصرهم سمعه ... وينصرني قلبه والحسب
وما قلت للبدر أنت اللجي ... ن وما قلت للشمس أنت الذهب
فيقلق منه البعيد الأباة ... ويغضب منه البطئ الغضب
ويمدحه ويقول:
وما لاقني بلد بعدكم ... ولا اعتضت من رب نعماي رب
وما قست كل ملوك البلاد ... فدع ذكر بعض، بمن في حلب
أفي الرأي يشبه أم في السخا ... ء أم في الشجاعة أم في الأدب
ثم يمضي مادحاً معيداً على أذنه تلك النغمة القديمة - كما قلنا - نغمة مدحه بقتال الروم.
تلك علاقة المتنبي بسيف الدولة وهي علاقة لا تتعدى المراسلة، وقد يقال: أما كان من الخير للمتنبي أن يذهب إلى سيف الدولة بعد أن دعاه؟ ولكن إذا علمنا ما كان يخشاه المتنبي من الوشاة وأن المأساة ربما تتكرر خففنا من لومه والاعتراض عليه.
لم يلق المتنبي إذاً سيف الدولة بعد أن فارقه حتى قتل؛ أما شعور الأمير ساعة علم بمقتل شاعره القديم فان كتب الأدب إذا كانت لم تحدثنا عنه فمن السهل علينا فهمه، إذ ليس من اليسير على سيف الدولة تقبل مثل هذا الخبر من غير أن يحزن له وأن يتألم من أجله في صميم فؤاده.
أحمد أحمد بدوي(129/50)
7 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
وكان لموقع عدوى خطورة خاصة من حيث الاحتشاد في (ادجرات) حيث يوجد طريق يربط عدوى بأسمرة تواً بعد أن يمر بغوندت ويقطع خط الاتصال على القوات في ادجرات، وإذا أرادت الانسحاب تكون القوة الحبشية في عدوى قد سبقتها إلى اسمرة، بينما موقع أسمرة خطير وهو واقع على عقدة الجبال ويستر ميناء مصوع.
نعم يوجد طريق آخر يربط ادجرات بزولا في جنوبي مصوع وتستطيع القوات أن تتمون وتنسحب بواسطته إلى الساحل عند الحاجة، بيد أنه لا يستر الميناء (مصوع)، وهذا الميناء هو القاعدة لجميع الحركات ومنه تتمون حاميات (كرن) و (كسلا)، ولم يكن البريطانيون راغبين في إخلاء كسلا قبل أن يقضوا على حركات المهدي تماماً.
وقد أدى جمع القوات في ادجرات إلى مجابهة القيادة الطليانية مشكلة التموين. وكان في عدوى مقدار كبير من الذخائر اضطر الطليان إلى إتلافه لما انسحبوا منها. ولم تكف وسائل النقل لنقل المؤن. وبدلاً من أن يمونوا الوحدات الأهلية أخذوا يدفعون إليها الدراهم بدلاً من الأرزاق، بينما كانت الأرزاق قليلة، وكانت الأحوال جميعاً تدل على أن الطليان وقعوا في مأزق لا يمكنهم الخروج منه إلا بصعوبة.
فأرادت الحكومة الطليانية أن تنقذ الموقف بإرسال قوات جديدة إلى أريترة، وقررت من جهة أخرى إنزال القوات في ميناء زيلع للتقدم نحو هرر واستمالة المسلمين إلى جانب إيطاليا وتهديد العاصمة (أديس أبابا)، فتضطر القوات الحبشية إلى الإنقسام. بيد أن حكومتي بريطانيا وفرنسا لم توافقا على إنزال القوات الطليانية في ميناء زيلع في الصومال البريطاني لأنهما كانتا قد اتفقتا على اعتبار مقاطعة هرر من الأملاك الحبشية. وهذه المقاطعة الكثيرة السكان تتجر مع المستعمرتين الفرنسية والبريطانية، ولكلتا الدولتين منافع خاصة فيها.
والذي زاد الطين بلة أن الخلاف ظهر بين القيادة الطليانية في أريترة وبين الحكومة الطليانية في رومة. وكانت البرقيات التي يرسلها رئيس الحكومة (كريسبي) تندد بأعمال(129/51)
الجنرال باراتيري، وكلما ورد خبر مؤلم إلى إيطاليا تثور زوبعة في رومة تنتهي بإرسال برقية شديدة اللهجة إلى حاكم المستعمرة وقائدها.
ومن هذه البرقيات البرقية التالية التي أرسلها رئيس الحكومة إلى الحاكم العام بعد وصول أخبار نكبة (امبا - الاغي):
(أرسلنا إليك أكثر مما طلبت ولا نزال نرسل. وإذا كان سبب المصائب عدم كفاية وسائلك أو قلة كفايتك فالويل لك).
وفي البرقية الأخرى يذكر ما يلي:
(يظهر لنا أن في روحك شيئاً من الخيبة والتردد).
وطلب الجنرال إرسال أربعة عشر فوجاً وخمس بطريات جبلية؛ بيد أنه لم يفكر في كيف يتمكن من تموين هذه القوات بينما كانت القيادة عاجزة عن تموين أولئك الموجودين في المستعمرة، وكان يبحث في القيام بالهجوم من جديد. وكان جواب (كريسبي) إليه ما يلي: (أنا لا أريد منك خطط حركات، وإنما أرغب إلا تتكرر الهزائم).
وفي 8 يناير 1896 أبرق الجنرال (باراتيري) أنه لا يريد إرسال قوات لأنه لا يتمكن من تموين القوات الموجودة عنده. وبعد سقوط قلعة (مكلة) تأكد من كثرة قوات الحبشة التي عسكرت بين (مكلة) وادجرات، فقرر ترك مقاطعة (تيجري) والانسحاب بقواته إلى مصوع، وطلب الموافقة على ذلك من رومة، إلا أن الحكومة الطليانية لم تشاركه في هذا الرأي، وكان كريسبي يستهزئ بباراتيري مبرقاً إليه: (إنك مصاب بالتدرن).
فلم ير الجنرال بداً من رمي الجيش الإيطالي في النار
8 - قبل معركة عدوى
لما حاصر ماكونين قلعة (مكلة) عسكر منليك بجيشه بين القلعة و (ادجرات)، ولما سقطت (مكلة) وافق على ذهاب الأسرى مقابل مال تدفعه إليه الحكومة الطليانية. وكان رسول كريسبي يفاوض منليك في هذا الشأن. وسافر الموظفون المدنيون أولاً إلى (ادجرات)، وبعد خمسة عشر يوماً سافر الجرحى والمرضى على البغال التي أخرجتها الحامية من القلعة لقلة الماء فيها
وقد أظهر النجاشي مقدرة حربية بالاستفادة من سوق الأسرى. ولم تكن القوة المحتشدة في(129/52)
ادجرات قليلة، وكانت القلعة حصينة، والطريق الذي يصل مكلة بادجرات وعراً، ويمر بمضايق حصنها الطليان لسدها في وجه الأحباش. وكانت الجهة المعرضة للهجوم واقعة إلى الجنوب ومسيطرة على الوادي في انحدار شديد. وكان طول الخنادق حول القلعة 750 متراً، وكانت مواضع المدافع صالحة للرمي على مسافات بعيدة. وبلغت القوة المكلفة بالدفاع عن هذه الجبهة 000ر20 مقاتل، وكان التقدم في هذه الناحية يلقى عراقيل وموانع، وقد لا ينجح الهجوم على الطليان لمناعة مواضعهم وكثرة مدافعهم ووفرة سلاحهم. وإذا استطاع منليك أن ينقل جيشه من شمالي مكلة إلى عدوى دون علم الطليان فإنه يكون قد هدد طريق (اسمرة - مصوع) وألجأ الطليان إلى الانسحاب من ادجرات، لأن التقدم من عدوى في الجهة الشمالية الشرقية يقطع خط الرجعة على الجيش الطلياني
ولكن كيف يستطيع منليك القيام بالمسير الجنبي بهذا الجيش اللجب دون علم الطليان؟ والأمر يتوقف على الخدعة، والعرب يقولون: (رب حيلة تغني عن قبيلة). وسوق الأسرى وفيهم الجرحى والمرضى من مكلة إلى ادجرات هيأ هذه الخدعة، فأنبأ منليك القيادة الطليانية بأنه سوف يوفد قوة من جيش ماكونين مع الأسرى لحراستهم. فساقهم يوم 25 يناير على طريق (اندرثا) وفي اليوم الثامن غير طريقهم إلى (هوزن) بحجة أن الطريق الأول لا يصلح لسوق المرضى والجرحى؛ وهكذا قدم جيش ماكونين على طريق (مكلة - هوزن - ادجرات) وبحراسة هذا الجيش سير منليك جيشه من معسكره إلى عدوى. ولما وصل الأسرى إلى ادجرات كان جيش منليك في عدوى والتحق به بعد ذلك جيش ماكونين فأصبح مجموع القوة 000ر80 رجل
ولا ريب في أن منليك أهمل أمر (ادجرات) واهتم بعدوى. والحقيقة أن لخط (ادجرات - عدوى) خطورة عظيمة من حيث السيطرة على مستعمرة اريترة، أو سد الطرق في وجه المهاجمين لبلاد الحبشة، لأن الخط المذكور كما سبق القول يمر بذرى الجبال التي تؤلف الخط الفاصل بين حوضي نهر مارب ونهر تكاسا. واعتمد منليك على تفوق عدده وتيقن أن الضربة التي ينزلها في عدوى تفتح له الطريق. وما دام هو في عدوى فلا يجرؤ الطليان على التقدم في الجهة الجنوبية الغربية
ولما وصل الجيش إلى عدوى احتل الروابي الشرقية وتأهب للمعركة، فاضطر الجنرال(129/53)
(باراتيري) أيضاً إلى تغيير وجهة جيشه. فبعد أن كان متوجهاً إلى الجنوب توجه إلى الغرب
ولم يستعجل منليك القتال، وكانت لديه مهمات أخرى يريد أن ينجزها قبل العمل، وهي إراحة الجيش، واحتلال المواضع المسيطرة، وتسليح الأهليين في المستعمرة، وحثهم على الثورة على الطليان. فتظاهر بأنه يريد الصلح، وشاغل الطليان بمفاوضات الصلح، فحملهم على البقاء في ادجرات. وطلب من الحاكم العام أن تجري المفاوضات على الأسس التالية:
اعتبار نهر مارب ونهر بلزة خط الحدود، وتصحيح معاهدة كسلا، والاعتراف باستقلال الحبشة. وهكذا أظهر للعالم أنه مسالم. بيد أن الجنرال (باراتيري) أنبأه بأنه غير مفوض بقبول هذه الشروط ما لم يقف على رأي رومة
وفي 13 فبراير سنة 1896 نجحت تدابير منليك بإغراء الأهليين الذين كانوا قد تطوعوا في الجيش الطلياني مقابل راتب. وفي 14 فبراير ترك المتطوعون الجيش الطلياني وانضموا إلى الجيش الحبشي وهاجموا قوة الستار الطليانية في مضيق (اليطا)
وحاول قائد القوة في هذه الجبهة أن يحول دون انضمام المتطوعين إلى الأحباش وأرسل وراءهم فصائل طليانية على التعاقب، إلا أن المتطوعين أحاطوا بهؤلاء واضطروهم إلى التسليم وساقوهم أسرى إلى منليك، فتشجع الأهليون بذلك وثاروا على الطليان، واستولوا على طريق (ادجرات - سنافه)، وقطعوا الأسلاك البرقية؛ وطفق الطليان يشعرون بحرج الموقف إذ قلت الأرزاق، لأن الثوار أخذوا يهاجمون القوافل على خط المواصلات؛ وكانت القوافل تسير بحراسة حاميات قوية ببطء. وأخذ بعض فصائل الجيوش يتقدم نحو أسمرة لعبور نهر مارب والوصول إلى (غودفلاسي)
(يتبع)
طه الهاشمي(129/54)
شعر الديباجة
أدب البارودي وشعره
بمناسبة انقضاء مائة سنة على مولده
للأستاذ أحمد الزين
أما وقد تحدثت إليك في الفصول السابقة عن ألفاظ الشعر ومعانيه؛ وبينت أن للشعر ألفاظاً ومعاني مختصين به، لا يشاركه فيهما غيره من الكتابة والخطابة؛ وأوضحت الفرق بين المعاني الشعرية وغيرها من المعاني البسيطة؛ ومثلت لجميع ذلك بما أوضحت به الغرض من شعر القدماء والمحدثين؛ فإني متحدث إليك اليوم عن شعراء الألفاظ فأقول:
قد يفرط بعض الشعراء في تحسين الألفاظ وتجميل العبارات مع خلو الشعر من المعاني الحية، والأغراض الملائمة للبيئة، والتفكير المساير لثقافة العصر، فلا ترى في القصيدة على طولها، بل في الديوان على ضخامته صورة صادقة منتزعة من حياة الأمة ولا من حياة الشاعر نفسه، بل يعمد الشاعر إلى معاني سواه من الشعراء المتقدمين فيرددها في شعره، ويحشو بها قصائده، ويحاول أن يخدع القراء عن هذا التقليد بألفاظ يجيد تهذيبها، ويحسن اختيارها، ويجري فيها على مذهب القدماء من الفخامة والجزالة والمتانة، ومع هذه الفخامة وتلك الجزالة فإنك تشعر في مجموع القصيدة وفي كل بيت من أبياتها ببرودة الموت وسكون الفناء، كأنك ترى جسماً ميتاً يبدو الجمال على محياه، وما يجدي الجمال مع فقد الحياة؟ فإنه مما لا نزاع فيه أن للمعاني كما لذوات الروح أزمنة محدودة تحياها، وأعماراً معدودة تعيشها؛ وأن من المعاني ما ينقضي أجله بمجرد انقضاء الحادثة التي قيل فيها، فإذا قيل بعدها عدّ من المعاني الرثة البالية؛ ومنها ما يخلد على توالي العصور وتعاقب الأجيال ويظل جديداً على قدمه، يغالب الزمن بما فيه من عناصر القوة والبقاء، ويدافع العدم بما فيه من أسباب الحياة، وذلك إذا تعلق المعنى بغرض عام في حياة الإنسانية جمعاء، وصلح أن يتخذ مثلاً سائراً بين جميع الأحياء؛ ومنها ما يخرج من فم قائله ميتاً، كالسقط الذي لم يستهل صارخاً، لا يستحق غسلاً ولا تكفيناً، لأنه ولد دفيناً؟ وكثيراً ما ترى ذلك في شعر التقليد وقصائد المعارضات التي يجاري فيها الشعراء من تقدمهم ن فحول(129/55)
الشعر وأعلام القريض.
وبالجملة فمن عيوب الشعر التي لا تغتفَر أن يُعنى الشعراء بالألفاظ دون ملاءمة المعاني للبيئة التي يعيشون فيها، ومسايرتها لثقافة العصر الذي قيل فيه الشعر
ومن هؤلاء المرحوم (محمود سامي البارودي) فقد كان رحمه الله غريباً في مصره، وصياغة عصر غير عصره، ومغرداً في روض العلويين بأغاريد العباسيين، ومُسمعاً دولة إسماعيل وتوفيق ما لا يطرب له غير الرشيد وأنداده من أمراء المؤمنين، فهو شاعر جاء متأخراً عن زمنه، بعيد العهد بينه مبين أقرانه وأساتذته من أوائل العصر العباسي إلى أواسط القرن الرابع، وهم الشعراء الثلاثون الذين اشتملت مختاراته الضخمة على كرائم قصائدهم، وعيون شعرهم في أهم أبواب الشعر وأجل أغراضه في تلك العصور وهي المديح والرثاء والأدب والصفات والنسيب والهجاء والزهد.
ولم يزل هذا الكتاب منذ طبع حتى اليوم ينبوعاً صافي المورد، ومنهلاً عذب الشريعة، يرده الأدباء والمتأدبون ظماء، ويصدرون عنه رواء، فكم من أديب نابغ في هذا الجيل قد تخرج عليه، وعلم من أعلام البيان العربي كان مرجع بيانه إليه، وشاعر فحل زكت شاعريته، ونمت موهبته بالرواية عنه، والأخذ منه، ولسان منعقد حلت عقدته بمطالعته، وانطلق من وثاق اللكنة بمذاكرته، وتعلم صقل الألفاظ، وعلو البيان، وإشراق الأسلوب بدوام النظر فيه، ومحاكاة ما يعلق بالذهن واللسان منه؛ وكم خابط في ظلمات العجمة استوضح معالم العربية الصريحة، وملامح الصور الشعرية الصحيحة بضوء مصباحه، فهذه المجموعة في حسن ما اشتملت عليه من قصائد المولَّدين وجدواها على الأدباء والمتأدبين، وكثرة من تخرج عليها من الشعراء المجوّدين، أشبه الكتب بحماسة أبي تمام وإن اختص كل منهما بشعراء عصر، فمختار أبي تمام مقطعات من شعر العربية الخالصة التي لم يشُبها توليد، وختار البارودي قصائد من شعر الموّلدين؛ فحيث انتهى أبو تمام في حماسته ابتدأ البارودي في مختاراته، فهو كالذيل له، وإن كان أضفى من الثوب، وقد كان يقال: إن أبا تمام في اختياره، أحسن منه في أشعاره.
وعندي أن البارودي يشبهه في ذلك، بل هو أولى منه بهذا الحكم الأدبي العادل.
فجميع شعره ليس إلا تقليداً لشعر هؤلاء الثلاثين الذين اختار لهم، ولا نزاع في أن الأصل(129/56)
أقوى في بابه من التقليد مهما بالغ المقلد في أحكام عمله، وتنوق في تقليده.
أما أبو تمام فلم يقلد أحداً في شعره، بل كان إمام مذهب شعري خاص موسوم به، معزوٍّ إليه؛ لم يُسبق فيه بأحد قبله، وتابعه عليه كثيرون ممن عاصره أو جاء بعده.
وناهيك بما كابده البارودي رحمه الله من العناء والجهد في جمع هذه الدواوين التي كانت تعد في عصره من نوادر الكتب ونفائس الخزائن، وذخائر الكنوز الخطية التي لم تصل إليها يد النشر بطبع ولا نسخ، إذ كان بعضها في خزائن العظماء والسراة يتوارثونها فيما يتوارثون من ذخائر وطرائف لا يعرفون قيمتها، ولا يدرون ما يُفعل بها؛ وكان أكثرهم بل كلهم من أمراء الترك الذين استوطنوا هذه البلاد واتصلوا بملوكها، أما بالمودة أو بالقربى أو بالعمل، واستأثروا بالثروة الوافرة والجاه العريض؛ وكانوا يحشدون في خزائنهم تلك الكتب مباهين بعضهم بعضاً في جمعها، لا في نفعها، وقد آل بعض هذه الخزائن إلى دار الكتب المصرية من عهد قريب، كمكتبة المرحوم طلعت بك وحليم باشا وغيرهما، ويشهد الله ما فتح أكثر هؤلاء من كتبهم سِفراً، ولا قرءوا منها سطراً، وإنما كان يبهجهم ما يرون في بعض هذه الكتب من النقوش الفنية البديعة، والصور المتقنة الرفيعة، ويبهرهم من الكتاب ما يرون فيه من نفاسة الغلاف، والعلامات الذهبية في أواسط الصحف أو على الأطراف، وغير ذلك مما يسترعي الأبصار، دون الأفكار.
ولا يزال بيننا الآن من الناس من لهم كلَف شديد باقتناء الكتب: إما ببذل المال الكثير في شرائها، أو باستهدائها من مؤلفيها وجمعيات نشرها، ويتنوقون في تجليدها تجليداً حسناً، وينقشون أسماءهم عليها بالذهب، ويرتبونها في خزائنها ترتيباً متقناً، وينسقونها في مواضعها تنسيقاً فنياً يبهج الناظر، متوخين في ترتيبها التجانس في الألوان والأحجام، دون العلوم والموضوعات، إذ كانوا لا يفقهون من ذلك قليلاً ولا كثيراً، ولا يدركون من نفعها جليلاً ولا حقيراً؛ معتقدين أن حجرة الكتب مما تتم به مرافق البيت، كحجرة الزائرين وحجرة الطعام وما إليها، فإن قدم عليهم زائر أدخلوه حجرة الكتب ليرى أثر النعمة عليهم، بجمع هذه التحف لديهم.
وكان بعض هذا الكنز الثمين مدفوناً بين أنقاب المساجد وفي كوَى الزوايا في حراسة الجهلة من خدمها، يبيعونه لتجار الفرنجة بيع يوسف بثمن (بخس دراهم معدودة وكانوا فيه(129/57)
من الزاهدين).
فتفرق أكثر هذه الكتب في العواصم الأوربية، إما في مكاتبها العامة، أو في الخزائن الخاصة، والأدباء والعلماء في الشرق يتلهفون شوقاً إليها، ويتحرقون أسفاً عليها، ويسمعون بها سماعهم بأصحابها، حاسبين أنها انقرضت بانقراضهم، وذهبت بذهابهم؛ وهي تختلس من بلادهم، وتنتهب من بين أيديهم؛ واللغة التي أشفت على الهوّة، وأشرفت على المنحدر، في حاجة ماسة إلى نهضة كبرى لإحيائها، وقِوام تلك النهضة هو إحياء تلك المخطوطات البالية، بل الآثار الباقية لأعلام البيان وأمراء الكلام من الكتاب والشعراء، فلبثت هذه الكتب في ظلمات الخزائن مئات من السنين تتعاقب عليها الحقب والأجيال، ويتضافر على تعطيل الانتفاع بها الجهل والإهمال، وتنتفع الجرذان والأرَض بأكلها، أكثر مما ينتفع الأدباء والعلماء بفضلها؛ حتى أتاح الله لها ذلك الأديب النابغ، والشاعر الفذ، فتولى نظارة ديوان الأوقاف، وجمع ما بقي من هذه الكتب في مخابئها؛ وكان هذا هو بدء العمل في إقامة دار للكتب في مصر.
ولا يغيبنّ عن ذهنك أن ما بذله ذلك النابغة رحمه الله من الجهود المضنية في الظفر بتلك الدواوين التي جمع منها مختاراته، لم يكن بأكثر مشقة مما عاناه من التعب المُمِض، والنصب المُقِضّ، في تصحيح ما أفسدته أيدي الجهلة من النسّاخ بل المسّاخ من ألفاظها، وإصلاح المحرّف من كلماتها، وتكميل الناقص من أبياتها، وإعادة البهاء والرونق إلى ما شوه الجهل من جمالها، ومسخ من صورها، وطمس من معالمها، وإن أيسر ذلك لمما يستنزف الجهود، ويستنفد الزمن المعدود، والعمر المحدود؛ فإنك لا تكاد تفتح أحد هذه الدواوين المخطوطة حتى ترى ظلاماً كثيفاً من التحريف والتصحيف قد غشي جميع صحفه، وخيّم على جميع سطوره، فلا يبدو لعينك في وسط هذه الظلمة من شعاع الصواب، إلا كما يبدو ضوء الشهب من خلل السحاب، ولا تكاد تقرأ سطراً خالياً من عدة كلمات محرفة، أو مصحفة، غير مستقيمة المعنى ولا واضحة الغرض، يحتاج إصلاحها إلى زمن طويل، وبحثٍ غير قليل، وذهن غير كليل؛ وتحفّظ من الخطأ، ودقة في الذوق الشعري ينفذ بها القارئ إلى وجه الصواب؛ وحسن اختيار في المحو والإثبات، وتفهّم دقيق لما يقتضيه سياق الكلام من المعاني والأغراض، ومعرفة بأساليب الشعراء ومصطلحاتهم في(129/58)
كل عصر، ليكون المحو والإثبات تابعين لما تقتضيه هذه الأساليب وتلك المصطلحات وخبرة واسعة بالكتب اللغوية والأدبية، وأغراض كل منها، ومكان الفائدة منها، ثم إعمال الذهن بلا كلل، وإجهاد الفكر بلا سآمة في الألفاظ المحرفة، والعبارات المغلقة، التي لم يستقم معناها على وجه من الوجوه، بتقليب حروفها بين التحوير والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والزيادة، والإعجام والإهمال، حتى يستقيم المعنى ويتضح الغرض مع الأمانة التامة على الأصول، وعدم الخروج عنها إلا بالقدر المعقول.
هذا قليل من كثير من المشتقات التي يعانيها الناظر في أمثال هذه الدواوين ليختار منها مجموعة ضخمة مصححة أقوم تصحيح كمختارات البارودي.
أما شاعرية البارودي فسنحدثك عنها في العدد المقبل.
احمد الزين(129/59)
القصص
صور من هوميروس
18 - حروب طروادةمصرع هكتور
للأستاذ دريني خشبة
اختلط حابل الطرواديين بنابلهم، وظلوا يهرعون إلى الأبواب حذر الموت الذي يتلقفهم عن شمائلهم وعن أيمانهم، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، كأنما جثمت المنايا في كل خطوة فهي لهم بالمرصاد. . . طالما يكر أخيل هنا ويفر هناك، وتكر من خلفه وتفر شياطين الميرميدون، صائحين متهدجين: (يا لَثارات بتروكلوس!)
ووقف أبوللو وهو يتميز من الغيظ يشهد المعركة، ويرى إلى أخيل يحصد تلك الرؤوس اليانعة التي لم يحن بعد قطافها، فلم يملك أن دنا منه وقال:
(على رسلك يا ابن بليوس، فكأني بك ما كفاك من صرعت حتى لتحدثك نفسك بقتال الآلهة، ومحاربتي أنا من دون أرباب الأولمب خاصة! ولكن هيهات! فإنك لابد يوماً ذائق الموت الذي لن يذوقه إله في الأرض ولا في السموات. . . فاقصد في تقتيل هؤلاء الأبرياء، ولا يغرنّك نصر قد تكون في آثاره هزائم. . . . . .)
وعبس أخيل عبوسة قاتمة، ثم نظر إلى أبوللو مغضباً وقال: (حسبك يا سيد الشمس ما ضيعت من جهود، وما فوّت عليّ من ثارات. . . أعرج في سمائك الشاسعة، ودع بني الموتى يصطرعون من أجل المجد والشرف. . . لقد أنقذت خصمي من قتلة محققة، فهل يا ترى تظل يا سيد الشمس تعترض طريق الأقدار، ليمرح في كنفك الفجار الأشرار؟. . .)
وانطلق أخيل يعدو في أثر هكتور؛ وكان هكتور قد أخذته العزة فأبى أن ينجو بنفسه فيدخل المدينة مع الداخلين
وكان بريام، الملك الشيخ، يشرف على الساحة الحمراء من أحد أبراج مدينته، فرأى ابنه واقفاً في إحدى حنيّات الأسوار يستجم، ويرسل في رهج الميدان عينين سادرتين محزونتين، تشفان عن قلق عميق، واضطراب دوي، فريع الأب المفئود، وزلزل زلزالاً شديداً، وطفق يئن أنيناً عالياً، ويدرب صدره الموهون بيديه الواهيتين، ثم يصيح بابنه أن(129/60)
يسارع إلى البوابة الإسكائية قبل أن يلحق به أخيل، عسى أن ينجو مما يتربص به من منون. . .
(أي بني! هكتور! فيم تقف في هذا الميدان وحدك تنتظر الطاغية أخيل عليه لعنة السماء والآلهة، بقتله بنيّ، وإهداره دماء مواطنيّ!
هلم يا بني فحسبي ما جزعت عن بوليدور، وحزنت أمض الحزن وأوجعه على ليكاون، وحطم قلبي من الأسى على أبناء اليوم!. . .
هلم يا بني فأنت أمل طروادة ومعقد رجائها، وليس لها بعدك من ولي ولا شفيع!
هلم فأبوك الشيخ قد صدعه الحزن، وأوقرت ظهره ويلات الحرب، وأغطشت عينيه أرزاء هذا البلاء، فلا تكن أنت محنة المحن التي تحل به، واستبق شبابك له يتسل بك، ولأمك المفجّعة تستلهم بقربك الصبر، على ما كرثها الزمن الصارم من نكبات يلاحق بعضها البعض، وتأخذ أولاها بتلابيب أخراها مشرق كل شمس، وكل مغيب شمس
هلم يا هكتور إليّ! إلى والدتك! إلى زوجك! إلى طفلك الذي تكاد تسلمه لليتم، وتدعه خلفك للشقاء!. . .
هلم وحسبنا أرامل شجعاننا اللائى يحلن إشراق أيامنا ظلمة، ويصيرون لألاء الحياة قتاماً. . . أو يرسفن في أغلال الاستعباد حيث يقمن في خدمة الإغريق اللؤماء. . .!
هلم إليّ يا بني! فو أرباب الأولمب إني لأرتعد فرقاً كلما خلتك كلقى بالعراء تنوشك سباع الطير، منبوذاً لضواري هذه البرية التي طالما أطعمتها وأكرمت مثواها. . .)
وصمت الملك، وراعه أن ابنه لم يتحرك لتوسلاته، بل لبث مكانه يرمق الميدان فراح يضرب يداً بيد، ثم انحنى فجعل يحثو التراب على رأسه المجلل بثلج الشيب، وندف الأيام، وبهذه الشعلة البيضاء التي زادتها أحداث الزمان اضطراماً. . .
وكان هيكوبا إلى جانبه. . . هيكوبا مليكة اليوم،. . . هيكوبا الأم. . . التي فجعها أخيل في عدد من أعز أبنائها، ويحاول اليوم أن يفجعها في هكتور، ابنها البكر، وتاج الأمومة الوضّاح، الذي تفخر به كل أم، وتدل به كل والدة!
وقالت الأم الباكية تخاطب هكتور: (هلم يا ولدي فإنك وحدك لا تستطيع أن تكبح جماح هذا البحر الزاخر من الجند، بل لو أن معك ألفاً من شجعان طروادة ما وسعهم أن يردوا عادية(129/61)
هؤلاء الميرميدون المقنعين في حديدهم، الكثيرين في عديدهم.
هلم يا هكتور واستبق شبابك وعنفوانك لأمك المحزونة التي لم يبق لها من ولد غيرك، ولا عز إلا في جوارك، ولا حمى إلا في كنفك، ولا مجنّ يرد عنها عوادي الأيام إلا في ظلك، ولا فخر لها بين النساء إلا فخرك، وما تمد الآلهة في أيدك، وتشد به أزرك. . .
هلم يا بني فقد أزعجتني الرؤى، وروعتني الأحلام، وجثمت فوق صدري أشباح هذه الساحة التي تفتأ تلبس الحداد وتخلعه وتغري بالنصر ثم تنزعه، وإن سرت بطلاً بفوز تنكص فتفجعه، فتنقد أضلعه وتمتزج بدمي أدمعه. . .).
وكانت الملكة، كما كان الملك، تمزج توسلاتها إلى ولدها بأغلى الدموع، وأحر الآهات؛ بيد أن هكتور ظل مسمراً مكانه كالحية الرقطاء التي تتحوى وتتكوم في انتظار عابر تنقض عليه؛ وكان يمني أن يأخذ أخيل على غرة، فيريح طروادة منه، ويضفر لنفسه بنفسه إكليلاً من المجد لم يزن مفرق بطل من قبل.
وكانت توسلات أبويه تتناثر فوق أذنيه، ولا يصغي لها قلبه، بل هو ظل يحلم في يقظته أحلاماً معسولة، كانت تطن في خلده هكذا: (ضلة لي إذا ثنيت عناني إلى المدينة ألوذ بها من أخيل، فأرسف أبد الدهر في حضيض العار، واطأطئ حياء كلما رأيت طروادياً يهمس في أذن أخيه: إن هذا هكتور الذي ولى دبره، ونكص على عقبيه، ولم يجرؤ أن يلقى أخيل بمفرده في الميدان. . . وأين أذهب من غادات اليوم وحرائرها إذا أنا وليت الأدبار، وهاهن مشرفات على الساحة يرين ماذا يكون من أمري مع ابن بليوس الذي تفزع الآلهة من ضرباته، وتمور الأرض تحت عجلاته، وتنعقد عجاجة الوغى فوق رأسه في حين يبرز منها كالكوكب الدري! حاشاي أن أعود أجرر أذيال الخيبة، فأما أن ألقاه فأريح الدنيا قاطبة من شره، وإما أن يرحني هو من هذا الهم المقيم فأفضي في سبيل بلادي ومن أجل مملكتي. . .
ثم فيم صراخ أبي وعويل أمي؟ أيرجوان أن أدخل إلى المدينة فأكون بنجوة من الموت الشريف فوق أديم الميدان ساعة، ثم يفتحها أخيل عليّ، فيذبحني كما يذبح شاة لا حول لها ولا طول، أو يضع الأغلال في عنقي ويجرني في شوارع (إليموم) كما تكون أذن الجارية في يد النخاس بسوق الرقيق!؟(129/62)
(حاشا. . . بل خير لي ألف مرة أن أخوض غبار المعمعة، مادام لن يضيرني إلا ما حتمت المقادير عليّ. . .)
وما كاد يفيق من أحلامه حتى كان أخيل أمامه وجهاً لوجه، وعلى كتفه الرحب الهرقلي رمحه الضامئ العتيد، وفوق صدره العريض الممرد سوابغ دروعه التي سردها الإله الحداد فلكان، تنعكس عليها آلاف وآلاف من أراد الشمس فتبهر الأبصار وتخلع الأفئدة، وتذيب في الجوارح كهرباء الرعب، وتشعل في الرؤوس ضرام الشيب!!
وزاغ بصر هكتور، واضطرمت مفاصله، ونُخِب قلبه، واستُطير لبه، وأحس كأن جبلاً ينحط عل روحه فلا يكاد يفلتها، وذاب الثلج في عروقه فجمدت من الروع والفزع، وهزته قشعريرة طفقت تعصف بكيانه الضخم، وتلعب بفؤاده الونى. . .
ثم بدا له أن يلهب جياده فتفر به من وجه أخيل، ولكن إلى أين؟ إنه حيثما تولى فثم وجه أخيل!! إن أخيل غدا آلافاً لا حصر لها من الأشباح المفزعة تملأ الساحة وتكظ الهواء، وتأخذ على الطرواديين أنفاسهم!
وانطلق ابن بليوس في أثر هكتور، وأشرف عذارى اليوم يطللن من أبراج المدينة الخالدة ويمسكن حبات قلوبهن أن تثب إلى الميدان فتطأها سنابك تلك الجياد الجوامح. وكان كلما أغذّ هكتور أوخف أخيل في أثره، فكانا كالأبردين: لا الليل يدرك النهار ولا النهار يستأنى فيدركه الليل، حتى نال منهما الجهد، وتفزعت الآلهة في علياء الأولمب إشفاقاً على ابن بريام العظيم، ورثاء لابن بليوس المتهدج، ورحمة لهذه الأرض لتضرجه بدماء الشهداء
وهم سيد الأولمب أن ينقذ هكتور لولا أن أقنعته ابنته، مينرفا ربة الحكمة والموعظة الحسنة، فنحّته عن طريق الأقدار وأخلت بين أخيل وخصمه. . .
وطافا حول طروادة ثلاثاً، وما كادا يبدآن طوافهما الرابع، حتى قبض زيوس إليه ميزان القدر، فهوت كفة الحق بقتل هكتور، وأربد وجه أبوللو وسقط في يده، وانطلق يضرب أخماساً لأسداس. . .!
وأسرعت منيرفا إلى أخيل تزف إليه بشرى السماء، وآثرت له أن يتلبث مكانه يستجم نشاطه، ويتنفس الصعداء، حتى تذهب هي إلى هكتور تغريه بلقاء خصمه، وتنفره من هذا الفرار الذي أضحك منه قيان إليوم وحسانها. . .(129/63)
واستخْفت منيرفا، وبدت لهكتور في هيئة أخيه الأصغر ديفوبوس، ثم راحت تحضه على الحرب، وتحرضه على أخيل، وتهوّن له من شأن زعيم الميرميدون، وتعده أنها ستقدم له كل عون حتى يظفر به وتنصره السماء عليه نصراً عزيزاً. . .
ولم يشك هكتور في أن الذي يخاطبه هو شقيقه وحبيبه ديفوبوس، فوقف قليلاً يفرج عن قلبه بعض ما كرثه من روع، وراح يمزج شكرانه لأخيه بدموع الفزع، وذلة العبارات المنقطعة الحزينة، وخفقان القلب المضطرب ذي الوجيب!
وانثنى هكتور للقاء أخيل. . .
فما كاد ابن بليوس يشهده مقبلاً، بعد إذ كان مدبراً، حتى طرب قلبه، وشاعت بشاشة اللقاء في زنده القوي وسواعده المفتولة، ثم انقلبت هذه البشاشة إلى جهنم من الغيظ تستعر بالتشوّف إلى الانتقام في فؤاده، وتضطرم بلظى البطش في سويدائه؛ وتطل من عينيه تود لو تنقدح في أضلع هكتور. . .!
وقال هكتور: (تخدع نفسك يا أخيل إذا ظننت أني كنت ألوذ بأذيال الهرب منك، حين أجريتك هذه الأشواط الثلاثة حول إليوم. . .؟! لا. . . فإنني ما حاولت إلا إجهادك، وأن ينال الإعياء منك. . . والآن، هأنذا قد انقلبت للقائك فأما أن أقتلك، وأما أن تروي رمحك الضامئ من دمي. من يدري؟ أليست الأقدار مطوية عنا في صحائف الغيب، لا يعلمها إلا سيد الأولمب وكبير الآلهة: زيوس جل شأنه!
بيد أنني أطمئنك من الآن يا أخيل، إن أظفرتني السماء بك، فلن أفضحك في هذه العدة السابغة من فوقك، ولن أنزع عنك تلك الدروع الضافية التي لن تنفعك من المقادير من شئ. . . ثم أعدك أيضاً إلا أفضحك بعد موتك في هذا الجسم العزيز الذي سيكون بعد قليل جثة لا نأمة فيها ولا حياة. . . لن أرسل بك إلى عراء طروادة فأنبذك فتأكل الطير منك، زتنوشك سباع البرية الموحشة التي تعج بالضواري والكلاب. . . لا. . . لن أفعل من ذلك قليلاً ولا كثيراً. . . بل سأترك لجنودك البواسل أن يحملوك إلى سفائنك عزيزاً في قتلتك، كما كنت عزيزاً في معاشك
والآن يا ابن بليوس! هل تعدني الوعد الذي وعدتك، وهل تعاملني بمثل ما أنا معتزم أن أعاملك، إن أظفرتك السماء عليّ. . . . . . . .؟(129/64)
وتزلزل الأرض تحت عربة أخيل مما سمع من مهاترة ابن بريام ويقذفه بشواظ من الكلم المحنق والقول المضطرم، ثم يقذفه بصعدته الظامئة التي تمرق إلى هكتور كالبرق الخاطف، لو أصابت منه عضواً لذهبت به إلى الجحيم. . .
ولكن هكتور العظيم ينفتل انفتالةً عجلى، فيهوي رمح أخيل إلى أرض الساحة، ويغوص ثمة إلى ثلثيه. . . إلا قليلاً
وكانت فرصة طيبة لهكتور ينفرد فيها بخصمه الأعزل، لو لم تكن مينرفا حاضرة، وعلى أهبة تامة لمعاونة أخيل. . . . فلقد سارعت إلى الرمح فانتزعته من الأرض وسلمته لصاحبه دون أن يلمحها هكتور. . .
وقبل أن يتهيأ لها أن تضع ذلك، قال ابن بريام: (أخيل! ها قد طاشت ضربت، وآن لطروادة التليدة أن تستريح منك يا ألد أعدائها!! لقد كنت تحدث نفسك برأس هكتور؛ غريمك وخصمك، فلتبحث الآن عن رأسك يا ابن بليوس. . . .
ولم يكد البطل المسكين يتم قولته، ويضيع بها فرصته حتى كانت مينرفا قد أعادت الرمح إلى أخيل. . . وحتى تبسم أخيل ابتسامة لاذعة ساخرة بما قال هكتور، الذي داعب هو الآخر رمحه، ثم أرسله كأنه الحتف فارتد على درع فلكان، ومنه إلى الأرض، فغاص فيها؛ وقبل أن يلحق به هكتور حال أخيل بينهما، وأصبح الموت أقرب إليه من حبل الوريد؛ وتلفت ابن بريام يبحث عن أخيه ديفوبوس فلم يعثر له على أثر، فصاح من الوجل يقول: (يا ديفوبوس! أغثني يا ديفوبوس! أدركني يا ديفوبوس! هات لي رمحاً يا ديفوبوس. . . . . .)
بيد أن ديفوبوس لم يغثه ولم يدركه ولم يحضر له رمحاً، وبدت له مينرفا وهي تبتسم له ابتسامة خبيثة زلزلت أركان هكتور، الذي فطن إلى الحيلة التي دخلت عليه، فقال يخاطب الربة الساخرة، وهو يكاد ينشق من الغيظ: (يا للسماء! أهكذا تخاتل الآلهة، فتقضي بموتي في معركة لا أحمل فيها سلاحاً. . . ولكنني سأقاومك يا ابن بليوس، فإذا سقطت فلن يكون لك في ذلك فضل ولا محْمدة، واذهب من بعدها فصلّ للخاتلة التي نصرتك وآزرتك. . .)
وامتشق المسكين سيفه، ولكن ماذا يصنع الجراز البتار في ملحمة لا يقطر الموت فيها إلا على أسنة الرماح!. . .(129/65)
لقد انقضّ أخيل على فخر طروادة وأملها المذخور فعاجله بشكة من رمحه الظامئ نفذت في عنقه، وهوت به إلى أديم الأرض المقدسة التي يا طالما دافع عنها مع جنوده البواسل الكرماء. . .
. . . (هكتور! اليوم شفيت حزني الممض على بتروكلوس. . . واليوم تذهب روحك إلى ظلمات هيدز غير كريمة ولا محمّدة. . يا كلب طروادة المذؤوم!! كم كنت تمني نفسك لو تظفر بي فتنبذ جثتي بالعراء لوحوش طروادة وجوارح طيرها. . . إلا فحدث نفسك الآن مامذا صنع القدر بك. . .!)
ويتهدج هكتور قائلاً: (أخيل! يا ابن بليوس العظيم! استقسمك برأسك الرفيع، وأبويك الحبيبين، إلا تأخذ جثتي فتنبذها لكلابك، وتعفر جبيني الحر بثرى المذلة بين أصحابك، وحسبك أن الآلهة قد أظفرتك بي، وأن المقادير السوداء قد أفلذتك عليّ)
فيقول أخيل، وقد زهاه النصر على ألد خصمائه: (اطمئن يا هكتور، فكلابنا لا تستطيب إلا جزر الأبطال، وستكون لها وليمة فاخرة. . . فو رأس أبيك لو ملأ لي بريام هذه الدنيا ذهباً على أن أخلي بينه وبينك، ليعود بك إلى اليوم، ما رضينا بك بديلاً. . .)
وتكون سكرة شديدة من سكرات الموت جاثمة في صدر هكتور تعذبه وتضنيه، فيتأنى قليلاً حتى تنجاب عنه الحشرجة، ويفتح عينيه ويقول: (أخيل؟ لا تغتر بما تم لك من نصر؛ فباريس أخي سيقتص منك لي؛ وسيرميك من أبراج طروادة بسهم يعجل بك إليّ. . . في هيدز. . . وثمة سنلتقي!)
ويموت البطل. . .
وتنطوي صحيفة مجيدة من صحائف طروادة. بل تنطوي أنصع صفحاتها جميعاً، بموت هكتور.
يا عجباً!!
هل كان كتاب الغيب مفتوحاً أمام هكتور يقرأ منه عندما أنذر أخيل بسهم باريس؟!
وازدحم الهيلانيون حول الجثة يطعنونها ويصلونها كلوماً عجزوا عن إيصالها إليها حية فأبوا إلا أن يصلوها بها ميتة. . .
ونزل أخيل من عربته، فنحنى على الجثة، ونزع عنها تلك العدة العزيزة التي نزعها(129/66)
هكتور عن جثة بتروكلوس. . . عدة أخيل. . . فلن تكون بعد اليوم إلا لأخيل!
واستل ابن بليوس خنجره، وأهوى على عقبي هكتور فخرمهما، وربط القدمين العزيزتين في مؤخر عربته الحربية، ثم ألهب جياده فهامت على وجوهها في الساحة، وطفقت تطويها مثنى وثلاث حول إليوم، والرأس العظيم يتعثر بثرى المعمعة الذاهلة، والطرواديون فوق الأسوار ينظرون ولا يحيرون. . . إلا هذا الملك الشيخ. . . بريام المذهول. . . الذي راح يملأ الفضاء أنيناً موجعاً، وشجواً مفزعاً،. . . وإلا هذه الأم المرزأة. . . هكيوبا الملكة. . . التي راحت تحثو التراب فوق رأسها، وتتقلب فوق الأرض كالطائر المذبوح. . .
أما أندروماك. . . فلها السماء. . . ولها الآلهة!!
لقد كانت تضفر أفواف الزهر للقاء هكتور، وترشق الورود في أرائك المخدع، وتعد الحمام الساخن لغسل ثرى الميدان. . . ولم تكن تفكر قط إلا في عودة البطل مخضّب الذيل بدماء الأعداء. . .
ولكنها سمعت لغطاً وضوضاء يرتفعان فجأة خارج القصر. . . وكأن هتافاً من السماء هتف بها أن تخرج لتستجلي النبأ. . . ولكنها أيضاً شعرت بقوة خفية تدفعها إلى البوابة الأسكاتية. . . حيث وقف بريام يبكي ولده. . . فما كادت تصل ثمة وتشهد هذا الجمع المحزون يذري دموعه. . . وما كادت تطل من شرفة البرج فترى إلى هكتور مربوطاً في عربة أخيل، وأخيل الجبار يطوي به الساحة، ويذرع به الميدان. . . حتى وجفت نفس الزوجة البائسة، وخرت إلى الأرض مغشياً عليها. . .
وأفاقت أندروماك التاعسة. . .
وطفقت تبكي زوجها وترثيه بالدم
وطفقت نفسها تساقط عليه أنفساً!؟
لها بقية
دريني خشبة(129/67)
حادث انتحار
بقلم حسين شوقي
عندما دقت الساعة الثانية صباحاً، كان بار (الدب الأبيض) خالياً من خدمه ورواده، عدا رجلين: أدولف الخمار الشيخ الذي ذهب إلى داخل المحل لتصفية حسابات اليوم، وشاب جلس في ركن منزو يشرب ويكتب؛ ولم تمض فترة قصيرة على انزواء أدولف حتى سمع دويّ رصاص في البار، فعاد مهرولاً، فوجد الشاب قتيلاً على كرسيه، قتل نفسه بمسدس كان لا يزال بيده اليمنى. . . فحصه أدولف فوجده قد مات من فوره، بينما السيجارة التي كان يدخنها لا تزال مشتعلة. . وقع أدولف في حيرة من أمره، ثم أخذ يصخب ويلعن، ثم جعل يخاطب نفسه قائلاً: ألم يكن الأجدر بهذا الأبله أن ينتحر في بيته؟
علام يزعج الخلق هكذا؟
ثم فكر أدولف في النوم الذي لن يذوقه الليلة. إذ عليه أعمال كثيرة. . . إخطار البوليس بالحادث، وانتظار التحقيق القضائي الذي سوف يدوم ساعات. . . وعلى رغم هذا شعر أدولف بشيء من العطف عندما نظر ثانية إلى وجه القتيل لأنه كان شاباً بين العشرين والخامسة والعشرين، ثم تنهد قائلاً:
إنه لم يحن أوان موته بعد!
إن الشباب يجلب العطف دائماً، وبخاصة من جانب الذين فقدوه أمثال أدولف، أو من جانب الذين فقدوا أشخاصاً يعزونهم ماتوا في ميعة الصبا، أمثال أدولف أيضاً، الذي فقد في العام الماضي ابنة لم تبلغ العشرين بعد. . .
وبعد أن أخطر أدولف البوليس بالحادث رجع عند الجثة، ثم أخذ يحدق في وجه القتيل! إنه لا يعرفه أبداً، فلقد كانت هذه زيارته الأولى للبار. . . ثم رأى أدولف ورقة مكتوبة أمام الشاب فتناولها مدفوعاً بحب الاستطلاع، فقرأ ما يأتي:
الموقع على هذا (س). . المولود في. . والمقيم في. . يقدم اعتذاره إلى صاحب بار الدب الأبيض من القلق الذي سيسببه له بعمله هذا. إن (س) يأسف لأنه لم يستطع أن ينتحر في بيته كما كانت تقضي بذلك اللياقة، لأن صاحبة الفندق الذي يقيم فيه سيدة عجوز مريضة بالقلب، فأي انفعال يقضي عليها؛ وإذا كان (س) قد اختار البار لفعلته، فلكي يستطيع أن(129/68)
يتناول بضعة أقداح من (الويسكي) تنعشه في رحلته الطويلة المظلمة. . ومع ذلك فإن (س) واثق من أن هذا الحادث سوف يعوض لصاحب البار ما أصابه من ضرر، يعوضه بالإعلان الذي يعمله هذا الانتحار للمحل. . إن (س) لا يأسف كثيراً على مفارقة الحياة لأنه لم يعد يملك شيئاً، والحياة بلا مال، أمرّ في نظره من جرعة ملح. . ثم (س) فوق ذلك لا يثق بالمستقبل، ولا بنفسه، فهو يعلم أنه لا شئ، وأنه لن يصير في يوم من الأيام رجلاً مثرياً. . ومع ذلك فإن (س) لم يخلف ديوناً. . بل لا يزال في حجرته بالفندق بضعة جنيهات، وهو يهديها إلى جمعية الرفق بالحيوان، لأنه لا يحب أن يخلف شيئاً لبني جنسه، إذ هو يحتقر الطبيعة البشرية، ولا يستثني منها نفسه. . إذ لم يكن ملاكاً في الحياة الدنيا، بل كان كغيره مخادعاً. . بل (س) يأسف لأنه لم يحسن الخداع في الحياة، لأن الحياة في نظره كلعبة (البوكر) لا يربح فيها إلا البارع في الخداع. .
ومن الأسباب القوية لانتحار س أيضاً، أن ضميره لم يكن مستريحاً، فقد كان سبباً في وفاة فتاة في العام الماضي في ريعان الصبا، ماتت كمداً لأنه وعدها بالزواج ولكنه لم يف بوعده، لأنه فقير لا يستطيع أن يتزوج، وهو لا يعترف بالحب مع البؤس. كم ودّ (س) أن يتناسى هذا الحادث! ولكن ماذا يفعل في ذلك الشيطان الصغير الذي يقطن داخل جسدنا والذي أخذ ينغّص عليه الحياة من أجل هذا الحادث؟. . . لهذا تجد (س) غير نادم كثيراً على مفارقة الحياة. . . وبهذه المناسبة يطلب (س) الصفح من هيلانة (وهو اسم الفتاة). . .
ولكن أدولف الخمار لم يكمل قراءة الورقة، بل قذف بها صارخاً: آه من الوغد! مسكينة هيلانة!
فلقد كانت هذه الفتاة ابنته. .
حسين شوقي(129/69)
البريد الأدبي
كتاب عن التاريخ الحبشي
وهذا أيضاً كتاب جديد عن الحبشة. والحبشة ومسائلها ومصايرها تثير اليوم أعظم الاهتمام والعطف. وقد صدرت عن الحبشة في الآونة الأخيرة كتب ومؤلفات عديدة أشرنا إلى بعضها في هذا المكان من (الرسالة). واليوم نشير إلى مؤلف قيم جديد هو تاريخ الحبشة بقلم الأستاذ جونس والسيدة مونرو وهو عرض قيم جداً لتاريخ الحبشة منذ أقدم العصور إلى الآونة الحاضرة؛ ويمهد المؤلفان بوصف شائق للحبشة وشعوبها وأصولها؛ ويتلو ذلك الحديث عن عصر الأساطير في التاريخ الحبشي، وهو حديث يدعمه التدليل التاريخي؛ (كان ملوك الحبشة حتى القرن الرابع من الميلاد وثنيين، يرجعون أصلهم إلى (مهرم) وهو إله الحرب. أما أسطورة ملكة سبأ فقد نشأت بعد القرن السادس؛ ومن المرجح أنها نشأت في العصور المظلمة التي تلت قيام الإسلام في جزيرة العرب. وحرمت الحبشة من الاتصال بالعالم النصراني)
وقد اعتنقت الحبشة النصرانية في القرن الرابع؛ وكان ملوك الحبشة يومئذ يعيشون في بذخ همجي، وما زالت مسلات اكسوم تدل على ذلك العصر. وفي (عصر الحبشة المظلم) وهو الذي يعرضه القسم الثاني من الكتاب، احتل العرب والمسلمون شواطئ البحر الأحمر وسحقوا حركة القرصان الأحباش، وقطعوا الحبشة عن العالم الخارجي، وفي ذلك العصر ازدهرت أسرة (زاجوي) واستمرت في الملك حتى سنة 1270م، ثم عادت الأسرة السليمانية التي تزعم أنها سليلة ملكة سبأ وسليمان. وبدأ تاريخ الحبشة الحديث؛ وكان للحبشة ديوان تحقيق (محكمة تفتيش) تطارد الملاحدة ورئيسها زرعة ابن يعقوب
ويتناول القسم الثالث من الكتاب أسطورة (القس جون) وسفارة البرتغال، ووصف السفير البرتغالي الفاريز للحبشة يومئذ (سنة 1520) وهو أدق وأقيم وصف لحالة الحبشة في أوج مجدها وحضارتها قبل أن تنحدر إلى عصر من الضعف والفوضى. وكان ملك الحبشة يعيش يومئذ في معسكر متنقل وليس له عاصمة ثابتة؛ وقد انتهت هذه السفارة الشهيرة بتنازل الإمبراطور عن مصوع للبرتغال نظير توريد السلاح وإرسال الأطباء؛ ولكن النتائج المرغوبة لم تتحقق لأن الترك عبروا البحر الأحمر يومئذ، وغزوا الحبشة؛ ولكنه(129/70)
غزو لم يطل أمده؛ ووقعت الحبشة في عصر من الفوضى
ويتناول القسم الرابع عصر (العزلة والفوضى) ثم يتناول القسم الخامس تاريخ الحبشة الحديث، ونزاع الأسر على العرش وظهور طلائع الاستعمار الأوربي، وحملة السير نابيير وانتحار الإمبراطور تيودور؛ ويتناول القسم السادس والأخير مسألة النزاع الإيطالي الحبشي في سنة 1935، وتطوراتها المختلفة حتى أغسطس الماضي
وقد كتب الكتاب بأسلوب سلس قوي يحفز القارئ؛ والكتاب قيم مدعم بالوثائق التاريخية، ويعتبر من أنفس ما كتب عن الحبشة في الآونة الأخيرة.
كتب بالمزاد!
أذيع أخيراً في القاهرة نبأ بيع مكتبة فخمة لأحد الكبراء، تحتوي على طائفة كبيرة من المجموعات والكتب القيمة، والمطبوعات النادرة، وكان البيع بالمزاد طبعاً، فهرع إلى مكانه حشد من العلماء وهواة الكتب والآثار النادرة، وبيعت في اليوم الأول طائفة حسنة من الكتب والمجموعات، ولكن لوحظ أنها بيعت بالأخص لجماعة من الهواة الذين يأسرهم جمال الطبع والرونق قبل أن تغريهم البواعث العلمية؛ ورأى الحاضرون من العلماء والخبراء الذين يعرفون قيمة الكتب ويحسنون تقدير أثمانها أنهم لا يستطيعون الشراء في هذا الجو المشبع بتنافس الهواة، فلم يشتروا سوى القليل. ذلك أن قليلاً جداً من الكتب المعروضة بيع بثمن المثل أو أقل قليلاً، ولكن معظمها رسا بأثمان فاحشة كانت تصل أحياناً إلى أضعاف القيمة الحقيقية؛ وكانت ثمة عوامل وأصوات مريبة تتدخل في المزايدة في ظروف ووقفات خاصة، فترفع الأثمان بنسب مدهشة حتى يتقدم أحد الفرائس من الهواة فيلقى عليه العبء المنشود
وبعد أيام قلائل كان بيع القسم الثاني من هذه المكتبة الشهيرة؛ فكان أول ما لوحظ أن معظم الذين حضروا في الدفعة الأولى لم يحضروا هذه المرة. ألم تتضح لهم الحقيقة بعد أن غادروا قاعة المزاد، وتساءلوا عن القيم الحقيقية للكتب التي اشتروها في هذا الجو المكهرب؟ وكان قد عُرف خلال ذلك أن المكتبة المعروضة ليست لكبير ولا وزير وإنما هي ملك لأحد تجار الكتب المعروفين الذين أزعجتهم الأزمة، فعمد إلى تصريف كتبه بهذه الوسيلة، وفي هذه الجلسة أيضاً ازدادت العوامل المريبة والمصطنعة ظهوراً، وتصاعدت(129/71)
أثمان الكتب المعروضة إلى نسب فاحشة حتى أن كثيراً منها كان يباع بأضعاف ثمنه جديداً، وزاد يقين العارفين بأنهم يجلسون في شرك منصوب؛ ولكن حدث كما حدث في الجلسة الأولى أن توالى سقوط الهواة في هذا الشرك
ولقد كان درساً لمن حدثته نفسه بالظفر بنصيبه من هذا الكنز بالوسائل والأثمان المشروعة؛ وكانت خيبة أمل، ولكن الحقيقة ظهرت ناصعة، وهي أن شراء الكتب بالمزايدة وسيلة لا تصلح للعلماء، وأن المزايدة (ولاسيما في مصر) ليست دائماً وسيلة شريفة للتعامل. فحذار أن تشتروا الكتب بالمزايدات!
وفاة مؤلف موسيقي شهير
من أنباء النمسا أن المؤلف الموسيقي الشهير ماكس فون أوبرليتنر قد توفي في الثامنة والستين من عمره، فاختفى بوفاته أحد أساطين المدرسة الموسيقية القديمة، التي ازدهرت في أواخر أيام الإمبراطورية، وما زالت آثارها تخلب ألباب الشعب النمسوي. وقد تفرغ ماكس فون أوبرليتنر منذ شبابه للتأليف للأوبرا، وأحرز في هذا الميدان نجاحاً باهراً؛ وبزغ مجده في سنة 1912 حيث لحنت قطعته الشهير (افروديتي) وعزفت في الأوبرا الإمبراطورية بفينا، وغنتها يومئذ فنانة موهوبة كانت في مستهل حياتها الفنية وهي ماريا يرتزا التي تتبوأ اليوم مقاماً فنياً سامياً في نيويورك وتعتبر أشهر مغنية في أمريكا. وفي سنة 1916 عزفت قطعته (المسيح الحديدي) في (الأوبرا الشعبية)، فأحرزت نجاحاً باهراً، ثم عزفت بعد ذلك في عدة مسارح شهيرة نمسوية وألمانية، وانتهت إلى دار الأوبرا؛ ووضع فون أوبرليتنر بعد ذلك عدة مقطوعات وأوبرات كانت دائماً موضع التقدير والإعجاب
مدينة دولية للفنانين والكتاب
تألفت منذ حين في باريس جمعية اسمها (جمعية المدينة الدولية للفنون والتفكير) برئاسة مسيو جبراييل بواسي الكاتب الشهير ورئيس تحرير مجلة (كوميديا) الكبرى؛ وقد صرح رئيس هذه الجمعية أخيراً بأن الغرض من تأسيس هذه الجمعية هو السعي في إنشاء (مدينة دولية) بالقرب من محطة مونبارناس، يخصص سكناها للعلماء والفنانين من جميع البلدان،(129/72)
وإن الجمعية تعلق أكبر الأهمية على الآثار المادية والمعنوية التي تترتب على تنفيذ مثل هذا المشروع الجليل. ومن المعروف أن الحي الذي تختاره الجمعية لإنشاء المدينة الجديدة، وهو حي مونبارناس، هو حي الفنون والآداب منذ بعيد، وله تقاليد فنية وأدبية مؤثلة، وقد بزغ فيه نجم مئات من الكتاب والفنانين، الذين تغص بهم دائماً ربوعه ومقاهيه
المعهد الإمبراطوري ومهامه
يذكر القراء تلك الأحاديث الشائقة التي ألقاها وزير الخارجية البريطانية وبعض أكابر الساسة أمام عصبة الأمم عن توزيع المواد الخام ووجوب توزيعها بين الدول الكبرى بنسب أكثر عدالة، وذلك لمناسبة النزاع القائم على توزيع المستعمرات واستئثار إنكلترا بأعظم نصيب منها. وقد وقفت في بعض الصحف على معلومات هامة عن المعهد الإمبراطوري الذي يعتبر في إنكلترا قلب الاستعمار النابض، والذي يسهر على مصاير المواد الأولية في جميع أنحاء العالم؛ فهذا المعهد قد أسس للعمل على تنمية الاستغلال الصناعي والاستفادة من المواد الأولية المختلفة، وجمع الإحصاءات البيانات الاستعمارية اللازمة؛ وقد زود المعمل بمعامل للأبحاث الكيميائية والفنية لبحث المواد الأولية وتعيين قيمتها ومدى الانتفاع بها ووضع التقارير الفنية عنها. ويصدر المعهد نشرات فنية محققة عن مختلف المواد الأولية وعلاقاتها بالصناعة، ومدى تقدم الاستغلال الاستعماري في ميادين الزراعة والمعارف وغيرها، ويعنى عناية خاصة بدرس المواد الأولية في الهند البريطانية والمستعمرات والأملاك المستقلة(129/73)
النقد
4 - تاريخ الإسلام السياسي
تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن
موضوع الكتاب، الثقافة الإسلامية، خاتمة
لأستاذ كبير
لست أدري لم قصر مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) وصف كتابه على (السياسي) فحسب، مع أنه عرض لنواح شتى من الحياة الإسلامية القديمة: عرض لنواحي الدين، والسياسة، والاجتماع، والعقل، والأدب. فبينا تقرأ له فصلاً في حكمة تشريع القبلة، إذا بك تنتقل إلى فصل آخر موضوعه فتح عمرو بن العاص مصر؛ وبينا تقرأ له فصولاً في عقائد الفرق الإسلامية القديمة ومذاهبها، إذا بك تقرأ له كلاماً في حال المرأة المسلمة في العصر القديم، ثم إذا بك تنتقل بعد إلى كلام مطول في صناعتي الشعر والنثر في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين.
أو ما كان أولى للمؤلف أن يقدر هذه المزايا قدرها، فيصوغ عنوان كتابه بحيث يدل عليها كلها مقتدياً في ذلك بالسيد أمير علي حين سمى كتابه الذي يعرفه المؤلف حق المعرفة (موجز تاريخ العرب). لاشك أن الصفة السياسية الصحيحة، كما يعرفها علماء التاريخ والعارفون بأصول علم السياسة، ليست أبرز نواحي الكتاب، وقد تكون عند التحقيق من أضعف نواحيه. ولكن من يدري؟ فلعل المؤلف قد لحظ هذه الحقيقة فنعت كتابه بأضعف صفاته تواضعاً منه! وإن كان التواضع خلة قلما يدل عليها كتابه. أو لعل له غرضاً آخر يعرفه ولا نعرفه.
والحق أن المؤلف أقدم على تأليف كتابه وليس له غرض واضح محدود يرمي إليه ويسير على هديه، إلا أن يكون كتابة تاريخ عام للإسلام من الطراز المألوف وهو ما لا يدل عليه عنوان الكتاب. وغموض الغرض الحقيقي أو انتفاؤه بالمرة أضر بالكتاب من عدة وجوه. فمن جهة أحال الكتاب كتلة ضخمة من الأخبار والحوادث المتعلقة بعصر معين، قد جمعت من هنا وهنا، ثم حشدت حشداً، وأزجيت على الورق إزجاء، فاقدة الوحدة المعنوية،(129/74)
والاتصال الذاتي، اللذين يكسبانها الروح والحياة والحركة. ومن جهة ثانية فإن غموض الغرض قد لبس على المؤلف أمره، وجعله يضطرب بين طرائق المؤرخ المحقق، والمحامي المنافح عن الدين، والواعظ المبشر بالإسلام، الراد لشبهات المبشرين وتعسفات المستشرقين؛ فعدل في كثير من المواطن عما يحسن، وتكلف ما لا يحسن، وما ليس من شأنه من حيث هو مؤرخ فحسب. ومن جهة ثالثة فإن نشاط المؤلف وعنايته لم يوزع على أجزاء الكتاب توزيعاً يتكافأ وأقدارها من الوجهة التاريخية البحتة، فتشريع القبلة وحكمته يظفران بثلاث صفحات، في حين أن غزوة بدر التي تعتبر بحق أهم وقائع الإسلام ومن وقائع التاريخ الفاصلة، لا تكاد تظفر بصفحة واحدة! وأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك تخص بصفحتين، في حين أن الأحداث الجسام التي وقعت في زمن الخليفة يزيد ابن الوليد بن عبد الملك تركز وتضغط في أسطر قلائل!
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل
ومن الأمور التي أثرت في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) وقعدت به عن رتبة الجودة ما يدل عليه الكتاب نفسه من عدم وفور حظ المؤلف من الثقافة الإسلامية الصحيحة، والمطلع على الكتاب يرى أن المؤلف يحاول جهده أن يكتم هذا الضعف، ويستره بطلاء براق من الاقتباسات العربية الكثيرة التي يطالعك بها في كل صفحة، ولكن هذه المحاولة لا تروج حتى على من يقرأ الكتاب قراءة عجلى. فإن اللحن والتحريف الفاشيين في الكتاب واللذين أعرضا عن تتبعهما اختصاراً للقول، وتوخياً لصميم الموضوع، وإن المآخذ التي سردنا بعضها في بحوثنا الماضية، نقول إن ذلك كله كفيل بإثبات أن المؤلف غير موفور الثقافة الإسلامية. وقد أداه تفريطه في جانب الثقافة الإسلامية إلى الإفراط في الأخذ عن المصادر الأجنبية، فخرج كتابه حائل الصبغة، حائراً بين العروبة والفرنجة، لا ينتمي إلى واحدة منهما انتماء صحيحاً
والحق أن التاريخ الإسلامي من أشق فروع التاريخ مطلباً وأوعرها مذهباً، فهو تاريخ عالم بأسره؛ لا مجرد تاريخ إقليم معين أو أمة بعينها. وهو تاريخ عصور متطاولة تقرب من أربعة عشر قرناً، ثم هو تاريخ تختلط في الأحداث، والنظم، والآراء، والمذاهب اختلاطاً عجيباً، فإذا ما أريد تصنيفها وإفراد كل منها على حدته، وسوقه في مساقه الخاص، اقتضى(129/75)
ذلك من الجهد والعناء الشيء الكثير. والمعاني لدراسته محتاج إلى وفور حظه من الثقافتين التاريخيتين العامة والإسلامية، فإن لم يفعل كان كمن يغشى الهيجاء بيد عزلاء، أو يتقحم المجاهل برجل عرجاء. من أجل ذلك لم ينهض بعد التاريخ الإسلامي في الشرق نهضته المستقلة المنشودة. مع أن التاريخ سجل أحداثه، وديوان مجده وفخاره، فهو لا يزال قصصاً يقص، وسيراً ساذجة تتلى. أما روح الجماعات، وأثر البيئة والتقاليد، وعمل المبادئ والعقائد، والقوى الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، فتلك كلها لا تزال في العربية أسراراً لم ترفع عنها الحجب. وقد يتعذر بعضهم عن هذه الحال بأن العوامل المذكورة ليست عند الشرقيين في مثل قوتها عند غيرهم ولكن الأمر هنا ليس أمر قوة وضعف، فهي موجودة في كل حال، والطبيعة البشرية واحدة، والناس هم الناس سواء أكانوا في شرق أم في غرب. ولو أنصف أولئك المعتذرون لقالوا إن الذي يحول دون نمو الروح التاريخي الصحيح في الشرق هو ما يعترض الباحث من وعورة المسلك، وبعد الشقة، وصعوبة المنال.
وبعد فقد آن أن نختم هذه الفصول التي لم يدفعنا إلى تسطيرها إلا ما أشرت إليه في كلمتي الأولى من توخي المصلحة العامة قبل كل شئ. فلعلي أكون قد وفقت فيما قصدت إليه.
ونصيحتي الأخيرة للدكتور مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) أنه إذا أسعده الحظ فأعاد طبع كتابه، ينبغي أن يعيد النظر في كل فصل من فصوله، وصفحة من صفحاته، فيصحح الخطأ، ويقيم المعوج، وإنه عندما يتولى إصدار الأجزاء الباقية ينبغي أن يكون أشد تحفظاً، وأكثر تثبتاً، فالناس لا يسألون عادة عن مقدار الزمن الذي ينفق في عمل من الأعمال، بمقدار ما يسألون عن حظ هذا العمل من التجويد والإتقان.
بقي أن أبرأ إليه مما عسى أن يكون القلم قد ناله به في هذه الكلمات من لفظ خشن، أو عبارة قارسة، فإن ذلك مما قد يحمل عليه مجرد الغضب للحق. أما المآخذ العلمية فلا حيلة لي فيها، وقديماً قالوا: (لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يؤلف كتاباً)، وقد ألف الدكتور كتاباً، وسمع فيه مديحاً عاطراً كيل جزافاً، فمن الحق عليه أن يسمع إلى جانب ذلك صوت النقد يكال بقدر وحساب.
(انتهى)(129/76)
مؤرخ(129/77)
العدد 130 - بتاريخ: 30 - 12 - 1935(/)
أبو الطيب المتنبي
بمناسبة ذكراه الألف
- 2 -
ولد أبو الطيب في ذرور القرن الرابع عظيما بالاستعداد، قويا بالنشأة، طموحا بالفطرة؛ فلا تحاول أن ترجع هذه الصفات فيه إلى أحوال داعية وأسباب موجبة، فأن إعجاز القدرة أن يولد الملك في حجر السوقية، ويدرج العبقري في عش الفدم، ويظهر النبي في بيت المشرك؛ إنما العظمة خلقةٌ في العظيم، تقويها عوامل وتضعفها عوامل؛ فولادة المتنبي بالكوفة، وتجواله في البادية، وتنقله في القبائل، وكدحه الدائب أربعاً وثلاثين سنة وراء الرزق الشرود، يضرب من أفق إلى أفق، ويخرج من هول إلى هول، نمت فيه أخلاق الجرأة والصراحة والصدق والصبر والمغامرة واللسن؛ واتصاله بسيف الدولة الأديب الشجاع السمح، هذب فيه الشاعرية والفروسية، وهما غريزتا البداوة، وخصيصتا العروبة؛ ثم ظهوره في العصر الذي تحللت فيه روابط الخلافة، وتعددت حواضر الأدب، وتطاولت كفايات السيف والقلم إلى العروش المقدسة والمناصب الفخمة، وأثمر تداخل الثقافات المختلفة ما أثمر من شمول العلم، ونضوج العقل، واعتراض الشكوك، وتعدد الفرق، وسع في ذهنه أفق المعرفة، وقوى في نفسه الطموح إلى الرياسة، وهيج في رأسه الثورة على القدر، وأراه بعض الكتاب في بغداد يصل بالأدب إلى الوزارة، وبعض العبيد في مصر يصل بالحيلة إلى الإمارة، فطوع له رأيه في نفسه أن يبايع لها بالملك، ثم أخذها بسمت الملوك، وألزمها شارة الخاصة، وعاشر الدهماء معاشرة الأنوف المكره، وساير الرؤساء مسايرة الغريب الحاقد، وسخر قوته وعبقريته في طلب هذا (الحق) وتحقيق هذا المطلب، حتى ملأ الدنيا بذكره، وشغل الناس بأمره
المتنبي في كتاب الأدب العربي فصل قائم بذاته؛ لأن حياته التي اختلفت عليها العوامل، وازدحمت فيها الأحداث، واعتركت بها الآمال، وفاضت منها التجارب، أمكنته من نوع جديد في الشعر يتسم بالتفكير الحي، والابتكار الجرئ، والأداء الحر، فأقبل عليه عشاق الأدب وطلاب الشهرة من ذوي السلطان في خراسان والعراق والشام ومصر، يتسابقون إلى وده، ويتنافسون في رضاه، وربما توسل بعضهم بالشفاعة ليحطبه في حبله، وجلس(130/1)
أحدهم بين يديه ليسمع مدحه فيه، وهو يتصون عن مدح السوقة، ويتكرم عن موقف الشاعر؛ فسعى إليه الرؤساء المحرومون بالعداوة، واجتمع عليه الشعراء المغمورون بالحسد، وتعاون هؤلاء وأولئك على تعقب سقطاته وجحود فضله؛ فكان من أثر الكتب التي ألفت في نقده، والقصائد التي قيلت في هجوه، والخصومة الأدبية التي أثيرت من حوله، والحركة الذهنية التي نشأت من شعره، أن سار ذكره مسير الشمس، وصار شعره سجل الخلود، وغدا مدحه مطمح الملوك، وأصبح أدبه وما اتصل به من النقود والشروح مكتبة!
عقلية المتنبي عقلية بدوية خالصة: تتعلق بالحس أكثر من تعلقها بالمعنى، وتعتد بالواقع أكثر من اعتدادها بالخيال، وتعتمد على القوة أكثر من اعتمادها على الحيلة. لذلك كان ذهول الصوفية نابياً في عقله، وشعور الجمال خابياً في قلبه، واثر الدين ضعيفاً في حياته؛ ثم كانت فلسفته حاجة الدنيا، وخطته سنة الطبيعة، وفكرته صورة الواقع، وغايته غاية الرجل الطماح: شخصيته تبغي الظهور، وشهوته ترغب المال، وحيوته تطلب الغلب، وعظمته تريد الحكم؛ لذلك كان أخص ما يميزه بروز شخصيته في شعره، وصدق إيمانه برأيه، وقوة اعتداده بنفسه، وصحة تعبيره عن طبائع النفس ومشاغل الناس وأغراض الحياة
عبقرية أبى الطيب سباحة الجناح، لماحة الطرف، مبسوطة الأفق؛ ولكنه قيدها بالمادة وحصرها في ما تدور عليه من كاذب المدح ولاذع الهجاء، فقرت قرار الطائر الحبيس، تخافت بالأغاريد المزورة على طبيعتها، وتكابد الشوق الملح إلى الهواء والسماء والروض؛ ثم تفلت أحيانا من ربقة القيد فتحلق في سماء الإلهام وتهتف بالمعجز من قلائد الحكم وشوارد الأمثال وطرائف الذهن، حتى في الأغراض المبتذلة والمواقف الوضيعة
وهكذا كانت قوى المتنبي ومواهبه مقهورة معذبة! ولعله كان أقسى ما يكون على قريحته وعبقريته! فقد أرادهما على الابتكار في مدح لا يعتقده، ووصف لا يحسه، فجاءت معانيه في أمثال هذه الأغراض توليداً في عقله، لا نقلا عن شعوره؛ ومن ثم كثر فيها الإغراق لقيامها على الدعاوى المرسلة، والغموض لانتزاعها من الخوالج المبهمة، والتناقض لتعبيرها عن غير كائن، والتشابه لتفصيلها على غير معين
أما في ما يشعر به كالهجاء والعتاب والنقد والفخر والشكوى، فسيل لا يحجزه سد، وبحر لا(130/2)
يحصره ساحل. وهو في تدفع السيل وعمق البحر وسعة العباب، مثله في بطء الحركة واختلاج الأداء وضيق الفكرة: شخصية مفروضة على الذهن، وروح شعاعة على الإحساس، وزفيف في الارتفاع والإسفاف يدل على جناح النسر!
والحق أن المتنبي شاعر القوة، شاعر الحرب، شاعر المغامرة، شاعر المجد! فلو كان سياسيا لكان مكيافللي، أو قائداً لكان نابليون، أو فيلسوفاً لكان نيتشه!
أحمد حسن الزيات(130/3)
المجنون
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
تتمة
وطال المجلس بنا وبالمجنونين، والكلام على أنحائه يندفع من وجهٍ إلى وجه، ويمر في معنى إلى معنىً؛ فأردت أن ابلغ به إلى الغاية التي جمعت من أجلها بين هذين المجنونين، بعدما انطلقا في القول وانفتح القفل الموضوع على عقل كل منهما وكان قد مر في الندى بائع روايات مترجمة (بوليسية وغرامية ولصوصية!) يحمل الرجل منها مزبلة أخلاقٍ أوربية كاملة لينفضها في نفوس الأحداث من فتياننا وفتياتنا، فقلت (لنابغة القرن العشرين): أتقرأ الروايات؟ قال: لا، إلا مرة واحدة ثم لم أعاود، إذ جعلتني الرواية روايةً مثلها قلنا: هذا أعجب ما مر بنا منذ اليوم، فكيف صرت رواية؟ قال: أنتم لا تعرفون طبيعة النوابغ، إذ ليس لكم حسهم المرهف، ولا طبعهم المستحكم، ولا خصائصهم الغيبية، ولا خواطرهم المتعلقة بما فوق الطبيعة. قلت: نعم أعرف ذلك؛ وما من (نابغة) إلا هو بين عالمين على طرف مما هنا وطرفٍ مما هناك، فهو خراجٌ ولاجٌ بين العالمين؛ وله نفسٌ مركبة تركيبها على نواميس معروفةٍ وأخرى مجهولة، فهي تأخذ من الظاهر والباطن معاٌ، ويحصرها المكان مرة ويفلتها مرة، وتكون أحياناً في زمان الأرض، وأحيانا في زمن الكواكب من القمر فصاعدا. . . ولكن. . .
فقطع علي وقال: أضف إلى ذلك أن هذه العقول التي تحصر من يسمونهم العقلاء في الزمان والمكان، لا توجد أهلها إلا الهموم والأحزان والمطامع السافلة والأفعال الدنيئة، فانهم يعيشون فوق التراب
قلت: نعم، وإذا عاشوا فوق التراب فباضطرارٍ أن تكون معاني التراب فوقهم وتحتهم ومن حولهم وبين أيديهم، فليسوا يقطعون على هذه الأرض إلا عمراً ترابياً في كل معانيه ولكن. . .
قال: وزد على ذلك أنهم مقيدون تقييد المجانين غير أن حبالهم وسلاسلهم عقلية غير منظورة؛ وبتغليلهم تغليل المجانين يسمون أنفسهم عقلاء، وأعقلهم أثقلهم قيوداً، وهذا من الغرابة كما ترى(130/4)
قلت: نعم، أما العقلاء بحقيقة العقل فهم الذين يضحكون على هؤلاء ويسخرون منهم، إذ كانوا في حال كحالٍ المنطلق من المقيد، وفي موضع كموضع المعافى من المبتلى. ولكن. . .
قال: وفوق هذا وذاك، إنهم لا يملكون السعادة إذ ليس لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي خص به النوابغ وكان الأوحد فيه (نابغة القرن العشرين)
قلت: نعم وإذا ملكوا السعادة لم يشعروا بها؛ أما (النوابغ) فقد لا يملكونها ولكن لا يفوتهم الشعور بها أبدا فيجيئهم الفرح من أسبابه ومن غير أسبابه ما دام العقل الضاحك الساخر العابث الذي دأبه أبدا أن ينسى ليضحك، ولا قانون له إلا إرادة صاحبه، على مشيئة صاحبه، لمنفعة صاحبه. ولكن. . . . . . . .
قال: والذي هو أهم من كل ما سبق؛ أن أعظم خصائص هذا العقل الضاحك الساخر العابث أن يطرد عن صاحبه ما لا يحب ويجنبه أن يخسر شيئاً من نفسه، فهو لذلك يجعل حسابه مع الأشياء حساباً يهودياً لا بد فيه من ربح خمسين في المائة. . . . . . . .
قلت: نعم، وهو دائماً كالطفل؛ وما أظرف بلاهة الطفل وما أجداها عليه إذ يضع بلاهته دائماً في أرواح الأشياء وأسرارها فتخرج بلهاء مثله، وتنقلب له الدنيا كأنها أمٌ تضاحك ابنها وتلاعبه. ولكن. . .
قال: ولكن هذا مبلغ لا تبلغه الإنسانية إلا شذوذاً في أفرادها من جبابرة العقول (كنابغة القرن العشرين)
قلت: نعم ولكن كيف صار نابغة القرن العشرين روايةً حين قرأ الرواية!
قال: هذه نكتة النبوغ؛ فلو أن مؤلفها كان نابغةً مثلنا يتلقى في نفسه وحي الأثير وإشارات الروح الأعظم؛ لعلم من الغيب أن نابغة القرن العشرين سيقرأ روايته، فكان يتحرى معاني غير معانيه ويتوخى بهذه القصة وصفاً آخر لا تكون فيه حبيبةٌ خائنة، ولا لص عارم، ولا قاتل سفاح، ولا سجنٌ مظلم، ولا محكمة تقول حيث وحيث. . . . . .
قلت: وما عليك من حبيبة خائنة في الورق، ولص بين الحروف المطبعية، وقاتل لا يقتل إلا كلاما، وسجن ومحكمة على الصحيفة لا على الأرض؟
قال: هذه نكتة النبوغ، فما استوعبت القصة حتى عمرتني أشخاصها وأقحمت منها على(130/5)
هول هائل، فخانتني الخائنة لعنها الله. ولولا خوف السجن والمحكمة لقتلتها أشنع قتلة ومثلت بها أقبح تمثيل. ويح الخائنة كيف استمالها ذلك الدميم الطويل العملاق المشبوح العظام المفتول العضل؟ ولكني لست عملاقاً ولا مبنياً ولا بناء الحائط؛ ثم كان مجنوناً بشهواته جنون الفيل الهائج وكنت في شهواتي عاقلا عقل الإنسان؛ ثم كان غنياً غنى الجهال وكنت فقيراً فقر العلماء؛ والنساء؛ قبح الله النساء. إنهن زينةٌ تطلب زينة مثلها. وإن المرأة لتمنح وجهها للقرد يقبله إذا كان الذهب يتساقط من قبلاته. أما من كان مثلي أمواله الشباب والجمال أو العقل والنبوغ، فهو مفلس عندهن إفلاس القرد في الغابة، فهو عندهن قرد لهذه المشابهة
قلت: هذا ليس عجيباً فان اللغويين يجرون على الشيء أسم ما يقاربه في المعنى
قال المجنون الآخر: (مما حفظناه) أن اللغويين يجرون على الشيء ما يقاربه في المعنى. . . . . .
فتربد وجه (النابغة) غضباً وقال: أبي يلعب هذا المجنون؟ إنه يزعم أن اللغويين يسمونني قرداً، فهاتوا القواميس كلها وارجعوا إلى مادة (قرد) ومادة (نابغة). . . سوأة عليك أيها الصبي المعمر. . . ألا فدعوني أؤدبه أدب الصبيان فأن اللطمة القوية على وجه الطفل المكابر في حقيقة، تلمسه الحقيقة التي يكابر فيها إذ تدخله إلى عقله من أقرب طريق. . .
قال ا. ش: أنت قلت لا هو. على أنك لست قردا أبداً إلا عند امرأة جميلة فاتنة متخيلة متامجنة قد تضع البرذعة على ظهر الأمير وتجعله حمارها، فيعجب الأمير أن يكون حمارها. ولست قردا مع قراد إلى جانب عنز وكلب. . .
قال: الآن علمت السبب فأن الخائنة كانت متخيلةً مؤلفة كتب، وروايات، والمرأة التي تؤلف الكتب، غير تؤلف الرجل أيضاً، وتجعله قصة فيها قرد. . . وهذا إن كانت جميلة كامرأة الرواية. أما إن كانت دميمة مجموعة من المتناقضات، أو عجوزا مجموعة من السنين؛ فهذه وهذه كل أيامها كيوم الأحد عند النصارى. . . يوم للعطلة لا بيع فيه ولا شراء ولا مساومة. هذه وهذه كلتاهما تجعل الرجل كالماء في سبيل التجمد. . . لا يشتعل، فضلا عن أن يستعر، عن أن يحترق
مؤلفة الكتب لا يكون وجهها إلا إحدى وثيقتين: فأما جميلة، فوجهها وثيقة بأن لها ديونا(130/6)
على الرجال؛ وإما غير جميلة، فوجهها (مخالصة) من كل الديون. . .
قلنا: هذا في الخائنة. فكيف سرقك اللص ولست غنياً؟
قال: هذه هي نكتة النبوغ؛ وفي النبوغ أشياء لا ينكشف تفسيرها وليس في جهلها مضرةٌ على أحد، وجهلٌ لا يضر هو علم لا ينفع، لكنه علم. والبحث في بعض أعمال (النابغة) هو كالبحث عن سر الحياة فيه، إذ يعمل أعماله تلك بسر الحياة لا بسر العقل، أي بالعقل النابغ الخاص به وحده لا بالعقل الطبيعي المشترك بين الناس.
قلت: ومن عجائبك أنك لا تقرأ الروايات ولكنك مع ذلك تؤلفها. . .
قال: إن ذلك ليكون، وإن لم أؤلفها أنا تألفت هي لي. فإذا تقدم الليل ونام الناس جميعاً انتبهت أنا وحدي لرواية العالم فأرى ما شئت أن أرى. وفي ضوء النهار أجد الناس عقلاء ولكني في ظلمة الليل أبصرهم مجانين. فهذا الليل برهان الطبيعة على جنون الناس وضعف عقولهم إذ هو يثبت حاجة هذه العقول إلى ضربٍ من النسيان الأبله التام لولاه ما عقلت في نهارها ولا استقام لها أمر
يصرع الناس في الليل صرعة المجانين فيغمضون أعينهم ولا يرون شيئاً. أما أنا فأرى العالم في الليل مسرحاً هزلياً يضج بالضحك من الإنسان الأحمق الذي يقطع سراة نهاره وهو معتقد أنه قابض على الوجود بالأعين والآذان والآناف. . . أئن رأيت الأسد بعينك أيها الأحمق وسمعت في أذنيك زئيره؛ ادعيت الدعوى العريضة وزعمت أنك ملكته وقبضت عليه، ولا تدري في هذا أنك كالمعتوه إذا قبض على الضل بيده وصاح هاتوا الحبل لأقيده لا يفلت. . .؟
قلت: فإذا كان العالم كله روايتك فأخرج لنا فصلا من الرواية
قال: أيما أحب إليكم، أن أكتب أو أن أمثل؟
وقلنا: بل التمثيل أحب ألينا. فنظر إلى المجنون الآخر وقال: إن المجنون في طبيعته ينبوع من الأشخاص يفيض حالاً بعد حال، كينبوع الماء يسح الدفعة بعد الدفعة، فهنا المسرح، والرواية الآن رواية الطبيب والمجنون. . .
أنت يا س. ع. عم هذا المجنون، فإذا قال لك يا عم. قل له أنا لست عمك ولكني أخو أبيك. . . لننظر أيتنبه على الفرق بين الصيغتين أم لا؛ فأنه فرق عقلي دقيق تمتحن به العقول.(130/7)
تعال أيها المريض فأني أرجو أن يكون شفاؤك على يدي، وفي يدي هذه لمسة من لمسات المسيح، لأن (نابغة القرن العشرين) هو الآن طبيب القرن العشرين
اتقوا أن تغضبوه أو تخيفوه، وأقيموا له كل ما يحتاج إليه، وتحروا مسرته دائماً فإن إدخال بعض السرور إلى نفس المجنون هو إدخال بعض العقل إلى رأسه. متى أنكرت يا س. ع عقل ابن أخيك وما كان السبب وكيف غلب على عقله. وهل ا. ش. هو خاله أو أخو أمه. . .؟
لطف الله لك أيها المسكين. قل لي: أتتذكر أمس؛ أتتذكر غداً. . . إن الأمس والغد ساقطان جميعاً من حساب المجانين؛ ومن الرحمة بهم أن الدنيا تبدأ لهم كل يوم فقد استراحوا من ثلثي هموم الزمن في العقلاء. وهم لا يصلحون أن ينفعوا الناس كالعقلاء، غير أنهم صالحون أكثر من العقلاء للانتفاع بأنفسهم في الضحك والمرح والطرب، وهذا حسبهم من النعمة عليهم
قل لي أيها المجنون: أتحس أن الدنيا تصنع لك نفسك أم نفسك هي تصنع لك الدنيا؟ إن هذه مسألة يحلها كل مجنون على طريقته الخاصة به، فما هي طريقتك في حلها؟
مالك لا تجيب أيها الأبله؟ (هذا من جهة ومن جهة) أعطوه قرشاً لينطلق لسانه، وآتوا الطبيب أجره وافياً وهو لا يقل عن قرشين. . .
ثم مال (النابغة) على مجنون المتن وسره بشيء. فقلنا ما أمر المال بسر؛ هذا قرش للمريض وهذان قرشان للطبيب. فقال المجنون: (مما حفظناه) كفى بالسلامة داء
قال الطبيب: هذا مريض بنوع من الجنون أسمه (مما حفظناه) وهو جنون النسيان الذي يضع في مكان العقل كلمةً ثابتة لا يتذكره إلا بها؛ ومن أعراضه جنون الشك فكل ما حول المريض مشكوك فيه، وقد يترامى إلى جنون اللمس، فلو لمسته بإصبعك توهمها عقرباً فخاف من الإصبع تلمسه خوفه من العقرب تلدغه، ولكن بقيت أشياء لابد من التدقيق في فحصها، فليس هذا من مجانين العبقرية التي انحرفت عن طريقها أو شذت في قوتها؛ ولا هو ممن يتجان ويتحامق التماساً للرزق والعيش كما قال بعضهم: حماقةٌ تعولني خير من عقل أعوله(130/8)
فقال المجنون: (مما حفظناه) حماقة تعولني
فضحك (النابغة) وقال: هو كما بينت لكم مصاب بجنون (مما حفظناه) وهو أقل الجنون وأهونه، وعلاجه البسط والسرور والقرش؛ والضرب أحياناً. . . فإذا ثابر عليه الداء تحول إلى جنون (مما ضربناه). . . فيتعدى المصاب على كل من يراه أو يوقع به ضرباً، وعلاجه حينئذ القميص المرقوم؛ فإذا فدحت العلة انقلب المرض إلى جنون (مما قتلناه). وعلاجه يومئذ السلاسل والأغلال
والحق أقول لكم إن آخر ما انتهت إليه فلسفة الطب في القرن العشرين أن الناس جميعاً مجانين ولكن بعضهم أوفر قسطاً من بعض، كأن سلب العقل هو أيضاً حظوظ كحظوظ موهبة العقل. وأهل المريخ من أجل ذلك يسمون الأرض بيمارستان الفلك
ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها؛ وعندي في الدار عاطوسٌ إذا أشممته هذا المجنون عطس به عطسة قوية فخرج جنونه من أنفه. . . قل لي أيها المسكين: أتخاف إذا سرت وحدك في ميدان واسع كأن الميدان سيلتف عليك؟ أتضطرب إذا مشيت في مضيق كأن المكان سينطبق عليك؟ وإذا كنت في عربة القطار فهل يخيل إليك أن البيمارستان قد جره القطار وانطلق به هاربا؟ وهل شعرت مرة أنه أوحى إليك أن تنتحر؟
أرني هذا القرش الذي في يدك. فمد المجنون يده بالقرش
قال (النابغة): أنظر الآن هل تحدثك نفسك أن تغصبني هذا القرش أو تسرقه مني؟ قال: نعم
قال (النابغة): إذن يجب أن أحرزه في جيبي. . . وأسرع فأخفاه في جيبه
فصاح الآخر وشغب، وقال سلبني ونهبني. قلنا لا ينبغي أن يتصل بينكما شر في تمثيل الرواية فهذا قرش آخر، ولكن أفي الفلسفة عند (النابغة) إباحة السرقة والغصب؟
قال: فالرواية الآن هي رواية الفيلسوف العظيم أفلاطون وتلميذه أرسطو
قل لي ويحك يا أرسطو. أعلمت أن في المجانين أغنياء يسرقون الشيء القليل لا قيمة له وهم أغنياء وليست بهم حاجة إليه. فما علة ذلك عندك وما وجهه في مقولة الجنون؟
أعجزت عن الجواب؟ إذن فاعلم يا أرسطو أن المصاب بهذا الضرب من الجنون إذا اشترى هذا الشيء بدرهم كانت قيمته من الدرهم وحده، وهو غني لا قيمة للدرهم في ماله(130/9)
فلا يحفل بالشراء. بيد أنه إذا سرقه كانت قيمته عنده من عقله وحيلته فيجيئه بلذة لا تشتريها كل أمواله ولا كل أموال الدنيا. فهذا جنون باللذة لا بالسرقة وهو بذلك ضرب من العشق يجعل الشيء إذا لم يسرق كأنه المرأة المعشوقة الممتنعة على عاشقها
والجياع إذا سرقوا ليأكلوا ويمسكوا الرمق على أنفسهم، لا يقال في لغة الفلسفة إنهم سرقوا بل أخذوا. . . فباضطرار جاعوا وباضطرار مثله أكلوا، والسارق هنا هو الفتى الذي منعهم الإحسان والمعونة. . .
فالدنيا معكوسة منقلبة أوضاعها يا أرسطو، ولو استقامت هذه الأوضاع لوجدت السعادة في الأرض لأهل الأرض جميعاً. وكيف لك بالسعادة والناس مخلوقون بعيوبهم؟ ويا ليتهم مخلوقون بعيوبهم فقط، ولكن الطامة الكبرى أن عيوبهم تعمل دائماً على أن ترى في الآخرين عيوبا مثلها
كل حمار فهو يريد أن يملأ جوفه تبناً وفولا وشعيراً، غير أني لم أر حماراً قط يريد أن يملأ لنفسه الإسطبل، فإذا وجد حمار هذه همته وهذا عمله فأسمه إنسان لا حمار. . . .
يا أرسطو إن معضلة المعضلات أن يحاول إنسان حل مشكلة داخلية محضة قائمة في نفس حمار أو ثابتة في ذهنه الحماري؛ ومثل هذا أن يحاول حمار حل مشكلة نفسية في ذهن إنسان أو في قلبه؛ فلا حل لمشاكل العالم أبدا ما دام كل إنسان مع غيره كحمار مع إنسان. . . .
والمعضلات النفسية من عمل الشياطين فكان ينبغي أن تجيء الملائكة لتحارب الشياطين بالبرق والرعد دفاعاً عن الإنسانية؛ ولكن الله تعالى منعها وأرسل للإنسان ملائكة أخرى إن شاء هذا الإنسان عملت، وإن شاء عجزت؛ وهي فضائل الأديان المنزلة فإذا منحها الإنسان إرادته وقوته فعملت عملها كان الإنسان هو الملك بل فوق الملك، وإذا أضعفها ومحقها كان الإنسان وهو الشيطان وأسفل من الشيطان
يا أرسطو (هذا العالم عندي كتلة من العدم اتفقت على الظهور وستختفي. والعالم عندي ضعف ركب وقوة ركبت. والعالم عندي لا شيء. والعالم بين بين. والعالم قسمان. منهم الفلاح الزراعي وذلك أفضل فلسفة طبيعية. . . والعالم في حاجة إلى الموت والموت في حاجة إليه. والأدب هو الحياة ولا حياة بلا أدب. والأدب ضربان: أدب نفساني وأدب(130/10)
مكتسب. وقد يكون طبيعياً كما هو عند نابغة القرن العشرين. ومن هو نابغة القرن العشرين؟ وهو شخص مات بلا موت ويحيا بلا حياة.)
أتريد يا أرسطو أن تعرف سر تركيب العالم؟ الأمر يسير غير عسير، فان سر تركيبه كسر تركيب القرش الذي في يدك، فدعني أظهرك على هذه الحقيقة ومد يدك بالقرش لأبين لك سر التركيب فيه. . . .
ولكن المجنون الآخر أسرع فغيب القرش في جيبه. فقال (النابغة) هذا سياسي داهية خبيث. والرواية الآن رواية سياسي القرن العشرين
ليس في حقيقة السياسة إلا الرذل من أفعال السياسيين. والألفاظ السياسية التي تحمل أكثر من معنى هي التي لا تحمل معنى. فليحذر الشرق من كل لفظ سياسي يحتمل معنيين، أو معنى ونصف معنى، أو معنى وشبه معنى. فان قالوا لما (أحمر) قلنا لهم اكتبوه بهذا اللفظ؛ فإذا كتبوه قلنا لهم ارسموا إلى جانبه معناه باللون الأحمر لتشهد الطبيعة نفسها أن على معناه أحمر لا غير. . . . وعلى هذه الطريقة يجب أن تكتب المعاهدات السياسية بين أوربا والشرق
انهم يكتبون لنا جريدة بأسماء الأطعمة ثم يقولن: أكلتم وشبعتم. . . . ولقد رأيت (مظاهرات) كثيرة ولا كالمظاهرة التي أتمناه؛ فما أتمنى إلا أن يخرج كل الجانبين في مظاهرة. . . . . .
وهذا الأبله الذي أمامنا ليس وطنياً ولا فيه ذرة من الوطنية. فان كان وطنياً أو زعم أنه وطني، فليخرج القرش الذي في جيبه. . . . ليكون فألا حسناً لخروج جيش الاحتلال من مصر
ولكن المجنون لم يخرج القرش وترك جيش الاحتلال في مكانه
فقال (النابغة): الرواية الآن رواية الشرطي واللص. وبحقٍ من القانون يكون للشرطي أن يفتش هذا اللص ليخرج القرش من جيبه. . . .
غير أن المجنون أمتنع. فقال (النابغة): كل ذلك لا يجدي مع هذا الخبيث، فالرواية الآن رواية هارون الرشيد مع البرامكة. ويجب أن ينكب الرشيد هؤلاء البرامكة ليستصفي القرش. . .(130/11)
بيد أننا منعناه أن ينكب (البرامكة) فقال: الرواية الآن رواية العاشق والمعشوقة، ونظر طويلاً في المجنون وصعد فيه عينه وصوب فلم ير إلا ما يذكر بأنه رجل فتهدى إلى رأي عجيب. فوقع على قدميه وتوهمه امرأةً في حذائها. . . وجعل يناجي الحذاء بهذه المناجاة:
إن سخافات الحب هي أقوى الدليل عند أهله على أن الحب غير سخيف؛ فكل فكرة في الحب مهما كانت سخيفةً، عليها جلال الحب؛ وللحذاء في قدميك يا حبيبتي جمال الصندوق المملوء ذهباً في نظر البخيل، وكل شيء منك أنت فيه سر جمالك أنت. والحذاء في قدميك ليس حذاء، ولكنه بعض حدود جسمك الجميل، فلا أكون كل العاشق حتى أحيط بكل حدودك إلى الحذاء
أن جسمك يا حبيبتي كالماء الجاري العذب؛ في كل موضع منه روح الماء كله. وحيثما وقعت القبلة من جسمك كان فيها روح شفتيك الورديتين. هذه قبلة على قدميك يا حبيبتي؛ وهذه قبلة على ساقك؛ وهذه على ثوبك، وهذه قبلة على جيبك. . .
وكادت يد (النابغة) تخرج بالقرش؛ فعضه المجنون في كتفه عضة وحشية فجأة الخوف منها فطار صوابه؛ فصرخ صرخة عظيمة دوى لها المكان وترددت كصرصرة البازي في الجو. ثم اعتراه الطيف، وأطبق عليه الجنون، فاختلط وتخبط. . . . . .
(والرواية الآن). . .؟ رواية عربة الإسعاف. . . . . .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(130/12)
2 - بعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 4 -
وفي عصر الحاكم بأمر الله تدنو أساليب الخلافة الفاطمية، وتدنو شخصية الخلفاء الفاطميين من ذروة الخلفاء؛ وكما أن الدعوة السرية الشيعية لقيت على يد الخلافة الفاطمية أعظم مظاهر ظفرها الديني والسياسي، فكذلك تلقى الدعوة السرية الفاطمية في عصر الحاكم بأمر الله أغرب مظاهرها، وأشدها إمعاناً في الغموض والخفاء؛ وفي هذه الفترة بالذات ينفجر بركان الدعوات السرية التي لبثت تضطرم قبل ذلك بأكثر من قرن، وتحقق بعض غاياتها العملية بصور جريئة مروعة
ولقد كانت شخصية الحاكم بأمر الله مثال الخفاء ذاته؛ ولم تكن مظاهر الغموض والتناقض التي تنتاب هذه الشخصية الغريبة في كثير من المواطن، لتحجب مظاهر القوة المادية والمعنوية التي تتمتع بها في أحيان كثيرة، بيد أنا نلاحظ أن الخفاء يغمر هذه المظاهر جميعا، سواء في فترات قوتها أو ضعفها. كان الحاكم ذهناً هائماً، يشغف بنظريات الخفاء والعالم الآخر، وينكب على دراسة التنجيم والفلك، ويهم في ميدان المباحث الفلسفية والروحية؛ وكان هذا الخفاء المروع يصحب الحاكم في حياته الخاصة، وفي تصرفاته العامة، في أقواله وأعماله؛ وأي خفاء أشد من ذلك الذي تنفثه حولها شخصية ترتفع في سماء التفكير حتى لتزعم السمو فوق البشر، وتهيم في دعوى الألوهية، وتنحط مع ذلك في بعض نزعتها وتصرفاتها إلى نوع من الجنون الغامض؟ لقد يجرؤ الدعاة في كثير من المواطن على انتحال الرسالة أو النبوة، وقد يزعم المشعوذون المغامرون أنهم يتمتعون بمواهب خارقة، ولدينا من هؤلاء وهؤلاء ثبت حافل في جميع العصور والأمم، بل إنا لنراهم ينبثون في القرن الثامن عشر في المجتمعات الأوربية يزاولون السحر والتنجيم، ويعتصمون بأذيال الخفاء والروع؛ ولكنا لا نعرف مثلا عملياً ذهب فيه الداعي إلى انتحال الألوهية، وأثمرت فيه الدعوة ثمرتها العملية كمثل الحاكم بأمر الله
احتشد الدعاة السريون بمصر في عصر الحاكم، وازدهرت الدعوات السرية، واتخذت سبلا ومظاهر شتى؛ وكان المجتمع القاهري يعيش في الواقع على هامش تلك الدعوات الغريبة(130/13)
التي تتخذ سبلها في الخفاء إلى أذهان الهائمين والمنافقين؛ وقد تمخضت هذه الحركة السرية الملحدة في عصر الحاكم ذاته عن نتائج مدهشة، ففي أواخر عصر الحاكم ظهر دعاة يدعون إلى ألوهية الحاكم بأمر الله؛ وزعم حمزة بن علي رأس أولئك الدعاة وأشدهم جرأة أن الحاكم ليس بشرا، وإنما هو (المولى سبحانه هو هو في كل عصر وزمان) ونعته بأنه (قائم الزمان)، وأنه هو أي حمزة نبيه ورسوله، وذهب الدعاة في جرأتهم إلى حد التبشير بهذا الهراء في جامع القاهرة (الأزهر) علناً، وكادت تضطرم من جراء ذلك فتنة خطيرة لولا أن بادر الحاكم بصرف الدعاة وإبعادهم إلى الشام، وهنالك أسفرت دعوتهم عن تأسيس مذهب الدروز الذي ما زال قائماً إلى اليوم، وقوامه القول بالتناسخ وحلول الأرواح، وأن الحاكم بأمر الله هو الإله، وهو قائم الزمان، تجسمت فيه روح آدم، بعد أن تجسمت من قبل في علي بن أبي طالب
وقد وضع أولئك الدعاة كتباً ورسائل سرية مدهشة انتهى إلينا بعضها؛ ولم يك ثمة ريب في أن الحاكم بأمر الله كان يرعى هذه الدعوة ويغذيها من وراء ستار، وأنه تأثر بها في أواخر عهده، وأذكت هيامه، واضطرام عقله وروحه، وكان لها أكبر أثر في تطور الدعوات السرية الإسماعيلية
- 5 -
وكان اختفاء الحاكم كحياته لغزا مدهشا، بل كان ذروة الخفاء والروع؛ وما زالت قصة هذا الاختفاء وظروفه وحقيقة عوامله مثار الريب والجدل. ركب الحاكم ذات مساء في بعض جولاته الليلية التي كان يشغف بها ولا يصبر عنها، وقصد ناحية في جبل المقطم اعتاد أن يرتادها لرصد النجوم، بعد أن صرف الحشم المرافقين له؛ ثم لم ير بعد ذلك قط لا حياً ولا ميتا، ولم يوجد له بعد ذلك أثر قط؛ ولم توجد جثته قط. ولم تقدم إلينا الروايات المعاصرة أو المتأخرة أية رواية حاسمة عن مصرعه أو اختفائه، ولكنا لا نتردد رغم خفاء الحادث وغموض ظروفه في الاعتقاد بأن الحاكم ذهب ضحية مؤامرة، وأن مقتله لم يك سوى جريمة سياسية ارتكبت لتحقيق شهوات الملك والسياسة؛ وهذا ما تقرره بعض الروايات المعاصرة على اختلافها في الشرح والتفصيل؛ وفي ظروف الحاكم، وفي عنفه واضطرام أهوائه، وغريب تصرفاته، وفي قسوته وصرامته نفسه ما يفسر مثل هذا الرأي، وما يسبغ(130/14)
عليه مسحة من الرجحان. ومعظم الروايات المعاصرة على أن الذي دبر المؤامرة هي الأميرة ست الملك أخت الحاكم؛ وكانت تأخذ عليه عنفه وإغراقه، وتحذره من عواقب أهوائه؛ وكان الحاكم يشدد عليها الحجر والرقابة وينعى عليها سوء مسلكها وفضائحها الغرامية؛ وكانت تخشى بطشه وفتكه، وترقب الفرص لتدبير اغتياله؛ وكان حليفها وعونها في تدبير المؤامرة وتنفيذها، سيف الدولة بن دواس زعيم قبيلة كتامة القوية التي فقدت في ظل الحاكم ما كانت تتمتع به من النفوذ والجاه. وفي ليلة الاثنين 27 شوال سنة 411هـ (1020م) ركب الحاكم إلى المقطم، بعد أن طاف حيناً في أنحاء القاهرة، وسار إلى الجبل ومعه ركابيان فقط؛ وكان أبن دواس قد اتخذ أهبته ورتب للفتك بالأمير عبدين من أخلص عبيده؛ وتوغل الحاكم في الجبل إلى حيث اعتاد أن يرصد النجوم ومعه ركابي فقط؛ أما الركابي الآخر فصرفه مع بعض ذوي حاجة اعترضوه في طريقه، وهنالك في جوف الجبل تمت الجريمة وقتل الحاكم ووصيفه، وقطعت قوائم حماره الأشهب؛ وحملت جثة الحاكم في جوف الظلام إلى أخته ست الملك فدفنته في نفس مجلسها؛ واتخذت كل ما يجب لكتمان الجريمة، وأذاعت أن أخاه سيغيب أياماً؛ وخرج الناس إلى الجبل فلم يعثروا بأثر للحاكم أو حماره أو ركابيه؛ ورتبت ست الملك في نفس الوقت اغتيال أبن دواس وكل من اشترك في الجريمة أو وقف على السر، وذهب السر مع الجناة إلى القبر
وقضى رجال الدولة ثلاثة أيام متوالية يبحثون عن الحاكم دون جدوى، وفي اليوم الرابع توغلوا في الجبل فعثروا بحماره الأشهب وقد قطعت قوائمه، وتابعوا بحثهم حتى وصلوا إلى البركة الواقعة شرقي حلوان، فنزلها البعض، وعثروا فيها بثياب الحاكم مزررة لم تحل أزرارها وفيها أثر الطعان. فعندئذ أيقن الناس بقتله
كان مصرع الحاكم فيما يرجح إذاً جريمة سياسية دبرت ونفذت بأحكام؛ ولكن ذلك التعليل لم يكن حاسما في عصر ذاعت فيه الدعوات والأساطير السرية، ونودي فيه بألوهية ذلك الذي اختفى على هذا النحو الغامض. ومن ثم فقد زعم بعض الغلاة والمغامرين من الدعاة أن الحاكم لم يمت ولكنه اختفى وسيظهر آخر الزمان، أو أنه رفع إلى السماء كما رفع المسيح بل لقد وجدت هذه الأساطير المغرقة سبيلها إلى بعض دوائر البحث الحديث، فنرى المستشرق فون ميللر مثلا يعلق على اختفاء الحاكم بما يأتي: (أما أن أخته قد دبرت قتله(130/15)
لخوفها من تنفيذ وعيده لها بالقتل، فهو حديث خرافة. والواقع أن مصيره لم يعرف قط. وعندي أنه طبقا لكل ما نعرفه من حياته، قد رأى استحالة تحقيق مبادئه في مصر، فاعتزال الحياة واختفى في مكان ما ليقضي حياته بعيداً عن الأنظار، لكي يعتقد أنصاره على الأقل أنه هو (الناطق) حقيقة (ناطق الزمان) وأنه سيعود من رمسه آخر الزمان في شخص الإمام أو المهدي؛ وهذا ما لا يزال ماثلا إلى اليوم في عقائد الدروز)
والواقع أن هذه الأساطير رغم بطلانها وإغراقها، كانت أخصب مستقى لمذهب الدروز. وإذا كنا لا نستطيع أن نؤمن بهذا التعليل الغريب لاختفاء الحاكم، ففي وسعنا أن نعتقد أن اختفاء الحاكم كان نتيجة جريمة دبرها الدعاة السريون لإذكاء دعوتهم، ولكي يسبغوا عليها بإخفاء الحاكم من هذا العالم قوة الدلائل المادية، فيقال إن ناطق الزمان قد اختفى ولن يظهر إلا في آخر الزمان. على أنه مهما قيل في مصرع الحاكم وفي تعليل اختفائه، فلا ريب أنه من أغرب حوادث التاريخ الإسلامي، وأشدها غموضاً وروعة وخفاء
- 6 -
هذه خلاصة منوعة لبعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي وهنالك الكثير منها مما لا يتسع المقام لذكره. ولا تقتصر هذه المواطن الخفية الغامضة على حوادث التاريخ الإسلامي؛ ولكنها تمثل في تواريخ معظم الأمم والعصور؛ فما من عصر إلا وله أساطيره، وما من أمة إلا ولها أساطيرها القومية، وقد كانت هذه الأساطير وهذه المواطن الخفية تمت في الغالب بصلة إلى الدين أو إلى الأطماع والمشاريع السياسية، وكان يستغلها دائما دعاة مهرة ومغامرون لهم من الجرأة والإقدام، ما يكفل تحقيق مشاريعهم؛ وكان السلطان الروحي أو السياسي دائما مطمح أولئك الدعاة أو المغامرين؛ وفي أحوال كثيرة نرى الأسطورة الدينية أو الدعوة الخفية تنتهي بانفجار تعقبه انقلابات سياسية واجتماعية خطيرة، وفي بعض الأحيان نرى الأسطورة أو الدعوة تفضي إلى قيام دولة جديدة أو مذهب ديني أو سياسي جديد
ولا ريب أن هذه الأساطير والدعوات والحوادث الخفية تبدو في عصرنا حديث خرافة، ومن المستحيل أن تشق طريقها بعد في أمة متمدنة أو مجتمع مستنير. ولكن يجب أن نذكر فوارق العصر والظروف، وأن نحكم على هذه الظواهر الغريبة بمعيار العصر الذي حدثت(130/16)
فيه. على أننا نجد في التاريخ الحديث، وفي المجتمعات الحديثة المتمدنة أيضاً أمثلة مدهشة من هذه الأساطير والظواهر الخفية تشق طريقها إلى أرقى المجتمعات وتثير الدهشة والروع في نفوس الكبراء فضلا عن العامة؛ ففي القرن الثامن عشر ظهر في ألمانيا والنمسا وفرنسا عدة من الدعاة والمغامرين السريين مثل يعقوب فرنك (أو الكونت أوفناخ) والدكتور فوك، ويوسف بلسابو (أو الكونت كاجليوسترو)، والكونت سان جرمان وغيرهم، وجابوا المجتمعات الأوربية الرفيعة، وأثارت مزاعمهم ودعاواهم في الخلود وعلم الغيب، ومزاولة السحر، والخوارق، كثيراً من الدهشة والروع؛ بيد أن هؤلاء المغامرين الدهاة لم يحاولوا أكثر من تحقيق مطامع محلية وشخصية؛ وذلك أن العصر الذي كانت فيه جرأة الدعاة تتجه إلى إنشاء المذاهب الدينية أو الدولة السياسية، كان قد انتهى منذ بعيد، ولم يبقى أمام الأواخر من الدعاة والمشعوذين إلا أن يعملوا في ميدان متواضع جدا لتحقيق المآرب والأهواء الشخصية.
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان(130/17)
ذكرى زوجة
للأستاذ حسنين حسن مخلوف
حدث صاحبي قال:
عشر سنين سوياً هي مدى العيش بيني وبينها
هي قنطرة حياتها الجديدة اجتازتها عجلة إلى القبر
كانت تملأ بيتي نوراً، ونفسي حبوراً؛ بدلتني بالوحشة أنساً، وبالوحدة جمعاً. هؤلاء أولادها نجوم سماء أرسلتها العناية الإلهية لتكون معجزة الله في نظام الأسرة، وفي بعث الأمل الباسم، وفي سعادة الآباء والأمهات، ثم لم يمتعها الدهر بهم إلا قليلا، واستودعتني صغاراً كأفراخ الطير، وذهبت في عالم السماء. . . . . . . .
دعني يا أخي أخفف من برحاء حزني بقطرات من الدمع هي كل ما أملك عند ما يغلي مرجل قلبي بذكراها
دع دماء قلبي تتبخر فتستحيل دموعاً، ففي انبثاقها هدوء لوعتي وأشجاني، فقد انصبت أحزان الناس جميعاً في مصيبتي فما أطيق لها حملا
أفما رأيت المحزونين يتعزون بي، وينسون مصائبهم إذا رأوني، فيرثون لبلواي، ويمسحون بتعازيهم فيض عيني التي هي معاني دموعهم على موتاهم؟
يا لأيامها الحلوة، وسريرتها الطاهرة!!
أرأيت إلى البحر الصافي الساكن الذي لا يدس في قرارته شيئاً!! أرأيت إلى السماء الزرقاء الجميلة تزهر بالنجوم الوضّاءة، هي رمز السرور والطمأنينة!! ذلك هو قلبها: إخلاص وصدق، وأدب وحياء، وكل ما ترتجي في الزوجة الكاملة من سمو ووفاء. . . . . .
وكأن القدر أراد أن يسقيني كؤوس السعادة مترعة ثم يسلبنيها وشيكا ليطول حزني، وتدمى إلى الأبد جراح قلبي، فأنا منها في همٍ مقعد مقيم
قلت له: هوّن عليك يا أخي، فما لما قضى الله حيلة، وحسبك ما قدمت يداك، وما قمت به نحوها من تمريض، فقد كانت في أغلب سنيها معك بين الموت والحياة، تسعى سعي المجد لتدفع القدر عنها، فلم تدع طبيباً إلا استشرته، ولا صيدلية إلا أفرغت فيها كنوز حياتك(130/18)
كنت في حياتها في فكر ممض، وقلق مستديم، وليس من الإنصاف لنفسك ولا لأولادك أن تظل هكذا شقيا بمماتها. .
فما استأذن حديثي على سمعه حتى ظل هنيهة مطرقاً مفكراً، وكأن أطياف الماضي تذهب وتجيء في رأسه، فلا يستطيع لها دفعاً، وكأن لوحة خيال تعرض حوادث حياته مشهداً مشهداً، وبعد أن تنبه إلي قال:
لست أنسى طول حياتي رزانة عقلها، واتزان كلامها، وجميل وفائها؛ وقصدها في الأمور كلها، حتى لقد حسبت أن الله مازها بذلك من دون النساء جميعا؛ وأن شمائل بنات حواء اجتمعت لديها ثم صارت وقفا عليها. أرأيت إلى قطرات من المطر تتحلب من أفواه السحاب، ثم يؤلف الله منها ماء رويا يحظى به فرد واحد من بني الإنسان؟ تلك هي فضائلها. فأن محي البر والمعروف والوفاء من نفوس الناس جميعاً فلن تبرح ذهني ذكراها، وهكذا تمر الأيام وروحها ماثلة أمامي، ومآثرها مشرقة إشراق الشمس؛ فهي باقية في معاني الكمال الإنساني، باقية في هؤلاء الصبية كلما خطروا أمام عيني، فهم بضعة منها، وأمثالها العزيزة على نفسي. . . . . . .
كان داء قلبها مبعث آلامها، فما تبرّمت لحظة في القيام بما تفرضه شركة الحياة بيني وبينها، ولأني أعلم أن صخرة عاتية تنتظرني بعد أن أنفض يديّ من تراب قبرها، فتحطم آمالي تحطيما، وتفرق أجزاء نفسي شعاعاً
وكم كنت أود إن لم يكتب الله لها السلامة أن تعيش هكذا في سريرها تنعم برؤية أولادها، وأنا كل يوم أزجي إليها كواذب الآمال في برئها، وأزور مع الطبيب في الطريق كلاماً نقوله عند لقائها، والطبيب يشفق علي ويقول: حسبك فقد أبليت، والطب ألقى سلاحه معترفاً بالعجز عند باب حجرتها؛ وأنا أجيبه: لا عليك أن تكرر الزيارة، وأن تذرع الأرض جيئة وذهوباً، وأجرك موفور، وعذرك في عدم الشفاء مذكور، رجاء أن تدخل شيئاً من برد الطمأنينة على قلبها
وقد والله كانت راضية بالقدر خيره وشره، وما ذاقت طعم النوم أشهراً إلا مثل حسو الطير ماء الثِّماد، وكانت لا تطيب نفسها أن أسهر بجانبها حتى أقوى على أسباب العيش طول النهار؛ فإذا نزلت عند رأيها انتابني الفزع في وهن الليل، فأراها جالسة مفتوحة العينين(130/19)
تنتظر قضاء الله فيها، وقد تسمع المؤذن في الفجر يشق الفضاء بكلمة الحق: (الله أكبر) في سكون الليل وهدوئه، فتضرع إليه أن يحكم فيها بما يراه خيراً لها، ثم تدعو الذي لها كتب لها قصر العمر أن يكتب لي طول العمر جزاء ما أسديت إليها في أمراضها المتطاولة من برٍ ومجهود، فآسى لهذا القول، وأذكر الأمل في الشفاء، فتستبعد تحقيق ما أملت وتقول: أيقدر لي الشفاء فأقضي عمراً جديداً في شكر معروفك؟!
ثم اشتدت بها العلة، وبرحت بها الأوصاب. ومن عجائب القدر أن تكلفني وزارة المعارف مغادرة المدينة لأعمل في الامتحانات في مدينة أخرى، وليس من شرعة وزارة المعارف أن ترحم مثل الظروف المحيطة بي، أو تقبل عذري إلا إذا كنت أنا مدنفا عليلا، ويشهد جماعة من الأطباء جهد أيمانهم إنيل لا أطيق السفر، ولا أقوى على مكابدة الأعمال
سافرت متعب الفكر، مضطرب النفس، وبين جنبي من الهم ما لو كان بالجبال لاندكت، وبالبحار ما سمعت لرنات أمواجها زئيراً، ولا لشموخ أنفها عزّة وزفيراً
وقبل سفري تقدمت إلى أنجالي أن يراسلوني يوميا بحالتها، وأسررت إلى بعض أصدقائي إن حل المقدور أن يبادر باستقدامي برقياً، ومن عجب أن تترى الرسائل كل يوم بأن معجزة عيسى الباهرة ظهرت في زوجي، وأن المرض كادت تزول آثاره! فأحدث ذلك في نفسي حالة بين الشك واليقين. أذكر البرء فأقول: (آمنت بالله)، (يحي العظام وهي رميم)، هاهو ذا مجهودي الطويل تتوّج بالنجاح، وتا لله إن فرحي برؤيتها سليمة لينسيني كل عذاب تحملته صابراً محتسباً، ثم تخم علي سحب مظلمة تقترب من نفسي شيئاً فشيئاً فأنفجر باكياً في حجرتي بالفندق بعد أن أحكم رتاج الباب، وأشتفي ببلسم المحزون؛ هي تلك القطرات
يا لله للإنسان لو لم تكن دموع عيني أتراه ينشق فتطير أجزاء قلبه ورأسه فلذة في المشرق وفلذة في المغرب ثم يتناثر جسمه إرباً إرباً. ثم تعود إلي قوة نفسي فأحس حرارة اليقين في صدري، ويشع أمام عيني ضياء الأمل فأنتعش وأبني قصور الآمال من جديد بعد أن ضعضعتني الأسقام، وزعزعتني الوساوس والأوهام. وعدت من السفر ودخلت عليها مسلما لأبدل بالشك اليقين، فرأيتها جالسة في سريرها وقد امحت منها معالم الحياة إلا عيونا براقة وروحاً رضية تتحدث حديث الأحياء وجسمها في عالم الأموات، فعرفت زيف أحلامي التي(130/20)
نعمت بها مدة غيبتي عنها، فسألت في شأن هذه الرسائل فاعتذرت لي بأنها شاءت أن أفرغ لعملي، وحسبي جهود الامتحان من آلام التذكر، فحاطت الرسائل بما يخفف عني، ويحي ميت الآمال من نفسي، فأكبرت هذه المروءة وذلك العقل الكبير من حيةٍ ميتةٍ تنتظر أياما أو ساعات لتودع الحياة الدنيا وقالت لي: إنها ابتهلت إلى الله ألا يحل بها ريب المنون حتى أعود من سفري، وهاهي ذي مشيئة الله كانت رحيمة بها كريمة عليها، وأعلمتني إن دلائل الموت تقترب منها ففاضت شئوني. أما هي فكانت الثقة بالله تملأ جوانب نفسها والتسليم للمقادير ما يلهج به لسانها في كل حين فكانت هادئة رزينة مكتملة العقل كعادتها
ثم عدت إلى المنزل في الظهيرة وقارورة الدواء الأخيرة في يدي فنظرت إليها كما ينظر الموتور إلى واتره فأجفلت منها وكأنها نذير الموت جاء يعجلها فقالت: في هذه الزجاجة بقية عمري فأبعدوها عني ولا تفضوا ختامها: ارحموني فقد تمزق جسمي بالحقن فلم يسلم جزء فيه من طعناتها، وتقطعت أحشائي بالعقاقير وأنا صابرة، فكم من طبيب كشف عن جسمي! وكم من دواء شقت مرارته مرارتي! أين أولادي؟ ليصنعوا مثل الحلقة حولي، وأخذت تقبل هذا، وتمسح بيدها رأس ذاك، وتبلل بالدموع وجوههم جميعاً، كل ذلك وهم في غفلة ساهون يفرحون ويمرحون إلا أكبرهم فكانت دموعه تسابق دموع أمه فيبكيان معا. وبعد قليل استنجدت بجرعات من الزجاجة فشربتها فنامت ثم أستيقضت بعد نصف ساعة وكأنما نشطت من عقال، فاستفاقت وعاد إليها برد الأمل، وما رأيتها في أوقات مرضها أسعد حالا وأعظم سروراً من تلك الساعة، وقلت لها: ألم أقل لك كثيراً إن الإنسان قد يصل به المرض إلى الغاية ثم يشفى، وأنا أعرف كثيراً من الناس بهذه المثابة
وما أنتصف الليل أو كاد حتى زلزلت الأرض زلزالها!! إنه موقف الموت الرهيب!! فرأيت نفسي في مأزق حرج لم أشهده طول حياتي. إنه رسول الموت جاء ليحسم الأمر بعد طول جدال! جاء (لقطع جهيزة قول كل خطيب)
ولتحط أم أولادي الرحال بعد طول تهجير فقد أضناها السرى وبرمت بالحياة الدنيا. رأيتها تسلم الروح إلى بارئها في يقظة وانتباه ونفسها معلقة بأولادها وكأنها تخاطب رسول الموت: قف قليلا لأشهد الكون إني ذهبت إلى الله وخلفت في الدنيا أطفالاً هم بهجة قلبي وحشاشة نفسي. قف قليلا لأودعهم الوداع الأخير(130/21)
ثم مسحت آلام المرض الطويل وغسلت كل أسقامها المبرحة بكلمة لن أنساها طول حياتي كانت مفتاح الآخرة (دعوني أستريح. أشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله) ثم صارت جثة هامدة
سهرت ليلة من ليالي العمر بيضت سواد شعري، وكلما دقت الساعة دقت معها شعرة من رأسي لنعلن استحالة السواد بياضاً حتى أدركني الصباح
أنا غريب في هذه المدينة التي صارت مثوى زوجي، ومرقد جزء من أجزاء نفسي، وقد غادرت أمي في العاشرة من عمري لأطوف في نواحي الأرض في سبيل المصير الذي بعض عواقبه اليوم
ولا والله ما شعرت بلذع الغربة يحرق كبدي إلا في هذا اليوم العصيب.
ذهبت مبكراً إلى منزل الصديق الصدوق الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) أحسن الله جزاءه فأيقظته من النوم فعرف سر البكور قبل أن يلقاني وأن قضاء الله قد حمَّ، فجاءني مذعورا فقلت له (أفي مقبرة آل الرافعي مكان للغريبة؟)
ومشينا والنعش أمامنا، فرأيت بعيني سياج حياتي يتحطم، وضياء بيتي ينطفيء، وزوجي في ظلمات القبور!
فيا قبر رفقاً بها فقد كانت عزيزة علينا!! ويا أحجاره كوني على جدثها أوراق الجنة
(القاهرة)
حسنين حسن مخلوف(130/22)
المتنبي في ديوانه
بمناسبة ذكراه الألفية للأستاذ عبد الله كنون الحسني
بقية ما نشر في العدد الماضي
وقال المتنبي:
يَترَشفنَ من فمي رشفاتٍ ... هنَّ فيه أحلى من التوحيد
فقالوا: لو كان يجد للإيمان في قلبه حلاوة لما جعل رشفاتهن من فمه أحلى من التوحيد. ونقول: إن البيت قد روى هكذا: هن فيه حلاوة التوحيد، وهي نسختنا أيضاً. وقد قيل إن أفعل غير مراد به التفضيل؛ وقيل أيضاً إن التوحيد نوع من التمر! وعلى الرواية الثانية يكون شبه الترشيف بحلاوة التوحيد ولا حرج في ذلك، ومثله مستساغ في مذهب الشعراء. هذه ثلاثة أبيات ليس في شعر المتنبي أكثر غلواً منها، ومع ذلك فهي لا ترد علينا كما رأيت. أما مذاهب عقليته فنشير إليها حيث يقتضي المقام ذلك؛ وليس هناك ما يدل على أنها من ذات نفسه ومضمر قلبه أصلاً؛ وأما مبالغاته في المدح فيصل بها إلى حد المقارنة بين نفسه وممدوحيه من الأنبياء
والأمر الأول لا شك لا يؤاخذ عليه لأنه حتى على فرض كونه مما يؤثر في صحة الإيمان فمن أين لنا أنه كان يعتقده؟ وإلا فحاكى الكفر ليس بكافر، وعلى أنه اعتقده فمن أين لنا أنه استمر على اعتقاده إلى أن مات؟ وعلى كل حال فالحكم على المتنبي بضعف العقيدة لبعض أفكار فلسفية تضمنها شعره يجعلنا لا نقبل في حظيرة الإسلام أكثر علماء الإسلام من الذين لهم مذاهب فلسفية وأفكار حكمية. على أنه ما من قول موهم في شعر المتنبي إلا وقد وجد في شعر غيره ما هو أكثر إيهاماً منه، فلماذا لم تحكموا على غيره من الشعراء بذلك الحكم الجائر؟ ولولا ضيق المجال لعقدنا مناظرة بين أقواله وأقوال غيره من الشعراء في هذا الموضوع حتى يرى القارئ أن المتنبي لا يزيد على غيره إن لم يقصر في ذلك. وإليك قوله مثلا في كافور:
ألا فتى يُورِدُ الهندي هامته ... كيما تزول شكوك الناس والتهم
فأنه حجة يوذي القلوبَ بها ... مَن دينه الدهر والتعطيل والعدم
فأنه هو عين قول أبن الرومي لصاحب لحية طويلة في صورة أخرى من السخرية:(130/23)
أرْع فيها الموسَى فأنك منها ... - يشهد الله - في أثام كبير
أيُّما كوَسج يراها فَيلقى ... رَبَّه بعدها صَحيحَ الضميرِ
هو أحرى بأن يشكًّ ويغرَى ... باتهام الحكيم في التقديرِ
فلماذا أخذ قول المتنبي دليلا على ميله للتعجيل دون قول أبن الرومي الذي منه استعار المتنبي ذلك المعنى؟
كذلك الأمر الثاني، لم يكن المتنبي بارعا فيه ولا بأول ولا آخر؛ فما زال الشعراء يشبهون ممدوحيهم بالأنبياء بل يجاوزون التشبيه إلى ما هو فوقه، وذلك معروف من مذهبهم قديماً وحديثاً، ولا نعني أنه لا بأس به شرعاً، ولكنا نريد أن نقول إن المتنبي لم ينفرد به ولم يطعن أحد بمثله على غيره من الشعراء في عقيدته؛ وقد وجد ذلك في صدر الإسلام ووسطه ويوجد الآن في هذا العصر، فمن قول جرير بمدح عمر بن عبد العزيز:
أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
ومن قول أبي نواس في الأمين:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
ومن قول أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بك يذكر طائرات فرنسا:
لسليمان بساط (واحد) ... ولكم ألف بساط في الفضاء
فهل هؤلاء الشعراء لا يضربون مع المتنبي على وتر واحد في هذه النغمة؟
والخلاصة أن المتنبي كغيره من الشعراء صدرت عنه أقوال ظاهرها الاستخفاف بأمر الدين ولكن لا نحكم بمقتضاها أنه فاسد العقيدة حتى نحكم على غيره من الشعراء بله العلماء أنهم كذلك، فأن بعضهم أسوة بعض في هذا الأمر
وأما أخلاقه فلسنا بحاجة إلى التنويه بما كان عليه من علو الهمة والشجاعة والصدق والوفاء، فإن شعره مملوء بشواهد ذلك حتى لقد بلغ من علو الهمة أن عابه خصومه بهذا الخلق، فمنهم من لقبه بالمتنبي لتشبيهه نفسه بالأنبياء، ومنهم من جعل ذلك مرضا نفسيا أشبه ما يكون بالجنون. والواقع أن المتنبي كان يسرف في التعظم وإن كان له سلف في ذلك، فانظر إلى قوله:
أي محل أرتقي ... أي عظيم أتقي(130/24)
وكل ما قد خلق الله ... وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
فأنك لا تجده يختلف عن قول هبة الله بن سناء الملك:
وفرطُ احتقاري للأنام لأنني ... أرى كل عار من حلي سودَدِي سدى
أرى الخلق دوني إذ أراني فوقهم ... ذكاءً وعلماً واعتلاء وسؤددا
وبلغ من شجاعته أن لاقى الموت المحقق فراراً من الغدر. وبلغ من صدقه أن قال عنه بن حمزة إنه ما كذب قط، وقال هو:
ومِن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبتُ عن شَعرٍ في الرأس مكذوب
وبلغ من وفائه أنه برغم ما عامله به سيف الدولة من سوء العشرة، لم يبح ذاكراً له متشوقا إليه؛ وقد كان يمدح كافورا فيصدر بمدحه ويكثر التأسف على فراقه. ومن شدة وفائه أنه وفى للشيب فلم يقدر على مفارقته إلا حزينا باكيا كما قال:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
هذه أخلاق المتنبي ليس مغمز لأحد؛ وقد وصف به نفسه في شعره، وجاءت سيرته دليلا على صدقه في هذا الوصف. إلا أن الطاعنين عليه لم يعدموا ما يلمزون به أخلاقه أيضاً فقالوا: إنه كان بخيلا، وبخيلا جداً، واستدلوا على ذلك بحكايات ملفقة تشتم منها رائحة الوضع كما يقول المحدثون، وبأبيات من شعره إن لم نقل إنها محرفة عن موضعها فلا أقل من أن نقول إنها لا دلالة فيها على ما زعموه أصلا. فأما تلك الحكايات فقد كفانا الأستاذ المازني أمرها إذ بين ما فيها من زور وما تحتويه من بهتان؛ وأما أبيات الشعر فأنا ناقلون مما هو نص من شعره في نفي هذه التهمة عنه ثم مقارنون بينه وبينها ليظهر خطأ الاستدلال بها واضحاً لا خفاء فيه
قال المتنبي يستنجز كافورا ما وعده به من الولاية:
أبا المسْك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أُغَنى مُنذُ حين وتَشرَبُ
إذا لم تُنط بي ضيعةً أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وقال فيه أيضاً:
وهل نافِعي أن تُرفَعَ الحُجْب بينَنا ... ودون الذي أمَّلتُ منْك حِجابُ(130/25)
فهذا المتنبي يقول إن بغيته في فضلة من الكأس الذي يشرب بها كافور (يعني الولاية) لا المال. وإن كل ما وصل من عطاء كافور لم يرفع الحجب بينه وبين ما أمله منه، ولا شك أن ذلك شيء غير المال. ومن كانت هذه منزلة المال عنده، لا يحفل به ولا يجعله شيئاً مما أمله، فكيف يوصف بالبخل ويتهم بالحرص لو كان هناك إنصاف؟ وقد صرح به أخذ ضمناً من الأبيات في قوله
وما رغبتي في عسجد أستفيدُه ... ولكنها في مَفخر أستَجدُّه
وقال في شكره لمن وهب له هبة:
وما شكرتُ لأن المال فرحني ... سيّان عندي إكثار وإقلال
لكن رأيت قبيحاً أن يُجادَ لنا ... وإننا بقضاء الحق بُخَّال
وفي مطلعها ما يشير إلى صدق قوله (فجودك يكسوني وشغلك يسلب) وهذا هو المطلع:
لا خيل عندي أهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ثم هل بقى من تقبيح البخل أكثر من جعله من مبطلات الصلاة كما قال:
فتى لا يُرجِّى أن تَتَّم طهارةٌ ... لمن لم يطهر راحتيه من البخل
فهذه الأبيات وسواها كثير مما هو نص في المراد، كيف يصح إغفالها والتمسك بمثل قوله دليلا على بخله:
فلا مجدَ في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا قل لمن مجده
فهل هو إلا مقرر لحقيقة واقعية، وهي أن المجد مهما كان رفيعاً لا اعتبار له إلا بالمال، وقد أجمع الناس على ذلك فما يحترمون إلا صاحب المال ولو كان دنيئاً؟ ولكن ألا تراه مع ذلك قد عقب بأن المال وحده لا اعتبار له عند العقلاء ولا بد من خصال المجد التي هي أساس الاعتبار؟
وأغرب من ذلك الاستشهاد على بخله بمثل قوله:
من يطلب المجد فليكن كعليَّ ... م يَهبُ الألفَ وهو يَبتسم
وقوله:
تهللَ قبل تَسليمي عليه ... وألقى مالهُ قبلَ الوسَاد
وهذا لو صح دليلاً على بخل الشاعر لعددنا كل شعراء العربية بخالا، فأنه لكثرة ما تدوول(130/26)
هذا المعنى، صار لا يخلو منه ديوان شاعر
وإننا لا ننفي أن المتنبي كان جماعة للمال، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا للاستعانة به على مقاصده كما يصرح هو بذلك في شعره لا سيما وهو يعلم من أحوال عصره أن الاعتبار كله إنما هو لأهل المال خاصة. وانظر إلى حكاية البطيخة التي أعطى صاحبها خمسة دراهم فلم يبيعها له وباعها بثلاثة لمن يملك مائة ألف دينار لمجرد كونه يملك مائة ألف دينار! فانصرف وقد علم أنه لا يتم اعتبار الناس له إلا إذا جمع مائة ألف دينار؛ وقد كان كذلك، وكل ما صدر عنه في هذا الصدد إنما هو من قبيل المثل الفرنسي , وكم بين من يطلب المال ليستعين به على قضاء حقوقه - وأي حقوق هي! إنها لتزري بحقوق الطغرائي التي يقول فيها:
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قِبلي
وبين من يطلبه لمجرد الحرص عليه وشهوته التي هي مرض من الأمراض، فإن هذا هو البخيل حقاً لا ذاك!
والواقع أننا وجدنا المتنبي صادقاً في كل ما وصف به نفسه من خلال المجد، فلا يصح أن يكذب في هذا الأمر لمجرد حكايات الله أعلم بحالها وحال من نحله إياه! كذلك وجدنا شعره طافحا بمدح الكرم وذم البخل في أبيات صريحة لا غبار عليها فلا يجوز أن نغض الطرف عن ذلك ونلجأ إلى الفرض والتخمين محملين بعض ألفاظه ما لا دلالة لها عليه لنصحح تهمة أنه كان بخيلا!
وإذا فرغنا من الكلام في النقط الثلاث التي عنينا به هنا، فلنتساءل ماذا كان مطلب المتنبي في الحياة ما دام لم يكن يطلب المال لذاته؟
والجواب أن المتنبي كان طالب دولة ولا شك، وكان لا أعدي إليه من أصحاب الدول في عصره، فهو لو تمكن منهم لما رحمهم، بل نرحم شبابه من أن يرحمهم على حد تعبيره هو:
لا يخدعنك من عدُوٍّ دمعُه ... وارحم شبابك من عَدُو ترحمُ
وقد كان يرى المجد في ضرب أعناق الملوك:
ولا تحسبنَّ المجد زقاً وقَينةً ... فما المجد إلا السيف والفتكةُ البكر
وتضريبُ أعناق الملوك وإن تُرى ... لك الهبواتُ الكثر والعسكر المجر(130/27)
فلو أن الفلك جرى بموافقة سعيه لعصف بدول عصره جميعا ولو دولة الخلافة، وأقام على أنقاضها دولة متنبية من الطراز الذي يقول فيه أبو الطيب:
أعلى الممالكَ ما يبنى على الأسلِ
وما أصدق ذلك الذي قاله على لسان كافور وقد صوّر أنه سئل لماذا لم يُنلْ المتنبي ما طلب منه من الولاية: (يا قوم! من أدعى النبوّة بعد محمد صلى الله عليه وسلم كيف لا يدعى الملك بعد كافور؟)
وحينئذ فماذا كان يصير لو نجح المتنبي في مطلبه؟
إن الدولة العربية كانت قد شاخت في زمنه وتمكن الضعف منها فصارت هامة اليوم أو الغد، وقد رأى هو أن العرب أصبحت تدين للعجم بالطاعة وذلك أمر ليس من صالحهم في شيء:
وإنما الناس بالملوك وما ... تَصلح عُرْبٌ ملوكها عجمُ
وإن المسلمين أصبحوا في كل جهة عبيد العصا يسوقهم المتغلب أمامه كما يسوق الراعي قطعان الماشية:
ساداتُ كلٍ أُناس من نفوسهمُ ... وسَادَةُ المسلمين إلا عبدُ القزُمُ
وقد صار أمرهم مع المشركين بين العجز عنهم والرهب منهم:
أرى المسلمين مع المشركين ... إما لعجز وإمَّا رهُبْ
فإذا قلنا إنه لو نجح في مطلبه لكان ذلك من الخير للعرب والإسلام. لم يكن في قولنا هذا شيء من المبالغة لأن الرجل كان قوة هائلة لا تقف عند حد ولا ترجع عن قصد، فكان ينفخ من روحه في جسم الدولة المتهالك ويهيب بالأمة إلى حياة المجد والعظمة فما يكون بأسرع منها إلى الاستجابة له والإقبال عليه صادعة بأمره صادرة عن قوله:
لا افتخارٌ إلاَّ لِمن لا يُضامُ ... مُدركٌ أو محاربٌ لا يَنامُ
ليس عزماً ما عرَّض المرءُ فيه ... ليس همّاً ما عاقَ عنه الظلامُ
واحتمالُ الأذى ورؤْية جانِ ... يه غِذاءٌ تضوي به الأجسامُ
ذلَّ من يغبط الذليل بعيشٍ ... رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحمامُ
(طنجة)(130/28)
عبد الله كنون الحسني(130/29)
التضحية
للأستاذ محمد روحي فيصل
صلاح الأمة للبقاء أو قوة حيويتها إنما تظهر أشد الظهور إذا أصاب تلك الأمة شر، أو ألمّ بها خطب، أو انتابتها أزمة في السياسة أو في المال، أو في الأخلاق، مما يجل وقعه، ويشق احتماله؛ ذلك لأن جميع الأمم تستطيع أن تعيش في الرخاء، وتسمو بالنعيم، ولكنها لا تستطيع كلها أن تعيش وتسمو إذا أحدقت بها الشدة، وحفت بها المكاره، وتنكر لها الدهر، وعبست في وجهها الحياة
بلى! قليلة جداً تلك الأمم التي تستطيع أن تعيش وتسمو إبان المحنة والشدائد، لأن كل أمة من الأمم تحتاج حينئذ إلى أن تستمد حياتها من حياة أبنائها، وتعتمد في شفائها على سواعد أفرادها؛ فإذا كان خلق التضحية قويا فيهم، متأصلا في نفوسهم، مشتملا عليه كلهم أو جلهم، نجت تلك الأمة من الشر إن كان نازلا بها، أو تقدمت إلى غايتها إن كانت لها غاية عليا تعشقها وتطمح إليها
أما الأمة الأثرة التي لا تعرف من التضحية غير أسمها، فهي محكوم عليها بالفناء والموت، لا بد أن يخني عليها الذي أخنى على لبد
لما اشتدت الأزمة المالية أخيراً على الأمة الإنكليزية رأينا كيف أن مظاهر التضحية لم تنحصر في رؤساء الأحزاب فحسب، وإنما تعدتهم إلى الأفراد رجالا ونساء، فكانت الفتاة الفقيرة تهب سوارها الذهبي الذي أهدته إليها أمها قريرة العين طيبة الخاطر؛ وكانت العائلة الفقيرة تتنزل راضية عن جنيه من كسبها الذي لا تحصل عليه إلا بشق الأنفس وترفقه بكلمة كهذه: (مساعدة متواضعة لملكنا وشعبنا من أسرة (فقيرة))
كذلك كل أمة نالت شأوا بعيداً في المجد، وبلغت مكانة عالية بين الأمم، ما نالت ذلك الشأو وما بلغت تلك المكانة، إلا بتضحية أبنائها أمامها بالأنفس والأموال تضحية صادقة صحيحة! ولعمر الحق ما كانت تكون لأجدادنا العرب، أبناء الصحراء، وساكني الجزيرة، تلك السيادة الرفيعة، وذلك السلطان المرهوب، لو لم يكونوا متشبعين بخلق التضحية إلى أقصى مدى
ونحن، إذا كنا قد تنبهنا بعد الغفلة واستيقظنا بعد النوم، فاستأنفنا طريقنا إلى العلياء وطالبنا(130/30)
بحريتنا المسلوبة واستقلالنا المفقود، فإنما يجب أن نتجشم تكاليف ما نطالب به ونضحي لنيله القليل والكثير، ونتحمل ما نلاقي في سبيله من ألوان المكاره وضروب المشاق، ونصبر على صنوف العقبات حتى يلين صلبها ويسهل صعبها، فأنه لا تنال المطالب إلا مكافحة ومغالبة، لأن الحياة معركة، فما لم يدرك فيها بالملاينة والمحاسنة، أدرك بالعنف والمخاشنة. . .!!
إن رجال هذه الأمة جميعاً ثلاثة: رجل لا علم له بما عليه من الواجبات نحو وطنه فلا يعنيه شأنه، ولا يهمه أمره، ولا يعبأ به ولا يحفله، فهو جاهل؛ ورجلٌ أخذ من الدين بقشوره، وشرب من مورده العذب مصة خفيفة ظنها غاية ما يرتوي به المرتوون، فقضى أوقاته في البحث في المحيرة والحيض والنفاس، ونصب نفسه لعداوة كل جديد وإنكار كل ما يألف، فهو جامد؛ ورجلٌ يجري وراء منافعه الشخصية أينما رآها وتخيلها، يراها في جانب مصلحة عامة فيظهر في زي المصلح الداعي إلى هذه المصلحة ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا تراءت له منفعة خاصة لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس والوطن داسه بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته تواً لا يلوي على شيء، فهو خبٌ منافق
فإذا أزيل عن الأول جهله، وأزيح عن الثاني جموده، وشنًّع على الثالث خبَّه ونفاقه، وعمل على بث خلق التضحية فيهم وتقويته عندهم، مع تبصيرهم بمقتضيات الأحوال كما يقول البديعيون - إذا فعل هذا عظمت الفائدة، وتوفرت العائدة على الوطن، وسارت الأمة مسرعة إلى مطمحها
(حمص)
محمد روحي فيصل(130/31)
السنيون والشيعة والمؤتمر
للأستاذ محمد رضا المظفر
لأول وهلة بدا لي أن أنسحب بعد مقال الأستاذ (أحمد أمين) المنشور في (عدد الرسالة 121)، ولا أدخل في هذا الموضوع من جديد، لأنه قرر أخيراً: (أنه سوف لا يرد على من يتخذ بعض ما جاء في مقالته وسيلة الأثارة النزاع من جديد إلا أن يفتح صاحبها مجالا للكلام في مشروع المؤتمر أو وسائل الوفاق) فخشيت أن أكون عند الناس أو عند نفسي (وهي لا تحب لي الرذيلة) ممن يتحبّب النزاع أو يسعى لتعكير صفو الأخوة التي ظهرت بشائرها في العالم الإسلامي، ولهذا - أو لشيء آخر لا أدري - وُضع هذا التقرير الصريح
ومن جهة أخرى، تخوّفت أن يكون حديثي هذا من (لغو الصيف) وإن كنا نستقبل الشتاء، فلا أجاب عليه بعد ذلك التقرير؛ وليست فكرة المؤتمر - وبالأصح حلم المؤتمر - تلك الفكرة الناضجة والحلم الصادق فيما أعتقد (وسأعود إليها)، حتى أستنزل بعلاجها طرف الأستاذ لميدان هذا الموضوع
كل ذلك دار في خلدي، وأكثر من ذلك صرفني عن كل هذا الحديث، حتى يمضي عليّ هذا الزمان، وأخيراً أتراجع إلى طوية نفسي فأجدها جد مؤمنة بوجوب السعي لتحقيق فكرة الاتفاق، وتوحيد كلمة المسلمين، مهما اختلفت وجهة النظر مع الأستاذ أو مع غيره، وهنا فليقرر الأستاذ ما يشاء؛ وليقل الناس ما يحبون!
ولعل الرسالة تفتح صدرها الرحب لكاتب يقف للفرص يتتبعها، لإزالة ما قد يسيء للاتفاق بين الطائفتين، ويشهد حديث كتابها أو غيرهم عن كثب، حتى لا يتكلموا عن الشيعة كأمة غائبة في مجاهل المفاوز، لا سمع لها ولا لسان، في حين أن رجال الشيعة تتبع الأحاديث عنها في الصحف والكتب بكل إصغاء، وقد لا تشاء الرد والجواب، كما وقع في العام الماضي في الرسالة بين الأستاذين، عبد الوهاب عزام، وأمين الخولي، في قضية مكة ومشهد الحسين
وكم يضحكني ما يكتب عن الشيعة كأنها من الأمم الخوالي (ولتعرف من الآن أنا لا نفهم من كلمة الشيعة إذا أطلقت غير الأمامية)، فتنسب لها عقائد وآراء لا نعرفها، وكثير من رجالها صامتون كأن الحديث مع غيرهم، ثم يحرقون الأرم من غير طائل، وليس من(130/32)
الصحيح هذا التسامح الذي جر ما جر من تباغض وشنآن، وربا على ما خلفه لنا علماء أمس رحمهم الله، وزاد في الطين بلة، وربما تصبح الطريق بعد هذا زلقاً لا تصلح لسير الأقدام إلا بما لا يحمد، كما كان في العصور السالفة؛ وكان من الواجب أن يبادر إلى علاج هذه الناحية قبل فوت أوان العلاج، والحرية الصحافية ضربت أطنابها في البلاد، وخصوصاً في مصر، فأعجب أن يسأل صاحب المقتطف - مثلاً - عن الشيعة، فيجيب عنهم بما يعلم - وهو معذور - ولا يرد عليه واحد منهم وهو لا يأبى عن ذلك، ولا يأبى أن يزيد علمه فيهم. إذن بعد هذا لم لا أتقدم بنفسي لهذا الواجب؟
هذا سؤال وجيه، وعليّ أن أجيب عنه بكل صراحة وإخلاص: كم هناك من مباحث وددت كشف غطاء الحقيقة عنها - لو كنت من أهل ذلك - فأتقدم إلى القرطاس، وأحاول أن أجرد قلمي من لحاء التعقيب لعقيدتي التي نشأت عليها، وغذيتها في لبن التربية، لا أطلب الحقيقة بالبرهان، ولا أكون ممن يتطلب البرهان للعقيدة، ولكن أجد محاولتي الباطلة، فأبحث عن قلمي، فأراه قد تألف من مجموع قشور، وأخيراً لا أجد قلماً أحمله لأكتب به
وهكذا العقائد العامة ليس في وسع أحد أن يتجرد عن تبعتها مهما تخيل أنه سيذهب عنها ناحية، ولا بد أن تنزله لحضيضها، ويرغم على غذائها، فيما يكتب وفيما يعمل، فتتركز عليها أقواله وأفعاله، من حيث يدري ولا يدري؛ وعلم النفس يصدقني - وعلى الأقل لا يكذبني - في هذه الدعوى
ولا أعتقد أن امرءا استطاع أن يحرر نفسه من عقيدته، ما دامت له عقيدة يتمسك بها، أبى الأستاذ أحمد أمين أم لم يأب!
ولكني أرجو أن يوفقنا الله في جهاد سورة النفس في تعصبها، وقمع غلوائها، فيما إذا اعتقدنا بعظم النتيجة وفائدتها للجميع؛ وعسى أن نصيب هدف الحقيقة بعد حين بهذه الحيلة؛ وهذا هو الذي يطمئنني أن أنزل إلى هذا الميدان الوعر المسالك، ومن ورائي جمعية (منتدى النشر) تقبض على ناصيتي
ولقد كانت وجهة نظري القاصر - ولا بد أن تعرفها من حديثي المتقدم ومقالي السابق - أن نفتح لنا باباً للتفاهم في أصل عقائدنا وصحتها - مهما كان في ذلك من الخطورة - فندخل في بحث علمي أو تاريخي، كسائر أبحاثنا العلمية والتاريخية، ونتلقى النتائج بصدر(130/33)
رحب، وذكرت في مقالي السابق: ما هي النقطة التي يجب اتباعها في البحث؟. وذاك هو الذي فهمته أيضاً من كلام الأستاذين محمد بك كرد علي وأحمد أمين في المرة الأولى، وعلى هذه النغمة حسست وتري، ومضيت مطرباً إلى حد بعيد وحقاً (إن البحث العلمي لا يمنع التفاهم والوئام، بل هو إذا نظر إليه النظر الواسع العالي سبب من أسباب الألفة)
إلا أني بعد هذا وجدتك - أيها الأستاذ - تذهب بعيدا وتنتقل مفاجأة إلى حديث عقد مؤتمر بين الطائفتين في العراق، فماذا تقصد من المؤتمر؟ وعلى أي خطة ولأي غاية يجب أن يسير؟ هذا الذي بعد لم أحط به علماً، ونزولاً عند رغبتك أدخل في الموضوع ما انفتح لي بابه:
لا شك أن عقد مؤتمر بين الطائفتين - على أي وجه يكون - لا يمكن التوصل إلى تحقيقه، بمجرد تفكير واحد واقتراح آخر وتأييد ثالث، مهما كان المفكر والمقترح والمؤيد فلابد أن يختمر في العقول بنقد ورد وبدرسه على جميع وجوهه حتى يستقر على فكرة واحدة ووجه واحد، ويعمم صوته الأسماع النائية والقريبة، ويساهم في درسه العالم والسياسي، ويقتنع به ولاة الأمور - ولا بد من اقتناعهم أو إقناعهم - كعمل لا بد منه، ثم تنتهز الفرص للعمل على تحقيقه، ويسعى بإخلاص لتأسيسه، على سنة الارتقاء والتدرج، أو كما قال معالي العلامة الشبيبي
خواطري اليوم أقوالي ومعتقدي ... غَداً وغرّة أعمالي وراء غد
لقد سمعنا بحديث هذا المؤتمر وسعى بعض رجالات الطائفتين لتأسيسه وسمعنا باختلاف التفكير في خططه، كل هذا سمعنا، واتضح لي مما سمعت ومما قرأت أيضاً أنه ما زال أمنية لم تشبع درساً وتدقيقاً؛ وكل عمل كبير مثل هذا لا بد أن يكون كذلك وأكثر. فلنفرض أن المؤتمر انعقد في العراق، واجتمع أعضاؤه لدرس خططهم، فعم يتساءلون؟
يدرسون مذهب الشيعة وأهل السنة - وعلى الأصح مذاهب المسلمين - وأسباب الخلاف بينهم، كأجانب على المذهبين، ثم يتفقون على الصحيح، أو قل على جوهر الإسلام الحقيقي الذي جاء به الرسول عن الله، ويطوحوا بالقشور وبما ألصق بالحنيفة إلصاقا - ولا بد أن يكون هناك لباب وقشور وحق وباطل لا محالة - ليحملوا الأمة الإسلامية جمعاء على الإسلام الصحيح، الذي يفهمه روح الإخلاص والبحث النزيه(130/34)
حلم لذيذ! لو صدقناه لكنا خيرا منه ونعم الخلف الصالح. ولاسترحنا من آلاف الكتب التي ألفت في هذه الشؤون، وجرت على المسلمين الويل والثبور، وأضاعت من أوقات العلماء كل غالٍ ونفيس درساً وتأليفاً، فصرفتهم عن كل عمل ينفع الأمة ويجر إليها المغنم، طيلة هذه القرون
ولكن - بالله عليك - هل رأيت حلماً أكذب من هذا في أضغاث الأحلام، وأمنية أبعد منها في الأماني؟ كيف يتفق أولئك على الصحيح؟ وبماذا يحملون الرأي العام على اعتناقه؟ أبالقوة يعتنق هؤلاء الدين الجديد عندهم؟ أم بالتقليد لأولئك النفر القليل؟ أم بطريق الحجة والإقناع؟ كلا! كل هذا ليس من السهل، أو ليس من المستطاع؛ وإذا جاز أن يقع مثله في أول الدعوة إلى الإسلام من نبينا وأصحابه، فليس من الجائز أن يقع في هذا العصر من مؤتمر يؤلف من علماء الطائفتين المتخالفين في بؤرة الخلاف، وهل يصح أن نكتفي بهم وحدهم أو بالخاصة معهم - لو جاز أن يتفقوا - ونستغني عن اتباع السواد لهم
وأكبر الظن أني تياسرت عن الغرض في تأويلي هذا للمؤتمر المقصود، إذن فعم يبحثون؟
لنتركهم يعملوا لإيجاد عوامل الألفة والصداقة الودية بين الفريقين، ولذبح النعرة الطائفية على أعتاب الأخوة الإسلامية ليدخلوها بسلام آمنين، ولتبق بعد هذا كل طائفة على عقيدتها وأعمالها، كمذاهب أهل السنة فيما بينهم، وكالشيعة لما يختلفون في تقليد مجتهديهم، وهناك تتجلى الكلمة الذهبية الخالدة: (إنما المسلمون إخوة)، وقوله عليه السلام: (المسلمون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً). وينظر عندئذ للمؤتمر في دعوى من يدعي غمط حقوقه كمحكمة كبرى إسلامية، ويأخذ على الأيدي العابثة من كتاب وغيرهم بالوسائل التي يختطها ويستطيعها
وظني أن هذا المؤتمر هو الذي يرمي إليه إخواننا فيما فكروا وتحدثوا وكتبوا، وهناك ملحوظات يجب ألا نغفل عنها:
هذه الدعوة إلى الاتحاد ونبذ النزعات الطائفية، والتفرقة الشائنة، هي إحدى الأسس القويمة التي بنى عليها الحكم الوطني في العراق - كما ذكرت في مقالي السابق - ورؤساء الطائفتين يومئذ لم يقصروا في توجيه الرأي العام نحو هذه الفكرة الجديدة التي لم يدع لها العهد التركي البائد مجالاً للظهور أو لبذرها في العقول، واستطاعوا في اقصر وقت أن(130/35)
يكهربوا الفكرة العامة بتيارهم، حتى إنك كنت تسمع الهتاف بالوحدة يبلغ عنان السماء في جميع محافلنا ومجالسنا، وكان الرجل يخسأ أن ينبس بكلمة واحدة تشتم منها رائحة الخلاف، وعلى ذلك أعوام - أو أيام - مضت، حتى تغير بعض النفوس، وتبدل كثير من النوايا، ولا ندري لماذا كان؟! وهل يجوز أن نقول لا ندري؟ لا أدري!
واليوم - بحمد الله - تجد الحال كما هي، لم تتبدل تلك الظاهرة المحبوبة؛ ولكنها فقاقيع على الماء من ارتفاع درجة الحرارة، وليست هي كل الماء - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - أو ليس وجودها إلا لتظهر فقط لا لتنفع - كما يقول الأستاذ الرافعي - لأن هذه الظاهرة احتفظت بها السياسة وحدها واكتفت بها، ولم تأخذ بها الأمة عن طريق الرغبة فيها، والاقتناع بضرورتها وثمراتها، في حين أن العودة إليها قد تضاءل نبراسها إلى حد كاد معه ينطفي، وما أدل على هذا من أن السني الداعي إلى الوحدة يصبح متشيعاً في نظر أصحابه، والشيعي الداعي إلى الوحدة يصبح سنياً في دعوى إخوانه، وهذا ذنب كبير عندهم لا يغتفر!
ولذلك يسود الاعتقاد اليوم أن الدعوة الأولى كانت كلها خداعاً في خداع؛ ومن رجالنا من لا يزال مستمسكاً بها إلى اليوم، فينسب إلى غفلة أو سذاجة، وهذا هو الداء الدوي
فإذا أردنا أن نؤلف هذا المؤتمر في العراق، فإنما نريد أن نعيد تلك الكرة لتنفي العزة، وقد لاقت في مبدأ الأمر سوقاً رائجة، ثم كسدت تلك السوق، ويبيع فيها الرأي العام بأبخس ثمن، وبدراهم معدودة؛ ومن الصعب جداً أن نعمل عملاً مجرباً بتشاؤم منه؛ واعتقد أنه سيكبد القائمين مجهوداً كبيراً من هذه الناحية، ويحتاج إلى زمن ليس بالقصير، لتحوير الأفكار ورسوخ العقيدة من جديد، تتخلله الدعاية الواسعة من القادة وذوي العقول المخلصين: وتقريباً للمسافة أجد من الضروري أن تنضج هذه الفكرة خارج العراق أولاً، ثم تدخل العراق لتستطيع أن تهضمها الأفكار بسهولة
ومن المرجح أن هذا المشروع لا يلاقي الفشل بعد تشكيله في هذه المرة إذا كان القائم به مؤتمرا منظما يبنى على أسس متينة ونظم واضحة، وإذا كان مؤسسو المؤتمر يحملون في حقائبهم إخلاصاً صادقاً وعقيدة ثابتة ووطنية صحيحة، والعراق في دور الاستقلال، وما فشل لأول مرة إلا لأنه كان عملاً فوضوياً اندفع إليه المجتمع كسائر إندفاعاته التي لا(130/36)
يقودها العقل والرأي - على حسب قانون المجتمعات - فاستغلته الساسة الوقتية، ثم لعب أهل الأغراض والمطامع ومن خلفهم الاستعمار أدوارهم - وبالطبع يتلاشى هذا الظل بعد حين، متى طلعت الشمس ولا بد أن تطلع -، ولا مؤتمر مسؤول ولا جمعية مخلصة تحاسب الناس على أعمالهم
النجف الأشرف
محمد رضا المظفر(130/37)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
كوخ رابع غزاة المكروب يكتشف مكروب السل
بدت لكوخ طلائع النجاح، فقضى أشهرا يؤكده بالعمل المتواصل، والتفصيل الممل، والصبر النادر، والدقة المتناهية، والحذر البعيد. تجد كل ذلك منه إذا أنت قرأت تجاربه المتكررة العديدة في تقريره التاريخي عن داء السل، وقد ولد من هذه البشلات ثلاثا وأربعين أسرة مختلفة، ولدها على فالوذج المصل في أنابيبه المائلة من القردة المسلولة والفئران والخنازير الغينية العليلة
ولم يستطع توليدها إلا من حيوانات أصابها السل أو ماتت من جرائه، وقضى أشهراً يرعى تلك القتلة الصغار رعى الحاضن ولدها، وكان أكبر همه ألا يدخلها من أخلاط المكروبات الضالة شيء
قال كوخ: (والآن إذ ولدت بشلاتي هذه خالصة، فلم يبق لي إلا أن أحقنها في خنازير غينية سليمة، بل في كل نوع من حيوان سليم. فإذا أصابها السل علمت علم اليقين أن هذه البشلات ضرورة لازمة لإحداثه، وأنها علته التي لا شبهة فيها)
وقام كالمجنون الذي يركب رأسه لفكرة ملكت عليه منافذ السبل، فقلب معمله فصار أشبه شيء بحدائق الحيوانات، وأصبح يتجهم للناس ويتهكم بزواره المتشوفين لما عنده حتى صار غولاً ألمانيا صغير الجرم حقوداً، وعقم عشرات المحاقن وحده، وزودها بمكروبه الأحدب من زريعاته التي على فلاذج أمصاله بعد أن دافه بقليل من الماء، ثم أطلق هذا المكروب من هذه المحاقن كالسهام في جلود الخنازير والأرانب والدجاج والجرذان والقردة والفئران. ثم زمجر فقال: (لا يكفي هذا. فلا بد من إطلاق هذا المكروب في أنواع من الحيوانات لا يعرف أن السل أصابها أبداً)، وخرج عن ألمانيا يطوف البلاد فجمع لمعمله. ثم عاد فحقن بشلاته، العزيزة عليه الشديدة على غيره، في سلاحف وعصافير وخمسة ضفادع وثلاثة من ثعابين الماء
وفي نوبة ذهب فيها عقله شاء أن يتمم تجريته الغريبة في سمكة مرجان
ومضت أيام تلو أيام، وتلاحقت الأسابيع، وفي كل يوم منها ذهب كوخ إلى (ورشته) في(130/38)
الصباح واتجه تواً إلى أقفاصه وجراره التي احتوت هذه الحيوانات الخطيرة. أما سمكة المرجان فظلت تفتح فاها وتغلقه وهي تعوم عوم الوداع الآمن في طاسها الكبير ذي البطن العظيم. أما الضفادع فظلت تنق نقيق من لا يأبه لشيء. وأما ثعابين البحر فكانت على عهدها نشيطة رشيقة في انزلاقها على الماء، وأما السلاحف فكانت تخرج رأسها أحياناً من بيتها العظم وتطرف بعينها لكوخ كأنها تغمز به وتقول: (إن مكروبك يا سيدي العزيز غذاء صالح لنا، فهل لديك من مزيد؟)
سلمت هذه الحيوانات من محاقن كوخ، ولا عجب، فهي في حياتها العادية منيعة على السل. أما الخنازير الغينية فأخذت تميل ثم تتساقط على جنوبها تتلهف على الهواء وتستدر الرحمات ثم تموت وقد براها السل برياً شديداً
والآن وقد أتم كوخ آخر حلقة من البرهان الذي أراده، تهيأ ليعلن للدنيا أن البشلة التي هي سبب السل الحق قد اصطيدت، قد اكتشفت! وما كاد يهم بالإعلان حتى خطر له أن للبرهان ذيلاً لا بد من إتمامه. قال: إن الناس لا بد آخذة هذه البشلات استنشاقا مع تراب الهواء، أو لعلهم آخذوها من المسلولين إذ يسعلون. فليت شعري أتأخذه الحيوانات السليمة بهذه الطريقة أيضاً؟) وما عتم أن قلب وجوه الحيلة لإجراء هذه التجربة الخطرة. وارتأى أن يرش البشلات رشا في وجوه الحيوانات. وتلك مخاطرة من دونها فتح أبواب السجن لعشرات الألوف من القتلة السفاحين
ولكن كوخ كان مشبعاً بروح الصيد، فعرف أنه لا بد له من مواجهة الأخطار التي لا مندوحة لصياد عنها. فصنع صندوقا كبيرا في الجنينة ووضع فيه الخنازير الغينية والفئران والأرانب. وأوصل من شباك معمله خرطوماً ينتهي طرفه في الصندوق برشاشة. وقعد هو في معمله عند طرف الخرطوم الآخر يحرك مضخة ينبعث من تحريكها في الصندوق ضباب من البشلات قتال يستنشقه ما في الصندوق من حيوان، وقام كوخ يحرك المضخة نصف ساعة كل يوم طيلة ثلاثة أيام. وعند فوات عشرة أيام وجد ثلاثة من الأرانب تتنفس سريعاً في طلب هذا الهواء الغالي الذي عجزت رئاتها المريضة عن إعطائها إياه. ولم تمض خمسة وعشرون يوماً حتى كانت هذه الخنازير قامت هي أيضاً بنصيبها المتواضع من هذه المأساة المجيدة فمات الواحد تلو أخيه مسلولاً(130/39)
ولم يذكر لنا كوخ كيف صنع لاخراج هذه الحيوانات من صندوقها وقد عمه وعمها الوباء، ولم يحدثنا ما الذي صنعه بهذا البيت الصغير الذي بناه بعد أن ابتلت حيطانه بهذا الرشاش الفتاك. ولعمري لقد أضاع هذا البحاثة الهادئ المتواضع بصمته عن ذكر هذا فرصة ثمينة لمن همه الفخر وطلب المباهاة
(يتبع)
احمد زكي(130/40)
شعراء الديباجة
أدب البارودي وشعره
بمناسبة انقضاء مائة سنة على مولده
للأستاذ أحمد الزين
تتمة
أما شاعرية البارودي فقد قدمت لك أنها صياغة عصورٍ غابرة، ووليدة بيئات منقرضة، إذ لم يسبق بنهضة أدبية نما فيها ذوقه العربي، ولم ينشأ في بيئة عربية ترعرع فيها فنه البياني؛ بل كان هو باعث تلك النهضة بعد أن لم تكن، ومطلع ذلك النور بعد أن خبا، والمجلي في حلبة البيان الذي لم يسبقه أحد قبله وجاء على أثره من بعده، ومكون تلك البيئة بعد أن كانت مصر قبله وفي صدرٍ من عهده ممحلةً من الأدب والأدباء والشعر والشعراء إلا القليل ممن لا يعتد بشعرهم، ولا ينبغي أن تسجل أسماؤهم في الشعراء إلا تسجيلا تاريخياً لمن أراد أن يكتب سجلا جامعاً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها
إلا أن تلك النهضة التي بعثها من مرقدها لم تكن نهضة تجديدية في الأفكار والمعاني؛ وتلك الوثبة التي وثبها لم تكن وثبةً انقلابية في تصوير ما حوله من المشاعر والاحساسات؛ وهذه الخطوة التي خطاها لم تكن خطوة تطويرية في مسايرة روح العصر وتوجيهه إلى ما يريده الشاعر لأمته وبلاده من المثل الأعلى في الآمال والأغراض، بل كانت نهضةً بيانية لا أكثر، متعلقة بجودة العبارات، واختيار الألفاظ، وإحكام النسج، ومتانة التركيب، والجري على مذهب القدماء في الفخامة والجزالة؛ فلا تكاد ترىفي شعره ما يعبر عما حوله من أحاسيس أمته وأوطانه، إلا القليل مما تراه منتثرا في ديوانه؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن شاعريته كما قدمت لك من صياغة الكتب والدواوين، وصناعة هؤلاء الشعراء المتقدمين؛ فكان يعيش بشعره في عصرٍ غير عصره، وكان أشبه بالعاشق الموله الذي يجالس القوم بجثمانه، ويكلمهم بلسانه، وهو مع معشوقه وسالب لبه بروحه ووجدانه
وهنا ينبغي أن نشير إلى مخالفتنا لما رآه بعض كتاب النقد في شعر البارودي، فقد قسم الشعر إلى أربعة أقسام، وهي شعر التقليد الضعيف، وشعر التقليد القوي، وشعر الابتكار(130/41)
الذي يوحيه الشعور بالحرية القومية، وشعر الابتكار الذي يوحيه الشعور بالحرية الفردية؛ وذكر أن شعر البارودي في طليعة النوع الثالث، وهو شعر الابتكار الذي يوحيه الشعور بالحرية القومية
وعندي أن شعره لا يعدو من هذه الأنواع الأربعة، وهو شعر التقليد القوي؛ وهذا هو سر شغفه بمحاكاة الفحول من شعراء المتقدمين ومعارضتهم في مشهورات قصائدهم كأبي نواس، والشريف الرضي، وأبي فراس، والبويسيري، وغيرهم؛ وفي رأيي أنه لم يبلغ أحدا من هؤلاء، وإن كان قد قاربهم بعض المقاربة، وذلك لأنه مقلد، والتقليد كما تحدثت إليك من قبل أضعف من الأصل مهما يبالغ المقلد في إحكام المشابهة وإتقان المحاكاة. وإنك لتقرأ القصيدة من شعره فلا توقظ عاطفة من عواطفك، ولا تحرك شجناً من أشجان نفسك، ويخيل لك أنك سمعتهاقبل عدة مرات؛ والحق أنك قد سمعتها، فإن لم تكن قد سمعتها بالفاظها، فقد سمعتها بمعانيها في شعر العباسيين وغيرهم من المتقدمين؛ حتى أن قصائده التي قالها في صفة الحروب وأهوالها، والميادين وأبطالها، وافتخاره بالإقدام إذا حمي الوطيس واشتد الخوف وجاشت نفس الجبان لا تراها تتميز إلا في القليل النادر بمعان جديدة وأفكار مستحدثة عن شعر المتقدمين في صفة ذلك، حتى إنك لو لم تعرف أن قائل هذا الشعر هو البارودي لحسبت أنه شاعر عباسي يصف إحدى غزوات الرشيد أو المأمون في خراسان أو بلاد الروم. وإلا فأي جديد مستحدث يلفت ذهنك إليه، ويجتذب قلبك نحوه، تراه في قوله:
فلا جوَّ إلا سمهريُّ وقاضِبٌ ... ولا أرضَ إلا شَّمري وسابحُ
ترانا بها كالأسد نرصُد غارةً ... يطير بها فنق من الصبح لامحُ
فلست ترى إلا كماةً بواسلا ... وجُردا تخوض الموت وهي ضوابح
نُغير على الأبطال والصبح باسمٌ ... ونأوي إلى الأدغال والليلُ جانح
بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلت ... بأنيابها واليوم أعبر كالح
ولم يك مبكاه لخوف وإنما ... توهم أني في الكريهة طائح
فقال اتئد قبل الصِّيال ولا تكن ... لنفسك حربا إنني لك ناصح
ألم تر معقود الدخان كأنما ... على عاتق الجوزاء منه سرائح(130/42)
وقد نشأت للحرب مُزْنة قَسْطَل ... لها مستَهلٌ بالمنيةِ راشح
فلا رأى إلاُ أن تكون بنجوةٍ ... فأنك مقصود المكانة واضح
فقلت تعلّم إنما هي خُطّة ... يطول بها مجدٌ وتخشى فضائح
فقد يهلك الرِّعديد في عقر داره ... وينجو من الحتف الكَمِيُّ المشابحُ
الخ. . . . . .
وقد كان ينبغي أن يتميز شعره في صفة الحرب عن شعر المتقدمين، ولا يحاكيهم في كثير ولا قليل من معانيهم فيها، وذلك لما باشر من وقائعها، وخاض من غمراتها، وتعرض لمخاوفها، ولما امتلأت به نفسه من حبها، والتمدح بالإسراع إليها، ولِما تميزت به الحروب في عصره عن الحروب في العصور الماضية، واختلفتْ في صُورَها وآلاتها وترتيبها عن الحروب أيام تقسيم الغزاة إلى شاتية وصائفة
ومما يعاب على البارودي ويؤاخذ به قلة شيوع الشعور الوطني والإحساس المصري في شعره، وخلو قصائده إلا في القليل النادر من العاطفة القومية، وإنما استثنيت القليل النادر لما له في ذلك من القصائد اليسيرة التي قالها وهو في منفاه بسرنديب كقوله من قصيدة:
هل من طبيب لداء الحب أو راقي ... يشفي عليلا أخا حزن وإيراق
قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقا ... حتى جرى البين فاستولى على الباقي
وفيها يقول:
يا روضة النيل لا مسّتكِ بائقةٌ ... ولا عدتك سماءٌ ذات إغداق
ولا برحتِ من الأوراق في حلل ... من سندس عبقريّ الوشى برّاق
يا حبّذا نَسَمٌ من جوِّها عَبِقٌ ... يسري على جدول بالماء دفّاق
مَرعَى جيادي ومأوى جيرتي وحِمَى ... قومي ومنبتُ آدابي وأعراقي
أصُبو إليها على بُعد ويعجبني ... أني أعيش بها في ثوب إملاق
وكيف أنسى دياراً قد تركتُ بها ... أهلا كراماً لهم ودّي وإشفاقي
فيا بريد الصَّبا بلغ ذوي رحمي ... أني مقيم على عهدي وميثاقي
وأنت يا طائرا يبكي على فنن ... نفسي فداؤك من ساقٍ على ساق
أذكرتَني ما مضى والشمل مجتمع ... بمصر والحربُ لم تنهض على ساق(130/43)
الخ. . . . . . .
ولعل السر في عدم شيوع ذلك الشعور في شعره وقلة ظهور هذه العاطفة في قصائده يرجع إلى أنه سليل عائلة من الأتراك الذين يرون أن سيادتهم في مصر لا تتم إلا بالترفع عن مخالطة أهلها، وعدم مشاركتهم فيما يشعرون به من آلام وآمال، ويرون أن الاتصال بطبقات الشعب ثلم في غزتهم، وانتقاص من سيادتهم
وإليك طرفاً من قصيدته التي استقبل بها مصر حين عاد من منفاه، قال:
أبابلُ رأىَ العين أم هذه مصر ... فأني أرى فيها عيوناً هي السحر
نواعِسُ أيقظن الهوى بلواحظ ... تدين لها بالفتكة البيض والسمر
فإن يك موسى أبطل السحر مرة ... فذلك عصر المعجزات وذا عصر
بنفسي وإن عزت عليّ ربيبةٌ ... من العين في أجفان مقلتها فترُ
الخ. . . . . . . . . .
فأنت ترى أنه لم يزد في استقبال وطنه على ذكر ما فيه من الجمال النسوي الشائع بين جميع الأمم، والمشترك بين مختلف الشعوب، ولم يقل في قدومه إلى مصر إلا ما يقوله قادم على أي بلد من البلاد المشهورة بهذا النوع من الجمال، وإن لم يكن وطنه. ثم انظر هذا الإحساس الوطني المتدفق، والعاطفة المصرية الفياضة في قصيدة شوقي التي استقبل بها مصر حين عاد من منفاه بالأندلس، إذ يقول:
ويا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيتُ بك الشبابا
وكلُّ مسافر سيؤوب يوماً ... إذا رزُق السلامةَ والآيابا
ولو أني دُعيتُ لكنت ديني ... عليه أقابل الختم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي ... إذا فُهْتُ الشهادة والمتابا
هدانا ضوءُ ثغرك من ثلاثٍ ... كما تهدي المنوَّرةُ الركابا
وقد غشُّى المنارُ البحر نورا ... كنار الطور جلّلت الشعابا
وقيل: الثغر، فاتأدت، فأرست ... فكانت من ثراك الطُّهر قابا
وقوله وهو في منفاه أيضا:
وطني لو شغلت بالخلُد عنه ... نازعتني إليه في الخلُدُ نفسي(130/44)
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من (عين شمس)
أحرامٌ على بلابله الدَّوْ ... ح حلال للطير من كل جنس
كلِ دار أحق بالأهل إلاّ ... في خبيث من المذاهب رجس
وهنا قد يخطر بذهنك أن تسأل عن العوامل المؤثرة في شعر شوقي هذا الأثر الظاهر، وميزته من شعر البارودي هذا التمييز الواضح، وجعلتْه فياضاً بهذه العاطفة القومية، مفعما بتلك الاحساسات الوطنية، فلا تكاد تقرأ قصيدة من قصائده خالية من ذكر مصر والفخر بماضيها، والألم لحاضرها والأمل القوي في مستقبلها؛ ولا تبعد عن الحق كثيرا ً إن قلت إن شوقي لم يجد إجادة تامة إلا في هذه الأغراض؛ وأقول في جواب هذا السؤال إن سر ذلك يرجع إلى مخالطة شوقي لزعماء الوطنية المصرية وصلته القوية بهم، وحرصه على توثيق أسباب المودة بينه وبينهم، وملازمته لمجالسهم بالليل وانهار، فلا عجب إن شاركهم بعد ذلك في الآراء والأفكار، وشاطرهم في الآمال والأوطار. . .
أضف إلى ذلك خدمته الطويلة للخديو السابق عباس الثاني؛ وقد كان من كراهته للمحتل الغاصب، وحبه الاستقلال بالسلطة والانفراد بالحكم، ما هو معروف مشهور
وهذا جواب إجمالي أرجئ تفصيله إلى فصل آخر عند الكلام على شاعرية شوقي
أحمد الزين(130/45)
سكان أعالي النيل
بقلم رشوان أحمد صادق
يسكن أعالي النيل ثلاث مجموعات أساسية تتفرع منها عدة مجموعات أخرى فرعية:
1 - المجموعة النيلية، ويطلق عليهم أسم وهم خليط من الزنجي والحامي. نشأ هذا الخليط بالقرب من شرق البحيرات الكبرى في شرق أفريقيا ثم نبعت منه شعبتان:
الشعبة الأولى هي جماعة الدنكا وقد اتجهت شمالا ثم تكون منها الدنكا والنوير الحاليتان
والشعبة الثانية اتجهت شمالا أيضا ونتج عنها القبائل التي تتكلم اللهجة الشلك مثل جماعة الشلك والليو والأنواك
وهذه المجموعة تشغل أقاليم بحر الغزال وبحر الجبل وبحر الزراف والسوباط وجزءا من النيل الأبيض. أما مميزات هذه المجموعات الجنسية فهي قامة بائنة الطول، ورأس مستطيل، وبشرة سوداء جدا، وشعر مجعد؛ فهم يختلفون عن الزنجي البحت وكذلك عن الحامي البحت
أما جماعة الأشولي الذين يتكلمون لهجة الشلك فرؤوسهم مستديرة، وذلك يرجع إلى تأثرهم جنسياً وثقافة بعنصر مستدير الرأس جاء من الغرب إلى الشرق والتقى بهم أثناء هجرتهم من موطنهم الأصلي
2 - المجموعة الحامية النيلية مثل الباري واللوتوكو وغيرهم، وهم يشبهون النصف حاميين الذين يوجدون في شرق أفريقيا وفي شرق أفريقيا الوسطى، ويكثر وجودهم في مستعمرة كينيا وأوغندا حتى حدود السودان وشمال تنجانيقا. وهم أيضا خليط من الحامي والزنجي، غير أنه يظهر تغلب الجنس الحامي في تكوينهم خصوصا من حيث التقاطيع مثل الأنف ولو أن البشرة سوداء اللون. ولقد تأثروا أيضا بالهجرات المستديرة الرأس الآتية من الغرب إلى الشرق، ولكن هذا التأثير كان ثقافيا لا جنسياً
3 - مجموعة زنجية مستديرة الرأس لونهم أخف من لون النيليين وقامتهم أقصر. كانت أماكنهم بحيرة تشاد، ثم هاجروا جنوبا إلى أفريقيا الاستوائية الفرنسية، ثم شمالا إلى خط تقسيم المياه بين الكنغو والنيل. وأهم هذه المجموعة الأزندي، ويسكنون في أعالي بحر الغزال الآن(130/46)
وبعض العلماء يظن أن لونهم الفاتح يرجع إلى اختلاطهم بجماعة البربر أو بعض الحاميين
ولقد اشتهر سكان هذه الجهات ومعظم سكان أفريقيا - سواء الزنجي البحت أو الخليط - بحب اللهو والطرب والرقص وكثرة شرب الخمور. ولقد تبارى العلماء في تعليل هذه الظاهرة التي تكاد تعم معظم بقاع أفريقيا
فابن خلدون يرجع ذلك إلى عوامل مناخية إذ يقول:
(من خلق السود على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على توقيع، موصوفين بالحمقفي كل قطر؛ والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه. وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار، مخلخلة له زائدة في كميته، ولهذا يجد المنتشى من الفرح والسرور ما لا يعبر عنه، وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها ثورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح تجيء طبيعة الفرح. وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت، لذلك حدث لهم فرح، وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وأقاليمهم، فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع (المعتدل) أشد حرا، فتكون أكثر تفشياً، فتكون أسرع فرحا وسرورا وأكثر انبساطاً، ويجيء الطيش على أثر هذه. وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء والله الخلاق العليم.)
ولقد حاول كثير من العرب تعليل حب هؤلاء الأقوام للخمر واللهو والرقص، ومن هؤلاء المسعودي الذي ينسب ذلك إلى ضعف عقليتهم، كذلك يعقوب بن إسحاق الكندي ذكر ذلك التعليل الذي ربما يكون المسعودي قد نقله عنه
كذلك ذكر هذا الرأي جالينوس كما يقول ذلك أبن خلدون
وربما كان ذلك راجعاً إلى قلة العمل وطول الوقت، ولذلك يلهو الزنجي بمثل هذا النوع من الطرب. وربما يرجع حب الزنجي للرقص والخمر إلى التغلب على مناخ بلاده الذي يدعو إلى الكسل والخمول. كما يستعمل الأوربي مثلا المسكرات للتغلب على البرد في بلاده.(130/47)
ويقول نعوم بك شقير في كتابه تاريخ السودان: (وهم مولعون بالرقص ولعاً شديدا، ولكل قبيلة منهم رقصة خاصة يرقصها الرجال والنساء على أصوات الآلات الموسيقية. وقد رأيت جماعة من رجال الشلك يرقصون رقصة حربية في الخرطوم أيام تشريف الخديو للخرطوم، وقد لبسوا شعورهم على أشكال غريبة وزينوها بالريش والخرز وصبغوا جفونهم بصباغ أبيض مشرب حمرة، ولبسوا أساور العاج والنحاس في أيديهم، والجلود أو الخرق في أصلابهم، وحملوا الحراب والنبابيت فمثلوا في رقصهم واقعة حربية وقفوا فيها صفين يهاجم أحدهما الآخر، وهم يقفزون كالقردة ويصيحون كالذئاب، وهم يهزون رماحهم وعصيهم فوق رؤوسهم، ويغنون أغاني لا تلحين فيها، ويصوتون بالقرون أصواتاً مزعجة تصم الآذان؛ وبالإجمال لم يكن في رقصهم طرب بل دل على الهمجية والخشونة)
وقد اشتهر الزنجي بجودة الرقص خصوصاً في عهد قدماء المصريين إذ استخدموا الأقزام لرقص الآلهة. وكثيرا ما نرى الآن في موسيقى الجاز الأوربية الراقصة أن يستخدم الزنجي للعزف. كما اشتهر بعض الزنوج نساء ورجالا بالرقص الأوربي
الزنوج النيليون
النوير
لم يتأثروا بالحكم الأوربي لأن أماكن سكناهم تجعلهم في عزلة إذ يتعذر اجتياز بلادهم في فصل المطار لكثرة المستنقعات كذلك في فصل الجفاف. لذلك لم يحاول جيرانهم الاعتداء عليهم، كما أن العرب الذين عرفوا هذه الجهات قديما اكتفوا بإنشاء محطات تجارية على المجاري الرئيسية. ولم تهتم بهم الحكومات الأوربية إلا منذ أربع سنوات عندما قاموا ببعض الاضطرابات. وكان لهذه العزلة الأثر الأكبر في عدم قبولهم الاختراعات الحديثة، وعدم تغييرهم لنظامهم الاجتماعي، كذلك لم يتأثروا بالمسيحية ولا بالإسلام؛ وتجد الحكومة صعوبة في جباية الضرائبمنهم أو إرغامهم على العمل
وتنقسم السنة عندهم إلى قسمين تبعاً لتغير الإنتاج الزراعي الذي يتوقف على هطول الأمطار. فمن ابتداء شهر مايو تهطل الأمطار وتستمر كذلك حتى أواخر نوفمبر، فتمتلئ الأنهار وتكثر الأخوار. ولما لم يكن هناك تصريف على السطح فإن هذه المياه تتجمع على(130/48)
شكل مستنقعات تقوم في الأراضي المرتفعة. وفي هذا الفصل تكون الماشية على مقربة من هذه القرى لكي يمكن إيوائها مساء في الأماكن المخصصة لها لحمايتها من شر البعوض. كذلك يتمكن النوير في هذا الفصل من زراعة بعض الذرة. وفي هذا الشهر ديسمبر تبدأ الأمطار في القلة، ولذلك تساق الماشية إلى أماكن بعيدة عن القرى في الجهات الغابية حيث ترعى هناك، وبعد أن يجمع المحصول في القرى ترجع الماشية إلى القرى لتأكل بقايا النباتات؛ ثم بعد ذلك يحل فصل الجفاف وأهم شيء في حياة النوير خاصة، والزنوج النيليين عامة هو الماشية، فمنها يأخذون اللحم واللبن، وجلودها تستعمل فراشاً، وروثها يستعمل وقوداً، والرماد المتخلف يتخذ لدلك الجسم لحمايته من البعوض، ويصنع منه مسحوق للأسنان والشعر، وقرونها تستعمل ملاعق، وذيلها للزينة. والرجل الغني عندهم هو الذي يملك ماشية، فهي تقوم مقام الصداق في حفلات الزواج، ولذلك كان النويري شديد الاهتمام بتنمية القطيع من الماشية، لأنه مهم من حيث الزواج. والرجل عندما يريد الزواج لابد أن يوزع عشرين رأساً من الماشية على أهل زوجته ولابد من إهداء عشرة رؤوس لأقارب والدة عروسه، وعشرة أخرى لأقارب والد عروسه، فمن اللازم أن يأخذ القطيع في الزيادة حتى يصل إلى خمسين رأسا من الماشية. فإذا تزوج أبن فلابد أن يظل بقية الأبناء بدون زواج حتى يأخذ القطيع في الزيادة إلى أن يستعيد عدده قبل الزواج. فالزواج حسب الترتيب: الأكبر فالذي يليه وهكذا. وعلى نساء الأبناء الكبار أن يقمن بطهي الطعام وحلب الماشية للأخوة الذين لم يتزوجوا بعد؛ كذلك تستعمل الماشية في دفع الديات والتعويضات. والنويري يعتبر القتل كالزواج، أي أن الرجل إذا قتل شخصاً من عائلة أخرى كان كأنه تزوج فتاة من هذه العائلة؛ وذلك على قاعدة أن هذه العائلة ستفقد فرداً منها في حالة الزواج أو في حالة القتل. فعلى القاتل أن يعطي عائلة المقتول عشرين رأسا من الماشية: عشرة منها توزع على أقارب والد القتيل، وعشرة أخرى توزع على أقارب والدة القتيل. والفكرة في ذلك أن عائلة القتيل تحتفظ بهذه الماشية التي أخذتها دية لكي يمكنها أن تحصل بواسطتها على زوجة للرجل الميت لكي تلد هذه الزوجة أبنا يحل محل أبيه. وهذه الزوجة بعد الحصول عليها تعيش مع زوجة الرجل المقتول، والابن الذي يولد لها يعتبر كأنه للرجل المقتول.(130/49)
يتبع
رشوان أحمد صادق(130/50)
اندفاعات
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
يعيش القريعُ الحُّر في البلد الحِّر ... فبالخير يجزى الخيرَ والشرَّ بالشرِّ
ويزري بعادات يراها مضرّة ... وأمّا بما فيه انتفاعٌ فلا يزري
وأَكْثِرْ بمغُترّ بما كان ظاهراً ... وأَقْلِلْ بمن قد كان ليس بمغتر
بمجتَمعٍ حّريةُ الفكر عنده ... وما عنده حُريةُ القول والجهر
ولم يك أسراً منع حُرّية الورى ... ولكنه شرٌّ عليهم من الأسر
وما خيرُ أرض هان فيها ذوو الحجا ... وذو الأفْن موصول الكرامة والقدر
تحّملتُ أعباَء ثقيلة ... فكانت كأخت الموت قاصمة الظهر
يعادونني من أجل تركي لمدحهم ... ومَن كان حُراً عاش للأدب الحُر
ومالي وثوق في العراق بصاحب ... مع المدّ يأتيني ويمضي مع الجَزْر
لقد نسبوا لي الوزرَ فيما أقوله ... وهل مُثقِلٌ غيري إذا صدقوا وزري
وللكفر والإيمان تجمع لحمةٌ ... وقد شرب الإيمان من منبع الكفر
ولو كنتُ أدري ما ألاقي من الأذى ... أخذت من الأيام قبل الأذى حِذري
أعاتب أيامي على ما أصابني ... وما في يد الأيام شيءُ من الأمر
ولست إذا لاقيتُ مكراً بنا كصٍ ... ولكنني أستقبل المكرَ بالمكر
إذا رمتَ أن تلقى من الناس حرمةً ... فكن سيداً للخير أو سيد الشر
وإن الفتى الخّوار في حومة الوغى ... إذا لم يمت بالسيف مات من الذعر
وليس يردّ العسكرَ المجرَ غازياً ... لمملكة مُثلى سوى العسكر المجر
وما أنس لا أنس الشبابَ فأنه ... على ما به من خفة غرّةُ العمر
صبوتُ إلى غُرّ الوجوه مُتيماً ... ومَن كان لا يصبو إلى الأوجه الغُرّ؟
وإني ليعروني اضطرابٌ لذكرهم ... كما اضطراب العصفور في مخلب الصقر
وإني كسارٍ ضلّ ليلاً طريقه ... بمذأبة خرقاء أو مهمةٍ قفر
ذكرتُ شباباً كان لي في زمانه ... سوابق آثام فأخجلني ذكرى
أثمتُ وبالطيش اعتذرتُ مُبرّراً ... وأكبرُ من إثمي الذي جئتهُ عذري(130/51)
ألامُ على حبي لدنيايَ هذه ... وما حيلتي إن كان قلبي بها يغري
صحوت غداةَ الشيب من سكرة الصبا ... ويا رُبّ صحوٍ كان شراً من السكر
وكان نصيبي في الشباب ابتسامةً ... تلوح على عين الحبيبة والثغر
قد ازدان بالألماس والزَهر فرعُها ... كما ازدان ليل الصيف بالأنجم الزُهر
ولما تفارقنا شجاني بكاؤها ... وما نثرت تلك المدامعُ من دُرّ
أذال هوانا الدمعَ والعقل صانه ... فموقفُه بين المذلّة والكبر
وماذا لليلي جدّ حتى تغيرت ... فأني وليلى كنت كالماء والخمر
تعيرني بالشيب وهو مصيرُها ... كأني وإياها إلى غايةٍ نجري
أبالقلب مني تهزئين إذا صحا ... ولكن هذا القلب ينبض بالشعر
منحتك حبي خالصاً فهجرتني ... وأسرفتِ يا ليلى الجميلة في الهجر
وللبلبل الصداح في كل روضة ... عرائسُ يبثثن الغرامَ من الزَهر
ويبسمن للصيداح من فرح به ... ويرمينني للشيب بالنظر الشزر
وللزهر مثل الغانيات لواحظٌ ... وفي تلكم الألحاظ شيءٌ من السحر
عيون رمتني بالسهام مريشةً ... بأهدابها من حيث أدري ولا أدري
سأهبط قبراً بعد حُمّى تميتني ... سلامٌ على الحمّى، سلامٌ على القبر
وإني لأخشى دفنهم لي بحفرة ... فيدُفن للنسيان فيها معي فكري
تموت اعتبارات الفتى عند موته ... فلا حسنَ في عُرفٍ ولا قبحَ في نكر
وأطْوِلْ بليل القبر والقبرُ ضيّقٌ ... ونوميَ في جوف التراب مدى الدهر
وددتُ لو أني قد يقضتُ من الكرى ... على صيحة الصيداح في مطلع الفجر
طريقُ حياتي لم يكن متساوياً ... فوعرٌ إلى سهل وسهلٌ إلى وعر
أرى المرَء مضطراً لما هو فاعَل ... وإن خال جهلاً أنه غير مضطرّ
ولستُ أخاف الشكَّ في كل ما رووا ... ولكنّ بعض الشكّ يأكل من حِجري
لمن تكتب الأرواحُ في اليمّ مألكاً ... فإني أرى الأمواجَ سطراً إلى سطر
مكانك لا تطلب من الدهر مخرجاً ... فأنك أَني سرت في قبضة الدهر
وليس أنيناً ما له أنت سامعٌ ... ولكنه شكوى الغريق إلى البحر(130/52)
لقد جرّد الدوحَ الخريفُ وليته ... لأطياره أبقى على الورق النضر
فَروضٌ ولكن لا رواء لزهره ... فهل فيه لاقى الزهرُ شحّاً من القطر
إذا لم تكن تشكو الأزاهيرُ كربةً ... فما بالها ليست بباسمة الثغر(130/53)
بحر الحسد
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
الحياة هي بحر الحسد، ويسعى الناس في الحياة لأرزاقهم وجاههم بالكيد والمكر كأنما يسبحون في بحر من الحسد، وقد يدفع بعضهم بعضاً كي يظهر الدافع على متون أمواجه، وقد يعين بعضهم بعضاً في الأحايين. أما المجاملة في الحياة والتحيات فقد تكون أشبه بلألاء الشمس على سطح الماء، يخفي بجماله ما في البحر من قبح وبلاء (الناظم)
يسبح الأحياء في بحر الحسد ... فاعتصم بالصبر فيه والجلَدْ
واقتعد صهوته مستبشراً ... سابحاً في الموج منه والزَّبد
ضاحكاً من عنت الأمواج لا ... يُدفَعُ الغائلُ منها بالكمد
أنظر الأمواج في الشط تَجِدْ ... لُجَّها منهزم الأمر بدد
إن علت موجة حقد فاصطبر ... أي موج في ذرى اليمَّ خلد
وإذا ما رمَّة لاحت فلا ... تحسب الرمة فيه كالسند
وإذا لألأت الشمس على ال ... يمَّ أخفت قبح ما دون الزبد
كمقال الحب يُخْفى كَيدهُ ... إن سطا في العيش في لؤم وحِقْد
وإذا غار بك الماءُ فقل ... كم حسام في قراب قد غُمِد
رب دُرٍّ فيه لا تأمله ... إن من غاص على الدر وجد
درة مخبوءة أنت إذا ... ما طفا باللؤم إن أُغرِقْتَ وغد
أنجد السابح إن خار وكن ... للذي أشفى على الهُلْكِ عّضُد
ليس مجد الغدر أحجى بالفتى ... أي مجد ناله الأوغاد مجد
أحمق الناس جهول خائف ... كلما لاح له برق ورعد
ليس في العيش ولا الموت أذى ... إنَّ من سار على الدرب ورد
لا يلذ الموتَ إلا مُتْعَبٌ ... سهر العيش وفي الموت رقد
رقدةٌ يا طيبها من رقدة ... بعد أن عانى وأبلى وسهد(130/54)
الشادوف
بقلم محمود حسن إسماعيل
دَعْ نايَكَ الشَّادي بلا تَعْزيفِ ... طرِبَ الخيالُ لأنَّة الشادوفِ
عُرْيانُ جَرَّدَه الضحَى مِن سِتْرِهِ ... فغدا يضِجُّ بدمْعِه المذْروف
لم يُرضهِ ثَوْبُ السَّنا سِدْلاً له ... يخْتالُ في بَهجَ ولَمْحِ شُغوف
فبكى ونكّس رأسه مُتَذَلِّلاً ... متحسَّراً كالعاشق الملْهوف
فإذا تقاعس خِلْتَهُ في صَمْتِهِ ... جُثْمانَ مصلوبٍ بغَيْر كُفًوف
بَترَتْ سواعده الليالي، وانبرتْ ... تُبْليه في سخَطٍ وفي تعْنيف
وإذا جَثا ألفَيْتَهُ متعِّبداً ... طهُرَتْ سرائُرهُ من التّزييف
سجَداتُهُ في النّبْع قُبْلَةُ والهٍ ... طبِعَتْ على سَلْساله المرشوف
صَدْيان قدَّم للوُرود شرابَهُ ... وأّعارَ أدْمُعَهُ لقلب الرِّيف
فيظلُّ يَظمأ عارياً، والزَّهْر في ... رِيٍّ، ونبْتُ الحقل في تفويف
ثاوٍ على الجُبًّ العَميق كأنّهُ ... أَعمى على جُرُفٍ هنالكَ موفي!
جبارُ أفزعه الرَّدى فتقَلْصَتْ ... أضلاعُه من صَرْعَة التخويف
فتخالُه في الوهْم جُثّةّ مارِدٍ ... ضجِرَتْ لهوْلٍ في القبور مخيف
فأعارتْ الأكفان ثوْرةَ حانِقٍ ... بَرِمتْ بِحَتفٍ فالتقتْ بحتُوف
يا صامتاً والريحُ تَخْفُقُ حَوْلَه ... والنّبتُ يطربُه بسجْع حَفيف
وتصايحُ الغِرْبان يُنْذرُ مَرْجَه ... بحَصيدِ سافَيةٍ، وجَدْب خَريف
وربابةُ الّراعي تُهدْهِدُ عِنْده ... قلْباً يَهيم بلَحنِها المعْزوف
سَكْرَى من الأنْغام أسكَرَ شَدْوُها ... آذان ثاغِيَةٍ وسمْع خَروف؛
هلاّ شَجَتْكَ نُفاثةٌ من بائِسٍ ... لهفانَ في كنَف الأَسى ملْفوف
روّى الزُّروعَ بصَّيبٍ من دَمْعِهِ ... وثوَى بقلب في الظلام لهيف!
محمود حسن إسماعيل(130/55)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشة
الإنسان للأستاذ خليل هنداوي
يرى نيتشه شريعة العبيد ومثل الزهد وسلطة الكاهن تقوم أركانها على جملة أكاذيب فارغة؛ وهو لا ينظر إلى الشريعة المسيحية نظرة الرافض لها، وإنما يجد فيها خطراً كبيراً وتدميرا. إن قطيع المنحطين وقائدهم كاهنهم الزاهد تراهم وقد قضي عليهم بأن يغمضوا أعينهم عن بيان أصول الأشياء، لكي يضعوا - موضع الامتحان والحقيقة التجريبية - شريعتهم وقيمهم الوهمية الضالة التي عالجوا بها حل أسرار الوجود. لو أدرك المريض حقيقة أمره، وعرف مكان عافيته، وموطن شفائه، وعلم أن علاج الكاهن لا يزيح من ألمه الحقيقي شيئاً، وإنما هو علاج ظاهر يعمل على تشديد الألم بدلا من أن يعمل على تخفيفه وشفاء صاحبه؛ لو علم ذلك كله لرأيت العمارة المسيحية قد انهارت دعائمها واندكت صروحها. إن المنحط الضعيف يتحرى عن مخفف حقيقي لآلامه عند الطبيب أو عند الموت. وقد أحس الكاهن هذا الخطر فأخذ يحدث قرناءه دائماً عن الإيمان، وهو الاقتناع المبني على غير العقل، عن الإيمان الذي لا يحفل بحقيقة الأشياء، وهل الإيمان بحقيقته إلا أن تفرض وهما تشعر بضرورةوجوده في الحياة، تفرض وجوده بأي ثمن كان
في كل عصر يرى الكاهن في الحكمة الدنيوية والعلم الواقعي الذي يدرس الوجود للعلم، غير حافل بقواعد الدين، يرى الكاهن فيهما خصمين عنيفين، وهو يحلل كل وسيلة تصرف الإنسان عن التأمل في الأشياء بعين نفسه، وعن جلاء الحقيقة عارية مجردة من غير تشويه. وهذا ما لا يتساهل فيه نيتشه، ولقد يغفر للمسيحية ما تبث في الإنسانية من آلام، وما عسى يضر الألم الإنسان إذا كان الألم يصفيه؟ وفي الحقيقة نرى الإيمان الديني قد خلق أرواحاً كثيرة أفادت البشر؛ ولم يكلف نتشيه نفسه بيان الآلاء التي قامت بفضل ثورة العبيد فأغنت النوع الإنساني وظلت من الانقلابات المعتبرة في التاريخ. ونتشيه يعجب بالمنطق العظيم في المنطق الديني الكاذب، وبالمذهب الذي ابتدعه وظل يغذي الناس طيلة(130/56)
عشرين قرناً بالأوهام الخيالية، وقد يعجب بالكاهن برغم أنه ينطوي على إرادة شريرة، لأن إرادته تستمد شعورها من نفسها، لا تحوك الأوهام حول الهدف الذي تقصده ولا حول الوسائل التي تصطنعها. وأما يستفز غضب نيتشه من العالم المسيحي فهو ذلك المحيط القدسي الذي يحيط به، وذلك المزيج من المكر والغباوة والطهارة الكاذبة التي يتظاهر بها رجال الإيمان. فاستفاق في نتشيه شعوره الوحشي وحبه للطهارتين المادية والروحية، وجرأته في الذهاب وراء أقصى ما أشرف عليه عقله، فثار وتمرد على هذا التدليس كله، ثم انصرف عن هذه الجماعة، وفي قلبه سأم من رجالها الذين غدا الوهم عندهم جزءا من الأجزاء التي لا يتم بدونها الوجود؛ وهم لا يعرفون أنفسهم حين يخدعون ويخادعون وحين يكونون صادقين، يعيشون أسرى أوهامهم حين يريدون أو لا يريدون؛ وأعلن بأن المسيحية هي المسئولة عن تسميمها للبيئة العقلية والأدبية في أوربا.
على أن جهود الكنيسة كلها في مناضلة العلم ذهبت عبثاً، ومقاومتها للعقل البشري انطلقت أدراج الرياح؛ فان في أوربا كثيرين من علماء الطبيعة - على اختلاف مناهجهم ومدارسهم - يعيشون في غير أكناف الدين والإيمان؛ هؤلاء هم أعداء الكاهن. ولكن سائلا يسأل: وما بال عقول هؤلاء لم تضع سداً يمنع تأثير الوهم المسيحي؟ وكيف لم يفلح أصدقاء الطبيعة والحياة والعافية في تحطيم القيم المسيحية؟
كان جواب نتشيه على هذا السؤال جواباً أدبيا، يقول: إن هؤلاء العلماء لا يؤمنون بعلمهم، ومعنى ذلك أنهم لا ينصرفون إلى تبديل المثل الأعلى الديني بمثل أعلى عندهم؛ أو أنهم يؤمنون بعلمهم ويأتون بحل جديد للحياة يستمدون مادته من المثل الأعلى المشيد على الزهد؛ أو أن رجال العلم هم رجال متوسطو الإدراك، عاجزون عن إبداع شريعة جديدة؛ أو أنهم قوم زاهدون محتالون عالمون؛ لا يختلف جوهر مثلهم الأعلى عن مثل الكهان
يشبه نتشيه هذا العالم (المتوسط) بامرأة عجوز لا تلد ولا تنجب. وهو قليل القناعة بنصيبه
ولآن فلننظر في تعريف رجل العلم!
إن رجل العلم يتصل نسبه بذرية بشرية غير شريفة. تنطوي نفسه على خلال ذرية غير شريفة، ذرية لا تأمر ولا تملك السلطة، ولا تغني شيئاً. إنه عامل دائب يدرك بشعوره حاجات قرنائه. إنه وارث أمراض ذرية غير نبيلة، ملك عليه الزهور ومشى لا يتحرى إلا(130/57)
عن الأشياء السفلية في الطبائع. أما العظمة فهي بعيدة المنال عنه. وإن مما يجعل العالمجليل الخطر شعوره الباطن بأنه من ذرية متوسطة، فهو والحالة هذه يدأب عاملاً على إبادة الرجل (الشاذ)
ولا ريب أن العالم يحيا بعيداً عن كل إيمان؛ ألا ترى فطرته في كثير من المواطن توائم فطرة رجل الدين، ثم يخالفه ويفر من ملامسته وملامسة أمثاله، لأنه يعتقد كل الاعتقاد بأن رجل الإيمان هو نموذج سفلي في البشرية، وأن رجل العلم هو أسمى منه. على أن هنالك هوة سحيقة تفصل بين رجل الدين رجل الإرادة الكبيرة المريضة، المقاتل الظافر بفضل هذه الإرادة، والخالق قيماً يعتقد بصحتها، وبين هذا الرجل العالم الجريء، هذا القصير المعجب بنفسه وعلمه. يعمل كما تعمل الآلهة ليزداد ضلالاً، ولينعتق من التفكير، وليزيح من سبيله هذه المسائل المغلقة! قد يكون عمله حسناً لو كان يعمل مستوحياً نفسه، لكنه يعمل ليكون مأموراً عاجزاً عن إبداع قيمة جديدة عاجزاً عن أن يتذرع بإرادة
لنحكم العالم (غير الذاتي) الذي نضجت فيه الحاسة العملية قد ساد أمره فماذا ينتج منه؟ لا شيء إلا مرآة. . . وآلة لا إرادة لها. . . إنه يشبه المرآة التي تعكس الأشياء، ترتقب حتى تظهر عليها فتعكس مرآها، وإنما غناء في أن يكون معبراً تمر به الأشياء. لا يحس ولا يلمس آلامه الشخصية. يعمل ما يستطيع، ولكن ما يعطيه حقير لا قيمة له. هو لا يأمر ولا يخرب شيئاً، يقول مع (ليبينز): (أنا لا أحتقر شيئا). إنه آلة تتجلى فيها العبودية والخضوع والطاعة. مفتقر إلى معلم يهديه إلى الغاية المقصودة. وهو ليس بعلامة حركة جديدة، ولا بعلة أولى. إنه وا أسفاه ليس بمعلم. إنه وعاء فارغ يتخذ لون السائل المراق فيه، إنه فاقد الشخصية
ثم هاجم نيتشه الشكوكيين الذين يصل بهم علمهم إلى حيرة يتساوى فيها العود والهبوط، والعلم والجهل، وإنما يتميزون من رجال العلم بأن هؤلاء عاملون دائبون كالآلات؛ أما الشكوكيون فهم عقول أضعفها تريضها الزائد في العلوم، وهم ليسوا بشيعة واحدة، فمنهم المضطرب والمعتدل المزهو بنفسه، ومنهم النفس التي تبذل الجهد في كشف أسرار الوجود وقد دوختها أسراره حتى غدت تروح وتغدو كالخيال الدقيق ليس له من قرار
ألا ترى إلى زرادشت - نبي نيتيشه - المبشر بالسوبرمان قد سحب وراءه خيالا من هذه(130/58)
الأخيلة الضالة، رافقته في كل مراحله، قد طلقت كل أيمان كان فيه عزاء، وحطمت كل الأوثان، وفقدت أيمانها بالأسماء الكبيرة والرموز الفخمة حتى أضاعت غايتها في النهاية، وضلت في زوايا الوجود الموحش هائمة بدون حب ولا رجاء ولا وطن. رآها زرادشت فلم يتمالك نفسه من الإشفاق عليها
- قال بكآبة: أنت ظلي!
إن الخطر الذي تفر منه ليس بحقير أيها المسافر!
إن أمامك نهاراً سيئاً فاحترس من أن يكون مساؤك أسوأ. إن السجن لأمثالك الطائشين قد يصبح نعمةً لهم
أرأيت هؤلاء العاتين المفسدين، يجرجرون في قيودهم!
هؤلاء ينامون نوماً هادئاً لأنهم مرتاحون بطمأنينتهم
أحترس في النهاية أن تغدوا سجين إيمان ضيق ووهم قاس مرعب. على أن كل ما هو ضيق قاس هو لك فيه إهواء وخديعة
أنك أضعت الغاية، وكذلك أضعت سبيلك
يالك من نفس ضالة طائشة! يالك من فراشة منهوكة القوى
ولكن رجال العلم ليسوا جميعاً على هذا النحو الذي صوره نيتشه، فهنالك رجال يقين من رجال العلم، علم هؤلاء لا يقف عند قولهم: ماذا ندري؟ هو علم وثاب يخلق إرادة ويبدع شريعة ومذهباً
(يتبع)
خليل هنداوي(130/59)
القصص
في ذكرى بدر
أبو جهل. . . . لم أكتب رواية، ولكني عرضت مناظر من
بدر. . . . . (علي)
للأستاذ علي الطنطاوي
(المنظر الأول)
(في بيت عاتكة بنت عبد المطلب)
عاتكة - يا أخي! والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شرٌ ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثت، فانهم إن سمعوها آذونا، وأسمعونا ما لا نحب
العباس - حدثيني، فسأكتم الحديث
عاتكة - رأيت راكباً قد أقبل على بعير له، وحتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا فانفروا يا لَغدُرُ إلى مصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه؛ فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها؛ ثم مثل به على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها؛ ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت، فما بقيت دار من دور مكة إلا دخلها منها فلقة. . . .
العباس - إن هذه رؤيا حق، فاكتميها ولا تذكريها لأحد
(المنظر الثاني)
(في الحرم، وقد غابت الشمس، وجلست قريش في مجالسها من حول الكعبة)
(أبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة)
أبو جهل - يا أبا الفضل! إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا. . . .
(يقبل العباس)
أبو جهل - يا بني عبد المطلب! متى ظهرت فيكم هذه النبيّة؟
العباس (متجاهلاً) - وما ذاك؟
أبو جهل - الرؤيا التي رأت عاتكة!(130/60)
العباس وما رأت؟
أبو جهل - كأنك لا تدري؟. . . ألم تحدث بذلك الوليد بن عتبة؟ أما رضيتم يا بني عبد المطلب بكذب الرجال، حتى جئتمونا بكذب النساء؟ زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث! فسنتربص بكم هذه الثلاث، فان بك حقاً فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب
العباس (وقد غضب) - هل أنت منتهٍ يا مصفّراً. . . .؟ فان الكذب فيك وفي أهل بيتك
(يهم به فيحول القرشيون بينهما)
القرشيون - ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقاً
(المنظر الثالث)
(في بطن الوادي، صباحاً. . .)
العباس (لرجل معه) - لقد لقيت أمس من عاتكة أذىً شديداً لما أفشيت من حديثها، ولم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني تقول: أقررتم. . . أقررتم لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت. . . . . . . .
فو الله لأتعرضنَّ له؛ وإن عاد قاتلته، فلقد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه
الرجل - أنظر يا أبا الفضل! هذا أبو جهل خارجاً من باب المسجد يشتدَّ
العباس - ماله لعنه الله، أكل هذا فرقاً مني؟ اذهب فانظر ما شأنه؟
(يذهب الرجل ويرجع على عجل)
الرجل (مضطرباً) - ألا تسمع؟
العباس - ماذا؟
الرجل - هذا ضمضم بن عمرو الغفاري. يصرخ ببطن الوادي وقد شق قميصه، وحوَّل رحله، وجدع بعيره! اسمع
(يتقدمان ويصغيان)
ضمضم - يا معشر قريش! اللطيمة. . . اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه. . . لا أرى أن تدركوها. . . الغوث. . .! الغوث. .!(130/61)
(حركة واضطراب ولغط وصيحات حماسية)
رجل - هذه والله رؤيا عاتكة!
آخر - والله إن أخذ محمد العير لا تفلح قريش أبداً
آخر - انفروا إلى مصارعكم في ثلاث. إن رؤيا عاتكة كأنها أخذ باليد
أبو جهل - هه! أيظنّ محمد أنها كعير أبن الحضرمي؟. . والله ليعلمنّ غير ذلك. . إنها قريش!
سهيل بن عمر - يا آل غالب! أتاركون أنتم محمداً والصُّباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ - من أراد مالا فهذا مالي؛ ومن أراد قوتاً فهذا قوتي. . .
(يتفرق الناس. يستعدون للخروج)
(المنظر الرابع)
(في الحرم، وقت الظهيرة)
أمية بن خلف وسعد بن معاذ سيد الأوس وهو ضيفه وخليله
أمية - تعال فطف بالبيت، فانه وقت الظهيرة ولا يراك أحد
(يطوف سعد بالبيت ويجلس أمية)
أبو جهل (قادماً) - من هذا الذي يطوف بالبيت؟
سعد - أنا. سعد بن معاذ!
أبو جهل - ماذا؟ أتطوف بالبيت آمناً، وقد آويتم محمداً وأصحابه، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم؟! أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً
سعد - أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه: طريقك على المدينة
أمية (لسعد) - لا ترفع صوتك على أبى الحكم فانه سيد أهل الوادي
سعد (لأمية) - إليك عني، فأني سمعت محمداً يقول إنه قاتلك
أمية - إياي؟
سعد - نعم!
أمية - بمكة؟
سعد - لا أدري!(130/62)
أمية - والله ما كذب محمد
(يسقط أمية خائر القوى)
إذن والله لا أخرج من مكة، إذن والله لا أخرج من مكة
المنظر الخامس
(في الحرم. مساء. قريش في مجالسها، عقبة بن أبي معيط قادم على مجلس أمية معه مجمرة فيها بخور. أبو جهل على أثره)
أمية - ويلك لمن هذا؟
عقبة - لك يا أبا علي. قم استجمره فإنما أنت من النساء
أمية - قبحك الله وقبح ما جئت به
(يصل أبو جهل)
أبو جهل - يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت، وأنت من أشراف قريش، فسر يوماً أو يومين
أمية - افعل!
(يمشي عقبة وأبو جهل إلى مجلس عتبة وشيبة أبي ربيعة وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام)
أبو جهل - أنتم سادة قريش، وأنتم قادة الناس، فمالكم لا تتجهزون؟
عتبة - لقد استقسمنا بالأزلام فخرج الناهي
عقبة - كلا. ولكنه الفزع من اللقاء
عتبة - ألمثلي يقال هذا؟ والله لولا أنك في بيت الله. . . .
أبو جهل - دعه يا أبا الوليد، فانك اليوم شيخ قريش، فإذا لم تخرج أقام الناس
عتبة - سأخرج
(المنظر السادس)
(يفصلون من مكة، وهم ألف رجل فيهم شيوخ قريش وأشرافها. وقد خرجوا على الصعب والذلول، ومعهم القينات يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين، وقد أرتج بهم الوادي)
(المنظر السابع)(130/63)
(ماء في البادية، عليه خباء رجل، وعليه جاريتان تختصمان، يقف عليه رجلان من المسلمين فيستقيان)
الجارية - لا أدعك حتى تقضيني الذي لي
الأخرى - دعيني، فستأتي العير غداً أو الذي بعده، فاعمل لهم، فأقضيك
الرجل لقد صدقت، فستأتي العير غدا أو بعد غد
(يسمع الرجلان فيجلسان على بعيرهما ليلحقا بالمسلمين)
(أبو سفيان يأتي بعد قليل، يتقدم العير وحده)
أبو سفيان - هل أحسست أحداً أيها الرجل؟
الرجل - ما رأيت أحداً أنكره، إلا أن راكبين قد أناخا إلى التل، ثم استقيا في شنّ لهما، وانطلقا
أبو سفيان - أرني مبرك ناقتيهما
الرجل - هو ذاك. . .
(يأتي أبو سفيان المبرك، فيأخذ من أبعارهما في يده)
أبو سفيان - هذا هو النوى، هذه والله علائف يثرب
(ويمضي مسرعاً فينجو بالعير)
(المنظر الثامن)
(في جيش المسلمين، في ذفران، وقد جاءهم الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن القوم قد خرجوا من مكة، على كل صعب وذلول، فما تقولون؟ ألعير أحب إليكم من النفير؟
رجل - عليك بالعير ودع العدو
آخر - هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له! إنا خرجنا للعير
(يتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)
المقداد بن الأسود - يا رسول الله! امض لما أمرك الله، فنحن معك؛ والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن أذهب أنت(130/64)
وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والله الذي بعثك بالحق نبياً لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه نقاتل عن يمينك ومن خلفك حتى تبلغه
(يشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)
المسلمون - كلنا ذاك الرجل يا رسول الله، ولكنا ظننا أن العير قوّة للإسلام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليّ
عمر - يا رسول الله! إنها قريش وعزّها، والله ما ذلت منذ عزّت، ولا آمنت منذ كفرت؛ والله لتقاتلنَّك؛ فتأهب لذلك أهبته، واعدد له عدَّته
قال رسول الله (ص): أشيروا عليّ أيها الناس
سعد - لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله
قال رسول الله: أجل
سعد - قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليك ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فصِل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع أمرك. فامض يا رسول الله لما أردت ونحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصُبُر في الحرب، صُدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينيك، فسر بنا على بركة الله
قال صلى الله عليه وسلم:
- سيروا وابشروا، فان الله وعدني إحدى الطائفتين، فو الله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم!
(المنظر التاسع)
ماء في البادية عليه شيخ من العرب، يقدم عليه رسول الله وأبو بكر مستخفيين فيسألانه عن قريش
- ماذا تعرف عن قريش؟(130/65)
الرجل - لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما!
قال رسول الله (ص): إن أخبرتنا أخبرناك
الرجل - ذاك بذاك؟
قال الرسول: نعم
الرجل - بلغني أن محمداً وأصحابه، خرجوا يوم (كذا) فان كان صدق الذي أخبرني. فهم اليوم في مكان (كذا)
أبو بكر (لنفسه) - لقد عرف مكاننا
الرجل (متمما) - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم (كذا) فان صدق الذي أخبرني فهم اليوم في مكان (كذا). فمن أنتما؟
قال النبي (ص): نحن من ماء!
أبو بكر (لنفسه) - فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق
الرجل (متعجبا) - من الماء؟ أمن ماء العراق؟ أمن ماء الشام؟
(المنظر العاشر)
(في بدر الماء الأدنى من المدينة)
الحباب - يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أهو منزل أنزلكه الله تعالى، ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: بل هو الرأي والحرب المكيدة؟
الحباب - يا رسول الله! إن هذا المنزل ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأنى أدنى ما من القوم فتنزله، ثم نغوّر ما عداه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه، فنشرب ولا يشربون
قال النبي (ص): لقد أشرت بالرأي
(يتقدم المسلمون)
(المنظر الحادي عشر)
(في بدر على الماء الأدنى من القوم)
سعد: يا نبي الله! ألا نبي لك عريشاً من جريد تكون فيه، وتعد عنك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فان أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى،(130/66)
جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية؛ ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك إنما ظنوا أنها العير،
يمنعك الله بهم ويناصحونك، ويجاهدون معك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- أو يقضي الله خيراً من ذلك يا سعد
(المنظر الثاني عشر)
(قريش في الجحفة في طريقهم إلى بدر)
رسول - يا معشر قريش! قد أرسلني إليكم أبو سفيان إنه قد نجا بالعير، فارجعوا فأحرزوا عيركم
أبو جهل - سوءة لك! والله لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم عليه ثلاثة أيام، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، فلا يزالون يهابوننا أبداً
الرسول - هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم
أبو جهل - صَه قطع الله لسانك
الأخنس - لقد صدق الرسول، وأنا راجع بقومي
(لقومه) - يا بني زهرة! قد نجى الله أموالكم وخلٌص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي حميتها، وارجعوا فانه لا حاجة بكم إلى أن تخرجوا في غير منفعة
(ضجة وهياج ولغط. . . ينفرد الأخنس بأبي جهل)
الأخنس - أترى محمدا يكذب؟
أبو جهل - ما كذب قط؛ كنا نسميه (الأمين)، ولكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة، فأي شيء يكون لنا؟
الأخنس - أنت والله تحسده
(يرجع الأخنس وبنو زهرة)
عمير بن وهب (قادماً) - يا معشر قريش! لقد ذهبت في الوادي، أحزر أصحاب محمد،(130/67)
أنظر هل للقوم كمين أو مدد فأبعدت فلم أر شيئاً، وأنهم لثلاثمائة رجل؛ يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ولكني رأيت البلايا تحمل المنايا: نواضح يثرب تحمل الموت النافع، ألا ترونهم خرساً لا يتكلمون؛ يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهليهم؛ زرق العيون كأنهم الحصى تحت الجحف، ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؛ والله ما نرى أن نقتل منهم رجلاً حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعداها فما خير العيش بعد ذلك! فروا رأيكم
حكيم بن حزام (لعتبة) - يا أبا الوليد! إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟
عتبة - وما ذاك يا حكيم؟
حكيم - ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي
عتبة - هذا والله الرأي، فأدع لي الناس
(يدعوا الناس)
عتبة (خطيباً) - يا معشر قريش! أنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً؛ والله لئن أصبتموه لا يزال رجل منكم ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل أبن عمه وأبن خاله، ورجلا من عشيرته. ارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فان أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك كفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون. أي يا قوم! إعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة، وانتم تعلمون أني لست بأجبنكم. . . . . .
يا قوم أطيعوني فأنكم لا تطلبون غير دم أبن الحضرمي وما أخذ من العير وقد تحملت ذلك. يا معشر قريش! أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات
(يسكت عتبة ويلغط القوم لغطاً شديداً)
رجل - نعما يقول أبو الوليد!
آخر - هو والله الرأي
آخر - عتبة سيد الناس فأطيعوه
عتبة (لحكيم) - انطلق إلى أبن الحنظلية(130/68)
(يذهب حكيم)
حكيم (لأبي جهل) - إن عتبة أرسلني إليك لنرجع بالناس، وهو يحمل دم حليفة أبن الحضرمي
أبو جهل - أهو يقول هذا؟ والله لو قاله غيره لأعضضته إنتفخ والله سحره! كلا والله، لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد
(يرسل أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي)
أبو جهل (لعامر) - هذا حليفك، عتبة بن ربيعة يريد أن يرجع بالناس، ويخذلهم عن القتال. وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها، ألا تستحي أن تقبل الدية من مال عتبة، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فاذكر مقتل أخيك
(عامر يتكشف ويجثو عليه التراب)
عامر (صائحاً) - واعمراه. . . واعمراه!
(يهيج الناس ويتحمسون)
حكيم (لعتبة) - لقد أثارها
عتبة - دعه فسيكون شؤماً وبلاء على قومه.
(المنظر الثالث عشر)
(اشتعلت الحرب وقتل المسلمون عتبة وشيبة والوليد ورجع سراقة وكان قد أجارهم من كنانة)
أبو جهل - يا معشر الناس! لا يهمنكم خذلان سراقة فانه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشبيبة والوليد، فانهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه بالحبال. . . .
يا معشر قريش! لا تقتلوهم. خذوهم أخذ اليد
(يخرج رسول الله من العريش فيحض الناس على القتال)
- أما والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبرا، إلا أدخله الله الجنة
(عمير بن الحمام يأكل ثمرات بيده)(130/69)
عمير - بخ بخ. . . ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ فان حييت حتى آكل ثمراتي
(يلقي الثمرات ويقدم)
عمير (هاجماً)
ركضاً إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضه النفاد
غير التقى والبر والرشاد
(تزداد الحرب اظطراما)
(المنظر الرابع عشر)
(قريش تنهزم، أبن مسعود يفتش بين القتلى عن رجل)
عبد الله - هل أخزاك الله يا عدو الله؟
(يضع رجله على عنق أبي جهل وهو على آخر رمق)
(المنظر الخامس عشر)
أبو جهل - وبم أخزاني؟ أعار على رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن كانت الدبرة لنا أو علينا؟
عبد الله - بل لله ولرسوله!
(في الحرم وقد جلس أبو سفيان وأبو لهب في ناس من قريش ينتظرون الأخبار. . .)
أبو لهب. . . هذا أبن عبد عمرو! وما وراءك يا أبن عبد عمرو؟
أبن عبد عمر - فنيت قريش! قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأمية بن خلف. . . . . . لقد ظهر الإسلام! فسيظل غالباً إلى يوم القيامة. . .!. . وذلت الأصنام فلا تعز إلى يوم القيامة. . . . .!
علي الطنطاوي(130/70)
البريد الأدبي
آنساتنا والثقافة الأجنبية
ثار أخيراً في مجتمعنا الأدبي حوار طريف، بين الكاتب الفكه الأستاذ فكري أباظه وبين بعض آنساتنا المثقفات؛ فالأستاذ ينعى على أولئك الآنسات المثقفات أنهن برغم ثقافتهن الواسعة الفرنسية والأدب الفرنسي، لم يتزودن بأي قسط من العربية والأدب العربي، وأنهن يكدن يعجزن عن أن يعربن عن آرائهن بالعربية، وأنهن يبالغن في الانصراف إلى الفرنسية وإلى الكتابة بها. وقد حاولت إحدى الآنسات اللائي يوجه اليهن هذا اللوم، وهي من أعضاء الاتحاد النسائي المصري أن تدافع عن موقفهن، فضربت مثلاً بإحدى زميلاتها وقالت إنها تعلمت في باريس، ولم تعرف مصر إلا فتاة ناضجة فلا جناح عليها إذن، والتبعة في ذلك - إن كان ثمة تبعة - تقع على أسرتها، ثم قالت: إن أولئك الآنسات يكتبن بالفرنسية لكي يسمعن صوت المرأة المصرية إلى الخارج، وأن العربية لا تقرأ في باريس ولا لندن ولا برلين
ونحن نؤيد الأستاذ فكري أباظه في ملاحظته كل التأييد فأولئك الآنسات اللائي يعتصمن بالثقافة الأجنبية يذهبن في هذا الاعتصام إلى حد الإغراق، وإلى حد الانفصال عن البيئة المصرية والمجتمع المصري؛ وفي رأينا أن مثل هذه الثقافة الأجنبية تفقد كثيراً من قيمتها لأنها لم تقرن بقسط من الثقافة العربية السليمة؛ ولسنا ندري ما المانع في أن تمثل الثقافتان معاً، وذلك أن من المحزن أن نرى أولئك الآنسات يكدن يعجزن عن الإفصاح عن أفكارهن بالعربية العادية فضلا عن الكتابة بها، وليس صحيحاً أن قضية المرأة المصرية تخدم فقط عن طريق الكتابة بالفرنسية، لأن الفرنسية تقرأ في برلين ولندن، فالمرأة المصرية بحاجة إلى التحدث إلى أبناء جنسها أولا وقبل كل شيء، وقضية المرأة المصرية (إن كان ثمة لها قضية) يجب أن تبث في مصر أولا وباللغة العربية قبل كل شيء؛ ولسنا نعرف في الواقع مثلا لهذا النوع الغريب من الثقافة في أي بلد متمدين؛ ففي الغرب لا يمكن أن يحول أي عذر دون تذوق الثقافة القومية، وإذا نهل الراغبون من أية ثقافة أجنبية، فهي دائما إضافة فقط إلى جانب الثقافة القومية؛ ولم نسمع بأن مستشرقا ممن يفنون أعمارهم في دراسة اللغات والآداب الشرقية قد أعجزه تعلم العربية أو الفارسية عن الكتابة بلغته الأصلية؛(130/71)
كذلك يجب ألا يغيب عن ذهن أولئك الآنسات أن هذا الاعتصام المحزن بثقافة أجنبية يجعلهن في شبه عزلة من المجتمع المصري الصحيح، ويحرم القضية التي يدافعن عنها من كثير من العطف القومي وهو ألزم لها من أي عطف أجنبي، وأن تلك الصلة الروحية التي أنشأتها الطبيعية بين المرء ولغته الأصلية وماضي أمته وتراثها العقلي وهو خير دعامة في صرح الوطنية الصحيحة والعزة القومية الأثيلة
تاريخ الأديب
كتب الكاتب الفرنسي الكبير بيير بنوا عضو الأكاديمية الفرنسية كلمة يصور فيها تاريخ (الأديب). وفي رأيه أن الأديب لم ينشأ محترفاً بطبيعته، ولكنه قطع زهاء عشرين قرنا قبل أن ينتهي إلى هذه النتيجة؛ فمنذ العصور القديمة، أعني منذ فرجيل وهوراس، وفي خلال العصور الوسطى والعصر الحديث نجد الأديب (هاويا) ينساق إلى ميدان الأدب بفطرته وذوقه، وتحقيقاً لهواه وشغفه؛ وقلنا نجد أدبياً أو مفكراً يعمل ليعيش من قلمه؛ بل كان كل هنالك من كتاب وشعراء ومؤرخين يعيشون في كنف الأمراء والكبراء ويلوذون جميعاً برعاية ملك أو عظيم من العظماء، يتخذون مكانهم في بطانته، ويعلمون له كمستشارين أو مدبرين، وإلا عاشوا على مديحه وملقه، أو يتخذهم معلمين لأولاده، أو بوقاً لوحيه؛ وقلما نجد كتاباً كتب في هذه العصور إلا وقد صدر بإهداء وتحية رقيقة لملك أو عظيم، وليس معنى ذلك أن الأديب لم يكن يكسب من قلمه، فقد كان ثمة أدباء يكسبون من ثمرات قرائحهم وأقلامهم، ولكنه كسب ضئيل جدا، لم يكن ليصلح لهم قوتاً أو حياة، ولنذكر على سبيل التمثيل أن راسين قد باع مخطوطة (أندروماك) بما يساوي ألفا ومائتي فرنك. ويستخلص مسيو بيير بنوا من ذلك أن الأديب المحترف لم يخلق مختارا في المجتمع، ولكنه بدأ (هاوياً)، لا تمنعه عبقريته من يكون من ذوي الهوى والشغف، وهذا الهوى ما زال يؤثر أكبر تأثير في تكوينه وفي مصايره
نقول، وهذه الصورة التي يقدمها بيير بنوا عن تاريخ الأديب في بلاد الغرب، ليست بعيدة عن الصورة التي يمكن أن نقدمها عن تاريخ الأديب المشرق؛ فقد نشأ الأديب فيه أيضاً هاوياً يعيش في كنف الأمراء والعظماء، ولم يتقدم في سبيل الكسب إلا بعد عصور؛ بيد أن الكسب الأدبي لم يكن أساسياً في عبقريته أو إنتاجه، ولم يكن قوام عيشه وحياته(130/72)