فما الذي يمكن أن تجنيه مصر من الانتظام في عصبة جنيف؟ وأي ضير عليها إذ تبقى بعيدة عن هذه الهيئة المريبة العاجزة التي يفتضح أمرها اليوم؟ فعلى أولئك الذين يزعمون الغيرة على حقوق مصر - ومصر تعرفهم حق المعرفة - أن يفروا على أنفسهم أمثال هذه الدعاية التي تنم دائماً عما وراءها.(114/3)
عربة اللُّقطَاء
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلستُ على ساحل الشاطئ (في إسكندرية) أتأملُ البحر، وقد ارتفع الضُّحى، ولكن النهار لدن ناعم رطيبٌ كأن الفجر ممتد فيه إلى الظهر
وجاءت عربة اللُّقَطاء فأشرفت على الساحل، وكأنها في منظرها غمامةٌ تتحرك إذ تعلوها ظُلةٌ كبيرة في لون الغيم. وهي كعربات النقل غير أنها مُسورة بألواحٍ من الخشب كجوانب النعش تُمسك من فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرُجُ وتتقلقل
ووقفت في الشارع لتُنزل ركبها إلى شاطئ البحر؛ أولئك ثلاثون صغيراً من كل سفيح ولقيط ومنبوذ، وقد انكمشوا وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تُمط العربة فتسعهم، ولكن يمكن أن يُكبسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثةُ أو الأربعةُ منهم حيز اثنين. ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه. . .؟
وترى هؤلاء المساكين خليطاً مُلتبساً يشعرك اجتماعهم أنهم صيدٌ في شبكة لا أطفال في عربة، ويدلك منظرهم البائسُ الذليلُ أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء، ولكنهم كانوا وساوس آباء وأمهات. . . .
هذه العربةُ يجرها جوادان: أحدهما أدهمُ والآخر كُميْت. فلما وقفت لوى الأدهم عُنقه والتفت ينظر؛ أيُفرغون العربة أم يزيدون عليها. .؟ أما الكُمَيْتُ فحرك رأسه وعلك لجامه كأنه يقول لصاحبه: إن الفكر في تخفيف العبء الذي تحمله يجعله أثقل عليك مما هو إذ يضيف إليه الهم والهم أثقل ما حملت نفس؛ فما دمت في العمل فلا تتوهمن الراحة فان يوهن القوة، ويخذُلُ النشاط، ويجلبُ السأم، وإنما روحُ العمل الصبر، وإنما روح الصبر العزم.
ورآهم الأدهم ينزلون اللقطاء، فاستخفه الطرب، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقول له: إنما هو النزوعُ إلى الحرية، فان لم تكن لك في ذاتها فلتكن لك في ذانك. وإذا تعذرت اللذة عليك فاحتفظ بخيالها فانه وُصلتك بها إلى أن تمكن وتتسهل؛ ولا تجعلن كل طباعك طباعاً عاملة كادحةً وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياةُ كما تريدك؛ وليكن لك طبعٌ شاعر مع هذه الطباع العاملة فتكون لك الحياة كما تريدك وكما تريدها(114/4)
إن الدنيا شيء واحد في الواقع، ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال جنيا وحدها
وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء؛ وكلتاهما تزويرٌ للأم على هؤلاء الأطفال المساكين؛ فلما سكنت العربة انحدرت منهما واحدة وقامت الأخرى تُناولها الصغار قائلةً: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. . . إلى أن تم العدد وخلا قفصُ الدجاج من الدجاج. .!
ومشى الأطفالُ بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمةٌ، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا هذا الإحسان البخس القليل
جاءوا بهم لينظروا الطبيعة والبحر والشمس، فغفل الصغار عن كل ذلك وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات. . .
واكَبِدي أضنى الأسى كبدي، فقد ضاق صدري بعد انفساحه، ونالني وجع الفكر في هؤلاء التعساء، وعرتني منهم علة كدس الحمى في الدم. وانقلبت إلى مثواي، والعربة وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي
فلما طاف بي النوم طاف كل ذلك بي، فرأيتني في موضعي ذاك وأبصرت العربة قد وقفت، وتحاور الأدهمُ والكميت. فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخفتها التفتا معاً ثم جمعا رأسيهما يتحدثان!
قال الكُميت: كنتُ قبل هذا أجرُّ عربة الكلاب التي يقتلها الشرطة بالسم، فآخذ الموت لهذه الكلاب المسكينة. ثم أرجع بها موْتى؛ وكنتُ أذهب وأجئ في كل مرادٍ ومضطرب من شوارع المدينة وأزقتها وسككها ولا أشعر بغير الثقل الذي أجره؛ فلما ابتليت بعربة هؤلاء الصغار الذين يسمونهم اللقطاء، أحسست ثقلاً آخر وقع نفسي وما أدري ما هو، ولكن يخيل إلي أن ظل كل طفل منهم يُثقل وحده العربة
قال الأدهم: وأنا فقد كنت أجر عربة القمامة والأقذار، وما كان أقذرها وأنتنها، ولكنها على نفسي كانت أطهر من هؤلاء وأنظف، كنتُ أجدُ ريحها الخبيثة ما دمتُ أجرها؛ فإذا أنا تركتُ العربة استروحتُ النسيم واستطعمت الجو، أما الآن فالريحُ الخبيثةُ في الزمن نفسه كأن هذا الزمن قد أروح وأنتن منذُ قرنت بهؤلاء وعربتهم
قال الكميت: إن ابن الحيوان يستقبلُ الوجود بأمه إذ يكون وراءها كالقطعة المتممة لها، ولا تقبل أمُّه إلا هذا ولا يصرفها عنه صارف، فترغمُ الوجود على أن يتقبل ابنها وعلى أن(114/5)
يعطيه قوانينه. أما هؤلاء الأطفالُ فقد طردهم الوجود منه كما يطرد الله آباءهم وأمهاتهم من رحمته. وقد هُديتُ الآن إلى أن هذا هو سر ما نشعر به؛ فلسنا نجر للناس ولكن للشياطين. .
وهنا وقف على حوذي العربة صديقٌ من أصدقائه فقال: من هؤلاء يا أبا علي؟
قال الحوذي: هؤلاء هؤلاء يا أبا هاشم
قال أبو هاشم: سبحان الله، أما تترك طبعك في النكتة يا شيخ؟
قال الحوذي: وهل أعرفهم أنا؟ هم بضاعة العربة والسلام. اركبوا يا أولاد، انزلوا يا أولاد , هذا كل ما أسمع
قال أبو هاشم: ولكن ما بالك ساخطاً عليهم، كأنهم أولاد أعدائك؟
قال الحوذي: ليت شعري من يدري أي رجل سيخرج من هذا الطفل، وأية امرأة ستكون من هذه الطفلة؟
انظر كيف تعلقت هذه البنتُ وعمرها سنتان، في عُنق هذا الولد الذي كان من سنتين ابن سنتين. . . . لا أراني أحمل في عربتي أطفالاً كالأطفال الذين تحملهم العربات إلى أبواب دوُرهم فان هؤلاء اللقطاء يُحملون إلى باب الملجأ، وهو بابٌ للحارات والسكك لا يأخذُ إلا منها، فلا يرسل إلا إليها
أنا والله يا أبا هاشم ضيقُ الصدر، كاسفُ البال من هذه المهنة، ويخيل إلي أني لا أحمل في عربتي إلا الجنون والفجور والسرقة والقتل والدعارة والسكر وعواصف وزوابع. . . .
قال أبو هاشم: ولكن هؤلاء الأطفال مساكين، ولا ذنب لهم
قال الحوذي: نعم لا ذنب لهم، غير أنهم في أنفسهم ذنوب. إن كل واحد من هؤلاء إن هو إلا جريمة تُثبت امتداد الإثم والشر في الدنيا. ولدتهم أمهاتهم لِغَيَّة
فقطع صاحبه عليه وقال: وهل ولدْنهُم إلا كما تلد سائر الأمهات أولادهن؟
قال: نعم إنه عمل واحد، غير أن أحواله في الجهتين مختلفة لا تتكافأ، وهل تستوي حالُ من يشتري المتاع، ومن يسرق المتاع؟
ههنا باعثٌ من الشهوة قد عجز أن يسمو سموه - وما سموه إلا الزواج - فتسفل وانحط، ورجع فسقاً، وعاد أوله على آخره. كان أوله حزماً فلا يزال إلى آخره حزماً، ولا يزال أبداً(114/6)
يعود أوله على آخره. فلما حملت المرأة وفاءت إلى أمرها، وذهب عنها جنونُ الرجل والرجلُ معاً؛ انطوت للرجال على الثأر والحقد والضغينة؛ فلا يكون ابنُ العار إلا ابن هذه الشرور أيضاً
والأمهاتُ يُعددن لأجنتهن الثياب والأكسية قبل أن يولدوا، ويهيئن لهم بالفكر آمالاً وأحلاماً في الحياة، فيكسبهم في بطونهن شعور الفرح والابتهاج وارتقب الحياة الهنيئة والرغبة في السمو بها؛ ولكن أمهات هؤلاء يعددن لهم الشوارع والأزقة منذ البدء، ولا تترقب إحداهن طول أشهر حملها أن يجيئها الوليد بل أن يتركها حياً أو مقتولاً؛ فيورثهم بذلك وهم أجنة شعور اللهفة والحسرة والبغض والمقت، ويطبعنهم على فكرة الخطيئة والرغبة في القتل، فلا يكون ابن العار إلا ابن هذه الرذائل أيضاً
وتظل الفاسقة مدة حملها تسعة أشهر في إحساس خائف، مترقب، منفرد بنفسه، منعزل عن الإنسانية، ناقم، متبرم، متستر، منافق. فلو كان السَّفيحُ من أبوين كريمين لجاء ثعباناً آدمياً فيه سمه من هذا الإحساس العنيف. ومتى ألقت الفاسقة ذا بطنها قطعته لتوه من روابط أهله وزمنه وتاريخه ورمت به ليموت؛ فان هلك فقد هلك، وإن عاش لمثل هذه الحياة فهو موت آخر شرٌ من ذاك؛ ومهما يتولهُ الناسُ والمحسنونُ، فلا يزال أوله يعود على آخره مما في دمه وطباعه الموروثة، ولا يبرحُ جريمةً ممتدةً متطاولة، ولا ينفكُّ قصةً فيها زانٍ وزانيةٌ، وفيها خطيئة ولعنة
فهؤلاء كما رأيت أولادُ الجرأة على الله، والتعدي على الناس والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل؛ وهم البغضُ الخارج من الحب، والوقاحةُ الآتيةُ من الخجل، والاستهتارُ المنبعث من الندامة؛ وكل منهم مسألة شر تطلب جلها أو تعقيدها من الدنيا، وفيهم دماءٌ فوارة تجمع سمومها شيئاً فشيئاً كلما كبروا سنة فسنة
قال أبو هاشم: ألا لعنة الله على ذلك الرجل الفاسق الذي اغترًّ تلك المرأة فاستزلها وهوَّرها في هذه المَهواة. أكان حقُّ الشهوة عليه أعظم من حق هذا الآدمي. أما كان ينبغي أن يكون هذا الآخرُ هو الأول في الاعتبار، فيعلم أن هذا اللقيط المسكين هو سبيله إلى صاحبه، وهو البلاغُ إلى ما يحاوله منها، فيكون كأنما دخل بين الاثنين ثالث يراهما. . . فلعلهما يستحيان
قال الحوذي الفيلسوف: لعنة الله على ذلك الرجل، ولعناتُ الله كلها، ولعناتُ الملائكة(114/7)
والناس أجمعين على تلك المرأة التي انقادت له واغترت به. إن الرجل ليس شيئاً في هذه الجريمة فقد كانت بصقةٌ واحدةُ تغرفهُ، وكانت صفعةٌ واحدة تهزمه، وكان مع المرأة الحومةُ والشرائعُ والفضائلُ ومعها جهنم أيضاً
ألم تعلم الحمقاء أن الرجل الذي ليس زوجاً لها ليس رجلاً معها، وأن الشريعة لو أيقنت أنه رجل لما حرمت عليها أن تخالطه؟ إنه ليس الرجل هو الذي ساور هذه المرأة، بل هي مادة الحياة التي رأت في المرأة مُستودعها فتريد أن تقتحم إلى مقرها عنوة أو خداعاً أو رضى أو كما يتفق؛ إذ كان قانون هذه المادة أن توجد، ولا شيء إلا أن توجد؛ فلا تعرف خيراً ولا شراً ولا فضيلة ولا رذيلة
لأيهما يجب التحصين. أللصاعقة المنقضة، أم للمكان الذي يُخشى أن تنقض عليه؟ لقد أجابت الشريعة الإسلامية: حصنوا المكان؛ ولكن المدنية أجابت: حصنوا الصاعقة. . .!
وكانت المرأتان المصاحبتان لجماعة اللقطاء تتناجيان، فقالت الكبرى منهما:
يا حسرتا علي هؤلاء المساكين. إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة، أي في سرورهم وأفراحهم، وحياة هؤلاء البائسين فيما هو دون مادة الحياة، أي في وجودهم فقط
وكبرُ الأطفال منه إدخالهم في نظام الدنيا، وكبرُ هؤلاء إخراجهم من (الملجأ) وهو كل النظام في دنياهم، ليس بعده إلا التشريدُ والفقر وابتداء القصة المحزنة
فقالت الصغرى: ولم لا يفرحون كأولاد الناس. أليس الطبيعةُ لهم جميعاً، وهل تجمعُ الشمس أشعتها عن هؤلاء لتضاعفها لأولئك؟
قالت الأخرى: الطبيعة؟ تقولين الطبيعة؟ إنك يا ابنتي عذراء لم تبدأ في حياتك حياةٌ بعد، ولم تجاوبي بقلبك القلب الصغير الذي كان تحت قلبك تسعة أشهر. وإنما أنت مع هؤلاء (موظفة) لا تعرفين منهم إلا جانب النظام وقانون الملجأ
لقد ولدت يا ابنتي خمسة أطفال، وبالعين البليغة التي أنظر بها إليهم، أنظر إلى هؤلاء فما أراهم إلا منقطعين من صلة القلب الإنساني؛ يعبسُ لهم حتى الجو، ويُظلم عليهم حتى النور؛ ويبدو الطفل منهم على صغره كأنه يحملُ الغم المقبل عليه طول عمره
يا لهْفي على عودٍ أخضر ناعمٍ ريان كان للثمر فقيل له: كن للحطب
الفرحُ يا ابنتي هو شعورُ الحي بأنه حيٌ كما يهوى، ورؤيته نفسه على ما يشاء في الحياة(114/8)
الخاصة به. وهؤلاء اللقطاءُ في حياةٍ عامة قد نُزعت منها الأمُّ والأب والدار فليس لهم ماضٍ كالأطفال وكأنهم يبدأون من أنفسهم لا من الآباء والأمهات
قالت الصغيرة: ولكنهم أطفال
قالت تلك: نعم يا ابنتي هم أطفال، غير أنهم طردوا من حقوق الطفولة كما طردوا من حقوق الأهل. وحسبك بشقاء الطفل الذي لم يعرف من جنان أمه أنها لم تقتله، ولا من شفقتها إلا أنها طرحته في الطريق
إن الطبيعة كلها عاجزة أن تعطي أحدهم مكاناً كالموضع الذي كان يتبوأه بين أمه وأبيه
ليس الأطفالُ يا ابنتي إلا صوراً مبهمة صغيرة من كل جمال العالم، تفسرها أعينُ ذويهم بكل التفاسير القلبية الجميلة؛ فأين أين العيون التي فيها تفسير هذه الصور اللقيطة؟
ألا لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الرجال الأنذال الطَّغاة الذين أولدوا النساء هؤلاء المنبوذين. يزعمون لأنفسهم الرجولة فهذه هي رجولتهم بين أيدينا، هذه هي شهامتهم، هذه هي عقولهم، هذه هي آدابُهم. . عجباً إن سيئات اللصوص والقتلة كلها يُنسى ويتلاشى، ولكن سيئات العشاق والمحبين تعيش وتكبر. . .
أكان ذنبُ المرأة أنها صادقةٌ فصدقت، وأنها مخلصةٌ فأخلصت، وأنها رقيقةٌ فلانت، وأنها محسنة فرحمت، وأنها سليمة القلب فانخدعت؟
واكبدي للمسكينة هل انخدعت إلا من ناحية الأمومة التي خلقت لها. هل انخدعت إلا الأم التي فيها، وهل خدعتها من ذلك اللئيم إلا الأبُ الذي فيه؟
واكبدي لمن تُفجع بالنكبة الواحدة ثلاث فجائع: في كرامتها التي ابتُذلت، وفي الحبيب الذي تبرأ منها، وفي طفلها الذي قطعته بيدها وتركته لما كتب عليه
إن هذا لا يعوضه في الطبيعة - إلا أن يكون لكل رجل من أولئك الأنذال ثلاثُ أرواح، فيُقتل ثلاث مرات، واحدة بالشنق، والثانية بالحرق، والثالثة بالرجم بالحجارة
وكان اللقطاءُ قد تبعثروا على الساحل جماعاتٍ وشتى، فوقف أحدهم على طفل صغير يلعب بما بين يديه، وأُمه على كثب منه، وهي تتلهى بالمخرم تتلوى فيه أصابعُها
فنظر الطفل إلى اللقيط وأومأ إلى جماعته ثم قال: أأنتم جميعاً أولاد هاتين المرأتين أم إحداهما؟(114/9)
قال اللقيط: هما المراقبتان، وأنت أفليست هذه التي معك مراقبة؟
قال الطفل: ما معنى مراقبة؟ هذه ماما؟
قال الآخر: فما معنى ماما؟ هذه مراقبة
قال الطفل: وكلكم أهل دار واحدة؟
قال: نحن في الملجأ، ومتى كبرنا أخذونا إلى دُورنا
فقال الطفل: وهل تبكي في الملجأ إذا أردت شيئاً ليعطوك؛ ثم تغضب إذا أعطوك ليزيدوك، وهل يُسكتونك بالقرش والحلوى والقُبلة على هذا الخد وعلى هذا الخد؟ إن كان هذا فأنا أذهب معكم إلى الملجأ، فان أبي قد ضربني اليوم، وقد أمر (ماما) أن لا تعطيني شيئاً إذا بكيت، ولا تزيدني إذا غضبت، ولا. . . . . . . . . . . . . . .
وهنا صاحت المراقبة الصغيرة: تعال يا رقم عشرة. . . .
فلوى اللقيط المسكينُ وجهه، وانصاع وأدبر
) ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا الإحسان البخس القليل). . . .
(إسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(114/10)
أقطاب الرواية المصرية
أبو عبد الله القضاعي
فقيه ومؤرخ وسياسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عنيت منذ أعوام بدراسة طائفة من أقطاب الرواية التاريخية عن مصر الإسلامية ودرس آثارهم، ما دثر منها وما تبقى؛ وكتبت بالفعل عدة فصول عن ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق استقصيت فيها حياتهم وآثارهم؛ ثم تناولت بعد ذلك عدة أخرى من مؤرخي مصر الإسلامية في عصور متأخرة، مثل النويري والمقريزي وابن تغري بردي والسخاوي وابن إياس؛ وقصدي بذلك أن أترجم لمؤرخي مصر الإسلامية كلما سنحت الفرص، وأن أستوعب مصادر التاريخ المصري
والآن نستأنف هذا الدرس، ونخصص هذا الفصل لأستاذ من أساتذة الرواية المصرية، هو أبو عبد الله القضاعي، وهو مؤرخ وفقيه وسياسي معاً، عاش في فترة من أدق الفترات التي جازتها مصر الاسلامية، وشهد الدولة الفاطمية في ذروة القوة والعظمة، ثم شهدها تنحدر سراعاً إلى دور من الانحلال والتفكك يكاد يؤذن بذهابها، وشهد محنة من أشنع المحن التي عانتها مصر الإسلامية، وانتدب أيام المحنة ليكون سفيراً لأمته في طلب العون والغوث؛ وكتب عن مصر الإسلامية وعن حوادث عصره آثاراً هامة، لم تصل للأسف كلها الينا، ولكن ما انتهى إلينا منها على يد المؤرخين المتأخرين يدل على أهميتها وقيمتها
وهو القاضي أبو عبد الله بن سلامة بن جعفر القضاعي الشافعي المصري؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري، في عصر الحاكم بأمر الله، ودرس الحديث، والفقه على مذهب الشافعي وبرع فيه، وبرز في التاريخ والأدب؛ وبدأ حياته العامة بتولي القضاء، ولبث يليه حيناً بالنيابة كلما خلا منصب قاضي القضاة بالوفاة أو العزل، ثم تولى التوقيع (أو العلامة) لأبي القاسم الجرجائي المعروف بالقطع وزير الخليفة الظاهر لاعزاز الله ابن الحاكم بأمر الله، ثم وزير ولده المستنصر بالله من بعده. ولما توفي الوزير أبو القاسم (سنة 436هـ) تقلب القضاعي في عدة وظائف ومهام رسمية؛ وكان المستنصر بالله يقربه ويثق(114/11)
بحكمته وحسن تصريفه للأمور؛ وتجول القضاعي ودرس في بغداد ومكة والشام؛ ووقف على أحوال الدول الإسلامية يومئذ، وجرى السياسة في القصور المختلفة، وتبوأ في البلاط المصري ذروة الثقة والنفوذ. ثم جاء ظرف عهد فيه إلى القضاعي بمهمة سياسية دقيقة. ذلك أن الأزمات والفتن الداخلية التي توالت على مصر في عهد المستنصر بالله لبثت تتفاقم حتى انتهت بوقوع الغلاء والقحط؛ ثم كانت الطامة الكبرى بوقوع الوباء في سنة 446 هـ 1053م؛ وعانت مصر يومئذ آلاماً ومحناً مروعة. وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر الإسلامية (بالشدة العظمى). وقد بدأت كالعادة بالغلاء وندرة الأقوات، وكان بين مصر والدولة البيزنطية يومئذ علائق حسنة، فأرسل المستنصر بالله في سنة 446 هـ إلى إمبراطور قسطنطينية، وهو يومئذ قسطنطين السابع، أن يمد يده بالغلال والمؤن؛ وكانت الدولة البيزنطية تواجه يومئذ خطر السلاجقة الذين أشرفوا على حدودها الشرقية وعاثوا في آسا الصغرى؛ وكانت ترى أن تقوي صداقتها وتحالفها مع مصر التي كانت تخشى غزواتها من الجنوب ومن البحر؛ فاستجاب قسطنطين لدعوة المستنصر، وتم الاتفاق على أن ترسل المؤن من قسطنطينية إلى مصر، وأعدت بالفعل لتلك الغاية مقادير وافرة من الغلال تقدرها الرواية الإسلامية بأربعمائة ألف أردب ولكن قسطنطين السابع توفي قبل تنفيذ الاتفاق، وخلفه على عرش قسطنطينية الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لإرسال المؤن إلى مصر شروطاً أباها الستنصر، ومنها أن يمدها بالجند لمحاربة السلاجقة؛ فانقطعت المفاوضات بين الفريقين، وسير المستنصر جيوشه إلى الحدود الشمالية، ونشبت بين الفريقين معارك انتصر فيها المصريون بادئ ذي بدء. ولكن الأسطول البيزنطي غزا مياه الشام، وهزم المصريين في عدة مواقع؛ فكف المستنصر عن متابعة الحرب، وعاد إلى المهادنة والمفاوضة، وأرسل إلى بلاط قسطنطينية سفيراً مختاراً يسعى إلى عقد الصلح وتنظيم العلائق بين الفريقين
وكان ذلك السفير المصري إلى بلاط القياصرة، هو أبو عبد الله القضاعي الذي يحبوه المستنصر بثقته وتقديره. فقصد القضاعي إلى بيزنطية عن طريق الشام؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه السفارة الشهيرة في سنة (446 هـ 1055م) ويقع هذا التاريخ في عصر الإمبراطورة تيودورا التي جلست على العرش سنة 1545م وتوفيت في أغسطس(114/12)
سنة 1075م؛ وعلى هذا فقد كانت سفارة المستنصر إلى الإمبراطورة تيودورا. وهذا ما يذكره ابن ميسر مؤرخ مصر بوضوح في حوادث سنة 447 هـ إذ يقول: (وفيها سير المستنصر، فقبض على جميع ما في كنيسة القمامة؛ وسبب ذلك أن أبا عبد الله القضاعي كان قد توجه من مصر برسالة إلى القسطنطينية، فقدم إليها رسول طغرلبك يلتمس من ملكتها أن يصلي رسوله في جامع قسطنطينية، فأذنت له في ذلك؛ فدخل وصلى بجامعها، وخطب للخليفة القائم؛ فبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر فأخذ ما كان بقمامة؛ وكان هذا من الأسباب الموجبة للفساد بين المصريين والروم) بيد أن هنالك من جهة أخرى ما يدل على أن الجالس على عرش قسطنطينية وقت مقدم القضاعي إليها لم يكن الإمبراطورة تيودورا، وأن الذي استقبل السفير المصري هو خلف تيودورا الإمبراطور ميخائيل السادس (ستراتيو تيكوس) الذي تولى عرش قسطنطينية في أغسطس سنة 1057م؛ فقد نقل المقريزي في كتابه (المقفى) في ترجمة القضاعي ما يأتي: (وقال أبو بكر محمد بن سامع الصنوبري، سمعت القاضي أبا عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي يقول: لما دخلت على ملك الروم اليون، رسولاً من قبل المستنصر بالله، وأحضرت المائدة، فلما رفعت جعلت ألتقط الفتات؛ فأمر الفراش أن يحضر أخرى، ففعل؛ فقال لي الملك أصبت منه وإنك لم تشبع، فقلت أنا والله مستكف؛ فقال لي لم أكلت الفتات؟ فقلت: بلغني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من التقط ما سقط من المائدة برئ من الحمق والفقر؛ فأمر الخازن في الحال بإحضار ألف دينار وإعطائها؛ فقلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغنيت وبريت من الحمق)؛ وذكر المقريزي في الخطط أيضاً ما يؤيد هذه الرواية. على أننا نستطيع أن نوفق بين الروايتين فنفترض أن القضاعي وصل إلى قسطنطينية في أواخر عهد الإمبراطورة تيودورا؛ واستمر في أداء مهمته بعد وفاتها لدى الإمبراطور ميخائيل السادس؛ ومكث حيناً بقسطنطينية؛ ومما يؤيد طول مكث القضاعي بعاصمة القياصرة أنه عني هنالك بالدرس وجمع المواد التاريخية عن المدينة وخططها. أما مهمة السفير المصري لدى البلاط البيزنطي فلم تحددها الرواية الإسلامية تحديداً واضحاً، ولكنا نستنتج مما قدمنا من الظروف والحوادث أنها كانت تقوم على السعي في إقناع البلاط البيزنطي بالتحالف مع مصر ضد السلاجقة، وإعانة مصر بالأقوات والمؤن، تنفيذاً للعهود(114/13)
التي قطعها قسطنطين السابع للمستنصر وتوفي قبل الوفاء بها
ولكن القضاعي أخفق في مهمته. ذلك أن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة، لأنهم كانوا يومئذ أشد خطراً على الدولة الشرقية من مصر، وآثر القيصرأن يتعاقد مع رسول طغرلبك؛ وبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر، فرد المستنصر بالقبض على أحبار قمامة ومصادرة نفائسها، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية كرة أخرى؛ وعاد القضاعي إلى مصر على أثر هذا الفشل، ونستطيع أن نضع تاريخ عودته في سنة 450 هـ (1058م) أعني بعد أن أنفق أكثر من عامين في رحلته. ثم توفي القضاعي بعد ذلك ببضعة أعوام، في 16 ذي القعدة سنة 454
كتب القضاعي عدة مصنفات في الفقه والتاريخ منها كتاب (الشهاب) وكتاب (مناقب الإمام الشافعي وأخباره) وكتاب (الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء) وكتاب (المختار في ذكر الخطط والآثار) وكتاب (عيون المعارف)، وقد دثر معظم هذه الآثار، ولم يصلنا منها سوى كتاب (الشهاب) و (مسند الشهاب) أو (مسند الصحابة) وهما في الحديث، وكلاهما بمكتبة الأسكوريال بمدريد؛ وانتهى إلينا أيضاً، كتاب (عيون المعارف) وهو على ما يصفه مؤلفه في مقدمته (موجز في ذكر الأنبياء وتاريخ الخلفاء وولايات الملوك والخلفاء إلى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة من الهجرة)، وتوجد من عيون المعارف نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ولكنا نرتاب في أنها مختصر لكتاب أكبر ربما كان هو المعروف (بتاريخ القضاعي) وهو الذي يقتبس منه كثير من المؤرخين المتأخرين، والظاهر أيضاً أن (عيون المعارف) و (الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء) هما اسمان لمؤلف واحد حسبما يبدو من مقدمة (عيون المعارف) المشار أليها
بيد أن أهم آثار القضاعي هو بلا ريب كتابه الشهير في الخطط وهو المسمى: (المختار في ذكر الخطط والآثار)؛ ولم يصلنا هذا الأثر، ولكن انتهت إلينا منه على يد الكتاب والمؤرخين المتأخرين، ولا سيما القلقشندي والمقريزي وابن تغري بردي والسيوطي شذور كثيرة تدل على قيمته وأهميته؛ وقد كان لمؤلف القضاعي في الخطط أهمية خاصة لأنه آخر رواية كتبت عن خطط مصر والقاهرة قبل أن تغير معالمها فترة الشدة والخراب التي نزلت بمصر أيام المستنصر بالله، وقبل أن تبعث بعد ذلك خلقاً جديداً في معظم معالمها(114/14)
وصروحها، وهي حقيقة ينوه بها المقريزي في مقدمة (الخطط) إذ يذكر كتاب القضاعي (المختار) ضمن مصادره ثم يقول: (ومات (أي القضاعي) في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدة فدثرا أكثر ما ذكر ولم يبق إلا يلمع وموضع بقلع) والظاهر مما نقل ألينا من كتاب القضاعي أنه أثر ضخم تناول فيه خطط مصر وآثارها وتاريخها منذ الفتح الإسلامي بإفاضة، وأضاف أليه ما انتهت إليه أحوال القاهرة المعزية حتى منتصف القرن الخامس والظاهر أيضاً أن كتاب (المختار) إنما هو المنعوت (بتاريخ القضاعي) لأن ما نقل إلينا منه من الشذوذ يمتاز بإفاضة واضحة، ولا وجود له في الموجز المسمى (عيون المعارف)
وقد كان القضاعي، كما يبدو من آثاره، مؤرخاً دقيقاً ثقة، يزن روايته ويمحصها، وكانت روايته عن مصر الإسلامية، ولاسيما عن حوادث عصره، مستقى خصباً لكثير من المؤرخين المتأخرين؛ وما زالت هذه الرواية ذائعة تتخذ مكانها بين مصادر التاريخ المصري حتى أواخر القرن التاسع حيث نرى السيوطي ينقل في حوادث فتح مصر عن كتاب (الخطط) للقضاعي مكتوباً بخطه، وفي ذلك ما يؤيد أيضاً أن الكتاب المنعوت (بتاريخ القضاعي) إنما هو كتاب يحتجب عنا هذا الأثر الهام بين مصادر التاريخ المصري، ولاسيما بين مصادر العصر الفاطمي الأول، الذي احتجب عنا معظم الآثار الخاصة به، والتي غدت كالحلقة المفقودة في مصادر تاريخ مصر الإسلامية
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(114/15)
في اللغة والألفاظ
الدعوة إلى اختصارها لتسهيلها
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اللغة تتبع الدولة، وتسير في ظلها، ولا سبيل إلى انتشار لغةٍ يُغلب أهلها على أمرهم، وبعيدٌ أن تُصد عن الذيوع لغةٌ يتسع سلطان أبنائها وتنبسط رقعة ملكهم أو نفوذهم، ولا عبرة في هذا الأمر بما في اللغة نفسها من سهولة أو عسر في التحصيل، والمعول على القوة والسلطان، لا على أن اللغة قريبة المنال أو بعيدته، ويسير المطلب أو عميقة المغاص، وقد استطاعت اللغة الإنجليزية أن تنتشر في الأرض وأن تنفذ إلى مجاهلها، وأن تزحزح الفرنسية وتحطمها عن عرشها، لأن سلطان هذه الدولة امتد شرقاً غربياً، وليست الإنجليزية أسهل من الفرنسية أو العربية، ولكن قوة أهلها أكبر، ونشاطهم أعظم؛ وهذه (الاسبرانتو) التي اخترعوها لتكون اللغة المشتركة بين الأمم ماذا كان مآلها؟ يعرفها آحاد راقتهم الفكرة، ولا يعبأ بها أحد فيما عدا هؤلاء النفر القليلين، لأنه ليس وراءها ولا قدامها دولة لها سطوة، وفي الهند لغات لا رجاء لا حداها حتى في أن تصبح لغة الهند كلها ما دامت إنجلترا تحكمها، وفي مصر جالية أجنبية ليس أنشط منها ولا أكثر عدداً، هي الجالية اليونانية، ولكنه يندر أن يعني مصري بتعلم لغتها، على حين نتعلم الإنجليزية في مدارسنا ونعدها لغتنا الثانية
ولا آخر لما يمكن أن نضربه من الأمثال ونسوقه من الشواهد، فحسبنا هذا القدر، فالذين يقولون إن المستر اوجدن قد تخير من اللغة الإنجليزية خمسين وثمانمائة لفظ رآها كافية وافية بحاجات التعبير كلها، وأن مثل هذا الاختصار أو الاختزال ميسور في اللغة العربية، وإنه يعين على نشر اللغة ويفضي إلى ذيوعها، ويتيح لها أن تصبح (عالمية) - أقول إن الذين يذهبون هذا المذهب، ويفكرون على هذا النحو، يغلظون ويقلبون المسألة، وذلك أن هذه الألفاظ الثمانمائة ليست الإنجليزية، ولا فيها لأبنائها وعلمائها وكتابها وساستهاأي كفاية، وإنما هي حسب الأجنبي الذي يريد أن يتصل بأهلها اتصال تجارة أو ما هو من هذا بسبيل، وقد ابتكر المستر اوجدن هذه الوسيلة ليمكن للغته ويزيدها ذيوعاً، لا لينشرها، فقد تكلفت بنشرها الإمبراطورية الطويلة العريضة من قبل أن يخلق المستر اوجدن؛ ولو أنك(114/16)
عمدت إلى مثل ذلك في لغة الفرس أو إحدى لغات البلقان الكثيرة، لما أجدى ذلك شيئاً، ولما جاوز بها هذا التسهيل صبغتها المحلية
وشيء آخر يغلط فيه أصحابنا الذين افتتنوا بالتسهيل، ذلك أن السهولة مرجعها إلى العقل، لا إلى الألفاظ، فلو أنك قصرت اللغة على ثمانين لفظاً، لا ثمانمائة، لما أختلف الحال، ولبقيت المسألة حيث كانت، لأن المعول في التعبير على الكاتب؛ وليس على عدد الألفاظ، وما من كاتب أو شاعر في الدنيا يستعمل كل ما في لغته من كلمات، والسهولة مردها إلى أمور لا علاقة لها باللفظ في ذاته ومن حيث هو، منها أن يكون المعنى الذي يلتمس المرء العبارة عنه، واضحاً في الذهن، ومنها أن يحسن الكاتب بعد ذلك انتقاء الألفاظ التي يؤدي بها المعاني، وكثيراً ما يحدث أن يكون المعنى غائماً، أو غامضاً، أو غير واضح على العموم، في ذهن المرء، فيحاول العبارة عنه قبل أن يدركه هو نفسه أو يحيط به، فيجئ الكلام مضطرباً غير مفهوم، لأنه لا سبيل إلى البيان إلا بعد أن يعرف المرء ماذا يريد أن يقول، وقد يكون المرء عارفاً بما في نفسه؛ مدركاً للمعاني الدائرة فيها، ولكنه لا يعرف كيف يعبر عنها ويبرزها في صورة واضحة، فيسئ الأداء؛ وإن كان قد أحسن التفكير، ويقصر في العبارة؛ وإن لم يقصر في فهم ما يرد على خاطره ويتمثل له من الخوالج. وفي وسعي أن أكتب لك سطوراً ليس فيها كلمة واحدة غير مألوفة، أو لا يعرفها العامة والأميون ومع ذلك لا يستطيع أن يفهمها أحد، وفي مقدوري كذلك أن أعبر عن أدق الاحساسات وأعمق المعاني وأعوصها تعبيراً يحمل القارئ على الظن بأن هذه كلها من البدائه، لأن العبرة كما قلت ليست بالألفاظ ولا بكونها غريبة أو مألوفة، وحوشيّة أو مأنوسة، بل بالكاتب نفسه، أي بوضوح المعنى الذي في رأسه أو غموضه، وبقدرته على أدائه أو عجزه عن ذلك. وقد يتفق لك أن تحادث رجلاً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، فتسمع منه كلاماً كالتخليط أو الهذيان لا تستطيع أن تتبين منه مراده، فهذا العامي الأمي لم يرجع إلى الغريب من ألفاظ اللغة ولم يستعمل المهجور والدارس منها، وإنما استعمل ألفاظاً يعرفها الأطفال والباعة والجهلة والمتعلمون، ومع ذلك أعياك أن تفهم كلامه. فلو أن الألفاظ هي التي يرجع إليها أمر الغموض أو البيان، والصعوبة أو السهولة، لوجب أن تفهم عنه، ولما كنت معذوراً إذا لم تفهم(114/17)
فلا قيمة إذن لعدد الألفاظ التي في اللغة، ولتكن ألفاً لا أكثر، أو مائة ألف، أو أقل من ذلك أو أكثر، فلن يختلف الأمر في الحالتين، والأمر من حيث الأداء في اللغة مثله في التصوير، ذلك أن الألوان التي يستعملها المصور قليلة العدد جداً، وهي أداة المصورين جميعاً كما أن الألفاظ أداة الكتاب. ولسنا نظن أن أحداً سيزعم أن قلة الألوان التي يستخدمها المصور جعلت التصوير أسهل، وما من مصور إلا وهو عارف بالألوان وكيف يستعملها وكيف يزاوج بينها، ومع ذلك يجئ آخر بغير شيء، ولا نحتاج أن نقول إن الألوان لا ذنب لها، وإن المصور نفسه هو الذي يستطيع أن يؤدي بها ما أراد أن يبرزه أو يثبته أو يدل عليه أو يرمز له، وكذلك في الكتابة: لا ذنب للألفاظ، فإنها - وهي مفردة - لا تؤدي شيئاً، ولا فرق بينها، ولا فضل لواحدة على واحدة، وإنما تصير كلاماً بعد أن يحدث فيها الكاتب نظما أي بعد أن يؤلف بينها، كذلك الألوان ليست هي الصورة، وإنما تصبح صورة بعد المزج والمزاوجة والتأليف
وسواء أقلت الألفاظ المستعملة أم كثرت، فسيظل هناك كتاب مشرقون واضحون يسهل ورود كلامهم ويحسن وقعه، وآخرون غامضون أو معوصون، يحطمون رؤوس القراء لأنهم يكتبون قبل أن يتبنوا ما في نفوسهم من الخواطر أو الاحساسات أو لأنهم لم يرزقوا القدرة على ألداء الحسن الواضح، أو لأن في أسلوب تفكيرهم التواء، أو لأن في طريقة تناولهم للموضوع عوجاً، أو لغير ذلك من الأسباب الراجعة - في مرد أمرها - إلى المرء نفسه لا إلى الألفاظ. ولو كان الأمر رهناً باللفظ وحده لهان الخطب، وما على الإنسان حينئذ إلا أن يفتح معجما - إذا اعترضه لفظ غريب
وعلى أن الواقع أن عدد الكلمات التي يستعملها الكتاب، قليل جداً إذا قيس إلى ما في اللغة، وهو لا يزيد على بضع مئات، ومن هذه المئات القليلة يحدث كل كاتب أو شاعر آلافاً من الصور، وبها يؤدي ما لا يستطيعأن يحسبه الحاسب من المعاني والخواطر والاحساسات، كما يستطيع المصور - ببضعة ألوان - أن يرسم مئات من الصور لا تشبه واحدة منها أختها، فلا معنى إذن لهذه الضجة التي يثيرها بعض إخواننا الكتاب حول اللغة ووجوب الاقتصار على المألوف من ألفاظها، وهجر المهجور منها، لأن هذا حاصل من تلقاء نفسه، والكاتب الذي يؤثر الأغراب ويلجأ إلى الميت والدارس من الألفاظ، يجني على نفسه بذلك،(114/18)
وكثيراً ما يحدث أن يضطر أمثاله إلى تنكب هذا الطريق الأعوج والرجوع إلى النهج المستقيم
وبعد، فانه لا يصح أن يقال إن لغةمن اللغات عيبها كثرة ألفاظها، فان الألفاظ تنشأ، وتحيا، وتموت، على حسب الحاجة، والناس لا يشتقونها أو ينحتونها، أو يضعونها، أو يستعيرونها من اللغات الأخرى، للترف، بل للضرورة في وقتها، وللألفاظ حياتها كما للناس، وهي - مثلهم - أجيال، حتى معانيها تتطور على الأيام، ويجري عليها من الحظوظ ما يجري على كل كائن حي، وإنما الذي يصح أن يقال، والذي يقبل من قائله، هو أننا نسيء تعليم لغتنا، ونجعلها بسوء طريقتنا في تعليمها وبتقصيرنا في حقها، أعوص مطلباً مما هي في الحقيقة وأشق في التحصيل على أبنائها - فضلا عن الغرباء - من اللغات الأجنبية التي أحسن أهلها القيام على خدمتها وذللوا لطلابها ما فيها من صعوبات لا تخلو منها لغة
وما عدا ذلك خلط لا قيمة له
إبراهيم عبد القادر المازني(114/19)
كيف ارتاد الشيخ رشيد مصر
رسالة تاريخية قيمة
من المرحوم السيد رشيد رضا إلى صديقه الأستاذ المغربي
. . . كان السيد رشيد رحمه الله أشار في مصنفاته الأخيرة إلى مبلغ الود الذي توثقت بيننا في عهد طلبنا العلم في طرابلس الشام، وقد استمرت هذه المودة زهاء عشرين سنة، حتى سافر إلى مصر، واتصل الأستاذ الإمام، وأنشأ المنار. وكانت هذه الرحلة إلى مصر نتيجة الدراسة العلمية الحرة المشتركة بيننا خلال تلك المدة. ولا أدل على ذلك من هذه الرسالة المرسلة إليكم. وكان السيد رشيد كتبها بعد أن وصل مصر سنة 1898م والرسالة المذكورة تدخل في نحو 200 رسالة مثلها أرسلها إلى السيد رشيد خلال تسع سنوات (من 1898 - 1906) حتى جئت مصر وحررت في المؤيد
والرسائل المذكورة محفوظة لدي لا يعوزها إلا حذف بعض (الخصوصيات) فتتمثل كتاباً يحتوي على مذكرات في مواضيع مختلفة هامة، لما فيها من وصف الحالة الاجتماعية والأدبية في مصر خلال تسع سنوات
(المغربي)
الرسالة
أخي وسيدي:
سلام وتحية - وأشواق قلبية
لقد امتلأت المخيلة ولا سعة في الوقت لشرح ما ينبغي شرحه بل ولا لكتابته موجزاً بعبارة بسيطة. ولكن لابد من الأيماء إلى بعض بما يحتمله الوقت من البيان
(1) في بيروت: رغب إلي الوطني الفاضل عبد القادر أفندي القباني أن أحرر جريدة الثمرات، وأعلم في المدرسة التي أنشأها مع الشيخ أحمد عباس فإنها تحتاج لمثلي ولم يجداه
(2) حدثني المومأ إليه عن السيد محمد بيرم حديثاً طويلا يتضمن حالته في بيروت والآستانة ورجوعه إلى تونس ثم إقامته في مصر: أهمه أنه في بيروت جرى له مع(114/20)
قاضيها يومئذ مذاكرة علمية طويلة ما كان أحد غيرهما يفهم ما يقولان. وبعد الانصراف سأل عبد القادر أفندي السيد بيرم عن القاضي فقال إنه أعلم من رأى، ثم سأل القاضي عنه فقال انه زنديق فلم يسلم له باطناً. وأن جريدته (الإعلام) ذكرتهم بكلام القاضي بعد زمان، لأنها كانت خادمة للإنكليز، وأنه رأى عدداً يتكلم فيه على الكمال ويقول فيه إن الكمال موجود عند الإنكليز، فيجب أن نأخذه عنهم بعد ما قدم مقدمه أنه يجب أخذ الكمال حيثما كان
(3) حدثني أيضاً عن ترجمة فانديك، وأن أطباء الإفرنج لا يعترفون له بأنه طبيب ماهر ولا علماءهم بأنه عالم وإنما كان مترجماً. وحزبه - ومنهم جماعة المقتطف - الذين تحزبوا له يوم أخرجته الجمعية الأمريكانية من المدرسة بناء على أنه ليس لديه من العلم ما يؤهله لها - يسمونه فيلسوفاً
(4) اجتماعاتي مع الأمير شكيب وحديثه لي عن شؤونه في الآستانة لاسيما مع إبراهيم بك المويلحي وترددهما بين السيد جمال الدين (الأفغاني) وبين أبي الهدى أفندي وقضيت العجب مما ذكر لي من خبث المويلحي
(5) اجتماعاتي مع وجوه الجبل (لبنان) متصرفه فمن دونه أمور شخصية ليس فيها فائدة تاريخية أو علمية إلا مسألة توليه نسيب بك جنبلاط قائم مقامية صيدا بإرادة سنية وذهابه بأمر الوالي إليها وما كان من الاحتفال الغريب من أهلها به وإرسال الوالي تلغرافا صبيحة ليلة وصوله بطلبه لبيروت وإقامة وكيل لصيدا مكانه بحيث لم ينم في صيدا إلا ليلة واحدة
(6) بور سعيد والإسكندرية ومرفأ كل منهما ومبانيهما وشوارعهما لا سعة للكلام في ذلك
(7) مدرسة جمعية العروة الوثقى بالإسكندرية وتعليمها ورئيسها عبد القادر أفندي سري
(8) اجتمعنا بالسيد عبد الفتاح النديم بداره في الإسكندرية وأهداني نسخة من الجزء الأول من سلافة النديم وأخبرني أن كتب أخيه (عبد الله نديم) لم تول في الآستانة وهي عند الشيخ ظافر، ولم يعطوها له بناء على صدور الأمر بفحصها، وأن كتاب المسامير الذي ألفه بالطعن في أبي الهدى أفندي توجد نسخة منه عند أخ لجورجي كان يتردد بين السيدين الأفغاني والنديم في الآستانة وأخو جورجي الآن في مصر لكنه يطلب في مقابلة الكتاب مئات من الجنيهات(114/21)
(9) مولد السيد البدوي الرجبي في طنطا وما يقام في ذلك المسجد العظيم في أيامه من الأذكار والنوبات واجتماع الألوف من النساء والرجال وطوافهم بقفص قبر السيد كما يطاف بالكعبة، وتقبيلهم وتمسحهم به، بل وتقبيل عتبة باب مقصورته
(10) بحيرة الإسكندرية، الملاحة. أراضي مصر وفيها سباخ كثير، أشجارها، النيل، عظمتها لاسيما في كفر الزيات والمنصورة ودمياط، الطرق الحديدية والترام الكهربائي - أمور عمومية
(11) ذهبت إلى دمياط عن طريق المنصورة ومعنا أبو النهي والشيخ أبو النصر (القاوقجيان) فنمنا بالمنصورة عند صديقنا الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي القاضي ولم يكن ثمة، لكن تلقانا ولده محمد أفندي بالترحاب وهو لطيف جداً، وسهر عندنا المفتي والنائب وبعض أهل العلم، ولما سمعوا حديث أخيكم أعجبوا به، ودعانا المفتي للغداء في اليوم التالي فسافرنا إلى دمياط ولم نجب دعوته
(12) الجمعية الأدبية للخطابة في المنصورة وكلام المقطم فيها
(13) اجتماعنا بالعلماء في دمياط وكثرة سؤالهم لي عن المسائل الدينية والصوفية والفلسفية، وبفضل الله لم أتوقف في جواب. وقد تمنى الكثير منهم أن أبقى عندهم وبعضهم أن يكون معي
(14) فريد بك (وجدي) ابن وكيل محافظ دمياط بحالة الإسلام والوقت وجهته مثلنا دينية، يطالع الأحياء، وله اعتناء بالفلسفة، ألف كتاباً صغيراً سماه الفلسفة الحقة أهداني نسخة منه، وهو الآن يستعد لتأليف كتاب بالفرنسيةفي الديانة الإسلامية ويعرضه في معرض باريز الآتي، وهو منفرد بهذه الأفكار في دمياط، لأن دمياط بلدة إسلامية لا مداخلة للنصارى والإفرنج فيها، ومن ثم هي ضعيفة في العمران، قوية في التمسك بالدين، لا نظير لها في مدن مصر. زرت فريد بك وزارني، وقد أعجب بي كل الإعجاب، وتمنى أن أكون معه دائما، ونشط على إنشاء الجريدة (المنار) وسيكتب فيها
(15) فاتني أن أذكر لكم عند ذكر الإسكندرية أنني اجتمعت هناك برجل يدعى السيد حسن أنين وهو رجل باقعة أصله بيروتي ودخل النصرانية وتعلم اللاهوتي البرتستانتي ثم رجع للإسلام، وهو متقن الإنكليزية ومتزوج بإفرنجية، وقد ساح في البلاد كثيراً وأكثر إقامته في(114/22)
عدن يتعاطى الأعمال التجارية، وله مداخلة مع جميع طبقات الناس، ويعاشر كلاً على مشربه خيراً أو شراً، يجتمع باللورد كرومر وبمختار باشا (الغازي) وبسائر الوزراء والكبراء وكتاب الجرائد، وله صحبة مع أصحاب المقطم أثنوا عليه يوم جاء مصر، وفي هذه المدة الأخيرة أقامه الشيخ الميرغني الشهير خليفة على تلاميذه في شرقي أفريقيا إلى رأس الرجاء، ولا نعلم ما يكون من أمره، وقد وعدنا بالمساعدة في أمر الجريدة (المنار)
(16) مصر وما أدراك ما مصر!! وصلنا إليها قبيل العصر يوم السبت الماضي، وأتينا تواً للأزهر؛ فتلقانا الشيخ إسماعيل (الحافظ) وغيره، وشربنا الشاي في غرفة الشيخ بدر الغزي - يظهر أنه بابي على مذهب شيخه - وفي ضحوة يوم الأحد ذهبت لزيارة المصلح العظيم الأستاذ الشيخ محمد عبده ومعي الشيخ إسماعيل والشيخ أبو النهي. قعدنا في المندرة وأعطيت العبد بطاقة الزيارة فأوصلها إليه في الحريم. فلم يلبث أن نزل وهي في يده ولم يتركها مدة جلوسنا، بل جعل يقلبها بيده ويتكلم
سألنا أولاً عن أستاذنا الشيخ حسين أفندي (الجسر) ثم عن عزيز أفندي سلطان ومحمد باشا المحمد، ثم عن طلبة العلم وشيوخهم وتعليمهم. ومما قلنا إن الطلبة نحو مائتين والمستفيد المجتهد نحو اثنين
ثم أنشأ يتكلم عن حالة الأزهر والأمة. فعلمنا أن ما كنا نعتقده فيه من أنه موجه كل همه وسعيه للأزهر صحيح. ومن جملة كلامه أن سعادة هذه الأمة في الأزهر، وأن شقاءها من إهمال الأزهر. وإنه لا يرى نفسه سعيداً إلا إذا نجحت مساعيه في إصلاح التعليم فيه. وإنه إذا رأى انتظامه قبل موته يموت قرير العين ويرى أنه ملك عظيم، وحدثنا بأمر الامتحان في الأزهر حديثاً كله تنديد بشيوخه وبتعليمهم، بل قال إن الكثير من مدرسي الأزهر لا قابلية فيه الآن لأن يكون طالب علم: ومنهم من يصلح اليوم لأن يطلب العلم من طريقه
قال: كنت في الامتحان أسأل أحد الطلبة عن عبارة فيحل ألفاظها المفردة بإرجاع ضمائرها وبيان متعلق ظروفها - هذا إن أحسن الجواب - فأسأله عن المراد بهذه العبارة فلا يحير جواباً. قال لأحدهم مرة: ما مراد المصنف من هذه العبارات - ثلاث مرات - وهو يعيد له الحل السابق. فقال له في الأخير: إن مراده كذا، فقل مثلما قلت؛ فلم يحسن ذلك. وقال - بمناسبة ذم كتبهم: - سألت أحدهم في المنطق فأجاب بما يبعد عن الصواب. قال: فقلت:(114/23)
من أين لك هذا الكلام. فقال: من حاشية الصبان على السلم. قال: فلم أصدقه فنظرت في الكتاب فرأيتها كما قال. فقلت للشيوخ كيف يعرف المنطق وشارحه لا يعرف المنطق ومحشّيه (الصبان) لا يعرف المنطق
قال: كان مراده من العام الماضي قلب هيئة الأزهر دفعة واحدة، لكن قيل له إن الشيوخ يصعب عليهم ذلك، ولابد من أخذهم بالتدريج
وقال: إن مداخلته بالحكومة إنما هي لأجل الأزهر لأنه لولا مركزه في الحكومة لا يقبل له قول ولا يستطيع أن يعمل شيئاً فيه. وانه يعلم أن كثيراً من الشيوخ الذين ينقادون له الآن ساخطون عليه في نفوسهم، مع أنه سعى لعلماء الأزهر بمبلغ خمسة آلاف جنيه بعضها من الحكومة وبعضها من الأوقاف، وكانوا في غاية الضيق
مما ينقمون عليه أنه لا يطول أكمامه، مثلهم، وأنه يركب الحصان ويلبس الجزمة عند ركوبه كما فهمت من الشيخ إسماعيل فتأمل. وقال: لما ولاه الخديو السابق القضاء قال لناظر الحقانية: أنا خلقت لأن أكون معلماً لا لأن أكون حاكماً: أقول حكمت على فلان بكذا وعلى فلان بكذا. فقل للخديو يجعلني في دار العلوم، فلم يرض الخديو، وقال: إن الحكومة أرادت الإصلاح بكذا وكذا
قال: وإن المصريين منهم من يعتمد على فرنسا وعلى. . . وعلى. . . وكل هذا أوهام، والصحيح أنه لا يضمن لنا الاستقلال والحياة للأمة إلا شيء واحد وهو التربية والتعليم الصحيح
ثم تكلم عن ضعفنا وقوة أوربا: إن جميع ما حولنا - لاسيما حكامنا وعلماءنا - يدل على اليأس، ومع هذا فان لي أملاً كاملاً، ويوجد رجل آخر في مصر له نصف أمل سأسأله عنه، ثم بكلام تاريخي عن حالة أوربا في ضعفها وكيف قويت
سألته عن الكتاب المعهود، فقال: إنه لم يتمه وأنه لابد منه ومن كتبٍ أخرى. لكنه يحتاج إلى مساعد حاذق أمين: يفحص له عن النصوص؛ فان جميع أرباب التآليف الكثيرة كالغزالي وغيره كانوا كذلك، وإلا فان الوقت لا يتسع لتلك المؤلفات. وإنه لم يجد ذلك المساعد ولا بالمال. فقلت له: (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) وربما يحصل بيني وبينه ارتباط عظيم. ولو جئت مصر غير متعلق بغيري ربما كان أولى؛ فإني أجد قبولاً(114/24)
عظيما عند الكبراء والوجهاء من أهل العلم وأهل الدنيا: ما تكلمت أمام أحد إلا اعتبرني اعتباراً زائداً. وقد تبين لي صحة قول من كان يقول لي: إنك ضائع في بلادك ولو كان في الوقت سعة لأخبرتك بما يسرك جداً من التفصيل
أخبرنا الأستاذ (الإمام) أيضاً أنه كان شرع في تأليف رسالة في التوحيد منذ كان في بيروت، وانه سيتمها ويقرؤها درساً في الأزهر في أول السنة الآتية، ويقرأ كتاب السيرة المعهود أيضاً إذ قراءته تدعو إلى إتمامه
وقال بمناسبة صعوبة التآليف المهمة في العربية - إن بعض الكتب التاريخية وغيرها ربما لا يوجد فيه من العبارات المفيدة إلا عبارة واحد أو اثنتان والباقي لا أهمية له. فاستخراج المفيد صعب، ومثل مثلاً فقال: إذا أردنا أن نكتب في تاريخ علم الكلام فمن أين نستفيد: كيف كان هذا العلم في عصر الصحابة ومن بعدهم؟ وكيف اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري؟ ومن أين جاءه ذلك الفكر في المخالفة؟ وهل كان غيره على رأيه؟ وما الذي حمل أبا الحسن الأشعري على القول بأن الوجود عين الموجود مثلا؟ وما غرضه من ذلك؟ ومتى دخلت الفلسفة ونحوها من الفنون في هذا العلم؟ وما غرض العلماء من جعل الفلسفة تدخل على العقول مع عقائد الدين في وقت واحد؟ مسائل لم يشرحها أحد من علماء الإسلام. وقال: إن لعلماء الإفرنج ومؤرخيهم كلاماً في الدين الإسلامي لم يهتد له أحد من المسلمين، وذكر لنا بعض تلك الكتب ومؤلفيها وكيفية أبحاثها
وقال: إن الأمم تتقدم إلى الأمام ونحن نرى من سعادتنا في تقدم الأمة أن ترجع للوراء تسعمائة سنة. وأن تكون كتبنا وتعاليمنا كما كانت منذ تسعمائة سنة
وذكر في معرض الانتقاد ابن عابدين وانتقد عليه وقال: كان يمكن جعل الكتاب مجلدين بذكر ما يفيد والسكوت عما لا يفيد، وذكر الإحياء وأنه ينبغي اختصاره، وأنه رأى له مختصراً في مجلدين في المكتبة الخديوية مدحه كثيراً، ولولا أنه مخروم لسعى في نشره، وقد تعجبت لرضائه عنه رضاءً تاماً، ولعله لا يعجبه غير كذلك
أما سيرة الأستاذ (الإمام) في مصر فكلٌ يعلم أن بيده زمام الأزهر، وأنه هو الساعي في انتظامه. وشيخ الإسلام فمن دونه تبع له، وفي إنشاء الرواق الجديد الذي أنشأه الخديو ويسمى بالرواق العباسي وهو حسن جداً، وقد سعى بمبلغ من النقود ليوزع على النابغين(114/25)
في الامتحان من الطلبة، وسيوزع قريباً في احتفال يخطب هو فيه الخ
وأما من حيث المحكمة فقد سمعت أنه يأتي الساعة واحدة فيحل المشاكل ويفصل الدعاوي المتراكمة. وينقلون عنه حكايات لطيفة في بيان الحيل وكشف الدسائس
ذكرت له: أن غرضي الأول تلقي الحكمة منه في أوقات الفراغ؛ فسر لذلك وعهد إلي أن أجيء لبيته صباح يوم الجمعة (نهار غد) وأنه يأخذني حيث يذهب
فإنني أن أكتب لكم عند ذكر التربية أنه قال للسيد جمال الدين (الأفغاني) عند ما كانا في فرنسا، دعنا من السياسة ولنختر لنا مكانا مهملا لا اعتبار له في نظر الحكام (أو ما معناه) ونعلم به ونربي بعض الأولاد، فلا تمضي عشر سنسن إلا ويبرع منهم جماعة على رأينا يقلدوننا في ترك أوطانهم والهجرة في نشر العلم والدين فنرسلهم للجهات، وأن السيد (الأفغاني) أبى عليه هذا وقال له: أنت مثبط فلم يكن مندوحة عن الانصياع له. وقال: لو أن السيد ترك السياسة والتفت إلى التعليم لأصلح إصلاحا عظيماً
ذكرت له بمناسبة ما شاهدته من طواف الناس بقبر السيد البدوي ولثم أعتابه، فحدثنا أن بعض الوجهاء كان عنده في يوم مولد السيدة زينب وأنه قام ليحضر المولد. فسأله الأستاذ أين تذهب؟ قال: لزيارة السيدة. فقال: لأي شيء خصصت زيارتها بهذا اليوم. قال: لأنه يوم المولد. فقال له: ما هو يوم المولد؟ أنا لا أفهم معنى هذا اللفظ. هل هو عبارة عن يوم تقوم فيه من قبرها وتستقبل الزائرين، وطفق يندد بهذا الأمر. فقال له الرجل إن كثير من العلماء والفضلاء يحضرون هذه الموالد وتهيأ للقيام. فقال الأستاذ: أنا لا أعتبرك وأعتبر هؤلاء الذين تسميهم فضلاء إلا وثنيين، لأن هذه الأعمال أعمال الوثنيين؛ إن كل آيات الكتاب ونصوص السنة تذم هذا (أو ما معنى هذا) بل الفاتحة التي تصححون بها عبادتكم تنهاكم عن هذا وتعده خلاف العقيدة، أنتم في كل ركعة من الصلاة تقولون: (إياك نعبد وإياك نستعين) فكيف تصدقون بهذا وأنتم تطلبون الإعانة من هؤلاء الأموات، أفعالكم متناقضة، لأن قراءتكم الفاتحة له يدل على أنهم محتاجون إليكم بهذا العمل الذي تهدونه لهم ليكون في ثواب أعمالهم ثم تطلبون منهم الحوائج الخ
أهل مصر عموماً لاسيما العلماء الوجهاء وأركان الحزب الوطني يلعنون أبا فلان في المجالس ويكفرونه، ويقولون إنه هادم لأساس الدولة وإنه موقع الفتنة بين السلطان(114/26)
والخديو، حيث أوهم الأول أن الثاني طالب للخلافة ويساعده على هذا العمل توفيق البكري الإنكليزي المشرب
ما كنت أتخيل أني أكتب هذا المقدار لضيق الوقت علي ولا أراك تؤاخذني على قبح الخط وعدم انتظام الكلام، واقرأه على الشيخ محمد (كامل) أفندي الرفاعي لأني أود أن يطلع عليه، وكنت عازماً أن أكتب له بمثل هذا فلم يساعدني الوقت.
أخوكم
محمد رشيد رضا(114/27)
المعنى والأسلوب
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب جديد بهذا الاسم؛ لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني، ولا يرتفع الأديب إلى الذروة العليا في الأدب إلا باجتماعهما له
وقد كان كبار شعراء الإنجليزية - كشكسبير وملتون ووردزورث وتنيسون - يجمعون إلى خصب شعورهم بصيرة باللغة بعيدة ومقدرة على التصرف بمفرداتها وتراكيبها تصرفاً يبرز معانيهم في أحسن صورة، أما توماس هاردي فقصر به عن بلوغ ذروتهم - رغم خصوبة شاعريته - إعواز الرصانة في أسلوب شعره الذي هو أشبه بالنثر الجيد، وقصوره عن أولئك وتعابيرها، ومن ثم ينزله النقاد الإنجليز المرتبة الثانية بين شعرائهم
وقد كان للمعنى - المعنى الصادق الجدير بالتعبير عنه - المنزلة الأولى عند كبار الأدباء الإنجليز دائماً، وكان الأسلوب يحل عندهم في المحل الثاني، ويأتي لأداء المعنى لا ليحل محله أو يتحيَّفه، ولم يشتد الولع بالأسلوب إلى حد الإغراق إلا في عهد قصير في القرن الثامن عشر ما يزال يُعد أحط أزمان الشعر الإنجليزي، وسرعان ما تحرر الأدب من قيوده، وعاد كما كان تعبيراً صحيحاً عن الشعور الصادق في أسلوب طبيعي مستقيم
أما الأدب العربي فطغى الأسلوب على جانب كبير منه في مختلف عصوره وتحيف المعنى أو ألغاه: ففي الأدب العربي شعر ونثر كثيران يروع أسلوبهما والمعنى فيهما ضئيل هزيل أو مصطنع كاذب غير معبر عن شعور صحيح أو تفكير سليم، لأن الأديب قدم براعة الأسلوب على التعبير عن حقيقة خواطره أو الإتيان بمعنى جديد يستحق عناء الإنشاء
لقد كان العرب شعراء السليقة لا شك، يُحِلُّون الشعر أو الأدب عامة مكانة عالية ويحتفون به ويطربون له، حتى أوشك أن يكون فهم الجميل الوحيد، ولكن من العجيب بل من المؤسف أن الأدب العربي أحاطت به ظروف أزاغت نظرة كثير من أدبائه إلى الأدب أو وظيفته أو رسالته، وقد أشرت في كلمات سابقة إلى بعض تلك الظروف، ومنها دخول الأعاجم في اللسان العربي، واعتزال الأدباء مجتمعهم واعتمادهم على صلات الكبراء،(114/28)
وتغلب نزعة التقليد على نزعة التطور في الأدب العربي، واعتزاله غيره من الآداب القديمة والمعاصرة له إلى حد كبير
زاغت نظرة كثير من الأدباء إلى الأدب فحسبوه صنعة لا فناً جميلاً، وظنوا الغرض منه إظهار البراعة لا التعبير عن الشعور والفكر الصادقين، فجاءت آثارهم صناعة وبراعة خالية من المعاني الصادقة العالية والشعور العميق الصحيح: فالمقامات ورسائل الدواوين وأشعار النسيبِ الاستهلالي والمدح والهجاء المأجورين والفخر الأجوف، والمنثورُ والمنظومُ المرصعان بغرائب السجع والجناس والزِّواج والمقابلة وهلم جراً، كل هذه آثار أدبية قليلة الحظ من الصدق والحياة وعمق الفكرة، وإن تكن لها مزية فهي الأسلوب إن كان مُنشئها بارعاً
وهناك عدا ذلك آثار أدبية لم يقدم أصحابها الأسلوب على المعنى، ولكن المعنى فيها تافه بذاته غير ذي بال. فالأدب الرفيع هو ما تحدث عن مشاعر النفس العميقة وتأثراتها بأسباب الحياة، ومشاهد الكون، وتناول حياة الإنسانية على الإطلاق ناظراً في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، معبراً عن آمالها وآلامها، فأين من هذا خمريات أبي نواس ومقذعات جرير والفرزدق ومجونيات بشار؟ لقد كان هؤلاء شعراء صادقي المعاني في كثير مما قالوا رائعي الديباجة، ولكن شعرهم لتفاهة المواضيع التي سخروه فيها أو حطتها لا يرتفع إلى الطراز الأول من الشعر الإنساني، ولا تبقى له قيمة إذا جردته من أسلوبه الجزل
فإذا نظرت إلى كثير من منتجات أولئك الأدباء طالباً تلك النظرة الإنسانية العامة، وراغباً في شيء من الثقافة تضيفه إلى ما عندك، ومنتظراً أن ترى نفسية الأديب وشخصيته مرتسمتين في آثاره لم تصب من ذلك شيئاً، ولم تزدد علماً من دواوين وكتب كاملة بغير فائدة لغوية أو براعة لفظية أو تعبير جديد عن معنى متداول قديم
فإذا ألغيت من آداب اللغة كل الآثار التي لا تتعدى مزيتُها أسلوبها، والتي هزلت معانيها أو كذبت أو لم تزد على التمحل والمبالغة والتخريج والأغراب، لم يبق لك إلا القليل من الأدب السامي الذي اجتمعت له مزايا المعنى القيم والموضوع المهم المفيد والأسلوب المحكم، كأشعار الفحول في الحكمة والوصف الطبيعي والتعبير الصادق عن الوجدان والنسيب الحقيقي والحماسة وما إلى ذلك، وتلك دون غيرها هي الجديرة أن تسمى أدبا(114/29)
وهذه الآثار - وأحسن نماذجها حكمة المتنبي وأوصاف أبن الرومي وأبي تمام والبحتري ونظرات المعري ووجدانيات الشريف الرضى، ورسائل الجاحظ - هي خلاصة الثقافة هو بلا شك دون المحصول الذي يظفر به مطالع الأدب الإنجليزي، الذي أوسع أقطابه النفس الإنسانية والحياة البشرية والمحاسن الطبيعية درساً ووصفاً ومناجاة
لقد أشرت إلى الظروف التي أحاطت بالأدب العربي فأدخلت فيه كثيراً من زيف الصنعة وكاذب القول وغلَّبَتْ الأسلوب في كثير منه على المعنى، ولعل طبيعة اللغة العربية قد ساعدت على هذا التغليب، وأمدت لمن انصرفوا بكلياتهم إلى الأسلوب وجمعت حولهم المستجيدين: لما للغة العربية من بلاغة أصلية، وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في الآذان والنفوس من روعة وفتنة، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة واتساق بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يستولي على الألباب دون أن يبتدع في المعنى، كما يصرفك جمال اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به أحياناً
وقد زالت اليوم الظروف التي لابست الأدب العربي قديماً، فهبطت بمعاني الكثير منه وأدخلت عليه الزيف والصنعة وزيغ النظرة إلى الغرض منه، وما زالت للغة سعتها ومقدرتها وجمالها وموسيقاها، فإذا اجتمع صدقُ النظرة إلى الأدب ومطاوعةُ أداته وهي اللغة، إذا قرنت المعاني المبتكرة السامية إلى اللغة الفنية المساعدة، فما أجدر الأدب العربي أن يتبوأ منزلة عالية بين الآداب، وما أقوى الأمل في أن يفوق مستقبله كل ما عرف ماضيه
فخري أبو السعود(114/30)
من تراثنا العلمي
2 - كتاب في البَيْزَرَة
وصف وتحليل لنسخة فريدة من كتاب مفقود، في علم ضائع،
لمؤلف مجهول
للأستاذ علي الطنطاوي
(أبواب الكتاب)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي له في كل لطيف من خلقه مُعجز يُتفكرُ فيه، وخفي من صُنعهُ يتنبهُ به عليه، ونعم تقتضي مواصلة حمده، ومننٌ تحث على متابعة شكره. والذي ميز كل نوع من حيوان خلقه على حدته، وأبانه بشكله وصورته، وجعل له من الآلة ما يلائم طبعه ومُركبه، ويسره للأمر الذي خلق له، ويُؤديه إلى مصلحته، وقوام جسمه. وجعلنا من أشرف ذلك كله نوعاً، وأتمه معرفة، وجمع فينا بالقوة ما فرقه في تلك الأصناف بالآلة، فليس منها شيء مخصوص بحالٍ له فيها مصلحة إلا ونحن قادرون على مثلها؛ كذوات الأوبار التي جعلت لها وقاءً وكسوة تلزمها ولا تعدمها، فإنا بفضل حيلة العقل نستعمل مثل ذلك إذا احتجنا إليه، ونفارقه إذا استغنينا عنه؛ وكذوات الحد والشوكة من صدف أو مخلب، فان له مكان ما نستعمله من السيوف والرماح وسائر الأسلحة؛ وكذوات الحافر والظلف فان لنا أمثال ذلك مما ننتعله ونتقي أذى الأرض به. وجعل لنا خدماً وأعواناً، وزينة وجمالاً، وأكلاً وأقواتاً؛ فبعض نمتطيه، وبعض نقتنيه، وبعض نغتذيه. وأحل لنا صيد البر والبحر والهواء؛ نقتنص الوحش من كناسها، ونحطمها من معاقلها، ونستنزل الطير من الهواء، ونستخرج الحوت من الماء. ولم يكلنا في ذلك إلى مبلغ حيلتنا حتى عضدنا عليه، وسهل السبيل إليه، بأن خلق لنا من تلك الأنواع أشخاصاً أغراها بغير من سائر أجناسها، ووصلها من آلة الخلْفَه وسلاح البنية، وقبول التأديب والتضْرية، والانطباع على الأكفّ، والاستجابة فدلنا(114/31)
على موضع الصنع فيها، وموقع الانتفاع بها، كالفهد والكلب وسائر الضواري، والبازي والشاهين وسائر الجوارح كلما يحويه من ذلك لنا كاسب وعلينا كادح، وبمصلحتنا عائد؛ نستوزعه جل جلاله الشكر على ما منحناه من هذه الموهبة، وفضلنا به من هذه المكرمة، وفوائد قسمه؛ ونرغب إليه جل جلاله في العون على طاعته، ومقابلة إحسانه باستحقاقه. وصلى الله على محمد نبيه الصادق الأمين، البشير النذير، وعلى آله الطيبين الأخيار وسلم تسليما، وعلى الأئمة من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب حتى تنتهي إلى العزيز بالله أمير المؤمنين فتشمله ونسله إلى يوم الدين
إن للصيد فوائد جمة، وملاذ ممتعة، ومحاسن بينة، وخصائص في ظلف النفس ونزاهتها وجلالة المكاسب وطيبها كثيرة؛ فيه يستفاد النشاط والأريحية، والمنافع الظاهرة والباطنة والمران والرياضة، والخفوف والحركة، وانبعاث الشهوة واتساع الخطوة، وخفة الركاب، وأمن من الأوصاب؛ مع ما فيه من الآداب البارعة، والأمثال السائرة، ومسائل الفقه الدقيقة، والأخبار المأثورة ما نحن مجتهدون في شرحه وتلخيصه، وتفصيله وتبويبه في هذا الكتاب المترجم بكتاب (البَيزرة) على مبلغ حفظنا، ومنتهى وسعنا، وبحسب ما يحضرنا، وينتظم لنا اتباعاً فيما لا يجوز الابتداع فيه، وابتداعاً فيما أغفله من تقدمنا ممن يدعيه، ونحن مقدمون ذكر الأبواب التي تشتمل على ذلك ليتأتى كل باب منها في معناه، وبالله الحول والقوة، ومنه عز وجل التوفيق والمعونة
(باب) من كانت له رغبة في الصيد وعنده شيء من آلته من الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الأشراف
(باب) تمرين الخيل بالصيد والضراءة، وجرأة الفارس على ركوبها باقتحام العقاب، وتسنّم الهضاب، والحدور والانصباب
(باب) ما قيل في طرد كل صنف من وحش وطير
(باب) فضائل الصيد، وأنه لا يكاد يحب الصيد ويؤثره إلا رجلان متباينان في الحال، متقاربان في علو الهمة: إما ملك ذو ثروة، أو زاهد ذو قناعة، وكلاهما يرمي إليه من طريق الهمة إما لما تداوله الملوك من الطلب وحب الغلبة الخ. . . والفقير الزاهد لظلف نفسه عن دنيء المكاسب، ورغبتها الخ، فمن هذه الطبقة من يقتات من صيده ما يكفيه،(114/32)
ويتصدق بما يفضل عنه توقياً من المعاملة والمبايعة، ونهم من يبيع ما فضل عن قوته، ويعود بثمنه في سائر مصلحته، وكانت هذه حال الخليل بن أحمد الفرهودي مع فضله وأدبه وكمال علمه وآلاته الخ. . . وكان جلة الناس في عصره يجتذبونه الخ. . . فأحد من كاتبه سليمان بن علي الهاشمي، فكتب الخليل بن أحمد إليه:
أبلغ سليمان إني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحي بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
(قال) وقلما رأيت صائداً إلا تبينت فيه من سيما القناعة الخ. . . وقال أرسطا طاليس: أول الصناعات الضرورية الصيد، ثم البناء ثم الفلاحة. ولو أن رجلاً سقط إلى بلدة ليس بها أنيس ولا زرع لم تكن له همة إلا حفظ جسمه ونفسه بالغذاء الخ. . . ويغدو للصيد اثنان متفاوتان: صعلوك متسحق الأطمار. وملك جبار، فينكفئ الصعلوك غانماً، وينكفئ الملك غارماً، وإنما يشتركان في لذة الظفر الخ. . . وقال أبو العباس السفاح لأبي دلامة سل!. . . فقال: كلباً، قال: ويلك وما تصنع بكلب؟ قال: قلت سل، والكلب حاجتي، قال: هو لك، قال: ودابة تكون للصيد، قال: ودابة! قال: وغلام يركبها ويتصيد عليها، قال: وغلام! قال: وجارية تصلح لنا صيدنا وتعالج طعامنا، قال: وجارية! قال أبو دلامة: كلب ودابة وغلام وجارية! هؤلاء عيال! لابد من دار! قال: ودار! قال: ولابد من غلة وضيعة لهؤلاء، قال: قد أقطعناك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة قال: ما الغامرة؟ قال: التي لا نبات فيها، قال: أنا أقطعك خمسمائة جريب في فيافي بني أسد، قال: قد جعلنا لك المائتين عامرة بقى لك شيء؟ قال: أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها! قال: ما منعت عيالي شيئاً أهون عليهم فقدا من هذا
وقيل لبعض من كان مدمناً على الصيد من حكماء الملوك الخ. . . وقيل للزاهد المشغوف بالصيد الخ. . . وهذا كتاب كليلة ودمنة الخ. . . وكانت ملوك الأعاجم تجمع أصنافها (أي الحيوانات)، وتدخل أصاغر أولادها عليها وتعرفها الخ. . .
وأشرف الغذاء الذي يحفظ به الأعضاء، وليس شيء أشبه بها وأسرع استحالة إليها من اللحم، وأفضل اللحمان ما استدعته الشهوة، وتقبلته الطبيعة بقوة عليه، ولا لحم أسرع انهضاماً وأخص بالشهوة موقعاً من لحم الصيد المكدود، لأن ذلك ينضجه الخ. . .(114/33)
وإن كان الحيوان غليظاً، عكست هذه الأسباب طبعه، ونفت ضرره، وقمعت كيموسه؛ وربما أكل اللطيف الخفيف على تعنف وتكره، فكان إلى أن يأخذ من الأعضاء، أقرب من أن تأخذ منه الأعضاء
وتأول الرواة امرئ القيس في قوله:
رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مخرِج كَفَّيْه من سُتَرهِ
فأتَتْه الوحشُ واردَةً ... فَتمّتى النزْعَ من يَسرِهِ
فَرَماها في فراِئصِها ... من إزاء الحوض أو عُقَرِهِ
مطعمٌ للصيد ليسَ لهُ ... غيرها كسبٌ على كبرِهِ
على المدح بإدمان الصيد، ويمن الطائر فيه؛ واستثناؤه بقوله على كبره زائد عندهم في المدح لوصفه أنه يتكلف من ذلك مع فدح السن وأخذها منه شيئاً لا يعجزه مع هذه الحال، ولا يلحقه فيها ما يعرض للمسن من الفتور والكلال؛ وبنو ثعل بنو عمه لأنهم فخذ من طيء، وكندة فخذ من مرّة، ومرّة أخو طيء فلم يرد غير المدح؛ وهذا الرامي عمرو الثعلي، وكان من أرمى الناس الخ. . .
وفي أبيات امرئ القيس هذه، أدب من أدب الصيد، ولطائف حيله، وهو قوله: فتمتى النزع من يسره، وتمتى وتمطى واحد، أبدلت التاء من الطاء، وفي تمتى معنيان: أحدهما الاعتماد والتوسط من قولهم حصلته في متى كمى، فتمتاه بمعنى تعمد متاه (كذا) والآخر بمعنى إبدال التاء من الطاء يريد التمطي وهو أن مريد الصيد بالرمي يتمطى بيساره نحو الأرض مرات حتى يؤنس الطريدة فتألف ذلك منه ولا تذعر له، ثم حينئذ يستغرق نزعه ويمضي سهمه
ولا يزال امرؤ القيس في كثير من شعره يفخر بالصيد، وأكل لحمه، كقوله الخ. . .
ومن فضائل الصيد ما فيه من التبريز على ركوب الخيل صعوداً، وحدوراً، وكراً، وانكفاء، وتعطفاً، وانثناء الخ. . .
وقال بعض الحكماء: قلما يعمش ناظر زهرة، أو يزمن مريغ طريدة، يعني بذلك الخ. . .
وليس يكبر الملك الرئيس العظيم الوقور، إذا أثيرت الطريدة أن يستخف نفسه في اراغتها، ويستحفز فرسه في أثرها الخ. . . وحكي عن عظماء الأكاسرة الخ. . . وعن الخلفاء(114/34)
الراشدين الخ. . .
ومنها ما يسنح فيه من النشاط والأريحية الخ. . . وربما قويت النفس حينئذ، وانبسطت الحرارة الغريزية فعملت في كوامن العلل. أخبرني غير واحد ممن شاهد مثل ذلك: أنه رأى من غدا إلى الصيد وهو يجد صداعاً مزمناً، فظفر فعرض له رعاف حلل ما كان في رأسه، وآخر كانت به سلعة يجبن عن بطها قويت عليها الطبيعة فانبطت، وآخر كان في بدنه جرح الخ. . . وربما عكس ما يعرض له من ذلك ذميم حالاته، فآلت إلى ضدها من الخيرية حتى يتشجع إن كان جباناً، ويجود وإن كان بخيلاً، ويتطلق وجه وإن كان عبوساً
أخبرني بعض الأدباء، عن رجل من الشعراء، قصد بعض الكبراء فتعذر عليه ما أمله عنده، وحال بينه وبينه الحجاب وكان آلفاً للصيد، مغري به، فعمد الشاعر إلى رقاع لطاف، فكتب فيها ما قاله من الشعر في مديحه، وصاد عدة من الظباء والأرانب والثعالب، وشد تلك الرقاع في أذناب بعضها وآذان بعض، وراعى خروجه إلى الصيد، فلما خرج كمن له في مظانه ثم أطلقها فلما ظفر بها واستبشر، ورأى تلك الرقاع ووقف عليها زاد في طربه واستظرف الرجل واستلطفه وتنبه على رعي ذمامه، وأمر بطلبه فأحضر ونال منه خيراً كثيراً
ومن شأن النفس أن تتبع ما عزها، وبعد من إدراكها الخ. . . وهذا شبيه بما تأوله يحي بن خالد البرمكي في توصية ولده بتقديم العدات أمام الهبات فانه قال لهم الخ. . .
ولو أن محاول حرب، أو مقارع جيش، ملك عدوه قبل مكافحته إياه حتف أنفه، أو انفل جيشه من سوء تدبيره فانصرف، أو جاءه ضارعاً طالباً لأمانه، لما كان مقدار السرور بذلك كمقداره لو نازله فقهره، أو بارزه فأسره، وهذا بين في الملاعب بالشطرنج الخ. . .
لا أستلذ العيش لم أدأب له ... طلباً وسعياً في الهواجر والغلس
وأرى حراماً أن يواتيني الغنى ... حتى يحاول بالعناء ويلتمس
فاحبس نوالك عن أخيك موقراً ... فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس
ومن فضل العلم بالصيد ما حكاه لي أبي عن إسحاق بن إبراهيم السندي عن عبد الملك بن صالح الهاشمي عن خالد بن برمك؛ أنه كان نظر وهو على سطح قرية نازل مع قحطبة حين فصلوا من خراسان وبينهم وبين عدوهم مسيرة أيام إلى أقاطيع ظباء مقبلة من البر(114/35)
حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: ناد في الناس بالإسراج والإلجام وأخذ الأهبة، فتشوف قحطبة فلم ير شيئاً يروعه، فقال لخالد: ما هذا الرأي؟ فقال: أما ترى الوحش قد أقبلت، إن وراءها لجمعاً يكشفهاً؛ فما تمالك الناس أن يتأهبوا حتى رأوا الطليعة، ولولا علم خالد بالصيد لكان ذلك العسكر قد اصطلم
وعذل بعض أبناء الملوك في الاستهتار بالصيد والشغف به الخ
ولما شهد أبو علقمة المرى عند سوار أو غيره من القضاة؛ وقف في قبول شهادته، فقال له أبو علقمة: الخ
ومن فضائل الصيد أنه كان الملك من ملوك فارس الخ. . .
وكانت لبهرام شوبين حظية الخ. . .
وذكر الأصمعي عن الحارث بن مصرف الخ. . .
ووقف بعض الملوك بصومعة حكيم من الرهبان فناداه فاستجاب له فقال له: ما اللذة فقال له: كبائر اللذات أربع، فعن أيهن تسأل؟ فقال: صفهن لي، فقال: هل تصيدت قط؟ قال: لا (وسأله عن خصال) قال: لا، قال: فما بقى لك من اللذات؟
يتبع
علي الطنطاوي(114/36)
إلى الأستاذ البرازي
حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني
للأستاذ صالح بن علي الحامد العلوي
قرأت ما سطره قلمكم أيها الأستاذ الفاضل في العدد 108 من الرسالة الغراء رداً عليّ وعلى الأستاذ علي الطنطاوي وما كدت أوغل في أسطره حتى أرسلت زفرة حارة تتخللها آهة من أعماق صدري لا لأنك خالفتني في رأيي أو لأنك أتيت لتدافع عن الفقه الروماني أو غيره. ولكن لتلك الروح التي تبدو من خلال سطوره، وروح الافتتان بأوربا وما تقوله أوربا والاستماتة في سبيل الدفاع عنها والفناء فيها وعدم الاستقلال أمام ما تمليه من الآراء والتقريرات، ثم الوقوف مع الإسلام بروح ميتة تزعمونها روح العدل وإنصاف البحث العلمي كما سماها لكم الشيوخ المحنكون، والحقيقة غير ذلك. ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد فقط ولكنه تعدى إلى الإزراء بالعصبية الدينية واستهجان العاطفة القومية ودعوة الشباب المسلم إلى هذا التقليد الأعمى الذي تسمونه الإنصاف لأوربا، وإلى الاقتداء بأئمة أوربا الأبرار الذين لا ينطقون عندكم عن الهوى بل عن علم وبحث وإنصاف. هذه النزعة الغالية جعلتني أرسل الآهة تلو الآهة على الشباب المسلم المتعلم منا معاشر العرب ممن يفدون على أوربا القوية المادية بقلوب فارغة وطباع فطيرة غير مجهزين من سلاح الإسلام إلا بوراثة اسمه، يأتون ليكرعوا من غمار موارد أوربا ويتشبعوا من علومها وثقافتها. فتنفحهم من فتونها وحبها وتملأ صدورهم الفارغة مما تشاء هي لا ما يشاء الآباء. فيعودون وقد تشبعوا بثقافة أوربا وأخلاق أوربا والتعصب لأوربا أيضاً. وقد يكونون مزودين من كل شيء إلا من تعاليم الإسلام والحماس للإسلام، وماذا يصنعون أمام أوربا وقد أتاهم هواها قبل أن يعرفوا الهوى؟ إن أمثال هؤلاء لا يعدون عندي إلا جرائم لآبائهم تتكرر بتكرر أنفاسهم
ووالله إننا لا نكره ذات أروبا ولا علوم أروبا ولا ثقافة أروبا وكنا نكره هذه النزفة الغالية، وهذه الثقافة الببغاوية الصورية التي يتمشدق بها بعض الشبان المتطرفين. أما علومها وأما ثقافتها الجدية وصناعاتها النافعة فإننا في مقدمة من يحبذها ويدعو إليها ولكن بعد غرس العصبية الدينية والعاطفة القومية في نفوس الناشئة حذراً من هذا الفناء وهذا الإدغام(114/37)
المشين
ولست أدعي انطباق كل ما قلت عليك يا حضرة مناظري الأديب! كلا! ولكني أقوله بمناسبة ما رأيته ملموساً في مقالك من نزعة الافتتان بأروبا وتقليدها ودفاعك عنها دفاع المستميت، ثم تظلمك لعلمائها بعبارات جعلتني أتخيل أننا صرنا في عصر صار فيه الشرق رب الصولة والدولة وكان الغرب على عكس ذلك، وكأنك قمت محتسباً تستعطف العالم لإنصاف الغرب الضعيف المظلوم من بني الشرق وعنت الشباب
وماذا صنعنا سوى أننا أنكرنا أن يكون الفقه الإسلامي متأثراً بالقوانين الرومانية، وأنه إذا كان بين الفقهين تشابه فليس الحكم على أن الفقه الإسلامي هو المتأثر بأولى من العكس، فأدلة الفقه الإسلامي صريحة والمستنبطون منها وهم مؤسسو المذاهب لا يجوز أن يقال بتأثرهم بالقانون الروماني إذا لم يتصلوا بالرومان ولم يعرفوا لغتهم ونشأوا ودرجوا في محيط إسلامي وفي ثقافة إسلامية محضة، ومن خطل الرأي وعدم الإنصاف أن يقال لمجرد وجود التشابه بين الفقهين إن الفقه الإسلامي هو المتأثر أو الآخذ مع فقد الدليل وتوفر القرائن على ضده، ولم لا يقول زاعمو التأثر إن هذا التشابه وليد المصادفة؛ إذا أن الدين الإسلامي أتى في أحكامه بما يوافق العقل السليم من العدل والانصاف، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح، فما أمرنا بأمر فقال العقل السليم ليته نهي عنه، ولا نهى عن أمر فقال العقل السليم ليته أمر به، هكذا وصفه بعض الصحابة، وعن هذا نشأ الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسئلة الوجوب بالعقل أو بالشرع والقول بالتحسين والتقبيح العقليين؛ فلا يبعد أن تكون العقول التي عنت بوضع القوانين لتحديد الحقوق وفصل الخصومات، قد صادفت بعض ما قرر الفقه الإسلامي الملازم لمطابقة العقل في قضائه وأحكامه، وقد نقلنا حكاية اختفاء القوانين الرومانية وزعم ظهورها بعد، وأن تاريخ ظهورها بزعمهم كان بعد تأسيس المذاهب وانصرام عصر أئمتها ومن المستحيل تأثرهم بشيء لما يظهر بعدُ من اختفائه، وإذا كنا رجحنا أن القوانين الرومانية هي الآخذة عن الفقه الإسلامي فلم نقل ذلك اعتباطاً ولكن ببراهين نعتقدها كافية في ذلك، وأخذ أروبا عن علوم العرب غير مجهول كما تكرره المجلات العلمية عند كل مناسبة
القول باختفاء القوانين الرومانية ثم ظهورها(114/38)
أما القول بأن القوانين الرومانية قد اختفت ودرست ثم ظهرت فجأة؛ فلسنا نحن منحليه وإنما قاله علماء غربيون، فقد حكى جيبون أن هذه القوانين - أي قوانين الإثنتي عشرة لوحة - بقيت إلى زمان جستنيان ثم فقدت، ونقل العلامة موسهيم الجرمني في تاريخ الكنيسة في حوادث القرن الثاني عشر في العدد 5 من الفصل الأول من القسم الثاني من الكتاب الثالث: إن الملك لوثاريوس اكتشف في افتتاح أمْلَغي سنة 1137 نسخة مجموع الشريعة الشهيرة التي كانت مجهولة على أجيال كثيرة؛ فأتى بها الملك الآن إلى مدينة بيزا. . . . الخ
ولا شك أن القوانين المعمول بها قبل ظهور هذه القوانين كانت مغايرة لها أي مغايرة كما سيأتي. وأول من ابتدع هذه الحكاية أي حكاية اختفائها واكتشافها هولود فيكوس سنة 1501م، ثم راجت هذه الحكاية وانتشرت في القرون الوسطى إلى الآن (انظر جيبون جزء 4 صفحة 555)، وقال اللورد ماكنزي في كتابه على القانون الروماني صحيفة 6 إن هذا القانون (يعني قانون الإثنتي عشرة لوحة) لم يصل إلى أيدينا وغاية معلوماتنا فيه تستند على بعض أوراق مفرقة وبعض ملاحظات تاريخية مما فقدت آثاره. . . . الخ
القوانين الرومانية القديمة
أما القوانين الرومانية القديمة؛ فهذه نماذج منها ذكرها الأستاذ عبد الجليل سعد قال: إن فقه الرومانيين الأولين كان أشبه شيء بالفصول المضحكة (انظر تاريخ الدولة الرومانية للعلامة جيبون جزء 4 صفحة 527) وذلك لأن جميع معاملاتهم كانت لا تخلو من الحركات والطقوس، وكانوا لا يفرقون بين المعاملات والأحوال الشخصية، بل كانت الصيغة المستعملة واحدة للجميع وهي ما يسمونه: (مانسيباشيو) فإذا أراد أي إنسان إجراء أي عمل قانوني سواء كان زواجاً أو بيعاً أو وصية أو غيره، فعليه أن يحضر القباني ومعه الميزان، وعليه أن يحضر الشهود الذين يشترط ألا يقل عددهم عن خمسة، وعندئذٍ يبتدئون في عمل الطقوس المفروضة؛ فيتلون بعض العبارات ويصنعون بعض الإشارات أو الحركات، ثم يمسك المشتري أو الموصى إليه أو الموهوب له قطعة من النحاس ويضرب بها في كفة الميزان ليقلد الطريقة القديمة المتبعة في وزن البدل، ثم بعد ذلك يتفوه الطرف(114/39)
الثاني بجُمَلٍ معلومة تدل على أنه قابل ومقر على هذا العمل (انظر ماين على القوانين القديمة صحفية 295 و305) فلم يكن إذن لدى الرومانيين القدماء عقود مختلفة تتوقف على النية، بل كان من الضروري إجراء حركات معينة، فكان الخصمان في الدعوى يتكافحان أمام القاضي، وكان المتظلم يمسك بخصمه من قفاه ويتضرع إلى إخوانه أن يساعدوه، وكان الموصي إليه لا بد وأن يخلع لباسه ويقفز ويرقص! وكان الأب هو الحاكم والقاضي في أسرته. وجميع أفرادها داخلون في ملكه يتصرف فيهم كما يتصرف الإنسان في ملكه المنقول، فله بيعهم كالعبيد سواء كانوا نساء أو رجالاً (راجع جيبون صحيفة 563 جزء 4) ولم يكن حق الملكية معروفاً لديهم على النسق الذي نعرفه، بل كان الملوك يقطعون الإقطاعاتللضباط والعساكر، وهؤلاء يجبون الخراج من أصحابها المزارعين (ماين صحيفة 265)، ومن أراد الزواج يذهب ويشتري زوجته من والدها على الصورة المتقدمة مع إحضار القباني والميزان والشهود، ثم قال: ومن يطلع على أحكام هذا القانون يجد بعضها في غاية الشدة والقسوة كمعاملة المدين المفلس، فانه كان يمهل ثلاثين يوماً وهو مسجون مكبل بالحديد والقيود والسلاسل التي لا تقل وزنها عن خمسة عشر رطلا ثم يعرض ثلاث مرات في السوق العمومي لاستجداء الأصحاب والأقارب، وبعد انتهاء الثلاثين يوماً إما أن يعدم أو يصير عبداً للدائن يبيعه ويقضي دينه، وإذا كان له جملة دائنين حق لهم أن يجزئوا لحمه قطعاً وينتقم كل منهم لنفسه بتقسيم بدنه هذا التقسيم الشنيع (انظر جيبون جزء 4 صحيفة 589 إلى600) وكانت أحكام الرومان الجنائية قاسية للغاية، فكانوا يلقون المذنب لافتراس الوحوش الكاسرة في محل يسمى: الأنفتياتر. . . الخ ما ذكره
هذا بعض ما قاله العلماء الغربيون عن الفقه الروماني القديم ومخالفته للجديد، وهو كاف - بلا شك - في خرق الإجماع الذي ادعيته عندهم يا حضرة الأستاذ على استمرار القانون المعهود بينهم من ذلك العهد، ولا نناقشك الآن في أصل احتجاجاتك بسكوت الأوربيين عن جرح القانون الروماني المعهود لديكم أو تلفيقه إلا بهذا، ولا نعيد لك ما قاله العلامة ابن تيمية، ولا أبو الوليد ابن خيره؛ فقد يكون كل كلام لا يروج لديكم إلا إذا كان عليه الطابع الأوربي، فذاك عند بعض قضاء لا يرد قائله، غير أننا سنمهلكم وننتظر حتى يأتي يوم تصيح بكم فيه أوربا الحبيبة: أن أصلحوا معلوماتكم، وغيروا مُذكراتكم، فعند ذلك تخفون(114/40)
لصوتها قائلين: غطى هواك وما ألقى علي بصري!
سقوط قياس القانون الروماني بالقرآن
قلت أيها الأستاذ في الصفحة 1216 من الرسالة: (إن البينات تختلف بحسب الأمور المراد إثباتها، فإذا كانت هذه الأمور غير مدونة بنفسها كالحديث الشريف فلابد حينئذ من ذكر الأسانيد وسرد الروايات، أما إذا كان المراد إثباته مدوناً بنفسه لم يعد مجال حينئذ إلى الأخذ بطريق الرواية والإسناد، وصار لا بد من التدليل عليه بنسخه الأصلية، التي وضع بها، أو بالنسخة التي أخذت من هذه، فالقرآن الكريم مثلاً لما كان قد دون في العهد الذي نزل فيه وجمعت صحفه المدونة في عهد الخليفة الأول، وانتقلت إلينا نسخ مخطوطة منه كتبت في عهد قريب من عهد نزوله، لم يلجأ إلى الرواية لثبات صحته؛ وكذلك أيضاً شأن الشرع الروماني الخ) وقلت في صفحة 1215: (لئن جاز في نظرنا لأحد من النصارى أو اليهود المتعصبين أن يجزم بأن القرآن الذي بأيدينا هو غير القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأنه مختلف من جماعة من علماء المسلمين الحديثين، مكتفياً للتدليل على ذلك بأن يقول لنا: هاتوا دليلكم، فقد حق كذلك لصاحبي المقالين المتحمسين أن يزعما ما زعماه) فما أغناك أيها الأستاذ عن قياس القانون الروماني بالقرآن الكريم؛ وزعمك أن الاستناد في إثبات كونه هو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي نسخة المخطوطة القديمة الموجودة، لا روايته الصحيحة، فحينئذ هو عندك في نسبته إلى الشارع (كنسبة القانون الروماني المعروف إلى جوستنيان؛ وهذا تقرير لا أعلم مسلماً قاله قبلك أيها الأستاذ الفاضل، فالعمدة في إثبات القرآن الكريم ليست نسخة المخطوطة فحسب، بل المقرر حتى عند تلاميذ المدارس الابتدائية أن العمدة في إثبات القرآن الكريم إنما هو التواتر، والتواتر أقوى الأسانيد وقد تلقاه الجيل عن الجيل؛ ورواه الخلف عن السلف بالتواتر في كل عصر من عهد نزوله إلى اليوم، ولم يقل أحد بأن العمدة في ثبات القرآن إنما هي نسخة المخطوطة القديمة فقط. وكيف يقاس القانون الروماني الذي لا يعلمه إلا الأفراد من المتعلمين بكتاب يتلى في كل مسجد وزاوية، بل في كل بيت في بلاد الإسلام، وفرض على كل فرد من المسلمين تلاوة شيء منه في كل يوم خمس مرات، ذلك بعد أن حفظه الجم الغفير عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عصره، حتى ثبت أنه(114/41)
قتل في يوم اليمامة فقط سبعون قارئاً، وروته الألوف عن الألوف من ذلك العصر، وهكذا دواليك إلى اليوم، ولا يبلغ الطفل المسلم سن التميز إلا ويوجه لتعلم القرآن الكريم قبل دراسته لأي شيء كان
أين يكون قانون لا يعرفه إلا الأفراد من المتصدين لدراسة الحقوق من كتاب يدرسه العابد في محرابه، والتاجر في سوقه، والزارع في ريفه؛ ويشترك في تلاوته الشريف والوضيع، والذكر والأنثى من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير، حتى أننا لو فرضنا أن المدنية العصرية قد عمت العالم وتخللت أوساطه الرفيعة والمنحطة، وأريد أن يتلى القرآن بالمذياع على كل ذي مصحف لانفتحت عند سماعه مائة مليون مصحف في شرق الأرض وغربها، ولو أخطأ القارئ في فاتحته لرد عليه عند ذلك فوق ثلثمائة مليون صوت من أنحاء الدنيا!
هل يقاس هذا إلى ذاك إلا إذا قيست الذبالة بالغزالة؟
وقلت: أما المناقضات التي وقع فيها. . . صالح العلوي. . . فأشير منها إلى ما جاء في السطر الثاني من الجانب الأول من الصفحة الـ 781 من الرسالة، فبعد أن قال: إن الفقه الروماني اختفى ثم اكتشف ولم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر وأنه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم قبل القرن الحادي عشر) وقال في السطر 22 من الصفحة نفسها (إن دعوى اختفائه أكذوبة) ثم ما لبث أن استند إلى قول العلامة سافنيه: (إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع الخ
ومحصل ما نسبته إلي أيها الأستاذ أنني أؤيد دعوى اختفاء القوانين ثم اكتشافها ثم أدعي أنها لم تختف بل بقيت معمولاً بها وأستند لذلك بقول سافنيه:
هكذا شاء قلمك يا أستاذ الحقوق أن يصنع، وهكذا أراد أن يمسخ الحق ليصوره باطلاً فيقطع من عباراتي ما شاء ويصل، ولا يتورع من أن يبلع بعض الكلمات بلعاً؛ ذلك ليبني مما قلته تناقضاً
وانظروا أيها القراء ثم احكموا، أما ما قلته في السطر الثاني من الصفحة 781 فهذا نصه بالحرف: (ثم إن الفقه الروماني - على زعم أنه اختفى ثم اكتشف - لم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر بعد الميلاد، أما قبل الحادي عشر فانه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم، ولا شك أن الفقه الإسلامي قد قرر وصنف الخ) فقلت(114/42)
هنا على زعم أنه اكتشف الخ، لأبين أن تأثير الفقه الإسلامي بالفقه الروماني غير معقول حتى على زعم أن الفقه الروماني الموجود هو القديم نفسه وأنه اختفى ثم اكتشف لأنه على هذا الزعم لم يظهر بزعمهم إلا بعد الحادي عشر وقد وجد فقهاء الإسلام وألفوا وصنفوا قبل ذلك بزمن طويل وهناك قلت: وما قيمة زعم تأثر الفقهاء بالقوانين الرومانية إذا كان مصنفو الفقهاء وأئمتهم ومنهم: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي الخ. درسوا وألفوا وصنفوا قبل أن توجد أو تعرف القوانين الرومانية للرومان أنفسهم. أليست هذه مهزلة مضحكة؟
وقلت إنني قلت في السطر 22 من الصفحة نفسها (إن دعوى اختفائه أكذوبة) وجعلتها بين قوسين، وهذا يفهم أنها بالحرف، وأصلها بالنص: (إن دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره بعد ستة قرون أكذوبة لا مرية فيها، وقد كان الفقه الروماني معروفاً وهو أشبه بالفصول المضحكة)، ولكن قلمك يا أستاذ الحقوق أدى منها هذه الكلمات الثلاث أو الأربع وذهبت الكلمات الباقية ضحية في سبيل خلق التناقض الموهوم!
وأما العبارة الأخيرة فلم تذكر سطرها ولا جانبها، وقد يكون ذلك لكونها تبعد عما قبلها بأسطر والغرض إيهام القراء وجود التناقض في عبارة متصلة وقد ذكرتها أعني العبارة الأخيرة بنصها ولك الشكر، غير إنك اختزلتها اختزالاً كي تجعلني أمام القراء ملزماً بها بزعمك بالاعتراف بأن الفقه الروماني الحديث هو القديم، والعبارة (ثم إن حكاية اختفائها وبروزها في القرن الحادي عشر لم يقل بها غير هولود فيكوس سنة 1501 م ثم راجت. أنظر جيبون 4 صفحة 555، وقد اعتبرها بعض العلماء إذ ذاك غير حقيقة فقد قال القانوني الشهير سافنيه إن القوانين الرومانية لم تختلف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع. اهـ، ويعني بها القوانين القديمة المقدم ذكرها) هذه عباراتي حرفياً، وبهذا وذاك ينكشف للقارئ الكريم أنني لم أقل إن الفقه الروماني اختفى ثم اكتشف إلا وأنا مبين بأن مبين ذلك زعم، وقلت إن للرومان قانوناً معروفاً كله همجية وقسوة، وهو الذي لم يختف وهو المعنى بقوله سافنيه، وكلامي صريح في ذلك وبهذا يتضح ألا تناقض وإن كان فإنما هو في مخيلة الكاتب الأديب!
يا حبذا العصبية والعاطفة القومية!(114/43)
وتقول أيها الأستاذ: فأولى بشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين ثم تقول: (إن في دعاواهم ما يضر بالإسلام ويسئ بثقافته الظنون) فيا عجباً لك أيها الأستاذ أدفاعنا عن الإسلام بالبرهان والمنطق يضر بالإسلاموتعصبنا لديننا يسيء بثقافتنا الظنون؟ هكذا تعصبنا نحن فقط يضر بديننا؟ لماذا يضر التعصب (على فرض وجوده) بنا وبديننا ولم يضر بأروبا ولا بدينها وقد ضربت فيه الرقم القياسي وبلغت النهاية؟ ألم تتقول أروبا على الإسلام بما ليس فيه وتقذف أهله بما يندى له جبين الشرف، وترمي نبينا العربي صلى الله عليه وآله وسلم بفري تصرخ منها الحقيقة ويضج لها التاريخ؟ فعلت ذاك ولا تزال تفعل إلى اليوم. فهل أضر بها لديكم فتيلاً؟ لقد أشبع الأوربيون ديننا زوراً وأوسعوا تاريخنا مسخاً وتشويهاً مما لو جمعنا بازائه كل ما قاله متعصبو المسلمين فيهم لما كانت نسبته إليه إلا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس؛ وهاهم أولاء يملأون الدنيا تبشيراً بدينهم، ودعاية لهم غير آبهين عند ذلك بأن يسفهوا الأديان ويكيلوا أنواع الأفك على مشرعيها. فهل أضر ذلك أيها الأستاذ بمسيحيتهم؟ وهل أساء بثقافتهم لديكم الظنون؟ أو هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
أما إذا قمنا لندافع عن ديننا بالتي هي أحسن ونظهر فضل تشريعه على العالم ببراهين كافية وأدلة وافية متذرعين بأقوال بعض الأروبيين أنفسهم غير قاذفين لأحد ولا متهجمين على أحد قلتم إننا متعصبون نسرف في القول على علماء أروبا الذين لا يمكن أن يزوروا، وأنهم وضعوا الحقيقة في أعلى المنازل وجعلوها فوق كل شيء لأن فلاناً ألف كتاباً عن النبي صلى الله عليه وعليه وآله وسلم، وفلاناً قال كلمات تعتبر ثناء على الاسلام، والآخر مدح فلاناً المؤرخ العربي وقال إنه من سلف علمائنا، فأولئك قوم رضى الله عنهم ورضوا عنه، فاصمتوا فلن يقولوا إلا حقاً، ولن يخبروا إلا صدقاً. ومعنى هذا أغلقوا أبواب البحث عن أروبا وتلقوا كل ما تلقيه عليكم بالتسليم. هكذا احتججتم وبهذا قضيتم؛ فما لكم كيف تحكمون؟
أما العصبية أيها الأستاذ فما أعظم رزء قومنا بفقدها. وأما العاطفة القومية فما أحوج أمتنا إلى الشعور بها فإننا الآن في زمان لا ملاذ فيه إلا للقوة ولا صولة فيه إلا للعصبية. فنحن في عهد تنشد فيه العصبية وتحمد فيه العاطفة الدينية، ومن لا يتعصب لدينه لا يتعصب(114/44)
لقومه ولا وطنه؛ وهل تلتمس القومية عند من لا عصبية له إلا كما تلتمس عند الديوث خلال الشرف. إنني أنصحكم أيها الشباب عن هذا الضعف وأحذركم عن هذا التلاشي والاندماج في أروبا، إنكم في حاجة لغير هذا
فيا شباب العرب! كونوا في عصبيتكم لدينكم ناراً تتلهب، وكونوا في عواطفكم أعاصير تلوي بكل ما هو أمامها من باطل وبغي. وكونوا في مبادئكم جبالاً لا تعبأ بالزلازل ولا تحركها هوج العواصف
إن المجد والحرية يدعوانكم من وراء القرون أن تتقدموا إلى الأمام. فتجهزوا يا أبناء جنود الفتوح وسلالة فوارس بدر. فحيا الله عصبية العروبة وعاطفة الإسلام، وسلام على صدور امتلأت أحناؤها بنور الإسلام، وفي سبيل الله نفوس للآباء أزهقت طعناً بالرماح وقعصاً بالسيوف ضحايا على أعتاب الإسلام!
سنغافورة
صالح بن علي الحامد العلوي(114/45)
المصيف
للأستاذ محمود خيرت
خلا الرّبعُ في الصيف من ربّه ... فهلاَّ خلا الدمعُ من غَربه
وكم ضاق ربعٌ بِسُكانِه ... فولَّوا فراراً على رَحبه
وحَسْبهمُ القيظ عذراً فمَن ... يُؤاوى الجحيمَ إلى جَنبه
ترى الناس في زُمَرٍ يركُضون ... منازيحَ كالطَّير في سِربه
إذا سعَّر الحرُّ رطْبَ النَّسيم ... تنقَّلَ يبحثُ عَن رَطبِه
وليْس السِّفارُ ووعثاؤه ... بِصارفِه عن جَني طلْبه
ومْهما تمرَّرَ طعْمُ الدواء ... فإنَّ السلامة في شرْبِه
وأما المصيف فمن ذا الذي ... تعلَّلَ منهُ ولم يُصبِه
هناكَ الطَّبيعةُ فتَّانةٌ ... ترِفُّ من الحْسن في ثوبِه
هناك الجمال وسُلطانه ... هناك الهوى بأساليِبه
إذا ما الغواني رمي لحظهنّ ... شرِبتَ الدموعَ على نخْبِه
وهَمَّ الخليُّ ثقيلَ الهموِم ... يُسِرُّ إلى جاره ما بِه
وقد سبَقَتْ وعْيَهُ كفُّهُ ... إلى موضع الجُرح من قَلبِه
وتخطرُ في الشَّطّ أغصانُهنَّ ... دلالاً فيُوغِلُ في عُجبه
وعُجْبُ المليحات مِن دأبهنَّ ... وما كان للشطِّ مِن دأبه
ويَجلِسْن تحت مظلاّتهنَّ ... نَشاوى وكلٌ إلى صحْبِه
يطوف الحديث بأرجائهنَّ ... أَلذَّ مِنَ الصفو في ذَوْبِه
إذا حل أُذْنَ نَزِيلِ الشباب ... لواهُ وزعزع مِن لُبَّه
وإن حلَّ أُذْن المشِيب ... أعاد الشَّباب إلى شَيْبه
ويسمعُه الطير في روضهِ ... فيهتزُّ الأنوفَ شَذا طيبِه
ومهُنَّ مَن راقَها في العُبَاب ... زئير الضَّراغمِ مِن صَخْبِه
فوافَتْه تَسْبحُ جبَّارةً ... فهلْ خرَجتْ فيهِ من صُلبِه
فما راعَها هوْلُ أمْواجِهَ ... ولا راعها الهول في جُبِّه(114/46)
ومَن كان في الخَطْب ذا مِرَّةٍ ... أصاب المَقاتل من خَطْبه
فهذا المصيفُ ولذَّاته ... وهذا هو السِّرُّ في حُبِّه
فشتان بين لهيب الجحيم ... وطيب النعيم وأسبابه
إسكندرية
محمود خيرت(114/47)
تحية مصر
بقلم الياس قنصل
أبليتُ كلّ تصلُّبي وعُرامي ... - قال الزمانُ - وما بلغت مرامي
جمعتْهما بيضُ الخلال ووثَّقتْ ... تلك العرى لغُة الكتاب
يتسابقان إلى العُلا بأُخُوَّةٍ ... وشّى سناها صفحةَ الأرحاِم
قطران في عقدِ العروبةِ برّزا ... أرضُ الشآم وموطن الأهراِم
يا مصرُ (سعدُكِ) كان أيضاً سعدنا ... في دفع شر الظلِم والظلاِم
وجهادُ فتيةِ جلَّق لكِ حصَّة ... منه، تخلخل أضلع الأخصاِم
من يخبر الغربَّي أَنَّ رجاَءه ... في شرقنا وهم من الأوهاِم
يحظى بنيل الحقِّ شعبٌ صادَفتْ ... أسيافُه دعماً من الأقلاِم
يا مصرُ يا أُمَّ الحضاراتِ التي ... مهدتْ سبيل الحقِّ للأَفهاِم
ما دشَّن التاريخَ قبلكِ للورى ... شعبٌ بآي السؤدد المترامي
أنتِ التي نطق الجمادُ بمجدِها ... من غير ماعَيٍ ولا إبهاِم
في كلُّ تمثالٍ هناك عضارة ... من عزّكِ المبنيّ بالاقدامِ
في أيِّ عصرٍ لم تكوني معقلاً ... من كلّ نائبةٍ لكلِّ مُضاِم
لجأَ المسيحُ إليكِ فاتَّضعتْ له ... بعد الهياج عواصفُ الأياِم
وأتاكِ أعلامُ فأُمِّنوا ... من شرَّةٍ الحكَّاِم والأحكاِم
خلقٌ لنيلكِ ما تضاءل فضلُه ... بل عزّزتْه فضائلُ الإِسلاِم
للشعرِ فيكِ بلابلٌ صدَّاحة ... علويّة الألحانِ والأنغاِم
قبستْ من الروض الجمال فكان في ... إنشادِها بسنائه النَّماِم
لا ترتضي لخيالها يوماً سوى ... مغنى الأثيرِ ومسرح الأَجراِم
قلبُ العروبة منصت لنشيدها ... إنصاته للوحيِ والإلهاِم!
كم في سجلّ الفنّ عندكِ من فتي ... بلغ النبوغُ به أجلّ مقاِم
إن كان فخركِ بالممثّلِ رائعاً ... ما القول في النحَّاتِ والرساِم؟
في كلِّ ميدانٍ لأهلكِ جولةٌ ... محفوفةٌ بالفوز والإعظاِم(114/48)
أنتِ المليكةُ والفنون لآلئٌ ... في تاجكِ المتألق البسَّاِم
يا مصرُ لم أنبس بذكركِ مرَّة ... إلاّ وروح الشوقِ طيّ كلامي
إن كانت الأقدارُ تأبى أن أرى ... فيكِ البهاَء فأنتِ في أحلامي
هذى مناجاتي لنيلكِ اكبرتْ ... ببني الكنانِة حكمةَ الأعواِم
لا زلتِ للمجدِ المؤثَّل شارةً ... وعليكِ منِّي ألف ألف سلاِم!
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل(114/49)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
19 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فريدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
كانت أولى مآثر نيتشه للامعة في الفلسفة (نشأة المأساة)، فهي المثل الأعلى الذي وجده في البطل (ايشيل) والفيلسوف (شوبهناور) والفنان (فاجنر)، وفي أخريات أيامه جدد نيتشه العهد لمثله الأعلى الذي تكرر في (السوبرمان - الإنسان الكامل)، وبين هذين العصرين تمتد هاوية عميقة تفصل بين هاتين القمتين: عصر سلب ونقد مفرط. إن نيتشه قد عجل بالبناء وكأني به قد شعر بأن مواد بنائه لم تكن صلبة بالمقدار الذي يجب أن تكون عليه. ألم يحس في نشأته الأولى أن في أصول (شوبهناور وفاجنر) ما لا يمت بأصوله ولا يلتقي مع فكرته، فعمل على اقتلاع ما لا يتصل به واستخلاص ما داخل فكرته مما لا يوائمها. وفي العصر الثاني رأيناه يقتفي سبيله الذي انتهجه في البدء بعد أن حطم ما حطم من قيم فاسدة ونظم معفنة دون ما رأفة ولا شفقة. وبهذا انتقل من مرحلة السلب إلى مرحلة الاثبات، واستبدل جرأة الناقد بذهول النبي. وكان من آثار ذلك العهد الأول (أشياء إنسانية) و (آراء مختلفة) و (المسافر وظله) و (فجر)، وكلها سطرت يوم كانت الحادثات تهد صحة نيتشه، وكلها وليدة ذلك الحذر الأعمى من الوجود، هذا الحذر الذي ولده الداء في نفسه، فالريح الذي يخفق حوله بارد قاتم، ونيتشه يلوح كالمهدم العابث الذي زال من صدره عامل الإشفاق، يعمل على تهديم أسوار الشرائع وتحطيم أبراج الأخلاق، ففي كتابه (أشياء إنسانية) يحارب التشاؤم ويسطو على معلمه (شوبنهاور) جاحداً مذهبه، كافراً بتعاليمه، لا يؤمن بأن الإرادة شيء قائم بذاته، نافياً القول بإمكان (شيء يقوم بذاته)، يقاتل عاطفة الرأفة والشفقة، ويرذل فضيلة الزهد، هذه الفضيلة التي تجرد الإنسان من شخصيته وأنانيته، وفي هذا الكتاب أصبح لا يرى غاية الإنسانية توليد العبقرية كما جهر من قبل؛ ولكنها بمجموعها تمشي ولا غاية تسعى إليها. وفي كتاب (المسافر وظله)، يعلن ذلك الظل الذي يلحق الأشياء حين تشرق عليها شمس المعرفة، ويعتقد بأن الأشياء لا تدرس واضحة(114/50)
جلية عندما يحدد دارسوها دراستها على ضوء المعرفة (المثالية) لأنه لا يبدو إذ ذاك من الأشياء إلا أجزاؤها المضيئة، أما الأجزاء القاتمة فتبقى بعيدة عن نظر المجتلي، وهكذا ينبغي للمفكر الحقيقي الذي يرغب بأن تكون له فكرة تامة عن الحقيقة أن يتأملها من وجهها الخفي. وفي كتابه (فجر) يُخضع نيتشه لنقده مسألة (القيم والنظم الأخلاقية) التي يقدسها الناس ويحترمون قواعدها، هو يرى أن الأيمان بالواجب ليس بنظام سماوي ولا بتعليم أوحته السماء على البشر، وليس هنالك قاعدة خالدة لتمييز الخير من الشر، وهذه الشريعة الأخلاقية التي تجبر الإنسان على أن يكون صادقاً أمام نفسه في كل شأن، قد تنتهي بالاضمحلال، فقد يغدو الإنسان بالأخلاق ردئ الأخلاق، كما يغدو بالدين زنديقاً، لأن إخلاصه لعقله يزجيه إلى أن يقذف بنقده الأخلاق ذاتها، وأن يكون في ريب من نظمها
والمثل الذي استخلصه نيتشه من الوجود أصبح يدنو الآن من المثل الواقعي، فقد يرى أن كل كائن في الثلاثين من أعوامه الأولى تتولد فيه حركة قد تحتاج الإنسانية إلى ثلاثين ألف سنة لتحقيقها. الإنسان الأول ينشأ في حداثته مؤمناً متديناً، ثم فاقداً لإيمانه في الله والخلود، مأخوذاً بما يزين له العلم النظري، ثم يفقد العلم النظري تأثيره، حين يمسي لا يشبع نفسه ولا يكفي عقله. وفي النهاية تستيقظ فيه الروح العلمية فتقوده إلى دراسة التاريخ والطبيعة درساً صحيحاً. وفي إنسان العلم وفي الروح الحر المفلت من كل وهم زائل والمنعتق من كل اعتقاد باطل، في هذا الإنسان يرى نيتشه الإنسانية المتسامية، فالروح الحر هو متشائم يعتمد على عقله، وهو مفتقر إلى صحة أدبية قوية لا غش فيها، تعمل على الحيلولة بينه وبين الاستسلام إلى اليأس والفناء، وليس من السهل على الإنسان أن يمزق عن جسده أثواب الخطأ الملتفة عليه في كل جانب ليرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، (فالحياة الإنسانية غارقة بأكملها في الأخطاء، وليس في استطاعة الفرد أن ينتشل نفسه من هذه الهاوية إذا لم يكن خصماً قاسياً على ماضيه، كثير السخرية من الإهواء التي تدفعنا إلى الإيمان بالمستقبل وبالسعادة الآتية)، وبهذا يستطيع إذا كان جريئاً صافي الطبع أن يجد في العلم ما يعمل على استنقاذ روحه من اليأس، فان المعرفة المبطنة بالتشاؤم تنقذه من السأم الذي يأكل قلوب سواد الناس. حتى إذا قدر أن يتحرر من كل ما يحترمه الناس زاده تمتعه بالأشياء طرباً وجمالاً، فهو يهوى أن يحلق فوق الاضطراب البشري لا يخفق قلبه رعباً فوق العادات(114/51)
والأوهام والعقائد، هو يحيا لكي يفهم فهماً صحيحاً، وإن أسمى مكافأة عنده هي أن يتفهم في نفسه وفي غيره من الأكوان هذه النواميس الضرورية المتجلية في حركات الكون، وأن يستدل - كالمنجم - على مستقبل الذرية البشرية
(وهل تعتقد بأن مثل هذه الحياة المتجلببة بمثل هذه الغاية باعثة للفناء خالية من اللذة؟. . . . إنك لم تدرك أن السحب الثقيلة، سحب الأحزان هي أثداء ضخمة ترضع منها أفاويق عذبة حلوة، لتقبل الشيخوخة فتفهم بنفسك كيف تلبي نداء الطبيعة، نداء هذه الطبيعة التي توجه العالم إلى السرور. هذه الحياة التي اتخذت الشيخوخة سنامها اتخذت الحكمة ذروتها. . . وهل الحكمة إلا ذلك الشعاع المنبثق من الفرح العقلي. . . الحكمة والشيخوخة عنصران نراهما على قمة طود واحد - هكذا شاءت الطبيعة - قد تقترب الساعة فلا تهتج! ولتكن حركتك الأخيرة - حين يتراكم ضباب الموت - جهداً تبذله وتوقاناً نزاعاً إلى النور، لتكن تنهداتك الأخيرة أنشودة انتصار الحكمة)
ومنذ عام 1882 بدأت تتبدل لهجة نيتشه تبدلاً محسوساً على أنه ثابر على نضاله ومحاربته لعقائد جيله حتى النهاية. فكتبه الأخيرة إنما هي غارة شعواء ضد المسيحية وما تحمله من زهد وتقشف. ولكن هذه الصيحات التي يرسلها قوية عالية أصبح يمازجها قليل من الألحان العاطفية؛ ألحان نشيد الانتصار
عاد نيتشه إلى صحته بعد أن قضى أيام علة وسأم، يرتقب الموت في كل فجر يتنفس، وفي كل ليل يتعسعس. عاد إليه رجاء جديد وتنفس جديد، - والأرض أرحب بكثير من كفة الحابل. . .! - يقول في فاتحة كتابه (العلم الطرب): (إن هذا الكتاب هو صيحة طرب بعد أيام طويلة مكفنة بالبؤس والعجز. هو إغنية مرح تتهادى فيها أصوات قوى بعثت بعثاً جديداً وألحان إيمان واسع في الغد وما بعده، في مستقبل مفتوح لي يحمل طيه حوادث قريبة، ينطوي على بحار حرة وغابات جديدة تجذبني نحو ما أستطيع أن أبلغه وأقدر أن أومن به) وهكذا تقشع من سماء نيتشه سحاب اليأس القاتم، فبانت له سماء صافية مضيئة. رحل الشتاء المتجمد وخفق قلب ربيع جديد.
وفي هذه الخطرات الجديدة التي هيمنت عليه عادة الشك في قيمة ذلك الروح الحر الذي بشر به وجعل منه مثالاً عالياً. إن هذا الروح الحر عابس ينقصه روح الطرب، قد جعل(114/52)
منه الألم كائناً كئيباً وهذا الروح لا يزال ثقيلاً لم يتعلم أن يرقص وأن يلعب ويفرح حراً طرباً وثاباً على أمواج الحياة، إن هذه الفكرة خلقت لنيتشه خيالاً جديداً انطوى على الصورة الرائعة التي وجدها في نبيه (زرادشت) هذا النبي الذي قضى في الصحراء عشرة أعوام، مرتاحاً لعزلته وفكرته، ثم نزل إلى الناس يلقنهم الديانة الجديدة، ديانة السوبرمان والعودة الخالدة، وهو يجمع حوله في مناراته المنعزلة نماذج متقاربة صافية للإنسانية المتألمة السامية. إن رجال الرغبة الكبيرة والاحتقار الكبير والسأم الكبير؛ هؤلاء الرجال يجب أن يفسحوا مكاناً للسوبرمان الذي يشفيهم من تشاؤمهم ويضيء لأعينهم آفاق المستقبل، ثم يموت في اللحظة التي يبلغ فيها أعلى ذروة الحكمة، في اللحظة التي تبلغ فيها شمس وجوده سمتها الأعلى في الهاجرة الكبرى، معلناً بموته انتصار مذهبه
وقد رأينا توصلاً إلى تحليل فلسفة نيتشه تحليلاً منطقياً أن نقسمها إلى قسمين: الناحية السلبية، وهي تنطوي على نقد الإنسان الحالي ونقد إيمانه وغريزته، والناحية الإيجابية، يبحث فيها السوبرمان وعودته الخالدة، وبهذا تبدو أفكار نيتشه مرصوفة ضمن نظام مذهبي لم تعرف به من قبل. لأن هذه الأفكار في الآونة الأخيرة لم تثبت على حال معهودة فهي سريعة التبدل وسريعة التنقل. ونتشه نفسه لا يريد أن يكون فيلسوف مدرسة. . . لأن الحقيقة عنده لا خلاف فيها. على أنه لم يحجم عن مهاجمة الآراء التي يراها فاسدة بأدلة باهرة وحجة منطقية (إلا أن غريزتي تريني في هذا الإنسان أو في هذه الكتلة من الناس جماعة منحطة تدعو إلى الاحتقار. . . وفي هذا المذهب أو في هذا الإيمان جرثومة مرض. . . إنني أحاربهم وأكافحهم كما يكافح الخطر والمرض. فإذا صح أنني أنصر مذهباً حياً وخصومي ينصرون مذهباً فاسداً فالنصر لا ريب معاودي، وفي الحالة المعاكسة لا يأتيني إلا الخسران! وبما أنني لا أريد إلا شيئاً واحداً هو انتصار الحياة، أراني أطرب بانكساراتي كما أطرب بانتصاراتي وكل ما وراء ذلك عندي سواء
أو ليس من الغباوة أن نشيد مذهباً منطقياً لفلسفة نيتشه ضمن هذه البوادر، شأن فلسفة (كانت) وشوبنهاور، وليس للمنطق كبير شأن في هذه الفلسفة؟. على أن نيتشه إذا صح حدسي كان يأتي المسألة ويدرسها من جوانب مختلفة، يتلقنها ثم يدرسها ثم يفحصها حتى تحين اللحظة التي يطلق فيها حكمه الأخير. فإذا درست آثاره أثراً أثراً ألفيت أن المواضيع(114/53)
نفسها تطوي وتنشر ومن وراء ذلك عقل نيتشه العظيم. وإذا لم يأخذ نيتشه بالمنطق ونظامه الدقيق كما يأخذ به أرباب الفلسفة فليس معنى ذلك أن الرجل خلت أحكامه منها، أو أن عقله لم يكن منطقياً. فالرجل حاد الفكر، وفلسفته - من حيث المجموع - يربط بينهما نظام منطقي دقيق. ولكن صحته السيئة حالت بينه وبين ترتيبها ترتيباً فنياً، فجاءت مقاطيع متفككة بأجزائها كاملة بكليتها. مقاطيع أودع فيها صاحبها كل نفسه وقلبه
(يتبع)
خليل هنداوي(114/54)
القصص
صور من هوميروس
4 - حروب طَرْوَادَة
التعبئة
للأستاذ دريني خشبة
عاد منالايوس من رحلته في الحدود، وليته لم يعد!
لقد جُن جنونه حينما علم من أمر زوجه وضيفه ما علم!
(علام إذن كانت كل هذه الضجة التي أحدثتها تلك اللعينة قُبيل زواجها؟ لقد تركت عشاقها الكثيرين صرعى حول قصر أبيها، وظلت تتيه وتدل وتتأبى وترفض، وفيهم شجعان هيلاس وحماتها وأباتها، وملوكها الصيد، وفرسانها المذاويد!
فيم إذن كانت كل هذه الضجة؟
هل منحتني جسمها فقط، يوم اختارتني بعلاً لها؟ وهل ذخرت قلبها للعشق الأثيم، والهوى الفاجر، حتى ترزقها شياطين الفتنة هذا الشاب الغرانقاللاهي المستهتر، فراحت تقدمه فوق مذبح جمالها قرباناً للذاتها النجسة، وتقدمه لشبابه الذميم؟ واحربا! هل اختارتني بعلاً لها، لا لشيءٍ إلا أنني ملك وسليل آلهة؟!
يا للفاجرة!
أفي ذلك البيت الرفيع الذرى، ظلت تتقلب التاعسة في ذراعي هذا الخائن، شبقةً متلذذة؟ هل ظل هو يضمها إلى صدره الثائر في شدة وعنف؟! هل كانت تستزيده؟
أيتها الجدران الحزينة! كم قبلةٍ دنسة أصمت آذانك، وكم صرخةٍ فاجرة دوت كالرعد في حناياك؟ حدثيني أيها الهواء المسمم عما كنت تشهد في صميمهما، حين كانا ينفثانك من صدريهما سماً قتالاً! خبري أيتها الستائر، أيتها المصابيح، يا شموع قصري، أيتها الأرض الملوثة، أيها العرش المهين، أيها التاج الذليل. . . أيتها الكؤوس المتناثرة، والأكواب المقلوبة. . . تحدثي إلي!!
حدثيني يا كل شيءٍ هنا عن مهازل الفسق ومذابح الشرف!(114/55)
آه! الشرف؟! الخرافة الكبرى!
الحرب!. . . الحرب!. . . الانتقام!. . . الانتقام من الفاجرة. . . اقتلوا الخائن. . . يا حلفائي. . . تندرايوس. . . أدعُ حلفاءك. . . لقد أقسموا جمعياً. . . لقد كنت تتوقع هذه النهاية تنداريوس. . . استيقظ. . . استيقظي يا أسبارطة. . . جنودي. . . شعبي. . . هلموا إلي. . .)
وهكذا أرسلها منالايوس صرخةً داوية تجاوبت أصداؤها في جميع أجواء هيلاس، واستجاب لها كل قادر على الحرب فيها. . . إلا القليل
لقد عجب عشاق هيلين حين وصلتهم صيحة تنداروس، وصدقوا يمينهم التي أقسموا، فلبوا سراعاً؛ وانتفضت هيلاس كلها فصارت ثكنة عسكرية تعج بالجند وتضج بآلات الحرب، واضطربت البحار بالأساطيل تيمم شطر أوليس، حيث اتفقت الكلمة على أن يبحر منها الأسطول المتحد؛ فلا يرسو إلا في مياه طروادة لبى الصيحة كل عشاق هيلين الذين أقسموا اليمين فهرعوا من المشارق والمغارب بخيلهم ورجلهم. . . إلا ملك إيتاكا. . . أوليسيز
أوليسيز
كبر في نفس أوليسيز أن يتقدم لخطبة هيلين فترفضه فيمن رفضت، وهو مع ذاك ملك إيتاكا وبطلها الحلاحل، وفارس هيلاس الذي لا يشق له غبار. وكبر في نفسه أن تؤثر عليه منالايوس، وهو مع ذاك دونه شجاعة وأقل منه إقداماً حين يثار النقع وتستحر الحرب العوان؛ وكبر في نفسه أيضاً ألا تكون له زوجة يفاخر بها هيلين، وأتراب هيلين، وآل هيلين، فذهب من فوره إلى عمها فتزوج أبنته الجميلة الرائعة بنلوب: (الزهرة التي تهتز للندى، وترقص لخيوط الشمس الذهبية، وتُغني مع الأطيار، ويسكر النسيم إذا داعب خديها. . . قُبلة الحب الخالد على خدود الجمال الطليق، وابتسامة السماء الضاحكة في قلوب المحبين المعذبين. . . بنلوب. . . الوديعة كالأطفال، الحلوة كالرضى، الصافية كقطرة الندى في أوراق الورد، المرحة كسطور الغرام في خطاب الحب. . . بنلوب. . . التي تفخر الأرض بأنها تحملها. . . والهواء بأنها تستنشقه. . . والسماء بأنها تظللها وتشرف عليها. . . والجبل بأنها تنظر إليه. . . والبحر بأنه يغسل قدميها المعبودتين!
بنلوب! ذات الفم العطري، والخد اللامع المورد، والجبين الناصع الوضاح، والعنق(114/56)
الناهضة الجَيْداء. . . ربيبة الآلهة، ولمحة الأولب، وبندورا الثانية. . .)
تزوج أوليسيز من بنلوب هذه، فأخلصت له الحب، وأصفاها المودة والغرام؛ وولدت طفله الجميل المتلألئ تليماخوس (تلماك)، فزادت محبتها له، وتضاعفت عبادته لها، بعد هذا الرباط القدسي الكريم
عز على أوليسيز أن ينأى عن زوجته الجميلة وطفله العزيز المحبوب، لا لشيءٍ يجر عليه مغنماً أو رفعة، ولكن ليحارب حرباً لا تعلم إلا الآلهة كيف تنتهي؛ فقد تكون عقباها القتل أو الغرق أو الأسر، فتعيش الزوجة الجميلة أيما محزونة، ويحيا الطفل يتيماً مُفجعاً. . . وثمن ماذا كل هذه المصائب وتلك الآلام؟ ثمن امرأة أذلت سادة هيلاس، وجرحت كبرياء زوجها، وفضحت أباها. . . ثم. . . هتكت عرضها، إذا كان لها عرض، بفرارها مع هذا العاشق الفاجر الأثيم!!
لم يشأ أوليسيز أن يقامر بسعادته وحياته في هذه الحرب إذن، ولو كان في ذلك، كله أو بعضه، الحنث العظيم. . . فما يمين شرفٍ هذه التي يتمسك بها ملك كملك إيتاكا، من أجل امرأة ليس لها شرف؟!
ليقعد إذن عن هذه الحرب، وليصم أذنيه دون صيحتها الكبرى، فإذا ألح عليه الملحون. . . فهو مجنون مأفون مخبول. . . لا تهيمن عليه مسكةٌ من عقل ولا ترشده أثارة من تفكير
أرسلوا إليه رسولهم السياسي الكبير بالاميديز يحضه على الحرب ويذكره بيمينه التي آلاها، ويحرضه على (الطرواديين اللؤماء، الذين يوشكون أن يفضحوا الهيلانيين في أعراضهم) ولكنه ألفاه يحرث شاطئ البحر بمحراثٍ هائل يجره ثورٌ ذو خوار. . . وحصان عربي أصيل!!
- (عم صباحاً أيها الملك. . .)
- (. . .!. . .)
- (ماذا يصنع مولاي؟)
- (أحرث هذا الحقل الخصيب!)
- (أي حقل؟)
- (الحقل الذي ترى. . . أليس لك عينان تسمع بهما، وأذنان تريان ما أفعل؟)(114/57)
- (عينان تسمعان، وأذنان تريان؟. . .)
- (اذهب. . . لا تشغلني. . . أريد أن أبذر حقلي هذا الصباح)
- (وماذا عساك أن تبذر أيها الملك)
- (لست ملكاً لا تهزأ بي. . . نحن الفلاحين نطعمكم ونسمنكم ثم يكون جزاؤنا أن تسخروا بنا. . . اذهب. . . اذهب. . .)
- (ماذا تحاول أن تزرع هنا؟)
- (سأزرع مِلْحاً؟!)
- (تزرع ملحاً؟! وتحصد ماذا؟)
- (أزرع ملحاً، وأحصد. . . سمكا. . . ها ها. . . لالا. . . سأحصد باذنجاناً. . . . . . ولكن لماذا تقف هكذا جنباً مني؟ لماذا لا تذهب؟)
- (ألا تعرفني يا مولاي؟)
- (أرجوك! أنا لست مولاك ولا مولى أحد! اذهب ودعني اشتغل)
- (أنا بالاميديز يا مولاي! واأسفاه! إن هيلاس كلها تنتظرك ليومها المشهود!)
- (تنتظرني؟. . . إنها لابد جائعة يا بالا. . . يا باما. . . يا بالاديز!!)
- (لست بالاديز يا مولاي!. . . أنا بالاميديز!)
- بالاميديز! هذا عجيب! تعال إذن فاعمل معي. . . سَأسَأ. . . . . . . . .)
- (الحرب يا مولاي! الأساطيل في أوليس!)
- (أي حرب، وأي أساطيل يا رجل؟)
- (سنحارب طروادة!)
- (ولم لم تذهبوا بعد؟)
- (نريد أن تكون معنا، فالكل يهتف بك ويدعوك؟)
- (أنا؟ يدعوني أنا؟. . . أنت يا رجل لا تريد أن أزرع هذا الحقل ملحاً؟ وماذا أصنع في الحرب؟ هلى أخبروك أنني فارس؟. . . اذهب اذهب. . . سأسأ. . . . . . سأسأ. . .)
- (ألا تعرف من أنت يا مولاي؟)
- (وهل تعرف أنت من أنت؟)(114/58)
- (أنا بالاميديز، وأنت؟)
- (أنا؟ أتريد أن ترسل اسمي إلى الميدان؟. . . أتتركني بغير اسم يا رجل؟)
لم يستطع بالاميديز أن يفوز من أوليسيز بطائل، فقد مثل ملك إيتاكادور مجنون تمثيلاً متقناً، يحاول أن يفلت من هذه الحرب التي لا شاة له فيها ولا جمل، والتي قد يقتل فيها أو يؤسر من أجل زوجة خائنة لا شرف لها ولا عرض. بيد أن بالاميديز لم ييأس حين ما شدهه من جنون الملك، فان وسواساً وقر في قلبه أن هذا البله قد يكون تبالهاً، وأن ما بالملك من مس إن هو إلا حيلة يحاول أن يفلت بها من أرزاء الحرب وأهوالها، ثم هو حيلة كذلك للتحلل من اليمين التي أقسمت عشاق هيلين
لذلك لجأ بالاميديز إلى الحيلة هو الآخر، فانقطع أياماً ظل يرقب الملك فيها عن كثب، بحيث لا يراه أوليسيز، ولكن الجواسيس كانت تحمل أخبار السياسي الداهية أولاً فأولاً إلى رئيس البلاط، وهذا يحملها بدوره إلى مولاه. . . الذي يفطن إلى مكر بالاميديز فيبالغ في ادعاء الجنون، وينزل إلى البحر يحرث موجه. . . بعد إذ فرغ من حرث شاطئه!. . .
ويسقط في يد بالاميديز فيطلق آخر سهم في كنانته. . .
ذلك أنه تحايل فسرق تليماخوس الصغير، ولي عهد أوليسيز، والأعز عليه من نفسه، ومن الدنيا وما فيها. . . . . . سرقه فذهب به إلى حيث والده يحرث الشاطئ ويحرث البحر، فطفق يضع الغلام أمام المحراث ليرى ما يكون جنون الملك، هل يقتل ابنه، ويكون بذلك مجنوناً حقاً، أم يتفاداه، ويكون جنونه محض ادعاء وبلهه تلفيقاً؟!
ولكن الملك كان أحرص على ولي عهده، وقرة عينه، من أن يتم فيه حيلة بالاميديز الداهية! فكان كلما تعرض ابنه لخطر الموت، لوى عنان الثور، وذاد الفرس، متفادياً الطفل إلى الناحية التي لا يكون عليه فيها خطر. . .
فتضاحك بالاميديز، وفضح جنون الملك، وأخجل حيلته. . ثم لم يزل به حاضاً محرضاً حتى أقنعه بوجوب خوض هذه الحرب مع إخوانه الهيلانيين
ازدحمت جحافل الهيلانيين في أوليس، وانعقد المجلس الحربي لانتخاب القائد الأعلى، فاختير ابن الشمس البكر، أجامنون، شقيق منالايوس وصفيه، بالإجماع
اختير أجاممنون للقيادة العامة ولو لم يكن خير أعضاء المجلس الحربي. وكيف يكون كذلك(114/59)
ومن أعضاء هذا المجلس أوليسيز العظيم ملك إيتاكا، وأجاكس بطل الأبطال وفارس كل نزال، ونسطور أحكم من أشار بخطة في معمعان، وديوميديز المحارب الصنديد. . . إلى آخر هذه العصبة المختارة من جيرة الأولمب، والسادة النجب من فرسان هيلاس
اختير أجاممنون إذن لأنه شقيق منالايوس وممثله في هذه الحرب، ثم لأنه أكبر أعضاء المجلس الحربي سناً، وهو هو ذاك أحد شجعان هيلاس المعدودين
انتظمت صفوف الجند، وأخذوا في مران عنيف أياماً معدودات، ركبوا بعدها في سفائن أسطولهم العظيم، وظلوا ينتظرون إذن القائد الأعلى، أمير البر والبحر، بالإقلاع، فتجري بهم الجواري المنشآت في موج كالجبال. . . إلى. . . طروادة!. . . يحملون إليها المنايا الصفز، والغوائل السود، في شفار المشرفيات البيض!
ولكن أمير البحر والبر لم يأذن لهم بالإقلاع. . .
ذلك أن بعض أعضاء المجلس الحربي أشار بوجوب إستيحاء الآلهة عما إذا كانت حملتهم العظيمة هذه قد كتب لها الظفر والانتصار، أم الهزيمة والانكسار؟ ليكونوا من أمرهم على بينة، وليكونوا أيضاً قد استخاروا أربابهم فتخير لهم، واستشاروها فتخلص لهم المشورة، ويمضون بعد ذلك على بركتها وفي حراستها
وارتقبوا نبوءة الآلهة بقلوب فارغة، ونفوس مبتهلة. . . ومضت أيام. . .
ثم رأوا إلى كاهن المعبد يدلف نحوهم في هدأة فجر صامت، فشخصت أبصارهم، وظنوا فيه الظنون
وجلس الكاهن المسن يقلب في القادة عينيه الكبيرتين، وصمت لحظة ثم قال: (أين ابن بليوس أيها الملأ. . .؟)
ونظر القادة بعضهم إلى بعض ولم يحيروا. . .
فقال الكاهن: (ابن بليوس رب الأعماق، من زوجته ذيتيس! أليس فيكم أخيل؟!. . .)
فأجاب أجاممنون: (ومن أخيل أيها الأب المقدس؟!)
فقال الكاهن: (هو ابن ذيتيس التي قالت فيها ربات الأقدار إنها تلد غلاماً يكسف مجده مجد أبيه. . . ابحثوا عنه، فلن تفتح طروادة إلا على يديه. . . لن ينفعكم أن تذهبوا بدونه. . . هكذا قالت الآلهة. . .)(114/60)
(لها بقية)
دريني خشبة(114/61)
النقد والمثال
للأستاذ أحمد الزين
كتبت إلي - أعزك الله، وأمتع الأدباء ببقائك - أنه قد بعد عهدك بمطالعة ما كنت أكتبه في الصحف من فصول في النقد، ممتعةٍ في حسن ظنك بأخيك، وبحوثٍ ضافيةٍ دقيقةٍ فيما تنظره عين رضاك عن صديقك، وقلت: إنها لامست موضع هواك، وحققت غاية مناك، وشفت من صدرك غلة لم يكن ليشفيها ما طالعت أو سمعت من فصولٍ غيرها في النقد مما ملئت به صدور الصحف والمجلات، وحشيت به بطون المؤلفات، وأفاض فيه أساتذة النقد الأدبي في الدروس والمحاضرات، إذ كان أكثرها بل كلها من إملاء الغرض ووحي الهوى، وليس للفن فيها من الحظ إلا بمقدار ما يبرر الناقد به تفضيل صاحبه على غيره، واتهام الآخر بالعي والقصور في نثره أو شعره؛ يغفلون الأذواق والعقول، ويحكمون النزعات والميول، ويتبعون القلوب على ما يعرفون من تقلبها، ويستلمون العواطف الخادعة على تحولها وعدم استقرارها؛ فتخرج بحوثهم مختلة السياق، مضطربة الآراء، لا تحمل قارئاً على احترامها، ولا باحثاً على الاعتماد عليها. فهي بقصائد المدح والهجاء، أشبهُ منها ببحوث الأدباء والعلماء، حتى إن الشعراء والكتاب أنفسهم لم يعودوا يأبهون لما ينشره هؤلاء النقاد من ثمرات قرائحهم، إذ كان نقدهم إما مدحاً تمليه مودة أو منفعة، وإما هجاءٌ تبعثهم عليه عداوة أو حسد، ولقد قلتُ مرة لبعض الشعراء المجيدين: إن فلاناً الناقد المعروف قد كتب فصلاً طويلاً في صحيفة كذا يثني فيه على بعض قصائدك ثناء لو قرأته لسررت به، وهششت له؛ وطفقت أطيل في ذكر ما كتب؛ فقال صاحبي: بعض هذا يا أخي، فما مدح هؤلاء مما أرجو، ولا نقدهم مما أخشى، فما أيسر الوسائل التي ينال بها مدح هؤلاء ورضاهم، وإن ثناءهم لأشبه شيء بالشهادة للميت حين يحمل إلى قبره، ويقال: (ما تشهدون في هذا الرجل؟) فيقول المشيعون: (صالح وابن صالح) ولعله كان على خلاف ما شهدوا به في حياته، وقد أراح الله البلاد والعباد بمماته، ولم تقتصر متابعة الغرض ومسايرة الهوى في النقد الأدبي على صغار النقاد في هذا البلد، بل شمل ذلك أساتذة النقد وذوى الكلمة الفاصلة منهم، ومن يرتقب رأيه في كل أثر فني، كما يرتقب المتهم حكم القضاء العادل الذي لا مرد له، ولا جدال فيه، فطغى على الجميع سيلُ الغرض، واندفعوا(114/62)
في تيار الهوى، ولم يبال واحد منهم بمكانه في الأدب، ولا بمنزلته الرفيعة في نفوس الأدباء، وآيةُ ذلك أنك لا تجد اثنين من الناقدين يتفقان في الشاعر الواحد على رأيٍ واحدٍ في شعره، ويضعانه في المنزلة التي يستحقها مع غيره، بل تختلف الآراء فيه - بل في البيت الواحد من شعره - اختلافاً ظاهراً إلى حد التناقض، فبينا أحدهم يرى في الشاعر أنه شاعر العربية، إذا بالآخر يقول: (إنه ليس بالشاعر ولا شبه الشاعر)، وهكذا ترى المبالغة والإغراق في طرفي الرأي، مما أسقط النقد الأدبي وأضاع الغرض منه في تهذيب الفن، وأضعف أثره في نفوس الكتاب والشعراء. مع أنه مما لا نزاع فيه أن للذوق الأدبي مقياساً عاماً لا يختلف في أصله؛ وإن اختلف في بعض الفروع التي لا تقدم ولا تؤخر في الحكم على الشاعر في جملته، ولا في منزلته الشعرية بين أبناء جلدته
وثمة أمر آخر هو أمر نكاية في الأدب، وأبلغ في هدمه، وهو أن أكثر هؤلاء النقاد يقيسون الأدب العربي بمقاييس الأدب الغربي، فيطلبون إلى الشاعر المصري العربي أن يحاكي شعراء الغرب في أغراضهم ومعانيهم، وإن كان أكثرها لا يلائم بيئته، ولا يجري مع قانون حياته، ولا يتفق بوجه مع الطبيعة الشرقية؛ وأطالوا في اتهام من خالفهم بالجمود، وضيق الأفق الفكري حتى حاول بعض الشعراء الناشئين تكلف هذه المحاكاة مراغمةً لشعور القلب وإحساس الفؤاد، وإرضاءً لهؤلاء النقاد فخرجت قصائدهم لا شرقية ولا غربية، مشوهة الصور ضعيفة الأثر، كالحة الظاهر، جوفاء الباطن، لم تصور إحساساً في فرد ولا في جماعة، ولم تعبر عن شعور في الأمة ولا في الشاعر نفسه، فلم تسترع هذه القصائد سمعاً، ولم تجتذب إليها قلباً؛ ولولا طائفة قليلة أمسكت بسلسلة البيان أن تنقطع، وآوت إليها طرائد الشعر العربي، وصبرت وصابرت في مدافعة هؤلاء المستغربين في شرقهم، وصانت ذخائر العرب - وأخصها اللغة - حتى تسلمها إلى طائفة أخرى مثلها ممن قوى في نفوسهم شعور القومية ونظروا في الأدب العربي نظرةً واسعةً منصفة، فعرفوا من نفائسه ما لم يعرفه سواهم؛ لولا هؤلاء لأفل نجم البيان العربي عن هذه البلاد، ومات الشعر أو كاد
وقلت: إن آثر النقاد عندك وأجداهم بحثاً على طالب الشعر والكتابة من يعني بالبحث في آثار الكتاب والشعراء واختبار ثمرات قرائحهم، فيميز جيدها من رديئها، وناضجها من فجها، ويُرى القارئ أسباب الإجادة فيما يستجيد من شعر أو نثر فيأخذ بها ومواضع الزلل(114/63)
والمؤاخذة فيما لا يستجيد منهما فيجتنب الوقوع فيها
أما البحث في تحليل حياة الشعراء وكيف نشأوا والعصور التي يعيشون فيها، والبيئات المحيطة بهم فذلك أولى بالمؤرخ الأدبي منه بالناقد الفني، على أن تلك البحوث لا تفيد طالب الشعر فائدة قليلة ولا كثيرة في الإجادة الفنية، وإن إفادته في توسيع ثقافته العلمية
ثم سألتني أيها الأخ الكريم أن أعود إلى محادثة الأدباء والمتأدبين فيما قرأتُ وأقرأ من جيد الكلام ورديئه، وتبيين سبب الإجادة في الأول، وموضع المؤاخذة في الآخر، والترجيح بين المتساويين في أول النظر على صاحبه، ثم لا أذكر بيتاً فيه زلةٌ لشاعر إلا عقبته ببيت قد سلم منها لمعاصر أو غير معاصر، مفاضلاً بين البيتين، موازناً بين الشعرين، ليكون ذلك مثالاً يتبع، وقياساً ينتهج، فان لم أجد فيما أحفظ من الشعر ما يصلح مثالاً، ويتخذ قياساً، غيرتُ من البيت نظمه، وداويتُ سقمه، وذهبتُ بشكله، وأبقيت على أصله، وذلك هو ما انتهجته في البحوث السابقة، وشرحته في أول بحث كتبته، وإنا لسؤالك لباذلون، ولدعوتك لملبون؛ نسأل الذي فطر الفطرة، ووهب القدرة أن يعصمنا من هوى لا نستطيع غلابه، وأن يعيذنا من خطأ لا نعرف صوابه، ولست أعد قراء (الرسالة) بأن تحمل حديثي إليهم في كل أسبوع، بل قد تطول الفترة بين الحديثين، وقد تقتصر، إذ لم أتعود فيما أكتب التقيد بالوقت، فان هذه القيود الصحفية مما يحمل الكتاب في بعض الأحيان على أن يملأوا الصحائف بالسطور، وإن خلت من فائدة الجمهور
أحمد الزين(114/64)
البريد الأدبي
هنري باربيس
توفي في أواخر شهر أغسطس المنصرم كاتب وشاعر من أعظم كتاب فرنسا وشعرائها المعاصرين، هو هنري باربيس؛ وكان باربيس زعيم المدرسة الثورية وأعظم كتابها، ولم نمض أشهر قلائل على صدور كتابه الأخير الذي كتبه عن ستالين طاغية روسيا البلشفية، وعن تاريخ الحركات الثورية في روسيا القيصرية، وهو الكتاب الذي أشرنا إليه وقت صدوره في هذا المكان من (الرسالة)
وقد ولد هنري باربيس في ازنيير في سنة 1874، وتلقى تربية جامعية حسنة، ونظم الشعر القوي منذ شبابه، وكتب القصص؛ وظهر لأول مرة في أفق الأدب بصدور ديوانه المسمى (الباكيات في سنة 1895. وفي سنة 1903م نشر قصته (المتضرعون ثم أخرج قصته (جهنم ' في سنة 1908، وامتهن باربيس الصحافة وبرز فيها؛ وفي سنة 1910 تولى تحرير صحيفة الشهيرة ولما نشبت الحرب الكبرى انخرط في سلك الجيش العامل كجندي في المشاة، وأبدى شجاعة فائقة في الذود عن وطنه استحق من أجلها وسام (صليب الحرب)، وفي أثناء الحرب أخرج باربيس أعظم قصصه وهي: (النار وهي مذكرات فرقة محاربة والشعلة وبهما يرتفع باربيس إلى صف أعظم كتاب العصر ويصل إلى ذروة قوته، ولما انتهت الحرب وقع تحول عظيم في تفكير باربيس وفي مبادئه فاعتنق المذهب الشيوعي، وتولى التحرير في جريدة (لومانتيه) الشيوعية التي أنشأها جان جوريس واشتهر بكتاباته الملتهبة، وفي سنة 1920 أصدر باربيس قصته (النور في الهاوية ' وفي العام التالي أخرج قصة قوية أخرى عنوانها: (بعض زوايا القلب ثم أصدر كتاب (الأغلال وفي سنة 1927 أصدر كتابه (بيان إلى العقلاء ومنذ أشهر قلائل أخرج كتابه عن ستالين. وكان باربيس في أعوامه الأخيرة دائم التردد على موسكو وثيق الصلة بزعمائها، وكانت وفاته في موسكو في مستشفى الكرملين بعد مرض قصير. ومما ذكره أنه تزوج من ابنة كاتيل مانديس الكاتب والفنان الشهير، وهي أيضاً كاتبة وأديبة معروفة
قوانين الملكية في روسيا(114/65)
يخطئ من يعتقد أن روسيا البلشفية تعيش في ظل النظم الشيوعية؛ والحقيقة أنها لا تكاد تطبق اليوم نوعاً من اشتراكية الدولة أو الاشتراكية المخففة؛ وقد اقتنع البلاشفة بعد تجارب شائكة أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية المنظمة في ظل الشيوعية ضرب من الخيال. ومما يدل على أن روسيا السوفيتية تعود شيئاً فشيئاً الى النظم الفردية، أن الحكومة البلشفية قد أصدرت أخيراً قانوناً جديداً بتحديد ملكية الأراضي في مختلف الولايات الروسية، ولاسيما في جمهوريات التركمان وأزبكستان وأزربيجان وقازاقستان، وبعض مناطق سيبريا الزراعية، وفيه تفصيل لما يمكن أن يملكه المزارع من الأرض أو الماشية لاستعماله الشخصي؛ والقانون الجديد يتحدث عن وضع اليد والحيازة فقط، على أن تلحقه قوانين أخرى بتثبيت الملكية متى استقر تقسيم الأراضي نهائياً. وليس القانون جديداً في الواقع، فان المزارع (الكولاك) يتمتع منذ أعوام بحق ملكية حديقته وبعض الماشية، ولكن القانون الجديد يزيد في نسبة الملكية إلى حدود لم تعرف من قبل في ظل النظام البلشفي، هذا فضلاً عما يتضمنه من الوعد بتثبيت الملكية وتطمين المزارعين بذلك على مصير أراضيهم ومواشيهم. وبمقتضى هذا القانون يصبح للمزارعين في سيبيريا الحق في امتلاك أرض تبلغ مساحتها إلى هكتار واحد حسب منطقة الأرض، وفي امتلاك الماشية من خمسين رأساً من الرندير إلى مائتي رأس، ومن الكلاب ما شاء. وفي جمهوريات أزربيجان وأزبكستان وما إليها يستطيع المزارع أن يمتلك من 20 إلى 30 في المائة من الهكتار أرضاً زراعية، ومن الماشية جواداً وحماراً وخمس عشرة إلى ثلاثين رأساً من الغنم
وفي هذه القوانين الجديدة دليل قاطع على ما انتهت إليه سياسة السوفييت من التطور نحو الفلاحين. وقد كان لتنفيذ المشاريع الاقتصادية الجديدة أثر كبير في هذا التطور، لأنها أقنعت زعماء البلاشفة بأن الترويح عن المزارعين وتحريرهم من قيود الإنتاج الإجماعي مما يضاعف أسباب الإنتاج والرخاء الزراعي
أعمدة سبعة من الحكمة
لم يمض على وفاة الكولونل لورنس زهاء أربعة أشهر، ومع ذلك فان آثاره وذكرياته تشغل اليوم فراغاً كبيراً في الأدب الإنكليزي، فقد صدرت أول طبعة جديدة تذكارية من كتابه(114/66)
الشهير (سبعة أعمدة من الحكمة وهذه الأعمدة السبعة هي: القاهرة وأزمير وقسطنطينية وحلب وبيروت ودمشق والمدينة. وكان الكولونل لورنس قد بدأ في كتابته منذ سنة 1921، وفيه يقص سيرة أعماله المدهشة في بلاد العرب، وما اشترك في تدبيره من الثورات والانقلابات والوقائع الغريبة التي انتهت بتمكين الإنكليز من الاستيلاء على فلسطين والعراق، وسيرة مغامراته الشخصية، وفيه روايات وأسرار خطيرة عن كثير من القادة والزعماء الذين عملوا مع لورنس. وفي سنة 1926 ظهر كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) وظهرت منه فقط مائة وعشرون نسخة باسم المشتركين، فكأنه لم يطبع ولم يذع في الواقع إلا في دائرة خاصة جدا، ثم لخص منه لورنس كتاباً آخر هو (الثورة في الصحراء) وهو الذي طبع وأذيع بكثرة، وقد كان من أكبر أماني أصدقاء لورنس والمعجبين به، أن يخرج كتابه الشهير في طبعة جديدة ذائعة، والآن تتحقق هذه الأمنية بعد وفاته، ويصبح كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) في متناول كثيرين ممن لم يحظوا باقتنائه
مآسي التاريخ
صدر أخيراً كتاب جديد للمؤرخ الفرنسي ح. لينوتر الذي توفي منذ أشهر قلائل، عنوانه: (مآسي التاريخ وقد اشتهر لينوتر بنوع خاص من التاريخ لبث يكتبه أعواماً طويلة في جريدة الطان تحت عنوان: (التاريخ الصغير) وفيه يتناول من حوادث التاريخ المنسية ومآسيه الطريفة ما يفوق في الحقيقة كثيراً من وقائع الخيال، وتوفر لينوتر على دراسة هذا النوع، حتى أصبح أستاذه الحقيقي، وكانت الثورة الفرنسية وحوادثها العجيبة أعظم مصادره، فتناول كثيراً من حوادثها الخفية وتفاصيلها العجيبة التي يغفل عنها المؤرخ العام وأخرج فيها كتباً ورسائل ساحرة، ومن مؤلفاته الشهيرة في هذا الباب: (من ثورة إلى أخرى) و (من السجن إلى النطع) و (ملك بلا مملكة) و (باريس الثائرة) وغيرها، وأما كتابه الأخير (مآسي التاريخ) فقد كتبه في أواخر حياته، وتناول فيه عدة مآس شهيرة مثل سقوط الجيرونديين، ومصرع الدوق دنجين، ومقتل الكاتب بول لوي كورييه وغيرها، وكتبها بأسلوبه القوي الساحر، الذي يدنو في تفاصيله من الرواية، ويجمع في جوهره عناصر التاريخ المنسية، وقد كانت فصول لينوتر التي تنشرها (الطان) مثلا بديعاً لهذا النوع الشعبي من التاريخ، وكان لينوتر دائب التوفر على إخراجها حتى أواخر أيامه، بل(114/67)
نذكر أن الفصل الأخير الذي كتيه فيها لم ينسر في الطان إلا بعد وفاته بيوم أو اثنين، وقد فاز لينوتر قبل وفاته بنحو عامين بكرسي الأكاديمية، وكان من الخالدين
لقب جديد لربات الجمال
كان لفوز الإسبانية الحسناء كاناريني أليشا نافارو في مباراة الجمال الأوربية العامة وفوزها بلقب (مس أوربا) وقع عميق في أسبانيا حيث يبدي الشعب الأسباني حماسة عظيمة لهذا الفوز لاسيما وانه أول حادث من نوعه في أسبانيا؛ ويؤمل الأسبان أن تفوز فتاتهم بتاج الجمال العالمي. بيد أن بعض المفكرين الأسبان رأوا أن الجمال المادي وحده لا يكفي لأن تتبوأ الفتاة مركزها الممتاز في المجتمع؛ ولابد أن تتحلى إلى جانبه بالصفات الأدبية والمنزلية التي يجب أن تختص بها المرأة، ولذلك أقيمت في مدريد مباراة من نوع خاص بين لفيف من الفتيات الحسان يتبارين للفوز بلقب (ربة الدار)؛ وتضمنت هذه المباراة امتحان الفتيات في أعمال الطهي والكي والخياطة وغيرها من الأعمال المنزلية، ففازت بهذا اللقب الآنسة كونشيتا مانسيجوي دي لارا. ونالت أول لقب من نوعه بين الحسان وهو (ربة الدار)
أغراض المستشرقين
قرأت في (الرسالة) ما كتبه الأستاذ محمد روحي فيصل في أن علماء المشرقيات أبعد الناس عن البحث العلمي المجرد يوم يخوضون الأبحاث الإسلامية، وأنهم يقصدون من الاستشراق خدمة دينهم وسياسة دولهم. وقد لامني لقولي من مقالة في الرسالة إن علماء المشرقيات يحمدون لنشرهم كتب العرب، وإنه كان على سادتنا العلماء أن يأخذوا باليمين آثار السلف يحيونها، حتى لا يطول مقامها في تزييف بعض من تعلموا لغات الشرق واختصوا في علومه، إلا أنني لا أغمط حق العاملين منهم، لتفضلهم بنشر كتبنا. وأرجوا ولا أزال أرجو أن ينقطع فريق من علمائنا وأدبائنا لمساهمة علماء المشرقيات هذه الخدمة الجليلة؛ لأن الكتب كتبنا، والمدنية مدنيتنا، وصاحب البيت أحق الخلائق بالعطف عليه وعلى ما فيه
وقد وقع لصديقي العلامة الشيخ عبد العزيز جاويش، يوم ألقيت في دار المعلمين العليا(114/68)
بالقاهرة (5 مايو سنة 1927) محاضرة في (أثر المستعربين من علماء المشرقيات في الحضارة العربية) وعددت ما نشره علماء المشرقيات في كل أمة غربية من كتبنا، أن قام رحمه الله يعدد أغراض علماء المشرقيات من الغربيين في الدين والسياسة، وما كان موضوع المحاضرة غير التنويه بفضل من خدموا آثار أمتنا فاستفدنا نحن بالعرض. وأذكر أن بعض أساتذة مصر ممن حضروا المجلس تبرموا بكلام الأستاذ جاويش وعدوه خروجا عن الموضوع، لأني لم أمتدح المستشرقين إلا من الوجهة التي أفادوا بها حضارتنا، حتى إن الأستاذ علي الشمسي باشا (وزير المعارف المصري يومئذ) كان ممن حضر فقال: سامح الله الأستاذ جاويش، إن صاحب المحاضرة لم يتعرض لمدح المستشرقين في السياسة والدين، وإنما ذكر افضالهم على لغتنا وحضارتنا بنشر كتبنا. قال ذلك للأستاذ سيد كامل رحمه الله، (راجع المحاضرة في مجلة المجمع العلمي العربي م7 ص 433)
فأنا والحالة هذه إذا امتدحت من علماء المشرقيات، وأعجبت بعلمهم في خدمة آدابنا، فإنما تنويهي بهم من هذه الناحية فقط. وأعلم أن كثيرين منهم يعملون لسياسة بلادهم أولا، وأن منهم دعاة دين متعصبين يتخذون الاستشراق سلماً لخدمة دينهم على نحو ما كان أسلافهم في القرون الوسطى، ومن أحب أن يقف على تخريف المخرفين من المستشرقين، وإنصاف المنصفين منهم في أحكامهم على الإسلام والعرب فليرجع إلى كتابي الأخير (الآلام والحضارة العربية) فمعظم هذا السفر يدور على هذا المحور، وأحب مع هذا ألا يفوتنا أنه ليس من المعقول أن نكلف من لم يتأدبوا بأدبنا، ولم تعمل فيهم أحاسيسنا، ولا دانوا ديننا، أن يعتقدوا ما نعتقد، ويكتبوا فينا ما نحب. فلكل جنس تفكيره، ولكل جيل مدنيته، ولكل إنسان أهواؤه وأغراضه.
محمد كردي علي(114/69)
الكتب
1 - حياة الوزان الفاسي وآثاره
تأليف الأستاذ محمد المهدي الحجوي
2 - تاريخ الصحافة (الجزء الرابع)
للفيكونت فليب دي طرازي
3 - تاريخ الأمير فخر الدين المعنى الثاني
تأليف الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف
للأستاذ محمد بك كرد علي
في شمالي أفريقية اليوم حركة مباركة في التأليف تدل على انتباه فكري يبشر بخير كثير لتلك البلاد الإسلامية العربية؛ ما ينشرون؛ ويضعون أسفارهم على النمط العصري الحديث، ومما طالعناه مؤخراً (التذكار فيمن ملك طرابلس، وما كان بها من الأخبار) لابن غلبون الطرابلسي نشره وعلق عليه الأستاذ الطاهر أحمد الزواوي، و (كشف الحجب عن مدنية العرب) للأستاذ محمد بن عمار الوارثتاني التونسي، و (رسائل الرحالة) العالم عبد العزيز الثعالبي، وبعض تآليف في الأدب والشريعة للأستاذ طاهر بن عاشور؛ وتآليف عالم أفريقية حسن حسني عبد الوهاب معروفة مشهورة، وكذلك تآليف العلامة الشيخ محمد بن أبن شنب رحمه الله في الجزائر فانها من الممتع الجيد و (كتاب الجزائر) للأستاذ أحمد توفيق المدني من أجود ما كتب في تاريخ الجزائر وتقويم بلدانها وحالتها الاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية. هذه بعض ما وصل إلينا من تآليف أهل المغرب الأدنى والأوسط، أما المغرب الأقصى، فقد ظهر أربعة مجلدات ضخمة من كتاب (اتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) للمؤرخ المدقق مولاي عبد الرحمن ابن زيدان، وهو في تاريخ مراكش في السياسة والاجتماع والأدب، أبان واضعه عن نفس طويل ومادة واسعة ظهرت منها عظمة تلك الديار في الدهر السالف، ونشر في فاس الأستاذ عبد الحي الكتاني كتباً نفيسة وعلق عليها فأحسن؛ ونشر العلامة سيدي محمد بن الحسن الحجوي الفاسي في فاس والرباط (رباط الفتح) كتاب (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) في(114/70)
أربعة مجلدات، دل على علو كعبه في الشريعة وتاريخها وأدبها، وله غير ذلك من المصنفات والأبحاث والمحاضرات والمسامرات، وها هو نجله الأستاذ أبو عبد الله محمد المهدي يطالعنا ببحث طريف في حياة الوزان الفاسي وآثاره، فكان النجيب ابن النجيب. زادنا الله في أفريقية من أنباء نجباء الأبناء
هو بحث قدمه المؤلف لمؤتمر المستشرقين الثامن الذي أقامه معهد المباحث العليا المغربي بفاس يوم 20 أغسطس سنة 1922 في ترجمة أبي علي الحسن الوزان الفاسي المعروف عند الإفرنج باسم ليون الأفريقي , وكان هذا الرجل العظيم من أصل أدلسي، نشأ في فاس وتجلى فيه الذكاء منذ الصغر، فتعلم العلوم الدينية والأدبية ثم ساح في بلاد المغرب الأقصى أوائل المائة العاشرة وكتب رحلات ومفكرات في جغرافية تلك البلاد بناها على مشاهداته، ورحل إلى الروم ومصر والحجاز، وكان في بعض رحلاته سفيراً عن بعض ملوك المغرب الأقصى في زمن الدولة الوطاسية، وارثة الدولة المرينية (دولة العلم والعرفان والفن الرائق الفتان) وقيام الدولة السعدية في الجنوب، ووقع للوزان أن أسره قرصان البحر من الطليان فأتوا به هدية لطيفة إلى البابا ليون العاشر في رومية، وكانت إيطاليا آخذة بنهضتها في عهد ذاك البابا العظيم حامي المعارف والآداب فوجد في الرحلة الوزان ضالته المنشودة لخدمة المعارف، وبعد موت البابا سنة 1521م 927هـ دخل الوزان تحت حماية الكردينال (جيل دي فيطرب) وكان يعلمه العربية، ثم تولى مدة تدريس العربية في كلية بوبونيا في إيطاليا؛ وبذلك تعلم الإيطالية واللاتينية، وكان من قبل يعرف الأسبانية والعبرانية. وألف هناك قاموسه الطبي بأمر البابا كتابه في وصف أفريقية، وقد جود في هذا الكتاب من وراء الغاية حتى جعله الغربيون أعظم مرجع لهم للوقوف على تلك الأرجاء الشاسعة. وصف فيه كل ما رآه من طبيعتها وأجوائها وحاصلاتها وعالمها وأخلاقها وعاداتها
وقد طبع كتاب الوزّان من القديم في إيطاليا وفرنسا غير مرة؛ وعلق عليه ناشروه شروحاً كثيرة واستفادوا منه. فصل كل ذلك الأستاذ المؤلف تفصيل باحث محيط بأطراف موضوعه. وأجاب من اعترضوا عليه مستغربين نبوغ المترجم له في سن الفتوة فقال: دخل الوزّان معترك الحياة دخول أبطال الرجال على حداثته سنّ فجلى وأبلى بلاء تجده(114/71)
غريباً في حياة الرجال. نعم ذاك غريب إذا قيس بسنه، ولكن لا بدع هناك في حق الشباب المغربي، فقد حفظ له التاريخ أعمال كثير من أفراده المبكرين في النبوغ العلمي والسياسي، وذلك باب فتحه المولى إدريس رمز الشباب المغربي والعربي بما فيه من نبوغ وكفاءة، ومثال الفضيلة المحمدية، والشمم الهاشمي، والعبقرية القرشية. فقد بويع وهو ابن إحدى عشرة سنة وقام بالملك أحسن قيام وأسس دولة من أفخر الدول تأسيساً ونظاماً، وأسس لمملكته عاصمة من أفخر العواصم، وهو ابن خمس عشرة سنة، لم يؤسس العرب مدينة أحسن منها مناخاً ولا أليق منها بقعة للعمران، ومات بعد أن بلغت دولته العنفوان، وهو ابن ست وثلاثين سنة، وله نظائر في تاريخ المغرب نبغوا مبكرين في مختلف نظاهر الحياة لا نطيل بهم، ومنهم المترجم)
- 2 -
هذا هو الجزء الأخير من تاريخ الصحافة تصنيف الأستاذ فيليب طرزاي أمين داري الكتب والآثار في بيروت، وقد اشتغل في هذا الموضوع الطريف أربعاً وأربعين سنة وصرف فيه مالاً ووقتاً وجهداً حتى تسنى له اقتناء مجموعة من الصحف والمجلات العربية التي صدرت في القارات الخمس منذ عام 1800م إلى عام 1929 وبلغ عدد ما لديه من أعداد هذه الصحف والمجلات وهو يحرص على العدد الأول منها في الغالب - نيفا وثلاثة آلاف ومائتين وخمسين جريدة ومجلة، فكان عدد ما صدر من المجلات في المملكة المصرية منذ تكوين الصحافة إلى سنة 1929: 1398 جريدة ومجلة وعدد ما صدر في بلاد الشام 779 كان من حصة الجمهورية اللبنانية 426 الخ واتضح (أن بعض المدن النائية في أوربا وأمريكا والتي لا ينطق سكانها بالضاد فاقت بعدد جرائدها ومجلاتها كثيراً من عواصم الدول وشهيرات المدن الواقعة في صميم البلدان العربية ويعزى ذلك الى هجرة العدد الوافر من الكتاب في عهد الدولة العثمانية. فقد كانت هذه الدولة تضطهد المفكرين والمثقفين من سكان بلادها وتشدد عليهم وتخاف صرير أقلامهم. ويرجع أكثر الفضل في هذه النهضة الصحافية الميمونة إلى أدباء لبنان الذي نزح منه مئات الألوف إلى تلك الديار العامرة ولاسيما إلى العالم الجديد، ويقع هذا الجزء في 545 صفحة وقد ترجمت أكثر فصوله إلى الإنجليزية ليعمم الانتفاع بهذا الاحصاء، ويستفيد الغربي كما يستفيد(114/72)
العربي من مضامين الكتاب عند ما يراد الكشف عن جريدة ومعرفة منشئها الأول وتاريخ صدورها والمدنية التي صدرت فيها الى غير ذلك من الفوائد. وفي الحقيقة إن اللبنانيين الأثر المحمود في إصدار الصحف في الشرق والغرب باللغة العربية، وكان للمؤلف الفضل الأوفر في تدوين أعمالهم والتدليل عليها بإحصاءاته المدققة، فله الشكر على هذه العناية وهذا الدؤوب
الأمير فخر الدين المعنى الثاني أعظم أمير عربي قام في النصف الأول من القرن الحادي عشر من الهجرة في جبل لبنان وما إليه من بلاد الشام. وكان واسع المدارك محباً للعمران والحضارة، انتفع بكل قوة وجدها أمامه، وإذ كان حكمه يتناول الدروز والشيعة والسنة والموارنة والروم الأرثوذكس وغريهم من النحل في الساحل الشامي، ويريد أن يرضي كل فريق تبعاً للسياسة التي جرى عليها، اتهمه بعضهم بأنه كان يذهب مذهب الدروز، وفريق بأنه كان نصرانياً، والحقيقة أنه كان مسلماً يرى رأي أهل الستة والجماعة، وكان قد لجأ إلى إيطاليا في أُخريات أيامه فأخذ معه إمامه وأنشأ مسجداً ومنارة في البلد الذي نزله حتى أن فتاة له ماتت هناك لم يرض أن يدفنها في أرض إيطاليا، وحملها معه إلى الشام لما عاد إليها لتدفن في أرض إسلامية. وأهل لبنان يتمجدون بالأمير المعني لأنه حكم النصارى فأحسن إليهم ما وسعه الاحسان، واعتمد في الحكم على بعض نبهائهم يومئذ. ولذلك كان من الواجب تدوين تاريخه، والجمهورية اللبنانية الصغيرة في إبان نشأتها تحاول أن تجعل لها تاريخاً تعتز به، وقد تخلقه خلقاً، فكيف بتاريخ رجل جدير من كل وجه بالتخليد؟ وهذا ما تمحض له زمناً الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، واستطرد في كتابته استطرادات كثيرة حتى جاء كتابه في 446 صفحة، مستنداً فيه إلى مصادر لبنانية وغيرها، باحثاً عما يهم وما لا يهم من الحوادث التي لها مساس بحاكم حكم لبنان من سنة 1590 إلى سنة 1635م، وكان قضى في الآستانة مقتولاً سنة 1045هـ. وقد حَلَّى المؤلف كتابه بصور أثرية قديمة تمثل حالة البلاد في عصر الأمير المعني، وشرح كل ما رآه جديراً بالشرح في الحواشي، فاستحق شكر الباحثين في تاريخ هذا الجزء الصغير من الديار الشامية
محمد كرد علي(114/73)
العدد 115 - بتاريخ: 16 - 09 - 1935(/)
المسرح المصري
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أخفق المسرح المصري، أو لم يقم، وهذا أصح، لأن الذين حاولوا هذا الأمر لم يجدوا من يسدد خطاهم، ويأخذ بيدهم، ويشد أزرهم، فخابت مساعيهم، وضاعت عليهم جهودهم وأموالهم، وتخبطوا حيناً، ثم يئسوا وانصرفوا عن أمر لا طائل تحته، ولا محصول وراءه، ولا خير فيه لا لهم ولا للأدب ولا للناس.
ويخطئ من يظن أن الذنب للحكومة وحدها، وأن تقصيرها في بذل العون للمسرح قعد به ثم قضى عليه، ولا ريب أن الحكومة أهملته وتركته للأقدار، حتى طار في النزع، ثم حاولت أن تدركه، ولكن بعد أن تفاقمت العلة وتعضَّلت المداوى، فلم ينفذه المال الذي بذل له، بل أزلفه إلى البوار الذي لم يبق منه مفر، ذلك أن المال لم يكن كل ما بالمسرح فقر إليه، فقد بدأ مستغنياً بنفسه عن مثل هذه المعونة، وكان في أول عهده يلقى من الإقبال والتشجيع ما ينفى عنه الشعور بوجود خلة تتطلب أن تسدّ، ثم فتر الإقبال وانصرف الناس لأنهم لم يجدوا ما يطلبون، وما كان خليقاً أن يؤدي إلى قيام مسرح مصري بالمعنى الصحيح، فقد كان المسرح معنياً بالترجمة والنقل والتمصير، فكان صدى للمسارح الغربية، ولم تكن له صبغة مصرية، وليس عندنا ممثلون في وزن ممثلي الغرب، والحياة المصرية لا تشبه الحياة الغربية إلا في بعض المظاهر المنقولة، ومجتمعنا يقوم على نظم تغاير نظم الغرب من وجوده شتى، على الرغم من كثرة ما أخذنا عنه واقتبسنا منه، وكذلك تختلف الروح والمزاج والطبائع والنزعات. فإنا شرقيون على فرط ما نحاول أن نتغرّب، ومازال صحيحاً أن الشرق شرقٌ، والغرب غربٌ، وأنهما لا يكادان يلتقيان، والشرق مهبط الأديان، والغرب مصانع آلات، والأديان لا تهبط الآن في شرق أو غرب، ولكن مزاج النفوس هو هو، كما كان، في الناحيتين، وتهيؤها واستعدادها واتجاهها، وأسلوبها في تلقي الحياة وتناولها، ولا عبرة بالتعليم أو الجهل في هذا الباب، وإنما العبرة بالروح العامة، قد يزوّرها التعليم ويخفيها أو يسترها، ولكنه لا يستطيع أن يغيرها.
لهذا كان ما يمثل على المسرح المصري من الروايات المترجمة أو الممصرة، لا يستولي على هوى الجمهور، ولا يشعره أن ما يراه يصور حياته كما بدت للكاتب، وبعد أن أفرغ(115/1)
عليها صبغة الفن، فبقى المسرح غريباً أو أجنبياً وإن كانت لغته العربية حيناً، والعامية أحياناً، صار المرء يؤثر أن يقرأ هذه القصص في الأصل أو بإحدى اللغات التي نقلت إليها، أو أن يشاهد ما يعرض منها في دور السينما.
وقد قطع المسرح - أو باعد على الأقل - ما بينه وبين الأدب، فكانت تلك جناية ليس كمثلها جناية، ألوت به أشد الإلواء، وأتت عليه من قواعده، ولسنا نفرد رجال المسرح أو الأدباء باللوم، فان كلا من هؤلاء يحمل نصيبه، ولعل رجال الأدب قصراً في الاتصال بالمسرح، وعسى أن يكون الذنب للاتجاه العام الذي سار فيه الأدب المصري بعد نهضته الحديثة، فقد كانت العناية كلها - أو جلها - بالشعر والبحث والنقد، ولم تكن القصة تشغل حيزاً في هذه الحلبة الواسعة، ولكن رجال المسرح كانوا أشد تقصيراً، فقد كانوا يستطيعون أن يحولوا إليهم جدولاً من ذلك النهر الفياض، غير أنهم تهيبوه وأشفقوا من مطالبه، وظنوا في مقدورهم أن يستغنوا عنه، واجروا سفينتهم على العامية فجنحت بهم ولزقت بالأرض، وتحطمت على الصخر.
والعامية لفظة نطلقها هنا على اللغة وعلى أسلوب التناول أيضاً، فنحن نعنى بها الجمل باللغة، والجهل بالروح التي كان يجب أن يستوحيها المسرح، وهو توسع في التعبير نجيزه لأنفسنا في هذا المقام ولا نرى منه بأساً، ولا نخشى معه التباساً، والأدب وحده هو الذي يدخل في وسعه أن يهتدي إلى اللغة المرافقة لقصة المسرح، وهو وحده الذي يستطيع أن يستلهم روح الجماعة، فأما أنه هو الذي يقدر على الأداء الموافق، فلأن الأدب ذوق وبصر وسليقة وعلم وفن، فان لم يكن هذه فهو ليس بأدب، وأما قدرته على الاستيحاء فذاك لأنه فن، والفن ملكة يحصل بها إدراك الحقائق وإبرازها على نحو يصدق على العموم وإن كان يبدو أنه في أمر على الخصوص، ومن هنا فرق ما بينه وبين التجربة، فإنها معرفة بأحوال معينة وخبرة بها تقتصر عليها ولا تتسع حتى تكون شاملة، أما الفن فيتعاق بالحقائق العامة، وهو فطنة، لا علم، وملكة قد تساعدها الخبرة ولكنها لا تخلقها، وذوق تصقله وترهفه المرانة غير أنه لا يكتسب بها، وإن كانت المرانة تفيد الحذق والبراعة.
ولا يقل أحد إن الجماهير لا تقدر الأدب، وإنها يشق عليها أن ترتفع إلى طبقته كما يتعذر عليه أن ترتفع إلى طبقته كما يتعذر عليه هو أن ينزل إليها، فان القول بهذا اجهل وغفلة،(115/2)
والذي يذهب إلى هذا الرأي إنما ينظر إلى الشكل والعبارة لا إلى الجوهر والموضوع، ثم هو يخلط بين ضروب متباينة من الأدب. نعم، يعسر على الجماهير غير المثقفة أن تنتفع أو تستمتع ببحث أو درس، أو أن تدرك القيمة الحقيقية لقصيدة، وأن تفطن إلى عناصر الجمال أو الجلال أو القوة فيها، ويعييها أن تبين لماذا يطربها الشعر أو يروقها الكلام ويطيب موقعه من نفوسها، أو يؤثر فيها، ولكنها تميز بغريزتها وإن لم تميز بعقلها، وتحس بروحها وإن عزها الاهتداء إلى السبب، والقصة، بعد، شيء لا عناء عليها في فهمه، لأنها حوادث ووقائع قد يكون أو لا يكون وراءها معنى عويص أو فكرة عميقة، على أن الوقوع على المراد لا يعجز الجمهور إذا سيق مساق القصة، وللناس نفوس، وفيهم نظر ولهم إدراك وإحساس إذا لم يكن لهم علم. وأسلوب القصة يسهل التلقف، ويقرب المغاص، وفي وسع القارئ أو المشاهد أن يعرف مبلغ الصدق في التصوير إذا لم يستطيع أن يقطن إلى دقائق الفن، كما يعجب بالصورة ويشهد لها بالصدق في التعبير، والقوة في النطق، وإن غابت عنه المزايا الفنية التي لا يراها أولا يستطيع الحكم عليها إلا أهل هذا الفن والعارفون به.
وقد تم هدم المسرح لما ظهرت السينما الناطقة، لأن مجالها أرحب، وميدانها لا تكاد تحصره الحدود، وقد تضعضع المسرح في أوربا من جرائها، فلا بدع أن قوضته في مصر، وهو هناك يعانى منها البرح، فغير مستغرب أن يدركه هنا الفناء، وعسير بعد السينما الناطقة أن يقوم في مصر مسرح إلا في ظل الحكومة وبمالها ورعايتها، ولكنه لا خير في هذه الرعاية إذا لم يقض عليه القائمون به الصبغة المصرية، ولم يخلعوا عنه ذلك الثوب المستعار الذي انتهى بأن صار كفناً له، وقد صار أمل المسرح المصري معقوداً الآن برجلين أثنين يتوليانه: حافظ عفيفي باشا، والشاعر خليل مطران، فإذا خاب هذان، فلست أرى أملاً للمسرح وراءهما.
وقد كانت عناية الحكومة - إلى الآن - بالأوبرا دون غيرها، وصحيح أنها اعتادت في السنوات الأخيرة أن تمنح الفرق إعانات، وأن تبذل للممثلين مكافآت، ولكن الإعانة كانت ضئيلة لا تغنى، والمكافأة كانت زرية، وكان الأسلوب الذي تجري عليه وزارة المعارف في منحها لا يخلو من استهان لكرامة الممثل. على أن هذا كله لم يكن إلا ستراً لجودها(115/3)
على الأوبرا، وليست الأوبرا مصرية، ولا التمثيل فيها بلغتنا، ولعل مصر هي الدولة الوحيدة التي تبنى داراً للأوبرا لتستقدم إليها فرقاً من أمم شتى تمثل بلغاتها ويضمن لها الربح، وإن كان أبناء البلاد لا يذهبون إليها ولا يشهدون ما يمثل على ملعبها. وهو تكلف شديد انفرادنا به، ولا غاية منه إلا أن تجد السياح حين يفدون داراً للأوبرا، عامرة بمثل ما ألقوه في ديارهم، ولو أن هذه الأوبرا كانت مصرية والتمثيل فيها كذلك، لكان هذا أبعث على سرور السياح، لأنهم لا يجيئون إلى بلادنا ليروا فيها ما يرون في بلادهم، بل ليطلعوا على ما عندنا نحن، مما لعنا تميزّنا به وخالفناهم فيه، ولو وثقوا أن ما عندنا ليس إلا صورة لما تركوه لما جشموا أنفسهم عناء السفر ومشقات الرحلة ونفقاتها. وليت الفرق التي نبذل لها المال لنفاخر بها من الطراز الأول! والغريب بعد ذلك أن الفرق المصرية كانت تذاد عن دار الأوبرا إلا في الندرة القليلة والفلتات المفرده. وهذا حال يجب أن يقلب ليعتدل، وعار ينبغي أن يغسل عنا، ومهزلة يجب أن تقصر الحكومة عنها، وإلا صح فينا بعد ألف سنة أننا أمة تضحك من جهلها الأمم.
إبراهيم عبد القادر المازني(115/4)
ثباتُ الأخلاق
للأستاذ مصطفى صادق الرافعى
لو أنني سئلت أن أُجمل فلسفة الدين الإسلاميَّ كلها في لفظين، لقلتُ أنها: ثبات الأخلاق، ولو سئل أكبر فلاسفة الدنيا أن يوجز علاج الإنسانية كله في حرفين، لما زاد على القول إنه ثباتُ الأخلاق، ولو أجتمع كلُّ علماء أوربا ليدرسوا المدنية الأوربية ويحصروا ما يعوزها في كلمتين لقالوا: ثباتُ الأخلاق.
فليس ينتظرُ العالمُ أنبياء ولا فلاسفةً ولا مصلحين ولا علماء يبدعون له بدعاً جديداً، وإنما هو يترقب من يستطيع أن يفسر له الإسلام هذا التفسير، ويثبتَ للدنيا أن كل العبادات الإسلامية هي وسائل عمليةٌ تمنع الأخلاقَ الإنسانية أن تتبدّل في الحي فيخلع منها ويلبس، إذا تبدلت أحوال الحياة فصعدت بإنسانها أو نزلت، وأن الإسلام يأبى على كل مسلم أن يكون إنسان حالته التي هو فيها من الثروة أو العلوم، ومن الارتفاع أو الضعة، ومن خمول المنزلة أو نباهتها، ويوجب على كل مسلم أن يكون إنسان الدرجة التي انتهى إليها الكونُ في سموهّ وكماله، وفي تقلبه على منازلة بعد أن صفى في شريعة بعد شريعة، وتجربة بعد تجربة، وعلم بعد علم.
انتهت المدنيةُ إلى الأخلاق بتبدل أحوال الحياة، فمن كان تقياً على الفقرة والإملاق وحرمه الإعسارُ فنون اللذة، ثم أيسر من بعدُ، جاز له أن يكون فاجراً على الغنى، وأن يتسمح لفجوره على مدَّ ما يتطوع به المال، وإن أصبح في كل دينار من ماله شقاءُ نفس إنسانيةٍ أو فسادُها.
ومن ولد في بطن كوخ، أو على ظهر الطريق، وجب أن يبقى أرضاً إنسانية، كأن الله سبحانه لم يبن من عظامه ولحمه وأعصابه إلا خربة آدمية من غير هندسة ولا نظام ولا فن. . . ثم يقابله من ولد في القصر أو شبه القصر فله حكم آخر، كأن الله سبحانه قد ركب من عظمه ودمه وتكوينه آية هندسة، وأعجوبة فن، وطرفة تدبير، وشيئاً مع شيء، وطبقة على طبقة ولكن الإسلام يقر ثبات الحلق ويوجبه وينشئ النفس عليه، ويجعله في حياطة المجتمع وحراسته، لأن هناك حدوداً في الإنسانية تتميز بحدود في الحياة، ولا بد من الضبط في هذه وهذه، حتى لا يكون وضعٌ إلا وراءه تقدير، ولا تقديرٌ إلا معه حكمة، ولا(115/5)
حكمة إلا فيها مصلحة، وحتى لا تعلوا الحياة ولا تنزل إلا بمثل ما ترى منِ كفتى ميزان شدَّتا في علاقة تجمعهما وتحركهما معاً، فهي بذاتها هي التي تنزلُ بالنازل لتدلَّ عليه وتشيل بالعالي لتبين عنه. فالإسلام من المدنية، هو مدنية هذه المدينة.
إنها لن تتغيرَ مادة العظم واللحم ولدم في الإنسان فهي ثابتة مقدَّرة عليه، ولن تتبدل السنن الإلهية التي توجدها وتفنيها فهي مصرَّفة لها قاضيةٌ عليها، وبين عمل هذه المادة وعمل قانونها فيها، تكون أسرارُ التكوين، وفي هذه الأسرار تجد تاريخ الإنسانية كلة سابحاً في الدم.
هي الغرائز تعمل في الإنسانية عملَها الإلهي، وهي محدَّدة محكمةٌ على ما يكون من تعاديها واختلاف بينها، وكأنها خُلقت بمجموعها لمجموعها. ومن ثم يكون الخلق الصحيح في معناه قانوناً إلهياً على قوة كقوة الكون وضبط كضبطه. وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلق أن يحوَّل المادة التي تعارضه إذا هو أشتد وصلب، ولكنه يتحول معها إذا هو قوةُ الفصل بين ضعف. فهو قدرٌ إلا أنه في طاعتك، إذ هو قوة الفصل بين إنسانيتك وحيوانيتك، كما أنه قوة المزج بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما. وقد سوَّع القدرة على هذه الأحوال جميعاً، ولولا أنه بهذه المثابة لعاش الإنسان طول التاريخ قبل التاريخ، إذ لن يكون له حينئذ كونٌ تؤرخ فضائله أو رذائله بمدح أو ذم.
فلا عبرة بمظهر الحياة في الفرد، إذ الفردُ مقيدٌ في ذات نفسه بمجموع وليس له وحده. فانك ترى الغرائز دائبة في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسننٍ من أعمالها، ودائبةً كذلك في إهلاكه في النوع نفسه بسنن أخرى. فليس قانونُ الفرد إلا أمراً كما ترى، وبهذا يمكن أن يتحول الفرد على أسباب مختلفة. ثم تبقى الأخلاق التي بينه وبين المجموع ثابتةً على صورتها. فالأخلاقُ على أنها في الأفراد هي في حقيقتها حكمُ المجتمع على أفراده، فقوامها بالاعتبار الاجتماعيّ لا غير.
وحين يقع الفسادُ في المجْمع عليه من آداب الناس، ويلتوي ما كان مستقيماً، وتشتبه العاليةُ والسافلة، وتطرحُ المبالاة بالضمير الاجتماعي، ويقوم وزن الحكم في اجتماعهم على القبيح والمنكر، وتجري العبرة فيما يعتبرونه بالرذائل والمحزمات، ولا يعجبُ الناسَ إلا ما يفسدهم، ويقع ذلك منهم بموقع القانون ويحلَّ في محل العادة، فهناك لا مساكَ للخلق السليم(115/6)
على الفرد، ولا بد من تحول الفرد في حقيقة إذ كان لا يجئ أبداً إلا متصدعاً في كل مظاهره الاجتماعية، فأينما وقع من أعمال الناس جاء مكسوراً أو مثلوماً، وكأنه منتقلٌ من عالم إلى عالم ثانٍ بغير نواميس الأول.
وما شذّ من هذه القاعدة إلا الأنبياء وأفراد من الحكماء، فأما أولئك فهم قوة التحويل في تأريخ الإنسانية لا يبعث أحدهم إلا ليهيج به الهيج في التاريخ، ويتطرق به الناس إلى سبل جديدة كأنما تطردهم إليها العواصف والزلازل والبراكين، لا شريعته ومبادئه وآدابه. وأما الحكماء الناضجون فهم دائماً في هذه الإنسانية أمكنةٌ بشريةٌ محصنة لحفظ كنوزها وإحرازها في أنفسهم، فلهم في ذات أنفسهم عصمةٌ ومنصة كالجبال في ذات الأرض.
الأخلاقُ في رأي هي الطريقة لتنظيم الشخصية الفردةِ على مقتضى الواجبات العامة، فإصلاح فيها إنما يكون فيها من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه. وعندي أن للشعب ظاهراً وباطناً، فباطنه هو الدينُ الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانونُ الذي يحكم الجميع، ولن يصلح للباطن المتصل بالغيب، إلا ذلك الحكم الديني المتصلُ بالغيب مثله، ومن هنا تتبينُ مواضع الاختلال في المدينة الأوربية الجديدة، فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفردُ فاسدٌ بها في ذات نفسه إذا هو تحليل من الدين، ولكنه مع ذلك يبدو صالحاً منتظماً في ظاهره الاجتماعيّ بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرح هازئا من الأخلاق ساخراً بها لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقاً يعتدَّ بها إلا إذا درت بها منافعه وإلا فهي ضارةَّ إذا كانت منها مضرة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات. ولا ينفكُّ هذا الفرد يتحول لأنه مطلق في باطنه غير مقيدُ إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات إذ الغايةُ المتاعُ واللذة والنجاحُ، وليكن السببُ ما هو كائن. . . .
وبهذا فلن تقوم القوانين في أوربا إذا فني المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليوم يبصرون بأعينهم ما فعلت عقلية الحرب العظمى في طوائف منهم قد خرجت أنفسهم من إيمانها فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محاربةً مقاتلة ترمى في كل شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتعفُّن والبلى. . . . وانتهت الحربُ بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق.(115/7)
وقديماً حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوّخوا الأمم، فأثبتوا في كل أرض هدى دينهم وقوة أخلاقهم الثابتة، وكان من وراء أنفسهم في الحرب ما هو ورائها في السَّلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحول، ولا تستخفه الحياةُ بنزقها، ولا تتسفّهُه المدنيات فتحمله على الطيش.
ولو كانوا هم أهل هذه الحرب الأخيرة بكل ما قذفت به الدنيا، لبقيت لهم العقليةُ المؤمنةُ القوية، لأن كل مسلم فإنما هو وعقليتهُ في سلطان باطنه الثابت القارَّ على حدود بينةٍ محصلة مقسومة تحوطُها وتمسكها أعمال الأيمان التي أحكمها الإسلام أشد إحكام بفرْضها على النفوس منوعة مكررة كالصلاة والصوم والزكاة ليمنع بها تغيراً ويحدث بها تغيراً آخر، ويجعلها كالحارسة للإرادة ما تزال تمرُّ بها وتتعهدها بين الساعة والساعة.
إنما الظاهرُ والباطنُ كالموج والساحل، فإذا جنَّ الموج فلن يضيره ما بقى الساحلُ رَكيناً هادئاً مشدوداً بإعضاده في طبقات الأرض. أما إذا ماج الساحل. . . فذلك أسلوب آخر غير أسلوب البحار والأعاصير، ولا جرمَ ألا يكون إلا خسْفاً بالأرض والماء وما يتصل بهما.
في الكون أصلٌ لا يتغير ولا يتبدل، هو قانون ضبط القوة وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الحكمة. ويقابلهُ في الإنسان قانون مثله لا بد منه لضبط معاني الإنسان وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الكمال. وكل فروض الدين الإسلاميّ وواجباته وآدابه، إن هي إلا حركةُ هذا القانون في عمله، فما تلك إلا طرقُ ثابتة لخلق الحسّ الأدبيّ. وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموسٍ طبيعيّ بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكل ذلك قوة في باطنها، فتسمى الواجبات والآداب فروضاً دينية، وما هي في الواقع إلا عناصرُ تكوين النفس العالية، وتكون أوامر وهي حقائق.
من ذلك أرانا نحن الشرقيين نمتاز على الأوربيين بأننا أقربُ منهم إلى قوانين الكون، ففي أنفسنا ضوابطُ قوية متينة إذا نحن أقررنا مدنيتهم فيها - وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسنَ هذه المدنية - سبقناهم وتركنا غبارَ أقدامنا في وجوههم، وكنا الطبقة المصفاةَ التي ينشدونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم ننشئ هذه المدينة ولم تنشئنا، فليس حقاً علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرها في حقيقتها، وأن نسيغ منها الحلوة والمرة، والناضجة والفجةُ، وإنما نحن نحصّلها ونقتبسها(115/8)
ونرتجع منها الرجعةَ الحسنة، فلا نأخذ إلا الشيء الصالح مكان الشيء قد كان عندنا وندع ما سوى ذلك، ثم لا نأخذ ولا ندع إلا على الأصول الضابطة في أدياننا وآدابنا، ولسنا مثلهم متصلين من حاضر مدنيتهم بمثل ماضيهم. بيد أن العجب الذي ما يفرغ عجبي منه أم الموسومين منا بالتجديد لا يحاولون أول وهلةٍ وآخرها غلا هدمَ تلك الضوابط التي هي كل ما نمتازُ به، والتي هي كذلك كل ما تحتاج إليه أوربا لضبط مدينتها، ويسمون ذلك تجديداً، ولهو بأن يسمى حماقةً وجهلاً أولى وأحق.
أقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين قد احترفوا النقلَ من لغات أوربا، ولا عقل لهم إلا عقلُ ما ينقلونه، فصنعتهم الترجمة من حيث يدرون أو لا يدرون صنعة تقليدٍ محضٍ ومتابعةٍ مستعبدةٍ، وأصبح عقلهم بحكم العادة والطبيعة، إذا فكرَّ انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه ولا يتحول عنه. وإذا صح أن أعمالنا هي التي تعلمنا كما يقول بعض الحكماء، فهم بذلك خطر أي خطر على الشعب وقوميته وذاتيته وخصائصه، ويوشك هو أطاعهم إلى كل ما يدعون إليه أن. . . أن يترجموه إلى شعب آخر. . . .
إن أوربا ومدنيتها لا تساوى عندنا شيئاً إلا بمقدار ما تحقق فينا من اتساع الذاتية بعلومها وفنونها، فإنما الذاتية وحدها هي أساس قوتنا في النزاع العالميّ بكل مظاهره أيها كان؛ ولها وحدها، وباعتبار منها دون سواها، نأخذ ما نأخذه من مدنية أوربا ونهمل ما نهمل، ولا يجوز أن نترك التثبت في هذا ولا أن نتسامح في دقة المحاسبة عليه.
فالمحافظة على الضوابط الإنسانية القوية التي هي مظاهر الأديان فينا، ثم إدخالُ الواجبات الاجتماعية الحديثة في هذه الضوابط لربطها بالعصر وحضارته، ثم تنسيق مظهر الأمة على مقتضى هذه الواجبات والضوابط، ثم العملُ على اتحاد المشاعر وتمازجها لتقويم هذا المظهر الشعبيّ في جملته بتقويم أجزائه. هذه هي الأركانُ الأربعة التي لا يقوم على غيرها بناءُ الشرق.
والحاد والنزعات السافلة وتخانيث المدنية الأوربية التي لا عمل لها إلا أن تظهر الخطر في أجمل أشكاله. . . ثم الجهلُ بعلومالقوة الحديثة وبأصول التدبير وحياطة الاجتماع وما جرى في هذا المجرى. ثم التدليس على الأمة بآراء المقلدين والزائفين والمستعمرين لمحق الأخلاق الشعبية القوية، وما اتصل بذلك. ثم التخاذل والشقاق وتدابر الطوائف وما كان(115/9)
بسبيلها. تلك هي المعاول الأربعة التي لا يهدم غيرُها بناءَ الشرق.
فليكن دائماً شعارنا نحن الشرقيين هذه الكلمة: أخلاقنا قبل مدنيتهم
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(115/10)
طب النفس
للأستاذ أحمد أمين
لست أدري لماذا يؤمن الناس أشد الأيمان بمرض أجسامهم، ولا يؤمنون بمرض نفوسهم، فإذا شعر أحدهم بمرض جسمي أسرع إلى الطبيب يصف له أعراضه، ويستوصفه دواءه، وينفذ أوامر مهما دقت، ويبذل في ذلك الأموال مهما جلّت، ثم هو يمرض نفسياً، فلا يأبه لذلك، ولا يعيره عناية، ولا يستشير طبياً نفسياً، ولا يعني بدرس الأعراض ومعرفة الأسباب، وقد يلح عليه مرض النفس، ويصل به إلى اليأس، فلا يسمى لعلاج، ولا تجد في معرفة دواء، كأن نفسه أهون عليه من جسمه، وروحه أتفه من بدنه.
ومن أجل عناية الناس بأجسامهم دون نفوسهم، كان لدينا نظام شامل واف لطب الأجسام دون طب النفوس، فمدرسة لتخريخ الأطباء حتى للطب البيطري، ومعاهد للتشريح والتجارب، وتخصصُ في الأمراض، فهذا طبيب عين، وهذا طبيب أنف وحنجرة، وهذا طبيب أسنان، وهذا طبيب باطني الخ، وكان لكل حيَّ طبيب أو أطباء، ولكل مدرسة طبيب، وفي الأمم الراقية لكل أسرة طبيب، ووجدت المستشفيات في أنحاء الأقطار، وعدها الناس عملاً خيرياً يتبرعون لها بأموالهم، كما عدتها الحكومة ضرورة اجتماعية ترصد لها الأموال في ميزانياتها، وأنشئت الصيدليات في كل حي وكل شارع لتلبية طلبات الأطباء والجماهير في كل وقت إسعافاً للجسم في مرضه وفي ترفه.
وخضعت هذه النظم لسنة الارتقاء، فهي تساير الزمان، وتستفيد مما يؤدي إليه البحث والعلم، وتتكيّف حسب ما تقتضيه الأحوال، وتجهز بأحدث المخترعات.
والعقل عنى بعض هذه العناية، فكان أطباء للأعصاب، ومستشفيات للمجاذيب، وبحوث وتجارب في أمراض العقل وعلاجه أما النفس فحظها من ذلك كله حظ الأرنب بجانب الأسد، فلا الناس يقدرون خطورة أمراظها، ولا تنشأ المدارس لأطبائها، ولا تؤسس المستشفيات لعلاجها.
مع أني أعتقد أن آلام الناس مكن نفوسهم أكثر من آلامهم من جسومهم، وإضرار المجتمعات من مرضى النفوس تفوق أضرارها من مرضى الجسوم، وللنفس أمراض لا حصر لها، تختلف كاختلاف أمراض الجسم إلى مرض عين ومرض معدة ومرض أمعاء،(115/11)
فهناك حميات نفسية متعددة كحميات الأجسام، وهناك تسمم نفسي يشبه التسمم الجسمي، وهناك ميكروبات نفسية كالميكروبات المادية، وهناك عدوى بها تصيب النفوس كعدوى الأجسام - وهناك انفعالات تحرق النفس وتضني البدن إلى آخر ما هنالك، ولكل هذه الأمراض علاجات تختلف باختلاف المرض وباختلاف الشخص ولها أدوية من جنسها، منها ما يسكن الألم، ومنها ما يشفي المرض - وهي في دراستها وتشخيصها وعلاجها أدق وأصعب منالاً وأغمض كشفاً، والفرق بينها وبين أمراض الجسم وعلاجه كالفرق بين الجسم والنفس.
فما أحوجها إلى أطباء مهرة، ومستشفيات صالحة معدة ودراسات عميقة منتجة، ونظم في ذلك ترقى مع الزمان رقي طب الأجسام.
لعل الذي صرف الناس عن علاج نفوسهم إلى علاج جسومهم أنهم أو الكثير منهم لا يزالون يسبحون في دائرة الحس وحده، ولم يرتقوا إلى ملاحظة النفوس وشؤونها، فإذا جرح الإنسان جرحاً بسيطاً في جسمه هرع إلى الطبيب يعالجه ويحتاط له، وإذا كسر عظمه ذهب إلى الطبيب ليجبر كسره، ولكن إذا جرحت نفسه ولو جرحاً عميقاً، وكسرت ولو كسراً خطيراً احتمل الألم من غير بحث عن علته أو نتائجه أو طرق مداواته لأنه لا يزال مادياً في إدراكه أولياً في تفكيره.
أو لعل السبب أن الناس لا يؤمنون بأطباء النفوس إيمانهم بأطباء الأجسام، فهم لا يعتقدون في صلاحيتهم، ويشكون كل الشك في قدرتهم على علاجهم، فيستسلمون للمرض النفسي كما يستسلمون لمرض جسمي استحال شفاؤه، ولم يستكشف دواؤه، إن كان هذا فعلى الطب النفسي أن يثبت أن قدرته، ويبرهن على نجاحه حتى يقبل الناس عليه ويؤمنوا به.
وقد يكون السبب أن الناس يؤمنون بسهولة أمراض النفس وقدرتهم على علاجها والإشتفاء من غير طبيب، فما عليه إن كان حزيناً إلا يضحك، أو منقبضاً إلا أن يتسلى، وهذا خطأ بين؛ فأمراض النفوس كأمراض الجسم فيها ما يداوى بحمية وفيها ما يستعصي على الطبيب الماهر والخبير الحاذق.
لعلك تزعم أن هذه الناحية من طب النفوس لم تهمل بتاتاً فهنالك المدارس للتهذيب، فيها إصلاح النفوس وفيها دروس الدين والأخلاق لمعالجة الأمراض، وهناك الوعّاظ لإرشاد(115/12)
الناس وعلاج النفس، وهناك العرف والقوانين توجه الناس إلى الخبير وتجذرهم من الشر، وفي تهذيب لنفسهم وإصلاح لجوانب الشر فيهم.
ولكن يظهر لي أنها كلها مع فائدتها لا تكفي، لأنها - من ناحية - تكاد تكون علاجاً عاماً يقال لكل الأشخاص، وتخاطب بها كل النفوس، كالطبيب يذكر ضرر الإفراط في الأكل، وأضرار كثيرة التدخين، وفائدة الرياضة البدنية، وفائدة الاعتدال في المأكل والمشرب، وهي قل أن تتعرض للأزمات النفسية الخاصة بكل نفس وما أحاط بها من ظروف خاصة، ونوع النفس وما يلزم لها من علاج خاص بها، هي أقرب ما تكون إلى الوقاية لا إلى العلاج، وللاحتياط من الوقوع في المرض لا لعلاج المرض، فان تعرضت لعلاج وصفت علاجاً عاماً للناس على السواء، إذ ليس في استطاعتها - غالباً - أكثر من ذلك.
ومن ناحية أخرى أكثر ما بأيدينا منها اليوم يؤسس على ما وصل إليه العلم الحديث، ولم يبن على ما أستكشف من قوانين علم النفس على قلة ما أستكشف منها، فالدراسة الحديثة أبانت عن اتجاهات كانت غامضة، وأخطاء كانت ترتكب في تصور النفس وإدراكها وجرائمها وطرق تهذيبها، ولا يزال علماء النفس يقومون في أول مراحلهم، ولم يقولوا في النفس إلا الكلمة الأولى، فكان من المعقول أن يساير التهذيب ودراسة الأخلاق وعلاج النفس ما وصل إليه علم النفس وعلم الاجتماع، كما يساير علم طب الأجسام ما يستكشف من مخترعات. فآلات الجراحة اليوم غيرها بالأمس، والمادة الطبية اليوم غيرها بالأمس، والمادة الطبية اليوم غيرها بالأمس وهكذا ولكن ذلك لم يكن.
وربما كان أقرب المناحي إلى طب النفس منحى الصوفية، فقد كان لكل مريد شيخه يفضي إليه بدخائل قلبه وأزمات نفسه، ووسائسه وخطراته وآلامه وتوجهاته، والشيخ يصف لكل مريد ما يراه أنسب له وأقرب لعلاجه، ويصف له طرقاً يسلكها واتجاهات يتجهها وأوراداً يتلوها، يرى أنها تشفى مرضه، وتبرئ نفسه، وله في كل مريد نظرته وفراسته، بها يشخص وبها يصف، ولكن تكاد تقتصر هذه الحالة بين المريد والشيخ على الأزمات الدينية، أما ما عدا ذلك من أزمات دنيوية واجتماعية، فقلما يتناولها المريد والشيخ، على أنه، من لكل مريد بهذا الشيخ الدقيق النظر الصائب الفكر الصادق الفراسة الموفق في تبيُّن المرض ومعرفة العلاج.(115/13)
وإذا عدمنا مثل هذا الشيخ وحرمت مجتمعاتنا من نظم وافية شاملة للطب النفسي كالنظم الوافية الشاملة للطب الجسمي فلا أقل من أن نوجه النظر إلى أن يعنى كل شخص بناحيته النفسية عناية لا تقل عن عنايته الجسمية. فضحايا أمراض النفوس كثيرون، وصرعى المرض لا يحصون، والالتفات إلى فتك هذا النوع من الأمراض ضعيف فاتر - فهناك صرعى الخوف من الموت ومن الفقر ومن الرؤساء، وهناك صرعى الشك في الدين وفي الحياة وقيمتها وفي كل ما يحيط بهم مما في الأرض وما في السماء، وهناك صرعى الحزن لا يسرهم شيء في الحياة، ويودون أن يبكوا دائماً ويسودون كل منظر يرونه، ويحزنون عند ما يحزن الناس ويحزنون عند ما يضحك الناس، فإذا عدموا أسباب الحزن حلقوها حتى من أعمق منابع السرور - وهكذا تتعدد الصرعى كصرعى السل والسرطان وما إليها - يبدوا فيهم مكروب النفس صغيراً ثم ينمو شيئاً فشيئاً حتى يفترسهم، ثم من العجيب ألا يتوجهوا قليلاً ولا كثيراً إلى قتلها قبل أن تقتلهم وهزيمتها قبل أن تهزمهم، كأنهم يظنون أن المرض فوق أن يعالج والأمر أيأس من أن يفكر فيه.
لأمراض النفس أسباب عدة: من حالة صحية، وبيئة اجتماعية، وبذور ميكوربات تسرب إليها من كتب قرأتها، ومقالات طالعتها، وأحاديث سمعتها، ومناظر رأتها إلى غير ذلك، ولعل أهم مرض نفسي يصيب طائفة المثقفين سببه أنهم لا يريدون أن يكونوا أنفسهم ويريدون أن يكونوا غيرهم.
لقد خلقت النفوس البشرية متشابهة في بعض جهاتها، مختلفة في بعض جهاتها، شأنها في ذلك شأن الوجوه، فكل وجه فيه عينان وأنف بين العينين وفم تحت الأنف وذقن تحت الفم ولكن مع هذا الاشتراك لكل إنسان وجهه الخاص به لا يشاركه فيه غيره، وكذلك النفوس تشترك في اللذة والألم، وتشترك في أهم منابع اللذة ومنابع الألم وتشترك في الغرائز الأساسية وما إلى ذلك، ومع هذا فلكل إنسان نفسه الخاصة، لا يساويها في جميع وجوهها غيرها.
ومما ألاحظه أن كل إنسان إن سارت على فطرتها، وعرفت أن تتغذى بما يناسبها، وطلبت لها مثلاً أعلى يتفق وطبيعتها، عاشت في الأغلب راضية مطمئنة، فان فطرتها وحاولت أن تكون غيرها أظلمت وأصابها الحزن والقلق والاضطراب، وفقدت سعادتها وهناءها،(115/14)
واطمئنانها ورضاءها، ومحال أن تنال ما يخالف فطرتها، كما هو محال أن يكون الوجه الأسود أبيض، أو الأبيض أسود، أو الطويل قصيراً، أو القصير طويلاً.
يسعد الإنسان إذا عرف طبيعته وحدوده التي يستطيع أن يصل إليها، ونوع الرقى الذي يمكن أن يبلغه، فان حاول أن يكون غير ذلك كان في الحياة (ممثلاً) لا يعيش عيشته الطبيعية، فهو فقير يمثل دور ملك، وصعلوك يمثل دور وزير، وطفل يمثل شيخاً هرماً، ورجل يمثل دور امرأة، ومحال أن يوائم بين نفسه الحقيقية والدور الذي يمثله إلا بمقدار ما يظهر على المسرح، فان هو حاول أن يطيل ذلك بعد دوره فجزاؤه الهزؤبه، والسخرية منه، وقلق نفسه، واضطراب شأنه.
فأكثر أسباب اضطراب المثقف ناشئ من أنه غبي يريد أن يكون ذكياً، أو ميال بطبعه إلى العزلة والانكماش، يريد أن يكون وجيهاً شهيراً، أو عالم يريد أن يكون أدبياً، أو أديب يريد أن يكون وقحاً، أو متزن نواحي العقل يريد أن يكون نابغاً شاذاً الخ. فهو يحاول، ثم يفشل ويفشل، لأنه يكلف النفس ضد طباعها، وهذا الفشل يهز نفسه هزة عنيفة تسبب له القلق الروحي والاضطراب النفسي، هو بذلك يريد أن يكون إنساناً صناعياً وهو مخلوق إنساناً طبيعياً، فالتوفيق محال، فخير نصيحة لهذا وأمثاله أن تقول له: (كن نفسك، ولا تنشُد إلا مثلك).
أحمد أمين(115/15)
أقطاب الرواية المصرية
عز الملك المسبحي جندي ومؤرخ وسياسي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان المسبحي رجل حرب ورجل قلم، وكان سيل أسرة حّرانية نزحت إلى مصر قبل قيام الدولة الفاطمية، واستوطنت مصر وسطعت فيها؛ وكان إحدى هاته الشخصيات القوية البارزة التي كانت الدولة الفاطمية أبان قوتها وفتوتها تحشدها حولها، وتوليها ثقتها وعطفها، وتؤثر أن تختارها من غير المصريين البلديين. بيد أن المسبحي كان مصرياً بمولده، مصرياً بتربيته وبيئته، وقد خصص حياته ومواهبه الممتازة لدراسة مصر وأحوالها وتاريخها، ولو لم يذهب الزمن بآثاره ولا سيما بموسوعته الضخمة عن تاريخ مصر، لكان بين يدينا الآن أعظم أثر عن مصر وتاريخها في المرحلة الأولى من الحكم الفاطمي، أعني مرحلة العظمة والبهاء.
ولد المسبحي بمصر حسبما ذكر في تاريخه ونقل إلينا الرواة المتأخرون في العاشر من رجب سنة ست وستين وثلئمائة (977م)، وهو الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله ابن أحمد بن إسماعيل المعروف بالمسبحي، ولم نعثر على تفاصيل عن حياته الأولى ولا تربيته وتكوينه، ولكن يبدو لنا من آثاره التي نسبت إليه، والتي انتهت إلينا شذور منها أنه تلقى ثقافة أدبية علمية واسعة متعددة النواحي، كذلك يظهر أن المسبحي بدأ حياته العامة جندياً ورجل ادارة، لأنه كان يرتدي زي الجند، ولأنه تقلد بعض المناصب الإدارية الهامة، وقد ذكر لنا المسبحي في تاريخه أيضاً، أن اتصاله بخدمة الحاكم بأمر الله يرجع إلى سنة 398هـ، بيد أنه تقلب قبل ذلك في بعض الوظائف الهامة، فتقلد أعمال القيس والبهنسا من أعمال الصعيد ثم تولى ديوان الترتيب وهو يومئذ من مناصب الوزارة الهامة، ثم اصطفاه الحاكم بأمر الله وعينه في بطانته الشخصية في سنة 398هـ وكان الحاكم يومئذ فتى في نحو الثالثة والعشرين من عمره، ولكنه كان في ذروة القوة والسلطان والبطش، وكانت هذه الفترة بالذات من أروع فترات حكمه، وفيها فتك بكثير من الوزراء ورجال الدولة (سنة 395 - 400هـ) ويروى لنا المسبحي نفسه في تاريخه طائفة من الحوادث الدموية التي شهدها في هذا العهد، وكان الحاكم دائم الفتك بالزعماء والكبراء لأسباب تتصل بسياسته(115/16)
العامة أو لريب ومخاوف تساوره، ولكن المسبحي تبوأ لدى الحاكم مركزاً من النفوذ والثقة لا تتطاول إليه الشكوك والريب، ولا تتجه إليه النقمة الغادرة، بل يظهر أن المسبحي كان من أخص خواص الحاكم، حسبما تدلى به الواقعة الآتية التي يرونها لنا في تاريخه، قال:
(قال لي الحاكم، وقد جرى والده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، قال فاستدعاني وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمى عليك يا حبيب قلبي ودمعت عيناه، ثم قال: امض يا سيدي فالعب فأنا في عافية. قال الحاكم: فمضيت والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله تعالى العزيز إليه).
ويقول لنا ابن خلكان إن المسبحي نال لدى الحاكم حظوة وسعادة، وإنه كانت له مع الحاكم مجالس ومحاضرات حسبما يشهد بها تاريخه الكبير، وتبدو دلائل هذه الصداقة التي توثقت عراها بين الحاكم والمسبحي في كثير مما يرونه المؤرخ في تاريخه وينقله عنه الكتاب المتأخرون مثل المقريزي وابن تغرى بردى عن عصر الحكام بأمر الله، وعن أحواله وتصرفاته الشخصية، ففي كثير من هذه المواطن يبدو المسبحي الصديق المخلص والمستشار الأمين.
وهذه حقيقة تلفت النظر، فإن الحاكم كان أميراً خطر النزعات عنيف الأهواء، وقلما نجا من نقمته أحد من رجال الدولة الذين خدموه. بيد أن الذهبي يقدم إلينا في تاريخه تعليلاً لهذه الظاهرة، هو أن المسبحي كان رافضياً. والروافض فرقة من غلاة الشيعة تغلو في حب علي بن أبي طالب وفي بغض أبي بكر وعثمان ومعاوية ومن إليهم، وقد اختلفت في سبب تسميتهم بالروافض. وهنا نلمس سر هذه الصداقة التي توثقت بين المؤرخ وأميره، فقد كان الحاكم، جرياً على سنة آبائه، يصطفى غلاة الشيعة أبناء مذهبه ويوليهم مناصب النفوذ والثقة، وكان المسبحي يتمتع فوق صفته المذهبية بخلال باهرة تضاعف مكانته، فقد كان عارفاً بعلوم عصره، وكان راوية ومحدثاً ساحراً، وكان أيضاً شغوفاً بعلم النجوم الذي يشغف به الحاكم بأمر الله، وقد وضع فيه أكثر من مؤلف، وهذه كلها عوامل وظروف تلقي أكبر الضياء على طبيعة هذه الحظوة التي نالها المؤرخ في بلاط الحاكم بأمر الله.
وقد استطاعت هذه الخطوة حتى وفاة الحاكم بأمر الله سنة 411هـ، ولا نعرف ماذا كانت صلة المسبحي بالبلاط الفاطمي في الأعوام التالية، والظاهر أنه اعتزل الحياة العامة.(115/17)
وانقطع للبحث والكتابة، ووضع كثيراً من مؤلفاته في هذه الفترة التي استطاعت تسعة أعوام أخرى حتى وفاته في شهر ربيع الثاني سنة 420هـ (1029م).
- 2 -
يقدم إلينا ابن خلكان ثبتاً حافلاً من مصنفات المسبحي، وفي هذا الثبت القوى المتباين معاً ما يدل على ما كان يتمتع به هذا الذهن الممتاز من نواحي التفكير والثقافة المتعددة، فقد ألف المسبحي في التاريخ والجغرافيا والأدب والاجتماع والفلك كتباً بل موسوعات ضخمة، وإليك مفردات هذا الثبت الذي يقدمة إلينا ابن خلكان: كتاب التاريخ الكبير في ثلاث عشرة ألف ورقة، كتاب التلويح والتصريح في معاني الشعر وغيره في ألف ورقة، كتاب الراح والارتياح في ألف وخمسمائة ورقة، كتاب الغرق والشرق في ذكر من مات غرقاً وشرقاً في مائتي ورقة، كتاب الطعام والأدام في ألف ورقة، كتاب درك البغية في وصف الأديار والعبادات ثلاث آلاف وخمسمائة ورقة، قصص الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم ألف وخمسمائة ورقة، كتاب المفاتحة والمناكحة في أصناف الجماع ألف ومائتا ورقة، كتاب الأمثلة للدول المقبلة وهو في النجوم والحساب خمسمائة ورقة، كتاب القضايا الصائبة في معاني أحكام النجوم ثلاثة آلاف ورقة، ورقة، كتاب جونة الماشطة في غرائب الأخبار والأشعار والنوادر ألف وخمسمائة ورقة، كتاب الشحن في أخبار أهل الهوى وما يلقاه أربابه ألفان وخمسمائة ورقة، كتاب الشجن في أخبارأهل الهوى وما يلقاه أربابه ألفان وخمسمائة ورقة؛ كتاب السؤال والجواب ثلاثمائة ورقة؛ وكتاب مختار الأغاني ومعانيها، وغير ذلك من الكتب؛ ويقول لنا ابن خلكان أيضاً إن مصنفات المسبحي بلغت نحو الثلاثين
وهو تراث حافل ضخم ينم عن غزارة مدهشة ويشهد من حيث تنوعه لصاحبه بطرافة يندر توفرها في آداب هذا العصر؛ بيد أننا لم نتلق من هذا التراث شيئاً يذكر، ولا نكاد نظفر في عصرنا للمسبحي بأثر تام أو فصل تام، وقد اشتهر المسبحي بالأخص بتاريخه الكبير، الذي يصف لنا محتوياته في مقدمته فيما يلي: (هو أخبار مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها، وأحوال من حل بها إلى الوقت الذي كتب فيه، وأشعار الشعراء، وأخبار المغنين، ومجالس القضاة والحكام والمعدلين والأدباء والمتغزلين وغيرهم)، وإذن فقد كان(115/18)
تاريخ المسبحي، سواء من حيث حجمه أو موضوعاته موسوعة قوية شاسعة؛ ولم يصلنا هذا الأثر الضخم الذي يلقى بلا ريب أعظم الضياء على تاريخ الدولة الفاطمية في عصرها الأول، ولا سيما عصر الحاكم بأمر الله، وشخصيته الغريبة الفذة التي درسها المسبحي عن كثب، ولكن الشذور القوية الممتعة التي وصلتنا منه على يد المقريزي وغيره من المؤرخين المتأخرين عن أحوال الدولة الفاطمية وقصورها وخزائنها وصروحها وبذخها وبهائها، تنوه بقيمة هذا الأثر ونفاسته وطرافته، وتدل أيضاً على أن مؤلفه قد تناول خطط وآثارها ومعاهدها في كثير من الإفاضة.
وقد لبث تاريخ المسبحي مستقى خصباً لمؤرخي مصر الإسلامية حتى عصر متأخر جداً؛ فالمقريزي وابن تغري بردي والسخاوي والسيوطي وغيرهم يقتبسون منه ويشيرون إلى وجوده؛ وكذلك يذكره حاجي خلفية في (كشف الظنون) بما يأتي: (ومنها تاريخ مصر لعز الملك محمد بن عبد الله المسبحي الحراني المتوفى سنة 420هـ، وهو كبير في اثني عشر مجلداً؛ واختصره تقي الدين الفاسي والذيل عليه لابن مُيَسّر)؛
وفي ذلك ما يدلي بأن تاريخ المسبحي كان موجوداً حتى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)؛ بل هنالك ما يدل على أنه كان موجوداً كله أو بعضه حتى القرن الثاني عشر (الثامن عشر)؛ فقد ورد في معجم مخطوطات الأسكوريال الذي وضعه الغزيري اللبناني باللاتينية في سنة 1770 بأنه يوجد في مكتبة الأسكوريال العربية (أربعة مجلدات من تاريخ مصر وأرضها وعجائبها مرتب حسب السنين لغاية سنة 414هـ، تصنيف محمد بن عبد الله بن عبد العزيز المسيحي (كذا) (معجم الأسكوريال رقم 531 فقرة 2)، وليس من شك في أن المقصود هو تاريخ مصر للمسبحي، وذلك رغم تحريف الاسم. على أننا عند مراجعة فهرس الأسكوريال الحديث الذي وضعه ديرنبورج، ثم ليفي بروفنسال (سنة 1928) لم نجد في كتب التاريخ ذكراً لكتاب المسبحي، مما يدل على أن ما كان موجوداً منه بقصر السكوريال في القرن الثامن عشر قد ضاع شأن كثير من الآثار التي اثبت الغزيري وجودها في معجمه بيد أنه
يبدو من هذا الوصف الذي أثبته الغزيري في معجمه أن المسبحي أستمر في تتبع حوادث مصر وحوادث عصره حتى سنة 414هـ، وربما أستمر إلى ما قبل وفاته في سنة 420هـ إذا(115/19)
لم يكن الغزيري قد وقف على نهاية كتابه. وهذا وقد كتب ابن ميسر المصري المتوفى سنة 677هـ ذيلاً لتاريخ المسبحي، يبدأ فيه من حيث انتهى المسبحي، وسماه (أخبار مصر)، وانتهى الينا منه قسم يبدأ في سنة 439هـ وينتهي سنة 553هـ، وهذا الذيل هو الذي أشار إليه صاحب كشف الظنون فيما تقدم
هذا وقد كان المسبحي شاعراً رقيقاً وله شعر جيد نقل إلينا ابن خلكان شيئاً منه، ومن قوله يرثي أم ولده:
ألا في سبيل الله قلب تقطعا ... وفادحة لم تبق للعين مدمعا
أصبراً وقد حل الثرى من أوده ... فلله هم ما أشد وأوجعا
فيا ليتني للموت وقد قبلها ... وإلا فليت الموت أذهبنا معاً
وقوله من قصيدة يرثى بها والده:
بأبي فجعت فأي ثكل مثله ... ثكل الأبوة في الشباب أليم
قد كنت أجزع أن يلم به الردى ... أو يعتريه من الزمان هموم
وقد رأينا أن المسبحي كتب فيما كتب كتاب (التلويح والتصريح في معاني الشعر وغيره) مما يدل على انه كان راسخ القدم في فنون الشعر رسوخه في النثر
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(115/20)
من تراثنا العلمي
3 - كتاب في البيزرة
وصف وتحليل نسخة من كتاب مفقود، في علم ضائع، لمؤلف
مجهول
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
وللصيد لذة مشتركة موجودة في طباع الأمم، وكأنها في سكان البدو والأطراف أقوى لمصاقبتهم ومنازلتهم إياها، فلا تزال تراهم ذاكرين وبها متمثلين، ومنها طاعمين، حتى أن نساءهم ليتصيدن على الخيل، ذكر ذلك بعض الرواة فقال: أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن عبد الله بن غبي ربيعه المخزومي وإذاهم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم، فقال عمر: أحدثكم بعض ذلك: إنه كان لي خليل من بني عذرة (وقصّ قصة الدوحة، وهي على طولها، وعلى أنها أخذت من الكتاب نحواً من عشر صفحات من أجمل قصص الحب في الأدب العربي، وهي مشهورة لم نروها لطولها).
وربما ألث السحاب وجرت الأدوية وتتابع السيل، وثلجت الصحراء، حتى يعم ذلك معاقل الأروَ، وكناس الظباء، ومرابض المها، ومفاحص القطا، ومسالك الطير من الهواء، فلتجأ الصوار والسّرب والعانة والرعيل والرف إلى العمارة، فتؤخذ قبضاً وتكون حالها في استسلامها، وضعف من يقدر عليها في تلك الصورة كقول علي بن الجهم في وصف غيث:
وحتى رأينا الطير في جنباتها ... تكاد أكف الغانيات تصيدها
ولا يكون لصيدها ذلك الموقع، على أن ناساً قد أمكنهم مثل ذلك فرأوا تركه، وقالوا إنما لجأت إلينا وعاذت بجوارنا، فنؤمنها ولا نروعها ولا نجور عليها، وفعل مثل ذلك مجبر الجراد واسمه حارثة بن حنبل من طيء، وكان الجراد قد وقع في أرضه، فبدأ بالوقوع حول خبائه، فخرج أهل الحي ليصيدوه، فركب فرسه واشرع إليهم صدر قناعة وقال: ما كنت لأمكنكم من جاري وفخر بذلك قومه، فقال هلال بن معاوية التغلبي:
ومنا الكريم أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد(115/21)
وزيد لنا ولنا حاتم=غياث الورى في السنين الشداد
وفعله رجل من بني عبد الله كلاب يقال له همام، وبات بأرض خلاء ليس معه أحد، فأوقد ناراً، وقد كان صاد صيداً، فلما رأى الذئب النار أتاها، وذلك من شأنه إذا رأى النار، فلما قرب الذئب منه وهو غرثان أقبل يتقرش ما يرميه همّام من العظام ولا يراه، فلما تبينه رمى إليه بقية صيده ولم يرعه، وأنشأ يقول:
يارب ذئب باسل مقدام ... منجرد في الليل والأظلام
عاود أكل الشاء والأنعام ... قد ضافني في الليل ذي التمام
في ليلة دانية الأرزام ... يقرش ما ألقى من العظام
فبات في أمنى وفي ذمامي ... مستدفئاً من لهب الضرام
آثرته بالقسم من طعامي ... ولا يخف نبلى ولا سهامى
ولو أني غيري من الأقدام ... من اللئام لا من الكرام
إذن للأقي عاجل الحمام
وأخبرني من وثقت بصدقه عن رجل من جله أهل همذان أن الثلج كثر في ضياعه حتى لجأت إليها عانات كثيرة، فأخذنا وكلاؤه ولم يحدثوا فيها حدثاً وكتبوا إليه بخبرها، فكتب إليهم أن أقيموا لها قضيماً وعلفاً إلى أن ينحسر الثلج، فإذا أنحسر الثلج فخلوا سبيلها واحموها حتى تصل إلى أبعد موضوع من العمارة ففعلوا ذلك.
وتلجأ أيضاً إلى الأنس والعمارة إذا أجدبت السنة وعدمت الكلآ، وذكر هذا المعنى إبراهيم الموصلى في قوله يرثى أخاه اسمعيل بن جامع المغنى، فقال:
وإني واسمعيل يوم فراقه ... لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
فان أغش قوماً بعده أوازورهم ... فكالوحوش يدنيها من الأنس المحل
يذكرنيك الخير والشر والتقى ... وقول الخنا والحلم والعلم والجهل
فألقاك عن مذمومها متزهاً ... وألقاك في محمودها ولك الفضل
وقد زعم قوم أن هذا الشعر لمسلم بن الوليد الأنصاري
ومثله لآخر:
تخرم الدهر أشكالي فأفردنى ... منهم وكنت أراهم خير جلاس(115/22)
وصرت أصحب قوماً لا أشاكلهم ... والوحوش تانس عند المحل بالناس
وأخبرني مخبر عن أبي العباس الخ ... عن المعتصم أنه أوغل
يوماً في الصيد وحده، فبصر بقاض يصيد ظباءً فاستدناه وقال حدثني أعجب ما رأيت في صيدك، فقال:
خربقت المشارع التي تردها الظباء، فلما شمت الخريق صدرت عطاشاً، ثم عادت من غد فانصرفت أيضاً عطاشاً، ثم عادت في اليوم الثالث بأجمعها، فلما جهدها العطش رفعت رؤوسها إلى السماء فأتاها الغيث فما انصرفت حتى رويت وخاضت في الماء.
وذكرت العلماء بطبائع الحيوان أن الوحش ربما انحازت إلى العمران عن مواضعها من الجبال والبر الذي يتصل بفصل الشتاء، فيستدل برده وثلجه لأنها تحس في الجبال بتغير الهواء وبرد شديد، فتستدل بذلك على ما بعده من قوة البرد وتخاف الهلاك فتلجأ إلى العمارة.
(باب) من كان مستهتراً بالصيد من الأشراف: إسماعيل غبن إبراهيم الخ. . وحمزة بن عبد المطلب الخ. . ومن خلفاء بني العباس الخ. . الخ. . (وهو باب طويل حافل بالأخبار الممتعة، والأشعار المستملحة).
(باب) صفة البواشق وذكر ألوانها وشياتها وأوزانها وصفة الفاره منها: فالأحمر الأسود الظهر جيد صبور على الكد، والأحمر الظهر والبطن رخو ماله جلد الخ. . .
وأكثر ما رأيناه من أوزانها مائة وثلاثون درهماً، وأقله خمسة وتسعون الخ. . .
(باب) في ضراءة الباشق وفراهته وما يصيد من الطرائد المعجزة التي هي من صيد البازي وذكر علاجات البواشق وعللها وما خلص منها من العلل ونجب، وذكر القرنصة وذكر ما عاش عندي منها بالقاهرة حرسها الله، وذكر ما يحتاج إليه في القرصنة من الخدمة، وذكر السبب الذي استحقت به التقدمة على البزاة إذا كان مؤلفو الكتب يقدمون البازي على سائر الجوارح.
(فصل) صفة ضراءة الباشق وهو وحشي، يحتاج الباشق إلى أن يكون على يد رقيق من البيازرة يعرف ما يعمل هو، وهو أن يخيط عينه إلى أن يكلب على الطعم ومقدار ذلك سبعة أيام الخ. . . فإذا كلب كلباً تاماً على الطعم فأفتحه وأطعمه الخ. . . فإذا لم يبق عليك(115/23)
من إجابته شيء على ما وصفنا، فخذ له من طير الماء الفرافير ولقفه إياها الخ. . . الخ. . .
(فصل) ذكر الضراءة على البيضاني والمكحل
إذا أردت أن يصيد الباشق البيضاني والمكحل الخ. . . وقد رأيت من فراهة البواشق ثلاثة لم يسمع بمثلها قط الخ. . . وكان لنا باشق وحشي الخ. . . ولم أر مثله إلا باشقاً قط الخ. . . وكان لنا باشق وحشي الخ. . . ولم أر مثله إلا باشقاً كان لمولانا صلوات الله عليه (يعنى العزيز الفاطمي)، فانه أمرني في بعض الليالي أن أشبعه وشغل هو صلى الله عليه بطير الماء الخ. . . وإنه كان لنا باشق يعرف بباشق ابن حوفية، وكان يكون على يد أمير المؤمنين صلى الله عليه الخ. . . وهذا لم أر مثله إلا من باشق كان الخ. . . وقد كان عندي باشق حوام الخ. . . الخ.
(فصل) صفة علاج القرنصة وذكر ما تحتاج إليه من آلتها.
(فصل) ذكر علاج القرح في جناح الباشق وكيف يخرج
(فصل) صفة علاج اللدود.
(باب) في صفة البزاة وذكر شياتها وألوانها وأوزانها وضراءتها والحوادث التي تحدث لها وعلاجاتها وما تحتاج إليه من الخدمة في قرنصتها.
(فصل) صفة شياتها
(فصل) ذكر أوزانها.
(فصل) صفة ضراءة البازي: إذا وقع البازي إلى الصياد فسبيله أن يخيط عينيه الخ. . .
وقد كان لي باز، وكان الخ. . .
وكان عندنا باز حمل إلينا من دمشق الخ. . .
ولقد بلغنا في صيد البازي خبر عجيب، لم نسمع مثله، وذلك أن مسلماً دخل إلى بلد الروم الخ. . .
(فصل) ذكر ما يحتاج إليه البازي في القرنصة.
(فصل) ذكر سياسة الذرق.
(فصل) ذكر الأدوية والعلاجات وما يستدل به من الذرق على كل علة.(115/24)
(فصل) ذكر ما يحدث الجص وصفة علاجه
(فصل) ذكر علاج النفَس.
(فصل) ذكر علاج البشم.
(فصل) ذكر علاج البياض إذا أصاب عين البازي
(فصل) ذكر ما يولد القمل في البازي وصفة علاجه.
(فصل) ذكر علاج المسمار إذا أصاب كف الجارح
(فصل) ذكر ما يحدث الورم في الكفين وصفة علاجه.
(فصل) ذكر علاج القلاّع
(فصل) ذكر ما يتبين به كون الدود في البازي وصفة علاجه.
(فصل) صفة علاج الحرّ.
(فصل) صفة علاج مخاليب الجارح إذا تقلعت
(فصل) صفة علاج البرد.
(فصل) صفة علاج اعوجاج ريش الجناح
(فصل) صفة علاج العقر إذا أصاب كف البازي.
(فصل) ذكر ما يحدث السدة في المنخرين وصفة علاجهما.
(باب) في تفضيل الصقور على الشواهين لما فيها من الفراهة وهو السبب الموجب لتقديمها وذكر ألوانها وأوزانها وصفة ضراءتها، (وفي فصول طويلة كالذي مرّ في باب البواشق وباب البزاة).
(باب) في صفة الشواهق وذكر ألوانها وأوزانها وصفة ضراءتها.
(باب) السقاوات وذكر ألوانها وأوزانها وضراءتها، وما تصيده من الوبر والريش، وذكر ما يستدل به على جبدها ورديئها.
(باب) العقبان الخ. . .
(باب) الزمامجة الخ. . .
(باب) ما قيل في العقاب من الشعر المستحسن.
(باب) صيد الفهد الخ. . .(115/25)
(ذكر) الصيد بالفهد وما يستحسن منه الخ. . . وقال بعض الشعراء الخ. . . (وفي هذا الفصل كثير من الأشعار والأشعار والأخبار الجيدة).
(ذكر) ما قيل في ابتذال الملك نفسه في الصيد بهذا الضاري ومباشرته له الخ. . . (وفي هذا الفصل أشعار كثيرة).
(باب) في صفة الظباء وذكر مواضعها التي تأويها وصيدها وما فيها من المنافع، وما قيل في ذلك من الشعر.
(باب) في ذكر كلاب سلوق وخصائصها وصيدها وعللها ودوائها، وما قيل فيها من الشعر (وفيه فصول وقد أورد المؤلف في بعضها طائفة صالحة من الشعر).
(باب) ذكر ما قيل في الجوارح وما وصفت به من الشعر المستحسن لمتقدم ومتأخر، (وفيه فصول).
(باب) صيد طير الماء في القمر بالبازي والباشق، وهو باب تفردنا دون غيرنا ولم نعلم أحداً سبقنا إليه من مؤلفي كتب البيزرة من المتقدمين (وهو آخر أبواب الكتاب) ثم تأتي الزيادات التي أشرنا إليها في صدر مقالنا السابق.
وهذا وصف موجز، وبيان لقيمة هذا الكتاب الجليل، وإنا لنرجو أن يهيء الله له ناشراً، يسرع إلى طبعه ليستفيد منه أهل الأدب، وأصحاب هذه الصناعة، ويأخذ مكانه في المكتبة العربية، فان مكانه لا يزال خالياً، ولا يسده اليوم في الدنيا كتاب غيره، وإنا لنرجو أن تعنى بأمره (لجنة التأليف والترجمة والنشر) ويكون لها في نشرة مأثورة جديدة، تضم إلى مآثرها الجمة وأياديها الكثيرة على الثقافة والأدب.
علي الطنطاوي(115/26)
دراسيات في النقد
طريقة أرسطو في النقد الأدبي
بقلم محمد رشاد رشدي
كتب (أوسكار وايلد) مرة يقول: إن أنواع النقد هو سجل الروح. فالناقد لا يرى في العمل الفني أكثر من وحي يوحي إليه بعمل جديد شخصي قد لا يكون بينه وبين العمل المنتقد أي وجه من وجوه الشبه، هذا الرأي (لأوسكار وايلد) يصف لنا مدرسة بأجمعها من مدارس النقد - أعني بها مدرسة الشعوربين. وفي ضوء هذه المدرسة سأحاول أن أستخلص طريقة (أرسطو) في النقد ومدرسته. فإذا ما فرغت من هذا حاولت أن أناقش هاتين المدرستين مع أي مدرسة أخرى قد تمت إليها بسبب.
ولأجل أن يكون المناقشة جلية واضحة سأبدأ الآن بأن أقتطف من بعض النقاد نبذاً عن شكسبير.
كتب الناقد الفرنسي (تين) عن الشاعر الكبير فقال: (أظهر ما في شكسبير خياله القوى الذي لا يعرف قناعة أو راحة، فهو يبعثر الاستعارات فوق كل ما يكتبه، وفي كل لحظة تتغير خواطره إلى صور قوية واضحة، ويعرض لنا عقله رسومات وأشكالاً متتابعة، وشكسبير لا يرى الأشياء أبداً في هدوء. بل إن قوى عقله جميعاً تتركز في الصورة أو الخاطر الذي يعالجه تركيزاً يملك عليه كل نفسه ويمتص كل قواه الأخرى. إن كتابنا المتوسطين يجعلون كل همهم في أن تكون كتاباتهم منطقية واضحة جلية وهم في الغالب يصيبون ما يقصدون، بيد أن شيئاً واحداً يبقى بعيداً عن متناولهم. ألا وهو الحياة.
أما شكسبير فهو على عكس هذا يدع الوضوح والمنطق لنفسيهما ويجعل كل همه أن يصيب ما يكتبه الحياة والحركة. ولهذا السبب يبدو شكسبير لنا غريباً وقوياً، ومبدعاً وخالقاً أكثر من أي شاعر من شعراء عصره أو غير عصره. أبدع من وصف النفس البشرية، وأبعد الشعراء عن المنطق وتفكير القدماء المتزن، وأقدرهم على أن يثير في النفس دنيا من الأشكال والصور الحية التي لا تموت).
وكتب (كارليل) عن نفس الشاعر يقول: (إنه لفيما اسمه رسم الصورة - معالجة الرجال والأشياء تكون عظمة شكسبير. فعظمة الرجل تأتي يقيناً من هذه الناحية - من العين(115/27)
المبصرة! تلك هي العين التي تكشف لنا عن الموسيقى الكامنة في الخلق. عن الفكرة الجليلة التي قد ضمنها الطبيعة مخلوقاتها جميعاً. على أن الشاعر لأجل أن تكون لديه هذه الهبة يجب أن يكون عنده من العقلية القوية ما فيه الكفاية. فان امتلك الرجل عقلية قوية كان شاعراً في كلامه. فان لم يستطيع هذا كان - وذلك أفضل وأجدى - شاعراً في أفعاله.
وكتب (سير والتر رولي) عن شكسبير فقال: (إن القوة خياله لا تسمح له بأن يجد الراحة في فكرة أو ناحية واحدة فهو في استطاعة أن يدرس حياة الرجال مثلما يدرس المرء الحياة على ظهر باخرة. وهو دائم الاهتمام بما يحدث يومياً بين أفراد العائلة الإنسانية، غير أن للصورة دائماً في عقله أساس واحدة تركيز عليه، ذلك أنه دائم التفكير في البحر - البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسره عقل أو منطق، والآن من الواضح أن النقاد الثلاثة مشتركون جميعاً في تحديد الصفات الأساسية التي تكون عظمة شكسبير كما أنه من الواضح أيضاً أنهم يختلفون كل الاختلاف في الطرق التي سلكوها في نقدهم. فمع (تين) نرى أن شاعرية شكسبير إنما من أنه أبعد الناس عن المنطق العادي وتفكير القدماء المتزن، ومن (كارليل) نعلم أن ميزة الشاعر الأساسية في أن تكون عقليته ممتلئة ناضجة، ويبدو من هذا أن كلا من الناقدين يعتقد أن النقد إنما هو سجل روح الناقد ونفسه، (فتين) العاطفي القوى الخيال يزدري المنطق العادي، ويرى فيه عقبة في سبيل الشعر، و (كارليل) الذي كان اعتماده في حياته على فكره دون عاطفته يرى أن العقل وحده جدير بأن يخلق الشاعر وأن يجعله مبدعاً عظيماً.
أما (رولي) فهو لا يفعل شيئاً من هذا، فهو يهتم فقط بأن يوضح ويعلق، وأن يشرح ويعلل دون أن يعنى بالمدح أو بالخط من قيمة الأشياء، ونحن في الواقع لا نستطيع أن نحكم ما إذا كان تفكير شكسبير الدائم في البحر، البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسيره عقل أو منطق، يزيد في شاعرية الشاعر أو ينقص منها. ونحن لا نرى النقد هنا سجلاً لروح الناقد ومشاعره، وإنما ما نراه هو وضوح في الأسلوب ودقة في الوصف وقوة في المنطق، وتلك هي مدرسة أخرى من مدارس النقد تختلف عن مدرسة (أوسكار وايلد) ينحو النقد فيها منحى البحث العلمي حيث لا نجد لمشاعر الناقد نفسه أو لإحساسه الشخصي إزاء ما ينتقده أثراً من الآثار.(115/28)
تلك هي المدرسة الفكرية أو الاتباعية، وقد كان أول من أسسها الفيلسوف الأغريقي (أرسطو).
ونحن لا نحسن هنا أثراً لذات الناقد، فهو بعيد كل البعد لا نراه إلا كما نرى الرجل العلمي من خلال بحثه - الفكر والمنطق - ذلك هو الأساس الذي بنى عليه (أرسطو) طريقته في النقد، كان الرجل دقيق الملاحظة للطبيعة والفنّ، وإنه لمن هذين الينبوعين فقط نراه يستقى كل آرائه، يبنى كل نظرياته ويستنتج كل إستقراءاته.
وليس (لأرسطو) آراء شخصية يفرضها على القارئ، فهو إن مدح شيئاً فليس يمدحه لأن نفسه تتعشقه أو تميل إليه، ولكن لأن التجارب قد أثبتت أن هذا الشيء صحيح جدير بالتقدير. خذ مثلاً حديثه عن الشعر القصصي غذ يقول:
(أما عن البحر الذي يكتبه فيه هذا الشعر فهو (بحر الأبطال)، فان أراد شاعر أن ينظم قصيدة قصصية في غير هذا البحر، كان شعره شاذاً غير مألوف. إذ أن التجربة والطبيعة نفسها قد وقفت هذا النوع من الشعر على ذلك البحر).
(وأرسطو) لا يسمح لنفسه مطلقاً بأن تتمسك برأي من الآراء أو أن تمدح شيئاً أو تذم دون ذمّة، وأن يظهر الجميل دون مدحه، شانه في هذا شأن أصحاب المدرسة النظرية في النقد التي كتب عنها (أرنولد) يقول: (هي جماعة من النقاد ذات لون فلسفي باطل خداع، تجيش بنفوسها بعض الآراء الخاطئة التي لم تبنها التجربة والفكر، بل بنتها الأوهام والعواطف الذاتية تريد أن تفرضها على كل ما يقع في يدها من شعر أو فن.
والناقد من اتباع تلك المدرسة لا يمدح عملاً إلا إذا صادف هوى في نفسه وسدّ حاجة من حاجياتها، فان هو لم يفعل كان العمل باطلاً زائفاً، وكذلك من مميزات هذا الصنف من النقاد أنهم يعنون بمحتويات العمل الفني أكثر من عنايتهم بالفن نفسه - أعنى بالأسلوب والطريقة والجمال - كما انك كثير ما تسمعهم يقولون: (حبذا لو ترك الشاعر هذا الموضوع وكتب في موضوع كذا وكيت)، وذلك كما لا يخفى أردأ أنواع النقد وأحطها قدراً، إذ أن واجب الناقد الأول أن يفحص ويحكم على العمل الذيأمامه داخل دائرة العمل نفسه وحدوده لا خارجها محاولاً أن يتفهم ما يقصده الشاعر ويرمى إليه، والى أي مدى استطاع أن يبلغ قصده وأن يبرز فكرته للقارئ.(115/29)
وقد يجدى أن نعطى هنا مثلاً من أمثلة هذه المدرسة النظرة الخاطئة لنرى إلى أي حدّ يبعد (أرسطو) عنها ويرتفع.
كتب (أوسكار وايلد) أحد نقاد هذه المدرسة - رأيي - يقول: (لأن نمضي من فن عصر من العصور إلى العصر نفسه هو أكبر خطأ يرتكبه المؤرخون جميعاً، فالفن الرديء الزائف كله إنما يأتي من الرجوع إلى الحياة والطبيعة والتساهل بهما إلى مراتب المثل العليا!).
من هذا النبذة نستطيع أن نحكم بأن (أوسكار وايلد) كان يدين بهذا الرأي الذي يعطينا إياه - ولكننا لا نستطيع القول بأن شيئاً أو سبباً معيناً أدى به إلى هذا الاعتقاد - أننا لا نستطيع أيضاً أن تحكم ما إذا كان هذا الرأي خاطئاً صحيحاً؟ وذلك لأن الناقد نفسه لم يخبرنا ولم يعلل ما يقوله: لم يكن (أرسطو) ليسمح لنفسه بأن ينفد بهذه الطريقة، ولكن تعال معي نرى كيف كان (أرسطو) يعالج مثل هذا الرأي لو أنه كان يدين به مثلما كان يدين الناقد الإنجليزي، فانه إذا قال إن الفن الزائف إنما يأتي من الرجوع إلى الطبيعة والحياة أتبع قوله: ذلك صحيح لأن (هوميروس) لم يذهب إلى الحياة في البحث عن مادته (هذه أمثلة فقط ولا تعتبر صحيحة)، وأن كل روعة فن (إيسكلس) إنما تأني من اعتماده على أساطير الآلهة كمادة لفن وأن فن (أريستوفانيس) كان أحط وأقل قيمة لأنه كان يصور الحياة ويستمد منها. ذلك أن (أرسطو) لا يسمح لنفسه بأن يكون نظرياً، بل يجب أن يعطيك براهين وأمثلة وأسباباً تعليل ما يقول
خذ مثلاً آخر حديثة عن طول القصيدة القصصية إذ يقول: (يمكن في هذا الصنف من الشعر أن تعالج جميع أجزاء القصة معالجة مناسبة من حيث الزمن يأخذه سير حوادثها في الحياة، أما في القصة المسرحية فالأمر يختلف إذ أنك لو عالجت حوادث القصة في مثل ما تعالجها من الطول في القصيدة القصصية، كان الأثر الذي تحدثه في النفس أثراً سيئاً يجلب الملل والسأم، قد يبدو هذا القول نظرياً ولكنه يتبعه بأن يقول: (إن صحة ما نقوله واضحة لأن كل من حاول أن يصوغ قصة سقوط (ترواده) صياغة مسرحية، ولم بأن يختصر في الحوادث أو يركزها قد فشل فشلاً تاماً).
كان (أرسطو) سريع الملاحظة، حاضر الذهن، يمقت النوع من القضايا الذي لا يبرزه(115/30)
سبب أو يشرحه مثال، كما أن المنطق كان دائماً رائده في البحث والنقد - ذلك لأن طبيعة عقله كانت طبيعة عملية واقعية مثل طبيعة أهله وقومه الإغريق. وهو إن سرد لك قضية من القضايا، أو نظرية من النظريات سردها في بساطة وغير كلفة تشعرك بأنك كنت تعلمها من قبل، وأن عكس هذه القضية لا يمكن أن يوجد أو أن يكون صحيحاً، كما أن قضاياه تمتاز بأنها يمكن أن تستخلص منها قضايا أخرى صغيرة، وأن تبني عليها نظريات أكبر وأوسع أفقاً في رأي أرسطو كناقد أن الشعر نوع من التقليد والمحاكاة - تقليد الحياة والطبيعة - وفي رأي (شلي) كناقد أيضاً أن (الشعر هو ما يحيل الأشياء كلها جمالاً - فهو يزيد الجميل جمالاً ويزين القبيح ويجمله) - كلنا يعرف أن قول (شلي) هذا صحيح، وأن الشعر فعلاً يؤدي كل هذا، ولكن هل نستطيع أن نسمي هذا القول تعريفاً للشعر؟ هنا نشعر بالقارق بين الناقد الشعوري والناقد الفكري، فكلاهما يعبّر عن أشياء صحيحة حقيقية، ولكن الثاني يجعلك تلمس ما يقول وتبصره، بينما يسحر الأول سمعك ثم يتركك ويمض - وقد لا يكون تعريف أرسطو للشعر في جمال أو حلاوة تعريف (شلي) لكنه ملموس محسوس نستطيع أن نبصره في وضوح وأن نبني ونعتمد عليه.
وهناك فارق آخر بين الناقدين يبدو لنا أيضاً من خلال تعريفهما للشعر، فواضح من سطور شلي أن الناقد لا يعني فقط بطبيعة ما ينقده وماهيته، بل يعنى أيضاً بالغرض والرسالة التي عليه أن يؤديها الشعر - مما يجعل البحث بعيداً عن روح العلم - في حين أن (أرسطو) لا يتساءل مطلقاً عن رسالة الفن أو الشعر في الحياة، بل كل ما يهمه أن يهمه أن يبحث طبيعتهما وأن يشرحهما لنا - شان العالم الكيميائي أو الطبيعي -.
وقد كان (لأرسطو) وجهة نظر في نقده خاصة به، وأعنى بها أنه كان يرى أن لكل فنّ من الفنون، قصصاً كان أم شعراً غنائياً، نهاية طبيعية لا بد أن يصل إليها وألا يتعداها، فان أراد صاحب الفن أن يتعدى بفنه نهايته كان مآله الفشل ومصيره السقوط الذي لا نجاة منه، فقد يصل شعر شاعر مثلاً مرتبة النضوج والكمال، وهو في سن الثلاثين، غير أنه مهما عمّر الشاعر بعد ذلك من سنين ومهما زاده العمر من حكمه وتجارب، فان شعره لن يزيد ولن ينضج أكثر مما نضج - وقد لا يرى البعض هذا الرأي غير أنه - في اعتقادي - رأي لا باس به، ساعد على تكوينه لدى (أرسطو) حب الإغريق الغريزي للاعتدال(115/31)
والوسيط، وخوفهم من بطش الآلهة وغيرتها إن اشتدَّ الرجل منهم أو زها وعظم أكثر من اللازم. وقد كان التوسط والاعتدال رائد الإغريق في كل شيء، ولم يكن التطرف عندهم ذنباً فحسب بل جريمة كبرى، ولذلك نرى الاعتدال أظهر ما يميز أدبهم وفهم، ولذلك أيضا ًكان (أرسطو) مؤسس المدرسة الفكرية التي تمنح نفسها للمنطق والعقل وتحاذر كل الحذر من الشعور والعاطفة.
والآن واحسبني قد بسطت طريقة (أرسطو) في النقد وقارنتها بالطريقة الشعورية الأخرى أحب أن أقول كلمة عن المذهبين.
إن كل ما يفعله (أرسطو) هو أن يشرح ويفصل ويرتب ويصنف ليعطينا في النهاية مجموعة من القوانين والقضايا ما أحسبها تخلق فناناً أو تصلح من شأن فنان آخر. وهو في هذا يخاطب الفكر لا العاطفة، وإني كلما تصورته يعالج (شكسبير) يضيق بي الخيال ولا أدري كيف كان يتيسر (لأرسطو) أن يفعل هذا.
قد كنا نفهم بعض صفات فن شكسبير ومميزاته من نقد (أرسطو) له. على أني أشك كثيراً في أنه كان يجعلنا نتفهم الشاعر نفسه ونعشقه مثلما فعل (كولريدج) و (هزلت) و (تين) وفي رأيي أن أعلى أنواع النقد ما كان يؤثر في النفس ويوحي إليها النقد الذي يشرح ويفصل دون أن يزج في دائرة الفن ودون أن يصبح علماً من العلوم. ذلك هو النقد الذي يعالج الأدب مثلما يعالج الأدب نفسه الحياة، أعني عن طريق الخيال والعاطفة.
كتب (تشارلس لام) يقول:
(إني أفضل العاطفة على العلم) وفي يقيني أن كل من له صلة بالأدب ولا يفعل (لام) يكون مخطئاً في حق نفسه وفي حق صناعته أو فنه.
محمد رشاد رشدي
بكلوريس بامتياز في الأدب الإنجليزي(115/32)
2 - الدكتور محمد إقبال
أكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر
(أن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران ولكن العرب
لا يعرفون شيئاً عن نغماتي الشجية)
(إقبال)
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
حينما ننعم النظر في شعر إقبال واتصافه بمميزات خاصة في الأزمان المختلفة نجد أنه يتمتع الآن بدور ثالث. فقد قطع قبله دورين: أولهما دور نشأته، حين كان إقبال لا يزال فتى يافعاً وطالباً بالمدرسة. فقد بدأ إقبال يقول الشعر باللغة الأردية وهو في صباه، فكان ينال به استحسان زملائه الطلبة، ويجمعهم حوله اغتباطهم بحدة ذكائه وتفوقه عليهم في الشعر. فكانت شهرة إقبال في الشعر بادئ ذي بدء محصورة بين أترابه وأقرانه، فلما انتقل من كلية سيالكوت إلى كلية الحكومة بلاهور بدأ يشترك في مجالس الشعراء ويقول القصائد للاحتفالات السنوية لجمعية حماية الإسلام الشهيرة بلاهور، فذاع صيته بين الخاص والعام.
ينتهي هذا الدور لشعر إقبال سنة 1905، أي قبل سفره إلى أوربا، ويمتاز شعره فيه بسعة الخيال، وابتكار المعاني، ولكنه مجرد عن دقة الفكر والتعمق بالنسبة إلى شعره في أدوار أخرى، ومعظمه باللغة الأردية، تتجلى فيه روح الحب وطلب الجمال وترحيب العشق، وأكبر ميزة لهذا الدور أنه دور أمل لشيء غير معلوم، ففيه تتوق روح الشاعر إلى المجهول، وتنزع إلى الغائب، وتضطرب، كما يظهر لك من ترجمته بيت من أبيات هذا الدور فيما يلي، قال:
(أنا طالب النور، أنا قلق في معمورة هذا العالم أنا مثل الطفل الصغير في ظلام الوجود الحالك مضطرب كالزئبق).
وأما الدور الثاني فهو الزمن الذي قضاه الدكتور في أوربا أي من سنة 1905 إلى سنة 1908. وهذا الدور من شعر الدكتور أقل إنتاجاً من الدورين الآخرين، ويمتاز من الأول(115/33)
بأن أثر مشاهدات أوربا بادٍ فيه، ولكن روح الحب، وطلب الجمال، وترحيب العشق لا تزال متجلية فيه كما كانت في الدور الأول. وقد حدثت فيه حادثة، وهي أن الأبحاث العلمية سطت مرة بنفسية الشاعر، فأراد أن يترك الشعر ويتوب عنه وينصرف إلى العلم، فمنعه عن ذلك صديق قديم له كان حينئذ في لندن، وحاول إقناعه فلم يقتنع، وأخيراً اتفقا على أن يستشيرا فيه أستاذه السر آرنلد. فأيد آرنلد رأى صديقه فعدل عن إرادته. وأكبر ميزة لهذا الدور أن بدأت أفكاره الشعرية تعلو وتتسع حتى ضاق عنها نطاق اللغة الأردية الحديثة السن فمال إلى الفارسية وبدأ يعبر بها عن إلهامه الشعري.
وأما الدور الثالث فيبتدئ من بعد رجوع الدكتور من أوربا إلى الهند، أي من سنة 1908 إلى الآن، وهو الأهم، إذ فيه تدرج شعره في معارج الكمال وتسم سنام المجد وبلغ من دقة المعاني وعمق الفكر وحسن البيان غاية لم تبلغها الآمال ولا نالتها الأماني. وفيه حلت السكينة والطمأنينة في روح الشاعر محل التوقان والاضطراب، كأنها أدركت ذلك الغائب المجهول الذي حنت إليه طويلاً ونزعت إليه سنين، وفيه خف عن نفسيه الشاعر سلطان المحبة والجمال، وقام مقامه توقان الحكمة والكمال، وفيه جادت قريحة الشاعر بما لم تجد في الدورين السابقين، إذ ظهرت إلى الآن سبعة دواوين، ونحن ندعو الله أن يمد في حياته ويوفقه أكثر من ذلك، وفي هذا الدور أيضاً تمكن الشاعر من إبراز معالم فلسفته في شعره للعالم، وفيه تحققت رسالة شعره للعالم الإسلامي والشرق إذ كان في نفسه تتساجل روحان: روح المحب للجمال والمحبذ للعشق، وروح المسلم الشرفي المتحمس الثائر. فكان في الدورين الأولين الحظ الأوفر وفي هذا الدور للثانية.
حينما نحاول البحث عن العناصر التي تكونت منها نفسية الشاعر وشعره نجد أنهما قد تكونان من عناصر جمة، منها ما هو هبة من الله كالعبقرية والذكاء، ومنها ما هو وراثي غير كسبي، ومنها ما هو ثقافي كسبي، ومنها ما يرجع إلى البيئة سواء كانت جغرافية أم اجتماعية. فهذه الأصناف الأربعة من العناصر هي دعائم نفسية الشاعر ووطائد شعره.
أما العناصر الموهوبة مثل العبقرية وغيرها فلا يقدر الإنسان على الكشف عن حقائقها، ولا الفحص عن دقائقها، وما يقدر عليه هو وصف ظواهرها بالمقارنة. فإذا قارنا ظواهر عبقرية الدكتور وذكائه بالشعراء الآخرين نجد أنه فريد زمانه، وقريع دهره، قد أوتى(115/34)
عبقرية شاملة لا يدرك شأوها ولا يلحق غبارها، وذكاءً متوقداً لا يجاري، وقلباً عقولاً لا يباري، وحذقاً حاداً مساماته وفكراً نافذاً مجاراته، وبصيرة قوية لا يجري في مضمارها.
أما العناصر الوراثية فالدكتور من نسل آرى. والآريون يمتازون بدقة الفكر وسموا الخيال عن الشعوب الإنسانية الأخرى. ثم الدكتور ينتسب إلى طبقة البراهمة منهم، وهي طبقة قد سادت ولا تزال تسود بحدة ذكاءها ورحابة عقلها وحصافة رأيها جميع الطبقات الاجتماعية الأخرى في الهند منذ آلاف من السنين، فدقة الفكر وسمو الخيال بالقوة عنصران وراثيان هامان في نفسية الدكتور وشعره.
وأما العناصر الثقافية الكسبية فهي التي يكسبها الإنسان بواسطة التربية والتعليم. فقد بلغ فيهما الدكتور رفعة لا تسامى ومنزلة لا تغالب، إذ تعلم في معاهد الشرق والغرب ونال منها أرقى الشهادات وأعلاها بالتفوق والامتياز وهضم الثقافتين - الشرقية والغربية - في معناها الحقيقي. فهو على اطلاع تام بالفكر الشرقي - الهند والإيراني - بجلبه وخفية وتأريخه وتقدمه، كما هو عالم متجر في الفكر الغربي بجميع أدواره وتحولاته، سواء كان عند اليونان أو الرومان، أو الإنجليز أو الألمان، أو فرنسا أو أمريكا. وقد سبر الدكتور غور الفكر السامي العربي أيضاً وبخاصة الإسلامي منه كما تميط اللثام عن ذلك مصنفاته، وقد أشار إليه هو أيضاً في خطاب حيث قال:
(أنا قد صرفت معظم حياتي في دراسة فقه الإسلام وسياسته وحضارته ومدنيته وأدبه، فبناءً على دراستي الطويلة هذه وعلى العلاقة الخاصة التي لي بروح تعليم الإسلام اعتقد أنني على بصيرة أقدر بها أن أحكم على منزلة الإسلام في العالم من حيث الحقيقة العامة).
والدكتور حائز في جميع هذه العلوم والمعارف درجة الاجتهاد وأما العناصر التي ترجع إلى البيئة فهي صنفان: الاجتماعية والجغرافية. أما الاجتماعية فقد ولد الدكتور في مجتمع إسلامي وتربي فيه ودرس حاضره وماضيه، فهو كأحد أركانه من محبيه الأوفياء، وعشاقه الصادقين، ومن أكبر الطامحين إلى خيره ومجده، كما هو من كبار العارفين بحقيقته وصلاحيته. وهذا الحب، والعشق، والطموح، والمعرفة كعناصر البيئة الاجتماعية متجلية في نفسه الشاعر وشعره، وليس هذا التجلي عن عاطفة وتعصب، بل عن علم وعقل، كما سيظهر لك من المقال الذي سنخصصه لذلك في المستقبل إن شاء الله.(115/35)
وأما عناصر البيئة الجغرافية. فقد ولد الدكتور في مقاطعة بنجاب وتربي فيها. وبنجاب أخصب المقاطعات الهندية في سفح جبال همالايا تجرى من تحتها خمسة أنهار. فهي بهوائها المعتدل ومناظرها الجميلة التي تفرح قلوب الشاهدين وتؤنس أبصار المبصرين، تملأ النفس بالمؤثرات القوية التي تربي الذوق وتقوى ملكة الشعر، وتغذي الفكر. فحسن الذوق، وحب الجمال، والتصرف فنون الشعر، وجولات الفكر المتجلية في شعر الدكتور ونفسيته فيها أثر للبيئة الجغرافية.
أما شعر إقبال من حيث الفن فسنتحدث عنه في مقال تال
السيد أبو النصر أحمد الحسني الهندي(115/36)
فلسفة الأسماء
بقلم ظافر الدجاني
إذا كانت اللغات من ألوان الفكرية الصريحة التي يتسم بها الإنسان وتميزه من سائر الكائنات الحية، فان الأسماء - أو ما يعبر عنه الصرفيون بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن وضعاً بأحد الأزمنة الثلاثة المعروفة - من وظاهر بيئاته الاجتماعية والطبيعية. فلسنا نبالغ إذن إذا بأن لعنصر الأسماء في اللغات فلسفة خاصة مستقلة، استطاع العلم الحديث مؤخراً أن يقتبسها ويستزيد منها بل يستغلها استغلالاً بالغاً يستحق عليه كل ثناء وإعجاب وإكبار. ومن الحق علينا القول بأن أقطاب اللغات في العالم لا يتفقون على أقدمية الأسماء وأسبقيتها في اللغة، فمنهم من يذهب إلى أنها أسبق مرتبة في الوضع والاستعمال من الحروف والأفعال، لأن منزلتها في النفس من حيث القوة والاعتقاد أن تكون قبل الفعل، والفعل قبل الحرف، ومنهم من يذهب - وهؤلاء معظمهم من أصحاب التوقيت ودعاة الإلهام - إلى أن جميع الأصول اللغوية إنما وقع الوضع فيها معاً فلا يجوز لك الاعتقاد بسبق الاسم على الفعل أو سبق الفعل على الحرف.
ومهما يكن من شيء فان بعض الأسماء - أعني أسماء الأعلام والأجناس بوجه خاص - تمتاز على سائر الأصول اللغوية بأنها وضعت للدلالة على الأشياء المحيطة بالإنسان في بيئتيه الطبيعية ولاجتماعية، وما عساه ينجم عنهما في حياته الفكرية، بعكس الحروف والأفعال - مثلاً - التي إنما وضعت لتدخيل بها (الأسماء في المعاني والأحوال)، أو بعبارة أخرى لتربط ما بين الأسماء في جمل مستقلة بدلالاتها اللفظية.
ومعنى ذلك أنه يتعذر على الإنسان مثلاً أن يستدل بالأفعال والحروف العربية على نوع الحياة الطبيعية والاجتماعية التي كان يحياها العرب قبل الإسلام، إن لم يكن ذلك مستحيلاً عليه، في حين أن استدلاله بالأسماء يكاد يكون في حكم الواجب الذي لا عدول عنه، لأنها تعكس لنا ألوانهً من البيئات المتنوعة التي كان العربي عرضة لها آنئذ، كأسماء الكائنات الحية وغير الحية التي كان على اتصال بها، وأنواع الأسلحة التي كان يستعملها في حروبه وغاراته، والموازين والأثقال التي كان يصطنعها في بيعه وشرائه ونحوه. كما أنها تعكس لنا أيضاً شيئاً من أثر البيئة الطبيعية في نفسه وإحساساته، ففي ميسورك مثلاً أن(115/37)
تقربإحصاء الأسماء التي تعبر في العربية عن ضروب المصائب والرزايا من ناحية، والأسماء التي تعبر عن مظاهر اللهو والعبث من ناحية أخرى، ثم الموازنة بينها، وما إذا كانت بيئة العرب قبل بيئة قاسية مظلمة قاحلة أم بيئة مشرقة سمحة خصبة.
وليس ذلك وحسب، بل ميسورك الاستدلال بالأسماء العربية (العاربة) منها و (المعرّبة)، الأصيلة والدخيلة، على مختلف التقلبات السياسية التي طرأت على الوسط الإسلامي في غضون تاريخه الطويل الحافل، وبالتالي الاستدلال على مختلف الأدوار الاجتماعية التي تقلب عليه، ومقدار نفوذ كل من العناصر الفلسفية والجنسية فيه، فإذا كانت الأسماء الفارسية مثلاً في الآداب والفنون أغزر من الأسماء اليونانية دل ذلك على أن نفوذ الفرس من هذه الناحية كان أبعد من نفوذ اليونان، وإذا كانت الأسماء اليونانية في ميدان الفلسفة أوفر من الأسماء الفارسية والهندية دل ذلك على أن العرب قد تأثروا بالفلسفة اليونانية أكثر من تأثرهم بفلسفة الفرس والهند. بيد أنه بالأسف ليس الوصول إلى هذا الاستدلال باليسير الهين لأن المعجم العربي ناقص من وجوه كثيرة، أهمها الوجه التاريخي المدعم بالشواهد والأدلة مما لا يتسع المقام لذكره.
هذا إلى عثورك خلال أزمنة التيقظ الفكري والنهضات الدينية الحافلة على بعض أسماء الإعلام الذائعة بين الأوساط العامة لأنها غالباً هي أسماء بعض الزعماء أو القادة أو الأنبياء الذين لهم الفضل كل الفضل في بعث هذه النهضات وإحيائها، بحيث يستدل منها على ما لهؤلاء المصلحين من حظوة لدى الجمهور، وما لتلك النهضات من سحر في أفئدة العامة. ومن ثم كانت لبعض الملل أسماء خاصة تعرف بها ولا يصطنعها غيرها كعزرا وإسرائيل في اليهودية، وحنا وبطرس في المسيحية، ومحمد والحسين في الإسلام.
بل ترى في بعض أزمنة الاضطهاد والغلو الديني أن لفظ المولى عز وجل يشترك عادة في أسماء الملوك والأمراء من أولي الحل والعقد في تلك الأعصر الرهيبة. يتضح ذلك من أسماء الخلفاء من ولد العباس في أواخر أيامهم حين أمست الخلافة رمزاً للنفوذ الديني مجرداً عن السلطة الزمنية، وفي خلفاء الفاطميين وغير الفاطميين من السلالات الملكية التي قامت على الدعايات الدينية.
ومن ناحية أخرى ترى أن بعض الأسماء قد تضيع في زوايا الإهمال والنسيان، ولو إلى(115/38)
حين، لأنها تكون عادة أسماء بعض الأفراد أو الجماعات المضطهدة، بحيث يستدل من ذلك على مبلغ غلو الدولة القائمة وشدتها على الفرق المناوئة فمثلاً إذا علم القارئ أن العلويين والشيعة كانوا مضطهدين في الدولة الأموية، فانه يستطيع أن يستدل على مقدار هذا الاضطهاد إذا ذكر أن الناس في أيامها كانوا كما يقول المستشرق (مارجليوث) يتحاشون تسمية الأبناء والأحفاد بأسماء علوية كعلي والحسن والحسين وأشباهها.
وبعد فقد أوردنا لك بعض فلسفة الأسماء موضحة بالأمثلة النظرية، ولكننا لم نشرح لك كيف كان استغلال العلم الحديث لها، لأن هذه الأمثلة على وفرتها قليلة النفع من ناحية عملية تطبيقية إن لم تكن عديمته، لأن الحياة العربية الجاهلية من الأزمنة التاريخية التي تتوفر فيها النصوص والوثائق والآثار. ومن هنا قطعنا بأن الحاجة غير ماسة إلى استيضاح الأسماء العربية وتفصيل ما تنطوي عليه من ألوان هذه الحياة المتنوعة.
وإنما تتبين فلسفة الأسماء الخاصة وترجح قيمتها العملية المحسوسة في الأبحاث الدقيقة المنعقدة حول حياة الإنسان الأولى، التي لا تجد لدرسها من المصادر الأولية سوى اللغات وبعض الآثار الجيولوجية التي نراها نكتشف بين حين وحين، وينفض الغبار عنها فتقيم المعوج من هذه الدراسات وتنير المهم المستغلين.
فمن ذلك أن اصل اللغات الأوروبية ظل إلى عهد قريب مجهولاً أو في حكم المجهول، فنشأت حول ذلك نظريات عديدة متباينة، لكل نظرية أنصار متحزبون وعلماء محققون، ثم إن بعض الثقات حاولوا درس هذه اللغات بطريق القياس والمقابلة فخرجوا من هذا الدرس بنتائج باهرة لم يتسق للمنطق والتاريخ أن يتوصلا إليها. إذ وجدوا أن بين اللغات الأوروبية على اختلافها من ناحية واللغة السنسكريتية - اقدم اللغات الهندية الموجودة - من ناحية أخرى كثيراً من الشبه في القواعد والأوضاع اللغوية، كما وجدوا أن فيها بعض الأسماء المشتركة كبعض أسماء الأعداد والأجناس ونحوها، فاستخلصوا من ذلك أنه لا بد من أن تكون اللغات الأوربية والهندية من فصيلة واحدة دعوها باللغات (الأندو أوروبية) -
وإذ انتهوا من ذلك فانهم حاولوا أن يستدلوا بهذه الأسماء على مواطن (الأندو أوروبين) الأصلي ووصف بيئتهم الطبيعية والاجتماعية، وما إذا كانوا يعرفون البحر والأحراج(115/39)
والأنهار، وأي أنواع الحيوانات كانوا على اتصال وثيق بها، وهل عرفوا الحديد والبرونز قبل شتاتهم وانقسامهم قبائل وشعوباً، ثم هل كانوا على درجة كبيرة من التمدن والحضارة؟ أم كانوا بعد في طور الفطرة الإنسانية العريقة في البداوة، ولهم في ذلك أبحاث مطولة دقيقة تنطوى على كثير من قوة التحقيق والتحليل ورجاحة الفكر والنظر.
وقس عليه محاولات المستشرقين في الاستدلال ببعض الأسماء المشتركة بين الأقوام السامية على مواطن الساميين الأول ونوعه، وحضارة الساميين ومقدارها، بل قس عليه أبحاث المحققين في مختلف نواحي الحياة الإنسانية قبل الأعصر التاريخية حيث تنعدم الآثار والمنقولات، فلا تكاد تجد من مصادر درسها إلا اللغات التي نشأت مع الإنسان وسايرته في تطوره واستوائه.
فالعجب من العلم الحديث ونشاطه ومؤهلات البالغة التي لم تترك كبيرة ولا صغيرة من صامت الكون أو ناطقة دون أن تحاول استقراءها ونبش عسى أن يكون فيها ما ينير سبل القوم في تفهم أسرار الكون ومظاهر الحياة الإنسانية.
ظافر الدجاني(115/40)
شكوى الشيخ إلى ابنه
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
أبوك بان يردى بنىَّ مهدُ ... كأن الردى سيف عليه مجرد
ويشكو تباريحاً تكاد تهده ... وشيخوخة ليست عن الموت تبعد
أحسُّ بقرٍ في عروقي وأعظمي ... يكاد دمي منه بجسميَ يجمد
أقادُ إذا رمتُ المضيَّ لحاجة ... وأمشي كما يمشي الأسير المقيد
كأنك بي شلواً على النعش سائراً ... وعما قليل في التراب يوسَّد
وليس مخيفي الموت إن هو زارني ... ولكن وراَء الموتِ شملٌ مبدَّد
تعال فقبلني بني مودَّعا ... فانّ فراقي عنك يا ابني مؤبَّد
ولي من حياتي يا بُني بقيةٌ ... ولكنها عما قليل ستَنْفُذ
بنيَّ أقم حيناً بجنبي فإنني ... على غير ما قد كنتَ من قبل تعد
أبوك من الآمال جرَّد نفسه ... وأنت فتى فيه المنى تتجدد
ولم يك حظاًنا من الدَّهر واحداً ... فلي الأمس من أيامه ولك الغد
أنا اليوم أشقى بالمشيب ووهنه ... وأنت بشرح من شبابك تسعد
لعمرك لا عهد المشيب الذي به ... برمت ولا عهد الشبيبة سرمد
وما نحن إلا كالسيوف بحومةٍ ... نجردُ حيناً للوغى ثم نغمد
ستحدثُ فوق الأرض أشياء جمةٌ ... وأنت لها بعدي بنيَّ ستشهد
خلقت لعهد غير عهدي فلا تكن ... جباناً إذا ما ضيمَ لا يتمرد
وما الشيب شعرٌ أبيض فوق مفرقي ... ولكنه نار على الرأس توقد
وليست حياة بالأياس شقيةٌ ... كأخرى بادراك الأمانيَّ ترغد
تفتح ورد السؤل إلا بروضتي ... وما قيمة الروض الذي لا يورد؟
أغرّد في روض الحياة كبلبلٍ ... ومن بعد حين موشك لا أغرّد
سأرحل عن دنيا إلىّ حبيبةٍ ... بها هام حتى الزاهدُ المتعبد
تحاول نفسي بالحياة تمسكاً ... ولكنما خيط الحياة معقَّد
بنيَّ وإني ذاهب غير أيبٍ ... إلى حيث يبلى الجسم منى ويفسد(115/41)
وما أنا وحدي هالك فيثور بي ... على الموت حب للحياة موطَّد
فقبلي أجيالٌ ألمَّ بها الردى ... وبعديَ أجيال سترْديَ كما ردؤا
نجئ ونمى زمرة بعد زمرة ... وننْبُتُ مثل العشب والموت يحص
مقيدةٌ منا الجسومُ بأرضها ... ولكنما الأرواح لا تتقيدَّ
ستذهب ذراتٌ لجسميِ ألفت ... بداد وعلَّ الروح لا يتبدد
وقد تسبح الأرواح في ضوء أنجم ... فيجمعها جنحٌ من الليل أسود
وما هذه الدنيا بدار سعادة وإن طاب فيها الأثرياء وأرغدوا
قفي كل يوم للتعاسة لوحة ... وفي كل يوم للشقاوة مشهد
وإن فؤاداً لا يرقَّ لزفرة ... يصعدّها قلب كسير لجلمد
ومن كان في بيداء يشكو لهاثه ... فليس له غير المنية مورد
سئمت مِرَاس الحرب فالسلم بغيتي ... ولكن باب السلم دونيَ موصد
بني لقد كانت حياتي شقية ... وعلّك من بعدي بني ستسعد
قضيت حياتي كلها في تمردٍ ... ومن ذا يرى خسفاً ولا يتمردَّ
لقد وُلدَ الإنسانُ حرَّا بطبعه ... ولكنه للنفس منه مقيدَّ
أناخ عليها بالخرافات مثقلاً ... وقيدها بالوهم والوهم مفسد
يلوذ بمن أثرى ويعنو لمن طغى ... فيصبح عبداً صاغراً وهو سيد
تداولت الدنيا شعوبٌ كثيرة ... وقد حبّذوا تلك القيود وأيدوا
أمَن كان حمّاداً لها فهو مؤمن ... ومن كان نقاداً لها فهو ملحد؟
وإنك مني يابُني بقيَّة ... أعيش بها في الموت أو أتجدد
بني أرى مستقبلي فيك ماثلاً ... وفيك أقول الشعر غضَّا وأنشد
إذا متُّ فاذكرني بنيّ مكرراً ... فبالذكر أحيا ثم بالذكر أخلد
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(115/42)
المساء
للدكتورابراهيم ناجي
يا غلَّة المتلهف الصادق ... يا آيتي وقَصِيدَتِي الكبْرَى
زادي لقاؤك: طاب من زاد ... وإذا نأيْتِ أعيِشُ بالذكرَى
يلْقي خَيَالَكِ كيفما باتا ... صبٌ له لفَتَاتُ مسحوُرِ
يرْوَي ويشبَع منكِ هيهاتا ... لا يرتوي بصر من النور
بعد الأوَارِ في الغرس ... لاَ يرْتوِي عودٌ من الطلّ
ومن احْتسى من لفحة الشمس ... لا يرتوي أبداً من الظَّلَّ
ذقْتُ المنايا عدّ أنْفَاسي ... والبعثُ كانَ شبابَكِ الزاهي
زمن ارْتوى من سخَط الناس ... لم يرْوِه غير رضا اللهّ!
يا للمساء العبقريّ وما ... مَنَحَتْ من النّفَحَات عيناكِ
أو كان رؤيا واهم حلما ... ما كان أقدسَهُ وأسناكِ
يا للنسائم من مُسَبّحةٍ ... خَشعت بهيكل ذلك الوادي
فحفيفها همساتُ أجنحة ... ورفيفُها صلواتُ عبّاد
نمشى وقد طال الطّريق بنا ... ونودّ لو نمشي إلى الأبدِ
ونود لو خلَتِ الحياُة لنا ... كطريقنا وغدتْ بلاَ أحدِ
نَبْني على أنقْاَضِ ماضينا ... قصراً مِن الأوهامِ عِمْلاقاً
ونظلَّ ننشد مِنَ أمانينا ... وشياً من الأحلامِ برَّاقاً
وأظل أسقيها وتملأ لي ... من منبع فوق الظَّنون خَفِي
حتى إذا سكِرَت من الأمل ... وترنّحتْ ماَلتْ على كتفِي
حَلَقتْ بأنّي أغْتدي معها ... حيث اغتدت وهواي في دمها
فَمسحْتُ بالقُبلاتِ أدمعها ... وطبْعتُ أقْسامِي على فَمِها
إنّا لقومٌ أنكَروا الجَسَدا ... فاعجب لمفترقْينِ ما افترقاَ
أو ما ترى روحيهما اتحّدا ... أو ما ترى ظليْهما اعتنقا
إبراهيم ناجي(115/43)
حياة الأحلام
بقلم الياس قنصل
لستُ أرثى لمن يكونُ طَموحاَ ... ذا أمانيَّ شِبهةٍ بالمحالِ
إن يُفْته تحقيقها لدواعٍ ... تصرف العزمَ عن طلاب المعالي
لم يفْته تمثيل تحقيقها في ... عالم الفكرِ تحت جوَّ الخيالِ
يقطع العمرَ بين رؤيا وحلمٍ ... ليس فيها وفيه غير الظلالِ
خالقاً من أوهامه ما تمنّى ... جاعلاً منها مسرحاً للكمالِ
لستُ أرثى لحالمٍ ليس يدري ... رغم طول البقاء معنى الملالِ
إنما أرثى للذي يبتغي (الملمو ... س) في دنيا أُبدعتْ للزوال
كل شيء - مهما غلا - إن ينَلْه ال ... مرء أمسى في عرفه غير غالِ
أين من عاش نائلاً كلَّ ما ... يطلبه ممن عاش بالآمالِ!
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل(115/45)
11 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد العال الصعيدي
منزلته في الشعر:
قد يكفى أبا العتاهية عندنا توجيهه الشعر هذه الوجهة الصالحة، وذهابه به في الحياة نحو تربية الشعوب وهدايتها، وإنارة السبيل أمامها، وتقويم عوجها؛ وهذا أبو نواس وهو من أعلام الشعر في عصره يشهد له بهذا الفضل، ويفضله به على نفسه. حدث هرون بن سعدان قال: كنت جالساً مع أبي نواس في بعض طرق بغداد، وجعل الناس يمرون به وهو ممدود الرجل، بين بني هاشم وفتيانهم، والقواد وأبنائهم، ووجوه أهل بغداد، فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد منهم، ولا يقبض رجله إليه، إذ قيل شيخ راكباً على حمار مريسى، وعليه ثوبان ديبقيان، قميص ورداء قد تقنع ورده على أذنيه، فوثب إليه أبو نواس، وأمسك الشيخ عليه حماره واعتنقا، وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه، فمكثا بذلك ملياً، حتى رأيت أبا نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى، مستريحاً من الأعياء، ثم انصرف الشيخ وأقبل أبو نواس، فجلس في مكانه، فقال له بعض من بالحضرة: من هذا الشيخ الذي رأيتك تعظمه هذا الإعظام، وتجله هذا الإجلال؟ فقال: هذا إسماعيل بن القاسك أبو العتاهية. فقال له السائل: لم أجللته هذا الإجلال؟ وساعة منك عند الناس أكثر منه. قال: ويحك لا تفعل، فوالله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.
وقد يكفى أبا العتاهية أيضاً أنه هو الشاعر الشعبي الذي أمكنه أن يدنو بالشعر العربي إلى إفهام العامة، فوردوا مناهله العذبة بعد أن حرموا منها زمناً طويلاً بنزول لغتهم عن لغته، وانصراف الشعراء عنهم كأنهم عجماوات لا حظ لها من علم وأدب، وهذا كله مع احتفاظه للشعر بما يتطلبه منه الخاصة أيضاً، فأرضى بشعره الفريقين، ولم ينزل به عن مرتبة فحول الشعر في عصره وقبل عصره، وقد قلنا إنه يقصد إلى ذلك قصداً، ويثور به على الطريقة القديمة عامداً، وسقنا من قصته في ذلك مع سلم الخاسر ما يؤيده، وهذه هي قصته معه كاملة:
قال أبو الفرج: حدثني على بن مهدي، قال: حدثني أحمد بن عيسى. قال حدثني الجماز. قال: قال سلم الخاسر: صار إلى أبو العتاهية، فقال: جئتك زائراً، فقلت: مقبول منك(115/46)
ومشكور أنت عليه فأقم، فقال إن هذا مما يشتد عليَّ، قلت: ولم يشتد عليك ما يسهل على أهل الأدب؟ فقال لمعرفتي بضيق صدرك، فقلت له وأنا أضحك وأعجب من مكابرته: (رمتني بدائها وانسلت)، فقال: دعني من هذا واسمع مني أبياتاً، فقلت: هات، فأنشدني:
نغًّص الموتُ كلَّ لذة عيش ... يا لقومي للموت ما أوْحَاه
عجباً إنه إذا مات ميْتٌ ... صدَّ عنه حَبيِبُه وجفاه
حيثما وجَّهَ أمرؤٌ ليفوتَ ال ... موتَ فالموتُ واقفِ بحذاه
إنما الشيب لابن آدم ناعٍ ... قام في عارضيه ثم نعاه
من تمّنى المُنَى فأغرق فيها ... مات من قبل أن ينال مُنَاه
ما أذلَّ المقِلَّ في أعين النا ... س لا قلاله وما أقْمَاه
إنما تنظر العيون من النا ... س إلى من ترجوه أو تخشاه
ثم قال لي: كيف رأيتها؟ فقلت له: لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية. فقال: والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها
وقد ذكر ابن رشيق القيرواني أبا العتاهية فيمن كان يذهب إلى سهولة اللفظ، ويعني بها مع الإجادة وملاحة القصد، وأنه اجتمع يوماً مع أبي نواس والحسين بن الضحّاك الخليع، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد منكم قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فسيَّروا الأكفانَ من عاجل
ولا تلوموا في اتباعِ الهوى ... فإنني في شُغُلٍ شاغل
عيني على عُتْبَةَ منهلَّهٌ ... بدمعها المنسكب السائل
يا من رأى قبلي قتيلاً بَكى ... من شدة الوجد على القاتل
بسطت كَفّي نحوكم سائلاً ... ماذا تردُّون على السائل
إن لمُ تنيلُوُه فقولوا له ... قولاً جميِلاً بَدَلَ النائل
أو كُنْتُم العام على عُسرةٍ ... منه فمُنُّوه إلى قابل
فسلما له وامتنعا من الإنشاد بعده، وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا القصد، وحسن هذه الأشارات، فلا ننشد شيئاً. قال ابن رشيق: وذلك في بابه من الغزل جيد أيضاً(115/47)
لا يفضله غيره.
ولم يكن أبو العتاهية في ذلك يتكلف شيئاً لا تواتيه فيه سجيته، بل كان يجري فيه على سجية مواتية، وشعر مطبوع لا تكلف فيه ولا تصنع، وقد بلغ من سهولة الشعر عليه أنه كان يقول: لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت، وقيل له: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قط إلا مثل لي، فأقول ما أريد، وأترك ما لا أريد. وحدث عبد الله بن الحسن قال: جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان؛ فجلس إليّ، فقلت: يا أبا إسحاق، أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر، أو إلى ألفاظ مستكرهة؟ قال: لا، فقلت له: إني لأحسب ذلك من كثيرة ركوبك القوافي السهلة، قال: فاعرض عليّ ما شئت من القوافي الصعبة، فقلت: قل أبياتاً على مثل البلاغ، فقال من ساعته:
أيُّ عيش يكون أبلغ من عي ... شٍ كَفافٍ قوتٍ بقدر البلاغِ
صاحبُ البغي ليس يسلم منه ... وعلى نفسه بَغَى كلُّ باغي
ربَّ ذي نعمة تَعرَّض منها ... حائلٌ بينه وبين المساغ
أبلغَ الدهرُ في مواعظه بل ... زاد فيهنَّ لي على الإبلاغ
غبنتني الأيامُ عقلي ومالي ... وشبابي وصحتي وفراغي
وكان أبو العتاهية مع هذا أراد تفخيم لفظة ومعناه لم يقصر به ذلك عن غيره، ومضى فيه كأنه من أولئك الشعراء الجاهلين أو المخضرمين أو الإسلاميين، وقد قال مسعود بن بشر المازني: لقيت ابن مناذر بمكة، فقلت له: من أشعر أهل الإسلام؟ فقال: أترى من إذا شئت هزل، وإذا شئت جد؟ قلت: من؟ قال: جرير حين يقول في النسيب:
إن الذين غَدَوْا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا
غَيَضْن من عَبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حَرمَ المكارمَ تَغْلباً ... جعل النبوةَ والخلافة فينا
مضرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا آل تَغلبَ من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئتُ ساقكمُ إلي قطينا(115/48)
ومن المحدثين هذا الخبيث الذي يتناول شعره من كمه، فقلت: من؟ قال: أبو العتاهية، فقلت فيماذا؟ قال قوله:
الله بيني وبين مولاتي ... أبدتْ لي الصدَّ والملاَلاتِ
لا تغفر الذنب إن أسائت ولا ... تقبل عذري ولا مُواتاتي
منحتُها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافاتي
أقلقني حبُّها وصّيرني ... أحْدُوثة في جميع جاراتي
ثم قال حين جد:
ومهمة قد قطعتُ طامسه ... قَفرٍ على الهول والمحاماةِ
بحُرَّةٍ جسرةٍ عُذا فِرَةٍ ... خوْصاء عَيْرَانهٍ عَلَنَدَاة
تبادِرُ الشمس كلما طلعتْ ... بالسير تبغي بذاك مرضاتي
ياناق خُبَّي ولا تَعِدي ... نفسك مما ترَيْنَ راحات
حتى تُناخِي بنا إلى ملك ... تَوَّجه الله بالمهابات
عليه تاجان فوق مَفْرقه ... تاج جِلال وتاج إخبات
يقول للريح كلما عصفت ... هل لكِ يا ريح في مباراتي
مَنْ من عمُّه الرسول ومن ... أخواله أكرم الخؤولات
وإذا كنت فيما سبق قد جعلت أبا العتاهية زعيم شعراء عصره، فهذا ابن مناذر يقضي له أيضاً بهذا السبق، وهذا بشار قد سئل من أشعر أهل زمانه؟ فقال: مخنث أهل بغداد، يعني أبا العتاهية، وكذلك كان يرى فيه هذا الرأي كثيرون مثل الفراء وجعفر بن يحيى وأبي نواس، قد وازن الحرمازي بينه وبين أبي نواس، فقال: شهدت أبا العتاهية وأبا نواس في مجلس، فكان أبو العتاهية أسرع الرجلين جواباً عند البديهة، وكان أبو نواس أسرعهما في قول الشعر، فإذا تعاطيا جميعاً السرعة فضله أبو العتاهية وإذا توقفا وتمهلا فضله أبو نواس، وقد يرجع هذا عندي إلى ما كان لأبي نواس من دراسة واسعة في اللغة وغيرها من العلوم، فلا يخفى أن مثل هذه الدراسة لم يتح مثلها لأبي العتاهية.
ولكنه يبقى بعد هذا ما قد يفيده ظاهر بعض ما رواه صاحب الأغاني من أن أبا العتاهية لم يكن يرى في شعره هذا الرأي، قال: نسخت من كتاب هرون بن علي، قال حدثني علي بن(115/49)
مهدي، قال: حدثني ابن أبي الأبيض، قال: أتيت أبا العتاهية فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب استحسنه لأني أرجو ألا آثم فيه، وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه، فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت، فقال: أعلم أن ما قلته ردئ، قلت: وكيف؟ قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين، أو مثل شعر بشار وغبي هرمة، فان لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا يخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيما الأشعار التي في الزهد، فان الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر، ولا طلاب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به، الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة، وأعجب الأشياء ما فهموه، فقلت: صدقت، ثم أنشدني قصيدته:
لِدوا للموت وابنوا للخراب ... فَكلُّكُم يصير إلى تَباب
ألا يا موتُ لم أر منك بُدَّاً ... أتيتَ وما تحيفُ وما تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي
قال: فصرت إلى أبي نواس فأعلمته ما دار بيننا، فقال: والله ما احسب في شعره مثل ما أنشدك بيتاً آخر، فصرت إليه فأخبرته بقول أبي نواس، فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
طولُ التعاشرَّ بين الناس محلول ... ما لابن آدمَ إن فتشتَ معقولُ
يا راعِيَ الشاءِ لا تغفل رعايتها ... فأنت عن كل ما أسترعيت مسئول
إني لفي منزل أعمره ... على يقين بأني عنه منقول
وليس من موضوع يأتيه ذو نفَسِ ... إلا وللموت سيفٌ فيه مسلول
لمُ يشغَل الموتُ عنا مذ أعدَّ لنا ... وكلُّنا عنه بالذات مشغول
ومن يمت فهو مقطوع ومجتنب ... والحيُّ ما عاش مَغشيٌ وموصول
كلْ ما بدا لك فالآكال فانية ... وكلُّ ذي أكل لا بد مأكول
قال: ثم أنشدني عدة قصائد ما هي بدون هذه، فصرت إلى أبي نواس فأخبرته فتغير لونه، وقال: لم أخبرته بما قلت؟ قد والله أجاد، ولم يقل فيه سواءاً.
والذي أراه في ذلك أن أبا العتاهية كان يريد بهذا صرف هذا الرجل عنع، لأنه كان معتزا بشعره معتدا به، وقد قارع به بشاراً وغيره لدى الملوك والأمراء فخار به قصب السبق،(115/50)
ونال من صلاتهم وجوائزهم ما لم ينله غيره، ولو كان يراه دون غيره من الشعر لقعد به في بيته، ولم يقو أن يقارع أحداً به.
عبد المتعال الصعيدي(115/51)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
20 - تطوير الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتش
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
كل جيل أو كل حضارة مرتبطة بسلسة من القيم الاجتماعية تؤمن بأن هنالك شيئاً أسمى من شيء، وأن عملاً أفضل من عمل، وترى أن الحقيقة أسمى من الضلال، وأن عاطفة الرأفة أفضل من عاطفة القسوة، وواجب التاريخ البشري هو تعيين هذه المقامات والفصل بينها، لأن هذه المقامات المنطوية على التقاليد الاجتماعية هي التي تسيطر على حياة الأفراد والجماعات، وتؤثر في كل أحكامنا ومناقشاتنا. وجدير بها والحالة هذه أن تشغل عقل الفيلسوف وأن تستبد بأكثر عقله وفراغه.
نظر نيتشه إلى هذه المقامات وتأملها ملياً، فجاءت نتيجة تأمله أن هذه المقامات التي تتعاقب عليها الحياة الأوروبية اليوم لهي مقامات فاسدة يجب تنكيسها لأنها لا تصلح للبقاء، وبهذا يتبدل مجرى حياتنا، وتبيد هذه العكازات التي تتوكأ عليها أحكامنا وأفكارنا. وقد نرى نيتشه - في أحد نوبات ألمه العنيف قبل ضياع عقله - ينذر بخراب مروع لهذه البشرية: (إنني أحلف لكم بأن الأرض ستتلوى متشنجة خلال عامين أثنين. . . إنني بنفسي قضاء وقدر)
إن الإنسان الحالي يضع في قائمة (القيم الاجتماعية) عدداً من القيم المطلقة العالية التي لا يمسها سوء ولا يشرف عليها عقل، ولا يتطاول إليها نقاش، وبواسطة هذه القيم يسعى إلى تبيين الحقيقة. من هذه القيم المعروفة مثلاً عنصرا الخير والحقيقة. وقديماً وحديثاً نرى أن تعبد الحقيقة والصدق هو رأس عقائدنا وإيماننا. ناهيك أن المفكرين أنفسهم وقفوا متهيبين إزاء مسألة الخير والشر حين عرضت لهم، وقد ظلموا مترددين أمامها، راعين للتقاليد التي توارثوها عنها. (فكانت) قد افترض وجودها.
وشوبنهاور وجد أن العقدة الأخلاقية إنما عقدة عامة، جميع الناس فيها سواء. (فلا تسئ(115/52)
لأخيك، وأغث إخوانك ما استطعت). وهكذا تطامن الفلاسفة على هذه العقدة ولم يهزوا شجرتها. وكلهم تجمهروا ليدرسوا رأس الأخلاق وهذا الضمير الخلقي الذي أصطلح البشر عامتهم على احترامه والذي لا يزال يسيطر على الأجيال الحالية.
أعلن نيتشه الحرب على هذا التعبد للحقيقة وهذه العبادة لشريعة الأخلاق. وبدلاً من أن يتقبلها قبولاً لا مفر منه ولا وجه لمقابلته بجدل. رأيناه يقابلها كمسألة يدرس وجوهها ويحل مبهمها ويفترض ما يفترض في سبيل تفهمها. أليس من حقه أن يتساءل (ولماذا كانت الحقيقة خيراً وأحرى؟: ولماذا كان الخير أجدر من الشر بالأخذ؟) ثم حلّ هذه المسألة بذات الجرأة التي ظهر بها جاعلاً قاعدة الإنسان الحر هذه الكلمة المأثورة (لا شيء حقيقي في الوجود، كل شيء حلٌ للإنسان).
وما هذه الكلمات النظرية التي تتردد بحروف مختلفة وأسماء متباينة دون أن يخرج معناها بخروج مبناها إلا كلمات ابتدعها الخيال وثبتها الوهم. أما الحقيقة الجدير بالنظر، الحقيقة التي ينبغي لنا أن نعرفها فهي حقيقة عالم رغائبنا وأهوائنا. فكل ما تحتوي عليه حياتنا وإرادتنا وفكرتنا هو في الحقيقة نتاج ما فينا من الغرائز الحاكمة. وهذه الغرائز المتفرقة إنما تتشعب بها السبل إلى غريرة واحد، لا ترد إلا أليها ولا تصدر إلا عنها. هذه الغريزة هي إرادة القوة، هذه الإرادة التي تغنينا - لو رجعنا إليها في تحليل جميع مظاهر الحياة التي تحيط بنا ونحيط بها. فكل كائن - سواء كان من عالم الحيوان أو النبات أو الإنسان - يسعى إلى بسط سلطانه على غيره من الكائنات حتى يخضع له ما يخضع منها. وإن الحرب القائمة وهذه الجهود الدائمة، حيث لا تستقر حياة موجود إلا ببسط نفوذها ونشر قواها، هي الشريعة الأساسية في الوجود، وفي كل مظاهر الحياة - أنى كانت - ترى الغزيرة قائدها وهاديها: فإذا رأيت إنساناً ما يجنح بطبعه إلى حب الفضيلة والفن والحقيقة فهذا الجنوح إنما قام بفضل هذه الغريزة الطبيعية التي رأت من خيرها أن تسلك هذا السبيل، وهكذا قل في الفضيلة الدينية التي تجد بها بعض النفوس أقواتها وطعام غرائزها. وفي الحقيقة التي يضحي العالم في سبيلها بأزهى عمره تسوقه إليها إرادة القوة التي تعمل على بسط سلطانها، ولكن الإنسان مال إلى عبادة ما ابتدعه بنفسه (كمثل أعلى) ليشبع حاجة فيه من حاجاته. فبدلاً من أن يقول: سأحيا أنا لإشباع غرائزي، وسأتحرى عن الخير(115/53)
والحقيقة تبعاً لهذه الشريعة حيث تدفعني إرادة قوتي: قال: إنما الخير والحقيقة شيئان ينبغي أن يطلبا لنفسيهما. . . يجب صنع الخير لأنه الخير. ويجب نشدان الحقيقة حباً للحقيقة. وحياة الإنسان ليس لها قيمة إلا بقدر ما تنكر من أنانيتها وذاتيتها في سبيل خدمة هذا المثل الأعلى، فلتقُتل إذن كل ميولها الغريزية في سبيل هذا الإنسان نفسه الذي قدر هذا التقدير إنما تسوقه غريزة - لأن الغريزة هي سائقة النفوس إلى ما تعمل - ولكن هذه الغريزة غريزة فاسدة.
على أن هذه الغرائز ليست في الناس سواء، فبعضها، فبعضها معتدلة تعمل على تغذية حياتها وصيانة نموها، وبعضها فاسدة معتلة تعمل على إخفاء مادتها الحيوية. وللعلل الجسدية تأثير كبير فيها قد يتداركها الطبيب قبل أن تضوي الجسد. وهنالك علل (الشخصية) ولهذه العلل أسباب طبيعية. وبحسب هذه الغرائز المختلفة المتسيطرة على الإنسان يأتي صاحبها صالحاً أو طالحاً، مثلاً عالياً أو مثلاً سافلاً.
إن - هنالك - رجالاً خالصي الأجسام والأرواح يقولون (نعم) للوجود! هم سعداء ناعمون بحياتهم، وهم ممن يجدر بالحياة أن تخلد لهم. وهنالك رجال منحطون ضعفاء مرضى قد أظلمت غريزتهم وماتت حيويتهم، يقولون (لا) للوجود! يجنحون إلى الموت والفناء، لا غاية لهم يتحرون عنها، وليس لهم - والحالة هذه - أن يتحروا عن بقائهم في الوجود، وهذه سنة طبيعية تنطبق على الحياة التي لا تتمرد، والحياة - في كل صقع - سائرة في طريق التقدم أو في طريق الانحطاط. والإنسان فيها مثل غرسة، طوراً تحيا ذابلة يائسة، وطوراً تتفتح مشرفة زاهية، تسمو منها فروع عالية.
يتبع
خليل هنداوي(115/54)
القصص
صور من هوميروس
5 - حروب طَرْوَادَة
أخيل
للأستاذ دريني خشبة
شده القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، ونهض الكاهن الوقور ذو اللحية المرتعشة يضرب في غَبْشَةِ الصبح، متكئاً على عكازه الذي أحنته وأحنتْ صاحبه السنون، ولم يكد يتسم ذروة الجبل حتى أشرقت ذُكاء، فاختلط ذهب أشعتها بفضة لحيته، فزادته رهْيةً، وزاده البعد وقاراً، وملأ بهامته السامقة وطيلسانه القشيب، قلوب العسكر، وعيون القادة، ألغازاً وأسراراً. . .
عاشت ذيتيس في كنف بليوز قانعة راضيةً، لا يعنيها من هذا العالم الرحب إلا الجنين الحبيب الذي يتقلب في أحشائها، فتتقلب معه أكبر الآمال.
ومضت شهور. . . ووضعته غلاماً بكاءً كثير الصخب، يضرب الهواء برجليه الصغيرتين، فكأنما يضرب المشرقين والمغربين، وينظر في السماء العميقة بعينيه الزرقاوين، وكأنما يبحث في أغوارها عن جده. . ومجده! وترى إليه أمة وتبتسم!
وشبّ الغلام وأيفع؛ وتحدَّثت إلى أمه العرَّافات والكاشفاتُ الغيب أنه سيكون محارباً عظيماً، تتحدث بذكره الركبان، وتتعطر باسمة المحافل في كل زمن ومكان؛ وأن لا بد من رحلةٍ به إلى الدار الآخرة - هيدز مملكة بلوتو - حيث تستطيع الأم غَسلَ ابنها في أمواه ستيكس، نهر الخلود الزاخر، الذي أودعته الآلهة أسرارها، ونظمت فيه شعراء الأولمب أشعارها واشتهرت بركاته في العالمين.
حدثنها أنها إذا غسلت أبنها في أمواه ستيكس، فانها تكسب جسمة مناعةً ضد الموت، وحِفَاظاً من الفناء؛ لأن جلده يصبح كالدرعِ المسرودة من حديد، لا تنفذ فيه السهام، ولا يؤثر فيه طعن القنا، ولا ضرب المشرفيات البيض.
ووقفت به على شواطئ ستيكس!.(115/55)
وهالها أن تنظر فترى إلى المنايا تقفز على غوارب الموج، وتثب فوق نواصي الثبج؛ تدمدم كأنها الذئاب، وتهوم كأنها البواشق، وترقص ظلالاً سوداء كأنها الجن!.
لقد ريعت الأم المسكينة، وكادت تنثني بطفلها المعبود، إشفاقاً عليه من هول ما شاهدت. . . بيد أن الطفل. . . بيد أن أخيل الصغير، كان يصرخ وينتحب كلما بعدت به أمه عن شواطئ النهر، في حين كان يهدأ وبتسم كلما اقتربت به منها. فتعجبت ذيتيس، وجلست ترقب من النهر فرصة هادئة فتغمر ابنها في مائه لحظةً وتمضى لشأنها. . .
وكأن الآلهة قد استجابت لتوسّلاتها. . . . فقد نامت الآمواج، واستقر سطح الماء، وقالت شياطين النهر المصطخب؛ فتقدمت الأم المضطربة، حاملة ولدها من إحدى رجليه، وذكرت أربابها، متبهلةٍ إليهم، وغمست أخيل في الماء الهادئ في أقل من لمح البصر، وعادت أدراجها فرحة متهللة. . .
جزء واد من جسم أخيل لم يغمره الماء!!
ذلك هو عقب قدمه اليسرى! فيا للهول!
لقد أسلمت ذيتيس ولدها الحبيب للسنتور العظيم شيرون، مؤدب هرقل ومدربه، يلقنه الفنون الحربية، وبنشئه على أعمال الفروسية، ويبث فيه من ذلك الروح الكبير، الذي بثه في سائر تلاميذه من قبل، فكانوا فرسان كل حلْبة، وصناديد كل ميدان، ولقد نبغ أخيل في استعمال السيف، والعب بالرمح وتوتير القسِي، وثقف حِيل المصارعة والملاكمة. . . . وقصارى القول، أصبح فتى زمانه، والهلع الملقى في قلوب أنداده وأقرانه. . . إن كان له أنداد وأقران.
وعاد إلى أمه فاحتفت به، وذهبت من فوْرها هذا إلى العرافات القُدامى، وكهنة المعبد، فاستوحتهم ما عسى أن يكون في كتاب الغيب من حظ لابنها في الميدان. . .
ولكنها حزنت، ودهاها من الهم ما دهاها، حين قال لها الكاهن الأكبر، مؤمَّناً على ما تنبأت به العرَّافات، إن أخيل سيدعى للقتال في صفوف الإغريق، وأنه سيلقى حتفه تحت أسوار طرواده، بسهم يرميه بع ألد أعدائه، يصيب منه مقتلاً في موضع دقيق من جسمه، هو، واأسفاه، عَقِبُ قدمه اليسرى، التي لم تغمرها مياه ستيكس!!.
حزنت ذيتيس، وتجهمت للحياة المشرقة، وتجهمت الحياة المشرقة لها، وآلت إلا أن تحول(115/56)
بين أبنها وبين الحملة على طرواده التي كانت الصيحة لها تجوب آفاق هيلاس في تلك الآونة. . .
وجلست تفكر. . .
وبدالها أن ترسل بأخيل حيث يحل ضيفاً على ليقوميدس ملك سيروس الكريم المضياف، وان تنتحل الأعذار الواهية، فتعرض على الملك أن يسمح لولده بالتنكر، بأن يصفَّف طرته ويرسل غدائره، ويزجج عينيه وحاجبيه، ويصبغ خذيه وشفتيه ويضفي عليه من وشي العرئس، وأفواف الاناث، وحِبَرَ القيان الغيد، ما يبدو به كأنه واحدة من بنات الملك أو إحدى سراريه! تحسب المسكينة أنها تعفيه مما قدر له، وأينما كان يدركه القتل، ولو كان في برج مشيد!!.
واشتد طلب الإغريق لأخيل، ولبث الأسطول الضخم يرقب مجيئه في كل لحظةٍ عدة أيام، وخشى اجاممنون إن هو أقلع بالفلك، ورسا عند شطئان طرواده أن ترسل الآلهة ريحاً صرصراً تسخرها عليه فتأتي على أسطوله، أو يظل تحت أسوار أعدائه مرابطاً أبداً، لا يتقدّم. . . ولا يتأخر؛ وتكون إقامته ثمة بالهزيمة أشبه، وإلى الانخذال أقرب. فأخذ يبعث الرسول يتلو الرسول للبحث عن أخيل، الذي أنبأت الآلهة أن فتح طرواده مستحيل بدونه؛ ولكن عبثاً حاول أحد من الرسل العثور بأخيل أو بظل أخيل؛ بل كانوا يعودون جميعاً وهم يتعثرون في أذيال الخيبة، ويلملمون أطراف الفشل!.
وهنا، نهض البطل الملك، أوليسيز، فتى إيتاكا، وندب نفسه للبحث عن أخيل، وأقسم لا يعودن إلا به!.
ومع أن بعض القادة من أعضاء المجلس الحربي، أوجس خيفةً من أن يفر أوليسيز، وأن يكون ندبه لنفسه بحجة البحث عن أخيل، إن هو إلا حيلة يريد بها أن يفلت من تبعات الحرب وأهوالها، إلا أن أجا ممنون نفسه، وهو القائد الأعلى للجيوش والأساطيل، قبل أن يذهب أوليسيز كيما يقص أثر أخيل، بعد أن أخذ عليه (يميناً على حَدَّ الحسام المهنّد!).
استطاع اوليسيز أن ينفذ إلى مملكة بليوز في أعماق المحيط واستطاع أيضاً أن يختلط بالخدم والخول وحاشية القصر، وأمكنه أن يستدرج بعض الأمراء المقربين من رجال الأسرة المالكة فيعلم منهم أين يختبي أخيل، وكيف يمارس حياة العذارى في بلاط(115/57)
ليقوميدس، ملك سيروس، كأنه إحداهن، وعلم أيضاً أن أخيل نشأ نشأة عسكرية على يدي شيرون العظيم، ومن كان تلميذ شيرون فأخلق به إلا يستنيم لهذه الحياة الناعمة التي لا تليق إلا بأبكار الخدور، وربات الحجال، لا بالأبطال وصناديد الرجال. . . . . . فانطلق إلى سيروس من فوره!.
انطلق أوليسيز إلى سيروس النائية، التي تكاد تكون منقطعة عن العالم، وقد حمل على ظهره العريض، وكاهله القوي حقيبة كبيرة جمع فيها من كتان مصر واصباغها، وعطورها وحِبَرَ الشام، وحريره وممُّوره، وتصاوير فارس، وقاقمها وسنجابها، ومشرفيات الهند، وتحف السند، وطرق الصقلب. . . . . . ومن كل ما غلا وارتفع ثمنه من أدق صناعات العالم جميعاً.
فلما كان في حاضرة المملكة، يمم شطر قصر الملك. . . وكان الوقت ضحى؛ ثم إنه طفق يصيح باللهجة السيروسية، معدَّداً أسماء السلع التي: (استحضرناها حديثاً من مصر الجميلة المتفننة، والهند العظيمة، والسند ال. . . ونحن لا نبيع إلا للملوك وأبناء الملوك، لأن الشعب فقير لا يقدَّر بضائعنا الغالية. . . ونحن معروفون في مصر، لا يشتري فرعون إلا منا، وفي الشام، وفي فارس، وفي الهند، حيث الأقيال العظام وال. . .).
وأرسلت بنات الملك فأحضرن هذا التاجر المفاخر بما معه واجتمعن حوله يتفرّجن ويتلَّهيْن؛ هذه تختار منديلاً من حرير الهند، أو منطقة من خز الشام، وتلك تشتري من أصباغ مصر وعطورها وخرزها، وثالثة تفتن بتصاوير فارس، فتشتري كل ما مع الرجل منها. . . . . .
ولكن فتاةً مُلَّثمة. . . وقفت وحدها ترمق سائر الفتيات بنظرات ساخرة، ولا تكاد تبين إلا عن عينين زرقاوين متألقتين، تقدمت في خطوات متزنة، ومشية منتظمة، وأخذت الحقيبة من الرجال فقلبتها، وما كادت ترى إلى المشرفيات الرقاق الظَّبي، حتى تهللت، وبدا البْشر في عينيها، وتناولت حساماً مرهفاً وشرعت تلعب به في الهواء، ههنا وههنا، كأنما تطيح به رؤوس أعدائها الذين تتصورهم في لوحة الخيال البعيد، المنطبع على أسوار طروادة!!. . .
وشُده أوليسيز مما رأى!.(115/58)
إنه هو نفسه لا يستطيع أن يلاعب السيف كما تلاعبه هذه الفتاة!.
وإن فتاة تغازل السيف هكذا، لا يستطيع عشرة آلاف فارس أن يقفوا في وجهها؛ إذا جمعتهم وإياها حلبَةٌ للوغى!.
إنها تأخذ على الهواء مسلكه، فالهواء نفسه ذبيح هذه الضربات القاسيات!
وانقشع الشك من نفس أوليسيز، وأيقن أنه أمام البطل المنشود، فصاح بصوته الجهوري، وكأن الرعد ينبري من بين شدقيه:
(أخيل!. . . . . . . . .).
وكأن كل ما في الأرض والسماء راح يردد صيحة أوليسيز:
(أخيل. . . أخيل. . . أخيل. . .).
ووقف أخيل لحظة جامداً، شارد اللب، زائغ العينين، كأنه مستيقظ من حلم كريه مفزع؛ ثم ما هو إلا أن نثر لثامه ومزق الغلالة الحريرية التي تحبس جسمه العظيم في سجن امرأة، وصاح بأوليسيز وقد بدا في بُرْد الأسد.
(أنا هو. . . أنا أخيل. . . فمرحى يا رجل!).
- (أنت هو. . . .؟!)
- (أجل. . . أخيل بن بليوز. . . أبي إله عظيم وأمي بنت إله عظيم، فلبيك وسعديك!)
- (وأنت مختبئ هنا في خدور النساء خشية الحرب التي احتشد لها قومك دفاعاً عن الوطن؟)
- (أية حرب يا رجل؟)
- (بين هيلاس وبين طرواده!)
- (ومن أثارها؟)
- (لقد سرق باريس بن بريام، هيلين ملكة أسباطة)
- (سرقها؟ ولم لم تقتله الفاجرة؟)
- (فرَّت معه، ولم يُعنها أن تلقي شرف هيلاس في الوحل)
- (ولم لم تذهب أنت إلى الصفوف، ويبدو لي أنك محارب كبير؟)
- (بل أقبلت من الصفوف لا بحث عنك!!)(115/59)
- (ومن أنت حتى ينتدبك الجيش للبحث عن أخيل؟)
- (ومن أنا؟ وماذا أسرك أن أكون؟)
- (ومن أنت يا رجل؟)
- (أيسرك أن ملكاً هو الذي يبحث عنك يا أخيل أبن بليوز؟)
- (ماذا تعني؟ أأنت ملك إذن؟ ملك ماذا؟)
- (ملكإيتاكا يا أخيل!!).
- (أنت ملك إيتاكا؟ أنت أوليسيز؟ هاها. . . وما تلك الحقيبة إذن؟)
- (هي وسيلتي اليك، لقد مزقت بها خمارك؛ وهتكت بما فيها براقعك!)
- (أنت تهيني!)
- (لا عليك، مادام محدثك أوليسيز!)
- (أفي الحق انك هو. . . . . .؟؟)
- (أقسم لك بالكُناس الذي آواك. . .)
- (وفيم كنت تحرث شاطئ البحر إذن؟ لقد ذُكر أنك زرعته ملحاً، فهل حصدت سرديناً يا أوليسيز؟.)
- (أخيل! الأسطول ينتظرنا، ألف ألفٍ يتحرقون شوقاً لرؤياك، وأنت أكرم من أن تفر من حرب. . . فهلم!.)
- (هلم إلى أين؟.)
- (إلى أوليس أيها العزيز. . إلى حياة البطولة والمجد والشرف!)
- (البطولة والمجد والشرف!! ماذا تقول؟.)
- (لم يخلق تلاميذ شيرون للتقلب في الراحة، في قصور الراحة، والتلذذ بما في العيش من طراوةٍ ونعومة. . . هلم يا أخيل نخض المعمعة، ونلق طروادة العاتية، ونُلَقّنهْا درساً دامياً في الذود عن كرامة الوطن! لا تقتل وقتنا فقد حرصنا جميعاً على أن تكون معنا، وتحدثت إلينا آلهتنا أن طروادة لا تُفْتَح إلا عليك، ولا تعنو إلا لك، وقد اتفقت المقادير أن ترميها بك. . . لا تترك لخصومك فرصة أن يقولوا فر أخيل وتقاعس، فأين أبطال هيلاس!! هلم هلم، فقومك بنو الكريهة وقروم الحرب وحتوف الأقران. . . لو رأيت إليهم مستلْئمين في(115/60)
سلاحهم، مُقَنّعين في حديدهم، مُلملمين في سفينهم، لزهاك عسكرهم الجرار، وبهرك خميسُهم العرمرم! وتمنيت أن تكون أحدهم بالدنيا وما فيها.
دع الغيد يفاخرون بالقلائد والعقود، وتعال نحن ما في أجسامنا من ضربات السيوف، ووخزات الرماح، ومواقع السهام، فهذه أعز مفاخر الرجال يا أخيل!.
أخيل! ردّ علىّ! قل سأحضر معك! كلنا ننتظرك يا أخيل! لن تفتح طروادة إلا عليك! فأي فخر ينتظرك تحت أسوارها، وأي مجد يكلل هامتك يا بطلها الصنديد!.
تكلم، ولا تصمت هكذا. . . إن ملك إيتاكا يتوسل إليك أنا أوليسيز كله! سأكون خدنك في الحوْمة، وصديقك في المعمعة! وأجا ممنون! إنه قائدنا إلى الفخار، وصاحبنا في مصارع الشرف! وديوميديز! بطل الأبطال وفارس كل كريهة وقتال! سينسى شجاعته حين ينظر إليك تلاعب الأسنَّة، وتقّبل مراشف الرقاق البيض! وأجاكس يا أخيل! لقد بهره ما سمعه عنك، وهو يتمنى أن يراك، ويحارب تحت بند خفاق من بنودك! أجاكس نفسه، يود أن يكون جندياً من جنودك وهو أقوى وأبسل جنودنا جميعاً. . .!
ماذا؟ تبكي؟. . . لا لا يا أخيل. . . لترقأ دموعك فهي أغلى من أن تنسكب هكذا! أكرم بك هيلانياً رقيق القلب، باراً ببلادك، مناضلاً عن رايتها في ساحة المجد!.
لتشربْ من دموع أخيل يا ثري الوطن!
لتروك هذه العبرات الغاليات، فهي ترياقك إذا حزبك أمر، أو ادلهمت بك الخطوب!).
وهكذا كان أوليسيز ماهراً في إثارة النخوة في قلب البطل!
وهل أحلى من كلمات البطولة، وأوقع من حديث المجد، في نفس شاب مثل أخيل؟ لقد تقدم مختاراً طائعاً فقبل جبين أوليسيز، ولثم سيفه، ثم ودّع بنات الملك، وحيا القصر، وتزود من الحدائق نظرات
وأنطلق في إثر أوليسيز!
إلى. . .
أوليس!
(لها بقية)
دريني خشبة(115/61)
أشكر الأستاذ الأديب محمد روحي فيصل، وأدع للرسالة أن تجزيه عني دريني(115/62)
من الفن القصصي الحديث
المشعوذ
للقصصي الألماني أريش كستنر
ترجمة علي كامل
في ليلة من ليالي الصيف الماضي شوهد على شرفة مقهى (مجلس الوصاية) الواقع على رصيف مون بلان بجنيف منظر كان حقاً غير عادي، إذ قبل أن ينتصف الليل بقليل كان المقهى يفيض بالزبائن الوجهاء الذين كانوا يشربون قبل أن يذهبوا للنوم مختلف المشروبات المثلجة. فقد كان الجو ثقيلاً، ثقيلاً لدرجة أن رياح البحيرة لم تستطيع إحداث أقل إنعاش أو تخفيف.
وكان الأغنياء البرجوازيون من أهل جنيف يوقفون عرباتهم أمام الفندق ثم يبحثون بعد أن ينزلوا منها عن مكان وسط ذلك الجمع المختلف الأجناس المحتشد في ذلك المكان.
وكان فريق الأوركسترا يعزف في الهواء الطلق بضع مقطوعات من أوبرات شهيرة، وكان كل الجالسين يشعرون بأنه يحيط بهم جو على أتم ما يرام: فجوازات السفر تامة من كل الوجوه، والحقائب مهيأة للغاية، وأربطة الرقبة متفقة مع (البدل)، والقهوة المثلجة في درجة الحرارة التي يرغبونها، وأمواج الأوبرات التي يعزفونها جيداً تفتن جميع الآذان.
وفي هذا الجو المفعم بالنعيم والفخامة برز مرة واحدة وسط الشارع أحد حمالي البواخر، وكان أشبه ما يكون بمصارع، وكان جسمه كله برنزي اللون من أثر الشمس. وبدل القميص كلن يلبس (مايوه) بنفسجياً وحول فخذيه بنطلون أحمر متسخ. وكان يلّوح بيديه بكوبه من الجعة نصفها فارغ. محيياً - وهو يضحك - الجالسين في المقهى الذين لم يكن من السهل لعينيه أن تراهم جميعاً. ولقد كان يبدو من منظره أن الشراب قد أسكره قليلاً. وكانت ابتسامته تبدو غريبة، وبعد أن عبر شرفة المقهى عاد أدراجه وبدا على وجهه كأنه يريد أن يشرب في صحة الحاضرين. ثم أفرغ ببطء ما تحتويه كوبته ولم يظهر على من بالمقهى أنهم وجدوا في هذا المنظر تسلية كبيرة جداً، وأفرغ الرجل ما تبقى من الجعة على(115/63)
الرصيف دون أن يبدو عليه أي أرتباك، ثم مسك الكوب بكلتا يديه وحطمها كاملاً بين أسنانه كإنسان عضه الجوع. وكان بالقرب منه فتاة أمريكية من اعظم الموجودات رشاقة فصرخت حين رأته يفعل ذلك وأصفر لونها مرة واحدة. أما جارتها ملكها الفزع وضعت منديلها سريعاً على فمها. ووقف عدد من الزبائن ودفعوا كراسيهم إلى الوراء وجروَا بأقصى سرعة. أما أفراد الأوركسترا أنفسهم فقد تحولت أنظارهم عن النوت إلى أمامهم وطاشت أنغام كل منهم
وفي أثناء كل ذلك الوقت كان الرجل يسحق قطع الزجاج بصوت مرتفع دون أن يتحرك من مكانه متابعاً بعينيه بكل هدوء عصبية المتفرجين المتزايدة، وكان صوت مضغ الزجاج - ذلك الأمر العجيب النادر - هو وحده الذي يزعج ذلك السكون الشامل. ثم أحنى الرجل رأسه كأنه يتحدث سراً مع أحد من الناس وتأرجح على ركبتيه ثم أتجه إلى مناضد أكثر بعداً وهز من جديد كوبه ونظر بهدوء شديد إلى الوجوه الخائفة وحطم قطعة أخرى بين أسنانه. وهرب هذه المرة أيضاً عدد من الجالسين بينما طلب عدد آخر - وقد أثارهم ذلك المنظر الغريب - من خدم المقهى أن يطردوا ذلك الرجل. على أن الخدم اكتفوا بهز أكتافهم، فقد كانوا على جانب من التعب الشديد غير قادرين حتى على جمع الحساب الذي لهم عند الزبائن. كما أن الفزع كان قد أخذ منهم كل مأخذ. ومن الحق القول أيضاً بأنهم كانوا لا يودون مطلقاً أن يتشاجروا مع (آكل الزجاج) وطلب رجل فرنسي - كان قد أصبح وجهه رمادي اللون من هول الرعب - مدير المحل كيما يوجه إليه اللوم الشديد. ووعد مدير المحل بأن يقدم مساعدته وتقدم خطوات نحو حمال البواخر، لكن شجاعته خانته حالاً فتقهقر. ذلك لأن المشعوذ لم ينقطع عن التردد بين طرفي المقهى وهو يمضغ على مهل بقايا كوبه الجعة، وبعد أن ازدرد جزءاً منها لفظ البقية على الأرض.
وبدا على جانب شفتيه مجرى رفيع من الدم انساب حتى ذقنه دون أن يشعر هو نفسه بذلك إذ كان منشغلاً تماماً بمضغ غذائه الوحيد.
ومر بالمكان مصادفة أحد رجال البوليس قادماً من رصيف و. ولسن وكان يرتدي (بدلة) زرقاء بأشرطة بيضاء، فعندما رأى ذلك المنظر الغريب انسل بهدوء إلى شارع الناقوس، واختفى دون أن يصرخ آمراً بعودة النظام.(115/64)
ووقفت السيارات في عرض الطريق بينما جلس السائحون صامتين من الذهول، وقد اتجهت أنظارهم - دون أن تتحول مطلقاً - صوب النوافذ الزجاجية.
لقد فقد زبائن المقهى وعيهم كلية، وملكهم الرعب من جراء شجاعة ذلك الرجل الخارقة، ولقد دفعهم الخوف لأن يضعوا أيديهم على حقائبهم، فقد تكون هي احسن وسيلة لأبعاد ذلك الحمال الذي حمل إليهم الألم والأذى.
على أنه لم تكن هناك وسيلة ما!.
لم يبق من الكوبة شيء يذكر، كان الرجل يمضغ بهدوء البقايا الأخيرة ولم يقاومه إلا القاعدة لأن زجاجها أكثر سمكاً فلوح بها في الهواء وعليه إمارات النصر الممتلئ بالاحتقار.
كان السكون التام يسود المكان كله ولم يكن هناك إلا فتاة صغيرة - عيناها نصف مقفولتين - تبكي بوداعة. وفي تلك اللحظة اقترب رجلنا من المنضدة المجاورة وقبض - دون أن ينطق بكلمة واحدة - على آنية السكر المعدنية وأدارها على المنضدة ثم قدمها وهي فارغة مما كانت تحويه طالباً المعونة، وقد علت وجهه إمارات التهديد. وفي الحال انفتحت حقائب النقود كأن قوة سحرية فعلت بها ذلك. وتراكمت قطعه النقود في آنية السكر كأنها قطرات مطر هاطل، وتنقل الرجل من منضدة إلى أخرى وهو مالك نفسه أكثر من رجل مسلح من رجال العصابات. ماداً آنية السكر كأنه يصوت مسدساً. إنه لم يستجد بلسانه مطلقاً، كما أنه لم يشكر من أعطوه، على أنه لم يكن يغادر المنضدة إلا بعد أن يعطيه الجالسون عليها نقوداً.
وفي الطريق وقف المارون ينظرون في صمت ما يفعله الرجل وقد ظهر عليهم السرور واضحاً. لاحظ مدير المحل - ولكن بعد أن فات الأوان - أن سمعته في خطر كبير فانحنى يطلب بأدب جم إلى العامل أن يوقف هذه الشحاذة، لكن الرجل أبعد ذلك الشخص الذي يضايقه بأن هز كتفه هزة خفيفة ثم استمر في تكديس النقود كأن شيئاً لم يحدث قط، فقد كان يعتبر الجالسين في المقهى كأنهم أكياس منتفخة من الذهب.
لقد جاء إلى المكان وأطاعوه بسهولة! وفي اللحظة التي شعر فيها بأنه حصل على ما يريد أفرغ ما تحتويه آنية السكر في جيبه وألقى على الأرض - دون أي مراعاة - قاع الكوبة(115/65)
الذي لم ينقطع عن التلويح به في الهواء حتى تلك اللحظة، ثم ارتدى بنطلونه بإهمال، كما هي حال الطبقات الدنيا، وسار في طريقه باحتقار وازدراء.
وبقي الزبائن المساكين جالسين في أماكنهم ذاهلين، أشبه ما يكونون بمرضى في دور النقاهة، محطمين من التعب والإرهاق والآن ما الذي حدث؟
الذي حدث أن رجلاً لا يلبس ياقة ولا رباطاً للرقبة ازدرد الزجاج. بيد أن وقع الحادث على المتفرجين كان أكثر من ذلك هولاً ورهبة.
وابتداء فريق الأوركسترا يعزف مقطوعات للموسيقي فيردي بينما كان أحد خدم المقهى يمسح جبهته خفية.(115/66)
البريد الأدبي
مستعرب عظيم
يلومني بعضهم لتنويهي في كل مناسبة بفضل علماء المشرقيات في الغرب على حضارتنا وآدابنا، ولقولي إننا كنا نجهل كثيراً من علم أمتنا ومدنيتها لو لم يقم الغربيون يحيون كتب العرب منذ القرن السادس عشر من الميلاد؛ حتى طبعوا منها خزانة عظيمة بإتقان وضبط، مل برحت الدارسين والباحثين، وإذا أشرت إلى علماء أمتي بالجري في طريقة أولئك العاملين، فهناك الامتعاض، وهناك الغمز واللمز، وهناك الأعذار التي لا مبرر لها.
أنا لا أجادل إلا بإيراد مثال واحد على صحة مدعاي، والأمثلة متوفرة كثيرة. هذا الأستاذ كرنكو الألماني لم يجد منشطاً من دولة، ولا من جامعة، ولا من جماعة؛ ومع هذا طبع نيفاً وعشرين كتاباً من كتبنا لخدمة العلم والحضارة العربية. وترجمة الرجل طريفة عسى أن يكون في نشر طرف منها بعض العبرة لقومي، وألا يثقل عليهم إذا قلنا إنهم مقصرون عن اللحاق بغيرهم
ولد (فريتس كرنكو) أو (سالم الكرينكوي)، كما سمى نفسه بعد في قرية شونبرغ في شمال ألمانيا، وتعلم مع لغته الألمانية، وكان شاعراً، اللغات الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية، فأتقنها اتقاناً جيداً، ثم بدأ وهو صبي يافع يتعلم اللغات الأوربية الأخرى واللغة الفارسية، وتعلم طرفاً صالحاً من الحميرية والعبرية والآرامية والتركية، ثم رحل إلى إنجلترا واشتغل بالتجارة حتى أسس مصنعاً للأقمشة في (لستر) كان يشغل فيه أكثر من ألف عامل وعاملة، ولم تفته مع كثرة أشغاله العقلية ساعة إلا طالع فيها الكتب العلمية، وسما له شوق إلى درس آداب العربية والحضارة الإسلامية، ولا سيما ما كان له علاقة بأوائل الإسلام والقرون التي سبقته، فتعلمها وأتقنها حتى أصبح يكتب فيها ويؤلف مثل أبناء العرب.
وفي الحرب نكب بفقد وحيده، ثم بخسارة كبرى في تجارته حدث به إلى تركها في سنة 1927. وتفرغ بعد ذلك للعلم، وهو اليوم يعرف لغات أوربا وثلاث لغات من لغات الشرق: العربية والفارسية والهندية معرفة جيدة، ودروس اللغات الأخيرة في الكتب من أستاذ، وهو اليوم لا منصف له يعيش براتبه، وماله مال أمثاله ممن يحترف الأدب، ولما(115/67)
اشتدت به الضائقة كتب إليه أحد أصدقائه من مسلمي الهند أن ينسخ له من الكتب العربية ما يراه جديراً بالطبع من خزانة المتحف البريطاني في لندرا، وجعل له جعلاً سنوياً مناسباً. وقال لي الأستاذ: إني الآن أعيش بفضل لغتكم.
هذه جملة حاله، أما إنتاجه فكثير جداً، لا تكاد تقوم بمثله المجامع العلمية الكبرى، ورجائي أن يقتدي بسيرته رجالنا، فهي غريبة في بابها.
طبع الأستاذ كرنكو مجموعة من كتب العرب أعرف منها الكتب التالية:
(1) قصيدة طفيل الغنوي البائية مع ترجمة إنجليزية
(2) قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير مع مقدمة ألمانية
(3) شعر أبي ذهبل الجمحي رواية الزبيري بكار مع زيادة وحواش وملاحظات
(4) طبقات النحاة لأبي بكر الزُّبيدي مع مقدمة وشروح عليها باللغة الإيطالية
(5) ديوان مزاحم العُقيلي بترجمة إنجليزية
(6) كتاب المجتبي لأبي بكر بن دريد
(7) ديوان النعمان بن بشير الأنصاري وفي ذيله ديوان بكر بن العزيز العجلي
(8) حماسة هبة الله بن الشجري
(9) ديوان طفيل الغنوي وديوان الطُّرماح بن حكيم مع مقدمة وترجمة وشروح وفهارس مطولة بالإنجليزية
(10) الكتاب المأثور لأبي العميْثل الأعرابي عن نسخة قديمة كتبت سنة 280 مع مقدمة ألمانية وفهارس
(11) جمهرة ابن دريد في ثلاثة مجلدات مع فهارس له في مجلد كبير
(12) تنقيح المناظر لكمال الدين الشيرازي شرح كتاب المناظر لأبي الهيثم البصري
(13) كتاب التيجان في تواريخ ملوك حمير لعبد الملك ابن هشام عن وهب بن منبَّه التابعي وفي ذيله ما بقي من رواية عبيد بن سَنْرِيةَ عن الأمم البائدة، وقد كتب في مجلة (مدنية الإسلام) الألمانية أن هذين الكتابين من أقدم الآثار المدونة باللغة العربية
(14) (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر العسقلاني في أربعة مجلدات. ويطبع الآن ويصحح كتاب (معاني الشعر الكبير) لأبن قتيبة، وهو في ألف صفحة و(115/68)
(إعراب ثلاثين سورة لأبن خالوية) والمجلدات الثلاثة الأخيرة من (التاريخ المنتظم) لأبن الجوزي، و (المؤتلف والمختلف) للآمدي، وكتاب (نجاة البصرة) للسيرافي، و (الجماهر في معرفة الجواهر) لأبي الرَّيحْان البيروني، إلى غير ذلك مما يطبعه من كتبنا في الهند ومصر والشام والجزائر وأوربا.
وبعد هذا ألا نرى من الواجب أن نرسل من هذه الأقطار العربية تحيتنا إلى هذا العالم العامل الكامل في الديار الغربية، وندعو بطول بقائه ليخدمنا بعقله ونبوغه، وندعو أن يهيئ الله لأمتنا أمثلة من العلماء العاملين.
محمد كرد علي
كتاب الذخيرة لأبن بسام
تألفت أخيراً برياسة العلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال لجنة من أفضل المستشرقين لتعني بإخراج أثر إسلامي أندلسي ضخم هو كتاب: (الذخيرة في التعريف بمحاسن أهل الجزيرة) لابن بسام، وهو من أكابر أدباء الأندلس في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجري. ولم يكن موجوداً ولا معروفاً قبل بضعة أعوام من كتاب ابن بسام غير أجراء أو نسخ ناقصة، ولكن الأستاذ ليفي بروفنسال، وهو من خيرة المستشرقين الذين وقفوا على استقصاء تاريخ الأندلس المسلمة وآدابها وحضارتها، لبث يبحث وينقب أعواماً طويلة في خفايا المكاتب المغربية حتى ظفر بنسخة حسنة كاملة من كتاب: (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)؛ وساعده على ذلك وجوده بالمغرب الأقصى، مدى أعوام طويلة، مديراً لمعهد المباحث الإسلامية في رباط الفتح (مراكش)، وتجوله الدائم في أنحاء مراكش والجزائر، وتمكنه من معرفة الآثار والمخطوطات الأندلسية؛ وهو صاحب القسم الثاني من فهرس المكتبة العربية في الأسكوريال، وله عن أسبانيا المسلمة مؤلفات عديدة. منها: (أسبانيا في القرن العاشر) و (النقوش الإسلامية في أسبانيا المسلمة) و (وثائق جديدة عن تاريخ الموحدين) و (وصف لمدينة سبتة في القرن الخامس عشر) الخ. وقد طبع كتاب دوزي عن الأندلس طبعه جديدة منظمة منقحة؛ وكتاب الذخيرة الذي يعني الآن بإخراجه، أثر أدبي تاريخي ضخم ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول خاص بقرطبة(115/69)
وأعيانها، والثاني خاص بغرب الأندلس وأعيانها، وأخبار اشبيلية وبني عباد؛ والثالث خاص بشرق الأندلس وبلنسية وأعيانها، والرابع بأخبار الجزيرة وأعيانها. وهو يلقي أعظم الضياء على تاريخ أسبانيا المسلمة وآدابها وأحوالها الاجتماعية في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) أيام دول الطوائف. ويوجد بدار الكتب المصرية نسخة ناقصة من كتاب الذخيرة في مجلدين كبيرين، تحتوي على القسمين الأول والثاني فقط من الكتاب. ومن المحقق أن دوائر البحث الإسلامي سوف تنتظر بفارغ الصبر ثمرة الجهود المحمودة التي يبذلها الأستاذ ليفي بروفنسال وزملاؤه الأفاضل لإخراج هذا الأثر النفيس.
من آثار نابوليون
كشف البحث في مكتبة خاركوف العامة (روسيا) عن وجود اثر نفيس من آثار نابوليون، وهو عبارة عن كتاب منه بخطه إلى صديقه وعامله يوسف فوشيه، والكتاب مؤرخ في 11 مايو سنة 1811، وفيه يدعو الإمبراطور فوشية ليتولى إدارة شؤون بروسيا، ويحثه على القدوم إلى درسدن مع عدة من معاونيه الذين يعرفون اللغة الألمانية، وكان نابوليون في ذلك الحين قد غلب على بروسيا ومزقها، وأخذ يستعد لغزوته الروسية الشهيرة. أما يوسف فوشيه الذي يوجه إليه هذا الخطاب، فهو من اشهر الشخصيات في تاريخ نابوليون وتاريخ فرنسا في هذا العصر؛
وقد كان أقطاب الثورة وزعماء اليعاقبة، ولما بزغ نجم نابوليون عين مديراً لبوليس باريس، واستمر في هذا المنصب أعواماً طويلة ثم تولى بعد ذلك عدة مناصب في الإدارة وفي البطانة، وأشتهر فوشية بدسائسه الكثيرة التي جعلت منه شخصية روائية مدهشة، وكان داهية وافر الذكاء والخبث، وقلما تجد قصة من قصص هذا العصر لا تحتل فيها فوشية أعظم مكانة، وكان نابوليون يثق به وينتدبه لأخطر المهام السرية، ولكنه في أواخر أيامه أخذ يرتاب فيه ويقصيه عنه، وكان فوشية أديباً كاتباً، وقد ترك لنا عدة آثار ورسائل، وكتب عنه الكثيرون مؤلفات ضخمة، ولا سيما شتيفان زفايج الكاتب النمسوي، ولوي مادلين الكاتب الفرنسي.
وفاة فنان نمسوي(115/70)
من أبناء فينا أن المهندس والفنان الأشهر الأستاذ أوسكار شترناد قد توفي في السادسة والخمسين من عمره في مصيفه في (أو سنري)، وقد كان الأستاذ شترناد أعظم أخصائي في فنه، وهو الهندسة الزخرفية، واشتهر منذ أواخر عهد القيصرية، وتولي زخرفة كثير من المنشآت الشهيرة، ومنها (الأوبرا) النمسوية. ولبث مدى أعوام طويلة أستاذ هذا الفن في مدرسة الزخارف الفنية.
الرقابة الأدبية في روسيا
تفرض روسيا السوفيتية على الكتب والصحف رقابة صارمة؛ وكما أنها ترعى هذه الرقابة وتنظمها داخل روسيا، فلا يكتب أو ينشر شيء ينافي المبادئ الشيوعية أو يتوجه إلى نقدها والطعن فيها، فكذلك تنظم هذه الرقابة على الحدود تنظيماً دقيقاً فلا يتسرب إلى الأرض الروسية من الكتب أو الصحف شيء يخشى منه على عقول النشء الروسي الذي نشأ وترعرع في ظل الثورة الشيوعية، وآخر نوع من أنواع هذا الحجر قانون أصدرته وكالة الشؤون التجارية الخارجية، يقضي بأنه لا يجوز لشخص داخل روسيا أن يستورد من الخارج كتباً أو صحفاً أجنبية إلا بتصريح خاص من المكاتب التي ستنشأ لهذا الغرض، وكل صحيفة أو كتاب لم يؤذن باستيراده يعتبر مهرباً ويحاكم محرزه ولا سيما إذا كان فيه طعن على الحكومة السوفيتية أو مبادئها أو وسائلها، وقد حملت السلطات السوفيتية على تشديد الرقابة على هذا النحو بما لاحظته في الأعوام الأخيرة من اشتداد الحملة على روسيا السوفيتية، وتصور نظمها وأحوالها في معظم البلدان الأجنبية، سواء بطريق الكتب أو الصحف، تصويراً منفراً تقشعر منه القلوب.
إلى صديقي الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي
كنت شديد الإعجاب بقصيدتك (عاصفة روح) التي سمعتك تنشدها قبل نشرها في العدد الأخير من (مجلتي) الصادرة في أول سبتمبر، ولكني لما خلوت إلى نفسي كنت كمن يفتش على مهل عن شيء ضائع في ذاكرتي!. . وأخيراً لقيت هذا الشيء الضائع. . . لقيت مطلع قصيدة من ذات العنوان والوزن، بل لقيت القصيدة كلها من نظم الشاعر الدمشقي مشيل عفلق منشورة في العدد السابع من مجلة الدهور الصادر في شهر سبتمبر سنة(115/71)
1934 مطلعها:
أعصفي يا رياح ... واهزئي يا سماء
من يكن ذا جناح ... هل يهاب الفضاء؟
ولقيتك في المقطع الثاني من قصيدتك تقول:
أعولي يا جراح ... اسمعي الديان
لا يهم الرياح ... زورق غضبان
لقد أوغلت في قراءة قصيدتك، ووازنت بين أقوالك ومعانيك، وبين الأقوال والمعاني الواردة في قصيدة الشاعر الدمشقي، وأخيراً لقيت الأليق أن أسألك عما إذا كان هذا مجرد توارد خواطر، وقد ألفنا تعليل الاغارات الأدبية بتوارد الخواطر.
أريد أن أمضي معك في تعليلك، وأن أكتفي بنشر مقطع واحد من قصيدة ذلك الشاعر الدمشقي يتفق مع مقطع من قصيدتك، أريد ذلك حتى لا أضيف خسارة صديق جديدة إلى قائمة أولئك الضعفاء غير المأسوف على صداقتهم، فهل من تعليل؟. . . . إني لمنتظر.
حبيب الزحلاوي(115/72)
الكتب
ثلاث رسائل
بخط ياقوت الحموي الرومي
للأديب الفارسي عباس إقبال
ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام
عند كاتب هذا المقال مجموعة صغيرة في ثمان وأربعين ورقة صفراء، طول ورقة 15 سنتيمتراً وعرضها 10، وهي بخط نسخ جميل، كتبها كلها الأديب العالم الكبير شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي، المؤلف ذائع الصيت صاحب معجم البلدان، ومعجم الأدباء، المولودة سنة 575 والمتوفىسنة 626.
في هذه المجموعة أربع رسائل صغيرة كتبها ياقوت نفسه في أوقات مختلفة، ثم جمعها في مجلد واحد. وهي كما يأتي:
1 - كتاب الفصيح: لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب الشبابي (200 - 291) وهو 28 ورقة. وقد طبع مرات.
2 - كتاب تمام الفصيح: لأبي الحسين أحمد بن فارس أبن زكريا اللغوي المتوفى سنة 395. وفيه 11 ورقة.
3 - و 4 - كتابان لأبي الحسن عليَّ بن عيسى الرمَّاني الوراق (276 - 384) الأول منهما، لسوء الحظ، سقط من المجموعة. ومحي عنوانه من الغلاف. والكتاب الثاني كتاب الحروف. وقد سقط أوله، وبقي معظمه في 9 ورقات.
ولا شبهة في صحة نسبة هذه النسخة إلى ياقوت الحموي وأصالتها. فالخط والورق والتاريخ يؤيدها. ثم ياقوت نفسه يكتب هذا خمس مرات بالخط الذي كتبت به النسخة نفسها. ولدينا شواهد تاريخية أخرى نحصيها فيما يلي:
على غلاف هذه المجموعة، كما يظهر من الصورة هذه الكلمات:
كتاب الفصيح
تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب وكتاب تمام الفصيح(115/73)
تأليف أبي الحسين أحمد بن فارس
وفيه كتاب. . . . . . . . . وكتاب الحروف
كلاهما عن عليّ بن عيسى بن علي الرماني
وفي الحاشية اليسرى إزاء اسم كتاب الرماني (ملك لكاتبه ياقوت الحموي عفا الله عنه) ثم في أسفل صفحة الغلاف كتب ياقوت نفسه في سطور رأسية رواة كتاب الفصيح إلى زمانه وبين كيف نسخ هذه النسخة من الفصيح وصحيحها. ونحن ننقل هنا بعض ما كتب:
. . . . . وصاحب هذا الكتاب عبد الله الفقير إليه ياقوت ابن عبد الله الرومي الحموي، بعد أن عارض بأصله هذا نسخة السماع وكتب ما كان فيها من. . . . . وما كان في هذه النسخة من الزوايد مخالفاً للأصل ضرب عليه بالحمرة. وذلك بأعلى. . . الآخر سنة عشرين وستمائة. وهذا خط صاحب الكتاب ياقوت الحموي عفا الله عنه. . .
وفي آخر نسخة كتاب الفصيح: (منقول من خط أبي الحسين عليّ بن عبيد الله السمسمي اللغوي بحواشيه حرفاً حرفاً، وكان على وجه نسخته، وفي الحاشية اليمنى بجانب هذه العبارة كتب بخط أحمر: (قوبل بالأصل المنقول عنه؛ فصح والحمد لله رب العالمين، وقوبل ثانياً وصح)
وكتب في هذه النسخة، كما يقول ياقوت في حاشية الغلاف: اختلافات النسخ فوق الكلمات بمداد أحمر، وزيدت في الحواشي زيادات وتصحيحات. وهذا برهان بمقابلة النسخة بنسخ أخرى وليس في الرسالة تاريخ نسخها، ولكن يؤخذ من حاشية الغلاف المكتوبة في ربيع الآخر سنة 620: أن مقابلة هذه النسخة بنسخة أخرى كان في هذا التاريخ، وقد حمل ياقوت هذه المجموعة معه حين فرّ من متوحشي التتار بين سنتي 617، 618. وكان من بركة هذا الفرار أن بقيت لنا هذه النسخة ولم يصيبها من أيدي هذه الجماعة الوحشية ما أصاب نفائس الكتاب فيما وراء النهر وخوارزم وخراسان.
وقد كتب على ظهر الورقة الأولى من كتاب تمام الفصيح لأحمد بن فارس: (كتاب تمام الفصيح تأليف الإمام أبي الحسين
احمد بن فارس بن زكريا رحمه الله. ومن خطه نقل)، وفي أول الكتاب (نقلت من خط أبي الحسين احمد بن فارس مصنف الكتاب) وتنتهي النسخة بهذه العبارة:(115/74)
(وكتب احمد بن فارس بن زكريا بخطه في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بالمحمّدية. قال ناسخ هذه النسخة هذه جميعه صورة خط الإمام أبي الحسين بن فارس رحمه الله. فأما أنا فإني فرغت من نسخ هذه النسخة بكرة الأحد سابع ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة بمرو الشاهجان حامداً لله ومصلياً على نبيه المصطفى محمد وآله وصحبه الكرام، وكتب ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي).
وكتب في الحاشية مقابل كلمة المحمدية: (قلت المحمدية محلة بالري هي بين السور البرّاني والسور الداخلاني)، وهذه العبارة التي كتبها ياقوت في آخر نسخة تمام الفصيح علاوة على تصريحه بأن هذه النسخة خط يده، وأنه ختمها يوم الأحد سابع ربيع الآخر سنة 616 في مرو الشاهجان، ونقلها من نسخة المصنف التي كتبها بخطه في رمضان سنة 393 في المحمدية ترينا تدقيق ياقوت في ضبط أسماء البلدان. فإن هذا العالم الكبير الذي أمضى شطراً من عمره في تحقيق أسماء البلاد وتعيين مواقعها، وجمع المعلومات التي مكنته من تأليف كتابه البديع الخالد معجم البلدان رأى في نسخته حتى أبان عنه، وكان من قبل خفياً عليه نفسه كما يتبين مما يأتي:
وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان، بمناسبة كلمة المحمدية، نسخة كتاب تمام الفصيح التي كتبها بخطه المصنف أحمد بن فارس، ووقعت في يده بمرو الشاهجان، ونقل العبارة التي ذكرها أحمد بن فارس في آخر نسخته ونقلناها هنا، وهذه من أقوى الأدلة على صحة نسبة النسخة الحاضرة إلى ياقوت، وهذه عبارته في معجم البلدان (ووقع لي بمرو كتاب أسمه تمام الفصيح لابن فارس وبخطه. وقد كتب في آخره: وكتب أحمد بن فارس بن زكريا بخطه في شهر رمضان سنة 395 (كذا بالرقم في النسخة المطبوعة في لايبسيك) بالمحمدية فغبرت دهراً أسائل عن موضوع بنواحي الجبال يعرف بهذا الاسم فلم أجده لان ابن فارس في هذه الأيام هناك كان حياً حتى وقعت على كتاب محمد بن أحمد بن الفقيه فذكر فيه. قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهدي الرّي في خلافة المنصور بنى مدينة الرّي التي بها الناس اليوم، وجعل حولها خندقاً، وبنى فيها مسجداً جامعاً، وجرى ذلك على يد عمار بن الخصيب. وكتب اسمه على حائطها، وتم عملها سنة 158. وجعل لها فصيلاً يطيف به فارقين آخر، وسماها المحمدية. فأهل الري يدعونه المدينة الداخلة المدينة،(115/75)
ويسمون الفصيل المدينة الخارجة، والحصن المعروف بالزبيدية في داخل المدينة بالمحمدية.
(له بقية)
عبد الوهاب عزام(115/76)
مطبوعات دار الكتب المصرية
للأستاذ محمد بك كرد علي
أصدرت دار الكتب المصرية الجزء الخامس من (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) لجمال الدين أبي المحاسن يوسف ابن تغري بردى الأتابكي في سنة 467 صفحة كبيرة، مشفوعاً بفهرس الولاة الذين تولوا مصر من سنة 428هـ إلى سنة 566هـ، وفهرس الأعلام، وفهرس الأمم والقبائل والبطون والعشائر والأرهاط، وفهرس أسماء البلاد والجبال والأودية والأنهار وغير ذلك. وفهرس وفاء النيل من سنة 428 إلى 566 وهي الأعوام التي استغرق هذا الجزء الكلام عليها. وأصدرت أيضاً الجزء الثاني من (الجامع لأحكام القرآن) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي الأندلسي المتوفى بمنية ابن خُصَيب في الصعيد الأدنى سنة 617هـ، وهو تفسير جليل (أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ). وقد جاء الجزء الأول في 396 صفحة والثاني في 436، مصححاً بمعرفة الأستاذ السيد محمد الببلاوي مراقب إحياء الآداب العربية.
والدار آخذة في إتمام طبع كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني، وقد أنجزت إلى الآن جزأه السابع. و (نهاية الأرب في فنون الأدب) للنويري، وقد أتمت طبع السفر الحادي عشر منه. وانتهت منذ مدة من طبع (صبح الأعشى) للقلقشندي في أربعة عشر مجلداً، ولا ينقصه إلا الفهارس التي تحلى بها كل من النجوم الزاهرة والأغاني ونهاية الأرب. وأتمت طبع (عيون الأخبار) لأبن قتيبة، في أربعة مجلدات، ويحمل الرابع منها الفهارس المنوعة. وطبعت ديوان مهيار الديلمي في أربعة مجلدات، وديوان صرَّدُرّ، وديوان نابغة بني شيبان، وديوان علم الدين أيدمر المحيوي، وديوان جران العود النميري، إلى غير ذلك مما أحيته في عهدها الأخير على نفقتها وبعناية رجالها. كما طبعت في خمسة مجلدات قائمة الكتب العربية المطبوعة والمخطوطة التي دخلت الدار
وكانت طبعت طائفة من الكتب الجليلة، منها (الطراز) لأمير المؤمنين يحيى بن حمزة العلوي اليمني في ثلاث مجلدات، و (الاعتصام) للشاطبي في ثلاث مجلدات، و (الأحكام) للآمدي في أربعة مجلدات وغير ذلك. جرى طبع هذه الكتب بإشرافها قبل أن تنشئ الغنية(115/77)
المتقنة، وكانت طبعت في دور آخر من أدوارها الماضية تاريخ مصر لأبن إياس في ثلاثة مجلدات مع الفهارس، و (التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية) لأبن جيعان، و (تاريخ الفيوم وبلادها) للنابلسي الصفدي و (الانتصار لواسطة عقد الأمصار) لابن دقماق وغيرها.
هذا عمل دار الكتب اليوم وأمس، ورأيت بعض الغيورين على العلم ينتقدون عليها بطأها في إخراج الكتب للناس، وما عمل هذه الدار بما تنشر من الأسفار الممتعة إلا عمل علمي محض يراد منه إحياء ما قد يتعذر على الأفراد إحياؤه من الأمهات العربية، على غاية من العناية بالتصحيح، مع معارضة النسخ المختلفة بعضها ببعض، والتعليق على محال الإشكال من النسخ الأصلية المعتمدة، وشرح ما يجب شرحه من المشكلات اللغوية والأدبية والتاريخية والجغرافية وغيرها، وهو عمل شاق لا يدرك مبلغ خطورته إلا من عاناه؛ فقد يتوقف الناشر في صفحة محيت بعض كلماتها، أو طمست بعض سطورها أياماً كثيرة ويتقاضاه إثبات الرواية الصحيحة أوقاتاً، لو كان له أن يصفها كما يشاء لكتب رسالة مطولة في فن من الفنون. فإحياء كتاب من هذا الطراز، فيه ما فيه من الغموض واللبس أصعب من تأليف كتاب، ذلك لأن مصححه مقيداً بالنص ومقيد بالرسم والخط ومقيداً بالأمانة، ليس له أن يبدل على هواه كلمة بكلمة، ولو رأى ما ذهب إلى ذهنه أحق بالاتباع والإثبات. ولو كان عمل الدار تجارياً لأخرجت كل شهر بضعة مجلدات، ولكن ماذا تكون قيمتها العلمية؟.
أما من يتبجحون بأن بعض منشورات الدار لا تخلو، مع هذه الغاية البالغة، من أغلاط وتهاون، فجوابنا لهم أن يتفضلوا وينشروا لنا رسالة صغيرة للقدماء، في مثل هذه الصورة اللائقة التي تصدر بها مطبوعات دار الكتب، وعندئذ يحكم العارفون لهم أو عليهم. والدعوى الطويلة العريضة في خلوة غير العمل السديد، والنقد سهل والصعوبة في الإبداع.
وأي خدمة أعظم من الخدمات التي تقوم بها دار الكتب المصرية للآداب العربية، وكثير مما طبعته مَعْلمات أو إنسيكلوبيذيات في الأدب والإنشاء والعلوم. فالشكر للأستاذ المربي محمد أسعد بك برادة مدير دار الكتب على عنايته بالدقيق والجليل في ديوانه، ولإخوانه ومعاونيه الأساتذة المحققون: السيد محمد الببلاوي، وزكي العدوي، والشيخ محمد عبد الرسول، والشيخ أحمد الزين وغيرهم من الناظرين في الكتب. والشكر الكثير لمجلس دار(115/78)
الكتب الذي ما برح يقرر نشر كل مفيد من آثار السلف.
محمد كرد علي(115/79)
العدد 116 - بتاريخ: 23 - 09 - 1935(/)
ملكة الجمال
للدكتور عبد الوهاب عزام
للأقلام محن تقضي عليها أن تسف إلى ما لا تود الكتابة فيه، وتكره على أن تخط ما تريد الترفع عنه. وقلمي مكره على الكتابة في هذه الحماقات، مرغم على أن يعنى بهذه الترهات
- 1 -
كنت أحادث جماعة من الأصدقاء، فسارت بنا شجون الحديث إلى أن تكلمنا في المدينة الحاضرة حسنها وقبيحها، وجليلها وسفسافها. قلت: أحسب أن المسيطرين على أخلاق الناس في كثير من مناحي المعيشة الحاضرة جماعة من التجار المفسدين. قال صديق: كيف ذلك؟ قلت: في طبع الإنسان الكلف بالذات، والاستهتار بالشهوات، وقد سار العالم آلاف السنين على هدى التجاريب، وتعليم الأنبياء والحكماء، يزن آلامه ولذاته، ويعدل بين مصالحه وشهواته، ويضع شرائع، ويسن سنناً ليعيش الإنسان على شريعة تعرف وتنكر، وتستحسن وتستقبح، وتقول هذا حلال وهذا حرام، حتى استقامت للإنسان خطة في سياسة نفسه ومعاملة الناس. وصار يجاهد نفسه ليمنعها لذاتها، علما بأن وراء اللذة العاجلة شراً أعظم منها، ويصبر نفسه على ما يكره إيثاراً للعافية في العقبى، واستمساكا بالفضيلة التي سكن إليها، ومكنتها في نفسه سيرة الآباء
قال صديقي: هذا حق فما وراءه؟ قلت: أرى العصر الحاضر مفتوناً كل الفتنة بالأهواء، مستكلباً على الشهوات، قد فتحت له من الملاهي أبواب، ومدت له إلى الغي أسباب؛ فشغلت من الحياة جانباً. هذه الملاهي والمراقص والحانات والمواخير. ورأى كثير من الناس هذه الدور مجلبة ربح عظيم، ووسيلة مال وفير، فأقبلوا عليها إقبالاً، وافتنوا فيها افتناناً، واستعانوا على تزينها وجلب الناس إليها بكل ما أنتجت الحضارة من علم وفن، ولم يدعوا حيلة في الاستهواء إلا اتخذوها، ولا وسيلة إلى تهافت الناس عليها إلا توسلوا بها. امتن كل فيما يعرض، وتؤدي المنافسة والطمع في المال إلى استباحة المحظورات، فينظر الناس أول الأمر ثم يسكنون، ويخدعون أنفسهم فيما يرون، بما تصبو إليه غرائزهم وتغرم به شهواتهم حتى يصير هذا أمراً معروفاً وعملاً مألوفاً. ثم يحدوهم حب الربح والمنافسة إلى أن يثيروا شهوات الناس بأفانين أخرى وهلم جرا، حتى لا يصدهم وازع من فضيلة أو(116/1)
عادة، وعبثاً يحاول القانون أن يصد التيار، أو يقيم الجرف المنهار، وهكذا تقاد الأمم بأذنابها، وتأتم بضلالها. وقس يا صاحبي على هذا أزياء النساء. فتنافس التجار فيها هو الذي يطيلها ويقصرها، ويطلع كل يومين ببدعة تبين عما دق من المرأة وجل، وما ظهر وما بطن. ولست أجد بداً من ذكر الحقيقة (العارية)، وهي أن النساء الخليعات هن القدوة في هذه السبيل، يلبسن ما يلفت النظر إليهن، ويميزهن من غيرهن، فيروق النساء الأخر هذا الزي، والمرأة لا تحب أن تغلب في زينتها وتجملها. فيصير هذا الخروج على السنن سنة مألوفة وطرافة (مودة) معروفة. وما ترى في ألبسة البحر من تغير مستمر غايته أن تبرز المرأة عارية متزينة؛ فهذه سبيله، تبدأ به الخليعات الجريئات فتتهافت عليه الأخريات
ووراء هذه جماعة من تجار الكتاب، والفسقة المفسدين؛ يريدون أن ينالوا رغائبهم بشريعة، ويفسدوا في الأرض على علم فيكذبون على الجمال والفن والحرية ما شاءت مآربهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون الرذائل بغير أسمائها، فالفسق إعجاب بالجمال، وكل خليعة فنانة، وكل خليع أستاذ، ويتنافس أصحاب المجلات في كتابة ما تحبه النفوس المريضة، وعرض الصور التي يهفو إليها الشبان، لا يبالون في سبيل المال أن تصلح الأمة وأن تفسد، وتعمل التجارة عملها حتى تجد الرجل الحريص على الفضيلة، الداعي إليها إذا ابتلى بمجلة أغضى عن مفاسدها، فصار له رأي في نفسه، وفي غير مجلته، وعمل آخر تجاري في المجلة. وقد عجبت لبعض الكتاب المعروفين بالغيرة على الأخلاق، والتنديد بالخلاعة والمجون، وبدع العصر الحاضر، إذ رأيت المجلة التي يشرف عليها تنشر من الصور والكلام ما لا يلائم آراءه، ويوافق مواعظه
- 2 -
قال صديقي: والشيء بالشيء يذكر، وملكات الجمال ما ترى فيهن؟ لقد سرت البدعة إلينا، قلت استمع: كنت في الصيف الماضي ذاهباً إلى إيران فعرجت على لبنان أياماً. وبينا أنا في ظهور الشوير، رأيت الناس يزدحمون، ويستبقون إلى بعض الفنادق وسمعت أن هذه الجموع وتلك الوفود تتزاحم لتشهد اختيار ملكة الجمال في لبنان. قال رفيق لي: قد سرت العدوى إلى البلاد العربية، فقلت غاضباً: كلا. قال ألست ترى وتسمع؟ قلت لا أكذبك، لست أرى في هذه الأزياء ولا أسمع في هذه الرطانات عروبة، فلا تعد هؤلاء من العرب(116/2)
وقرأت منذ أيام أن ناساً اجتمعوا في حمانا من لبنان لاختيار امرأة يسمونها ملكة الجمال، وأن قنصل مصر ببيروت رأس هذا الجمع فأسفت أن شغل القنصل الفاضل نفسه بهذه السفاسف، وشارك في هذه المخازي. وقرأت عن انتخاب آخر في بكفيا. وحمدت الله، إذ لم أجد من المنتخبات اسماً يدل على عربية أو إسلام
وقرأت من بعد في الجرائد عن حماقات كهذه في الإسكندرية، فرأيت الداعين إليها بين صاحب ملهى يريد أن يجذب الناس إليه، وصاحب جريدة غير عربية يبغي رواج جريدته، وأمثال هذين. وبعد قليل رأيت صورة الملكة وقرأت أحاديث عنها، فعلمت أن فتاة أسمها شارلوت سماها بعض ذوي المآرب ملكة الجمال في مصر، ولقبوها مس إيجبت ورشحوها للذهاب إلى بروكسل لتشارك في مباراة الجمال. قلت شارلوت ليس اسماً مصرياً، ومس إيجبت لا تعرفها مصر، فما اهتمامك بجماعة من الحمقى أرادوا أن يشهروا فتاة، أو يشهروا بها، أو يتملقوا إليها، أو ينالوا مالاً أو لهم مآرب أخرى. ثم تذكرت ما سطرت في أول هذا المقال، تذكرت أن زمام الأخلاق في هذا العصر بأيدي هذه الطغمات وأشباهها، وأن هذا الذي تستنكره اليوم سيصبح إذا سكتنا عليه، عادة تعد المجادلة فيها ضرباً من الأفن. وفكرت أن مس إيجبت هذه ستذهب إلى أوربا باسم مصر، وتشارك في سوق الرقيق هناك، وتبوء مصر بكل ما في ذلك من عار وحماقة. فرأيت أن الأمر جدير بالاهتمام، وأنه إن سكت عنه عقلاء الأمة صار سنة، وظن المفسدون، كما تسول لهم مآربهم، أنها سنة حسنة ينبغي ألا تحرم منها مدينة أو قرية، وقد وفدت على مصر من قبل ملكة الجمال في تركيا فلم يستح بعض الوقحين من طلبة الجامعة أن يقترحوا أن يحتفل بها في نادي الجامعة. من مبلغ عنا هذه الفتاة، أنا لا نعرفها ولا نعرف جمالها ولا ملكها، وأن القحة البليغة أن تذهب إلى أوربا مدعية أن مصر أرسلتها، ومصر بريئة منها وممن يرسلونها. ليت شعري أرضى المصريون: الحكومة والأمة بهذه السبة. هل رضوا أن تنوب عنهم على رغم أنوفهم فتاة تذهب إلى بروكسل زاعمة أن مصر أرسلتها
كنت أحسب أن موقف مصر الحاضر بين دولة مستعبدة، ودولة مهددة سيخرج بطلاً أو بطلة، تهيب بالمصريين ليغسلوا العار، ويحموا الديار، أو نرسل وفداً يدفع عن حقوق مصر عند عصبة الأمم؛ فإذا السفهاء في شغل عما يحيط بهم باختيار امرأة يرسلونها إلى(116/3)
بروكسل!
وقد أجاب أهل دمشق داعي العروبة والكرامة والفضيلة، فاجتمعوا حين سمعوا أن امرأة ستذهب إلى سوق الرقيق باسم سورية، واستنكروا ذلك، وأجمعوا على مطالبة الحكومة بأخذ الطريق على هذه السنة السيئة، فأجابت الحكومة دعوة العقلاء ومنعت اجتماع السفهاء لاختيار ملكة للجمال، وفي ذلك للمصريين وغيرهم أسوة حسنة
سيقول السفهاء: جماعة لا يعرفون الجمال، ولا يقدرونه، ولا يميزون الحسن من القبيح، فهم ساخطون ثائرون. والله يعلم أن الجمال يعبد قلوبنا، ويملك مشاعرنا، وتهفو إليه أفئدتنا حيثما تجلى في السماء أو في الأرض، ولكنا لا نعرف الجمال في الأسواق، يصفق حوله الفساق، ولا نعرف الجمال تسأل فيه الآراء، وتعرض المرأة كما تعرض العجماء
عبد الوهاب عزام(116/4)
الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(وكيف يشعب صدع الحب في كبدي). كيف يشعب صدع الحب؟
لعمري ما رأيت الجمال مرة إلا كان عندي هو الألم في أجمل صوره وإبداعها؛ أتراني مخلوقاً بجرح في القلب؟
ولا تكون المرأة الجميلة في عيني إلا إذا أحسست حين أنظر إليها - أن في نفسي شيئاً قد عرفها، وأن في عيني لحظاتٍ موجهة إلي، وإن لم تنظر هي إلي
فإثبات الجمال نفسه لعيني، أن يثبت صداقته لروحي باللمحة التي تدل وتتكلم؛ تدل نفسي وتتكلم في قلبي
كنت أجلس في (إسكندرية) بين الضحى والظهر في مكان على شاطئ البحر، ومعي صديقي الأستاذ (ح) من أفاضل رجال السلك السياسي، وهو كاتب من ذوي الرأي، له أدب غض ونوادر وظرائف؛ وفي قلبه إيمان لا أعرف مثله في مثله قد بلغ ما شاء الله قوة وتمكنا، حتى لأحسب أنه رجل من أولياء الله قد عوقب فحكم عليه أن يكون محامياً، ثم زيد في الحكم فجعل قاضياً، ثم ضوعفت العقوبة فجعل سياسياً. . .
وهذا المكان ينقلب في الليل مسرحاً ومرقصاً وما بينهما. . . فيتغاوى فيه الجمال والحب، ويعرض الشيطان مصنوعاته في الهزل والرقص والغناء، فإذا دخلته في النهار رأيت نور النهار كأنه يغسله ويغسلك معه، فتحس للنور هناك عملاً في نفسك
ويرى المكان صدراً من النهار كأنه نائم بعد سهر الليل، فما تجيئه من ساعةٍ بين الصبح والظهر إلا وجدته ساكناً هادئاً كالجسم المستثقل نوماً، ولهذا كنت كثيراً ما أكتب فيه، بل لا أذهب إليه إلا للكتابة. فإذا كان الظهر أقبل نساء المسرح ومعهن من يطارحهن الأناشيد وألحانها، ومن يثقفهن في الرقص، ومن يرويهن ما يمثلن، إلى غير ذلك مما ابتلتهن به الحياة لتساقط عليهن الليالي بالموت ليلة بعد ليلة
وكن إذا جئن رأينني على تلك الحال من الكتابة والتفكير، فينصرفن إلى شأنهن، إلا واحدة كانت أجملهن. وأكثر هؤلاء المسكينات يظهرن لعين المتأمل، كأن المرأة منهن مثل العنز التي كسر أحد قرنيها، فهي تحمل على رأسها علامة الضعف والذلة والنقص، ولو أن امرأة(116/5)
تتبدد حيناً فلا تكون شيئاً، وتجمع حيناً فتكون مرة شيئاً مقلوباً، وأخرى شكلاً ناقصاً، وتارة هيئة مشوهة لكانت هي كل امرأة من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرات إلى المخاوف، ويعشن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقين الكرامة فيها الاستهزاء، ثم لا يعرفن شاباً ولا رجلاً إلا وقعت عليهن من أجله لعنة أبٍ أو أم أو زوجة
وتلك الواحدة التي أومأت إليها كانت حزينة متسلبة فكأنما جذبها حزنها إلي، وكانت مفكرة فكأنما هداها إلي فكرها، وكانت جميلةً فدلها علي الحب، وما أدري والله أي نفسينا بدأت فقالت للأخرى أهلاً. . . ورأيتها لا تصرف نظرها عني إلا لترده إلي ثم لا ترده إلا لتصرفه، ثم رأيتها قد جال بها الغزل جولةً في معركته. . . فتشاغلت عنها لا أريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة. . .
بيد أني جعلت آخذها في مطارح النظر وأتأملها خلسةً بعد خلسةٍ في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشب لونها فيجعلها يتلألأ، ويظهر وجهها بلون البدر في تمه، ويبديه لعيني أرق من الورد تحت نور الفجر
ورأيت لها وجهاً فيه المرأة كلها باختصار، يشرق على جسم بضٍ ألين من خمل النعام، تعرض فيه الأنوثة فنها الكامل؛ فلو خلق الدلال امرأة لكانتها
وتلوح للرأي من بعيد كأنها وضعت في فمها (زر ورد) أحمر منضما على نفسه. شفتان تكاد ابتسامتها تكون نداءً لشفتي محب ظمآن
أما عيناها فما رأيت مثلهما عيني امرأةٍ ولا ظبية؛ سوادهما أشد سواداً من عيون الظباء؛ وقد خلقتا في هيئة تثبت وجود السحر وفعله في النفس؛ فيهما القوة الواثقة أنها النافذة الأمر، يمازجها حنان أكثر مما في صدر أم على طفلها. وتمام الملاحة أنهما بهذا التكحيل، في هذه الهيئة، في هذا الوجه القمري
يا خالق هاتين العينين! سباحنك سبحانك!
قال الراوي:
وأتغافل عنها أياماً، وطال ذلك مني وشق عليها، وكأني صغرت إليها نفسها، وأرهقتها بمعنى الخضوع، بيد أن كبرياءها التي أبت لها أن تقدم، أبت عليها كذلك أن تنهزم
وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعاً في الهواء،(116/6)
لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى اكبر من المرأة. أكبر منها؛ غير أنه هو منها
قال الراوي:
فإني لجالس ذات يوم وقد أقبلت على شأني من الكتابة وبازائي فتى ريق الشباب في العمر الذي ترى فيه الأعين بالحماسة والعاطفة اكثر مما ترى بالعقل والبصيرة، ناعم أملد تم شبابه ولم تتم قوته كأنما نكصت الرجولة عنه إذ وافته فلم تجده رجلا. . . . أو تلك هي شيمة أهل الظرف والقصف من شبان اليوم، ترى الواحد منهم فتعرف النضج في ثيابه أكثر مما تعرفه في جسمه، وتأبى الطبيعة عليه أن يكون أنثى فيجاهد ليكون ضرباً من الأنثى. . . . - إني لجالس إذ وافت الحسناء فأومأت إلى الفتى بتحيتها، ثم ذهبت فاعتلت المنصة مع الباقيات، ورقصت فأحسنت ما شاءت، وكأن في رقصها تعبيراً عن أهواء ونزعات تريد إثارتها في رجلٍ ما. . . . فقلت لصاحبنا الأستاذ (ح): إن كلمة الرقص إنما هي استعارة على مثل هذا كما يستعرن كلمة الحب لجمع المال. ولا رقص ولا حب إلا فجور وطمع
ثم إنها فرغت من شأنها فمرت تتهادى حتى جاءت فجلست إلى الفتى. . . . فقال الأستاذ (ح) وكان قد ألم بما في نفسها: أتراها جعلته ههنا محطة. . .؟
قال الراوي: أما أنا فقلت في نفسي لقد جاء الموضوع. . . . وإني لفي حاجةٍ أشد الحاجة إلى مقالة من المكحولات، فتفرغت لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلاً ما يكون لها فكر أو فلسفة؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى جسمها كله
وكان فتاها قد وضع طربوشه على يده؛ فقد انتهينا إلى عهد رجع حكم الطربوش فيه على رأس الشاب الجميل، كحكم البرقع على وجه الفتاة الجميلة. . . . فأسفر ذاك من طربوشه وأسفرت هذه من نقابها. قال الراوي: فما جلست إلى الفتى حتى أدنت رأسها من الطربوش، فاستنامت إليه، فألصقت به خدها. . . .
ثم التفت إلينا التفاتة الخشف المذعور استروح السبع ووجد مقدماته في الهواء، ثم أرخت(116/7)
عينيها في حياء لا يستحي. . .
وأنشأت تتكلم وهي في ذلك تسارقنا النظر كأن في ناحيتنا بعض معاني كلامها. . . .
ثم لا أدري ما الذي تضاحكت له، غير أن ضحكتها انشقت نصفين رأينا نحن أجملهما في ثغرها. . . .
ثم تزعزت في كرسيها كأنما تهم أن تنقلب لتمتد إليها يد فتمسكها أن تنقلب. . . .
ثم تساندت على نفسها كالمريضة النائمة تتناهض من فراشها فيكاد يئن بعضها من بعضها، وقامت فمشت، فحاذتنا، وتجاوزتنا غير بعيد، ثم رجعت إلى موضعها متكسرة متخاذلة كأن فيها قوة تعلن أنها انتهت. . . .
قال الراوي:
ونظرت إليها نظرة حزن، فتغضبت واغتاظت وشاجرت هذه النظرة من عينيها الدعجاوين بنظرات متهكمة لا أدري أهي توبخنا بها، أم تتهمنا بأننا أخذنا من حسنها مجاناً. . . .
فقلت للأستاذ (ح)، وأنا أجهر بالكلام ليبلغها:
أما ترى أن الدنيا قد انتكست في انتكاسها، وأن الدهر قد فسد فساده، وأن البلاء قد ضوعف على الناس، وأن بقية من الخير كانت في الشر القديم فانتزعت؟
قال: وهل كان في الشر القديم بقية خير وليس مثلها في الشر الحديث؟
قلت: ههنا في هذا المسرح قيان لو كانت إحداهن. . . في الزمن القديم لتنافس في شرائها الملوك والأمراء وسراة الناس وأعيانهم، فكان لها في عهارة الزمن صون وكرامة، وتتقلب في القصور فتجعل القصور لها حرمة تمنعها ابتذال فنها لكل من يدفع خمسة غروش، حتى لرذال الناس وغوغائهم وسفلتهم؛ ثم هي حين يدبر شبابها تكون في دار مولاها حميلة على كرم يحملها، وعلى مروءة تعيش بها
وقديماً أخذت سلامة الزرقاء في قبلتها لؤلؤتين بأربعين ألف درهم تبلغ ألفي جنيه. فهل تأخذ القينة من هؤلاء إلا دخينة بملليمين. . .؟
قال الأستاذ (ح): ما أبعدك يا أخي عن (بورصة) القبلة وأسعارها. . . . ولكن ما خبر اللؤلؤتين؟
قال الراوي: كانت سلامة هذه جاريةً لابن رامين وكانت من الجمال بحيث قيل في وصفها:(116/8)
كأن الشمس طالعة من بين رأسها وكتفيها؛ فاستأذن عليها في مجلس غنائها الصيرفي الملقب بالماجن، فلما أذنت له دخل فأقعى بين يديها، ثم أدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين وقال: انظري يا زرقاء جعلت فداك، ثم حلف إنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. قالت: فما أصنع بذاك؟ قال: أردت أن تعلمي
ثم غنت صوتاً وقالت: يا ماجن هبهما لي ويحك. قال: إن شئت والله فعلت؛ قالت: قد شئت. قال: واليمين التي حلفت بها لازمة لي إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتي. . . .
قال الراوي: ورأيتها قد أذنت لي وأنصتت لكلامي وكأنما كانت تسمعني أعتذر إليها، واستيقنت أن ليس بي إلا الحزن عليها والرثاء لها، فبدت أشد حياءً من العذراء في أيام الخدر. . . . . .
ثم قالت: نعم كان ذلك الزمن سفيهاً ولكنها سفاهة فن لا سفاهة عربدةٍ وتصعلك كما هي اليوم
فنظرت إلي نظرةً لن أنساها؛ نظرة كأنها تدمع، نظرة تقول بها: ألست إنسانة؟ فلم أملك أن قلت لها: تعالي تعالي
وجاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به الفرصة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت؟. . . .
(لها بقية)
مصطفى صادق الرافعي(116/9)
مصر وقناة السويس
دستور القناة وحق السيادة المصرية
لباحث دبلوماسي كبير
كان إنشاء قناة السويس في أرض مصر نذير سوء لمصر، كما كان نذير الخير والرخاء لتجارة الغرب وصناعته؛ ولم تجن مصر من إنشاء القناة في أرضها سوى المتاعب الخالدة، وما زالت بسبب هذه القناة عرضة لفروض مؤلمة من الاستعباد الأجنبي، كما أنها ما تزال عرضة لعدوان الاستعمار ووثباته؛ وقد شعرت مصر مرة أخرى بما يمكن أن يجره عليها وجود هذه القناة في أرضها من ضروب الشر والأذى، في الآونة الحاضرة التي يوشك أن يضطرم فيها النضال بين دولتين من دول الاستعمار، هما إيطاليا المتوثبة السابحة في أحلام عظمتها الجديدة، وبريطانيا العظمى التي تسيطر فعلاً على قناة السويس وتدعي عليها لنفسها حقوقاً خاصة ما تزال مصر تنازع فيها
ولما كانت مصر ما تزال ترتبط بحكم الظروف في شؤونها ومصايرها الحيوية بتطورات السياسة الإنكليزية، فإنها تجد نفسها اليوم عرضة لأخطار هذه الحرب الاستعمارية التي تصر إيطاليا على إضرامها في شرق أفريقية؛ وإذا كانت إنكلترا تلمح شبح الخطر من جراء هذه الفورة الفاشستية على إمبراطوريتها الاستعمارية، وعلى سيادتها في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وتزمع على ما يبدو أن تقاوم هذا الخطر، وأن تسحق المطامع الإيطالية إذا اقتضى الأمر بقوة النار والسيف، فان مصر تجد نفسها من جراء ارتباطها بإنكلترا، ومن جراء موقعها الجغرافي وحراستها الاسمية لقناة السويس في أحرج مركز وأدقه. ماذا يكون موقف مصر إذا أصرت إيطاليا على مشروعها الاستعماري وأعلنت الحرب على الحبشة، وماذا يكون مصير قناة السويس طريق إيطاليا الوحيد إلى ميدان القتال؟ بل ماذا يكون موقف مصر إذا تفاقم الأمر، ونشبت الحرب بين إنكلترا وإيطاليا، ومصر تجاور إيطاليا من جهة الغرب، وثغورها لا تبتعد أكثر من سبعين ساعة عن مراكز الأسطول الإيطالي؟ هذه فروض خطيرة مزعجة، ولكنها أضحت تلوح في الجو قوية تكاد تنقض صواعقها بين آونة وأخرى؛ ومن ثم كانت موضع الاهتمام من جانب السياسة الإنكليزية ومن جانب ولاة الأمر في مصر(116/10)
وأول ما يشغل مصر في الآونة الحاضرة مسألة قناة السويس، ومدى ما يمكن أن يكون لمصر، سواء بمفردها أو بالاتحاد مع إنكلترا من حق في إغلاقها وقت نشوب الحرب الأفريقية، وهذا بفرض أن الحرب لم تتعد طرفي النزاع الأصليين: أعني إيطاليا والحبشة؛ ففي هذه الحالة تعتبر مصر من الوجهة الدولية في حالة حياد بالنسبة للدولتين، ولكنها لن تكون كذلك في الواقع لأن قناة السويس تغدو في هذه الحالة طريقاً حربياً لإيطاليا، وفتحها في وجه السفن والقوات الإيطالية لا يمكن أن يحقق معنى الحيدة، بل يكون وسيلة لمعاونة إيطاليا على افتراس الحبشة التي ترتبط مصر بها بروابط تاريخية ودينية وثيقة، ولمصر كما لإنكلترا مصلحة حيوية في ألا تقع منطقة تانا والنيل الأزرق في يد دولة قوية كإيطاليا يكون وجودها في تلك المنطقة خطراً على ماء النيل
وقد قيل لنا أخيراً إن فقهاء الدولة المصرية بحثوا مسألة قناة السويس ومدى ما لمصر من حق في إغلاقها إذا اقتضت الضرورات الدولية، وقيل لنا انهم انتهوا إلى تقرير حق مصر في إغلاقها في وجه الفريقين المتحاربين إذا نشبت حرب إيطالية حبشية. ونحن ممن يأخذون بحق مصر في إغلاق القناة سواء من الوجهة الدولية أو الوجهة الواقعية كما سنفصل بعد، ولكن الذي لفت نظرنا في مباحث فقهاء الدولة المصرية هو أنهم انتهوا إلى تقرير حق مصر في إغلاق القناة من طريق لا نعتقد أنه خير الطرق ولا خير الأسانيد لتدعيم هذا الحق. ذلك أنهم استندوا على ما قيل لنا في تقريره إلى ميثاق تحريم الحرب الأمريكي أو ميثاق كلوج الذي عقد في باريس في أغسطس سنة 1928 وانضمت مصر إليه إلى جانب الدول الموقعة عليه. وميثاق تحريم الحرب كما نذكر، ينص على استنكار الدول الموقعة للحرب كأداة للسياسة القومية، وعلى تعهدها ألا تلجأ لحل المنازعات الدولية مهما كانت أنواعها وأسبابها إلا للوسائل السلمية. وقد وقع ميثاق تحريم الحرب في باريس في 27 أغسطس سنة 1928، وفي 4 سبتمبر التالي أبلغت مصر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تقرر انضمامها للميثاق بصيغته الأصلية دون التسليم بأي تحفظ أبدي بشأنه، والمقصود بالتحفظات هنا ما أبدته بعض الدول الاستعمارية مثل بريطانيا من الاحتفاظ في ردودها بحقوق وتحفظات معينة في تسوية علائقها مع الدول التي تعتبرها واقعة تحت سيطرتها أو نفوذها(116/11)
ويلوح لنا أن ميثاق تحريم الحرب لا يمكن أن يعتبر سنداً كافياً لما نراه من حق مصر في إغلاق القناة. وفي رأينا أن هذا الحق يمكن إسناده من جانب مصر إلى حقوق السيادة القومية. ذلك أن مصر قد حلت بمقتضى التطورات الدولية منذ الحرب محل الدولة العثمانية الذاهبة واستعادت سيادتها القومية كاملة بانتهاء التبعية العثمانية الاسمية، وأضحت لها من الوجهة الدولية ما لأية دولة من حقوق السيادة الأرضية. هذا من الوجهة العامة. وأما من حيث مركز القناة الدولي، فقد وضعت معاهدة استانبول التي عقدت في 29 أكتوبر سنة 1888 بين الباب العالي، وبريطانيا العظمى، والنمسا والمجر، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، وروسيا، لقناة السويس دستوراً خاصاً من سبع عشرة مادة، أساسه حيدة القناة التامة وحرية الملاحة المطلقة فيها وقت الحرب والسلم. وقد نص في ديباجتها على أن الغرض من عقدها هو (الاتفاق الحر على نظام نهائي يكفل في كل الأوقات ولكل الدول حرية الملاحة في قناة السويس). وكفلت المادتان الأولى والرابعة هذه الحرية فيما يأتي:
المادة الأولى - (تبقى قناة السويس حرة مفتوحة دائماً أيام الحرب والسلم سواء لجميع السفن التجارية أو الحربية دون أي تفريق في جنسياتها
وعلى هذا فالدول الموقعة متفقة فيما بينها على ألا تمس حرية المرور في القناة أثناء الحرب أو السلم
ولا تخضع القناة مطلقاً إلى مزاولة حق الحصار)
المادة الرابعة - (تبقى القناة مفتوحة وقت الحرب ممراً حراً حتى لسفن الدول المتحاربة وفقاً لنص المادة الأولى. وقد اتفق المتعاقدون أعلاه على ألا تعرض القناة لمزاولة أي عمل حربي أو أي عمل من شأنه أن يخل بحرية الملاحة في القناة ذاتها أو في مواني الوصول إليها، أو في قطاع من هذه المواني طوله ثلاثة أميال بحرية، وهذا حتى لو كانت الدولة العثمانية هي إحدى الدول المتحاربة
ولا يجوز لسفن الدول المتحاربة المارة بالقناة وقت الحرب أن تتزود من المؤن في القنال أو موانيه إلا بالقدر الضروري؛ ويجب عليها أن تخترق القناة بسرعة؛ ويجب أن تمضي أربع وعشرون ساعة بين خروج سفينة حربية من أحد ثغور القناة وبين قيام سفينة تابعة(116/12)
سفينة تابعة لدولة معادية)
ففي هاتين المادتين جوهر دستور قناة السويس، وعليهما يستند أنصار الدعاية الإيطالية في القول بأن مصر لا تستطيع إغلاق القناة مطلقاً حتى ولو أعلنت إيطاليا الحرب على الحبشة، واتخذت القناة أثناء الحرب ممراً لأساطيلها وجنودها
بيد أن هنالك في معاهدة استانبول نصاً هاماً تضمنه المادة الثالثة عشرة، وهو أنه (فيما عدا التبعات المنصوص عليها صراحة في مواد هذه المعاهدة، فان ما لجلالة السلطان من حقوق السيادة، وما لسمو الخديو من حقوق بمقتضى الفرمانات لا يمس بأي حال) ففي هذا النص ما يؤيد حقوق السيادة المصرية التي نرجع إليها حق مصر في إغلاق القناة. ذلك أن حقوق السيادة التي كانت للدولة العثمانية على مصر قد آلت إلى مصر ذاتها بمقتضى معاهدة الصلح (معاهدة سيفر) أولا، ثم بمقتضى معاهدة لوزان (سنة 1923)؛ فمصر من الوجهة الدولية هي صاحبة السيادة الأرضية على قناة السويس، ولا يحد من هذه السيادة سوى حقوق الامتياز الممنوح لشركة القناة وهي حقوق استغلال تجارية فقط؛ ولكن يحده من الوجهة الفعلية ما تدعيه إنكلترا لنفسها في تصريح فبراير سنة 1922 من تحفظات يتعلق أحدها بحق إنكلترا في الدفاع عن الموصلات الإمبراطورية، والقناة في نظر إنكلترا شريان من شرايينها الهامة
وفي وسع مصر أن تدعم حقها في إغلاق قناة، باعتباره حقاً من حقوق السيادة القومية، أولاً بميثاق عصبة الأمم حيث ينص في المادة العشرين على ما يأتي: (يعترف أعضاء العصبة بأن الميثاق الحالي يلغي كل التعهدات أو الاتفاقات الخاصة التي تتعارض مع نصوصه، وتتعهد بألا تعقد في المستقبل أية معاهدة تتعارض مع هذه النصوص)، ولما كان دستور العصبة يقوم على فكرة السلام العام بين الأمم، وعلى مبدأ حسم المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، فان هذا الدستور الذي يجعل من قناة السويس وقت الحرب، طريق حرب يزيد في ضرامها وأخطارها، يجب أن يعتبر وثيقة قديمة تنافي روح العصر ونصوص الميثاق. وثانياً بميثاق تحريم الحرب حيث ينص في المادة الثانية منه على أن الدول الموقعة عليه تقرر بأن تسوية المشاكل والمنازعات الدولية أيا كان نوعها وأسبابها يجب ألا يعالج إلا بالوسائل السلمية ومصر طرف في هذا الميثاق مثل إيطاليا(116/13)
ونذكر أن السنيور موسوليني قد أدلى في بعض أحاديثه الأخيرة، أن مصر وإنكلترا لا تستطيعان إغلاق قناة السويس لأن المادة 282 من معاهدة الصلح (معاهدة فرساي)، وهي التي تنص على المعاهدات والاتفاقات التي يبقى مفعولها بين ألمانيا والحلفاء، قد ذكرت معاهدة أكتوبر سنة 1888 الخاصة بدستور القناة ضمن المعاهدات النافذة الباقية (فقرة 11 من المادة المذكورة)؛ وميثاق عصبة الأمم هو جزء من معاهدة فرساي، فليس فيه إذاً ما يمكن أن يتخذ سنداً لإلغاء معاهدة سنة 1888، وهذا اعتراض له قيمته من الوجهة الفقهية لو لم تكن معاهدة سنة 1888 قد غيرت في كثير من أجزائها بفعل التطورات الدولية؛ وليس المقصود هنا إلغاء المعاهدة برمتها، وإنما المقصود نسخ حق حرية الملاحة المطلق الذي قررته المعاهدة، لأنه يغدو في مثل هذه الظروف الحاضرة خطراً على سلام العالم، فضلاً عن أنه خطر على مصر ذاتها
هذا من جهة أخرى فان هنالك حالة فعلية لا يمكن إغفالها، هي أن القناة تقع فعلاً تحت سيطرة القوات الإنكليزية، وإنكلترا تدعي عليها بمقتضى تصريح فبراير سنة 1923 حقوقاً تؤيدها هذه الحالة الفعلية، ومهما كان من اعتراض مصر على المسائل المحتفظ بها في تصريح فبراير، فانه لا شك أن هذه الحالة الفعلية هي لب المسألة كلها، وإذا كانت مصر تفكر حقاً في إغلاق القناة إذا أقدمت إيطاليا على إضرام نار الحرب، فإنها سوف تفعل ذلك بالتفاهم التام مع إنكلترا؛ وقد يؤيد تصرف الدولتين في ذلك قرار يصدر من عصبة الأمم بتوقيع العقوبات الاقتصادية المنصوص عليها في الميثاق ضد إيطاليا، ويكون إغلاق القناة وقتئذ ذات صبغة دولية محضة، ويكون في عرف العالم كله وسيلة من وسائل التي تتذرع بها مصر وإنكلترا لصون السلام العالمي الذي تصر إيطاليا الفاشستية على تكديره تحقيقاً لشهواتها الاستعمارية(116/14)
4 - فريزر ودراسة الخرافة
احترام الحياة الإنسانية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
المدرس بالجامعة المصرية
أسلفنا القول في بيان أثر الخرافة في تثبيت دعائم الحكومة والملكية الشخصية والزواج. وها نحن أولاء نشرح ما غرسته في النفوس من تقديس للإنسان واحترام لحياته! وبذا نكون قد أتممنا سلسلة النظم الاجتماعية التي شاء فريزر أن يبين مقدار تدخل الخرافة في نشأتها وتكوينها
بديهي أن معيشة البادية المبنية على حب الانتقام، والأخذ بالثأر، وحماية الجار، والدفاع المستميت عن المال والعرض، والمملوءة بالأضغان والأحقاد أدعى لإراقة الدماء واعتداء المرء على أخيه. فالإنسان الأول الذي عاش هذه العيشة المضطربة ما كان ينعم بضمانات كافية لحفظ روحه. فلم يكن له عسس منظم يسهر على حراسته، ولا قانون واضح يهدد بالعقوبة كل من اعتدى عليه، ولا محاكم محترمة تشهر بالجناة وسفاكي الدماء. ولا زلنا نشاهد إلى اليوم أن القتل وإزهاق الأرواح البريئة ينتشر حيث تسود الفوضى والاضطراب وفي الأوساط البدوية والقبائل الهمجية بوجه خاص. بيد أن الجمعية تعالج نفسها بنفسها وتعد لكل داء ما يناسبه من دواء. ولئن فات الإنسان المتوحش شرطتنا المنظمة، وجندنا الشاكي السلاح فانه لم تفته وسائل أخرى من وسائل الدفاع عن نفسه وحقن دمه. ومن بين هذه الوسائل خرافة الأشباح وأرواح الموتى التي تتمثل في صورة شياطين ومردة تنتقم ممن اعتدى عليها
قد لا تكون هناك خرافة سادت العالم سيادة هذه الخرافة. ظهرت مع الإنسان منذ نشأته، ولازمته في مراحل التاريخ المختلفة: تبدو في العصور القديمة والقرون الوسطى والأزمنة الحديثة، بين البدو والهمج ولدى الأمم المتمدينة. ويكفي أن نشير إلى أن كثيرين منا لا يجرؤن على السير ليلا - بل نهاراً - بجوار دار قتل فيها قتيل زعماً منهم بأن روحه الثائرة ستفتك بهم. وعل عادة تغيير المسكن السائدة بيننا على أثر حريق أو وفاة مما ترجع(116/15)
إلى هذه الخرافة، كما هو الشأن لدى بعض القبائل الهمجية. ويقص علينا عامتنا وسكان قرانا أغرب القصص عن المردة الذين لا قوهم في طريقهم ودار بينهم ما دار من حوار ونقاش؛ والماهر منهم من استطاع أن ينجو من المارد الذي اعترضه بجواب لبق أو حيلة ماكرة! وحديث (القرينة) والعفاريت ملأ قرانا ومدننا، وأصبح أشهر من أن يعرف عنه، وله طب خاص وقوامون على أمره يتعهدونه بالبخور (والدقة) وما إلى ذلك من علاج كله ضلال وبطلان
ليس بعسير على الباحث أن يثبت أن خرافة الأشباح هذه جنت على الإنسانية جنايات شنعاء، فبلت بعض الأشخاص بالخوف حتى من ظلهم، وقضت على آخرين بالجنون والصرع وكثير من المصائب والآفات. وقعدت بكثيرين عن السعي وراء أرزاقهم خشية أن يعدو عليهم شبح من الأشباح أو روح من الأرواح. وفي بعض القبائل المتوحشة لا يستطيع شخص أن ينتفع بمال أبيه وأهله وذويه بعد موتهم، لأن أرواحهم تنتقم منه أشد الانتقام غيرة على هذا الحرم المباح والمال المعتدى عليه، فكل يعيش ليومه، ولا يعمل شيئاً لغده؛ وعلى هذا كانت فكرة المستقبل التي هي أساس التقدم الصناعي والتجاري والاقتصادي ضائعة لدى هذه القبائل؛ وفي ضياع هذه الفكرة ما يتنافى وتكوين الثروة والمتاع، وكيف تكون الثروة عند قوم كل همهم من الدنيا عشرات السنين يعيشونها؛ فإذا ماتوا انقرضت أمتعتهم معهم وبددت أموالهم؟ يقول أحد كبار الرحالة: (إنه ليس لدى البتاجون (من سكان أمريكا الجنوبية) أي قانون ولا أية عقوبة ضد المجرمين. كل يعيش على حسب هواه، والسارق الماهر هو الجدير بالتقدير. وليس هناك ما يمنعهم من السرقة وإقامة الأبنية الثابتة إلا العقيدة السائدة من أنه إذا مات أحدهم وجب أن تبدد أملاكه. فكل بتاجوني حصل على ثروة طوال حياته بالسرقة أو الصيد أو التعامل مع القبائل المجاورة لا يفيد ورثته في شيء، ذلك لان كل ما أدخره يبلى معه، وعلى أبنائه أن يكونوا ثروتهم بمجهودهم الخاص. . . وقوم هذه معتقداتهم وتقاليدهم يقنعون بحاجاتهم العاجلة ولا يتعلقون برغبة حقيقية، ولا يصوبون نحو غاية بعيدة؛ وهذا سر كسلهم وتواكلهم ورضاهم بالقليل الذي يتنافى مع التقدم والحضارة، وعلام التعلق بالمستقبل الذي لا يرجى منه خير أو شر؟ الحاضر هو كل شيء في أعينهم، والمنفعة الذاتية مبدؤهم؛ فالابن لا يتعهد قطيع أبيه لعلمه(116/16)
أنه لا يعود عليه بطائل، وإنما يكد ويكدح وحده ليحصل على ثروة شخصية) فخرافة الأشباح والعفاريت والمردة سبب من أسباب الضعف السياسي والاقتصادي لدى بعض الشعوب الناشئة والجاهلة
غير أن هذه الخرافة ليست شراً كلها، بل كانت عاملا من عوامل الخير والدفاع عن الإنسان في الجمعيات التي سادت فيها، فالخوف من الأشباح وعدوانها والأرواح وانتقامها ساعد على حقن دماء كثيرة واحترام الحياة الإنسانية. وذلك أن طائفة من الشعوب تعتقد أن أرواح الموتى والقتلى ذات نفوذ عظيم وقوة هائلة تستطيع بها أن تعكر على الأحياء صفوهم وتعترضهم في طريقهم وتتقمص أجسامهم. وأرواح القتلى بوجه خاص مفطورة على الثأر ممن اعتدى عليها في شخصه أو في أهله وعشيرته. لهذا يضطر الأفراد والجماعات لترضيتها بالهدايا والقرابين، فيذبحون المعز والضأن والديكة والخنازير التي يغسل القاتل بدمها أقذار خطيئته. وأحياناً يحاربون هذه الأرواح ويطاردونها بمختلف الوسائل ويهجرون القرى والمساكن من جرائها. وكم من قرية كانت آهلة بالسكان صباحاً، ثم قتل فيها قتيل ظهراً فأضحت في المساء خراباً يباباً! وقد يمثل بالمقتول أشنع تمثيل لتبقى روحه كامنة في جسمه وعاجزة عن الثأر له
فالإغريق الأول كانوا يعتقدون أن روح القتيل تتأجج غيظاً ممن اعتدى عليها وتتابعه في حقله ومسكنه ولا ينجيه منها إلا فراره خارج الديار عاماً كاملاً يرجى فيه أن تهدأ هذه الروح من ثورتها. وإذا عاد إلى وطنه سارع إلى التقديم الضحايا والقرابين تكفيراً عن أثمه. وقاتل هذا شأنه يعد شراً يتقي وخطراً تخشاه الجمعية لما يحيط به من أرواح ثائرة قد تؤذي كل من حام حوله، فكان طبيعياً أن تحكم القبيلة على القاتل بمفارقة البلاد الزمن اللازم لتكفير خطيئته وإرضاء الروح التي جنى عليها والصينيون كانوا ولا يزالون يؤمنون ببقاء الأرواح وقدرتها على مكافأة المحسنين والانتقام من المسيئين؛ فهي تتدخل من غير انقطاع في عالم الأحياء وتتصرف فيه تمام التصرف. نعم إن هناك فرقاً بين الأشخاص والأرواح، بين الأحياء والأموات، بيد أن هذا الفرق طفيف والمسافة بين هذه الأطراف قصيرة للغاية. وما الديانة الصينية إلا مجموعة أفكار تدور حول الأرواح وما يتصل بها. وقوم يذعنون للأرواح هذا الإذعان لا يجرئون على الاعتداء عليها ويقدسون(116/17)
الحياة الإنسانية تمام التقديس ويعتقد سكان أفريقية الوسطى أن القاتل إذا قاسم قوماً في طعامهم أو بات في كوخهم أحل بهم غضب الله وربما كان سبباً في هلاكهم، اللهم إلا إن تداركهم القسس والكهنة بأدعيتهم وتضرعاتهم، ويزعم بعض القبائل الهندية أن الرجل إذا قتل عدوه لا يسلم من شر روحه إلا أن أراق دم خنزير أو جدي صغير، ومع أن البانتو يعدون الفوز في المعارك الحربية مفخرة عظيمة وشرفاً لا يعدله شرف فأنهم يخشون أرواح القتلى خشية تصل بهم أحياناً إلى الجنون والصرع. ولدرء هذا الخطر يبقى المحارب الظافر في العاصمة بضعة أيام لابساً خرقاً بالية آكلاً في أواني وبملاعق خاصة، وحرام عليه أن يشرب الماء وان يقرب النساء وأن يتناول أي طعام دافئ. وإذا قتل أحد سكان الكونغو قتيلاً حمل على رأسه بعض أرياش الببغاء وغطى جبهته بلون أحمر، وكأنما يريد ذلك أن يستتر عن أعين الروح التي تطارده. وفي غانا الجديدة تسارع القبيلة المحاربة بعد إنجازها هجوماً أو معركة ما بالعودة إلى مساكنها أو إلى قرية محالفة قبل أن يدخل الليل الذي تهيج فيه الأرواح وتتشبث بالقتلة والمحاربين. وفي مقدور الروح أن تتعرف من اعتدى عليها بما لصق بجسمه من دم القتيل أو أي أثر من آثاره. لذلك يطهر المحارب جسمه وحريته بعد أن يتم مهمته، وإذا وصل إلى قريته حيل بينه وبين أهله وذويه وبقى منعزلاً فترة من الزمن، وفي اليوم الثالث من وصوله يحتفل به أصدقاؤه احتفالاً مناسباً، وفي اليوم الرابع يلبس أجمل ثيابه وعدة حربه ويخرج شاكي السلاح مخترقاً شوارع القرية؛ وعله يرمي بهذا إلى استرداد قوته وشجاعته. وإذا شكا أحد أبناء القرية ألماً في معدته ظن أن ذلك راجع إلى أنه جلس في مكان شغله محارب من قبل؛ وإذا أصيب بأذى في أسنانه عزا هذا إلى أنه أكل فاكهة لمسها محارب
وأرواح الآباء والأقارب القتلى بوجه خاص شديدة الهول وعظيمة الخطر، لأنها تجد وسائل كثيرة للثأر لنفسها وأعرف بدخائل القاتل من الأرواح الأخرى. وقد يكون في هذا ما يفسر قسوة الجمهور إلى اليوم على قاتل أبيه أو أمه أو أخيه. والقوانين الجنائية نفسها مشربة بهذا المعنى في مختلف الأمم والشرائع، ولأبناء القرية الواحدة من الجلال والحرمة ما للأهل والأقارب، فلئن استساغ همجي إزهاق روح أجنبية لا يستطيع أن يخفي ذعره من اعتدائه على روح جاره ومواطنه. فسكان الكونغو مثلاً لا يرون غضاضة عليهم في(116/18)
العدوان على القرى المجاورة في حين أن عدوانهم على أبناء قبيلتهم وقريتهم يملؤهم خوفاً ورعباً، ولا يتردد القاتل في أن يلبس السواد على من قتله ويحزن عليه حزناً شديداً كأنه أحد أقاربه أو أصدقائه ولا يشرب ولا يأكل ويبكي بكاء مراً
وليس خطر الأرواح والأشباح بمقصور على الأفراد وحدهم بل يتعداهم إلى الجمعية بأسرها، لأن الأرواح الثائرة ربما تعدو على من صادفها دون أن تميز الجاني من غيره. لذلك تضطر الجمعية إلى تهدئة ثورة هذه الأرواح بشتى الوسائل أو إلى محاربتها والفرار منها. ومن الأمثلة على ذلك أن أهل برمانيا يزعمون أن أرواح القتلى لا تصعد إلى عالم السعادة ولا تنزل إلى عالم الشقاء، وإنما تبقى دائماً حائرة في الأرض تفزع من تلقى، ولترضية هذه الأرواح تقدم لها في الغابات المجاورة قرابين من الأرز مصحوبة بالأدعية الآتية: (أرواح من سقطوا من شجرة، أو من ماتوا جوعا وعطشاً، أو من أكلهم النمر والثعبان، أو من عدا عليهم الإنسان، أو من أهلكهم الطاعون والجرب، لا تسيئوا معاملتنا، ولا تؤذونا ولا تثوروا علينا، امكثوا هنا في هذه الغابة حيث الأرز اللازم لطعامكم) وقد لا تقف الجمعية عند القرابين والهدايا للتكفير عن خطيئة القتل وتهدئة الأرواح المضطربة، بل تعمل على مطاردة هذه الأرواح بطرق أخرى. فهنود أمريكا الشمالية إذا عادوا من معركة صاحوا صيحات عالية وأحدثوا جلبة وضوضاء يراد بها منع الأرواح من أن تدخل قراهم، ومن الغريب أنا نجد نفس هذه التقاليد لدى سكان غانا الجديدة الهولندية والألمانية، وفي استراليا. ويقطع جماعة الإسكيمو المقيمون في مضيق بيرنج عضلات ذراع وجنب القتيل ليحول ذلك دون سيره إن عادت روحه إلى جسمه طلباً للثأر. وفي أفريقية الجنوبية يهشم العمود الفقري تهشيماً منعاً للقتيل من الحركة. وتملأ طائفة أخرى عين القتيل بالفلفل كي تضل روحه السبيل
فخرافة الأرواح والأشباح ملأت الناس أفراداً وجماعات ذعراً وهولاً، ودفعتهم إلى احترام الحياة الإنسانية وتقديسها. وما القوانين الجنائية المنظمة؛ والمحاكم القائمة بين الناس بالعدل والإنصاف إلا أثر صالح من آثار هذه الخرافة. خشي الفرد القاتل الأرواح وعدوانها فلم يسرف في القتل حباً لذاته وتعلقاً بشخصه، ورأت الجماعة في هذه الأرواح خطراً يهدد كيانها فأنزلت بالقتلة صارم العقاب، وسنت ما سنت من حدود تروع الجناة وسفاكي الدماء،(116/19)
وبذا أضحت الحياة الإنسانية محفوظة بعاملين: داخلي وخارجي، فردي وجمعي، ومحمية بسلاح الأخلاق والقانون
يجهد الفقهاء والمشرعون أنفسهم اليوم في مناقشة النظرية القائلة بأن الحدود جوابر أو زواجر. ويختلف علماء القانون الجنائي في أثر العقوبة: فطائفة تقول إن الغرض منها إصلاح المجرم، وأخرى ترى فيها القصاص الملائم للمجني عليه، وثالثة تعدها ترضية لازمة لعاطفة الجمهور الثائرة والمعتدى عليها. وما هذه الآراء المتباينة والنظريات المختلفة إلا منطق مهذب ندخله في تقاليد القبائل الهمجية وتعليل منمق نصبغ به خرافات الشعوب الأولى. وهكذا تسير الإنسانية من الخيال إلى الحقيقة، ومن بحر الخرافة العميق إلى صخور العقل الثابتة، ومن الخارق للعادة إلى الطبيعي، ومن المسلم به إلى المنطقي
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة(116/20)
الشعر
في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
ظهر الإسلام وقد تحكم في حياة العرب جاهلية قاسية وعقلية جافية وعصبية مفرقة، فكان الشعر مظهر هذه الصفات وباعثها؛ فلما أعلن الرسول الحرب على هذه الأخلاق تمهيداً لألفة القلوب ووحدة العرب، كان من الطبيعي أن ينغض رأسه إليه، وألا يشجع الناس عليه، ففي القرآن: (والشعراء يتَّبعهم الغاوُون. وما علمناه الشعر وما ينبغي له)، وفي الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ فمه شعراً). فازور جانب المسلمين عن قرض الشعر وروايته، على علمهم بأن الدين لم يكرهه على إطلاقه، وإنما كره منه ذلك النوع الذي يمزق الشمل ويثير دفائن القلوب. ثم شغل العرب جميعاً بالدعوة العظمى، فمن مؤيد ومن معارض، واشتدت الخصومة بين الرسول وبين قريش، فجردوا عليه الأسنة والألسنة، ولكن شعراء العرب وقفوا موقف الحياد والتربص ينتظرون نتيجة المعركة بين التوحيد والوثنية، وبين الديمقراطية والأرستقراطية، وبين محمد وقريش. فلم يغامر في الخصومة إلا الشعراء القرشيون وقد كانوا قلالاً قبل الإسلام لشواغل الحضارة والتجارة، فصاروا كثاراً بعده لدواعي النزاع والمعارضة. بدأ هذه الحملة منهم عبد الله بن الزبعري وعمرو بن العاص وأبو سفيان، فآذوا الرسول وأتباعه بقوارص الهجاء، فهاج ذلك من شاعرية المسلمين وودوا لو يأذن لهم الرسول بمجالستهم، فما هو إلا أن قال لهم: (ماذا يمنع الذين نصروا الله ورسوله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهم؟) حتى صمد للقرشيين نفر من الصحابة، فيهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وشبهوها حرباً كلامية جاهلية لم يهاجم المهاجمون فيها بفضائل الوثنية، ولم يدافع المدافعون بفضائل الإسلام، حتى نقول إن الشعر قد خطأ في مذاهب الفن خطوة جديدة، بل كانوا يتهاجون على النمط المعروف من الفخر بالأنساب والتبجح بالسؤدد؛ يدل على ذلك قول الرسول لحسان: (أذهب إلى أبي بكر فهو أعلم بمثالب القوم)، وقوله: (كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟) فقال: أسلك كما أسل الشعرة من العجين
فليس من شك في أن الشعر ظل على عهد الرسول جاهلياً. وخضعت قريش وسائر العرب(116/21)
للدين الجديد بعد لأي، فخرست الألسنة اللاذعة، وفر الشعر الجاهلي ثانية إلى البادية، وانصرف المسلمون إلى حفظ القرآن ورواية الحديث وجهاد الشرك، فخفت صوت الشعر لقلة الدواعي إليه، فما كان يظهر إلا الحين بعد الحين في صادق المدح والرثاء؛ وتساهل الرسول في سماعه حتى أثاب عليه، وحتى قال فيه: (إن من الشعر لحكمة)
تلك كانت حالة الشعر في عهد النبوة، وأما حاله بعدها فأقل شأناً وأحط مكانة لذهاب المعارضة ولشدة الخلفاء في تأديب الشعراء، وانصراف هم العرب إلى الفتوح؛ ولكن الدين قد بدأ يفعل في النفوس، ومظاهر الحضارة قد أخذت تؤثر في الأذهان، فظهر أثر ذلك ضئيلاً في شعر المخضرمين ككعب بن زهير والحطيئة ومعن بن أوس والنابغة الجعدي، ولكنه أثر لا يتعدى بعض الألفاظ الإسلامية كالمعروف والمنكر والصلاة والزكاة والجنة والنار والمهاجرين والأنصار. ولذلك نرى من المبالغة جعل المخضرمين طبقة ممتازة، فان شعرهم استمرار للمذهب الجاهلي لم يتأثر بالإسلام إلا تأثراً عرضياً كضعف الأسلوب في شعر حسان، أو قلة الإنتاج في قريحة لبيد، أو كثرته في الحطيئة والنابغة الجعدي مثلاً؛ والأشبه بالحق أن نقرر ما أشرنا إليه من قبل، وهو أن الشعر العربي ظل في الجاهلية والإسلام واحداً في مظهره وجوهرة ونوعه حتى أواخر عهد بني أمية؛ والتأثير الذي ناله من الموالي والسياسة والحضارة والدين لم يعطفه إلى طرق جديدة، وإنما وسع في معانيه ومناحيه، فقوى بعض أغراضه كالهجاء، وميز بعضاً أخر كالغزل وهل يمكن التجديد في الشعر وجل الشعراء إنما يأتون من البادية، والخلفاء يتعصبون للبادية، والرواة والأدباء واللغويون يطلبون اللغة والشعر في البادية، والعرب بطبيعتهم يميلون إلى التقليد ويجلون القديم المأثور من سؤدد وخلق وأدب؟ فليس من سبيلنا أن نتكلف البحث العقيم في القرن الأول عن مذهب شعري جديد يصبح أن يكون أساساً لأدب عربي جديد، فأن مذهب عمر بن أبي ربيعة في الغزل لا يختلف عن مذهب امرئ القيس إلا في المعاني الحضرية؛ ومذهب جرير والفرزدق في الهجاء لا يختلف عن مذهب الحطيئة والشماخ إلا في المعاني الأساسية، فلنقصر الجهد على تحليل نهضة الشعر في العراق والحجاز على عهد بين أمية وبيان خطرها وأثرها في الإنتاج العقلي للعرب
كانت القحطانية والعدنانية، والعلوية والبكرية، والهاشمية والأموية، والعروبة والشعوبية،(116/22)
تضطرم في نفوس المسلمين اضطرام البركان قبيل أن يثور، ولكنها كانت تضعف حيناً وتشد حيناً تبعاً لسياسة القائم بالأمر ونظام حكمه؛ فالقبائل كانت تنزل منزلها في البلاد على هذه الفكرة، والبصرة والكوفة تخططان على هذه الفكرة، والخلاف ينجم في فارس والشام والعراق والأندلس من هذه الفكرة، وكلها تدور على الزعامة والإمامة؛ فمن كان سيداً في الجاهلية أن يكون سيداً في الإسلام، كأن العرب لم يفهموا من الدين الجديد إلا أنه طريق إلى السلطان وسبيل إلى الغلبة والثروة والحكم ليس غير. ولعلك تذكر أن بعضاً من شيوخ القبائل كقيس بن عاصم والأحنف بن قيس كانوا يعرضون على الرسول أن يدخلوا في دين الله لا على أنه دين الحق، بل ليكون لهم من بعده
ظلت هذه الروح العصبية مكبوتة في عهد الشيخين لأخذهما الأمور بالحزم والعدل، ولانصراف العرب إلى المغنم من طريق الجهاد والفتح، فلما ولي الأمر عثمان وهنت اليد المصرفة فسندتها يد أخرى، وتشتت الرأي فلم يصدر عن الخليفة وحده، وحكم إله الناس بعصبيتهم الأموية لا بقوميتهم العربية؛ وكان المسلمون يومئذ قد أفاءت عليهم الفتوح والغنائم بالثراء إلى حد البطر، فاستيقظت الفتنة وقامت الثورة وانتهت بمقتل عثمان، وتجددت الخصومة على أثر ذلك بين علي ومعاوية، وقتل الإمام فتحرج الأمر وانشقت العصا، وانصرف العرب إلى جهاد العدو عن جهاد أنفسهم باللسان والسيف، وتفرقوا أحزاباً وشيعاً بعضها للدين وبعضها للدنيا. ففي الشام حزب يشايع بني أمية، يريض لهم الأمر، ويمكنهم في الملك. وفي الحجاز حزب يناصر أبن الزبير، يؤيده في دعواه وينصره في دعوته؛ وفي العراق حزب يشايع أهل البيت ويطلب لهم بحقهم في الخلافة؛ وهنالك حزب ديمقراطي ينكر الأحزاب ويكفر الزعماء ويقول بالشورى في الخلافة. وفي هذه الأحزاب الأربعة توزعت أهواء المسلمين وآراؤهم إلا طائفة قليلة لزمت الحياد وأرجأت الحكم بين المختلفين إلى قضاء الله يوم الدين، وهم المرجئة؛ واتصلت بين الأحزاب الخصومة، وأعنف فيها الخصوم، ولكن معاوية بعد أن تم له الأمر كان يصانع معارضيه بالدهاء والعطاء والإغضاء والحزم حتى أستوثق له الأمر طيلة حياته إلا من جهة الخوارج، فلما مات أفاق خصومه من خدر سياسته فزعزعوا عرشه، حتى إذا وهي أدركه مروان وبنوه فسنده واقتعدوه. وفي زمن عبد الملك أشتد المعارضة واستعرت الحروب، وكثر المطالبون(116/23)
بالخلافة، وأنبسط سلطان العرب، وزخرت موارد الفيء، وأكتمل شباب الجيل الذي نشأ في الإسلام واغتذى بثمرة الفتوح واستمتع بجمال الحضارة وأختلط بأنماط شتى من الناس وساهم بيده ولسانه في هذه الفتن، فبلغ الأدب العربي غاية ما قدر له أن يبلغ. فهل يمكن أن يظل الشعر بنجوة عن هذه الحياة الصاخبة، والعصبية الغالبة، والأحزاب المتحاربة، والأهواء المتضاربة، والشعر العربي ربيب الخصومة والجدل، تبعثه الحزبية ويقويه الهراش وتوحيه شيطان الفرقة؟ الواقع أنه كان وقود هذه الفتن ولسان هذه الأحزاب، يصطنعونه كما نصطنع نحن الصحف اليوم، فيناضل عن زعمائه، ويدافع عن آرائهم، ويصطبغ بصبغة العقيدة التي يدعو إليها وينافح عنها. وإذا علمت أن العرب جميعاً ساهموا في هذه الخصومات، وأن أكثرهم يقول الشعر وخصوصاً في هذه الأزمات، وأن الأمويين استمالوا بالمال هوى الشعراء، وأوقدوا بينهم نار التنافس والهجاء وأن الشعر أصبح صناعة متميزة يعيش عليها بعض الناس، أدركت سبب وفرة الشعر وكثرة الشعراء في عصر عبد الملك، إذ بلغ عدد الفحول المائة. وليس من شك في أن الشعر وأن حافظ على طريقته وطبيعته قد تأثر بهذه الحياة الجديدة تأثراً ظاهراً في معانيه وأغراضه؛ ولكن هذه الحياة لم تكن كلها نزاعاً سياسياً وجدالاً دينياً حتى يقف تأثيره عند هذا الحد، وإنما كان لها مظاهر أخرى يحسن أن نشير إليها قبل أن ندل على أثارها في الشعر
كان من الطبيعي تختلف مظاهر هذه الحياة في العواصم العربية لاختلاف الأحوال السياسية والاجتماعية فيها. فالعراق كان منذ القدم منتجع الخواطر العربية لخصبه ونمائه، ووفرة ظله ومائه؛ وقد لاذ العرب قبل الإسلام بأطرافه وأريافه واللسان واليد فيه للفرس، فأنشئوا إمارة المناذرة؛ فلما فتحوه في عهد عمر نزحوا إليه وأنشئوا على حدود البادية البصرة والكوفة. وكان في العراق ميراث وفر من العلم والأدب والدين خلفته الأمم الغابرة، ولم يؤت العراق ما أوتيت مصر من قوة الهضم والتمثيل حتى يحيل سكانه إلى جنسية واحدة وعقلية واحدة، فانطبعت الأهواء فيه على الفرقة، والنفوس على التنافر؛ وأتى إليه العرب بالعصبية اليمينية والنزارية، ووقعت فيه الأحداث الإسلامية الجلى كوقعة الجمل ومصرع الأئمة والقادة، وما نجم عن ذلك من قيام الشيعة والخوارج، واشتداد المعارضة لبني أمية، واستحكام الخلاف بين البصريين والكوفيين في السياسة والدين والعلم، فكانت البصرة(116/24)
عثمانية، والكوفة بعد استقرار الإمام بها علوية، والجزيرة الفراتية إما نصرانية وإما خارجية، لأنها مسكن ربيعة، وهم كما قال الأصمعي رأس كل فتنة؛ ومن ربيعة بنو تغلب الذين قال فيهم الإمام علي: (يا خنازير العرب والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعن عليكم الجزية). فكان الشعر العراقي صورة لهذه الحياة الثائرة المتنافرة؛ فهو قوي عنيف يكثر فيه الهجاء والفخر، وتتلون فيه العصبية القبلية ألواناً شتى من التحزب للمكان والعقيدة والجنس، وتتغلب فيه النزعات الجاهلية على التعاليم الإسلامية، وتغذيه نفحات بدوية وصلات أموية، فيزدهر وينتشر حتى يشغل كل لسان ويحتل كل مكان ويعبر عن كل مبدأ
والحجاز منبع الإسلام كان أشبه بينابيع النهر: يفيض منه الماء الصافي في سكون ورفق، حتى إذا بعد مجراه اعترضته الشلالات وتقسمته التيارات فتكدر نميره واشتد هديره، وتوزعته الجداول والأقنية، فبعضه في سباخ الأرض، وبعضه في الرياض، فروى بعضاً وأغرق بعضاً. انتقلت منه الخلافة والمعارضة والعلم إلى العراق والشام، وبقى هو كما كان وكما هو الآن يقبل المال والمعونة من كل قطر، واقتضت سياسة الأمويين أن يعتقلوا فيه شباب الهاشميين فلا يتركونه إلا بإذن، وسلطوا عليهم الترف، وشغلوهم بالمال عن الملك، وخلوا بينهم وبين الفراغ، وقد ورثوا مع ذلك عن آبائهم المجاهدين مغانم الفتح من أموال ورقيق، وفي أهل الحجاز ملاحة ظرف ووداعة نفس ولطافة حس وفصاحة لسان ومحبة لهو، فتبسطوا على النعيم وعكفوا على اللذة، وقطعوا أيامهم بالمنادرة والمنادمة، وذهبوا في حياة المجون كل مذهب؛ ووصل الحج بينهم وبين الحسان والقيان، واستهوت هذه الحال المغنين فوفدوا إلى مكة والمدينة من أقطار الدولة حتى اجتمع منهم في وقت واحد كما يقول أبو الفرج: (ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وابن محرز، وجميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد، ونومة الضحى، ورحمة، وهبة الله، ومالك، وابن عائشة، وابن طنبورة، وعزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، وابن مسجح) وحتى غلب الغناء على أعمال الناس وميولهم؛ فقد حدث الإمام مالك عن نفسه قال: (نشأت وأنا غلام أتتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغنى إذا كان قبيح الوجه لا يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء وأطلب الفقه فانه لا يضر معه قبح الوجه؛ فتركت المغنين وأتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز وجل ما ترى). من ذلك شاع الحب في(116/25)
مدن الحجاز ورقت عواطف بنيه، فسلكوا في الشعر مسالك الغزل الحضري الرقيق الصادق، حتى كاد هذا الفن لافتنانهم فيه يبتدئ بهم وينتهي إليهم
وأما الشام فكان بنجوة من الثورات النفسية والأزمات السياسية لخضوعه لبني أمية وإخلاصه لهم وانصرافه إلى تأييدهم، فلا هو مضطرم العواطف كالحجاز، ولا هو مضطرب الأهواء كالعراق، وقد أمن الخلفاء جانبه فتركوه لشأنه دون أن يثيروا عصبية لخلاف، أو يهجوا طماعيته لمغنم، فبقى الشعر من جراء ذلك راكداً في نفوس أهله لا يبعثه باعث، ولا يتوافر على دراسته وروايته باحث؛ وأكثر ما كان فيه من ذلك إنما كان يفد إليه من العراق والحجاز مع الشعراء الذين يجذبهم سخاء القصر أو دهاؤه، والأدباء الذين يطلبهم الخلفاء من البصرة كلما أعضلتهم مسألة في اللغة والنحو والأدب
(يتبع)
الزيات(116/26)
إلى الدكتور طه حسين
نزيل حمص
للأستاذ محمد روحي فيصل
هو العبد الحبشي الماكر، ومولى السيد جبير بن مطعم، (وحشي). نزل حمص واستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين في صدر الإسلام، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً، وكان وحشي في الجاهلية، فتى شجاع رقيقاً يخضع على كره منه لما يخضع إليه الرق من ضعة الذل والعبودية، فلما كانت غزوة أحد وقامت الحرب التي لابد منها بين النبي وخصومه، صاح به مولاه جبير وقال:
- هذا العداء دائر بيننا وبين محمد، وأنت باسل طموح، فلئن قتلت حمزة عبد المطلب عم النبي وثأرت لي منه، فأنت حر طليق
- سمعاً وطاعة يا مولاي
وتشب النار، ويضطرب الناس، وتتساقط القتلى من الفريقين، ووحشي الماكر كامن أثناء المعركة وراء شجرة يستتر بها عن الأعين ويرقب الفرصة السانحة، فلما رأى أسد الله حمزة يجول في الميدان ويصول على جواده، رماه بحربة من هذه الحربات القاتلة التي لا تخطئ موضع الخطر في الإنسان، ولا تحيد عما قصد بها من غاية. .!!
وينطلق العبد إلى مولاه جذلان مرحاً، ويظفر بحريته الحبيبة، (ولكنه لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها؟ ولم يسد في مكة، وكيف السبيل إلى السيادة فيها؟ إنما عاش بين قريش حراً كالعبد وطليقاً كالأسير)
ثم ينتشر الإسلام، وتنهار الوثنية، ويدخل المسلمون الظافرون مكة الكافرة، فتضيق الدنيا على رحبها بالعبد القاتل، ويفكر كثيراً في نجاته، فيفزع آخر الأمر مضطراً إلى الإسلام، ويقصد خائفاً وجه النبي، ولكن النبي لم يقتل قط رجلاً جاءه مسلماً. ويحزن النبي عليه السلام حين رآه، ويسترجع بالذكرى والخيال عمل وحشي المنكر الماضي، فيقول له: غيب وجهك عني! فخضع التائب للأمر الواقع، وندم على ما فعل (وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد؛ وطليقاً كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقاً، يؤرقه إذا دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار!)(116/27)
ويلهو العبد النادم بالجهاد، ويشترك في حروب الردة، فيبلو فيها البلاء الجميل، ويقتل مسيلمة الكذاب، ثم يمعن في جهاده ويغزو مع من غزا بلاد الروم، فينزل حمص ويستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً؛ ولكن الندم على هذا الجهاد المتصل لا يزال قوياً واضحاً يفعل أفاعيله في نفس وحشي المسلم، يقلق عليه مضجعه، ويشغله عن كل شيء، ويعذبه عذاباً أليماً
ويمضي على عادته أديب العربية الكبير الدكتور طه حسين في تحليل النفس النادمة، ووصف ما تعاني من الآلام، فإذا وحشي (يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو المعروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، ويصحو حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت عليه الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يضرب في الشراب، وقد ضعف وفني، فلا يحتمل الضرب فيموت
وقفت خاشعاً بالأمس على قبر وحشي المجاهد السكير، وهو قبر متواضع متهدم لا يزال قائماً في شرق حمص يزوره الناس كل يوم، أسترجع الجهاد العظيم الذي أبلاه صاحبه، وأتمثل مصرع حمزة (خير الناس) ومسيلمة (شر الناس) على يده، وأسأله هل شرب فأسرف في الشرب؟ وضرب على ذلك فلم يمتنع عن السكر؟ وهل كان حقاً لا يجد سبيلاً إلى الفرار من الندم إلا إلى الشراب، وهل ختم حياته الصالحة بهذا الشر المنكر؟ وما عهدتني قط في حياتي أقف على الأرماس البالية المتداعية، أخشع حيالها وأسكن إلى صمتها وأستنطقها تاريخ أصحابها كما يسجله الدهر، وتمليه الحقيقة، ويقتضيه المنطق، وخرس القبر الأبكم الأصم فلم يجب السائل ولم يتحدث إلى الواقف، ولكن معناً واضحاً أشرق على قلبي وتمدد في نفسي، يقول أن وحشي المجاهد قد ظلم ظلماً كبيراً، ونسب إليه ما هو منه براء، ولم يكن كما وصف مدمناً يفزع الخمر ليقتل ندمه الماثل وينسى ألمه(116/28)
الرازح
ورجعت إلى الكتب أستنطقها هي الأخرى عن حياة وحشي، فإذا بها تتحدث إلي عن كل شيء، وتقص لي ما تعرف في هدوء المنطق وجمال الحقيقة، ولكنها تنكر هذا الشرب المتصل الذي ختم به وحشي حياته وضرب من أجله مرات، والإسلام يمحو ما قبله، فكيف اشتد الندم بالصحابي هذا الاشتداد، حتى لجأ إلى الخمر يعاقرها ويلهو بها، وهو يعلم أن الله قد رضى عنه وغفر له حين دخل في الإسلام؟
أن الكاتب الأديب الروائي غير مطالب بالدقة التاريخية، ولا هو مسؤول حين يعمم القول ويرسله إرسالاً، مادام قوله لا يناقض وجه التاريخ ولا يهدم ظاهر الرواية؛ ولكنه مطالب مسؤول حين يقرر شيئاً يخالف المأثور الواقع أو لا يقره التاريخ عليه ولا يؤيده الحق فيه
وما أرى إلا أن عظام الصحابي الجليل قد اهتزت في قبره، وضج الحمصيون لما نسب إلى نزيلهم الكريم. ونحن خبيرون بثقافة الدكتور الواسعة العميقة، وشدة تحريه في كتب التاريخ الإسلامي، واستقامة منطقه ونظرته، فهل يدلنا الدكتور أو تحيلنا (الرسالة) على مصدر الرواية التي يصورها الأديب المثقف فيحسن تصويرها ويبدع في سردها، والتي لم نعثر عليها فيما بين أيدينا من كتب التاريخ ومراجع البحث؟
(حمص)
محمد روحي فيصل(116/29)
حب الاستعمار والجشع سيقضيان على الحضارة
مؤتمر الكتاب في باريس لحفظ الثقافة
(الماركسية حلقة من سلسلة الثورات التي قام بها البشر)
(كهينو)
بقلم ماجد شيخ الأرض
احتشد نيف ومائة كاتب أموا باريس من جميع أقطار المعمورة في قاعة (قصر التواليه) وجلس وراءهم حشد عظيم من النظارة أتوا يشاركون الكتاب عواطفهم نحو المدنية التي يبحث عن درء الخطر الذي يتهددها، ويستمعون إلى أقوال كبار الكتاب وآرائهم في المحافظة على مخلفات الثقافة التي ينعم الإنسان بثمارها اليانعة ويحس بشهوتها إذا غمرت فضيلة العلم فؤاده، وتفتحت أمام عينيه بعض أسرار هذا الكون العجيب المغلقة
هبت عاصفة من التصفيق الشديد، وعلت أصوات الحضور بالهتافات لسير الثقافة مرفوعة الجبين بالرغم من معارضة الرجعيين عندما انتهى أندره جيد من خطابه الذي أفتتح به المؤتمر وأتى على ذكر غايته وبيان أبحاثه، وكأن الجمهور أحس بالواجب المقدس الذي حدا بفنان مثل جيد إلى الظهور من عزلته التي اعتادها طيلة خمسة وستين عاماً مسافراً يجوب البلدان والأقطار، أو منزويا في بيته يدون آراءه وأفكاره في كتب لا يطبع منها إلا عدداً محدوداً، كأن الجمهور شعر بالخطر المداهم الذي يحتم على كل فرد له ميزة من العقل والإحساس أن ينتبه فيصمد في جملة الصامدين. لم يكتف الجمهور بالهتاف، وما كاد جيد ينتهي من خطابه حتى تقدم إليه رهط من الشباب المثقف بلغ بهم الحماس مبلغه يريدون رفعه على الأيدي لولا أن حال دون بغيتهم الاعتذار وتطبيق النظام المؤتمر، ثم تلبث عاطفة الحماس أن هبت من جديد لكن في هذه المرة كان يعلوها حزن عميق ارتسم على الوجوه عندما قام إلى المنبر عضو المؤتمر الكاتب (اراغون) يؤبن بعبارات رقيقة الكاتب الثوري (رنيه كريفيل) الذي قضى في منتصف الطريق التي يعمل فيها للحرية وإحقاق الحق، وقد دمعت عيون بعض الفتيات إذا أتى الخطيب على فقرات مؤتمر للكاتب الراحل
كان انعقاد المؤتمر في مساء اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو الفائت، ودامت(116/30)
الجلسات تتري بعضها في النهار وبعضها في المساء حتى الخامس والعشرين، وقد قسمت الأبحاث على عشر جلسات تناوب بعض الأعضاء رياستها، وتعين لكل جلسة مقررين منهم. أما الأبحاث التي تنوقش فيها وجرى إقرار ما يجب عمله بشأنها فهي:
تراث الثقافة. موقف الكاتب في المجتمع الإنساني. الشخصية. الإنسانية. الشعب والثقافة. الإبداع عند الكاتب وقيمة الفكر. تنظيم مقررات المؤتمر. الدفاع عن الثقافة
ولمعرفة أهمية هذا المؤتمر يكفينا أن نذكر جيد ومالرو وكوتوريه وارغون ونيزان وكهينو وبندا من الفرنسويين، وتولر وهنريخ مان من الألمان، وفرانك من الأمريكان، وإهر مبورغ وكولتسوف وتيخانوف والشاعر باسترنيك من السوفيت، والسيدة كارن ميكائيليس الدانماركية، والسيدة واديا ولعل اسمها وديعة الهندية وهكسلي وفوستر من الإنكليز
بدت الجلسة الأولى جدية أكثر من أخواتها لأن بعض المؤتمرين لم يكونوا بعد قد تعارفوا وإن سبق تعارفهم روحياً منذ زمن طويل، أو لأن الموضوع الذي طرحه المسيو بندا في هذه الجلسة كان دقيقاً وكان خطيراً احتدم حوله النقاش مع أن أكثر هذه الخطب كانت مهيأة من قبل ليتسنى لهم ترجمتها، ولوحظ أن الخطب التي تطرق أصحابها فيها إلى السياسة هي الخطب التي تحمس لها الجمهور وأظهر إعجابه بها إلى حد كاد يخرجه عن المألوف في مثل هذه الاجتماعات، حتى بتنا نقول إن في كل يوم مظاهرة، تارة ضد الرأسمالية، وتارة للحرية المهددة بالفاشستية، وطوراً للطبقات العاملة التي لا تستفيد من الوضع الحاضر غير دفع الغرم. بل كيف لا يتحمس الجمهور وهو يرى الكتاب وقد وفدوا من أقصى الجهات وتحملوا أعباء السفر على اختلاف نزعاتهم وتباين آرائهم ليضعوا لهم نظاماً يحفظون به تراث الثقافة الذي خلقته لنا حضارة الإنسان وليدة دمه المهراق وعراكه المستمر
قال جوليان بندا ما خلاصته: (إن نظرة أمم أوربا للآداب والفنون تختلف اختلافاً بيناً مع النظرة الشيوعية من حيث علاقة الحياة الفكرية بالحياة الاقتصادية
فان الأولى تعتقد باستقلال وسمو الحياة الفكرية عن الحياة الاقتصادية، أما الثانية فإنها تعتقد بتضامن الحياتين. فالاختلاف يبدو لنا أساسياً مما يجعل التسوية بينهما مستحيلة لابد لها من حرب(116/31)
ثم هناك مسألة أخرى اختلف فيها الناس كثيراً: هل وجهة النظر الشيوعية المذكورة شيء فجائي من شأنه أن يقضي على وجهة النظر السائدة في الغرب، ويقطع عليها الطريق، أو أنها نتيجة سير وجهة النظر الثانية وتطورها؟
فبعضهم يقول بأنها وليدة التطور والاتساع العام للمدارك عند الأمم الغربية، يشبهونها بمذهب (الرومانتيسم) الذي كان وليد الاتساع الخاص للمدارك الأدبية
لكن الأمر على غير ما يتصورون، فأن الرومانتيسم برغم ما أدخله من العناصر الجديدة في الأدب لم يكف أصحابه عن الاعتقاد باستقلال الرجل الموهوب وبعده عن المؤثرات والأوضاع الاقتصادية
فبين وجهتي النظر الغربية والشيوعية إذاً تباين ليس في المرتبة أو المسافة، بل في الروح والتكوين)
لم يكد ينتهي المسيو بندا من خطابه حتى قفز إلى المنبر العضوان الفرنسيان المسيو كهينو والمسيو نيزان، وإليك خلاصة ما قاله الأول:
(إن الأمر أهون بكثير مما يتوهمه المسيو بندا، فحسب رأيه إذا أنتقل واحدنا من هذه البلاد إلى بلاد الاتحاد السوفيتي فلابد أن تستقيم له غير هذه الروح وغير هذا الدماغ للتفكير
لا حاجة عندي لكل هذا التغيير وإذا لم يكن بد من شيء فهو اتباع العقل في مجرى تدرجه الطبيعي
وليست الثورة البلشفية الأخيرة عن بواعث دينية أو إقليمية محلية، بل هي حلقة من سلسلة الثورات الإنسانية التي ابتدأت منذ أن دب الإنسان على الأرض
ولست أرى في كارل ماركس غير مفكر من هؤلاء المفكرين الذي يظهر أمثالهم كل يوم في الغرب، وليس هنالك من شيء في رأي يدفع بنا إلى مقاومة الماركسية ونبذها
ومن العبث والسذاجة أن نقابل هذا الخط الطويل من الآراء المثالية بخط مثله من الآراء الاقتصادية التي لا تقل في قدمها وفي تدرج حركتها عن الآراء الأولى
أما إنجاح الماركسية، فمتوقف على الفئة التي تهتدي قلوبهم إليها وعلى مقدار إخلاصهم وتضامنهم، ولا أظن أن هنالك فريقاً من البشر يلحقه خيرها وفريقاً آخر يلحقه شرها؛ مادام الناس في هذا العالم متشابهين من أكثر الوجوه، وذلك ما يقوله لنا إحساسنا الداخلي في كل(116/32)
ساعة: أننا متشابهون. فان مصير الناس كلهم واحد، كما يقول هوجو، ومقدراتهم متشابهة سواء أكان الإنسان عالماً أم عاملاً. أليست الحياة والموت محتمين! ومشاكل العيشة العامة والخاصة تنتابهم بدون استثناء، وكل ما عمله الذين سبقونا وما نعمله لكشف خبايا هذه الأسرار المحيطة بنا، ومازال ويا للأسف ابتدائياً، وهذا ما يشجع فينا الشعور بالتشابه، والشعور بالتشابه يجعل الاحساسات الشائعة بيننا واحدة، وكلاهما يدفع بنا إلى إنشاء الجمعية المشتركة في النفع والضرر، بل نحن نعمل على إنشائها بدافع طبيعي فينا ونريدها من صميم أفئدتنا)
وإليك خلاصة ما قاله المسيو نيزان:
(لا أستطيع الكلام بدون الاعتماد على التاريخ لأن ما جاء به الفيلسوف بندا يتضمن شيئاً كثيراً منه
لقد صور لنا المسيو بندا العالم الغربي في صورة متناسبة متناسقة تجمع شتى الأقوام وشتى الطبقات، وأكثر ظني أن هذه الصورة لا تتفق مع صحائف التاريخ، ومن المستحيل أن تكون لهذا العالم صورة جامعة متناسقة فيها مختلف العناصر البشرية الغربية ما دامت مراجعها وينابيع حياتها مستقاة من مدنية الإغريق والنصرانية ثم النهضة الأوربية (الرينسانس) وعهد الإصلاح (الريفورم) والثورات البرجوازية المختلفة. فأستطرد وأؤكد إن المدنية الإغريقية نفسها لم تكن في أيامها السوالف عمل جميع الإغريق
ينظر المسيو بندا إلى الغرب نظرة أفلاطونية، نظرة إيجابية، لا تتطلع إلا إلى الآثار الثمينة وإلى الأفكار من حيث هي أفكار رفيعة، نظرة محدودة لا تعبأ بما تحت هذه الآثار من دوافع واحتمالات غامضة، ولا تهتم بالحوادث البارزة التي سهلت تلك النتائج
صحيح أن هذه النظرة سادت برهة عند اليونان القدماء، ثم أصبحت فيما بعد قوام التفكير النظري عند الأمم الأوربية البرجوازية
لكن مذهب أفلاطون ليس كل ما عند الإغريق من مذاهب للتفكير
أتى المسيو كهينو فيمن ذكرهم على اسم أبيقور الذي كان يوجه كلامه إلى العبيد الأرقاء، وهو الرجل الذي ما كان يتوخى تطهير جمهرة مختارة من البشر، ولا كان يستنسب جلساته بين طائفة متميزة منهم، وإليكم الآن مجمل ردي على المسيو بندا:(116/33)
إن هذه الطائفة المثقفة التي شاء أن نسميها بالعالم الغربي نقبل كل انتقاد يمكن أن يوجه إليها، أو إلى الأوضاع التي تعيش فيها، ونرحب بكل تحوير ممكن لهذه الأوضاع يكون في جانب الطبقات التي تحيى وتفكر، وتجوع وتموت. ونقبل في آن واحد أن نؤمن ونشك في كفاءة الإنسان وقدرته، كما قبل ذلك كارل ماركس في كلامه عن الإنسان (الذي اكتفى حاجاته) ونحن قبل كل شيء نرفض المعتقدات الدينية، والصفات الإلهية رفضاً باتاً ونعتبرها - كما أعتبرها أبيقور وكتاب فرنسا في القرن الثامن عشر - أشياء تتمثل فيها مخاوف الإنسان وأثر اضطهاده
أما موقفنا من وجهة النظر الغربية فهو ليس قطعاً لها وانفصالاً عنها، بل هو موقف المنور الهادي الذي يقبل الحالين معاً فيتسع إلى أقصى حد ويضيق إلى أقصى حد
ونحطم بالحجة الدامغة هذه الميثولوجيا الإنسانية التي تريد منا أن نعبد ونمجد إنساناً غامضاً نجهل وجوده، وتحملنا على أن ننسى أو نتناسى أننا للآن لم نكن متساوين في الآلام، وفي الانتصارات، وحتى في الموت)
يتبين لنا من خلال الخطب الثالث التي تخيرنا تلخيصها في هذا المقال، المنطق الذي جرى عليه الخطباء في نقشاهم، فلا سبيل إلى الحشو والتنميق، وكانت الأبحاث على بساطة إنشاءها دقيقة إلى حد كبير، يقرأها القارئ الفطن بدون عناء، فتتجلى أمامه المشاكل الكبرى التي طالما دوخه التفكير فيها محلوله فيها لا تحتاج لغير التنفيذ، وكأنما العالم مريض أصيب بداء عضال عالجه هؤلاء الكتاب فأحسنوا التشخيص وأحسنوا الدواء
ولعل أكثر جلسات المؤتمر حماسة هي الجلسة التي بحث فيها الكتاب موقفهم من المجتمع، فكانت مظاهرة علمية قامت ضد الظلم والجور والاضطهاد، وكيف لا يتظاهر الكتاب للحرية المغتصبة، والحق المضاع، وهم رسل الحرية ورواد الحقيقة، بل كيف لا يثورون وبينهم قسم كبير طردوا من بلادهم بعد أن أحرقت كتبهم وسيموا أنواع العذاب والتنكيل، لكن هذا الحماس ما لبث دقائق حتى عاد الكتاب يبينون آراءهم في جو مشبع بالهدوء والسكينة
شكت كارن ميكائيليس مندوبة الدانمارك من أن الكتاب لا يأبهون كثيراً إلى المهمة التي خلقوا لها، ولا يقدرون الدور الذي يجب أن يلعبوه على مسرح الحياة حق قدره فيؤدوه خير(116/34)
أداء، إن الكتاب بحكم وظيفتهم إدلاء، ومن واجب الدليل أن يكون في الطليعة، لكنهم يخشون العزلة، وتراهم يفتشون عمن يحل محلهم، ثم يلتجئون إلى حلقة منزوية من أصحابهم وزملائهم، يصوبون جامات الغضب على القادة المضلين لكن همسهم هذا ويا للأسف لا تسمعه غير آذانهم. . . .
وشكا جيد من قلة إخلاص الكتاب فيما يكتبون. . . وشكا مالروا من تدجيلهم لينيل المال والجاه. . . .
والخلاصة قد أوضح الكتاب أن المجتمع البرجوازي لا يمكن الكاتب من أن يخلص فيه لفنه وأدبه، وقد شذ بعض القصصيين الإنكليز، إذ أطروا الحرية التي تمنحهم إياها النظام الديمقراطي القائم في بلادهم، لكن وجد من بينهم من تصدى لهذه الفكرة، وأبان لهم أن هذه الديمقراطية البرجوازية التي يتبجحون بها لا تشمل غير طبقتها وهي مع ذلك صائرة إلى الزوال يتآمر عليها أبناءها البرجوازيون
نشطت حركة الحاضرين في إحدى الجلسات نشاطاً زائداً واشرأبت الأعناق وحملقت العيون وأخذوا يتهامسون بكثير من الدهشة: (مندوبو السوفيت) كأنما هؤلاء هبطوا عليهم من جرم سماوي لم يأتوهم من بلاد تدعى الاتحاد السوفييتي فوق هذه البسيطة، يريدون استطلاع ما ظهر من هيئتهم وما استتر. ثم ساد سكون رهيب استعداداً لسماع الرد المستمد من التجربة الصحيحة على ما جاء في خطاب المسيو بندا، غير أن مندوبي السوفيت خيبوا هذا الظن واكتفوا برد المسيو كهينو والمسيو نيزان، وأتوا على وصف بعض مناحي الأدب السوفييتي الجديد
وقال إهرمبورغ صاحب كتاب (ثاني أيام الخليقة) ما خلاصته:
(إذا كان الكاتب في المجتمع البرجوازي يكرم ويمجد باعتبار إنه قام بخدمة وطنية تعادل الخدمات التي يقوم بها أمثاله في البلاد الأخرى، ويقرأ كتبه من أراد أن تسمو مداركه أو أن يجد لذة يملأ بها أوقات فراغه - والقراء في هذا المجتمع من توفرت أسباب حياتهم قليلون - وإذا كان القراء لا يقرئون الأدب بقصد أن يستعينوا بما يقرئونه في حياتهم الخاصة والعامة وأن يجدوا فيها هدياً لقلوبهم وسموا لنفوسهم وما يضمرون، فلا يكون لما يشاهدونه في ليلتهم من عواطف نبيلة على أحد المسارح أو لما يقرئونه في إحدى(116/35)
القصص، من تأثير فيما يعملونه في نهارهم. وكثيراً ما تخالف أعمالهم ما اختلجت في الليل قلوبهم له. إذا كانت هذه قيمة الأدباء في المجتمع الأوروبي فإني أقول بكل فخر:
(إننا توصلنا إلى أن يكرم الكاتب والشاعر في الاتحاد السوفييتي على أنهما يؤديان عملاً مثل سائر الأعمال الحيوية التي لا يستغنى عنها بحال من الأحوال. فقراءة الأدب للمزارع والعامل ولأي شخص آخر مثل قمحه ولبنه وثوبه ومأواه. يقرأه فيلتذ، لكنه لا يقتصر على هذه اللذة، فانه يفتح قلبه له فتهديه هذه العواطف النبيلة التي للأدب في حياته وفي عمله اليومي
هذا هو تأثير الأدب السوفييتي، مع أنه لا يزال طفلاً لا يحسن الكلام بدون تمتمة)
كانت خطب مندوبي السوفييت على هذا النمط: استعراض للموضوع في المجتمع البورجوازي، ومقارنة ما أستجد في بلادهم بشأنه مع بيان اوجه الانتقاد، وما حدا إلى نبذ الأسلوب القديم
لا عجب أن نرى الكتاب في العالم المتمدن يهبون للدفاع عن الثقافة من عاديات الزمان، وهي حملتها ورفعوا لواء مجدها، بل ومن حقهم قبل كل إنسان آخر أن يهتموا لهذا الأمر في مثل هذا الوقت العصيب الذي ينذر العالم بالشر وسوء المصير، ألم نر المدنيات القديمة التي لو بقيت لكانت للإنسان مدنية تفوق مدنيته الغربية بمراتب - كيف اندثرت وعنقها الحروب والمنازعات والوهن الذي إذا دب إلى جسم أمة قضي عليها بالتفسخ والانحلال
وليست أوروبا اليوم بأحسن مما أشرنا إليه، فان النزاع على الممتلكات الاستعمارية، والتفاخر بالقومية، وتفاقم جشع الناس، وتفشي الأثرة بينهم أرزاء تنوء تحتها الثقافة وستؤدي إلى أوخم العواقب
ماجد شيخ الأرض(116/36)
عرض لإحدى مشاكل الأدب الإنكليزي
هل ألف شكسبير رواياته؟
بقلم جريس القسوس
أخي ح. ش.
كتبت إلي تسألني أن أجلو لك حقيقة هذا النابغة، الذي على سعة شهرته وذيوع اسمه في مختلف الأزمان والبلدان، مازال مبهم الشخصية، مجهول الهوية؛ وما فتئ الكثيرون من الأدباء في إنكلترا وفي أمريكا يرتابون في أمر تأليفه الروايات المنسوبة إليه؛ فتراهم في كل حين يكتشفون لهم مؤلفاً جديداً غير شكسبير، مؤيدين آراءهم باقطع البراهين وأقواها
ولقد بلغت هذه المسألة من الأهمية وخطورة الشأن ما جعل الأدباء ينقسمون إلى مدرستين، الأولى تنتصر لشكسبير وتعضده وتعرف هذه بمدرسة مستقيمي الرأي (أورثوذكس) بينما الثانية وهي - نسبة إلى ستراتفورد قرية شكسبير ومسقط رأسه - تجرده من كل صبغة أدبية، وتتهمه بضعف الإرادة والجهل، فهي لا تود أن تنسب هذه المؤلفات الرائعة إلى امرئ كشكسبير وضيع النسب، نشأ نشأة الوضعاء من عامة البشر، فلم يلتحق بمعهد عال أو يتفقه على مدرب كبير
أنه لمن العار بل من الحرام - على رأيهم - أن تنشأ العبقرية في الأكواخ؛ وإنه لمن الشائن المزري إذن أن تعزى هذه الروايات على فيها من روعة وجلال إلى شكسبير العامي القروي. في ذلك يتفق أصحاب هذه المدرسة، غير أنهم يختلفون في أمر مؤلفها
أما أول الأدباء الذي نسب إليهم تأليف روايات شكسبير ففرنسيس (1561 - 1626) الفيلسوف الإنكليزي الشهير، وأول واضع أسس النظرية فهربرت إذ ألف سنة 1769 كتاباً سماه (مجازفات في الذوق السليم) بيد أن هذه الآراء لم تثر اهتمام الأدباء ولم تحرك لهم ساكناً مدة نصف قرن أو أكثر. بعد ذلك لقيت لها أنصاراً عضدوها بالمؤلفات العديدة، منهم ج. س. في كتاب ألفه سنة 1848، وفي مقالة موضوعها (من ألف روايات شكسبير؟) نشرت في التشمبرز ' ومنهم و. هـ. سمث في رسالة بعث بها إلى لورد اليسمير موضوعها (هل ألف بيكون روايات شكسبير؟) ومنهم أيضاً الكاتبة ديليا في كتاب اسمه (كشف القناع عن فلسفة روايات شكسبير)(116/37)
وقد ظهر مؤخراً غير هؤلاء في إنكلترا وفي أمريكا كاللورد بنرانس وسر. ت. مارتن، وج. قرينود وغيرهم من مشاهير الأدباء وكبار النقدة ممن عززوا النظرية البيكونية، وحملوا على شكسبير كادت أن تمحو أسمه محواً؛ وتدحر جيش أنصاره دحراً
ويبني معظم أنصار بيكون حجتهم على النقط التالية:
(1) إن سر توبي ماتيوس سنة 1621 برسالة إلى بيكون يمتدحه فيما ويعده (أنبغ من أنجبت إنكلترا، ومن عاش على هذا الجانب من البحر، في العصر الحاضر)
(2) إن في روايات شكسبير بعض فقرات ومفردات تدل على تبحر مؤلفها في العلم وتعمقه في الفلسفة والقانون مما لا يمكن أن يعزى إلى شكسبير كما يظهر في ترجمة حياته المعروفة
(3) إن في روايات شكسبير مشاهد وأبياتاً تشهد بأن ناظم عقدها أرستقراطي النزعة والنشأة. مثال ذلك أنه: يسخر بالرعاع، ويزدري عامة البشر في كل من (يوليوس قيصر) و (كور يولانس) سخرية وازدراء لا يمكن أن يصدرا من شكسبير القروي الوضيع النسب، إن ذلك إلا مظهر عن مظاهر نبذ الأرستقراطية للعامة وكراهيتها لها، واعتزازها برجالها، وفي مقدمتهم بيكون
(4) أما أخر هذه البراهين، والذي عليه يبني جميع خصوم شكسبير، على اختلاف أشخاصهم، آراءهم واعتقادهم الراسخ في أن شكسبير على ما في نسبه من ضعةٍ، وفي نشأته من حقارة، وفي علمه من نقص، وفي خلقه من مغمز، وفي حياته من غموض وإبهام، لا يمكن أن يكون مؤلف تلك الروايات الخالدة، التي تشهد لصاحبها بعبقرية تفوق كل عبقرية، ونبوغ هو فوق كل نبوغ، كيف يمكن هذا، مادام هناك بيكون الفيلسوف الكبير، والنابغة الفذ الذي شغل أهل زمانه، وملأ أسماعهم وأبصارهم؟
ويأخذ أنصار شكسبير هذه الحجج ويفدونها واحدةً واحدة. فيقولون - مثلاً في الرد على الحجة الأولى إن (سر توبي ماتيوس) لم يعن في رسالته بيكون الفيلسوف، وإنما عني راهباً يسوعياً آخر اسمه طوماس كان يعرف بلقب بيكون. مع كل هذا يرى أنصار شكسبير - مسلمين جدلاً بأني سر توبي يعني الفيلسوف بيكون - أن ليس في هذا ما يدل كل الدلالة على إن بيكون إنما هو مؤلف روايات شكسبير. إن هي إلا العاطفة، عاطفة(116/38)
الصداقة العمياء هذه ذات التعليمات والأحكام الجارفة
أما فيما يخص الأشعار فليس في البقية الباقية من شعر الفيلسوف بيكون ما يدل على أنه شاعر بالمعنى الصحيح؛ ذلك الشاعر الفذ الذي يمكن أن يعزى إليه نظم تلك القطع الرائعة التي تتخلل معظم رواياته وخاصة الأخيرة منها
هذا أما المفردات أو الفقرات العديدة الواردة في روايات شكسبير والدالة على تبصر في العلم وتبحر في الفلسفة والقانون وإلمام بأغلب الفنون فلم تكن مقصورة على شكسبير أو على بيكون وحدهما. فقد كانت بحق ملك جميع المؤلفين في عصر اليصابات وبالأخص الأخير منه. إذ شاع فيه التقليد والنسج على منوال الأولين. فالذي يجوز لنا الارتياب في أمر تأليف شكسبير لهذه الروايات على هذا الأساس الواهي، يجوز لنا أيضاً الاشتباه في غيرهم من الكتاب والشعراء
وعلاوة على هذا يرى أنصار شكسبير أن ليس في هذه الروايات ما يدل على إلمام واسع بالعلوم والفنون أو تعمق في الفلسفة والقانون، إلماماً وتعمقاً يصح معهما أن ينسب تأليفها إلى بيكون صاحب النظريات الفلسفية الخالدة والنثر الأدبي الرائع
أما القول بأن مؤلف هذه الروايات لابد أن يكون أرستقراطي النسب والنزعة كما يظهر من شعوره نحو الرعاع وخصوصاً في (يوليوس قيصر) و (كور يولانوس) فليس بالقول الذي يعتمد عليه بنيان مثل هذه النظرية وتحقيقها. إذ ما روايات شكسبير إلا مملكة كبيرة، فيها الملوك والنبلاء، والرعاع والعلماء، وفيها الجنود والصناع، والأرواح والآلهة، كل منهم يفكر ويقول ويعمل حسب طبيعته ونزعته، وعلى قدر قوته ومعرفته، غير مقيد برأي الشاعر أو عقيدته الخاصة. بذا يمتاز شكسبير عن (بروننج) خاصة وعن باقي الشعراء والكتاب عامة. فما الرعاع في الحقيقة إلا من هذا البشر الذي توخى شكسبير في تصوير طبيعته ونفسيته الصدق والعدل
هذا بعض مما يقوله أنصار شكسبير في الرد على خصومه، غير أنهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يوردون الحجج الإيجابية الدامغة التي تؤيد آراءهم كل التأييد. من ذلك قولهم إن حياة شكسبير ليست محاطة بالإبهام كما يظن خصومه. فلو استعرضنا تراجم معاصريه من الأدباء لألفينا في جميعها - اللهم إلا من اتصل منهم بالسياسة أو القانون وكان له فيها شأن(116/39)
كبير - غموضاً وإبهاماً يساويان، إن لم يزيدا، ما في ترجمة حياة شكسبير من غموض وإبهام
ويرى أنصار شكسبير أيضاً أن لديهم تقارير عديدة تدل على اتصال الشاعر بالمسرح وانشغاله بأموره مدة ليست باليسيرة. وفي بعض رواياته نلمح ما يدل على إلمام الشاعر بفن المسرح ودقائقه. يحضرنا على ذلك - على سبيل التمثيل - ما جاء على لسان هملت في تلقينه الغلمان سبل الإلقاء والتمثيل تلقيناً يشهد له - أي لشكسبير - بطول الباع في هذا الفن. وليس في ترجمة حياة بيكون الضافية، ما يدل على ولوعه بالتمثيل أو كلفه بالمسرح.
أما ادعاء خصوم شكسبير إن ما في رواياته من مفردات في القانون، يكفل لبيكون - وهو بالطبع قانوني - تأليفه الروايات لحجة واهية، من السهل دحضها. فقد كانت لندن في عصر اليصابات تكتظ بالطلاب الحقوق هواة المسرح، فكان لشكسبير في ذلك فرصة سانحة لمجالستهم والاستماع إلى أحاديثهم التي تدور، في أغلب الأحيان، حول القانون. هذا عدا تجاربه واختباراته في هذا الفرع كابن أحد الملاك أو التجار
ومن البيانات الواضحة التي يعتمدها أنصار شكسبير في الرد على خصومه، ورود اسم شكسبير مع التعليق على فنه في بعض النسخ الأولى من رواياته مفردة مجموعة معاصريه، وخاصةً فرنسيس في كتابه (بلادس تيميا وروبرت جرين تهكمه اللاذع على شكسبير، وفي قصيدة بن جونسون التي فيها يخلد (وزة
وقد ظهر مؤخراً غير بيكون مرشحون آخرون لروايات شكسبير، منهم (لورد تلند الخامس عشر ومنهم كونت أحدثهم ظهوراً وأشدهم خطراً على الممثل الستراتفوردي ديفر ايرل اوف اوكسفورد السابع عشر. فقد وضع ج. طوماس سنة 1920 كتاباً في هذا الموضوع سماه (إثبات شخصية شكسبير في دي فير ايرل أوف أوكسفورد)
وآخر كتاب ظهر في هذا الموضوع هو لمونتاجو رئيس جمعية أدبية أخذت على نفسها معاضدة دي فير ودحض آراء أنصار شكسبير. فقد وضع كتاب (ايرل أوف أوكسفورد لشكسبير وهو يجمع باختصار كل ما يمكن أن يقال في هذا الأديب كمؤلف للروايات المنسوبة لشكسبير
أما النظرية الشيخزبيرية فما هي في الحقيقة بنظرية، وإنما هي خرافة أكبر عامل في(116/40)
خلقها التشابه الظاهر بين اسمي الشيخ زبير وشكسبير. ليس هذا فحسب، بل إن علاقة شكسبير الغرامية مع (السيدة السمراء) ويظن بعضهم أنها مصرية - وحبه للخيول وخاصة خيول رواد المسرح وما في رواياتها من امتداح لجزيرة العرب وتغن بسمائها وطيرها (فونكس وزهرها وشجرها، كل هذه بعض من الشواهد التي قد يتخذها هواة النظريات أساساً للنظرية الشيخزبيرية
ولقد غرب عن بالي ن أذكر لك أن من الأدباء من يعزو إلى شكسبير تأليف نحو أربعين رواية أخرى، ومنهم من يرى أن شكسبير لم يؤلف كل رواياته، بل شاركه في ذلك كتاب آخرون كبيمونت وفليتشر، وخاصة في (تيطس ادرونيكس) وثلاثة أجزاء: (هنري السادس)، و (تيمون أثينا)، و (بيركليس)، و (هنري الثامن)
هذا عرض موجز لما يمكن أن أخبرك به في هذا الموضوع، ولا أنكر عليك أنني بعد دراسة حجج الفريقين وتمحيصها بكل دقة - أراني ميالاً كل الميل إلى المدرسة الستراتفوردية. ولا أشك في أن النجاح سيحالفها، مهما وجه إليها من نقد لاذع، ولشكسبير من تهم هو بريء منها
الكرك: شرق الأردن
جريس القسوس(116/41)
تبتغي أمها
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
دفنوا في حفيرة أمَّ سلمى ... ثم عادوا يجرّرون الذيولا
كتموا عن سلمى الصغيرة موتَ ال ... أمّ حقاً وآثروا التضليلا
سألتهم والعينُ بالدمع شَكْرَي ... غير مخدوعة بما قد قيلا
أين أُمّي عودوا إليّ بأمّي ... أنا لا أبتغي بأمّي بديلا
أنا إن لم ألعب بجانب أُمّي ... لم يجد للأفراح قلبي سبيلا
أنا إن عشُت وهي تبعد عني ... كان عيشي عليّ عبئاً ثقيلا
إنها لي تُنيم في الحضن منها ... وتغنّي لي بكرةً وأصيلا
وإذا ما بكيتُ تمسح دمعي ... بيديها منعاً له أن يسيلا
ثم من حبها تقبّلني في ... وجناتي فتُحسن التقبيلا
ثم تعطيني دُميةً هي ما أص ... بو إليه حُبَّ الخليل الخليلا
دُميتي بنتي مثلما أنا بنتٌ ... لإِمُيمي التي رعتني طويلا
ثم تُهدي إليّ شيئاً من الحل ... وى فيغدو الحلوى لهمّي مزيلا
أرجعوا لي أميّ الحنونَ فإن لم ... تُرجعوها يكون خطبي جليلا
وإذا ما لم تُرجعوا ليَ أميّ ... أملا الأرضَ والسماَء عويلا
أنا في حاجة إلى عطف أميّ ... أيها الناس فارحموني قليلا
هي أميّ التي فتحتُ عيوني ... أجتلي وجهَها فكان جميلا
ورضعتُ اللبانَ منها فكان الث ... ديُ منها لي منهلاً معسولا
إنني عند غيبة الأمّ عني ... لا حناناً أرى ولا تدليلا
أرجعوا لي أمي ولا تخدعوني ... بالأباطيل إن صبريَ عيلا
وإذا صَّح أن أمّيَ أوْدَت ... فاجعلوني لقبرها إكليلا
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(116/42)
مناجاة الأمل
للأستاذ عبد الرحمن شكري
أَلا عِدْ وأخلف أنت بالوعد مانح ... فمطلك مغفور وخيرك راجح
ولم تك مثلَ الآلَِ فالآلُ مهلك ... ووحيك اسخى ما تضم الجوانح
وكم ناقمٍ من خلف وعدك لا غنىً ... له عنك أو تغني المنايا اللوافح
وأعشقُ مَنْ يهواك من هو ناقم ... وأمدحُ مَن يرجوكَ منهو قادح
نَشاوَى همومٍ قد تُدِيرُ عليهمُ ... كؤوساً فتفترُّ الثغور الكوالح
سلام على الدنيا ورضوان راحمٍ ... إذا ضاء نجم منك في الأفق لائح
عَفَاءٌ على الدنيا وهُلْكٌ ونقمةٌ ... إذا لم تكن والمرء بالعيش رازح
وكم في ثنايا اليأس منك كوامن ... إذا فنِيتْ فالعيش فان وطائح
أيا بهجة العمران لولاك لم يكن ... فلا شَيَّدَ الباني ولا كَدَّ كادح
إذا اشتدت اللأَّ واءُ زدت تألقاً ... كذلك سواد الليل للنجم قادح
وليس بعيب أن تُراد لمحنة ... فمن ذا يريد النجم والصبح واضح
أيا بلسم الأحزان لولاك لم يعش ... على عَنت الدنيا لهيفٌ ونائح
معين على البلوى معين على الضنى ... إذا لم يكن فيه معين وناصح
ويا حادي الركبان في العيش مثلما ... حدا الركبَ في الصحراء حادٍ وصادح
ويا رحمة الله التي عمت الورى ... ولم يخل منها جارم النفس جامح
على صاحب الكوخ المهدم مشرق ... ببشرى ورب القصر راجٍ وَطامح
وأسعد ما تُلْفَى إذا كنت ماطلاً ... فكل طليب شائق وهو نازحُ
رست بك في لج الحياة نفوسنا ... فلم تتقاذفها الهموم السوارحُ
لشيَّدت للإيمان في قلب آملٍ ... معابد قد ضمت عليها الجوانحُ
ثبات وصبر واعتزام وهمة ... فضائل نفس كلها أنت مانح
ولولا مساعٍ أنت عاقد أمرها ... لآثر عقر الدار غادٍ ورائح
تكاد تنير الليل إمَّا توقدت ... أمانيُّ تذكو حين تخبو المصابح
تأرج من ذكراك نفحة خاطر ... أأنت أريج من شذا الزهر فائح(116/44)
وإن غَنِيَّ الناس من أنت ذخره ... وأيُ غِنى يغني وضوؤك نازح
وسائل من جدواك أنت استثرتها ... وتُفْتَقُ إن لحتَ النهى والقرائح
وكم لك دون النفس وحي وهمسة ... إذا نطقت تَعْيَا اللغاتُ الفصائح
وكم من غريق أسقط الجهد كفه ... فما لحت إلا وهو في اليَمَّ سابح
منحت حياة مرة بعد مرة ... وتبخل بالعيش النفوس الشحائح
ورب حبيس أنزل السجن ظلمة ... عليه ونور منك في السجن لائح
أيا طائراً يشدو وفي النفس أَيْكُهُ ... فيخفت فيها يأسها المتناوح
ويا آسِىَ الأحزان والظلم والضنى ... ولولاك أعْيَا الطب مودٍ وطائح
تَخَلَّلُ أَنَّات الشقاء ونوحه ... فتعذب في الأسماع حتى المنائح
خلعت على الأيام أحسن خلعة ... فيخفي بعيش شره والمقابح
سقيت فأنسيت المؤجل من ضنى ... ومن وخط شيب في غد وهو واضح
وأنسيت أن الشر حتم مقدر ... وأن المنايا غاديات روائح
تضاحك في يأس ونحس وكربة ... كأن الرزايا عابثات موازح
بها مؤنس من طيب عهدك عامر ... بشائر في لأوائها ومفارح
وتخلق منك النفس دنيا سنية ... وفي أفق منها النجوم اللوائح
مباديك شتى كالأزهر جمة ... ففي كل حال موطن منك صالح
أيا سحر إنْ لم تُغْنِ فالسحر كاذب ... مغاليقه فيما تريد مفاتح
تعللنا بالسعد من بعد ميتة ... فتحسن في مرآك حتى الضرائح
عبد الرحمن شكري(116/45)
ذهب الشباب
للأستاذ فخري أبو السعود
ذهب الشبابُ وغاض ذلك الرونقُ ... لم يبقَ إلا حسرة وتحرُّقُ
لم يبق إلا ذكر عهد زائل ... إذ أنت أملَحُ مَن يُحَبُّ ويُعْلَقُ
حالَ الجمالُ فلا قَوامٌ مرهفٌ ... يصبي النفوسَ ولا محيًّا مُشرِق
ما أنت إلا الروض صُوِّحَ بعد إذ ... هو مثمرٌ نضر الأزاهر مورق
ولقد يُجاد الروضُ بعد جفافه ... ويَجِدُّ من أبراده ما يَخْلَق
وأرى جمالك ليس يَبْعَثٌ مَيْتَهُ ... شمسٌ تضئ ولا غمامٌ يُغدِق
ولقد يروق الزهرُ بعد ذبوله ... وتَظَلُّ منه ريحة تتَنَشَّقُ
ورأيتُ حُسنَك حين أدبَرَ لم يَذَرْ ... إلا قذى يُؤْذي العيونَ ويُوبق
إلا مَقَاَبحَ كم تحاول سَتْرَها ... فتَنُمُّ من دون الطلاء وتنطق
قد جّفَّ عودُك والصِّبا مازال في ... أعطاف غيرك ناضراً يترقرق
ألْوَتْ بِقَدِّكَ بعد لين مَهَزِّهِ ... غِيَرُ الزمانِ وما عليها موثق
رَهَّلْنَهُ في حيث تَجْمُلُ دِقَّةٌ ... وهَزَلْنَهُ حيث الجزالةُ أخْلَق
فَغَدَتْ تَقَحَّمُهُ العيونُ وطالما ... قد راعها منه الرُّواء المونق
وتبدلَّ الطبعُ المحبَّب لم يَعُدْ ... دَلٌ يَشُوق ولا شمائلُ تُعْشَقُ
وتَطَامَنَ القلبُ الأبيُّ وإنَّهُ ... بالأمس لَلْحِصْنُ المنيعُ المغلق
ومضى شِمَاسٌ كان فيك سجيةً ... فاليوم فيك وداعةٌ وتَرَفُق
واليوم فيك تلطُّفٌ وموَدَّة ... كم كان يخطبها المحبُّ الشَّيِّق
وتخلفَتْ بك في الهوى أسبابُهُ ... ولقد عَهِدْتُك سابقاً لا يُلْحَقُ
ولقد عَلمِتْك في الملاحة مُفْرَداً ... ما لاحَ من حُسْنٍ جِوَارَك يُمْحَق
كانت لحُسْنِك دولةٌ فتفرقَتْ ... هيهات يجُمع شملُها المتفرق
نُثِرَتْ كِنانةُ عابديك وكلُّهم ... سالٍ لعهدِك أو لحالك مُشفق
وانفضَّ منهم مخِلصٌ ومُنافِقٌ ... وأقَلَّ مَدْحَكَ صادقٌ ومُمَلِّق
وغَدَوْتَ بعضَ الناسِ حيث تسير لا ... مجدٌ يَحُفُّ ولا جَلاَلٌ يُحْدِقُ(116/46)
تبدو، فلا حَدَقُ العيونِ مُبَادِرُ ... لهفاً إليك ولا الجوانح تخفق
وتبينُ، لا قلبٌ لبيِنك مُدْنَفٌ ... عانٍ ولا جفنٌ لذكرك يأرق
نَبَتِِ القُلوبُ وكنتَ قبلُ مُحَكماً ... فيهنَّ تأسر ما تشاء وتعُتِق
وإذا القلوبُ تغيَّرتْ وتفرقت ... عَيَّ الحليمُ بجمعها والأخرق
سكنتْ نفوسٌ كنتَ أمس عناَءها ... ولعلك اليوم المُعَنَّى المُقْلَق
ولىَّ جمالُك والطبيعةُ لم تزل ... تزهو وترفل في الضياء وتَعْبَق
تمضي على عادتها ما راعَها ... حُسْنٌ تَصَوَّحَ أو شبابٌ يَنْفق
فخري أبو السعود(116/47)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
21 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
يقول نيتشه مبيناً نظرته في مجموعة القيم الاجتماعية: أنا لا أدري إذا كانت الحياة بذاتها جميلة أو قبيحة. لا شيء عندي باطل إلا هذا النزاع المستمر بين المتفائلين والمتشائمين. وأي إنسان في الوجود يحق له أن يقدر قيمة الحياة؟ أما الأحياء فلا يقدرون لأنهم فريق من المتجادلين المتخاصمين. والأموات - وإنهم لأجدر بألا يجيبوا - لأنهم أموات. فلا أحد بقادر على إبداء قيمة الحياة، وإنني لأجهل كل الجهل إذا كان وجودي خيراً أو عدمي؟ ولكني في اللحظة التي أحيا فيها الآن أريد بأن تكون الحياة فياضة مضيئة لامعة في نفسي وخارج نفسي. فأقول إذ ذاك - نعم - لكل ما يجمل الحياة ويجعلها جديرة بأن تحيى. وإذا تبين لي أن الضلال والوهم يساعدانني على تذوق الحياة أقول - نعم - للضلال والأوهام. وإذا بدا لي أن الصفات السيئة مهما كانت ألوانها تساعدني على انتصار حيوية الإنسان أقول - نعم - للخطيئة والشر، وإذا اتضح لي أن الألم هو أنجع من السرور في تهذيب النوع الإنساني أقول - نعم - للألم وأقول - لا - لكل ما يمسخ حيوية الشجرة الإنسانية، وإذا اكتشفت أن الحقيقة والفضيلة والخير وكل ما اصطلح البشر على احترامه من تقاليد وشرائع تضر بالحياة أقول - لا - للعلم والمعرفة والخير
- 2 -
يبحث الآن نيتشه كيف نشأت بين الناس هذه القيم الاجتماعية ويصور التأثير الذي تركته في روح الرجل الغربي الحديث، نقب نيتشه في أصول المذاهب الخلقية التي تواضع عليها البشر فألفى أن أصولها المتشابهة تعود إلى فضيلتين اثنتين توزعت عنهما كل الفضائل: فضيلة الأسياد والسلالات القوية الحاكمة، وفضيلة العبيد والضعفاء الأذلاء(116/48)
وإنك لواجد في منشأ الحضارة الأوروبية هذا العمل الذي ولد هذين المذهبين. فهناك طائفة محبة للقتال، وعصابة من الرجال المفترسين الذين يسطون على طائفة جانحة للسلم، نافرة من الحرب كما هو الأمر في الحضارة اليونانية الرومانية، التي تلاشت إزاء هجمات الأقوام الجرمانية. إن الرجل الشديد المعتمد على نفسه، تموج في صدره رغبته بتعيين قيم الناس والأشياء بنفسه. وليست فضيلته إلا بهجته الراقصة بشعوره بقوته وكماله. يدعو (حسناً) من كان يماثله شرفاً وسيادة، ويدعو (رديئاً) من يختلف عنه. الخير عنده ما هو إلا مجموعة تلك الصفات الطيبة والخلقية التي يقدرها في نفسه وفي أقرانه. يبهج نفسه أن يكون قوياً وقديراً. يعرف أن يخضع غيره ويخضع نفسه. يقسو على نفسه كما يقسو على سواه. يقدس هذه الصفات عند الآخرين ويحتقر الضعف والجبن حيث ظهرا، يسخر من عاطفة الشفقة والنزاهة؛ ومن كل الفضائل السائدة اليوم، لأنه لا يراها صفات تليق بسيد. يعجب بالقوة والقسوة والخداع، لأن هذه الصفات تحقق له ظفره في النضال، يحترم الميثاق عند أمثاله الأقوياء، ويجد نفسه في حل مع العبيد الضعفاء، ينكل بهم إذا أراد نكالاً، ويسعدهم إذا أراد إسعادهم. له الأمر في أمرهم. يبذل روحه في سبيل قائده وأميره، ويكرم شيخ قبيلته، ويحترم تقاليد أهله
ألا أن الفضيلة الأرستقراطية لفضيلة قاسية متعصبة، ولما كان الشرفاء أقلية ضئيلة في جحافل كثيرة تتمنى الإيقاع بها، فعليهم أن يصونوا صفاتهم الخاصة التي تضمن لهم الفوز. وتقاليدهم التي اصطلحوا عليها في زواجهم وتربية أبنائهم وارتباط بعضهم ببعض هي من التقاليد العاملة على صيانة ذريتهم من الأخطار. لهذه الذرية الأرستقراطية إلهها الذي تتجسد فيه كل فضائلها التي قادتها إلى القوة وإلى هذا المظهر الذي بدت به، إن هذا الإله هو - إرادة القوة - التي ساقت الزعماء إلى السلطة، وجعلت منهم أقوياء سعداء، والعبادة التي يقومون له بها هي تفسير ابتهاجهم بالحياة على النمط الذي يفهمون منه أنهم جميلون أقوياء
هذه الفضيلة تختلف جد الاختلاف عن فضيلة العبيد، والضعفاء الأذلاء، وإذا كانت الكبرياء والبهجة بالحياة، هي العاطفة التي تموج في صدور الأسياد، فلا عجب إذا نما في صدور الضعفاء التشاؤم، ومقت الحياة، وكره الأقوياء. الأقوياء يكيد بعضهم لبعض. أما الضعيف(116/49)
الغريب الذي يتصدى لهم فويل له، لأن غريزتهم في البأس والقوة لا تشبع إلا بسحقه! لأنهم يعتقدون أنهم بما فعلوا أتوا عملاً جليلاً يحق لهم به أن يغدوا على أفواه الشعراء أسماء مرددة، وهم - في ناظر هذا الغريب المغلوب على أمره - شياطين وقردة؛ تحمل الرعب والهول للآمنين. إن جرأة هذه الطائفة وجنونها وقسوتها، واحتقارها للأمان والحياة واغتباطها العميق بالتهديم وظفرها. كل هذه الصفات ينعتها أولئك المقهورون بالبربر والبربرية، وهكذا رجل القوة والبأس والرجولة في مذهب فضيلة الأسياد يصبح رجل اللؤم والرداءة في مذهب فضيلة العبيد. والرديء الشرير - في عرف الضعيف - هو كل من ارتدى رداء القسوة والعنف والرعب، والجميل عنده كل هذه الفضائل التي يحتقرها الأسياد؛ الفضائل التي تخفف من شدة الظلم، وتمنع إرهاق المظلومين، وترأف بالبائسين المتألمين؛ فضائل الشفقة والرقة والصبر والتواضع والإحسان فضائله. إن العظيم الذي كان محارباً مخيفاً قوياً في شريعة الأسياد، يحول في شريعة العبيد هادئاً حليماً، ويصبح جديراً بالصغار، لأنه بالغ في توانيه عن القتال، وبالغ في لبسه ثوب المساكين
- 3 -
والآن لننظر في هذه القيم الاجتماعية التي أنشأها العبيد، فان الشريعة المسيحية وفضائلها تولدت في تلك البيئة. وعصابة العبيد والضعفاء والمنحطين وجدت زعيمها في الكاهن، ومن هو الكائن؟ ينبغي للكاهن أن يكون (منحطاً) ليمكنه تفهم رغائب شعبه المريض، وهو بعد هذا يجب أن يصون سلطته وزعامته لتتجه إليه ثقة المتألمين، ويكون حارسهم الأمين المسيطر عليهم، وإلههم الذي منه يخشون. وهي مهنة تستلزم منه أن يحرس الضعفاء من الأقوياء، ويعلن العداوة بينه وبين الأسياد. عداوة سلاحها سلاح الضعيف: مراوغة وكذب ورياء. فيحول بنفسه حيواناً مفترساً مروعاً كالحيوانات المفترسة التي يحاربها، ولا تقف مهنته عند هذا فحسب، فهو مضطر إلى أن يحرس الشعب من نفسه ومن النوازع السيئة التي تتمشى عادة في الشعوب المريضة، يقاتل بحكمة وقسوة كل ما يخيل إليه فيه فوضى أو تفسخ أو انحلال، يلمس هذه النوازع الملتهبة ويزيدها ضراماً دون أن يعود ضرر منها على القطيع وعلى راعي القطيع. قد تكون هذه المهنة نافعة من وجه، لأنها تهذب بعض الفاسد، وضارة من وجهه لأنها تقف عثرة في سبيل حركة التقدم الطبيعي(116/50)
ألا نجد (المرفأ) المرفأ الأمين الذي تأوي إليه هذه السفن المشحونة بالمرضى والمتألمين، هو الموت. . . الموت الذي يسكن كل الآلام ويذهب بكل الأوجاع؟ وهؤلاء الذين أظلمت في نفوسهم قوة الحياة تبقى قوة الإرادة عندهم متيقظة تعارك الفناء وتناضل العدم، وهي التي شوهت معنى الحياة عندهم، أمست تمدهم بقواعد للحياة جديدة، وحيل تعمل على تسكين آلامهم، تخدعهم عن حقيقة ألمهم، فيحس الكاهن انتفاعاً بهذه الغريزة الطبيعية، فيسوقها ويديرها ويثيرها حتى يجعل منها آلة سلطته وزعامتها، فيصبح زعيم جماعة لا تحصى من المرضى والمنحطين. وما هو الثمن يا ترى؟
(يتبع)
خليل هنداوي(116/51)
القصص
صور من هوميروس
6 - حروب طروادة
للأستاذ دريني خشبة
لم يبق إذن على الأسطول إلا أن يقلع إلى طروادة فيدمرها تدميراً! ولكن البحر هادئ، والرياح نائمة، ولابد لهذه السفن المثقلة بالعدة والعديد من قوة هائلة تدفعها في هذا الخضم الساخر!
الأيام تمضي دون أن تستيقظ الريح!
والملال يدب في قلوب الجند من طول ما لبثوا في تلك الجهة من شاطئ العابس المتجهم لا يريمون!
والميرة تكاد تنفذ!. . . . .
والخيل تعلك حديدها كأنها برمت بهذا الركود!
- (كالخاس!)
- (مولاي!)
- (أذهب يا رجل فاستوح لنا أربابك ماذا تنبغي لتطلق الرياح؟؟. . . . . . . .)
- (لبيك يا مولاي)
وانطلق عراف الحملة إلى المعبد القريب فمكث غير قليل، وعاد بقلبٍ موهون، وجسمٍ مضعضع، ووجه مغبر، وجبين كاسفٍ معقد
- (ما ورائك يا كالخاس؟!)
- (مولاي!. . . . . . . . .)
- (تكلم! تكلم يا كالخاس!)
- (الآلهة! الآلهة عطشى يا مولاي!)
ولم يتمالك العراف الشيخ أن سقط على نفسه من الإعياء، ومما يخترم فؤاده من الهم! وأسقط في أيدي القادة. . . وعالجوا كالخاس بالماء، ودهنوه بالطيوب، حتى أفاق(116/52)
وقال العراف مخاطباً أجاممنون:
- (مولاي؛ ابنتك يا مولاي!)
- (ابنتي؟! ابنتي من؟)
- (إفجينيا!. . .)
- (ماذا؟ افجينيا مالها؟)
- (لابد من تقديمها قرباناً! لابد من أن يطل دمها على مذبح الإله الأكبر!)
- (ولمه؟)
- (لكي تطلق الرياح من عقالها، ولكي تكون فدى للجيش كله، ولهيلاس جميعاً!!!)
- (يا للهول! لا كانت هذه الحرب!)
وما كاد يقولها حتى تكبكب القواد حوله، وطفقوا يترضونه: (من أجل الآلهة، وفي سبيل الوطن!)، والرجل يبكي وينشج، ويذهب نفسه شعاعاً!!
وأمرهم أن يتركوه وحده ليرى رأيه. . . .
فلما انصرفوا دعا إليه كالخاس، وأخذ معه في حوار طويل، ثم رجاه أن يذهب إلى المعبد فيضرع إلى الآلهة، عسى أن تقبل قرباناً آخر غير هذه الفتاة الحبيبة المنكودة، مهما غلت قيمة هذا القربان!
وعاد كالخاس، وأخبر أن الآلهة لا تبتغي بافجنيا بديلا!
وانهزم أجاممنون الأب، وانتصر أجاممنون المؤمن التقي الورع، الذي يقدس الآلهة، ويعرف لها قدرها، فأمر بقرطاس وقلم، وكتب إلى زوجه كليتمنسترا:
(بشراك يا حبيبتي!
أتعرفين أخيل؟
أخيل الذي أصبح ملء الأسماع والأفواه والقلوب! بطل هيلاس الذي وعدتنا الآلهة طروادة على يديه! الشاب الوسيم القسيم القوي الأبي الشجاع! يتقدم أخيل لخطبة إفجنيا - ابنتنا المحبوبة - ويود لو تزف إليه قبل أن يقلع الأسطول لتدمير طروادة! إنه لاشك سيرى في مرآة إفجنيا وطنه، وحينئذ يكون حرباً على الأعداء، ونقمة عليهم من السماء!
أرسليها أيتها العزيزة، وأحب إلى أن تسرعي بإرسالها من دون ما جلبة ولا عناد، فالوقت(116/53)
ضيق ونحن على وشك الإبحار)
(أجاممنون)
وانطلق رقيق عجوز بالخطاب إلى آرجوس. . . حيث تثوى كليتمنسترا في قصرها المنيف (أتريدي) مع أبنتها أفجنيا، وأبنائها الآخرين!
وخفق قلب الفتاة حينما أخبرتها أمها أن أخيل يريد يدها. فقد كانت هيلاس كلها تتحدث باسم الفتى، وتصلي للآلهة التي وفقته للانضمام إلى الجيوش الغازية
خفق قلب إفجنيا. . . وكأنما غرقت في لجة من الأحلام التي تجيش عادةً في قلوب العذارى، حين يمر بهن هذا الطور الناعم الجميل من أطوار الحياة. . .
ولكن ما الذي أوحى إلى أجاممنون بهذا التدبير؟ ولم أختار هذه الحيلة المكشوفة لاستدعاء ابنته التاعسة؟ لا ندري!
لقد مرت أيام دون أن تحضر إفجنيا. ولم يكن الطريق طويلاً أو شاقاً بين أوليس وآرجوس حتى تتأخر كل هذه المدة. . . فهل حدث شيء؟. . .
وكأنما طول الانتظار قد أثار العاصفة من جديد في قلب أجاممنون الأب! فبدا له ألا يصدع لهذا الظلم الأولمبي، ولو صار بعدها زنديقاً ملحداً مطروداً من جنة الآلهة، مغضوباً عليه من قلب الوطن!!
قد كان!
فانه استدعي الرقيق العجوز، الذي كان يحمل دائماً بريد القائد العام إلى آرجوس، ودفع إليه برقعة أمر فيها ألا تحضر إفجنيا!! وأمره أن يسرع بها إلى زوجه، قبل أن تكون قد أخذت أهبتما للسفر!
وا أسفاه!
لقد لقي منالايوس - شقيق أجاممنون وزوج هيلين وملك إسبارطة؛ والذي من أجله شبت هذه الحرب - الرقيق العجوز حامل الرسالة، فاستوقفه وقرأها!
ودارت الدنيا بالملك المحزون، واحلولكت الحياة في عينيه وقصد من فوره إلى أخيه فانتهره، ونشبت بينهما معركة حامية من السباب والتعيير. يدفع أجاممنون عن ابنته، وفلذة كبده، ويفتديها بنفسه وبالدنيا وما فيها، ويعيره منالايوس بالمروق من الدين، وعصيان(116/54)
الآلهة، وشق عصا الطاعة على السماء!
وإنهما لكذلك، إذا برسول بعلنهما أن كليتمنسترا، زوجة أجاممنون وابنتها إفجنيا، تستأذنان في المثول بين يدي الملك، ويدي القائد العام!!
يا لسخرية المقادير؟
يتفجر الحنان في قلب منالايوس المتحجر، ويرق لأخيه البائس الملتاع، فيقول له: (أخي! أنقذها يا أخي! إنها ابنتي كما هي ابنتك، فأنقذها كما يحلو لك!!)
ويبهت أجاممنون لهول الموقف، ولا يدري ماذا يقدم أو يؤخر؛ ثم يراه واقفاً وحده يبكي. . . كما يبكي الأطفال. . . بعد إذ غادره أخوه
ويلمح زوجه مقبلة، فيصلح من شأنه، ويتكلف البشاشة والتبسم، وإنها لبشاشة باكية، وإنه لتبسم حزين!!
- (أهلاً أهلا إفجنيا!! مرحباً مرحبا كليتمنسترا! سفر حميد ورحلة طيبة!!
- (أين أخيل، وماذا أعددتم للاحتفال بالعروسين؟)
- (أ. . . أ. . . أجل. ولكن لابد أن تعودي أنت إلى آرجوس!)
- (أعود إلى آرجوس! أعود واترك ابنتي!)
- (أجل! تعودين وتتركين إفجنيا!)
- (والعرس! وإعلان الخطبة على الأقل؟ ألا أحضر شيئاً من ذلك؟ هذا لا يكون! لن أعود حتى أشهد كل شيء!)
وتصر كليتمنسترا على بقائها حتى تحتفل بابنتها، وحتى ترى إلى هذا العسكر المجر والأساطيل المنتشرة في البحر كالدبى، تحي ابنتها وتحي أخيل، وترقص طرباً للعروسين!!
ثم يحدث ما ليس في حسبان أحد!!
يحضر أخيل ليقابل القائد العام، وليبدي له سخطه وسخط جنوده (الميرميدون) من طول هذا الانتظار الذي يبدو أن ليس له آخر. . . ويلح لديه في وجوب الإقلاع إلى طروادة مهما كلفهم الأمر!
وما تكاد كليتمنسترا تسمع كلام أخيل، وتسمعه يذكر فرقة الميرميدون المشهورة في جميع الآفاق ببسالتها وكلفها الخارق بالحروب، حتى تعرفه أنه أخيل. . . أخيل بعينه. . . خطب(116/55)
ابنتها. . . وزوج إفجنيا الحبيب!
فتتقدم إليه هاشةً محيية، حتى إذا أنس إليها، بدهته بالسؤال عن العرس!
- (عرس؟ عرس ماذا؟)
- (عرس ماذا؟ ألست أخيل! ألست قد تقدمت إلى أجاممنون، أمير آرجوس، تطلب أن تكون إفجنيا زوجة لك؟ ألم تطلب يد إفجنيا؟ تكلم!. . .)
ولكن أخيل يسمر مكانه باهتا، لا يدري ماذا يقول، لأنه لا يعرف مما قالت السيدة شيئاً!! وتحملق الملكة في أخيل طويلاً، ويتصبب العرق من جبين إفجنيا، الفتاة البريئة، لما ترى من حيرة أمها، وارتباك هذا الجندي الباسق الجميل، الذي كانت تحلم به زوجاً كريماً لها؟!
وكأن هذا الموقف لم يرض أحداً. . . حتى الرقيق العجوز، حامل بريد القائد العام؛ فقد انفجر هذا الخادم الأمين من شدة الحنق، فباح بكل شيء. . . . . .! باح بكل ما سمع من تحاور منالايوس الملك، وأجاممنون القائد الأعلى، بخصوص هذا الزواج المفترى: (مولاتي الملكة! خذي حذرك لفتاتك المسكينة، إنها ستذبح! إن الكهنة الأشرار سيذبحونها اليوم ليسقوا أربابهم الظامئة من دمها الثمين! إن أخيل الكريم لم يتقدم ليطلب يد إفجنيا! بل هو لا يعرف من أمر ذلك قليلاً أو كثيراً! هاهو أمامك فاسأليه!. . .)
وكأن صواعق السماء جميعاً نزلت على قلوب القوم!
لقد تحطمت كليتمنسترا!
وذاب الثلج في عروق إفجنيا!
وزلزل أجاممنون!
أما أخيل! فقد شده، وحجبت ناظريه سحابة كثيفة من الذهول! ثم ما هو إلا أن أفيق فاضطربت به الأرض، وأحنقه أن يتخذ مطية لهذا العبث العابث، والسخرية المهينة!
وصاح الشاب كأنه أسد مهيج، وانقدح شرر الغضب من عينيه، حتى خيف أن يبطش بأجاممنون وجنوده،. . . كيما يثأر لاسمه، ويطهر كرامته. . .
وانتهزتها الملكة فرصة غالية لتنقذ ابنتها من القتل، فانبطحت عند قدمي أخيل تقبلهما، وتغسلهما بدموعها، متوسلة إليه أن يدفع عن إفجنيا، ويحول بينها وبين الموت!
- (فان لم يكن بحسبك أن أمرغ خدي تحت قدميك لتكون حامي ابنتي، فإنها هي أيضاً(116/56)
تفعل مثلي يا أخيل! إنها تمرغ حر جبينها عند موطئ هذه القدم الطاهرة لتكون حاميها وحارسها!!)
- (قفي يا سيدتي! وكلمي أباها في شأنها، فان لم يحل بينها وبين الموت، فإني سأقتتل من دونها حتى أنقذها من الهلاك، ولو حاربت هيلاس جميعاً!!)
وترجو الأم زوجها أن يحول بين ابنته وبين هذه القتلة الشنيعة؛ ويتصدع قلب أجاممنون، وتنهمر دموعه شفقة على الفتاة التعسة. . . فيعد! ولكن. . . لآت حين موعد!!
لقد نمى إلى العسكر أن أخيل أنذر أن سيقف دون الدم الذي أمرت الآلهة أن يراق فغيظوا وأحنقوا، وذهبوا إليه يتحسسون جلية الأمر، فصارحهم به، فانقضوا عليه يرشقونه بألسنتهم الحداد، ويرجمونه بحجارة الشاطئ. . . فولى مدبرا!!
وريعت الأم حين رأت إلى الميرميدون - جنود أخيل الأمناء - يرجمون سيدهم فيمن يرجمه من الجنود الآخرين، فعولت على أن تحمل السلاح وتقف إلى جانبه، تذود هؤلاء الوحوش!!
ولكن إفجنيا الصغيرة! إفجنيا الفتاة! إفجنيا العظيمة! وقفت في وجه أمها، وصرخت قائلة:
(مكانك يا أماه! لن يموت أخيل من أجل فتاة!
من أنا حتى يفتديني هذا البطل العظيم؟ وما حياتي التافهة في حياته المذخورة الغالية؟. . . إن رجلاً يحارب من أجل هيلاس، أجدر بالحياة من عشرة آلاف امرأة لا يستطعن إلى حرب من سبيل؟
أيها الجنود!
خلوا سبيل سيدكم، فلن تفتح طروادة إلا عليه، كما أخبرت بذلك آلهتكم! ومادام النصر معلقاً بحياتي، فكم يبهجني أن أفتدى الوطن، وأرضى أربابي!! أن هيلاس كلها تنظر إلي اليوم! فهل فخرأكثر من أن أكون عند حسن ظنها بي!! أنا لها! أنا أفديك يا وطني! أماه! لا تحزني! انظري إلي! هأنا أبتسم للموت. . . . للقتل. . . . للذبح. . . . هلموا يا سادة. . . . هلموا. . . أين المذبح. . . صلوا من أجلي. . . تحيى هيلاس!. .)
وفي هذه اللحظة فقط، تكبر إفجنيا في عيني أخيل، فيتمنى لو أجلت في حياتها لتكون زوجة كريمة له. . . ويعرض استعداده للمنافحة عنها بسيفه، ولكنها تنهاه، وتوصيه أن(116/57)
يعيش لوطنه، ويذب عن بيضته، ويعلي كلمته. . .
وتنسكب دموع أخيل. . .
ويسير الجميع وراء إفجنيا العظيمة. . . إلى. . . المذبح!!
فيا للفتاة. . .
ويا للأم. . .
ويا لأخيل البطل!
وتضع إفجنيا رأسها على رخامة المذبح، ويرهف الكاهن مديته. . . ولكن؟. . . لقد شده القوم. . .! ونظر بعضهم إلى بعض. . .!
انهم ينظرون فلا يرون إفجنيا!!
بل يرون مكانها ظبياً. . . رشاً غريراً!!
إذن هي المعجزة!!
لقد تفطر قلب ديانا الكريمة من أجل الفتاة، فهبطت من ذرى الأولمب لتنقذها. . . فرفعتها إلى السماء. . . ثم أرسلتها لتكون راهبة معبدها العظيم في مملكة توريس!!
وارتفعت أغاني الغواني. . .
يسبحن للآلهة العطشى!!
(لها بقية)
دريني خشبة(116/58)
أقصوصة عراقية
نكتة العمامة
للأستاذ محمود. أ. السيد
على الشرفة الغربية الكبرى، في فندق دجلة الكبير، المشرف على الصالحية وجسرها، في ذات ليلة قمراء من ليالي صيف عام 1935، كنا جماعة صغيرة من أخوان الصفاء، فيها طبيب وكيميائي وصحافي وأديب؛ نحف بسيدة فاضلة، وافدة من بلاد المجر للسياحة ودراسة تقاليد العرب، وأطوار سكان البادية، وأحوال العامة، والأدب الشعبي غير المكتوب في العراق نكرمها مكبرين همتها القعساء التي جشمتها عناء السفر إلى بلادنا، في هذا الفصل الذي يشتد حره؛ فهرب منه كثير من أهلها المترفين إلى مصائف لبنان وغير لبنان، فراحت تتنقل بين القبائل أياماً وأسابيع، ثم تعود إلى هذا القصر الذي أعده أصحابه نزلاً للتجار والسياح والسياسيين والعلماء الأجانب من الأوربيين وأمريكيين وغيرهم، لتدون مذكراتها العلمية، وتسجل ما تقف عليه من قصص وأساطير، وما يحكي لها الرواة من حكايات وروايات تستعين بها على أداء مهمتها العلمية، ولتستريح يوماً أو أياماً قليلة ثم تعود إلى زيارة القبائل والتنقل في القرى والمدن باحثة مدونة ثم تعود. . .
ومع أنها كانت تبدو للرائي في أقل من الأربعين من العمر، فقد كان يعلوها جلال الشيوخ. وهي تنتمي إلى (عصبة علمية) تضم رجالاً أفذاذاً من الباحثين وعلماء المشرقيات. طويلة القامة، مغولية الملامح، لأنها من سلالة الهون. عالمة بخمس لغات ومنها التركية الحديثة التي تعلمتها في أستانبول. وقد عرفناها في ذلك الفندق مصادفة. وكنا نؤمه كل ليلة - في الشتاء والصيف - لنزجي فيه بعض أوقات فراغنا بالحديث والمسامرة، واستطلاع طلع (الغربيين) الكثيرين الذين نراهم فيه، فنتقرب إليهم متشوفين، متبينين نواياهم ونوايا حكوماتهم في بلادنا، منافحين عنها، ذاكرين لهم ما يخفى عليهم من محاسنها، وما في طبيعة قطينها وقطين الشرق كله، وقرارات نفوسهم من سمو في الخلق والعاطفة وقرب إلى الإنسانية والحق والخير، ناعين على الغرب ماديته وحضارته الرأسمالية الاستعمارية. وكثيراً ما كنا نجادلهم عن إيمان بحقنا وبحق الشعوب المظلومة في الحياة، فننتصر عليهم أحياناً بقوة الحجة، وينتصرون علينا أحياناً بالعناد والمغالطة والمكابرة وما إليها مما يتسلح(116/59)
الغربي به في مناضلة الشرقي اليوم
وكان اسم هذه السيدة المجرية ماجدا
قالت ماجدا تخاطبنا في شيء من الاستغراب: - (إليكم حادثة من حوادث قطركم هذا ما كان أغربها عندي إذ تلوتها مجملة في هذه الجريدة الإنكليزية التي تصدر عن عاصمتكم دار السلام بل التي كانت يوماً ما دار السلام)
وأخرجت جريدة (التيمس) البغدادية من حقيبتها فألقتها على المائدة التي كانت في وسط مجلسنا مغطاة بأقداح الشاي وعدته. ثم ابتسمت ابتسمنا مدركين المعنى المقصود بقولها عن بغدادنا (التي كانت دار السلام) لأنها أصبحت دار الحرب منذ سنة 1917، الحرب النارية الدامية أولاً، والحرب السياسية ثانياً، وقالت:
- (هل يصدق أحد منا نحن معشر الأوربيين لو سمع هذا الخبر في بلده، إذا كان يجهل حقيقة الحياة الاجتماعية في بلادكم: أن صبياً في الحادية عشرة من العمر وأخاً له أصغر منه يقتلان أختاً لهما لأنها انحرفت عن صراط العفاف. هذا ما تقوله هذه الصحيفة - اليوم - عن صبيين من حي (باب الشيخ). فواعجبا! حتى الصبيان تجعل منهم النخوة البدوية والغيرة قساة ذابحين؟)
قلت وقد بدا لي أن أهون عليها ما سمعت:
- (لقد نقلت هذا الخبر جريدة أخرى وقالت عن الصبين القاتلين إنهما يحترفان نحر الجزور لدى جزار. وربما كان احترافهما هذه الحرفة التي ألفا فيها رؤية الدماء والضحايا من الخراف وغيرها صباح مساء ذا أثر عميق في نفسيهما، فهان عليهما ما فعلا. وأرجو ألا ترى سيدتي الفاضلة في ذلك دليلاً على وجود ميل طبيعي في مواطنينا إلى التوحش وقتل الإنسان. . . وأردت أن أعلل الدوافع التي دفعت الصبيين إلى إتيان هذا الأمر، فلم تدع لي مجالاً للكلام، بل قالت، وقد مضت ترتشف الشاي وتبدي إعجاباً خارجاً عن موضوعنا بالقمر الزاهر المضيء فوق دجلة، في سماء معروفة بجمالها لدى كل غربي ساح في البلاد العربية وبلغ بغداد:
- (كلا لم يخطر ببالي أن أتهم العرب العراقيين بالميل إلى التوحش وقتل الإنسان لعين الأسباب التي تدفع غيرهم من أبناء البلاد المتأخرة إلى القتل وإزهاق الأرواح ظلماً(116/60)
وعدوناً. ولكنني استغربت أن تقع في مثل هذه الآونة مثل هذه الحادثة التي تدل على روح قديم وعادات، كنا نقرأ في الكتب الباحثة في أحوال العرب وعاداتهم وأخلاقهم وتاريخهم أنها كانت، وحسبنا أنها زالت من جراء الاحتكاك والاتصال بالغرب، بعد دخول البريطانيين هذه الأقطار، منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً، الاتصال الذي له حكمه في تغيير العادات والأخلاق)
قال طبيب من أصحابنا باريسي التحصيل لاتيني الثقافة:
- (لاشك في أنه كان لدخول الإنكليز بلادنا واتصال الغربيين بنا واتصالنا بهم اتصالاً لم يكن من قبل، تأثير في تغيير بعض العادات والأخلاق في المدن الكبرى ولا سيما العاصمة؛ ولكننا لو نظرنا ملياً في التغيير الذي حدث لوجدناه منحصراً لدى الطبقة العليا، وبعض أبناء الطبقات الأخرى، في الأسر التي تعددت فيها الدماء واختلف ميراث السلالات المختلفة المتواشجة بالتزاوج. فكانت النتيجة حدوث انحلال أخلاقي في أفرادها، لا نرى له مثيلاً في أبناء القبائل والأرياف والبوادي والعامة في المدن - الذين هم في الأصل القديم من أبناء القبائل - والذين ينتسب إليهم هذان الصبيان. ألا تؤيدونني في هذا الرأي يا رفاقي؟)
سكت بعضنا، وقال بعضنا:
- (بلى)
وقال أحدنا وهو الصحافي:
- (أن أكثر عاداتنا تقاليدنا - وقولي تقاليدنا أصح من قول السيدة الفاضلة والأخ الطبيب أخلاقنا - لم يتغير بعد. وأعني بتلك العادات والتقاليد ما كان متأصلاً في روح الشعب ممتزجاً بدمائه منذ قرون وأزمان. فالعراقي العربي الخالص في الزمن القديم الذي كان يقتل زوجه أو أية امرأة من آل بيته وذوي قرباه إذا ما حادت عن طريق العفاف واستزلها شيطان من الإنس وعبث بها فأثمت معه، هو هذا العراقي العربي - سواء أكان خالصاً في عروبته أم لم يكن وهو يدعيها - الذي يعيش في القرن العشرين، والذي يمثله خير تمثيل بطلا الحادثة التي أتاحت لنا الفرصة لهذا الحوار، إلا ما شذ من الناس. وهؤلاء الشاذون ممقوتون مكروهون يلبسون ثياب الخزي والعار أنى حلوا وأقاموا. وقد يوجد فارق بين(116/61)
رجل الأمس الذي كان يقدم على القتل وسفك الدم في بيته لدرء العار عنه، على الشبهة والظن، ورجل اليوم الذي يتبين ويتريث حتى يأتيه اليقين بما يصح أن يدعوه إلى ما لابد له منه لكي يجري حكم التقاليد، ويحيا في قومه عزيزاً شريفاً لا يطأطأ رأسه العار ولا يذله، ولكن هذا الفارق طفيف)
قالت وقد لذها الحديث وزادها الولع بتدوين الحكايات والروايات عن تقاليدنا وعاداتنا شوقاً إلى استماع شيء جديد مما يدخل فيما خضنا فيه:
- (ألا تحدثوني بحادثة من حوادث العهد السابق لعهدكم الحديث، أسجلها إلى جانب هذه الحادثة التي سوف أستقصيها وأدونها بتفاصيلها، فإنها تغني عن كثير مما يصح أن يروى عن قوة التقاليد - على ما يسميها السيد الصحافي - وشرف العامة وغيرتهم وحرصهم على المرأة من أن تمتد إليها يد الغريب بما يشينها ويدنسها؟)
قلت:
- (أي عهد تعنين؟)
- (العهد الذي ختمته نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ أننا نعتبر تلك النهاية آخر خيط من الليل السابق لعهد اليقظة في بلادكم، وبداية الاتصال بالعالم المتمدن)
قلت:
- (سأقص عليك قصة البطل الغيور عبد الحميد، وهي قصة لحادثة واقعة في النصف أو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مما حكى لنا مشايخنا من حوادث بلدنا هذا، قالوا:
نكتة سوداء من سخام القدر كانت في عمامته ذات يوم، لم يفطن إليها، وقد جاء القهوة كما كان يجيئها كل يوم، مرفوعاً رأسه على الرؤوس، مفعمة نفسه بخيلاء الفحولة وكبرياء البطولة، البطولة التي اعتلى عرشها المكين في البلد بحق، فهابه الناس على اختلاف طبقاتهم، وتناول الرواة في الأحياء أخباره في كثير من الواقع الخطيرة التي صادف والأحداث التي شهد
وكان الشطب - وهو آلة التدخين عند القوم في ذلك الزمن - المفضض الطويل في يسراه يدخن به مفكراً صامتاً ساهما، والدخان ينبعث من بين شدقيه كثيفاً
لقد قال له صاحبه أحمد العلوي، وقد لقيه في الطريق قادما من بيته قبيل ساعة: (إن وسخا(116/62)
أو سخاماً على رأسه)، وانصرف لطيته. . . . وكان الناظر إلى وجهه يرى الشر عليه بادياً في وضوح
وما عتم أن قام إلى بيته متثاقل الخطى، قابضاً بيده اليمنى على خنجره، رسول الموت الذي طالما أزهق الأرواح
وعاد بعد قليل، فاقتعد مكانه الأول من القهوة، وجعل يدخن، كما كان. . .
ومر به صاحبه، وكانت القهوة حافلة بالكهول والشيوخ ذوي النظرات القاسية والعمائم الكبيرة، فنظر إليه قليلاً، ثم أقبل عليه، فجلس إلى جانبه، ومال إليه برأسه يكلمه همساً:
(أن في عمامتك لنكتة سوداء نبهتك إليها فلم تزلها بعد)
كان الجواب نظرة تطاير منها الشرر، ولكن أحمد لم يفقه لها معنى
وكان سكوت، ثم قام الرجل تاركاً صاحبه جالساً في مكانه، دهشاً، ومشى إلى بيته متثاقل الخطى، قابضاً بيمينه على خنجره ذلك الذي طالما أزهق الأرواح
وعاد بعد قليل فاقتعد مكانه الأول من القهوة، بجانب صاحبه، ثم جعل يدخن كما كان. . .
قال له أحمد:
- (غريب هذا الذي أرى منك أيها الأخ! هل أنت آت من بيتك؟ كيف غفلت كذلك عن إزالة النكتة من السخام التي في عمامتك؟)
وهنا أنفجر الرجل من شدة الغيظ، وقام على قدميه مرتجفاً، وقد دارت به الأرض الفضاء:
- (ويلك لم تبقى إلا أمي العجوز!)
تلك هي القصة التي قصها علينا المشايخ فيما قصوا وحفظوا من حكايات بغداد في زمن قديم خلا
لقد نحر عبد الحميد زوجه وأخته بيده، واحدة تلو أخرى، كما ينحر الجزار الخراف والبقر، ليزيل السخام من عمامته. فعمامته هي التاج، تاج الشرف والعرض والكرامة فوق هامته في هذه الحياة، وشرفه وعرضه وكرامته شرف أسرته وعرضها وكرامتها، وكل أولئك من شرف قبيلته وحيه وعرضهما وكرامتهما، فان وسخ العار ذلك التاج ودنسه فلا يطهره منه إلا الدم والموت. ولم يلم الرجل على ما فعل أحد، لأنه فهم ما قال له صاحبه على غير حقيقته، بل لاموا صاحبه الذي لم يستطع إيضاح ما قصد بعبارته التي توهم سامعها(116/63)
الإشارة والرمز إلى العاب والعار. فعبد الحميد كان يمثل العربي العراقي ابن الشعب والقبائل بالأمس، وإن كان يسكن داراً في بلد لا خيمة في بادية؛ وهذان الصبيان يمثلانه اليوم أتم تمثيل. فهما وذاك في الحقيقة واحد في ثلاثة، وإن تباعد بينهما وبينه زمانهما وزمانه)
قالت وكأنها استدرجتني إلى استعلام رأي لي فيما كنا نتحدث فيه:
- (وما رأيك أنت في هذا العقاب الذي كانت تعاقب به المرأة عندكم إذا ما زلت بها القدم، وما زالت تعاقب به؟)
- (لا يسمي الناس قتل المرأة عندنا إذا أثمت عقاباً، بل يسمونه - بحكم العادات والتقاليد الموروثة - محوا للعار وتطهيراً للعرض من الدنس. وإذا كنا نعتقد أن حياة الشعب المادية هي التي تملي عليه منهاج أخلاقه وتقرر له عاداته وتقاليده.)
- (بلى. أعتقد ذلك. . .)
- (. . . فان الحياة المادية لشعبنا الفقير المسكين لم تتغير بعد تغيراً جوهرياً بالاتصال بالغرب لكي تتغير تلك العادات والتقاليد لديه، بل تغيرت الحياة المادية في القصور، ولدى بعض المتفرنجين من الموظفين، وقولي هذا تعليل متمم لما كان قاله أخونا الطبيب. . .)
(العراق، الأعظمية)
محمود. أ. السيد(116/64)
البريد الأدبي
جوابي لأخي محمد سيكون قصيراً كما تراه
إنني في كتاباتي عن الشيخ جمال القاسمي رحمه الله لم أدخل في علم الحديث دخول من تصدى لترجيح أو تجريح وخاض في الحديث خوض من يعلمه، بل بقيت واقفاً على الشاطئ، على حين أخي محمداً الكرد علي دخل في الموضوع وحكم فيه حكمه، وهو مع ذلك يقول إنني أنا وإياه لسنا من هذا العلم في وردٍ ولا صدر. فإذا كان الأمر كذلك فما كان أحراه بأن يترك انتقاد كتاب مؤلف في الحديث الشريف، وقد أطنب في وصفه مثل الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا رحمه الله الذي إذا تكلم في هذا الفن يقال: القول ما قالت حذام
أنا كان أكثر كلامي في محاسن الأستاذ الكبير الشيخ جمال القاسمي تغمده الله برحمته؛ فان كنت لست من علماء الحديث فأني لست جاهلاً معرفة الرجال، ولا مسلوباً مزية التمييز بينهم، ولولا حسن فراستي ما كان الأستاذ كرد على عظيماً في عيني، وقد اخترته لأخائي منذ اثنتين وربعين سنة
أما السجع وما أدراك ما السجع، فالكلام العربي ينقسم إلى مرسل ومسجع، وموزون ومقفى، ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة مقام يحسن فيه أكثر من غيره، والمرسل هو الكلام المعتاد الطبيعي الذي به أكثر تفاهم الناطقين بالضاد. والموزون المقفى هو الشهر الذي لا رونق للغات بدونه. والسجع وسط بين المرسل والموزون، وله وقع في النفوس لا جدال فيه، ويكفيه من الشرف أن كتاب الله تعالى قد نزل بهذه الطريقة، وأن نهج البلاغة وكثيراً من كلام أفصح العرب هو من النوع المسجع. ولا يقال في بديع الزمان والخوارزمي والصاحب والصابي والقاضي الفاضل وأمثالهم إنهم لم يحسنوا القول. فان كانت اللغات الأوربية ليس فيها سجع إلا ما ندر، فليس هذا بحجة على اللغة العربية، فلكل لغة خواص تمتاز هي بها، وقد خلق الله الناس أذواقاً مختلفة، وجعل لكل أناس مشربهم، والعرب غير العجم، والشرق غير الغرب
جنيف 10 جمادى الآخرة
شكيب أرسلان
إلى الأديب الزحلاوي(116/65)
اطلعت على كلمتكم المنشورة بعدد (الرسالة) الأخير. الخاصة بقصيدتي المنشورة في (مجلتي) ولما كنت لم يسبق لي التشرف بقراءة شيء، ولم أسمع مطلقاً قبل اليوم عن شاعركم الدمشقي عفلق أفندي؛ فإني أرجوكم أن تتكرموا بنشر قصيدتي وقصيدته معاً. وأعتقد أن الأستاذ صاحب (الرسالة) لا يمانع في ذلك مادام قد سمح لك أن توجه ما كتبت إلي
والفت نظر زحلاوي أفندي إلى أن المقطعين الذين انتخبهما لي ولعفلق أفندي ليس فيهما ذرة من التشابه، فما الشبه، بين (أعولي يا جراح) و (اعصفي يا رياح)، وما الشبه بين (أسمعي الديان) وبين (اهزئي بالسماء)!! إن هذا لفهم عجيب
ختاماً لك وللأستاذ صاحب الرسالة تحياتي.
الدكتور إبراهيم ناجي
حول مستعرب عظيم
اطلعت في العدد الخامس عشر بعد المائة من (الرسالة) الغراء على مقالة الأستاذ المؤرخ محمد كرد بك التي يترجم فيها للأستاذ المستشرف الدكتور ف. كرنكو، ويثني على خدماته لأدب العرب
وقد رأيت من الواجب أن أستدرك على الأستاذ كرد علي بك بعض ما أعرفه عن هذا المستشرق المخلص. فقد كان أستاذاً للآداب الإسلامية في جامعة في ألمانيا، وكان مما يدرسه هنالك (كتاب علوم الحديث لابن الصلاح)، كما هو من أعضاء بعض المجامع العلمية
ومن عظيم خدماته تحقيقه لمعجم الشعراء للمرزباني الذي طبع في القاهرة في هذا العام؛ وفي مقدمته (المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وألقابهم وأنسابهم، ومختار أشعارهم للآمدى)
ومما صححه كتاب (من يسمى عمراً من الشعراء)، وهي رسالة بعث بها محمد بن داود بن الجراح إلى أبي أحمد يحيى بن علي ابن يحيى بن أبي المنصور المنجم. ترجم فيها لما يزيد على مائتي شاعر ممن يسمى عمراً(116/66)
وصحح أيضاً التاريخ الكبير للبخاري، وهو تحت الطبع في الهند. . . إلى غير ذلك مما يستحق عليه شكر العلماء والأدباء من أهل الشرق والغرب
محمد شفيق
النونة
تابع الأستاذ (دريني خشبة) في مقالة في (الرسالة) (العدد 113) بعض الكتاب في إطلاق لفظ (النّونة) على الخط الذي يلي الأنف في الخد البارز المستدير، وسأل الرسالة رأيها في صحة هذا الإطلاق
والمعروف أن (النونة) هي النقرة في ذقن الصبي، كما جاء في اللسان والقاموس والتاج والنهاية وغيرها، وفي حديث عثمان أنه رأى صبياً مليحاً فقال: (دسموا نونته كي لا تصيبها العين) أي سودوها. وقال الأزهري: هي الخنعبة والثومة والهزمة والوهدة والقلدة والهرتمة والعرتمة والحثرمة
على أن الخنعبة والثومة ليست النقرة في الذقن كما قال الأزهري، ولكنها مشق ما بين الشاربين، أي إنما هي هذه الوهدة التي تمتد من وترة الأنف إلى منتصف الشفة العليا
والهزمة كل نقرة في الجسد، وتخص بالنقرة التي في أعلى الصدر مما تحت العنق
والهرتمة والحثرمة والعرتمة: الدائرة التي في أعلى الشفة العليا، وليس في ذلك ما يصح إطلاقه على الخط الذي يلي الأنف، وإنما ذلك الخط هو القسمة، والله أعلم.
علي الطنطاوي
سيرة تيمورلنك
سألني أحد أدباء الخرطوم عن كتاب عربي يقرأ فيه سيرة الفاتح التتري الكبير تيمورلنك، فأجيبه على صفحات الرسالة بأن أنفس مصدر في هذا الموضوع هو كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) لشهاب الدين المعروف بابن عربشاه الدمشقي؛ وهو قطعة فذة من الأدب التاريخي والبيان الرائع؛ وقد كتبه مؤلفه بعد وفاة تيمور بنحو جيل فقط، واستقصى أخباره من مصادرها ومواطنها، وشهد غزوه لدمشق صغيراً، وقد طبع هذا الكتاب مراراً بمصر وأوربا وترجم إلى اللاتينية منذ القرن السابع عشر(116/67)
ويستطيع الأديب الفاضل أن يقرأ طرفاً من أخبار تيمور أيضاً في تاريخ مصر لابن اياس (ج1 ص326 وما بعدها) وفي النجوم الزاهرة في حوادث سنة 801 و802 و803 و804هـ؛ وفي السلوك في دول الملوك للمقريزي (مخطوط) في الأجزاء الأخيرة؛ وبالإنكليزية في كتاب جيبون (الفصل الخامس والستون)، ويستطيع أن يقرأ عن ابن عربشاه مؤرخ تيمور وعن بعض المصادر المتعلقة به في كتابي (مصر الإسلامية) (الفصل الخامس من الكتاب الثاني)؛ وفي كتابي أبن خلدون (ص80 - 86)
م. ع. ع
كتاب عين النقد المصري
لفت نظرنا فصل نشرته جريدة (تسيرشر تسيتونج) السويسرية الألمانية في صحيفتها التجارية في عددها الصادر في 5 سبتمبر عن كتاب اقتصادي ألفه أحد مواطنيها المصريين بالإنكليزية، ونشرته إحدى شركات النشر في لندن، وعنوان الكتاب هو: (النظام النقدي في مصر) ومؤلفه هو الأستاذ محمد علي رفعت. وفي هذا الفصل عرض دقيق ممتع لما احتواه الكتاب، فهو يتضمن تاريخ النقد المصري من سنة 1834، أي منذ عهد الإصلاح أيام محمد علي إلى سنة 1885، أي إلى بدء الاحتلال الإنكليزي، ثم إلى سنة 1914؛ وشرحاً وافياً لنظام النقد في مصر؛ ويخصص المؤلف فراغاً كبيراً للتحدث عن المؤسسة المصرية الاقتصادية الكبرى أعني بنك مصر، ونموه السريع المدهش، ونشاطه المشعب الذي يحمل على الإعجاب، وشركاته العديدة التي شغلت أعظم ركن في النهضة الاقتصادية، وأثره القوي في تطور الاقتصادي المصري، ويعتبر المؤلف إنشاء بنك مصر، بحق فاتحة النهضة الاقتصادية المصرية وعمادها الحصين. ويحدثنا أيضاً عن أحوال البنوك في مصر بصفة عامة، وعما للمال الأجنبي من أثر كبير في شؤوننا الاقتصادية وغير ذلك مما يتعلق بموضوع مؤلفه
هذا هو ملخص الفصل الذي قرأناه في جريدة (تسيرشر تسيتونج)، ولم نحط برؤية كتاب الأستاذ رفعت، ولكنا اغتبطنا أن تهتم جريدة سويسرية نائية بنقد كتاب لمواطن فاضل. والذي يدعو إلى الأسف في ذلك هو أنه بينما نجد مثل هذا الاهتمام من جانب الصحافة(116/68)
الأجنبية بالجهود العلمية أيا كان مصدرها، إذا بنا نجد الصحافة المصرية على النقيض من ذلك لا تكاد تهتم باستعراض أي مجهود علمي محلي، ولولا أنها نلزم هذا الركود النقدي المؤلم، لكنا قرأنا عن كتاب الأستاذ رفعت وكتب غيره من مواطنينا الفضلاء، فصولا وفصولا قبل أن نقرأ عنه في الجريدة السويسرية. فمتى تعنى صحافتنا بهذا الجانب المنسي من مهمتها؟ ومتى تعنى بالنقد العلمي الصحيح، وتحله منها المكان اللائق؟
شعر الزهاوي يترجم إلى الألمانية
ترجم الأستاذ الدكتور ودمر أستاذ فلسفة في جامعة برن إلى اللغة الألمانية شعراً ملحمة الأستاذ الزهاوي التي عنوانها: (ثورة في الجحيم) مع خمسين قصيدة وثلاث وخمسين رباعية، ونشر كل ذلك في كتاب جعل عنوانه: (جميل صدقي الزهاوي) وقد صدر الجزء الأول منه
الابتذال الرفيع
اشتهر الأمريكيون بالشذوذ في كثير من الأمور؛ ولكن لم يكن من المتصور أن يطغى هذا الشذوذ حتى على الاعتبارات والتقاليد العلمية التي ترتفع في كل البلاد المتمدينة عن كل ابتذال. فقد قرأنا في بعض الأنباء الأخيرة أن الأمريكيين ينتظرون عودة الممثلة السينمائية الشهيرة جريتا جاربو إلى أمريكا بفارغ الصبر، وأنهم اعتزموا أن يظهروا إعجابهم بها وبمواهبها بطريقة جديدة لم تكن تخطر على البال. وذلك أن (جامعة جنوب كاليفورنيا) قد أصدرت قراراً خلاصته أن تدعى جريتا جاربو من هوليود إلى حفلة استقبال تقيمها الجامعة وتمنح فيها الممثلة الشهيرة إجازة (الدكتوراه الفخرية) تقديراً لمواهبها الفنية، وينتظر أن يكون هذا الاحتفال الأول من نوعه فريداً في فخامته وطرافته، وفيه تلقي جريتا محاضرة في موضوع فني. ويقال فوق ذلك إن الممثل الهزلي الشهير شارلي تشابلن، سيدعى إلى الجامعة لنفس الغرض وسيمنح إجازة فخرية لنفس الاعتبارات، تقول، وهكذا يبتذل كل شيء في أمريكا، حتى التقاليد العلمية التي تتخذ في كثير من الأمم والجامعات العريقة لوناً من القدسية؛ ولكن أمريكا ليست بلداً عريقاً في المدنية ولا التقاليد، والعلم فيها بضاعة مزجاة، والإجازات الجامعية فيها لا اعتبار لها، وهي تنثر على الطالبين بأيسر أمر(116/69)
ذكرى لوبي دي فيجا
احتفلت أسبانيا احتفالاً قومياً شائقاً بذكرى شاعرها الأكبر لوبي دي فيجا لمناسبة مرور ثلاثمائة عام على وفاته. وقد سبق أن ترجمنا الشاعر الأشهر في هذا المكان من الرسالة، وقدمنا خلاصة نقدية عن حياته وخواصه الشعرية والأدبية. والآن نقول إن العاصمة الأسبانية قد احتفلت بذكرى الشاعر أعظم احتفال؛ وخصصت الأيام الأخيرة من أغسطس لإقامة الحفلات والمآدب الشائقة. وكان من أظهر خواص هذه الاحتفالات المسارح العديدة التي أقيمت في العراء لتمثيل روايات لوبي دي فيجا؛ وقد أراد الشعب الأسباني بذلك أن يحي أيام الشاعر وصور عصره، وسار الممثلون إلى هذه المسارح الريفية، في عربات النقل كما كان يحدث أيام الشاعر. وقد كان التأليف للمسرح أحد كفايات لوبي دي فيجا؛ فقد كان شاعراً وجندياً وقساً، وباحثاً، وقد كأن أيضاً شريداً وخليعاً وصعلوكاً؛ وقد خدم في حملة (الارمادا) الشهيرة التي جردت على إنكلترا، وقضى معظم وقته على ظهر السفينة يقرض الشعر. وقد هذب المسرح الأسباني ووهبه أثمن تراث وأجله
غرفة الكتب
من الأنظمة الغربية التي أنشأت في روسيا السوفيتية إدارة تسمى (غرفة الكتاب المركزية) فلا يصدر في روسيا السوفيتية وجميع الجمهوريات الملحقة بها كتاب أو مجلة أو جريدة لا تسجل في هذه الإدارة، وقد أصدرت الحكومة قانوناً يحتم على الناشر أن يقدم إليها خمسين نسخة من الكتاب أو الصحيفة التي ينشرها، وتستخدم الغرفة المركزية من هذا العدد خمس نسخ لأجراء المبادلة الدولية في الكتب التي تصدر في الدول الأخرى ثم تدرس كل كتاب أو صحيفة من الوجهة الفهرسية، وتصدر عن ذلك مجموعات دورية مصنفة حسب أنواع الفنون والعلوم، وقد بلغت فهارس هذه الغرفة حتى اليوم نحو ستين ألف مجلد، وفي وسع المعاهد العلمية والمكاتب العامة وكذلك الأفراد أن ينتفعوا بمحتوياتها النفيسة
الذكرى المئوية لوزارة المعارف
تألفت لجنة برياسة صاحب السعادة وزير المعارف العمومية وعضوية كل من وكيل الوزارة، ومدير الجامعة المصرية، ومرقص سميكة باشا، وأمين سامي باشا، ومحمد أسعد(116/70)
براده بك، ومحمد خالد حسنين بك، وإبراهيم درويش بك، ومحمد نصار بك، والأستاذ الخليل مطران لتحضير ما يلزم للاحتفال بالذكرى المئوية لإنشاء ديوان المعارف التي تقع في غضون شهر فبراير سنة 1937 ووضع كتاب ذهبي تستعرض فيه سياسة التعليم ونظمه المختلفة في مصر منذ العصور الأولى
النشيد القومي الرسمي
أصدر حضرة صاحب السعادة الأستاذ أحمد نجيب الهلالي بك وزير المعارف القرار التالي:
نظراً لما للأناشيد القومية من الأثر القوي في إظهار جلال الأمة، والتنويه بعظمتها، وإيقاظ شعور الشعب حين يتناشدها، والحاجة إلى نشيد من هذا النوع يلقى في المناسبات القومية والدولية، أسوة بالدول المتحضرة
وبما أنه لا يوجد لمصر في الوقت الحاضر نشيد قومي معترف به رسمياً مما يتعين معه المبادرة لسد هذا النقص بتشكيل هيئة يعهد إليها وضع شروط مباراة عامة لاختيار نشيد يحقق أغراض الأناشيد القومية أصدرنا القرار الآتي:
المادة الأولى - تشكل لجنة من:
حضرة صاحب العزة أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية رئيساً
حضرات: الأستاذ خليل مطران، الأستاذ علي الجارم المفتش بالوزارة، الدكتور محمود أحمد الحفني مفتش الموسيقى بالوزارة، عبد الله سلامة أفندي مفتش التربية البدنية بالوزارة، أعضاء
المادة الثانية - تكون مهمة اللجنة وضع شروط مباراة عامة بين الشعراء والموسيقيين لنظم وتلحين نشيد قومي يكون صالحاً للاعتراف به رسمياً
المادة الثالثة - تعين جوائز مالية تمنح على الوجه الآتي:
(أ) 50 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الأول في نظم النشيد الذي يعترف به رسمياً
(ب) 30 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثاني
(جـ) 20 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثالث
(د) 50 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الأول في تلحين النشيد الذي يعترف به رسمياً(116/71)
(هـ) 30 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثاني
(و) 20 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثالث
المادة الرابعة - على وكيل الوزارة تنفيذ هذا القرار(116/72)
الكتب
الجبل الملهم
لناظمه الشاعر اللبناني (شارل القرم)
للأستاذ خليل هنداوي
ألفت ألا أكتب عن كتاب إلا بعد ركود الضجة التي تقوم حوله، سواء عندي أكانت ضجة استحسان أم ضجة استهجان، ثقة مني بأن النسمة الهادئة تكن ما لا تكن الريح العاتية. والآن وقد هدأت الضجة حول ديوان الجبل الملهم، وقر ضمير صاحبه بعد أن أحرز على جائزة (ادغاريو) الفرنسية، واطمأن وجدانه للحفلة الرائعة التي سيخطب فيها أدباء لبنان، مرحبين بشاعر تغني بجمال لبنان! وخلاصة تلك الضجة التي قامت والتي ستقوم عبارات ثناء بدون كيل، وجمل ولاء بلا وزن، ترفع (شارل القرم) إلى ذروة دونها الذرى التي تغني بها وتحدث بجمالها، وكيف لا يرفع النبوغ أصحابه في بلاد يعرف أهلها معنى النبوغ ويرعون حق النبوغ ويقدرون قدر النبوغ؟
تناولت ديوان (الجبل الملهم) من بين دواوين كلها عيون رانية إلي، يستنجز أصحابها مني وعداً بالكتابة عنها، فآثرت الالتذاذ بديوان يحدثني - في الصيف - عن الجبل الملهم، فأهملت من هم أدنى إلي وعكفت على الجبل الملهم أتلوه بشوق وغبطة ولذة. وقد شغلت نفسي بتأمل الأمثلة الفنية فيه، كاملة هنا متوسطة هناك ناقصة هنالك، وأنا برغم هذا التفاوت في مراحله لم أدع لغبطتي مجالاً لهزيمة
هنالك أجزاء متفككة عملت على وصلها بخيالي، وهناك اضطراب كثير في ألحان بعض الأوزان التي جاءت كثرة تنوعها زيادة في التشويش، فلا تكاد تهدأ الأذن إلى لحن حتى يطلع لحن آخر تنبو عنه. فحملت ذلك إلى نقص في الكفاءة الفنية التي تحتاج إلى تمرين كبير، وهنالك بعض تشابيه تمجها آذان أهل البلاد أنفسهم، لأنها لا تمازج روح لغتهم، ولا توائم نفس عبقريتهم، كتشبيه الشمس (بصابون السحاب)، وهنالك ضياع المثل الأعلى الذي يتبعه الشاعر بحيرة، يتبعه بقلب موزع مضطرب، فلا يدرك ما هو هذا المثل ولا(116/73)
يدري أين يجده. لا يعتمد على عقله ولا يثق بروحه. يحارب بعض التقاليد ويؤمن ببعضها إيماناً أعمى: يتطرف في كل شيء يحبه أو ينفر منه. كأنما قلبه لا يغلب عليه اعتدال ولا استقرار
هذه بعض الصفات تطالعك من الديوان وددت أن أتوسع فيها توسعاً فنياً، ووددت أن يكون بحثي متعلقاً بها، وقفاً عليها، لولا ظاهرة خطرة غريبة كامنة في إحدى الثنايا، ما وقعت عليها حتى ارتعشت وعاودني ألم عفيف وشك في المستقبل. فتركت تلك التعليقات الفنية التي تتعلق بأصحابها وجابهت هذه الظاهرة الاجتماعية التي لها خطرها في حياتنا وبيئتنا وقوميتنا
تلوت هذه الأبيات التي يتحدث بها عن اللغة العربية:
(إننا ننطق اليوم لغة جاءت من آسيا
قد فرضها علينا القتل والرعب
وباطلاً نضع فيها الفن والشعر
والعلم والإيمان)!
(إننا لن ننظر إلى العربية
نظرنا إلى أخ يدعى إلى منزل أبيه
إن هذه الزهرة الصحراوية قد تقبلتها حدائقنا
تحت ضغط حكومة قاسية)
(قبلناها وهذبناها
وأدعمناها باعتنائنا الشديد
ولكن الإسلام لا يرضى بأن تكون هذه اللغة المرفوعة على جباهنا - لنا)
(أن هذه الكلمات الغربية (اللغة السريانية) التي يتلقنها أبناؤنا
لم تكن يوماً غريبة عنا
بل يكاد يخيل إلينا أن قلوبنا
تذكر يوماً نحتتها فيه)
(ولكن هؤلاء الذين يجحدون أصلنا اللاصق بنا. . .(116/74)
هؤلاء المنفصلين عنا، المسلوخين من أذرعنا
الأغنياء بالنفي. . .
هؤلاء يحتقرون أصلهم. كما يفعل الأعزاء العاقون الناكرون الإحسان)
تلوت هذه الفقرات وأنا أكذب نفسي وأتهمها. أحقاً أرى صاحب الجبل الملهم يتنصل من اللغة العربية، ويعتبرها زهرة غربية نبتت طفيلية في حدائق لبنان؟ أحقاً يرى صاحب الجبل الملهم أن هذه اللغة قد فرضت على أهل لبنان بالسيف والدم؟ فإذا كان الشاعر لم يكتب له نصيب ولا سهم في هذه اللغة لا في نطق ولا كتابة، فما له يعمل على التنكر منها وضربها في الصميم! وما بال أصحابنا اللبنانيين يشايعونه على هذا. وهم علموا ما للعربية من فضل ومآثر. وعلموا أن الإسلام لم يفرضها عليهم بالقتل والضرب. وإنما فرضت نفسها وعملت على فرض نفسها. ومتى كانت اللغات تلين لإرادات الأفراد؟ وهل السريانية أخت العربية لو كان في أجلها فسحة تذوقت رداها؟ وماذا في السريانية من أدب وفن يتعلق بأحشاء لبنان، ويصطبغ بدم لبنان؟
وأما أن الشاعر لا يريد الكتابة بالعربية لأنه لا يراها جديرة بأن تكون وعاء حكمته وفنه وشعره، فهل عجزت اللغة عن ضم شتات أفكاره؟ وهي التي لم تعجز ولن تعجز عن أفكار من كان لهم شأنهم وخطرهم، إلا أن تكون أفكاره مما لا تحيل به العقول. ولكن هو الشنآن
كنا نريد أيها الشاعر وأنت لا تنطق بهذه اللغة أن تحترم على الأقل كيانها، ولا تدس عليها دساً يسخر منه الأجانب أنفسهم. كنا نريد أن يكون لك بأدباء المهجر أسوة حسنة: أولئك الأدباء الذين اصطلحت عليهم عوامل الغربة والانقطاع. وظلوا راعين للغتهم حافظين لحرمتها عاملين على رفع ألويتها. وقد علمت منهم المجيد السباق في لغته واللغة الأجنبية التي اصطنعها. كجبران ونعيمة والرياحاني وكثير من أمثال هؤلاء في المهجر وغير المهجر ممن تفتحت لهم من الآفاق ما تفتح لك، ولان لهم من عبقرية غيرهم ما لان لك
وأما أن الشاعر يود العودة إلى إحياء الروح الأولى الروح الفينيقية، شأن المصرية الفرعونية. فالمصريون والفرعونيون أنفسهم لم يفكروا يوماً في نفي اللغة العربية من بين ظهرانيهم، ولم يجدوا في بقاء العربية ما يحول بينهم وبين التمصر الذي أرادوه
اضطراب - في لبنان - في المثل العليا والتفكير، واختلاف في الثقافة والمنحى. كأنما بيئة(116/75)
تفككت أجزاؤها وانطوى جزء على نفسه بدون وحدة منتظمة ولا جامعة ملتئمة، كل حزب يمشي ولا يدري أين يمشي وأي هدف يقصد
وحدوا يا قوم تفكيركم واعرفوا ما تطلبون، فإننا حتى اليوم لا ندري مثلكم الأعلى ولا ندري أي منهج تقصدون؛ وأنقذوا لبنان قبل أن تقتله محبتكم، فالمحبة المنقسمة على نفسها هي أشد خطراً من الكره والنفور. وليكن لكم مثل أعلى تحجون إليه وتعملون على إظهاره في بيوتكم ومدارسكم، وفي مجامع جدكم ولهوكم، ينشأ عليه صغاركم ويشب عليه فتيانكم
أما أولئك الذين ينتظرون أن يهيموا غداً في الحفلة التكريمية لصاحب الجبل الملهم، أينظرون أي إكليل يحمله إليهم، وأي إكليل يحملونه إليه؟ إكليله لهم إكليل احتقار اللغة العربية، وإكليلهم له مبايعته على ذلك. إكليله (قبلات لبنانية على شفاه اللغة الفرنسية)، وإكليلهم الدعاء لمحب لبنان ورافع جبهة لبنان والمبشر بنبوغ لبنان. أحبوك يا لبنان وادعوا محبتك لأنفسهم حتى خنقوك بالأقماط وأدرجوك بالأكفان!
لبنان الذي يشبه اليوم (برج بابل) بأديانه ولهجاته ومذاهبه، لا يوحد بين أجزائه إلا هذه العربية، وإنما توحد بينها توحيداً تقليدياً لا يعمل على الإيمان به قلب ولا يؤمن به دم. فإذا إنهارت هذه السارية التي تتحد عليها أجزاء لبنان تعم الفوضى داره ويفشو فيه الروح التمزق. وأصحابنا بعد هذا كله يريدون أن يجمع بينهم هذا النشيد: (كلنا للوطن. . . كلنا للعلا. . . كلنا للعلم). وقد علم العلم والعلا والوطن أن لا مكان لهم في المكان الذي تتقلص فيه اللغة ولا يحترم لها كيان، وتهان فلا يهب لنصرتها أعوان
تفرقوا ما استطعتم في ثقافتكم ومثلكم، فما أشبه الليلة بالبارحة
خليل هنداوي(116/76)
العدد 117 - بتاريخ: 30 - 09 - 1935(/)
عبرة الحادثات
للدكتور عبد الوهاب عزام
المدنية الأوربية، على خيراتها وما أجدت على الناس من علمها ورفاهيتها، مدنية مادية دعائمها المعادن والأحجار، يصاغ قلبها من الذهب والحديد وأشباههما، ويغذى بالفحم والنفط وأخواتهما، وتدور بهما دواليب المصانع والمغازل والمناسج. قد استحكمت فيها الآلات، وأتقنت الصناعات حتى أغنت عن الإنسان أدواتها، ونافسه عتادها، فثارت العداوة بين الآلات وصانعيه وعمالها ومالكيها. وقد أوحى ذلك إلى بعض الأمريكيين فاخترعوا إنسانا آليا يخدم خدمة الإنسان ويتحرك حركاته، وهل الإنسان في المصانع إلا آلة سريعة العطب؟
طبع إنسان هذا العصر آليا دائراً لا يألف الاستقرار ولا يعرف السلام، ولا تتمكن في قلبه المحبة، ولا تستقر في سريرته الشفقة. وأستكبلت هذه الآلات على غذائها، وتنافست في أقواتها، وأحس كل أنها القوة لا العدل، والغلبة لا الإنصاف، فنفخوا في الأمم روح العصبية، وغرور العنجهية، وزعم كل قبيل أن أوله خير الأولين، وأنه سيد الحاضرين، وأن بنيه سادة الآتين، وأن الأرض كلها له، وأن الويل لمن جادله. ثم ما شئت من أناشيد مثيرة، وتربية هائجة، وإيقاظ الوحشية في النفوس، وإشعال البغضاء في الأفئدة، حتى صار الناس على رغم العلم والفلسفة وعلى ما قربت بينهم الوسائل الحديثة أميل إلى الحرب والجلاد، وأحب للتخريب والتدمير من أناسي القرون الخالية؛ فبينا تراهم في ظاهر من السلام والوئام، يتغنون بحضارتهم، ويعكفون على دراستهم، ويتكلمون في العدل والحرية والاخوة، إذ تحكهم التجارب قدح الزناد، فإذا النار تحت الرماد؛ تغلب عليهم الطباع الحربية، وتسيطر عليهم الحياة الآلية، فإذا الأمم كلها جنود ومصانع للسلاح والمدمرات، وإذا الأوربي كالذئب الذي لبس جلد الشاة ثم خلعه
ومهما يكن حظ القوم من العدل والنصفة، ونصيبهم من المودة والألفة، فذلك فيما يشجر بينهم من خلاف. فأما أهل الشرق سكان آسيا وأفريقية من الأمم الملونة فليس لهم في العدل حماية، ولا في القانون نصفه، (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل). وما يزال صدى الأحداث يدوي في آذاننا، وحسبك حروب طرابلس والبلقان والريف. فان ساغ(117/1)
الأوربي أن يطمئن إلى عدل أوربا وانصفها، وقوانينها وجماعة أممها، فليس للشرقي أن يسكن إلى ذلك، فهو مال مباح ودم مهدور
وتلك أمة ينفخ قادتها فيها المغرور والعجب، ويذكرونها مجد الرومان وغابر الزمان، حتى انتفخت أوداجها وورمت أنوفها. ثم صاحوا فيها قد بطشنا بطرابلس عشرين عاماً حتى دوخناها، وذللنا دانيها وقاصيها، ولكنها لا تفي بحاجتنا ولا تسد مطامعنا. ونظروا فإذا في أفريقية دولة واحدة مستقلة حفظ عليها استقلالها من دون أمم أفريقية أنها دولة نصرانية لم يستبيح المغيرون أن يجعلوها كالمسلمين، ولكنها على نصرانيتها أمة سوداء ضعيفة تسكن أرضاً واسعة، صاح زعيمهم هلم إلى الحبشة! فانبرت العقول تخترع الأوهام والتعلات، والألسن تفتري الكذب، والأقلام تخط الأباطيل. وطفقوا يعيدون قصة الذئب والحمل حيناً، ويصرحون بمكنون ضمائرهم حيناً. وسار الشر الحبشة في جيوشه ومفترياته
ويشفق بعض الدول من هذه الغارات ويخاف عقباها فيستغيث الحق والعدل، وحماية الضعيف، والاقتصاص من القوي. وتتوالى نذر الحرب، وتطيف بمصر مقدماتها، وتقف مصر بين دولة محتلة، وأخرى مجاورة، تشقها الطريق بين الحبشة وإيطاليا. تهيب مصر بجيشها فإذا جيش ضئيل، وسلاح كليل! وتدعو بينها فإذا نفوس أبية، وسواعد قوية، ولكنها لم تدرب للقتال، ولم تعد للنضال، ولم تشهد الزحوف، ولم تعتد التعرض للحتوف، ولم تحمل السلاح، ولم تتمرس بآلات الكفاح؛ أنفس عزيزة وأمة ذليلة! ويقول من أبى على الأمة أن تأخذ للأيام أهبتها. وتعد للخطوب عدتها: لا ترعوا، هأنذا أدفع عنكم! فاشكروني ولا تكفروني. ولو ترك لنا من قبل أن نعبئ جيوشنا ونعد سلاحنا لكان شكرنا أعظم وأجدى، وكنا في أنفسنا أعز وأقوى، وأني يعز من يدفع عنه في عقر داره، ولا يعول عليه في حماية نفسه:
ودرى من أعزه الدفع عنه ... فيهما أنه العزيز الذليل
هذا موقف الذلة والمهانة، والضعة والاستكانة، موقف من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يجلب لها خيراً ولا شراً - رب عيش أخف منه الحمام!
ذلكم درس للحادثات مبين، وعظة للخطوب بليغة، فعلى المصريين راعيهم ورعيتهم، ودهائهم وقادتهم، أن يفهموا الدرس ويعوه، ويتدبر الموعظة وينتفعوا بها. ومهما تنجل عنه(117/2)
السحب المكفهرة، وتتكشف عنه الحادثات المنذرة، فليعملوا برأي واحد ويد واحدة، ويتوسلوا بالعزم والحكمة حتى لا يقفهم الزمان هذا الموقف مرة أخرى، (إن في ذلك لذكرى)
عبد الوهاب عزام(117/3)
نظرة في النجوم
للأستاذ أحمد أمين
مما أرثى له أن أرى الشرقيين وخاصة سكان المدن لا ينتفعون بسطوح منازلهم الانتفاع الواجب، فهم قلما يصعدون إليها إلا عند تركيب قوائم الراديو أو حبال الغسيل أو تخزين ما يستغنى عنه في حجر السطح، وهم يحبون أن يلتصقوا بالأرض ولا يحلقوا في السماء، وينزلوا بحضيض المنازل ولا يسموا إلى أوجها
وفاتهم أن من خير متع الحياة (سطوح المنازل) لا سيما في جو بديع كجونا، تصفو فيه السماء في أكثر أشهر السنة، ويهب فيه النسيم العليل ليلا، ويمتد فيه البصر، وتنشرح فيه النفس، ولياليه بين ليال مقمرة بديعة لا تمل العين جمالها، وليال غاب فيها القمر فقامت النجوم مقامه تناغيك وتحدثك وتملأ قلبك روعة ونفسك حياة
تبا للأعين التي تنظر دائماً إلى تحت، ولا تنظر إلى فوق، وإلى الأسفل لا إلى الأعلى، ويلذ لها أن تنظر إلى المسافات القريبة وإلى ما تلمس، ولا تنظر إلى البعد السحيق والمنظر البعيد. إن العين إذا اعتادت ذلك قلدتها النفس فلم تنظر إلى الأمل البعيد ولم تلتذ بالطموح، ولم تسعد بالأمل، وقنعت بما هي فيه ورضيت بالدون وتشاغلت به، وصدها ذلك عن أن تنشد الكمال، للارتباط الشديد بين عالم الحس وعالم العقل وعالم الروح
ولقد كان آباؤنا الأولون أكثر منا عناية بالسماء، حتى العرب في بداوتهم أطالوا النظر في النجوم وانتفعوا بجوهم المفتوح، وسمائهم الصافية، فعرفوا كثيرا منها، ووضعوا لها أسماءها، وكان لهم فيها ملاحظات دقيقة، وأشعار رقيقة؛ أما نحن فقل أن نعرف من أسماء النجوم إلا الشمس والقمر، وجهلنا بأسماء مشاهيرها جهل فاضح لا يتفق وسماءنا البديعة. وأما شعراؤنا - سماحهم الله - فأكثرهم لا يشعر في السماء والنجوم إلا تقليدا، وقد يبرح به ألم الهجر في غرفته المسقوفة وقد أغلقت شبابيكها وأسدلت ستائرها ومع ذلك يشكو النجوم وثباتها وهو لا يرى سماء ولا نجوما
لو كان في أوروبا جو مكشوف دافئ كجوانا، لعرفوا كيف ينتفعون بالسماء كما انتفعوا بالأرض، ولاتخذوا من سطوح منازلهم مقاماً للسمر الحلو والتأمل اللذيذ، ولاتخذوا منها منديات ومقاه ومسارح للسينما والتمثيل وأماكن للمحاضرات فانتفعوا بجمال الجو وجمال(117/4)
منظر السماء وجمال منظر السينما والتمثيل وجمال الحديث معاً، ولو فعلنا لارتحنا من عناء المتسولين والمتجولين وما سحي الأحذية إلا أن يصعدوا إلينا في السماء
نعمت هذا الشهر بسطح منزلنا، وأكثرت من التحدث إلى النجوم، والإصغاء إلى حديثها، وملت إلى قراءة شيء من أخبارها، فملأت قلبي حياة، وعقلي هدوءا، وأعصابي راحة
وكنت كلما شكوت من شيء بثثت شكواي إلى النجوم فتبخرت، وكلما تدنست في جو الأرض تطهرت في جو السماء، فان آلمتني السياسة بألاعيبها وخداعها، والأولاد بمضايقاتهم ومتاعبهم، والخدم برذائلهم، والبيئة بمشاكلها وصغائرها، علوت إلى السطح وانسطحت على سجادة، ووصلت أسباب ما بيني وبين النجوم فزال كل ألم، واحتقرت كل ما ضايقني، وعشت في عالم جديد لذيذ مريح، ورأيت أني غسلت نفسي كما يغسل الثوب في البحر الواسع
عظيمة هذه النجوم وجميلة وجليلة! فان رأيت نجوم المجرة وعلمت أنها تبلغ عدتها الملايين، وأنها تسير بسرعة هائلة، وأن بعض النجوم يقطع نحو 240 كيلو مترا في الثانية، وبعضها يقطع نحو 410 كيلو في الثانية، وأن بعضها بلغ من البعد عنا ما لا يصل إلينا ضوؤه إلا في آلاف السنين، أيقنت بهذه العظمة؛ وشعرت في أعماق نفسك بحقارتك وحقارة مشاغلك وحقارة أرضك كلها - وإن علمت أن في السماء آلافاً من الشموس تكون كل شمس منها مجموعة من النجوم كمجموعتنا الشمسية، سبحت في عالم من العظمة لا حد له، وتساءلت في كثير من الحيرة والإعجاب إلى أي طريق هي مسوقة وإلى أي طريق نحن مسوقون معها؟ وقلت كما قال أبو الشبل البغدادي:
بربك أيها الفلك المدارُ ... أقصدُ ذا المسيرُ أم اضطرار
مَدارُك قل لنا في أي شيء ... ففي إفهامنا منك انبهار
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار؟
ثم رددت الطرف خاسئاً وهو حسير؛ ولكنها حسرة لذيذة لا ترضى بها بديلاً
أيتها النجوم. كم من الناس نظروا إليك فأعجبوا بعظمتك وجمالك وجلالك، وكم من الشعراء تغنوا بك، وتفننوا في الإشادة بذكرك، وعابوا عليك سرعتك أيام الوصال، وبطئك أو وقوفك أيام الهجران(117/5)
وكم حارت فيك العقول فظنوك آلهة وعبدوك من دون الله، وأقاموا لك الهياكل والتماثيل، ثم تقدموا قليلاً فأنزلوك من مقام الألوهية قليلاً، وجعلوا لك أثراً كبيراً في أحداث الأرض، فلك أثر في الرياح والأمطار والسعادة والشقاء، وربطوا مواليد الناس بك، وجعلوا سعادتهم وشقاءهم من أجلك، وحتى الفلاسفة العظام أمثال أرسطوا أعمتهم عظمتك عن أن يدركوا حقيقتك فأسندوا إليك عقولاً كباراً وجعلوا منزلتك في الفكر والعقل فوق منزلة الإنسان، وسبحوا في الخيال فأسسوا نظاماً وهمياً للأفلاك وتدرجها في الأثر حتى تصل إلى عالمنا - وخدع الناس بك فبنيت لك المراصد لمراقبة حركتك، وأقنع المنجمون الناس بتأثيرك فسمعوا لقولهم، واتخذ الملوك المنجمين يعتمدون عليهم في تدبير مملكتهم، كما يتخذون الأطباء لتدبير أجسامهم، فلا يضعون بناء إلا بعد رصدهم لك وإشارتهم بأنك ستمنحين السعادة لبنائهم، ولا يحاربون إلا برأي رجالك وتخير أوقات رضائك
وكم شغل الناس بطوالعك، وتخيروا أوقات زواجهم محسوبة بحسابك، وتنبأوا - بمعونتك - بموت فلان وحياة فلان وأنت أنت فوق ذلك كله لا تعبئين به ولا تلتفتين إليه. كأن أمرهم لا يعنيك، وشؤونهم لا تهمك، وتتابعت الأجيال ومرت السنون، وفنيت أقوام وجدت أقوام وكلهم يمنحونك إعجابهم وأنت في علاك وسيرك وسرعتك دائبة أبداً
وأتى العلم الحديث فغير فيك الأفكار، وساواك بالأحجار، وجعل قمرك الجميل كأرضنا غير الجميلة، وسلب عنك العقل والفكر وأخضعك لنواميس الطبيعة وأبان خرافات الأقدمين فيك - ومع ذلك أقر بجلالك وأخذ بدقة نظامك، وأقر بجهله أن يحيط بك، وأن يتعرف كل قوانينك - فأنت أنت أيام الجهل وأيام العلم، وأيامنا وأيام آبائنا
وبينا أنا في ذلك كله، وفوق ذلك كله، إذا دعاني الخادم إذا دعاني الخادم إلى التلفون فنزلت من السماء إلى الأرض
- آلو
- فلان - لعلك تذكرني
- أهلاً وسهلاً
- أريد أن أقابلك
- هل من شيء؟(117/6)
- لقد تخرجت من كلية الآداب واشتغلت في عمل لا يناسبني، وماهية لا تليق بي، وأخواني كلهم خير مني، فلي سنوات لم آخذ علاوة ولم أرق إلى درجة
- نعم
- والآن هناك حركة ترقية وأريد مساعدتك
ثم حوار طويل، ورجاء مستمر، وشكوى بؤس، وعائلة يعولها، وماهية لا تكفيها، ودنيا ضاقت به وبها
في أي تفكير كنت، وإلى أين صرت، هذه السماء وهذه الأرض، أين هذا العالم العظيم السعيد الذي كنت أحلم به من هذا العالم الحقير التافه الذي نقلني إليه التلفون والذي يمضي فيه أكثر الناس أكثر أعمارهم، لقد غطسني بحديثه في ماء مثلج، فلأصعد ثانية إلى السماء ولأعاود ما كنت فيه. . . لا - لم تعد للفكر لذته ولا حديث النجم متعته
لقد قلب علم الفلك عقلية الإنسان رأسا على عقب، فقد كان يظن أنه سيد العالم، وأن أرضه هذه هي مركز العالم، وأن الشمس والقمر والنجوم تدور حولها فأبان له العلم أن أرضه ليست إلا هنة تسبح في الفضاء، وأنها شيء تافه في المجموعة الشمسية التي تدور حول الشمس، وأن كل العالم من أرض ونجوم خاضعة لقوانين واحدة كقوانين الجذب وما إليها، وأنه إن كانت أرضه هنة فكيف به هو - كل هذا غير عقلية الإنسان وأنزله من شامخة وسلبه غروره فأخذ يفكر تفكيراً جديداً وينظر لنفسه وللعلم نظراً جديداً ويربط نفسه بالعالم، ويرى أنه هو والعالم وحدة، وأن هذه الوحدة تخضع لقوانين ثابتة استكشف أقلها وغاب عنه أكثرها، ما استكشف منها يدل على عظمة باقيها وعمومها وسيطرتها - ولكن شيئا واحدا لم يتغير في الإنسان وهو ارتباط عواطفه بالنجوم، وأنها تجد السبيل دائما لقلبه، وتوحي إليه بعظمة ربها وربه
أحمد أمين(117/7)
2 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به فرصة؛ وعلى أنها لم تخط إلينا إلا خطوة وتمامها، فقد كانت تجد في نفسها ما تجده لو أنها سافرت من أرض إلى أرض، ونقلها البعد النازح من أمة إلى أمة
يا عجباً! إن جلوس إنسان إلى إنسان بازائه قد يكون أحيانا سفرا طويلا في عالم النفس؛ فهذه الحسناء تعيش في دنيا فارغة من خلال كثيرة، كالتقوى، والحياء، والكرامة، وسمو الروح، وغيرها؛ فإذا عرض لها من يشعرها بعض هذه الخلال، وينتزعها من دنيا اضطرارها وأخلاق عيشها ولو ساعة - فما تكون قد وجدت شخصا بل كشفت عالما تدخله بنفس غير النفس التي تدبرها في عالم رزقها. . .
ولا عجب من سحر الحب في هذا المعنى؛ فأن العاشق يكون حبيبه إلى جانبه، ثم لا يحس إلا أنه طوى الأرض والسماوات ودخل جنة الخلد في قبلة. . .
جلست ألينا كما تجلس المرأة الكريمة الخفرة، تعطيك وجهها وتبتعد عنك بسائرها، وتريك الغصن وتخبأ عنك أزهاره. فرأيناها لم تستقبل الرجل منا بالأنثى منها كما اعتادت؛ بل استقبلت واجبا برعاية، وتلطفاً بحنان، وأدباً من فن بأدب من فن آخر؛ وكان هذا عجيبا منها، فكلمها في ذلك الأستاذ (ح) فقالت: أما واحدة فإننا نتبع دائما محبة من نجالسهم وهذه هي القاعدة. وأما الثانية فإننا لا نجد الرجل إلا في الندرة؛ وإنما نحن مع هؤلاء الذين يتسومون بسيما الرجال - كحيلة المحتال على غفلة المغفل، وهم معنا كالقدرة بالثمن على ما يشتريه الثمن؛ ليسوا علينا إلا قهرا من القهر؛ ولسنا عليهم إلا سلباً من السلب، مادة مع مادة؛ وشر على شر؛ أما الإنسانية منا ومنهم فقد ذهبت أو هي ذاهبة
قال (ح): ولكن. . .
فلم تدعه يستدرك، بل قالت: إن (لكن) هذه غائبة الآن. . . فلا تجيء في كلامنا. أتريد دليلا على هذا الانقلاب؟ إن كل إنسان يعلم أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين؛ ولكن امرأة منا تعلم أن الخط المعوج هو وحدة أقرب مسافة بينها وبين الرجل. . .
قالت: فإذا وجدت إحدانا رجلاً بأخلاقه لا بأخلاقها. . . ردتها أخلاقه إلى المرأة التي كانت(117/8)
فيها من قبل، وزادتها طبيعتها الزهو بهذا الرجل، فتكون معه في حالة كحالة أكمل امرأة؛ بيد أن كمال الحلم الذي يستيقظ وشيكا، فأن الرجل الكامل يكمل بأشياء، منها وا أسفاه! منها ابتعاده عنا
ثم قالت: وصاحبك هذا منذ رأيته، رأيته كالكتاب يشغل قارئه عن معاني نفسه بمعانيه هو. . . .
وضحكت أنا لهذا التشبيه، فمتى كان الكتاب عند هذه كتاباً يشغل بمعانيه؟ غير أني رأيتها قد تكلمت واحتفلت، وأحسنت وأصابت، فتركتها تتحدث مع الأستاذ (ح) وغبت عنهما غيبت فكر؛ وأنا إذا فكرت انطبق علي قولهم: خل رجلا وشأنه، فلا يتصل بي شيء مما حولي. وكأن كلامها يسطع لي كالمصباح الكهربائي المتوقد، فقدمها فكرها إلي غير ما قدمت إلي نفسها، ورأيت لها صورتين في وقت معا، إحداهما تعتذر من الأخرى. . . . .
وكنت قبل ذلك بساعة قد كتبت في تذكرة خواطري هذه الكلمة التي استوحيتها منها: لأضعها في مقالة عنها وعن أمثالها وهي هذه الكلمة:
إذا خرجت المرأة من حدود الأسرة وشريعتها، فهل بقي منها إلا الأنثى مجردة تجريدها الحيواني المتكشف المتعرض للقوة التي تناله أو ترغب فيه؟ وهل تعمل هذه المرأة إلا أعمال هذه الأنثى؟
وما الذي استرعاها الاجتماع حينئذ فترعاه منه وتحفظه له، إلا ما استرعى أهل المال أهل السرقة؟ إن الليل ينطوي على آمتين: أولئك اللصوص، وهؤلاء النساء
وكيف ترى هذه المرأة نفسها إلا مشوهة مادامت رذائلها دائما وراء عينيها، وما دام بازاء عينيها دائما الأمهات والمحصنات من النساء، وليس شأنها من شأنهن؟ إن خيالها يحرز في وعيه صورتها الماضية من قبل أن تزل، فإذا خلت إلى نفسها كانت فيها اثنان إحداهما تلعن الأخرى، فترى نفسها من ذلك على ما ترى
وهي حين تطالع مرآتها لتتبرج وتحتفل في زينتها، تنظر إلى خيالها في المرآة بأهواء الرجال لا بعيني نفسها، ولهذا تبالغ أشد المبالغة؛ فلا تعنى بأن تظهر جميلة كالمرأة، بل مثمرة كالتاجر. . . وتكسبها بجمالها يكون أول ما تفكر فيه، ومن ذلك لا يكون سرورها بهذا الجمال إلا على قدر ما تكسب منه؛ بخلاف الطبع الذي في المرأة، فان سرورها(117/9)
بمسحة الجمال عليها هو أول فكرها وآخره
إن الساقطة لا تنظر في المرآة - أكثر ما تنظر - إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها ومن جسمها مواقع نظرات الفجور وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل وما يفسد العفة عليه، فكأن الساقطة وخيالها في المرآة رجل فاسق ينظر إلى امرأة لا امرأة تنظر إلى نفسها. . .
ذهبت أفكر في هذه الكلمة التي كتبتها قبل ساعة، ولم أستطع أن ألبس في هذه القضية وجه القاضي؛ فدخلتني رقة شديدة لهذا الجمال الفاتن الذي أراه يبتسم، وحوله الأقدار العابسة، ويلهو، وبين يديه أيام الدموع، ويجتهد في اجتذاب الرجال إليه، والوقت آت بالرجال الذين سيجتهدون في طرده عن أنفسهم
وتغشاني الحزن ورأت هي ذلك وعرفته؛ فأخرجت منديلها المعطر ومسحت وجهها به، ثم هزته في الهواء فإذا الهواء منديل معطر آخر مسحت به وجهي. . .
وقال الأستاذ (ح): آه من العطر! إن منه نوعا لا أستنشيه مرة إلا ردني إلى حيث كنت من عشرين سنة خلت، كأنما هو مسجل بزمانه ومكانه في دماغي. . .
فضحكت هي وقالت: إن عطرنا نحن النساء ليس عطرا، بل هو شعور نثبته في شعور آخر
فقلت أنا: لا ريب أن لهذه الحقيقة الجميلة وجها غير هذا؛ قالت: وما هو؟
قلت: إن المرأة المعطرة المتزينة هي امرأة مسلحة بأسلحتها، أفي ذلك ريب؟
قالت: لا
قلت: فلماذا لا يسمى هذا العطر بالغازات الخانقة الغرامية. . .؟
فضحكت فنونا؛ ثم قالت: وتسمى (البودرة) بالديناميت الغرامي. .
ونقلني ذلك إلى نفسي مرة أخرى، فأطرقت إطراقة؛ فقالت ما بك؟
قلت: بي كلمة الأستاذ (ح)، إنها ألهبت في قلبي جمرة كانت خامدة
قالت: أو حركت نقطة عطر كانت ساكنة. . .
فقلت: إن الحب يضع روحانيته في كل أشيائه، وهو يغير الحالة النفسية للإنسان فتتغير بذلك الحالة العقلية للأشياء في وهم المحب. (فعطر كذا) مثلا. . . . هو نوع شذي من العطر، طيب الشميم، عاصف النشوة، حاد الرائحة، لكأنه ينشر في الجو روضة قد ملئت(117/10)
بأزهاره تشم ولا ترى؟ وإنه ليجعل الزمن نفسه عبقاً بريحه وانه ليفعم كل ما حوله طيباُ وانه ليسحر النفس فيتحول فيها. . .
وهنا ضحكت وقطعت علي الكلام قائلة: يظهر لي أن (عطر كذا) هاجرا أو مخاصم. . .
قلت: كلا، بل خرج من الدنيا وما نتشقت أرجه مرة إلا حسبته ينفح من الجنة
فما أسرع ما تلاشى من وجهها الضحك وهيئته، وجاءت دمعة وهيئتها. ولمحت في وجهها معنى بكيت له بكاء قلبي
جمالها، فتنتها، سحرها، حديثها، لهوها؛ آه حين لا يبقى لهذا كله عين ولا أثر، آه حين لا يبقى من هذا كله إلا ذنوب وذنوب، وذنوب
وأردنا أنا و (ح) بكلامنا عن الحب وما إليه ألا نوحشها من إنسانيتنا، وأن نبل شوقها إلى ما حرمته من قدرها قدر إنسانة فيما نتعاطاه بيننا. والمرأة من هذا النوع إذا طمعت فيما هو أغلى عندها من الذهب والجوهر والمتاع - طمعت في الاحترام من رجل شريف متعفف، ولو احترام نظرةٍ، أو كلمة. تقنع بأقل ذلك وترضى به، فالقليل مما لا يدرك قليله هو عند النفس أكثر من الكثير الذي ينال كثيره
ومثل هذه المرأة، لا تدري أنت أطافت بالذنب أم طاف الذنب بها؟ فاحترامها عندنا ليس احتراما بمعناه، وإنما هو كالوجوه أمام المصيبة في لحظة من لحظات رهبة القدر وخشوع الإيمان
وليست امرأة من هؤلاء إلا وفي نفسها التندم والحسرة واللهفة مما هي فيه، وهذا هو جانبهن الإنساني الذي ينظر إليه من النفس الرقيقة بلهفة أخرى، وحسرة أخرى، وندم آخر. كم يرحم الإنسان تلك الزوجة الكارهة المرغمة على أن تعاشر من تكرهه فلا يزال يغلي دمها بوساوس وآلام من البغض لا تنقطع! وكم يرثى الإنسان للزوجة الغيور، يغلي دمها أيضاً ولكن بوساوس وآلام من الحب! ألا فاعلم أن كل امرأة من مثل هذه الحسناء تحمل على قلبها مثل هم مائة زوجة كارهة مرغمة مستعبدة، يخالطه مثل هم مائة زوجة غيور مكابدة منافسة، ولقد تكون المرأة منهن في العشرين من سنها وهي مما يكابد قلبها في السبعين من عمر قلبها
وهذه التي جاءتنا إنما جاءتنا في ساعة منا نحن لا منها هي، ولم تكن معنا لا في زمانها(117/11)
ولا في مكانها ولا في أسبابها، وقد فتحت الباب الذي كان مغلقا في قلبها على الخفر والحياء، وحولت جمالها من جمال طابعه الرذيلة إلى جمال طابعه الفن، وأشعرت أفراحها التي إعتادتها روح الحزن من أجلنا فأدخلت بذلك على أحزانها التي إعتادتها روح الفرح بنا
من ذا الذي يعرف أن أدبه يكون إحساناً على نفس مثل هذه ثم لا يحسن به؟
تتجدد الحياة متى وجد المرء حالةً نفسيةً تكون جديدةً في سرورها. وهذه المرأة المسكينة التي لا يعنيها من الرجل من هو؟ ولكن كم هو. . .؟ لم تر فينا نحن الرجل الذي هو (كم) بل الذي هو (من). وقد كانت من نفسها الأولى على بعد قصي كالذي يمد يده في بئر عميقة ليتناول شيئا قد سقط منه؛ فلما جلست إلينا اتصلت بتلك النفس من قرب، إذ وجدت في زمانها الساعة التي تصلح جسر على الزمن
قال الراوي: كذلك رأيتها جديدة بعد قليل، فقلت للأستاذ (ح): أما ترى ما أراه؟
قال: وماذا ترى؟ فأومأت إليها وقلت: هذه التي جاءت من هذه. إن قلبها ينشر الآن حولها نورا كالمصباح إذا أضيء، وأراها كالزهرة التي تفتحت؛ هي هي التي كانت، ولكنها بغير ما كانت
فقالت هي: إني أحسبك تحبني؛ بل أراك تحبني؛ بل أنت تحبني. . . لم يخف على هذا منذ رأيتك ورأيتني
قلت: هبيه صحيحا فكيف عرفته ولم أصانعك، ولم أتملق لك، ولم أزد على أن أجيء إلى هنا لأكتب؟
قالت: عرفته من أنك لم تصانعني، ولم تتملق لي، ولم تزد على أن تجيء هنا لتكتب. . .
قلت: ويحك لو كحلت عين (المكرسكوب) لكانت عيناك. وضحكنا جميعاً؛ ثم أقبلت على الأستاذ (ح) فقلت له: إن القضايا إذا كثر ورودها على القاضي جعلت له عيناً باحثة.
قال الراوي: وانظر إليها فإذا وجهها القمري الأزهر قد شرق لونه وظهر فيه من الحياء ما يظهر مثله على وجه العذراء المخدرة إذا أنت مستها بريبة؛ فما شككت أنها الساعة امرأة جديدة قد اصطلح وجهها وحياؤها، وهما أبدا متعاديان في كل امرأة مكشوفة العفة. . .
وذهبت أستدرك وأتأول، فقلت لها: ما ذلك أردت، ولا حدست على هذا الظن، وإنما أنا(117/12)
مشفق عليك متألم بك؛ وهل يعرض لك إلا الطبقة النظيفة. . . من المجرمين والخبثاء وأهل الشر؛ أولئك الذين أعاليهم في دور الخلاعة والمسارح وأسافلهم في دور القضاء والسجون؟
فقالت: اعترف بأنك لم تحسن قلب الثوب فظهر لكل عين أنه مقلوب؛ ولكنك تحبني. . . . وهذا كاف أن ينهض منه عذر
قال الأستاذ (ح): إنه يحبك، ولكن أتعرفين كيف حبه؟ هذا باب يضع عليه دائماً عدة من الأقفال
قالت: فما أيسر أن تجد المرأة عدة من المفاتيح. . .
قال: ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه، فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس، ما تطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك. ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا
قالت: إن هذا لعجيب
قال: والذي هو أعجب أن ليس في حبه شيء نهائي، فلا هجر ولا وصل؛ ينساك بعد ساعة ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب - تبكيه هو أيضا وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تجبره على جبار الحب
قال الراوي: ونظرت إليها ونظرت، وعاتبت نفس نفساً في أعينهما، وسألت السائلة وأجابت المجيبة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت؟
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(117/13)
لأحياء الآداب العربية والتراث القومي
ومهمة دار الكتب المصرية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يستطيع الذين درسوا الآداب التاريخية الغربية، وقرأوا تواريخ الأمم الغربية في تلك الموسوعات والآثار الجليلة التي تمتاز بطابعها العلمي الدقيق، أن يقولوا بحق تاريخ الإسلام والأمم الإسلامية لم يكتب حتى عصرنا
إن الآداب العربية تزخر بالموسوعات والآثار التاريخية في كل عصر، وكل قطر؛ ومنها بلا ريب آثار كثيرة تمتاز بدقتها ونفاستها؛ ولكن هذه الآثار تقف أولاً منذ عصر بعيد، فلا تكاد تجد في العربية موسوعة أو مؤلفاً تاريخياً جليلاً منذ القرن العاشر الهجري، وهي من جهة أخرى لا يمكن أن تعتبر أكثر من مادة لتغذية المؤرخ الحديث بما يحتاج إليه من التفاصيل والوثائق، ومن الأنصاف أن نقول إن هذه المادة تمتاز بغزارتها في عصور كثيرة، ولكن من الأسف أن أغلبها ما زال يحتجب عن أعيننا في أروقة المكاتب والمجموعات الخاصة، فلا يصل إليها الباحث إلا بعد الجهد المضني
وهذه مسألة تستحق الاهتمام من كل أولئك الذين يتصلون بالمباحث الإسلامية والتاريخية، وأولئك الذين يشرفون على توجيه الثقافة القومية، وفي مقدمتهم وزارة المعارف العمومية والجامعة المصرية. فإلى الآن لم يكتب تاريخ مصر الإسلامية، ولا مصر الحديثة بما يجب من دقة وإفاضة، وإلى الآن لم تعرف مصادر التاريخ المصري معرفة حسنة حتى من كثير من أولئك الذين يعنون بكتابته أو بتدريسه؛ وإنه لما يبعث إلى الدهشة كما يبعث إلى الأسف أن نجد الكتب الدراسية التي يعتمد عليها الشباب في دراسة التاريخ المصري أو الإسلامي بوجه عام، خلاصة مشوهة اشتق معظمها من المؤلفات الأجنبية، وهي لذلك تفيض بالأخطاء والمثالب، وينقصها روح الأنصاف والتمحيص؛ هذا بينما تلقى الكتب التي تعنى بتواريخ الأمم الأجنبية عناية أوفر لأنها تعتمد في مادتها على المصادر القومية المنظمة، ويجد فيها الشباب من التبسط والتمحيص ما لا يجده في كتب التاريخ المصري أو الإسلامي
إن دار الكتب المصرية تزخر بمئات وألوف من مصادر التاريخ الإسلامي وتاريخ مصر(117/14)
الإسلامية بنوع خاص، وبين هذه المصادر موسوعات جليلة في مختلف العصور، ومنها ما كتبته أقلام معاصرة قديرة؛ وفيها من المواد والتفاصيل والوثائق ما يغتبط له الباحث ويحقق غايته. ولكن كم من هذه المصادر الجليلة أتيح له أن يرى الضياء حتى يومنا؟ ومع ذلك فأن هذه الآثار التي أخرجت حتى اليوم لم تلفت أنظار الباحثين والقراء لأنها لم تنل حقها من التعريف أولاً، وثانياً لأن معظمها ما زال فريسة الناشرين المتجرين الجهلة، يخرجونه في أثواب عتيقة منفرة يقبل عليها الباحث مرغماً ويلقى في مراجعتها من المشقة ما يلقاه في مراجعة المخطوطات القديمة ذاتها
هذا وما زالت المراجع والموسوعات القديمة التي وضعت بين أيدي الباحثين والكتاب مستقى خصباً لنقل النصوص والروايات كما كتبت منذ مئات السنين؛ وما زال معظم المؤلفات التاريخية المعاصرة يقوم على هذا النقل المجرد؛ ومثل هذه المؤلفات لا قيمة له من الوجهة العلمية، لأن عصر النقل المجرد انتهى منذ بعيد، وأصبح التاريخ في عصرنا علماً جليلاً يقوم على المباحث والمقارنات العلمية والنقدية والاستنباط المسند، وأصبح وثيق الصلة بكثير من العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فمن المؤلم أن يرغم الشباب في هذا العصر الذي يعتبر فيه التاريخ مرآة الحضارة ودعامة للعاطفة القومية، على أن يقرأ التاريخ الإسلامي والتاريخ القومي في هذه الكتب الممسوخة التي استخرجت دون بحث أو تمحيص من الروايات القديمة، ولا فضل لمصنفيها - إن كان ثمة فضل - إلا في الاختصار والتبويب والطبع الأنيق
وقد آن أن نتحرر من هذا الجمود الذي يشل ثقافتنا التاريخية، ويحجب عنا تراث الماضي الزاخر، وأن نستخرج من هذا التراث نفائسه، ونقدمها لجيل العصر في أثوب العصر وأساليبه. وأول ما يجب لتحقيق هذه الغاية في رأينا هو أن يبذل جهد صادق للتعريف بهذا التراث وقيمته وأمكنة وجوده. وهذه مهمة تستطيع دار الكتب المصرية أن تؤدي فيها أعظم دور. ولقد عكفت منذ أعوام على دراسة هذا الجانب من تراثنا القومي، فكتبت عدة دراسات ومباحث عن أقطاب الرواية المصرية مثل ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق والمسبحي والقضاعي والنوريري والعمري والقلقشندي والمقريزي وابن تغري بردى والسخاوي وابن اياس، استعرضت فيها تراجمهم وجهودهم وآثارهم المنشورة والمخطوطة(117/15)
استعراضاً وافياً، وعنيت فيها عناية خاصة بالتعريف بعشرات بل مئات من الآثار والمصادر الجليلة التي تتعلق بتاريخ مصر الإسلامية، والتي ما زالت مخطوطة بعيدة عن التعريف والتداول تحجبها ضلمات النسيان في أروقة دار الكتب. بيد أن مثل هذه المجهودات الفردية لا يمكن أن تحقق الغاية المنشودة. وعندنا أن دار الكتب المصرية يجب عليها أن تعتني بوضع فهرس خاص لمصادر التاريخ المصري العربية المنشورة والمخطوطة بنوع خاص، تتحرى في وضعه أحدث الطرق العلمية وتصنف المصادر فيه حسب العصور، وتوصف محتوياتها وصفاً علمياً دقيقاً؛ ولا تقتصر في ذلك على المصادر الموجودة، بل تضمنه أيضاً ذكر المصادر والآثار المخطوطة المحفوظة في مختلف المكاتب الأجنبية بالاعتماد على فهارس هذه المكاتب أو بإرسال مندوب أو أكثر للخارج لدراستها وتدوين أوصافها وتصوير ما يجب تصويره منها. ثم يوضع إلى جانب هذا الفهرس العربي، فهرس آخر يتضمن جميع المصادر والآثار الأجنبية المتعلقة بمصادر التاريخ المصري في جميع العصور، وفي جميع اللغات الحية، ويصنف تصنيفا علميا دقيقا؛ وتبذل دار الكتب جهدها لاستكمال ما نقصها من هذه المؤلفات، وينشر الفهرسان، ويصبح كل منهما مرجعاً نفيساً لمصادر التاريخ المصري ووثائقه؛ وبذلك تحظى آثارنا المحجوبة بشيء من التعريف، ويسهل سبيل البحث على الباحثين، ويفتتح عهد جديد لدراسة التاريخ المصري وكتابته
ثم يجب إلى جانب ذلك أن تدرس جميع الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر وأنظمتها الإدارية والاجتماعية والاقتصادية مما تحتفظ به دار الكتب ذاتها، أو الدفتر خانة المصرية، أو وزارة الأوقاف أو غيرها؛ ومن المعروف أنه توجد لدينا طائفة كبيرة من هذه الوثائق، ولا سيما مما يتعلق بالعصر التركي، وفيها الكثير مما يلقي الضياء على طبيعة الأنظمة الإدارية والاجتماعية والثقافية في مصر في هذا العصر. ومعظم هذه الوثائق التي تحتفظ الدفتر خانة المصرية بكثير منها محررة بالغة التركية، ويقتضي ترجمته أو تلخيصه. ونذكر أن الأنظار اتجهت منذ أعوام إلى هذه الوثائق، وعرفت أهميتها وقيمتها التاريخية، وقيل لنا إنه سيعنى بترجمتها وتنسيقها، ولا نعلم ماذا تم بعد ذلك في شأنها. بيد أنه لا ريب أن هذه الوثائق المختلفة، ومنها بوزارة الأوقاف حجج أوقاف قديمة ترجع إلى القرن التاسع(117/16)
الهجري؛ إذا نظمت ولخصت في فهرس دقيق جامع، تكون مرجعاً نفيساً لتاريخ مصر الإداري والاجتماعي والاقتصادي والقضائي في هذه العصور
وتوجد ثمة في هذا الميدان مهمة علمية أخرى تستطيع دار الكتب والجامعة المصرية والجامعة الأزهرية أن تضطلع بها، هي نشر طائفة من الآثار والمصادر الإسلامية والمصرية الجليلة مما تغص به دار الكتب المصرية. ولقد أخرجت لنا مطبعة بولاق ثبتا حافلا من هذه الآثار الجامعة في أواخر القرن التاسع عشر، فكانت مأثرة علمية جليلة لولاها لبقيت المكتبة العربية عاطلة حتى يومنا من أمهات المصادر والمراجع الكبرى؛ وقد أرادت دار الكتب أن تستمر في الاضطلاع بهذه المهمة، وما زالت تعمل لإخراج بعض الموسوعات والآثار الجليلة؛ وقد أخرجت بعض هذه الآثار، ولا سيما موسوعة (صبح الأعشى) للقلقشندي، ولكن عملها في ذلك بطيء جدا، ينقصه الطابع العلمي قبل كل شيء؛ ومن الواجب أن تنظم هذه المهمة تنظيما علميا، وأن تشرف على أدائها هيئة فنية قديرة، ومن الواجب أن تضاعف الجهود لإخراج هذه الآثار والموسوعات في فترات معقولة، إذا ما زلنا نتلقى أجزائها في فترات متباعدة، وقد يستغرق إخراج الجزء الواحد عامين أو ثلاثة. ثم إن الجامعة المصرية والجامعة الأزهرية تستطيع كلتاهما أن تقوم في هذا السبيل بمجهود قيم؛ ولا نعلم أن إحدى الجامعتين قامت إلى اليوم بإخراج شيء يذكر من الآثار الإسلامية المخطوطة، هذا بينما ترى الجامعات والهيئات العلمية الأوربية والأمريكية تشرف باستمرار إلى إخراج الكثير من هذه الآثار؛ ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن كتاب (النجوم الزاهرة) لأبي المحاسن بن تغري بردى الذي تقوم الآن بإخراجه دار الكتب المصرية، قد أشرفت على إخراجه منذ أكثر من عشرين عاما جامعة كاليفورنيا الأمريكية، وقد تولى نشره وتحقيقه المستشرق الأمريكي وليم بوير؛ وان الجزء الفاقد من تاريخ مصر لابن اياس الذي أخرجته مطبعة بولاق منذ أربعين عاما، تولى إخراجه الأستاذ باول كاله الألماني بإشراف جمعية المستشرقين الألمانية وهكذا. ومن واجب مصر، باعتبارها زعيمة الثقافة العربية والإسلامية أن تأخذ بنصيبها من حركة أحياء الآثار الإسلامية على يد هيئاتها العلمية الكبرى، وفي مقدمتها الجامعتان المصرية والأزهرية. ولا ريب أن إشراف الجامعتين الكبيرتين على هذه الحركة يسبغ عليها قسطا من الطابع العلمي الذي ننشده(117/17)
لآثارنا وموسوعاتنا؛ ذلك أن ما ينشر منها اليوم على أيدي الناشرين المتجرين يخرج في صور يرثى لها من المسخ والتحريف؛ وليس من المبالغة أن نطلب بهذه المناسبة إلى دار الكتب المصرية أن تسن من القواعد والقيود لاستنساخ المخطوطات ثم لنشرها ما يكفل إخراجها على أيدي ناشرين من الطراز الأول، يقدرون قيمتها العلمية ويخرجونها في أثواب محترمة، ويعرضونها للبيع بأثمان لا تخرج عن حد الاعتدال
هذه خواطر واقتراحات نعتقد أنها تجول في أذهان كثير ممن يعنون بالمباحث الإسلامية وحركة إحياء الآداب العربية، بل نعتقد أنها ليست بعيدة عن أذهان المشرفين على مصاير تعليمنا وثقافتنا. وإذا كنا نخص ثقافتنا التاريخية القومية وإحياء تراثها ومراجعها بشيء من الاهتمام، فذلك لأننا عكفنا على دراسة هذه الناحية من حركتنا العلمية والأدبية مدى أعوام طويلة، ولمسنا فيها أوجه النقص والعمل بصورة واضحة؛ وقد كنا ومازلنا نعتقد دائما أن دار الكتب المصرية، وهي أعظم مستودع لتراثنا المنسي، هي أول وأولى هيئاتنا بالعمل لتحقيق هذه الغاية، ذلك لأنها تضطلع بالفعل بناحية مهمة من هذه المهمة الجليلة؛ وكل ما يتطلب إليها هو أن تعمل لتنظيمها وتوسيع مداها على أسس علمية فنية تكفل أداءها بصورة مرضية؛ ولو عنيت جامعتنا المصرية، وجامعتنا الأزهرية بأن تأخذ كلتاهما بنصيبها من هذه الحركة لاكتملت لدينا أسباب النهضة، ولاستطاعت مصر أن تضطلع برسالتها في إحياء الآداب العربية والإسلامية وواجبها في إحياء تراثها القومي.
محمد عبد الله عنان(117/18)
حول 14 سبتمبر
للأستاذ محمد محمود جلال
أرأيت كيف غير (الكورنيش) من الرمل وكيف حكم في حظوظ البقاع؟! هكذا سألت نفسي وبدأت الحديث مع صديق رافقني إلى سيدي بشر في أول سبتمبر نبحث عن دار ننزلها تحت حكم ظروف طارئة - بعد أن هجرت الإسكندرية كمصيف منذ خمس سنوات
وكأن الله يريد أن يقفنا على المزيد من آياته في تطور الكون وأنه جل شأنه قد انفرد بالدوام، فما تحدثنا حتى دلفت بنا السيارة إلى اليمين تقطع شارعاً ضيقاً قصيراً لم أره من قبل، قام على أحد جوانبه خلاء وعلى الآخر بناء ضخم يوشك على التمام، وقد كدت أنكر الربوع وكأنها غير تلك التي قضيت بها الصيف أعواماً ثلاث متواليات. وما وصلنا آخر الشارع حتى طالعنا منزل يتصل بالماضي ببنائه وموقعه اتصاله بذكرياته، ويجفوه بلونه الجديد، وبهذا اللون وحده يتقرب إلى الحياة الجديدة وما طرأ على (سيدي بشر)
هذا منزل (لافرلا) ثالث الأبنية بتلك المحلة نزلناه أول مرة منذ تسع سنين يوم كان (سيدي بشر) في الصف الأخير بين المصايف لا تسمع له بينها ذكرا، فإذا ضمك مجلس مع المقبلين على التصييف شاقك ما تسمع عن (سان استفانو) وفخامة المنازل حوله، وطيب الهواء في (كارلتون)، وسهولة المواصلات في (سان جورج)، وتحس كأن البلدية ائتمرت مع الزمان القلب فحبت الأسماء الأجنبية بخير الأمكنة، وخصت هذه بالعناية البالغة بينما تركت الجهات الوطنية بلا ميزة، وعطلتها من كل حيلة!
غير أني أحسست لأول سكناي ظاهرة غريبة في (سيدي بشر)، فالرطوبة أقل كثيرا من جميع المحطات. والرطوبة شر ما يرهقني في الإسكندرية صيفاً، وهذه ميزة تعدل في نظري جميع المزايا الأخرى. ميزة تغلب أثرها على ما كنت أرى من دهشة حين أذكر بين أخواني أين أقضي الصيف وكأنهم لم يسمعوا بمحطة تدعى (سيدي بشر)
ومازلت أذكر من فكاهات تتصل بهذا المعنى أن المرحوم محمد نافع باشا، وكان قطباً للحلقة الأولى بالكازينو - وكنا ندعوه المصطبة - كان يدعوني سيدي بشر إذا ناداني إشارة إلى انفرادي بينهم بهذا المصيف، أو إلى اكتشافي له إذا شئت الحق
و (سيدي بشر) ذاته هو المحلة المزدحمة اليوم، وهو الكعبة للطبقة التي كانت تنفر منه(117/19)
وتعده شيئاً غير الرمل وشيئاً غير المصيف منذ تسع سنوات، فثم منازل أنيقة على شاطئه الجميل، وهذه أفواج تختص (البلاج) بخير ساعاتها، وأفواج أخرى تسارع بسيارتها تتصيد المقاعد الخالية فيما انتثر فيه من مقاهٍ ومجالٍ للسرور
وإذا نظرت إلى (الربوع) وجدتها ... تَشقي كما تَشقى العباد وتسعد
أما يوم نزلنا سيدي بشر فلم يكن به غير ثلاثة أبنية وبضعة حوانيت في بناء مستقل - ولم يكن في الجيرة ما ينغص إلا تلك الأكشاك الخشبية وقد صفت على نظام في أجمل بقعة تشرف على شاطئه، وقد خصصت لأسر الضباط الإنكليز يقوم على حراستها نفر من أولئك الذين استحلوا الكل فلم يعفوا عن الأجزاء
ولم يكن للإنجليز أن يختاروا إلا خير البقاع، وأحسن المواقع، فهذه النقطة السوداء شهادة لسيدي بشر بامتيازه
وقد استتبعت هذه الجيرة الممضة أن يأوي إلى الجوار نفر من أخلاط الدخلاء يبيعون الجنود الخمور وأخرى الحاجات، يبجلونهم ويختصونهم بخير ما حوت حوانيتهم حتى ليمنعون المصري ما يطلب بأي ثمن
ولم تكن الحراسة بين المصريين عبئاَ ولا ذات مشقة، فهؤلاء الحراس يودعون كرم الخلق المصري: العرض والحياة والمال. وينفقون ليلهم في تلك الحوانيت يشربون إلى السكر، ويسهرون إلى الصبح
بعد أسبوعين، وفي ليلة واحدة انعكست الآية وسمعنا بمختلف الرطانات إشادة بالخلق المصري والكرم المصري والنبل الوطني بين الجزع والفزع مما حدث، فقد استطاب الجند الضيافة، وأساغ الشرب ما لا يسوغ، وذاق المحتفون من الأخلاط بعض آثار الاحتلال في عتادهم وفي أنفسهم، وشهدنا آية الصبر في لحظة، وكسبنا للقضية الوطنية أنصاراً حتى بين الأقداح وفي أحقر الحوانيت
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذباً
سألني بكر أولادي ذات صباح لمن هذه الأرض التي يقوم عليها (الكامبو)؟ قلت للبلدية. قال وما هي البلدية؟ أجبت تقريبا للمعنى من ذهن الطفل: هي للحكومة. قال وهل يؤدون أجرتها كما أدينا للخواجه (لافرلا)؟(117/20)
قلت يا بني لم هذا الإلحاف؟ وفيم الإعنات؟ وما أريد أن أبكر بالغصص إلى قلبك. أعلم أن هؤلاء الإنجليز دخلوا مصر بحجة الدفاع عن عرش الخديو وحمايته، ولم يكن ثمة تهديد لعرش ولا هدر لحياة؛ وما زالوا يجدون في كل يوم سبباً لأطالة الضيافة، فهم يأخذون هذه الأرض بلا أجر كما احتلوا البلاد. قال، لو أننا نشتري منها قطعة صغيرة ونبني بيتاً صغيراً فلا نؤدي أجرة في كل عام. قلت: فكرة اقتصادية وجيهة، ولكن الإنجليز؟ قال: سأخرجهم حين أصبح ضابطاً. ألم تقل بالأمس إنك ستدخلني المدرسة الحربية؟
قلت: صدقت! ولقد قلت وأسأل الله إذا امتد الأجل أن توفق لخدمة البلاد، وادعوا الله لك ولإخوانك بحياة حرة في جو حر
وأردت أن ينقطع الحديث المشؤوم وعملت على تغيير مجراه فاستعجلته لنخرج على نية شراء بعض ما يلزمه، وسرنا نقصد محطة الترام فوجدنا حانوتاً مغلقاً وقد تأخر عني خطوة وانشغل به بصره، فلما ذكرته بالسير قال: ألم تر؟ قلت ماذا؟ قال دكان الخواجه (خ)، والله يا بابا لقد بكيت أمس إذ قلت لعسكري البوليس صباح أمس حين وقف صاحب الدكان يحكي له ما جرى - خذ العساكر إلى القرقول فلم يفعل!!
سأني أن يستمر الحديث على هذه الوتيرة وقلت يا بني لقد تردد الدمع في مآقي الوزير شريف باشا من قبل حين رأى صفوف الاحتلال في طريق الخديو من المحطة إلى عابدين! ولا شك أنهم سيخرجون يوما بأذن الله، ولن ترى من ذلك شيئاً؛ ولقد رأى أجدادك أبشع من ذلك وأشنع، فقد روى (هنس زيزنر) أنهم كانوا يقتلون جرحى المصريين في التل الكبير؛ وما زلنا نرى من أحفادهم من يحتمعون بهم ومن يثقون. فيوم لا ترى واحداً من هذا الفريق لا ترى على أرض الوطن محتلاً، ولولاه ما لحق القاهرة ذلة 14 سبتمبر سنة 1882
دارت الأيام، وعدت إلى سيدي بشر وفي مكتبي الأول أكتب رسالتي وأشخص بين الفينة والفينة إلى البحر فلا أرى معسكراً يحجب، ولا علامة تثير الغصص وتذكي الألم، قلت مع الرسول الأمين عليه صلاة الله وسلامه: (ويعجبني الفأل)
لعل ما ترى من استنامة للرفاهية أشبه بهذا الطلاء الزائل الذي كاد يغير من منزل (لافرلا) - لعل الجفوة التي ترى بين رجالنا وشبابنا للمبادئ القويمة أشبه بتلك التي كنا نرى(117/21)
ونسمع عن سيدي بشر منذ تسع سنين، ولعل ما يحجب عنا محاسن الخلق الوطني أشبه بخشبات المعسكر التي تكسرت وزالت، ولعل القوة الخارقة الطارئة التي اعتبرها علماء الاجتماع وأساطين التاريخ ميزة الخلق المصري حين هب بعد قمبيز، ومثلت الحكم الإسلامي بالطابع الخاص في الدول الطولونية. والأخشدية والأيوبية، وحكمت القومية المصرية في عهد المماليك ومحمد علي وحررت البلاد من الإنجليز في 19 سبتمبر سنة 1807، لعلها بأذن الله قريب منا! ولعلها على الأبواب! ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب
(سيدي بشر)
محمد محمود جلال المحامي(117/22)
صور حجازية (طبق الأصل)
الإعدام!
للأستاذ علي الطنطاوي
سيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: هذه وحشية، هذه همجية، هذا لا يكون في القرن العشرين، قرن الحرية والنور، هذا يأباه فلاسفة العالم المتمدن؛ المسيو فلان، والمستر علان، والهر جرمان، والسنيور إيطاليان
ويقول الحق: هذا واجب، هذا حسن، هذا دواء القرن العشرين، قرن الاستعمار والاستعباد، وإبادة الضعفاء، واغتصاب الحريات، هذا ما أمر به الله، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر امرؤ مسلم: أيتبع أمر الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يتبع رأي المسيووات والمساتير، والهررة والسنانير؟!. . .
سمعت - وأنا في مكة - أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة (آخر المحرم سنة 1354) فجعلت أرقب وأنتظر، لا أحب أن أسأل أحداً، كيلا تفوتني لذة المفاجأة وروعة الحدث. ثم إن الرجل في الحرم كالسائح في أرض الله، لا يدري من يسأل؛ ولا يعرف من يخاطب، وبينا هو في (الهند) يسمع لغة الهنود ويرى أزياء الهنود، ويبصر عادات الهنود، إذا به ينتقل بعد خطوات إلى (نجد) فإذا هو بين النجديين، وإذا كل شيء من حوله عربي نجدي، ثم يخطو فإذا هو في مصر، بين المصريين، يسمع حديث مصر. في لهجة مصر. . . فكأن الدنيا كلها قد استقرت في الحرم، تستظل بالبيت العتيق، وتطوف به، وتجثو خاشعة من حوله، فلا يحس الرجل وهو فيه بأن وراءه دنيا، أو ظاهر جدرانه حبا من الناس، أو عامراً من الأرض
حتى إذا قضيت الصلاة، وانفتل الإمام، ابتدر الناس أبواب الحرم يستبقون إلى شارع الحكومة - وهو في أسفل أجياد، يمتد من شمال الصفا حتى يجاوز باب إبراهيم - فلم تكن إلا هنيات حتى امتلأ الشارع على سعته بالناس، ولم يبق فيه موطئ قدم، فجعلت أزاحم الناس لأخلص إلى الساحة، فلا أتقدم خطوة؛ ومن لي باختراق هذا السد الهائل من الأجساد، واجتياز هذا الخضم من الناس؟ فأيست واحتسبت مصيبتي في فوت المشهد عند الله، وهممت بالعودة إلى الحرم، وإذا أنا بالشيخ يوسف ياسين (سعادة سكرتير جلالة الملك)(117/23)
فتعلقت به وقلت:
- والله لا أدعك حتى تبلغ بي الساحة
فأعتذر وتملص، فما نجا ولا تخلص، وكيف يتملص مني وقد كنت كالغريق وجد سفينة النجاة، أفيدعها بعدما وجدها؟ فأجاب على كره وسار وأنا أتبعه، والبحر ينشق له كأن بيده عصا موسى. . . وما للناس لا يتفرقون من بين يديه حذرين خائفين، وهو سكرتير الملك؟ حتى إذا بلغ بي درج القصر عاد لشأنه وتركني، فصعدت فلم أجد مكاناً أقف فيه، ووجدت الغرف كلها ملأى بالموظفين والمقربين والحاشية فقادوني إلى غرفة فخمة أعدت للأمير فيصل (ابن الملك ونائبه على الحجاز) ولأهل البيت: بيت الملك
ولم لا يفعلون وأنا ممن يكتب في الصحف، والإكرام إنما يكون لمن يكتب في الصحف، أو يملك سبيلاً من سبل الدعاية، والحذر إنما يكون من هؤلاء. فذكرت قالون وزير لويس السادس عشر، حين رأى أن خير طريقة لتقوية الحكومة الضعيفة، وإغناء الخزانة الفقيرة، أن تقيم الحكومة الولائم الفخمة وتنفق الأموال الطائلة، تشتري ألسنة المادحين، وأقلام الكاتبين حتى يقال: إنها غنية. . فقالوا: إنها غنية، لأنهم أكلوا خبزها ولكن الخزانة قالت: إني فقيرة! وقال التاريخ: إن قالون رقيع. . .
وقفت في النافذة بين فتية من آل البيت؛ فيهم ابن للأمير فيصل في نحو الثانية عشرة من عمره، ما رأيت في لداته أثقب منه ذهناً، ولا أصح جواباً، ولا أحد ذكاء؛ وأطللت على الناس، وإذا هم أخلاط من كل جنس ولغة وزي، فمن رجل عباية على رأسه عقال أسود على صماد أحمر قد التحف بعباية رقيقة على ثوب أبيض، وقد حلق لحيته كلها إلا نقطة واحدة من العثنون، وهلالاً دقيقا من تحتها، نما فيه صف واحد من الشعر كأنما هو مروحة تدلت على صدره: سنة يتبعونها ما أنزل الله بها من سلطان. . . وهذا هو النجدي
ومن رجل يلبس ثوباً رقيقاً فوقه رداء قصير (جاكيتة) من قماش هفهاف، وعلى رأسه قلنسية (طاقية) بيضاء، إذا مشى في الشمس تعمم عليها بملحفة بثقل الفراش، يتقي بها شمس مكة الحادة المخيفة وهو حليق اللحية صغير الشاربين. . . وهذا هو الحجازي
ومن رجل وسخ الثياب، ممزقها، لا تدري عن ثيابه ما لونهما وما هي، وعلى رأسه حبل قد وضعه مكان العقال. . . وهذا هو الأعرابي(117/24)
ومن رجل يلبس ثوباً متقن الصنع، عليه عباءة جميلة شفافة وعلى رأسه عقال مذهب، أو يلبس بدل الثوب حلة (بدلة) بيضاء وهو حليق اللحية، إلا قليلاً منها يبقيه بمثابة الدلالة على أنه ملتح. . . وهذا هو السوري. وأكثر السوريين في الحجاز موظفون في الوظائف الفنية، وأقلهم تجار
ومن رجل على رأسه عمة ضخمة فخمة كعمائم السلاطين من آل عثمان - يوم كان لآل عثمان سلاطين، وكان لسلاطينهم عمائم - وقد أرخى بين كتفيه عذبة طويلة، وله لحية كثة مستديرة، وشاربان طويلان، أما ثيابه فقميص تحته سراويل بيض، تبلغ الكعبين. . . وهذا هو الهندي
ومن شاب حليق الوجه كله (على الأسلوب الأمريكاني) نظيف الثياب مهفهف قد ائتزر بمئزر (فوطة) لفها على خصره النحيل لفاً محكماً، واجتزأ بها عن السراويلات، وارتدى عليها رداء قصيراً رقيقاً، وربما بلغ ثمن المئزر من هذه المآزر خمسة الجنيهات أو أكثر. . . وهذا هو الطالب الجاوي، وما أكثر هؤلاء الطلاب في مكة
ومن عبد أسود، جعد الشعر، أفطس الأنف، ضخم الشفة، عارٍ إلا من خرقة تستر عورته أو بعض عورته. . . وهذا هو الأفريقي الأسود
ومن. . . ومن أمم ربنا التي لا تعد ولا تحصى
وكان القوم مختلفين في أزيائهم ولغاتهم وأجناسهم، ولكنهم تجمع بينهم هذه القبلة التي قطعوا السباسب، وخاضوا البحار، ليواجهوها، ويقفوا أمامها، ويتعلقوا بأستارها
ثم أقبل الجند، وهم بثياب عربية. قد تمنطقوا عليها بمناطق الرصاص، فاصطفوا من حول الساحة، ثم أقبل الأمير فيصل في موكبه، يحف به طائفة من عبيده الأمناء الأشداء الأوفياء، فصعد إلى الغرفة التي نحن فيها فجلس في شرفتها الكبرى
ثم جيء بالرجل؛ وهو قصير كز ساهم، ما عليه إلا قميص واحد مشقوق الجيب، وكان أصفر قد دمع وامتقع لونه، وغاض من وجهه الدم، مجموعة يداه إلى قفاه، قد مات من قبل الممات. يقوده جندي آخذاً بتلابيبه، حتى إذا بلغ به الساحة خلاه فهوى جاثياً على ركبتيه، فلبث لحظة ما يفتح عينيه من الجزع، ثم ارتدت إليه نفسه بعد حين، فجعل يقلب عينيه في الناس فيرى كل شيء من حوله ميتاً لا حياة فيه، فكأن الدنيا قد أظلمت في ناظريه حين(117/25)
يئس من الحياة، كبيت أطفئ فيه المصباح في ليل داج
وجعل يرى الشمس مشرقة، ويرى الجند جائين ذاهبين، يدلون بشاراتهم وسلاحهم، ويرى القصر قائماً يحمل سطوة الحكومة وهيبة السلطان. . . ولكنه لا يرى من ذلك كله إلا صوراً مطموسة، تطلع عليه من خلال حلم عميق. . . ثم تضاءلت هذه الصور واختلطت، ولم يبقى قيد ناظريه إلا الكعبة، يبصرها من باب الحرم، فجعل يحرك شفتيه بالتوبة والاستغفار ويشير بسبابته إشارة التوحيد، ثم أغمض عينيه وجرفه سيل من العواطف المتباينة فغاب في ذهول عميق، ولم يعد يفكر في شيء
وجيء بالمجرم الآخر، وهو عبد أسود، ضخم الجثة، غليظ الشفتين، كثير الشعر، كأنه غول هائل، أو وحش مروع، وقد قيده الجند، وجمعوا يديه إلى عنقه وأقبلوا يمسك به ستة منهم وهو يصاولهم ويقاومهم، ويزمجر ويصرخ صراخا شديداً، وهم يزبرونه ويقرعونه حتى انتهوا به إلى الساحة، فاجتمعوا عليه فأضجعوه على سرير من الخشب وشدوه إليه شداً وثيقاً، وأقاموه بحيث يرى رفيقه ويبصر مقتله
وكأن العبد قد اهتجمت نفسه، وأدركه الخور، فسكت وسكت الناس وعلقوا أنفاسهم وشخصوا بأبصارهم
وجعلت أطل من الشباك أبحث عن الجلاد فلا أرى أحداً، وأفتش عمن يتلو حكم الإعدام فلا أجده. وأرى سمو الأمير يشير بيده، فإذا عبد ضخم يبرز من بين الصفوف، وبيده سيف صقيل مسلول، فيأتي الأعرابي من ورائه وينخسه بالسيف، فينتبه ويمد عنقه مستطلعاً، فيهوي العبد بالسيف على قذاله، ثم يحز به الرأس حزّا، فلا تمضي ثوان إلا والرأس قد بتر عن الجسد، من القذال إلى أعلى الصدر، وطاح ثلاثة أمتار قبل أن تند من المقتول صرخة، ونفر الدم من عنقه كأنه نافورة، ومال الجسد قليلاً قليلاً ثم هوى، وهويت أنا قبل هويه وكفاي على عيني، ولم أعد أشعر بشيء
ولما صحوت قيل قد فاتك المشهد الهائل: قطعت يد العبد ورجله من خلاف
قلت: ويحكم، ماذا تقولون؟
قالوا: قطعت يده ورجله، ألم تتل قول الله عز وجل:
(إنَّما جَزَاءُ الذّين يُحاربُونَ الله ورَسولَه ويَسعْونَ في الأرض فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبوا أو(117/26)
تُقَطّعَ أيدْيهم وأَرْجُلُهم من خِلاف أو يُنْفَوْا مِنَ الأرض). أما إنه لولا هذا ما بلغتم أرض الحجاز سالمين. وما العهد السابق ببعيد، أفلا نستحيي بقتل واحد أو أثنين الناس جميعاً؟ قلت: بلى والله! صدق الله العظيم: (ولكم في القِصاص حياة)
دمشق
علي الطنطاوي(117/27)
2 - الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
خصائص الشعر في العراق
لعل الشعر العراقي الإسلامي أصدق ما يصور حياة البادية، وأصح ما يعبر عن نفسية العرب؛ فانه - وإن كان كما قلنا استمراراً للشعر الجاهلي يصدر عن دوافعه، وينبع من منابعه - أنقى جملة وأبين علة وأصح نسبة، لقربه من عصر التدوين واتصاله بأسباب السياسة وأحداث التاريخ. وهو مظهر لتلك الحياة المدنية الأولية التي هيأها الإسلام للعرب لأول مرة، فجعل من الأشتات وحدة ظاهرها الجماعة والألفة، وباطنها العداوة والفرقة؛ فهو مهاجاة بين الأفراد، ومساجلة بين الأحزاب، ومفاخرة بين القبائل، ومدح للزعماء والخلفاء؛ وهذه الموضوعات بطبيعتها تقتضي اللفظ الجزل والأسلوب الرصين والعروض الطويل والصور البدوية، وتعتمد في الهجاء على مثالب الآباء من جبن وبخل وقلة وذلة، وفي المدح والفخر على ذكر أيامهم الدامية الماضية وما ظفر فيها أسلافهم من الغلب والسلب. فالهجاء في هذا العهد بأنواعه الخاصة والعامة يكاد يكون مظهره العراق، لتكالب القبائل المتعادية عليه، وظهور المذاهب المتباينة فيه، وغلبة البداوة والأنفة والبطر على أهله. فشعراؤه يبتدئون به ويفتنون فيه ويعيشون عليه، وهو ينتحل الأسباب المختلفة، ويرتدي الأثواب المتعددة، فيكون فرديا وقبليا ووطنيا ودينيا وسياسيا، ولكنه في الواقع إنما يصدر من باعث واحد هو العصبية الموروثة والأحقاد القديمة
وقد ينبت المرعى على دِ مَن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
فقائل هذا البيت غياث بن غوث الأخطل صوت الجزيرة ولسان التغلبية وأديب النصرانية وشاعر الأموية. كان أول ما غرم به من شعر الهجاء، هجا امرأة أبيه وهو صغير، وهجا كعب بن جعيل شاعر تغلب، فأهمله وهو يافع، وعلق به لقب الأخطل منذ شب لسفاهته. ثم مضى يقرض الشعر فيما يشجر من الخصومة بينه وبين الناس، أو بين قبيلته وبين القبائل، حتى كان بين يزيد بن معاوية وهو ولي العهد وبين عبد الرحمن بن حسان الأنصاري تقاول وجدل، فطلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار، فتحرج أن يذم قوما آووا رسول الله ونصروه، وقال له: أدلك على الشاعر الفاجر الماهر (يريد الأخطل): فهجا(117/28)
الأخطل الأنصار بالفلاحة واللؤم والخمر، وفضل عليهم قريشاً في قصيدته الرائية، وكاد يشفى من ذلك على الخطر لولا عون يزيد؛ وبالغ الأمويين في إيثاره وإكرامه، وأمعن هو في النفح عنهم، فناضل الزبيريين بعد الأنصار، وصمد إلى القبائل القيسية فهتك عنها حجاب الشرف قبيلة قبيلة بقصيدته التي مطلعها:
ألا يا اسملي يا هندُ هندَ بني بكر ... وإن كان حيَّاناً عِدَي آخر الدهر
لمناصبته الأمويين العداء من جهة، ولا قتحامها الجزيرة على قومه من جهة أخرى، ثم ختم حياته بممالأة الفرزدق ومهاجاة جرير. والأخطل وإن كان شديد التمسك بنصرانيته، على وثيق صلاته بالخلفاء، لم يشذ عن طبيعة العرب في التدين، فقد قال الأب لامنس في فصل كتبه عنه: (إن أثر النصرانية في دين الأخطل ضئيل، ونصرانيته سطحية ككل العقائد الدينية عند البدو)، فهو يدمن الخمر في حمى الدين، ويكثر الهجاء في حمى الخليفة، ويهاجم القبائل في حمى تغلب؛ ولكن هجاءه كان عفيف اللفظ لا يركب فيه متن الشطط ولا يتجاوز به حدود الخلق
وأبو فراس همام بن غالب الفرزدق الدرامي ثم التميمي نشأ كذلك بالبصرة على قول الهجاء مع شرف أسرته وغنى قبيلته وعزة نفسه؛ فكان يهجو بني قومه لحدة طبعه وشراسة خلقه، فيشكونه إلى أبيه فيضربه؛ ثم لج في هجاء الناس حتى استعدوا عليه زياداً والي العراق لمعاوية، فطلبه ففر منه في مدن العراق وقبائله، ثم لجأ إلى المدينة واستجار بواليها سعيد بن العاص من زياد فأجاره؛ فلما مات زياد عاد الشاعر إلى وطنه فساهم فيما وقع فيه من حروب وفتن بعد موت معاوية ويزيد، حتى مني بمهاجاة جرير فشغلت وملأت عمره وصقلت شعره، وظلت هذه المهاجاة أربعين سنة ونيفاً كان منها للناس مشغلة، وللوسواس مهزلة، وللأدب العربي ثروة ضخمة من الشعر لا تخلو على سفاهتها وبذاءتها من حكمة. وكان جرير بن عطية الخطفي التميمي قد قال الشعر كصاحبه في الحداثة الباكرة، وقاله مثلها في الهجاء، ولكنه بدأ بالرجز على نحو ما يكون من الرعاة وهو منهم. وكان خمول عشيرته وضعة أسرته وفقر أبيه وحدة خلقه من العوامل التي ساعدت الطبع على نبوغه في الشعر وتفوقه في الهجاء؛ وكان أول من نازله وأفحمه غسان السليطي حين هجا قومه، فاستغاث السليطي بالبعيث فأغاثه وهجا جرير، فنقض جرير قوله بالهجاء(117/29)
اللاذع، فناضل عنه الفرزدق لموجدة في نفسه على جرير، وتهاجى الشاعران التميميان من أجل ذلك. وفضل الأخطل الفرزدق على جرير إما لدفاعه عن قيس، وإما لرشوة محمد بن عمير إياه، فهجاه جرير، ثم نبحه الهجاء من كل مكان حتى نصب له من الأقران ثمانون شاعراً ظهر عليهم جميعاً إلا الفرزدق والأخطل فانهما ثبتا له ونازعاه الغلبة. وانشعب الناس في أمر جرير والفرزدق شعبتين تناصر كل منهما أحد الشاعرين؛ وكان بين الفرزدقيين والجريريين ما بين العلويين والأمويين، يطلب كل منهما الغلبة لصاحبه بالدعاية والنكاية والرغبة والرهبة والحلف، يقوم الأولون بالمربد والآخرون بمقبرة بني حصن، وقد وقف الشاعران كل بين أتباعه وأشياعه ينشدهم شعره وهم يكتبونه، والرواة ينشرونه، والأدباء والأمراء يتناولون ما يروى بالموازنة والنقد والحكم، والأنصار يحاولون رشوة الشعراء واستمالة العلماء ليحكموا لصاحبهم على خصمه؛ فقد روى الأغاني أن أحدهم تبرع بأربعة آلاف درهم وبفرس لمن يفضل الفرزدق على جرير. وليس أدل على اهتمام الناس بأمرهما واختلافهم في الحكم على شعرهما من أن يتهادن الجيشان المتقاتلان ساعة ليحكم أحد الخوارج الأدباء بين رجلين من رجال المهلب تنازعا في أمر جرير والفرزدق، فقد ذكر ابن سلام أن رجلين تنازعا في عسكر المهلب في جرير والفرزدق وهو بازاء الخوارج، فصار إليه فقال لا أقول فيهما شيئاً، وكره أن يعرض نفسه لشرهما، ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيد بن هلال، وهو يومئذ في عسكر قطري بن الفجاءة، فأتيا فوقفا حيال المعسكر فدعواه فخرج يجر رمحه، وظن أنه دعي إلى المبارزة، فقالا له: آلفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله! فقالا: نحب أن تخبرنا ثم نصير إلى ما تريد، فقال من يقول
وطوى القيادُ مع الطراد بطونها ... طي التَّجار بحضرموت برُوَدا
قالا: جرير. قال: هو أشعرهما
وهناك طائفة أخرى من شعراء العراق كعبيد الراعي وأبي النجم العجلي والراجز اتخذوا من الشعر ظفراً وباباً مزقوا بهما الأعراض وأشاعوا هجر القول في الناس، ولكن أحدهم لم يبلغ من سطوة الشعر ونباهة الذكر ما بلغ جرير والفرزدق والأخطل، لأنهم كما قال أبو عبيدة: (أعطوا حظاً من الشعر لم يعطه أحد في الإسلام: مدحوا قوماً فرفعوهم، وذموا قوماً(117/30)
فوضعوهم، وهجاهم قوم فردوا عليهم فأنهضوهم، وهجاهم آخرون فرغبوا بأنفسهم عن جوابهم فأسقطوهم)
مذهبهم في الهجاء
مذهبهم في الهجاء هو المذهب المتبع والطراز الغالب؛ على أنهم يتفاوتون فيه تفاوتهم في الطبقة والبيئة والطبع
فالأخطل سيد في قومه، كريم في نسبه، نبيل في نفسه، يعاقر الخمر ويجلس الملوك ويحترم الدين ويحتمل في سبيله ضرب الأسقف وأذى السجن وإن كان لا يتعبد ولا يتزهد. ومن أجل ذلك كانت لغته في الهجاء كما ذكرنا من قبل لغة الخاصة، لا يسف إلى القبيح ولا يستعين بالمخازي، وإنما يهاجم القرن في صفات الرجولة فينفي عنه الكرم والبأس والمجد والصدق كقوله في تيم:
وكنت إذا لقيت عبيد تيمٍ ... وتيما قلت أيهما العبيد!
لئيم العالمين يسود تيماً ... وسيدهم وإن كرهوا مسود
وكقوله في كليب بن يربوع:
بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزَّاء والسكَر
قوم تناهت إليهم كل مخزية ... وكل فاحشة سُبَّت بها مضر
الآكلون خبيث الزاد وحدهمُ ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر
وأقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطنَ الراحة الشعَر
ولعل أفحش هجائه قوله في قوم جرير:
قوم إذا استنبح الضيفان كلبُهم ... قالوا لأمهمُ بولي على النار
فتمنع البول شحاً أن تجود به ... ولا تجود به إلا بمقدار
والخبز كالعنبر الهندي عندهُم ... والقمح خمسون إردباً بدينار
فترى أنه حتى في إقذاعه وإيجاعه لا يتدلى إلى ذكر المثالب الخاصة والمعايب الفردية، وإنما يهاجم قبيلة الخصم كلها فيقايس بينها وبين قبيلته في السمو إلى المعالي والسبق إلى الغايات، وفي ذلك يجد بلاغه ومدده، فلا يضطر اضطرار جرير إلى ذكر الصغائر التماساً للغلبة الدنيئة من أقرب طريق. انظر إلى قوله لجرير:(117/31)
يا ابن المراغة إن عَمَّىَّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وأخوهم السفاح ظمَّأ خيله ... حتى وردن حبى الكلاب نهالا
فانعقْ بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالا
منتك نفسك أن تكون كدارم ... أو أن توازي حاجباً وعقالا
وإلى قوله له:
ولقد شددتَ على المراغة سرجها ... حتى نزعت وأنت غير مجيد
وعصرت نطفتها لتدرك دارماً ... هيهات من أمل عليك بعيد
وإذا تعاظمت الأمور لدارم ... طأطأت رأسك عن قبائلِ صيد
وإذا عددت بيوت قومك لم تجد ... بيتاً كبيت عطارد ولبيد
تجد أن هجاءه أقرب ما يكون إلى المنافرة والفخر. ومن الواضح أن هذا الهجاء العفيف المترفع وإن أمض لا يجري مع هجاء جرير في ميدان، ولا يستوي وإياه عند العامة في ميزان، فكيف إذا اجتمع إلى ذلك خمود الشيخوخة في الأخطل وحدة الشبيبة في جرير؟ إن جريرا نفسه قد علل وناء خصمه عنه في آخر الشوط بكبر سنه، فقد قال: (أدركته وله ناب واحد، ولو أدركته وله نابان لأكلني). وقال في قصيدته النونية التي هجا بها الأخطل على أثر تفضيله الفرزدق عليه:
جاريت مُطّلع الرهان بنابهٍ ... رَوْقُ شبيبته وعمرك فان
وإذا استثنينا هجاء الأخطل لجرير وجدنا أشهر أهاجيه إنما قالها في أغراض قومية أو سياسية. ومن تلك الأهاجي المأثورة قصيدتان تلخصان مذهبه وتصوران فنه: الأولى في هجاء القبائل القيسية ومطلعها:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر ... وإن كان حيّانا عِدَي آخر الدهر
والأخرى في مدح عبد الملك بن مروان وذم خصومه ومطلعها:
خف القطين فراحوا منك أو بَكَروا ... وأزعجتهم نوى في صرفها غِيَرُ
ومنها:
بني أمية إني ناصح لكم ... فلا يبيتن منكم آمن زُفَرِ
فان مشهده كفر وغائلة ... وما يُغيَّب من أخلاقه وعرِ(117/32)
إن العداوة تلقاها وإن كمنت ... كالعُر يكمن حينا ثم ينتشر
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قوم همُ آووا وهم نصروا
وقيسَ عيلان حتى أقبلوا رُقُصاً ... فبايعوك جهاراً بعد ما كفروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضجر
والأخطل لنصرانيته لم يستطع أن يتخذ من الإسلام سبيل للفخر ولا مادة للهجاء، فاكتفى بذكر مناقب آبائه ومثالب أعدائه، على أن يستغل أحيانا بعض ما أنكر الإسلام فيهجوا وإن كان هو يستبيحه، كقوله في الأنصار يرميهم بشرب الخمر:
قوم إذا هدر العصير رأيتهم ... حمراً عيونهمُ من المسطار
وكقوله في كليب بن يربوع:
بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم ... إذا جرت فيهمُ المزَّاء والسكَر
يتبع
الزيات(117/33)
في مؤتمر الكتاب الأوربيين لحفظ الثقافة
خطاب أندريه جيد
نحن قليل في هذا المكان بعددنا، كثير إذا اقتصر الأفراد منا على حب بلادهم، وكثير كثير إذا أضمر هؤلاء الأفراد للبلاد الأخرى ضغينة وحقداً: إذا ما حدثتكم عن شعوري أيها السادة أقول بأني إنساني النزعة في الوقت الذي ما أزال فيه فرنسياً صميما، وأقول أني فردي من أنصار الفردية مع الاعتقاد الراسخ بأني شيوعي صميم، لا أجد في الشيوعية غير نصرة لفرديتي وكل تأييد، لقد كانت رسالتي التي حملتها طوال خمسة وستين عاماً: أنه بمقدار ما تكون شخصية الإنسان قوية وأصيلة فيهن تكون خدماته للمجتمع أجل وأحسن، وقد أضفت في السنوات الأخيرة إلى هذه الرسالة رسالة جديدة هي من الأولى بمثابة البنت للأم، هي أن الجمعية الشيوعية تترك المجال الوسيع لكل شخصية وللخصائص التي تتميز بها كل شخصية تنمو وتزدهر على وجهها الأكمل؛ وحسبي أن أتمثل بعبارة لأندره مالرو ساقها في مقدمة أحد الكتب وقد أصبحت مثلا يجري على كل لسان (إن الجمعية الشيوعية ترد إلى كل شخصية نتاجها الخصيب)
وأذكر اسم رابليه في هذا الكلام لأن النشاط الذي تركه في آدابنا الفرنسية الجميلة لم يتركه أديب من بعده، ولأني أعتبره خير ممثل للأديب الفرنسي العريق، ولربما كان فيما كتب بين معاصريه خير ممثل للعصر الذي عاش فيه، لقد أخذت الآداب الفرنسية بعد رابليه تهدأ ثورتها، تتوخى الطريق المطمئنة المسالمة التي لا صعاب فيها ولا عراقيل، تجنح إلى الغموض والإبهام غير مكترثة بالمادة مشيحة بوجهها عنها
أعني بالآداب الفرنسية التي سميت (كلاسيكية) كل ما يدخل تحتها من كتاب وقراء ونظارة وأبطال للرواية والقصة، أعني بأن كل هؤلاء قد كفوا مؤونة السعي والجد طلباً للعيش؛ وعلى هذا الأساس كانت وظيفة الأديب أن يحدث أناساً موفورين عن أناس موفورين، وإذا لم يكن منعماً هذا الذي يحدث عنه الأدب، فليس من شأننا أن نعرف ذلك وليس من شأننا أن نعرف لماذا كان أكثر هؤلاء الذين يحدث عنهم أغنياء مغتبطين؟ وعلام يستندون في جمع ثرواتهم؟ إن الأدب لا تعنيه كل هذه الأسئلة الممضة! فهؤلاء الأبطال يصورهم لنا راسين في مآسيه الرائعة وقد خلوا من تكاليف الحياة ليس لهم إلا أن يندفعوا مع أهوائهم(117/34)
مرخين العنان لقلوبهم تعشق وتحب، ولرؤوسهم تحلم وتفكر. إن هؤلاء الأبطال لا يعيشون في غير أسطر ضمت في كتاب أو على خشبة مسرح يتقمص أفعالهم الممثلون
لست هنا في معرض دعوى أدافع بها مطالباً بحكم على هذه الآداب الكلاسيكية، فأني من أكثر الناس حباً لها وإعجاباً بها وبكل ما هو رائع وجميل، بل أقول إن الأدب لم يشهد منذ الإغريق الأقدمين عهداً رائعاً مثل عهد هذه الآداب. ولرب قائل يقول: إن هؤلاء الملوك والملكات وهؤلاء الأمراء والكبراء الذين لا تخلو منهم رواية مسرحية ألفت في القرن السابع عشر هم الذين ينبو عنهم ذوقنا؛ واكبر ظني أن ليس هناك أحد يستسيغ الحديث عن أناس نسبت إليهم أفعال حميدة وكلام مزوق معسول، وقد جعلوا في جو من الأبهة والملك يشفعان لهم إذا لم يأت كل ما نسب إليهم مطابقاً للواقع صادراً عن ميولهم ومجرد احساساتهم؛ وإذا استساغ البعض حديثاً من هذا النوع فانهم لا يجدون فيه صورة منقولة عن عالم الأحياء الذي يعيشون فيه. فليس كل من يدبون على الأرض مترفين ولا أصحاب امتيازات
لعمري أن آدابناً تلك سمتها لا تعبأ بغير هذا النمط من الناس ولا تهتم بغير الرؤوس والقلوب منهم، لا يرجى لهم مستقبل تأمن فيه من أن تزل قدمها فتهوي إلى أعماق البحر الذي تمشي على شطآنه
إن الآداب والفنون إذا لم تكن مرآة للحياة وصدى للحقيقة فأنها أشياء مصطنعة لا تلبث أن تفقد قيمتها، وإننا إذ استثنيناً الآداب اللاتينية لا نجد آداباً أوربية أخرى أكثر من الفرنسية إيغالاً في الخيال وتعلقًا به، ما تزال إلى الآن تعتمد عليه اعتماداً كبيراً. إن الآداب لا تسمو ولا تقوى ولا تتجدد إلا بالمقدار الذي تستمده من الشعب الذي يعتبر بحق دعامة المجتمع وأساس بنيانه، وما أشبه حال الأدب ببطل الأسطورة الإغريقية ذات المغزى البليغ التي تحكي أن أنتيوس يفقد قواه وتفل عزيمته كلما ارتفعت رجلاه على عن أن تمس الأرض
يتساءلون عن الكاتب الذي غذى الآداب الفرنسية في غضون القرن الثامن عشر وجدد في حيوتها! ليس هو فولتير ولا هو مونتسكيو على عبقريتهما وما قدماه لهذه الآداب من البدائع. إن هذا الكاتب رجل خرج من بين الرعاع لا حسب له ولا نسب: هو ديدرو وهو روسو(117/35)
يقول كاتب في جريدة (الاكسيون فرانسيز) منذ عهد قريب: (إن المدينة هي الكذب ومحض الاختلاق، وظيفتها إقامة رجل متصنع في شؤونه متكلف في أحواله مكان الرجل الطبيعي العادي، شبهها شبه الرجل الذي يبرز مرتدياً ثيابه مصففاً شعره بعد أن يكون عارياً في حجرته الخاصة) ثم يختم المقال بقوله (على المرء أن يختار بين أن يكون متمدناً لا يعرف للإخلاص معنى وبين أن يكون غير متمدن مخلص لذاته)
كلا ليس من المحتم على المدنية أن تتجرد من صفة الإخلاص، وليس من اللازم على الإنسان إذا أراد التميدن أن يكون كاذباً أفاكا، بل إذا لم يكن للمدنية بد من شيء تتصف به وتحمل طابعه فأنه الصدق. إني لست من الذين يلقون تبعة الكذب والتزييف البادين على كل مظهر من مظاهر حياتنا على عاتق الفرد، فأن الجاني هو المجتمع كلما أراد أن يخنق صوت الشعب، وكلما حاول أن يتركه على حاله من الغباوة والجهل والاستعباد، لا يعرف ما يجيش في فؤاده فيعبر لنا عنه ولا يدرك ما تستفيده الثقافة منه إذا جهر بما هو دائر في خلده حائم بمخيلته
وقفت نفسي مذ كنت شاباً احترفت حرفة الكتابة على دحض الزعم القائل (قال الإنسان كل ما يمكن أن يقوله وليس في استطاعة أحد أن يقول غير ما قيل) وقد اتخذ هذا الزعم وطنيو ذاك العهد شعاراً لهم يتمثلون به
أليس من دواعي العجب والغبطة وقد مضى عصران كاملان على الكلمة التي كان يعتز بها لابروبير: (جئت في الزمن الأخير) أن نرى أنفسنا أمام عالم حافل بالعجائب والغرائب لم نصل بعد إلى كثير أو قليل من أسراره، أمام عالم يقظ في إبان فتوته يطلع علينا كل يوم بجديد
من يقل أدب قوم فكأنه عنى بذلك خصالهم وأحوال مجتمعهم، لكن هذه القاعدة كثيراً ما تشذ، وقد كثر شذوذها في الآداب الفرنسية، فإن لدينا طائفة كبيرة من الكتاب العظام لم يحظوا في حياتهم بعطف الجمهور وتقديره، فيقال بأنهم يكتبون لأنفسهم؛ لكن هذه الطائفة لم تعدم بعد حين الأنصار الذين رفعوها إلى المكان اللائق بها؛ وقد فطنوا للنظرات العجلى التي لم يستطع إدراكها المعاصرون. وكأني بذلك أعود بالمخيلة إلى بودلير وإلى رامبو وإلى ستاندال أيضاً الذي كان يكتب لعدد ضئيل من محبي أدبه، ويقول بأن قراءه الحقيقيين(117/36)
لم تلدهم أمهاتهم بعد. . بل وأتخيل نيتشه ووليام بلاك ومكفيل الذين لم يكن حالهم بأحسن من حال الأولين. هذا وإني لم أذكر إلا الكبار
نشهد اليوم حادثاً لم يسبق للتاريخ مثله، عظيم الأهمية، لا تقاس به الأحداث، ذاك هو النظام الجديد القائم في روسيا السوفيتية، ولست مبالغاً إذا قلت بأنه عمل (نموذجي) ينسج على منواله؛ إن بلادا يجري فيها مثل هذا النظام تجعل الكاتب يتحسس بيئته ويتصل بقرائه اتصالاً مباشراً، لا يدور حولهم كالتائه يفتش عن ضالته كما هي حالنا معشر الكتاب، فيستمد من الحقيقة التي تحيط به مادته، ويستلهم منها أخيلته، ويستمع إلى صداه بأذنه. إن بلادا مثل هذه يؤدي فيها الأديب رسالته كما يجب أن تؤدى، جديرة منا بكل إعجاب. بيد أن ذلك كله لا يفيد. إن الطريق كلها سليمة لا تعتورها الأشواك، وكيف تجتنب الأخطار جميعها ما دام العمل الفني في طبيعته ضعيف المقاومة، قليل التأثير بادئ ذي بدء. ولعل الكلام عن مثل هذه الأخطار التي هي من طراز جديد ستحين له فرصة ثانية، لقد رأيت في النتاج الأدبي السوفيتي آثاراً أثارت مني كل إعجاب، لكنها ما تزال بعيدة عن أن يتمثل فيها الإنسان المنتظر، الذي ما برح هذا الأدب يعمل على إيجاده، وهو ما يزال في مراحله الأولى يصور لنا أدوار التكون والتمخض والولادة، وأني لشديد الأمل برؤية الآداب السوفيتية قد كبرت واشتد ساعدها، فأصبح الكاتب في كنف الحقيقة الماثلة، فاتحة له صدرها يضمها بكلتا يديه
إن الأدب الخالد الذي تقبله النفوس وتقدم عليه بشغف يتجدد في كل حين، لا ينقطع لسد حاجة وقتية تنبعث عند طبقة من الناس، في وقت من الأوقات، وعلى هذا الأساس، فان حكومة السوفيت، لم تقتصر على طبع الآثار والمؤلفات التي جادت بها قرائح كتابها وشعرائها، فإنها عنيت عناية فائقة بنشر أشعار بوشكين، وتمثيل مسرحيات شكسبير؛ ولم تقل قط بأن أدب كتابها مرسوم له الخلود، ولا هي تستبعد أن يكون نتاج هؤلاء الكتاب صائراً إلى الزوال بزوال الحاجة التي دفعت إليه، ما دام الزمن لم يحكم حكمه عليه، وإذا كان هنالك من شيء يمسخ الفائدة التي يمكن أن يجنيها الناس من قراءة الكتب وإنشاء الأشعار، فما هي إلا أن ترسم لهم الأمثولة ويحدد لهم المغزى، وفي التدليل الكثير على العظة التي تتضمنها الكتب ضياع لمسحة الجمال التي تتميز بها الأدب، ويصبح بذلك(117/37)
ضرباً من ضروب الوعظ الجافة
ليس مما يضير القراء ألا يوفقوا كلهم إلى غاية واحدة، فان في استطلاعهم إياها في أجواء مختلفة فائدة لا تقدر، وفي ذهابهم مناحي متباينة بعد أن تكون هناك سلطة يستهذون بها. وهذا والثقافة كانت لجلاء الذهن وإطلاق الفكر قبل أن تكون عامل إرشاد وتهذيب
تتوجه أنظار المفكرين، في هذا الزمن، إلى انتشال الإنسانية من وهاد الاضطهادات التي ترددت فيها، وأني لا أقدر لهؤلاء المفكرين أن يظل الإنسان موضع اهتمامهم يوم يفلت من قيده وينطلق حراً شريفاً، فلا يعنون به إلا خانعاً ذليلاً أو غرا جهولا، بل ولقد أسبغ على نفوسنا طول تحدثنا عن البؤس وتغنينا بمحامده ومزاياه حلة من الخنوع والاستكانة لا تليق بها
جميل أن نحلم بمجتمع تعم نعماؤه الأفراد، وأجمل منه أن نوقن بقرب قيام هذا المجتمع.
ترجمة وتلخيص
ماجد شيخ الأرض(117/38)
الدكتور محمد إقبال
أكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر
(إن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران ولكن العرب
لا يعرفون شيئا عن نغماتي الشجية)
(إقبال)
لأبي النصر أحمد الحسيني الهندي
بدأ الدكتور يقول الشعر في أول الأمر من نوع الغزل ثم باشر أنواع الشعر الأخرى مثل: (مثنوي) و (قصيدة) و (رباعي) و (قطعة) و (مسدس) فأجادها إجادة تخلب القلوب، غير أن كمال شعره ليس في هذه الأشكال والقيود الظاهرية، بل في ابتكار المعاني، وإبداع البيان، ودقة الفكر، وسمو الخيال، وحسن التركيب والتشبيه، وقوة الكلام التي يشتمل عليها شعره. فأنت ترى كيف تلك الصفات أورثت التصوير حسناً ورونقاً في قصيدته (الأمنية) التي طلب فيها من الله أن يخرجه من ضوضاء هذا العالم ويسكنه محلاً هادئاً ذا منظر بهيج. قال في وصف ذلك المنظر:
(. . . فلتكن (في ذلك المحل) الأشجار مصطفة في جانبين يرسم صورتها ماء النهر الصافي، وليكن منظر الجبال فيه فتاناً إلى درجة أن يقوم الماء في شكل الأمواج لرؤيته، ويمس الماء فرع الورد مائلاً كأن حسناء ترى وجهها في المرآة، وعندما تحني الشمس عروس الليل تلبس الأزهار كساء ذهبياً مشرباً حمرة. . . الخ)
وقال في وصف الحباحب الطائرة ليلاً في الحديقة:
(إن نور الحباحب يلمع في معمورة الحديقة كأن الشمع منور في محفل الأزهار، أو نجمة قد جاءت طائرة من السماء، أو شعاع القمر قد نفخ فيه الروح، أو سفير النهار قد جاء في سلطنة الليل فكان خاملا في وطنه وبرز في الغربة. أوزر قد وقع من قباء القمر أو ذرة قد ظهرت من قميص الشمس. إن في هذا القمر الصغير نوراً وظلمة فكأنه يخرج من الخسوف حيناً ويدخل فيه حيناً. . . الخ)(117/39)
إن الدكتور إقبال ليس بشاعر فقط بل هو مفكر وفيلسوف أيضاً من الطراز الأول، وهذا الأمر يزيد شعره حسناً وجمالاً ورونقاً وكمالاً: فقد قال كوليريج الشاعر المفلق الناقد الأديب الإنجليزي الشهير: (لم يكن ولم يكون أحد شاعراً كبيراً مجيداً بغير أن يكون في نفس الوقت فيلسوفاً ومفكراً دقيقاً. لأن الشعر أرج علم الإنسان وأفكاره وشعوره وعواطفه ولغته قاطبة.) ففي الشعر يقدر الشاعر الفيلسوف أن يعالج أمراً من أمور الفلسفة الدقيقة، وعر الملتمس منيع المطلب ببيت واحد، في حين أنه لا يقدر على معالجته بصفحات من النثر. فأنت ترى كيف أن إقبالاً بين لك وفي بيت واحد فلسفة الحياة، ثم نبهك على مواضع الضعف فيك، وفي هذا التنبيه منه لك تحريض أيضاً على الأعراض عما أنت فيه قال:
حيات جبست جهان را أسير جان كردن
توخود أسير جهاني كجاتواني كرد
(ما هي الحياة؟ هي ان تستأسر العالم لنفسك (ولكن مادمت أنت أسيراً للعالم فكيف يمكن لك ذلك)
وقال في بيت آخر ما ترجمته:
(إن الحياة هي أن تخلق اللؤلؤ في صدفك وأن تنفذ في قلب اللهيب ولا تذوب)
وقال في فلسفة الحياة أيضاً مخاطباً قلبه ما ترجمته:
(أيها القلب تعلم من البرعوم سر الحياة، فان الحقيقة ليست بمحجوبة في مجازه فانه قد نبت من التربة المظلمة، ولكن نظره (دائماً) إلى شعاع الشمس)
يجيد الدكتور الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والأردية، ويعرف السنسكريتية والعربية أيضاً، ويقول الشعر بالفارسية والأردية. وجميع مصنفاته التي ظهرت إلى الآن هي كما يلي:
1 - مصنفاته شعرا:
1 - بابك درا (أي صوت الجرس): وهو ديوان باللغة الأردية يحتوي على أنواع الشعر المختلفة من باكورة شعره
2 - أسرار خودى (أي أسرار الأنانية): وهو أول دواوينه باللغة الفارسية وشعره من النوع المثنوي. نشره في سنة 1916، ويحتوي على مباحث إسلامية فلسفية دقيقة للتربية(117/40)
الأنانية. وقد ترجمه المستشرق الشهير الدكتور نكلسن إلى اللغة الإنجليزية
3 - رموز بيخودي (أي رموز إنكار الأنانية): وهو الديوان الثاني باللغة الفارسية وشعره من نوع المثنوي نشره في سنة 1918، وهو كالتكملة للأول لتكوين الأنانية العليا وتربيتها
4 - بيام مشرق (أي رسالة الشرق): وهو ديوان باللغة الفارسية يحتوي على أنواع الشعر المختلفة، نشره في سنة 1923 وقد صنفه رداً على (الديوان الغربي) للشاعر الفيلسوف الألماني الشهير جوتيه. وقد ترجمه الدكتور نكلسن إلى الإنجليزية
5 - زبور عجم: ديوان باللغة الفارسية وشعره من الأنواع المختلفة، ويحتوي على أرق العواطف وأدق الأفكار الفلسفية. نشره في سنة 1926
6 - جاويد نامه (أي كتاب جاويد): وهو ديوان باللغة الفارسية نهج فيه الشاعر منهج فاوست لجوتيه، ويحتوي على أدق الأفكار الفلسفية الإسلامية. وقد نسبه إلى أصغر أبنائه المسمى (جاويد). نشره في سنة 1932
7 - مسافر: وهو ديوان صغير باللغة الفارسية، شعره من نوع المثنوي، يحتوي على ما جادت به قريحته حين سافر إلى أفغانستان تلبية لدعوة المغفور له جلالة الملك نادرشاه خان ملك أفغانستان في سنة 1933
8 - بال جبريل: ديوان باللغة الأردوية، يشتمل على ما جادت به قريحته عند زيارته الآثار الإسلامية في الأندلس ونشر سنة 1935
2 - مصنفاته نثرا:
1 - السياسة المدنية: صنفه باللغة الأردية وهو أول مصنفات الدكتور
2 - تاريخ التقدم الفكري في بلاد إيران: وقد نال بتقديم هذا الكتاب شهادة الدكتوراه من ألمانيا
3 - المحاضرات الستة: وهي التي ألقاه في الجامعة الهندية، وتحتوي على فلسفة الإلهيات الإسلامية
لقد طال بنا الحديث ونحب أن نختمه بكلمتين وجيزتين: منزلة شعر إقبال في الهند: وصداه في العالم، فأما منزلة شعر إقبال في الهند، فلشعره رسالة ستعرفها حين نفرد لها مقالاً في المستقبل إن شاء الله. والرسالة إذا قامت لابد أن تجذب ما حولها إلى نفسها كذلك شعر(117/41)
إقبال، ولا يتسع المجال هنا لأن نستقصي رأي جمع طبقات الهيئة الاجتماعية الهندية في شعر إقبال لإبانة جاذبيته ومنزلته. وإنما نكتفي برأي طبقة الشعراء لأنهم أدرى بحقيقة فنه ودقائقه
إن الشعراء في الهند كثيرون فمنهم من يجيد الشعر بالأردية ومنهم من ينشئه بالفارسية، ومنهم من يتقنه بالاثنين، ولكن إقبال أسبقهم غير مدافع، وأفضلهم غير معارض، ولشعره بينهم القدح المعلى، فقد اتفقوا جميعاً على أنه هو شهابهم الساطع، وبدرهم الطالع ولقبوه (بترجمان حقيقت) (أي المعبر عن الحقائق) وقد شدا غير واحد منهم ناشراً طراز محاسنه في المجالس، وناثرا لآلئ وصفه في المحافل بالأبيات والقصائد نقتطف بعضها هنا. قال مولانا غلام قادر كرامي وهو من كبار شعراء الهند ويقول الشعر بالفارسية:
در ديده معنى نكهان حضرت إقبال
بيغمبري كردو بيمبر نتوان كفت
(إن في رأي أرباب النظر قد قام حضرة
إقبال بعمل النبوة ولا يمكن أن يقال له نبي)
وقال الشاعر فكار - وهو من مسقط رأس إقبال ويقول الشعر بالفارسية والأردية - وهذه ترجمته:
(إنك قد جئت بكأس من الحانة القديمة وبنغمة داودية من وتر الرباب)
(يا طبيب روح الأمة! أنت قد جئت بعهد الشباب في دين إبراهيم بدواء الفلسفة)
(وقد كشفت عن نفسك بواسطة (رموز إنكار الأنانية) يا أبا الحكمة أنت قد جئت بالنهر من السراب)
وقال السيد بشير أحمد اخكر - وهو من كبار الشعراء باللغة الأردية - وهذه ترجمته:
(إن وجودك لي سبب الحياة. إن أسرار أنانيتك لي باعث زيادة الهمة)
(إن رموز (إنكار الأنانية) قد حل العقد. إن (صوت الجرس) قد أصبح لي دليل الطريق)
(عن روح (غالب) وحنو (مير) في قلبك يا إقبال إن حسن ليلى الشعر مخفي في محملك هذا)
أما صدى شعر إقبال في العالم، فلشعر إقبال في أفغانستان مرتبة لا يشق غبارها وعزة لا(117/42)
يدرك شأوها، إذ لا تقام حفلة من حفلات الحكومة إلا وتهز فيه فرق الموسيقى الحكومية قلوب الحاضرين بأناشيد إقبال وبخاصة (نشيد المسلم) منها. وقد نشر أقا هادي حسن وزير التجارة مقالات في شعر إقبال. وبخاصة عن ديوانه (رسالة الشرق) في مجلة (أمان أفغان) التي تصدر بكابل
ولم تأل الجرائد والمجلات في إيران تنويها بشعر إقبال، كما أن أهل العلم والأدب يحيطون به خبراً، ويثنون عليه أطيب الثناء
وفي تركيا ترجم كثيراً من شعر إقبال إلى اللغة التركية الكاتب المفكر الكبير حسين دانش، وكتب مقالات عديدة عن ديوانه (رسالة الشرق) وبسط نظرياته فيها
وسافر أحد علماء روسيا إلى الهند ليلتقي بالدكتور إقبال فقط، ثم نقل إلى اللغة الروسية نظريات الدكتور التي في ديوانه (أسرار الأنانية)
وفي مصر نشر غير مرة صديقنا المفضال الدكتور عبد الوهاب عزام ترجمة بعض المقتطفات من شعر إقبال
وفي ألمانيا ترجم الأستاذ دايشو مقدمة ديوانه (رسالة الشرق إلى اللغة الألمانية، كما أن الدكتور فيشر الأستاذ بجامعة ليبزيج وصاحب مجلة (اسلاميكا) كتب مقالات عن الديوان (رسالة الشرق)، وقارن فيها شعر إقبال بشعر الشاعر الألماني الشهير جوتيه، وترجم الشاعر الفيلسوف الألماني هانسي مائنيكه قطعة من ديوانه (رسالة الشرق) إلى ألمانية ثم كتبها بيده وجلدها تجليداً جميلاً على الطراز الشرقي موشى بالذهب والفضة أهداها إلى الدكتور إقبال تقديراً لشعره وإظهاراً لحسن اعتقاده فيه. وقد أنشئت أخيراً جمعية باسم إقبال لتعريف شعره ونشر مباديه في ألمانيا. وتترجم في ألمانيا الآن محاضرات الدكتور التي ألقاه في الجامعات الهندية في فلسفة الإلهيات إلى اللغة الألمانية
وفي إيطاليا نشر العالم الطلياني الكبير الدكتور اسكاريا الذي زار أفغانستان والهند وقابل الدكتور إقبال مقالات عن شعر إقبال في مجلة أدبية إيطالية
وفي إنجلترا ترجم الدكتور نكلسون ديوانه (أسرار الأنانية) وجزأ من ديوانه (رسالة الشرق) إلى الإنجليزية ونشرهما فذاع بهما صيت الدكتور في أمريكا وبلاد أخرى أيضاً، ونوهت أندية العلم والأدب والجرائد والمجلات العلمية والأدبية بشعره، وكتب عن (أسرار(117/43)
الأنانية) المرحوم الدكتور براون المستشرق الإنجليزي الشهير في مجلة الجمعية الأسيوية الملكية، وأيضاً نوه بإقبال وشعره في تصنيفه تاريخ الأدب الفارسي في المجلد الرابع منه
وفي أمريكا صنف العالم الأمريكي الجليل ميكنزي كتاباً أسماه (يقظة الهند) فنوه فيه بإقبال وشعره ونظرياته وفلسفته
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(117/44)
في الأدب الإنجليزي
الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
مقدمة
لا شك في أن عبقرية شكسبير ظهرت في مناحي عدة وصور مختلفة، وليس من السهل على أي شخص مهما كانت نزعته ومهما تباينت عقليته أن ينكر أن شكسبير هو شاعر بريطانيا الأعظم وكبير من كبار الشعراء العالميين، ولكن ويا للأسف اختلف النقاد في إنكلترا وفي غيرها من بلدان العالم في تحديد الدرجة الممتازة التي وصل إليها هذا الشاعر. فأعتبره البعض أعظم شاعر بزغ نجمه على هذه البسيطة لا في عصره فحسب، بل في العصور التي سبقته أو تلته. وأنكر البعض الآخر هذا الادعاء وتحاملوا عليه تحاملاً ظاهراً، معتقدين أن عظمته لا تفوق في أي ناحية من نواحيها عظمة جوتي الألماني ودانتي الإيطالي
إن من الصعب أن أبرهن في هذه العجالة على عظمة شكسبير وتبريزه على غيره من شعراء العالم، ولم أقصد فيها إلا البحث في ناحية واحدة من مناحي تفكيره العميق وخياله المبدع الذي تناول بواسطته جميع نواحي الحياة من عقائد وتقاليد فدونها في شعره ورواياته. نعم كان من الصعب عليه أن يوفق بين عقائده الشخصية وبين عقائد مجتمعه البشري، ولكنه خرج من هذا الميدان مكللاً بأكاليل من الغار وتيجان من الظفر
لم تكن الخرافات والغيبيات عقيدة راسخة في تفكير شاعرنا؛ فقد كان دائم الاضطراب والشك في هذه الناحية من مناحي الغموض والخفاء العقليين. لقد حاول في رواياته أن يبتعد عن العقائد الشائعة العامة، ولكنه لم يستطع ذلك لتخوفه من الرأي العام السائد في تلك الأيام الرهيبة
عقائده الدينية:
ولد شكسبير سنة 1564 إبان الدور الأول من حكم الملكة اليصابات في عصر أشتد فيه(117/45)
النزاع الديني واختلفت فيه العقائد، حتى أصبحت مصدر شقاء وينبوع استبداد ساد إنكلترا قرناً من الزمان. ولنراجع في الفقرات التالية صفحات التاريخ فنرى كيف انتشرت البروتستنتية في إنكلترا، وبأية صورة كان نشوءها وتطورها
كلنا يعرف أن الملك هنري الثامن أراد طلاق امرأته الأسبانية كاترين لعشقه غادة من غادات البلاط، كانوا يسمونها (آن بولين) ولم يكن في الإمكان في ذلك العصر تحقيق تلك الرغبة الجامحة، فما وسع هنري إلا أن يحدث نزاعاً أشتد أمره مع رئيس الكنيسة الأعلى وحامي حماها في الشرق والغرب. طغت عليه الروح الاستبدادية روح العظمة والتفوق، فحدثته نفسه بالانفصال عن كنيسة رومة، ولم يلبث أن أعلن ذلك الانفصال ونصب نفسه رئيساً أعلى للكنيسة الإنكليزية
ولم تكن هذه الحركة في بدء أمرها إلا حركة سياسية محضة لم يشبها شائب من الدين والعقائد، ولكن ما لبث أن فارق هنري دنياه ونصب ولده الطفل أدوارد ملكاً على عرش بريطانيا، فكان له من الأنصار والمساعدين نفر أشبعت نفوسهم بروح البروتستنتية فأعلنوا أن الكنيسة الإنكليزية قد غدت منفصلة تمام الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية ووضعوا كتابين من كتب الصلاة ليقرأ في الكنائس بدلاً من الكتب القديمة
حركة جريئة أعقبتها فترة إحجام ورد فعل. مات إدوارد فتبوأت ماري تيودور العرش وكان لتربيتها الكاثوليكية اثر عظيم في نفسها ما لبث أن دفعها للإعلان عن فساد جميع القوانين التي ظهرت في عهد سلفها، وعن رجوع الكنيسة الإنكليزية إلى الحظيرة الكاثوليكية. ولتحقيق تلك الرغبة في نفسها سنت قانوناً تحتم فيه على كل قس أو راهب أن يرجع إلى الحظيرة القديمة وإلا كان جزاؤه الموت والعذاب
أخيراً انتقلت تلك الملكة الغاشمة إلى جوار ربها وارتقت اليصابات العرش. ونظراً لروحها الاستقلالية ولميلها إلى الطموح والعظمة لم تلبث أن أعلنت بعد مرور سنة من تسنمها العرش الانفصال التام عن الكنيسة البابوية وتنصيبها نفسها رئيسة عليا للكنيسة الإنكليزية
لو أتيح لنا الاطلاع على كثير من الرسائل الشخصية التي كتابها الشاعر العظيم لأصدقائه وأخدانه لأمكننا الوقوف على عقائده وأفكاره الدينية، هناك أمور عدة تحملنا على الاعتقاد بأن شكسبير كان رجلاً ديناً خيراً، ولكن حرية فكره كانت سبباً دائماً في انشغاله بأسئلة لا(117/46)
حد لها عن الموت والحياة غير متأثر بالعقائد الدينية السائدة في عصره. كان والده بروتستنتياً متطرفاً، فلا بدع أن نراه متأثراً أثر والده، متحاملاً على البابوية والكثلكة أشد التحامل وأقساه. وبرغم هذا التحامل الظاهر فأن الكنيسة البابوية ادعته في كثير من الظروف والأحيان ابناً باراً من أبنائها وعلماً من أبرز أعلامها. واستندوا في ادعاءاتهم هذه على كثير من البراهين والحجج التي إن لم تكن ضعيفة في حد ذاتها، فلا تصل إلى تلك الدرجة من الإقناع التي يتوخونها ويطلبونها
قد نستطيع من دراستنا لروايات هذا الشاعر أن نحدد العقائد التي كان يؤمن بها. فلقد صور في هذه الروايات عدداً كبيراً من رجال الدين أمثال الراهب فرنسيس والراهب لورنس، وكان في كل صورة من أمثال هذه الصور يتوخى التبجيل والاحترام لرجال الأكليروس. إلا أن هذه النظرة وهذا الاحترام لم يتجاوزا طبقة الرهبان إلى طبقة البابوات؛ فروايته التاريخية التي تتناول سيرة الملك يوحنا تعد في حد ذاتها أكثر الروايات تحاملاً على البابوية والكثلكة. وعلى الرغم من ازدياد نفوذ البابوية في هذه الأيام وتفوقها على السلطة الزمنية نرى عدداً قليلاً من الملوك يضربون بسلطتها عرض الحائط ويحاولون نزع نير العبودية عن عواتقهم، فكثيراً ما تعرضوا لوكلاء البابا وممثليه وأفحشوا لهم القول غير هيابين ولا وجلين. دعنا نعرض الأقوال الجريئة التي فاه بها الملك يوحنا مجيباً على تدخل البابا في مسائل سياسية لا تعنيه شيئاً فهو يقول:
هل يمكن لأي رجل دنيوي مهما علت سلطته وارتفعت منزلته أن يعارض إرادة الملوك المقدسة؟ فليس باستطاعتك أيها الكردينال أن تضطرني إلى إطاعة رجل حقير لا يسعني إلا الاستهزاء به. اذهب إلى سيدك البابا وأخبره ما أسمعتك من قارص الكلم وزد على ذلك أن ليس لأي قسيس إيطالي أن يتدخل في المسائل الإنكليزية، ومادمنا بمشيئة الله وإرادته قد وجدنا رؤساء لهذه الأمة فلنا الحق وحدنا في السير بها حسبما نشاء ونرغب دون أية مساعدة من إنسان. قل له إن ذلك الاحترام وإن تلك السلطة الغاشمة قد تقلص ظلهما منذ مدة
وفي خطاب آخر من نفس الرواية يعدد الملك يوحنا المساوئ الكثيرة التي كانت الكنيسة تتصف بها في هذه العصور. فالبابا أصبح رجلاً مأجوراً يمكن للملوك أن يستخدموه إذا(117/47)
رشوه بالكثير من الأموال، فليس من واجب الملوك أن يطيعوا رجلاً كهذا الرجل، وهذه النظرية تتبين لنا في مواضع عدة من روايات شكسبير فهو يتخذ من البابا أداة للسخرية والهزء في رواية تيتس أندرونيكس إذ يقول:
(إني لأعلم تمام العلم أنك رجل وفي ورع تحمل بين جنبيك نفساً طاهرة وضميراً حياً، وأن لك حيلاً تماثل الحيل العديدة التي يتبعها البابا في بسط نفوذه وجمع ثروته)
يتبع
خيري حماد(117/48)
فن الحياة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
إن للإنسان في الحياة نشوة كنشوة الفنان عند الصنع، أو كنشوة المطلع على الفن عند الاطلاع عليه، فإذا عدم هذه النشوة صعب عليه أن يسوغ الحياة وأن يلتذها، ولا يمنع عده الحياة فنا جميلا من نقدها أو الرغبة في إصلاحها، كما ينقد المطلع على الفن ما يشاهده من الفن؛ وكذلك لا تمنع الرغبة في إصلاح الحياة من النظر إليها كأنها ممثلة حسناء تمثل الخير والشر فلا يكرها من أجل تمثيلها الشر، وهذا خير من أن يظل يبكي ويندب لأن نمر الشر الذي في كل نفس لم يتحول هرة وديعة كالتي تراها في المنازل، وهو لو تحول ما تجاوز أصله ولا فصيلته، إذ النمر والهرة من فصيلة واحدة
(الناظم)
أيا حسن هذا العيش لو كان قصة ... يُسُرُّ بها ساري الورى وهو يسمرُ
على ما بها من ضجة بين شقوة ... وكم عاشق للنقص يهوى ويُنكر
فليت الفتى يبدو له صرف عيشه ... كعيش غريبٍ قصةً تُتَدَبَّرُ
ويا رُبَّ مأساة إذا ما بدت له ... تُمَثَّلً إنْ يحزن لها فهو يصبر
وفي فنها ملهى وحسن وسلوة ... لولا فنون العيش ما كان يُعذَر
وإن كان رب الناس يقضي اقتتالهم ... فما شأن مثلى وهو أعلى وأقدَر
وما قَصَّرَت بي رغبةُ عن محاسن ... أريدها لها عيشاً سوى العيش يُقْدَر
حياة كحسناء المسارح شرها ... إذا ما حكته عاد بالفن يبهر
ممثلة حسناء كم مثلت أًذى ... وغدراً أجادت فنها وهي تغدر
فما زادها إلا بهاءً وحظوةً ... لدى عاشقيها وهي بالفن تأسر
تَمَلَّيْتَهاَ لما ولعتَ بفنها ... ولولاه تُزْرِي بالحياة فَتَكْدُر
حنانيك إن العيش فن فلا تُرَع ... وإن ناب خطب فهو مَحْكَي ومَخْبَر
تُعَانُ بهذا الرأي إن كنت قادراً ... وأن أمكن الإصلاح لم تَكُ تُقْصِر
يمثل كلُّ دوره في حياته ... فإنْ راق فن فهو شأوُ ومَظْهر(117/49)
أ َإِنْ في النفس لم يُمْس هِرَّةً ... تظل على الأسقام تبكي وتسخر
وما نَمِرُ عن هِرَّةٍ بِمبُاَعَدٍ ... ويطغي وديعُ حين يبغي ويقدِرُ
عبد الرحمن شكري(117/50)
كأس تفيض
للأستاذ محمود غنيم
لكَ اللهُ لا تشكو ولا تتبرَّمُ ... فؤادكَ فيَّاضُ وثغرك مُلجَمُ
يفيض لسانُ المرء إن ضاق صدرُه ... ويطفحُ زيتُ الكيل والكيلُ مفَعم
وهل يُطبق العصفورُ فاهُ على الشجى ... ويمتلئُ الحاكي فلا يترنَّمُ؟
تعللتُ دهراً بالمنى فإذا بها ... قواريرُ من مسِّ الصَّبا تتحطَّم
لعمرك ما أدري على أيِّ منطق ... أُشاهدُ في مصرَ الحظوظَ تقسَّمُ
حملنا على الأقدار وهي بريئة ... وقلنا: هي الأقدارُ تُعطي وتَحرِم
فمن يَك ذا قُرْبى وصهر فأنني ... بمصرَ وحيدُ لا شقيقُ ولا حَم
فلا غروَ أني قد سكنتُ بأرضها ... كما سكنت أهرامُها والمقطَّم
وقفت مكاني لا أرِيم وإِخْمَصي ... على الشوك من طول السُّرَى تتورّم
كأني إطارُ دائرُ حولَ محور ... يسير بلا بطءٍ ولا يتقدَّم
وما أنا ممن تخطئ العينُ مثلَه ... ولكن تعامى القومُ عنيَ أو عَمُوا
أيذوي شبابي بين جدران قرية ... يبابٍ كأنَّ الصمتَ فيها مخيِّم
أكادُ من الصمت الذي هو شاملي ... إذا حُسِبَ الأحياءُ لم أك منهمُ
وعاشرتُ أهليها سنين وإنني ... غريبُ بإحساسي وروحيَ عنهمُ
يقولون: خضراءُ المرابع نضرَةُ ... فقلتُ: هبوها لستُ شاًة تسَوِّمُ
على رسلِكم إني أقيمُ بقفرةٍ ... يجوز على الأحياءِ فيها الترحُّم
سئمتُ بها لوناً من العيش واحداً ... فدارِي بها داري وصحبي همُ همُ
حياةُ كسطح الماء والماءُ راكدُ ... فليس بها شيءُ يَسُرُّ وُيؤلم
وما أبتغي إلا حياةً عنيفةً ... تسرّ فأرضى أو تسوءُ فأنقِم
حياةُ كلجِّ البحر والبحرُ زاخرُ ... تدُوِّي بها الأنواءُ والرعد يَهزِم
حياةُ بها جِدُّ ولهوُ، بها رضاً ... وسُخْطُ، لها طعمان: شهدُ وعلقم
فمن مبلغُ بنت المعز بأن لي ... فؤاداً عليها كالطيور يحوِّم؟
وأَنيَ من سبعٍ خلَوْنَ محافظُ ... على العهد إن خان العهودَ متَّيم(117/51)
فان تجفني مصرُ فحسبيَ أنني ... أحُج إليها كلَّ عام وأُحرم
حنانيك إني قد برمتُ بفتيةٍ ... أروحُ وأغدو كلِّ يومٍ إليهمُ
صغارُ نربيهم بمثل عقولهم ... ونبنيهمو لكنَّنا نتهدَّم
لأُوشِكُ أن أرتدَّ طفلاً لطولِ ما ... أُمَّثل دورَ الطفل بين يديهمُ
فصولُ بدأناها وسوف نعيدها ... دواليكَ، واللحنُ المكرَّر يُسأم
وما كنت أُعْنَى بالنتيجة طالباً ... فصرت بها في هدأة الليلِ أحلُم
فمن كان يرثى قلبُه لمعذَّبِ ... فأجدر شخصٍ بالرثاءِ المعلِّم
على كتفيهِ يبلغُ المجدَ غيرُهُ ... فما هو إلا للتسلُّق سُلَّمُ
وَدِدْتُ لَوَ أنّي عدت للدرس ناشئاً ... أسيرُ وفي يمناي لوحُ ومِرقم
يقولون: منطيقُ أغرُّ بيانهُ ... فقلت لهم: لكنَّ حظِّي أبكم
أرى الحظُ مُنقاداً لكل مهرِّج ... فأما على الأكفاء فهْو مُحرَّم
يفوز به من يقطع السْبل مُلحفاً ... ويغشى بيوتَ الناس والناسُ نوَّم
ورُب أمور يخجل الحرَّ ذكرُها ... وبعضُ الذيُ يرْوَى عن الناس يُكتم
وكائن ترى الحرَّ الأبيّةَ نفسُه ... يضيع له حقُ وآخرُ يُهضم
فيا ليتني أغضيتُ جفني على القذَى ... وعلَّمت نفسي بعضّ ما ليس تَعلم
فلو أن نفسي طاوعتني فرضتها ... على الهوْن لم أخسَرْ وغيريَ يغنم
ألا فليَسُدْ من شاء حسبيَ أنني ... ضَنَنْتُ بماء الوجه حين تكرَّموا
نظمتُ فما أطريت غيري تزلُّفا ... ولكن لنفسي لا لغيريَ أنظم
ولم أتغزَّل في الكرام وفضلهم ... وغيري بهم لا بالكواعبِ مُغرم
وإني لمغبونُ إذا صرتُ قيصراً ... وطوَّق بالنعماء جيديَ منْعم
(كوم حماده)
محمود غنيم(117/52)
الجامعة الأمريكية والصحافة
تفتح الجامعة الأمريكية بالقاهرة أبوابها هذا العام عن قسم خاص بالصحافة، على نحو ما تعنى به الجامعات الأوربية والأمريكية لإعداد طالب الصحافة إعدادا جامعياً دقيقاً يتناول دراسة اللغات وعلوم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والعلوم السياسية ونظام الحكومات والتربية المقارنة، وكذلك الفنون المرتبطة بمزاولة العمل الصحفي في نواحيه جميعاً كالأسلوب، وتحرير المقال، والتصحيح، ومهمة الأخبار، والتبويب وما إليها
وتبدو مهمة الجامعة الأمريكية في هذا الباب عظيمة الشأن، شأنها في عديد من أقسامها الأخرى كقسم المعلمين والقسم الإعدادي، واضطلاعهم بمسائل الطالب الحيوية وإعداده للحياة كما يجب أن يحيا. ولكن طالب الصحافة الجامعي وعناية الجامعة الأمريكية به وتمثل هذا النوع من التعليم في مصر أو في الشرق عل وجه العموم يكون له من عظم الشأن ما يجعله في مركز ممتاز دونه في المعاهد الأخرى نظراً لاعتبارات خاصة لها من الأهمية هي الأخرى مالها، لأنه:
أولا: مركز مصر من الشرق في مقام الزعيمة لا يسمح بأن يدانيها بلد آخر في مضمار الصحافة أو العناية بدراستها
ثانياً: جعل تعليم الصحافة بنوع خاص في دائرة حرة بعيداً عن الإدارة الحكومية والضغط السياسي
ثالثاً: الشعور السائد الذي يتناوب القراء والصحف، شعور بالحاجة إلى توسيع المعارف والمعارف الصحفية وتكثير نسلها
رابعاً: فتح أبواب جديدة أمام طلبة التعليم العالي في مصر والشرق بعد أن ضاقت بهم صناعات ووظائف أخرى كالمحاماة والطب والهندسة وغيرها
خامساً: تغذية الصحف بعنصر صالح لإدارة أعمالها بمهارة ولباقة، فضلاً عن أن الصحف تعتبر أداة هامة في نشر المعارف وفتق الأذهان وخدمة الوطنية، وملاحظة مثل هذه الاعتبارات مجتمعة أو منفردة لمما بجعل للجامعة الأمريكية أولاً وأخيراً حق السبق وحق العناية فيما لو فكرت حكومة في الشرق في مثل هذا النوع من التعليم، وإن كان ذلك، وإنن، فما هو اليوم البعيد الذي نرى فيه الصحفي الأمريكي بمعنى الكلمة أول ثمار الجامعة الأمريكية في مصر والشرق.(117/53)
ا. ت(117/54)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
22 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
بين اليهود نشأت ذرية الكهان، وبينهم هبت ثورة العبيد، واندلعت نيرانه على المبادئ الأرستقراطية. نقموا على المبادئ القائلة بأن الصالح والشريف والقوي والجميل والسعيد هم الذين تحبهم الآلهة، وعملوا على دحضها بمنطق قوي. قالوا إن الضعفاء والعجزة والأشقياء والبؤساء هم الصالحون وحدهم. . . وإن المتألمين والتعساء والمرضى والقبيحين هم وحدهم المقربون إلى الله، ولهم وحدهم أعدت مساكن النعيم. أما النبلاء والجبارون الأقوياء فهم الجاحدون القاسون، وهم في تلك الدار المخذولون والأشقون
جاءت المسيحية فورثت عن اليهودية هذا الميراث. وأكمل الكاهن المسيحي ما بشر به الكاهن اليهودي. وها غبرت عشرون قرناً وهو الظافر المنتصر. فكان أول مشهد من ذلك الانقلاب مسألة النفس والإرادة الحرة المختارة. وفي الحقيقة لا نفس منسلخة عن جسد، ولا وجود للإرادة الحرة، وقد تكون إرادة بلا حرية ولا اختيار. وإنما هنالك إرادات قوية تقوم بأعمال ذات قيمة، وإرادات ضعيفة عملها ضئيل، آراء كالرعد يقصف، هي في الحقيقة فكرة واحدة ترتدي أثواباً مختلفة. فالرعد ليس بشيء ذاتي يقدر على القصف وعلى غير القصف. إنه رعد حين يقصف؛ كذلك شأن مجموعة القوات المتجلية في الرجل القوي لا تبدو ولا تظهر إلا بهذه المظاهر. والعقل الشعبي استطاع بواسطة الافتراض الاختياري أن يفرق بين الكائن والحادث بين الإرادة ومظاهرها، وافتراض أن وراء أعمال البشر ووراء ما تأتيه إرادة القوة كائناً أو نفساً هي علة هذه الأعمال. وهذه النفس هي جوهر حر يظهر كيفما يشاء، ويعمل كما يشاء. وهذا الذي تمثلوه (حراً مختاراً) أصبح العبد يساوي بالسيد، بل يجعله متفوقاً عليه. وهكذا أصبحت قيمة الفرد لا تتوقف على ما يتكون فيه من مجموعة قواته. وبذا زال عندهم تفضيل القوي على الضعيف بفضل منطقهم (لأن القوي(117/55)
يعمل بحسب قواه وهو خاطئ لأن عمله بحسب قواه عمل سيئ. والضعيف يعمل بحسب ضعفه وهو ذو حق، لأن عمله بضعف عمل حسن. فالضعيف إذن هو خير من القوي،) ويصف نيتشه وصفاً مؤثراً تلك العوامل التي لجأ إليها العبيد الذين تغلي صدورهم غيظاً وموجدة، ليحطوا من قدر الأسياد، وليحولوا أنفسهم إلى شهداء وقديسين
هذا هو المثل الأعلى للعبد. فهو يحيا بتلك الدعوات المعزية التي ابتدعها. ولكن أثقال ضعفه الراسية على ظهره لينوء بحملها فيتألم ويشكو ويتململ، فيجئ الكاهن لا ليبرئه من دائه، ولا ليقطع أسبابه كما يصنع الطبيب. يجيء لينسى الصابر ما يحسه من ألم وشقاء، وليبث فيه (مواد مخدرة) ترقد الألم ولا تمحوه. يغفى مريضه ويعطيه مادة تضعف فيه القوة الحيوية والعقلية يلقى الزهد والتقشف والبلاهة في نفسه وجسده خدراً إلى حين، فيذهل عن ألمه بل يوشك أن ينفك عن كل إحساس فيه. فيغدو هذا الرجل المنحط (قديساً)، وقد يحيط الكاهن بالرجل فيجعل منه آلة تستغرق كل انتباهه وتجعل منه شيئاً يتحرك بذاته، ويصرفه عن التأمل في نفسه والتفكير فيها، ويلهيه بالانكباب على بهجة حقيرة يسهل عليه نيلها محبة القريب والمحبة والمساعدة المتبادلة، ثم يعمل الكاهن على أن يصرف (قطعانه المريضة) عن آلامهم الذاتية
وإزاء هذه العوامل التي أختلقها عوامل أخرى أبتدعها لمصلحته الخاصة. عوامل خطرة مؤثرة، تنطوي على سموم تنسي المتألم آلامه وتفني فيه قوته الحيوية. وهذا السم هو (الإيمان بالخطيئة)
أما أصل الخطيئة فسببه دافعان ولدا اختياراً في قلب الإنسانية. وهما الضمير الفاسد، والإيمان بدين مكتوب على الإنسان لله. والضمير الفاسد - عند نيتشه - هو نتيجة تشويش في النفس عميق. تسيطر على الإنسان يوم كان وحشاً معتزلاً، ثم انقلب عضواً رئيسياً في قطيع الأحياء، والحكومة هل هي إلى - كما يحتمل الذهن - ظلم مرعب فرضه الأقوياء على الضعفاء، وفجأة وجد المغلوبون على أمرهم أن أسباب الوجود عندهم مقلوبة رأساً على عقب، وألفوا أنهم أصبحوا لا يستطيعون أن يتبعوا بحرية واختيار تلك الغريزة الطبيعية التي كانت تسوقهم. فظلوا يبذلون جهودهم بينهم وبين أنفسهم ليقودوا أنفسهم بفطنة، ويضغطون على إرادتهم خشية أن تجازف بالإساءةإلى الأسياد، ويعملون بتعقل(117/56)
وتأمل. ولكن هذه الغرائز هي جزء من قوة لابد لها أن تبدو مظاهرها وآثارها. فإذا كتب على هذه القوة أن يضغط عليها حينا حتى لا تخرج عن نفسها بأي دافع ما، فهي ولابد مستحيلة إلى قوة خفية تعمل عملها في الباطن. وبمثل هذا التبدل وعلى مثل هذا التحول ولد (الضمير الفاسد). فهو وليد هذا الضغط الباطني الذي تصير عليه الغريزة الطبيعية في الإنسان. وهو كالوحش السجين الذي عضته الوحشة ونازعه حنينه إلى العرين والحرية والصحراء، ينهش جسمه بين قضبان القفص. كذلك الإنسان الابتدائي الأهلي السجين يتألم بنفسه، وغريزة الحياة الكامنة فيه المقيدة بمظاهرها الخارجية أمست تبدو بحالة هيجان باطني
وفكرة الدين المكتوب لله على الإنسان هي فكرة قديمة مترددة في الشرائع القديمة. ففي العصور الأولى كانت كل قبيلة تؤمن بأنها مدينة بخيراتها الحاضرة للذريات السابقة. وأن الأجداد الذين قضوا يصيرون بعد الموت أروحاً قوية تتابع تأثيرها في الأحياء وتواصل إحسانها إليهم. ولكن كل إحسان لابد أن يبذل ثمنه. وهكذا تولد في عقول الناس أنهم مدينون بشيء لآبائهم وأجدادهم. وهم مضطرون إلى تقديم الضحايا لهم جزاء وفاقاً على دفعهم للأذى والضر عنهم. ومن هنا نشأت عبادة الأجداد في فجر كل مدينة، ثم تطورت هذه العبادة قليلاً قليلاً. فالاحترام الذي كان يكنه الإنسان لأجداده جميعاً ما فتئ ينقبض حتى أرتكز في الجد الأصلي للسلالة، ثم نزل هذا الجد بدوره منزلة الإله. وكلما كان الإله قوياً مخيفاً كان شعبه الذي يجله ويعبده أكثر فلاحاً وتقدماً، وفي الظروف التي تنمو فيها عظمة الإله ينمو أيضاً الشعور بذلك الدين المفروض في سبيل احترامه وتزداد خشية الإنسان من قصوره في العمل لربه. وبواسطة هذا المنطق ألفينا أن عاطفة خضوع الإنسان لله بلغت الدرجة القصوى يوم ظفر إله المسيحية بالأوثان. ودانت له الأرباب وعسكر في مناطق بارزة من أوروبا. فآمن الإنسان إذ ذاك بأن الدين قد تضخم. حتى أصبح أجل من أن يوفى. وجد نفسه أنه مدين عاجز لا يملك شيئاً والدائن هو الله. فهو والحالة هذه هدف للقصاص الفظيع. والإنسان في شدته هذه تحرى عن وسائل كثيرة ليطرح عن ظهره هذا الدين الثقيل. فلام الإنسان الأول الذي استحق لعنة الإله. فابتدع (الخطيئة الأصلية) وجرم الطبيعة، وأنكر الغرائز الكامنة فيه، ونظر إليها كجراثيم شر وشقاء، ولعن الوجود نفسه.(117/57)
وجعل رجاءه كله في العدم وفي حياة ثانية. وفي النهاية أعطى المسألة التي ناء بها ظهره طويلاً هذا الحل الغريب، إن الدين المفروض على الإنسان من قبل الله هو دين لن يقدر على أدائه الإنسان، والإله وحده يفي عن الإله. فوجد الإله أن يضحي بنفسه في سبيل حبه للإنسان واستنقاذه من دين مكتوب عليه، فتمثل إنساناً وقرب نفسه قرباناً. وبهذا الفصل الذي أداه اشترى نفوس الذين يراهم جديرين برحمته ورأفته
يتبع
خليل هنداوي(117/58)
القصص
صور من هوميروس
7 - حروب طروادة
الفدائي الأول
للأستاذ دريني خشبة
رويت الإلهة إذن وشفت ما في أنفسها من ظمأ إلى دماء الضحايا، وإن لم تغفر لديانا البارة، ديانا ربة القمر، إنقاذها للفتاة التعسة إفجنيا، وهي على قاب قوسين من خناجر الكهنة والربيين القساة
لقد أبت الإلهة إلا أن تشرب من ماء الحياة القرمزي المتدفق في عروق عبادها المخلصين من أبناء هيلاس؛ فلما ذهب كالخاس، عراف الحملة، يستوحي أربابه في معبد دلفى هل لها مطلب آخر في ضحية أو قربان بعد تقدمه إفجنيا، ارتفع الصوت الخافت المنبعث من صميم مقصورة الإله الأكبر يقول: (لا. . . . ولكم أن تقلعوا اليوم. . . . فإذا كنتم عند شطئان طروادة، فان لنا دم الفارس الأول الذي تطأ قدماه رمال الشاطئ. . . سيقتل، وسيكون لنا عوض من إفجنيا!)
ودعا إليه أبناءه ايولوس رب الرياح الست فأمرهم أن يكونوا جميعاً في خدمة الأسطول الهيلاني، حتى يصل إلى طروادة. . . . (وأنا أعرفك يا بوريس حين تعصف وتزف، وتصبح ويلا على الجواري أي ويل؛ وأنت يا كوروس، إياك وهذه البوارح التي تصلي بها سفائن القوم، وأنت يا أكويلو؛ وأنت أيضاً يا نيتوس، إن ريحك مجفل، وهبتك هوجاء، ولفحاتك حرور، وأنفاسك سموم، فان لم تترفق بالقوم، وتجر بين أيديهم رخاء، فلأسجننك في الكهف الأسود حتى حين، أما أنت يا ولدي إيودوس، فأحذر أنت تصيب الناس سوافيك أو يسوء فألهم فيك؛ بل كن لهم خادماً أميناً، تدفع ركبهم في رفق، وتملأ شراعهم في أناة. . . . ويسرني أن تسمعوا لنصيحة زفيروس، فهو ألينكم عريكة، وأكثركم صفاء. . . ألقوا إليه بزمامكم، ولا تختلفوا في أمر يلقيه إليكم، أصلح لكم زيوس أحوالكم. . . .)
وهبت الريح فخفقت أفئدة العسكر، وابتهجت أنفس القادة، واجتمع الميرميدون حول أخيل(117/59)
يترضونه ويعتذرون عن رجمهم إياه يوم القربان المشئوم، ثم انتشرت الشراع ورفعت المراسي، وهمت الفلك فاحتواه البحر اللجي، وما عتمت أن صارت من الماء والسماء في خضرتين، ومن دروع الجند وزبد الموج في لبدتين، ومن قلوب الشعب الهاتف فوق الشاطئ الشاحب في بحر من الآمال!
واضطرب البحر بعرائس الماء وأبكاره، أسرعن من كل فج يحيين أبطال هيلاس، يخفين الوشائح السوداء التي ادخرنها لأيام الفصل، إن أيام الفصل كانت ميقاتاً
وتوارت الشمس بالحجاب، وبزغ القمر يفضض حواشي الماء، وحملقت النجوم ترى إلى هذا الأسطول اللجب يمخر عباباً من خلفه عباب، ويطوي لجة من ورائها لجة، والملاحون دائبون ما ينون، مرسلين في اللانهاية ألحانهم، مرددةً الرياح أغانيهم وأنغامهم؛ والقادة متكبكبون حول القائد الأعلى، حول أجاممنون، يدرسون تلك الخطة، وينقدون هذه الفكرة، ويدبرون من أمرهم ما يصل بهم إلى نصر عزيز
وتنفس صبح اليوم الثالث. . .
وبدت طروادة العاتية في الأفق الشرقي، متشحةً بالشفق النحاسي، الذي صبغ سماءها بالبنفسج الرائع، تتفجر منه أنهار من الدم!!
طروادة!
ذات الأبراج المشيدة، والقباب المنيفة!
إليوم!!
بنية نبتيون إله البحار يوم نفاه زيوس من جنة الأولمب، ونفي معه أبوللو، فساعده في بنائها بموسيقاه!!
يا ما أروعه منظراً أن ترى إلى أبوللو العظيم يعزف على قيثارة المرنة، فتثب الحجارة وتتراقص، وتقفز إلى مكانها من أسوارك يا إليوم!!
طروادة يا ذات الحول!
أين تنام هيلين الساعة سالمة حالمة، وأيان تتقلب ترب فينوس ملء ذراعي باريس!!
ويحك يا منالاويس!
إنه ينظر بعينين مشدوهتين إلى أسوار طروادة، يتمنى لو تندك على العاشقين الآثمين!!(117/60)
(. . . أهو الآن يقبلها، ويجني جنا خديها بفمه النهم المشتعل؟ أم هو يضمها إليه في عنف، غير آبه لقلبي الخافق المضطرب!. . . . . .)
منالايوس! لابد مما ليس منه بد. . .
لقد ترامت أخبار الحملة الهيلانية إلى طروادة فهب أهلها البواسل يستعدون ويستعدون جيرانهم فنصروهم ولبو نداءهم، وهرعوا إليهم من كل فج عميق، وهاهي مشارف الجبال وقننها وسفوحها، ونتوء الشاطئ وصخوره ومغاوره، وهاهي ليديا المتيقظة، وإيوليا المتحفزة، وإيونيا الرابضة. . . هاهي البلاد جميعاً تضج بالجند، وتعج بالسلاح، وتقعقع بآلة الحرب، وتدق طبول الوغى، وتذكي نيران الحراسة في قمم الجبال، فلا تغفل عين ولا تهمد همة، ولا يتسرب إلى النفوس كلال
واقترب الأسطول من الشاطئ. . .
ولكن أحداً لم يجسر أن يجازف بنفسه، لأن القتيل الأول، هو أول من يهبط إلى الأرض، كما أخبرت النبوة في معبد دلفى!
ومرت أيام: والهيلانيون في سفائنهم ينظرون إلى أبراج طروادة وفجاجها، ويتحرقون شوقاً إلى لقاء جنودها، ومنالايوس يحرق الأرم هو الآخر؛ ولكن أحداً لا يرضى أن يكون الفدائي الأول. . . (لأني إذا نزلت إلى هذا البر المخوف فسيكون الموت محتوماً علي، دون أن أستطيع إلى قتل أحد من هذا الجند من سبيل، وأنا لم أحظر إلى هنا لأكون قرباناً للإلهة، ولكن لأزاحم وأنافح وأصول، فان قتلت بعدها، فبعشرات وعشرات، لا كما يقتل كلب البرية غير مفدى. . .)
برتسيلوس البطل
بيد أن هيلانياً مقاحماً، هيلانياً واحداً، من خيرة القادة ومذاويدهم، عز عليه ألا يكون في هذا الجيش العرمرم، على ما جمع من صناديد اليونان ومغاويرهم، فدائي واحد يتلقى الطعنة الأولى النجلاء، بثغر باسم، وقلب لا يجزع ونفس مؤمنة مطمئنة لا تهلع في موقف الموت، ولا تفرق إذا حم القضاء!
كبر على بروتسيلوس أن يرمي قومه بجبن ليست لهم يد فيه، وكبر عليه أن يقف ألف ألف لو شاءوا دكوا الجبال وزلزلو السماوات، من دون هذا البلد الذي لا يتقدمون ولا يتأخرون،(117/61)
كأنما حربهم هزل، ونفيرهم مكاء، وعزمهم تلفيق. أو كأنما ملأو الدنيا وعيد لتمتلئ عليهم سخرية وضحكاً!
كبر على برتسيلوس ألا يكون هو شهيد هذا الموقف فارتخص نفسهن وهانت عليه الحياة، وتفهت في عينيه لذائذ هذا العيش الذليل؛ ثم استخار أربابه، واستعاذ بسيد الأولمب وما هو إلا أن لمح الشمس يذر قرنها في خدر الشرق، فوق جبين طروادة، حتى قذف بنفسه على الشاطئ، وأرسل في الخافقين صيحة الحرب كأنها رعد يميد به جانب الجبل، وتهم من قصفه أسوار المدينة؛ ثم جال جولة هنا وجولة هناك، وإذ بالسهام ترشقه من كل مكان، وإذا هو ملقى على أديم الثرى مضرجاً بدمه، معفر بأول نقع الوغى
رحلة من الدار الآخرة
وذاع خبر مقتله حتى انتهى إلى تساليا، حيث زوجته المفجعة، فحزنت عليه حزناً أمض قلبها، وشف جسمها، وأقض مضجعها، وصير الحياة في عينيها حلكاً شديداً وظلاماً قائماً؛. . . . (برتسيلوس! أهكذا يا حبيبي ذكرت كل شيء في ميدان المجد والشرف، ونسيت فيه كل شيء؟ أهكذا يا حبيبي ذكرت التضحية والأقدام حين تخاذل مواطنوك عن مواطن التضحية والأقدام، فغامرت بنفسك في هذا المعترك المضطرب، ونسيت أن ورائك قلباً ينعقد رجاؤه بك، ونفساً ترف من خلف البحار فوقك، وروحاً لا سكن لها إلا صدرك الحنون، وعينين لا يعرفان جمال الحياة إلا في وجهك المشرق، وأذنين ما التذتا إلا الموسيقى المنسكبة من فمك!! برتسيلوس! ما قيمة الحياة بعدك يا حبيبي! من لزوجتك التعسة يوم يفخر النساء بأزواجهن؟ من للمحزونة الكاسفة لاؤوداميا؟ ما أشق الحياة علي بعدك يا رجلي ومن كنت كل شيء لي!
لا أسخط عليكم يا أربابي!
بل أنا أصلي لكم، أصلي لكم بدموعي وقلبي! أصلي لكم بأحشائي التي تتمزق، ورأسي الذي يحترق! أصلي لكم بلساني الذي يجف من شرق في حلقي، وكان حديث برتسيلوس يرطبه وينديه! أصلي لكم يا أرباب الأولمب عسى أن تلين قلوبكم لي، فأرى حبيبي وأموت!!
رجية يسيرة على مقدرتكم يا أرباب الأولمب! إما أن أقضي فأستريح من هذا الكمد(117/62)
الممض، والبث المؤلم، وإما أن تأذنوا فيعود برتسيلوس، فأراه وأموت!
أتمنى عليكم أن يعود فأكلمه. . . أملأ أذني وقلبي من موسيقاه! أناديه باسمه ويناديني باسمي! يعانقني وأعانقه! يرى إلى عبراتي وأنظر إلى عبراته! يبتسم لي في رضاه وفرحه، وابتسم له في انكساري ولوعتي!
ائذنوا يا أرباب الأولمب، فأنا ما أفتأ أصلي لكم، وأتوسل إليكم بدمه الزكي، وروحه الأبي، وقلبه الكبير!
ارحموا ذلي، ورقوا لهواني، وارثوا لحالي!. . . . . .)
وصيرت بنواحيها إشراق الصباح ظلمة من الحزن لا أول لها ولا آخر؛ وأرسلت في الليل البهيم أناتها المؤلمة، وزفراتها الحارة؛ ووصلت بكاءها الطويل بصلاتها الخاشعة، حتى ارتجفت قواعد الأولمب، واهتزت عروشه الذهبية، وانعقدت بينه وبين لاؤوداميا قنطرة من الحزن، عبرت عليها بركات الآلهة إلى فؤادها المكلوم، فمسحت عبراتها، وهدأت من روعها، وبشرتها بعودة برتسيلوس!
وفي هادئة ليلة مقمرة، سكن هواؤها وصدح بلبلها، وأنشد البدر لحنه الصافي على آراده الفضية ليغمرها بهاءً وروعة، خرجت لاؤوداميا المحزونة من قصرها المنيف، لتلقى روح برتسيلوس يهدهده هرمز الكريم بين يديه، حتى يكون تلقاء زوجته فترتمي بين ذراعيه!
ويغرقان في طوفان من القبل!
ويغرقان في لجة من العبرات!
ويقص عليها برتسيلوس أنباء مقتله. . . فتبكي. . . وتبكي. . . وتعاتبه لاؤوداميا. . . وتعذله. . . ولكن الساعات الثلاثة التي سمحت بها الآلهة للقائهما تمر كاللمح. . . فينبههما هرمز إلى انقضائها. . . وما تكاد تسمع نذير هرمز، وتعرف أن زوجها عائد أدراجه إلى هيز، فيظل فيها إلى الأبد، حتى تصعق مكانها، وتخر مغشياً عليها. . . وتموتّ!
فوا رحمتاً للزوجين السعيدين
(لها بقية)
دريني خشبة(117/63)
الباقي على قيد الحياة
للقصصي الفرنسي بلزاك
ترجمة حسن محمد حبشي
حين دقت ساعة مدينة (مندا) الصغيرة مؤذنة بانتصاف الليل، كان ضابط فرنسي شاب متكئاً على حافة سياج طويل يحيط بالقلعة، غارقاً في لجة التفكير العميق، وذلك أمر غير مألوف بالنسبة لما يحيط به، ولكنه كان منصرفاً عن كل ما هو فيه من وقت وليل ومكان إلى التفكير القوي، وكانت سماء أسبانيا الجميلة تمتد في زرقة صافية فوق رأسه، وقد رصعت بالنجوم الألاءة، وضوء القمر الساطع ينير هذا الوادي الجميل الممتد تحت قدميه، وهو يشرف على مدينة (مندا) ويعلوها بمائة قدم؛ وكأن الطبيعة قد هيأتها هكذا لتكون في مأمن من رياح الشمال الآتية من هذه الصخرة الكبيرة التي تقوم عليها القلعة، وإذ أدار الضابط رأسه، أبصر البحر يكتنف البلدة بأمواهه الفضية، وكأنه قد استحال إلى قطعة من اللجين الذائب، وكأن القلعة كوكب أو جوهرة ضوء وهاج، وكان وهو في مكانه، يسمع صدى رنات الموسيقى، وعربدة الضباط في الحفلة الراقصة، وقد اختلط ذلك بهمهمة الأمواج الآتية من بعد، وكأن نسيم البحر والليل جددا نشاطه المنهوك، زد على ذلك ما حوله من حدائق فيحاء، وزهور عطرية الشذا، نفاحة الأريج، فكأنه مغموس في حمام من العطر الزكي
وكانت قلعة (مندا) في حوزة شريف أسباني، اتخذها وأسرته دار إقامة، وكانت ابنته الكبرى (كلارا) الجميلة ترمق الضابط الفرنسي الشاب بنظرات مبهمة، وإن كانت تنم عن حزن عميق
وكانت كلارا هذه فتانة رائعة الحسن، فوقع جمالها في قلب الضابط الفرنسي موقع الماء من ذي الغلة الصادى، فوقف واجماً يفكر في هذا الجمال، وبالرغم من أن ثروة أبيها كانت طائلة، وموزعة بينها وبين أخواتها الثلاثة وأختيها، فقد رأى فكتور مارشاند (الضابط) أن فيها الكفاية لأن تكون الدوطة كبيرة، ولكن كيف يتسنى له أن يخطب يد (كلارا) ابنة الشريف الأسباني، وهو ابن تاجر صغير في باريس، أضف إلى ذلك ما بين الأسبان والفرنسيس من إحن(117/65)
وكان الجنرال (ج) قد علم من مصدر سري أن المركيز يحاول أن يوقد مشعل الثورة لنصرة فرناند السابع، ولذا أرسل مرشاند ليعسكر في مدينة (مندا) حتى يكون على علم تام بما ينويه الثوار، ولكي يخمد أي حركة يقومون بها ضد الفرنسيس، وفي ذلك الوقت وصلت إشارة بأن المركيز يتصل سراً بالإدارة الإنكليزية في لندن، وليس من البعيد أن يرسل الإنكليز مدداً؛ ومما حير لب فكتور مارشاند أن المركيز قد استقبله وعائلته استقبالاً لا يدل إلا على منتهى الهدوء؛ ووقع بين أمرين، إذ كيف يوفق بين هذا الهدوء الذي يتجلى في المركيز وأعماله، وبين إشارة الجنرال من وجود مفاوضات سرية؟ ولكن سرعان ما تلاشت هذه الخواطر من ذاكرته، حينما مد بصره إلى الأمام، فأبصر عدة مصابيح مضاءة في المدينة، مع أنه أصدر أمره، بأن تطفأ الأنوار كلها في ساعة معينة، على رغم أن الليلة ليلة عيد ميلاد القديس سنت جون، ولم يسمح بالإنارة إلا للقصر فحسب، ومما أحال الشك يقيناً عنده، وبأن هناك يداً تعمل في الخفاء أن رأى ساريات عدة مراكب وسط مياه البحر، تحت أضواء القمر الفضية. وبينما هو سابح في تيار التفكير العميق إذ سمع وقع أقدام خلفه، ولما تبينه وجده أحد رجاله يلهث، وحين رآه قال له:
- أهو أنت يا سيدي الضابط؟
- نعم هو أنا. . . ماذا تريد؟
- إن هؤلاء الوحوش يزحفون زحف الديدان
- ثم ماذا؟
- لقد رأيت رجلاً يخرج من القصر وفي يده مصباح مضاء، وهذا مما أثار الشك في نفسي، وبعثني على أن أقتفي آثاره، وأظل قريباً منه جهد ما أمكنني؛ أجل! قد يكون مسيحياً محافظاً على التقاليد، غير أن الحالة التي هو فيها، ومخالفة أمرك، كل ذلك مما يجعل الشك يحوك في نفسي. وثم أمر آخر يا سيدي الضابط، ذلك أني اكتشفت على قيد خطوات منك، عرمة من الحطب
ولم يكد الجندي يصل إلى هذا الحد من الكلام حتى دوت في المكان صرخة صدعت السكون العميق، وانفجرت قنبلة أودت شظية منها بالجندي لساعته، واندلع لهيب النيران على بعد عشر خطوات فحسب، من الضابط الذي أسقط في يده، وتبين له أن في الأمر(117/66)
دسيسة، وأن الثوار قد تأهبوا للفتك بالأعداء، واضطرب في مكانه، إذ لم يكن معه حسامه؛ وهاهو ذا يرى رجاله وقد تردوا في ساحة المدينة، وصمتت الموسيقى، وتلاشت ضحكات الضباط، ومر على مخيلته ما سيلاقيه - إذا هو ظل حياً - من محاكمة وإهانة، فلم يجد أمامه من وسيلة للنجاة إلا أن يلقي بنفسه في سفح هذا الوادي، حيث يتحطم جسمه على صخوره الجاثمة هناك:
وإذ كان على أهبة تنفيذ ما اعتزم، أحس يداً أعاقته عما هو قادم عليه، فاشرأب إلى صاحبها، فإذا به (كلارا) تهيب به، أم أسرع فان أخوتي على آثاري قادمون. . . . للفتك. . . بك؛ وامض إلى الصخرة القائمة عند سفح التل، وستجد حصان أخي (جوانيتو) فامتطه ولا تتريث لحظة، وإلا فقدت حياتك
فحدق الفتى فيها دقيقة، وقد فاضت نفسه بالدهشة، ولكنه تنبه أخيراً، إذ ثارت في نفسه غريزة حب الحياة، تلك الغريزة التي تتمثل في الجميع على السواء، في حيوان أو إنسان، وحمل إليه الريح صدى صوت (كلارا) تهيب بأخوتها، ألا يتريثوا في اقتفاء آثاره، كما سمع وقع حوافر دوابهم تسابق الريح، وهم على صهواتها يرسلون عليه وابلاً من الرصاص الذي يمر بجانب رأسه، ولم يتمهل هو الآخر لحظة في الطريق بل أسرع بالجواد، وبعد بضع ساعات كان في حضرة الجنرال، كان في ثلة من إخوانه يتناولون طعامهم، فارتمى أمامه قائلاً:
- (مولاي. إن حياتي بين يديك، افعل بها ما تشاء؟)
ثم أخذ يقص على الجنرال قصته، فإذا الجميع ينصتون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، وعلى وجوههم غبرة، ترهقها قترة، وألجم الخبر أفواههم، وجعلهم آذاناً فحسب، فلما أتمها قال له القائد العام:
- (يا هذا إني أراك سيئ الحظ، أكثر من أن تكون مذنباً، لا تثريب عليك، وإني لأبرئ ساحتك، إلا إذا رأى المرشال غير هذا)
فسأله الضابط: (وإذا سمع الإمبراطور بالحادثة!؟)
فأجابه الجنرال: (سيكون القتل نصيبك، ولكن دعنا الآن من هذا، وهيا ندبر خطة ننتقم بها من هؤلاء الأوغاد، أوشاب الإنسانية، لابد أن يكون الثأر شديداً، حتى تخمد في نفوسهم(117/67)
الوحشية والدناءة)
وفي ساعة من الزمن، شدت فرقة من الجند رحالها، على رأسها الجنرال، بصحبة الضابط فكتور، وإذا الجنود بمصير زملائهم الذين أخذوا على غرة، ثارت في عروقهم دماء الانتقام واستحلوا شعلة تتأجج لحرق الأسبان، وأقسموا أن ينتقموا لإخوانهم أشد انتقام، وسرعان ما قطعوا المسافة بين مدينة مندا، وبين مركز القيادة العليا
ورأى الأسبان أنفسهم محاصرين، وعلموا أن الجنرال لا يتردد لحظة في الفتك بأهل المدينة، لا تأخذه في ذلك شفقة ولا رحمة، فبعثوا إليه رسل المهادنة، ورضى هو أن يسلم كل من في القصر أنفسهم إليه، من أحقر الخدم إلى المركيز نفسه، واتخذ القصر مركزاً للقيادة؛ وأمر كل فرد من أفراد الأسرة الحاكمة، وخدمها أن يقيد، ونكل بالثوار أشد تنكيل، ولم يرحم رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً، بل ثارت فيه غريزته الوحشية، وبينما هو في مجلس من رجاله إذ أقبل عليه فكتور ماشاند، وقال له:
- أسألك يا مولاي أن تجيب لي طلباً، هو أن المركيز يرجوك أن تفرق بين الأشراف والعامة، وذلك بأن تطيح رقابهم بيد الجلاد لا بالمشنقة، وأن تفك قيودهم التي كبلوا بها، ولن يحاولوا الهرب، وذلك عهد قد قطعوه على أنفسهم، وإنه ليتخلى لك عن جميع أملاكه وأمواله إذا عفوت عن أحد أبنائه ووهبته الحياة
فقال الجنرال: إن أمواله قد أصبحت تبعاً للملك جوزيف، ولكني سأهبه ما طلب، وإن كنت أعرف علة رجائه، في أن يبقى اسم الأسرة، ببقاء أحد أفرادها؛ سأهبه ذلك، لمن يرضى أن يكون جلادهم، ويطيح برقابهم، والآن لا تذكر لي شيئاً عنهم البتة
اجتمع الضباط في الغرفة التالية يتناولون غداءهم، وكانوا في نهم شديد إثر ما كابدوه من نصب وتعب، فأقبلوا على الطعام كالوحوش الضارية قد أنشبت مخالبها في فريسة دسمة بعد طول سغب، وتفقدوا الضابط فكتور، فلم يجدوه بينهم، ذلك لأنه مضى إلى الحجرة التي فيها عائلة المركيز وآلمه أن يرى سادة الأمس مقيدين كالعبيد، قد ارتسمت على وجوههم دلائل الأسى الشديد، واللوعة المرة؛ وأي لوعة أشد على النفس من أن المرء أن يرى عبدا حقيرا يتحكم فيه وهو السيد الحاكم؟ وسرت رعشة في جسد الضابط حين فكر في هذه الرؤوس الجميلة، وأنها ستهوي على أقدام الجلاد مصبوغة بالدماء، وكأنما هم كانوا(117/68)
يفكرون في هذا الأمر نفسه، فقد بعثروا حولهم تنهدات الألم والحزن التي ملأت جو الغرفة، وإذ أبصروا فكتور يدخل حجرتهم اشرأبت أعناقهم، طمعاً في أن يكون حاملا إليهم بشرى العفو، فأمر الجند أن يفكوا قيود السادة، ومضى هو بنفسه يحل وثاق (كلارا) فقابلته على صنيعه هذا بابتسامة اغتصبتها اغتصاباً، ومس في رفق ذراعها البضة الناعمة، وأعجبته خصلات شعرها الفاحم، المتهدل على جبينها الوضاء، وفتنة قدها الممشوق الجميل، وخصرها الأهيف، فسألته هل نجح في مهمته، فهمهم همهمة حزينة، وجال ببصره في وجهها ووجه أخوتها الثلاثة، وكان (جوانيتو) أكبر الأبناء يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وأخوه (فيليب) عشرين ربيعاً، وكان (عمانويل) يبلغ ثمانية أعوام، ذا أنف روماني وطلعة جميلة؛ ثم جمع أطراف شجاعته، وأخبرها برأي الجنرال، فسرت رعدة الرهبة في أوصالها، ولكنها تشجعت ومضت تخبر أباها بما أسره إليها فكتور، وزادت عليه قولها: - أبى عليك أن تأمر (جوانيتو) وعليه أن يصدع بأمرك إذا كان مخلصاً لك، ففي طاعته إياك، وتلبيته لرغبتك إسعادنا! فلما سمعت الأم ذلك، أحست بالأمل يعاودها، وظنت أن نجاتهم أصبحت قوسين، وما علمت أن المركيز إذ ذاك يطلب من ولده أمراً، تنهد له الجبال هدا، وإذ تبينت حقيقة الأمر واطلب ارتدت إلى الوراء، تعلوها صفرة اليأس، وعرف جوانيتو السر فثارت دماء الغضب حارة في عروقه، وهب ثائراً كالأسد، قد ألفى نفسه أسير قفص من الحديد، بعد أن كان يطأ الثرى، في زهو الأمير، ويرى الغابة كلها تكاد تضيق عن خطى أقدامه، ولكن الأب هدأ كل ذلك، بأن قال: (جوانيتو)
فكانت إجابة جوانيتو هزة الرفض من رأسه، وارتمى خائراً على مقعده، يصعد ناظريه في أبويه، وقد تجلت الدهشة والأسى والغضب في عينيه الحائرتين، فلما رأت (كلارا) إصرار أخيها على الرفض، تركت مكانها إلى حيث جوانيتو، وطوقت عنقه بذراعيها الغضتين، وجثت أمامه وقبلته في عينيه قائلة:
- (أي جوانيتو: يا أعز ما أملك، آه!. . . ما ألذ الموت إذا كان من يدك!. . . إنك لا تدري حلاوته. . . كما أشعر بها الآن. . . أنقذني. . يا جوانيتو. . من يدي السفاح. . الملوث اليدين. . . حتى لا يقال. . . إن جلاداً حقيراً. . . أطاح رقاب العائلة الحاكمة. . وأنقذني من بين براثنه. . وبراثن رجل آخر)(117/69)
ثم نظرت شزرا إلى فكتور، نظرت إليه نظرة تفيض حقداً وكراهية واحتقاراً، وكأنها بذلك تثير في نفس أخيها الحقارة للفرنسيس، وتشعل الضغينة في نفسه عليهم،. . . ثم قال له أخوه فيليب متوسلاً: (كن شجاعاً صنديداً وإلا محوت عائلتنا الشريفة من العالم)
وأمره الأب، فلم يلب طلبه، فجثا أمامه، هو وأخوته جميعاً ورفعوا أكفهم متوسلين إليه أن يضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، وأن ينقذ اسم العائلة من أن يدنس، وعرف الأب من أين تؤكل الكتف، فأهاب به قائلاً: (أي بني. أغادرتك شجاعة الإسباني، وإحساسه الشريف؟ أأجثو أمامك. . . وأتوسل إليك. . . ولا ترد طلبي إلا خائباً؟ أتفكر في ألمك فحسب. . ولا تزنه بآلامنا جميعا. . إذا أصررت على المكابرة) ثم التفت إلى زوجته قائلا: أهذا ولدي يا زوجتي؟
فصاحت به الأم في يأس: (سيلبي طلبك. . أيها المركيز!!) ولمحت جبين جوانيتو ينعقد أكثر، وتبينت أنه يألم لها أكثر من الجميع وحينذاك كانت الثانية (ماركينا) قد تعلقت بأطراف ذيل أمها، بقبضتيها الضعيفتين، وأخذت تذرف الدموع، فلما شاهدها (فيليب) انتهرها ولامها، وإذ ذاك دخل الحجرة كاهن المدينة، فالتفوا حوله كصغار الطير، ومضوا به إلى جوانيتو الصامت، فلم يستطع مرشاند، أن يرى هذا المنظر الأليم، فبارح الغرفة إلى حيث اجتمع الجنرال مع بعض قواده يجرعون الخمر، وقد أصدر أمره بإحضار فرقة من الجند تذب الناس عن أن يقربوا من جثث الخدم المشنوقين، مدلاة أمام أعين السابلة، ووقف الجلاد بهيئته المفزعة ليحل مكان جوانيتو إذا خانته شجاعته، ولم يستطع أن يقوم بتنفيذ ما عهد إليه، وصدع هذا السكون الضارب أطنابه على المكان وقع أقدام عائلة المركيز، يحيط بهم الجند مشهرين سيوفهم، يلمع في ظباها الردى، ولم تفارق الهيبة أفراد الأسرة، وكانوا يتقدمون إلى حيث النطع ممدود في خطوات هادئة، لا أثر للخوف أو الاضطراب فيها، غير أن أحدهم قد علته صفرة الأموات، متكئاً على ذراع الكاهن الذي أخذ يهدئ روعه المضطرب، بترانيم دينية، فعرف الجميع حينئذ أن (جوانيتو) سيقوم بمهمة الجلاد في إطاحة الرقاب، وجثا الجميع قريبين من المقصلة، وأي مشهد آلم للنفس من أن ترى عزيز قوم ذل؟ لقد كان المركيز وزوجته وابنتاه، وولداه أمام جوانيتو، الذي أسر إليه الجلاد بعض الكلمات(117/70)
حينذاك اقتربت (كلارا) من أخيها، وصاحت به: جوانيتو، ابدأ بي إذا أردت أن ترفق. . . بشجاعتي المنهوكة. . . هيا. . أطح رأسي أولاً!!
وساعتئذ أبصر الناس الضابط (فيكتور مارشاند) مسرعاً نحو (كلارا) التي جثت على ركبيتها تتأهب للأمر الواقع، وتستعد لأن يطاح رأسها، فلما حاذاها تماماً قال لها في أذنها: (إن الجنرال ليعفو عنك ويهبك الحياة إذا رضيت بي زوجاً!)
فصوبت إليه نظرة ملؤها الكبرياء بنفسها، والازدراء له، ثم صاحت بأخيها، كأنها اللبؤة الضارية: (هيا، يا جوانيتو. . فإني. . . على أتم الاستعداد. . . .) وإذ ذاك أبصر الناس رأسها الجميل يتدحرج تحت قدمي أخيها، وقد انفصل عن جسدها، وسرت الرعشة في جسد أمها، ولكنها ملكت عواطفها، وتقدم أخوه عمانويل وسأله: (أتراني في مكاني تماماً. . أيها العزيز جوانيتو؟)
ثم أقبلت إليه أخته الصغيرة (ماركينا) والدموع تنهمر من عينيها، فسألها: (أتبكين يا أختاه؟)
فقالت: نعم يا حبيبي جوانيتو، إني أبكي من أجلك. . . . لشد ما يؤلمني أن تظل وحيداً حين تتفقدنا جميعاً فلا تجدنا معك)
ولكنه رفع السيف وأهوى به على رقبته الصغيرة، وإذ ذاك تقدم منه أبوه المركيز، فصوب ناظريه، وصعدهما، في دماء أبنائه الجارية تحت قدميه، كأنها المياه المتدفقة شاهدة على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ثم التفت ناحية الجماهير الذين عقدت الدهشة ألسنتهم، فكانوا أصناماً لا تتكلم، أو تتحرك تأثراً من هذا المشهد المروع، ثم مد يده إلى جوانيتو، وصاح في صوت قوي النبرات حادها، وقال:
(أيها الإسبانيون! إني أبارك ولدي، وأهبه دعوات الأبوة والآن هيا أيها المركيز. أطح رأسي، ولا يأخذك الخوف أو الرعب، هيا. لا تثريب عليك)
فلبى نداء أبيه صامتاً حزيناً، وإذ ذاك أقبلت أمه، منهوكة القوى، خائرة الأوصال، كيف لا وقد رأت أبناءها جميعاً، وزوجها المركيز، تطاح رقابهم، كأنهم الماشية بل أحقر، ذلك قلب الأم الذي:
لا ربة النسيان تر ... حم حزنه وترى بكاء(117/71)
كلا ولا الأيام تب ... لى في أناملها أساه
إلا إذا ضفرت له ال ... أقدار إكليل الجنون
وغدا شقياً ضاحكاً ... تلهو بمرآه السنون
أقبلت أمه متكئة على ذراع الكاهن، ونظرت إليه نظرة الوداع ممزوجة بأحر الألم، فما رآها حتى تنبهت حواسه الخامدة وثار غاضباً، وقال:
- (إن ثدييها هذين قد أرضعاني صغيراً)
فانتفض الجميع، حين سماعهم هذا، وانتزعت تلك الكلمات صرخة الفزع من قلوبهم جميعاً، وسكنت ضحكات الضباط، وعرفت المركيزة وقتئذ أن شجاعة جوانيتو ولت، ولم يعد ذلك القوي، فجمعت ما تبقى من شجاعتها المبعثرة، ثم قفزت من فوق قمة المنحدر فهوت إلى القاع، وقد مزقتها الصخور الجاثمة في أسفله شر ممزق، فهتف الجمهور المشاهد هتاف الإعجاب، أما جوانيتو فقد رقد مسجى مغمى عليه، فحملوه إلى الخارج حيث عاش وقد أسموه (الجلاد)
حسن محمد حبشي(117/72)
البريد الأدبي
سرقة أدبية!؟
قرأت كلمة في بريد الرسالة (115) بتوقيع (حبيب زحلاوي) يتهم فيها (الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي) بأنه سرق قصيدته (عاصفة روح) من قصيدة الشاعر الدمشقي ميشيل عفلق (؟) ونحن لم نقرأ قصيدة (عاصفة روح) ولا قصيدة (عفلق) ولا نعتد بهذا الشعر، لأنا لا نجد فيه روحاً كالتي نريد، ولا لغة كالتي نرتضي، ولكنا مع هذا نعلم أن الدكتور ناجي من نابغي الشعراء الشباب في مصر، ونعرف له أشياء بالغة في بابها حد الجودة. فأحببنا أن نطمئن الدكتور إلى أنه ليس في دمشق شاعر يسمى ميشيل عفلق ألبتة، وربما كان فيها كاتب صحف، أو ترجمان قصص، بهذا الاسم، أما شاعر فلا. . .
وقد سألنا عن القصيدتين صديقنا الشاعر أنور العطار، فأكد لنا أن قصيدة عفلق مسروقة من قصيدة لشاعر من شعراء سورية في المهجر، وأن هذا هو السر في أنه لم ينظم في حياته غيرها!
على أن هذا المذهب الأدبي الجديد لا ينكر فيما نظن السرقات الأدبية. لأنه لو أنكرها وحرمها، لسقط سقوطاً لا قيام له من بعده، لأن في كل قصيدة أو مقالة من هذا الأدب الجديد ضميراً مستتراً يعود إلى شاعر أو كاتب إنكليزي أو فرنسي. ثم إن هذا الأدب لم يكتب بلغة عربية، تضمن له البقاء، وتكفل له الخلود، وليس فيه إلا معناه؛ فإذا خسره فقد خسر كل شيء، وماذا يبقى من أدب معناه مسروق، ولغته مرذولة ساقطة؟. . .
ولعل الله يوفقنا إلى تبيان هذا في مقال آخر، نرد فيه هذه البدعة المنكرة في الأدب، بدعة أقوام سرقوا المعاني والأفكار، ثم لم يقدروا أن يصوغوها صياغة عربية فقالوا: إنه لا شأن للألفاظ، ولكن الِشأن للمعاني والأفكار
علي الطنطاوي
حول سيرة تيمورلنك
قرأت في العدد السادس عشر بعد المائة من (الرسالة) الغراء ما كتبه الأديب الباحث م. ع. ع عن مصادر ترجمة تيمورلنك وابن عربشاه، ولعل من المفيد أن أذكر بعض المراجع(117/73)
التي ترجمت لهما مما لم يذكر الأديب الكاتب، فقد ترجم له ابن العماد في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في نحو خمس صفحات كبيرة من الجزء السابع، وكذلك السخاوي في (الضوء اللامع)؛ فقد ترجم له أربع صفحات كبيرة من الجزء الثالث بتحقيق دقيق، ولابن عربشاه ترجمة واسعة أيضاً في الشذرات في أربع صفحات وكذلك في الضوء اللامع
محمد شفيق
مكانة الفن في نظم التربية
منذ بضعة أعوام عني ولاة الأمر في إنكلترا بتوسيع دائرة التعليم الفني في بعض درجات التعليم، ولاحظ الخبراء أن هذه الخطوة أثمرت ثمراً حسناً، وارتفع معيار الذوق الفني لدى الجمهور، وقد رأى مجلس الفن والصناعة أن يتقدم إلى (ديوان التربية) (أو مجلس المعارف الأعلى) باقتراحات جديدة لترقية التعليم الفني؛ وخلاصة هذه الاقتراحات هو أن يدخل في برامج التعليم في المدارس الثانوية والمتوسطة والعالية نظام ثابت للتعليم الفني، وأن يخصص فيها لهذا النوع من التعليم من العناية قدر ما يخصص لتعليم اللغات أو العلوم أو رياضيات، وأن الفن يجب أن يكون مادة إجبارية في برنامج مدارس المعلمين، وأنه يجب تشجيع استخدام المعلمين الأخصائيين في الفن. وتبوؤ الفن هذه المكانة في نظم التعليم يبث في أذهان الشباب حب الجمال في جميع مطالب الحياة
ويقول مجلس الفن إن دراسة الفن يجب ألا تكون لقصد الفن ذاته، وإنما يجب أن يكون التعليم الفني أداة للرخاء الاقتصادي. وذلك انه إذا مزج الفن والصناعة فإن معيار الصناعة يرتفع ارتفاعاً محسوساً. ولهذه النقطة أهمية خاصة، لأن أبناء الأمة إذا درجوا على تقدير الفن والنماذج الفنية، فأنهم كمستهلكين لابد أن يطالبوا بمنتجات تتفق مع أذواقهم الفنية، ولهذا يضطر أصحاب المصانع لاستخدام الفنيين لسد حاجاتهم، وهذه خطوة هامة في ترقية الصناعة
ويرى مجلس الفن أيضاً ألا يقتصر على تعليم الفن داخل المدارس، وإنما يجب أن يسهل السبيل للمتطوعين خارج المدرسة، ويجب أن يكون للفن أثره في الخط، وفي شرح دروس(117/74)
التاريخ والجغرافيا والآداب والطبيعيات والتدبير المنزلي. هذا ولما كانت المدارس الحديثة تبني جامعة لكل أسباب الراحة والصحة، فأنه يجب أيضاً أن يعنى بزخرفتها عناية خاصة حتى يعيش النشء بين مناظر الفن والجمال
وليس الفن الإنشائي خاصة لأقلية صغيرة من الناس؛ فقد دلت معارض الأطفال الفنية على مقدرة لم تكن للنشء من قبل. وقد آن الأوان لأن يشغل التعليم الفني مكانته في جميع درجات الدراسة، وأن يكون من أهم العناصر في نظم التربية وبرامج التعليم
هجرة الكتاب والعلماء من ألمانيا
ليس من ريب في أن قيام طغيان الوطنية الاشتراكية في ألمانيا ضربة للعلوم والآداب والفنون الألمانية، وقد ظهرت آثار السياسة الهتلرية في انحطاط مستوى الدراسات العلمية والفنية في ألمانيا انحطاطاً ظاهراً، وفي تدهور الصحافة الألمانية إلى الحضيض بعد أن كانت في مقدمة صحافات العالم، وفي انحلال النهضة الأدبية الألمانية؛ ومن المعروف أن معظم العلماء الألمان قد اضطروا إلى الفرار من ألمانيا لأنهم من اليهود أو لأنهم لا يناصرون النظام الهتلري. وقد أثيرت هجرة العلماء الألمان في مؤتمر استقلال المباحث العلمية الذي عقد أخيراً في اكسفورد، وتلا الستاذ نورمان بنتوتش الإنكليزي على المؤتمر تقريراً ضافياً عن الاضطهادات التي وقعت في ألمانيا على العلماء الذين رفضوا مناصرة السياسة النازية، ويبدو من الإحصاءات التي تلاها أن العلماء الألمان الذين فقدوا مناصبهم في ظل الحكم الهتلري يبلغ عددهم زهاء ألف ومائتين، وعلق الأستاذ على ذلك بقوله إن مطاردة العلماء على الجملة إلى مثل هذا الحد ليس لها نظير في التاريخ منذ فتح الأتراك القسطنطينية في سنة 1453م، وهو فتح أعقبه هجرة العلماء البيزنطيين إلى غرب أوربا. ومما يجدر ذكره أن نحو خمسين من هؤلاء العلماء المشردين قد استخدمتهم الحكومة التركية في معاهد استانبول وأنقرة
هذا وأما الكتاب الألمان فيكفي أن تعرف أن أكابرهم يعيشون الآن في المنفى في سويسرة وإنكلترا، ومنهم كثير من الكتاب الآريين (غير اليهود) مثل توماس مان عميد الأدب الألماني المعاصر والحائز على جائزة نوبل، وأخوه هنيرش مان وولده كلاوزه، وقد جرد معظم أولئك الكتاب من أملاكهم وأموالهم في ألمانيا وحظر على المطابع الألمانية أن تخرج(117/75)
كتبهم كما حظر دخولها في ألمانيا، ومعظمهم الآن يخرج كتبه مترجمة إلى الإنكليزية أو الفرنسية
وأما الصحافة الألمانية، فإن أولئك الذين عرفوها أيام ازدهارها وعظمتها أعني قبل ثلاثة أعوام، يدهشون اليوم حينما يرون ما انتهت إليه الصحف الألمانية من ضآلة في الحجم والمادة، ومن تشابه ممل فيما تكتب وتعرض وتناقش
الرياضة والمخدرات
يفتك وباء الأفيون ببلاد الملايو التي يسيطر عليها الإنكليز كما يفتك بالصين وكل الشعوب التي تنتمي إليها من الوجهة الجنسية أو من وجهة الحضارة. وقد قرأت السيدة هرسبروج عضو مجلس العموم الإنكليزي ومندوبة إنكلترا في اللجنة الخاصة بمكافحة الأفيون في عصبة الأمم، تقريراً في اللجنة عن الوسائل التي تجري عليها السلطات الإنكليزية في بلاد الملايو في محاربة وباء المخدرات، قالت فيه إن هذا الكفاح لا يجري فقط بالرقابة والحظر، ولكنه يجري بوسائل اجتماعية يراد بها إضعاف الرغبة في تذوق المخدرات وخصوصاً بين الشباب. ومما يلاحظ في بلاد الملايو أن عادات الشعب قد تغيرت تغيراً كبيراً عما كانت عليه منذ عشرة أعوام، ولا سيما بين الطبقات الصينية. ذلك أن اللعاب تستغرق الآن اهتمام الشباب من الجنسين. وقد أنشئت ملاعب كبيرة في المدن والقرى للعب الكرة، وهي تجذب جماهير كبيرة، وأنشئت متنزهات عامة في المدن الكبرى يؤمها الصينيون من مختلف الطبقات، واتخذت إجراءات ووسائل صحية كثيرة ساعدت على ارتفاع المعيار الصحي في البلاد، وأنشئت مستشفيات عديدة لمعالجة المرضى والمدمنين، وقد ظهر أثر التيار الرياضي واضحاً في الجيل الحالي، فهو أقل ميلا إلى الانصراف إلى لذة المخدرات وأكثر شغفاً بوجوه التسلية القائمة على ترويض الجسم والذهن(117/76)
الكتب
2 - ثلاث رسائل
بخط ياقوت الحموي الرومي
للأديب الفارسي عباس إقبال
ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام
قياس عبارات معجم البلدان هذه بما خطوه ياقوت في آخر النسخة التي بيد الكاتب نقلاً عن خط ابن فارس، لا يدع ريبة في أن هذه النسخة هي عين النسخة التي كتبها ياقوت لنفسه من نسخة ابن فارس
ختمت هذه النسخة من تمام الفصيح، كما يقول ياقوت في آخرها، يوم الأحد سابع ربيع الآخر سنة 616 في مرو الشاهجان، ويصرح ياقوت نفسه في معجم البلدان أنه كان في مرو الشاهجان سنة 616، وكان يفيد من خزائن الكتب النفسية في هذه المدينة، وأنه في السنة نفسها ترك المدينة خوفاً من التتار وبلغ خوارزم (الجرجانية) بعد قليل. وكذلك يصرح في معجم البلدان ومعجم الأدباء أنه كان بخوارزم في ذي القعدة من هذه السنة. ثم تركها هرباً من التتار أيضاً. ومن هذا يتبين أن ختم هذه النسخة في ربيع الآخر سنة 616 وقع قبل فرار ياقوت من مرو الشاهجان بشهرين أو ثلاثة
وأما كتابا الرماني فلسوء الحظ سقط أولهما من هذه النسخة كما سقط قسم من أول الكتاب الثاني، كتاب الحروف كما قلنا آنفاً
بين كتاب تمام الفصيح والقسم الباقي من كتاب الحروف ورقة واحدة بخط ياقوت لا صلة بينها وبين هذين الكتابين. والظاهر أنها خاتمة كتاب الرماني الذي سقط من نسختنا، وأول هذه الورقة:
(قابلت به نسخة أبي الفتح محمد بن أحمد بن أشرس النيسابوري التي قرأها على أبي محمد عبيد الله بن محمد الكاتب المعروف بابن الجراذي عن ابن الأنباري، وعلى أبي محمد بن يوسف ابن الحسين التراقي في سنة تسع وثمانين وثلثمائة. وصححته على اختلاف نضد هذه النسخة ونسخة السماع عن ابن الأنباري في تقديم بعض الكلام في(117/77)
مواضع وتأخيره. وعلقت الحواشي من نسخته. وفرغ من انتساخه بمرو الشاهجان في عشية الأحد لثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة 615 ياقوت بن عبد الله الحموي المولى الرومي الأصل، حامداً الله ومصلياً على سيدنا محمد وآله الطاهرين ومسلماً تسليما)
ثم يتبع هذا بنقل فصل من كتاب لحن العامة لابن حاتم السجستاني. وقد سطر في آخر كتاب الحروف للرماني: (آخر كتاب الحروف. والحمد لله رب العالمين. وصلواته على سيدنا محمد وآله. وفرغت من نقله من خط أبي الحسن عمر بن أبي عمر السجستاني بمرو الشاهجان في محرم سنة ست عشرة وستمائة. وكتب ياقوت بن عبد الله الحموي حامداً الله على سوابغ نعمه)
يتبين مما قلناه من أوائل وأواخر النسخ التي خطها ياقوت في هذه المجموعة، ومن الشواهد التي أوردناها من معجم البلدان ومعجم الأدباء - ا - أن ياقوت صرح في خمسة مواضع من هذه النسخ بأن هذه المجموعة خط يده وملكه - ب - وأن ياقوت كتبها في تواريخ رمضان سنة 615، والمحرم سنة 616، وربيع الآخر سنة616 - ج - وأنه كتبها في مرو الشاهجان الحاضرة المشهورة للسلطان أبي الحارث معز الدين سنجر بن ملكشاه السلجوقي التي يقول عنها ياقوت في معجم البلدان إنه عاش فيها قرير العين مستفيداً من مكاتبها الكثيرة، وأن حبها تمكن في قلبه حتى أنساه الأهل والعيال وسائر البلدان، وأنها لو لم تقع في أيدي التتار فسيطر عليها الدمار ما فارقها حتى الممات
والحق أن من العجيب أن تنجو هذه المجموعة الصغيرة التي هي من أنفس ذكريات القرون السالفة، ومن أعز ما ملكه عالم عظيم مثل ياقوت الحموي، من نيران التتار المستعرة، وغير الزمان المدمرة، فها هي الآن بعد سبعة قرون ونصف على مكتبي ذكرى من عظمة المدنية الإسلامية في تلك العصور، ومذكرة برجل من مفاخر هذه المدينة الوضاءة: شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي
عباس إقبال
باريس 6 جمادى الأولى سنة 1354(117/78)
الإسلام الصحيح
للأستاذ إسعاف النشاشيبي
للأستاذ محمد بك كرد علي
الإسلام الصحيح هو آخر كتاب عني بتأليفه أديب فلسطين السيد إسعاف النشاشيبي على أسلوب طريف في الوضع، استكثر له من المادة، راجعاً في استقائها إلى الأمهات المعتبرة في الأكثر، مستخدماً الخطابيات للتأثير في ذهن السامع وقلبه، ولكن خطابياته مدعومة بالنص المقبول والشاهد والمثل، وتتخللها أنواع من البلاغات، وفصح وشوارد من اللغة يحاول الأديب احياءها، يعرضها على القارئ في خلال كلامه شارحاً لها في أسفل الصفحة
وموضع هذا التأليف يدور على مسائل: منها أن صاحبه يدعوا إلى الأخذ بالقرآن، ويهيب بفرق الإسلام إلى الالتفاف حول رايته الجامعة، وتكلم على الوهابية والزيدية وبين منشأهما وعلى الإمامة، وأثبت من كتب الثقات أن عترة النبي هم أسرته وأن جماعة النبي إنما هم المسلمون كلهم أجمعون، فليس للنبي قرباء ولا بعداء، وبرهن على أنه ليس في الإسلام طبقات وان بعضهم أبوا إلا أن يكون المسلمون طبقات كمثل الهنادك في الهند (فجماعة تنوقت في طغيانها وإلحادها فألهت من ألهت، وما هذا (والله) بطغيان ولا ضلال، لكنه فنون من الجنون. . . وجماعة أنزلت رجالاً من هاشم غير منزلتهم، وأعطتهم ما ليس في الدين لهم، ومشايعتك المرء على الباطل إنما هو خذلان، والتقريظ والتمجيد بغير الصدق وغير الحق زور وبهتان. وقد جاء الإسلام ليحرر فأبى معتاد الاستعباد في الدين والدنيا من قبل إلا استعباده، وإلا أن يشرك بعبادة ربه عباده)، وأفاض في مراد الشريعة من المودة في القربى وتفسير آية التطهير، وفي الصلاة على النبي، وفي نشأة نقابة الأشراف، وفي الحديث والمحدثين وجناية هؤلاء كفعل بعض المفسرين على الدين يوم قالوا: إن من الآيات ما له ظاهر ومنها ماله باطن إلى غير ذلك مما نقض فيه صراحاً ما يذهب إليه بعض فرق الإسلام. وأثبت أن نهج البلاغة المنسوب لعلي ابن أبي طالب يحمل كثيراً من الصفحات التي لا يعرفها صاحبه، وأن في تلقين الأحداث كل ما في هذا الكتاب على أنه صح عمن نسب إليه رضي الله عنه لا يخلوا من ضرر على الأحداث، إلى غير ذلك من المطالب التي حل بها ما رآه أولى بالتقديم والمعالجة لرفع الخلاف من صفوف من كانت(117/79)
قبلتهم واحدة، وموردهم الذي يستقون منه هم فيه شركاء لا تباغض بينهم، والكتاب مفيد لمن يطالعه تدبر وتفكر.
محمد كرد علي(117/80)
العدد 118 - بتاريخ: 07 - 10 - 1935(/)
المثنى بن حارثة
على ذكر (نادي المثنى) ببغداد
للدكتور عبد الوهاب عزام
كانت قبائل ربيعة ضاربة شرقي نجد، موغلة إلى الشمال حتى أعلي الفرات. . وكانت الوقائع تثور بينهم وبين الفرس في الحين بعد الحين، فكانوا أجرأ العرب على فارس، وكان العرب يسمون فارس الأسد، فسموا ربيعة (ربيعة الأسد)
وكان بنو شيبان من هامات ربيعة في الجاهلية، وهم كانوا أبطال (ذي قار)، وامتد بهم المجد في الإسلام فكان منهم بيتوتات لها في الحرب والمكارم مآثر. يقول أبو تمام:
أُولاك بنو الأفضال لولا فعالهم ... دَرجن فلم يوجد لمكرمة عقْب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد ... وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صُهب الأعاجم أنه ... به أعربت عن ذات أنفسها العُرب
هو المشهد الفرد الذي ما نجا به ... لكسرى بن كسرى لا سنام ولا صُلْب
- 2 -
وقد امتدت أحقاد ذي قار بين الفرس وبني شيبان خاصة، وقبائل بكر عامة؛ حتى كان بنو شيبان طلائع الفتح الإسلامي في العراق: لما عم الإسلام الجزيرة وتوطد سلطانه سمع أبو بكر بوقائع سيد من شيبان في سواد العراق فقال: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ قال قيس بن عاصم المنقري: (هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد؛ هذا المثنى بن حارثة الشيباني)
ثم قدم المثنى على أبي بكر يسأله أن يؤمره على قومه ففعل. وكان المثنى من قبل على قومه أميرا، وبقي من بعد أميرا يستعينه الأمراء إذا حضروا، ويستخلفونه إذا غابوا، حتى مات بين مآثر مشكورة، ومناقب محمودة. وقد صدق عمر حين سماه: (مؤمر نفسه)
وبعث المثنى أخاه مسعودا إلى الخليفة يستمده فأرسل خالدا إلى العراق؛ فلما نزل خالد النباج كتب إلى المثنى وهو معسكر بخفان ليأتيه، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره بطاعته. قال الطبري: (فانقض إليه جوادا حتى لحق به). فانظر إلى الرجولة كيف تسارع(118/1)
إلى الطاعة!
ولما توجه خالد إلى الشام استبد المثنى بأمرة العراق، وكان بطل موقعة بابل وفيها قتل الفيل
قال الفرزدق يعدد بيوتات بكر:
وبيت المثنى قاتلِ الفيل عَنوة ... ببابل إذ في فارسٍ مُلك بابل
ثم سار المثنى إلى أبي بكر ليخبره بجلية الأمر في العراق، فوفاه مريضا قد أشفى، فأوصى أبو بكر عمر قال: (فان أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى.) وسار الناس إلى العراق وأميرهم أبو عبيد الثقفي. فلما كانت موقعة الجسر التي زلزل فيها السلمون وقطع جسر الفرات وراءهم فتهافتوا في الماء وقف المثنى في أنجاد من العرب ينادي: (أيها الناس! إنا دونكم فاعبروا على هينتكم، ولا تدهشوا، فأنا لن نزايل حتى نراكم في ذلك الجانب). وحمى المثنى الناس حتى عبروا. ثم خلق المثنى من الفلول المهزومة يوم الجسر نصرا بهرا في موقعة البويب برأيه وسياسته وشجاعته، واحتسب فيها أخاه مسعودا؛ ثم تكاثر الفرس عليه فكتب إلى عمر، فأمره أن يتنحى بالناس حتى يأتيه أمره. ثم أرسل عمر سعد بن أبي وقاص في حشد عظيم، وانحاز المثنى إلى ذي قار. وقدم سعد إلى زرود ينتظر المثنى، ولكن الأسد المرزأ، والمسعر المجرب، انتفضت به جراحات يوم الجسر. فبينما سعد يرجو مقدمه جاءته وصيته تحملها امرأته سلمى وأخوه المعنى. عمل سعد بوصية المثنى وأمر أخاه مكانه، ثم تزوج امرأته. وقد شهدت سلمى وقعة القادسية، فلما حمى الوطيس؛ واستكلبت الموت على الأبطال، نظرت فلم تجد المثنى يسوس الأنجاد، ويقود الجلاد، فصاحت: (وامثنياه! ولا مثنى اليوم للخيل). مات المثنى وشهد له التاريخ أنه (كان شهما شجاعا ميمون النقيبة حسن الرأي. أبلى في حروب العراق بلاء لم يبله أحد)
- 3 -
فيا شباب بغداد الذين أنشأوا نادي المثنى ليحيوا ذكره! اذكروا فيه الرجولة الكاملة، والشجاعة البالغة، والمجد والسؤدد، والعمل المخلد. اذكروه قائدا مقداما، وأميرا حازما، وسيدا مطاعا، وجنديا مطيعا. اذكروه حرا أبيا، ومثلا عربيا، وخلقا عاليا. واستمدوا من ذكراه وذكرى أمثاله أخلاقا صلبة تقيكم رخاوة الحضارة، وعزيمة ماضية ترفعكم عن ذلة(118/2)
الرفاهية، وتقتحم بكم الأهوال إلى الغاية البعيدة ولأمل العظيم. ثم اذكروا أن المثنى فتح العراق جنديا مسلما، فاذكروا الإسلام ومجده، واعتصموا بأخلاقه، واستمسكوا بمعاليه. وسيروا قدما في عزة العروبة، وهداية الإسلام، وأنتم الأعلون والله معكم
عبد الوهاب عزام(118/3)
3 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الراوي:
نظرت إليها ونظرت. أما هي، فرنت إلي في سكون، وكانت نظراتها معاتبة طويلة فيها التملق والتوجع، وفيها الانكسار والفتور، وفيها الاسترخاء والدلال
وبينا كان طرفها ساجيا فاترا كأنه ينظر أحلامه، إذ حددته إلي فجأة ونظرت نظرة مدهوش، فبدت عيناها فزعتين ولكن في وجهها مطمئن
ثم لم تكد تفعل حتى ضيقت أجفانها وحدقت النظر متلألئا بمعانيه، فبدت عيناها ضاحكتين ولكن في وجه متألم
ثم ابتسمت بوجهها وعينيها معا، وأتممت بذلك أجمل أساليب المرأة الجميلة المحبوبة في اعتراضها على من تحبه، وجدالها مع فكره، وكسر حجته في كبريائه، وانتزاع الفكرة المستقلة من نفسه
وأما أنا؛ فكان نظري إليها ساكنا متألما يقر أنه عجز عن جواب عينيها، وسيبقى عاجزا عن جواب عينيها. . . .
إن وجهها هو الابتسام وروح الابتسام، وجسمها هو الإغراء وروح الإغراء، وفنها هو الفتنة وروح الفتنة، وهي بهذا كله، هي الحب وروح الحب. غير أن فهمها على حقيقتها في الناس يجعل ابتسامها عداوة من وجهها، وإغراءها جريمة لجسمها، وفنها رذيلة في جمالها، وهي بهذا كله، هي الشقاء وروح الشقاء
أما إني أحب فنعم ونعما، بل أراه حبا فالقا كبدي، وليس يخلو فؤادي أبداً من سوالف حب مضى؛ وأما إني أسترذل في الحب وأمتهن فضيلتي وأنزل بها - فلا وأبدا
إن ذلك الحب هو عندي عمل فني من أعمال النفس، ولكن الفضيلة هي النفس ذاتها؛ والحب أيام جميلة عابرة في زمني، أما الفضيلة فهي زمني كله؛ وذلك الجمال هو قوة من جاذبية الأرض في مدتها القصيرة، ولكن الفضيلة جاذبية السماء في خلودها الأبدي
على أنه لا منافرة بين الحب والفضيلة في رأيي، فان أقوى الحب وأملأه بفلسفة الفرح والحزن لا يكون إلا في النفس الفاضلة المتورعة عن مقارفة الإثم. وههنا يتحول الحب(118/4)
إلى ملكة سامية في إدراك معاني الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة. وبهذا الوحي والاستمداد منه ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكة ليتلقى النور منها فنا بعد فن، والفرح معنى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة
فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيأة للإلهام كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس. كأن كل محب وحبيبته من هؤلاء الملهمين، هما صورة جديدة من آدم وحواء، في حالة جديدة من معنى ترك الجنة، لإيجاد الصورة الجديدة من الفرح الأرضي والحزن السماوي
والخطر في الحب ألا يكون فيه خطر. . . . فهو حينئذ نداء الجنس، لا يكون إلا دنيئا ساقطا مبذولا فلا قيمة له ولا وحي فيه، إذ يكون احتيالا من عمل الغريزة جاءت فيه لابسة ثوبها النوراني من شوق الروح لتخدع النفس الأخرى فيتصل بينهما، حتى إذا اتصل بينهما خلعت الغريزة هذا الثوب واستعلنت أنها الغريزة فانحصر الحب في حيوانيته وبطلت أشواقه الخيالية أجمع
قال الراوي: وعرفت الحسناء هذا كله من عرضها نظرة وتلقيها نظرة غيرها، فقالت للأستاذ (ح): أما أن يكون مع أثر الشعر والفكر في الجمال ودعوى الحب أثر الزهد في الجسم الجميل وادعاء الفضيلة - فان بعيدا أن يجتمعا
قال (ح): وأين تبعدينه ويحك عن هذه المنزلة؟ إني لأعرف من هو اعجب من هذا
قالت: وماذا بقي من العجب فتعرفه؟
قال: أعرف رجلا متزوجا أحب أشد الحب وأمضه حتى إستهام وتدله، فكان مع هذا لا يكتب رسالة إلى حبيبته حتى يستأذن فيها زوجته كيلا يعتدي على شيء من حقها. وزوجته كانت أعرف بقلبه وبحب هذا القلب، وهي كانت أعلم أن حبه وسلوانه إنما هما طريقتان في الأخذ والترك بين قلبه وبين المعاني، تارة في سبيل المرأة وجمالها، وتارة من سبيل الطبيعة ومحاسنها
فتنهدت وقالت: يا عجبا! وفي الدنيا مثل هذا الزوج الطاهر، وفي الدنيا مثل هذه الزوجة الكريمة؟(118/5)
ثم إنها وجمت هنيهة تجتمع في نفسها اجتماع السحابة، ثم استدمعت، ثم أرسلت عينيها تبكي. فبدرت أنا أرفه عنها حتى كفكفت من دمعها، وكأن (ح) قد وخزها في قلبها وخزة أليمة بذكره لها الزوجة، ثم الزوجة الطاهرة، ثم الطاهرة حتى في وسوسة شيطان الغيرة. ارتفعت ثلاث مرات بالزوجة، لترى هذه المسكينة أنها سافلة ثلاث مرات، وكأنه بهذا لم يكلمها بل رسم لها صورتها في عيشها المخزي وقال لها: انظري. . . . .
ويا ما كان أجملها يترقرق الدمع في عينيها الفاتنتين الكحيلتين فيبث منهما حزنا يخيل لمن رآه، أنه من أجلها سيحزن الوجود كله
ليس البكاء من هاتين العينين بكاء عند من يراه إذا كان من العاشقين، بل هو فن الحزن يضع مجالا جديد في فن الحسن. وأكاد أعجب كيف وجد الدمع مكانا بين المعاني الضاحكة في وجهها - لو لم يكن هذا الدمع قد جاء ليظهر على وجهها الفن الآخر من جمال المعاني الباكية
وسألتها: ما الذي خامر قلبك من كلام الأستاذ (ح) فأبكاك، وأنت كما أرى يتألق النور على جدران المكان الذي تحلين به، فيظهر المكان وكأنه يضحك لك؟
فتشككت لحظة ثم قالت: أبك ما تقول أم أنت تتهكم بي؟
قلت: كيف يخطر لك هذا وأنا احترم فيك ثلاث حقائق: الجمال، والحب، والألم الإنساني؟
قالت: لا تثريب عليك، ولكن صور لي ببلاغتك كيف أحببتك وأنت غير متحبب إلي، وكيف جادلت نفسي فيك وداورتها عنك، وكلما عزمت انحل عزمي؟ فهذا ما لا أكاد أعرف كيف وقع، ولكنه وقع، هذه قطرة من الماء الصافي العذب فضع عليها (المكرسكوب) يا سيدي وقل لأي ماذا ترى؟
قلت: إنك تخرجين من السؤال سؤالا. فما الذي خامر قلبك من كلام (ح) فبكيت له؟
قالت: إذن فليست هي قطرة من الماء بل تلك دمعة من دموعي، فضع عليها المكرسكوب يا سيدي
قال الراوي: وكانت حزينة كأنها لم تسكت عن البكاء إلا بوجهها وبقيت روحها تبكي في داخلها. فأراد الأستاذ (ح) أن يستدرك لغلطته الأولى فقال: إنك الآن تسألينه حقا من حقوقك عليه، فكل امرأة يحبها هي عروس قلمه ولها على هذا القلم حق النفقة. . . . . .(118/6)
فضحكت نوعا ظريفا من الضحك الفاتر كأنما ابتكره ثغرها الجميل لساعة حزنها، ونظرت إلي. فقلت: إن كان الأمر من نفقة العروس على قلم فما أشبه هذا (بلا شيء) جحا
فضحكت أظرف من قبل، وخيل إلي أن ثغرها انطبق بعد افتراره على قبلة أفلتت منه فأمسكها من آخرها. . .
ثم قالت: ما هو (لا شيء) جحا؟
قلت: زعموا أن جحا ذهب يحتطب، وحمل فوق ما يطيق، فبهظه الحمل وبلغ به المشقة، ثم رأى في طريقه رجلا أبله فاستعان به، فقال الرجل: كم تعطيني إذا أنا حملت عنك؟ قال: أعطيك (لا شيء). قال: رضيت
ثم حمل الأبله وانطلق معه حتى بلغ الدار، فقال: أعطيني أجري: قال جحا: لقد أخذته. واختلفا هذا يقول أعطني، وهذا يقول أخذت؛ فلببه الرجل ومضى يرفعه إلى القاضي، وكانت بالقاضي لوثة وعلى وجهه روأة الحمق تخبرك عنه قبل أن يخبرك عن نفسه. فلما سمع الدعوى قال لجحا: أنت في الحبس أو تعطيه (اللا شيء). . .
قال جحا في نفسه: لقد احتجت لعقلي بين هذين الأبلهين؛ ثم أنه أدخل يده في جيبه وأخرجها مطبقة، وقال للرجل: تقدم وافتح يدي. فتقدم وفتحها. قال جحا: ماذا فيها؟ قال الرجل: (لا شيء)
فقال له جحا: خذ (لا شيئك) وامض فقد برئت ذمتي
قالوا: فذهب الرجل يحتج، فقال له القاضي: مه؟ أنت أقررت أنك رأيت في يده (لا شيء) وهو أجرك؛ فخذه ولا تطمع في أزيد من حقك. . .
وضحكت وضحكنا، ثم قالت: أنا راضية أن أكون عروس القلم، فلجر علي القلم نفقتي، وليصور لي كيف أحببت، وكيف آمرت نفسي وجادلتها؟
قلت: لا أتكلم عنك أنت ولا أستطيعه. بيد أنني لو صنفت رواية يكون فيها هذا الموقف - لوضعت على لساني العاشقة هذا الكلام تحدث به نفسها
تقول: كيف كنت وكيف صرت. لقد رأيتني أعاشر مائة رجل فاخلطهم في شتى أحوالهم وأصرفهم في هواي وكلهم يجهد جهده في استمالتي، وكلهم أهل مودة وبذل، وما منهم إلا جميل مخلص قد أنق وتجمل وراع حسنه كأنما هرب إلي في ثياب عرسه ليلة زفافه وترك(118/7)
من أجلي عروسا تبكي وتصيح بويلها. ثم أنا مع ذلك مغلقة القلب دونهم جميعا أصدقهم المودة والصحبة، وأكذبهم الحب والهوى؛ فلست أحبهم إلا بما أنال منهم ولست أتحبب إليهم إلا ما أنولهم مني، وهم بين عقلي وحيلتي رجال لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأة لا ذات لها
ثم أرى بغتة رجلا فردا فلا أكاد أنظر إليه وينظر إلي حتى يضع في قلبي مسئلة تحتاج إلى الحل. . .
وأرتاع لذلك فأحاول تناسيه والإغضاء عنه، فتلج المسئلة في طلب حلها وتشغل خاطري وتتمدد في قلبي وهو هو المسئلة. . .
فأفزع لذلك وأهتم له وأجهد جهدي أن أكون مرة حازمة بصيرة كرجال المال في حق الثروة عليهم، ومرة قاسية عنيدة كرجال الحرب في واجبها عندهم، ومرة خبيثة منكرة كرجال السياسة في عملها بهم؛ ولكني أرى المسئلة تلين لي وتتشكل معي وتحتمل هذه الوجوه كلها لتبقى حيث هي في قلبي فانه هو هو المسئلة. . .
وأغتم لذلك غما شديدا وأراني سأسقط بعد سقوطي الأول وأقبح منه، إذ الحياة عندنا قائمة بالخداع وهذا يفسده الإخلاص؛ وبالمكر وهذا يعطله الوفاء، وبالنسيان وهذا يبطله الحب. وإذ عواطفنا كلها متجردة لغرض واحد هو كسب المال وجمعه وادخاره، وفضيلتنا عميلة لا تتخيل، حسابية لا تختل، فيستوي عندنا الرجل بلغ جماله القمر في سمائه، والرجل بلغت دمامته الذباب في أقذاره؛ والحب معنا هو كم في كم ويبقى ماذا. . . أو كما يقول أهل السياسة هو (النقطة العملية في المسئلة). ولكن المسئلة التي في قلبي لا ترى هذا حلا لها، لأنه هو هو المسئلة. . .
فيزيد بي الكرب، ويشتد علي البلاء وأحتال لقلبي، وأدبر في خنقه وأذهب أقنعه أن الرجل إذا كان شريفا لم يحب المرأة الساقطة إذ يعاب بصحبتها والاختلاف إليها، فإذا كان ساقطا لم تحبه هي، فإنما هو صيدها وفريستها وموضع نقمتها من هذا الجنس، وأسرف على قلبي في الملامة والتعذيل فأقول له: ويحك يا قلبي! إن المرأة منا إذا تفتح قلبها لحبيب تفتح كالجرح لينزف دماءه لا غير، فيقتنع القلب ويجمع على أن ينسى وأن يرجع عن طلبه الحب؛ وأرى المسئلة قد بطلت وكان بطلانها أحسن حل لها، وأنام وادعة مطمئنة، فيأتي(118/8)
هو في نومي ويدخل في قلبي ويعيد المسئلة إلى وضعها الأول فما أستيقظ إلا رأيته هو هو المسئلة. . . .
فأتناهى في الخوف على نفسي من هذا الحب وأراه سجنها وعاقبها، وقهرها وإذلالها، فأقول لها: ويلك يا نفسي! إنما همك في الحياة وسائل الفوز والغلب، فأنت بهذا عدوة مسماة في غفلة الرجال صديقة، وقد وضعت في موضع تعيشين فيه بإهانات من الرجال يسمونها في نذالتهم بالحب. فأنت عدوة الرجال بمعنى من الدهاء والخبث، وعدوة الزوجات بمعنى من الحقد والضغينة، وعدوة البغايا أيضا بمعنى من المغالبة والمنافسة، وكل ما يستطيع الدهاء أن يعمله فهو الذي علي أنا أن اعمله، فماذا أصنع وأنا أحب؟ وكيف انجح وأنا أحب؟ ولكن النفس تجيبني على كل هذا بأن هذا كله بعيد عن المسئلة ما دام هو هو المسئلة. .
قال الراوي: وكانت كالذاهلة مما سمعت، ثم قالت: ألك شيطان في قلبي؟ فهذا كله هو الذي حدث في سبعة أيام
قال (ح): ولكن كيف يقع هذا الحب. وهبك صنفت تلك الرواية ووضعت على لسان العاشقة ذلك الكلام، فبماذا كنت تنطقها في وصف حبها، وما اجتذبها من رجل فاز بقلبها ولم يداورها، بعد مائة رجل كلهم داورها ولم يفز منهم أحد. أتكون في وجه هذا الرجل أنوار كتباشير الصبح تدل على النهار الكامن فيه؟
قالت هي: نعم نعم. بماذا كنت تنطقها؟
قلت: كنت أضع في لسانها هذا الكلام تجيب به عاذلة تعذلها:
تقول: لا أدري كيف أحببته، ولكن هذه الشخصية البارزة منه جذبتني إليه، وجعلت الهواء فيما بيني وبينه مفعما بالمغناطيس مصدره هو، ومعناه هو، ولا شيء فيه إلا هو
عرضته لي شخصيته ظاهرا لأن جواب شخصيته في، وأصبح في عيني كبيرا لأن جواب شخصيتي فيه، ومن ذلك صارت أفكاري نفسها تزيده كل يوم ظهورا وتزيدني كل يوم بصرا، وأعطاه حقه في الكمال عندي حقه في الحب مني؛ وبتلك الشخصية التي جوابها في نفسي أصبح ضرورة من ضرورات نفسي
قال الراوي:
ولما رأيتها في جوي نسميه وعاصفته، أردتها على قصتها وشأنها، فماذا قلت لها وماذا(118/9)
قالت؟
(في العدد القادم بقيتها)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(118/10)
افتتاح إفريقية
وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
بقلم مؤرخ كبير
ليست المشكلة الإيطالية الحبشية التي تكدر اليوم سلام العالم سوى نفثة جديدة من نفثات الاستعمار الغربي، وطموح أمة أوربية قوية إلى غزوا أمة إفريقية ضعيفة تزخر أرضها بالثروات الطبيعية الدفينة التي ما فتئت تحفز الاستعمار إلى الغزو والتغلب، وإلى اجتياح الأمم الضعيفة الآمنة؛ فهي ليست بذلك مشكلة دولية بالمعنى المعروف، وإنما هي محاولة أوربية جديدة لاجتياح آخر أرض في إفريقية استطاعت أن تنجو حتى اليوم من عدوان الاستعمار
كانت القارة الإفريقية منذ قرن فقط، منطقة بكرا، لا يكاد الغرب يعرف شيئا إلا عن أممها الشمالية التي تحتل الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت تتمتع مدى الأحقاب بحضارات زاهرة؛ وكانت هذه الأمم المتمدنة الزاهرة - مصر وبلاد المغرب - تكاد تحجب ما وراءها من أمم القارة السمراء، وتكون دون اجتياحها سداً منيعاً يحميها من مطامع الاستعمار الغربي الذي استطاع منذ القرن السادس عشر أن يجتاح الأمريكيتين، وأن ينفذ إلى الشرق الأقصى، واستطاع منذ القرن الثامن عشر أن يستقر في الهند. ومنذ أواخر هذا القرن أيضا توالت بعوث الاستعمار إلى إفريقية، فنفذت إليها من الشرق والغرب والشمال، وأثارت اكتشافات الرحل مثل منجو بارك ودنهام وكلابرتون ورنيه كاييه وستانلي ولفنجستون وغيرهم في الأمم الأوربية مطامع وآمالا جديدة، وبعثت النهضة الصناعية إليها رغبة قوية في استعمار تلك المناطق الجديدة واستغلال ثرواتها الدفينة، واستعباد شعوبها المتأخرة وتسخيرها في سبيل الغايات الاستعمارية
وكانت أمم إفريقية الشمالية، وهي مفتاح القارة، بالطبع محط المشروعات والمحاولات الأولى؛ وكانت أسبانيا أسبق الأمم الأوربية إلى التطلع إلى تلك الأمم المغربية التي تواجهها في الضفة الأخرى من البحر والتي خاضت معها من قبل كثيرا من المعارك، والتي استطاعت أيام قوتها وازدهارها - أيام المرابطين والموحدين - أن تغزوا أسبانيا وأن تحتل قسمها الجنوبي أعني أسبانيا المسلمة؛ ومنذ أيام الإمبراطور شارلكان وولده فيليب(118/11)
الثاني (القرن السادس عشر) بذلت أسبانيا - وهي يومئذ في إبان قوتها وعظمتها - عدة محاولات لافتتاح الجزائر وثغور المغرب، ولكنها لم تستطع أن تظفر في تلك الوهاد الوعرة بفتوح مستقرة؛ واستطاعت تلك الأمم المغربية أن تحافظ على استقلالها في ظل طائفة من الحكام المغامرين الذين يرجعون إلى أصل تركي حتى فاتحة القرن التاسع عشر. وكانت أسبانيا قد انحدرت في ذلك الحين إلى عداد الدول الثانوية، وأخذت دولة أوربية أخرى هي فرنسا تتطلع إلى افتتاح تلك الأمم واستعمارها؛ وكانت حمى افتتاح إفريقية قد أخذت تسري إلى الدول الأوربية، على أثر الاكتشافات الجغرافية العديدة التي كشفت عن غنى تلك المجاهل بالثروات الطبيعية المدهشة؛ وخشيت فرنسا أن تسبقها أمة أوربية أخرى إلى غزو أمم المغرب التي تواجهها في الضفة الأخرى من البحر ولا تبعد عن ثغورها الجنوبية سوى يومين؛ ولم يكن يعوز الاستعمار أو تعجزه حجج التدخل والعدوان. ففي سنة 1830، في عصر الملك شارل العاشر، جهزت فرنسا أسطولا ضخما، وحملة قوية إلى ثغر الجزائر؛ واستولى الفرنسيون على الثغر الحصين بعد قتال رائع، وانسحب الحاكم التركي (الداي) بأمواله وأسرته؛ واتخذ الفرنسيون من الجزائر قاعدة لغزو المغرب الأوسط كله؛ وكانت بتوسطها ومناعتها أصلح القواعد؛ ولكن فرنسا لقيت خصما صلباً عنيدا في عبد القادر زعيم الجزائر وبطلها الأشهر؛ وقد استطاع هذا الوطني الكبير والجندي الباسل أن ينظم الدفاع عن وطنه زهاء خمسة عشر عاما هزم خلالها عدة حملات فرنسية قوية، وكبد فرنسا خسائر فادحة في الرجال والمال؛ ولكن السياسة الاستعمارية لم ترتد أمام هذا النضال الوطني الرائع، ولم تحجم في سبيل غايتها أية تضحية؛ فما زالت فرنسا تبعث الحملات المختلفة، وتستولي تباعا على قواعد الجزائر، وتخوض مع عبد القادر معارك مضطرمة مستمرة، حتى أتمت فتح الجزائر؛ وأسر عبد القادر بعد خطوب وأحداث جمة (سنة 1847)، وارتد الزعيم الباسل بعد أعوام من الأسر بأسرته إلى دمشق ليقضي بقية أيامه فيها
وهكذا كانت الجزائر أول قطر أفريقي سقط في يد الاستعمار الأوربي، وكان سقوطها فاتحة تلك الحركة الاستعمارية الهائلة التي تعرف (بافتتاح إفريقية) والتي اشتركت فيها معظم الدول الأوربية الكبرى، طورا متحدة وطورا منفردة، واستمرت طوال القرن التاسع عشر،(118/12)
وانتهت بتقسيم إفريقية، وسقوط أقطارها تباعا في يد الدول الاستعمارية الكبرى
ولما استقرت فرنسا في الجزائر أخذت تتطلع إلى تونس ومراكش؛ وكانت تونس بما يسودها من الضعف والتفكك فريسة هينة، فما زال الفرنسيون بها حتى جردوا عليها حملة غازية في سنة 1881 ثم جردوا عليها أسطولا رسا في بيزرت، وزحفوا على تونس في مايو سنة 1885 وأرغموا (الباي) صاحب تونس على أن يعترف بالحماية الفرنسية على القطر التونسي. أما مراكش فقد استطاعت لمنعتها ووعورتها أن تقف في وجه الاستعمار مدى حين، وعاونتها السياسة الألمانية على مقاومة فرنسا وإحباط محاولاتها حتى أوائل القرن الحالي
وفي الوقت الذي سقطت فيه تونس في يد الفرنسيين كانت إنكلترا قد نظمت مشروعها لاحتلال مصر، وألفت فرصتها في اختلال الأحوال المالية، وفي قيام الثورة العرابية، فبعثت حملتها المعروفة إلى مصر في صيف سنة 1882، واحتلت عاصمتها في سبتمبر، في ظروف مازالت معروفة ماثلة في جميع الأذهان، ومازال الاحتلال الإنكليزي قائما في مصر، ومازالت المسألة المصرية تنتظر حلا شريفا عادلا يحقق أماني مصر في استرداد حرياتها واستقلالها
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر كانت البعثات الاستكشافية العديدة قد ألقت برحلاتها ومباحثها كثيرا من الضياء على إفريقية ومجاهلها ووهادها الغنية، وثرواتها الطبيعية، المتنوعة، ولم تمض أعوام أخرى حتى اكتشفت منابع أنهارها العظيمة مثل النيل والنيجر والكونغو، وحققت مجاريها وأحواضها، وأخذت روعة الثروات العظيمة التي اختصت بها القارة السمراء تحفز الاستعمار الأوربي وتذكي أطماعه، واشتدت المنافسة بين الدول الكبرى لاقتسام هذه الأقطار الغنية واحتلالها. عندئذ اتفقت الدول على عقد مؤتمر ينظم اقتسام إفريقية، ويحدد مناطق النفوذ والنشاط لكل دولة، وكان بسمارك المستشار الألماني هو صاحب الفكرة، فعقد المؤتمر في برلين في أواخر سنة 1884، واتفق على أن تكفل الحرية التجارية المطلقة لجميع الدول في حوض الكونغو، وأن تكفل حرية الملاحة في نهري النيجر والكونغو، وألا يعتبر الاحتلال النظري قائما في منطقة من المناطق حتى يؤيد بالاحتلال الفعلي، واعترف المؤتمر أيضا بقيام دولة مستقلة في الكونغو وأنها ملك(118/13)
شخصي لملك البلجيك وهي التي أضحت في يومين مستعمرة عظيمة تملكها دولة أوربية صغيرة هي البلجيك
على أن قرارات مؤتمر برلين لم يكن لها أثر فعلي ظاهر فيما تلا من تقسيم إفريقية. وكانت فرنسا قد وضعت يدها على الجزائر وتونس والسنغال، ووضعت إنكلترا يدها على مصر، ومنطقة الرأس (الكاب) وبدأت ألمانيا احتلالها في نفس الوقت للكمرون وتوجولاند وشرق إفريقية؛ ولم يكن ثمة بد من أن تتفاهم هذه الدول الاستعمارية الكبرى فيما بينها بمعاهدات واتفاقات خاصة على تحديد المناطق التي تطمح كل إلى امتلاكها، وكانت كل دولة قد شادت بما احتلته أسس إمبراطوريتها الاستعمارية في إفريقية. وكانت فرنسا أنشطها في بناء هذا الصرح الاستعماري، فلم تأت أواخر القرن التاسع عشر حتى كانت قد احتلت معظم إفريقية الغربية، واستولت على السنغال وأعلي النيجر، وساحل العاج، وداهومي، ونفذت في قلب إفريقية إلى السودان الأوسط حتى بحيرة تشاد، ووطدت أقدامها في الشمال في تونس والجزائر، وافتتحت جزيرة مدغشقر في سنة 1895
أما إنكلترا فإنها وطدت أقدامها في وادي النيل، في مصر والسودان، وفي شرق إفريقية البريطاني، واحتلت زنجبار، وأخذت في بناء إمبراطوريتها الاستعمارية العظيمة في أواسط إفريقية وجنوبها. وكانت منذ أوائل القرن التاسع عشر قد احتلت منطق الرأس (الكاب) كما قدمنا، وكان البوير (وهم سلالة المستعمرين الهولنديين الأوائل) قد استقروا في منطقة (الأورانج) وفي (ناتال)، فاستولى الإنكليز على ناتال، وهاجر البوير منها، وأسسوا لهم مستعمرة جديدة هي (الترنسفال) واعترفت إنكلترا باستقلالها سنة 1852، ولكن إنكلترا ما فتئت تبسط سلطانه نحو الشمال تباعا، فاستولت على أرض الكفر وباسوتولاند؛ وفي أواخر القرن التاسع عشر أنشأ سسل رودس شركة استعمارية على مثال الشركة التي أسست من قبل في الهند، وعضدت الحكومة الإنكليزية مشروعه في فتح الأراضي الواقعة حول حوض الزمبيزي وأمدته بالمال والجند، وهكذا افتتحت روديسا، وأصبحت إنكلترا تسيطر على أواسط إفريقية الجنوبية من منابع الكونغو حتى الكاب، ولم يبق خارجا عن سلطانها سوى الترنسفال ومستعمرة الأورانج حيث استقر البوير. وكانت إنكلترا تطمح دائماً إلى ضم هاتين المستعمرتين إليها لتوحد إمبراطوريتها في إفريقية الجنوبية، وكان(118/14)
البوير من جهة أخرى بزعامة رئيسهم الشهير (كروجر) يناوئون كثيرا من مشاريعها الاستعمارية، ويقاومون تدخلها بشدة؛ وأخيرا لم تر إنكلترا بدا من إعلان الحرب لتحقيق غايتها، فاضطرمت الحرب بينها وبين البوير (أكتوبر سنة 1899) وأبدى البوير بسالة عظيمة، واستطال دفاعهم زهاء ثلاثة أعوام؛ وأخيرا اضطروا إلى الاعتراف بسيادة إنكلترا ولكنهم احتفظوا باستقلالهم الداخلي، ونالوا من إنكلترا تعويضا ضخما عما أصابهم من التخريب والخسائر، وكبدت هذه الحرب الشهيرة إنكلترا خسائر فادحة في المال والرجال، ولكنها استطاعت أخيرا أن تحقق مشروعها في توحيد إمبراطوريتها في جنوب إفريقية
وفي أواخر القرن التاسع عشر اشتدت المنافسة بين الدول الاستعمارية ولا سيما بين ألمانيا وإنكلترا من جهة، وبينها وبين فرنسا من جهة أخرى. وانتهت إنكلترا وألمانيا أخيرا إلى التفاهم وعقدتا في سنة 1890 معاهدة لتخطيط الحدود بين أملاكهما في إفريقية. وعقدت بين إنكلترا وفرنسا في سنة 1898 معاهدة لتحديد أملاكهما في حوض النيجر وغرب إفريقية، ثم عقدت بينهما معاهدة أخرى في سنة 1899 على أثر حادثة فاشودة المشهورة وفيها تنازلت فرنسا عن دعاويها في أعالي النيل؛ وأخيرا عقد (الاتفاق الوادي) بين الدولتين في سنة 1904، وفيه تعهدت فرنسا بأن تطلق يد إنكلترا في مصر وألا تناوئ سياستها فيها؛ وتعهدت إنكلترا من جانبها أن تطلق يد فرنسا في مراكش وألا تناوئ سياستها فيها
وثارت بين ألمانيا وفرنسا من أجل مراكش خصومة مضطرمة كادت أن تنفجر غير مرة؛ وكانت فرنسا تحرص على أن تضم مراكش إلى إمبراطوريتها الإفريقية، وتحرص ألمانيا من جانبها على أن تضع في سبيل فرنسا كل عقبة ممكنة؛ وفي سنة 1905، زار الإمبراطور ولهلم الثاني ثغر طنجة وألقى خطابا رنانا حمل فيه على السياسة الفرنسية؛ واضطرت فرنسا أن تقبل بحث المسألة المراكشية في مؤتمر دولي؛ وعقد المؤتمر في الجزيرة (بأسبانيا) سنة 1906 من الدول الكبرى؛ وأصدر قرارا بإعلان استقلال السلطان، ووجوب المحافظة على وحدة الأراضي المراكشية، مع الاعتراف بحقوق إسبانيا وفرنسا ومصالحهما الخاصة في هذه المنطقة. ولم تغنم ألمانيا شيئا. وفي سنة 1911 جردت فرنسا حملة على فاس، وانتهزت ألمانيا هذه الفرصة فأرسلت سفينة حربية إلى أغادير، ووقعت(118/15)
بين الدولتين مشادة حادة كادت تنتهي باضطرام الحرب بينهما؛ ولكن الخلاف انتهى بعقد معاهدة اعترفت فيها ألمانيا بحقوق فرنسا في مراكش مقابل مزايا استعمارية كبيرة في أفريقية الوسطى. وعلى أثر ذلك انتهزت فرنسا الفرصة وعملت على إرغام مراكش على قبول حمايتها بمعاهدة عقدت مع السلطان في سنة 1912
أما إيطاليا، وهي رابع الدول الاستعمارية الكبرى التي اشتركت في اقتسام أفريقية، فكان نصيبها طرابلس في الشمال، وإرترية وشطرا من بلاد السومال في الشرق. وسنعرض في فصل قادم إلى تفصيل هذه الغزوات الاستعمارية، وسنعرض بوجه أخص إلى موقف الحبشة من هذه الحركة الأوربية الاستعمارية الشاملة وكيف نجت من عواقبها، واستطاعت أن تحتفظ باستقلالها إلى يومنا.
للبحث بقية
(. . .)(118/16)
3 - الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
2 - خصائص الشعر في العراق
أما الفرزدق فهو كالأخطل في الذؤابة من قومه، إلا أنه كان صريح العداوة فلا يوارى، فاحش الدعابة فلا يحتشم، شديد الدعارة فلا يتعفف، حاد البادرة فلا يتلطف؛ فهو في هجائه يذكر العورات ويعلن المخزيات بألفاظها العارية وأسمائها الصريحة حتى ليستحي الشاب أن ينشدها، بله الفتاة الخفرة.
وما أظن البداوة وضيق الخلق وسلاطة اللسان وفجور النفس هي كل الأسباب التي أوجدت هذا الهجاء السوقي الوقح، فإن الحطيئة ومن سبقه على اتصافهم بهذه الأوصاف لم يسفوا هذا الإسفاف، فلابد أن يكون لحياة العراق في ذلك العهد أثر قوي في ذلك: فالخلق العربي القوي قد وهت أواصره باتصال البدو بالحضر واختلاط العرب يالعجم، والوازع الديني قد ضعف بتغلب الأحزاب وضعف العصبية، والسلطان السياسي يغمض جفنيه ويضحك ملئ شدقيه من هذه المهازل التي يمثلها الشعراء والقبائل بالبصرة. أقول القبائل لأن القبيلة كانت من وراء شاعرها تحتال لانتصاره بالمال والقتال والدعاية، وربما أتى كل رجل منهم بالبيتين والثلاثة فيرفد بها الشاعر كما فعلت تيم في مهاجاة شاعرها عمر بن لجأ لجرير. وكان أحش الهجاء هجاء الفرزدق في جرير، فهو يرمي قومه بضعة النسب، وضعف الحيلة، واتخاذ الغنم، ورعي الإبل، وإتيان الأتن، ويفتن في هذه المعاني افتنانا عجيبا: يرددها في كل قصيدة على صور مختلفة وأساليب شتى، ولا يتحرج أحيانا من افتعال الحوادث المضحكة إمعانا في السخر من المهجو والنيل منه
وهذا غاية ما وصل إليه الهجاؤون وأهل التنادر في عصور الترف والخلاعة. وأدهى من ذلك أن يقذف خصمه بنوع من السباب الدنيء الذي لا يعتقده ولا يصدقه الناس، إنما يعمد إليه مبالغة في التحقير والتشهير على نحو ما يعمل الرعاع في الطبقات الوضيعة، وذلك ما لم نعهده في الهجاء من قبل، إذ كان الشاعر يرى جهة المحاسن في المريء فيمدح، أو جهة المساوئ فيه فيذم، وهو في كلتا الحالتين صادق
وقد يتدلى الفرزدق في الهجاء إلى الدرك الذي لا تسيغه رجولة، فينقض رثاء جرير(118/17)
لامرأته بهجائها المقذع، دون أن يرعى للميت حرمة ولا للمرأة كرامة، كقوله:
كانت منافقة الحياة وموتها ... خزي علانية عليك وعار
فلئن بكيت على الأتان لقد بكى ... جزعا غداة فراقها الأعيار
تبكي على امرأةٍ وعندك مثلها ... قَعساءُ ليس لها عليك خِمار
وليكفينك فقدَ زوجتك التي ... هلكت موقعة الظهور قصار
إن الزيارة في الحياة ولا أرى ... ميتا إذا دخل القبور يُزار
ورأي الفرزدق في المرأة يدل على جفاء طبع وسوء أنفة، وربما دل أيضا على منزلتها في المجتمع العربي في ذلك العهد؛ ولا نستنبط ذلك من قوله في زوجة جرير، فقد يكون للخصومة بعض الأثر في سوئه، وإنما نستنبطه من قوله في زوجته هو حين ماتت:
يقولون زُر حدراء والترب دونها ... وكيف بشيء وصله قد تقطعا
ولست وإن عزت عليَّ بزائر ... ترابا على مرموسه قد تضعضعا
وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء في أصحابه من تقنعا
يقول ابن خنزير بكيْتَ ولم تكن ... على امرأة عيني أخال لتدمعا
وأهون رزء لامرئ غير عاجز ... رزية مرتج الروادف أفرغا
على أن طبيعة المهاجاة مع جرير، وشهوة الغلبة عند العامة، ونفاد المعاني السامية في الهجاء على طول المدة، وبلادة الحس وهوان النفس باعتياد الذم، قد دعت الفرزدق كما دعت جريرا إلى التدرج في الإقذاع والبذاء، حتى خرج شعرهما في النقائض على قوته وجودته عن الحد المألوف بين السفلة. ولكن الفرزدق مع تبذله كان يصيخ أحيانا إلى وازع الدين لتشيعه، فيتوب عن قرض الشعر، ويكف عن هجاء الناس، ويقيد نفسه ليحفظ القرآن ويقول:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني ... لَبَينَ رتاج قائما ومقام
على قسم لا أشتم الدهر مسلما ... ولا خارجا من فيَّ سوء كلام
أو يجيب إلى داعي الشرف لحسبه فيصدر في الهجاء عن طبع أبي ونفس كريمة، فتسمو معانيه وتعف ألفاظه، كقوله في معاوية وقد حبس عنده مالاً لأحد أعمامه بعد وفاته:
أبوك وعمي يا معاويَ أورثا ... تراثاً فيحتاز التراثَ أقاربه(118/18)
فما بال ميراث الحُتاتِ أخذته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهلية ... علمتَ من المرء القليل حلائبه
إلا أن يقول:
وما ولدت بعد النبي وأهلهِ ... كمثليَ حصانُ في الرجال يقاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح ما أزوَّر جانبه
نَمتهُ فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الذي من عبد شمس يخاطبه
أما الطامة الكبرى فهي جرير، لأنه كان مرسل العنان مطلق اللسان لا يعوقه قيد ولا تكبحه شكيمة؛ فلا هو صاحب سياسة كالأخطل، ولا صاحب نحلة كالفرزدق، ولا وارث مجادة كالاثنين، وإنما كان سوقيا ترعية رزقه الله حدة الذهن، ورقة الأسلوب، وخبث اللسان، وزاده الهراش صلابة عود، وغزارة فكر، ومتانة شعر، وسهولة قافية، فبلغ بالهجاء الفردي والقبلي غايته في الإقذاع والإقناع والقوة؛ وربما كان أول من أكره الشعر على قبول الأساليب العامية المبتذلة في الهجاء كذكر العورات، وهتك المحارم، فاضطر خصومه إلى أن يكلموه باصطلاحه، ويقاتلوه بسلاحه، وأصبح بعده الهجاء في العراق لا يفعل في النفوس إلا مشوبا بهذا القذر؛ وما مهاجاة بشار وحماد إلا صورة من هجاء جرير والفرزدق
كان جرير لعاميته وبيئته، وللأسباب التي ذكرناها من قبل في معرض الكلام عن الفرزدق، يصطنع في الهجاء أساليب الدهماء، فيعير الأخطل بالقلف والخنزير والسكر، ويقذف البعيث في أمه وهي أمة سجستانية، ويهاجم الفرزدق في جدته فيتهمها بجبير القين، وفي أخته جعثن فيرميها بابتذال بني منقر إياها على أثر حادثته مع ظمياء بنت طلبة حفيدة قيس بن عاصم، ويشهر بقومه في اخفار عمرو بن جرموز لذمتهم في قتل الزبير، ثم يتسقط عيوبه الصغيرة وهفواته الدنيا، فيجسمها بالمبالغة والتزيد كضربته النابية للرومي، وزيجته القالية من نوار
وكان الفرزدق يذهب في هجائه مذهب الفخر بآبائه، فيعدد أيامهم الظافرة، ويجدد مفاخرهم الغابرة، فلا يستطيع جرير مجاراته في هذا المظمار، فيعمد إلى نقض الفخر الصلف بالسخرية اللذعة والفحش الموجع؛ وإذا أخذ جرير هذا المأخذ لا يقام له. أقرأ على سبيل المثال قصيدة الفرزدق التي مطلعها:(118/19)
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
تجده يقول بعد هذا البيت:
بيتا زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبدا إذا عد الفَعال الأفضل
فيجيبه جرير في نقيضته له:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً ... وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
بيتاً يحممّ قَيْنكم بفنائه ... دنسا مقاعدهُ خبيثَ المدخل
قُتل الزبير وأنت عاقدُ حبوةٍ ... تبَّا لحبوتك التي لم تحلل
وافاك غدرُكَ بالزبير على منىً ... ومَجرُّ جعثِنِكم بذات الحرمل
بات الفرزدق يستجير لنفسه ... وعجان جعثنن كالطريق المُعملِ
ويقول الفرزدق:
حلل الملوك لباسُنا في أهلنا ... والسابغاتِ إلى الوغى نتسرْبلُ
فيجيبه جرير:
لا تذكروا حلل الملوك فأنكم ... بعد الزبير كحائض لم تَغْسل
ويقول الفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ
فارفع بكفك إن أردت بناَءنا ... ثهلانُ ذو الهضبات هل يتحلحل؟
خالي الذي غصب الملوك نفوسهم ... وإليه كان حباء جفنةَ ينقل
إنا لنضرب رأس كل قبيلة ... وأبوك خلفَ أتانه يتقمل
فيجيبه جرير:
كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذَليل يعوذ تحت القرمل
وافخر بضبة إن أمك منهمُ ... ليس ابن ضبة بالمعمم المخول
أبلغ بني وقبانَ إن حلومهم ... خفتْ فلا يزنون حبة خردل
أذري بحلمهمُ الفِياش فأنتمُ ... مثل الفَراش عشين نار المصطلي
ويقول الفرزدق:(118/20)
وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول
ثم يمضي يعدد الشعراء الفحول ويقول:
دفعوا إليَّ كتابهن وصية ... فورثتهن كأنهن الجندل
فيجيبه جرير:
أعددت للشعراء سماً ناقعاً ... فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وصغى البعيث جدعت أنف الأخطل
حسب الفرزدق أن يسب مجاشعاً ... ويعد شعر مرقش ومهلل
فأنت تلاحظ أن جرير يرغب في الطريق السهل، ويطفئ حرارة الجد ببرودة الهزل، ويقابل الكمي الهاجم في سلاحه ولأمته، وهو في ثوب المهرج وبزته وضحكته
ولجرير قدرة بارعة على تتبع الخصم في حياته الخاصة والعامة، فيتسقط أخباره ويتلقط حوادثه، ثم يعلنها في شعره تشهيرا به وفضيحة له:
يتزوج الفرزدق من حدراء بنت زيق بن بسطام على حكم أبيها، فيقول جرير:
يا زيق قد كنت من شيبان في حسب ... يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق
أنكحت ويلك قيناً في استه حمم ... يا زيق ويحك هل بارت بك السوق
يا رب قائلة بعد البناء بها: ... لا الصهر راضٍ ولا ابن القين معشوق
فيقبل أهلها عليه ويقولون له: ماتت، كراهة أن يهتك أعراضهم جرير، فيأبى جرير إلا أن يعلن الحقيقة في قوله:
وأقسم ما ماتت ولكنما التوى ... بحرداء قوم لم يروك لها أهلا
ويعبث الفرزدق في المدينة عبث الشباب، ويعترف بذلك في قوله:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أقتم الريش كاسرهُ
فيقول له جرير:
تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلا والمكرم
ويضرب الرومي في حضرة سليمان بن عبد الملك فينبو عنه سيفه فيقول له جرير:
بسيف أبي روغان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ومثل هذه الأخبار لطرافتها وجدتها تعلق بالنفوس وتسير على الألسنة، كصحف الأحزاب(118/21)
تجعل من حياة خصومها اليومية مادة لجدالها، وموضوعا لنقدها ونضالها؛ وجرير لطول ما تمرس بالهجاء وغامر في الخصومة، لاذع السخرية، فاحش الدعابة، مر التهكم، ومن ذلك كان يتضور الفرزدق ويمتقع لونه كلما وردت المربد قصيدة لجرير. وأي تهكم أمض وآلم من مثل قوله:
يا تْيمُ إن بيوتكم تيمية ... قُعس العماد قصيرة الأطناب
قوم إذا حضر الملوكَ وفودُهم ... نُتفت شواربهم على الأبواب
وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع!
وقوله:
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وقوله:
فخلِّ الفخر يا ابن أبي خليد ... وأدِّ خراج رأسك كل عام
لقد علقت يمينك رأس ثور ... وما علقت يمينك باللجام
(يتبع)
الزيات(118/22)
السنيون والشيعة وموقفهما اليوم
للأستاذ محمد رضا المظفر
أتيح لي أن أتناول (تاريخ القرآن) للأستاذ الزجاني أبي عبد الله، فأقرأ في مقدمته كلمة الأستاذ (أحمد أمين) القيمة في بابها. أقرأها، فيطربني ما فيها من نغمة متواضعة على وتر من إحساس جديد، نعرفه في أستاذ اليوم
ولا أكتم الأستاذ أني رجعت إلى ذكريات اختزنت عنه من قراءتي لفجر الإسلام وضحاه. ما آلم هذه الذكرى! فقد خلقت للأستاذ عندي شخصيتين، تباعدتا على قرب العهد بينهما، وكادت تدفعني يومئذ إلى مقالة أضعها بين يديه في (الرسالة) أوفي غيرها: لا تخرج عن عتاب بريء على كتابيه، وعن تشجيع على كلمته الأخيرة وتأييد لها، وهي التي أطمعتني فيه، لننشد صراط الإصلاح المستقيم، ولكني تلكأت لا لشيء، وما أدري لماذا كان؟ ولعله لصلاح!
ومنذ أيام كان عدد الرسالة الـ (110) في يدي، فقرأت كلمة الأستاذ محمد بك كرد علي، عن تاريخ القرآن ومقدمته، فطابت لي النبرة وجريت عليها حتى تناولت القلم، وهاأنا ذا أحدثك وأنا شيعي أجري مع سنيين في ميدان الإصلاح لحظيرة الوحدة التي أقامها لنا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
شهد الله والنبي الأكرم أن من أثقل الأشياء على قلمي أن يقرن بين كلمتي سني وشيعي: يتقارنان تقارن افتراق، ويتصلان اتصال تنافر، كقطبي المغناطيس المتماثلين، وقد خلفت لهما السياسة الغاشمة هذا التنافر الشائن يوم خلقت، وآن لنا أن نخجل أمام الله ورسوله من استمرارنا على هذا الشنآن بين أعداء تستمر على مطاردتنا وتستغل افتراقنا. وما أجدرنا اليوم أن نضرب على هاتين الكلمتين في قاموس اللغة، فنستريح ونريح، ونعود أمة إسلامية واحدة كما أرادها الرسول، أو كما أرادها الله آمنة مطمئنة خير أمة أخرجت للناس!
يرجو الأستاذ (أحمد أمين) في مقدمته - بعد أن ألمع إلى بعض أسباب الخلاف - (أن يفكر عقلاء الفريقين في سبيل الوئام، ويعملوا على إحياء عوامل الألفة وإماتة الخصام، ويتركوا للعلماء البحث حرا في التاريخ، ويتلقوا النتائج بصدر رحب) ويتابعه الأستاذ (محمد بك(118/23)
كرد علي) فيقول: (ورأي صديقي هو رأي فريق كبير من علماء المسلمين اليوم) ثم ينقل لنا خطاب العلامة شيخ الجامع الأزهر، ويقترح أخيرا أن يكتبوا كتابا في منشأ هذا الخلاف بين السنة والشيعة والطرق العملية لإزالته
وأنا أقترح هذا الاقتراح نفسه على علماء النجف الأشرف عاصمة الشيعة الدينية والعلمية، ونقترح جميعا على الفريقين أن يتفاهموا جميعا قبل كل شيء، ولكن كيف نحقق هذا الاقتراح ونفرضه عليهم فرضا؟ يجب أن نعمل له! فهل نستطيعه ولا نجعله مثار نزاع جديد؟
وأؤكد لك أن نشدان علماء الشيعة هو هذه الوحدة المضاعة، يسعون لها ما سنحت الفرصة، وما عرض لها الزمن، احتفاظا بجامعة الإسلام العليا، وتوحيدا لكلمة المسلمين
في إبان تأسيس الحكم الوطني في العراق (والشيعة أكثرية العراق) نادى علماء النجف بالوحدة عاليا، وغالوا في ذلك إلى أبعد حد، وبذلك استطاعت الأمة العراقية أن تجعل من نفسها شعبا حيا وحكومة صادقة
ولم يكن أبناء الأقطار العربية الأخرى - وخاصة في مصر - يحسون بواجبهم إزاء العراق الفتي المتطلع إلى سحق العهد التركي البالي، فكانت لهجات متتابعة، ووخزات نافذة تلقتها صدور الشيعة من مصر وسوريا، تلح عليها إلحاحا، وتكدر عليها صفو الاتفاق أيما تكدير، وكان من بينها فجر الإسلام وضحاه (وأرجو ألا تخدش هذه الكلمة عواطف الأستاذ مؤلفهما، فإنها الصراحة نريد أن نتبعها) تعززها الأقلام المستأجرة في العراق، وبعبارة أصرح أقلام الاستعمار، بينما العراق في ضرورة ملحة إلى الاتفاق بين سنيه وشيعيه، ليرتقي سلم الاستقلال المنشود
إنما هي واحدة تجب رعايتها اليوم على كل باحث عن الشيعة من إخوانهم السنيين، غفل عنها في فجر الإسلام وغيره. هي واحدة تحل كثيرا من الشغب اليوم
نحن نفهم من كلمة الشيعة إذا قلناها: الإمامية الأثنى عشرية خاصة، لأنهم الأكثرية من بين فرق شتى، وذوو المؤلفات والمعارف التي يقال عنها مؤلفات الشيعة ومعارفها، ولأنهم اليوم شيعة العراق وسوريا وإيران والإمارات العربية على الخليج الفارسي والهند وأفغانستان، وما إلى ذلك، وهناك الزيدية في اليمن والبهرة في الهند. أما الفرق الأخرى التي يعددها(118/24)
مثل الشهرستاني في الملل والنحل وغيره، فقد أصبحت في خبر كان ولا يعرف لها أي أثر في هذه البلاد المترامية الأطراف، إلا بعض فرق لا يسمع لها حسيس في المجتمع الشيعي ولا غيره كالغالية
فإذا طوح القلم بالكاتب اليوم عن الشيعة، وقرأ ما كتبه السلف عنهم، خلط الحابل بالنابل، وألصق عقائد تلك الفرق البائدة بعامة الشيعة، وعلى الأصح بالشيعة بالمعنى المفهوم الآن، فكانوا في نظره مرجئة، وغالية، ومجسمة، ومجبرة، وسبئية، وزركشية، وما إلى ذلك
وهذا ما ينعى على الباحث المتتبع، وهذا ما يثير غضب أولئك الشيعة الأحياء، من غير ما حاجة تدعو الكاتب ولا ضرورة، وما أجدر الكتاب أن ينتبهوا اليوم لهذه الناحية، فلا يثيروا كوامن أحقاد شائنة بذرتها السياسية لأغراضها في زمن بعيد لسنا أبناءه، فلا يصطدم بآراء أفراد - لا فرق - لا نعرف عنهم كثيرا، ولا يصح أن يدخلوا تحت هذا الاسم. وعند ذلك قد نوفق إلى التفاهم فالتقارب حيث تفرضه الاخوة الإسلامية، ويكون بحثنا نزيها يتطلب الحقيقة ليس إلا، ليتلقى الطرفان بصدر رحب - على ما يقوله الأستاذ أحمد أمين - كما يتلقون النتائج في أي بحث علمي وتاريخي، وكما يقع البحث بين علماء الشيعة أنفسهم، وبين مذاهب السنة أنفسها، ما دامت السياسة بعيدة عنه ومادام بعيدا عنها
وإذا لم نستطع أن نصل إلى ما نتمناه من حمل علماء الأزهر وعلماء النجف على هذه الطريقة الحميدة، وعلى هذا العمل المبرور، فأكبر الظن أن من السهل علينا أن لا نذهب بعيدا، فنقترح على (الرسالة) الهادية أن تفتح لنا بين أعمدتها سبيلا للبحث النزيه، وتعززنا بشجاعتها الأدبية، فلا تصغي إلى سخط العامة - إذا ما كان - لنستطيع أن نلقي من أطمار الماضي ما رث وبلى
وفي النجف عندنا جمعية دينية علمية أسست هذا العام باسم (منتدى النشر) تسعى لهذا الواجب وتدعو إليه، (وهي تضم طبقة صالحة من علماء النجف وفضلائها)، وبصفتي كاتبها العام أذيع عنها هذه النية المحمودة، وأذيع عنها استعدادها للعمل في هذا السبيل. ولقد كان لما كتبه الأستاذان (أحمد أمين) و (محمد بك كرد علي) الوقع الجميل في نفوس أفرادها، ورحبوا بهذا التفكير العالي الكبير
وفي مصر (لجنة التأليف والترجمة والنشر) الموقرة، ففي استطاعة الجمعيتين أن يقفا في(118/25)
ملتقى الطريقين، ليأخذا بأيدي الباحثين إلى الحد المعقول، ويتلقيا النتائج للعمل عليها ونشرها في بلاد الله، كما نريد أن نقترحه على علماء الأزهر والنجف
ندعو إلى هذا عقلاء قومنا ليضعوا حد لهذه المهازل، وليقاروا على خطة واحدة لحل الخلاف. وعندي أن يسدل حجاب كثيف على الماضي البعيد، فيما يعود إلى الحوادث التاريخية التي لا تمس حياتنا العملية اليوم، فينحصر البحث في نقطة عملية لا غنى لنا عنها
كل ما عند الشيعة أنها تتمسك بعترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم سفينة النجاة، ولكن ليس كعقيدة وموالاة فحسب، فإن هذه عقيدة كل مسلم اعتنق دين الإسلام مصدقا لما جاء به النبي (ص)؛ وإنما تعني من التمسك بهم أن تأخذ بأقوالهم في أحكام الفقه وترجع إليهم في دين الإسلام، ولا تعرف للتمسك بهم معنى غير هذا، وتدلل على أن ما جاء به النبي ورثوه عنه، وعلمه مكنوز عندهم وهم أمناء عليه معصومون، لا كسائر الرواة عنه وعنهم، يروون الأحاديث كنقال يخطئون في النقل ويصيبون، ويصدقون ويكذبون
وبهذا بعدت الشقة العملية بينهم وبين إخوانهم أهل السنة، وكثر الخلاف في الفروع الفقهية؛ فكان وضوء السنة وكان وضوء الشيعة، وكانت صلاة السنة وكانت صلاة الشيعة، وكان وكان
فان استطعنا أن نتفق ونحل هذا اللغز بيننا حلا مرضيا، فقد وفقنا إلى كل شيء، واستطعنا أن نوجه جبهة الإسلام، كما يشاء لنا ديننا دين القيمة، وما هذا على الرجال المخلصين بعزيز
النجف الأشرف
محمد رضا المظفر
كاتب (منتدى النشر) العام(118/26)
النقد والمثال
لغة الشعر
للأستاذ أحمد الزين
من أهم ما تتفاوت به منازل الشعراء، وتتمايز درجاتهم في الشعر، وتتفاضل به أذواقهم الفنية في أداء المعنى وبلوغ الغرض، ويختبر به مدى ثقافاتهم البيانية، ويعرف منه مقدار مطالعاتهم الأدبية، ونفوذ كل منهم إلى حر الكلام وخالصه، وارتوائه من صفو البيان وصريحه، وحفظه لأحسن ما قرأ، وحسن استعماله أحسن ما حفظ من الكلمات والعبارات، هو ذلك الثوب البياني الذي يلبسه الشعراء معانيهم، وتلك الصورة اللفظية التي يبرزون فيها أغراضهم، فبحسب ما يكون ذلك الثوب مقدرا على المعنى، محيطا بأطرافه، مقيسا على أجزائه، وتكون تلك الصورة اللفظية مظهرة للغرض، مبرزة لخفايا المعنى، مصورة لدقائق الفكرة، وما يودعه الشاعر بفنه في تلك الصورة من الحياة والسحر، وما يترقرق في الكلمات والعبارات من ماء الجمال، ورونق الحسن، وطلاوة المنطق، أقول: بحسب ذلك كله يكون أثر الشاعر في القلوب، وسلطان شعره على قرائه، ومنزلته في الفن بين نظرائه. وليس المراد بتحسين الألفاظ وتجميل العبارات هو مجرد جريانها على قواعد اللغة، وموافقتها لنصوص المعجمات، فليس كل ما تبيحه اللغة وقواعدها يباح في الشعر استعماله، ويسوغ للشعراء التعبير به، إذ الشاعر إنما يقصد في شعره إلى الروعة والجمال وعدم الابتذال أكثر من قصده إلى مجرد جواز الاستعمال. وقد سبق أن أوضحت ذلك في بعض الفصول التي كتبتها من زمن بعيد فقلت ما نصه: إنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق أدبي دقيق أن للشعر لغة خاصة يتميز بها عن غيره، إذا فقدها لا يسمى شعرا بل يسمى كلاما عروضيا، أي أنه يشبه الشعر في وزنه وقافيته، دون ألفاظه ولغته، كما أن لكل من الكتابة والخطابة ألفاظا خاصة يتميز بها كل منهما عن صاحبه، ويتميزان بها عن الشعر؛ والفروق الدقيقة بين ألفاظ هذه الصناعات الثلاث وعباراتها لا يدركها إلا من له ذوق صحيح وملكة فنية في إحدى هذه الصناعات أو في جميعها. وقد كان بعض النقاد في العصور الأولى يسمع الشعر الجيد فيفطن بجودة حسه إلى ما فيه من ألفاظ غير شعرية، فيحكم بأنه شعر شاعر أو شعر كاتب؛ وكتب الأدب ملأى بهذه الطرائف. وقد فطن علماء الأدب المتقدمون(118/27)
إلى هذه الفروق فأفردوا ألفاظ الكتاب وعباراتهم بمعجمات خاصة، منها كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، وجواهر الألفاظ لأبي الفرج قدامة بن جعفر وغيرهما؛ وفي كتاب زهر الآداب للقيرواني فصول كثيرة خاصة بألفاظ الكتاب وعباراتهم في كل غرض من أغراض الكتاب والمنشئين في ذلك العهد. ولم أجد من العلماء فيما راجعت من أفراد ألفاظ الشعر والخطابة بمعجم خاص، وذلك يرجع فيما أظن إلى أن ألفاظ كل صناعة من هذه الصناعات الثلاث لا تتيسر معرفتها معرفة صحيحة إلا لأهلها المشتغلين بها، والمتوفرين عليها، بل فحولها المبرزين، وأعلامها المتميزين، لا لكل من أشتغل بها، فلا يمكن الكتاب أن يدركوا من أسرار لغة الشعر والخطابة ما يدرك الشعراء والخطباء أنفسهم منها، وكذلك الشعراء لا يدركون من دقائق ألفاظ الكتابة وألفاظ الخطابة ما يدركه الكتاب والخطباء أنفسهم من ذلك. وإذن فلا يستطيع تدوين لغة الشعر ولغة الخطابة غير الشعراء والخطباء أنفسهم؛ ولما كان أكثر الشعراء والخطباء لا يعنون بتأليف الكتب وتصنيف الرسائل عناية الكتاب بذلك لقلة حذقهم بصناعة التأليف فقدت المكتبة اللغوية العربية قسمين عظيمين من هذا النوع الطريف المفيد من المعجمات
وإنك لتجد فقدان اللغة الشعرية في شعر كثير من شعراء عصرنا ممن لا يرون للبيان اللفظي أية قيمة في الشعر، ويرون المعاني هي كل شيء، ولو أديت بأسوأ لفظ وأضعف بيان
وقد سبق في بعض الفصول أن ذكرت للقراء قول بعضهم في حسن النظم والصياغة اللفظية ما نصه: إنه كمال أدنى إلى النقص، وإحسان أقرب إلى الإساءة. وقول الآخر في حسن الصياغة اللفظية أيضا: لقد انقضى عهد الثرثرة والصياغة اللفظية ولن يكون الشعر الجديد شرابا يسقى بالملعقة في غير جهد لمتناوله! فتراه يسمي حسن البيان والصياغة اللفظية ثرثرة، ويقول: أن عهد ذلك قد انقضى! كبرت كلمة يقولها هذان الكاتبان وأمثالهما، إن يقولون إلا خطأ يمليه العجز والغرض
والغريب أن نسمع ذلك في عصر يتعاون فيه الأدباء والعلماء والمفكرون مع أولي الأمر في جميع الأقطار العربية على ترقية اللغة ونشر الثقافة البيانية بإنشاء المجامع اللغوية، وطبع أمهات الكتب الأدبية، ودواوين فحول الشعراء المتقدمين(118/28)
فلا أدري بعد ذلك أي الأمرين أحق بأن ينقضي عهده، ويمحى أثره، هل هو التكلف والإبهام والتعقيد المحير للإفهام، أو هو البيان المشرق، والأسلوب المستقيم السمح، والصياغة الصافية الواضحة؟
أحمد الزين(118/29)
العامية والعربية
ألفاظ صحيحة فلماذا لا تستعمل؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يتوهم كثيرون من الناس أن اللغة العامية ليست من العربية في شيء، ولهذا يحرصون، حين يكتبون، على الفرار من ألفاظها، ويذهبون يتكلفون، فتكون النتيجة الأغراب والمباعدة ما بين الكاتب والقارئ؛ ومن أجل هذا استفاض الاعتقاد بأن لغة الكتابة غير طبيعية، ومن هنا ظهرت الدعوة إلى اتخاذ العامية في الكتابة، ليفهم الناس بغير مشقة، ولو أن العامية درست لما كان لهذا كله محل، وقد سمعت أن المرحوم أحمد تيمور باشا وضع معجما للغة العامية ردها فيه إلى أصولها العربية، ولكنه لم ينشر، ولا علم لي بما كان من أمره
وقد عثرت في مطالعاتي على مئات ومئات من الألفاظ العربية يستعملها العامة وإن كانوا يحرفونها قليلا في النطق، وسأورد في هذا الفصل طائفة منها بلا ترتيب على سبيل التمثيل ليرى القراء أن اللغة العامية جديرة بالعناية، وأن اتقاء ألفاظها كلها خطأ، أو جهل، وقد جريت فيما أكتب، على استعمال الصحيح من الألفاظ العامية، واكتفيت بذلك ولكني أرى الآن أن التنبيه واجب، مخافة أن يعتقد بعض القراء أن هذا مني عن خطأ لا عن عمد
فمن ألفاظ الطعام وما إليه:
الدُّقة - الملح مع ما خلط به من الأبزار أو الملح المدقوق
العُجة - الدقيق المعجون بالسمن ثم يشوى أو يقلى، والعامة على عجة البيض
الكباب - اللحم المشرح
الوجبة - الأكلة
السُّفرة - المائدة
القصعة - الجفنة
السُّخام - السواد الذي يكون على آنية الطبخ من فعل النار
الطاجن - إناء من خزف، يقلى فيه الطعام
العصيدة - طعام معروف في مصر، من دقيق وسمن
البرمة - والبرام - قدر وهو مشهور(118/30)
عقد السكر - طبخه حتى ثخن
الشريحة - اللحمة المرققة
الهبرة - من اللحم البضعة لا عظم فيها، وهبر اللحم اقتطع منه قطعة كبيرة
التسميط - في رأس الخروف وغيره، كشط الشعر عن الجلد لطبخه في الماء
اللَّهوَجةُ - لهوجت الطعام لم أنضجه، والعامة تستعمل اللفظ مجازيا
شاط الطعام وشاطت آنية الطبخ، احترق
سغسغت الطعام أوسعته دسما وأكثرت من السمن فيه
سلق اللحم - طبخه في الماء
طبخ ومشتقاته معروفة
وهذه كلها ألفاظ عربية، يستعملها أعرق الناس في العامية.
ومن قبيلها أيضا في غير هذا الباب:
الحلوان - ما تجعله للرجل من الأجر على عمل يؤديه لك
الممصوصة - الفتاة المهزولة
الزغزغة - الدغدغة
الزّعر - قلة الشعر، فهو أزعر، ويستعمل للذيل عند العوام
صوفة القفا - الشعر السائل في نقرته
الشعر المفلفل - إذا كان شديد الجعودة
المدرك - الغلام بعد الاحتلام
فروة الرأس - الجلدة
لبد شعره - ألزقه بشيء
تكرش الوجه - تقبض جلده
العمش - ضعف البصر، والرجل أعمش
عظمة اللسان - ما فوق أصله
الحنك - سقف أعلى الفم
الورك كالورك - معروف(118/31)
الحق - مغرز رأس الفخذ في الورك
الركبة - ملتقى الساق والفخذ
تشيطن الرجل - فعل فعل الشيطان
الديوث - الذي يغضي على ما يرى من هنات أهله
الدردبة - الجري الذي فيه دب
الموالسة - المخادعة
المذاع - الكذاب، والعامة تستعملها بالزاي
البرطمة - كلام الغضبان
البرجمة - غلظ الكلام
الدندنة - الكلام أو الغناء بصوت خفيض
الدبدبة - صوت كوقع الحوافر على الصلب من الأرض
الطقطقة - الاسم من طق، حكاية لصوت الحجر
بجم - سكت من عيّ أو فزع أو هيبة
فَرشح الرجل - أصله أن يثب وثبا متقاربا، وصار يستعمل للمباعدة بين الساقين
نَهَجَ - تتابع نفسه من الإعياء والتعب
السكة - الطريق
اكتن الرجل - صار في كُن
تربع - جمع قدميه في جلوسه ووضع إحداهما تحت الأخرى
السلفتان - امرأتان تتزوجان أخوين
تفرعن - صار ذا فرعنة، أي نكر
جهاز العروس - ما تحتاج إليه في زواجها
العزبة - التي لا زوج لها
سبَّع - أقام سبعا
الخيش - نسيج خيوطه غلاظ، ويكون من مشاقة الكتان، والمشاقة أيضا صحيحة
تلفع - بمعنى تلحف، والتفع أيضا، والعامة تستعمله على حقيقته وعلى المجاز(118/32)
العباية - كالعبائة تماما
الاذة - تكون من الحرير، والعامة تستعملها للقطعة من الحرير يلفونها على الرأس
الكنار - للثوب شقة منه تكون في طرفه
القطيفة - هي المخمل
الملاءة والملاية - الربطة التي تستتر بها المرأة في خروجها
البرنس - ما يلبسه المرء بعد الاستحمام
الفوطة - وجمعها فوط، معروفة
المنديل - معروف أيضا
الطرطور - القلنسوة الطويلة
التكَّة - رباط السراويل، وجمعها تِكك
قوَّر القميص - جعل له جيبا
الدرابزين - للسلم، معروف
البطانة - للثوب خلاف الظهارة
الخياطة - للثياب
الشَّكٌّ - الخياطة الخفيفة، في أول الأمر
كفَّ الثوب - خاط حاشيته
الكُفَّة - ما استدار حول الذيل
ثوب مهندم - مظبوط
الهدم، والجمع هدوم - الأكسية
دَعَك الثوب - ألان خشونته، والعامة تستعمله على المجاز
السخْتيان - جلد الماعز
القبقاب - نعل من خشب، والعامة تضم أوله
الصندل والصندلة - شبه حذاء، والفعل تصندل
الشيء المسيخ - الذي لا حقيقة لطعمه
الفطور - ما يفطر عليه المرء في العادة أو بعد الصيام(118/33)
القرن - ناحية الهامة
المفرطح - العريض
السِّقط - الولد يوضع لغير تمام
الطلق - وجع الولادة
الأجرد - الذي لا شعر عليه، والعامة تقول الأجرود
نَسَل الشعر والصوف والريش وغيره - سقط
البعبعة - تتابع الكلام في عجلة وبصوت أجش
الصُفارة - كالزمارة
كركر - وقرقر - رفع صوته بالضحك
هأهأ - قهقه
وهناك آلاف من الألفاظ أهملتها لأنه لا خلاف على صحتها، مثل، المرود، والمكحلة، والمشط، والضفيرة، واللحاف، والزر، والعروة، والكم، والإبرة الخ الخ، وقد أهملت هذا الضرب لأني أردت أن أسوق الألفاظ التي يتوهم الناس أنها غير عربية وسأورد طائفة أخرى في فصل غير هذا. ولو عني رجال المجمع الملكي للغة العربية بمثل هذا البحث لأراحوا أنفسهم من عناء شديد يكابدونه، ولكان هذا أولى مما يعالجونه من النحت وما إليه وليسروا الأمر على الناس.
إبراهيم عبد القادر المازني(118/34)
في بلاد اليونان
قدر
للأديب أحمد الطاهر
وقفنا خاشعين صامتين مطرقين، وأنصتنا إلى الكاهن يتكلم في وناء وتؤدة ووقار: يقص علينا من التاريخ قصصا. وما كنا نفهم من يونانيته ونحن مصريون شيئا، ولكن ظلمة المكان، ورهبة المعبد، وخشوع السامعين من أهل اليونان، وصوت الكاهن يرن تحت هذه القبة العتيقة، كل ذلك قد استولى علينا فأنصتنا كالسامعين وأطرقنا كالفاهمين، وتتبعنا حديثه كما لو كان يتكلم بلسان عربي مبين
وانتهى الكاهن من قصصه وصافحناه، وشكرنا له فضله وخرجنا وعلى وجوه اليونانيين بما سمعوا من الكاهن آثار مقروءة من السرور والألم، والرضا والسخط، والفخار والحسرة، مجتمع بعضها إلى بعض
قلت لصاحبي اليوناني المتمصر: (عجل فأنني جدا مشتاق إلى فهم حديث الكاهن، وما أحسبه إلا لذيذا ممتعا) قال: (إنه حقا لذيذ ممتع، وسأقصه عليك كما سمعته من فمه. (وسكت برهة كأنما يستجمع ذكريات، ثم قال: (أنظر إلى هذه الشجرة العتيقة القائمة في فناء الدير!) فنظرت إليها وقلت: (ليست إلا شجرة عتيقة قائمة في فناء الدير!) قال: إنها صفحة من صفحات التاريخ قرأها لنا الكاهن، وقرأ لنا صفحات أخرى منها دير آخر يسمى ميفاسبليون ممرنا عليه في طريقنا من أثينا إلى دير أجيالافرا الذي نحن فيه. ولا تنس قبل أن أقص عليك الحديث أننا على قمة جبل رفع هامته في الفضاء ألف متر، ثم استقر ثم اكتسى رداء أخضر من شجر الصنوبر، وطاول به جبال سويسرا وازدهى به من بين بقاع العالم التي خلعت عليها الطبيعة جمالها. واعلم أن هذا المكان. . .) قلت: (يا صاحبي! حنانيك لا تطل علي ولا تباعد بيني وبين الحديث فما طلبت وصف ما رأيت وما رأيت، وأنا وأنت مهما حاولنا وصف المكان فلن نجعل له من ألفاظنا صورة تصلح لأن تدنو من حقيقته، وحسبي وحسبك أننا متفقان على أن الله قد خلق هذا المكان فيما خلق فأبدع خلقه، وصوره فيما صور فأحسن تصويره، وجعل في الناس صدق النظر وحسن التمييز فتراموا عليه من كل حدب وصوب ينعمون بجماله ويسبحون بحمد خالقه) قال: (ولكنك لا تفهم(118/35)
كلام الكاهن ولا تتذوق حديثه إلا بعد مقدمتي الطويلة فأصبر على ما لم تحط به خبرا. . . إن هذا المكان لم يكن الوصول إليه في الزمن السالف يسيرا كما هو الآن: فهذه الجبال التي يزحف عليها قطار السكة الحديدية جاهدا كالأسير يرسف في الأغلال، ولا يصل إلى عليائها إلا بأمراس من حديد وأسنان كأسنان المشط ترفده كلما ارتفع، وتصده كلما ارتد أو هم أن يقع، هذه الجبال لم يكن من السهل أن يرقى إليها الإنسان، ولا أن يخترق جوفها كما يفعل الآن، ولا أن تطأ هاماتها الأقدام، ولا أن تفسد جمالها هذه المدينة القائمة على الحديد والنار، ولا أن يعكر صمتها ويغض من جلالها صخب الناس في الليل والنهار. ولذلك اتخذها الرهبان مثابة، ولجأوا إليها يتعبدون، وما أحسب الجبال قد برمت بهم وقد وجدت بينها وبينهم صلة وشيجة من الصمت والوقار والرهبة والتنزه عن هوان المدنية، إذا علمت هذا فأعلم أن الجبال والرهبان قد أنس بعضهم ببعض وقطعت الطبيعة ما بينهم وبين سائر الخلق من أسباب، واتخذ بعضهم اجيالافرا التي نحن فيها مثابة ومتعبدا، أقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة التي سمعت فيها حديث الكاهن، واتخذ بعضهم ميفاسبليون التي مررنا بها مثابة ومتعبدا آخرين وأقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة؛ وسكن الرهبان إلى الجبل، وسكن الجبل إلى الرهبان
ولكن ظلم الإنسان للإنسان لا تنقطع أسبابه، ولا تنسد أبوابه، ففي عام 1821 الذي بدأ الكاهن منه حديثه كان أهل اليونان قد أضناهم الضيق، وأعيتهم الحيل، وأمضهم الظلم، مما يلقون من عسف الترك وحكمهم الجائر. ففي غسق الليل مشى رؤساء القبائل وكبار الرهبان بعضهم إلى بعض يهمسون بالثورة والتمرد، وما كانوا ليستطيعوا إعلان الثورة أو الاصحار بالتمرد، بل ما كانوا ليستطيعوا أن يعلنوا ما دون الثورة والتمرد مما يسمى شكوى أو رجاء أو استرحاما أو ما دون ذلك من ألفاظ الذلة والهوان. ولقيت الدعوة الخافتة من النفوس استعدادا. واجتمعوا تحت ستار العبادة في هذا المكان ليدبروا أمرا: قال الأحبار: (نحن قادة الثورة وحاملو لوائها باسم الأمة واسم الدين.) وقالت العشائر: (آمين!) وقال كل حبر من الأحبار: (أنا قائد القواد ولوائي هذا هو اللواء الأعظم بمالي من المكانة بين الحاضرين)، فدبت بينهم الشحناء وانقسموا شيعا بعضهم لبعض عدو
ثم خرج إليهم كاهن هذا الدير وفي يده لواء واحد وقال: (لا لواء إلا هذا اللواء الأعظم:(118/36)
عليه صورة المسيح، أتجدون خيرا منه تستظلون بظله وترتدون إلى فيئه؟) قالوا: (إنا معك وإنا لك لأجناد مخلصون) وانضموا إليه خاضعين يستظلون بلوائه الكنسي، وهذا هو اللواء الذي كان الكاهن يشير إليه وهو يحدثنا، وهذا النصب الذي تقيمه الحكومة اليوم إنما يقام تمجيدا لهذا المكان وتخليدا لهذه الذكرى؛ فهنا اشتعلت نار الثورة الأولى، وهنا اتحدت القبائل والأحبار، وهنا وضع أساس استقلال البلاد، وجاهد القوم أعواما ذاقوا فيها حلاوة النصر ومرارة الخذلان حتى استنجدت الدولة العثمانية ببطل مصر إبراهيم باشا؛ وما هي إلا أيام حتى بدا القائد العظيم من فوق هذه الجبال، ثم انصب على هذا الدير ووقف بجواده تحت ظل هذه الشجرة العتيقة، وقد انتشرت جيوشه على الجبال في سفحها وعلى قممها وفي وديانها، وأحاطوا بالمكان إحاطة السوار بالمعصم. قال إبراهيم باشا: (احرقوا هذه البيعة حتى يخضع من فيها من الثوار) فحرقوها وخضع من فيها من الثوار، وارتد ميمما البيعة التي في ميفاسبليون، وكأنه عز عليه أن يمضي في حرق البيع والأديرة، فأرسل إلى رهبانها كتابا قال فيه: (إما أن تخضعوا أو أحرق بيعتكم كما أحرقت بيعة اجيالافرا) واجتمع الأحبار يتشاورون، ثم دفعوا إليه بكتاب يقولون فيه: (إنك إذا حاربتنا ثم انتصرت علينا فما في النصر ما يدعوا إلى الزهو والفخار، فما انتصرت إلا على بضعة نفر من الرهبان والأحبار، وأنت ذو حول وقوة بما جمعت من جيوش جرارة، وخيل كرارة، وأسلحة ممشوقة، ودروع محبوكة، وأما نحن فعددنا خفيف، وشأننا ضعيف، ليس بأيدينا من سلاح إلا هذه المسابح نسبح الله عليها في همس ووناء، وليس على أجسامنا إلا هذه المسوح السوداء، نحمي بها أجسامنا من قر الشتاء، ولا مركب لنا في هذه الجبال إلا أقدامنا الكليلة أو بغالنا الهزيلة، وإن قدر لنا أن ننتصر عليك، ونحن على ما ترى من ضعف وهوان، فما أشده من عار، وما أمره من انكسار، فتدبر أمرك وأمرنا، واقض بالرأي الأصيل)
قرأ إبراهيم خطاب الأحبار فاستشاط غضبا وأمر بالجزيرة أن تحرق كلها بما وسعت. وأشعل الجند فيها النار، والنار إذا امتدت في هذه الجبال وغابتها لا تبقي على شيء بعدها ولا يصدها شيء. إلا أن يرسل الله من السماء أمطارا، أو يجري الوديان أنهارا. واحترقت الجزيرة وكل ما في الجزيرة: إلا هذه الدير الذي يسكنه هؤلاء الأحبار، فما امتدت إليه(118/37)
شرارة من نار، وبقي معتصما بمكانه العالي، يهزأ من فعل النار ولا يبالي! وقال الناس: (حقا تلك إحدى المعجزات!)، مضى على هذا الحادث مائة سنة وعشر سنين حتى كان عام 1934، وإذا بالدير وبيعته تندلع منهما النار، لا يعرف لها سببا، ولا يصد لها لهب، وأصبح الناس فما وجدوا إلا هشيما تذروه الرياح. وفزعوا يحاولون إنقاذ بعض ما حوى الدير من تحف ونفائس فأنقذوا شيئا قليلا. وبحثوا عن كتاب إبراهيم إلى الأحبار وصورة كتاب الأحبار إلى إبراهيم فإذا النار لم تبق على واحد منهما. وماذا تغني كتب القواد والأحبار، إذا حم القضاء واشتعلت النار؟ أليس حديث الراهب لذيذا وعجيبا؟)
قلت: (وأعجب ما فيه هذه النار: أشعلها بالأمس إبراهيم فكانت على الدير بردا وسلاما، وأشعلها اليوم القدر فتركته حطاما.)
اليوزباشي أحمد الطاهر(118/38)
في الأدب الإنجليزي
2 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
يجب علينا لفهم هذه الروح في شعر شكسبير أن نطلع على الحالة العقلية التي كانت تسود عصره والعصور التي سبقته. قال كلارك: (لقد كان هناك عدد عظيم من الملحدين والمشككين وجدوا في عصر كان بمثابة الخطوة الأولى في ترقية العلوم المعروفة لدينا الآن. فقد كان تلاميذ كوبرنيكس الفلكي يتساءلون ويتجادلون في كل ما عرف من النظريات الفلكية من قبل، وكان هناك نفر آخر من الكيميائيين دحضوا حجج مدعي الكيمياء القدماء، ولكن النضال لم يكن مقتصرا على جماعة المجددين فحسب، بل وجد هناك نفر آخر من القدماء المقلدين الذين كانت أقصى غايتهم مقاومة هذا التيار الجارف. وإن من الغرابة أن نجد الملكة اليصابات تستشير المنجمين والدجالين في تعين الوقت المناسب للاحتفال بتتويجها ملكة على إنكلترا)
ومن حسن حظ العلم قيام عدد من المفكرين أثبتوا فساد كثير من النظريات القديمة المألوفة فبزغ نجم رينولد سكوت لما هاجم عددا من العقائد الدينية المألوفة، ولم يقتصر هذا التجدد على المفكرين من رجال العلم بل تعداه إلى رجال الكنيسة أنفسهم فظهر هناك من رجال الكهنوت عدد حاول إصلاح الديانة مما طرأ عليها من الخرافات والأباطيل
أما الخرافات فكانت تسيطر على جميع مناحي الحياة في ذلك العصر. فكان السحر بطرقه المختلفة مهنة تمتهنها النساء اللواتي كانت تغلب عليهن صفة الذبول والكبر وبشاعة المنظر. وكان معظم هؤلاء النسوة من الشريرات القذرات ممن كان أقصى غايتهن إيقاع الضرر وبذر المساوئ في المجتمع البشري. غير أنه وجد في نفس العصر بعض ساحرات كان همهن شفاء المرضى والقيام بخدمات حسنة للمحتاجين والمهددين بالأخطار
قام الناس على اختلاف طبقاتهم يناوئون السحر والسحرة فهاجموا الساحرات في عقر دورهن وكانوا يأخذونهن راسفات في الأغلال إلى السجون حيث ينتظرن محاكمتهن أمام(118/39)
مجلس من القضاة الذين كرهوا السحر وما يأتي به أمثال هؤلاء الشريرات من موبقات وآثام. فكانوا يعذبونهن بأشد أنواع العذاب. فمنهن من ربطن إلى جذ الأشجار حيث ذقن الموت جوعا، ومنهن من كان يطلب إليهن إعادة الصلوات قبل إلقائهن في النار المضطرمة
وكان من السائد على أهل ذلك العصر أن ينظروا إلى السحرة كأنهم على اتصال بالشيطان. قال كلارك في كتابه: (أن من أبغض الأمور التي كان يتعاطاها السحرة في عصر اليصابات وما قبله ذلك النوع من السحر الذي كان يعرف بالعين الشريرة فكان من جملة معتقداتهم أن في استطاعة الساحرة أن توقع الضرر أو تميت الناس بمجرد إلقائها عليهم نظرة من نظراتها النارية؛ فكان العمل الذي كان يعتبر من أشد أنواع السحر ضررا هو بمثابة الحجر الأساسي في بناء علم التنويم المغناطيسي المعروف لدينا الآن)
وكان هناك نوع آخر من السحرة أقل ضررا وخطرا، ذلكم هو نوع العرافين أو المنجمين الذين كان الناس يقصدونهم كما يقصدون قارئي الكف في يومنا هذا. فكانوا يوهمون قاصديهم باتصالهم بالسماء والعالم العلوي فيقرأون المستقبل في الماء والهواء، في النار والدخان. وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى استشارة أرواح الأموات أو تأويل صياح الديكة في تفسير ما يرونه من حقائق وأحلام
أما العفاريت فكان الناس يؤمنون بوجودهم الإيمان كله، وما هم إلا بقايا الأشخاص الخرافيين الذين عاشوا في عصر من العصور السالفة وأصبح في استطاعتهم بعد ذلك أن يهيمنوا على الإنسان فيحولوا أعماله حسبما يريدون وأنى يشاءون. نعم كان هذا الاعتقاد سائدا لدرجة أن أصبحت الكنيسة تعلم أبناءها أن لكل رجل في هذا العالم رفيقا من عالم آخر يحميه ويقيه غائلة الشر
وكان هنالك نوع آخر من الخرافة هو عالم الأشباح والخيالات. فما الشبح إلا روح غادرت جسدها المائت وانتقلت من عالم الأموات إلى عالمنا هذا ترفرف في الفضاء لتحقيق غاية من الغايات شريرة كالانتقام والقتل، أو خيرة كحماية البشر وصد الآلام عنهم. أشباح مرئية وأشباح غير مرئية محلقة بأجنحتها في الفضاء فتملأ العالم خيالات لا يحصر عددها ولا يعرف مقدارها(118/40)
عصر كله خرافات تتسلط على عقول أبنائه الأوهام، ذلكم هو عصر اليصابات الذي يصفه كلارك بقوله: (على الرغم أن ذلك العصر كان عصر بداءة وتمهيد للعلوم المعروفة لدينا الآن، إلا أن معرفة الحقيقة والطبيعة لم تكن متقدمة للدرجة التي يستطاع بواسطتها القضاء على الخرافات السائدة؛ فكان الناس يؤمنون بالسحرة والدجالين، بالفلكين والمنجمين، بالحوريات والجنيات، بالرقي والعزائم، بالأحلام والاتصال بالأرواح. هذا الاعتقاد السائد كان أكبر عامل في وجود هذه العوالم في روايات المؤلفين الذين لم يستطيعوا بأي حال من الأحوال أن يخرجوا عن محيطهم وبيئتهم)
شكسبير والعقائد العامة:
شأن الشاعر أن يدون شعره كل ما كان معروفا في عصره من العقائد العامة، وهكذا كانت حال شاعرنا شكسبير، فقد عرف تمام المعرفة أن الخرافات القديمة كانت مواضع خلابة استعملها شعراء الإغريق والرومان في صوغ عبارتهم وتفسير معانيهم ودقائقهم. ولم تكد العصور القديمة تنطوي في عالم السجلات والتاريخ حتى ظهر هناك عالم خرافي جديد كان في حد ذاته خليفة للعصور التي سبقته، ذلك العصر هو عصر القرون الوسطى التي لم يستطع الشعراء الاستغناء عن خرافتهم في لغتهم بما نقله السلف عمن سبقهم
ومما لا شك فيه أن شاعرنا قد تأثر بعدد غير قليل من العوامل: كالجنس والمحيط والبيئة، فكان أفراد جنسه (يعتقدون أن كل ما هو غير مرئي حقيقة لا شك فيها ولا نقض)، ولم تكن الخرافات في عصره قد حوول مهاجمتها محاولة صادقة. نعم كان الإصلاح الديني أخذ في الانتشار في البلاد الإنكليزية إلا أنه كان مقصورا على المدن. أما القرى فلم تكن قد تأثرت بهذا الإصلاح أي تأثير
عاش شكسبير في عصر اضطربت فيه العقائد وتضاربت فيه الآراء، فاعتقد بعض الرجال المتعلمين اعتقادات كانت بعيدة كل البعد عن عقول غيرهم من الناس؛ وإن من حسن الحظ أن شكسبير يحاول في بعض رواياته أن يظهر لقارئيه عقائده وآراءه الشخصية. فهو يعتقد في الخرافات، ولكنه يتساءل عن أصلها وكيفية ظهورها، فهو يقول على لسان الأمير هملت:
(هل من الممكن أن نحسب ذلك الشخص الذي يقضي أوقاته كلها في الأكل والنوم رجلا؟(118/41)
كلا إنه لا يتعدى أن يكون حيوانا فقط. إن من المؤكد أن ذلك الإله الذي وضع فينا قوة المجادلة والتمييز بين ما نعمله وما لا نعمله لم يضع فينا هذه المقدرة لنتركها دون أي استعمال أو ممارسة، أما الآن فسيان عندي إن كان هذا الفكر مجرد وهم أو غموض سماوي. فالفكر لا يحوي في حد ذاته إلا جزاءا من أربعة من الحكم والصواب، بينما أجزاؤه الثلاثة الأخرى لا تخرج عن كونها من عوامل الجبن والخوف، فلا يمكنني الجزم فيما إذا كنت قد خلقت لأقول مجرد القول في أن هذه الأمور يجب علي أن أعملها، في حين أني قد أوتيت القوة والإرادة والحق في عملها والقيام بها)
إن من الصعب على الشاعر أن يستطيع البحث في موضوع سماوي بطريقة جدية ترتكز على تفكر وبحث عميقين دون أن يكون له أدنى اعتقاد في هذه الأمور التي يبحث فيها؛ وبنظرة عميقة لروايات شكسبير يمكنك أن تحصل على نتيجة لبحثه في مثل هذه المسائل. وقد قال روف في كتابه (شكسبير وعقيدته في الأشباح): (لم يستطع شكسبير أن يجعل أشخاص رواياته ينطقون عن عقائده، ولكنه استطاع أن يظهرها في رواياته)
(يتبع)
خيري حماد(118/42)
4 - الدكتور محمد إقبال
اكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر
لأبي نصر أحمد الحسيني الهندي
فلسفته
إن كل شيء في هذا العالم متصف بالفردية، حتى الحياة أيضا لا تخلو من ذلك؛ ولا وجود في الخارج للحياة الكلية التي ينشدها بعض المذاهب الفلسفية والصوفية، فالله أيضا فرد واحد ليس كمثله شيء؛ وأما الكائنات فهي عبارة عن مجموعة الأفراد، ولكن النظام، والنسق، والتوافق والتطابق الموجودة فيها ليست بنفسها كاملة. ومهما كانت فهي نتيجة سعي الأفراد الغريزي، وعلى هذا فنحن نتقدم بالتدريج من الفوضى إلى النظام، ومن النقص إلى الكمال. وعدد أفراد هذه المجموعة غير محدود ولا معين، فانه يزداد كل يوم ويتضاعف. فالأفراد الحديثو الولادة يشاركوننا بدورهم ويساعدوننا للبلوغ إلى هذه الغاية العظمى - الكمال، ولذلك كان عمل الكائنات غير متناه، لأنها لا تزال تتدرج في مدارج الكمال وتترقى إلى ذرى المجد. وعلى أن الكائنات لم تنال الكمال المنشود بتمامه بعد، وما تفتأ تستنفد وسعها وتفرغ مجهودها في بلوغه فلا يمكن أن يقال في شأنها الكلمة الأخيرة، وما يمكن أن يقال فيها هو أنها ليست بحقيقة كاملة. وعملية الخلق فيها جارية يقوم فيها الإنسان بنصيبه، ويشترك فيها إلى أن يقدر أن يوجد النظام على الأقل في جزء من فوضاها؛ والقرآن قد أشار إلى هذا الخلق في الآية: (فتبارك الله أحسن الخالقين)
فنظرية إقبال هذه في الإنسان والكائنات خلاف ما يراه الإنجليز من أتباع مذهب الهيجلية الحديثة أو الصوفية في مسئلة وحدة الوجود من أن الغاية القصوى لحياة الإنسان ونجاتها في أن تندمج في الحياة الكلية كما تندمج القطرة في البحر وتفقد فرديتها
ليست الغاية الأخلاقية للإنسان ولا مرمى دينه أن يبيد وجوده بإتلاف فرديته وإفناء أنانيته، بل أن يحافظ على فرديته وأنانيته، وذلك بالحصول على أمثل الصفات وأعلاها التي تجعله فريدا وحيدا. والنبي عليه الصلاة والسلام قد أبانه بقوله: (تخلقوا بأخلاق الله)، أي اتصفوا بصفات الله، لذلك كلما كانت صفات الإنسان أشبه بصفات الله كان فريد زمانه وواحد(118/43)
عصره
أما الحياة فيرى إقبال أنها اسم آخر للفرد. وأسمى صورة لها تحققت إلى الآن هي الأنانية التي بها يصبح الفرد مركزا مستقلا؛ فالإنسان مركز مستقل من كلا الجهتين، أي الجسمانية والروحانية، لكنه ليس بفرد كامل. والفرد كلما كان بعيدا عن الله كانت فرديته ناقصة وأحط درجة، وكلما كان قريبا من الله كانت فرديته كاملة وأرفع منزلة. وليس معنى القرب هذا أن تكون نهايته الفناء في الله أو الاندماج فيه كما قرره بعض الصوفية والفلاسفة؛ بل خلافا لذلك هو يجذب الله إليه، أي يتصف بصفاته وأخلاقه؛ وإلى هذا أشار إقبال في بيت من ديوانه (بيام مشرق) التبس مفهومه على البعض، قال:
(دردشت جنون من جبريل زبون صيدى
يزدان بكمند آور آي همت مردانه!
إن في صحراء جنوني جبريل صيد تافه
يا همتي الشماء ائتي في أنشوطتك بالله.)
يريد به أن الاتصاف بأوصاف الملائكة عنده شيء تافه بل هو يتوخى بهمته الشماء صفات الله
إن الحياة شيء متقدم. هي حركة تجذب الكائنات إلى نفسها بالغلبة على مشاكلها ومعضلاتها العائقة لها عن سيرها وتقدمها، وجوهر وظيفتها خلق الأماني والأغراض الجديدة بالاستمرار والتقدم ولصون نفسها قد أوجدت الحياة الوسائل، أو هي ظهرت طوعا لشريعة الارتقاء، وهذه الوسائل هي الحواس الخمس والقوة المدركة التي بها تغلب المشاكل والمعضلات، وإن كان أكبر العوائق في طريقها الطبيعة أو المادة، لكنها في ذاتها ليست بشر، إذ هي تمكنها من إبراز قواها الخفية واستعداداتها المكنونة
إن الأنانية حينما تستولي على المشاكل والمعضلات ويبين شأوها عليها تنتقل من الجبر إلى الاختيار فأنها إلى حد ما مجبرة وإلى حد ما مختارة كما ورد في الأثر أن (الإيمان بين الجبر والاختيار)، ومتى نالت النهاية القصوى من زلفى الأنانية العظمى (أي الله) التي ليس كمثلها شيء في الحرية والاختيار تمتعت بأقصى مدى من الاختيار والحرية، وعلى هذا فالحياة عبارة عن الجهد المستمر للوصول إلى ذلك المدى من الاختيار والحرية(118/44)
قلنا إن مركز الحياة في الإنسان الأنانية التي تملى شخصيته على صفحة الوجود، والشخصية هذه عبارة عن حالة الجهد المستمر، فإذا احتفظ بتلك الحالة، بقيت الشخصية ثابتة البناء مشيدة الأركان، وإذا فقدت، ضعفت قواعدها وانتكثت مرائرها، وبما أن الشخصية أو حالة الجد المستمر أبعد الغايات للإنسان وأثمنها، فينبغي له ألا يدعها ترث قواها فتضعف، وتنحل عراها فتفنى. لأن بقاءها هو الذي يسبغ عليه الدوام والخلود، ثم فكرة الإبقاء هذه تعطى له أيضا معيارا للخير والشر أو الحسن والقبح. فإن كل ما يقويها خير وحسن، وكل ما يضعفها شر وقبيح، سواء أكان من نوع الفن أم الدين أم الأخلاق
على ضوء هذه الآراء انتقد إقبال فلسفة أفلاطون فدحض حجج جميع المذاهب الفلسفية التي تعتبر غاية الإنسان الموت بدل الحياة، فتلقنه الجبن والوهن وذلك بحمله على الأعراض عن المادة التي هي أكبر العوائق في طريق حياته، والابتعاد عن مقاومتها، مع أن جوهر الإنسانية في الاستيلاء عليها واستخدامها لنفسها بالبطولة والفحولة
وكما أن الاستيلاء على المادة ضروري لنيل الحرية والاختيار كذلك الغلبة على الزمن لازمة للحصول على الخلود والدوام؛ و (برجسون) قد علمنا أن الزمان ليس الخط اللامتناهي (في مفهوم الخط المكاني) الذي لابد أن نجتازه سواء رضينا به أم لم نرض. ولكن هذا المفهوم للزمن ليس بصحيح فإن مفهوم الزمن البحت لا يشمل مفهوم الطول
إن الخلود غاية الإنسانية وأمنيتها، يحوزه كل من يسعى لذلك، وحيازته تتوقف على تلك الأعمال والأفكار من حياتنا التي تقدر أن توطد أساس الأنانية على حالة الجد المستمر وتشيد أركانها، فديانة بوذا وتصوف إيران وأمثالهما من نظريات فلسفة الأخلاق لا تصلح لمأربنا وإن احتوت على بعض الفوائد وهو أننا بعد إجهاد أنفسنا واستغراق وسعنا بالاستمرار نحتاج إلى راحة قليلة لتجديد قوانا، فكأن تلك الطرق للأعمال والأفكار كالليالي لأيام حياتنا
وعلى كل حال فمتى تمكنت أعمالنا وأفكارنا من توطيد حالة الجد المستمر في الأنانية، فالأرجح أن الموت لا يؤثر عليها، بل محتمل أن تكون الفترة بين حياتنا الحاضرة وحياتنا الأخرى هي فترة الراحة، وتلك الفترة هي التي عبر عنها القرآن بعالم البرزخ الذي يبقى إلى يوم البعث، فتلك الأنانية وحدها يمكن ألا تتأثر من الموت وتخرج من الفترة فائزة،(118/45)
التي قد اعتنت بالحياة الحاضرة اعتناء جيدا، وإن كانت الحياة تأبى الإعادة والتكرار في مدارج الارتقاء، ولكن على حسب مبادئ فلسفة برجسون، كما يقول لنا الأستاذ ولدن كار، حشر الأجساد أيضا في حيز الإمكان التام. إننا نوزع الزمن في اللمحات لذلك نربطها بالمكان فيصعب علينا عبره، ولكننا ندرك حقيقته حين نغوص في أنفسنا لأن الزمن الحقيقي هو حياتنا، تلك التي توطدت فيها الأنانية بحالة الجد المستمر، أننا محكومون بالزمن إلى أن نراه مربوطا بالمكان، إن الزمن المقيد بالمكان سلسلة لفتها الحياة حول نفسها لتجذب ما حولها إلى نفسها، وإلا فنحن مجردون على الزمن، وهذا التجرد يمكن أن نشعر به حتى في حياتنا الحاضرة وإن كان لدقيقة
إن الشيء الذي يقوي الأنانية هو العشق في مفهومه المطلق ومعناه جذبك الشيء أو طلبك إياه لتجعله جزءا من نفسك، وأسمى صورة له هو ما يمكن صاحبه من خلق القيم والغايات، ويدفعه إلى السعي في تحقيقها وبلوغها، ثم العشق يجعل العاشق فريدا كما يجعل المعشوق، وذلك أن طلب الفرد المعين الأوحد يوجد شأن الانفراد في الطالب عن غيره كما يوجد في المطلوب، فأنه لا شيء غيره يرضي طلب الطالب، وكما أن العشق يقوي الأنانية، كذلك الاستجداء يضعفها، فكل شيء نيل بغير المجهود الشخصي هو من قبيل الاستجداء، فالابن الذي يرث ثروة أبيه من دون مجهوده الشخصي مستجد، ومثله ذلك الذي يفكر بفكر الآخرين ويرى برأي غيره. وبناء عليه ينبغي لنا أن نوجد ونربي في أنفسنا العشق أي قوة الجذب ونجتنب جميع أنواع الاستجداء، وإليه أشار إقبال في بيت ترجمته:
(إن المملكة التي لم تشتر بالدم
هي عار على المسلم)
بقي أن نسأل كيف نوجد العشق، فيقول إقبال: إن للمسلمين على الأقل في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ردا على ذلك، فأنه عليه الصلاة والسلام قد وضح بأعماله وحياته ما هو العشق، وكيف يمكن القيام به، لذلك ينبغي للمسلمين أن يختاروا حياته عليه الصلاة والسلام أسوة لأنفسهم وأن يحبوه، وإليه أشار إقبال في بيت قال:
(هركة عشق مصطفى سامان اوست
بحر وبردر كوشه دامان اوست(118/46)
كل من يكون متاعه عشق المصطفى
يكون البحر والبر في طرف ذيله)
إن الأنانية في صعودها إلى فروع العلى، وبلوغها إلى رفعة الكمال حيث تتمتع بفردية كاملة بنيل زلفى الأنانية العظمى لابد أن تجتاز ثلاث مراحل: مرحلة الخضوع للشريعة، ومرحلة ضبط النفس وهي الصورة العليا للشعور الذاتي، ومرحلة الخلافة الإلهية
ففي مرحلة الخضوع يفسر لنا إقبال أنه للتقدم لابد من مسلك يسلك، ومن مشروع يورد، ومن قانون يخضع له. لذلك كل من يصبو لمعارج الكمال، ويطمح إلى سنام المجد ينبغي له أن يطيع الشريعة. وفي بيان مرحلة ضبط النفس يقول إقبال إن النفس الإنسانية لأمارة بالسوء، فهي معجبة بذاتها، أبية، عنيدة، لا تهتم إلا بأمر نفسها. لذلك هي محتاجة إلى الضبط والتهذيب. فخير طريق لذلك هو إقامة أحكام الشريعة. فالصلاة تنقذها من الفحشاء والمنكر، والصوم يقتل غلمتها وترفها، والحج يذيقها لذة الهجر ويخفف عنها سلطان الحب للوطن ويضمها إلى الاجتماع الإسلامي العام فيجعلها تشعر بجنسية الإسلام، والزكاة تبيد حبها للمال وتعلمها المساواة
أما الخلافة الإلهية فهي النهاية القصوى للتقدم الإنساني على سطح الأرض، هي الأنانية الكاملة والغاية العليا للإنسانية، وقمة الحياة من حيث العقل والجسم. ففيها يتحول تشتت الأفكار في الحياة الذهنية واختلافاتها وتنافرها إلى التناسق والتوافق، فتقدر حينئذ على حل جميع العقد المنيعة المطلب والصعبة المرام. هي ملتقى الكمال للعلم والقوة، ونقطة الاتصال بين الفكر والعمل، والعاطفة والعقل. ومن استحقها كان آخر ثمرة لدوحة الإنسانية، وظهوره يبرر جميع آلام الارتقاء ومحنه لأنها كانت قائمة لأجله. هو يكون حاكما حقيقيا على البشر وحكومته تكون حكومة إلهية على الأرض. هو يسبغ من خصب طبعه على الآخرين بحبوحة الحياة ويقربهم إلى نفسه فكلما يتقربون إليه تتدرج حياتهم في مدارج التقدم والكمال
إن بلوغ الإنسانية إلى أقصى مدى من التقدم عقلا وجسما شرط ضروري لولادة ذلك المستحق للخلافة. لذلك كان وجوده في الحال في عالم المثال، ولكن تقدم الإنسانية سائر إلى إنتاج طبقة الأفراد المنفردين في أوصافهم الحميدة قلة أو كثرة؛ فهؤلاء سيكونون أجداده(118/47)
أما الحكومة الإلهية فمعناها الديموقراطية المكونة من الأفراد المنفردين في أوصافهم الحميدة قلة أو كثرة يرأسهم الفرد الوحيد الذي لا نظير له على وجه الأرض. كانت أشباح هؤلاء الأفراد تجول في فكر الفيلسوف الألماني نيتشه؛ ولكن إلحاده وتعصبه الأرستقراطي شوهها تماما
هذا ما عن لنا من فلسفة إقبال الآن؛ وسنقدم إليك معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب في المقال الآتي إن شاء الله.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(118/48)
الذكر
للأستاذ فخري أبو السعود
صوتٌ مِنَ الأمس ما أنْفَكُّ أسمعُهُ ... مُرَدَّدُ اللحن في بالي مُرَجَّعُهُ
لحنُ شجيُّ لطيف الوقع ساحرُهُ ... يَدُ الليالي على قلبي تُوَقِّعه
إذا تَرَدَّدَ منه في الضلوع صدًى ... ثار الحنينُ ونَدَّ الجَفْنَ مدمعه
نهرُ يَظَلُّ بنفس المرءِ مُنْسَرِباً ... وفي مجاهِل ماضي العيش منبعه
طيفُ مدى العمرِ مِن ماضيَّ يتبعني ... وَدِدْتُ لو أَنني ما شاء أَتْبَعُهُ
مَنْ أَنْتَ يا مَنْ مِنَ الماضي يخاطبني ... وَمِنْ قرارةِ نفسي بِتُّ أسمعه؟
تَظَلُّ تُحي الذي قد مات من عُمُرِي ... وما تَشَتَّتَ مِنْ ماضيَّ تَجْمَعُهُ
نعَمْ وِتَحْكِي لقلبي من مآربه ... ما كان يَنْشُدُهُ قِدْماً ويُزْمِعُهُ
حديثُك العذبُ مها طال يْؤنِسهُ ... وبالزمان الذي قد مَرَّ يولعه
يا رُبَّ عهٍد غضيرِ الحُسن رائِقِه ... قد راح وهْو حثيثُ الخطو مسرعه
مرتْ عليه بَنَانُ منك ساحرةُ ... فهاج بي الشَّوْقَ مغناه ومربعه
وهام قلبي على آثارِهِ لهِجاً ... يَوَدُّ لو أنَّ هذا الدهرَ يُرْجِعُهُ
وَرُبَّ وادٍ بنفسي مُزْهِرٍ نَضِرٍ ... صَوَّرْتَهُ فَهْوَ حالِي النبت مُمْرعه
ومنظرٍ مِنْ طُيُوفٍ أنْتَ رَاسِمُهُ ... ومِنْ حنينٍ خَفِيّ أنْتَ مُبْدِعه
وصورة لِذُكاءِ وهْيَ غاربةُ ... هفاَ لها الكونُ إذْ هَمَّتْ تُوَدِّعه
ومَشْرِقٍ حَيِّتِ الأرْوَاحَ غُرَّتُهُ ... ونَبَّهَ الطيرَ والأزهارَ مطلَعُه
هذا ادِّكاريَ: ملءُ القلبِ من صُوَرٍ ... مِنَ الطبيعِة تَشْجُوهُ وتُمتُعِه
وسالفاتِ عهودي في مباهجها ... يُظِلُّني ثَمَّ ناَدِى الزهر مُونِعُهُ
حُسْنُ الطبيعيةإلُفُ في الفؤادِ له ... عهدُ بِقَلْبيَ باقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وليس بالقلب ذِكْرُ مِنْ أخي مِقَةٍ ... يبقَى بقَلْبي مَدَى الأيام موْضِعُهُ
فَكُلُّ ثَوْبِ وَدَادٍ كنتُ ألْبَسُهُ ... يَرَثُّ وَهْوَ جَديدُ ثُمَّ أخْلعُهُ
فكيف أهفو إلى رَثَ ومُنْخَرِق ... من العهود وَباَلٍ لستُ أرْقَعُهُ؟
مَنْ رام صافِيَ وُدٍّ غير ذي كدر ... ففي الطبيعة للوُرَّادِ مَشْرَعُهُ(118/49)
أليِفُهَا حيثما راقتْه صُحبتُها ... مُمَتَّع النفس راوي الطرف مُترعه
أصْفَى الوداد وُرُوداً ثُمَّ أَدْوَمُهُ ... عهداً وأعْذَبُهُ ذِكْراً وأنْقَعُهُ
فخري أبو السعود(118/50)
بين الهدى والهوى
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
في طلوع الفجر الوليد على الكو ... ن، وإيذان ليله بالهروبِ
وهبوب الأنفاس من رُدْنَى الصب - ح برَوْح يحي النفوس وطيب
رنْ في مسمع السكون أذانُ ... قُدُسيّ الترجيع والتثويب
سال - حتى عم الفَضَاء - حَناناً ... ذائباً في شعاعه المسكوب!
خلِقاً عاَلًما من النور والفت ... نة والسحر والجمال الغريب
رَعَشَاتُ من الغناء السماويّ (م) ... تَخطَّي الأسماعَ نحو القلوب!
إنما الدين الحقّ فنُّ طهور ... قد سما في معناه والأسلوب!
وقف (الشاعر) التقيّ يصلِّي ... في خشوع لذي الجلال المهيب
فرِحاً قلبه يطير استناناً ... في مجال من الأماني رحيب
مطمئناً لو أنه احترق الكو ... نُ جميعاً ما مسه بلهيب!
عامراً بالهدى يكْاد يرى الله (م) ... بعينيه فهو جدّ قريب
ربّ! لِمْ لا تراك عيني؟ ألاَ تب ... دو لعينَيْ عبدٍ إليك منيب
كَلِفٍ بالجمال يصبو إلى من ... بع بعد الأنبوب فالأنبوب!
فاطْوِ عني الحجاب تشهدْ جفوني ... لمحةً من جمالك المحبوب
مرَّ في سمعه حَفيفُ لِسَهمٍ ... ناشبٍ في فؤاده المنكوب
ما وعى السمعُ أودرى القلبُ إلاَّ ... بعد حين من وقعه والنشوب
مَنْ رماه؟ وأيَّ نصل وعن أيّ (م) ... ةِ قوس رمى؟ وفي أيّ حُوب؟
ولوَى الجيدَ يَسْرةً فإذا هُو ... بمثال من الجمال النجيب
قمر طالع عليه من الشّر ... فة يرنو إليه كالمذهوب
لفَتَتْهُ الصلاة نحو المصَلّى ... فادَّرَاهُ بكل سهم مصيب
ربّ! ماذا أرى؟ ألمحة نور ... منك، أم وهْم ناظرٍ مكذوب؟
أم مَلاكاً بعثَته بقبولي ... ونجاح المؤمّل المطلوب
ربّ! قلبي صبا إليه! كأنْ لم ... أَكُ في موقف الصلاة الرهيب(118/51)
أين وَلّى اطمئنان نفسي؟ ومَنْ لي ... بخشوعي إليك والترحيب؟
ربّ! حل الهوى محل الهدى في ال ... قلب، ويلاه! ربّ عافِ الذي بي!
وانتهى من صلاته وهو يهذي ... بضلالات شعره والنسيب:
(ألهمِيني وحي الجمال! فعهدي ... بشهود الجمال غير قريب
إن تكن نظرتي لوجهك ذنباً ... فالْتِاعي كفّارة لذنوبي
وابعثي لي - لتدفئي بُرَدَائي - ... وقدةً من ذراعكِ المشبوب!
واُصبَحيني من خمر عينيك كأساً ... تنفِ عني متاعبي ولُغوبي
وابسمي لي - والابتسام يسير - ... تبتسمْ لي الحياةُ بعد قطوب)
(هي لغز يحلو التأمل فيه ... لحكيم وشاعر وأديب
هي في لِبْسة التفضل حُسْنُ ... من يد الله، ليس بالمجلوب
يا لَها حلوةً عليها من النو ... م بقايا تثاؤب محبوب!!
وبأهدابها خيوط ضياءٍ ... عَلِقت من أحلام ليل عجيب!
مُرسَلاً شَعرُها على غير ترتي ... ب ولكن أحلى من الترتيب!
خطَّ في خدها الوِساد - سعيدا - ... آيةً من بدائع التذهيب!
وأذاع النسيم عنها بلاغا ... أفعم الجو من أريج وطيب
إن طيباً في الحُق ليس كطيب ... مرسل من غلائل وجيوب
بكرت تنضح الشجيرات بالما ... ء فيَنْعمْنَ بالبنان الخضيب
وفؤادي أحق بالريّ منهن (م) ... فهلاّ تمدّه بذَنوب!
وقفت وقْفة الدَّلال أمامي ... تتلهَّى في كفّها بقضيب!
أرسلت كهرباءها فتمشت ... في عروقي بهزة ولهيب
فكأنا (قُطْبا عمودٍ) ترمي التّيْ ... يَار فيه من جيئه وذهوب
(بين جهدي وجهدها أبداً فر ... قُ) فما إنْ تكفّ عن تعذيبي
أيها (السالب) الجميل حناني ... ك ترفّق بمهجة المسلوب)
واستهل الصبح الجديد على الكو ... ن مُلَقَّي بالبشر والترحيب
وأتى (الشاعر) الصلاةَ بقلب ... شاَعر بالملام والتثريب(118/52)
مستنيب إلى الإله يُرَجّى ... عفوه عن ضلاله والحوب
فدوى في أعماقه رَجْعُ صوتٍ ... كصدى الرعد أو دويّ النُّوبِ
كيف يقوَى على سنا (الربّ) قلب ... جُنَّ لما رأى سنا (المربوب)؟
والكمالات لا تَنَاهى لدى الل ... هـ فلابد من بقاء الغيوب
علي أحمد باكثير(118/53)
القرية
للأستاذ بشاره الخوري
أيتها الفتانة الصغيرة ... أنت بتاج مَلك جديره
من القِرى اشتقوا لك اسم القرية ... وعطّل السفحُ فكنت الحلية
شاعرك البلبل ذو الإلهام ... وعُودك الجدول ذو الأنغام
والغيمة البيضاء مثل القبة ... كأنها من الحرير جبه
تضم أعناق الربى وتلثمُ ... فليس إلا شَفةُ ومبسم
كم طربت شمس لهذا المشهدِ ... فمسحت جبهته بالعسجد
حتى إذا الليل سجا ومدا ... على الورى جناحه المسودَّا
مشى إليه البدر مشيَ الصائدِ ... يهتبل الغفلة من مطارد
حتى رمى بخردق النجومِ ... صدر الدجى فسِلن كالكلوم
مآتم لكنها أعراس ... يدار عندها الهوى والكاس
توحي بها القرية في رأس الجبل ... وأروح العيش خيال وأمل
وساعِدٍ عند الضحى مفتولُ ... تغمره بالقبل الحقول
أسمر مما لذعته الشمس ... في كفه لكل جسم نفس
يقوم في الأرض مقام الخالق ... فيغدق الرزق على الخلائق
هذا الذي يحاولون قتله ... والعدل يقضي أن يموتوا قبله
بشاره الخوري(118/54)
بين ناقد وشاعر
علم قراء الرسالة من عدد مضى أن الأديب حبيب الزحلاوي اتهم الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي بأنه استعان في قصيدته (عاصفة الروح) بقصيدة الشاعر الدمشقي ميشيل عفلق (عاصفة)، وقد دفع الدكتور ناجي ذلك الاتهام، وتحدى متهمه أن ينشر القصيدتين في الرسالة. وأمس أرسل إلينا الناقد نص القصيدتين ومعها نقد لاذع، واليوم بعث إلينا الشاعر بنصهما أيضا ومعهما تعليق ساخر، فآثرنا أن نطوي النقد والتعليق لخروجهما عن خطة الرسالة، واكتفينا بنشر القصيدتين، ليحكم القراء بين الرجلين
عاصفة روح
للدكتور إبراهيم ناجي
أين شطُّ الرجاءْ ... يا عُباب الهموم
ليلتي أنواء ... ونهاري غيوم
اعْوِلي يا جراح ... أَسْمِعِي الديان
لا يهم الرياح ... زورق غضبان
البِلى والثقوب ... في صميم الشراع
والضنى والشحوب ... وخيال الوداع
في احتدام النار ... واصطخاب الأنين
تضحك الأقدار ... ترقص السكين
كل يوم يروح ... في احمرار الجروح
كل صبح يلوح ... فجره مذبوح
اسخري يا حياه ... قهقهي بالرعود
الصِّبَى لن أراه ... والهوى لن يعود
الأماني غرور ... في لظى البركان
الدجى مخمور ... والردى سكران
وخليع العباب ... موجه العربيد
دار بالأكواب ... ويل هذا العيد(118/55)
راحت الأيام ... بابتسام الثغور
وتقضى الظلام ... في عناق الصخور
كان رؤيا منام ... كأسك المسحور
يا ضفاف السلام ... تحت عرش النور
اطحني يا سنين ... مزقي يا حراب
كل برق يبين ... ومضه كذاب
اسخري يا حياه ... قهقهي يا غيوب
الصِّبَى لن أراه ... والهوى لن يؤوب
عاصفة!
لمشيل عفلق
اعصفي يا رياح! ... واهزئي بالسماء
من يكن ذا جناح ... هل يهاب الفضاء؟
عبس الغاب وادلهمٍ، فما يب ... سم إلا عن الرعود البوارق
فمشى السر موغلاً في ثنايا ... هُ مصوناً من الدجى بفيالق
وتداعت جهم الغيوم ثقيلا ... ت حبالى بشائبات الصواعق
ذعرت في الفلاة آمنة الوح ... ش فراحت تمشي كمشية سارق
وسرى الماء لائذاً بحمى الظل (م) ... ملماً ببعضه متعانق
أمعنت في الغناء ... قاصفات الرعود
ذاك ضحك القضاء ... من قيود العبيد. .
اعصفي اعصفي أيا ريح حتى ... تُرقصي من دويِّك الأجيالا
واضحكي كم يثير ضحكك عند ال ... حشرات النواح والأعوالا
أوصدت وكرها الثعالب حسرى ... لابسات من ضعفها أغلالا
وانبرى الليث ناعم البال يمشي ... حاشداً تحت نابه الآجالا
ودعاك النسر احميلني أيا ري ... ح إلى حيث لا جناح تعالى!(118/56)
اغسلي يا سيول ... زائف الأصباغ
السما كالطبول ... زمرت بالفراغ
يا سيول افتحي لنفسي مجرى ... أنا نهر حيران لم يلق بحرا
تهت عن غايتي ولكن تيهي ... ينبت الخصب كلما حلّ قفرا
أنا برق في قوتي والتهابي ... في وميضٍ أحيا وأدفن عمرا
أنا ليل يفني اشتعالاً وحباً ... لتوشي دماؤه الحمر فجرا
أنا زهر أطارت الريح أورا ... قي فاْفعمت واسع الجو عطرا
أعطشتني الرغاب ... فشربت النجوم
وحداني الشباب ... فامتطيت الغيوم
مِن ذرى هذه السحائب ارمي ... فوق هام الورى رفيع ازدرائي
قدما في السماء أركز جذلا ... ن وأخرى على جبين الفضاء
لم يعد لي في الأرض منزل جرّ ... واسعُ مطلبي وعالٍ إبائي
أحرقت بيتي الصواعق لكن ... غسلت لي قلبي بذوب الضياء
مزقت ثوبىَ الرياح ولكن ... نسجت من دم الشموس ردائي
إعصفي يا رياح! ... واهزئي بالسماء
من يكن ذا جناح ... هل يهاب الفضاء(118/57)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
23 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
الرجل ذو الضمير الفاسد يحس في نفسه حاجة مرضية للتألم، وهو لا يشعر بأن الحاجة تبعثها علة حقيقية هي وليدة هذا الضغط القاسي على إرادة قوته، وإنما يدرك فقط أنه متعاقد مع الألوهية على دين لا يمكن أداؤه. ومن الحق أن يبدو له أن هذا الدين شديد تهون في سبيله الآلام. فهو يحتمل الشقاء ليهدي غيظ دائنه العنيف، وليكفر عن خطيئته. وهاهو ذا الآن يلتمس العذاب يتذوقه ألوانا ليفي بدين يزعم أن لا نهاية له. يحمل الألم ولا غاية له إلا الأم ليطفئ في نفسه رغبة التفكير عن ذنبه. وهيهات أن تشبع هذه الرغبة أو تطفأ!
فكرة الخطيئة بعثت مرة ثانية، وأصبحت الآلة التي يتوعد بها الكاهن، وبها يسيطر على الأرواح، وبها انقادت له جموع الأشقياء ووضع يده على النعاج المتألمة التي أبصرها في الطريق. مضى قدما إلى أولئك المنحطين العاملين بشقاء يجهلون علته، يتحرون عن العلة أو الواحد المسئول عن انحطاطهم الغارقين فيه. فيوحي إلى هؤلاء بأنهم هم أنسهم كانوا سبب شقائهم الحقيقي، وأنهم ينبغي لهم أن ينظروا إلى هذه الآلام كتضحية صغيرة عن خطيئاتهم التي اجترحوها، فليتقبلوها - بطرب - كامتحان أراده الله، فآمنوا به وقبلوا بهذا الحل منه، وتلقحوا برضا بهذه الفكرة المسممة عن الإيمان بالخطيئة. وفي أوروبا اليوم مذهب يضم هؤلاء الخاطئين التوابين الذين يمشون بأجساد مريضة وأعصاب ساكنة ونفوس ذاهلة، فرائس لليأس والهذيان. جوعهم دائم للعذاب، تستولي عليهم فكرة الخطيئة والهلاك الأبدي
وفي النهاية يجد نيتشه أن التعاليم المسيحية كديانة وكمثل أعلى، لا تقود إلا إلى العدمية يجد أنها خلقت عالما مفعما بالأوهام المجردة، وتخيلت عللا خيالية وأعمالا خيالية، وروابط بين الأكوان خيالية. أسست علما طبيعيا وهميا مؤسسا على إنكار الأسباب الطبيعية(118/58)
والعلاقات الطبيعية بين الأشياء، وأسست علم نفس خيالي يرتكز على تفسير خاطئ للحوادث الطبيعية وعلى فلسفة خيالية، وبينا كان الرجل المسيحي دائبا في بناء وجود خيالي كان يهدم الوجود الحقيقي، يقاوم الطبيعة (أصل كل بلاء) في سبيل الإله (أصل كل خير وهناء)، فولدت الأوهام المسيحية من بغض الحقيقة، فهي نتيجة إنسانية منحطة، تربو فيها كمية الشقاء على كمية الفرح، إنسانية تعبة سائمة، متألمة، تميل إلى التشاؤم وعدم الحياة، ولا تجد راحتها إلا في أحضان العدم
- 4 -
إن عمل التاريخ الأوربي هو ظفر شريعة العبيد على شريعة الأسياد، لأنه قبل تلك الشريعة وعمل على اعتناقها وكفر بهذه الشريعة. . . وإنها لمعركة لا تزال مشبوبة محتدمة عشرين قرنا بين (روما) وارثة الحضارة اليونانية ومثلها الأعلى الأرستقراطي، الذي هو أقوى مثل وأسمى مثل تحت الشمس، واليهودية موطن البغض ومنزل الروح (الكهنوتي)، انتصرت اليهودية والنهضة الحديثة التي شبت في أوروبا قامت في وجهها عثرات وعقبات، كثورة (لوثر) والبروتستانت، وكثورة الباستيل في فرنسا، وانهزام نابليون، هذه نائبات تتالت فحالت بين بلوغ النهضة غايتها، فآلت إلى انتصار شريعة العبيد، فأوروبا الآن غارقة في انحطاط عميق، يقضي على ما تبقى في عروقها من حياة، حتى ليخشى أن يتقهقر النوع الإنساني إلى الوراء، فلا يورث بعد اليوم إلا صورا من الخزي والعار
هذه هي شريعة العبيد التي تسيطر على العالم تحت اسم (ديانة الألم الإنساني)، فلنفصل الآن هذه الديانة وما تنطوي عليه
إن تحليلنا لعاطفة الشفقة التي يتبجح بها اليوم معلمو الجيل الحاضر يثبت لنا أن هذه العاطفة ليست من العدل والجمال على المثال الذي يرون. إن عاطفة الشفقة - في الحقيقة - يتولد منها سرور أناني. إذ نحن نصنع مع الآخرين الخير كما نصنع الشر. غايتنا من ذلك أن نظهر شعورنا بقوتنا، ونخضعهم لسلطتنا. أما الرجل القوي الشريف فهو يفتش عن كفء له ليبادله النضال ويحني هامته بازاء قوته، وتراه يحتقر الفريسة الذليلة السهل انقيادها، وتراه ينحرف عن الخصوم الذين لا يجد فيهم أكفاء وأمثاله. أما الضعيف فهو يميل إلى الظفر السهل، والفريسة الخانعة، وهل كان ضعيف أو شقي يوما مهيبا؟ وإن(118/59)
الإنسان بطبيعته وإرادته يجنح إلى إحسان لا إلى شقاء
إن الشفقة هي فضيلة الأنفس المتوسطة، تتدرب عليها دون وازع ولا مانع، حتى إذا نزلت هذه الشفقة ساحة النبيل أصبحت علامة الانحطاط، وذهاب الكرامة، وخساسة الأصل. إن النبيل يكتم آلامه وهمومه ولا يبوح بها. يصرف عن نفسه الإرادة الحسنة كما يصرف الإرادة السيئة، والإنسان المتألم القبيح قد يكون على حق في كرهه للشهود الذين يبوحون بسر فاقته وقبحه وتعاسته. هؤلاء الشهود الذين لا يستحون من أن ينظروا إلى ما كان ينبغي له أن يظل خفيا عن العيون، فيحملون هذا الشقي منه شفقة ما طلبها وما تمناها
إن الشفقة ليست بعاطفة مفيدة فحسب، بل هي عاطفة منحطة أيضا. لنتصور أن ديانة الألم قد انتشرت بين الناس فما هي النتيجة؟ إن كمية الألم تزيد بدل من أن تنقص، ويصبح الإنسان مجبرا على حمل آلامه الخاصة وجزء من آلام الغير، حملا على حمل، وبهذا تضعف الشفقة من حيوية الحياة، وتجعل من الألم داء ساريا. ناهيك بأن ديانة الشفقة تضاد المذهب الطبيعي السائد حكمه في الأحياء، وهو بقاء الإصلاح والأنسب الذي يقضي بفناء الكائنات التي لا يصلح تركيبها للحياة، وقد أتاها حظ بخروجها ظافرة من معركة الحياة، وكل ديانة ترمي إلى الشفقة هي ديانة تعمل على وقاية العناصر المنحطة، وعملها هذا هو ما يسوق إليها الفوز في كل جيل، لأن الضعفاء والمرضى هم في الحقيقة الفريق الغالب، بينا أن الإنسان الخالص الصافي من كل شائبة هو نادرة من نوادر الوجود؛ وقد ثبت في كل الأنواع الحية العالية أن الأغلبية فيها هي كائنات منحطة التركيب، سيئة الخلق، مستسلمة للألم، والإنسان لا استثناء له من هذا الحكم. والإنسان - بالنظر إلى الحيوانات - هو سلالة عالية راقية، قابلة للتطور، وهو لما يبلغ آخر مرحلة من مراحل التطور في الكمال، وهو لما يزل عرضة للحوادث التي تؤثر فيه وتبدل منه. كما أن معدل الانحطاط في النوع الإنساني هو أبرز وأكثر منه في سائر الأنواع. وديانة الشفقة تغدو عاملا كبيرا في الإبقاء على فريق كبير من الأحياء لا فائدة منه، لأن انتخاب النوع لا يرى غاية له إلا الفناء. هي تحفظ مظاهر الفاقة والبؤس. فتجعل الوجود أكثر قبحا، والحياة أكثر ميلا إلى العدم. إن هذه الديانة هي جزء من العدمية. إنها مهددة للوجود وللنماذج العليا من إنسان الوجود. فان مرأى البؤس والألم والانحطاط والقبح يدعوا الرائي إلى رجاء العدم، إما(118/60)
بعامل اليأس من هذا المرأى أو بعامل الشفقة، حتى ليغدو مذهب الشفقة مرضا شديدا يقضي على طبيعة كريمة، ويقتل منها قوة نضالها ودفاعها، هذا المرض الدائب على تذليل الذرية الأوربية، وتقييد اصطفاء الأنواع السامية، والحيلولة بين الإنسان والسوبرمان
(يتبع)
خليل هنداوي(118/61)
القصص
صور من هوميروس
8 - حروب طروادة
من السماء
للأستاذ دريني خشبة
قضى بروتسيلوس نحبه، وعادت روحه الكريمة إلى هيدز مصطحبة روح زوجته البارة، وغرست عرائس الفنون فسائل الدردار فوق قبر الراحلين فنمت وترعرعت، ونعم بفيئها الوارف ماء الهلسبنت ورتعت في ظلها أترابه. . .
ولكن. . .!
لقد كانت روح بروتسيلوس الجذوة التي أججت نيران الحرب فجعلتها ضراما!! فانه ما كاد يرمى بالسهام فيصمى، فيسيل دمه أنهارا، حتى تدفقت جيوش الهيلانيين على الشاطئ الأسيوي، غير مبالين بالموت الأحمر الذي كانت تمطرهم به سهام الطرواديين، والمنية السوداء التي كانت تقطر من سيوفهم، فتحصد صفوف الغازين حصدا. لا. لم يبال الهيلانيون بهذا الهول الأكبر، بل انقضوا على الشاطئ شكاكا في سلاحهم، مقنعين في دروعهم، مرهفين سيوفهم، تفيض عليهم عدة الحرب كأنهم جنة ترقص في زوبعة، أو ظلال من الذعر تجول في معمعة
وتبعهم قادتهم العظماء فانطلقوا يبوئونهم مواقف للقتال، ويلقون عليهم من كلمات الحماسة وخطب الاستبسال، ما أضرموا به جوانحهم شوقا إلى خوض الكريهة، وحنينا إلى اقتحام الوغى، وصبوة إلى تقبيل الرقاق البيض
ودقت الطبول فكانت إيذانا بهجوم الهيلانيين
فانظر الآن إلى البحر يلتطم بالبحر، والموج يساور الموج، والموت يصاول الموت، والحياة الحلوة تأخذ بتلابيب الحياة الحلوة، وصيحات الهيلانيين تردها صيحات الطرواديين؛ وليل الآخرة يغطش نهار الدنيا، وظلام القبور يكشر لهذه الدور، والفزع يمشي في صفوف هؤلاء وهؤلاء، واليتم يجرح هذا الكبد، ويقرح ذلك القلب، والحزن(118/62)
يفيض على هذا السهل، ويجوب ذاك الوادي، ويرف على قلل تلك الجبال، وأنين الجرحى يطن في فضاء الساحة الحمراء، فيملأ الآذان بالهلع، والنفوس بالجزع، والدماء تتفجر هنا، وتتحدر هناك، والرؤوس منتثرة فوق الأديم المضرج، زائغة أبصارها، مفغورة أفواهها، معفرة بالتراب أنوفها التي عزت على العالمين. . .
ثم انظر إلى أخيل يرعد بين الصفوف ويقصف، ومن ورائه الميرميدون يوزعون المنايا ويهدهدون الحتوف ويقربون الآجال!
وأوليسيز المغوار وتلك العجاجة المنعقدة فوق رأسه من خبار الحرب، وهذه الصعدة السمراء بيمينه تنفث الموت في صدور الأعداء!
وأجاكس وجنوده! الكرار الفرار، المذاويد الأحرار!
وبنليوس! قائد العسكر البووطية، القروم البواسل، والليوث الكواسر!
وديوميد! نبعة أرومته، وسيد عشيرته، ووجه قومه، وفارس كتيبته!
وأجابينور! فتى أركاديا، وملاك أمرها، وشمس ضحاها!
وميجيز! النجد الباسل، والبطل الحلاحل!
وإيدومينيز! ملك كريد وقائد جنودها؛ أباة الذل، وكماة الوغى، ومرادي الحروب!
وتليبوليموس بن هرقل بطل المجازفات، المقدم أخو الغمرات! ثم انظر إلى الصيد الصناديد من أبناء طروادة، وجيرانهم الكماة الأباة الحماة!
هاك هكتور العظيم بن بريام الملك، عضد طروادة وسندها وليث عرينها؛ الثبت الصابر المصابر؛ رابط الجأش شديد البطش؛ قوي الشكيمة الفارس المقدام!
هاك هكتور الأسد، يرغى في أسود الشرى ويزبد، ويوقل في بطاح طروادة وينجد!
وهاك إينياس الهائل، يقود (الدردان) الأيطال إلى كرائم الفعال في ساحة القتال!
وهاك بنداروس! تلميذ أبوللو وربيبه، يقود فرسانه الفحول ورجاله البهاليل!
وهاهما ولدا ميروبس الكبير ملك أبيسوس، يصولان في الحومة ويجولان!
وهاك آسيوس بن ملك أبيدوس، يتقدم رعيل فرسانه، ويداعب أعداءه بمرانه!
وهاهم أشبال تراقية، يقودهم يوفيموس المقدام، ويقتحم بهم أيما اقتحام!
وهاهم نسور أميدون البواشق؛ أقبلوا من هناك. . . من جنات سيحون وجيحون ليخوضوا(118/63)
الجحيم، في ذلك اليوم العظيم، وليذودوا عن طروادة، حليفتهم؛ ويدفعوا. . .!
وهاهم أمراء ميديا، أقبلوا في عدة وعديد، وكل جبار مريد!
أنظر إذن إلى الجيشين في مد وجزر، تبسم لأحدهما الآمال، وتعبس للآخر المنايا؛ تدور الدائرة، فيفلذ المنهزم، ويتأخر المتقدم، وهكذا دواليك
وتغيب الشمس وتشرق. . . . .
ويبزغ القمر. . . ويغرب
وتكر الأيام، وتمر السنون!
وكلما لاحت للطرواديين غفلة من أعدائهم خرجوا إليهم وهم ألوف فنالوا منهم، حتى إذا كروا عليهم عادوا إلى معاقلهم فلاذوا بحصونها، واعتصموا بأبراجها، وتلبثوا هناك حتى تتاح لهم فرصة أخرى
أعوام تسعة!!
مليئة بالتعب، مشحونة بالنصب، مفعمة بالخطوب والأهوال
وكان الهيلانيون يرسلون البعوث والسرايا، فتجوب الريف، وتؤب بالغنائم والفيء، والأسلاب والسبي، فيقتسمها القادة، ويفيضون منها على الجند
وهاجموا مرة إحدى القرى، فكان من جملة السبي فتاتان ذواتا رقة وفتون. أما أحدهما فكانت من نصيب أجاممنون، واسمها خريسيز، وهي ابنة كاهن القرية الورع، حبيب أبوللو وخليله وصفيه، القديس خريسز. وكانت فتاة لعوب حلوة الدل رشيقة الروح، وكان أبوها يحبها حبا جما لا تعدل بعضه كل مباهج الحياة!!
أما الأخرى فقد خلصت لأخيل وأخلصت له الود، وصافاها هو المحبة، فكان أحدهما للآخر في هذه المحنة القاسية الصدر الحنون، والقلب النجي، والملاذ الأمين. اسمها بريسيز، وأبوها شريف من أشراف هذه الناحية التي نكبت بتلك الحرب الضروس، فصليت لظاها، وطحنتها رحاها
وعلم كاهن القرية بما كان من أمر ابنته، فازدحمت على قلبه هموم الحياة، وأحس في أعماقه بثقل البلية، وشعر كأنه جرد من كل شيء حتى من نفسه
وبدا له أن يذهب إلى قائد الجند الهيلاني فيفتدي خريسيز، ولو نزل لأجاممنون عن كل ما(118/64)
يملك. وحذره صحبه من المخاطرة بنفسه في هذا الطريق الشائك، ولكنه لم يعرهم التفاتة واحدة، بل دهن نفسه بالطيب الكهنوتي المقدس، ولبس مسوحه، وعقد زناره، وتناول مسبحة أبوللو العظيم، ثم توكأ على عصاه العتيدة، وذهب يتهالك على نفسه، ويتعثر في خطاه، حتى كان تلقاء المعسكر الضخم
وسأل عن خيمة القائد العام، فقيل له إنها هي الفسطاط الأكبر الذي تبدو قبته هناك. . . . هناك عند شاطئ الهلسبنت، بين الجيش وبين الأسطول
وانطلق الكاهن الجليل والدمع ينحدر من قلبه قطرات من الدم. . . عن طريق عينيه، فيعلق بلحيته البيضاء، فيصبغها بأرجوانه، كأنه آية السماء الباكية، نذيرا لهذه القلوب القاسية، والغزاة الأقوياء!!
وبلغ الفسطاط بعد لأي. . .
واستأذن على القائد العام فلم يؤذن له. . . . فاستأذن ثانية فهدد بالضرب وبالعقوبة!. . . ولكنه أب مفئود، وحزين منكود، فتنظر قليلا واستأذن في أدب ولين واستكانة، فأذن له. . . .
ووقف أمام القائد الأكبر واهي الجسم موهن القلب، محزونا متصدعا، وحاول الكلام فكانت العبرات تخنقه، والأسى يعقد لسانه، والنار المندلعة في رأسه تنسيه كل شيء
وثار به أجاممنون!
لأنه على ما يبدو فوت عليه لذة طارئة، وسكرة مواتية، بمجيئه في تلك اللحظة الهانئة القريرة، وإلحافه الشديد بضرورة لقاء القائد. . . .
واحتشد القادة ورؤساء الجند حول فسطاط القائد، وسمعوا إلى الكاهن الكبير يقول:
(مولاي!
سعيت إليك عائذا بكن داعيا أبوللو العظيم لك، أن يفيء عليكم من النصر والفتح المبين، وأن يهبكم من الرعاية والمنن ما تشتهي أنسكم، وتقر به أعينكم، وما تترفعون به عن ظلم الضعفاء، والجور على الملهوفين، فقد يغني القليل الذي ترضى عنه الإلهة، عن الكثير الذي يثير سخطها، ويستنزل غضبها. .
ابنتي يا مولاي!(118/65)
خريسيز العزيزة! ردها علي يبارك لك أبوللو، وينر لك سبيلك، ببركة دعوات قديسه الحزين الواقف أمامك، المبتهل إليك، المستعد لأن يفتديها بكل ما يملك، وبكل ما يقدر عليه مما يرضي الملك!)
لكن الملك أشاح بوجهه، وكبر عليه أن يجرؤ هذا الكاهن على التفوه بهذه الطلبة العزيزة أمامه! خريسيز! أينزل أجاممنون عن خريسيز وقد احتلت من قلبه مكانة زوجه كليتمنسترا؟ واستحوذت على لبه حتى نسي الحرب، وعزف عن الطعن والضرب، واستقر معها في فسطاطه آخذين في لهو وحب، وغناء وشرب!!
أينزل أجاممنون عن خريسيز الجميلة الفاتنة، ولو استحالت عينا الكاهن بئرين تنزفان الدمع، وتفيضان بالدم؟
كلا! لن ينزل أجاممنون عن خريسيز!
(إصغ يا رجل! ليس بي أن تكون قديس أبوللو، وحامل صولجانه، وحامي مسبحته، وعاقد زناره!
ستعود خريسيز معي. . . إلى آرجوس. . . وسيذوي جمالها هناك، وتذبل محاسنها بين ذراعي، وسأكل إليها منزلي تخدم فيه، وتصير أم بنين، وسيكون بها قصري جنة خلد ونعيما لا يفنى. . . اذهب، فاسفح دموعك في صومعة أبوللو، وصعد زفراتك في هيكله، وبين يدي صنمه. . . اذهب، وانج بنفسك من عذاب أليم. . .
خريسيز تعود معك!؟
إنك تثير النقمة في نفسي، فانج بنفسك. . . انج. . .)
وتصدع صدر الرجل، وكاد قلبه يقف، فتقف أنفاسه!!
وانثنى والدنيا المظلمة تحجب ناظريه، وكلمات القائد الظالم تردد في مسمعيه، فما كاد يبلغ قريته حتى خلا إلى أبوللو، وجلس يبكي ويصلي!!
(أبوللو!!
يا إلهي!! أسمعت؟ لقد استهزأ بك أجاممنون، وفجعني في بنتي، وفلذة كبدي، وقطعة قلبي، وحياة روحي!!
أبوللو!!(118/66)
هل سمعت يا رب النور!؟ أرأيت إلى ذلك العاتي المتجبر كيف ثار بقديسك الضعيف المسن الذي أحنت ظهره السنون في عبادتك، والصلاة لك، والتسبيح من أجلك، والهتاف باسمك.!؟
ألا فلتنتقم لعبدك يا أبوللو العظيم، وليحل على الطغاة غضبك، ولتسحتهم بعذاب واصب، ليس له من قدرتك من دافع. . .
أبوللو. . .!
استجب يا رب الهيكل الخالد، وحامي المعبد الأمين!!. . .)
وسقط الكاهن أمام المذبح ينتحب، والشموع الموقدة تذري دموعها معه!
فثار في عليائه أبوللو. . .!
انتفض الإله العظيم انتفاضة رجف من هولها الأولمب، ورف في السماء كأنه سحابة مظلمة في ليل بهيم؛ وفوق كاهله الكبير قوسه الفضي المرنان، وعلى ظهره كنانته الواسعة الشاسعة، يسمع لسهامها صليل أي صليل. . . وأشرف من سمائه المضطربة على سفائن الأسطول المطمئن، وما هو إلا أن تميزها حتى عبس وبسر، ووتر قوسه فانهمرت منها سهام كالمطر، صبها على السفن حاملات الخيل والبغال أولا، ثم لوى فأصلى سفائن الجنود وابلا منها بعد ذلك. . . فلا تسمع إلا أنينا وبكاء، ولا ترى إلا صرعى يضجون ويعولون، ولا تحس إلا زفير جهنم وشهيقها يأخذ القوم من هنا وهنا فيقعون إلى أذقانهم سجدا وبكيا. . .
أمطر يا طعون. . .
ولا حنانيك يا أبوللو. . .
واستمر هذا البلاء تسعة أيام طوال كأنها دهر بأكمله. . .
وفي اليوم العاشر أوحى إلى أخيل أن يدعوا مجلس الجيش ليرى رأيه في هذه النكبة التي دهتهم بها ميازيب السماء. فلما التأم شمل القادة، اجتمع الرأي على أن يذهب كالخاس فيستوحي أربابه لتكشف هذه الغمة، أو ليرى بماذا ترضى من التضحيات والقرابين!
وعاد كالخاس، كعادته كلما حمل أخبار الشؤم من لدن أربابه كاسف الوجه، كالح الجبين، يحبس في صدره شجون الأرض، وهموم السماء!!(118/67)
(خريسيز يا سادة!)
(خريسيز تعود إلى أبيها القديس، وإلا فتلك مقابركم جميعا فوق هذا الشاطئ المظلم، المضرج بدمائكم، ودماء أعدائكم. . .!)
(هكذا تتفق كلمة الإلهة من أجل أبوللو. . . فويل لنا جميعا إن لم نهدئ ثورة صاحب القوس، ورب النور، وسيد الشمس.!)
(اسجدوا لأبوللو، واخشعوا. . .)
ونهض القوم من صلاتهم مشدوهين لا يحيرون، ينظر بعضهم إلى بعض، ولا تنفرج شفة بكلمة، ولا يتحرك لسان بقول!
ولكن أخيل شعر في صميمه أن القدر يسخره هذه المرة أيضا لتفريج الأزمة، وكشف البلاء، فنهض غير هباب، وأرسل قوله الحق في غير وجل، وصرح بضرورة إرسال خريسيز إلى والدها القديس معززة مكرمة، ثم تقديم القرابين من لحم العجول وشحم الأوعال إلى معبد أبوللو، وإطعام الحاضر من شوائها والباد
وزلزلت الأرض زلزالها، وهوت السماء فوق رأس أجاممنون!
ونشبت ملحمة هائلة بينه وبين أخيل، أوشك البطل أن يغمد سيفه من جرائها في صدر القائد العام، الذي طلب بكل صفاقة أن ينزل له أخيل عن غادته بريسيز: (إذا كان لابد من نزولي عن خريسيز ليسلم الجند من هذا الوباء!! وليسكن غضب أبوللو، وترضى السماء!)
وتأججت نيران العداوة بينهما، ذاك يحرص على فتاته الهيفاء وذاك يحض على إنقاذ الجنود بتضحية الذات وإنكارها في سبيل ما هو أسمى وأرفع، ولكن أجاممنون عمى عن هذا المثل العالي، فتشبث وأصر إلا ما نزل له أخيل عن بريسيز، لينزل هو عن خريسيز!!
وهنا تتننزل الإلهة لتحكم بين الخصمين!
تبدو مينرفا، ربة الحكمة والموعظة الحسنة، رسولا من لدن حيرا، سيدة ربات الأولمب، للبطل أخيل، بحيث لا يراها غيره، فتعظه أن يضحي بفتاته، ما دام هذا الفظ يتأبى إلا أن يكون ذلك. . .
ويصدع أخيل بأمر السماء. . .(118/68)
ويذهب أوليسيز بابنة القديس إلى أبيها حيث يلقاه في معبده يبكي. . . ويصلي! فيبشره بها، ويسأله الصفح والمغفرة فيهش الكاهن ويبش، وتنهمر من عينيه دموع الفرح
وتقدم القرابين باسم الجيش الهيلاني إلى معبد أبوللو
فينكشف البلاء. . . . . . وترضى السماء. . . ويدفن الهيلانيون موتاهم!
أما أخيل. . .
فينقطع عن المعركة، وينعزل في معسكره، لا يشترك في الحرب، ولا يشترك فيها جنوده الميرميدون!
وتحس أمه بما يلم به من الحزن، فتزوره، وتعده خيرا على يد الإله الأكبر، زيوس، سيد أرباب الأولمب!
(لها بقية)
دريني خشبة(118/69)
من الأدب الأمريكي:
قيصر
للقصصي الأمريكي بول بورك
تألق نجم مؤلف هذه القصة في العام المنصرم إذ تفوق بقصته (أخلاق) على جميع القصصيين الأمريكيين وأحرز من أجلها (جائزة أمريكا الأدبية لعام 1934)
بدأت المسألة بمعطف مطر. . .
وإذ خرج (قيصر سمث) في مساء يوم من أيام السبت المعهودة من جمعية رماية القرص التي يترأسها وسار على قدميه برغم المطر المدرار شاقا طريقه إلى منزله، رأى في تسياره الآنسة (شيلا) منزوية في مدخل لأحد المنازل غير حاملة مظلة ولا متدثرة بمعطف، وكانت تعمل جهدها للمحافظة على ثوبها الجديد من الماء الذي يتدفق منحدرا من سطح المنزل. . .
وإلى اليوم لم يدرك قيصر، وهو الرجل الخجول، كيف تسنى له أن يبدأ بحديث مع سيدة غربية عنه، ولكن لعل فوزه في رماية القرص عصر ذلك اليوم أحيا فيه النشوة. والخلاصة أنه خلع معطفه وقدمه إلى تلك الآنسة، وارتبك في القول
- (أنت هنا عرضة للتبلل بالماء. . . ارتدى هذا المعطف) ودهشت الآنسة من قوله ونظرت إليه في عجب وقالت:
- (ولكن كيف لي أن أقبل منك ذلك؟. . . وأنت؟) ولحظ قيصر أن لها عيونا ناعسة ساحرة، ولم يكن تبينها من قبل وقال لها:
- (لم يبق لي أن أسير طويلا، فنهاية سيري عند منعطف الشارع)
وكان ذلك منه اختلاقا، وترددت الآنسة بادئ ذي بدء، وكان من الواضح أن حرصها على ثوبها الجديد جعلها تتقبل في النهاية تلك التضحية. وأجابت
- (حقا إن ذلك لعطف منك عظيم. لقد انهالت الأمطار فجأة ويلوح لي أنها لن تحتبس قريبا. إنني مدينة لك بالشكر)
فأجابها قيصر وفي نبرات صوته شجاعة الكرام
- (إنه أمر لا يستحق أن ينوه به)(118/70)
وكان قد اعتزم المسير، فسألته الآنسة:
- (ولكن إلى أي مكان أرده؟)
فقال: (اسمي قيصر سمث)
وسرعان ما حدقت فيه الآنسة وقالت:
- (ما أروعه اسما! قيصر؟)
وأجاب في تواضع القنوع: (أي، ولماذا؟)
ثم فاه بكلام كبير المغزى إذ قال:
- (لا تكلفي نفسك مشقة إرجاع المعطف)
ثم سكت برهة وقال:
- (سأحضر بنفسي لآخذه)
فترددت الآنسة لحظة ثم قالت:
- (حسنا. إني أدعى شيلا هيرست وأسكن في شارع مونرو رقم 114)
وأسرع في ارتشاف ابتسامتها العذبة واستمر يتابعها بنظراته حتى أدركه جارف من الماء انساق إليه من حافة قبعته، فذكره بأن الوقت قد حان ليرجع إلى المنزل
وفي المساء التالي ذهب ليسترجع معطفه؛ فتعرف إلى المستر هيرست وزوجته، وقد استبقياه لتناول الشاي. وفي خلال ذلك تعرف إلى (المستر راند) الذي كانت له حظوة عند كل فرد من عائلة هيرست. وتراءى لقيصر أن تلك الحظوة وذلك العطف فيهما الكثير من المبالغة التي لا مبرر لها. وكان للمستر راند سيارة اتفق المجتمعون على أن يستقلوها إلى الشاطئ. وهنالك لم يجد قيصر من يتحدث إليه غير المستر هيرست، إذ أن راند كان يسير في صحبة (شيلا) على بضع خطوات خلفهما. ثم دعوا قيصر إلى العشاء في ذلك اليوم، وفي خلاله اختصته شيلا بابتسامة عذبة
وانتهى الأمر بقيصر إلى هذا الحد. ومنذ ذلك اليوم وهو يحمل وجها عبوسا، وما ذلك إلا لتأكده من أن مشاعره تحمل الحب لشيلا، ولكن أي أمل له - وهو الموظف البسيط ذو الأجر الضئيل - في آنسة يبتغيها لنفسه رجل مثل (راند) الثري. وبالمال الوفير تستهوى كل آنسة؛ ثم ماذا يقدمه لها عوضا عن المال؟ أيقدم اسمه العظيم الذي لم يحسن حتى اليوم(118/71)
صيانته؟ أم يقدم لقبه كرئيس لجمعية رماية القرص؟ لا شك أن هذا وذاك لا يغري، وليس ثمة من فائدة ترتجى أما لو كنت رئيسا أو وكيلا لرئيس أو على الأقل سكرتيرا لإحدى المؤسسات الكبرى، وكان لدى ما فيه الكفاية من المال لما توانيت عن نقش اسمي ووظيفتي على قبعتي، ولأمكنني إذن أن أفصح عما يخالج نفسي، ولعرفت كيف أرفع من شأن اسمي.
ولكن أي حال عليها أنا الآن؟ قيصر!! لاشك أنه هزؤ وسخرية، وما دمت موظفا بسيطا في (محل دولتل وشركائه) فلست قيصرا بل مجرد (أنت يا سمث) أو (أي. أنت الذي هنالك) ذلك إذا ما أريد مني شيء
وانطوى على أفكاره، ثم تذكر موعده فسار إلى منزل شيلا، ولاحت له من بعد سيارة (راند) مستقرة أمام المنزل. والأولى أن نتغاضى عما تمتم به ساعة أن رآها
وسألها (راند) أثناء تناول الطعام:
- إذن فستحضرين يوم السبت إلى ملعب كرة القدم، حيث تشاهدينني في الحفلة التي تقام ضد فرقة الأبطال الأقدمين)
وأجابت شيلا: (نعم)
ونظرت إلى قيصر وقالت:
- (ولعلك تحضر أنت أيضا!)
وهز هذا رأسه وقال:
- (إنني آسف، إذ أني سأشترك في اللعب)
وسأله (راند): (أي شيء، كرة القدم؟) ثم نظر إلى قيصر متعجبا من ضآلة جسمه وحقارة مظهره الذي لا ينم عن بطولة
واحمر وجه قيصر خجلا وقال:
- (كلا، بل رماية القرص)
فقال (راند) هازئا:
- (أي، إنكم ترمون بذلك الطبق الصغير هنا وهنالك، أليس كذلك؟ لقد فعلت هذا يوم أن كنت صبيا. أما الآن فأني أجدها لعبة مملة)(118/72)
وأجاب قيصر لفوره:
- (وكذا شأني وكرة القدم. لقد كنت أبحث دائما عن لعبة تتجلى فيها المهارة. ولا شك أن قرصا يرمي ليصيب هدفا أدعى للمهارة والدقة من كرة تدفع بالأرجل لتتقدم في السير)
وتدخلت شيلا في ذلك الحديث الذي أخذ يشتد وقالت:
- (ألم نذكر شيئا عن النزهة بالسيارة؟)
وتحمس (راند) وقال:
- (بلى، دعينا نذهب إلى الشاطئ)
والتفتت شيلا لقيصر وقالت له:
- (وستكون بالطبع معنا)
وما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى نزل ثلاثتهم من السيارة، وأخذوا يتريضون في طريق البحر، وقد خلا من الناس أو كاد، ولم يبقى إلا بضعة أفراد متفرقين يستمتعون بالاستحمام في البحر
وأرادت شيلا أن تطرق حديثا لا يجر إلى المشادة، فسألت:
- (هل يمكنك السباحة؟)
ولم يعرف كلاهما لمن وجه السؤال، إلا إن قيصر بادر بالإجابة فقال:
- (قليلا، إذ لم أتدرب عليها التدريب الكافي)
ثم قال (راند):
- (وكذلك حالي، إن لعب كرة القدم يستولي على كل وقتي، ولهذا كانت معرفتي بالسباحة ليست عظيمة للغاية)
وسألته شيلا ثانية:
- (وماذا أنت فاعل إذا رأيت رجلا يغرق؟ وليكن على سبيل المثال ذلك الرجل) وأشارت بإصبعها إلى رجل يسبح على بعد غير كبير من الشاطئ
وأجاب (راند) في لهجة الواثق من نفسه:
- (بالطبع أقذف نفسي في الماء وأعود به إلى الشاطئ)
ونظرت شيلا إلى قيصر وقالت:(118/73)
- (وهذا ما أنت فاعله أيضا، أليس كذلك؟)
وتردد قيصر في الجواب ورنا ببصره إلى ما وراءه فوجد قائمة في مدخل البحر معلقا بها (حزام النجاة) مشدودا بحبل إلى القائمة. فقال:
- (كلا، إنني لا أقذف بنفسي في اليم إذ أني لا أجيد السباحة، ولا يمكنني أن أسدي للغريق نفعا)
وصاح راند بصاحبه: (أي جبان!) ضمنها شيء من السخرية
وحدقت شيلا في قيصر الذي يحمل اسما كثير الوعود والآمال. وسألته مرة أخرى:
- (إذن تتركه يغرق؟)
فأجاب قيصر: (كلا)
وقبل أن يتم حديثه أخذ السابح - وقد كان على وشك النسيان منهم - في أن يثير المسألة بنفسه. وكانت مفاجأة عجلى ساعة أن رفع السابح ذراعيه في الهواء وصرخ مستغيثا.
فنزع راند معطفه. ثم تردد وقال في نفسه: هل من الأنصاف أن أضحي بحياتي؟ ولاشك أنه رأى في هذه اللحظة الماء في تلك البقعة أعمق منه في المحيط، ثم هو أصقع من ثلج القطب.
وحثته شيلا، وقد بدأ القلق ينتابها:
- (أسرع إنه يشرف على الغرق)
وصاح الرجل من الماء في صوت يكاد يختنق:
- النجدة، النجدة!!
وصاحت شيلا مرة أخرى:
- (أسرع، أسرع وإلا ذهبت أنا بنفسي إليه)
وقال قيصر بينما كان منافسه يتباطأ بشكل مزر ليخلع حذاءه:
- (قفي مكانك!)
ثم انتزع (حزام النجاة) واتخذ موقفا كالذي اعتاد أن يقفه في عصر كل يوم سبت لرماية القرص. ثم رمى رميته فتطاير الحزام مع الهواء ورسم في الفضاء قوسا عاليا، ثم انبطح دفعة على الماء. وقد كاد يسقط على رأس المشرف على الغرق وقال قيصر وقد تملكته(118/74)
السكينة والثقة بالنفس:
- (مصيب!. . . يقدر بنقطتين. .)
وكانت شيلا ترقب رميته وتتابعها بنظرات وجلة. فلما أن اقتيد الرجل الذي نجا وجيء به إلى الشاطئ وأفرغ زفيره وتأوهاته، سأل عمن رمى إليه بحزام النجاة، فأشارت شيلا إلى قيصر وقد تملكها الفخار
وحدق الرجل الذي نجا من الغرق في قيصر وقال له:
- (ظننت حقا أن حياتي قد انقضت، إذ أصبت بتصلب في الشرايين فجأة. . . لقد كانت رمية متقنة)
وأفصحت شيلا عن قيصر بقولها:
إنه رئيس جمعية رماية القرص
وقال الرجل وقد أدرك سر الأمر:
- (آه، لهذا كانت تلك الرماية محكمة. والآن اسمح لي أن أقول لك إنك أستاذ ماهر. ولو أنك لم تكن هنا لكنت الآن في ناحية ما من قاع البحر. . . إنني أود من صميم فؤادي أن أقدم لك خدمة بأي حال، فعرفني ماذا تريد)
وما فرغ من كلامه حتى أخذ ينظر إلى قيصر من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ثم سأله:
- أين تعمل؟
فأجاب قيصر:
- (في محل دولتل وشركائه)
- (واسمك؟)
- (قيصر سمث)
وقال الآخر بصوت خافت:
- (إن قيصر اسم بديع) ثم أفصح وقال: (واسمي بلوارك) وأعقبه قيصر متسائلا:
- (من مصنع ينيفرسال للسيارات؟!) فقد كان اسم بلوارك معروفا للجميع، حتى لصبية الشارع
فقال هذا: - (نعم، وإن لم تعلق أهمية خاصة على وظيفتك الحالية فإني أتقبلك في محل(118/75)
عملي بكل ارتياح إنني دائما في حاجة إلى شاب له قدرة على العمل في الوقت المناسب والرجل العملي يجد عندي الطريق مفتوحا أمامه.)
وأبرقت عينا قيصر وتمتم:
- (إذا فلا أقل من سكرتير!)
واتجه ببصره نحو شيلا التي كانت تحدق فيه طوال هذه المدة والإعجاب به قد تملكها
واندفع قيصر قائلا وكأنه قد استقر على أمر
- (ليس من طبعي أن أستخلص الحوادث فأستثمرها لنفسي، ولكن إن كنت حقا في حاجة إلي فأني أبحث عن وظيفة تمكنني من الزواج.)
ثم أخذ يد شيلا في يده، فما تراجعت ولا وهنت، وكان ذلك أمام سمع (راند) وبصره الذي تبلبل وانطفأ منذ اللحظة الأولى لتلك الواقعة
وهكذا جاوز قيصر كل تقدير
نقلها عن الإنجليزية
ا. ا. ي(118/76)
البريد الأدبي
نظرية النشوء بعد مائة عام
احتفلت جمعية علماء الزولوجيا (علم الحيوان) في لندن أخيرا بالذكرى المئوية لرحلة العلامة تشارلس داروين إلى أمريكا الجنوبية وجزائر المحيط الهادي؛ وقد أصبح اسم داروين في عصرنا علما على نظرية النشوء والتطور التي تذهب إلى تسلسل الإنسان من سلالة أحط من الحيوان، وأضحت النظريات الدارونية في ذلك علما راسخا، وكانت رحلة داروين الشهيرة التي كانت أساس مباحثه في (أصول الأنواع) في سنة 1831؛ وكان داروين يومئذ في الثانية والعشرين، وقد أتم دراسته الجامعية وملكه حب المباحث النباتية والحيوانية، فانتخب باحثا طبيعيا مع جماعة من العلماء جهزتها جامعة كمبردج، واستقلت السفينة الشهيرة المسماة (بيجل) إلى أمريكا الجنوبية، ولبثت السفينة بيجل تطوف أرجاء المياه الأمريكية، ومياه المحيط الهادي حتى بلغت أقصى جزائرها المسماة (جلاباجوس)، وقطعت في هذه المرحلة نحو خمسة أعوام، ولم تعد إلى إنكلترا إلا في سنة 1836، وفي أثناء هذا الطواف كان داروين يجمع المعلومات والملاحظات الدقيقة عما يراه من الحيوان والنبات. وإليك ما يقوله لنا عن هذه المباحث في مقدمته لكتابه الشهير في (أصول الأنواع):
(لما ركبت السفينة بيجل كباحث طبيعي، لفتت نظري بعض الحقائق الخاصة بتوزيع المخلوقات التي تسكن أمريكا الجنوبية بالعلائق الجيولوجية بين سكان هذه القارة في عصرنا وبينهم في الماضي. وقد لاح لي أن هذه الحقائق قد تلقي بعض الضياء على (أصول الأنواع) أو مسالة المسائل كما سماها فيلسوف من أعظم فلاسفتنا؛ ولما عدت إلى الوطن سنة 1837، فكرت أنه قد يمكن استخراج شيء في هذا الموضوع بجمع هذه الحقائق وتأملها، وبعد دراسة خمسة أعوام، سمحت لنفسي أن أتناول الموضوع وأن أكتب عنه بعض مذكرات، ثم استخرجت النتائج التي لاحت لي وجاهتها، وما زلت من وقتها إلى يومنا أتابع مباحثي في الموضوع)
وقد ضمن داروين مباحثه الأولى كتابا سماه (رحلة السفينة بيجل) وفي سنة 1859 أخرج كتابه الشهير الذي يعتبر فاتحة عصر في المباحث الطبيعية، وهو كتاب (أصول(118/77)
الأنواع) فأثار ظهوره أعظم اهتمام في الأوساط العلمية، وما زال داروين يشتغل بنظرياته ومباحثه في هذا الميدان لا يتحول عنها قط حتى أخرج في سنة 1871 كتابه عن (سلالة الإنسان)؛ يتناول أصل الإنسان ونشأته وتسلسله، ومن ذلك الحين اشتهر مذهب النشوء والتسلسل، وأثارت نظريات داروين في طبقات الكافة سخطا واشمئزازا لأنها لم تفهم على حقيقتها، بل فهمت على أنها تذهب إلى تسلسل الإنسان من القرد. ولداروين مباحث وكتب أخرى في هذا الباب يضيق عن ذكرها المقام
قاموس الأكاديمية الفرنسية
من المعروف أن الأكاديمية الفرنسية قد أنشئت في الأصل منذ ثلثمائة عام لتعنى (بتوسيع اللغة الفرنسية وتجميلها) حسبما ورد في قانونها التأسيسي. ومع أن الأكاديمية قد استحالت بمضي الزمن إلى هيئة أدبية كبرى تقود الآداب الفرنسية وتجمع صفوة زعمائها، فأنها لبثت مع ذلك تحرص على أداء المهمة الأصلية التي خلقت من أجلها، وهي تنقية اللغة وتحسينها وصقلها. وجهود الأكاديمية في هذا السبيل تبدو في القاموس الجامع الذي وضعته عن اللغة الفرنسية؛ وقد ظهر هذا القاموس في الصيف الماضي لمناسبة الاحتفال بمضي ثلثمائة عام على تأسيس الأكاديمية، والطبعة الحالية من القاموس هي الطبعة الثامنة، وقد بدأ في وضعها منذ سبعة وخمسين عاما! ولولا أن لجنة القاموس ضاعفت جهودها في الأعوام الأخيرة لما ظهر هذا القاموس الشهير. على أن الأكاديمية لقيت في وضعه صعابا لا نهاية لها، وخصوصا في العصر الأخير حيث كثرت الاختراعات العلمية، وتغيرت أوضاع الحياة، وتغلغلت في اللغة تعبيرات وكلمات جديدة لا نهاية لها. ومع ذلك فان إصداره بعد هذه الحقبة الطويلة يعد عملا من أعمال الأكاديمية نظرا لغزارته ودقته وجدته وبديع تصنيفه
وفات كاتب إنجليزي
في الأنباء الأخيرة أن الكاتب القصصي الإنكليزي الكبير سيلاس هوكنج قد توفي في الخامسة والثمانين من عمره، وكان هوكنج من رجال الدين، وتولى عدة مناصب دينية في شبابه؛ ولكنه منذ سنة 1896، نبذ حياة الكنيسة، وخاض غمار الحركة السياسية، ودخل(118/78)
البرلمان عضوا من حزب الأحرار، وفي أثناء ذلك ظهر هوكنج بكتاباته، واشتهرت قصصه، وكان معاصرا لعدة من أكابر كتاب القصص مثل كونان دويل، وجالز ويرثي، والسير هاجارد، وجوزيف كونراد، وستانلي ويمان وغيرهم، ولكنه لم يبلغ من القوة والشهرة مبلغ هؤلاء؛ بيد أنه من كتاب هذه المدرسة البارزين. ومن قصصه الشهيرة: (آلك جرين) (رغم القدر) (ضوء الساحر) (الرجل الصامت) (المراقبون في الفجر) (يقظة أنتوني وير) وغيرها
ترجمة لانسبوري بقلمه
المستر جورج لانسبوري زعيم حزب العمال البريطاني شخصية عظيمة في السياسة الإنكليزية، وفي المجتمع الإنكليزي؛ وقد نشأ عصاميا، في أوضع البيئات والأوساط، فاشتغل حمالا للفحم، وعاملا، وذاق شظف العيش والحياة الشاقة، وهو اليوم في السادسة والسبعين من عمره، ولكنه ما زال جم النشاط يتزعم حركة المعارضة في البرلمان، ويتزعم حزب العمال، ويشرف على تحرير جريدة الحزب (الديلي هرالد)، وقد أخرج أخيرا كتابا يحتوي ترجمة حياته؛ وفيه يصف حياة الأحياء والمجتمعات الفقيرة في مدينة لندن منذ ستين أو سبعين عاما حينما كان يطوفها صبيا عاري القدمين؛ ثم يصف أدوار حياته، وكفاحه في سبيل رفاهة العمال، ومثابرته على خدمة القضية التي مازال يخدمها. ويبدو مستر لا نسبوري في كتابه رقيق العاطفة فياض الرحمة والإنسانية، والعطف على الفقير والبائس
مؤتمر للصحافة
عقد في منتصف شهر سبتمبر بمدينة لندن مؤتمر للصحافة بأشراف معهد لندن الصحفي؛ وأرسل مستر بلدوين رئيس الوزارة إلى المؤتمر رسالة نوه فيها بأهمية الصحافة ومسئوليتها العظيمة، وتأثيرها القوي في تسيير الرأي العام وتقديره للشؤون العامة. وألقيت في المؤتمر خطب عديدة نوه فيها بأهمية الصحافة الحرة، وحاجتها إلى قانون تنظم فيه هذه الحرية؛ ولما كان في القانون الجديد الذي صدر خاصا بنشر ما يتعارض مع هذه الأمنية، فقد أعرب المؤتمر عن أمله في أن يترك للصحفيين حق تنظيم شؤونهم الخاصة، وقرر(118/79)
السعي لدى البرلمان لحمله على تحقيق هذه الأمنية بإصدار قانون جديد، وقرر المؤتمر أيضا أن ينشئ نظاما للمعاش يغذي الصحفيين العاطلين والمعوزين
أوتوكار أوسترشيل
توفي أخيرا في براج عاصمة تشيكوسلوفاكيا الموسيقي الشهير أوتكار أوسترشيل مدير المسرح الوطني ببراج، وقد كان أسترشيل زعيم المدرسة الموسيقية الحديثة في تشيكوسلفاكيا؛ ودرس في النمسا وألمانيا، وظهر منذ شبابه بالبراعة في التأليف الموسيقي، وله مؤلفات عديدة في الموسيقى وقطع موسيقية شهيرة ما تزال تحتفظ بروعتها وجدتها، وكانت وفاته في عنفوان قوته وشهرته إذ لم يجاوز العقد الخامس إلا بأعوام قلائل(118/80)
الكتب
وادي النطرون
وتاريخ الأديرة البحرية
للأمير عمر طوسون
للأستاذ محمد بك كرد علي
وضع الأمير تآليفه لخدمة مصر والسودان، فهي الآن تملأ قمطرا جميلا من قماطر التاريخ والاجتماع والاقتصاد والمالية وغيرها. ومنها ما كتبه بالفرنسية (1) كمذكراته في فروع النيل في القديم وعلى العهد العربي (مجلدان)، و (2) مذكرات في مالية مصر منذ عهد الفراعنة إلى أيامنا هذه (مجلد واحد)، و (3) مذكرات في تاريخ النيل (ثلاثة مجلدات)، و (4) كتاب في جغرافية مصر في عهد العرب (مجلد واحد)، و (5) عاقبة أمر المماليك، و (6) بحث في وادي النطرون ورهبانه وأدياره وغير ذلك. ومن تآليفه بالعربية (7) كتاب مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن (مجلد ضخم)، و (8) بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك، و (9) الصنائع والمدارس العربية والبعثات العلمية في عهد محمد علي باشا، و (10) الجيش المصري، و (11) البحرية المصرية، و (12) كتاب البعثات العلمية في عهدي عباس الأول وسعيد، و (13) يوم 11 يوليه سنة 1882؛ وغير ذلك من أبحاثه ومقالاته بالعربية والفرنسية مما ينشره في الصحف والمجلات بالمناسبات
وآخر ما صدر من قلم الأمير بالعربية (14) (وادي النطرون ورهبانه وأديرته ومختصر تاريخ البطاركة) مذيلا بكتاب (تاريخ الأديرة البحرية)، و (15) كتاب للباحث المطلع (المحزون) في (ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية) (طبعة ثالثة) طبع على نفقة دائرة سمو الأمير في مطبعة السفير بإسكندرية، وقد قد الأمير كتاب وادي النطرون إلى صاحب الغبطة الانبا يؤانس (بابا وبطريرك الكرازة المرقسية الثالث عشر بعد المائة) ودل المؤلف فيه على كثرة بحثه ودرسه وأنه خادم أمين لمصر وسودانها، في جميع المظاهر النافعة، وأنه حسنة من حسنات مصر الحديثة، ما أحرز شهرته العالمية إلا من طريق العلم والعمل والإخلاص لمصر خاصة، والمسلمين في الأرض عامة. فجزاه الله(118/81)
عن العلم أفضل ما يجازي من أخلصوا في خدمته، ونفع بثمرات اجتهاده مصر والمصريين
من أفلاطون إلى ابن سينا
للأستاذ جميل صليبا
نشر مكتب النشر العربي بدمشق ست محاضرات في تلخيص فلسفة أفلاطون والفلسفة العربية وفي الفارابي والجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، وفي جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة، وفي نظرية الفيض عند ابن سينا، أو صدور الموجودات عن الخالق، وفي نظرية النفس عند ابن سينا، وفي نظرية ابن سينا في السعادة. قال المؤلف: إذا درسنا فلسفة ابن سينا رأينا أنها تختلف عن فلسفة أرسطو في كثير من المسائل، كفكرة الفيض، وفكرة خلود النفس وغيرهما، وأن ابن سينا متفق مع أرسطو في الطرائق والوسائل، ومختلف عنه في الغايات والمقاصد، ولعله لم يبتعد عن أرسطو في بعض المسائل إلا لتأثره بالوسط الاجتماعي، ورغبته كالفارابي في الجمع بين الدين والفلسفة، فقد كان الفارابي يعتقد أن الفلسفة واحدة، وأن مقاصدها الحقيقية لا تختلف عن مقاصد الدين. وكان ابن سينا يرى كابن الطفيل أن النبوة حالة طبيعية من أحوال النفس، لا فرق بين الدين والفلسفة إلا من حيث الظاهر. وقال إن الجمع بين الدين والفلسفة كان من أكبر العوامل التي حدت بالفارابي وابن سينا أن يعرضا أحيانا عن أرسطو ويتبعا أفلاطون، وقد سارا في ذلك على طريقة فلاسفة الإسكندرية؛ ووجدا في ترجمة كتب أفلاطون خير معين على ذلك. وقد بسط صاحب هذه المحاضرات هذه المباحث بسطا يقربه من الأذهان معتمدا على مصادر عربية وغربية، فالشكر لعنايته وأدبه
كتاب محاسن أصفهان
تأليف مفضل بن سعد بن الحسين المافروخي الأصفهاني
ويليه رسالة الإرشاد في أحوال الصاحب الكافي إسمعيل بن
عباد(118/82)
صاحب كتاب محاسن أصفهان من علماء القرن الخامس للهجرة، فارسي أصفهاني استعمل السجع في كلامه حتى كادت تضيع المعاني، وكتب كتابه على بلده كتابة مبالغة وتمدح، وفيه فوائد لمن تهمه أحوال تلك الديار في تلك العصور. ومما نقله المؤلف كتاب للحجاج. قيل إنه كتبه لوهزاذين يزداذ بن الأنباري، وكان قريبا لكاتبه المجوسي الأصفهاني جاء فيه: أما بعد فإني استعملتك على أصفهان، أوسع الأرض رقعة وعملا، وأكثرها خراجا وأزكاها أرضا، حشيشها الزعفران والورد، وجبلها الفضة والكحل، وأشجارها الجوز واللوز والجلوز وما أشبهها، والتين والزيتون والكروم الكريمة، والفواكه العذبة، وطيورها عوامل العسل. وماؤها الفرات، وخيلها الماذيانات الجياد. . . فايم الله لتبعثن إلي بخراج أصفهان كلها أو لأجعلنك طوابيق على باب مدينتها، فاختر أوفق الأمرين لك، فقد عظمت جنايتك علي وأسأت إلى نفسك. . .) وساق المؤلف حديث (لو كان الإيمان يناط بالثريا لتناوله رجال من الفرس أو قال من هؤلاء). وذكر في جملة فلاسفتها ومهندسيها ومنجميها وأطبائها جماعة من اليهود منهم: يوسف اليهودي، ويعقوب اليهودي، والفرج بن سهل اليهودي، إلى غيرهم من المسلمين والمجوس؛ وذكر في شعرائهم طائفة من الشعراء بالعربية وأخرى من شعراء الفارسية، وكذلك من كتاب العاصمة على اختلاف لغتهم
وذكر المؤلف ما في داخل أصفهان من الدور السرية وأن منها ما يصلح لأمير كبير، وأن في أسواقها طرائف بغداد، وخزوز الكوفة، وديباج الروم وتستر، وبز مصر وقباطيها، وجواهر البحرين، وآبنوس عمان، ونوادر الصين، وفراء خراسان، وخشب طبرستان، وأكسية آذربيجان وأصوافها، وفرش إرمينية، وما يقاربها من الظروف والأواني والفرش والأمتعة والأثاث والعقاقير والأدوية والأخلاط والأبازير التي مساقطها من البلدان المتطارحة والأوطان المتنازحة، ووصف جوامع أصفهان ومنها جامع الخصيب بن مسلم لا يصلي فيه في الصلوات الخمس أقل من خمسة آلاف رجل (وتحت كل اسطوانة منه شيخ مستند ينتابه جماعة من أهلها بوظيفة درس، أو رياضة نفس، تزيد بمناظرة الفقهاء، ومطارحة العلماء، ومجادلة المتكلمين، ومناصحة الواعظين، ومحاورات المتصوفين، وإشارات العارفين، وملازمة المعتكفين، إلى ما يتصل به وينظم إليه من خانكاهات قوراء مرتفعة، وخانات عامرة متسعة، قد وقفت لأبناء السبيل من الغرباء والمساكين والفقراء،(118/83)
وبحذائه دار الكتب وحجرها وخزائنها اللواتي قد بناهن الأستاذ الرئيس أبو العباس أحمد الضبي ونضد فيها من الكتب عيونا، وخلدها من العلوم فنونا. ويشتمل فهرستها على ثلاثة مجلدات كبيرة من المصنفات في أسرار التفاسير وغرائب الأحاديث، ومن المؤلفات في النحو واللغة والتصريف والأبنية، ومن المدونات من غرر الأشعار، وعيون الأخبار، ومن الملتقطات من سنن الأنبياء والخلفاء، وسير الملوك والأمراء، ومن المجموعات من علوم الأوائل من المنطقيات والرياضيات والطبيعيات والإلهيات، وبذلك أدركنا أن الجامع الأعظم ودار الكتب في أصفهان هما من إنشاء العرب أيضا
وفي الكتاب شعر كثير، ومسائل أقرب إلى أن تعد في باب الأساطير والخرافات منها إلى أن تعد في التاريخ والأدب. وما كتاب محاسن أصفهان إلا صورة صحيحة من تأليف الفرس في ذلك العصر، والمؤلف نفسه كثير المادة من الألفاظ، ضعيف في السبك، تقرأ العجمة في كل سطرين من كلامه. وقد طبع الكتاب في طهران الأستاذ السيد جلال الدين الحسيني الطهراني عن نسخة الميرزا جسنخان وثوق الدولة أحد زعماء السياسة في إيران، كتبت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وقدم له مقدمة عربية وختمها بقوله: (وإني مع قلة بضاعتي في الفنون الأدبية، وكثرة اشتغالي بالعلوم الرياضية والفلكية، أرجو من مطالعي هذا الكتاب العفو عن زلتي في تصحيح بعض مواقعه) وقد وضع للكتابين فهارس الإعلام والأماكن والقبائل وطبعته (مكتبة الإقبال) في عاصمة إيران. أما رسالة الإرشاد فهي في مدح الصاحب بن عباد الوزير الكاتب المشهور تأليف أبي القاسم أحمد بن محمد الحسني الحسيني القوبائي الاصبهاني من علماء القرن الثالث عشر من الهجرة. فللناشر أطيب الشكر على عنايته
محمد كرد علي(118/84)
العدد 119 - بتاريخ: 14 - 10 - 1935(/)
خزائن الكتب في القاهرة
على ذكر الخزانة الزكية
للدكتور عبد الوهاب عزام
قرأت في إحدى الجرائد أن وزارة المعارف عزمت على نقل الخزانة الزكية - مكتبة أحمد زكي باشا رحمه الله - من مكانها في قبة الغوري إلى دار الكتب العامة. ويرحم الله زكي باشا؛ لو كان حياً لصال بلسانه وقلمه، وملأ الدنيا حجاجاً، وشغل رجال الحكومة بزياراته وأحاديثه، ليدافع عن كتبه العزيزة عليه التي أنفق عمره في جمعها، وأقامها مقام الأولاد فمنحها فكره وقلبه، فيمنعها أن تنقل من مكانها الذي اختاره في قبة السلطان الغوري. وكان رحمه الله معجباً بالغوري إعجاباً طوى ما بينهما من عصور، فكان إذا تحدث عنه قال: (صديقي السلطان الغوري). لكن شيخ العروبة الذي كان نشاطاً لا يفتر، وحركة لا تسكن، وعملاً لا يمل؛ قد طواه الردى، فأصبحت (الخزانة الزكية) الخزانة اليتيمة
ومن قبل نقلت إلى دار الكتب الخزانة التيمورية التي جمعها من أقطار الأرض العلامة التقي النقي أحمد تيمور باشا رحمه الله وليست هذه سنة رشيدة؛ ليس سنة رشيدة أن تجمع الكتب في مكان واحد، وتحرم القاهرة المعزية إلا من مكتبة واحدة يزدحم فيها القراء من كل قبيل، ويلتقي فيها الباحث المدقق الذي يستقصي المخطوطات القديمة، والقارئ الذي يزجي وقته بقصة ملهية، ويفد إليها أهل القاهرة من المحلات الدانية والقاصية
لا بد لنا من مكتبة عامة جامعة كدار الكتب، ولكن لابد لنا معها من مكتبات خاصة كالخزانة التيمورية والخزانة الزكية، يقصدها الباحثون المنقبون، ويؤمها خاصة المطالعين، فيجدون مكاناً ساكناً يسكنون إليه ويتعارفون فيه، ثم تكون لكل مكتبة خصائص معروفة تجذب إليها صفاً من الباحثين؛ ولابد لنا، إلى هذه وهذه من مكتبات محلية، يستفيد منها أهل كل محلة في القاهرة، يجدونها قريبة إليهم، ويلفون كتبها ميسرة لهم
كان من سنن الحضارة الإسلامية الإكثار من خزائن الكتب الكبيرة والصغيرة في كل مدينة، وكان لكل مسجد كبير خزانة كتب، فكانت القراءة ميسورة لكل طالب في كل حي وفي كل مسجد، وليس يتسع المجال هنا للحديث عن خزائن الكتب في المدن الإسلامية القديمة في المشرق والمغرب فهو حديث طويل، وحسبك أن أبو تمام عوقه البرد في همذان(119/1)
فوجد في إحدى خزائنها ما يسر له اختيار حماسته، وأن ياقوتاً الحموي أقام في مرو الشاهجان فأفاد من اثنتي عشرة خزانة بها، في كل واحدة آلاف المجلدات. وهو يقول في معجم البلدان: (فكنت أرتع بها، وأقبس من فوائدها. وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن). هذه مرو الشاهجان، فما ظنك ببغداد والقاهرة وقرطبة؟ كانت قرطبة لا تخلو دار كبيرة فيها من خزانة كتب
وكان في الآستانة إلى عهد قريب زهاء أربعين خزانة، في كل جامع كبير واحدة، وكثير منها يشرف على حدائق، وتتهدل الأشجار عند منافذها. فليس يمل القارئ الجلوس بها، ولا يزعجه عن القراءة لغو ولا جلبة. وقد يجلس المطلع في مكتبة الفاتح فيود أن لا تنتهي القراءة ولا ينتهي الوقت. وقارئ الكتب أحوج الناس إلى المكان النزه الهادئ، يوحي السكينة إلى نفسه، ويجمع للمعرفة فكره، ويحبب إليه المثابرة والدأب. فأين من هذا دور الكتب الكبيرة المطبقة على المطالع بجدرانها، وجلبتها، والتي تقطع عليه فكره بمناظر الداخلين والخارجين. يود قاصدها أن يحصل أقل ما يريد في أقصر وقت فيسارع إلى الخروج. وكم ينتظر حتى يظفر بالكتاب المطلوب؟
وقد كان في القاهرة خزائن فرقتها يد الزمان العسراء، ولعبت بها غيره الهوجاء، ثم جمعت بقية الأحداث منها في دار الكتب المصرية؛ وقد رأينا وزارة الأوقاف إلى عهد قريب تجمع الكتب من المساجد فتضعها في الخزائن الزكية. لقد أحسنت الحكومة بما فعلت حينما كانت الكتب عرضة للضياع، غير مهيأة للانتفاع، ولكن الأحوال تغيرت، ودار الكتب ضاقت بما فيها، وغصت بزائريها. فعلينا أن نتدارك اليوم ما عجزنا عنه بالأمس، فنعنى بتجهيز القاهرة بخزائن الكتب المختلفة في المحلات المختلفة. ونحتفظ بما في المساجد من الكتب إن كان لها بقية لنجعلها نواة لمكتبات كبيرة
ولم لا يكون لنا خزانة في الجامع العتيق، وكان مثابة العلم في مصر زمناً طويلاً؟ ولم لا يكون لنا خزائن في جامع ابن طولون، والجامع الأقمر، وخانقاة سعيد السعداء التي كانت مأوى كبار العلماء، ومساجد المؤيد، وبرقوق، والسلطان حسن، وكانت هذه المساجد معاهد للدرس، وقد اتخذنا بعضها اليوم مدارس أيضاً، فلماذا لا نتخذها معاهد لمطالعة الكتب؟(119/2)
لماذا لا ننتفع بهذه الأبنية الواسعة الشاهقة فنفسر أموالنا، ونعرف آثارنا، ونصل ماضينا بحاضرنا؟ وليت خزائن الكتب تتقسم العلوم فيقصد الباحثون الجامع العتيق ليقرأوا الفقه والحديث وكل ما كتب عن الفسطاط ومصر في عهد الفسطاط، ويذهبون إلى الجامع المؤيد ليقرأوا ما كتب عن المماليك، ويقصدون خانقاة سعيد السعداء أو تكية المولوية لقراءة التصوف، وهلم جرا
هذه آراء يلقاها بالاستهزاء الذين خلعوا أنفسهم من تاريخنا وسننا، ولكني أرجو أن يكون لها من تفكير المفكرين نصيب
وبعد، فينبغي أن تبقى الخزانة الزكية في مكانها إبقاء على السنن الصالحة، وتيسيراً للقراءة على طلابها، واحتفاظاً برغبة صاحب الكتب الذي بذل في جمعها من ماله وعمره، ولبث حياته يحنو عليها حنو الأب الشفيق على أولاده. ولا يزال أمام وزارة المعارف سعة للتفكير والعدول عن الخطأ الذي همت به.
عبد الوهاب عزام(119/3)
4 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قلت لها: أن قلبي وقلبك يتجاليان في هذه الساعة ويتباكيان؛ أتدرين ماذا يقول لك قلبي؟
إنه ليقول عني: أعزز علي بأن تكوني ههنا، وأن تتألف منك هذه القصة التي تبدأ بالوصمة وتنتهي بالاستخذاء فتنطلق المرأة في متالفها ومهاويها ليبلغ بها القدر ما هو بالغ؛ وليس إلا الضرورة وسطوتها بها، والإذلال ومهانته لها، والاجتماع وتهكمه عليها، والابتذال واستعباده إياها. ومهما يأت في القصة من معناً فليس فيها معنى الشرف؛ ومهما يكن من موقف فليس فيها موقف الحياء؛ ومهما يجر من كلام فليس فيها كلمة الزوجة. وأعزز علي بأن أرى المصباح الجميل المشبوب الذي وضع ليضيء ما حوله، قد أنقلب فجعل يحرق ما حوله؛ وكان يتلألأ ويتوقد، فارتد يتسعر ويتضرم ويجني على ما يتصل به وسقط بذلك سقطة حمراء. . . .
أفتدرين ماذا يقول لي قلبك؟
إنه يقول عنك: يا بؤسنا من نساء! لقد وضعنا وضعاً مقلوباً فلا تستقيم الإنسانية معنا أبداً، وكل شيء منقلب لنا متنكر؛ والشفقة علينا تنقلب من تلقاء نفسها تهكماً بنا، فنبكي من شفقة بعض الناس كما نبكي من ازدراء بعض الناس. يا بؤسنا من نساء!
قالت صدقت، وكذلك تنقلب أسباب الحياة معنا أسباباً للمرض والموت، فاليقظة ليس لها عندنا النهار بل الليل، والصحو لا يكون فينا بالوعي بل بالسكر، والراحة لا تكون لنا في السكون بل والانفراد في الاجتماع والتبذل؛ وما يرد العيش على امرأة من واجباتها السهر، والسكرة والعربدة، والتبذل، وتدريب الطباع بالوقاحة، وتضرية النفس على الاستغواء والتصدي بالجمال للكسب من رذائل الفساق وأمراضهم، والتعرض لمعروفهم بأساليب أخرها الهوان والمذلة، واستماحتهم بأساليب أولها الخداع والمكر؟
إن حياةً هذه هي واجباتها، لا يكون البكاء والهم إلا من طبيعية من يحياها، وكثيراً ما نعالج الضحك لنفتح لأنفسنا طرقاً تتهارب فيها معاني البكاء؛ فإذا أثقلنا الهم وجل عن الضحك وعجزنا عن تكلف السرور، ختلنا العقل نفسه بالخمر؛ فما تسكر المرأة منا للسكر أو النشوة، بل للنسيان، وللقدرة على المرح والضحك، ولأمداد محاسنها بالأخلاق الفاجرة من(119/4)
الطيش والخلاعة والسفه وهذيان الجمال الذي هو شعره البليغ. . . . عند بلغاء الفساق
قال الأستاذ (ح): أهذا وحاضر الغادة منكن هو الشباب والصبى والجمال وإقبال العيش، فكيف بها فيما تستقبل؟
قالت: إن المستقبل هو أخوف ما نخافه على أنفسنا، وليس من امرأة في هذه الصناعة إلا وهي معدة لمستقبلها إما نوعاً من الانتحار، وإما ضرباً من ضروب الاحتمال للذل والخسف. وليس مستقبلنا هذا إلا كمستقبل الثمار النضرة إذا بقيت بعد أوانها، فهو الأيام العفنة بطبيعة ما مضى. . بلى إن مستقبل المرأة البغي هو عقاب الشر
قال (ح): هذا كلام ينبغي أن تعلمه الزوجات؛ فالمرأة منهن قد تتبرم بزوجها وتضجر وتغتم، وتزعم أنها معذبة فتتسخط الحياة، وتندب نفسها؛ ثم لا تعلم أنه عذاب واحد برجل واحد تألفه فتعتاده فترزق من اعتياده الصبر عليه فيسكن بهذا نفارها. وتلك نعمة واجبها أن تحمد الله عليها ما دام في النساء مثل الشهيدات تتعذب الواحدة منهن فنوناً من العذاب بمائة رجل وبألف رجل، وهم مع ذلك يتبلون روحها بعددهم من الذنوب والآثام
وقد تستثقل الزوجة واجباتها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ وتشكو من هذه الرجرجة اليومية في الحياة، ثم لا تعلم أن نساءً غيرها قد انقلبت بهن الحياة في مثل الخسف بالأرض
وقد تجزع للمستقبل وتنسى أنها في أمان شرفها، ثم لا تعلم أن نساء يترقبن هذا الآتي كما يترقب المجرم غد الجريمة من يوم فيه الشرطة والنيابة والمحكمة وما وراء هذا كله
فقلت: وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كل العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها
والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزع حبها وحنان قلبها، فلا يزال قلبها إنسانياً على طبيعته، يفيض بالحب ويستمد من الحب. والأخرى لا تجد من هذا شيئاً، فتنقلب وحشية القلب، يفيض قلبها برذائل ويستمد من رذائل، إذ كان لا يجد شيئاً مما هيأته الطبيعة ليتعلق به من الزوج والدار والنسل
والزوجة امرأة هي امرأة خالصة إنسانية، أما الأخرى فمن امرأة ومن حيوان ومن مادة مهلكة(119/5)
وتما السعادة أن النسل لا يكون طبيعياً مستقراً في قانونه إلا للزوجات وحدهن، فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن وماضيهن، وبركتهن على الدنيا؛ ومهما تكن الزوجة شقيةً بزوجها فان زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة. أما أولئك فليس لهن عاقبة إذ النسل قلب لحلتهن كلها؛ وهو غنىً إنساني ولكنه عندهن لا يكون إلا فقراً، وهو رحمة ولكنها لا تكون إلا لعنة عليهن وعلى ماضيهن. وقد وضعت الطبيعة في موضع حب الولد الجديد من قلوبهن، حب الرجل الجديد، فكانت هذه نقمةً أخرى
قال (ح): أتريد من الرجل الجديد من يكون عندهن الثاني بعد الأول، أو الثالث بعد الثاني، أو الرابع بعد الثالث؟
قلت: ليس الجديد عليهن هو الواحد بعد الواحد إلى آخر العدد؛ ولكنه الرجل الذي يكون وحده بالعدد جميعاً إذ هو عندهن يشبه الزوج في الاختصاص وفي شرف الحب، فهو الحبيب الشريف الذي تتعلقه إحداهن وتريد أن تكون معه شريفة؛ ولكن من نقمة الطبيعة أن من وجدته منهن لا تجده إلا لتعاني آلم فقده
يا عجبا! كل شيء في الحياة يلقي شيئاً من الهم أو النكد أو البؤس على هؤلاء المسكينات، كأن الطبيعة كلها ترجمهن بالحجارة. .
قالت هي: وليست الحجارة هي الحجارة فقط، بل منها ألفاظ ترجم بها المسكينة كألفاظك هذه. . . وكتسمية الناس لها (بالساقطة) فهذه الكلمة وحدها صخرة لا حجر
ثم تنهدت وقالت: من عسى يعرف خطر الأسرة والنسل والفضيلة كما تعرفها المرأة التي فقدتها؟ إننا نحسها بطبيعة المرأة، ثم بالحنين إليها، ثم بالحسرة على فقدها، ثم برؤيتها في غيرنا، نعرفها أربعة أنواع من المعرفة إذ عرفتها الزوجة نوعاً واحداً. ولكن هل ينصفنا الرجال وهم يتدافعوننا؟ هل يرضون أن يتزوجوا منا؟
قلت: ولكن الأسرة لا تقوم على سواد عيني المرأة وحمرة خديها، بل على أخلاقها وطباعها. فهذا هو السبب في بقاء المرأة حيث ارتطمت. وهي متى سقطت كان أول أعدائها قانون النسل
ومن ثم كانت الزلة الأولى ممتدةً متسحبةً إلى الآخر، إذ الفتاة ليست شخصاً إلا في اعتبارها هي، أما في اعتبار غيرها فهي تاريخ للنسل إن وقعت فيه غلطة فسد كله وكذب(119/6)
كله فلا يوثق به
وهذه الزلة الأولى هي بدء الانهيار في طباع رقيقة متداخلة متساندة لا يقيمها إلا تماسكها جملةً، وما لم يتماسك إلا بجملته فأول السقوط فيه هو استمرار السقوط فيه. ولهذا لا يعرف الناس جريمةً واحدةً تعد سلسلة جرائم لا تنتهي إلا سقطة المرأة. فهي جريمة مجنونة كالإعصار الثائر يلف لفاً، إذ تتناول المرأة في ذاتها، وترجع على أهلها وذويها، وترتمي إلى مستقبلها ونسلها، فيهتكها الناس هي وسائر أهلها، من جاءت منهم ومن جاءوا منها
والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء. وكل شريفة تعرف أن لها حياتين: إحداهما العفة، وكما تدافع عن حياتها الهلاك، تدافع السقوط عن عفتها، إذ هو الهلاك حقيقتها الاجتماعية. وكل عاقلة تعرف أن لها عقلين تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها
قال الأستاذ (ح): إن هذه هي الحقيقة، فما تسامح الرجال في شرف العرض إلا جعلوا المرأة كأنها بنصف عقل فاندفعت إلى الطيش والفجور والخلاعة، أرادوا ذلك أم لم يريدوه
قلت: وهذا هو معنى الحديث: (عفوا تعف نساؤكم) فان عفاف المرأة لا تحفظه المرأة بنفسها ما لم تتهيأ لها الوسائل والأحوال التي تعين نفسها على ذلك. وأهم وسائلها وأقواها وأعظمها، تشدد الرجال في قانون العرض والشرف
فإذا تراخى الرجال ضعفت الوسائل، ومن بين هذا التراخي وهذا الضعف تنبثق حرية المرأة متوجهةً بالمرأة إلى الخير أو للشر على ما تكون أحوالها وأسبابها في الحياة. وهذه الحرية في المدنية الأوربية قد عودت الرجال أن يغضوا ويتسمحوا، فتهافت النساء عندهم تنال كل منهن حكم قلبها ويخضع الرجل. . . .
على أن هذا الذي يسميه القوم حرية المرأة ليس حريةً إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى:
إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يعولها أو يكفيها ويقيم لها ما تحتاج إليه، فمثل هذه هي حرة حرية النكد في عيشها، وليس بها الحرية بل هي مستعبدة للعمل شر ما تستعبده امرأة
وإما انطلاق المرأة في عبثاتها وشهواتها مستجيبةً بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع في(119/7)
الرجل، بمقدار ما يشتريه من المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعوا إليه الفنون. فمثل هذه هي حرة حرية سقوطها وما بها الحرية بل يستعبدها التمتع
والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله، فان هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني وحلال قانوني، فلا مسقطة للمرأة ولا غضاضة عليها قانوناً. . . فيما كان يعد من قبل خزياً أقبح الخزي وعاراً أشد العار، فمثل هذه هي حرة حرية فسادها، وليس بها الحرية ولكن تستعبدها الفوضى
والرابعة غطرسة المرأة المتعلمة وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معاً، فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها نحن امرأتان. . . . فهي من أجل ذلك مطلقة مخلاة كيلا يكون عليها سلطان ولا إمرة. فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها وضلالتها
حرية المرأة في هذه المدنية أولها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائما إما ضياع المرأة وإما فساد المرأة
والدليل على التواء الطبيعة في المدنية استواء الطبيعة في البادية، فالرجال هناك قوامون على النساء، والنساء بهذا قوامات على أنفسهن، إذ ينتقمون للمنكر انتقاماً يفور دماً وبهذه الوحشية يقررون شرف العرض في الطبيعة الإنسانية ويجعلونها فيها كالغريزة، فيحاجزون بين الرجال والنساء أول شيء بالضمير الشريف الذي يجد وسائله قائمةً من حوله
قال الراوي: وغطت وجهها بيديها وقالت: إنك لا تزال ترجم بالحجارة. . . إن فيك متوحشاً
قلت بل متوحشة. . .
إنك أنت قد تكلمت في، فجمالك الذي يضع الإنسان في ساعة مجنونة ليمتعه بطيشها، فقد وضعنا نحن في ساعة مفكرة وأمتعنا بعقلها؛ وإذا قلت جمالك، فقد قلت وحيك، إذ لا جمال عندي إلا ما فيه وحي
أما قلت: إنك لو خيرت في وجودك لما اخترت إلا أن تكوني رجلاً نابغةً يكتب ويفكر ويتلقى الوحي من الوجوه الجميلة؟(119/8)
فدقت صدرها بيدها وقالت: أنا؟ أنا لم أقل هذا. ثم أفكرت لحظة وقالت: إذ كنت أنت تزعم أنني قلته، فأظن أنني قلته. . .
قال (ح): رجل؛ ويكتب؛ ويفكر؛ ولم تقل هي شيئاً من هذا. أربع غلطات شنيعة من فساد الذوق
قالت: بل قل أربع غلطات جميلة من فن الذوق. إن الرجل الظريف القوي الرجولة، يجب عليه أن يغلط إذا حدث المرأة
قال (ح): لتضحك منه؟
قالت: لا بل لتضحك له. . . . .
قلت: فلي إليك رجاء
قالت: إن صوتك يأمر، فقل
فماذا قلت لها وماذا قالت؟
(لها تتمة)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(119/9)
فقدان الثقة
للأستاذ أحمد أمين
لعل أسوأ ما تمنى به أمة أن يفقد أفرادها الثقة بعضهم ببعض؛ ففقدان الثقة يجعل الأمة فرداً، والثقة تجعل الفرد أمة؛ الثقة تجعل الأجزاء كتلة، وفقدانها يجعل الكتلة أجزاء غير صالحة للالتئام، بل يجعل أجزاءها متنافرة متعادية توجه كل قوتها للوقاية والنكاية
كم من الزمن ومن المال ومن النظم ومن الخطط تنفق إذا فقدت الثقة؟ ثم هي لا تغني شيئاً ولا تعيد الثقة
تصور أسرة فقد الزوج فيها ثقته بزوجته، والزوجة بزوجها، ثم تصور كيف تكون حياتها: نزاع دائم، وسوء ظن متبادل، وانتظار للزمن ليتم الخراب
وهكذا الشأن في كل مجتمع: في المدرسة، في الجيش، في الحزب، في القرية، في الأمة
بل ما لنا نذهب بعيداً والإنسان نفسه إذا فقد الثقة بنفسه فقد نفسه، فلا يستطيع الكاتب أن يكون كاتباً مجيداً ولا الشاعر أن يكون شاعراً متفوقاً ولا أي عالم وصانع يجيد علمه وصناعته إلا إذا وثق بنفسه لدرجة ما؛ وكم من الكفايات ضاعت هباء لأن ذويها فقدوا ثقتهم بأنفسهم، واعتقدوا أنهم لا يحسنون صنعا ولا يجيدون عملا
وكل ما ترى من أعراض الفشل في أمة سببه فقدان الثقة؛ فالحزب ينهار يوم يفقد الأعضاء ثقتهم بعضهم ببعض، والشركة تنهار يوم يتعامل أفرادها على أساس فقدان الثقة، والمدرسة تفشل يوم لا يثق الطلبة بأساتذتهم والأساتذة بطلبتهم، وكل جماعة تفنى يوم يتم فيها فقدان الثقة
كل نظمن - على ما يظهر - مبنية على فقدان الثقة، فوظائف (المفتشين) في جميع مصالح الحكومة والشركات أصبحت مؤسسة على فقدان الثقة، فالمفتش في الترام والسيارات العامة مبناه ضعف الثقة (بالكمساري)، ومفتش المالية ليراقب حركات مرءوسيه حتى لا يختلسوا أو يزوروا، ومفتشو الوزارات ليروا إلى أي حد يطبق الموظفون تعاليم الوزارة
قد كان الظن بالمفتشين أن يؤدوا عملا آخر غير هذا، وهو أن يشرفوا على عمل المرءوسين ليوجهوهم وجهة الصالحة، ويتعاونوا معهم على رسم الخطة القويمة،(119/10)
ويصححوا الخطأ، ويكملوا النقص، ولكنهم - في الأغلب - وقفوا فقط موقف الضابط يضبط الجريمة، والصائد يرقب الفريسة، لا موقف الهادي المرشد والناصح الأمين
فان أردت (بنداً) واحداً من (بنود) ما ينفق من الأموال في سبيل عدم الثقة فاجمع مرتبات المفتشين في جميع مصالح الحكومة
وليس الأمر مقصوراً على هؤلاء، فالمراجعون ومراجعو المراجعين؛ والأوراق تمر من يد إلى يد، ومن قلم إلى قلم، ومن مصلحة إلى مصلحة، ومن وزارة إلى وزارة. كل ذلك له أسباب، أهمها (فقدان الثقة)
وإن شئت حصر ما يستهلك من الأموال لفقدان الثقة فلا تكتف بمرتبات المفتشين، بل أضف إليها مرتبات كل هؤلاء الذين ذكرنا، فلو قلنا إن نصف مرتبات الموظفين ينفق في سبيل فقدان الثقة لم نبعد
وليست المصيبة كلها في الأموال، فلو كنا نقدر للزمن قيمة كغيرنا من ألمم لاستفظعنا ما يستوجبه فقدان الثقة من أيام وشهور وسنين تضيع في إجراءات وتدقيقات ومراجعات ومناقضات وتعليقات مبناها كلها (فقدان الثقة)
ثم هناك عقول للنابغين وكبار أولي الأمر في الأمة تفكر ثم تفكر، وتقدر ثم تقدر، وتضع الخطط تلو الخطط، والقوانين واللوائح والمنشورات تلو القوانين واللوائح والمنشورات، ويخيل إليها أنها بما فعلت تأمن الخيانة والسرقة والتزوير، وتظن بذلك أنها تعالج ما فسد وتصلح ما اختل، وهي إنما تزيد بذلك في (فقدان الثقة)
أضف إلى هذا ما تسبغه هذه المظاهر كلها على نفسية الموظف، فهو يرى كل هذه النظم واللوائح والقوانين والمراجعات والمناقضات فيشعر أنها إنما شرعت له ومن أجله وبسبب فقدان الثقة به، وأنها كلها تنظر إليه كلص وكمجرم وكمزور؛ فيفقد الثقة بنفسه، ويعمل في حدود ما رسم له، ويشعر بالسلطات المختلفة عليه؛ فلا يجرؤ على التفكير بعقله، ولا يجرؤ على تحمل تبعة، ويفر من البت في الأمور ما وسعه الفرار، حتى يكون بمأمن دائم من الأسئلة والمناقضات - وهذا هو سر ما نراه من بطء في العمل، وركود في الحركة، وضياع لمصالح الناس، إذ لا شيء يبعث الثقة في المرءوس مثل أن يثق به الرئيس، ولا شيء يبعث الحيرة والارتباك والاضطراب إلا ما يشعر به من (فقدان الثقة)(119/11)
أنا كفيل بأنا لو قلبنا كل هذه النظم رأسا على عقب وهدمناها من أسسها وأزلنا أنقاضها، ثم بنيناها على أسس جديدة من الثقة البحتة، ما خسرنا من الأموال وما خسرنا من الأزمان والأنفس ما نخسر الآن ولو كثرت اللصوص وكثر الخائنون والمزورون
هب أنا فتحنا مكتبة وأسسنا نظامها على الثقة بالموظفين والمترددين من المطالعين فاستغنينا عن مراقب واستغنينا عن مراجع واستغنينا عن مفتش وهكذا، واكتفينا بمعير للكتب و (فتى) يضع الكتب كل يوم في أماكنها، فماذا يكون الشأن وماذا يكون حسابنا في المكسب والخسارة؟ لا شك أننا سنفقد كتبا يسرقها بعض المترددين، وهذا هو كل الخسارة، ولكنا بجانب ذلك نوفر مرتبات كاتب ومراقب ومفتش، ونوفر أزمانا طويلة تصرف في عمليات الجرد والحصر، وننشر الثقة بين المطالعين، ونشعرهم بأن المكتبة في حمايتهم هم وتحت إشرافهم، فننمي فيهم الشعور بالتبعة؛ فإذا كان هذا مكسبنا وهذه كل خسارتنا، فإلى النار هذه الكتب المفقودة، وخسئت عين كل من ينظر في عمليات الحساب إليها وحدها، ولا ينظر إلى كل هذه الأرباح التي ربحناها
وهذا المثل الصغير يمكن تطبيقه تمام التطبيق على الأعمال الكبيرة في المصالح المختلفة، بل إني أشتري نشر الثقة بين الناس وتسهيل الأعمال، وشعور الناس بالطمأنينة بأي ثمن، بل لو أن التجارب دلت على أن ما نفقد من الأموال أكثر مما نربح إذا أسسنا النظم على أساس الثقة لاستمررت في تجربتي ونظريتي، وآمنت بوجوب الانتظار على هذا الأساس الجديد حتى يذهب هذا الجيل الذي أفسده النظام القديم، وقضى على نفسه وعلى شعوره، ولأنتظر جيلا جديدا نشأ في أحضان (الثقة) والشعور بالواجب وبالتبعة وبالحرية في العمل في دائرة ضيقة من القوانين المعقولة
وهكذا الشأن في جميع الأمور السياسية والاجتماعية، فثقة أفراد الحزب بعضهم ببعض - ولو مراعاة للمصلحة - أضمن للنجاح، وأقرب لتحقيق الغرض؛ وثقة الجمعية برئيسها، والرئيس بأعضائها - ولو تصنعا - أقرب لأن ينقلب التصنع خلقا
وقد رأينا - دائما - أن العدوى في المعاني كالعدوى في المحسات، فكما أن التثاؤب يبعث التثاؤب، والضحك يبعث الضحك، فكذلك الثقة تبعث الثقة وعدمها يبعث عدمها. وبعد، فلا تزال ترن في أذني كلمة سمعتها من أستاذ إنجليزي كان في الجامعة: (إذا كنتم لا تريدون(119/12)
أن تولوا أموركم الأجنبي، ولا تمنحون ثقتكم المصري، فكيف تعيشون؟)
أحمد أمين(119/13)
افتتاح إفريقية وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
بقلم مؤرخ كبير
تتمة
لم يبق اليوم في إفريقية من الأمم المستقلة سوى الحبشة، وجمهورية ليبيريا؛ ولكن ليبيريا ليست في الواقع سوى منطقة للنفوذ الأمريكي، وقد أنشئها الزنوج الأمريكيون الأحرار؛ ومع أنها جمهورية مستقلة وعضو في عصبة الأمم، فأن السياسة الأمريكية هي التي تشرف على شؤونها العليا؛ وعلى هذا فليس في أفريقية اليوم أمة تتمتع باستقلالها الصحيح سوى إمبراطورية الحبشة؛ وهي تتمتع بهذا الاستقلال منذ فجر التاريخ. وقد حاول الاستعمار الأوربي غير مرة أن يحطم استقلالها، ولكنها استطاعت لأن تسحق مشروعاته ومحاولاته؛ والآن يعيد التاريخ دورته ويتربص الاستعمار الأوربي بالحبشة مرة أخرى، ويحشد كل قواه وعدده المدمرة، ويطالب علنا بافتراسها والقضاء على استقلالها تحقيقا لشهوة الفتح والتوسع؛ وهانحن أولاء نشهد العاصفة وقد انقضت، فهل تستطيع مملكة سبأ الخالدة أن ترد عنها عادية هذا الغزو المبيت؟
وهل تستطيع الفوز بهذا الاستقلال الذي حافظت عليه منذ الأحقاب؟ وهل تبقى الحبشة آخر حصن للاستقلال الأفريقي، أم تسقط صريعة الاعتداء، فيجهز الاستعمار بذلك على آخر ملاذ لهذا الاستقلال؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل القريب
وقد رأينا فيما تقدم كيف اقتسمت الدول الأوربية إفريقية فيما بينها، واستقرت كل منها في بعض مناطقها وأراضيها، وأنشأت الدول الكبرى - إنكلترا وفرنسا وألمانيا - كل منها في أفريقية إمبراطورية استعمارية شاسعة. وكانت إيطاليا إحدى الدول التي شاركت في افتتاح إفريقية، غير أنها خرجت منها بصفقة يسيرة. ويرجع ذلك إلى أنها كانت في أواخر القرن الماضي، حين بدأ افتتاح إفريقية، ما تزال دولة ثانوية، حديثة عهد باستقلالها ووحدتها القومية؛ هذا إلى أنها لقيت خلال غزواتها الاستعمارية نكبة لم تلقها أية دولة أوربية، إذ هزمت جيوشها وسحقت في موقعة (عدوة) الشهيرة حسبما نفصل بعد، فوضعت هذه الهزيمة الساحقة حدا لمشاريعها الاستعمارية مدى حين
بدأت إيطاليا محاولاتها الاستعمارية في سنة 1882، إذ أرسلت إلى بلاد إرترية حملة(119/14)
احتلت خليج عصب وما يليه جنوبا؛ واحتلت ثغر مصوع وما يليه من الساحل شمالا (سنة 1885)؛ وأرسلت حملة أخرى إلى بلاد الصومال مما يلي المحيط الهندي، فاحتلت شقة ضيقة طويلة على الساحل، من نهر جوبا حتى رأس جردفوي، وهي التي تعرف اليوم بالصومال الإيطالي (سنة 1888). وكانت إيطاليا يومئذ دولة ناشئة فتية تجيش بآمال كبيرة، وكان وزيرها الشهير (كرسبي) روح هذه المغامرات الاستعمارية؛ وكان يحلم بإنشاء إمبراطورية استعمارية إيطالية ضخمة في شرق إفريقية تضم الحبشة، وتصل ما بين الإرترية والصومال؛ وكان تفاهم الدول الأوربية على اقتسام إفريقية يخول لإيطاليا حرية العمل في تلك المنطقة. فلما تم احتلال الإرترية والصومال، اعتقد كرسبي أن الفرصة قد سنحت لغزو الحبشة، والعمل لإنشاء الإمبراطورية الاستعمارية التي يتوق إلى إنشائها
وكانت الحبشة منذ منتصف القرن التاسع عشر تجوز فترة من الضعف والتفرق؛ وكان ملكها يومئذ الإمبراطور تيودور، وهو أمير من أمهرا يدعى كاساي، اغتصب العرش من الرأس (علي) ملك الحبشة المسلم، وأقام نفسه إمبراطورا، وبسط على الحبشة حكمه المطلق، وأثار بشدته وعنفه في معاملة الأجانب سخط الدول الأوربية، وقبض على عدد من المرسلين والنزلاء الإنكليز وأبى أن يطلق سراحهم، فجهزت إنكلترا حملة لغزو الحبشة بقيادة السير نابيير؛ ونفذت هذه الحملة إلى الحبشة في سنة 1868، وهزمت جيش الإمبراطور، فاضطر تيودور أن يطلب الصلح، ثم أنتحر يأسا وغما؛ وانسحب الإنكليز، وعادت الحرب الأهلية في الحبشة، واستولى على العرش كاسي أمير تجرى، ونصب نفسه إمبراطورا باسم يوحنا الثاني؛ ولبثت الحبشة في حالة اضطراب وفوضى؛ واحتل الإيطاليون في تلك الفترة ساحل إرترية والصومال؛ وكانت الجيوش المصرية قد نفذت قبل ذلك بأعوام إلى بعض مناطق الحبشة مما يلي السودان فاستطاع الإمبراطور يوحنا أن يوقع بها هزيمة فادحة وأن يرغمها على الجلاء عن الحبشة (سنة 1876)، ولما توفي يوحنا سنة 1889 خلفه على العرش منليك أمير شوا، باسم الإمبراطور منليك الثاني. وبدأ منليك حكمه في ظروف صعبة؛ وكانت إيطاليا قد استطاعت أن تتقرب إلى الحبشة، وأن تبسط عليها نفوذها شيئا فشيئا تحت ستار المعاونات والصلات الودية، وما زالت حتى استطاعت(119/15)
بسياسة الضغط والوعيد أن تحمل منليك على أن يعقد معها معاهدة حماية مقنعة هي التي تعرف بمعاهدة أوشالي (مايو سنة 1889)، وبها وضعت الحبشة تحت نوع من الوصاية الإيطالية؛ وحاولت إيطاليا خلال الأعوام التالية أن تتدخل في شؤون الحبشة تدخلا قويا، وأن تفرض عليها إرادتها، واستطاعت أن تحتل بعض أنحائها المجاورة الإرترية، ولكن الشعب الحبشي لم يلبث أن ثار لهذا الاعتداء على أرضه وحرياته؛ وقاد منليك هذه الثورة الوطنية، فجردت عليه إيطاليا جيشا ضخما قوامه خمسون ألف مقاتل بقيادة الجنرال باراتيري؛ ولكن الوطنية الحبشية غمرت كل شيء وسحقت الجيوش الإيطالية في موقعه عدوة الشهيرة من أعمال ولاية تجرى (2 مارس سنة 1896)، ولم تبق منها سوى فلول ممزقة، وحطمت آمال إيطاليا ومشاريعها الاستعمارية، وأرغمت على الاعتراف باستقلال الحبشة؛ واستمر منليك الثاني أو منليك الأكبر محرر الحبشة أعواما طويلة يقودها في سبيل الإصلاح والتقدم؛ وفي عهده نظمت الحبشة علائقها مع الدول الأوربية، واستطاعت أن ترغمها جميعا على احترام استقلالها. وفي سنة 1906 عقد تحالف ثلاثي بين بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا يقضي بالعمل المشترك بينها لحماية أراضيها ومصالحها في تلك المنطقة، وينص على وحدة الحبشة واستقلالها، وينص أيضا على تفوق المصالح الإيطالية في الحبشة. ولما توفي منليك الأكبر سنة 1913 خلفه حفيده (ليجي ياسو) بعهد منه؛ ولكن عوامل التفرق عادت تعمل عملها، واضطرمت الحرب الأهلية مرة أخرى، وعزل (ليجي ياسو) بعد خطوب وحوادث جمة، وتولت العرش (زوديتو) كبرى بنات منليك، وعين الرأس تفري وصيا للعرش ووليا للعهد، فاستأثر بكل سلطة حقيقة. ولم تمض أعوام قلائل حتى أعلن نفسه إمبراطورا إلى جانب (زوديتو) ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، انفرد بالملك تلقب باسم (هيلا سلاسي)، وفي عهده قطعت الحبشة مراحل كبيرة في سبيلا التقدم والاتحاد والإصلاح الوطني، والتحقت بعصبة الأمم (سنة 1923)، وزار الإمبراطور إيطاليا سنة 1925 فاستقبل في رومة بحفاوة كبيرة، وعقدت على أثر ذلك بين البلدين معاهدة صداقة وتحكيم واعتقدت الحبشة أنها في ظل عصبة الأمم، وظل الصداقة الإيطالية الجديدة، قد أمنت مطامع الاستعمار ومشاريعه الغادرة
وكانت إيطاليا منذ نكبة (عدوة) قد وجهت مطامعها الاستعمارية شطرا آخر. وكانت(119/16)
طرابلس، هي المنطقة الوحيدة التي بقيت من شمال إفريقية بعيدة عن الاحتلال الأوربي؛ وطرابلس تواجه إيطاليا في الضفة الأخرى من البحر، وفيها مناطق منبسطة شاسعة تصلح للحرث والاستعمار؛ ومنذ فاتحة هذا القرن تعمل إيطاليا لانتزاع طرابلس من قبضة تركيا الضعيفة، ولم تلق إيطاليا اعتراضا من إنكلترا أو فرنسا إذ كانتا تؤثران أن تحل في طرابلس دولة ثانوية مثل إيطاليا وتخشيان أن تحتلها منافستها القوية ألمانيا. وهكذا استطاعت إيطاليا بموافقة إنكلترا وفرنسا أن تعد عدتها لاحتلال طرابلس. وفي أواخر سنة 1911 وجهت إيطاليا إلى تركيا بلاغا نهائيا تزعم فيه أن مصالحها في طرابلس قد عبث بها، وأتبعت ذلك في الحال باحتلال ثغري طرابلس وبنغازي، وتركت تركيا كعادتها طرابلس لمصيرها، ولم يتقدم للدفاع عنها سوى حاميتها الصغيرة؛ ولكن ذمرة من الضباط البواسل بين ترك ومصريين استطاعوا أن يحشدوا رجال القبائل لقتال العدو المغير، واستطالت الحرب الطرابلسية زهاء عام (حتى أكتوبر سنة 1912) وانتصر الإيطاليون في النهاية وعقدوا الصلح مع تركيا، واعترفت تركيا بالحماية الإيطالية على طرابلس. ولكن إيطاليا اشترت ظفرها غاليا بالمال والرجال، ولم تتقدم مع ذلك كثيرا داخل طرابلس، لأن رجال القبائل واصلوا الدفاع عن وطنهم، واستمرت إيطاليا تعاني أشد المتاعب في طرابلس مدى أعوام طويلة. ولم توفق إلى إخماد القبائل إلا منذ سنة 1925، إذ جردت عليها قوى جرارة. واستعانت بأشنع وسائل الفتك الحديثة، ومع ذلك فإنها تقيم في طرابلس على بركان من الحفيظة والبغض قد ينفجر لأول فرصة
ومنذ قيام الطغيان الفاشستي في إيطاليا، تضطرم إيطاليا الفاشستية بآمال وأطماع جديدة، وتساورها حمى التوسع والفكرة الإمبراطورية. وكانت إيطاليا قد حصلت منذ سنة 1915 بمقتضى معاهدة لندن السرية على وعود من فرنسا وإنكلترا بأن تعوض عند دخولها في الحرب بمنح استعمارية في إفريقية، ولكن الحلفاء نكثوا وعودهم في مؤتمر الصلح، واكتفوا بما استولت عليه إيطاليا في أوربا من تراث النمسا. ولكن إيطاليا الفاشستية شددت في طلب الوفاء بالعهود المقطوعة، واستطاعت أن تحصل على مزايا استعمارية جديدة في إفريقية، مثل استيلائها على واحة جغبوب المصرية وواحة العوينات السودانية بفضل نفوذ إنكلترا، واستيلائها على منطقة شاسعة من السودان الفرنسي بمقتضى المعاهدة الفرنسية(119/17)
الإيطالية الأخيرة. ولما اعتقد موسوليني أنه سما بإيطاليا وقواها العسكرية والمعنوية إلى أرفع مكانة، اتجه بأنظاره إلى الحبشة، ورأى أنه بغزوها واحتلالها يمحو وصمة الماضي المؤلم، ويحقق حلم إيطاليا المحطم في إنشاء إمبراطورية استعمارية كبيرة تشمل الإرترية والصومال والحبشة. وهانحن أولاء نشهد منذ أشهر قوى الفاشستية تتدفق بواسطة قناة السويس إلى شرق إفريقية، وهاهي تغزو أراضي الحبشة؛ وهكذا يزمع الاستعمار الأوربي أن ينقض على آخر وحدة مستقلة في إفريقية ليفترسها كما افترس أخواتها من قبل، وليعمم الاستعباد جميع أرجاء القارة السمراء
وليس من موضوعنا أن نتحدث هنا عن مصاير هذه الحرب الاستعمارية الجديدة، فان في الحبشة شعبا باسلا استطاع منذ فجر التاريخ أن يذود عن حرياته واستقلاله، واستطاع حتى في العصر الحديث أن يلقي على أولئك الذين يتربصون به اليوم درسا عميق الأثر، ولكنا نلاحظ بهذه المناسبة أن إيطاليا الفاشستية تذهب بعيدا في أحلامها القيصرية. أجل إن موسوليني يتشح اليوم بثياب قيصر، ويفكر على طريقة الدولة الرومانية، ويتصور أنه يستطيع بما اكتمل له من الاستعداد الحربي أن يخلق دولة القياصرة من جديد، وأن يجعل من البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية، وأن يرد مصر - بعد الاستيلاء على الحبشة - إلى حظيرة الإمبراطورية الجديدة؛ ولكن موسوليني ليس بقيصر، وليست إيطاليا الفاشستية بالدولة الرومانية، وهيهات أن يسمح العالم الحديث لهذه الفاشستية المحمومة بأن تضع لمحة من أحلامها العريضة موضع التنفيذ. ولقد كانت إيطاليا منذ جيلين فقط أمة مستعبدة ممزقة تجاهد لاستقلالها ووحدتها، ولكنها اليوم، وهي حديثة عهد بنعمة الاستقلال، لا ترى بأسا من أن تجني على استقلال شعب حر باسل، لأنها فقط تحلم بافتتاحه واغتيال أرزاقه؛ ولكنا نحن الذين لا يؤمنون بعظمة الفاشستية، ولا بخلالها ووسائلها المثيرة، نتوقع أن تكون هذه المغامرة الذميمة - وقد اجترأت الفاشستية على تنفيذ مشروعها - قبر الفاشستية وقبر مطامعها وأحلامها الدموية الأثيمة
(تم البحث)(119/18)
الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
3 - خصائص الشعر في العراق
وكأن الهجاء كان في جرير غريزة يرمي الناس عنها لأدنى سبب وعلى غير معرفة، فقد دخل على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي، فقال له الخليفة: أتعرف هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: هذا رجل من عاملة، قال جرير: التي يقول فيها الله: (عاملةٌ ناصبة تصلى ناراً حامية)، ثم قال بيتا قبيحا ورد عليه عدي بمثله، فهجاه جرير بقصيدة منها ذلك البيت المشهور:
وابنُ اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صولةَ البُزل القناعيس
ولعل ذلك راجع إلى ميل في طبع أمه إلى هذا الضرب من البذاء والإيذاء، فاشتهت أن تراه فيه، حتى صورت لها تلك الأمنية في الحلم، فرأت وهي حامل به أن حبلا نزل منها فصار يثب على الناس فيخنقهم واحد بعد واحد، فلما تأولت رؤياها قيل لها: إنك تلدين ولدا يكون شديدا الهجاء والبلاء على الناس والشعراء، فسمته لذلك جريرا؛ وسواء أرأت أمه هذه الرؤيا أم افتراتها، فقد كان لها ولا ريب أثر قوي في توجيه قريحته منذ طفولته
وهجاء جرير على الجملة ضعيف الفخر لبعد مستقاه فيه، وما استطاع الفرزدق أن يعجزه إلا في مشواره، فهو يقول له بحق:
غلبتك بالمفقّأ والمعّنى ... وبيت المحتبي والخافقات
يريد بالمفقا أو المفقئ قوله:
ولست ولو فقأت عينيك واجداً ... أباً لك إن عُد المساعي كدرام
وبالمعنى قوله:
وإنك إن تسعى لتدرك دارماً ... لأنت المعّنى يا جرير المكلَّف
وبالمحتبى قوله:
بيتاً زؤرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
وبالخافقات قوله:
وأين تُقضى المالكات أمورها ... بحق وأين الخافقات اللوامع(119/19)
والفرزدق يريد بهذه الأبيات الإشارة إلى القصائد التي تضمنتها وهي من عيون شعره ومتين فخره
وضعف جرير في الفخر إنما يرجع إلى الموضوع لا إلى الأسلوب، فانه أجمل خصومه صياغة، وأوفرهم بلاغة، وأرقهم لفظا، وألطفهم مدخلا، وأكثرهم افتنانا. ولسهولة شعره وقلة غريبه نفق عند العامة الشعراء، دون الرواة والعلماء
وهجاء هؤلاء الأقران الثلاثة إذا استثنينا منه المعاني الجديدة واللهجة الشديدة والتصوير البارع، لم يخرج عن سمت الهاجئين الفحول كالمخبل الفريعي، وحسان بن ثابت، والحطيئة، في الابتداء بوصف الطلل والغزل، والاعتماد على المفاخرة والمنافرة، وتلمس العيوب من خبايا الماضي، والانتقال المقتضب من معنى إلى معنى. وأشد ما يعيب هجاء جرير والفرزدق كثرة التكرار، فأن كلا الرجلين إنما يهجو صاحبه بطائفة من الحوادث والصفات ذكرناها من قبل، فلا نراه يعدل عنها، ولا يكاد يزيد عليها، وإنما يرددها في كل قصيدة أو نقيضة في أساليب شتى وقواف مختلفة، فإذا قرأنا لكل واحد منهما واحدة منهن لا يضيرنا بعدها ألا نقرأ غيرها. كذلك إذا ألممنا بهجاء الأخطل والفرزدق وجرير فقد ألممنا بسائر الهجاء في هذا الطور، لأنه مصوغ من مادته ومضروب على مثاله
على أن أساليب شعراء العراق في الهجاء الحزبي تختلف عنها في الهجاء الفردي، فبينما هم في هذا لا يترفعون عن الهجر ولا يتورعون عن الكذب تراهم في ذلك يذهبون مذهب الجاهليين، فيفاخرون بالنسب، ويكاثرون بالعدد والمال، ويؤثرون اللفظ الشريف والأسلوب العف، بيد أنهم يغلون في الفخر حتى ليجعلونه في الدين والحكم والعلم والموطن
قال أعشى همدان وهو من أنصار ابن الأشعث:
اكسع البصري إن لاقيته ... إنما يُكسع من قل وذل
واجعل الكوفي في الخيل ولا ... تجعل البصري إلا في النفل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكُم يوم الجمل
بين شيخ خاضب عثنونه ... وفتى أبيض وضاح رِفَلْ
جاءنا يخطر في سابغة ... فذبحناه ضحّى ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجل(119/20)
ومن هجائه السياسي الديني قوله مرتجزا في الحجاج:
شطتْ نوى مَن دارُهُ بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القزى والريحان
إن ثقيفا منهمُ الكذابان ... كذابها الماضي وكذابٌ ثان
أمكن ربي من ثقيف همدان ... إنا سمونا للكفور الفتان
حين طغى بالكفر بعد الأيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبى منقحطان ... فقل لحجاج ولي الشيطان
يثبتْ لجمع مذحج وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان
وملحقوه بقرى ابن مروان
وهذا النوع من الهجاء قليل النفوق والبقاء، كثير النفاق والرياء، لطمع الشعراء في حباء الخلفاء وإيثارهم في الغالب سلامة البدن على سلامة العقيدة. وليس الهجاء الحزبي إلا صورة من صور الشعر السياسي الذي نفق في هذا العصر؛ وما نزعهم بهذه التسمية أن الإسلاميين قد وقعوا على مذهب في الشعر جديد القصد والغاية، فأن مساجلة الخصوم بالشعر كانت مألوفة في عصر الجهالة مشروعة في عهد النبوة، إنما نقصد بالشعر السياسي طائفة من المعاني الجديدة استوحتها خواطر الشعراء من اختلاف الأحزاب في الرأي، وتنازع الزعماء في الحكم. جاءت هذه المعاني الجديدة على النهج القديم في صور مختلفة، نستطيع أن نردها إلى أربع: فقد أتت في صورة المدح المشوب بالتحريض والتعريض كقول أبي العباس الأعمى:
أبني أُمية لا أرى لكُم ... شبهاً إذا ما التفَّت الشيعُ
سعة وأحلاما إذا نزعت ... أهل الحلوم فضرَّها النزع
أبني أمية غير أنكُم، ... والناس فيما أطعموا طمعوا،
أطمعتمو فيكم عدوكم ... فسما بهم في ذاكم الطمع
فلو أنكم كنتم لقومكم ... مثل الذي كانوا لكم رجعوا
عما كرهتم أو لَرَدهم ... حذرُ العقوبة، إنها تزع
وكقول الكميت:
بني هاشم رهط النبي فأنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب(119/21)
خفضت لهم مني جناحيْ مودة ... إلى كنف عطفاه أهلٌ ومرحب
وأرمِي وأُرمي بالعداوة أهلها ... وإني لأوذَى فيهم وأؤَنَّب
وكفة الأمويين في هذا الباب أرجح، لما تجمَّع لهم من الترغيب في المال، والترهيب بالملك، والتمليق لهوى النفوس، فمدحهم ونصرهم أكثر الشعراء في عصرهم، إما دفعا لشرهم وإما طمعا في خيرهم، حتى الذين شايعوا خصومهم من الزبيريين والعلويين لم يستطيعوا حبس لعابهم عن عطايا القصر
وقد يأتي الشعر السياسي في صورة الهجاء كما مر، وكما قال أعشى ربيعة لعبد الملك:
آل الزبير من الخلافة كالتي ... عجل النتاج بحملها فأحالها
أو كالضعاف من الحمولة حملت ... ما لا تطيق فضيعت أحمالها
قوموا إليهم لا تناموا عنهم ... كم للغواة أطلتم أمهالها
إن الخلافة فيكمو لا فيهمُ ... ما زلتمُ أركانها وثمالها
أمسوا على الخيرات قفلاً مغلقاً ... فانهض بيمينك فافتتح أقفالها
وقد يكون اقتراحا لسياسة واستطلاعا لرأي، كقول مسكين الدارمي، وقد أوعز إليه معاوية أن يقترح البيعة من بعده لابنه يزيد ليعلم رأي قومه في ذلك:
إليك أمير المؤمنين رحلتها ... تثير القطا ليلاً وهن هجود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ... ومروان أم ماذا يقول سعيد
بني خلفاء الله مهلاً فإنما ... يبوئها الرحمن حيث يريد
إذا المنبر الغربي خلاه ربُّه ... فإن أمير المؤمنين يزيد
فلما أتم إنشاده قال معاوية: ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله
ومثل ذلك حدث من عبد الملك، فقد أراد أن ينقل ولايته العهد من أخيه عبد العزيز إلى أبنه الوليد، فأمر النابغة الشيباني أن يقترح ذلك في حضرة الناس فقال:
لابنك أولى بملك والده ... ونجم من قد عصاك مُطَّرح
داودُ عدْل فاحكم بسيرته ... ثم ابن حَرْب فأنهم نصحوا
وهم خيار فاعمل بسنتهمْ ... واحيَ بخير واكدح كما كدحوا
فابتسم عبد الملك ولم يتكلم، فعلم الناس أن ذلك أمره(119/22)
ثم يكون أحيانا جدلا في رأى أو بيانا لمذهب؛ فمن الجدل السياسي ما وقع بين كعب بن جعيل والنجاشي في المفاضلة بين علي ومعاوية. فقد قال كعب:
أرى الشام تكره ملك العرا ... ق وأهلَ العراق لهم كارهينا
وكل لصاحبه مبغض ... يرى كل ما كان من ذاك دينا
وقالوا عليُّ إمام لنا ... فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا لهم ... فقلنا لهم لا نرى أن ندينا
وكلُ يسر بما عنده ... يرى غث ما في يديه سمينا
وما في عليّ بمستعتبي ... ينال سوى ضمه المحديثنا
وليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساء ولا هو سرَّ ... ولابد من بعد ذا أن يكونا
فلما بلغ ذلك الإمام علياً النجاشي أن يجيبه فقال:
دَعنْ معاوي ما لم يكونا ... لقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم عليُّ بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا؟
يرون الطعان خلال العجاج ... وضرب الفوارس في النقع دينا
همو هزموا الجمع جمع الزبير ... وطلحة والمعشر الناكثينا
فان يكره القوم ملك العراق ... فقِدماً رضينا الذي تكروهنا
فقالوا لكعب أخي وائل ... ومن جعل الغث يوماً سمينا:
جعلتم علياً وأشياعه ... نظير ابن هند ألا تستحونا؟
ومن البيان المذهبي قول كثير عزة يشرح عقيدة الشيعة في الإمامة:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاةَ الحق أربعة سواء:
عليُّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبطُ سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
وكقول ثابت قطنة، وهو من شعراء الأمويين، يفصل مذهب الأرجاء:(119/23)
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم ... والمشركون استبوا في دينهم قدرا
ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً ... في الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا
إلى أن قال:
كل الخوارج مخطى في مقالته ... ولو تعبد فيما قال واجتهدا
أما عليُّ وعثمان فانهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
الله اعلم ما قد يحضران به ... وكل عبد سيلقي الله منفردا
هذه جملة المعاريض التي عرضت بها المعاني السياسية، ولعلك تلاحظ من هذه الأمثلة أنها في الغالب مهلهلة النسج، نابية القافية، بادية التكلف، تشبه من بعض الوجوه نظم المتون. وعلة ذلك أن اتصالها بالوجدان ضعيف، وأن أكثرها إنما يصدر عن طبع مكره، أو شعور ممالق، أو قريحة كابية؛ والفرق بين شعر الأخطل والفرزدق وجرير، وبين شعر هؤلاء الذين ذكرنا كالفرق بين من يعبر عن شعوره وحسه، ويدافع عن قبيله ونفسه، وبين من يتصل لسانه بقلب غير قلبه، ويدفعه طمعه إلى ممالأة حزب غير حزبه
على أن من شعراء الأحزاب من قالوا الشعر عن عقائد دينية وعواطف نفسية، ونوازع عصبية، فكان لشعرهم جمال الإخلاص وروعة اليقين، وقوة الحقيقة، أولئك هم شعراء الشيعة والخوارج، فحق علينا ونحن في مقام البحث في شعر العراق أن نديم النظر ساعة في أشعارهم، لنستشف من خلالها صور مذاهبهم وأفكارهم
(يتبع)
الزيات(119/24)
يوم افتتاح المدارس
صور دمشقية سوداء طبق الأصل. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
ذهبت أمس إلى المدرسة الأمينية، وهي المدرسة الإسلامية التي انحطمت على جدرانها ثمانية قرون وهي قائمة، وماتت من حولها ثمانمائة سنة وهي حية، ونشأت دول وانقرضت، وبدئت تواريخ وختمت، وتبدلت الأرض وتغيرت، وهي ماضية في سبيلها، عاكفة على عملها، قد انقطعت عن الأرض من حولها، واتصلت بالسماء من فوقها، فعاشت في سماء العلم والناس يعيشون في أرض المادة. . .
دخلتها فإذا هي صامتة ساكنة، لا يسمع في أبهائها صوت مدرس بدرس، أو دارسين بتلاوة، وإذا في كل فصل من فصولها رهط من التلاميذ، متفرقون في زوايا الفصل، لا تنفرج شفاههم عن بسمة السرور، ولا تلمع عيونهم ببريق الجذل، وإذا الأستاذ صاحب المدرسة قابع في غرفته، يفكر حزينا، وينظر آسفا؛ وهو الذي لم يأل العمل جهدا، ولم يسيء بالله ظنا؛ فلما رآني قام إلي يحدثني عن المدرسة، ويعلمني علمها، فإذا المدرسة قد زلزلت في مطلع هذا العام المدرسي، لأن الناس قد مالوا عن المدارس الإسلامية وزهدوا فيها، وزاغوا إلى المدارس الأجنبية وأقبلوا عليها، وضنوا على مدارسنا بدينار واحد في العام، ليمنحوا تلك ثلاثة أرباع الدينار في الشهر. .
وأفاض الأستاذ في البيان، حتى امتلأت نفسي حزنا، فخرجت حزينا فمررت على (الكاملية) فإذا هي في خطب أشد، ومصيبة أفدح، فجزت بـ (الجوهرية) فإذا هي ماتت بعد شيخ الشام، الشيخ عيد السفر جلال، وإذا فيها بنات يقرأن ويصحن ويلعبن، فسلكت على (التجارية) فإذا دارها الكبيرة في زقاق الفخر الرازي، خلاء قواء، وإذا هي قد انتقلت إلى الخيضرية فاتخذت فيها دارا، ورأيت (الجقمقية) القاعة التاريخية الجميلة، والمدرسة الأثرية الجليلة، فإذا هي قد اتخذت دارا. . .
فذهبت وأنا أحس الألم يقطع في كبدي، والأسى يحز في قلبي، ووددت لو أن الله قبضني إليه قبل أن أرى مدارسنا الإسلامية، لا تستطيع أن تعيش في البلد الإسلامي، ولا تجد من يشد أزرها، ويأخذ بيدها. . . وأممت شارع بغداد أروح عن نفسي بخضرة البساتين،(119/25)
وجمال الكون، وانطلاق الهواء، ومنظر الجبل، فما راعني إلا أفواج من الناس قد ازدحمت على باب بناء كبير، كأنه قلعة من القلاع، أو قصر من القصور، حتى لقد كادت تسد بكثرتها الشارع العريض: ما راعني إلا الناس على باب (مدرسة اللاييك)، يتدافعون ويتزاحمون، كأنهم على باب الجنة، فكل يطمع أن يسبق إليها، وكلما فتح الباب لواحد، لحظته العيون بالغيظ، ورمقته بالحسد. . . فسألت قوما أعرفهم ينظرون كما أنظر، ماذا هناك؟ فقالوا: هم المسلمون يريدون يسلموا أبناءهم إلى رجال اللابيك ليصبوا في قلوبهم ما يشاؤون من عقائد باطلة في الدين، وعواطف زائفة في الوطنية، وزهادة في اللغة، وكره للتاريخ الإسلامي، والقومية العربية، ويدفعون إليهم الأموال الطائلة، وما يشترون بها إلا الكفر لأبنائهم، والزيغ والإلحاد، وحب الغريب، وبغض القريب، وما يشترون بها إلا أعداء لهم ولأوطانهم، يحاربونهم في دورهم، ويغزونهم في أخلاقهم وعقائدهم، وهم قد انحدروا من أصلابهم، وخرجوا من ظهورهم؛ أفرأيت بلاء أشد، وخزيا أكبر، من أن يحاربونا بأبنائنا، ويأخذوا على ذلك أموالنا؟. . .
فقلت: لا والله! وسرت، أخشى أن يتمزق والله من الألم كبدي، فمررت على (مدرسة الفرير) فإذا الجموع أكثر، والازدحام أشد، والمسلمون يرجون الخوري. . . أن ينسي أبناءهم القرآن، ليحفظهم الإنجيل، ويبغض إليهم محمدا وأبا بكر وعمر، ويحبب إليهم بطرس ولويس ونابليون. . . فسرت مسرعا، لا يطول بي وقوف فتحرقني نار الحزن، وأخذت طريقي إلى مدرستي، أسلك إليها سارع البرلمان، فإذا على باب (مدرسة الفرنسيسكان) أمام الكنيسة الفخمة، جمهور من المسلمين لا يحصيهم عد، يأخذون بأيدي بناتهم، ليدخلوهن إليها. . . فعدت أدراجي إلى شارع الصالحية فأخذت حافلة (الترامواي) إلى مدرستي في حي المهاجرين، في لحف جبل قاسيون
ولم يستقر بي في المدرسة مقام، حتى أقبل علينا شيخ من مشايخ المسلمين، على رأسه عمة بيضاء كأنها برج، وحول يده كم كأنه خرج، تتدلى منه سبحة لا يفتأ يعد حباتها ويلعب بها، وقد يخطئ مرة فيسبح عليها، يجر بيده ولدا، فخذاه مكشوفان وعلى رأسه كمة فقلت له:
- ما هذا يا شيخ؟ أعورة من أعلى، وعورة من أسفل؟(119/26)
- قال: وما ذاك؟
- قلت: ألم يكفك تكشف عورته، وأنت تذكر الله، وتتلو كتابه، وتظهر منه ما أمر الله بستره، حتى تضم إلى العورة عورة أخرى تجئ فوق رأسهن فتلبسه القبعة؟
- فقال (ولوى لسانه وتفيهق وتشدق): ما هي بعورة في مذهبنا
- قلت: وما مذهبك يا مولانا؟
- قال: مذهب الإمام مالك
- قلت: ذاك لمن لا يفرق بين عورة الملتحي وعورة الأمرد، هذا الذي في مذهب مالك، لا مع مثل ابنك الذي لا تؤمن معه الفتنة
وإذا أنت فهمت مذهب مالك بهذا الفهم الأعوج، أفليس في الناس فساق، يأكلون عرض ابنك على مذهب مالك، ما دام مذهب مالك حجة يحتج بها كل ما جن وفاسق. . . رحم الله مالكا وجعل افتراءكم عليه حسنات له
وتركته وقمت إلى قسم الشهادة الابتدائية، أرى التلاميذ. . . فإذا أكثرهم لا يستر إلا نصفه الأعلى، وإذا هم متأنثون مائلون مميلون، فجعلت أسألهم من هنا وهناك، فقلت:
- ما شروط الصلاة؟ من يعرفها منكم؟
- قالوا: لا نعرفها، درس الديانة ليس من دروس الامتحان فلا نحفظه
- قلت: فماذا قرأتم في السنة الماضية؟
- قالوا: وماذا نقرأ، عندنا ساعة واحدة في الأسبوع. . .
- قلت: فلنبحث في التاريخ، من يحدثنا عن وقعة اليرموك، أو القادسية؟
- قالوا: ما قرأناها. . . نحدثك عن سيرة نابليون، ووقعة واترلو. . . هذا ما قرأناه وسنقرؤه في هذا العام. . .
وبعد. . . فهذا طرف من الحقيقة، وقليل من كثير من الواقع، نسوقه بلا تعليق!
(دمشق)
علي الطنطاوي(119/27)
من تراثنا الأدبي
1 - أبو العيناء
بقلم محمود محمود خليل
أبو العيناء ونسبه
أبو العيناء كاتب منشئ من كتاب القرن الثالث الهجري الحافل بأساطين الأدب وجلة العلماء، ولكنه كاتب ضرير البصر من العباقرة الذين سجل لهم التاريخ الذكر الحسن، أمثال أبي العلاء المعري وبشار بن برد وأضرابهما، وكأن سنة الله قد جرت في الخلق أن يقترن فقد البصر بالنبوغ غالبا والعبقرية، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإذا كان القدر قد أتاح لشاعر المعرة فطاحل الكتاب والأدباء يدرسونه ويمحصونه، ويستخلصون فلسفته من شعره، فلا أقل من أن يدرس أبا العيناء الضرير شخص مثلي، وفي اعتقادي أن شخصية أبي العيناء جذابة فكهة كما سترى، وهي تفضل شاعر المعرة العبوس المتبرمة من هذه الناحية
يحدثنا الرواة أنا أبا العيناء اسمه أبو عبد الله محمد بن القاسم ابن خلاد بن ياسر بن سليمان، وأصل قومه من بني حنيفة من أهل اليمامة، ولحقهم سباء في خلافة المنصور العباسي، فلما صار ياسر في يد المنصور أعتقه، فهم موالي بني هاشم
مولده ونشأته
ولد أبو العيناء بالأهواز في آخر المائة الثانية للهجرة، ونشأ بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب الأدب؛ وكان على استعداد تام للحرص على كل ما يلقي عليه فأثمرت فيه تربيته بالبصرة الثمر الطيب، وأخرجته رجلا فذا في الحياة، مثقفا إلى درجة حسنة، ولقد هيأته تلك الثقافة إلى رواية الأخبار الطريفة، والملح اللطيفة، والأشعار الجيدة، حتى لقد بلغ الأمر أن يعرض عليه المتوكل العباسي أن يكون نديمه على شرابه، ويتمنى عليه لو يجيبه، فيمنعه عمى بصره عن الوصول إلى تلك المرتبة السنية، وإن كان قد حاز منزلة سامية من قلب المتوكل. ونرى الأصفهاني في كتابه الأغاني يجعله من رجال سنده في جملة أخبار أتى بها في كتابه، يقول في سند له: أخبرني قدامة عن أبي العيناء عن العتبي(119/28)
ويمضي أبو الفرج فيروي لنا حديثا طويلا بهذا السند في أمر زواج ليلى العامرية برجل من ثقيف وشعر مجنون بني عامر حين بلغه ذلك، وسند آخر أتى به أبو الفرج. قال أخبرني محمد بن خلف، قال حدثنا أبو العيناء عن القحذمي عن أبي صالح السعدي، ثم يمضي في رواية خبر طويل يتعلق بعمر بن أبي ربيعة، وكذلك ينقل عنه الأبشيهي صاحب كتاب المستطرف، وغير هذين المؤلفين كثير، وعد المؤلفين لأبي العيناء من الرجال الذين يعتمد عليهم في رواية الأخبار والأشعار ما هيأه لذلك إلا نشأته بين أولئك الفطاحل من البصريين الذين تغذى بلب علومهم، واستصفى ثمار عقولهم
كان أبو العيناء إذا يتردد على علماء البصرة يأخذ عنهم. فهل كان في هذا الوقت أعمى أم بصيراً؟ يقول الرواة إنه ما عمى إلا بعد أربعين عاما من عمره، وهو زمن ليس بالقليل يكون أبو العيناء قد أخذ فيه بحظ وافر من متعته ببصره، والغريب في هذا حقا أن الرواة يسيطرون لنا أسطورة عن سبب عماه؛ وهي أن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب (ض) فأساء مخاطبته. فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمى منهم فهو صحيح النسب، فهذا الخبر إن صح ينبثق منه شعاع من الحقيقة يتحكم فيه قانون الوراثة، فقد ورث عن آبائه سلاطة اللسان
قال أبو العيناء حاكيا عن نفسه: أنا أول من أظهر العقوق لوالديه بالبصرة، قال لي أبي إن الله قد قرن طاعته بطاعتي، فقال تعالى: (أن أشكر لي ولوالديك) فقلت يا أبت إن الله تعالى قد أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)، ولم يقف بسلاطته تلك على أهله وذويه، فان الناس كلهم كانوا يخافون معرة لسانه، والسهام التي يقذفها في كلامه، وتستطيع أن تجد له أخبارا كثيرة في كتب الأدب تؤيد ما ذهبنا إليه، فهذا موقفه مع فتى ماجن أراد العبث به مرة. فقال له يا أبا العيناء متى أسلمت؟ قال حين أسلم أهلك وأبوك الذين لم يؤدبوك. . . الخ ذلك الخبر، وموقف آخر مع عيسى بن فرخان شاه الذي يتولى الوزارة ويتيه فيها على أبي العيناء، فلما عزل لقيه أبو العيناء في الطريق فسلم عليه وأحفى فقال له: والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، فلقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، فلقد أظهرت محاسنها(119/29)
بالانصراف عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم
وموقف ثالث يقفه أبو العيناء مع بعض الوزراء في مجلسه إذ يمدح البرامكة ويذكر سخاءهم وجودهم فيقول الوزير إنما هذا من تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين، فقال أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فأسكته وعجب الحاضرون من إقدامه عليه
فهذه الأخبار وغيرها كثير تعطينا فكرة صحيحة عن سلاطة لسانه التي امتاز بها بين الأدباء المعاصرين له، حتى كان الوزراء وأرباب المناصب وغيرهم يخافونه ويتقون لسانه بل يدارونه، وتلك اللسانة كما قلت كانت موروثة عن آبائه، فقد علمنا كيف أقدم جده الأكبر على علي بن أبي طالب (ض)، وأساء مخاطبته حتى دعا عليه، وحتى أستجيبت دعوته فيه وفي أحفاده من بعده. ولكن أبا العيناء يعتذر عن بذاءة لسانه حين سأله المتوكل على الله بقوله بلغني عنك شر. فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله وذم، فقال في التزكية: (نعم العبد إنه أواب)، وقال في الذم: (هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم) وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم اذمم الجبْس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشقّ لي الله المسامعَ والفما
وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السني والدنيء بطبع لا يتميز فقد صان الله عبدك عن ذلك
وفي الحق إن أبا العيناء لم يكن يسفه على أحد من الناس إلا على من يتعرض له بإساءة، فإذا تجرأ على هذا شخص فويل له من لسانه، ولقد أجاب المتوكل إذ قال له كم تمدح الناس وتذمهم فقال ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء، وغرضه بهذا أنه يعطي كل إنسان ما يستحقه من مدح أو ذم، ولقد مدح أناسا كثيرين ولكنه ذم أكثر ممن مدح، وإنا وإن كنا نعتقد أن أبا العيناء قد أسرف في الذم إسرافا كثيرا، فان من الحق علينا أن نعترف أن هناك عوامل أخرى جعلته يسرف هذا الإسراف، وسنعرف بعد ما هي هذه العوامل
(يتبع)(119/30)
محمود محمود خليل(119/31)
في الأدب الإنجليزي
3 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
لم يحاول شكسبير إظهار شخصيته من خلال رواياته، ولكن كارليل يقول عنه: (إن روايات شكسبير هي كنوافذ متعددة يظهر من خلالها ما كان يدور في نفسه من الأفكار والخواطر). ومن كل رواية من رواياته يمكننا أن نتبين الحالة العقلية التي كان فيها لما أنشأها وكتبها. ففي هملت لم يكن تفكيره محصورا إلا في البحث في الأشباح، بينما كان في مكبث مشتغلا بالسحر والسحرة
وفي كل من روايتيه تتحقق النبوءات التي تتنبأ بها الأشباح والساحرات. ولكن هناك ثمة فرقا ضئيلا بين كل من الروايتين، وذلك الفرق هو أن نبوءات الشيخ في هملت هي من أمور الماضي بينما هي في مكبث أمور المستقبل
وقد قال جبسن عند كلامه عن العاصفة ما يؤكد هذه النظرية، فهو يقول: (هل كان في استطاعة شكسبير أن يجعل من جميع هذه النبوءات الخيالية حقائق راهنة إن لم يكن يعتقد الاعتقاد كله بهذه الأمور من عالم الخيالات والأشباح؟)
وفي رواية الملك هنري الرابع نرى هتسبر يعارض اعتقاده جلندرو أن في استطاعته أن يسخر الأرواح والشياطين في مهامه الخصوصية، فهو يتحداه بقوله: (إنك تعتقد أن في إمكانك مخاطبة الأرواح ولكن هذا في استطاعتي أنا وفي استطاعة أي رجل آخر. وقد فاتك يا هذا أنها لا تجيبنا عند ما ندعوها أو نخاطبها)
وهذا الشك لا يلبث أن يزول عندما يقدم جلندور البرهان الكافي فتخاطبه الأرواح كأنه فرد من جنسيتها؛ وهذا الاعتقاد بالخرافات كان مستوليا على شكسبير لدرجة عظيمة حتى أنه كان يضع المحبين والمجانين والشعراء في مصاف من يستطيعون الاتصال بالعالم العلوي، وفي رواية هنري السادس نراه يجمع بين ما هو في عالم العقائد وما هو في عالم الخرافة، وقد لخص عقيدته في رواية هملت إذ يقول: إن هناك في السماء أمورا عدة يا هوراثيو(119/32)
مما ليس في استطاعة العالم البشري فهمها أو التفكير فيها)
أو حين يقول في رواية أخرى:
(يقولون إن زمن المعجزات قد انتهى وآن لنا أن نفكر في كياننا الفلسفي فقط فنجعل من الخرافات مسائل عصرية يقبلها العقل ويسيغها المنطق. ولما كنا نستهزئ بالمخاوف والأشباح متسترين برداء من العلم والمعرفة فعلينا ألا نكون عرضة لمخاوف غير مرئية وهذا مما لا يتأتى لنا)
إن في استطاعتنا أن نستنتج من هاتين الفقرتين السابقتين أن شكسبير كان يؤمن بالخرافات والغيبيات، فهناك عدد غير قليل من الأمور التي ليس في استطاعتنا فهمها أو التعبير عنها. فلا يمكن مثلا إنكار وجود عدد من المعجزات التي يكثر حدوثها فوق ظهر هذه البسيطة، وما العالم العلوي إلا محيط لا يمكننا حل ألغازه وتفهم معانيه. فإن من طبيعة البشر أن يكونوا خاضعين لعالم غير عالمهم يجهلونه ويخافونه، وما المحاولات التي يقوم بها العلماء لإسناد كل ظاهرة طبيعية إلى عاملها العلمي إلا محاولات خالية من الإقناع وعن طريق البرهان
قلنا إن شكسبير كان يؤمن بعدد من المخلوقات المغيبة، وقد جمعها في رواياته محاولا إظهارها بصورة رائعة من الخيال والسمو الفكري، وأولى هذه الأنواع وأهمها هي ظاهرة الجنيات
الجنيات
إن هذه الجنيات هي بقايا العبودات والآلهة المحلية التي كانت سائدة على القرى الإنكليزية في عصر من العصور، وما العقيدة الشائعة أن هذه الجنيات قد تسلسلت من الآلهة اليونانية والرومانية القديمة إلا حديث خرافة لا أصل له من الصحة والصدق. وهناك نفر غير قليل من النقاد يرجعونهن إلى أصل بشري، فما هن إلا ذرية سكان بريطانيا الأقدمين الذين طردهم الكلت عند استيلائهم على البلاد، فلم يجدن غير الغابات ملجأ يلجأن إليه ومكانا يستطعن العيش فيه مدة حياتهن القادمة، وأصبحن يعرفن فيما بعد بالجنيات
وهذه المخلوقات العجيبة كانت على أنواع عدة، فمنها ما هو أسود اللون، ومنها ما هو أخضره آو أبيضه أو رماديه، وفي كثير من الروايات يصفهن شكسبير، فهو يقول في(119/33)
موضع من روايته (نساء وندسور المرحات) واصفا إياهن بقوله: إنهن سوداوات اللون أو رمادياته أو خضراوته أو بيضاوته
وكن لا يخرجن إلا في غسق الليل، فيعقدن مجالس الأنس والطرب تحت ظلال الأشجار، بينا أهل الأرض نيام. وفي (العاصفة) نرى بروسبيرو يخاطب إحدى هذه الجنيات قائلا: (ستخرجين الليلة ويصيبك فيها برد شديد، قد يؤدي إلى تشنج في أعصابك فتألمين منه أشد الألم، وستحيط بك الجنيات في الليل فينفذن فيك مالهن من قوة)
تعيش الجنيات في الحقول المغطاة بالأزهار والرياحين، أو في الأماكن الخلوية من اليابسة والماء، سيان عندهن التلال والوديان، الغابات والمروج؛ وكثيرا ما تراهن بجوار الينابيع وضفاف الأنهار؛ أو في أعماق المحيطات والبحار، وقد وصف الشاعر أحد هذه الأمكنة بقوله: (إني لأعرف شاطئا تهب عليه الرياح، وتنبت فيه أزهار الياسمين والزنبق محاطة بالورود الجميلة المنظر) أما الملكة فهي تود الاجتماع في جميع الأماكن التي اعتدن فيها اللقيا، فهي تلقي الأوامر على أفراد رعيتها قائلة: (لنلتقي على التلال أو في الوديان، بجانب الينابيع المرصوفة، وعلى شواطئ الأنهار الذهبية، أو في أعماق البحار الرملية، وهناك نحتفل برقصنا على موسيقى الرياح الهائجة)
إن أشهر أسماء هذه الجنيات التي ذكرها شكسبير في رواياته ثلاثة أولها أبيرون الذي يعتبر ملكا على هذه الطائفة من المخلوقات؛ أما تيتانيا فكثيرا ما يطلق عليها اسم الملكة ماب وهي تعتبر باعثة للأحلام كما يظهر في رواية روميو وجوليت: (أني لأعتقد أن الملكة ماب كانت معك فهي وسيطة الجنيات وملكتهن لا يزيد حجمها على حجر صغير أو إصبع من أصابع الرجال، وكثيرا ما تصبح بشكل ذرة ترتكز على أنوف الناس عند نومهم) فهي تبعث الأحلام والأخيلة اللذيذة، ولكنها لسوء حظ البشر في صراع دائم مع زوجها الملك أبيرون، ومن هذا الصراع قد يتأتى من الشرور والأضرار لبني البشر. أما آخر هذه الأسماء وهو بك فهو رسول الملك وحامل أوامره
في الفقرة السابقة رأينا الملكة ماب بحجم صغير، ومن هذا يمكننا أن نستنتج أن الجنيات ذوات حجم ضئيل، وقد وصفهن شكسبير في رواية العاصفة بقوله (حيثما تهبط النحل أهبط أنا وفي استطاعتي أن أنام دخل جرس من الأجراس فأتخلص من نعيق الغربان(119/34)
والبوم). وقد يتمكن من الظهور بحجم أصغر فيختفين داخل كؤوس الشراب
ولا ينتظر من هذه المخلوقات الضئيلة إحداث أمر سيئ للبشرية لولا أنها في نزاع دائم مستمر. نعم إن صفاء نيتهن كان سببا في خلق بعض الآلام إلا أنهن كن لا يلبثن أن يزلن ما أحدثن بمهارة وروية. وكثيرا ما نراهن يتعاطين المزاح فيروعن فتيات القرية ويخفنهن فرأينا إيموجن في سمبالين تخاف هذه المخلوقات وتسأل وصيفتها أن تلازمها لتحميها منهن فهي ترجوها قائلة (أرجوك حمايتي من الجنيات ودلاج الليل)
ولكنا نراهن في الغالب يحفزهن حب الخير وعمله فيقمن بأعمال جمة لفائدة البشرية ونفعها ولا يعد روبن هود إلا فاعلا من فعلة الخير ومريده. فهو يتلقى الأوامر من مليكه ويعرضها على أفراد الشعب وهو يستمع إلى أبيرون حين يقول: (على كل جني أن يقف بالباب المعين له، وعليه أن يبارك من في الغرفة ويدعوا لهم بالسلام والطمأنينة). وكثيرا ما دعت الجنيات للأزواج الحديثي العهد بالسرور والبركة وتلقفن أطفالهم بعين الرعاية والعطف حتى يشبوا ولم يعرفوا الألم قط. وهاهو أبيرون يقول (دعنا نذهب إلى فراش كل عروس جديدة فنباركها فتلد غلاما يلازمه السرور وترعاه العناية)
(يتبع)
خيري حماد(119/35)
كتب ابن المقفع
للأستاذ بشير الشريقي
1 - أبو محمد عبد الله بن المقفع كاتب بليغ مشهور امتاز بأسلوبه الجميل السهل الرشيق، لا أعرف بين أدبائنا القدماء والمحدثين من هو أقدر منه على الكتابة والتعبير إلا عمرو بن بحر الجاحظ. كان ماهرا في تصور طبائع الناس وأهوائهم وميولهم، احتوت كتبه الحكمة والأدب والأمثال، كما احتوت قواعد عامة في الإدارة والسياسة والأخلاق
2 - وهو فارسي الأصل اسمه في الفارسية (روزبة) ولد في (خوز) من أعمال خراسان حوالي سنة 106 هجرية. ونشأ في البصرة، وقد ظل يدين بالمجوسية دين آبائه حقبة من الزمن، ثم اعتنق الإسلام وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره، قال الهيثم بن عدي يذكر قصة إسلامه: (جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي عم المنصور، فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك، فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر؛ ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يزمزم على عادة المجوس فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ قال: أكره أن أبيت على غير دين)
3 - وكما اشتهر عبد الله أنه كاتب كبير، فقد اشتهر أنه مترجم قدير لا تلمح في ترجمته أثر العجمية، فهو أول من اعتنى في الإسلام بترجمة الكتب القيمة، ترجم كتب أرسطو الثلاثة في المنطق، ونقل كتاب (التاج في سيرة أنوشروان)، وقيل إن كتاب (كليلة ودمنة) كان باللغة الفارسية فنقله إلى اللغة العربية. قال الباقلاني: (ابن المقفع ينحط إذا كتب ويعلو إذا ترجم، لأن في الأولى عقله وفي الثانية كل العقول)
وقال الجاحظ: (كان ابن المقفع مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة)
4 - لابن المقفع من الكتب كتابا (الأدب الصغير والكبير) وكتاب (الدرة اليتيمة)، وكتاب (التاج في سيرة أنوشروان)، وكتاب (كليلة ودمنة)؛ وكتب في المنطق. وهذه الكتب منها الموضوع ومنها المنقول، فكتابا (الأدب الصغير والكبير) و (الدرة اليتيمة) من تأليف ابن المقفع؛ أما كتب المنطق وكتاب (التاج) فهي منقولة عن الفارسية التي يجيدها الكاتب إجادة عجيبة، واختلف أهل الأدب في حقيقة كتاب (كليلة ودمنة)، فمنهم من قال إن ابن المقفع(119/36)
هو الذي وضعه، وأنه نحله الهند القدماء لترغيب أهل زمانه بمطالعته، ومنهم من قال إنه لم يضعه، وإنما كان باللغة الفارسية ونقله إلى العربية
5 - وبعد فأرى أن أحداث القارئ عن أشهر كتب ابن المقفع وأكثرها متعة قيمة، وهي كتاب (الدرة اليتيمة) وكتاب (الأدب الصغير) وكتاب (كليلة ودمنة)، وسيقتصر بحثي على تعريف القارئ بهذه الكتب تعريفا إجماليا، ثم على عرض اجمل ما فيها من صور أدبية واجتماعية مع شرح موجز:
6 - الدرة اليتيمة التي لم يصنف في فنها مثلها تقع في ثمانين صفحة، وتشتمل على فصلين كبيرين، الأول منهما خاص بعلم السياسة ويحتوي على آراء قيمة حكيمة في إدارة الحكومة، وواجبات الحاكم، وعلى وصف دقيق لما يجب أن يكون عليه الأمير من القوة والعدل، والبطش والحلم، والتثبيت والعلم؛ والثاني خاص بعلم الأخلاق، يشتمل على قواعد دقيقة في التربية والاجتماع، وعلم النفس وعلى نظرات صادقة في الناس وشؤونهم
حل ابن المقفع في (درته اليتيمة) مسألة كبيرة تلخص في كيف يتسنى للأمير أن يحفظ ملكه ويثبت سلطانه، نقول: إن هذه المسألة قد لفتت نظر كاتب فلورنسي يدعى (ميكافيللي) في القرن الخامس عشر 1469 - 1527، فوضع كتاب سماه (الأمير) شرح فيه هذه المسألة شرحا لا يكاد يختلف في أصوله ومعانيه عن شرح ابن المقفع؛ وكانت ضجة عظيمة حول الكتاب في الدوائر العلمية والسياسية الأوربية، وكان أصبح مكيافيللي بفضل كتابه الذي اعتبره الغربيون أول كتاب في العلم السياسي، من أعاظم رجال التاريخ؛ ولما كان المجال لا يسمع الكلام بإسهاب اكتفي بقولي: إن من يطلع على (الدرة اليتيمة) يرى أن ابن المقفع بحث في أصول سياسة الملك بحثا مستفيضا ممتعا، وإلى القارئ صورا من (الدرة اليتيمة):
7 - قال ابن المقفع:
أحق الناس بالتوقير الملك الحليم العالم بالأمور وفرض الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضاء والمعالجة والأناة الناظر في الأمر يومه وغده وعواقب أعماله
اعلم أن الملك اثنان: ملك حزم وملك هوى، أما ملك الحزم فانه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر لا(119/37)
يضيعن الوالي التثبت عند ما يقول وعندما يعطي وعندما يفعل، فان الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عند بعد الإقدام عليه؛ وكل الناس محتاج إلى التثبت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع، وليس عليهم مستحث
إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه
لا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطى عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التصنع والتمحل
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها
احرص الحرص كله على أن تكون خبيرا بأمور عمالك فان المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك
ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم وليبطل عن نفسه وعن الملوك صفات السوء التي يوصفون بها
لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبا موفورا يروح به عن قلبه ويصدر به أعماله
من صحب السلطان لم يزل مروعا. فساد الملك أضر على الرعية من جدب الزمان
8 - (الأدب الصغير) رسالة قيمة في علم تهذيب الأخلاق، تقع في أربعين صفحة كتبت بأسلوب جميل ساحر، أسلوب فيه حلاوة وعليه وطلاوة، أسلوب تتجلى فيه الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة والمعاني التي إذا طرقت الصدور عمرتها، وهي ممتلئة بأصدق الأنباء عن الروح الإنسانية تبرهن على مقدرة ابن المقفع العجيبة في تصوير طبائع الناس قال:
على العاقل ألا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى وأن ينزل ما أصاب من ذلك ثم(119/38)
انقطع عنه منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على اليقين
وعلى العاقل إن اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره
من نصب نفسه للناس إمام في الدين فعليه أن يبدأ في تعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان. معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم
الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولون في أمورهم، فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، يترقبون الدوال، ويتعاطون القبيح، ويتعاينون بالفخر
لا يمنعك صغر شأن امرئ من اجتباء ما رأيت من رأيه صوابا، واصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريما، فان اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها
أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتي إليك
ومن روع الرجل ألا يقول ما لا يعلم، ومن الأرب أن يتثبت فيما يعلم
إقدام المرء على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقل
خمول الذكر أجمل من الذكر الذميم
لا يوجد الفخور محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان
ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال، ولا يظهر المروءة إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا بالمال؛ ومن لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا ولد له فلا ذكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا ولا آخرة له، ومن لا مال له فلا شيء له. والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا(119/39)
له
9 - (كليلة ودمنة) كتاب بليغ يتضمن الجد والهزل، واللهو والحكمة، ألفه بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة، ونقله إلى العربية عن الترجمة الفارسية، في صدر الدولة العباسية (عبد الله ابن المقفع) رأس الكتاب، وقيل إن ابن المقفع هو الذي وضعه وأنه نحله الهند القدماء لترغيب أهل زمانه في مطالعة كتب الحكمة والفلسفة التي لم يكونوا يأبهون لها إلا إذا أسندت للقدماء، وهو موضوع على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهو للعوام وباطنه رياضة لعقول الخاصة، وهو معروف متداول فلا داعي للإفاضة في بحثه
10 - ونتساءل: كيف كانت صورة عبد الله بن المقفع وهيئته؟ كيف كان شكله وطراز جسمه! هل كان جميلا ظريفا قويا أم على العكس قبيحا دميما ضعيفا! ماذا كان يلبس؟ هل كان يهتم بنظافة ثيابه وحسن هندامه، كيف كانت حياته الخاصة كيف كان يعيش مع نفسه وأهله وخلصائه؟ هل كان يميل إلى المرح والمداعبة والهزل؟ هل أحب ما هي قصة حبه؟ هل كان له زوجات وأولاد؟ ما درجة اتصاله بأهله وذوي قرباه؟ أي متاع الدنيا آثر عنده؟
هذه أسئلة عظيمة الفائدة المتعة لابد وأن تعرض لذهن من يود أن يعرف ابن المقفع ويفهم أدبه، ولكن أليس عجيبا إلا نستطيع أن نجيب على سؤال واحد منها وأن نكون على جهل تام بحياة أديبنا الخاصة؟
ليس الذنب في ذلك ذنبنا، وإنما هو ذنب مترجمي أدبنا القدماء فهم قل أن اهتموا أثناء ترجمتهم لأديب أو شاعر بحياته النفسية الخاصة ثم بحياة محيطه، هذه الحياة التي تكون الأديب وتطبع آثاره الأدبية بطابع الشخصية والذاتية
11 - كل ما ذكره المترجمون عن حياة ابن المقفع الخاصة كان جملة واحدة أوردوها عرضا أثناء تحدثهم عن شعوره الديني أوردها صاحب الأغاني نقلا عن الجاحظ قال: كان ابن الحباب ومطيع بن إياس، ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي، وحفص بن أبي وردة، وابن المقفع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عجرد، وعلي بن خليل، وحماد بن أبي ليلى الراوية، وابن الزبرقان، وعمارة ابن حمزة، وجميل بن محفوظ وبشار المرعش، ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون، ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا، وكلهم متهم في دينه)(119/40)
نقول إن صحت رواية الجاحظ كان هؤلاء الشعراء والأدباء الذين كانوا يجتمعون على الشراب لقول الشعر ولا يكادون يفترقون هم الذين يمثلون الطبقة الخاصة من الناس التي ذكرها ابن المقفع في قوله (وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقة في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء
12 - مات ابن المقفع باكرا، لم يمتع بالحياة؛ كان عمره ستة وثلاثين عاما يوم قتلوه؛ نعم لم يمت المسكين بل قتل حرقا بالنار. يا لهول الجريمة!!
أجمع مترجمو ابن المقفع على أن سبب مقتله كتابته أمانا لعبد الله عم المنصور قال فيه:
(. . . ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله؛ فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته)، فلما وقف عليه المنصور عظم عليه ذلك وقال: من كتب هذا، فقالوا له: رجل يقال له عبد الله بن المقفع يكتب لأعمامك؛ فكتب إلى سفيان بن معاوية بن مهلب بن أبي صفرة متولي البصرة يأمره بقتله، ذكروا أن سفيان كان شديد الحنق على ابن المقفع لأنه كان يعبث به وينال من أمه ولا يسميه إلا بابن المغتلمة)
وإنها لخسارة لا تعوض، وإنها لجريمة لا تغتفر، ورحم الله ابن المقفع
شرقي الأردن
بشير الشريقي(119/41)
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
فنونه الشعرية: تناول أبو العتاهية لأول أمره من فنون الشعر الغزل والمدح والرثاء والهجاء والعتاب والاستعطاف وما إلى ذلك مما كان يتناوله غيره من الشعراء، ثم استفرغ بعد ذلك جل شعره في الزهد والوعظ والحكمة والمثل، فأعطى الشعر العربي من ذلك ثروة عظيمة كانت تنقصه
فأما غزله فكان يذهب فيه مذهب الشعراء العشاق كجميل بثينة وغيره، وإن كنا قد ذكرنا في ترجمته أنه لم يكن صادق العشق مثلهم، ولكن سجيته التي كانت تنازعه من أول أمره إلى قول الزهد، لم تكن لترضى له أن يذهب في غزله مذهب فساق الشعراء كامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما، فجاء غزله عفيفا بعيدا عن الفحش والفجور، ليس فيه إلا شكوى الصبابة وألم الصد وعذاب الفراق ونحو ذلك من وجدانات أهل العشق؛ ولعل هذا أيضا مما كان يرغب المهدي والرشيد في غزل أبي العتاهية ويجعلهما يغضبان عليه إذا أراد أن يتركه إلى الزهد، مع أنهما كانا لا ينظران إلى غزل أحد غيره بتلك العين التي نظرا بها إلى غزله، وأمر المهدي مع بشار في غزله معلوم، وكذلك أمر الرشيد مع أبي نواس؛ وقد شاع الغزل بالمذكر في عصر أبي العتاهية فصان نفسه عنه، ولم يدنس شعره به، وهذه شهادة مسلم بن الوليد في غزل أبي العتاهية. ذكر أبو الفرج أن مسلما قال: كنت مستخفا بشعر أبي العتاهية فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه: فجاءني بلون واحد فأكلنا، وأحضرني تمرا فأكلناه، وجلسنا نتحدث، وأنشدته أشعارا في الغزل، وسألته أن ينشدني، فأنشدني قوله:
بالله يا قُرة العينين زوريني ... قبل الممات وإلا فاستزيريني
إني لأعجب من حبٍّ يقربني ... ممن يباعدني منه ويعصيني
أما الكثير فما أرجوه منك ولو ... أطمعتني في قليل كان يكفيني
ثم أنشدني أيضا:
أخلايَ بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ عن شجو صاحبه خِلْوُ
وما من محبٍّ نال ممن يحبه ... هوّى صادقاً إلا سيدخله زهو(119/42)
بليتُ وكان المزحُ بدء بليتي ... فأحببت حقاً والبلاءُ له بدْو
وُعلِّقْتُ من يزهو على تجبراً ... وإنيَ في كل الخصال له كُفو
رأيتُ الهوى جمر الغضا غير أنه ... على كل حال عند صاحبه حلو
ثم أنشدني:
خليلي مالي لا تزال مضرتي ... تكون مع الأقدار حتما من الحتم
يصاب فؤادي حين أُرمي ورميتي ... تعود إلى نحري ويسلم من أرمي
صبرت ولا والله ما بي جلادة ... على الصبر لكني صبرت على رغمي
ألا في سبيل الله جسمي وقوتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
تُعدُّ عظامي واحداَ بعد واحد ... بمحني من العذال عظما على عظم
كفاكِ بحق الله ما قد ظلمتني ... فهذا مقام المستجير من الظلم
قال مسلم: فقلت له لا والله يا أبا إسحاق ما يبالي من أحسن أن يقول مثل هذا الشعر ما فاته من الدنيا؛ فقال يا أبن أخي لا تقولن مثل هذا، فان الشعر أيضا من بعض مصايد الدنيا
وأما مدحه فقد كان مدحا تجاريا لم ينطق فيه عن عقيدة، بل كان يمدح به قوما يخالفونه في عقيدته الشيعية، ولا يقصد من ذلك إلا الحصول على المال الذي أباح الشيعة أخذه من المتملك لأنه حق لهم، فسار أبو العتاهية في مدحه بقدر ما يصل به إلى هذا الغرض، ولم يدخل به في الخصومة السياسية التي كانت قائمة في عصره بين العباسيين والعلويين، وذهب فيها كثير من الشعراء مذاهب باطلة، ودفعهم حب مال العباسيين إلى أن يجعلوا حقهم في ملك المسلمين بالإرث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشاركهم فيه العلويون ولا غيرهم من المسلمين، وفي هذا يقول قائلهم:
أنَّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وِراثةُ الأعمام
ولم يفرح العباسيون بشيء فرحهم بهذه الفكرة الخاطئة، فعدوها أكبر نصر لهم على خصومهم من العلويين، وأغدقوا على من أبتكرها لهم شعرا ما لا يحصى من الأموال، وحملوا الشعراء على التفنن فيها، وتصريف الشعر في تأييدها ونشرها
فلم يصل مدح أبي العتاهية للعباسيين إلى هذا الحد، ولم يبع عقيدته بأموالهم فيفضلهم على العلويين أو يذمهم من أجلهم، بل كان على حبه للمال وبخله به يعرف كيف يرفضه إذا كان(119/43)
في قبوله إهانة له، أو حطا من كرامته؛ ويمكننا أن نسوق على ذلك شواهد كثيرة، ذكر أبو الفرج أن أبا العتاهية كان منقطعا إلى صالح المسكين، وهو ابن أبي جعفر المنصور، فأصاب في ناحيته مائة ألف درهم، وكان له ودودا وصديقا، فجاءه يوما وكان له في مجلسه مرتبة لا يجلس فيها غيره، فنظر إليه قد قصر به عنها، وعاوده ثانية فكانت حاله تلك، ورأى نظره إليه ثقيلا، فنهض وقال:
أراني صالحٌ بُغضَا ... فأظهرتُ له بُغضَا
ولا والله لا ينق ... ض إلا زدتهُ نقضَا
وإلا زدته مقتا ... وإلا زدته رفضا
ألا يا مفسد الوُدَّ ... وقد كان له محضا
تغضبتَ من الريح ... فما أطلب أن ترضى
لئن كان لك المال ال ... مصّفى إن لي عِرْضا
فنمى الكلام إلى صالح فنادى بعداوته فقال فيه:
مَدَدتُ لمعرض حبلا طويلا ... كأطول ما يكون من الحبال
حبالٌ بالصريمة ليس تفنى ... موَصَّلةٌ على عدد الرمال
فلا تنظرْ إليَّ ولا ترِدْني ... ولا تَقَربْ حبالكَ من حبالي
فليت الرّدمَ من يأجوج بيني ... وبينك مُثبتاً أخرى الليالي
فَكرْشٌ إن أردتَ لنا كلاما ... ونقطع قحفَ رأسك بالقتال
وذكر أيضا أنه قدم يوما منزل يحي بن خاقان، فلما قام بادر له الحاجب فانصرف، وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلم عليه ودخل إلى منزله ولم يأذن له، فأخذ قرطاسا وكتب إليه:
أراك ترَاعُ حين ترى خيالي ... فما هذا يرُوعكَ من خيالي
لعلك خائف مني سؤالي ... ألا فلك الأمانُ من السؤال
كفيتُكَ إن حالك لم تمِل بي ... لأطلب مثلها بدَلا بحالي
وإن اليسر مثل العسر عندي ... بأيهما مُنيتُ فلا أُبالي
ولا شك أن هذه النفس في إبائها وعقيدتها المخالفة لعقيدة ممدوحيها لو كانت لغير أبي(119/44)
العتاهية لصعب عليها في الشعر مقام المدح، ولكن طبع أبي العتاهية في الشعر سهل عليه كل شيء، وجعله يأتي في ذلك من المدح بما أرضى ممدوحيه غاية الرضى، وكان على ما ذكرنا في ترجمته يقصر التشبيب أمام المدح ولا يطوله حتى يكون كأنه هو مقصوده من شعره، كما كان يفعل ذلك غيره
وكان ابن الإعرابي يتعصب لأبي العتاهية فتنقصه رجل أمامه ورمى شعره بالضعف، فقال له: الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر؟ فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر؛ ثم أنشده قصيدته في الزهد:
قَطَّعْتُ منك حبائل الآمال ... وحَطَطْتُ عن ظهر المطيَّ رحالي
ثم قال للرجل هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله جعلني الله فداءك، إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد، فقال: أفليس الذي يقول في المديح:
وهرونُ ماء المُزْنِ يُشفي به الصَّدى ... إذا ما الصدِى بالريق غُصَّت حَناجرُه
وأوْسط بيتٍ في قريش لَبَيتُه ... وأول عز في قريش وآخره
وَزحْفٌ له تحكى البُرُوقَ سيوفُهُ ... وتحكي الرعودَ القاصفات حوافره
إذا حَمِيَتْ شمسُ النهار تضاحكت ... إلى الشمس فيه بِيضُهُ ومَغافره
إذا نكِب الإسلام يوماً بنكبة ... فهرون من بين البرية ثائره
ومن ذا يفوت الموتَ والموتُ مُدْركٌ ... كذا لم يَفُتْ هرونَ ضِدٌّ ينافره
قال: فتخلص الرجل من شر ابن الإعرابي بأن قال له: القول ما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه:
وأما رثاؤه فكان يذهب فيه مذهبه في الزهد والحكمة، لقرب مقامه من مقامهما، ومن ذلك رثاؤه في علي بن ثابت، وكان صديقا له، وبينهما مجاوبات كثيرة في الزهد والحكمة، فحضره أبو العتاهية وهو يجود بنفسه، فلم يزل ملتزمه حتى فاض، فلما شُدَّ لحياه بكى طويلا، ثم أنشد يقول:
يا شريكي في الخير قَرَّبكَ الل ... هُ فنعم الشريك في الخير كُنتا(119/45)
قد لعمري حكيت لي غُصص المو ... ت فحركتني لها وسكنتا
ولما دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحر بكاء ويردد هذه الأبيات:
ألا من لي بأنسك يا أُخيَّا ... ومن لي أن أبثك ما لَدَيَّا
طَوَتْكَ خطوبُ دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشراً وَطَيَّا
فلو نَشَرَتْ قُواكَ لي المنايا ... شكوتُ إليك ما صنعت إليَّا
بكيتك ياعَليُّ بدمع عيني ... فما أغنى البكاءُ عليك شَيَّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حيَّا
وهذه المعاني كما قال أبو الفرج أخذها كلها من كلام الفلاسفة لما حضروا الإسكندرية، وقد أخرج ليدفن، قال بعضهم: كان الملك أمس أهيب من اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس؛ وقال آخر: سكنت حركة الملك في لذاته، وقد حركنا اليوم في سكونه جزعا لفقده. وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار
وذكر أبو العتاهية أنه ماتت بنت للمهدي، فحزن عليها حزنا شديدا حتى أمتنع عن الطعام والشراب، فقلت أبياتا أعزيه بها، فوافيته، وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول: لابد من الصبر على ما لابد منه، ولئن سلونا عمن فقدنا، ليسلون عنا من يفقدنا، وما يأتي الليل والنهار على شيء إلا أبلياه، فاستأذنته في إنشاد ما قلت فأذن:
ما للجديدين لا يَبْلىَ اختلافهما ... وكل غَضٍّ جديد فيهما بَالي
يا من سلا عن حبيب بعد مَيْتَتِهِ ... كمْ بعد موتك أيضاً عنك مِن سال
كأن كلّ نعيم أنت ذائقُهُ ... مِن لذة العيش يحكي لَمعَة الآل
لا تلعبنَّ بك الدنيا وأنت ترى ... ما شئتَ من عبرٍ فيها وأمثال
ما حيلةُ الموت إلا كلُّ صالحةٍ ... أوْلا فما حيلةٌ فيه لمحتال
وأما الهجاء فكان أبو العتاهية يترفع عنه ولا يقوله إلا مضطرا، فإذا قاله لم يفحش فيه كغيره، وكانت بينه وبين والبة بن الحباب مهاجاة حينما قصد والبة بغداد وهو كوفي مثله، فحسده على أن بلغ في بغداد ما لم يبلغه، وأخذ يهجوه ويذمه. وقد حدّث محمد ابن عمر الجرجاني قال: رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له: أن والبة بن الحباب قد هجاني، ومن أنا منه؟ أنا جرار مسكين - وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه - فأحب أن تكلمه(119/46)
أن يمسك عني، فكلم أبي والبة فلم يقبل، وجعل يشتم أبا العتاهية فتركه، ثم جاءه أبو العتاهية فسأله عما فعل في حاجته، فأخبره بما رد عليه والبة، فقال لأبي لي الآن عليك حاجة، قال وماهي؟ قال لا تكلمني في أمره، فقال هذا أول ما يجب لك، فقال أو العتاهية يهجوه:
أوالبُ أنت في العرب ... كمثل الشيص في الرُّطب
هَلمّ إلى الموالي الصِّ ... يد في سَعةٍ وفي رَحب
فأنت بنا لَعمرُ الل ... هـ أشبهُ منك بالعرب
غضبتُ عليك ثم رأي ... تُ وجهك فانجلى غضبي
لِما ذكَّرْتني من لو ... نِ أجدادي ولون أبي
فقل ما شئت أقبَلهُ ... وإن أطنبتَ في الكذب
لقد أُخبرْتُ عنك وعن ... أبيك الخالص العرب
فقال العارفون به ... مُصاصٌ غيرُ مؤتَشب
أتانا من بلاد الرو ... م مُعتجِراً على قَتب
خفيف الحاذِ كالصمصا ... م أطلسُ غير ذي نشب
أوَالب ما دهاك وأن ... ت في الأعراب ذو نسب
أراك وُلِدْتَ بالمري ... خ يا ابن سبائك الذهب
فجئتَ أَقيشرَ الخدين ... أزرق عارمَ الذنب
لقد أخطأتَ في شتمي ... فَخبَّرني ألم اُصِب
وقال فيه أيضا غير ذلك، فبلغ والبة، فجاء أبي فقال قد كلمتني في أبي العتاهية وقد رغبت في الصلح، فأخبره بما أخذه أبو العتاهية عليه، فقال له والبة فما الرأي عندك؟ قال تنحدر إلى الكوفة، فركب زورقا ومضى من بغداد إلى الكوفة، وكان هجاء والبة فيه ضعيفا سخيفا لا يقوى على هذا الهجاء، وفيه من الفحش ما نروى بعضه ليعلم بعد ما بين الهجائين:
قل لابن بائعة القِصارِ ... وابن الدَّوارِق والجِرَارِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .(119/47)
تهجو مواليك الأولى ... فكوككَ من ذُلَّ الاسار
هذا مثل من هجوه وإن الشعر لأعلى مقاما من هذا القبح الذي أتى به، وإنه لينال من نفسه بذلك قبل أن ينال ممن يهاجيه
عبد المتعال الصعيدي(119/48)
أمام المشنقة
(على لسان أحد الشبان المحكوم عليهم بالشنق لجريمة أتاها)
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
قسا عليّ الفلكُ ... بعد قليلٍ أهلكُ
ما باختياري في شبا ... بي للحياة أترك
أين مضت صحابتي ... وايَّةً قد سلكوا
مَن ذا إذا متُّ سَيَبْ ... كيني ومَن ذا يضحك
قد نصبوا لي شركا ... فما عداني الشرك
ما بال شمسي أخذت ... عند الشروق تَدْلك
قد استوى ضوء الضحى ... في أعيني والحلَك
لم أجْنِ لو كانت يدُ ال ... مقدور لا تشترك
بالدم قد خضَّب كفّ ... ي القدَرُ المُحَرِّك
قد أفرحَ النُظَّارَ بي ... أنَّ دمي ينسفك
ازدحموا حولي ولِلْ ... أنفاس منهم أمسكوا
ليبصروا كيف حيا ... تي حبلُها ينبتك
ما هي إلاَّ رجفةٌ ... وبعدها لا أحرك
أفي قلوبهم عليّ ... عند موتي حَسَك
إنيَ إنسانٌ له ... أخطاؤه لا مَلَك
كم ليَ من مثل لو أنّ (م) ... سرّه ينهتك
خذوا حياتي إنها ... أثمنُ ما أمتلك
لا تحبسوا الرحمة عمَّ ... ن قد قضوا أو أوشكوا
ولو تجسّم الأسى ... لكان دمعاً يُسفَك
كل البقاع للحيا ... ة فوقها مُعَتَرك
أمَّا الحياة فهي إن ... وَلّت فلا تُستَدرك
والموتُ بالإنسان إلاَّ ... مرّةً لا يفتك(119/49)
إذا أتت ساعته ... فكلُّ شيء مُهلك
تعقده الحياة وال ... موت له يُفكّك
قد يُدفَن المرءُ على ... أخيه ثم يُترَك
بعد البِلى تَعانَقُ ال ... عظامُ أو تشتبك
إن البلى لكل مَن ... حواه قبرٌ يعرك
نهارُه وليلُه ... كلاهما مُحلولِك
مشنقتي هي التي ... أودّها وأفرك
وعلَّني إذا ركب ... تُها فلا أرتبك
فأعتلي كأنني ... أدركتُ مالا يُدرَك
إني سلكتُ مسلكا ... صعباً وبئس المسلك
والحقُّ خير ما يقو ... ل المرء حين يهلك
هذا جزاء مجرمً ... بالأبرياء يفتك
بغداد
جميل صدقي الزهاوي(119/50)
سر الحياة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
عبء لغز الحياة يا قلب ما أف ... دح عبئاً يُحثَي عليك وثقلا
لغز عيشٍ ولغز عقل وما أع ... جب لغزاً يروم للغزِ حلا
كلما رمتَ بالمجاهل خُبْراً ... زادك العيش بالمعالم جهلا
عَبَثُ العيشِ كلما قال لا سِ ... رَّ أعدتَ السؤال جداً وهزلا
قد خبرتَ الأنامَ يا قلب هل تن ... شد سراً من بعد ذاك وسُؤلا
وحياة بالسر أحجى حياة ... هي أحلى مما تراه وأعلى
خُدْعَةُ العيشِ أن يُلوِّحَ بالس ... ر إذا عاف عائشوه ومُلاَّ
فتزيد الحياةُ حسناً ومأمو ... لاً وتغوي الحياة نشأً وكهلا
مثلما حُجِّبتْ فتاة لِيُرْجَى ... سر حسن لها استسر وقَلاَّ
لو بدت عاطلاً لما خبلت لُ ... باَّ ولا استبعدت عشيقاً وخِلاَّ
كم سعيد يلهو ويعمل لا ين ... قض فعلاً وليس ينكر قولا
وعلى غدرها أحب حياة ... وحباها في الحب أهلاً ونسلا
عاشقاً للحياة بعضاً وكلا ... راضياً بالحياة فرعاً وأصلا
فإذا شاكه من العيش هَمٌّ ... قال قولاً ورام للغز حَلاً
عبء لغز الحياة يا قلب ما أف ... دح عبثاً يحُثَي عليك وثقلا
سِرُّها أنك السعيد إذا لم ... تَدْرِ أن لا سراً لديها فيُجْلَى
ضلةٌ ما أقول كم لاح من كَشْ ... فٍ وقد كان خافيَ السر قبلا
ولعل الحياة أكبر لولا ... مُعْظِمٌ للحياة غالي وأغلى
فهي من فرط رَفْعه في انخفاض ... تلك عُليا إن يُعِلها فَهْيَ سُفلى
باء باليأس من عُلاها وقد غا ... لى فقال الحياة بالحط أولى
ويعيد الحياة فرضاً وحسناً ... ومتاعاً من يأخذ العيش سهلا
عبد الرحمن شكري(119/51)
يا كون!
للأستاذ فخري أبو السعود
يا كَونُ كُنْ لي جميلاً ... على الدوام جديدا
أَبغِي لديك طريفاً ... إذا هجرتُ تليدا
لا تَبْلَ، لا تَغْدُ شيئاً ... أَلِفتُهُ معهودا
بل اُبدُ دوماً عجاباً ... مُستَطرَفاً منشودا
لا تَبدُ فرداً ولكن ... كُنْ أنتَ جمًّا عديدا
جَدِّد لحسنك هذا ... بعد البرُود بُرُودا
ولا تضِقْ بيَ أُفقاً ... ولا تَدانَ حدودا
لا زال أُفقُك لي يا ... كَوني رحيباً بعيدا
أَشيم في كل يومٍ ... مرمىً به مقصودا
لا تبدُ يوماً فراغاً ... لا تبدُ يوماً زهيدا
لِتَبقَ حَفلاً نفيساً ... أُريغ منك المزيدا
جدِّد صُرُفَك وابعث ... بعد النحوس سعودا
ابعث أسًى أو سروراً ... لكن حذارِ الجمودا
أُريد يا كونُ عمراً ... في كل يومٍ مديدا
من عاش في كل يوم ... عمراً أصابَ الخلودا
لا أبتغي العمرَ يوماً ... مُرَجَّعاً مردودا
أُريدُ في كل يوم ... أَرودُ هذا الوجودا
في كل يوم أراني ... في عالمٍ مولودا
أُريد أكشفُ معنًى ... في كل يومٍ شرودا
منه أُغذِّي شعوري ... وأستجِدُّ قصيدا
فخري أبو السعود(119/52)
عرش الجمال
(إلى مس مصر، ملكة الجمال العالمي)
للأستاذ محمود غنيم
يا ربَّةَ المُلك الذي انتظم الورَى ... مُلكُ البسيطة ما أتيح لقيصرا
خضعت لحكمك دولةٌ عزَّة على ... (دَارَا) وأعيا عرشُها (الاسكندرا)
لكِ دولةٌ لم ترهفي من أجلها ... حدَّ الحسام ولم تقودي عسكرا
لِتُودِّع الأُسدُ الغضابُ عروشَها ... قد أصبح المَلِكُ المتَّوجُ جؤذَرا
من كان يمتلكُ الرقابَ فإنما ... عرشُ الجمال على القلوب تسيطرا
كم عاهل ذي سطوة لم يفتتحْ ... قلباً وإن فتح المدائنَ والقُرى
مُلْكُ الفراعِنة الشِّدادِ أعدْتِهِ ... بيدٍ مخضَّبةٍ وطرفٍ أَحوَرا
ما للمها في مصرَ تحكُم عالماً ... والليثُ يعَجزُ أَنْ يعيش محَّررا
ملكتْ يمينُك كلَّ صدرٍ ناهدٍ ... وأطاع أمرَك كلُّ خدٍّ أحمرا
كم كاعبٍ ملكت قلوباً أصبحت ... أَمَةً تُباع إذا أرَدْتِ وتُشترى
كم تحت حكمِكِ ذاتُ لَحْظٍ إن رنا ... تَرَكَ المهنَّد لا يساوي خِنجرا
جُنْدٌ أغرُّ من الحسان الحور لو ... لاقيتِ أسطولاً به لتقهقرا
أقسمت ما بين الملوك أعزُّ مِنْ ... مَلِكِ على عرش الملاح تَأَمَّرا
كوم حماده
محمود غنيم(119/53)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
24 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
إن انتشار مذهب الشفقة - في هذا الجيل - دليل على أن الإنسان أصبح يزداد خوفه من الألم. أصبح متراخيا، مخنثا يخشى من كل ما يعكر عليه طمأنينته ووجوده، لا يحمل الفرار من الألم وحده، بل لا يستطيع أن يتصور فكرة الألم عند الآخرين، حتى لا يقدر أن يؤلم الغير عندما يطلب العدل منه ذلك باسم العدل. الرحيم يبسط شفقته حتى على المجرمين والمسيئين (وقريبا يأتي ذلك اليوم الذي يتراخى فيه المجتمع الإنساني ويقعد عن معاقبة المجرم الذي يضره. لماذا يعاقب المجرم؟ إن المعاقبة يرى فيها ضربا من ضروب الجور. فكرة القصاص وضرورة القصاص تسوؤه. أليس في إقصاء المجرم وغل يديه عن عمل السوء ما يغني؟ فلماذا القصاص إذن؟ إن القصاص يضني. أما المثل الأعلى الذي يطلبه (وحش القطيع) فهو جزء ضئيل من السعادة المحققة لكل إنسان، يرافقه شيء ضئيل من الألم. إن الشقاء - عندهم - شيء يجب محقه
إن نيتشه - في هذا الفصل وهو خير فصوله - يعتقد أن الجبن والخوف من الألم هما من الصغار والحقار بمكان، إن الألم هو في الحق معلم الإنسانية وهو الذي يحقق أحسن نماذج شريفة. (أنتم تريدون سحق الألم ونحن نريد أن تكون الحياة أكثر قسوة وأشد رداءة. إن الكائن السامي الذي تفهمونه، نرى فيه (غاية) ولا نرى فيه (نهاية). نرى فيه مرحلة يبدو الإنسان من ورائها شيئا حقيرا مزريا حتى يدرك آخر عهده، بلى! في مدرسة الألم الكبير، في مدرسة هذا المعلم القاسي يتم الإنسان مراحل تطوره، أليس التضييق على هذه النفس الساقطة تحت أعباء الشقاء يزيدها قوة وصلابة! أليست هذه الرجفة التي تنتابها بازاء الحادثات الكبرى تزيد قوة احتمالها وصبرها وثباتها وتحويل المصائب إلى دروس مفيدة. كل هذا ألم يؤول بالنفس - في مدرسة الألم - إلى خروجها مهذبة نقية؟ إن في الإنسان(119/54)
(خليقة وخالقا) في الإنسان شيء هو مادة وطين ووحل، لا شعور له، فضاء، وفي الإنسان شيء هو خالق مبدع، ونقاش، بهجة فنان وصلابة ومطرقة، أأدركتم هذه المقارنة؟ ألا تزال شفقتكم تذهب إلى ما في الإنسان من مادة ينبغي سحقه وحرقه في النار حتى يتطهر، وإلى كل ما يجب عليه أن يتألم بالضرورة؟
وشفقتنا هل تدرون موقعها! إنها شفقة علينا حين نقاتل شفقتكم كما نقاتل كل ظاهرة من ظواهر الضعف والجبن، وهكذا: شفقة ضد شفقة
ويرى نيتشه أن المذهب الديموقراطي علامة من علامات الانحطاط، لأنه مهما تباعدت أصوله وتبدلت مناهجه متفق مع المذهب الديني، ففي الشريعة المسيحية وفي ديانة الألم الإنساني يتمثل ما يتمثل في مذهب المساواة. . . مقت الضعيف للقوي، وجنوح قوى إلى حياة لا ألم فيها. إن المسيحية تجعل الناس متساوين أكفاء أمام الله، وتعدعهم في بسعادة كاملة في الحياة الثانية، كذلك الديموقراطية جعلت الناس متساوين أكفاء أمام الشريعة والحق، وعملت على تحقيق سعادتهم في هذه الدار، ورجت أن تخلق مجتمعا يموت فيه التفاوت ويكون أهله في الحق سواء؛ لا يتمتع أحدهم بما لا يتمتع به آخر. حيث لا أمر ولا طاعة، ولا استبداد ولا استئثار، ولا سيادة ولا عبودية، ولا غنى ولا فقر
هذا هو المثل الذي تنهض إليه الديموقراطية، ويدعو إليه أصحابها على اختلاف مللهم ونحلهم. . . كلهم يعملون على رفض كل سلطة ذاتية، ليملكوا لأنفسهم كل امتياز. وكلهم يؤمنون بأن كل فرد يقدر بل ينبغي له أن يجد سعادته الخاصة في سعادة المجتمع بأسره، وهذه السعادة الاجتماعية يمكن تحقيقها بإشفاق كل فرد على المجتمع، وبالمحبة العامة السائدة. هذه الأفكار غرست في عقول أبناء الحاضر غرسا متينا، حتى أصبح لا يقوم - في أوربا - رجال تقوى فيهم روح السلطة والزعامة. ولن تجد في عصرنا هذا من يمثل روح نابليون الذي كان ينضوي تحت لوائه الألوف، يمشي فيمشون لا يسألونه أين يمشي، وهؤلاء من بأيديهم الحكومة اليوم لا يملكون من الحكم إلا قليلا، لأن شريعة العبيد رافعة رأسها في كل مكان، فهم يستمدون الحكم من هذه الشريعة، لا يحيدون عنها ولا يجدون عنها مصرفا، فهم خادمو هذا البلد، هم الجلادون فيه، وهم منفذو القانون
وقد بحث نيتشه علاقة الرجل والمرأة، وهو يرى أن المرأة ليس لها حق المساواة مع(119/55)
الرجل، دل على ذلك الحب الذي تنغمس في حمأته الكائنات. فوظيفة الحب - عند الرجل - غيرها - عند المرأة، ومكانة الحب عند المرأة غيرها عند الرجل. فالحب عند الرجل إن هو إلا حادث بسيط أو غريزة ضعيفة. أما الغريزة العنيفة فيه فهي غريزة القوة، هذه الغريزة التي تدفعه إلى بسط سلطانه إلى أقصى ما يقدر عليه. إن مناضلة القوى الطبيعية والقوى البشرية في سبيل تحقيق شخصيته هي ما يتطلب منه عصره وجهوده. فإذا أسلم نفسه إلى الحب، ووهب حياته وأفكاره للمرأة التي يهواها يصبح عبدا مقهورا وجبانا ذليلا، تسلخ عنه الرجولة الحقة والحب الحق
يقول زرادشت (كل ما في حياة المرأة هو لغز، وكل ما في المرأة له حل واحد وهو التوليد) فالحب إذن هو أبرز ما في حياة المرأة، وإنما مجدها وشرفها يدفعانها إلى أن تمثل دور (الأولى) في الحب، وأن تهب كيانها كله جسدا وروحا للرجل الذي تصطفيه، وأن تفتش عن سعادتها في الانسلاخ عن أرادتها الخاصة. يقول زرادشت: إن سعادة الرجل (أنا أريد) وسعادة المرأة (هو يريد!) إن المرأة التي تحب ينبغي لها أن تسلم نفسها إلى الرجل الذي يجب عليه أن يتقبل هذه المنحة. . . هذه هي شريعة الحب التي تجعل بين الرجل والمرأة حاجزا حائلا وفرقا بعيدا. خلقت المرأة للحب والطاعة، وويل لها إذا سئم الرجل من ظفره عليها وألفى أن هذه المنحة حقيرة بالنسبة إليه، وركض يسعى وراء غرام جديد. ينبغي للرجل أن يحكم وأن يحرس. يجب عليه أن يكون قادرا على أن يحيا حياتين، ليحقق سعادته لنفسه، وسعادة من وقفت عليه رجاءها. ولكن تعسا له إذا ضل تحت أثقال هذا العمل، وإذا أدرك حبه وعجز عن إضرام نار هذا الحب، فإن هذا الحب ليحور بغضا، وتنقلب المرأة به عليه، حتى لا ترى فيه إلا موضع ازدراء واحتقار
ولكن جيلنا هذا لن يقبل هذه الآراء. . . فالجيل الذي قدس العبد يجرب أن يؤله المرأة. . . لا يرى في المرأة عنصرا ساميا يستطيع أن يساعد الإنسانية في تقدمها. الرجل وحده يتعلق عليه ذلك لأنه السيد، وهو سيد ذو القوة الراجحة والعقل الأرجح والقلب الأمثل والإرادة الأشد نفاذا. والمرأة قد تكون نبيهة، ذكية تضارع الرجل نباهة وذكاء، تتفهم المسائل وتفصل أمهات الأمور الدقيقة وتحاكم وتجادل ولكن طبيعتها أقل عمقا وأقل غنى من طبيعة الرجل. إنها تبقى دائما طافية على سطوح الأشياء. إنها شيء لا يذكر. . . إنها(119/56)
مسكينة مزهوة بنفسها
يقول زرداشت (يعلم الرجل للحرب، والمرأة لتسلية المحارب. . . وما دون ذلك فهو جنون) ليست المرأة صنما وإنما هي لعبة سريعة العطب لكنها ثمينة وقد تكون خطرة. هي رقة في طبع الرجل. تغدو خطرة مرعبة حين يضرمها الهوى والحب والبغض، لأن طبيعتها لا تزال أكثر احتواء من طبيعة الرجل على وحشية الغرائز الأولى. ففيها رقة ملمس الهرة وفظاعة مخالب النمرة، فيها طبيعة نابية ثائرة، وأهواء جامحة لا تعرف منطقا، ورغاب قلقة. . . وكل هذا يجعل المرأة فقيرة إلى سيد يكبح جماحها ويقودها ويميت فيها جنونها، حتى إذا استشعرت الوجل أمست رقيقة ناعمة بفضل طبيعتها وزينتها وتبرجها وفضيلتها اللابسة ألف ثوب. فيعرو - إذ ذاك - قلب سيدها الإشفاق عليها، الإشفاق الكثير لأنها أكثر عرضة للألم. إنها مفتقرة إلى حبه، وقد قضى عليها بأن تكون أقل الخلائق وهما
أن نيتشه ينقم على المرأة التي تريد أن تتحرر من قيودها، وتهجر احترامها للرجل وتزعم بأنها قرينة مساوية، تريد أن تدخل معه فيما تطلب الحياة من نضال. أن نيتشه يبغض النساء اللواتي يمشين في صفوف الرجال، لأنهن يفقدن تأثيرهن ونفوذهن واعتبار المجتمع لهن. وإنما همهن أن يظهرن للرجال بطبيعة مباينة لطبيعتهم وجبلة مخالفة لجبلتهم، يصعب فهمها ويعسر حكمها. وهاهي المرأة المزاحمة للرجل أضاعت ما خصتها الطبيعة به وأهملت مهنتها التي تقضي عليها بوضع الأطفال
وفي النهاية يرى نيتشه أن أوروبا تتشوه وتزداد تشققا، قد استحالت إلى معتزل تسكنه طائفة من الناس توقوق - لا أحزان كبيرة ولا أفراح كبيرة - طائفة من رجال ونسوة تساووا في العجز والضعف والانحطاط، يقضون على الأرض حياة متشحة بالسواد، لا أمل فها ولا غاية لها.
(يتبع)
خليل هنداوي(119/57)
القصص
صور من هوميروس
9 - حروب طروادة
فتنة. . .
للأستاذ دريني خشبة
انتظرت ذيتيس - أم أخيل، وحبيبة زيوس من قبل - حتى عاد الإله الأكبر من حفل أولمبي دعي إليه حينما شبت السخيمة بين أجاممنون وبين ابنها، فأسرعت إليه لتكلمه في الإهانة التي لحقت أخيل العظيم، وأزرت بكبريائه، كسيد جنود هيلاس. . . . .
عجلت ذيتيس إلى زيوس. . . . .
وكانت ذكريات غرام الإله الأكبر ما تزال تتدفق في قلبه؛ وكان رنين القبل فوق شفتيه القرمزيتين ما يزال تتجاوب أصداؤه الموسيقية على شفتيه المنهومتين الملتهبتين؛ وكان هذا الجمال الفتي ما يزال له رجع في كل جوارحه. . . وجوانحه. . .
وقفت أمام زيوس!. . . .
وكأن حلما لذيذا طوف بعينيه، فرأى إلى قصة حبه تتمثل بكل ماضيها الحافل أمامه؛ ورأى إلى هذه الأويقات الحلوة التي التذ فيها فتنة ذيتيس تثب فجأة من الأيام الخوالي فتغمره بسحرها وأسرها؛ ورأى إلى ذراعيه المرتجفتين ملتفتين حول خصرها النحيل، وطرفه الساهم الباكي يجول في طرفها الناعس الكحيل، ورأى إلى هذا المرمر الطروب المنصب في تمثالها يكاد يكلمه. . . فيروي له من أخبار العناق، وسكرات الهوى ما يفيض له دمعه، ويجب قلبه، وترتعد من ذكره فرائصه. . . .
- (ذيتيس؟!. . . . . .)
- (. . .؟؟. . .)
- (مالك؟. . . تبكين!. . . .)
- (. . . .!!. . . .)
- (لا. . . لا. . . إلي يا حبيبتي!)(119/58)
وكانت كلما ألحت في الصمت والبكاء، ألح هو في التلطف والرجاء، وكانت ذيتيس تدرك ما أثارته في قلبه من غرامه القديم، فدلت وتاهت، حتى أيقنت أنه منقاد لما تطلب، ولو كلفته بهدم الأولمب، وثل عروش السماء!
- (أ. . . . أخيل. . . .!)
- (أخيل؟. . . ماله؟. . .)
- (ما كفاني أن يذهب ليلقى حتفه تحت أسوار طروادة، حتى يهينه أجاممنون!)
- (يهينه أجاممنون؟ يهينه كيف؟. . .)
- (أغضب قديس أبوللو وكاهنه الأكبر، ولم يقبل أن يرد عليه ابنته خريسيز؛ فغضب الراهب الشيخ ودعا ربه، فسخر الطاعون على الهيلانيين، حتى كاد يبيدهم، فلما طلب إليه أن يرد ابنة القديس على أبيها الشيخ، أبى، وأخذته العزة بالإثم فلما ألح عليه أخيل، ولدي البائس، إنقاذا للجيش، وإبقاء على أبناء هيلاس، رضى أن ينزل عن الفتاة، إذا نزل له أخيل عن بريسيز. . .
وآثر أخيل حياة المحاربين ونجاتهم، فنزل عن الفتاة للقائد الغاشم. . .)
- (. . . ثم. . .)
- (ثم هو الآن يحترق بينه وبين نفسه، وقد اعتزل الحرب، وخلا وحده في معسكره، يهضم أحزانه، وتهضمه الآلام. . .)
- (لا عليك يا ذيتيس! لا عليك يا حبيبتي! قري عينا. . . قري عينا. . . فبما أخذه الناس بغير ما ينبغي له، لأذيقنه وجنوده البلاء المبين!. . .)
وعادت ذيتيس جذلانة بعد أن طبع على جبينها المتلألئ قبلة. . . كم كان يشتهي أن يطبعها على فمها الخمري. . . لولا أن ذكر أنها زوجة. . .!
زلزلت ذيتيس قلب الإله الأكبر بدلالها وقوة فتونها، وأرق طيفها الرائع جفنيه، فلم يذق طعم الكرى تلك الليلة بطولها. . . فهب من مضجعه السندسي فوق سدة الأولمب، واستدعى إليه إله الأحلام، فأمره بالذهاب من فوره إلى معسكر الهيلانيين
(. . . فإذا كنت ثمة فانطلق إلى فسطاط أجاممنون، فداعب عينيه، واجثم على قلبه، وقل له، وهو يغط في نومه العميق، إن الإلهة تأمرك أن تصبح فتنفخ في بوق الحرب، حاضا(119/59)
عساكرك على اقتحام طروادة. . . فان زيوس يبشرك بالمدينة الخالدة، ولا يكاد النهار ينتصف حتى تكون جنودك في شوارع إليوم ظافرة منتصرة بإذنه. . .)
وصدع إله الأحلام بما أمره سيد الأولمب، وانطلق إلى معسكر أجاممنون في أقل من لمحة، فداعب عينيه، وألقى في روعه الحلم الكاذب، وعاد أدراجه إلى مولاه
فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، هب أجاممنون من نومه مذعورا، وأرسل رسله إلى رؤساء الجند فاجتمعوا لديه قبيل الشروق، وأعلن انعقاد المجلس الحربي؛ فصمت الجميع، ونظر بعضهم إلى بعض، وكل يظن أن لابد من أمر جلل، استدعى انعقاد المجلس في هذه الساعة من بكرة اليوم
ونهض أجاممنون فتحدث إلى القادة، وأخبرهم برؤياه. ولما فرغ؛ نهض نسطور الحكيم المحنك، فسبح باسم زيوس وأثنى عليه وقال:
(لو أن أحدا غير القائد الأعلى رأى تلك الرؤيا لأثار استهزاء الجميع، ولرماه، الجميع بجنة أو مس، ولكنه قائدنا وملكنا، وسليل الإلهة العظام، أجاممنون، هو الذي رآها، وهي لا شك موحاة إليه من لدن ربنا وسيدنا ومولانا مليك الأولمب، وهو لابد ناصرنا على أعدائنا الظالمين. فهلموا أيها الأخوان إلى رجالكم فأيقظوهم، وانفخوا فيهم الحمية والحماسة، فإذا أشرقت ذكاء فسووا صفوفهم، واشحذوا عزائمهم، ولنتوكل على أربابنا، وليهتف الجميع؛ باسم زيوس، ولنصل له؛ ولنسبح تسبيحا كبيرا. . .)
فلما كان الصبح، ارتجف السهل والجبل، ودوى المشرقان والمغربان بجلبة الجند، وصار كل معسكر كأنه خلية صخابة من النحل. . . تطن وتطن. . . وصارت الساحة الحمراء كأنها سماء معتكرة، لرعدها هزيم ولريحها هزيز، ولبرقها خطف يذهب سناه بالأبصار. . .
وشرعت الرماح وأرهفت السيوف، وحملقت المنايا كأنها الأغربة السود فوق الفرائس، وتدوم فوق الجيف. . .!
ولم يكن أجاممنون قد انخدع بالحلم الكاذب، فشدهه أن يرى استعداد الجيش ونفرته نفرة واحدة. . . ولم يخدعه كذلك هذا العدد العديد من الجنود، طالما أن ليس فيهم أخيل وشياطينه المقاتلة. . . الميرميدون!(119/60)
فأوجس في نفسه خيفة، وهاله أن يكون في الأمر سر، ووقر في قلبه أن غضبة أخيل لابد أن تغضب السماء، واستقر في نفسه أن هذا الجيش العرمرم سائر إلى الهزيمة المؤكدة، ووارد موارد الردى!
وهكذا جبن القائد العام. . . وندم على أن عقد المجلس الحربي. . .!
فما أن متع النهار، ونظر إلى الجند فرآهم يغمرون الأودية، ويربضون في مشارق الجبال، ورأى إلى طروادة المنيعة تهزأ بكواكب الهيلانيين وجيوشهم، حتى نهض فوق يفاع من الأرض، وهتف بجنوده يقول:
- (يا أبناء هيلاس! يا بني قومي!
لست أدري إلام تمتد بنا هذه الحرب، وحتام ننفى هنا في هذا المكان السحيق من الأرض؟!
تسعة أعوام يا قوم، ونحن هنا بمعزل عن العالم؛ ننام في الخيام، ونأوي إلى السفائن، تلفحنا الرياح، ويثور بنا البحر وتتخطفنا المنايا!
وعبثا ينتظرنا أبناؤنا ونساؤنا في هيلاس العزيزة! ومن يدري؟ فقد يكون بعض أبنائنا أو آبائنا انتقلوا إلى هيدز، ونحن هنا نتصارع مع الموت، من أجل امرأة آبقة لا عرض لها ولا شرف!
أبناء وطني!
ألا أقولها لكم كلمة سواء صريحة!؟ هلموا فاغمدوا هذه الرقاق البيض، ولنعقد مع الطرواديين هدنة يعقبها صلح شريف، ثم لنركب أسطولنا الذي نخر السوس في أخشابه أو كاد، ثم لنعد أدراجنا إلى هيلاس سالمين!
حرب!. . .
أية حرب هذه التي اشتعلت من هولها الرؤوس شيبا!!
أية حرب هذه التي تودي بأعز المهج، وتذهب بأغلى الضحايا من نفوس الشباب!؟ بل أية حرب هذه التي توقع العداوة والبغضاء بين أخوين من أعز أبناء هيلاس، فيتراشقان بالفحش من القول، ويتبادلان الهجر من الكلام، ويوشكان أن يلتحما في نزال يودي بحياة أحدهما من أجل امرأة؟!
أنا - أجاممنون - أغضب أخيل أخي من أجل لذة طارئة، ومتاع غير مقيم!!(119/61)
يا للهول!
لتنته هذه الحرب، لتنته هذه الحرب. . . ولنعد إلى هيلاس. . . . .)
وأرسلها أجاممنون خطبة طويلة تفيض بالحقيقة وتعترف بالواقع. . . فصادفت من قلوب الجند المعذبين هوى، ولقيت منهم استحسانا وتحبيذا، وطربت لها نفوسهم التي أضناها الحنين إلى الأوطان، وشفها التوق إلى لقاء الأهل، ونبذ نير هذه الغربة الطويلة التي أنهكت قواهم وأوهنت شبابهم
وفكر كل في أبنائه وأبويه وأحبائه، فهفت نفسه إلى الارتحال عن هذه الساحة المشجية، عسى أن يقضي الحقبة القصيرة الباقية من حياته الخريفية في راحة قلب وهناءة بال بين أهله وذويه. . .
لكن الآلهة لا تريد هذا!!
وكيف تنتهي حرب أثارها باريس بين ربات الأولمب في البدء؟!
أليس هو قد قضى في التفاحة لفينوس؟
إذن ففينوس تنصره، وهي لذلك تقيه هوان الهزيمة وذل الانكسار! ولكنه أين يهرب من حيرا سيدة الأولمب، التي وعدته نعيما وملكا كبيرا، إذا هو كان قد أعطاها التفاحة؟
لقد أسخطها بما لم يسخطها أحد به من قبل، وهي لذلك تصل ليلها بنهارها في تدبير السوء له، والكيد لوطنه وعشيرته وكل من يلوذ بهما!
ثم أيان يهرب من سخط مينرفا كذلك؟!
أليست مينرفا كذلك قد وعدته الحكمة التي لم يؤتها أحد من قبل، إذا كان قد قضى لها في التفاحة؟. . .
إن مينرفا هي الأخرى تتربص به السوء، وتود لو أظفرت به أعداءه فينكلون به، ويسقونه عذاب الهون، بما قضائه في التفاحة لفينوس!!
سمعت حيرا خطبة أجاممنون من علياء الأولمب، فأفزعها أن ينقاد الجند له، وهالها أن يستعد الجميع للرحيل!
فاستدعت إليها مينرفا، وخاطبتها بصدد ما قال قائد الهيلانيين، ثم اتفقتا على أن تذهب مينرفا إلى معسكر القوم فتلقى البطل المغوار أوليسيز، فما تنفك تحضه وتحرضه حتى(119/62)
يقوم هو بألهاب عاطفة الجند، وتفتيح عيونهم على العار الأبدي الذي ينتظرهم في بلادهم، إذا عادوا إليها من غير أن يظفرهم أربابهم بأعدائهم، قانعين من الغنيمة بالاياب!. . . بعد تسعة أعوام في دار الغربة. . .
وانطلقت مينرفا إلى ساحة الحرب، وكانت ترف كالسحابة البيضاء في دجنة الليل فيما بين جبل إيدا وشواطئ الهلسبنت، حتى إذا شارفت المعسكر أطلت على القوم فوجدت رؤوسهم يتحاورون فيما قال أجاممنون، ورأت إلى أوليسيز متجهما منقبض النفس مثقل الروح، يكاد ينشق من الغيظ، مما سمع من كلام القائد العام الدال على الخور واليأس، واستبشرت مينرفا بما رأت من هياج أوليسيز، فهبطت عليه رحمة من السماء، وكلمته قائلة، بحيث لا يراها إلا هو:
(أوليسيز فتى إيتاكا وبطل هيلاس!!)
أسرعت إليك - إليك أنت - إليك يا أشجع جندي هنا، لأحذرك أن تنخدع بكلام أجاممنون! إنها خدعة يا أوليسيز! إن القائد العام يحاول أن يسبر عزائمكم، ويخبر هممكم، فلا تنطل عليك كلماته
إنكم لم تنفروا إلى طروادة خفافا وثقالا لتغتربوا عن أوطانكم تسعة أعوام طوال ثم لتعدوا كما أتيتم! بل أضل سبيلا!
أوليسيز! ما ذنب القتلى الأجرياء الذين خضبت دماؤهم ثرى هذه الساحة، تتركونهم في حمرتين من مقابرهم: حمرة الدم. . . وحمرة الخجل مما فرطتم في حقوقهم وتهاونتم في كرامتهم
وما خطب السنين التسع يا أوليسيز؟
أكنتم تلعبون يوم ضحيتم بأفجنيا؟. . .
أكنتم تلهون يوم أهدر بروتسيلوس دمه.؟
وشرفكم الذي يذبح كل يوم في قصور طروادة!!
واستهزاء الأمم بكم، وضحك القبائل عليكم؟!
لا يا أوليسيز! هلم فحرض القادة، وانفخ من روحك في قلوب الجند. . .)
وسمع أوليسيز إلى ربة الحكمة، فخفق قلبه، وثارت نخوته، والتهبت نحيزته؛ وعاهدها(119/63)
على إضرام المعمعة، وتأجيج لظى الحرب
وانطلق بين الصفوف فلقى نسطور وأجاكس وبالاميديز وغيرهم وغيرهم من زعماء الجيش ورؤوس فيالقه، فحذرهم (من الانخداع بكلمات اجاممنون، لأنها حيلة يريد بها القائد سبر عزائمهم، واختبار هممهم، كما تحدثت إليه مينرفا!!
وحضهم على التضحية والصبر، وحرضهم على الجلد والاستبسال، وذكرهم بعهودهم ونظر الدنيا جميعا إليهم، ثم حذرهم من العار السرمدي الذي يتربص بهم إذا عادوا من دون أن يفتحوا طروادة!. . .
وتغيرت الحال!
وتجددت روح الحرب، وفتح كل جندي عينيه على مجد الوطن! ونجح أوليسيز!
ونجحت مينرفا!
ودهش أجاممنون لهذا التحول المفاجئ في نفسية الجيش، تلك النفسية التي كانت منذ لحظة، فقط، مزيجا من القنوط واليأس، وخليطا من السرور المخامر لمجرد الأيذان بالعود إلى الوطن؛ فصارت تضطرم تشوقا إلى الحرب، وتتحرق شوقا إلى امتشاق السمهريات الظوامي!
وما وسعه إلا أن يثني على شجاعة الجنود، و. . . عدم استسلامهم، و. . . ترفعهم عن الاستكانة والاستخذاء!!
فكان تحوله أعجب. . . وموقفه بين عشية أو ضحاها أغرب!
ونظر الطرواديون من كوى أبراجهم فراعهم التفاف الهيلانيين بمدينتهم، وإحاطتهم بها من كل جانب، وسر الرعب في قلوبهم، ودعوا ثبورا كثيرا!!
وكان يحنقهم أن باريس الذي جر عليهم كل ذلك الكرب وكان السبب العقيم لهذه الحرب، يقر في مخدعه الوثير يداعب هيلين المنحوسة ويلاعبها، ويساقيه كؤوس الهوى والغرام غير آبه لما يغص به قومه من كؤوس الردى والحمام!
وخرج باريس لشأن من شؤون لهوه، وعبث باطل من أغراض غرامه الدنيء، فسمع الناس يلغطون ويلمزون، ويلوكو اسمه بألسنة الهوان والتحقير، فثار ثائره، وفارت حماسته وأقسم ليرين من ضروب شجاعته ما تنخلع له قلوبهم وتطير من هوله ألبابهم. . .(119/64)
وذهب من فوره إلى أخيه هيكتور فطلب إليه أن يرفع الراية البيضاء، ويخترق الصفوف حتى يكون في وسط ميدان، ويناقش قائد القوم ليتفق معه على أن يستريح الجيشان طيلة هذا اليوم ثم لتكون مبارزة بين باريس، على أن يمثل الطرواديين، ومنالايوس على أن يمثل الهيلانيين، فإذا فاز أحدهما بصاحبه، وأظهرته الآلهة عليه، عاد إلى قومه فرحا مسرورا!!
وطرب منالايوس لما اقترحه غريمة الذي كان كالساعي إلى حتفه بظلفه؛ وصمتت الأفواه وحملقت الأنظار، وتلمس كل جندي في الجيشين قلبه من شدة الخفق وثورة الوجيب؛ وبرز ومنالايوس وبرز إليه باريس؛ ومرت الأحداث سراعا أمام عين ملك إسبارطة؛ فذكر عشاق هيلين وصدود هيلين؛ وذكر الخيرة الكبرى يوم رضيته من عشاقها الكثيرين كريما لها؛ وذكر يوم احتفائه بباريس واحتفال إسبارطة به، كضيف عظيم لملكها؛ وذكر أن هذا الفارس الذي تزل من تحته الأرض إن هو إلا الغادر الختال الذي اعتدى كأعتدى الجبناء على عرضه، ولطخ بوحل الفضيحة شرفه. . . ثم ذكر كيف فرت زوجه معه تحت جنح الليل. . . ذليلة للذتها، أسيرة هواها. . . فثارت في قبله زوبعة من الجنون، وأنفجر في رأسه بركان من الغضب، واتقدت في عينيه جحيم بأكملها من النقمة، واندفق الدم يغلى في ساعديه، وانقض خصمه فأوشك أن يحطمه. . . لولا أن هاله هذا الطيف. الغريب. الذي كان يحمي باريس منه، واقفا إلى جانبه. . . وخلفه وأمامه. . . ومن فوقه، ومن كل جهة جاءه منالايوس منها، يذود عنه، ويتلقى الضربات الإسبرطية فوق درعه المسرودة، الإضاءة، ذات الحلقات!!
ماذا؟
آه! إنها!! هي بعينها!! هي فينوس!! لقد أسرعت إلى باريس تحميه في ذلك الروع الأكبر! فلما أوشك أن يستسلم عز عليها ألا تنقذ حياته وهو هو الذي حكم لها بالتفاحة. . .
لقد رفعته إلى عل!
وطفق منالايوس يبحث عنه هنا وهنا. . . ولكنه لم يعثر له على أثر!
لقد ذهبت به ربة الحب، إلى مخدع الحب!
إلى هيلين!(119/65)
ولكن ويل له من هيلين! لقد كانت تطلع على الساحة فترى إلى مبارزة البطلين، فهالها أن يبطش ملك إسبارطة بحبيبها، لولا هذه السحابة البيضاء التي كانت تحميه دائما من خصمه وتقيه. . . . .
وعذلته هيلين على هذا الفرار المشين فكان عذلها له أشد على نفسه من ضربات منالايوس!. . .
(لها بقية)
دريني خشبة(119/66)
أقصوصة عراقية:
رصاصة في الفضاء
(عن كتاب (الدفتر الأزرق) للكاتب، الذي سوف يطبع وينشر
في المستقبل القريب)
بقلم محمود. ا. السيد
- 1 -
حادثة غريبة حدثت في مرقص الهلال في بغداد
كان أول من استقر عليه نظري في ذلك المرقص، ليلة حدثت هذه الحادثة التي أروي لكم، وهي من ليالي صيف 1928، ثلاثة حسبتهم من طلبة المدارس العليا أو صغار الكتبة في الدواوين؛ على مقربة منى يقصفون وينظرون إلى من حولهم من النظارة مستكبرين، ناقدين المرسح نقد راغب في إصلاحه: إصلاح الرقص الخليع فيه والغناء المحزن القديم
وكان النظارة تجارا صغارا وذوي حرف، وعمالا، رأيتهم أخوانا متقابلين في حلقات صغيرة من الكراسي الخيزرانية حول موائد مربعة مكسوة بقماش الكتان؛ تفعم كل مائدة منها أطباق النقل والأقداح وزجاجات الخمور، وأنوار المصابيح الكهربائية المعلقة فوق رؤوسهم، الملونة بألوان العلم العراقي، تبدد الظلام. . .
وكان (جماعة) من الشباب (العوام الأريحيين)، ذوي العباءات الرقيقة السوداء التي تشف عما تحتها، والعمائم (العصفورية) المرقشة باللون الأزرق، يتراشقون بالنكات والفكاهات من وراء حوض مبلط بالقاشاني الأحمر كائن في وسط المرقص تجلله الأعلام وسعف النخيل، وأصواتهم وكلماتهم الشعبية الظريفة تثير الضحك، وتحي في نفوسه القوم اللذة والسرور
وكانت الراقصة المغنية الأولى، تلقي فاتحة الأغاني، التي أعدت للقوم في تلك الليلة - وهي عامية مشجية - جذلى، أو متظاهرة بالجذل، واثقة بنفسها كما كان يبدو من حركاتها، معتقدة بأنها تجيد الغناء. ثم أنشدت هذه الأبيات من الشعر الشعبي الجديد:
(عن قص الشعر لاتلومونا ... والوقت هذي فنونه)(119/67)
(قص الشعر صار بوطننا ... على الموده شحلو فنّه)
(قص الشعر لنا زينه ... شبه الذهب بالخزينه)
(كل من يمشي بخياله ... والمحب تنظر عيونه)
وقال واحد من الثلاثة - أولئك الذين حسبتهم من الطلبة أو صغار الكتبة - وهو مبدن ذو وجه مربع كأنه مصنوع بفأس النجار، يخاطب أحد صاحبيه مشيرا إليها:
- إنها لذات وجه صغيرا جدا، وقد صبغت وجنتيها بالصبغ الأحمر لتستر اصفراره ولا شك، فما أقبحها!)
ورفع إلى فمه كأسه، ولم يستمر في انتقاده. أجاب الذي خاطبه وهو أشقر اللون حسن البزة:
- (كلا يا أخي. إنها لجميلة يجملها شعرها الفاحم المقصوص طبقا للطريقة العصرية التي شاعت في الأيام الأخيرة)
وراح ثالثهما، وهو فتى غرانق، طلق المحيا باسم الثغر، يشعل طرف سيكارته ويدخن صامت، والتفت إليه ذو الوجه المربع يسأله:
- (هل سليمان قادم إلينا؟)
- (سوف يأتي. ولكنه لن يأتيانا بقلب مفتوح السرور، أنهم ظلموه حقا إذ استلوب منه وظيفته، على ما تعلمون)
قال الأول: وقد احتسى آخر حسوة من كأسه!
- (ليس في خدمة الحكومة شرف للإنسان، فان كان سليمان فتى (وطنيا) مخلصا في عقيدته السياسية فأمامه سبل العمل المطلق كثيرة، والجهاد. إن خوض المعركة في ساحة الجهاد الوطني قد اقتربت ساعته؛ فالشعب قد أرهقته الضرائب، والاستقلال الذي وعدونا صار مجموعة من المناصب العالية، وعمت في نظمنا الفوضى، فماذا نريد أكثر من ذلك لكي نسوغ خروجنا ونهوضنا نحن الشباب؟ وإلى متى نحسب أن سبل العيش مسدودة أمامنا، فلا نعرف من طرائق الارتزاق والتكسب إلا الوظيفة؟)
قال له صاحباه:
- (صدقت. . هذا صحيح)(119/68)
وبعد حوار قصير سكتوا، وكانت فترة بين فصلين
- 2 -
أقبل الفتى الذي عرفت من بعد أنه هو سليمان على صحبه في بداية الفصل التالي عجلا يلهث، فحيا، وألقي على المائدةجريدة كان يحمل، ونزع سدارته، ثم جلس، وكانت آثار التعب بادية عليه، واستغرب صحبه حاله، وناوله ذو الوجه المربع سيكارة ثم سأله:
- (هل حدث حادث غير الذي نعلم؟ وهل كان اليوم أيضا تظاهر سياسي؟)
- (تظاهر سياسي؟ كيف؟ تظاهر سياسي مرة أخرى؟ أولم يكفنا ما لقينا أمس في تظاهرنا من ضرب الشرطة إخواننا المتظاهرين بالعصي وإرهاقهم؟ وما الفائدة؟)
وكان يجيب صاحبه وهو يتكلف الهدوء، ولكنه كرر (ما الفائدة) مرتين ثم انفجر صاخبا
وكان العواد والكماني يطربان الحاضرين بقطعة موسيقية من مبتكرات سامي الشوا إيذانا بانتهاء دور الراقصة المغنية الأولى
- (لم يبق أمل. . .)
نطق بهذه العبارة حانقا، يائسا، وضرب المائدة بقبضة يده ثم قال:
- (. . . البلاد مقيدة بالمعاهدة، والمناصب الكبرى للأجانب وذوي العقول القديمة، وفتيان العراق لا يجدون واسطة لأعلان شعورهم ضد الاستعمار؛ وهم إذا ما تظاهروا معلنين سخطهم على الصهيونية مثلا كما فعلوا أمس، سحقوهم بسنابك الخيل. . . قبض الشرطة الآن على عبد الكريم، وأحمد حسن وطاهر، ولطفي. . . وواحد من المتظاهرين في المستشفى جريح. .)
واشتد صخبه وصراخه. وكان صحبه، مع ترحيبهم به؛ وتقبلهم آراءه، يتلقون نظرات المحيطين بهم الدالة على استغرابهم هذه الخطبة، التي لم يسمع أحد مثلها في المراقص، في شيء من الارتباك. وناد الفتى الغرانق الخادم ليأتي ضيفهم الثائر بربع من الخمر الأبيض
ثم أقبل صاحب المرقص على سليمان متلطفا يسكته، وينبهه إلى أن فيما قاله الكفاية، وأن الخوض في شؤون الوطن وسياسته في المرقص بين الكأس والعود ضرب من العبث؛ (واليوم خمر وغدا أمر)؛ وكان الرجل أديبا ظريفا، فأفض على الجماعة بجملة من النوادر قبل أن يتولى عنهم وينصرف(119/69)
وتركت النظر إليهم، واستماع أحاديثهم منصرفا إلى دراسة المرسح!
وكما كان الجاحظ وهو من أئمة الدين يؤلف الرسائل في القيان، كنت عازما على كتابة فصل في نقد مغنيات بغداد آلائي يطربن أبناء الشعب في ساعات لهوهم ومرحهم. فقلت أخاطب نفسي: (إليك المادة الأولى من مواد الموضوع)، ثم أخرجت قلمي ودفتر مذكراتي فكتبت:
(كانت المغنية الراقصة الأولى التي يسمونها جميلة العودية معتدلة القامة، نحيفة ترتدي ثوبا قصيرا بنفسجي اللون، يتوج رأسها تاج من اللؤلؤ المزيف. وجهها مستطيل. نظراتها تدل على غباء. تضاحك الناس بين حين وآخر. . . وأما غناؤها. . .)
وكتبت صفحة أو صفحتين من دفتري في ذكر غنائها؛ وطريقة إنشادها، ثم انتقلت إلى وصف الثانية، وقد جاء دورها وحانت مني التفاتة إلى أشخاص قصتي؛ فألفيتهم عاكفين على مائدتهم يأكلون ويشربون ويتحادثون، وكان سليمان يفرغ الثمالة من زجاجة (الربع) التي كانت أمامه في كأسه، ثم يطلب من الخادم زجاجة (ربع) ثانية، وعجبت له كيف سكن بعد هياجه، ثم سمعته يقول لصاحبه:
- (إنني أكرهها. . أكره تلك المغنية الهزيلة. . أكره تاجها المزيف. . أكره وجهها المستطيل. . أكره نظراتها. . وأحب زهراء وإن لم تكن مغنية من ذوات الفن ولا ذات شرف في هذا المجتمع)
وجاءه الخادم بزجاجة؛ ولم يجبه أحد. وفتح الجريدة التي كان ألقاه ساعة أقبل على المائدة وأشار إلى مقالة فيها وقال:
- (صرت منذ اليوم أعلن حبي لها على رءوس الأشهاد، فهذه المقالة بل هذه الفلسفة الجديدة قد غيرت رأيي)
وقرأ:
(لا تحتقروا أحدا من النساء، فبنو الإنسانية سواسية في هذه الدنيا. . . . .)
ولم أستغرب هذه (الفلسفة الجديدة) - على ما وصفها - ولم أعرف صاحبها، التي راح يؤيدها سليمان في حماسة شديدة. وخيل إلي من عينيه المحملقتين وصوته الراعد، أن الثورة الكامنة في أعماق نفسه على وشك الظهور مرة أخرى. ولكنه كان مضطربا قلقا، فلم(119/70)
يكمل قراءة المقالة. ورنا إلى المسرح معجبا برقص الراقصة الثانية؛ وكانت فنانة رومية مستتركة وافدة من استانبول. وهز رأسه، ثم هز رأسه إذ أطربه صوتها الرفيع العذب وأناشيدها التركية الرقيقة. وانشغلت عنه بكتابة وصفها:
- طويلة بيضاء في صفرة كلون الذهب. . .)
واستمررت في الكتابة غير منتبه إلى ما يجري حولي، نحو ساعة أو أكثر أو أقل، لا أدري. وقبل أن ألقي القلم جانبا رنت في أذني قرقعة أحداثها سقوط أطباق على الأرض، وصرخة صارخ يقول:
- (أنت خاطئ يا أخي! أنت خاطئ ومخطئ كل الخطأ!)
وكان الصارخ سليمان. قلت: (حقا لقد ثار صاحبنا). ورفعت رأسي لأنظر إليه، فألفيته واقفا منفوشا شعر رأسه يعربد، ويقول مخاطبا رجلا غريبا لم أره من قبل، كان واقفا أمامه ينظر إليه نظرة شامت مستهزئ:
- (أنا شجاع، شجاع! لقد طردوني لأنني أبيت أن أخدمهم لتحقيق غاياتهم
هذا حق، ولكنني لم أثر لحرماني من الوظيفة. . . ما أنا بسكران!. . . لست ثائرا لأني أصبحت محروما من الوظيفة يا كامل، بل لأن الوطن يريد رجاله. انظر يا كامل! ويلك! أنا رجل أقابل ألف رجل من هؤلاء المخانيث لو دعت الحاجة؛ وهاكم البرهان:
والتفت إلى صحبه مهتاجا، وكانوا حيارى واجمين ثم قال:
- (رصاصة لأجل الحرية!)
وسرعان ما أخرج من جيبه مسدسا فأطلق رصاصة في الفضاء
وهرع بعض النظارة إليه ليمنعه من الاستمرار في إطلاق الرصاص، وبعضهم إلى باب المرقص لينجو بنفسه، إذ أدرك في هذه الحادثة بادرة للجريمة. وجاء شرطي يعدو ويشق لنفسه طريقا إلى سليمان في الزحام. . . ولم أعد أفهم من الحوادث المتتالية شيئا. . .
- 3 -
بعد يومين أو ثلاثة ذكرت الصحف: (أن محكمة الجزاء حكمت على سليمان بن محمود وهو موظف سابق معزول، بأن يسجن عقابا له على إطلاق الرصاص من مسدسه وهو سكران في مرقص الهلال)(119/71)
ولم أسمع له ذكرا بعد ذلك
العراق - الأعظمية
محمود. أ. السيد(119/72)
البريد الأدبي
حول النزاع الأدبي
لم أعتد الرد على من يهاجمون شخصي لأني أعتبر واجب الأديب أن
يقوم بقسطه من الإنتاج، لا أن يضيع وقته في المشاحنات الفارغة،
ولكن أراني الآن مضطرا إلى أن أقول كلمة (ستكون الأولى والأخيرة
لي في الموضوع) إظهارا للحقيقة، وخشية أن تمسي (الرسالة)، وهي
المجلة الأدبية الرصينة، ميدانا لمجادلات هي في نظري ابعد ما تكون
عن الأدب:
لا شك أن الغيرة الأدبية هي التي دفعت صديقي الأستاذ الزحلاوي إلى فتح هذا النقاش لاعتقاده أن ثمة تشابه كبير بين قصيدة الدكتور (ناجي) وبين قصيدتي (عاصفة) المنشورة في مجلة (الدهور) منذ عام ونيف. على أنني أرى هذا التشابه ضئيلا جدا، ولا يجوز أن يعزى إلا إلى توارد الخواطر
أما من جهة رد الأستاذ الطنطاوي فهو ادعاء لا تدعمه حجة ولا يؤيده برهان. لقد ادعى هذا الأديب أن صديقه أنور العطار قال له إن قصيدتي مسروقة من أحد شعراء المهجر، ثم أردف أنه لا يعرف عن سري سوى أني (ترجمان قصصي!) فهل (للرسالة) أن تطلب منه أن ينشر على صفحاتها اسم الشاعر وقصيدته التي يقول إن قصيدتي سرقت منها، وأصل القصص التي يدعي أني أترجمها؟
وليعلم الأديب الطنطاوي أخيرا أن من يكتب للناس ما يفيدهم بلغة سهلة بسيطة لهو خير من الذي يسب ويشتم بلغة العرب الأقحاح!
(دمشق)
ميشيل عفلق
وفاة رحالة كبير(119/73)
من أنباء روسيا أن الرحالة المكتشف الشهير بيتر كوزلوف قد توفي في لننجراد في الثانية والسبعين من عمره. وقد اشتهر الأستاذ كوزلوف قبل الحرب باكتشافاته العلمية في مجاهل آسيا ولا سيما في صحراء جوبي. وقد بدأ حياته الكشفية بالاشتراك في بعض الحملات والبعثات الرسمية في أواخر القرن الماضي. وفي سنة 1899 جهز حملته الأولى إلى أواسط آسيا؛ ثم أعقبها برحلات أخرى، ولكنه وفق إلى أعظم اكتشافاته بين سنتي 1907 و1909 حينما اكتشف في صحراء جوبي في أعماق آسيا مدينة مجهولة تسمى خاراخوتو. وكانت بها بقايا أبنية ظاهرة، وآثار جنس بشري غير معروف. ووجدت ضمن الآثار المكتشفة نقوش وكتابات كثيرة بلغة مجهولة، ولكن الأستاذ كوزولف استطاع قراءتها بفضل نوع من الدليل المكتوب وجده بين الأشياء المكتشفة. واستمرت حكومة البلاشفة بعد الحكومة القيصرية على تشجيع كوزلوف والإنفاق على بعثاته؛ فقام في العهد الأخيرة بعدة رحلات إلى صحراء جوبي كانت أخراها في سنة 1926. وعاونته الحكومة أيضا على نشر كتاب ضخم عن جوبي وآثارها وعن منطقة خاراخوتو التي اكتشفتها. ونشر كوزلوف أيضا كتبا أخرى كلها بالروسية، ولكنها لم تترجم إلى لغات أخرى فلم يعرف العالم الخارجي عنها كثيرا، غير أنه نشر منذ أعوام كتابا بالإنكليزية عنوانه (عصافير منغوليا)
وكان الأستاذ كوزلوف عضوا في جمعيات علمية كثيرة. وكان يعيش في منزل منعزل في غابة بالقرب من نوفجرود مدى أعوام طويلة يرتب المواد والآثار التي جمعها؛ وكان من آن لآخر يحضر إلى لننجراد ليلقي فيها بعض المحضرات. وقررت له الحكومة البلشفية معاشا حسنا، وقد رافقته زوجه في عدة من حملاته الكشفية
عميد الموسيقى الإنكليزية
نعت الأنباء الأخيرة السير فردريك كوين المؤلف الموسيقي المشهور وعميد الموسيقى الإنكليزية منذ أواخر القرن الماضي. توفي في الثالثة والثمانين من عمره؛ وكان مولده بجزيرة جاميكا في سنة 1852، وأخذ إلى إنكلترا صغيرا حيث كان أبوه يشغل وظيفة (بمسرح الملكة). وتلقى كوين دروسه الأولى في الموسيقى وهو طفل على يد هنري رسل، وكتب أول قطعة موسيقية وهو في الخامسة. ودرس المعزف (البيانو) على بندكت،(119/74)
والتأليف على جوس. وفي سنة 1885 ذهب إلى لايبزج ودرس هنالك على أقطاب الفن. ثم عاد إلى إنكلترا، وظهر ببراعته في التأليف والموسيقى، وعهد إليه برياسة الحفلات الموسيقية الملكية؛ ولكنه كان أكثر براعة في التأليف منه في العزف. وكانت أولى قطعه الشهيرة (عذراء الورد)، ظهرت وعزفت في لندن سنة 1870؛ وأتبعها بقطعة تسمى (القرصان). ومن ذلك التاريخ عكف السير كوين على إخراج القطع والاوبرات والأغاني حتى بلغ ما أخرجه منها مئات عدة. وقد انتخب السير كوين مرارا ليكون رئيسا للفرقة الموسيقية التابعة لجمعية الموسيقى الملكية. وفي سنة 1911، أنعم عليه بلقب الفارس
وللسير كوين قطع موسيقية راقصة بديعة. ولما بلغ الثمانين من عمره منذ ثلاثة أعوام، صرح في حديث له أنه لا يدري ماذا حدث في الموسيقى العصرية، وأنه يلاحظ أن الموسيقى المعاصرة ملأى بالمفارقات والمتناقضات مع أن من شرط الموسيقى أن تكون فياضة التناسق
مؤتمر لتاريخ الطب:
عقد أخيرا في مدريد مؤتمر لمؤرخي الطب، وهو المؤتمر العاشر من نوعه يعقد كل عام في عاصمة من عواصم العالم، وقد شهده جمهرة كبيرة من علماء مختلف الدول، وعقد تحت رعاية رئيس الجمهورية الإسبانية، ولم يقتصر أعضاء المؤتمر على المناقشات العلمية والتاريخية المتعلقة بتاريخ الطب والجراحة منذ غابر الأزمان، ولكن لجنة المؤتمر قامت بتنظيم معرض هام للمخطوطات والوثائق الطبية من أقدم العصور، وكذلك لعرض الأدوات الطبية والجراحية التي كان يستعملها الأطباء في العصور القديمة والوسطى، ومن ذلك صور ونماذج للأدوات الطبية والجراحية العربية نقلت من مخطوطات ترجع إلى القرن الرابع عشر، وصور من مخطوطات موسى بن ميمون الطبية والفلسفية وهو الطبيب اليهودي الأندلسي الذي نبغ في القرن الثاني عشر ويعرف عند الإفرنج باسم (ميمونيدس) ومجموعة من آثار اندريس لاجونا طبيب الإمبراطور شارلكان، وأدوات طبية هندية ومصرية ترجع إلى العصور الوسطى، ونماذج تشريحية وغيرها، وقد لفت الأنظار بنوع خاص نموذج معروض لحانوت صيدلي مسلم في قرطبة في القرن الثالث عشر، ونموذج لمستشفى (سانتا كروز) القديم في طليطلة كما كان عليه في القرن السادس عشر(119/75)
ملكة التراجيديا
صدر أخيرا كتاب بالإنجليزية عنوانه (راشيل الخالدة) للكاتب الإنكليزي برنارد فوك، وهو ترجمة مستفيضة مؤثرة للممثلة الكبيرة راشيل التي سطعت في النصف الأول من القرن الماضي، وتركت أثرها الخالد في المسرح الفرنسي، وكانت راشيل مثل سان برنهرت وسان سيدون يهودية الأصل، ولدت سنة 1821 في أسرة فقيرة جدا، وكانت في طفولتها تغني وترقص في شوارع ليون وتجمع الفلوس لتعيش، ولكنها لم تبلغ السابعة عشرة حتى ظهرت على مسرح (الكوميدي فرانسيز) ولم تمض أسابيع على ظهورها حتى ارتفع صيتها إلى السماكين، ولم تبلغ العشرين حتى غدت غنية ترتع في بحبوحة الثراء والترف، والتف حولها أكثر من أمير وشريف يرغبون في ودها، وكانت مثال العبقرية الساطعة، ولكنها لم تكن مثالا للأخلاق الرفيعة، وكانت لها مبادئ وتصرفات خاصة تعدو مجتمعها وعصرها، وقد خاضت حياة مضطرمة فياضة بالعمل واللهو العنيف، وتوفيت فتية في زهرة العمر، في الثامنة والثلاثين من عمرها
ويستعرض المؤلف حياة هذه الممثلة الباهرة في قوة وصراحة ويكشف لنا كثيرا من خواص الحياة المسرحية في القرن الماضي ويوضح لنا كيف كانت راشيل من أعظم ممثلات التاريخ، ومن أعظم كواكب الفن والمسرح
ترشيح النجاشي لجائزة نوبل
من الأنباء الطريفة التي وقفنا عليها في البريد الأخير أن صحيفة سويدية هي جريدة (سوسيال ديموكراتني) التي تصدر في ستوكهلم ترشح الإمبراطور هيلى سلاسي لنيل جائزة نوبل للسلام هذا العام؛ وتؤيد الجريدة هذا الترشيح بمواقف الإمبراطور السلمية المشهورة وأحاديثه التي أفضى بها إلى مختلف المكاتبين الأوربيين، وترى أنه أجدر من وقف إلى جانب السلام هذا العام بنيل الجائزة الشهيرة. ونذكر أن الذي فاز بهذه الجائزة في العام الماضي هو المستر هندرسون رئيس مؤتمر نزع السلاح، والسير نورمان آنجل الكاتب الإنكليزي وداعية السلام الشهير. ولا ريب أن ترشيح النجاشي سيقابل بالتأييد والارتياح من جميع أنصار السلام، والمعروف أن السويد تعطف على النجاشي عطفا(119/76)
خاصا، وأن معظم مستشاريه العسكريين والسياسيين هم من رجال السويد(119/77)
الكتب
علم الدولة
للأستاذ أحمد وفيق
(لمناسبة صدور الجزء الثالث)
بقلم الدكتور محمد توفيق يونس
صدر حديثا الجزء الثالث من الكتاب الضخم الذي يضعه الكاتب النابه الأستاذ أحمد وفيق في (علم الدولة)، وهذا الجزء كسابقيه من حيث طريقة البحث وسياق الحديث، وإذا كان قد فاتنا أن نتحدث عن الجزأين الأول والثاني حين صدورهما فلا يفوتنا وقد صدر الجزء الثالث أن نتحدث عن الكتاب جملة
من العسير بل المستحيل أن تكون (الدولة) بجميع مظاهرها وتطوراتها موضوعا لبحث واحد جامع، إذ أن لها وجوها مختلفة يتطلب كل منها بحثا خاصا، فهناك الوجه الدستوري الذي يعنى بهيئات الدولة العليا، وهناك الوجه الإداري الذي ينظر إلى التفاصيل التنفيذية للحياة العامة، أو بمعنى آخر إلى مجموع المصالح العامة التي تكفل سير الدولة العملي، وهناك الوجه المالي الذي يبحث في إيرادات الدولة ونفقاتها، ثم هناك دراسة الدولة من ناحية القانون الدولي العام باعتبارها من أشخاصه وبصفتها عضوا في الأسرة الدولية، الخ
ولكل دراسة من هاته الدراسات ناحيتان أساسيتان: ناحيتها القانونية وناحيتها السياسية، وأهمية الاستئناس بالأخيرة في تحليل المسائل الفقهية لا تحتاج إلى بيان. وإذا أضفنا إلى كل ذلك نصيب التاريخ تبين لنا إي دائرة واسعة من المعارف يمكن أن تدخل تحت هذا الموضوع
ولكن المؤلف الفاضل وإن كان قد سمى كتابه (علم الدولة) لم يقصد إلا دراسة فكرة الدولة أو نظرية الدولة كما أوضح ذلك في مقدمة الجزء الأول (ص47 - 49)
لهذا كان أجمل به أن يجعل عنوان الكتاب أكثر تحديدا لما فيه بأن يسميه مثلا (فكرة الدولة) أو (نظرية الدولة) أو (علم في الدولة) إذا لم يرد تحديدا دقيقا
على أن الموضوع الذي فرضه المؤلف على نفسه يبقي بعد هذا التحديد فسيح الأطراف(119/78)
متشعب النواحي متعدد الوجوه إلى حد يجعل من الصعب استيعابها جميعا ودراستها معا دراسة مستفيضة، ويضطر المؤلف إلى الإيجاز وإهمال التفاصيل، ويخشى معه ضعف الارتباط وتشتت البحث وتوزع المجهود. والمؤلف نفسه يكتفي في الواقع (بدراسة عامة إجمالية) (ص47 من الجزء الأول)
ولقد صبغ المؤلف هذه الدراسة بالصبغة التاريخية فجعل التاريخ العنصر الغالب في أجزاء كتابه الثلاثة بل قوامها جميعا.
وموجز بسيط للموضوعات التي تناولها المؤلف تساعد على إدراك ما قدمنا
قسم المؤلف الجزء الأول من كتابه إلى ثلاثة أبواب خصص الباب الأول منها بأصول الدولة، فتكلم في الفصل الأول عن ضرورة البحث في هذا الموضوع، وقدم لذلك مثلين هما: فرض الضرائب على الأجانب والنظام الفاشي. ثم انتقل إلى الكلام في الفصول التالية عن مختلف النظريات التي تناولتها عارضا ناقدا محللا، فتكلم في الفصل الثاني عن نظرية الطبيعة، وفي الثالث عن الأسرة، وفي الرابع عن العقد الاجتماعي، وفي الخامس عن القوة، وفي السادس عن الإرادة الفردية؛ وبعد أن انتهى المؤلف من الكلام على أصول الدولة في الباب الأول أخذ يتكلم في البابين الثاني والثالث عن التطور التاريخي لفكرة الدولة، فتناول في الباب الثاني الأفكار القديمة من الدولة مستعرضا إياها في الهند وفارس والصين ومصر، وعند اليهود واليونان والرومان، وتناول في الباب الثالث فكرة الدولة في القرون الوسطى وفي عهدي الأحياء والإصلاح
وفي الجزء الثاني من الكتاب تابع المؤلف بحثه في التطور التاريخي لفكرة الدولة؛ فتكلم عنها من عهد الإصلاح الذي ختم به الجزء الأول حتى سقوط نابليون النهائي بعد أن عرج في طريقه على الدستور البريطاني، فشرح أطواره منذ نشأته حتى نهاية القرن الثامن عشر
واستمر هذا البحث التاريخي في الجزء الثالث، إذ تناول المؤلف أطوار فكرة الدولة ابتداء من سقوط نابليون حتى اليوم - تناولها من ثلاث نواحي في ثلاثة أبواب؛ خص الباب الأول منها بتطور فكرة الدولة من ناحية سياجها الخارجي، أو بعبارة أخرى من ناحية القانون الدولي، وخص الباب الثاني بأهم أطوار العنصر التاريخي للدولة عارضا لمختلف الحركات الشعبية منذ سنة 1815، أي بعد سقوط نابليون النهائي، وخص الباب الثالث(119/79)
بأهم أطوار العنصر القانوني للدولة منذ ذلك الحين كذلك واصلا ما انقطع في نهاية الجزء الثاني من الكلام عن الحركة الدستورية والنظام البرلماني في فرنسا، خاتما إياه بكلمة واحدة وجيزة عن بعض المبادئ الدستورية الحديثة
والحق أن المؤلف الفاضل - مع ما سبق أن قدمنا - قد عالج هذه الأبواب التي تناولها في أجزاء كتابه الثلاثة معالجة الملم بموضوعه، الواسع الاطلاع، الدقيق الملاحظة، القوي العبارة، الجزل الأسلوب
على أننا مع الثناء الخالص على المؤلف والتقدير العظيم للكتاب نأخذ على الأستاذ أنه لم يبين في صدر الكتاب منهاج بحثه، وتقسيم عمله، وتسلسل موضوعه، البيان الكافي الذي ينير أمام القارئ السبيل إلى الغاية
كذلك نأخذ عليه عدم ذكره المراجع كاملة في الثبت الذي ذيل به كل جزء من أجزاء كتابه فلم يذكر أمام كل كتاب بعد اسم المؤلف والعنوان الكامل لكتابه الجزء الخاص بالموضوع إذا كان للكتاب عدة أجزاء، وعدد الطبعة إذا كان له أكثر من طبعة، والمدينة والسنة التي طبع فيها. ففي هذه البيانات ما يساعد محبي البحث والاستقصاء
كما أنه أهمل هذه البيانات عندما كان ينقل أو يوجز أقوال بعض العلماء في صلب الكتاب، فهو كثيرا ما يكتفي بالإشارة إلى اسم المؤلف ورقم الصفحة دون ذكر لعدد الطبعة، وقد تكون الطبعة التي يرجع إليها القارئ غير الطبعة التي كانت في يد الكاتب، والصفحات تتغير في مختلف الطبعات، بل هو أحيانا لا يذكر الصفحة التي نقل عنها فيصعب على القارئ الرجوع إلى العبارة المنقولة والتثبت منها
وجملة الرأي في الكتاب أنه لم يوجه وجهة علمية صرفة، بل قصد منه التثقيف والتهذيب، وأنه من هذه الناحية، أي ناحية الثقافة العامة عمل ضخم ثمين، أدى به مؤلفه الكريم إلى قراء العربية خدمة جليلة، كلفته جهودا مضنية من الطاقة والوقت، فمن حقه أن يقابل بالشكر الوافر والتعضيد الصحيح
محمد توفيق يونس(119/80)
العدد 120 - بتاريخ: 21 - 10 - 1935(/)
أحمد شوقي
بمناسبة ذكراه الثالثة
اجتمع رأي الناس - ما عدا الشعراء - على أن شوقي طيب الله ذكره، كان تعويضاً عادلاً عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحي الشعر، ويجدد ما اندرس من نهج الأدب، ويحفظ للبيان العربي قسطه المأثور من التعبير الملهم عن كلمة الله المنبثة في الكون، وأسرار الجمال المضمرة في الطبيعة، ومعاني الخير الغامضة في الحياة؛ وأن فقده كان فقداً للوجدان الفني في الشعب الذي علمه كيف يتذوق الأدب ويستسيغ الشعر وينضح عواطفه الجافة بفيض هذه القريحة النابغة الثَرَّة؛ فالأعوام تعقب الأعوام، والذكرى تخلف الذكرى، والأسى لا يزال يُرمض الجوانح لامتناع الصبر عليه واعواز العوض منه؛ فسيبقى شوقي كما وضعه القدر كمالاً في نقص كان، وهيهات أن يصير نقصاً في كمال سيكون؛ وسيدور الفلك ويدور، ويقصد النقد ويجور، ويتطور الذوق ويسمو، وشعر شوقي ثابت ما ثبت الحق، خالد ما خلد القرآن، مقروء ما بقي العرب!
ذلك لأن الطبيعة اختارته لرسالة الشعر بعد فثرة موئسة من الرسل، ثم آثرته بالنصيب الأوفى من الفكر والخيال والعاطفة، وهن الملكات الثلاث التي ترفد القريحة وتمد الطبع، وعلى تفاوتها في القوة والضعف يتفاوت الفنان في السبق والتخلف؛ ثم زوّدته بالأذن الموسيقية والقريحة السخية والأداة الطيعة، فشب عبقرياً بالفطرة، لا شأن للبيئة في تنشئته، ولا للمدرسة في إعداده، ولا للفرصة في توجيهه؛ وهل كان أثر البيئة وقفاً عليه، وتعليم المدرسة خاصاً به، ومواتاة الفرص امتياز له؟ إنما كان مثله في رسالة الشعر كمثل الأنبياء في رسالة الدين، يختارهم الله من الضعفاء والفقراء والأميين ليكون جلاله عليهم أبهر، ومعجزته فيهم أظهر، وحجته منهم أبلغ
وشوقي رجل روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا يشك قارئه في أنه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه؛ وما اكتسب من القراءة والأسفار إلا إرهاف الذوق، وتحصيل المادة، وتوسيع الخبرة؛ والذوق في الفن كالعقل في العلم إنما يحصلان بالدرس والتجربة والسن؛ والطبيعة(120/1)
تصنع صاحب العبقرية، ولكنها تبدأ صاحب الذوق
الشاعر المطبوع رجل يتأثر خياله بقوة، وينفعل قلبه بسرعة، ثم يكون بين خياله وقلبه تجاوب سريع مستمر؛ له أذن مرهفة الحس تفطن للإيقاع وتطرب للنغم، وذوق سليم الإدراك يعرف جمال الشعر ويعلم مواقع الكلم، ونفس ترى المُثُل الروائع فتحمَى وتتحمس، ثم يدفعها السمو الفني فيها إلى المنافسة الحرة والمعارضة النبيلة؛ وإذا تناول الفكرة الأساسية الأولية لموضوع ما، لا يلبث أن يراها في دخيلة نفسه تنمو وتتسع وتتركب وتتشعب وتتلون، ثم تغدو ولوداً خصبة؛ ثم لا ينفك شاعراً بالحاجة الملحة إلى الإنتاج الناشئ عن غزارة الفيض وحرارة العاطفة؛ ثم يدرك في يسر ما بين المعاني المجردة والمواد المحسَّة من علاقة، فيتخذ من هذه ألواناً لتلك، بحيث تولد هذه الأفكار في الذهن مكسوة بهذه الصور؛ تتمثل في خاطره المواد من ذات نفسها على الوجه الأنسب للتصوير والوضع الأجمل في النظم، فإذا كان الموضوع مؤثراً انثالت عليه العواطف معجلة تريد أن تظهر، مزدحمة تحاول أن تفيض
ذلك هو الشاعر المطبوع، وذلك هو شوقي؛ علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما انخزل يوماً في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولاً منه عن وجوده؛ وقديماً كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح، فحلق بخياله في كل جو، وسطح بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة والمصرية شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب؛ ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة، فأضاف الشعر القصصي والشعر التمثيلي إلى شعرنا الغنائي؛ فكان بذلك وحده الشاعر الكامل!
شوقي كله من صنع الطبيعة، ولد منشداً كما ولد البلبل مغرداً؛ فالحكم على شعره بقوانين النقد الوضيعة، وآراء الناقدين الشخصية، لا يضعه في مكانه، ولا يزنه بميزانه. اقرأه ثم راجع فيه نفسك، واستشر في أثره حسك، فإذا وجدت ذهنك يشتغل، وشعورك يشتعل،(120/2)
وروحك تتصل بروحه، وذوقك يرتاح لذوقه، فثق أنك بازاء شاعر علت مزاياه على النقد، وسخرت مواهبه بالقيود:
إن شوقي سيظل على رغم الهتاف به مغموط الحق مادام الشعر العربي للخاصة، لأن الخواص أكثرهم لا ينصفونه، والعوام كلهم لا يفهمونه، فمتى زالت معرّة الأمية عن الأمة العربية أصبح لشعره يومئذ شأن وأي شأن
أحمد حسن الزيات(120/3)
5 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
تتمة
قلت لها: إن كلمة الكفر لا تكون كافرة إذا أُكره عليها من أُكره وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان، وكلمة الفجور أهون منها وأخف وزناً وشأناً، ثم لا تكون إلا فاجرة أبداً، إذ لا إكراه على هذه الدَّعارة إكراها لا خيار فيه. وما أول الدَّعارة إلا أن تمد المرأة طرفها من غير حياء، كما يمد اللص يده من غير أمانة
ومن اضطُر إلى الكفر استطاع أن يخبأ محراب المسجد في أعماقه فيصلي ثمة، ولكن الفجور لا يترك في النفس موضعاً لدين ولا إيمان، إذ هو دائب في إثارة الغرائز الطبيعية الحيوانية المسترسلة بلا ضابط، فيجعل المرأة تحيا بعيدة عن ضميرها، فيضعف منها أول ما يضعف آثار الآداب والأخلاق، فيهلك فيها أول ما يهلك إحساسها بمعنى المرأة الإنسانية وشعورها بمجد هذا المعنى
فإذا انتهت المرأة إلى هذا لم يكن لها مبدأ ولا عقيدة إلا أنَّ على غيرها أن يتحمل عواقب أعمالها، وهذه بعينها هي حالة المجنون جنون عقله؛ أفلا تكون المرأة حينئذ مجنونة جنون جسمها. . .؟
فساءها ذلك وبان فيها، ولكنها أمسكت على ما في نفسها؛ والمرأة من هؤلاء لا يمشي أمرها في الناس ولا يتصل عيشها إلا إذا كثرت طباعها كثرة ثيابها، فهي تخلع وتلبس من هذه وتلك لكل يوم ولكل حالة ولكل رجل، فينبعث منها الغضب وهي في أنعم الرضى، كما ينبعث الرضى وهي في أشد الغيظ، وكأن لم تغضب ولم ترض لأنها ليست لأحد ولا لنفسها
وتساير غضبها ثم قالت: كان كلامك أن لك رجاء إليَّ، فأنا أحب. . . . أحب أن أعلم
قلت: وأنا كذلك أحب. . . أحب أن أعلم
فضحكت وسرِّى عنها، وثبتت على شفتيها ابتسامة لو جاء ملكٌ من السماء ليضع في ثغرها ابتسامة أجمل منها لما وجد أجمل منها
ثم قالت: تحب أن تعلم ماذا؟(120/4)
قلت: أحب أن أعلم منك قصة هذه الحياة ما كان أولها؟
قالت: لقد قضيت من حكمك فينا، ولكنك أخطأت، فلكل ليل مظلم كوكبه؛ والكوكب الوقاد المعلَّق فوق ليل المرأة منا هو إيمانها. نعم إنه ليس كإيمان الناس في واجباته ولكنه كإيمان الناس في تعزيته، والله ربُّنا وربُّكم
قلت: لو أطيع الله بمعصيته لاستقام لك هذا. وإنما أنت تصفين الإيمان الأول الذي كان عملاً فصار ذكرى، فصارت الذكرى أملاً، فظننتِ الأمل هو الإيمان
قالت: ثم إننا جميعاً مكرهات على هذه الحياة فما نحن إلا صرعى المصادمة بين الإرادة الإنسانية وبين القدر
قلت: ولكن لم تهف واحدة منكن في غلطتها الأولى وهي مستكرهة على غلطة؛ بل وهي راغبة في لذة، أو مبادرة لشهوة، أو طالبة لمنفعة
قالت: هذا أحد الوجهين؛ أما الآخر فالتماس الرزق وصلاح العيش. فالرجل مع الرجل رأس ماله قوَّته، وعمله بقوته؛ ولكن المرأة مع الرجل رأس مالها أنوثتها، وعمل أنوثتها. وفي الوجه الأول وجه اللذة والمنفعة، تحتال كلمة الفجور على المرأة بكلمات رقيقة ساحرة، منها الحبُّ والزواج والسعادة، فتستسلم المرأة مضطرة ليقع شيء من هذا. وفي الوجه الثاني وجه الرزق والعيش، تحتال الكلمة الخبيثة الفاجرة على المرأة المسكينة المستضعفة بكلمات رهيبة قاتلة، منها الجوع والفقر والشقاء، فتسقط المرأة مضطرة خيفة أن يقع شيء من هذا؛ وفي أحد الوجهين يكون الرجل هو الفاجر لفساد آدابه، وفي الوجه الآخر يكون الفاجر هو المجتمع لفساد مبادئه
قلت: أنا لا أنكر أن المرأة إذا سقطت في هذه المدينة لم تقع أبداً إلا في موضع غلطة من غلطات القوانين، وآفة هذه القوانين إنها لم تسن لمنع الجريمة أن تقع، ولكن للعقاب عليها بعد وقوعها. وبهذا عجزت عن صيانة المرأة وحفظها، وتركتها لقانون الغريزة الوحشي في هؤلاء الوحوش الآدميين الذين يأخذهم السعار من هذه الرائحة التي لا يعرفها إلا في اثنين: المرأة الجميلة، والذهب. فما ألجأت امرأة حاجتها أو فقرها إلى أحدهم ورأى عليها جمالاً إلا ضربه ذلك السعار، فإن استخفَّت بنزواته وتعسّرت عليه طردها إلى الموت ومنعها أن تعيش من قبله، وإن صلحت له وتيسرت، آواها هي وطرد شرفها. . .(120/5)
وذلك بخلاف الدين، فإنه قائم على منع الجريمة، وإبطال أسبابها؛ فهو في أمر المرأة يلزم الرجل واجبات، ويلزم المجتمع واجبات غيرها، ويلزم الحكومة واجبات أخرى. فأما الرجل فينبغي له أن يتزوج، ويتحصن، ويغار على المرأة، ويعمل لها؛ وأما المجتمع فيجب عليه أن يتأدب، ويستقيم، ويعين الفرد على واجبات الفضيلة، ويتدامج، ويشد بعضه بعضاً؛ وأما الحكومة فعليها أن تحمي المرأة فتعاقب على إسقاطها عقاب الموت والألم والتشهير، لتقيم من الثلاثة حراساً جبابرة، من لا يخش الله خشيها. فليس يمكن أبداً أن يكون في ديننا موضع غلطة تسقط فيه المرأة
قال الأستاذ (ح): صدقت، فالحقيقة التي لا مِراء فيها أن فكرة الفجور فكرة قانونية. وما دام القانون هو أباحها بشروط فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط، ومن هذا التقرير يقدم عليها الرجل والمرأة كلاهما على ثقة واطمئنان. ومن ثم تأتي الجرأة على اندفاع الناس إلى ما وراء حدود القانون؛ ومن هذا الاندفاع تأتي الساقطة بآخر معانيها وأقبح معانيها
وتقرير سيادة المرأة في الاجتماع الأوربي وتقديمها على الرجال والتأدب معها، كل ذلك يجعل جراءة السفهاء عليها جراءة متأدبة حتى كأن المتحكك منهم في امرأة يقول لها: من فضلك كوني ساقطة. . . أما هنا فجراءة السفهاء جراءةٌ وقحةٌ معاً، وذلك هو سرُّها
القانون كأنما يقول للرجال: احتالوا على رضا النساء فإن رضين الجريمة فلا جريمة، ومن هذا فكأنه يعلمهم أن براعة الرجل الفاسق إنما هي في الحيلة على المرأة وإيقاظ الفطرة في نفسها بأساليب من الملق والرياء والمكر تتركها عاجزة لا تملك إلا أن تذعن وترضى. وبهذا ينصرف كل فاجر إلى إبداع هذه الأساليب التي تطلق تلك الفطرة من حيائها، وتخرجها من عفتها (تطبيقاً للقانون). . .
ولا سيادة في اجتماعنا للمرأة، ولكن القانون جعلها سيدة نفسها، وجعلها فوق الآداب كلها، وفوق عقوبة القانون نفسه إذا رضيت؛ إذا رضيت ماذا. . .؟
قلت: فإذا كان القانون هنا في مسألتنا هذه يعدل بالظلم، ويحمي الفضيلة بإطلاق حرية الرذيلة، فهو إنما يفسد الدين؛ ويصرف الناس عن خوف الله إلى خوف ما يخاف من الحكومة وحدها. وبهذا لا يكون عمله إلا في تصحيح الظاهر من الرجل والمرأة، ويدع(120/6)
الباطن يسر ما شاء من خبثه وحيلته وفساده، فكأنه ليس قانوناً إلا لتنظيم النفاق وإحكام الخديعة. فلا جرم كان قانوناً لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها، فإذا أخذت المرأة ملاينة ورضى فهذا فجور قانوني. . . وإن كانت الملاينة هي عمل الحيلة والتدبير، وإن كان الرضى هو أثر الخداع والمكر، وإن ضاعت المرأة وسقطت وذهب شرفها باطلاً وألحقه الناس بما لا يكون من توبة إبليس فلا يكون أبداً. أما إذا أخذت مكارهة وغصباً، فهذه هي الجريمة في القانون؛ ويسميها القانون جريمة الاعتداء على العرض، وهي بأن تسمى جريمة العجز عن إرضاء المرأة أحق وأولى
على أن المسكينة لم تؤخذ في الحالتين إلا غصباً ولكن اختلفت طريقة الرجل الغاصب، فإن كلتا الحالتين لم تتأدَّ بالمرأة إلا إلى نتيجة واحدة هي إخراجها من شرفها، وحرمانها حقوق إنسانيتها في الأسرة، وطردها وراء حدود الاعتبار الاجتماعي، وتركها ثمة مخلاة لمجاري أمورها، فلا يتيسر لها العيش إلا من مثل ذلك الرجل الفاجر، فلا تكون لها بيئة إلا من أمثاله وأمثالها كما يجتمع في الموضع الواحد أهل المصير الواحد على طريقة القطيع في المجزرة. . . .
فقالت هي: الحق أن هذه الجريمة أولها الحب؛ وهي لا تقع إلا من بين نقيضين يجتمعان في المرأة معاً: كبر حبها إلى ما يفوت العقل، وصغر عقلها إلى ما ينزل عن الحب. والمرأة تظل هادئة ساكنة رزينة حتى تصادفها اللحاظ النارية من العين المقدرة لها فلا يكون إلا أن تملأها لهباً. ولتكن المرأة من هي كائنة فإنها حينئذ كمستودع البارود يهول عظمه وكبره، وهو لا شيء إذا اتصلت به تلك الشرارة المهاجمة
وليست حراسة المرأة شيئاً يؤبه له أو يعتد به أو يسمى حراسة، إلا إذا كانت كالتحفظ على مستودع البارود من النار؛ فيستوي في وسائلها الخوف من الشرارة الصغيرة والفزع من الحريق الأعظم، فيحتاط لاثنيهما بوسائل واحدة في قدر واحد واعتبار واحد
وإذا تركت المرأة لنفسها تحرسها بعقلها وأدبها وفضلها وحريتها، فقد ترك لنفسه مستودع البارود تحرسه جدرانه الأربعة القوية. . . .
والرجال يعلمون أن للمرأة مظاهر طبيعية من الخيلاء والكبرياء والاعتداد بالنفس والمباهاة بالعفة؛ ولكن هؤلاء الرجال أنفسهم يعلمون كذلك أن هذا الظاهر مخلوق مع المرأة كجلد(120/7)
جسمها الناعم، وأن تحته أشياء غير هذه تعمل عملها وتصنع البارود النسائي الذي سينفجر. . . .
قلت: إذا كان هذا فقبح الله هذه الحرية التي يريدونها للمرأة. هل تعيش المرأة إلا في انتظار الكلمة التي تحكمها بلطف، وفي انتظار صاحب هذه الكلمة؟
قالت: إن هذا حق لا ريب فيه، وأوسع النساء حرية أضيعهن في الناس؛ وهل كالمومس في حريتها في نفسها؟
ولكن يا شؤمها على الدنيا. إنها هي بعينها كما قلت أنت حرية المخلوق الذي يترك حراً كالشريد لتجرِّب فيه الحياة تجاريبها المؤلمة. وماذا في يد المرأة من حرية هي حرية القدر فيها؟
قلت: ولهذا لا أرجع عن رأيي أبداً، وهو أنه لا حرية للمرأة في أمة من الأمم إلا إذا شعر كل رجل في هذه الأمة بكرامة كل امرأة فيها، بحيث لو أهينت واحدة ثار الكل فاستقادوا لها، كأن كرامات الرجال أجمعين قد أهينت في هذه الواحدة. يومئذ تصبح المرأة حرة، لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسة بملايين من الرجال. . . .
فضحكت وقالت: (يومئذٍ) هذا اسم زمان أو اسم مكان. . . .؟
قال الأستاذ (ح): ولكنا أبعدنا عن قصة هذه الحياة، ما كان أولها؟
قالت: إن الشبان والرجال علمٌ يجب أن تعلمه الفتاة قبل أوان الحاجة إليه. ويجب أن تقرَّ في ذهن كل فتاة أن هذه الدنيا ليست كالدار فيها الحب، ولا كالمدرسة فيها الصداقة، ولا كالمحل الذي تبتاع منه منديلاً من الحرير أو زجاجة من العطر فيه إكرامها وخدمتها
وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء. فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجمت، أي توقحت، أي تبذلت، استوى عندها أن تذهب يميناً أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق. وصاحبات اليمين في كنف الزوج وظل الأسرة وشرف الحياة. وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال. . . . .؟
قلت: هذا هذا؛ إنه الحياء، الحياء لا غيره. فهل هو إلا وسيلة أعانت الطبيعة بها المرأة لتسمو على غريزتها متى وجب أن تسمو فلا تلقى رجلاً إلا وفي دمها حارس لا يغفل. وهل هو إلا سلب جمعته الطبيعة إلى ذلك الإيجاب الذي لو انطلق وحده في نفس المرأة(120/8)
لاندفعت في التبرج والإغراء وعرض أسرار أنوثتها في المعرض العام. . . .؟
قالت: ذاك أردت، فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق، فلا تعدنه من فرط الجمال بل من قلة الحياء
واعلم أن المرأة لا تخضع حق الخضوع في نفسها إلا لشيئين: حيائها وغريزتها
قلت: يا عجباً! هذا أدق تفسير لقول تلك المرأة العربية: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. فإن اختضعت المرأة للحياء كفت غريزتها
قالت: وجعلها الحياء صادقة في نفسها وفي ضميرها، فكانت هي المرأة الحقيقية الجديرة بالزوج والنسل وتوريث الأخلاق الكريمة وحفظها للإنسانية
قلت: ومن هذا يكون الإسراف في الأنوثة والتبرج أمام الرجال كذباً من ضمير المرأة
قالت: ومن أخلاقها أيضاً. ألا ترى أن أشد الإسراف في هذه الأنوثة وفي هذا التبرج لا يكون إلا في المرأة العامة. . .؟
قلت: والمرأة العامة امرأة تجارية القلب. فكأن المسرفة في أنوثتها وتبرجها، هذه سبيلها فهي لا تؤمن على نفسها
قالت: قد تؤمن على نفسها، ولكنها أبداً مومس الفكر في الرجال فيوشك ألا تؤمن. وهي رهن بأحوالها وبما يقع لها، فقد يتقدم إليها الجريء وقد لا يتقدم، ولكنها بذلك كأنها معلنة عن نفسها أنها (مستعدة ألا تُؤْمَن). . . .
قال (ح): لكن يقال إن المرأة قد تتبرج وتتأنث لترى نفسها جميلة فاتنة، فيعجبها حسنها، فيسرها إعجابها
قالت: هذا كالقول إن أستاذ الرقص الذي رأيته هنا، ينظر إلى نفسه كما ينظر رجل إلى راقصة تتأود وتهتز وتترجرج. إن هذا الرقاص فيه الحركة الفنية كما هي حركة ليس غير؛ فهو كالميزان أو القياس أو أي آلات الضبط. أما فتنة الحركة وسحرها ومعناها من المرأة الفاتنة في وهم الرجل المفتون بها؛ فهذا كله لا يكون منه شيء في أستاذ الرقص وإن كان أستاذ الرقص
إن أجمل امرأة تبصق بفمها على وجهها في المرآة، إذا محي الرجل من ذهنها، أو لم يطل بعينيه من وراء عينيها، أو لم تكن ممتلئة الحواس به، أو بإعجابه، أو بالرغبة في إعجابه.(120/9)
فمهما يكن من جمال هذه فإنها لا ترى وجهها حينئذ إلا كالدنيا إذا خلت من العدل. . .
قلت: ولكنا أبعدنا عن (قصة هذه الحياة ما كان أولها؟)
قالت: سأفعل ذلك لموضعك عندي. إن قصتي في الفصل الأول منها هي قصة جمالي؛ وفي الفصل الثاني هي قصة مرض العذراء؛ وفي الفصل الثالث هي قصة الغفلة والتهاون في الحراسة؛ وفي الفصل الرابع هي قصة انخداع الطبيعة النسوية المبنية على الرقة وإيجاد الحب وتلقيه والرغبة في تنويعه أنواعاً للأهل والزوج والولد؛ ثم في الفصل الخامس هي قصة لؤم الرجل. كان محباً شريفاً يقسم بالله جهد أيمانه، فإذا هو كالمزور والمحتال واللص وأمثالهم ممن لا يعرفون إلا بعد وقوع الجريمة.
ثم سكتت هنيهة، فكان سكوتها يتم كلامها. . .
وقال (ح): فما هو مرض العذراء الذي كان منه الفصل الثاني في الرواية؟
قالت: كل عذراء فهي مريضة إلى أن تتزوج؛ فيجب أن يعلمها أهلها أن العلاج قد يكون مسموماً؛ وينبغي أن يحوطوها بقريب من العناية التي يحاط المريض بها، فلا يجعل ما حوله إلا ملائماً له، ويمنع أشياء وإن أحبها ورغب فيها، ويكره على أشياء وإن عافها وصدف عنها
قال (ح): فيكون القانون الاجتماعي تصديقاً للقانون الديني من أن الذكورة هي في نفسها عداوة للأنوثة، وأن كل رجل ليس ذا رحم محرم يجب أن يكون مرفوضاً إلا في الحالة الواحدة المشروعة وهي الزواج
قالت: فتكون المشكلة الاجتماعية هي: من ذا يرغم الذكورة على هذه الحالة الواحدة المشروعة كيلا تضيع الأنوثة؟
قال: ولكن إذا كان سقوط الفتاة هو جناية (الزواج المزور) فما عسى أن يكون سقوط بعض المتزوجات؟
قالت: هو جناية (الزواج المنقح). . . . تريد أنفسهن الخبيثة تنقيح الزوج؛ والمومسات أشرف منهن إذ لا يعتدين على حق ولا يخن أمانة
ورف على وجهها في هذه اللحظة شعاع من الشمس كان على جبينها كصفاء اللؤلؤ، ثم تحول على خدها كإشراق الياقوت؛ ورأتني أتأمله فقالت: أنا منتشية بحظي في هذه(120/10)
الساعات؛ وهذا الشعاع إنما جاء يختم نورها
ثم كانت السخرية العجيبة أنها لم تتم كلمة النور حتى جاء حظها الحقيقي من حياتها. . . . وهو رجل يتحظَّاها؛ فلما أخذته عينها ابتسمت له ابتساماً من الذل لو لم تجعله هي ابتساماً لكان دموعاً. ثم وقفت وما تتماسك من الهم، كأنها تمثال (للجمال البائس). ثم سلّمت وودعت. وبعد (واواتٍ) أخرى. . . مشت ساكنة ومرآها يضج ويبكي
فوداعاً يا أوهام الذكاء التي تلمس الحقائق بقوة خالقة تزيد فيها!
ووداعاً يا أحلام الفكر التي تضع مع كل شيء شيئاً بغيره!
ووداعاً يا حبها. . . . . . . . . . . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(120/11)
أحلام السلام
وكيف انهارت في خمسة عشر عاماً؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان حلماً لم يطل أمده أكثر من خمسة عشر عاماً؛ ذلك هو حلم السلام الذي توهمت أوربا وتوهم العالم أنه سينعم في ظله حقبة من الزمن تكفي لبرء ما أثخنه من جراح، وما أصابه من استنفاد وتخريب وتحطيم. وقد لاح للإنسانية مدى حين أنها تستقبل عصراً جديداً من السلام والإخاء الدولي والتفاهم الحسن، واعتقدت الشعوب مدى حين أن قيام عصبة الأمم، وعقد مواثيق التحكيم، والتبشير بنزع السلاح، إنما هي عناصر جديدة في بناء العالم الجديد، وإنها الدعائم الأولى لصرح سلام جديد لا تزعزعه الشهوات القومية والنزعات الحربية؛ واستمر هذا الحلم يسطع حيناً ويخبو حيناً، زهاء عشرة أعوام، وبلغ ذروة قوته وروعته حينما عقد ميثاق تحريم الحرب الأمريكي، ونص فيه على أن الحرب قد حرمت كأداة للسياسة القومية، وتعهدت الدول بألا تلجأ في تسوية منازعاتها لغير التفاهم والتحكيم
ولكن حلم السلام تبدد فجأة، فرفعت عصبة الأمم قناعها المموه، وانهار مؤتمر نزع السلاح، وظهر أن ميثاق تحريم الحرب لم يكن أكثر من قصاصة ورق، واختفت أصوات الساسة الذين يستظلون بأحاديث السلام، وعلت كلمة الداعين إلى التسليح، وإلى تحطيم المعاهدات القديمة، وإلى الانتصاف القومي، وإلى تحقيق المطامع الاستعمارية. ولم يكن هذا التحول مفاجأة لأولئك الذين يعرفون سير التاريخ، ويستشفون طرف الحقيقة من وراء المظاهر الخادعة، ولكنه كان بالطبع مفاجأة أليمة للشعوب الآمنة التي ما زالت تحتمل على كاهلها كل عبء وكل تضحية في سبيل الشهوات السياسية والقومية، والتي ما زالت ترتجف فرقاً لذكريات الحرب الكبرى
كان مؤتمر الصلح الذي عقد في فرساي بين مارس ويونيه سنة 1919، أعظم مؤتمر دولي شهده التاريخ، وكانت معاهدة الصلح التي تمخض عنها هذا المؤتمر أعظم معاهدة عقدت بين الأمم، وأوسعها مدى، وأبعدها أثراً في سير التاريخ وفي تغيير أوضاع العالم الحديث؛ بل كانت معاهدة فرساي في الواقع دستوراً جديداً للعالم، تغير كثيراً من معالمه الجغرافية والتاريخية، وتقرر حدوداً جديدة، وتنشئ أمماً ودولاً جديدة، وتقضي على أمم ودول أخرى(120/12)
بالاختفاء من خريطة أوربا. ولم يكن ذلك لأن هذه الدول الجديدة أكثر حقاً في الحياة من الدول المختفية، أو لأن قيامها يكون أكثر تحقيقاً للعدالة الدولية وسير التاريخ، ولكن لأن قيامها يحقق شهوات عسكرية وسياسة للدول الظافرة، ولأن اختفاء الأمم القديمة يقضي على وحدات سياسية وعسكرية ضخمة كانت تخشاها الدول الظافرة. وقد عرف التاريخ الحديث كثيراً من هذه المعاهدات والمؤتمرات الدولية الكبرى التي كانت تغير معالم أوربا، وتفتتح في تاريخها عصراً جديداً، فمعاهدة وستفاليا التي اختتمت بها حرب الثلاثين في سنة 1648، ومؤتمر فينا الذي عقد في سنة 1814 لتسوية المشاكل والتغييرات التي أحدثتها الحروب النابوليونية، ومؤتمر برلين الذي عقد على أثر الحرب التركية الروسية (سنة 1878)، والذي أسفر عن تمزيق الدولة العثمانية القديمة، وسلخ معظم أملاكها الأوربية، كلها أمثلة من هذه المؤتمرات الشهيرة الحاسمة ذات الأثر البعيد في مصاير التاريخ والأمم؛ ولكن مؤتمر فرساي كان أعظمها جميعاً وأبعدها أثراً
وقد ظن العالم بعد أن شهد مصائب الحرب وويلاتها المروعة مدى أربعة أعوام، إنه يستطيع أن يعتصم من خطر الحرب بدروسها وعبرها الأليمة، وإن ما لقيته من فظائعها وأهوالها في هذه الفترة السوداء من تاريخ الإنسانية، كفيل بأن يزهدها في الحرب وخوضها أمداً طويلاً؛ وقامت عصبة الأمم لتكون أداة صلح وتفاهم بين الدول المتنازعة، ونظم مؤتمر نزع السلاح ليعمل على تحديد التسليح إلى الحد الذي يتفق مع السلامة القومية، وعقد ميثاق لوكارنو ليكون دعامة في صرح التفاهم بين أعداء الأمس، ولقرب ما بين فرنسا وألمانيا، وعقدت بين مختلف الدول مواثيق بعدم الاعتداء، وكللت دعوة السلام بعقد ميثاق تحريم الحرب، وغمرت صيحة السلام والتفاهم جو السياسة العالمية مدى حين؛ ولكن هذه المظاهر الخلابة لم تك إلا ستاراً خادعاً تضطرم من ورائه ضرام الأحقاد والمنافسات القومية الخالدة؛ فقد كانت الأمم الظافرة والمغلوبة معاً تجد في مضاعفة تسليحها وأهبتها العسكرية، وكانت المعاهدات والمحالفات السرية تعقد كما كانت تعقد من قبل، وتؤلف من الدول جماعات وكتل خصيمة مثلما كانت بالأمس؛ وكانت عصبة الأمم أثناء ذلك تنحدر شيئاً فشيئاً إلى أداة لينة في يد الدول الكبرى توجهها لتحقيق مآربها السياسية أو الاستعمارية؛ وهكذا وقف العالم فجأة على الحقيقة المرة، وهي أن هذه الخمسة عشر عاماً(120/13)
التي انقضت على خاتمة الحرب الكبرى لم تكن إلا فترة استعداد واستجمام، تستعيد فيها الدول نشاطها وتنظم اهباتها ومواردها، تحفزاً لحرب أخرى
وكما أن الحرب الكبرى كانت فورة المطامع والأهواء الاستعمارية والمنافسات التجارية والصناعية، فكذلك ستكون حرب الغد؛ وقد ظهرت بوادرها الأولى، بل لقد أضرمت شرارتها الأولى بذلك الهجوم البربري الذي نظمته إيطاليا عن عمد وسبق إصرار لغزو الحبشة؛ وليس في تاريخ الاستعمار كله اعتداء دبر بمثل هذا الإصرار الآثم والصراحة المثيرة، وإن كان تاريخ الاستعمار كله يقوم على العدوان والجريمة؛ وهذه الشرارة التي تضرمها إيطاليا الفاشستية تسطع الآن في أرجاء أوربا، وقد يندلع لهيبها بين آونة وأخرى؛ ولكن إيطاليا الفاشستية تتحدى أوربا كلها والعالم كله، ولن يضيرها أن تضطرم أوربا غداً بنار حرب عامة؛ ذلك أنها تذهب بعيداً في الاعتداد بقوتها واستعدادها وما تثيره فكرة الحرب من الذعر والروع، وقد أخذت بنفس الأحلام القيصرية التي أخذت بها العسكرية البروسية في الحرب الكبرى. ولقد كانت الفاشستية منذ قيامها بالنسبة للمثل الإنسانية العليا عاملاً من عوامل الدمار والهدم، فقد هدمت صرح الديموقراطية والنظم الحرة والكرامة الفردية ومبادئ العدالة الخالدة، وجعلت من الشعب كتلة مصفدة مسوقة، تدفعها إرادة الطغيان المسلح إلى حيث لا تعلم ولا تبغي؛ والفاشستية تنزع بطبيعتها إلى العنف والعدوان ولا تعتمد إلا على القوة الهمجية، كما أنها لا تخضع لغير هذه القوة؛ وهي تجوز الآن في إيطاليا - وفي ألمانيا - ذروة تجاربها ومغامراتها؛ وسنرى ما إذا كان هذا الاندفاع الدموي الذي تصوره عقلية الفاشستية العنيفة في صور العظمة والمجد القيصري، سيغدو قبراً للفاشستية أم سيحقق شيئاً من مطامعها وأحلامها
وهكذا تطورت فكرة الحرب والسلام بسرعة، وعادت فكرة الحرب كأداة للسياسة القومية تتخذ مكانتها الخالدة في تفكير الأمم القوية؛ ولم تكن فكرة السلام العام سوى حلم وخدعة، استظلت بها الدول الظافرة حتى تستر نصرها وتفوقها المسلح، واستظلت بها الدول المغلوبة حتى تستأنف استعدادها وتسلحها؛ ولم يكن من المعقول أن يبقى الظافر متغلباً إلى الأبد، ولم يكن من الممكن أن يبقى المغلوب ضعيفاً مهيضاً إلى الأبد؛ والآن نجد أعداء الأمس - الغالب والمغلوب - وجهاً لوجه، يلوح كل منهما بقوته واستعداده، ويفصح عن(120/14)
مطامعه وغاياته التي كان يسترها بالأمس لضعف في أهبته؛ نرى ألمانيا بعد أن استعادت حريتها في التسليح وأخذت تستأنف أهبتها العسكرية، تطالب بتعديل حدودها واسترداد مستعمراتها؛ ونرى فرنسا تعمل بكل ما وسعت لمضاعفة أهباتها وتوطيد الجبهة التي حشدتها ضد ألمانيا، ونراها لا تحجم في هذا السبيل عن مناصرة إيطاليا في مشروعها الدموي لافتراس الحبشة، لكي تستبقي صداقتها وعونها ضد ألمانيا في الغد المرتقب، ونرى حمى الحرب تسري إلى جميع أرجاء أوربا، والدول جميعاً تأخذ أهبتها لمعركة عامة لم يبق على نشوبها إلا مسألة زمنية، وقد تنشب في أية لحظة في أسابيع أو أشهر قلائل
والخلاصة أن العالم، بعد أن تبدد حلم السلام الزائف يجد نفسه في نفس الحالة النفسية والواقعية التي كانت في سنة 1914؛ وبعد أن كان حديث الحرب قبل عامين أو ثلاثة يعتبر مسألة بغيضة بعيدة الاحتمال، إذا بشبح الحرب الأوربية يحلق في الأفق واضحاً قوي النذير، وليس من ريب في أن الفاشستية تحمل كثيراً من تبعة هذا التطور الدولي الخطر؛ ولقد كان انهيار الديموقراطية في إيطاليا وألمانيا وغيرهما محنة بعيدة الأثر؛ ذلك أن الديموقراطية أكثر إيماناً بمبادئ السلام والإنسانية؛ وأما الفاشستية وزعامتها الغاشمة فلا تؤمن إلا بالقوة العنيفة، ولا تؤمن بحق الفرد أو الأمة، ولا تسيرها سوى العوامل والشهوات الحزبية والمذهبية الضيقة؛ وقد عملت الفاشستية باستمرار على إذكاء الأحقاد الجنسية والقومية، وعلى إضرام روح العدوان والحرب، وإضرام المطامع والمنافسات القديمة التي كانت من أكبر العوامل في إثارة الحرب الكبرى، فهي اليوم تحمل أكبر تبعة في خلق هذه العقلية العسكرية المتحفزة التي تعمل لإشعال نار الحرب بكل ما وسعت من جرأة واستهتار بكل مبادئ الحق والسلام
إن التاريخ يعيد نفسه بصورة واضحة؛ ولقد كانت القوة وما زالت خلال العصور عماد السياسة القومية؛ وليس التاريخ كله سوى مراحل متعاقبة من نضال قومي لا تفوَّق فيه لغير القوة الغاشمة، ولم يتقدم العالم خطوة في هذا المعنى عما كان عليه في العصور الوسطى؛ ولقد كان ممكناً أن تكون عصبة الأمم ومبادئها رمزاً للتقدم في تقدير الحقوق القومية والسلام العالمي، لو لم تعرض العصبة منذ بدايتها لتأثير نفس الأهواء بوسائل وأسماء أخرى،، ولو لم تنابذها دول قوية كاليابان وألمانيا، لأنها لم تستطع أن تؤثر في توجيهها؛(120/15)
وهاهي ذي عصبة الأمم تواجه قدرها المحتوم، فإما أن تستطيع بكثير من الشجاعة والجرأة أن تضرب على أيدي أولئك الذين عبثوا بمبادئها واجترأو على تعكير السلم، وأن تنفذ ما اتخذته أخيراً من القرارات الحازمة، وعندئذ تسترد كل ما فقدت من هيبة، وترد إلى الشعوب الضعيفة شيئاً من الأمل، وكثيراً من الثقة؛ وإما أن يخونها التوفيق مرة أخرى، فينهار آخر حجر في صرح التفاهم الدولي، وتنطلق الشهوات القومية من عقالها سريعة لا تلوي على شيء، وعندئذ يضطرم العالم مرة أخرى بضرام حرب يعلم الله وحده مداها ومبلغ هولها وروعتها
محمد عبد الله عنان(120/16)
فريزر ودراسة الخرافة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
تتمة
تخير فريزر أربعة من النظم الاجتماعية ليبين ما للخرافة من أثر في نشأتها وتكوينها. وهي: الحكومة، والملكية الفردية، والزواج، واحترام الحياة الإنسانية. فأثبت في وضوح أن الخرافة ساعدت على تأييد الحكومة وبسط نفوذها، وكانت عاملاً قوياً من عوامل الأمن والنظام. وثبتت كذلك دعائم الملكية الشخصية وصيرتها مقدسة بحيث أصبحت في مأمن من السلب والعدوان، واستطاع أصحابها أن ينتفعوا بها تمام الانتفاع. وحاربت الزنا والزناة فدفعت الناس إلى الزواج وحببتهم في الحياة الأسرية. ثم صورت الخرافة أخيراً الموتى والقتلى في صورة أشباح عظيمة الهول وأرواح تنتقم ممن اعتدى عليها، فكان في هذا ما صرف الناس عن سفك الدماء ودفعهم إلى احترام الحياة الإنسانية؛ وهذه النظم الأربعة هي عماد البناء الاجتماعي بأسره، إذا اضطرب واحد منها اضطربت له الجمعية كلها. فكأن الخرافة لم تؤثر في بعض النظم الاجتماعية فحسب، بل أثرت في عناصر الحضارة والتقدم على اختلافها. هي شر جاء من طريقه خير كثير، وخطأ في ذاتها إلا أنها هدت الناس إلى صواب عظيم. وليس يعني الجمعية أن تكون مدفوعة إلى الخير ببواعث خيرة بقدر ما يعنيها أن تصل إلى هذا الخير من أي طريق كان وكيفما كانت الدوافع. والأفراد أنفسهم لا يخرجون عن هذا القانون ولا يتعدون هذا النظام، إذ ما دامت أعمالنا طيبة، فليس يعني الغير كثيراً أن تكون نوايانا صالحة. ولئن ملأت الخرافة أدمغة الناس بخزعبلات لا حصر لها وقادتهم إلى أخطر الويلات، لمن الظلم أن ننسى أياديها في الترفيه عن الإنسانية والدفاع عن المجتمع. وكفاها إحساناً أنها هيأت للعجزة، والضعفاء، والجهلة، وناقصي العقول وسيلة من وسائل العمل الصالح وسلكت بهم سبل الخير. فهي كالعود قد ينقذ غريقاً، أو كالفنار الضئيل الذي، وإن لم يتجاوز ضوءه ظله، يهدي كثيراً من المارة وعابري السبيل(120/17)
تابعنا فريزر في المقالات السابقة، وسرنا وراءه خطوة خطوة رجاء أن نعرض صورة كاملة من آرائه وأبحاثه. وعلّ القارئ قد تبين في هذه الصورة غزارة مادة العالم الإنجليزي وسعة إطلاعه وتمكنه من موضوعه. فهو لا يكتفي بأن يدرس ظاهرة من الظاهر الاجتماعية لدى قبيلة أو شعب أو طائفة، وإنما يستقري الشعوب ويتتبع الجمعيات على اختلافها: فمن زنوج إفريقية إلى هنود أمريكا، ومن متوحشي استراليا إلى سكان الهند والصين، ومن القبائل الهمجية إلى الأمم المتحضرة، ومن العصور القديمة إلى التاريخ المتوسط والحديث. تشهد أمثلته، فوق غزارتها، وحسن اختيارها، بدقة الملاحظة والتعمق في البحث. هذا إلى خيال رائع، وأسلوب جذاب، وأحكام متواضعة لا زهو فيها ولا ادعاء، ولا مبالغة، ولا تهويل، قد أملتها دراسة هادئة، واستنبطتها عقلية متزنة. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نسرد الفقرة التالية التي ختم بها فريزر بحثه إذ يقول: (هاكم، سيداتي وسادتي، دفاعي عن الخرافة الذي قد يعرض تخفيفاً عن هذا المتهم الساقط حين يقف بين يدي القضاة، ومع هذا سيحكم عليه بالإعدام لا محالة؛ غير أن هذا الحكم لن ينفذ في جيلنا الحاضر، وسيبقى موقوف التنفيذ إلى أجل بعيد. وما أنا إلا محام - لا خصم - يتقدم إليكم الليلة. وقد كانت محكمة أثينا العليا لا تقضي في الجنايات إلا ليلاً، لهذا تخيرت الليل للدفاع عن سلطان الظلام. والآن، ونحن في ساعة متأخرة، يجدر بي أن أختفي مع موكلي الأشأم قبل أن يصيح الديك، ويبدو ضوء الفجر الرمادي في الأفق)
وفي دراسة فريزر للخرافة ناحية أخرى جديرة بالتقدير، ذلك أنه أخذ على عاتقه نصرة قضية يتبادر إلى الذهن بطلانها. يكاد يجمع الناس على أن الخرافة مبعث شر ومثار فتنة؛ ويأبى فريزر إلا أن يخرج على هذا الإجماع معلناً أن في باطن هذا الشر خيراً عظيماً وأن الخرافة أساس النظم الاجتماعية الهامة. وقد نجح نجاحاً كبيراً في إثبات دعواه والبرهنة على ما كان يرمي إليه. بيد أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ما يسميه فريزر خرافة هو في رأى معتنقيه دين وعقيدة. فالهمجي يخضع للملوك والحكام خضوع الموقن بسلطانهم الخارق للعادة وهيبتهم الصادرة عن السماء، ويؤمن بأن مال سيده ورئيسه مقدس فلا يمسه بسوء، ويعتقد أن الزنا مجلبة للصواعق والجدب والقحط فلا يقربه، ويخشى الأرواح والأشباح خشية الواثق من وجودها فلا يقتل نفساً ولا يسفك دماً. ولو خالجه الشك يوماً في هذه(120/18)
المعتقدات ما انقاد لها، ولو جال بخاطره أنها تمت إلى الخرافة بصلة لنبذها نبذ النواة. نعم إن من الديانات ما هو حق ومنها ما هو باطل؛ ولكن الفكرة، صواباً كانت أم خطأ، متى اكتست بكساء الدين أضحت قوة هائلة وأثرت في المجتمع تأثيراً نافعاً. ولو لم يكن للأديان إلا هذا النفوذ في قيادة الشعوب والتأثير في الجماهير لكفى في نصرتها والاستمساك بها
ونستطيع أن نأخذ على فريزر - فوق هذا - عنايته بالأمثلة وتعلقه بالحوادث الجزئية أكثر من بحثه عن القواعد الشاملة والقوانين العامة. وهذا نقد يصدق على مدرسة الاجتماع الإنجليزية الحديثة بأسرها التي قامت أعمالها أولا وبالذات على الرحلة والمشاهدة دون أن تعير النظريات والضوابط اهتماماً كبيراً، وقد جارها فريزر في هذا التيار. انظر أي كتاب من كتب سبنسر أو وسترمرك أو تيلور الاجتماعية مثلاً تجد أنك تنتقل من مشاهدة إلى مشاهدة ومن مثال إلى آخر، وقل أن تظفر بقضية عامة أو أصل ثابت. نحن لا ننكر أن هذه الطريقة أفادت علم الاجتماع مادة غزيرة وثروة طائلة، إلا أن هذه المادة لم تهيأ بعد للتغذية، وهذه الثروة لما تستثمر. هي مادة أولية (خام)، إن صح هذا التعبير، في حاجة إلى من يستخلص منها روحها وما حوت من أسرار. وقد فطن علماء الاجتماع الفرنسيون - وهم أبعد الناس عن السفر وأرغبهم عن الرحلة - إلى هذا النقص فكملوه، واستغلوا التجارب والمشاهدات الإنجليزية استغلالاً حسناً، وصاغوا المعلومات الاجتماعية في القوالب العلمية الحق. فإذا كان علم الاجتماع مديناً لرحالة الإنجليز والأمريكان بما فيه من مشاهدات جزئية وحوادث واقعية، فإن الفضل في كثير من نظرياته وقوانينه يرجع إلى المدارس الفرنسية
ومهما يكن فهناك نقطتان هامتان نخرج بهما من أبحاثنا السابقة في الخرافة، أولاهما خاصة بمصر والشرق في جملته، وتتلخص في أنه يسود هذه الديار قدر وفير من الخرافات أشرنا إليها سلفاً. فالخرافة متوغلة في كثير من معتقداتنا وعباداتنا، في عاداتنا وتقاليدنا، في آرائنا وأفكارنا. وليس معنى هذا أن أوربا خالية من أية خرافة؛ كلا فللغرب خرافات كما للشرق، والجمعيات على اختلافها لا تستطيع أن تتخلى عن مجموعة من الخرافات ترى فيها غذاء لميولها وأحلامها. ولكن مما لا شك فيه أن الخرافة وجدت بين ظهرانينا مرتعاً خصيباً فنمت وترعرعت. وما أجدرنا بأن ندرس خرافاتنا لنعرف أصلها ونشأتها وصلتها(120/19)
بالخرافات العالمية الأخرى؛ وبذا نستطيع معالجتها أو مطاردتها والتخلص منها. فخرافة (الزار) مثلاً ظاهرة اجتماعية تتطلب دراسة تاريخية مقارنة فيها كثير من بواعث السرور ووسائل التشويق. وما تخيرنا الخرافة بين الأبحاث الاجتماعية الكثيرة إلا لنلفت الأنظار إلى هذه الأرض الخصبة التي لم تستكشف وهذا العمل لم يبدأ فيه بعد
وقد لاحظنا من قبل إجماع بعض القبائل على اعتناق خرافة ما؛ وفي هذا ما يؤذن أن للإنسانية، وإن تنوعت بتنوع البيئة والوسط، تراثاً عاماً يأخذه الخلف عن السلف؛ وأن الإنسان المتحضر ليس إلا صورة مهذبة للإنسان المتوحش. نحن في كثير من آرائنا وعادنا وتقاليدنا عالة على من كان قبلنا، بل تكاد تكون شخصيتنا ونظام تفكيرنا من صنع القرون الغابرة. فلندرس إذن النظم الاجتماعية على ضوء التاريخ إن كنا نريد فهمها على وجهها الصحيح، لا سيما ونحن مخدوعون غالباً بما ألفناه. فكثيراً ما يلبس الشيء في أعيننا لباس العقل والمنطق في حين أنه يعتمد على أساس خرافي وأصل ضعيف. وكم من عمل عادي فردي أو جمعي نقوم به اليوم دون أن نعيره أية أهمية في حين أنه كان بالأمس ذا صلة بعقيدة خاصة أو عبادة محترمة. وقد تنبه علماء الاجتماع المحدثون إلى هذا فشرحوا لنا أموراً ما كنا نفكر في سردها وتعليلها. وعلى الجملة فالإنسانية أشبه ما تكون بشجرة ممتدة الأغصان مترامية الأطراف قد مرت عليها عصور طويلة وأجيال كثيرة، ولا يمكن فهم طبيعتها وفصيلتها والمؤثرات في ثمرتها إلا إن بدأنا بجذورها الأولى وعرفنا كيف نمت وتكونت
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة(120/20)
العامية والعربية أيضاً
ألفاظ صحيحة لم لا نستعملها؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لما فتح العرب مصر لم تكن العربية لغة البلاد، وإنما كانت لغة القوم خليطاً من المصرية القديمة والإغريقية والرومانية وغيرها، ثم أخذت العربية تحل محل هذا المزيج، وبدأت مصر بعد رسوخ الإسلام فيها تساهم بحظ في النشاط الذي كانت بغداد مصدره، على خلاف الحال في إفريقية الشمالية، حيث كان انتشار العربية بطيئاً جداً، حتى أنه - إلى القرنين التاسع والعاشر - لم تكن ثم دائرة أدبية تستحق الذكر إلا في القيروان بتونس، على حين كانت مصر قد صارت في القرن التاسع مركزاً لمدرسة تاريخ مستقلة في العالم الإسلامي. ومما ساعد على رسوخ اللغة العربية في مصر ونجاتها من العوامل التي كانت تحدث أثرها في هذه اللغة في آسيا، دخول الفاطميين وقيام دولتهم في مصر، فقد كانوا أنصاراً للعلم والثقافة، ومن أجل آثارهم هذا الأزهر الذي ظل بعد خراب نظائره في أسيا أكبر جامعة إسلامية، ولا يزال كذلك إلى الآن؛ فلا عجب إذا كانت عامية مصر أصح من عاميات الأمم العربية الأخرى وأقرب إلى الفصيح
وقد سقت أمثلة في فصل سابق، وإلى القراء طائفة أخرى من الألفاظ التي يتوهم الكثيرون أنها عامية، وهي صحيحة لا عيب فيها
فمن ألفاظ الطعام والآكال وما إلى ذلك:
النّشا - شيء يعمل به الفالوذج
القطائف - دقيق يعجن قريباً من الميوعة ويخمر ويحشى بالفستق وما إليه ويقلى
المُرَبَّي - معروفة
القَرَاصيا - الثمر المعروف
الزَّلاَبْيَةُ - حلواء معروفة
البَسيسة - دقيق يُلتُّ بالسمن ويؤكل ولا يطبخ، أو يطبخ
الكُرُنب، أو الكَرْنَبُ، والقُنَّبيط (تلفظه العامة قرنبيط) والخس، واللفت، والفجل، والكراث، والإسفاناخ، والفول، والحمص، والباذنجان، والعدس، والثوم، والرّجلة، والشبث،(120/21)
والجرجير، والسلق، واللوبيا، والقلقاس، والكرفس، والقرفة، والدّارصيني، والقرنفل، والكراويا - وهي جميعاً معروفة
قرّصت العجين - بسطته بالتقطيع لتجعله أرغفة
الفرن - ما ينضج فيه الخبز
الطابون - من طبن النار دفنها لئلا تطفأ، والموضع الطابون والعامة في مصر يؤنثون اللفظ
الرُّقاق والكعك - معروفان
قَشَشْتُ الشيء - أخذته بأجمعه
التمطُّق بالشفتين - أن تحدث صوتاً وأنت تضمهما وتفتحهما
الكوز - والجمع كيزان وأكواز
المسعور - الحريص على الأكل
الطبق - ما يؤكل عليه
الرائب - اللبن إذا خثر
الرُّوبة - الخميرة في اللبن
مَخْضُ اللبن - أخذُك زبده
تَجَبّن اللبن - صار كالجبن
الحالوم - الجبن الطري
العُلبة - معروفة
زهمت يدك - صارت فيها رائحة الشحم، والزُّهومة، ريح اللحم السمين إذا أخذ يفسد
ومن ألفاظ البيت التي يستعملها العوام وهي صحيحة:
الدهليز - ما بين الباب والغرف
الرُّواق - يستعمل في مصر للحجرة الكبيرة الواسعة
الصحن - وسط الدار
الرف - معروف
الكنيف - المرحاض(120/22)
الصفة في البناء - معروفة
الدكة - للقعود
الإسطبل - للدواب
الحارة والشارع والزُّقاق - معروفة
المصطبة - مكان للجلوس
المِدْماك - الصف من الَّلِبن في البناء
الطيّان - الرجل الذي يصنع الطين للبناء
البلاط - الحجارة تفرش بها الأرض
العتلة - حديدة طويلة تقلع بها الحجارة
الزيج، والأمام، خيط البناء
الرَّزَّةُ - حديدة يدخل فيها القفل
الخوخة - الكوة في الجدار أو في الباب
العريش - الظلة من شجر أو نحوه
الحصير - نسيج من القش معروف
النُّخ - بساط خشن معروف
المِخدة - الوسادة للرأس
المسند - الوسادة يُستند عليها
الخُرْجُ - جوالق ذو ناحيتين
الدُّرج - ما تحفظ فيه الأشياء الصغيرة
القنّينة - إناء للشرب
الشباك - النافذة
إن اتخاذ هذه الألفاظ وما إليها، في مواضعها، يمنع التكلف الذي يجعل اللغة غريبة، وينفي ما تقرر في النفوس من أن لنا لغتين: واحدة نكتب بها، والأخرى نستعملها في الكلام
ويأخذ الطريق على الذين يدعون إلى اتخاذ العامية لغة للكتابة، فإن كل حجتهم هي أن العامية هي لغة السواد، وأن العربية أجنبية، ومتى ثبت أنهما شيء واحد، فقد سقطت(120/23)
الحجة
وليس من همي الاستقصاء، وما أريد إلا أن أنبه إلى أن درس العامية واجب، وأن من العبث والتكلف الذي لا موجب له، أن نبحث عن ألفاظ وهي على ألسنتنا كلما تكلمنا
إبراهيم عبد القادر المازني(120/24)
النقد والمثال
للأستاذ أحمد الزين
تحدثت إليك في فصل سابق عن البيان اللفظي ومنزلته من الشعر، وأنه من أهم ما تتفاوت به الشعراء في مراتبهم، وتتمايز به درجاتهم، كما تحدثت عن الاختلاف بين لغة الشعر والكتابة والخطابة؛ واليوم أتحدث إليك في المعنى، فإن المعنى هو قوام الشعر، والعنصر الأول من عناصره، بل هو الشعر نفسه؛ وما حرصنا على تحسين الألفاظ وتجميل العبارات إلا ليظهر المعنى في صورة فاتنة تجعل القلوب أشد قبولاً له، وأقوى تأثراً به، وينطبع في أذهان الحفظة والوعاة، ويخلد على ألسنة الرواة؛ فلا ينال منه تعاقب الزمن، ولا تمحوه عوادي المحن؛ وتلك هي ميزة الشعر التي اختص بها من دون النثر، وإلا فقد كان النثر كافياً في تأدية المعنى وإفهام الغرض؛ وكما أن الأصوات الغنائية المعروفة الآن بالأدوار لا تعمل عملها في النفس إذا تليت على الأسماع كما تتلى الرسائل، وألقيت كما تلقى الخطب، بل لابد من جريانها على قواعد الفن الموسيقي الجميل، وأدائها بالصوت العذب الرخيم حتى تبلغ في النفوس أثرها، وتفعل في المشاعر فعلها، فكذلك المعاني الشعرية لابد في تأديتها من حسن الألفاظ، وعذوبة العبارات، وجزالة التراكيب، وقوة النسج واطراده، وما إلى ذلك مما سأذكره بعد في هذه الفصول، ليكون أثرها في القلوب أبلغ، وعملها في النزعات والميول أقوى؛ وكما أن سوء الطبع والتحريف، وكثرة الخطأ والتصحيف، وتعمية الخط، ورداءة الورق في بعض الكتب قد تذهب بما حوت صفحاتها من علم غزير وفضل كثير وبحوث دقيقة وأفكار عميقة، فلا غرابة أن يذهب سوء التأدية وضعف النسج والإبهام في العبارات، والإسفاف في الألفاظ، يما يريده الشاعر من أغراض سامية ومعان جليلة؛ بل إن الصلة بين المعاني والألفاظ أشد وأقوى من الصلة بين الألفاظ والكتابة، إذ المعاني لا تؤدَّى بدون العبارات، وقد تؤدَّى الألفاظ مشافهة بدون كتابة. وقد غفل أو تغافل أو عجز عن ذلك بعض الشعراء في عصرنا، فاعتبروا المعاني كل شيء في الشعر، على ما في معانيهم من الضعف والمسخ وسوء تناولهم إياها، وقصور شاعريتهم عن تحويل المعنى الأصلي إلى معنى شعري، وقلة خبرتهم بكيفية وصفها في الشعر، وما إلى ذلك مما سأحدثك به عند الكلام على المعاني؛ ولم يعنوا بالألفاظ أقل عناية، موهمين(120/25)
أنفسهم وغيرهم من قصار النظر أن بيان الألفاظ، وإشراق العبارات، ومتانة النسج، والبلاغة في الأسلوب، وإجراء الشعر على سنن الشعر العربي، أنواع من التزيين والتحلية والزخرف الذي مضى عصره، وانقضى زمنه، وذهب به العصر الجديد، ومحته آية التجديد؛ فملئوا الصحف والدواوين بشعر لا صلة بينه وبين الشعر العربي إلا الصلة العروضية في الوزن والقافية؛ علة أن بعضهم قد يتركهما مبالغة في التجديد، محتجاً بأن ذلك نوع من التقييد؛ على أنهم بعد أن أطلقوا الألسنة والقرائح من قيودها المزعومة، لم يأتوا بالمعجب المطرب في معنى ولا لفظ، ولم يبتكروا غريباً في تشبيه ولا خيال، ولم يخترعوا جديداً في تصوير عاطفة ولا إحساس؛ وإنك لتقرأ ديوان أحدهم من ألفه إلى يائه فلا تظفر منه ببيت يعلق بذهنك فتعيده، ولا معنى يملك لبَّك فتستجيده؛ وسبب ذلك يرجع إلى أنهم لم يقرءوا من الأدب العربي القديم ولا من علوم العربية ما يقوّمون به ألسنتهم، ولم يتعلموا من فحول الشعراء المتقدمين ما يهذبون به معانيهم قبل وضعها في قالبها الشعري، ويميزون به بين المعنى الشعري وغيره من معاني الكتابة والخطابة، فإنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق فني دقيق أن المعنى الواحد تختلف صوره باختلاف تأديته في هذه الصناعات الثلاث، وأن الشعر والكتابة والخطابة كما تختلف في ألفاظها وعباراتها تختلف في تصوير معانيها وأغراضها، فإن الخطيب لا يعمد في تصوير معانيه إلى خلودها على مر العصور، وبقائها محفوظة في الصدور، ولكن يقصد إلى نوع من الإثارة الوقتية يلهب بها حمية الجمهور إلى ما يريده من الأمور؛ فإذا فترت همم الجمهور بعد ذلك الموقف لجأ إلى خطبة أخرى وهكذا، ففن الخطيب فنٌّ وقتي لا فن خالد، ولذلك لم ينقل الرُّواة إلينا من خطب الأولين ومواقفهم في المخاصمات والمصالحات وفي حضرة الخلفاء والأمراء ما يوازي كله ديواناً واحداً من دواوين الشعراء، ولا مجموعة واحدة من رسائل الكتاب. أما الشاعر والكاتب فإنهما يقصدان في تصوير معانيها إلى خلودها وبقائها؛ والفرق بينهما أن قصد الشاعر إلى تخليد أثره أكثر، وحرصه على بقاء فنه أقوى، فهو يضع في معانيه وألفاظه من جمال التصوير وروعة الفن ما يرى أنه كفيل ببقاء شعره وحياته على الزمن
ولذلك كانت رواية الشعر أشيَع، وما نقل إلينا منه أكثر
وأيضاً فإن الكاتب والخطيب يبالغان في تقرير المعنى وتأكيده في الأذهان بإكثار الأمثلة(120/26)
وذكر الأشباه والنظائر إلى حدّ الاستقصاء أحياناً؛ أما الشاعر فيقتصر من ذلك على قدر الحاجة، فإن الشعر ضيق لا يحتمل ذلك الطول، بل يراه في بعض الأحيان نوعاً من الفضول. وثم فرق ثالث هو أن الخطيب يراعي في تصوير معانيه أن تكون سطحية بسيطة، قريبة الغور، سريعة إلى الفهم، فإنه يوجهها إلى عقلية بسيطة هي عقلية الجماعة؛ وكما أن هذه العقلية سريعة القياد، فهي سريعة الجموح، لا يؤمن نِفارُها؛ وما أقرب انصرافها وإعراضها عن الخطيب إذا رأت في معانيه ما يكلفها مشقة الفهم وعناء الفكر، ولذلك يعتمد الخطيب في خطبته على الصوت والإلقاء وملابسات الموقف أكثر من اعتماده على غرابة المعنى وعمق الفكر
أما الكاتب والشاعر فيغربان في معانيهما ما شاءا، ويتعمقان في ذلك ما أرادا؛ تلك هي بعض الفروق بين المعاني في الصناعات الثلاث؛ فإذا رأيت في إحدى هذه الصناعات بعض الميزات الغريبة عنها فهي مستعارة من غيرها لا أصلية فيها؛ ولا غرابة في أن ترى الشاعر خطيباً أو كاتباً في قصيدته، ولا أن ترى الكاتب شاعراً أو خطيباً في رسالته، ولا أن ترى الخطيب شاعراً أو كاتباً في خطبته؛ وإنك إذا قرأت شعر ابن الروميّ وجدت فيه كثيراً من تقسيمات الكتاب وتعليلاتهم والاستدلالات المنطقية، والاحتجاجات الملزمة للخصم، كقوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد
وقوله يخاطب صديقاً:
وقد حلفنا على الوفاء جميعاً ... واجتهدنا وذاك جهد المطيق
فبأي الأحكام توجِب تصدي ... قك حتما ولا ترى تصديقي
وبأي الأحكام قولك برها ... ن وقولي من خُلّبات البروق
ليس في العدل أن تحكم في قو ... لك فارجع إلى سواء الطريق
ما من الدعويين إن ضِقت دعوى ... غير محتاجة إلى تحقيق
ولنا إن رددت ما ندّعيه ... رَدُّ ما تدعيه، ضيقاً بضيق
وقوله يعاتب صديقاً لم يحفظه في مغيبه وعاب شعره:(120/27)
لي صاحب قد كنتُ آمل نفعه ... سبقت صواعقه إليَّ صبيبه
إلى أن قال:
نبئت قوماً عابني سفهاؤهم ... وشهدت مجلسهم وكنت خطيبه
عبوا وعبتَ بغير حق منطقاً ... لو طال رميك لم تكن لتصيبه
وهب القضاء كما قضيت، ألم يكن ... في محض شعري ما يجيز ضريبه
هلا وقد ذُوِّقت دَرَّ قريحتي ... فذممت حازرَه حمدت حليبه
بل هبْه عيباً لا يجوز، ألم يكن ... من حق ِخلك أن تحوط مغيبه
وديوانه مملوء بمثل هذا الشعر الذي هو أقرب إلى رسائل الكتاب منه إلى قصائد الشعراء. أما الكتاب الشعراء في نثرهم فمنهم المرحوم أحمد شوقي بك في كتابه أسواق الذهب، والزمخشري في أطواق الذهب، والقاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ في رسائله الكثيرة المملوءة بها كتب الأدب
أحمد الزين(120/28)
الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
شعر الشيعة
ورث علي بن أبي طالب بحكم مولده ومرباه مناقب النبوة، ومواهب الرسالة، وبلاغة الوحي، وصراحة المؤمن، وبسالة المجاهد، فأجمع الناس على إجلاله وكادوا يطبقون على حبه؛ حتى من كتب عنه من الأوربيين قد شاركوا المسلمين في هذه العاطفة، فقد قال فيه الكاتب الإنكليزي كارليل: (أما ذلك الفتى عليّ فلا يسعك إلا أن تحبه؛ ركب الله في طبعه النبل منذ الحداثة، وتجلى في خلاله الكرم طوال عمره، ثم طبعه على العمل ونفاذ الهمة وصراحة البأس، وآتاه سر الفروسية وجرأة الليث، وكل ذلك في رقة قلب وصدق إيمان وكرم فعال تليق بالفروسية المسيحية) ثم سار عليّ في خصومته وخلافته وسياسته على ضوء هذه الأخلاق، فما قارف الأثرة، ولا حاول الفرقة، ولا راقب الفرصة، ولا أثار العصبية، ولا استخدم المال؛ وإنما أخلص النية للعمرين، ومحض النصيحة لعثمان، وأعذر بالحجة لمعاوية؛ ولكن دنيا الفتوح كانت قد أخذت على عهده تتجاهل دين البساطة والزهد، ولم تعد السياسة الدينية وحدها قادرة على كبح النفوس المفتونة بمال معاوية في الشام، وثراء الرافدين في العراق، فانتشر أمره، وانصدعت خلافته، ثم قتل مظلوماً في محرابه؛ فكان محياه ومماته تاريخاً دامياً للفضيلة المعذبة والنفس المطمئنة الشهيدة. ثم ورّث بنيه وأهليه ذلك العزم الثائر وهذا الجد العاثر، فدب الموت للحسن سراً في كأس مذعوفة، وقتل الحسين قتلة لا يزال يرعد من هولها الدهر
وتلاحقت الفواجع الأموية فصرع زيد وقتل يحيى، وافتنَّت المنايا الرواصد في اختلاج بني عليّ، وهم يقابلون هول الغوائل الظاهرة والباطنة بالشجاعة والصبر والاحتساب، وحتى أسفرت حول وجوههم طفاوة من التنزيه والتقديس، وتخللت محبتهم قلوب المسلمين، ولا سيما الشيعة. فإن ندم هؤلاء على خذلانهم إياهم، وألمهم لما رأوا من اضطهادهم وأذاهم، رفعا في نفوسهم ذلك الحب حتى أشرفا به على مقام العبادة؛ ثم ظهر ذلك الحب في صور من العقائد: فقالوا بالوصية، وجعلوا الإمامة من أصول الدين، وحصروها في عليّ وبنيه، وطعنوا في إمامة الشيخين. ولم يتهيأ لهم السلطان، ولم تسعفهم القدرة، فاعتمدوا على(120/29)
استمالة القلوب وترقيقها بالبكاء والندب، وتصوير الآلام، وإعلان الفضائل، فاصطبغ شعرهم بالحزن العميق، والرثاء النائح، والمدح المبتهل، والعصبية الحاقدة. على أن هذه الخصائص لم تكن واضحة في شعر أوائل الشيعة وضوحها في شعر الأواخر منهم، فإن تغلغل الفكرة في أصل العقيدة، وتنكيل الحاكمين بآل البيت، واضطهاد الولاة للشيعة، إنما تدرجت قسوةً وقوة مع الزمن، فضلاً عن قلة شعراء الشيعة في هذا العصر لإفساد الأمويين الضمائر بالحديد والذهب؛ فشعرهم بدأ ولاءً صادقاً، ومدحاً خالصاً، وهجاء مراً، ثم اشتد فصار مفاضلة جريئة، ومعارضة شديدة، ومناقشة فقهية، ودعاية حزبية. ولعل ذلك يتجلى لك فيما ذكرناه وفيما سنذكره من الأمثلة. فمن التعبير عن العاطفة القوية الساذجة قول أبي الأسود الدؤلي:
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر لا تنسى عليّا!
ينو عم النبي وأقربوه ... أحبُّ الناس كلهم إليّا
أُحِبهمُ كحبّ الله حتى ... أجيء إذا بُعثت على هَويا
فإن يك حبهم رشداً أُصِبْهُ ... ولست بمخطئ إن كان غيّا
ومن المدح والمفاضلة قول أيمن بن خزيم الأسدي:
نهاركمُ مكابدة وصوم ... وليلكُم صلاةٌ واقتراء
أأجمعكم وأقواماً سواءً ... بينكُم وبينهم الهواء؟
وهم أرض لأرجلكم وأنتم ... لأرْؤسِهمْ وأعينهمْ سماء
ومن الهجاء قول ابن مفرغ الحميري:
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... مغلغلةً من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ... وترضى أن يقال أبوك زاني؟
فأشهد إن رحمك من زيادٍ ... كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها ولدت زياداً ... وصخر من سُمَيّة غير داني
وقول عبد الله بن هشام السلولي في يزيد بن معاوية:
حُشينا الغيظ حتى لو شربنا ... دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم ... تصيدون الأرانب غافلينا(120/30)
ومن المناقشة الجدلية قول الكميت في الخلافة:
يقولون لم يورث ولولا تراثه ... لقد شَركت فيه بجيلٌ وأرحبُ
ولا انتشلت عضوين منها يُحابرٌ ... وكان لعبد القيس عضو مؤَرّب
فإن هي لم تصلح لحي سواهمُ ... إذن فذوو القربى أحق وأقرب
فيالك أمراً قد تشتَّت جمعُه ... وداراً ترى أسبابها تتقضب
تبدلت الأشرار بعد خيارها ... وجُدَّ بها من أمة وهي تلعب!
ويكاد الكميت بن زيد الأسدي بقصائده الهاشميات يكون الشاعر الفذ لبني هاشم؛ فقد مدحهم واحتج لهم ودافع عنهم بلسان صادق واعتقاد خالص ونفس جريئة وقريحة سمحة. ولما أهدر هشام بن عبد الملك دمه لجأ على ما أُرجح إلى التَّقَّية في شعره على عادة الشيعة، فقال من كلمة يمدحه فيها:
فالآن صرتُ إلى أميّة والأمور إلى المصائر
يا ابن العقائل للعقا ... ئل والجحاجحة الأخاير
من عبد شمس والأكا ... بر من أمية فالأكابر
لكم الخلافةُ والألا - ف برغم ذي حسد وواغر
ومهما يقل الكميت فإن عاطفة شعراء الشيعة ستظل كما قلنا مكظومة بالطمع والخوف حتى تنبجس في عهد بني العباس نفثات غيظ، وحسرات حزن، وعبرات ألم، في شعر السيد الحميري، ودعبل الخزاعي، وديك الجن، ومطيع بن إياس، وأبي الشيص، والعكوّك، وأضرابهم
شعر الخوارج
وأما الخوارج - وجمهرتهم من البدو الجفاة والسذج - فقد قام أمرهم على الصلابة في الرأي، والمكابرة في القول والاشتطاط في الحكم، والتشدد في الدين، والغلو في العبادة، والقسوة في المعاملة، والاعتماد على الحرب. شايعوا عليّا وآزروه حتى قبل التحكيم، فقالوا له: حكّمتَ الرجال ولا حكم إلا لله! ثم خرجوا عليه وأبوا أن يرجعوا إليه إلا إذا أقر على نفسه بالكفر، ونقض ما عاهد معاوية عليه، فأبى عليهم ما سألوا، وأوقع بهم يوم النهروان، فزاد ذلك في حنقهم عليه وخلافهم له فائتمروا به واغتالوه. واستعرضوا أعمال الخلفاء(120/31)
وعقائد الناس، فخطئوا بعضاً وكفَّروا بعضاً؛ ثم ذهبوا إلى أن الخلافة تصح في غير قريش وفي غير العرب، وأن العمل جزء من الإيمان، فحرصوا كل الحرص على أداء الشعائر واجتناب الكبائر، ولاذوا بكور الجبال يدعون جهراً إلى مذهبهم دون مواربة ولا تقية ولا هوادة؛ فكانوا في الدين كما قال صاحبهم أبو حمزة الشاري: (أنضاء عبادة، وأطلاح سهر؛ قد أكلت الأرض أطرافهم، واستقلوا ذلك في جنب الله؛ فإذا كان الجهاد ورعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشاب منهم قُدُماً حتى اختلفت رجلاه في عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فإذا أنفذه الرمح جعل يسعى إلى قاتله ويقول: (وعجلت إليك ربِّ لترضى)
وكانوا مع هذا الورع الشديد والخشية البالغة يقسون على مخاليفهم، فلا يرحمون ضعف المرأة، ولا براءة الطفل، ولا شيخوخة الهرم، ولا وشائج الرحم، لأنهم - كما ظنوا - باعوا أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، فقطعوا أسباب الحياة، وأماتوا عواطف الدنيا، وقاتلوا وقُتلوا في سبيل هذا المذهب وتلك الغاية. وهم لصراحة بداوتهم، وشدة عصبيتهم، وخلوص عقيدتهم، وما تقتضيه دعوتهم من إدمان الحجاج والناظرة، أسلس الناس منطقاً، وأروعهم كلاماً، وأمتنهم شعراً؛ ولكن الشعر كان عندهم في المحل الثاني من الخطابة، لقيام أمرهم على الإقناع والجدل بآيات الله وأحاديث الرسول، وغناء الشعر في ذلك قليل. فإذا ما صمد الخارجي إلى الخصم، أو هجم على الموت، أو وقع في الأسر، جاشت نفسه بمتين الرجز، أو رصين القصيد، يضمنه وصفه للحرب، وولهه للقتال، وزهده في الحياة، واستخفافه بالموت، وشوقه إلى الشهادة، وظمأه إلى الجنة، في لفظ جزل وأسلوب قوي؛ وقلما يدور شعرهم على غير ذلك. فمن الرجز قول أم حكيم:
أحمل رأساً قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله
ألاَ فتى يحمل عني ثقله!
ومن القصيد قول معاذ بن جوين يحرض قومه وهو أسير:
ألا أيها الشارون قد حان لامرئ ... شرى نفسه لله أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ منكم يصاد ليُقتلا
فشدوا على القوم العداة فإنها ... أقامتكُم للذبح رأياً مضللا(120/32)
ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي ... إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا
فيا ليتني فيكم على ظهر سابح ... شديد القُصيري دارعا غير أعزلا
فيا رُب جمع قد فللت، وغارة ... شهدت، وقِرْن قد تركت مجندلا
وقول الطرماح بن حكيم:
لقد شقيتُ شقاءً لا انقطاع له ... إن لم أفز فوزة تنجي من النار
والنار لم يَنجُ من لهيبها أحد ... إلا المنيبُ بقلب المخلص الشاري
أو الذي سبقت من قبل مولده ... له السعادة من خلاقها الباري
وقوله:
وأمسى شهيداً ثاوياً في عصابة ... يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس من شيبان ألف بينهم ... تُقى الله نزالون عند الزواحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
وكقول قَطَرِي بن الفجاءة في يوم دولاب:
فلم أر يوماً أكثر مَقْعصاً ... يمج دماً من فائض وكليم
وضاربة خداً كريماً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطناً ... له أرض دولاب حميم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم
وقليلاً ما يجادل الخوارج بالشعر ويقارعون بالهجاء، لاعتمادهم في الجدل على الخطابة، وفي القراع على السيف. ومن هذا القليل قول بعضهم في الجدل وقد هزم أربعون منهم ألفين لابن زياد:
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ويقتلكم بآِسكَ أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هي الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
وقول عمران بن حطان في هجاء الإمام:
لله در المرادي الذي سفكت ... كفاه مهجة شر الخلق إنسانا(120/33)
أمسى عشية غشاه بضربته ... مما جناه من الآثام عُريانا
وما حمله على ذلك إلا أنه من القَعَدة لضعفه عن الحرب لكبر سنه فجاهد بلسانه
الزيات(120/34)
من نوادر المخطوطات
أثر أدبي فذ!
اختراع الخراع لصلاح الدين الصفدي
للأستاذ علي الطنطاوي
أطلعني على هذه الرسالة صديقي الشاعر الأديب السيد أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية العامرة بدمشق الشام، فرأيتها رسالة عجيبة، وتحفة أدبية غريبة، ورأيت فيها فناً من فنون الأدب العربي لا يعرفه الناس ودليلاً على بعد الغاية التي بلغها أدبنا، ورأيت فيها جمالاً ولذة، ووجدت فيها نفعاً وفائدة، فأحببت أن أتحف بها قراء الرسالة، فتكون لهم أفكوهة وللأدب خدمة، بتسجيل هذا الأثر الجميل من آثاره الضائعة في الرسالة (السجل الأدبي الخالد)
صلاح الدين، أبو الصفا، خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى سنة 764) أحد أئمة القلم والأدب في عصره، (مهر في فنّ الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألف المؤلفات الفائقة، وباشر كتابة الإنشاء بمصر ودمشق، ثم ولي كتابة السرّ بحلب، ثم وكالة بيت المال بالشام، وتصدى للإفادة بالجامع الأموي، وحدّث بدمشق وحلب وغيرهما. ذكره شيخه الذهبي في المعجم المختص، فقال: الإمام العالم الأديب البليغ الأكمل، طلب العلم وشارك في الفضائل، وساد في علم الرسائل، وقرأ الحديث وكتب المنسوب وجمع وصنف والله يمده بتوفيقه، سمع مني وسمعت منه، وله تآليف وكتب وبلاغة)
قال شيخ الإسلام التاج السبكي:
(خليل بن أيبك) الشيخ صلاح الدين الصفدي الإمام الأديب الناظم الناثر أديب العصر: ولد سنة 696 وقرأ يسيراً من الفقه والأصلين، وبرع في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وجمعاً، وعني بالحديث، ولازم الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تمهر في الأدب، وصنف الكثير في التاريخ والأدب. قال لي: إنه كتب أزيد من ستمائة مجلد تصنيفاً
ومن مؤلفاته الوافي بالوفيات ويكاد يكون أجمع كتب التراجم. ومن مؤلفاته المطبوعة نكث الهميان في نكت العميان، والغيث المنسجم في شرح لامية العجم، وجنان الجناس في(120/35)
الأدب، ودمعة الباكي، وتمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون (وهي غير الرسالة التهكمية التي شرحها ابن نباته) ووصف الهلال وغيرها
أما هذه الرسالة التي نتكلم عنها، فلم أجد من ذكر أنها له، ولكني لا أشك في أنها إن لم تكن له، فلن تكون إلا لأديب كبير، وعالم متمكن، ولغوي محقق، وهي في شرح بيتين من الشعر. . . شرحهما المؤلف شرحاً مستفيضاً، حلاه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية، والطرائف الأدبية، والآراء الفلسفية، وزينه بالحكم الباهرة، والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب. . . ولكنه - وتلك ميزة هذا الكتاب - تعمّد ألا يأتي إلا بما هو خطأ محرّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب، ممال به عن سبيل الحق: فلا بيت ينسب إلى صاحبه، ولا كتاب يعزى إلى مؤلفه، ولا مسألة تورد على وجهها، ولا بلدة توضع في موضعها؛ وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة، ولباقة وظرف، حتى أن الرجل ليتلوه فيحس لحلاوة ما يقرأ أنه لا يقرأ إلا حقاً وصدقا، وما فيه من الحق والصدق شيء
ولا يقدر على الخطأ الذي لا صواب فيه، إلا من يقدر على الصواب لا خطأ معه. يحتاج كلاهما إلى علم بمواقع الخطأ ووجوه الصواب، وانتباه وفطنة، واطلاع ومعرفة، كيلا يخلط خطأ بصواب، أو صواباً بخطأ. والرسالة على ما فيها من الهزل والتحريف، تدل على طول باع مؤلفها في علوم اللسان، وعلوم العقل، ووقوفه على آراء الفلاسفة، وآثار الأدباء، ومباحث العلماء، ولا تخلو من فوائد
وهي ناقصة من وسطها وآخرها، والموجود منها (53) صفحة، في كل صفحة (11) سطراً، مكتوبة بخط قريب من النسخي، مضبوط قليل الأخطاء، يدل على علم ناسخه. وليس في الرسالة تاريخ، ولكن ورقها من الورق الذي بطل استعماله من ثلاثة قرون، فكأنها مكتوبة في القرن التاسع أو العاشر
على الصفحة الأولى منها:
كتاب اختراع الخراع
تأليف المولى الأجل الفاضل
العلامة فريد دهره ووحيد(120/36)
عصره صلاح الدين أبي الصفا
خليل بن أيبك الصفدي
رحمه الله تعالى
للشيخ عبد الجواد:
بدا لابن أيبك في عصره ... كساد العلوم وخبث الطباع
وأن الأماثل قد أصبحوا ... هباء يطار بهم في الشعاع
وأن كثيراً كمالاتُهم ... دعاوى أحاديثها في انقطاع
فجرّ بأفعاله رأيهم ... وأتحفهم باختراع الخراع
وعلى الرسالة تعليقات لطيفة، وتنبيهات شريفة
وأول الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو خرافة، الهدّ القشيري، سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري، وأوْكار أفكاري، مع جماعة الخ. .
فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين الخ. . . وهما
لو كنت بكتوت امرأة جارية الفضل ... وكان أكل الشعير في البرد مَلْبَسكو
لا بدّ من الطّلوع إلى بئرك في ... الليل وظلام النهار متضحٍ اً
فأخذ الجماعة في الإعجاب، مما اتفق فيهما من اختلال النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، وخلاف أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ، وقضوا نهارهم بتعاطي كؤوس العجب من ذلك
فقال أحدهم: ألا إنهما محتاجان إلى شرح ينخرط معهما في سلك الغريب، ويبرز في مظهرهما العجيب!
فالتزم بعض من حضر الخ. . . وصبَّحهم وقد أعمل في الشرح حيلته. . . فقال:
حدثني نصير الدين أبو الهزايم ثابت، قال حدثني من كتابة أصيل الدين أبو المفاخر لقيط القطربي، وقيل القرطبي، قال أخبرني اجازة أسد الدين أبو ثور صقر الفنحكردي من أهل دمشق، قال: إن افتخار الدين سبكتكين القسهتاني صاحب زهر الآداب، قال: عارض هذين(120/37)
البيتين الأفوه الأودي أبو علي، على ما ذكره الحريري في الخطب النُباتية في قوله:
وإذا نظرت إلى الوجود بعينكم ... فجميع ما في الكائنات مليح
وهذا من قصيدته الطردية في التشبيهات، وأولها:
وأنت يا غصن النقا ... ما أنت من ذاك النمط
وزعم مؤيد الدولة أبو خاذل أيدكين الجواليقي، صاحب المديح المأموني، في كتاب الصادح والباغم، في باب المراثي أنهما من باب قول الثعالبي:
لو كنت شاهين جارية الف ... ضل وكان الحريم منزلك
لابدّ الخ. . .
وليس بشيء والصحيح الأول
قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً بالكلام على ما يتعلق بعروضهما، وسدساً بما يتعلق بعلم القافية
القول في اللغة:
قوله بكتوت: هو علم مركب من اللغة العربية والتركية، فبك بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما أمير توت مثل دمرطاس ومروان وقراحاً وما أشبه ذلك، ومن قال إن معنى ذلك بالعربية أمير النيروز فلا يتأتى له ذلك إلا إن كان النيروز في شهر توت على ما ذكره السخاوي في سمع الكيان
قوله امرأة: المرأة مشتقة من المرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهه إذا كانت في جيبه أعني السراويل، وكقول الأخطل:
ما أخذ المرآة في كفّه ... ينظر فيها للجمال المصون
إلا رأى الشمس وبدر الدجى ... ووجهه في فلك يسبحون
قوله جارية فيها قولان، منهم من قال: هي الساقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، واستشهد بقول الحطيئة:
نديمتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جارية
جارية أعينها جنّة ... وجنّة أعينها جارية(120/38)
ومنهم من قال هي في مقابلة المملوك، واستشهد بقول العكوّك:
أيا بديع الجمال رقّ لمن ... ستر هواه عليك مهتوك
دموعه في هواك جارية ... وقلبه في يديك مملوك
وهذا باطل ببديهة الإنسان
قوله الفضل: هو كل شيء ناقص، ومنه سمّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً، وفي أمثال بزرجمهر لأمر ما جدع قصير أنفه. قال التلعفري:
ضعاف الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
قوله كان: معلوم أنها للاستقبال وسيأتي الكلام عليها في الإعراب
قوله أكل: هو الحالة المؤدية إلى الجوع لمن هو شبعان الخ. .
قوله الشعير: معروف أنه من فواكه الآدميين؛ ولا يوجد إلا في جزرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً. قال ابن الساعاتي:
جارية لم تأكل المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا
ومن استشهد في هذا بقول ابن الفارض يصف رجلاً من الأكراد كوسجا:
إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالي معروفة للحمير
علق الله في عذاريك مخلا ... ة ولكنها بغير شعير
فليس من التحقيق في شيء والمعنى على الأول
قوله البرد: هذا معروف أيضاً عند الأساكفة في الشام وأظنه نوعاً من الأطلس الحريري. قال امرؤ القيس في معلقته الطائية:
قالوا حريراً كان وجه حبيبه ... ونرى مسوح الشعر فوق الأطلس
جهلوا معاني حسنه مع علمهم ... أن الحرير كماله بالقندس
ومن قال إنه نوع من العديني وأنشد الخ. . فليس بشيء لأن العديني نوع الخ. . والأطلس إنما هو فلك القمر خلافاً لأبي تمام فإنه في الخطب النباتية زعم أنه الفلك الذي له الحركة القمرية الخ. . وهذا رأي المشائين. والرواقيون خالفوهم والعمدة في اللغة على أقوالهم (إلى أن قال):
لابدّ: البد معلوم، وهو صنم يعبده اليهود في النوبة. قال بعض شعراء الجاهلية:(120/39)
من قال لابدّ منه ... فمنه لي ألف بدّ
وقال النابغة:
دعوه يبلي فؤادي ... لا خفَّف الله عنه
كم لمت قلبي فيه ... فقال: لابدّ منه
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(120/40)
من تراثنا الأدبي
2 - أبو العيناء
بقلم محمود محمود خليل
تحدثت في مقالي السابق عن إسراف أبي العيناء في هجاء الناس، حتى لم يسلم منه أحد من عظيم أو سوقة، وقلت إن هناك عوامل أثرت في حياته، حتى جعلته سليط اللسان وقد آن أن أتحدث عن تلك العوامل:
(1) الوراثة وقد تعرضت لها فيما سبق بحديث مستفيض، فلا حاجة بي الآن إلى تكرار القول فيها
(2) نشأته فقيراً، وطالما كان الفقر وهو مثير الأضغان والأحزان منبعاً للنبوغ والذكاء، ونجد فقره هذا اضطره فيما بعد إلى الارتحال من منبت نشأته وهو البصرة إلى بغداد طلباً لعطايا الخلفاء والوزراء، وكل أحاديثه مع الكبراء تنبئنا بفقره المدقع، فقد دخل مرة على عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير فضمه إليه، فقال له أنا إلى ضم الكفاية أحوج مني إلى ضم اليدين. وقال له مرة أنا معك مغبوط الظاهر موجود الباطن كما قال أبو الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... إني بما أنا باك منه محسود
وقال لعبيد الله بن يحيى: مسّنا وأهلنا الضر، وبضاعتنا الحمد والشكر، وأنت لا يخيب عنده حر
وسواء كان هذا الكلام منه من أساليب الاستجداء الذي اشتهر به أو من شدة الحاجة كما يقول، فقد عاش أبو العيناء في حياته كلها سواء منها المدة التي قضاها في البصرة أو المدة التي عاشها في بغداد في ضنك من العيش وشدة، وتلك حياة كثير من الأدباء والكتاب في عصره، حتى كان الانتساب إلى الأدب طالع سوء على محترفيه، اللهم إلا نفراً قليلاً من الأدباء الذين أتاح لهم القدر أن يصلوا إلى مرتبة الوزارة أو القضاء، وغفلت عنهم عين الزمان كما يقولون، كالفضل بن سهل وأخيه الحسن والفضل بن الربيع وابن الزيات ويحيى بن أكثم وأحمد ابن أبي دؤاد وغيرهم، وما عدا هؤلاء فكانت حياتهم تتوقف على العطايا التي ينفحهم بها أرباب المناصب في الدولة؛ وكثيراً ما كانت تضيق أمامهم سبل(120/41)
العيش، وتضطرهم الفاقة إلى الاستكانة والذلة، ولا سيما إذا راعينا رجلاً كأبي العيناء وهو مكفوف البصر، رثينا لحاله التي كان فيها، وانتحلنا له عذراً في استطالته بلسانه على الكبراء، فإنه لا يملك غيره، وهو سيفه الوحيد الذي كان يناضل به في حياته عن عيش الكفاف الذي كان يبتغيه في دنياه كما يقول ذلك لعبيد الله بن سليمان
(3) وثالث العوامل التي غيرت مجرى حياته فقد بصره، ولم يحدثنا الرواة أحصل له ذلك الحادث في حياته البصرية أم في حياته البغدادية، وإني أرجح أن ذلك كان في حياته البصرية قبل أن ينتقل إلى بغداد، فإن أحاديثه جميعها التي نقلت عنه وهو ببغداد تنبئنا أنه كان أعمى يقوده غلامه
ويظهر أن هذا الحادث قد أثر فيه تأثيراً كبيراً فجعله ساخطاً على الحياة، يتناول الناس بقوارص الكلم. قال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس، قال: إن لي في بصري لشغلاً عن الوقيعة فيهم، قال ذلك أشد لحيفك في أهل العافية. فانظر إلى حيفه في أهل العافية الذي يذكره له المتوكل، أما كان هذا أثراً من آثار فقد بصره؟ وشكا مرة إلى صديق له سوء الحال وفقد البصر، فقال له اشكر فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية. قال: أجل ولكن بينهما جوعاً يقلق الكبد، ويفقد الرشد
لم يتخذ أبو العيناء سخطه على الحياة مذهباً فلسفياً له كما اتخذه شاعر المعرة من بعده، ولم يؤدّ به هذا السخط إلى الزهد والتقشف كما فعل ذلك أبو العلاء، وإنما كان سخطه مقصوراً على حزنه العميق الذي خالج فؤاده لفقد بصره
صفاته وأدوار حياته:
إذاً فقد اجتمعت عوامل ثلاثة أثرت في حياته: الوراثة والفقر وفقد البصر، حتى جعلته سليط السان حاضر البديهة متوقد الذكاء؛ ولقد تزود في حياته البصرية من آثار الوسط الذي كان يعيش فيه بما يصلح لمجالس الملوك والأمراء ومنادمتهم بأحاديث وطرف ونوادر، ثم رحل إلى بغداد بعد أن ضاقت به سبل العيش في البصرة؛ ولقد ذمها للمتوكل حينما سأله عنها فقال: من أين أنت؟ قال من البصرة. قال له: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم
تزود بتلك الرواية الواسعة واشتهر مع هذا بالجواب المسكت والمراسلات العجيبة(120/42)
والجواب السريع والطبع الفكه والحجة الداحضة، والبديهة المتوقدة. فكانت تلك المظاهر معينة له على الحياة التي أقدم عليها ببغداد. فمن ذلك أن بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو مت لرقص الناس طرباً وسروراً! فقال بديهةً:
أردتَ مذمتي فأجدت مدحي ... بحمد الله ذلك لا بحمدك
فلاثك واثقاً أبداً بعمد ... فقد يأتي القضاء بغير عمدك
ثم قال: أجل. الناس قد ذهبوا فلو رآني الموتى لطربوا لدخول مثلي عليهم، وحلول عقلي لديهم، ووصول فضلي إليهم، فما زال الموتى يغبطونكم ويرحمونني بكم. وخاصم أبو العيناء يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وأنت تقول كل يوم: اللهم صل على محمد وآل محمد! قال لكني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم. ووقف عليه يوماً رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا؟ قال رجل من بني آدم، فقال مرحباً بك! أطال الله بقائك، ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ولقيه بعض أصحابه في السحر فجعل يتعجب من بكوره، فقال له: أراك تشركني في الفعل وتفردني في التعجب! وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قال إن جماعة من الكتاب يلومونك. فقال: -
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها
وغير هذه الأحاديث كثير تستطيع أن تقرأها في كتب الأدب. وتلك البديهة الوقادة والأجوبة المسكتة هي التي جعلت الحصري صاحب زهر الآداب يقول: كان أبو العيناء أحدَّ الناس خاطراً وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جواباً، وأبلغهم خطاباً. ولقد كان أبو العيناء يجالس في حياته البغدادية الخلفاء والكبراء فيطرفهم بأحاديثه وفكاهته، فكان سلوة لهم في مجالسهم وزينة في محاضرهم على ما فيه من حدة اللسان
انتقل أبو العيناء إذاً من البصرة إلى بغداد بعد أن تمت له الثقافة التي أرادها، والبلاغة العكاظية التي امتاز بها، وتلك حال كان يشترك معه فيها كثير من أدباء عصره، إذ كانت بغداد مركز الخلافة الإسلامية يرحل إليها الأدباء والعلماء، ويبتغون فيها صلات الملوك والأمراء، وقد يصل بعضهم إلى أن يرتب له الخلفة من بيت المال رزقاً يجري عليه. ويظهر أن أبا العيناء كان من أولئك النفر كما تدل عليه أحاديثه ولا سيما إذا لاحظنا أنه من(120/43)
موالي الخلفاء العباسيين، فكان بلا ريب له دالة عليهم جعلته في مأمن من تلك الحزازات التي كانت في صدور كثير من الحاشية، والتي سبّبها أبو العيناء ببذاءة لسانه، وتطاوله على أعراض الناس
حياته البغدادية:
يقول الرواة إن أبا العيناء ولد في آخر المائة الثانية وتوفي سنة 282 أو سنة 283هـ فمن ثم يكون قد أظلته خلافة المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد وصدر من خلافة المعتضد بالله الذي تولى سنة 279 وتوفي سنة 289هـ. ولقد كانت الحياة البغدادية في عصر أبي العيناء كلها ترف ولذة، يسودها المجون والخلاعة، ويروج فيها العبث واللهو، وقد روى لنا المؤلفون كثيراً من مجالس لهوهم ومنادمتهم على الشراب، ومساجلات الشعراء في خلواتهم، وأحاديث المجان في طربهم، وإني أعتقد أن الخليفة الذي تمتع بملذات الحياة، وأنال نفسه ما تبتغيها حقاً، من خلفاء العباسيين هو المتوكل على الله، فهو أول من أظهر من خلفاء بني العباس الانهماك على شهوته، فأسرف في بناء القصور، وعكف على الشراب ولم يبال باللوم، ولقد جنى ثمرة رفاهية الدولة، وإن شئت فقل إن الدولة قد بلغت في أيامه ذروة العظمة، وكان لابد لها من بعده أن تضعف حتى تنمحي، ولكل شيء إذا ما تم نقصان. ولقد حدثنا التاريخ أنه قتل في قصره، وأن الأمور من بعده اضطربت اضطراباً شديداً بسبب المعول الهادم الذي أوجده المعتصم وهو الجنود الأتراك، ولم يظهر استبدادهم وشرهم حتى بلغت الأمور غايتها ثم ظهر الفساد بعد عصر المتوكل
اتصل أبو العيناء بالمتوكل اتصلاً شديداً، وسنعلم إلى أي حد أثر فيه هذا الاتصال، ولم يقتصر اتصاله بالخلفاء على المتوكل وإنما اتصل بغيره كما اتصل به، ولكن المتوكل هو الذي رفع له الحجاب، وجعل يصغي لأحاديثه، ولقد بهره منه تلك البديهة الحاضرة، وذاك الذكاء الوقاد، حتى رأيناه يمزح معه في كثير من مجالسه، ويرفع الكلفة بينه وبينه
ويظهر من أقوال الرواة أن أبا العيناء حينما ارتحل إلى بغداد كان الخلفة المأمون على رأس الدولة فاتصل به وعرف وزيره الحسن بن سهل وأخذ منهما الصلات والعطايا، ولقد أثر ذلك المعروف في نفسه حتى قال لما بلغه موت الحسن بن سهل: والله لئن أتعب(120/44)
المادحين، لقد أطال بكاء الباكين، والله لقد أصيب بموته الأنام، وخرست لفقده الأقلام. وخبر آخر قال أبو العيناء: حصلت لي ضيقة شديدة فدخلت يوماً على يحيى بن أكثم فقال إن أمير المؤمنين جلس للمظالم وأخذ القصاص فهل لك في الحضور؟ قلت نعم ومضيت معه، فلما دخلنا أجلسه وأجلسني ثم قال يا أبا العيناء بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ فأنشدته:
لقد رجوتك دون الناس كلهم ... وللرجاء حقوق كلها تجب
إن لم أكن لي أسباب أعيش بها ... ففي العلا لك أخلاق هي السبب
فقال لغلامه: انظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين، فقال بقية من مال، قال فادفع له منها مائة ألف وابعث له بمثلها في كل شهر. فلما كان بعد أحد عشر شهراً مات المأمون فبكى عليه أبو العيناء حتى تقرحت أجفانه، فقال له بعض أولاده يا أبتاه بعد ذهاب العين ماذا ينفع البكاء. فقال:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
(يتبع)
محمود محمود خليل $ 2(120/45)
شوقية لم تنشر
مراقب الصحف بالآستانة
للمغفور له أحمد شوقي بك
لنا رقيب كان ما أثقله ... الحمد لله الذي رحّلهْ
لو ابتلى الله به عاشقاً ... مات به لا بالجوى والولَهْ
لو دام للصحْف ودامت له ... لم تنج منه الصحف المُنْزله
إذا رأى الباطل غالى به ... وإن بدا الحق له أبطله
لو خال (بسم الله) في مصحف ... تغضب (تحسيناً) محا البسمله
وعزة الله بلا (عزتٍ) ... لا تنفع القاري ولا خردله
جرائد الترك على عهده ... كانت بلا شأن ولا منزله
إن تذكر الخنجر لفظاً تُصِبْ ... من شدة الذعر به مقتله
وإن تصف قنبلة لم ينم ... من هول ذكرى حادث القنبله
الشر بالشر فيا قوم لا ... إثم إذا راقبتموه منزله
فحاصروا الأبواب واستوقفوا ... من أخرج الزاد ومن أدخله
إن كان في السلَّة تفاحة ... ضعوا له موضعها حنظلة
أو جيء (بالشرشر) له فاملأوا ... مكانها من علقم جردلة
أو اشتهى الأبيض من ملبس ... قولوا له الأسود ما أجمله
ذلك يا قوم جزاء امرئ ... كم غيرَّ الحق وكم بدَّله(120/46)
خطرات
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
- 1 -
اكْدَحْ لدنياكَ اكْدَحِ ... وبالملذات افرِح
وامرح فما خُلِقتَ في ال ... أرض لغير المرح
دع الهمومَ جانباً ... وللمسرّات اجنح
وربما وجدتَها ... في جرعة من قدح
فقد تكون مُمْسياً ... في اليوم غير مُصبح
وإن خُلِقتَ شاعراً ... فقل ولا تمتدح
كل الذنوب إن صرف ... تَ النفسَ عنها تنمحي
- 2 -
الناس تحيا بالمُنى ... فما لها عنها غِنَى
لولا المنى ما عشتَ أن ... تَ هادئاً ولا أنا
لا تَدْلَهِمُّ أنفسٌ ... لها من المُنى سَنا
ولا يَرى ذو اليأس ما ... أمامَه وإن رنا
اليأس نارٌ تحرق الر ... وح وتفني البدنا
وتجعل العمرَ قصي ... راً وتُطيل الشجنا
أمِّلْ حياةً كلها ... طيبٌ هناك أو هنا
- 3 -
مَن يعتقد بنحسه ... فهو عدوُّ نفسه
خير الفتى وشرّه ... كلاهما في رأسه
إن الفتى بسؤله ... ينشط لا بيأسه
وذلُه في جبنه ... وعزهُ في بأسه
وربما عرفت ما ... نسيجُه من لمسه(120/47)
يرجو الفتى ألا يكو ... ن يومُه كأمسه
قد درّسته نفسُه ... فليستفد من درسه
- 4 -
يا نفس لا تنخدعي ... بالزاهد المنقطع
دنياكِ هذي تحتوي ... على النعيم أجمع
تنعّمي بخيرها ... قبل دنوّ المصرع
وبالحياة ما صفت ... تمتعّي تمتّعي
لكل بابٍ تحسبي ... ن الخيرَ خلفه اقرعي
وانتهزي الفرصة قب ... ل فوتها وأسرعي
بالبسمات تبلغي ... ن السؤلَ لا بالأدمع
- 5 -
مصيبتي في الهرم ... فإنه امتصَّ دمي
لم يبق مني غير جلْ ... دٍ ذابلٍ وأعظُم
وغير نفسٍ قد تربَّت ... ني فيا نفسُ أسلمي
وغير ما أقوله ... عند الأسى من كَلِم
صعبٌ عليّ السيرُ من ... ضوء الضحى للظلم
إني أرى الموتَ أما ... مي ماثلا من أمَم
مَن ضامنٌ ألا يكون ... ن الشيخ بالمنهدم
- 6 -
انظر إلى الزواهر ... يسبحن في الدياجر
تلك شموسٌ قد بعدْ ... ن عن عيون الناظر
لا تنسَ ما بين نجو ... م الليل من أواصر
فكلها مؤلَّفٌ ... من كهرباء ثائر
ما أقدم الوجودَ فَهْ ... وعنصر العناصر(120/48)
فما له من أوّل ... ولا له من آخر
بلى لكونٍ فيه نح ... يا سندٌ من قادر
- 7 -
أهْدِ إلى الشمس القبَلْ ... فإنها بنتُ الأزَلْ
وحَيِّهَا عند شرو ... قها وحَيِّ في الطَّفَل
قد عُبِدت من الأنا ... م في قرونها الأُوَل
منها الحياة والرخا ... ء والسرور والجذل
والأرض لولاها خلت ... من الحياة والعمل
والشمس أمُّ الأرض وال ... خطبُ إذا زالت جَلل
توغِلُ في هذا الفضا ... ء الرحب من غير وَجَل
بغداد
جميل صدقي الزهاوي(120/49)
بعد الأخاء والعداء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
حنوت على الود الذي كان بيننا ... وإن صَدَّ عنه ما جنينا على الود
حنوت ولو أني حنوت وما حنا ... ولو أنه يبغي هلاكي من الحقد
ولا أكذِبَنَّ الناس قلبي كقلبه ... له آنة ميلٌ عن النصف والقصد
كلانا جنى شراً فعاد إخاؤنا ... محالاً حكى ذكرى الشباب على بُعْدِ
فيا طيب ذكراه وما بُعْد عهده ... وأين قديم الود من حاضر الصد
مضى حيث يمضي عابر بعد عابر ... من الأهل والأصحاب والذخر والولْدِ
مضى حيث يمضي كل رأي ومذهب ... له أجل كالناس ظعن بلا عَوْدِ
إذا أنا أُنْسِيتُ الإساءة من أخ ... ذكرتُ له مني إساءة ذي عمد
وأيقنت لا ينسي عدائي وما جنى ... عدائي عليه من عناء ومن جهد
أيلتئم الصخران في اليَمِّ بعدما ... تردد موج اليَمِّ بالصدع والهد
ويتفق الخِلاَّنِ من بعد ما بدت ... به بغضة من مين قول ومن نقد
وكنا على ما كان من قرب أنفس ... كنهرين في وادي الغضارة والورد
قد اقتربا مجرى وماءً وعسجدا ... من الشمس لألاءً كلألأة الود
حياة شبابٍ عسجدٍ أيَّ عسجد ... وعهد إخاء لا يغيض ولا يُكْدِي
إلى أن دعا داعي الحياة وإفنها ... فمال بنا قصد السبيل عن القصد
وغَيَّرَ منا القلبَ والنفسَ والمُنى ... وزاد طماحُ النفس بعداً على بعد
هو البغض مثل الحب لحظ فمنطق ... فنار لها بين الأضالع كالوقد
وإن كنت تدري الحب كيف طروقه ... ولم تدره أيقنت ما جاء بالحقد
فيا ليت أني قد غفرت جفاءه ... ونَبْوْتَهُ حتى يصد عن الصد
ويذكر لي صبري على الضيم والأذى ... فيأسى على ما كان منه من الكيد
وَتكْسِبني منه الندامة أُلفة ... وإن كان لي من قبل كالحجر الصلد
أعيش بصفو منه يوماً فإنْ جنى ... على إثْرِهِ غدراً ذخرت له ودي
وأُذْكِرُ نفسي منه عند انصرافها ... شمائل تستدعي المَغِيظَ إلى الحمد(120/50)
أبَعْدَ بلائي العيش أبغي مُبَّرأَ ... وكيف ونفسي لي كما الضد للضد
يروقك حسن الفجر والنجم في الدجا ... ومرأى رياض من عرار ومن ورد
وَأحسن منها البشر وجه صاحب ... حليفك منه ما استسر ولم يُبْدِ
فيا ليت لي دنيا أبيع حطامها ... بود أخٍ لو يشتري الود بالنقد
إذا الحب لم يخلص من البغض والأذى ... فكيف خلاص الود من عنت الحقد
وخِلاَّننا مثل الجوارح أيهم ... فقدنا فبعض النفس في ذلك الفقد
أحقٌ طِلاَبُ الود من نقص طالب ... إذاً قَمِنٌ نشدانك الود بالحمد
لتكمل بالخل الذي أنت ناشد ... كما كَمُلَ النصفان تجمع في العد
ويا طيب قلب غره الود حقبة ... كما عظُمَ المخدوع بالفضل والمجد
وإنك لا تدري أقلب مراوغ ... أسرُّ أم القلب المُغَرَّرُ بالود
وإنَّ وداد المرء من بعض غنْمِهِ ... ولو أنَّ مخلوف الوفا غاض لم يُجْدِ
تعيش بمخلوف الرجاء وكذبه ... فَطَامِنْ فإن الود يا قلب لم يُرْدِ
رحيق الحياة الود لو دام صفوه ... - وكالخمر - أصفاه المُعَتَّقُ ذو العهد
وأحسنه ما كان من عصرة الصِّبى ... ولم يَحْلُ بعد الشيب مُستَحْدَثُ الود
فمن لي بعود الدهر للود والصِّبَى ... أليفين ما كانا كما الند للند
يخال الصِّبَى ودا وود الصِّبَى صِبىً ... كيانهما الممزوج كالجوهر الفرد
وإن فقير الناس من خان خِلُّهُ ... وإن نال حظاً من طريفٍ ومن تلد
أأبغي إخاءً لم تَشُبْهُ عداوةٌ ... وأنقم عفو الغدر أو غدرة العَمْدِ
كأنَي لم أدرِ الأنام وخُلقه ... ولم أدْرِ أن الضد يولع بالضد
أَبَعْدَ فراغي من جنازة ودنا ... أروم خلود الود من عادم الخلد
متى أرتضى الخلان صحوا وغيمة ... فأمنحهم غيثي وأمنعهم رعدي
أُغالط نفسي فيهمُ وأغرها ... وإن لاح منهم غدر أعْدَائي اللد
وأكتم من آلام نفسيَ عزةً ... إذا لم يُتَحْ لي ما أُزيل به وجدي
فيا ساقِيَ النسيان عاطِ صحابتي ... وهات لِيَ النسيان رفداً على رفد
وهيهات ما أمر إذا جد جده ... ليُنْسَى ولو واروه في مُشْبِهِ اللحد(120/51)
إذا انفلت السهم الطليق فما له ... ولو أنه سهم النميريِّ من رد
ويعجز هذا الدهر عن نقض فعله ... ألاَ وهو الدهر المصَرِّفُ ذُو الأَيْدِ
عبد الرحمن شكري(120/52)
في الأدب الإنجليزي
4 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
وكان من السائد في ذلك العصر أن هذه الطائفة من المخلوقات سرمدية أزلية، فكثيراً ما يطلق شكسبير على الناس لقب الأحياء الفانين بينا هو لا يعرض لهن بشيء من ذلك. وقد يجعلن من الرجل أداة للهزء والسخرية فيلقبنه بألقاب عدة أهمها أنه حي زائل وليس بباق. فالملكة تيتانيا تطلب من بطانتها ووصائفها أن يعاملن بلطف ذلك المخلوق الزائل بوتوم ولهذه المخلوقات زيادةً على ذلك خاصية الاختفاء والظهور للبشر، فهي كالفقاعات الهوائية التي لا تظهر للناس حتى تزول ولا يمكن عند ذلك معرفة الجهة التي اختفت فيها أو تمييزها.
وفضلاً عما تقدم كانت لهن صفات أخرى أهمها خاصية التشكل والظهور بصور عدة، وقد صور إبيرون لنا نفسه بقوله: (سأكون في وقت ما حصاناً فأصهل، أو كلباً فأنبح، أو قوقعة فأنعق، أو دباً فأقهقع، أو ناراً فأحترق). وخاصية السرعة والنشاط فهنّ أسرع من القمر، وفي استطاعتهن الدوران حول الكرة الأرضية في مدة لا تتجاوز الأربعين دقيقة. وقد افتخر روبن هود بسرعته وتحدى الآخرين قائلاً (انظروني أذهب بسرعة لا تدانيها سرعة السهم وقد انطلق من قوس التتري)
وأهم ما نراه مشتركاً بين الجنيات هو ميلهن إلى الموسيقى وفنه فلا يطربن للسماع فقط بل خلقن وقد لازمهن هذا الفن وهذه الموهبة النادرة ملازمة تامة. وما جزيرة العاصفة الخرافية إلا مكان تسوده الموسيقى والأصوات العذبة مما جعل للمكان روعة ساحرة خلابة. فكثيراً ما كانت تسمع أصوات آلاف الآلات الموسيقية منتشرة في الجو انتشاراً لا يضاهيه انتشار الروائح العطرية المختلفة ولم تقتصر هذه الموهبة على الموسيقى فحسب بل تجاوزتها إلى الرقص، فنرى الملكة تيتانيا تأمر بطانتها وجواريها (أن يخترن من الينابيع وجداول الأنهار وشواطئ البحار أمكنة ليقمن فيها حلقات الرقص والموسيقى)(120/53)
وآخر هذه الميزات التي اشتهرت بها الجنيات هي ميزة حماية القبور والأضرحة. فكن يقمن بأعمال ما يسمونه الملاك الحارس. ولا تقتصر مهمتهن على تسلية الميت بل تتعداها إلى حفظه سليماً من الحشرات معافى من الجراثيم. ونرى هذه الخاصية بوضوح في رواية سمبالين إذ يقول (ستقوم نساء الجنيات بحراسة قبره من الحشرات)
أم وقد انتهينا من هذه الصورة الرائعة التي صورها لنا شكسبير فيجدر بنا أن ننظر أكان موفقاً في تصويره أم غير موفق. قال جبسن يصف هذه المحاولة: (إن صورة الجنيات في روايات شكسبير تمثل لنا المرح والسرور والنية الطاهرة ممتزجاً بعضها ببعض تحددها المحاولات الضئيلة التي يقصد منها إيقاع الضرر بالناس. ولا يقصد الشاعر من هذه الصور إلا تسلية قراءه فقط غير محاول إظهار عقيدته الحقيقية، وما هي إلا مخلوقات هوائية تحلق في الفضاء مرفوفة أمام أعيننا)
لا يسهل علينا أن ننكر قط هذا الجمال الظاهر في هذه الصورة النادرة. فقد نجح شكسبير أيما نجاح في إبرازها إلى حيز الوجود بلباس رائع من المرح والسرور؛ ولقد صدق جبسن في وصفه السابق لهذه الصورة من ناحية واحدة وأخطأ في ناحية أخرى، فلقد حكم أن شكسبير لم يقصد منها إلا تسلية قرائه غير معبر عن أية عقيدة من عقائده. وحسبي أن أقول معارضاً هذا الرأي أنه ليس في استطاعة أي شاعر أو كاتب أن يصف عقيدة من العقائد كهذا الوصف الدقيق المسهب دون أن يكون له أدنى تفكير وإيمان بالعقيدة نفسها. فقد اعتقد شكسبير بوجود الجنيات وسمع ما كان يدور على ألسنة أهل عصره من قصص وأساطير جلاها في رواياته مرتدياً رداء من الخيال الواسع والابتكار البديع
الساحرات
من الصور الغيبية التي رسمها شكسبير بدقة تأتي صورة الساحرات في الدرجة الثانية؛ فلم يقتصر ذكرهن على رواية واحدة من رواياته؛ بل تعدتها إلى عدد من الروايات لا يقل عن التي تبحث في الجنيات أهمية وعدداً، ولكنه اختص إحدى هذه الروايات ببحث مسهب مستفيض جعلها قاصرة على هذا النوع من المخلوقات الغيبية، وهذه الرواية هي التي يعدها كثير من النقاد والأدباء أحسن ما كتبه الشاعر ألا وهي رواية مكبث
أما ساحرات شكسبير فيقسمن إلى طبقتين مختلفتين: أولاهما طبقة الساحرات البشريات(120/54)
اللواتي يوصفن عادة بالذبول. وثانيهما طبقة الساحرات العلويات أو الغيبيات اللواتي امتزن عن أخواتهن بميزات أرقى وأهم
يذكر شكسبير ساحراته الأرضيات في كثير من رواياته العديدة حيث يكون لهنّ شأن ضئيل في مجرى الرواية وهيكلها. فهو يذكر في رواية هنري السادس إحدى هؤلاء الساحرات على لسان تالبوت حيث يقول: (إن بوسيل تلك الساحرة الملعونة قد سببت هذه المصيبة وتلك الأكدار التي لم نتخلص منها في فرنسا إلا بعد لأي)، وقد ذكرهن في رواية أخرى هي رواية (نساء وندسور المرحات) حيث تقول السيدة بيج (دعنا نلبسه ألبسة تشبه ألبسة ساحرة برانيفورد). وقد ذكر هذا النوع من الساحرات في رواية ثالثة هي رواية الملك ريشارد الثالث عندما يخاطبه كلوسستر قائلاً: (إن هي إلا امرأة ادورد تلك الساحرة التي نفثت سحرها في أعمالي فباءت بالفشل)
في جميع هذه الروايات التي ذكرتها نرى الساحرات البشريات يلعبن دوراً بسيطاً، بينما الساحرات السماويات تشغل قسماً أكبر من تفكير هذا الشاعر العظيم؛ فقد اختص رواية مكبث كلها بتحليل شخصياتهن ووصفها وصفاً دقيقاً مسهباً. وقد صدق مستر لويد في كتابته النقدية عن مكبث حين قال: (إن رواية مكبث تشمل الخيال المبدع والمخاوف السحرية، وكثيراً من الخرافات التي كانت تسود أقسام بريطانيا الشمالية والجزر الغربية منها)
وهؤلاء الساحرات لا أسماء لهن فهن يدعين أنفسهن بالأخوات الذابلات كما يتبين لك في مواضع عدة من رواية مكبث وقد كان الناس كثيراً ما يشتبهون فيهن فيحسبونهن رجالاً لما في ذقونهن من لحى كلحى الرجال بينما هنّ في الحقيقة إناث اكتملت فيهن صفات الأنوثة؛ ويظهر هذا جلياً في رواية مكبث عندما يقول مخاطباً آباءهن: (إنكن نساء مع أن لحاكن تجعلني أميل إلى الاعتقاد في رجولتكن)
إن هذا المظهر الذي كان يجمع بين صفتي الرجولة والأنوثة في هؤلاء الساحرات كان سبباً قوياً في ازدياد الشعور نحوهن بالكره والازدراء. وكم كان الناس يودون القضاء عليهن لولا أن في استطاعتهن أن يغيرن صورهن وأشكالهن، فتارة تراهن بصورة قطة من القطط الرقطاء، وطوراً بشكل فأر قد قطع ذنبه، وهذا يتجلى لنا بصورة واضحة في رواية مكبث عندما تظهر إحداهن في بدء الرواية بصورة هرة تدعى كريمالكين وقد(120/55)
وصفت إحداهن نفسها بقولها في ناحية أخرى من الرواية (سأكون بشكل فأرة عارية عن الذنب فأمتطي منخلاً وأسبح في البحر محاولة تخريب السفن وإغراقها)
وتختلف الساحرات عن الجنيات بكونهن عاملاً من عوامل الشر والدمار فهن يحملن في أنفسهن الكره الشديد لبني البشر ويسعين بكل طاقتهن لإيقاع الضرر بالمجموع البشري، وكثيراً ما يستعملن الأعشاب السامة لتنفيذ أغراضهن الشريرة، وكانت لهن ملكة تدعى هكبت اقتصرت أعمالها على إيقاع الآلام بالناس، وقد وصفها لوشيانس في رواية هملت بقوله: (انك لتخلط بين أعشاب الليل وبين الأعشاب الصفراء الذابلة التي جمعتها هكبت لتستعملها في سحرها وفي ذلك تنتهي الحياة البشرية)
وتمتاز الساحرات بأنهن أقوى أنواع هذه المخلوقات المغيبة، فهبوب الرياح والسباحة في البحار كانت من المسائل التي في استطاعتهن القيام بها بكل سهولة، وكان الليل أحب الأوقات إليهن لأنهن يستطعن الخروج فيه بكل جرأة وحرية ويتعاطين ما يشأن في أثنائه. ولنستمع إلى مكبث مخاطباً إياهن قائلاً: (ماذا تعملن أيتها المخلوقات السرية الليلية)
ولم يقتصر زمن ظهورهن على الليل فقط بل كان بإمكانهن التجول أثناء النهار فقد اتفقن في الفصل الأول من رواية مكبث أن يقابلنه قبل مغيب الشمس. وكان في استطاعتهن أن يختفين أو يظهرن حسب إرادتهن. فقد ظهرن لمكبث وبانكو في الفصل الثالث من الرواية لكنهن ما عتمن أن اختفين بعد أداء مهمتهن التي قصدنها وقد استولت الدهشة على بانكو فصاح قائلاً لما اختفين: (إن للأرض فقاعات كما أن للماء فقاعات أيضاً، وهذه المخلوقات هي من فقاعات الأرض، في أي مكان اختفين؟)
حاولت الساحرات إظهار قوتهن وسلطتهن على البشر فصدرت عنهن تلك النبوءات التي تم تحقيقها في نهاية رواية ومبث، وكل ما في هذه الرواية من ابتكار وابتداع يرتكز على محور واحد ذلكم هو النبوءات، ففي بدء الرواية يخبرنه عن المستقبل فيتنبأن بصيرورته سيداً على كادور ثم ملكاً على اسكتلندا، وكلتا هاتين النبوءتين يتحقق، وفي نهاية الرواية يتنبأن بنبوءات جديدة، فيخبرنه أنه لن يصيبه مكروه من إنسان عادي بل من رجل لم تنجبه امرأة، وإن هذا الأمر لن يتحقق إلا إذا انتقلت غابة برنام من مكانها وسارت مسافة لا تقل عن الخمسين ميلاً، وكل هذه النبوءات تتحقق ويتبين صدقها في نهاية الرواية(120/56)
ونظراً لهذه الشرور والآثام التي كان الساحرات يرتكبنها كان الناس على اختلاف مللهم ونحلهم ينظرون إليهن بعين الكراهية والسخط، فكانت لهن عادات مستهجنة غريبة كميلهن إلى الأعداد الغريبة وخصوصاً الثلاثة منها، فلا يخطون إلا ثلاث خطوات عند رقصهن، والقط لا يموء إلا ثلاث مرات؛ وقد اعتقد شكسبير أن السبب الذي حدا بهن إلى هذا الميل الغريب هو اعتقادهن أن الأعداد الغريبة تنبئ عن الحظ الحسن والفال الجيد
وكان العقاب الشديد دائماً في انتظارهن يهدد حياتهن، فكل امرأة كان يشك في كونها ساحرة من النوع الخطر كانت تشد إلى قطعة خشبية مصلبة تتوقف بواسطتها الحركة الدموية، وتتشنج الشرايين فتحدث ألماً شديداً قل أن يحتمله إنسان. وقبل أن تتوقف الحركة الدموية بهذه الطريقة كان الساحرات يربطن لمدة لا تقل عن الأربع والعشرين ساعة حتى تعترف بسحرها. وهناك طريقة أخرى كان الساحرات يعذبن بواسطتها ألا وهي طريقة نزيف الدم بقطع أحد الشرايين
وللساحرات فصل معين من فصول السنة لا يظهرن فيه أبداً، وقد ذكر شكسبير ذلك في رواية هملت بقوله: (يقول البعض إن الفصل الذي ولد فيه السيد المسيح هو فصل سعادة وحبور، ففي أثنائه تظل الطيور مغردة على الأفنان، وتختفي الساحرات والأشباح من عالم البشر). وكان الناس يخافونهن ويسعون في مرضاتهن فيستعيذ المتدينون من الرجال منهن ويبتعدون عن شرورهن وآثامهن
وإني لأعتقد من جرّاء هذا الاهتمام الذي أبداه شكسبير بهن، وهذا التدقيق في البحث في مسألتهن وتصويرهن، أن شكسبير كان يؤمن بوجودهن وقدرتهن الإيمان كله، فقد اعتقد أن لهن من القوة والجبروت ما تستطعن بواسطته إخضاع النوع البشري لسلطتهن وسيطرتهن، وهذا ما أظهره جلياً في كتابته عنهن في كثير من رواياته.
خيري حماد(120/57)
القصص
صور من هوميروس
10 - حروب طروادة
معركة بين الآلهة. . .
للأستاذ دريني خشبة
وقفت نَدْمانَةُ الآلهة (هيب) اللعوب الهيفاء، تسقي أربابها خمراً! وكان الأولمب يزخر بسادته
فهذا زيوس العظيم مستوياً على عرشه الضخم المرصع بالجوهر والياقوت
وهذا أبوللو سيد الشمس، وصاحب القوس، يوقع على قيثارته أشجى ألحانه
وهذا فالكان، الحداد القذر، قد بدا في حلة جديدة ذات ألوان صارخة
وذاك مارس الجبار، إله الحرب، يلاعب الأسنة، ويداعب الصَّعْدَةَ المُرِنَّة
وذلك هرمز، عزرائيل هيدز الكريم، ورسول الآلهة إلى سكان الأرض، يرسل في الملأ نظراته الساخرة، ونكاته المنكرة
وهذه حيرا،، مليكة الأولمب، تود لو تضرم النار في قصور مولاها، إن لم يقض بانتصار الإغريق!
وهذي مينرفا. . . الحكيمة الراشدة. . . تصمت صمتاً أبلغ من وحي الأولمب كله، ترى هل تستطيع تسخير هذه العصبة من الأرباب لسحق باريس وقومه وأحلافه!
ثم طائفة كبيرة من الآلهة وأنصاف الآلهة. . .
وهيب اللعوب تسقي الجميع خمراً!!
وللخمر الأولمبية، كما لخمر هذه الأرض، نشوة وسورة، ولها على رؤوس أربابها صولة وسلطان، وهي مثلها تُرَوِّي حتى تبلغ المُشاش، وتتغلغل حتى لتمتزج بالدم!
وهيب تروح وتجيء، حلوة بسامة. . . كأنها مدامة!
وروى الجميع إلا حيرا!!
وانتشى الجميع إلا مينرفا!!(120/58)
لقد كانتا ما تفكران إلا في هذه الساحة الحمراء، وما يقع فيها من بلاء!
أليس قد ذهب الهيلانيون ينتقمون لكبريائهما من باريس ومن قوم باريس؟
ألم تنصح عروس الماء، إيونونيه، لباريس ألا يصيخ لفينوس، وأن يعطي التفاحة لمينرفا؟
ألم تحذره من التعرض لنقمة الربتين العظيمتين؟
غير أنه أبى!!
وآثر الجمال والحب، ثم الشقاء والحرب، مع فينوس، على القوة والصولة، والملك الكبير، والحكمة والنورانية، مع حيرا أو مينرفا!!
وبذلك جلب على نفسه وقومه وبال هذه الحرب ونكالها!
وليس اليوم أروح إلى قلب حيرا، وأرضى إلى نفس مينرفا، من أن تنصرا جحافل الهيلانيين، وتثبتا في ساحة الحرب أقدامهم!
ولكن أخيل منفرد في معسكره وهو مفئود محزون!
وقد وعدته أمه بالأثئار له، وكلمت فيه زيوس سيد الأولمب، ولم تزل به تسلط عليه ذكريات غرامهما القديم حتى زلزلت أركانه، وسلبت جنانه، وانتزعت منه وعداً قدسياً بأن ينتقم من أجاممنون، وجنوده لأخيلها العزيز!
تانِكم إذن حيرا ومنرفا
وذاكم زيوس كبير أرباب الأولمب
أما أبوللو، فهو لا ينسى أن فضحه أجاممنون في بنت كاهنه، وهو ما يفتأ يتربص بالقوم، ويدبر لهم سوء المنقلب!
وأما فينوس،. . .،. . .؟. . .
فتلك أبر بباريس وبقوم باريس، وهي أبداً ستحمي باريس وجند باريس!! لأنها ستذكر له أبداً أنه نصرها على حيرا. . . وأيدها على مينرفا!!
وكذلك أوقدت هذه الحرب العداوة والبغضاء بين الآلهة، وأضرمت النيران في قصور الأولمب!
فللآلهة في جبل (إيدا) معسكران، كما لبني الموتى حول طروادة معسكران!!
أوشك منالايوس أن يفتك بباريس، لولا أن أنقذته فينوس ولقيته هيلين عاذلة مغضبة، لكنه(120/59)
نسي نفسه بين ذراعيها، واستماحها أن تدع حديث الحرب إلى نشوة الحب،. . . (على أن أعود فأثأر لنفسي من منالايوس العنيد، الذي لولا حماية مينرفا وحيرا له لبطشت به وجعلته خبراً في الذاهبين. . .)
وكان العهد بين بريام الملك، وأجاممنون قائد الهيلانيين، أن يلقي المغلوب السَّلمَ، فلما فرّ باريس تقدم أجاممنون وطلب أن يسلم الطرواديون هيلين الأرجيفيه، وأن يقدموا دروع باريس وسيفه، وفرسه، وجميع عدته الحربية، لتكون أثراً خالداً يحتفظ به الإغريق ويتوارثونه رمزاً لمجدهم الحربي، وتذكاراً لفوزهم وغلبهم
بيد أن الطرواديين رفضوا هذا الطلب: (لأن أحداً من المتبارزين لم يظفر بالآخر، ولأن قطرة من الدم لم تصبغ أديم الأرض فتكون شاهد النصر)
وكانت بين الفريق مهادنة
فخشيت حيرا ومينرفا أن يطول أمدها، واتفقتا على أن تذهب مينرفا هذه المرة أيضاً فتضع حداً لهذا السلام الذي يشمل الساحة، وأن تثير الحرب من جديد!
وذهبت مينرفا فاندست بين صفوف الطرواديين؛ وسحرت نفسها فبدت في عدة (لاودوكوس) البطل الطروادي وهيئته، ثم وترت قوسها وأرسلت سهماً مراشاً نفذ في جسم منالايوس إذ هو يبحث عبثاً عن باريس. . .
وتجددت الحرب بين الفريقين بسبب هذه السهم، فكانت حرباً زبوناً، طاشت من هولها الأحلام، وبلغت القلوب الحناجر وزاغت الأبصار فما ترى إلا حميماً. . .
وعز على فينوس أن ينهزم جند طروادة، وهم أولياؤها وصنائعها، فذكرت أن لها في أرباب الأولمب عاشقاً هيماناً يترضاها ويلتمس وصلة منها تشفي قلبه الخفق، وتداوي هواه الثائر، وأعصابه التي مزقها الحب، وأذابها لظى الغرام، فانطلقت إليه تغريه بكل ابتسامة تلين الحديد، وكل نظرة ساجية تفجر الماء من الصخر، أن يقوم من فوره فينفخ من روحه في قلوب الطرواديين، ويؤيد بنصره صفوفهم. . .
ذلك هو مارس، مسعر الحروب وموري لظاها!
وطرب الطرواديون لوجود رب القتال في صفوفهم يناصب أعداءهم الحرب فيجعلها ضراماً، ويصلصل دروعه فيوقع في قلوبهم الرعب، ويثير في نفوسهم الهلع، ويروعهم(120/60)
ترويعاً. . .
وكانت إلى جانبه فينوس تنفث فيه سحرها، فكان لا يلقى فارساً إلا طعنه فيكبه على وجهه، ثم يشكه فيجفوه من الأرض، كأنما يتخذ منه هزواً وسخرياً!!
وهرع أبوللو فأمطر الهيلانيين وأبلا من سهامه التي ما مست أحداً إلا أردته، وما أقصدت صدراً إلا شقته. . .
وساء منقلب الهيلانيين!
وعز على حيرا ومينرفا أن ينهزم أصحابهما، وأن يصلوها من مارس وأبوللو نارا حامية، وهزيمة منكرة، ثم لا يكون بحسبهم ضربات مارس اللزاب، وسهام أبوللو المفوَّقة، بل تطحنهم هذه الصواعق الجهنمية التي سلطها كبير الآلهة عليهم؛ زيوس؛ سيد الأولمب، الذي أصبح كل همه أن ينتقم لأخيل بن حبيبته ذيتيس من هؤلاء الإغريق ناكري الجميل!!
وعبست حيرا عبوساً ثقيلاً، ودعت إليها مينرفا، وجلستا تفكران! وبدا لهما أن يذهبا إلى الأولمب فيستدعيا رب البحار العظيم، نبتيون، فيضع حداً لهذه القسوة التي يبديها مارس وزميله أبوللو. . .
ولكن كيف السبيل إلى غل يد زيوس، ورد صواعقه التي تنحط على الإغريق من عل، فلا تبقي عليهم ولا تذر؟
آه! لا سبيل إلى ذلك إلا بمنطقة فينوس السحرية! سستوس! تلك المنطقة العجيبة التي تغوي كل من نظر إليها، وتشعل في قلبه لظى من الهوى، وضراماً من الحب. لا بأس إذن من ممالقة فينوس حتى تنزل عن منطقتها أياماً لمليكة الأولمب وكبيرة رباته، ثم لتذهب مليكة الأولمب بمنطقة فينوس لتعبث كثيراً - أو قليلاً - بقلب زيوس، الذي ما يفتأ يرسل صواعقه على الإغريق من جبل (إيدا)، وليس شك أن سيصبو زيوس حين يرى منطقة فينوس تزين خصر حيرا وتبرز مفاتن صدرها؛ فإذا عصفت به فورة التشهي، وحاول قبلة واحدة من آثر زوجاته إليه، فلا بأس من أن تمنحه إياها. . . ولكن. . . لتنتهز سكرته العميقة وتسلط عليه إله النوم الجبار - الذي هو دائماً في خدمتها أينما سارت - فيغرقه في سبات عميق، ويظل به يداعب أجفانه، ويعسل أحلامه، حتى يكون نبتيون قد انكشف لمارس وصاحبه، وأجنادهما، فيقذف الرعب في قلوبهم، ويزلزل أركانهم، ويوهي(120/61)
عزائمهم؛ ويختلط حابلهم بنابلهم فيولون مدبرين لا يلوي أحد على أحد!. . .
وقد أفلحت خطة حيرا. . .
فهذا مارس ما يكاد يلمح نبتيون حتى يذكر هذه الأيام السوداء التي صب عليه فيها رب البحار سوط عذابه، فيخفق قلبه، وترتعد فرائصه، ويكبو زنده، وتذهب ريحه وتنحطم شوكته. . . ثم يقذفه نبتيون بسهم، وقل أن تطيش سهام نبتيون، فيصرخ إله الكريهة صرخة كريهة، وينفتل من الحلبة الحمراء مولياً عقبه، ساخطاً على فينوس، وما يجر إليه غرام فينوس!!!
وولى في أثره أتباعه الطغاة، آلهة الشرور، إيريس رب الشغب، وفوبوس رب الرعب، وميتوس رب الخوف، وديميوس رب الفزع، وباللور رب الهلع. . . عصبة الإجرام وشرذمة الآثام، والطغمة الباغية من أوشاب الأرباب!!
وأفيق الإغريق مما حل بهم من روع. . .
ونظروا فرأوا مارس وملأه مولين الأدبار، والدم يتدفق من جراحهم جميعاً؛ فأفرخ روعهم، وأمن سربهم، ثم لموا شعثهم وهجموا على أعدائهم هجمة رجل واحد، فأدالوا لأنفسهم، وثأروا لكبريائهم، وانصرفوا يتفقدون جرحاهم، ويحرّقون جثث قتلاهم الشهداء!
يا للهول!
لقد قتل إمبريوس البطل! قتله تيوسير، غير راحم شبابه، ولا مبق على عوده الفينان!
وأمفيما خوس!! لقد صرعه هكتور بن بريام، غير راث لأمه العجوز الهرمة، ولا آبه بالباكين حوله والمعولين!!
وديوميد!! زين شباب هيلاس، وآثر فتيانها إلى قلوب الآلهة! لقد جرحه باريس بسهم أوشك أن يكون قاتلاً! لولا أن أدركه جنوده فأسعفوه، وضمدوا جرحه وإلى المعسكر حملوه!
وأجاممنون! لقد برز في المعمعة، ودل على الفروسية التي بهرت الطرواديين، بيد أنه أصيب بسهم نفذ فيه، فارتد على عقبه يصرخ ويتلوى!
وأوليسيز!! أوليسيز العظيم!! لقد أرسل إليه سوكوس، أمهر رماة طروادة، بسهم مفَوَّق، فجعله ينتفض كما ينتفض المحموم، ويخر إلى الأرض فيتأود كمن لدغته أفعى، ولولا أن أدركه أجاكس ومنالايوس فأسعفاه لكان من الغابرين!(120/62)
وأجاكس كذلك! لقد أتاه سهم كاد يذهب به لولا بقية من حياة!!
ومخاون! لقد روعه باريس هو الآخر فشكى وبكى!!
أرأيت؟
لقد نال الطرواديون وأحلافهم من جموع الهيلانيين، ولولا أن أغاث هؤلاء نبتيون القاهر، لكانت ملحمة فاصلة في هذه الحرب الشعواء!
وكأن السماء قد أيقظت ضمائر اليونانيين، وبرهنت لهم أن أخيل ما دام لا يخوض معهم المعمعة، فلا نصر لهم ولا غلبة، ولا محيص من هذه الهزائم المتتالية، والجروح التي لما تكن قصاصاً لولا أن أدركهم نبتيون!
عرف اليونانيون هذا، وآمنوا بعد هذا الفزع الأكبر أن لو كان أخيل بينهم يوم هذه الكريهة لما حفلوا بمارس وأتباعه، ولأظفرتهم آلهتهم بأعدائهم، ومارس وملئه، وأبوللو وجنوده جميعاً. . .
وانطلق نسطور فعرض على أجاممنون مصالحة أخيل وإرضاءه، وبعد لأي رضى القائد العام أن ينطلق نسطور وأوليسيز وأجاكس وفونيكس إلى معسكر أخيل، مندوبين عن القائد، ليعرضوا عليه صلحاً شريفاً، وموثقاً كريماً، يرضاه الطرفان؛ ولكن أخيل يثور لكرامته، ويأبى إلا. . . بريسيز. . . ثم لا يشترك في حرب ضد الطرواديين. . .
ويلح أوليسيز على صديقه القديم. . . . ولكن صديقه القديم ما يزداد إلا شماساً، وما يزداد إلا أنفة. . .
ويكون فونيكس قد نالت منه حجج أخيل، ويكون قد خلبه بيانه، وبهره حسن منطقه، وطلاقة لسانه، وعظيم شجاعته، فيؤثر البقاء معه، مخاصماً الهيلانيين جميعاً حتى يرضى أخيل فيتركه أوليسيز وصاحباه، ويعودون إلى أجاممنون. . . بخفي أخيل!!
وهكذا تتم كل هذه الأحداث الجسام. . .
وزيوس يغط في نومه الهادئ الناعم يوماً بأكمله. . حتى يبطل السحر، وتذهب الرُّقية، فيهب الإله الأكبر من سباته حيران أسفاً. . . لأنه ينظر من ذروة جبل إيدا، فيرى إلى نبتيون الجبار يصول في ساحة طروادة ويجول، ويصرع الأبطال، ويجندل الأقران، ويرى إلى مارس العتيد، وجنوده الأقوياء، يفرون من وجه سيد البحار، لا يلوون على شيء. . .(120/63)
ويرى أيضاً إلى أخيل ما يزال منفرداً في فسطاطه، قريباً من سفائنه، والحزن يمضه، ويوهي جلده، فيحزن الإله الأكبر وينفذ إيريس إلى نبتيون ليزجره، ويأمره أن يغادر المعمعان في الحال، وإلا أرسل عليه سيد الأولمب صواعقه، وهناك لا يكون له حول ولا تكون له قوة. . .
ويغادر نبتيون الموقعة، ولكن بعد دمر الطرواديين تدميراً!. . .
(لها بقية)
دريني خشبة(120/64)
رحلة إلى حدود مصر الغربية
مرسى مطروح، سيوه، السلوم
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
شددت رحالي إلى الناحية الغربية من الديار المصرية، تلك الناحية التي نجهل عن أهلها الشيء الكثير، فكان أن بدأت بخط أدكو ورشيد، فمررنا بأراض شبه صحراوية، بها مزارع متناثرة غير متصلة، وبخاصة حول أدكو، وهنا أدهشني نشاط الأهلين في الكد وراء كسب عيشهم حتى الأطفال، فتراهم لا يضيعون من وقتهم شيئاً، يخرجون جماعات لصيد السمك أو الطيور، ويتجرون في ذلك كباراً وصغاراً، وأنت ترى جموعهم تتهافت على القطار يعرضون عليك سلعهم هذه، فإن أعوزهم المشترون عكفوا على دورهم يأكلون ما تخلف معهم من سمك كثير وطير وفير؛ لذلك كنا نلمس في أجسادهم وفرة التغذية والامتلاء، ومن السلع المنتشرة هنالك البيض والليمون، أما غابات النخيل فهي في كثرة فائقة، ومنها نستمد البلح الرشيدي (الزغلول) ذائع الصيت. ولقد مررنا بتفتيش إدفينا، وهنا تجلت المجهودات الجبارة التي بذلت في استثمار تلك الأراضي التي كانت بائرة نزة، فلقد زودت بالمصارف والمضخات والقنوات، فأضحت جنة يانعة، وهي ملك للخاصة؛ ويا حبذا لو شمل ذلك الإصلاح ما جاورها من متسعات لا يزال أمرها مغفلاً مهملاً، وهنالك بعض الشركات الأجنبية تشتري المساحات الشاسعة وتتعهدها بالإصلاح، فهلا قامت الحكومة بذلك أو ساعدت الأهلين عليه حتى لا تزيد في ملكية الأجانب وامتيازاتهم في بلادنا؟ دخلنا رشيد فحاكت بلدا عتيقاً، بيوته بالآجر الأحمر الصغير لا يكسوه ملاط، وهي تقوم على النيل، ومن أظهر ما يسترعي نظرك مداخن لا حصر لها هي لمضارب الأرز أنشط جهات العمل في البلدة، وعلى مسيرة زهاء خمسة كيلو مترات يلتقي النيل بالبحر في لسان شبيه بذاك الذي في رأس البر، ولقد كان ماء هذا الشهر عذباً (أغسطس) بعد أن ظل مالحاً ستة شهور قبل ذلك من طغيان ماء البحر على النهر، وسيظل الماء عذباً بقية العام؛ ويجاور البلد عدد من الملاحات، ونرى زوارق الصيد يغص بها النهر والبحر، ومهنة صيد السمك رئيسية هنالك
عدت إلى الإسكندرية، وقمت صوب الغرب إلى مطروح مسافة تزيد على 300ك م، ثلاثة(120/65)
أرباعها بسكة الحديد إلى محطة فوكه وبعدها بالسيارات الكبيرة، وكان قد أنشأ ذاك الخط سمو الخديو السابق رغبة في تعمير تلك الناحية التي كان يمتلك جل أراضيها ويحاول إصلاحها، لكنه اعتزم أن يبيع الخط للطليان، فسارعت الحكومة بشرائه منه، ولقد سار القطار إلى جانب مستنقعات بحيرة مريوط وصحرائها الملحة طويلا، ومر بمحطة (اكنحي مريوط)، ولعل أكبر البلاد (الحمام) العاصمة التجارية لتلك الناحية، أما الأهلون فهم قليلون مشتتون في خيامهم، ولهم لهجتهم العربية المحرفة، وقد كنا نقف على المحطة فلا نرى من المساكن شيئاً سوى أبنية عمال المحطة، فنتساءل أين البلدة؟ فيقولون: ليس هناك من بلد، والأهلون متفرقون في مساحة شاسعة من الأرض حولها، ويبدو عليهم العوز والجوع، وبخاصة في هذا العام الذي تخلف فيه المطر فأجدبت منابت الشعير، وكنا نرى مساحات الأراضي التي (عزقها) أصحابها وبذروا فيها الشعير كعادتهم وتركوها حتى ينزل عليها مطر الشتاء فيسقيها، وعند اقتراب نضجها يعودون من جولاتهم الطويلة - التي قد تصل بهم إلى داخل مديرية البحيرة - ويحصدونها
وبعد مسير ثماني ساعات ونصف من الإسكندرية أشرفنا على مرسى مطروح في خليج هلالي، تقوم المباني على جوانبه في شوارع متعامدة أبعادها تكاد تكون متساوية وهندستها موحدة بسيطة، فجلها شبه مربعات من طابق واحد يكسوه الطلاء الأبيض، وقل أن تجد بناء يشذ في علوه أو لونه وهندسته، والشوارع هناك فسيحة، ويبدو عليها المظهر الصحراوي في ندرة النبت، وإن حاولت المحافظة استنبات بعض الأشجار القليلة على جوانب الطرق؛ وهناك بيت المحافظ الإنجليزي - ومطروح تعتبر عاصمة محافظة الحدود الغربية - يشرف على البحر، ويليه بيت وكيل المحافظ وسائر الموظفين. ومما يذكر للإدارة هناك بالفخر، عنايتها بالنظافة التامة، ورعاية صحة الأهلين والرقابة الخلقية عليهم؛ ولقد أعدت للموظفين نادياً صغيراً جميلاً على البحر زود بصنوف الحلوى والمرطبات وأدوات اللعب البريء وبجهاز للراديو يسري عنهم في معيشتهم المنعزلة الموحشة؛ وتضاء الشوارع بالمصابيح الكبيرة التي تقلل من وحشة سكون الليل الرهيب هنالك. وخير ما يتجلى منظر البلدة في كامل روائه من الاستراحة الحكومية التي أقيمت على النجاد التي أدت بسيارتنا إلى شاطئ خليج مطروح؛ وفي ناحية نائية من غرب مطروح مسجد أنيق(120/66)
(لسيدي العوام) بطل المنطقة وقد بناه الخديو السابق كما بنى كثيراً من المساجد في بلدان خط مريوط، وكانت تقوم حوله طائفة من مساكن الأعراب فعوضتهم عنها الحكومة وأزالتها وأقامت مصيفاً يسمونه الليدو، فبدأت بنزل فاخر زودته بكافة وسائل الترف والراحة وجعلت أجر المقام به نصف جنيه في اليوم، ثم أقامت حوله بيتين صغيرين أنيقين (فلآت) لمن يريد الاستئجار. على أن عزلة المكان وبعده وافتقاره إلى وسائل اللهو قد زهد المصيفين فيه، إذ أني لم أحص في المصيف كله أكثر من عشرة أشخاص، فهو عندي خير مصطاف لطلاب الراحة البريئة والسكون الشامل وهؤلاء قليلون؛ ويخيل إلي أن تقدير الحكومة الصدقية كان خاطئاً إذ كلفته نيفاً وعشرين ألف جنيه لن يسد للدولة منها شيئاً. ولقد قال لي بعض الناس من سكان البلد إنها فكرة إنجليزية قصد بها أن يقيم على حساب الدولة مستراضاً للمارة من السادة الإنجليز في روحاتهم وغدواتهم على الحدود الغربية
وأهل البلد من الأعراب يسيرون في ثيابهم الفضفاضة، وسادتهم يطوقون كواهلهم بأحزمة بيضاء ثقيلة، ونساؤهم يسرن سافرات في ثياب حمراء فضفاضة أكمامها هائلة هادلة وهن على جانب كبير من السذاجة. تجلس في المقهى فترى الواحد منهم يدخل ويقف حولك يحدق فيك ويزوغ ببصره ثم يتسكع حولك ولا يكاد ينصرف حتى ترى غيره، وأطفالهم عراة جياع حالتهم تستدر العطف وتستنزل الرحمات ويكثر بينهم الزنوج السود وهم من عبيد السنوسية جاءوا بهم معهم بعد أن حرروهم لما أن طاردهم الطليان وأجلوهم عن ديارهم. ولأبناء السنوسي هناك مقام كبير بين الناس يكاد يبلغ حد التقديس. حدث مرة أن رأيت بيتاً فاخراً طلي باللون الأزرق على خلاف سائر بيوت البلدة فسألت أحد المارة بيت من هذا؟ فأجاب: بيت الأسياد. قلت: ومن الأسياد؟ فثار الرجل وصاح في نغمة الغاضب المستنكر: الأسياد! الأسياد! كيف لا تعرفهم هم آل السنوسي! ولهؤلاء جل أملاك المنطقة وأبنيتها. وإلى الجنوب الغربي من البلدة أقيم المطار في متسع هائل واستعداد كبير لاستقبال الطائرات المختلفة، وقد نزلت به أمامي طائرتان إحداهما للشركة الهولندية التي تقوم من هولندة وبتافيا، وهي طائرة كبيرة من الألمنيوم بها 14 مقعداً للمسافرين. أما الثانية فطليانية بين الإسكندرية وبني غازي وذاك خط حديث بدأ منذ أسبوعين فقط وطائرته صغيرة(120/67)
وفي مطروح محطة لاسلكية أساس عملها الاتصال بالطائرات خصوصاً الهولندية. أقمت في مطروح زهاء يومين في نزل إغريقي، واليونانيون هنالك نشيطون في التجارة وبيدهم غالب سيارات النقل وحوانيت البدالة والفنادق؛ وسيارات النقل هناك تقوم لثلاث جهات: فوكة وتلك كل يوم، السلوم، واحة سيوة مرة أو مرتين في الأسبوع
إلى سيوه:
قمنا مبكرين نستقل سيارات الحدود فأخذنا نسير في صحراء لا نهائية عربت عن النبت حتى الشائك منه وإن كان مظهرها في الشتاء والربيع أبهى وأجمل إذ يكثر العشب بنواره المختلف الجميل، ولا يفتأ المسافر يمر ببقاع تنمو بها أعواد الشعير، والطريق حجري في جزئه الأول، مترب في الأخير، ويمر بمجموعة من آبار أذكر من بينها: حجفة جلاز عند الكيلو 72 من مطروح - حجفة أي بئر بلغتهم - وحجفة البويب عند الكيلو 124 على مقربة من الاستراحة التي أقيمت لجلالة الملك يوم أن زار تلك الناحية سنة 1928، ولذلك يطلقون على تلك البئر أحياناً (بئر جلالة الملك) لأنه شرب منها، ثم بئر النصف في منتصف الطريق عند الكيلو 150، والمسافة كلها 300 كيلو متر، وغالب تلك الآبار رومانية الأصل كانوا يحفرونها تجاويف في الصخر تبطن بالأسمنت أو الآجر، وتعد بفتحات ضيقة يؤدي إليها ماء المطر عند سقوطه ليتراكم فيها، وعلى الفتحة الرئيسية باب وحارس يكلف بحفظها من الأوساخ ومن إسراف الناس في مائها، وأنت ترى طائفة كبيرة من السائمة وبخاصة الإبل تحوم حول تلك العيون وتتسكع في مرعاها عساها تشفي بعض ظمئها من الماء كلما مر بالبئر عابر، وقد كان يبدو على بعض الإبل عند بئر جِلاّز ظمأ شديد، ولم يرغب الحارس في سقيها، ولما سألناه عن السبب قال: لكي لا تنتجع تلك الناحية وتعتادها كثيراً فتضايقه، على أنا أجبرناه أن يسقيها هذه المرة إكراماً لنا ورأفةً بها
لبثنا نسير في ذاك الطريق الوعر ثماني ساعات ونصف الساعة - والسيارات الأخرى الكبيرة تقطعه في يوم كامل - وقبل دخولنا الواحة أخذنا في الهبوط تدريجياً، وظهرت مخاريط متناثرة من الربا، تمتد إلى الآفاق في منظر رائع جميل، ثم بدت الخضرة الشاحبة على بعد أمامنا، وذاك أول قبس من سيوه التي تنخفض عن سطح البحر بنحو 25 متراً، ثم أخذت تفاصيل المنظر تبدو في شبه غابات من النخيل مغلقة متباعد بعضها عن بعض؛(120/68)
بينها ربا أقيمت عليها المباني بعضها للحكومة والبعض للأهلين
وقفنا بباب مركز البوليس، ولقينا حضرة المأمور أحسن لقاء، وقدم لنا الاستراحة لنأوي إليها، وأظهر استعداده الجميل لمساعدتنا في جولتنا العلمية القصيرة هناك، وكان قد أوصاه بنا خيراً سعادة وكيل المحافظ وبعض إخواننا من مطروح. دخلنا دار الاستراحة وقد أقيمت فوق ربوة شاهقة تشرف على الواحة وقد زودت بالشرفات تغطيها شبابيك من السلك لمنع البعوض، وقد كانت الواحة مهددة بالملاريا منذ زمان بعيد ولا يزال لها بقية إلى اليوم - ولن أنسى جلستي في إحدى تلك الشرفات ومشهد الواحة من دوني ساحر وامتداد الصحراء رهيب، وقد عني بتلك الاستراحة عناية خاصة، لأن جلالة الملك قد نزل بها في زيارته، وبها دورة للمياه فاخرة، وفي أسفلها بعض المغارات التي كان يتعبد فيها الشيخ السنوسي الكبير في زياراته لتلك الواحة قديما، وبعد أن طارده الطليان إليها. نزلت أجوب بعض أطراف البلدة فإذا بغالب بيوتها على الربى تقام من الطين المصفر الذي يحكى الطفل، وترى البيوت وكأنها الأحجار أو المغائر بعضها ركب فوق بعض وتشبه مجموعة من حصون قديمة، وليس لها من النوافذ سوى كوى صغيرة لا تكاد تسمح لضوء الشمس أن يتخللها، ولهم العذر في ذلك، لأن لفح الصيف قاتل وبخاصة في أبريل ومايو، وقر الشتاء زمهرير، وشهور أغسطس وسبتمبر خير مواسم السنة جواً هنالك. ومن أظهر ما يسترعي نظرك وسط تلك الأبنية برج مربع يدق كلما علا ويشبه المدخنة وهو مئذنة لمسجد من مساجدهم القديمة، أما سوق البلدة ومتاجرها فأقيمت في متسعات أسفل تلك الربى وزودت بطلل من الطين وجريد النخيل، ومداخل شوارعها ضيقة مسقفة، لا تشعر بأنها طرق يباح المرور فيها
(يتبع)
محمد ثابت(120/69)
البريد الأدبي
ذكرى الموسيقي سان سيان
احتفلت الدوائر الفنية الفرنسية في أوائل أكتوبر الحالي بالذكرى المئوية لمولد الموسيقي الشهير شارل كامي سان سيان. ويشغل سان سيان في عالم الموسيقى مركزاً فريداً، فهو حلقة اتصال بين المشرق والمغرب يندر وجودها، وله بالأخص صلة بمصر لا يزال يذكرها من تمتع بسماع عزفه في هذه البلاد قبل الحرب الكبرى. وقد ولد هذا الموسيقي الشهير في أكتوبر سنة 1835 بباريس ودرس الموسيقى منذ حداثته، ودرس عزف الأرغن على العازف الشهير بنوا، ودرس التأليف الموسيقي على هاليفي في معهد باريس، وتخصص في الموسيقى الكنسية. وفي سنة 1858 عين عازفاً لكنيسة المادلين، ولم يمضي قليل حتى طار صيته كعازف ومؤلف موسيقي، وفي سنة 1867 نشر مقطوعته الشهيرة (أعراس بروميتيه) فلقيت نجاحاً عظيماً، وأتبعها بنشر سلسلة أخرى من المقطوعات القوية الشائقة وأخصها مقطوعة عنوانها (شمشون ودليله) التي عزفت لأول مرة في فيمار بألمانيا وأكدت صيته وعبقريته كمؤلف لمقطوعات الأوبرا، ومن مقطوعاته الأخرى: (الرقصة المروعة)، (شباب هرقل)، (هنري الثامن)، (اسكانيو)، (البرابرة)، (هيلين) وغيرها
وقد ساح سان سيان كثيراً في بلاد المشرق، فزار الجزائر ومصر، وتأثر بمحيطها ومثلها الشرقية. وله مقطوعات شهيرة يلذ سماعها للشرقي بنوع خاص، ففيها يتجلى سحر السماء الصافية، وروعة الصحراء، وجمال الليالي الشرقية
ومما يرويه المستر أدوين ايفانس الناقد الموسيقي الشهير، أنه كان يمر ذات مساء بالإسكندرية في طريق الرمل، إذ سمع عزفاً بديعاً على (المعزف) (البيانو)، فسمره السحر في مكانه وسرعان ما علم أن هذا العازف إنما هو سان سيان، وإنه يقضي بمصر أياماً في خفية وتنكر
وذاع صيت سان سيان في جميع أوربا، ولا سيما فرنسا وإنكلترا والنمسا وألمانيا. وعاش زهاء خمسة وثمانين عاماً. وتوفي بالجزائر في ديسمبر سنة 1921
مباحث عن أصل الترك
أنشأت حكومة الجمهورية التركية في استنبول متحفاً لعلم الأجناس البشرية يقصد به بنوع(120/70)
خاص أن يعاون العلماء الباحثين في أصل الجنس التركي على تحديد خواصه الجنسية وتعيين السلالة الإنسانية التي ينتمي إليها. ولكي يتمكن العلماء من إجراء المباحث العلمية اللازمة أصدرت الحكومة لائحة تبيح فتح قبور العظماء الترك وفحص جماجمهم وإيداعها بالمتحف المذكور عند الحاجة
وقد نفذت هذه اللائحة بالفعل وفتح قبر سنان باشا أعظم مهندسي الترك؛ وقد عاش في القرن الخامس عشر وأنشأ أكثر من مائتي مسجد وقصر ومكتبة كلها من الأبنية الأثرية الشهيرة؛ وفحصت جمجمة المهندس الشهير لجنة من العلماء. وسيجري أيضاً فحص عدد من جماجم العظماء الترك الآخرين من رجال الحرب والسياسة والتفكير. وتشجع الحكومة هذه المباحث وتعضدها؛ وهي تجري بإشراف عالمين أجنبيين كبيرين أحدهما الأستاذ موشيه الأخصائي في علم الأجناس البشرية
والمعروف أنه يصعب جداً أن تحدد خواص الجنس التركي أو خواص العنصر السائد فيه لأن الترك ليسوا إلا شعبة من جنس آسيوي كبير هو الجنس المغولي على الأرجح؛ وهو جنس متشعب الفصائل، هذا إلى أن الشعب التركي امتزجت به خلال العصور أجناس كثيرة أخرى دخلت الإسلام واعتنقت الحضارة التركية؛ ثم إن الترك درجوا خلال العصور على التسري، وكان الكبراء منهم يحوزون في (حريمهم) نساء من مختلفي الجنسيات، فمن الصعب بل ربما كان من المستحيل أن يستطيع الترك المعاصرون إرجاع أصلهم إلى جنس بذاته
خطر على المؤلفين
هل يقرأ الناس اليوم أكثر مما كانوا يقرءون؟ وهل يربح المؤلفون أكثر مما كانوا يربحون؟ دلت الإحصاءات في إنكلترا وفي أمريكا على أن قراء الكتب الإنكليزية قد زادوا في سنة 1934 عنهم في سنة 1933 بمعدل نحو عشرة في المائة، وكان المفروض أن ذلك يعني أن المؤلف قد زاد ربحه ولكن الواقع أن أخبار المؤلفين لا تسر، والأدلة متوفرة على أنهم يسيرون من سيئ إلى أسوأ، وقد دل البحث على أن أشد العوامل وطأة على المؤلفين هو نظام المكاتب الدورية المأجورة؛ ويوجد من هذه المكاتب في أمريكا نحو خمسين ألف مكتبة، وهي تنتشر الآن في إنكلترا بسرعة مدهشة، ونظام هذه المكاتب في غاية السهولة(120/71)
فهي لا تطلب ضماناً عما تعيره من الكتب، ولا تتقاضى من القارئ إلا أجراً زهيداً قد لا يتجاوز بضعة ملاليم عن الكتاب الواحد، على أنها مع ذلك تجني أرباحاً طائلة، وبهذه الوسيلة يقرأ الكتاب الواحد مئات وربما آلاف من الناس، ولا يصل المؤلف منهم شيء، وقد وصفت هذه المكاتب السيارة بأنها (الوباء الأسود) بالنسبة للمؤلفين؛ فإذا لم يوضع نظام آخر لهذه المكاتب يكفل للمؤلفين نوعاً من المشاركة في الربح، فإنها تنتهي بتثبيط همم المؤلفين، ويحجم المؤلفون بذلك عن التأليف، وعندئذ يكون المشتغلون بهذا النظام قد قتلوا الدجاجة ذات البيضة الذهبية، وما يقال عن إنكلترا وأمريكا يمكن أن بقال عن مصر التي أصبحت فيها عارية الكتب والمجلات والصحف رذيلة ذائعة
معرض للإنجيل
مضت أربعمائة عام كاملة على طبع أول إنجيل باللغة الإنكليزية. وقد احتفل بهذه الذكرى أخيراً في إنكلتراً؛ وأقامت مكتبة رينالدز الشهيرة في منشستر معرضاً للأناجيل القديمة. والإنجيل الذي يحتفل بذكراه هو الإنجيل الذي ترجمه (كفرديل)؛ وقد عرضت إلى جانبه أناجيل عديدة بمختلف اللغات تمثل تطور الإنجيل منذ نشأة النصرانية حتى القرن الأخير. والمعروف أن أول إنجيل طبع هو إنجيل جوتنبرج الذي طبع في سنة 1456، وتوجد منه الآن في العالم كله أربعون نسخة فقط. وبين هذا الإنجيل، وإنجيل (كيفرديل) ثمانون سنة؛ وقد ظهرت تراجم عديدة أخرى للإنجيل منذ العصور الوسطى منها تراجم إلى العبرية واليونانية والألمانية والفرنسية؛ وظهرت بالإنكليزية تراجم لأجزاء من الإنجيل في وقت مبكر جداً؛ من ذلك ترجمة كايدمون في القرن السابع، وترجمة الراهب بيد في القرن الثامن، ثم ترجمة ألفريد الأكبر. وقد عرضت هذه الأناجيل كلها في صعيد واحد. وعرض معها إنجيل مخطوط كان ملكاً للملكة اليصابات
آثار الفيكنج
كشفت المباحث الأثرية في السويد عن أشياء مدهشة تدل على بعد المدى الذي انتهى إليه (الفيكنج) في تجوالهم في طلب السلب والغنيمة، في القرنين الثامن والتاسع من الميلاد، ومن ذلك ما وجد في جهات متعددة في أنحاء السويد وحفظ في متاحفها، وهي عبارة عن(120/72)
طائفة كبيرة من الآثار واللقط الشرقية، وبالأخص النقد الشرقي القديم، فقد وجد منها زهاء عشرين ألف قطعة، وجد معظمها في جزيرة جوتلاند، وتدل بعض الأحجار المنقوشة على أن بعض زعماء الفيكنج سافروا حتى ضفاف بحر الخزر (بحر قزوين)، وتوفوا هنالك في تلك القفار النائية؛ وفي متحف البندقية أسد من المرمر عليه نقوش (فيكية) محي بعضها؛ وكان هذا الأسد من غنائم الحرب التي حصلتها البندقية من اليونان في القرن السابع عشر
كيف يشجعون الأدب
قرأنا في أنباء أمريكا الأخيرة أن الرئيس روزفلت أقر مشرعاً أدبيا ضخما يعد الأول من نوعه، وخلاصته أن الحكومة الأمريكية قد اعتمدت نحو سبعة وعشرين مليون ريال (خمسة ملايين جنيه ونصف) لتغذية الحركة الأدبية والفنية في أمريكا، وأن هذا المشروع الذي يبدأ في تنفيذه من سبتمبر الماضي سيؤدي إلى إيجاد أعمال لخمسين ألفاً من الكتاب والموسيقيين والفنانين لمدة ستة شهور
وهذا المشروع بلا ريب من مفاخر الرئيس روزفلت وسياسته، وإذا كان ثمة بلد نرجو أن يحدث فيها مثل هذا المشروع صداه وأثره، فهي مصر التي ما زالت تتجاهل الحركة الأدبية والفنية، وما زالت تتركها لمصيرها وبؤسها. ولقد عنيت الحكومة أخيراً بمسألة التمثيل، ورصدت لتشجيعه وإنهاضه زهاء ثلاثين ألفاً، هذا عدا عشرة آلاف أخرى تفرق كل عام على الفرق الأجنبية. وإذا كنا نحمد لوزارة المعارف عنايتها بالتمثيل وهو من عناصر الفن وأركانه، فإننا لا نستطيع أن نسيغ موقفها إزاء الحركة الأدبية وإزاء المشتغلين بالأدب والكتابة، فلم نسمع إلى اليوم أن وزارة المعارف قد فكرت في عهد من العهود أن ترصد أي اعتماد لتشجيع الحركة الأدبية، ولم نسمع أنها رصدت يوماً أي مبلغ لمكافئة الكتاب المبرزين أو مؤلفي الكتب الممتازة، ومنذ أعوام ترصد وزارة المعارف اعتمادات مختلفة لإعانة الممثلين والممثلات، ولكنها لم تفكر يوماً في أن ترصد مبلغاً لإعانة الكتاب والمؤلفين، ولسنا نجد مبرراً لمثل هذا الإغفال المؤلم من وزارة المعارف، فهل لنا أن نؤمل أنها في عهدها الجديد، تعنى بهذه المسألة؟ وهل لنا أن نؤمل أنها كما ذكرت التمثيل والممثلين تذكر الأدب والكتاب، فتعمل لهؤلاء شيئاً مما تريد أن تعمله لأولئك؟(120/73)
آخر كتاب للكولونيل لورنس
من أنباء نيويورك أن شركة للنشر قد أعلنت أنها ستخرج في الخريف القادم عشر نسخ فقط من آخر كتاب وضعه الكولونيل لورنس بطل الثورة العربية الشهير، وعنوانه المضرب وستطبع هذه النسخ العشر على ورق من الحرير الفاخر وتعرض النسخة الواحدة للبيع بمبلغ خمسمائة ألف دولار (مائة ألف جنيه!) والمقول أن بيع الكتاب بهذا الثمن الخرافي يقصد به حماية حق طبعه وعدم إذاعته. ومما يذكر بهذه المناسبة أنه لما طبع كتاب لورنس الشهير (سبعة أعمدة من الحكمة) في أمريكا عرضت النسخة للبيع بمبلغ أربعة آلاف جنيه وبيعت كلها وكان المطبوع منه 120 نسخة فقط
كتاب جديد لدانونزيو
صدر أخيراً كتاب جديد لجبرائيلي دانونزيو شاعر إيطاليا الأكبر بعد صمت طال أمده. وعنوان كتاب الشاعر الجديد طريف مدهش، فقد سماه (مائة ومائة ومائة ومائة صفحة من الكتاب السري لجبرائيلي دانونزيو الذي يود الموت) والكتاب مدهش رائع حقاً؛ فهو يحتوي على طائفة كبيرة من ذكريات دانونزيو ومخاطراته وتجاربه الشخصية وملاحظاته من كل ضرب، وهو يفيض بالصور البديعة والآراء الغريبة، والتخيلات المدهشة والاضطرام المتقد في سبيل المجد والشهرة. وينقسم الكتاب إلى قسمين، قسم يحتوي على قصص الشباب وأحلامه الوحشية، وقسم عنوانه (الكتاب السري)، وفيه يتحدث دانونزيو عن الدور الذي قام به في الحرب الكبرى، ومخاطراته وأحلامه وأعماله العبقرية التي جعلت من الشاعر جندياً شهيراً، وجعلت منه بطلاً قومياً لإيطاليا
من ضحايا النازي
يعيش في المنفى رهط كبير من أكابر الكتاب الألمانيين (غير اليهود) وذلك لأنهم من خصوم هتلر وسياسته؛ ويعاني الكثير منهم شظف العيش وآلام المنفى لأنهم حرموا من أموالهم وأملاكهم التي صادرتها الحكومة الألمانية. وقد توفي أخيراً في باريس أحد هؤلاء الكتاب، وهو الدكتور هلمان فون جيرلاخ
وكان فون جيرلاخ قبل قيام الحكم الهتلري من أقطاب الصحافة الألمانية، يحرر (جريدة(120/74)
برلين الأسبوعية) وقد اشتغل فون جيرلاخ بالسياسة منذ بعيد وتقلد النيابة في الرخستاج مراراً عن سيليزيا العليا موطنه. ولكنه كان ديموقراطي النزعة يدعوا إلى السلام والتفاهم مع فرنسا، وهو الذي أسس شعبة حقوق الإنسان الألمانية، ولما قام الحكم الهتلري في ألمانيا فر من ألمانيا إلى باريس، فنزعت الحكومة أملاكه وأمواله، وجعل فون جيرلاخ جهوده لمقاومة الحكومة النازية ومبادئها حتى توفي في نحو الخامسة والستين من عمره
منازل الفضل
كان الأستاذ الجليل محمد محمود جلال قد أخذ يكتب تحت هذا العنوان عن الدور القديمة التي كان لها أثر ظاهر في تاريخ مصر الحديثة، فنشر في العدد الثامن والثمانين من (الرسالة) مقالاً نفيساً عن (قصر الوالدة)، ثم شغلته شواغل الحياة عن موضوعه. وقد جاءنا اليوم كتابان أحدهما من الأديب (علي فهمي) بالمنصورة، والآخر من (فؤاد شاكر) بالقاهرة يستنجزان الأستاذ وعده بالمضي في هذا الموضوع الطريف الذي يجمع بين الفائدة والعضة واللذة، والأستاذ لا شك فاعل(120/75)
الكتب
1 - وحي العصر - تأليف الأستاذ إبراهيم المصري
2 - قصص الحياة - تأليف السيدة نور الهدى الحكيم
للأستاذ محمود الخفيف
ترى في هذين الكتابين مثلين من ألوان الأدب العصري في مصر. أما أولهما فمجموعة مقالات تتخللها عدة أقاصيص مترجمة، قسمه المؤلف خمسة أقسام: دراسات أدبية، واجتماعيات وصرخات، ووجوه وأروح، وقصص. ولذلك كان الكتاب في بنائه وفي موضوعه لا يخرج كثيراً عن ذلك النوع من الأدب المعروف (بأدب المقالة)، فلقد جمع المؤلف شتيت ما كتب في مناسبات مختلفة وأطلق عليه اسم وحي العصر، وإن كان هذا الاسم يوحي إليك فكرة متصلة أو دراسة مفصلة للعصر الذي يعيش فيه
تطالع الفصل الأول (وحي البيئة والعصر في الأدب الحديث) فترى الكاتب يقرر أن الأدب الحي الجدير بالبقاء هو ما جمع بين تأثير البيئة وإيحاء العصر، وتراه من أجل ذلك يعيب على أدبنا العصري خلوه من هذه الصفة، بينما هو يمتدح الأدب الأوربي ويعجب به، وهو إذ يورد لك الأمثلة في أدبنا ينسى أن ما يشكو منه إنما هو وليد البيئة، كما جاء في كلامه عن طريقتنا في الحب والشعر مثلا؛ والغريب أنه يشير إلى العلة، وهي بعد المرأة عن الرجل! أوليس تأثير البيئة الذي يدعوا إليه واضحاً في هذا؟ وكيف يتسنى لنا أدب آخر مع ما نحن عليه؟
وإنك لتنتظر أن يدور الكتاب على تلك القاعدة التي يدعو إليها، فإذا بك لا تكاد تحس أثراً لبيئتنا إلا في تلك القطعة الجميلة القوية وهي (المرأة المصرية قبل الكفاح الوطني وبعده) وماعدا هذه فالصيغة كلها غريبة، أوربية وأمريكية، ففي مقالة (الصدق في الأدب والحياة) تجده لا يقتصر عن اتهام أدبنا فيرمينا بأننا نؤثر اللذة على الألم في إنتاجنا ضعفاً منا وجبنا، ثم هو يعيب علينا كثرة الخيال وضعف قوى العقل، يعيب ذلك علينا في الشعر والقصة، وهو لا يجهل أن الشعر في العالم قديمه وحديثه شرقيه وغربيه وليد الخيال، وأن القصة تفقد أهم عناصرها إذا غلب فيها التحليل والدرس على الخيال الشعري القوي، فإذا(120/76)
طلب الصدق فعليه أن يطلبه في الفلسفة، فان الصدق في الأدب عدو الخيال، ومن ثم فهو عدو الشعر والقصة. على أن الكاتب الفاضل لا يلبث أن ينسى القاعدة أيضاً، فيرى أن الأدباء البرجوازين يتعامون عن بيئتهم، ويزيغون عنها، ويبتعدون بذلك عن الصدق، وهو مع ذلك يرى في أدبهم قوة تنجيه من اللوم، ثم تراه حين يتحدث عن (الشعر في هذا العصر ونهضته في فرنسا) يدعوا مع الداعين من أبناء الغرب إلى السمو الروحاني والخيال الجامح المليء بالرؤى والأحلام، تراه يدعو إلى (ذلك الشعر الذي يغلب فيه الخيال على العقل، والذي ينطلق كموج الموسيقى، ويتصاعد إلى السماء كالصلاة، ويقصد به الشاعر التغني بالحياة وتمجيد ظواهرها واستبطان هذه الظواهر بواسطة الإشراق الروحي والاتصال من خلالها بالقوة العلوية الخالدة التي أبدعتها) فأين هذا من إنكاره الخيال في الأدب وخصوصاً في أدبنا؟! ولعل هذا التناقض نتيجة انعدام الوحدة في الكتاب كما سبق أن ذكرت
أما باقي موضوعات الكتاب فهي كما أسلفت غريبة الروح والعاطفة، فأنت تقرأ الأدب الأمريكي الحديث وترجمة خمسة من أعلامه، وتقرأ أدب السرعة ومظهره في أوربا، كل ذلك دون أن تظفر بإشارة إلى شاعر من شعرائنا أو كاتب من كتابنا؛ وفي قسم التراجم من هذا الكتاب لن تجد سوى أعلام الغربيين كأميل زولا، وبول بورجيه، ورومان رولان، وهنري دي منترلانن وغيرهم؛ وفضلاً عن ذلك فلن تحس بشخصية المترجم في تلك التراجم، وهي على دقتها واستيفائها لا تخرج في جملتها عما نطالعه في المجلات من لمحات بسيطة في سير هؤلاء الرجال حتى لقد أحسست أن ثقافة المجلات مسيطرة سيطرة قوية على الأديب المؤلف في هذا الباب
حتى الأقاصيص تجدها معربة تشرح بيئات غير بيئتنا ومجتمعاً غير مجتمعنا، ومثلاً غير مثلنا. نعم لا ضير على الأديب أن ينقل إلينا ما استحسن من النماذج بين حين وآخر، ولكن على شرط أن يشعرنا بألحاننا ويرينا من ألوان ثقافتنا وصور حياتنا ما يؤنسنا وسط هذا الضجيج الغربي الذي نخشى أن يعوق تقدمنا، ويمحو ذاتيتنا، ويحول بيننا وبين الأصالة والخلق، ويقطع الصلة بيننا وبين ماضينا الحافل
ولست أشك في أن الأستاذ إبراهيم المصري بذكائه ونشاطه واستعداده قمين أن يجول في(120/77)
أدبنا المصري الناشئ جولات تعود علينا بالخير، إن هو وجه إليه بعض عنايته
يأتي بعد ذلك الكتاب الثاني (قصص الحياة في الأسرة والمجتمع) للمربية الفاضلة السيدة نور الهدى الحكيم، ويقع في نيف وثلثمائة صفحة، وذكرت مؤلفته أنه مؤسس على نظريات التربية وعلم النفس والاجتماع. ولقد قرأته فألفيته يدور كله حول المرأة وعلاقتها بالرجل، وهو يضم إلى ما به من أقاصيص بعض نظرات في الحياة (كاستفتاء في حادث خلقي) والمجتمع الحديث للأسر المصرية، وتطور الآراء في تربية المرأة. وهذا الكتاب يتناول المجتمع المصري والبيئة المصرية في الكثير الغالب من موضوعاته، حتى لتكاد تنعدم فيه الصبغة الغربية، على الرغم من أن صاحبته عاشت في أوروبا زمناً، وهي ظاهرة نحمدها لها؛ فما أحوجنا إلى من يتناول حياتنا بالشرح والتحليل في إخلاص وعطف. ولقد أحسست الإخلاص والتحرق إلى الإصلاح في هذه الأقاصيص الساذجة، وأعجبتني تلك الروح الطيبة؛ فالكاتبة لا تشير إلى عيوبنا إشارة المترفع المستكبر الذي يباهي بمدنية غيره، ولن يهمه سوى إظهار نقائصنا وعرضها في شكل فضائح كما يفعل شبابنا، بل تراها تعرض لها في رفق وهوادة، ولن تقتصر على الموقف السلبي منها، وإنما تذكر اوجه العلاج وتشرحها جهد طاقتها، وهي كما أذكر طريقة حميدة وروح محمودة. هذا إلى أن الكاتبة الفاضلة قد وفقت إلى أسلوب بسيط مقبول، تراه وإن لم يرضك كثيراً من ناحية البلاغة، لن يثقل عليك ولن تمله
غير أني أرى بناء القصة عندها ضعيفاً، ولعلها لا تسير فيها على قاعدة ولا تنتهج طريقة، وإنما يختلج الرأي في رأسها فتلبسه ثوب القصة في أي وضع، جاعلة نصب عينيها إبراز الفكرة وتوضيحها بطريقة سهلة غير طريقة الدفاع والمناقشة. ولعلها لم تفكر قط في بناء تلك الأقاصيص؛ والحقيقة أنها أقرب إلى (الحكايات) التي تدور بين جليسين منها إلى القصة في وضعها الفني، فأنت إذا طلبت الاستمتاع الفني عند قراءة هاتيك الأقاصيص لن تظفر به في معظمها، أما إذا طلبت الرأي والعاطفة فهي متوفرة لديك
هذا إلى أن الكاتبة النابهة، أقوى شخصية وأشد تأثيراً وأسمى بياناً في المقالة عنها في القصة، فلقد أعجبت حقاً بمقالها (تطور الآراء في تعليم المرأة وتربيتها) وتلوته مرتين مستمتعاً بما جاء فيه من آراء صائبة، وما تجلى في ثناياه من روح متوثبة(120/78)
وإني إذ أقدم هذا الكتاب إلى فتياتنا وفتياننا، أتقدم بالثناء للمربية الفاضلة على ما بذلت من جهد وما توخت من خير
الخفيف(120/79)
العدد 121 - بتاريخ: 28 - 10 - 1935(/)
خيبة المدنية
وا أسفاه!! أبعد هذه الحقب الملايين التي أتت على سليل الطين فسوت من خلقه، وراضت من خلقه، وصقلت من ذهنه، وصفت من جوهره، وجعلته على ملكوت الأرض يديره على حكمه، ويجريه على نظامه - لا يزال كأوابد الفقر وضواري الغاب يسطو القوى على القوى بالختل، ويعدو القوى على الضعيف بالقتل، وتضطرب الشهوات والمآرب بين الحيلة والغيلة اضطراب الأثرة بين العجز والقدرة؟!
أبعد الرسالات المتعاقبة التي بلغها رسل الله فغمرت العالم بالضياء، ووصلت الأرض بالسماء، ونهجت للنقص البشري سبيل الكمال المطلق - لا يبرح الإنسان باسطاً عنانه في الجهل، يرتكس في عماية الهوى، ويرتطم في حمأة المادة، ويجعل من الدين غشاء لنابه، ومن الأخلاق طلاء لظفره!
أبعد انتشار العلوم التي هتكت أستار الكون، وكشفت أسرار الطبيعة، وسبرت أغوار الحياة، وذلك ريض القوة - يظل أبن آدم على حيرة من يومه، وفي غمة من غده؛ لا يثق وثوق العالم بالحاضر، ولا يطمئن اطمئنان المؤمن بالمستقبل؟
أبعد ازدهار الآداب التي خلقت للناس أجنحة من الشعر، وكشفت للعالم أجواء من الخيال، وأبهجت مشاعر النفس بسحر المجهول، ودبجت حواشي العيش بألوان الربيع، ووجهت مطامح العيون إلى رفيع المثل - يظل الإنسان مسفا إلى حقير الأمل، مدفوعاً إلى دنى الغرض، محصوراً في حدود المنفعة؟!
أبعد هذه المدينة المغرورة التي تزعم إنها حررت الفكر، وأبطلت الرق، وضمنت حقوق الإنسان، ووحدت المقاييس بين الألوان، وحصرت أهواء الدول العاتية في قصر من قصور (جنيف) لتأمين خصامها بالتوفيق، وضمن سلامها بالتعاهد، وتجعل من جماعتها ألباً على الطغيان، وحرباً على العدوان، ويداً على الإثم - يظل الإنسان على عاد الجاهلية: يتكاثر بالعديد، ويتعزز بالسلاح، ويرصد الغفلة للغزو، ويفتري الحجة للغضب، ويغذى قوته على ضعف غيره؟!
من كان يظن بعد هذا الدهر المتطاول والعمران المستبحر والتقدم العجيب، أن يظل الناس على ضراوة الفطرة لا يتغير فيهم غير الغشاء، ولا يتبدل غير الأسماء، فتصبح البربرية بالعلم مدنية، والاغتصاب بالمدينة إنتداباً، والإسترقاق بالقانون وصاية!(121/1)
من كان يظن أن بحر الروم الذي كان بالأمس مسبحاً لغارة القرصان، ومسرحاً لبغي الرومان، لا يزال اليوم مجالاً لمثل ذلك؛ فالأساطيل على وجهه، وفي جوفه، وفي جوه، تضطرم بالحديد والنار لا استجابةً لصريخ الحق، ولا إطاعة لأمر القانون، ولكن لأن طاغية من طغاة المدنية المغشوشة، حشر جنوده في البر والبحر والهواء ليقتل أمة عزلاء قبل أن يتفق مع منافسيه على اقتراف الجريمة واقتسام الغنيمة؟!
من كان يظن إن هذا (الفاشي) المفتون يقف بمرأى من (الفاتيكان)، وعلى مسمع من (جنيف)، فيلغي قانون (العصبة)، وينقض ميثاق (كيلوج)، ويتحدى جميع الدول، لأنه نفخ (زقاقه السود) بالهواء الحار، وحوَّل الحذاء الإيطالي كله مصانع للذخائر والآلات، ومعامل للسموم والغازات، ثم تكبر وإختال، وتيخل ثم خل، وفكر فيمن يحرقه بهذا الرصاص، ويمزقه بهذا الديناميت، ويخنقه بهذا الغاز، ويسحقه بهذا الحديد، فلم يجد كفاء لتالد روما وطريف الفاشيست غير الحبشة المتواضعة المسكينة!! ولكن بأي حجة يبلغ (الدوتشي) الشعوب الهمج. والأحباش ولا ريب همج لأنهم لا يأكلون (الأسباجتي)، ولا يشربون (الكيانتي)، ولا يسترقون إلا الأفراد فلم يرتقوا بعد إلى استرقاق الأمم!!
أما بعد، فلو كانت أمور الناس تجري على سنن المنطق لكانت الحبشة أولى بتمدين إيطاليا؛ قضى خمسون دولة بالإجماع على الطليان بالعار والخزي، فقاطعوهم مقاطعة المجذوم، وطاردوهم مطاردة الآثم؛ ووقف الأحباش من المغير موقف الكرامة والنبل، يقابلون العدواة بالسلم، ويدافعون السفاهة بالحلم، حتى ظفروا بإعجاب العالم ورشح النجاشي لجائزة نوبل!! فلما أغار (المتمدنون) من غير إعلان، وقاتلوا من غير ضمير، واستعملوا أسلحة بغير حق، دافع (الهمجيون) دفاع المستبسل الحر، وجاهدوا جهاد المستشهد الصابر، وغالبوا باطل المعتدين بقوة الحق وعطف الشعوب ومزايا الرجولة، وكان موقف النجاشي الأسود من الزعيم الفاشي الأبيض موقف رب الدار من اللص، وصاحب القانون من الجرم!
رويدك يا أسود الشعار وممثل دور الجبار ومنذر العالم بيوم القيامة! إن أرواح الشباب الذين قذفتهم ظلماً في جحيم الحبشة، لتخرق أذنيك من خلال اللهيب بهذا الهتاف الرهيب:
على رسلك يا نيرون! إنك تحرق روما مرةً ثانية!!(121/2)
أحمد حسن الزيات(121/3)
بعد شوقي
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعم أن شوقي هو يحي شعره، وهو يرفع منه، وهو يشيع حوله قوة الجذب من مغناطيس الثروة والمكانة؛ وإن الرجل ما أوفى على شعراء جميعاً لأنه أفضلهم، بل لأنه أغناهم، ولا من أنه أقواهم قوة، بل لأنه أقواهم حيلة؛ وأن الشاعر لو جاء يومه لبطل السحر والساحر، فترجع العصا وهي عصاً بعد أن انقلبت حية، ويؤول هذا الشعر إلى حقيقته، وتتسم الحقيقة بسمتها؛ كأن شوقي كان يعمل لشعره بقوة السموات والأرض لا بقوة رجل من الناس.
فقد ذهب الرجل إلى ربه، وخلا مكانه، وبطلت كل وسائله، ونام عن شعره نومة الأبدية، وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق من الشعر أو باطل، وأصبح الشاعر هو وماله وجاهه وشعره في حكم الكلمة التي بقولها الزمن، ولم تعد هذه الكلمة في حكمه. فهل أثبته الزمن أو نفاه، وهل سلم له أو كابره، وهل رده في غمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟
أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدلالة عليه وأصدق في الشهادة له، كما تكون الظلمة بعد غياب القمر شرحاً طويلاً لمعنى ذلك الضياء، وإن سطعت فيها الكواكب وتوقد منها شيء وتلألأ شيء. فقد دل الزمن على أن ذلك الشأن لم يكن لشاعر كالشعراء، يقال في وصفه إنه مفتن مجيد مبدع؛ ولكنه للذي يقال فيه إنه صوت بلاده وصيحة قومه كانت تحدث الحادثة، أو يتخالج الناس معنى من الهم الذي يعمهم، أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن، أو يزول عظيم من العظماء فيزيد صفحة في التاريخ، أو ينشأ كون صغير من أكوان الحضارة في الشرق كبنك مصر، أو ترتج زلزلة في الحياة العربية أينما ارتجت، فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتين إحداهما في ذهن شوقي، فيرسل قصيدته الشرود السائرة داوية مجلجلة، فلا تكاد تظهر في مصر حتى تلتقي حولها الأفكار في العالم العربي كله، فتكون شعراً من أسرى الشعر وأحسنه، ثم تجاوز فإذا هي صلة من أقوى الصلات الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها، ثم تجاوزها فإذا هي عاطفة تجمع القلوب على معناها، ثم تسمو فوق هذا كله فإذا هي من هذا كله زعامة مصر على(121/4)
الشعر العربي.
واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشعرية من هنا وثم ملونة منتفخة ماضية على قانون الفقاقيع في الطبيعة من أن لحظة وجودها هي لحظة فنائها، وأن ظهورها يكون لتظهر فقط لا لتنفع.
ولست أماري في إن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر ولهم فكر وبيان ومذهب وطريقة، ولكن ما منهم أحد إلا وهو يشعر من ذات نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شوقي، وأنه في الحياة كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه وأن يخرج له التقليد فهو ينتظر وسينتظر.
وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل الدنيا بين العبقري الفذ وبين من يشبهونه أو ينافسونه - بضروب خفية من الصرفة والعوائق لا هي كلها من قوة العبقري ولا هي كلها من عجز الآخرين.
وأعجب من ذا إن (شوقي) كان في العالم العربي كأنه عمل تاريخي متميز من أعمال مصر، غير أنه مسمى بأسم رجل؛ وكان على الحقيقة لا على المجاز - كأن فيه شيئاً من هذه الروح التاريخية المتغلبة التي تخلد بأسماء الآثار الفنية وتكسبها العظمة في الوجودين، من محلها ومن نفس الإنسان.
وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعراً عربياً يحسن في وصف الآثار المصرية ما يحسن في وصفها شعر شوقي، حتى لأسأل نفسي: هل تختار بعض الأشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها، كما تختار المرأة الجميلة عاشقها ومستحلي حسنها؟
وما بان شوقي على غيره إلا بأنه رجل أفرغ في رأسه الذهن الشعري الكبير، فكان في رأسه مصنع عماله الأعصاب، ومادته المعاني، ومهندسه الإلهام؛ والدنيا ترسل إليه وتأخذ منه؛ وعلامة ذلك من كل شاعر عظيم أن تضع دنياه على أسمه شهادتها له. ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن أسمه في وزن اسم مملكة. فإذا قلت شكسبير وإنجلترا، فهما في العظمة النفسية من وزن واحد، وكذلك المتنبي والعالم العربي، وكذلك شوقي ومصر.
قالوا كان الفرزدق ينقح الشعر، وكان جرير يخشب (أي يرسل شعره كما يجيء فلا يتنسوق فيه ولا ينقحه)؛ وكان خشب جرير خيراً من تنقيح الفرزدق. ولم يتنبه أحد إلى(121/5)
السر في ذلك؛ وما هو إلا السر الذي كان في شوقي بعينه، سر الامتلاء الروحي قد أمد بالطبع، وأعين بالذوق، وأوتى القوة على أن يتحول بآثاره في الكلام؛ فكل ما كان منه فهو منه، يجيء دائماً قريباً بعضه من بعضه، ولا يكاد ينفذ إلى شعور إلا اتحد به.
وقد كان عمر بن ذر الواعظ البليغ إذا تلكم في مجلسه نشر حوله جسواً من روحه فيجعل كل ما حوله يتموج بأمواج نفسية؛ فكان كلامه يعصف بالناس عصف الهواء بالبحر يقوم به ويقعد، وكان من الوعاظ من يقلده ويحكيه ولا يدري إنه بذلك يعرض الغلطة على ردها وصوابها، فقال بعض من جالسه وجالسهم: ما سمعت عمر بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، وما سمعت أحداً يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين. . .
فالفرق روحاني طبيعي كما ترى، لا عمل فيه لأحد ولا لصاحبه وهو يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسيم من الريح يرسلان على جهتين في البحر. ففي ناحية يلتج الماء ويثب ويتضرب ويقصف قصف الرعد، وفي الأخرى يترجرج ويتزحف ويقشعر ويهمس كوسواس الحلي.
والشأن كل الشأن للكمية الوجدانية في النفس الشاعرة أو الممتازة؛ فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجه ما، وتهيئهاً لما يراد منها بقدرٍ ما، وتقيمها على دأبها إلى زمن ما، وتخصها بخصائصها لغرض ما. وإذا أنت حققت لم تجد الفروق بين النوابغ بعضهم من بعض، إلا فروقاً في هذه الكمية ذاتها مقداراً من مقدار. ولولا ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشعراء، فقد يكون الشاعر العظيم كأنه تلميذ في العلم ثم يكون العلم كأنه تلميذ لقلب هذا الشاعر وعواطفه. ولئن عجز النقد العلمي أن ينال من الشاعر العبقري لقديماً عجز في كل أمة.
وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شوقي من هو أوسع منه إطلاعاً على آداب الأمم، وأبصر بأغراض الشعر وحقيقته، وكان مع ذلك حاسداً شانئاً قد ثقب في قلبه الحقد؛ والحاسد المبغض هو في اتساع الكلام وطغيان العبارة أخو المحب العاشق، فكلاهما يدور الدم في كبده معاني ووساوس، وكلاهما يجري كلامه على أصل مما في سريرته فلا تجد أحدهما إلا عالياً عالياً بمن يحب، ولا تجد الآخر إلا نازلاً نازلاً بمن يبغض. وكان هذا الناقد شاعراً فأنضاف شعره إلى حسده، إلى بغضه، إلى ذكائه، إلى إطلاعه، إلى جهده، إلى طول الوقت(121/6)
وتراخي الزمن؛ وهذه كلها مفرقعات نفسية. . . بعضها أشد من بعض كالبارود، إلى الديناميت، إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي كان في مرتقى لم يبلغه الناقد فانقلب جهد هذا عجزاً وأصبح البارود والتراب في يده بمعنى واحد. . . .
ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد، أني رأيته يقرر للناس صواب الحقيقة بزعمه، فإذا هو يقرر غلطه وجهله وتعسفه. وهو في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العذب وعمله في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه، فيذهب بعيبه للناس بأنه ليس هو البنزين. . . الذي يحرك السيارات والطيارات.
تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية أي من حاسة الشعر ومن إدراك السر الذي لا يخلق الشاعر الحق إلا لإدراكه والكشف عن حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن شوقي لا يحسن وصف الربيع بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله:
تجدُ الوحوشُ به كفايَّتها ... والطيرُ فيه عتيدةُ الطُّعْمِ
فظباؤُه تُضحى بُمنْتَطَح ... وحمامه يضحى بمختَصمِ
وزعم أن ابن الرومي قد ولد بحاسة لم يولد بها شوقي، ولهذه الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع وأنه غليان الحياة في الأحياء، فالظباء تنتطح من الأشر الخ الخ وبنى على ذلك ناطحة سحاب. . . . لا ناطحة ظباء.
أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز الذي لم يولد بمثل تلك الحاسة فلو أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الإحساس ولا استطاع أن يجيء بمثل هذا القول المعجز. وكل ذلك من هذا الناقد جهلٌ في جهل في جهل، واعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن الرومي في هذا المعنى لصٌّ لا أكثر ولا أقل، فلم يحس شيئاً ولا ابتدع ولا اخترع.
قال الجاحظ: يقال في الخصب (أي الربيع) نفَشَت العنز لأختها؛ وخلفت أرضاً تطالم معزاها (أي تتظالم). قال لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها وإنما ذلك من الأشر. (أي حين سمنت وأخصبت وأعجبتها نفسها).
فأنت ترى أن ابن الرومي لم يصنع شيئاً إلا أنه سرق المعنى واللفظ جميعاً، ثم جاء للقافية بهذه الزيادة السخيفة التي قاس فيها الحمام على الظباء والمعزة. . . . فاستكره الحمام على أن يختصم في زمن بعينه وهو يختصم في كل يوم. وإنما شرط الزيادة في السرقة الشعرية(121/7)
أن تضاف إلى المعنى فتجعله كالمنفرد بنفسه أو كالمخترع ولعمري لو كان للطبيعة مائة صورة في الخيال الشعري، ثم قدم شوقي للناس تسعاً وتسعين منها، لقال ذلك الناقد المتعنت: لا. إلا الصورة التي لم يقدمها. . . .
وكان شعر شوقي في جزالته وسلاسته كأنما يحمل العصا لبعض الشعراء، يردهم بها عن السفسفة والتخليط والاضطراب في اللفظ والتركيب؛ فكثر الاختلال في الناشئين من بعده وجاءوا بالكلام المخلط الذي تبعث عليه رخاوة الطبع وضعف السليقة، فتراه مكشوفاً سهلاً ولكن سهولته أقبح في الذوق من جفوة الأعراب على كلامهم الوحشي المتروك.
والآفة أن أصحاب هذا المذهب يفرضون مذهبهم فرضاً على الشعر العربي كأنهم يقولون للناس: دعوا اللغة وخذونا نحن. وليس في أذهانهم إلا ما اختلط عليهم من تقليد الأدب الأوربي فكل منهم عابد الحياة، مندمج في وحدة الكون، يأخذ الطبيعة من يد الله، ويجاري اللانهاية، ويفنى في اللذة، ويعانق الفضاء، ويغني على قيثارته للنجوم؛ وبالاختصار فكل منهم مجنون لغوي. . . .
وأنا فلست أرى أكثر هذا الشعر إلا كالجيف، غير أنهم يقولون إن الجيفة لا تعد كذلك في الوجود الأعظم، بل هي فيه عمل تحليل علمي دقيق. لقد صدقوا، ولكن هل يكذب من يقول: إن الجيفة هي فساد ونتن وقذر في اعتبار وجودنا الشخصي، وجود النظر والشم، والانقباض والانبساط، وسلامة الذوق وفساد الذوق!
وكان حاسدو شوقي يحسبون أنه إذا أزيح من طريقهم ظهر تقدمهم؛ فلما أزيح من الطريق ظهر تأخرهم. . . وهذه وحدها من عجائبه رحمه الله.
وقد كان هذا الشاعر العظيم هبة ثلاثة ملوك للشعب، فهيهات ينبغ مثله إلا إذا عمل الشعب في خدمة الشعر والأدب عمل ثلاثة ملوك. . . . وهيهات.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(121/8)
السنيون والشيعة
للأستاذ أحمد أمين
بهذا العنوان كتب الأستاذ (محمد رضا المظفر) من أفاضل علماء النجف مقالاً قيماً في (عدد الرسالة 118 السنة الثالثة)؛ وقد أستهلها الأستاذ بالعجب من أن أكون كاتب (فجر الإسلام وضحاه)، وكاتب (مقدمة تاريخ القرآن) للأستاذ الزنجاني معاً وأن (النغمة التي ظهرت مني في هذه المقدمة نغمة متواضعة على وتر من إحساس جديد) وإنها على عكس ما ظهر مني في فجر الإسلام وضحاه، وفسر ذلك بأن لي (شخصيتين تباعدتا على قرب العهد بينهما)
والحق - يا أخي - أن النغمتين صدرتا عن نفس واحدة كانت تكره الخلاف بين السنيين والشيعة أشد الكره وأعمقه يوم كتبَتْ فجر الإسلام وضحاه كما كانت تكرهه يوم كتبت مقدمة تاريخ القرآن، وكما لا تزال تكرهه إلى اليوم
وكل مظاهر الخلاف بين القولين سببه أني بحثت في فجر الإسلام وضحاه مذهب الشيعة كما يبحثه كل عالم، وحاولت جهدي أن أضع التعصب جانباً، وأن أتناسى أني سني أكتب عن الشيعة، وأملأ نفسي عقيدة أني مؤرخ يتطلب الحق حيث هو - ومن أجل ذلك نقدت السنيين كما نقدت الشيعة، وقلت ما اعتقدته الحق في هؤلاء وهؤلاء، ووضعت الفرقتين في كفتي ميزان؛ فإذا قلت إن بعض الشيعة وضعوا بعض الأحاديث قلت إن بعض السنيين وضعوا بعض الحديث أيضاً، لأني اعتقدت الحق في ذلك؛ وهكذا سرت على هذا النهج دائماً وأنصفت المعتزلة في بعض آرائهم، والخوارج في بعض آرائهم، والشيعة في بعض آرائهم. مع أن العادة جرت أن السنيين لا يرضون عن شيء من ذلك، فأسلوبي في الحالين طلب الحق حيث كان، وإذا كان ديننا يتطلب منا أن نزن الحق في ذاته من غير أي اعتبار آخر سواء كان مصدره مسيحياً أو يهودياً أو وثنياً، فبالأحرى نزنه إن كان مصدره معتزلياً أو خارجياً أو شيعياً؛ وكل ما في الأمر أن بعض أخواني من الشيعة اخطأوا من ناحيتين: الأولى إنهم دائماً طبقوا ما أقوله عن الشيعة على أنفسهم، وفهموا أني لا أعني بالشيعة في كل موضوع إلا إياهم، مع أن الشيعة كما يعلمون فرق مختلفة لا حصر لها، وإن منها الغالي الممعن في غلوه، ومنها المعتدل القريب من الإنصاف، وليست الإمامية التي يدين(121/9)
بها أهل العراق وفارس إلا فرقةً واحدة من فرق عديدة، بعضها باق إلى اليوم، وبعضها عفى عليه التاريخ؛ فخطأ محض أن يظنوا أني كلما قلت (الشيعة) عنيتهم؛ إنما يكون لهم الحق كل الحق أن يفهموا إني أقصدهم عندما أتكلم على الإمامية أو الاثني عشرية - والمؤرخ يجب عليه أن يؤرخ الماضي كما يؤرخ الحاضر، وأن يذكر الغلاة كما يذكر المعتدلين، فإذا عاب الغلاة فليس عيبه إذا فهم قوم منه أنه يعنيهم
والناحية الثانية هي ما دعوت إليه في (مقدمة تاريخ القرآن) من إنه يجب على العلماء من الطائفتين أن يوسعوا صدرهم للنقد النزيه (ويتلقوا النتائج بصدر رحب)، فهذه شيمة العلماء حقاً، فكم أخطأ الشيعة وكم أخطأ السنيون! فواجب الباحث أن يبحث المسائل حراً طليقاً، ويتأهب للبحث وهو على الحياد بالنسبة للنتائج، فسواء خرجت النتيجة صفراء أو سوداء لا يهمه، لا أن يعتقد أولاً ثم يبحث عن البرهان الذي يؤدي إلى النتيجة التي أعتنقها من قبل، فذلك ليس شيمة العلماء المخلصين للحق. وكل ما في الأمر أن الواجب أن ينحي العامة وأشباههم عن الدخول في مثل هذه المباحث لأنهم لا يستسيغونها ولا هم متهيئون لها، وليست تنفعهم في دينهم ولا ديناهم
بهذه الروح بحثت، ولا أدعى العصمة، فقد أكون أخطأت؛ وقد وجه بعض أخواني من الشيعة نظري إلى أني حين بحثت عولت على مصادر أهل السنة أكثر مما عولت على مصادر الشيعة، وكان الواجب ألا يعتمد في كلام خصم على خصم، وأن ينظر في قول كل فرقة إلى حكاية أصحابها وخصومها معاً، ثم يمحص الحق من ذلك كله؛ وقد أصغيت إلى هذا القول واقتنعت بصحته، فلما أردت أن أكتب فصل الشيعة في الجزء الثالث من ضحى الإسلام توسعت ما وسعني في قراءة الكتب المعتمدة عند الشيعة، ولا أزال أقلبها ظهراً لبطن وأفكر فيها من وجوهها المختلفة حتى ينثلج صدري للحق وأومن بما يقوم عليه البرهان من غير تحزب لناحية - وليس يتطلب مني أكثر من ذلك. وإنما يتطلب من قادة الرأي في الشيعة والسنيين ألا يضيق صدرهم حرجاً مما يقال متى خلصت نية القائل - وعلى القائل والكاتب أن يعمد إلى الحق والحق وحده، وأن يقوله في أدب لا في تهاتر وسباب
وليس من الحق ألا يرضى الشيعة عن المؤرخ إلا إذا مجد كل عقائد الشيعة وصوبها، كما(121/10)
ليس من الحق ألا يرضى السنيون عنه إلا إذا مجد كل عقائدهم وصوبها، فالمؤرخ قاض عادل لا يهمه من رضى ومن غضب، وهو لم ينصب للإرضاء والإغضاب، إنما نصب ليتعرف الحق ويجهر به
هذا ما أردت أن أقوله من الناحية العلمية، وأرى من وراء ذلك كله إلى القول بأن البحث العلمي شيء والنزاع والخصام شيء آخر، وأن البحث العلمي لا يمنع التفاهم والوئام، بل هو إذا نظر إليه النظر الواسع العالي سبب من أسباب الألفة
أما الناحية العملية في الوفاق فسهلة ميسورة متى أخلص القادة في ذلك - وهي في هذا الزمان أيسر وأسهل؛ وإذا كانت الوطنية قد استطاعت أن توفق في مصر بين الأقباط والمسلمين، وفي سوريا بين المسلمين والمسيحيين، فكيف لا تستطيع المصالح المشتركة القوية الواضحة ألا توحد بين الشيعة والسنيين وهم أهل دين واحد يجمعهم الإيمان العميق في صدورهم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وان كل الخلاف بينهم موجات على السطح وفقاقيع في الظاهر يستغلها أهل الجاه والمال والرياسة فيوهمون أنها كل شيء في الدين، وليس ذلك بصحيح إلا إذا كانت فقاقيع الماء كل الماء، وأمواج البحر هي كل البحر، وزبد السوائل كل السوائل، والعمامة الخضراء والحمراء والبيضاء هي كل الإسلام؛ فالحق إن الإسلام أعمق من ذلك كله، وما الخلافة والنزاع عليها والفروق الخفيفة في مظاهر الوضوء والصلاة والزواج والطلاق ونحو ذلك إلا أشياء تافهة كل التفاهة بجانب القواعد الأساسية للدين، والفرق بينهما كالفرق بين مظهر الإنسان وقلبه، وبين ملبسه ومخبره. ليكن الإيمان بالأسس في القلب، ثم ليكن المظهر ما يكون، فالله ينظر إلى قلوبكم لا إلى صوركم
وليقلل علماء الدين سنيون وشيعة من تمسكهم بالمظهر ومحافظتهم على وجاهتهم في قومهم وأتباعهم وما يغله ذلك عليهم، يروا أن الوفاق أقرب ما يكون وأسهل ما يكون ويضحكوا ويبكوا من سخافات السلف والخلف الذين أثاروا النزاع على التافه وتركوا اللباب أليس من السخف أن يتقاتل طائفتان على خلاف تاريخي أكان علي أحق بالخلافة أم أبو بكر وعمر، وعلي وأبو بكر وعمر في قبورهم لا يعنون بشيء من ذلك؟ أم ليس من السخف أن يتعادى طائفتان مسلمتان تقرأن كل أسس الإسلام من أجل اختلافهما في جزيئات صغيرة في أشكال(121/11)
الوضوء وما إليه؟ أم ليس من السخف ألا يقر الشيعة بعلم ولا فضل ولا فكرة ولا عمل مجيد إلا إذا صدر من شيعي؟ وألا يقر السنيون بعلم ولا فضل ولا فكرة ولا عمل مجيد إلا إذا صدر من سني؟. . لا لا أيها القوم! جعفر الصادق رجل عظيم، وأبو حنيفة رجل عظيم، فليزر شيعة العراق أبا حنيفة لعظمته، وليزر سنيو العراق مشهد الحسين لعظمته؛ والأمهات يلدن النوابغ على السواء، فلم تضن على الشيعة بنوابغ ولا على السنيين بنوابغ، كما لم تضن على الأمم الأخرى بنوابغ، فحصر كل فرقة تعظيمها لرجال فرقتها ضيق في النظر وفقر في الفكر.
وإذا زال هذا كله وأمثاله - وهي فيما أرى من البديهيات - رأينا الخلاف قد تبخر ولم يعد له أساس، ولا يبقى إلا عند المؤرخ والباحث، والمؤرخون والباحثون دائماً متصافون متى كان رائدهم الحق، وشعارهم الصدق، ولم تطوح بهم الأغراض والشهوات
ليس من وسيلة تدرأ هذا الخلاف إلا أن يتقدم علماء اليوم من الفريقين فيمحوا الآثار السيئة التي خلفها علماء الأمس
ولعل أصلح بقعة لذلك هي العراق، لأنها أشد البلاد مظهراً لهذا الخلاف، فيتعاون رؤساء الطائفتين لعقد مؤتمر في بغداد من رؤساء السنيين والشيعة، ويبحثوا وجوه الخلاف وكيف تزال في جو هادئ مخلص؛ وأسبق الطائفتين إلى هذه الدعوة أفضلهم، ولا يجعلوا للعامة والغوغاء سلطاناً، وليحذروا من أصحاب المطامع والشهوات ودسائسهم، وليجعلوا شعارهم في كل مجتمع وعند كل خلاف (مسلمون قبل كل شيء) (مسلمون قبل أن نكون شيعة وسنيين).
ولا بأس أن يدعوا قادة الفكر في مصر والشام والحجاز للاشتراك في هذا المؤتمر والتشديد في حصر أغراضه في إزالة الخلاف بين سني وشيعي، فلا يمسون أي موضوع آخر، ثم يرسمون الطريق العملي لإزالة هذا النزاع من تزاور الطائفتين، واتخاذ شعار لهذا الوفاق، وتبيين يوم يتخذ عيداً يذكر بهذا الاتحاد ونحو ذلك. إنهم إن فعلوا واخلصوا خلصوا من أكبر مشكلة يتعرض لها الطائفتان، وأمكنهم أن يوجهوا هذه القوى - العظيمة التي تذهب في الخلاف - إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية، واستطاعوا أن يتعاونوا على رفع مستوى قومهم، وعجبوا بعد قليل - لما يظهر من نتائج باهرة - كيف كانوا جميعاً في ظلام دامس،(121/12)
وكيف كانوا هذا الزمن الطويل يستمسكون بالعرض، ويضيعون الجوهر، ويفرطون في الكتاب، ويحتفظون بالغلاف
واقرر من الآن أني سوف لا أرد على من يتخذ من بعض ما جاء في هذه المقالة وسيلة لإثارة النزاع من جديد، إلا أن يفتح صاحبها مجالاً للكلام في مشروع المؤتمر، أو وسائل الوفاق وباللهالتوفيق. . . .
أحمد أمين(121/13)
عصبة الأمم وتطبيق العقوبات
تحريم الحرب من الوجهة الدولية وتشبيه الدولة بالفرد في قمع
الاعتداء
لباحث دبلوماسي كبير
لأول مرة في التاريخ نشهد قراراً دولياً بأن حرب الاعتداء وسيلة غير مشروعة لتحقيق غايات السياسة القومية، ولأول مرة في التاريخ تصدر دول العالم ممثلة في عصبة الأمم حكمها على دولة أوربية عظمى هي إيطاليا بأنها دولة معتدية، وإنها بغزو الحبشة ترتكب خرقاً لقانون الأمم؛ بل نشهد في الواقع ما هو أعظم من الأحكام النظرية؛ نشهد عصبة الأمم تقرر باسم دول العالم أن توقع على إيطاليا طائفة من العقوبات الاقتصادية التي نص عليها في ميثاقها؛ وهذه أول مرة تتخذ فيها عصبة الأمم مثل هذه القرارات الخطية الحاسمة، وقد كان يبدو دائماً كلما وقعت أزمة دولية خطيرة أن هذه النصوص التي أدمجت في ميثاق عصبة الأمم وقت حمى السلام، إنما هي نصوص خيالية لا سبيل إلى تطبيقها بصورة عملية؛ ولكن يلوح لنا إن عصبة الأمم تسير هذه المرة بعزم واضع إلى تطبيق هذه التجربة الشائكة، وإنها تزمع أن تصل بتطبيقها إلى نتائج عملية لا شك في أهميتها من الوجهة الدولية
وهذا الإقدام الذي تبديه العصبة في مقاومة الاعتداء الإيطالي على الحبشة وعلى السلام العام يثير بلا ريب كثيراً من الإعجاب، ويرفع بلا ريب هيبة العصبة بعد أن كادت تغيض في الأعوام الأخيرة؛ ولكن يجب ألا نبالغ في فهم الدور الذي تؤديه العصبة في هذا النضال الدولي الخطير، أو بعبارة أخرى يجب أن نفرق بين العصبة كشخصية دولية معنوية، وبين الدول التي تساهم في تكوينها وتشرف على توجيهها؛ فمن الواضح أنه لو لم تقف إنكلترا وقفتها المعروفة في التمسك بميثاق العصبة، ولو لم توفق السياسة البريطانية إلى إقناع الدول الأخرى بوجهة نظرها في تأييد الميثاق، بل لو لم تقم إنكلترا باتخاذ تلك الاهبات البحرية والعسكرية الخطيرة لتأييد موقفها، لما استطاعت العصبة أن تقدم بمثل هذا العزم على تطبيق الميثاق واتخاذ قرارها الشهير في الحكم على إيطاليا بالاعتداء وتوقيع(121/14)
العقوبات الاقتصادية عليها
ومن الواضح أيضاً أن بريطانيا العظمى لم تقف هذا الموقف الحازم من المغامرة الإيطالية حباً في السلام فقط، أو لأن بريطانيا تريد أن تكون حارسة للسلم، أو أن تكون على حد تعبيرها (بوليسا) للقارة، أو بوليسا للعالم. فبريطانيا أزهد ما يكون في مثل هذه المهمة التي تعرضها لمتاعب ومسؤوليات لا نهاية لها؛ ولكن الحقيقة أن هذه الحرب الاستعمارية التي تثيرها إيطاليا تعرض مصالح الإمبراطورية البريطانية للخطر، وفوز إيطاليا بافتتاح الحبشة وتحقيق حلمها في إقامة إمبراطورية استعمارية في شرق أفريقيا، يهدد السيادة البريطانية في وادي النيل، وفيما وراء البحار، ويعرض المواصلات الإمبراطورية البريطانية لأخطار لاشك فيها، وإذكاء مطامع إيطاليا القيصرية بالفتح يهدد سيادة إنكلترا البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وهي عماد الطريق الإمبراطوري إلى الهند وإلى استراليا. فهذه البواعث الخطيرة هي التي تحمل إنكلترا قبل كل شيء على اتخاذ موقفها في تحريك ميثاق عصبة الأمم، وفي المغامرة بالدخول في أية معارك بحرية أو برية يقتضيها تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيطاليا
على إنه مهما تكن البواعث التي تواجه السياسة البريطانية في الآونة الحاضرة فلا ريب أن بريطانيا العظمى تقف إلى جانب السلم، ولا ريب إنها بموقفها تؤيد سلام العالم؛ وإذا كانت الفاشستية الإيطالية بعنفها المضطرم، ووسائلها المثيرة، وأحلامها الإمبراطورية، وغرورها الأعمى، تهدد الإمبراطورية البريطانية في البحر الأبيض والبحر الأحمر، فإنها تهدد سلام العالم أيضاً؛ وربما كان من حسن الطالع أن يتحد هذان العاملان معاً، وأن تجد بريطانيا من بواعث مصالحها الحيوية ما يدفعها إلى العمل في تلك الآونة لتحطيم مشروعات إيطاليا الهمجية. وها نحن أولاء نشهد من إصرار بريطانيا على موقفها، ومن تمسكها بتطبيق العقوبات الاقتصادية ضد إيطاليا، ومن أهباتها البحرية والعسكرية ما يفسر خطورة البواعث والعوامل التي تجثم وراء هذا النزاع
وقد كثر الحديث حول العقوبات الاقتصادية التي تعنى بتطبيقها عصبة الأمم ضد إيطاليا المعتدية؛ وهي عقوبات لها خطورتها وأثرها في هذا العصر الذي يتوقف كل شيء فيه على المال، وتستمد فيه قوى الدول من مواردها المالية قبل كل شيء؛ فإذا شلت موارد(121/15)
الدولة من جراء مقاطعة اقتصادية صارمة تنظمها الدول الأخرى، فلا ريب إن مشاريعها العسكرية تصاب أيضاً بنوع من الشلل يضطرها إزاء هذا الضغط إلى الخضوع. وقد أجملت المادة 16 من ميثاق عصبة الأمم ذكر هذه العقوبات، ولسنا نرى لشرحها خيراً من إيراد نص هذه المادة كاملاً وهو:
(إذا التجأ عضو من أعضاء العصبة إلى الحرب خلافاً للتعهدات المنصوص عليها في المادتين 12 و13 أو المادة 15 فإنه يعتبر قد أرتكب عملاً حربياً ضد كل أعضاء العصبة الآخرين، ويتعهد هؤلاء أن يقطعوا في الحال معه كل علائقهم التجارية والمالية، وأن يحظروا كل علائق بين رعاياهم وبين رعايا الدولة التي خرقت الميثاق، وأن يقطعوا كل الصلات المالية والتجارية والشخصية بين رعايا هذه الدولة وبين رعايا أية دولة أخرى، سواء أكانت عضواً في العصبة أم لا
(وفي هذه الحالة يجب على المجلس (مجلس العصبة) أن يوحي إلى الحكومات المختلفة ذات الشأن بتقديم القوى العسكرية أو البحرية أو الجوية التي يساهم أعضاء العصبة في تقديمها للقوى المسلحة التي تقوم بالعمل على احترام تعهدات العصبة
(ويتعهد أعضاء العصبة أيضاً أن يعاون بعضهم بعضاً في تطبيق الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تتخذ طبقاً لهذه المادة والتي يراد بها أن تخفض إلى أدنى حد ما يمكن أن يترتب عليها من الخسائر والمضار، ويتعهدون أيضاً بالتعاون في مقاومة كل إجراء خاص يوجه إلى أحدهم من جانب الدولة التي خالفت الميثاق، ويتخذون الإجراءات اللازمة لكي يسهل المرور في أراضيهم لقوات أي عضو من أعضاء العصبة يساهم في العمل المشترك الذي يقصد به العمل على احترام تعهدات العصبة
ويمكن أن يفصل من العصبة كل عضو وينتهك أحد التعهدات المترتبة على هذا الميثاق، وبصدر قرار الفصل بموافقة أعضاء العصبة الآخرين الممثلين في المجلس)
فهذه العقوبات الدولية يمكن إجمالها في كلمة هي (المقاطعة الاقتصادية) وهذه المقاطعة هي التي تجد في سبيل تنظيمها عصبة الأمم ضد إيطاليا؛ وتجد إيطاليا من جهة أخرى في سبيل اتقاء عواقبها؛ وتعلل إيطاليا نفسها بأمل انقسام أعضاء العصبة وانهيار الجبهة التي استطاعت السياسة البريطانية أن تؤلفها ضدها حين البدء في تطبيق العقوبات، وتعتمد في(121/16)
ذلك بادئ بدء على فرنسا التي تزداد كل يوم تردداً وإحجاماً؛ وسنرى على أي حال نتيجة هذا الصراع في القريب العاجل؛ بيد أن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هو أن تنفيذ هذه العقوبات بدقة سيقتضي بلا ريب تنظيم نوع من الحصار المسلح ضد الدولة المعتدية أعنى إيطاليا، وقد يقتضي القيام ببعض الإجراءات والأعمال العنيفة، وهذا أخطر ما في التجربة، فإن إيطاليا تصرح دائماً بأنها ستقابل مثل هذه الأعمال العنيفة بمثلها، وعندئذ يكون هذا الصدام الذي لا مفر منه، بدء حرب، يستحيل أن تحصر في دائرة معينة، ومن المحتوم أن تتحول في الحال إلى حرب أوربية وربما إلى حرب عالمية
- 2 -
على أننا نترك هذه التكهنات جانباً لنبحث ناحية أخرى من الموضوع. ولنفرض أولاً أن عصبة الأمم قد وفقت في مهمتها، واستطاعت الدول المتحدة أن ترغم إيطاليا على وقف الحرب الحبشية، وأن تقنع بتسوية ودية تمنح بها بعض المزايا الاستعمارية؛ فماذا يمكن أن يترتب على هذه النتيجة من الوجهة الدولية؟ يمكن أن يترتب عليها تقرير مبدأ في منتهى الخطورة أو بعبارة أخرى تأييده من الوجهة العملية، إذ هو موجود بالفعل، وهذا المبدأ هو تحريم الحرب الاعتدائية؛ وقد نص على تحريم الحرب كأداة للسياسة القومية بمقتضى ميثاق كلوج؛ ولكن هذا الميثاق لم يكن أكثر من وثيقة نظرية؛ أما اليوم فإن تحريم الحرب يقع بصفة عملية، إذ ترغم دولة قررت عصبة الأمم أنها (معتدية) على وقف الحرب أو تعاقب على فعلتها بالمقاطعة الدولية. وهنا نستطيع أن نلمح وجه المقارنة الفقهية بين الدولة (المذنبة) وبين الفرد (المذنب) ففي القانون العام، وفي داخل المجتمع المتمدن يحرم على الفرد أن يرتكب ضد غيره عملاً من أعمال العنف، ولو وقع عليه اعتداء ما فلا يسمح له أن ينتصف لنفسه؛ ذلك لأن إقامة العدالة من حق المجتمع، والقانون العام ينظم المجتمع ويرتب حقوق الأفراد وواجباتهم، فإذا اعتدى على شخص فرد ما أو اعتدى على حقوقه، كان القانون كفيلاً بمعاقبة المعتدي، وكفيلاً برد الحق المسلوب، وإذا تقرر ذلك فما الذي يمنع من أن تشبه الدولة في جماعة الأمم بالفرد في المجتمع؟ وكما أن العنف محرم على الفرد - عدا ماله من حق الدفاع عن النفس أو المال - فكذلك يمكن أن يحرم العنف على الدولة وتحرم الحرب كأداة لتحقيق غايات السياسة القومية، وإذ كانت الحرب ما زالت(121/17)
تعتبر في القانون الدولي أداة مشروعة للسياسة القومية، فإنه يمكن بتحريمها أن تغدو عملاً محرماً غير مشروع، والمقصود هنا دائماً هو الحرب الاعتدائية، وهذا ما سعى إليه الساسة الفقهاء الذين اشتركوا في وضع ميثاق تحريم الحرب أو (ميثاق كلوج)، فإذا تقرر أن الحرب محرمة، وأنها تعتبر خرقاً لمواثيق السلام وقانون الأمم، فإنه يمكن معاقبة الدولة التي تقدم عليها، إذا قررت دول العالم ممثلة في هيئة دولية عليا كعصبة الأمم، أنها دولة معتدية، وقررت بذلك أن تطبق عليها نوعاً من العقوبات يكفل ردها إلى صوابها
وهذا ما نشهده اليوم في الواقع، فإن عصبة الأمم، تقرر أن إيطاليا وهي عضو من أعضائها دولة معتدية فيما تقوم به من غزو للأراضي الحبشية، وتقرر أن تطبق عليها العقوبات الاقتصادية التي نص عليها في المادة السادسة عشرة من الميثاق، ولكنا نكرر القول بأن عصبة الأمم ما كانت لتجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة لو لم تحركها يد السياسة البريطانية القوية، وإلا فأين كانت عصبة الأمم يوم اعتداء اليابان على منشوريا والاستيلاء عليها تحت سمع العصبة وبصرها؟ وإذا كانت عصبة الأمم تستطيع كشخصية معنوية تمثل فيها إرادة الأمم أن تحكم على الدولة الممثلة فيها أولها، فمن الواضح أنه يقتضي لتنفيذ أحكامها قوة دولية أو وسائل ضغط معينة، وهذه القوة أو الوسائل أشارت إليها المادة السادسة عشرة من الميثاق، ولكنها لم تخلق أو توجد بعد، ولو لم تتقدم بريطانيا العظمى باهباتها وقوتها المسلحة مدفوعة بما تقدم من البواعث لتنفيذ العقوبات، لبقى قرار العصبة قراراً نظرياً لا سند له ولا أثر
على أن من الإسراف في التفاؤل والأمل أن نعتقد أن عصبة الأمم قد غدت محكمة الأمم العليا، وغدت ملاذ السلم الأعلى، وأن هذه الخطوة التي تقدم على اتخاذها اليوم ستغدو بالفعل مبدأ دولياً عالمياً يحتكم إليه في كل الحوادث والظروف المماثلة. إنها نظريات السلام والعدالة الدولية وحقوق الأمم تبدو في الأفق، وفي ظلها وباسمها تعمل عصبة الأمم، ولكنها القوة في الواقع تعمل من الوراء ظاهرة غير مستترة؛ وهي تعمل مسيرة بالبواعث والمصالح الخاصة التي كان من حسن الطالع أنها تتفق مع قضية العدالة الدولية والسلام العالمي؛ ولكن هل يمكن أن تجتمع مثل هذه الظروف دائماً إذا ما تعلق الأمر بإقامة الحق والعدالة الدولية؟ هذا ومن جهة أخرى فإنه من المرجح جداً أن تطور الحوادث على هذا(121/18)
النحو الخطر الذي نشهده قد يقضي في النهاية على كل مظاهر الحق ونظريات السلام والعدالة الدولية؛ وقد يضطرم العالم من جديد بحرب تودي بعصبة الأمم وكل ما يمثل فيها من النظريات والمثل الدولية العليا(121/19)
النقد والمثال
للأستاذ أحمد الزين
تحدثتُ في فصلٍ سابقٍ عن المعنى، وأنه العنصرُ الأولُ من عناصر الشعر، بل هو الشعرُ نفسهُ، وقلت: إن الألفاظ ليست إلا ثوباً يحيط به، ويقدر على أجزائه، وأن حُسنها وروعتها ليست إلا وسائل يقصد بها استمالة القلوب النافرة، واجتذاب الميول الجامحة
ولست أريد بالمعنى أي معنى يخطر بالخاطر، وأول ما تتحدث به نفس الشاعر، والحقائق المجردة الأصلية التي تقع في الفكر لأول مرة قبل أن تتصرف فيها الملكة الفنية، فإن ذلك لا يسمى شعراً وليس منه في قليل ولا كثير، لأن هذه المعاني مشتركة بين جميع الأذهان، ولا فضل للشاعر فيها على غيره؛ وإنما يقصد بنظمها ضبط الحقائق المتفرقة، وضم المسائل المنتثرة على من أراده، لا التأثيرُ في العاطفة الذي يقصد إليه الشاعر بشعره، ومن ذلك قول المرحوم حافظ بك إبراهيم:
البرلمان تهيأت أسبابه لم يبق من سبب سوى المفتاح
وقوله من قصيدة يودع بها صاحب الدولة المرحوم سعد زغلول باشا في بعض أسفاره لمفاوضة الإنجليز:
الشعب يدعو الله يا زغلول ... أن يستقلّ على يديك النيل
وقوله في هذه القصيدة أيضاً:
فزعيمهم شاكي السلاح مدجّجٌ ... وزعيمنا في كفه منديل
وقوله يمدح ثلاثة من الأغنياء قد وقفوا بعض الضياع على إحدى المدارس المصرية:
ثلاثة من سراة النيل قد وقفوا ... على مدارسنا سبعين فدانا
وخالفوا سنةً في مصر شائعةً ... جرّت على العلم والآداب خسرانا
فإن عادتهم في مصر أن يقفوا ... على القبور وإن لم تحو إنسانا
فهل ترى فرقاً بين تلك الأبيات والأخبار التي تقرؤها في مختلف الصحف إذا نظمت على أجزاء العروض وبحوره؟
وكذلك قول المرحوم أحمد شوقي بك في قصيدته التي أستقبل بها مصر حين عاد من الأندلس:(121/20)
وكلُّ مسافر سيؤوب يوماً ... إذ رُزِق السلامة والايابا
إلا أن ما في بقية القصيدة من جلال المعاني، وعلو الألفاظ، ورقة الديباجة قد ستر ما يشعر به الأديب المتذوق في هذا البيت من عادية المعنى، وخفته وإبتذاله، وقلة خطره، واشتراك جميع الأذهان فيه
ومن هذا النوع أيضاً تلك المتون التي ينظمها العلماء في مختلف الفنون ليسهل حفظها واستذكار العلم بها على الطالب، كالشاطبية في القراءات، وألفية النحو، والبهجة الوردية في الفقه، وعقود الجمان في البلاغة، وما إلى ذلك
ومنه أيضاً ما كان ينظم في عهد الثورة المصرية من القصائد المسجلة لحوادثها لإثارة العامة. وتنشرها الصحف إذ ذاك في كل يوم لأشخاص لا يجيدون قراءة الشعر فضلاً عن قوله، فلا يلبث أحدهم أن يسمع الحادثة عن بعض الزعماء، أو يرى طوائف الجنود المدججة تجوب الأحياء، أو يسمع الخبر، حتى يجلس جلسته يسيرة يعصر فيها ذهنه، ويكد قريحته، وينشئ قصيدة طويلة الذيول، كثيرة الفضول، لا يذوق الأديب فيها للشعر طعماً، ولا يحس له فيها عيناً ولا أثراً؛ وعفا الله عن الغرابلي باشا، فكم أمطرنا سحابه الهاطل من هذه القصائد ما يصك الأذواق والأسماع، وإن أستهوى قلوب العامة والرعاع، فهذا الشعر أشبه بالخطب الشعبية منه بالقصائد الشعرية
فإذا تصرفت ملكة الشاعر في تلك المعاني الأصيلة، وتناولتها بأناملها الرقيقة الصناع، فأضافت إليها شيئاً من جمال الشعر وروعته، وسحر الفن وفتنته، ومزجتها بخيال مستعذب، أو تعليلٍ مستحسن، أو تشبيهٍ رقيق، أو مجازٍ غريب، أو تصويرٍ فاتن، أو وضعٍ حَسَن أو ترتيبٍ جميل، أو حرارة تحي العاطفة وتستثير الشجن، أو روحٍ فيها تحرك الحاسة وتجتذب الشعور، أو غير ذلك، تحولت تلك المعاني الأصيلة إلى معانٍ شعريةٍ تحسب أن صاحبها قد إخترعها، ولم تكن معروفةً لأحد قبله، ووقع الشعر من القلوب موقعه، وأصاب من كل نفسٍ موضعه؛ وكان كما قلت في صفة شعر المرحوم إسماعيل صبري باشا في القصيدة التي رثيته بها:
متلمِّسٌ من كلِّ نفس سِرّها ... ومُلامِسٌ من كلِّ قلب موضعا
طبَّ النفوس يعيد في ميت المنى ... روحاً ويبعث في القنوط المطمعا(121/21)
شِعرٌ إذا يتلى تكاد لحُسَنِهِ ... تَثبُ القلوب من الصدور تطلعا
فكأنها في كل بيت تبتغي ... نبأ عن الأحباب فيه أُودعا
فلو أن شعركَ كان سجعاً للقطا ... كاد الأراك مع القطا أن يسجعا
ومن المعاني الشعرية ما تراه شائعاً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ومن نهج نهجهم من التحدث إلى ما لا يفهم خطاباً، ولا يحير جواباً، كمخاطبة الأطلال الدراسة، والرسوم الطامسة، ومساءلة الديار الخالية والمغاني المقفرة عن أهلها متى رحلو؟ وأين حلو؟ والدعاء له بسقيا المطر، وأن يعود لها ما فقدته من زمان غبر، كما قال أبو تمام:
دِمنٌ ألم بها فقال سلامُ ... كم حلَّ عقدة صبره الإلمامُ
لا مرَّ يوم واحد إلاّ وفي ... أحشائه لمحلّتيك غمام
حتى تعمّمَ صَلُع هامات الرُّبى ... من نوره وتأزَّر الأهضام
ولقد أراك، فهل أراك بغبطة ... والعيش غض والزمان غلام
أعوام وصل كان ينسى طولها ... ذكرُ النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيامُ هجر أردفتْ ... نجوى أسىّ فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
وقول مهيار الديلميّ:
سلمت وما الديارُ بسالماتٍ ... على عنتِ البلى يا دارَ هندِ
ولا برحتْ مفوَّفة الغوادى ... تصيب رُباك من خطأ وعمْد
بموقظة الثرى والترب هاد ... ومجدية الجنى والعام مكدي
على أنى متى مطرتْكِ عيني ... ففضلٌ ما سقاكِ الغيث بعدي
أميل إليكِ، يجذبني فؤادي ... وغيرُك - ما استقام السير - قصدي
وأشفق أن تبدّلك المطايا ... بوطأتها كأن ثراكِ خدّي
وعلة الجمال في ذلك أن قوة العاطفة قد ملأتْ قلب الشاعر وضاقت بها نفسه، وضعف عنها احتماله، فافضاها على ما حوله، وأسبغها على ما يشاهده من آثار الديار، والدِّمن القفار؛ متخيلاً أن لها ماله من قلب وكبد، وإنها تحس ما يحس، وتجد ما يجد؛ ومن ذلك أيضاً مخاطبة الحمائم على الغصون، والإفضاء إليها بما يكنه الشاعر من لوعة وشجون،(121/22)
كقول الشاعر:
تذكرني أمَّ العلاء حمائمٌ ... تجاوبن أن مالت بهن غصون
تملأ طلا ريشِكُن من النّدي ... وتخضرُّ مما حولكن فنون
ألا يا حمامات اللوى عدْنَ عَودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ
فعُدْن فلما عدْنِ كدْن يمتنني ... وكدتُ بأسراري لهن أبين
فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيون
وقول أبي كبير الهذليّ:
ألا يا حمام الأيك إلفُك حاضر ... وغصنُك ميّادٌ ففيم تنوحُ
أفِق لا تنُح من غير شيءٍ ... فأنني بكيتُ زماناً والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت غربةً دارُ زينب ... فهأنا أبكى والفؤادُ قريح
ولهذا الشعر قصة طريفة لا بأس من روايتها هنا لما اشتملت عليه من المعاني الشعرية التي نحن بصدد شرحها في هذا الفصل.
لما وُلَي عبد الله بن طاهر خراسان أخذ معه عوف بن محلِّم الخزاعي؛ فلما كانا (بالرّي) جلسا تحت شجرة، فسمعا صوت عندليب يغرد، فقال عبد الله: هل سمعت مثل هذا الصوت يا عوف؟ قال: لا والله، ألا قاتل الله أبا كبير الهذلي حيث يقول: (ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ) الأبيات. فقال عبد الله بن طاهر: لقد كان في هذيل مائة وثلاثون شاعراً وكلهم مُفْلِق، وكان أبو كبير أحسنهم. بالله عليك يا عوف إلا ما أجزت هذه الأبيات؛ فقال: كبرتْ سني، وفنى ذهني، وأنكرتُ ما كنتُ أعرف؛ فقال عبد الله: أقسمت إلا ما فعلت؛ فقال:
أفي كل عام غربةٌ ونزوح ... أما للنوى من وَنيةٍ فتريح
لقد طلَّح البين المشتُّ ركائبي ... فهل أرينَّ البين وهو طليح
وشوقني (بالرَّيّ) نوح حمامة ... فنحت وذو اللّبِ الغريب ينوح
على إنها ناحت ولم تُذْرِ دمعةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مَهامهِ فِيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك مَيَّادٌ ففيم تنوح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصار التَّسيار وهي طروح(121/23)
فإن الغنى يُدني الفتى من صديقه ... وعدْم الغنى بالمعسرين نزوح
فبكى عبد الله بن طاهر وحلف ألاُ يعمل معه خفاً ولا حافراً إلا بالرجوع إلى أهله، وأمر له بثياب ودنانير؛ فقال عوف:
يا ابن الذي دان له المشرقان ... طُرَّا وقد دان له المغربان
إنَّ الثمانينَ وَبلِّغتُها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدّلتني بالشطاط انحِنا ... وكنتُ كالصعدة تحت السنان
وبدّلتْني من زَماع الفتى ... وهمّتي همَّ الجبان الهِدان
وقاربت مني خُطى لم تكنِ ... مقارباتٍ وثنتْ من عِنان
وأنشأتْ بيني وبين الورى ... عنانةً من غيرِ نَسج العنَان
ولم تَدَع فيَّ لمستمعٍ ... إلا لساني وبحسْبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المُصْعَبيِّ الهِجان
فقرّباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبلً منعايَ إلى نسوةٍ ... أوطانها حران والرفتان
أما أمثلة المعاني الشعرية من شعر المعاصرين، فمن ذلك قصيدة (مصاير الأيام) للمرحوم احمد شوقي بك، فقد بلغت هذه القصيدة من جمال الفن، ووفرة هذه المعاني الفاتنة غايةً لم تبلغها قصيدة أخرى من شعر المعاصرين، وأنا انصح للأدباء والتادبين بحفظها وروايتها فأنها تعتبر بحق من معجزات الشعر الحديث لما فيها من دقة في تصوير الحياة بجميع مراحلها حتى ليخيل لك أنها حياة كاملة من مبدئها إلى نهايتها يقول في أولها:
ألا حبِّذا صحبةُ المكتبِ ... وأحْبِبْ بأيامه أحْبِبِ!
ويا حبذا صبيةٌ يمرحون ... عِنانُ الحياة عليهم صَبي
كأنهمُ بَسماتُ الحياة ... وأنفاسُ رَيحانها الطيّبِ
يُراح ويُغدى بهم كالقَطيع ... على مشرق الشمس والمغرب
إلى مَرْتع الفِوا غيَره ... وراعٍ غريبِ العصا أجنبي
ومستقَبلٍ من قيود الحياة ... شديدٍ على النفس مستصعَب
فراخ بأيكٍ فمن ناهضٍ ... يروض الجناحَ ومن أزغَبِ(121/24)
تقاعدُهم من جَناح الزمان ... وما عملوا خطرَ المْركَب
عصافيرُ عند تهجّي الدروس ... مِهارٌ عرابيدُ في المَلْعب
خليّون من تبِعات الحياة ... على الأمّ يُلقونها والأب
جنونُ الحداثة من حولهم ... تضيق به سَعةُ المذهب
عدا فاستبدّ بعقل الصّبّي ... وأعدَى المؤدِّبَ حتى صبي
لهم جَرَسٌ مطربٌ في السراح ... وليس إذا جدّ بالطرب
توارت به ساعةٌ للزمان ... على الناس دائرةُ العقرب
تَشُول بإبرتها للشباب ... وتقذف بالسمّ في الشُّيب
يَدقّ بمطرقتيها القضاء ... وتجري المقادير في اللولب
وتلك ألا واعي بإيمانهم ... حقائب فيها الغد المختبي
ففيها الذي أن يقم لا يُعَد ... من الناس أو يَمضِ لم يُحسب
وفيها اللواء وفيها المنار ... وفيها التبيع وفيها النّبي
وفيها المؤخَّر خلف الزحام ... وفيها المقدمّ في الموِكب
ويقول في آخرها:
قد انصرفوا بعد علم الكتاب ... لبابٍ من العلم لم يكتب
حياةٌ يغامر فيها امرؤٌ ... تسلح بالناب والمخلب
وصار إلى الفاقة ابن الغنّي ... ولاقى الغني ولد المترب
وقد ذهب الممتلئ صحة ... وصح السايم فلم يذهب
وكم منجب في تلقي الدروس ... تلقى الحياة فلم ينجب
وغاب الرفاق كأن لم يكن ... بهم لك عهدٌ ولم تصحب
إلى أن فنوا ثلةً ثلةً ... فناء السراب على السبسب
ولنذكر لك مثالا أخر للمعنى الشعري من شعر شوقي أيضاً موضحين لك معناه الأصلي، وكيف استطاع صاحبه أن يحوله إلى معنى شعري بما أدخله عليه من المحسنات التي تلعب بالألباب لعب الشمول، قال يصف أبا الهول:
أبا الهول طال عليك العصُر ... وبلغت في الدهر أقصى العمُر(121/25)
فيالدةَ الدهر لا الدهر شاب ... ولا أنت جاوزتَ حد الصغر
إلامَ ركوبك متن الرمال ... لطيِّ الأصيل وجَوْب السحر
تسافر منتقلاً في القرون ... فأيان تلقى غبار السفر
أبينك عهدٌ وبين الجبال ... تزولان في الموعد المنتظر
الخ. . .
فإن المعنى الأصلي لهذه الأبيات لا يزيد على أنه يصف أبا الهول بطول البقاء، وأن العصور المتوالية والأجيال المتعاقبة لم تنل منه منالاً، ولم تصدع له بناء، فأنظر إلى عبقرية شوقي كيف أتت بذلك المعنى اليسير واستخرجت منه تلك المعاني الكثيرة الساحرة ومزجته بتلك المحسنات الفاتنة؛ أتراه لو انه اقتصر على نظم المعنى الأول كان يعده أصحاب الذوق الشعري قد صنع شيئاً أو أتى بجديدة؟ ولا يفوتنا في هذا الفصل التنبيه على وفرة هذه المعاني الشعرية الساحرة، وقوة الجمال الفني الرائع في شعر الرافعي، فانك تحس بذلك الجمال في كل بيت من ابياته، بل في كل من نثره، بل فيه هو إذا جلست إليه وتحدث اليك، فهو شعر كله؛ وإنما انسب الغموض المتوهم في بعض أبياته إلى قصور ذهن المتوسطين من القراء، والى ضيق الألفاظ المحدودة، عن أن تحصر هذا الجمال المعنوي الذي لا يحد؛ إلا إنني أرى أن معانيه من صنعة الفكر وابتكار الذهن، لا من وحي العاطفة وإملاء الإحساس. واليك بعضاً من شعره ليتبين لك صحة ما ذهبت إليه؛ قال يصف بائسة حسناء أفقرتها الحرب:
طريدة بؤس ملّ من بؤسها الصبرُ ... وطالت على الغبراء أيامها الغُبر
وكانت كما شاءت وشاء جمالها ... كما اشتهت العليا كما وصف الشعر
تلألأ في صدر المكارم دُرَّةً ... يحيط بها من عِقد أنسابها درّ
وما برحت ترقى السنين وتعتلى ... وكل المعالي في طفولتها حِجْر
فكانت كَزهر نَضرّ الفجرُ حسَنه ... ولما علت كالنجم أطفأها الفجر
تقاسمت الحسْن الإلهي واُنثنى ... يقاسمها، فالأمر بينهما أمر
فللشمس منها طلعة الحسن مُشرقاً ... وفيها من الشمس التوقد والجمر
وللزَّهر منها نفحةُ الحسن عاطرا ... وفيها ذُبولٌ مثلَما ذبلَ الزهر(121/26)
وللظبي منها مقلتاها وجيدها ... وِفيها من الظبي التلفت والذعر
وما قيمة الحسناء يقبح حظها ... وتذوي بروض الحب أيامها الخُضْر
فما الحسن فخر للحسان وإنما ... لخالقه فيما يريد به سِرّ
ضعيفة أنفاس المنى بعد ما غدت ... رقابُ أمانيها يغلّلها الفقر
وبين خُطَى أيامها كل عَثرةٍ ... يزلزل أقدامَ الحياة بها العُسر
وزَجت بها الأحزان في بحر دمعها ... وليس لبحر الدمع في ارضنا بر
إذا استنبؤها أرسلت من دموعها ... لآلى حزن كلّ لؤلؤةَ فكرْ
وان سألوها لجَلجَت فكأنما ... عرا اللفظ لما مرّ من فمها سكْر
مشرَّدة حيرى تنازَعَ نفسها ... فريقان ذلٌ لم تعوَّده والكبرْ
إلى أن قال في هذه القصيدة يصف ما في الإنسان من شر وسوء:
رأت كل مخزاة من الشر تلتوي ... ويهرب ذعراً من جنايتها العذر
رأت أثراً تَدمى به الأرض والسما ... وليس سوى الإنسان في جرحه ظُفر
أليس يرى الإنسانُ في القرد شِبَهُه ... فهل ذاك إلا من تكبّره سُخْر
كما عاقب الله الأسود لكبرها ... فجاء لنا في صورة الأسد الهرِّ
وهي طويلة
فقد عرفت ألان نوعين من المعاني وعرفت الفرق بين المعاني الأولية والمعاني الشعرية التي هي من مقومات الشعر وأصوله فينبغي للشاعر إذا أراد أن يكون شعره مخصب المعاني، متنوع الاغراض، ان يقصد إلى المعنى قبل ألفاظ البيت وقافيته، فيمزجه بالمحسنات التي سبق ذكرها، ويهذبه تهذيباً يقربه من العواطف ليحدث فيها اثره، ويبعث الحياة فيما همد منها. وبعض الشعراء قد تعوزهم من البيت قافية فيتطلبونها قبل المعنى، ويتلمسونها قبل إعداد الغرض، فإذا ظفروا بالقافية آتوا بالمعنى على مقتضاها، فيخرج الشعر مكبلة معانيه، مظلمة نواحيه، ضيق المقاصد، قليل الأغراض؛ وكثيراً ما ترى ذلك أيضاً في شعر شعراء البديع الذين لا يقصدون من البيت أو القصيدة إلا إلى ذلك النوع البديعي الذي لا يحرك نفساً، ولا يهز حساً، فقد أجهزوا على الشعر بالحرص على هذه المحسنات اللفظية إجهازاً تاماً، وصيروا البكاء عليه في جميع الأقطار عاماً، واليك أبياتاً(121/27)
من قصيدة لصلاح الدين الصفدي كتب بها إلى صديقه جمال الدين بن نباته المصري، وقد ضمنها شطرات من معلقة امرئ القيس التي أولها: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وجعل صدر كل بيت من شعره وعجزه من قصيدة امرئ القيس، قال:
أفي كل يوم منك عتب يسؤني ... (كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ)
وتَرمى على طول المدى متجّنياً ... (بسهميكَ في أعشار قلب مقتَّل)
فأمسِي بليل طال جنح ظلامه ... (عليّ بأنواع الهموم ليبتلى)
وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... (إذا جاش فيه حَميهُ غلى مِرجَل)
تطير شظاياه بصدري كأنها ... (بأرجائه القصوى أنابيشُ عُنصُل)
وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... (على النحر حتى بل دّمعيَ محملي)
وهي طويلة، وقد أجابه ابن نباته بقصيدة مثلها ضمنها شعر امرئ القيس أيضاً، قال:
فَطَمَت ولاَئي ثم أقبلت عاتباً ... (أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل)
بروحيَ ألفاظ تعّرض عتبُها ... (تعّرضَ أثناء الوشاح المفصّل)
فأحيين وداً كان كالرسم عافياً ... (بسقط اللوى بين الدخّول فحومل)
تعفىِّ رياح الغدر منك رقومَه ... (لمِا نسجَتها من جنوب وشمأل)
نعم قَوِّضتْ منك المودّةُ وانقضت ... (فيا عجبا من رحلها المتحمّل)
وهي طويلة أيضاً
فهل ترى في هذا الشعر غير المقدرة على الملاءمة بين شعرهما وشعر امرئ القيس، والمهارة في التوفيق بين المعاني المتباعدة، والأغراض المتباينة؟ على أن هذه المقدرة ضائعة القيمة حقيرة الخطر إذا قيست بما جره تكلف التضمين على هذه الأبيات من تفاهة وبرود، وخلوها من روح الشعر. ولنا في هذه الفصول عودة إلى شعراء البديع وغيرهم ممن يحرصون على إظهار المقدرة اللفظية اكثر من غيرها في شعرهم.
احمد الزين(121/28)
معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي
أخذت الجرائد والمجلات في الآونة الأخيرة تبحث في معركة عدوى التي انتصر فيها الأحباش على الطليان وكثيراً ما يذكرها الطاغية موسوليني، ويحث الشبان الفاشيست على محو وصمة العار التي لحقت بالجيش الطلياني، ويعلن للملأ انه عازم على الانتقام من الأحباش.
وقعت هذه المعركة في 1 مارس 1896 في أطراف عدوى بين الجيش الطلياني البالغ عدده زهاء عشرين الفاً، والجيش الحبشي البالغ مقداره زهاء ثمانين ألفاً، وبرغم حيازة الجيشالطلياني على الأسلحة الجيدة، وتنظيمه على احدث الأساليب، انتصر الأحباش عليه انتصاراً مبيناً، وأوقعوا به خسارة فادحة بلغت 248 ضابطاً، و15400 جندي، بين قتيل وجريح وأسير، ونالوا بذلك صك استقلالهم الذي امتنعت إيطاليا عن الاعتراف به.
لم يكن الجيش الحبشي جيشاً منظماً على الوجه المطلوب، بل كان مؤلفاً من أناس مسلحين بأسلحة متنوعة كالبندقية والحربة والسيف والترس والقوس وغير ذلك، وكان يقودهم رؤساؤهم على الطريقة البدوية وكانت مدافعه قديمة يبلغ عددها الأربعين؛ وكان لدى الجيش الطلياني أربعة وستون مدفعاً حديثاً
وقبل البحث في هذه المعركة رأينا من المفيد أن نذكر باختصار جغرافية الحبشة وتاريخها وعلاقاتها بالدول المستعمرة
جغرافية الحبشة
تقع الحبشة في الشمال الشرقي من أفريقية ويحيط بها من الشرق مستعمرة إريترية الطليانية، والمستعمرات الصومالية الفرنسية، والبريطانية والطليانية؛ ومن الشمال مستعمرة إريترية والسودان المصري؛ ومن الغرب والجنوب المستعمرات البريطانية في وسط أفريقية.
ولا منفذ للحبشة إلى البحر الأحمر، وقد سدت دول الاستعمار طريق البحر في وجهها، فجعلتها خاضعة لها في تجارتها واقتصادياتها. وتبلغ مساحتها السطحية زهاء 1. 120. 400 كيلو متراً مربعاً؛ وتقدر نفوسها باثني عشر مليوناً؛ وهذه النفوس لا تنتمي إلى قومية(121/29)
واحدة، ولا تدين بدين واحد؛ وفيما يلي الشعوب التي يتألف منها سكان الحبشة:
الأمحرة، الغالا، السيدامو، الصومال، الدناكل، الزنوج ودين الدولة الرسمي المسيحية، والمذهب يعقوبي. وفيما يلي عدد النفوس بالنظر إلى الأديان:
العدد
4. 500. 000 مسيحيون (يعاقبة)
3. 000. 000 مسلمون
3. 500. 000 وثنيون
50. 000 يهود
40. 000 كاثوليك
5. 000 الاتحاد اللاتيني
واللغة الرسمية هي اللغة الامحرية وهي شعبة من اللغات السامية والعاصمة أديس أبابا ونفوسها زهاء 100. 000 نسمة وهي متصلة بالميناء جيبوتي عاصمة المستعمرة الفرنسية بالسكة الحديدية.
وصف البلاد - السهول والجبال
تتألف بلاد الحبشة من جبال وسهول. والأراضي السهلة واقعة بالقرب من الساحل. أما الأراضي الجبلية فهي في داخل البلاد. وإذا ما أنعمنا النظر في خريطة الحبشة رأينا إن سلاسل الجبال الواقعة إلى الشرق وإلى الجنوب قد كونت مثلثاً متساوي الأضلاع: الضلع الشرقي منه ضفاف البحر الأحمر وخليج عدن، والضلع الجنوبي يمتد من رأس عسير المقابل لجزيرة سومطرة إلى الشرق، والضلع الغربي يمتد من الشمال إلى الجنوب.
والأرض الواقعة في هذا المثلث هي الأرض السهلة المتموجة من بلاد الحبشة والمتاخمة لمستعمرة إريترية الطليانية والصومال الفرنسي والبريطاني. والقسم الشمالي منها صحراء دناكل القاحلة، وإلى جنوبي الضلع الجنوبي من ذلك المثلث تقع أرض سهلة متموجة أخرى تتألف منها بلاد الغالا وفيها قصبة ولوال التي نشأ الخلاف عليها بين إيطاليا والحبشة.
وليست الأرض المتموجة خالية من الجبال، فالجبال منتشرة فيها هنا وهناك، إلا إنها أقل وعورة من المناطق الجبلية الواقعة إلى غربي الضلع الغربي من المثلث المذكور. ومع(121/30)
ذلك تقع سفوح الجبال الشرقية إلى شرقي هذا الضلع وهي شديدة الانحدار كثيرة المناعة والوعورة.
والجبال في الحبشة تحيط البلاد الداخلية بسور منيع طالما وقف في وجه المستعمرين وساعد الأحباش على الاحتفاظ باستقلالهم.
ويشبه الوضع الجبلي في داخل بلاد الحبشة خطوطاً مستحكمة، فخط منها في الشرق يمتد من الشمال إلى الجنوب على موازاة الساحل ويسيطر على السهول ويسد طرق الاستيلاء الممتدة من الساحل. وهذا الخط هو السلسلة التي تؤلف ضلع المثلث الغربي.
وهناك خط آخر ممتد من رأس عسير في الصومال البريطانية على موازاة ساحل خليج عدن الجنوبي إلى أن يصل إلى قصبة (هرر) ثم ينعطف نحو الجهة الجنوبية الشرقية ثم إلى الجنوب موازياً للبحيرات الواقعة في جنوبي الحبشة، وهو السلسلة التي تؤلف الضلع الجنوبي للمثلث. وهذا الخط يعلو ارتفاعاً ويشتد مناعة كلما تقدمنا من الشرق إلى الغرب، وكأنه الخط المستحكم الأول الذي يسد طرق الهجوم في وجه القوات الزاحفة من الصومال الطليانية للتوغل في صحراء الغالا.
وغير هذين الخطين توجد خطوط أخرى تمر بذري الجبال الشامخة منفصلة عن الخط الشرقي وممتدة من الشرق إلى الغرب على موازاة حدود إريترية الطليانية الشمالية كأنها خطوط مستحكمة متوازية لصد القوات المتقدمة من الشمال على التعاقب.
ومع وقوع الأرض السهلة والأرض المتموجة والحافات الشرقية الوعرة في شرقي الخط الأول الممتد من الشمال إلى الجنوب والمسيطر على صحراء الدناكل تشتد الأرض وعودة وتزداد مناعة في هذا الخط ذاته وفي غربيه - أي في الهضبة الحبشية التي تقطعها عدة سلاسل جبلية ممتدة من الشرق إلى الغرب على ما سبق ذكره؛ وفي أطراف بحيرة تانا نلتف الجبال بعضها ببعض فتكون المعقل المركزي للحبشة بشكل منحرف، ضلعاه القصيران في اتجاهي الشرق والغرب، وضلعاه الطويلان في اتجاهي الشمال والجنوب؛ وتقع العاصمة (أديس أبابا) في طرف الضلع الشرقي.
أما منطقة البحيرات الواقعة في جنوبي الحبشة فمحاطة من الشرق والغرب بسلسلتين جبليتين؛ وهما طرفا الخط الأول والخط الثاني الممتدين من الشرق والغرب، وفي وسط(121/31)
هاتين السلسلتين تعلو البحيرات فتؤلف هضبة مرتفعة.
مما تقدم نعلم أن داخل بلاد الحبشة قلعة منيعة ذات عدة خطوط مستحكمة تسيطر على السهول في الشرق والجنوب، وهي مؤلفة من عدة معاقل كونها الهضاب الشامخة بجبالها وغاباتها وبحيرة (تانا).
تمد وادي النيل بالمياه في موسم الصيف بواسطة رافده النيل الأزرق، وهي ذات خطورة خاصة لمصر والسودان، ولولاها لما فاض النيل في كل سنة فسقي الحقول الواسعة والمزارع الخصبة التي ضرب بها المثل في فجر التاريخ؛ وسبب ذلك أن الثلوج المتراكمة في ذرى الجبال تذوب فتختلط بالأمطار الغزيرة التي تنزل صيفاً فتجري في الوديان المتشبعة من الجبال وتنصب جميعاً في النيل الأزرق فيطفح بالمياه وبالطين، وينقل البركة والخير إلى بلاد السودان ومصر.
ولنذكر بعد ذلك المرتفعات التي في أرض الحبشة:
الأرض المتاخمة للساحل في المستعمرات الطليانية والفرنسية والبريطانية منخفضة وسهلة، وكلما تقدمنا من الشرق إلى الغرب أخذت الأرض في الارتفاع. وفي إريترية (على مسافة تتراوح بين 50 و80 كيلو متراً من الساحل تتصل هذه الأرض بالقسم الشمالي من الخط الأول فتصبح شامخة وعرة، مكسوة بالغابات والإحراج.
وفي صحراء دناكل بالقرب من (عصب) تكون أرضاً متموجة قليلة المياه، وذات شعاب ووديان؛ وعلى مسافة (200 إلى 300) كيلو متر من الساحل تصل إلى حدها الأعلى في الخط الأول حيث المضايق الوعرة؛ ويتفاوت ارتفاع الذرى في هذا الخط من (2400 إلى 4300) متر، ويبلغ الارتفاع في ذروة (أبونا يوسف) (4200) متر، وفي ذروة (كللو) يبلغ 4300 متر، وتقع قلعة (مجدلة) على هذه الخط.
وفي الجنوب يبدأ السهل من ساحل البحر المحيط الهندي ويأخذ في الارتفاع إلى الغرب، وعلى مسافة 200 إلى 300 كيلو متر من الساحل يبلغ من الارتفاع والوعورة مبلغاً يكون هضاب (اوجادن) و (بوران).
وتتفاوت الارتفاعات في هذا القسم من (300 إلى 1000) متر وبالقرب من خليج عدن يبلغ الارتفاع في السلسلة التي تؤلف الخط الأول 2000 متر في جنوبي (بربرة).(121/32)
وفي صحراء (الغالا) نجد الأرض متموجة والروابي قليلة الميل، وهي ترتفع إلى جبال هرر بسهولة وتلتقي بالخط الثاني، وتتفاوت المرتفعات في مركز هذا الخط من (1000) إلى (1500) متر، وفيها هضاب شامخة بانحدارات شديدة كأنها جدران يتفاوت ارتفاعها من (2000 إلى 3500) متر وصخورها بركانية.
أما الجبال الداخلية التي تؤلف معاقل الحبشة فالهضاب فيها ترتفع (2000) متر كأنها قلعة أحاطت بها الجبال من الشمال والشرق والجنوب، ومع ذلك لا يمكن تسلقها من جهة الغرب حيث يجري النيل الأزرق إلا بصعوبة.
وفي منطقة (غوجام) يبلغ الارتفاع في راس (دانجان) (4620) متراً وهو أعلى ذروة في بلاد الحبشة
(يتبع)
طه الهاشمي(121/33)
من الأشواق الملتهبة
شجرتي الضالة
(مهداة إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي)
للأستاذ خليل هنداوي
مقدمة:
(لي شجرة ضخمة الجذع وارفة الغصن؛ أحج إليها كل يوم لأتبوأ جذعها ألابتر مقعداً، حيث لا يطرقني إلا الطيور النازحة والنسائم الرائحة شان هذه الشجرة عجيب، قد غبرت عليها عصور، وهي ثابتة تبدل قشوراً بقشور، لا يمسها نصب ولا فتور. والسالك في ذلك الطريق الوعر ينجذب بظلها، فيأوي إليها مخففاً عن نفسه بعض ما ناء بها من مشقة الطريق؛ فيرى الظل والراحة والنعيم؛ فيتمنى لو أنام أيامه تحت ظلها؛ أو لو أن حياته القلقة تحتوي على مثل هذا الظل الذي تنحط عليه الشمس من كل مكان لتحرقه وما هو بمحترق؛ ولكن الإنسان ما أشقاه! ولوع بالسير ولكن إلى أين؟
هذه الشجرة آثرتها لي مثوى في أيام صيفي، لأنها تقصيني عن الناس وتدينني من نفسي؛ وما آثرته لجسدي منتقلاً كيف لا أوثره له يوم تغدو حقيقته ظلاً!. . .)
(خليل)
المسلك إليك وعر يا شجرتي!
وهأنذا قد سلكته
الطريق محفوف بالشوك
وهأنذا قد طرقته. . .
يقولون عنك (ضالة) لأنك آثرت هذه العزلة العميقة، وهذه الزاوية السحيقة
وينظرون إليك ساخرين لأنك تركتهم وملت إلى الانفراد.
كم يخشى الناس هؤلاء المعتزلين!
يرونهم فيقولون: ربنا لا تجعلنا من الضالين
اتضنين على من سلك الوعر إليك. . .(121/34)
ضالاً عن قرنائه
بهذا الفيء الذي جاهدت جذورك وأوراقك وروحك في حياكته
ولو أردت الظل لنفسك لما تعبت في مده
والظل الخفيف يغنيك. . .
ولكنك لست كالإنسان الذي يقضي العمر كله في حياكة ظل لنفسه، ويمضي غير منتهٍ من
حياكة ذلك الظل
أما ظلك أنت فقد حُكتِه!
وهذا الظل الواسع الممدود على الأرض لم تحوكينه؟
أليس - للظالين - أيتها الشجرة الظالة؟
إلهي اجعلنا من الضالين!
أتضنين على من تحمل النصب من أجلك - وقد تكونين أنتِ في غنى عنه -
أتضنين عليه باستواء قصير على منكبك العالي
ليشركك في تأملك العميق
وإن ضلالك ليشرك ضلالي
وظلك الممدود ينادي خيالي
فلا تثاقلي من استوائي عليك، فإنني لن أشوش عليك تأملاتك
ولن تعطل طيورك أهازيجها من أجلي
افتحي قلبك لي فإني لاجيء إليك
وأومئي بأوراقك فإني ضال مثلك
أأنت تلك المحجة التي يسعى إليها الإنسان غير حافل بوعورة الطريقة؟
أأنت تلك المحجة التي تناهضها الصخور والوعور والأشواك لتواريها عن العيون؟
وكم يكلف الوصول إلى هذه المحجة؟
إرتفعي كثيراً وأسمي كثيراً، حتى تبدو للضالين ذروتك، وأصعدي باغصانكِ إلى السماء.
وليجذبها شوقك دائماً إلى السماء.
هل رأيت المحجة بعين الشوق، فأنبأت رفيقاتك فسخرن منك، لأنهن لا يرين إلا(121/35)
بعيونهن، فإعتزلتهن، وانطلقت وحدك وراء المحجة. . .
نورها يسطع للعيون براقاً، فما أدناه للعين وما أبعد تناوله!
أغمضي عينك فقد جمدت، وسالمي قدمك فقد ارتعشت
والمحجة لا تزال بعيدة كالنور الذي ترنو إليه العين وتقصر عنه اليد.
ألا أن المحجة في عالم أنفسنا قد سطعت، فمدى يدك إلى قلبك تلمسيها، وانظري بعينك
في نفسك تبصريها.
ألا إن المحجة في أنفسنا. . .
ستضرمنا العاصفة ثم تذرونا الرياح رماداً قبل أن ندرك هذه المحجة.
أليست هي في أنفسنا؟ ولكن الأبعاد الشاسعة بين نجوم الفضاء. . . هذه الأبعاد التي
ترتجف لها مقاييسنا حين نمدها بينها، هذه الأبعاد هي أقرب تناولاً من الأبعاد الشاسعة المنتصبة بيننا وبين أنفسنا.
أين أنت أيهذا الذي بلغ نفسه!
بلى! ستضر منا العاصفة، وسنحول رماداً قبل أن تنتهي مراحلنا إلى أنفسنا
كلانا ضال وراء نفسه
كلانا يرهب طريقه الناس، لأن طريقنا طريق الوحدة، وطريق الوحدة طريق الضلال
كلانا يمشي وإن لم يكن في نظر المقاييس شيئاً، لأن مشينا لا تدركه مقاييس
ضميني إليك يا شجرتي الضالة فقد أضواني السير ولفحت وجهي الشمس
ضميني إليك أقرن تأملاتي بتأملاتك، فنحن في نظر الحياة شريكان يتمم بعضنا بعضاً
تضيئنا شمس واحدة، وتنير طريقنا مصابيح واحدة، وتعانقنا غاية واحدة
مشهدك واحد في حياتك كلها لا يبرح ناظرك، ولك منه كل يوم وجه للتأمل جديد
ومشاهدي كثيرة واعتباري منها قليل
وواصلي أيها الطيور أغانيك فوق رأسي فما أنا بالمروع لك!
وغذيني أيتها الشجرة الضالة بفيئك الواسع
وغداً أغذي جذورك بلحمي ودمي
ألست ظمأى إلى دم إنسان!(121/36)
محجتنا واحدة وصداقتنا عميقة فوق ظهر الأرض وتحت بطنها
ستمتصني جذورك عصيراً، وستحملني سراً عميقاً إلى فروعك السامية.
إننا لن نقف!
لأن الشمس تبارك أشواقنا وتنير أرواحنا لأننا أحسنا الاستحالة
وبغير هذه الاستحالة كيف يريدون أن تحوك جذورك هذا الظل الوارف الذي يأوي إليه
الضالون!
وكيف يريدون أن تعيش هذه الزهور المتفتحة بدون رماد!
ألسنا في حالي الفناء والوجود قافلة من قوافل الحياة السائرة منذ الأبد حتى الأبد؟
ألست في صدرك حياً أيتها الشجرة؟
ألست أنت حية في صدر النار التي ستلتهمك؟
ونحن ألسنا بعد شيئاً ينبض في قلب الحياة دماً ولحماً، وماء ونباتاً، وناراً ورماداً؟
ربي أحلني في قلب هذه الشجرة ثمرة يباركها قلب جائع، ثم اجعلنا وقوداً لنار يهتدي بها
الضالون.
(كفريا)
خليل هنداوي(121/37)
من نوادر المخطوطات
أثر أدبي فذ!
اختراع الخراع لصلاح الدين الصفدي
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
قوله من الطلوع: نعوذ بالله منه، لأنه مرض بلغمي يحدث في الشعر لمداومة أكل الزنجبيل والأشياء الحارة: كالبطيخ والأسماك، وغيرها. قال أبن الدمينة يرثى شخصاً:
فسَّر لي عابر مناماً ... فصّل في قوله وأجملْ
وقال لابدّ من طلوع ... فكان ذاك الطلوع دّملْ
ومن قال إن الطلوع ضد النزول وأستشهد بقول أبي ذؤيب الهذلي في الهجاء:
أيسعدني يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي خطٌّ بخديك نازل
فقد أخطأ ووهم والصحيح الأول.
إلى بئركِ: لفظ مركب من الأعداد في التركي، كقولك في العربي واحد إثنان، فبير واحد وإكي اثنان. ومجموع هذا العد سبعة ونصف، لأن إكي ناقصة الياء، ولولا ذلك لكان المجموع ثمانية، وألفاظ الأتراك لا شاهد عليها من العربية. فلهذا أضربنا عن الاستشهاد لذلك.
في الليل: الليل معروف، وهو من الزوال إلى أذان العصر في العرف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها، كما قال دريد بن الصمّة في الغزل:
أستوفي قلْيّوبَ ... إلى كم هكذا تكذب
من الصبح إلى الظهر ... إلى العصر إلى المغرب
وقليوب بليدة صغير على شاطئ الفرات من أعمال عدن، وقيل هي إقريطش (كريد) باليمن.
قوله: ظلام النهار الخ. . . الخ.
القول في الإعراب(121/38)
لو: حرف يجر الاسم ويكسر الخبر على ما ذكره الرماني في شرح طبيعي الشفا. والكسائي في رموز الكنوز هذا مذهب الكوفيين؛ والصحيح إنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها، إنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل لوي فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضعفت عن العمل، وهذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهناه مستشهدين على ذلك بقول الشماخ في رائيته:
أرسل فرعاً ولوي هاجري ... صدغاً فأعيا بهما واصفه
وقد سقط من الرسالة أوراق لا أدري كم هي، ثم يبدأ الموجود منها بقوله
قال الشارح رحمه الله تعالى:
ما في كلام العرب أسم معتل الطرف بالألف المقصورة غير كان، وهذا مع أن دخلت فيها الحركات الثلاث: الجر والخفض والكسر فأجريت مجرى الصحيح، وليس بعجيب. قال أرسطو العبري:
وربما صحت الأجسام بالعلل
ومن قال: هذا من شعر أبي مرة الحلاوي أبن المتنبي فهذا قول من لا يدري علم الرمل ما هو. . .
وبعد هذا فما أدري بماذا حكم عليها؟ هل هي صلة وتتمة لأبن خلكان وزير بغداد الحنبلي، أو هي أسم قائم برأسه، أستغفر الله: قائم برجليه. فإن قلنا إنه صلة من أبن خلكان فلا يخلو إما أن يكون العائد على الصلة من باب أسماء الأفعال أو من باب مالا يتصرف، فإن كان الأول من القسمين لزم الخ. . أكل: فعل مضارع لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة، إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصح تجريدها، تقول كل شيء. . . قال لبيد:
كل خطب ما لم تكونوا غضاباً ... يا أهيل الحمى عليّ يسير
وقد جاء فعلاً ماضياً في قول الخنساء الاخيلية ترثي زوجها:
أكِلُ الأمر إذا ما حل بي ... للذي قدَّره أن يقعا
الشعير: الألف واللام أصلية، وهو نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إن قلنا بأصليتها، ذكر ذلك المبرد في كتاب ديسقوريدوس في باب النعت، وهو هاهنا مرفوع على الحال؛ وللنجاة هاهنا بحث في الماضي والمستقبل والحال بينهم وبين الحكماء، لأن النجاة(121/39)
أنكروا زمن الحال، وقالوا ثبوته يؤدي إلى القول بالجوهر الفرد وهو ممنوع، وقول الحكماء أقرب إلى الصحة قال عبد الله بن عجلان النهدي:
ولو عاين النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد
وما الذي يمنع الخ. . .
في: أسم لأنه يحسن دخول حرف الجر عليه: تقول أنتقل من الشمس إلى فيء الظل، ودخول الألف واللام: تقول هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم، والإضافة تقول: أعجبني حسن فيك، والتنوين أيضاً تقول: هذا المال فيءٌ للمسلمين، وعلى الجملة فما للنجاة في الأسماء كلمة يدخلها سائر خواص الاسم إلا (في) وهي ممنوعة من الصرف لأنه أجتمع فيها من العلل أكثر مما أجتمع في أذربيجان، وذلك أن الفاء بعشرة والياء بثمانين على ما ذكره الزجاج في الجمل، فصارت تسعين، وعلل الصرف المانعة تسعة!
قال شبرمة بن الطفيل في وصف الزرافة:
ربَّ برغوث ليلة بت منه ... وفؤادي في قبضة التسعين
والقبض هو المنع من الصرف. فلهذا قال النحاة إن (في) لا تنصرف، وهذه النكتة غريبة جداً لم أر أحداً ذكرها من النحاة غير الأصطخري في كتاب الحميات له، وهو معرب بالنصب على أنه صفة للفاعل وهو جارية وإن قلنا إلخ. . .
البرد: منصوب بالألف واللام التي في آخره على أنه خبر متقدم تأخر عنه المبتدأ فحذف، وهي مسألة مشهورة في باب الاستثناء، ونصّ عليها سيبويه خلافاً لأبن الحاجب لما بحث معه في المسألة الزنبورية بين يدي الوليد بن عبد الملك، وتقدم الخبر دائر في الكلام على ألسنة العرب، قال كثير عزة في محبوبته بثينة:
والله ما من خبر سرني=إلا وذكراك له مبتدأ
فقدم الخبر وأخر المبتدأ. . .
(إلى أن قال):
القول على المعنى
قبل الخوض في الكلام على المعنى نقدم مقدمة تشتمل على ما يتعلق بهذين البيتين من التاريخ منقولاً من المجسطي للأحنف أبن قيس في تاريخ بغداد؛ فنقول: بكتوت هذه كانت(121/40)
بعض حظايا النعمان بن المنذر، شراها من نور الدين الشهيد صاحب القيروان، وكانت قبل لعنان بنت النابغة أبن أبي سلمى زوج سيف الدولة أبن بويه السلجوقي أول ملوك السامانية الذين أخذوا خراسان من الفاطميين.
أول أملاكهم السفاح. . .
والسفاح هو أخو العاضد
وكانت بكنوت الخ. . . وما أحسن قول بعض ملوك الأندلس أظنه أبن سكرة الهاشمي:
أيا ربة القرط التي حسنت هتكي ... على أيّ حال كان لابدّ لي منك
فأما بذلٌ وهو أليق بالهوى ... وأما بعزّ وهو أليق بالملك
وقد أخطأ من نسبهما إلى ابن الأحمر، فقد أوردهما صاحب المرقص والمطرب وهو مصنف موجود قبل ابن الأحمر بألف وخمسمائة سنة. وهذا المعنى من البيتين واضح اتضاح الغسق نصف الليل في ثماني وعشرين من الشهر، وضياء الباطل إذا جاءه الحق، إن الباطل كان زهوقاً، ولله در نجم الدين الكاسي دبيران حيث قال يخاطب الشريف الرضي:
وليس يصح في الإفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
هذا مثال من هذه الرسالة العجيبة، نقف عنده لا نجاوزه إلى القول في البديع والعروض والقافية لأن المقال قد طال، ونخشى أن يمل القراء الكرام
علي الطنطاوي(121/41)
من صور العباقرة
هانيبال
بقلم حسين مؤنس
لنكن على حذر حين نلتمس أخبار هانيبال، فهذا رجل وكل أمره لأنصاف خصومه، وترك تراثه في رعاية أشد الناس عداوةً له، وتولى تقديمه إلى الناس أحفل الناس ببغضه؛ فهو مظلوم من بوليبيوس، مغضوب عليه من تيت ليف، مهضوم الحق عند الكثرة الغالبة من رواة عصره وقضاة زمانه، ولكنه برغم هذا كله بارز لا تحتاج عظمته إلى البينة، ظاهر لا يعوز عبقريته البرهان؛ وإن الشهادة له لتبدر من الخصم حين يتخونه الحذر، وإن فضله على أعدائه لتقوم عليه البينات والحقائق وإن أعوزته الألفاظ والعبارات؛ وهذا بوليبيوس يتحدث عن آل سيببو فيطيل الحديث، ويكون قصارى ما يتأنق فيه من دلائل نبوغهم أنهم أخذوا فنون الحرب عن هانيبال، وأن أشهرهم المعروف بالأفريقي أخذ عنه وتفطن لأساليبه وحاربه بها في زاما. ولعل سبب هذه الخصومة هو أن الرجال كان شرقياً، لا هو روماني ولا إغريقي، وإنما هو فينيقي عريق، وكانت الخصومة مشبوبة في ذلك العصر بين الشرق والغرب، وكان الزمان قد استدار وصار اليوم للغرب، ورفرفت راياته وخفقت بنوده، حملها الإسكندر وخلفاؤه زماناً ثم تركوها للرومان، وكان الفينيقيون قد ضاقت بهم الأرض في المشرق فالتمسوا الرزق في المغرب، وأقاموا المراكز والمدن على شواطئ أفريقية وإسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا وفرنسا، فلما نهض الرومان وجدوا الفينيقيين في طريقهم أينما ساروا، وكان مركز قيادتهم قد أنتقل من صور في المشرق إلى قرطاجنة في المغرب، ومن هنا كانت الخصومة بين روما وقرطاجنة، ومن هنا كان تعصب مؤرخي الرومان على هانيبال، ومن هنا كانت ضيعة قضيته عند القضاة؛ فلنلتمس أخباره في حذر. . . ولنحاول أن نشهده عن كثب، وأن نفضي إليه ونصاحبه حياته الحافلة بالأحداث، الخصبة بالوقائع والبيانات.
ها هو ذا في مجلسه على شاطئ الرون ينظر إلى جيشه الكبير يعبر النهر صفاً طويلاً وقد طال به الجلوس وطال به الانصراف إلى هذا المشهد حتى لا يدري أهذا مطلع النهار أم مقبل الليل؛ وكيف له التمييز وهذه أيام ثلاثة بلياليها تقضت وهو في مجلسه هذا شاخصاً(121/42)
إلى أجناده وفرسانه وقبيلته وهي تعبر النهر على مهل؟. . وأين له الراحة أو الانصراف عن التفكير وهو يعلم أن الرومان قد علموا بأمره وأنهم ساعون في أثره مرسلون قوادهم خفافاً للحاق به والقضاء عليه؟. وهذه عيونه تنبئه بأن مارسلوسن ماض في الطريق إليه، وإنه ليخشى ذلك كثيراً، إذ كيف تكون العاقبة لو لحق به الرومان وهو يعبر النهر؟. إذاً لقضوا عليه في يسر وهينة. ثم هذه عيونه تنهى إليه أن آل سيببو يثيرون عليه النافو ويقيمون عليه قيامة الشعب. فإذا متع الضحى فقد أقبل عليه رئيس فرسانه ينبئه بأن الجيش قد فرغ من العبور وأنه لم تبق في الضفة الأخرى إلا شراذم من المشاة وأشتات من المؤن التي لا يؤذي ضياعها. هناك ينهض الرجل الذي أجهده الإعياء وثقلت عليه قلة النوم، ويأوي إلى فسطاطه. . . ويطلب النوم فيسرع إليه النعاس. . . ولكنه على رغم ذلك مضطرب ما يزال. . . وأن الذكريات لتسعى إليه في الحلم فتروعه.
هذا هو أبوه هملكار يخطو إليه رهيباً جليلاً. . . يذكره بعهده الذي قطعه على نفسه وهو أبن سنوات تسع، وهذا صوت الصبي الصغير يتردد على سمعه واضحاً بيناً، إنه يقسم أن يكون عدواً لدوداً لروما إلى الأبد.
وها هو ذا يرى نفسه صبياً وفتى يافعاً، ثم رجلاً في مداخل الرجولة، إنه ليمضي الوقت في قفار إسبانيا ووهادها، لم ينصرف إلى شيء مما ينصرف إليه الشبان، ولم يترك لنفسه فرصة للراحة أو الدعة، وإنما أشتد على نفسه عشرين سنة كاملة حتى أوفى على الثلاثين. . . حتى إذا أكتمل الأهبة، فقد أتخذ سبيله إلى إيطاليا، وكان الرومان قد أخذوا عليه سبيل البحر بعد أن قضوا على أسطول قرطاجنة، ولم يبق له إلا أن يمضي فيخترق هذه المجاهل الجافة حتى يصل إلى سهول إيطاليا؛ ولقد فصل عن قرطاجنة الجديدة وهو في تسعين ألفاً فتهاوى منهم الآلاف في الطريق تعباً وإجهاداً. . . ولولا بقية من أمل معقودة بلواء فرسان نوميديا، لأدركه اليأس وكر راجعاً إلى بلده. . .
هكذا كانت حياته: واقع أشبه بالحلم، وحلم أشبه بالواقع! إنه ينام ليحلم بحرب روما، ويقوم ليمضي لخراب روما. ومضى أمامهم فمضوا من خلفه، وهم أشد ما يكونون رهبة من هذا الذي يمضي بهم إليه؛ إنهم ليشعرون الرهبة من هذه الجبال السامقة التي تطل عليهم وتنذرهم بالموت. . . وأين لأبدانهم المتعبة أن تتوقل هذه النجاد الوعرة، وأن تنحدر على(121/43)
هذه الصخور القاسية؟ وأين لجسومهم العزم الذي يخوضون به هذه الركام المثلوجة التي تبهر عيونهم على قنن الجبال؟. . . ولكنهم لا يملكون لأمر قائدهم دفعاً. . . بل هو لا يملك لأمر نفسه دفعاً. وإنه ليمضي ليوفي عهد أبيه لا يكاد يفطن إلى شيء مما حوله. فها هو ذا في مقدمة الجيوش يصعد في إعياء ويسير في هينة، والجنود يتساقطون من حوله إجهادا والخيل تنبت من تحته نافقة، وهو في طريقه لا ينبس. . حتى ينتهوا إلى السهول فينحدروا إليها سراعاً.
هنا ترجع بنا الذاكرة إلي معبد (بعل) في قرطاجنة. . . تلك هي القديسة تضطرب تحت يد هملكار الذي يقدمها إلى الآلهة طاعة ونسكا. . . وتلك هي روما تضطرب تحت يد ابنه هانيبال الذي يقدمها إلى أبيه قرباناً زكياً. . وهؤلاء هم الرسل مقبلين على مدينة التلال السبعة يرجفون بالأخبار ويزعزعون العزمات من رهبة الوعيد، ويضطرب الأمر بين الرومان اضطراباً شديداً، ويقذفون بجيوشهم إلى هانيبال في شجاعة وأقدام حقيقين بالإعجاب. . والقرطاجني متربص يفني الجيوش فناء، ويبتلع القادة ابتلاعاً وهذه تربيا تشهد يوم اجبر هانيبال العدو على النزول إلى الميدان في البكرة القارسة والشمس لا تزال في خدرها، وكيف انسابت الكمائن من فرسان نوميديا على جوانب الجيش الروماني فأكلته أكلا. . . وهذه ترازمين تذكر يومها العبوس من شتاء سنة 217. . هذا هانيبال يخبئ جنوده في باطن الجبل المطل على أمواج البحيرة، ويترك منهم نفراً يناوش القنصل فلامينيوس، ويتقدم الروم ثم يندفعون اندفاعاً شديداً. . فإذا انتهوا إلي ساحل البحيرة فقد القوا أنفسهم في وابل من نبال الغال، ونار من فرسان النوميديين وإذا العدو يسد عليه طريق الرجوع، وإذا الماء يعين عليهم الخصم. . وإذا هزيمة ساحقة لم ينج منها إلا نفر مضى إلى روما يزلزل أهلها بالمصيبة النازلة، والفاجعة التي لم تذر. . وهؤلاء أهل المدينة مروعين قد انتابهم هلع شديد. . إذ ترامى إلى أسماعهم أن الرجل قاصد إليهم. . ثم هاهو ذا على أميال من روما. . ليس من الموت بد! ولكن هانيبال لا يتقدم، إنما يطوي عن المدينة ويتجه إلى الجنوب.
ترى ماذا صد هانيبال عن روما؟ كانت الحصون واهنة والجيوش منكسرة ولا يكلف الاستيلاء على المدينة الا اقل الجهد. . ولكن هانيبال كان يرجو شيئاً آخر. . كان لا يريد(121/44)
أن يقتل الفريسة دفعة واحدة وإنما يقطع أعضاءها عضواً عضواً، ويمزق أشلاءها شلواً شلواً: ثم يدعها تموت؛ كان يرجو أن يمزق جسد روما جزءاً جزءاً ويبتر مستعمراتها عنها على مهل! لم يمزق الرومان أملاك قرطاجنة واحدة فواحدة لكي تموت على مهل. هكذا كان يريد أن ينفذ انتقامه الشديد - ولهذا مضى يثير أنصار روما ويؤلب عليها أحلافها. . . انه ليعلن انه اقبل ليحارب الرومان لا الايطاليين، وانه ليطلق الأسرى الإيطاليين دون الرومان وانه ليكسب من هذا كسباً عظيماً. . هذه (كبوا) تسارع إليه بقواتها وأحلافها. . وهذه المدن الإغريقية في (تارنتم) تعلن ولاءها. . وهؤلاء هم الرومان يشتد بهم الخوف فيختارون (فابيوس) لهم قنصلاً. . فيختط لمحاربة هانيبال خطة صارت علماً عليه في التاريخ: هي أن يجنب نفسه وجيوشه لقاء العدو في موقعة حاسمة. . بل يناوشه ويتخطف جنوده، ويقفل طريق الإمداد من الشمال. . ويمضي على ذلك حتى يضعف فمره ويفني جنوده. . ولكن الرومان لا يطيقون صبراً. . أن هانيبال ليفسد عليهم جيرانهم واتباعهم. . ويتلف مزارعهم ويهدم حصونهم ويمضي من بلد إلي بلد، تاركاً جنوده يأتون من الأمر ما يحبون ويصيبون من العدو ما تصل إليه أيديهم، حتى يضيق ذرع اللاتين فيعزلوا فابيوس ويولوا قنصلاً آخر يمضي مسرعاً حتى يلقي هانيبال في (كاني) على ساحل الأدرياتيك، وهناك تظهر قدرة الرجل في الحرب في أجمل آياتها. . . إنه ليصف جندوه صفوفاً طويلة تكاد تخفي جناحي الفرسان. . وانه ليلقي العدو وينثني قلب جيشه حتى يصير الصف نصف دائرة تحتوي الرومان ثم يقبل الفرسان فيقضون على العدو قضاء مبرماً.
ندع هانبيال في سيره إلى جنوب شبه الجزيرة ونخف إلى روما لنشهد اضطراب الشيوخ وهياج الشعب واشتداد الأمر ولنشهد مشهداً من أصدق مشاهد الرجولة القوية والبطولة الخالدة. . . إن (آل سيببو) لا يحفت لهم صوت ولا يضعف لهم أمل. . . لقد مات الأخوان في وعور إسبانيا، وهما في طريقهما إلى بلادهما بعد أن استوليا على (قرطاجنة الصغيرة) قاعدة هانيبال في أيبريا، وشطرا شبه الجزيرة كلها عن القرطاجني حتى حصروه حصاراً شديداً. . . وها هوذا أخوه (هازدرونال) أخو هانيبال يجمع له ما تيسر من فلول المرتزقة ويمضي إلى إيطاليا فيلقاه الرومان ويفتكون به ويقتلونه. . . ثم يحملون رأسه إلى أخيه ويلقون به بين يديه.(121/45)
ثم ينهض سيببو الصغير ويقود حملة من أعنف حملات التاريخ؛ فهذا فتى في الخامسة والعشرين ولكنه روماني عزيز. . . إنه ليقطع شبه الجزيرة على عجل. . . ثم يركب البحر إلى صقلية ثم يخف إلى أفريقية وينزل على مقربة من قرطاجنة ثم يبدأ يصنع في أفريقية ما يصنعه هانيبال في إيطاليا. . .!
هنالك يتأمل هانيبال رأس أخيه الشهيد ويستمع إلى أخبار سيببو فتأكل الحسرة قلبه ويفزع على مصير قرطاجنة، ويسرع لنجدتها. . . ولا تكاد قدمه تمس ثرى أفريقية. . . حتى تسرع نحو سيببو. . . فيمضي هذا أمامه. . . ولم يكن أخطر على الجيش الروماني من هذا المضي الذي يباعد ما بينه وبين الشاطئ. . . ولكن. . . أنظر إنه ليثير النوميديين على قرطاجنة، إنه ليطويهم تحت رايته حلفاء أقوياء. . . ثم يثبت لهانيبال عند (زاما) ويرسل فرسانه في طرفي مشاته. . . ويصف الجنود صفاً طويلاً، ويباعد بين الجندي والجندي حتى ليدع بينهما طريقاً رحباً. . . ثم يقبل هانيبال. . . ويدور فرسانه فإذا هم وجهاً لوجه أمام فرسان سيببو. . . فيفسحون لهم الطريق، فيندفع هؤلاء إلى ما وراء الجيش وهناك ينتظرون. . . وتشد المعركة، ويثار النقع، حتى إذا بلغ الإعياء من جيش قرطاجنة أقبل فرسان الرمان فقضوا عليهم قضاءً أخيراً.
أليست هذه أساليب هانيبال؟ أليست تلك خطته في كاني؟ وإنها لبينة واضحة على عبقريته، وآية باقية على ما خلف للعالم من تراث.
ويخف هانيبال إلى قرطاجنة، ويأمر بأسوارها أن تقفل ويسودها الهرج والاضطراب، ويجتمع مجلسها ويتعاقب الخطباء منادين بالحرب والثأر. . . ولكن الرجل لا يطبق. . . إنه يعرف خصمه جيداً فينهض ويسكت الخطيب. . . ويعتذر لمواطنيه عن هذه الجفوة التي لا محيص له عنها بعد ست وثلاثين سنة في ميادين الحروب. . . ثم يوافق على شروط الصلح التي قدمها سيببو.
ثم يبدأ صراع هو أشبه بصراع المائة يوم بين نابليون وخصومه. . . ولكن يطول سبع سنوات، يصر الشيوخ في السناتو على القضاء على الرجل. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وهو لا يفقد الأمل في الغلبة عليهم والانتقام منهم. . . لقد فشل في أن يثير عليهم الغرب، فلملا يقيم عليهم قيامة الشرق؟. . . ها هو ذا يخف إلى بلده (صور)، فإذا(121/46)
هي ترتعد فرقاً من روما وجيوشها فيفصل عنها إلى (إنطاكية) حيث يستقبله ملكها أثينوكس، إذ كان بعد حملته على روما. . . ويدبر معه الأمر. . . ويرسم معه مشروعاً خطيراً. . . ولا يكادان يشرعان في العمل حتى يفاجئهما الرومان فيقضوا على أثينوكس في داره فيفر إلى بيثتنيا حتى يلقاه ملكها مرحباً. . . . ويأويه ويكرمه.
ولكن الرومان لا يسكتون عنه. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وإنه لجالس ذات يوم في ملجئه. . . إذ أحس اضطرابا وسمع وقع أقدام جنود يقتربون منه. . . فنادى بخادمه. . . وأمر بالسم فأتى به إليه. . . وقال وهو يدني الكأس من شفتيه: (لكي تستريح روما إذا كان لا يرضيها أن تترك شيخاً في الستين يموت على مهل).
حسين مؤنس(121/47)
13 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وأما عتابه فنذكر منه عتابه لصالح الشهرزوري، وكان أبو العتاهية صديقاً له، وآنس الناس به، فسأله أن يكلم الفضل ابن يحيى البرمكي في حاجة له، فقال له صالح: لست أكلمه في أشباه هذا، ولكن حملني ما شئت في مالي، فأنصرف عنه أبو العتاهية، وأقام أياماً لا يأتيه، ثم كتب إليه:
أقلل زيارتك الصديق ولا تطل ... إتيانه فَتِلجَّ في هجرانه
إن الصديق يلجُّ في غشيانه ... لصديقه فيملَّ من غشيانه
حتى تراه بعد طول مَسَرة ... بمكانه متبرِّماً بمكانه
وأقل ما يلقى الفتى ثِقَلاً على ... إخوانه ما كف عن إخوانه
وإذا توانى عن صيانة نفسه ... رَجلٌ تنقص وأستخف بشأنه
فلما قرأ الأبيات قال سبحان الله! أتهجرني لمنعي إياك شيئاً تعلم أني ما ابتذلت نفسي له قط، وتنسى مودتي وأخوتي، ومن دون ما بيني وبينك ما أوجب عليك أن تعذرني؟ فكتب إليه أبو العتاهية:
أهل التخلق لو يدوم تخلُّقٌ ... لكنت ظُل جناح من يتخلق
ما الناس في الإمساك إلا واحد ... فبأيهم إن حصِّلوا أتعلق
هذا زمان قد تعود أهلهِ ... تِيهِ الملوك وفعل من يتصدق
أي يطلب الصدقة كما قال في بيت آخر:
هذا زمان ألحَّ الناس فيه على ... تيه الملوك وأخلاق المساكين
فلما أصبح صالح غدا بالأبيات على الفضل بن يحيى وحدثه بالحديث، فقال له لا والله ما على الأرض أبغض إليَّ من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية، لأنه ليس ممن يظهر عليه أثر صنيعة، وقد قضيت حاجته لك، فرجع وأرسل إلى أبي العتاهية بقضاء حاجته، فقال يشكره:
جزى الله عني صالحاً بوفائه ... وأضعَف أضعافاً له في جزائه
بلوت رجالاً بعده في إخائهم ... فما ازددت إلا رغبة في إخائه(121/48)
صديقٌ إذا ما جئت أبغيه حاجة ... رجعت بما أبغي ووجهي بمائه
ولم يكن أبو العتاهية كما قال الفضل ممن لا يظهر عليه أثر الصنيعة، ولكنه كان يعاشر هؤلاء العظماء معاشرة الند للند، لا كما كان يفعل غيره من الشعراء المستجدين عند هؤلاء العظماء، وإنما كان البرامكة يكرهون من أبي العتاهية إيثاره الفضل ابن الربيع عليهم، وهو منافسهم السياسي في دولة الرشيد، وقد صحبه أبو العتاهية صحبة طويلة؛ ومازال الفضل من أميل الناس إليه، فلما رجع من خراسان بعد موت الرشيد دخل عليه أبو العتاهية، فأستنشده فأنشد:
أفنيت عمرك أدباراً وإقبالاً ... تبغي البنين وتبغي الأهل والمالا
الموت هولٌ فكن ما شئت ملتمساً ... من هوله حيلة أن كنت محتالا
ألم تر الملك الأمسيَّ حين مضى ... هل نال حيٌ من الدنيا كما نالا
أفناه من لم يزل يُفني القرون فقد ... أضحى وأصبح عنه الملك قد زالا
كم من ملوك مضى ريب الزمان بهم ... فأصبحوا عبراً فينا وأمثالا
فأستحسنها الفضل، وطلب إليه أن يعود إليه في وقت فراغه ليقعد معه ويأنس به، فلما كان يوم فراغه صار إليه، فبينما هو مقبل عليه يستنشده ويسأله فيحدثه إذا أنشده:
ولي الشباب فما له من حيلة ... وكسا ذؤابتي المشيبُ خِمارا
أين البرامكة الذين عهدتهم ... بالأمس أعظَم أهلها أخطارا
فلما سمع ذكر البرامكة تغير لونه، ورأى أبو العتاهية الكراهية في وجهه، فما رأى منه خيراً بعد ذلك. وقد حدث أبو العتاهية هذا الحديث الحسن بن سهل في دولة المأمون فقال له: لئن كان ذلك ضرك عند الفضل بن الربيع لقد نفعك عندنا؛ ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، وأجرى له كل شهر ثلاثة آلاف درهم، فلم يزل يقلبها دارة إلى أن مات. وكان الحسن بن سهل فارسياً مثل البرامكة، وكان الفضل بين الربيع عربي النزعة، وقد انتهت تلك العصبية بين الفرس والعرب في هذه الدولة بضياع أمرها منهما معاً.
ومن عتابه أيضاً ما كان منه لأحمد بن يوسف وكان صديقاً له فلما خدم المأمون وخص به رأى منه جفوة فكتب إليه:
أبا جعفر إن الشريف يشينُه ... تَتَاُهُهُ على الإخلاء بالوفر(121/49)
ألم تر أن الفقر يُرجَى له الغنى ... وأن الغني يُخشى عليه من الفقر
فإن نلت تيهاً بالذي نلت من غني ... فإن غنايَّ في التجمل والصبر
ومن شعره في الاستعطاف إلى الرشيد وهو في سجنه:
يا رشيد الأمر أرشِدْني إلى ... وجه نجْحيِ لا عدمت الرَشدا
لا أراك الله سوءاً أبداً ... ما رأت مثَلَك عينٌ أحدا
أعِنِ الخائف وارحم صوته ... رافعاً نحوك يدعوك يدا
وإبلائي من دعاوي آِملِ ... كلما قلت تدانى بعدا
كم أمَني بغدٍ بعد غَدٍ ... ينفد العمر ولم ألق غدا
وأما الزهد والحكمة والمثل فهي الفنون التي أستفرغ فيها جهده، وأربى فيها على غيره، ونظم فيها ما استفاده من أهل العلم من السنن وسير السلف الصالح، وأشعاره في ذلك لا مثيل لها لأنها مأخوذة من كتب الدين والسنة، وما جرى من الحكم على ألسنة هذه الأمة. ومن بدائعه في ذلك أرجوزته المزدوجة التي سماها ذات الأمثال، وتبلغ في الطول ما لم يبلغه شعر قبلها، ويقال إن فيها أربعة آلاف مثل، وهي تجديد عظيم في الشعر العربي بهذا الطول البالغ فيها هذا المبلغ، وبهذه القافية التي مكنت له من المضي فيها إلى الحد، وهذا ما ذكره منها صاحب الأغاني:
حسْبكَ مما تبتغيه القوتُ ... ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفَافَا ... من أتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فَذَرْ ... إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القدرْ
لكل ما يؤذي وإن قل أَلمْ ... ما أطولَ الليل على من لم ينم
ما أنتفع المرء بمثل عقله ... وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح ... وربّ جد جرّه المزاحُ
من جعل النمامَ عيناً هَلَكا ... مُبلغكَ الشر كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجِدِهْ ... مفسدة للمرء أيُّ مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركَه ... يرتهن الرأيَ الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاؤه ... نغَّص عيشاً كُلُه فناؤه(121/50)
يا رب من أسخطنا بجهده ... قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس ولا تغيب ... إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر
من لك بالمحض وكلُّ ممتزجْ ... وسَاوسٌ والصدر منه تعتلج
وكل شيء لاحقٌ بجوهره ... أصغره متصل بأكبره
ما زالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج ... لذا نِتَاجٌ ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس مَحَضُ ... يخبث بعضٌ ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتانِ ... خير وشر وهما ضدان
إنك لو تستنشق الشَحيحا ... وجدته أنتن شيء ريحا
والخير والشر إذا ما عُدّا ... بينهما بَونٌ بعيد جداً
عجبت حتى غمني السكوت ... صرت كأني حائر مبهوت
كذا قَضَى الله فكيف أصنع ... الصمت إن ضاق الكلام أوسع
قال أبو الفرج وهي طويلة جداً وإنما ذكرت هذا القدر منها حسب ما استاق الكلام من صفتها.
عبد المتعال الصعيدي(121/51)
في وادي الهوى
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
شدا فوق فرع مورق بلبل الوادي ... فيا حبذا الوادي ويا حبذا الشادي
فقلتُ له زدني بربك أنني ... إلى نَغَمٍ حُلو تُرجعه صاد
وما لحياة بهجةٌ وحلاوةٍ ... إذا كنتَ في وادي الهوى غير غرّاد
أفدني بأسرار المحبة خُبرَةً ... فأنت عليمٌ بالخفي وبالبادي
ضللتُ طريق في هوى من أحبّه ... وإنك في وادي الهوى وحدك الهادي
فقال أتحميني من الموت إنني ... أراه فأخشاه على نبل صياد
توسمتُ فيه الشرَّ لمّا رأيتهُ ... يسدد نحوي السهمَ من عطفة الوادي
فطرتُ بعيداً عنه أهرب واقعاً ... على فَنَنٍ في ذروة الدوح ميّاد
ومن هجمات للغراب شديدة ... يريد بها عن موطني النضر إبعادي
يطاردني في موطني معتمداً ... وما زال فيه واقفاً لي بمرصاد
ينازعني في الشدو حق زعامة ... توراثتها من والديّ وأجدادي
فيهدم عشّي وهو ما قد بنيتهُ ... بنفسيَ من نبتٍ يبيس وأعواد
وماذا من الإجرام كنتُ أتيتهُ ... فيصبح هذا الأسود النحس جلادّي
براني في وادي الهوى اللهُ شاعرا ... فأطرَبَ فيه الزهرَ شعري وإنشادي
وما طال لولا الزهرُ فيه إقامتي ... وما كنت لولا الزهر بالرائح الغادي
لقد كنتُ في الوادي إلى الزهر مُخِلداً ... فهل كان يؤذي ذا جناحين إخلادي
سل الطير بي هل كنتُ في العمر مرّةً ... على واحدٍ منها إلى جانب العادي
وإن أضمرت نفسي على ذي تجاوزي ... من الطير أحقاداً تناسيتُ أحقادي
بلانيَ ربي كل يوم بظالم ... فما القصد من خلقي شقيّاً وإيجادي
ولو كنت ذا ظفرٍ حديدٍ منسرٍ ... تجنبت الغربان بطشي وأرصادي
وإنيَ في الوادي الذي هو معبدي ... بروحيَ للزهر الذي يحتوي فاد
فما أجَملَ الزهرَ الذي هو مشرق ... كنجم بدا في آخر الليل وقّاد
وقل لبني الضاد اجمعوا أمركم فما ... لقوم كسالى نهضةٌ يا بني الضاد(121/52)
جميل صدقي الزهاوي(121/53)
في وصف الطباع
وصف شامل للنفس وطباعها
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ما ازدريت الأنام الاوهان ال ... كيد منهم وهان منهم عداء
وتفردت لا أصول بكيد ... وتزهدت واستقام العزاء
ومن الناس مَنْ إذا ما ازدراهم ... كان منه الإجرام والاعتداء
ولو أنى أكبرتهم لم يروني ... غافراً واحتوتنيَ البغضاء
ولو أنى أكبرتهم لم تر الرح ... مة ديني وما بهم رحماء
ودهم مثل بغضهم فيه عدوى ... مثل عدوى تسعى بها الثؤباء
ويرى المرء انه كان كل شيء ... هو تبر وما عداه هباء
مركز الكون حوله دارة الأف ... ق وبهو من فوقه وسماء
ولقد تحمد الخليل طويلاً ... ثم يبدو ما كان منه انطواء
فإذا الغدر شيمة وطباع ... وإذا الود والوفاء رياء
وإذا النفس جانب مدلهم ... بالدنايا وجانب وضاء
وإذا المرء يحمد الصحب منه ... جانباً والكريه منه خفاء
ومع الخبر بالأنام فقد يع ... رو الفتى عند غدرهم إعياء
كل يوم يخال منه جديداً ... وهو رث وما طواه العفاء
قلبه الأمل المضلل بالو ... د يقود الأسى إليه الرجاء
ومع اليأس منهم كرم الصف ... ح إذا الحتم ما جنوا والقضاء
كلهم يشتكي ويشمت بالشا ... كي وكلٌّ كما يسيء يساء
كلهم يندب الوفاء وكلٌ ... يتأذى وطبعه الإيذاء
كلهم قانص يرى في وفاء ال ... بخل صيداً وليس منه وفاء
كلهم لا يود للناس ماَ ير ... غب فيه لنفسه ويشاء
ويُسَرُّ الفتى ويُبدى اكتئاباً ... إنْ ألَمَّتْ بصاحي بأساء
صادق العطف كان أو كاذب العط ... ف ففي نحس خله سراء(121/54)
وارتياح أَن لم يُصَبْ مثل خل ... نزل الحزن داره والشقاء
وسواء خب وغِرُّ ولا غَرْ ... وَفللغر صولة وعداء
كلهم إن يرقك منه ذكاء ... بعد حين يرعْك منه غباء
فكأن الذكاء منه وميض ال ... برق والعقل كله ظلماء
كلهم يبغض النقيصة حقاً ... حذر الناس بغضه إخفاء
واكتساباً للحمد والربح يقلا ... ها ولولاهما لعيف الرياء
كلهم يُلْبِسُ النقيصةَ منه ... حلة الخير وهو منه بَرَاءُ
يغضب المرء للفضيلة كيما ... يحسب الناس أن ذاك نقاء
وسواء نقص وفضل لديه ... إنْ تدانت من كسبه النعماء
ومن الناس من يبوح بنقص ... وكثيرٌ من قوله إطراء
كالذي قال إنما أفقدته ال ... حلم منه صراحة وإباء
يمدح الحلم مغرياً وهو يسطو ... مغنم الحب في الورى الحلماء
وحذاراً للشر يمدح خيراً ... ذاك جبن في طبعه واتقاء
قسم النقص والمحامد بين ال ... ناس منه الأحقاد والأهواء
فلئيمٌ من كان منه جفاء ... وكريمٌ من كان منه إخاء
ذاك ميزانه وما الحق إلا ... ما رأى الحق يأسه والرجاء
ويرى الأخرقَ الذي يرحم النا ... سَ وإن ود أنهم رحماء
كي يمدوه بالذي ضن عنهم ... بجداه وهكذا الأحياء
كل حي يصون منه حياة ... ولئن غال ما عداه العفاء
حاطها بالصيال والمكر والقَسْ ... وِ ولم عم سواه الشقاء
وبإنكار كيده وأذاه ... وبدعوى الكمال وهو طلاء
يتدنَّى يبغي العلاء ولا يث ... نيه عما يحط منه إباء
غير من آثروا على أنفس من ... هم نفوسَ الورى وقد قيل داء
وعجيب إِنْ كان أَطْهَرُ ما في ال ... نفس داءً والحرص منه الشفاء
واشد القُساَةِ يُنِكُر لؤم ال ... ناس كيما يكون منه مضاء(121/55)
وهو يُطْرِى الحياة بُقيا على الكيد وذعراً يكون منه الثناء
بين أمرين يدرج الناس طراً ... جوع بطن أو أن يكون امتلاء
ومن الجوع أو حذاراً له أو ... خشية الموت كم قسا الأحياء
وامتلاء يصير شهوة جسم ... يهتك الطهرَ حفزها والمضاء
هَيِّنٌ بعدها إذا ما الضحايا ... نال منها نحس ونال شقاء
خمص بطن ونهمة وحذار ... واحتيال وقسوة ورياء
ذلك العيش ثم ما كان من خي ... ر بَكِىٍّ لولاه عيف البقاء
وقتالٌ على الحياة دعاه ال ... حيُّ فضلاً يبغي به ما يشاء
ذاك فضلُ إذا أساء ولكن ... هو نقص في الناس حين يُساء
ولو أن السبيل للموت سهل ... لم تكن عنه نجوة أو عزاء
فاحمد العيش إن حبك للعي ... ش مُلِحٌّ مما تمادى العناء
إنَّ أقوى الرجاء ما تعرف النف ... س وإنَّ قَبَّحَ الحياةَ الذكاء
لم يعفها وإنما شاء أن يُبْ ... صِرَ قدماً من حسنها ما يشاء
دائب بَصَّرَ الأنام بما جَ ... مَّلَ عَيشاً ووصفة إِغراء
والذي يكلأ الحياة على العل ... م بها لا تروعه الأشياء
يمدح المرء مثل ما حاز من فض ... ل فإنْ زاد كان منه هجاء
فقليل ما تصدق النفس قولاً ... وكثير من أجل ذاك المِراء
مهجة الحاسدين في سورة الأح ... قاد والبغض مهجة هوجاء
ساء فعلٌ منهم فساءت ظنون ... والورى في طباعهم شركاء
سوء ظن الأنام طبع ولكن ... مقلة الظن مقلة حولاء
كل حي أمامه ما جنى الخص ... م يراه وما جناه وراء
وعجيبٌ أن يُحْسَد المرء حتى ... بعد أنْ لم تَدمُ له النعماء
أي نفس من أنفس الناس عافت ... حسداً للقلوب منه اكتواء
لا بل الفضل إنْ تضاءل ما في ال ... نفس منه ولم يكن إيذاء
كلهم ذلك الحسود ولكن ... هَيّنٌ ما بدت به الفضلاء(121/56)
لو ينال الأنام ما حسدوه ... حسدوا ضده وليِمَ القضاء
حسبوا اللؤَم من ذكاء وعقل ... فادَّعاه الطغام والأعلياء
وتباهوا بقدره اللؤم فيهم ... استشاطوا إنْ قيل هم لؤماء
وقليل ما يندم المرء أن لم ... يك جُرْم من بعده الازدراء
فإذا الناس زَيَّنُوا منه جرماً ... شملته مِنْ مدحهم خيلاء
ومضى سادراً يرود من الآ ... ثام مرعى ودأبه الكبرياء
يبتغي المرء أن يرى الناس طراً ... حيث يرضى وخلقهم ما يشاء
وهو لا يستطيع تغيير ما في ... نفسه كي يكون منهم رضاء
وحقيق بالشك مَنْ رأيه يت ... بع ما خولجت به الحوباء
رأيه مثل خلقه وهواه ... حاكم فيه جَوُّه وُالغذاء
في قنوط ومطمع وانقباض ... وارتياح تناكرت آراء
لو بدا الشر في النفوس تعادت ... رحم الله فاحتواه كساء
وإذا الشر أعوز المرء عجزاً ... ادعَّىَ أن عجزه استعلاء
ومُقِرَّ بالشر كي يُغْفَرَ الش ... رَّ وكيما يعود منه اعتداء
واعتراف بالجود حرصٌ وكسبٌ ... وهو منه استزادةٌ لا وفاء
ولقد يحقد العشير إذا خ ... لاّك رزء وكان منه رثاء
يجرأ الفرد بالجميع على الش ... ر ولولاه غاله استخذاء
شد من أزر سافل أنَّ شراً ... جُمِعَتْ في مناله الجبناء
فجبان يشد أزر جبان ... وعداء يكون منه عداء
ولقد يفعلون خيراً ليخفى الش ... ر منهم وذاك منهم رياء
والشقي الجزوع من شر قوم ... جر نفعاً منه إليهم رجاء
مستنيم إلى الولاء ويكوي ... قَلْبَه أن يغيض منهم ولاء
جاهل بالأنام يخدعه المُط ... ري نفوساً لهم وحق الهجاء
لقنوه أن المروءة أن يغ ... تر بالناس وهو منه غباء
لا بل الفضل خيره وهو يدري ... إنْ بلاهم أنَّ قد يعز الجزاء(121/57)
مطمئناً بعد اصطناع جميل ... عندهم إنْ دهاه منهم بلاء
كلهم ظالم وان كان مظلو ... ماً ما رأى أنَّ قَسْوَةُ استشفاء
يشتفي من لواعج الغيظ والذ ... ل بظلم الأذَلِّ بئس الدواء
يظلم الصاغر الضعيف كما يظ ... لمه من له عليه اعتلاء
طبقاتٌ مقدرَّات من الطغ ... يان ما إن يُخَال فيها انتهاء
ومع الشر والأباطيل في النف ... س فللخير أنة سيماء
عبد الرحمن شكري(121/58)
القصص
صور من هوميروس
حروب طروادة
أندروماك
للأستاذ دريني خشبة
استطاع نبتيون أن يزلزل قلوب الطرواديين
وحسبه أن يفر من ميدانهم مارس الجبار، وأن يفر في أثره أتباعه إله الروع، وفينوس، أصل البلية التي حاقت باليوم، لينتقل النصر طفرة من جانبهم إلى جانب الهيلانيين.
وبرزت شمس اليوم التالي على الساحة الملطخة بآثام الإنسانية، المضرجة بأوزار الإلهة، المصطخبة بأنين الموتى. . . لتشهد من جديد صراع الضغائن وتصاوُل الأحقاد، وأخذ السخائم بعضها برقاب بعض، وهذه الكتل البشرية يفني بعضها بعضاً.
وأشتد الهيلانيون في طلب الطرواديين، وأستبسل هؤلاء، فكانت أمواج الغزاة تتكسر على صخور شجاعتهم. . . . . ولكنها لا تتلاشى.
وعظم الخطب، ومارت الأرض، وأنعقد رَهَجُ الحرب مما تثير الخيل من هَبَوات، وإشتجرت الهيجاء، حتى لكأنها قطع من الليل، وصلصلت الدروع حتى لكأنها عواء ذئاب الجن، واستشرى الشر حتى لا ترى إلا إلى منايا وآجال، في قتال ونزال. وأحسن جنود طروادة بلُغوب الوغى، وشعروا بالرجفة تأخذهم من كل جانب، وكان هكتور العظيم يخطف كالبرق بين صفوفهم يحضهم ويحرضهم؛ بيد أن الشجاعة لا تغني في موقف الموت شيئاً، فقد شرعت فيالقهم تتقهقر ببطء نحو الأسوار، حتى إذا بلغوها لبثوا ثمة يُصلون أعداءهم وابلاً من السهام، تساعدهم الرماة من فوق الأبراج. . .
لكن الهيلانيين ما تفتر لهم همة، ولا يصل إلى حماستهم كلال؛ فقد صمدوا في مواقفهم، وثبتو وصابروا، وأبدوا من ضروب البسالة واليأس ما حير ألباب أعدائهم، وجعلهم ألباً عليهم واحداً!!
وفي عنفوان المعمعة لقي هيلانوس بن بريام الملك، أخاه المغوار هكتور يقصف بين(121/59)
الصفوف ويرعد، ويرغي بين المحاربين الصناديد ويزبد؛ وكان هيلانوس خير كأشفى الغيب، وعرافي الطرواديين؛ وكان حبيباً إلى الآلهة، جميل الطلعة، بسام الثغر، حتى في الحرب؛ وكان إلى ذلك حازماً موفور الحزم، صارماً شديد البأس، يقهر الغير على احترامه ولو كانوا يكبرونه سناً؛ فلما رأى هكتور يعبس تلك العبوسة القمطرير لما يحيق بجنوده من أذى، ذهب إليه قُدماً وقال:
(أي أخي! أي هكتور العظيم!).
وما كاد هكتور يسمع النداء الحبيب حتى هرع إلى أخيه يلتمس في صدره الحنون برداً لحر تلك الجحيم التي لفحت شجعان طروادة بزفيرها، وصاح به:
(هيلانوس! أنت هنا؟ أدع لنا آلهتك يا أيها العزيز! لقد كؤد النصر بعد إذ حسبناه في أيدينا أمس. . . أدع لنا آلهتك فقد عيينا بهؤلاء الهيلانيين الأبالسة!. .)
- (هكتور! أصغ إليَّ! لن تظفروا بهؤلاء مادامت مينرفا معهم تؤيدهم، وتشد أزرهم، وترد عنهم سهامكم، فتجعلها في نحوركم!!).
(هكتور! هلم إلى القصر يا أخي، فالق والدتك المرزأة ثمة، فتوسل إليها أن تذهب من فورها، مرتدية أبهى ملابسها إلى هيكل مينرفا، فلتبك عند قدمي تمثالها، ولتقدم الضحايا، ولتُقرب القرابين، ولتحرق البخور المقدس، الممزوج بالأفاويه والصندل وطيوب الهند؛ ولتنذر أن تذبح اثنتي عشرة بقرة من خير أبقار اليوم، فتتصدق بلحومها، وتهب الكهنة شحومها، إذا وعدت ربة الحكمة أن ترفع مقتها وغضبها عن طروادة!)
وألحف هيلانوس على هكتور، فألقى نظرة على المعركة، وكاد قلبه يتفطر على هذه الأشبال التي تسقط هنا وهناك، وفي كل صوب وحدب، لاقيةً حتوفها في سبيل اليوم، وذرف عبرات تذوب حناناً ورحمة، ثم لوى عنان حصانه إلى البوابة الكبرى، فدخلها وقلبه يتصدع من الهم، ووقف مرة أخرى يلقي على الساحة المضطربة نظرة قائد بجنوده جد رحيم. . .
وأنطلق إلى القصر الملكي المنيف ذي الشرفات والآكام. . .
وهناك. . . عند بوابة القصر، وتحت البلوطة الكبرى الوارفة، أجتمع حول هكتور نسوة كثيرات، هن أزواج المحاربين البواسل وأخواتهم وبناتهم، وأمهاتهم كذلك، إزدحمن حول(121/60)
يسائلن عن رجالهم، هل أودى بهم حتف القضاء؛ واسقوا نرى الوطن العزيز من دمائهم، أم ما يزالون يناضلون الأعداء، ويردون عن طروادة حُمى البلاء؟. . .
ولكن هكتور يوشك ألا يسمع لهن، لأنه ينطلق من فوره إلى داخل القصر،. . . وها هو ذا يهرع في أبهائه العظيمة، ماراً بتلك الغرف الخمسين التي تضم أزواج أبيه وأطفالهن، ثم بالبهو الأكبر ذي العماد الشامخة، ثم بالجواسق الذهبية ذات الدُّمى والتماثيل، حتى يكون عند ردهة الملكة، فتلمحه أخته الجملية ذات المفاتن لاؤوديس فتجري إليه، وتلف ذراعيها حول ساقيه، فيتخلص منها برفق. . . وتكون والدته قد أحست وجوده فتهرع إليه، وتهتف به:
(هتكور! بُني! ماذا جاء بك هنا؟ لمن تركت الساحة يا ولدي! أهكذا تدع أبناء طروادة للموت الأحمر وتجيء إلى الحرم تنشد الراحة يا هكتور؟ لا. لا. لا أحسبك تتخلى عن جنودك لحظة. ولكن هلم إليَّ! إليك هذه الكأس من أشهى ما عصر باخوس! رَّو ظَمأتك منها وعد إلى الميدان. .)
بيد أن هكتور يتهجم تجهمة مُغضَبة، ويهتف بها:
(أماه! حاشاى يا أماه! حاشاى يا أعز الأمهات! لن تهرق الخمر بأسمي، وتلك دماء أخواني تهرق بإسم الوطن وتُراق! حاشاى يا أماه أن أتذوق قطرة واحدة من تلك الكأس، وهناك. . . في سعير المعمعة، يجرع أبناء طروادة الأعزاء كؤوس المنايا وذوب الحمام! أريقيها على مذبح مينرفا إذن! هلمي ولتك معك أزواج القادة والمحاربين جميعاً، فالبسن أبهى ثيابكن الحريرية المفتلة، وحبركن المفوفة، وانطلقن إلى هيكل مينرفا، فصلين لها، وأحرقن البخور الغالي من الأفاويه والصندل أفخر طيوب الهند، ثم أركعن عند قدمي تمثالها المعبود، وإبكين بكاء طويلاً، وسبحن بإسم آلهة الحكمة، واغسلن الأرض عندهما بدموعكن، ثم توسلن إليها أن ترفع عن الطرواديين مقتها وغضبها وأنذرن أن تقربن، لو فعلت، إثني عشرة بقرة من خير أبقار اليوم، يتصدق على الفقراء وأبناء السبيل والمعترين بلحومهن، وعلى كهنة الهيكل بشحومهن. . .
(أماه! إن لم تفعلن كما أخبرتك فلا نصر لنا. . . بل لنا الهوان والهزيمة المؤكدة. . . وعليك وعلى نساء طروادة السلام من أربابها الكرماء!. .).(121/61)
وصمت هكتور! وأربد وجه هكيوبا!
وأنطلق البطل إلى قصر أخيه. . . إلى قصر باريس فوجده يلهو ويلعب، ولا يأبه بهذه الأرواح الغالية التي تصطرع في الميدان، فأخذته الحنقة، وصب عليه شواظ غضبه. . . (أنت! أنت باريس بن بريام! عجباً وزيوس الأكبر! أنت هنا تلهو وتلعب، وتدع ضحاياك تنافح عن آثامك تحت أسوار اليوم، وتذوق الردى بجريرتك؟!. . .).
وأطلق العنان للخيل، فذهبت عربته الحربية المطهمة تطوي الطريق إلى الميدان. . .
أما أمه فقد جمعت نساء طروادة وجماعة المتوسلات، وذهبن جميعاً إلى هيكل مينرفا. . . وصلين وبكين، وغسلن بدموعهن قدمي التمثال المعبود، ونذرن لآلهة الحكمة ما أمر به هكتور أن يُنذر. . .
ولكن!
لقد أصمت مينرفا أذنيها! ولم تُصخْ لهذه المتوسلات المكلومة، ولم ترق لتلك العبارات المسفوحة، ولم تطمع أبداً في ضحايا وقرابين تكفر عن خطيئات باريس؛ ذاك الراعي المفتون الذي آثر الجمال الفاني على الحكمة الخالدة، فقضى في التفاحة لفينوس، ربة الحسن والحب، تلك الحية الرقطاء التي لدغت طروادة بأسرها، فهي إلى اليوم تصرخ من سمها الزعاف يسري في أرواح أبنائها، فينكل بهم، ويكاد يقضي عليهم. . . ولا ذنب لهم ولا جريرة، إلا لبنات الهوى الآنم، والغرام الشائن، والحب المجرم المهين!!
وأحس هكتور وهو منطلق إلى الميدان كأن منيته تنوشه من مكان بعيد، وأحس في صميمه بشوق حار إلى لقاء أندروماك، زوجه العزيزة عليه، الأثيرة إلى قلبه، شوقاً يشبه وداع الحياة في حرارته وأسره، وشوقاً يشبه الاستمتاعية الأخيرة من مباهج هذه الدنيا. . . في حزنه الصامت، ومعناه العميق!
وأحس كذلك بلوعة إلى التزود بنظرات من سكمندريوس طفله الحبيب؛ هذه الهبة السماوية التي توشك أن تصبح نقمة من نقمات اليتم، إذا كان صحيحاً هذا الهاجس الذي وقر في قلب هكتور، والذي صور له أنه مقتول اليوم لا محالة. . .
وألح الشوق على قلب البطل، فثنى عنان الخيل إلى الطريق المؤدية إلى قصره الممرد، ليشفي حاجات الفؤاد المعذب.(121/62)
وذهب من توه إلى مخدع أندروماك! ولكنه لم يجدها هنالك، فبحث عنها في الغرف والردهات والأبهاء، ولكنه عبثاً حاول الوقوف لها على أثر!
وسأل عنها حشم القصر، وكان صدره يعلو ويهبط حين كن يتحدثن إليه عن أندروماك العزيزة وما تلقاه دائماً من القلق، وما تتفزع به روحها من الهواجس ما دام زوجها يخوض غبار هذه الحرب!
فهل هي من الأرض الثقيلة المخضبة بالدماء هذه العواطف المشتركة، أو هي من السماء الصافية التي لا يرتفع إليها نغل، ولا يروي فيها زند عداء، ولا تشب فيها سخيمة؟!
وأخبرنه أنها يممت شطر برج طروادة الرفيع، تشهد منه ما يحدث في المعركة من أهوال، وذلك عندما ترامت الأخبار أن الإغريق قد ضيقوا الحصار على جنود طروادة، وأنهم خضدوا شوكتهم، وفلجوا عليهم، ونخبوا قلوبهم، وضعضعوا أركانهم. . . فريعت أندروماك، وذهبت من فورها إلى البرج لتطمئن على رجلها وذخر حياتها، وسندها في هذه الحياة السوداء.
ونهد هكتور إلى البرج، فلقيته أندروماك بعينين مغرورقتين ووجه شاحب وجبين مغضن، وصدر ينوء بما فوقه من الهموم.
كانت تقف أبنت إبتيون، الجملية البارعة، وعلى ذراعها المرمري الفاتن طفلها الرضيع الشاحب، الذي حل بهذه الدنيا الهازلة ليكون عبرة سخينة من عبرات الحزن القاهر، ثم ليكون مأساة وحده حين تضع هذه الحرب الضروس أوزارها، وحين يشب فلا يرى حوله إلا الباكين والمحزونين، وإلا هذه المدينة الكاسفة التي تعصف بها آلهة الحرب، من غير ما شفقة ولا مرحمة!
وتعلقت أندروماك بذراعي زوجها، وشرعت تنظر في عينيه المبللتين، وتقول له:
(هكتور! رجلي وذخري من هذه الحياة! إلى أين أيها الحبيب؟ أما لهذه الحرب الطاحنة من نهاية؟ أهكذا قضت الآلهة على طروادة الخالدة بالحزن الأبدي والأسى المقيم؟ هكتور ألا تفكر في سلم يرفرف على ربوع الوطن، ويبقى على هذا الشباب الذي تعصف به ريح الحرب؟
رَجُلي!(121/63)
إن آلافاً من الهواجس السوداء تضغط على قلبي تحدثه بالعُقَبى الوخيمة، والأيام الباكية القريبة!
هكتور؟
هذه أشباح القتلى الأعزاء من بني وطني تحدثني عن مأساة أبي، وأخوتي السبعة، والمئين من أهلي، قتلهم أخيل الجبار بيده السفاحة وجعل من جثثهم كومة عالية تقص على القرون تاريخنا الحزين!
لقد هرعوا جميعاً إلى هذه الساحة من سيليسيا، ملبين نداء الملك، الملك التاعس، أبي، الذي سعى إلى طروادة لينام أبد الدهر في ظل أسوارها نومةً غير قريرة ولا هانئة. . .
هكتور!
لقد نام أعز الآباء في تراب ساحتكم دفاعاً عن مدينتكم، ولكن المأساة لم تتم بقتله وقتل أبنائه والمئين الأعزاء من بني جلدته، ولكن المأساة أبت إلا تكون أمي. . . آه يا أمي العزيزة! أن تكون هذه الأم صفحة محلولكة من صفحاتها التي تفجر الدم في القلب، وتضرم النار في الحشا!
لقد ساقها أخيل يا هكتور في جملة السبي، ولولا القَود الكبير، والفدية الغالية التي بذلناها من أجلها، لكانت إلى اليوم، لو مد في أجلها، إحدى خادمات الأعداء الذليلات، اللواتي لا يملك لهن في هذا الإسار عزة، ولا يقدر لها أحد شأناً! لكنها سقطت هناك، في هامش هذه الساحة الظالمة، ضحية سسهم مراش من قوس الآلهة ديان، فكأنما رفضت أن ترفع كأس هذه الحياة إلى فمها النقي الطاهر. بعد إذ لوثته أجداث الدهر بذل الإسار!!
هكتور!!
كل هذه النوازل هدت نفسي، وحطمت قلبي، وأثلجت مشاعري، وجعلتني بائسةً تاعسة موهونةً لا حول لي. . . لولا أنك إلى جانبي تأسو جراحي وتؤنس وحشتي، وتشيع نوراً متلألئاً في ظلمات حياتي. . .! فأنت لي اليوم أب نعم الأب، وأنت لي في وحدتي بقلبك الحنون أم نعم الأم، وأنت لي أخ، بل أنت لي كل شيء في هذه الدنيا!
هكتور!
أبق إلى جانبي فأنا لا أستغني عنك بأب أو أم أو أخ، أو بمملكة يزين مفرقي تاجها(121/64)
المشرق، ولا يشد يميني صولجانها الرنان!
أبق إلى جانبي يا هكتور!
أبق إلى جانبي وأرع هذا الطفل، ولا تسلمه وتسلمني لليتم والشقاء.
هتكور!
إن المستقبل يعبس من اليوم لولدك سكمندريوس؛ فرده عنه، وأدفع عاديات الزمان من الآن عن فلذة كبدك، وحبة قلبك، واستشعر نحوه حنان الأب الرحيم، ولوعة الأم المفئودة!. . . .)
وخنقتها عبرة حجبت عن ناظريها نور الحياة، وحبس منطقها كمد ممض، وحزن أليم؛ ووقف هكتور مبهوتاً لا يحير، ينظر إليها مرةً، وإلى ولده أخرى، ثم يلقي على طروادة نظرات. . . واستقيظ بطل اليوم من غفوته الصاحية، وأنطلق لسانه من عقاله يقول:
(أندروماك! أيتها الحبيبة! أسمعي إلي!)
لا تخالي يا أعز الناس إلى أن قلبي قد تحجر فلم يخفق لكل ما ذكرته من قبل! لا! لقد خفق كثيراً بمثل هذه الهواجس!
بل هو قد ذكرك، وقد تصور إن هكتور مقتول، وكأنك كما ذكرت عن أمك في جملة السبي، وأنك تؤوين مع أحد القادة الهيلانيين إلى هيلاس! وإن القائد الغليظ قد ضمك إلى حرمه، أو بالغ في الإيذاء فجعلك إحدى سراريه أو خدمه، كلما مر بك أحد أشار إليك بالبنان: (مسكينة! هذه زوجة هكتور فتى طروادة، وأين ملكها المقدام، البطل الذي سفك الدماء وسعر الهيجاء، تعمل هنا اليوم خادمة ذليلة، كسيرة القلب، مهيضة الجناح، تأتمر بأمر السفلة والاخساء!
لا يا أندروماك! لقد ذكرت ذلك جميعاً، ومن أجل هذا فأنا لهذه الحرب، وأنا لهؤلاء الأعداء! سأحطمهم! سأدك الأرض من تحتهم! سأُسقط السماء عليه كسفاً. . .! من أجلك! يا وطني! يا بلادي!. . .).
وسكت فتى طروادة قليلاً، ثم ذكر المعركة وما يدور فيها، فتقدم إلى زوجه فطبع على جبينها قبلة كلها هموم: ومد يده يريد أن يأخذ سكمندرويوس فيداعبه أو يودعه؛ ولكن الطفل صرخ مروعاً من هذه القبعة النحاسية المذهبة التي تحمى مفرق أبيه! وأبتسم والداه، برغم(121/65)
حزنهما، ورفع هكتور القبعة وألقاها على الأرض المعشوشبة، وتناول الطفل فأرقصه قليلاً حتى انفرجت شفتاه عن ضحكة عالية، ولثمه كما تلثم العاصفة فنناً وارفاً فتلفحه، ودفع به إلى حضن أمه.
وأنطلق يطوي الطريق إلى المعمعة. . .
(لها بقية)
دريني خشبة(121/66)
2 - رحلة إلى حدود مصر الغربية
مرسى مطروح، سيوه، السلوم
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
أقلتني سيارة برفقة الأخ النبيل الكريم حسن حشمت، من خيرة الشبان وأكفأ ضباط الحدود، وطفنا بكثير من البساتين والينابيع، وهي عماد موارد الواحة وخير ما يميزها، تنتثر في أطرافها في عدد لا حصر له، وحولها تقوم غابات النخيل تتخللها أشجار الفاكهة، أخص بالذكر منها الكروم والزيتون، ثم الرمان والتفاح والبرقوق والموالح، على أن البساتين تفتقر إلى عناية كبيرة من أهلها، فهي مهملة إلى حد كبير، إذ تغص أرضها بالطفيليات، وتزدحم بالأشجار المتجاورة، مما يؤثر ولاشك في مقدار إنتاجها عاماً بعد عام. ويخيل إلى أن الناس هناك أميل إلى الكسل، إذ كنا نرى ماء الينابيع المتفجرة يجري على غير هدى، ويؤدي بعضه إلى مستنقعات فسيحة هائلة بعضها يبدو كالملاحات المديدة. نرى كتل الملح الأبيض الوضاء تكسو جوانبه إلى مد البصر، ولقد حاولت وزارة الزراعة إصلاح تلك الأرضي وحث الناس على استغلالها بطريقة أنجع من طريقتهم الحالية في الحرث وتعهد الأرض، وكذلك في الاستفادة بذلك الماء الوفير الذي يضيع سدى، ولقد قامت وزارة الزراعة هناك بمجهود يشكر في توزيع أشجار الزيتون والخروب على الناس مجاناً، وفي الاحتفاظ بمياه الينابيع فأقامت حول كل عين أحواضاً كبيرةً من البناء تؤدي منها المجاري الصغيرة إلى مختلف النواحي، بحيث تشعر وأنت تجوب أطراف الواحة من كثرة القنوات وتقاطعها وتشعبها أنك وسط قطر زراعي ممتاز، لكن رغم ذلك يضيع جانب كبير من ذلك الماء سدى، ولقد ساعدت تلك القنوات على تجفيف كثير من المستنقعات التي كانت مربى خصيباً لبعوض الملاريا الذي كان يفتك بالناس فتكاً ذريعاً، وهي تبث في تلك المياه نوعاً من السمك الصغير الذي يعيش على بويضات ذاك البعوض استئصالاً له. ولقد زرنا مصنع وزارة الزراعة الذي أقامته لاستغلال أكبر موردين للناس: هناك البلح والزيتون؛ وهي تبتاع من الآهلين جانباً كبيراً من أجود أنواع البلح، وتخضعه لعملية الغسيل والتطهير والتبخير، ثم الكبس في صناديق من خشب تبطن بالورق الصقيل، وتصدر منه بين 2000 و4000 طن في العام؛ وفي جانب من المصنع معصرة آلية للزيتون بكامل معداتها، يعصر(121/67)
فيها الزيتون وينقى الزيت بعدة عمليات، ثم يوضع في صفائح ويصدر؛ وإنتاج المصنع آخذ في الزيادة، ولذلك تفكر الوزارة في توسيعه باطراد. وللأهلين كثير من المعاصر الخاصة للزيت ومساطح البلح الذي يعدون منه (العجوة) السيوي الشهيرة؛ أما باقي أنواع الفاكهة فلا يكادون يستفيدون منه تجارياً، حتى البيع لأهل الواحة نفسها غير مباح، ذلك لأن المالك يعد بيع الثمار للناس معرة لا تليق بكرامته، ولكل إنسان أن يدخل البساتين ويأكل منها ما يشاء بدون مقابل، ولكن ليس له أن يحمل إلى الخارج شيئاً منها إلا في حالات خاصة، عندما يريد المالك تقديم الهدايا من ثمار حديقته لبعض ذوي المكانة والجاه من الغرباء أو الأهلين. ولم أدرك من صنوف الثمار شيئاً، اللهم إلا أردأ أنواع البلح هنالك ويسمونه البلح الفراوي، أما البلح الممتاز المسمى الصعيدي، والذي يليه جودة الفريحي فلا يزال فجاً غير ناضج.
أذكر أنا دخلنا بستاناً وتفيأنا بشجرة، وكانت الأرض تحت النخيل يكاد يفرشها ذاك البلح الرديء (الفراوي) فطلب الأخ حشمت إلى الرجل أن يذيقنا أطيب ذاك البلح، فاعتلى الرجل النخلة وهز عرجونها، فأمطرت وابلاً من رطب أصفر كبير، فأقبلنا ننتقي منه أطيبه ونغسله في ماء النبع حولنا ونأكله، فكان لذيذاً شهياً، وما كدت أمتدحه حتى سارع الرجل بالاعتذار بأن الأنواع الجيدة لما تنضج بعد، وأن هذا النوع الذي نأكله غير جدير بنا، لأنه عندهم طعام الحمير! وقد علمت أنهم حقاً يقدمونه علفاً للحمير، والنوى تأكله المعزى.
وأكبر عيون الواحة عين قريشت التي تبعد عنها بنحو عشرين كم، ثم عين تاخررت التي تنفجر بقوة هائلة ويتدفق منها 4000 طن يومياً يضيع جله في متسعات الملاحة بالبحر؛ ثم عين الشفا، وتقول خرافة قديمة إنها كانت متصلة بالجن، خاضعة لعبثهم، ثم اكتسبت هبة سحرية هي شفاء الأمراض كافة، لذلك يكاد يغتسل فيها الناس جميعاً كل يوم، فالنساء يقمن مبكرات ويغسلن أجسادهن دون رأسهن احتفاظاً بجمال الشعر أفخر آيات تجملهن، ثم يعقبهن في ساعة متأخرة الرجال؛ والعين التي يستقي منها الناس جميعاً عين تأبه أمام مركز البوليس؛ وكم كان يروقني منظر الناس وبخاصة النساء وهن يردن تلك العين في بكرة الصباح وعند الأصيل يملأن جرارهن! هذه سيوية في نصف سفور، وقد ارتدت(121/68)
جلباباً فضفاضاً من قماش يغلب على نقوشه التخطيط الأزرق، وقد ضفرت شعرها في جدائل متعددة، بعضها يتدلى إلى جانبي الرأس والبعض أمامها؛ وتنتهي الجدائل الخلفية بقطع من جلد خشن كان سبباً في أنهن لا يستطعن النوع على ظهورهن أبداً، وتزين أذنيها أقراط ثلاثة، في أسفل الأذن في طوق كبير يعلوه في وسط الأذن واحد أصغر منه، ثم يعلو هذا ثالث هو دونه حجما، وتكاد تكسو رقبها أطواق من الفضة بعضها خارج بعض، وهؤلاء لا يغسلن رأسهن إلا في فترات تعد بالأعوام، وبعضهن لم يغسلنها منذ نشأن، وذلك خشية إفساد زينة الرأس، وهن كل أسبوع يتعهدن الشعر ببعض الزيوت والأعطار، ويخيل إليَّ إن سبب تلك العادة سقوط الشعر من أثر أملاح مياه الينابيع مما نفرهن من غسله فأضحت عادة فيهن.
والسيويات جميلات الوجوه بألوانهن الخمرية وتقاطيعهن الدقيقة النحيلة. وإلى جانب السيوية كنت أرى عربية ازينت بجلبابها الأحمر، وأحاطت خصرها بحزام معوج من الأمام، وكانت تهولني أكمامها الكبيرة، ولقد خبرني الطبيب بأنه عند الكشف على إحداهن لا تضطر السيدة أن تخلع ثوبها ويكفي أن ترفع ذراعها فيظهر كل جسدها من كمها.
وللقوم لغتهم السيوية الخاصة، كنت أستمع إليها في رطانة هي أبعد من اللهجات الأوربية عنا، وقد حاولت أن أتعقب في كلماتها شيئاً يمت إلى العربية أو اللاتينية بصلة فلم أهتد إلى كلمة واحدة؛ وهم يتخاطبون بها دائماً، لكنهم إذا تحدثوا إلى الغريب تكلموا بالعربية، وأطفالهم لا يعرفون إلا اللغة السيوية. وإليك أمثلة من تلك اللغة: تلحاك أنك (كيف حالك؟)، أمقحاط: (أين تذهب؟)، سقم أنا سيط: (من أين تجيء؟)، أفتك اللون: (أفتح الشباك)، أفن شاشنك أخفنك (ألبس الطاقية على رأسك)، أفن شخشيرك في أشكنك (ألبس الجورب في رجلك) أشوُّ (الطعام) الخ. وما إلى تلك الألفاظ التي تمعن في الغرابة بالنسبة للغتنا، وحتى أسماؤهم تجد من بينها عجباً: تلشلشت، زوبَّاي، بيًّخ. ولهم تدليل خاص لبعض أسمائنا فمثلاً ينادون: أبا بكر باسم كاكال، إبراهيم باسم بابي، أحمد باسم حيدة؛ ويقال إن أصل تلك اللغة بربري ما زجتها العربية ثم الرومانية. ولا تزال للرومان هنالك بعض الآثار؛ أشهرها مبعد المشتري (جوبتر أمون)، وكان مقر الكهنة ذرعه 360 300 قدم، ومن أحجاره ما يبلغ 33 26 قدماً، وقد زاره الإسكندر بعد أن قاسى المتاعب الممضة وبعد أن نضب ماؤه(121/69)
وأشرف على الهلاك لولا أن سقط المطر فأنجاه هو ورجاله. وكان يقوم في هذا المعبد صنم أسمه سيوح هو الذي أكسب الواحة أسمها؛ وقد زرت هذا المعبد وألفيته في حال يرثى لها، فأنت لا تكاد تجدبه حجراً قائماً على أصله وذلك من أثر أحد المأمورين الذين رأوا في أحجاره مادة صالحة لإقامة مركز البوليس، فقام يهدم المعبد ويستخدم أحجاره فيما أراد، والمفروض أنه من مثقفي القوم ومن الذين يعرفون قيمة الاحتفاظ بمثل تلك الآثار الجليلة، وهو لا يزال مأموراً إلى اليوم في ناحية أخرى من مراكز الحدود؛ عفا الله عنه وكفر له عن سيئته.
ويقال إن تلك الواحة كانت تسمى عند العرب (سنتريه)، بناها منافيوس مؤسس بلدة أخميم، أقامها من حجر أبيض وشيد وسطها ملعباً من سبع طبقات وعليه قبة من خشب على عمد من رخام، وكانت كل طبقة لطائفة من الناس على حسب مكانتهم، على إني لم أجد لكل هذا أية بقية أو أثر. وقد حاول قمبيز تدميرها وهدم معبد أمون الذي بها فهلك جيشه العظيم في طريقه إليها. ولقد زاد ذلك في قدسيتها لأنهم عزوا ذلك إلى غضب الآلهة، ولم تدخل تلك الواحة تحت حكم مصر إلا في عهد المغفور له محمد علي باشا حين أرسل إليها حسن بك الشماشرجي، حاكم البحيرة إذ ذاك، فأخضعها وتعهد بها عرب أولاد علي إلى زمن سعيد باشا ثم ضمت لمديرية البحيرة، وهم يؤدون ضريبة النخيل الحكومة، وكان مجموعها زهاء 800 جنيه وزعت على عدد النخيل الجيد الذي يثمر البلح الصعيدي، فخص كل نخلة نحو تسعة مليمات ضريبة تدفع للدولة كل عام؛ ويكاد يكون لهم نظام حكم خاص بهم فالحكومة تكل أمرهم إلى المشايخ وعددهم سبعة يتقاضون مرتبات تتراوح بين جنيهين وأربعة كل شهر، وهؤلاء الوسطاء بين الدولة وبين الأهلين؛ وعند انتخابهم يجتمع أعيان الواحة ممن تزيد ملكيتهم على مائة نخلة وينتخبون الشيخ ولا تقل أملاكه عن 250 نخلة؛ وغالب منازعتهم تحل بطريق التحكيم فيختار كل من الخصمين رجلين يوكل إليهما الأمر وقضاؤهما نافذ بعد عرضه على المأمور، وأساس تشريعهم القواعد التي وضعها لهم عالم أسمه محمد يوسف، وتكاد تكون وفق تقاليدهم الخاصة، إلا في الزواج والميراث فهم خاضعون لقضائنا. وعدد سكان الواحة يقرب من خمسة آلاف ليس بينهم مسيحي واحد؛ ويقولون إن أربعين رجلاً من العرب والبربر وقبيلة أغورمي وفدوا إلى تلك البقعة وأقاموا(121/70)
لهم معصرة ودونوا أسماءهم في سجلاتهم، ثم تكاثر نسلهم حتى بلغ هذا العدد ومن لا ينتمي إلى واحد من أولئك الأربعين يعد دخيلاً عليهم.
وطبقة العمال هناك يسمون الزجالة أو الزجالين، يزيد عددهم على الخمسمائة، وهم الذين يقومون بخدمة الأرض نظير قيام السيد بمؤنتهم الضرورية، ولكل خادم جبة من صوف وثوب من قماش كل عام، وعند جمع المحصول يتسلم الواحد 32 صاعاً من الحب وأربعين من البلح الصعيدي الجيد. وتلك الطائفة كبيرة العدد مفتولة السواعد ممتلئة الجسوم، ممنوع أفرادها من الزواج مخافة أن يزيد نسلهم فتزيد النفقة على سيدهم، ومن تزوج منهم طرده سيده وتخلص منه؛ وهذا لا شك من أسباب قلة النسل في الواحة كلها، وقد أخذ ذلك يهدد السكان بالإنقراض، فضلاً عن إنه ساعد على انتشار الفساد إلى درجة كبيرة.
(يتبع)
محمد ثابت(121/71)
البريد الأدبي
وفاة الشيخ محمد بخيت
في اليوم الثامن عشر من هذا الشهر استأثر الله بالفقيه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية السابق؛ وهو خاتم طبقة من العلماء المحققين الذين تميزوا في حياة الأزهر بالتبسط في العقائد، والتعمق في الفقه، فانتهت إليه الأمانة فيهما حيناً من الدهر. كان - غفر الله له - من أشد المعارضين لحركة الإصلاح التي قام بها الإمام محمد عبده، دفعه إلى تلك المعارضة الثائرة شهوة المنافسة من جهة، وتحريض أولي السلطان من جهة أخرى، وكان في الشيخ زكانة شاهدة، ودعابة لطيفة؛ وطموح إلى مساماة الإمام في منصبه ونفوذه وشهرته حرك فيه الأخذ بنصيب من الأدب والثقافة العامة. ولعله كان أعلم أهل جيله بدقائق الفقه الحنفي، وأبسطهم لساناً في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة.
ولد في بلدة المطيعة من أعمال أسيوط في سنة (1271 هـ) (1856م)، ثم دخل الأزهر في سنة 1282 هـ وتخرج منه سنة 1292 فأشتغل بالتدريس فيه. ثم أنتقل سنة 1297 إلى القضاء فتقلب في مناصبه حتى تولى قضاء مصر نيابة عن القاضي التركي نسيب أفندي. وفي سنة 1914م عين مفتياً للديار المصرية، وظل في هذا المنصب حتى أحيل على المعاش سنة 1921م وقضى بقية أيامه في الإقراء والإفتاء حتى قبضه الله إلى رحمته.
اختراع الخراع للصفدي
وقع الأستاذ الطنطاوي على نسخة من هذا الكتاب الغريب عند بعض أصدقائه الأدباء، وقد وصفها في العدد الماضي وفي هذا العدد، وقال إنها ناقصة من أولها وآخرها، وقد أخبرنا صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية إن من هذا الكتاب نسخة مخطوطة كاملة في مكتبة المرحوم عبد الله باشا فكري، وهي الآن في حوزة حفيده الأستاذ محمد أمين فكري بك بوزارة المالية؛ فعسى أن يتيح الله لهذا الكتاب الطريف من ينشره.
قبر الصفدي(121/72)
إلى الأخ الأديب الأستاذ على الطنطاوي
ذكرت يا سيدي أثراً من آثار صلاح الدين الصفدي بعدد (الرسالة) العشرين بعد المائة ودللت على فضل الرجل وعلى أثره في الأدب العربي، فهل تدري يا سيدي ابن يرقد هذا الرجل الفذ؟ إن قبره في مدينة صفد (فلسطين) قبر متهدم، في حارة لليهود، في بقعة لا تزيد على خمسين متراً مربعاً. . . أتريد أن تعلم أكثر من ذلك؟ - إن جيرانه لا يأنفون أن. . . يقذفوا قبره بزبالة بيوتهم.
قبر مندرس، في مكان ضيق قذر، مجهولة قيمة ساكنه، لا يزار ولا يعرفه إلا القليل، وما كان ليعرفه كل من يعرفه الآن لولا زيارة المرحوم شيخ العروبة له قبل عشر سنوات، والتبرع. . . ببناء جدار حوله!
منذ الحرب حتى يومنا هذا لم يزر قبر (إمام عصره) من الأدباء إلا المرحوم أحمد زكي باشا، فهل هذا هو التقدير لأدبائنا؟ أمة تنشد الحياة والاستقلال وإحياء الماضي العزيز، أيليق بها أن تهمل قبور رجال العلم والأدب فيها لتصبح. . . مزابل؟ قارن بين وستمنستر والبانطيون و (مقبرة) صلاح الدين تعلم السر في الفرق بين من أدباؤهم السابقون في وستمنستر، ومن قبور أدبائهم كقبر ابن أيبك!
ها قد مر على رقدة صلاح الدين الأخيرة خمسمائة وتسعون سنة كاملة، وبعد عشرة سنوات تبلغ الستمائة، فماذا أعددنا لإحياء ذكراه الستمائة؟ في وقت يقيم الغربيون المهرجانات الكبيرة لأحياء ذكر أدبائهم في كل عام! عسى ألا تمر العشر السنوات الباقية لذكرى الستمائة سنة لوفاته وقبر مهمل قذر لا يزار.
(صفدي)
نظريات الجنس والسلالة والخصومة السامية
اتخذت نظريات الجنس والسلالة في العهد الأخير أهمية خاصة؛ فهي اليوم روح النظام الذي يسود ألمانيا، وقد أخذت تثير في بعض الدول الأخرى جدلاً لا نهاية له؛ وقد كان اليهود ضحية هذه الفورة التي اتخذت في ألمانيا أشكالاً من العنف والهمجية تذكرنا بروح العصور الوسطى وأساليبها؛ على أن نظرية الجنس وتفوق السلالة لم تقف عند اضطهاد(121/73)
اليهود، ولو وقفت عند هذا الحد لكانت مسألة محلية بالنسبة لألمانيا، ولكن هتلر ودعاته ذهبوا بعيداً في صوغ النظرية الجنسية، فنادوا بتفوق السلالة الجرمانية أو السلالة الشمالية (النورديكية) على جميع أجناس البشر، ووصموا الأجناس السامية كلها بالانحطاط وعدم الأهلية لإنشاء الحضارة، ونادوا بوجوب إخضاعها وتمدينها واستغلالها بواسطة الشعوب الشمالية. ومن هنا تتخذ الدعاية الهتلرية أهميتها بالنسبة للشعوب الشرقية، وهي التي وصمت بهذه الوصمة وصدر في حقها هذا الحكم؛ وقد كانت ألمانيا وما زالت مهد التعصب الجنسي، وكانت بالأخص مهد الخصومة السامية؛ ولم يأت زعيم الدولة الألمانية في ذلك بجديد في كتابه (كفاحي) الذي يحدثنا فيه طويلاً عن عناصر الانحطاط والخطر في اليهودية، فإن الثقافة التي تلقاها لا تسمح له بمناقشة هذه الشؤون العلمية والتاريخية؛ ولكنه نقل معظم أقواله من الكاتب الألماني كرستيان لاصن؛ وقد كان لاصن أول من صاغ من الخصومة السامية نظرية علمية تاريخية، وأول من تحدث عن انحطاط الأجناس السامية في كتاب نشره في منتصف القرن الماضي؛ ثم تلاه المؤرخ الفرنسي أرنست رينان؛ واتخذت نظرية الخصومة السامية من ذلك الحين شكلها الجدلي.
نكتب ذلك لمناسبة كتاب ظهر أخيراً بالإنكليزية عنوانه: (كيف التباين من الله) بقلم الكاتب الإنكليزي لويس بروان؛ وموضوع الكتاب هو الحديث عن مركز اليهود في المجتمع والإنسانية؛ وقد يبدو لأول وهلة إن المؤلف وهو يهودي يجري على نغمة الدفاع عن جنسه؛ ولكن الواقع أنه لا يبدي في ذلك حماسة خاصة؛ وإنما لب الكتاب وموضوعه الأول هو تحليل النظريات الجنسية التي ترتبت عليها الخصومة السامية؛ وشرح الأسباب التي أدت إلى تفاقمها وإلى الصراع بين اليهودية وخصومها، ويرى الكاتب أن الحركة اليهودية لم تتخذ هذه الأهمية من تلقاء نفسها، ولكنها نمت وأشتد ساعدها بسبب الاضطهاد والمطاردة؛ ويدلل الكاتب على نظريته بسير الحركات العالمية الكبرى، فالنصرانية ما كانت لتنمو وتنتشر هذا الانتشار لو لم تطارد في بدء ظهورها بعنف وقوة، وكذلك اليهودية؛ فمنذ غابر العصور كان اليهود موضع الاضطهاد والبغض والزراية، وكانوا يجلدون ويعذبون وتحرق منازلهم وتصادر أموالهم، ولكن اليهودية هي اليوم أقوى ما تكون حياة وحيوية؛ بل هي اليوم في ازدهار وتقدم، وقد نتساءل أيكون ذلك رغم الاضطهاد(121/74)
والمطاردة؛ ويقول الكاتب كلا بل بسبب الاضطهاد والمطاردة. ثم يقول إن اليهود لم يكونوا قط جنساً أو شعباً متحداً، ومن الخطأ أن نعتقد أن العصبية الدينية هي التي تربطهم وتقوي تضامنهم؛ ذلك أن اليهودية دين سهل، يقبل مختلف التطورات والتفسيرات؛ ولكن اليهود يجتمعون في مسألة واحدة ما زالت قائمة خلال القرون، تلك هي أنهم دائماً موضع البغض والزراية من بني الإنسان؛ وقد أرغموا خلال العصور على أن يناضلوا من أجل حياتهم، فبث فيهم النضال قوة؛ واليهودي يشعر أنه ليس كباقي الناس، ولكنه يحمل دائماً على أن يشعر بأنه يوجد شيء ضده؛ ومن ثم تعلم الحذر والتحوط إلى درجة يدهش لها الجمهور الرفيع.
ويكتب لويس براون بوضوح وسلالة ويستعرض ما في بني جنسه من عيوب وفضائل بروح الاعتدال والإنصاف، ويحلل نظريات الجنس والسلالة بقوة وذكاء، ويفند ما فيها من تحامل وسفسطة، ويتساءل عن المعيار الذي يتخذه دعاة النظرية لتفاضل الجنس والسلالة: أهي المظاهر الخلقية المادية كالجمجمة والفك والشفتين واللون وغيرها، وهذه جميعاً يختلف معيار التفاضل فيها عن مختلف الأجناس والشعوب، وربما فضل الزنجي الرجل الأشقر في بعض تقاطيعه أو خواصه، وربما فضل المغولي الأصفر القصير باقي الأجناس بدقة شفاهه وحمرتها، وهكذا. ولا يحاول لويس براون بأي حال أن يزعم أن لليهود تفوقاً خاصاً، ولكنه يقول فقط إن الجمهور الرفيع لم يترك باباً من أبواب الاضطهاد والمطاردة، لسحق اليهود إلا ولجه، وحيثما ترك اليهودي لنفسه ولم يزعج نراه نسياً منسياً، ولكن حيث يواجهه الصراع والمطاردة نراه قوياً يغالب الحوادث.
وقد أثار كتاب لويس براون في الداوئر السياسية والاجتماعية كثيراً من الاهتمام والجدل؛ وربما كان كتابه أول كتاب من نوعه، يذكرنا بمؤلفات سلفه ومواطنه الكاتب والفيلسوف اليهودي الأكبر (مكس نردو) الذي لفت أنظار العالم منذ ثلث قرن بقوة جدله في نقض أصول المدنية الحاضرة وأكاذيبها الاجتماعية والجنسية والسياسية.
تمثال لحنة بافلوفا
من أنباء لندن أنه سيقام في إحدى حدائقها تمثال بديع للراقصة الروسية الشهيرة حنه بافلوفا، وقد أوصت بصنع هذا التمثال لجنة من محبي الفنون في لندن حيث عاشت(121/75)
الراقصة الشهيرة حيناً من الدهر؛ وعهد بصنعه إلى المثال السويدي الكبير كارل ميلس، وستبلغ نفقاته ثلاثين ألف جنيه؛ وتقرر أن يقام في بستان ريجنت في حديقة الورد، وهي تقع إلى جانب بركة البجع، وهو الطير الذي أوحت حركاته إلى بافلوفا بأشهر وأروع رقصاتها المسماة (رقصة البجع). وتعول اللجنة على جمع المال المطلوب من إيراد (فلم) يمثل حياة بافلوفا في طائفة من أبدع رقصاتها ومنها (رقصة البجعة المحتضرة)؛ وقد أخذت هذه المناظر قبل وفاة بافلوفا بقليل وأشترك فيها مع الفنانة الشهيرة بعض كبار الراقصين الذي عملوا معها.
وتمثل حياة بافلوفا وحدها طوراً من أعظم أطوار الفن الراقص؛ وقد ولدت هذه الراقصة المبدعة في بتروجراد في سنة 1885، وتعلمت الرقص في بعض مسارحها، ولم تبلغ العاشرة من عمرها حتى ذاعت شهرتها وتقدمت في سبيل المجد والرياسة الفنية بسرعة مدهشة؛ وكانت فنانة رائعة الإبتكار، وعلى يدها دخلت أوضاع (الباليه) الراقصة في طور جديد وبلغت ذروتها من الافتنان والروعة. وكان الفن لديها وحياً وسمواً. وقد طافت عواصم العالم الكبرى مثل لندن وبرلين وباريس ونيويورك ولقيت فيها جميعاً فوزاً باهراً. وقدمت إلى مصر سنة 1929 ففتنت المجتمع المصري برائع فنها ولا سيما برقصة (البجعة المحتضرة) وتوفيت سنة 1931 في مدينة لاهاي وطويت بوفاتها صفحة من أروع صفحات الفن الحديث.
أرض السعداء
يوجد بين جزائر المحيط الهادي التابعة لإنكلترا جزيرة صغيرة يصح أن تسمى بالجزيرة السعيدة. وتسمى هذه الجزيرة (جزيرة تونجا) وهي إحدى مجموعة جزائر (الأحباب) التي وقف بها الرحالة الشهير (كابتن كوك) أثناء طوافه في أواخر القرن الثامن عشر بهذه المياه الخطرة. وأمير هذه الجزيرة زنجي يسمى البرنس (توفا آهو) وهو شاب في الثامنة عشرة ولكنه طويل القامة جداً، وهو يدرس الحقوق في مبلورن ووجه الرضى والسعادة في (تونجا) هو أنه ليس بها فقير ولا معوز ولا تدفع فيها ضرائب. وكل فرد من سكانها يبلغ السادسة عشرة يعطى أرضاً مساحتها نحو ثمانية فدادين ومسكناً قروياً، أو بعبارة أخرى تهيأ له كل أسباب العيش والرخاء.(121/76)
وقد استبدلت ضريبة الدخل بجعل سنوي قدره جنيهان يدفعه كل ذكر بالغ؛ ولكنه ليس بضريبة في الواقع لأنه يخول له مقابله أن يعالج مجاناً هو وأفراد عائلته في مستشفى الحكومة؛ ومعظم إيراد الحكومة يجبى من الجمارك وضريبة السيارات.
ويكفل التعليم الحر بوجود المدارس الابتدائية وهي كلها مجانية؛ وهناك كليتان صغيرتان. ومن مفاخر هذه الجزيرة النائية التي لا يجاوز سكانها ثلاثين ألف نفس أن ليس بها أمي واحد.(121/77)
الكتب
رسالة الحج
تأليف الأستاذ ح. ع. (دبلوماسي)
للأستاذ عبد الحميد العبادي
الأستاذ ح. ع. من خيرة رجالنا العاملين في السلك الدبلوماسي، مثل مصر ولا يزال يمثلها في ممالك الشرق العربي، فأفاد بذلك خبرة نادرة بأحوال البلاد العربية في الوقت الحاضر، وأنشأ لنفسه بخلقه وإخلاصه ونشاطه مكانة عالية عند ملوك العرب، وساستهم، وأدبائهم، وعلمائهم. وإني لسعيد بأن أقول إني اطلعت على ذلك بنفسي في بعض تجوالي في ربوع الشرقين الأدنى والأوسط
وقد واتى الحظ الأستاذ ح. ع. وساعفته ظروف عمله الدبلوماسي فأدى فريضة الحج ثلاث مرات استطاع أن يدرس في أثنائها على هدى التاريخ وفي ضوء الواقع حال ذلك النظام الإسلامي الجليل المعدود خامس أركان الإسلام. ثم صاغ خلاصة دراسته في رسالة لطيفة الحجم عظيمة الفائدة، يعرف فيها من يطالعها بلاغة الأدب، وفكرة الفيلسوف، ونزعة المصلح المؤمن برسالة الإسلام وبإمكان إنهاض المسلمين من عثارهم بالرجوع بهم إلى كثير من نظمهم وسننهم الأولى. فجاءت الرسالة من أحسن ما كتب عن (الحج)، ومن خير ما أخرجته المطابع المصرية في هذا العام
ينعى الأستاذ على المسلمين فيصدر رسالته إهمالهم أمر الحج حتى كاد هذا النظام العتيق يفقد على مر الزمن من الناحية العلمية الحكمة التي قصد إليها الشارع من تشريعه. فهو يقول: (أما بعد فقد أديت فريضة الحج ثلاث مرات، وشاهدت الحجيج من جميع الأجناس، وخالطت منهم طوائف كثيرة، وحادثت كبارهم وذوي العقول منهم، ودرست بفكري وعيني وقلبي، فكنت أرى وأفكر وأبحث، وكنت استلهم كل شيء حكمته، وكل مكان وحيه، وكل عمل سره، فظهر لي أخيراً أن الحج لا يزال مجهولاً في حقيقته، وأن الذين يحجون إنما يؤدون عملاً فردياً محضاً، ولا يعرفون إلا ظاهراً من الأمر. . .)
والرسالة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، أولها في أن الإسلام دين إنساني عام، وأنه دين المساواة(121/78)
التي تظهر في شكلها المادي المحسوس في الحج، وأن الكعبة من العالم الإسلامي بمنزلة القلب من الجسم، فالتوجه إليها في الصلاة والحج ذو حكمة بالغة. والقسم الثاني يتناول الكلام على (مقاصد الحج)، وفيه يرى الأستاذ أن الحج كفيل بتحقيق مبدأ الرجوع إلى طهارة الطبيعة الذي دعا إليه الفلاسفة أمثال روسو ولكنهم عجزوا عن تحقيقه، وأن الحج يستوفي مزايا نظام الكشافة ويربى عليها، وأن الحج رمز للجهاد الإسلامي في أسمى وأشرف معانيه، وأن موسم الحج جدير بأن يصبح مؤتمرا عاماً لنشر الثقافة بين المسلمين لو حرصت كل أمة إسلامية على أن تحج كل عام نفرا من صفوة رجالها يبادلون نظراءهم من حجاج الأمم الأخرى الرأي والمشورة؛ والأستاذ يرى أن هذه المقاصد كلها مما يندرج تحت مدلول قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم)
على أن الجديد الممتع من هذه الرسالة هو قسمها الثالث، هو تلك الفصول التي عقدها الأستاذ لمناسك الحج وأسرارها التي خفيت على كثير من بحاث المسلمين حتى ذهب بعضهم إلى أنها أمور تعبدية توقيفية لا مجال لتفكير العقل البشري فيها؛ فالأستاذ يتناولها منسكاً منسكاً: من الإحرام، إلى الطواف حول الكعبة، إلى السعي بين الصفا والمروة، إلى الوقوف بعرفات، إلى رمي الجمار عند العقبة، إلى تقديم الهدي، إلى استلام الحجر الأسود والإهلال بالتلبية، فإذا هذه المناسك قد أفصحت عن سرها، وأبانت عن مكنون حكمتها. والحق أن هذا البحث ليكشف عن ناحية روحانية جميلة من نفس الباحث القدير
ثم يختم الأستاذ رسالته بمقترحات عملية يتقدم بها إلى الحكومات الإسلامية عامة والحكومة المصرية خاصة، راجياً الأخذ بها حتى ينتفع المسلمون بنظام الحج
وإن الذي يفرغ من قراءة هذه الرسالة ليتمنى أمرين: أن تجد دعوة الأستاذ ح. ع. من أولى الرأي في العالم الإسلامي آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وألا يحرم الأستاذ الشباب المتعلم المثقف من نفثات يراعه، فهو يراع يصدر عن فكر ناضج وعاطفة نبيلة.
عبد الحميد العبادي(121/79)
العدد 122 - بتاريخ: 04 - 11 - 1935(/)
في الجمال. . .
بحث تحليلي نهديه إلى الآنسة شرلوت واصف ملكة الجمال
العالمي في هذا العام
ما هو الجميل؟ الجميل في إجماع الناس هو ما ينشئ في الذهن فكرة سامية عن الشيء في الطبيعة، أو عن الموضوع في الفن فيبعث في نفسك عاطفة الإعجاب به. ولكن ما هي على التحديد الصفات التي تبعث اللذة وتثير الإعجاب في بدائع الفن أو في روائع الطبيعة؟ ذلك ما نحاول شرحه في شيء من الإفاضة.
الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرهما في النفس إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس؛ ومن ذلك تنوع الجمال فكان عقلياً وأدبياً ومادياً ما في ذلك شك. ففي أي الجهات إذن تتعرف النفس والعاطفة والحواس وجوه الجمال؟ إن الخصائص المميزة للجمال هي القوة، والفِرَة، والذكاء؛ والمراد بالقوة شدة العمل وحدته، وبالفرة كثرة الوسائل وخصوبتها، وبالذكاء الطريقة الرشيدة المفيدة لتطبيق هذه الوسائل. ولا جدال في أن الحواس ليست كلها أهلا لنقل هذه الخصائص الجمالية الثلاث، وإنما ينفرد منها السمع والبصر بنقل أحاسيسها نقلاً قوياً يثير الدهش والإعجاب واللذة. أما الانفعال الذي يأتيك عن طريق الشم والذوق واللمس، فلا ينشأ عنه فكرة ولا عاطفة، لأن الطعوم والروائح، والملوسة والخشونة، والصلابة واللدونة، والحرارة والبرودة، أحاسيس بسيطة عقيمة قد توقظ في النفس ذكرى خابيةً أو عاطفة غافيةً، ولكنها لا تنتج واحدة منهما. وإذا كان البصر آلة الجمال الحسي أو المادي، والسمع آلة الجمال العقلي والخلقي، فإن في هاتين الحاستين الدليل على خصائص الجمال الثلاث، ذلك لأن أجمل ما يؤثر في العين والأذن هو ما بلغ من القوة والفرة والذكانة أسمى غاية؛ وجمال الأشياء إنما يتفاضل فيهما بمقدار ما يشتمل عليه من هذه العناصر؛ وكلما نقص عنصر منها أو قل، ضعف فينا الشعور بالجمال على نسبته. ما الذي يجعل لعملي النفس وهما الفكر والإرادة هذه الصفة التي تملك اللب في العبقرية والفضيلة؟ لا شيء غير القوة والفرة والذكاء، سواء أكان ما تعجب به براعة الصنع أم مهارة الصانع. إن الطِّيبة في ذاتها فضيلة، ولكنها لا تكون جميلة إلا إذا اقترنت بالقوة؛ فسقراط في الحكماء، وعمر في الخلفاء، مثلان سائران في جمال الخلق، ولكنك إذا(122/1)
جردت أخلاقهما مما ينبئ عن القوة وخواصها من الصدق والصبر والشجاعة والسمو ذهب الجمال وبقيت الطيبة. إذا صنعت المعروف في صديقك وعدوك كان الفعل كريماً في الحالين، ولكنه في الصديق عادي لأنه بسيط سهل، وفي العدو ممتاز لأنه عظيم شاق؛ وفي هذه القوة التي تقتضيها تلك المشقة كان جماله. إن وفاء السموءل بدروع امرئ القيس فضيلة، ولكن اقترانه بالقوة على تضحيته بابنه جعله آية في جمال الوفاء؛ وإن تنفيذ بروتوس عقوبة الموت على أحد المجرمين عادة مألوفة، ولكن تنفيذه إياها على بنيه الذين ائتمروا بروما مثل نادر لجمال البطولة. وموقف هكطور مع أندروماك، وموقف أسماء بنت أبي بكر مع ابن الزبير لا يقلان جمالاً عن ذينك الموقفين. وسر الجمال في كل ذلك إنما هو تلك القوة الخارقة في تغليب فكرة الواجب على عاطفة البنوة.
كذلك الحال في أعمال الذهن؛ فحل معضلة في الهندسة، واكتشافٌ عظيم في الطبيعة، واختراع عجيب في الميكانيكا، ونظام محكم الوضع في التشريع، وقطعة قوية التفكير والتصوير في الأدب، كلها أعمال جميلة؛ لأنها تستلزم نصيباً موفوراً من الذكاء، وقوة عظيمة في التفكير؛ وشعور المرء بالجمال فيها، موقوف على إدراك القوة التي تقتضيها؛ فالعامي أمام الأحرف الهجائية، والتلميذ أمام منطق أرسطو، لا يجدان فيهما من الجمال ما يجده الفيلسوف، لأنه يدرك ما اقتضياه وتضمناه من الذكاء والقوة.
أما في البلاغة والشعر فأبْين خصائص الجمال الذكاء والفرة؛ فتزاحم العواطف، وتكاثر الصور، وتوافر الأفكار؛ ثم اتساع الخواطر بالذهن النير الذي يحييها ويقويها ويستولدها، وغزارة اللغة وخصوبتها وقدرتها على أن تعبر عن العلاقات الجديدة للحياة، أو على أن تفيض من الحرارة والقوة على الحركات المختلفة للنفس، كل أولئك يملأ شعاب القلب بالإعجاب، وذلك الإعجاب الذي نحسه هو عاطفة الجمال.
وشأن الجمال في المادة لا يختلف عن شأنه في الفكر والعاطفة؛ فإنك إذا رحت تبحث في الطبيعة عن الصفة العامة للجمال لم تجدها غير القوة، أو الفرة، أو الذكاء. ففي الحيوان تجد هذه الصفات الثلاث مجتمعة ومتفرقة، ففي جمال الأسد القوة، وفي جمال الطاووس الفرة، وفي جمال الإنسان الذكاء. ولا أقصد ذكاء الإنسان في نفسه، إنما أقصد ذكاء الطبيعة في تهيئته وتثقيفه؛ وذكاء الطبيعة معناه مطابقة طرائقها لصورها، وملاءمة وسائلها(122/2)
لغاياتها. فغايتها من الرجل غير غايتها من المرأة، ولذلك اختلفت الوسائل في الزوجين، وتباين مقياس الجمال في الجنسين. أرادت من الرجل أن يعمل ويقاتل ويحمي زوجه ويعول أسرته، فزودته بما يحقق هذا المراد ويُمضي تلك الإرادة: تركيب وثيق محكم تنم ملامحه على السرعة والمهارة والقوة والشجاعة، وجسم متجاوب الأعضاء متناظر الشكول متوازن الأوضاع يصلح لكل عمل ويقدر على كل حركة ويستقيم على أي صورة، وسِماتٌ من الشهامة والجرأة والحنان والحساسية تفيض من العيون وتنتشر على الوجوه وتختلج على الشفاه، وجملة من الصفات الخلقية والجسمية تؤلف في الإنسان مزايا الجمال المذكر؛ فإذا قلت رجل جميل كان معنا ذلك أن الطبيعة وهي تكوّنه عرفت ما تفعل، وفعلت ما تريد.
(للبحث بقية)
أحمد حسن الزيات(122/3)
فوق الآدمية
الإسراء والمعراج
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
من أعجب ما اتفق لي أني فرغتُ من تسويد هذا المقال ثم أردتُ نقله فتعسَّرَ عَّلي وصُرِفتُ عنه بألم شديدٍ اعتراني ونالتني منه ثقلةٌ في الدماغ؛ ثم كشفه الله بعد يوم فراجعتُ الكتابةَ، فإذا قلمي ينبعث بهذه الكلمات:
كيف يَستَوْطِئُ المسلمون العجز وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟
كيف يَسْتَمْهِدون الراحة، وفي صدر تأريخهم عملُ المعجزة الكبرى؟
كيف يَركَنُونَ إلى الجهل، وأول أمرهم آخرُ غايات العلم؟
كيف لا يحملون النور للعالَم، ونبيُّهم هو الكائن النورانيُّ الأعظم؟
قصة الإسراء والمعراج هي من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا النجم الإنساني العظيم، وهذا النور المتجسِّد لهداية العالم في حَيرة ظلماته النفسية؛ فإن سماء الإنسان تُظلم وتُضيء من داخله بأغراضه ومعانيه. والله تعالى قد خلق للعالم الأرض شمساً واحدةً تُنيره وتُحييه وتتقلب عليه بليله ونهاره، بيد أنه ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحابها وما تسفِرُ به وما تظلم فيه. ولهذا سمي القرآن نوراً لعمل آدابه في النفس، ووُصف المؤمنون بأنهم (يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمانهم)، وكان أثر الإيمان والتقوى في تعبير القرآن الكريم أن يجعل الله للمؤمنين نوراً يمشون به.
ولقد حار المفسرون في حكمة ذكر (الليل) في آية (الإسراء) من قوله تعالى: (سُبحانَ الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركْنا حوله لنُريه من آياتنا). فإن السُّرى في لغة العرب لا يكون إلا ليلاً؛ والحكمة هي الإشارة إلى أن القصة قصةُ النجم الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبةَ أن آيات (المعراج) لم تجئ إلا في سورة (والنجم) وعلى تأويل أن ذكر (الليل) إشارةٌ إلى قصة النجم، تكون الآية برهان نفسها، وتكون في نَسَقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية. فإذا قيل إن نجماً دار في السماء، أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التي تعجز الحساب، فهل في ذلك من عجيب؟ وهل فيه شك أو نظرٌ أو تردد؟(122/4)
وهل هو إلا من بعض ما يسبَّح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي يراها اتصالَ الوجود بعضه ببعض؟
وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى: (لنٌرِيه من آياتنا) مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، يخيَّل إليك أن ليس وراءها شئ، ووراءها السرُّ الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نصٌّ على إشراف النبي صلى الله عليه وسلم فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه، بخلاف ما لو كانت العبارة (ليرى من آياتنا) فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثمَّ معجزة. وتحويل فعل (الرؤية) من صيغة إلى صيغة كما رأيت هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله مُنزِلُ هذا الكلام!
وإذا كان صلى الله عليه وسلم نجما إنسانياً في نوره فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقُل الآن: أُُيعترضُ على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يرتفع في طيارة. . .؟
ومن ثمَّ كان الإنسان إذا سما درجةً واحدةً في ثبات قواه الروحية، سما بها درجاتٍ فوق الدنيا وما فيها، وسُخِّرت له المعاني التي تسخِّر غيره من الناس، ونشأت له نواميسُ أخلاقيةٌ غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وُجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه. فالنارُ مثلاً إذا هي تضرَّمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.
وكل معجزة تحدث فهذا هو سبيلُها في إيجاد النواميس الخاصة بها وإبطال النواميس المألوفة، وبهذا يقال إنها خرقت العادة؛ ومن النور نورٌ لا يشفُّ له غيرُ الهواء، ومنه أشعة (رنتجن) التي تشف لها الجدرانُ والحجب، فهذه معجزة في ذاك.
والنبي لا يكون نبياً حتى يكون في إنسانه إنسانٌ آخر بنواميسَ تجعله أقربَ إلى الملائكة في روحانيتها؛ وما ينزل إنسانُه الظاهرُ من الإنسان الباطن فيه إلا منزلةَ من يتلقى ممن يُعطي. فذاك الباطنُ هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لما يمكن أن يبلغ إليه(122/5)
الكمالُ في المثل الإنساني الأعلى، ولولا ذلك الباطن ما استطاع نبي من الأنبياء أن يحمل هموم أمة كاملة لا تضنيه ولا تغيره ولا تعجزه.
فحقيقةُ النبوَّة أنها قوةٌ من الوجود في إنسان مختار جاءت تصلح الوجود الإنسانيَّ به لتُقرَّ في هذه الحيوانية المهذَّبة مثلها الأعلى، بدلالتها على طريقها النفسيّ مع طريقها الطبيعي؛ فيكون مع الانحطاط الرقيّ، ومع النقص الكمال، ومع حكم الغريزة التحكم في الغريزة، ومع الظلمة المادية الإشراقُ الروحاني.
وما المعجزات إلا شأنُ تلك القوة الباطنة لا شأنُ إنسانها الظاهر. ومن الذي ينكر أن قوى الوجود هي في نفسها إعجاز للعقل البشري؟ وهل ينكر اليوم أحد شأنَ هذه القوة في (الراديو) حين مسته فجعلت الكلمة التي ترسل بين الشرق والغرب، كالكلمة بين اثنين يتحدثان في مجلس واحد؟
ونحن نرى معجزات التنويم المغناطيسي وما يبصره النائم وما يسمعه وما ينكشف له مما وراء الزمان والمكان؛ وليس التنويم شيئاً إلا تسليط الذات الباطنة بقواها الروحية العجيبة على الذات الظاهرة المقيدة بحواسها المحدودة، فتطغى عليها فتصبح الحواس مطلقة شائعة في الوجود بمقدار ما فيها من قواه لا بمقدار ما فيها من قوة شخصها، وعلى نحو ذلك يتصلُ الرجل الروحانيُّ بذاته الباطنة، فيوقع شخصه الظاهر في الاستهواء، فينكشف له الوجود ويبصر ما يقع على البعد ويرى ما هو آت قبل أن يأتي. وما الكون في هذه الحالة ألا كالمعشوق يقول لعاشقه الذي وقع في قلبه الحب: قد آتيتك نوراً تنظر به جمالي.
وفي علماء عصرنا من يفكر في الصعود إلى القمر، وفيهم من يعمل للمخاطبة مع الأفلاك، وفيهم من تقع له العجائب في استحضار الأرواح وتسخيرها. وكل ذلك أول البرهان الذي سَيُلْزِمُ الفم فيضطره في يوم ما إلى الإقرار بصحة الإسراء والمعراج. .
ونحن قبل أن نبدي رأينا في القصةُ نلمُّ بها إلمامةً موجزة؛ فقد اختلفت فيها الأحاديث ووقع فيها تخليط كثير فجاءت فنوناً وأنواعاً من طرق شتّى حتى جمعها بعضهم في جزءين، وما تحتمل كل ذلك ولا بعضه؛ ولكن روح الرواية في ذلك الزمن كانت كروح الصحافة في هذا العصر، متى فارت فَوْرَها استحدثتْ من كل عبارة عبارة أخرى، وعلى هذه الطريقة تخرج من العبارتين عبارة ثالثة، فيكون الأصل معنى واحداً وإذا هو يَمُدُّ من يمينه ويساره.(122/6)
ولا يرون بذلك بأساً فانهم يَشُدُّون به الرأي ويضاعفون منه اليقين، ويزيدون ضوءاً في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه فلا حَرَجَ أن يؤيد القولُ بعضُه بعضاً باجتهاد في عبارة، واستنباط من أخرى، وزيادة في الثالثة - مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف. والقَصصُ الديني في هذه اللغة العربية فنّ كامل قائم بنفسه لا يُبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب ,
هذا في متن القصة؛ أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافاً آخر؛ هل كان الإسراء والمعراج يقظةً أو مناماً، وبالروح وحدها أو بالروح والجسم معاً؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بشيء من ذلك فلم يعين لهم وجهاً من هذه الأوجه. والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه الكهرباء والأثير. .
والخلاصة التي تتأدَّى من القصة: أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البُراق فأتى بيت المقدس ثم دخل المسجد فصلى فيه، ثم عرج به إلى السموات فاستفتحها جبريل واحدة واحدة، فرأى فيها من آيات ربه، واجتمع بالأنبياء صلوات الله عليهم، وصعد في سماء بعد سماء إلى سِدْرة المنتَهى، فغَشيَها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلى الله عليه وسلم مظهر الجمال الأزلي، ثم زُجَّ به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى ,
أما وَشى القصة وطرازُها فبابٌ عجيب من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يُرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة، تكون تعباً وتقع فائدة، أو تُلتمس منفعة وشهوة وتقع مضرَّةً وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصُّور الزمنيةُ التي توّهمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.
ومن هذه الرموز البديعة قوله: فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل أخذت الفِطرة. وإنه مرَّ على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان؛ فسأل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعَفُ لهم الحسنة سبعمائة ضِعف. ثم أتى على قوم تُرْضَخُ رءوسُهم بالصخر، كلما رُضِخَت(122/7)
عادت كما كانت ولا يُفَتّر عنهم من ذلك شيء. فقال ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحمٌ نضيج في قدر، ولحمٌ آخر نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويَدَعون النضيج. فقال ما هؤلاء؟ قال جبريل: هذا الرجل تكون عنده المرأةُ الحلالُ الطيّب فيأتي امرأة خبيثة، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي رجلاً خبيثاً. ثم أتى على رجل قد جمع حزمةً عظيمةً لا يستطيع حملَها وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الرجل تكون عليه أماناتُ الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها. ثم رأى نساءً معلَّقاتٍ بثديِّهن، فسأل، فقال جبريل: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.
ونحن على الرأي الذي عليه جمهور العلماء من أن الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معاً على التأويل الذي سنبينه. ويثبت ذلك قوله تعالى في سورة (والنجم): (إذ يغشى السِّدرةَ ما يغشَى، ما زاغ البصرُ وما طغى). فلا يكون البصر يزيغ ويطغى إلا في الجسم ولا ينتفي عنه ذلك إلا وهو في الجسم. ولم ينتبه أحد من المفسرين إلى المعنى المعجز العجيب في قوله ((وما طغى)؛ فذلك نص على أنه كان يرى بجسم قد تحول عن الطبيعة الآدمية المحدودة فليس فيه منها شيء، إذ لا يكون طغيان البصر إلا من تسلط الخيال عليه بأهواء الجسم التي لا يستقيم بها حكم على حقيقته، فما زاغ البصر بكونه مقيد الحاسة، ولا طغى بكونه مطلق الخيال، بل كان كما يُريه الله من آياته، أي كان حقيقةً كونيةً في غير حالتها الأرضية الناقصة.
والذين قالوا إن الإسراء والمعراج كانا رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم؛ احتجوا لذلك بقوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) وقد خلط المفسرون في هذا أيضاً، وإنما كان التعبير بلفظ (الرؤيا) وهي التي تكون مناماً، لنفي تأثير الحواس على الرائي وإثبات أن الطبيعة الآدمية بجملتها كانت فيه كالنائمة عن حياتها الأرضية بحقائقها وأخيلتها معاً فليس نائماً كالنائم ولا مستيقظاً كالمستيقظ.
وفي أساس القصة جبريل والبراق؛ وهما القوة الملائكية، والقوة الطبيعية، أو الروح الملائكي والروح الطبيعي، ولم يوصف البراق بأنه دابة إلا رمزاً إذ لا يأتي للعرب أن يفهموا ما يراد منه وعندنا أنه سمي البراق من البرق، وما البرق إلا الكهربائية، وهذا هو(122/8)
المراد منه. فتلك قوة كهربائية متى نَبَضت جمعت أول العالَم بآخره. وهذه هي الحكمة في أن آية الإسراء لم تذكر أنه كان محمولاً على شيء إذ لم يكن محمولاً إلا على الروح الأثير.
وما دامت القوةُ الملائكية والقوة الطبيعية قد سُخرتا له صلى الله عليه وسلم فلا معنى لأن يكون ذلك للروح وحدها، بل اجتماعهما معاً في القصة دليل على أن سر المعجزة إنما كان في تيسير ملاءمة جسمه الشريف لهاتين الحالتين؛ فيتحول في صورة كونية ملائكية بين سر الملك وسر الطبيعة، وحينئذ لا تجري عليه أحكامُ الحواس ولا أحكام المادة.
ومن الممكن أن تتحول الأجسام إلى حالتها الأثيرية في بعض الأحوال الخارقة، وبهذا يعلَّل طيُّ الأرض لبعض الروحانيين وتعلل خوارق كثيرة مما يَحدث في استحضار الأرواح لهذا العهد ومما يأتيه فقراء الهند، ومما كان يصنعه (لاهوديني) الأمريكي إذ كانوا يغلِّلونه بالسلاسل والقيود ثم يرونه طليقاً؛ ويحبسونه في السجون المحصَّنة يقوم عليها الحراس وتُمسكه فيها الأبواب والجدران، ثم يجدونه في بعض الفنادق.
وليس للعقل أن ينكر شيئاً من هذا ونحوه فان تركيب الطبيعة ردٌّ عليه، ونقصه هو ردٌّ على نفسه، والمستحيل على الأعمى هو أيسر الممكنات على المبصر.
فأنت ترى أن ذكر البراق والملك في أساس قصة الإسراء والمعراج هو صلة القصة بالمعجزة وهو عينه صلتها بالبرهان العلمي ولو لم يكونا فيها لما كان لها تفسير.
والقصة بعد ذلك تثبت أن هذا الوجود يرق وينكشف ويستضيء كلما سما الإنسان بروحه، ويغلظ ويتكاثف ويتحجب كلما نزل بها، وهي من ناحية النبي صلى الله عليه وسلم قصةٌ تصفه بمظهره الكوني في عظمته الخالدة كما رأى ذاته الكاملة في ملكوت الله، ومن ناحية كل مسلم من أتباعه، هي كالدرس في أن يكون لقلب المؤمن معراجٌ سماويّ فوق هذه الدنيا ليشهد ببصيرته أنوار الحق، وجمالَ الخير، وتجسد الأعمال الإنسانية في صورها الخالدة؛ فيكون بتدبره القصة كأنما يصعد إلى السماء وينزل؛ فيستريح إلى الحقائق الأساسية لهذه الحياة فيدفع عن نفسه بذلك وتعقُّد الأخيلة الذي هو أساس البلاء على الروح.
ومتى استنار القلبُ كان حياً في صاحبه وكان حياً في الوجود كله. ومتى سلمت الحياة من تعقيد الخيال الفاسد لم يكن بين الإنسان وبين الله إلا حياةٌ هي الحق والخير، ولم يكن بينه(122/9)
وبين الناس إلا حياةٌ هي الرحمةُ والحب.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(122/10)
1 - مدينة الزهراء
وحياتها الملوكية القصيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قرأنا منذ حين في بعض الأنباء الخارجية أن بعض الهيئات الأثرية في إسبانيا تعنى بالبحث لاكتشاف معالم مدينة الزهراء الأندلسية، وأنها قد وفقت بالفعل إلى اكتشاف بعض أسس قديمة في ضاحية قرطبة يظن أنها من أسس قصر الزهراء؛ وجدير بمثل هذا النبأ أن يثير شجناً في نفس أولئك الذين يستعرضون تاريخ الأندلس، وتاريخ قاعدتها الملوكية الشهيرة التي غاضت من صفحة الوجود حتى لم يبق من أطلالها اليوم ما يدل على مواقعها ومعالمها.
كانت الزهراء من أعظم القواعد الملوكية التي عرفها التاريخ، ولكنها لم تعمر طويلاً ولم تقم في تاريخ الأندلس بدور ذي شأن، ولم ينزلها سوى مؤسسها الناصر وولده الحكم وابنه المؤيد، ولم تعمر كقاعدة ملوكية أكثر من نصف قرن؛ ومن غرائب القدر أنه في الوقت الذي أكملت فيه الزهراء في عهد الحكم المستنصر، وضعت أسس قاعدة ملوكية إسلامية جديدة قدر لها أن تؤدي في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة الإسلامية أعظم دور؛ تلك هي القاهرة المعزية التي أخذت تتفتح عظمتها وبهاؤها في نفس الوقت الذي ذوت فيه عظمة الزهراء وعصفت بها حوادث الدهر؛ ولم تكن الزهراء أول قاعدة ملوكية في الأندلس، ولم تكن القاهرة أول قاعدة ملوكية إسلامية في الشرق أو في مصر، فمن قبل أنشأ هشام بن عبد الملك رصافة الشام لتكون منزلاً ملوكياً لبني أمية، وأنشأ المعتصم سامراء لتكون منزلاً له ولعقبه من بني العباس، وأنشأ ابن طولون مدينة القطائع بمصر لتكون له ولعقبه قاعدة ملوكية إلى جانب الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية؛ وفي الأندلس أنشأ عبد الرحمن بن معاوية مؤسس ملك بني أمية بالأندلس ضاحية ملوكية في قرطبة سماها الرصافة تشبهاً برصافة جده هشام؛ وسطعت كل من هذه القواعد الملوكية الإسلامية حيناً من الدهر، ولكنها اختفت جميعاً من صفحة الوجود، إلا القاهرة فإنها استحالت إلى عاصمة الإسلام في مصر، وما زالت تقطع الأحقاب قوية راسخة، تحمل حتى اليوم عمرها الألفي أعظم ما تكون الحواضر العظيمة والمدن الغراء ضخامة وفخامة وبهاء.(122/11)
كان عصر عبد الرحمن الناصر أعظم عصور الإسلام في الأندلس، وكانت قرطبة عاصمة الأندلس، قد بلغت يومئذ أوج العظمة والإزدهار، وأضحت تفوق بغداد، منافستها في المشرق، بهاء وفخامة، ولكن قرطبة كانت بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر من استكمال الفخامة الملوكية والقصور والرياض الشاسعة؛ بل كانت تضيق بهذه الأبنية الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلاً ومتنزهاً ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة؛ فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية رائعة، فأنشأ مدينة الزهراء؛ ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين فأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته (الزهراء)؛ وأنه ورث من إحدى جواريه مالاً كثيرا فأمر أن يخصص لافتداء الأسارى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسارى من يفتدى، فأوحت إليه (الزهراء) بأن ينشئ بهذا المال مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها. بيد أنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك والترفع بمظاهره وخصائصه عن المظاهر العامة لعاصمة مكتظة زاخرة.
والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على مر العصور مظهر الملك الباذخ والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة على قيد أربعة أميال أو خمسة منها في سفح جبل يسمى جبل العروس؛ وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس(122/12)
وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة 936م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية، وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من المريه وريه، ومن قرطاجنة أفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية؛ وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل ومن الدواب ألف وخمسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ستة آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر أعني مدى خمسة وعشرين وعاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد الحكم وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة؛ وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلاً سمي بقصر الخلافة صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة؛ وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس، بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير الذي أهدي إليه من قيصر قسطنطينية، وأقام عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر المرصع بالجوهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من فيها إلى الحوض. وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة المسحورة عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والأناقة والبهاء.
وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيما تم بناؤه في ثمانية وأربعين يوماً، وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال والصناع والفنانين، وزود بعمد وقباب فخمة ومنبر رائع الصنع والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال، وأنشئت بها مجالات فسيحة للوحوش متباعدة الساح ومسارح للطير مظللة بالشباك، ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي؛ والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة(122/13)
تجمع بين فخامة الملك الباذخ وصولة السلطان المؤثل، وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية.
وفي إقامة هذه المنشآت الباذخة وبذل هذه النفقات الطائلة ما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي بلغته الدولة الأموية بالأندلس من القوة والضخامة والغنى؛ وقد انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت لعهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف (أعني خمسة آلاف مليون) وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار؛ هذا عدا أخماس الغنائم العظيمة التي لا تحصى؛ وقيل لنا إن الناصر خلف وقت وفاته في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف (خمسة آلاف مليون) دينار؛ وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة أثلاث، ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة، وثلث يدخر للطوارئ، ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول هذه الأرقام حتى أن دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب ويقول لنا ابن حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة والزهراء في ذلك العصر إن الناصر وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة هم أغلى ملوك العالم في ذلك العصر؛ وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة الأموية وطائل غناها وبذخها في عصر الناصر، وتفسر لنا كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته الكثيرة أن يضطلع بأعباء هذه المنشآت العظيمة الباهرة.
واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر أعني حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة؛ واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر؛ واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة. ولكنها غدت منزل الملك والخلافة، مذ تم بناء القصر والمسجد؛ وقد كان ذلك فيما يظهر في سنة تسع وعشرين وثلثمائة ففي شعبان من هذا العام تم بناء المسجد، وأقيمت به أول جمعة رسمية؛ وكان الناصر قبل ذلك بنحو عامين قد اتخذ سمة الخلافة وتسمى بألقابها (سنة 327هـ)، فكانت الزهراء بذلك أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس.
للبحث بقية (النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(122/14)
بين المعجزة والعلم
للأستاذ زكي نجيب محمود
أخي س:
. . . لم أكن أتوقع من صروف الدهر مهما أسرفت في عبثها، أن تُخرج منك، وأنت القديس المتبتل في يفوعتك، زنديقاً يكفر بما كان يؤمن به قلبك ويدين!! حتى جاءتني هذه الرسالة منك، ففضضتها وأجلت فيها البصر سريعاً، فإذا بصفاتك تختفي وتتنكر، وإذا بك تبدو لعين صديقك إنساناً غريباً يشك بعد يقين، وينكر بعد إيمان! لقد مضيت في كتابك لي ترفض كل ما يزعمه الناس من المعجزات وخوارق الطبيعة، وتلوح في كل سطر بالعلم وقوانين العلم، وتعتز في كل سطر بالفلسفة ونتائج الفلسفة؛ ثم ختمت الرسالة بهذه العبارة أخذتها من كتاب سبينوزا (في الدين والدولة): (يظن الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجليان بوضوح إلا بالحوادث الخارقة التي تناقض الفكرة التي كونوها عن الطبيعة. . . إنهم يظنون أن الله يكون مُعَطَّلاً ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح، أي أن قوة الطبيعة والأسباب الطبيعية يبطل عملها ما دام الله فعَّالاً؛ وهم بذلك يتخيلون قوتين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله وقوة الطبيعة؛ والواقع أن الله وقوانين الطبيعة شيئ واحد). ولقد ساءلتني بعد ذلك قائلاً: (ما حاجتك إلى التمسك بالمعجزات وخوارق الطبيعة ما دام العلم يفسر لنا كل شيئ بقانون؟!)
وإني لأستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بما انتهى إليه هذا العلم نفسه، من أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم كما يذهب بك الظن، بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، كالكائنات الحية سواء بسواء؛ وإن هنالك بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها ذرة واحدة تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، فكما أنني لا أستطيع أن أتنبأ بما أنت فاعله غداً، كذلك لا يستطيع العلم أن يقطع جازماً بما ستؤول إليه هذه الذرة أو تلك، لأنها يا سيدي تتمتع بشيء مما تتمتع به أنت من حركة وإرادة، وليست مجرد آلة صماء في يد القانون!! ولكن يجب أن أسارع إلى القول بأنه وإن تكن الذرة الفردية على شئ من الحياة التي تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى(122/16)
النظام الدقيق في سيرها، كما أن الإنسان الفرد حُرٌّ في تصرفه إلى حد بعيد، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ.
نعم أستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بهذه الحقيقة العلمية التي تعترف للطبيعة بإمكان التغير في بعض جوانبها، فذلك وحده كفيل بتعليل أي تبديل في نظام الكون المعهود، ولكني سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييراً ولا تبديلاً عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وإنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يداً امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض فلقفتها فحالت بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسراً للقانون؟ كلا! القانون لا يزال قوياً سليماً، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل. . . أإذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة في أرض غرفتك ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب صفوفاً منظمة، أفنقول إن قانون الجاذبية قد انقلب رأساً على عقب لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصاً بشرياً قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حيناً، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت من يده، ولكن القانون لا يزال قائماً لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟! لا أحسبك مرتاباً في صحة هذا القول، فأنت موافقي ولا شك أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وبين تطبيقه فتعطله دون أن تبطله، نعم إنك موافقي على ذلك، ولكني لو حورت العبارة قليلاً سائراً بها نحو الأقوم والأصح فستغضب للعلم وكرامة العلم؛ لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حيناً قد يقصر أو يطول ولكنه يظل قائماً معمولاً به لا يصيبه عطب ولا خسارة، كان ذلك الزعم مني في رأيك جهلاً وحماقة، يا رعاكالله! أفتستطيع أن تحدثني بما يبرر عندك أن يكون للإنسان ما ليس لله؟!!
معذرة، يا صديقي، فسأقص عليك حديثاً عن كلبي، وللحديث صلة بموضوعنا، فقد وضعت كتاباً بالأمس على مقعد إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسس ويتجسس ويشم الكتاب، وأظنه قد(122/17)
حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلبُ الكتاب وانصرف؛ وإذا فرضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلاً على عدم وجوده، نفر وسخر وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا يخطئ. . . وإني لأحسب الكون يا صديقي كتاباً مفتوحاً فيه من المعاني السامية ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة. ولكني أؤكد لك أن هنالك طائفة من الناس ستمد أيديها وأنوفها إلى جوانب الطبيعة تتحسسها، ثم تجزم في يقين لا يعرف الشك ولا التردد بأن هذه الطبيعة جماد في جماد يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ فيها خارقة ولا معجزة. . . وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علماً، وأن يكون كل ما عداها تخريفاً وجهلاً.
نشدتك الله إلا حدثتني كيف جاز لك أن تقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلاً وأحد ذكاء فيستطيعفي كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بتلك الحواس الزائدة، أم تظل أبواباً مغلقة لأن العلم قد نفد؟!
تعال معي إلى الكون نحتكم إلى ظواهره لنرى هل استطاع العلم أن يعللها جميعاً، أم أن هناك ألوفاً وألوفاً يقف أمامها العلم مكتوف الأيدي ولا يمكن فهمها إلا أن تكون (خوارق) فوق العلم وقوانينه. أم تُراك فاعلاً كما يفعل ذوو النزعة المادية الضيقة، فتطأ بقدمك كل الظواهر التي تستعصي على العلم وتنكر وجودها حتى لا ينثلم العلم ولا ينخدش، أو تطلب إلينا أن نصبر وأن ننتظر حتى تتم للعلم قوته وفتوته فيشمل الكون كله بالتفسير والتعليل؟ وفي الحق أن هذا السلاح الذي يشهره الماديون_سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم_يمكن استخدامه في كل حين، فليس بيننا وبينهم موعد يبطل بعد التسويف، ولكنها مماطلة متجددة لا تنقطع ولا تفرغ؛ فإذا فرضنا أن رجلاً استطاع أن يحز رأسه ويحمله فوق يديه سائراً به في الطريق، ثم سألت الماديين رأيهم في هذا أجابوك: اصبر فإن الزمن كفيل للعلم أن يبرهن على هذه الظواهر وأشباهها، فليس ذلك على العلم بعزيز. . . ولكن هل يتفق وروح العلم أن نلجأ إلى دليل غير موجود؟ أم أنه أحجى وأقرب إلى الصواب أن نعلل الظواهر بالأدلة التي بين أيدينا، حتى ولو تعارض(122/18)
ذلك مع آرائنا؟ فماذا يمنع أن نفرض أن هنالك قوى غير مادية تفعل فعلها وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه الخوارق والمعجزات؟
ولكن الماديين يركبون رؤوسهم ويحاولون أن يعللوا بقوانين العلم كل شئ، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب أو البعيد. والعجب أن لهؤلاء الماديين (شطحات) في التفكير تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلاً كيف نشأت هذه الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعاً عن نوع وجنساً عن جنس، وأصلها كلها خلية واحدة. . . حسن! وكيف نشأت هذه الخلية الواحدة؟ إنها تولدت بطريقة تلقائية آلية من الجماد! فانظر إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ مع أنه على فرض أنه صحيح فقد حدث في ماض بعيد سحيق، ولم يشهده شاهد ولا سجله مسجل، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين؛ ثم إذا عرضنا عليهم خارقة من خوارق الطبيعة مما يقع على مرأى منا ومسمع، أنكروها في حمق مع أنها حاضرة بين أيديهم وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدة ومسجلة فكانت أجدر بالتسليم والقبول من تلك (الخارقة) البعيدة_ونسميها خارقة لأنه ليس من قوانين الطبيعة فيما نظن انبعاث الحياة من الجماد! ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع مذهبهم، كما يتخير النساء أزياءهن لكي تلائم ألوانهن وأجسامهن.
هب يا صديقي جماعة قد ارتطمت سفينتهم على جزيرة مهجورة لا أثر للحياة فيها، ولكنهم ألفوا على أرضها آثار أقدام ليست من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناساً غيرهم كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقاً لا صعوبة فيه ولا التواء: لكل أثر مؤثر، فإن رأينا أثراً ولم نجد بيننا مؤثره أيقنا أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجوداً في غير مكاننا. وها نحن أولاء ننظر فنرى أنفسنا فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العد تفرض علينا فرضاً أن أحداً غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة وهو يتصل بها في كل حين ليحدث هذه الآثار.
ولست أدري ماذا يضيرك أن تعلل بالعلم ما يمكن العلم أن يعلله، وأن تُرجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كلَّ ما تصادف من خوارق ومعجزات؟ يقول الماديون إن إدخال (الله) في مجرى الطبيعة عجز وقصور عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان الأول كان يفسر كل شئ بقوة الآلهة لقلة محصوله من العلم، فكان إذا اكتسب شيئاً من العلم يعلل به ظاهرة(122/19)
ما، أسقط هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم؛ وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع كما أخذت العقيدة في تأثير الله على سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى يشمل الكون جميعاً ويفسر (الظواهر) كلها بغير استثناء؛ وهم بناء على ذلك يرفضون رفضاً قاطعاً أن يعللوا شيئاً إلا على أساس واحد: هو قانون الطبيعة ويلفظون من حظيرتهم كل من يحاول أن ينسب شيئاً إلى قوة أخرى غير قوة الطبيعة وقانونها! وقديماً كان العالم أو إن شئت فقل الكاهن يفسر كل شئ بقوة الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسر شيئاً على غير هذا الأساس! فهل ترى فرقاً بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟ كلا، فكلاهما متعصب محدود الفكر، ضيق النظر، ولعمري إن العالم الماديِّ الحديث لم يزد على أن ارتدى رداء سلفه الكاهن مقلوباً ظهراً لبطن!
لعله أقرب لروح العلم الصحيح أن نتناول الأبحاث أحراراً من كل قيد، فلا نفرض لأنفسنا أساساً معيناً للبحث لا نمدوه، أعني أنه لا ينبغي أن نحتم على أنفسنا أن تفسر كل شئ بكذا أو بكذا؛ وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين الذين كانوا ينظرون في السماء ويبحثون في النجوم على شرط أن يكون بحثهم مقصوراً على ما هو معروف من النجوم، فإن ظهر كوكب أو نجم جديد أنكروه ورفضوه!!
أردت يا أخي أن تكون حراً في البحث فكبلت نفسك بالأغلال والقيود! فارفع عن بصرك هذه الغشاوة عسى أن يهديك الله سواء السبيل.
زكي نجيب محمود(122/20)
2 - منازل الفضل
دار علي مبارك باشا
للأستاذ محمد محمود جلال
من الأسماء ما يخف على سمعك لمجرد تركيبه ووقع نغمه في الأذن، ومنها ما يعجبك لمعنى يشير إليه؛ وقد يعجبك الاسم وقد خلا من هذين إعجاباً بشخصية قدَرت في التاريخ دورها؛ وقد يكون من بين الأسماء ما ينفر منه السمع، وهو مع ذلك حبيب إلى نفسك لذكرى تتصل به أو جميل أردفته بالعرفان.
ويقص المتشيعون للعلاقة بين الاسم والمسمى من علماء اللغة أن أحدهم سأل إعرابياً عن معنى (أذغاغ) فقال الإعرابي وهو لا يعرف من الفارسية شيئاً: (أرى فيه يبساً وصلابة، ولعله الحجر).
وليس للطفولة أن تسمو إلى شئ من ذلك البحث أو ذاك القياس، وإنما يسبق فيها الإحساس بالمعرفة، فما نظرت إلى شيء من ذلك يوم كان (شارع علي مبارك باشا بالحلمية) أحب الشوارع إلي سنة 1908، فكنت أخصه بروحاتي وغدواتي، وأختص (اليافطة) أول سيري به بتجربة قدرتي على قراءة اليفط والخط المشبك.
سكنا الحلمية بعد أن هجرنا دارنا الأولى بدرب الجماميز حيث مأمورية الأوقاف الآن، على أثر خلاف بيننا وبين ديوان الأوقاف على حيازة القطعة المجاورة لتوسيع الدار بطريق البدل، ولا أجد اليوم تعليلاً معقولاً لتفضيلي إلا بالصلة التي توجدها النشأة، وقد نشأت في الريف، ومن أسرة فلاحة، واسم علي ومبارك كثيراً الشيوع في الفلاحين، فلم يكن عجيباً أن يكون هذا الاسم أقرب إلى النفس وأسهل في الحفظ من أسماء ندر أن نسمع بها (كسنجر الخازن) و (الأمير يوسف) وغيرهما.
أجل لم يكن بذلك الشارع بائع (سوداني) ولا شوكولاته، ولم تكن حوانيت الساندويتش انتشرت بعد، حتى أرد التفضيل إلى تلك المغريات في سن الطالب.
وفي عام 1911 أهدتني الجمعية الخيرية الإسلامية مجموعة ثمينة من الكتب لنجاحي من الفرقة الثالثة في الشهادة الأبتدائية، كان من توفيق الله أن ضمت بين دفتيها (تاريخ علي مبارك باشا) ولن أنسى ما حييت غبطتي بهذا الكتاب، وذكرت على التو شارع علي مبارك(122/21)
باشا، وقلت: إذن فهذا رجل له في تاريخ البلاد شأن!
عكفت على القراءة مبتدئاً به، وخفق قلبي حين وقفت في أوله على نشأة (علي مبارك) فصدق ظني، فهو فلاح وابن فلاح مثلي، فلم أترك الكتاب حتى جئت على آخره، وأعدت قراءته مرات حتى كدت أحفظه عن ظهر قلب إذ ملئت إعجاباً بالرجل.
سميت المرحوم محمد شريف باشا حين كتبت عنه (رجل البرنامج)، وليس اليوم أحق بأن يسمى (رجل الواجب) من المرحوم علي مبارك باشا.
رأى صديقي المرحوم محمد رمضان بك القاضي السابق بالمحاكم الأهلية حين زار (فينا) عقب الحرب أحد ضحاياها (جول) يزحف وقد بقيت له ساق واحدة وذراع واحدة، وبيده الوحيدة مكنسة ينظف بها الرصيف، فسأله عن قصته.
قال جان: إنه كان يعمل في التحاليل الكيميائية، ويؤدي بذلك واجبه نحو بلاده وأسرته، وانخرط في سلك الجندية يؤدي واجبه نحو بلاده وأسرته، فلما فقد ساقه وجد مجال الواجب في عنابر الجيش يلف ويرتب بيديه، ولما فقد إحدى اليدين وكانت الحرب في نهايتها اشتغل كناساً، فهو بعد لا يستريح ضميره أن يكون من العاطلين، ومن بين إخوانه من هو أحق منه بالإعانة والإعاشة، وليس أحب إلى نفسه من أن يقوم بالواجب ويعيش من أداء الواجب، فليس فرق عنده بين المعمل والصفوف، ولا بين العنابر وكنس الرصيف!!!
حيَّاه صديقي عليه رحمة الله، وكتب عنه مقالاً كاملاً يذيع نبل نفسه ويضربه مثلاً لقومه.
وكذلك كان علي مبارك باشا، فهو من نوابغ البعوث العلمية في أول البعوث، وهو المبرز بين أفراد بعثته، وبلاده في حاجة إلى أمثاله، وفي حاجة أشد إلحاحاً إليه؛ ولكن لا زهو ولا صلف ولا استكانة! فالحاجة إليه يراها نعمة الله تستوجب الشكر، والعلم الذي يقدره الناس فيه يراه الثروة التي زكاتها البذل منها في خير البلاد.
ومن لم يجمّل فضله بتواضع ... يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر
كان علي مبارك باشا (ناظراً) وزيراً للأشغال يسيطر على أكبر الإدارات صلة بحياة البلاد ومرافقها، يضع الخرط وينظم حفر الترع والجسور التي طالما أحيت مواتاً ودرت أخلاف الرزق على الملايين وتركت اليباب مزارع وحقولاً، في أول عهد البلاد بزراعة منظمة وري منظم.(122/22)
وبينما هو غارق فيما نعده اليوم أبهة المنصب، ينقل لسبب أو لغير سبب، لغضب أو لتقدير موهبة منتدباً لإصلاح طابية وهو من خريجي المعاهد الحربية، فينتقل قرير العين وكأن العالم صور فانحصر في تلك الطابية لا يرى أمامه إلا أن يُعِدَّها كما يجب أن تعد تقديراً لأمانة العلم وقياماً بالواجب.
ولي علي مبارك باشا في وقت ما وزارتين، وجيئ به وقتاً آخر يشرف على مد خط حديدي ليس أكثر من كبير مهندسين، جاءت خطته وأوضاعه وتنفيذ مشروعه آيات في حسن الوضع والتنفيذ؛ ولم يكن علي مبارك باشا ذو الوزارتين غير علي مبارك صاحب عيشة الخيام في براري البلاد يوطد أركان الدفاع عنها، ولا غير ذلك الرجل الهادئ رجل الواجب، يضع من قطع الحديد وصلاً لبلاد الريف وقراءة وتقريباً للشقة وتيسيراً لأمور الخلق، فهو إنما يعيش لبلاده، وإنما يخدم بلاده، وإنما يخدمها حيث يوضع، ويستثمر كفاءته في أي مجال. طريقته واحدة ونظرته واحدة، وهدفه واحد: الواجب.
وإنك لترى اليوم من شبابنا من ينقل من وظيفة إلى أخرى دون أن يمس راتبه ودون أن تمس درجته، فهو لا يكتفي بالشكوى والضجيج والإلحاح حتى يسمم عمله الجديد آثار غضبه ويأسه ولا يعيش إلا بخيال واحد وأمل واحد: أن يتغير العهد ويعود له ما كان فيه، بينما يقاسي المحكومون ممن تتصل أحوالهم بعمله ألواناً من البطء في شؤونهم وكثيراً من عنت لا ذنب لهم فيه.
هذه الظاهرة وحدها من سيرة (علي مبارك باشا) درس قيم في الأخلاق وتراث زاخر، وموعظة لهذا الجيل بالغة.
أما عمله في وزارة المعارف ففي كل ركن من أركان التهذيب والتثقيف له أثر عميق، كان لا يني عن زيارة المدارس زيارة لا يسبقها إعلان ولا شئ من جلبة الرسميات، ولو خلت من هذا وحده لكانت بذلك كافية في معنى الرقابة وما يتصل بالحرص على الواجب من الوقوف على درجة التقدم وعيوب التنظيم.
لكنها لم تقف عند ذلك الحد، فكان عليه رحمة الله يسأل أكثر من طالب في كل فرقة وفي أي مادة يتفق تدريسها مع ساعة الزيارة، وطالما كان له جولات في مختلف العلوم مع من يزورونه من الطلبة في الديوان سواء لرفع شكاة أو تبيان مصلحة.(122/23)
هكذا كان علي مبارك باشا. فانظر إذن وتخيل ما تكون عليه دار أسعدها الله بسكنى رجل الواجب.
كان عهده نادر المقاهي والسوامر والملاهي؛ وكانت الدور العامرة سواء في العواصم أو في الريف بدورها في صيانة الأخلاق وتكوين الجيل، والعلماء وقت ذاك قليل، وعلي مبارك بين القليل درة لامعة.
دار كانت بالوافدين والساعين إلى العلم أكثر ازدحاما مما ترى اليوم في جامعة أو في سينما، لكل فريق دور، والأدوار متعددة تنتهي بآخر السهرة من الليل لاختلاف أوقات الفضاء لصاحب الدار أو للوافدين.
دار طالما عمرت بصالح الحديث وبعدت بنازليها عن اللغو، فصفوة العلماء يبحثون ويباحثون، وللأدباء فيها نصيب كبير، وللطلاب النصيب الأوفر.
تزين الدار مكتبة جامعة، نصيب الرجل منها كنصيب أي واحد من قاصديه، وعليه هو القوامة على تنسيقها وحفظها، بل عليه أن يختار لكل ما يلائمه، يبذل من الكتب والمراجع كما يفيض من محفوظه وتجاريبه؛ وهل يستطيع علي مبارك إلا أن يكون واحداً في كل تصرفاته وفي روحاته وغدواته يقوده الواجب، وسيرته التماس النفع للبلاد؟
ولقد أعلم أن المرحوم (مصطفى كامل باشا) الذي ما زالت البلاد تعتز في ظل ما خلف إلى اليوم ما أحسن المحسن وما أساء المسيء، كان في شطر كبير من تكوينه العلمي أكبر حسنات تلك الدار، كما كان صاحب الدار أكثر الناس إعزازا للنجباء من أبناء البلاد، فمن نزح إلى أوربا يكمل تعلمه، لا يني في البحث عنه في العطلة الصيفية وفي عودته إلى الوطن، ولا تلبث الحلقات أن تعقد من أولئك الأنجاب في تلك الدار التي ازدهرت وقتاً ما فازدهرت بها حديقة العرفان وكللت جبين البلاد.
كانت مهمة الدار في أفق العلم مهمة الجامعات، فهي سيطرة رفيقة على تنظيم الثقافة وتوزيعها على قدر المختلفين إليها، وكانت فيما يمس الذين أكملوا دراستهم واسطة العقد، ووسيلة التعارف وأداة الوصل، كما كانت للنازحين في طلب العلم مرداً إلى عوارف الوطن، وجميل المدرسة الأولى، وخير مقرب بين الثقافتين، وخير قوام على تطبيق المعلومات وتهذيبها وصبغها بما يناسب صبغة البلاد.(122/24)
أين تلك الدار؟ وأين كعبة العلم؟ ذهبت بها تصاريف الزمان وعفاها ما يشبه الجحود منا حكومة وشعباً، ومثلها مثل قصر أم المحسنين في حي الدوبارة، قامت أحجاره يسخر منها (قصر العار) وخلى من كل شيء إلا من نسيج العنكبوت.
بل إن للعلم عند الله كرامة! فلئن ذهبت رسوم الدار بين الرياح من جنوب وشمأل فقد أكرم الله نازلها وعامرها بهذا العفاء، فلعلها لو عاشت لظهرت غريبة ولأزرى بها انصراف مؤمن عنها وشماتة من دور قامت على الإساءة للبلاد والسخرية مما ينفع الناس.
يبحث إخواننا من أهل العراق عن (المثنى) ويقيمون باسمه نادياً، فهلا نسمع من شباب الجامعة عزماً على البحث عن مكان الدار وتسمية ناديهم باسم (علي مبارك).
إذا كان هذا عزيزاً على أنواء الزمن فهل نسمع في القريب أنهم زينوا إحدى غرف النادي أو قاعات البحث بالجامعة باسم الراحل الكريم؟!.
أيها الناس أكرموا السلف يكرمكم الخلف، فكما يدين الفتى يدان
الشيخ عطا
محمود محمود جلال المحامي(122/25)
فُجور القانون
للأستاذ جمال الزرقاني
أعجبت أشد الإعجاب بسلسلة مقالات (الجمال البائس) للأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي وتتبعتها بمجلة (الرسالة) الغراء؛ وأعجبت منها خاصة بتصويره للقانون في مقاله الأخير ورميه بالفجور وقوله على الأستاذ (ح): (فالحقيقة التي لا مراء فيها أن فكرة الفجور فكرة قانونية، وما دام القانون هو الذي أباحها بشروط، فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط). وهذه فكرة كانت ظاهرة خافية معاً؛ فهي في القانون ولم ينتبه لها أحد ولا من رجال القانون. وقد صار من حق (الرسالة) وقرائها عليَّ أن اكشف هذا المعنى كشفه القانوني ليعرف القراء كيف غُرس الفُجور غرساً في قوانيننا المصرية.
لا مشاحة في أن قانون العقوبات قد اهتم لعقاب الجريمة بعد وقوعها اكثر من اهتمامه بالاحتياط لها والعمل على منعها قبل حدوثها؛ فمهمته في الواقع لم تخرج عن بيان الأفعال التي يعتبرها الشرع جرائم ومقدار الجزاء على كل منها، فهو يتضمن القواعد الموضوعية للقانون؛ بينما اهتم قانون تحقيق الجنايات (بالنظم والإجراءات) التي يجب أن تراعى لتنفيذ قانون العقوبات، أي لمعرفة الجاني إذا ما وقعت الجريمة، فهو يتضمن القواعد الشكلية فكلا القانونين اهتما كما قال الأستاذ الرافعي (لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها) وتركا مسألة الجريمة وبلا احتياط لمنعها قبل حدوثها للقوانين البوليسية وللعقوبات الأدبية، وبهذا أضافا للخطأ خطأ آخر إذ أغفلا مسألة واقعة وهي أن العقوبة الأدبية قد أضعفتها عوامل المدنية الحاضرة ولم يبق في أكثر النفوس إلا سلطان القانون وحدوده. .
والسبب في تقصير القوانين الجنائية هذا التقصير الفاضح وخاصة في بلاد إسلامية تتخلق بأخلاق الفضيلة، هو أجنبية هذه القوانين فإنها فرنسية الأصل، فرنسية الوضع، فرنسية التطبيق، فرنسية المرجع، فمن ثمَّ لا يؤدي إلا ما تؤديه القوانين الفرنسية في بلادها. أما حالات الشرق الخاصة وتقويم تقاليده وأخلاقه، فهي عمياء عنه أو تخبط في عمياء؛ ومن البلاء أن نقل هذه القوانين كان من عمل متشرعين أجانب بعيدين عن المحيط القومي فنقلوا نقلاً ممسوخاً أضاع كل فائدة ترجى وخاصة في صميم المسائل الأخلاقية الشرقية. بل إن القانون وقف من هذه الأخلاق موقف الجامد الغافل أو المشجع المستهتر بالأباحة.(122/26)
ولو أنا عرضنا قانون العقوبات ووضعنا بعض المواد الصماء تحت نظر الفاحص لوضحت فكرتنا، فمن المعروف قانوناً أن حرية النيابة في (تحريك) الدعوى العمومية وفي استعمالها ليست مطلقة كل الإطلاق، فهناك أحوال تحد من تلك الحرية، ومنها ما يستوجب الإذن من صاحب الشأن كالحال في دعوى الزنا. والزنا في القانون يختلف عنه في اللغة وفي الشريعة، وبهذا اقتصر القانون على اعتباره كذلك إذا وقع من الزوج أو الزوجة وشريكيهما، وأحاطه بشروط خاصة ضيقة اشترط فيها قيام الزوجية فعلاً أو حكماً. فالفعل الواقع من الزوج أو الزوجة أثناء الخطبة أو بعد الطلاق البائن لا يعتبر جريمة. وكأن القانون في نقله ذلك عن المواد 336 - 339 من قانون العقوبات الفرنسي قد أغفل الأخلاق الشرقية وتناساها وترك حبل الشيطان على غاربه، بل هو قد شجع على ارتكاب هذا العمل من غير الزوج أو الزوجة بالشروط الخاصة بجريمتيهما، بل أكثر من ذلك أتاح الفرصة للزوج أن يفعل فعلته النكراء في غير منزل الزوجية بلا عقوبة. وبذلك ترك الأسرة تتدهور بتدهور عائلها ووقف موقفاً غريباً في صدد المساعدة على التدهور الأخلاقي، فجعل الحق في رفع دعوى الزنا للزوج وللزوجة وحدهما، فإذا رضي أحدهما عن فعلة الآخر وقف القانون مكتوفاً لا يمكنه التحرك إزاء العمل على سقوط الأسر واختلاط الأنساب والقضاء على الأخلاق، بل إنه يقف حائلاً دون الزوج نفسه في (تحريك الدعوى العمومية) إذا ما وقعت منه يمين الطلاق وهو في جنون غيظه من جريمة زوجته، وبذلك تتقي الزوجة وشريكها صولة القانون ويكون الطلاق كأنه محا الجريمة قانوناً مع أنه لم يقع إلا بها.
ولا دلالة على نقل القانون المصري نقلاً جامداً عن القانون الفرنسي أكثر من وقوفه بالمادة 201 عقوبات في جانب الزوج الذي يقتل زوجته في حالة التلبس بالجريمة، معتبراً ذلك ظرفاً قانونيا مخففاً يعاقب فيه بالحبس فقط، ثم يأبى ذلك على الأب والأخ الذين يمتد إليهما عار الجريمة أكثر من الزوج، فالزوج يتخلص منه بالطلاق، أما هما فالعار قد لصق بهما. وهذه القاعدة الفرنسية كانت معقولة في فرنسا في وقت وضع قانون العقوبات الفرنسي إذ كان الطلاق وفقاً للمذهب الكاثوليكي غير جائز، وإذ كانت الجريمة من ذلك لاصقة بالزوج أكثر من التصاقها بأسرة الزوجة.(122/27)
ومن التخريجات الغريبة والتطبيقات التي تنشأ عن القانون الجنائي المصري في هذا الصدد، حالة ما إذا فاجأ الزوج زوجته وشريكها، فحاول قتلهما فقتلته الزوجة أو شريكها، فلا عقوبة على فعلهما لاعتبار ذلك دفاعاً شرعياً عن النفس؛ ثم إنه بعد ذلك لا عقوبة على جريمة الزنا التي اقترفاها إذ فد مات الزوج صاحب الحق في الدعوى ضدهما. ولو حدث أن قتل الزوج زوجته سقط بذلك حقه في الدعوى ضد شريكهما، لأن حظ الشريك مرتبط بحظ الزوجة الزانية فيستفيد مما كان يفيدها. وقد ماتت فالشريك يعتبر بريئاً إذ لا عقوبة عليه إلا إذا حكم على الزوجة، وهذا غير متيسر لموتها.
وكذلك القانون لا يعاقب على جريمة الفسق ولا على تلك الجريمة النكراء الشنعاء: جريمة اللواط متى توفر الرضا إذا كان سنَّ الفتى أو الفتاة أكثر من ست عشرة سنة. فكأن القانون يشجع ذلك بعدم وضع الحظر عليه، بل أكثر من هذا فإنه يقف موقفاً غريباً بالنسبة للقاصر إذا جاوز السادسة عشرة فإنه يبيح له أن يجني ويبيح الجناية عليه. . . . بلا قيد، بينما لا يبيح له الزواج أو التصرفات المدنية إلا برضا وليه أو وصيه حسب الظروف، وهذه مسألة من الخطورة بمكان عظيم إذ تترك الشبيبة الناشئة تتلاعب بها الأيدي والأغراض، وتجرها المفاسد إلى غير مستقر بدون رقيب عليها، وهي عدة المستقبل وآمال الأمة. فإذا كانت هذه الشبيبة على ما يحوطها من المفاسد ويغريها لا يحميها القانون فيا سوءة المستقبل، ويا ضياع الآمال , ومن الواجب المحتم أن يتنبه المشرع إلى هذا النقص التشريعي فيسارع إلى علاجه قبل استفحاله كيلا يتهم بالمساعدة على التدهور الخلقي وعلى إفساد الأمة في أساسها الحي الذي هو الفتى والفتاة.
هذا بعض من كل من الأمثلة الدالة على فُجر القانون والمشجعة لضروب المنكر_قد يقال إن روح القوانين الحديثة أن تتجه نحو الحرص على عدم التعرض بالعقاب للجرائم الأخلاقية إلا في حدود معينة، فلم يعاقب على الرذائل والآثام لذاتها؛ بل لما يترتب عليها من الضرر للأفراد أو للمصلحة العامة. ولكن الرد على هذا سهل يسير وهو: أنه ما من جريمة أخلاقية إلا أصاب الغير ضررها بالذات أو بالواسطة حالاً أو مستقبلاً، وذلك بانتشار الرذيلة الذي يتبعه تأثر الوسط وفقدانه حيويته؛ والذي يتبعه حتماً كنتيجة مباشرة إنهيارُ البيئة الإجتماعية وتفشي الأمراض الخبيثة بينها وازدياد الأدواء المختلفة الجسمانية(122/28)
والأخلاقية، وبذا تتأثر المصلحة العامة؛ فلا حجة في تلك الحجة.
ومع ذلك فإن كثيراً من القوانين الحديثة لا تزال تحرم الرذيلة لذاتها، والقوانين الإنكليزية والألمانية والنمسوية والمجرية تعاقب على اللواط ولو وقع بالرضا، كما تعاقب أيضاً على اتخاذ القيادة حرفة ومرتزقاً؛ والقانون السويسري يعاقب على البغاء.
وهذه هي قوانين الدول المسيحية؛ أما الدول الإسلامية فإن قوانينها ولا كُفران لله قوانين واسعة سمحة. فيا ليت الحكومات الإسلامية تعمل بهذه الطريقة العكسية فتضع للشيطان قانوناً على الضد من طباعه، وبذلك يجئ قانون الشيطان مصلحاً لقانون الإنسان. . . . . .
جمال الزرقاني لسانسييه في القانون(122/29)
من أيام سورية التاريخية
ذكرى 24 يوليو!
للأستاذين علي الطنطاوي وسليم الزركلي
قال الملك فيصل رحمه الله: (. . . وقد كان بين هؤلاء الذين سقطوا صرعى في ميسلون بعض رفاقي في معارك فلسطين؛ وإني لأحني رأسي احتراماً لجميع هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم في سبيل اعتداء لم يعرف له التاريخ مثيلاً. . .) (جريدة الأيام الدمشقية العدد 863 من هذا العام)
أخرجْ من دمشق، وخلِّف وراءك الجِسْرَ وفيكتوريا، وهذه البِنْيَة ذات الطبقتين، التي كانت منذ خمسة عشر عاماً (النادي العربي) مثوى الوطنية، ومثابة الإخلاص؛ ودِعْ عن شمالك المرجة الخضراء، التي وقفها نور الدين على سوائم المسلمين، فرعاها نفر من الأقوياء الحاكمين، وعاثوا فيها آمنين مطمئنين؛ وجُزْ بالمِزّة وقلاعها، لا تلتفت إليها، ولا تأبَهْ لها، واستقبل الربوة لا تحفِل بقرارها ومعينها، ولا تعجبْ لأنهارها السبعة، وقد امتدت بين عَدْوَتي الوادي بعضها فوق بعض، كعقود اللؤلؤ في جيد الحسناء، وتناسَ ما قال فيها ياقوت وقد طوَّف أنحاء الدنيا، وجاب أرجاء الأرض، ثم رجع فلم يجد في الدنيا أنزه منها؛ وعدِّ عن النَيْرَب لا تذكر عهده، ولا تَبْكِ أيامَه، فقد ذهب النيْربَ، وغبرت أيامه، وفارقه وأنشد قول ابن حمدان:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلا استخفني ... إلى بَرَدى والنير بين حنين
وقد كان شكي في الفراق يروعني ... فكيف أكون اليوم وهو يقين
فو الله ما فارقتكم قالياً لكم ... ولكن ما يقضى فسوف يكون
واسلك على وادي الشاذروان، ولا يقفك عن غايتك أنه وادٍ من أودية الجنة، هبط إلى الأرض لتذكر فيه النفس أيام الجنة الأولى، فتطير إلى سمائها بأجنحة من نشوة الذكرى، ولا يثنك عن وجهتك هذان الجبلان المتعانقان، كأنهما عاشقان قد لبسا من النجوم المزهرة، والأشجار المثمرة، حلة أبهى من السندس، ولا (يزيد) الذي يجري في صلب الجبل يزخر بالمياه، فيطفح بها، فتهبط الصخر من علو مائة ذراع متكسرة مزبدة، كأنما هي ذوب(122/30)
اللجين، حتى تعود إلى أبيها بردى، وهو يجري في بطن الوادي جياشاً ثائراً؛ واستقبل دُمّر لا تقف بجنانها ورياضها، ولا تفتنك قصورها ودورها، ولا يشبك هذا القصر العجيب، ذو المعارج الملتوية، والألوان والنقوش، والبرك والنوافير: قصر الأمير سعيد، ولا قصر شمعايا تجري من تحته الأنهار!
ودع عن يمينك معمل الأسمنت الفخم، الذي قام دليلاً على أن الشرق يستطيع أن يعمل، ويقدر أن يبني. ومركباته التي أبت أن تمشي على الأرض، فسارت متعلقة بأسلاك في الهواء. . وائت الهامة فدعها عن يمينك لا تنزل إلى السهل، ولا تفتنك أنهاره وبهجته، ولا تجذبك فسحته وخضرته، وامش واضعاً (قادسية) عن شمالك، ثم دُرْ دورة فاخرج من الوادي، وامش صُعُداً حتى تدع الوادي من ورائك، وتستقبل الصحراء الخالية القاحلة، فإذا أصحرت فدع الديماس وحدائقه وامش قدماً حتى ترى هذه الهضاب المتسلسلة، والآكام المتتالية، فاعلُها. . حتى إذا بلغت ذراها، ولمحت في عرض البادية، في حضن الجبل، بناءاً غريباً كأن سقفه جناحاً طيارة؛ ورأيت من أمامه سلسل ماء، فاهبط إليه، ثم قف خاشعاً منحنياً، فأنت في ميسلون، وأنت حيال قبر يوسف العظمة. . .
علي الطنطاوي
قِفْ عند هذا الضريح ... واهتف بسكانهْ
هل حلّ فيكم جريح ... من أجل أوطانه
أهوى بكم يستريح ... من برح أحزانه
بغى عليه الزمان ... والغاشم الغادرْ
فراح يبغي الأمان ... في الفَلك الدائرْ
أصمته هوج الخطوب ... ففجرت دمعهْ
ومرهقات الكروب ... فأوقرت سمعهْ
ولم تدعه الحروب ... فكسرت ضلعه
بكى له النيّران ... والكوكب الساهر
فأين هذا الهوان ... من مجده الغابر
الملك رهن الضيْاع ... إن غيل في مهدهْ(122/31)
والسيف ما إن يطاع ... ما دام في غمده
واحسرتا للشجاع ... يبكي على مجدهْ
النذل والخوّان ... والخاتل الماكرْ
يفوز بالجنان ... ويطرد الثائر
تبكي عيون السماءْ ... على أمانينا
وفي مجاري الدماء ... خاضت مواضينا
ما زال رهن الفناء ... شتى مرامينا
هل يرجع الفاتحان: ... الأسد الزائر
للعرش والطيلسان ... والفاتح الظافر
جاست دياري العداه ... والدهر يبغينا
وعاث فينا الطغاه ... ذلاً وتهوينا
لم تصف بعد الحياه ... حتى تعادينا
آن أوان الطعان ... فلينهض العاثرْ
لا يبلغ المجدَ وإن ... عن نيله قاصر
فاستصرخي يا قبورْ ... عزائم الأبرار
ولتحطمنَّ الدهورْ ... صواعق الأحرار
لا عاش من لا يثور ... ويستسيغ العارْ
إنا فدى الأوطان ... من غاصب جائرْ
لا عيش للإنسان ... في موطن صاغر
سليم الزركلي(122/32)
2 - معركة عدوى
للأستاذ الفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراق
وفيما يلي وصف الأرض العام في بلاد الحبشة: في الساحل أرض سهلة رملية، والرطوبة فيها تبلغ درجة عالية في موسم الأمطار، وحرها لا يطاق ألبتة؛ وكلما تقدمنا من الساحل إلى الداخل ارتفعت الأرض واختلفت تربتها وتنوع شكلها، فتكون ترابية وحصوية فصخرية فكلسية وهلم جرا، وتأخذ في التموج، وهذا التموج يجعل الأرض في بعض المحلات جبلية ذات غابات وأدغال، وكلما زاد الارتفاع كثرت الوديان الضيقة المكسوة بالغابات والأحراج الكثيفة. والانحدار في حافات الجبال شديد يحول دون تسلقها؛ والطرق فيها مسالك ضيقة تسلكها الدواب بصعوبة. وإذا ما دخلنا الهضاب اشتدت الوعورة، وازدادت المناعة. فالجبال تعلو في انحدار شديد، ويسيطر بعضها على البعض الآخر، وتكثر فيها المكامن والمضايق والفجوات والوهاد.
وقد شق الطليان طريقاً في مستعمرتهم اريترة يربط الميناء (مصوع) بالعاصمة (أسمرة)؛ وقد أنفقوا على شقه مبالغ طائلة من جراء انحدار الأرض وكثرة الوديان فيها؛ وكذلك السكة الحديدية التي تربط (مصوع) (بأسمرة) فإنها تعتبر من أرقى ما بلغه الفن الهندسي في مد السكك الحديدية، لأن السكة تتسلق الجبال ملتفة حولها عابرة على عدة جسور وملتوية الالتواء كله.
وتستطيع القوات القادمة من الساحل بفضل وسائط التجهيز والتموين السير في الأرض السهلة والأرض المتموجة، وإذا ما وصلت إلى السفوح الغربية بتوقف السير لمناعة الأرض وصعوبة سير العجلات والدواب فيها. ومع ذلك نجد أن فقدان المياه في الأرض السهلة والمتموجة مما يحول دون تسيير قوات كبيرة فيها.
الأمطار والبحيرات
والحقيقة أن بلاد الحبشة مدينة لغزارة الأمطار التي تنزل فيها، فهذه الأمطار تسقي بلاد الحبشة فتدر بركاتها على البلاد المجاورة لها، وتنزل الأمطار في بلاد الحبشة مرتين في السنة، صيفاً وشتاء؛ والصيف موسم الأمطار الطويل، فتبدأ الأمطار في هذا الموسم في أوائل آيار إلى نهاية أيلول، وتقع غالباً بعد الظهر، وتنزل بغزارة، وتقلب الأرض السهلة(122/33)
والمتموجة إلى بحيرات وسيول في مدة قصيرة، وتجري هذه المياه بسرعة الوديان الجافة إلى البحر، وبعض الماء تبتلعه الأرض.
وأما موسم الأمطار في الشتاء فهو شهرا كانون الثاني وشباط، والمطر فيه قليل. وأجل الأنهار شأناً في بلاد الحبشة هي تلك التي تنبع من السفوح الغربية في المنطقة الجبلية الداخلية وتصب في نهر النيل.
فنهر (صوباط) مثلاً يتكون من فرعين، ويجري في الجهة الجنوبية الغربية؛ ونهر (أباي) ينبع من بحيرة (تانا) وهو يؤلف القسم الأعلى من نهر النيل الأزرق.
وفي الشمال نهر (عطبرة) وهو يتألف من نابعين: نابع (مارب) في الشمال، ونابع (نكازة) في الجنوب، وبعد أن يسقي مقاطعة (تيجري) يجري شمالاً ويصب في نهر النيل في عطبرة شمالي الخرطوم.
ولنهري أباي وعطبرة تأثير شديد في اقتصاديات السودان؛ فالأمطار الصيفية تملأ أحواض هذين النهرين، فيفضيان بها ويسقيان مزارع السودان ويتركان الرسوب الغرينية في المزارع.
وبحيرة (تانا) التي تمثل دوراً خطيراً في تاريخ الحبشة من حيث تأثيرها في مياه النيل تعلو عن البحر 1700متر، وتبلغ مساحتها زهاء 3000كيلو متر، وتحيط بها الجبال من كل جانب ,
وفي الجنوب وديان كثيرة تأتي من حافات الجبال، وأهمها نهر وادي (جبة) وهو الذي ينبع من الحافات الجنوبية للمنطقة الجبلية الداخلية ويجري في الأرض المتموجة والسهلة.
وتبدأ الوديان من حافات الجبال الشرقية، وتمتد إلى السهول، وإذا ما نزلت الأمطار جرت فيها المياه.
ومن المياه ما تتكون منه البحيرات الجنوبية في أرض الحبشة؛ وهذه البحيرات واقعة على طول الخط الممتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتنتهي في شمالي بحيرة (فيكتورية) وأخطر هذه البحيرات بحيرة (رودولف) في الجنوب وبحيرة (استفاني) في الشمال.
تقسيم الأحباش البلاد(122/34)
والأحباش أنفسهم يقسمون بلاد الحبشة إلى ثلاثة أقسام من حيث أوصافها، وإليك بيانها:
القسم الأول: وهو القسم المنخفض، ويتفاوت الارتفاع فيه من (1000 إلى 1800) متر، وهذا القسم حار وتتفاوت درجة الحرارة فيه من 20 إلى 40 درجة سنتغراد؛ وفي هذا القسم المقاطعات (هرر) و (كانا) و (يديتو) و (سيدامو) و (شافكالة)؛ والحرارة في المحلات المنخفضة، وفي الوديان لا تطاق؛ والزرع فيه هو الذرة. وفي المحلات المرتفعة من هذا القسم يزرع قصب السكر والقطن والزعفران والموز والتمر الهندي والبن والنخيل وغير ذلك.
القسم الثاني: وهو القسم المتوسط من حيث ارتفاع الأرض إذ يتفاوت العلو فيه من (1800 إلى 2400) متر. وتختلف درجة الحرارة فيه من 14 إلى 19 سنتغراد، والهواء فيه جيد، والربيع دائم، وتكثر فيه المياه والغابات.
القسم الثالث: وهو القسم المرتفع ويتفاوت الإرتفاع فيه من (2400 إلى 3400) متر، ومناخه يشبه مناخ جبال الألب، والشتاء فيه شديد وبرده قارص. وتختلف درجة الحرارة فيه من 10 إلى 12 سنتغراد ويجمد الماء في الليل. وبينما نجد القسم الأول جهنم الحبشة نرى القسمين الثاني والثالث جنتها.
التقسيمات الإدارية
تنقسم بلاد الحبشة إلى عدة مقاطعات، ويحكم كل مقاطعة رأس، وهو بمنزلة ملك تلك المقاطعة وله سلطة مطلقة عليها نالها إرثاً بحقوق الإقطاع. وكثيراً ما أطلق عاهل الحبشة على نفسه ملك الملوك بعد إخضاعه الرءوس في المقاطعات وتوحيده المملكة.
وفيما يلي المقاطعات الخطيرة: -
(أ) مقاطعة (تيجري) وهي واقعة في الشمال ومتاخمة لأريترة الصومالية والسودان، وفيها العاصمة المقدسة (أكسوم).
(ب) مقاطعة (أمحره)، وهي واقعة إلى جنوبي مقاطعة تيجري ومتاخمة للسودان.
(ج) مقاطعة (غوجام)، واقعة إلى جنوبي مقاطعة أمحرة.
(د) مقاطعة (شوعا)، وهي من أخطر المقاطعات وفيها عاصمة الدولة (أديس أبابا).(122/35)
(هـ) مقاطعة (كاتا)، وهي واقعة إلى الجنوب ومتاخمة للسودان ولمستعمرة أوغاندة البريطانية وفيها يزرع البن.
(و) مقاطعة (أوجادن)، وهي واقعة إلى الجنوب الشرقي ومتاخمة للصومال الطلياني.
نبذة من التاريخ
يزعم العلماء الضليعون في معرفة الأجناس والشعوب إن الأحباش هاجروا من جزيرة العرب إلى إفريقية عن طريق اليمن، ويعللون انتماء اللغة الحبشية إلى اللغات السامية بتلك الهجرة.
والمحقق أن الأحباش احتكوا بالمصريين في قديم الزمان واقتبسوا منهم بعض مظاهر الحضارة؛ ولما امتدت فتوح المصريين إلى بلاد النوبة والسودان إشتدت هذه العلاقة. ويؤيد التاريخ إستيلاء الأحباش على مصر العليا وتأسيسهم أسرة حاكمة هناك. ويزعم الأحباش أن الملك منليك الأول هو ابن سليمان من بلقيس ملكة سبأ. وشاعت النصرانية في الحبشة في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد ورسخت فيها بعد ذلك. والمعلوم أن أبرهة قائد القوات الحبشية الذي استولى على بلاد اليمن وتقدم نحو الحجاز كان نصرانياً. والشائع أن الداعي إلى هجوم الأحباش على اليمن هو الانتصار لبني دينهم أهل نجران.
وكان الأحباش يدينون بالنصرانية لما هاجر المسلمون إلى الحبشة فراراً من الاضطهاد. وشاعت اليهودية في الحبشة في عهد هذا الملك. وتخليداً لهذه الذكرى أحدث ملك الحبشة في سنة 1874 وساماً سماه (وسام خاتم سليمان).
وفي القرن السادس تبع الأحباش الكنيسة المصرية التي اعتقدت أن ليسوع (عيسى) طبيعة واحدة، وانضوى الأحباش من ذلك التاريخ لبطريرك الإسكندرية.
وفي القرن السابع استفاد اليهود القاطنون في الحبشة من الإنشقاق في العقيدة المسيحية، واتفقوا مع المعارضين والوثنيين وتغلبوا على الأحباش فأخرجوهم من مقاطعة أكسوم وحكموا البلاد زهاء مائتي سنة. وفي نهاية القرن الثامن قضى (لاليبا) على حكم اليهود ورجع الأحباش يحكمون بلادهم معتنقين المذهب اليعقوبي.
المسلمون والأحباش(122/36)
ولم يتوجه العرب في عهد فتوحهم نحو بلاد الحبشة بل اكتفوا بالاستيلاء على بلاد مصر والسودان فقط، وذلك على ما نعتقد لسببين: أولهما بُعد بلاد الحبشة عن طريق الاستيلاء ومناعتها، وثانيهما ذكرهم للأحباش بخير لأنهم آووا المسلمين الأولين وآمن نجاشيهم برسالة الرسول.
وفي القرن الثامن عشر ثارت الحروب بين الأحباش والمسلمين الذين أحاطوا ببلاد الحبشة من كل جانب. وقبل منتصف القرن الخامس عشر احتك البرتغاليون بالأحباش من أجل الحصول على موانئ صالحة في مغامراتهم في بحر المحيط الهندي، وسعوا لتأسيس علاقات ودية بينهم وبين الأحباش، وعقدوا أول معاهدة في سنة 1515؛ وكان من نتائج هذه المعاهدة أن المسلمين أخذوا يتوغلون في بلاد الحبشة لمحاربة الأحباش حلفاء البرتغاليين، وكلما انتصر المسلمون على البرتغاليين في البحر الأحمر وفي خليج عدن انتقموا من الأحباش الذين ناصروا البرتغاليين في حروبهم.
وفي سنة 1517 تحرك جيش كبير من المسلمين من (زيلع) وهجم على بلاد الحبشة واستولى على (أكسوم) العاصمة المقدسة، و (جوندار) عاصمة المملكة. وبعد أن مد البرتغاليون الأحباش بالمدافع وتولى (كريستوفوس دغاما) قيادة الجيش الحبشي انكسر المسلمون وانسحبوا.
ولما استولى العثمانيون على مصر اشتدت علاقة الترك بالأحباش، وأخذ سلاطين آل عثمان يساعدون المسلمين في البحر الأحمر على محاربة البرتغاليين والأحباش، وكان من نتائج ذلك أن استولى العثمانيون على مصوع وبربرة وهما من موانئ الحبشة، وتوغلوا في الداخل، وأخذ المسلمون القاطنون في السهول يشددون العزائم للهجوم على بلاد الحبشة ويسعون لنشر الدين الإسلامي فيها.
(يتبع) طه الهاشمي(122/37)
من ضحايا الوطنية
شارلوت كورداي
لتوماس كارليل
بقلم الأستاذ حسن عبد الحليم اليماني
يعي التاريخ مشهداً يذكره وسط الغموض والاضطراب اللذين لفا مدينة (كان) الفرنسية كما لفّا العالم بأسره في طليعة عهد الثورة الكبرى: أما مكانه فساحة مجلس (كان) النيابي، وأما أبطاله فرجل وفتاة أوشكا أن يفترقا بعد لقاءهما النائب باربارو وشارلوت كورداي ((دارمان) كما كانت أسرتها تلقب قبل الثورة التي ألغت رتب النبل وألقابه) كانت فتاة فارعة العود في عامها الخامس والعشرين، يتلألأ محياها جمالاً ووداعة؛ وكانت على أن ترحل إلى باريس في أمر ما، ولهذا تقابلت وباربارو فحملها توصية وتقدمة إلى صديقه الباريسي النائب دوبريه ذاكراً في خطابه (إنها لجمهورية الهوى من قبل أن ينادي بالثورة منادٍ، وإنها لم تكن في حاجة أبداً إلى الحماسة، ففي قلبها منها الكفاية). (أما الحماسة في رأيها فهي تلك العاطفة التي تدفع بالمرء إلى بذل روحه طائعاً في سبيل بلاده).
وقبيل ظهر الثلاثاء التاسع من شهر يولية من العام الرابع للثورة، اتخذت شارلوت مكانها من عربة بريد (كان) الراحلة إلى باريس مزودة بخطاب باربارو وبقليل من متاعها الخفيف. لم يكن في وداعها - كسنة السفار - أحد يتمنى لها رحلة طيبة موفقة، فهي قد بيتت عزيمتها بينها وبين نفسها مخلّفة لأبيها رقعة تفضي إليه فيها بأنها في طريقها إلى إنجلترا، وأنها ترجو أول ما ترجو أن يغفر لها فعلتها وأن ينساها إلى الأبد.
وزحفت عربة البريد بحملها، وكأنما لازمها نعاس ملح، ما زال يدفع بها وئيدة مهومة حتى بلغت جسر (نيلي)، وحتى لامست عجلاتها ثرى باريس في ضحى يوم الخميس 11 يولية، حيث شهدت عينا شارلوت مدينتها المنشودة تطالع السحاب بقبابها العديدة السوداء وفي فندق البروفدانس بشارع دي فيو أوجستين احتجزت لنفسها غرفة سرعان ما احتواها فراشها، وسرعان ما راحت في سبات عميق بقية النهار وطيلة الليل، فلم تستفق منه إلا وشمس الجمعة قد علت في الأفق.(122/38)
غادرت شارلوت فندقها في ذلك الصباح لمقابلة النائب دوبريه، فلما سلمته رقعة صديقه باربارو علم منها أن لصاحبتها أوراقاً تتعلق بأسرتها، وأن صديقه يرجو مساعدتها حتى تحصل عليها من وزارة الداخلية. وأنالها دوبريه بغيتها وقضت نشدتها في اليوم نفسه، وغادرته ولم تشر بطرف إلى رحيل أو بقاء. وفي باريس طالعت نواحي عديدة وصوراً متباينة، ولكنها لم تهتد إلى لقاء (مارا والتحقق من قسمات وجهه فقد احتبسه المرض إذ ذاك في منزله.
باتت ليلتها في الفندق، حتى إذا أسفر الصبح غادرته حوالي الساعة الثامنة لتشتري خنجراً، ثم لتأخذ عربة من ميدان الانتصارات ميممة مسكن مارا بشارع مدرسة الطب رقم 44، حتى إذا بلغته حال مرضه دون لقائها، فأهمها أن تفشل في وسيلة ركزت فيها كل آمالها وأحلامها. يالشارلوت الجميلة المنكودة! ويالمارا القبيح المنكود! أي قدر يسعى بفتاة من (كان) في أقصى الغرب، وبرجل من نيوشاتل في أقصى الشرق ليلتقيا؟ وأي شأن يربط بين حظيهما فيجذبهما إلى أن يصطدما؟
وإذ عادت إلى فندقها بعثت إليه بورقة تحمل اسمها واسم بلدتها: (كان مهد الثورة)، وتحمل فوق هذا رجائها ولهفتها إلى لقائه، حتى تدفع إليه (ما يعينه على أن يسدي لفرنسا يداً) ولكنها لم تتلقى عليها جواباً، فخطت إليه أخرى أقوى من سابقتها رجاء وعاطفة، وحملتها بنفسها إلى مسكنه في مساء اليوم نفسه 13 يولية.
كان مساء شاحباً، وقد مضى على المساء الذي سقط فيه الباستيل أربعة أعوام كاملة، ذلك المساء الذي وقف فيه مارا على رأس جموع الشعب، طالباً من رجال فرقة الهوسار - حرس الباستيل وكانت قلوبهم مع الشعب - أن يخلوا أمكنتهم وأن يلقوا بأسلحتهم. وبهذا الحدث ارتفع مارا إلى الذروة - ذروة البطولة والوطنية، وها قد مضت أربعة أعوام حافلة - فأية طريق اشتقها مارا إلى المجد وأية طريق دفع بنفسه في شعابها؟
لقد كان في الآونة التي يممت فيها شارلوت صوب داره، ينتقع في حوض استحمامه، وقد تجرد من ملابسه إلا قليلاً، وكانت الساعة حوالي منتصف الثامنة مساءاً، وكان منهوكاً محطماً يحمل في يده قصاصات من الورق، وأمامه منضدة مثلثة القوائم، يتكئ عليها كلما هم بالكتابة. كان وحيداً في مسكنه اللهم إلا إذا اعتبرنا خادمه الشوهاء رفيقة تطرد الوحدة(122/39)
وتخفف أثقالها. فهل انتهى به الطريق إلى أن يلقى خاتمته على هذا الوضع وفي تلك الصورة؟
قُرع الباب وتكرر القرع، ونفذ إلى مسمعيه صوت ليّن حلو، يرفض صاحبه أن يغادر مكانه من الباب أو تقضى حاجته. كانت صاحبته هي المواطنة شارلوت كورداي، تلك التي تريد (أن تعينه حتى يسدي للوطن يداً) - عرف (مارا) من كلماتها تلك أنها صاحبة الرقعة الأولى التي وصلته، فنادى خادمه: أن دعيها تدخل؛ ودخلت شارلوت قائلة: (أيها المواطن مارا! إنني من (كان) مهد الثورة، وأريد أن أفضي إليك بأمر).
فرد عليها قائلاً: (اجلسي يا طفلتي! ما وراءك من أخبار كان وأخبار خونتها؟ ومن ترى فيها من النواب الآن؟).
ولما سمت له شارلوت بعض النواب، زمجر (صديق الشعب) قائلاً: (ستطاح رؤوسهم في مدى أسبوعين)؛ واجتذب المنضدة إليه ثم أخذ يكتب (باربارو، بتيون. . .) واستدار في الحوض مصلحاً من جلسته (بتيون. . . لوفيه و. . .)، وفي أسرع من اللمح استلت شارلوت خنجرها من غمده، ثم أهوت به إلى قلبه. لم تمهله حشرجة الموت طويلاً؛ فلم يستطع إلا صرخة واحدة: (إليّ يا عزيزي - الغوث يا عزيزي!) سارعت الخادم إليه فإذا به لقي لا روح فيه، وقد انكفأ على وجهه الذي بدا مغيظاً محنقاً. . . وهكذا قضى مارا (صديق الشعب) وليس إلى جواره صديق!
إلى هنا تمَّ لشارلوت ما دبَّرت وأنّى لها أن تلقى جزاء عاجلاً محتوماً. . . فقد تدفق الجيران على صرخة مارا الأخيرة والتفوا بشارلوت التي قاومت قليلاً، حتى إذا حضر الشرطة أسلمت نفسها لهم طائعة. واقتيدت لتوها إلى سجن (أباي حيث احتوتها إحدى غرفه هادئة ساكنة، وقد ماجت باريس حول محبسها، ودَوَّت أصوات الشعب في خليط يتذبذب بين الدهشة والغضب والإعجاب.
بعد أيام أربعة، طالعت الجموع المحتشدة في قصر العدالة، حيث تعقد محكمة الثورة، وجه شارلوت جميلاً هادئاً كعادته، وما إن دخلت القاعة حتى سرت فيها همهمة ليس من السهل أن نستبين العاطفة التي أوحتها! - وهنالك وقف تنقيل ليقيم الدعوى مستعيناً بالشهود وببائع الخنجر الذي حضر المحكمة ليدلي بالواقعة أمامها، ولكن شارلوت قاطعته قائلة (لا(122/40)
حاجة بكم إلى هذه التفاصيل
(إنني أنا القاتلة)
(وبإيحاء من؟)
(لم يوح إلي أحد)
(إذاً فما الدافع؟)
(جرائمه) ثم زادت في صوت صاخب مرتفع (لقد قتلت فرداً لأنقذ مئات الألوف، مجرماً لأنجي أبرياء، حيواناً مفترساً لأريح بلداً بأسره! لقد اعتنقت مبادئ الجمهورية قبل أن تقوم للثورة قائمة، ولم أكن أبداً في حاجة إلى الحماسة أو التشجيع!).
وهكذا قطعت عليهم كل سبيل إلى الكلام، وحملق الجمهور مشدوهاً بينما أتم القضاة إجراءاتهم في صمت وسكون، وصدر الحكم بإعدامها لجريمة القتل فتلقته هادئة، وفي لهجة رقيقة تشف عن روح نبيلة عالية شكرت محاميها، كما شكرت القسيس الذي أحضروه لها معتذرة له في لطف بأنها ليست في حاجة إلى شئ من بضاعته!
وفي مساء ذلك اليوم نفسه خرج سكان باريس - على بكرة أبيهم - إلى الطرقات والمنافذ ليلقوا على شارلوت نظرة أخيرة. . وظهرت عربة السجن المشئومة تحمل تلك المخلوقة الصغيرة في ملابس الإعدام الحمراء، حلوة وادعة، غضت الإهاب ريانة الغصن تسعى إلى حتفها وحيدة وسط هذا العالم الصاخب! كثير هم أولئك الذين حيوها في احترام برفع قبعاتهم، فأي قلب لا يمس هذا المشهد قرارته؟ بينما طاوعت بعض الآخرين نفوسهم فزمجروا وهدرت أصواتهم لدى رؤيتها!
وفي (ميدان الثورة) حيث ينتظرها الموت، لم يتسلل إلى أساريرها الجميلة الهادئة أي شحوب أو فرق، بل حافظت على ثباتها وحيويتها؛ ولما تقدم الجلادون لقيد ساقيها، احتجت متذمرة، وقد حسبت أنهم إنما يفعلون ذلك رأفة بها، وقد لحظوا في أنوثتها ضعفاً لا يقوى على مجابهة الموت إلا مكبلاً! حتى إذا أفهموها أنها إجراءات تتبع في كل حالة اعتذرت لهم باسمة وخضعت راضية!
وفي المشهد الأخير عندما جردوا عنقها من لفائفه وهيأوه لسيف الجلاد، تمشت في عنقها ووجهها الجميل حمرة من خجل العذارى ضلت تصبغ خديها النديين حتى بعد أن رفع(122/41)
الجلاد رأسها المفصول ليراه جمهور النظارة!
فيا للجمال ويا للقبح ممثلين في شارلوت ومارا! يصطدمان فيلاشي كلاهما الآخر! ويالكما من منكودين أنهلهما العدم كأسه مترعة! فلتناما في أحضان أمكما الأرض، تلك التي حملتكما معاً!
حسن عبد الحليم اليماني(122/42)
في الأدب الإنجليزي
4 - الكائنات الغيبية
في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
الأشباح:
تشتمل الأشباح التي وردت في روايات شكسبير نوعين مختلفين:
أشباحاً مرئية وأشباحاً غير مرئية. أما الأشباح المرئية فهي التي في استطاعة كل شخص أن يراها ويبصرها. وأما الأشباح غير المرئية منها فهي التي اختفت عن أعين الجميع إلا عن أعين بطل الرواية.
استعمل شكسبير نظرية الأشباح في عدد غير قليل من رواياته ومؤلفاته، فهناك شبح في رواية الملك ريشارد الثالث لم يره إلا ريشارد وريشموند، وهناك شبح آخر في رواية يوليوس قيصر يعجز الخدم عن رؤيته بينما يظهر جلياً لبروتوس. وفي رواية سمبالين أشباح متعددة تظهر لبوشيموس في سجنه في حالة لا يراها الحرس والسجانون.
وكانت مخاطبة الأشباح تقتصر على نفر قليل ممن كانت لهم قوة التنبؤ والاستنباط، فكان في استطاعتهم أن يرسلوا الأرواح في مهماتهم الخصوصية. وقد ذكرهم شكسبير في كثير من رواياته كرواية سمبالين ورواية يوليوس قيصر بقوله: (قد استطعت التغلب على روحي الخفية بواسطة حيلك السحرية) وفي رواية ' بقوله: (هل يوجد هناك من مشعوذ يستطيع أن يزيل ما أمام عيني من الشك).
وهذا النوع من الرجال كان ينتظر منه الإلمام باللغة اليونانية واللاتينية والاضطلاع الواسع على الآداب القديمة. وتظهر لك هذه الميزة جلياً في رواية هملت عندما يظهر الشبح، فيقول مارسيليوس مخاطباً هورايتو: (إنك متعلم ومطلع على الآداب، ولذا وجبت عليك مخاطبته يا هورايتو).(122/43)