بالرصافي أنه لا يحسن لغة أجنبية، فقد ركن في كل ما حلل وأول واستخرج واستنتج إلى اجتهاده الخاص وإلى علومه الواحدة العربية
وإنك لتدرك الروح في مصنفه هذا إذا ما علمت رأيه بالله، فقد قال لي مرة: إن الآية لا إله إلا الله، لا معنى لها ويجب أن تبطل، أو تبدل بالآية، لا إله إلا الوجود، أي أن الكون هو الله، والله هو الكون، هي عقيدة البانيتزم أي الحلول وهو فيها على اتفاق والزهاوي، قد يهمل وينسى كثير من شعر الرصافي في المستقبل، وتظل سيرته النبوية من الكتب التي تقرأ وتكتنز
ذاك هو الرصافي في دينه) اهـ
فما هو رأي الشاعر الكبير الأستاذ معروف الرصافي؟. . .
دمشق
علي الطنطاوي
(الرسالة) لم نقرأ كتاب الريحاني لأنه لم ينشر في مصر؛ ولكنا نعلم أن حكومة العراق صادرته؛ وربما كان هذا الهتر من أسباب هذه المصادرة؛ على أن الرصافي قد يقول شيئاً من هذا الكلام في ساعة لهوه ليطوي في بساط الشراب، لا لينشر على الناس في كتاب! فذنب (الفيلسوف) الذي روى، أقبح من ذنب (الأديب) الذي تحدث! والكلمة قبل كل شيء للأستاذ الرصافي
إلى الدكتور عزام
في العدد 87 من (الرسالة) نشر الدكتور عبد الوهاب عزام (قصيدة تاريخية) خطيرة بعثها بعض أهل جزيرة الأندلس للسلطان بايزيد العثماني يستغيثون به مما حل بهم من القواصم والدواهي في دينهم ودنياهم بعد أن نقض الأسبان العهد والميثاق الذي أخذ عليهم. وقد وصلت القصيدة للدكتور عزام بواسطة العلامة الشيخ الجليل الراوية خليل الخالدي الذي نقلها من نسختين بقلم مغربي رآهما بمدينة فاس، وختم الأستاذ عزام تمهيده للقصيدة النائية بقوله: ولسنا ندري ما كان جواب السلطان بايريد على هذه الدعوة الملهوفة والقصيدة الباكية. فمن عرف شيئاً في هذا فليخبرنا مشكوراً)(105/67)
وأنا اخبر الأستاذ الفاضل - ولا شكر - بان القصيدة النائية ذكرها كلها الشهاب احمد المقري صاحب نفح الطيب في كتابه: (أزهار الرياض. في أخبار القاضي عياض) (1: 94) وهو كتاب طبع جزؤه الأول بتونس سنة 1322 ويوجد بعض ثانيه خطاً؛ كما ذكر القصيدة ميمية بعثها أبو عبد الله بن الأحمر لسلطان المغرب يعتذر فيها عما فعل وذلك بعد نزوحه لفاس واستقراره بها حيث توفي وترك ذرية
إما جواب السلطان (أبا يزيد الثاني ابن محمد الفاتح ووالد سليم الأول) فيظهر أنه سعى لأغاثتهم بما أمكنه مع ما عرف به من الرغبة عن الحرب والإخلاد إلى السلم، فقد ذكر الأستاذ حسين لبيب في كتابه تاريخ الأتراك العثمانيين (3: 39) أن (كمال ريس) أول مشاهير أميرالات الترك، كان أول ما ظهر اسمه: (سنة 1483 لما جعل قائداً للأسطول الذي أرسله السلطان بايزيد غوثاً وإعانة لمسلمي غرناطة الذين أرسلوا لسلطان البحرين والبرين مستجيرين به من ظلم وتعدى نصارى أسبانيا)
فيكون بذلك قد كاتب الأسبان في خطبهم أولاً:
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعملوا منه جميعاً بكلمة
وما زادهم إلا اعتداءً وجرأة ... علينا وأقداماً بكل مساءة
(كما تقول القصيدة) فلما لم يسمع له نداء أرسل أسطولاً لإغاثتهم وإعانتهم في محنتهم ولكن الشمس كانت إلى الغروب
رباط الفتح (المغرب الأقصى)
عبد الكريم بن الحسن
تكريم الأزهر للأستاذ الأكبر
أقام الأزهر علماؤه وطلابه في مساء الأربعاء الماضي حفلة تكريمية للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي دُعي إليها ألوف، وألقيت فيها خطب، وأنشدت بها قصائد؛ وكانت الرسالة تود أن تسجل هذه الظاهرة الجديدة في حياة الأزهر لولا أن لجنة الاحتفال أغفلت دعوتها، لسبب ترجو أن يكون كل شيء غير المروق أو الفسوق. . . .!!(105/68)
لوبي دي فيجا
تحتفل إسبانيا بذكرى شاعرها الأكبر لوبي دي فيجا بمناسبة مرور ثلثمائة علم على وفاته، وفي الأدب الإسباني اسمان خالدان يفوقان في العظمة والبهاء كل اسم آخر: هما سير فانتس دي سافدرا، ولوبي دي فيجا، الأول في النثر والخيال الرائع، والثاني في الشعر؛ وقد عاشا في عصر واحد، ولكن سير فانتس دي سافدرا قد غدا اسماً عالمياً، وغدا أثره الشهير (الدون كيشوتي) أثر من أعظم الأثر العالمية، هذا بينما يبقى لوبي دي فيجا إسبانياً فقط وينحصر صيته وأثره في الأدب الإسباني، ولك لوبي دي فيجا يبذ من هذه الناحية مواطنه ومعاصره، فهو عميد الأدب الإسباني الحديث وأعظم أقطابه، وهي لوبي فيلكس دي فيجا، ولد بمدريد في 25 نوفمبر سنة 1562، وربى تربية عسكرية، وانخرط في سلك الجيش بادئ ذي بدء، وفي سنة 1582 أشترك في الحملة التي بعثتها إسبانيا إلى جزائر الآزور، وبعد ذلك بأعوام أشترك في الحملة البحرية الكبرى التي جردتها إسبانيا لغزو إنكلترا وهي المعروفة بحملة (الأرمادا)، (سنة 1588)؛ ثم أنتقل إلى الحياة المدنية، وعمل سكرتيراً للدوق آلفا (دوق إلبه) وزير فيليب الثاني الشهير، وأشتغل بعد ذلك سكرتيراً للمركيز ملبيكا. وفي سنة 1613 دخل الرهبنة وأنقطع للنظم والكتابة حتى وفاته في 27 أغسطس سنة 1635
كان لوبي دي فيجا شاعراً عبقرياً ومؤلفاً مسرحياً عظيماً؛ وكان يضطرم ابتكاراً وطرافة، وكان ينثر في شعره كل العواطف البشرية وضاءة ملتهبة من الحب والأسف والغيرة والأمل والحزن والطمع وطموح المجد؛ وكان شاعر الحقيقة في الوقت نفسه يتنقل بين مراحل الحياة البشرية؛ وكان أنيقاً في لفظه يتخير التعبير المنسجم، فيجمع نظمه بين الفلسفة الحية والخيال الساحر والبيان الرائع. وكان تقلبه في ميادين الحياة المختلفة، من الجندي، إلى الحياة المدنية، ثم إلى حياة الكنسية، من أكبر عوامل الخصب والتنوع في خياله؛ وكان يحب مسقط رأسه (مدريد) ويخصها ويخص مجتمعاتها بكثير من نظمه الممتع، بيد أن لوبي دي فيجا كان شاعر الخاصة، ولم يغز نفوس الكافة، ذلك لأنه كان يرتفع عن مستواهم في تفكيره وفي وحيه؛ أما معاصره وشريكه في الخلود، سير فانتيس، فقد كان أبعد صيتاً منه في نفوس الكافة، لأنه كان أكثر تنزلاً إليهم وأقرب إلى إفهامهم(105/69)
ومشاعرهم
وكتب لوبي دي فيجا كثيراً للمسرح الإسباني، وكان من أعظم عوامل مجده وإزدهاره؛ وقد بلغ ما كتبه من القطع المسرحية زهاء ألفي قطعة؛ ولم يتبوأ مكانه في الأدب الإسباني بقريضه وأناشيده قدر ما تبوأها بهذا التراث المسرحي الرائع، وله أيضاً كثير من المؤلفات القصصية، ونظم كثيراً من الأناشيد والشعر الخالص في مختلف الفنون والنواحي، وكان يتبوأ في عصره ذروة النفوذ، ويمكن أن نقارن نفوذه الروحي في عصره وفي أمته بنفوذ فولتير في فرنسا في القرن الثامن عشر
وفاة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني
استعز الله بمحدث الشام وعلامة الإسلام الأستاذ الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني والد رئيس الحكومة السورية عن تسعين عاماً قضاها في الإقراء والإفتاء والعبادة. وقد عرا الشام من هول مصابه رجفة من الحزن لم تسكن على الصبر والعزاء بعد. وقد نشرنا عنه في هذا العدد مقالاً للأستاذ الطنطاوي يُبين عن فضله ويكشف عن عظم المصاب فيه
أربعون عاماً من السينما
في أواخر سنة 1895، أذاع لوي لوميير أنه قد أتم اختراع جهاز ضوئي جديد ينقل صور الأشخاص والكائنات في حركاتها الطبيعية. وفي شهر ديسمبر من هذا العام أقيمت التجربة العملية الأولى لهذا الاختراع في البهو الأسفل لمقهى يقع في البناء رقم 14 من شارع الكابوسين؛ وكل هذا الاختراع هو السينما، فأجتمع لشهوده ثلاثة وثلاثون شخصاً؛ ولم يكن المعروض (فلماً) شائقاً بالمعنى الصحيح، ولكن مناظر متقطعة من الأشخاص والأعمال
وقد عمل لوي لوميير وأخوه أوجست لوميير بعد ذلك على تحسين هذا الاختراع الذي درسه مخترعون آخرون قبل ولا سيما هنري ماريه العلامة الطبيعي الشهير. وعاش لوميير ليرى بعينه كيف نما اختراعه وأضحى أداة مدهشة من أدوات المتعة والثقافة العالمية. وقد تناوله أثناء هذه الحقبة مخترعون عظماء مثل أديسون وتعهدوه بطائفة من الابتكارات المدهشة حتى أضحى من أعظم مدهشات عصرنا
وفي الأنباء الأخيرة أن بلدية باريس قد احتفلت بمرور أربعين عاماً على اختراع لوي(105/70)
لوميير لآلة السينما؛ وشهد لويس لوميير الاحتفال بظفره بعد أربعين عاماً من تحقيقه؛ وألقيت خطب بديعة، وأنعم على المخترع خلالها بوسام الاستحقاق الذهبي
كتاب عن مصر
أخرجت شركة درلانجر للطباعة والنشر في إنجلترا كتاباً جديداً بعنوان (آخر بلاء لمصر) وهو يتضمن تاريخ حياة اللواء رسل باشا حكمدار القاهرة وقصة مكتب المخدرات
مؤتمر المستشرقين
سيعقد في مدينة روما مؤتمر المستشرقين التاسع عشر بين 23 و29 من شهر سبتمبر القادم، وسيمثل مصر فيه الأساتذة طه حسين وأحمد أمين ومصطفى عبد الرازق
وسيشهده طائفة أخرى من رجال الأدب واللغة في مصر وفلسطين وسورية، وقد أسندت وكالته إلى الدكتور كارلو ناللينو أستاذ الأدب العربي بجامعة روما وعضو المجمع الملكي للغة العربية بالقاهرة
مجلة الفجر الفلسطينية
توفرت طائفة من شباب العرب في فلسطين على إخراج مجلة أدبية أسبوعية باسم (الفجر) تصدر عن مدينة يافا
ويقوم على تحريرها نخبة ممتازة من الكتاب في فلسطين؛ كالأساتذة محمود سيف الدين الإيراني، وعارف سليمان العزوني، والدكتور أبي غنيمة، وسامي السراج. يعاونهم في تحريرها من مصر الأساتذة محمود تيمور وإبراهيم المصري ومحمد أمين حسونه؛ وقد صدر منها عددان دلاً على نزعة طيبة وجهد محمود
لإحياء ذكرى ليسنج
كانت قد ألفت في فينا قبل الحرب لجنة خاصة للنظر في إقامة أثر تذكاري كبير للكاتب والنقادة الألماني الكبير ليسنج ومرت اللجنة بأدوار وأحداث كثيرة، وتوقفت أعمالها أثناء الحرب، بيد أنها وفقت أخيراً إلى إتمام مهمتها بعد صعاب جمة، وأفتتح الأثر الذي صنعه المثال شارو برسم ليسنج في حفلة كبيرة جمعت رجال الفن والأدب وأساتذة الجامعة؛ وخطب رئيس أكاديمية الفنون وهو رئيس لجنة الذكرى الدكتور ردليخ فنوه بالعلائق(105/71)
الفكرية التي تربط ليسنج بمدينة فينا إذ زارها مرتين، وأقام بها ردحاً من الزمن، وكان يحلم فيها بأن يغدو مديراً للمسرح الإمبراطوري حيث كانت تمثل رواياته بنجاح مستمر؛ وأشار إلى أن الأثر الذي يقام للكاتب في فينا إنما يراد به تحية الآراء والمبادئ التي كافح ليسنج من أجلها، وهي مبادئ الإنسانية والعدالة والتسامح؛ وهي مبادئ تخلو اليوم منها بعض المجتمعات (يشير إلى ألمانيا). وخطب وزير المعارف النمسوية الدكتور برنتر؛ فأتى على حياة ليسنج ومؤلفاته، وقل إن النمسا الحالية تكرم في شخصه ألمانيا العالمية، وتدلل على أنها ما زالت بلد الثقافة الروحية والفن الرفيع؛ وأنها على أهبة دائماً لأن تكرم النبوغ الفكري؛ وأعلن حاكم مدينة فينا أنه يضع يده على الأثر باسم المدنية؛ وأن الميدان الذي يقام فيه سيسمى قريباً بميدان ليسنج
وليسنج كما هو معروف من أكبر كتاب ألمانيا المسرحيين في القرن الثامن عشر
أثر جديد لجان لوران
نشرت مجلة (الأخبار الأدبية) الفرنسية (نوفيل لترير) في أحد أعدادها الأخيرة فصلاً عنوانه (خاتمة مسيو دي بوجرلون) وهو أثر لم ينشر من قبل للكاتب الفرنسي جان لوران؛ وتتمة لكتاب قصصي بقلم لوران عنوانه (مسيو بوجرلون) ظهر في سنة 1897، ولقي في عصره نجاحاً عظيماً، وطبع مراراً في أعوام قليلة، ولآثار جان لوران قيمة خاصة، فهو كاتب اجتماعي وافر السحر والطرافة، وقلما تجد في الآداب الفرنسية نظيراً لأسلوبه المطبوع أو تصويره الدقيق. وقد أمتاز لوران بأنه يصف من المجتمع جوانبه الخفية، ومثالبه المروعة، فليس أبدع ولا أروع من قلمه في وصف أوكار البغاء والرذيلة، ومهابط الفجور والتدهور الاجتماعي، وصرعى المخدرات والشهوات السافلة. وقد توفي هذا الكاتب المبدع سنة 1906 بعد أن تبوأ في أدب عصره أرفع مكانة
نادي المثنى بن حارثة
في بريد العراق أن شباب بغداد أسسواً نادياً بهذا الأسم، غايته بث الثقافة العربية، وأحياء التقاليد القومية، وإذكاء روح الرجولة في الشبان بالطرق المشروعة، ومحاربة كل ما يضعف الأخلاق ويوهن الصحة(105/72)
وفي النادي لجان مختلفة، منها لجنة الثقافة القومية، تعد المحاضرات والخطب والنشرات العلمية، وتقوم بأحياء الأيام والحوادث القومية، وتكافح الأمية، وتعنى بالآثار العربية، وتعد مكتبة منظمة تحوي الكتب العربية المختلفة، وتتصل بالحلقات العلمية في البلاد العربية
واللجنة الاجتماعية، ومهمتها الخدمة الاجتماعية: وتقوم بالإرشاد الصحي والاجتماعي والتهذيبي، وتعالج المرضى من الفقراء، وتعنى عناية خاصة بالفلاح والعامل وترقية شؤونهما
ولجنة الفنون الجملية، وهذه تعنى بالأناشيد العربية والموسيقى وتمثيل الروايات القومية والقيام بترقية الرسم والتصوير والنحت والاعتناء بالعربية
واللجنة الاقتصادية، تأخذ على عاتقها تشجيع المصنوعات الوطنية، والسعي إلى إيجاد مصانع وطنية تقوم بإحياء بعض الصناعات الوطنية التي كان لها الشأن الكبير فيما مضى، وهي تعمل كذلك على إيجاد صناديق للتوفير وغير ذلك من الأمور الاقتصادية التي تحتاج إليها البلاد
ولجنة محبي القرى، وهي تعني بإيجاد قرية عراقية عصرية كاملة من جميع الوجوه العمرانية والصحية
ثم اللجنة الرياضية، وتقوم بتشجيع الرياضة والألعاب على أتلاف أنواعها، من فروسية ورماية وركوب خيل وصيد وسباحة، وتعنى بصورة خاصة بأحياء الألعاب القومية الموروثة ومثل هذا النادي المفيد يحتاج إلى عون الحكومة ليأمن عوادي الانحلال وجوائز الفوضى(105/73)
الكتب
رسالة في الإسلام
بين هيجل ومحمد عبده
تأليف الأستاذ محمد محمد البهي
عضو بعثة تخليد ذكرى الأمام
من أولى نتائج الدرس الذي عكف عليه أعضاء بعثة تخليد ذكرى الأستاذ الإمام محمد عبده، كتيب قيم وضعه باللغة الألمانية الأستاذ محمد محمد البهي، الذي لازال يتابع دراسته في جامعة هامبورج بألمانيا
ويقول المؤلف في مقدمة كتيبه هذا إن الدافع له على إصداره هو ما رآه في ألمانيا من أن الناس فيها لا يفقهون الإسلام على حقيقته، وقد كوّن رأيه هذا بعد استماعه لأستاذه (نوك) في محاضراته عن (فلسفة التاريخ) لهيجل، وبعد اشتراكه في مساجلة الأستاذ شتروتمان لتلاميذه في عدد من المؤلفات عن الإسلام. وبذلك أتيحت له الفرصة ليوزان بين آراء (هيجل) في الإسلام، كما جاءت في كتابه (فلسفة التاريخ)، وأراء فيلسوف الإسلام الإمام محمد عبدة، كما جاءت في كتابه (الإسلام والنصرانية، والعلم والمدنية). وأراد الأستاذ البهي أن يتقدم برسالة في هذا الموضوع لينال بها الدكتوراه في الفلسفة، ولكن غيرته على العلم والدين لم تمهله حتى يستوفى البحث، فأصدر هذا الكتيب لينفس عن روحه وليطلق فكرته من عقالها، وكان حقاً موفقاً في سرد أهم آراء الفيلسوف الألماني هيجل الخاصة بالإسلام، وبرغم الإجمال الذي ألتزمه المؤلف فإنه ألم بتلك الآراء إلماماً حسناً. فذكر كيف أن الإسلام في نظر الفيلسوف هيجل، هو صورة صادقة للعقلية الشرقية، فهو يجمع بين المتناقضين: المسائل التجريدية والمسائل الواقعية. وأن فكرة الإله عند اليهود هي غيرها عند المسلمين - على حد ما يعتقده هيجل، فيهوا هو رب الشعب الإسرائيلي فقط، أما الله فرب العالمين؛ ويرى هيجل أن المسلمين يعيشون ويحيون من أجل دينهم وتحقيق مبادئه، وأن حياتهم الدنيوية ليست إلا وسيلة لبلوغ الآخرة وما فيها من متاع. ولهذا كانت فتوحاتهم العظيمة في آسيا وأفريقيا وأوربا. وكان التعصب ضد الكفرة على أشده في بادئ الأمر، إلا(105/74)
أنه تراخي بعض الشيء، فأستعيض عن قتل الكافر بفرض جزية سنوية على شخصه؛ ومع ذلك لم يكن التعصب في الإسلام مدعاة تخريب وهدم، كما هي طبيعة التعصب، بل كان فوق ذلك مدعاة تشييد وبناء. ثم تدرج المؤلف إلى ذكر رأى هيجل في أن الإسلام كدين يبرر أعمال العنف والقوة لنشره، كما برر روبسبير أعمال العنف والقوة لبلوغ الحرية؛ وأن الفردية في الإسلام من التناقض بدرجة تجعل الحاكم الذي يبغي المجد والعظمة والسيطرة لا يتوانى في أن يضحي بها جميعاً في سبيل الدين، وقد لا يلبث إلا قليلاً حتى يستردها دون هوادة، وأن الخليفة عمر - على حد ما ذكره هيجل - هو الذي أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، بينما الخلفية المنصور كان يجمع العلماء في مجلسه ويغدق عليهم العطايا؛ وبحسن معاملته لهم أزدهر الأدب والعلم في أيامه. ثم ذكر بأن الحريات كانت مكفولة للناس كافة، لا فرق بين رجل وامرأة، ولا بين طبقة وأخرى، حتى كان الرجل من رعاع الناس يدخل على الخليفة في مجلسه فيحدثه مطمئناً عن كل ما يريد؛ ولكن عقب ذلك أعتكف الخلفاء والحكام في قصورهم وأبعدوا الشعب عنهم، فأنقلب الحال إلى الضد. ويرجع (هيجل) أسباب ذلك إلى أن التعصب الديني كانت قد بردت حرارته، فبدأت المفاسد تسود المجتمع، وأصبح الاستمتاع بملذات الحياة شهوة الناس في هذه الدنيا، ثم تراجع الإسلام كما يقول (هيجل) إلى أفريقيا وآسيا، ولم تطقه النصرانية إلا في ركن ضيق من أوربا. وتلاشى الإسلام كقوة مسيرة لتاريخ العالم. ويعترف هيجل بأن الغربيين أخذوا عن العرب مختلف العلوم والفنون والمعارف، وبخاصةً الفلسفة؛ ويقر فيلسوف الألمان أم الإسلام هو أكبر ظاهرة في تاريخ العالم
غير أن الأستاذ البهي يرى أن هيجل حكم على الإسلام من خلال أعمال بعض المسلمين، وكان الأولى به أن يرجع إلى مصادر الإسلام وهي: القرآن والحديث وما أجمع عليه الأئمة. وعاب على هيجل طريقته في البحث، وقال بأنه (أي المؤلف) لن يكون عادلاً في حكمه إذا ما نسب إلى الدين المسيحي عداءه للعلم ومحاربته لحرية الفكر، مستنداً في ذلك إلى بعض الحوادث التي منها:
(1) إعدام (حيباتيا) المصرية وكانت سيدة من أفذاذ العلماء الرياضيين، عام 415 ميلادية أثناء تعقب النصارى للفلاسفة(105/75)
(2) إحراق 1220 شخصاً بالنار فيما بين سنة 1481 و1499م، وهم أحياء تنفيذاً لأحكام الرقابة الموضوعة على الكتب وأصحابها
(3) إحراق جيوردانو بروفو الذي قال بالوحدانية الربانية
(4) إحراق الكردينال زيمنس 8000 مجلد من الكتب العلمية في غراناطة
إن كل هذه الأعمال لا تؤديها التعاليم الدينية المسيحية، وكل بحث يرتكن إلى مثل هذه الأشياء يكون خاطئاً. وهكذا كان هيجل في بحثه عن الإسلام؛ واستشهد المؤلف برأي الأستاذ هورتن الذي ذكر في أحد كتبه: (إن انحطاط المسلمين وعدم قيامهم بأعمال مجيدة سامية لا ترجع إلى روح الإسلام، ولكن إلى سوء تصرف الخلفاء وإلى غيره من الأمور، ونشأ عن ذلك أضرار عديدة بالدين والعادات وسمعة الإسلام)
ثم ناقش الأستاذ البهي ثماني مسائل من آراء الفيلسوف هيجل أولها: الفريدة في الإسلام. فهي ليست العمل للآخرة دون سواها، كما تصورها هيجل، ولكن العمل للدنيا أيضاً؛ وأستشهد بما جاء في الذكر الحكيم: (ولا تنس نصيبك من الدنيا)، وما جاء في الحديث: (أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا)
وتكلم في المسألة الثانية عن الصوم وأن الغرض منه ليس مجرد صحة الأبدان، بل له غرض معنوي آخر هو إشعار الصائم بوجوب العطف على الفقراء والمساكين
أما المسألة الثالثة فقد حاول فيها الأستاذ البهي أن يثبت بأن الإسلام لم يكن في كل الحروب التي خاضها إلا مدافعاً عن كيانه. أما فكرة الغزو لإجبار الناس على اعتناق الإسلام، فليس لها أصل في الدين. وقد أستشهد بآراء هورتن الذي ذكر في أحد كتبه بأن الحروب الدينية في الإسلام لم تكن إلا للدفاع عن هجمات الأعداء أو لإخماد فتنة. ولهذا كانت الفكرة القائلة بأن الدين الإسلامي يبرر أعمال العنف والقوة فكرة خاطئة
وعالج المؤلف في المسألة الرابعة مسألة الجزية على الذميين، وقال بأن الغرض منها لم يكن إجبار الناس على اعتناق الإسلام بل كانت مجرد ضريبة للمحافظة على أرواح الناس وأملاكهم
أما عن التعصب في الدين، وهي المسألة الخامسة فالإسلام لا يعارض العلم، ولا يعاقب الأحرار من العلماء أو يتعقبهم، بل دعا الدين الإسلامي إلى الدراسة، وإلى العلم والمعرفة،(105/76)
وقد أحيا المسلمون العلماء أيا كانوا، وأشادوا بذكرهم واحترموهم ويجلوهم؛ ويكفي إن علماء اليهود في سورية وعلماء النصارى في مصر، كانوا يجلسون مع غيرهم من العلماء في مجالس الخلفاء والحكام. ولقد نقل المسلمون العلوم إلى بلاد الغرب، كما إن الإسلام لم يحظر على الناس حرية البحث، بل ضمن لهم الحرية الكاملة سواء أكانوا من الأولياء أم الأعداء
أما مسألة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، وهي النقطة السادسة، فإن هذه الدعوى لم تأت في أي كتاب علمي للتاريخ، وقد كذبتها دائرة المعارفة الإسلامية، كما كذبها الأستاذ موللر في كتابه (الإسلام في المشرق والمغرب)
وعالج المؤلف في النقطة السابعة عفاء الدولة الإسلامية، وقال إن ذلك يرجع إلى أسباب سياسية واقتصادية، مما ليس له علاقة بالدين، وأستشهد برأي الفيلسوف شبنجلر حيث يقول: (وإذا كان هيجل قد ختم بحثه عن الإسلام بقوله: (إن قوة الإسلام اختفت كعامل لتكييف تاريخ العالم. . .) فعلينا أن نتذكر بأنه يوجد اليوم ثلثمائة مليون مسلم في العالم)
وأعقب الأستاذ البهي ذلك البحث بآراء الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده في الإسلام، مستنداً في ذلك إلى كتابه (الإسلام والنصرانية، والعلم والمدنية) - كما ذكرنا في البدء. وإنا نكتفي هنا بالإشارة إليه، ليراجعه من يهمه الإطلاع عليه
إبراهيم إبراهيم يوسف
شرح الإيضاح
في علوم البلاغة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
المدرس بكلية اللغة العربية
ذكر جلال الدين الخطيب أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن القزويني أنه ألف كتابه (الإيضاح) وجعله على ترتيب مختصره الذي سماه (تلخيص المفتاح) وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح فيه مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، وعمد إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه (مفتاح العلوم) للإمام السكاكي، وإلا ما خلا عنه المفتاح من كلام(105/77)
الشيخ الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الأعجاز وأسرار البلاغة) وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما - فأستخرج من ذلك كله زبدته، وهذبه ورتبه حتى أستقر كل شيء منه في محله، ثم أضاف إلى ذلك ما أداه إليه فكره ولم يجده لغيره، فجمع بهذا أشتات هذه العلوم كلها، واستقامت له فيها هذه الطريقة البديعة التي فتن بها الناس بعده وجاراه فيها كل من كتب في علوم البلاغة الثلاثة إلى الآن
وهو يميل في مختصره (تلخيص المفتاح) إلى طريقة السكاكي في العناية بجمع القواعد دون إيراد الشواهد، ويميل في الإيضاح إلى الجمع بين طريقة السكاكي في ذلك، وطريقة عبد القاهر في العناية بإيراد الشواهد، وقد أمتاز في إيضاحه على السكاكي في طريقته بحسن الترتيب، وبوضوح العبارة وجريها على الأسلوب العربي، كما أمتاز على عبد القاهر بالقصد في إيضاح القواعد على ما يليق بأسلوب الكتابة العلمية
ولكن العلماء الذين أتوا بعد الخطيب لم تعجبهم طريقة (الإيضاح) على ما تمتاز به من هذه الميزات العظيمة، وفتنوا أيما فتنة بطريقة (التلخيص) في العناية بجمع القواعد، وإهمال إيراد الشواهد من منظوم العرب ومنثورهم، فوضعوا عليه من الشروح المبسوطة ما لا يحصى، ووضعوا على تلك الشروح شروحاً سموها حواشي، ووضعوا على تلك الحواشي شروحاً سموها تقارير، وجروا فيها كلها على إهمال ما أهمله الخطيب في تلخيصه من تلك الشواهد التي لا يستقيم النظر في هذه العلوم إلا بها، فجاء كل ما كتبوه على هذه الطريقة حشواً لا فائدة إلى في القليل منه، حتى أصبحت طريقة غاية في العقم، وغدت دراسة هذه العلوم بها خالية من الثمرة، عاجزة عن تربية الذوق البياني
وقد أحسنت كلية اللغة العربية من كليات الجامع الأزهر بالعدول عن درس هذه العلوم في التلخيص وشرحه للسعد التفتازاني إلى درسها في الإيضاح وحده، ولكن طلاب هذه الكلية يجدون أنفسهم في حاجة إلى الرجوع إلى هذه الشروح والحواشي والتقارير في كثير من مواضع الإيضاح في سائر أبوابه، فيضطرون بحكم هذه الحاجة إلى الرجوع إليها كلها، واستيعاب النظر فيها، وتضيع بذلك الفائدة المقصودة من إيثار درس الإيضاح عليها
ولا شك أن هؤلاء الطلاب وغيرهم من طلاب هذه العلوم في حاجة إلى شرح على الإيضاح يجاريه في طريقته، ويكمل من شواهد ما لم يكمله، ويزيد عليها ما تدعو الحاجة(105/78)
إليه، وينظر في ذلك الحشو الكثير الذي أتخمت به هذه العلوم فيختار منه ما فيه فائدة تتصل بها وما أقل ذلك بينه، ويهمل ما لا اتصال له بها وما أكثره فيه، ويؤدي مع ذلك كله واجب النظر العلمي الحديث في بعض مسائلها، وقد وفق الله واضع هذا الشرح الجديد على الإيضاح إلى ما أراده من هذه الأغراض، فجزاه الله عنه خير الجزاء
(ص)(105/79)
العدد 106 - بتاريخ: 15 - 07 - 1935(/)
الميت الذي لا يموت
2 - الشيخ محمد عبده
بمناسبة ذكراه الثلاثين
تولدت حيوية الأمام القوية من جبله أبيه الحرة في (محلة نصر)، وتكونت نفسيته الدينية من صوفية خاله النقية في (كنيسة أورين)، وتفتحت عقليته العلمية في شمس جمال الدين المشرقة بالقاهرة؛ فكان سر الوراثة يجريه في الاعتقاد على الإخلاص، وفي العزم على المضاء، وفي القول على الصراحة، وفي العمل على الجرأة، وفي الحياة على التمرد؛ فالقلق المقدس الذي يشبه في الحكماء، والإرهاص في الأنبياء، كان لا يفتأ منذ الحداثة يساوره في كل هم يحاوله، وعمل يزاوله، وموضع يستقر فيه؛ وذلك القلق مبعث في المصلح صفاء النفس ولطف الحس وحدة الفطنة، فهو وحدة يدرك النقص فيروم الكمال، ويلحظ الخطأ فيطلب الصواب، ويسام الركود فيبتغي التحول؛ ولذلك كان الأمام لا يكره طبعه على حال، ولا يلبس سمعه على رأي، ولا يملك لسانه عن نقد، ولا يكف عزمه عن تغيير، ولا يخزل جهده عن إصلاح
دخل المعهد الأحمدي فبرم بالتعلم لفساد الطريقة وسوء الكتب، فكان وَكْدُه طول عمره أن ينعش الدين من هذا الخمود، ويخرج الأزهر من هذه الفوضى، وينقذ الطلاب من هذا العنت؛ وظهرت مقالاته في (الأهرام) وهو لا يزال في صدر الطلب تحمل دعوة هذا العقل المتجدد المتمرد إلى العلوم العقلية، والمعارف العصرية، والأدب المنتج؛ ثم تولى رآسة المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية فثار على الأساليب الكتابية في الدواوين، والتقاليد الإدارية في الحكم، والبدع الفاشية في الدين، والعادات المنكرة في المجتمع؛ وكانت مقالاته في (الوقائع المصرية) دستوراً للغة، ونظاماً للكتابة، ومنهاجاً للفضيلة، قام على نفاذها سلطان من شجاعته وقوة من نفوذه
ثم شايع العرابيين في الغضبة المصرية الأولى مشايعة البصير الحازم، فأعقبته النفي إلى سورية؛ وهناك دله ذلك الشعور النبوي فيه إلى ما جره سوء سياسة السلطان، من انفراج الحال بين الأديان، وجفاف الثرى بين الأخوان، فوضع دستوراً لإصلاح التعليم الديني قدمه إلى شيخ الإسلام، ومشروعاً لإصلاح القطر السوري قدمه إلى والي بيروت، ولو أخذت(106/1)
بهما الحكومة العثمانية لكان شأنها غير ذلك الشأن، وعاقبتها غير هذه العاقبة
ثم أتسع أفق تفكيره، وأنفسخ مدى نظره، فراعه حال المسلمين من قناعتهم بالدون، واستنامتهم إلى الهُون، وقعودهم عن مسايرة التمدن، فوافي الأفغاني إلى باريس، ودعا في (العروة الوثقى) أشتات الأمة إلى الوحدة، وأموات الجهالة إلى البعث وأسرى العبودية إلى التحرير
ثم ولوه يعد العفو عنه القضاء، فلاءم بين الأحكام المدنية والدينية، وساوى في النظام بين المحاكم الأهلية والشرعية، وأرتحل لهذه من الإصلاح ما حقق من وجودها النفع، وجدد في قضاتها الثقة، وضمن لقضائها التنفيذ
ثم عاد فحصر إصلاحه الداخلي، الديني والمدني، في إصلاح الأزهر، لأنه منشأ الدعاة والهداة والقضاء والمعلمين في مصر وغير مصر، فإذا قلبه على الوضع الذي يريد فقد وضع المكواة على أصل العلة، وأختصر الطريق إلى بلوغ الغاية؛ ولكن أبا لهب وأشياعه في الجامع وفي القصر أرادوا وا أسفاه أن يطفئوا بأفواههم نور الله، فأطفأوا بكيدهم سراج حياته!!
ذلك سر الوراثة الفلسجية عن أبيه القروي الفقير الباسل، أما سر الوراثة الروحية عن خاله التقي العارف، فرجوعه إلى مشاريع الدين الصافية، وعقائد القرآن الأولى. قال ذات يوم لخاله: ما طريقتكم؟ قال: الإسلام، قال: وما وردْكم؟ قال القرآن. فلم يتبع منذ يومئذ غير سبيل المؤمنين ومنهاج الأئمة: أيقظ همه للإسلام فقرت عقائده من الأفهام، وقطع عنه ألسنة المبشرين والمستعمرين بالأدلة النواهض والحجج الملزمة؛ وجعل عزمه للقرآن ففاز منه برياض مونقه، وأعلام بينه: فبراهين قضاياه من قواعده، وبينات دعاواه من شواهده، ومضامين عبقرياته من هدية، وأفانين بلاغاته من وحيه، وعناوين مقالاته من آيه؛ فكأنه رسول الرسول ظهر في عصر العلم الشاك والمدنية الملحدة ليكشف عما غيب الله من نور الكتاب وسره!
أما سر الوراثة العقلية عن أستاذه الحكيم الثائر، فذلك النفوذ البعيد في علوم الفلسفة، والبصر الشديد بضروب المعرفة، والإلمام المحيط بثقافة العصر، والعلم الواسع بقواعد العمران وتاريخ الأديان وطباع الشعوب وأخبار الأمم! وسر النتائج في هذه الوراثات(106/2)
الثلاث: طبع ذكي، ونبوغ فطري، ونفحه من روح الله ليعيد كلمته على لسنه، ويبعث شريعته عن قلبه
كان الأمام محمد عبقرية ثائرة ناقدة لا تعرف القيود ولا الحدود ولا السطحية، ولكنها انحصرت بحكم الظروف في الإصلاح الديني، فوقفت بين الدين الذي تأخر، والعلم الذي تقدم، موقف ابن رشد وابن سينا من قبل: تحاول التأليف بين القلب والعقل، والتوفيق بين الرأي والنقل، فذهب أكثر جهده باطلاً بين الجامدين الذين يرون في تجديده الدين بالعلم بدعة، وبين المسرفين الذين يرون في تقييده العلم بالدين رجعية! فلو أنه عالج الإصلاح الاجتماعي من طريق العلم، أو السياسي من طريق الحكم، لدفع الأمة إلى الأمام قرناً على الأقل
وبعد، فإن في ميدان الأزهر الجديد موضع التمثال العتيد لمجدد الإسلام ومصلح الأزهر! ولو كنا اقترحنا هذا الاقتراح في عهد (الفلان) وأشباهه لاستغفرنا الجهل سبعين مرة، ولكننا نقترحه اليوم في عهد المراغي تلميذ الأمام وخليفته! فهل يتحقق الظن ويصدق الأمل؟
أحمد حسن الزيات(106/3)
فلسفة الطائشة
للأستاذ مصطفي صادق الرافعي
. . . وهذا مجلس من مجالس الطائشة مع صاحبها، مما تسقّطَه من حديثها؛ فقد كان يكتب عنها ما تصيبُ فيه وما تخطئ، كما يكتب أهل السياسة بعضُهم عن بعض إذا فاوض الحليف حليفه أو ناكر الخصمُ خصمه؛ فان كلام الحبيبِ والسياسيّ الداهية ليس كلام المتكلم وحده، بل فيه نطق الدولة. . . . وفيه الزمن يقبل أو يُدبر
وصاحب الطائشة كان يراها امرأة سياسية كهذه الدولة التي ترغم صديقاً على الصداقة لأنه طريقها أو طريق حوادثها. وكان يسميها (جيشَ احتلال)، إذ حطت في أيامه واحتلتها فتبوأت منها ما شاءت على رغمه، واستباحت ما أرادت مما كان يحميه أو يمنعه. وقد كان في مدافعته حبها واستمساكه بصداقتها كالذي رأى ظل شئ على الأرض فيحاول غسله أو كنسه أو تغطيته. . . فهذا ليس مما يغُسل بالماء ولا يكنس بالمكنسة ولا يغطى بالأغطية، إنما إزالته في إزالة الشبح الذي هو يلقيه أو إطفاء النور الذي هو يثبته
في كل شيء على الأرض سخرية من الحسن الفاتن الذي تقدسه، تأتي من اشتهاء هذا الحسن؛ فذاك إسقاطه سقوطاً مقدساً. . . أو ذاك تقديسه إلى أن يسقط، أو هو جعل تقديسه بابا من الحيلة في إسقاطه. لابد من سفل مع العلو يكون أحدهما كالسخرية من الآخر؛ فإذا قال رجل لامرأة قد فتنته أو وقعت من نفسه: (أحبك) أو قالتها المرأة لرجل وقع من نفسها أو استهامها، ففي هذه الكلمة الناعمة اللطيفة كل معاني الوقاحة الجنسية، وكل السخرية بالمحبوب سخرية بإجلال عظيم. . . وهي كلمة شاعر في تقديس الجمال والإعجاب به، غير أنها هي بعينها كلمة الجزار الذي يرى الخروف في جمال اللحميّ الدهنيّ، فيقول: (سمين. . .!)
لهذا يمنع الدين خلوة الرجل بالمرأة، ويحرم إظهار الفتنة من الجنس للجنس، ويفصل بمعاني الحجاب بين السالب والموجب، ثم يضع لأعين المؤمنين والمؤمنات حجاباً آخر من الأمر بغض البصر، إذ لا يكفي في ذلك حجاب واحد، فان الطبيعية الجنسية تنظر بالداخل والخارج معاً. ثم يطرد عن المرأة كلمة الحب إلا أن تكون من زوجها وعن الرجل إلا أن تكون من زوجته، إذ هي كلمة حيلةٍ في الطبيعة أكثر مما هي كلمة صدقٍ في الاجتماع، ولا(106/4)
يؤكد في الدين صدقها الاجتماعي إلا العقد والشهود لربط الحقوق بها، وجعلها في حياطة القوة الاجتماعية التشريعية، وإقرارها في موضعها من النظام الإنساني؛ فليس ما يمنع أن يكون العاشقُ من معاني الزوج، أما أن يكون من معنى آخر أو يكون بلا معنى فلا؛ وكل ذلك لصيانة المرأة ما دامت هي وحدها التي تلد، وما دامت لا تلد للبيع. . . .
وفلسفة هذه الطائشة فلسفة امرأة ذكية مطلعةٍ محيطة مفكرة، تبصر بالكتب والعقل والحوادث جميعاً، وقد أصبحت بعد سقطةِ حبها ترى الصواب في شكلين لا شكل واحد؛ فتراه كما هو في نفسه، وكما هو في أغلاطها
وقد أسقطنا في رواية مجلسها ما كان من مطارحات العاشقة، واقتصرنا على ما هو كالإملاء من الأستاذة. . . .
قال صاحب الطائشة: ذكرت لها (قاسم أمين) وقلت: إنها خير تلاميذه. . . . حتى لكأنها تجربه ثلاثين سنة لآرائه في تحرير المرأة. فقالت إنما كان قاسم تلميذَ المرأة الأوربية، وهذه المرأة بأعيننا فما حاجتنا نحن إلى تلميذها القديم؟
قالت: وابلغ من يرد على قاسم اليوم هي أستاذته التي شبت بها أطوار الحياة بعده، فقد أثبت قاسم - غفر الله له - أنه أنحصر في عهدٍ بعينه ولم يتبع الأيام نظره، ولم يستقرئ أطوار المدنية، فلم يقدر أن هذا الزمن المتمدن سيتقدم في رذائله بحكم الطبيعة أسرع وأقوى مما يتقدم في فضائله، وأن العلم لا يستطيع إلا أن يخدم الجهتين بقوة واحدة فأقواهما بالطبيعة وأقواهما بالعلم، وكأن الرجل كان يظن أنه ليس تحت الأرض زلازل ولا تحت الحياة مثلُها
مزق البرقع وقال: (إنه مما يزيد في الفتنة، وإن المرأة لو كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلْقها - على الغالب - ما يرد البصر عنها) فقد زال البرقع، ولكن هل قدر قاسم أن طبيعة المرأة منتصرة دائماً في الميدان الجنسي بالبرقع وبغير البرقع، وأنها تخترع لكل معركةٍ أسلحتها، وأنها إن كشفت برقع الخزّ فستضع في مكانه برقع الأبيض والأحمر. . . .؟
وزعم أن (النقاب والبرقع من أشد أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة، لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول: فلانة،(106/5)
أو بنت فلان، أو زوج فلان كانت تفعل كذا. فهي تأتي كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية البرقع والنقاب) فقد زال البرقع والنقاب، ولكن هل قدر قاسم أن المرأة السافرة ستلجأ إلى حماية أخرى فتجعل ثيابها تعبيراً دقيقاً عن أعضائها، وبدلاً من تلبس جسمها ثوباً يكسوه تلبسه الثوب الذي يكسوه ويزينه ويظهره ويحركه في وقت معاً، حتى ليكاد الثوب يقول للناظر: هذا الموضوع أسمهُ. . وهذا الموضع اسمهُ. . وأنظر هنا وأنظر هاهنا. . ما زادت المدنية على أن فككت المرأة الطيبة ثم ركبتها في هذه الهندسة الفاحشة!
وأراد قاسم أن يعلمنا الحب لنرتبط به الزوج معنا، فلم يزد على جرأنا على الحب الذي فر به الزوج منا، وقد نسى أن المرأة التي تخالط الرجل ليعجبها وتعجبه فيصيرا زوجين - إنما تخالط في هذا الرجل غرائزه قبل إنسانيته، فتكون طبيعية وطبيعتها هي محل المخالطة قبل شخصيهما، أو تحت ستار شخصيهما؛ وهو رجل وهي امرأة، وبينهما مصارعة الدم. . . وكثيراً ما تكون المسكينة هي المذبوحة. وقد أنتينا إلى دهرِ يصنع حبه ومجالس أحبابه في (هوليود) وغيرها من مدن السما، فإن رأي الشاب على الفتاة مظهر العفة والوقار قال: بلادة في الدم، وبلاهة في العقل، وثقل أي ثقل. وأن رأى غير ذلك قال: فجور وطيش واستهتار أي استهتار. فأين تستقر المرأة ولا مكان لها بين الضدين؟
اخطأ قاسم في إغفال عمل الزمن من حسابه، وهاجم الدين بالعرف؛ وكان من أفحش غلطه ظنه العرف مقصوراً على زمنه، وكأنه لم يدر أن الفرق بين الدين وبين العرف هو أن هذا الأخير دائم الاضطراب، فهو دائم التغير، فهو لا يصلح أبدا قاعدةً للفضيلة. وهانحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العرى، وأصبحنا نجد لفيفاً من الأوربيين المتعلمين، رجالهم ونسائهم، إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلاً يلبس في حقويه تبّاناً قصيراً كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء، إذا رأوا هذا المتعفف بخرقه. . . . أنكروا عليه وتساءلوا بينهم. من؛ من هذا الراهب. . . .؟
ونسى قاسم - غفر الله له - أن للثياب أخلاقا تتغير بتغيرها فالتي تفرغ الثوب على أعضائنا إفراغ الهندسة، وتلبس وجهها ألوان التصوير - لا تفعل ذلك إلا وهي قد تغير فهمها للفضائل، فتغيرت بذلك فضائلها، وتحولت من آيات دينية إلى آيات شعرية. وروح المسجد غير روح الحانة، وهذه غير روح المرقص، وهذه غير وروح المخدع، ولكل حالة(106/6)
تلبس المرأة لبساً فتخفي منها وتبدي. وتحريك البيئة لتتقلب، هو بعينه تحريك النفس لتتغير صفاتها، وأين أخلاق الثياب العصرية في امرأة اليوم، من تلك الأخلاق التي كانت لها من الحجاب؟ تبدلت بمشاعر الطاعة والصبر والاستقرار والعناية بالنسل والتفرغ لإسعاد أهلها وذويها - مشاعر أخرى أو لها كراهية الدار والطاعة والنسل، وحسبك من شر هذا أوله وأخفه!
كان قاسم كالمخدوع المغتر بآرائه، وكان مصلحاً فيه روح القاضي، والقاضي بحكم عمله مقلدٌ متبع، أليس عليه أن يسند رأيه دائماً إلى نص لم يكن له فيه شأن ولا عمل؟ من ثم كثرت أغلاط الرجل حتى جعل الفرق بين فساد الجاهلة وفساد المتعلمة أن الأولى (لا تكلف نفسها عناء البحث عن صفات الرجل الذي تريد أن تقدم له أفضل شيء لديها وهو نفسها؛ وعلى خلاف ذلك يكون النساء المتعلماتُ، إذا جرى القدر عليهن بأمر مما لا يحل لهن لم يكن ذلك إلا بعد محبة شديدة يسبقها علم تام بأحوال المحبوب (. . . .) وشمائله وصفاته، فتختاره من بين مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت (!!!!) وهي تحاذر أن تضع ثقتها في شخص لا يكون أهلاً لها، ولا تسلم نفسها إلا بعد مناضلة يختلف زمنها وقوة الدفاع فيها حسب الأمزجة (؟؟؟؟) وهي في كل حال تستتر بظاهر من التعفف (؟؟؟؟). . .)
أليس هذا كلام قاض من القضاة المدنيين المتفلسفين على مذهب (لمبروزو) يقول لإحدى الفاجرتين: أيتها الجاهلة الحمقاء كيف لم تتحاشي ولم تتستري فلا يكون للقانون عليك سبيل؟
وحتى في هذا قد أثبت قاسم أنه لا يعرف الأرنب وأذنيها وإلا فمتى كان في الحب اختيار، ومتى كان الاختيار يقع فيما يجرى به القدر، ومتى كان نظر العاشقة إلى الرجال نظراً سيكولوجياً كنظر المعلمة إلى صبيانها. . . . فتدرس الصفات والشمائل في مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت لتصفيها كلها في واحد تختاره من بينهم؟ هذا مضحك!
إليك خبراً واحداً مما تنشره الصحف في هذه الأيام؛ كفرار بنت فلان باشا خريجة مدرسة كذا مع سائق سيارتها، ففسر لي أنت كلام قاسم، وأفهمني كيف تكون اثنان واثنان خمسة وعشرين؟ وكيف يكون فرار متعلمة أصيلة مع سائق سيارة هو محاذرة وضع الثقة فيمن لا(106/7)
يكون أهلاً لها؟
لقد أغفل قاسم حساب الزمن في هذا أيضاً، فكثير من المنكرات والآثام قد أنحل منها المعنى الديني وثبت في مكانه معنى اجتماعي مقررٌ، فأصبحت المتعلمة لا تتخوف من ذلك على نفسها شيئاً، بل هي تقارفه وتستأثر به دون الجاهلة، وتلبس له (السواريه)، وتقدم فيه للرجال المهذبين مرة ذراعها، ومرة خصرها. . .
أقرأت (شهرزاد)؟ أن فيها سطراً يجعل كتاب قاسم كله ورقاً أبيض مغسولاً فيه شيء يقرأ:
قالت شهرزاد المتعلمة المتفلسفة، البيضاء البضة، الرشيقة الجميلة؛ للعبد الأسود الفظيع الدميم الذي تهواه: (ينبغي أن تكون أسود اللون؛ وضيع الأصل؛ قبيح الصورة، تلك صفاتك الخالدة التي أحبها. . . . . .)
فهذا كلام الطبيعة نفسها لا كلام التأليف والتلفيق والتزوير على الطبيعة
قال صاحب الطائشة:
فقلت لها: فإذا كان قاسم لا يرضيكِ، وكان الرجل مصلحاً دخلته روح القاضي، فخلط رأياً صالحاً وآخر سيئاً، فلعل (مصطفى كمال) همك من رجل في تحرير المرأة تحريراً مزق الحجاب وأل. . .؟
قالت إن مصطفى كمال هذا رجل ثائر، يسوق بين يديه الخطأ والصواب بعصا واحدة، ولا يمكن في طبيعة الثورة إلا هذا، ولا يبرح ثائراً حتى يتم انسلاخ أمته. وله عقل عسكري كان يمكر به مكر الألمان حين أكرههم الحلفاء على تحويل مصانع (كروب) فحولوها تحويلاً يردها بأيسر التغيير إلى صنع المدافع والمهلكات. وليس الرجل مصلحاً ألبتة، بل هو قائد زهاه النصر الذي أتفق له، فخرج من تلك الحرب الصغيرة وعلى شفتيه كلمة: (أريد. . .) وجعل بعد ذلك إذاً غلط غلطة أرادها منتصرة، فيفرضها قانوناً على المساكين الذين يستطيع أن يفرض عليهم وهم اليوم لا يملأون قبضة دولته، فيقهرهم عليها ولا يناظرهم فيها، ويأخذ كيف شاء، ويدعهم كيف أحب؛ وبكلمة واحدة: هو مؤلف الرواية والقانون نفسه أحد الممثلين. . .
وحقده على الدين وأهل الدين هو الدليل على أنه ثائر لا مصلح؛ فإن أخص أخلاق الثورة حقد الثائرين، وهذا الحقد في قوة حرب وحدها، فلا يكون إلا مادة للأفعال الكثيرة(106/8)
المذمومة. والرجل يحتذي أوروبا ويعمل على أعمال الأوربيين في خيرها وشرها، ويجعل رذائلهم من فضائلهم على رغم أنفهم يتبرأون هم منها ويلحقها هو بقومه، فكأنه يعتنف الآراء ويأخذها أخذاً عسكرياً، ليس في الأمر إلا قوله أريد. فيكون ما يريد. هو لم يحكم على شبر من أوروبا يجعله تركيا، ولكنه جعل رذائل أوروبا تتجنس بالجنسية التركية. . .
وتالله إنه لأيسر عليه أن يجئ بملائكة أو شياطين من المردة، ينفخون أرض تركيا فيمطونها مطاً فيجعلونها قارة من أن يكره أوروبا على اعتبار قومه أوربيين بلبس قبعة وهدم مسجد. إنه لا يزال في أول التاريخ، وهذا الشعب الذي أنتصر به لم تلده مبادئه ولا أنشأه هدم المساجد وشنق العلماء، بل هو الذي ولدته تلك الأمهات، وأخرجه أولئك الآباء، وما كان يعوزه إلا القائد الحازم المصمم، فلما ظفر بقائده جاء بالمعجزة؛ فإذا فتن القائد بنفسه وأبى إلا أن يتحول نبياً فهذا شيء آخر له أسم آخر
ولنفرض (الأثير) كما يقول العلماء، لنستطيع أن نجعل مسألتنا هذه علمية، وأن نبحثها بحثاً علمياً، فليكن مصطفى كمال هو اللورد كتشنر في إنجلترا، فيكسب اللورد كتشنر تلك الحرب العظمى لا حرب الدويلة الصغيرة، وينتصر على البراكين من الجيوش لا على مثل براميل النبيذ. . . ثم يستعز الرجل بدالته على قومه ويدخله الغرور، فيتصنع لهم مرة ويتزين لهم مرة، ثم يأتيهم بالآبدة فيسفه دينهم، ويريدهم على تعطيل شعائرهم وهدم كنائسهم لأن هذا هو الإصلاح في رأيه. أفترى الإنجليز حينئذ يضوون إليه ويلتفتون حوله ويقولون: قائدنا في الحرب، ومصلحنا في السلم، وقد انتصرنا به على الناس فسننتصر به على الله، وظفرنا معه بيوم من التاريخ فسنظهر معه بالتاريخ كله. . .؟ أم تحسب كان كتشنر كان يجسر على هذا وهو كتشنر لم يتغير عقله؟
إنه والله ما يتدافع اثنان أن هدم كنيسة واحدة لا يكون إلا هدم كتشنر وتاريخ كتشنر، ولكن العجز ممهد من تلقاء نفسه، والأرض المنخسفة هي التي يستنقع فيها الماء فله فيها أسم ورسم؛ أما الجبل الصخري الأشم، فإذا صب هذا الماء عليه أرسله من كل جوانبه، وأفاضه إلى أسفل. . .!
قال صاحب الطائشة: فأقول لها: إذا كان هذا رأيك للنساء فكيف لا ترين مثل هذا لنفسك؟
فتضعضعت لهذه الكلمة ولجلجت قليلاً ثم قالت: أنت سلبتني الرأي لنفسي، ووضعتني في(106/9)
الحقيقة التي لا تتقيد بقانون الخير والشر
قلت: فإذا كانت كل امرأة تغلط لنفسها في الرأي وتنصح بالرأي الصائب غيرها، فيوشك ألا يبقى في نساء الأرض فضيلة ولا يعود في المدرسة كلها عاقل إلا الكتاب
فتضاحكت وقالت: لهذا يشتد ديننا الإسلامي مع المرأة، فهو يخلق طبائع المقاومة في المرأة، ويخلقها فيما حولها، حتى ليخيل إليها أن السماء عيون تراها، وأن الأرض عقول تحصى عليها. وهل أعجب من أن هذا الدين يقضي قضاء مبرماً أن تكون ثياب المرأة أسلوب دفاع لا أسلوب أغراء، وأن يضعها من النفوس موضعاً يكون فيه حديثها بينها وبين نفسها كالحديث في الراديو له دوي في الدنيا، فيقيم عليها الحجاب وغيرة الرجل وشرف الأهل، ويؤاخذها بروح طبيعتها، فيجعل الهفوة منها كأنها جنين يكبر ولا يزال يكبر حتى يكون عار ماضيها وخزي مستقبلها
هذه كلها حجب مضروبة لا حجابٌ واحد، وهي كلها لخلق طباع المقاومة، ولتيسير المقاومة، ومتى جاء العلم مع هذه لم يكن أبداً إطلاقاً، ولم يكن أبداً إلا الحجاب الأخير كالسور حول القلعة. ولكن قبح الله المدنية وفنها؛ أنها أطلقت المرأة حرة ثم حاطتها بما يجعل حريتها هي الحرية في اختيار أثقل قيودها لا غير. أنت محمل بالذهب، وأنت حر، ولكن بين اللصوص، كأنك في هذا لست حراً إلا في اختيار من يجني عليك. . . .!
لم تعد المرأة العصرية انتصار الأمومة، ولا انتصار الخلق الفاضل، ولا انتصار التعزية في هموم الحياة؛ ولكن انتصار الفن، وانتصار اللهو، وانتصار الخلاعة
قال صاحب الطائشة: فضحكت وقلت: وانتصاري. . . .!
طبق الأصل (طنطا)
مصطفي صادق الرافعي(106/10)
حول المسجد
للأستاذ أحمد أمين
ساقني حسن الحظ إلى الحديث مع سيدة إنجليزية فاضلة، وكان ذهني مستغرقاً في برنامج (الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية) والمتحدثون - عادة - يلونون حديثهم - ولو من غير شعور - بما يشغل أذهانهم ويستغرق أفكارهم - ومهما بعد المتحدث عن الموضوع يستولي عليه فسرعان ما يعود إليه، وينغمس فيه
لقد بدأنا الحديث في الجو وانتقلنا إلى غيره، وإذا بنا نتكلم في (التربية والتعليم وشؤونهما) وإذا بي أسأل السيدة:
- ما برنامج الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية في إنجلترا؟
- ليس لهما في المدارس برنامج معين ولا دروس خاصة، ولكن تلقى فيهما محاضرات في مناسبات، وأهم ما يقوم بهذه المهمة (الكنيسة) فهي تنظم دروساً للشبان والشواب في هذا الموضوع، ويقوم بها رجالها، فيكفوننا بذلك مؤونة الدروس في المدارس؛ وإلقاؤها في الكنائس يجعل لها معنى أجمل، واحتراما أوفر، وطعماً أحلى
أنتقل ذهني في سرعة البرق من الكنيسة عندهم إلى المسجد عندنا، وساءلت نفسي:
ما الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المسجد للأمم الإسلامية؟
إني أفهم أن لمسجد الحي وظيفة هامّة بجانب وظيفته الدينية، هي الإشراف على تجلية الروح وتهذيب النفس بتنظيم المحاضرات في الموضوعات التي تمس العصر، والمشاكل التي تعرض في كل زمن، كما أن من وظيفته الإشراف على حالة الحي الاجتماعية، وما يصاب به بؤس وفقر وانغماس في المخدرات ونحو ذلك؛ ثم تنظيم الإحسان والقيام بالخدمة العامة بين الأغنياء والفقراء، وإسداء النصائح للأسر فيما يعرض لهم من متاعب وصعاب
إني أفهم من مسجد الحي أن يكون كمستشفي الحي، وغير أن المستشفي يداوي الأمراض الجسمية، والمسجد يداوي الأمراض الروحية والاجتماعية
إني أفهم أن يكون إمام المسجد رئيس المستشفي يعرف مرضى الحي، ويعرف علاجهم، ويكون صلة تآلف وتعارف بين أهل الحي، يأخذ من غنيهم لفقيرهم، ومن صحيحهم لمريضهم، ويقضي على المنازعات والخصومات ما استطاع، ويثقف الجهلاء، ويتخذ من(106/11)
المثقفين من أهل الحي أعواناً وأنصاراً، يخطبون ويعظون، ويعلمون ويثقفون - وإذ ذاك يشعر أهل الحي بأن المسجد ضرورة من ضروريات الحياة، يقوم لهم بما تقوم به المدرسة وبما تقوم به المحكمة، وبما تقوم به جمعيات الإحسان، وبما هو فوق هذا وذاك
بل لم لا يكون المسجد معهداً للمرأة كما يجب أن يكون معهداً للرجل، فيخصص مسجد كل حي وقتاً لنساء الحي تعلمّ فيه المرأة واجباتها الدينية والاجتماعية، وتفقه فيه في دينها ودنياها، وترشد فيه إلى طرق إسعاد البيت، وتثار همتها إلى العطف والإحسان وتنظيمهما
فالمرأة الآن محرومة من غذائها الروحي والديني، لأنها بعيدة عن المسجد، حرمت منه من غير حق، وهو سلوتها في الأزمات، وهو منهل عواطفها وغذاء روحها - لقد حرمت المرأة من المسجد، فحرم أبناؤها وبناتها من العاطفة الدينية، لأن الأم - غالباً - هي مصدر هذا الإيحاء، وإذا انحرفت مرة فلم تجد المسجد يهديها ويعزيها، جمحت وغوت؛ فهي الآن بين بيت وملهى ولا مسجد بينهما يذهب ملل البيت ويكسر من حدة الملاهي
هذا هو المسجد كما أتصوره، وكما ينبغي أن يكون - قوي الأثر في النواحي الروحية والاجتماعية والتعليمية، في الرجل والمرأة، قلوب الحي معلقة به، يغارون عليه، ويعملون على ترقيته من حيث نظامه ونظافته وإمامه وخطباؤه، ويرون أنه لهم وهم له، وأن منارته ينبعث منها الإصلاح في جميع نواحيه؛ متعلمو الحي جنوده في نشر الثقافة، وأغنياؤه جنوده في محاربة الفقر، ونساؤه دعاة أبنائهم وبناتهم إليه
هذا هو الوضع الصحيح للمسجد، فأين مسجدنا منا، وأين نحن من المسجد؟
لقد أعتزل الناس واعتزله الناسُ، ولم يشعر شعوراً قوياً بوجودهم، ولم يشعروا شعوراً قوياً بوجوده
نظرت دار الآثار إلى بنائه فعدته (آثاراً) ونظر الناس إلى نظامه فعدوه كذلك (آثاراً) فليس يؤمه - مع الأسف - إلا الطبقة الفقيرة البائسة، أو الموظف الذي أحيل إلى المعاش، أو من تقدمت به السن من عامة الناس. أما الشباب المثقفون ومن أنعم الله عليهم بشيء من رغد العيش فلا يفكرون في المسجد ولا تحدثهم أنفسهم بزيارته، وإن دخلوا لا يعرفوا كيف تؤدى شعائره إلا القليل النادر، كأن السينما والمساجد أقتسما الناس، فخص المسجد بالشيوخ والعجائز والفقراء، وخص السينما بالفتيان والفتيات والأغنياء، وهي حال لا تشعر بأمل،(106/12)
ولا تبشر بخير
ووزارة الأوقاف كذلك عدت المساجد (آثاراً)، فهي تسير في تعيين أئمتها وخطبائها وفي مراقبتها سير القرون الخالية كأن الزمن لا يسير
والأئمة والخطباء يعاملون معاملة (الآثار) فهم يقرأون غالباً الخطب التي ألفت في القرون الماضية، فلا نفساً ولا تحيي همه - كل ما فيها (أتقو الله) إجمالا من غير تفصيل. أما ما يحدث بيننا من أحداث، وأما ما نشعر به من مصائب وما ينتابنا من كوارث، فلا دخل لهم فيه، لأن دواوين القدماء لم تنص عليه
ورحبت السياسة بهذا النظر الأثري إلى المساجد فاطمأنت إليه لأنه يخدمها، وإلا فما بالنا نرى المسجد بعيداً عن الناس هذا البعد، هل لو أراد الخطباء غير الإمام أن يخطبوا في المسجد في إصلاح الحالة الاجتماعية أجيب طلبهم؟ وهل لو نظمت محاضرات ثقافية في المسجد للشباب مرة والشواب مرة في الأخلاق والتربية الوطنية تسمح وزارة الأوقاف بذلك؟ أكبر الظن أن لا
الحق أن للناس بعض العذر في الانصراف عن المساجد، فلو عرف الخطباء كيف يكلمون الناس وعرف رجال الدين كيف يصلون إلى قلوبهم، وشعر الناس أنهم يجدون في المسجد متعة روحية وغذاء دينياً واجتماعياً، لتغير الحال وازدحم المسجد بالناس من جميع الطبقات
وقد كان المسجد في الإسلام يقوم بهذه النواحي التي ذكرنا، فالخلفاء ونوابهم كانوا يخطبون في المشاكل الحاضرة - وكانوا يخطبون كلما حز بهم أمر أو عرض لهم مهمّ، وكان المسجد مدرسة للعلماء والمتعلمين والشعراء والمتأدبين، وكان المسجد مكتبة للواردين والمترددين، وكان المسجد مجمع الناس في الأعياد والمواسم، وكان المسجد مكتب الصغار ومدرسة الكبار، ولو سار في طريقة وتأقلم مع الزمن لكان يؤدي كل الخدم الاجتماعية التي أشرنا إليها من قبل ولكن (خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب)
هل للأزهر ووزارة أن يتعاونا على إصلاح المسجد ويضعا البرامج له على أنه مرفق اجتماعي كما هو مركز ديني؟؟. . إن إصلاحه على هذا الوضع تقوية للدين، وإصلاح للناس؟(106/13)
في القطار إلى (رأس البر)
أحمد أمين(106/14)
بين الأسطورة والتاريخ
هل أحرق فاتح الأندلس سفنه؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتخذ شخصية طارق بن زياد فاتح الأندلس مكانها بين عظماء الفاتحين، لا في التاريخ الإسلامي وحده، ولكن في تاريخ الأمم القديمة كلها؛ وتعتبر موقعة شذونه أو (مدينا سدونيا) من أعظم الوقائع الحاسمة في تاريخ الإنسانية، ففيها افتتح العرب أسبانيا وغنموا ملك القوط، وشادوا صرح تلك الدولة الأندلسية الزاهرة التي لبثت قروناً تبهر أمم الغرب بقوتها وفخامتها وراع حضارتها وفنونها. بيد أنه من الغريب أن شخصية الفاتح العظيم - طارق - بينما تبدو في بعض نواحيها وضاءة مشرقة، إذا بها تبدو في البعض الآخر خفية يكتنفها الغموض؛ فالرواية الإسلامية تختلف حول نشأة طارق وحول نسبته وجنسيته، وتكاد تسدل على مصيره بعد الفتح ستاراً من الصمت والنسيان
ولسنا نعرض في هذا البحث لشخصية طارق أو تاريخه أو اختلاف الرواية في شأنه، ولكنا نعرض لواقعة ترتبط باسمه، وقد يغلب عليها لون الأسطورة، وإن كانت مع ذلك تعرض علينا في لون التاريخ الحق، تلك هي واقعة إحراق السفن التي نقل عليها طارق جيشه من الشاطئ الأفريقي إلى شاطئ الأندلس. ونحن نعرف أن فتح الأندلس قد تم بدعوة من الكونت يوليان القوطي حاكم سبتة والمضيق لخصومة سياسية وشخصية بينه وبين رودريك (لذريق) ملك القوط، وأنه عاون العرب بخدماته ونصحه، وأنه هو الذي قدم السفن التي عبر العرب عليها إلى الأندلس في بعثتهم الاستكشافية الأولى بقادة طريف بن مالك (رمضان سنة 91) ثم في حملتهم الغازية بقيادة طارق بن زياد (رجب سنة 92 - أبريل 711م). وهنا تذكر الرواية أن طارقاً ما كاد يعبر بجيشه إلى أسبانيا حتى أمر بإحراق السفن التي عبر عليها جيشه وذلك لكي يدفع جنده إلى الاستبسال أوالموت أو الظفر، ويقطع عليهم كل فكرة في التخاذل أو الارتداد. فما بلغ هذه الرواية من الصحة؟ إن جميع الروايات الإسلامية التي تحدثنا عن فتح الأندلس لا تذكر شيئاً عن هذه الواقعة، ولا تذكرها سوى بعض الروايات النصرانية المعاصرة أو المتأخرة؛ ولا تذكرها الرواية الإسلامية إلا في موطن واحدة، فقد ذكر الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الشهير (نزهة المشتاق)(106/15)
عند الكلام على جغرافية الأندلس أن طارقاً أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس؛ وقد نقلت الروايات النصرانية المتأخرة هذه الرواية عن الإدريسي فيما يرجح؛ وفيما عدا ذلك فان جميع الروايات الإسلامية تمر عليها بالصمت المطبق
وهنالك وجه آخر لتأييد هذه الرواية هو الخطاب الذي يقال إن طارقاً ألقاه في جنده قبيل نشوب الموقعة الحاسمة بينه وبين القوط؛ ونحن نعرف هذا الخطاب الشهير الذي مازال يحفظه الطلاب كنموذج من إبداع نماذج البلاغة العربية؛ فقد أستهله طارق بقوله: (أيها الناس؛ أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم؛ وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. . .) وفي ذلك ما يمكن أن يحمل على أن الجيش الفاتح قد جرد من وسائل الارتداد والرجعة إلى الشاطئ الأفريقي، أو بعبارة أخرى قد جرد من السفن التي حملته في عرض البحر إلى أسبانيا؛ ولكنا نلاحظ من جهة أخرى أن هذا الخطاب الحربي الشهير الذي تنسبه الرواية الإسلامية المتأخرة إلى طارق، لم يرد في روايات المؤرخين المتقدمين؛ فمثلاً لم يذكره ابن عبد الحكم والبلاذري وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ وذكره ابن قتيبة، ولم يشر إليه ابن الأثير وابن خلدون، ونقله المقري عن مؤرخ لم يذكر أسمه، وهو على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين؛ وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نتخذه دليلاً مادياً على واقعة إحراق السفن؛ ولو صح أن طارقاً قد ألقى مثل هذا الخطاب فعلاً - وهو ما نراه موضع الشك - فانه يمكن تفسيره بأن السفن التي عبر عليها طارق وجيشه كانت ملكاً للكونت يوليان القوطي، ولم تكن سوى أربع، وقد عبر الجيش الإسلامي عليها تباعاً في مرات عدة، فمن المعقول إذا أن يعتبر طارق أنه في حالة الهزيمة لم تكن لديه وسيلة سريعة للارتداد وعبور البحر إلى إفريقية
على أنا نستطيع مع ذلك أن نأخذ برواية الشريف الإدريسي؛ وإذا كان احتراق السفن على هذا النحو لقطع الرجعة والارتداد على جيش فاتح عمل بطولة رائع، فانه لما يتفق مع بطولة فاتح الأندلس، وليس موقف قيصر في غالباً أو موقف بونابارت في إيطاليا فيما بعد بأدعى للإعجاب من موقف طارق في سهل شريش (مكان اللقاء الحاسم)
والظاهر أن إقدام الغزاة على إحراق السفن على هذا النحو الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس نوع من أساطير البطولة الخارقة التي ترجع إلى أقدم عصور التاريخ؛ ففي كثير(106/16)
من مواطن التاريخ القديم الممزوج بخوارق الأسطورة تعرض مثل هذه الواقعة للتنويه بعمل بطولة خارق. على أننا لا نعدم أيضاً في التاريخ الحق أمثلة واقعة منها. ففي التاريخ الروماني مثل رائع لهذا الحدث هو مثل الإمبراطور يوليان في حملته الفارسية. وكان يوليان مذ جلس على عرش قسطنطينية، يتوق إلى غزو فارس وتحطيم تلك الدولة الشامخة التي مازالت منذ الحقب تناهض دولة القياصرة، وكان مثل الاسكندر المقدنوي يحفزه ويذكي عزمه؛ ففي سنة 363م، سار يوليان من إنطاكية حيث كان ينظم أهبته في جيش ضخم، واخترق صحراء الشام من جهة الشمال، ثم سار جنوباً بحذاء الفرات، وسار في نفس في الوقت الفرات أسطول روماني ضخم يحمل أقوات الجيش؛ ثم عبر يوليان نهر الفرات، واجتاح بلاد الآشوريين، واشرف على نهر دجلة حيث كان الفرس في انتظاره في الضفة الأخرى؛ وحمل الرومان سفنهم المشحونة بالمؤن والذخيرة من الفرات إلى الدجلة بعد جهود ومشاق هائلة؛ واعتزم الإمبراطور أن يعبر الدجلة بجيشه ليقابل سابور ملك الفرس في قلب مملكته كما فعل الاسكندر من قبل حيث هاجم الفرس في عقر أرضهم؛ وهنا أعتزم الإمبراطور فجأة أن ينفذ فكرة جريئة جالت بخاطره وهي أن يحرق أسطوله الراسي في دجلة؛ وفي الحال نفذت الفكرة واحرق الأسطول الروماني الضخم ولم تنقذ منه سوى سفن قلائل استبقيت لاجتياز الأنهر، ولم يتزود الجيش الإمبراطوري إلا بمؤونة عشرين يوماً؛ وكان يوليان يرمي بذلك الأجراء إلى غاية حربية حكيمة هي ألا يمكن القوات الفارسية المحصورة في مدينة اكتسيفون قاعدة الجزيرة من انتهاز فرصة توغله في الداخل ومهاجمة أسطوله والاستيلاء عليه وعلى المؤن التي يحملها غنيمة باردة. وقد حكم التاريخ على يوليان ولم يحكم له، ذلك لأنه لم يكن موفقاً في غزوته، وقد لقي جزاء في نكبة جيشه أمام الفرس وفي مصرعه متأثراً بجراحه؛ وارتد الجيش الروماني مهزوماً ممزقاً ونجت فارس بحريتها واستقلالها مدى ثلاثة قرون أخرى حتى كان الفتح العربي
وفي التاريخ الحديث مثل واقعي رائع أعدمت فيه سفن الجيش الفاتح، هو مثل هرناندو كورتيز فاتح المكسيك؛ ومن غرائب القدر أن يكون أروع نموذج لهذا الضرب من البطولة أسباني يذكرنا بطارق فاتح أسبانيا وما ينسب إليه في هذا الصدد. ومن المرجح جداً أن يكون فاتح المكسيك قد تأثر بالمثل الرائع الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس؛ وقد كان(106/17)
طارق وكورتيز في الواقع كلاهما أمام ظروف متماثلة: مغامرة مجهولة الظروف والعواقب، ومحاولة جريئة لافتتاح أرض جديدة وعالم جديد، وجيش قليل العدد ليواجه جيوشاً زاخرة لا يعلم نوعها ولا مدى قوتها. بيد أن مغامرة كورتيز وقعت في ظروف أكثر دقة وخطورة؛ فقد كانت أسبانيا من أمم العالم القديم ولم تكن مجهولة تماماً من العرب وكان بها شعب قديم يتمتع بحضارة لا بأس بها؛ ولكن كورتيز كان أمام عالم مجهول تكتنفه الظلمات من كل ناحية، ولم يكن يعرف ما هي الأرض، وما هي الأمم التي يزمع اقتحامها بجنده القليل
وصل كورتيز في أسطوله المتواضع إلى مياه المكسيك في سنة 1519 لغزو إمبراطورية (الازتكيين) الهندية، ولم يكن يعرف الأسبان يومئذ عنها شيئاً إلا أنها إمبراطورية ضخمة غنية تفيض بالنعم والذهب والوهاج؛ وما كاد كورتيز وجنده يضعون أقدامهم في الأرض الجديدة، حتى فكر الفاتح الجريء في إعدام سفنه؛ وأعدمت في الحال بغراقها؛ وكان كورتيز يرمى بهذا الإجراء إلى غاية ظاهرة هي ألا يدع إلى قلوب جنده سبيلاً إلى الخور أو أملا في الارتداد. إما الظفر أو الموت: هكذا كان شعار كورتيز، وهكذا كان عزمه وخطته، وكان عملاً جريئاً، ولكن ضرورياً، حتى لا يجد الناقمون أي وسيلة لمغادرة إخوانهم، وحتى يرتمي الجميع في أحضان الموت لا يلتمسون به بديلاً سوى الظفر. ولا ريب أن عمل كورتيز عمل بطرق خارقة، وربما كان أعظم عمل من نوعه في التاريخ، لأن الفاتح الأسباني تقدم في جرأة مدهشة لافتتاح الإمبراطورية الهندية العظيمة بجيش لا يعدو عدة مئات، ولم يحجم مع ذلك عن إعدام أسطوله، وهو وسيلته الوحيدة للنجاة في حالة الهزيمة والفشل؛ وكان ظفره بافتتاح ذلك العالم الجديد عظيماً مدهشاً
ومثل هذه الحوادث تبدو في التاريخ كالأسطورة وقد تمتزج أحيانا بالأساطير؛ وكلما بعدت في ثنايا التاريخ كلما كان امتزاجها بالأسطورة أشد وأقوى. بيد أننا هنا أمام أمثلة واقعة. وفي التاريخ حوادث من نوع مماثل في شذوذه وروعته مازالت في عصرنا تبدو كالأعاجيب الخارقة، فمثلاً يذكر التاريخ أن محمداً الثاني سلطان الترك العثمانيين وفاتح قسطنطينية، حينما حاصر قسطنطينية من البر والبحر، ولم يستطع أسطوله أن يقتحم خليج القرن الذهبي الذي تقع عليه المدينة من البحر، اعتزم في الحال أن ينقل أسطوله إلى البر،(106/18)
مما يلي مؤخرة القرن الذهبي، ونفذ مشروعه الخارق بالفعل ونقل أسطوله الضخم على طريق من الخشب المطلي بالدهن والشحم، ثم دفعه إلى داخل القرن الذهبي؛ وبذلك تم تطويق المدينة، ولم تلبث أن سقطت في أيدي الغزاة (1453م). بيد أن هذه الحوادث والأعمال الخارقة لا تبدو في روعتها الحقيقية إلا إذا اصطبغت بألوان العصر الذي وقعت فيه، وقد ينتقص من قدرها إذا قدرت بمعيار عصرنا، وتفهمها بروح العصر الذي وقعت فيه هو وحده الذي يسبغ عليها هذا اللون القوى من البطولة الخارقة، وهذا السحر الذي تبثه إلينا أعمال تشبه الأساطير في روعتها
محمد عبد الله عنان(106/19)
التشجيع. . . .
للأستاذ علي الطنطاوي
سيدي. . . . . صاحب الرسالة، أنت لا تحب الثناء، ولكن القراء يحبون الحقيقة، فأرجو أن تنشر لهم هذا الفصل (على)
قرأت ما كتب عنى وعن كتابي (أبو بكر الصديق) أستاذنا أديب العربية الأستاذ الزيات، فقرأت فيه صفحة من كرم السجايا، ونبل الأخلاق، والتشجيع الذي يتفضل به الكبير على الصغير، فيسدد به خطواته، ويأخذ بيده، ويصب من قوته في أعصابه، حتى يقوى ويشتد ويتقدم، فأحببت أن أعلق على هذا التقريظ بكلمة في التشجيع وماله من الأثر في العلوم والآداب، وأن أفي للحق والواجب، بأن أسجل للأستاذ وللرسالة، ماله علينا من منة، وما للرسالة علينا من يد؛ وأنا وأصحابي هنا مدينون للرسالة، بما نجد من قوة، وما نحس من نشاط، ما كنا لولا (الرسالة) نحس منه شيئاً؛ وما رأينا قبل الرسالة مجلة أدبية راقية، فتحت أبوابها لأدباء العربية جميعاً، لا تفرق بين أبناء قطر وقطر، وبلد وبلد، ولا تزن الأدباء بالشهرة الواسعة، ولكن بالإنتاج القيم، فكانت بذلك الرسالة ديوان العرب المشترك، وسجل الأدب الحديث، وجعلت من قرائها - وقراؤها كل الناطقين بالضاد - أسرة واحدة، تجمعها وحدة المبدأ، ووحدة الغاية. وهل أجمل في إثبات هذه الوحدة، من رجل يكتب مقالة عن الأوزاعي من فلسطين، فيعقب عليه آخر من الشام، ويجيبه ثالث من مصر، ويعلق عليها رابع من سنغافورة ثم يكتب في الموضوع خامس من دمشق؟. . . . كأن الرسالة قد محت بسحرها ما بين سنغافورة والشام من صحارى وبحار، وجبال وأنهار فغدت هذه من تلك، كالمقعد من المقعد في الصف الواحد، يخرج رأي من هنا، ورأي من هنا، ويسمع الأستاذ وهو على منبره الرأيين ليقول القول الفصل، وينطق بالكلمة الحاسمة
وما الأستاذ إلا الزيات وما المنبر إلا الرسالة!
أشكر للأستاذ هذه السنة التي يتبعها في تشجيع صغار الأدباء، والأخذ بأيديهم، لأن التشجيع مذ كان أصل التقدم، وسبب النجاح؛ وقد قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع! وقالت: أنها في تلك السنّ، بعد تلك(106/20)
الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضى إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير
وإن من أظهر الأسباب في ركود الأدب في الشام في القرن الماضي، وانقطاع سبيل التأليف، هو فقدان التشجيع، وذلك (الاحتكار العلمي) الذي قتل كثيراً من النفوس المستعدة للعلم، وخنق كثيراً من العبقريات المتهيئة للظهور، فقد كان العلم في الشام مقصوراً يومئذ على بيوت معروفة، لا يتعداها ولا يجوز أن يتعداها، هي: بيت العطار، والحمزاوي، والغزي، والطنطاوي، والشطي، والخاني، والكزبري، والاسطواني، والحلبي. . . وكانت كلها متجمعة حول المدرسة البادرائية؛ في القميرية والعمارة، وزقاق النقيب، حيث يسكن الأمير العالم المجاهد عبد القادر الجزائري رحمه الله عليه وعليهم؛ وكان لهذه البيوت كل معاني الامتياز و (الاحتكار العلمي)، فإذا سمع أن شاباً أشتغل بالعلم من غير هذه البيوت، وقدروا فيه النبوغ، وخافوا أن يزاحمهم على وظائفهم الموروثة، بذلوا الجهد في صرفه عن العلم، والعدول به إلى التجارة؛ أو ليست الوظائف العلمية وقفاً على هذه البيوت؟ أو ليس للولد ولاية العهد في وظيفة أبيه، تنحدر إليه الإمامة أو الخطابة أو التدريس عالماً كان أو جاهلاً، فكيف إذن يزاحمهم عليها أبناء التجار، وهم لا يزاحمون أبناء التجار على (حوانيتهم)؟ أولا يكفي أبناء التجار هذا القسط الضئيل من النحو والصرف والفقه والمنطق الذي يمن به عليهم هؤلاء العلماء؟. . .
حتى إنه لما نشأ محمد أمين (ابن عابدين) وأنسوا منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد، والعقل الراجح، خافوا منه فذهبوا يقنعون أباه - وكان أبوه امرأً تاجراً - ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به طريق العلم، وجعلوا يكلمونه، ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد فكان من هذا الولد المبارك، ابن عابدين صاحب (الحاشية)، أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي
بل لقد أرادوا أن يصرفوا أستاذناً العلامة محمد بك كرد علي عن العلم، فبعثوا إليه بشقيقين من آلـ. . . بشقيقين قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنهما قطعاً عن العلم أكثر من أربعين طالباً - فمازالا بأبيه - ولم يكن أبوه من أهل العلم - ينصحانه أن يقطعه عن(106/21)
العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة. . . ويلحان عليه ويلازمانه، حتى ضجر فصرفهما فكان من ولده هذا، الأستاذ كرد على أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ووزير معارف سورية ومفخرتها، والذي من مصنفاته: خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية. . . والمقتبس. . . ومن مصنفاته: (المجمع العلمي العربي بدمشق)، ومن مصنفاته هؤلاء: (الشعراء والكتاب من الشباب)!
ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الاحتكار والتثبيط كابن عابدين أو ككرد علي. وهاهو ذا العلامة المرحوم الشيخ سليم البخاري مات وما له مصنفٌ رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنبه، وقال له:
أيها المغرور! ابلغ من قدرك أن تصنف، وأنت. . وأنت. . ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفأة. . فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها!
وقد وقع لي أنى كنت في المدرسة وكنت أحاول أن أنظم الشعر، فآخذ أبيات قديمة فأغير قوافيها، وأبدل كلماتها، وأدعيها لنفسي، كما يفعل اليوم بعض الأدباء (الترجمة) حين يترجمون الكلمة الإنكليزية أو الفرنسية حتى إذا بلغوا التوقيع ترجموه هو أيضاً، فكانت ترجمة أسم المؤلف أو الكاتب اسم الترجمان أو (السارق)! وكان الكتاب أو الفصل المترجم من وضع أديبنا البارع. . .
كنت أنظم أبياتاً من الشعر أو اسراقها، كما ينظم كل مبتدئ ويسرق، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع، عرضته على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركياً يسمى إسماعيل حقي أفندى، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر منى وسبني وتهكم علي، وجاء من بعد أخي أنور العطار - فنظم كما كنت أنظم حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع، عرضه على الأستاذ كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية!
فكانت النتيجة أنى عجزت عن الشعر، حتى لنقل البحر بفمي أهون علي من نظم خمسة أبيات، وأن أخي أنور العطار غدا شاعر الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب!(106/22)
وأول من سنّ سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة المرحوم مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، الفيلسوف المؤرخ الجدلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كرد علي بك، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب. . . . ومما كتب في ذم التثبيط:
(. . . وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل. . .
وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم نرَ أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبييرة، أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم)
وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، ولا يثني أحداً عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة ايام، فلا تقل له إن هذا غير ممكن. فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته
ثم أن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء! وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبة.
نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك عامياً، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به، لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدّ ذلك من عزمه، فاشترى الكتب يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء.(106/23)
وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشرّ، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في (القيمرية) وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخا للمفتي، فردّ عليه السلام، وقال له ساخراً:
- إلى أين يا شيخ! أذهب أنت إلى (اسطبول) لتأتي بولاية الإفتاء؟ وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال:
- أن شاء الله!
وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر!
ومازال يفارق بلداً، ويستقبل بلداً، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجنة الكبرى بعدُ. . . فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً. . .
واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم:
- إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟
قال: نعم
قال: سر معي إلى المشيخة
قال: باسم الله
ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضى، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من منطقته هذه(106/24)
الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقط فقطها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب. فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها، كاد يقضى دهشة وسروراً
- وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟
- قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت. . .
- قال: علي به
فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وان عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره، منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه. . . . إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئاً
ودخل على شيخ الإسلام، فقال له:
- السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه. وعجب الحاضرون من عمله ولكن شيخ الإسلام سرّ بهذه التحية الإسلامية وأقبل عليه يسأله حتى قال له:
- سلني حاجتك
- قال: إفتاء الشام وتدريس القبة
- قال: هما لك. فاغدَ علي غداً!
فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه فرمان التولية وكيساً فيه ألف دينار
وعاد الشيخ إلى دمشق فركب اتانه ودار حتى مرّ بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخر وقال:
- من أين يا شيخ؟
- فقال الشيخ: من هنا، من اسطنبول. أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني
ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، فركع له وسجد وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة
ومن هذا الباب قصة الشيخ علي كزبر، وقد كان خياطاً في سوق المسكية على باب الجامع(106/25)
الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة فقرأ ودأب على المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمدا وهو لا يفارق دكانه ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم
فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرس الجديد، فافتقدوا المعيد فلم يجدوه. ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به، فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أعجب به الحاضرون وطربوا له. فعين مدرساً ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم
على أن للتشجيع عيباً واحداً هو الغرور، فأنا أعوذ بالله أن أغتر فأصدق أني أهل لكل ما تفضل به علي الأستاذ من النعوت، وأرجو أن أوفق إلى الجد والتقدم بتشجيع الأستاذ وفضله، وأشكر للأستاذ الزيات باسمي وأسم أخواني هنا، أياديه علينا وعلى الأدب العربي، الذي سمت وتسمو به (الرسالة)!
علي الطنطاوي(106/26)
4 - النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
الحروف اللاتينية
أنتشر الإسلام بين الأمم فدخل الناس في الاخوة الإسلامية وصاروا أمة واحدة، واتخذوا اللغة العربية لسان الدين والعلم، لا يكتبون غيرها
ولما حيت لغاتهم على مرّ الزمان بجانب العربية كتبوها بالخط العربي الذي ألفوه، وترك من كان ذا كتاب منهم كتابته الأولى. ولم يخسروا في هذا شيئاً إذ كانت الكتابة العربية على علاتها أوضح وايسر مما كان عندهم
- 1 -
كان الفرس يكتبون بالخط الفهلوي، وهو مشتق من الخط الآرامي القديم، والخط الفهلوي مبهم مشكل. قال الأستاذ براون إنه يصدق فيه ما قاله أحد الفرنسيين عن الخطابة إنها فن إخفاء الأفكار، يعني أنه خط يخفي الألفاظ. ذلك بما تشابهت حروفه، وبما اشتركت الأصوات المختلفة في بعض الحروف. وقد أدى هذا اللبس إلى ما لم يعهده التاريخ في لغة أخرى. كان الكتاب يكتبون كلمة آرامية مكان كلمة فارسية خوفاً من اللبس، فإذا قرأوا نطقوا بالكلمة الفارسية غير المكتوبة، وتركوا الآرامية المكتوبة. روي عن ابن المقفع أنه قال: إن في اللغة الفهلوية ألف كلمة تقرأ ولا تكتب. ورى ابن النديم في الفهرست من أمثلة هذا أنهم كانوا يكتبون كلمة (بسرا) الآرامية ويقرءون كوشت (لحم) بالفارسية، ويكتبون (لهما) الآرامية ويقرأون نان (خبز) بالفارسية
ولم تكن الألفاظ الآرامية مقصورة على ما يستعار من لغة إلى أخرى من الأسماء، بل كان فيها أفعال وضمائر وإشارات. وكانوا يلحقون بالكلمات الآرامية خواتم فارسية الخ، ومن أجل صعوبة الخط الفهلوي ندر القارئون في ذلك العهد
فكان خيراً للفرس أن كتبوا لغتهم بالحروف العربية لهذا، وللأخوة العامة التي أدخلهم الإسلام بها حين مدّ ظله على الأمم وأراد أن يمحو الفروق بين بنى آدم
- 2 -(106/27)
وأما الترك فكان أكثرهم قبائل أمية لا تعرف قراءة ولا كتابة، وتسربت إلى طوائف منهم كتابات الأمم المجاورة. كتبت بعض الأسماء والألقاب التركية بالهيروغليفية الصينية في القرنين السابع والثامن بعد الميلاد. ولما أريد تنصير الترك النازلين على بحر الخزر في القرن السادس ترجم لهم الكتاب المقدس، وكتب بالحروف اليونانية. وكذلك كتبت التركية بالحروف اليونانية في جهات الطونة، وكذلك كتبت التركية بالعبرية، والنسطورية، والهندية، والسلافية، والأرمنية الخ الخ
وقد أثر عن جماعات من الترك ضربان من الكتابة يمكن أن يعدا كتابة تركية. وهما الخط الأورخوني الذي دلت عليه الآثار التي عثر عليها حوالي نهر أورخون في سيبريا، والخط الأويغوري. والأول كتبت به تركيا الشمال، وبالثاني كتبت تركية الجنوب
فأما الخط الأورخوني فيرى أكثر العلماء أنه مشتق من الخط الآرامي القديم. وقد كتب به فئات من الترك من القرن الرابع الميلادي إلى القرن الثامن. وهو مؤلف من ثمانية وثلاثين حرفاً، أربعة منها حروف حركة، وثلاثة منها مركبة. ويوصل به غالباً كلمتان أو ثلاث معاً. وأحيانا يستغني بالحرف من الكلمة فتكتب (ت) للدلالة على آت (فرَس) و (ز) للدلالة على آز (قليل) وهكذا. ولا ريب أن هذا الخط لا يقاس بالخط العربي وضوحاً ويسراً وكمالاً
وأما الخط الأويغوري وهو أحدث الخطين، وأطولهما عهداً، وأوسعهما انتشارا، فيظن أنه حل محل الخط الأول منذ القرن الثامن الميلادي. كتبت به أول الأمر ترجمة الكتب البوذية، وبقى بين الأويغوريين وغيرهم من الترك، بعد أن دخلوا في الإسلام فكتبت به الدولة الخاقانية في كشغر (320 - 609هـ) والدولة الجنكيزية، والايلخانية (654 - 744) ودولة آلتون أوردو في قفجاق (621 - 907). وكتبت به بعض الكتب الإسلامية حتى القرن العاشر الهجري. وهذا الخط مشتق من الخط الصْغدي والصغْدي مأخوذ من الآرامية أيضاً، وهو أربعة عشر حرفاً يدل بعضها على أصوات مختلفة. وهو من اللبس والعسر بحيث لا يقاس بالخط العربي أيضاً
فكان من نعم الإسلام أن بدل بهذين الخطين الخط العربي الذي صار خط الأمم الإسلامية جمعاء. ثم الآثار القليلة التي أثرت في الخطين الأورخوني والأويغوري في بقاع ضيقة،(106/28)
وموضوعات تافهة لا تقاس بما كتب باللغة التركية والحروف العربية في العهد الإسلامي إذ أفاد الترك من الحضارة الإسلامية، ودخلوا في جماعة المسلمين، وتمكن سلطانهم بينهم
- 3 -
والتركية العثمانية التي اختيرت لها الحروف اللاتينية أخيراً لم تعرف في تاريخها غير الحروف العربية، ولم تدوّن إلا في ظل الحضارة الإسلامية بعد سبعة قرون من الهجرة
دخل السلاجقة في الإسلام ثم أقاموا دولتهم في القرن الرابع وفتحوا بغداد سنة 447، وامتد سلطانهم على آسيا الغربية من أفغانستان إلى البحر المتوسط. ثم تقسم الخلف ميراث السلف فكان من الدول السلجوقية المتعددة دولة سلاجقة الروم وهي التي نشأت في الأناطول وما يصاقبه
وكان الأدب الفارسي في القرن الخامس قد أزدهر بجانب الأدب العربي، فأخذ السلاجقة حضارة الإسلام باللغتين العربية والفارسية. فكانت العربية لغة العلم عند سلاجقة الروم والفارسية لغة الدواوين. وكان الأدب التركي مقصوراً على العامة، غير مدوّن
ولما نشأت إمارة قرمان بعد منتصف القرن السابع صارت التركية أول مرة لغة الدواوين وكتبت بالحروف العربية
وقد اشتملت هذه التركية المكتوبة على كثير من الكلمات العربية والفارسية
- 4 -
وكانت الكتابة التركية في عهدها الأول تقارب الأسلوب العربي لا تكتب فيها حروف الحركة إلا قليلاً. ثم أثبتت حروف العلة والهاء للدلالة على الحركات دون تعميم. ثم انتهى الأمر في العصر الأخير إلى أن كتبت حروف الحركة في كل كلمة فصارت الكتابة التركية كالكتابة اللاتينية: كل حرف صحيح يليه حرف معتل للدلالة على الحركة
فإذا قرأنا مثلاً في ديوان سلطان ولد ابن مولانا جلال الدين الرومي وهو أول ناظم بالتركية العثمانية نجد رسم الكلمات الآتية على هذا النسق: أل (هذا) كُررُ (يرى) بقمز (لا ينظر) كنش (الشمس) ألرُ (يكون) أيقدا (في النوم) أجَر (يطير)، فإذا قرأنا في كتب المتأخرين وجدنا الرسم قد تغير على هذا النسق: أول، كورووو، باقماز، كونش، أولور، أويقوده،(106/29)
أوجار
وإذا قرأنا في الكتب التي كتبت قبل ثلاثين سنة لا نجد حروف الحركة مثبتة في كل مقطع. فإذا نظرنا في الكتب التي كتبت من بعد وجدنا اطرد حروف الحركات في مقاطع الكلمة. كانت الكلمات الآتية ترسم كما ترى:
تميز (نظيف) آرقداش (أخ) كنيش (واسع) دها (أيضاً) كبى (مثل) قدر (مقدار) دكل (ليس) درين (عميق) كوزل (ظريف)
فصارت بعد كما يأتي:
ته ميز (الهاء علامة الفتحة الخفيفة) أرقاداش، كهنيش داها، كيبى، قادار، ده كيل، ده رين، كوزه ل
وكان يسع الكماليين أن يسيروا على هذه السيرة واصلين حديثهم بقديمهم مبقين على ما دوّن أسلافهم، ولكنهم آثروا، إنفاذا لخطتهم، أن ينبذوا الحروف العربية، وهي الحروف التي يكتب بها مسلمو العالم كافة، ولفقوا هجاء من الألمانية والفرنسية والإيطالية فبلغوا الكمال المطلوب ولحقوا بالسادة الأوروبيين. ولست أقول ما قاله أحد كبراء الفرس لأديب تركي يناظره في الحروف اللاتينية: (إنكم معشر الترك ليس لكم من آدابكم ما تفخرون به فآثرتم أن تسدلوا عليها ستراً من الحروف اللاتينية ولكن لنا من آدابنا ما نفخر به ونحرص على قراءته في كل جيل فلسنا نريد أن نغير كتابتنا). لست أقول هذا ففي الأدب التركي القديم ما هو جدير بالرعاية، وقد أفتن الترك في تجويد الخط حتى صاروا أئمة فيه وصار لهم من آياته ما يجدر بكل أمة أن تحرص عليه
مسألة الحروف اللاتينية ليست فيما أرى ضرورة أو إصلاحاً ولكنها فتنة من فتن تقليد أوربا التي ضربت الشرق عامة والمسلمين خاصة بالذلة والهوان، وقد بلغ الأمر أن يرى بعض الناس أن تكتب اللغة العربية أيضاً بالحروف اللاتينية، فإذا قلت لهم فما تصنعون بأحد عشر حرفاً من الهجاء العربي ليست في الحروف اللاتينية؟ قالوا نضع لها حروف لاتينية بالتركيب أو النقط. فياسبّة الأمم، وعار الأجيال، وموتى النفوس، لماذا تجعلون من أنفسكم واظعين مخترعين في حروف اللاتينية، ولا تكملون ما في حروفكم من نقص، وتصلحون ما بها من عيب؟ جرى الجدال بيني وبين واحد منهم فكان منه الحوار الآتي:(106/30)
قلت: كيف تكتب، خاشعاً وخاضعاً، بالحروف اللاتينية؟
قال هكذا: , و , فأركب للدلالة على الخاء، وللشين واضع مدا على وأدل على العين بالحرف مفصولاً عما قبله بشولة كما يفعل المستشرقون
قلت فلماذا كل هذا العناء؟ لقد اضطررت أن تنقط وتشكل في الحروف اللاتينية، أترى هذا أيسر وأبين من خاشع وخاضع، قال: لا، ولكن الكلمتين بالخط العربي خاليتان من حروف الحركة
قلت: فضع كسرة تحت الشين والضاد. وهذا حسبك، بل لست في حاجة إلى هذه الكسرة فوزن الكلمة يعين حركتها. قال هذا صحيح في هذا المثال، فما بال الكلمات الأخرى. قلت: صدقت فهلم نتناول الموضوع على عمومه
- ماذا تنقمون من الكتابة العربية؟
- ننقم منها أنها كتابة لا تبين عن الألفاظ، فهذه الصورة (حسن) تقرأ حَسَن، وحُسْن، وحَسُن، وحَسّن، وحُسّن. . . . الخ
- قد كانت كتابتنا أول عهدها غير معجمة ولا مشكوله، مثلاً كانت الجيم والحاء والخاء ترسم بصورة واحدة فأعجم السلف الحروف فامتاز بعضها من بعض، ثم وجدوا الحرف الواحد في اكثر حالاته مبهم الحركة، فشكلوا الحروف فتعينت الحركات، واستبانت الألفاظ، وكان للحروف صور غير صورها الحاضرة، مازال بها الأختراع، والتجميل والتجويد حتى بلغت جمالها الحاضر، وتعددت الخطوط، وجعل لكل مقصد ضرب يواتيه، فكان خط الثلث والنسخ والرقعة وغيرها. فان كنتم يا رجال القرن العشرين أحياء قادرين على الإبداع، أباة آنفين من المحاكاة، وإن تكن عقولكم غير سقيمة، وقرائحكم غير عمقية، فانظروا في كتابتكم، فان رأيتم عيباً فأصلحوه، وأن آنستم نقصاً فأكملوه، ولا تكونوا في عصور العلم ضلالاً، وفي نور القرن العشرين ظلالاً، أدخلوا في الكتابة حروف الحركة إن شئتم، أو افعلوا غير ذلك إن استحسنتم، فأما أن تقولوا كتبت أوربا فنكتب مثلها فذلك ضلال العقول، وهوان النفوس، والموت الذي لا يستره باطن الأرض
ثم تنسى يا أخي أن اللغة العربية لغة أوزان وصيغ، فليست كل كلمتها في حاجة إلى الشكل، ولو أتسع المجال لأبنت لك أن الكاتب العربي يستطيع أن يكتب سطوراً لا يحتاج(106/31)
فيها إلا إلى شكلات قليلة، وقد ضربت مثلاً من هذا في مقدمة الشاهنامه
- هب ما قلت صواباً، فماذا ترى في شكاوي أصحاب المطابع من كثرة صور الحروف العربية: للحرف صورة في أول الكلمة وأخرى في وسطها وثالثة في آخرها، على حين لا يرى الطابع الأوربي أمامه للحرف إلا صورة واحدة
- بل صورتين صغيرة وكبيرة
- أجل وهذه ميزة أخرى للحروف اللاتينية
- هذه الشكاوى هي شكاوى أصحاب المال من كثرة العمال؛ كل صاحب مطبعة يود أن يديرها عامل واحد، ليأخذ كثيراً ويعطي قليلاً، وأما القارئ فسيان عنده أن يكون الذين هيأوا الجريدة خمسة عمال أو مائة، ثم أخبرني: ما الذي جعل للحروف اللاتينية هذه الميزة؟
- صور هذه الحروف، ثم فصل بعضها عن بعض
- قد كانت الحروف اللاتينية كلها موصولة ولا تزال توصل في كتابة اليد، فلما كانت المطابع أستحسن الأوربيون أن يفصلوا بعضها من بعض، فما الذي يمنعكم أيها المقلدون أن تفصلوا حروفكم فلا يكون للحرف في المطبعة إلا صورة واحدة؟
- هذا يبدوا لي صواباً ولكنه عجيب غريب
- أعجب منه أن نفكر في كتابة لغتنا بالحروف اللاتينية. قد هانت علينا نفوسنا حتى صار التقليد يسيراً قريباً، والاختراع مهما قل عجيباً غريباً
- لا تنسى أن العلوم والمخترعات قربت بين الأمم وطوت المسافات بين أطراف الأرض. والأمم صائرة إلى التوحّد فلماذا لا تكتب لغات الأمم كلها بالحروف اللاتينية؟
- أجل قربت العلوم والمخترعات بين الأمم، ولكن أوربا لا تعرف الأخوة بين الناس، ولا تزال تفرق بينهم بأتفه الأشياء وهي الألوان. والتوحيد الذي تريده أوربا أن تكون هي آكلة ونحن مأكولين. وهذا حديث يضيق عنه مقامنا الآن. وبعد فلماذا يكون توحيد الكتابة بالحروف اللاتينية ولا يكون بالحروف العربية؟ أن أردت أن تمتحن صدق الداعين إلى التوحيد فادعهم إلى استعمال الحروف العربية فستبلغ بهم الكبرياء والازدراء والسخرية والعجب ألا يجيبوك بكلمة. ولن يكون ذلك لما عرفوا من فضل حروفهم على حروفنا، بل(106/32)
لأن هذه حروفهم وتلك حروفنا. وسيشترك في السخرية من لم ير الحروف العربية قط. ثم هل اتفق الأوربيون على الكتابة بحروف واحدة؟ وهل استعملوا الحروف التي اتفقوا عليها بأسلوب واحد؟ أذكر أنه منذ ثلاث سنين جاء إلى أستاذ كبير في الجامعة المصرية كتاب من جماعة في أوربا يدعونه إلى العمل معهم على تعميم الحروف اللاتينية في العالم، فسألني رأيي فيما يجيبهم به فقلت إن كان لابد أن تجيب فاكتب إليهم أن ابدأوا بكتاباتكم فوحدوها فإذا صار الروسي واليوناني والألماني والفرنسي والإنكليزي والأسباني الخ يكتبون بحروف واحدة، وأجمعوا في كتابة هذه الحروف على نمط واحد فاكتبوا إلينا لنفكر في الأمر
وبعد، فاللغات يا أخي مهما أحكمت كتابتها، لا تؤخذ من الكتب وحدها بل لابد لها من التلقين. تعرف الكلمة بالسماع ثم تدل الكتابة عليها دلالة تامة أو ناقصة. وكثيراً ما تكون الحروف كالرموز أو العلامات يلمحها الإنسان فيعرف ما وراءها من لفظ قبل أن يكمل قراءتها، ويدرك اللفظ من صورة الحروف مجتمعة بل كأنه يفهم المعاني من النقوش دون توسط الألفاظ. وإذا أسرع القارئ سلط عينية على المكتوب وقصّر لسانه عن مجاراة عينية، ثم يا أخي هل بلغت الحروف اللاتينية التي فتنتم بها درجة الكمال، وبرئت من العيوب؟ ألست ترى الصوت الواحد تدل عليه حروف عدة فصوت الكاف تدل عليه , , والحرف الواحد يدل على أصوات مختلفة فالحرف يلفظ مرة ك وأخرى س، ويكون حيناً س وحيناً ز وهلم جرا
والكتابة الفرنسية، وهي أدق الكتابات الأوربية، فيها عيوب كثيرة فاللفظ الواحد أو الألفاظ المتحدة في الصوت تكتب بصورة مختلفة مثل و , و , و , و , و ' , فالصوت وحده لا يدل على رسم الكلمة. وكم في الفرنسية من حروف تكتب ولا تلفظ أحياناً كما ترى في الكلمات السابقة
وأنت تعرف الكتابة الإنكليزية، ودلالتها على الألفاظ بالجملة لا التفصيل، وكم من حرف فيها يلفظ ولا يكتب وآخر يكتب ولا يلفظ وحسبك مثل و , ولو قرأ قارئ الكلمات الإنكليزية كما تدل عليها حروفها ما فهم عنه أحد، وقل أن تسأل رجلاً أو صبياً إنكليزيا عن أسمه أو أسم الشارع إلا أتبع الاسم بهجائه علماً بأن الصوت لا يدل على الحروف(106/33)
والإمبراطورية الإنكليزية، مع هذا، لم تضمحل بهذه الكتابة، والأساطيل البريطانية لم تصطدم بهذه الحروف وما رأيت مصرياً من العيابين الطعّانين في الحروف العربية جرؤ مرة على عيب الإملاء الإنكليزي أو تنبه إلى عيوبه. وذلك بأن الحروف العربية لا تحميها إمبراطورية ولا أساطيل، نعوذ بالله من ضعف الهمم، وذل الأمم
وإن للحروف العربية لمزايا عظيمة فهي أيسر كتابة. لا تملى على صبىّ كلمة فيخطئ كتابتها إلا الكلمات المهموزة. وهي كذلك أخصر رسماً يستطيع كاتبها أن يساير خطيباً أو مدرساً فيكتب كل ما يقول، وهي في جملتها أوضح من كتابة اليد في اللغات الأوربية. قال لي مستشرق ألماني كبير قد أتقن اللغات العربية والفارسية والتركية، وحذق كثيراً من لغات أوروبا: (ما أشكل علي قط قراءة رسالة عربية وقد أشكل علي وعلى غيري مرات كثيرة قراءة رسائل ألمانية)
هذا إلى ملاءمة الكتابة العربية للعين. قال لي طبيب كبير من أطباء العيون: إن الحروف اللاتينية بكثرة زواياها أشق على البصر من الحروف العربية
إن مجال القول يا صاحبي واسع. وما بكم صعوبة الحروف العربية، ولكن الغرام بمتابعة أوربا، والخجل من التمسك بما أورثكم آباؤكم. ما بكم علة الحروف العربية ولكن علل الذلة والمهانة، واحتقار أنفسكم وتعظيم غيركم. إن المريض يكثر التحدث عن صحته، ويكثر اتهام الأطعمة والأشربة، كلما أحس السقم ظن أن الماء الذي شربه قد أضرّ به، أو أن الطعام الذي طعمه لم يلائمه. فكذلك أنتم تخلعون علل أنفسكم على اللغة أو الكتابة أو غيرهما وإنما الداء الدوي في أنفسكم، والعلة القاتلة في سرائركم
(له بقية)
عبد الوهاب عزام(106/34)
المؤتمر الثامن للجمعية الطبية المصرية بدمشق
للأستاذ عز الدين التنوخي
كاتب سر المجمع العلمي العربي
مطالب جليلة، ورغائب جميلة، وقلوب كبيرة نبيلة، إلى معارف شبيبة مثقفةٍ، ومدارك كهولةٍ ممحصة، وتجارب شيخوخة محنكة، مع كثيرٍ من الخيرات والبركات، قد حل دمشق أولئك جميعاً بحلول رجال المؤتمر الطبي الثامن فيها
أجل تغيرت بهم في دمشق أحوال المجتمع والحياة، فأصبح مؤتمرهم حديث الأندية وملهج الألسنة، فلم يبق في أحياء الفيحاء من لم يتحدث به من الرجال والنساء؛ وتبدلت كذلك فنادق دمشق بأبهائها وموائدها وبما قام فوق صروحها من خضر الأعلام المصرية الزاهرة بأنجمها الثلاثة وهلالها خفاقة إلى جانب تلك الأعلام الشامية الزاهية بألوانها الأربعة وجمالها
ويا حبذا يوم نشاهد هذه الأعلام العربية بلغة أبنائها وبلدانها، تقر عيوننا بكثرة أنواعها وألوانها فيتماوج غداً على المؤتمرات العربية في دمشق: العلم المصري والشامي والعراقيّ والحجازي واليماني والبرقي والتونسي والجزائري والمراكشي، وتتمازج فيها لهجات العرب المنتشرة في أقطار هذه الأعلام، فيتألف من مجموعها لحن عربي نديّ يرتفع له حجاب السمع، ويهتز له شغاف القلب
بل قل ما أسعد ذلك اليوم الأغر المحجل الذي نرى فيه للأقطار العربية المتحدة - والقاهرة (وشنطونُها) يومئذ - علماً عربياً واحداً، ونسمع لها فيه نشيدا عربياً واحداً، كما يرى اليوم أبناء العالم الجديد لولاياتهم المتحدة الأمريكية لواءً وطنياً واحداً، ويسمعون في جميع أنحائها نشيداً قومياً واحداً!!
عيدان أظلاّ دمشق واجتمعا للدمشقيين في يوم واحد، وعلى صعيد واحد: عيدُ المولد النبويّ، وعيد المؤتمر الطبيّ، فكأنما اندمجت بذلك ولادة هذه الأمة الدينية الغابرة، بولادتها السياسية والدنيوية الحاضرة! فليس اليوم في الفيحاء إلا قلوب تخفق لذكرى ذلك النبيّ العربي العظيم الذي أحيا من هذه الأمة مواتها، وجمع بعد صدع النوى شتاتها؛ وليس فيها اليوم إلا قلوبٌ طاهرة وعقول ناضجة، تفكر في إحياء هذه الفصحى المحبوبة وإزالة بلبلتها(106/35)
بتوحيد لغتها العلمية، وإعادة عزتها بجمع كلمة أبنائها؛ وليس فيها كذلك إلا حفلات وولائم متتابعات في قصر أمية والقصر الملكي، وردهة محاضرات الجامعة، وحديقة الأمة الرائعة، ورياض الغوطة الفيحاء، وربى بلودان الشماء
كذلك تبدلت بالمؤتمر الثامن في دمشق لهجة صحافتها، فذهلت بنشر أخباره جريدة (الأيام) عن صراحتها، و (القبس) عن معارضتها و (الجزيرة) عن ميثاقها، و (ألف باء) عن اعتدالها، و (فتى العرب) عن كفاحه، و (الشعب) عن طماحه، و (المضحك المبكي) عن ظريف هزله ومزاحه
إن هذا المؤتمر - وهو دليل يقظة الأمة العربية وبرهانُ رشدها الاجتماعي - ليرمز إلى شعورها بقوتها الكامنة اليوم، وبقدرتها الفاعلة غداً؛ ولذا ورد علي من خبر انعقاده في دمشق ما خفف من بث قلبي الملتاع بتشتت هذه الأمة، والمرتاع لمصيرها المظلم، فشعرت لعمري به شعور الأمل الحالم أغتبط بتوهم الحقيقة، والهائم الحائم على مواقع القطر ابتهج برؤية أمنيته فلمع نور البشر في غرته
ولمَ لا أغتبط - ليت شعري - ولا أبتهج، أو لا تغلبني نشوة الطرب، وبعيني رأيت حسن ذلك الخيال مجسماً، وبأذني سمعت لحن ذلك الوصال مرنماً، في بعض مجامع المؤتمر من عتاب الأحباب على الهجرْ، والأقرباء على الجفاء، وجيرة المنازل والديار، على تناسي حقوق الجوار؛ والجوار - عمرك الله - رحم شابكة وصلة واشجة؟ وكان مما استرقته الأذن من قول أديب شاميّ لطبيب مصري وهو يعاتبه:
- (إن لم تنضموا إلينا فضمونا إليكم، فما كان لحواجز الاستعمار أن تقوى على فصم عرى الجوار؛ ألسنا نحن الشاميين نشارك إخواننا المصريين في أفراحهم وأتراحهم؛ أما كنا نفرح بالأمس لسعد، ولفوز سعد، وأنصار سعد؛ ألم ترمض جوانحنا (سيشل) بذكراها، وتقض مضاجعنا (دنشواي) ببلواها؛ أولسنا نشارككم اليوم في نعيم الواحي (الراديو) فنطرب أمثالكم لألحان أم كلثوم وعبد الوهاب، مثلما نساهمكم في العلوم والآداب بسماع الآيات والخطب والمحاضرات؟
أوليس علماؤكم في الأزهر والجامعة علماءنا، وأدباؤكم من الكتاب والشعراء أدباءنا، وتاريخ القطرين الشقيقين يكاد يكون واحداً، ومطالعاتنا اليوم في الكتب والمجلات(106/36)
والصحف المنتشرة، تكاد تكون واحدة أيضاً؟ أولا تعلم أن (الرسالة) يقرأها في دمشقنا هذه جمهرة العلماء والأدباء من الجنسين العنيف واللطيف على السواء؟)
وكان الطبيب المصري يجيبه على أسئلته هذه العذبة الرقيقة بقوله:
- بلى، بلى، ونحن لكم اليوم يا أخي كذلك، وفوق ذلك فهذا الحديث وأمثاله هو من بعض بركات المؤتمر المصري على العرب والعربية معاً. ومن أيمن تلك البركات المأثورة العزم على توحيد المصطلحات العلمية، ففي جلستها الخطيرة بحث الخطباء في تاريخها وطرق وضعها ووسائل توحيدها، وقد أشار كاتب سر المؤتمر الحكيم الدكتور عبد الواحد الوكيل في فاتحة الجلسة إلى أن الجمعية الطبية المصرية قد اهتمت في جميع مؤتمراتها السابقة بتوحيد المصطلحات الطبية، فكان كل واضع يتعصب لوضعه فخرجنا من مؤتمراتنا كلها بدون فائدة؛ ويجب الآن بعد تكوين المجمع اللغويّ الملكي مع وجود المجع العلمي الشامي أن تخرج هذه القضية من أيدينا إلى المجمعين
وقد شجعت جمعيتنا الدكتور محمد شرف على وضع معجمه وآزرته الحكومة فوزعه على الجمعيات اللغوية في الممالك العربية، واقترحنا أن يجعل أساساً لأعمال المصطلحات الفنية، وأن يضاف إليه في كل طبعة ما يتمحص منها، وما يوضع من الألفاظ الجديدة فيتألف منه على الأيام معجمنا العربي المنشود
ثم بحث الخطباء في طرق الوضع وهي جمة، فذكروا منها قبول الأسماء الأعجمية الواردة على أوزان عربية، وليس في لغتنا ما يدل عليها، وقبول النحت عند الضرورة في الأسماء الأعجمية المركبة، وترجمة الأسماء التي لا يصح تعريبها؛ وفي الأسماء العلمية المركبة من جنس ونوع قد يجب تعريب الجنس، والنوع ذو المعنى مما يجب ترجمته لا تعريبه؛ وأما الأسماء المنسوبة إلى الأعلام والأماكن فلا يجوز غير تعريبها، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا يجنح إليها إلا بعد التثبت من أن دواوين اللغة وكتب الطب والعلم لا تشتمل عليها، فإذا ظفرنا بمثل كلمة التعايش لكلمة وقد ذكرها الزمخشري، لم نحتج إلى نحتها أو ترجمتها أو تعريبها
وفي خلال المباحث حدث جدال قليل بين بعض الأطباء في الدفاع عن الأوضاع، لا محل لتفصيله، فانبرى لفصل الجدال بينهم الدكتور محجوب ثابت فرأينا منه خطيباً حلو النادرة،(106/37)
طلق البادرة، يتدفق في إيراد بيناته وفكاهاته تدفق اليعبوب، فيملا الأسماع والقلوب، ومما قاله:
إن العمل المشوش (المهرجل) لا يثمر أبداً، والجمعيات الطبية العربية - وهي بحمد الله كثيرة في بلاد العرب - لا تثمر ولا تنتج إن لم تعمل كذلك بطريقة علمية منظمة، فلو أن شعبة المصطلحات الفنية في الجمعية الطبية المصرية أخذت مثل كتاب: وقسمت ألفاظه على عدد أعضاء الشعبة، وفي آخر كل شهر يعرضون ما وضعوه على الجمعية مجتمعين، وبعد تمحيصها وتحقيقها، ترسلها الجمعية إلى مجمع اللغة الملكي بمصر ليحكم لها أو عليها، فيعتبر حكمه عدلاً، وقوله فصلاً
لا جرم أن من الأنصاف والحصانة أن تجمع كلمة الأقطار العربية على مجمع مصر الملكي لأنه يمثلها بالأعضاء اللذين اختارهم من علمائها فإذا ما حكم بصحة لفظة فكأنما حكمت بها مجامع العرب كلها، إذ هي ممثلة فيه ومحكمة في ناديه؛ وأما مجامع اللغة في البلاد العربية فتعتبر روافد لمجمع مصر أو مؤتمرها اللغويّ، بما ترسله إليه من الأوضاع الجديدة، وأعضاء المجمع المرسل يبيّنون لإخوانهم في مصر توجيهاتها، وأسباب تعديلها وتفضيلها، وبذلك يكون الإنتاج خصيباً، والرأي على الأغلب مصيباً، وقديماً قيل: المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ومجمع اللغة المصري ضعيف بواحده، قويّ بروافده
إن هذا المؤتمر الطّبي الثامن لغزير النفع، كثير الرجع على الأمة العربية، فمن منافعه الجليلة تمهيدهُ السبيل إلى توحيد المصطلحات العلمية، وتمهيده السبيل إلى تعليم الطبّ في المدارس الطبية باللغة العربية وبهما يتمهّد السبيل إلى توحيد مناهج التربية والتعليم في بلاد العرب الذي هو لعمري من أقوى البواعث على توحيد الثقافة العربية المؤدي إلى توحيد الأمة العربية، وإلى سيادتها في العالم بتعارفها وتآلفها وتحالفها:
فنحن في الشرق والفُصحى بنور رحمٍ ... ونحن في الجُرح والآلامِ إخوانُ
عز الدين التنوخي
كاتب سر المجتمع العلمي(106/38)
الدرامة في الأدب الإنجليزي
المذهب الواقعي وفن الدرامة
بقلم محمد رشاد رشدي
تتمه
الدرامة الإنجليزية في عهد (دريدق)
من أهم ما يميز هذا العصر - منتصف وأواخر القرن السابع عشر - انتشار عادة غريبة، هي محاولة حل كل شيء في الوجود بواسطة العقل والتفكير؛ وقد كان (بوالو) على حق حينما قال: (إن ديكارت قد ذبح الشعر) - على أن هذه العادة نشأت نتيجة لحضارة هذا العصر التي كانت قائمة على أكتاف الطبقة الوسطى - ونحن لا نجد عصراً من عصور إنجلترا كان نصيب الفلاح فيه أقل مما كان في ذلك العصر؛ مع أن مادة الفن الغزيرة تأتى دائماً من الفلاح حيث يعيش الرجل جنباً إلى جنب مع الطبيعة، ويواجه صعابها وشؤونها كل ساعة وكل يوم فيتحايل على فهمها وإدراك أسرارها لا بالعلم والتفكير بل بالدين والفن
في هذا العصر لبست الدرامة ثوب النثر وأخذت (الكوميدية) تنقد عادات الناس وأحوالهم، فهي تارة ساخرة وتارة مهذبة ناصحة، وأخرى مستهترة متهتكة - على أن حوادثها وشخصياتها كانت كثيرة المطابقة للواقع، حتى أن بعض الكتاب كان يبنى قصصه بناء تاماً على حوادث شخصية وقعت له أو لمن يعرفهم - وإن كان ثمة شيء ينقص من واقعية هذه (الكوميدية) فهو أن الكاتب كان كثير الحضور والظهور في قصته - فهو يكاد يكون دائم الحديث على ألسنة أبطاله، إما ناصحاً أو متفكهاً أو ناقداً أو جاعلاً هؤلاء الأبطال الذين لا يمتون للشعر بسبب - وللحياة اليومية بكل سبب - يتحدثون بلغة هي أبعد ما تكون عن لغة الحديث العادية. أما (التراجيدية) فقد اتجهت اتجاهاً آخر كان فيه القضاء عليها، فباتت تصور عالماً كله بطولة وحب وشجاعة، وأضحى أبطالها آلات تتغنى بالفضيلة والطهر والمروءة في كلام موزون مقفى ثقيل على الأذن لا مرونة فيه ولا عبقرية؛ وإنما كان هذا التصوير الخاطئ للحياة رد فعل للجو الإباحي المستهتر الذي كان يعيش فيه شعراء العصر وطبقته العليا - كما كانت الفضيلة والبطولة مثل الفروسية الأعلى في القرون الوسطى -(106/39)
رد فعل لخلو الحياة في ذلك العصر خلواً يكاد يكون تاماً من كل ما هو فاضل بريء
نهضة الدرامة في القرن التاسع عشر:
كانت حياة المسرح الإنجليزي في القرن الثامن عشر حياة خاملة لا نشاط فيها ولا جدة، ولو أن نجماً أو نجمين سطعا في سمائه ثم أفلا - وأعني بهما (شريدان) و (جولد سمث). والآن ونحن نريد أن نعالج نهضة القرن الفائت الحديثة يجدر بنا أن نذكر شيئاً عن كل من الاتباعية (الكلاسزم) مذهب العهد المنقرض، والإبتداعية (الرومانتسزم) مذهب العهد الناهض الجديد. والحق أن كلا من المذهبين ينشأ عن وجهة نظر خاصة نحو الطبيعة البشرية. (فالاتباعية) تعتبر الإنسان حيواناً حقيراً بطبيعته، وتعتبر أنه لا يستطيع أن يرقى وينهض إلا بالطاعة وحكم النفس والعمل الدائم. ومن هذا كانت الطاعة وضبط النفس أظهر مميزات هذا المذهب، وأنت تجدها تتجلى في الفن (الاتباعي) في دقة الأشكال والأوضاع، وفي صقلها صقلاً تاماً، ثم في خلوه من كل ما من شأنه التطرف والعنف. أما الإبتداعية فتعتبر الإنسان نبيلاً بطبيعته، غير أن الأوضاع والأنظمة التي وضعها لنفسه هي التي حطت من قيمته وجعلته ذليلاً ضعيفاً. ومثل هذه الأنظمة المجتمع نفسه - الأخلاق - والقانون وغيرها - وإن عبارة (روسو) الافتتاحية في كتابه العقد الاجتماعي: (الإنسان حر بطبيعته ولكنه يجد نفسه مكبلاً بالقيود أينما كان) هي أول تعبير صادق (للابتداعية) وهي تتجلى في الفن في نبذٍ متعمد لكل القواعد والتعاريف، وفي الاعتماد اعتماداً تاماً على قوة تعبير الفنان تعبيراً لا يقيده شكل ولا تحده قاعدة - فإن أراد الفنان (الابتداعى) أن يعالج الطبيعة لم يكن محتاجاً إلى الفلسفة تقوده وتهديه - كما كان يفعل شعراء وكتاب القرنين السابع والثامن عشر، بل إن عليه أن يلاحظ ظواهرها فقط، وأن يدون ملاحظاته دون تعديل ولا تهذيب
ومن هذا يتضح قرب المذهب (الابتداعي) من المذهب الواقعي - أعني اتجاه (الابتداعية) اتجاهاً واقعياً قوياً بطبيعتها - واتصالها أساسياً بالحقيقة والواقع. وإن شعر الشاعر الإنجليزي (وردسورث) ونظريته في الأسلوب الشعري - أن يكون خليطاً من الأساليب والألفاظ التي يتحدث بها الناس في حياتهم العادية - لشاهد على ذلك
ومما يشاهد في الدرامة في أواخر القرن التاسع عشر نبذ بعض كتابها - عن عقيدة وعمد(106/40)
- كل ما هو شعري نبذاً تاماً كاملاً. ولقد نشأ هذا عن رغبة أصحاب المذهب الجديد في إدخال طرق البحث العلمية في الأدب، إذ يجب أن تكون الملاحظة دقيقة لا تحيز فيها كما يجب أن يكون الملاحظ مختفياً لا أثر لوجهة نظره الخاصة، بل يدوّن كل ما يلاحظه تدويناً صادقاً واضحاً. وقد كتب (زولا) يقول: (لقد ترك الكيميائيون اليوم البحث عن الذهب - على أنهم لو اهتدوا يوماً إلى صنعه، فسيكون دليلهم البحث العلمي الجديد، وإني أشبه نفسي بهم - فأنا أكدّوا وأبحث محولاً إتمام الطريقة الحديثة التي ستهدينا ولا ريب شيئاً فشيئاً إلى الحقيقة كاملة)؛ على أن (زولا) نفسه كان يدرك أن الدرامة لأجل أن تكون فناً، يجب أن تجمع عناصر أخرى غير عناصر العلم. وهو يذهب في كتابة أخرى له إلى أن للواقعية نفسها لوناً شعرياً فنياً لا يستطيع أحد إنكاره، إذ يقول: (من يستطيع أن ينكر أن في حجرة العامل الفقير شعراً أكثر مما في قصور التاريخ جميعاً؟)
ومن ظواهر هذه الواقعية العلمية التي ظلت تسود الدرامة منذ نهضتها في أواخر القرن الماضي إلى عهدنا الحالي ظاهرة التشاؤم والانقباض. والحق أن الواقع والتشاؤم يسيران دائماً جنباً إلى جنب، فالعقل الإنساني يميل إلى صبغ ما يخشى حدوثه بصبغة الحقيقة، وما يرجوه وما يأمله بصبغة الحلم والخيال؛ ولقد كانت آلهة الإنسان الفطري - وقد كان يخافها كل الخوف - أقوى في مخيلته وأوضح شكلاً من حوادث حياته اليومية
أقطاب النهضة الحديثة: أنتوق تشيكوف
تؤكد شخصية (تشيكوف) وجو مسرحياته الخاص وأسلوبها أنه أول الكتاب الحديثين الذي حقق المثل الأعلى للواقية؛ فتشاؤمه ونظرته الخاصة نحو الحياة تبدو كأنها ليست نظرة شخصية خاصة بل نظرة أهل عصره العامة - نظرة الروسي البائس الفقير الذي كان يعيش في روسيا في القرن الماضي. فأنت لا تجد (لتشيكوف) دعاية خاصة يدعو بها أو عقيدة يدافع عنها، بل هو يصور الحياة كما يراها، هادئاً قابعاً مختفياً وراء صورته. . .
هنريك ابسن:
كذلك مسرحيات هذا الكتاب النرويجي هي مثل أعلى للواقعية الحديثة؛ ولو أنها تختلف كثيراً عن كتابات (تشيكوف)، ولقد تبدو قصصه - لأول نظرة - قصصاً تعالج شئوناً(106/41)
اجتماعية مثل الزواج وتحرير المرأة وغير ذلك؛ ولقد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه بزوال هذه الشؤون وحلها ستزول قيمة القصص وتقل أهميتها. على أن هذا الزعم خاطئ، فروح (إبسن) ليست بروح المصلح الاجتماعي فحسب، بل هي قبل كل شيء روح شاعر كان إذا ما فكر في مشكلة اجتماعية ملكت عليه كل حواسه فأصبح لا يرى للعيش قيمة إذا هو لم يهتد إلى حلها وإزالة خطرها
ومسرحيات (برنارد شو) تعالج هي الأخرى موضوعات اجتماعية؛ على أن الفرق بين الكاتبين عظيم، فمعالجة (شو) لموضاعته هي معالجة علمية بحتة، أعني أنها لا تهمه شخصياً بل اجتماعياً - أما مع (إبسن) فهي كما قدمت موضوعات شخصية قبل أن تكون اجتماعية أو عالمية - موضوعات تهمه مباشرة كأنما كان يتعلق بها كيانه ووجوده. وقد كتب (إبسن) مرة يقول: (كل ما أكتبه له علاقة وطيدة بكل ما أحيا خلاله؛ وفي كل قصة أو قصيدة أكتبها أبغي تحرير نفسي وصفاءها). ومن الجلي أن هذا يختلف كثيراً عن تفكير الكاتب الايرلندي الذي يهمه تحرير إنجلترا قبل تحرير نفسه هو؛ وقد كان تحرير النرويج يهم (إبسن) أيضاً، على أن الأهمية لم تأت مباشرة، بل أتت عن طريق نفسه وروحه. ولقد يبدو من حديثنا هذا أن مسرح (شو) أكثر مطابقة للواقع وللروح العلمية الجديدة من مسرح (إبسن)، على أن هذا خطأ وعكسه صحيح. والسبب في ذلك هو أن الناس يختلفون في آرائهم أكثر مما يختلفون في مشاعرهم واحساساتهم - (فبرنارد شو) الذي يعتمد اعتماداً كلياً على الفكرة والرأي، والذي يعيب مسرحياته من الجهة الواقعية كثرة ظهور المؤلف في القصة - سيهرم ويذوي عندما تهرم الموضوعات التي يعالجها وتموت - أما (إبسن) الذي لا يعتمد على الفكرة اعتماد (شو)، والذي لا يجعل من أبطال مسرحه ألاعيب ودمى لا قيمة لها إلا إظهار الفكرة والدعاية لها، بل يجعل منها أشخاصاً آدميين نافذاً إلى أعماق نفوسهم - مظهراً منها ما قد خفى ومضيئاً ما قد أظلم أو قتم - فسيظل حياً ما دام الإنسان والنفس البشرية حية على ما هي عليه
ويرينا (إبسن) أن أعلى أنواع الواقعية في الدرامة كما في كل فن آخر - إنما يعتمد على الخيال القوى الوثاب الذي يستطيع أن يعالج مسائله الشخصية معالجة يفهمها الجميع وتصل إلى كل القلوب حتى لقد تبدو لها وكأنها مسائلها هي لا مسائل الشاعر، ونبضاتها(106/42)
هي قد سجلت على الورق لا نبضات الكاتب النرويجي أو الروسي أو الإنجليزي؛ وعلى هذا ففي معنى أدق مما كان يقصده الفيلسوف الإغريقي (أرسطو) تكون شخصيات مثل هذه الدرامة (مثلنا تماماً)
فليست الواقعية وليدة بحث علمي أو مذهب أو عصر خاص، بل هي جزء لا ينفصل عن الشاعرية الفذة والخيال القوي الذي يصور لك ما يرسمه تصويراً حياً قوياً، يجعلك تراه وتؤمن به وتشترك فيه حساً وعاطفة وفكراً
محمد رشاد رشدي
بكالوريوس بامتياز في الأدب الإنجليزي(106/43)
7 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ومما يدل على أن أبا العتاهية كان يحمل نفسه من أسباب اللهو ما ليس من سجيتها في الزهد لأغراض له في ذلك - ما رواه صاحب الأغاني قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار. قال حدثني أبن أبي الدنيا قال حدثني الحسين بن عبد ربه قال حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال حدثني أبو الشمقمق أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المحنثين، فقلت له: أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك؟ فقال له: أريد أن أتعلم كيادهم، وأتحفظ كلامهم
وهو في أخذه بما كان يأمره به الرشيد منه ليتقي به حبسه وسجنه إنما كان يأخذ بالتقية التي يأخذ بها الشيعة، وقد كان على ما سيأتي من رجالهم، فجرى بذلك مع الرشيد كما جرى به مع الهادي والمهدي، وكان إذا خرج من سجنه، وجرى على ما يهواه منه، مضى معه كأن لم يكن هناك شيء يخيفه منه في دخيلة نفسه ومدحه بشعره أحسن مدح، وأخذ عليه منه جزيل صلاته وجوائزه، حتى إذا غلبته نفسه نبا عليه، وأخذ في زهده ونسكه، وأخذ الرشيد في الغضب عليه وسجنه وحبسه، وأبو العتاهية رابح في الحالتن، قاض لنفسه غرضها من مال العباسيين، ولمذهبه السياسي الذي سنشرحه غرضه من ذم دنياهم، والنعي على ما في دولتهم من فساد ديني وسياسي واجتماعي
وقد أخبر أبن أبي العتاهية أن الرشيد لما أطلق أباه من الحبس لزم بيته وقطع الناس، فذكره الرشيد فعرف خبره، فقال: قولوا له صرت زير نساء، وحلْس بيت! فكتب إليه أبو العتاهية:
بَرِمتُ بالناس وأخلاقهم ... فصرت أستأنس بالوْحدَه
ما أكثر الناس لعمري وما ... أقلهم في منتهى العدَّهِ
ثم قال: لا ينبغي أن يمضي شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له، فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها وهي:
عاد لي من ذكره نَصَبُ ... فدموعُ العين تنسكبُ
وكذاك الحبُّ صاحبهٌ ... يعتريه الهمُّ والوَصَبُ(106/44)
خَيرُ من يُرْجىَ ومن يهَبُ ... مَلِكٌ دانت له العرب
وحقيق أن يُدَانَ له ... من أبوه للنبي أب
ولما عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، قال أبو العتاهية:
رحَلْتُ عن الرّبع المحيل قَعودِى ... إلى ذي زُحُوفٍ جمّةٍ وجنود
وراع يراعي الليل في حفظ أمة ... يدافع عنها الشر غير رَقود
بألوية جبريلُ يقدم أهلها ... ورايات نصر حوله وبُنُود
بَحَاَفيَ عن الدنيا وأبقن أنها ... مفارقةٌ لبست بدار خلود
وشدُّ عرى الإسلام منه بفتية ... ثلاثة أملاك وُلاةِ عهود
هُمُ خير أولاد لهم خير والد ... له خير آباء مضت وجدود
بنو المصطفى هارون حول سريره ... فَخيرُ قيامِ حوله وَقُعود
تقلِّب ألَحاظَ المهابة بينهم ... عُيُونُ ظباء في قلوب أسود
خدودُهمُ شَمْسٌ أتت في أهلة ... تبدت لراءٍ في نجوم سُعُود
فوصله الرشيد بصلة ما وصل مثلها شاعراً قط
ثم أنقض عهد الرشيد وجاء بعده عهد أبنه الأمين، وحصل ما حصل من الخلاف بينه وبين المأمون، فاضطرب أمر الدولة، ووجد أبو العتاهية من ذلك ما يساعده على المضي في سبيله من الزهد، واستخدام شعره في دعوة الأمة إليه، وتهوين أمر الدنيا التي فتنوا بها عن الآخرة، ولم يعد يقول الشعر في التغزل والمجون وما إليهما؛ ولكن لم يقطع صلته بملوك العباسيين ولم يتحرج من مدحهم الحين بعد الحين طمعاً في أموالهم. وسنتكلم بعد في أمر ذلك الزهد
حدث عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال: دخلت مسجد المدنية ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد:
لهفي على وَرَقِ الشباب ... وغصونه الخُضْرِ الرِّطابِ
ذهب الشباب وبان عني ... غير منُتَظَرِ الإياب
فلأبكينّ على الشبا ... ب وَطيبِ أيام التصابي
ولأبكينّ من البِلىَ ... ولأبكينّ من الخِضَابِ(106/45)
إني لآملُ أن أُخَلَّ ... دَ والمنية في طِلاَبي
قال فجعل ينشدها وإن دموعها لتسيل على خديه، فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها، وسألت عن الشيخ، فقيل لي: هو أبو العتاهية
وحدث حبيب بن الجهم النميري قال: حضرت الفضل بن الربيع متنجزاً جائزتي وفرضي، فلم يدخل عليه أحد قبلي، فإذا عون حاجبه قد جاء فقال: هذا أبو العتاهية يسلم عليك، وقد قدم من مكة، فقال: أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي، فخرج إليه عون فقال: إنه على الركوب إلى أمير المؤمنين، فأخرج من كمه نعلاً عليها شراك مكتوب عليه:
نعلٌ بعثت بها ليلبسها ... قرْمٌ بها يمشي إلى المجد
لو كان يصلح أن أشرِّكها ... خدِّي جعلت شراكها خدي
ثم قال لعون قل له أن أبا العتاهية أهداها إليك، فدخل بها عليه فقال له احملها معنا، فلما دخل على الأمين أخبره بها، وأنه رأى أن أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لا بسها، فقرأ الأمين البيتين فقال: أجاد والله وما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم، فأخرجت والله في بدرة وهو راكب على حماره، فقبضها وأنصرف
ولما تولى المأمون بعد أخيه الأمين حسن حال أبي العتاهية في عهده، وكان المأمون أحسن حالاً من الملوك العباسيين قبله، فقرب أبا العتاهية منه، وأكثر من بره وصلته والإحسان إليه بما لم يفعل مثله معه سلفه؛ ومن ذلك أن أبا العتاهية كان يحج كل سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون برداً ومطرفاً ونعلاً سوداء ومساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم
ودخل عليه مرة فأنشده:
ما أحسن الدنيا وإقبالَها ... إذا أطاع الله من نالها
من لم يوُاس الناس من فضلها ... عرّض للأدبار إقبالها
فقال له المأمون: ما أجود البيت الأول! فأما الثاني فما صنعت فيه شيئاً، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضن بها، وإنما توجب السماحة بها الأجر، والضن بها الوزر. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل، وأهل النقص أولى بالنقص، فأمر المأمون بأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق. فلما كان بعد أيام عاد فأنشده:
كم غافل أوْدىَ به الموت ... لم يأخذ الأهْبة للفوت(106/46)
من لم تزلْ نعمته قبلهُ ... زال من النعمة بالموت
فقال له: أحسنت، الآن طببت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم
فإذا رأينا المأمون بعد ذلك يزهد في هذا الملك العظيم لأهله من بني العباس، ويؤثر به من بعده الإمام عليا الرضى من آل علي بن أبى طالب رضى الله عنه، فيزوجه بنته أم حبيب، ويجعله ولي عهده، ويضرب اسمه على الدينار والدرهم، فان لشعر أبي العتاهية أعظم الأثر في ذلك؛ وهذه هي النتيجة والثمرة التي جاهد به من أجلها، فقد سعى في تزهيد الناس في كل أسباب الدنيا والتكالب عليها، ليزهد العباسيين في التكالب على هذا الملك الذي يملكونه منها، ويعودوا به إلى سيرته الأولى، فيتولاه أصلح الناس له، ولا يستأثر به أحد على غيره؛ وهذا هو ما فعله المأمون مع علي الرضا، فقد كان بمدينة مرو وفيها علي، فاستحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين الكبار والصغار، وأستدعى علياً فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحد أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا، فبايعه وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام؛ وقد قام بسبب ذلك تلك الفتنة المعروفة بينه وبين عمه إبراهيم بن المهدي، فقضت على تلك الفكرة الصالحة، ومضى العباسيون في أمرهم إلى أن ملكهم خولهم وجنودهم من الترك وغيرهم، وانتهى أمرهم بتلك النكبة التي انتهى بها، ولا يعلم إلا الله ماذا كان يعود من الخير على المسلمين لو تم للمأمون من ذلك ما أراده، ورجع أمر المسلمين إلى ما كانوا عليه من الشورى في عهد النبوة والخلافة
وقد بلغت سن أبي العتاهية في عهد المأمون تسعين سنة، وأدركه أجله في تلك السن سنة 209هـ ـ وقيل سنة 211هـ ـ.
وروى محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:
إلهي لا تعذبني فأني ... مقرٌّ بالذي قد كان مني
فما لي حيلة إلا رجائي ... لعفوك إن عفوتَ وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا ... وأنت عليّ ذو فضل ومنِّ
إذا فكرتُ في ندمى عليها ... عضضتُ أناملي وقرعتُ سني(106/47)
أجَنُّ بزهرة الدنيا جنوناً ... وأقطع طول عمري بالتمني
ولو أني صدقتٌ الزهد عنها ... قلبتُ لأهلها ظهر المجنِّ
يظن الناس بي خيراً وإني ... لشر الخلق إن لم تعف عني
ثم أمر أن يكتب على قبره
أذْن حّي تسمعي ... أسمعي ثم عي وَعي
أنا رهنٌ بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
عشت تسعين حجة ... أسلمتني لمضجعي
كم ترى الحيّ ثابتاً ... في ديار التزعزع
ليس زادٌ سوى التقى ... فخذي منه أوْ دعي
عبد المتعال الصعيدي(106/48)
29 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
تتمة الحوار
فهذه الأنهار عديدة وقوية ومنوعة، منها أربعة رئيسية أعظمها وأقصاها نحو الخارج هو ذلك المسمى بالاقيانوس الذي يجرى في دائرة حول الأرض، ويسير في الاتجاه المضاد له نهر أشيرون يجرى تحت الأرض في ربوع جدباء حتى يصيب في بحيرة أشيروزيا هذه هي البحيرة التي تذهب إلى شواطئها أرواح الدهماء حين يدركهم الموت، حيث يلبثون أجلاً مضروباً، يكون طويلاً لبعضها قصيراً لبعضها الآخر، ثم تعود ثانية لتحل في جسوم الحيوان. وينبع النهر الثالث فيما بين ذينك النهرين، وهو يصب على مقربة من منبعه في منطقة شاسعة من النار، حيث يكوّن بحيرة أوسع من البحر الأبيض المتوسط، يغلي فيها الماء والطين، ثم يخرج منها عكراً مليئاً بالوحل، فيدور حول الأرض حتى يبلغ فيما يبلغ من مواضع أطراف بحيرة أشيروزيا، لكنه لا يختلط بمائها، وبعد أن يتحوى في عدة ثبايا حول الأرض، يغوص إلى جهنم أدنى مما كان مستوي. هذا هو نهر بيرفليجثون - كما يسمى - الذي يقذف في كل مكان بفوارات من النار. ويخرج النهر الرابع في الجهة المقابلة، ويسقط أول ما يسقط في منطقة همجية متوحشة، تصطبغ كلها باللون الأزرق القاتم الذي يشبه حجر اللازورد، وهذا النهر هو ما يسمى نهر ستيجيا وهو يصب في بحيرة ستكس التي يكوّنها، وبعد أن يصب في البحيرة ويستمد لمائه قوى عجيبة، يجري تحت الأرض، دائراً حولها في اتجاه يضاد نهر بيرفليجثون، ويلتقي به في بحيرة أشيروزيا من الجهة المقابلة، ولا يختلط ماء هذا النهر أيضاً بغيره، بل يجري في دائرة ويتدفق في جهنم، مقابلاً لنهر بيرفليجثون ويسمى هذا النهر كوكيتوس كما يقول الشاعر
تلك هي طبيعة العالم الآخر، فلا يكاد الموتى يصلون إلى حيث تحملهم شياطينهم وحداناً حتى يقضي في أمرهم بادئ ذي بدء، إن كانوا أنفقوا الحياة في الخير والتقوى أم لا، فمن(106/49)
ظهر منهم أن حياتهم لم تكن لا إلى الخير ولا إلى الشر، فانهم يذهبون إلى نهر أشيرون، ويركبون ما يصادفونه من وسائل النقل، فيُحملون فيها إلى البحيرة حيث يقيمون ويطهرون من أوزارهم ويعانون جزاء ما أساءوا به للناس من أخطاء، ثم يغتفر لهم وينالون جزاء وفاقاً بما قدمت أيديهم من خير. أما أولئك الذين لا يرجى لهم إصلاح، فيما يظهر، لفداحة ما أجرموا، أولئك الذين أتوا من الآثام المنكرة شيئاً كثيراً، كتدنيس المعابد وإزهاق الأنفس إزهاقاً خبيثاً عنيفاً أو ما أشبه ذلك - أولئك يلقى بهم في جهنم لا يخرجون منها أبداً، فهي لهم أنسب مصير. أما هؤلاء الذين أجرموا أجراماً لا يجل عن العفو على هوله - أولئك الذين قسوا على والد أو والدة مثلاً وهم في سورة من الغضب ثم أخذهم الندم مدى ما بقى من حياتهم، أو الذين قتلوا نفساً مدفوعين بظروف تخفف من جرمهم - هؤلاء يغمسون في جهنم، ولزام عليهم أن يصلوا عذابها حولاً، وفي نهايته تقذف بهم الموجة: أما قاتل النفس فتقذف به إلى مجرى نهر كوكيتس، وأما قتلة الآباء والأمهات فإلى نهر بيرفليجيثون - فيحملون إلى بحيرة أشيروزيا حيث يرفعون عقائرهم صائحين بضحاياهم القتلى، أو بمن نالتهم منهم إساءة، عسى أن تأخذهم بهم رحمة فيتقبلوهم ويسمحوا لهم بالخروج من النهر إلى البحيرة. فان نالتهم الرحمة من أولئك، خرجوا ونجوا من عذابهم، وأن لم يرحموهم حملوا إلى جهنم مرة أخرى، ومنها إلى الأنهار، وهكذا دواليك حتى يظفروا ممن أساءوا إليهم بالرأفة، فهكذا قضى عليهم قضاتهم. أما من امتازت حياتهم بالتقوى، فأولئك يطلق سراحهم من هذا السجن الأرضي، فينطلقون إلى عليين حيث يقيمون في مقامهم الطاهر ويعيشون على تلك الأرض وهي أنقى؛ وأما أولئك الذين طهروا أنفسهم حقاً بالفلسفة فهم يعيشون منذ الآن متحللين من أجسادهم في منازل أجمل من تلك، يعجز عنها الوصف ويضيق الوقت أن أحدثكم عنها
إذن ياسمياس، وقد رأيت هذه الأشياء كلها، فماذا ينبغي لنا ألا نفعله لكي نظفر بالفضيلة والحكمة في هذه الحياة؟ ألا إن الجزاء لجميل، والأمل لعظيم
لست أريد أن أقطع بصدق الوصف الذي قدمته عن الروح ومنازلها - فما ينبغي لرجل ذي فطنة أن يقطع بهذا، ولكنه في رأيي حقيق، وقد أتضح خلود الروح، أن يجازف بالظن، لا خاطئاً فيه ولا عابثاً، أن يكون الصواب شيئاً كهذا، وأنه منه لظن عظيم، ولابد له أن(106/50)
يسري عن نفسه بمثل هذه الكلمات، فمن اجلها أطلت حكايتي، ولهذا أوصيكم ألا يأخذ أحد على روحه الأسى، مادام قد طرح زينة الجسد ولذائده، واعتبرها غريبة عنه، بل هي أدنى إلى إيذائه بما تجر وراءها من أثر، ومادام في هذه الحياة قد تعقب لذة المعرفة، إلا أن أولئك الذين يزينون أرواحهم بلآلئها الصحيحة، وهي: الاعتدال والعدل والشجاعة والنبل والحق - أولئك تكون أرواحهم، إذا ما ازينت بتلك اللآلئ، مهيأة للرحيل إلى العالم السفلي حين يدركها الموت. فأنتم، أي سمياس وسيبيس، ويا سائر الرجال، سترحلون في وقت قريب أو بعيد. أما أنا، فهاهو ذا يناديني صوت القدر على حد قول شاعر المأساة، ولابد أن أجرع السم عما قريب، ويجمل بي فيما أظن أن أذهب أولا إلى الحمّام حتى لا يشق على الناس غسلُ جثماني بعد موتي
فلما أن فرغ من الحديث، قال كريتون: أعندك ما تشير علينا به يا سقراط؟ ألديك ما تقوله عن أطفالك، أو عن أي شيء آخر نستطيع أن نعينك في أمره؟
فقال: ليس عندي شيء بعينه: غير أني أحب لكم، كما كنت أحدثكم دائماً، أن تنظروا في أنفسكم، فذلك فضل تستطيعون أن تواصلوا أداءه من أجلى، وهو أيضاً فضل مني لكم. ولا ينبغي لكم أن تكونوا أدعياء فيما تقولون، لأنكم لو جهلتم أنفسكم وصدفتم عما أوصيتكم به، وليست هذه أول مرة أوصيكم فيها، فلن تجدي عليكم حماسة الادعاء شيئاً
قال كريتون: سنبذل جهدنا، ولكن كيف تريدنا أن نواريك الثرى؟
على أي وجه تشاءون، غير أنه لابد لكم أن تمسكوا بي، وان تحذروا فلا ألوذ منكم بالفرار. ثم التفت إلينا وأضاف باسماً: لا أستطيع أن أقنع كريتون أنني سقراط ذاته الذي كان يتحدث ويوجه الحوار، فهو يحسبني سقراط الآخر الذي سيشهده بعد حين جثة هامدة - وهو يسائل: ماذا عسى دفني أن يكون؟ مع أني قد أفضت في الحديث محاولاً إقامة الدليل على أني مخلّفكم حين أجرع السم، حيث أتوجه إلى لذائذ أصحاب النعيم - ويظهر أنه لم يكن لحديثي هذا الذي سرّيت به عن أنفسكم وعن نفسي، أثر في كريتون، لذلك أريدكم أن تكونوا لي الآن عنده كفلاء، كما كان هو كفيلي عند المحاكمة: على أن يختلف وعدكم عما وعد، فقد كان كفل للقضاة أني سابقى، ولكن عليكم أن تكفلوا له غير باق، بل إني ظاعن راحل، فتقل بهذا لوعته عند موتي، ولا يحزنه أن يرى جثماني يحترق أو يهال(106/51)
عليه التراب. إني لا أحب له أن يتحسر على جدي العاثر، بأن يرتاع لدفني، فتأخذه الحيرة: على هذا النحو نكفن سقراط، أو هكذا نشيعه إلى القبر أو نواريه التراب. إن الأقوال الباطلة ليست شراً في ذاتها فحسب، بل إنها لتصيب الروح بشرها. لا تحزن إذن، أي عزيزي كريتون، وقل إنك لا تقبر منى إلا الجثمان، فاقبره على النحو الذي جرى به العرف، وكما تفضل أن يكون
ولما فرغ من هذه العبارة، نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه كريتون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر، فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب. لقد كنا كمن ثكل في أبيه، وأوشكنا أن نقضي ما بقى من أيامنا كالأيتام، فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه - (وكانوا طفلين صغيرين ويافعاً) كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن ببعض نصحه، على مسمع من كريتون، ثم صرفهن وعاد إلينا
هاقد دنت ساعة الغروب، فقد قضى داخل الحمام وقتاً طويلاً، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنا لم نفضْ في الحديث، وما هي إلا أن جاء السجان، وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس، من سورة الغضب، فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم باجتراع السم، ولم أكن إلا صادعاً بأمر أولي الأمر. أما أنت فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان، فليس يخامرني شك أنك لن تنقم عليّ، فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما جريرة سواي. وبعد، فوداعاً، وحاول أن تحتمل راضياً ما ليس من وقوعه بد، وإنك لعليم فيم قدومي إليك. ثم استدار فخرج منفجراً بالبكاء
فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل لجميل. فسأصدع بما أمرتني به. ثم التفت إلينا وقال: ياله من فاتن! إنه ما أنفكّ يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وسعته. انظروا إليه الآن كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلي فلزام علينا يا كريتون أن نفعل ما يريد. مر أحداً أن يجئ بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئاً منه
فقال كريتون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التلاع؛ وكثير ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد إنذارهم. إنهم كانوا يأكلون ويشربون وينغسون في لذائذ(106/52)
الحس، فلا تتعجل إذن، إذ لا يزال في الوقت متسع
فقال سقراط: نعم يا كريتون، لقد أصاب من حدثتني عنهم فيما فعلوا، لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعاً يجنونه، وأني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا، لأنني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة. أنني بذلك إنما أحتفظ وأبقي على حياة قد انقضى أجلها فعلاً، أني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي. أرجو إذن أن تفعل بما أشرت به ولا تعص أمري
فلما سمع كريتون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث قليلاً أن عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم، فقال سقراط: أي صديقي العزيز، أنك قد مرنت على هذا الأمر، فأرشدني كيف ابدأ. فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك ثم ترقد، فيسري السم، وهنا ناول سقراط القدح فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئاً وديعاً لم يرَع ولم يمتقع لون وجهه. هكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة؟ أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: أننا لا نعدُّ يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافياً فقال: أني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب علي أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر - فلعل الآلهة تهبني هذا، فهو صلاتي لها. ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطاً، وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعدْ في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدراراً على الرغم مني، فسترت وجهي، وأخذت أندب نفسي، حقاً أني لم أكن أبكيه بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق. ولم أكن أول من فعل هذا، بل أن كريتون، وقد ألفى نفسه عاجراً عن حبس عبراته، نهض وأبتعد، فتبعته، وهنا أنفجر أبولودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت، بصيحة عالية وضعتنا جميعاً موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منا إلا سقراط، فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟ لقد صرفت النسوة خاصة حتى لا يسئن صنيعاً على هذا النحو، فقد خبّرت أنه ينبغي للإنسان أن يسلم الروح في هدوء، فسكوناً وصبراً
فلما سمعنا ذلك، اعترنا الخجل وكفكفنا دموعنا، وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تخوران - كما قال - ثم استلقى على ظهره، كما أشير له أن يفعل، وكان الرجل الذي(106/53)
ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حيناً بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدمه بقوة وسأله هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه وهكذا صعد ثم صعد، مشيراً لنا كيف أنه برد وتصلب، ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال: ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب. فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه، إذ كان قد دثر نفسه بغطاء، وقال: (وكانت هذه آخر كلماته) إنني يا كريتون مدين بديك لاسكلبيوس فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين؟ ولم يكن لهذا السؤال من جواب؛ وما هي إلا دقيقة أو دقيقتان حتى سمعت حركة، فكشف عنه الخدم، وكانت عيناه مفتوحتين، فأقفل كريتون فمه وعينه
هكذا يا اشكراتس قضى صديقنا الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلاً وأكثرهم فضلاً
تم الحوار
زكى نجيب محمود(106/54)
زهرتي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
قد تصوَّحتِ عند شرخ الشباب ... زهرتي بغتةً فجلَّ مصابي
زهرتي قد جاء الربيع بما ازدا ... ن به من نبتٍ ومن أعشاب
ولقد قام مهرجان على الأر ... ض جميعاً بطاحِها والهضاب
لعزيزٌ عليّ ألا تكوني ... طاقةً فوق الكالىء المعشاب
نبت الزهر كله فلماذا ... أنتِ يا زهرتي بجوف التراب
ضقتِ بالقبر فاخرجي من ظلام ال ... أرض للنور فوقها والرحاب
أخرجي من جوف الثرى وابسمي لي ... عن رضًى أو تجهّمي للعتاب
أخرجي من جوف الثرى من جديد ... واسحريني بلحظكِ الخلاَّب
وأعيدي إليّ أسعد عهدٍ ... كنتُ فيه وذاك عهدُ شبابي
قرِّبيني إذا أردتِ سلامي ... واصرميني إذا أردتِ خرابي
وافتحي العينَ والمسامعَ دوني ... واسمعي شدوي وانظري إعجابي
أنا يا زهرتي دعوتكِ للحبّ (م) ... مراراً فلم تردّى جوابي
لا تقولي إني هلكتُ فلا تر ... جُ لميتٍ ذاق الردى من مآب
أنتِ تحيين في فؤادي وعيني ... ودمي فائراً وفي أعصابي
أيقظي من هذا الرقاد فإن الشْ ... مسَ قد ذرَّت من وراء الحجاب
أنتِ للحب والغرام بوجه ال ... أرض لا للرقاد تحت التراب
أنتِ لا تخلقين يا زهرتي أن ... تختفي في غياهب الأحقاب
يتهاوى دمعُ الأسى من عيوني ... كشهابٍ ينقضّ إثرَ شهاب
متِّ قبلي فلو سبقتُكِ عاهد ... تِ دموع الأسى على التسكاب
لا سلامٌ على الربيع إذا ثا ... بَ ولم تصحبيه عند المثاب
ارجعي لي وقبّليني ولا تخ ... شَيْ رقيباً على الهوى لا يُحابى
ارجعي ارجعي كما كنتِ قبلا ... أو خذيني بأقرب الأسباب
إِنني لم أزرْ أجَلْ بَعْدُ قبري ... غير أني منه على الأبواب(106/55)
آهِ إن الحياة أعجزُ من أن ... تستطيعَ الرجوعَ بعد الذهاب
بين شعرٍ أقوله وأنيني ... شعبة من وشائج الأنساب
ذهبت زهرتي التي كنتُ أشدو ... باسمها خالياً وبين صحابي
زهرةٌ قد سقيتُها بدموعي ... مزَّقتها المنون بالأنياب
إنني كنت أعبد الحسن فيها ... ولقد كان وجهُها محرابي
خطفتها المنون منى كعاباً ... ما على الموت بعدها من عتاب
خطفتها منى ذئابُ المنايا ... وذئاب المنون شرُّ الذئاب
قلت أسلو فأستريح ولكن ... كيف أسلو والحب ملء أهابي
كل شيء مذكرٌ لي بليلَي ... ليْتَ شعري ماذا يذكرها بي
هدّدتني إذا تصديتُ عيني ... وفؤادي والنفس بالإضراب
وكأن الدنيا العريضةَ بحرٌ ... وكأنا عليه بعض الحباب
خضتُ بحرَ الهوى وكان خِضَمَّا ... ثم منه ركبت متنَ العباب
ثم صارعتُ الموج منه فما كن ... تُ سوى مغلوبٍ إلى غلاّب
عن يميني وعن شماليَ ماءٌ ... ثم إني أعدو وراَء السراب
بغداد 4 تموز
جميل صدقي الزهاوي(106/56)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
14 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديرريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
على أن الروح (الديونيزوسي) يكاد يكون فاشياً في كل أصقاع العالم القديم. وهو عند البرابرة كان يزجيهم إلى الانهماك في المنكرات، وإشباع البهيمية الإنسانية باللذائذ. واليونان برغم حضارتهم وبعدهم عن البربرية سرت إليهم العدوى، ومشى فيهم هذا الروح. ولكن انهماكهم لم يكن انهماكا بهيمياً. أقاموا الأعياد والأندية حيث تنطلق الطبيعة ويذهل الإنسان متحداً بعاطفته مع الوجود. ومن هذا الانهماك تولدت المأساة اليونانية. والمأساة اليونانية يرجع أصل نشأتها إلى فريق (الساتير) وهؤلاء عند اليونان هم أرواح من الطبيعة تحيا، ولا يتسرب إليها الفناء؛ تعيش بعيدة عن الحضارة، وظهورها في شعب متحضر يقضي على حضارته ويقذف بالحواجز التي تفصل الإنسان عن الطبيعة. وهم يظهرون أن الطبيعة ثابتة قوية مخصبة برغم تقلب الأمم وتبدل الشعوب. واليونان اعتقدوا أن هذا الفريق مخلوق طبيعي مجرد من كل براعة، ولكنه ليس بهيمي. يتجلى فيه شيء من السمو الإلهي، وهو رمز الغريزة الأكثر قوة وسيطرة على الإنسان. هو سريع الهيام يذهله تقرب الإله منه. كثير الإشفاق والعطف لأنه يقاسم (ديونيزوس) آلامه. وهو يسالم حكمة الطبيعة. وهو رمز خصب الحياة التي يعبدها اليونان عبادة دينية. كان هذا الفريق يبدو في بدء نشأته وهو نشوان (بالسكر الإلهي) ويرقصه، وموسيقاه تغادر روح الناظر في شبه ذهول عميق، يمحو من نفسه ذكر الحضارة، ويجرده عن ذاته حتى يرفعه إلى مرتبته، ويشركه في ذهوله وسكرته. حتى إذا وجبت القلوب واستسلمت النفوس يلوح وراء هذا الفريق خيال الإله (ديونيزوس) وهذا السكر الإلهي قد ولد خيالاً شعرياً لم يكن في حقيقته إلا تعبيراً خاصاً عن حالة نفسية واضحة ولدها هذا السكر الصوفي. فالمأساة اليونانية هي بحقيقتها موسيقية شعرية. وهي هتاف ظفر الإرادة التي تشعر بخلودها إزاء تقلب الكائنات وتحولها. بطل كل مأساة هو الإله (ديونيزوس)، وهي عاطفية لأنها نشأت لتكون أنشودة(106/57)
في مدح الإله. ثم تطورت المأساة لتكون أشد تأثيراً في المخيلة، فأصبحت صورة رمزية لسحابات يلوح بينها الخيال الإلهي الذي يظهر على السكارى الهائمين في الوادي، السكارى بالإله. ولكن (ديونيزوس) لم يعد يظهر بشكله الإلهي. وإنما يظهر بهيئات الأبطال الذين يتمثل فيهم تحت قناع البطل (كيروموني) أو (أوديب). و (ديونيزوس) هو البطل الحقيقي في كل مأساة، يبدو بأشكال مختلفة. وهو في ظهوره هذا يشبه الإنسان في حياته، يتيه ويضل، يناضل ويتألم. (ديونيزوس) هو هذا الإله المتألم الذي تكلمت عنه الأساطير. هذا الإله الذي يحس في نفسه بآلام الفردية. هذا الإله الذي قالوا عنه إنهم جزأوه وهو صغير وعبدوه باسم الإله (زاكروس) ومن ابتسامته تولدت الآلهة، ومن دموعه نشأ الرجال
إن روح هذا الإله قد فتحت للعلم مجالاً عند اليونان. فهم بعد أن أطلقوا الأرواح من التشاؤم بتأملهم للجمال أو بشعورهم بخلود الإرادة، ذهبوا إلى طريقة ثالثة، هي المعرفة العقلية للوجود وأجزائه. فجاء العلم حليفاً ثالثاً معهم يناضل التشاؤم. فبينما يقول الفنان للحياة (يليق بنا أن نحياك، أيتها الحياة! لأن صورتك جميلة) يقول العالم لها (أنا أريدك أيتها الحياة! لأنك جديرة بأن تعرفي. . .) وهكذا وجد العالم في اكتشافاته العلمية من اللذة والبهجة ما يجده الفنان في أوهامه وأخيلته. وتآزرت هذه الأوهام كلها لتجعل وجه الحياة المشوه جميلاً. ويجب ألا نجحد أن فضيلة العلم إنما هي تتمثل في البحث الدائم والتنقيب المتواصل. لا في الحقائق التي يكتشفها. أو النتائج التي يبلغها. وخطيئة العلم القطعي هي أنه لا يقف عند معرفته للوجود واقتناعه بما أدرك وتفهم من أحاجيه وإنما يثب إلى إصلاحه وإتمامه، فتسعده حالتها الأولى مادام يبحث وينقب، ويشقى في الحالة الثانية مادام يطمح ويطمح إلى ما لا قبل له به. يعتقد ببساطة نفسه أن الوجود سهل فهمه بجملته وبأجزائه، وأن رأس كل فضيلة هي المعرفة، وأن الجهل هو مصدر كل بلاء، وبالعلم وحده يستطيع أن يبلغ الإنسان ما يشاء من أمهات الفضائل
جاء سقراط وهو أعظم مفكر يوناني جاحد للوحي، يؤمن بأن العقل وحده يقوم مقام الغريزة والفطرة في الحياة. والرجل العاقل له من عقله سلاح يدرأ عنه أخطاء الغريزة وضلال الفطرة. سلك سقراط طريقاً خالف به قومه واستطاع في النهاية أن يقهر معاصريه بسمو منطقه، وباختياره لمصرعه الذي لقيه. ترك الحياة هادئ النفس، لا يعضه أسى ولا يقرعه(106/58)
ندم، كأنما كان يثبت بهذا المصرع إيمانه في الحياة إيماناً متفائلاً لا يتضعضع ولا يتزعزع
هذا هو عقل سقراط الذي هزم (المأساة عند اليونان) وحق لهذه المأساة أن تتلاشى أمام مجلس العقل، لما يطغى عليها من تعاليم لا يجمع بينها قياس ولا منطق. يستند كل ما فيها من تأثير على الموسيقى. المأساة لا توحي ولا توضح عن أية حقيقة نافعة؛ وقد تجيء فاحشة المغزى، أو ليس يبدو بعد هذا أنها تعمل على تحطيم أجمل النماذج التي تخلقها الإنسانية. فإذا كان هنالك أواصر متينة بين العلم والفضيلة والسعادة الحقيقية - كما يريد العلم المتفائل - فان المغزى الفاجع يغدو بدعة خطرة
إن سقراط لم يهدم فن المأساة وحده، بل هدم كل البراعة اليونانية. كان المثال الذي تجسد فيه العقل يوم كان اليونان يتبعون بأهوائهم شريعة الفطرة والغريزة. كانوا يريدون الحياة قوية جميلة، وهو يريدها منطقية، تفقه نفسها بنفسها؛ كان مظهر سقراط مظهر المزدري لروح عصره، وهو وحده أعلن بين معاصريه أنه لا يدري شيئاً، وأنه على حق في خصامه معهم. يعرج على نوادي الشعراء والمفكرين والخطباء والمعلمين، فيقول: إن هؤلاء الواثقين بأنفسهم يفكرون ويجادلون بدافع الفطرة وحدها، وهم لا يفقهون ما يصنعون. تراه حيثما توجه وأينما أنطلق لا يبصر إلا وهماً باطلاً، وخطأ فاشلاً، مما أضطره أن يعلن أنه مقدم على إنشاء حضارة جديدة يديرها العقل وحده. فهدم الحضارة الأولى ولم يبق على شيء منها، فعل ذلك وهو لا يشعر بأن العالم الذي هدمه هو أسمى من العالم الذي راح يبنيه بعقله
هذا ملخص ما رآه نيتشه في (المأساة اليونانية) وهو جد آسف على ذهاب ذلك الماضي النبيل. وقد لا يغنينا أن ننظر إلى مذهب (نيتشه) من حيث تعلقه بالتاريخ. فهو ليس في الحقيقة إلا مذهباً يستخلصه من بعض نظراته المختلفة إلى أدب اليونان. وللعلم الحق وحده أن يتقبل هذه النظرات أو يأباها
يقول نيتشه عن شوبنهاور: (أنا بعيد جداً عن الاعتقاد بأني فهمت شوبنهاور، ولكني مؤمن جد الإيمان بأن شوبنهاور قد أعانني على تفهم نفسي) وحال نيتشه في درسه العبقرية اليونانية قد تشاكل هذه الحال، فهذه الدراسة قد كشفت عن تفكيره وأبانت عن منحاه في الحياة. وهذه الإرادة التي يذرع بها (ديونيزوس) مجابهاً أخطار الموت والشقاء والألم تعبر(106/59)
عن عاطفة عميقة من أسمى عواطف (نيتشه)؛ ومهما كانت قيمة كتابه هذا فهو بعد هذا كله كتاب خالد يتلو علينا كيف شعر نتيشه بذاته حين درس براعة اليونان
(يتبع)
خليل هنداوي(106/60)
القصص
من أساطير الإغريق
بسِيشِيهْ وكيوبيد
أروع قصص الحب في التاريخ القديم
للأستاذ دريني خشبة
كان الليل الهادئ المقمر أصفى من قلوب العذارى؛ وكان النسيم العليل الحلو يرف كالأماني في قلوب المحبين؛ وكالبدر العاشق المُسهَّدُ يرسل القبَلَ فتنطبع على خدود الورد، وتلثم أعواد الزنبق، ثم تنتشر بالشذى فتعطر أحلام المدنفين!
وكان كيوبيد الصغير يتميز من الغيظ حين أنطلق حاملاً سهامه ليقتل بسيشيه ابنة الملك، التي أهانت بجمالها كبرياء أمه فينوس!
كان الناس يعبدون ربة الجمال والحب حتى ترعرعت بسيشيه وتدفّق ماء الشباب في جسمها الريان، فهويت إليها نفوسهم، وخفقت بحبها قلوبهم، وآثروها بعبادتهم من دون فينوس!
وكان للفتاة أختان حسناوان، ذواتا دلٍ وفتون، ولكنهما كانتا مع ذاك دونها قسامة ووسامةً ولانهائية!
أجل، كانتا دونها لا نهائية، فلقد كانت العيون تغرق من جمال بسيشيه في لجَّةٍ من الحسن الغامض ما لها من قرار؛ وكان غموض حسنها هو سر عبادة الناس لها، وافتتانهم بها، وانصرافهم إليها عن كل ربات الجمال!
ودعت إليها أبنها ربةُ الحب، فأثارت في قلبه العداوة لهذه الغادة وجسمت له ما يحيق به وبأمه من انصراف الناس عن عبادتهما إلى هذه المخلوقة التعسة:
(أفيرضيك يا بني أن تكون من آلهة الأولمب نكرتين لا يخبت لهما شعب من العباد المخلصين؟ أم يرضيك أن يتغامز بي الآلهة كلما مررت بهم، وهم كما تعلم مغيظون مني، فيقولون هاهي ذي فينوس التي هدمت كبرياءها امرأة، وصرفت الناس عن عبادتها غادة؟ اذهب إذن فتربص لها، وأنفذ إلى أغوار قلبها سهماً يودي بها إلى هيدزْ، وبئس القرار!(106/61)
وإنه لا ضير على أن تهيم بها أرواح الموتى، أو يفتتن بها بلوتو وملؤه. . . . . .
ومضى كيوبيد إلى قصر الملك في طريق حفَّت بالورد:
وعبقت فيها أرواح البنفسج، وتأرج النرجس الغض، واختلط كل أولئك بالقمراء الفضية فرققت من غيظ الإله الأصغر، وجعلته يحس الجنة التي يخطر فيها ليقتل فتاة بريئة، كل ذنبها جمالها، وأقصى ما ارتكبته من وزر أن بدت للناس فشغفوا بها، وفنوا فيها. . .
وكبر في قلب كيوبيد أن تنتهي هذه الجنة إلى جحيم تعج بالجريمة؛ وتفيض بالآلام؛ فجلس تحت سوسنة نامية يتأمل، وكان ضوء القمر ينعكس على الأزهار ثم يرتد عنها شعراً وسحراً وموسيقى صامته؛ تنعزف ألحانها على أوتار قلبه الخفاق!
وصدح بلبل غرد في هدأة الليل الفضي، فانتفض الإله الأصغر وحمل قوسه وسهامه ومضى. . . . لا يأبه بجمال الطبيعة الساحرة، ولا يأسر لبه هذا البهاء الإلهي الذي يغمر الكون حوله، حتى كان عند أسوار القصر الملكي الراقدة في طوفان زاخر من أزهار الشيبر والياسمين والبابونيا
وبرفتين من جناحيه الصغيرين كان في حديقة القصر. . .
هاهو ذا يصعد على الدرج الرخاميّ، متبختراً، دون أن يلمحه الحرس. . .
وانفتل في غرفة بسيشية النائمة، واندس خلف الستائر الحريرية يوتر القوس الذهبية، وينتقي من كنانته سهماً تقطر المنية من سيته، ويرقص الموت على شباته!
وتقدم نحو الفتاة. . . . . .
يا للجمال النائم فوق الأريكة! ويا للفتنة العائمة ملْء السرير!
لقد كانت متجردة كلها! وكان نهدها البارز المثمر مجللاً بثديين ناضجيين، يتحلبان لذاذة ويلتهبان إغراءً!!
ونامت هذه الذراع هنا، واطمأنت تلك الذراع هناك؛ لدْنتان وإن كانتا كالمرمر؛ رخصتان وإن كانتا لتمثال معبود!!
وكان السحر يهمهم فوق الساقين الملفوفتين، ويهوم من تحتهما، كأنه يرقيهما من نفسه، أو ينفث فيها من روحه وبأسه!. . .
والرأس الصغير فوق الطنفسة الوردية، مستسلماً لأحلام الشباب الحلوة، متلألئاً في شعاعة(106/62)
من ضوء القمر سقطت عليه من النافذة القريبة، رسولاً من لدن ديانا البارة، أقبل ليقول للإله الأصغر: (مكانك أيها الرامي الحبيب! ماذا جنى عليك هذا الحسن فتسلمه للردى، وتجرعه كأس المنون؟! افتح له ما انغلق من قلبك تنعم به، فأنك لن تجد في ربات الأولمب من تخلص لك الحب كما يخلصه لك هذا الهدف البريء. . .!)
وخطا كيوبيد خطوتين، وحملق في وجه بسيشيه. . . . . .
وبهره الجبين المشرق، والهدب الناعس، والخد الأسيل. . . . وأخذ بلبه هذا الشعر العسجدي تفضض حواشية أضواء القمر فتزيده بهاءً ورونقاً، فإلى لا يهدرن هذا الجمال البارع، وانثنى مسلوب اللب، مشدوه القلب، موزع الفكر؛ وانتزع السهم فألقى به في كنانته. . . وقبل أن يخرج يده الصغيرة الناعمة، شاء القدر أن يخدشها سهم ذهبي من سهام الحب، ملأ كيوبيد هوى وأفعم قلبه صبابة، فتقدم نحو بسيشيه لهفان، يتزود لأوبته من جفنها النعسان وجمالها الفينان
وطبع على الفم الدقيق قبلة دقيقة حلوةً، وعاد أدراجه عاشقاً وامقاً لا يبالي بسخط أمه فينوس!!
وأنصدع عمود الليل، وتنفس الصبح فهبت الأرواح النائمة، وأقبلت فينوس ربة الحب لتسمع إلى النادبات النائحات في قصر الملك. . . . . . بيد أنها، بدلاً من ذلك، رأت بسيشيه، بسيشيه بعينها، تمرح في حدائق القصر، وقد برزت عرائس الماء من الغدران الصافية تحييها وتغني لها، وتضفر لها أفواف الزهر. . .!!
وحنقت ربة الجمال والحب، ونادت بالويل والثبور على ولدها كيوبيد، وأقسمت لتجعلن مباهج الحياة ووضاءتها ظلاماً في عيني الفتاة!!
فسلطت عليها الأشباح تروعها وتفزعها، وأغرت بها خفافيش سوداء جعلت تنوشها وتهاجمها، وسخرت عليها ريح السموم تلفحها وتصهر روحها، فانطلقت المسكينة مذعورة إلى داخل القصر، وطفقت تصرخ وتعول، ولا يدري أحد لماذا تصرخ ابنة الملك وتعول. . . وازدحم حولها أبواها وأخوتها والخدم والحشم ينظرون ويعجبون ولا يكادون يحيرون. . .
ومضوا بها إلى المعبد يستوحون الآلهة، ولكنها ما كانت لتزداد إلا شكاةً وأشجاناً!!(106/63)
وكرت الأيام. . .
وانسربت بسيشيه إلى الجبل القريب المشرف على البحر، وفي نفسها أن تلقي بحمل الحياة من شاهق، فتستريح مما يطيف بها من آلام!
ورآها كيوبيد. . .
وظلت هي ترقب الموج الهائج، وتشهد اليم المصطخب، وتلقي على البطاح نظرة مودع عجلان، وعلى المروج الخضر تحية مأخوذة القلب أسوان؛ ثم صرخت صرخة هائلة، وألقت بنفسها من علٍ. . . . . .
وكأن كيوبيد كان قد أحس بما تعتزمه حبيبته من الانتحار، فدعا إليه صديقه ونجيه زفيروس، آله الريح الجنوبية، وأطلعه على ما يكن من الحب: (لهذه الفتاة التي تكاد تلقي بنفسها من قمة الجبل يا صديقي زفيروس. فإن رأيت أن تكون لك على هذه اليد، أذكرها لك أبد الدهر، فخذ أهبتك، ولا تدعها تغوص في اليم، بل تلقها في يديك الرفيقتين، واذهب بها إلى الجزيرة المقابلة حيث الشاطئ المنظور بالرياحين؛ فدعها ثمة، فقد أعددت لها مستراداً وملعباً. . . . . .)
ولشد ما دهشِت بسيشية إذ رأت طيفاً نورانياً كريماً يبرز من الماء فجأة فيلتقطها في يديه الكريمتين، ثم يترفق بها فيضعها على ظهره العريض الرْحب، كأنه أريكة من أرائك الجنة التي وعد المتقون، ويخوض بها اليم المضطرب فتعنو له الأمواج ويسجد من تحته الثبج، ويصير البحر في لمحةٍ كأنه مرآة صافية ملساء، كأنها صفحة السماء. . .
ويصل إلى الشاطئ المزدهر فيبسم للفتاة ثم يجيبها بتمتمةٍ، وينطلق في البحر الذي يعود إلى سابق اصطخابه واضطرابه. . .
وتجلس بسيشيه على الكلأ فتفرك عينيها مما استولى عليها من ذهول، لترى هل هذا الذي هي فيه حلم، أم هي قد ماتت فعلاً ولكنها دخلت الجنة؟!!
بيد أنها تذكر أن الأرواح فقط هي التي تنفذ إلى دار الموتى؛ وأنه ليس في دار الموتى شمس ولا إياء، وهي تتحسس نفسها فترى جسمها البض الجميل كما هو لم يتغير، وهي ترى أيضاً إلى الشمس مشرقة تغمر بآرادها البر والبحر، وتنشر إياءها في الأكوان جميعاً. . .(106/64)
إذن هي لم تمت، وهذا الطيف الكريم الذي أنقذها من الموت، والذي ترفق فحملها إلى تلك الجزيرة هو رسول أحد الآلهة؛ وإذن فلتنهض ولتضرب في هذا الفردوس المنعزل حتى يكون أمر غير هذا الأمر. . .
ومضت في غياضٍ وأرباض، ورأت في الأفق القريب قصراً باذخاً ذا شرفات وأحياد، فيممت إليه، وما كادت تدنو منه حتى فتحت بوابة السور الكبرى على مصراعيها، وامتدت منها أذرع نورانية تصافحها، وانبرت أصوات رقيقة موسيقية تحتفي بها وتحييَّ وتبيَي!. . . . . .
وفركت بسيشيه عينيها كذلك!
وظنت أنها تحلم، ولكن كل شيء حولها حدَّثها أنها ترى رؤيةً حقيقة، لا رؤيا منامية. . . . فدخلت القصر، وفي نفسها من الحيرة وشدة العجب ما أخذ يتضاعف في كل خطوة ويزداد. . .
وحاولت أن ترى أحداً ممن لهم هذا الصوت الرقيق. . . ولكن عبثاً. . . ليس هناك إلا أذرع من نور تمتد إليها محتفية بها، تقودها إلى المخدع الوثير الذي أعدته العناية لها. . .
ودار الحديث بينها وبين طيف لا تراه:
- (. . . ويدهشني أنكم تحتفون بي. وتبالغون في إكرامي، وأنا لا أرى منكم أحداً، فهل كلكم يلبس قلنسوة هرمز؟)
- (كلا أيتها العزيزة؛ ولكنا أمرنا ألا ننكشف لك. .)
- (ومن ذا الذي أصدر إليكم هذا الأمر؟)
- (ونهينا أيضاً عن ذكر أسمه. . .)
- (أنتم كرام، ولكنكم تضايقونني إلى حد الإزعاج. .)
- (ليفرخ روعك أيتها العزيزة، ففي المساء، تلقين الآمر الكريم صاحب هذا القصر، وصاحب القصور الكثيرة في أطراف الأرض)
- (وهل لي أن أجول جولةً في قصركم المنيف عسى أن تذهب هذه الوحشة الجاثمة على قلبي. . .)
- (ولم لا. . . بسيشيه العزيزة؟)(106/65)
- (بسيشيه؟!. . . ومن أنبأكم أسمى؟)
- (رب هذا القصر أيتها العزيزة. . .)
وجالت الفتاة في القصر الجميل المنسق، وكان مثار عجبها هذه الصور البارعة المرسومة على الجدران، كلما وقفت عند واحدة دبت فيها الحياة، وتحركت على الحائط متهللة مستبشرة، محيَّية بابتسامةٍ خفيفة، أو انحناءة مؤدبة. . .!!
وكانت التماثيل في زوايا الغرف، وأوساط الردهات، وفي حنايا الحديقة، وفوق الربى المكسوة بالسندس الرطب، تحيّي الضيفةَ، كأن حياة تدب في مرمرها كلما وقع بصر بسيشيه عليها، فتتحرك الأذرع، وتومئ الرؤوس، وتمر الفتاة وقد أخذ الدهش من نفسها كل مأخذ. . .
وكانت العنادل تهتف بها ترجوها أن تتلبَّث فتسمعها أنشودة الخلد، ولولا العجلة لوقفت بسيشيه عند كل حتى ينتهي من غنائه الحلو، وتغريده الرنان
وعادت إلى المخدع مع مغيب الشمس
(لها بقية)
دريني خشبه(106/66)
أقصوصة عراقية:
بداي الفايز
للأستاذ محمود. أ. السيد
- 1 -
كان اليوم العاشر من شهر مايو. . .
كان الفرات فائضاً توشك أمواهه الطاغية أن تجرف السدود المقامة على ضفتيه. وكان الفلاحون من أبناء القبائل المختلفة، في منطقة خضراء بين ذي الكفل والكوفة - كأمثالهم في مناطق الفرات الأخرى - ساهرين عليها، مقيمين حولها ليلاً ونهاراً وجلين، يخيفهم الخطر الجاثم حيالهم منذ شهر، وقد أشتد بعد أن كان ضعيفاً مبهماً
وكان الصبح. . .
وكان النسيم يهب بليلاً فينعش هؤلاء المساكين، ويحيي فيهم عنصر النشاط الذي كانوا في أشد الحاجة إليه؛ فقد أنهكهم النصب، وآذاهم الجهد الذي بذلوا مذ طغى الماء، وهم يصارعونه ليحولوا بينه وبين زرعهم - مع أنه جزء قليل من زرع الرؤساء المالكين - وماشيتهم؛ وهما لهم قوام الحياة
وكانت سنابل القمح المنتشرة المتكاثفة في الحقول على مقربة من بيوتهم - وهي من القصب البالي والحصر وجريد النخل - ومن النهر، مصفرة ناضجة تبهج الناظرين. وكان وقت حصادها جد قريب
وحان الضحى؛ فحانت ساعة العمل لتقوية السدود وتمكينها فانتشرت جموعهم كالنمل تحمل إلى المواقع الواهنة منها التراب من أطرافها، ثم تعود لتحمل إليها التراب كذلك والحطب والقصب والحصر والعَمدَ والحبال وما إليها؛ ثم تعود مرة أخرى، فأخرى، يسوقها المهندسون والرؤساء المالكون في غير ما لين ولا إمهال
وحان الظهر؛ فاستراحوا قليلاً ثم عادوا يعملون
وتغير الطقس، آنئذ، تغيراً مفاجئاً - ومثل هذا التغير مألوف ومعتاد في العراق - فحجبت وجهِ الشمس عاصفةٌ شديدة أثارت الموج في النهر، وعظم بها الخطر، لأن السدود قد كانت(106/67)
احتملت من جريان المياه الطاغية وتيارها القوي أكثر مما تطيق احتماله، فكيف بها الآن وقد أخذ الموج يلطّمها فيوهنها ويكاد يهدّمها تهديماً
وكان الخطر أعظم ما يكون في الضفة اليسرى من النهر، لأن أهلها كانوا أقل عديداً من جيرانهم أهل الضفة اليمنى، وأرضهم أوطأ من أرضهم، وسدودهم أضعف من سدودهم
وكان الرؤساء جميعاً، هنا وهناك، مع وفرة غناهم، وامتلاكهم الدور والأحراز والأرضين دون الفلاحين، أحرص منهم على حفظ السدود لحفظ الزروع. فداروا حولهم يشجعونهم ويضربون المقصّر المتخلف منهم عن صحبه بالعصي والسياط
ونحن الآن في الضفة اليمنى
حان الأصيل، وبدأت قصتنا؛ فوقف فتى طويل القامة مفتول الساعدين، آدم اللون، يدعونه (بدَّاي الفايز) ويتميز بخنجر مفضض لا يفارق حزامه، أمام رئيس من رؤساء القبيلة التي ينتمي إليها، معتدلاً يعلوه الشمم، وتهز كيانه نخوة الأعراب؛ وقد أصابته منه ضربة عصا كما أصابت غيره ضربات، وسواء أكان لتلك الضربة سبب من تقصير في العمل أم لم يكن، فان (بداي) الذي كان شاذا في قبيلته في بعض خلاله، قوي الشكيمة، عزيز النفس، معتزاً بقوة جسمه، لم يحتملها؛ فوقف يغمغم متظلماً في شبه ثورة وعصيان
وبهت الرئيس، فنظر إليه مستغرباً مستنكراً: مستغرباً شممه ونخوته وقد حسبهما طيشاً ونزقاً وخنزوانة عبد، وحمله خنجره المفضض حتى في ساع العمل العسير، مستنكراً تظلمه، وكيف لم يحتمل منه ما احتمل الآخرون أذلة خاضعين
وأقبل عليه يريد أن يضربه مرة ثانية؛ ثم انثنى عنه في لحظة فانشأ يرميه بما هو عند القبائل شر من ضرب العصي وأنكى، قال يعيره:
- (ويلك يا جبان! هل يرفع أنفك فيميزك عن أخوتك الطائعين هؤلاء خنجرك المفضض هذا!؟ ولأي يوم كريهة تحمل هذا الخنجر وتلك البندقية التي تعلقها بالسدرة؟ وأين كان هذا السلاح يوم قتل جسام أخاك عباس؟ ولماذا لم تثأر له به حتى الآن أيها الجبان الذليل؟!)
وإذ نطق باسم (جسام) شدّد (السين) تشديداً غريباً ومد (ألفه) وهو يشير بعصاه إشارة ذات معنى إلى ضفة النهر المقابلة؛ ثم إذ أتم كلمته أبتسم ساخراً متهكماً وتولى، وهو مدرك أية طعنة نجلاء طعن الفتى(106/68)
وسمع بداي هذه الكلمة الطاعنة أمام الجمهور الحاشد من الفلاحين الذين كان يراهم دونه شمماً وإباء للضيم ونخوة، وهو في أسوأ حال من الاضطراب النفسي والغيظ، وعضّ على شفته إذ أخذته (العزة)؛ فصاح صيحة كاد ينفطر لها فؤاده:
- (أخسأ! أنا أخو شمسة! ولأنتقمن ولأدفعنّ عني عاري!)
وترك العمل وهو حانق غضبان. وشعر بأن حياته أضحت عبئاً ثقيلاً عليه. و (النار ولا العار!) وهل يهمه بعد الزرع وغير الزرع؟ (لقد قتل جسام من أبناء القبيلة المجاورة أخاه عباساً، في نزاع على دين قديم، منذ عهد قريب، وتلكأ عن أداء ديته. هذا ما كان يعلمه؛ ولكنه لم يكن راضياً بالعار الذي خلع عليه هذا الحادث منه جلباباً أسود ضافياً. لم يكن ساكتاً عن حقه، والثأر في القبائل كالدية، حقٌ. على أنه لم ير بداً من التريث حتى تنجلي هذه المصيبة التي حلت بالقبائل الفراتية كافة: مصيبة الفيضان. فكان من المروءة تركه وشأنه؛ أما وقد سبق السيف العذل؛ فعيرّ أمام الناس، فلا كانت الحياة إن لم يثأر وينتقم. . . . .)
هذا ما فكر فيه في دقائق مسرعة كالثواني، ونفض عباءته ليزيل ما علق بها من تراب حين العمل، ثم تناول بندقيته غير ملتفت وراءه، وتوارى عن الأنظار
- 2 -
ونحن الآن في الضفة اليسرى
أقبل الليل؛ وانقلب الفلاحون إلى بيوتهم، وهم يتوقعون الخطر الجاثم حيالهم، يتوقعون أن تتدفق المياه عليهم في هذه الليلة إن لم تنقص قليلاً، وبقيت الريح العاصفة على شدتها تثير أمواجها فتوهن السدود. وكان الإعياء آخذاً منهم مأخذه فرقدوا متوكلين على الله؛ إلا الحراس منهم الذين أقاموا على السدود، فكانوا متحفزين للعمل، يروحون ويجيئون كأشباح الجن؛ يلفهم نور القمر الضئيل الذي حجبت سطوعه الريح الذارية وما كانت تحمله للقوم من غبار كثيف
وكان جسام القاتل واحداً من هؤلاء الحرس
وكان وهو في جماعته، مطمئناً غافلاً، لا يدري أن بداي قد أقسم لينتقمن لشرفه في تلك الليلة؛ لا يدري أنه جاء دارة القوم خلسة وقد عبر الفرات على زورق من زوارق الصيد(106/69)
صغير، بعد لأي وجهد كبير؛ وأنه كان - وقد مضى الهزيع الأول من الليل - يكمن له وراء نخلة في طرف حديقة مجاورة لبيوت القبيلة مما يلي مضرب الحرس ملثماً بكوفيته، متلفعاً بعباءته السواء؛ مصمماً على قتله
وكان موقع الحارس جسام قريباً من الحديقة؛ وكان خصمه يتبينه؛ وكان يعرفه مستدلاً عليه بصوته الذي كان يرتفع بين دقائق ودقائق إذ ينادي صحبه نداء الحذر والانتباه
وكان ينظر إليه وهو واقف في الظلام، ظلام الحديقة الذي كان يستره كالخنزير الحانق على الصياد؛ ويقول بصوت خافت؛ وكأنه يتوعده:
- (اصبر لي قليلاً يا ابن الكلب. . . .)
ثم حشا بندقيته؛ وقد اشتدت ضربات قلبه؛ وبدت على وجهه سيماء الإنسان الوحشي القديم؛ وثنى ركبتيه وأطال النظر في عدوه ليسدد الرمي؛ وكاد يطلق رصاصاته الخمس التي أعدها لقتله، لولا أن رأى بجانبه حارساً آخر أقبل عليه مسرعاً. فكان على بداي لقتل واحد منهما أن يقتل الاثنين معا، وهذا ما لم يكن يريده؛ لأن ثأره على تلك الصورة يخلق له مشكلة يصعب عليه التخلص منها، فقد يغتفر له ذوو جسام وأبناء قبيلته قتله لأنه قاتل أخيه، ولكنهم لا يغتفرون له قتل الثاني؛ ولابد لهم من قتله بعدئذ ليثأروا به منه
وتملكته الحيرة فلم يدر ماذا يفعل
ثم بدا له أن يتوقع عودة القادم، لينفرد بفريسته، وبينما هو في موقفه هذا، ارتفعت من جانب بعيدً قيدَ غلوة صيحة حارس يستغيث
لقد حم الأمر؛ وتفجرت المياه من ثلمة حدثت في السد المصاقب، ومضى الحرس وفي طليعتهم جسام، يعدون مستبقين لسد الثلمة، فلم يتمكنوا من ذلك، ولم يكن دفع المياه المتدفقة المتحدرة تحدر السيل من أعالي الجبال مستطاعاً
واستيقظ أبناء القبيلة فروَّعهم الحادث، وشعروا بوقوع الكارثة، فأضاعوا رشدهم، كما أضاعوا من قبل جهودهم كلها في الزرع وفي إقامة السدود. وحاولوا كفاح المياه العرمة فحاولوا عبثاً، وراموا مستحيلا
وما كان أمامهم إلا الهرب، فكان النساء يولولن، والأطفال في خوف ورعب يتصارخون. وكان جسام ذا أسرة تتألف من زوج، وثلاثة أطفال، وأم عجوز، وأخت. وكان الرجل آخر(106/70)
هارع إلى أمه وإلى أطفاله لينقذهم من الغرق، وقد خسر مع الخاسرين نصيبه في الزرع، ونسي بقرته وغنمه؛ وعلى هذه البقرة والغنم تقوم حياتهم بعد الزرع. . .
وأدركت الرحمة الطبيعة حينئذ، فسكنت الريح، وانقشع الغبار، فهذا القمر المنير زاهياً متلألئاً يطل على هذه الفاجعة في قسوة وجمود
- 3 -
وبعد ساعة أو أقل كانت الثلمة متسعةً، تنصب منها في السهل الكائن وراءها حيث البيوت ثم الحقول، مئات الألوف من الأمتار المكعبة من الماء. وكان بداي يشهد هذه الفاجعة التي فجعت بها القبيلة في دهش وتألم. وكانت نفسه ساكنة هادئة بعد أن أفلتت فريسته منه، وأحس شيئاً يتمزق في جوفه. ثم أستيقظ في نفسه شعور غريب جديد، هو غير الشعور بالضراوة والرغبة في الانتقام والثأر؛ وذهل عما جاء من أجله؛ فاقترب من بيوت القوم قليلاً، فرأى - مما رأى - أطفال جسام الثلاثة في صراخهم وعويلهم، والأب يحمل منهم الاثنين الكبيرين وكانا في الرابعة والخامسة، نحيفين واهنين من مرض أو جوع، وزوجه تحمل بعض المتاع وتقتاد البقرة، وأخته تريد أن تحمل أمها العجوز، والطفل الثالث، وهو في الثالثة من العمر ما يزال على الأرض متشبثاً بأذيال أمه يرتجف ويعول باكياً، والأم ذاهلة تحني فتتناوله لتحمله فوق المتاع، فيفلت منها زمام البقرة؛ ثم يذكر الأب، وهو دهش يحمل طفليه، غنمه فيذهب إليها حيث كانت في زريبة مجاورة ليسوقها أمامه. . . وأبناء القبيلة كل منهم مشغول ببلائه، وقد اختلط الحابل بالنابل؛ فكانوا في مثل يوم المحشر الموعود
وكانت الكلاب تنبح شاعرة بالخطر نباحاً صاخباً يملأ الجو
وحينئذ كان بداي يحكم لثامه شداً، ويتنكب بندقيته، ويشمر عن ساعديه؛ ويبادر لنجدة هذه الأسرة وعونها. وأقبل على الأم الذاهلة فتناول منها طفلها فخفف عنها حملها الثقيل. وحسبه جسام، وقد حانت منه التفاتة إليه في الزحام، واحداً من أبناء عمه، فخاطبه مرشداً ومشجعاً:
- (دونك السد)
وكان السد الممتد على طول النهر والمؤدي إلى قرية قريبه، الطريق الوحيد الذي لجأ إليه(106/71)
القوم طلباً للنجاة من الغرق لقربه من بيوتهم وارتفاعه عن السهل المنبسط الذي أخذ الماء يغمره شيئاً فشيئاً. . .
وإذ تخلصت زوج جسام من وليدها، واطمأنت لنجاته، استطاعت سحب البقرة وراءها واستنقاذ ما حملت على ظهرها من متاع البيت. وحملت أخته أمها العجوز. وبلغوا يخوضون الماء المتدفق خوضاً، معه، وهو حامل طفليه. واستعدوا ليمشوا وراء قافلة القبيلة التي رحلت من مستقرها وقد مسها ضر أليم. وأقبل أثرهم الرجل الملثم حاملاً الطفل الصغير فأنزله إلى الأرض، واقترب حتى قابل جساماً فحل عنه لثامه، ونظر إليه، في ضوء القمر، محملقاً كأنه يقول له:
- (هلا عرفتني؟ فأنا خصيمك طالب ثأر عباس؟)
ولبثا دقيقة ينظر الواحد منهما إلى الآخر، وقد أوشكت أن تثور فيهما نوازع الرغبة في الاقتتال، هذا ليدافع، وهذا ليثأر وينتقم
ونحَّى جسام طفليه عنه في تأن وحذر، ومد يمناه إلى خنجر
بيد أن بداي أخلف ظنه فما زاد على أن هز رأسه، وقال له بصوت أجش:
(اذهب الآن!. . مع السلامة. . خلصت. . ولكن لا تنسى أن لك ساعة أخرى!)
وانكفأ إلى زورقه مسرعاً، تاركاً ثأره وزوجه التي انتبهت إليه آخر الأمر، في حيرة واستغراب
وآب بداي الفايز إلى قبيلته ساكناً هادئاً، فخوراً بالفعلة التي لم يفعل مثلها أحد قبله، إذ أنجد أسرة حين لم يكن له من إنجادها بد، واستحيا لأجلها، ولو إلى حين، نفساً ما كان لها إلا أن تموت
- 4 -
ومر عام على هذا الحادث. فعادت قبيلة جسام إلى أرضها الأولى، بعد أن زال عنها الماء الذي غمرها أشهراً؛ وأنشأت لها سداً جديداً على ساحلها؛ فجاءها رسل من القبيلة الثانية يسعون بين بداي وجسام بالصلح، ويحملون دية القتيل مالاً وامرأة وهي أخت القاتل، فتزوجها بداي زواج (الفصل) على سنة القبائل الموروثة وتقاليدها
ولم يعد أحد يجرؤ، بعد ذلك، أن يعير الفتى بأنه نام عن ثأره نوم الجبان الذليل(106/72)
(العراق - الأعظمية)
محمود. أ. السيد(106/73)
البريد الأدبي
تبسيط اللغة الإنكليزية واهتمام الإنكليز بنشرها
يبدي الإنكليز في الوقت الحاضر اهتماماً بنشر اللغة الإنكليزية، ويحاولون بمختلف الوسائل أن يجعلوا منها لغة دولية عامة، كاللغة الفرنسية في الشؤون والمعاملات الدولية والتجارية؛ ويرجع هذا الاهتمام إلى ما بعد الحرب الكبرى إذ أتسع نطاق الإمبراطورية البريطانية أتساعاً عظيماً، وضمت إليها شعوب وأمم جديدة، وزاد نفوذ إنكلترا الدولي تبعاً لذلك، واتسع نطاق تجارتها اتساعاً عظيماً. والإنكليز أقل الأمم اهتماماً بدرس اللغات الأجنبية، وقد حاولوا أن يتلافوا هذا النقص بفرض لغتهم على الشعوب التي تنضوي تحت لوائهم، ولكنهم يرغبون اليوم في التقدم خطوة أخرى، وذلك بالعمل لجعل اللغة الإنكليزية لغة دولية اختيارية. وقد رأوا أن أنجع وسيلة لتحقيق هذه الغاية هو تبسيط اللغة الإنكليزية إلى أبعد حد، وانتهوا فعلاً إلى عمل هذه التجربة، فقام الأستاذ أجدن أحد أعضاء المعهد اللغوي بجامعة كامبردج باختيار الألفاظ الإنكليزية التي تعبر عن أكبر عدد من المعاني المطلوبة، وانتهى إلى حصرها في 850 كلمة تكون وحدها لغة إنكليزية جامعة وافية بالتعبير عن كل ما يرغب، ويكفي لدرسها وحفظها ثلاثون ساعة، وليس فيها أي تضارب ولا تعقيد، وليس فيها من الأفعال سوى 18 فعلاً، وقد سميت هذه اللغة (بالإنكليزية الأساسية). ويعلق الإنكليز على هذا التبسيط المدهش للغة تبلغ كلماتها عشرين ألفا آمالاً كبيرة، وتنوه الصحف العلمية بهذه المناسبة بأن أحب الكتاب الإنكليز إلى الشعب الإنكليزي هم أبسطهم لغة وبياناً مثل سويفت وبرناد شو، ومن ينحو نحوهما في التعبير الجزل البسيط الذي لا يتخلله حشو ولا ترادف ولا تعقيد
أزمة الديموقراطية
تشغل أزمة الديموقراطية أذهان الساسة والكتاب الأحرار، وقد صدرت في موضوعها في الآونة الأخيرة مؤلفات عديدة ولا سيما مذ تولت عصبة الهتلريين الحكم في ألمانيا وسحقت كل أنواع الحقوق والحريات العامة؛ ومنذ أسابيع قلائل ظهر كتاب جديد في الموضوع بقلم مسيو دي روفيرا الكتاب والسياسي الأسباني عنوانه (تجربة سياسية) ومن رأي هذا الكتاب أن الديموقراطية تجتاز أزمة الموت، بيد أنه من المستحيل أن يظفر المؤرخ أو(106/74)
السياسي المعاصر بجراثيم الداء التي تنخر أسس الديموقراطية؛ وأكبر الظن أن مؤرخ القرن الثاني والعشرين أو الثالث والعشرين سيكون أقدر منا على تفهم الصلات والحوادث التي تربط الثورة الفرنسية بالحركات الثورية الجديدة مثل الشيوعية والفاشستية، وأقدر منا على تفهم المراحل التي جازتها المبادئ الثورية السياسية حتى انتهت إلى نواحيها الاجتماعية؛ وقد يرون أن نحول العالم القديم إلى العالم الجديد قد أستهدف لسلسلة من النزعات والعوامل المضطربة. ثم يقول مسيو روفيرا: إننا نشعر الآن في جميع أوربا بضرورة الإرادة العاملة؛ ولنا أن نسميها (سلطة) أو (طغياناً) فان المهم هو أننا نريد أن نعمل. ويجب علينا إلا نحكم على آبائنا بالبله والعجز لأنهم لم يبتوا في المسائل بشيء. والواقع أنه يجب أن نعتبر خاتمة القرن التاسع عشر وفاتحة القرن العشرين مرحلة الهدم بالنسبة للعالم القديم، ومرحلة التجارب الهائلة؛ وليس ثمة ما يدهش إذ نرى ما نرى من ذلك الاضطراب الهائل الذي يسود شؤون العالم اليوم. وقد أثارت ملاحظات المسيو دي روفيرا كثيراً من الاهتمام والجدل لأنها تتعلق بمسألة تعتبر مسألة العصر، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً
رسائل جديدة لشارلس دكنز
صدر في لندن مجلد من رسائل جديدة لشاركس دكنز الكاتب الإنكليزي الفكه، محتوياً على جميع الرسائل التي كتبها دكنز لزوجته كاترين هوجارت من سنة 1835 إلى سنة 1867 وكانت مدام دكنز قد أوصت بهذه الرسائل لبناتها، وأودعتها ابنتها الثانية كات بيروجيني بالمتحف البريطاني وأوصت بأن تبقى في طي الكتمان بعيدة عن النشر والإذاعة حتى تموت هي، والسير هنري فلدنج دكنز آخر من بقي على قيد الحياة من نسل الكاتب الشهير. وقد عمل المتحف البريطاني بهذه الوصية ولم يسمح بإذاعة الرسائل حتى تحقيق شرط الانقراض. وليس في هذه الرسائل جديد مما لم يعرف عن حياة دكنز، ولكنها تلقي ضياء جديداً على ما كان بينه وبين زوجه من الخلاف وما كان بينهما من أسباب النفرة والاحتكاك مذ عرفها باسم كاترين هوجارت. والرسائل الجديدة على وجه العموم صورة حية من خواص دكنز ومواهبه الكتابية، وهي تسبغ على الحوادث والمسائل التي تتناولها حياة جديدة لم تتوفر في أية ترجمة من التراجم التي تناولت حياة الكاتب الكبير، وفيها يبدو(106/75)
دكنز في ذروة براعته المعروفة في التصوير الفكه المبكي معاً. وقد تلقى الجمهور الإنكليزي الرسائل الجديدة لهذا الكاتب المحبوب بلهفة واشتياق. واللذين قرأوا من أبناء العربية شيئاً من قصص دكنز ولا سيما قصته الخالدة (دافيد كوبرفيلد) أو (نادى بكويك) أو (نيكوك س نيكلباي) أو غيرها يذكرون كيف يستطيع هذا الكاتب المبدع أن يصور حياة البؤس والتشريد في صور بسيطة مبكية معاً، وكيف يستطيع أن يهز أوتاراً القلوب بعرضه المؤثر وبيانه الخلاب
وليم كوبيت
تحتفل الدوائر الأدبية الإنكليزية الأدبية بذكرى كاتب مازالت كتابته تطبع أذهان النشء الإنكليزي بطابع قوي: ذلك هو وليم كوبيت الذي توفي منذ مائة عام. وقد ولد كوبيت سنة 1762 في فرنهام من أعمال سوري، في أسرة ريفية فقيرة، وقضى حداثته في فلاحة الأرض، ثم تقلب في مهن صغيرة مختلفة، فاشتغل كاتباً وجندياً ولما ترك الجندية سافر إلى أمريكا وقضى بها ردحا من الزمن ثم عاد إلى إنكلترا؛ واشتغل ذلك بالصحافة آنا وبالزراعة آناً آخر، ولقي في حياته العملية صعاباً جمة نظراً لمناوأته رجال الحكم؛ واستقر في إنكلترا منذ سنة 1800 وأخذ يعالج الصحافة السياسية أولاً إلى جانب حزب الأحرار، ثم إلى جانب المحافظين؛ وكانت صرامته وعنفه وشدة حملاته تثير عليه السخط في الجانبين، ولكنه مع ذلك كان يبدي براعة ظاهرة في حملاته، وكان مرهوب القلم. وفي سنة 1817 سافر إلى أمريكا مرة أخرى ومكث بها عامين ثم عاد إلى إنكلترا؛ ورشح نفسه للانتخاب النيابي فسقط لأول مرة، ثم عاود الكرة بعد ذلك ونجح في الانتخاب كنائب عن أولد هام. بيد أنه لم يبد في مجلس العموم مقدرة خطابية. ولم يلبث أن توفي بعد ثلاثة أعوام، في يونيه سنة 1835
وقد كان كوبيت من أعظم النقدة في عصره، وكان كاتباً وصفياً لا يجارى، وكان يملك زمام البيان بقوة مدهشة؛ وكان أشد تأثيره في شباب عصره؛ وأشهر مؤلفاته (نزهات ريفية) و (نصيحة إلى الشبان والشابات) وهو من خير ما كتب وخير ما ظهر في عصره؛ ثم رسائله السياسية الأسبوعية وهي تملأ مجلدات كثيرة
الذكرى الثلاثون للإمام محمد عبده(106/76)
أقامت رابطة الشباب الأدبية في الساعة السادسة من مساء الخميس الماضي بالدار الجديدة لجمعية الشبان المسلمين احتفالاً رائعاً بذكرى مرور ثلاثين عاماً على وفاة المصلح الكبير الإمام محمد عبده، شهده صفوة من رجال العلم وجمهرة من شباب الأمة، وتكلم فيه الأستاذ عبد الوهاب النجار عن حياة الإمام، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق عن الإمام في الأزهر، والدكتور محمد حسين هيكل عن الإمام في الصحافة، والأستاذ عبد الله عفيفي عن دفاع الإمام عن الإسلام، والأستاذ الهلباوي بك عن الإمام في القضاء؛ وكادت هذه الخطب الممتعة تؤلف للإمام ترجمة وافية لولا أن ضيق الوقت أعجل الأستاذين النجار والهلباوي عن لم الموضوع واستيفاء البحث(106/77)
الكتب
1 - فتح العرب لمصر: للدكتور بتلر
ترجمة الأستاذ محمد فريد أبو حديد
2 - فنون الطهي الحديث
لمؤلفيه السيدين أبي زيد أمين وطغيان سعيد
للأستاذ محمد بك كرد علي
من الكتب كتاب واحد يغني عن عشرة، وقلما أغنى قط كتاب عن كتاب. وهذا الكتاب في فتح العرب مصر يدخل في باب ما لا يستغني عنه من الكتب لفائدته وطرافته. صرف مؤلفه في وضعه وقتاً طويلاً يدرس ويبحث، ثم يستقرئ ويستنتج، فجاء كتابه ناضجاً من كل وجه، حرياً بأن يتعلم بعض من يؤلفون بالعربية أصول التأليف المنقحة بالنظر إلى هذا الكتاب وكيف يدرس الغربيون أبحاثهم ليفيدوا العلم ويأتوا بالمتقن من صفحاته
استعان المؤلف في تأليفه بشذرات قليلة مما كتبه الروم ومؤرخو الكنيسة القبطية، وما كتبه أهم المؤرخين من العرب والإنجليز والفرنسيين والألمان، وما عثر من أوراق البردي في أرجاء مصر، وما كشف من عادياتها القديمة، ورجع إلى عالم عصره الشيخ محمد عبده فأعطاه بعض قطع اختارها أو كتبها، وكانت خاصة بالفتح، وساعده غير واحد من أعلام مصر في قراءة جمل من القبطية وغيرها فجلا تاريخ هذه الحقبة بأجمل أسلوب عصري، صوَّر لك ما وقع من حوادث الفتح العربي كأنك تشهدها
قال: (ولعل القارئ يستطيع من مطالعة الملاحق التي ألحقناها في آخر الكتاب أن يتبين شيئاً من مقدار ما هنالك من خلط في التاريخ، ومقدار ما عانيناه من المشقة في ابتداع طريقة لضبط تواريخ، الفتح الفارسي والفتح العربي، فالظاهر أن مؤرخي العرب لا يعرفون شيئاً عن تيودور القائد الأعلى لجيوش الروم، فهم يخلطونه ببعض أصاغر القواد، وهم كذلك يخلطون بين قيرس (المقوقس) وبنيامين، وبين فتح قطر مصر وفتح مدينة مصر، وفتح الإسكندرية، ولا يميزون بين فتح الإسكندرية الأول الذي كان صلحاً وبين(106/78)
فتحها الثاني الذي كان عنوة، وكانوا يذهبون إلى أن القبط قد ساعدوا العرب ورحبوا بهم. وقد ظلم التاريخ القبط في ذلك ظلماً فاحشاً على نحو ما ظلم العرب ظلماً كثيراً بنسبة حريق خزانة كتب الإسكندرية إليهم) قال: وما كأن لنا إلا قصد واحد وهو أن نصل إلى الحق، وقال إنه ممن يحمل لكل من الشعبين العربي والقبطي أكبر الإعجاب
ومن براهينه في تبرئة العرب من حريق خزانة الإسكندرية أن هذه القصة لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت الحادثة وقد فحص هذه الحكاية وحللها (شأن عشرات من علماء المشرقيات) فألفاها كما رأوها سخافات مستبعدة ينكرها العقل، وقال أن الرجل الذي ذكر أنه كان أكبر عامل فيها مات قبل غزو العرب بزمن طويل، وإن القصة قد تشير إلى واحدة من خزانتين: الأولى خزانة المتحف، وقد حرقت في حريق قيصر، وإذا لم تتلف كلها كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل فتح العرب. وأما الثانية وهي خزانة السرابيوم أما أن تكون تلفت قبل عام 391، وإما أن تكون قد ضاعت، وعلى كل فقد ضاعت أخبارها قبل فتح العرب بقرنين ونصف قرن، ولو كانت هذه الخزانة باقية عندما عقد قيرس صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية لنقلت الكتب، وقد أبيح ذلك في شروط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة وقدرها أحد عشر شهراً، وإن كتاب القرنين الخامس والسادس لا يذكرون شيئاً عن وجود الخزانة، كذلك كتاب أوائل القرن السابع، وأنه لو صح أن هذه الخزانة قد نقلت أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقة لما أغفل ذلك كاتب من أهل العلم وهو يوحنا النقيوسي، وكان قريب العهد من الفتح، ولما مرّ على ذلك بغير أن يكتب حرفاً الخ
وقال المؤلف في الحاشية إنه لم يقصد سوى إثبات الحقيقة، وما قصد الدفاع عن العرب، وليس الدفاع بضروري، ولو كان ضرورياً لما تعذر أن نجد شيئاً يليق الاعتذار به عن ذلك، ولا شك أن العرب عنوا فيما بعد بجمع كثير من الكتب القديمة وغيرها مما وقع في أيديهم، وعنوا بحفظها، وترجموا منها في كثير من الأحوال. قال: وفي الحق أنهم أقاموا مثلاً يجدر بفاتحي هذه الأيام أن يحذوا حذوه، فقد نقل سيديليو في تاريخ العرب العام أن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة قسطنطينية في شمال أفريقية أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم (كأنهم من صميم الهمج)؛ ووجد الإنجليز عند فتح مدينة مجدلة خزانة(106/79)
كبرى من الكتب الحبشية فحملوها معهم، ولكنهم لم يلبثوا أن تركوا أكثرها في كنيسة على جانب الطريق إذ وجدوا في حملها عناءً. وقيمة الكتب التي نجت وحفظت تدل على فداحة الخسارة التي لحقت العلم بضياع ما ترك منها أهم
بهذا الإنصاف، وهذه العناية، وهذا الجهد، ألف المؤرخ الإنجليزي تاريخ الفتح العربي في مصر، فرسم صورة جميلة، وكان إعجابه بعمرو بن العاص لا يقل عن إعجابنا معاشر العرب به وبأمثاله من الصحابة الفاتحين. وعناية المترجم الفاضل شديدة بتجويد ترجمته على صعوبتها لما حوت من النقول العربية وغيرها من اللغات ليرد الوثائق إلى أصلها؛ وقد وقع له تحريف في بعض الأعلام، ومنها ترجمته اذاسا وهي الرُّها وأطلق عليها الترك (أورفه)؛ ومنها (افيسوس) وهي (إفسس) مدينة في آسيا الصغرى أطلالها قرب أزمير اليوم؛ ومنها (برجاموس) وهي (فرغاموس)، وفي قاموس الجغرافية القديمة للعلامة أحمد زكي باشا أن فرغامس هو الاسم الوارد في كتب العرب للدلالة على مملكة قديمة بآسيا الصغرى اسمها عند الإفرنج ومنه اشتقوا الكلمة التي يطلقونها على الرق (بفتح الراء) أي الجلود المستعملة للكتابة، لأنها أول ما صنعت بهذه المملكة، فيقول الطليانيون والفرنساويون الخ. وقال مدينة (بيرويه) وهي مدينة حلب ذاتها. هذا إلى هنات قليلة لا يكاد يخلو منها كتاب منقول إلى لغتنا من لغة أعجمية. أما الترجمة في مجموعها فيستحق عليها المترجم كل ثناء وشكر
- 2 -
أحسن مؤلفا فن الطهي الحديث على الطراز العربي والغربي وضعه. ألفاه بعد أن عانيا صناعة الطبخ بالعمل في مصر وبلاد الغرب سنين طويلة وعملا في قصور الملوك والأمراء وفنادق النبلاء والملآء، فجاء الكتاب نافعاً في بابه لا تستغني عنه ربة دار، ولا طاهٍ يروقه أن يزين خُوانه بشهيّ الألوان، ويتفنن في تلذيذ الآكلين بطعام صحي منوع. جاء الكتاب في 1170صفحة كبيرة وصفت فيه الأطعمة والحلويات والمتبلات مشفوعة بالمقادير الواجب استعمالها وبصورة وضعها وصنعها بحيث لا يكاد يحتاج من يريد الاقتباس منها إلا إلى قليل من الدقة والعناية حتى يتفنن في طبخ الطعام ويجهز ألواناً رائعة شائقة شكلاً وطعماً. وكنا نتمنى لو دفع المؤلفان كتابهما إلى من يصقل عباراته ويترجم(106/80)
أسماء بعض الألوان الإفرنجية بألفاظ عربية تدني مفهومها من ذهن من لا يحسن لغة من اللغات الأجنبية من أبناء العرب
وقديماً ألف أجدادنا في هذا الموضوع بما دل على رسوخهم في الرفاهية، وقرأنا في الكتب أن الخليفة الفلاني أو الملك الفلاني كان يقدم على مائدته عشرات بل مئات من ألوان الطعام. والتفنن في الطبخ دليل الحضارة، ولطالما كان بعض الأمراء يرسلون إلى الأقطار البعيدة بعض طهاتهم ليأخذوا عنها صنع أطعمة لا يعرفونها، والمطابخ الإفرنجية اليوم أرقى من المطابخ الشرقية؛ لأن طعامها يطهى على أساليب كيماوية صحية لا نزاع في خفتها وطرافتها. وحضارة الغرب أرقى من حضارة الشرق، اللهم إلا في مسائل يتفرد بها الشرقيون
فليس البحث في الأكل الجيد إذاً بالذي يعد انحطاطاً، ونحن لو أنعمنا النظر لا نفسر هذا الجدال القائم بين البشر اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم إلا على الرفاهية، وما فلسفة الأمم إلا فلسفة خبز في الواقع. ودعوى خدمة المدنية والإنسانية صورة مبهرجة يراد بها غير ما تعطي ظواهرها. والأمة التي يكثر خبزها وتتلون أطعمة المتوسطين والموسرين فيها هي أمة راقية سعيدة، والعرب الذين عهدنا لهم تلك الخشونة في المطعم لما فتحوا الممالك وخرجوا من جزيرتهم أغرقوا في التنطع والتنوّق إغراق غيرهم من الأمم
محمد كرد على(106/81)
العدد 107 - بتاريخ: 22 - 07 - 1935(/)
محمد حافظ إبراهيم
بمناسبة ذكراه الثالثة
كان الجيل الماضي بمصر لا يزال يعيش على بقايا تخلفت من تقاليدنا الجميلة في الجماعات والأسر، فالناس يجرون على أثر من خلال الفتوة، يرتاحون للندى، ويتنافسون في العرف، ويهتزون للبطولة، ويطربون للبيان، ويجيزون على الشعر؛ و (مناظر) الدور وأبهاء القصور تأخذ في كل مساء زخرفها من أهل الأدب ورجال السياسة وأصحاب الجاه وأرباب الحكم؛ وكان مدار الحديث فيها على النكتة البارعة، والخبر الطريف، والمسألة الدقيقة، والبلاغة المأثورة، يتساقطها السامرون على محض المودة ووثوق الألفة، فتفتق الذهن، وتصقل الذوق، وتوجه الميل، وتنيل الحظوة؛ وكانت المواهب والملكات تتفتح في جوانب هذه الأندية فتدل على نفسها أهلَ النفوذ فيُشبلون عليها حتى تزهر وتثمر؛ وكانت النهضة الأدبية والحركة الفكرية يومئذ في طور الانتعاش، تتحركان للنمو والسمو على نفحات المرصفي والبارودي والأفغاني وعبده وسلمان وحمزة والشنقيطي واليازجي والمويلحي ونديم وسعد وفحتي ومصطفى وقاسم؛ فالمجالس تُشيع جر الكلام، والصحف تذيع بارع النقد، والخديويون يتخذون من الأدباء ندامى، ومن الشعراء بطانة، حتى قر في نفس حافظ وأنداده من ناشئ الشباب الطامحين أن الأدب كان سبيل الثراء (لليثي)، وسبب المجد (لسامي)، ووسيلة الزلفي (لشوقي)، فتجهز لهذه الغاية بجهاز هذه البيئة، فروى رقائق الشعر، وجمع مقطعات الحديث، وراض نفسه على معاناة القريض.
كان عمر حافظ سنتين حين توفى أبوه فقيراً في (ديروط)، فنشأ في مهد اليُتم والعُدم لا يجد حانياً غير أمه، ولا كافياً غير خاله، فجاز مرحلة التعليم الابتدائي في ضيق وشدة، ثم قضى بضع سنين في طنطا متبطلاً يُزَجِّى فراغه بالقراءة ويدفع ملاله بالقريض، ولم يستطع خاله لسبب ما أن يجلو عنه غمة البائس، وذلة اليتيم، فكان لا يفتأ متبرماً بالعيش، متأففاً من الناس، متجنياً على القدر، لا ينشئ الشعر إلا في ذاك؛ ثم دفعته الحاجة إلى مكاتب المحامين - وكانت يومئذ مفتحة الأبواب لكل داخل - فتبلغ من العمل بها حيناً، حتى أسعفته الفرص فدخل المدرسة الحربية، وهي مطمح بصره وحديث أمانيه؛ ثم خرج منها ضابطاً إلى السودان ليشهد صلف الإنجليز وضراعة المصريين، فيثور مع إخوانه الضباط(107/1)
على جور المحتل وفضول الدخيل، فينفى فيمن نفي من السودان والجيش.
عاد حافظ كما كان يضطرب في الحياة النابية المبهمة، لا يستريض لعمل، ولا يستقر على أمر، ولا يتشوف إلى غاية، لأن طفولته الشاردة المهملة طبعته على الكسل والملل والتشاؤم والوحشة؛ ولأن عقيدته التقليدية الخاطئة أن الشعر وحده يشغل الحياة، ويبسط الرزق، ويكسب الحقوق، أحيته على نمط مسلم ابن الوليد وأبي نواس وأضرابهما، ممن عاشوا صنائع للملوك، وحمائل على الجوائز، ووسائل للهو؛ فأبى الوظيفة وهي على حبل ذراعه، وآثر أن يعيش في ظلال الإمام محمد عبدة ينتفع بجاهه ويفئ إلى رفده، ويغشى مع ذلك أبهاء النعمة يسامر أهلها بعذل حديثه، وينادمهم برقيق شعره، ثم يتطلع الحين بعد الحين إلى صلات القصر فيحجبه عنها شاعر الأمير بحوله وقوله.
ومن أدب الشعراء الكاسبين بالشعر أن ينفقوا إلى حد السفه إذا عاشوا في الحاضر كصريع الغواني وابن هاني، وأن يمسكوا إلى حد الكزازة إذا عاشوا في المستقبل كأبي العتاهية والبحتري، ومن الأولين كان حافظ!
تمتلئ يداه بالمال اليوم فيعتريه حال من البرم والقلق لا تنفك عنه حتى كله قبل الغد على إخوانه الكثيرين من طرائد البؤس وصرعى الأدب، ثم يطارحهم بعد ذلك على مقاعد القهوة الشعر الباكي في لؤم الزمان، وظلم الإنسان، وشقاء الأديب.
قطع حافظ مراحل عمره على هذا المنهج البوهيمي لا يدخل في نظام، ولا يصبر على جهد، ولا يرغب في عمل، ولا يطمئن إلى تبعة، وإنما يضطرب نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس إلى مجلس؛ وأينما كان كان الأنس الشامل، والظرف الناصع، والأدب الغض، والحديث المشقق الذي يمتزج بالروح، ويغمر بالنشوة جوانب النفس.
تقوضت أسرة حافظ وهو في المهد، فشب وحشي الطبع معري الغريزة لا يتضح في نفسه معنى البيت، ولا يجري في حسه شعور الأسرة؛ ثم وقفت به قناعته الشاعرة عند الخد القريب من معالجة الأدب، فقصر جهده على صوغ الشعر في المناسبات، وجمع النوادر للسمر، حتى بلغ من ذلك مكاناً لا يتعلق به درك. ولكنه حين أريد على ترجمة البؤساء، وكتاب الأخلاق، ووكالة دار الكتب، أدركته علة النشأة، فقعدت به عن التمام، وخذلته عن الاحادة، وشلته عن العمل. . .(107/2)
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(107/3)
كفر الذبابة. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال كليلة وهو يعظ دمنة ويحذره ويقضي حق الله فيه؛ وكان دمنةُ قد داخله الغرور وزهاه النصر، وظهر منه الجفاء والغلظة، ولقى الثعالب من زيغه وإلحاده عنتاً شديداً:
. . . وأعلم يا دمنة أن ما زعمته من رأيك تاماً لا يعتريه النقص، هو بعينه الناقص الذي لم يتم، والغرور الذي تثبت به أن رأيك صحيح دون الآراء، لعله هو الذي يثبت أن غير رأيك في الآراء هو الصحيح.
ولو كان الأمر على ما يتخيل كل ذي خيال لصدق كل إنسان فيما يزعم، ولو صدق كل إنسان لكذب كل إنسان؛ وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ليجيء حق الجميع من الجميع، ويبقى الصغير من الخطأ صغيراً فلا يكبر، ويثبت الكبير من الصواب على موضعه فلا ينتقص، ويصح الصحيح ما دامت الشهادة له، ويفسد الفاسد ما دامت الشهادة عليه، وما مثل هذا إلا مثل الأرنب والعلماء.
قال دمنة وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن أربناً سمعت العلماء يتكلمون في مصير هذه الدنيا، ومتى يتأذن الله بإنقراضها، وكيف تكون القارعة؛ فقالوا: إن في النجوم نجوماً مذنبة لو ألتف ذنب أحدها على جرم أرضنا هذه لطارت هواء كأنها نفخة النافخ، بل أضعف منها كأنها زفرة صدر مريض. فقالت الأرنب: ما أجهلكم أيها العلماء! قد والله خرفتم وتكذبتهم، ولا تزال الأرض بخير مع ذوات الأذناب، والدليل على جهلكم هذا -، قالوا: وأرتهم ذنبها. . .!
قال كليلة: وكم من مغرور ينزل نفسه من الأنبياء منزلة هذه الأرنب من أولئك العلماء؛ فيقول: (كذبوا وصدقت أنا، وأخطأوا جميعاً وأصبت، والتبس عليهم وانكشف لي، وهم زعموا وأنا المستيقن). ثم لا دليل له إلا مثل دليل الأرنب الخرقاء من هنة تتحرك في ذنبها. وكان يقال: إنه لا يجاهر بالكفر في قوم إلا رجل هان عليهم فلم يعبأوا به؛ فهو الأذل المستضعف؛ أو رجل هانوا عليه فلم يعبأ بهم، فهو الأعز الطاغية. ذاك لا يخشونه فيدعونه لنفسه وعليه شهادة حمقه، وهذا يخشونه فيتركون معارضته وعليه شهادة ظلمه؛ وما شر من هذا إلا هذا. وقالت العلماء: إن كنت حاكماً تشنق من يخالفك في الرأي، فليس(107/4)
في رأسك إلا عقل اسمه الحبل؛ وإن كنت تقتل من ينكر عليك الخطأ، فليس لك إلا عقل اسمه الحديد؛ وإن كنت تحبس من يعارضك بالنظر، ففيك عقل اسمه الجدار. أما إن كنت تناظر وتجادل، وتُقنع وتقتنع، وتدعو الناس على بصيرة، ولا تأخذهم بالعمى - ففيك العقل الذي اسمه العقل.
قال كليلة: وأنا يا دمنة، فلو كنت قائداً مطاعاً، وأميراً متبعاً، لا يعصى لي أمر، ولا يرد عليّ رأي، ولا ينكر مني ما ينكر من المخلوق إذا أخطأ، ولا يقال لي دائماً إلا إحدى الكلمتين: أصبت أصبت؛ ولا يلقاني أحد من قومي بالكلمة الأخرى، رهبة من سخطي رهبة الجبناء، أو رغبة في رضاي رغبة المنافقين، وزعموا أنهم على ذلك قد خلص لي باطنهم جميعاً، وصحت نياتهم كلها - فلو كنت وكانوا على هذا، لأحالني نقصهم إلى نقص العقل بعد كماله، وردتني فسولتهم إلى فسولة الرأي بعد جودته، فأخلق بي أن أعتبر وضعهم إياي في موضع الآلهة هو إنزالهم إياي في منزلة الشياطين، وإلا كنت حقيقاً أن يصيبني ما أصاب العنز التي زعموا لها إنها أنثى الفيل. . .
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أنه كان في إحدى خرائب الهند جماعة من العظاء، وكان فيها عضرفوط كبير فملكته الجماعة وذهبت تأتمر عن أمره وتنتهي. فمر بهذه الخربة فيل جسيم من الفيلة، لم يحس بالعظاء، ولم يميز فرقاً بين هذه الأمة وبين الحصى منثوراً يلتمع في الأرض هنا وهنا؛ فنظر العضرفوط كيف يصنع به، وكان قائداً عظيماً، ثم تدبر أمر الفيل، فرآه لا يتحرك إلا بأقدامه ينقلها واحدةً واحدة؛ فقدر عند نفسه أنه لو أزال قدم الفيل عن الأرض زال الفيل نفسه؛ فجاء فاعترض الطريق، ودب دبيبه إلى قدم الفيل؛ فلما رفع الفيل قدمه أهتبل هذه الغفلة منه. . . واندس تحتها، فأندس مقبوراً في التراب! ثم إن العظاء افتقدت أميرها. فلما مضى الفيل لسبيله، ورأت ما نزل بها نفرت إلى أحجارها وإستكنت فيها ترتقب وترربص؛ فدخلت إلى الخربة عنز جعلت تتقمم منها وترتع فيها، ورأتها العظاء فاجتمعن يأتمرن. .
فقال منها قائل: هذه أنثى الفيل. فسألت عظاية منهن: وأين النابان العظيمان؟
قالت الأولى: إن الإناث دون الذكورة في خلقها، والأنثى هي الذكر مقلوباً أو مختصراً أو(107/5)
مشوهاً، ولذلك هن يقبلن الحياة أو يختصرنها أو يشوهنها. أفلا ترين النابين العظيمين البارزين في ذلك الفيل الجسيم، كيف نبتا صغيرين منقلبين فوق رأس أنثاه؟
فقالت واحدة: إن جاز قولك في الرأي فأين الخرطوم؟
قالت الأخرى: هو هذه الزَّنمة المتدلية من حلقها، وهو خرطوم على قدر أنوثة الأنثى. . . .!
قالوا؛ ثم اجتمع رأيهن على أن يملكن أنثى الفيل هذه؛ وان يهبن لها الخربة وأمتها. وسمعت الماعزة كلامهن فقالت: لا جرم أن تكون العنز فيلة في أمة من العظاء، فقد قالت العلماء: إنه لا كبير إلا بصغير، ولا قوي إلا بضعيف، ولا طاغية إلا بذليل؛ وان العظمة أن هي شهادة الحقارة على نفسها، وانه رب عظيم طاغية متجبر ما قام في الناس إلا كما تقوم الحيلة، ولا عاش إلا كما يعيش الكذب، ولا حكم إلا كما يحكم الخداع. وهذه الدنيا للمحظوظ كأنها دنيا له وحده، فحتى جاءت إليه فقد جاءت، وإذا أدبرت عنه من ناحية رجعت من ناحية اخرى، ليثبت الحظ انه الحظ.
وتقدم العظاء إلى العنز فقلن لها: أيتها الفيلة العظيمة، إن قرينك العظيم قد مس أميرنا العضرفوط بقدمه فغيبه تحت سبع ارضين، واننا قد اخترناك ملكة علينا، ووهبنا لك الحربة وما فيها.
قالت العنز: فإني أتهب منكن هذه الهبة، ونعماً صنعتن؛ غير أن بينكن وبيني ما بين العظاية والفيل، وما بين الحصاة والجبل؛ فإذا أنا قلت؛ وإذا أنا أمرت، فأنا أمرت؛ وإذا أنا فعلت، فأنا فعلت. هنا في هذه الأمة كلها (أنا) واحدة ليس معها غيرها؛ لأنه هاهنا في هذا الرأس دماغ فيلة، وفي هذا الجسم قوة فيلة، وفي الخربة كلها فيلة واحدة؛ فلا اعر فن منكن على الصواب والخطأ إلا الطاعة، طاعة الأعمى للبصير. إلا وان أول الحقائق أنني فيلة وإنكن عظاء؛ ومتى بدأ اليقين من هنا سقط الخلاف من بيننا وبطل الاعتراض منكن، وقوتي حق لأنها قوة، وباطلي كذلك حق لأنه من قوتي؛ وقد قال حكماء الفيلة: إن القوي بين الضعفاء مشيئة مطلقة، فهو مصلح حتى بالافساد، حكم حتى بالحماقة، أمام حتى بالخرافة، عالم حتى بالجهالة، نبي حتى بالشعوذة. . . . .!
قالوا؛ وتنكر عليها عظاية صالحة عالمة كانت ذات رأي ودين في قومها، وكن يسمينها:(107/6)
(العمامة)، لبياضها وصلاحها وطهارتها، فقالت: ولا كل هذا أيتها الفيلة؛ لقد تخرصت غير الحق فانك تحكمينا من أجلنا لا من اجلك، وما قولك إلا كلمات لا يحققها إلا أعمالنا نحن؛ فلك الطاعة فيما يصلحنا لا فيما يفسدنا، ورأيك شيء ينبغي أن تكون معه اراونا، لتتبين الأسباب أسباب الموافقة والمخالفة، فنأخذ عن بينه ونترك عن بينه؛ وقد كان يقال في قديم الحكمة: انه يجب على من يقدم رأياً للامة الحازمة كي تأخذ به، أو يضع لها شرعاً ليحملها عليه، أو يسن لها سنة لتتبعها - يجب على هذا المتقدم لتحويل الأمة وتحريرها أن يتقدم لأهل الشورى وفي راسة الرأي، وفي عنقه حبل؛ ثم يتكلم برأيه ويبسطه ويدفع عنه، ويجادله ويجادلونه؛ فان كان الرأي حقاً اخذوا الرأي، وان كان بطلاً اخذوا الحبل فشنقوا فيه هذا المتهور.
وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها؛ فكان مما علمنا إن المخلوق مبني على النقص إذ هو ماضٍ إلى الفناء، فيجب إلا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض هو مجموع العقول كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنها أصحها وأتمها. فلا الدين أتبعت أيها الفيلة ولا أتبعت فينا العقل.
فلما سمعت العنز ذلك تنفشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم؛ لا اسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة الأنبياء ولا العضافيظ. . . فذلك وحي غير وحي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد. وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي - فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا. . .!
فضحكت (العمامة) وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ. . . أنا. أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري العقول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل تأتي من(107/7)
النقص المتحيف لجهة أخرى، وإنه رب عقل كان تاماً عبقرياً في أمور لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يُحسن في تلك ما لا يُحسنه أحد، ويُحكم منها ما لا يُحكمه أحد؛ ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟
قالوا؛ فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها أمتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها أنبعج منهما نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه (العمامة) فاشنقوها؛ فأنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل. . .!
وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء ومأكولون لكل آكل؛ فتشبح لهم أن أنثى الفيل هذه. . . ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فأنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلاً فوقهم كأنه ظله فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم إنخزلوا وتراجعوا وأخذت (العمامة) الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر. . .؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها. . .
قالوا؛ واغترت الماعزة وأحست لها وجوداً لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نباهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلةً وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو. . .
وثبت عندها أنها ليست بعنزٍ وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء؛ فإذا مشت إرتجَّت وتخطَّرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا إضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها. . .!
ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرةً أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة. . . وتأهبت هذه للقتال وتحصفت في المبارزة والمناجزة. . . والمعانزة فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها؛ وكانت عنزاً نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت. . . .؟
ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينه هذا الهول الهائل. . . فأقبل، فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء. . .!(107/8)
وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن فإذا جيفة العنز غير بعيد، فذببن عليها وإرتعين فيها وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات إنما يكون بتحويل باطنها لا بتحويل ظاهرها، وإن الإناء الأحر يريك الماء مُحمراً والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمةٍ كاملة من نزعات ماعزةٍ مأفونة، هي كمحاولة إستيلاد الفيل من الماعزة. . .!
قال كليلة: وأعلم يا دمنة، انه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة لما أخذها الله أخذ الذبابة.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قُدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر لما كُتبتْ بها إلا كلمة سُخف.
ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة؛ وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على إن العالم فوضى لا نظام فيه، وإنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق عبثاً في عبث، ولا ريب إن الأنبياء قد كذبوا الناس؛ إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي (أنا) وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها. . .؟
ثم نظرت ليلةً في السماء، فأبصرت نجومها يتلألأن وبينها القمر؛ فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضي العالم وكذب الأديان وعبث المصادفات؛ فما الإيمان بعينه، إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي (أنا) ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير إلى السماء. . .؟
ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهاباً وجيئة حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها؛ فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره، كأنها تزاول عملاً؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقرة واكتفتا فيها تأكلان من شحمها فتعظمان سمها؛ والناس من(107/9)
جهلهم بالعلم الذبابي يسمونهما عينين. . . وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقباً مثلهما فما انتزعت شعرة؛ فهل يستوي الحكمة في رزقي (أنا) ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة. . .؟
ثم أنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلاً على الكفر؛ فإني (أنا) خيرٌ منها؛ (أنا) لي أجنحة وليس لها (وأنا) خفيفة وهي ثقيلة؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى ذلك الذي كان بليداً لا يتحرك، فلم تجعل له الحركة جناحاً. ثم إنها أصغت فسمعت الخنسفاء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي؛ يا ويحنا! لِمَ لمْ نكن جاموساً كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد. . .؟
فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني (أنا) السابقة إلى كشف الحقيقة. . .!
وجعلت الذبابة لا يُسمع من دندنتها إلا: أنا، أنا، أنا، أنا. . . من كفرٍ إلى كفرٍ غيره إلا كفر غيرهما، حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة. . .
ثم جاءت الحقيقة إلى هذا الإلحاد الأحمق تسعى سعيها؛ فبينا الذبابة على وجه حائط، وقد أكلت بعوضةً أو بعوضتين، وأعجبتها نفسها، فوقفت تحك ذراعها بذراعها - دنت بطةً صغيرة قد انفلت عنها البيضةُ أمس، فمدت منقارها، فالتقطتها. ولما انطبق المنقار عليها قالت: آمنت إنه لا إله إلا الذي خلق البطة. . . . . . .!!(107/10)
مسالك الأبصار
ومؤلفه الشهاب العمري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في سنة 1924 أخرجت دار الكتب المصرية الجزء الأول من أثر ضخم، هو كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لشهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، وذلك بإشارة المغفور له العلامة الأستاذ أحمد زكي باشا وبتحقيقه. ثم وقف مشروع إخراج الكتاب في مستهله لأسباب نجهلها حتى اليوم، ولكنا علمنا أخيراً أن دار الكتب قررت استئناف العمل في (مسالك الأبصار) وإخراجه تباعاً إلى جانب الآثار القديمة الأخرى التي تعنى بنشرها.
وهو نبأ يستقبله الباحثون والأدباء بمنتهى الغبطة. ذلك أن (مسالك الأبصار) من الآثار الإسلامية الضخمة التي تمتاز بغزارة مادتها وتنوع موضوعاتها ونفاسة معلوماتها؛ وهو ثالث ثلاثة من الموسوعات العربية المصرية الضخمة، التي كتبت في عصور متقاربة، وامتازت على جميع الآثار الإسلامية بضخامتها وتنوعها وطرافتها؛ وهي: مسالك الأبصار، ونهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي. وقد أخرجت لنا دار الكتب (صبح الأعشى) كاملاً في أربعة عشر مجلداً، وأنجزت لنا من نهاية الأرب نحو ثلثه في أحد عشر مجلداً، وما زالت ماضية في إخراجه، وبقي عليها أن تستأنف العمل في ثالثة هذه الموسوعات الكبرى، ونعني (مسالك الأبصار).
كان القرن الثامن الهجري في مصر عصر الموسوعات الأدبية والتاريخية العامة؛ وإذا لم تكن فكرة الموسوعات الجامعة في الأدب العربي مصرية محضة، فقد بلغت ذروتها على الأقل في مصر، وأخرج الكتاب المصريون أعظم وأبدع نماذجها. وكان شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري هو أول كتاب الموسوعات ورأس هذه المدرسة الغزيرة الباهرة (660 - 732هـ) وقد وضع لنا موسوعته الفريدة (نهاية الأرب في فنون الأدب) في أوائل القرن الثامن الهجري في أكثر من ثلاثين مجلداً كبيراً، فجاءت أثراً ضخماً لم تشهد مثله الآداب العربية من قبل في غزارة المادة وتنوع الموضوعات وطرافة الأوضاع؛ ثم تلاه العمري الذي نريد أن نتحدث اليوم عنه وعن مجهوده، بوضع موسوعته (مسالك(107/11)
الأبصار)؛ وجاء القلقشندي ليختم هذا الثبت في أوائل القرن التاسع بوضع موسوعته (صبح الأعشى).
كان العمري دمشقي المولد؛ ولكن مصري التربية والموطن والتكوين؛ وهو شهاب الدين أبو العباس بن فضل الله أحمد بن يحيى؛ وينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب، ومن ثم كان تلقيبه بالعمري. ولد في ثالث شوال سنة سبعمائة (1300م)، وتلقى تربيته الأولى في دمشق؛ ثم وفد على القاهرة حدثاً ودرس بها واتخذها وطناً وموئلاً، ومال إلى التخصص في علوم الفقه واللغة، وبرع بالأخص في الكتابة والإنشاء، وتقلد في البلاط القاهري عدة مناصب هامة أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون في ولايته الثالثة (709 - 741هـ) وانتهى إلى تقلد ديوان الإنشاء والرسائل، فاستحدث فيه كثيراً من الأساليب والأوضاع البديعة، ووضع له دستوراً لبث عمدة الكتاب والسلاطين مدى عصور.
ولبث العمري إلى جانب اضطلاعه بأعباء المناصب العامة رجل البحث والدرس؛ وعني عناية خاصة بدرس الجغرافية الطبيعية والسياسية أو الممالك والمسالك وطبائعها وخواصها؛ ودرس تواريخ الأمم وأحوالها وعجائبها، ولا سيما أمم الشرق النائية مثل أمم التتار والهند والصين، ودرس الفلك أيضاً، ولم يكتف في درسه بقراءة المصادر والمصنفات القديمة، فتجول في أنحاء الشام والأناضول والحجاز وبعض الممالك الإسلامية الأخرى، حسبما يبدو ذلك في أكثر من موضع من سياق موسوعته، وحسبما يشير إجمالاً في مقدمته، واستعان في تعرف أحوال الأمم والممالك التي لم تتح له زيارتها بأقوال العارفين والثقاة ممن زاروها أو درسوا أحوالها دراسة خاصة، حتى اجتمعت له من ذلك مادة غزيرة تمتاز في كثير من الأحيان بدقتها وطرافتها.
وقد تبوأ العمري إمامة البلاغة والبيان والترسل في عصره حتى أن الصفدي معاصره وصديقه يفضله في هذا الفن على القاضي الفاضل، وبصف خلاله ومواهبه الأدبية في تلك العبارات البليغة: (يتدفق بحره بالجواهر كلاماً، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المستعرة نظاماً، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عباراته انسجاماً وصياغة، وينظر إلى غيب المعاني من ستر رقيق، ويغوص في لجة البيان فيظفر بكبار اللؤلؤ من البحر العميق، قد استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديها ما(107/12)
يعجز القاضي الفاضل أن يدانيه تشبيهاً، وينظم من المقطوع والقصيدة جوهراً يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهراً، صرف الزمان أمراً ونهياً، ودبر الممالك تنفيذاً ورأباً، ووصل الأرزاق بقلمه، ورويت تواقيعه وهي سجلات لحكمه وحكمه، لا أرى أن اسم الكاتب يصدق على غيره ولا يطلق على سواه). ثم يصفه الصفدي بعد ذلك بالأديب (الكامل) وينوه بقوة ذاكرته، وحسن ذوقه، ويقول لنا إنه، أي العمري، كان آية في النثر والنظم والترسل البارع عن الملوك، وأنه (لم ير من يعرف تواريخ الملوك المغل من لدن جنكيزخان معرفته، وكذلك ملوك الهند والأتراك. وأما معرفته الممالك والمسالك، وخطوط الأقاليم والبلدان وخواصها، فأنه فيها إمام وقته).
ولأقوال الصفدي، وهو إمام النقد في عصره، قيمتها في التنويه بخلال العمري الأدبية، والعلمية الفائقة. بيد أن تراث العمري نفسه ما زال خير شاهد بعبقريته ولا سيما في فن الإنشاء والترسل، وقد كان العمري فوق ذلك شاعراً مجيداً؛ ومن رقيق شعره قوله:
أأحبابنا والعذر منا اليكمو ... إذا ماشغلنا بالنوى أن نودعا
أبثَّكموا شوقاً أباري ببعضه ... حمام العشايا رنة وتوجعا
أبيت سمير البرق قلبي مثله ... أقضى به الليل التمام مروعاً
وما هو شوق مدة ثم ينقضي ... ولا أنه يلقي محباً مفجعا
ولكنه شوق على القرب والنوى ... أغص الأماقى مدمعاً ثم مدمعا
ومن فارق الأحباب في العمر ساعة ... كمن فارق الأحباب في العمر أجمعا
وقطع العمري حياة قصيرة ولكن باهرة؛ وتبوأ ذروة المناصب العامة، كما تبوأ إمامة التفكير والأدب، واستمرت حظوته لدى الملك الناصر طوال عهده؛ ثم توفى سنة 749 هـ (1348م) دون أن يبلغ الخمسين.
- 2 -
ترك لنا العمري تراثاً حافلاً ينم عن غزارة مادته ورفيع مواهبه، منه موسوعته الكبرى (مسالك الابصار في ممالك الأمطار) و (الدعوة المستجابة) و (صبابة المشتاق) وهو في المدائح النبوية و (سفرة السفرة) و (دمعة الباكي) و (يقظة الساهر) و (نفحة الروض) وكلها من كتب الأدب والبيان، وكتاب (فواصل السمر في فضائل آل عمر) وكتاب(107/13)
(الشتويات) وهو رسائل في الشتاء و (النبذة الكافية في معرفة الكتاب والقافية) وكتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) وهو مجموعة نماذج من الرسائل الملوكية والأميرية، وسنعود إليه؛ وطائفة كبيرة من القصائد والموشحات والتقاليد والمناشير.
وقد انتهى إلينا من هذا التراث أهمه وأنفسه؛ فلدينا أولاً كتاب (مسالك الأبصار) وهو أهم آثار العمري وأضخمها؛ وهو في الواقع موسوعة كبرى تملأ عشرين مجلداً كبيراً، ويقول لنا العمري إنه أثر الحياة وإنه (قطع فيه عمر الأيام والليالي) وإنه شرع فيه أيام التحاقه بخدمة الملك الناصر؛ وقد يكون ذلك حوالي سنة 730 هـ؛ ويبدو من مقدمته أيضاً ومن دعائه للملك الناصر بدوام أيامه، أنه أنجز نسخته الأولى قبل سنة 741هـ أعني قبل وفاة الناصر، بيد أنه يبدو من جهة أخرى أنه زاد فيه بعد ذلك لأنه يصل في رواية الحوادث إلى سنة 743 هـ.
ومن المحقق أن العمري تأثر في وضع موسوعته بمثل سلفه العظيم النويري صاحب موسوعة (نهاية الأرب) وهي أول موسوعة من نوعها. غير أنه ينحو في تقسيمها ومحتوياتها نوعاً آخر؛ وبينما يسبغ النويري على موسوعته صبغة علمية أدبية ناريخية، إذا بالعمري يسبغ على موسوعته صبغة جغرافية تاريخية، وهو يقسمها إلى قسمين كبيرين: الأول: (في الأرض) والثاني (في سكان الأرض)، ويشمل القسم الأول ذكر الأرض وما استملت عليه براً وبحراً، وهو نوعان كبيران: المسالك والممالك، ويدخل في النوع الأول الكلام على أحوال الأرض وصفاتها وعناصرها وما تحتويه من أنهار وجبال ثم الكلام على الأقاليم السبعة وهي أساس الجغرافية القديمة وما فيها من المدن والجزائر وما يؤثر عنها من العجائب، ثم الكلام عن الرياح والكواكب والأعراض الطبيعية؛ ويدخل في القسم الثاني الكلام عن ممالك العالم المعروف يومئذ مبتدئاً بممالك الهند والسند والتتار ثم الترك ومصر والشام والحجاز واليمن، ثم ممالك السودان والحبش وإفريقية والأندلس، وفيه بيانات ضافية عن أحوال هذه البلاد ونظمها وخواصها ومحصولها وحيوانها؛ ويبدي العمري هنا دقة البحث والتحري، ويقدم إلينا أسانيده ومصادره كلما شعر بمبالغة أو غرابة فيما يروي. ويختم هذا القسم بالكلام عن العرب الموجودين في عصره وأماكن وجودهم ولا سيما في مصر، وهو فصل له قيمته في تعرف الأصول والأنساب. ويشغل هذا القسم(107/14)
الأول من الكتاب نحو عشرة مجلدات.
ويتناول القسم الثاني الكلام على سكان الأرض من طوائف الأمم وفيه حديث مستفيض عن طوائف العلماء في الشرق والغرب، ثم الكلام على الأديان والنحل المختلفة؛ وبعدئذ يجيء الكلام على التاريخ، وهو قسمان، تاريخ الدول التي كانت قبل الإسلام، ثم تاريخ الدول التي قامت بعد الإسلام حتى عصر المؤلف، ويستطرد فيه إلى ذكر الحوادث حتى سنة 743هـ أعني قبل وفاته بنحو خمسة أعوام.
ولم ينشر إلى يومنا من كتاب (مسالك الأبصار) سوى الجزء الأول كما قدمنا؛ غير أنه قد نشرت منه بعض فصول ونبذ متفرقة منها فصل من فصول القسم الأول عنوانه (كلام إجمالي في أمر مشاهير ممالك عباد الصليب في البر دون البحر) نشره المستشرق أماري (سنة 1883) مقروناً بترجمة إيطالية، وهو فصل يمتاز بدقته وطرافته ويتناول الحديث عن أحوال الممالك النصرانية والجمهوريات الإيطالية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، وينسب العمري ما أورده فيه من المعلومات إلى رجل إيطالي يدعى (بلبان الجنوي) عرفه في بعض رحلاته واستقى منه معلوماته وهي معلومات في منتهى الدقة ولا سيما ما تعلق منها بنظم الجمهوريات الإيطالية في ذلك العصر. وعني صديقنا العلامة السيد حسن حسني عبد الوهاب بنشر الفصل الخاص بوصف أفريقية والأندلس؛ ونشر أحد المستشرقين الألمان أخيراً الفصل الخاص بوصف بلاد الأناضول.
- 3 -
على أنه قد انتهى إلينا من تراث العمري اثر ذو أهمية خاصة هو كتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) وقد كان العمري كما رأينا مدى أعوام طويلة ناظراً لديوان الإنشاء والرسائل، وقد استحدث في هذا الديوان الكثر من الأساليب والأوضاع الجديدة سواء في توجيه الرسائل والمخاطبات أو صيغها؛ ويجب أن نعلم أن ديوان الإنشاء كان في تلك العصور مجمع المراسلات الداخلية والخارجية، فمنه تصدر الرسائل والمناشير والأوامر والتواقيع إلى الأمراء والحكام وكبار الموظفين؛ ومنه توجه الرسائل الخارجية إلى مختلف الملوك والدول التي ترتبط بمصر بعلائق سياسية أو تجارية؛ وإذا فقد كان اختصاصه يتناول ما يسمى اليوم في لغة السياسة الحديثة بنظم (البروتوكول) وهي عبارة عن الرسوم(107/15)
والإجراءات التي تجري عليها الدولة في تنظيم علائقها الخارجية، سواء في إجراء المفاوضات السياسية أم في عهد المعاهدات أو مخاطبة الدول الأخرى أو استقبال ممثليها ومعاملتهم أو في تحرير المكاتبات الدبلوماسية. وتسمى هذه الرسوم والنظم في الدولة الإسلامية 0بالمصطلح الشريف) وقد كان للعمري اكبر الفضل في تجديد هذه النظم، وعلى يده بلغت ذروتها من الافتنان والتناسق في الدقة؛ وللتعريف بهذه النظم وشروحها وضع العمري كتابه (التعريف بالمصطلح الشريف) وفيه يشرح رتب المكاتبات السلطانية وإجراءاتها، ويعرض نماذج من العهود والتقاليد والتفاويض والمراسيم والمناشير وكذلك نماذج عديدة من الوثائق والمكاتبات الدبلوماسية؛ ثم يتحدث عن أوضاع الممالك وتقاسيمها الإدارية، وعن مراكز البريد ووسائل المواصلة البحرية. ويعتبر كتاب العمري دستور المصطلح الشريف في مصر الإسلامية؛ ويعتبره القلقشندي صاحب صبح الأعشى أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب. وقد انتفع به القلقشندي في موسوعته أعظم انتفاع، ونقل إلينا فوق ذلك طائفة كبيرة من الرسائل والمكاتبات السلطانية التي دبجت بقلم العمري في ظروف ومناسبات مختلفة، وكلها دليل على ما كان يتمتع به العمري من المواهب الإنشائية السامية.
وللعمري آثار ورسائل أخرى كما قدمنا، ولكن معظمها لم يصل إلينا، وما يزال بعضها بعيداً عن التداول في بعض المكاتب الأوربية. على أن (مسالك الأبصار) يبقى دائماً أعظم آثاره؛ ورجاؤنا أن تعمل دار الكتب لمصرية لإخراجه بهمة مضاعفة فلا تمضي أعوام قلائل حتى تضعه كاملاً بين أيدي الباحثين.
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان(107/16)
خواطر وأفكار
للأستاذ أديب عباسي
يغلب أن يسيطر على الحياة في كلا عنصريها من السعادة والشقاء قانون المرجحات العام الذي يسيطر على جميع حوادث الطبيعة ويسير بها جميعاً، كلما امتد الزمن وتوالى الحدوث، إلى التعادل والاستواء، وما نرى من فروق شاسعة بين حظوظ الناس من السعادة والشقاء سببه - فيما نرى - قصر مدى التجربة والاختبار. واعتقد انه لو أتتيح للأحياء من الناس عمر أطول أو لو كانت أمواج السعادة والشقاء وأصداء اللذة والألم اقل لبثاً واقصر مكثاً، لتداني من التعادل نصيب كل امرئ من حظي السعادة والشقاء.
حياة كل امرئ (متوالية) من الآمال والآلام والأحلام والأعمال ولست بمستطيع أن تجرد الحياة حلقة واحدة من هذه الحلقات: الآمال تثير الآلام والأحلام، والأحلام لابد مفضية في نهاية الأمر إلى الأعمال، والأعمال بدورها تبتعث آمالاً جديدة، والأمل الجديد يثور آلاماً وأحلاماً جديدة، وهكذا تظل تدور بين حدين من الأمل والعمل يتوسطهما واسطان هما ما نألم وما نحلم إلى أن تتلمأ علينا القبور، وترص علينا الجنادل والصخور.
ليس مما يُنقص قيمة العمل الطيب أن يكون حاديه ورائده اللذة منشودةً أو حاصلةً، بل نحن نعتقد أن من مصلحة الأخلاق، ومن الخير العميم للناس أن يتعلم الناس كيف يستشعرون السعادة ويتذوقون الغبطة في العمل الطيب بدءاً وختاماً، حساً وخيالاً.
كذلك نعتقد أن من مصلحة الأخلاق ونشر الفضيلة وتعميم الصلاح أن يشعر المرء أن عمل الخير مجزي عليه في هذه الحياة الدنيا، وأن ليس على المرء يصنع الخير أن ينتظر إلى اليوم الأخير ليثاب على عمله الصالح وينال جزاء ما قدم من خير وأسلف من صلاح.
يكاد يكون الإحساس بالحق ونصرة العدل من فطرة البشر ومن هنا نرانا - في الأحوال العادية - نهلل للعدل ونمقت الجور، سواء أكنا نحن المعنيين بالجور أم كان المعنى غيرنا.
من غرائب الطباع أمرؤ يثني عليك بما أنت أهله أو بما لست أهلاً له، ثم تراه لغير سبب واضح أو علة مقبولة ينقلب عليك، ولا يتعفف أن يهجوك بعكس ما كان يمتدحه فيك! هذا الصنف من الناس هم، في إعتقادي، من المتسولة الجبناء الذين يستجدون امتداح الناس(107/17)
بامتداحهم الناس؛ فإذا خاب ما يؤملون، ولم يبادلهم ممدوحهم مدحاً بمدح انقلبوا قادحين مشنعين.
ما أشبه بناء الأمة ببناء الهرم؛ ما يزال قائماً ثابت الإتزان، ما شغل الرأس منه مكان الرأس، والقاعدة مكان القاعدة؛ وما أسرع ما ينهار الهرم ويتفكك حينما تنقلب الأوضاع فتسمو القاعدة إلى مكان الرأس، ويهبط الرأس إلى مكان القاعدة؛ ومن هنا أضحى الهرم المقلوب مضرب المثل في سخافة البناء ووهن الثبوت. . .
لست أدري أي خير وأية سعادة كانا يصيبان البشر لو أقصى من مجال الدين جميع المتجرين به. فليتق الله المتاجرون وليجعلوا في غير مجال الدين تجارتهم.
تظل تجربة المرء ناقصة ما لم تتكرر. . . .
خصومتك الصغير تورثك المهانة، سواء أكنت المنتصر في هذه الخصومة أم كنت الخاسر.
الأغراب والتكلف في أساليب الحياة والأخلاق دليل على فساد الطبع والتواء التكوين.
قد تكون المحافظة على القديم ناجمة من خوف الحديث وحسب، لا من حب للقديم صحيح.
ثم صنف غريب من الكُتاب والمفكرين يعمدون إلى الرأي الواهن الواهي، أو الفكرة الميتة يثيرون حولها حرباً شعواء ويوسعونها طعناً وضرباً، ثم يلتفتون إلى الناس ولسان الغرور يقول: انظروا ماذا صنعنا وإلى أي المقاتل قد نفذ سلاحنا؟ وقد نسوا - حفظهم الله وكلأهم - أن سلاحهم يُجرد على موتى ويُشرع على أشلاء.
قد يعيش الكاتب بشهرته الأدبية أعواماً بعد أن يُصفى. وهذا سرُّ ما نراه من مدح يكال وتقدير يُسرف في توزيعه على أناس لا يستحقون بعض أبعاضه. والحقيقة أن من الكتاب اليوم من يعيشون بقوة الاستمرار وحسب، لا بقوة العمل وصدق الإنتاج.
ما أسرع ما يلتفُّ صغار النفوس حول صغير النفس، أما كبير النفس فلا يسمح لهم بالدنو منه لئلا تعلق به من نتنهم عالقة. الاتجار بالوطنية في الشرق علة مستحكمة لا يزيلها إلا صرامة النقد، وصراحة المقت، وقسوة التشهير.
يموت العظيم في الغرب، ولكن ما أسرع ما تُسدُّ الثغرة ويقوم الخلف. ويموت العظيم الشرقي فيظل محله خالياً جيلاً أو أجيالاً. وذلك أن تربيتنا الاجتماعية الناقصة لا ترفع إلى(107/18)
مستوى الزعامة الصحيحة القوية في الجيل الواحد إلا نفراً قليلاً جداً، فإذا أودي هذا النفر ظل محلهم خالياً إلى أن تتمخض الأمة بعد حمل طويل وآلام مبرحة وتجارب شاقة فتلد المولود الجديد الذي يُقدَّر له أن يستأنف السير ويتولى القيادة.
قد يعمل الرجل الشرير إلى بعض الخير يصنعه ليتبين كيف يكون أثر ذلك، كما قد يسعى الرجل الطيب إلى بعض الشر يصنعه لمثل غرض الشرير في صنعه الخير. وإلى هذا قد يُردُّ بعض ما نراه من شذوذ في الخلق السوي.
قد يبدو الفكر العميق للقارئ السطحي الضحل متناقضاً، وذلك إن ذا الفكر العميق قد ينتهي إلى أغوار لا يستطيع أن ينفذ إليها ضحل التفكير، ويدرك من العلائق والوشائج الخفية بين الأشياء مالاً يدركه ذو الفكر الرقراق الذي لا غور له.
المصادفة بليغة الأثر في حياة الفرد، أما في حياة الأمة فهي ضئيلة الأثر أو لا أثر لها البتة.
ما من رأى إلا ودار في أكثر من ذهنٍ واحد، ولكن شخصاً واحداً يكتب له أن يخلِّد هذا الرأي.
الرأي يرتأي كالصدى بكثر تجاوبه كلما أستوعر طريقه.
الألم كالنار يصهر القوي ولكن لا بلاشيه، كما لا تلاشي النار الحديد، أما الضعيف فيحيله الألم دخاناً يصَّاعد.
قد يتصدى المرء أحياناً للرأي العام لا ليتحداه، إنما هو يتصدى له ليدرك مبلغ قوته ثم ليدرك مدى الرأي العام ومجراه، فيحول شراع العمل على هواه.
الرجل القوي حق القوة لا يخلق بهذه القوة عبيداً وآلات ناطقة، إنما يخلق بها رجالاً أقوياء. وكل مظهر من مظاهر القوة لا يفضي إلى هذه النتيجة يجب أن يشككنا في هذه القوة.
يجب أن ندخر خصومة الصراحة وجهد المقاومة للأمور الجسام والمسائل العظام. أما الصراحة العادية في كل ما يعرض للمرء من شؤون الحياة اليومية تافهها وجليلها على السواء فجهد غير مبرور وعمل غير مشكور، ولا يعود على المصارح منه إلا خصومات لا تنتهي وعدوات لا تنقضي.
ما تزال المرأة طفلة حتى تحب، وما يزال الرجل رجلاً حتى يحب. ومتى أحبت المرأة(107/19)
بلغت أوج الأنوثة؛ أما الرجل السليم القوي فيندر أن يجعل الحب آخر مرحلة من مراحل الحياة، وهو - أي الحب - عند الرجل مرحلة إلى رجولة أسمى. فالمرأة تتجه إلى الحب لا لتتعداه، أما الرجل فيحب ليكون الحب مرحلة من مراحل حياته. وهذا يشير إلى إن الحياة تريد من المرأة الحب فقط، وتريد من الرجل فضلاً عن الحب الجهاد والمغامرة.
يجب إلا يغر الشبان بيت شوقي (نظر فابتسامة. . .) ثم ما بعد ذلك. فبين النظرة والابتسامة - في كثير من الأحيان - وبين قلب الفتاة سبعُ قلاع بسبعة أسوار.
رُكِّب في طبيعة المرأة التلويح من بعيد والإغراء. فهي قد تتبذل أحياناً ولو لم تنو السقوط، وتدنو ولكن لا لتصل، وتقترب ولكن لا لتُنيل. فكأنها تعمد إلى ذلك لتقيس مقدار فتنها وتختبر قوة أنوثتها.
الرجولة لا تكون كاملة إلا إذا خالطها بعض طبائع الأنوثة. فكأن الطبيعة في ذلك لا تريد للرجل أن يتخلص من إرث الأنوثة الأقدم، حينما كانت الذكورة لا تزال في ضمير الغيب، وكانت الأنوثة كل ما في يد الطبيعة من مواد التجريب والاختبار.
ثورة الحب تفضي إلى أسر الزواج، وثورة الحقد والطمع تفضي إلى أسر السجن.
نداء الأمومة عند المرأة أقوى من نداء الحب. وكثيراً ما تضحي المرأة بحبها في سبيل الأمومة السالمة والنسل القوي القويم.
لا يستطيع إبليس - في كثير الأحيان - أن يتراءى للرجل إلا عن طريق المرأة. فهي - في أغلب الأحيان - سفيره إليه. وكثيراً ما تنجح هذه السفارة كما نجحت من قديم في جنات عدن.
حياة المرأة أنشودة يتناوب إنشادها الملائكة وإبليس.
حب الأم أشرف أنواع الحب وأعمقه وأدومه. وذلك أن فيه من حب الابنة وحب الأخت وحب العاشقة وحب العابدة. فالأم إذ تحب وليدها وترأمه كوليد فقط، إنما هي ترأمه وتحبه، ولو في غير شعور، حب الابنة أبويها، والأخت اخاها، والعاشقة عاشقها، والعابدة معبودها.
من مظاهر الفسولة وصغار الرجولة أن يتعشق الفتى فتاته، ثم لا يفتأ يعلن عن هذا العشق وينبه إليه في كل مناسبة وعند كل حديث؛ فكأنه الكلب يلغ في الإناء أو يبول فيه لينفر منه بقية السباع!(107/20)
في الزمان غير المحدود والمكان غير المحدود يكون احتمال الحدوث غير محدود أيضاً. ولا ادري لم يستبعد أو ينفى حدوث حادث يقدر أو يفترض بحجة بعد الاحتمال
أديب عباسي(107/21)
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
الحروف اللاتينية والألفاظ العربية
وقد عجل القانون في إنفاذ قانون الحروب اللاتينية، واشتدوا في ذلك لا يستثنون الكتب التي في المطابع، قد طبع بعضها بالحروف العربية ولما يتم طبعها، فسارع بعض المؤلفين إلى إكمال كتبهم قبل الموعد المحدود، ودون الكمال المنشود، ويئس آخرون أن يتموا كتبهم قبل الأجل المضروب وعجزوا بل كرهوا أن يكملوها بالحروف الجديدة فيجعلوها ذات خطين أعجمي وعربي، فوقفوا بها حيث وقف بهم القانون الجديد. واعجب ما في هذا أن أحد الأدباء الكبار كان يطبع معجماً كبيراً واخرج منه مجلدين، ولم يسوغ له القانون أن يكمله بالحروف العربية فيما يحتاج إليه من وقت، وعجز هو وعجز الفكر الإنساني أن يكمل هذا المعجم بالحروف اللاتينية على ترتيبها بعد أن طبع معظمه بالحروف العربية على ترتيبها فبقى ناقصاً حائراً بين القديم والجديد.
كأنما محا الترك العثمانيون من تاريخهم ستة قرون حين اختاروا للغتهم الحروف اللاتينية. فهل هم يعترفون، كما قال ذلك الأديب الفارسي، إن لهم تاريخاً لا يضيرهم أن يمحي منه ستة قرون؟ وليت شعري هل لهم في التاريخ غير هذه القرون الستة؟ مثل لنفسك صبياً تركياً ممن تعلموا القراءة بالحروف الجديدة يدخل اليوم جامع الفاتح أو سليمان فينظر إلى أسماء الصحابة فلا يدري ما هي وينظر إلى اسم الفاتح واسم سليمان القانوني فلا يدرك منهما حرفاً وتصوره في بروسه في اولو جامع (الجامع الكبير) الذي جعل الخطاطون الترك على مر العصور جدره معرضاً لبدائع الخط وفنونه، تصوره ينظر إلى آثار أسلافه فلا يتبين منها شيئاً ويودلو كتبت بالحروف اللاتينية. وتصوره كذلك أمام كل اثر عظيم من آثار المسلمين. وتصوره وقد شب وقوى على الدرس والبحث يذهب إلى مكتبات استانبول فيرى من آثار أسلافه، وكل المسلمين أسلافه أكداساً لا يفقه منها حرفاً إلا بدرس خاص. الست ترى هذا الناشئ مقطوعاً من تاريخه، غريباً عن قومه، الست تراه يتيماً حرم ميراث آبائه وجنى عليه سفه أوصيائه؟
وقد ذهب مع الحروف العربية فن جميل بلغ فيه الترك الغاية وتنافس في تجويده سلاطينهم(107/22)
وأمراؤهم وكبراؤهم فأتوا فيه بآيات الجمال وحلى التاريخ؛ وشد ما يهيج الحسرة أن تسير في شوارع استانبول عند الباب العالي فترى الخطاط التركي الماهر وقد كدست بضاعته، وحاولت أن تجاري الزمان صناعته، فكتب على مكتبه بالحروف اللاتينية أي خطاط.
سيقول بعض الناس أن هذه العواطف لا ينبغي أن تعوق سير الامم، وانا أقول لو كان هذا سيراً ما اعترضناه، ولو كان إصلاحا ما عارضناه، ولكنه تقليد يعصف بتاريخ الآباء ويزلزل أقدام الأبناء، ويقطع سنن الأمة كما تقطع جذور الشجرة.
وقد وصل الكماليون عملهم في الحروف العربية باجتهادهم في نبذ الكلمات العربية والفارسية. زعموا أنهم يريدون إنقاء اللغة التركية من الكلمات الدخيلة، فما بالهم يخرجون كلمة عربية ليضعوا مكانها كلمة أوربية؟ كانوا يسمون معهد الأبحاث التركية (تركيات مؤسسه سنى) فمحوها وكتبوا (تركيات أنستيتوسي) فلماذا آثروا كلمة على مؤسسة، وهي كلمة هم واضعوها في العربية وعنهم أخذها العرب؛ وكم كان لهم من حذق وذوق سليم في وضع مصطلحات علمية باللغة العربية التي اتخذوها هم وسائر المسلمين كاللاتينية عند الأوربيين. وكانوا يسمون الجامعة (دار الفنون) فسموها وكذلك وضعوا مكان معلم ومدرس وغيرهما من ألقاب الجامعة ألقاباً أخرى أخذوها من الألمانية، ومثل هذا كثير. فليس بالقوم الإصلاح أو العصبية التركية، ولكنه بغض العربية. وإذا تحكم البغض والحب في تصريف الأمور لم يبق للحق والهدى مكان.
وكان لهم في العام الماضي مؤتمر لغوي تكلم فيه أستاذ في الجامعة فقال: إن بين العربية والفارسية والتركية علائق يجب الإبقاء عليها، فطرد من المؤتمر ومن الجامعة، تقديساً للحرية التي يتغنى بها الكماليون! وسمعت أن حسين جاهد، وهو من الدعاة الأولين إلى العصبية التركية في اللغة قال في المؤتمر إن إنقاء اللغة يتم على مر الزمان، ولا تصلح فيه الطفرة. فشتم وأُسكت وأوذى، ولو كان الأمر بحثاً وإصلاحاً لا تسع للآراء المختلفة، وأخذ فيه بالنظر والرؤية. وقد سمعنا أن الفرس يريدون أن يحذوا حذو الترك في هذا. ونحن لا نكره أن يأخذ الشرقيون بعضهم عن بعض، وأن يزول العداء القديم بين الفرس والترك، وينسوا ما تصفه الشاهنامه من حروب إيران وتوران، وما يحدث به التاريخ من جلاد الصفويين والعثمانيين. أجل، أدعو الله أن يؤلف بين الأمتين، ولكن لا أحب أن يقلد(107/23)
بعضهم بعضاً في هذه الترهات، وتتقيل إحداهما الأخرى في هذه الضلالات.
نحن لا ننكر على الترك والفرس أو يؤثروا الكلمات التركية والفارسية على الكلمات العربية حين يحسون الحاجة إلى ذلك، ويدعوهم إليه إصلاح اللغة وتجميلها، وإنما ننكر عليهم أن يفعلوا ذلك بغضاً للغة العربية، وإيثاراً لتقطيع الأوصال بين الأمم الإسلامية. إن في الفارسية والتركية اصطلاحات علمية وأدبية كثيرة، بل تكاد تكون اصطلاحات الآداب والعلوم كلها عربية، وهذه الاصطلاحات هي من أعظم الروابط بين الأمم الإسلامية. وفي حذفها مفاسد كثيرة، منها إنهم يحرمون أنفسهم اصطلاحات وضعت واستقرت، وتحددت، وأحكمها الاستعمال في عصور متطاولة. وليس الاصطلاح على الكلمات، وخلق اللغة العلمية بالأمر اليسير، والثاني أنهم يباعدون بين اللغة العلمية القديمة واللغة العلمية الحديثة، وفي ذلك ما فيه من الفصل بين قديم الأمة وحديثها، والحيال بين المحدثين وما كتب أسلافهم، وبين مؤرخي الآداب وفقه أطوار الأدب الأولى.
والثالث أنهم يقطعون الوشائج بين آدابهم والآداب الإسلامية الأخرى التي شاركهم أهلها في تأليف حضارة واحدة، على حين يسعى الناس للتقريب بين الآداب واللغات ولا سيما اللغات العلمية، وهم أنفسهم من الساعين للتقرب إلى أهل أوربا أو الفناء فيهم. فلماذا الوصل من ناحية والقطع من ناحية أخرى، والتقرب إلى قوم والتباعد من آخرين؟ بل لماذا التقرب من الأعداء، والتباعد عن الأصدقاء، وحب الأمم الأوربية وبغض الشعوب الإسلامية؟ هل لذلك من تأويل؟
والرابع أنهم يعسرون لغتهم على طلابها من الأمم العربية خاصة والأمم الإسلامية عامة، والأمم تسعى اليوم لتيسير لغاتها وتسهيلها على طلابها.
لست أقول هذا إشفاقاً على اللغة العربية، أو عصبية لها، فليس يحس المتكلم بالعربية والقارئ فيها أن ألفاظاً منها مستعملة في الفارسية والتركية أو غير مستعملة، ولا يهتم بهذا إلا حين يدرس الفارسية والتركية، ودراسة هاتين اللغتين من شؤونهما لا من شؤون العربية، وإنما يعني إلا تقطع الصلات بين أمم عاشت دهوراً متآخية متعاونة كأنها أمة واحدة. وإنما يدعوني إلى الجدال أن الأخوة الإسلامية، والجامعة الإنسانية، تنفر من هذه العصبيات القاطعة، والنعرات المفرقة.(107/24)
وفي اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية عُربت وأدمجت فيها، وصيغت على أوزانها، وما يفكر العرب في إخراجها من لغتهم؛ ثم إلا يرى الفرس أنهم إن ذهبوا مذهب الترك في أمر اللغة ثار عليهم الأفغان والهند المسلمون وأهل كثغر وما وراء النهر ثورة أدبية فنبذوا إليهم لغتهم التي اتخذوها لساناً أدبياً، ثم اجتهدوا في إخراج الكلمات الفارسية من لغاتهم؟
أضرب لإخواننا مثلا أوربياً، فأن الشرقيين لا يعرفون الحق إلا إذا شهدت به (ماركات) من أوربا:
هذه اللغة الإنكليزية، وهي ما هي انتشاراً بين الأمم، وذيوعاً في الشرق والغرب، فيها كثير من الألفاظ اللاتينية والجرمانية، ومعظم اصطلاحاتها في الآداب والعلوم لاتينية. وقد وقع ما وقع بين الأمم اللاتينية والإنكليز من حروب متمادية، وما فكر الإنكليز في أن يجمعوا الكلمات اللاتينية وينبذوها إلى اللاتين كراهة لهم، أو عصبية للغتهم، ما فعل القوم هذا، لأن لهم من جلائل الأعمال ما يشغلهم عن هذه السفاسف.
القوم يذهبون مع الحياة مذاهبها، ويتوسلون لها بخير وسائلها، فلا تتسع أوقاتهم للمناقشات في الحروف والألفاظ، ونحن نغمض أعيننا عن أواصر تجمعنا، وآلام وآمال تقرب بيننا، وتقلب تاريخنا لنعثر على عداوة قديمة، أو حرب ذهب الزمان بذكراها وآثارها، لنخلق منها قطيعة جديدة، ونثير بها خصومة جديدة. كاد الإنكليز والألمان يتفانون ويفنوا الأمم معهم منذ خمسة عشر عاماً؛ وهم الآن يمدون أيديهم للتعاون والتعاهد! فأين يذهب بكم أيها الشرقيون وإلى أين تساقون أيها المسلمون؟ ذلك كلام واسع الجوانب، بعيد الأغوار، لا يتسع له هذا المجال. ولعل لي إليه عودة إن شاء الله.
(له بقية)
عبد الوهاب عزام(107/25)
من مشاهير الشرق
طائفة البهرا في الهند
في الطريق إلى داعي الرعاة
بقلم محمد نزيه
وأذن الله أن أبرح عدن إلى الهند، فلم تبرح النفس تواقة إلى رؤية الشيخ الأكبر لطائفة البهرا، ولم تزل تستنفر عزيمتي حتى عاهدت كل منهما صاحبتها على أن تكون زيارة الشيخ أول ما أتكاف له بعد مطالعة (بمبى)، فلم أكد أنيخ الراحلة في هذه المدينة، حتى طالعني أبناء هذه الطائفة زرافات ووحداناً! تموج بهم المدينة؛ فهم في شوارعها ودروبها وحوانيتها يعرفون بطول اللحى، وبالعمائم البيضاء، و (البنطلونات) تحت المعاطف القصيرة، وبالنشاط الذي لا يفتر، وبالوقار الذي لا يُذهل عنه؛ فأنهم قوم جبلوا على النشاط حتى لتحسبهم في سرعتهم إذا ساروا وفي دأبهم إذا عملوا، أضعاف أضعافهم، هم لا يتجاوزون العشرين ألفاٍ في مدينة تزخر بمليون وثلثمائة ألف نسمة؛ ولكن دأبهم جعل الواحد منهم عشرة أشخاص! لا تكاد تراه هنا حتى تشهده هناك، كأنه من عالم الأرواح. . هم كالموج المتلاطم على سطح المحيط، يضيق به الخضم وهو منه كالحصاة من الجبل، بل وتمضي السفن في طريقها تشق العباب ولا تحفل به، حتى إذا دوى الموج ارتعدت فرقاً، واهتزت رعباً، وكانت تهتز عجباً.
ليس من جماعة البهرا من لا يجمع إلى فصاحة الأردية طلاقة الكجراتية، ورطانة الإنجليزية؛ وليس فيهم من يعرب لباسه عن حاجة؛ أو ينم ضعفه على هوان، فكلهم عند نفسه كريم، وفي قومه عزيز.
كنت راغباً في زيارة الشيخ الأكبر، فلم يزدني ما تحققته من طوابع طائفته إلا رغبة أمست رؤى، وأصبحت هواجس - والشيخ لا يحظى بالاستئذان عليه إلا كل عظيم بارز في قومه، ولا مناص - لمن شاء - من رجاء يتقدم به إلى رئيس الوزارة البهرية، فإذا انتهى هذا به إلى الشيخ فأذن، حدد الموعد بحساب الدقائق فيما لا يستنفد من الساعة إلا أقلها، وعلى أن يذكر الزائر أن الدقيقة ستون ثانية، والثانية ستون ثالثة، فكأن دقات القلب لا تسعف في هذه الحساب.(107/26)
وكان أن تفضل الشيخ الأكبر، فأذن لرئيس وزرائه أن يستقدمني، ضارباً للقاء موعداً من مساء يوم قريب. . . فلما أن أقترب الموعد، ركبت إلى قصر الشيخ، وكعبة الحجيج من أبناء الطائفة، في (وال كيشر).
ووال كيشر، هو من ثغر بمبى حي الطبقة الرفيعة من سراة الإقليم، أقيم على ربوة عالية تطل على المحيط وتشرف على المدينة كلها - لكأنه نجم سها عن ذكره الفلكي - ليس بين قصوره وعمائره إلا متاحف تنطق بغنى الهند وتفصح عن جاهها وترفع النقاب عن فنونها - من شاء أن يعلم أين تنصب كنوزها ففي هذا الحي السعيد مصبها، وفيه يستحيل الذهب فنوناً، وتقوم الرياض على قنة الجبل كأنها البنود المرفوعة. أليس زرعها يتماوج من مداعبة النسيم كما تتماوج البنود، أليست مطرزة بألوان من الزهر مختلفات بين أحمر القرنفل وأبيض النرجس وأصفر الورد وأزرق البنفسج، على صفحة من خضرة مذهبة؛ ثم لعل ما ينفح الناس من طيبها فينبههم إلى تحيها إذا أغفلوا، إنما يقوم في موضع تلك القداسة المعنوية التي تنبه الناس إلى تحية العلم.
بلغت السيارة بنا حي وال كيشر، فتباطأت عند أقدامه وتهيأت للتصعيد في مراقيه، وأخذت تطوي مسالكه ونحن في داخلها كأننا تحت أجنحة طائرة وقد مهد الطريق على شدة صعوده وكثرة متعرجاته، وامتد الزرع على جانبيه، وقد امتزج سكون الليل إذ ذاك وسكون العظمة يزدهي بها هذا الجبل الذي لا يحمل على أكتافه ولا يضم إلى صدره إلا العظماء وفنونهم؛ فإذا رهبة زاد بلوغها في النفس هذه الأضواء الخافقة التي تشع من مصابيح الطريق، ولا راجل في مراقي هذا الجبل بل سيارات تصعد بأهلها أو تهوي بهم فينة بعد فينة وفيم يقدم الراجل على ركوب هذا الجبل؟ وهو لا ناقة له فيه ولا جمل؟ أما خفوت الأضواء، فلعل له غاية لا تمت بسبب إلى مبادئ الاقتصاد، هذه المبادئ التي يلفظها هذا الجبل، بل لعله يرتفع بساكنيه معتصماً بالعلو من سيلها، وعاصما لهم منه إنما هي دعوة الجمال ومن آياتها إلا يطغي النور الصناعي على النور الطبيعي، على نور القمر وما أحاط به من كواكب.
كنا نجتلي مفاتن هذا المنظر السحري، والسيارة توغل فيه كأنما نسيت أنها تقصد بيتاً، فاندفعت على غير هدى تريد أن تصل إلى أعماق هذا الإبداع؛ أما أنا فقد مرت بي برهة ما شككت أثناءها في أنني اترك العالم، وفي أنني لن البث طويلاً حتى ابلغ ما وراء(107/27)
الكون، واهتدي إلى أسرار الخلق وغوامض الحياة والموت. . ثم ليكن ما يكون، وما زالت أرواحنا تسمو ويخلص جوهرها من شوائب الدنيا وأعراضها وشهواتها حتى صارت كأنما فرغ الله من صنعها منذ طرفة عين، ذلك كله والسيارة تهتز في منعطفات الجبل كأنها سكرى. . . بل هي سكرى! ولم لا؟ وهي تسبح في خمر الطبيعة ثم لم لا؟ ومن شان هذا الجمال ان يشيع الحياة في الجماد.
انتهينا إلى بوابة رحيبة الجانبين مفتوحة المصراعين، وكلت حمايتها إلى حارسين عليهما أزياء الجند، ما إن نفذت سيارتنا منها ثم هوت خطوات في جادة القصر، حتى كنا في قلعة ذات أبراج تكاد تقطع بيننا وبين معالم الدنيا، وكأنما أعدت لتقارع الفناء وليمتنع بها الأبد.
ثم استقرت السيارة بنا في منتصف هذه الجادة عند ردهة على يمينها ذات ثلاثة أبواب وهنالك ابتذرنا خادمان ملتحيان هما من أبناء الطائفة بالسؤال، فاجبنا، وان هي إلا برهة حتى استقبلتنا غرفة الانتظار عن يمين الردهة فلما شرعت إليها ساقي، همس سائق السيارة في أذني بإنجليزيته المفهومة على أي حال، أن اخلع نعليك فذلك عند القوم سنة مؤكدة، وقد فعلت، ودخلت فإذا غرفة تتسع لنحو سبعة أمتار في نصفها، صفت إلى جدرانها كراسي نظيفة ليست بالوثيرة ولا بالخشنة، وكل أبهتها في سجادتها البيضاء المتسمة بأبهى الألوان في أبدع الشكول، وفي تلك الصور القليلة تحف بها إطاراتها الثمينة وقد ثبتت إلى الجدران وبينها صورة الحرم القدسي رصعت بالأصداف وقد علمت أنها كانت فيما حمله وفد المؤتمر الإسلامي إلى الهند من هدايا؛ فكانت نصيب هذه الغرفة
ظللت أتأمل محتويات الغرفة دقائق لعلها بلغت عشراً، حتى اقبل علي رجل معتدل القامة كريم الوجه، هو في ضحى العقد السادس من العمر، ينبئ الجد في ملامحه والنفوذ في عينيه خلف منظاره الأبيض، والانتصاب في قامته، والهدوء في نبرات صوته عن ان له في هذه الدنيا شأناً؛ طويل اللحية أسودها، يرتدي معطفاً قصيراً من أقمشة الصيف خفيف الاسمرار مشدوداً إلى عنقه، تحته بنطلون من القماش نفسه، وقد تعمم على طربوش، فحيا، ثم استوثق من أنني صاحب الموعد المضروب، فاقتداني إلى مجلس داعي الدعاة.
ذاك رئيس الوزارة البهرية، وكاتم سر إمامها، واقرب القوم إلى نفسه، وهو من وجوه المدينة واعلام رجال المال فيها، وهو ممن يلقي الحاكم إليهم سمعه، ولا يضن بالطاعة له(107/28)
المحكوم. . . ثم هو قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك، خادم للشيخ لا يعدل بمرتبته تلك مرتبة إلا أن تكون في السماء.
القاهرة
محمد نزيه(107/29)
حافظ بك إبراهيم
اثر حياته في أخلاقه وشعره
بمناسبة ذكراه
بقلم السيد احمد العجان
تمهيد
لست أحاول التحدث عن نواحي الدراسات المختلفة في أدب حافظ، فان مباحث شعره المتعددة لا تأتى عليها لمحة سريعة ووقت قصير؛ ذلك لان العاطفة في رثائه موضوع دراسة، وتداعي المعاني في خمرياته موضوع دراسة، وظرفه وفكاهته ومدحه ووصفه كلها محل بحث وتناول وتحليل. ولقد تكلمنا عن حافظ (الشاعر الوفي لمصر) في ذكراه الثانية، وسنتكلم اليوم عن ناحية جديدة لها متين الصلة بالمجتمع، وكبير الأثر في حياتنا العامة، وهي اثر حياته في أخلاقه وشعره.
- 1 -
نشأ حافظ إبراهيم - رحمه الله - نشأة شعبية قد زخرت بألوان العيش تقلبت بين متع دنيا لم تشبعه، وبؤس زمان غلب عليه، وعاش مسكيناً وبائساً في مجموع حياته، لا نستطيع أن نحدد صفوه ونعيمه بشهر معلوم، ولا بسنة، ولا بفترة من الزمان طويلة؛ فانه قد يكون في اليوم الواحد شقياً وسعيداً، بائساً وغياً، إلا انه في المجموع متغلب البؤس، متداني الرزء، غير مجدود
وما النعيم لديه إلا فترات يخلقها ما فيه من ظرف ومرح، وتبعثها مداعباته وفكاهته، ويولدها تفاؤله بالمستقبل، ويقينه في الظفر، ثم ما يراه في العلم والفضيلة من تقريب للسعادة، وسمو بالروح.
وهذا القدر من الظرف والمرح هو الذي هيأ لحافظ عطفاً على فقره، وولد فيه حناناً من بؤسه، وحببه إلى الصحاب والعارفين، ودفعه إلى مواساة البائسين، ومشاركة المحزونين، فلئن صح ان في البؤس ذلة وانكساراً؛ فان في الحنان ميلاً إلى البر، واندفاعاً إلى الصدقة.
كان لهذه النشأة اكبر الأثر في صدق شعوره وإحساسه بالآلام، وتعبيره عنها أدق تعبير،(107/30)
ورسمه صوراً شفافة واضحة لألوان البؤس التي يكتوي بنارها الشعب، ويقاسي بسببها العذاب وجدير بنا أن نتساءل: أكان مدفوعاً إليه بنفسه، مطبوعاً في حنانه؟ أم هو البيان يثيره والشعر يحفزه؟ أجاب حافظ - رحمه الله - بما يقطع كل شك ويقضي على كل تأويل:
ذقت طعم الأسى وكابدت عيشاً ... دون شربي قذاه شرب الحمام
فتقلبت في الشقاء زماناً ... وتنقلت في الخطوب الجسام
ومشى الهم ثاقباً في فؤادي ... ومشى الحزن ناخراً في عظامي
فلهذا - وقفت استعطف النا ... س على البائسين في كل عام
ولقد عرف إحساسه خلق كثير: عرفه صديقه الجليل الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري، فقال في المرآة،: (على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس. . . ولعل هذا من انه نضجت شاعريته في باب (شكوى الزمان)، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلباً، ويتفقده تفقداً) ولا ينبئك مثل صديق
وعرفه كل من خالطه وعاشره، بل عرفه كل من قرا شعره، وتصفح ديوانه الذي هو صورة من نفسه
(قد دروا أن الشعر في كل ارض ... هو من نفس أهلها منزوع)
- 3 -
إذن كان حافظ يتطلب البؤس والبائسين تطلباً، ويتفقدهم تفقداً، وكانت لديه رغبة قوية صادقة في مشاركة البائسين آلامهم، ومشاطرته احزانهم، (والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص القيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل، ولا تقف دونها عقبة: رغب (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى، فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، وتمنى أن لو أعطى سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطى الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً، بانتخابه رئيساً للجمهورية في ولايات أمريكا المتحدة، فكان من أوائل اعماله، العمل على تحرير العبيد وان شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) اكبر كاتب ومصلح اجتماعي بانجلترة في القرن التاسع عشر.(107/31)
وان الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (اديسون) اكبر مخترع في القرن العشرين. والأمثلة كثيرة لا حصر لها) وهذه الرغبة كانت قوية لدى الحافظ، تهزه ويجيش بها صدره، صادقة غاية الصدق، أراد بها إنقاذ الشعب من ذله، وتحريره من إساره وعبوديته؛ فلست احسب رجلاً وهبه الله إشفاقاً على البائسين، وحناناً على صرعى الفقر، وضحايا الإملاق، ومنكوبي الزلازل والغرق والحريق كشاعرنا العظيم؛ فهو يرسم ببيانه الذي يطاوعه صوراً ناطقة تكاد تتجسم أمامك، وتمثل بين يديك، تسمعك أنينها وتوجعها، وتبثك آلامها وتفجعها، وتحرك فيك ما كمن من عطف واستتر من حنان. فما سنحت فرصة إلا غرد بالألم، ولا حانت مناسبة إلا دعا إلى الرحمة.
- 4 -
ولهذا نراه شديد الولوع بقصص المرزوئين وروايات المعدمين. شغف (بالبؤساء) فترجمها، وهام بها فنقلها إلى لغة قومه، لان فيها إرواء لعاطفته، وغذاء لنزعته، وتعبيراً صادقاً عن خلجات فؤاده، ولأنها منتجع خاطره، ومهوى قلبه. واختار لها من الألفاظ والأساليب ما يذيب قسوة الصلد رقة وليناً، ويخترق إذن الأصم فيضحى سميعاً. ولأنها تمثل لوناً من الإنسانية المعذبة، وطائفة من أسرى العوز، وضحية من ضحايا تتكرر على الدوام ولا تنقطع، تتكاءدها الهموم، وتمثل بها خطوب الزمن، وتنهشها أفاعي الضنك على مرأى من السراة وأولي الأمر؛ فلا يخلصها منقذ، ولا يدافع عنها نصير.
- 5 -
ثم لهذا نرى الغزل في شعره قد توارى واختبأ، ولا نستطيع أن ننسب حافظاً إليه، لأنه أحس بما يشغله عن تتبع المرأة، ويصرفه عن طلابها
وقد يكون ذلك لضيق اليد، وخلو الجيب، إذ من شان الاتصال أن يتطلب المال، والوقت، والثراء. ولكني ارجح الأول؛ لسمو غايته، ونبل مقصده، وموافقته لحياة شاعرنا ثم لهذا أيضاً بكى كل مصاب ومفجوع، وناح على كل ضائع وشريد، واستبكى المحسنين معه ليستدر عطفهم ويستميل قلوبهم
- 6 -
وإذ أحس أن كثيراً من أهل العسرة وضيق اليد يرمقون المال ويتشهونه، حتى إذا لم ينالوه(107/32)
يئسوا من الدنيا، وسخطوا على الحياة، اخذ رحمه الله يعالج أدواءهم، ويهدم مذهبهم فهو مع فقره لم يتبرم بالحياة إلى حد القنوط، ولم يسخط عليها حتى اليأس. فليس التجرد من المال فقراً، وتكدس الخزائن به غنى، ولكنه وسيلة ترفيه وأداة رغد، فان لم يفد متاعاً ولم يكسب مغنماً، فلا خير فيه ولا منفعة منه. وانه كثيراً ما اجتمع له المال الوفر من كتب ألفها وترجمها ومقالات كتبها وسطرها، ووظيفة قبضها، فما استقر عنده، ولا عمل على إبقائه. قال الأستاذ البشري في المرأة: (وهو أجود من الريح المرسلة، ولو انه ادخر قسطاً من الأموال، لكان اليوم من أهل الثراء، على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس، حتى إذا طالت يده الألف جن جنونه، أو ينفقها في يوم أن استطاع)
- 7 -
ثم امسك بأيديهم، ونهض بهم إلى حيث المجد يبتغي، والشرف ينال، وعزة النفس تكتسب: بالعلم، بالآباء، بالكرامة والرزق ووفرة المال، بالسعى، بالهجرة، فارض الله رحبة واسعة:
وفيها لمن رام الحياة سعادة ... وفيها لمن رام النعيم مقام
والتفت إلى الحاكمين والسراة يستثير عطفهم، ويحرك الشفقة والحنان نحو مساكين تنتابهم غير الدهر، وتتوالى عليهم أحداث الزمان، وبائسين يؤلمهم الفقر، ويؤذيهم العرى
- 8 -
وعاطفة المواساة ترتقي بحافظ: فلا تقتصر على مواساة الفقراء والمنكوبين، وأسرى الحروب والمملقين، ولكنها تنوح بالألم، على كل حالة يعتبرها صاحبها شقاء ويظنها تعساً. على كل حالة تصرع الرجل فيه الشدائد، وتضعضعه النوائب، وتهده العظائم والشوائب. على كل حالة يتبدل فيها شان الإنسان من رضى وسكون ودعة، إلى تبرم وسخط وكراهة، من شعور بالراحة والسعادة والهناء، إلى تذمر وامتعاض وموجدة، فنراه يواسي ملوكا غاب عن جبينهم التاج، وسلاطين خلت أيديهم من الملك، تواسى ملوكاً غاب عن جبينهم التاج، وسلاطين خلت أيديهم من الملك، وأصبحوا يحتمون بالقانون بعد أن كانوا مصدر القانون! ويخضعون للنظام وقد كانوا يصدرون النظام! ويبتدئون بالتحايا العارفين وقد كانوا بها يبتدأون، ولهم مراسيم تقضى وواجبات تؤدى. . .!!
هذه الإمبراطورة (أوجيني) زوجة نابليون الثالث تقدم مصر بعد زوال ملكها، فيرفع لها(107/33)
حافظ تحيته، بل مشاطرته ومواساته:
إن يكن غاب عن جبينك تاج=كان بالغرب أشرف التيجان
فلقد زانك المشيب بتاج ... لإيدانيه في الجلال مداني
ذاك من صنعة الأنام وهذا ... من صنيع المهيمن الديان
فأعذرينا على القصور كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان
وقال في فتنة الآستانة موجهاً إلى السلطان عبد الحميد صورة من التأسي والتصبر، مشفقاً عليه باكياً، بعد أن كان مغيظاً خانقاً، يعيب على الشامتين شماتهم، وينتقص رجولتهم، ويبين أنه لا زال خارج الحكم عبد الحميد كما كان مملكاً حاكماً:
كنت أبكي بالأمس منك فمالي ... بت أبكي عليك عبد الحميد
فرح المسلمون قبل النصارى في ... ك قبل الدروز قبل اليهود
شمتوا كلهم وليس من الهم ... ة أن يشمت الورى في طريد
ما عهدنا الملوك تبكي ولكن ... علها نزوة الفؤاد الجليد
شفح الدمع فيك عند البرايا ... ليس ذاك الشفيع بالمردود
دمعك اليوم مثل أمرك بالأم ... س مطاع في سيد ومسود
ولعل هذه الفواجع المتكررة، والأرزاء المتتابعة، التي يستوي فيها الفقير لا يجد قوتاً، والشريد لا يعثر على مأوى، والملك لا يأمن غدر الدهر وخيانة الزمن، والسلطان لا يستقر به الجاه، ولا تدوم له العزة - لعل هذه الفواجع - هي التي جعلت حافظاً ينحى باللائمة على حواء أمنا الأولى؛ لأنها ولدتنا ولم توص الزمان بنا خيراً، مع عرفانها بصروفه وأكدراه:
لم تلدنا حواء إلا لنشقى ... ليتها عاطل من الأولاد
سلمتنا إلى صروف زمان ... ثم لم توصها بحفظ وداد
ولكنه في غضبه هذا لم يذهب كما ذهب غيره: يدعو الموت ويتطلب مبارحة الحياة وفراق الدنيا، ولم يكن كمن قال: (فيا موت زر إن الحياة ذميمة)؛ ولا من قال: (ألا موت يباع فأشتريه)؛ بل فطن لما فرط منه، وأنتبه لما بدر، فنفض عن نفسه غبار الشجو، وكابوس الجزع، فهو يسوءه أن يضيق ذرعاً بدنياه، ويؤكد أن الاستسلام للألم مما يشينه، وقد يعوقه(107/34)
عن تأدية رسالته. فالمواساة ليست بكاء فقط، أو ألماً فحسب، ولكنها: تسرية هموم وتخفيف مصاب، ثم هي فوق ذلك جلب منفعة، وإكساب غنيمة، وليس في مقدوره أن يخدم الفقراء والبائسين إذا ضاق بالحياة وسخط على الدنيا، وأتروى بعيداً، لا يتصل بالحاكمين، ولا يتعرف ما عند المحسنين.
- 9 -
ولقد عرف أن تخليد الذكر إنما يكون بالإحسان، فهو أبقى على الزمن، وأدوم في التاريخ؛ فأخذ يغري الحاكمين بالعطف على أبناء الشعب والعمل على إسعاده، ولا سيما إن منصب الوزارة ليس دائماً، ولكنها الصالحات والمؤسسات الخيرية أبقى وأكثر دواماً:
إن المناصب في عزل وتولية ... غير المواهب في ذكر وتخليد
وأغرى السراة بالإنفاق على الفقراء، فلقد يكون منهم الزعيم السياسي يخلص الوطن وينقذ البلاد، أو الرئيس الديني يرعى الأخلاق ويحمي الشريعة، أو الشاعر النابغة يهز القلوب طرباً، ويثقف العقول بياناً وحكمة:
أيها المثرى إلا تكفل من ... بات محروماً يتيماً معسراً
أنت من يدربك لو أنبته ... ربما أطلعت بدراً نيراً
ربما أطلعت (سعداً) آخراً ... يحكم القول ويرقى المنبرا
ربما أطلعت منه شاعراً ... مثل (شوقي) نابها بين الورى
ربما أطلعت منه (عبده) ... من حمى الدين وزان الأزهرا
كم قضى البؤس على موهبة ... فتوارت تحت أطباق الثرى
كل من أحيا يتيما ضائعاً ... حسبه من ربه أن يؤجرا
ثم نراه يبين لأولئكم السراة أن لا قيمة للمال إذا لم يعصمنا من الفقر، ولم نؤسس به الملاجئ، ودور العلم، وبيوت الشفاء؛ فإن الدينار نفرح به ما دام في أيدينا، حتى إذا ما دخلنا به السوق كان والدرهم سواء. والمال الكثير إذا حل الغلاء؛ يكون قليلاً يمضي سريعاً.
نهش إلى الدينار حتى إذا مشى ... به ربه للسوق ألفاه درهما
فلا تحسبوا في وفرة العلم لم تفد ... متاعاً ولم تعصم من الفقر مغنما(107/35)
فإن كثير المال والخفض وارف ... قليل إذا حل الغلاء وخيما
- 10 -
ولقد بصر بلذع السؤال ومرارته، وألم الاستجداء وحرقته فأهاب بالمحسنين أن يصدروا عن عاطفة، وألا يحرجوا المحروم؛ فأن خير الصنائع ما تنبو بحاملها عن الإهانة، وإن الذي يجود بعد إلحاح وطلب كثير؛ لهو المعدود من البخلاء:
خير الصنائع في الأنام صنيعة ... تنبو بحاملها عن الإذلال
وإذا السؤال أتى ولم يهرق له ... ماء الوجوه فذاك خير نوال
من جاد من بعد السؤال فإنه ... وهو الجواد يعد في البخال
وهو لذلك يربأ بنفسه أن تمديده لذي منة، وأن تبسط لمن يستعذب سؤال المحتاج، أو من يعتز بغناه ليسخر من مسهب معوز؛ فيعف ويود لها البلى قبل سؤال الدنيء اللئيم.
أيا يد ما كلفتك البسط مرةً ... لذى منه أولى الجميل وأنعما
فلله ما أحلاك في أنمل البلى ... وأن كنت أحلى في الطروس وأكرما
- 11 -
لحافظ - رحمه الله - مذهب في الإحسان، فهو يرى أنه ليس منة وفضلاً يفخر به ذووه، وتعلو به رؤوسهم وتشرف أقدارهم، وإنما هو واجب على المثري أن يؤديه، وحق للفقير يجب أن يوفيه، ودين لا يفر من قضائه إلا مماطل، ولا يهرب منه إلا نذل دنيء. والإحسان في نظره يستطيع كل إنسان أن يؤديه:
بالقول!! يخفف به الألم عن الشاكي، ويثير به همم أولي العزم والمروءة والنجدة.
وبالدمع!! مشاركة للمحزون فيما أحزنه، وللمهموم فيما أفجعه وللمصاب فيما أصابه.
وبالمال!! الذي هو العون في قضاء الصوالح، والجالب للنفع، والدافع للضر، به نقضي الرغبات ويؤدي المطلوب قال في زلزال إيطاليا:
سلام على الأول أكل الذئ ... ب وناشت جوارح العقبان
وسلام على امرئ جاد بالدم ... ع، وثني بالأصفر الرنان
ذاك حق الإنسان عند بني الإن ... سان. لم أدعكم إلى إحسان
(البقية في العدد القادم)(107/36)
السيد محمد العجان(107/37)
إلى الأستاذ أمين الخولي:
حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني
للأستاذ صالح بن علي الحامد العلوي
قرأت ما كتبتم رداً على مقالي عن الفقه الإسلامي والروماني وأشكركم على حسن ما ظننتم بي من الغيرة الدينية وجميل الأدب في النقاش. وبما أنك أيها الأستاذ قد تنكبت في ردك جوهر الموضوع في مقالي إلى ناحية أسلوب التفكير وصحة الانتقال والاستنتاج - كما عبرت - مكتفياً ببيان أنك قد أطلعت على الموضوع نفسه وأنه قد نشر في مصر - وربما بنصه - منذ ربع قرن مضى الخ، وقلت إنك قرأته ولا تزال تذكره جيداً ومع ذلك قلت فيما قلت عن تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني الخ.
فإني أقول لك - على تسليم ما ذكرت -: إني لم أكتب ما كتبت متهماً لك في معارفك ومعلوماتك، ولا لأن أقنعك أنت وحدك فقط دون الجم الغفير من قراء (الرسالة) الغراء الذين قد قرأوا ولا شك رأيك ورأي غيرك في الموضوع إلا لما كان الأمر في حاجة إلى نشره في صحيفة سيارة كا (لرسالة)، فالأمر قد صار أعم من أن يختص بي أو بك. أفليس من اللازم أن تجيب - ولو بإيجاز عن كل ما كتبت ونبسط للقراء رأيك مدعماً ببراهين لا تنقص - على الأقل - عن براهين مناظرك، وبذلك تكون قد أنرت السبيل للقراء لأن يهتدوا برأيك ويتفقوا معك على تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني. وإلا فلا معنى لأن تفتح باب البحث مختاراً، ثم إذا دعيت إلى بسطه عمدت إلى سده متعللاً بضيق الوقت.
لا يا أستاذ! إن الوقت الذي تعتذر بضيقه الآن قد أتسع لدرس علوم وفنون وصنائع قد ضاق عن أقلها الزمن الماضي، فلماذا يضيق ذرعاً بالخوض في هذا البحث وحده؟
وإذا كان قراء الصحف الأسبوعية لا ينشطون للمناقشة الفنية كما قلت فإني اجل قراء (الرسالة) بخاصة عن ذلك فالرسالة في اعتقادي هي الصحيفة الأسبوعية الجدية الوحيدة التي ينبغي أن تضطلع برسالة العلم - كما يعبر اليوم - والأدب والفن، وارى أن قراءها كذلك يمتازون من قراء غيرها من الصحف على أن الصحيفة الراقية هي التي ترفع قراءها إليها لا التي تنزل إليهم والآن اخذ في ذكر ملاحظاتك على مقالي والرد عليها.
وابدأ أولاً بأخذك عليَّ قولي: إن الأخذ والتأثر يجريان إلى مدى واحد بقولك: (إن التأثر قد(107/38)
يكون سلبياً صرفاً، ثم استشهادك لذلك بان الوثنية العربية قد أثرت في الإسلام في تحريم التصوير والنحت الخ، والحق أيها الأديب أن تحريم التصوير ليس من موضوعنا في شيء، وليس إلا من باب سد الذرائع وهي القاعدة المعمول بها في الإسلام ولا تزال أصلاً في مذهب مالك؛ ومن أمثلة ذلك في الإسلام تحريم آلات اللهو سداً للذريعة في تعاطي الخمر، وضرب الحجاب على المرأة للذريعة في افتتان الرجل بها، كالعكس إلى غير ذلك، فلماذا أيها الأستاذ لا تجعل تلك من هذه؟ ولا تكون في حاجة لتكلف هذا التأثير السلبي غير المفهوم، اللهم إلا إذا كان كتأثير الشيء بضده في ظهوره ووضوحه عند المقابلة كالبياض مع السواد فيكون هذا من باب: وبضدها تتبين الأشياء
ثم اني أخشى أن يعد ما قلته أيها الأستاذ خطوة في التهرب من الموضوع والتملص منه، ذلك لان اصل البحث الذي نحن فيه انه وجد في الفقه الروماني تشابه مع الفقه الإسلامي فهم منه البعض وجود علاقة بين الفقهين، فادعى كولدزهير ومن قلده تأثر الفقه الإسلامي بالروماني، فقلنا كما قال غيرنا أيضاً: إن الأحرى والأنهض بالدليل أن يكون الروماني هو المتأثر. هذا هو حاصل الموضوع، فلو سلمنا صحة تقسيم التأثير إلى إيجابي وسلبي كما قلت أيها الأستاذ فما السلبي مما نحن فيه في قليل ولا كثير. وإذا كنت ترى تأثر الفقهاء بالفقه الروماني إنما هو تأثير سلبي بهذا المعنى فقد لا يبقى بيننا ما يستوجب النزاع والمناقشة
(2) وقلت أيها الأستاذ عند قولي: إن الإسلام في ذاته جاء خارقاً لقاعدة البيئة والثقافة، إذ قام به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي نشأ ابعد الناس عن أن يطلع على قانون روماني أو حكمة منقولة، وإني بهذا الدين الأقدس مناقضاً كل المناقضة لما عليه قومه. . . الخ. قلت: (إن هذا القول غريب من. . . لأنه لا يصح إلا على تقدير أن هذا الدين من صنيع الرسول نفسه وهو أمي. . . الخ فعمله ناقض لقاعدة البيئة والثقافة، أما على أن الإسلام كما في حقيقته وحي إلهي فلا يستقيم هذا التمثيل مطلقاً في نقض قاعدة البيئة والثقافة الخ).
فلولا حسن ظني بسلامة نيتك أيها الأستاذ لعددت هذا منك مغالطة غير سائغة من مثلك؛ ذلك لأني لم أقل فيما كتبت إن الإسلام بظهوره بهذه الصفة ناقض لقاعدة البيئة والثقافة قط،(107/39)
ولكني قلت: إن الإسلام في ذاته خارق لها، لأنه دين سماوي ووحي إلهي لا تتحكم فيه بيئة ولا تؤثر عليه ثقافة؛ على أن قولي خارق أحرى بأن يفهم منه إثبات قاعدة البيئة والثقافة؛ لأن الخارق ما خرق العادة وخالف مقتضاها، والغرض مما قلت بيان أن الإسلام في فقهه وعقائده وعباداته لا يتطرق إليه تأثير البيئة والثقافة، لأنه في كل ذلك جاء خارقاً لقانونها، ولم أقل قط إن الإسلام ناقض لقاعدة البيئة والثقافة كما فهمت أيها الأستاذ، بل قلت: إنه خارق؛ وفرق بين مدلولي اللفظين، فليشهد القراء وليحكموا!
(3) وقلت أيها الأستاذ عند قولي: إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة، أو بعبارة أصح جاءت في زمن واحد. . . الخ (إن هذه العبارة أوضح من أن تحتاج مخالفتها إلى دليل). فلماذا أيها الأديب الفاضل؟ فهل كنت تنكر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يمت إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء، حتى ترى أن بعض الشريعة لم يوجد إلا بعد زمنه؟ ألم يقل الله جل ذكره في كتابه العزيز: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)؟ ويقول أبن عباس السدي في تفسيرها: إن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي تنزيل ما أنزلت وتبيين ما بينت لكم، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم؟ حتى غال بعض نفاة القياس فأحتج بها على إنكاره.
(4) ثم ذكرت أيها الأستاذ قولي: وهيأ لنا شريعة كاملة، وقانوناً ربانياً منظماً يصلح لأن يطبق على أي جيل وعلى أية أمة، ولم يزد فيه الفقهاء شيئاً قط إلا تصنيفه ونقله. . . إلخ، فقلت: (إن هذا الكلام ليس أحسن حالاً من سابقه، فالفقهاء قد فهموا وطبقوا واستنتجوا واستنبطوا. . . الخ) ونحن لا ننكر هذا، وعبارتي لا تفيد نفيه إذ لست ظاهرياً، وقد شاء قلمك أيها الأديب أن يقتضب من عبارتي ما شاء فقط، وإلا ففي آخر الفقرة بيان المراد، فقد قلت في آخرها إنهم (أعني الفقهاء) فيما لم يجدوا فيه نصاً صريحاً يطبقونه على قواعده الأساسية، وهذا هو معنى الفهم والاستنباط، ولا يقال له زيادة ولا تعارض في العبارة، لأن المراد بما لم يزد فيه الفقهاء شيئاً أصوله وقواعده الأساسية، وهي التي لم يلحق المشرع الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد تركنا منها على سبيل واضح وقانون رباني منظم وشريعة كاملة، فيحسن أن نقول هنا إننا والأستاذ الفاضل على خطة اتفاق.(107/40)
(5) وقلت أيها الأستاذ إن قولي (. . . والنصوص الفقهية كلها صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي، يناقضه قولي في القرآن: على إن الاختلاف في تفسيره ليس إلا لإيجازه المعجز مع بعد مراميه الغيبية، وقلت: (إن هذا الإيجاز المعجز لم يفت آيات الإحكام كذلك وبعد المرامي يشملها. وجوابي عليك أن آيات الإحكام قد جاءت مفسرة بالسنة إلا ما ندر منها كآية الربا، فلم يبق مجال للاختلاف فيما أوضحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يمكن أن يكون في غيره مما لم يفسر بالسنة، وبهذا يتضح الفرق بين أدلة الإحكام والتفسير المختلف فيه، ويصح به لنا القول بألا يقاس بالفقه التفسير، وحسبك دليلاً على الفرق بين فهم الكتاب وفهم السنة ما صنع الإمام علي كرم الله وجهه عند إرساله ابن عباس رضي الله عنهما لجدال الخوارج، إذ أمره أن يتوخى جدالهم بالسنة حرصاً على إلا يخطئوا في فهم القرآن وتأويله، وما ذاك إلا لما ذكرنا.
(6) وتقول أيها الأستاذ (وإذا كانت النصوص صريحة بينة الأغراض ففيم أختلف فقهاء المذاهب الكثيرة المتعددة الخ.
وأقول لك إن سبب الخلاف بين فقهاء المذاهب ليس اختلاف البيئة والثقافة مع غموض الأدلة، ولكن السبب الأكبر هو اختلاف علمهم بالأدلة أولاً، ثم تفاوت مراتبها عندهم قوة وضعفاً، وقد كانت السنة آنئذ تتلقى من أفواه الشيوخ. وقد يبلغ الفقيه حديث لم يبلغ الآخر، أو يكون هذا سمعه بطريقة أقوى من طريق الآخر، وهذا عندي السبب الأكبر في اختلاف الفقهاء.
ولذلك قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي. ونحن لا ننكر اختلاف الأفهام في الاستنباط أصالةً، ولكنا ننكر لزوم أن يكون ذلك من آثار البيئة والثقافة، فاختلاف الإفهام جار حتى بين أبناء المدرسة الواحدة والبيئة الواحدة كما هو مشاهد، فلا يصلح دليلاً لتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني.
(7) واستطرفت أيها الأستاذ الأديب تمثيلي للصراحة بقولنا مثلاً لا تكذب قائلاً: (إن هذه المسألة على وضوحها الشديد محل خلاف تعدى إلى كتب البلاغة) والكلام إنما هو تمثيل للصراحة لغة، وفرق بين رسوم الألفاظ وحدودها المنطقية وبين صرائح مؤدياتها اللغوية.
ثم إني لم أمثل بهذا إلا توضيحاً لكون الكلام العربي الصريح لا يختلف معناه على حسب(107/41)
الأزمان والبيئات؛ ويدل على هذا قولي بعد ذلك: وأرى أننا لو نقلنا خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع مثلاً ونشرناها اليوم لما فهم منها، أي إجمالاً، من يعرف مدلولات الكلام العربي من مثقفي اليوم إلا ما فهمه عشرات الألوف من المسلمين حينما خطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الرهيب قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف).
وهذه ميزة للغة الضاد يجب ذكرها على حين أن بعض اللغات سواها قد تغيرت وتطورت تطوراً كاد يجعلها مقطوعة الصلة بينها وبين ماضيها قبل مائتي سنة.
(8) وأما استغرابك لقولنا إن أغلب النصوص الفقهية من السنة، فيذهب إذا علمت إن آيات الأحكام جاءت جلها إن لم نقل كلها مفسرة موضحة بالسنة، فالسنة مع كونها مصدراً خاصاً لبعض الأحكام فهي في بعض واسطة بين الكتاب وبين الفقهاء في فهم آيات الأحكام، وبهذا تعلم أغلبية الأدلة الفقيهة التي من السنة وإن كان أغلبها في الحقيقة تفسير ما أجمل الكتاب، وهذا معنى التبيين في قوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم) آية.
(9) ثم قلت أيها الفاضل مستدلاً على تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني: (إن الرومانية حكمت الشام قطعاً، وكان ذلك الحكم لقرون كثيرة قطعاً، وكانت الدولة الرومانية وحكمها الشام قبل الإسلام قطعاً. . . ثم قلت وكان الإسلام هو الذي خلف على ذلك بلا شك، وكان لهذا على طول الزمن أثره الذي تختلف به الشام عن الحجاز مثلاً، ولا بد والأوزاعي أبن هذه البيئة الحديثة العهد بهذه الحال الرومانية فلتلك البيئة وهاتيك الثقافية وأثرهما المحتوم في تكوين الأوزاعي الخ. فلو سلمنا جدلاً بصلاحية الفقه الإسلامي وقبوله للتأثر بالبيئة والثقافة كما تعتقد أيها الأستاذ الفاضل، فالشام لم يفتح في عهد الأوزاعي ولكنه فتح في عهد عمر رضي الله عنه، والأوزاعي - وهو من تابعي التابعين، ومن الطبقة السابعة من الرواة، ومن أهل القرن الثاني - لم يأت إلا وقد أنصرم، أو كاد ينصرم بعد رسوخ الإسلام في الشام جيل كامل. ثم إن الإسلام من شأنه أنه لم يفتح بلاداً وتطأها أقدام جنوده الأبطال إلا وينقل إليها معه حضارته وآدابه وأحكامه، وأصرح من ذلك أن أقول إن الإسلام لم يفتح البلاد ويتولى الشعوب إلا لينسخ أدياناً ويقر مكانها ديناً واحداً، ويهدم قوانين ويبني بدلها قانوناً جديداً مفرداً، ويجتث حضارات ويغرس محلها حضارة واحدة؛ فالإسلام لم يفتح(107/42)
أرضاً ولم يحكم شعباً إلا ليؤثر فيه - يا مولاي الأستاذ - لا ليتأثر به.
وقد تولى الإسلام الشام منذ عهد الخليفة الثاني وأسبغ عليه من روحه وثقافته وتعاليمه حتى غدا إسلامياً صبغةً وروحاً، ومضى على ذلك زمن، ولم يأت الأوزاعي إلا والشام في دينه وروحه وثقافته إسلامي صرف، ولم يبق به من ثقافة الرومان عين ولا أثر. فالأوزاعي وليد بيئة إسلامية وثقافة إسلامية، فتسرب الثقافة الرومانية إليه بعد أن اندثرت وسحب الدهر عليها ذيل النسيان وحل محلها ما هو خير ثقافة وأعدل حكما - من البعد بحيث لا يستسيغه عقل المتثبت الحازم.
(10) والعجيب أيها الأستاذ الفاضل أنك في آخر ردك على مقالي قلت لا أدع منه عبارة ختامية تلك هي. . . إن الفقه الروماني جديد لفقه جماعة من العلماء وتحقق أنهم أخذوه من الفقه الإسلامي، وهذا ما يجب إلا يعتقد خلافه كل مسلم، قائلاً بل أقول. . . لسنا في شيء من المطالبة بهذه العقيدة في الفقه الروماني، فليست أصول الإسلام ستة، تلك الخمسة المعروفة ثم سرقة الفقه الروماني من الفقه الإسلامي الخ).
ولا أدري ماذا أردت بأصول الإسلام الخمسة؟ فإن كنت تريد بها أركانه التي أولها الشهادتان وآخرها الحج، فالاستنتاج عجيب، لأنني لم أقل إن هذا الاعتقاد ركن من أركان الإسلام، بل غاية ما في الأمر إني قلت إنه واجب؛ وواجبات الإسلام يا مولاي الأستاذ أكثر من أن تكون ستاً أو ضعفها، فإذا ضممت إليها الواجبات الاعتقادية والأعمال والتروك صارت أكثر من أن تحصر! فبأي منطق استنتجت من قولي ما لم أقله، وألزمتني على هذا القول بأن أصول الإسلام ستة؟ ولا يفوتني هنا أن أقول لك أيها الأستاذ إن أدبك الجم قد سمح لك أن تنصحني بأن أعدل رأيي في هذه الأشياء قبل أن أهتم بمسألة الفقه الروماني وأخذه أصوله من الفقه الإسلامي أو تأثر الفقه الإسلامي فتلك مسائل متأخرة، ولكني هنا لم يطاوعني أدبي معك - مهما كان بالنسبة إلى أدبك - أن أقول لك مقال الناصح المشفق إنه يحسن أن تصلح منطقك أولاً قبل التعرض لتطبيقه على مثل هذه الأمور.
وفي الختام أقول لك إنه ليس من الخير أن يتذرع الكاتب للتغلب على مناظره بتحقيره أو مغالطته، وأعتقد أنك أعلم بأدب الحوار والمناقشة من أن أنبهك إليه والسلام عليك.
سنغافوره(107/43)
صالح بن علي الحامد العلوي(107/44)
نهر النيل
كما ذكره العلامة أبن خلدون في مقدمة
بقلم رشوان أحمد صادق
جاء ذكر النيل في كثير من المؤلفات العربية التي وضعها جغرافيو العرب من أمثال الإدريسي وياقوت الحموي والإصطخري وابن سعيد الجبهاني وغيرهم كثير. على أن ابن خلدون وصف هذا النهر وصفاً بديعاً في مقدمته المشهورة.
وقبل أن نتحدث عن مقال أبن خلدون عن نهر النيل يحسن بنا أن نذكر الحقائق الآتية:
أولاً: أطلع ابن خلدون على أبحاث من سبقه إلى هذا الموضوع وحاول أن يوفق بينها وبين ما سمعه من الأحاديث المختلفة عن نهر النيل.
ثانياً: لم يذهب أبن خلدون إلى أعالي النيل ولكنه ربما زار بعض أجزاء النهر السفلى مثل الأراضي المصرية.
ثالثاً: ابن خلدون قد وصف بعض أجزاء نهر النيل بدقة جعلت الكثير من العلماء يهتم برسالة هذا الرجل الفيلسوف.
رابعاً: إن العهد الذي كتب فيه أبن خلدون كان عهد اجتهاد من حيث البحث عن منابع النيل، إذ كانت مسألة النيل من الأمور الغامضة، ولم تتح الفرص لفك لغزه أو الحصول على معلومات حقيقية عنه مبنية على أبحاث دقيقة إلا بعد أن وطد محمد علي الأمن في أعالي النيل، وبذلك سهلت مهمة من قام بهذا العمل.
والآن نذكر أقوال ابن خلدون عن نهر النيل ثم نعقب عليها.
قال: (فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه. تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل، ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر، فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية، ويسمى يبل مصر وعليه الصعيد(107/45)
من شرقيه والواحات من غربيه. ويذهب الآخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأممهم كلهم على ضفتيه).
من ذلك يتبين إلى أي حد كانت معلومات ابن خلدون عن هذا النهر. أما عن أعالي النهر فمعاوماته قاصرة على السماع وعلى ما وصل إلى علمه من كتب من سبقه إلى ذلك الموضوع. وعلى الأخص كتاب بطليموس الذي ذكر ذلك بوضوح ونقل عنه الإدريسي وغيره. ولكن في كلام ابن خلدون مسألة مهمة إلا وهي ذلك النهر الذي يتجه غرباً ويصب في البحر المحيط.
ما هو ذلك النهر الغربي؟
أكان ابن خلدون متأثراً بالآراء القديمة من أمثال رأي هيرودوت الذي يقول بأن النيل يتجه غرباً إلى المحيط؟ أم كانت عنده معلومات عن نهر الكنغو وظن أنه يتصل بالنيل كما كانت هذه الفكرة سائدة إلى زمن ليس ببعيد؟ أم كان يعرف نهر النيجر وظن أنه فرع من النيل لقرب منابع بعض نهيراته من منابع بعض نهيرات حوض تشاد القريبة من منابع بعض نهيرات النيل؟
ولكي نوضح هذه المسألة نقول: إن ابن خلدون ربما كان يقصد أحد هذه الآراء الثلاثة الآتية:
1. يقول أبن خلدون إن هناك نهيرات تنبع من جبل القمر ثم تصب في بحيرتين، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء، ويخرج من هذه البحيرة نهران يتجه أحدهما نحو الشمال والآخر نحو الغرب ويصب في المحيط.
لعله كان يقصد بحيرة فكتوريا وبحيرة أدورد، وإن البحيرة الثالثة هي بحيرة البرت، والنهر المتجه شمالاً هو بحر الحبل والمتجه غرباً هو الكنغو.
والقاعدة في هذا الفرض أن المنطقة بين النيل والكنغو غير محدودة تماماً، كذلك ليست شديدة الإرتفاع، وفي زمن الأمطار الشديدة قد تكون هذه المنطقة عبارة عن شبكة من المجاري المائية التي يصبح من المتعذر تتبعها خصوصاً وأن تلك الجهات كانت غير معروفة تماماً، وإن المعلومات عنها كانت منقولة عن التجار العرب والزنوج.
فإن كان ابن خلدون يقصد ذلك - وهو الأرجح - فذلك دليل على ذكاء ذلك الرجل(107/46)
الفيلسوف والعالم المحقق.
ولقد ظلت فكرة اتصال النيل بالكنغو زمناً طويلاً في عالم الوجود قبل أن يكشف تماماً عن نهر الكنغو.
2. أما عن الرأي الثاني فنقول إن أبن خلدون ربما قصد بالبحيرة الثالثة منخفض بحر الغزال (بحيرة نو وأقليم السدود ومنخفض بحر الغزال). فالواقع إننا عندما نتتبع هذه المنطقة على الخريطة قد لا نتبين تماماً مقدار عظمها، ولكن إذا ما اطلعنا على مذكرات بعض التجار الذين قطعوا هذه المسافات من أمثال الزبير باشا نتبين تماماً إن هذه المنطقة تظهر لأول وهلة كأنها مستنقع عظيم السعة. فلقد ذكر الزبير باشا في مذكراته أنه ضل الطريق وسط هذا المستنقع أثنى عشر يوماً حتى كاد يشرف على الهلاك.
فربما كان أبن خلدون يقصد بالبحيرة الثالثة هذا المستنقع العظيم. وإن النهر الذي يتجه غرباً هو بحر العرب وروافده. وربما وصلته أخبار عن النيجر وحوض تشاد فظن أن بحر العرب يتصل ببحيرة تشاد وهذه الأخيرة تتصل بالنيجر إلى (البحر) المحيط.
ولقد كان يظن أن النيل يتصل بنهيرات بحيرة تشاد وهذه تتصل بأعالي النيجر، وبقيت تلك الفكرة سائدة إلى إن ذهبت البعثة الفرنسية وطافت حول بحيرة تشاد وأثبتت أن حوض تشاد منفصل عن النيل وعن النيجر تماماً.
وربما كانت تلك الفكرة بعيدة عن ذهن أبن خلدون، ومع ذلك لا مانع من ذكرها خصوصاً وإن فكرة اتجاه النيل غرباً كانت سائدة في قديم الأزمنة.
3. أما عن الرأي الثالث فربما قصد ابن خلدون بالبحيرة الأولى، بحيرة رودلف، وظن أن نهر أومو الذي يتصل بها متصل بنهر أوكوبو أحد أفرع السوباط، وأن البحيرة الثانية هي فكتوريا، والبحيرة الثالثة هي نو (ومنخفض بحر الغزال وأقليم السدود)، وأن النهر الغربي هو بحر العرب ويتصل بحوض تشاد، ثم حوض تشاد يتصل بحوض النيجر، ثم ينصرف الأخير إلى المحيط كما سبق أن بينت ذلك في الرأي السابق.
ومما جعلنا نحتمل وجود هذا الرأي على الرغم من ضعفه هو قرب بحيرة رودلف من ساحل أفريقية الشرقي، إذ أنه معروف أن التجارة كانت تنقل من أعالي النيل إلى ساحل أفريقية الشرقي حيث يمكن تبادلها مع سكان الساحل الآسيوي المقابل لساحل أفريقية(107/47)
الشرقي، وكانت الأخبار تنقل مع التجار العرب أو الزنوج، ومن ضمن هذه الأخبار المعلومات المختلفة عن منابع النيل وإقليم البحيرات.
ولما كانت بحيرة رودلف قريبة من ساحل أفريقية الشرقي فلا يبعد على الظن أن تكون ذكرت كمنبع للنيل.
ولعل تلك الفروض كانت راجعة إلى عدم معرفة هذه الجهات بالدقة أيام أن كتب ابن خلدون رسالته، وان كل ما ذكر عنها كان عن طريق النقل والسماع الذي لا يخلو من المبالغة والخطأ، زد على ذلك قلة المعدات العلمية وآلات الضبط والمقاييس المختلفة بعكس ما نحن عليه الآن من تقدم.
والآن ندخل في التفاصيل التي ذكرها الفيلسوف ابن خلدون عن بقية نهر النيل.
قال يصف البحيرة الثالثة: (في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال ويقسم ماءها إلى قسمين فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط).
وفي ذلك إشارة إلى خط تقسيم المياه بين النيل والكنغو، ونرجح ذلك إذا ما علمنا أن شاطئ بحيرة ألبرت من الجهة الغربية تحف به الجبال، ثم خلف هذه المرتفعات أي في الجهة الغربية منها توجد المجاري المائية التي تمد نهيرات الكونغو، فلا يبعد على الظن أن يكون ابن خلدون قد اعتبر منابع الكنغو وراء هذه الجبال المتاخمة لشاطئ بحيرة ألبرت الغربي جزءاً متمما لهذه البحيرة خصوصا وهذه المنطقة تحتوي على عدد عظيم من النهيرات، فهي عبارة عن شبكة مائية يصعب تحديدها خصوصاً في أوقات الأمطار الشديدة والفيضانات حيث تظهر كمتسع عظيم من المياه.
وربما قصد ابن خلدون بهذه المرتفعات مرتفعات دارفور التي تفصل مياه وادي الكوه ووادي جندي المتصلين ببحر العرب عن وادي بحر السلامات المتصل بنهر شادي المتصل ببحيرة تشاد.
وربما قصد بهذه المرتفعات مرتفعات بندا التي تفصل بين مياه الغزال من جهة ونهر شادي المتصل ببحيرة تشاد من جهة أخرى. إذ أن نهري الجبل والغزال يكونان حوضا منخفضا في الوسط وحافاته مرتفعة، وما ارتفاع الجهات التي تفصل حوض الغزال عن حوض تشاد إلا لهبوط الانخفاضات المجاورة التي فيها بحر الغزال وحوض تشاد.(107/48)
أما عن بقية نهر النيل فقد قال ابن خلدون: (ويخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما. وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط، ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم).
وفي ذلك إشارة إلى فروع النيل وتغيرها في عهد العرب وما بعده عما كانت عليه في عهد البطالسة، فقد زالت المصبات الشرقية كلها تقريباً.
ويقول أيضاً (وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان، وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة وهي في غربي هذا النيل، وبعدها علوة وبلاق، وبعدهما جبل الجنادل على ست مراحل من بلاق في الشمال، وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صبا مهولا فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد، وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل، وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة، والواحات في غربها عدوة النيل وهي الآن خراب وبها آثار العمارة القديمة).
وفي ذلك إشارة صريحة إلى الشلالات التي تعترض النيل قبيل أسوان والتي تكون بمثابة عقبة، إذ نجد الانحدار شديداً. ويظهر أن المنطقة التي يصفها أبن خلدون هي المنطقة المسماة الآن شلال حلفا، وتبدأ بعد سراسن، ومن بعدها بقليل نجد شلالات جيمي وأبكه وطولها معاً أكثر من 16 ك. م، وينحدر عندها النيل انحداراً شديداً. وهذه الجنادل هي التي يطلق عليها عادة شلال حلفاً وهي كغيرها من الشلالات السابق ذكرها يرجع تكوينها إلى اعتراض الصخور البلورية الشديدة الصلابة في مجرى النهر وتتكون منها الجزر.
وأما عند لفظ (واحات) فربما قصد بذلك بقايا المدن الأثرية التي قامت على أنقاضها المدن الحديثة، أو ربما أطلق هذا اللفظ على البلاد الموجودة في هذه المنطقة الجدبة والتي تعتمد على الآبار لبعدها عن النيل.
أما عن قوله إن الحبشة على النيل فربما قصد بذلك الفرع الذي يأتي من بلاد الحبشة وهو الأرجح، إذ يقول: (بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض(107/49)
النوبة فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر). ويقول (وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر، وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنه ليس من هذا النيل).
وهذه إشارةً إلى أنه لم يكن يعرف هضبة الحبشة ولا منابع النيل الأزرق. على أنه يتفق مع بطليموس في أنه ينبع من جهات غير منابع النيل في جبل القمر. وهذه المسألة مدهشة، إذ أن النيل الأزرق كان معروفاً منذ أيام أراتستين، وأن هضبة الحبشة كانت مجاورة لبلاد اليمن وذات حضارة، فكيف لم يعلم شيئاً عن منابع النيل الأزرق بينما رسم كل من بطليموس والإدريسي بحيرة تسانا؟
ثم ذكر المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج الفارسي، وقال عنهما: البحران الهابطان، ثم ذكر بوغاز باب المندب والمنطقة المعروفة الآن باسم الأرتريا، ثم تكلم عن التجارة بين اليمن والسويس، وذكر سواكون، وتكلم عن الواحات الداخلة وعين مكانها، وذكر النيل في المنطقة بين المقطم (وجبل الواحات). وذكر بلدة اسنا وأرمنت وأسيوط وقوص وصول، وقال عند الأخيرة يتفرع النهر إلى فرعين: فرع يذهب إلى اللاهون ويقصد بذلك بحر يوسف، ثم ذكر عيذاب.
من ذلك يتبين لنا أن معلومات ابن خلدون عن نهر النيل كانت مستمدة من كتابات من سبقوه إلى هذا الموضوع ومن الرواة كذلك، ولكن يجب أن نعترف بأن ذكاء هذا الرجل ومقدرته العلمية جعلاه يضع هذه المعلومات في قالب يقبل العقل الجزء الأكبر منه. فلقد ذكر بعض الجهات وعلل وجودها أحسن من غيره بكثير، ومع ذلك فإن له عذره، مقدرته العلمية جعلاه يضع هذه المعلومات في قالب يقبل العقل الجزء الأكبر منه. فلقد ذكر بعض الجهات وعلل وجودها أحسن من غيره بكثير، ومع ذلك فإن له عذره، إذ أن السياحة إلى مثل تلك الجهات كانتمن الصعوبة بمكان، ولم يكن هناك آلات دقيقة ولا معدات علمية تساعد على ضبط الأماكن بالدقة، زد على ذلك فان كتابات ابن خلدون جاءت معتدلة خالية من القصص الخرافية بعيدة عن المبالغة والخلط بين المعلومات والمعتقدات.
رشوان أحمد صادق
الجغرافيا(107/50)
في أوطانهم غرباء
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
إنما في بلادنا الشعراء ... فئةٌ في أوطانهم غرباء
لا رخاءٌ ولا أمانٌ ولا ما ... لٌ ولا عزّة ولا سرّاء
ألمن يكذبون ذاك التملى؟ ... ولمن يصدقون هذا الشقاء؟
ما جروحٌ تدمى الجلود بها مث ... لُ جروح تدمى بها الأحشاء
ما شكوا أعباء الحياة وأن كا ... نت ثقالاً عليهم الأعباء
وإذا دافعوا عن الحق جهزا ... فهناك الولايات والأرزاء
لم أجد للجمهور عطفاً عليهم ... وكأن الجمهور منهم براء
إنهم لا يرون من قومهم بر ... اً ولا تقديراً وهم أحياء
وإذا مالقوا الردى فعليهم ... يكثر الحزن منهم والبكاء
تلك أخلاقهم وقد ورثتها ... سنناً من آبائها الأبناء
ليس هذا في يومنا وحده جا ... رٍ على الأيام طراً سواء
إنما دنيانا لقوم جحيم ... ولأقوامٍ جنة غناء
ولقد أخر الألي قرضوا الشع ... ر نفوسٌ لهم بها كبرياء
واجتناب الرياء منهم بعصر ... شاع من أجل العيش فيه الرياء
شعراء العراق كل سنيهم ... سنة فيها تخلف الأنواء
أنني أطلب العزاء لنفسي ... في أساها، وأين مني العزاء؟
لهف نفسي على القرين فقد هب ... ت عليه تشله النكباء
عبثت في الربيع بالروض حتى ... ملأته من زهره الأشلاء
وإذا الورد في الربيع تولى ... فعلى ذلك الربيع العفاء
جفت الدوحة التي كل صبح ... فوقها كانت تهتف الورقاء
وعلى الزهر قد تصوح عندي ... زفرة تصطلي بهاء الأحشاء
بسمت في ربيعها لذكاء ... كلما أشرقت عليها ذكاء
أيها البلبل الذي يتغنى ... لا يسمك الهوان هذا الغناء(107/52)
أيها الشعر أنت أشجى أنين ... نزعته من نفسها الحوباء
أنت في أسماع الأشايب موسي ... قى في أعين الشباب ضياء
وإذا كنت الدهر للعشر أطرى ... فقليل مني له الإطراء
وكأن السماء ديوان شعر ... بعض أبياته النجوم الوضاء
وكأن المجر والليل صافٍ ... كدموعي قصيدة عصماء
لم يكن بالشعر الغرام قليلاً ... غير أن العراق منه خلاء
أحسن الشعر ما بنته على ما ... شعرت في حياتها الشعراء
غير أن التقليد فيه كثير ... وقليل على الشعور البناء
وأجل القريض ما استحسنته ... حين يتلى العقول والأهواء
ونصيب الكثير منه بوار ... ونصيب القليل منه البقاء
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(107/53)
المساء
بقلم أمجد الطرابلسي
هوَ ذا الليلُ قد أطَلَّ من الأف ... قِ فعمَّ الفضاَء صمتٌ رهيبُ
جاَء يختالُ في غَلائله السُّو ... دِ وفي وجهِه عُبوسٌ مِهيبُ
فتولتْ ذُكاء جازِعَةَ النُّو ... ر وفَرَّت وقد علاها الشُّحوبُ
بسطت للوَداعِ أيَّ شُعاعٍ ... شاحبٍ قد أمَضَّه التأويبُ
ما تَرى الأُفْقَ قد تَوَرَّدَ حزناً ... إنَّهُ منْ دَمِ النهارِ خَضيبُ
كانَ ساحَ الوَغَى قد ظَفِرَ الَّلي ... لُ كما يظفَرُ القوىُّ الغَضوبُ
وتولَّى النهارُ، أيَّ طعينٍ ... مُستضامٍ تسيلُ منهُ النُّدوبُ
مأنَم الشَّمسِ! هكذا الكونُ بغى ... ودماء طليلة وحُروبُ
إن غَدَا الليلُ ظافراً فكذا النُّو ... رُ على الأرضِ عاجزٌ مغلوبُ
هكذا يَظْفَرُ الظلامُ ويخْبو ... لهب النور في الدُّنا ويَخيبُ
هكذا سُنَّةُ الحياةِ غِلابٌ ... وكذا الحَقُّ هَيِّنٌ مَغْصوب
وأطلَّ الرَّاعي ينوح على الشم ... س كما ناحَ في الرُّبى العندليب
هَبَطَ القريةَ الخزينة يبكي ... وتعالى حُداؤُهُ والنّحيب
أكذاك الأكواخُ يَغمرُهَا الصَّم ... تُ ويَعلو الحقولَ هذا القُطوب؟
أكذاك الطيورُ تَنْدُبُ شَجْوَاً ... وَيَعُمُّ الرُّبى الظلامُ الرحيب؟
أيْنَ سهلٌ يموجُ في لجج النو ... رٍ ووادٍ جمّ الظلالِ عشيب
أينَ لَحنُ الحياةِ تَنشده القر ... يةُ؟ أينَ المِراحُ؟ أينَ الوُثُوب
فبكى والقَطيعُ بينُ يديهِ ... خافتُ الخطْو والثُّغاءِ، كئيب
ومشى في الظلامِ يبكي على النو ... رِ كَمَا سَارَ ثاكلٌ مَحْروب
يصرُخُ النَّايُ في يديه فتبكي ... لِبُكى النايِ أعيُنٌ وقلوب
هي أُنشودةُ الوَدَاع يُغَنِّي ... ها وقد حانَ للضياءِ غُروب
هي أنَّاتُ شاعرٍ عَبقري ... عشقَ النّورَ واستبته الغيوب
أيُّهذا المساءُ فيكَ منَ المَو ... تِ دُجَاهُ وسِرُّهُ المَحجوب(107/54)
العفاءُ الدجى مثلُكَ رَحبٌ ... وَشَبيهٌ بِكَ الَفنَاءُ الجديب
هكذا تَنْطَفِي الحياةُ وَيَغشا ... ها سُكونٌ مِنَ الفَناءِ مُريب
هكذا تَسْكُنُ الأمانيُّ لِلْمَوْ ... تِ وَيَبْلى ثوبُ الحياةِ القَشيب
وَتَغوصُ الرِّكابُ في ثَبَجِ الرَّمْ ... لِ وَتَخْفَى مَهامهٌ وسُهُوبُ
ويَضيع الضَّجيجُ في العَدَمِ القَفْ ... رِ وِتثمْحى معالمٌ وَدُروب
نَامَتِ القَرْيةُ الحَزينةُ إلا ... ساهرا نومُهُ الهنيُّ سليب
لِمُنُاهُ بيْنَ الاضالعِ هَمْسٌ ... وَلِخفَّاقِهِ الملحِّ وجيب
ظلَّ سَهرانَ يَرْقب الأنجمَ الزُّ ... هْرَ تَهَادي كما تهادى حَبيب
عَلِقت عينُهُ السماَء ذُهولاً ... وإستباهُ هذا الفُتونُ العَجيب
في فِجاجِ السماءِ عُرْسٌ بَهىٌّ ... وعلى الأرْضِ مْأتَمٌ وكُروب
فَهُناك النجومُ تطْفَحُ بِشْراً ... وهنا الليل حالِكٌ غريب
زَغردَتْ في السماءِ أنْجُمُها الفَرْ ... حى وَغنَّى بعيدها والقريب
وتَبدتْ تَختالُ عُجباً كما تَخْ ... تال بيْنَ الشُّفوفِ خُودٌ لعوب
هكذا تَضْحَكُ السماءُ منَ الأر ... ض كما يضحكُ الخلِيُّ الطروب
إيهِ يا لَيلُ رُفَّ فَوْقَ خِلىٍ ... لم تُؤَرِّقْهُ لَوْعَةٌ وخُطوبُ
وانْشُرِ الحُلْمَ والطّيوفَ لِصَبٍّ ... لم يُنَغِّصْ نعيمَه تعذيب
لستَ يا لَيلُ للذي ألفَ السُّهْ ... دَ كما يأْلف الغَرِيبَ الغريبُ
أنا يا ليلُ ليس لي من سكونِ ال ... كون أو هَدْأةِ الظلامِ نصيب
حسبُ قلبي ظلامهُ ودُجاه ... وأساهُ المُبرَحُ المَشْبوبُ
لِيَ لَيْلانِ ساهرانِ وغيري ... ليلُهُ باسِمُ الطيوفِ خصيب
أنا أحيا الحياةَ ليلاً طويلاً ... أفَيَصْفو لِيَ الدُّجى ويطيب؟
إطْوِ يا ليلُ هذه السُّجُفَ السُّو ... دَ فكم تَحْتَ جُنْحِها مَكروب
كم قلوبٍ وجيعَةٍ ونفوسٍ ... تحت هَذا الدُّجى تكادُ تذوب
يا إلهي سئمْتُ هذي الدَّياجي ... إن في القلْبِ ظُلْمًةً لا تَغيب
أنا كَهفٌ مهدم مُستباحٌ ... فيه لِلْحُزْنِ والشكوكِ نَعيب(107/55)
يَصفِرُ الَغّمُّ في دُجاهُ كما تَصْ ... فِرُ في اللَّيلِ شَمْأَلٌ وجَنوب
أقطعُ الليل سَاهراً ذاهِلَ الفِكْ ... رِ وفي الصَّدْرِ لْلهُموم شُبوب
غارِقاً في هَواجسي وَذُهولي ... وعلى العَيْنِ لِلسُّهاد رَقيب
شاقني النورُ يا إلهي ولكنْ ... أْيَن منى السنا وأيْنَ الَّلهيب؟
شاقني الشَّدْوُ والغِناء ولكنْ ... أيْنَ منى الُّلحونُ والتَّطريبُ؟
للضِّياءِ الحبيب يا نفس في الأر ... ضِ مغِيبٌ ولْلحياةِ مغيب
لا يَرُعْكِ الظلامُ إن ملأَ الكَوْ ... نَ فإِنَّ الصَّبَاحَ سوف يَؤوبُ
دمشق
أمجد الطرابلسي(107/56)
ما يحنو به قانون العقوبات الألماني الجديد
نظريات جديدة
في فهم العقوبة والمجتمع
كانت الحكومة الألمانية قد انتدبت منذ حين لجنة من كبار المشترعين (الهتلريين) لبحث مبادئ العقوبة الجنائية التي يجب أن تتمشى مع مبادي الثورة الاشتراكية الوطنية ومبادي حزب (النازي)؛ وفي الأنباء الأخيرة أن التعديلات الجديدة لقانون العقوبات الألماني قد صدرت متضمنة لمبادي جديدة عجيبة في تعريف الجريمة وتحديد معنى العقوبة الجنائية لم يسمع بها من قبل في أي بلد متمدين. وقد قرأنا في هذا الموضوع مقالاً قيماً لكاتب فرنسي كبير، فرأينا أن نترجمه لقراء (الرسالة) فيما يلي:
يقول زعماء الإمبراطورية الألمانية الثالثة (الزعماء الهتلريون) إن قانون العقوبات هو (مرآة صادقة للروح القومي).
ونحن في فرنسا نتأثر منذ قرون بالقانون الروماني القديم الذي اشتقت منه ثورة سنة 1789 (الثورة الفرنسية) مبادئه الجوهرية، ولكن الهتلريين يرفضون هذه المبادئ باشمئزاز، ويقولون ما معنى هذا الإجلال الخالد لقصاصة من الورق؟ إن التعلق بحرفية النصوص ينم عن ذهنية متأخرة وضيعة. والقانون يقوم على حقيقة حية هي (ضمير الشعب)، ولا غاية لقانون العقوبات إلا أن يحمي هذا الضمير.
ونحن في بلادنا ذات المبدأ الإنفرادي، نقدس ذلك المبدأ الأساسي العظيم: (لا عقوبة بغير نص) ولكن المشترعين الألمان الجدد يقولون: إنه لا يوجد قانون في العالم يمكن أن يتحوط بنصوصه العقابية لكل الأعمال البشرية الممكنة، وإذن يجب على قضاتنا أن يعاقبوا أيضاً على الأعمال التي لم ترد في القانون (متى كانت تثير الرأي السليم المتزن للمجتمع) وكذلك نبذ المشترعون النازيون مبدأ أساسياً آخر هو (عدم رجعية القوانين) (أو عدم سريانها على الماضي)، وعلى هذا فإن محكمة لايبزج العليا قد حكمت بالإعدام على فان درلوبي مع أنه في الوقت الذي وقع فيه حريق الريخستاج لم يكن القانون يعاقب على هذه الجريمة إلا بالأشغال الشاقة. وإذا كنا نحن نرى من المثير أن نطبق على المجرم قانوناً كان يستحيل عليه أن يعرفه، فإن المشترع الألماني يقول إنه يجب عليه (أي المجرم) أن(107/57)
يعرف إلى أي حد يمكن أن يثير بعمله السخط العام.
ونحن من جانبنا يصعب علينا أن نعترف بقانون عقوبات لا يعترف (بالحريات الفردية)، فإنه إذا عدمت هذه الحريات أضحى المشترع حكماً متعسفاً لا غير. وهذا ما حدا برجل مثل رامون فرنانديز أن يقول إن صوغ القانون الشيوعي الجديد، والقانون الفاشستي الجديد (لا يتميز فقط بسحق القانون القديم، وإنما يتميز بسحق الحقوق جميعاً)؛ بيد أنه يجب أن نعترف على رغم إشمئزازنا بأن الهتلريين يقومون بتحويل الحقوق. ذلك أن الشعب هو الذي يرفعونه فوق كل شيء؛ والشعب، لا الفرد، هو الذي يريدون حمايته بادئ ذي بدء؛ وهو تحويل في القيمة يتمشى مع استبدال المبادي الحرة القديمة (بمجتمع دولة عام).
ومن مبادئنا أننا نريد أن تحدث القوانين والظروف دائماً أثرها لصالح الفرد، فإذا عدل قانون، فإننا نطبق عليه أخف النصوص؛ فإذا تطرق الشك إلى ذهن القاضي وجب عليه أن يحكم بالبراءة؛ وكل متهم يعتبر بريئاً حتى يفصل في قضيته، وهذه كلها مبادئ يمقتها الهتلريون.
فهم يصيحون: أليس فظيعاً أن نضع المجرم في ذروة قانون العقوبات؟ وأن نعكف بشغف على درس نفسيته باسم الدفاع عنه؟ لقد انحدر علماء الجنائيات في الأمم الديمقراطية إلى هذا الدرك، أعني إلى درك (الحق الزائف) أو (الحق المعدوم).
والواقع إن ميولنا الفردية تجنح إلى التساهل مع المجرم؛ فمتى حللنا البواعث التي دفعت المجرم إلى ارتكاب جرمه، فقد فهمناها، وعندئذ نعطف على المجرم عطف الإنسان على الإنسان، بل لقد انتهى مشترعونا الجنائيون شيئاً فشيئاً لا إلى تحديد العقوبة، ولكن إلا حب الإصلاح.
وهذه حالة ذهنية لا يسيغها مشرعو الإمبراطورية الألمانية الثالثة؛ فهم يرفضون، لا أن يحكم على بريء - ولكن أن يفلت مجرم من العقاب. وإذا القضاء لم يقدم ترضية كافية لسخط الشعب العادل حينما يطالب بالعقوبة، فإن النظام الاجتماعي يغدو في خطر، وتسري إلى الشعب عوامل الهياج العام.
ومن خواص هذه النظرية تقرير صنوف المشبوهين. وإذا كان القاضي يمثل الشعب حقاً، فإنه في زعم أولئك المشترعين لا يمكن أن يرتكب خطأ قضائياً، ويكفيه دون أن يفتح(107/58)
القانون أو يرجع إلى ضميره الشخصي، أن يستشير ضمير الشعب، والشعب معصوم لا يخطئ، وهو يكاد يتكهن، وعواطفه هي التعبير عن العدالة ذاتها.
ويقرر قانون العقوبات الاشتراكي الوطني أنه يمكن معاقبة مجرم لم يتمم جريمته، ولكن (أراد أن يرتكبها). وفي رأيه أن الجريمة ليست هي عمل القتل في ذاته بل هي (اعتزام القتل) ونحن في فرنسا نعاقب على (الشروع) في بعض الأحوال؛ فلا يعاقب مثلاً ذلك الذي يجس جيب إنسان من الخارج بنية سرقته، ولكنه يقع تحت طائلة القانون إذا حاول أن يدخل يده في ذلك الجيب. فهذه الفروق القضائية الدقيقة يخشاها المشترع الألماني أيما خشية؛ ولهذا يتخذ الرأي المناقض ويرى أن يضع تحت نظرية (العزم المهدد) أقل حركة تمازجها الشبهة.
وهكذا نرى أن قانون العقوبات الألماني الجديد وكذلك الإجراءات الجنائية قد بسطت كل التبسيط. وقد ألغيت (الظروف المخففة) ولم يعترف (بسبق الإصرار) بحيث أضحت جريمة الهوى والجريمة التي دبرت طويلاً سواء في العقوبة، ذلك أن المجموع يجب أن ينتقم بسرعة وبلا هوادة من أولئك الذين يعكرون صفوه؛ وللقاضي أن يوقع عقوبات تبعية بعد تنفيذ العقوبة الأصلية مثل الجلد والصوم الجبري، ومصادرة الملك؛ وهكذا يراد أن يدفع الجانح الذهن إلى مرتبة إنسان منحط من الوجهة الجسمية والعقلية.
وقد ذهب المشترعون النازيون إلى حد اعتناق الروح الإسبارطي؛ فالدولة لها الحق (أن تقضي بصفة إدارية بالموت على بعض الأفراد الذين ليست لهم قيمة جوهرية) فرجل مثل بيرون (لورد بيرون شاعر الإنكليز) يمكن أن يلقي في الماء منذ مولده؛ ورجل مثل هلدرلن الشاعر الهائم يمكن أن يعدم؛ ويصرح قانون العقوبات الجديد للطبيب بأن يعدم المريض الذي لا يرجى برؤه متى طلب إليه ذلك. وبعكس ذلك فإنه لما كان الفرد السليم مديناً بحياته للمجتمع، يعتبر الانتحار جريمة، ويعاقب الشركاء في محاولته. ثم إنه لما كان الشرف أثمن من الحياة، فإن القانون يعترف بإجراء المبارزة بين المتخاصمين.
ويكشف لنا المشترعون الهتلريون عن غايتهم النهائية فيما يأتي: ليس المجتمع هو الذي يكون غاية في ذاته، ولكنه الجنس أو الأمة؛ والعمل لعظمتها يجب أن يكون هو غاية الحياة لكل فرد.(107/59)
إن النزعة الفردية وحدها هي التي تدفع الفرد إلى حب الإنسانية. ولكن الهتلريين باعتمادهم على القيم الاجتماعية، يجنحون إلى أهم عناصرها، أعني (القومية).
وعلى هذا فإن قانون العقوبات عندهم يقرر صنوفاً جديدة للجرائم؛ فمثلاً يعتبر (خائناً للوطن) من يجرج الاشتراكيين الوطنيين في عزتهم، أو يهزأ بإحتفالاتهم، أو يسخر من أغنيتهم، أو من ينوه بأعمالهم الهمجية؛ وكذلك من يتنقص من أقدار الأبطال الماضين، أو من يهين المحاربين القدماء. وهكذا نقلت الحماية الشرعية لشخص الإنسان إلى حماية الحزبوإلى حماية الأمة.
ثم إن الأمة عندهم تقوم على الجنس، ويجب أن يحتفظ الدم الشمالي القديم بنقائه وتفوقه. وعلى هذا فإنه ترتكب جريمة (خيانة الجنس) كلما امتزج الألماني (أو الألمانية) باليهود أو بالأجناس الملونة، أو إذا امتزج علناً بزنجي وجرح بذلك (العاطفة الجنسية) لأمته. ويعاقب الزنجي بعقاب أشد لاعتباره إنساناً منحطاً.
ونحن نعرف أن الهتلريين أصدروا في العام الماضي قانوناً للتجارة ينظم العلائق بين العمال وبين أصحاب الأعمال على أسس جديدة. وقانون العقوبات الجديد يتأثر بهذه الأسس؛ إذ المقصود أن ترتب بين المخدوم والعامل نفس العلائق التي كانت سائدة في العصور الوسطى بين السادة والأتباع. فالعامل يجب عليه الطاعة والإخلاص، ولا يستطيع بعد أن يتولى الدفاع عن نفسه بنفسه، بل يعتبر واقعاً تحت حماية المسيد، وعلى السيد أن يقوم بحماية مصالحه المادية والأدبية. صحيح أن قوانين العمل الاشتراكية (مثل قانون الثماني ساعات، وقانون التأمينات وغيرهما) لم تلغ، وصحيح إنها ما زالت تطبق، ولكن لا لحماية حقوق العامل، بل من وجهة اجتماعية مشتركة لأن القضاء على النزعات المتمردة يؤكد تعاون العمل ورأس المال.
فهل يعني ذلك كله إن حماية الفرد قد ألغيت بتاتاً؟ كلا؛ ولكن قانون العقوبات لا يهتم بشأن الفرد إلا باعتباره عضواً في
الجماعة، وعلى هذا فإن الملكية الفردية لا تجب حمايتها إلا بقدر ما يبديه المالك من السداد في إدارتها بحيث تعاون في تحقيق الخير العام. وفي القانون الفرنسي ما زالت تعرف الملكية بالتعريف الروماني القديم؛ فهي الحق في أن تتمتع بشيء وأن تستعمله أو تسيء(107/60)
استعماله؛ والواقع أن هذا الحق قد قيد فيالعصر الأخير بقيود مازالت في ازدياد. ولكن الهتلريين يرون إلغاء المبدأ ذاته؛ فالملكية الفردية لا يعترف بها، وإنما يعترف بوضع اليد على الأملاك، بشرط إلا يتصرف الفرد فيها إلا في صالح الدولة.
وكذلك الأسرة تحميها نفس المبادئ العامة؛ فإنه يحظر على كل فرد (أن يتلف أو ينقص كفايته لإنتاج النسل).
وقد ذهب الهتلريون بعيداً في تحديد واجب الفرد نحو الأمة، فقرروا أن التضامن إجباري.
تلك هي الأسس الجديدة لهذا التشريع الهائل؛ وقد اتبع المشترعون الألمان إجراءات محاكم التحقيق (التفتيش) لكي يصلوا إلى غايتهم بأية وسيلة، وهي تحقيق خير الجماعة القومية وسيادتها، فجعلوا من القاضي شخصية مطلقة السلطة، وجعلوه مشرفاً دائماً على أخلاق الفرد، فمن يحاول غير الزعماء أن يميز نفسه من المجموع، كان عرضة للقبض والعقاب.
وإذا كان في هذه المبادئ ما يروع، فذلك لأننا منذ عصر الأحياء، ومنذ عصر الثورة الفرنسية بنوع خاص، قد شهدنا القوى الفردية تنمو وتتسع إلى أعظم حد، ولم يفعل الإصلاح الاشتراكي في عصرنا شيئاً لوقفها. واليوم وقد انتهت الفردية إلى هذا الإفراط، فإن الرجعة التي كانت تبدو مستحيلة بالأمس تصبح اليوم محتومة. ذلك أن الحرب، والأزمة الاقتصادية، وروح الأثرة المتسلطة على المنتجين، وكبرياء عظماء الفنانين، قد أدت إلى الرجعة الجماعية الحاضرة؛ وسوف تنتهي هذه النزعة بلا ريب إلى صنوف جديدة من الإفراط، وإلى تناسق لا يطاق. ولعلنا نرى الفردية والنزعة التعاونية وهما النزعتان الجوهريتان المتناقضتان اللتان تتجاذبان الإنسان، تنتعشان، وتشرفان بالتناوب على الحركات الاجتماعية، دون أن يتحقق بينهما توازن ما؛ والتوازن كمال يناقض الحياة ذاتها.(107/61)
القصص
من أساطير الإغريق
بسيشيه وكيوبيد
للأستاذ دريني خشبة
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
فلما كان الغسق سمعت إلى الباب ينتفح، ويدخل فتى خفيف الخطى، ويقبل عليها فييحي أحسن تحية بأرق صوت، ثم يستأذن فيجلس إلى جانبها.
وكان الظلام شاملاً، فلم تستطع بسيشيه أن تتبين وجه الجالس إليها أو خلقه، ولكنها كانت تسمع إلى موسيقى تمتزج بصوته الحنون، وكانت تحس كأن عبرات تكاد تخنقه، لأنه يريد أن يبوح بشيء يمنعه الخجل من البوح به. . . واقترب منها. . .
وأخذا في حديث شهي، ولكن الحياء كان ما يزال يعقد لسانيهما. . .
وأقترب منها كذلك. . .
وتماست الأجسام المرتجفة، وليس كتماس الأجسام مفرجاً عن الحب!
وأخذ الحبيب يد حبيبته بين كفيه، فانتقلت الحرارة من هنا إلى هنا، ثم دنا الفم من الفم، واستراح الخد على الخدن، وبدأ طوفان القبل. . .
وتمتم كل من الحبيبين بهذه الكلمة السماوية الخالدة:
(. . . أنا. . . أحبك. . .)
- (كأنك أنت أيها الحبيب الصغير الذي أنقذتني من براثن الموت!!)
- (أجل يا منية النفس، ورجية القلب، بمعونة الإله الرفيق زفيروس).
- (أفأنت إله إذن؟)
- (لا أستطيع أن أذكر لك من ذلك الآن شيئاً. . .)
- (إذن ما اسمك؟)
- (ولا هذا أيضاً!)
- (أحب أن أراك، فهل تأذن بإيقاد المصباح؟)(107/62)
- (إذا حاولت أن تريني، كان فراق بيني وبينك!!).
- (أنت تزعجني أيها الحبيب الصغير. . .)
- (ولم أزعجك؟. . . ألست قد أنقذتك من الموت، وأسكنتك هذا القصر المنيف، ولست أمن عليك!!).
- (برغم هذا فأنك تزعجني. . .)
- (هاتي قبلة. . . ودعى هذا الحديث الشاجن. . .)
- (. . . .؟. . . .)
وظل يزورها كلما أقبل الليل، فيمكث معها حتى مطلع الفجر آخذين في عناق وقبل، وحديث ألذ من قطع الروض، وأروح من رفيف النسيم؛ ثم يفصل على أن يعود لميعاده من اليوم التالي. . . وبسيشيه راضية قانعة، لا يضيرها إلا تعرف من هذا الحبيب الوفي. . . ولا ما يكون اسمه. . .
وذهبت تنشق أنفاس البحر فوق الشاطئ الطويل المزهر فلقيت أختيها فجأة تخرجان من زورق جميل، فتعانقهما عناقاً حاراً، ويغمرها للقائهما فرح كبير، وتعود بهم إلى القصر، وتطوف معهما حدائقه وغرفاته، وتقف عند الصور والتماثيل ونافورات الزئبق؛ وتدخلهما (هيكل الحب) كما إتفقت وحبيبها أن يسميا المخدع؛ ثم تقص عليهما قصتها منذ اعتزامها الإنتحار إلى أن تلقاهما. . .
وتكون الغيرة قد أنشبت أظفارها في فؤادي الفتاتين، ويكون الحسد قد شاع في نفسيهما الخبيثتين، فتضمران لها الشر المستطير.
- (ولكن كيف تطمئنين إلى هذا الحبيب يا أختاه؟ إلا تخافين أن يكون غولاً أو هولة أو سعلاة؟ لماذا إذن يأبي عليك أن تنظري إليه؟ أليس يخشى أن تفزعي من إذا رأيته على حقيقته؟ أيغرك منه كلامه الناعم الموشي؟ لا يا أختاه! نحن نخشى أن يقلاك يوماً أو يجفوك فيقتلك. . .! لابد أن تأخذي حذرك منه! ولابد أن تنتهزي فرصة يكون غاطاً في نوم عميق فتوقدي المصباح وتنظري إليه، فإن كان وحشاً أو هولة، فإليك هذا الخنجر المرهف فأغمديه في قلبه واستريحي منه، وعودي معنا إلى أبينا الملك فإنه جد مشتاق إليك. . .)
ودفعتا إليها الخنجر المسمم بغلهما، وولتا عنها تختبئان في أجمةٍ دانية. . . .(107/63)
وفعل كلامهما في قلب أختهما فعله، فلما كان الليل، وغفا الحبيب الصغير مما ألم به من سكرة الحب، نهضت بسيشيه إلى مصباحها فأوقدته، وإلى الخنجر فشرعته، وذهبت تنظر إلى العاشق البريء. . .
فماذا رأت؟
أجمل مخلوق على وجهك أيتها الأرض!. . .
لقد كان نائماً حالماً، فيه دعة وفيه فتون. . . وملأ الفتاة حباً. . . فارتجفت. . . واهتز المصباح فأيقظته. . . وفتح عينيه. . . فرأى إلى الخنجر المرهف في يمين بسيشيه. . .
يا للهول. . .!!
لقد قفز الحبيب قفزة هائلة، ورف بجناحيه الصغيرين، وقال: (بسيشيه. . .! ياشقية. . .! وداعاً. . .! فلن نلتقي بعد اليوم!!) وشاعت الحسرة في قلب الفتاة فسقطت على الأريكة من الجزع والإعياء. . .
ما كاد كيوبيد يرف بجناحيه فيغادر القصر حتى امتلأ المخدع أرواحاً شريرة طفقت تهاجم نفس بسيشيه في شدة وعنف، وكلما نظرت هنا أو هناك رأت أفعوانات هائلة تنفث الموت الأسود من أنيابها البارزة الحواني، ثم أحست كأن القصر يرتجف ويميد، ويكاد ينقض، فهرعت إلى الخارج مهرولة، وهرعت في أثرها المخاوف والأشجان، يحدوها الذعر والفزع الشديد.
ونظرت في السماء فلم تجد قمرها المنشود تبثه وتشكو إليه، بل وجدت سحباً قاتمة تنعقد في المشرقين والمغربين، والودق يخرج من بينها كما تخرج الزفرة من صدر المكروب! وبدأت العاصفة الهوجاء تزلزل الجزيرة وتميد بالدوح وترفع شياطين الموج فتجرف العامر واليباب!
وأخذت الرياح الهوج تلاحق الفتاة حيثما ذهبت، وترجم وجهها الكاسف المغضن بجمرات البرد أيان ولت.
ووهنت أعصابها فراحت تصيح فوق الشاطئ كالذي يتخطفه الشيطان من المس، فلما لم يلب نداءها أحد، انثنت نحو القصر، وأطوفت بالأسوار تتفقد الباب الكبير الضخم. . . ولكن. . . هيهات! لقد كان السور كتلة واحدة ليس بها منفذ، ولم يكن غارقاً هذه المرة في(107/64)
الطوفان الزاخر من أزهار الشيبر والياسمين والبابونيا، وكان عالياً على غير عهدها به، حتى كاد يستتر وراءه القصر الباذج؛ فلما استيأست من الدخول، وشعرت بقلبها يتحطم، وبنفسها تذهب شعاعاً، استلقت على الكلأ، واستسلمت لنوم ممتلي بالأشباح.
وأشرقت الشمس فاستيقظت بسيشيه، وتلفتت حولها فلم تر السور ولم تجد القصر، وفركت عينها تخال أنها تحلم، ولكنها ترى الجزيرة جرداء إلا من شجرات قليلة من الشاهبلوط؛ وإلا من غدير صغير به بقية غير مباركة من الماء النمير. . .
وبكون صوابها قد ثاب إليها، فتمم شطر الشاطئ تتفقد وروده ورياحينه، ولكنها لا تجد إلا آلافاً من السراطين الميتة لفظها البحر فعل العاصفة، وإلا أكواماً من الودع والمحار تجلل كثبان الرمال الممتدة فوق الجزيرة، كأنها قوافل من آلام بسيشيه وأشجانها!
(ويلاه!
(لقد حملت إليك أيتها الجنة الصغيرة وبردك برد الشباب، وريعانك ريعان الصبي، وفي أعطافك تنهل سلافة الحب، وتحت شطئانك ترقص عرائس الماء، وفي غدرانك تترقرق أمواه الهوى؛ وكل ما فيك تدب فيه حياة إلهية ناضرة.
(أفهكذا يذبل شبابك، ويذوي ريعانك، ويغيض حبك وتفقر شطئانك، فليس يرف فوقك إلا هامة، ولا يهتف فيك إلا صدى الوحشة، ولا تهب ريحك إلا كأنفاس الجحيم؟!
(ويلاه!!
(لقد كنت أفرك عيني أحسبني منك أيتها الجنة في حلم، الآن أفرك عيني أرى هل أنا من خرابك اليوم في حلم؟!
(لقد نعمت بالحب فوقك أيتها الجزيرة، فلماذا لقيت أختيَّ؟! أين ذهبتا؟ 1 أحسبهما ذعرتا من العاصفة، وفزعتا من الزلزال، ففرتا. . . فصبر جميل!!. . .).
هكذا ظلت تبكي بسيشيه، وهكذا غبرت بها الأيام فوق الجزيرة تنظر أوبة حبيبها. . . ولكن. . . بلا جدوى!!
وكانت تأكل ثمرات من الكستناء تذهب بها سغبها، وترشف من بقية الماء في الغدير رشفات تبل بها أوامها، ثم تعدو في الجزيرة باحثةً عن. . . لا شيء!!
ووقفت يوماً عند ضفاف الغدير ترتوي، فما شدهها إلا أن ترى الماء يزداد ويزداد، والغدير(107/65)
يتسع ويستع، حتى تكون على عدوة نهر عظيم دافق، تزخر أمواجه وتجرجر أواذيه. ويبدو لها أن تلقي بنفسها في أعماقه، لأنها لم تعد تحتمل هذا الألم المتصل والشجن الطويل الممض. . . وإنها لتنظر إلى الماء فيجيش قلبها بالذكريات، وتفيض عيناها بالدمع، ويشجب جبينها الكاسف الحزين، ثم يتأود غصنها اليابس الهش، فتنحدر إلى اليم، وتتلقفها اللجة.
ولكن رب النهر الذي كان واقفاً يسمع ويرى يسرع إلى الفتاة فينتشلها، ويصيح ببناته عرائس الماء فيأتين من كل فج عميق، ويترفق باللاجئة الشقية فيواسيها بكلمات تقطر حناناً وتفيض رحمة، ثم يتركها لبناته يداعبنها ويلاعنها.
وتأنس بسيشيه إلى العرائس الحلوة، ولا يخجلها أن تأخذ معهن في حديث حبها، فإذا سألنها عن صفة حبيبها، قالت: (كان صغيرا كالطفل إلا حين يكون في ذراعي، مسنداً رأسه على صدري، فيكون إذ ذاك أكبر من الدنيا بما فيها من مباهج ومفاتن. وكان طيب الأنفاس، فما قبلني أو قبلته إلا شممت عبق الورد في فمه، وأرج البنفسج في خده. وكان إذا عانقني أو عانقته، تحسست له جناحين على ظهره، صغيرين ناعمين، فإذا ساءلته عنهما، أنكر عليّ وصرفني برفق ودعة عن الحديث عنهما، فنأخذ في أمور أخر. وكان يحمل قوساً من ذهب ما تفارقه، وكنانتين من حرير فيهما سهام من رصاص وذهب. . . وما دهاني في الليلة المشؤومة إلا أن أراه يثب من النافذة، فيحلق في كبد السماء كأن له قصراً فيها. . . فبحق زيوس عليكن يا عرائس إلا ما أعلمتنني من هذا الحبيب، فأنتن بنات إله مبارك، ولابد أن يعرف أبو كف من أمره كل شيء).
وصمتت بسيشيه، ونظرت إلى العرائس فرأتهن يحدجنها نظرات دهشةٍ حائرة، ثم يتهامسن، ثم لا يحرن جواباً؛ فقالت لهن:
(أنتن تزعجنني يا عرائس، فهل هكذا يلقي الضيف لديكن؟)
فقالت كبراهن: (لا عليك يا فتاة، ولكنك كنت أتعس مخلوقة على وجه الأرض حين عصيتِ أمر كيوبيد!!)
- (كيوبيد؟ ومن كيوبيد تعنين؟!)
- (كيوبيد بن فينوس، فهو هو الذي كان يهواكِ وكنتِ تهوين!!؟)(107/66)
- (كيوبيد الإله! كيوبيد حبيبي! يا ويح لي. . . لابد أن يعود لي إلهي الجميل الحبيب. . . لن تحلو لي الحياة بدونك يا كيوبيد. . .)
هامت بسيشيه على وجهها في أقصى الأرض، وكلما مرت بروضة أو ميضة، وكلما وقفت عند ضفاف نهر أو ألمت بحفافي غدير، برزت لها عرائس الماء فشكت إليهن، وسألتهن إن كن يعرفين أين يأوي كيوبيد؟ وقالت لها عروس:
- (أترين يا فتاة إلى هذا الجبل البعيد الذي يحمل السماء بروقيه؟ إذا كنت عنده فتلبثي حتى يعود بان من صيده فتعلقي به، واذرفي من دموعك تحت قدميه، فإذا هش لك وبش، فاذكري له حاجتك يقضيها لك، أو يدلك على من عنده قضاؤها).
- (ومن عسى أن يكون بان يا أختاه؟).
- (رب المراعي، وإله الصيد، وحامي القنص. ألم تقربي له؟ ألم يفعل أبواك؟).
- (بل فعلنا. . . . .).
ونهدت إلى الجبل وكأنما بها عُقل من الجنون، وجعلت تطوف به حتى مالت الشمس إلى الغروب، فرأت (بان) قادماً يدب بحافريه، ويردد في الآكام ناظريه؛ فلما لمحها أقبل عليها دهشاً متعجباً، ثم أخذ يتفرس فيها كأنما بهره حسنها، وسباه منظرها. . .
وشكت إليه، فما هالها منه إلا قوله: (تعسة! أنت غريمة فينوس!!) فقالت، وفي عينها دموع تخنق منطقها: (غريمة فينوس؟ ومالي أنا ولفينوس؟) فقال بان: (جمالك هذا جنى عليك. . . لقد صرف الناس عن ربة الجمال والحب إلى عبادتك أنت أيتها الشقية، ولذلك حنقت عليك، وأصابك من الأذى ما أصابك. . . اسمعي يا فتاة. . . لقد مررت اليوم بربة الخيرات ديميتير؛ هل تعرفينها؟ أُم برسفونيه، فتاة الربيع التي خطفها أخي بلوتو لتؤنسه في هيدز! مررت بها فسمعتها تتحدث عن كيوبيد وهيامه بك! بك أنت! أليس اسمك بسيشيه؟).
- (. . . . . . . .؟. . . . . . . .)
- (تحملي إليها إذن. . . . . إنها ليست بعيدة من هنا. . . إنها شفيقة رفيقة، وهي ترثى لأمثالك من العاشقات الوامقات؛ تحدثي إليها عن كيوبيد واستمعي إلى ما تقوله لك وتشير به عليك. . . أترين إلى هذه الغابة الملتفة الوارفة؟ إنها هناك تنتظر ابنتها في أوبتها من(107/67)
هيدز).
وعجلت إلى الغابة، ولقيت ديميتر الطيبة الوقور، فانحنت تحييها، وما كادت تسرد شاكتها حتى انهمر الدمع من عينيها الحزينتين، وتخاذلت فخرت مغشياً عليها!. وتقدت ربة الخير فباركت الفتاة، وطفقت ترش على وجهها الماء من غدير قريب، فكان الزهر ينبت حول بسيشيه كلما أنتثرت قطرات على الأرض فلما أفاقت، بهرها هذا السرير الربيعي من منضود الورد يحف بها، ويحنو عليها. . . حنو المرضعات على الفطيم!
وبسمت ديميتير، وواست الفتاة الوالهة وآنستها، ثم ذكرت لها إنها رأت كيوبيد بكرة ذلك اليوم، وفي كتفه جرح دامٍ أحدثته فيه أمه فينوس، لماذا؟ لا يدري أحد! - (. . . فإذا كان لابد لك من لقاء كيوبيد، فأذهبي إلى فينوس وتبتلي إليها، وأدخلي في خدمها وحشمها، وأثبتي لها بتفانيك في طاعتها أنك من عبادها المخلصين؛ عسى يا بُنية أن ترضى عنك، ويذهب عنك هذا الحزن. . .)
ثم قادتها إلى قصر فينوس، وزودتها بما ينبغي لها من النصح، وعادت إلى غابتها الوارفة تنتظر برسفونيه.
وبرهنت بسيشيه على حسن إخلاصها وجميل توبتها، وكانت ربة الحسن تسخرها فيما لا طاقة لبشر به، فكانت تقوم بما تُكلف به وتؤديه خير الأداء.
وأعجب ما حدث لها من ذلك أن أمرتها فينوس بالتوجه إلى هيدز - دار الموتى - وإقتحامها، ثم لقاء برسفونيه، ربة الربيع، وزوج بلوتو، وسؤالها صندوق الطيب الذي تدهن عنه العجوز الشمطاء فيرتد إليها صباها، ويتدفق ماء الشباب في أعطافها، وتعود كما كانت، شرخ صبى، وعنفوان شباب!
وأسقط في يد بسيشيه! ولم ترد كيف السبيل إلى هيدز!! ولكنها حين ذكرت برسفونيه، بدالها أن تذهب إلى فتستشير أمها ديميتير عسى أن ترشدها أو تزودها خالص نصيحتها. فذهبت إلى الغابة، ولقيت لحسن حظها ديميتير تودع أبنتها، لتعدو أدرجها إلى هيدز، إذ كان الربيع الحلو قد صوح، وأزف الشتاء ببرده وزمهريره. . .
وهشت لها ديميتير، وعقدت بينها وبين أبنتها أواصر الصداقة، ولما حان موعد الافتراق، أبدت بسيشيه رغبتها في أن تصحب ربة الربيع لتؤنسها في ظلمات دار الفناء. فلم(107/68)
تعارض الفتاة، بل أذنت لها راضية.
وسارا بين صفين من أرواح الموتى تغني وتنشد. . . وتبكي!! وكم كان عجب بلوتو شديداً حين لمح الفتاة الرشيقة الهيفاء تسير إلى جانب زوجته، وبلغ به التأثر مبلغه، فغادر لهما غرفة العرش المظلمة. . .
وتلطفت بسيشيه فسألت مليكة هيدز صندوق الطيب الثمين؛؛؛ فوجمت برسفونيه؛ وكانت على وشك أن ترفض هذا الطلب، لولا أن ذكرت الفتاة أن فينوس هي التي أرسلتها لتطلبه وتجيئها به. فنهضت برسفونيه إلى دولاب قريب، وعادت بالصندوق، ترتجف به يدها العاجية الجميلة، وقدمته للفتاة وهي تقول:
(لاتفتحيه. . . لا تفتحيه أيتها الصغيرة!!).
واستأذنت بسيشيه، وعادت أدراجها إلى. . . هذه الدار الأولى.
وفي طريقها إلى قصر فينوس، ذكرت كلمات ربة الجمال عما يحتويه الصندوق من دهان يرد القليل منه جمال الشباب وريعان الصبى. . . وذكرت كذلك تلك الليالي الطوال التي ظلت فيها مسهدة العينين تبكي كيوبيد وتحن إليه، حتى شفها الوجد، وأوهنها السقم، وبرح بها الهيام الشديد؛ فتحدثت إلى نفسها تقول: (فلم لا أدهن بقليل منه وجهي وبشرتي؟ ولم لا أرتد جميلة كما كنت، ما دمت أطمع في لقاء كيوبيد؟ أن ربة هيدز حذرتني من فتح الصندوق، لا أدري لماذا؟ فإذا كان ما به شر، فلم تريده فينوس الجميلة؟ لا! لابد أن أتطيب به، وليكن بعدها ما يكون!!).
وداعبت أناملها الصندوق ففتحته. . . ولكن. . . وا أسفاه!! لم يكن به غير هذا الروح الشرير المنكر. . . روح النوم. . . ولقد وثب في وجه بسيشيه فخلق في عينها الزرقاوين الصافتين، ثم ما هي إلا لحظة حتى انكفأت المسكينة على الحشيش المندى تغط في نوم عميق. . .!!
وكان كيوبيد يتنزه في الحدائق المجاورة، فما دهاه إلا أن يرى ملاكه المحبوب ممدداً على الكلأ، وصدره يعلو ويهبط، كأن كابوساً مستقر عليه.
ودنا إله الحب من بسيشيه، وسرعان ما هاجت به ذكريات غرامه الأول، وثار في قلبه الحنين إلى الليالي المقمر الحلوة التي كان يقضيها إلى جانب الرشأ الغرير، الذي يترنح(107/69)
أمامه في قبضة الروح الشرير. . . روح النوم!
ونظر كيوبيد بعينيه السحريتين، فرأى الروح يصارع بسيشيه صراعاً هائلاً. . . . فثارت فيه نخوة الوفاء، وأنفذ إلى العدو سهاماً متتابعة متلاحقة، حتى قهره، واضطره إلى العودة من جديد إلى الصندوق الصغير، وما كاد يستقر فيه حتى أغلقه عليه، ودفنه في غورٍ من الأرض.
ثم تقدم إلى حبيبته، وطفق يروح على وجهها، ثم أيقضها بقبلة أهتز لها الروض، وطرب الورد، وشاعت في الطبيعة الضاحكة أسراً وسحراً!!!
(أختاه!! أنهضي! انظري إليَّ! هأنذا كيوبيد! هلمي فلن نفترق بعد اليوم!!).
وأغذا السير، حتى إذا كانا في دولة الأولمب صاح كيوبيد في معشر الآلهة: (أن أشهدوا أيها الأرباب، لقد اخترت بسيشيه الجملية زوجة لي مباركة. . . .) وطرب الآلهة، وأقيم المهرجان الفخم؛ ورقصت ديانا ربة القمر، وعزف أبوللو على موسيقاه، وتقدمت فينوس فباركت الزوجين الحبيبين، ورسمت بسيشيه ربة للروح الخالدة التي لا تفنى. . . ومنذ ذلك اليوم وهي ترف بأجنحة فراشة جميلة في جنة الأولمب، وإلى جنبها حبيبها كيوبيد.
دريني خشبة(107/70)
البريد الأدبي
حول كتاب فتح العرب لمصر
عزيزي الأستاذ الفاضل صاحب (الرسالة)
قرأت اليوم في (الرسالة) الغراء صحيفة النقد التي تسميها (الرسالة) صحيفة (الكتب)، وقرأت فيها للأستاذ الجهبذ العلامة محمد بك كرد على كلمتين، إحداهما عن كتاب (فتح العرب لمصر)؛ والثانية عن كتاب (فنون الطهي الحديث).
ولقد عناني أن أقرأ ما كتبه الأستاذ الفاضل عن كتاب فتح العرب لمصر بنوع خاص، لأن ذلك الكتاب حبيب إلى نفسي لصيق بها. ورأيت الأستاذ الفاضل يذكر عن الكتاب بعض حسناته فشكرت له ذلك، فالكتاب جدير من الناطقين بالعربية بكل تقدير وإعجاب، إذ هو مثل عال من أمثلة البحث الدقيق العادل، فوق ما يمتاز به من قوة الأسلوب وجماله في لغته.
ثم عرج الأستاذ على الترجمة والمترجم، فتفضل بأن وصف المترجم بأنه أعتني عناية شديدة (بتجويد ترجمته على صعوبتها لما حوت من النقول العربية وغيرها من اللغات ليرد الوثائق إلى أصلها). ثم ذكر ما سماه تحريفاً في الأسماء، وذكر من ذلك أمثلة على إني وإن شكرت له قوله إن المترجم قد عنى بالترجمة عناية (شديدة) أرجو أن أراجعه في زعمه أن ترجمة تكون محرفة إذا قلنا هي (أذاسا)، فإن إطلاقي ذلك الاسم على المدينة كان مقصدواً، فالمدينة معروفة بالرها وبأذاسا، والاسم الثاني أقرب إلى التسمية العامة في اللغات المختلفة، فكان هذا سبباً في تفضيل (أذاسا) على الرها؛ وأما برجاموس أو فرغاموس فلا أدري وجه التحريف فيها، فإن الباء والفاء والجيم والغين كانت دائماً موضع اختلاف في وضع العرب للاسماء، ولا سيما المحدثين منهم، وقد آثرت أن أكتب الاسم بالعربية قريباً كل القرب من الاسم القديم الذي كان ولا يزال معروفاً يطلق على المدينة التي كانت في آسيا الصغرى. وأما (أفسس) و (أفيسوس) فلم أفطن إلى وجه التفرقة بينهما، ولا إلى وجه التحريف في الاسم الذي أوردته في الترجمة، فليس بين الكلمتين من فارق إلا إثبات حركات الكلمة على النحو الذي يسهل النطق بها.
على أن الأستاذ الفاضل لم يكتف بعد ذلك بتوجيه النظر إلى هذا التحريف الذي زعمه، بل(107/71)
ذكر كلمة عامة عن (هنات قليلة) لا يخلو منها كتاب منقول إلى لغتنا من لغة أعجمية؛ وكنت أود أن يجعل حضرته من ذلك الوجه بحثاً قيماً يوجه فيه الترجمة وجهةً صالحة، غير أنه أكتفي بالتعميم والإشارة والإيجاز في موضع كان الأوجب فيه الإفاضة والإطناب، ذلك بأن عمل المترجم إن هو إلا النقل، وما يكون نقله جديراً بالتقدير إلا إذا سلم من العيوب التي تؤخذ على أساليب اللغات الأعجمية. ولعل اشتغال الأستاذ الفاضل بالكتابة عن الكتاب الآخر (فن الطهي الحديث) في نفس اليوم قد جعله لا يجد الوقت لذكر شيء من تلك الهنات، فرجاؤنا أن يتفضل بإعادة الكرة وبيان ما أجمل؛ ورجاؤنا كذلك أن يبين وجه النقد حتى نكون على بصيرة من رأيه، نفعنا الله بعلمه وفضله وعلى أمثاله من أعلام العلماء.
محمد مزيد أبو حديد
وفاة دريفوس
من أنباء فرنسا الأخيرة أن الكولونل ألفرد دريفوس قد توفى في الخامسة والسبعين من عمره، ولم يشتهر في تاريخ فرنسا المعار اسم بقدر اسم دريفوس، ولم يقترن باسم آخر مثل ما أقترن به من الحوادث والحركات العظام؛ كان اسم دريفوس منذ أربعين عاماً ملء الأسماع في فرنسا والعالم بأسره، وكانت القضية الشهيرة التي ارتبطت باسمه، واتهم فيها ظلماً بالخيانة، أعظم قضية عرفها التاريخ من حيث أتساع مداها، وتشعب نواحيها، وتعقد إجراءاتها، وما أثارته مدى عشرة أعوام في فرنسا من الأحقاد والشهوات التي كادت تزلزل أسس الحياة العامة فيها وتثير ضرام الحرب الأهلية. وقد كان دريفوس يهودياً، وهو سر المسألة كلها؛ فقد كانت الخصومة السامية أو حركة العداء ضد اليهود يومئذ على أشدها في معظم البلاد الأوربية، وكانت الكنيسة والعسكرية في فرنسا تضطرمان بهذا العداء، وكانت قضية دريفوس نفثة من نفثات هذه الحركة التي أريد بها القضاء على اليهودية في السياسة والجيش فاتهم دريفوس الضابط اليهودي (سنة 1896) بالخيانة العليا، وبأنه يقدم إلى بعض البلاد الأجنبية (ألمانيا) معلومات عن الدفاع الفرنسي، وضبطت ورقة سميت فيما بعد (بالبردرو) نسبت إلى دريفوس، وحوكم الضابط البريء وقضي عليه ظلماً بالنفي إلى(107/72)
جزيرة الشيطان؛ ولكن العدالة لم تعدم أنصاراً؛ فقد أثار خصوم العسكرية وخصوم الكنيسة على هذا القضاء الظالم دعاية شديدة؛ وبذلت جهود قضائية وسياسية فادحة لتبيان براءة الضابط اليهودي، وتبين فيما بعد أن (البردرو) وقد زُور عليه؛ وما زالت المعركة بين (الدريفوسيين) وبين الوطنيين خصومهم تضطرم وتنتقل من دور إلى دور حتى تقرر إعادة النظر في القضية مرةً بعد مرة؛ ونزل إلى المعركة كتاب عظام مثل فرانسوا كوبيه في جانب الوطنيين، وأميل زولا في جانب (الدريفوسيين)؛ وأرسل أميل زولا صيحته الشهيرة: (إني أتهم!)؛ أي يتهم القضاء والعسكرية بالتآمر والتزوير، واستمرت المعركة نحو عشرة أعوام أعيد النظر خلالها في القضية عدة مرات، وانتهت أخيراً محكمة النقض بأن قضت ببراءة الضابط اليهودي (سنة 1906) وردت إليه مراتبه وحقوقه، وأسدل الستار على تلك المأساة الشهيرة التي هزت حياة فرنسا العامة أعواماً طوالاً.
هذا وسنفرد في فرصة قادمة فصلاً خاصاً لهذه القضية الشهيرة، التي تعتبر من أعظم قضايا التاريخ.
السخاوي
سيدي الأستاذ. . . قرأت بالرسالة بالعدد 104 كلمة الأستاذ البحاثة مقريزي هذا العصر محمد عبد الله عنان في ترجمة السخاوي ما لفظه: (ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا: أولهما كتاب تحفة الأحبابا وبغية الطلاب. في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) إلخ. . .
والواقع إن هذا الكتاب كما ذكر العلامة النبهاني في كتابه (جامع كرامات الأولياء) ليس للحافظ السخاوي إذ قال عاطفاً على ما إستمد من الكتب ما لفظه: (وتحفة الأحباب في الكلام على الأولياء المدفونين بمصر للسخاوي من أهل القرن التاسع وهو غير الحافظ السخاوي) أه وذلكلأنه ذكر في فاتحته أن اسمه محمد بن أحمد الحنفي، وقد ذكره ابن مخلوف في طبقات المالكية وأنه فرغ من تأليفه سنة ست وخمسين وتسعمائة، وأنه كان حياً سنة ستين وتسعمائة، فنسبة كتاب تحفة الأحباب للحافظ السخاوي المتوفي بالمدينة المنورة سنة تسعمائة واثنتين خطأ دخل على كثير من أهل العلم يجب إلا يضيع ولا يفوت على الباحثة عنان. . . فلذلك لزم التصحيح، وإني أحيل الأستاذ عنان على كتاب مصرع الإمام(107/73)
الحسين ليزداد علماً والسلام.
(جرجا)
محمود عسّاف أبو الشباب
منتدى النشر بالنجف
تألف في النجف هذا المنتدى من صفوة العلماء والأدباء للسعي إلى تعميم الثقافة الإسلامية والعلمية، وإحياء لغة الضاد، ونشر المعارف الدينية والأخلاقية في ربوع البلاد بكل ما لديه من شتى الوسائل المشروعة.
وهاهو ذا اليوم في أول أدواره يضع الخطط التي تساعده على إنجاز مهمته العالية وتحقيق رغبته المنشودة ومن بينها دعوة العلماء والمؤلفين إلى مشاركته ومساعدته بأقلامهم وثروتهم العلمية.
ويذيع مجلس إدارته أنه مستعد من الآن لتلقي كل سؤال أو استفتاء ديني أو علمي يرد عليه فيحيله إلى اللجنة المختصة للنظر فيه ولاستجواب العلماء ممن تشرف المنتدى بانتسابهم إليه ومن غيرهم من العلماء الأعلام.
المؤتمر الدولي السادس لتاريخ الأديان
قرر مجلس الوزراء اشتراك الحكومة المصرية في المؤتمر
الدولي السادس لتاريخ الأديان الذي سيعقد بمدينة بروكسل بين
16 و21 من شهر سبتمبر سنة 1935، وندب الأستاذين
مصطفى عبد الرزاق وأمين الخولي لتمثيل الحكومة في هذا
المؤتمر؛ وربما مثلا الأزهر بعد ذلك في المهرجان الذي
ستقيمه جامعة بودابست في أخريات شهر سبتمبر بمناسبة
إحتفالها بالعيد المئوي الثالث على إنشائها.(107/74)
أحب شاعرة إلى الإنكليز
احتفل أخيراً في إنكلترا بالذكرى المئوية لوفاة مسز (هيمانس) الشاعرة المؤترة التي تعرف في الأدب الإنكليزي (بحبيبة إنكلترا) وكانت وفاتها في مايو سنة 1835. وهي شاعرة العواطف، وشاعرة الأمومة الرقيقة، ومسرات الأسرة والورع والرضى؛ وما زال شعرها الرقيق في كتابيها (كازابيانكا) و (قبور العائلة) مثالاً للنظم الأنيق المبدع الذي يملأ القلب سحراً وتأثراً. وكانت مسز هيمانس أستاذة للخيال الواضح والصور الرقيقة والانفعالات العميقة؛ وكانت تتبوأ في عصرها مقاماً عظيماً في الشعر، ولو أن أسلوبها اليوم قد عفا؛ وكانت ثقافتها الواسعة، ومواهبها الفنية موضع الإعجاب، وكانت تشتهر بالأخص بخلالها الرفيعة وجلدها ورقتها وتوضعها، حتى كانت تحمل عباقرة العصر مثل وردسورث وشيللي وبروننج وبيزون على إحترامها وإكبارها. وكانت ظروف حياتها المؤثرة تزيد في هذا التقدير، فقد كانت مسز هيمانس تنظم لتعيش، ولم يكن يهمها اختبار الجيد من الشعر، وإنما كان يهمها اختيار أكثر النظم قبولاً وانتشاراً.
وقد قطعت مسز هيمانس حياة قصيرة مؤثرة. فقد تزوجت الكبتن هيمانس في الثامنة عشرة، ولم تمض ستة أعوام حتى رزقت منه أربعة أولاد، ثم لم يلبث أن غادرها وحيدة. وهنا يبدو نبل هذه الشخصية، فقد احتملت كل أعباء الحياة صابرة جلدة، لا يضلها جمالها الباهر عن الطريق السوي؛ وسرعان ما ذبل هذا الجمال في حياة ملئها الشجن وهموم الأسرة؛ وفي سن الحادية والأربعين غادرت مسز هيمانس هذه الحياة بعد أن طبعت أمومة العصر بطابعها، وتركت لجنسها تراثاً ما زال يحمل على التقدير والإكبار.
استدراك
كتب إليّ جماعة يسألونني عن مؤلفات الشيخ بدر الدين الحسني رحمة الله عليه فحققت عنها فإذا هي قد أحترق مسوداتها حين احترقت مكتبة الشيخ. ولست أعرف للشيخ مؤلفاً باقياً. أما الفقرة التي سقتها بين يدي مقالتي عن الشيخ في (الرسالة) الخامسة بعد المائة فهي من ترجمة الشيخ المنشورة في جريدة ألف باء الدمشقية صبيحة وفاته مكتوبة بقلم أستاذ كبير من كبار تلاميذ الشيخ رحمه الله.(107/75)
وقد كتبت هذا التنبيه كيلا يسجل في (الرسالة) ما يوهم غير الحقيقة. و (الرسالة) سجل خالد. ومن حق (الرسالة) على كتابها إلا يكتبوا فيها إلا حقيقة، ومن حق قرائها عليها إلا يجدوا فيها إلا حقيقة.
علي الطنطاوي(107/76)
الكتب
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبى الحسن الأشعري.
التيسير في القراءات السبع: لأبى عمرو عثمان بن سعيد
الداني
للأستاذ محمد بك كرد علي
في مطبعة الدولة في استانبول طبعت لجنة (النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمانية) هذين الكتابين المعتبرين. نشر الكتاب الأول منهما: العلامة ريتر. وكتب الأشعري مفخرة أهل السنة والاستقامة على كثرتها لم يطبع منها سوى كتابين في الهند: (الإبانة عن أصول الدين) و (استحسان الخوض في الكلام) وهذا الكتاب في مقالات الإسلاميين، هو الذي عنى بتصحيحه والتعليق عليه، ووضع فهارسه السيد ريتر، وقال فيه: إنه مهم في بابه لمعرفة فرق أهل الإسلام، لان تأليفه أقدم من (الملل والنحل) للشهرستاني و (الفرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادي و (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الظاهري، وأن الأشعري أدرك المتأخرين من المعتزلة وغيرهم من أهل المذاهب، فأضطر في نقل بعض ما ينقله عن أوائلهم إلى الأخذ من الكتب المؤلفة قبله في مقالات الناس مثل مقالات الكعبي والكرابيسي واليمان بن رباب وزرقان وغيرهم، وهذه قد ضاعت كلها.
وقد علل الناشر ضياع الكتب بقوله: إنه كلما كان الكتاب أقدم عهدا كانت نسخه أعزَّ وجودا واقل عددا، وذلك لعدة أسباب: منها استيلاء الفناء عليها بتقادم العهد، وجريان حكم الزمان عليها بالمحو والإفساد، ومنها ضياعها وتلفها عند استيلاء الإعداد على البلاد وجنايتهم على الكتب بالإحراق والانحراق، ومنها اعتداء بعض أهل المذاهب على كتب مخالفيهم، ومنها أن المعلمين والمدرسين الذين كان جلُّ همهم أن يضبطوا قواعد كل علم بأقصر لفظ، عمدوا إلى تهذيب مؤلفات من سبقهم، وتنسيق المباحث وترتيبها، ووصل كل بحث بما يجانسه، وضم كل فرع إلى اصله واختصروها إيثارا للإيضاح والتقريب، وتسهيلا للتعليم والتعلم، فاثر المحصلون كتبهم على الكتب القديمة من أجل ذلك فصارت المؤلفات السابقة(107/77)
كأنها منسوخة باللاحقة فتركت ونسيت.
وكتاب مقالات الإسلاميين بحث مستوفى في المذاهب والفرق الإسلامية، لم يستعمل فيه مؤلفه السباب والمهاترة على ما وقع في مثل ذلك ابن حزم والبغدادي وغيرهما ممن كتبوا في مناقشة أهل الأهواء وأصحاب المقالات. فالأشعري عمد إلى لسان العلم يستخدمه في ذكر مقالات مخالفيه، وقد حوى كتابه فوائد تاريخية وسياسية ولاسيما في تدوين وقائع من طالبوا بالخلافة من العلويين في كل عصر، وفي أحكام الإمامة واعتقاد أهل الفرق فيها، وفي الحكمين والحكم عليهما بما فعلا. أطلق في كل ذلك العنان لقلمه حتى لا تكاد تستبين أن المؤلف خالف أصحابه المعتزلة في شيء، بل هو معتزلي تربية ومنشاً وربما جاءه الفيض من الأخذ عن علمائهم، وإلا ففيها عاديا من فقهاء عصره ومحدثيه.
وفي الكتاب وصف دقيق لمسائل علم الكلام وما أختلف فيه أرباب المذاهب، كتبه بلهجة سلسة يتفهما لأول وهلة حتى من ليس له أنسة بمثل هذه الأفكار والعبارات، وذلك لان المؤلف هضم ما تعلمه وتمثله، فوصفه بدقائقه وصفا قرَّبه من الأذهان. وهذه الموضوعات من أبحاث قدماء العلماء، واليوم لا يهتم لها إلا خواص الناس ومن هم بسبيلهم من طلاب العلم الديني.
والكتاب في مجلدين بلغا أكثر من ستمائة صفحة، هذا عدا الفهرس الذي وضعه الدكتور ريتر في أسماء الرجال والنساء، ذكر فيه المكان الذي وردت فيه تراجمهم تسهيلا على القارئ، وهناك فهرس بأسماء الفرق والطوائف، وثالث بأسماء البلدان والأماكن، وقد تجلى التوفيق والعناية في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الذي يعدُّ بلا جدال من الأمهات في هذا الموضوع.
الكتاب الثاني هو (التيسير) في القراءات السبع للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني، نشره العلامة برتزل وقال في المقدمة التي وضعها له بالعربية: (إن علم قراءة القران أقدم العلوم الإسلامية نشأة وعهداً، وأشرفها منزلة ومحتدا، وكان أول ما تعلم الصحابة من علوم الدين حفظ القران وقراءته، ثم لما اختلف الناس في قراءة القران وضبط ألفاظه مست الحاجة إلى علم يميز بينالصحيح المتواتر، والشاذ النادر، ويتقرر به ما يسوغ القراءة به وما لا يسوغ، وقاية لكلماته من التحريف، ودفعا للخلاف بين أهل القران، فكان ذلك العلم(107/78)
علم القراءة الذي تصدر لتدوينه الأئمة الأعلام من المتقدمين.
قال وفي الحق إن تدوين علم القراءة أفاد المسلمين فائدة لم تحظ بها أمة سواهم، وذلك أن البحث في مخارج الحروف والاهتمام بضبطها على وجوهها الصحيحة لتيسير تلاوة كلمات القران على أفصح وجه وأبينه، كان من ابلغ العوامل في عناية الأمة بدقائق اللغة العربية الفصحى وأسرارها، وكانت ثمرة هذا الاجتهاد والجهد أن القراء تشربوا بمزايا اللغة العربية وقواعدها ودقائقها. ومما يؤيد ذلك أن الكثيرين من قدماء النحويين كانوا مبرزين في علم القراءة، كما كان الكثيرين من أئمة القراء كأبي عمرو والكسائي بارعين في علم النحو.
ويرى الناشر أن على كل من يتصدى للنظر في تاريخ اللغة العربية ودرس المسائل التي تتناولها كتب النحويين، أو للبحث في تنوع اللغات واختلافها بحسب الأقطار والأمصار، ينبغي له أن يتتبع علم القراءة والتجويد؛ ومن شرع في درس معاني القرآن، واستقصاء لطائفه واستخراج حقائقه، ثم اعتمد على القراءة الوحيدة التي يجدها في المصحف الذي بين يديه فقط من غير التفات إلى رواية الأئمة الآخرين؛ فقد غفل عن أمر ذي بال أه.
والمؤلف كان شيخ مشايخ المقرئين في الأندلس، رحل في أخذ القراءات عن الأئمة في الشرق (وكان هو من الأئمة في علم قراءة القرآن، وطرقه ورواياته وتفسيره ومعانيه وإعرابه، ولم يكن في عصره ولا بعده من يضاهيه في قوة حفظه وحسن تحقيقه، ونقل عنه أنه كان يقول: ما رأيت شيئاً قط إلا كتبته، وما كتبته إلا حفظته، ولا حفظته فنسيته؛ وكان أيضاً عارفاً بعلوم الحديث وطرقه وأسماء رجاله، وبارعاً في الفقه وسائراً أنواع العلوم) خلف فيما قيل مائة وعشرين مصنفاً، لا يزال بعضها محفوظاً في بعض خزائن الكتب في الغرب والشرق، واعتمد الناشر في طبع كتاب التيسير على ست نسخ منها ما هو في دار الكتب ببرلين وفي دار الكتب في مونيخ وفي خزانة ليدن وبعض خزائن إستانبول.
وكتاب التيسير كما قال فيه مصنفه مختصر في مذاهب القراء السبعة بالأمصار، يتضمن من الروايات والطرق ما أشتهر وأنتشر عند التالين، وصح وثبت عند المتصدرين من الأئمة المتقدمين. افتتح كتابه بذكر أسماء القراء والناقلين عنهم، وأنسابهم وكناهم وموتهم(107/79)
وبلدانهم، واتصال قراءتهم وتسمية رجالهم، واتصال قراءتنا نجن بهم، وتسمية من أداها إلينا عنهم رواية وتلاوة وأتبع ذلك بذكر مذاهبهم واختلافهم.
دمشق
محمد كرد علي(107/80)
العدد 108 - بتاريخ: 29 - 07 - 1935(/)
2 - محمد حافظ إبراهيم
بمناسبة ذكراه الثالثة
كان حافظ في ميعة شبابه يطلب الثروة على قدر طموحه، والحظوة على قدر نبوغه؛ ولكنه طلبهما من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، لا من طريق الواجب الذي يؤديه كل إنسان إلى المجتمع. فلما أخفق بالطبع لم يرد أن يعيش كما يعيش سائر الناس على العمل الميسور، وإنما ارتد ارتداد الأنوف المحتج إلى الفلاكة الشاعرة الصابرة، يحمل بؤسه على (حرفة الأدب) كما يحمل المؤمن رزءه على حكمة القدر؛ ثم عاش عيش الطائر الغرد: عمره ساعته، ودنياه روضته، وشريعته طبيعته، ودأبه أن يطير في الغيم والصحو، ويشدو في الطرب والشجو، ثم يسقط على الحب أينما انتثر!
ولقد كان من جريرة هذه الحياة النابية العقيم التي حيها حافظ أن قتلت فيه الطموح فلم ينشط إلى سعي، وأذهلته عن الغاية فلم يسر على مبدأ، ووقفته على الشاطئ فلم يتعمق في فلسفة، وشغلته عن الدرس فلم يتكمل بثقافة. كان مبدؤه الأدبي مبدأ اليوم، كما كانت حياته المادية حياة الساعة: رأى الآمال تتهافت حيناً من الدهر على أريكة الخديويه في مصر، وعرش الخلافه في الآستانة، فجرى لسانه بالشعر المطبوع في مدح عباس وتمجيد عبد الحميد؛ ثم اتصل بالإمام وشيعته من سراة البلاد وشيوخ الأمة، ولهم يومئذ في الإنجليز رجاء موصول وظن حسن، فصدرت عنه في هذه الفترة قصيدة في رثاء الملكة فكتوريا، وقصيدة في تتويج الملك أدوار السابع، وقصيدتان في وداع اللورد كرومر، عبر بهما عن الرأي السياسي الأرستقراطي في ذلك الحين؛ ثم خلص للشعب فلابس دهماءه وخالط زعماءه، واندفع بقوة الوطنية الدافقة الشابة إلى لواء مصطفى، فمزج شكواه بشكوى البلاد، وضرب على أوتار القلوب أناشيد الجهاد، ونظم أماني الشباب من حبات قلبه، وترجم أحاديث النفوس ببيان شعره؛ ثم عطف عليه الوزير الأديب حشمت باشا فأكرمه بالعمل في (دار الكتب)، وأجزل له المرتب طمعاُ في مواهبه، وثواباُ على فضله؛ ولكن الشاعر حمل الوظيفة على باب المكافأة المفروضة فاستراح للخفض، واستنام للدعة، وفتر عن قول الشعر إلا مدفوعاُ إليه من فترة إلى فترة؛ فلما خرج على (المعاش) انضوى إلى أعلام (الوفد)، واتصل بالزعيم اتصال النديم، وحاول أن يبعث في نفسه الشعر الوطني، ولكنه(108/1)
كان قد أصفى. . .
وكان فكر حافظ فيض الشعور وعفو البديهة، ينشأ في الكثير الغالب من آراء المجالس، وأقوال الصحف، ومخزون الحافظة، فلم تعنه حياته على التروية، ولم يدعه اضطرابه إلى التأمل، ولم تطلقه قيوده إلى الطبيعة، وإنما ظل صنيعه لوحي البيئة، وإلهام الفطرة، وتوجيه المناسبة؛ فهو في قصائده للإمام يذكر تعلق الناس بالأباطيل، وتهالكهم على عبادة الموتى، ولا يزيد في ذلك على نقد الإمام ونعيه؛ وفي قصائده لقاسم يذكر الحجاب والسفور بما لا يخرج عن مذهبه ورأيه؛ وفي قصيدته التي أنشدها في احتفال مدرسة البنات ببور سعيد يتكلم في تعليم الأم وسفور المرأة وعيوب الجماعة بما لا جديد فيه؛ وفي قصائده التي نظمها في مشروع الجامعة وافتتاحها يجمل ما فصلت الصحف من الموازنة بين الإكثار من الكتاتيب وإنشاء الجامعة؛ وفي رثائه لتولستوي يذكر السلم والحرب، والخير والشر، والغنى والفقر، بما لا يبعد عن متناول الناس، ولا يرتفع عن مستوى الجمهور؛ من اجل ذلك كان فكره مستقيما لا ينحرف، وواضحاُ لا يلتبس، وسديداُ لا يطيش، والسر فيه اعتماده على قوة الإجماع، لا على غرابة الإبداع
وكانت ثقافة حافظ ثقافة الشاعر العربي الأول: يتزود لمجالس الملوك بالإخبار والطرف، ولمحافل الأدباء بالأشعار واللغة، ويستعين على ذلك بسلامة الذوق، وصفاء الطبع، وقوة الحافظة، وكثرة الاطلاع، وجودة الاستماع، وإلحاح الحاجة؛ ولحافظ في كل أولئك موضع منفرد ومكان بارز
عكف منذ شب على دواوين الشعراء وأجزاء (الأغاني) يتنخلها، ويتمثلها، ويعاود النظر فيها، ويستكمل الحظ منها، حتى بلغ من مختار الرواية ومصطفى الكلام ما لا غاية بعده؛ ثم قنع من فروع الثقافة الأخرى بنتف من المسائل الأولية، ينقلها عن السماع ويأخذها عن الصحف إذا ظن أنها تدخل بوجه من الوجوه فيما يعنيه من ابتكار الأسمار وصوغ القريض؛ حتى لغته الفرنسية ظلت بكماء فلم يتقنها ولم يستفد منها لا بالقراءة ولا بالترجمة؛ وثقافة الشاعر المدني المجدد ثقافة محيطة شاملة تشارك في ضروب المعرفة مشاركة بصيرة، وتتابع تقدم الفكر متابعة حرة
أما صياغة حافظ فهي موهبته الأولى ومزيته الظاهرة، وهو في ذلك ثاني الخمسة الذين(108/2)
تيقظت على دعوتهم نهضة الشعر، وتجددت على صنعتهم بلاغة القصيد. ولعله انفرد عن هؤلاء جميعاُ بالصدق في تعبيره عن هموم قلبه، وتفسيره لأماني شعبه، وتصويره لمساوئ عصره
احمد حسن الزيات(108/3)
في رأس البر
للأستاذ احمد أمين
يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية. يعيش الناس - كما كان يعيش آباؤهم الأولون - في أكواخ من الحصر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم؛ ويلبسون لباساُ ساذجاُ قريب الشبه بما كان يلبس آبائهم، ويسبحون في البحر عراة، ويمشون على البر حفاة؛ ملوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة فأفسحت لهم صدرها، ينزلون البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل ويذكرون قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)
ليس فيها قصور شامخة بجانب أكواخ وضيعة، وليس فيها ثريات كهربائية بجانب أضواء زيتيه أو غازية، ولا ملابس أنيقة بجانب أثواب مهلهلة؛ يصعب عليك التمييز فيها بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، إلا في الآنسات والسيدات فهن يأبين إلا الظهور، والتمسك بالفروق، وإلا في أمثالهن ممن حليتهم لباسهم، وقيمتهم مظهرهم
خلف فيها الناس وراءهم المخترعات الحديثة بجلبتها ورذائلها؛ فلا سيارات تصم الآذان بأبواقها، وتأنف الأنوف من روائحها، وتربك السائرين لسرعتها وكثرتها واضطراب حركاتها؛ ولا تلفون يرن في الهجير وفي منتصف الليل فيوقظك من نومك الهادئ، ويحملك رجاء تنوء بحمله، أو يصلك بثقيل ينغص عليك الحياة بحديثه؛ ولا راديو يسمعك اللطيف والسخيف، ويأبى عليك النوم أحوج ما تكون إليه، وأشد ما تكون رغبة فيه، لأن جيرانك يأبون إلا أن ينتفعوا به كاملاُ من بدء يمين - شمال، إلى سلام الملك!
حياة حرة طليقة، وجو مفتوح، وهواء جديد دائماُ، لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها، ولم تحبسه الأبنية الشامخة، ولم تحجزه الحيطان الأربعة، تتجدد النفس بتجدده، وتمتلئ نشاطاُ من نشاطه، يغذي كل خلية غذاء حلواُ طيباُ، ويخلع على الجسم لوناُ نجاشياُ ظريفاُ، وينعش العواطف والروح، فهي قوية حادة، شديدة التنبه، شديدة الإحساس؛ حتى عاطفة الدين، فهي أقوى ما تكون، واطهر ما تكون، وأصفى ما تكون، حينما تتجلى الطبيعة في ثوبها الفطري الجميل، في السماء والماء، والمزارع والحقول، فليس الإلحاد والزندقة والتعصب الذميم(108/4)
وضيق النظر إلى وليد الحضارة المعقدة والجو الخانق، والفكر الراكد ودوران الفكر حول نفسه لا حول الطبيعة
في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس ولا جمال القمر، ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمال صناعي؛ قد استغنى بجمال طاقات الزهور عن الزهور في منابتها، واستغنى بثريا الكهرباء عن ثريا السماء، وبالحسن المجلوب عن جمال الفطرة وجمال الطبيعة وجمال الخلقة. وهيهات أن يتساوى منتحل وغير منتحل، فليس التكحل في العينين كالكحل!
إنما يشعر الإنسان بجمال الطبيعة يوم يخرج من المدينة إلى الريف، ويفرمن الحظر إلى البدو، فينكشف له الخلق بجماله القشيب، وتأخذ بلبه السماء في لا نهائيتها، والبحار في أبديتها، ويشعر شعوراُ قوياُ بأنه ذرة من ذرات العالم، وجزء صغير من أجزاءه، ضعيف بنفسه، قوي بكله، وأنه لاشيء يوم ينفصل عنه، وأنه نغمة من نغماته يوم يتصل به
لوددت أني خلعت نفسي في المدينة يوم فارقتها، فقد سئمت نفسي وسئمتني، ومللتها وملتني، وتمنيت أن تكون النفس كالثوب تخلعه حيناُ، وتلبسه حيناُ، ويبلى فتجدده، وتكرهه فتغيره - إذن لاستبدلت بنفسي - ولو إلى حين - نفساُ مرحة تستغرق في الضحك من الشيء التافه ومن لا شيء، ولا تبكي على ما فات، ولا تحمل هماُ لما هو آت
بل لتمنيت أن أكون كدودة القز تكون دودة حيناُ، ثم تكون فراشة حيناُ، أرشف من هذه الزهرة رشفة، ومن هذه رشفة، وأنشر جناحي في الشمس، أعيش في جمال وأغيب في جمال، كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل، أو كما تغني النغمة الحلوة في رنات الآلات، أو كما تنداح الابتسامة العذبة في الوجه الصبوح، أو كما تندمج الموجة العظيمة في البحر العظيم! ولكن أنى لي هذا؟ ولو كان لشكوت وبكيت، فقد خلقت كما خلق المتنبي
خلقت الوفاً لو رجعت إلى الصبى ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وخرجت مبكراُ والناس نيام، أمشي على الشاطئ وأرقب الشمس في طلوعها؛ والشمس على الساحل أجمل من الشمس على غيره، فليس لها تلك القوة العاتية، ولا الحرارة القاسية، ولا الأضواء المعشية؛ فيها شيء من الوداعة واللطف والحنان!
هاهي ذي قد طلعت، فأخذت الحياة تدب في النفوس، تلقي أشعتها على البحر فينعقد منه(108/5)
سحاب فمطر فأنهار، فجميع ما لذلك من أعمال باهرة، وقوى ساحرة، وأفعال عجيبة! أنظر يميناُ فأرى النيل، وأنظر يساراُ فأرى البحر، وقد عاد النيل إلى البحر بعد أن أتم دوريه، وأدى مهمته؛ قد خرج هذا العذب الفرات، من هذا الملح الأجاج، كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم! قد سلسلوا النيل فعدا عليه البحر فأغتصب مجراه، وأملح ماءه، ثم فكوا قيوده، فاسترد حقوقه، وأراد أن ينتقم من أبيه، فحاول أن يحتل شاطئه، ويحلي ماءه، ولكن يعكر صفاءه، ثم ندم على العقوق فتاب وأناب وإذا هما مؤتلفان، بينهما برزخ لا يبغيان
ثم تسطع الشمس، ووددت أن تكون مذكرة في اللغة العربية، كما هي مذكرة فيما أعرف من اللغة الأوربية، لأنها تتزوج الأرض فتولدها ما شئت من أشكال وألوان وذكور وإناث، وكأن أشعة الشمس خمر معتقة تشربها الأرض فتنتشي وتبتهج، وتمتلئ قوة ونشاطاُ وحركة
وتقع أشعتها على الطير فيسرح ويمرح ويتغنى، وتحل في قلب الإنسان فيهدأ روعه، ويذهب فزعه، ويطمئن إلى حياته، وتتحرك إرادته، وتنتعش آماله
دعني أتعر فالعراء على الساحل مباح، فأملأ جسمي بأشعتها، وأملأ شعوري ودمي بقوتها، وأملأ نفسي بعظمتها وسحرها.
ومشيت إلى قلعة في رأس البر كنت آنس بها قديماُ، وكان في كل حجر من أحجارها صفحة من العزة القومية، والحمية الوطنية؛ أقامتها الأمة يوم كانت تشعر بنفسها، وتدافع بنفسها عن كيانها، وتحس بتبعاتها، وتدبر شؤونها، وتدير أمورها، كما يتراءى لها - فرأيتها وقد عدا عليها الزمان، وعلاها البلى ونقض أحجارها، وليس من يعتز بها فيقيم أنقاضها، ورأيت بها (مدفعاُ) قد هزأ به الرمل فغطاه، وسخر به الصدأ فعلاه، دفن كما يدفن عزيز أرداه الزمان بسهامه، وذل كما يذل السيد توالى عليه الدهر بأحداثه! ورأيتهم أقاموا في وسطها صهريجاُ يخزن الماء لرأس البر؛ فقلت: سبحانك ربي، جعلت من مستودع النار ماء، كما جعلت من الشجر الأخضر ناراُ! لقد كان مكانك رمز القوة واصبح رمزاُ الرقة، وكان بك جن يقذفون بالنار فبدلت بهم ملائكة يوزعون الرحمة، وكان بك دم يغلي، فأحاله الزمان القاهر زلالاُ بارداُ، وما أدرى ماذا جاش بنفسي فدمعت عيني
وقالوا قد جُننتَ فقلتُ كلا ... وربي ما جننتُ وما انتشيت
ولكني ظُلمتُ فكدت أبكي ... من الظُّلمِ المبيّن أو بكيتُ(108/6)
فأن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت
ثم صحوت فقلت: أتندب كل طلل مررت به، وتبكي كل شيء رأيته، وتحزن في معاهد الفرح، وتنقبض في مغاني المرح؟ من أجل هذا تمنيت - قبلُ - أن أخلع نفسي، ووالله لو أمكنتني الفرصة ثانية ما ترددت، ولسمحت وما حرصت، فقد برمت بها وعجزت عن حملها
هيا إلى البحر! فهناك الفرح والمرح، وهناك يضحك الناس له ويضحك لهم، ويداعبون أمواجه وتداعبهم، وأحياناً ينسون جلاله فيصفعهم! فيه الحياة، وفيه القوة، وفيه العظمة، وفيه اكبر مظهر لطاحون العالم، تطحن دائماً، وتطحن ناعماً!
رأس البر
أحمد أمين(108/7)
قضايا التاريخ الكبرى
من قضايا السحرة
صفحة من الجرائم المروعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يعتبر عصر لويس الرابع عشر أعظم عصور التاريخ الفرنسي، لا من وجهة السلطان الباذخ فقط، ولكن من الوجهة الاجتماعية والفكرية أيضاً؛ فكما أنه عصر الفتوحات العظيمة، فهو أيضاً عصر تقدم فكري واجتماعي ساطع؛ ولم تبد الملوكية الفرنسية من قبل قط بمثل ما بدت به في عصر لويس الرابع عشر من العظمة والبهاء، ولم يزدهر المجتمع الفرنسي مثلما أزدهر في هذا العصر؛ وفيه تتفتح العبقرية الفكرية إلى الذروة، ويحتشد النبوغ الفكري أيما احتشاد، هو (القرن الأعظم) كما ينعت في التاريخ الفرنسي، وهو عصر (الملك الأعظم)؛ وهو عصر كورني وراسين وراسان ولافونتين وجمهرة كبيرة أخرى ممن يزدان بهم التاريخ الفرنسي
بيد أن هذا البهاء الساطع الذي يشع به (القرن الأعظم) تغشاه الظلمات في كثير من النواحي؛ ففيه يتكشف ذلك المجتمع الباهر عن ثغرات خطيرة من الانحلال الخلقي والاجتماعي؛ وفيه تزدهر الجريمة، وتنحط النفس البشرية إلى ضروب شائنة من الفساد والإثم تخلق بأشنع العصور
في سنة 1676 كشفت مأساة السموم الشهيرة التي أخذت فيها المركيزة دي برانفلييه بطائفة من الجرائم المروعة عن طرف من تلك الأثام الخفية التي تجثم وراء مجتمع زاهر؛ وكان ذلك الحدث المدهش مفاجأة مروعه لمجتمع ذلك العصر؛ فقد ظهر أن السم - ذلك السلاح الخفي الغادر - يحصد علية القوم حصداً، وأن كثيراً، وأن كثيراً من الوفيات الفجائية المريبة التي وقعت في تلك الفترة إنما هي جرائم قتل شائنة ترتكب في سبيل الانتقام والمال والهوى
بيد أن جرائم المركيزة دي برانفلييه كانت جرائم فردية، وكانت محدودة المدى، ولم تكن شيئاً يذكر إلى جانب ذلك الثبت الحافل من جرائم هائلة مثيرة معاً تبث الروع الخفي(108/8)
الصامت إلى المجتمع الباريزي وتصمه بحمأة العار والاثم، ويدمغ شينها المثير أرفع الرؤوس والمقامات في ذلك المجتمع الأنيق الباهر
كانت جرائم (السحرة)، وذيوع الخرافات السحرية بين علية القوم، ومزاولة هذه الرسوم الوثنية الشائنة، والتماسها وسيلة لتحقيق أحط الشهوات البشرية، من ظواهر ذلك الانحلال الخفي الشامل الذي يغشى عظمة (العصر الأعظم)
كان السحر من الأمور التي طبعت أذهان العصور الوسطى بطابعها القوي؛ وكانت مزاولة السحر جريمة يعاقب عليها القانون في تلك العصور بأشد العقوبات؛ وكان يعتبر من السحر كل مالا تسيغه عقلية هذه العصور من الأمور المدهشة حتى ولو كانت مما يدخل في حيز الاكتشافات العلمية كمزاولة السيميا أو البحث عما يسمونه حجر الفلاسفة، والتجارب الكيميائية المدهشة؛ وكان السحر دائماً وسيلة الأجرام، ترتكب باسمه وفي ظله أشنع الجرائم الدموية والأخلاقية؛ وكان هذا النوع من السحر الملوث بحمأة الجريمة، والذي تخضب رسومه الفظيعة في معظم الأحوال بالدماء البشرية، يسمى (بالسحر الأسود) أو السحر الذي يقصد به وجه (الشيطان)
ولم تكن عقلية القرن السابع عشر بعيدة عن هذه الأوهام الشائنة، بل كانت تتأثر بها أيما تأثر؛ وكان المجتمع الرفيع الذي يحفزه حب المال أو لوعة الهوى أو ظمأ الانتقام أو غيرها من الشهوات البشرية أو المثالب الخلقية يجد في السحر ملاذه ويعتقد أن السحر مازال وسيلة لتحقيق هذه الأطماع والأهواء
في ظل هذا المعترك الذي تضطرم فيه الشهوات الوضيعة، ويملك الإيمان بالسحر عقول الخاصة فضلاً عن الكافة وتسري إلى المجتمع أسباب الانحلال الخلقي والاجتماعي، كان (السحرة) ومن إليهم من دعاة السيميا والكيمياء يبثون في المجتمع أباطيلهم، ويزاولون تلك الرسوم المروعة المثيرة التي تعرف (بالسحر الأسود) ويسلحون الأيدي الغادرة بالسموم المرهقة، وينظمون أشنع الجرائم الدموية والخلقية، ويستظلون للتمويه على الكافة بظل الخفاء والمقدرة على تنبؤ الغيب وتسخير القدر، وتوجيه الحظوظ
وقد بلغ الشغف بالخفاء والتماس السحر ذروته في ذلك العصر؛ وكان يتمخض بين آن وآخر عن طائفة من الجرائم الفظيعة التي يكتنفها خفاء السحر وروعته(108/9)
وكانت جرائم السحرة الشهيرة التي اكتشفت فجأة في عصر (الملك الأعظم) من أروع هذه المفاجآت التي يرتجف المجتمع لهولها وشناعتها
في يوم من أواخر سنه 1678، اجتمع في باريس على مائدة سيدة تدعى (لافيجوريه) هي زوجة خياط للسيدات، محام متواضع هو الأستاذ بيران، وامرأة (عرافة) مشهورة في هذا الوقت تدعى ماري بوسي؛ ففي أثناء العشاء بدرت من العرافة تلميحات خطيرة حول جرائم ترتكب بالسم، ويشترك في ارتكابها رجال ونساء من علية القوم؛ فانزعج الأستاذ بيران، وأفضى بما سمعه إلى مدير البوليس (لاريني)
وكانت ذكريات جرائم المركيزة دي برانفلييه ما تزال حية رنانة، فأدراك (لاريني) أنه ربما كان أمام ثبت آخر من الجرائم المماثلة، فأمر بالقبض على مدام فيجوريه، وماري بوسي وابنتها مانون وولديها؛ وذلك في 4 يناير سنة 1679، وأفضت التحقيقات الأولى التي قام بها لاريني نفسه إلى أن قبض في 12 مارس على امرأة تدعى (لافوازان) أو مدام فوازان، وهي عرافة شهيرة في ذلك العصر تزاول السحر وأموراً خفية أخرى، وعلى ابنتها مرجريت، ثم على رجل يدعى (لي ساج) وهو شريك لافوازان وعشيقها، ثم على عشرات آخرين ممن ورد اسمهم في التحقيق ونسب إليهم قسط من الأعمال والجرائم المروعة التي كشفت عنها اعترافات المتهمين
كان لاريني مديراً للبوليس، يقف بحكم وظيفته على أخطر الأسرار وأفظع الجرائم، ولكنه لم يلبث أن رأى نفسه أمام معترك هائل من الجرائم التي ترتجف لهولها وروعتها أقسى القلوب وأصلبها؛ جرائم تمتد إلى النفس والعرض والمال بأشنع الآثام، وتتطاول إلى الملك وحياته ذاتها، ويشترك في تدبيرها وارتكابها نفر من العظماء نساء ورجالاً يزاولون (السحر الأسود) ويشتركون طوعاً في اجراءته المروعة المشينة، ويغمسون أيديهم في الدم البريء تقرباً إلى الشيطان، والتماساً لتحقيق أسفل الشهوات والغايات
وكانت لافوازان هي المحور الأكبر لذلك الثبت المروع من الجرائم التي سودت صحف (العصر الأعظم) وهي امرأة تدعى في الأصل كاترين ديزي، وزوجها يدعى مونفوازان، أو فوازان، ومن ثم كان اسمها. وقد بدأ الرجل حياته تاجراً في الحلي، ثم زاول أنواعاً أخرى من التجارة، ولكنه لم يفلح ولازمه النحس، فاعتزمت زوجته عندئذ أن تزاول مهنة(108/10)
التنجيم والعرافة. وكانت لافوازان في الواقع ذات مقدرة خاصة في تفهم نفسية بعض الناس، وكانت قد درست شيئاً من الفلك وما يتعلق بالسحر من المسائل والرسوم التي كانت ذائعة في ذلك العصر فامتهنت العرافة والسحر، واستقرت في منزل تحيط به حديقة في فلنيف من ضواحي باريس. وأقبل عليها القوم من كل صوب يستوحون علمها ونصحها، وكانت تزاول كل ما يدخل في باب الخفاء من قراءة الكف وصنع التمائم والتعاويذ، والتنبؤ بالمستقبل بيد أنها كانت تزاول أعمالاً أخطر، فقد كانت تبيع السموم لزوجات يردن التخلص من أزواجهن، أو أقارب يترقبون وفاة المورث، وكانت تصف الأدوية لمختلف الأمراض، وتزاول التوليد وبالأخص الإجهاض؛ وكان بين قصادها سادة من الأكابر وسيدات من أرقى طبقات المجتمع
وكانت لافوازان، كما يصفها المعاصرون امرأة قصيرة القد، مليئة الجسم، وافرة الحسن، لها عينان ساطعتان ثاقبتان، وكانت بما ينهمر عليها من المال من كل صوب تعيش عيشة ترف ومتاع، تصطفي العشاق حسبما تهوى تحت سمع زوجها المسكين وبصره، وتقيم الحفلات الصاخبة، وكانت تعشق الشراب وتفرط فيه، فلا ترى دائماً إلا ثملة، تضرب زوجها أو عشاقها وهم عديدون وكانت تحيا هذه الحياة الحيوانية المحضة فوق أكداس من الإثم ترتكبها كل يوم، لا يزعجها شبح أولئك الذين ترسلهم بسمومها إلى الأبدية، ولا تلك الضحايا البشرية العديدة التي كانت تزهقها مع شركائها كلما أجرت رسوم القداس الأسود كما سنرى
وكان شريكها وساعدها الأيمن في تلك الحرفة الأثيمة رجل يدعى (ليساج) وكان أحب عشاقها إليها وأشدهم نفوذاً لديها، وكان ليساج يزاول أعمال السيميا ليكتشف ما يسمونه (حجر الفلاسفة) أو المادة التي يمكن أن تعاون في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وتمده لافوازان كما تمد غيره من السيميائيين والمشعوذين بالأموال الوفيرة لأجراء التجارب المطلوبة. وكان هذا (الساحر) الخطر من أهل الجنوب واسمه الحقيقي آدم كيريه؛ وكان يشتغل بتجارة الصوف، ولكن غلبه شغف السحر والخفاء فاتصل بلافوازان ووثق الحب بينهما ذلك التحالف الأثيم، ووعد لافوازان بالزواج متى بدت أرملة. وفي سنة 1667 قبض عليه بتهمة (الاتصال بالشيطان) وقضي عليه بالأشغال الشاقة في الأسطول،(108/11)
ولكن لافوازان سعت لإنقاذه بنفوذها واستطاعت أن تستصدر العفو عنه فعادت إلى باريس سنة 1672 وتسمى بليساج، واستأنف أعماله الأثيمة مع عشيقته
وكان ليساج وغداً سافلاً لا يحجم عن ارتكاب أية جريمة، وكان له أكبر نفوذ على لافوازان وزميلاتها، فكان يقتنص منهن الأموال الوفيرة بخبثه ودهائه؛ وكان يكتب التعاويذ للراغبين ويعقد صلاتهم بالشيطان بتمائم وأدعية مريبة، وأحياناً يتزيا بزي القسس ويقيم الصلوات والأقدسة؛ وكان منظره غريبا يضع على رأسه شعراً أحمر، ويرتدي ثوباً أشهب ومعطفاً غريباً، وكان القبض عليه للمرة الثانية عقب القبض على لافوازان في 17 مارس سنة 1679
كان اكتشافاً مروعاً ذلك الذي وقع به لاريني مدير البوليس من أعمال هذه الطغمة. ولم يكن أمر السحرة مجهولاً، وكان الهمس يسري حول آثامهم وجرائمهم في أرفع الأبهاء؛ ولكن لاريني لم يكن يتوقع قط أن يكشف التحقيق الذي أجراه وأشرف عليه مدى أشهر عن تلك الشبكة السوداء الهائلة التي تغمر العاصمة الفرنسية والتي تجذب شراكها الخطرة أعظم الرؤوس وأعظم المقامات. وقد أثبت لاريني في ملف التحقيق الذي أجراه أقوالاً ومعلومات مدهشة عن أعمال المتهمين وحياتهم الغريبة؛ ومما أثبته من أقوال لافوازان، إن أفضل ما يعمل هو أن يقبض على كل من يزاول قراءة الكف، فإن هذه الحرفة تكشف عن أمور مدهشة حيثما يمنى المحب بخيبة الأمل، وأن التسميم جرم ذائع، وأنه يدفع عن (العملية) الواحدة أحياناً عشرة آلاف جنيه (نحو خمسين ألف فرنك من العملة الحديثة)؛ وأيد ليساج هذه الأقوال، وزاد عليها أن كل أولئك الذين يزعمون أنهم يبحثون عن الكنوز أو حجر الفلاسفة أو غيرها إنما يزاولون أعمالاً خفيفة أخرى، وأولئك الذين يزاولون السحر إنما يتعاقدون على تسميم زوج أو زوجة أو أب وربما على تسميم طفل في المهد
بيد أن أروع ما سطره التحقيق أقوال المتهمين عن مزاولة (السحر الأسود) وإجراءاته الدموية المثيرة. وكانت هذه الإجراءات تقترن عادة بإزهاق طفل صغير يسرق أو يؤخذ من بين اللقطاء الذين تقذف بهم الأمومة الأثيمة. وكان يؤتى لهذه الغاية ببغي تمدد عارية بين هالة من الشموع السوداء؛ ثم يأتي الساحر في ثياب قس، وبعد أن يذبح الطفل، يلقي بعض التمائم والدعوات الشيطانية؛ وكان الساحرات يبحثن دائماً عن الأمهات الآثمات أو(108/12)
البغايا الحاملات فيجرين توليدهن ويأخذن المواليد برسم القربان؛ ويلقى بهذه الجثث الصغيرة في بعض الغابات أو تحرق في منزل الساحرة. وكانت لافوازان أنشط الساحرات في إجراء هذه الرسوم الهائلة! وكان يعاونها في إجرائها غير ليساج قس وغد يدعى الأب جيبورج؛ فيقوم بقراءة (القداس الأسود) أو قداس الشيطان على أجسام النسوة اللاتي يرغبن في هذا الإجراء وكن يتمددن عاريات فوق مائدة تؤدي وظيفة الهيكل، ويوضع الإناء المقدس على البطن العاري، ويذبح وقت القربان طفل يلقى دمه في الإناء، وقد اعترفت لافوازان أنها أحرقت في فرن منزلها أو أخفت في حديقتها نحو ألفين وخمسمائة جثة من هذه الضحايا الصغيرة البريئة!
هذا طرف مما دونه لاريني في تحقيقه من أقوال المتهمين أنفسهم. ويعلق لاريني على ذلك بقوله، أنه يستحيل أن يتصور الإنسان أن تكون هذه الجرائم حقيقية أو ممكنة إذا ما تأملناها. بيد أنها اعترافات أولئك الذين ارتكبوها أنفسهم؛ وتفاصيل الاعتراف لا تدع مجالاً للريب
(للبحث بقية)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(108/13)
جندي الأدب المجهول
للأستاذ عبد الوهاب النجار
أقول جندي فقط لأنه لم يكن ضابطاً كريماً ولا ضابطاً عظيماً ولا ضابطاً صغيراً، بل كان جنديا. وكفى
والذي أتحدث إلى حضرات الأدباء عنه، أعتقد أن أحداً منهم لا يعرف عنه شيئاً. وهو المرحوم الشيخ المعمر محمد أفندي التميمي بن المرحوم احمد التميمي مفتي الديار المصرية
وكان والده المرحوم الشيخ أحمد التميمي من أهل مدينة الخليل بفلسطين ومن علمائها ومن ذرية تميم الداري. وقد آتى به إلى الديار المصرية ساكن الجنان إبراهيم باشا جد مولانا الملك فؤاد، وعين مفتياً للديار المصرية. وظل بتلك بالوظيفة إلى ان عزل بالمرحوم الشيخ محمد العباسي الحفني المهدي - (وقد تولى الشيخ المهدي إفتاء الديار المصرية وهو طالب بالأزهر)
مات المرحوم الشيخ احمد التميمي عن ولديه عبد الرحمن أفندي ومحمد افدي؛ فإما عبد الرحمن فأسرع في تركة والده إسراعا شديداً، فانشأ له ذهبية في النيل وجعل مقابض مداريها من الذهب، والجزء الذي يغرز في الطين من الفظة، وجعل نعال خيله من الفضة! وكان أخوه محمد لا يعصي له أمراً، فكلما أراد بيع عمارة أو بيت أمضى محمد مع أخيه عبد الرحمن واعترف بقبض ثمن حصته، وهو في الواقع لا يناله من ذلك سوى النزر اليسير
فلما فرغت الراحة عمد محمد أفندي إلى اسطنبول ليجد واسطة من أصدقاء والده ليعين في وظيفة. ولست اعلم إن كان أخوه عبد الرحمن أفندي سافر إلى اسطنبول أولا
وآخر عهدي بعبد الرحمن أفندي أنه كان مأمور مركز؛ وكانت له ورشة نجارة بطنطا، لأنه أتقن فن النجارة أيام أن كان مهيمناً على عمارات والده
وأما محمد أفندي وهو أديبنا المجهول، فلما عاد بالوصية عين موظفاً بتفتيش السنطة والهياتم التابع لدائرة ثالثة زوجات المرحوم إسماعيل باشا
كان المرحوم محمد أفندي التميمي مغرماً بالتدخين في النرجيلة (الشيشة)، فلما كان في(108/14)
اسطنبول خرج إلى متنزه اسمه (الكاغد خانه) ومعه النرجيلة يدخن فيها، وجاءت السيدات والأوانس من كل صوب وحدب إلى ذلك المكان النزه. ونظر فوجد بقربه سيدة جميلة رشيقة قد جلست ومعها سيدة أخرى. وحانت من السيدة التركية التفاتة فرأت ذلك الرجل الذي يلبس جبة وقفطاناً وعمة خليلية منهمكاً في كتابة شيء، فحزرت أنه يكتب عنها، فأرسلت السيدة الأخرى إليه وكانت تحذق العربية فسألته عما يكتب، فناولها ما كتبه فقرأت:
ظل قلبي في غزال ... من بنات الترك يُفكرْ
رمت منها الوصل قالت ... سن صقللي هيدا سكتَر
أي أنت ملتح، هلم فأذهب! فأسرعت إلى السيدة التركية وأرتها ما كتبه وترجمت لها بالتركية ما في الكتابة من ألفاظ عربية فسرها ما سمعت، وحلفت بالمحرجات من الأيمان إلا ما حل عندها ضيفاً الليلة
ولما كان بتفتيش السنطة ومركزه القرشية عين ناظراً لورشة التصليحات التي أنشأها المرحوم إسماعيل باشا لإصلاح الآلات المكانيكية، وكان بناؤها سنة بضع وسبعين ومائتين وألف هجرية؛ فمر التميمي بالحدادين يحمون الحديد إلى درجة الاحمرار ثم يفطحونه بمطارقهم. فقال موالياً أوله:
لان الحديد للمعلم والحبيب ما لان
وقد ند عن ذاكرتي باقيه
وله لطيفة وهو بالورشة، فأن المرحوم خلف الله باشا عين مفتشاً لتفتيش السنطة والهياتم؛ فلما استقر به المقام طلب إحصاء بالعمال الذين بالورشة ومرتب كل واحد منهم أو يوميته، فلما نظر في ذلك الإحصاء وجد (خوجة لتعليم العمال القراءة والكتابة وإرشادهم في أمر دينهم، ومرتبه جنيه في الشهر) فقال: هذا الخوجة لا لزوم له. فقال التميمي: إني فكرت فيما فكر فيه سعادة الباشا وأردت رفته ولكني وجدت الرجل يصلي بالناس الصلوات الخمس بالمسجد مجاناً، ويخطب الناس يوم الجمعة والأعياد بلا مقابل، فقلت أتركه الآن حتى يأتي (أبن الحلال) الذي يكون قطع رزق هذا الرجل على يده. والحمد لله سعادتكم، شرفتم ويمكنكم أن تعملوا ما لم أعمله. فقال خلف الباشا: والله لا أكون ابن الـ. . . الذي(108/15)
يقطع رزق هذا الرجل على يده. وبقى الرجل في هذه الوظيفة عشرات من السنين إلى أن توفى
وكان له صديق مثر من المال، علم أن التميمي اعتزم الزواج، وما بينهما من المودة يقضي عليه بتقديم المساعدة و (النقوط)، فاحدث غضباً لا أصل له، وفطن التميمي فكتب إليه:
إن قوماً أبغضونا ... خيفة من قول هاتِ
قل لهم في يوم عرسي ... نقوطنا بالسكاتِ
والأمثال لا تغير
ولما نقل المرحوم إبراهيم أدهم باشا من تفتيش السنطة والهياتم وعين مديراً للغربية، طلب أحد العمد، فخشي العمدة أن يعتريه الباشا المدير بسوء، وجاء إلى التميمي ليكتب إلى الباشا خطاب عناية به فكتب:
قد ظن هذا رجائي عندكم فأتى ... مستشفعاً بيَ فعلَ الطامع الراجي
قد ظن عكساً وقصدي من سعادتكم ... أن تضربوه جزاءً ألفَ كرباج
وأخذ الرجل الكتاب بعد أن ألصق جوانبه بالبرشام وهو يكاد يطير من الفرح، وقدم على الباشا وناوله إياه، فأغرق الباشا في الضحك وعفا عنه
وله رجز في الفلاح حين واتاه القطن في نحو سنة 1280 عقب حرب أمريكا، واقتنى الجواري البيض والعبيد، وتأنق في المأكل والملبس، أحفظ منه:
من بعدَ خضْرَا صار يَقْني كلفدان ... وطعامه قلدر وخادمه أمان
ولكم مصاغ علقه بعضهم ... من فوق زوجته الكئيبة ستهم
تلقاه يرمي اللفظ كالجالوس ... ويقول عندي نسخة الجاموس
وفي أيام اختفاء عبد الله أفندي النديم بالقرشية عند المرحوم أحمد باشا المنشاوي، وكان يسمي نفسه السيد علي الإدريسي اليمني، كان النديم يجالسه كل ليلة ولا يدري حقيقته. وكان المجلس يمتد بهما إلى ما بعد نصف الليل. ففي ليلة سأل المنشاوي باشا جليسيه عن أرباب الجرائد، فكان عبد الله النديم يسرع ويجيب ويسبق التميمي إلى الجواب، فقال المنشاوي باشا وما تقولان في صاحب الطائف؟ فسكت النديم أو السيد علي الإدريسي اليمنى وتكلم التميمي، وقد رابه شأن النديم ولم يقم من المجلس إلا وهو موقن بأن جليسه(108/16)
في هذه السنوات هو عبد الله النديم
فلما رجع إلى بيته كتب إليه
يأيها الحبر الذي ... كالبحر يبعد ساحله
من كان مثله فاضلاً ... نمت عليه فضائله
وأرسل البيتين مع الخادم؛ فلما قرأهما النديم ارتاع وخشى على نفسه. فلما جن الليل وجاء محمد أفندي التميمي على عادته لقيه بالعناق، وكتم التميمي أمره إلى أن أعلنه الذي قال إنه علم بالنديم بالجميزة، وكان الواقع إن النديم أعلن نفسه لذلك المخبر بعد أن مضى على الحكم عشر سنوات شمسية وأحد عشر يوماً
وللتميمي قصائد لا احفضها ولا أجد من يقفني عليها الآن؛ وهو أول من أبرز رواية بالعربية وسماها أم حكيم، وقد مضى على إبرازها أكثر من خمسين سنة
وقولي انه معمر سببه أن التميمي كان قد تولى عمارة مسجد وضريح سيدي فخر الدين ببلدة طوخ مزيد في عهد المرحوم إسماعيل باشا، وكانت العمارة ينفق عليها من دائرة ثالثة أزواج الخديو إسماعيل، وأحيلت الكتابة على والدي رحمه الله وكانا قريبين في العمر. وكنت إذا سألت كلا منهما عن الآسن منهما اتهم كل منهما الأخر بأنه أسن منه، وقد توفي والدي سنة 1919 عن نحو مائة سنة، وعاش محمد أفندي التميمي بعده من أربع إلى خمس سنوات، واعتقادي انه أربى على المائة
فهذا الرجل في نظري هو جندي الأدب المجهول
عبد الوهاب النجار(108/17)
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
المرأة:
ومما أخذه على الكماليين خطتهم في تربية النساء، فقد أخذوا بيد المرأة التركية، ربة الدار الطاهرة، وأم الأشبال الباسلة، فقادوها إلى المراقص، والملاهي، ومجالس السمر أخذاً بسنن أوربا؛ وسموا هذا تحريراً للمرأة وإنصافاً لها وإعظاما، واعترافاً بقدرها، كأن المرأة لا تكون حرة إلا إذا هجرت الدار، وعمرت المراقص، وأهملت أطفالها لتجالس سمارها، وتركت سكينة الدار وسعادة الأسرة، إلى ضوضاء الملاهي ونزاع المحافل! لست آخذ على الكماليين أنهم تركوا المرأة تغشى المراقص اختياراً، ولم يردوها إلى الدار قسراً، بل آخذ عليهم أنهم هم دعوها إلى ذلك، وحرضوها عليه، وزينوه لها، بل ألزموها به بعض الإلزام حين نظروا شزراً إلى الموظفين الذي لا يأخذون زوجاتهم بإتباع السنن الجديدة، ويريدونهن على مسايرة النهضة النسوية، ويروضونهن على أفانين المعيشة الأوربية
فعل الكماليون هذا تقليدا لأوربا وتقرباً إليها، واستحياء من الاستمساك بآداب لا يعرفها الغربيون، والإبقاء على سنن ينكرها السادة الأوربيون. ثم زادوا تقرباً حين أباحوا تزوج المسلمة من غير المسلم، وقد عاشت المرأة التركية حقبا ترى واجبها أن تربي أشبالها للدفاع عن قومها ودينها، وحماية تأريخ الإسلام والترك، وترى نفسها أعز وأرفع من أن يلي أمرها غير مسلم؛ وكانت هذه الكبرياء عصمة لها ولقومها في المحن التي انتابتهم، والفتن المحيطة بهم، وفي هذا النزاع، نزاع الحياة والموت الثائر بين الشرق والغرب. فذهبت هذه (النهضة) بكبريائها، ومحت ما أورثها الإسلام والتاريخ من عزة وأباء
وأتم الكماليون إعظام المرأة وتحريرها بأن فتحوا دوراً للبغايا فسايروا بعض الأمم الأوربية، وشاركوا مصر الإسلامية في وصمة العار، وسمة الخزي، التي تحاول اليوم أن تمحوها عن جبينها. وقد بلغ من اعتدادهم بما فعلوا، وافتخارهم بما اقترفوا ما تبين عنه القصة الآتية: حدثني من لا أرتاب في صدقه قال: كنت على ظهر سفينة من عابرات المحيط، ذاهباً إلى المؤتمر البرلماني في البرازيل، وكان على السفينة جماعة من ممثلي الدول يؤمون المؤتمر، وكان فيهم مندوبو الحكومة التركية، فجلسنا مرة نتحدث، وذهب بنا(108/18)
الحديث مذاهب حتى قال مندوب تركي مفتخراً متبجحاً: لقد أنفقنا كذا وكذا في بناء دور فخمة رائعة للبغاء (وذكر مقداراً من المال عظيماً جداً، لا أذكره الآن)
قال محدثي: فلما قام صاحبنا نظر مندوبو الدول الأوربية بعضهم إلى بعض ساخرين متعجبين يقولون: ماذا يريد أن يقول هذا الرجل؟
لا يحسبني أحد مجادلا في سفور المرأة واحتجابها فيقولون فيم يجادل هذا الجاهل؟ لقد سبقته المدنية مراحل كثيرة فجدال الناس اليوم في اللبس والعرى. لا يقولون أحد هذا فأني لست أنكر على المرأة أن تأخذ طريقها طليقة رشيدة، تصرف أمورها وتقوم بقسطها في الأمور العامة والخاصة على قدر ما تمكنها أعمال الدار والقيام على الأسرة. ولست أنكر أن الإسلام منح المرأة من الحقوق ما لم تظفر به نساء أمم في أوربا حتى اليوم. لا أنكر هذا ولا أجادل فيه، ولكني أظن بالمرأة أن تنزل عن عرشها في أسرتها لتتبذل في الطرق والمسارح والمراقص، وأشفق عليها أن يخدعها الرجال لحاجات في أنفسهم فيزينوا لها كل ما تنزع إليه مآربهم، ثم يكذبون فيذكرون الحرية والحق والإصلاح والكرامة ونحو هذا من الكلمات الكاذبة الخادعة، الثائرة الرائجة في هذا العصر. أيها الناس لا تخدعوا أنفسكم ولا تجحدوا أن لهو المدينة الحاضرة يدور معظمه حول جسم المرأة في الطريق والمرقص والمسرح وشاطئ البحر. وحسب المرأة ذلاً وهواناً أن تكون ألعوبة الرجال حيثما شاءوا وكيف شاءوا. وبعد هذا أمر لا يعالج بكلمات، ولا ينفد بيانه في صفحات، فحسبي أن أتناوله مجملاً موجزاً لا معدداً مناهج النهضة التركية الأخيرة
ويقتضي المقام هنا كلمة موجز عن نساء مصر: تغيرت المرأة المصرية في السنين الأخيرة تغيراً عظيماً. وبعض هذا التغير خير لا مراء فيه، فقد تعلمت وبصرت بمناهج الحياة، وهذا صلاح وخير؛ ولكن ما يسمى النهضة النسائية في مصر تشوبه شيات من الضلال، وألوان من أفن الرأي وخدعة الهوى، ويلتبس الخير والشر في كثير من جوانبها: في مصر جماعة تتكلم عن نساء مصر كل حين، وتدعى أنها تنطق بآلام المرأة المصرية وآمالها، وهي على ذلك لا تمثل إلا جماعة من النساء هن أقرب إلى أوربا من مصر، وأشبه بالأجنبيات منهن بالمصريات. وأما المرأة المصرية كما نراها وكما نود أن نراها فلا تمثلها هذه الجماعة إلا بزعمها؛ هي جماعة كثيرة القول والعمل في الجوانب اليسيرة(108/19)
البراقة التي لا تكلفها إلا الكلام والاجتماع من حين إلى حين، وأما جوانب الإصلاح العسيرة التي تقتضي كد الفكر واليد وهجر الراحة والرفاهية: جوانب الإصلاح الخلقي والديني التي تحول بين الناس وبين كثير من رغائب المدنية الاوربية، فليس للجماعة غرام بها، ولا صبر عليها. لا ريب أن للجماعة أعمالاً مشكورة في تربية الفقيرات والحدب عليهن، ولكن أبرز أعمالها أن تجمع الشواب من بنات الأسر الراقية للغناء والرقص وإمتاع النظارة بظروب من المناظر وهلم جرا. يضربن بذلك للمرأة المصرية أسوأ الأمثال، ويدعونها إلى شر الخطط، ويحطمن في ساعات ما وطدته الأمة في أجيال
كثيراً ما سألت أصحابي: لماذا لا تدعو هذه الجماعة إلى طريقة خلقية رشيدة، أو سنة دينية حميدة؟ لماذا لا يطلبن - مثلاً - أن يكون للنساء الحق في غشيان المساجد أحياناً ليوعظن ويعلمن ما منح الإسلام المرأة من حق، وما فرض عليها من واجب؟ وقد اطلعت في عدد الرسالة الأخيرة على كلمة للأستاذ أحمد أمين (حول المسجد) أخفف عن نفسي بنقل شذرة منها، قال (بل لم لا يكون المسجد معهداً للمرأة كما يجب أن يكون معهداً للرجل. فيخصص مسجد كل حي وقتاً لنساء الحي تعلم فيه المرأة واجباتها الدينية والاجتماعية، وتفقه فيه في دينها ودنياها، وترشد فيه إلى طرق إسعاد البيت، وتثار همتها إلى العطف والإحسان وتنظيمهما. فالمرأة الآن محرومة من غذائها الروحي والديني لأنها بعيدة من المسجد، حرمت منه من غير حق، وهو سلوتها في الأزمات، وهو منهل عواطفها وغذاء روحها. لقد حرمت المرأة من المسجد فحرم أبناؤها وبناتها من العاطفة الدينية. لأن الأم - غالباً - هي مصدر هذا الإيحاء، وإذا انحرفت مرة فلم تجد المسجد يهديها ويعزيها، جمحت وغوت. فهي الآن بين بيت وملهى ولا مسجد بينهما يذهب ملل البيت ويكسر من حدة الملاهي)
فليت شعري ما رأي سيداتنا في هذا الكلام؟ أليس الاهتمام بالمساجد في حالنا الحاضرة أولى من الأهتمام بالمؤتمرات التي يحرصن عليها ويحاولن فيها أن يسبقن نساء أوربا؟ أذكر أن وفداً من سيداتنا المصريات ذهب إلى مؤتمر نسائي كان في رومية - فيما أذكر - فهل تدري فيما تكلم الوفد؟ تكلم في (حقوق الطفل غير الشرعي)!!
وأنا أترك القارئ لنفسه هنا يبدي ما يشاء ويقول ما يريد في هذا الموضوع. وفي هذا العام(108/20)
ذهب وفد للمشاركة في مؤتمر نسائي اجتمع في اسطنبول، فنادين باسم المرأة المصرية أنهن راضيات مغتبطات بما اختطه الكماليون للمرأة التركية، وبكل ما فعله الكماليون. وتطوعت زعيمتهن فقالت للغازي مصطفى كمال باشا: إنك تسميت (أتاتورك) وأنا اسميك (أتاشرق)
وليس يهمني هنا أنها منحت الغازي لقباً لا معنى له في اللغة التركية، فأن معنى أتاتورك: التركي الاب، فمعنى (أتاشرق) على هذا القياس الشرق الأب وهو كلام لا معنى له. ليس يهمني هذا الغلط اللغوي ولكني أقول إن الوفد النسائي ما كان يبين عن آراء المرأة المصرية، ومعظم المصريين من نساء ورجال لا يرضون مذاهب الكماليين في المرأة ولا غيرها. ومعظم الشرقيين لا يرضون لأنفسهم مذاهب الكماليين، بل معظم الترك لا يرضونها، فان كانت الزعيمة أرادت أن تقول إن الغازي صار بعمله أباً للشرق كله، فهى أبوة لا يعترف بها الشرق، وهي (أبوة غير شرعية) والكلام فيها كالكلام في الطفل غير الشرعي
لست، يعلم الله، أحاول بهذا توهين المساعي النسائية في مصر، ولا تهوين أمرها على الناس، ولا الزراية على أحد من المتصديات لها، وما أريد لهن إلا الكرامة والرشد، والنجح والظفر، ولكن علينا أن ننصح ما استطعنا وأن نبين الرشد والغي جهدنا، وأن ننادي بالرأي صريحاً في غير محاباة ولا مراءاة؛ فليس من الخير للأمة أن يدهن الناس في أمورها، وان يسلموا للضلال زمامها، وللفوضى قيادها؛ وليس من البر بالنساء المصريات أن ندعهن سائرات على غير هدى، فلا نعاونهن بالنصيحة المخلصة، ونسددهن بالرأي الصريح، فنخذلهن ونقعد عن نصرتهن بالفعل وبالقول، والله يهيئ لنا من امرنا رشداً
(له بقية)
عبد الوهاب عزام(108/21)
إلى الدكتور إبراهيم مدكور
التابو
للأستاذ محمد روحي فيصل
قرأت مغتبطاً دراسة الدكتور للخرافة، وقوة أثرها في الجماعة؛ وأشهد لقد أحسن العرض وأتقن البحث، ثم وفق إلى كثير من الأمثلة الواقعية الجميلة التي استقامتها من أوثق المصادر، والتي تلقي ضوءاً على الموضوع؛ ولابد أن يكون القراء قد أعجبوا كما أعجبت بعمق ثقافته وسداد تفكيره
يقول الدكتور: (وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. فالخرافة حلت محل القوانين والشرائع المختلفة في حماية الملكية الفردية والعامة لدى بعض الشعوب المتوحشة، وربما كان لها على نفوس معتنقيها سلطان لا يعدله سلطان قوانيننا المنظمة)
وهذا صحيح! فلقد شهدت فيمن شهد الرواية السينمائية الرائعة (ضحية المعبد) التي تصورت عادات القبائل المتوحشة في جزر البحار الجنوبية، وتبرز العقلية الأولية القاصرة في إطار وضيع مهين، وتتلخص في أن فتاة لا بأس بجمالها نذرت نفسها للرب وكرست حياتها لخدمته، فغدت عذراء مقدسة لا يتزوجها ولا يخاطبها ولا يمسها أحد من الناس. وشاء القدر العابث أن تعشق شاباً طويل القامة مفتول الذراعين، ويعشقها هو الآخر فيتغازلان ويجتمعان، ثم يهربان إلى جزيرة نائية خوفاً من عقاب (التابو)!! ذلك أن من يهاجم العذارى، أو يخرق حدودهن، وينتهك حرماتهن. جزاؤه الموت؛ أفلسن للإله وحده؟ فكيف يشركه في ذلك آدمي نجس؟. . . وراح رجال القبيلة يفتشون عن المجرم ويقتفون معالمه، وبعد لأي وجهد عثروا عليه فأوثقوه بالحبال ثم هووا به إلى قاع اليم فذهب ضحية المعبد. . .!!
والتابو وسم أو علامة يضعها المتوحش على باب داره مثلاً إن أراد حمايتها، وله بعد ذلك أن يهجرها ما شاء من السنين، فلن يجرؤ امرؤ على سرقتها أو دخولها. والتحريم الذي تخلعه هذه العلامة على الأشياء والأشخاص ليس كالتحريم الذي نعهده في شؤوننا الأخلاقية(108/22)
من تحبيب في الخير وتبغيض في الشر، وإنما هو تحريم خاص، ملفف بالرهبة والتقديس، ومفعم بالأسرار والمساتير
فالأمراء البولينزيون الذين يزعمون أن نسبهم الكريم يتصل بالأرباب يطلق عليهم (آريي تابو) أي الأمراء المقدسون؛ أما كلمة (نوا) فأنها تفيد العموم والاشتراك. فالمرأة في بولينيزيا توصف قبل أن تتزوج بنوا، أي أنها حرة طليقة تتزوج من تشاء، وإذا تزوجت أسدل عليها ستار صفيق من التابو فتحرم على الناس جميعاً خلا زوجها
وحدث أن رجلاً من (التونجا) مس جثة أمير ميت فحكم عليه بالحرمان التابوي عشرة أشهر قمرية لأن الأمراء مقدسون أحيا أو امواتاً، ومن يمس شعر أمير أو جسده أو عظمه أو يشترك في جنازته يطوق بالتابو. والمعروف في (نيوزيلاندة) أن القارب الذي ينقل جثة لا يجوز استعماله مرة أخرى، وإنما يطرح أبداً على الساحل بعد طلائه بالبياض
ويذكر الأستاذ ليفي برول في كتابه (العقلية الاولية) أن الرجل من قبائل (المركيزا) إذا ذبح عدوا له حكم عليه باللامساس عشرة أيام يحرم عليه في خلالها مس امرأته وإشعال ناره، فلا بد له إذن من طاه يطبخ له طعامه. والزاد الذي يحمله الشريف على ظهره يحرم على جميع الناس إلا على صاحبه! كأن التحريم أو (التتويب) قد انتقل من شخص الشريف إلى أشيائه! وشعور الأمراء محرم لمسها، ولو أن أميرا مس شعوره بإصبعه فعليه أن يدنيها من أنفه في سرعة ليستنشق رائحة القداسة التي علقت بها!
وفي الإصحاح السادس من سفر العدد من التوراة كلام مسهب عن شيء يدعى النذير، فقد أمر موسى أن يقول لبني إسرائيل: أنه إذا أنفرز رجل أو امرأة منهم لعمل نذر للرب. فالنذير يجتنب الخمر والخل ولا يشرب بمن نقيع العنب، ولا يمر موسى الحلاقة على رأسه؛ وينتهي النذر الإسرائيلي على نحو ما ينتهي التابو البولينزي، وذلك بأن يحلق النذير رأسه عند مدخل خيمة الاجتماع المقدسة فيأتي الكاهن إليه ويضع على يديه طعاماً
ومن عادات اليهود ألا يقسموا بالله الكريم، فهم يتورعون أشد الورع عن القسم باسم (يهوا) ومن يمس جثة ميت عد نجساً لمدة سبعة أيام، وتنتقل نجاسته إلى كل شيء يلمسه، وفي ختام الأيام السبعة يغسل لباسه ويستحم بالماء الطهور؛ وكذلك النفساء فهي نجسة لا تجوز مقاربتها في حال من الأحوال(108/23)
أما السبت فله عندهم قواعد خاصة تتعلق بالمحافظة عليه والاستراحة فيه. حرم عليهم فيه العمل، وإشعال النار في المنزل، وطبخ الطعام، والخروج من المنزل إلى مسافات معينة. والتاريخ يروي أن بومبي الكبير قد تغلب على اليهود في القدس لأنهم لم يسعوا إلى مقاومته يوم السبت، وأن انيتو كرس الرابع السلوقي افتتح القدس عنوة لأنهم راعوا حرمة السبت
ليست تخلو فكرة التابو من خير ونفع، وذلك أنها كما يقول فريزر في كتابه (عمل بسيشه) أساس الشعور بحق التملك واحترام الأوضاع الاجتماعية والرابطة الزوجية وما إلى ذلك كله مما يتصل به الناس في حياتهم الخاصة والعامة. ولكنها على ذلك إنما تدل على انحطاط العقل، وأخذه بالعنف في فعل الخير والشر، وحاجته إلى الحدود والحواجز، وتعليله الأمور والأحداث على الطريقة الدينية الميتافيزيكية
محمد روحي فيصل(108/24)
حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني
للأستاذ محمد محسن البرازي
الأستاذ بمعهد الحقوق في الجامعة السورية
صدفتني أشغال شاغلة عن قراءة (الرسالة) ومطالعة كتب الأدب عامة منذ شهر أو اكثر؛ ولما عدت، وبعد تحرري من قيود الموانع، إلى النظر فيما فاتني من أعداد مجلتنا المحبوبة، ألفيت فيها مقالين في موضوع الفقه الإسلامي والفقه الروماني، أحدهما لمواطننا السيد علي الطنطاوي بعنوان: (حول الأوزاعي أيضاً) (العدد الحادي والتسعون)، والآخر للسيد صالح بن علي الحامد العلوي السنغافوري بعنوان: (هل تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني أم الحقيقة هي العكس) (العدد السابع والتسعون)؛ فرأيت أن الواجب العلمي يدعوني إلى أن أقول كلمة في الموضوع الذي عالجاه. فجئت إلى صاحب (الرسالة) أرجو منه أن يكرم وفادة كلمتي هذه، وله الشكر خالصاً
يتلخص ما جاء في المقالين في مادتين اثنتين: (1) كون الفقه الإسلامي لم يؤخذ عن الفقه الروماني ولم يتأثر به (2) كون الفقه الروماني مأخوذاً عن الفقه الإسلامي
إنني لا أريد أن أبحث الآن في الشطر الأول من هذا الرأي، لأسباب منها أنه لا يجوز عندي الخوض في موضوع خطير كهذا بكلمة عجلى؛ وأما الشطر الثاني فلا أرى منتدحاً عن البحث فيه، وأعتقد أنه يحتمل الإيجاز
علم أصحاب المقلين أن الشريعة الرومانية هي أقدم عهداً من الشريعة الإسلامية، وأنه لا يمكن لعاقل أن يزعم ما زعماه بصورة بسيطة مجردة، ولذلك لجأ إلى تأييد دعواهما بدليل ليس بأقل منها غرابة، وهو أن الفقه الروماني المعروف اليوم هو - في نظرهما - فقه جديد (لفقه طائفة من العلماء بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم) في كلمات لا تزيد على العشرين، وفي أقل من مدة قلم، يقضي الأستاذ الطنطاوي ببطلان ما أجمع علماء الحقوق والتاريخ بلا استثناء على صحته، وأنكر ما لم يختلف فيه اثنان منذ أن اشتغل الناس يدرس تاريخ الرومان وحقوقهم
ثم أيد الأستاذ العلوي دعوى زميله الطنطاوي، معتمداً على ما كانت نشرته مجلة حضرمية منذ ربع قرن لأحد السادة العلويين الحضارمة، فلم يخرج ما جاء به عن المناقضات(108/25)
إن دعوى كهذه لا يعبأ بها في البيئات العلمية، لأنها تخالف حقيقة علمية تعد بمثابة البداهة؛ ولو أنها نشرت في صحيفة غير موثوق بها، أو مجلة من عامة المجلات، لما كنت حركت في موضوعها قلماً؛ ولكنها نشرت في مجلة لم يكتب لغيرها من المجلات العربية ما كتب لها من الحظوة عند ذوي العلم والأدب، وسعة الانتشار في مختلف الأمصار؛ تصدر عن عاصمة الأدب العربي والفكر الإسلامي في هذا العصر، وينظر الناس إلى ما يكتب فيها ممثلاً بصورة إجمالية لآراء عمدتها الذين هم من أركان النهضة الأدبية العربية الجديدة، ونزعة الإسلام الحديثة. لذلك خشيت أن يحسب علماء الغرب هذا الرأي العجيب معبراً عن اتجاه جدي للرأي العام الإسلامي المثقف، فيحكموا علينا بما لا نستحقه
أحس صاحب المقال الأول بوهن دليله، فنهج منهجاً غريباً بعد ذلك، إذ طلب التدليل على عكس ما أدعى، أي على أن الفقه الروماني الحديث هو الفقه الروماني القديم قائلاً: (ليأتونا بالأسانيد الصحيحة والروايات المضبوطة)
الله! الله! أيطلب من أحبار العلم التدليل على ما أقرته أجيال من الأعلام المحققين لمجرد دعوى انفرد بها أدبينا الطنطاوي، وهو على الرغم من تفوقه على أكثر أقرانه بذكاء كان موضع إعجابنا، لم يتح له أن يدرس الحقوق الرومانية أكثر من غيره من الطلاب في معهد الحقوق بدمشق، ولم يتأت له النظر في تأريخ الحقوق، ولم يقيض له بعد أن يطلع على ما ظهر في العالم من مؤلفات في الحقوق الرومانية وما أكتشف من آثار تاريخية
أن من يقدم على الجزم بأمر كهذا يحدث - أن صح - انقلاباً في العالم العلمي لا يعادله أي انقلاب عرفه التاريخ في الدين والسياسة أو الاجتماع، لا يحق له أن يكتفي بأن يقول لهذا العالم العلمي: (دلل أيها العالم على صحة ما عكفت على دراسته باعتباره صحيحاً منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً)
البينة على من ادعى؛ فعلى من يقول أن الفقه الروماني الذي نعرفه الآن مختلق أن يثبت اختلاقه ويبين مختلقه، ويظهر مكنون الفقه الروماني القديم، أسوة بما يفعله العلماء إذ يكشفون القناع عن الوثائق التاريخية المزورة والكتب المنتحلة
لئن جاز في نظرنا لأحد من النصارى أو اليهود المتعصبين أن يجزم بأن القرآن الذي بأيدينا هو غير القرآن الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأنه مختلق من(108/26)
جماعة من علماء المسلمين الحديثين، مكتفياً للتدليل على ذلك بأن يقول لنا: (هاتوا دليلكم) فقد حق كذلك لصاحبي المقالين المتحمسين للإسلام هذا التحمس أن يزعما ما زعماه
لقد جمع نصوص الشريعة الرومانية وآراء فقهائها حتى بدء القرن السادس المسيحي، تلك النصوص القانونية والآراء الحقوقية التي هي أساس لدرس الحقوق وبحثها في جامعات العالم، ذلك الإمبراطور المتشرع الروماني جوستنيان (المتوفى سنة 565 ب. م) في خلال ست سنين (528 - 534 ب. م) وأضاف إلى ذلك القوانين التي أصدرها؛ وقد عرفت هذه المجموعة الحقوقية منذ بدء القرون الوسطى بـ وكان بين العلماء الذين يشتغلون تحت رعاية الإمبراطور الفقيه أساتذة في معهد حقوق بيزانس: (القسطنطينية)، ومعهد حقوق بيروت
إن هذه المجموعة الحقوقية قد انتقلت إلينا بنصها وفصها، وهي مؤلفة من أربعة كتب أو مجموعات صغيرة: الـ والـ (ديجست والـ (انستيتود الـ (نوفل ولا تزال نسخ قديمة من هذه الكتب أو المجموعات القيمة محفوظة في المكاتب الكبرى في أوربا يرجع عهد بعضها إلى القرن السادس (ب. م)، أي إلى القرن الذي عاش فيه جامعها وواضعها الإمبراطور جوستنيان نفسه
ومن أجل هذه النسخ المخطوطة نسخة من الـ كتبها خطاطون إغريقيون في القرن السادس والقرن السابع (ب. م)، معرفة بالـ (فلورنسية لوجودها في مدينة (فلورنسة) منذ سنة 1406. وقد نشرت هذه المخطوطات مصورة تصويراً فوتوغرافياً، وحققها العلماء الاختصاصيون في المخطوطات، ولم يطعن عليها طاعن؛ وعثر على مخطوطات كثيرة من عصر (جوستنيان) مكتوبة في اللغة اليونانية على الورق البردي، نشر قسماً منها العالمان الألمانيان (ميتس و (ويلكن سنة 1912 ونشر الأستاذ (جان ماسبيرو عدداً كبيراً من هذه المخطوطات المدونة على ورق البردي في مجموعة متحف القاهرة ' (سنة 1910 - 1914) بل إن المتاحف والمكاتب تحفظ أيضاً نسخاً مخطوطة أصلية لمجموعات قانونية سابقة لعهد (جوستنيان) كالمجموعة القانونية للإمبراطور (ثيودوسيوس وكتاب المتشرع (غايوس المعروف بالـ ومؤلفات أخرى، منها مؤلف معروف في القرن الرابع (ب. م) وعثر عليه في مكتبة الفاتيكان سنة 1820(108/27)
ثم أن الفقه الروماني هذا قد عمل به بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في روما، وبعد وفاة الإمبراطور جوستنيان، وبعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية، وهذا أمر لم يختلف فيه العلماء المؤرحون. فبلاد فرنسا الجنوبية ظلت خاضعة لأحكام الفقه الروماني بصفة حقوق عرفية حتى قبيل الثورة الفرنسية. هذا عدا البلاد التي تأثرت كثيراً أو قليلاً بالحقوق الرومانية، كأيطاليا وألمانيا، حتى إنكلترا بلاد العرف والتقاليد. وقد بقي الفقه الروماني معمولاً به في عصرنا هذا في بلاد جنوبي إفريقية الخاضعة لأنكلترة
أما المناقضات التي وقع فيها السيد صالح العلوي نقلاً عن السيد العلوي الحضرمي، فأشير منها إلى ما جاء في السطر الثاني من الجانب الأول من الصفحة الـ (781) من الرسالة. فبعد أن قال أن الفقه الروماني (اختفى ثم اكتشف، ولم يظهر ويعمل به إلا في القرن الثاني عشر، وانه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم قبل القرن الحادي عشر)؛ وقال في السطر (22) من الصفحة نفسها: (أن دعوى اختفائه أكذوبة)، ثم ما لبث أن استند إلى قول العلامة (سافنيه): (إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع)
أما وقد صح لدى السيد العلوي قول (سافنيه) هذا، فهو مضطر إلى الاعتراف إذن بان الفقه الروماني المعروف لدينا الآن، هو تلك (القوانين الرومانية التي لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم)، ومرغم على التسليم بان تلك القوانين الرومانية القديمة التي هي أقدم عهداً من الفقه الاسلامي، لم تختلق اختلاقاً ولم تلفق تلفيقاً من قبل العلماء الحديثين، ولم تؤخذ عن الفقه الإسلامي، خلافاً لما ادعى. ولا أدري كيف يورد قول سافنيه هذا ويؤيده، ثم يحاول، بعد القول المستشهد به بسطر واحد أن يأتي بأدلة على اقتباس القوانين الرومانية من الحقوق الإسلامية
قلنا انه لا يجوز مبدئياً طلب التدليل على أن الفقه الروماني الحديث هو نفس الفقه الروماني القديم لمجرد دعوى وحيدة في بابها. ثم إذا قبلنا لزوم التدليل، فما هي وسائل البينة؟
إن السيد الطنطاوي يتطلب (الأسانيد الصحيحة، الروايات المضبوطة)
إن البينات تختلف بحسب الأمور المراد إثباتها؛ فإذا كانت هذه الأمور غير مدونة بنفسها،(108/28)
كالحديث الشريف فلابد حينئذ من ذكر الأسانيد وسرد الروايات، وإقامة الدليل على صدق الرواة، إلى آخر ذلك مما هو معروف في أصول علم الحديث. أما إذا كان المراد إثباته مدوناً بنفسه، لم يعد مجال حينئذ إلى الأخذ بطريقة الرواية والإسناد، وصار لابد من التدليل عليه بنسخته الأصلية التي وضع بها، أو بالنسخة التي أخذت عن هذه. فالقرآن الكريم مثلاً، لما كان قد دون في العهد الذي نزل فيه، وجمعت صحفه المدونة في عهد الخليفة الأول، وانتقلت إلينا نسخ مخطوطة منه كتبت في عهد قريب من عهد نزوله، لم يلجأ إلى الرواية لإثبات صحته
وكذلك أيضاً شأن الشرع الروماني الذي دون وجمع في عهد جوستنيان، فهو لا يثبت بالروايات والأسانيد، ولكنه يثبت بنسخة المخطوطة القديمة التي هي من عصر جامعه ومصلحه جوستنيان. وهذه النسخ قد عثر عليها ولا تزال محفوظة؛ ولو لم يكن على الفرض، بأيدينا منها، إلا ما هو منذ القرون الوسطى، لوجب أيضاً إلا نشك في صحتها، لأن علماء تلك القرون المظلمة لم يكن لديهم من الكفاية والمقدرة العلمية ما يمكنهم من وضع حقوق راقية كالشرع الروماني، فالأولى ألا يشار الروايات والأسانيد في موضوع الحقوق الرومانية وغيرها من الحقوق التي دونت عند وضعها
هل بعد الوثائق الأثرية والنسخ المخطوطة القديمة حاجة لدليل على صحة؟ إن القوانين والأحكام الحقوقي الرومانية المعروفة في عهدنا هذا هي نفس القوانين والأحكام التي عرفها الرومان في القرن السادس الميلادي وقبله
قد يغضب صاحبا المقالين فيقولان إن النسخ المخطوطة القديمة نفسها مصطنعة لفقها الأوربيون؛ فإذا بلغت بهما الحماسة الدينية القومية هذا الحد من إنكار الحقائق العلمية التاريخية الراهنة لم يعد آنئذ مجال للبحث
ولكن هل يجوز لنا أن نتهم جميع علماء الغرب بلا استثناء بالتزوير؟ وما الذي يسوغ لنا ذلك؟ أولا نجد بينهم إناسا وضعوا الحقيقة في أعلى المنازل وجعلوها فوق كل شيء؟ ألا نرى بينهم عدداً غير قليل دافع عما يعتقد أنه الحقيقة مخاصماً بذلك رجال الدين، ومعادياً في هذا السبيل السلطان الجائر؟
ألم ينافح كثير من علماء المشرقيات عن ديننا الحنيف، ونبينا العربي، وحضارتنا(108/29)
الاسلامية، ومدنيتنا الشرقية، تجاه حملات المتعصبين من أبناء جلدتهم ودينهم؟
حسبنا أن نذكر على سبيل المثال أسماء الفرنسيين: (جوستاف لوبون) صاحب كتاب حضارة العرب و (وهوداس) و (منارسيه)، مترجمي صحيح البخاري للفرنسية، و (درمنغيهم) صاحب كتاب حياة (محمد)، و (ماسينيون) مدرس العلوم الاجتماعية الإسلامية في كلية فرنسا، وصاحب المؤلفات الكثيرة عن الإسلام، ومدير مجلة المباحث الإسلامية؛ ويكفينا أن ننوه بتلك الوقفة الشريفة التي وقفها هذا الأستاذ الأخير سنة 1928 دفاعاً عن المدنية الإسلامية، ورده البليغ على المسيو (لويس برتران) الذي حمل على الإسلام والعرب في مقال نشرته في ذلك العام جريدة (الفيجارو) الباريسية
أيعقل ألا يوجد رجل واحد شريف منزه عن التزوير بين علماء أوربا من فرنسيين، وألمان، وإنكليز، ومجر، وإيطاليين وأسبان، وروس الخ.؟ فلو لم يوجد إلا عالم واحد صادق يقول الحق، لكان بلا ريب قد رفع صوته عالياً أمام هذه الفرية الفظيعة التي يتهم بها السيدان، الطنطاوي، والعلوي العالم في الغرب؛ ولكنا شهدنا قبل مقالي حضرتيهما حرباً قلمية دونها حرب البسوس، وخصاماً علمياً دونه خصام الملل والنحل، ودعاوى ذم وتزوير لا تجاريها دعاوى (آثار كلوزيل الحفرية. ونحن نعلم أن العلماء في أوروبا يتجادلون ويتناظرون في أمور نعدها فرعية وزهيدة
أضف إلى ذلك أن العلماء الاختصاصيين في الحقوق الرومانية ليسوا جميعاً من عرق لاتيني أو ثقافة لاتينية، بل هم من مختلف الأعراق والأمم؛ وثم علماء من الألمان هم جهابذة في الفقه الروماني، أمثال (سافيني و (ايهرينغ لا يمكن أن نتهمهم بتعصب للرومان، وقد ساروا جميعاً في ضوء الحقيقة التاريخية المقررة مطابقة الفقه الروماني المعروف في عصرنا للفقه الروماني القديم
لم يمنع العلماء الأوربيين عامة تفاخرهم بشرع الرومان الذي ورثوه من الإقرار باقتباس الرومان شيئاً غير يسير من شرائع الأمم الشرقية التي سلفتهم أو عاصرتهم مباشرة، أو عن طريق الإغريق، حتى أن عالماً عظيم القدر هو من أكابر الأثريين الأستاذ الفرنسي وضع كتاباً دلل فيه على اقتباس قسم عظيم من أحكام قانون (الأثني عشر لوحاً) الروماني، وهو اقدم قانون لدى الرومان من شريعة المصريين القدماء مورداً للنص الروماني والنص(108/30)
المصري، ومبيناً ما بينهما من شبه لا مراء فيه؛ وبهذه الطريقة العلمية، وبعد تنقيب وبحث مدة أعوام، عمد إلى إثبات دعوى الاقتباس والأخذ، لا بمجرد القول يثيره غرب الشباب
إن علماء يوجد بينهم أمثال (ريفيو)، وأمثال المستشرق الفرنسي (هوداس) الذي يقول: (إن القرآن ليحوي بصورة كامنة جميع ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من معارف) و (كولد زيهر) الذي يقول: (يجب على المرء إذا شاء أن يكون عادلاً إن يسلم بأن في نظريات الإسلام قوة فعالة متجهة نحو الخير، وبأن توافق هذه النظريات تستطيع أن تكون حياة لا تشوبها شائبة من الناحية الخلقية؛ فهي توجب الرحمة لمخلوقات الله جميعاً، وحسن النية في المعاملات، والمحبة والوفاء، وكبح غرائز الأثرة)، والبارون (كارادي فو) الذي يكتب صراحة عن ابن خلدون (انه لم يسبق قط لعقل من العقول أن يكون لديه فكرة في فلسفة التاريخ أكثر وضوحاً من فكرة ابن خلدون؛ وأن ابن خلدون هو سلف علمائنا الاجتماعيين الحديثين الخ). وعلماء آخرون هم في هذه المنزلة أو أسمى؛ إن علماء كهؤلاء لا يمكن أن يزوروا بداعي التعصب الديني شريعة يسمونها بالفقه الروماني ويقتبسونها عن الشرع الإسلامي؛ ولا يعقل أن يسكتوا أمام تزوير كهذا
ثم إن بين أحكام الحقوق الرومانية، وأحكام الشريعة الاسلامية، ولا سيما فيما له صلة بالأحوال الشخصية، وحقوق الأشياء (حق الملك وما يتفرع عنه) اختلافاً وتبايناً لا يدعان عدا الأدلة التي ذكرناها مجالاً للشك بأن دعوى اختلاق الفقه الروماني من قبل علماء حديثين اقتبسوه عن الفقه الإسلامي ضرب من الخيال
فأولى بشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين والقومية، وكره لأوربا والثقافة الغربية، فيسرفوا في القول حتى يجانبوا المنطق
إن لحقيقة فوق العاطفة والهوى، والعلم لا وطن له. ثم إن في دعاواهم الغربية وتهمهم الفظيعة، بنية خدمة الإسلام ما قد يضر بالإسلام ويسيء بثقافة المسلمين الظنون
محمد محسن البرازي
أستاذ في معهد الحقوق بالجامعة السورية(108/31)
في الإصلاح العلمي:
الأزهر بين الجامعية والمدرسية
بقلم محمد طه الحاجري
تسيطر على الدراسة العالية في مصر روحان، مازالتا تصطرعان وتنتضلان، كما يصطرع الحق والباطل، في عنف وقسوة حيناً، وفي هدوء وهينة حيناً آخر. إحداهما روح جامعية تقوم على تمثيل العلم في أصح صوره أدق معانيه، وتهذيب العقل في أوسع باحاته وأكمل مجاليه، وتربية الملكات العالية التي يقوم بها ذلك العالم الصغير، وتطلب الحقيقة في مختلف أشكالها، وبشتى وسائلها؛ والأخرى روح مدرسية تعتمد على قشور من العلم لا تغني عن العلم شيئاً، وتلقين لبعض الحقائق المقررة كأنها حقائق مطلقة، وإغفال لحرمة العقل والملكات والإنسانية لأن الأمر أهون من ذلك فيما يزعمون
والأولى روح مطلقة تأبى التقيد، بعيدة الأفق لا يكاد يحدها حد، إلا ما اقتضته طبيعة العلم واستلزمته أساليب التفكير الصحيح.
والأخرى لا حياة لها إلا في أثقال من القيود المرهقة، واسداد من الحدود الضيقة، توقف الفكر، وتبلد العقل، وتعطل المواهب، وتجعل من الرجل آلة طيعة، وكأننا منفعلاً لا فاعلاً.
ففرق ما بين الروح الجامعية والروح المدرسية، هو فرق ما بين الروح الفاعلة المختارة، والآلة المنفعلة المنقادة. تلك توجه العلم للعلم، وتطلب الحقيقة من أجل الحقيقة، وتقدر المسائل العلمية تقديراً ذاتياً، لا يخضع للهوى، ولا يتكيف بغاية معينة مرسومة، ليست من العلم ولا من الحق ولا من الحياة الفاضلة. وهذه جعلت العلم مركباً إلى العيش، ووسيلة إلى نوع من الحياة الدنيا، وآلة صماء لتهيئة غرض محدود وإصابة هدف معين، فوضعت له المناهج والرسوم، وثقل بالأصفاد والقيود، وأقيمت من حوله الاسداد والحدود، وحصن من أن تصل إليه شعاعة من أشعة الروح الجامعية النفاذة، فتثير فيه طبيعة الثورة على تلك اليد الثقيلة الباطشة
وتتنازع الروحان الهيمنة على العلم، ولكن الغلبة للروح الجامعية مهما أقيمت في وجهها الصعاب، واكتأدت سبيلها العقاب؛ ذلك أن قوتها من قوة العلم، والعلم قوي غلاب، لا يصده صاد ولا يغلبه غالب. والروح المدرسية روح مصطنعة، أوجدها الضعف، ودعمها(108/32)
الاستعمار، وقام من حولها دعاة الذلة والمسكنة يسندون ماوهي، ويرأبون ما تصدع، ويلونونها بألوان فاقعة تأخذ بأبصار الغفل السذج
هذا إلى أن الروح الجامعية روح عريقة في مصر تضرب إلى حدود بعيدة من تأريخنا العلمي، وتتمثل في ذلك التوثب الفكري المجيد الذي يبدو - في أروع مظهره - في ذلك التراث العلمي الذي خلفه أجدادنا من رجال الأزهر: جامعة العلم ومثابة العلماء مدة من القرون مديدة، جديرة أن تلبسنا ثوب الفخر، وتقوي في نفوسنا الاعتزاز بالروح الجامعية، وتبث فينا القوة على تعزيزها ودفع المعتدين عليها، دون أن تفرقنا في ذلك الأهواء المقيتة، وتوزعنا العصبيات الفارغة. بل كلنا أمام العلم والتاريخ جامعيون: نستمد من روحنا العلمية وتأريخنا الجامعي قوة على قوة وعزة فوق عزة، ونستمسك بجامعيتنا ونستعصم بها من عوامل الضعف أو التسفل، ومن منازعة أهواء الحياة، والتفريط في جانب العلم
فلست أذهب مذهب القائلين بأن الروح الجامعية في مصر وليدة الجامعة الأولى والثانية، أو أنها جاءت إلينا من أوربا مع العائدين إليها من المصريين، أو مع الأساتذة الأجانب القادمين أو المستقدمين؛ فلنا جامعيتنا الأصيلة المنبعثة عن أقدم الجامعات، ولنا تقاليدنا العلمية الصحيحة التي تشبع في أنفسنا الرغبة العلمية وترضي فيها العزة القومية، وتبعث فيها المضاء والحمية، وتعصمنا من مهاوي الروح المدرسية التي يتكاتف ربائب الاستعمار وأبواقه وأنصاره والمخدعون فيه والعمون عنه على تثبيت أقدامها، ونشر سمومها، وتزيينها في أعين الغفل الواقفين عند الظواهر، المفتونين عن الحقائق، في أسماء سمومها ما أنزل الله بها من سلطان: من النظام والجمال ومراعاة الزمن ومسايرة الحياة ومطالب العيش، وما إلى ذلك من العبارات الخادعة
وتلك هي الخدعة التي نخشى أبلغ الخشية وأعظمها أعتلاجاً في القلب أن يقع الأزهر في حبلتها، وأن يتردى في مهواتها. ونرجو أن لا يكون اندفاعه في سبيل الإصلاح والتجدد مغشياً على بصره أن يتنبه إليها، وألا تكون مسايرته لروح العصر صارفة له عن روح العلم وصبغته التي صبغ عليها، وإلا ينسيه جديده الذي يشتد عدواً في طلبه وتحقيقه عن تقاليده العلمية الأولى التي تفخر بها مصر والشرق العربي بله الأزهر نفسه
وأنه لحقيق بالأزهر في وقاره ورزانته، وزمامه بيد الأستاذ المراغي في بصره وحكمته،(108/33)
ألا يمنعه طلب الجديد من التمسك بتقاليده، وألا تخدعه مطالب الحياة عن روحه الجامعية التي قام عليها بناؤه، وارتفع بها مجده؛ ولعله لا يني في تعفية ما خلفه العهد المشئوم من آثار لتلك الروح المدرسية المشئومة، كانت هي القاضية عليه، لو طال بها الزمن فيه، في غفلة من هؤلاء وإغماض من أولئك، لولا لطف الله بنا ورحمته عليه
إنما ينبغي أن يكون أساس الإصلاح الأزهر هو الأخذ بأساليب البحث الحديثة، ومجاراة الرقي العلمي في مجالاته العليا، ومسايرة الحركة العلمية فيما يتصل بنواحي دراسته، والاتصال بالحياة العصرية اتصالاً نبيلاً يعينه على تأدية رسالته، إذ يهيئ له وسائل الإصلاح الاجتماعي، ويعبد له سبل الدعوة إلى الحق والفضيلة والدين، مع الاحتفاظ بتلك الروح الجامعية التي تأبى أن تتعبد لما دون العلم من المطالب الدنيا، وتلك الصوفية العلمية التي تفرض على صاحبها الفناء في العلم، والاندماج في الدرس، والترفع عن الدنيات. وللأزهر من ديمه في ذلك شواهد باهرة وآيات ظاهرة: فليس في ذلك القول ما يسوغ لقائل أن يرميه بأنه خيال شاعر أو حلم نائم
لا! بل تأريخ العلم كله، وسير العلماء الغابرين والمعاصرين، شاهد بأن الروح العلمية الخالصة التي ترفع العلم فوق كل اعتبار، وتذهب به إلى منزلة من التقديس عالية، هي وحدها التي ينبغي أن تسود جامعات الدرس ومعاهد البحث، وهي وحدها التي تخلع على صاحبها ثوب المجد، وترفعه إلى منزلة الخلود
فليس (تعصير) الأزهر أن ينزل به إلى تلك الدركة الدنيا من الحياة حيث يضطرب الناس ويتعايشون، وأن يعد أهله لمرافق الحياة وقضاء ضرورات العيش ليس غير، ليصير أحدهم معلم صبيان، أو مأذون قرية، أو إمام مسجد، أو واعضاً في مدينة. وتصبح تلك الجامعة الكبرى ولا هم لها أن تخرج لها إلا تخريج أولئك وتزويدهم بما لابد منه لأمثالهم! ويا ضيعة التأريخ المجيد إذن، ويا هوان الاسم الكبير الضخم، ويل السخرية من تلك الصفة الجامعية التي وسموا بها تلك المدرسة!
كم يمتلئ صدري أسى وحسرة حتى ليكاد قلبي أن يتفطر حين أشعر بذلك المصير الذي أخشى أن يهوى إليه الأزهر في سبيله إلى الإصلاح، ومسراه نحو التجديد، لولا أمل يغمر قلبي في حكمة الأستاذ الأكبر وبصيرته، وروحه الجامعية التي تتجلى في أحاديثه وخطبه،(108/34)
وفي أنه يترسم الأستاذ الإمام (قدس الله سره) في خطواته الإصلاحية، ومراميه العلمية
إن الضعف النفسي هو الثغرة التي تنفذ منها الروح المدرسية إلى الأزهر. فما اكثر ما تضيق النفوس بالكمال، وتنوء بتكاليف المثل الأعلى. ولكن الأمر في الإصلاح العلمي يجب ألا ينزل على حكم الضعف، فأن العلم يتطلب بطبيعته القوة المتحكمة، والعزيمة المصممة، كما يجب أن يسمو المصلح فوق الأهواء فلا يداهن فيها، وفوق شهوات النفوس فلا يتألف عليها أو يتملقها
أنا لا أقول إن (العلم زبال) كما كان يقال في الأزهر، فقد تطورت الحياة الاجتماعية تطوراً لا يسيغ ذلك القول؛ ولا أقول إن العالم يجب أن يعيش في صومعة يتابع فيها دراسته، ويوالي فيها تأملاته؛ أو يقنع بالدون من العيش في مقابل طموحه العلمي، فهذا ما لا سبيل إليه مطلقاً؛ ولكني أقول يجب ألا يكون العيش غاية العلم، فأنه متى صار أداة لمرافق الحياة وجب أن يتكيف بما تقتضيه، لا بما يقتضيه البحث العلمي والحقيقة المنشودة. وأي مسخ للعلم وتحويل له عن سبيله أشنع من هذا؟ وأني أعيذ بالأزهر - وله من ماضيه المجيد معاذ ومستعصم - أن يحقر تأريخه، وينكر ماضيه، ويكون صاحب هذه الجناية. ثم لعله مع هذا لا يوفق في تهيئة الترف والرفاهية والحياة الكريمة لرجاله، ويالها من عثرة!
وما أحقه إذن بقول الله جل شأنه: خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
على أن الحياة لا تضن على الرجل الكريم الذي يبذل نفسه في سبيل العلم بما يضمن له راحة البال، وهدوء الضمير، وكرامة النفس، ومتاع العيش. ومن فوق ذلك كله ما يستشعره من سعادة لا تعد لها سعادة في كل لحظة من لحظات حياته العلمية الموفقة
ولقد أحس بأن الناس بدأوا يمجون ذلك الصنف من المعاهد التي تهيمن على الروح المدرسية. وبدأت الحياة تلفظ هؤلاء الذين أنطبعوا بطابع تلك الروح، فصاروا بالآلات التي تملأ لتفرغ أشبه منهم بالأحياء الذين حيويتهم دائبة على الخلق والإبداع. ولئن لم يتجل هذا المظهر اليوم تجلياً قاطعاً يمتلخ الشبهة، فأن الحياة صائرة إليه، ما من ذلك بد؛ وبين أيدينا مقدماته جلية
فليعرف الأزهر ذلك وليتدبره تدبر الحكيم البصير، ولا يصرفنه المتاع العاجل عن العاقبة القريبة، وعن حسن تفهم الأمور على وجهها الصحيح، وعن النظر في منطق الحياة الذي(108/35)
لا يختلف؛ ولا تغرنه الحياة الدنيا عن الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
محمد طه الحاجري
بكلية الآداب(108/36)
الجو في القصة
بقلم محمود عزت مرسي
قبل أن استعرض بعض مسائل هذا البحث، نتقدم بسؤال صغير: هل يخلق جو القصة قبل تكوين القصة ذاتها، أي قبل الإلمام التام بكل أوضاعها وشخصياتها وحوادثها؟ أن الإجابة على هذا السؤال قد تبدو مربكة، كثيرة الشعاب، والواقع غير هذا، فان أول ما يجب أن نفهمه أن الجو هو الذي (يؤدي) أو هو الذي يساعد على تأدية عملية الخلق في الرواية أو القصة، ومعنى هذا أن القصة لا يمكن أن تخلق أو تتكون أجزاؤها بعضها إلى بعض، كما لا يمكن أن تمر على أدوار التكوين حتى تصب في قالبها الأخير قبل أن يسبق هذا وجود الجو الذي تقع فيه هذه العمليات، إذ أن القصة كأي شيء حي يحتاج إلى الجو الذي يؤهل له عملية الظهور في الحياة والنمو والاكتمال
ذكرت (آنا جريجو فنا) في مذكراتها عن زوجها فيدرو دوستويفسكي القصصي الروسي الخالد أنه لما كان في سويسرا، كان كثير الاضطراب والملل والسأم، وأنه لم يألف سويسرا ولا أهلها كثيراً، بل كان كثير التحنان إلى روسيا دائم الشوق إليها. وقد بدا هذا ظاهراً في رسائله التي كان يبعث بها إلى بعض خلصائه في روسيا، وقد كان دوستويفسكي في تلك الآونة التي قضاها في سويسرا يعاني ضيقاً ماليا خانقاً، وكانت الديون التي الزم نفسه أدائها بعدى وفاة أخيه ميشيل تجعله يرى في سويسرا مأمناً لو كان رجلاً يلوذ بالفرار من المسئوليات والدائنين الذين ينتظرون عودته إلى البلاد لمطالبته بسداد ديونهم أو زجه في سجن المدنيين حتى يوفي دينه. . لكن هذا الرجل العظيم لم يغفل قط يوماً أثناء إقامته في سويسرا إلى الحنين إلى روسيا حتى أتيح له ذلك بعد سنوات. فلم يكد يصل إلى وطنه حتى أحس بأن الحياة قد عادت تدب في عروقه قوية مشبوبة. . مع أن وفود الدائنين لم تكن لتنقطع عن زيارة بيته على أثر وصله!
كتب دستويفسكي في بعض رسائله (أنني احتاج إلى الجو الروسي حتى أستطيع أن اكتب كما أريد) وهذه العبارة الدقيقة تكاد تحل بنفسها موضوع هذا البحث. فان هذا القصصي على الرغم من انه عاش في روسيا طوال حياته إلا سنوات قليلة قضاها في الخارج، ومع انه استطاع أن يختزن في ذاكرته وقلبه وعقله الباطن كل الاحساسات والحوادث، وأن(108/37)
يخلق الجو الروسي في كافة رواياته التي آلفها في سويسرا كنتيجة للاعتبارات السابقة، إلا انه مع هذا كله خشي أن هو ابتعد طويلاً عن وطنه أن يخف ويتضاءل مقدار الجو الذي اختزنه في حياته الماضية، وشعر بحاجته - على حد التعبير الأدبي - إلى أوكسجين روسي يملأ رئتيه. لأنه أستشعر بأنه مهما استنهض كل الذكريات في خلق الجو فأنه في حاجة إلى أن يكون دائماً في ذلك الجو ليطمئن على فنه من أن يختلط بأجواء أخرى فيفسد وتضعف روعته. أو تشيع فيه الفوضى والاضطراب
إن الفنان العظيم لابد أن يكون له جو خاص، هذا الجو هو ذوب مواهبه، هو العالم الذي يضع فيه افكاره، ويخلق بين جنباته أعماله الفنية؛ فإذا رأينا رجلاً مثل دستويفسكي يحتاج إلى جو روسيا لتكوين إعماله الأدبية، فهو يعطي لهذا الجو شكلاً ولوناً ورائحة تختلف عن غيره من سائر القصصيين الروسيين وإن اتفقوا جميعاً في شيء واحد، وهو الجو العام لبلادهم، إلا أن لكل منهم جوه الخاص. ومن هذه النقطة تتفاوت أقدار الفنانين تبعاً لقدرة كل منهم وسمو فنه وحذقه عن الآخرين
والقصصي الذي لا تلمح في عمله جواً خاصاً به، ولا تحس بهذا الجو أو وجوده، أو ترى جوه خليطاً من تأثرت شتى؛ هذا القصصي لا يمكن أن يكون قصصياً صحيحاً. لأن التركيز ينقصه، بل هو قصصي (اكتسب) فن القصة اكتساباً، والتقط موهبته الفنية من مواهب الكثيرين، واستلب من كل الأجواء الأدبية التي عاش فيها شيئاً، ليعيش لحظات على التقليد أو المحاكاة. وهذا الفنان تبدو حياته الفنية مهددة دائماً بالموت والانتهاء، لأنه شائع بين كافة الفنانين، لا شخصية له بينهم
إن أهمية وجود الجو في القصة لا حد لها. فأن هذا الجو هو الذي تخلق فيه الشخصيات والحوادث، وكلما كان القصصي أو المصور، أو الموسيقي، أو الشاعر، مؤمناً بالجو الذي يعيش فيه ارتفع فنه إلى الذروة، واستطاع أن يبرع في إيضاح عمله الفني
قد تكون القصة - في موضوعها - بسيطة لا شذوذ في حوادثها، ولا مؤثرات مفتعلة كما نرى في القصص الرخيص، ومع هذا فأن القصصي يستطيع أن يسمو بالحادثة الصغيرة إلى أوج الفن القصصي؛ وذلك لان طريقة العرض والتقديم والجو الذي تنطلق فيه القصة هي التي تحيا بها القصة. ومن هنا فقط نستطيع أن نقارن ونفاضل بين القصصيين، فأن(108/38)
القصصي لا يمتاز عن غيره بكثرة الأغراب في الحوادث، بل هو يمتاز بجوه، هذا الجو الذي تحيا فيه شخصيات قصصه؛ حتى ليشعر القارئ بأنه يعيش في مع تلك الشخصيات، وبهذا يحس القارئ أنه أمام عمل فني مجيد، جدير بالتأمل العميق، لا يمكن أن يذهب أو يضمحل بعد قليل كما تذهب صور الحوادث التي يقرأها الإنسان في الصحف، والتي يعتقد بعض الناس - خطأ - أن هذه الحوادث من القصص، وهذه الحوادث في المعنى الفني أحط أنواع القصة وأكثرها تفاهة
ولنقرب هذا، نقول أن كثيرين يسجنون مثلاً، فإذا خرج أحدهم من السجن وأحببت أن يورد لك شيئاً عما رآه وأحسه في المدة التي أمضاها في السجن اقتصر على ذكر الحوادث، وهذا شيء عادي يمكن لكل إنسان أن يفعله؛ بينما لا يعمد إلى ذلك الفنان الذي يعيش في جو السجن، فهو يرى الحوادث التي وقعت له في السجن في المكانة الثانية. أي أن جو السجن ساعد مواهبه على أن يكون شخصاً إيجابياً لخلق الاحساسات والتأملات والأفكار، بعد أن انعكست عليه حوادث السجن المختلفة، فأخرجها على النحو الذي أحس به، وهذه هي شخصية الفنان. إذ أن الحادثة تمر به فلا تعبر بسيطة كما تعبر بسائر الناس، ويرى المنظر، فلا يراه كما يراه غيره بصورته الظاهرة؛ بل يراه بعينه الفنية التي تنفذ إلى أبعاد شتى لا يمكن أن تخطر على ذهن عادي، أو تتلفت شعوره
إن ثقافة الفنان وسعة اطلاعه لا تكفيان لكي يكون القصصي كاتباً مجيداً، يستطيع أن يخلق الجو القصصي؛ وقد يبرع القصصي في تكوين القصة من كل جوانبها، ولكنه يفشل فشلاً تاماً في إيجاد الجو، ولنضرب المثل على هذا نقول: إن الأغاني الريفية تحس فيها حرارة الإيمان بالبيئة، وهي على الرغم من صراحتها وخلوها من الزخارف الكثيرة التي تفسد طبيعة الأغاني وتباعد بينها وبين الحقائق، وقربها من الطبيعة وتعبيرها المبين عن مشاعر إنسانية مأخوذة من البيئة هي في قيمتها الفنية أسمى من الأغاني التي لا تعتمد على الجو، بل تعتمد على اللامعان في التأثير بذكر الهجر، والوصال، والدموع، وما إلى ذلك من العواطف التي يمكن حشدها في كل أغنية في أي إقليم. وقد تكون الأغنية الأخيرة في تجويدها ورقتها وزخارفها، أحسن من الأولى صنعاً، إلا أنها مفقودة الطابع
وعلى هذا الوضع نقول بأن (الجو) لا يمكن أن يخلق عند الفنان إلا إذا كان مؤمناً كل(108/39)
الأيمان بالبيئة، وحقيقة الفن الذي يعالجه. . . .
محمود عزت موسى(108/40)
للتاريخ
الرافعي
بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد سعيد العريان
(بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم) سعد زغلول
بيني وبين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي عهد وذمة، وله علي حرمة المعلم والأب والصديق؛ أفترى كل أولئك يمنحني الحق أن أكتب عنه كما عرفته، وأخذت عنه، واستمعت إليه، واستمتعت بفنه وأدبه ومجلسه؛ أم تراه سيغضب إذ يراني أتناول حياته وأدبه فأنشر منهما على الناس، ثم لا أنبئه بما اعتزمت إلا حين تنبئه الصحائف المنشورة، على حين أجالسه كل مساء. . . .؟
وإني لحريص على رضاه، وما أعلم أنه يغضبه أن يحسن رأيي فيه أو يسوء؛ فانه ليعلم علمي أن ذلك حق الأدب، لا يمنع منه تفاوت المنازل أو تداني الرتب، ولا يؤثر فيه حق المعلم والأب والصديق، بل لعله إذ يغضب أن يكون غضبه من أنه يؤثر العيش في عزلته التي رضيها لنفسه، بعيداً من ضوضاء الحياة وصخب الناس، منعزلاً في (طنطا) الحبيبة إليه، عن مجالي الأدب ومزدحم المتأدبين في (القاهرة)
على أني إلى ذلك لا أستطيع أن أرد طلبة للأستاذ الزيات، وهو قد طلب إلي أن أكتب هذا الفصل عن الرافعي، على علم منزلته عندي ومنزلتي عنده؛ أفتشفع لي هذه المعذرة عند الأستاذ الرافعي أم سيشفع لي الأستاذ الزيات. .؟
تمهيد
سمعت اسم الرافعي لأول مرة مقترنا إلى نشيده الخالد: (اسلمي يا مصر. . .) في حفل حاشد بطنطا؛ وكان لاسمه يومئذ في أذني رنين عذل، امتزج بأنغام ذلك النشيد، وتألف لي منهما لحن علويٌّ ساحر، فيه جمال وعذوبة، وفيه اعتزام وقوة. على أني لم أكن أعرف يومئذ أهو الرافعي صاحب (الأخبار)، أم رافعي آخر، تجمع بينهما وحدة اللقب وشرعة الوطنية
ومضت سنوات، وشدوت من العلم ما شدوت، وإذا صديق يدفع إلى كتاب (رسائل(108/41)
الأحزان)
كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين، وفكر حالم، ورأس يزدحم بالأماني؛ وقلب مملوء بالثقة؛ ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود، حتى يعرف أن دنيه من دنيا الناس، ويحس الفرق بين علام قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة؛ فيلجأ إلى وحدته الصامتة يذرف دمع عينيه ودمع قلبه، فلا يطرب إلا لأنغام الحزن، ولا يسري عنه إلا رسائل الأحزان. . .!
واستهواني عنوان الكتاب، فتناولته اقلب صفحاته، لا أكاد أفهم جملة إلى جملة. . حتى انتهيت إلى قصيدته (حيلة مرآتها) فإذا شعر عذب يخالط النفس، وينفذ في رفق إلى القلب؛ وإذا أنا أعيدها مرة ومرة، فلا أدع الكتاب حتى أستظهر القصيدة. وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه في روية ومهل لعلني أن استدرك ما فاتني من معانيه؛ وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه، وصدق عواطفه؛ وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر، أفهمه بفكري وشعوري، وأنظر فيه بعيني وقلبي؛ فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه. .
وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف والكتب، لا يفوتني منها شيء. وأشهد، لقد كنت اجهد جهداً شديداً في فهم كتابة الرافعي؛ لأني لم يكن لي عهد بمثلها فيما أقرأ، وما كنت أقرأ من قبل إلا لإزجاء الفراغ، التمسه في ذلك النوع الهين من أدب القصص والصحف؛ على أنني كنت إلى جانب ذلك أحب الشعر، أقرؤه فأفهم ما أقرأ، فكان لي من ذلك ما أعنني على فهم الرافعي، ثم الإعجاب به من بعد، ثم ألا يعجبني إلا مثل ما يكتب. . .
صلتي بالرافعي:
كنت اعرفه واسمع عنه، على حين لا يعرفني ولا يسمع بي، وليس عجيباً؛ وكنت ألقاه في الطريق منطلقاً إلى غرض، يهز في يمناه العصا، ويتأبط بيسراه عديداً من الصحف والمجلات والكتب، واسع الخطو لا يتمهل، ماشياً على حيد الطريق لا يميل، ناظراً إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الشارع؛ فإذا ألقيت إليه تحية، رفع يمناه بالعصا إلى رأسه من غير أن ينظر يمنة أو يسرة أو تضيق خطاه؛ وكنت أرى ذلك فأحسبه نوعاً من الكبر وأرستقراطية العلماء، فباعد ذلك بيني وبينه إلى حين. . .(108/42)
ففي خريف سنة 1932 اجتمع بطنطا طائفة من الشباب على تأليف رابطة أدبية باسم (جماعة الثقافة الإسلامية)، تقوم أغراضها على العناية بشؤون الأدب والاجتماع، والعمل على أحياء مجد العرب والإسلام. وتذاكر المجتمعون فيمن يمكن أن ينضم إلى الجماعة من أهل الرأي لتقوى به على تنفيذ أغراضها، فكان اسم الرافعي أول هذه الأسماء
وذهبت إليه عن أمر الجماعة في وفد ثلاثة، فلقينا الرجل مرحباً مبتسماً وقادنا إلى (دار كتبه)، ثم جلس وجلسنا؛ وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث ما نكاد نشعر أن الزمن يمر
كان جالساً خلف مكتب تكاد تكون اكتب من فوقه تحجبه عن عيني محدثه؛ وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها المطوية قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له وقفة عند هذا الموضع من الكتاب سيعود إليها؛ وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة، لا يبدو من خلفها لون الجدار. . .
ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة؛ وللرافعي فكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع؛ على أن له في فكاهته مذاهب عقلية بديعة، تحس فيها روحه الشاعرة، وفنه البكر، وحكمته المتزنه، وسخريته اللاذعة؛ ويكاد يكون كثير من مقالات الرافعي برهاناً على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة
وطال بنا المجلس وخشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، وإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويلح علينا في تكرار الزيارة، ويكشف لنا عن سروره بألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفاً تاماً من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضاً فأصفاني عطفه ومودته
اختبار!
وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحفه وكتبه، فدفع إلي صحيفة يومية كان منشوراً فيها يومئذ قصيدة لشاعر كبير، وطلب إلي رأيي في القصيدة. لم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية أحسها في هذا الشعر؛ فتناولت(108/43)
الصحيفة وقرأت القصيدة، ثم دفعتها إليه وقد أشرت بالقلم إلى عيون أبياتها ورأيي فيها، وتناولها مني ليرى اختياري، فما عرفت إلا وقتئذ أنه كان يختبرني؛ ولكني - والحمد لله - نجحت في الامتحان قدراً من النجاح. . .!
وتكرر هذا الاختبار مرات وهو لا يحسبني أدرك ما يعني، على أن إدراكي هذا قد جعلني من بعد أكثر تدقيقاً في اختيار الحسن مما أقرأ. وأولاني ثقته على الأيام، فكان علي من بعد أن أقرأ أكثر ما يهدي إليه من الكتب، لأشير له إلى المواضع التي يصح أن يقرأها منها، وأدع ما لا جدوى عليه من قراءته ضناً بوقته؛ وكنت أنا أكثر ربحاً بذاك. . .
الشيخ الرافعي. . . .
كثير من الذين يقرأون للرافعي ويعجبون به، لا يعرفون عنه إلا هذا الأدب الحي الذي يقرأون؛ بل أن اكثر هؤلاء القراء ليتخيلونه شيخاً معتجر العمامة، مطلق العذبة، مسترسل اللحية، مما يقرأون له من بحوث في الدين، وآراء في التصوف، وحرص على تراث السلف، وفطنة في فهم القرآن، مما لا يدركه إلا الشيوخ، بل مما لا يدركه الشيوخ. . . وكثيراً ما تصل إليه الرسائل بعنوان: (صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى صادق الرافعي. . .) أو (صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر. . .)
ومن طريف هذا الباب رسالة جاءته من (حلب) منذ قريب، يبدي كاتبها دهشته أن يرى صورة الرافعي منشورة في (الرسالة) إلى جانب مقالته في عدد الهجرة، مطربشاً، حليق اللحية، أنيق الثياب، على غير ما كان يحسب؛ ويتساءل كاتب الرسالة: لماذا يا سيدي أبدلت ثياباً بثياب، وهجرت العمامة والجبة والقفطان، إلى الحلة والطربوش؟ ألك رأى في مدنية أوربا في المظاهر الأوربية غير الرأي الذي نقرؤه لك. . .؟) وما كان هذا السائل في حاجة إلى جواب، لو أنه عرف أن الرافعي لم يلبس العمامة قط، وهذا لباسه الذي نشأ عليه منذ كان صبياً يدرج في طربوشه وسراويله القصيرة، يوم كان تلميذاً يدرس الفرنسية إلى جانب العربية بمدرسة المنصورة. . .
نشأته:
على أن نشأة الرافعي كان لها أثر بالغ في الاتجاه العقلي الذي برز فيه وتفرد به؛ فهو قد(108/44)
نشأ في بيت له نسب عريق في الإسلام. وأنت إذا رجعت إلى تأريخ القضاء في مصر إلى قرن مضى، رأيت لاسم (الرافعي) تأريخاً في كل ديوان من دواوين القضاء والإفتاء. وقبل نزوح الشيخ محمد الرافعي الكبير من (طرابلس الشام) لم يكن معروفاً لمذهب أبى حنيفة أتباع في مصر؛ فهو شيخ الحنفية في هذه الديار غير منازع، وقد تخرج على يديه أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب، ومن تلاميذه المرحوم الشيخ محمد البحراوي الكبير؛ كما تخرج على يدي أخيه الشيخ عبد القادر الرافعي كثير منهم، ومن تلاميذ أخيه شيخ الشيوخ الآن فضيلة الأستاذ محمد بخيت مفتي الدولة السابق، مد الله في حياته. وقد مضى زمن كانت فيه وظائف الإفتاء كلها محبوسة على (آل الرافعي)، حتى ذكر اللورد كرومر في بعض تقاريره: (إن من هذه الأسرة أربعين قاضياً شرعياً). . وأبو المترجم له (الشيخ عبد الرزاق الرافعي) كان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وكان رجلاً ورعاً له صلابة في الدين، وشدة في الحق، ما برح يذكرها مع الإعجاب معاصروه من شيوخ طنطا. وبيت الرافعي في (طرابلس الشام) من البيوت الرفيعة وما يزال كعبة يحج إليها العلماء. وأسم (الرافعي) معروف في تأريخ الفقه الإسلامي منذ قرون. . .
فالأستاذ مصطفى صادق الرافعي وأن كان قد تربى تربية مدنية كالتي ينشأ عليها أكثر أبناء هذا الجيل لم يزل بعض أهله؛ وقد حمل عن آبائه الراية يقتحم بها في سبيل الدين، وينافح الشرك، ويدعو إلى الله. وما جهاده في ذلك - على تسلط أسباب الفتنة والزيغ في هذا الزمان إلا حلقة من سلسلة جهاد طويل، أفرغها آباؤه حلقة حلقة منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. . .
الرافعي الشاعر
أفرأيت الرافعي وهذا منشؤه ونسبه يقنع بالقدر الضئيل من العلم لذا تلقاه في المدرسة؛ ومن أين للرافعي أن يعرف هذه القناعة. . .؟
فما هو إلا أن ترك المدرسة حتى انكب على كتب الدين والعربية يستبطن أسرارها وينبش عن دفائنها؛ فحصل ما حصل من علوم اللغة الدين، وبلغ ما بلغ من أساليب البلاغة وأسرار العربية. وكان في نفس الرافعي هوى قديم أن يكون شاعراً. . . فأخذ يقرض الشعر، أتم طبع الجزء الأول من ديوانه ولما يبلغ الثالثة والعشرين. . . وقدم بين يدي(108/45)
ديوانه مقدمة بليغة، كانت وحدها البرهان على أن هذا الشاب النحيل الضاوي الجسد يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد. . . وما أحاول أن أتكلم عن الرافعي الشاعر الأديب في ديوانه وعن مقدمة ديوانه بأبلغ مما قال عنه العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، وهو يومئذ أديب العصر وأبلغ منشئ في العالم العربي؛ فقد كتب في عدد يونيو سنة 1903 من مجلة الضياء، في تقريظ الجزء الأول من ديوان الرافعي ما يأتي:
(وقد صدره الناظم بمقدمة طويلة في تعريف الشعر، ذهب فيها مذهباً عزيزاً في البلاغة، وتبسط ما شاء في وصف الشعر، وتقسيمه، وبيان مزيته، في كلام تضمن من فنون المجاز، وضروب الخيال، ما إذا تدبرته وجدته هو الشعر بعينه. . .
ثم انتقد الأستاذ اليازجي بعض ألفاظ في الديوان، وعقب عليها بقوله:
(. . . على أن هذا لا ينزل من قدر الديوان وأن كان يستحب أن يخلو منه؛ لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب؛ وما انتقدنا هذه المواضع إلا ضناً بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب، ورجاء أن يتنبه إلى مثلها في المنتظر، فأن الناظم - كما بلغنا - لم يتجاوز الثالثة والعشرين سنيه؛ ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن، سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر. . .)
الرافعي وحافظ
لم يكن الشيخ إبراهيم اليازجي وحده هو الذي تنبأ للرافعي الشاب بالمنزلة الرفيعة التي يتبوؤها اليوم؛ فقد نال يومئذ اكبر قسط من عناية الأدباء في عصره؛ وهذه أبيات لشاعر مصر الكبير المرحوم حافظ إبراهيم، بعث بها إلى الرافعي في سنة 1906 تدل بنفسها على مقدار احتفال أدباء العصر بهذا الناشئ الجبار:
أراك وأنت نبْت اليوم تمشي ... بشعرك فوق هام الأوّلينا
وأوتيت (النبوَّة) في المعاني ... وما جاوزتَ حدَّ (الأربعينا)
فزنْ تاج الرياسة بعد (سامي) ... كما زانتْ فرائدُه الجبينا
وهذا الصولجان فكن حريصاً ... على مُلْكِ القريض وكن أميناً
وحسبك أن مُطْريَك (ابن هاني) ... وأنك قد غدوت له قريناً(108/46)
نبوءتان
لم يتناول الرافعي في الجزء الأول من ديوانه إلا ما يتناوله الشباب من فنون الشعر، ولم يكن معروفاً له اتجاه أدبي إلى غير هذا اللون من شعر الشباب؛ على أن نبوءة من وراء الغيب جاءت على لسان الأستاذ الإمام (محمد عبده)، في كتاب بعث به إلى الرافعي سنة 1321هـ (1903م) تدعو إلى العجب والتأمل؛ إذ ختم كتابه إلى الرافعي بهذه العبارة:
(. . . أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل؛ وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.)
أفكان الشيخ محمد عبده يلقي الغيب، فيعلم من شأن الرافعي في غده مقامه في الدفاع عن الحق والذود عن لغة القرآن؛ أم استجاب الله دعاءه للرافعي كما استجاب دعاءه لحافظ. . .
وأشبه أن يكون نبوءة أخرى ما كتبه المرحوم الزعيم مصطفى كامل باشا من تقريظه ديوان الرافعي في جريدة اللواء: (وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان. . .)
ولما هم الكاظمي الشاعر أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905 كتب الرافعي: (ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر. . .)
(للحديث بقية)
محمد سعيد العريان(108/47)
حافظ بك إبراهيم
بمناسبة ذكراه
بقلم السيد أحمد العجان
تتمة
- 12 -
نصائحه إلى البائسين:
1 - الهجرة خير للفقير:
إن ضيق العيش لا يرضى به إلا ذليل خطمه الذل، وجبان أقعده الخوف؛ والكسل والعجز والخمول آفة المصري، وكثير من الشرقيين ضربوا في الأرض، وركبوا البحار، فأثروا
أليس خيراً للمعدم أن يجوس خلال البلاد، يطلب سعة ويبتغي سعادة؟ لقد سبقه في الهجرة كثير من أبناء الشام، ورجال الشرق:
ما عابهم أنهم من الأرض قد نثروا ... فالشهب منثورة مذ كانت الشهب
ولم يَضِرْهم سراء في مناكبها ... فكل حي له في الكون له مضطرب
رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرة ركباً صاعداً ركبوا
أو قيل في الشمس للراجين منتجع ... مدوا لها سبباً في الجو وانتدبوا
وقديماً غادر هو الوطن، ونزح عن بلاده، يطلب عيشاً، ويروم رزقاً:
نزحت عن الديار أروم رزقي ... وأضرب في المهامه والتخوم
ولولا سورة للمجد عندي ... قنعت بعيشتي قنع الظليم
وكان في مقدوره أن يتقاعد لو كان يرتضي وجدان مواطنيه، ولكنه يأبى أن يكون خاملاً:
فيا ليت لي وجدان قومي فأرتضي ... حياتي، ولا أشقى بما أنا طالبه
ينامون تحت الضيم والأرض رحبة ... لمن بات يأبى جانب الذل جانبه
يضيق على السوري رحب بلاده ... فيركب الأهوال ما هو راكبه
ويخرج بالرومي مذهب رزقه ... فتفرج في عرض البلاد مذاهبه
وعجيب أن يقيم بيننا الغربي فيثرى ويخصب، ونحن قعود عن منافسته وسبقه ومجاراته(108/48)
سابق الغربي واسبق واعتصم ... بالمرؤات، وبالبأس اعتصاما
جانب الأطماع وانهج نهجه ... واجعل الرحمة والتقوى لزاما
ومتط العزم جوادا للعلا ... واجعل الحكمة للعزم زماما
ومع هذا الفقر الذي ساءل من اجله السراة والمترفين، والذي من أجله حبب الهجرة ودعا إلى الارتحال ابتغاء الرزق، ومع حاجته إلى الأنصار والأعوان يمدون له يد المساعدة، ويقدمون له العطايا، فانه جد حريص على كرامته، يحتفظ بها ويرعاها
ولقد راق لديه ما فعل (فيكتور هيجو) بعد أن زج في السجن، وحشد في زمرة السفاكين والمجرمين، وأراد الولاة الغاصبون أن يمنوا عليه بالعفو، فأبى واستكبر أن تسدي إليه العفو يد مذنب أثيم:
عاف في منفاه أن يدنو به ... عفو ذاك القاهر المغتصب
بشروره بالتداني ونسوا ... انه ذاك العصامي الأبي
كتب المنفى سطراً للذي ... جاده بالعفو فأقر أو اعجب:
أبريء عنه يعفو مذنب؟ ... كيف تسدي العفو كف المذنب؟
وكثير من العلماء النابهين، والشعراء والكاتبين، والأئمة والزعماء، درجوا في منابت الفقر، وقاسوا محن العيش، فطلبوا الجاه في العلم، والشرف في الكرامة، والهيبة في الإباء، وخلقوا لأنفسهم مجداً لا يقاس به عرض الدنيا: فلقد كان بشار بن برد الشاعر النابه منى أوئلكم الفقراء، إذ كان أبوه طياناً يضرب اللبن، وكان أبو العتاهية يبيع الفخار بالكوفة، والجاحظ يبيع الخبز والسمك، وأبو تمام يسقي ماء بالجرة في جامع مصر، كما كان أبو حنيفة بزازاً، وكما هو مشاهد الآن في زعامة الأمم الراقية أمثال روزفلت، وهتلر، وموسوليني
إن الظروف القاسية تحطم عظماء الرجال ولكنها لا تجرؤ أن تحطم التفاؤل عند المتفائلين، وهؤلاء الذين يجالدون آلام الجوع والمسغبة، وفي قلوبهم إيمان وفي ضمائرهم حياة، ليس شيمتهم التفاؤل فقط، ولكنه التفاؤل الرخيص
وكان حافظ رحمه الله أحد هؤلاء المتفائلين، كما ينطق بذلك شعره صريحاً بينا:
على أنني لا أركب اليأس مركباً ... ولا أكبر البأساء حين تغير(108/49)
نفسي برغم الحادثات فتية ... عودي على رغم الكوارث مورق
فيا قلب لا تجزع إذا عضك الأسى ... فإنك بعد اليوم لن تتألما
ولآن تتابعت عليه تارات الأحداث، وطوارق الغير، فإن ذلك لا يثنيه عن عزمه، ولا يقعده عن غايته، مادامت العلياء رائدة، وشرف الغاية مأربه:
مرحباً بالخطب يبلوني إذا ... كانت العلياء فيه السببا
عقني الدهر ولولا أنني ... أوثر الحسنى؛ عققت الأدباء
- 13 -
لقد مدح حافظ كل ذي جاه في الدولة، أو ذا تصريف في أمور البلاد، أو من أنس منه الخير يجلب والشر يتقى، وهو طبيعي في رجل كحافظ تجرد من القوة، وأصفر من المال، فركن إلى الولاة والحاكمين يتقي عواديهم ويأمن جورهم، وقد يناله خيرهم، ويدركه نفعهم
ولكنه في مدحه الذي من أجله عرض ألفاظ اللغة، (ونبش بطون الكتب وقلبا أحشاء القواميس، ثم أستخرج من الألفاظ أطلاها وأحلاها، ومن المعاني أسماها وأعلاها، وصاغ من كليهما مدحة تهز الممدوح وتطربه،) لم يخالف ضميره ولم يتجر بوطنيته، ولم يرق ماء وجهه ويمتهن كرامته. بل كان يقف عند دهاء السياسة وحزم الرجولة، ولين الجانب حيث لا مغمز ولا تجريح
مدح الخليفة وسلاطين الدولة العثمانية، وخديو مصر وأمرائها، ورجال مصر وسراتها، بل مدح اللورد كرومر وملك الإنجليز ومندوب الإنجليز. ولكن ما كان يمدحهم تملقا ورياء، بل كان أشبه بالتشبيه يقدمه الشاعر لتصغي الأسماع إليه وتتعلق القلوب بما بعده، ثم يتناول مطالب الشعب يقدمها، وشكايات الوطن يلفت الأنظار إليها، وقد ينتقد في السياسة، ويتهكم بمسلك الحاكمين، كما حدث في قصيدته التي رفعها إلى عميد الدولة البريطانية بعد حادثة دنشواي
قصر الدبارة هل أتاك حديثنا ... فالشرق ريع له وضج المغرب
أهلا بساكنك الكريم ومرحباً ... بعد التحية إنني أتعتب
ماذا أقول وأنت أصدق ناقل ... عنا ولكن السياسة تكذب
أنقمت منا أن نحس؟ وإنما ... هذا الذي تدعوا إليه وتندب(108/50)
أنت الذي يعزى إليه صلاحنا ... فيما تقرره لديك وتكتب
أو كلما باح الحزين بأنةٍ ... أمست إلى معنى التعصب تنسب؟
فأجعل شعارك رحمة ومودة ... إن القلوب مع المودة تكسب
لقد طبع حافظ مدحه بطابع المصلحة للمجتمع، والنفع للوطن، والتعبير عن أحاسيسه وآلامه والذود عن شرفه وكرامته. وكان هذا المدح يتقدم به في قصائده كالتشبيب عند السابقين كما في قصيدته التي رفعها لسمو الأمير عباس الثاني في عيد رأس السنة الهجرية
قصرت عليك العمر وهو قصير ... وغالبت فيك الشوق وهو قدير
وأنشأت في صدري لحسنك دولة ... لها الحب جند والولاء سفير
فؤادي لها عرش وأنت مليكه ... ودونك من تلك الضلع ستور
وما انتفضت يوماً عليك جوانحي ... ولا حل في قلبي سواك أمير
ثم انتقل - بعد أن عرض للهوى والصبابة والغرام - إلى آمال الوطن ومطالبه:
أمولاي إن الشرق قد لاح نجمه ... وآن له بعد الممات نشور
مضى زمن والغرب يسطو بحوله ... علي ومالي في الأنام ظهير
إلى أن أتاح الله للصفر نهضة ... فقلت غرار الخطب وهو طرير
جرت أمة اليابان شوطاً إلى العلا ... ومصر على آثارها ستسير
وما يمنع المصري أدراك شأوها ... وأنت لطلاب العلا لنصير
فقف موقف الفاروق وانظر لأمة ... إليك بحبات القلوب تشير
- 14 -
في مصر فقراء وأيتام وذوو خصاصة، ولهم حقوق على المجتمع الذي يعيشون فيه ويعملون له
1 - لهم حق التعليم حتى يرتفع مستواهم، وتعلو منازلهم وحتى يتضامنوا مع المجتمع في بناء مجده بوحي من الضمير ووازع من النفس، لا بطريق السخرة والاجبار، وحتى تكون العلاقة بين أفراده وهيئاته بعضهم مع بعض علاقة محبة وإخلاص وولاء، لا علاقة سيادة وغطرسة وكبرياء
2 - ولهم حق تيسير سبل الرزق؛ بفتح أبواب العمل امامهم، والسهر على صوالحهم،(108/51)
ورعاية شؤونهم؛ حتى يعيشوا وأسراتهم في مأمن من الجوع والخصاصة، وحتى لا يشغلوا المجتمع بسرقاتهم وسطوهم
3 - ولهم حق المعالجة في بيوت الشفاء والمصحات، حتى تسلم جسومهم من العلل، وتصح أبدانهم من الأسقام. فنحن في ميدان نهضة، وكل نهضة لابد لها من عدة، فلتكن عدتنا رجالاً أشداء البنية أصحاء الأجساد سليمي العقل، نابهين حازمين كي يكون منهم الجندي الباسل، والزارع النشيط، والصانع الحاذق، والوطني الغيور، إلى أخر ما يتطلبه الوطن ليسلم، وتستدعيه النهضة لتدوم.
4 - على أن منهم العاجز الضعيف، واليتامى الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، كل أولئك في حاجة إلى ملاجئ يأوون إليها، ومدارس يتعلمون بها ما ينفع الجماعة ويدر عليهم الخير
5 - ثم من فوق ذلك، ومن قبل كل ذلك، لهم حق قد يعلو على كل الحقوق في جلال شانه وخطره، ذلك هو أن يشعروا بعطف ذوي الجاه وأرباب النفوذ وأولياء الأمور، حتى يشربوا في قلوبهم حبهم، ويولوهم الطاعة التي تحقق لهم رغباتهم
هذه حقوق الشعب المسكين كما يراها حافظ، فهو يرقب فرصة اعتلاء سعد منصة الحكم فيتقدم إليه يقول:
يا سعد أن بمصر أيـ - تاماً تؤمل فيك سعدا
قد قام بينهم وبين العلـ - م ضيق الحال سدا
مازلت أرجو أن أر - اك أبا، وان ألقاك جداً
حتى غدوت أبا له ... أضحت عيال القطر وُلْدا
فاردد لنا عهد الأما - م وكن بنا الرجل المفدى
عليكم حقوق للبلاد أجلها ... تعهد روض العلم فالروض مقفر
قصارى مني أوطانكم أن ترى لكم ... يداً تبتني مجداً ورأساً يفكر
فتعلموا فالعلم مفتاح العلا ... لم يبق باباً للسعادة مغلقاً
وقصيدته في سبيل (الجامعة) تبين رأيه في التعليم، وأنه لا يقنع في الأوليات السطحية، بل بالثقافة الرشيدة والدراسة الحكيمة، وأن ألف كتاب لا تعدل مدرسة عالية أو جامعة منظمة؛(108/52)
لأننا نستبدل بالكتاتيب داء الجهل بداء اشد خطراً وهو الغرور
ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد ... ذر الرماد بعين الحاذق الإرب
فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا ... أن المصابيح لا تغني عن الشهب
هبوا الأجيرة أو الحراث قد بلغا ... حد القراءة في صحف وفي كتب
من المداوي إذا ما علة عرضت؟ ... من المدافع عن عرض وعن نشب
ومن يروض مياه النيل أن جنحت ... وأنذرت مصر بالويلات والحر؟
ومنى يوكل بالقسطاس بينكم ... حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب؟
ومن يميط ستار الجهل إن طمست ... معالم القصد بين الشك والريب؟
فما لكم أيها الأقوام جامعة ... إلا بجامعة موصولة السبب
والحق أن حافظاً صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة، فترة الانتقال والحيرة والاصطدام في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو على ذلك قد أدى رسالته في الحياة، وقام بواجبه نحو وطنه وشعبه، لأنه بصر بآلامه، وتغنى بالأمل المنشود، والمصلحة المرجوة، ووقع على قيثارة الحنان أناشيد الأسى وأنات البائسين، فجزاه الله كفاء وفائه الجنة وحسن المقام وخلود الذكر
السيد أحمد العجان(108/53)
سود قمصانكم حمر غداً
للأستاذ فخري أبو السعود
أمةَ الأحباش يا أُسْدَ الحمى ... علِّمي الطليانَ عُقْبى من بغى
أنتِ لَقَّنتِهِمُ في عَدْوَةٍ ... غَالِيَ الدرس، وطُوبى من وعى
فَنَسوهُ، فَأَعيديه عسى ... يحفظون الدرس رنَّانَ الصدى
ويُميط القومُ عن أعينهم ... غرراً بات شبيهاً بالعمى
ويُقلُّونَ دَعاوى لَهُمُ ... مَلأَُوا من إفكِها الأرضَ سُدَى
مثَّلُوا الذِّئْبَ ولكن لم يَرَوْا ... حَمَلاً يَرْهَبُ ذُؤبَانَ الفلا
هُمْ أرادُوا أن يُحاكُوا دولةً ... مُلكُها يجمع أطراف الدُّنى
أَمَةٌ قامت تُحاكي حُرَّةً ... ساخراً من جهلها هذا الورى
مِنْ سِويسْرَا الشَّرْقِ رَجَّوْا جَنَّةً ... لَهُمُ طابت مَعِيناً وجَنى
طَمعوا فيها ولكن دونها ... مربضُ الأساد مِنْ ذاك الشَّرى
حشدوا حولكِ من قمصانهم ... جحفلاً طبَّق أجواز الفضا
وأثاروا مُرْعِدَاتٍ فوقهم ... حائِماتٍ حجبتْ أفْقَ السما
وأعَدُّوا من جحيم العلم ما ... يفلق الهام وما يبرى الصَّفَا
طالما بَدّدْتِ خصما عادياً ... في عصور الجهل قِدماً والدُّجى
فانْظُرِي اليومَ عدوَّاً باغياً ... صَالَ بالعلم وفي النُّور سَطَا
جَرَّدَ السُّمْرَ مِنَ الفَضْلِ وقد ... قَصَرَ الفضلَ عليه والحجى
أُمةَ الأحباش فَانْضِى عزمةً ... ما تَلَقَّتْ جحفلاً إلا أنثنى
وإذا جاءُوا فقُولي لهمُ ... قولةً فيها رشادٌ وهُدى:
(نحن خَضَّبْنَا بكم في عَدْوَةٍ ... جانبَ السهل وأَفْوَادَ الرُّبى
فأجمعوا أشلاَءكم مِنْ تُرْبِها ... قبل أن تَخْطُوا إلى هذا الحِمى
نحن إن لم نَقْرَأ العلمَ ولم ... نَحْذِق الفَنَّ ولا نَحْتَ الدُّمى
نمنَعُ الحوضَ ونَفْنى دونه ... ونعاف العيش في ظل العدى
يا عبيدَ الأمس إنا لم نَدِنْ ... أبَدَ الدهر لجبَّارٍ عَتَا(108/54)
ما رَوَى التأريخ عنّا أبداً ... غيرَ عزٍّ باذخٍ فيما رَوَى
لم نُغِرْ يوماً على جارٍ لنا ... غير أنَّا كمْ رددنَا من طَغى
فإذا ساءكُمُ في أرضنا ... - يا بني الصُّفْرِ - رقيقٌ يشترى
فغداً نَقْرِنُ منكمْ بِهِمُ ... كلَّ مفْتونٍ على الغاب اجترا!
تَدَّعُونَ الفضل ظلماً والعلا، ... والعلا منكم براءٌ والنَّدَى
لكُمُ في الغدر ماضٍ مظلم ... في طَرابُلْسَ من الفضل خلا
كم غدرتم وفررتم هلعًا ... ما صبرتم مرَّة في الملتقى
عُمَرُ المختارُ قد جَلَّلكُمْ ... يومُه عاراً على طول المَدَى
فالبسوا العار عليكم سرمدًا ... وأنزلوا حيث نزلتم بالظُبى
مالكم غير ظُبانا من قِرى ... عبثاً منّيْتُم النفس المنى
سود قمصانكم حمْرٌ غداً ... من نجيعٍ من لُهَاكم قد جرى!)
وتحايا - أُمةَ الأحباش - من ... كلِّ حُرِ ْوَد َّلو كان الفدا
لو دَرَى الحربَ لَلَبَّى ومضى ... في صفوف الحق لا يخشى الردى
إذ تَنَحَّى كلُّ شعبٍ طالما ... شاد بالسلم وبالحق شدا
مَلأَ الدنيا كلاماً فإذا ... قيل: مَن للسلم والحق؟ انزوى
أُمَمُ الغرب وما أدراك ما ... ما أمم الغرب وما رهط العلا
ذَلّ من يطلُبُ نَصْفاً فيهمُ ... إنما يُطْلَبُ في ساح الوغى
فخري أبو السعود(108/55)
النسيان
للدكتور إبراهيم ناجي
وحبيب كان دنْيا أَملي ... حُّبه المحرابُ والكعْبةُ بيتُهْ
منْ مشَى يوماُ على الورْد لهُ ... فَطرِيقي كانَ شَوْكاً ومشيتُهْ
من سقى يوماً بماءٍ ظامئاً ... فأنا مِنْ قدَحِ العُمْر سقَيتُهْ
خفِقَ القلبَ له مُخْتلِجاً ... خَفْقَةَ المصباحِ إذ ينضُبُ زيتُهْ
قدْ سلاني فتنكَّرْتُ لهُ ... وطَوَى صفحَةَ حُبِّي فطوَيتُهُ
إبراهيم ناجي(108/56)
الطبيعة
بقلم رفيق فاخوري
تحنو على عهودها النفسُ ولا ... تسطيع أن تصبر عن لقائها
كأنما حَلّ بجسمي روحها ... وفي عروقي سابَ من دمائها
بكرٌ لها منها حُلىً دانيةُ ... لكل جسٍّ بينهنَّ مسلكُ
لي من مرائيها شخوصٌ أجتلىِ ... مَحْيايَ في وصالها وأُدرك
مطبوعةٌ طبعَ الحياة العاريهْ ... غبطتُهَا وحزنها علانيهْ
تستقبل الأجيالَ في ثوبٍ إذا ... أبلته عادت فأرتدته ثانيه
قديمةٌ، آذارُ يُحْيها، ولا ... يمحو بِلَى الخريفِ من جلالها
يمشي عليه الدهرُ وهى عنه في ... شُغْلٍ فلا تُلْقي إليه بالها
لها البقاءُ حين نغدو رمَماً ... مَنْسِيَّةً لا تهتدي لها الذِكَرْ
يا ليت لي عيناً كمرآة الضُّحى ... ترعى مَجاليها إذا غابَ النظر
أَحْبِبْ بها خرساَء حُمَّتْ شمسُها ... فألهبتْ أنفاسَ كلِ ذي حَرَكْ
وهيمنَ الصمتُ على أرجائها ... كأنْ بِمَنْعى الكونِ قد دار الفلكْ
وأستحوذتْ على الورى إغماءةٌ ... ثقيلةٌ، سلطانُها لا يُدْفَعُ
وَعَرَتِ الأطيارَ سكتةٌ فما ... يَنْغَمُ في سُباته مرجِّعُ
والنهرُ لهبانُ وللماءِ به ... مَسَارِبٌ يَسْبَحُ فيها الخاطرُ
والسهلُ في غيبوبةٍ مستغرقٌ ... مَيْتٌ وفيه تلتقي العناصر!
أحببْ بها كَسْلَى تولَّى جسمَها ... بعد افترارٍ ومراحٍ خَدَرُ
واحتبسَ النسيمُ محروراً فما ... يَشيعُ في الفضاء عنها خَبَرُ
أُغْرِقُ في صحرائها كآبةً ... تَنْسُجُ في قلبي غَماماً أسودا
وأشتهي لُقْيانها سُوَيْعَةً ... أنْسى بها نفسي ولا أرعى غداً
حمص
رفيق فاخوري(108/57)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
15 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فريدريك نيتشة
للأستاذ خليل هنداوي
يؤمن نيتشة بأن حياة الإنسان هي نضال دائم لكل وهم ولكل خطأ. وينتظر إلى الوجود بعيني متشائم؛ فتبدو الطبيعة له صورة تبعث الخوف، والتاريخ وحشياً خالياً من المعاني؛ ينفر ممن يؤمن بأن كل شيء هو للأحسن! ولا يعتقد بأن في وسع الحياة أن تهب لنا لحظة فرح حقيقي. وإذا كانت هذه وهي الحقيقة فواجب الإنسان السامي أن يحارب بدون هدنة ولا هوادة كل ما هو سيئ، وأن يهدم كل القيم الخاطئة والتعاليم الفاسدة وألا يرحم أي مظهر من مظاهر الضعف والرياء والجبن في هذه الحضارة. (إنني أحلم برجال كاملين، مطلقي الإرادة، لا يدارون ولا يراءون. يدعون أنفسهم الهدامين. يخضعون كل شيء لنقدهم ويضحون بأنفسهم في سبيل الحقيقة. ألا ينبغي لكل سيئ ولكل كاذب أن يظهر تحت وضح النهار؟ نحن لا نريد أن نبني قبل الساعة الموقوتة، ونحن لا ندري إذا كان بإمكاننا أن نبني، أو إذا كان الأحسن لنا ألا نبني أبداً. هنالك متشائمون كسالى خاضعون مستسلمون؛ إننا لا نكون من هؤلاء. إن المثل الأعلى الذي نتبعه ونترسمه هو الإنسان الذي قال عنه شوبنهاور، من يعتقد بأن السعادة الحقيقية هي غير ممكنة، ومن يبغض ويمقت الوجود المادي الذي تتكامل فيه الإنسانية المنحطة، ومن يسحق كل ما ينبغي سحقه ولا يشعر بألم يحز في نفسه، أو ينتشر حوله؛ ويمشي بإرادة جبارة لا يلويه عن عزمه شيء، وكل إرادته أن يكون مع الحق والصدق في كل شأن من شؤونه)
يصل شوبنهاور بإنسانه إلى سلب الحياة منه والفناء المطلق، أما نيتشة فإنه يقدس (كاليوناني الديونوزوسي) هذه الإرادة التي تريد الحياة الخالدة وتعمل على تخليدها بأية الوسائل. فهو متشائم، لكن تشاؤمه لا يدفعه إلى الاستسلام، ولكن إلى البطولة المناضلة. فهو يرى الزهد علامة من علامات الانحطاط والذل. لأن التشاؤم - عنده - فكرة مستحيل تحقيقها، لا يقبل بها واقع ولا يثبتها منطق، ولن يكون الفناء غاية الوجود، وهكذا راح(108/59)
نيتشة يمجد الحياة وآلاءها بدلاً من أن يبشر بالفناء وبغض الحياة كمعلمه؛ يقدس ما يقوي في الإنسان إرادته؛ ويضاعف عزيمته للوصول إلى الهدف الأسمى
ونيتشه في هذا شأنه شأن اليونان في مآسيهم، يفخر بذاته، ويطول بسموه، ويعجب بالحضارة اليونانية لأنها أنشأت جماعة من الرجال السامين، وهل غاية الحياة إلا مثل هذا التوليد؟ والإنسانية عنده تركض وتتألم وتتمخض لتلد هذا العدد الضئيل من هؤلاء الرجال السامين. (وإنما على الإنسانية أن تعمل لتحمل إلى الأرض رجال عبقرية، هذه غايتها، ليس لها من بعدها غاية! وإن علينا أن نوحي إليها أن تعجل بتوليد الفيلسوف والفنان فينا وفي غيرنا. وأن نسعى إلى إكمال معنى الطبيعة؛ وأن على الإنسان أن يحس بنفسه أنه صنع غير كامل من صنع يدها. ولكننا نوقظ فيه - برغم نقصه - هذه العبقرية الفنية حتى يساعد الطبيعة على إكمال ما جاء ناقصاً منها، وبهذا يكمل الإنسان الفنان صنع الطبيعة. وبهذا تغدو معرفة الإنسان نفسه وشعوره بصغرها هي أساس نهضته. . .
(إلا أنني أرى فوقي شيءً يتألق؛ هو أسمى مني، فيه من معنى الإنسان أكثر مما فيَّ! فساعدني على الوصول إلى مثل هذا المثل؛ كما أنني سأعمل على مساعدة من يفكر مثلي ويتألم مثلي. . . كل ذلك لنمهد الطريق أمام ذلك الإنسان المقبل، الشاعر بكماله ومعرفته الواسعة، ومحبته العميقة التي لا تحد، وقدرته المولدة وتأمله البعيد: هذا الإنسان الذي سيحيا في الأرض حاكما، بيده مقياس كل شيء) فلا يجب والحالة هذه أن نترك للمصادفات عمل هذا الإنسان، وإنما ينبغي للناس أن يجهدوا ويعملوا بالانتخاب على خلق هذه الذرية - ذرية الأبطال - على أن هذا المذهب قد يترك جحفلاً من العبيد الذين شأنهم أن ينفذوا إرادة الأبطال. والعبودية - عند نيتشة - لازمة لتحقيق مثل هؤلاء الأبطال. إذ ليست غاية العلم والبراعة أن تخفف من نصب هؤلاء المتعبين. فعمال اليوم ليسوا بأكثر سعادة من عبيد الأمس. هؤلاء كانوا يخضعون لشرفاء ذوي غطرسة وخيلاء. وأولئك دائبون على خلق نخبة سامية من رجال العبقرية، فالبطل ليس دأبه بأن يحقد على المظلومين والمتخلفين فحسب، بل مما ينبغي له أن يقتل عامل الشفقة في صدره إذا هب لأنه عامل خطر. إذا ظفر عمل على قتل البراعة في سبيل السعادة المادية للإنسانية. وهو - هنالك - لابد مصطدم بالشريعة الغالبة التي تسيطر على الوجود. وكل من ود أن يحيا، أو حكم عليه(108/60)
بأن يحيا في وجود مشحون بالألم والفناء أفينبغي له أن تشتمل نفسه على هذه المضادة المؤلمة التي تعبر عن كنه الحياة، وسر كل تطور واستحالة. . . (كل لحظة تفترس الثانية. وكل ولادة هي موت كائنات لا عداد لها. الولادة والحياة والموت كنه ذو جوهر واحد. وهكذا نستطيع أن نشبه البراعة المنتصرة بالبطل الظافر الذي يسيل دمه من جراحه، ولكنه يجر خلفه قطيعاً من المغلوبين والعبيد المقيدين بعجلته)
ينبغي لنا إذا أردنا الحقيقة أن نضرب بكل وهم باعث على التفاؤل عرض الحائط. فالرجل الغربي الذي يظن ببساطة نفسه أن العلم يبعث على السعادة، ويرى أن سعادة الجميع هي غاية الحضارة القصوى؛ هذا الرجل يجرب أن ينكر تعس (العبيد) هذا التعس اللازم للمجتمع البشري. وهو يموّه عليهم بقداسة العمل، زاعماً أن الآكل بعرق جبينه هو أشرف الناس. فياله من مذهب حقير أصبح لا يخدع أحداً! ولماذا لا نعترف بأن العبودية هي حقار وصغار، ولكنا نستطيع أن نخفف وقعها ونجعلها أقل شقاء، ونحتم على أصحابها القبول بها. . . فما ظل المجتمع الإنساني على هذا الوضع فان فيه الأقوياء الذين يرفعون عظمتهم على طائفة من المستضعفين في الأرض!
كان المدفع يدوي في جوف أوربا، ونيتشه معتزل في أحد وديان (الألب) يعالج درس الروح اليونانية وفنهم وحياتهم. ولما استقر السلام أعلن أن عصر الأحزاب قد شارف النهاية. وأن روحاَ حرة يجب أن تنهض وتعرف كيف تتعالى فوق هذه الحدود! (إن الشرق والغرب مفصولان بشحطة يرسمها قلم لأعيننا، هذه الشحطة هي التي تثير خوفنا. تقول النفس الفتية (أنا اجرب بأن أكون حرة) وحق لها أن تثور، لأنها ترى أن شعبين قد يهرقان دماؤهما لأن بحراً يفصل بينهما، أو لأن ديانتين مختلفتين عندهما لم تكونا قبل ألفى عام) وهكذا نرى نيتشة بكل ما أوتي من تفكير وقوة يريد أن يزعزع تقاليد عصره، ويشعر بنفسه بأنه لم يخلق لحاضره وإنما خلق للأجيال القادمة
(يتبع)
خليل هنداوي(108/61)
القصص
من أساطير الإغريق
أدونيس
للأستاذ دريني خشبة
كان جميلاً كالكأس المترعة. وجه أبيض كالحبب، ثم تتدفق الخمر في دمه، وتكمن في عينيه، وتنثال على لسانه
رأته فينوس يستحم في بحيرة مزهرة، فوقفت تنظر إلى هذا التمثال من بلور، يسبح في لجه من لجين! ولمحها الغلام فخجل وأستحيا، وطفق يخصف عليه من أوراق اللوتس. . . . ولكن الحياء ورد وجنتيه، وصبغ خديه، وفتر ناظريه، وتصبب في شفتيه فاحمرتا! وبذلك أصبح فتنة تملأ البحيرة، وعجباً يشيع في الماء
وسبح إلى الشاطئ المقابل؛ بيد أن فينوس كانت عنده قبل أن يبلغه هو، فانثنى يريد الشاطئ الأخر، فكانت فينوس عنده كذلك؛ فأرتد يحسب أنه يسبقها إلى الشاطئ المقابل كرة أخرى، ولكن الإلهة العنيدة كانت تسابق الوهم في الوصول إلى أحد الشاطئين؛ فلما نال الجهد من أدونيس لم ير بداً من البروز إلى البر، وليكن من أمر هذه الغادة التي تهاجمه بحبها وهو لا يعرف من هي - ما يكون!
- (أدونيس. . . . أليس كذلك؟)
- (؟. . . . .)
- (ألا تتكلم؟. . .)
وكانت قطرات الماء البلورية تتحدر على جسمه الرشيق، فمن يدري؟ أهي من البحيرة أم من ماء الخجل!. . .
- (تكلم يا أدونيس! ألا تعرف من أنا؟. . .)
- (؟؟. . . . . . . .)
- (أنا التي سجد عند إخمصيها مارس الجبار! لقد ألقى سلاحه لدى النظرة الأولى التي زلزلت بها أركان قلبه! ألا تصدق؟ أدونيس؟!. . .)(108/62)
- (أرجوك. . . إن رفاقي ينتظرونني، ونحن جميعاً نتخذ أهبتنا للصيد. . .
- (صيد؟. . . . وماذا تصيدون في هذه البرية الموحشة؟. . .)
- (الخنازير يا غادة. . . إنها متوحشة جداً. . .)
- (وهي خطرة أيضاً، وكل يوم لها ضحايا. . . أدونيس! ألست ترى إلى جمالك الفينان! ألا تشفق عليه أن يصيبه سفع من شمس هذه البرية المحرقة؟ ألا تقلع عن صيد الخنازير القتالة؟. . . تكلم لا تصمت هكذا؟)
- (أرجوك؟)
- (ترجوني؟ أنا التي أرجوك يا حبيبي!)
- (. . . .؟؟. . . .)
- (أراك ارتبكت إذ دعوتك حبيبي؟ وَيْ! ما للحياء يصبغك بأرجوانه هكذا يا أدونيس؟ تعال. . . هات قبلة!)
- (لا. . . لن يكون شيء من هذا! اسمعي! ها هي ذي سلوقياتي تنبح ولابد أن أسرع إليها. . . دعيني. . . دعيني!)
- (لن أدعك، ولو استجمعت شبابك كله وريعانك ما استطعت أن تفلت من ذراعي يا حبيبي!. . . . . هات قبلة قلت لك!. . . .)
- (. . . .؟. . . .)
- (إذن أنال بالقوة كل ما أشتهي تعجب! سأحرق شفتيك الباردتين بشفتي المشتعلتين!)
- (أ. . . ر. . . جوك. . . أوه. . . حس. . . بك. . .)
- (فمك جميل شهي، ولكن خديك جميلان كذلك. . . ألف قبلة على خديك وعارضيك أيها الغلام الفتان!. . .)
- (. . . . .؟؟. . . . .)
- (أنفاسك تتضوع من فمك الرقيق، وأنفك الدقيق؛ فهل فيك حديقة من بنفسج؟. . .)
- (أر. . . جوك. . . كفى. . . كفى. . . سلوقياتي تنبح، ولا بد أن أذهب!. . .)
- (تذهب؟ ولمن تترك هذا الصدر الدافئ الذي يضمك؟ حقاً غرير!. . .)
- (أرجوك. . . قلت لك!. . .)(108/63)
- (كل هذه القبل أغمر بطوفانها فمك، ولا تحييها بقبلة؟. . . قبلني!. . .)
- (لا. . . أقدر. . . أرسلي ذراعيك عن عنقي. . .)
- (أنت لا تقدر؟ آه يا ساذج؟ إنني لن أفلتك ما دمت تتباله علي!. . .)
- (أرجوك، دعيني أذهب! أوه. . .)
- (قبلني قلت لك! لن يقهر كبريائي فتى غرير مثلك! إذا قبلتني أرسلتك!. . .)
- (أقبلك؟)
- (اجل، قبلني يا أدونيس!)
- (أقبلك كيف؟)
- (هكذا يا صغيري. . . . . .)
- (. . .؟. . .؟. . . دعيني إذن!)
وانتشت ربة الجمال بقبلة أدونيس اليافع، فارتجفت ارتجافة هائلة، وخرت إلى الأرض كأنما أغشي عليها؛ وأرتبك الفتى الذي لم يألف مثل هذا الموقف النادر من مواقف الحب، فأنف أن يغادر المكان قبل أن يعالج الغادة حتى تصحو، ثم يذهب إلى صيده بعد. ولكنه لم يدر ماذا يفعل؛ وعلى كل فق طفق يدلك قدميها، ويربت على صدرها، ويمر بيديه الناعمتين على خديها وجبينها، فلما لم تفق، أهوى على فمها الحلو يلثمه. . . ويرد إليه دينه من القبل! وكانت فينوس الخبيثة تحس وتصمت. . . ولا تأتي بحركة قد تطير بهذه الأحلام السعيدة التي تطيف بها، تنزل من السماء الصافية عليها، ألم تكن تضرع إليه من أجل قبلة واحدة؟ فكيف بها تطرد العشرات والعشرات من القبل؟!
ولم تطق فينوس. . . ففينوس ربة ولكنها هلوك! لقد طوقت أدونيس بذراعيها، ثم أمطرت فمه الخمري، ووجهه العطري، آلافاً من القبل العِذاب، والنولات الرطاب
حدثته عن الحب بلسان ينفث السحر، وعينان تتقدان اشتهاء، ولكنه كان يصم أذنيه ويغلق أبواب قلبه. وضمته بحرارة وعنفوان إلى ثدييها، فما زادته إلا شموساً وعناداً. . .
قالت له: (ألا تقبل عليّ إلا ميتة يا أدونيس؟ أيسرك أن اقضي نحبي أذن؟ ألست أعدل عندك خنزيراً برياً؟ أكلما خلعت عليك شبابي ونضرتي وحبي ألقيت بها في تراب كبريائك غير آبه لدموعي وتوسلاتي؟ افتح قلبك للحب قلبك يا صغيري!!. . .)(108/64)
ولكن أدونيس يعبس عبوسة محنقة ويقول لها: (أهذا كله عندك هو الحب؟. .)
فتنظر في عينيه الساخرتين نظرة تستشف بها ما في قرارة نفسه وتسأله: (إذا ما هو يا أدونيس؟)
وينفجر الفتى بالحقيقة المرة فيقول لها: (إن كنت تجهلين ما هو، فالحب أجل من هذا وأقدس يا غادة. . . . . . إنك قد أسلمت وأسلمت جسمك للشهوة وتصهره، وروحك للغلمة تحرقها وتذهب بها شعاعاً. . . دعيني أذهب إذن. . . دعيني. . . سلوقياتي تنبح ولابد أن أذهب إليها. . . . . . . . .)
وكأن ثلجاً ذاب في أعصاب فينوس عندما سمعت أدونيس ينتهرها ويعيرها، فتقلص ذراعها، وفترت نفسها، وخمدت في قلبها تلك الشهوة الملحة التي سلطت عليها تعذبها وتضنيها. . . واستطاع الفتى بجهد بسيط أن يتخلص من أسرها، فأنطلق يعدو كالظليم إلى سلوقيلته التي كانت تناوش خنزيرا كبيراً بادي النواجذ بارز الأنياب
وجلست فينوس تنظر إلى أدونيس يعدو، وتجتر كلماته وتتعذب. . .
وغفت إغفاءة قصيرة، ولكنها استيقظت فجأة على صرخة راجفة من جهة الشرق، حيث كان فتاها الحبيب يتلهى بالصيد، فهبت مروعة، لأن الصوت ككان بصوت أدونيس أشبه، وانطلقت تعدو حتى كانت عنده. . .
يا للهول!!
أدونيس مضرج بدمه، وعيناه مستسلمتان للموت، وسلوقياته تبكي حوله؟! لقد أنقض عليه الخنزير الضاري فمزق لحم الفخذة، وسر في الدم سم الكلب!
ووقفت فينوس ذاهلة تنظر إلى حبيبها الصغير، ثم أهوت على فمه تقبله وترشفه وتبكي. . . ثم أسندت الرأس الذابل إلى صدرها، وجعلت تقول:
(ألم يكن حباً حبيبي يا أدونيس؟! يا للقضاء؟! كنت أعرف هذه النهاية، وكنت أشفق عليك منها، ولذا كنت أتشبث بك، وأحاول أن أنسيك بقبلي ودموعي خنازير هذه البرية، ولكنك قلت أن حبي شهوة، وصبابتي غلمة، فجنيت على نفسك وعلي!! أوه! يا لبرودة الموت؟ أدونيس؟ أدونيس؟ رد علي يا حبيبي! لقد حسبتني غادة! أنا فينوس أكلمك فرد علي. . . آه. . .)(108/65)
وألقت على الكلأ السندسي، وانطلقت تبكي وتنتحب، حتى كانت عند عرش الأولمب فقالت تكلم رب الأرباب زيوس العظيم:
- (أدونيس يا أبي!!)
- (ماله؟. . .)
- (قضى. . . قتله الخنزير. . .)
- (وما لك مذعورة هكذا؟. . .)
- (مذعورة؟ وحقك إن لم تأمر برده إلى الحياة الدنيا لأذهبن معه إلى هيدز!!)
فوقف إله كان يجلس قريباً من السدة وقال: (تذهبين إلى هيدز؟! يا للهول! والجمال والحب أيذهبان في أثرك إلى دار الموتى؟ وهذه الدنيا يا فينوس؟)
- (هذه الدنيا تنعى من بناها. . . تخرب. . . لا زهر. . . لا شفق. . . لا طير. . . لا موسيقى. . . لا خمر. . . لا حب. . . لا حنين. . . لا غول. . . لن تكون دنيا كم شيئاً إذا ذهبت إلى هيدز مع حبيبي أدونيس!!)
فسجد الإله الذي تكلم أمام زيوس، ثم نهض وقال له:
- (أنا بلسان الآلهة أضرع إلى مولاي أن يلبي طلبة فينوس ربة الحب. . .)
فتبسم إله خبيث كان قريباً منه، وغمز له وقال:
- (وربة الجمال يا أبن العم!!)
وأرسل زيوس العظيم إلى أخيه. . . بلوتو. . . إله هيدز، يرجوه عن أدونيس ويستأذنه فيه؛ ولكن بلوتو كان أحرص على الجمال من سكان هذه الحياة الدنيا، فأبى أن يلبي رجاء أخيه، فألح عليه، فلم يقبل. . .
ثم أتفق الأخوان، زيوس وبلوتو، على أن يجعلا حياة أدونيس مناصفة، فيقضي ستة أشهر في هيدز، أشهر الخريف والشتاء، وستة أشهر في الدنيا، حيث تأخذ زخرفها في الربيع وتؤتي أكلها في الصيف!!
ولما لقيت فينوس حبيبها عائداً أدراجه من دار الفناء قالت له: (أتستطيع اليوم تعريف الحب؟). فقال أدونيس: (هاتي قبلة يا فينوس. . . هاتي قبلة. . . هاتي ألف قبلة. . .)
دريني خشبة(108/66)
قلعة الرمل
بقلم حسين شوقي
كانا يسيران على الشاطئ غير معنيين بما حولهما وهما يتبادلان هذا الحديث:
هو - عزيزي، إني آسف إذ تأخرت عن موعدك؛ ولكن صديقاً حميماً لم أره من زمان طويل اعترضني في الطريق استوقفني ملياً. . .
هي - لا عليك من ذلك، فثمة ما يدعو للاعتذار
هو - ولكن لماذا أجدك وحدك؟ لم لم تذهبي إلى السيدة (س) لتأنسي برفقتها؟
هي - أني أوثر العزلة، كي أشهد في سكون تلك الصفحة الزرقاء العجيبة المنبسطة أمامي. . .
هو - ولكن البحر ثائر اليوم، إني لا أحبه في مثل هذه الحال؛ إنه ليشبه وجه عجوز قد غضنته السنون
هي - أنت تراه كذلك؟. . . أحسبك زعمت لي مرة أنك تحب البحر وهو هائج، لأنه يشبه قطيعاً من الخراف البيضاء اللطيفة!. . .
هو (في حيرة) - هل. . . هل ينزل البحر؟
هي - نعم، وأنت؟. . .
هو أنا سأنتظرك في المقصف، لأني على موعد هناك؛ أتأذنين لي في الذهاب؟
هي - الآن؟. . .
هو - أجل. . . .
هي - لك ما تشاء!. . . (ثم افترقا)
الفتاة في هم شديد، لأن صاحبها لم يعد يحبها؛ إنها لا تشبهك في أنه بدأ يملها، فقديماً لم يكن يسمح لها أن تنزل إلى البحر وحدها وهو كذلك مضطرب مائج، وهو لم يلاحظ ثوب البحر الجديد الجميل الذي كانت تلبسه، مع انه نال إعجاب جميع الذين شاهدوها تخطر به على الشاطئ. . . تنهدت الفتاة قائلة: (آه! لماذا لم تخلق القلوب البشرية متشابهة كلها؟ لماذا خلق كل قلب يعيش من عواطفه في دنيا وحده؟)
وبينما الفتاة غارقة في هذا التفكير، إذ وقع نظرها على أطفال يبنون قلعة من الرمل، وهم(108/68)
يهللون ويلغطون فرحين. بدد هذا المنظر البهيج خواطر الحزن التي كانت تستبد بالفتاة، فوقفت ترقب في اهتمام عمل الصغار، ولما انتهى بناء القلعة وضع الأطفال في كل ناحية منها قطعة من الخشب على شكل مدفع، ثم اختلفوا على جنسية العلم الذي يرفع على القلعة، إذ كان كل منهم يحاول أن يرفع رايته؛ وبعد جدال ومداولة، اتفقوا على رفع راياتهم جميعاً عليها ونال كل منها حظه من المجد. عندئذ صاحت الفتاة في دهشة: ولكن ملك أي دولة هذه القلعة؟ فأجابوا ملك جميع الدول
فقالت الفتاة: آه ما أمهركم في السياسة أيها الصغار! لو أن آباءكم لم يعرفوا الأثرة لأراحوا العالم من مشاكل عدة! ليت رجال السياسة ظلوا أطفالاً. . .! ولكن، هاهي ذي موجة عظيمة تطغي على الشاطئ فتبتلع القلعة بمدافعها وراياتها؛ فوقف الأطفال لحظة واجمين، ولكن كم كانت دهشة الفتاة عظيمة حينما رأت هذا الوجوم ينقشع بغتة، ثم هو ينقلب إلى ضحك ومرح ونشاط، إذ استقر رأيهم على بناء قلعة أخرى من فورهم، تكون أروع وأفخم من القلعة الأولي. . كم كانت الفتاة تغبط هؤلاء الصغار على تلك السرعة التي سلوا بها أشجانهم، أنها تعطي كل ما تملك لكي تتمكن نمن أن تستبدل بقلبها الكليم أحد هذه القلوب الغضة! ثم أخذت تتذكر طفولتها السعيدة أيام كانت آلامها النفسية لا تدوم أكثر من لحظة. .
الفتاة حزينة، حزينة جداً، لأن حبها في دور النزع، فها هو ذا حبيبها يتأخر عن مواعيده، وهو ذا بدأ يتعلل بالمعاذير؛ فهل يكون ذلك إلا المقدمات المألوفة للفراق. . .؟ الفتاة تذكر في حسرة وألم مقدار ما كان تعلق حبيبها بها في بداية حبهما. . وتذكر كيف كان لا يقوى على فراقها لحظة، حتى أن أحد أقاربه الأعزاء قد مات فلم يشترك في جنازته حتى لا يفرق ذلك بينهما وقتاً ما. .! وكم زعم لها أن وجودها بجانبه ضروري له ضرورة الماء للسمك. . والآن، الآن، هو يتلمس الأعذار ليبتعد عنها. .!
ما أغلظ قلب هذا الفتى! إن هذه الأمواج الصاخبة لأرق قلباً منه، وإنها لترحب بالفتاة على حين يفرمنها! كم تود الأمواج أن تضم إلى صدرها تلك الدمية الجميلة ذات الجدائل الذهبية! أتذهب الفتاة إلى لقاء صاحبها في المقصف لا! إنه سوف يستقبلها بتلك الابتسامة المصطنعة البغيضة! وإن لقاء الأمواج لأحب إليها من لقاء هذا الحبيب. . اصبري أيتها الأمواج؟ إن الفتاة الجميلة ذات الجدائل الذهبية تراود نفسها أن تهب لك هذا الجسم الغض،(108/69)
وما أراها ستمتنع عليك، وما أراها ستكون لغيرك. . . . . . وكان انتظار الفتى صاحبته في هذا اليوم وبعد هذا اليوم عبثاً. . .
حسين شوقي(108/70)
البريد الأدبي
استفتاء السلام
تألفت منذ حين في إنكلترا لجنة سميت (بلجنة التصريح القومي) عن عصبة الأمم ومسائل التسليح، ونظمت استفتاءعاماً للشعب البريطاني عن مسائل السلام الدولي ليعرف العالم إلى أي اتجاه يتجه بعواطفه وتأييده؛ وتولى رئاستها الفيكونت سسل، وأنفقت اللجنة مدى أشهر جهوداً عظيمة للدعوة إلى الاستفتاء وتنظيمه، وجمع الإجابات عن الأسئلة التي طرحتها على الجمهور البريطاني. وقد أصدرت أخيراً كتاباً شرحت فيه جهودها والنتائج التي وصلت إليها، وهذه هي الأسئلة الخمسة التي طرحت على الشعب البريطاني لإبداء رأيه فيها:
1 - هل يجب أن تبقى بريطانيا العظمى عظواً في عصبة الأمم؟
2 - هل تؤيد تخفيض التسليح تخفيضاً عاماً بمقتضى معاهدة دولية؟
3 - هل تؤيد إلغاء الخدمة القومية العسكرية والتسليح الجوي بمقتضى معاهدة دولية؟
4 - هل يحضر صنع الأسلحة وبيعها للفائدة الشخصية بمقتضى معاهدة دولية؟
5 - هل إذا أصرت أمة ما على مهاجمة أمة أخرى يجب على الأمم الأخرى أن ترغمها على وقف الاعتداء بالإجراءات الاقتصادية، وبالإجراءات العسكرية إذا اقتضى الحال؟
وقد عاونت اللجنة في عملها عدة من الصحف الكبرى، فطرحت هذه الأسئلة للاستفتاء؛ وقسمت اللجنة بريطانيا العظمى إلى مناطق توافق الدوائر الانتخابية؛ وكانت نتائج الاستفتاء التي نشرتها في كتابها كما يأتي:
السؤال الأول - أجاب عنه بالإيجاب 10 , 624 , 560 شخصاً، وبالنفي 337 , 964
السؤال الثاني - أجاب عنه بالإيجاب 10 , 058 , 526 شخصاً وبالنفي 815 , 365
السؤال الثالث - أيده بالإيجاب 9 , 157 , 145 شخصاً، وعارضة 1 , 614 , 159
السؤال الرابع - أيده بالإيجاب 10 , 002 , 849 شخصاً وعارضه 740 , 634
السؤال الخامس - أجاب عنه بالإيجاب عن الشطر الأول أكثر من تسعة ملايين، وبالإيجاب عن شطر الثاني أكثر من ستة ملايين، وأجاب بالنفي عن الشطر الأول نحو ستمائة ألف وعن الشطر الثاني أكثر من مليونين(108/71)
ولمثل هذا الاستفتاء ونتائجه أهمية عظيمة في بلد كبريطانيا تتمتع بأعرق الأنظمة الديمقراطية، ويحسب فيه اكبر حساب للرأي العام، وتتجه السياسة الخارجية تحت مؤثرات الرأي العام ورغباته. ويتضح من مجموع الإجابات أن الشعب البريطاني يميل بصفة عامة إلى السلام والسياسة السلمية. وقد عقب الفيوكنت سسل على نتائج الاستفتاء بمقال عن حالة السياسة الدولية العامة قال فيه:
(أن الموقف الأوربي قد ساء إلى اعظم حد، وقد أخذ العالم يتحرك نحو الحرب، وهزت الحوادث المخربة التي وقعت في الشرق الأقصى كل أنظمة السلام، وقامت أمة عسكرية (يريد اليابان) تتجاهل المعاهدات الدولية فاستولت على أراض شاسعة من أملاك جارتها، وتحدت معارضة جنيف بكل نجاح)
(وقد قبلت عدة أمم أوربية نظام الدكتاتورية الذي يدعو إلى استعمال القوة كأداة صالحة لتسوية المسائل الدولية، وأنذرت دولتان عظيمتان عصبة الأمم بالانسحاب، وعاونت القومية الاقتصادية التي نشأت عن الأزمة العالية، على إحياء نظريات العزلة القديمة؛ والخصومات الجنسية التي تخلق بأشنع العصور الوسطى، ولاح أن أوربا تنحدر إلى حالة الطائفية القديمة التي أنقذتها منها المدنية النصرانية)
تأريخ للصحافة
كانت جريدة (التيمس) قد أصدرت بمناسبة عيدها الخمسين بعد المائة وهو الذي احتفلت به في شهر يناير الماضي، عدداً بتاريخ الصحافة من سنة 1785 وهو عام إنشائها حتى يومنا. وقد لقي هذا العدد الخاص يومئذ رواجاً عظيماً وتفند بسرعة مدهشة حتى أن إدارة (التيمس) رأت أن تعيد طبعه ولكن في شكل كتاب يصلح للمكتبة. وقد صدر هذا المجلد أخيراً، وهو في نحو مائتين وعشرين صفحة، وهو يحتوي على تأريخ ضاف للصحافة وتطوراتها في مدى القرن ونصف القرن الذي عاشته الجريدة الإنكليزية الكبرى؛ وقد صدر بصورة فوتوغرافية لكتاب الملك جورج الخامس إلى التيمس وفيه يهنئها بعيدها؛ ونشرت صورة طريفة أخرى منها صورة تخطيطية لمدينة لندن منذ مائة وخمسين سنة حينما صدر العدد الأول من (التيمس) تحت عنوان (السجل اليومي العام). وقد طبع في ثوب قشيب في منتهى الأناقة، وجعلت منه نسخ مذهبة بديعة تناسب هذا التذكار الصحفي العظيم(108/72)
آراء جديدة في التربية
تتحدث الصحف النمسوية في تلك الآونة عن العلامة المربي (البيدا جوجي) جاك دالكروزي وعن نظرياته في التربية، وذلك لمناسبة احتفاله ببلوغ السبعين من عمره. وجاك دالكروزي سويسري الأصل ولكنه ولد في فينا ونشأ بها في ذلك العهد السعيد، عهد شوبرت ويوهان شتراوس؛ ومال إلى الشعر والموسيقى، وظهر بطريف آرائه في التربية. وأنفق مدة الحرب في ألمانيا، ولكن نظرياته لم تلق هناك نجاحاً؛ ثم نزح إلى براج وهنالك ذاعت نظرياته، وأنشئت المدارس والبرامج الجديدة متأثرة بروحها، ويرى دالكروزي أن الموسيقى تولد مع الإنسان، وأن الإنسان ولا سيما الطفل يحملها في أعمق مشاعره؛ ومن ثم ابتكر دالكروزي نوعاً من الرياضة التوقيعية تتأثر بروح الموسيقى التي هي روح الإنسان. وتقوم نظرية دالكروزي الأساسية في التربية على أن الإنسان يستطيع الابتكار بطبيعته، وأن الإنسان هو الذي يخلق نفسه ويكونها، ولهذا يرى أنه يجب أن يعود الطفل الارتجال في القول والعمل؛ وهذه نظرية تخالف رأي بروكنر القائل بأن الإنسان لا يستطيع الابتكار إلا بعد التحصيل والمران الفني، ولكن جاك دالكروزي يبث روح الابتكار في تلاميذه، وينظمه كفن، ويرى أنه خير وسيلة لسرعة البت وتحقيق المجهود، وإدراك الآراء، وهو يصقل الشعور، ويوجد صلة مباشرة بين الروح الذي يتأثر ويوحي، وبين المخ الذي يفكر ويتصور؛ وقد دلت التجارب على أن الطفل يعشق الارتجال، وانه يتفوق في الابتكار أحياناً على الأحداث، وذلك لأن ذهنه لم يكن قد صفد بعد الأصول والقواعد الموضوعة، ولأن ذهنه يتمتع بالحرية الطبيعية
ولنظريات دالكروزي في التربية وتكوين النشء أثر عميق في تربية الجيل الحاضر من الشباب في النمسا وتشكوسلوفاكيا.(108/73)
الكتب
1 - المقنع في رسم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط
لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني
2 - المختار من شعر بشار للخالديين
نشره وعلق حواشيه الأستاذ محمد بدر الدين العلوي
للأستاذ محمد بك كرد علي
تحدثنا في العدد الماضي عن كتاب التيسير في القراءات السبع للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الذي نشره العلامة برتزل. واليوم نتحدث عن كتابه الآخر وهو (المقنع) في رسم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط نشره كذلك العلامة برتزل، قال المؤلف في مقدمته: (هذا كتاب أذكر فيه إن شاء الله ما سمعته من مشيختي، ورويته عن أئمتي، من مرسوم خطوط مصاحف أهل الأمصار: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وسائر العراق، المصطلح عليها قديماً، مختلفاً فيه ومتفقاً عليه، وما انتهى إليّ من ذلك، وصح لدي منهم عن الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن سائر النسخ التي انتسخت منه الموجه بها إلى الكوفة والبصرة والشام. وذكر كيف جمع عثمان المصحف، وروى أن علياً قال: لو وليت لفعلت الذي فعل عثمان. وقال: إن أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة. ثم أفاض في رسم المصاحف وذكر ما حذفت منه الياء اجتزاءً بكسر ما قبلها منها، وما حذفت منه الواو اكتفاء بالضمة منها أو لمعنى غيره، وما رسم بإثبات الألف على اللفظ أو المعنى، وما رسم بإثبات الياء على الأصل؛ وما رسم بإثبات الياء زائدة أو لمعنى، إلى ما يتعلق بذلك، وختم هذا الكتاب بقوله: (فان قيل فلم خص زيد (بن ثابت) بأمر المصاحف، وقد كان في الصحابةمن هو أكبر منه كابن مسعود، وأبي موسى الأشعري وغيرهما من متقدمي الصحابة، قلت إنما كان ذلك لأشياء كانت فيه، ومناقب اجتمعت له، لم تجتمع لغيره، منها أنه كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه جمع القرآن كله(108/74)
على عهد رسول الله (ص)، وأن قراءته كانت على آخر عرضة عرضها النبي على جبريل عليهما السلام، وهذه الأشياء توجب تقديمه لذلك وتخصيصه به، لامتناع اجتماعهما في غيره، وإن كان كل واحد من الصحابة رضوان الله عليهم له فضله وسابقته، فلذلك قدمه أبو بكر لكتابة المصاحف وخصه بها دون غيره، من سائر المهاجرين والأنصار؛ ثم سلك عثمان رضي الله عنه طريق أبي بكر في ذلك إذ لم يسعه غيره، وإذ كان النبي (ص) قد قال اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فولاه ذلك أيضاً وجعل معه النفر من القرشيين ليكون القرآن مجموعاً على لغتهم، ويكون ما فيه من لغات ووجوه على مذهبهم، دون ما لا يصح من اللغات ولا يثبت من القراءات. . .)
وأتبع المؤلف كتاب المقنع في مرسوم المصاحف بكتاب نقط المصاحف وكيفية ضبطها على ألفاظ التلاوة، ومذاهب القراءة، بدأه بذكر من نقط المصاحف أولاً من التابعين ومن كره ذلك، ومن ترخص فيه من العلماء، ثم عرض لكل ما يتعلق بهذا الباب. وقد وضع الناشر فهرساً للآيات الواردة في كتاب التيسير وكتاب المقنع وكتاب النقط فجاء مسهلاً للمطالع والمراجع
هذه عناية علماء المشرقيات بكتب الإسلام، أما خاصة أهله اليوم فساهون لاهون. وليت سادتنا علماء الأزهر والمعاهد المماثلة له في القطر، وأساتذة دار العلوم وغيرهم يتروون في عمل هؤلاء الأعاجم، وقد كان عليهم هم أن يأخذوا باليمين آثار السلف ليحيوها قبل أن تنتظر في الخزائن عطف الغرب
أننا مدينون لعلماء المشرقيات من الهولانديين والجرمانيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والأسبانيين، وغيرهم من شعوب أوربا وشمالي أمريكا، بما تفضلوا به علينا من نشر أسفارنا. أحسن الله إليهم بقدر ما أحسنوا لمدنيتنا وآدابنا.
- 2 -
عني السيد محمد بدر الدين العلوي من أساتذة جامعة عليكرة الإسلامية في الهند بتصحيح (المختار من شعر بشار) اختيار الخالدين وشرحه لأبي طاهر إسماعيل بن أحمد بن ذيادة الله النجيبي الرقي من أهل القرن الخامس، فوقع في 341 عدا فهارس قوافي الأبيات والمصاريع وأسماء الشعراء وأسماء الرجال والنساء والقبائل والأصنام والأفراس والجمال.(108/75)
وهذا من الكتب التي يزيد أحياؤها مادة الأدب القديم، وتفيد في بث الجيد من الشعر والنثر وفصيح اللغة، وفيه جواب كاف شاف لمن حاولوا أن يحذفوا من كتب القدماء ما لم يروه منطبقاً بزعمهم على مصطلح هذا العصر في هزل الأدب ومضحكاته؛ فقد نقل من صفحة 201 إلى ما بعدها قصصاً وأشعاراً من هذا القبيل، أجاد الناشر ومعلق الفوائد على الكتاب السيد العلوي في إبقائها بحالها، على ما تقضي بذلك أمانة العلم، إذ الناس يحبون أن يروا الكتاب كما ألفه مؤلفه، لا كما راق ناشره، وقد يجوز هذا لنفسه حذف مواضع لم ترقه، وعبارات لا يستحن إثباتها أصحاب الذوق الجديد، فيجيء الكتاب المشذب على هذا النحو كتاب الناشر لا كتاب المؤلف، ولو كانت هذه الطريقة من إثبات ما يسمونه الفحش اليوم مما يستنكر لما رأينا الراغب الأصفهاني في محاضراته، ولا ابن حزم الضاهري في طوق الحمامة، وهما ما هما من المكانة الدينية والعلمية، يجوزان أن ينقلا أشياء من هذا القبيل يعدها بعضهم في عصرنا نابية عن حد الادب؛ فالناشر المستعرب الهندي إذن جدير بكل احترام وإعجاب لعنايته بنشر مصنف قديم على النحو الذي وضعه واضعه
والشكر الكثير للجنة التأليف والترجمة والنشر على أحيائها هذه الكتب خدمة للمعارف والآداب سيذكرها التأريخ لجماعة متشاكلين في العلم والتربية تألفوا على غاية نبيلة واحدة، وهي خدمة العلم والأدب في مظاهره المنوعة.
محمد كرد علي
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
تأليف محمد كامل حجاج
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأديب الأريب محمد كامل حجاج له فضل قديم على قراء العربية بما عرفهم من الأدب الغربي في كتابه الكبير (بلاغة الغرب) وأنا اعترف أني عرفت الأدب الغربي أول ما عرفته، في هذا الكتاب، وأحسب كثيراً من المتأدبين يشاركونني في هذا الاعتراف
وقد اخرج الأديب الفاضل عام أول كتاباً سماه (خواطر الخيال وإملاء الوجدان)، وهو كتاب من إنشائه يتضمن خمسة وسبعين مقالاً في موضوعات شتى. والكتاب أربعة أقسام.(108/76)
وليست خواطر الخيال إلا القسم الأول منه الذي يحوي مقالات الربيع، والزمان، والزهرة، والشيطان الجميل، والأمل، والنور، والظلام ونحوها من الموضوعات الخيالية والوجدانية
والقسم الثاني فيه أبحاث فلسفية ونفسية مثل الموسيقى والحب، الموسيقى والسحر، الموسيقى والتربية، أغاني الحب عند هنود امريكا، وأكثر ما في هذا القسم يتصل بالموسيقى. وكاتبنا الفاضل له ولع بالموسيقى، وخبرة بها، واهتمام بتاريخها. وقد ألف فيها كتاباً طبعه مؤتمر الموسيقى الذي اجتمع بالقاهرة منذ سنتين
والقسم الثالث من الكتاب باب النقد وفيه مقالات كثيرة منها (بين القديم والحديث) ورواية عائدة، وألف ليلة وليلة، وعلى ضفاف الكنج، ونابغة شرقي مجهول، وفيه تراجم جماعة من أدبائنا في القرن الماضي مثل عبد الله باشا فكري، ومحمود باشا قدري، ورفاعة بك، وعبد الله نديم، ومحمود صفوت الساعاتي
والقسم الرابع سماه الكاتب متفرقات وفيه أربع مقالات
والأديب الفاضل محمد كامل حجاج مولع بالجمال حيثما تجلى. فهو كلف بالجمال في الحدائق، ذو دراية ودربة في زراعة البساتين، وهو كلف بالجمال في الموسيقى يكثر التحدث بها والكتابة عنها، وله فيها ذوق سليم. وهو كلف بالجمال في التصوير وله فيه حسنات. وهو كلف بالجمال في الفضيلة والأخلاق الطيبة، كريم الخلق مولع بالتحدث عن الخلق الكريم والدعوة إليه الخ الخ
وهو إلى هذا كله واسع المعرفة بالأدب الفرنسي، حريص على إقناع قراء العربية بطرفه وروائعه
هذا الكلف بالجمال في مظاهره المختلفة والبصر بالأدب الفرنسي يتجلى في صفحات الكتاب. ولست أستطيع تفصيل ما في الكتاب هنا ولكني أدعو المتأدبين إلى أن يقرأوا في الكتاب تفصيل ما أجملت، وبرهان ما أدعيت، فالكتاب جدير بالقراءة خليق باهتمام الأدباء وكاتبه جدير منا بالشكر والثناء
عبد الوهاب عزام(108/77)
العدد 109 - بتاريخ: 05 - 08 - 1935(/)
أساليب الاستعمار
قضية الحبشة
قضية الشرق وقضية الحرية
للاستعمار الغربي تاريخ أسود، حافل بصنوف الاعتداءات الدموية على
حقوق الأمم الضعيفة، وعلى أرواح الشعوب الآمنة وحرياتها وأرزاقها؛
ولكن هذا الاستعمار الدموي الغادر، لم يبلغ في عصر من العصور،
ولا في ظرف من الظروف، ما يبلغه اليوم من الجرأة والاستهتار، بل
من الإجرام والتوحش، فهو لا يحاول حتى أن يستر نياته كما عهدناه
في الماضي أو يسبغ على تصرفه أي لون مشروع أو معقول، بل يتقدم
بكل بساطة، مسفرا عن براثنه، شاهراً سلاحه للقضاء على الفريسة،
متغنياً في غير حياء ولا وجل بما يستطيع أن يغنم من وراء الدم
المسفوك، والحريات المغصوبة، والبلد المباح
تلك هي الصورة التي يعرضها لنا النزاع الإيطالي الحبشي. ونقول النزاع من باب التجاوز، إذ أي نزاع هنالك؟ بلد حر مستقل منذ أحقاب التاريخ، وشعب آمن مطمئن في أرضه التي خصه الله بها، يريد الاستعمار الفاشستي الغاشم أن يلتهمه نهاراً جهاراً؛ ولا عذر له - إن صح التعبير - إلا أنه يريد أن يزيد في أرضه وفي ثرواته وفي سلطانه، وأن يحقق شهوة عرضت له في استباحة الهضاب الحبشية الغنية بكنوز الطبيعة، التي يضطرم جشعاً للحصول عليها. وأي طريق هذا الذي يلجأ إليه لتحقيق هذه الشهوة الوضيعة الغاشمة؟ هو القتل المنظم يسميه الحرب، والفتك الذريع يسميه الفتح؛ هو القرصنة المجردة، وهو السلب الجهر، وهو قطع الطريق؛ وهو أخيراً كل ما في الجريمة من عدوان وانتهاك وكل ذلك باسم المدنية الغربية والتهذيب الأوربي
وأوربا المتمدينة، ما هو موقفها من ذلك العدوان الآثم؟ وشرائع الله وشرائع الأمم ما(109/1)
مصيرها؟ أما أوربا المتمدينة فهي تأتمر جمعاء مع هذه الفاشستية الدموية المتوحشة؛ وإذا شذت دولة فعرضت بعدوانها فإنما ذلك لغيرة أو منافسة؛ وإنما عصابة الاستعمار كلها يد واحدة تؤيد إيطاليا القوية الزاخرة بالجند والسلاح، لا باعتبارها دولة أوربية وقوة استعمارية فقط، ولكن باعتبارها دولة غربية تزمع أن تفترس أمة شرقية، وأمة بيضاء تزمع أن تفترس شعباً أسمر (ملوناً)؛ وكلها تأتمر مع القوي المعتدي ضد الضعيف المعتدى عليه، فتمتنع عن بيع السلاح للحبشة مصانعة لإيطاليا ومؤازرة لقضية الاستعمار المشتركة، لكي تعجز الحبشة عن الدفاع عن نفسها، ولكي يستطيع المعتدي أن يحصد أبنائها المدافعين عنها بأيسر أمر
وأما شرائع الله وشرائع الأمم، فإن هذا الاستعمار الباغي ينتهكها شر انتهاك؛ بل إنه ليتيه كبرياء إذ يستطيع انتهاكها دون وازع، ويزعم أنه يستطيع بما لديه من القوى والعدد أن يسخر من رأي العالم ومن الإنسانية كلها؛ فحقوق الأمم وحرياتها المقدسة، وأمن الشعوب وحياة الأمم والأفراد كلها لغو في نظره؛ ثم هو يطأ قانون الأمم (القانون الدولي) بقدميه ويسحقه سحقاً، فلا ترده عن مشروعه الآثم معاهدات سلم وتحكيم يرتبط بها، ولا يحترم معاهدات خاصة عقدها مع الأمة التي ينوي افتراسها يوم كان يخطب ودها
تلك هي إيطاليا الفاشستية، وذلك هو موقفها كما يعرضه ذلك الرجل! ذلك الطاغية الذي يزعم أنه بعدوانه الصارخ على حرية الأمم، يقود أمته في سبيل المجد والعظمة والثراء، وما يقودها إلا في سبيل الدمار والفناء
لقد كانت إيطاليا لأقل من قرن أمة ذليلة تصفدها أغلال الحكم الأجنبي، وكانت أوربا والعالم كله يعجب بكفاحها في سبيل حرياتها؛ وما زالت أسماء أولئك الزعماء الذين قادوها في سبيل الحرية أمثال مازيني وأورسيني وكافور وجاريبالدي تستثير إعجاب الخلف وتقديره. ولكن إيطاليا، ولكن ذلك الطاغية الذي يسيطر على مصايرها اليوم، يوشك أن يقضي بمعوله المخرب على ذلك الصرح النبيل الذي ما زالت تتخذه الأمم الطامحة إلى حرياته مثلا أعلى
إن هذا النزاع الذي تهتز له اليوم أرجاء العالم كله، ليس قضية إيطاليا والحبشة بل هو أجل شأناً من ذلك وأبعد مدى؛ هو قضية الغرب الظافر والشرق المغلوب، وهو قضية(109/2)
الاستعباد والحرية؛ وإذا كانت قوى الاستعمار تتضافر اليوم مع إيطاليا لتزيدها جرأة على جرأتها، وقوة على قوتها، فذلك لأنها ترى في سحق الحبشة سحق آخر معقل للحرية الأفريقية؛ وإذا كانت بعض الدول الاستعمارية تحاول أن تبذل باسم عصبة الأمم جهوداً لاتقاء الحرب الأفريقية، فليس ذلك حباً منها للسلام أو عطفاً على الحبشة، ولكن لأنها تشفق أن يثير هذا الفصل الجديد في الصراع بين الشرق والغرب، وبين الاستعمار وفرائسه، اضطراباً في أملاكها ومستعمراتها، وأن يذكي في الأمم المستعبدة روح الانتقاص والثورة فتعمل على تقويض سلطانها المغصوب
إن فرصة تلوح في الأفق للأمم الشرقية، فهل تعنى الأمم الشرقية بمراقبة الحوادث، وهل تعد نفسها لانتهاز فرصتها؟
(. . .)(109/3)
كلمات عن حافظ
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنة الأشياء ولم أجد مكان قلبي؛ أيها القلب المسكين أين أذهب بك؟
هذا ما أجبت به (حافظ) حين سألني مرةً: ما لك لا ترضى ولا تهدأ ولا تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو راضٍ مستقر هادئ، كأنما قضى من الحياة نهمته ولم يبق في نفسه ما تقول نفسه ليت ذلك لي. وكنت أعجب لهذا الخلق فيه ولا أدري ما تعليله إلا أن يكون قد خلق مطبوعاً بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك ألا أنه أبن القدر؛ تأتيه الأفراح والأحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصبي ألطاف أبيه ولطمات أبيه. . . .
وقد قلت له مرة: كأنك يا حافظ تنام بلا أحلام؛ فضحك وقال. أو كأنني أحلم بغير نوم. . . .
ولقد عرفته منذ سنة 1900 إلى أن لحق بربه في سنة 1932 فما كنت أراه على كل أحواله إلا كاليتيم محكوماً بروح القبر، وفي القبر أوله. ولما أزمع السفر إلى اليونان قلت له: ألا تخشى أن تموت هناك فتموت يونانياً. . . . فقال: أو تراني لم أمت بعد في مصر. . .؟ إن الذي بقي هين
ومن عجائب هذا اليتيم الحزين أنه كان قوي الملكة في فن الضحك، كأن القدر عوضه به ليوجده في الناس عطف الآباء ومحبة الأخوة. ولم يخل مع فقره من ذريعة قوية إلى الجاه، ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم حشمت باشا، ثم سعد باشا زغلول؛ وهذا نظام عجيب في زمن (حافظ) يقابل الاختلال العجيب في نفس حافظ؛ فالرجل كالسفينة المتكفئة تميل بها موجة وتعدلها موجة، وهي بهذه وبهذه تمر وتسير
وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظاماً في زمن حافظ كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة، فكان لهم كالثروة في هذا الباب، ووقع إصلاحاً في عيشهم وكانوا إصلاحاً في عيشه؛ ولو إن الأقدار تشبه بالمدارس المختلفة لقلنا إن (حافظ) تخرج منها في مدرسة التجارة العليا. . . . فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة(109/4)
وهذه النوادر كأنها هي أيضاً صنعت (حافظ) في شكل نادرة. فكان فقيراً، ومع هذا كان للمال عنده متمم هو إنفاقه وإخراجه من يده؛ وكان يتيماً، ولكنه دائماً متودد؛ وكان حزيناً، ولكنه أنيس الطلعة؛ وكان بائساً، ولكنه سليم الصدر، وكان في ضيق، ولكنه واسع الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسطاً مهتزاً كأن له زمناً وحده غير زمن الناس، فتتراكم عليه الهموم وهو مستنيم إلى الراحة، ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشبع، ويسترسل إلى البطالة وكأنه مشمر للجد، ويستمكن الحزن منه في ساعة فيتهدد حزنه بالساعة التالي. . . .
رأيته في أحد أيام بؤسه الأولى قبل أن يتصل عيشه وكان يعد قروشاً في يده فقلت: ما أمر هذه القروش؟
قال: كنت أقامر الساعة فأضعت ثلاثين قرشاً ولم يبق لي غير هذه القروش الملعونة، فهلم نتعش. ودخل إلى مطعم كان وراء حديقة الأزبكية فزعمت له أني تعشيت. . . فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلاثة قروش. وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل، فما أتذكره الآن إلا كما طالعته بعد عشرين سنةً من ذلك التاريخ حين دعاني (حافظ) إلى مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهباً وفضة. وكان رحمه الله قد أصدر الجزء الثاني من (البؤساء) ورآني في القاهرة فأمسك بي حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهر والمغرب؛ وركبنا في الأصيل عربة وخرجنا نتنزه أي خرجنا نقرأ. . .
وكان على وجه (حافظ) لون من الرضى لا يتغير في بؤس ولا نعيم كبياض الأبيض وسواد الأسود. وهذا من عجائب الرجل الذي كان في ذات نفسه فناً من الفوضى الإنسانية حتى لكأنه حلم شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة!
ومن نظر إلى (حافظ) على اعتبار أنه فن من الفوضى الإنسانية رآه جميلاً جمال الأشياء الطبيعية لا جمال الناس؛ ففيه من الصحراء والجبال والصخور والغياض والرياض والبرق والرعد وأشباهها. وكنت أنا أراه بهذه العين فأستجمله، ويبدو لي جزلاً مطهماً، وأرى في شكله هندسةً كهندسة الكون تتم محاسنها بمقابحها. وكم قلت له: إنك يا حافظ أجمل من القفر. . . . . .
أما هو فكان يرى نفسه دميماً شنيع المرآة متفاوت الخلق كأنه إنسان مغلوط في تركيبه. . .(109/5)
وقد سألته مرة: هل أحب؟
فقال: النساء اثنتان: فأما جميلة تنفر من قبحي، وإما دميمة أنفر من قبحها؛ ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب، ولم يحسن من هذا الباب شيئاً يسمى شيئاً؛ وبقي شاعراً غير تام، فإن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها التي تعطيه بحبها عالماً جديداً لم يكن فيه. وكل شرها أنها تتخطى به السماوات نازلاً. . .
وتهدم حافظ في أواخر أيامه من أثر المرض والشيخوخة، وكان آخر العهد به أن جاء إلى إدارة (المقتطف) وأنا هناك فلم يرني حتى بادرني بقوله: ماذا ترى في هذا البيت في وصف الأمريكان:
وتخِذتُم مَوْج الأثير بَريداً ... حين خِلتُم أن البرُوق كُسالى
فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضن وقلت له: لو كان فيك موضع قبلة لقبلتك لهذا البيت؛ فضحك وأدار لي خده؛ ولكن بقى خده بلا تقبيل. . .
وشهرة هذا الأديب العظيم بنوادره، ومحفوظاته من هذا الفن أمر مجمع عليه؛ وكان يتقصص النوادر والفكاهات ومطارحات السمر من مظانها في الكتب ورجال الأدب وأهل المجون، فإذا قصها على من يجالسه زاد في أسلوبها أسلوبه هو، وجعل يقلبها ويتصرف فيها ويبين عنها أحسن الإبانة بمنطقه ووجهه ونبرات في لسان ونبرات في يده
وهو أصمعي هذا الباب خاصة، يروي منه رواية عريضة، فإذا استهل سح بالنوادر سحاً كأنها قوافي قصيدة تدعو الواحدة منها أختها التي بعدها
وقد أذكرتني (القوافي) مجلساً حضرته قديماً في سنة 1901 أو 1900 وكان (مصباح الشرق) قد نشر قصيدة رائية لأبن الرومي، فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة أبن الرومي في قوافيه، فقال له (حافظ) هلم نتساجل في هذا الوزن حتى ينقطع أحدنا. وكانت القافية من وزن: قدرها، أحمرها، أخضرها الخ، وجعلت أنا أحصي عليهما؛ فلما ضاق الكلام كان الشيخ المهدي يفكر طويلاً ثم ينطق باللفظ ولا يكاد يفعل حتى يرميه حافظ على البديهة، فيعود الرجل إلى الإطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخيراً وبقي حافظ يسرد له من حفظه الغريب
أما في لنوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنه جاء إلى طنطا في سنة 1912(109/6)
ومديرها يومئذ المرحوم (محمد محب باشا) وكان داهية ذكياً وظريفاً لبقاً، وكنت أخالطه وأتصل به، فدعا (حافظ) إلى العشاء في داره؛ فلما مدت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ. قال وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة
فتهلل حافظ وقال: نعم لك علي ذلك. ثم أخذ يقص ويأكل، والعشاء حافل، وحافظ كان نهماً فما انقطع ولا أخل حتى وفى بالشرط. وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك فيسرع حافظ ويغالط بفمه. . . .
ولكن هذه المضحكات أضحكت من (حافظ) مرة كما أضحكت به. فلما كان يترجم (مكبث) لشكسبير - وهي كأعماله الناقصة دائما - دعوه لإلقاء (محاضرة) في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذ يجمع خير الشباب حميةً وعلماً، وكان صاحب السر فيه (السكرتير) زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي. فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظما عن شكسبير ومثله تمثيلاً أفرغ فيه جهده فأطرب وأعجب. ثم سألوه (المحاضرة) فأخذ يلقي عليهم من نوادره. وبدأ كلامه بهذه النادرة: عرضت على المعتصم جارية يشتريها، فسألها: أنت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم. . .
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها. . . وبقيت هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تفلح
ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبه (حافظ) إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد. ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى أم لا. فقد عرضت جارية أديبة ظريفة على الرشيد فسألها: أنت بكر أم إيش؟
فقالت: أنا (أم إيش) يا أمير المؤمنين. . .
وفن (الشعر الاجتماعي الذي عرف به حافظ؛ لم يكن فنه من قبل ولا كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته. فلما جاءت إلى مصر الإمبراطورة (أوجيني) نظم قصيدته النونية التي يقول فيها:
فاعذرينا على القصور كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان
ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة، وكان بها مدلاً معجباً شأنه في كل شعره؛(109/7)
فانتقدت منها أشياء في ألفاظها ومعانيها وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها الإمبراطورة. فكأنني أغضبته؛ فقال: إن الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر، وقالوا لي: إذا نظمت فانظم مثل هذا (الشعر الاجتماعي)، ثم كأنه تنبه إلى أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها فقال: إن كل قصائد شوقي الآن غزل ومدح، ولا أثر فيها لهذا الشعر، على أنه هو الشعر
وتتابعت قصائده الاجتماعية، فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لي: إن الشاعر الذي لا ينظم في الاجتماعيات ليس عندي بشاعر. وأردت أن أغيظه فقلت له: وما هي الاجتماعيات إلا جعل مقالات الصحف قصائد. . .؟
فالأستاذ الإمام وسعد زغلول وقاسم أمين: أحد هؤلاء أو جميعهم أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ. وهو كثيراً ما كان يقتبس من الأفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبده من حديثه أو حديث غيره فيبني عليها أو يدخلها في شعره. وهو أحياناً رديء الأخذ جداً حين يكون المعنى فلسفيا إذ كانت ملكة الفلسفة فيه كالمعطلة، وإنما هي في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها. . .
وكنت أول عهدي بالشعر نظمت قصيدة مدحت فيها الأستاذ الإمام وأنفذتها إليه، ثم قابلت حافظ بعدها فقال لي إنه هو تلاها على الإمام، وإنه استحسنها. قلت: فماذا كانت كلمته فيها؟ قال: إنه قال: لا بأس بها. . .
فاضطرب شيطاني من الغضب، وقلت له: إن الشيخ ليس بشاعر، فليس لرأيه في الشعر كبير معنى. قال: ويحك إن هذا مبلغ الاستحسان عنده
قلت: وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال: أعلى من ذلك قليلاً. . . فأرضاني والله أن يكون بيني وبين حافظ (قليل)، وطمعت من يومئذ
وأنا أرى أن (حافظ إبراهيم) إن هو إلا ديوان (الشيخ محمد عبده)، لولا أن هذا هذا، لما كان ذلك ذلك
ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائماً في حاجة إلى من يسمعه، فكان إذا عمل أبياتاً ركب إلى إسماعيل باشا صبري في القصر العيني، وطاف على القهوات والأندية يسمع الناس بالقوة. . . إذ كانت أذن الإمام هي التي ربت الملكة فيه، وقد بينا في مقالنا في (المقتطف)(109/8)
وكان تمام الشعر الحافظي أن ينشده حافظ نفسه؛ وما سمعت في الإنشاد أعرب عربية من البارودي، ولا أعذب عذوبة من الكاظمي، ولا أفخم فخامة من حافظ؛ رحمهم الله جميعاً
وكان لأديبنا يجل البارودي إجلالاً عظيما، ولما قال في مدحه:
فمُرْ كلَّ معنى فارسيّ بطاعتي ... وكلَّ نَفور منه أن يتودَّدا
قلت له: ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنى فارسي وما هو بفارسي؟
قال: إنه يعرف الفارسية، وقد نظم فيها، وعنده مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة التي وقف عليها. قلت: فكان الوجه أن تقول: أعرني المجموعة التي عندك. . .
أما الكاظمي فكان حافظ يجافيه ويباعده، حتى قال لي مرة وقد ذكرته به: (عققناه يا مصطفى!)
وما أنس لا أنس فرح حافظ حين أعلمته أن الكاظمي يحفظ قصيدة من قصائده. وذلك أنهم في سنة 1901 - على ما أذكر - أعلنوا عن جوائز يمنحونها من يجيد في مدح الخديو، وجعلوا الحكم في ذلك إلى البارودي وصبري والكاظمي. ثم تخلى البارودي وصبري، وحكم الكاظمي وحده، فنال حافظ المدالية الذهبية ونال مثلها السيد توفيق البكري
ولما زرت الكاظمي وكنت يومئذ مبتدئاً في الشعر ولا أزال في الغرزمة قال: لماذا لم تدخل في هذه المباراة؟ قلت: وأين أنا من شوقي وحافظ وفلان وفلان؟ فقال: (ليه تخلي همتك ضعيفة؟) ثم أسمعني قصيدة حافظ وكان معجباً بها، فنقلت ذلك إلى حافظ فكاد يطير عن كرسيه في القهوة
وكان تعنت حافظ على الكاظمي لأنه غير مصري. ففي سنة 1903 كانت تصدر في القاهرة مجلة اسمها (الثريا) فظهر في أحد أعدادها مقال عن الشعراء بهذا التوقيع (*). وانفجر هذا المقال انفجار البركان، وقام به الشعراء وقعدوا، وكان له في الغارة عليهم كزفيف الجيش وقعقة السلاح، وتناولته الصحف اليومية، واستمرت رجفته الأدبية نحو الشهر؛ وانتهى إلى الخديو، وتكلم عنه الأستاذ الإمام في مجلسه، واجتمع له جماعة من كبار أساتذة العصر السوريين كالعلامة سليمان البستاني، وأديب عصره الشيخ إبراهيم اليازجي، والمؤرخ الكبير جورجي زيدان - إذ كان صاحب المجلة سورياً - وجعلوا ينفذون إلى صاحب المجلة دسيساً بعد دسيس ليعلموا من هو كاتب المقال(109/9)
وشاع يومئذ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي على رأس الشعراء فيه، فغضب حافظ لذلك غضباً شديداً، وما كاد يراني في القاهرة حتى ابتدرني بقوله: ورب الكعبة أنت كاتب المقال؛ وذمة الإسلام أنت صاحبه
ثم دخلنا إلى (قهوة الشيشة) فقال في كلامه: إن الذي يغيظني أن يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رءوسنا نحن المصريين. فقلت: ولعل هذا قد غاظك بقدر ما سرك ألا يكون على رأسك هو شوقي. . .
وغضب السيد توفيق البكري غضباً من نوع آخر، فاستعان بالمرحوم السيد مصطفى المنفلوطي استعانة ذهبية. . . . وشمر المنفلوطي فكتب مقالا في (مجلة سركيس) يعارض به مقال (الثريا)، وجعل فيه البكري على رأس الشعراء. . . ومدحه مدحا يرن رنيناً
أما أنا فتناولني بما استطاع من الذم وجردني من الألفاظ والمعاني جميعاً، وعدني في الشعراء ليقول إني لست بشاعر. . . فكان هذا رد نفسه على نفسه
وتعلق مقال المنفلوطي على المقال الأول فاشتهر به لا بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية، فكتب إلي كتاباً يذكر فيه تعسف هذا الكاتب وتحامله، ويقول قد وكلت إليك أمر تأديبه
فكتبت مقالاً في جريدة (المنبر) وكان يصدرها الأستاذان محمد مسعود وحافظ عوض، ووضعت كلمة المنفلوطي التي ذمني بها في صدر مقالي أفاخر بها. . . وقلت: إني كذلك الفيلسوف الذي أرادوه أن يشفع إلى ملكه فأكب على قدم الملك حتى شفّعه؛ فلما عابوه بأنه أذل حرمة الفلسفة بانحنائه على قدم الملك وسجوده له، قال: ويحكم، فكيف أصنع إذا كان الملك قد جعل أذنيه في رجليه. . . . . .
ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين، حين ظهر مقال (الثريا)، ومع ذلك أصبح كل شاعر يريد أن يعرف رأيي فيه؛ فمررت ذات يوم (بحافظ) وهو في جماعة لا أعرفهم، فلما اطمأن بي المجلس قال حافظ: ما رأيك في شعر اليازجي؟ فأجبته؛ قال: فالبستاني، فنجيب الحداد، ففلان، ففلان؛ فداود بك عمون؟ قلت: هذا لم أقرأ له إلا قليلاً لا يسوغ معه الحكم على شعره. قال: فماذا قرأت له؟ قلت: رده على قصيدتك إليه: شجتنا مطالع أقمارها. قال فما رأيك في قصيدته هذه؟ قلت: هي من الشعر الوسط الذي لا يعلو ولا ينزل(109/10)
فما راعني إلا رجل في المجلس يقول: أنصفت والله! فقال حافظ: أقدم لك داود بك عمون. . . . . . رحم الله تلك الأيام
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(109/11)
قضايا التاريخ الكبرى
2 - من قضايا السحرة
صفحة من الجرائم المروعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان لظهور هذه الحقائق المروعة عن جرائم السحرة وقع عميق في باريس وفي فرنسا بأسرها؛ ولم يكن القضاء العادي ليكفي لسحق هذه الطغمة الآثمة وتطهير المجتمع من عيثها الذريع، فرأى لويس الرابع عشر ووزرائه أن يعهد بعقابها إلى القضاء الاستثنائي، وانتدبت لذلك محكمة خاصة هي (الغرفة الساطعة) الشهيرة في ذلك العصر، وسميت كذلك لأن المحاكم الخاصة التي تنتدب للنظر في الجرائم الكبرى كانت تجلس في غرفة تجلل جدرانها بالسواد وتنار بالمشاعل والمصابيح
وعقدت (الغرفة الساطعة) جلستها الأولى في العاشر من أبريل سنة 1679، وقررت أن تكون إجراءاتها وتحقيقاتها سرية حتى لا يقف الجمهور على شيء من الأعمال السحرية أو أسرار السموم؛ وتولى الرآسة المستشار لوي بوشرا كونت دي كومبان يعاونه عدة من أعضاء مجلس الدولة؛ وتولى لاريني مهمة القاضي المحقق؛ وكانت إجراءاتها تتلخص في أن كل من تقع عليه شبهة الاتهام يقبض عليه بأمر الملك أعني بواسطة (اللتر دي كاشيه) (أو رقعة السجن)، وتقدم نتيجة التحقيق الأول إلى النائب العام، وله وحده أن يقرر المواجهة بين الشركاء، وعند انتهاء التحقيق يرفع به تقرير ضاف إلى (الغرفة الساطعة)؛ وهي تقرر ما إذا كان يجب الاستمرار في اعتقال المتهم، فإذا قررت ذلك، أستمر التحقيق معه؛ وعند نهايته، ترفع أوراق الاتهام إلى المحكمة، فيقرؤها القضاة، ويقدم نائب الملك (النائب العمومي) طلباته سواء بتبرئة المتهم أو بالحكم عليه؛ ثم تسمع أقوال المتهم فوق منصة المحكمة وبعدها تصدر المحكمة حكمها غير قابل للاستئناف
وكانت (الغرفة الساطعة) تعقد في قصر (الأرسنال)؛ واستمر انعقادها باستمرار حتى يوليه سنة 1682 عدا فترة أشهر وقفت فيها جلساتها؛ وبلغ عدد المتهمين الذين قدموا إليها 442 متهماً، تقرر استمرار اعتقال 118 منهم؛ وحكم بالإعدام على ستة وثلاثين، وتقرر تعذيبهم(109/12)
بالتحقيق العادي وبالتحقيق الاستثنائي، ثم أعدموا حرقاً كما سيجيء؛ ومات اثنان في السجن؛ وحكم على خمسة بالأشغال الشاقة، وبالنفي على ثلاثة وعشرين؛ وأطلق سراح الباقين لا لأنهم أبرياء، ولكن لأن لهم شركاء في التهم المسندة إليهم من أكابر الدولة والسادة وأرفع سيدات البلاط
يقول فولتير في كتابه (عصر لويس الرابع عشر) في حديثه عن قضية السحرة، إن أعظم رؤوس في المملكة استدعوا لإبداء أقوالهم أمام (الغرفة الساطعة) ومنهم ابنتا أخت الكردينال مازاران؛ والدوقة دي بويون، والكونتة دي سواسون والدة البرنس أوجين، والمارشال دي لوكسمبورج؛ وقد كان لهؤلاء جميعاً ولغيرهم من أكابر المملكة علائق ومعاملات مع السحرة
وقد كشف التحقيق عن واقعة أشنع وأفظع هي أن حياة الملك ذاتها كانت موضعاً لائتمار السحرة، وأن التحريض على اغتيالها لم يجيء إلا من أعماق القصر، ومن أقرب المقربين لشخص الملك ذاته
كانت مدام دي مونتسبان حظية لويس الرابع عشر الشهيرة، قد وصلت في ذلك العصر إلى ذروة القوة والنفوذ، وتبوأت في البلاط أرفع مكانة، وبسطت سلطانها على المليك المتيم على مدى أعوام طويلة؛ ولكن حل عهد السأم والهجران أخيراً، ومال الملك عن حظيته القديمة إلى حظية جديدة هي فتاة من وصيفات الشرف تدعى الآنسة دي فونتاج، فلما شعرت مدام مونتسبان بأفول نجمها اضطرمت سخطاً ويأساً، وفكرت في أن تنتقم من الملك وحظيته الجديدة معاً، واتصلت بالساحرة لافوازان وزميلة لها تدعى لاتريانون، فتعهدتا بتدبير مشروع لاغتيال الملك؛ وتعهد الساحران المسممان روماني وبرتران بقتل الآنسة دي فونتانج، وبذلت مدام دي مونتسبان للسحرة مالا وفيراً
وكانت مدام دي مونتسبان إبان نفوذها وسلطانها وثيقة الصلات بلافوازان وشركائها؛ وكانت تلجأ إلى السحرة التماسا لتوطيد نفوذها بفعل السحر والتمائم؛ وكانت هذه الحسناء المتكبرة تنزل عند دجل السحرة، وتقبل الاشتراك في إجراءات السحر الأسود، فترقد عارية أمام أولئك الطغام، وتقوم لافوازان وزملاؤها بإجراء القربان الدموي والسحر الأسود، وتعتقد الحظية الهائمة أنها بذلك تذكي نار حبها في نفس الملك وتوطد دعائم نفوذها(109/13)
وسلطانها
ويتلخص مشروع اغتيال الملك كما دونه لاريني من أقوال لافوازان وشركائها في أن الجناة فكروا أولاً في أن يزهقوا الملك بالسم، وذلك بأن ينثروه على ثيابه أو حيثما أعتاد أن يمر، فيستنشقه تباعاً ويموت ببطء، وتعهدت الآنسة ديزييه وصيفة مدام دي مونتسبان بتأدية هذه المهمة. ولكن لافوازان رأت بعد التفكير أن تلجأ إلى وسيلة أخرى. وذلك أن لويس الرابع عشر اعتاد طبقاً لعادة قديمة أن يتلقى بنفسه في أيام معينة العرائض التي يرفعها إليه رعاياه بالتظلم والالتماس، ويسمح لكل بالدخول عليه عندئذ دون فارق أو تمييز، ففكرت لافوازان أن تعد عريضة من هذا النوع تضمخها بنوع من السم الزعاف، فإذا تناولها الملك بين يديه سرى إليه السم وهلك؛ وتعهدت الساحرة لاتريانون بإعداد هذه العريضة، وتعهدت لافوازان بتقديمها إلى الملك. ورؤى أن يكون موضوعها طلب الغوث لشخص يشتغل بالسيميا ويدعى بلسيس ويعتقله المركيز دي ترم في قصره، وسعت لافوازان لدى وصيف بالقصر من معارفها ليسهل لها مهمة تقديم العريضة بنفسها
وارتاع الجناة لجرأة لافوازان، وتنبئوا لها بالوقوع بين براثن القضاة متهمة بجريمة دولة؛ ولم يكن الموت شر ما يخشاه السحرة في تلك العصور، بل كان التعذيب أشد ما يروعهم، بيد أن لافوازان كانت تخلبها وتغريها مائة ألف جعلتها مدام دي مونتسبان ثمناً للجريمة (نحو مليون فرنك من النقد المعاصر)، فقصدت إلى سان جرمان في يوم 5 مارس سنة 1679، ثم في التاسع منه، محاولة أن تصل إلى الملك فتقدم إليه العريضة المسمومة، ولكنها لم تفز ببغيتها، فعادت مكتئبة إلى باريس، ولكن مصممة على أن تعود في أول فرصة. بيد أن عين لاريني كانت ساهرة ترقب أعمال السحرة؛ وفي الثاني عشر من مارس قبض عليها وعلى أبنتها مرجريت، وعلى عدة من شركائها حسبما أسلفنا
ولما ذاع نبأ القبض على لافوازان وشركائها، ارتاعت مدام دي مونتسبان، وغادرت البلاط في الحال إلى الريف، فمكثت هنالك مدى حين
أنفقت المحكمة الخاصة أو (الغرفة الساطعة) أشهراً طويلة في تحقيقات وإجراءات يتسع نطاقها يوماً عن يوم، وكان التحقيق يمتد شيئاً فشيئاً إلى طائفة من الرؤوس الكبيرة، حتى أن المحقق لاريني اضطر أن يطلب حرساً خاصاً لمرافقته في زيارته لسجن فنسان حيث(109/14)
اعتقل المتهمون، وكثر الهمس والوعيد حول قضاة الغرفة الساطعة، واهتم الملك ووزراؤه بالأمر، وكتب لوفوا رئيس الوزراء إلى رئيس المحكمة يقول له: إنه لمناسبة ما نمى إلى جلالته من الحديث حول (الغرفة) وإجراءاتها، فإن جلالته قد أمر بتبليغ القضاة أنه يؤكد لهم حمايته، وأنه يطلب إليهم أن يستمروا في إقامة العدالة بثبات. ثم زاد الملك على ذلك فاستدعى إليه قضاة المحكمة ليطمئنهم ويشجعهم؛ ويقول لنا لاريني تعليقاً على تلك المقابلة، إن جلالته قد أوصاه بتحقيق العدالة والواجب، وإنه يرجو تحقيقاً لخير المجموع أن ننفذ جهد الاستطاعة إلى أسرار جرائم السموم، وأن نجتث جذورها إذا استطعنا وذلك دون تفريق بين الأشخاص والمقامات
بيد أنه قد طلب إلى القضاة من جهة أخرى أن يلزموا التحفظ في بعض الأمور، وظهر أثر هذا التحفظ في الحرص على عدم إحالة لافوازان إلى التعذيب، وذلك خوفاً من أن ينطلق لسانها حين التعذيب بما لا يريد أن يذاع وأن يعرف؛ ومع ذلك فقد صرحت لافوازان في ساعاتها الأخيرة عقب الحكم عليها بالإعدام (أنها مضطرة لأن تقول إراحة لضميرها إن عدداً كبيراً من الناس من جميع الطوائف والطبقات قد لجأ إليها سعياً إلى إزهاق الكثيرين، وإن الباعث الأول لهذه الجرائم إنما هو الفجور)
ولما وقف لويس الرابع عشر على أقوال مرجريت مونفوازان ابنة لافوازان عقب إعدام أمها، كتب إلى لاريني يطلب إليه أن يدون اعترافاتها وما يترتب على هذه الاعترافات من مواجهات ومناقشات في ملف خاص، وكذلك أقوال الساحرين روماني وبرتران، وهما من شركاء لافوازان. وقد كانت أقوال مرجريت مونفوازان ذات أهمية كبيرة لأنها تتعلق بمشروع تسميم الملك، ومن جهة أخرى فقد وعد لوفوا الساحر ليساج بأن ينقذ حياته إذا قال كل شيء، ولكنه لما ذهب في اعترافاته إلى حدود مروعة، رمي بالكذب ولم يقبل المحقق أن يصغي إليه بعد؛ وأدلت متهمة أخرى تدعى فرانسواز فيلاستر بمعلومات مثيرة مدهشة، فأمر الملك بأن تودع أقوالها في ملف خاص، وأن ترفع إلى مجلسه؛ وهكذا بلغ من اهتمام لويس الرابع عشر بهذه القضية أن لبث يتتبع كل أدوارها، وأن يسحب من أوراق التحقيق كل ما لا يرغب في إذاعته؛ والواقع أن لويس الرابع عشر تأثر أيما تأثر لما كشفت عنه التحقيقات من الوقائع والحقائق المؤلمة التي تصيبه في أعز عواطفه وفي كرامته الملوكية.(109/15)
ألم تلجأ حظيته التي كان يعبدها إلى السحرة، وتلوث نفسها وجسمها في معاهدهم سعياً إلى إزهاقه؟ أليست مدام دي مونتسبان أم أولاده المحبوبين؟ ومع ذلك فقد كظم الملك العظيم ألمه وتأثره؛ ولبثت هذه الوثائق الهائلة التي تكشف عن عاره في خزائنه السرية أعواماً طويلة حتى أمر بإحراقها بعد ذلك في مدفئه في يوم من أيام سنة 1709، أعني بعد هذه الحوادث بثلاثين عاما
كانت (الغرفة الساطعة) حاسمة صارمة في أحكامها، فقد حكمت بالإعدام والتعذيب على ستة وثلاثين متهماً ثبتت إدانتهم في مزاولة التسميم والأعمال السحرية الإجرامية، وذلك من مجموع قدره مائة وثمانية عشر متهماً. ونفذ الإعدام في المحكوم عليهم تباعاً؛ وكان إعدام السحرة يجري بطريق الحرق دائماً. وكانت لافوازان ولافيجوريه ولبساج في مقدمة المحكوم عليهم بهذا الموت المروع. وقد احرقوا معاً في (ميدان جريف). وتصف لنا مدام دي سفينية الكاتبة الشهيرة منظر إحراق الساحرة لافوازان - وقد شهدته بنفسها - وتقول لنا (لقد أسلمت لافوازان روحها للشيطان في لطف). وينقل ألينا الكاهن الذي تولى مرافقة الساحرة إلى المحرقة كلماتها الأخيرة وهي: (إنني مثقلة بأكداس من الجرائم، ولست أدعو الله أن ينقذني من النار بمعجزة، لأن ما سألقاه من الجزاء لا يقاس بشيء مما ارتكبت)
ويقدم إلينا فوليتر في كتابه (عصر لويس الرابع عشر) خلاصة لهذه الحوادث والمحاكمات المثيرة ثم يعلق عليها بقوله: (نستطيع أن نتصور أية إشاعات مروعة أذيعت خارج باريس. بيد أن حكم الإعدام الذي قضي به على لافوازان وشركائها قد وضع في الحال حداً لهذه الأعمال وهذه الجرائم؛ وقد كانت هذه الحرفة المروعة محصورة في شرذمة من الناس، ولم تلوث أخلق الأمة كلها؛ بيد أنها طبعت أذهان الناس بميل سقيم إلى اعتبار الوفيات الطبيعية، نتيجة الجريمة)
والواقع أن هذا الثبت من الآثام والجرائم المروعة يلقي ضياء كبيراً على روح هذا العصر وخلاله - ويؤيد حقيقة تاريخية خالدة، هي أن عصور العظمة القومية، تتكشف في الغالب عن صنوف من الانحطاط المعنوي والاجتماعي تتناسب مع ما تبثه نعماء العصر وترفه من ألوان الفساد الروحي والأخلاقي، ومع ما يذكيه العصر من الشهوات الإنسانية الوضيعة. وقد كان عصر لويس الرابع عشر بلا ريب على ما بلغه من العظمة والبهاء(109/16)
يعاني فعل هذه العناصر الهدامة التي انحدرت بالمجتمع الفرنسي غير بعيد إلى درك من التفكك والانحطاط، كان نذير الثورة الفرنسية الكبرى
تم البحث
محمد عبد الله عناق(109/17)
وقفة بالعقيق!
للأستاذ علي الطنطاوي
وقفة بالعقيق نطرح ثقلا ... من دموع بوقفة في العقيق
مائل بين أربع مائلات ... ينزع الشوق من فؤاد علوق
(البحتري)
. . . أصابتنا في المدينة عين من المطر، فحبستنا في الدار أياماً، وجاءت بعد محل من الأرض، وشح من السماء، فروت الأرض، وأسالت الأودية، فاستبشر الناس بنا إذ كان قدومنا خيراً، وزيارتنا غيثاً، ومقامنا ربيعاً؛ وليس أجمل في أرض العرب من الربيع، ولا أجدى من الغيث؛ ثم انقشعت الغيوم بعد أيام، إلا جهاماً من السحاب هفاً رقيقاً، وأفتق قرن الشمس فخلع على الدنيا حلةً نسجت من خيوط النور. . . . وحلى اليوم وطاب، فخرجنا من دورنا نستمتع بجماله وطيبه، ونملأ صدورنا بهذا النسيم الناعش، وعيوننا بهذه المناظر الخلابة، وآنافنا بهذا الأرج يتضوع من هذه التربة المعطرة (بعطر السماء). . . وسرنا في (شارع العنبرية) نريد الحرم،، فلم نكد نتعدى (المناخة) حتى قيل: قد سال العقيق. . فإذا الوجوه تطفح بالبشر، وتفيض بالسرور، وإذا على كل لسان: قد سال العقيق. . . وإذا الناس يستعدون للخروج!
وهل يملك الناس نفوسهم، فيقعدون لا يخرجون إلى العقيق، وقد سال العقيق؟ وهل يذكر عربي العقيق ثم لا يذكر الحب والشعر، والفن والجمال، والحياة الناعمة والعيش الرغيد؟ أولم يكن وادي العقيق رمز الهوى والشباب، ومغنى الغنى والغناء، ومثابة الفن والأدب، ومجمع العشاق، وندى الشعراء؟ ألم يكن العقيق قلب المدينة حين كانت المدينة قلب العالم؟ ألم يولد على جنبات العقيق ديوان كامل من أبرع دواوين الأدب العربي وأحلاها؟ ألم تعش على أطراف العقيق العشرات من القصور الفخمة، والرياض النضرة، والمغاني التي فاض منها الشعر والسحر والعطر على الدنيا كلها؟ أليس لاسم العقيق حلاوة؟ أما عليه طلاوة؟ ألا يحلو في الأذن تكراره، ويلذ اللسان ترداده؟. . .
ألم يقرأ أحاديث العقيق، ويرو أشعار العقيق، من لم ير قط العقيق، فيهوى العقيق، ويحن إلى العقيق؟ فكيف يسيل العقيق ثم لا يخرج أهل المدينة إلى العقيق؟. . .(109/18)
أولم يسمع عبد العزيز بن الماجشون أن قد سال العقيق، وهو خارج من صلاة الصبح، فلا يتريث ولا يمر بداره، ويمضي إليه من ساعته، فيلهو فيه بعض اللهو، ويسمع فيه الغناء، وهو هو في مكانته ووقاره؟ فكيف بعامة الناس وشبابهم؟
خرجنا مع من خرج، فلم نجاوز السور ونترك عن أيماننا المحطة العظيمة، الخالية الخاوية، الكابية الباكية، التي أضاعها أهلوها، وأهملوها حتى نسوها. . . حتى بدت لنا الحرة السوداء الواسعة فسلكنا طريقاً فيها جديدة، على يسار الطريق القديمة التي تهبط الحرة على سلم منقورة في الصخر، وهذه النقرة هي ثنية الوداع، التي طلع منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله الولائد بالدفوف ينشدن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
والتي منها أشرق (البدر) على القلوب والعقول، فأنارها فهي منه في نور إلى يوم القيامة!
وسرنا في هذه الطريق نحواً من كيلين اثنين فانتهينا إلى بئر عروة، التي حفرها الإمام الزاهد العلم عروة بن الزبير، فكانت في قصره العظيم الذي اندثر، ولم يبق له من أثر، وهي أعذب بئر في المدينة وأطيبها، وكان ماؤها يحمل إلى الرشيد في قوارير وهو مقيم في الرقة؛ وإلى جانب البئر قهوة جديدة، قامت على جذوع النخل، فجلسنا فيها على كراسي مستطيلة، تتخذ في مقاهي الحجاز مجلساً وسريراً، تطل على الوادي العظيم
والوادي رغيب، بين عدوتيه أكثر من مائة متر، وعلى العدوة الأخرى جبال حمراء جميلة المنظر، وقد غنى الوادي وامتلأ، والسيل دفاع يلتطم آذيه، وتصطخب أمواجه، يرمي بالزبد، ويطوح بالفقاقيع، ويجري متكسراً وله خرخرة، وله دردرة، وعلى جانب الماء حصباء واسعة، قد جلس فيها المدنيون حلقاً، يحفون بـ (سماورات) الشاي البراقة العالية، ويغنون ويطربون، ما سمحت لهم (الحكومة) أن يغنوا ويطربوا. . .
جلس إخواننا يتجاذبون أطراف الحديث، فيذكرون بلادهم وأوطانهم، ويحنون إلى الغوطة الغناء، والعين الخضراء، والزبداني وبلودان، وتلك الجنان، وجلست أحدق في ماء العقيق، وأحن إلى أيامه الغر، وماضيه الفخم، وأفكر في حاضره الممض، وودايه القاحل، فأطيل التحديق، وأمضي في التفكير حتى أذهل عن نفسي، وأنسى مكاني، فأرى صفحة الماء(109/19)
تضطرب وتهتز، وتختلط فيها الأنوار، وتمتزج فيها الأضواء، كأنما هي سبيكة ذهب، أو قطعة ياقوت، ألقي عليها نور وهاج، ثم أراها قد استقرت وسكنت، فإذا العقيق غير العقيق، وإذا هو غارق في العطر والنور، وإذا من حوله العشرات من القصور، تضيء كأنها الثريا في السماء، فتنعكس أنوارها في الماء، فتتوارى النجوم استحياء، وتغص العين خجلاً، ثم تستتر ببرقع الغمام وتبكي، فيضحك العقيق لبكاء السماء، وتضحك الأرض لضحك العقيق!
وأرى قصر عروة العظيم، قد سطعت في شرفاته الأنوار، وحف به الشعراء والمغنون ينتظرون نزيله الجليل، الشاعر الغزل الفقيه المحدث عروة بن أذينة، ليأخذوا من شعره، ويحفظوا من حديثه، فإذا طال بهم الانتظار، وتصرم الليل، ولم يفوزا بطائل، ذهبوا إلى دورهم وقد أيسوا من لقائه تلك الليلة، وأزمعوا أن يباكروه من الغد. وسكن العقيق وخلا إلا من عاشق أرق (يناجي طيف من يهوى، ويبغي عنده السلوى) وخشع الليل، وأنصت الكون، فقام عروة على شرفة القصر، فراقه سكون الليل، وفتنه منظر العقيق، فهاج في نفسه الشوق، فاندفع ينشد:
إن التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك التي زعمت بها وكلاكما ... يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حب لها ... لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد ضحيت إذن لأظلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها
لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أرجو معونتها وأخشى ذلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا فقال: لعلها معذورة ... من أجل رقبتها، فقلت: لعلها
فلما كان الصباح، غدا أبو السائب المخزومي علي عبد الله، فقال له: أسمعت أبيات عروة أمس؟ قال: وأية أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر؟ قوله:
إن التي زعمت فؤادك ملّها. . . .
فأنشده إياها، فلما بلغ إلى قوله: لعلها، قال أبو السائب: أحسن والله، هذا والله الدائم العهد، الصادق الصبابة، لا الذي يقول:(109/20)
إن كان أهلك يمنعونك رغبة ... عنيّ فأهلي بي أضنّ وأرغب
وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك (يعني عروة) حسن ظنه بها، وطلبه العذر لها؛ ثم يعرض عليه عبد الله طعاماً فيقول: لا والله ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاماً إلى الليل!
وينتظر عبد الله حتى إذا حان المساء، وأثر الجوع في أبي السائب ذهب إليه فقال له: (جئت أنشدك وأحدثك) فيقول: (هات ما عندك)، فيحدثه وينشده، حتى ينشده بيتي العرجي:
باتا بأنعم ليلة حتى بدا ... صبح تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقول أبو السائب: أعده عليّ، فيعيده أبو مصعب، فيستفز المخزومي الطرب فيحلف بالطلاق لا ينطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته!
ويمرّ بهما عبد الله بن حسن بن حسن وهو منصرف من مال له يريد المدينة فيسلم عليه ويقول: كيف أمسيت أبا السائب؟
فيقول:
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقول أبن حسن: مالك يا أبا السائب، إني لا أكاد أفهم عنك
فيقول:
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقبل عبد الله بن حسن علي عبد الله، فيقول: متى أنكرت صاحبك؟ فيقول: منذ الليلة، فيقول: إنا لله! أي كهل أصيبت به قريش! ثم يمضي
ويمر بهما عمران بن محمد التميمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة له ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فيسلم ويقول: كيف أنت يا أبا السائب؟
فيقول:
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقول القاضي لعبد الله: متى أنكرت صاحبك؟ فيقول: آنفاً، فيسترجع القاضي ويهم بالمضي، فيمكر عبد الله بصاحبه ويقول: أفتدعه هكذا أيها القاضي وتمضي؟ والله ما آمن أن يتدهور في بعض آبار العقيق، قال القاضي: صدقت، يا غلام! قيد البغلة، فيضع القيد(109/21)
في رجله وهو يشير بيده ويصيح:
فتلازما عند الفراق صبابة ... أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر!
ثم يضطرب الماء ويموج، فتنطمس الصورة فلا أرى في الماء إلا أشباحاً مبهمة، مهتزة متداخلة، ثم تبين وتضح، فإذا أنا أرى قصر عروة، وقد هيئ وفرش، ودارت به الخدم والعبيد، واجتمع من حوله السراة والأعيان، وهم يتحدثون تبدو عليهم أمارات الملل والقلق، فعل الذي ينتظر شيئاً ويبطئ عليه، وأدنو منهم فأفهم من حديثهم أن القادم صاحب القصر عروة بن الزبير، أحد الفقهاء السبعة، وقد كان في دمشق فأصابته الأكلة في رجله، فأراده الأطباء على قطعها وإلا سرى الداء فأفسد عليه جسده، وقيل له نسقيك الخمر حتى لا تجد ألماً! فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية. قالوا: نسقيك المرقد. قال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فاحتسبه
قالوا: فما تصنع إذن؟ فأخذ في التهليل والتكبير، وقال: شأنكم بها!
ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك. فإن الألم ربما عزب معه الصبر، وأنت شيخ كبير!
قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي. فقطعت كعبه بالسكين، حتى إذا بلغ العظيم وضع عليه المنشار. . . فقطعت، وهو يهلل ويكبر. . . ثم أغلى له الزيت في مغارف الحديد، فحسم به. فغشى عليه ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، فلما رأي القدم بأيديهم، دعا بها فقلبها في يده، ثم قال:
أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم إني ما مشيت بك إلى حرام. . . .
وأسمعهم يتحدثون كيف دخل ابنه محمد - وهو فتى المدينة جمالاً وكمالاً، وأدباً ونسباً - كيف دخل اصطبل الوليد فرمحته دابة فقتلته، وما يعلم عروة بشيء من ذلك، وكان عروة رجلاً صالحاً قد عاف الدنيا، وانصرف عنه، ولم يرد منها إلا زاداً يقطع عليه الطريق إلى الجنة:
ذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع مرة بين عبد الملك أبن مروان وعروة وأخويه عبد الله ومصعب، على عهد معاوية أبن أبي سفيان فقال بعضهم لبعض: هلم فلنمن
فقال عبد الله: منيتي أن أملك الحرمين، وأنال الخلافة(109/22)
وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين، وأجمع بين عقيلتي قريش: سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة
وقال عبد الملك: منيتي أن أخلف الأرض كلها - وأخلف معاوية
فقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة بالآخرة، وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم
فصرف الدهر من صرفه - إلى أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله - فكان عبد الملك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى عروة؟
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(109/23)
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
تتمة
بقيت هنات مما اقترف الكماليون لا أبغي إحصاءها، بل اكتفي بواحدة منها هي: لبس القبعة. والأمر في نفسه هين. ولكل أمة أن تتخذ من اللباس ما يلائم هواها، ويواتي حاجاتها، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم؛ ولكن الكماليين اتخذوا القبعة عمارة لهم سيراً على خطتهم في تقليد الأوربيين وإتماماً لسننهم في محاكاتهم، وإمعاناً في هجر ما يميزهم منهم فيحرمهم شرف الفناء فيهم. ولو أن القوم فكروا ثم فكروا فرأوا أن لا مناص لهم من لبس القبعة ضرورة يقتضيها الزمان والمكان لا بدعة يمليها التقليد لكان لهم في العقل مساغ، وفي العذر متسع، ولكان عليهم مع هذا أن يفهموا الأمة بالدليل، ويجادلوها بالحسنى، حتى ترى أن القبعة لباس اختاروه لأنفسهم، لا ذلة ضربت على رؤوسهم، فقد عاشت الأمة التركية أحقاباً ترى هذه القبعة شعار مخالفي دينها، ولباس أعداء تاريخها. فلما أكره التركي في ثورة التقليد أن يضعها على رأسه أحسها ذلة طأطأ لها الرأس الأبي، وعاراً ذلت له النفس الكريمة. وحاولت رؤوس أن تنبذها فقطعت، وأرادت نفوس أن تستهجنها فقتلت. وإنك لتبصر رأس التركي الأصيد، وكأنه حمل من الذل ملء الأرض والتاريخ، وسيم من الخسف ما تنوء به عزته وعزة آبائه. وليس هينا على أمة أن تسام هذه الحطة، وتحمل على هذا العنت. وإن يكن بعض الترك لبس القبعة عزاً وفخاراً، فقد لبسها معظمهم خزياً وشناراً، تنطق بذلك أساريرهم وتبين عنه عيونهم؛ ولو أن القوم، إذ رأوا رأيهم، أخذوا به النشء الصغار، وخيروا فيه الكبار، لهان الأمر بعض الهوان. تصور الشيخ أبن السبعين أو الهم التسعين قد شابت لحيته في الإسلام، ونبتت نفسه وترعرعت ثم ذبلت في كره القبعة، يكره على أن يختم حياته بها، ويتوج شيبته بسوادها. وانظر ذلك الشيخ الجليل الذي كان يدرس العربية في جامعة استانبول فقيل له: البس القبعة وانزع العمامة. قال: أعانوني وعدوني من رجال الدين. قالوا: فاخرج من الجامعة إن لم يكن لك بد من عمامتك. فخرج منها وخلفه فيها معلم ألماني، فكان يأخذ عنه علم العربية ويعلم الطلبة، وكفى الله الطلبة عمامة الشيخ وعلمها، وأسعدهم بقبعة الألماني(109/24)
وبركتها
وقد جاءت الأنباء بأن الإيرانيين حذوا حذو الترك في لبس القبعة، ولم يقنعوا بالبهلوية (التي ابتدعوها) فهنيئاً لهم تقليد المقلدين
فلو كان عبد الله مولى هجوتُه ... ولكنّ عبد الله مولى مواليا
وأعجب من هذا وأشأم صيحة سمعناها من العراق تدعو إلى الاقتداء بالفرس والترك فيما صنعوا. وهي دعوة إلى هذا التقليد الأشأم الذي يبدأ في ناحية فيسري سريان العلة في جميع النواحي؛ إذا ضل العرب في الضالين، وتهافتوا مع المتهافتين، فبأي وزر تعتصم الحضارة الإسلامية، وبأي ملاذ يلوذ التاريخ الإسلامي؟ وكيف تثبت الأمم الإسلامية في هذه الزعازع إذا مال العرب وهم العماد، وزلزلوا وهم الأوتاد؟ كيف وهم الحلماء إذا طاشت الأحلام، والراسخون إذا زالت الأقدام؟
ما أحسب العراقيين يستجيبون هذه الدعوة، فيسنوا للعرب أقبح سنة، أو يستبدوا دونهم برأي، وهم الدعاة إلى الأخوة العربية، الغلاة في الحماسة القومية؛ الأمر، كما قلت، هين إذا أدت إليه الروية والاختبار، فليجتمع وفود العرب أو وفود المسلمين كافة في مؤتمر عربي أو إسلامي، ولينظروا فيما يلائم كل إقليم من الأزياء، وما يوافق المدنية الحاضرة من ألبسة، ثم ليختاروا على بينة. وليكن ما يختارونه موافقاً لأزياء أوربا أو الشرق، أو مخالفاً لكل أزياء العالم، فلا حرج في هذا ولا بأس به
لقد لبس العراقيون منذ سنين عمارة سموها الفيصيلية جمعت مزايا القبعة الأوربية والعقال العربي، يسهل خلعها ووضعها، وتحمي الرأس والرقبة والوجه عند الحاجة، وهج الشمس ولفح الهجير، وتفرغ على راس العربي جمالاً وجلالاً، وتتوجه بمجد الماضي والحاضر. فلماذا لا يدعى إلا تعميمها، ويحتج لها بمزاياها؟ ألا أنها اختراع لم تلده قرائح الأوربيين، ولباس لم تقره سننهم؟ إن لم يكن بد من شهادة أوربية فسلوا أهل أوربا العالمين بأحوال بلادكم فسيقولون إنها خير لكم من القبعة، وأجدى عليكم منها. ليت شعري إلام ندعو إلى اليقظة فتنامون، وإلى الحذر فتستسلمون، وإلى العزة فتهنون، وإلى الاستقلال فتتبعون، وإلى الاجتهاد فتقلدون؟
كفى يا قوم بالزمان واعظاً، وبالتجارب هادياً. إنكم في مهب العواصف، ومفترق الطرق،(109/25)
فخذوا حذركم، ونبهوا عقولكم واشحذوا عزائمكم، ولا تصدروا إلا عن بينة، ولا تقولوا إلا عن رؤية، فأنه الحياة أو الموت، والبقاء أو الفناء
الخاتمة
رأى القراء مما قدمت أن الترك الكماليين لم يأتوا بجديد في هذه (النهضة التركية الأخيرة) ولكنهم ساروا على سنن أوربا فأحسنوا وأساءوا. أحسنوا بما أخذوا بأسباب الحياة فاجتهدوا في تعمير بلادهم وإسعاد أهلها، وتوسلوا لمعارك الحياة بعددها فدربوا الجيوش واستكثروا من السلاح وجعلوا أنفسهم سادة بلادهم. وأساءوا بما تبعوا أهل أوربا في أمور هي من نفايات الحضارة، وحثالات المدنية، وبما هجروا من أجل ذلك كثيراً من سنن دينهم القويم، وأخلاقهم الكريمة، وتاريخهم المجيد. وأذكر في هذه الخاتمة ما قاله في أوربا بعض أولي الرأي منذ سنين: قال: (كأن الكماليين بما يفعلون اليوم يقولون يا أهل أوربا! معذرة، لا تؤاخذونا بما فعل آباؤنا فقد حاربوكم جهدهم، وجالدوكم ما استطاعوا، ودافعوكم جهد طاقتهم، وما كانوا ينشرون حضارة أو يدافعون عن حضارة. وهانحن أولاء نعترف بأن الخير في اتباعكم، والشر في مخالفتكم، وإن آباءنا أثموا إذ منعوا عنا خيركم، فاقبلوا الأبناء في جماعتكم، ولا تأخذوهم بذنب آبائهم. هانحن أولاء نحني رؤوسنا إكباراً لكم، ونلوم أجدادنا من أجلكم.)
وبعد. فهذه الكلمات التي كتبتها لا تفي بهذا الموضوع العظيم، ولا بد أن يتعاون الكتاب والمفكرون في هذه السبيل حتى يجلوا عن الأمة هذه الغمة، ويدفعوا عنها هذه الفتن المدلهمة، والشبه المضلة، ثم يسيروا بها على المحجة البيضاء إلى الغاية المجيدة. فإنما نحن في فتن لا عذر فيها لمقصر ولا حجة فيها لمتهاون
وما أردت بما كتبت إلا وجه الله، والله هو الحق المبين. وهو حسبنا ونعم الوكيل (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.)
عبد الوهاب عزام(109/26)
المدنية الأمريكية
كما يصفها أندريه موروا
للأستاذ محمد روحي فيصل
أندريه موروا كاتب فرنسي معاصر، وروائي واسع الشهرة؛ وهو الآن في الخمسين من عمره، يكتب كثيراً ويعمل كثيراً، ولعله (الحركة الدائمة) التي ينشدها علماء الطبيعة، والغريب أن إنتاج موروا على كثرته خصب عميق، فيه ملاحظات نفسية قيمة، وفيه وصف بارع طريف، وفيه حلاوة قل أن تجدها عند غيره من الكتاب والروائيين
قام بسياحة إلى أمريكا منذ حين، زار في خلالها مدن الشواطئ الشرقية، ورأى آثارها، وحاضر في جامعاتها، وفهم في شهرين حقيقة المدنية الأمريكية ومظاهرها الصحيحة، ثم عاد إلى وطنه وألقى محاضرة قيمة طويلة نقتطف منها ما يلي:
(وصلت باخرتنا إلى نيويورك في الصباح الباكر فراعتني المدينة العظيمة النائمة، وطغى علي شعور غريب جميل. والحق أن مرفأ نيويورك منظر لا أعرف أبهج منه ولا أروع ولا آخذ بلب الرائي الممعن! بقينا على الماء نسير خمسة أيام ثم طلعت علينا نيويورك بوجهها الضخم وهيكليها العريض كما يطلع الجبل الشاهق على المسافر العاني بعد طوال السير وطي الأميال. وجلنا في الشوارع نسير على غير هدى، فإذا المباني ضخمة بالغة الضخامة، متينة بالغة المتانة، تشق الفضاء طولاً وعرضاً واتساعاً. ونلاحظ أن الضخامة مظهر من مظاهر الجمال، وأعني أن جمال الشيء إنما يرجع أحياناً إلى ضخامته الناشزة؛ أرأيت إلى أهرام مصر أو قصر (بيتي) كيف أن علوهما خلع عليهما جمالاً خاصاً على جمال الفن والهندسة)
(والأمريكيون شعب يعمل في جنون، فلا يريح جسده ولا يريح عقله، وإنما يجهدهما في التجارة والصناعة والاختراع؛ وهذه الظاهرة هي أقوى ما يلمح العابر السائح من الصور. ويل للمحاضر في أمريكا! إنه يخضع للحركة الأمريكية الطاغية، ففي الصباح يلقي محاضرة، وعند الظهر يرأس حفلة خطابية، ثم يحاضر في نادي النساء، وفي الساعة الخامسة يقول كلمة في جامعة كولمبيا أو الاتحاد الفرنسي؛ وأنى رحل يجد برنامجاً طويلاً سريعاً يبتدئ من الصباح وينتهي في منتصف الليل!)(109/27)
(إن العقلية الأمريكية تتطلع إلى عرفان كل شيء، وتولع بالجديد الغريب؛ وهي عقلية فتية تؤمن سريعاً وتكفر كثيراً؛ وأنت لابد ناجح في أمريكا إن كنت روائياً طريفاً ناقدً متفلسفاً. والكاتب الناشئ يغدو معروفاً في أقل من شهرين، تقام له الحفلات الرائعة، وتتحدث إليه الصحف، وتطبع مؤلفاته مراراً ثم. . . ثم يموت في أذهان الجمهور، وينحدر إلى الخمول والنسيان، كأنما هي شهرة خاطفة تمتع بها قليلاً وحلم فيها كثيراً ثم عاد إلى الواقع المجهول يتفيأ ظلال الذكرى وبقايا المجد!)
(والشخصية الفردية لا أثر لها في أمريكا على الأطلاق، والسعادة الروحية لم يتمتع بها الأمريكي بعد لذاته؛ دائماً (خدمة الجمهور) هو المذهب السائد الذي يؤمن به الأمريكيون كافة، وهو مذهب، على قيمته، خطر كل الخطر، مفسد للشخصية والنبوغ، لأن المرء الذي لا يبالي بوجوده الفردي يعد آلة تعمل من غير شعور ولا تطور. والواقع أن المصانع قامت مقام اليد العاملة، والآلة طغت على الفن، (والكثرة) هي المقياس الذي توزن به قيم الأعمال ونتائج الأشياء)
(وهذه المساوئ التي نذكرها ويذكرها غيرنا ليست مساوئ النفس الأمريكية، وإنما هي مساوئ المدنية الغربية الحاضرة. ولئن مات الفن اليدوي في أمريكا وعاشت الآلة فإنما يموت الفن وتحيا الآلة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا؛ ونستطيع أن نستثني مهنة النقوش والخياطة والفسيفساء التي يمارسها القليل من الخلائق البشرية؛ أما عامة الشعب فمحشود في المصانع يعمل مجتمعاً من غير تفكير في الذات؛ والأدب الأمريكي أدب الصناعة حقاً، يصور ميكانيكية المعمل وسرعة الحياة واضطراب المجتمع؛ أما أزمات النفس، وثوران العواطف، وانفعالات الأهواء، فهي غريبة نكرة في الأدب الأمريكي الحديث. . . . .
الواقع أن الحياة الحاضرة حياتان: حياة آسيوية أخروية متشائمة ساخطة، نظرت إلى الدنيا من خلال منظار أسود كئيب، فرأت جوعاً وفقراً ومرضاً وظلماً، فكرهت المجتمع الحافل، وانعكفت على التصوف وأحبت الأحلام، ثم قالت: إنما الدنيا متاع الغرور!. وحياة أمريكية دنيوية صناعية لا تبالي بالباطن العجيب، ولا تعنى إلا بالأرض؛ فالأمريكي قل أن يلتفت إلى نفسه يطالع فيها ويتأمل جوانبها على نحو ما يفعل الأسيوي الحالم، وإنما هو يطالع في(109/28)
الآلة والمصنع والأرض، ثم يحاول أن يجد السعادة فيما يحيط به من الدنيا الواقعة المحسوسة
وعندي أن الحياتين على نفعهما لا تصلحان للبشرية، فالتطرف مذهب لا أحبه لنفسي ولا أرضاه لجنسي، وإنما أرجو حياة وسطاً بين الحياتين، قوامها الحس والتفكير، ومادتها الدنيا والنفس، وغايتها التقدم والمرح والإنتاج. ولعل الحياة الأوربية هي الحياة التي تجمع خصائص الحياتين المتطرفتين الأسيوية والأمريكية. .
وهنا قد يستطيع الفرنسيون أن يوفقوا بين هذه وتلك، وينشروا الاعتدال؛ فالمدنية الفرنسية مدنية قديمة ذات أدب خصب صحيح، لها أنصار كثيرون، ولها ماض جليل حافل، ولها صناعة قوية جميلة. وإنما المهم أن يعرف الفرنسيون أي سبيل يسلكون لذيوع الثقافة الفرنسية وتأثيرها في العقول. ولقد ينبغي قبل كل شيء أن نفتح أعيننا جيداً حين نطوف البلاد ونجول الأرجاء، ثم نرسل العقل حراً في البحث والتفكير، والمطالعة والاستنتاج)
محمد روحي فيصل(109/29)
فرقة الخوارج
بقلم فريد مصطفى عز الدين
فرقة الخوارج من تلك الفرق الهدامة التي نشأت في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، وكانت حرباً على الدولة الإسلامية، وعقبة كأداء في طريق عزها وازدهارها. أما العوامل التي أدت إلى ظهور الخوارج فكانت في بادئ الأمر سياسية ثم ما لبثت ميولهم أن اتجهت إلى الناحية الدينية فأخذوا يحوكون حولها معتقداتهم ونظرياتهم
تسميتهم
لا نجد في التاريخ الإسلامي كله فرقة تعددت أسماؤها كهذه الفرقة، غير أن اسم الخوارج قد غلب عليها. وقد سموا بالخوارج لخروجهم على الإمام علي بن أبي طالب في معركة صفين سنة 37 هجرية لقبوله التحكيم وقولهم: لا حكم إلا لله، لا حكم للرجال. ويقول بعض المؤرخين إنهم دعوا بالخوارج لخروجهم بعد ظهور نتيجة التحكيم في رمضان سنة 37 هجرية من الكوفة إلى النهروان. ثم تطور هذا الاسم فأصبح يطلق على كل جماعة خرجت على القانون والسلطة الحاكمة سواء في صدر الإسلام أو زمن التابعين
أما الخوارج أنفسهم فيقولون أنهم تسموا بهذا الاسم لخروجهم من بيوتهم طلباً للجهاد والاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله والدين الحنيف، ويستندون في ذلك على قول الله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفةُ منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلُّوا فليصلُّوا معك، وليأخذوا حِذرهم وأسلحتهم، وَدّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم مَيلةً واحدة، ولا جُناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعدّ للكافرين عذاباً مُهينا)
وهنالك اسم آخر يطلق على هذه الفرقة وهو اسم الشراة، ويقال إن الخوارج يفضلونه على الاسم الغالب عليهم، لأن هذه التسمية تعني أنهم اشتروا الجنة بالدنيا واستبدلوا الباقية بالفانية استناداً على الآية الكريمة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا بِبيْعِكُم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)(109/30)
ودعيت هذه الفرقة أيضاً فرقة المحكمة، وذلك لأنها حكمت الله تعالى ورفضت تحكيم العبيد. ويميز المؤرخون الفرقة الأولى من الخوارج التي انشقت على عليّ بن أبي طالب في صفين عن الخوارج بدعوتها الفرقة المحكمة الأولى أو الحارورية نسبة إلى حاروراء بقرب الكوفة، وهي المكان الذي خرجوا إليه، ويدعون بقية الخوارج فرقة المحكمة
نشأتهم
من الصعب أن نعين العلاقة بين ظهور الخوارج ومسألة التحكيم، فنقول إن هذه نتيجة لتلك وإنه لولا مسألة التحكيم لما اعترى جيش الإمام علي ذلك الانقسام ولما نشأت فرقة الخوارج؛ وقد عني البعض ببحث هذه النقطة فتبين لهم بعد دراسة عميقة أن نشوء الخوارج ومسألة التحكيم مستقلتان عن بعضهما استقلالاً تاماً. ويعتقد المستشرقون لامانس وكايتاني وولهاوسن أن فرقة الخوارج ظهرت قبل التحكيم مما يدل على صحة الرأي القائل باستقلال المسألتين بعضهما عن بعض. ولكن المستشرق ديلافيدا يخالف رأي لامانس ورفيقه، ويقول إن الخوارج ظهروا بعد التحكيم
معركة صفين
تولى علي بن أبي طالب الخلافة والعالم الإسلامي في غليان شديد من جراء مقتل الخليفة عثمان بن عفان وعواقب هذه الجريمة، فلم تكن مبايعته بالإجماع كأسلافه. وكان عدوه الأكبر معاوية بن أبي سفيان والي الشام الذي خرج طالباً للثأر من قاتلي قريبه الخليفة المغدور. فلما انتهى علي من أمر طلحة ابن عبد الله والزبير بن العوام في موقعة الجمل بالقرب من البصرة سار طالباً معاوية فالتقى الجيشان في سهل صفين وهو مكان قريب من بلدة الرقة في شمالي شرق الشام
وفي أول صفر من سنة 37 هجرية، ابتدأ القتال بين الفريقين فرجحت كفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فخاف معاوية العاقبة، وعمد إلى الحيلة يساعده على إتقانها الداهية الأكبر عمرو أبن العاص. وبينما كانت الحرب مستمرة إذا بجنود الشام يرفعون المصاحف فجأة على أسنة الرماح طلباً للتحكيم. فلم يؤخذ علي بهذه الحيلة، وقرر الاستمرار في القتال إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. ولكن فريقاً كبيراً من جند علي قبل التحكيم وحمل(109/31)
زعيمه على قبوله رغماً عنه. وبعد أن رضي الإمام بالتحكيم قام فريق آخر من جنده يندد بالتحكيم، ويصيح: لا حكم إلا لله، لا حكم للرجال، ويظهر أنه كان بين هذا الفريق بعض من أتباع الفريق الأول. فانقسم بذلك جيش علي إلى شطرين، ونجحت الحيلة التي قال فيها عمرو (إن قبل خصومنا التحكيم اختلفوا، وإن ردوه افترقوا)
ولما ظهرت نتيجة التحكيم التي تقضي بخلع علي عن الخلافة - ولا أقول معاوية، لأن إقرار عمرو بن العاص بخلع صاحبه لم يؤثر في مركز معاوية لأن خلعه كان وهمياً، إذ إن معاوية لم يكن خليفة ليخلع عن عرشها - رفض علي قبولها، وهكذا أضعفت نتيجة التحكيم مركز علي وقوت مركز معاوية
فقويت برفض علي لنتيجة التحكيم حجة الفريق القائل بعدم قبول التحكيم منذ بادئ الأمر، واكتسب إلى صفه جميع الموتورين من سياسة الإمام. وهكذا نرى أن فريق الخوارج كان مؤلفاً من جماعات متفككة العرى تجمعها مناوأة سياسة علي، إما لأنه لم يقبل التحكيم أولاً أو لأنه قبل التحكيم ثانياً، أو لأنه رفض قبول نتيجة ثالثاً. والقسم الأكبر من الخوارج هم الذين أخذوا على علي قبوله صارخين: لا حكم إلا لله. ثم انظم إلى هذه الفرق المختلفة كل من كان ناقماً على السلطة أو خارجاً على القانون، حتى أصبح معسكر الخوارج ملجأ لهؤلاء، أيام الراشدين والأمويين والعباسيين
وبعد انشقاقهم على جيش الخليفة ساروا إلى حاروراء وانتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي خليفة عليهم. وقد اضطر علي أن يحمل عليهم قبل أن يسير لقتال معاوية ليأمن شرهم، فقاتلهم في معركة عظيمة تدعى معركة النهراوان في 8 يوليو سنة 658 ميلادية، وتغلب عليهم، غير انه دفع ثمن هذا النصر غالياً، لأن هذه المعركة أضعفت جيشه فأصبح عاجزاً عن المسير إلى سورية لحرب معاوية، وبقي بالكوفة إلى أن قتله ابن ملجم الخارجي سنة 661
الخوارج في عهد الدولة الأموية
اشتدت في عهد الدولة الأموية قوة الخوارج، وكانوا من العوامل الرئيسية التي طاحت بحكم الأمويين، فما من خليفة أموي إلا ثاروا عليه، غير أنهم ظهروا واشتهروا خصوصاً في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان، وكانت ميادين القتال العراق وخراسان. وقد بدأ(109/32)
بقتال الخوارج مصعب بن الزبير - شقيق عبد الله بن الزبير منافس عبد الملك بن مروان في الخلافة - وكان قائده المهلب بن أبي صفرة. ولما تغلبت قوات عبد الملك على الزبيريين وقتل مصعب كان لا يزال المهلب يحارب الخوارج فبايع عبد الملك بالخلافة حالما بلغه نعي مصعب وتابع قتاله
ثم أرسل عبد الملك في سنة 75 هجرية الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق فتمكن بشدة بأسه من خضد شوكة الخوارج. وقد امتازت فرقة الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق من فرق الخوارج ببسالتها وشدتها واستماتتها في ميادين القتال والنزال
الخوارج في عهد الدولة العباسية
ضعف أمر الخوارج في عهد الدولة العباسية ولم تعد فرقهم خطراً على الدولة الإسلامية كما كانت نشأتها في العصر الأموي، غير أنهم لم يعدموا أوقاتاً قاموا فيها ببعض الثورات والفتن. وقد اشتهرت من بين فرقهم في هذا العهد فرقة ألاباضية أتباع عبد الله بن أباض التي ظهرت في عمان وعلى الخليج الفارسي وفي أفريقيا الشمالية أي تونس الخضراء والجزائر والمغرب الأقصى
ولما غلب الخوارج على أمرهم في الناحية السياسية أخذوا ينصرفون إلى الناحية الدينية ويحوكون حولها نظرياتهم ومعتقداتهم الدينية
تصلب الخوارج وشدتهم في المعتقدات الدينية
عرفت فرق الخوارج واشتهرت بتصلبها الديني الشديد وتمسكها بالمعتقدات الدينية التي تدين بها، ولذا كانت كل جماعة منهم ترى أن زعيمها بدأ ينحرف عن المبادئ التي تعترف بها انشقت عنه وعن أفراد فرقتها وكونت لها فرقة خاصة، وهذا هو السبب في تعدد فرق الخوارج وتشعبها. ومن الفرق الفرقة ألاباضية والفرقة الصفارية والأزاردة والعجاردة والنجدات وغيرها. وكانت كل فرقة تنقسم إلى فرق صغيرة عديدة، وقد ذكر الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ثماني فرق من الأزارقة. ولا ريب أن انقسام الخوارج إلى فرق متعددة كان عاملا قويا في إضعاف شأنهم وزوال هيبتهم
معتقدات الخوارج السياسية(109/33)
قلنا في صدر هذا المقال إن حركة الخوارج بدأت حركة سياسية ثم تحولت بمضي الوقت إلى حركة دينية. ولذا فان معتقداتهم تدور على وجهين سياسي وديني. فأما معتقداتهم السياسية فتدور حول مسألة الخلافة، ولهم في هذه المسألة مواقف أساسية يخالفون بها السنة والشيعة. فهم مثلا لا يقيدون جنسية الخليفة ولا يمانعون في أن يكون حتى زنجياً، بينما أن السنيين لا يجيزون سوى انتخاب قرشي للخلافة. أما الشيعة فيذهبون إلى أبعد من ذلك ولا يعترفون إلا بالخليفة الذي هو من آل البيت
ولا يرى الخوارج أن من الضروري وجود خليفة على رأس الأمة إذا انتظمت أمور الرعية، بينما أن الشيعيين يقولون بوجوب بقاء الإمام في كل عصر ودهر. أما السنيون فليس عندهم إجماع عام على هذه المسائل
وليس الخليفة معصوماً عن الخطأ كما هو الحال عند الشيعة، فهم يجوزون القيام عليه حتى قتله إذا بدا منه اعوجاج أو عدل عن الصراط المستقيم الذي يتحتم على الخلفاء أن يتبعوه. وهم لا يعترفون من الخلفاء الراشدين إلا بالشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا يعترفون بالخلفاء الأمويين والعباسيين وأصحاب موقعة الجمل أي طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام
معتقدات الخوارج الدينية
أشرت آنفاً إلى التصلب الديني الشديد الذي اشتهر به الخوارج، فهم يطلبون من المؤمن أن يقرن إيمانه بالعمل الحسن إذا أراد الثواب، لأن الإيمان وحده غير كاف لدخول جنة الفردوس. ويكفر الخوارج صاحب الكبيرة، فهم بذلك على عكس فرقة المرجئة التي ترجئ تكفير المؤمن إلى يوم القيامة. ويذهب الأزارقة - ومذهبهم أشد مذاهب الخوارج تصلباً - إلى أن مخالفيهم مشركون، ودرجة الإشراك عندهم أشد وأدهى من درجة الكفر، فهم يستبيحون قتل مخالفيهم مع نسائهم وأولادهم
ومن الغريب أن هذه الفرقة المتعصبة لمذهبها، الصلبة في معتقداتها، القاسية على إخوانها من المسلمين متسامحة مع اليهود والنصارى وغيرهم من الذميين. والبعض من الأزارقة يعتبر غير المسلم مؤمناً إذا أعترف برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالمين.(109/34)
ويظهر تسامحهم نحو غير العرب في أنهم يجيزون خلافة كل مسلم سواء أكان حبشياً أم عبداً زنجياً
ويتردد بعض الخوارج في قبول سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم لاعتقادهم أنها سورة غرامية، فلا يمكن أن يحويها كتاب الله. والبعض الآخر يتردد في قبول سورة أبي لهب
أما في الفقه فهم لا يعترفون من أصوله الأربعة إلا بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وإجماعهم فقط لإجماع الأمة الإسلامية. أما القياس فلا يعترفون به ولا يقبلونه ركناً رابعاً للشريعة الإسلامية السمحاء التي سنها الله جل جلاله للمسلمين نبراساً ومعواناً. أما التفسير فهم لا يقيدون أنفسهم به ولا يؤولون
ويظهر تصلبهم الديني بوضوح في فروض الصلاة، إذا لا يكفي في نظرهم أن يكون الجسم عند الصلاة طاهراً، بل يجب أن يكون الفكر كذلك، لاعتقادهم أن الفكر السيئ يبطل الصلاة كما أن الحسم الملوث يبطلها. ونظراً لتصلبهم الشديد في معتقداتهم السياسية والدينية دعاهم بعض المؤرخين الغربيين
فلسفة الخوارج وأدبهم
ويمثل الخوارج في إحدى فرقهم حركة فكرية لا يستهان بها جعلت المستشرق الكبير ديلافيدا يجزم بأنه يجب أن يكون من جراء ذلك علاقة وثيقة بين المعتزلة والخوارج. وتنحصر أهميتهم من الناحية الفلسفية في أثارتهم مسألة الإيمان والعمل وكان مجرد تطرف معتقداتهم يجذب إليهم أحياناً البعض من العلماء والأدباء والشعراء الذين تستهويهم المبادئ المتطرفة
وقد حفظت لنا كتب الأدب العربي كثيراً من أدبهم وشعرهم وحكمهم وخصوصاً آثار شاعرهم العظيم وخطيبهم المفوه قطري بن الفجاءة
الخوارج اليوم
لم يبق من فرق الخوارج إلى اليوم إلا فرقة الأباضية، وهي من الفرق المعتدلة، وقد نشأت في الأماكن الإسلامية النائية، في عمان ثم في شرقي أفريقيا الشرقية، ثم في أفريقيا(109/35)
الشمالية. وتكون هذه الفرقة الآن دولة مستقلة في داخلية سلطنة عمان على الخليج الفارسي.
فريد مصطفى عز الدين(109/36)
حديث
بقلم الأديب أحمد الطاهر
نفض يديه الشريفتين من غبار الحرب وجلس إلى أصحابه وقال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.) قول على سهولة وضعه، وبساطة لفظه، يدل على فهم وثيق للحياة، وإدراك عميق لأسرارها، ووزن صحيح لحقيقتها. وهو يدل من ناحية على عظمة هذه النفس النبوية التي وازنت بين جهاد الغزو، وكفاح الحرب، - وفي ذلك ما فيه من كرب وبلاء - وبين جهاد الإنسان في الحياة تلقاء ما يلقى من خطوبها، وأحداثها، وصروفها، واعناتها، وما يفرض عليه فيها من حقوق لا مندوحة عن أدائها، فأدرك رسول الله وقال إن الحرب جهادها أصغر، وإن الحياة جهادها أكبر، وإن جهاد الأبدان هين يسير، وجهاد النفوس شاق عسير، وإن جهاد الغزو محدود بوقته قصر أو طال، وجهاد الحياة يبدأ بالحياة وينتهي بانتهاء الآجال
وفي كلمة رسول الله تحديد لما بين النفوس والأبدان من صلة تجعل للنفوس على الأبدان سيطرة وسلطاناً، وتسخر الأبدان للنفوس فيما توجهها إليه من غايات ومقاصد
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وكلما علت النفوس سمت أغراضها، وجلت مآربها، فاشتد الجهاد والنضال بينها وبين ما يتكاءدها في سبيل الحياة من عقبات وحوائل، حتى يصبح جهادها عنيفاً حاراً يهون إلى جانبه جهاد الغزو على ما فيه من سفك للدماء
ولا جدال في أن صاحب السلطان والأمر ومن اضطلع بتدبير شؤون الرعية والقيام على حقوقها، والذود عنها يلقى عناء ومشقة وعسراً، يتضاءل أمامها ما يلقاه أوزاع الناس وعامتهم ممن ليس عليهم من الأمر إلا أن يسخروا أبدانهم لنيل غرض أو بلوغ مقصد
أدرك رسول الله أنه وقد خرج من ميدان الغزو ونفض عن نفسه وعن أصحابه نقع الحرب، سيلقى ميدان جهاد أوسع وأرحب وأكثر عناء وأشد بلاء، أليس عليه بعد هذا الغزو من أعباء الدنيا والدين، ما لا يقوم به إلا أولو العزم المتين؟
أليس عليه أن يقر هذا النصر الذي أحرز، ويرجع الأمور إلى نصابها في السلم بعد أن نبت بها مواضعها في الحرب؟(109/37)
أليس عليه أن يواصل السير في تبليغ الرسالة التي أؤتمن عليها، وأن يسوس بالعدل والرحمة الأمة التي بعث إليها، وأن يثبت بين الناس شرعة قد نشر لواءها، ويسلك بهم ودياناً قد مسح غثاءها؟
أليس عليه أن يؤدي لله شكراً على هذا النصر والتأييد؟ وأداء هذا الشكر لا تعرفه إلا هذه النفس العظيمة التي لا ترضى فيه بما دون الغاية، ولا تنتهي فيه إلى نهاية؟
أليس في ذلك من العناء والجهد ما يهون بجانبه عناء الحرب وجهادها؟
وأهون ما يهون به عناء الحرب وجهادها أن رسول الله المؤيد بروح الله، ليس عليه إلا أن يستنفر الناس فيسعوا إليه زمراً تخضع لآرائه، وتنضوي تحت لوائه؛ وأما جهاد السلم الذي ألممنا ببعض نواحيه إلماماً فمكتوب عليه وحده، يضطلع بالأمر فيه، ويحيط بأسراره وخوافيه، وهو في هذا الجهاد أعزل أكشف لا عدة له إلا نفس عظيمة في صدره، ووعد من الله بنصره!
وسوق الناس إلى الحرب ليس بالأمر الشاق العسير: فساعة الحرب تسبقها أحداث وخطوب وإحن وحفائظ: تستنهض الهمم، وتستنفر النفوس، وتستثير العزائم. فما هو إلا أن يستنفروا فينفروا وينساقوا إلى الحرب ورداً، يؤزهم الحماس أزا، حتى إذا (حميت وشب ضرامها) رخصت الأرواح وهان الموت: فما ترى الناس يفكرون أو يترددون، ولكن إلى حياض الردى يتدافعون: لا يصدهم عنها صاد ولا يتكاءدهم في سبيلها عقبة، وأنى لهم أن يترددوا والحافز لا تفتر همته، والدافع لا تهن عزمته. وهم لا يستشعرون عناء للحرب، ولا يرون خطراً للقتال، ولا يفكرون في بلاء الغزو. لأنهم لا يجدون متسعاً لأن يشعروا أو يبصروا أو يفكروا
أما في السلم فما أشق الرسالة وما أخطر الجهاد! الناس هادئون وادعون، يجدون من الوقت والطمأنينة متسعاً للتخاذل والتفكير، والتردد والتدبير، والاختلاف والمحال، والتنكر والجدال، أليس شاقاً جهاد الرسول: وهو يدعوهم إلى دين لم يعرفه آباؤهم، وخلق لم تألفه طباعهم، وحياة غير التي ألفوها؟
على أن رسول الله حين أشار إلى الجهاد الأكبر، جهاد الحياة، لم يكن يحدث الناس بما سيلقاه وحده من نصب وإعنات، وإنما أراد أن يذكرهم بما كتب عليهم جميعاً من جهاد في(109/38)
الحياة. فما كتب الجهاد على الزعماء دون الدهماء، ولا كتب على القواد دون الأجناد، ولا على الرعاة دون الرعية، ولا على الكبير دون الصغير، إنما جهاد الحياة فرض يستقبل الناس حين يستقبلون الحياة، ولا ينصرف عنهم حتى تنصرف عنهم الحياة
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد
وهذا الطفل إذا اشتد جاهد في الحياة جهاداً يتسق مع شأنه في الحياة، ولا يزال ينمو ويخطو في حياته، ونصيبه من الجهاد ينمو ويخطو ألزم له من ظله حتى مماته. وجهاده في مراحل حياته يعتريه من الأعراض والصور وما يعتري كل كائن حي في أطوار حياته من نمو وقوة ونشاط وضعف وعجز وفتور وغير ذلك
فالرضيع لا يجاهد إلا فيما يشعر به من ألم أو حاجة. ولذا يكون جهاده (ذاتياً) محدوداً، يستعين فيه بأعضاء بدنه؛ فإن ألح عليه الألم والحاجة استعان فيه بالبكاء حتى يغاث فيظفر، أو يعي فينام فيقهر. ثم ينمو الطفل فيدرك معنى (الملكية) فيجاهد في الاحتفاظ بما ملك ويسعى لملكية ملا يملك، فيزداد جهاده، ويشتد ويحول إلى غير ما كان عليه جهاد الرضيع
والشاب في شبابه يدرك معنى الحياة فيستشرف إلى نعيمها وملذاتها، وتتعدد حاجاته ومطامعه، ويسعى حثيثاً للاستمتاع بالنعيم واللذة، ويعد نفسه لما تفرضه عليه سنن الحياة، فيجاهد في ذلك جهادا عنيفاً، ويلقى في جهاده نصباً
والكهل يسعى وراء الرزق: يدبره لنفسه، ويدر أخلافه على أهله وأبنائه، ويدخر منه لعقبه وأخلافه. وإنه لواجد في سبيل الرزق عقبات وعوائق. وإنه لجاهد مجاهد في تذليلها، والتغلب عليها، وإن جهاده لشديد، وإنه لأكثر بلاء وعناءً
والشيخ الفاني الذي نفض يديه من الدنيا، تنتابه الأمراض والعلل، ويلح عليه الفناء، وتخذله قواه؛ فيجاهد في الحياة الباقية له جهادا عنيفاً جباراً، ولكنه خافت صامت؛ يكسر من حدته صبر الشيوخ وأناتهم، وضعف آمالهم واستسلامهم
أولئك جميعاً تفرض عليهم الحياة فروضاً، وتلوح لهم بمطامع وهم يبسطون إليها آمالاً: ثم(109/39)
تقيم لهم في السبيل عقبات، وتنصب بينهم وبين مطامعهم حجاباً، وتجعل أمانيهم سراباً، وهم لا ينفكون يجاهدون: تنزل بهم البأساء، فيطمعهم الرجاء، وتنقطع بهم أسباب الأمل، فيغريهم طول الأجل
حتى الرجل الذي لا تشغله الدنيا بزخرفها. والذي يصدف عن مطامعها، والذي يؤثر الآخرة على الأولى: ذلك جهاده قوي حاد. فهو أبداً في جهاد مع نفسه ولنفسه: يروضها على الزهد والاستغناء، ويدفع عنها عوامل الأغراء، ويسوقها إلى الفضيلة، ويباعد بينها وبين الرذيلة، وهو جهاد لا يهون، ولا يصبر عليه إلا القليلون
وأهون الناس شأناً في الحياة وأقلهم تقديراً لشأنها وأكثرهم استخفافاً بها لا محيد له عن الجهاد فيها: أليس عليه أن يجاهد الحر والبرد والمطر والشمس والعلل والأمراض؟ ذلك جهاد على سذاجته شاق وعسير
ما أصدق رسول الله فيما قال، وما أبعد نظره فيما رأى.
اليوزباشي أحمد الطاهر(109/40)
من مشاهد الشرق
3 - طائفة البهرا في الهند
في حضرة داعي الدعاة
بقلم محمد نزيه
مضى محمد علي بخش رئيس الوزارة البهرية وأنا في أثره، في بعض جادة القصر، حتى انتهى وانتهيت معه إلى باحة فسيحة أمام سلم مديد، ذي ست درجات من رخام أبيض يشف عن زرقة رقيقة، فلما أن درجناه كنا أمام بابين رحيبين، كلاهما سبيل إلى تلك الحجرة الرهيبة التي يستقبل داعي الدعاة زواره فيها؛ وإذا كانت غرفة الانتظار قد تقاضتنا خلع الأحذية قبل ولوجها، فأحر بغرفة الشيخ الأكبر أن تطالب قصادها بمثل ذلك وأكثر منه. وكذلك هتفت بي نفسي هذه المرة بما هتف به سائق السيارة من قبل، أن اخلع نعليك فإنك قادم على أنيس المهدي المنتظر وجليسه، وأمينه سرا وعلانية، وأبى بكره من دون الخلق أجمعين!
ولقد ظللت مذ أسري بي في غرفة الانتظار إلى غرفة الملتقى - وكلاهما حرام - منصرفاً عن كل ما عسى أن يتداول سمع المرء وبصره، إلى التفكير في ذلك الرجل الذي يتقاضى جميع الناس كل أسباب التقديس له، بين مؤمن بمذهبه ومستريب به ومنكر له، ثلاثتهم من تقديس الشيخ في أوضاع متشاكلة ما أرادوا لقاءه، بل وما يكون هذا التقديس من ثالث الثلاثة تكلفا ولا صناعة ولا زيفا، فقد كنت أحسبه كذلك من قبل، وهأنذا الآن في منتصف الطريق بين الحجرتين، مفعم النفس برهبة شديدة تكاد تطغى على الرغبة الشديدة في رؤية الشيخ، بل وما فتئت هذه الرهبة تشتد سريعاً، حتى لقد بلغت شأوها في ثلاث من خطواتي، وإذا بالحواس الخمس قد رقت في بعض الدقيقة ودق إرهافها، فكأنما غادرت عالم الملموس والمحسوس إلى عالم الإلهام؛ ومادام هذا العالم الجديد لا يدرك مما يحيط بالمرء وإنما يدرك من باطنه، من دخائل نفسه، فقد انقلبت حواسي كلها إلى نفسي، وكأنني بت لا أعي من الوجود شيئاً، ولم تزل هذه النفس المرتهبة تتسع حتى تملأ كل فضاء داخل الجسد، وتشمل القلب كله، وتغير على ما فوقه وما تحته، وما عن يمينه وما عن يساره،(109/41)
وما أمامه وما خلفه، كل ذلك في خطى الكهرباء، فلم أكد أتم الخطوة الرابعة حتى كنت نفساً ولا جسد
وأخذت هذه القوة الجديدة تتخيل صورة الشيخ وتحاول رسمها، فإذا دأبت في هذا السبيل جاهدة، انبعثت ذرات الرهبة، فتوثبت على القلب فاختل نظام دقاته، وهنالك تضطرب النفس فلا تقوى على المضي في مهمتها، لذلك لم ترسم الصورة حتى صرت على قيد خطوات من صاحبها، فتقدمت إليه حتى استويت أمامه. لم يكن في وسعي ولا في وسع سواي أن يصافح الشيخ دون أن ينحني، إلا أن يركع، ما لم يكن قصيرا، ولست بقصير. ذلك أنه يجلس على كرسي لعل مقعده أدنى إلى الأرض مما يعهد في كل كرسي، ولم ينهض الشيخ عنه ليصافحني واقفاً، وربما كان لا يعرف الوقوف من أسباب التحية، فلا مناص لمن شاء مصافحته من الانحناء، ثم لا مناص لمن استأذن عليه من المصافحة، ومن يدري؟ لعل هذا الكرسي القصير إنما دبر تدبيراً، ثم إن هذا الكرسي قد عوض عن قصر أرجله رحابة في صدره، حتى لقد تبينت الشيخ من الكرسي ولم أتبين الكرسي من الشيخ
صافحت الشيخ منحنياً ولا بد، فإذا كف نحيل لعل الرف يؤذي عظمه، فلقد أحسست أنني أقبض على حزمة من الأقلام، بل أحسست أكثر من ذلك بالمفاصل الدقيقة لكل إصبع، وكأنما انفرطت عظامها في يدي فما يستعصي عدها علي! لكأن هذه الكف ترتفع من تلقاء نفسها إلى فمي، فلقد علمت إنني رففتها، ولعل ذلك إكبار ولعله رفق بالضعف، ولا سيما وهو ضعف الكبر؛ ولشد ما يحنو بعض القوة على بعض الضعف؛ إذن فقد انحنيت فصافحت ثم قبلت، وخطوت بعد ذلك إلى الكرسي الواحد الذي يشاطر الغرفة كرسي الشيخ، ثم تحركت حدقتا عيني فطافتا ببعض الحجرة وميضا حتى استقرتا لحظة على صاحبي محمد علي بخش وقد ألصق ظهره بالجدار، وأمال رأسه إلى الأمام قليلا، وشبك أصابع كفيه على صدره تحت لحيته؛ وجمد كذلك كأنه التمثال
سألني داعي الدعاة عن موقع المدينة من نفسي، ثم عن الصحافة المصرية وحظها من النهوض، فلما أن فرغ من أسئلته وحان دوري في السؤال، وكنت أعلم أن التحدث في مسائل الدين هو أشهى الأحاديث لدن رجاله، وأعلم إلى ذلك علماً ليس بالظن أن أقران الشيخ لا يفتأون ينعون على الناس تركهم أمر الآخرة، فكل امرئ عندهم مفرط مهما تخفف(109/42)
من زخارف العاجلة وتولى يرتجي الآجلة، ما يألونه إذ يرونه ذلك النصح الممزوج بالتعنيف والاتهام، فهم متسخطون متبرمون رغما من رغم، أثرة بالكمال من دون الناس، فقد استهللت بالأسف لإهمال المسلمين أمور دينهم وأمور دنياهم معاً، وكأنما قلت للسيل انهمر، فقد تدفق الشيخ فلم يترك في معجم الألم كلمة إلا قالها، ولا حركة إلا أتاها، بعينيه وشفتيه وكفيه، قال بلسانه العربي المبين - وقد أسلفت أنه من سلالة عربية قريبة العهد بموطنها الأول، اليمن: (إن دولة الإسلام قد انهارت أركانها في كل مكان، ودكت حصون الدين وسقطت معاقله، حتى عادت أطلالاً نناجيها) ثم راح يبعث قول الشريف الرضي:
ولقد مررت على ديارهمُ ... وطلولها بيد البلى نهبُ
فبكيت حتى ضج من لغب ... نضوى ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
قلت: هل يرى مولانا أن تخلف العالم الإسلامي ناجم عن إهمال الدين؟ قال: (عن إهماله فقط، وليس في أداء فرائضه وحسب، بل في التأدب بآدابه، بل في الاستمساك بأسباب التعاون والمودة، وإطراح الخصومة والعداوة والبغضاء، وحدب الغني على الفقير، واطمئنان الفقير إلى الغني، وخشية الله والآخرة، واتقاء الخزي والندامة، والحسرة والعذاب يوم القيامة)
قلت: وهل من أمل في إصلاح ما انهدم؟ فانبسطت أسرة الشيخ دفعة واحدة والتمعت عيناه، وطالعني منه صوت يتجلى فيه الحزم والعزم والإيمان والبأس الشديد وهو يقول: (نعم. إن الأمر لله في دين الله، وإنه ليحميه ويعلي كلمته حين يشاء، ولكنما يترك الأمر للناس حتى يسلموا بالفشل ويتئسوا من النهوض، وإذ ذاك يقضي الله فإذا الحق في الذروة والباطل في الرغام)
قلت: أفلا يحاسب رجال الدين على شيء مما نرى من أمر الدين.؟ فسكن الشيخ لحظة ثم قال: (أعلم أن كثيراً من الناس يقومون برجال الدين ويقعدون، ولكن ما لذي يسع رجال الدين أن يفعلوا إن كانوا في شعب متخاذل مستضعف؟ إنهم إذ ذاك لا يفضلون أبناء شعبهم، ولعلك تعلم أن الفساد جرثومة سريعة العدوى؛ وهب أن بين رجال الدين من امتنع من جرائم الفساد، فماذا يفعل وأهل أمته كلهم ذلك الحواري الذي شهد على عيسى بن(109/43)
مريم؟!. أفتدري كيف تقهر الأمراض العصية في الأجساد، إن أحدث أسباب ذلك وأصدقها نتيجة أن يلقح الجسد المريض بعين الجراثيم التي تمرح فيه، ولم ينتبه الطب إلى ذلك إلا بعد قرون من تنبه الحكام إلى أثر هذه الوسيلة نفسها في أخلاق المحكومين، ولن يعدم زمن من الأزمان، ولن تبرأ جماعة من الجماعات، من أشرار وإن قلوا، وتلك سنة الحياة، وقد احتال الظلمة وافتنّوا في الاحتيال، حتى استكشفوا أن رجل الدين الصالح لا يقهر إلا برجل الدين الطالح، ثم هم يزودون صاحبهم بقوة المال وسطوة البطش والعدوان، ويذودون عنه بعد ذلك إن أحدق به خطر، فإذا سئلوا في ذلك قالوا، إنما نرفع كلمة الدين ونعيذه من الهوان
وتنفس الشيخ برهة ثم قال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وقد نزل الدين سهلاً مفهوماً، فلنأخذ بمبادئه التي لا تحتاج إلى رجال الدين، فإذا استقرت هذه الأوليات في النفوس، سهل علينا أن نميز الصالح من الطالح من رجال الدين فنأخذ عن أولهما وندع الآخر. على الآباء والأمهات جميعاً بهذه المهمة، كل يؤدب أبناءه بأدب الدين منذ الصغر، قبل أن يبلغ الطفل أشده، فيصبح تحت رحمة القانون والبيئة والمطامع)
قلت: وهل من سبيل إلى تخفيف الفساد؟ قال: (نعم، ولكن أسباب التخفيف لا تعرض هكذا على بساط الريح، فلابد من البحث والروية والتثبت، ولا سيما ونحن نريد أن نعالج جماعات كثيرة مختلفة العلل، وقد يصلح لهذه من الدواء ما يزيد تلك علة على علة، ولذا وجب أن يجتمع أطباء الدين والأخلاق من كل جماعة أطباؤها، فإذا تذاكروا جميعاً حتى اهتدوا إلى العلة المشتركة، تذاكروا حتى يهتدوا إلى الدواء المشترك. المؤتمرات، على أن تكون خالصة لله وحده، نقية من الدخلاء، بريئة من الشبهات، حرة أكمل حرية، مطبوعة بإنكار الذات والإيثار دون الأثرة) وسكن الشيخ برهة وقد بدا على محياه أنه يطلب الراحة؛ ثم ضغط على جرس كهربائي مثبت على منضدة صغيرة أمامه، فإن هي إلا ثوان معدودة حتى أقبل من داخل الحجرة خادم يحمل بيمينه لفافة من قماش، تقدم بها إلى الشيخ فتناولها منه، ثم مد بها يده إلى ناحيتي، فخطوت إليه وأخذتها شاكراً، وودعت داعي الدعاة بعد أن ألقيت على سمعه ما واتاني به الله من كلمات الشكر والتقدير
أما لفافة القماش، فقد تبينت بعد أن باينت الغرفة أنها (شال) من الكشمير وسط في صنعته(109/44)
وقيمته، ثم علمت أنه نفحة الشيخ لكل زائر غريب، وإنما تختلف قيمتها بقدر ما للزائر من مكانة في قومه، وأما غرفة الزيارة فرحيبة تكاد تتسع ثلاثين متراً من نصفها، يرتفع سقفها على عمد من رخام، عارية الجدران من الصور، حافلة الأديم ببساط أبيض عار من زهو النقوش، وقد أسلفت أنه لم يكن بها إلا كرسيان للشيخ ولي، ولعل هذه البساطة في مظاهرها والرحابة في اتساعها مما يزيدها رهبة ويزيد صاحبها إجلالاً. أما الشيخ فأنه من نحول الجسد ورقته كأنما إياه كان المتنبي يعني لما قال:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وهو على شدة نحوله ليس بالطويل القامة، كأنه غاندي، لولا أن وجهه المستطيل خفيف السمرة، مشرق الديباجة، متسع العينين حتى لتملأن نصف وجهه، حديد البصر، كأنما تطل نفسه المطمئنة من عينه، ضاحك السن في وقار كثير، تنبئك مظاهره كلها بأنه رجل موطأ الأكناف حقا. وقد استتر رأسه تحت طاقية بيضاء، وغطى جسمه بجلباب أبيض، وهو في غرفته مثال نادر الأنداد للبساطة في الغنى، والتواضع في الجاه
كررت إلى جادة القصر يصحبني محمد علي بخش، فمضينا إلى مسجد القصر متحدثين بالإنجليزية فأنه لا يعرف العربية، فإذا نحن حيال مسجد حديث البناء أنيقة، متوسط السعة، مفروش بالسجاد، ذي ثلاثة أبواب، اثنان منها لدخول المصلين من الرجال، والثالث لدخول المصليات من النساء، وقد فصل بينهن وبين الرجال في رواق المسجد جدار رقيق لا يتصل بسقفه، أما المنبر فمن الخشب الثمين المتين وقد خلا من كل زخرف، كل ما في المسجد ناطق ببساطته، خلا ثرياته الثمينة التي تؤلف في انتظامها أروع الشكول. فلما فرغنا من تفقد المسجد دعاني صاحبي إلى التدريج إلى أعلى القصر، حيث أعد به موضع يشرف على المدينة كلها، فترى منه واضحة المعالم جلية الرسوم، ولولا سدول الليل لاستطعت في هذه القمة إحصاء مساجد (بمبي) وعد حدائقها، وتبين أعلامها والتحديق في ميادينها، على أنك لا ترى المدينة وحدها من هذه القمة، بل ترى البحر وعبابه ينساب إلى عالم المجهول.
القاهرة
محمد نزيه(109/45)
للأدب والتاريخ
2 - الرافعي
بقلم تلميذه وصديقه
الأستاذ محمد سعيد العريان
الرافعي الأديب
مضى الرافعي في قرض الشعر، معنياً به، متصرفاً في فنونه، ذاهباً فيه مذاهبه، إلى جانب عنايته بالتأليف والكتابة، وانكبابه على العلم والتحصيل، فوضع في سنة 1911 كتابه (تاريخ آداب العرب)، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك أسبوعاً يخطب عنه في مجالس العاصمة وقد كتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت - مقالة في صدر (المؤيد) جاء فيها: (لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه، لكان جديراً بأن يحج إليه؛ ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار، لكان جديراً بأن يعكف عليه. . .)
وقال عنه المقتطف: (إنه كتاب السنة. . .) وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن بعد لغير هذا الكتاب
ومن يقرأ كتاب الرافعي (تاريخ آداب العرب) يعرفه عالماً عميق البحث، مرتب الفكر، واسع المعرفة؛ إلى جانب معرفته به شاعراً عربي الديباجة، مشرق المعنى، مشبوب العاطفة؛ على أنه كان يومئذ لم يجاوز الثلاثين. . .
ثم ألف الرافعي (كتاب المساكين) الذي يقول عنه فقيد العربية العلامة أحمد زكي باشا: (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وجوته كما للألمان جوته، وهوجو كما للفرنسيين هوجو.)
وتألق نجم الرافعي الشاعر العالم الأديب، وبرز اسمه بين عشرات الأسماء من أدباء عصره براقاً تلتمع أضواؤه وترمي أشعتها إلى بعيد؛ على أن هذه المنزلة الكريمة التي نالها الرافعي بين الكتاب إلى جانب منزلته في الشعر - لم تكن غريبة؛ فقد حدثني أديب فاضل كانت له صلة بالعلامة الشيخ إبراهيم اليازجي: أن الرافعي لما طبع الجزء الأول(109/47)
من ديوانه سنة 1903 وأهدى منه نسخة إلى الأستاذ اليازجي - أبطأ في الكتابة عن الديوان؛ فسأله هذا الأديب الفاضل في ذلك الوقت فقال: لقد قرأت مقدمة الديوان فأكبرت أن يكون كاتبها من عصرنا؛ فأنا منذ أسبوعين أبحث عنها في مظانها من كتب العربية، مما أخادع نفسي في قدرة هذا الشيخ على كتابة مثلها. فقال له: إنه ليس بشيخ، بل هو فتى لم يبلغ الثالثة والعشرين. .
وليس عجيباً أن يكون هذا كلام اليازجي، فقد برهن الرافعي من بعد ألف برهان على ذاك. وإنما كتب هذه المقدمة وعني بها حتى جاءت ما جاءت، ليعارض بها مقدمة حافظ لديوانه الذي نشره قبل ذلك بقليل؛ وكان لمقدمة حافظ هذه حديث طويل، حتى نسبها بعضهم يومئذ إلى المويلحي؛ ولكن مقدمة ديوان الرافعي جاءت بعدها تقطع قول كل خطيب؛ واحتفل بها (المؤيد) أيما احتفال فنشرها في صدره، والمؤيد يومئذ جريدة العالم العربي
بين الجديد والقديم:
ثم بدأ الرافعي يميل عن الشعر رويداً رويداً حتى هجره منذ عامين، لم ينظم فيهما غير قصديتين اثنتين نشرتا له في مجلة المقتطف. وإنها لخسارة كبيرة أن ينصرف الرافعي عن الشعر ويترك ميدانه خالياً. . على أنه لم يهجر غير الشعر المنظوم، وهذه كتاباته المنثورة ضرب من الشعر أفسح مدى وأبعد غاية، وإنه لينشئ بها أدباً جديداً في العربية على رغم ما يتهم بالتقليد والمحافظة على القديم؛ بل معانيه كما قال الأستاذ الدكتور منصور فهمي في تقريظه رسائل الأحزان: (إنها من آخر طراز بأني من أوروبا. . .) على أن الرافعي إلى ذلك ليس له حظ من لغةٍ أجنبية، ومعرفته الفرنسية لا تجدي عليه اليوم أكثر مما كانت تجدي عليه يوم كان يتعلمها بالمدرسة وهو غلام!
وللجديد والقديم حديث طويل في تاريخ الرافعي؛ فهو قد وقف نفسه على الدفاع عن الدين والحفاظ على لغة القرآن. ذلك مذهب درج عليه وأعانته عليه نشأته وتربيته؛ وهل يأخذ أحد عليه هذا المذهب أو ينكره؟. . فهو إنما (يحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معاً إلا بقيامهما معاً. . .) وإنه بسبيل ذلك ليسأل: ما الجديد وما القديم؟
لو أنهم يعنون بالجديد الابتداع والطرافة بمقدار ما يتطور الفكر، أو الإنشاء والابتكار على(109/48)
مقدار ما ينفعل الزمن في احساسات أهله، أو التنويع والخلق على قياس ما يزيد في المعاني ويستجد من انفعالات النفس - لو أنهم يعنون بالجديد شيئا من ذلك، أو كل شيء من ذلك، لوجدوا الرافعي مجدداً مع المجدين؛ يل لما كان لشيء من هذا أن يسمى جديداً، لأنه حكم الزمن وسنة التطور من قديم. . أما أن يكون التجديد هو ابتداع لغة ليست من اللغة، وإنشاء دين من شهوات النفس لا من وحي السماء، والتزوير على التاريخ القديم باختراع تاريخ من الأحلام - أما أن يكون ذلك كذلك فما هو التجديد، ولكنه التبديد الذي يوشك أن يتبعه الفناء. . .!
في النقد:
هذا هو الرافعي في موقفه من الجديد والقديم؛ وما نحب أن ننتهي منه حتى نعرض لأسلوب الرافعي في النقد؛ فما نعرفه ناقداً عنيفاً إلا حين يتناول الجديد والقديم؛ وإذا نحن تدبرنا ما أسلفت من تلخيص رأيه في الجديد والقديم، ومن مقدار حماسته في الذود عن الدين والعربية - عرفنا لماذا يؤثر الرافعي ذلك الأسلوب العنيف في مهاجمة خصومة والطعن عليهم، إذ هو لا يعتبر حينئذ إلا شيئاً واحداً، هو الدفاع عن الدين وتراث السلف، مؤمناً بأنك (لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة. . .) وأنت لا ترى الرافعي مرة يأخذ في أسباب النقد ليدفع كيداً يراد باللغة والدين، إلا كما ترى البدوي الثائر لعرضه، يطرح كل اعتبار من دون هذا الشرف المثلوم؛ فمن ثم يكون في كلامه معنى الدم. . .
على أن الرافعي إلى شدته وعنفوانه، ناقد بصير بأساليب النقد، مم عالج من مختلف فنون الأدب، ووقف على أسرار العربية؛ من ذلك لما كتب المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي مقالته عن الشعراء ونشرها في مجلة (سركيس) سنة 1903، كتب المرحوم حافظ إبراهيم إلى الرافعي يقول: (. . . . قد وكلت أمر تأديبه إليك. . .!)
وقد تعجب أشد العجب أن ترى الرافعي ينسى حين يجرد قلمه للنقد كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس؛ ولكنه هو يعتذر من ذلك بقوله: (. . . إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدا فيمن لا نعرفه؛ ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ(109/49)
فيه. . . فان كان في أسلوبنا من الشدة، أو العنف، أو القول المؤلم، أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول، بل عظة الثاني. . .)
وقد خسر الرافعي كثيراً بالأمساك على مذهبه ذاك، ووضع نفسه بحيث تنوشه من كل جانب سهام مسددة، وألب عليه كثيراً من الخصوم؛ ولكنك لن تسمع منه أبدا كلمة الندم، وتراه على تربص دائم لكل (ذي دخلة للدين والعربية. . .) وهو ضرب من التضحية والشجاعة يدعو إلى الإعجاب
وكما ترى هذا الموقف للرافعي من دعاة الجديد في الأدب، ترى له موقفاً قريباً منه من دعاة الجديد في الأخلاق والاجتماع؛ فله آراء في الاختلاط، والحجاب، والتعليم، والحرية، والحب والزواج؛ تراها منبثة في عديد الكتب والمقالات؛ ولكن قليلاً من القراء من يستطيع أن يفهمها بروح مجردة من هوى، ليعرف أي مذهب في الاجتماع يدعو إليه الرافعي؛ وله في هذه المقالات روح رفافة، وشعر ساحر، وحجة قوية؛ وهو فيها من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة؛ ولست واجدا أحداً يرد عليه رأيه في ذاك على قلة من تجد من أنصاره؛ وقد جلست مرة إلى أديب كبير ومرب فاضل، نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي، فقال لي: (إنك لن تجد أحداً من أنصار الجديد يرضي هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحداً - أيضاً - يستطيع أن يصاول الرافعي في ميدانه بمثل حجته وقوة إقناعه. . .)
الرافعي والمرأة:
وإذ تكلمت عن مذهب الرافعي في الاجتماع، فإني أقف قليلاً لأتحدث عن الرافعي والمرأة
وعجيب أن يكون الرافعي صاحب (إعجاز القرآن، وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية، والإنسانية العليا، وسمو الفقر؛ والمحدث، المفسر، المتصوف، الذي يصف عن عصر النبوة، ومجالس الأئمة، وكأنه يعيش في جوهم وينقل عن حديثهم؛ والذي تتصل روحه فيما يكتب من وراء القرون بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وغيرهم وغيرهم من أئمة السلف - عجيب أن يكون هذا الرافعي هو صاحب (رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وسمو الحب، واليمامتان، وسحر المرأة، والطائشة،(109/50)
وغيرها وغيرها؛ فيصف عن المرأة والحب، ويتحدث في ذلك حديث الرجل الذي عرف وذاق وجرب، ولبس المرأة ولبسته، واستبدل قلباً بقلب، وتقلب بين مجالس ومجالس، وسمع (لا) بمعنى (نعم)، و (إليك عني) في موضع (اتبعني يا حبيبي)؛ والذي يترجم معنى النظرة والابتسامة وما بعدهما. . .!
وإنك لتراه أحياناً يمزج بين حديث الحب وحديث الدين، ويصل بين وحي السماء ووحي العيون الدعج. . . . فتسأل: أي رجل هو؟
ولقد خالطته زماناً، فإني لأعرفه عرفاني لنفسي، فما وجدته في حاليه إلا الرجل العف الكريم، ولكن له عالماً من وراء هذا العالم، يصل إليه في سبحات فكرية لطيفة، ليستوحيه من معاني المرأة ما لا سبيل إلى معرفته في دنيا الناس. ولو أنك أردت أن تسأله مرة: أي رجل أنت؟ لما جاءك الجواب إلا أنه رجل وحسب. . .!
وتسأل نفسك: هل عرف الرافعي الحب فخف بجناحيه إلى تلك العوالم غير المنظورة ينقل عنها فلسفة الجمال والمرأة والحب. . .؟ فاستمع إليه يقرر: (إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق. . .!) ثم ارجع إلى كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد؛ لتعرف (إنها كانت عواطف ثارت وقتاً ما، ليحدث منها تاريخ؛ وسكنت بعد ذلك ليحدث منها شعر وكتابة. . .)
ولكن، من تكون تلك الفتانة التي تيمها وتيمته زماناً، (هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته. . .؟)
ذلك سره هو، أو سرها هي. . .!
وطنيته:
وللرافعي رأي في معنى (الوطن الإسلامي)، والوطنية الإسلامية، تلمحه في كثير مما يكتب، قوامه (أن يظهر المسلم الأول بأخلاقه وفضائله في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فان كل أرض إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم، فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي جهة المسلم المعطل. . . وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني. . .)(109/51)
فلا يمنع أن يكون إلى جانب إحساسه بمعنى (المصرية) إحساس آخر بمعنى (الإسلامية) على أنها الوطن الأكبر، كما لا يمنع الطنطاوي أن يكون إلى جانب حبه (طنطا) حب أعمق يشمل (مصر) كلها؛ فإذا تحدث الرافعي عن الشام، أو العراق، أو بقعة أخرى من الوطن الإسلامي، فما يعني ذلك أنه قد خلع مصريته
والوطن عند الهمجي دار تؤويه، وحقل يغل عليه، وكلما زاد الإنسان في معنى الإنسانية انبسطت له رقعة الوطن، فمن ثم كان الوطن فيما يرى الإنسان المسلم هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام، وما مصر، والعراق، والشام، والمغرب، وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، كالأقاليم من الدولة، والمناطق من الأقاليم، والشوارع من المنطقة، والدور من الشارعن، والغرفتين من الدار، حين يتدابر الأخوان وتدب بينهما الشحناء التي توشك أن تنسيهما أنهما أخوان لأب وأم. . .!
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان(109/52)
دراسات في الأدب الإنكليزي
وليم وردزورث
بقلم جريس القسوس
نشأته وطفولته:
هو زعيم طائفة شعراء البحيرات وسيد شعراء الإنكليز بعد شكسبير وملتن. ولد هذا الشاعر في السابع من شهر أبريل سنة 1770 في كوكرموث في إقليم البحيرات من مقاطعة كمبر لند. وهو من أسرة متوسطة في الجاه والثروة، توفيت أمه وهو ابن ثماني سنين، وكانت تؤمل لو فسح لها في الأجل أن تشاهد الدور الذي سيمثله على مسرح الحياة، لأنها لمحت فيه طفلا حدة طبعه ورجاحة عقله يميزانه عن بقية أخواته الخمسة. ولقد كان والداه مرشديه، فهما اللذان تعهدا إنماء قواه العقلية، وتوجيه مداركه الشعرية في أقوم السبل وأرشد الطرق، وذلك بتلقيه أشعار القدماء والمحدثين، وإلى ذلك يشير وردزورث في قصيدته (الفاتحة)
كان مواطنه مزدانا بالمناظر الشعرية الخلابة التي استهوت فؤاده، ووجدت منفذاً إلى عقله فظهر أثرها في شعره
وبعيد وفاة والدته قصد مدرسة هوكشد حيث تلقى مبادئ العلوم والفنون. وكانت هذه المدرسة في محيط ريفي ساذج، تكتنفها المناظر الطبيعية من جميع الأطراف، مما أغوى شاعرنا وجعله يصرف أويقات فراغه في حضن الطبيعة. فتارة تلقاه يتمشى على شواطئ البحيرة، وأخرى تجده يصطاد الأسماك ويداعب العصافير في أعشاشها، أو يمرح بين التلال والشعاب يلاعب المعزى ويعبث بالحملان. وكثيراً ما كان يصطحب الكتب إلى تلك الحقول فيطالع منها ما يستسيغه ويبعث في نفسه أملا ورغبة في الحياة
في كمبردج:
توفي والده قبل أن يتم دروسه الابتدائية، ولكن أريحية عمه وليم كفلت له الالتحاق بكلية القديس يوحنا في جامعة كمبردج. وقد كره الشاعر هذه البيئة الجديدة، ومجت نفسه هذه(109/53)
الحياة المقيدة في بدء الأمر، إلا أنه عاد فألفها وتشبع بروح ذلك المكان بعد أن جالت في ذهنه صور الشعراء الذين قضوا قسما من حياتهم فيه. فقد أمده خياله الخصب بعالم روحي مطلق يعيش فيه ويستأنس بأهله لما لم تتح له الظروف أن يعيش طليقاً في الحياة. ولقد كان يتردد على أهله في بيرنث أو في هوكشد كلما سنحت له الفرص. وجرى له ذات يوم حادث غريب كان له أثر بعيد في حياته الأدبية، إذ بينما كان يتسلق أحد التلال في هوكشد رأى رؤيا غريبة ظن أنه أوحى إليه فيها بالعمل العظيم المعد له. وقد ورد ذكر هذا الحادث باختصار في قصيدته (الفاتحة) ولا نعلم عنه أكثر من ذلك
رحلته الأولى:
اتفق شاعرنا وصديقاً له على القيام برحلة كبيرة في جبال الألب في إحدى فرص الصيف، وكان ذلك على أثر انتشار الأخبار الأولية عن الثورة الفرنسية. أستأجر الصديقان سفينة وأبحرا فيها إلى ميناء كاليس ونزلا في اليوم الذي حلف فيه لويس السادس عشر يمين الإخلاص للدستور الجديد. ومن ثم قصدا الجنوب إلى بحيرات إيطاليا وسويسرا، فصرفا على شواطئها بعض الوقت الممتع، ثم قطعا سمبلون ومن هناك كارا عائدين إلى الأوطان، وفي طريقهما لقيا جيوش الثوار ناشرين لواء الحرية ومنتضين سيف العصيان على الملكيين. ولقد كان لهذه الرحلة أثر كبير في نفس وردزورث، إذ أوحت إليه بروح شعرية وثابة ونفس متمردة تنزع إلى الحرية وتطلب التجديد، فلا غرو إن انتصر للثوار الفرنسيين ورفع صوته معهم منادياً بسقوط باستيل الاستعباد
في فرنسا مرة ثانية:
ما كاد الشاعر يتسلم شهادته من كمبردج حتى عن له أن يزور فرنسا مرة ثانية ليتصل بالثوار الذين تشبعت نفسه بمبادئهم في رحلته الأولى. شرع في ذلك ماشياً سنة 1790، فمر بباريس عش الثوار حيث قضى بضعة أيام يرصد في أثنائها حركات الثوار عن كثب، ومن ثم رحل إلى أورليان فبلوا حيث تعرف بابنة جراح فرنسي اسمها أنيت فالون وأقام هناك برهة يتعلم عليها مبادئ الفرنسية. ولقد كانت هذه الفتاة على حظ وافر من الجمال مما استهوى شاعرنا وأوقعه في الشرك، فوضعت على أثر ذلك طفلة. رأى وردزورث أن(109/54)
يمحو إثمه هذا بالزواج منها، لكن الظروف لم تسمح له بالبقاء طويلاً في أرض الثوار لنفاد دراهمه وقطع عمه المساعدة المالية عنه متوخياً بذلك إرغامه على الرجوع إلى بلاده لئلا يقع في حبائل الملكيين. وإننا لنحمد الأقدار التي أوحت إلى عمه ذلك، إذ لولاه لقضى شاعرنا كما قضى غيره من عباقرة الرجال أنصار الثورة الفرنسية، ولم يخلف لنا بعد تراثاً أدبياً يذكر
ولقد أثارت عليه فعلته حرباً عواناً في الأوضاع الاجتماعية والأدبية فبعد أن كان متصفاً بالفضيلة والكمال إلى حد القداسة أمسى اسمه مقروناً بالكفر والإثم خصوصاً بعد أن كشف لنا الدكتور هارير عن هذه الصحيفة السوداء من حياته في فرنسا في كتابه (حياة وردزورث). ولقد ظهر في سنة 1922 كتاب لأميل ليجوس اسمه (وليم وردزورث وأنيت فالون) يصف فيه علاقة الشاعر بمعشوقته المنكودة الحظ في بلوا. ولم يشر الشاعر إلى هذه الحادثة في جميع أشعاره أوكتاباته النثرية إلا بعض الإشارة والتلميح في قصيدته فودراكور وجوليا &
وفي أثناء إقامته في بلوا اتصل بفيلسوف وزعيم جمهوري كبير هو ميشيل بيوباي، فصرف معه طوال الليالي على ضفة اللوار في الجدل والبحث في حرية الإنسان السياسية والاجتماعية مما غذى عقيدة شاعرنا الثورية وأذكى في نفسه نار التمرد والخروج على المبادئ القديمة. ولقد سولت له نفسه الانخراط في عداد الثوار وحضهم على مهاجمة معاقل الملكيين. بيد أنه لم ينفذ رغبته هذه لنفاذ دراهمه كما بينا فعاد إلى إنكلترا وفي نفسه غصة وفي فؤاده حرقة لحبوط مسعاه وتلوث اسمه بذلك الفعل المنكر
شقيقته:
كان للشاعر شقيقة اسمها دورثي لا تقل عنه في توقد الذهن وحدة الذكاء ونفاذ البصر، وكثيراً ما كانت توجه نظره إلى أمور دقيقة، وحوادث غريبة، ومناظر بديعة فيتخذها مواضيع لقصائده. وقد أخذت على نفسها مرافقته في غدواته وروحاته منذ صباهما رغم معارضة أمها لها. فعند ما لمحت فيه وميض العبقرية وفيض الشاعرية هبت إلى مناصرته وتشجيعه على المضي في سبيله. وكانت في أكثر الأحيان تقرأ أشعاره وتنظر فيها قبيل إعدادها للنشر نظر الناقد الشفيق. وقد وجد في أخته هذه كل العزاء والأنس بعيد رجوعه(109/55)
من فرنسا كاسف البال كسير القلب لما جنته يداه من إثم
في فورنست:
كانت أخته تقطن آنئذ فورنست فقصدها شاعرنا، وهناك نظم عدة قصائد جمعها في مؤلفين سماهما (سير في الليل) (ومقطعات وصفية) ولقد أعجب كولردج بهما وتكهن لناظمهما بمستقبل باهر في عالم الأدب رغم ما وجه إليه من نقد على صفحات (منثلي ريفيو) و (ادنبرج ريفيو). وفي تلك الأثناء خاض الشاعر المعامع السياسية فنادى بتحرير الزنوج ومعاضدة ثوار الفرنسيين، ويعالج في بحث له يرد به على أحد أنصار الملكية مبادئ الحرية منادياً باتساع نطاق الديمقراطية على حين لم يكن فيه الرأي العام قابلاً للأخذ بهذه الآراء المبتسرة
فضى شاعرنا ردحاً من الزمن حائراً بين الكنيسة والأدب لضيق ذات يده. على أن المنية وافت صديقه الحميم ريسلي كالفرت فأوصى هذا قبيل مماته لوردزورث بتركته البالغة نحو 900 ج مما حداه إلى الانصراف بكليته إلى الأدب وقرض الشعر. ولقد كان لهذه المبرة أثر ظاهر في حياته، وقد أشار إليها في (الفاتحة) وفي قصيدة موضوعها (إلى كالفرت)
والظاهر أن شاعرنا لم يكن على وئام تام مع أقاربه. نستنتج هذا من رسالة بعثت بها شقيقته دوروثي إلى أحد أصدقائها تقول فيها: (إن أخي لناقم على أقاربه، ولا يصفو قلبه إلا لأخويه يوحنا وخريستو)
(يتبع)
جريس القسوس(109/56)
شهداء الإنسانية
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة
شهداء العلم والإصلاح يزدحمون على باب الحياة ويسألون كل هالك: هل تحقق الخير الذي بذلوا حياتهم من أجله؟ فتدركه الحيرة! أيكذب كي يدخل على قلوبهم الاطمئنان، أم يصدق فيفجعهم في آمالهم، أم يغريهم بالصبر الطويل كصبر الأحياء على الشر، أم يغريهم بالعودة إن استطاعوا إلى كفاح الحياة. وإذا استطاع أن يعزي الشهداء الموتى فماذا يقول للشهداء الأحياء:
الناظم
على باب الحياة أرى زحاَماً ... من الأشباح عجَّ بهم وسالا
من العهد القديم إلى زمان ... حديث قد مضوا زُمراً تَوالى
هُمُ ضَحَّوْا بهذا العيش كيما ... يطيبَ العيش للأحياءِ حالا
إذا ما هالك ألفوه ظلوا ... على شغف يعيدون السؤالا:
بربك هل مضى قدرُ بِشَرِّ ... وخبث النفس هل أودى وزالا
وهل جفَّت دموع الناس طرا ... وهل بلغوا من العيش الكمالا
وذل الجوع هل قد زال عنهم ... وكان سوادهم هَمَلاً مُذالا
وجهل يغتدي بالناس بُهمْاً ... يُصَرَّفها يميناً أو شمالا
وهل غلبوا من الشهوات ما قد ... عدا سلطانه فيهم وغالا
أصار العيش من مِقَةٍ وأَمن ... وكان العيش لؤماً واقتتالا
أعاد العيش عدلاً واعتدالا ... وكان العيش مكراً واغتيالا
بربك لا تقل إنّا غُبِنّا ... وإن هزأ الحِماَمُ بنا وصالا
أيفجعهم بآمالٍ عِزَازٍ ... وما نال الردى منها منالا
يقول لهم: لقد رُمُتْمُ خيالا ... وأسديتم وضحيتم ضلالا
أيسكت والسكوت له معانٍ ... أيخدعهم وما ألفوا احتيالا
أيغريهم بصبر مثل صبر ... لدى الأحياء دام لهم وطالا(109/57)
أَيَأْسَى أن مَوْتى لم ينالوا ... من العرفان ما يُرْجَى نوالا
أيغريهم بِبَخْع النفس يأساً ... إذا اسطاعوا عن الأخرى انتقالا
أيسخر أنهم - وهُمُ رفات - ... أبوا للعيش سقماً واعتلالا
فيا عيش الورى ماذا تراه ... يقول لهم إذا ألْفَى مقالا
يقول لهم إذا اسْطعُتمْ فعودوا ... دفاعاً للنوائب أو صيالا
إذا الأحياء لم يرعوا عهوداً ... لأحياءِ فلا تشكوا انخذالا
يقول لمعشر الأحياء منهم ... ليقضوا العيش صبراً أو نزالا
أيفدح أن تقاسوا العيش نحسا ... ليِسُعِد بعدكم صحباً وآلا
وكم من نعمة لولا شقاء ... قديماً لم تكن إلا وبالا
فكم خَبرَ الأوائلُ من شقاء ... فنلنا من شقائهم نوالا
عبد الرحمن شكري
مفتش بوزارة المعارف(109/58)
خمر الرضا
للدكتور إبراهيم ناجي
يا حبيبي اسْقيِني الأمانِيَّ واشْرَبْ ... بوُرِكَتْ خمرةُ الرضَا وَهْيَ تُسكَبْ
بُوركَ الكَأْسُ والحَبَابُ الذي يَرْ ... قُصُ في الكَأْسِ والشُّعاَعُ المُذَهَّبْ
نَضَبَتْ رَحمةُ الوجودِ جميعاً ... وَبِكَ الرحمةُ التي ليس تَنْضَبْ
وَلئن ضاقَتِ السماءُ بِشَجْوِى ... فالسماءُ التي بِعَيْنيْكَ أرْحَبْ
وشَقَائي وساَدُ إذا نِمْ ... تُ وَمَرْساَيَ حيثمُا أَتَقَلَّبْ
كمْ تَمَنَّيتُ والصُّدُورُ تُجاَفي ... ني وَتَزْوَرُّ والوجوهُ تقَطَّبْ
كم تمنيْتُ صَدْرَكَ البَرَّ، يَرْتا ... حُ على خَفْقِهِ الطَّريدُ المَعَذَّبْ
هاَتِ وَسّدنِيَ الحَنَانَ عليهِ ... جَسَدي مُتْعَبُ وَرُحىَ متَعبْ
إبراهيم ناجي(109/59)
أياصوفيا
بقلم أمجد الطرابلسي
أياصوفيا حان التفرق فاذكري ... عهود كرام فيك صلوا وسلموا
حافظ إبراهيم
(أياصوفيِا) تُذْرِي الدُّموعَ وتَسفَحُ ... وتُمْسِي على مُرَّ الأنينِ وَتُصْبِحُ
تنَكَّرَ أهلوها لها وأذاقَهَا ... فَوَادِحَهُ صَرْفُ الزمانِ المُفَدَّحُ
وهانَتْ على مَنْ كانَ بالأمْسِ مُشفِقاً ... يُدافِعُ عنْهاَ الطامِعينَ وَيَنْفَحُ
فوا أسفا! ماذا أساَءتْ وأذْنَبَتْ ... وقد يُغْفَرُ الذَّنْبُ العظيمُ الُمبَرَّحُ
أَيَهجُرُها أبناؤها دونَ رحمةٍ ... وتتْرَكُ في أيدي الأسى تَتَصَوَّحُ
ألم تَكُ مِحْرَابَ الخِلافة أعصُراً ... يرفُّ عليها المجدُ والعِزُّ يَصْدَحُ
إذا سمعَ الناسُ الأذانَ رأيتَهَا ... تكادُ بأفْواجِ المصلّينَ تَطْفحُ
وإن تُلِيَ الفُرْقانُ فيها رأيتَهَا ... تمايَلُ مِنْ تَرْتيلِهِ وتَرَنَّحُ
فأضْحَتْ خَلاءً لا الحمائِمُ خُشَّعُ ... لديْهَا، ولا الدَّاعي المؤذِّنُ يُفصحُ
وُعُطِّلَ فيها الدينُ فَهْيَ وَجِيعةُ ... تَضِجُّ شَكاةً وَالمَنابِرُ نُوَّحُ
(أتاتُورْكُ) لا يغْررْكَ أنكَ حاكمٌ ... مُطاعُ، تُرَدِّى إنْ أردتَ وتصفح
رُوَيْدَكَ إنَّ الدهْر َ - مذْ كان - قُلَّبٌ ... يَعُودُ فيستَقْضي الذي كان يمنح
لَعَمْركَ إنْ أمسيْتَ رَبَّا مُسَوَّداً ... أتعلمُ ما يُبدْي الصَّبَاحُ وَيفضح؟
إذ العينُ نامَتْ عَنْ أذى الدهْرِ غَفْلَةً ... تُفيقُ على الهَوْل الفظيع وتُفْتَحُ
وأنْتَ الذي يدعونَكَ اليومَ مُصْلحاً ... فَهلْ يَهْدِمُ التاريخَ والمجدَ مصلح
لئِنْ كان قُبحاً نَبْذكَ العُرْبَ جانباً ... فَنَبْذُك للدينِ المقَدَّسُ أقبح
حُقودٌ على الُرْبِ الِكرامِ صَبَتْها ... على الدين، ما تَنْفِكُّ تُورى وتُقْدَح
تبينَ فيها الغَدْرُ والّؤمُ والأذى ... (وكُلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضح)
تَجَرّأَتْ مغتراً على الدينِ أهْوَجاً ... ولكِنَّ دينَ اللهِ أسمى وأسمحُ
وشَمًّرتَ للدينِ الحنيفِ مغالباً ... فَوا عجَباَ! أنتَ الأجَمُّ وتنطَحُ
وما ناصَبَ الدينَ العداوَةَ أحمقٌ ... مِنَ الناسِ إلا عادَ وَهْوَ مُجرَّح(109/60)
وَللهِ عيْنٌ تَكْلأُ الدينَ برَّةٌ ... وتدفَع عنه كلَّ من جاء ينبح
بَنيتم على الإسْلاَم شامخَ مُلكِكم ... فلَسْتَ إذَا هَدّمْتَهُ اليْومَ تُفْلِحُ
وإِنَّ أَيادِي العُربِ فيكم كثيرَةٌ ... وما ضَرَّها أنْ تُنكِرهَا وَتقْدَحُوا
ولوْلاَ تهاوِلُ الخِلافةِ لم يكُنْ ... (لعثمانَ) في ضَخْم المَملِكِ مَطمحُ
فإِنْ تَهْجُرُوا الدِّينَ المقَدَّسَ فارْجِعُوا ... سَوَائِمَ ترْعَى في المُرُوجِ وَتَسرَحُ
(أتاتُورْكُ) حاذِرْ مِنْ بنِي الغَرْبِ وَثْبةً ... وإنْ غَرَّدُوا بالسِّلْمِ يوْماً ولَوَّحوا
فَحُبُّهُمُ حُبُّ الذِّئَابِ لنَعْجةٍ ... وسِلْمُهُمُ البرَّاقُ سِلْمٌ مُسَلَّحُ
فَصَمتَ عُرى الشَّرْقِ العزِيزِ بِنزْوَةٍ ... من الْحمقِِ مَا تَنْفكُّ تنْزُو وتَجْمحُ
وقَطَّعْتَ أَسبابَ القرَابةِ عَامِداً ... وهذا الذي يُرضِي عِداكَ وَيفْرِحُ
أأنْتَ إِذَا خُنُتَ القَرابةَ وَاجِدٌ ... من الأهْلِ من يَحنو عليكَ وَيَنْصحُ
وواللهِ لا يُبدى لك الغَرْبُ حُرْمةً ... ولوْ رُحْتَ في أذيالهِ تَتَمَّسحُ
يقولُ لَكَ الغَرْبُ المُدِلُّ بِنَابهِ ... وقد جئُتَ تَستَجدِي رضاهُ وَتمدَحُ
مكانكَ ياشرْقيُّ وارْجعْ بِذلَّةٍ ... فمنْ ذَا رَأَى الشَّرْقيَّ لِلعزَّ يَصْلُحُ
ومهمَا سَما الشَّرْقيُّ فالشرقُ نعجةٌ ... تُسمَّنُ لِلغْربِ النَّهُومِ وَتذْبَحُ
فلا تَلتمسْ عَطفاً من الغَرْبِ صَاغراً ... ذَليلاً فما يَحْنُو القوِيُّ ويَسْمَحُ
ولا تَعُبِد الغَربيَّ جَهْلاً فإنما ... ستكْسبُ منه كلَّ ذُلٍّ وتربح
ألستَ تراهُ رابِضاً متَربِّصاً ... يَودّ لَو أنّ الصيدَ يبدو ويسنحُ
دمشق
أمجد الطرابلسي(109/61)
نجوى
أنت لحن الفؤاد في الخفقان ... يا نجيّ الضمير في كل آن
رافق القلب ذكرك العذب كالما ... ءِ رفيقاً لخاطر الضمآن
إن هذى الحياة - وهي شوؤن - ... ليس فيها سواك لي من شان
أنا من أجلك احتملت حياتي ... حين ظللّت في الحياة مكاني
ربَّ ليل مضى عليك هنيئاً ... بتُّ فيه مؤرق الأشجان
طيفك العابث الكذوب يمني ... ني فأحيى ليلي سمير الأماني
وأرى عطفك البعيد قريباً ... فيفيض السرور في وجداني
ثم يحنو عليّ طيفك حتى ... تتهادى مواثق الرضوان
ونحلُّ الوصال لثما وضما ... وحديثاً باللحظ أو باللسان
ثم أصحو فلا أراك حيالي ... فيثور الدفين من أشجاني
أيها الظالم الجميل ترفق ... بأسير معذَّب ولهان
بغداد
ابن عباس(109/62)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
16 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
غزوات نيتشه
الغزوة الأولى
حمل نيتشه في الغزوة الأولى على الكاتب الألماني (دافيد ستراوس) وعلى كتابه الذي أخرجه في درس الدين والمدينة، والإيمان قديمه وحديثه. وقد يحتدم في نقده للجزء الثاني من الكتاب حيث يعلن (ستراوس) المثل الأعلى الذي يجده خير ما وجده لأبناء الأجيال القادمة. ونيتشه يصب سوط نقده على الرجل الذي لم يعل ولم يسفل، بل وقف وسطاً قانعاً بما آل إليه، يأخذ من كل علم بحزمة، ويقنع من كل فن بضمة، ويعتقد بأنه بلغ الدرجة القصوى من الكمال الإنساني
لا يؤمن (ستراوس) بجنة المسيح، ولا يرتاح لوجود الله، وإنما يعمل على أن يوحي إلى أنصاره أن العالم ما هو إلا رحى ميكانيكية لا تهدأ عن دورانها، وما على الإنسان إلا أن يسلم من الوقوع تحت ثفالها. وهو في الأخلاق كذلك، فلا يبشر بمذهب خطر، ولا يجرؤ على أن يطلب إلى الفرد أن يستخدم مواهبه وأن يكون كما تريد نفسه في الوجود. وإنما يقول هذه الجملة بعد تثبته من اختلاف الناس في حظوظهم ومواهبهم، (لا تنس أبداً أيها الإنسان أن الآخرين هم أناس مثلك، لهم نفس حاجاتك وذات مآربك)
يحسب كل ما تجاوز حد الفهم الوسط قبيحاً، لأن العبقرية تتجلى في التوسط لا في التطرف. فالنشيد التاسع (لبتهوفن) لا يقع موقع الرضا إلا عند من يرون الغريب عبقرية، والخروج عن المألوف والوزن سمواً. وقد ظن بنفسه أنه قهر (شوبنهاور) ببرهانه الركيك الذي رآه (إذا كان الوجود قبيحاً، فالعقل الذي أوجده هو قبيح أيضاً، فالمتشائم إذن هو مفكر قبيح، والوجود هو حسن وجميل!. . .)
إن ستراوس في نظر نيتشه هو مثال العقل المتوسط الذي يدعى معرفة كل شيء، ويريد(109/63)
بفرض سلطته على الوجود. هو مفكر هياب لا يبلغ بفكره إلا منتصف الطريق، ولا يستطيع أن يقصد نهايته. إنه متفائل يغلق عينيه عن الآلام الضرورية للبشر خوفاً ورهبة. وهو مفكر يدعوا الناس إلى حياة قانعة خانعة، وبدلاً من أن يكرم رجال العبقرية يعمل على معاكستهم لأنهم - بزعمه - خالفوا نظامه ومثله الأعلى باختراقهم حدود النبوغ المتوسط
الغزوة الثانية:
وتصدى نيتشه في تأملاته الثانية للتاريخ، وهو لا يجابه رجلاً معلوماً أو طائفة مشهورة، وإنما ينازل مذهباً حديثاً يهم بأن يشيع ويطبع الحضارة العصرية بطابعه، فالتاريخ هو خير راع للحضارة وناقل لها ما ظل يعمل على خدمة الحياة، وبحث الناس على نشدان الحياة السامية، فالتاريخ الموقوف على نشر المآثر يمثل للإنسان آثار الأقدمين الرائعة ويبعث في روحه الأمل الملتهب والعزم المتأجج لإكمال معنى هذه الآثار، ويعمل على رفع مثل الإنسانية الأعلى ناقضاً من قلبه التلهي بحب الحاضر والاستسلام لملذاته. أما التاريخ التقليدي الذي يوحي للإنسان احترام الأشياء الفانية، وحب الآثار الماضية، فهو خير حقير يحمل أصحابه على الرضا بالحاضر الممقوت، يسكرهم بذلك الماضي الذهبي البعيد ويسكب في وجودهم القاتم المستكين مخدراً شعرياً يبعثهم على الركود. وهنالك التاريخ الناقد المحاكم، يعرض الماضي كله على محكمة العقل ويبحث فيه ثم ينفيه، لأن كل ما كان من حقه أن يزول. - إن مثل هذا التاريخ هو سلاح محمود عند من أثقلت ظهورهم أعباء الماضي الثقيل، وهم يريدون أن يطرحوها عنهم ويمشوا قدماً إلى ما خطت لهم الحياة
ولقد يستحيل التاريخ إلى قوة غاشمة سيئة حين ينفصل في طريقه عن الحياة، وحين يود أن يفرض مذهباً خاصاً بعيداً عن مذاهبها، إنه يصبح رسول موت لا رسول حياة. ينشئ من الإنسان مجموعة محشوة علوماً ومعارف. ويقتل فيه القوة التي تسوقه إلى العمل. . . إنه مجموعة أثرية لاحظ فيها لسطر من سطور العمل. صاحبها ضعفت شخصيته، ونشأ في تفكيره عالة على غيره، وتعلم أن التاريخ يجب أن يتلقنه تلقيناً، وألا يضعه بنفسه. على أن المؤرخ الحقيقي الذي ينبغي لمثله أن يسطر التاريخ هو من يقف تجاه المسألة التي يدرسها وقفة الخلي، ويعمل دائباً على تشييد بناية الحاضر. رجل التجارب والسمو هو الذي يسطر التاريخ(109/64)
وللتاريخ وجهة ثانية رائعة يستخلصها نيتشه: هي أن التاريخ يكرم من التفاؤل ما كان محفوفاً بالكدر والخطر. ويحترم الميول الفظة ويعبد الظفر. يعتقد المؤرخ أنه يرى في الحركة الإنسانية أثراً لا أعلم من أي سام منحدره. يجهد العقل ليدرك أنى بدأت هذه الحركة وأين يجب أن تنتهي؟ والإنسان لم يكن عظيماً إلا حين كان يشن الغارة على القدر ويعلن الحرب على القضاء الأهوج، ولكنه يفعل ذلك دون أن يخرج من نفسه
ليس التاريخ الحقيقي بذلك التاريخ الذي يأتي على كل شيء وإنما هو تاريخ أبناء العبقرية، وسيأتي عصر تتبدل فيه صورة هذه الحركات التي ألف التاريخ تسجيلها. وسترسم هذه الصورة بصورة أدنى إلى الحقيقة، فلا يكتب التاريخ بعمومه وخصوصه، وإنما يقصر فيه على رجال العبقرية الذين أثروا في العالم؛ هم لا يأتون ويتعاقبون حسب شريعة تاريخية، ولكنهم يعيشون وراء الزمن! يمثل وجودهم المتصل المتماسك معبراً ترابطت أجزاؤه واستمكنت عقده فوق الأمواج العاصفة. ولنعمم هذا التاريخ الذي يرسم هذه الصورة ويخرج هذا المثل! وهذه هي جمهورية العباقرة التي تحدث عنها (شوبنهاور). عبقري ينادي عبقرياً في أثناء العصور وأهضام الأجيال. ووظيفة التاريخ أن يجمع شتاتهم، ويدني بعضهم من بعض، وأن يهيئ - في كل مهلة - ولادة جديدة لعبقري جديد. إذ ليست غاية الإنسانية من سيرها ذلك الغرض الذي تزحف إليه وإنما غايتها تتمثل في النماذج الكاملة التي تخرجها وتنشئها في الوجود
الغزوة الثالثة:
ولم يقف الأمر عند تهديم العمارة القديمة وتعاليمها المخطرة. فهو يقصد إلى تشييد عمارة المستقبل على دعائم جديدة، فتحرى عن عباقرة أحياء يستطيعون أن يذهبوا بالشباب إلى هذه العمارة وإلى هدف جديد، ينزع عنهم هذا التفاؤل المخدر ويعرضهم أمام أنفسهم مجردين، وسعى إلى أن يرى له معلمين يساعدونه على كشف نفسه ويعرفونه بنفسه؛ من أين نشأت وإلى أين تذهب؟
وقع - أو شاءت المصادفات - أن يقع نيتشه مصادفة على كتاب شوبنهاور (العالم إرادة وتمثيل) وما كان نيتشه ليقدر أن هذا الكتاب سيقلب كل أطوار حياته، ويترك ثورة مستعرة في نفسه، ثم تشتعل هذه الثورة وتزيدها الأيام ضراماً، فلا تهدأ إلا بعد أن تأكل نفسها،(109/65)
وتمد ألسنة شواظها إلى نفسها فتهدأ الثورة بثورتها على ذاتها. . . فكان أول ما شغله من هذا الكتاب الجديد شخصية صاحبه المتجلية في كل حرف من حروفه؛ وهو الذي يقول: (أنا من قراء شوبنهاور، ممن يدركون أنهم سيتلون شوبنهاور من فاتحته إلى خاتمته، وسيصغون إلى كل حرف تهمسه شفتاه. إن ثقتي به ثقة عمياء ما زادها كر الأيام إلى ثباتاً)
(يتبع)
خليل هنداوي(109/66)
القصص
من أساطير الإغريق
القرية الظالمة
للأستاذ دريني خشبة
ذهبا يدلجان في هدأة الليل، ويضربان في ظلام الوادي، ويتحدث أحدهما إلى الآخر حديث الآلهة؛ وكلما نال منهما الجهد، جلسا يتسامران، أو ينصت الشيخ ذو اللحية البيضاء المرتعشة، إلى السحر الذي تنفثه قيثارة الفتى اليافع
- (حسبك يا بني، فلقد كادت موسيقاك تبطل عمل العاصفة)
- (وفيم تريد أن تستيقظ العاصفة يا أبتاه؟)
- (أريد أن تستيقظ العاصفة لأريك عجباً هذه الليلة من طباع الناس. أترى إلى هذه القرية! النائمة في أكناف الجبل؟)
- (أين يا أبي؟)
- (أنظر جيداً)
- (الظلام دامس، ويكاد الحلك يختلط بسواد الصخر فلا أرى شيئاً. . .)
- (أنظر في الجهة التي تشير إليها يدي)
وأشار الشيخ بيده فانبعثت منها شعاعة من نور شديد، كشفت القرية للفتى
- (آه. هذه هي. عمش خفيف أصابني الليلة يا أبتاه!)
وكان الفتى حلو الدعابة رقيق النكتة، ثرثاراً، فقال له الشيخ يحذره:
- (إذا كنا عند القرية فلا تبدأ حديثاً، ولا تخاطبني إلا أن أخاطبك؛ وإياك أن تأتي بإشارة تسقط هيبتنا في أعين القوم، فانهم لؤماء سفهاء، وقد تفسد علينا ثرثرتك ما جئنا من أجله الليلة إلى هذه القرية. . .)
(نسيت القفل يا أبتاه!!)
- (أي قفل؟)
- (الذي أقفل به فمي فما يتحرك ببنت شفة)(109/67)
- (يا خبيث. .: اصمت)
وأشار الشيخ بيده إلى السماء فأربدت وتكلحت وأورى برقها وقرقع رعدها، وانصبت ميازبها بماء منهمر. وانطلقا إلى القرية. . .
ووقفا عند منزل فخم ضخم ذي شرفات، فقال الشيخ:
- (تشبث يا بني بأحياد الحائط حتى تكون عند النافذة، فانظر ماذا ترى)
وفعل الفتى، ونزل، وقال للشيخ:
- (أبتاه! نسوة عاريات يرقصن، وندامى وخمر، و. . . موسيقى. . . وفتيان وفتيات. . . . و. . .)
- (وماذا يا صغيري العزيز؟)
- (ودعارة وعهر يا أبتاه. . . . لماذا جئنا هنا؟ لماذا جئنا هنا؟. . .)
- (قلت لك جئنا لأريك عجباً هذه الليلة من طباع الناس، هلم إلى باب المنزل)
وطرقا الباب، فبرز لهما فتاىً غرانق وقال: ماذا؟ شحاذان قذران!) فقال الشيخ:
- (على رسلك يا بني. أنا رجل شيخ غريب، وهذا ابني، وقد دهمتنا العاصفة فلجأنا إليكم نرجو أن تضمنا غرفة صغيرة إلى الصباح، ونطمع أن نتبلع لديكم بلقمات. . .)
- (غرفة ولقمات؟ ها ها. . . اذهبا اذهبا. . . لصوص! هذه حيل قطاع الطريق والسفاحين بلوناها من قبل)
ثم قذف بمصراع الباب في وجهيهما. فنظر الشيخ إلى ولده وقال: (أرأيت؟ سر إلى هذا البيت القريب)
وقال لابنه: (هلم إلى النافذة فانظر. . .)
وتسلق الفتى وحملق قليلاً، ثم قفز وقال: (أبتاه! أناس يخزنون الذهب في خواب عظيمة ويختمون عليها بالرصاص المذاب؛ من أين لهم هذا الذهب كله يا أبي؟. .) فقال الشيخ: (هم لصوص يا بني، وإن كانوا لا يقطعون طريقاً، ولا يسطون على دار؛ ولكنهم يمتصون دم الفقير والمعتر، ويصهرونه ذهباً ويكنزونه هكذا؟! إنهم أصحاب هذه الضياع والبساتين! هلم إلى بابهم. . . . . .)
وطرقا الباب، وسألا طعاماً، ومبيت ليلة، فقالت لهم العجوز صاحبة الدار:(109/68)
- (إن هذا العام عام شدة، ولم تبق لنا المجاعة على زرع ولا ضرع، ماذا عندنا لنعطيكم؟ هيكل زيوس قريب من هنا ناما فيه، وكهنته أسخياء كرماء، وعندهم في كل آونة خمر. . . سيطعمونكما ويسقونكما! وربما قدموا لكل منكما غادة! فهم فساق عرابيد. . . اقصدا إليهم. . . اذهبا. . .)
وقذفت بالباب في وجهيهما. . . . . .
قال الشيخ: (أرأيت يا بني؟) فقال الفتى مداعباً:
(نحن نستحق أضعاف هذا الهوان! ما لنا وللناس؟!)؛ فقطب الرجل جبينه وقال: (مالنا وللناس؟ إذن ما نحن في هذه الدنيا يا بني؟ ولكن ليس الآن ما أعددت لك من عبرة هذه الليلة؛ سر بنا إلى ذلك القصر العتيق)
فلما كانا عنده، تطلع الفتى فرأى صحباً كثيراً ما يزال يتعشى، والموائد حافلة بالأشربات والأشواب، وبكل ما لذ وطاب. والندامى البيض كالنجوم رافلات، ورافلون، في وشى وأواف. وكأن الفتى استطير من العجب، فقال للشيخ: (كل الناس يا أبتاه هانئون هذه الليلة المقرورة إلا نحن!! الجميع يأخذ في نشوة ولذة ونحن نضرب في وحل وننشق من غيظ؟!)
قال أبوه: (ألم أقل لك ألا تبدأ حديثاً حتى أبدأك؟ هلم إلى الباب) وقرعا الباب فبرز لهما شاب مفتول العضل كأنه هرقل. فلما سألاه حاجتهما، قادهما إلى البهو الواسع حيث القوم فيما هم فيه من متاع
قال الشاب المفتول: (إليكم أيها الأخوان لصين من لصوص الدجاج عاثا كثيراً في قريتنا هذه، ولولا طول الحذر ما ذقتم الليلة رجل دجاجة. . . . . . إنهما يطلبان مبيتاً وعشاءً، ولا أدري لِمَ لمْ يقصدا إلى هيكل الأب زيوس حيث المبيت الوثير والعشاء الكثير؟! وحيث أشياء أخرى. . . . . .)
وقهقه السمار وتكبكبوا حول الغريبين، ثم أخذوا معهما في ألوان غير محتشمة من المزاح الثقيل. هذا ينتف شعرات من ذقن الشيخ، وذلك يرفع ذيل الفتى مما وراء، وهذه تعانق الشيخ وتقبله وتقدم له كأساً من الخمر، وتلك تركب الفتى (زقفونة!). . . . . .
ولما فاضت الكأس بالشيخ والفتى، نظر أحدهما إلى الآخر نظرات، ثم غابا عن أنظار الجماعة، كأنما تحولا إلى هواء. . .؟!(109/69)
فشده القوم، وأوجسوا خيفة
لم يبرح الرجل وابنه يتنقلان في شوارع القرية الموحلة من بيت إلى بيت، وكلما طلبا المبيت والعشاء استهزئ بهما وطردا شر طردة وأخسها، حتى ضجر الفتى وبرم بحكمة والده في هذه الرحلة المضنية في ذلك البلد البخيل. . . فقال له: (اذهب أنت فسأنتظرك على هذه الصخرة الناتئة في حيد الجبل، وسأتسلى بموسيقاي حتى تعود) فقال الشيخ: (وحكمتي التي أردتك أن تراها بعينيك؟ هلم، هلم. . . أترى ذلك الكوخ؟ لندلج نحوه وليكن آخر مطافنا)
وكانت في الكوخ كوة صغيرة ينبثق منها نور خافت. فلما نظر الفتى تمتم يقول: (أبتاه امرأة متهدمة وشيخ محطم! يا لبؤس الحياة، ويا لشظف العيش! لماذا أثرت العاصفة يا أبي؟ إن الماء ينز عليهما ويبلل فراشهما. . .)
- (سترى أن هذا الكوخ هو وحده الذي يبقى)
- (ماذا تعني يا أبي؟ هل تهدم القرية؟)
- (صه! هلم فاطرق باب الكوخ.)
- (قم يا فيلمون. إن بالباب طارقاً)
- (نامي يا بوسيز! إنه البرد ترجم به العاصفة)
- (لا. ليس برداً. إسمع! أناس ينادون. قد تكون بهم حاجة)
ونهض فيلمون متهالكاً على نفسه ففتح الباب. وما كاد الشيخ يذكر حاجته حتى هش صاحب الكوخ وبش، وتلقى الرجل وابنه أحسن لقاء
- (مرحباً مرحباً. . . أنتما في حاجة إلى دفء. بوسيز. انهضي يا امرأة فأوقدي ناراً. أنا أعرف أن الحطب مبلل، ولكن حاولي. . . مرحباً يا كرام معذرة، فنحن نستعين على الحياة هنا بالصبر. بوسيز، هاتي قربة النبيذ أولاً. ليس فيها إلا صبابة! لا بأس! سيبارك زيوس للضيفين فيها. . . هاتي شيئاً من المشمش الجاف يا امرأة!. . .)
وتأتي بوسيز بقربة النبيذ، وما يكون فيها إلا ثمالة، فيتناوله الشيخ ذو اللحية البيضاء، فيتمتم بكلمات فتمتلئ نبيذاً من خير ما عصر باخوس؛ وبعد أن يروي منها هو وابنه، يدفع بها إلى صاحب الكوخ ممتلئة كأن لم يمتد إليها فم! فيتولى الرجل دهش عظيم ويقول:(109/70)
(بحق زيوس إلا ما أخبرتني أيها الصفي الصالح من أنت؟) فيقول الشيخ: (أنا أيها العزيز رجل نقلة وأسفار وهذا ابني الموسيقي البارع. أتطرب للموسيقى؟)
ويهتز الرجل، ويوقع الفتى على قيثارته لحناً كأنه لسان العاصفة بما فيها من سنا برق وهزيم رعد ومكاء ريح وتنقير مطر، ثم هو مع ذاك لحن مشرق متألق يأسر اللب ولا يستأذن على القلب. . . وطرب فيلمون، ورقصت جوانح بوسيز، وأحضرت طبقاً به قليل من المشمش الجاف فقدمته للفتى، ناسية أن تقدمه للشيخ، وهذا من أثر الموسيقى على أعصابها، فقدمه هذا إلى أبيه في أدب واحترام. وما كادت اليد البيضاء الناصعة تمس الفاكهة حتى عادت إليها النضارة، وتأرجت عنها أنفاس الحديقة، وتضاعفت في الطبق حتى ملأته. فأكل الشيخ، وأكل ابنه، وأكل فيلمون وزوجه، وهما لا يصدقان ما يريان!
وظلا يقدمان للضيفين كل ما استطاعاه من خبز وأدم، فكان القليل يزداد والمشفوف يتضاعف. وكانت لديهما إوزة عجفاء حاولا أن يجريا عليها التجربة فهما بذبحها ليصنعا منها شواءً يقدمانه للضيفين، ليريا ماذا يكون من أمرها. ولكن الإوزة فزعت فزعاً شديداً، وانطلقت في ناحية الشيخ تستجير به كأنها تكلمه. فابتسم وربت على ريشها الناعم النظيف، وأجارها من سكين فيلمون
وكان نسيم السحر قد أخذ يهب في الأفق الشرقي، فقال الشيخ:
- (أيها العزيز فيلمون. أيتها التقية الكريمة بوسيز، من إلهكما!)
- (إلهنا زيوس تبارك في علياء الأولمب؟)
- (أو يسركما أن يكون معكما الآن؟)
- (معنا هو دائماً معنا!)
- (أجل. هو دائماً مع عباده المخلصين. ولكن، أيسركما أن تكونا الآن في حضرته يحدثكما وتحدثانه؟)
فيصيح فيلمون:
- (أنت هو زيوس. تقدست. تقدست)
ويسجد الرجل وزوجه، وما تفتأ تأخذهما رعدة شديدة
- (أجل. أنا زيوس. أتيت أبتلي هذه القرية. وهذا ولدي هرمز. انهضا. والآن. ستزلزل(109/71)
الأرض زلزالها فلا تنزعجا. . .)
ووقف زيوس، وأشار بيده إشارة خفيفة إلى الشرق، ثم إلى الغرب، ثم إلى الجنوب، ثم إلى الشمال؛؛؛ ثم نظر إلى فوق وتمتم بكلمات، وجلس
وما كاد يفعل حتى رقصت الأرض، وسمع كأن الجبل القريب يندك، وكأن الصواعق تنقض على المنازل فتقوضها، وتنقلب القرية إلى جحيم ملتهب، وكلما أطل فيلمون أو أطلت امرأته من الكوة سرت فيهما رجفة أروع من رجفة الزلزال، فيطمئنهما زيوس
- (الكوخ يا إلهي! أنا رجل فقير!)
- (مال كوخك يا فيلمون!)
- (إذا انهدم عشت في العراء!)
- (لا عليك! فلن تقوض الزلازل إلا قصور العتاة؟)
وأشرقت الشمس، فنهض الإله الأكبر، ونهض الجميع معه. وما كاد فيلمون يفتح باب كوخه الحقير حتى أخذه العجب وارتد على عقبيه مذعوراً:
- (مولاي! لمن هذا القصر المشيد؟)
- (هو لك يا فيلمون، أمرت الآلهة فبنى لك في ساعة السحر جزاء كرمكما. هلما نشهد غرفاته)
وانطلق الجميع يتنقلون في غرفات القصر وردهاته، وكلما مر فيلمون وزوجه بتمثال إله سجدا واخبتا، حتى إذا كانوا في أكبر ردهات القصر، وقف زيوس وقال: (فيلمون! هذا هيكلي! وقد جعلتك كاهني الأكبر، فتمن الآن علي، فسأجيبك إلى كل ما تطلب)
فتبسم فيلمون وقال: (مولاي! الشباب يا مولاي! ليعد الشباب إلي وإلى زوجي بوسيز، ولنعش طويلاً فإذا جاء وعدك فلنمت في يوم واحد في ساعة واحدة!) وسجد يقبل الأرض بين قدمي الإله الأكبر!
فقال زيوس: (انهض يا فيلمون فطلبك مجاب، وستعيشان راغدين!)
وسلم الإلهان وغابا عن الأنظار، وخرج فيلمون وزوجه ليريا إلى القرية، فلم يشهدا شيئاً غير بحيرة تعج أمواجها، وجزيرة كبيرة خضراء في وسطها قصرهما المنيف! فآمنا بزيوس وسبحا له!(109/72)
وعاشا طويلا، وماتا في يوم واحد وساعة واحدة، ونبتت دوحتان عظيمتان من أشجار السرو أمام باب القصر تخلدان ذكراهما في العصور
دريني خشبة(109/73)
البريد الأدبي
المؤتمر المصري الثالث للطلبة المصريين بإنجلترا
أقام الطلبة المصريون في إنجلترا مؤتمرهم الثالث من مساء يوم الأربعاء 10 يوليه إلى يوم الاثنين 15 منه، فحاضر في اليوم الأول الملازم حسن بكير في البوليس المصري والأمن العام: حالتهما وما يجب أن يكونا عليه؛ وفي يوم الخميس ألقت الآنسة أسماء فهمي محاضرة عن (علاقة علم النفس بالتربية ومقاييس الذكاء)، وكذلك ألقى الأستاذ عبد العزيز أمين عبد المجيد محاضرة عن (عيوب النظام المدرسي الحالي بمصر ووسائل إصلاحه)؛ وفي يوم الجمعة تكلم الأستاذ يحيى نامق عن (حركات الشباب المصري وكيف يجب أن تتجه)، والأستاذ حسن محمد الشعراني عن (رقي الصناعة في مصر)، ثم تحدثت الآنسة حنينة خوري عن (الحبشة وعاداتها وعلاقتها بمصر)؛ وفي يوم السبت تكلم الأستاذ إبراهيم حسن الموجي عن (فضل الإسلام في رفع منزلة المرأة)؛ وفي يوم الأحد تكلم الأستاذ سليمان أحمد حزين عن (مشكلتي السكان والدفاع القومي ومكانتهما من سياستنا التعليمية)، والأستاذ يحيى عبد السلام العلايلي عن (علاقة الطلبة المصريين بإنجلترا وكيف يجب أن تكون)
وفي يوم الاثنين انعقد المؤتمر بشكل جمعية عمومية لمراجعة النتائج التي وصل إليها في المحاضرات السابقة ولمناقشة شؤون المؤتمر الرابع المقبل وانتخاب اللجنة المعدة لإدارته
بين الرصافي والريحاني
نشرنا في عدد مضى ما رواه الريحاني عن الرصافي في كتابه الجديد (قلب العراق) وانتظرنا كلمة الأستاذ الرصافي في هذه الرواية. وقد قرأنا أخيراً في جريدة الاستقلال البغدادية كتاباً من الأستاذ الرصافي ينكر فيه كل ما عزاه الريحاني إليه إنكاراً يؤيد تعليقنا على هذا الخبر أو ذاك، وهذا كتاب الرصافي بنصه:
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب جريدة الاستقلال الغراء أرجو نشر الكلمة التالية في جريدتكم ولكم الفضل والشكر:
أطلعني بعض معارفي على ما رواه الريحاني عني في كتابه قلب العراق فعجبت منه واستغربته كل الاستغراب. لقد اجتمعت بالريحاني عدة مرات في أزمنة مختلفة، ومجالس(109/74)
مؤتلفة وغير مؤتلفة، تجاذبنا فيها أطراف الأحاديث من كل نوع، ولا أتذكرها اليوم لمرور الزمان ولاختلال ذاكرتي بالنسيان، فأنا من هذه الناحية لا أستطيع أن أناقشه في صحة تلك الأقوال التي أسندها إلي ورواها عني. ولكنني الآن أستطيع أن أنفي نفياً باتاً صحة كثير مما رواه في كتابه المذكور بدليل أن في تلك الأقوال ما لو قاله اليوم أحد غيري لأنكرته عليه أشد الإنكار. إذن فكيف أقول للريحاني ما أنكره لو قاله غيري؟ وفي الأخير أقول: إن كان كل ما يرويه الريحاني في كتبه من هذا القبيل فويل للحقيقة منه، وويل له من الحقيقة!
معروف الرصافي
معهد شرقي في برلين
من أنباء برلين الأخيرة أن الحكومة الألمانية قررت إنشاء معهد جديد يسمى (المعهد الشرقي) يلحق بجامعة برلين ويعنى بدراسة اللغات الشرقية ومسائل الشرق وحضاراته. وسيدمج في هذا المعهد الجديد، معهد اللغات الشرقية القديم الذي كان ملحقا بجامعة برلين، ومعهد اللغات السامية والعلوم الإسلامية، والمعهد الصيني، والمعهد الهندي الألماني. أما المعهد الياباني المخصص لدراسة المسائل والحضارة اليابانية، فسيبقى مستقلاً كما هو الآن نظراً لمهمته الخاصة
وفي هذا النبأ ما يلفت النظر، لأن الحكومة الألمانية الحالية وهي الحكومة الهتلرية قد اضطهدت حركة الاستشراق، أعني المباحث الشرقية والإسلامية، اضطهاداً شديداً، لأن معظم أقطاب المباحث الشرقية والإسلامية من اليهود، وقد طاردت الحكومة الهتلرية العلماء اليهود أشد مطاردة وشردتهم من معاهدهم، وركدت بذلك حركة الاستشراق في ألمانيا؛ وكانت هذه الحركة زاهرة بألمانيا قبل الحرب لأنها كانت يومئذ كانت تجيش بالمطامع الاستعمارية في الشرق وتشجع المباحث الشرقية والإسلامية وتغذيها بالمال والبعوث؛ ثم ضعفت هذه الحركة بعد الحرب، وفترت همم العلماء المستشرقين لتخلي الحكومة عنهم وقصورها عن إمدادهم بالمال اللازم؛ فهل نفهم من إنشاء (المعهد الشرقي) الجديد أن الحكومة الهتلرية تزمع العودة إلى تشجيع المباحث الشرقية، وأن لهذه الخطوة علاقة بمطامعها السياسية والاقتصادية فيما وراء البحار؟ هذا ومن جهة أخرى فالمعروف أن(109/75)
الحكومة الهتلرية تقيم سياستها على فكرة الجنس، وأنها تنادي بانحطاط الأجناس الشرقية وعدم كفايتها (لإنشاء الحضارات) وتعتبرها فرائس مشروعة لاستعمار الجنس الآري إلى آخر ما هنالك من مبادئ ومزاعم جديدة يعمل الهتلريون على بثها وتدعيمها؛ ولذا فإنا نجد ما يدعو إلى التأمل في اهتمام الحكومة الهتلرية بإنشاء (المعهد الشرقي)
عميد أطباء فرنسا
من أنباء فرنسا أن الدكتور الكسندر جنيو عميد الأطباء الفرنسيين سناً قد توفي في سن الثالثة بعد المائة؛ وأنه لبث محتفظاً بصفاء ذهنه وقوة حواسه حتى اللحظة الأخيرة. وقد كان مولد هذا الطبيب المعمر في سنة 1832؛ ودرس الطب، ونال أجازته سنة 1857؛ ثم نال شهادة العالمية الطبية سنة 1869، واشتهر بنبوغه في الجراحة؛ وانتخب عضواً في أكاديمية الطب، ثم رئيساً لها، وانتخب أيضاً رئيساً لجمعية الجراحين؛ وله مؤلفات قيمة في فن الجراحة ما زالت حجة في بابها. وقد كان الدكتور جنيو طوال حياته شهيراً ذائع الصيت لا كطبيب نابغ فقط، ولكن كرجل اجتماع جم الفكاهة، وقد اشتهر بالأخص برسالة ألفها في أواخر حياته عن (طول الحياة)، وما يجب على الإنسان أن يتبعه من نظم التغذية والرياضة إذا أراد أن يعيش مائة سنة، وخلاصة نصحه في ذلك أنه يجب الامتناع عن الإفراط في أي شيء، في العمل أو في الراحة أو في الطعام أو في الشراب؛ ويجب الامتناع بالأخص عن التدخين والخمر وغيرهما من المواد والعناصر المهلكة التي تبثها المدنية الحديثة
المرأة والاستكشاف
نظمت أخيراً في إنكلترا بعثة استكشافية جديدة لارتياد (الأرض الخضراء) (جرينلاند) في منطقة المنجمد الشمالي؛ ورحلت البعثة فوق السفينة القطبية الشهيرة (كوست) وهي سفينة السير أرنست شاكلتون الذي اشتهر باكتشافاته في تلك المناطق، وعهد برئاسة البعثة الجديدة إلى الأستاذ واجر؛ وبين أعضائها عدد ن العلماء القطبيين المعروفين بين إنكليز ودانماركيين ومنهم الأستاذ كورتولد الذي اشتهر بمخاطراته في الجزيرة الخضراء وقضى بها وحده شتاء كاملاً فوق الجليد في سنة 1931. ومما يلفت النظر أن هذه البعثة القطبية(109/76)
ترافقها أربع سيدات هن زوجات أربعة من الأعضاء، وسيقضين الشتاء مع البعثة في الجليد، ويحتملن نفس المشاق التي يحتملها باقي الأعضاء. وقد سافرت البعثة من ثغر ابردين في اسكتلندا في أوائل شهر يوليه صوب البحار القطبية، ويتولى تسيير السفينة بحارة من النروجيين الذين عرفوا بخبرتهم في هذه البحار، واحتمالهم لهذه الأجواء
وعلى ذكر مخاطرة المرأة في ارتياد المجاهل والوهاد الخطرة في سبيل الغايات الاستكشافية نذكر أن امرأة بمفردها هي الدكتورة ماري آكلي أرملة المثال الشهير كارل آكلي تزمع السفر بمفردها إلى مناطق أفريقية الوسطى في روديسيا وفي سوالي لاند وزولولاند لدرس حياة الحيوان في تلك الأنحاء، ولتعرف رسوم القبائل وعاداتها الوثنية. وقد سبق أن قامت الدكتورة آكلي بمثل هذه الدراسات في بعض أنحاء أفريقية الجنوبية، وقامت أيضاً برحلات شاقة في الجبال الكندية بأمريكا، ولها اكتشافات معروفة في تلك الأنحاء استحقت من أجلها عدة أوسمة وتقديرات علمية
خليل بك مطران وفرقة التمثيل الحكومية
أصدرت وزارة المعارف قراراً بتعيين الشاعر الكبير الأستاذ خليل بك مطران مديراً للفرقة التمثيلية التي اعتزمت الحكومة إنشاءها تنفيذاً لاقتراح لجنة ترقية المسرح المصري بمرتب قدره خمسون جنيهاً في الشهر؛ وهو تعيين معناه الجد في إنهاض هذا الفن الذي عبثت به الأهواء والفوضى فخرجت به عن سبيل النهضة العامة(109/77)
الكتب
قواعد التحديث
من فنون مصطلح الحديث
نشره (مكتب النشر العربي بدمشق)
للأستاذ الأمير شكيب أرسلان
اطلعت في مجلة (الرسالة) المصرية على كلام للأخ الأستاذ العلامة محمد بك كرد علي ينتقد فيه كتاب (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث) للمرحوم العلامة الأستاذ الشيخ جمال القاسمي بأنه كتاب قد جمع جمعاً ولم يأت صاحبه فيه إلا برأي واحد وهو ترجيح قول الجلال الدواني على قول الشهاب الخفاجي في عدم التسامح بالأحاديث الضعيفة ولو كانت في مقام الترغيب في الفضائل. وقال: إن طريقة التأليف في عهد الارتقاء العلمي هي أن يأتي كلام المؤلف أكثر من شواهده، وأنه لما ضعفت ملكة التأليف أصبحت الكتب عبارة عن نسخ أقوال من سلف، وربما كان الشيخ جمال القاسمي آخر من جرى على هذهالطريقة وهي بسط أراء غيره؟ وأنه قد حدثت في التأليف طريقة جديدة اليوم وهي أن المؤلف في فن يقتصر على لباب ما قرأ فيه، ويدعم أقواله بشواهد من كتب القدماء أو المحدثين بأسلوب سهل سائغ خال من الخطابيات والسجع؟
فالأستاذ كرد علي ينتقد هذا التأليف رأساً من جهة أنه ليس على طريقة التأليف العصرية التي هي بزعمه إلا اكتفاء بالإشارة إلى ما كتبه القدماء أو التلخيص لأقوالهم بدون التزام النقل إلا ما جاء في سبيل التأييد والدعم. ثم أنه لم يكتف بنقد الكتاب نفسه بل أنتقد ناشره بأنه قدم له أربع مقدمات، ثلاثة لبعض المعاصرين ورابعة للمؤلف، وأن هذه المقدمات استغرقت أكثر من عشرين صفحة وما خرج الكلام في بعضها عن الدعاية والتمجيد؟ وكأن الأستاذ كرد علي يريد انتقاد أخيه هذا في المقدمة التي من قلمي والتي اذكر فيها ما أعرفه عن الشيخ جمال القاسمي رحمه الله. وبعبارة أخرى قد ثقل على أخينا الأستاذ ما صدرنا به كتاب (قواعد التحديث) من مناقب مؤلفه، ولقد كنت أتمنى ألا يكون الأستاذ كرد علي جعل من هذا موضعاً لنقده. وأنا أتمنى الآن أن أكون أسأت فهم كلامه. فأما من جهة مؤلف هذا(109/78)
الكتاب الشيخ جمال القاسمي فأنه من مفاخر الشام بالاتفاق، وممن سار ذكر فضائلهم في الآفاق، وليس محمد بك كرد علي بالذي يجهل ذلك أو يقدر أن يماري فيه، وأني لجد مستغرب منه ضيق صدره بثنائي على رجل لا يتمارى أثنين في دمشق الشام في كونه من أفذاذ هذا العصر ومن العلماء الذين تحتج بمثلهم دمشق في كل مقام مباهاة
فأنا لم أكتب عن الشيخ جمال القاسمي إلا ما أعلمه وأعتقده، وإذا كان أخونا كرد علي يسمي ذلك (تمجيداً) فأن التمجيد في محله لا يكون موضع نقد، فأن لم يمجد الإنسان مثل الشيخ جمال القاسمي في علمه وإحاطته، وقوة حجته، ودماثة خلقه، ورقة طبعه؛ وسائر ما أمتاز به من خلال الخير الكثيرة، فيكون هو المقصر، وهو الذي يستحق النقد. ما كنت أحب أن يغمز الأخ كرد علي بي في مسألة كهذه، ولا أعلم لماذا فعل ذلك؟ وأما من جهة التأليف نفسه فأن الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا قد أعطاه حقه في إحدى المقدمات الأربع التي أشار إليها حضرة الأخ، وقد ذكر كل ما يلزم من بيان مزايا الكتاب وقال أنه لا يعرف كتاباً مثله في موضوعه وسيلة ومقصداً ومبدأ وغاية، ونظن أن السيد رشيد رضا هو من يضع الهناء موضع النقب، ولا يكون مخالفاً للواقع إذا قلت أنني أنا والأخ كرد علي لا نقدر أن نتكلم في علم الحديث إذا كان السيد رشيد رضا قد تلقف فيه كرة البحث
وبعد هذا فلست أرى ما يراه الأخ من أن القاسمي جمع جمعاً، وان الجمع في التأليف هو خطة عهد التأخر، بل قد وجد الجمع في كل من عهدي التقدم والتأخر. وفي أوربا اليوم كتب كثيرة لا يزيد فيها أصحابها على الجمع، وهم يتركون الحكم لأرباب النظر، وقد يوجد الإنسان في ظروف زمانية أو مكانية تمنعه من التصريح برأيه ومن الترجيح والترجيح لاختلاف أذواق من يخاطبهم، فيكون الجمع حينئذ هو أمثل الطرق، ويكون كل قارئ قادراً أن يستقي من هذا الجمع ما يستعذبه. فالشيخ جمال القاسمي كان يعلم ما في عصره ومصره من طبقات مختلفة ومنازع متباينة، وكان هدفه ألا يصادم مشرباً خاصاً ولا يحكم لمذهب على مذهب، بل يجمعها جميعا تحت راية الهدى النبوي، وينظم كلام ابن تيمية مثلاً إلى كلام الشعراني والشيخ الأكبر بحيث يكون كل من الطبقتين السلفية والصوفية واجدين في هذا الكتاب طلبتهم. وقد نسى أخونا الأستاذ كرد علي محنة الشيخ جمال القاسمي عام 1313 عندما اتهم بالاجتهاد هو والمرحوم الشيخ عبد الرزاق البيطار وآخرين من رفاقهما(109/79)
واعتقلوا من أجل ذلك وأهينوا، فأصبح مثل الشيخ جمال وقد عضته الصراحة بأنيابها يتجنب الخوض فيما يؤدي به إلى نكبة، ويجد الاكتفاء بعرض الآراء أسلم، وربما أعلم أيضاً، لأن مثل هذه الآراء لا ينتهي الخلاف فيها، ولا تزال كل طائفة تجادل في كونها على حق إلى يوم القيامة. ففي بعض المواقف يكون السكوت أفصح من البيان، وأبعد عن مثار الشبهات لا سيما عندما يكون العالم الخبير بأمور عصره وشؤون قطره واثقاً بأن المصلحة هي في جمع الكلمة، وأن جمع الكلمة تحت راية الهدى النبوي لا يتأتى بالترجيح والترجيح والقول بأن هذا فاسد وهذا صحيح إلا في المسائل التي لا خلاف فيها بين العلماء والتي إنما يختلف فيها العوام. . .
فكتاب (قواعد التحديث) لو كان يؤتي من هذه الجهة لما أطراه صاحب المنار هذا الإطراء كله وهو في علم الحديث الجبل الذي لا يطاول والبحر الذي لا يساجل، كما أنه يعلم من طرق التأليف القديمة والمتوسطة والعصرية ما لا يقدر أن ينكره العلامة الكرد علي. ثم إن هناك غمزاً بالسجع، وليس الأخ كرد علي وحده الذي بدأ بهذا الغمز، بل كان أحد الأصحاب أطلعني على كتاب للدكتور زكي مبارك لمحت فيه كلاماً يشبه أن يكون استصغاراً للسجع أو استكباراً لأتيانه؛ وهذا باب جديد عجيب إذا أردنا أن ندخل فيه يطول بنا الأمر. فنكثر بالقول إن السجع وجد في الجاهلية وجاءت منه أمثلة لأفصح فصحائها، ثم جاء في القرآن الكريم، بل القرآن الكريم كله سجع وهو أبلغ الكلام العربي وغير العربي، وجاء في كلام الصحيح والمخضرمين ثم في الطبقة التي تليهم، ثم في التي تليهم ثم في التي تليهم إلى يومنا هذا. ولم نعلم أحداً عاب السجع من حيث هو وإنما يعاب السجع بالنسبة إلى المقام الذي يستعمله فيه الكاتب أي إنه لما كان السجع تقييداً بفواصل كما هو الشعر تقييد بقوافي فلم يكن السجع مستحسناً في المواطن التي يجب أن ينطلق فيها عقال القلم لكمال تأدية المعاني على وجهها. وأما في المواطن التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى المباحث العلمية الصرفة، فليس السجع بالذي يعد سبة على العربية، بل هو من محاسن هذه اللغة. وإن كان يجب حذفه من هذه اللغة من أجل كونه طريقة قديمة ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية فأن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر أيضاً، فأن الشعر هو من قبيل السجع طريقة قديمة وزينة كلام تتوخى فيها المحاسن اللفظية كما تتوخى المحاسن(109/80)
المعنوية ويراعى فيه الوزن والقافية وهو من قبيل الموسيقى. والموسيقى هي أيضاً قديمة والطبيعة البشرية تألفها بل تحتاج إليها بل تهتف بها. والشعر ضرب من الموسيقى، فهو إذن من مقتضيات الطبيعة البشرية. والسجع وإن لم يكن مقيداً بكل تقييد الشعر فهو مقيد أيضاً بقيود لها مواقع في النفوس، وهي في محلها مطربة مستعذبة ولا غبار عليها، ولا يقدر أحد أن يقول إنني أنا مفرط في هذا المذهب لأنه ليس لأحد من الكلام المرسل أكثر مما لي، ولكني لا أزال أرى السجع حلية الكلام العربي عندما يكون في محله، وذلك مثل مقدمات الكتب ومثل الخطب التي تلقى على الجماهير. وإن العرب قد اصطلحوا على السجع في أسماء الكتب ولم يخطئوا في ذلك لأن الكلام المسجع أعلق في الذهن من غيره. وعسى كلامي هذا يكون مقبولاً عند أخي الأستاذ الكرد علي، ولا تتأثر به آصرة الإخاء القديم الذي بيننا والذي لا يمكن أن يطرأ عليها ما يوهنه مهما كان السبب ثقيلاً. فكيف إذا كان خفيفاً. وإن أدري فقد يكون أراد أن يداعبني ولا تكون هذه أول مداعبة بيننا
جنيف
شكيب أرسلان(109/81)
العدد 110 - بتاريخ: 12 - 08 - 1935(/)
مصر والشرق الإسلامي
إذا قلت إننا أمة من غير منهج ودولة من غير سياسة لا تبعد عن الصدق! فإن التبعية المثلثة التي ضربتها علينا الأقدار الخصيمة في السياسة والاقتصاد والأدب قتلت في عقولنا الرأي الأصيل، وفي نفوسنا العزم المستقل، وفي مواهبنا العمل المرتجل. فنحن في مجموع الناس أتباع وأوزاع ننظر إلى الأمم تعمل، وإلى العالم يسير، بعين بلهاء لا يجاوز بصرها مدى العجب! وعلتنا أن ساستنا وقادتنا كلهم من رجال القول لا من رجال الفعل، ومن أرباب القلم لا من أرباب السيف، ومن جنود القانون لا من جنود (الأوامر)؛ ربوا على مقاعد المدارس، وثقفوا على مباحث الكتب، ودربوا على مكاتب الدواوين، وحرموا التربية العسكرية وهي وحدها القائمة على الخطة والنظام والأمر والتنفيذ والشرف؛ فكانت سياستهم سياسة الترقب والتردد والخوف، لا يصدرون ولا يوردون إلا عن فتوى فقيه، أو تقرير خبير، أو إشارة (مندوب)، أو رغبة سلطان، أو إرادة حزب؛ وذلك هو الفرق بين ساسة مصر وفلسطين وسورية، وبين ساسة العراق وإيران وتركية؛ فبينما تجد الأولين - وهم رجال قانون - مشغولين بالمفاوضات والمعاهدات والاحتجاجات والشكوى، تجد الآخرين - وهم رجال حرب - لا يتبعون غير قانون الطبيعة، ولا يفهمون غير سطور الجيش، ولا يعبأون إلا بالواقع، ولا يمضون إلا على العزم ولا يأوون إلا إلى الأمة
ففي مجلس من مجالس الحكم، أو في ناد من أندية السمر، تجول في خواطرهم الفكرة، أو تجري في نفوسهم الأمنية، فما هي إلا صيحة القائد حتى تصبح قانوناً مرسوماً كالخطة، ماضيا كالنظام، شاملا كالتعبئة؛ والعسكري لا يتردد ولا يتلكأ، وإنما ينطلق ماضي الصريمة قدما إلى وجهه: مبدؤه الأمر، وطريقه المعركة، وغايته النصر!
تدبر ذلك ووازن بين هذه السياسة الدبلوماسية التي تضطرب ولا تستقر، وتدور ولا تتقدم، وتناقش ولا تنتج؛ وبين تلك السياسة العسكرية التي تهجم ولا تضطرب، وتقدم ولا تتقهر، وتعمل ولا تناقش، فلعلك واجد في الموازنة تعليل هذا الشذوذ الذي نحن فيه: أمة لا تقل عن أكثر الأمم رجالا ولا مالا ولا قوة، يدفعها ماض مجيد، ويحفزها حاضر ملح، ويغريها مستقبل واعد؛ ثم موقعها من أعظم المواقع، ومغرسها من أكرم المغارس، وعدتها الممكنة من خير العدد، وتراها مع ذلك لا تزال صاغرة تعطي بالقهر، وقاصرة لا تملك التصرف!
هل تجد بربك علة خمودها ووناها في غير قيادتها الرخوة وسياستها المستكينة وإرادتها(110/1)
المعطلة؟ ما دستور سياستنا في الغرب؟ متابعة إنجلترا على هوى الاحتلال، ومصانعة الدول على حكم الامتيازات، وإطفاء هذه البقعة المشرقة في وجهه أفريقية بهذا المظهر الكاسف. وما دستور سياستنا في الشرق؟ إن كنت تسمي الإغفال سياسة والقطيعة خطة، فدستورهما ما ترى بيننا وبين الحجاز من تناكر لا يسوغه عرف ولا تقتضيه طبيعة ولا تجره منفعة، وما تشهد بيننا وبين جاراتنا الأخوات من تدابر لا يسلم عليه تضامن ولا يجري معه تعاون ولا تنتظم به وحدة، ثم ما تسمع بيننا وبين الشرق الإسلامي من تغاضب على التمثيل السياسي، وهو أقل ما توجبه الروابط الدينية والتاريخية والجنسية من التواصل والتعاطف والمجاملة
سخونا إلى حد السرف على تمثيلنا الخارجي في أوربا، حتى في العواصم التي لا تصلنا بها سياسة ولا تجارة ولا جالية؛ فلما نبهنا إخواننا في آسية إلى أنهم أمم كأولئك الأمم، لهم ما ليس لنا من استقلال صحيح وسيادة كاملة، فضلا عما بينهم وبيننا من أواصر التاريخ ووشائج القربى، مثلنا أنفسنا هناك في الغالب بمن تنفيهم الأهواء لا بمن تدعوهم الحالة، وجعلنا للعراق وإيران وأفغانستان سفيرا واحدا يقيم في طهران!
فمس ذلك من كبرياء الأمتين والأختين فتثاقلت العراق عن تعيين سفيرها في القاهرة، ونقلت الأفغان وزيرها المعين إلى مكة! ذلك الغرب كله يتحلب فوه إلى ازدراد الشرق، فهو يستعين عليه (بالعصبة)، ويحتال له بالتجارة، ويتدسس إليه بالعلم، ويدور من ورائه بالمعاهدات، ثم يرى أن العرب صلبه والإسلام روحه، فيهجم عليهما بالمودة، ويتسابق إليهما بالخديعة؛ ولكن الإسلام والعرب يريدان أن يظل الشرق مطلع النور ومصدر الحرية ومنبت العزة؛ وتحقيق هذه الإرادة موكول إلى اجتماع الكلمة واتحاد الوجهة وتساير الهوى في الأمم الإسلامية التي ألفت بين قلوبها العقيدة، وفرقت بين جسومها المطامع
ومن أحق من مصر إذا استقلت إرادتها وتقررت سياستها وتحررت كفايتها بجمع هذه القلوب المخلصة على جهاد الاستعمار، وقيادة هذه النفوس المؤمنة إلى نصرة الحق؟
إن وطننا يا قوم مترامي الحدود، فلماذا تحدونه على الضيق، وقومنا ضخام العديد، فلماذا تحصرونهم على القلة، وإخواننا كرام يصفون المودة ويولون المعونة، فلماذا تجعلون بيننا وبينهم سدا من الإهمال والغفلة؟ إن الأمم القوية الناضجة لترخص الأموال والأنفس في(110/2)
التمكين لأدبها ونفوّها وتجارتها في الشرق، فكيف نعرض نحن عن ذلك وهو يأتينا عفوا عن طريق القرابة في البلد والنسب، والوحدة في اللغة والأدب، والمشابهة في الحظ والحالة؟!
أحمد حسن الزيات(110/3)
محمد طاهر باشا نور
مثل نادر من المثل العليا في كرم الخلق وعفة الضمير وصدق النية؛ استأثر به الله وأمته وأسرته أحوج ما تكونان إلى كفايته ورعايته؛ فكان الأسى على فقده شاملا يتبين في كل وجه، ويحز في كل قلب؛ والمصيبة في الأخيار النوابغ مصيبة الإنسانية جمعاء، لأن كمالها قائم على كمالهم، وتقدمها سائر على أعمالهم، وسلامها معقود بما ينبعث عن فطرهم النبيلة من إلهام الجمال والخير والحق. كان رحمه الله على كرم أبوته وأمومته، وشرف منصبه وأسرته، متواضع النفس لين الجانب؛ وكان على هذا التواضع وذلك اللين أبي الطبع شديد الأنفة، لا يطمئن على مكروه ولا يصبر على غضاضة. ومن العجب النادر أنه استطاع على سلامة قلبه النفاق، وبراءة لسانه من الملق، ونزاهة نفسه عن الخنوع، أن يصعد في مناصب الدولة الخطيرة صعود الشمس في الفلك، فلم تعقه مكاره العزة والأباء عن بلوغ الغاية منها؛ وفي ذلك ولا ريب نجاح للكفاية في استقلالها، وانتصار للحق في ذاته
لم يكن طاهر باشا رجل حزب، ولكنه كان رجل أمة. حصر جهد في
عمله، وحدد عمله بواجبه، وانطوى قلبه منذ نشأ على صراحة القانون
ونزاهة القضاء ونصاعة العدل؛ فكان في كل عمل تولاه مظهرا لهذه
الأخلاق وموئلا لأصحاب الحق
وفي سنة 1924 كان زعيم الأمة الخالد سعد باشا زغلول رئيسا للحكومة، وكان رضى الله عنه حريصا على أن يقيم حكومته على الإخلاص في العمل والنزاهة في التصرف والفناء في الواجب؛ فخلا يومئذ منصب النائب العمومي، وهو ألصق المناصب القضائية بسلامة الناس، لأنه يد القانون وعين العدالة ولسان الحق؛ فدار الزعيم الجليل بعينه وقلبه في رجال القانون وكبار الدولة يتوسم صفات النائب التي يريدها في الوجوه، ويتعرفها من الماضي، ويتجسسها من الأسئلة، فلم يقع اختياره الموفق إلا على طاهر نور مدير الإدارة القضائية، وهو من غير العاملين معه ولا المقربين إليه ولا المتصلين به. فقام النائب المختار بما حمل من أعباء العدل على ما تحققه فيه الزعيم من الفطانة والأمانة والذمة والحكمة، لا يضطرب في مهب الأهواء، ولا يسخر سلطانه لشهوات الرؤساء، ولا يعرض(110/4)
أخلاق الناس وأعراضهم لهوان السياسة، حتى طغى في مصر الحكم وفشا في الناس الظلم، فلم يستطع في ذلك العهد البغيض أن يوفق بين جور الحاكم وعدل القانون، فنقل وكيلا لوزارة الحقانية سنة 1930، وظل فيه على عهد الناس به حتى قبضه الله إليه. رحمه الله رحمة الله واسعة، وعوض أمته وأسرته منه خير العوض.
الزيات(110/5)
الأدب والأديب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته دقة النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة إلا تقليدا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق
وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إليه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوده، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي؛ فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يبدأ، وتم فما يزاد، وخلد فلا يتحول؛ بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيبا، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأبا على مجاريها الخيالية التي توثق صلتها بالمجهول. فمن ثم لابد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إليه؛ وعلى ذلك لابد في كل شيء - مع المعاني التي له الحق - من المعاني التي له في الخيال؛ وهاهنا موضع الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية؛ فكلاهما طبيعي فيها كما ترى
وإذا قيل الأدب، فاعلم أنه لابد معه من البيان؛ لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة؛ وإنما يكون تمام التركيب - في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته، بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة، إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئا مسمى أو متميزا بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئا تاما ولا صحيحا، وما بد من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها
وهذه مسئلة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضيها على هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها؛ فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو فائدته، وفائدته من جماله؛ فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره، وعاد بابا من الاستعمال بعد أن كان بابا من التأثير؛ وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة إذ هي باب من النبات، وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمر. ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جمع لغات الفكر الإنساني، لأنه(110/6)
كذلك في طبيعة النفس الإنسانية
فالغرض الأول للأدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يلقى الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيل فيها، ويرد القليل من الحياة كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه، ويترك الماضي منها ثابتا قارا بما يخلد من وصفه، ويجعل المؤلم منها لذا خفيفا بما يبث فيه من العاطفة، والمملول ممتعا حلوا بما يكشف فيه من الجمال والحكمة. ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهول، التي هي نفسها لذة مجهولة أيضا؛ فإن هذه النفس طلعة متقلبة، لا تبتغي مجهولا صرفا ولا معلوما صرفا، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق ولا خفي مطلق؛ وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق
وأشواق النفس هي مادة الأدب؛ فليس يكون أدبا إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متصلا بسر هذه الحياة فيكشف عنه أو يومي إليه من قريب، أو غير للنفس هذه الحياة تغييرا يجيء طباقا لغرضها وأشواقها؛ فانه كما يرحل الإنسان من جو إلى جو غيره، ينقله الأدب من حياته التي لا تختلف إلى حياة أخرى، فيها شعورها ولذتها وإن لم يكن لها مكان ولا زمان؛ حياة كملت فيها أشواق النفس، لأن فيها اللذات والآلام بغير ضرورات ولا تكاليف. ولعمري ما جاءت الجنة والنار في الأديان عبثا؛ فان خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب، لا يحكم العقل أنه قد أتم خلقها إلا بخلق الجنة والنار معها؛ إذ هما الصورتان الدائمتان المتكافئتان لأشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكست حائلة
وقد صح عندي أن النفس لا تحقق من حريتها ولا تنطلق انطلاقتها الخالدة فتحس وحدة الشعور ووحدة الكمال الأسمى - إلا في ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى (منطقة حياد) خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطنها النفس، فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة: حبيب فاتن معشوق أعطي قوة سحر النفس، فهي تنسى به؛ وصديق محبوب وفي أوتى قوة جذب النفس، فهي تنسى عنده؛ وقطعة أدبية آخذة، فهي ساحرة كالحبيب أو جاذبة كالصديق؛ ومنظر فني رائع، ففيه من كل شيء شيء(110/7)
وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول وتقصر؛ وذلك فيها دليل على أن النفس الإنسانية تصيب منها أساليب روحية لاتصالها هنيهة بالروح الأزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية. ومن ثم نستطيع أن نقرر أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد في الإنسان على الفاني فيه؛ وأن تصوير هذه الثورة في أوهامها وحقائقها بمثل اختلاجاتها في الشعور والتأثير - هو معنى الأدب وأسلوبه
ثم إن الاتساق والخير والحق والجمال - وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها - أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات؛ فمن ذلك يأتي الشاعر والأديب وذو الفن علاجا من حكمة الحياة للحياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه، وهو عالم أركانه الاتساق في المعاني التي يجري فيها؛ والجمال في التعبير الذي يتأدى به؛ والحق في الفكر الذي يقوم عليه؛ والخير في الغرض الذي يساق له؛ ويكون في الأدب من النقص والكمال بحسب ما يجتمع له من هذه الأربعة، ولا معيار أدق منها إن ذهبت تعتبره بالنظر والرأي؛ ففي عمل الأديب تخرج الحقيقة مضافا إليها الفن، ويجيء التعبير مزيدا فيه الجمال، وتتمثل الطبيعة الجامدة خارجة من نفس حية، ويظهر الكلام وفيه رقة حياة القلب وحرارتها وشعورها وانتظامها ودقها الموسيقي؛ وتلبس الشهوات الإنسانية شكلها المهذب لتكون يسبب من تقرير المثل الأعلى، الذي هو السر في ثورة الخالد من الإنسان على الفاني، والذي هو الغاية الأخيرة من الأدب والفن معا؛ وبهذا يهب لك الأدب تلك القوة الغامضة، التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحداثها مارة من خلال نفسك، وتحس الأشياء كأنها انتقلت إلى ذاتك من ذواتها. وذلك سر الأديب العبقري؛ فانه لا يرى الرأي بالإعتقاب والاجتهاد كما يراه الناس، وإنما يحس به؛ فلا يقع له رأيه بالفكر، بل يلهمه إلهاما؛ وليس يؤاتيه الإلهام إلا من كون الأشياء تمر فيه بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن النهر، فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم، ويحسبه الناس نافذا بفكره من خلال الكون، على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلاله
ولو أردت أن تعرف الأديب من هو، لما وجدت أجمع ولا أدق في معناه من أن تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط؛ ومن ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من اتصال الموجودات به بآلامها وأفراحها؛ إذ كانت فيه مع خاصية(110/8)
الإنسان خاصية الكون الشامل. فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضا منها، وهذا وذاك وذلك هو الشمول الذي لا حد له، والاتساع الذي كل آخر فيه لشيء، أول فيه لشيء
وهو إنسان يدله الجمال على نفسه ليدل غيره عليه، وبذلك زيد على معناه معنى، وأضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره؛ فأساس عمله دائما أن يزيد على كل فكرة صورة لها، ويزيد على كل صورة فكرة فيها، فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها هي في الحياة، فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني. وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة كأنما أوجدتهم الحكمة لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة؛ وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه
ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني، إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقه، ثم لأن الأسلوب هو تخصيص لنوع من الذوق وطريقة من الإدراك، كأن الجمال يقول بالأسلوب: إن هذا هو عمل فلان
وفصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إليهم جملة واحدة، على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا وحده. وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعية، والطبيعية بأسرارها المتجهة إلى النفس، ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار
وإذا رأى الناس هذه الإنسانية تركيبا تاما قائما بحقائقه وأوصافه، فالأديب العبقري لا يراها إلا أجزاء، كأنما هو يشهد خلقها وتركيبها! وكأنما أمرها في (معمله)، أو كأن الله - سبحانه - دعاه ليرى فيها رأيه. . . . وبذلك يجيء النابغ من أدب العباقرة وبعضه كالمقترحات لتجميل الدنيا وتهذيب الإنسانية، وبعضه كالموافقة وإقرار الحكمة، وأساسه على كل هذه الأحوال النقد ثم النقد، ولا شيء غير النقد، كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهم: أنت كلمتي،(110/9)
فقل كلمتك. . . .
وترى الجمال حيث أصبته شيئا واحدا لا يكبر ولا يصغر، ولكن الحس به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وهاهنا يتأله الأدب، فهو خالق الجمال في الذهن، والممكن للأسباب المعينة على إدراكه وتبين صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني
وإذا كان الأمر في الأدب على ذلك، فباظطرار أن تتهذب فيه الحياة وتتأدب، وأن يكون تسلطه على بواعث النفس دربة لاصلاحها وإقامتها، لا لأفسادها والانحراف بها إلى الزيغ والضلالة؛ وباظطرار أن يكون الأديب مكلفا تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات؛ ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائما إلى فوق!
وإنما يكلف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييز وتقدم النظر وتسقط الإلهام، ولأن الأصل في عمله الفني ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه؛ وألا ينظر إلى وجوده، بل إلى سره، ولا يعنى بتركيبه، بل بالجمال في تركيبه، ولأن مادة عمله أحوال الناس، وأخلاقهم، وألوان معايشهم، وأحلامهم، ومذاهب أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن، وتفاوت إحساسهم به، وأسباب مغاويهم ومراشدهم، يسدد على كل ذلك رأيه، ويجيل فيه نظره، ويخلطه في نفسه، وينفذه من حواسه، كأنما له في السرائر القبض والبسط، وكأنه ولي الحكم على الجزء الخفي في الإنسان، يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المثل الأعلى. وهل يخلق العبقري إلا كالبرهان من الله لعباده على أن فيهم من يقدر على الذي هو أكمل والذي هو أبدع، حتى لا ييأس العقل الإنساني ولا ينخذل فيستمر دائبا في طلب الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهما؟
فالأديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته، فإذا وقائع الحياة في حذو واحد من النزاع والتناقض؛ وإذا هي دائبة في محق الشخصية الإنسانية، تاركة كل حي من الناس كأنه شخص قائم من عمله وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك في نفس الأديب اتجهت هذه(110/10)
النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير والإنسانية والإيمان والفضيلة، وقامت حارسة على ما ضيع الناس، وسخرت في ذلك تسخيرا لا تملك معه أن تأبى منه ولا يستوي لها أن تغمض فيه، ونقلت الإنسانية كلها ووضعت على مجاز طريقها أين توجهت فتأكد الأمر فيها، ووصل بها، وعلمت أنها من خالصة الله، وأن رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمتعادين، وبسط الرحمة للمتنازعين؛ وأن تجمع الكل على الجمال وهو لا يختلف في لذته؛ وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرق في موعظتها؛ وتشعرهم الحكمة وهي لا تتنازع في مناحيها. فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين، كلاهما يعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب؛ غير أن الدين يعرض للحالات النفسية ليأمر وينهي، والأدب يعرض لها ليجمع ويقابل، والدين يوجه الإنسان إلى ربه، والأدب يوجهه إلى نفسه، وذلك وحي الله إلى الملك إلى نبي مختار، وهذا وحي الله إلى البصيرةإلى إنسان مختار
فان لم يكن للأديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل؛ وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته. .
ولا يخدعنك عن هذا أن ترى بعض العبقريين لا يؤتي في أدبه أو أكثره إلا إلى الرذائل، يتغلل فيهان ويتملأ بها، ويكون منها على ما ليس عليه أحد إلا السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فان هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها من جهة ما فيها من النهي، ليكونوا مثلا وسلفا وعبرة؛ وكثيرا ما تكون الموعظة برذائلهم أقوى وأشد تأثيرا مما هي في الفضائل؛ بل هم عندي كبعض الأحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر الأمر، على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضيلة الأدبية التي تأمرك أن تكون عفيفا طاهرا؛ ثم ما يكون من رؤيتك الفاجر المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله. ولهذه الحقيقة القوية في أثره - حقيقة الأمر بالنهي - يعمد النوابغ في بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عن وجهها، بعكس نتيجة الموقف الذي يصورونه أو الإحالة في الحادثة التي يصفونها؛ فينتهي الراهب التقي في القصة ملحدا فاجرا، وترتد المرأة البغي قديسة، ويرجع الابن البر قاتلا مجنونا جنون الدم؛ إلى الكثير(110/11)
مما يجري في هذا النسق، كما تراه لأناطول فرانس، وشكسبير وغيرهما، وما كان ذلك عن غفلة منهم ولا شر، ولكنه أسلوب من الفن، يقابله أسلوب من الخلق، ليبدع أسلوبا من التأثير. وكل ذلك شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ولا يتعدى، لأنه وصف لأحوال دقيقة طارئة على النفس، لا تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها
والشرط في العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يعلو بالرذيلة. . . في أسلوبه ومعانيهن آخذا بغاية الصنعة، متناهيا في حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مفسرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هو وحده، الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة؛ فيصنع الإلهام في هذا وفي هذا صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه؛ كأن منهما إنسانا صار ملكا يكتب، وإنسانا عاد حيوانا يكتب. . .
وإذا أنت ميلت بين رذيلة الأديب العبقري في فنه، ورذيلة الأديب الفسل الذي يتشبه به - في التأليف والرأي والمتابعة والمذهب - رأيت الواحدة من الأخرى كبكاء الرجل الشاعر من بكاء الرجل الغليظ الجلف: هذا دموعه ألمه، وذاك دموعه ألمه وشعره. وفي كتابه هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لك أن الأسلوب هو أساس الفن الأدبي، وأن اللذة به هي علامة الحياة فيه، إذ لا ترى غير قطعة أدبية فنية، شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليست في الحقيقة إلا نكتة نفسية لاهتياج البواعث في نفوس قرائها، وأنها على ذلك هي أيضا مسئلة من مسائل الإنسانية مطروحة للنظر والحل، بما فيها من جمال الفن، ودقائق التحليل
واللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخفا ومضيعة؛ فان اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب؛ ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما ركب في طبيعة الحي إذ يحس الذوق لذة الطعام مثلا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها. أما التلهي فيجيء من سخف الأدب، وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة، والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة؛ وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية، بل أدب فئة(110/12)
بعينها وأحوالها؛ فان أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره: أحدهما إلى حد محدود من الحياة، والآخر عمل جامع مستمر متفنن، لأن عمله الأدبي هو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب. . .
ومن الأصول الاجتماعية التي لا تتخلف، أنه إذا كانت الدولة للشعب كان الأدب أدب الشعب في حياته وأفكاره ومطامحه وألوان عيشه، وزخر الأدب بذلك وتنوع وافتن وبني على الحياة الاجتماعية؛ فان كانت الدولة لغير الشعب، كان الأدب أدب الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس، ونضب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة؛ وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله. أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه، فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع، لا يزال يذهب فيها ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه
والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديما وحديثا، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!
فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظرة إلى الحياة؛ ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الوضاع الإنسانية، مشترطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض. . .
وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاء ساميا، ويدفعها إلى المعالي دفعا، ويردها عن سفاسف الحياة، ويوجهه بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم، ويملأ سرائرها يقينا ونفوسها حزما وأبصارها نظرا وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية. . .
. . . إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار - وجدت القرآن الحكيم قد وضع(110/13)
الأصل الحي في ذلك كله. وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسا، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه، وحسبوه دينا فقط، وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق؛ كأنه ليس منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القاتلة، ذاهب إلى الفناء الحتم!
والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه، لا يستخرج منه الأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السمو بضمير الأمة
ولا يستخرج منه للأديب إلا تعريف واحد وهو هذا: إن الأديب هو من كان لأمته وللغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ.
(طنطا)(110/14)
هما
للأستاذ أحمد أمين
(هما) إنسانان متباينان، لا يجمعهما إلا أني عرفتهما
أما (هو) الأول، فنظيف الثوب في غير أناقة، لا يعنيه من ثيابه إلا أنه لا يتأذى بقذارتها، ولا يتأذى من أنها زاهية تستلفت الأنظار - قد طبع على ما يود، فلا هو جميل يقيد النظر، ويغترق البصر؛ ولا هو قبيح الشكل سمج المنظر، تتفاداه العيون، ويلفظه الطرف، لو عهد إليه أن يخلق نفسه ما اختار غير صورته وشكله، لأنه يأبى تكاليف الجمال تكاليف القبح
كثير التفكير في نفسه، كأن الله لم يخلق في العالم إلا هي، وإن قد كان خلق أشياء فنفسه مركزها، دائم المحاسبة لنفسه على ما صدر منها للناس، ودائم المحاسبة للناس على ما صدر منهم لنفسه، ففي نفسه محكمة منعقدة باستمرار، تطول فيها المرافعة، ويشتد فيها الخصام، وتكثر منها الأحكام، والنقض والإبرام - حدثني أنه إذا جلس في مجلس استعرض بعد الفراغ منه كل ما دار فيه على الترتيب، كأن ذهنه (شريط ماركوني) ثم وقف عند كل كلمة صدرت منه يفحصها، هل مست شعور أحد، هل ظلمت أحدا، هل جرحت كرامة أحد، ألم يكن غيرها خيرا منها، أما كان يحسن أن يقال في مثل هذا الموقف غير هذا الكلام؟ ووقف عند كل كلمة قالها غيره يحللها، ماذا يريد منها، لقد جرح إحساسي بها، لقد كان يلتفت إلي عندما قولها، وما سبب ذلك والعلاقة بيني وبينه على خير ما يكون صديق لصديقه، لابد أن يكون قد تأثر من كذا وغضب من كذا، ولكن إن كان هذا فلا حق له لأنه لم يفهم قصدي ولم يتبين غرضي. فإذا أتم ذلك وأوى إلى فراشه بدأ يعيد الشريط من جديد، ويعلق على الحوادث تعليقات جديدة، ويفسرها تفسيرا جديدا، حتى يدركه النوم، وقل ألا يحلم بما حدث، وقل ألا تأتيه الرؤيا بتفسيرات جديدة وتعليقات جديدة
من أجل هذا يفر من الناس، ويفر من المجتمعات، حتى لا تكثر الأشرطة فيكثر عرضها، والتعليق عليها، فقل أن أجاب دعوة مع كثرة ما وجه إليه من دعوات، لأنه مع هذا ليس ثقيل الظل ولا جامد النسيم، فإذا أظطر إلى دعوة ذهب إليها كارها، وحسب حساب كل كلمة يتكلمها، وكل حركة يتحركها قبل أن يقدم عليها، تفضيلا للحساب العجل على الحساب(110/15)
الآجل، فقل أن يأخذ الناس عليه غلطة مع كثرة ما يتوهمه هو من غلطات
أداه التفكير الكثير في نفسه إلى أن يكون عميق التفكير في كل ما يعرض عليه، فإذا عرض أمر قلبه على جميع وجوهه، وغاص في نواحيه، واستخرج منها أدق الأفكار وأصعبها وأعقدها، وشغف بالعلم فكان دائب الدرس، كثير الاطلاع، تثقف بالثقافة الإنجليزية فهو يتكلمها ويقرؤها كأحد أبنائها، وسمع بعمق التفكير الألماني فعكف على اللغة الألمانية حتى حذقها، وحدثه الأدباء بالأدب الفرنسي وما فيه من دقة في تحليل العواطف وإجادة الوصف، فدرس اللغة الفرنسية حتى أجادها، وتضلع من آداب اللغات الثلاث، وعرف أشهر ما كتب فيها، فإذا حدثك في أية ناحية منها أبان لك عن علم واسع، ومعرفة دقيقة هذا إلى لغته العربية ومعرفته بها كأنه متخصص فيها - ثم هو بعد لا يرضى عن نفسه، فهو دائم الدرس، دائب العمل، كلما قطع شوطا طمح إلى ما هو أرقى منه؛ فكأنه ومطامحه كالفرس وظله يجري دائما ليسبقه؛ وهيهات أن يلحقه
وهو مع كل علومه وكل لغاته وكل عمقه خامل مجهول، لا يعرف حقيقته إلا خلصاؤه، إن جلس مع غيرهم فعيي جهول لا يشاركهم في جدل، ولا يفضي إليهم بحديث، يعرف مواضع السخف من قولهم، ومواضع النقص في تفكيرهم، ويتظاهر بأنه لا يعي ما يقولون، ولا يرقى إلى ما يفكرون ويجادلون، يتغابى وهو الذكي، ويتعايى وهو الفصيح
لا يعبأ بالمال إلا بمقدار ما يعيشه عيشة نظيفة من غير ما ترف ولا سرف. عرضت عليه يوم (وظيفة) يكاد ينال منها ضعف مرتبه فرفضها في غير تردد لأنه يرى أنه لا يصلح لها ولا تصلح له، ولا تتفق ونفسه، ولا يتقنها إتقان عمله الذي يقوم به
ثم هو - غالبا - لا يحب رؤساءه ولا يحبه رؤساؤه، فهو لا يحبهم لأنه يتطلب فيهم كمالا لا تسمح به الدنيا إلا نادرا، ويقيس الكمال بمقياس محدود معين، مع أن للكمال مناحي مختلفة، وقد يتسامح في نقص يستره كمال، ويغتفر ضعف تسنده قوة، ولكنه في تقديره يجسم النقص، ويكبر الضعف، ويريد في رئيسه الكمال صرفا، والقوة خالصة، فكأنه يريده نبيا أو إلها، وأنى له بذلك؟ فهو في نقد له مستمر، وتجريح دائم - وأما هو فيكرهونه لأنه حنبلي في تصرفه - متزمت في خلقه، صريح لا يلطف صراحته بلباقة، شديد لا يمزج شدته برقة، التصرف عنده كالخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج ولا وسط بينهما، ولا(110/16)
يأتمر رئيسه ولا ينتهي بنهيه متى ما خالف قانونا - والقانون عنده هو القانون الحرفي الذي لا يحتمل تفسيرا ولا تأويلا - من أجل ذلك تعاقب عليه رؤساء مختلفون وتنقل من مصلحة إلى مصلحة والنتيجة واحدة دائما في نظرهم إليه ونظره إليهم - حتى لقد كان رئيسه يوما ما أقرب الناس إليه وأعرفهم به، ورجوت السعادة له أيام رياسته، فما لبثت أن رأيت الصداقة استحالت إلى فتور فكراهية، ثم كان أعدى له ممن لم يكن يعرفه
أما (هو) الآخر فجميل الصورة، ظريف الهيئة، حسن الحلية، ممتلئ البدن، ريان الجسم، واسع البطن، أنيق الملبس إلى آخر حد الأناقة، دقيق الذوق في تناسب الألوان، وتناسق الأشكال، حتى يعد حجة فيما يلبس وما لا يلبس، وما يتناسب وما لا يتناسب، لأنه خبير بأحدث الأزياء بل هو فيها مخترع فنان، يحدثك حديثا مستفيضا عن خير الخياطين ومزاياهم وعيوبهم، ومواضع الإجادة والعيب فيهم
وشيء آخر يجيد ذوقه، ويجيد التحدث فيه، ويجيد وصفه ويجيد نقده، وهو الطعام والشراب، فان أردت أن تعرف لونا من الطعام لا يناسب لونا أو أردت حديثا شهيا عن طعام شهي أو عن المائدة وكيف تنظم وعن بيوت مصر وما يجيده كل بيت من الأصناف فهو في ذلك الذي لا يبارى، وله فوق ذلك العلم الدقيق الواسع في صنوف الشراب، فأيها قبل الأكل وأيها على الأكل وأيها بعد الأكل، وأي ألوان الشراب يصح أن تجتمع وأيها لا يصح، وأي أنواع الشراب تجيده بلاد فرنسا وأيها تجيده ألمانيا وأيها أسبانيا - بل كل هذه معلومات أولية بالنسبة إليه فعنده ما هو أدق في ذلك وأعمق
هذه هي الدنيا وهذه هي الحياة، وهل أنت آخذ من دنياك إلا ما طعمت وما شربت وما لبست
وله كذلك حديث طريف عن النساء وأوصافهن فهو يجيد الحديث عن سحر العيون ورشاقة القد، ولطافة التكوين، وبراعة الشكل، وهيف القوام إلى آخر ما هنالك، ثم يتبع هذا بالكلام عن مغامراته وما شاهده في حياته، كأنه كان له في كل خطوة حادثة نسائية، وفي كل سفر عشق، وفي كل مجتمع غرام - والعشق العفيف، والهوى العذري والحب الأفلاطوني ألفاظ جوفاء لا تدل على شيء إلا على جنون قائلها أو ريائه، ينظر للمرأة نظر الأفعى للعصفور، وله من وسائل الأغراء ونصب الشباك، ورسم الخطط ما يعجز عنه القائد(110/17)
الماهر، والصائد الحاذق، فما هو إلا أن يضع عينه على فريسته حتى يخلق من الحركات والأفاعيل والأحاديث ما يستلفت النظر، وإذا هو في حديث جذاب مع من أحب
وإلى هنا ينتهي علمه الواسع وقدرته الفائقة
ثم ما الخلق وما الفضيلة وما الحق؟ ليست إلا كلمات اخترعها الأقوياء ليستغلوا بها الضعفاء. ولا بأس من استعمالها أحيانا متى جلبت خيرا أو دفعت ضيرا، ولم يخلق الله أسخف ممن يزعمون أنهم يتمسكون بمبدأ، فليس في الدنيا مبدأ صحيح إلا المبدأ القائل (الغاية تبرر الوسيلة) على أن تفسر الغاية بغايتي لا غية غيري فكن (وفديا) في دولة الوفد، و (شعبيا) في دولة حزب الشعب، و (حرا دستوريا) في دولة الأحرار الدستورين، والعن الكل في دولة أعداءها، وتغنى بمناقبها متى ما كان هذا ينيلك (درجة) أو على الأقل (علاوة)، وأجعل مبدأك مشايعة الزمان، تقبل على من أقبل عليه، وتدبر عمن أدبر عنه - ولا تأخذ شيئا (جدا) فما الحياة إلا لهو ولعب، فان استطعت أن تجعلها كلها (مزحة) أو (نكتة) فافعل فهكذا خلقها الله
صادفته يوما في فندق فلما نزل إلى البهو استلفت نظر الناس بشكله وأناقته ولباسه وأمره للخدم ونهيه، وتحدث بصوت عال قليلا، فإذا ضحك يتصاعد من هنا ومن هنا، وإذا الصوت يرتفع شيئا فشيئا والتفات الناس يزيد شيئا فشيئا وإذا الحديث جذاب، وإذا هو محور من في المجلس وقيد أبصارهم وآذانهم
وشأنه في (المصلحة) التي يعمل فيها شأنه في الفندق، كعبة القصاد ونجعة الرواد يقضي الحاجة لتقضى حاجته، وينفذ أغراض من هو أكبر منه لينفذ أغراضه من هو أصغر منه، وهكذا اتخذ (وظيفته) تجارة، يحسب فيها في دقة ما يشتري وما يبيع، وما يدخل وما يخرج، مقدار الرصيد، وبكم هو دائن وبكم هو مدين
لعل الذي جعل الإنسان ذكرا وأنثى، وجعل منه من يميل إلى الشعر والخيال، ومن يميل إلى الحقيقة والواقع جعل الناس كذلك أحد هذين الرجلين، وكل ما في الأمر أنه يكون (هو) الأول صرفا أو (هو) الثاني صرفا، وقد يكون خليطا منهما، مزيجا بينهما - هما رجل الآخرة ورجل الدنيا، ورجل الفلسفة ورجل المادة، ورجل الأخلاق والمبادئ، ورجل المصالح والمنافع(110/18)
أحمد أمين(110/19)
مأساة قضائية شهيرة
ذكريات عن قضية دريفوس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ أسابيع قلائل توفي في صمت وسكون، رجل كان أسمه قبل ثلاثين عاما يدوي في أرجاء العالم بأسره، ويقترن أسمه بأعظم وأشهر مأساة قضائية في عصرنا؛ ذلك هو الكولونل الفريد دريفوس الضابط الفرنسوي اليهودي، الذي أثار اتهامه ومحاكمته ومحنته في خاتمة القرن الماضي في فرنسا أعظم ضجة، وشغلت قضيته الأمة الفرنسية بأسرها زهاء عشرة أعوام، وأثارت فيها من الجدل القضائي، والشهوات والأحقاد القومية والجنسية، والعواطف السياسية ما كاد يدفعها إلى معترك الحرب الأهلية والفوضى
وقد طويت صفحة قضية دريفوس منذ بعيد، وأسدل الستار على آخر فصل من فصولها منذ ثلاثين عاما. ولكن هذه المأساة القضائية الهائلة، التي طبعت تاريخ العصر بطابعها القوي، وأثرت في كثير من نواحيه السياسية والاجتماعية، مازالت منذ ثلاثين عاما تثير اهتمام البحث التاريخي والقضائي، وتصدر عنها المؤلفات الحافلة بأقلام أكابر الكتاب والساسة، ومنهم من عاصروها واتصلوا بحوادثها وشخصياتها. وكان آخر ما صدر عنها من المؤلفات الهامة كتاب بالألمانية حافل بالشهادات والوثائق الحاسمة، هي مذكرات الجنرال ماكس فون شفارتز كوبن، وهو الذي كان ملحقا عسكريا للسفارة الألمانية في باريس وقت انفجار العاصفة والقبض على دريفوس (سنة 1894) متهما بالخيانة العليا وبيع أسرار الجيش لدولة أجنبية؛ وكانت فرنسا بأسرها تتهم ألمانيا بأنها هي الدولة التي تحاول الوقوف على أسرار الدفاع الفرنسي، وتتهم الملحق الحربي الألماني بأنه هو الذي يعمل على ابتياع هذه الأسرار. ولم يكن في وسع الجانب الألماني أن يتكلم يومئذ وأن يفضي بما لديه لإظهار الحقيقة؛ وكانت المأساة القضائية تسير في طريقها، وينزل القضاء الحربي بالضابط البريء أقسى حكمه مستندا إلى طائفة من الوثائق والشهادات المزورة، وفرنسا تضطرب من أقصاها إلى أقصاها سخطا على الخائن وعلى اليهودية التي ينتمي إليها؛ وهناك في الظلام رجل واحد يعرف لب الحقيقة، ويستطيع أن ينقذ البريء، وأن يهتك هذه الحجب كلها بكلمة؛ ذلك الرجل هو فون شفارتز كوبن الملحق الحربي الألماني،(110/20)
بطل المأساة الخفي؛ ولكن هذه الكلمة لم يستطع أن يقولها ولم يسمح له بقولها له بقولها يومئذ، وقضت الرسوم والاعتبارات السياسية أن ينوء بالسر حتى مرض موته؛ وعندئذ أفضى به إلى زوجه وأوصاها بنشر مذكراته ووثائقه، وقام بنشرها الكاتب الألماني برنهارد شفر تفجير تحت العنوان الذي اختاره صاحبها لها وهو (الحقيقة عن دريفوس)
ولم يك ثمة شك فيما سيقوله الرجل الذي اشترك بنفسه في حوادث المأساة، وعرف سرها في المهد؛ فقد أكد لنا شفارتز كوبن وهو على شفا القبر، ما كشفت عنه من قبل تطورات القضية الشهيرة، وما اضطر القضاء الأعلى لأن يثبته وأن يعلنه بعد تلك الجهود والمحاولات الفادحة التي بذلها أنصار البريء لإعادة النظر وتحقيق العدالة؛ أكد لنا براءة دريفوس مرة أخرى، وأوضح لنا بما يعرض من الناحية الخفية للحوادث كيف كان القضاء بعيدا عن الحقيقة، وكيف كان المجرم الحقيقي ظاهرا غير بعيد عن يد العدالة، ولكن يتمتع بحماية العسكرية المتعصبة المغرضة؛ ويقدم إلينا شفارتز كوبن فوق أقواله الخاصة طائفة هامة من المذكرات والوثائق الرسمية التي تبودلت بخصوص الحادث، ومنها رسائله إلى قلم أركان الحرب الألماني
وقد أتيحت لنا الفرصة منذ أعوام فرصة لدراسة قضية دريفوس من الناحيتين القضائية والتاريخية، وكتبنا عنها بحثا مستفيضا في كتابنا (ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى) وشرحنا أدوارها السياسية والقضائية المدهشة، وبينا كيف أنها كانت أثرا بارزا من آثار (خصومة السامية) أو حركة العداء ضد اليهودية، فإلى هذا البحث نحيل القارئ؛ ولكنا نرى أن نقدم هنا خلاصة موجزة لأهم وقائع القضية، لابد منها لفهم ما سيجيء من البيانات والتعليقات
في 15 أكتوبر سنة 1894 قبضت السلطات العسكرية على ضابط بقسم المدفعية هو الفريد دريفوس بتهمة الخيانة العليا، وذلك على أثر ضبط قلم التحريات السرية لوثيقة تتضمن التعريف ببعض أسرار الدفاع الفرنسي، قيل إنها بخطه وإنه قدمها إلى سفارة أجنبية، وقد عرفت هذه الوثيقة فيما بعد باسم (البردرو) وقدم دريفوس إلى المجلس الحربي، وحوكم سرا، وحكم عليه بالنفي المؤبد والتجريد (23 ديسمبر سنة 94)، وكان دريفوس يؤكد بكل قواه أنه بريء من كل تهمة؛ ولكن لم يصغ إليه أحد، وجرت محاكمته بسرعة وتحيز(110/21)
ظاهر، ونفذ فيه الحكم بصرامة؛ وكان يؤمن ببراءته جماعة من أكابر المفكرين والساسة ويرونه ضحية الخصومة السامية؛ وكان من بين هؤلاء السياسي شويرر كستنر وكيل مجلس الشيوخ وطائفة من أعلام الكتاب مثل أميل زولا، وإيف جيو، وجوزف ريناخ، وجورج كليمنصو، وجوريس، وكاسنياك؛ فأثار هؤلاء دعوة شديدة ضد رجال العسكرية والقضاء الحربي، وطالبوا بإعادة النظر في القضية؛ وبذلت أسرة دريفوس جهودا كبيرة لإنقاذ وتبيان براءته؛ وكان الكولونيل بيكار من رجال العسكرية الذين يشكون في نزاهة القضاء الحربي، فانتهز فرصة انتدابه لرئاسة قلم التحريات السرية، ودرس القضية ومستنداتها المزعومة؛ فأيقن أن دريفوس كان بريئا وضحية واستطاع بعد البحث أن يعرف كاتب (البردرو) الحقيقي وهو ضابط يدعى (استر هازي). ولم تلبث هذه الحقيقة أن ذاعت رغم اضطهاد زعماء العسكرية لبيكار؛ واستغلها أنصار الإعادة؛ فاضطرت السلطات الحربية أن تقبض على استر هازي، وأن تحاكمه تهدئة لثورة الرأي العام، ولكن المجلس الحربي قضى ببراءته، فكانت هذه البراءة نذير فورة أشد من الأولى. وفي 13 يناير سنة 1898 نشر أميل زولا في صحيفة (الاورور) خطابه المشهور (إني أتهم!) موجها إلى رئيس الجمهورية، واتهم فيه القضاء الحربي في عبارات عنيفة ملتهبة بأنه انتهك قدس العدالة والقانون، وقضى عمدا على البريء، واستعمل الغش والتزوير في إجراءاته؛ فأحيل زولا على محكمة الجنايات بتهمة القذف، وحكم عليه بالحبس عاما وبالغرامة (3 فبراير سنة 98) ولكنه فر إلى إنكلترا تفاديا من تنفيذ الحكم؛ ولم تفتر جهود أنصار الإعادة مع ذلك؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى اعترف الكولونل هنري وهو رئيس سابق لقلم التحريات، بأنه اشترك في صنع بعض الوثائق السرية التي قدمت كدليل على إدانة دريفوس فقبض عليه وسجن، ولكنه انتحر في سجنه، فزاد الشك في إجراءات القضاء الحربي واشتد سخط الرأي العام؛ واضطر عندئذ وزير الحربية أن يحيل الطلب الذي قدمه الضابط البريء بإعادة النظر إلى محكمة النقض؛ وقضت هذه بنقض الحكم (26 سبتمبر سنة 1899) وأحيل دريفوس إلى المجلس الحربي في رن، واستقدم من منفاه في جزيرة الشيطان في حالة يرثى لها؛ ولكن المجلس الحربي قضى ثانية بإدانته مع الظروف المخففة وحكم بسجنه عشرة أعوام؛ وأصدر مسيو لوبيه رئيس الجمهورية عفوا عن المحكوم عليه.(110/22)
ولكن الضابط البريء وأسرته وأنصاره لم ترضهم هذه الخاتمة العرجاء، فضاعفوا جهودهم في سبيل الإعادة ومحو كل أثر للحكم؛ وانقسمت فرنسا عندئذ إلى شطرين، فريق وهو الأغلبية إلى جانب الإعادة وإنصاف البريء والحد من طغيان العسكرية؛ وفريق الوطنيين يؤازر الجيش ويقاوم الإعادة؛ وأشتد الجدل بين الفريقين، واتخذ مظهر سياسيا عنيفا يغشى كل الحياة العامة في فرنسا؛ وفي أثناء ذلك وقف أنصار الإعادة على وثائق وحقائق جديدة تؤيد البراءة، وقدم دريفوس طلبا ثانيا بإعادة النظر، ورأت الحكومة القائمة تهدئة للرأي العام أن تحيل طلبه ثانية إلى محكمة النقض؛ فقررت المحكمة أن تنظر فيه بنفسها، وأصدرت حكمها في 12 يوليه سنة 1906 بإلغاء محكمة رن وبراءة الضابط اليهودي؛ وفي الحال أعيد دريفوس إلى فرقته ومنح وسام الشرف، وأسدل الستار على تلك المأساة القضائية الهائلة، وهدأت العاصفة السياسية الكبرى التي أثارتها زهاء عشرة أعوام
يقول الكاتب الأشهر أميل زولا في كتابه الذي وضعه عن القضية بعنوان (الحقيقة تسير) (إن فون شفارتز كوبن وحده هو الذي يستطيع أن يذيع الحقيقة الناصعة)، وقد كان ذلك إبان اضطرام الصراع بين الحق والباطل وبين البريء وجلاديه؛ ولكن شفارتز كوبن كان يومئذ مرغما على الصمت كما أسلفنا. أما اليوم فبين يدينا أقواله وشهادته الحاسمة، وقد فاه شفارتز كوبن وهو على شفا الموت في أواخر ديسمبر سنة 1916 بهذه الألفاظ التي حرصت زوجه على تدوينها (أيها الفرنسيون؛ استمعوا إلي: إن الفريد دريفوس بريء، ولم يرتكب جرما قط؛ وكان الأمر كله دسائس وتزويرا، إن دريفوس بريء) وفي المذكرات والوثائق التي تركها شفارتز كوبن أدلة الحقيقة الناصعة التي طالب زولا بكشفها؛ فان (البردرو) الذي كان أساس الاتهام، والذي نسب زورا إلى دريفوس، كان من صنع استر هازي وبخطه، وكان المجرم الخائن هو استر هازي؛ وتلك حقيقة ثبتت إبان المأساة القضائية ذاتها؛ بيد أن شفارتز كوبن يفصل لنا علائقه بذلك الضابط المجرم، وكيف انه لبث في خدمته عامين يمده بأسرار الدفاع الفرنسي؛ ثم يقول لنا إن (البردرو) لم يصل إلى يده قط، ولم تلتقطه مدام بستيان خادمة السفارة الألمانية من سلة الأوراق المهملة، وتوصله إلى قلم التحريات الفرنسية، كما هو ذائع؛ ولكن المرجح أن استر هازي وضعه في صندوق الخطابات الخاص بالسفارة فاستلبه شخص ثالث لم يعرف قط؛ وهذه شهادة تهدم(110/23)
الرأي الحديث الذي يقول به بعض الكتاب الفرنسيين، وهو أن شفارتز كوبن نفسه كانت (البردرو) مقلدا فيه خط استر هازي وأنه ألقاه في سلة الأوراق المهملة عمدا لكي يصل إلى قلم التحريات السرية عن يد مدام بستيان وتتم بذلك الدسيسة؛ والواقع أن شفارتز كوبن لم يقف على أمر (البردرو) إلا بعد القبض على دريفوس والحكم عليه بعامين حيث رأى صورة الوثيقة منشورة في جريدة (الماتان) فعرف لفوره أنها من خط استر هازي، وأدرك في الحال روعة الخطأ القضائي الذي ارتكب
وفي الرسائل التي تبادلها شفارتز كوبن مع الكونت منستر سفير ألمانيا في باريس وقتئذ ما يدل على التأثر العميق الذي كانت تتبع به السلطات الألمانية يومئذ تطورات المأساة القضائية؛ وقد لبث الكونت منستر نفسه مدى حين بعيدا عن فهم الحقيقة معتقدا مسؤولية شفارتز كوبن حتى أنه حمل عليه في بعض رسائله بقسوة، واتهمه بأن تصرفاته المريبة كانت أكبر سبب في الحملات الصارمة التي شهرتها الصحافة الفرنسية على ألمانيا، والتي اضطرت حكومة القيصر أن تسعى لدى الحكومة الفرنسية لوقف هذه الحملات؛ وقد وقف الكونت منستر بعد ذلك على طرف من الحقيقة؛ وكان أركان الحرب الألماني يعرفها منذ الساعة الأولى، ويعرفها القيصر أيضا. وكان القيصر يعرف ويثق بأن السفارة الألمانية في باريس لم تتصل بدريفوس قط؛ ولما صرح له الكونت منستر حين مقابلته بأنه لا يشك لحظة في براءة دريفوس، أجابه القيصر بأنه لا يشك فيها كذلك؛ ونجد تفصيل المحادثات والتقارير الرسمية الألمانية المتعلقة بقضية دريفوس في المجلدين التاسع والثالث عشر من مجموعة الوثائق الرسمية التي أصدرتها ألمانيا عن تاريخ ما قبل الحرب. هذا وفي مذكرات الجنرال فون شفارتز كوبن كثير من الوثائق والتفاصيل التي تلقي أكبر ضوء على الحقائق المأساة القضائية الكبرى، وتعرضها في كثير من نواحيها عرضا جديدا مؤثرا
ولقد كانت فورة الخصومة السامية التي بعثت قضية دريفوس، ضربة شديدة لليهودية، استنفدت كثيرا من مواردها وقواها؛ ولكنها كانت لها نذير الخطر والكفاح؛ فقد لبثت اليهودية مدى حين آمنة مطمئنة في ظل الديموقراطية الظافرة؛ ولكنها أفاقت مذعورة من هذه الدعة الظاهرة، ونهضت تكافح طغيان القومية والعسكرية والكنسية معا؛ وكانت هذه اليقظة اليهودية وقود الحركة الصهيونية التي أذكى تيودور هرتسل الكاتب اليهودي(110/24)
جذوتها. وكان هرتسل يشهد مأساة دريفوس وتطوراتها منذ البداية كمراسل لجريدة (نوية فرايه بريسه) النمسوية، ويصور حوادث المأساة بقلمه الملتهب تصويرا قويا مؤثرا يثير روح الكفاح والمقاومة في الملايين من بني جنسه؛ واستطاعت اليهودية غير بعيدا أن تستجمع قواها؛ وغدا هرتسل روح الحركة الجديدة التي انتهت بتنظيم الصهيونية السياسة؛ ثم الفت اليهودية فرصتها أثناء الحرب الكبرى، واتجهت صوب فلسطين، وما زالت حتى ظفرت ببغيتها من الحلول بأرض الميعاد والاحتشاد فيها وتحقيق حلمها القديم بالعودة إلى أرض سليمان
محمد عبد الله عنان(110/25)
وقفة بالعقيق!
للأستاذ على الطنطاوي
وقفة بالعقيق تطرح ثقلاً ... من دموع بوقفة في العقيق
ماثل بين أربع ماثلات ... ينزع الشوق من فؤاد علوق
البحتري
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وأرى عروة وقد أقبل من سفره، فدخل القصر، وحار الناس كيف ينعون إليه محمدا، حتى جاء عيسى بن طلحة فدخل عليه، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل
فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أبا عبد الله! ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا يحتاج إليه: رأيك وعلمك
قال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك
قال: فإني معزيك بمحمد!
فوثب فزعا يقول: ما له؟
قال: لقد لقي الله
فاصفر عروة ثم جلس يسترجع ويقول:
اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء، وأخذت ابنا وتركت أبناء، فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت، وإن كنت ابتليت لقد عافيت!
ويتبدل المنظر فإذا أنا أرى قصر سعيد بن العاص الذي يقول فيه عمرو بن الوليد:
القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وأرى فيه حركة وازدحاما، وأرى على الوجوه سحابة من غم، وعلى الجباه سطورا من كآبة، فأغشى القوم أسألهم وأعلم علمهم فإذا هم واجمون، لأن سعيد بن العاص يحتضر! وأي نبأ في المدينة أروع من موت سعيد؟ وفيه يقول الفرزدق:
ترى الغرّ الججاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا(110/26)
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا
وأدخل القصر فأسمع عمرا ابنه يقول له: لو نزلت إلى المدينة!
فيقول له سعيد: يا بني إن قومي لن يضنوا علي بأن يحملوني على أعناقهم ساعة من نهار، فإذا أنا مت فآذنهم؛ فإذا واريتني فانطلق إلى معاوية فانعني له، وانظر في ديني، واعلم أنه سيعرض قضاءه فلا تفعل، ولكن اعرض عليه قصري هذا، فإني إنما اتخذته نزهة وليس بمال
وما هي إلا أن يموت فيحمله الناس من قصره حتى يدفنوه في البقيع. ورواحل عمرو بن سعيد مناخة، فيعزيه الناس على فبره ويودعونه، ويمضي من ساعته إلى معاوية فيكون أول من ينعاه له. فيتوجع له معاوية ويقول: هل ترك دينا؟
فيقول: نعم، فيقول معاوية: هو علي
فيقول: قد ظن ذلك وأمرني ألا أقبله منك، وأن أعرض عليك بعض ماله فتبتاعه، فيكون قضاء دينه منه
فيقول: اعرض علي
فيقول: قصره بالعرصة
فيقول معاوية: قد أخذته بدينه
قال نوفل أبن عمارة: وكان دين سعيد ثلاثة آلاف ألف درهم، فاشترى معاوية القصر بألف ألف درهم، والمزارع بألف ألف، والنخيل بألف ألف درهم
فيقول عمرو: هو لك على أن تحمله إلى المدينة، وتجعلها بالوافية.
فيحملها له إلى المدينة، فيرقها عمرو في غرمائه، وكان أكثرها عدات وعدها سعيد، فيأتيه شاب بصك فيه عشرون ألف درهم بشهادة سعيد على نفسه، وشهادة مولى له عليه، فيرسل عمرو إلى المولى فيقرئه الصك، فيبكي حين يقرؤه ويقول: نعم، هذا خطه وهذه شهادتي عليه
فيقول عمرو: ومن أين لهذا الفتى عليه عشرون ألف درهم؟ وإنما هو صعلوك من صعاليك قريش.!
فيقول المولى: أنا أخبرك: مر سعيد بعد عزله فاعترض له هذا الفتى، ومشى معه حتى(110/27)
صار إلى منزله، فوقف له سعيد وقال: ألك حاجة؟
قال: لا. إلا أني رأيتك تمشي وحدك، فأحببت أن أصل جناحك
فقال لي سعيد: ائتني بصحيفة، فأتيته بهذه، فكتب له على نفسه هذا الدين، وقال: إنك لن تصادف عندنا شيئا فخذ هذا، فإذا جاءنا شيء فأتنا
فيقول عمرو: لا جرم والله لا يأخذ إلا بالوفية، يا غلام! أعطه إياه، فيعطيه عشرين ألف درهم وافية
ويجيئه مولى لقريش فيقول: إني أتيت أباك بابن مولاي (فلان)، وقد هلك أبوه ليزوجه. فقال: ما عندي، ولكن خذ ما شئت في أمانتي
فيقول له عمرو: كم أخذت؟ فيقول: عشرة آلاف
فيقبل عمرو على القوم فيقول: من رأى اعجز من هذا؟
يقول له سعيد: خذ ما شئت في أمانتي، فلا يأخذ إلا عشرة آلاف، والله لو أخذ مائة ألف لديتها
ويتبدل المنظر، فأرى العقيق قد ازدحم بالناس حتى كأنه المحشر، وانتقلت إليه المدينة حتى لم يبق فيها كهل ولا غلام، ذلك أن خبرا سرى في المدينة سريان الأمل في النفوس اليائسة، فترك الناس ما هم فيه وأقبلوا على قصر سعيد يسمعون منه ما يسمعوا. . . وإذا ابن عائشة وهو أضن خلق الله بالغناء، وأسو الناس فيه خلقا، ومن إذا قيل له غن: قال: ألمثلي يقال هذا وإذا ابتدأ بغناء وقيل له أحسنتن قطع الغناء مغضبا وقال: ألمثلي يقال أحسنت؟ وإذا هو يغني أطيب غناء وأطربه، فلا ينتهي من صوت حتى يشرع في آخر، لا يسكت ولا يستريح، حتى عدوا عليه مائة صوت، وإذا خبره أن العقيق طغى وازداد ماؤه، فاعتصم ابن عائشة بقصر سعيد بن العاص فملأ الماء عرصة القصر، فصعد على قرن البئر ورآه الحسن بن الحسن، وكان قادما على بغلة له وخلفه غلامان أسودان كأنهما شيطانان، فقال لهم: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة؛ فخرجا حتى فعل ذلك، ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا ابن عائشة؟ قال بخير! فداك أبي وأمي، قال: انظر إلى من بجنبك، فنظر فإذا العبدان؛ قال: أما تعرفهما؟ قال: بلى، قال: فهما حران لئن لم تغني مائة صوت لآمرنهما بطرحك في البئر، وهما حران لئن لم يفعلا لأقطعن(110/28)
أيديهما. فغنى فلم ير الناس أحسن يوما منه
ثم أرى فتيانا من فتيان المدينة فهم يونس الكاتب وجماعة ممن يغني قد خرجوا إلى واد يقال له رومة من بطن العقيق، فغنوا، فأثار غناؤهم أهل الوادي، فاجتمع إليهم الرجال والنساء حتى كان حولهم مثل مراح الضأن؛ وأرى محمد بن عائشة مقبلا معه صاحب لهو، حتى يرى جماعة النساء عندهم فيأخذه الحسد، وتحز في نفسه الغيرة، فيقول لصاحبه: كيف بك إذا فرقت هذه الجماعة؟ فيسخر منه صاحبه، فيهيج ابن عائشة فيأتي قصرا من قصور العقيق فيعلو سطحه، ويلقي رداءه، فيتكئ عليه ويغني بشعر عبيد بن حنين:
هذا مقامُ مُطَرَّدٍ ... هدمت منازله ودوره
نمت عليه عداته ... كذباً فعاقبه أميره
ولقد قطعت الخرق بع_د الخرق معتسفاً أسيره
حتى أتيت خليفة الر - حمن ممهوداً سريره
حييته بتحيّة ... في مجلس حصرت صقوره
فلا ينقضي الصوت إلا والنساء كلهن تحت القصر الذي هو عليه، وقد تقوض مجلس يونس ولم يبقى فيه أحد!
وأرى غلاما خلاسيا، مديد القامة أحول، قد ارتقى صخرة في العقيق منفردة، فاضطجع عليها ضجعة خفيفة، ثم هب فزعا وهو يغني غناء ما سمع مثله السامعون، يزعم أن الشيطان أجراه في مسامعه وهو نائم، ويعيد الغناء وهو يتصيد الطير بحبالة في يده، فيمر به شيخا مغني مكة ابن سريج والغريض، وقد أقبلا على بعيرين لهما يزوران المدينة ويتعرضان لمعروف أهلها، ويلقيان من بها من صديقهما، فيسمعان ثم يستعيدان الصوت:
القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
فيعيده، وهو مشغول عنها بصيده، فيقبل أحدهما على صاحبه فيقول: هل سمعت كاليوم قط؟ فيقول: لا والله! فيقول: فما هو رأيك؟ فيقول: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة؟ أما أنا (فثكلته أمه) إن لم أرجع!
فكرا راجعين
وكان الغلام (معبد) سيد من غنى صوتا في الحجاز!(110/29)
ويتبدل المنظر فأرى حميدة بنت عمر بن عبد الرحمن بن عوف، وقد خطبها رجل عبشمي من أهل الشام، فلما أزداد أن يرتحل بها وحف بهما الناس يودعونهما سمعت رجلا يغني بشعر أبي قطيفة:
لا ليت شعري هل تغير بعدنا ... جنوب المصلى أم كعهدي القرائن
وهل ادؤر حول البلاط عوامر ... من الحيّ أم هل بالمدينة ساكن
إذا برقت نحو الحجاز سحابة ... دعا الشوق منى برقها المتطامن
ولم أتركنها رغبة عن بلادها ... ولكنه ما قدر الله كائن
فتسقط وقد أغمي عليها، فيعالجونها كيما تفيق، فإذا أفاقت سمعته يغني:
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... قباء وهل زال العقيق وحاضره
وهل برحت بطحاء قبر محمد ... أرهط غرّ من قريش تباركه
لهم منتهى حبي وصفو مودتي ... ومحض الهوى مني وللناس سائره
فتغشت بين النساء وسقطت ميتة. . . . . .
. . . واضطربت الصورة وتضاءلت، ثم توارت واختفت، وإذا صفحة الماء بيضاء ليس فيها صورة، وإذا المجد والجلال، والعطر والنور، وإذا الدور والقصور، والأنس والحبور؛ كل أولئك قد غطى عليه الفناء، وابتلعه هذا السيل الدفاع، ثم عاد يجري بين الآكام الجرداء، وله خرخرة وله دردرة. . .
وإذا كل ما بقي من هذه الدنيا الواسعة، قهوة قامت على جذوع النخل، وبئر نصبت عليه سانية، وجماعة قد تحلقوا يشربون الشاي، ويطربون، وما بهم لو حققت من طرب؛ وإذا قصر سعيد أنقاض ماثلة، وإذا سائر القصور تلال من الرمل الأحمر. . . . .
وإذا المجد والجلالة والجا - هـ كما يطرس السطورَ البنان!
دمشق
علي الطنطاوي(110/30)
عاقبة سليمة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لم يتفق الناس إلى الآن على وسيلة يدفع المرء بها عنه ثقيلا يتصدى له، ويلح عليه بما لا يسعه أن يجيبه إليه، فالأمر متروك إلى صدق الروية، وسرعة الخاطر، وحسن البديهة، ولكل موقف ما يقتضيه، ويدفع إليه ويغري به، والذي يلهمه الواحد في موقف لا يلهمه واحد آخر في الموقف عينه؛ فإذا بدا لي أو لك ما لجأ إليه (حامد) غريبا أو شاذا أو غير لائق، فلا تلمه ولا تنع ذلك عليه، فان عذره أنه لم يخطر له سواه، وأن الموقف كان يتطلب السرعة واتقاء الجدل، فقد كان - كما لا تعلم - في قهوة (الحمام) - بفتح الحاء - وكانت معه (فريدة) (وهي بنت عمه، وكان بينهما من الود أكبر مما يكون في العادة بين ذوي القربى؛ وكانت تنطوي له على حب هادئ، وتحس - بفطرتها الذكية - أنه يصبو إليها، ولكنها كانت تراه لا يصارحها بشيء ولا يبثها أمرا، ولا يدع لفظا أو عملا يشي بهواه هذا، فجنحت إلى الشك، ثم يئست. ولما تقدم أحد أغنياء الريف يخطبها، أغرت أباها بالتلكؤ، لعل حامدا يتحرك، ولكنه لم يفعل. فقالت لنفسها إذا لم أتزوج من أحب، فانه لا يبقى أمامي إلا زواج المال والوجاهة. . . وهكذا حدث، أعني أنه لم يحدث، وإنما احتفل بقبول هذا الوجيه الريفي، وبتقديم (الشبكة) إلى عروسه المستقبلة، على أن يكون العقد ليلة الجلوة
ومضت أيام، والتقى حامد بها خارجة من متجر كبير، فخفت إليه وهو يهم بركوب سيارته وسألته:
(لماذا هذه الجفوة؟)
فضحك وقال: (الجفوة؟ إنما أفسح لمن هو أحق مني)
فتلفتت ثم قالت: (سأصرف سيارتي وأركب معك، فهل تقبلني؟)
قال: (ليس لي خيار، أنك كهذا الهواء، لا غنى عنه)
قالت: (أشكرك) وصعدت إلى جانبه وأشارت إلى سائقها أن ينصرف. وسألها حامد:
(إلى أين بنا؟)
قالت: (إلى مكان فيه هواء، وطعام، فإني جائعة وحرى)(110/31)
فمضى بها إلى قهوة الحمام على النيل؛ فأكلا شيئا وشرب هو قدحا من البيرة - أو الجعة كما تسمى - وقالت له على الطعام (لماذا لم تهنئني؟)
قال: (أهنئك من أعماق قلبي، ولكن بأي شيء؟)
قالت: (بخطيبي - ثم إنك لم تحضر - لماذا؟)
قال: (آه صحيح، مبروك! لقد سمعت أنه غني جدا، ووجيه في بلده)
قالت: (نعم، إن غناه مضاف إلى غناي خليق أن يساعدني على ما يميل إليه طبعي من البذخ والترف. صحيح، فإني لا أطيق الفقر، ولا أستطيع أن أحيا حياة رقيقة الحال)
قال: (أعرف ذلك - أو أنا على الأصح قدرته)
فحدقت في وجهه فقال: (نعم، لقد انتهى كل شيء الآن فلا ضير من الصراحة، ومن الممكن أن أكاشفك بالحقيقة. . .)
فقاطعته وقالت: (هل تعني أنك. . . .)
ولم تتمها، فقال: (نعم، قدرت أن لا أمل لي، فأن عمي غني وأنا فقير، وقد عطفه علي أني ابن أخيه)
فقالت: (ولكنك لست بفقير!)
قال: (أعني نسبيا. . كل ما أكسب بعد الجهد والعناء ستون جنيها في الشهر. وما خير في ستين لمن تنفق وحدها - وهي فتاة في بيت أبيها - أكثر من هذا القدر؟)
فلم تقل شيئا، وفتر الحديث بعد ذلك، وصار متقطعا، وإن كان حامد لم يقصر في توجيهه إلى كل ناحية تخطر بالبال. ثم قاما، وإنهما ليتخطيان باب القهوة وإذا بفريدة تشد على ذراع حامد وتقول بصوت يكاد يكون همسا: (حامد! هذا هو!)
فتلفت وهو يسأل: (من؟) ولكنها ذهبت تعدو إلى السيارة وفتحت الباب الخلفي وأغلقته وراءها، وانطرحت على أرضها - لا مقعدها - فأهمل حامد السؤال والجواب، ودخل سيارته وأدر المحرك، ولم يفته أن يحكم إيصاد الأبواب حتى لا يفتحها أحد من الخارج، وأسدل الستائر الخلفية فاستحال أن يرى أحد فريدة وهي راقدة. ولم يكن حامد يعرف ممن تجري ولا كان يدري ما يخفيها ويدفعها إلى التخفي، وإنما كان يدري أنها تريد ذلك، فعليه أن يكون عونا لها(110/32)
ومد يده إلى ناقل السرعة، يريد أن يضعه في المكان الأول، وإذا برجل ضخم هائل الأنحاء، ولكنه أنيق الثياب محبوكها بقول له:
(لحظة! لقد رأيت فتاة تدخل هذه السيارة، فافتح الباب من فضلك لتخرج)
فابتسم حامد وقال: (رأيت فتاة تدخل في هذه السيارة؟ أواثق أنت؟) ويلتفت وراءه ليطمئن
فقال الرجل بلهجة جافية: (أقول لك أفتح الباب)
فقال حامد: (معذرة، ولكنك مخطئ. . . . إني لست سائق سيارتك)
فاحتد الرجل وصاح به: (إنها. . . إنها. . . ألا تنوي أن تفتح؟)
وعالج الباب، ولكنه كان موصدا من الداخل، فأعياه فتحه، فارتد إلى نافذة حامد وقال بصوت اجتمع له الناس:
(افتح. . . أقول لك افتح. . . أخرج هذه الفتاة)
وصار المحتشدون على الرصيف جمعا حافلا، وأكثرهم من العامة والنوبيين، والصبيان، وسائقي السيارات المختلفة، وعلت أصواتهم بالنكات والضحك، فزاد الرجل حماقة، وجعل يدق الباب بجمع يده، وتهور فوضع قدمه على سلم السيارة وهم أن يدخل رأسه من نافذتها لينظر، فلم يبق مفر من عمل يعمله حامد ليدفعه عنه ويتخلص منه؛ ولو غيره في مكانه لكان الأرجح أن يلكمه، ولكن حامد لم ير أن يتقي شرا بشر، واكتفى بأن يطير له طربوشه عن رأسه، فطار عقله وراءه، وارتد عن السيارة لينقذه من التراب البليل - أو الوحل - وسر الناس هذا المنظر فضحكوا، وقهقهوا، واغتنمها الصبيان فرصة فاقبلوا على الطربوش يدفعونه بأرجلهم كأنه كرة ويصيحون ويصخبون، والرجل يسبهم ويلعنهم ويحاول أن يدرك واحدا منهم، ولكنه ثقيل وهم خفاف، فكف، وعاد إليه الرشد مع التعب، ونظر فإذا السيارة قد غابت!
وقالت فريدة لحامد في بيتها عصر يوم:
(هل تعرف لماذا دعاك عمك؟)
قال: (لا)
قالت: (ليسألك عما حصل في قهوة الحمام، وعلى بابها)
قال: (من أخبره؟ أنت؟)(110/33)
قالت: (بل هو)
قال: (هو؟)
قالت: (نعم، ألا تعرفه؟ الخطيب! واتهمني بالسكر أيضا)
قال: (اتهمك أنت؟ ولكنك لم تذوقي شرابا سوى الماء. أنا الذي شربت بيرة)
قالت: (ولا أنت - فاهم؟)
قال مستغربا: (ولا أنا؟ ولكني شربت بيرة - ولم لا أشرب؟ وماذا يدعوني أن أقول غير الحق؟)
فهزت كتفيها وقالت: (كما تشاء! ولكني أنذرك إذا اعترفت)
فسألها متعجبا: (تنذرينني؟ لست فاهما؟)
قالت: (يا صاحبي، لا أستطيع أن أتزوج سكيرا - أنا هكذا - من الطراز القديم المحافظ)
فانتفض واقفا وصاح: (ماذا تقولين؟)
قالت بضحك: (أليس كلامي مفهوما؟)
قال: (ولكنك مخطوبة. . . .؟)
قالت: (كنت مخطوبة. . . أما بعد أن كشفت لي عن حبك المكتوم، فقد اغتنمت الفرصة وقذفت بالشبكة في وجهه)
قال: (ولكني فقير. . . .)
قالت: (وأنا أحب الفقر. . . ليس أمتع منه، لا تخف أن أجيء إليك بغناي الثقيل المنفر. . . والآن ألا تقبلني؟)
فدنا منها وهو يقول: (لم ألثم شفتيك منذ. . . .)
فقالت: (منذ يناير سنة 1927. . . دونت ذلك في مذكراتي. . . (اليوم لثم ثفتي. . . . . .)
إبراهيم عبد القادر المازني(110/34)
التطور والتقليد
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
التطور والتقليد، أو التجديد والمحافظة، عملان خالدان يعملان جنبا لجنب ويتنازعان كل كائن حي من فرد أو مجتمع أو نظام أو نحوه. فهما يتنازعان كل أدب حي؛ وقد كان لكل من الأدبين العربي والإنجليزي نصيب من كليهما، غير أنا إذا دققنا النظر رأينا أن الأدب العربي كان أوفر حظا من التقليد أو المحافظة أو الاتباع، بينما كان الأدب الإنجليزي أوفى نصيبا من التطور والتجديد والابتداع
تطورت لغة الأدب الإنجليزي وأسلوبه: فهما اليوم يخالفان ما كانا عليه في عهد شكسبير مخالفة كبيرة، وتطورت أغراضه عامة: فصار اليوم أشد اتصالا بالمجتمع أخذا منه وتأثيرا فيه، وتطورت أشكاله: فظهرت فيه على التتابع المقالة الدورية والصورة والترجمة والقصة الطويلة والقصيرة
وتتابعت مذاهبه: فخلت المدرسة الرومانسية التي ازدهرت في عهد اليزابث، وكان شكسبير وسبنسر من أينع ثمراتها؛ وكان الخيال ووقاع البطولة وحياة الملوك والأمراء والقواد وقصص الأولين وخرافتهم مداد نظمها ونثرها؛ وتلتها المدرسة الدينية التي أطلعت ملتون وبنيان اللذين كانت أمور الدين وأخبار البعث والحساب والخلود مدار كتاباتهما؛ ثم كانت المدرسة الكلاسية في القرن الثامن عشر فافتتن زعماؤها في الشعر أمثال درايدن وبوب، وفي النثر أمثال أديسون وستيل، بمحاكاة الآثار الكلاسية القديمة من إغريقية ولاتينية في حسن الصياغة وإحكام الأسلوب؛ ثم أعقبت هذه مدرسة رومانسية أخرى في مستهل القرن التاسع عشر كان من أقطابها وردزورث وشلي وكيتس، فنبذت الاهتمام بتنميق الأسلوب وأطلقت لخيالها العنان؛ وفي أواسط ذلك القرن قامت المدرسة الواقعية تحد من ذلك الخيال الجامح وتربطه برباط الواقع، وكان من رجالها تنيسون ثم هاردي.
وكانت كل مدرسة من هذه المدارس الأدبية مرآة للحياة في عصرها: فمدرسة شكسبير كانت مرآة عصر الاستكشاف الجغرافي وكشف كنوز الأدب القديم، والمخاطرات والمغامرات في الكشف والقتال. ومدرسة ملتون الدينية كانت مرآة عصر التشدد الديني(110/35)
الذي كان زعماؤه (المطهرين)؛ والمدرسة الكلاسية المنمقة الأسلوب كانت صدى لمجتمع القرن الثامن عشر المنمق الآداب والأقوال المتهافت على حياة المدن المزدري بمظاهر الطبيعة؛ والمدرسة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر كانت تعبيرا في عالم الأدب عما عبرت عنه الثورة الفرنسية إذ ذاك في عالم السياسة: من نزعة إلى التحرر من قيود المجتمع وأغلال الفكر والعودة إلى الطبيعة ما أمكن؛ والمدرسة الواقعية التي تلت ذلك كانت متأثرة بالاستكشافات العلمية البعيدة المدى التي شهدها القرن الماضي. وقد تتابعت هذه المدارس جيلا بعد جيل وكانت كل واحدة منها ثورة على سابقتها تحاول إصلاح معايبها وتدارك ما أهملته
هكذا تطور الأدب الإنجليزي مع تطور السياسة والعلم والدين، وكذاك تطور الأدب العربي: فلغة الجاهلية الوعرة تلتها لغة صدر الإسلام الفحلة، فللغة الصدر العباسي الجزلة، ثم جاءت بعد ذلك لغة لينة مبالغة في اللين والأناقة، والأسلوب المرتجل المرسل تلاه الأسلوب الفني المتعمل المرصع الذي تزايد تعمله وترصيعه شيئا فشيئا؛ وتطورت أغراض الأدب وشملت من أسباب الحضارة ما لم تشمل قبل: من شؤون الإمارة ومظاهر الترف وآثار العلم والفلسفة؛ وتطورت أشكاله: فظهرت كتب التراجم والأخبار والنقد والمقامات والرسائل المطولة. فالأدب العربي قد تطور تطورا عاما اتجه إلى ترقيق العبارة وتوسيع أغراض القول، وكان مرجع هذا التطور العام هو تحضر أبناء العربية واشتغالهم بالعلوم
ولكنه تطور عام غير محسوس كتلك التطورات السالف ذكرها في مجرى الأدب الإنجليزي؛ ومعظم أغراض الأدب العربي وصفاته توورثت جيلا عن جيل: فأغراض الفخر والمدح والهجاء والرثاء ونحوها في الشعر ظلت أبوابا ممتازة محددة يتبارى الشعراء في تناولها ولا تتم لأحدهم البراعة حتى يطرق كلا منها؛ وكتب الأخبار الأدبية والتاريخية المختلطة ظلت على وتيرة واحدة من أول ظهورها لا يختلف بعضها عن بعض في طريقة البحث والسرد وتهذيب الأبواب والفصول
ولا غرو فقد كانت تحيط بالأدب العربي ظروف كلها تدعوا إلى المحافظة والتقليد: فالمجتمع العربي ذاته كان مجتمعا محافظا لم يكد يطرأ عليه جديد من الأفكار والأنظمة بعد(110/36)
تشبعه بحضارة الأقدمين وعلومهم، ولم يختلف عليه من الأحداث الاجتماعية والسياسية ما تترك صداها في الأدب: فقد كانت القصة من أولها إلى آخرها على وتيرة واحدة: أسر وأمراء يتوارثون الحكم ويتجاذبونه، وأمم مكفوفة عن شؤون الحكم إلا أن تثور ثائرتها في الفينة بعد الفينة فتقمع وتعود الأمور إلى وتيرتها، وما من نزعة جديدة أو اتجاه جديد يحول عنان الأمور إلى غير ما هي سائرة فيه
والأدباء أنفسهم كانوا منعزلين بآدابهم عن مجتمعهم قلما يعبرون عن أمانيه أو يحاولون قيادته، وكانوا أقرب مكانا إلى الأمراء منهم إلى صف الشعب، لأنهم كانوا يعتمدون على الأولين في معاشهم
ثم إن قيام الإمبراطورية الإسلامية أدى من بادئ الأمر إلى نتيجتين كانت كلتاهما ذات أثر بالغ في الأدب العربي، وكانتا عاملي محافظة وتقليد فيه: وهما فساد اللغة الفصحى تدريجيا، ودخول الأعاجم في اللسان العربي
فان فساد اللغة تدريجيا جعل الأدباء يحتذون دائما حذو المتقدمين من العرب الأقحاح، ويتخذون من كلامهم نماذج وشواهد، وصار حسب الشاعر المتأخر أن يجاري المتقدمين في جزالة القول وإحكام النسج ليكون قد بلغ مبالغ الشاعرية، ولا يكاد يخطر له أن يبرز على أولئك المتقدمين ويبتكر ما لم يعرفوا، وهو وإن لم يرد إلا محاكاة أسلوبهم إلا أن ذلك مؤديه حتما إلى محاكاة أفكارهم، ومن ثم التقليد والمحافظة
والأعجام الذين دخلوا في اللسان العربي انكبوا كذلك على دراسة المتقدمين وانصرفوا إلى محاكاتهم تقويما لعربيتهم وطلبا لأسرار اللغة وقواعدها؛ ولا يخفى أن كثيرا من أقطاب الأدب المتأخرين كانوا من هؤلاء الأعجام المستعربين، فكان تأثيرهم في الأدب تأثير محافظة وتقليد ونظر إلى القديم
وقد تزايد تبجيل كل ما ورد عن المتقدمين حتى قارب منزلة التقديس وإن قام من الأدباء من ينكره ويثبت الفضل للمتأخرين، وكان من آثار هذا التقديس وهذه المحاكاة الدائبة ما نرى في الأدب العربي دون غيره من الآداب من ظواهر بتراء ليست من التعبير عن الواقع ولا من الابتكار في شيء: كالغزل الاستهلالي، وذكر الإبل والحداء والبيد، ومعارضة القصائد المشهورة بمماثلاتها في الغرض والوزن والقافية(110/37)
وهناك بابان من أبواب الشعر كان مجرد بقائهما عامل تقليد ومحافظة في الأدب: هما المدح والهجاء المتكلفان طلبا لصلات الممدوح أو لهبات خصم المهجو، فقد كان الشاعر مثلا يمدح قائد الخليفة أو وزيره مادام مرضيا عنه، فان نكب تقرب الشاعر إلى الخليفة بذمه؛ وقد كان أكثر المدح والهجاء من هذا النوع المتكلف المستمنح، وما لم يصدره الشاعر عن شعور حقيقي فسبيله فيه أن يحاكي ويأخذ ممن تقدم نقصا وزيادة وتخريجا وتوليدا، لذلك ظلت معاني المدح والهجاء وتشبيهاتهما في مختلف العصور تحوم حول أقوال المتقدمين، وأثر هذا جلى في جمود الأدب وتقيده بالقديم بدل اتجاهه إلى مناح جديدة
ثم هناك عامل كبير بين عوامل محافظة الأدب العربي، هو اعتزال ذلك الأدب غيره من الآداب، فالأدب ككل كائن حي يجمد ويتضاءل إذا لم يتصل بغيره، فتتجاوب الاحساسات والأفكار، وقد كان من أكبر عوامل رقي الأدب الإنجليزي وتطوره اتصاله بالآداب المعاصرة ورجوه إلى الآداب الكلاسية، أما الأدب العربي فلم يكن له مرجع عدا ماضيه، فظل دائما ينظر إلى الخلف بدل أن ينظر إلى الأمام، ولو استفاد من الأدب الإغريقي مثلا لكان له تاريخ غير تاريخه المعروف
كل هذه عوامل سياسية واجتماعية وأدبية أدت إلى ضعف رغبة التجديد واستفحال نزعة التقليد في الأدب العربي، ومن ثم ظل طوال العصور يردد ألحانا بعينها حتى بلغ ما يمكن أن يبلغه مثله من الرقي، ثم انحدر في طور تدهوره الطويل، وكان من أكبر عوامل هذا التدهور تغلب نزعة التقليد فيه على نزعة التطور.
فخري أبو السعود(110/38)
إلى الشباب الناهض
الأدب الاهي. . .
للأستاذ محمد روحي فيصل
قال صاحبي:
(والأدب لو تدبرت متعة تلهو بها النفوس، ولذة تنشط لها العقول، وفن جميل نقرؤه فتبرز الأحلام، وتتدافع الخواطر، وتخف الحياة، ثم نخلص إلى عالم حلو لا تجثم عليه أثقال السعي والعيش، ولا تحده قيود الجد والوقار. .)
وسكت هامسا قد انفجرت عيناه الصغيرتان تستطلعان في وجهي أثر الحديث، وتتبينان ما عسى أن أقول، فراعه أن أجمع الأنف وأزوي اللحظ وأقطب ما بين الحاجبين، ثم أقوم هادئا إلى مكتبتي المتواضعة فأنزع منها رسالة في مائة صفحة قد ألفت النظر إليها والإنعام فيها منذ سنوات، فما أتركها إلا لنوم أو طعام، أو شأن من شؤون الدنيا. وشرعت أتلو على صاحبي صفحة موجزة ليست جديدة في روحها ومعناها لدى القراء، ولكنها جديدة طريفة في عيني، أريد أن أذيعها اليوم في الناس ليتدبروها وليروا الرأي الذي يرتئون فيها
فافتح إن شئت أية مجلة عربية، فانك لا شك واجدها قد جردت كثيرا من صفحاتها للشعر، أو للشعر المنثور، أو لغير هذا من القطع الفنية مما يسمونه أدبا، وما هو من الأدب الصادق الصحيح في شيء! والظاهر أن اعتبار الأدب وسيلة للتعابث والمفاكهة، أو للتظرف والمنادمة، هو علة هذا الهراء والهذيان، وسبب قوي لكل ما يعتري الآداب والفنون من انحطاط وإسفاف، وما يتدسس إليها من ألوان المجانة وفضول الكلام. ونحن في هذه العجالة إنما نبغي تبيان أوجه الخطأ في هذه النظرة اللاهية الهازلة، والكشف عن عقمها وفسادها، وعن نتائجها الخطيرة التي تقتل في الأدب روح الجد والصدق والطبع
وقبل أن نخوض في هذا الحديث الذي يستشرف له القلم اليوم نقرر أن النهضات القومية التي تحدو بالأمم في مدارج العظمة والمجد، وتنفث في الشعوب معنى القوة والاستقلال، لا تطلع عليها إلا إثر النهضات الأدبية التي تهتاج فيها النفوس، ويتيقظ الشعور، وتلتهب العواطف، ويتحرك الكامن من الهواجس والأماني، فيكون الأدب بمثابة ناقوس يهيب بالركب الغافي إلى المسير والعمل. فهذه ألمانيا لم يستطع بسمارك تأليف وحدتها وضم(110/39)
دويلاتها بعضها إلى بعض إلا بعد أن تذوق الألمانيون آثار جوت وشيلر وهيني وليسنغ وهردر. وهذه فرنسا ما نهضت في الثورة الكبرى إلا بعد أن شاعت بين أبنائها مؤلفات روسو وفولتير ومونتسكيو. وشبيه بذلك إنجلترا في القرن السابع عشر يوم هبت للحياة العالية وللفتح والسيادة، فقد كان شكسبير وغير شكسبير نشروا قبل ذلك في الأمة الإنجليزية أرواحهم الحية ونفثاتهم القدسية
هذا ما تستفيده الجماعات من الأدب؛ ولعل ما يعود منه على الفرد أجل وأرفع، ذلك بأن الأدب باب كبير من أبواب السعادة، وطريق ناعم ناضر تشم من جوانبه روائح الورد، وتمتع باصريتك في مسالكه بأكمام الزهور، وتتسمع في أجوائه إلى أناشيد البلابل الثائرة الخافقة. انك بالأدب تحيا حياة طيبة راضية، تحيا حياة موسعة (مضاعفة) تحسها في أعماق قلبك، وفي رجع شهيقك وزفيرك!
إن العطف والألفة قوام الهيئة الإنسانية، فلا ينعم امرؤ بالانفراد ولا يهنأ بالوحدة، وأحسب لو أن الناس جميعا كانوا فجرة خسرة لا يجوز منهم إلى جنة الله غير رجل واحد لكان هذا الرجل الصالح أنكد حظا وأسوا مقاما ممن هم على النار يتقلبون! كأني أراه في جنبات الفردوس وعلى ضفاف الأنهار يمشي على غير هدى وإلى غير غاية حتى تبلى قدماه، وينظر إلى أفاويق النعيم وألوان الجمال فتبدو له كئيبة محزونة، ثم يرتمي في الجحيم الصالي يفضله على هذا النعيم الذي لا يرى فيه من يقول له: ما أرغده! ويحب ذو النعمة الحسد، ولو نزع من الصدور لاشتراه وفرقه على الناس مجانا ليحسدوه على ما به من نعمة! ويرتاح العاشق إلى من يتحدث إليه عن فرحة حبيبة وغضبة عذولة. . . فالسعادة كما ترى لا تتم حتى تستجلي مثالها في المرآة، والإنسان لا يطرب حقا إلا إذا رأى كلا م النفس مسطورا على قطعة من طرس
فما دام التعاطف عماد الحياة فلن يوجد بغير تعبير، لأن الحياة لا يمكن أن تكون بغير أدب؛ تصور أمة تتملى في نفسها شعورا ساميا: هذا تطمح آماله إلى السيادة، وهذا يدفعه حب الخطر إلى جوب البحار ومجاهل الأرض، وذاك تترع قلبه بهجة الجمال وفتنة الحسن؛ تصور أمة تجيش في نفوس أبنائها مختلف الميول والأهواء ملحة قاسية، مكتظة دافقة؛ أفتستطيع أن تتمثلها حريبة من الأدب؟ أما أنا فلست أعرف أمة حية لم يكن لها أدب(110/40)
جميل؛ فان أمة لا تعرف الشعور مكتوبا لا تعرفه محسوسا
فالأدب كما ترى ليس حلية تزين بها الأمة جيدها، وليس هو ألهية من الألاهي كما يزعم الأستاذ شفيق جبري لأنه لو كان كذلك لانتظم في سمط الكماليات، والأدب إنما هو ضرورة من ضرورات الحياة، وشرط لازم لها، لا يمكن تخيلها ولا تكمل سعادتها بدونه
ما ينبغي أن يكون الأدب ألهية من الألاهي نعبث بها على ما تقتضيه المآرب وترتضيه الأهواء، فان الشر كل الشر في هذه النظرة الخاطئة، ذلك بأن الألهية تصدفنا عن جليل الحياة وعظيمها، وتدفعنا إلى عالم البطالة نلهو ونعبث؛ فإذا نحن رحنا نصور ذلك ظفرنا بما لا خطر فيه ولا قيمة له، ونكون كمن فاز بالقبض على الريح. واعتبار الأدب ألهية يهيب بالمتأدب إلى أن يتحرر من ربقة الجد واللمحة الصادقة، فيهذي لغوا تقرؤه العقول في ساع كلالها وفتورها، أو يستمع الناس إليه كما يستمع الوالدان إلى ولدهما المحبوب وهو يلثغ بالألفاظ والكلمات، فإذا كذب أو أخطأ أو مسخ الحقيقة أو شوه الفضيلة غفر له ذلك
ولعل في النظر إلى الأدب كألهية مدعاة إلى التزويق في البيان، والإكثار من المحسنات البديعية من جناس وتورية وطي ونشر، فينعدم الطبع ويغدو الشعر مجموعة من الألاعيب اللفظية والتهريج الكلامي. والحق أننا بلغنا في هذا غاية ننكرها ونأسف لها، فنحن ما نزال نخطئ في تقديرنا للشعر، وفهمنا للمعاني، ونقدنا لفنون القول والبيان، وما نزال بسطاء سذجا تخدعنا البهرجة الكاذبة والطلاوة العابثة، وتفتتنا الألاعيب اللفظية والأناقة الكلامية، وترانا على ثقافتنا وجلال نهضتنا نجهل كل الجهل مقاييس الأدب الصحيحة، وحدود الجودة والرداءة، ومواطن الجمال والدمامة، نستحسن ما تغثى منه النفس وما هو حقيق بالنبذ والإهمال، ثم نستقبح ما قد يكون في الذروة من البلاغة الرائعة! فما أحوجنا إلى إصلاح هذه النظرة العقيمة التي نزن بها الآثار الفنية، وتصحيح الذوق الأدبي المقلوب! وما أفقرنا إلى من يأخذ بأيدينا إلى النماذج الحية فيدلنا على قوتها وحسن تمثيلها، وإلى السخافة المرذولة فيرينا وجه ضعفها وعبثها! وعندي أن كل إنتاج في الأدب لم يبدأ بهذا الإصلاح على هذا النحو فإنما هو محاولة فاشلة فائلة، ومضيعة للجهود المبذولة في غير طائل. . .(110/41)
لقد كنا إلى عهد قريب أمواتا نرتدي معالم الأحياء، أمواتا في حسنا وشعورنا وتفكيرنا، أمواتا في أهدافنا ومثلنا العليا، أمواتا في نظمنا ومراقفنا الاجتماعية، أمواتا في كل شيء لا يسمع لنا نبض ولا خفق حياة. كنا أحياء نعيش في العدم أو يعيش العدم فينا، كأن الغيب الجليل الهازل قد قذفنا من جوفه جثثا هامدة تغدو من المهد في لحد ومن اللحد في مهد! فأنت، إذ تدرس الأدب العربي في هذه الفترة الغافلة من الزمان التي دامت ما يقرب ألف عام، لا تجد أثرا لما يعتلج في النفوس الخافقة من ضروب العواطف وشتى الانفعالات، وما يجري في الهواجس من الأحلام والأوهام، وما ينتاب الضمائر من قلق أو يأس أو ألم، وإنما تلفي أدبا فارغا أجوف يفيض بالإحساس المعكوس والإسفاف المخل والصناعة البديعية أو التدجيل الذي يعتمد على الطباق والجناس والمقابلة وما إليها! وحسبك أن تقرأ شعر أبن نباتة وأبن معتوق والحلي لتلم بطرف من شعر اللفظ البالي الهزيل الذي يحبس المعاني المشبوبة في أضيق الآفاق!
ثم اتصلنا بالغرب في يوم إسماعيل وبعده، وكان اتصالا وثيقا تناول بالتغيير بعضا من العادات والأوضاع المعيشية، وكثيرا من طرائق التفكير والتعليم؛ وكان للآداب من هذا التطور نصيب وافر، فإن المتأدبين الذين درسوا في معاهد أوربا عادوا إلى ديارهم بعد ذلك يحملون رؤوسا وقلوبا غير التي كانوا يحملون، ذلك بأنهم تذوقوا أشتاتا من الأدب الحي، وبلوا شخصيات من الشعر متمايزة، وفقهوا أساليب النقد الحديث، ولما أرادوا القيام برسالة (الحياة) شرعوا في الهدم وإزالة الأنقاض وتنبيه الأمة إلى مواطن النقص والهزل والكذب
هذا جماع ما يعتري الأدب في اعتباره ملهاة وتسلية؛ ولو أننا شئنا التمثيل لأتينا بهذا الغرض الوضيع الذي يكاد يكون كله غلوا وعبثا، ذلك هو المدح، ومن البديهي أن يكثر فيه الغلو البشع لأن الممدوح ليس يرضى إلا إذا خلعت عليه صورة ترفع من قدره وتعظم من شأنه، ولأن المادح إنما جل همه التكسب والاستجداء. فلا بد إذن من المبالغة والكذب في الإحساس والتوشية المموهة، ولذلك كان المدح من أنواع الأدب الرخيص
وإنما الأدب العالي الرفيع تصوير لما يتردد في أطواء النفس من النزعات والمشاعر، وترجمة لما يجول في الخاطر من الهواجس والأحلام، أو لغير هذا من صروف الحياة وأحداثها - يرسم الشاعر ذلك كله لا هازلا ولا عابثا وإنما جادا كل الجد، صادقا تمام(110/42)
الصدق مخلصا أوفي الإخلاص!
ارجع إلى نفسك حين تكتب، فخذ عنها واستوحها، وليكن لك من صدق إحساسك ودقة تأملك وصفاء بصيرتك ما تكشف به عن ألوان الحياة النامية الزاخرة التي تسعى في تلافيف قلبك وثنايا ضلوعك بحيث تجد لها صورتين: أولاهما في الضمير وأخراهما على القرطاس. فلن يكون الأدب أدبا إلا إذا صدر عن صاحبه كما تصدر الزفرة عن فؤاد المصدور والدمعة عن عين المحزون؛ وإذا بهرك أن الشاعر أو الكاتب يبدع في التصوير ويسمو في البيان فينبغي أن تؤمن أن الرجل إنما يذيب من لحمه وعصبه، ويريق من مائه ودمه في سبيل الفن والأدب! والاستحسان إنما يجب أن يكون في إطار هذا الأدب السامي الرفيع يرسله المبين لا خادعا ولا مشعوذا وإنما مصورا مشاعره البينة النيرة ونزواته الخفية المكبوتة. فأنا إذ أنقد أنظر إلى إحساس الشاعر هل كان نافذا عميقا؟ وإلى نظرته هل كانت عامة شاملة؟ ثم إلى تعبيره هل كان فيه مجيدا موفقا؟ فإذا تبين لي هذا كله على نحو ما أريد استحسنت وفضلت، وأنا محق فخور في استحساني وتفضيلي. وقد يكون من الخير أن نضرب لذلك مثلا نوضح فيه هذا الذي نزعم، فقد تغني الأمثلة عن تقرير القواعد النظرية والشروح المستفيضة
ما اختلف عربي إلى جامع بني أمية في الشام إلا أخذته حالة نفسية خاصة ببقايا المجد والعظمة، يحسبها في أطوائه غامضة مبهمة، كئيبة متحسرة! فإن كان مبينا فصيحا وشاء نشرها وتوضيحها لم يزد على قول أمير الشعراء:
مررتُ بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت ... على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان!
هذه أبيات صادقة لا تمويه فيها ولا تضليل، نظمها الشاعر في قالب رائع جميل، ولعل في بسط الحزن على المسجد ما يضاعف هذه الروعة التي لا تلمحها في الكلمات منفردة، وإنما تلحظها منبثقة من خلال الاتساق والانسجام. إنه ليحلو لي هذا التساؤل عن مروان، وهذا الترجيع للمحزون فاقبع في مكاني هامسا في خفوت (وا حسرتاه على شوقي!)
ولنتأمل - في روية وإنعام - صورة هذا العزيز المهان التي يعرضها علينا شوقي:(110/43)
بنت فرعون في السلاسل تمشي ... أزعج الدهرَ عريُها والجفاءُ
وأبوها العظيم ينظر لما ... رُدِّيت مثلما تُردى الأماءُ
أُعطيتْ جرة وقيل إليك النهـ - ر قومي كما تقوم النساءُ
فمشت تظهر الأباء وتحمي الدمـ - عَ أن تَسترقه الضراءُ
فبكى رحمة وما كان من يبـ - كي، ولكنما أراد الوفاءُ!
ما أريد أن أتناول هذه الصورة الشعرية الرائعة بالتحليل أبين مواضع قوتها وجمالها، فأنني إن لمستُها أخشى تشويهها والحط من شأنها، فحسبي وحسب القارئ تلاوتها في هدوء نتملى معا حلاوتها ونستشعر نضارتها. . إنما أطلب في رفق ولين، إلى الشباب الناهض، أن ينظر الأدب بعين الجد والصدق حتى ينتج مثل إنتاج شوقي الخالد
حمص (سورية)
محمد روحي فيصل(110/44)
للأدب والتاريخ
3 - الرافعي
بقلم تلميذه وصديقه
الأستاذ محمد سعيد العريان
تتمة
أيمانه:
والرافعي رجل مؤمن إيمان فكر وعقيدة، تشرق قلبه وعقله حقائق هذا الدين، فهي كأنما تأتيه تلتمس في كتابته وشعره حياة تكون بها في الناس معنى يقدرون على فهمه، إذ لا يستطيعون أن يفهموه بأنفسهم، فمن ثم تراه حين يكتب عن الدين يتدفق تدفق البحر، وتتدافع معانيه تدافع الموج، وتزدحم أفكاره ازدحام اللجة؛ ومن هنا تغمض معانيه على بعض من لم تشرق حقائق هذا الدين على روحه وفكره
وما سهل أن تجد كاتبا غير الرافعي يكتب بهذا الأسلوب في هذه المعاني؛ فأنك لترى إيمان أكثر من تعرف، فكرة يستبد بها العقل المتقلب، فهو إيمان متقلقل يتنازعه الشك، لا يأخذ ولا يدع إلا بحذر؛ أو تراه إيمان عقيدة موروثة تستبد بصاحبها استبداد الجهل والتقليد، فهو إيمان جامد، لا يأخذ ولا يدع إلا ما أريد على أن يأخذ وأن يدع. وقلما تجد غير هذين من يؤمن إيمان الفكر والعقيدة معا؛ ولو قد وجد من يؤمن هذا الأيمان، لرأيت الإسلام ينبعث اليوم كأوله، ولعادت المعجزة الإسلامية تكتب فصلا جديدا في تاريخ الإنسانية
والرافعي بأيمانه ذاك ينقاد للمقدور انقياد الطاعة، واثقا أن لا مفر للإنسان مما قدر عليه؛ فلا تراه يتبرم أو يتسخط لشيء يناله، وتسمعه يقول: (جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين، ونذهب غير مخيرين، إن طوعا وإن كرها؛ فمد يدك بالرضى والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت، فأنك على الطاعة ما أنت على الكره، وعلى الرضى ما أنت على الغضب؛ ولن تعرف في مذاهب القدر، إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه؛ فقد تكون مقبلا والمنفعة من ورائك، أو مدبرا والمنفعة أمامك، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء. وحري يمن يوقن أنه لم يولد بذاته، ألا يشك في أنه لم يولد لذاته، وإنما هي الغاية(110/45)
المقدورة المتعينة، فلا الخلق يتركونك لنفسك، ولا الخالق تارك نفسك لك. . .) فمن ثم ترى الرافعي دائما يحسن الظن بالغد ويراه خير أيامه، فهو يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذة يشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيرا يترقبه ويهيئ له، وهو يفصح عن ذلك المعنى في مقالاته: سمو الفقر، وحديث قطين، وبين خروفين، والانتحار، وكتاب المساكين، أدق إفصاح وأبلغه
ولعل أحدا لا يعرف أن الرافعي لا يرى في تلك العلة التي أودت بسمعه وهو غلام بعد، إلا نعمة هيأته لهذا النبوغ العقلي الذي يملي به في تاريخ الأدب فصلا لم يكتب مثله في العربية منذ قرون. ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض، يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن، فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . .
حياته الخاصة:
وبعد، فأنا قد رأيت الرافعي يكتب، وجالسته وهو يفكر، وجلست إليه ليملي علي، وصحبته في غدواته وروحاته، وأشركني في مطالعاته، وأخذ مني وأعطاني؛ فمن حق العربية علي أن أصف بعض ما أستطيع مما رأيت
وحياة الرافعي بسيطة كل البساطة؛ فهو في أشيائه بعيد كل البعد عن التأنق، ولا يعتد بالعرف اعتدادا كبيرا. تراه في الديوان، وفي البيت، وفي الشارع، وفي القهوة - رجلا كبعض من تعرف. ولو أنك ذهبت إليه في الديوان، ورأيته جالسا إلى مكتبه، يوقع على هذه الورقة، ويراجع تلك الحسبة، ويحادث الناس ويحادثونه. . . لشككت أن يكون هذا هو الرافعي؛ وقد يميز مكتبه عن مكاتب غيره من الموظفين بضع صحف مركومة إلى جانب، أو كتاب جديد مستند إلى كتاب، على أنه في عمله معروف بشدته وعنفوانه، وكثرة دلاله أيضا. . .!
وفي البيت قلما تجد الرافعي إلا جالسا إلى مكتبه مطالعا أو كاتبا، وتكاد غرفة كتبه أن تكون كل نصيبه من الدار. . . وله صبرا عجيب على العمل؛ فهو حين يجلس للمطالعة قد يظل ثماني ساعات لا يزايل موضعه. ولا يسهر خارج الدار عادة إلا ليلة أو ليلتين في الأسبوع، وسائر لياليه عمل مستمر في الكتابة أو المطالعة؛ ويندر أن يأوي إلى فراشه ليلة قبل الثانية عشرة؛ وقد كان له عناية كبيرة بالرياضة البدنية إلى عهد قريب، وهو يحاول(110/46)
معظم تمرينات (صاندو) الرياضي المشهور؛ وترى صورته قريبة من مكتبه، إلى جانب صورة محمد عبده، وجمال الدين، و. . . وملكة الجمال التركية كريمان هانم خالص. . .!
وهو لأولاده أخ أكبر، لا يدخل أحدهم إليه في مكتبه لأمر إلا داعبه بكلمة عذبة أو إشارة لطيفة، ولكنه قلما يدخل إليه أحد منهم إلا إذا دعاه، لتخلو له جلوته
وإذا أراد الرافعي أن يسهر ليلة خارج الدار؛ فليس إلا في السيما أو القهوة، وذهابه إلى السيما عمل أدبي أيضا. . . فهو لا يميل إلا لمشاهدة نوع خاص من الروايات الفنية، يكون له منها مادة وحي. . .
وحتى في القهوة لا يريد أن يمضي وقته عبثا؛ فلابد من صحف أو كتب أو مجلات، يمضي بها الوقت، أو يفرغ منها مع الوقت؛ فتراه مكبا على كتابه، وفي يمينه قلم يشير به إشاراته، وفي يساره لي الكركرة، وفمه إلى فمها يبادلها أنفاسا بأنفاس. . . فإذا فرغ من الكتاب ومن الكركرة أقبل على جليسه بحديث عذب، أكثره دعابة وأقله هزل. . . وإذا أردت أن تستمع إلى الجد الهازل، أو الهزل الجاد، فاجلس إلى الرافعي لحظات. . .
ولصوته رنة عذبة، كانت حبسة من مرض فعادت لحنا من الموسيقى؛ فأنت تميّز صوته بلهجته ورنينه بين مئات الأصوات. ولو سمعت الرافعي خطيبا لما حسبته هو الواقف أمامك يخطب؛ فإن صوته يعلو ويعلو، ويمتد امتداده في الجهات الأربع، ثم يعود إليك عود الصدى من مكان بعيد، أرن أغن مندفعا متحمسا ينسيك الزمان والمكان والناس، فإذا أنت حيث يريد أن ينقلك. ولكنك مع الأسف قلما تسمعه خطيبا، لأنه يجهد في الخطابة جهدا كبيرا يبلغ منه. فهو لا يخطب إلا حين يدعو نفسه أو يدعوه الموضوع، فيحمل نفسه على ما يكره. . . فإذا دعوته أنت أنكر على نفسه أنه خطيب؛ ومن أين له أن يعرف. . .؟
وفي الرافعي كثير من الاعتداد بالنفس بقدر ما فيه من التواضع، ولا أحسب أحدا يؤمن باجتماع هاتين الصفتين فيه من جلسة واحدة، فقد يستقبلك لأول ما يعرفك بدعابة أو نادرة، أو ينصرف عنك إلى كتابه، أو يقبل عليك في صمت وأنت تتحدث إليه، أو يأخذ عليك أشتات الحديث فلا يدع لك أن تتكلم، فتنصرف وما عرفت إلا لونا واحدا من أخلاقه. وجلساء الرافعي قليلون على كثرة من يعرفهم ويعرفونه.
كيف يكتب؟(110/47)
وهو حين يهم أن يكتب، يختار موضوعه، ثم يتركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته، ويدعه كذلك وقتا ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره؛ لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في الموجود الذي يراه صوتا يسمعه، وكأن لما يسمعه لونا يراه، وكأن في كل شيء شيئا زائدا على حقيقته، يملي عليه معنى أو رأيا أو فكرة
فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف، يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى وجملة إلى جملة، وهذه هي الخطوط من هيكل المقالة
ثم يعود إلى هذه الخواطر المرتبة، ينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، وينفلق له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها
ولا تراه حين يكتب أو يملي ينظر إلى أصول المقالة بقدر ما ينظر في أعماق فكره إلى ما يتصل بمعنى ما يكتب؛ فقد يكون المملى منه صفحة أو صفحتين، فيملي صفحات وصفحات
ومذهبه في الكتابة إعطاء العربية أكبر قسط من المعاني؛ فهو لا يكتب الكتابة الصحافية السوقية، لأن الهدف الذي يرمي إليه هو أن يضيف ثروة جديدة إلى اللغة. ولن تجد كاتبا غير الرافعي يجهد جهده فيما يكتب فلا يحاول مرة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغا يريد أن يمتلئ
وميزة أخرى تراها في كتابة الرافعي، هي أنه لا ينحرف مرة واحدة عن مذهبه في المادة والموضوع، فهو هو منذ كان إلى اليوم، لم يرجع عن رأي رآه، أو يناقض نفسه في منهج ابتدعه، وهذا بعض أسرار الإيمان في هذا الرجل الذي لم يغالط نفسه قط
وله فلسفة خاصة به، تعرف فيها طابعه وخلقه ومزاجه، على حين ترى أكثر فلسفة المتفلسفين من أدبائنا مزقا مرقعة من آراء فلان وفلان. . . وإني لأشهد أن هؤلاء أكبر من أي فيلسوف في الأرض، لأنهم وعوا في رءوسهم آراء كل فلاسفة الأرض. . . ثم لم يزيدوا. . .!
وحظ الرافعي من لغة العامة كحظه من الفرنسية. . . فأكثر لغته من الكتب، وقد استغنى(110/48)
بالاطلاع عن الرواية، وبالقراءة عن المدارسة والاستماع؛ وهو مع ذلك قد يصنع أغاني شعبية بديعة، بالغة الغاية في بلاغة العامية، من دون أن ينحرف في ذلك عن أسلوبه في البيان العربي وطريقته في توليد المعاني؛ ولعل قراء (الرسالة) لم يزالوا يذكرون له (أغنية الزبال!) وتراه إذ يحاول أن يصنع شيئا من ذلك يرجع إليّ ليسألني عن كلمة أو تعبير مما ينطق العامة؛ فأقوم حينئذ منه مقام قاموس العامية. .
وهو مع ذلك لا يرى أكثر ما تكتب الصحف إلا عامية راقية. . . فهو يشكو دائما الجو العامي الذي يحوطه، فكيف به لو كان يسمع لغو الناس. . .؟ ومن ثم لا يهم الرافعي أن يكتب إلا حاول جاهدا أن يتخلص من هذا الجو الذي كان فيه، فيرجع إلى بعض كتب العربية يقرأ منها صفحات كما تتفق، ليعيش لحظة قبل الكتابة في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب كتابات الجاحظ وابن المقفع. وأحب الكتب إليه من بعد، كتاب الأغاني لأبي الفرج
ولكتابة الرافعي جرس موسيقي خاص تتميز به، حتى ما يمليه على عجل بلا إعداد ولا توليد؛ وكثيرا ما يملي بلا إعداد صفحات وصفحات، وقد أملى عليّ مرة مقالاً طويلاً في الرد على بعض الأدباء، استغرق تسعة أعمدة من صحيفة يومية، على حين لم يستغرق إملاؤه ساعات؛ ولعل تعبي في كتابته كان أكثر من تعبه في إملائه. . .!
والرافعي على ما يبدع في كتابته، لا يرى ما كتبه يرضيه بعد الفراغ منه بساعات، فهو دائما يطلب الأعلى؛ وهو نوع من التواضع ونوع من الطموح في وقت معاً. . .!
ويتهم الرافعي بالغموض أحياناً؛ وليس ثمة غموض فيما يكتب إلا عند من لم يتزود من الأدب الصحيح، أو يتعود قراءة أدب الرافعي؛ على أن كتابته في مجموعها لاتصل إلى نفس قارئها إلا أن يقرأها قراءة الشعر، بعقله وروحه، لا قراءة القصص والروايات، يفتش بعينيه بين السطور عن معنى يسليه، أو حادثة يزجى بها الفراغ. . . ونصيحتي إلى الذين يطلبون التسلية في الأدب، ألا يقرءوا كتب الرافعي، فإنها لن تجدي عليهم شيئا. . .!
وقد يطلب إليه الكثير من ناشئة الأدب أن يجعل أدبه أهون مما هو أو أقل دسما، فيأبى أن ينزل إلى ذاك؛ ومذهبه أن يحاول جذب الجمهور إلى أعلى، بدل أن يتدلى هو إلى الجمهور، وأن يكتب ما يرضي الفن لا ما يرضي الناس. على أنه لو أراد الرافعي أن(110/49)
ينزل لما استطاع أن ينزل إلا أن يصير شيئا غير الرافعي لأنه على مقدار عمق الفكرة، يكون عمق الصورة اللغوية التي تتأدى بها، ولن يستطيع كاتب من الكتاب - فيما أرى - أن يرضي الفن ويرضي الجمهور في وقت واحد، حتى لو كان يكتب بلغة العامة، فان الكتابة لغة وفكر، أفتراه أن كتب بلغة العامة، يكتب أيضا بأفكار العامة. . .؟
وقد أخذ الرافعي منذ أكثر من عام يكتب في (الرسالة) نوعا أحسبه جديدا في الأدب العربي، جمع إلى الرافعي طائفة من القراء لم يكونوا يقرؤون له، وعرفه إلى الذين لم يكونوا يعرفونه إلا من خلال ما يكتب عنه خصومه. ولا أدل على قيمة هذه المقالات، من ترجمة بعضها إلى غير العربية، على ما في ترجمة كتابة الرافعي من عنف ومشقة!
وأذكر أن بعض المستشرقين في الألمان يعنى بوضع كتاب بالإنجليزية عن (زعماء الأدب العربي الحديث) بمعاونة الأستاذ طاهر الخميري المغربي، وقد وضع الجزء الأول منه عن خمسة من كبار كتابنا، فلما قرأ مقالات الأستاذ الرافعي في (الرسالة)، كتب إليه منذ قريب رسالة طويلة يثني عليه ثناء بالغا، ويعده بأن يصحح أغلاطه في الجزء الثاني من الكتاب. . . .!
الرافعي القصصي:
لم يكن الأستاذ الرافعي معروفا بكتابة القصة، حتى جاءت قصصه في (الرسالة) برهانا على نوع جديد من عبقريته، وهو يروي أكثرها عن السلف من الأئمة والخلفاء، فما منزلة هذه القصص من الحقائق التاريخية؟. . . هذا سؤال أحسب الكثير من القراء ينتظر الجواب عنه؛ ذلك لأن كثيرا منهم لا يرى للرافعي فيها يدا إلا أن يجليها لوقتها. وأي يد هذه. . .؟
وطريقة الرافعي في كتابة هذا القصص غريبة، فمعظمه لا أساس له من الواقع، أو أن له أساسا لا يلهم هذه القصص الطوال البديعة في خيالها وموضوعها وفنها، وإنما هو يفكر في موضوع الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في تأليف مقالاته - فإذا انتهى إلى ذلك تناول كتابا من كتب التراجم الكثيرة بين يديه، فيقرأ منها ما يتفق حتى يعثر باسم ما، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه، ومجالسه، ثم يصنع من ذلك قصة لا تزيد على سطور، يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل، وإنه ليلهم أحيانا(110/50)
ويوفق في ذلك توفيقا عجيبا، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ، وما للتاريخ فيها إلا سطور، أو إلا أسماء الرجال. . . .
على أن وجه الإبداع في ذلك، هو قدرة الرافعي على أن يعيش بخياله في كل عصور التاريخ، فيحس إحساسه ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك من يقرؤها في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء. . . .
فليزدنا الرافعي من هذا الباب ليعرف دعاة الجديد أي رجل هو من رجالات العربية، وما أشك أن هذا النوع من الأدب سيكون له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب الحديث
أراني قد أطلت وما استوفيت، على أني ما قصدت إلى دراسة الرافعي، وإنما هو إلمام سريع ببعض جوانبه، على مقدار ما يتهيأ في الذاكرة من الخواطر لوقتها، فمعذرة، وإلى اللقاء بعد جمام. . .
(طنطا)
محمد سعيد العريان(110/51)
دراسات في الأدب الإنكليزي
2 - وليم وردزورث
بقلم جريس القسوس
المتاخمون -
وعلى أثر هذه الهبة أخلد وردزورث إلى السكينة في بيته الجديد في (راسيدوم لودج) في مقاطعة دور تشاير منقطعا عن العالم وعاكفا على المطالعة والإنتاج، وفي بيته هذا نظم مأساته الشعرية المشهورة (المتاخمون)، وقد ضمنها خلاصة عقيدته التي أقتبسها من (وليم فودون) وفيها يدعو إلى حل الشرائع والسنن الاجتماعية وهدم الفروق بين الطبقات البشرية والمناداة بتأسيس هيئة اجتماعية جديدة شعارها المساواة والديمقراطية، أما تأسيسا فعن طريق الدعاية والجدل، لا عن طريق العنف والشدة كما كان يؤمن في بدء حياته. ولعل هذه الفلسفة أقرب ما تكون لمبدأ الشيوعية الجديدة. بيد أن وردزورث لم يطل تمسكه بهذه العقيدة بل نبذها حالما تحقق صعوبة نجاحها وتنفيذها
كولردج ووردزورث
كان كولدرج الشاعر الشهير يقطن في بيت قريب من مسكن شاعرنا، فلما علم بوجود ناظم (المقطعات الوصفية) في جواره رأي أن يزوره. ولما التقيا كان أول ما فعلاه أن تبادلا قراءة منظوماتهما وخصوصا (الكوخ المتهدم) أو (مرغريت) وقد ضمت مؤخرا إلى قصيدته المشهورة (النزهة والمتاخمون لوردزورث ومأساة أوساريا لكولردج
ولقد كتبت دوروثي رسالة إلى أحد أصدقائها تقول فيها: (لقد كانت خسارتك عظيمة في عدم مشاهدتك كولردج. إنه لرجل عظيم حقا، ولا ينطق إلا بحديث طلي عذب يشف عن سمو روحه وقوة إدراكه، وإنه لأسود الحاجب صلت الجبين) وعلى أثر زيارة كولردج له كتب عنه يقول: (أنني لأستصغر نفسي إذا ما قورنت به). وفي رسالة له يشير إلى دوروثي بأنها (امرأة حقا، وتتجلى أنوثتها في طبيعتها وفي روحها وعقلها. هي ساذجة الطبع، قوية العاطفة عفيفة النفس، ذات عين ثاقبة دقيقة الكشف والملاحظة). ويقول(110/52)
وردزورث عن صديقه كولردج: (لم أر مثيلا بين الرجال)
فلا غرو إذن أن نجد شاعرنا وشقيقته بعد تبادل مثل هذه العواطف مع كولدرج ينزحان إلى قرية صديقهما غب زيارته لهما بشهر. هناك وجد كل منهما له في الآخر مكملا. فبينا كان كولدرج رجل خيال وأحلام، كان وردزورث شاعر الطبيعة والحقيقة. وليس أحوج من المصادقة بين الشعراء إلى التباين في الأهواء والأذواق الأدبية والفنية
وما كاد يستتب أمرهما حتى شرعا في مراسلة (نيو منثلي مقزين)، فساهما في نظم قصة موضوعها (الملاح القديم أما مصدر هذه القصة فهو حلم قصة عليهما أحد الأصدقاء فرأيا أن يحوكاه في قصة شعرية. غير أنهما عدلا عن الاشتراك في نظمها لما لقياه من المشقة في اقتسام مواضيعها الرئيسية. فقد قررا أولا أن ينظم وردزورث الأجزاء التي تتجلى فيها الأشياء والحوادث عادية مألوفة، وأن يقتصر كولردج على ما يعتمد فيه على الخيال الرائع والتصوير الشائق. ولالتباسهما في التمييز ما بين هذين النوعين من الفن آثر كولدرج أن يختص بنظمها وحده، ففعل ذلك بعد أن نظم وردزورث بضعة أبيات منها. ويعزى إلى وردزورث استنباط الطائر الميمون أحد أبطال هذه القصة. أما الفلسفة التي تتضمنها هذه القصة فهي أن يحب الإنسان ما على الأرض على السواء حيوانا كان أو إنسانا أو جمادا، ما دامت كلها من خلقه تعالى
ولقد عزم الشاعران على دراسة اللغة الألمانية والإلمام بثقافتها ذريعة إلى تفهم فلسفتها الغنية. لهذا قررا السفر إلى ألمانيا، بيد أن أحوالهما المادية كانت مضعضعة إلى حد رأيا معه أن يسدا عوزهما عن طريق النشر. لهذا أصدرا في سبتمبر 1798 مجلدا جامعا لأشعارهما أسمياه (قصص شعرية غنائية) ولم يكن لكولدرج فيه غير ثلاث قصائد إحداها (الملاح القديم) ولسوء الحظ لم يصادف الكتاب رواجا كبيرا في بدء الأمر، كما يظهر من رسالة بعثت بها سار زوج كولدرج إليهما بعيد سفرهما إلى ألمانيا تقول فيها من ضمن ما كتبته لهما (لم يلق الكتاب الإقبال المرجو)
سافر الشاعران ودوروثي إلى ألمانيا مخلفين زوجة كولدرج وأطفالها في رعاية بول أحد أصدقائهم. وقد رأوا أنهم بانفصالهم يقلون من المحادثة باللغة الإنكليزية ويكثرون من ممارسة اللغة الألمانية، لهذا قصد كولدرج راتزبرج ليقضي هناك بقية الشتاء؛ أما(110/53)
وردزورث وشقيقته فآثرا البقاء في مدينة غوسلار حيث نظم قصائده في (الطفولة الإنكليزية). ولم يستفد وردزورث من هذه السياحة بقدر ما استفاده صديقه كولدرج، فقد أصبح كولدرج قادرا على النطق باللغة الألمانية كأبنائها، وعلى أثر رجوعه من ألمانيا ترجم كتاب (ولنشتين) للفيلسوف شيلر. إلا أن إلمام وردزورث اليسير بهذه اللغة لم يكن بعيد الأثر في حياته الأدبية. رجع وردزورث وشقيقته من ألمانيا يحدوهما الشوق والحنين إلى أرض الطفولة، وكان ذلك في ربيع سنة 1799، وفي طريقهما عرجا على سوكبرن ليزورا أصدقاءهما آل هتشنسن. وما كاد كولدرج يسمع بذلك حتى لحق بهما إلى سوكبرن في صيف تلك السنة
في إقليم البحيرات مرة ثانية
وفي هذه الزيارة أتيح لوردزورث أن يرود هو وكولردج ودوروثي وبعض الأصدقاء إقليم البحيرات مرة ثانية، وخصوصا مع عصبة كهذه دأبها التأمل، وفي حين اكتملت فيه عقلية وردزورث وأرهف حسه للتشبع من جمال الطبيعة في هذا الإقليم الذي ألفه منذ صباه. وإقليم البحيرات من أجمل البقاع في بلاد الإنكليزي على الإطلاق، وهو يقع على حدود سكوتلندا في مقاطعتي وستمولند وكمبولند حيث ولد شاعرنا. وفيه نحو ست بحيرات متقاربة، تحيط بها جبال شاهقة وتطوقها مناظر طبيعية رائعة. في هذا الإقليم قضى كل من كولدرج وسذي قسما من حياته، وفي هذا المحيط نشأ شاعرنا وترعرع، فلا غرو إذا أمه بعيد رجوعه من ألمانيا. ولاستطابته المقام والعيش في هذه البقعة استأجر فيها بيتا سماه (كوخ الحمامة). وفي القسم الأول من قصيدته (المعتزل صورة رائعة لحياةأولئك الأدباء في ذلك البيت. ولقد ذاع صيت هذا الإقليم واشتهر باشتهار أصحابه الشعراء ورواده الأدباء فأصبح ولا يزال محجة لأهل الأدب والفن يقصدونه من جميع الأقطار الأوربية ليتعرفوا إلى البقعة التي خلدت أسماء شعراء البحيرة وخلدت في أشعارهم. وجعل مؤخرا من بيت وردزورث ورفاقه متحفا أودع فيه كل ما خلفه من آثار تظل تدل عليه وتنطق بنبوغه على مدى الأيام. ولقد وضع وردزورث سنة 1810 مقدمة لكتاب (مناظر منتخبة من كمبرلند) لولكنسن، وهو وصف بارع لهذه البيئة وسكانها
في تلك البقعة أخذ نجم وردزورث يسطع في سماء الشعر إذ ثم شرع ينظم قصائده الخالدة(110/54)
التي تعد فتحا جديدا في الأدب الإنكليزي، كيف لا وقد أتيح له أن يحتك بزهرة الأدباء في ذلك العصر كسر هتشنسون ولامب ودي كونس وسكوت وسر همفري ديفي. فكانت عصبة دأبها البحث والتأمل والتحقيق والإنتاج الأدبي. وكثيرا ما كان يقوم بنزهات قصيرة مصطحبا شقيقته دورثي وأخاه يوحنا، فيرتادون شواطئ البحيرات ويتسلقون الجبال والآكام ويهبطون الوديان والمنعرجات وشاعرنا في تنقلاته هذه كثير التأمل دقيق الملاحظة والاستقراء، فلا يفوته منظر جميل دون أن يصفه، ولا خاطر رقيق إلا ويسجله. في ذلك الإقليم أتم قصائده الكبرى التي تمثل نزعته وتشرح فلسفته، أهمها (المعتزل والفصل الأول من (النزهة (والفاتحة وفي قصائده هذه وفي غيرها من منظومات هذا الأوان تلمح روحا وثابة ونفسا نزاعة مستعصية؛ وسنقول كلمة في (النزهة) و (الفاتحة) عند الكلام على شعره
(يتبع)
جريس القسوس(110/55)
حول الفقه الإسلامي
والفقه الروماني
قرأنا في (الرسالة) الثامنة بعد المائة مقالة الأستاذ محسن البرازي، في الرد علينا، فإذا الأستاذ برغم تفوقه على أكثر أقرانه من الشباب الذين درسوا في أوربا بذكاء كان موضع إعجابنا، قد أخطأ فهم كلامنا، فأخذ منه بعضا وترك منه بعضا. وحمل كلامنا ما لا يحمل، وأخذ منه عبارة على غير الوجه الذي وضعناها عليه، ثم لم يدخر وسعا في ردها، ولم يتورع عن أن يسميها زعما لا يمكن لعاقل أن يزعمه، وما لم يمكن للعاقل يمكن للمجنون. . . . فكان الجنون جزاؤنا لأنا لم نذهب إلى الأستاذ فنقرأ له كلمتنا كلها، التي لم يقرأ منها إلا ما فيه الرد علينا، فكان أمرنا معه كما قال المثل الفقهي:
(زَنَّاهُ فَحَّده. . .)
لا يا أستاذ! أنا ما قلت: (إن الفقه الروماني جديد لفقه طائفة من العلماء الخ. . .) وسكت، ولكني أوردت هذه الجملة في معرض الفرض والتقدير، فقلت (وهذه عبارتي بالنص):
(. . . على حين أنه لا يمكن أن يقوم دليل علمي واحد على أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني، (وقد علق على هذه الكلمة أستاذنا الجليل الزيات بالتفريق بين الأخذ والتأثر) إلا إذا كان القرآن مترجما عن لغة الرومان، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رومانيا خرج من أبوين غير عربيين، والذي نقوله، (ولينتبه القراء للذي نقوله) إنه إذا كانت هناك علاقة بين الفقهين (إذا كانت) فإن الفقه الروماني هو المقتبس عن الفقه الإسلامي؛ ودليلنا على ذلك أن الفقه الروماني الحاضر جديد لفقه طائفة من العلماء بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم، وهذا الدليل على علاته (تأمل قولنا على علاته) أقوى من دليلهم على دعواهم، فليثبتوا إن استطاعوا أن الفقه الروماني الحاضر هو القديم بذاته، وليأتونا بالأسانيد الصحيحة، والروايات المضبوطة، كما نأتيهم نحن بأسانيد حديثنا، وروايات سنتنا)
هذه هي الجملة، وليس معناها يا سيدي أنا نعتقد بأن الفقه الروماني جديد الخ. . ولم يكن موضوع مقالنا الفقه الروماني، ولكنها كلمة جاءت عرضا، ومعناها أن هذه الدعوى على علاتها (أي مع اعترافنا بان فيها شيئا) أقوى من دليلهم على دعواهم أن الفقه الإسلامي(110/56)
مأخوذ من الروماني، أي أن دليلهم ليس بشيء مطلقا، مادام دليلنا على هذه الدعوى الغريبة أصح منه، هذا هو المقصد، وهذا أسلوب من أساليب البيان يفهمه من كان من أهله!
ثم إن هذا كله على فرض أن هناك علاقة بين الفقهين، ووجود العلاقة هو المقدمة المنطقية اللازمة لهذه النتيجة، ونحن ننكر هذه العلاقة، والأستاذ قد أنكرها وبين أنه لا تشابه في أحكام الفقهين في الأحوال الشخصية الخ. . فنحن إذن متفقون على إسقاط هذه النتيجة
ولست أقول هذا الآن، ولكن يقوله كلامي المنشور في (الرسالة) الواحدة والتسعين منذ أربعة أشهر كاملة
فهل يصح للأستاذ أن يقيم القيامة علينا، ويزلزل بنا الأرض، من أجل هذه الكلمة؟. . .
هذا، وغن في مقال الأستاذ شيئا عن الموازنة بين رواية الحديث ونقل الفقه الروماني، قد يفهم منه أن الفقه الروماني أصح سندا، وأثبت نقلا، لأنه - كما يقول الأستاذ - قد دون في عصر جامعه ومصلحه جوستنيان، والحديث إنما شرع في تدوينه بعد زهاء قرن ونصف قرن من تاريخ الهجرة، ولأنه لا دليل على الصحة بعد الوثائق الأثرية، والنسخ المخطوطة القديمة. فنحن ننبه من قد يفهم منه هذا الأمر بأنه باطل وليس بشيء
ونحن نكرر وصية الأستاذ (الشاب) لشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين والقومية (ونزيد: أو تعصب عليهما)، وكره لأوربة والثقافة الغربية (ونزيد: أو موت في عشقهما) فيسرفوا في القول حتى يجانبوا المنطق
ونسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا أتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. ونشكر للأستاذ الفاضل جهده وفضله
علي الطنطاوي(110/57)
8 - شاعرنا العالمي
أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
عقيدته الدينية والسياسية: كان لنشأة أبي العتاهية بالكوفة أثر في عقيدته الدينية والسياسية، فقد كانت الكوفة مهد التشيع للعلويين من يوم أن اتخذها علي رضي الله عنه عاصمة خلافته، وآثرها بذلك على المدينة التي كانت عاصمة الخلافة قبله، فنشأ بها أبو العتاهية متشبعا بمذهب الزيدية البترية، لا يتنقص أحدا ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان؛ وكان مجبرا، يقول بالتوحيد، ويزعم أن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم بنى العالم هذه البنية منهما، وهو حادث العين والصنعة لا محدث له إلا الله تعالى، وسيرد الله كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا؛ وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا، ويقول بالوعيد وتحريم المكاسب. ولما ظهر الخلاف في خلق القرآن كان ممن يقولون بخلقه، وقد حدث أبو شعيب صاحب أبن أبي دؤاد قال: قلت لأبي العتاهية: القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: أسألتني عن الله أم عن غير الله؟ قلت عن غير الله، فامسك؛ واعدت عليه فأجابني هذا الجواب حتى فعل ذلك مرارا، فقلت له مالك لا تجيبيني؟ قال: قد أجبتك ولكنك حمار
فهذه هي عقيدة أبي العتاهية لا شيء فيها مما ينسبه إليه بعضهم من الزندقة، وإن كان يخالف فيها المعروف من مذهب الجماعة، ولكن بني العباس كانوا قد نقضوا ما اتفقوا عليه مع بني علي قبل قيام دولتهم، من جعل الأمر شورى بينهم، فاستأثروا به لأنفسهم، وثار بذلك بنو علي عليهم، وتحركت نفوس كثير من العلماء ووجوه الناس لنصرتهم، فلم ير بنو العباس حيلة تنفعهم في ذلك إلا أن يأخذوهم باسم الدين، ليخدعوا به العامة، ويرهبوا به الخاصة، وأحدثوا في ذلك ما لا يعرفه الإسلام من التجسس على الناس في أمور عقائدهم؛ وقد أمر الإسلام أن يؤخذ الناس في ذلك بما يظهر منهم، وأن يترك باطنهم لله تعالى وحده، وإنما السياسة وحدها هي التي أخذت من أخذت في ذلك العهد باسم الزندقة، والدين بريء من هذه الدماء التي سفكت بالشبهة واستبحت بالظنة
فما انتقل أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد، وعرف العباسيون أخذه بالتشيع لأبناء علي،(110/58)
حتى أسترابوا به، وأحاطوه بجواسيسهم الذين بثوهم في الناس لإرهابهم بإلصاق تهمة الزندقة بهم، إذا رأوا فيهم ميلا إلى أعدائهم، فعاش أبو العتاهية في بغداد تحوم حوله هذه الشبهة من أجل تلك الغاية السياسية، واغتر بها بعض الناس فطعنوا بها في عقيدته، وهو أبعد الناس من تلك التهمة الشائنة؛ وقد أمكنه مع هذا أن يقوم بتلك الدعاية الشعرية التي فهم العباسيون غرضه السياسي منها، وأنه يقصد محاربة دولتهم بذلك السلاح الذي أعياهم أمره، وجعل يفتح أعين الناس إلى عيوبهم فلا يعرفون كيف يكسرونه من غير أن يفتضح أمرهم، ولم يجدوا إلا أن يداوروا في أمره، ويأخذوا صاحبه بالشدة مرة وباللين أخرى، ويشككوا الناس في أمر عقيدته ليضعف أثر شعره فيهم، ولا يصل إلى ما يريده منهم، فكانت محاربة بارعة من الجانبين، قام فيها الدهاء السياسي مقام السيف، وأدى فيها أبو العتاهية رسالته الشعرية بدون أن يمكن سيف العباسين من رقبته، وعملوا هم على إفساد غايته بدون أن يفضحوا أمرهم أمام الناس بسفك دمه لأنه ينشر فيهم تلك الدعاية المحبوبة، ويحاول إصلاح نفوسهم بالزهد الذي بعدوا عنه كل البعد، وشغفوا بدنيا العباسيين كل الشغف، وإنا نسوق بعد هذا بعض ما كان يلقاه أبو العتاهية في ذلك لنعرف كيف كانوا يتكلفون إلصاق تلك التهمة به
ذكر النسائي عن محمد بن أبي العتاهية أنه كان لأبيه جارة تشرف عليه، فرأته ليلة يقنت فروت عنه أنه يكلم القمر، واتصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة، فصار إلى منزلها ليلا وأشرف على أبي العتاهية فرآه يصلي، فلم يزل يرقبه حتى قنت وانصرف إلى مضجعه، وانصرف حمدويه خاسئا
ومن من كان يشنع على أبي العتاهية بهذا رجاء بن سلمة ومنصور ابن عمار، وقد حدث العباس بن ميمون عن رجاء قال: سمعت أبا العتاهية يقول: قرأت البارحة عم يتساءلون، ثم قلت قصيدة أحسن منها. قال وقد قيل إن منصور بن عمار شنع عليه بهذا. ولما قص منصور على الناس مجلس البعوضة قال أبو العتاهية إنما سرق منصور هذا الكلام من رجل كوفي، فبلغ قوله منصورا، فقال أبو العتاهية زنديق، أما ترونه لا يذكر في شعره الجنة ولا النار، وإنما يذكر الموت فقط، فبلغ ذلك أبا العتاهية فقال فيه:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها(110/59)
كالملبس الثوبَ من عرى وعورته ... للناس بادية ما إن يُواريها
فأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه ... في كل نفس عماها عن مساويها
عِرفانُها بعيوب الناس تُبصرها ... منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
فلم تمض إلا أيام يسيرة حتى مات منصور، فوقف أبو العتاهية على قبره وقال: يغفر الله لك أبا السرى ما كنت رميتني به
وحدث الخليل بن أسد النوشجاني قال: جاءنا أبو العتاهية إلى منزلنا، فقال زعم الناس أني زنديق، والله ما ديني إلا التوحيد، فقلنا له فقل شيئا نتحدث به عنك، فقال:
ألا إننا كلُّنا بائد ... وأيُّ بني آدمٍ خالدُ
وبدؤهم كان من ربهم ... وكلٌّ إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يُعصي الالـ - هـ أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
وحدث محمد بن أبي العتاهية قال: لما قال أبي في عتبة:
كأنما عتبة من حسنها ... دُمية قَسٍّ فتنت قَسها
يا رب لو أنسيتنيها بما ... في جنة الفردوس لم أنسها
شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة، وقال يتهاون بالجنة ويبتذل ذكراها في شعره بمثل هذا التهاون. وشنع عليه أيضا بقوله:
إن المليك رآك أحـ - سن خلقه ورأى جمالك
فحذ بقدرة نفسه ... حورَ الجنان على مثلك
وقال أيصور الحور على مثال امرأة آدمية والله لا يحتاج إلى مثال، وأوقع له هذا على ألسنة العامة فلقي منهم بلاء
ولا تخفى سماجة هذا النقد، وأن الدين لا يصل في الحرج على الشعراء إلى هذا الحد، وأين ابن عمار في هذا من عبد الملك بن مروان وقد اجتمع ببابه عمر بن أبي ربيعة وكثير عزة وجميل بثينة، فقال لهم أنشدوني أرق ما قلتم في الغواني، فأنشده جميل:
حلفت يميناً يا بثينة صادقا ... فان كنت فيها كاذبا فعميتُ(110/60)
إذا كان جلد غير جلدك مني ... وباشرني دون الشِّعار شربتُ
ولو أن راق الموت يرْقى جنازتي ... بمنطقها في الناطقين حييتُ
وأنشد كثير:
بأبي وأمي أنت من مظلومةٍ ... طَبِنَ العدوُّ لها فغير حالها
لو أن عزَّة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
وسعى إليَّ بصرْم عزة نسوةُ ... جعل المليك خدودوهن نعالها
وأنشد ابن أبي ربيعة:
ألا ليت قبري يوم تقضى منيتي ... بتلك التي من بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كلَّهُ ... وليت حنوطي من مُشاشك والدَّم
ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي ... هنا أو هنا في جنة أو جهنم
فقال عبد الملك لحاجبه: أعط كل واحد منهم ألفين، وأعط صاحب جهنم عشرة آلاف. ولكن هذا عصر وذاك عصر، والناس في كل عصر دين ملوكهم، وإذا كان العباسيون قد تغالوا في أخذ الناس بالزندقة في عصرهم، فلماذا لا يتغالى ابن عمار وغيره في ذلك أيضا؟
عبد المتعال الصعيدي(110/61)
دموعي وصباباتي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
دموعيَ يا ليلىَ إليك رسائل ... أبثّ صباباتي بها أو أحاول
ومن فشلت آماله في حياته ... فليس له غير الدموع وسائل
من السَّبْح قد كلًّت يداي وأرجلي ... أما لك يا بحر المحبة ساحل
أقول لقلبي يوم مات رجاؤه ... عزاَءك يا قلبي فإنك ثاكل
وقد أَتداعى للمنيَّة في غد ... كأني جدار ضعضعته الزلازل
على الأرض أيام الشقاء كثيرة ... تُمضّ وأيامُ السرور قلائل
تقرّبت يا نفسي من الهُلك بعدما ... تكلَّفتِ عمراً أفعمته الغوائل
دنا أنَ تكوني للمنايا فريسة ... فلا تجزعي مما بكِ الدهرُ فاعل
ولا تحزني إِمًّا أَلمَّ بكِ الردى ... فقبلكِ يا نفسي تردَّت فطاحل
وما قيمةُ القلب الذي تحت أضلعي ... فتُنصَبَ أشراكٌ له وحبائل
على الحق قد عَوَّلتَ يا قلب مؤثرا ... ومَن لك ألا يزُهِق الحق باطل
ومهما تزدني غيهباً فوق غيهبٍ ... فإنك عند الصبح يا ليلُ زائل
إذا كنتَ تستهدي بعقلك وحده ... فما أنت في يوم إلى الله واصل
وإن كان إيمان الفتى عن عقيدة ... فأضيعُ شيء في الحوار الدلائل
يلومونني في حب ليلى بشدة ... ومن حبّ ليلى لي عن النوم شاغل
لقاؤكِ يا ليلى لنفسي لبانةٌ ... فأيَّ رقيبٍ بيننا هو حائل
وإن تك روحي هذه ثمناً له ... فما أنا بالروح العزيزة باخل
ونفسي إذا فتَّشتِ نفسي وجدتِها ... كعصفورة قد هدّدتها الأجادل
ولِلْهَمَّ إمَّا جنّني الليل داجيا ... جحافلُ في آثارهن جحافل
إذا كان لي ذنبٌ به تأخذينني ... فإني لذاك الذنب بالدمع غاسل
سهامك يا دهرَ الأديبِ كثيرةٌ ... وكلّي إذا سدّدتَ سهماً مَقاتل
ويا طيف ليلى أنت أكرم من سرى ... إلى مغرمٍ قد أعجزته الوسائل
ويا طيف ليلى أنت في الأرض صنوُها ... وأنت لها في كل شيء تماثل(110/62)
ويا طيفها مالي شكاةُ من النوى ... فإنك في عيني وقلبيَ ماثل
تمُاطلني ليلى إذا هي واعدت ... وأنت إذا واعدتني لا تُماطل
وإن بخلت ليلى فإنك محسنٌ ... وإن هجرت ليلى فإنك واصل
لقد جعل الدنيا إليّ حبيبةً ... هوًى هو في أعماق نفسيَ داخل
لئن كان يا نفسي شديداً بك الصدى ... لقد نضبت يا نفس تلك المناهل
وما هذه الدنيا سوى دارِ محنةٍ ... قليل بها مَن لم تصبه النوازل
إذا سلم الإنسان من غيظِ أرضهِ ... أصابته من صوب السماء القنابل
حياة إذا إِنفَتْ تُزايل أهلَها ... وموتٌ إذا استولى فليس يزايل
ولا تحسب الأخرى أقل قساوةً ... فأكثرنا منها على النار نازل
أراك تخاف النارَ نارَ جنمٍ ... وإنك أنت المؤمن المتُفائل
يقولون شيطانُ القريض موسوسٌ ... وهل مصدر الوسواس إلا الخلاخل
وما منتدى الآداب إلا كروضة ... محبّبة أبكارها والأصائل
وكل امرئ يصبو لما اختاره ذوقهُ ... وفي الروض غربانٌ وفيه عنادل
وللعندليب الزهرُ في الروض باسمُ ... وللزهر فيه العندليبُ يُغازِل
وأكبرُ مَن حاك القريضَ هو الذي ... يهزّ جماهيراً بما هو قائل
وأكبر منه مَن إذا قال أصبحت ... تَنَاقَلُ أقوال الحكيم المحافل
وأكبرُ من هذا وذلك شاعرٌ ... عن الحق في نظم القوافي يُناضل
بغداد
جميل صدقي الزهاوي(110/63)
العصر الذهبي
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
أولع الناس من قديم الزمن بالتفكير في عصر الإنسانية السعيد: عصر الخير العميم الشامل؛ فبعضهم كان ينشده في الزمن القديم ويبكي انقضاءه، وبعضهم ينشده في المقبل من العصور، يدينه رقي الإنسان. وكثيرا ما استخدم شعاره أهل الحرص لنيل أطماعهم، واقتياد الناس لاستثماراتهم واستذلالهم؛ وكثيرا ما علق الأذلاء بكماله حتى إذا تحكموا ساروا على نهج الطغاة؛ وهو مثل عال ولا تحلو حياة الإنسان إلا به؛ ولئن صدق ما يقوله بعض المفكرين الذين يزعمون تحققه نذير الفناء، فمرحبا بالفناء يكون نذيره الخير كله والسعادة الشاملة والمثل العالي، وقد لا يصدق تشاؤمهم!
الناظم
عصرَ السلام تحية وسلام ... خلعتْ عليك رجاَءها الأقوام
من كل عصر في نسيجك لحْمَة ... أَلأجل صنعك تدلفُ الأعوام
إمَّا دنوت وما عهدتك دانياً ... عَفَّى على نقص الأنام تمام
نستقبل الأيام وهي كوالح ... مستبشرين إذِ التمام إمام
خالوك في الماضي - ولم تك ماضياً - ... إذ زان منه البعد والأوهام
ويرون في غدهم سراباً نائياً ... فيطول نحس العيش والإجرام
تتغير المُثُلُ التي شاقتهمُ ... تتبدل الآمال والأحلام
حسب الورى من حسن عهدك قدوة ... علياء ما إنْ شانها استبهام
ما فاتهم طب الطبيب وإنما ... تتباين الأرواح والأفهام
ولاَنت في سير النفوس إذا صفت ... يدنى إليك البر والإكرام
عطف النفوس على النفوس ولن تُرَى ... أبداً ونفس في الأنام تضام
هيهات يكرم فاضلاً ذو خسة ... أو يغفر الجاني شآه كرام
استبطأوك وأنت بين جنوبهم ... وتَنَظَّروك ودأبك الإلمام(110/64)
ورأوك في الدهر البعيد ولو دروا ... أنْ لو أرادوا كان منك لِمَام
لرأوا مشيئتهم تشاء ولا تشاء ... هاموا وتحسب أنهم ما هاموا
ومن المشيئة ما يجيء فجاءة ... ليست تجزئ أمره الأيام
ونأى بهم عن وِرْدِ خيرك أنهم ... للحرص حادٍ بينهم وزمام
أمباغتا بالخير بعد تمنع ... حب الأنام لعهدك استقدام
ولقد يتوب أخو المجانة بغتة ... من بعد عيشِ كله آثام
ويتوب هذا الخلق من شر ومن ... إثمٍ فتحمد خَيْرَك الأيامُ
كم فتنة أجحتَ نار جحيمها ... شوقاً لعهدك والأنام حُطام
وشعار حق كم غدا أُحْبُولة ... أثرى بحقك في الأنام لئام
وإذا العبيد تحكموا في فتنة ... ساروا على نهج الظَّلُوم وضاموا
أترى العبيد ببابلٍ وبطيبةٍ ... أغرتهمُ بكمالك الآلام
لو أنهم ملكوا لعافوا مسلكا ... يدني إليك وطاشت الأحلام
ولطالما حن اليهود لشرعه ... ودعا المسيح له ورِيمَ سلام
وتَنَظَّر المهديَّ قوم أمَّلوا ... ركباً له يحدو به الإسلام
ثار الفرنس وخيرهم يبغي له ... عهداً تدين لشرعه الأحكام
يبكي ويعتنق الغريب مُبَشَّراً ... بالشر زال وبالكمال يُشام
ما زال شر - لا - ولم يمهد به ... نهجَ السلام الحكمُ والحكام
أنَّى تكون وفي الأنام تفاوتٌ ... أُسْدٌ لها في الصاغرين سَوام
عِرٌّ وذو مكر فلست بكائن ... حتى تَساَوَى في الأنام الْهَام
فمتى يدين لسُنَّةٍ لك جمعهم ... ويراك خيراً شَرُّهم فترام
لا يصدق الكُهّان إن هم أنبأوا ... بدوام ما لم يُلْف فيه دوام
كم من عهودٍ كان يحسب أهلها ... أنْ زل عنها النقض والإبرام
نَسِىَ الأنام عهودهم فعهودهم ... أقصى وأدنى منهمُ الأوهام
فقد الأنام صفاتِ أجداد لهم ... وتحولت وتبدلت أجسام
والطبع في غدد الجُسوم فَعَلَّها ... يوماً تصح فلا يكون أثاَم(110/65)
وتعود من فرط الصفاء حياتهم ... ذهبيةً أيامها والعام
خير مَرَى الحرصُ الخسيسُ أقل من ... خير لديك تردوه الأحلام
والنحس عدوى ليس يُقصِى شرَّها ... إلا التضافر شاده الأقوام
كذبوا فما أبقى التقاتل بينهم ... إلا الضعيف وقد قَضَى المقدام
خلفت في سير النفوس مباهجاً ... وتجملت بجمالك الأيام
كغناء حادي الركب رَفهَ عنهمُ ... نعم النشيد ونعمت الأنغام
حُلُمٌ هو المثل الأجلُّ وإنهم ... لولا مثال كمالك الأنعام
ولعل عمر الشر ليس بدائم ... ينمو سناك فينمحي الإظلام
قالوا إذا ما جاء خيراً كله ... لم يبق خير في الحياة يشام
لولا جهاد في الشرور تعطلت ... سبل المكارم واستنام أَنام
إن لم يكن نقص ففيم رجاحة ... وبضدها تتميز الأقوام
لا يطعم السعدُ الشَّهِيّ وشُهْدَهُ ... من لا ترود فؤادَه الآلام
والوهن يسعى للفناء دنيبه ... إن لم يكن حذرٌ وعَمَّ سلام
لغز الحياة وليس يفقه لغزها ... بين الأنام مُفَهَّمٌ عَلاَّم
والشر أهون بعضه من بعضه ... فاطلب كمالاً كي يقل الذام
أهلاً بغائلة الفناء نذيرها ... عهد يَشُوق سلامُه وتمام
إن لم يصح العيش إلا أن ترى ... شرع التنافس في الأنام يقام
فعسى التنافس في المحامد ينثني ... طبعاً وإن قيل الأنام لئام
يدنوا إذا بطلت ضرورة كائدٍ ... يُزْجَي بها رزق له وحطام
إن نال كلٌّ مطمئناً رزقَه ... فعلام لؤم للورى وخصام
دِيْنُ التنافس في المكارم ربما ... أنماه نصح فيهمُ وحسام
فترى الورى دينَ الورى وصلاحُهم ... فرض يدين لشرعه الأقوام
عبد الرحمن شكري(110/66)
القصص
من أساطير الإغريق
مأساة أم
للأستاذ دريني خشبة
رآها زيوس تقطف الزهر وتتيه في حدائق السوسن، وتنشد مع البلابل ألحان الشباب، فتنصت الطبيعة وتتفتح آذان الورود، وتحملق نواظر النرجس ترى إلى كليستو الرقيقة رقة النسيم، الحلوة كأنها حلم جميل في أجفان عاشق، الموسيقية التي يستطيل نغمها حتى يبلغ السماء، ويتسع حتى يغمر الكون، فيثوي بكل أذن، ويستقر في كل قلب، ويخفق مع نبضات المحبين، وينسكب ذوبا من دموع المدنفين المعذبين!
رآها زيوس فجن بها! وبالرغم مما أعطى على نفسه من ومواثيق لزوجه حيرا ألا يصبو إلى أنثى غير أزواجه اللائى كن إلى هذه اللحظة ستا أو أكثر من ست، فقد ذهب يقتفي أثر كليستو، ويرهف سمعيه ليملأ بموسيقاها قلبه
كانت تمشي بين صفين من أعواد الزنبق، تنمقهما ورود ورياحين؛ وكانت تنثني وتميس، فيهتز الروض وينتشي الزهر، وكلما ترنمت بأغنية من أغانيها الساحرة، رددت الأزهار والأطيار ما تغنت، كأن كل شيء في تلك الطبيعة الرائعة الفنانة عضو في فرقة كليستو الموسيقية
وجلست تتفيأ ظل خوخة وارفة كانت تداعبها فتساقط عليها من ثمرها الجني، ورطبها الشهي، فتتذوقه كليستو وهي تبتسم
وأسكر النسيم الخمري عينها الساجيتين، فاستسلمت للكرى الطارئ والغفوة العارضة، وتمددت على البساط السندسي ليحسر الهواء عن ساقيها، ولتكون فتنة يضل في تيهها قلب زيوس، وتضرب في بيدائها نفسه. . . على غير هدى!!. . .
وبدا الإله الأكبر أن يرتد فتى موفور الشباب ريان الأهاب؛ ثم يسوق آلهة الأحلام فترقص في أجفان كليستو، تبهرج لها من الرؤى ما يشب في نفسها رغائب الهوى ولذائذ الحب، ويثير فيها حرارة الحياة(110/67)
ونام الخبيث إلى جانبها، وطفق يروح على وجهها، ثم نثر ذراعه على جيدها الناهد، وراح يضغط قليلا. . . قليلا
ولقد فعلت الأحلام الحلوة فعلها في قلب كليستو، فلما استيقظت، ووجدت نفسها في حضن هذا الشاب اليافع الجميل، لم تنفر، بل خجلت خجلة زادتها جمالا، وضاعفت سحرها وفتونها؛ وفترت أهدابها فاسترخت، وفنيت في حبيبها المفاجئ. . . وفنى هو الآخر فيها
وجاءها المخاض!
ووضعت غلاما أحلى من القبلة الحارة على الثغر الحبيب، وأعذب من ابتسامة الزهرة طلها الندى
فلما زارها زيوس وبشرت به، اهتز الإله الأكبر وشاعت الكبرياء في أعطافه، وأخذ الغلام فباركه، وطبع على جبينه الوضاح قبلة أولمبية خالدة؛؛ ثم زف إلى كليستو تلك البشرى التي ظل يخفيها عنها طوال حبه لها، وذلك حينما أشار إلى ابنه بيمينه البيضاء هاتفا:
- (بوركت يا أركس! يا أجمل أطفال الأولمب!)
وقد اضطربت الأم الصغيرة حين سمعت هذا الدعاء ونظرت إلى حبيبها كأنها تستريب، وقالت له:
- (أجمل أطفال الأولمب؟ إذن من أنت أيها الحبيب؟)
- (بشرك يا كليستو! فأنا ربك وزوجك وحبيبك زيوس!) ولم يسع كليستو إلا أن تسجد لربها وهي ترتعد من الخوف؛ فقال لها:
- (انهضي! انهضي! ماذا تصنعين يا حبيبة! انهضي فقد رسمت ابننا أركس إلها، فاكفليه حتى يشب، وإياك أن تراكما حيرا فتسحقكما. . .)
وقبل الغلام وقبل الأم،،، وغاب في الأفق. . .
وكانت كليستو أحرص على فتاها من أن تدعه وحده لحظة واحدة، فإذا خرجت للصيد في الغابات القريبة، أقامت عليه حارسين من كلابها الكواسر، يكفي أحدهما لتشتيت شمل جيش بأكمله. وكانت تحمل إليه أثمار اللوز والبندق كلما عادت من الغابة؛ حتى إذا اشتد ساعده، علمته الرماية وألعاب الفروسية، مستعينة بذلك بالسنتور العظيم، شيرون، مؤدب هرقل ومدربه(110/68)
وذاعت الأنباء في دولة الأولمب، أن لزيوس خليلة يختلف إليها في الفينة بعد الفينة، وأنه أولدها طفلا بارع الحسن، وسيما قسيما، يكاد يكون في مستقبله هرقل آخر، يضارع هذا الهرقل الهائل، ابن ألكمين، الذي كان يدوخ أبطال العالم في ذلك الوقت. . .
وقد مدت الأرض بحيرا حين علمت هذه الأنباء، لأنها كانت تغار من أزواج زيوس، وتخشى أن تلد إحداهن بطلا يكسف شمس ولديها مارس وفلكان. وكانت الحرب بينها وبين هرقل على أشدها، فكم نثرت في طريقه شوكا، وكم فجرت تحت قدميه ينابيع من نار. أفلا يحزنها إذن أن يبرز لها خصم آخر يغطش حياتها، ويراوحها بالأشجان والآلام!!
وكانت كليستو تصدح في أصيل يوم من أيام الربيع، فتستجيب لها الغابة، ويردد غنائها الطير، ويمشي في إثرها الدوح، وتهتز الأرض والسماء؛ وكانت حيرا قد عرفت أوصافها من شيرون، مدرب فتاها أركس؛ فلما سمعتها تغني، ويمشي وراءها العالم بأسره، عرفت أنها هي!!
وكاد قلب حيرا يصبو إلى كليستو، مسحورا بروعة الغناء، مأخوذا بترجيع البلابل. . . حتى لكانت تخال الورد نفسه يغني معها!! وكادت بذلك تنسى غيظها، بل كادت تنخرط في هذا الحشد الموسيقي الذي يصفق لكليستو ويستجيب لألحانها! ولكن!
لقد ذكرت ابنيها مارس وفلكان، وذكرت يوم صرعهما هرقل في حفل الأولمبياد، حتى لكانا ضحكة كل راء! فنسيت الغناء وأصمت أذنيها، وغرفت من ماء قريب بيديها غرفة جعلت تتمتم عليها بتعاويذ سحرية، ورقى في غيبية، ثم صاحت بالفتاة فسمرت مكانها دهشة مأخوذة، فنثرت حيرا في وجهها الماء وهي تقول: (شاهت دبة! شاهت دبة!)
وا أسفاه!!
لقد أحست كليستو في ذراعيها الجميلتين بخدر شديد، ثم نظرت فرأت شعرا خشنا ينمو بسرعة فيغطي جسمها البض الجميل كله!
وأحست أظافر طويلة غليظة تنبت في أطارف أصابعها، ومخالب مرعبة تبرز من أصابع رجليها المعبودتين!
وشعرت بوجهها الوضاء المشرق يتغير ويتحول، ثم يتغير ويتحول حتى لقد ركب فيه أنف كبير أسود، وفم مغبر في منتهى القبح، يسيل على جنباته لعاب شائه كريه!(110/69)
وخيل لها أن ذنبا ينبت وراءها، فتحسسته فأيقنت أنه ذيل خبيث. . . ما في ذلك ريب!
وفزعت كليستو، فأردت أن تصيح تستنصر الغابة، ولكن. . . يا للهول! لقد راحت تصرخ كما تصرخ الحيوانات، وتعوي كما تعوي الذئاب!!
وانخلع قلب الفتاة فحاولت أن تغادر هذا المكان الساحر، ولكنها لم تستطع أن تنهض على قدمين، بل انطلقت تعدو على أربع كأنها بهيمة من بهائم الأرض!
وأصابتها حيرا بظمأ كاد يصهر حلقها فذهبت إلى غدير ترتوي، ولما انحنت ترشف الماء رأت صورتها المفزعة تتقلب في صفحته، وأنها لم تعد كليستو الحسناء بعد، بل إنها قد انسحرت فصارت دبة قبيحة قذرة ذات أنف طويل أسود، وعينين رجراجتين تقدحان بالشرر
وانطلقت في الغابة تعدو وتعدو، وتتوارى بين الأشجار حتى لا يراها أحد، وكانت الحيوانات - حتى ضواريها - تفزع منها كلما مرت بها، وهكذا شاءت المقادير الظالمة ألا يكون لها صديق حتى من سباع الغابة الموحشة، التي كانت قبل لحظات ترقص بين يديها. . . وتنشد وتغني!!
وضربت في القفار والفلوات، مؤثرة ألا تعود إلى ابنها الحبيب أركس فتفزعه؛ وكانت تختلف إلى الغابة، فإذا مر بها بعض أصدقائها القدماء عرفتهم ولكنها تتوارى عنهم، وفي نفسها هموم وحسرات
خمس عشرة سنة!!
قضتها كليستو التاعسة في هذا الشقاء الطويل، لا تمر بها هنيهة دون أن تفكر في ابنها وتبكي. . . وتفكر في مآلها. . . وتبكي، وتفكر في ذكريات شبابها. . . وتبكي، وتذكر الموسيقى والغناء. . . وتبكي!!
واشتعل قلبها شوقا إلى أركس، فجلست إلى أيكة حزينة تتناجى:
(ترى! ماذا تصنع الآن يا بني؟ أما تزال تنهل كأس هذه الحياة المرة؟ أم أنت قد طواك الردى ونسيك كبير الأولمب؟. هل أنت مريض يا أركس؟ هل في جنبك جرح يتفجر دما لبعد أمك عنك، كهذا الجرح الذي تنزف منه نفسي، وتنسكب حياتي؟ وهل إذا أصابك ضر، فأنت واجد قلبا يحنو عليك ويترفق بك. . . . ويرعاك؟ ومن هو صاحب هذا القلب(110/70)
الرقيق يا ترى؟
يا ولدي!!. . . يا حبة القلب يا أركس. . .!!)
وتبكي البائسة بكاء يذيب الصخر، ويحرق فحمة الليل، ويزلزل أركان الكهف المظلم الذي تعودت قضاء لياليها فيه. . .
أما أركس فقد كان هو الآخر يبكي أمه، حتى استطاع مؤدبه شيرون أن يفل بنصائحه غرب حزنه، ويطفئ بمواعظة نار أساه، فنسى، أو تسلى. . . أو تناسى. . .
واستد ساعده، وثقف الرماية حتى ما يطيش له سهم، ولا تخيب له رمية؛ وأحبه شيرون من سويدائه، ولازمه طويلا، حتى كانت حرب السنتور فودعه وعاش الفتى وحيدا. . . يحيا حياة هي بحياة أمه في شبابها الأول أشبه، فيختلف إلى الغابة يصيد منها الثعالب، وإلى البرية يرمي فيها الوعول، ويعود مع الغروب مثقلا بالصيد
وفيما هو يرتاد الغابة في ضحى يوم شديد القيظ، إذا أمه المسكينة تلمحه فجأة، وتعرف فيه ابنها، وأعز الناس عليها. . .! فتذهل عن نفسها وتقف مشدوهة باهتة لا تنبس ولا تحير!
فهل عرفت هذا التماثيل المرمرية التي تقف صامتة كالألغاز في المتاحف ودور الآثار؟ لقد كانت كليستو أشد منها تحجرا عندما شاهدت ابنها بعد هذه السنين الطوال!
ولقد خشيت أن تزعجه بوجودها، لأن الصيادين لا يرهبون من ضواري الغاب شيئا كما يرهبون الدباب، فحاولت أن تختبئ وراء شجرة أو نحوها، ولكن. . هيهات!! فلقد عجزت عن الحركة المجردة لما تولاها من الحيرة والارتباك!
والتفت أركس ففزع أيما فزع لوجود دبة متوحشة كبيرة الجرم على مقربة منه، وهو غير متهيئ للرماية، فارتبك حين تناول قوسه بيد مرتجفة، وأصابع مرتعشة. . . . ولكنه، ويا للعجب! أحس ببريق غريب ينبعث من عيني الدبة، وشعر بحنان وعطف يتحركان في صميمه من أجلها، وحاول أن يتعرف مصدر هذا الحنان فلم يستطع، وضاعف دهشته أن الدبة سمرت مكانها دون ما حراك، وأن دموعا حارة أخذت تنسكب بغزارة من عينيها اللتين ترنوان إليه، وما تريمان عنه!!
وكم كانت كليستو تتمنى لو تقدر الكلام فتقص حكايتها على ابنها، بيد أنها خافت أن تضاعف انزعاجه بصراخها الحيواني المخيف. . . فصمتت. . . وتكلمت عبراتها!!(110/71)
ثم. . . . . . . .
سدد أركس سهمه إلى رأس أمه، وكاد السهم المميت يمرق فيؤدي بحياة أعز الأمهات. . . . لولا أن زيوس. . . الإله الذي طال رقاده!. . . كان يسمع تلك الآونة ويرى، ولولا أن تحركت في قلبه الرحمة هذه المرة، فلم يبال التدخل في سحر زوجته - حيرا الخبيثة - فأطلق لسان كليستو، وصاحت فجأة: (أركس!. . . بني العزيز!. . . أنا هي. . . أنا هي أمك. . .)
وسقطت القوس من يد أركس. . . وكانت مفاجأة مشجية! وظل الفتى يرمق الدبة عن كثب وهو لا يصدق!! وقال لها:
- (ماذا تقولين؟ أدبة تتكلم؟ أم من؟. . . من أنا؟. . .)
- (أنا هي يا بني. . . أنا كليستو أمك البائسة. . . فعلت بي حيرا ما ترى. . . خمسة عشر عاما يا أركس وأنا أتعذب وأبكي من أجلك في هذه الغابة الموحشة. . .!)
ولم ينبس أركس ببنت شفة، بل تقدم مهدما من الهم، فعانق أمه. . . ووقفا لحظة يبكيان!!
ثم تدفق حنان السماء، وأمطرت رحمة الإلهة، وأمر زيوس فحملا إلى الأولمب - أركس وأمه - ومن ثمة أطلقها رب الأرباب في السماء الخالدة ليكونا برجين من أبراجها، ما نزال نراهما إلى اليوم، وما نزال نحتفظ لهما بعنوان المأساة المؤلمة، إذ نسمي الأم (الدب الأكبر)، ونسمي الابن، أركس الحبيب (الدب الأصغر. . .). . . وما تزال حيرا القاسية تنظر إليهما وتتميز من الغيظ
دريني خشبة(110/72)
البريد الأدبي
موسم الثقافة الإسلامية
فكرت رابطة الإصلاح الاجتماعي في اجتماعها الأخير - في القيام بدعاية واسعة النطاق لتنظيم (موسم للثقافة الإسلامية) يبتدئ من 20 أغسطس وينتهي في 20 من سبتمبر القادم وإعداد برنامج حافل يشتمل على ما يأتي:
1 - إصدار أعداد خاصة من الصحف الأسبوعية الإسلامية، تدعوا لفكرة الجامعة الإسلامية وتتحدث عن التاريخ الإسلامي وتشرح الثقافة الإسلامية الحق
2 - إصدار صفحات خاصة من الصحف اليومية تحتوي على آراء الزعماء والقادة في الدعوة للوحدة الإسلامية وحث الشباب الإسلامي على القيام بنشر الثقافة الإسلامية في مختلف الأقطار
3 - إعداد محاضرات يومية تلقى في المساجد والجمعيات والأندية والروابط وفي المذياع
4 - إقامة حفلات تعارف وإخاء بين شبيبة العالم الإسلامي
اللغات الأجنبية في الأزهر
بحثت لجنة تعديل قانون الأزهر في تعليم اللغات الأجنبية فيه فرأت بالإجماع وجوب تعليمها في كلية أصول الدين لمختلف السنين الدراسية، ولطلبة التخصص جميعا، واختلف في تقريرها على طلاب كليتي اللغة العربية والشريعة، ويقال إن ذلك الخلاف قد انتهى بتقريرها عليهم كذلك بحجة أن العالم الذي يتخرج في الأزهر وفقا لنظامه الحديث يجب أن يعد إعدادا اجتماعيا يؤهله لطلب الرزق في كل ميدان من ميادين العمل، ولا يكون هذا الإعداد صحيحا إلا إذا ألم بلغة أو لغتين من اللغات الأجنبية، أما اللغات التي ستقرر دراستها في كليات الأزهر الثلاث فهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية واليابانية والصينية واللاتينية
نسبة بيتين
اطلعنا في العدد 105 من الرسالة: على مقال: (ساعات مع الكاظمي) للأستاذ كمال إبراهيم نسب فيه هذين البيتين: إلى ابن هانئ الأندلسي:(110/73)
ما ضرني أن لم أجئ متقدماً ... السبق يعرف آخر المضمار
وإذا اغتدى ربع البلاغة بلقعا ... فلرب كنر في اسار جدار
وهذا سبق قلم من الكاتب؛ والبيتان هما خاتمة قصيدة لشاعر المغرب والأندلس في وقته غير مدافع أبي عبد الله لسان الدين ابن الخطيب: دفين فاس؛ وقد أثبتهما معزوزين إليه معاصره وصديقه أبو القاسم محمد الشريف الغرناطي في شرحه لمقصورة (حازم)؛ وكذلك أثبتهما له من المتأخرين أبو العباس المقري في النفح؛ وابن الخطيب هذا أحد مفاخر المغرب وشعرائه المكثرين، وله من الشعر ما يملأ الدنيا على سعتها، توقن بهذا إذا ما علمت أنه جمع مطولاته خاصة في ديوان أسماه (الصيب والجهام، والماضي والكهام) في سفرين، وجمع مقطوعاته خاصة في ديوان سماه (فتات الخوان، ولقط الصوان)، واختار من مطالع ماله من الشعر سفرا دعاه (أبيات الأبيات)، وجمع موشحاته وغيرها من الموشحات التي عرضها في سفر أسماه (جيش التوشيح)
وقد نقبت فيما أعلمه من المكاتب العامة والخاصة علني أعثر على كنز من هاته الكنوز الثمينة فلم أفلح!
ثم دعاني هذا إلى أن أزمعت منذ حين على جمع ما يمكنني الوصول إليه من شعر هذا الشاعر، فاجتمع لدي من ذلك - بعد إفراغ الجهد وطول المراجعة - نحو الثلاثة آلاف بيت، جمعتها مما أمكنني الإطلاع عليه من كتب لسان الدين وغيره من الذين عاصروه أو شغفوا به فعنوا بجمع أخباره، والتقاط كتاباته وأشعاره، ما بين مخطوط منها ومطبوع؛ وسأتربص طويلا علني أصل إلى ما لم يمكني الوصول إليه من شعر هذا الشاعر فأضيفه إلى ما جمعته، وأطبع الجميع مع مقدمة أقصر فيها القول على تحليل شاعرية لسان الدين، وبهذا نصل إلى معرفة شاعر كبير قد جهلناه زمنا طويلا. . . .
فاس (المغرب الأقصى)
أحمد بن المليح
أرنولد تسفايج
يقيم منذ عامين في فلسطين كاتب من أعظم كتاب ألمانيا المعاصرين هو القصصي الأشهر(110/74)
أرنولد تسفايج وقد لجأ إلى فلسطين فرارا من عسف الطغيان الهتلري، لأنه يهودي تنكره ألمانيا الهتلرية؛ ونزل في ضيعة في جبل الكرمل على مقربة من حيفا، وكان مولد هذا الكتاب العظيم في كلوجاد سنة 1887؛ ودرس القانون وأمتهن المحاماة، ولكن جرفه تيار الأدب. وقد لفتت إليه الأنظار أولى قصصه: (مذكرات أسرة كلوبفر)، وهي تاريخ أسرة يهودية هاجرت من بولونيا إلى ألمانيا ويظن أنها أسرته الخاصة، ثم اتبعها برواية (أخبار كلوديا ثم هجر تسفايج القصة مدى حين وانقطع للتأليف المسرحي فنالت قطعه المسرحية نجاحا عظيما في ألمانيا والنمسا وفي كثير من الأمم الأخرى التي ترجمت قطعه إلى لغاتها. بيد أنه ترك التأليف للمسرح وعاد إلى القصة منذ عشرة أعوام فنجح فيها نجاحا عظيما، وأعظم قصصه هي بلا ريب (الجاويش جريشا) التي يصف فيها مناظر الحرب الكبرى في الميادين الشرقية وصفا قويا رائعا ويصور فيه قائدا ألمانيا يظن أنه لوندورف في صور لاذعة، ثم اتبعها برواية (عذراء سنة 1914) 1914، والتربية في فردون
وقد عاد أرنولد تسفايج أخيرا إلى معالجة التأليف المسرحي، وأخرج قطعة مسرحية جديدة أوحت بها إليه إقامته في مروج فلسطين عنوانها (بونابارت في يافا) ويقول الكاتب الشهير تعليقا على عوده التأليف المسرحي أنه شعر أثناء اشتغاله بكتابة القصة بأن شهوة المسرح تضطرم فيه مرة أخرى، وأنه في فترة فراغ وعزلة وضع قطعته الأخيرة في خمس فصول، ثم يلخص موضوعها وظروف كتابتها فيما يلي:
(وقفت بطريق المصادفة على رواية تتعلق بحملة بونابارت على مصر ومشروعه في غزو فلسطين وسورية، والذي سحرني بنوع خاص هو المشروع الهائل بل الجنوني الذي تصوره نابليون، وهو أن يشق لنفسه طريقا من عكا وحلب واستانبول ثم البلقان إلى فينا ومن ثم فرنسا، وذلك بعد أن حطم الإنكليزي سفنه في أبي قير، ولقد قرأت قصة الغزوة الفلسطينية باهتمام كبير خصوصا وأن مسرح الحوادث كله يبدو أمام عيني، من شرفة منزلي. فأمامي خليج حيفا، ثم عكا على قيد أميال قليلة، ثم جبل تابور الذي اضطرمت فيه المعارك، حتى خيل إلي وأنا أكتب أنني أرقب حركات الجنود بكل تفاصيلها. وأما عن باعث القصة، فأنا نعرف أن نابليون قد أسر في يافا ثلاثة آلاف من الأتراك؛ ولما لم(110/75)
يستطع إطعامهم أمر بقتلهم، ولكن الواقع أن الفرنسيين غنموا من الجيش التركي الذي قدم من دمشق وهزم في جبل تابور نحو ستة آلف قدر من المؤن، وهذه تكفي لإطعام ثلاثة آلف أسير مدى عشرين يوما. فإذا كان نابليون قد تصرف طبقا للضرورات العسكرية فان عمله مع ذلك يبقى بعيدا عن كل عاطفة إنسانية
(ولم اتبع في القطعة المسرحية التي وضعتها الأسلوب التاريخي؛ ولكني راعيت فيها الأسلوب الواقعي وعالجت مسألة العمل الوحشي (غير الإنساني) وإذا لم يكن من شأنه أن يقع على عاتق ذلك الذي يرتكبه رغما عن كل البواعث الواقعية. وفي الفصل الأخير الذي تقع حوادثه في يافا كباقي فصول القطعة، ولكن بعد هزيمة عكا، أتناول باعث مقتل الثلاثة آلاف تركي في أسلوب ساخر أرمي به إلى تصوير شخصيات الرواية. وقد حاولت أيضا أن أكشف عن أنانية نابليون، وكيف أن هذه الأنانية كانت متأصلة في أعماق روحه؛ وإذا كنت قد وفقت في صوغ الخاتمة، فان النظارة لابد أن يذكروا واترلو، وفشل نابليون، وخاتمته المحزنة)
مكتبة لموسى بن ميمون
يذكر القراء أنه قد احتفل أخيرا في مصر وفي كثير من الجامعات والهيئات العلمية الأوربية بذكرى الطبيب الأندلسي اليهودي الأشهر موسى بن ميمون وذلك لمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاته. وقد عاش ابن ميمون في قرطبة وفي مصر، وكان طبيبا خاصا للسلطان صلاح الدين؛ وكتب مؤلفاته بالعبرية والعربية معا، وفي أنباء فلسطين الأخيرة أن بلدية مدينة تل أبيب اليهودية قد قررت أن تنشئ مكتبة خاصة بموسى بن ميمون تودع فيها ما انتهى إلينا من مؤلفاته سواء بالعربية أو بالعبرية أو تراجمها اللاتينية، وكذلك جميع المؤلفات التي كتبت عنه في جميع اللغات وفي مختلف العصور(110/76)
الكتب
1 - تاريخ القرآن للأستاذ أبي عبد الله الزنجاني
2 - الخلق الكامل للأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك
للأستاذ محمد بك كرد علي
- 1 -
تاريخ القرآن هو كما قال المؤلف وجيز في سيرة النبي الأكرم والقرآن الكريم والأدوار التي مرت به من كتابته وجمعه وترتيبه وترجمته إلى سائر اللغات، طبعته مؤخرا مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. وقد استند المؤلف، وهو من المستنيرين من علماء إيران ومن أسرة نبيلة بشرفها وعلمها في مدينة زنجان، في تأليفه على مصادر لكبار علماء السنة والشيعة وجود الكلام على ما تقتضيه بيئته، وربما تجاوزها إلى أبعد غاية كان في مقدوره تجاوزها. وحبذا لو كان قد توسع في القراءات واستخدم لذلك مثلا كتاب النشر في القراءات العشر لأبن الجزري المتوفى سنة 833هـ والمطبوع في مدينة دمشق. وليته قال لنا شيئا في القراءات وما هي عليه اليوم في بلاد فارس والهند والصين وتركستان وجاوه والحجاز ومصر والعراق والشام وشمالي أفريقية، وتوسع في كلامه على ما قاله العلامة نولدكه في هذا المعنى ورد عليه؛ ومثله من يحسن عليه الرد؛ وبسط القول في الترجمات الإفرنجية وأيها أجدر بالعناية والقبول، إلى غير ذلك مما نرجو أن يتعرض له العلامة المؤلف في طبعة ثانية مزيدة
وقد صدر الكتاب الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وضحى الإسلام بمقدمة موجزة قال فيها: ولئن ساغ في العقل أن يقتتل المسلمون أيام كان هناك نزاع على الخلافة، ومن أحق بها، ومن يتولاها؛ فليس يسوغ بحال أن يقتتلوا على خلاف أصبح في ذمة التاريخ، وأنه لولا ألاعيب السياسة، واستغفال الماكرين لعقول العامة، واحتفظ أرباب المطامع والشهوات بجاههم وسلطانهم، لا نمحى الخلاف بين الشيعي والسني، ولأصبحوا بنعمة الله أخوانا، ولنظر بعضهم إلى بعض كما ينظر حنفي إلى مالكي ومالكي إلى شافعي؛ ورجا أن يفكر عقلاء الفريقين في أحياء عوامل الألفة، وأن يترك للعلماء البحث حرا في التاريخ،(110/77)
ويتلقوا النتائج بصدر رحب، كما يتلقون النتائج في أي بحث علمي وتاريخي
ورأى صديقي أحمد أمين هو رأي فريق كبير من علماء المسلمين اليوم، وفي مقدمتهم الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، فقد قال في خطابه البديع الذي أجاب به من كرموه في الحفلة الأخيرة في القاهرة: إن من منهاجه العمل على إزالة الفروق المذهبية وتضييق شقة الخلاف بينها، فان الأمة في محنة من هذا التفرق، ومن العصبية لهذه الفرق، ومعلوم لدى العلماء أن الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي، يهدي إلى الحق في أكثر الأوقات، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في القرون الماضية لمناصرتها، ونشطت أهلها وخلفت فيهم تعصبا يساير التعصب السياسي، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسية وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا على ما يصوغه الخيال وما أفتراه أهلها. وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها القرآن الكريم وجعلتها شيعا في الأصول والفروع، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء يلبسان ثوب الدين، ونتج سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد الشافعي كفء لبنت الحنفي، ومثل ما يرى في المساجد من تعدد صلاة الجماعة، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة، وعذبات العمائم وطول اللحى، حتى أن بعض الطوائف لا تستحي اليوم من ترك مساجد جمهرة المسلمين وتسعى لإنشاء مساجد خاصة)
هذه أمنية عقلاء المسلمين، ويا حبذا لو عني بعض علماء الأزهر فكتبوا كتابا بل كتبا في منشأ هذا الخلاف بين السنة والشيعة، والطرق العملية لأزالته على ما يحب كل مسلم دراكة، ولا سبيل إلى ضم الشمل المبتوت، والخلاص من هذا الاختلاف الممقوت، بغير الرجوع إلى الكتاب وما صح من السنة، والقاء الخلافات جانبا بين أرباب المذاهب الإسلامية
- 2 -
طالعت بالأمس لمؤلف كتاب (الخلق الكامل) كتابا جميلا أسماه (محمد (ص) المثل الكامل) فأكبرت بحثه وغبطته على استخراج العبر من هذه السيرة الشريفة التي تدعو المؤمنين وغيرهم إلى التأسي بها. واليوم طالعت كتابه (الخلق الكامل) وهو في مجلدين ضخمين يتبعهما مجلد ثالث، فرأيت مؤلفا يجمع بين الثقافتين الإسلامية والغربية، ويكتب كتابه من(110/78)
تمثل فنه، وأخذ به، ودعا إليه مخلصا مؤمنا. ولقد فزع في وضع كتابه إلى أصح المصادر الإسلامية: فزع إلى الكتاب والسنة وإلى آراء علماء الأخلاق من سلف هذه الأمة وبعض رجالها المعاصرين، وفزع إلى آراء علماء التربية وفلاسفة الغرب، واعتبر الإسلام جامعا لكل الفضائل النفسية والمدنية، لو تذوقه أهله حق تذوقه، وعملوا بكل ما أمر به لكانوا خير أمة أخرجت للناس في هذا العصر
عالج المؤلف كل ما يخطر بالبال من النقائص، وما يقابلها من الحسنات والمكارم، وهو يرى مثلا من نقائصنا الخلقية أن يضحك الوالد عند سماع السب والفحش من طفله، واحتقار بعضهم الأعمال الحرة كالزراعة والصناعة والتجارة، ولطم الخدود والعويل على الشبان الذين يجندون لخدمة بلادهم والدفاع عنها، واحتقار كثير من عاداتنا القديمة وإن كانت حسنة، والتعلق بالعادات الغربية وإن كانت سيئة، والانغماس في الترف ومحاكاة الفقير الغني، وتطلع الشبان إلى الزوجات الغنيات وإن كن وضيعات الأخلاق، وتطلع الشابات إلى الأزواج الأغنياء وأن كانوا فاسدي الأخلاق، وشهادة الزور وحلف اليمين الغموس وإعانة الظالم على ظلمه، والإقبال على الروايات الهزلية الممقوتة والزهد في الكتب الجيدة المفيدة، والامتعاض من سماع الحق ومقت قائله، وازدراء المعتصم بدينه المحافظ على شعائره، وتقريب المستخفين والمستهزئين، وتكريم الزنادقة والملحدين إلى آخر ما عدد
ويتألف من كل باب من الأبواب التي عالجها رسالة جديرة بأن تقرأ ويستفاد منها. ومما قال إن فلاسفة الغرب وإن كان يرجع إليهم فضل السبق في بحث أمهات الفضائل فهم لم يبينوا مناطها، ولم يضعوا لها حدا فاصلا بين ما يحقق الفضيلة ومالا يحققها، فانهم لم يذكروا متعلق العفة ولا أي شيء تكون ولا مقدارها الذي إذا تجاوزه المرء وقع في الفجور، وكذلك الحلم لم يذكروا مواقعه ومقداره، وأين يحسن وأين يقبح وكذلك الشجاعة. وأفاض في الفلسفة الخلقية وينابيع الخلق والعواطف والانفعالات النفسية وينابيع الأخلاق والعادة والبيئة ووسائل تقويم الخلق والموازين الخلقية ووجوه الخير ومظاهر التربية الخلقية في الأمم الغربية والشرقية ومظاهر الأخلاق الإسلامية ومظاهر الأخلاق الفردية ومظاهر الخلال الاجتماعي إلى غير ذلك من الأبحاث التي خاض عبابها وجزأها أجزاء،(110/79)
ومزج فيها الكلام في القديم والحديث على النحو الذي تقبله النفوس، ولا يكون مثالا غير حي لا ينتفع به قارئه لبعده عن مستوى عقله وخلقه وعاده وحاجته
وعلى الجملة فان كتاب الخلق الكامل استجمع صفات التأليف النافع، وظهرت شخصية مؤلفة في صفحاته، وتحمسه لما يريد أن يدعو إليه ليستقيم حال هذا المجتمع الذي كثرت شروره ومفاسده على صورة لم تكن للمسلمين في الدهر السالف؛ دهمتهم سيئات الحضارة الجديدة فسهل عليهم قبولها أكثر من حسناتها التي صعب عليهم الأخذ بها كلها، ومن الغريب أننا بقدر ما يعلو مستوانا في العلم نزداد ضعة في الأخلاق إلا قليلا، وبعدا عن الجميل من حسنات الأجداد ولآباء، حتى لقد تجد في المتعلمين أخلاقا شاذة واستهتار رديئا قد لا تقع على مثله في العامة والأميين، وهذا من جملة سيئات المدنية المادية التي تجردت من عاطفة الدين وعاطفة الخلق، وقاست كل أمر على المادة والنفع العاجل
محمد كرد علي
تاريخ العرب
في الجاهلية وصدر الإسلام
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
المدرس بكلية اللغة العربية
اشتمل هذا الكتاب على تاريخ دول العرب الجاهلية، وعلى السيرة النبوية، وعلى تاريخ دولة الخلفاء الراشدين. وفي تاريخ العرب في تلك العهود الثلاثة مسائل كثيرة تحتاج إلى التمحيص، وشهادات للشعوبية في القديم والحديث، فعني هذا الكتاب بتمحيصها، وكشف أمر تلك الشبهات فيها، وسلك في دراسة السيرة النبوية منهجا جديدا كشف فيه غامضها، ورد بأقوى الأدلة كل ما يحاول به تشويه شيء منها، ومن ذلك غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، فقد أراد صاحب كتاب (تاريخ اليهود في بلاد العرب) أن يرجع أسبابها إلى طمع المسلمين في أموال أولئك اليهود، وذكر أنه من أجل ذلك تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لدينهم، وكلفهم أن يعترفوا برسالته وهم لا يمكنهم أن يعترفوا(110/80)
برسول من غير بني إسرائيل، ولو أنه اقتصر على محاربة الوثنية العربية وحدها لما وقع نزاع بينه وبين اليهود الذين يشاركونه في أمر تلك الوثنية
فأثبت له صاحب كتاب (تاريخ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام) أن اليهود هم الذين بدءوا المسلمين في ذلك النزاع بعد أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الفريقين في حلف واحد، وجعل منهم أمة واحدة تجمع بينها رابطة الوطن، وإن اختلف دينها إلى الإسلام واليهودية. أما ذلك المال فكان الإسلام يحرم أن ينظر إليه المسلمون في قتالهم، وكان الله جل شأنه يؤدبهم بالقول والفعل إذا خالف بعضهم ذلك كما حصل منهم في غزوة بدر وغزوة أحد، وإنما كان سبب قتال اليهود نقضهم ذلك الحلف، وكراهتهم أن ينهض العرب بذلك الدين الجديد وهم أصحاب البلاد، واليهود قوم طارئون عليهم، فكان شأنهم في ذلك شأن الأجانب الآن في بلادنا، وإذا كان من حق الأجنبي على صاحب الوطن أن يكرم جواره، فمن حق صاحب الوطن على الأجنبي أن يراعي ذلك منه فلا يكره الخير له، ولا يقف حجر عثرة في سبيل نهوضه، فإذا لم يراع ذلك له كان من حقه أن يخرجه من وطنه، وألا يكرم جواره كما لم يكرم جواره
ومن ذلك أيضا تلك الفتن التي حدثت بين الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين، فقد أدى للتاريخ حقه فيها، كما أدى لأولئك الأصحاب حقهم في صحبتهم لصاحب الرسالة، وفي عظيم جهادهم في نشر تلك الديانة. وهكذا سار المؤلف في كتابه يعينه تحقيق مسائل التاريخ أكثر من عنايته بسرد أخبارها، ويشفي في ذلك غليل من يريد الوصول إلى الحق فيها.
(ص)(110/81)
العدد 111 - بتاريخ: 19 - 08 - 1935(/)
سعد باشا زغلول
بمناسبة ذكراه الثامنة
كان رحمه الله كالبحر! لا تطالعه من أي جهاته إلا غمر نفسك بجلال العظيم، وشغل رأسك بخيال الشاعر، وأخذ حسك بروعة المجهول! لم يكن إنساناً كسائر الناس عظمته موضع الشذوذ في بشريته، وعبقريته بعض الكمال في نقصه، وقوته عَرَض منتقل في ضعفه؛ إنما كانت العظمة أصلاً في طبعه، والعبقرية فطرة في خَلْقِه، والقوة جوهراً في إرادته. وإذا كان النبوغ قوة في مَلَكَةٍ على حساب ملَكات، وارتفاعاً في جهة بانخفاض جهات، فأن نبوغ سعد باشا كان نظاماً عدلا في نوعه: ظهر في كل موهبة من مواهبه بمقدار واحد، وبهر في كل أثر من آثاره بشعاع ممتاز. فهو في صرامة المنطق مثله في لطافة الشعر، وفي جرأة القلب مثله في رقة الشعور، وفي بلاغة اللسان مثله في براعة الذهن، وفي كيد الخصومة نفسه في شرف الرجولة، وفي قيادة الجمعية التشريعية عينه في قيادة الأمة المصرية!
سعد زغلول ومحمد عبده هما الآية الشاهدة على سمو الجنسية المصرية الخالصة، والحجة القائمة على فضل الثقافة العربية الصحيحة. نشأ كلاهما قرويين لم يَشُبْ دماءهما عنصر دخيل، أزهريين لم يشلَّ تفكيرهما تقليد عاجز؛ ثم مضيا على إلهام الجنس، ورسم التاريخ، وهدى العقيدة، يدعو أحدهما إلى إصلاح الدين، ويدعو الآخر إلى إصلاح الدنيا، برجولة الخلق، وفحولة التفكير، وبطولة التضحية؛ حتى كان من أثر جهادهما المباشر ما نحن والشرق فيه من انتباه العقل وانتعاش الوجدان وثورة الحميّة.
كانت معجزة الرجلين في رسالتهما الإنسانية، من نوع معجزة الرسول في رسالته الإلهية: رجولة قاهرة وفصاحة ساحرة وخلق عظيم. وتلك هي عناصر الشخصية الجبارة التي تأمرك وكأنها تستشيرك، وتقودك وكأنها تتابعك، وتتطامن إليك وأنت منها كما تكون من البحر أو الجبل أو العاصفة!!
إذا شئت أن تختصر رسالة في كلمة فهي (الدفاع عن الحق)؛ تطاوع له منذ شب بدافع من غريزته الحاكمة وطبيعته الناقدة؛ فكان في كل مرحلة من مراحل حياته يذود عنه طغيان القوة، وسلطان الهوى، وعدوان الرذيلة. عُيِّن بعد خروجه من الأزهر محرراً في الوقائع المصرية مع أستاذه الإمام، فكان يكتب في الاستبداد والشورى والأخلاق، وينتقد الأحكام(111/1)
التي كانت تصدرها يومئذ (المجالس الملغاة)؛ ثم عين ناظراً لقلم قضايا الجيزة، وكان حكمه حكم القاضي الجزئي، فنزل الحق من عدله وعقله في حمى أمين؛ ثم أصغى لصرخة الحق في الغضبة العرابية ففصل من وظيفته، فزاول المحاماة، وهي يومئذ حيلة الباطل وخصيمة العدل وآفة الخلق؛ فأنقذها من هذه المراغة، وطهرها من ذلك الرجس، وردّها إلى طبيعتها مجلوة الصدر عفيفة الأديم، تساعد القانون وتؤيد الحق.
وكان سعد أفندي زغلول أول محام أقرته المحاكم الأهلية في مصر، فجعل دستور هذه الحرفة النبيلة هذا الجواب الجامع الذي أجاب به ممتحنه وقد سأله عن واجبات المحامي فقال:
(درس القضية، والدفاع عن الحق، واحترام القضاء).
ثم اختير نائب قاض في محكمة الاستئناف، ويومئذ درس الفرنسية ونال إجازة الحقوق، فبرع القضاة الأوربيين بالذهن الغواص، والدرس المحيط، والتوجيه النزيه، والاستدلال الصحيح، والاستنباط الدقيق، والحكم الموفق. ثم انتقل من القضاء إلى وزارة المعارف، وكان لدنلوب فيها استبداد الطاغية، وفساد المستعمر، وعناد القدَر؛ وكان لهذا الفاجر صرعى كثيرون أولهم اللغة العربية والكرامة المصرية؛ فطأطأ سعد بسطوة الحق علو المستشار، وأعز جانب العربية في وطنها فجعلها لغة الثقافة، ووضع الأقدار في مواضعها فرفع بذلك من قدْر الكفاية. ثم انتخبته الأمة نائباً في (الجمعية التشريعية)، فكان بشخصيته الغلابة ولهجته الخلابة وحججه المُلزمة وأجوبته المفحمة رهبة الوزراء، ودهشة النواب، ومُتجه الأفئدة؛ وكان مناهجه فيها قوله المأثور:
(الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة)
ثم أُعلنت الهدنة ووضعت الحرب العامة قضية العالم كله على مكاتب الغالبين في (فرساي)، فدوى في سمعه صوت الحق الصريع، وعصفت في رأسه نخوة الشعب المستذَل، فنهض للغاصب المزهوّ نهضته المعروفة، فحيّس بها أنف الجبار العنيد، وفتح بفصلها الدامي تاريخ مصر الجديد.
وهكذا اصطفى الله سعداً لرسالة الحق، في أمة سَفِهَتْه في نفسها فلا تأخذه ولا تعطيه، ثم ركَّبه على الصورة التي أرادها لتبليغ هذه الرسالة، ثم هدى به قافلة قومه إلى طريق(111/2)
السلامة، وجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات(111/3)
أيها البحر!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
إذا احْتَدَم الصيفُ، جعلتَ أنت أيُّها البحر للزمن فصلاً جديداً يسمى (الربيع المائي)
وتنتقل إلى أيامك أرواح الحذائق، فتنبت في الزمن بعض الساعات الشهية، كأنها الثمر الحلو الناضج على شجرة
ويوحي لونك الأزرق إلى النفوس ما كان يوحيه لون الربيع الأخضر، إلا أنه أرق وألطف
ويرى الشعراء في ساحلك مثلما يرون في أرض الربيع، أُنوثة ظاهرة، غير أنها تلد المعاني لا النبات
ويحس العشاق عندك ما يحسونه في الربيع: أن الهواء يتأوَّه. . . .
في الربيع، يتحرك في الدم البشريِّ سرُّ هذه الأرض؛ وعند (الربيع المائي) يتحرك في الدم سرُّ هذه السحُب
نوعان من الخمر في هواء الربيع وهواء البحر، يكون منهما سكرٌ واحدٌ من الطرَب
وبالربيعَيْن الأخضر والأزرق ينفتح بابان للعالم السحريِّ العجيب: عالم الجمال الأرضي الذي تدخله الروح الإنسانية كما يدخل القلب المحبُّ في شعاع ابتسامة ومعناها
في (الربيع المائي)، يجلس المرء وكأنه جالسٌ في سحابة لا في الأرض
ويشعر كأنه لابسٌ ثياباً من الظل لا من القماش؛ ويجد الهواء قد تنزه عن أن يكون هواءَ التراب
وتخفُّ على نفسه الأشياء، كأن بعض المعاني الأرضية انتزعت من المادة. وهنا يدركُ الحقيقة، أن الشرور إن هو إلا تنبُّهُ معاني الطبيعة في القلب
وللشمس هنا معنى جديد ليس لها هناك في الدنيا (دنيا الرزق)
تُشرقُ الشمس هنا على الجسم؛ أما هناك فكأنما تطلُعُ وتغرب على الأعمال التي يعملُ الجسمُ فيها
تطلع هناك على ديوان الموظف لا الموظف، وعلى حانوت التاجر لا التاجر، وعلى مصنع العامل، ومدرسة التلميذ، ودار المرأة
تطلع الشمس هناك بالنور، ولكن الناسَ - وا أسفاه - يكونون في ساعاتهم المظلمة. . .(111/4)
الشمسُ هنا جديدة، تُثبت أن الجديد في الطبيعة هو الجديد في كيفية شعور النفس به
والقمر زاهٍ رفَّافٌ من الحسن؛ كأنه اغتسل وخرج من البحر
أو كأنه ليس قمراً، بل هو فجرٌ طلع في أوائل الليل؛ فحصرته السماءُ في مكانه ليستمرَّ الليل
فجرُ لا يوقظ العيونَ من أحلامها، ولكنه يوقظُ الأرواح لأحلامها
ويُلقي من سحره على النجوم فلا تظهر حوله إلا مُسْتبْهمة كأنها أحلامٌ معلّقة
للقمر هنا طريقةٌ في إبهاج النفس الشاعرة، كطريقة الوجه المعشوق حين تقبّله أول مرة
و (للربيع المائي) طيوره المغردة وفراشه المتنقِّل
أما الطيور فنساءٌ يتضاحكنَ، وأما الفراشُ فأطفالٌ يتواثبون
نساءٌ إذا انغمسن في البحر، خيِّلَ إليَّ أن الأمواج تتشاحنُ وتتخاصم على بعضهن. . . .
رأيت منهن زهراء فاتنة قد جلست على الرمل جلسة حواءَ قبل اختراع الثياب، فقال البحر: يا إلهي. قد انتقل معنى الغرق إلى الشاطئ. . . إن الغريق من غرق في موجة الرمل هذه
والأطفال يلعبون ويصرخون ويضجُّون كأنما اتسعت لهم الحياة والدنيا
وخيِّل إلي أنهم أقلقوا البحر كما يُقلقون الدار، فصاح بهم: ويحكم يا أسماكَ التراب. . .! ورأيتُ طفلاً منهم قد جاء فوَكَزَ البحر برجله! فضحك البحر وقال: انظروا يا بني آدم!!
أعَلى الله أن يَعْبأ بالمغرور منكم إذا كفرَ به؟ أعلىَّ أن أعبأ بهذا الطفل كيلا يقول إنه ركلني برجله. . .؟
أيها البحر. قد ملأتك قوة الله لتُثبت فراغ الأرض لأهل الأرض
ليس فيك ممالك ولا حدود، وليس عليك سلطانٌ لهذا الإنسان المغرور
وتجيش بالناس وبالسفُن العظيمة، كأنك تحمل من هؤلاء وهؤلاء قشاً ترمي به
والاختراع الإنسانيُّ مهما عَظُم لا يغني الإنسان فيك عن إيمانه
وأنت تملأ ثلاثة أرباع الأرض بالعظَمَة والهول، رداً على عَظمة الإنسان وهوله في الربع الباقي؛ ما أعظمَ الإنسان وأصغره!
ينزلُ الناسُ في مائك فيتساوَوْن حتى لا يختلف ظاهرٌ عن ظاهر(111/5)
ويركبون ظهرك في السفن فيحنُّ بعضهم إلى بعض حتى لا يختلف باطنٌ عن باطن
تُشعرهم جميعاً أنهم خرجوا من الكرة الأرضية ومن أحكامها الباطلة
وتُفرقهم إلى الحب والصداقة فقراً يُريهم النجوم نفسها كأنها أصدقاء، إذ عرفوها في الأرض
يا سحر الخوف. أنت أنت في البحر كما أنت أنت في جهنم
وإذا ركبك الملْحِدُ أيها البحر، فرجفت من تحته، وهدَرْتَ عليه وثُرت به، وأريته رأى العين كأنه بين سماءين ستنطبقُ إحداهما على الأخرى فتقفلان عليه، تركته يَتَطَأطأ ويتواضع، كأنك تهزُّه وتهزُّ أفكاره معاً وتُدَحْرِجَهُ وتدحرجُها
وأطَرْتَ كل ما في عقله فيلجأ إلى الله بعقل طفل
وكشفتَ له عن الحقيقة أن نسيان الله ليس عمَل العقل، ولكنه عملُ الغفلة والأمن وطولِ السلامة
ألا ما أشبه الإنسان في الحياة بالسفينة في أمواج هذا البحر!
إن ارتفعت السفينةُ، أو انخفضت، أو مادت، فليس ذلك منها وحدها، بل مما حولها
ولن تستطيع هذه السفينةُ أن تملك من قانون ما حولها شيئاً، ولكن قانونها هي الثبات، والتوازن، والاهتداء إلى قصدها. ونجاتُها في قانونها
فلا يعتبنّ الإنسان على الدنيا وأحكامها، ولكن فليجتهد أن يحكم نفسه
كتبت في شاطئ سيدي بشر (إسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي(111/6)
مصر وقت الفتح الفاطمي
والعوامل التي مهدت لهذا الفتح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مصر وقت الفتح الفاطمي، فريسة هينة للفاتح؛ بيد أنها لم تكن كذلك قبل الفتح الفاطمي بنصف قرن فقط. وقد ثابت للفاطميين مذ شادوا ملكهم في إفريقية، نية في غزوها وامتلاكها، فغزوها أكثر من مرة، واستولوا على بعض نواحيها، ولكنهم ارتدوا عندئذ أمام جند الخلافة وجند مصر؛ ذلك أن مصر لم تكن فريسة هينة، وكان يشرف على مصايرها باسم الخلافة جماعة من الجند والزعماء الأقوياء ينظمون مواردها وقواها الدفاعية حين الخطر الداهم؛ وكان الفاطميون من جهة أخرى يغالبون في المغرب خطر الانتقاض المستمر، ويقوم ملكهم الفتي على بركان يضطرم بعناصر الخروج والثورة، حتى لقد كادت دولتهم الناشئة تنهار في المهد تحت ضربات القبائل البربرية الخصيمة وذلك في عهد ثاني خلفائهم القائم بأمر لله. على أن الخلافة العباسية التي استطاعت في فوره من القوة في عهد المكتفي بالله أن تسحق الدولة الطولونية وأن تسترد مصر منها، لم تستطع أن توطد سلطانها الفعلي في مصر، وإن كانت قد استعادت سلطانها السياسي والديني فيها، وكان الزعماء الأقوياء الذين يحكمونها باسم الخلافة مثل تكين الخزري، وذكا الرومي، وابن كيغلغ، وابن طغج، يتمتعون بكثير من الاستقلال، وربما نزع بعضهم إلى انتزاعها من يد الخلافة كما فعل أحمد بن طولون من قبل، وكما فعل محمد بن طغج (الأخشيد) فيما بعد، وكانت هذه النزعة الاستقلالية، ذاتها عاملاً في ضعف سلطان الخلافة في مصر، وفي المباعدة بينها وبين مصر، وقلة اهتمامها بشؤون هذا القطر النائي ومصايره؛ ولكنها كانت من جهة أخرى عاملاً في حرص أولئك الحكام والزعماء الطامحين على الدفاع عن مصر وحمايتها من غارات المعتدين عليها والمتطلعين إلى امتلاكها. وكان جل اهتمامهم في ذلك على جند مصر ذاته، ولكن الشعب المصري لم يكن يعطف دائماً على أولئك الحكام الأجانب خصوصاً ومعظمهم من الفرس أو الترك المستعمرين، فكان الزعماء المحليون ينزعون دائماً إلى منافستهم ومناوأتهم، وكان الجند كثير التمرد والثورة، يتبرم بأطماع أولئك الزعماء وجشعهم في استخلاص أرزاقه؛ فكان تعاقب الولاة ومنافساتهم في تلك(111/7)
الفترة، وثورات الجند المتكررة، واضطراب الشؤون العامة، وفقدان الأمن، وغلبة الفوضى؛ هذه كلها تزيد مصر ضعفاً على ضعفها، وتدفعها إلى التطلع إلى مصير أفضل من هذا المصير
وبينما كانت الدولة العباسية تجوز مرحلة اضطراب وضعف، كانت دولة خصيمة فتية هي الدولة الفاطمية تسير مسرعة إلى النماء والتوطد؛ وكانت القبائل البربرية التي شدت أزر الفاطميين، وأقامت ملكهم فوق ملك الأغالبة، تحتفظ في هذا القفر بخشونتها وبأسها بعيدة عن تلك العوامل الرخوة التي تحمل عناصر الهرم والفناء إلى دول ومجتمعات يغمرها تيار الحضر والنعماء والترف؛ ولم تكن المعركة الهائلة التي اضطرمت مدى حين بين الدولة الفتية وبين القبائل الخصيمة، وكادت تسحقها في المهد، إلا لتذكى فيها رغبة الحياة وعزم النضال؛ وقد خرجت من المعركة ظافرة قوية، ولكنها أدركت في نفس الوقت فداحة الخطر الذي يهددها من تمرد أولئك الخوارج الأشداء؛ ومع أن الفاطميين استطاعوا فيما بعد أن يدوخوا قبائل المغرب كله وأن ينفذوا بفتوحاتهم في المغرب الأقصى حتى المحيط، فأنهم لم يطمئنوا إلى البقاء في تلك الوهاد الوعرة، ولم يعتبروا أنهم وصلوا بإقامة ملكهم في أفريقية إلى ذروة الأماني والغايات
كانت مصر تلوح لهم خلال هذا القفر النائي درة خضراء؛ وكانت مصر في نظرهم هي ميدان المعركة الحاسمة التي يضطرمون لخوضها مع الدولة العباسية - خصيمتهم السياسية والمذهبية - وقد حاولوا خوضها منذ الساعة الأولى، فزحفوا على مصر أكثر من مرة كما قدمنا، وكما سنفصل بعد؛ ولكن فرصة الظفر لم تكن قد سنحت بعد، واستطاعت مصر بجندها وجند الخلافة أن ترد الغزاة، وشغل الغزاة مدى حين بما يهددهم في أفريقية ذاتها من خطر الانتفاض والفناء. وفي تلك الفترة تطورت الحوادث في مصر وسارت إلى مرحلة جديدة من الاستقرار في ظل الخلافة أيضاً؛ وانتهت المنافسات والثورات العسكرية المتكررة بفوز محمد بن طغج الأخشيد بولاية مصر للمرة الثانية في سنة 323هـ (935م) من قبل الخليفة القاهر؛ وكان قد وليها لأول مرة قبل ذلك بعامين ولكنه لم يدخلها ولم تطل ولايته أكثر من شهر؛ فلما وليها من قبل القاهر سار إليها من دمشق في قواته، فتعرض له أحمد بن كيغلغ حاكم مصر وقتئذ وحاول رده عن ولايتها بقوة السيف؛ ذلك لأن ابن كيغلغ(111/8)
كان من أولئك الزعماء الأقوياء الذين يطمحون إلى الاستقلال بمصر؛ ولكن ابن طغج هزمه ودخل مصر ظافراً وتقلد ولايتها، وأنعم عليه الخليفة بلقب الأخشيد أو (ملك الملوك)
وكان الأخشيد أميراً طموحاً، وافر الذكاء والشجاعة والعزم، فلم تقف همته عند استخلاص الولاية لنفسه على الشام ومصر؛ ولكنه رأى أن ينشئ فيهما لنفسه دولة مستقلة في ظل الخلافة، وأسرة ملوكية يتوارث السلطان من بعده، على مثل ما انتهى إليه ابن طولون بإنشاء الدولة الطولونية. وهكذا قامت بمصر دولة جديدة هي الدولة الأخشيدية؛ واستقرت الأحوال بمصر في ظل الدولة الجديدة، وانتظمت قواتها الدفاعية، واستطاعت أن ترد الغزاة الفاطميين كرة أخرى (سنة 332هـ) وسطعت الدولة الأخشيدية بمصر مدى حين، وكادت تتنافس في القوة والبهاء دولة بني العباس ذاتها، ولاح مدى حين أن أمل الفاطميين في فتح مصر قد خبا. ولكن قوة الدولة الجديدة كانت ترجع بالأخص إلى أهمية منشئها الأخشيد وإلى قوة خلاله؛ فلما توفي الأخشيد (سنة 334)، وخلفه ولده أنوجور على مصر والشام ثم أخوه علي بن الأخشيد (سنة 349)، وآل تدبير الأمور في عهدهما إلى كافور الأخشيدي خادم أبيهما، أخذ صرح الدولة الجديدة في التصدع؛ ولما توفي علي بن الأخشيد، انتزع كافور الإمارة لنفسه (سنة 355)؛ وقبض هذا الأسود الخصي مدى حين على مصاير مصر والشام؛ ومع أنه كان كثير الدهاء والعزم، فإنه لم يستطع لأن يحول دون تسرب العوامل المعنوية والاجتماعية الهدامة التي كانت تقضم أسس الدولة الأخشيدية، ولم تطل ولايته مع ذلك أكثر من عامين؛ وخلفه في الإمارة صبي حفيد للأخشيد هو أحمد بن علي بن الأخشيد، وتولى تدبير الأمور وزير مصر القوي جعفر بن الفرات؛ ولكن الأمور كانت قد ساءت يومئذ، فكثرت الأزمات واضطربت أحوال الجند والشعب، وظهرت امارات الذبول والهرم على الدولة الأخشيدية ولاح لها شبح الفناء جاثماً في الأفق
وشغلت الدولة الفاطمية في تلك الفترة بشؤونها الخاصة، فلم تعاود كرة الهجوم على مصر منذ سنة 332هـ؛ ومع ذلك فقد لبثت ترقب سير الحوادث في مصر بمنتهى العناية؛ وكانت تعتمد في تنفيذ مشروعها على الشعب المصري ذاته وعلى زعمائه الناقمين على بني الأخشيد، وعلى تمرد الجند الساخط لانتقاص أعطيته؛ وقد كان فريق من أولئك الجند هم الذين دعوا الفاطميين إلى غزو مصر وقت أن غادرها ابن كيغلغ منهزماً أمام الأخشيد(111/9)
لسحق الدولة الأخشيدية. ولما توفي كافور، واضطربت أحوال الدولة، وتعارضت الآراء في مسألة الولاية والحكم، وكثر التنافس على السلطة، وقلت أعطية الجند، كتب بعض زعمائه إلى الخليفة الفاطمي المعز لدين الله يدعوه إلى فتح مصر؛ واشترك في هذه الدعوة رجل من أكابر رجال الدولة في عهد كافور، هو يعقوب بن كلس؛ وكان الوزير جعفر بن الفرات قد قبض عليه عقب وفاة كافور وزجه إلى السجن وصادر أمواله فما زال يسعى حتى أفرج عنه؛ وفر من مصر إلى المغرب ودعا المعز إلى فتح مصر، ووصف له خصبها وغناها، وضعفها واضطرب أحوالها؛ وقد كان لابن كلس هذا فيما بعد أعظم شأن في الدولة الفاطمية بمصر في عهد المعز وولده العزيز
وقد رأى الفاطميون في موت كافور خاتمة لذلك الاستقرار الذي تمتعت به مصر في عهد بني الأخشيد، ولم يفتهم أن يلاحظوا عوامل الانحلال والوهن التي سرت سراعاً إلى قوى مصر المادية والمعنوية. والواقع أن مصر كانت تعاني من تقلب الزعماء والدول أسوأ الآثار في مواردها وفي نظمها الاجتماعية وأحوالها المعنوية، وكانت تلك القوة التي تسبغها الزعامة المؤقتة على مركزها خلباً، وكان الشعب مطية المتغلب يسوقه إلى الحرب والسلام طبق أهوائه، ويستنفد موارده وأرزاقه في بذخه ومشاريعه، وكانت العاطفة القومية تتبرم بهذه السيادة الأجنبية التي تمثلها قصور لا تصطبغ بصبغة قوية من العروبة أو الزعامة الدينية، كذلك كانت الأزمات الاقتصادية الخطيرة التي تنتهي غالباً بالغلاء والوباء تفعل فعلها في إذكاء عواطف السخط والاستكانة واليأس؛ وقد كانت مصر وقت الفتح الفاطمي (سنة 358هـ) تعاني مصائب الغلاء والوباء، ويقال إنها فقدت من أبنائها في تلك المحنة زهاء ستمائة ألف وكان ذلك بلا ريب عاملاً في إضعاف قواها الدفاعية وفي زهدها في النضال والمقاومة. أضف إلى ذلك كله ما كانت تعانيه مصر يومئذ من ضروب الانحلال والفساد الاجتماعي الشامل؛ وقد انتهت إلينا في ذلك رواية إذا صحت فإنها تمثل ما كان لتلك الظاهرة يومئذ من أهمية في إذكاء همة لفاطميين لفتح مصر؛ وخلاصة هذه الرواية أن أم الأمراء (زوجة الخليفة المعز) أرسلت إلى مصر صبية للبيع فعرضها وكيلها في السوق وطلب فيها ألف دينار، فأقبلت إليه امرأة أنيقة فتية على حمار وساومته في ثمنها واشترتها منه بستمائة دينار، وعلم الوكيل أن هذه السيدة الأنيقة هي ابنة الأخشيد محمد بن(111/10)
طغج وأنها اشترت الصبية لتستمتع بها لأنها تهوى الصبايا الحسان، فلما عاد إلى المغرب حدث المعز لدين الله بأمرها، فدعا المعز شيوخ القبائل، وروى الوكيل لهم حادث الصبية، وعندئذ قال المعز: يا إخواننا انهضوا إلى مصر فلن يحول بينكم وبينها شئ، فان القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشتري جارية لتتمتع بها، فقد ضعفت نفوس رجالهم وذهبت الغيرة منهم، فانهضوا بنا إليهم
وفي هذه الأقوال التي ينسب قولها عن مصر للمعز لدين الله صورة بارزة لما يسود المجتمع المترف الرخو من عناصر الهدم. وقد كان هذا شأن المجتمع المصري في خاتمة كل فترة من النهوض والقوة: ففي نهاية الدولة الطولونية انتهى المجتمع المصري، بعد فترة قصيرة من الفتوة والبهاء والقوة، إلى نوع من الانحلال والتفكك مهد لسقوط الدولة الطولونية وعود السيادة العباسية؛ وقد كان هذا شأنه في خاتمة الدولة الأخشيدية التي سطعت في عهد مؤسسها لمدى قصير فقط. وقد نشأت الدولة الفاطمية وترعرعت في قفار المغرب، في مهاد البساطة والخشونة والفتوة؛ وانتهت في هذا الوقت الذي أزمع الخليفة الفاطمي فيه فتح مصر، إلى ذروة القوة والفتوة والرجولة إذا صح التعبير. وإليك رواية عن المعز تقدم إلينا صورة قوية مؤثرة عن تلك الروح الخشنة الوثابة التي امتازت بها الدولة الفاطمية في تلك الفترة من حياتها: استدعى المعز في يوم بارد إلى قصره بالمنصورية عدة من شيوخ كتامة، وأمر بإدخالهم إليه من باب خاص، فإذا هو في مجلس مربع كبير مفروش باللبود وحوله كساء وعليه جبة وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب وبين يديه دواة وكتب؛ فقال يا إخواننا أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأم الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والقباء، كما يفعل، أرباب الدنيا، ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم؛ وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلا بما لا بد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم؛ وإني مشغول بكتب ترد علي من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطي؛ وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم ويعمر بلادكم ويذل أعدائكم ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خلواتكم مثلما أفعله، ولا تظهروا التكبر فينزع(111/11)
الله النعمة عنكم وينقلها إلى غيركم، وتحننوا على من ورائكم ممن لا يصل إلي كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل وأقبلوا بعدها على نسائكم، والزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهن، والرغبة فيهن، فيتنغص عيشكم، وتعود المضرة عليكم، وتنهكوا أبدانكم، وتذهب قوتكم، وتضعف نحائزكم، فحسب الرجال الواحد الواحدة؛ ونحن محتاجون إلى نصرتكم بأبدانكم وعقولكم. واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به، رجوت أن يقرب الله علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم؛ انهضوا رحمكم الله ونصركم
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان
(النقل ممنوع)(111/12)
حول الأوزاعي (ثالثا)
للأستاذ أمين الخولي
. . . ولا مفر لي من أن أعد قراء الرسالة ألا أعود إلى هذا الموضوع بعدها؛ ثم سلام على الأخ السيد السنغافوري، وانتصاحٌ خير انتصاح بنصيحته في أن أعدل منطقي؛ وجزاه الله عن هذه النصيحة خير الجزاء؛ ولعله يعمل معي على هذا الإصلاح الرشيد الذي أبادر عليه، فيدعني أضع بين يديه هذه النقط ليصلحها كما يشاء، وله أن يبعث إلى هذا الإصلاح بأي طريق يؤثره. وربما لا يكون لقراء الرسالة بهذا الإصلاح اهتمام فليجعله - إن كان ذلك - بيننا خاصاً
يا سيدي؛ فسرت في حديث عن الأوزاعي التأثر الروماني، بالتأثر بالثقافة والبيئة الذي لابد من تقديره؛ فكتبت تقول لي إن القانون الروماني الحديث مأخوذ من الفقه الإسلامي؛ وإذ ذاك قلت لك هذا الرأي قديم نشر في مصر ولا يؤثر في قولي؛ فقلت لي إني أكتب ذلك للقراء، لا لك وحدك. والذي نشر في الكتب المطبوعة منذ ربع قرن؟ أليس هو للقراء؟ أم مهمة الرسالة أن تذيع ما في الكتب؟ أم أين منطقي. . . وأقول لك لا يؤثر على قولي ولا يتصل به من قرب، فترى من اللازم أن أجيب عن كل ما كتبت أنت وأبسط للقراء رأيي مدعماً ببراهين لا تنقص - على الأقل - عن براهين مناظري؛ ولكن لم أكن مناظرك في هذا، ولا عرضت له؛ وعنونت كلمتي الثانية أيضاً كما عنونت هذه الثالثة، حول الأوزاعي؟ فلا أنا فتحت البحث ولا أنا أردت الخوض فيه؛ وستعرف آخر الأمر لماذا ذلك؛ فالآن أين منطقي. . وأقول لك وقتي - وقتي أنا - وعملي وواجبي ومصالحي، فتقول لي لماذا يضيق الوقت ذرعاً بالخوض في هذا البحث وحده، فبربك أين منطقي؟. . . وأقول لك حين تسوي بين الأخذ والتأثر أنهما متغايران والثاني منهما قد يكون حاداً قوياً، وهو متاركة ومجانبة واحتياط من المخالطة، فلا يعجبك ذلك. وتحدثني عن سد الذرائع، كأنك تريد أن أخوض معك مناظرة أصولية، ولما نفرغ من المناظرة في تاريخ القانون، التي تجبرني عليها، حين تزعم أن أصل البحث الذي نحن فيه أنه وجد في الفقه الروماني تشابه مع الفقه الإسلامي فهم منه البعض وجود علاقة بين الفقهين، وعلم الله أني أرد العلاقة إلى أبسط من هذا التشابه وذاك الأخذ الذي تحب أن تتكلم فيه، فتجبرني على(111/13)
المناظرة فيما لا أرى القول فيه أو أكون هارباً منك، فأين منطقي. . .؟
وأقول لك إن قانون البيئة والثقافة ينطبق على الإسلام تمام الانطباق، فتقول لي إنك تريد أنه خارق لا ناقض وتفرق لي بينهما، وفي منطقي - المريض - أن الناقض والخارق كلاهما مخالف وأنا أقول إنه موافق، فما التفريق بين الناقض والخارق؛ وأين منطقي. . .
وتقول إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة وفي زمن واحد. فأقول لك نمت وزادت وتغيرت بالزمان والمكان واختلف فيها اختلاف هائل؛ فتقول لي إنما أريد الأصول والحدود والفرائض؛ وهل وجود الأصول هو وجود فهم الأصول والاختلاف فيها، والتطبيق عليها؛ وأين منطقي. . .
وأقول لك إن بعد المرامي القرآنية سبب للاختلاف، فتحتج في الرد على هذا بأمر علي لابن عباس أن يتوخى الجدال بالسنة حرصاً على ألا يخطئوا في فهم القرآن وتأويله، وهو عين ما أقوله من تسبيب الاختلاف، فأين منطقي. . .
وأقول لك عدم صراحة النصوص من أسباب الاختلاف، فتقول السبب الأكبر هو كذا، وهذا عندي هو السبب الأكبر، وهل وجود السبب الأكبر - عندك - ينفي السبب، أو الأسباب الكبيرة، والصغيرة وو. . .، وأين منطقي
وأقول لك اختلف الأدباء في فهم معنى الكذب في القرآن واستعماله فيه، فتقول لي فرق بين رسوم الألفاظ وحدودها المنطقية وبين صرائح مؤدياتها اللغوية، وهل ليست مؤدياتها هذه هي معانيها وما يفهم منها، وهل ليس هذا هو ما يحدد ويقدر حين يراد التفريق الدقيق والفهم المحلل والمحرم، وإلا فما هذه الحدود المنطقية وما تلك المؤديات التي تختلف عند السيد. . . وأين منطقي. . .؟ إن منطقي لم يفهم مطلقاً أن خطبة حجة الوداع يفهمها المسلم اليوم بمثل ما فهمها المسلم سنة عشر من الهجرة دون خلاف، لأن الألفاظ يغيرها الاستعمال، وتوسعها وتضيقها الظروف الحيوية والأدبية وغيرها، وهذا معنى قاله قدماء أدبائنا وقاله أصوليونا حين طلبوا فهم القرآن بمثل ما كانت تفهم العرب وقت نزوله، لا بغير ذلك من المعاني؛ ثم منطقي هذا لم يفهم الكلام في التفريق بين العربية وما تطور من اللغات حتى كاد ينقطع عن أصله الأول قبل مائتي سنة، لأنّا لم نكن بصدد دراسة مميزات العربية، بل بصدد صراحة آيات الأحكام ووضوح مراميها أو وقوع المشترك فيها، لا لبعد(111/14)
المرمى الدقيق الإعجاز فقط
وتقول إن أغلب النصوص الفقهية من السنة، فلا أفهم ذلك، فتحتج عليه بأن السنة مبينة للكتاب، فهل البيان يثبت الأغلبية والأكثرية وهي أمر إحصائي؟ ثم كيف غلبت وهي تابعة لأصل هو الكتاب لا تجئ بما ليس فيه، فكل ما فيها فيه، فما هذه الأغلبية، وأين منطقي. . . أصلح الله شأني وأصلح شأنك إن قبلت مني هذه الدعوة في غير غضب، وإلا فدع نصيبك منها لي كله
وأقول لك تتأثر الأمم بميراث بعضها؛ فتقول لي قد مضى على الرومان قرن وأكثر، ولم يبق من ثقافتهم عين ولا أثر؛ فرحم الله أسلافنا وعوضنا خير العوض في بعيد ماضينا الذي حالت عليه أحوال وتقلبت أزمان؛ ورحم الله منطقي مع هذا التراث، ما دام قرن أو أكثر لا يدع عيناً ولا أثراً، وما دامت الحياة في الدنيا جارية على القلع والغرس، بل ليتها جارية عند السيد على ذلك، فإن البرسيم يسمد الأرض عندنا للقطن؛ والغارس في مكان القلع مستفيد من المقلوع عند الفلاحين لا عند منطقي أنا. . .
وإذا رأيت أن الإسلام يؤثر ولا يتأثر، فتلك منك رغبة في إكرامه، لعله لا يحرص عليها، لأنه لا يحب أن يخالف سنن الله التي لا تتبدل
وقلت: (الواجب ألا يعتقد مسلم خلافه هو كذا وكذا) فقلت لك فهذا الاعتقاد أصل من أصول الإسلام لا يصح أن يجري فيه الخلاف إذن، فعجبت من ذلك، وسألتني بأي منطق استنتجت من قولك ذلك، وأقول لك إنه بهذا المنطق المحتاج إلى الإصلاح وقع هذا الكلام في عبارتك ففهمته، ثم كنت ذكرت يا سيدي في هذا المجال أول ما ذكرت: الضلال والزيغ ومحاربة الإسلام فتركت لك ذلك أولاً ثقة بجميل غيرتك؛ وأما الآن فأقول لك: إن هذا الكلام الذي كنت ذكرته عن عجبك من وزارة الأوقاف الإسلامية كيف تقول كذا وكذا في الفقه، ومني كيف أقرر هذه الضلالة وأفسرها؛ هذا الكلام كله هو الذي يجعلني أفهم - ولو لم تقل - أنك ترى هذا أصلاً من أصول الدين يكفر منكره؛ ولا تتأول للمخالف فيه حتى يهون أمره عليك ولا تغضب
وأخيراً أقول للسيد بجرأة المؤمن، وواجب النصح، ولو غضب أو قذف: أولى لي - أنا أولاً - ثم لحضرتك ثانياً، أن تدع المناقشة في تاريخ القانون الروماني لدراسة يحق لها أن(111/15)
تتكلم في هذا أو ترتئي فيه؛ لا لمقال ينشر في سنغافورة بعد خمسة وعشرين عاماً من نشره في مصر؛ وهو كل بضاعتنا وما تدور عليه مناقشتنا. والأمثل لنا أن ندرس فقهنا درساً جيداً، وندرس تاريخه درساً عميقاً؛ ويدرس قوم منا الرومان وتاريخ قانونهم، ثم نلتقي بعد ذلك لنبحث عن الحقيقة، ونتعاون على الوصول إليها، لا لنكفر كل قائل، ونتهم كل متكلم، ونتحدث عن الرومان والإسلام واليونان والعرب والفرنجة والمستشرقين والمبشرين في صفحة وبقطرة مداد واحدة. تلك نصيحتي إليك يا سيدي أكررها جزاء لك على خالص نصحك لي بأن أغير منطقي؛ وإني لعلى أتم استعداد لتغييره لو كان منطقي أنا، لكنما المنطق وحده عقلية إنسانية لا يد لي فيها ولا يد لك بتغييرها. فنبهني أصلحك الله إلى ما أحيد عنه من منطق الإنسانية، ولا تخلق لنا منطقاً خاصاً بنا فننعزل عن الدنيا؛ وكفانا ما كان من عزلة وانقطاع. وهذا الذي بينت هو الذي منعني من الخوض معك في مناقشة العلاقة بين القانونين - الروماني والإسلامي - وهو الذي تجنبته منذ كتبت أول ما كتبت وحين كتبت آخر ما كتبت
وإذا كنت - وحق المنطق وكرامة العقل - لم أغالطك مطلقاً، فإني وحرمة الأخوة الإسلامية لم يدر بخلدي أن أحقرك بل أنا أحقر من ذلك، والحق أجلُّ مني ومنك. والسلام عليك ورحمة الله
أمين الخولي(111/16)
إلى الشيخ اللغوي. . . و (فلان)
الوظيفة والموظفون
للأستاذ علي الطنطاوي
اعلم - أعزّك الله - أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق، ولا قيداً في الرجل، وليست مقايضة أو مباددة، آخذ فيها الوظيفة باليمين، لأعطى الوجدان بالشمال؛ ولو أنها كانت كذلك، لعزفت عنها وأجوبتها، ونفضت يدي منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كرّة أخرى، أو أقضي وأسرتي خمصا، على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير. . . وعليّ أن أكفر بالفضيلة، وأومن بالمصلحة، فأزن كلّ شيء في الدنيا بميزان صنجاته الدنانير، وأبصر كلّ ما في الكون من ثقب القرش، وأفكر إذ أفكر بعقلي الذي في كيس نقودي، لا بعقلي الذي في رأسي، فاختزل المنطق كله في قضية واحدة، هي الأولى والأخرى، وهي الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي الكتاب المعجز الذي لا يُفرط فيه من شيء، ولا يعجزه شيء، فيكون المنطق كله هذه القضية: تحصيل المال واجب، وفي هذا الأمر تحصيل مال، فهذا الأمر واجب. . وضَع مكان (هذا الأمر) ما تشاء من أفعال اللؤم والخسّة، والكذب والنّذُولة، والضّعة والفُسُولة، تنتظم القضية وتستقم، وتصح وتطرد. . . . . ولا يبقى في الدنيا رديء ولا فاسد، ولا منكر، ما دام معه المال!
لا - يا سيدي - لست أسلك هذه الطريق التي لا أزال أحذر منها من لم يسلكها، وأصرف عنها سالكيها، وإن كان السالكوها هم الكثرة من موظفينا وعلمائنا، ومن كل ذي وظيفة، أو صاحب صلة بالحكومة، حتى أن الرجل من هؤلاء ليأتي الأمر يعترف أنه مؤذٍ للأمة، منافٍ للفضيلة، مناقضٌ للشرف، فيحتج له بأن مصلحته تقتضيه، ومعيشته تستلزمه، وأنه رجل (عاوز يعيش. .) ولا يعيش من لا يساير وينافق، ويذل ويتزَلَّف، لا يدري الجاهل أن المعيشة على الصَّعتر مع الشرف، خير من حياة النعيم والترف، من غير فضيلة ولا شرف!
ومن أنبأك - أعزّك الله - أن الموظف لا يحق له أن يفكر إلا بعقل رؤسائه، ولا يرى إلا بعين امرأته، فلا يحقق من الآراء ما أبطلوا، ولا يقبل ما ردّوا، ولا يوقر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوا حسناً، ولا ما كتموا ظاهراً، ولا ما صغّروا كبيراً، ولا ما عظموا حقيراً؟(111/17)
أو لو كان رؤساؤه مخطئين، أو لو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟
ومن ذا حظر عليه ما أبيح للناس، ومنعه ما منحوا من حرية التفكير، وحرية الرأي، وحرية القول، ولماذا يشتهي من الطعام ما يعافه رئيسه، ويستحسن من أبيات الشعر وأصوات الغناء ما يستهجنه ويستثقله، ولا يكون عليه في ذلك من حرج، ثم لا يتخذ له من الآراء غير رأيه، ومن المذاهب غير مذهبه؟ ولماذا لا ينشر هذا الرأي، ويؤيد هذا المذهب، ما دام لا يأتي محرماً في الشرع، ولا ممنوعاً في القانون؟. .
والوظيفة - يا سيدي - عقدٌ بين الدولة والموظف، على أن يعمل عملاً بعينه، على جُعْلٍ بذاته، أفهل يعمل الأجير في الدكان، والعامل في المصنع، والنادل في الفندق، والخادم في البيت، وكلُّ مأجور من الناس في عمل جلَّ أو قلَّ، علا أو سفل، فإذا أكمل عمله وجوّده، استحق الأجر، وانطلق حراً في وقته، يقضيه على ما أحب، حراً في ماله ينفقه على ما شاء، حراً في رأيه ينحو به النحو الذي أراد، ويسوقه المساق الذي اختار. . . ثم لا يكون الموظف حراً أبداً، ولا يملك من أمر نفسه شيئاً؟
وماذا عليّ وأنا مدرس إذا أنا أعددت درسي وألقيته، وقرأت وظائف تلاميذي وصحّحتها، وفعلت كل ما يوجب عليّ القانون أن أفعل وزدت على الواجب النوافل، أن أُؤلًّف وأكتب، وأنقد الأخلاق والكتب والعادات، وأساهم في الجهاد الإصلاحي، وأحمل القسط الذي أطيقه من أثقال الأمة، ومن ذا يحمله إذا لم أحمله أنا وأمثالي من الموظفين والمتعلمين؟ وكيف تتقدم الأمة وتسير في طريقها إلى غايتها، إذا لم تجد من أبنائها من يحمل أثقالها؟
أفهل يريد سيدي - أعزّه الله - أن أمحو ملكة الكتابة من رأسي، وأطمس نور البصيرة من قلبي، وأسدل على عيني حجاباً حتى لا أرى فأسرّ فأشكر، أو أبتئس فأنقد، وأهجر الكتب حتى لا أقرأ فيفتح على الكتاب طريقاً إلى مقالة، وأعتزّل الناس حتى لا أسمع حديثاً فأكتب هذا الحديث، أو قصة فأدون هذه القصة، وأدل على مكان العبرة منها، وموطن العظة فيها؟ أفهل يريد سيدي أن أذهب إلى غار في الجبل فأحبس نفسي فيه كيلا أكتب فأزعج حضرته؟
أو هل توجب الوظيفة على صاحبها أن يكون عبداً لرؤسائه، مسخراً لأغراضهم ساعياً في مصالحهم، ولو كانت الطريق إلى إرضائهم طريقاً ملتوية معوجة لا يسلكها رجل يعرف ما(111/18)
هي الفضيلة، ويدري ما هو الشرف؟
وهل توجب الوظيفة على الموظف أن يكون مبتوراً من جسم الأمة، فلا يشعر بشعورها، ولا يألم لألمها، ولا يحس أنه منها، ولا يشاركها في شئ من عواطفها، في حين أن المفروض في الموظف أنه من أرقى أبناء الأمة فكراً، وأوسعهم اطلاعاً، وأشدهم شعوراً (بالواجب العام)؟
أو هل يأخذ الموظفون رواتبهم من صندوق الأمة، ثم ليناموا آمنين إذا هي خافت، ويضحكون فرحين إذا هي تألمت، وينعموا فارهين إذا هي شقيت، ويأكلوا مسرفين إذا هي جاعت؟
كلا! كلا يا سيدي، فالموظف من الأمة وإلى الأمة، وليس في البلد شعب وموظفون، ولكنّ فيه شعباً واحداً، يشعر بشعور واحد، ويصدر عن مبدأ واحد ويسعى إلى غاية واحدة، ولأن تعرف أنت هذه الحقيقة فتعمل بها، أولى من أن أنزل أنا على رأيك، وأخضع لإرادتك، فيما يؤذي الحقيقة وينافيها
كلا! لقد انقضى ذلك العهد كان الموظف فيه مسؤولا أمام رئيسه، وأصبحنا اليوم وكلنا مسئولون أمام الأمة والتاريخ؛ وليس هذا الراتب منحة منك حتى تمنّ به عليّ، ولكن راتبك أنت منحة من الأمة - التي أنا من أبنائها تمن هي بي - عليك!
وبعد؛ أفليس مما يجب على قادة الفكر، وأرباب الأقلام، أن يعرّفوا الناس حقيقة الوظيفة والموظفين، وحق الأمة عليهم، وأمل الأمة فيهم؟ أوليس يجب عليهم معالجة هذه النواحي من أخلاقنا، وبسط الكلام فيها، وتحذير السالمين منها، ومداواة المصابين بها؟. . .
علي الطنطاوي(111/19)
إلى الأستاذ محمد كرد علي
أغراض الاستشراق
للأستاذ محمد روحي فيصل
العجالة التي أسوقها اليوم إنما كتبت منذ عهد بعيد، وهي كما ترى أو كما سترى تحكي أغراض المستشرقين الدينية والسياسية، وتبين البواعث النفسية التي قام عليها تاريخ الاستشراق، وتعدد ألوان التخاذل العلمي والوجداني التي خضعت لها هذه الطائفة منذ نشأتها الأولى! ولقد كنت أريدها دراسة قوية مستفيضة موفقة تشرح ما تتوغر به صدور القوم من الحقد والموجدة، وتفضح ما ألم بالقلوب من النزوات البشعة والأهواء المريضة؛ وأذكر أني ما قرأت كلمة في هذا الصدد لكاتب من الكتاب إلا أعادني الحنين إلى تكملة ما شرعت فيه قديماً، واستئناف تبيان ما عميت أو تعامت عنه البصائر والأفهام
كان يعوقني عن ذلك أمران، هما الدعامة التي ترتكز عليها أسباب الكتابة والنشر، أولهما فقدان الصحيفة العربية الإسلامية الشرقية التي ترحب ببحوث كهذه التي نعتزم إذاعتها في الناس، والتي تشجع الكاتب الباحث على المضي فيما أخذ به نفسه من الدراسة الحرة الخالصة؛ وثانيها غموض الحجة وهلهلة المنطق والتواء التاريخ للظهور على المستشرقين والتغلب على مزاعمهم ودحض آرائهم واثبات خطئهم؛ فليس يكفي عندنا أن نتهمهم في إبهام، ونبغضهم لغير سبب، ثم نحمل عليهم ونرشقهم بقارص الكلام وعنيف السباب؛ إذن لتجنينا عليهم فظلمناهم ظلماً كبيراً، ولكانت دعوانا التي نتقدم بها عاثرة خاسرة!!
أما الصحيفة العربية الإسلامية فقد عثرنا عليها واهتدينا إليها، و (الرسالة) السمحة لن تضيق أبداً بما تعتقد أنه الحق، أو تتبرم بنفي ما غشى العرب والإسلام من ضعة الخطأ والعدوان، وهي المجلة الراقية التي تعتز بالكرامة وتعتصم بالنبل ثم تصل الماضي بالحاضر وتربط الشرق بالغرب على هدى وبصيرة؛ وأما الحجة والمنطق والتاريخ فقد توفرت لدينا وأسلست عناصرها لنا واتضحت في ذهننا، وإنا لنرجو أن نؤثر في الأسلوب والعرض جانب الحق والإنصاف والهدوء على جانب التحامل والملامة والغضب
وأحب قبل كل شيء أن أقول لعلامة الشام الأكبر ومؤرخها البارع الأستاذ محمد كرد علي إنه إذا قدر أن ينشر المستشرق برتزل كتابي المقنع والنقط نشراً حسناً ويضع لهما فهرساً(111/20)
خاصاً يسهل على المطالع أمر المراجعة والتنقيب، فما ينبغي أن توجه الشكر والثناء إلا للناشر الفاضل وحده، أما أن ترسل الكلام إرسالاً وتمتدح المستشرقين كافة فهذا ما ينكره العلم ولا يرضاه الحق، فتقول: (هذه عناية علماء المشرقيات بكتب الإسلام، أما خاصة أهله اليوم فساهون لاهون! وليت سادتنا علماء الأزهر والمعاهد المماثلة في القطر وأساتذة العلوم وغيرهم يتروون في عمل هؤلاء الأعاجم، وقد كان عليهم أن يأخذوا باليمين آثار السلف ليحيوها قبل أن تنتظر في الخزائن عطف الغرب. إننا مدينون لعلماء المشرقيات من الهولنديين والجرمانيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والأسبانيين وغيرهم من شعوب أوربا وشمالي أمريكا بما تفضلوا به علينا من نشر أسفارنا، أحسن الله إليهم بقدر ما أحسنوا لمدنيتنا وآدابنا)
لقد تعودنا أن نكيل المديح للمستشرقين كيلاً، وأن ننعت جهودهم بأنها بذلت لخدمة لغتنا وأدبنا وتاريخنا، وأن ما نشروه من البحوث والمخطوطات إنما كان لذات العلم خالصاً، ونرانا نرجع إليهم كلما اختلفنا في رأي أو حزَّ بنا أمر لنستوحي منهم الحكمة وفصل الخطاب. هم يتمتعون منا بثقة لا حد لها، ولكن هل عرفنا أغراضهم وغاياتهم؟ هل تبينا حقيقة مقاصدهم؟ ذلك ما نحاول الكشف عنه اليوم، وسيتضح لكل ذي عينين باصرتين أن وراء الأكمة ما وراءها. . .!!
ولسنا ننكر أن بين المستشرقين طائفة معتدلة قد أخلصت في دراستها الإخلاص كله، فنظرت إلى الأدب العربي والتاريخ الإسلامي وإلى كل ما أنتجه الشرقيون من دين وعلم وفلسفة نظرة مجردة عن الهوى كما يتطلبها البحث العلمي الحديث، وهي لذلك تستحق أجزل الثناء، بل إنها لما ينبغي أن نفاخر به أبد الدهر، إلا أن أفراد هذه الطائفة إذا عدُّوا لا يتجاوزون عدد الأصابع، وهم إزاء هذه الكثرة الهائلة المغرضة من المستشرقين لا يذكرون شيئاً؛ وقد قيل إن النادر لا حكم له. فأنت لو تصفحت هذه الأسماء: مرجليوث، لامنس، ماسبرو، دي ساسي، فلوغل، كارليل، كولنبرك، جنستون، ستونتن، هوغتن، غابلنتس، سيدليو، كوسان دي برسفال، كلابروت، جيب، دي لاغرانج رينو، مونك، يرون، كازميرسكي، كسغارتن، برنستين، فتزر، وولف، بورغستال، جونس، غوتوالد، كريستيا نوفتش، خانيكوف، بوتجانوف، سيانكوفسكي، سافلياف، غريغورياف، تورنبرغ، دوزي،(111/21)
بروكلمان، غويدي، غولد زهير، هيار، فمبري، زترستين، ناللينو، هوداس، موسل، بيكر، دي فو، ماسينيون، هرغروني، فولرس، ارنولد، مورتمان، لشالتييه، بوفا، كاباتون، هاليفي، مكدوبل، دوفال، بارت، ليفي، كازانوفا، شوفين، كولينيون، دافيدس، لامبروز، نافيل. لشككت في حسن الغاية من أعمال الكثير منها، ولحرصت على أن تقصر الثناء على بعضها في تحفظ واعتدال!!
كان الباعث الأصلي للأوربيين على تعلم اللغات الشرقية دينياً محضاً. فقد هالهم أمر العرب، وأدركوا سريعاً أن هؤلاء القوم الفاتحين إنما يريدون فيما يريدون الاستيلاء على أوربا بأسرها لنشر تعاليمهم الجديدة والقيام بما أوصاهم به سيدهم الأعلى ونبيهم الكريم محمد بن عبد الله، والتاريخ يحدثنا أنهم امتلكوا حقاً أسبانيا الواسعة، وأجتاحوا جزءاً كبيراً من جنوب فرنسا حتى مدينة بواتيه أو بلاط الشهداء كما يطلق عليها مؤرخو العرب، ثم احتلوا جزيرة صقلية وشرعوا في بسط نفوذهم الأدبي على إيطاليا. . . وإيطاليا كما تعلم معقل المسيحية الحصين، ومصدر أشعة الدين، فعزم الغربيون على أن يحاربوا الإسلام والشرق بكل قواهم متخذين جميع الوسائل الفعالة
لجأوا إلى السيف أولاً فقاتلوا وقاتلوا حتى إذا لم يفلحوا كل الفلاح ولم ينالوا ما يبتغون عمدوا إلى وسيلة أخرى أمرُّ من تلك وأدهى! فقد عقدوا مؤتمراً كبيراً في فينا عام 1311 ميلادية ترأسه البابا كليمان الخامس، وقرروا أن تؤسس في باريس وبولون واكسفورد وسلمنكة مدارس خاصة تدرس فيها العربية والعبرانية والكلدانية لتخريج وعاظ أشداء يستطيعون تنصير المسلمين واليهود أو تشكيكهم فيما فيه مؤمنون. وأنشأ الدومينيكان والفرنسيسكان في أديارهم دروساً في هذه اللغات، فغدت إيطاليا في ذلك العهد موطن علم المشرقيات. على أنهم كانوا يعنون بصورة خاصة بالعربية والعبرية، يأخذون الأولى عن السوريين الموارنة كبني السمعاني، والثانية عن الأحبار الربانيين. فانتشرت العربية بين الطليان انتشاراً عظيماً، حتى أن تجار البندقية وجنوة وبيزا ونابولي كانوا ينظرون إلى أن تعلمها من الحاجات الماسة للحياة على نحو ما ننظر اليوم إلى اللغة الفرنسية أو الإنجليزية. وعقيب اختراع الطباعة كان قانون ابن سينا أول كتاب عربي طبع في روما. ولما قامت الحركة البروتستانية في القرن الخامس عشر وأمدها لوثر بروحه ازدادت عناية الغربيين(111/22)
بالعبرية والسريانية والكلدانية للبحث عن النص الأصلي للتوراة، وتتبع ذلك قيام البابا غريغوار الثالث عشر وأُربان الثامن بتعليم اللهجات الشرقية عملياً ليستفيد منها المبشرون بالنصرانية. وفي عام 1627 أنشئت مدرسة (انتشار الإيمان) التي خرَّجت الألوف من علماء المشرقيات؛ وكذلك أنشئت في فرنسا على عهد الوزير كولبير مدرسة (الشبان) التي أذاعت الفارسية والتركية وكثيراً من القصص الشرقية كألف ليلة وليلة وغيرها من الرسائل. وفي نهاية القرن السابع عشر نشر اليسوعيون أتباع لوَيُّولا اللغتين اليابانية والصينية وثقافتهما
على أن الاستشراق بعد ذلك قد تبدلت بواعثه، فغدا يخدم السياسة بعد أن كان يخدم الدين، ذلك لأن في القرن الثامن عشر ظهرت طائفة من الكتاب كفولتير وغيره حملت على الدين ورجاله جملة منكرة، وتناولته بالسخرية والتهكم المر، غير مبقية على شيء من احترامه القديم وسلطانه النافذ؛ ولأنه قامت في ذلك الحين ضجة الاستعمار وثار الغرب على الشرق يريد استعباده. فوضع المستشرقون أنفسهم تحت تصرف رجال السياسة، يُدلون إليهم بما يعلمون عن الشرقيين لتتمكن أقدامهم في بلاد الشرق، وتكون لهم على أهله سلطة خالدة.!!
ونلاحظ في هذا الطور الجديد تأليف الجمعيات في مختلف المدن الشرقية، فقد أنشأ المستشرقون جمعية العلوم والفنون في باتافيا عام 1778، والجمعية الأسيوية في لبنغال عام 1784، والجمعية الأسيوية في بومباي عام 1805، والجمعية الأسيوية في باريس عام 1822؛ وقد بذلت هذه الأخيرة جهوداً جبارة في دراسة الشرق ولغاته وتاريخه لا سيما اللغة العربية والعقلية العربية والثقافة العربية وما يتصل بذلك كله من دين وفلسفة، وعلم وأدب، لتقدم للحكومة آخر السنة تقريرها المعروف الذي لا يضم بين جوانبه حقائق تمليها لعدالة ويبعثها الواقع، وإنما ينطوي على سموم من الحقد وأثر من المغالطة! وهذه المجلة الأسيوية التي ما تزال حتى الآن تصدر في باريس مرة كل شهرين إنما هي أثر من آثار هذه الجمعية. . .
لقد كان المستشرقون على اتصال دائم بوزارة الخارجية ووزارة المستعمرات، يترددون على رجالاتهما لمعرفة ما جدّ وتغير من القرارات، وأن هذه البعثات التي يقومون بها إلى بلاد الشرق بين حين وآخر ليست بعثات علمية كما يزعمون تقصد وجه العلم خالصاً؛(111/23)
وإنما هي في الحقيقة بعثات سياسية مصدرها هذه الرؤوس المفكرة الماكرة الجاثمة في الوزارتين المذكورتين، تطوف أنحاء الشرق باسم منقبة باحثة، حتى إذا ما ملأت حقائبها بما تريد عادت إلى وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات تصب فيهما معلوماتها طروبة فخورة! وكثيراً ما كانت هذه البعثات (العلمية) تمنع من دخول بعض البلاد الشرقية، وقد تطرد منها أحياناً على أسوأ حال!!
وبعد، فلو نظرنا إلى بحوث علماء المشرقيات التي خطوها عن الأدب العربي والعقلية العربية، وفلاسفة العرب لاستخرجنا من ثناياها براهين جمة تبين لنا بوضوح كيف تندفع هذه الطائفة وراء الهوى والغرض لتثبت قضية من القضايا على أساس تجاهل الواقع وطمس الحقيقة؛ هذه نظرية (السامية والآرية) التي يؤمن بها أغلب المستشرقين والتي تصبغ دراساتهم بلون خاص تصف العرب والجنس السامي على العموم بأنهم قوم غرباء عن العلم والفلسفة، لا يحسون بالجمال والفن، ولا يعرفون ما يسمى بالأنظمة السياسية والمدنية. يقول أرنست رينان في الفصل الأول من كتابه في تاريخ اللغات السامية: (إن اللفظين اللذين استعملا ولا يزال استعمالهما جارياً إلى الآن، للدلالة على سير العقل نحو الحقيقة، وهما علم وفلسفة، قد كانا غريبين عن الجنس السامي تقريباً. فالبحث التفكيري المستقل الدقيق العميق، أو بعبارة أخرى التفكير الفلسفي للبحث عن الحقيقة، يبدو أنه كان وقفاً على الجنس المسمى بالهندي الأوربي (الآري) الذي كان يبحث منذ أقدم العصور إلى الآن لتفسير الله والإنسان والعالم تفسيراً عقلياً، والذي ترك وراءه في كل مراحل تاريخه آثاراً فلسفية خاضعة لنواميس تطور منطقي، أما الساميون فإنهم بدون تفكير أو تدليل توصلوا إلى أصفى صورة دينية عرفها التاريخ فالمدرسة الفلسفية موطنها اليونان والهند، في وسط قوم طلعة يهتمون كثيراً بمعرفة أسرار الأشياء. أما المزامير والأناشيد والكتب المنزلة والحكم الرمزية أو الموضوعة في شكل ألغاز فهي من نصيب الجنس السامي
(والجنس السامي أدنى من الجنس الآري إذا قورن به، فهو - أي الجنس السامي - ليست له هذه الروحانية السامية التي عرفها الهنود والألمان فقط، وليس له الإحساس بالجمال الذي بلغ حد الكمال عند اليونان، وليست له هذه الحساسية الرقيقة العميقة التي هي الصفة الغالبة عند الكلتيين (فرنسا وجزء من البلجيك)، وإنما الساميون بديهتهم ولكنها محدودة،(111/24)
وهم يفهمون الوحدة بشكل غريب، فالتوحيد هو أهم خصائصهم وهو الذي يلخص ويفسر جميع صفاتهم
(من آثار التوحيد عند الساميين التعصب، فعدم التسامح الديني عند الساميين هو نتيجة ضرورية لمذهبهم التوحيد، ومسألة النبوات والوحي هي من المسائل التي الساميين، حتى أن القرآن لم يجد تقسيماً للشعوب غير تقسيمهم إلى كتابيين وغير كتابيين
(والساميون تنقصهم الدهشة التي تدعو إلى التساؤل والتفكير، والتي تدعو إلى البحث عن الحقيقة، لأن اعتقادهم في قدرة الله يجعلهم لا يدهشون لشيء، فإذا رأوا شيئاً عجيباً قالوا: (ربنا قادر على كل شيء) كما أنهم في حالة الشك يختمون رأيهم بقولهم (الله أعلم) فإذا اعترض على ذلك بظهور حركة علمية فلسفية عند العرب في عصر العباسيين وجب أن يكون الجواب على ذلك إنه من الخطأ وسوء الاستعمال أن نسمي فلسفة منقولة عن اليونان بالفلسفة العربية، مع أنه لم تظهر لها أي مبادئ أو مقدمات في شبه جزيرة العرب مكتوبة بالعربية، وهذا هو كل ما في الأمر، كما أنها تزدهر إلا في الجهات البعيدة عن العرب مثل أسبانيا ومراكش وسمرقند، وكان معظم القائمين بها من غير الساميين وكثرتهم من الفرس
(والتوحيد له تأثير أيضاً في الشعر العربي، لأن الشعر العربي يعوزه الاختلاف والتنويع، فموضوعات الشعر أي أغراضه محدودة قليلة العدد جداً عند الساميين؛ والواقع أن هذا الجنس لم يعرف إلا نوعين من الشعر هما الشعر المجازي عند اليهود والشعر الشخصي الغنائي عند العرب، والأبطال في هذا الشعر هم نفس منشئيه. وهذه الصفة الشخصية إلى الغاية التي تجدها في الشعر العربي واليهودي ترجع إلى خصيصة أخرى من خصائص النفس السامية وهي انعدام المخيلة الخالقة عندهم، وتبعاً لذلك عدم القدرة على الاختراع. .!!
(والساميون ينقصهم الإحساس بالتنويع، فالتشريع السامي البحت لم يعرف مطلقاً إلا نوعاً واحداً من القصاص هو الموت. وملكة الضحك معدومة عند الساميين، حتى إن الفرنسيين وهم شعب ضحوك ينظر إليهم عرب الجزائر باستغراب، ويعتبرون ذلك منهم موضع دهشة بالغة
(والساميون عندهم نقص تام في كثير من الفنون الجميلة مثل صناعة التماثيل والتصوير،(111/25)
وقد حال دون وجودهما عندهم تحريم الدين من جهة وانعدام الخيال والاختراع من جهة أخرى وهما شرطان لازمان لهذين الفنين. والموسيقى وهي الفن الشخصي إلى الغاية هي الفن الوحيد الذي عرفه الساميون
(والأخلاق نفسها ينظر إليها الساميون نظرة تخالف نظرتنا إليها، فالسامي لا يعرف مطلقاً أن عليه واجبات إلا لنفسه، وإذا طلبت إليه أن يحافظ على كلمته ويبر بوعده وأن يقيم العدل بلا تحيز فإنما طلبت إليه مستحيلاً، فالأنانية تتمثل فيهم بأجلى مظهرها)
لن نناقش الآن هذه النظرية أو نقول فيها رأياً، لأن ذلك مما يطول بنا، وحسبنا أن ندل على شيء مما يعتقد المستشرقون، ومع أن تسعين في المائة من هذه النظرية خطأ واختلاق فقد أحلها الغربيون من نفوسهم المحل الأرفع لأنها توائم نزعاتهم وتتفق وميولهم الطافرة إلى السيطرة والاستعمار
لست أدري ما الذي يرضينا في المستشرق!؟ العلم النزيه، وقد رأينا أنه إنما كان لأراب أخر، أم الذوق الأدبي، وليس من شك عندنا أنه بعيد عنه بعد الأرض عن السماء! فالمستشرق مهما تضلع من اللغة العربية، وأخذ من الثقافة الأدبية، وتغلغل إلى الروح الإسلامية فلن يدرك أبداً غاية الأدب وأثره وحدوده ولن يستطيع بحال من الأحوال أن يتذوق جمال قطعة أدبية أو قصيدة فنية على نحو ما يتذوقها العربي! هو يفهم القرآن ولكنه لا يخشع عند سماعه أو تلاوته، ويشرح القصيدة العربية غريبها وبديعها وعروضها ولكن أذنه لا تطرب لهذه الرنة الموسيقية المبثوثة في أطواء الشعر العربي.
حمص
محمد روحي فيصل(111/26)
صورة وصفية
عبد السميع
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان كل امرئ يعرفه - أهل الحي، وزوّار الأمام الشافعي، والأجانب السياح الذين يجيئون إلى هذه الناحية، ليروا مقابر الخلفاء والمماليك ومدافن (الباشوات). وكان (عبد السميع) - كاسمه - سميعاً، ولكنه غير بصير؛ وكان له حجر عال عريض يقعد عليه، ولا يريمه، في الشتاء والصيف؛ ولم يكن يبالي لا الشمس ولا الرياح، ولا المطر ولا التراب؛ وكان يظل نهاره على هذا الحجر، فإذا غابت الشمس ودخل الليل، اختفى، كأنما ابتلعته الأرض، أو انشق له الحجر فغاب فيه، فكل ما يعرفه الناس من أمره أن هذا مكانه قبالة المسجد، وأن كل راكب يميل إليه ويترجل عنده، ويضع بين أصابعه زمام دابته، حتى يفرغ من الصلاة في المسجد أو غيرها مما جاء له، فينقده القرش أو المليم ويتناول منه العنان ويحييه ويمضي. وكان (عبد السميع) يعرف كل رجل وامرأة وطفل في الحي، وكل غريب ألقى إليه بزمام حماره أو بغلته أو فرسه أو مهره، من صوته؛ وكان من عجائبه أنه يعرف - وهو ممسك بالأعنة - حمار من الذي نهق، وأي هذه الدواب تعلك لجامها، وأي البغال مزنوقٌ فيرفه عنه ويرخي له الرباط الذي تحت حنكه، وأي حمار تفلتت الشكيمة من فمه، فينهض إليه ويردها إلى مكانها من فيه، وأي الأفراس انحل إبزيم منطقته فيعقده، أعني يدخل لسانه في طرفه الآخر. وكان كثيراً ما يشير على أصحاب الدواب باتخاذ المراشح تحت لبد السروج لتنشيف العرق، أو بتضمير الفرس إذا وجدها سمينة، أو برفع المهماز إذا أحس بيده آثار وخزه في جلدها، أو بتغيير السرج إذا وجد له عقراً بظهرها، فقد كان رحيماً رقيق القلب
وكان يأبى أن يتخذ عصاً يتوكأ عليها، ويجس بها الأرض ويقدر لرجله موضعها قبل الخطو، فكان يمشي مطمئناً واثقاً، كأنما يرى الطريق، ويلقي التحية إلى الناس بأسمائهم، في دكاكينهم حين يبلغها، بل كان يعرف المرء من دبة رجله على الأرض، فيقول له: (مالك مستعجلاً يا فلان؟ خيراً، إن شاء الله!) وكان - ولا يزال - هناك طريق أعلى من الميدان الذي أمام المسجد يؤدي إليه سلم، درجاته متهدمة، فكان إذا بلغها يرقى فيها كأنه(111/27)
صبي في العاشرة من عمره؛ ولكن أعجب من هذا كله أنه كان يركب الخيل والحمير والبغال، ويركضها في الطرق والسكك التي ألفها، فإذا اعترضته زحام أو قطيع من الغنم، حبس الدابة، ثم أرخى لها اللجام، وتركها تتخلل الزحمة حتى إذا أحس خلو السكة نقرَ بها، ليزعجها ويستحثها؛ فقد كان كما أسلفت شديد الرفق بالحيوان، لا تطاوعه نفسه حتى على نَكْزِه بقدمه العارية
وكان دائم البشر، لا يتجهم ولا يكتئب، ولا يبدو للناس إلا طلق المحيا، ضحوكاً، طيب النفس، حلو الدعابة؛ ولكن غزله كان فيه بعض العنف، فقد كان إذا داعب فتاة لا يحلو له إلا أن يقبض على شعرها ويجذبه إليه بقوة فينتف بعضه؛ وكانت الفتيات يحذرن ذلك ويتقين أن يكن منه بحيث تنالهن يده
وجاء الشتاء، وجاء معه طبيب عيون ألماني، فأدار عينه في الصحراء فرأى على جبل المقطم شيئاً كالبناء فأشار إليه وسأل عنه فقالوا هذا قبر الجيوشي - أمير الجيوش - فرجا منهم أن يكون أحدهم دليله إليه، فقالوا: (بل يكون دليلك عبد السميع) وجاءوه به، فتعجب، ولو كان يعرف العربية معرفتها لتمثل بقول القائل:
أعمى يقود بصيراً، لا أبالكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه
ولكن عبد السميع لم يضله، ولم يندم الطبيب على ثقته به واطمئنانه إليه، ووجد في صحبة هذا الدليل الغريب كل ما طالعه به وجهه الصبيح من الأنس، فنشأت بينهما بعد هذه الرحلة صداقة فريدة، فكان الطبيب يزوره كل بضعة أيام، ويجلس إلى جانبه على حجره العالي، ويراعيه وهو يحرس الخيل والحمير لأصحابها؛ ووقع من نفسه رفقه بها وحسن تعهده لها، فقال له يوماً - بعربيته المحطمة - إنه يريد أن يعمل له في عينيه شيئاً، وإنه يرجو أن يرد بذلك بصره عليه، فضحك (عبد السميع) وقبل. وكان قد ألف أن ينظر الأطباء في عينيه وأن يسمعهم يتلاغطون بما لا يفهم، ثم يمضون عنه ويبقى هو على حجره
وجاء يوم نظر فيه الناس فإذا الحجر خال، ولا (عبد السميع) هناك، فصارت الأعنة تلقى إلى صبيان يشدونها إلى مسامير في الحائط، وينامون ويتركون الحمير تترافس
وكان (عبد السميع) راقداً على سرير نظيف في مستشفى، وعلى رأسه ووجهه - إلى أرنبة أنفه - الضمادات، وهو ساكن لا يقول شيئاً، ولا يبدي ألماً أو ضجراً، ولا يدع شكه يغلب(111/28)
بشره أو شكره لصديقه، وكان من العسير أن يعرف أحد في أي شيء يفكر هذا الراقد المعصوب الرأس. ولعله - لطول صمته على خلاف عادته - كان يجاهد أن يتصور الدنيا الجديدة التي سيرثها حين يفتح عينيه عليها ويبصرها لأول مرة؛ ولعله كان يستهول أن يبصر كل ما عرفه وألفه بحواسه الأخرى، وكان كل ما يجيب به الطبيب حين يحدثه وهو يغير له الضمادات (إن شاء الله! إن شاء الله!) ثم يتحرك كالقلق المضطرب على هذا الفراش الناعم تحت الملاءة النظيفة
وكان الطبيب واثقاً من نجاحه، فجمع إخوانه - زملاءه - في صباح يوم، وحل الأربطة بعناية وحذر، ثم ترك ضوءاً خفيفاً يدخل في الغرفة، وتناول يد (عبد السميع) برفق، وهو أشد ما يكون اضطراباً وسأله (أترى شيئاً؟) فقال عبد السميع - وعلى فمه ابتسامته التي لا تزايله - (صبراً، صبراً)، فصبر الطبيب لحظة ثم فتح النوافذ فغمر النور الحجرة وملأتها الشمس ورقدت أشعتها على السرير والجالس عليه، والأطباء حافون به، منحنون إليه، يحدقون في وجهه وأنفاسهم مسرعة، وقلوبهم في حلوقهم، و (عبد السميع) ساكن، ووجهه الباهت من طول الرقاد، إلى النافذة التي تطل على النيل؛ ثم تحركت يداه، وارتفعت كفه إلى محياه، وجعلت أصابعه المرتعشة تتحسس عينيه، فأدرك القوم أن الطب أخفق، وتوجع الطبيب الألماني وارفض دمعه، فغطى وجهه بكفيه ليحبس عبراته أو يكتم نشيجه، وسمع (عبد السميع) ما يتردد من البكاء المكتوم فنهض، وعلى وجهه ابتسامة رزينة، وتحسس طريقه إلى صديقه المحزون، ومد يده الخشنة فلمست لحيته المبللة، فنقلها إلى كتفه وقال بصوت لا يشي بما عسى أن يكون مطوياً تحت ضلوعه
(لا تبك يا صاحبي! ازجر عينيك، إنه قضاء الله، ولا حيلة لنا فيه، ومن نكون نحن حتى ندفعه أو نغيره!) ثم تلفت، فأقبلوا عليه يسألونه هل يريد شيئاً؟ قال: (نعم - صبي يعود بي)
وعاد إلى حجره، وخيله وحميره، فلم يغب عنها بعد ذلك مرة أخرى، ولم يقل لأحد أين كان
إبراهيم عبد القادر المازني(111/29)
من مشاهد الشرق
4 - طائفة البهرا في الهند
ملاحظات في المجتمع البهري بقلم محمد نزيه
تتمة
يقول الكهل الوقور محمد علي بخش رئيس الوزارة البهرية في وصف طائفته، إنها (طائفة تجارية) لا يحيد عن سبيل التجارة واحد من أبنائها، فإذا تنكب أحدهم هذه الطريق أو ضلّها، فلاذ بكرسي للحكومة، أو زاول حرفة من الحرف لم تكن التجارة جل همه منها، فقد انحرف عن تقاليد الطائفة، وعق ديانتها، ورماها في أمنع حصونها، فأصاب منها منازل القدسية والحرية والجاه
هي جماعة أقسمت مذ وضعت في كف الحياة كفها، ألا تعرف خفض العبودية ولا يعرفها رق هذا الزمان، وإنهما ليقتحمان كل شيء إلا هذه الأمة التي أجمعت على ألا يكون الوطن المقدس رقعة من الأرض يهون امتلاكها، ولا يعز اغتصاب ما فيها ومن فيها، بل هم استغنوا عن الوطن المقدس بالعهد المقدس أن يكون صغيرهم ابن كبيرهم، وكبيرهم أبا صغيرهم، وكل كبارهم أشقاء وكل صغارهم أشقاء، وأولئك وهؤلاء كأنما انتظم أرواحهم جميعاً سمط واحد من شعاع الشمس لا يقطع أبداً. وإذ كان لا بد لهذا الجوهر الأحد من معارف وبواطن تفرقُ بينه وبين سواه، فإن أجلى معارف البهري ابتعاده عن مخالطة أي امرئ من غير طائفته؛ ومعظم بواطنه الحب والمودة والأهبة الدائمة لمعاونة أخيه في مذهبه، دون تفريق بمختلف الأجناس والمراتب، فاستغنوا بقوادهم عن كل حاجة إلى سواهم، حتى (الحكومة) يعزفون عن أعمالها، ترفعاً بأنفسهم عن شعور الحاجة إليها يوماً من الأيام
يقدم البهري من أقاصي إفريقية على بمبي، فينزل من قلوب أبناء الطائفة هناك، منزلة من عاد إلى أمه وأبيه من سفر طويل، كل بيت من بيوتهم هو ملك يمينه حتى تقر نفسه وتذهب وحشته، فينفح بما يحتاج التجارة إليه من مال، يبدأ به عمله، فإذا لمح وجه الفشل، أسرع فوضع أمره بين يدي طائفته، فلا يكاد ذلك يضح لهم، حتى ينهالوا على بضاعته ابتياعاً، إلى أن تروج سوقه، وتبدو طلائع نجاحه، فلن تجده مهما نقبت عنه، ذلك البهري(111/30)
الذي لم يفيء الله عليه بنعمة السعة واليسار
وإذ كانت شؤون هذه الأمة الواحدة في حاجة إلى الراعي، يصرفها ويسهر على تدبيرها، فلا بد لها من قاض يفرق بالعدل بين أبنائها جميعاً فيرضيهم جميعاً، وهذا القاضي هو داعي الدعاة في بمبي، وهو نائبه في كل بلد اتخذها بعض هذه الطائفة منزلاً، يخولونه أمرهم فيقضي بينهم بما شاء، لا يرد له حكم ولا يراجع في أمر؛ ملك لا يملك من أسباب السلطان إلا عدل القاضي، فكيف يبرم عدله ولا ينال للمظلوم من ظالمه، وإنما يحكم بالعدل ويأمر ضمير الظالم أن يجزي صاحبه وأن يردعه، بل لعل المظلوم لا يشكو، وإنما ظالمهم هو الذي يشكو أن ضميره يخزه ويشتد عليه مذ ظلم، فيادعي القوم اكفني عذاب الضمير فإنه ليوشك أن يكون كالموت لا يُعتِبُ. . . هذا قاض أمره عجيب، وقضاؤه أعجب، أتراه يمضي على شرعة مدونة؟ أتراه يستلهم قانوناً بعينه ماله عنه من محيد؟ كلا، وإنما يستلهم قوة روحه، وقد استُمِدت من معالم الشيعة وأعلام كتبهم
يعدل الداعي بقوة الروح، ومن مظاهرها أنها تسترقُّ الناس حولها، مرتغبين لا مرتهبين، بدافع الحب، ومظهر الحب الخضوع، يسمو حتى يصير تفانياً. تتجه القلوب إلى الداعي، لأنه عظيم من عظمة الله عظمته؛ ثم تتعلق القلوب به، لأنه مقدس من قدسية الله قدسيته، ثم تتقبل ظلمه قبول الرضا، لأنه ولي المالك المتصرف - في رأيها - فإذا عدل، تفانت فيه، فإذا أحب فنيت في روحه، وذاك داعي الدعاة عند طائفة البهرا هو فرد ولكنه الجماعة كلها، وهم جماعة ولكنهم فرد واحد يقل ويقل حتى تتسع له سويداء قلب واحد كبير، هو قلب هذا الرجل، يحدب عليهم وما يحدب إلا على نفسه، ويحدبون عليه فهم على أنفسهم يحدبون. ولقد علمت أن الحب شريعتهم، فأعلم أن أول أحكام هذه الشريعة أن ما يحوزه كل بهري هو للشيخ قبل أن يكون لصاحبه، يتصرف فيه متى شاء أينما شاء كيفما شاء، وما جار. أليس رب الدعوة إلى التعاون والتساند والتعاضد وهي التي أثمرت كل ما أوتيت الطائفة من مال أو أكثره؟ نعم فلكم أغنت هذه المبادئ عائلاً، وأعزت يتيماً، وروّت صادياً! وهل يكون ساقي البذرة إلا رب ثمارها. . . وفيم ينفق الأمين العادل المحب ماله إلا على الأمانة والعدل والحب؟ إنه ليأخذها صاعاً فيردها بأمانته وعدله وحبه عشرة
على أن الشيخ لا يَهْنِئُه طعامه إلا إذا كان من كد يمينه؛ ولهذا يشتغل بالتجارة، ولأمر آخر(111/31)
هو القدوة، ويربي تجارته كأي من أبناء طائفته، ولا ينسى حادث ذلك الشيخ الذي عاش في المدينة على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان لا ينقطع عن العبادة في ليله أو نهاره، إلا ريثما يتأهب لرجع ما انقطع، وإنه لراقد بالعراء لا يحمل لدنياه هماً، وإن حمل لأخرته هموماً، يخف الناس إلى تزويده بالطعام سراعاً وهم يغبطونه على تزوده للآخرة، حتى مر النبي به في بعض غدواته، فدنا ممن أحاطوا به، وسألهم ما خطبكم حتى تكأكأوا على هذا الشيخ، قالوا: رجل صالح يا رسول الله، نهاره وليله صيام وقيام، فعجب النبي عليه الصلاة والسلام! وأسرع يسأل، ومن يقوم بطعامه؟. من يقوم بطعامه؟! رسول الله يسأل؟ فيا فخرنا عند رسول الله إن كنا نطعم الشيخ الصالح، ويا حظنا من رضا رسول الله إن علم أننا نؤثره على أنفسنا بالطعام. . . لم يكد النبي يسأل، ومن يقوم بطعامه؟ حتى تسابقت أصوات كثيرة تقول، ترجو ثواب الله. . . كلنا نطعمه يا رسول الله، وأحاطت أبصارهم بوجه النبي ترصد ابتسامة الرضا، فإذا بالوجه المشرق الكريم يعبس، ويضطرب، ثم تجتمع في غضبته حكمة الأبد من قوله: (كلكم خير منه). داعي الدعاة الشيخ المسن لا ينسى هذا الحديث، وإن قومه ليقدسونه، وتطيب نفوسهم له بكل ما يملكون، ويبلغ من تقديسهم شخصه أن يستكبروا على الأرض أن تمسها قدماه، فيحملونه إذا أراد الانتقال من حجرة من قصره إلى أخرى، وهو على رغم ذلك كله حريص على أن يغدو إلى متجره كل يوم، فيقضي بعض نهاره عاملاً لدنياه، كأنه على شيخوخته وضعفه، يعيش أبدا
إن الدين لله، فما يحفظ رجل الدين عليه حرمته، إذا وزن الدعوة إليه بالدرهم والدينار، إنما يسمو رجل الدين، وتخلص روحه، وتصقل نفسه فلا تمسها شائبة من أكدار الدنيا، إن يلتمس على جهده مثوبة الله وحده، مزدرياً للوظيفة تجري عليه فتذكره كلما أوشك أن ينسى، بأن دعوته رهن بوظيفته، ووظيفته رهن بدعوته. . . . فهل نوجب على رجل الدين أن يكون زاهداً؟ كلا بل نريده مع ذلك مكفول الرزق موفوره، بادي النعمة واليسار، عالي الكف يعطي ويتعفف أن يأخذ، وكيف السبيل؟
سبيل واحد يسلكه داعي الدعاة البهري، وعماله في مختلف البلاد، وقد سلكه من قبله أشرف البشر وسيد سادتهم محمد عليه الصلاة والسلام، إذ كان تاجراً؛ وفي التجارة وهي أم(111/32)
(المعاملات)، ألوان من الخير والأمانة والصدق والاستقامة والقناعة والدأب، ومن كل فضيلة في الأرض، وهي التي توجت (بالأمين) اسم محمد، و (بالصادق) أمانة محمد، فكانا شافعيه لدى الله في اختياره، ولدى الخلق في دعوته
وفي هامش هذا الحديث فلنذكر، أن داعي دعاة البهرا، أراد في العام الماضي، وكنت حينئذ في بمبي، أن يحج إلى كربلاء موطن قبر الحسين، ومفيض نفسه ودمه، وإذا سار الشيخ كانت الطائفة كلها تسير، فلا بد من مظاهر العظمة ومطالع الجلال، وأسباب التحدث بنعمة الله، وفي سبيل ذلك اكترى الشيخ باخرة من عظام البواخر، عبرت به إلى البصرة في ستمائة بهري، وما فتئ مذ وطئت قدماه أرض العراق يمجد الناس من عطاياه، بأكرم ما يتسع له كرم، وأكمل ما يفيض به جاه. . فمن أين؟ من تجارة الشيخ وكد يمينه وثانيهما
فلينته هذا الحديث الذي لا يفرغ منه، بأمرين، أولهما أن التعاون والمحبة هما روح الجماعة الصالحة المفلحة، وعلى قدر القلة في عدد الجماعة تكون قوة الروح، فكأن أجدادنا لم يخطئوا حين اتخذوا نظام القبيلة، وكأننا أحفادهم، لم نتقدم خطوة واحدة حين خلّفنا نظامها
وثانيهما أن التجارة أشرف حرفة وأعف حرفة، وأكفل حرفة بالنعمة واليسار، وأيسر حرفة مع الفضيلة، فإذا أهبنا برجل الدين، وإنه لأعظم الناس خطراً أن يعوّل عليها، ويلتمس شرفها، فأخلق بكل رجل أن يُحمِّلَها أمنيتيه من الغنى: غنى النفس وفي أعقابه غنى المال
القاهرة
محمد نزيه(111/33)
النهضة التركية الأخيرة والموسيقى الشرقية
بقلم عبد الحميد رفعت شيحة
قرأت بشغف عظيم ما خطه يراع الأستاذ القدير الدكتور عبد الوهاب عزام عن (النهضة التركية الأخيرة) وما تناوله من بحث ونقد أبرز الإصلاحات الكمالية بقلم نزيه مخلص يظهر منه بجلاء الأسف الشديد الذي يشاركه فيه كل شرقي يعتز بشرقيته على ما قام به الترك من قطع كل ما يصلهم بالشرق، وتجنبهم كل ما يدنيهم منه كما يتجنب السليم الأجرب. .! معتقدين أنهم بذلك يضمنون عطف الغرب عليهم، في حين أنهم لن ينالوا إلا سخرية تلك الأمم التي تقدس الشخصية والجنس
ولما لم يشر حضرة الأستاذ الدكتور إلى حملة الكماليين على الموسيقى الشرقية رأيت أن أتناول هذه الناحية بهذه الكلمة:
للموسيقى الشرقية تاريخ مجيد لم يبق خافياً على أحد. إلا أنه من الإنصاف أن نعترف بفضل الأتراك وخدمتهم لها. . فإننا لم نعد نقرأ فقط ما استحدثوه من علوم وفنون فيها، ومن اشتهر بينهم من أعلام الموسيقى، بل حفظوا لنا ثمارهم الفنية بتدوينهم لها بعد استعمالهم (النوتة الغربية)
وهم وإن كانوا إلى وقت قريب يستعملون التدوين الموسيقي على أخطاء كثيرة، إلا أنهم على كل حال قد صانوا ثروة فنية عظيمة يحق لنا أن نفخر بها أمام الموسيقى الغربية
هذب الأتراك الموسيقى الشرقية وأحدثوا بها فنوناً لم يكن للشرق عهد بها، وتبحروا في علم الأنغام ووضعوا لكل نغم شروطاً دقيقة تميزه وتظهر شخصيته بجلاء، ولهم في هذا الميدان جولات موفقة، حتى أنهم استنبطوا كثيراً من الأنغام الشائعة بيننا، ووجهوا عنايتهم كذلك إلى علم الإيقاع ووضعوا لأوزانه طريقة حديثة تدون بها، كما أن لهم فضلاً لا يستهان به في ابتكار جملة ضروب زادت من جمال الموسيقى الشرقية. هذا إلى اهتمامهم بضبط مسافات السلم الموسيقي الشرقي وعدم تركهم كبيرة ولا صغيرة في الموسيقى النظرية أو العملية إلا قتلوها بحثاً وتمحيصاً
إنه حق وفضل لا ينبغي إنكارهما. . وقد كنا إلى عهد قريب نعترف فخورين بزعامة تركيا للموسيقى الشرقية(111/34)
فلما قامت (النهضة التركية الأخيرة) تهللنا بشراً وقلنا لا بد أن القوم لن يقنعوا بما وصلت إليه موسيقاهم من تقدم ونجاح، وسيدأبون على البلوغ بها إلى أوج المجد والعظمة. . ولكن أحلامنا اللذيذة لم تلبث طويلاً عندما فوجئنا بقرارات الكماليين القاسية التي منها: استعمال الحروف اللاتينية بدل العربية، وهجر ألفاظ لغة الضاد، والترحيب بالمصطلحات اللاتينية و. . . وأخيراً. . عدم استعمال الأرباع الشرقية، وإلغاء الموسيقى التركية وإحلال الغربية محلها. .!
نزلت علينا تلك القرارات نزول الصاعقة وهدمت ما كنا نبنيه من آمال. . وظهر لنا ما يضمره الكماليون من إسراف في هجر الشرق والشرقيين، ومن رغبة في الفناء في الغرب والغربيين. .!
تتأثر موسيقى كل أمة - كما يتأثر أي فن - بعوامل شتى: منها الجو والأخلاق والعادات وغير ذلك. فليس من السهل أن نبدل بقرار ذوق أمة في غمضة عين، لأنها لم تكتسب هذا الذوق إلا بمرور الزمن وبفعل مؤثرات البيئة التي تعيش فيها. فقرار التركي الأب (أتاتورك) إلغاء الموسيقى التركية لا محالة خاطئ لأنه يجبر الأتراك على موسيقى لم يتذوقوها ولن يتأثروا بها مطلقاً. . فإذا سمع التركي مثلاً قطعة حماسية غربية فلن تهز مشاعره بقدر ما تفعل فيها قطعة تركية، لأن الأولى لم تصل إلى طريقة استفزاز شعور التركي، ولم تصدق في التعبير عن نفسيته، بعكس الثانية؛ وإذا كان الألماني مثلاً لا يتأثر بموسيقى الفرنسي أو الروسي كما تؤثر موسيقاه، فكيف بالتركي، والفرق شاسع جداً بين تقارب أمزجة هؤلاء وبُعد هذا الأخير عنهما. .!
كان الأجدر لو أريد قتل الموسيقى التركية أن تشجع الموسيقى الغربية ويشجع الاقتباس منها والتطعيم بها؛ فعلى مر الزمان تزول تلك الموسيقى التي لا نصير لها، بدل هذا التصرف الذي استعملت فيه الطفرة. ولكن من يجرؤ منهم على إعلان هذا الرأي يكون نصيبه شراً مما نال الأستاذ المدرس بالجامعة في المؤتمر اللغوي، وحسين جاهد، وقد أشار إليهما حضرة الدكتور عزام في إحدى مقالاته القيمة. .!
من هذا نلاحظ أن الديوان الموسيقي الغربي مكون من أصوات كاملة وأنصافها؛ بينما الديوان الشرقي يتكون من أصوات كاملة وأنصافها وأرباعها أيضاً. . ولكنهم مع ذلك آثروا(111/35)
الديوان الأول لأنه غربي قبل كل شيء. .!
فإذا كان الديوان الغربي موجوداً بتمامه ضمن الديوان الشرقي، وبذا يتسنى عزف أية قطعة غربية على أية آلة موسيقية شرقية، مع أنه في كثير من الآلات الغربية لا يمكن عزف أغلب القطع الشرقية. . . وإذا كانت الأرباع الشرقية تتيح ثروة جديدة في علم الأنغام زيادة على الثروة التي نحصل عليها من الأنصاف وحدها، وبذا يتسع المجال أمام الملحن ويمكنه أن يعبر بلحنه عما يشاء. . . . فهل من الحكمة أن نلجأ إلى الديوان الناقص ونترك الديوان الكامل. . .؟
إن كل مزايا الديوان الغربي موجودة في ديواننا الشرقي، وفوق ذلك فإن لديواننا مزايا أخرى عندما نستعمل الأرباع الصوتية، فلا شك حينئذ في أن قرار الحكومة التركية إلغاء الأرباع الشرقية في الموسيقى لم يكن لعيب في هذه الأرباع بل إتماماً للخطة التي رسموها من البعد عن كل ما هو شرقي أو يمت للشرق بصلة. .
الآن. . وقد ظهر للملأ تصرف الحكومة الكمالية وتنصلها من كل ما يقربها من الشرق سواء كان ذلك في الدين أو العلم أو اللغة أو الفن أو الأخلاق والتقاليد، فليس من الخير أن يقتصر موقفنا على مراقبة أعمال هذه الحكومة وعلى مناشدة الكتاب والمفكرين أن يتعاونوا في هذه السبيل (حتى يجلوا عن الأمة هذه الغمة، ويدفعوا عنها هذه الفتن المدلهمة، والشُّبه المضلة، ثم يسيروا بها على المحجة البيضاء إلى الغاية المجيدة) كما يتمنى الأستاذ الفاضل الدكتور عزام، بل يجب أن نفكر تفكيراً جدياً في نقل الفنون الشرقية من تركيا كي نحافظ عليها قبل أن تعفو ويطويها البلى
فإلى مفكري الشرق العربي أرسل هذه الصيحة راجياً أن يولوها حقها من الاهتمام، وأهيب بوزارة المعارف المصرية أن ترسل إلى تركية بعثة من طلبتنا النجباء كي يدرسوا فنون الموسيقى الشرقية الصميمة، وينقلوا لنا كل ما تصل إليه أيديهم قبل أن تتلاشى هذه الفنون ويتم حلول الموسيقى الغربية محلها، وذلك أسوة بالبعوث التي ترسها إلى أوربا؛ وهناك يتشبع الطلبة بالموسيقى الغربية ولا يكونون في المستقبل حرباً على الموسيقى الشرقية التي من العار أن تنهض على حساب الموسيقى الغربية أو تتلوث بدماء دخيلة فيتعكر صفاؤها. .(111/36)
إسكندرية
عبد الحميد رفعت شيحة(111/37)
دراسات في الأدب الإنكليزي
3 - وليم وردزورث
بقلم جرجيس القسوس
نظرة ونظرية في الأدب
ظهرت الطبعة الأولى من ديوانه سنة 1798 كما بينا سابقاً، أما الطبعة الثانية فقد نشرت سنة 1800 حاويةً مقدمته الشهيرة التي ضمنها نظريته في الأدب عامة وشعره خاصة دون خيفة أو تردد. ولكولردج في الطبعة الأولى من هذه المجموعة ثلاث قصائد. غير أنه أضاف إليها قصيدتين أخريين ظهرتا في الطبعة الثانية. وهذه القصائد الخمس هي (الملاح القديم، والعندليب، - والحبّ). وما كاد الأدباء والكتاب يطلعون على آراء وردزورث في مقدمة ديوانه ويقرأون أشعاره في ديوانه حتى تناولوه بأقلام نارية وألسنة حادة، فسخروا ما شاء الله لهم أن يسخروا بآرائه وأشعاره. ولم يبق ديوانه في شكل واحد بل ظهر في أوضاع شتى، وكان الشكل الأخير الذي ظهر فيه سنة 1845 جامعاً جزأين مع المقدمة ومذيلاً بملحق في (التعابير الشعرية)
أما النظرية التي أودعها المقدمة فتتلخص فيما يلي: -
(على الشاعر أن ينتزع موضوعاته من الحوادث العادية المألوفة، وأن يعبر عنها بلغة سهلة واضحة ليفهمها (الراعي والعالم) على السواء. أي لا تكون خلواً من البلاغة، ولا تهبط إلى درجة الركاكة والفهاهة. وعليه أيضاً أن يلبس الحوادث كساء من الخيال الرائع لكي تظهر وهي عادية مألوفة غير عادية ولا مألوفة، وأن يقف تجاه كل حادث موقف العالم المدقق المحقق، الذي يحلل الأمور تحليلاً علمياً منطقياً، فيبحث عن المسبَّبات ويرجعها إلى أسبابها، محكماً في كل حالة عقله في التحليل وعاطفته في التعبير. أما الشعر فهو الانبعاث الطبيعي للشعور القوي الزاخر؛ وما الشاعر إلا إنسان يخاطب بشراً، إنسان شديد الإحساس والغيرة متضلّع من درس الطبيعة البشرية، تنكشف له نواح في الحياة ومظاهر في الطبيعة تحتجب عن غيره، وهو يعبّر عن موضوعه بلغته ليتغنى بها الجميع. بهذا يمتاز الشاعر من سائر البشر عموماً ومن علماء الطبيعة بعض الامتياز خصوصاً)(111/38)
ولقد نحا وردزورث في انتخاب موضوعات أشعاره منحى إسحاق ملتن ووليم بلايك وروبرت برنز وفراي وغيرهم، غير أنه لم يقتصر على أسلوب واحد في النظم، بل طرق معظم البحور والأوزان الشعرية التي سبقه إليها الشعراء قبله. أما سبكه اللفظي ففي غاية الدقة والبساطة، وتراكيبه خالية من الألفاظ اللاتينية التي يكتظ بها شعر ملتن، ومن قالكية بوب، أو إبهامية بروننج الناجمة عن تطرّفه في الإيجاز. ويندر أن تجد في شعره رجوعاً إلى الأساطير الأولى أو اقتباساً من الأدب (الأصولي) الكلاسيكي أو تقليداً له، ولقد أكثر من دراسة الشعراء الذين سبقوه وخصوصاً شكسبير، وملتن وجوسر وسبنسر وكونز وفراي وتشبع بآرائهم وأساليبهم فنسج على منوالهم في بدء حياته، غير أنه عاد فابتدع له أداة للتعبير خاصة به. أما ميزات شعره فتتلخص فيما يلي:
بساطة الأسلوب وسهولة التعبير، ووضوح المعنى في أغلب الأحيان
انتزاعه موضوعات أشعاره من الطبيعة والحوادث اليومية والأشياء العادية المألوفة. وقد ذكر هاتين الميزتين في الكلام على مقدمة ديوانه
تصوفه:
وهذه إحدى خصائص الحركة الأبتداعية التي كان يمثلها شاعرنا في بلاد الإنكليز أصدق التمثيل. ووردزورث يرى أن الله روحٌ تقطن في جميع مظاهر الكون أو الطبيعة الخارجية من هواء وجبال ورياح وصخور حتى الرعاة والحيوانات. وتظهر لنا هذه الفلسفة جليّة في قصيدته وتعرف عند أهل اللاهوت والصوفية (بشمول الألوهية) أو (وحدة الوجود) (أي أن الله إنما هو القوي والنواميس الطبيعية وأنه حال في كل شيء وليس مستقلاً). على أنه لم يتمسك بهذه العقيدة تمسكاً دينياً ذميماً كما يظن بعضهم، بل اتخذها عقيدة شعرية وقتية دفعته عاطفته وروحه الشعرية إلى إيرادها في سياق الكلام
ولعه بالطفولة والأطفال:
وهذا ظاهر في معظم قصائده مثل (نحن سبعة)، وفي القصائد التي ورد فيها ذكر الطفلة (لوسي). وتتجلى هذه الخاصية بوضوح في قصيدته (خواطر في الخلود من ذكريات الطفولة)؛ ففيها يرى أن الإنسان أقرب ما يكون إلى الله وإلى السماء في أوان الطفولة.(111/39)
وهو يؤمن بسابق وجود الإنسان وأزليته أي أن الإنسان كان أصلاً في السماء فهجرتها روحه وظهرت في جسد بشري على الأرض. فالإنسان في عهد الطفولة يكون بحكم الطبع قريباً جداً من الزمن الذي قضته روحه في السماء، لهذا يفضل عهد الطفولة عهدي الكهولة والشيخوخة. إلا أنه يحسن بنا أن نرفق بالشاعر فلا نجري عليه الأحكام الجارفة في كل ما نعزوه إليه من العقائد. فهو - كما بينا سابقاً - لم يكن متعصباً لرأي أو لعقيدة واحدة منظمة شأن كبار الفلاسفة أو اللاهوتيين وإنما كان شاعراً يكتب عن عاطفة شديدة، فهو لا يستقر على رأي من الآراء ما دامت العاطفة لا العقل هي الدافع والمحرك له في أغلب منظوماته
الخيال الرائع
يمتاز وردزورث بإلباسه الأشياء الطبيعية المألوفة كساء من الخيال الراقي، وعنده أنه كلما ازداد الشاعر توسعاً وانطلاقاً في عالم الخيال ازداد لذة واستمتاعاً في الحياة. ويختلف عن كولردج باتخاذه عاديات الأشياء ومألوفها مواضيع تصويره وخياله متوخياً أن يبتدع مما هو عاديٌّ ومألوف شيئاً جديداً مبتكراً. فبينا كولردج يتدرج من عالم الروح والخيال إلى عالم المادة والحقيقة ترى وردزورث يشرع من عالم المادة وينتهي عند التصاوير الشائقة والأخيلة الرائعة
غموض معانيه
وهذه الميزة لا تلازم معظم أشعاره وإنما تصدق على البعض منها. وغموضه ناجم عن عجزه في بعض الأحيان عن التميز بين ما هو عادي مألوف وما يظنه غريباً نادراً؛ هذا عدا جنوحه إلى إلباس الأشياء العادية حلة من رائع الخيال مما يوقع القارئ في ارتباك شديد يجعله غير قادر على إدراك المعنى الصحيح وتفهم ما يتوخى الشاعر إفهامه
وعدا هذا يمتاز وردزورث بوصفه الحيوانات والطيور الأهلية منها والبرية. ويؤخذ عليه ندور ورود النكتة في أشعاره، وأن أشعاره لا تلهب الحماسة في نفس القارئ
ولكي يتم لنا البحث في أشعاره لا بد لنا من أن نقول كلمة في قصيدتين كبيرتين من قصائده ألا وهما الفاتحة والنزهة أما (الفاتحة) فهي ترجمة وافية لحياة وردزورث الشعرية، ففيها يبحث عن تطور نفسه الشعري ونمو سليقته منذ عهد الطفولة. في هذه(111/40)
القصيدة ملتقى حاضره وماضيه، وفي هذا الملتقى مبعث لشعوره. إذ أنه كلما ذكر أيام الصبى اللذيذة اختلجت في نفسه عاطفة قوية وتملكه شعور لذيذ لا يتمالك من بعثه شعراً حياً لا أثر للكلفة فيه. وللذاكرة المقام الأول والفضل الأكبر في تصويره أحلام الطفولة وأيام الصبى، إذ لولاها لنضب معين شعوره وإنحبس لسانه عن التعبير عما يجيش في صدره من مشاعر وفي نفسه من خلجات، ووقف قلمه عن وصف الأويقات العذبة الهنيئة التي قضاها تحت كنف أمه الرؤوم: الطبيعة بأبسط معانيها وأجلى مظاهرها. وهذه القصيدة مهداة إلى صديقه الشاعر كولردج، وتقع في عدة أبواب يختص الأول منها بحياة الطفولة، والثاني بحياة المدرسة، والثالث بالسنين التي صرفها في كمبرج، والرابع في حياة لندرة ومؤثراتها، والخامس بزيارته الأولى لفرنسا والألب وإقامته في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، غير ذاكر شيئاً عن علاقته بأنيت فالون معشوقته المعهودة
أما (النزهة) ففيها يحلق الشاعر ويسمو في عالم الروحيات إذ هي مجلي تأملاته في الفلسفة والاجتماع وعلم النفس والصوفية، وفيها يطرق شتى الموضوعات العلمية البحتة، كتركيب العقل ونشوئه، وفلسفة العواطف، والتأمل؛ غير أنه يكسوها حلة من الخيال، ويعبر عنها بأبسط التراكيب وأسلس العبارات وأوضحها، هذا إذا ضربنا صفحاً عن جنوحه في بعض الأحيان إلى الغموض في المعنى. (والنزهة) تقع في تسعة أجزاء مقتضبة، كل فصل منها حاو لقسم من أقسام القصة التي يسردها ويجعلها هيكل هذه القصيدة الكبرى
وهو في جميع مباحثه هذه لا يتوخى غير الصدق وإظهار عظمة الخالق. أما مدار بحثه في هذه المواضيع فنفسه، لا لأنه صنع من جبلة غير التي صنع منها سائر البشر، بل لأنه أكثر علماً بنفسه من غيرها من النفوس
ولقد أثارت نظريته هذه وأشعاره جدلاً عنيفاً وبحثاً متواصلاً في البيئات الأدبية، فمن الأدباء من حمل عليه وطعن فيه، ومنهم من انتصر له. ومن الذين انتقدوه فرنسيس جفري وبيرون وهزلت، ومنهم أيضاً صديقه كولردج في فصل من كتابه (تراجم أدبية)، بيد أنه لم يكن هدّاماً في نقده ولا شديد التحامل عليه في تعليقه على آرائه كغيره من النقاد. أما إمرسن الكاتب الأمريكي الشهير فينتصر له، ويعدّ قصيدته (خواطر في الخلود من ذكريات الطفولة) التي تمثل عقيدة شاعرنا الفلسفية ونظريته الأدبية بعض التمثيل، من أروع بل(111/41)
أروع ما خلّفه لنا أدباء القرن التاسع عشر من القصائد. ولقد كان ديوان وردزورث معواناً للفيلسوف الإنكليزي الشهير جون ستوارت مِلْ على تخلصه في ربيع حياته من السويداء التي كانت تلازمه من حين إلى آخر، إذ وجد في قراءة القصائد الفلسفية والدينية منها راحة وعزاء بل خير شفاء له من دائه النفساني
ومؤرخو الأدب الإنكليزي يجعلون السنة التي ظهر فيها ديوان وردزورث لأول مرة، أي سنة 1798، فاتحة العصر الأبتداعي، لأن أشعاره تمثل الحركة الأبتداعية من الناحية الأدبية خير تمثيل. ولكي يتضح لنا معنى هذا القول علينا أن ننظر بعض النظر في خواص هذه الحركة، وخصوصاً الناحية الأدبية منها
(البقية في العدد القادم)
جرجيس القسوس(111/42)
في اللغة والأدب
المثنيات
للأستاذ محمد شفيق
إن من خصائص اللغة العربية التي امتازت بها على غيرها من اللغات الحية هذه المثنيات. وقلما يخلو علم من علوم لغة الضاد من مثنيات إن قليلة أو كثيرة. وقد رأيت أن أقدم إلى قراء (الرسالة الغراء) أمثلة منها مرتبة على العلوم، مبتدئاً بالأدب واللغة لشدة علاقتهما بالرسالة، وإن كانت هي حفية بالثقافات الإسلامية والعربية وغيرها:
المثنيات في اللغة والأدب والنحو والعروض
(الأبردان) الغداة والعشيّ، والظل والفيء، وفي الصحاح: الأبردان: العصران. (الأبيضان) اللبن والماء، أو الشحم واللبن، أو الشحم والبياض، أو الخبز والماء، أو الحنطة والماء، أو الملح والخبز، قال الشاعر:
ولكنه يأتي إلى الحول كاملاً ... وماليَ إلا الأبيضينِ شَرابُ
(الأجدّان) الليل والنهار، وكذلك الجديدان، والدائبان والطريدان، والعصران، والملوان، والأحدثان، والأصرمان
(الأحمران) الخمر واللحم، وفي المثل (أفسدَ الناسَ الأحمران) قال الشاعر:
إن الأحامرة الثلاثةَ أهلكتْ ... مالي وكنت بهنَّ قدماً مولعا
الرَّاح واللحم السمين وأطَّلي ... بالزعفران فلا أزال موَلعا
(الأخضران) النباتان القريب والبعيد، لأن القريب أخضر حقيقةً، والبعيد كما قالوا أسود؛ والأسود عند العرب أخضر، يقال فلان أحرق الأخضرين: يراد المبالغة في ظلمه وتعديه، كأنه يوصل الشرَّ إلى القريب والبعيد. وقيل الأخضران: النبات والإنسان من العرب؛ قال الفضل بن العباس:
وأنا الأخضرُ من يعرفني ... أخضر الجلدةِ من نسل العربْ
(الأصرمان) الذئب والغراب لأنهما انصرما عن الناس، أي انقطعا، قال:
وموماة يحارُ الطرفُ فيها ... إذا امتنعتْ علاها الأصرمان(111/43)
(الأعميان) السيل والفجل، والسيل والحريق، والسيل والليل، والسيل والجمل الهائج: لأنها لا تتقي موضعاً ولا تتجنب شيئاً كالأعمى الذي لا يدري أين يسلك فهو يمشي حيث ذهبت رجله
(البازيان) الأعشى وجرير. كان أبو عمرو بن العلاء يقول:
الأعشى وجرير بازيان يصيدان ما بين العندليب إلى الكركي
(البردان) الغداة والعشي، قال ابن خالويه: حدثنا ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: دعا أعرابي لرجلٍ فقال: أذاقك الله البردين - يعني برد الغنى وبرد العافية - وأماط عنك الأمَرَّين، يعني مرارة الفقر ومرارة العري، ووقاك شر الأجوفين، يعني فرجه وبطنه
(الحكيمان) أبو تمام والمتنبي: سئل أبو العلاء عنهما وعن البحتري فقال: هما حكيمان والشاعر البحتري، كأنه يريد أنهما ينتزعان المعاني من كلام الحكماء ويراعيان الصناعات الشعرية التي أحدثها المتأخرون، وأما البحتري فإنه يجري على عادة العرب في ترك التكلف واختراع المعاني
(الخالدان) هما خالد بن نضلة بن الأشتر بن جحوان، وخالد بن قيس بن المضلل بن مالك، قال الشاعر:
فقبليَ مات الخالدانِ كلاهما ... عميدُ بني جحوان وابن المضللِ
(الخالديّان) هما أبو بكر وأبو عثمان ابنا هاشم الشاعران المشهوران، قال الصابي:
أرى الشاعرين الخالديين نشَّرا ... قصائدَ يفنَى الدهرُ وهي تقيدُ
تنازع قومٌ فيهما وتناقضوا ... ومَرّ جدالٌ بينهم وتردُّدّ
فطائفةٌ قالتْ سعيدٌ مُقدم ... وطائفةٌ قالت لهم بل محمدُ
وصار إلى حكمي فأصلحتُ بينهم ... وما قلتُ إلا بالتي هي أرشدُ
هما لاجتماع الفضل روحٌ مؤلف ... ومعناهما من حيثُ ألفيت مفردُ
كما فرقدا الظلماء لما تشاكلا ... علاءً أشكا ذاك أم ذاك أمجدُ
فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحدُ
فقاموا على صلح وقام جميعهم ... رضياً وساوى فرقدَ الأرض فرقد
(السّببان) هما عند علماء العروض خفيف، وهو حرفان ثانيهما ساكن، وثقيل وهو حرفان(111/44)
متحركان
(الصادان) هما الصاحب بن عباد والصابي، قال أبو الحسن البنداري: أكتب أهل العصر الصادان
(الجرادتان) هما قينتا معاوية بن بكر أحد العماليق واسمهما بعاد وثماد، وبهما ضرب المثل (ألحن من الجرادتين)
(الصناعتان) هما عند الأدباء صناعة الشعر وصناعة النثر، وللبلغاء فيهما مؤلفات كثيرة، وأما الصنعتان في قول الوراق يرثي أبا الحسين الجزار:
يا عيدنا الأضحى سقى ... صوبُ الغمام أبا الحسينِ
لو عاشَ فيك لقد غدا ... يشكو بوارَ الصنعتينِ
فالمراد بهما صنعة الجزارة لعدم من يتقدم إلى الله بالأضاحي، وصنعه الشعر لعدم الكرماء
(الفاصلتان) هما عند العروضيين صغرى، وهي ثلاثة أحرف متحركات على التوالي يعقبهن ساكن، وكبرى، وهي ما تجمع أربعة أحرف متحركة على التوالي يعقبهن ساكن
(رهين المحبسين) هو أبو العلاء المعري، سمى نفسه بذلك وكان لزم بيته فلم يخرج منه مطلقاً، فأراد بأحد المحبسين البيت وبالآخر العمى
(ملكا الشعراء) هما امرؤ القيس وأبو فراس الحمداني، قال الصاحب بن عباد: بدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس
(فعلا المدح والذم) و (جمعا التصحيح) و (اجتماع الساكنين على حدة) و (اجتماع الساكنين على غير حدة) عند النحويين مشهورة
محمد شفيق(111/45)
صور من التاريخ الإسلامي:
عبد الله بن الزبير (1 - 73هـ)
بقلم محمد حسني عبد الرحمن
كان القرن الهجري الأول عامراً بالأبطال الذين ترتكز بطولتهم على العقيدة، وتقوم شخصياتهم على العزائم الثابتة، والمبادئ الواضحة القويمة. ولو أن مؤرخاً إسلامياً أراد أن يسجل صفحة ثبتاً بأسماء النابغين من رجالات قريش، في الصدر الأول من الدولة الأموية، لكان خليقاً به أن يضع في طليعتهم بطلاً فذاً، كان لا ينفك شوكة في جنب هذه الدولة، لسموّ نفسه، وطمعه في الخلافة، وعمله لتحقيق غرضه؛ حتى كاد ينتزع اللقمة لنفسه من فم تلك الدولة الفتية؛ كان يطمع في النجم، وكان يؤيد مطامعه عزمٌ قوي، وبأس شديد، ولسان ذربٌ، وشرف واضح، وهمةٌ قعساء، تعضُدها الشهامة والبطولة، ولقد تمت له بكل هذا أدوات الرجولة. ذلك هو عبد الله بن الزبير الأسدي القرشي
أنجبه أبوان كريمان؛ أما أحدهما فالزبير بن العوام بن خويلد من بني أسد بن عبد العُزى، حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية؛ ولم يكن الزبير مغموراً ولا وسطاً في الناس، وإنما كان رجلاً من الطراز الأول، ومن ذوي المقامات الممتازة الذين تقوم الدول على أكتافهم، ولا يُبَتُّ في أمر هام إلا بعد مشورتهم وبذل نصحِهم؛ ولقد كانت له اليد الطويلة في نجدة الإسلام أيام كان المسلمون قلة، كما كانت له مواقف مشهودة وآراء سديدة، في فتح البلدان، ونشر الإسلام؛ أرسله أميرُ المؤمنين عمر إلى مصر نجدة لابن العاص وهو يحاول فتحها، وقال له: إني أرسلت إليك رجلاً بألف! ولقد برهن الزبير بسداد رأيه، ومجيد أعماله أنه أهل لهذا التقدير العظيم. وفي الحق أن الزبير كان يُعدّ في الصف الأول بين أمجاد قريش، وذوي الثروة فيها، وقد رشّحه مركزه ونباهة شأنه، وقوة شخصيته للخلافة؛ فكان أحد الستة الذين عهد إليهم ابن الخطاب، أن يختاروا خليفة منهم بعد وفاته للمسلمين
هذا هو الزبير أبوه؛ أما أمه فحسب القاريء أن يعرف أنها أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأخت عائشة أم المؤمنين، وكانت مع شرف أرومتها، ذات حزم وفِكرٍ ثاقب، كما كانت صلبة العود، أبية النفس، لها عزمٌ جبّار؛ فلو أنها لم تكن أنثى، لكانت رجلاً ولا كالرجال!!!(111/46)
من هذه الأنساب الواضحة، والدوحة الباسقة، خرج عبد الله وورَّثه آباؤه وأقرباؤه جُل الصفات الممتازة التي تغَذى الطموح وتذكيه؛ وساعدت بيئته التي نشأ فيها على تنمية خلال البطولة والإقدام في نفسه، فامتاز بالفصاحة، وذلاقة اللسان، وقوة الحجة، حتى كان يعد من خير خطباء الإسلام؛ واشتهر كذلك فضله وزهده، وطول صيامه وقيامه، بين الخاصة والكافّة. أما شجاعته فحدِّثْ عن الليث ولا حرج! فهو الذي يقول: (ما أبالي - إذا وجدت ثلثمائة من الرجال، يصبرون صبري - لو أجلب بهم على أهل الأرض!!) ويشهد له أبو عبيد بأكثر من هذا فيقول (إن عبد الله كان لا يُنازع في ثلاث: شجاعة، وبلاغة، وعبادة) وتلك عدةُ الرجولة الكاملة، وخاصة في ذاك العصر
كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة عام الهجرة، فدرج بها، ونشأ فيها، حتى نال من التعليم المنتشر في عصره ما أكسبه ثقافة دينيةً محضة، فعرف الكتابة والقراءة، على طريقة عصره، وحفظ الكتاب، وروى الأحاديث؛ واقتدى في حياته وعبادته بمن كان يخالطهم ويعاشرهم من جلة الصحابة الكرام؛ فأثر هذا في أخلاقه تأثيراً كبيراً، كان من ثماره تلك النزعة، نزعة العبادة وطول القيام والتهجد التي غلبت عليه فيما بعد. وكان أهم ما يجذب النظر إليه وهو صغير، جراءته النادرة، وميله إلى العناد، مع الثقة بنفسه، والاعتداد بقوته؛ (كان ذات يوم يلعب مع الصبيان، فمرّ رجل فصاح بهم، ففروا ومشى عبد الله القهقري (بظهره) ثم قال: يا صبيان اجعلوني أميركم، وشدوا بنا عليه فنهزمه!). ومرَ به عمر بن الخطاب، وكان عبد الله مع صبيان يلعبون، ففروا وبقي هو؛ فقال له عمر: لماذا لم تفر مع رفاقك؟ فأجابه بجراءة وفصاحة: (لم أُجرم فأخافك، وليست الطريق ضيقة فأوسع لك). هذه أمثلة صغيرة، ولكنا نلمس فيها روحاً متحركة وثابة، في زمن الطفولة والتنشئة، ونستنبط منها أن للعظمة بوادر تلوح في الحوادث الحقيرة، كأنها إرهاصاتٌ لظواهر أخرى كبيرة، تكون حينما تكون عظائم الأمور، ومن هذه المثل وأشباهها نعرف أيضاً مدى اعتداده بنفسه، وثقته بها؛ ولا ريب أن الحبّة الجيدة إذا صادفت أرضاً خصبة فإنها تشق الأرض شقاً، لتحيا على أنضر ما تكون النبتةُ الطيبةُ حياة وبهجة!
ولما بلغ أشده وأطاق حمل السلاح، ثقف صناعة الحرب، ثم صحب الجيوش الغازية، وأبلى في العدوّ بلاء محمودَ الأثر؛ روى الزبير بن بكّار (أنه - عبد الله - قتل بيده في(111/47)
فتح إفريقية أميرَ جيوش الروم) فأرسله عبد الله بن أبي سرح (وكان قائد جيش المسلمين) بشيراً إلى أمير المؤمنين عثمان، فلما سمع بشارته أعجبه كلامه وشجاعة قلبه، ثم سأله: أيمكنه أن يخطب الناس بمثل ما أخبره به؟ فأجابه: وما يمنعني من ذلك؟ ثم قام خطيباً، وتدفّقت من فيه آيات البلاغة، وأطنب في وصف الفتوح، وفصّل هزيمته العدو، حتى أسر القلوب، وأدهش السامعين، بفرط بلاغته وقوة عبارته، وتمكنه من ناصية القول والموقف؛ فقام أبوه وقبله بين عينيه، وانفضّ الجمع، وليس فيهم إلا معجبٌ ببيانه، مثنٍ على شجاعته
ولم أطلع في وصف عبد الله على عبارة وافية موجزة أبلغ من قول أبي عمرو بن عبيد: (كان عبد الله شهماً ذَكَراً ذا أنَفَةٍ، وكان له لَسَنٌ وفصاحة، وكان كثير الصلاة والصوم والعبادة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات).
بهذا الوصف الكريم الجامع أستأهل ابن الزبير أن يكون في الطبقة العالية بين رجال عصره، وما فتئ عثمان يتفرس في مخايله قوة الشكيمة، وفرط النبوغ؛ ويرمقه بعين ملؤها الحبُّ والرضا، حتى كان يوم الدار، فاستخلفه عليها قبيل مصرعه. . .
ومن ثمَّ دبَّ الطمع إلى قلبه في طلب الخلافة لنفسه، وأبقى ذلك سراً مكتوماً، ولكنه لم يأل جهداً في تحقيق هذا الحلم الجميل، الذي يلائم طبعه ويشبع رغباته الكامنة؛ ولم لا يكون خليفة وقد استخلفه أمير المؤمنين عثمان على داره التي هي دار الخلافة؟ ولِمَ لا يكون خليفة وجدُّه أبو بكر أول الخلفاء؟ بمثل هذا تحّدث إلى نفسه، ولكن أنىَّ له هذا، وفي القوم كثيرٌ ممن يكُفُّونه بمجرد وجودهم عن ذلك المرتقى السامي؟؟ وإذن فليرتقب سنوح الفرصة، وليأخذ أهبته ريثما تواتيه الظروف المسعدة، عسى أن ينال ما يبتغيه!! وقد قضت عليه سياسة الترقب هذه أن يناوئ كل خليفة يلي الأمر من بعد عثمان، فما هو أن بويع عليٌّ بالخلافة حتى قام عبد الله يؤلب عليه أهل الحجاز بزعامة أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله، وتحت راية خالته عائشة، وما كانت أم المؤمنين لتخرج من تلقاء نفسها لملاقاة عليٍّ بالعراق، وإنما زجها عبد الله ودفع بها في هذا المأزق الحرج، بعد أن بين لها فظاعة الجريمة التي ارتكبها الثائرون ضد عثمان، وبعد أن هوّل ما بينها وبين علي من الأحن القديم، فاستجابت طبيعة المرأة لما أُلقي إليها من دواعي الإغراء، وأجمعت أمرها على النزال، فقامت تخطب المسلمين، تحرضهم على الانتقام لعثمان. . . . حتى كان ما كان يوم(111/48)
الجمل. روى المسعودي (أن عائشة قالت يوماً: إذا مرَّ ابن عمر فأرونيه، فلما مرَّ قالوا هذا ابن عمر؛ فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري إلى العراق؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك، ورأيتك لا تخالفينه!! (يعني عبد الله بن الزبير)
يؤخذ من هذا ومن قول الرواة أن عبد الله كان هو المحرك الخفي لجيش عائشة على علي، وأنه كان قطب الرحا يوم الجمل، والدافع له إلى هذا إنما هي نيته المستورة، ورغبته المكبوتة في أمر الخلافة
ثم تجري الأمور على قدر، ويتولى معاوية الأمر بعد مقتل علي، فيتمنى عبد الله أن لو كان معه جند يشد أزره أمام الخليفة الجديد! ولكن أنى له ذلك الآن! وقد انقسم المسلمون فرقتين، ظفرت سياسة إحداهما بزعامة معاوية، وخذلت الأخرى بمصرع ابن أبي طالب، فلم يبق إلا الإذعان للواقع، والحزم إذن في المداورة لمن يبغي أمراً جللاً كهذا، ولا بد حينئذ من المبايعة، مع الترقّب من جديد لفرصةٍ أخرى أمثل من هذه
بايع ابن الزبير معاوية، وفي نفسه غصة، ولقد كانت المطامع الكبيرة التي ينطوي عليها توقفه من معاوية موقف الند للند، بل موقف المشاكس المناقض، حتى ليهم الخليفة أن يبطش به، فلا يحجزه عن ذلك إلا مركز عبد الله من جهة، وخشية الانقلاب والفتنة من جهة أخرى، يروي أن معاوية حجّ سنة، ثم رحل إلى الشام ليلاً، فلم يعلم بسفره من غير خاصته إلا عبد الله، فقفا أثره على فرس ومعاوية نائم في هودجه، فانتبه على وقع الحافر، وقال من صاحب الفرس؟ قال أنا عبد الله! لو شئت يا معاوية قتلتك الآن!! (يمازحه بهذه الكلمة) قال معاوية لست هناك، ثم دار بينهما حوار طويل، وكان مما قال عبد الله: أفعلتها يا معاوية! أما إنا قد أعطيناك عهداً، ونحن وافون لك به مادمت حياً، ولكن ليعلمنَّ من بعدك!!! وفي هذا التهديد ما ينم عن ثورة عنيفة يتأجج بها صدر عبد الله، وإنما كان يكتمها إلى أجل؛ وكثيراً ما كان يضيق به معاوية فيغمز عليه عمرو بن العاص ليُحرجه ويستثير دفائنه، فيقع بينهما في مجلس الخلافة الجدال الشديد، والتفاخر بالآباء والأحساب، ولكن ابن الزبير كان يفحم عمراً بالقول الرادع، والحجة الدامغة. قال له مرة: (يا ابن العاص. إنما طال بي إلى الذُّرى مالا يطول بك مثله: أنفٌ حمي، وقلبٌ ذكي، وصارم مشرفي، في تليد فارع، وطريف مانع). فعبد الله - كما قلنا - يطوي نفسه على طلب الخلافة، ويستسر(111/49)
الأمر، ولم يكن هذا ليخفى على أحد، حتى على الخليفة نفسه؛ وتتضح نيته، وتظهر مطامعه لمعاوية حينما يطلب منه أن يبايع لابنه يزيد. يروي الرواة أنه لما طلب منه ذلك أطرق مفكراً، فقال معاوية مالي أراك مطرقاً إطراق الأفعوان في أصول الشجر؟ قال: (أنا أناديك ولا أناجيك؛ أخوك من صدقك، ففكِّر في الأمر قبل أن تندم) فهو لم يرض البيعة ليزيد، ولم يوافق معاوية على ما أراد لابنه من المُلك؛ وبهذه اللهجة الحازمة جابه خليفة المسلمين، مع قدرته على الفتك به. ولقد حذّر معاوية ابنه يزيد منه، إذ كان لا يخشى عليه أحداً سواه؛ قال لابنه: (إياك منه - ابن الزبير - إنه الثعلب الماكر، والليث يصول بالجراءة عند إطلاقه، فوجَّه إليه كلَّ جدك وعزمك، وأما ما بعد ذلك فقد وطّأت لك الأمم، وذللت لك أعناق المنابر. . .). فمعاوية السياسي الخطير، والداهية العظيم، لم يكن يخشى على خلافة ولده إلا عبد الله؛ وإنما كان يتوقع الشر والوثوب من جانبه، لما يعهده فيه من قوة الشكيمة، وصدق العزيمة، وأنه لا يستكين ولا يستخذي، وأن صدرَه مطويٌّ على أمور جسام
ويلحق معاوية بربه، فيتجلى نزوع ابن الزبير للخلافة بصورة واضحة قوية، حيث يتولى يزيد الأمر، ويميل إلى السرف في المتع والشهوات، وينغمس في ملاذه، حتى لينسيه ذلك أن يعني بأمور المسلمين على الوجه الذي يرضي جمهرتهم في سائر الأمصار، ويضمن التفافهم حوله. حينئذ يغلي صدر عبد الله بمكنوناته، فيتحفز، وتزداد حرارة نفسه، ثم ينطلق إلى منبر المدينة، فيلقى من أعلى ذروته على أهل الحجاز كلمة الثورة على الخليفة الأموي؛ يخطب القوم خطبة حماسية حارة، يسب فيها يزيد، ويذكر مقابحه وعيوبه، ثم يبلغ كلامه مسامع يزيد، فيؤدي هذا إلى وقعة الحرَّة، التي انتهك فيها جيش الخليفة حرمات المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه نقطة سوداء أثيمة، كان من شأنها تحويل قلوب كثيرة من مختلف الأقطار الإسلامية عن الخلافة الأموية، وساعدت ابن الزبير كثيراً على مطلبه؛ وقد قلنا إنه كان يتطلع إلى منصب الخلافة وزعامة المسلمين منذ زمن بعيد، وكانت نزعته هذه تعتمد على عدة أمور: منها أن عثمان استخلفه على الدار يوم حصارها، فتدخَّله من هذا الاستخفاف طموح إلى الأمر، ولذا كان يقول لئن أُصبتُ بأبي فلقد أصبت بإمامي عثمان؛ وقوّاه على هذا أن طلحة والزبير قدّماه للصلاة بالناس أيام وقعة(111/50)
الجمل، وكأني به يقول لنفسه: لم لا أكون خليفة المسلمين، والأمر لا يجري على ميراث ولا يتبع قانوناً؟ ولم لا يؤسس أسرة زبيرية، كما أراد معاوية أن يقيم دولة سفيانية؟ وقد نمى عنده هذه الخواطر ما أنسه من قوة الشخصية، وشدة الاعتداد، مع شرفه وجراءة قلبه. سأله ابن عباس مرة: بماذا تروم هذا الأمر؟ قال بشرفي!، وقد وجد في أهل الحجاز ضراماً لناره، فهم يؤيدونه على الأموية، ولذا اتخذ الحجاز مقراً لدعوته
(البقية في العدد القادم)
محمد حسني عبد الرحمن(111/51)
الشباب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة
مستقبل الإنسانية رهن بطموح الشباب إلى المثل العليا وعزوفه عن حقيرات الأمور وإبائه الضيم للناس ولنفسه، وبألا يقنع من الحياة بما يرى، وبأن يحاول أن يبلغ من جليلات أمورها البعيد الداني إلى قلبه ونفسه، وبأن يحاول أن يقهر طاغوت الأمور وجبروتها، وأن يستنقذ الدهر من عبث العابثين الذين جعلوا الحياة مهزلة رخيصة ومأساة وضيعة
الناظم
إن الشباب حديقة الأزمان ... عَطِر الروائح ناصع الألوان
مثل الربيع إذا جلوت بسحره ... نَوْرَ الرُّبَى وأطايب البستان
روحٌ من الفردوس يُثمِل نَشْرُه ... تغدو الحياة به رياض جِنَان
ما راعه حكم الحِمَام وصَوْلُه ... إن الشباب من الخلود لَدَاني
لا اليأس يضنيه ولا جزع إذا ... كثر العثار وزلت القدمان
ينسى الذي يمضي لينشد مقبلاً ... مستأنفاً للعيش بالنسيان
ولو أن رفضا للقضاء يذيقه ... كأْساً تذيب القلب من ذيفان
والشيب بالتسليم يكسر سمها ... حيث الشباب لِغِرَّة الأسوان
وهو المغامر في الحياة بنفسه ... نشوان لا من خمرة النشوان
نشوان من خمر الحياة وكأسها ... تغنيه عن نشوات بنت الحان
فكأنما فك الزمانُ قيودَه ... عنه وما للدهر من سلطان
ويصوغ من أحزانه نغماً له ... فكأنه خلْوٌ من الأحزان
يسمو إلى الغرض البعيد طموحه ... ويرد خطب الدهر بالإيمان
متحصن منه بأمنع معقل ... متكفِّل إيمانه بأمان
ويكاد من فرط الهناءة والهوى ... يدع الثرى ويهم بالطيران
والشيب يرسب في الحضيض تخلفاً ... وترى الشباب كذروة الأكوان
ما أرَّقته ذكرة من أشيب ... جم التردد خَطْوُهُ متداني(111/52)
وله على إدبار دَهْرٍ عزةٌ ... تنأى به عن ذلة وهوان
كِبْرُ الشباب ولا اعتداد مُسَوَّدٍ ... بالجاه والأجناد والأعوان
إن كان صعلوكاً فليس بخانع ... فكأنه ذو التاج والإيوان
إن العزيز هو العزيز على الصِّبى ... والشيب مهما عز ذل جَنَان
ذل الجَنَان لوهن جثمان ولا ... ذل كذل الوهن في الأبدان
ورث المراح ذخيرةً لمبذر ... خال الحياة رخيصة الأثمان
لَذَّاتُه دَيْنٌ يؤديه إذا ... حل المشيب وهد من جثمان
تتعادل اللذات في ريعانه ... ولواعج للشيب في ميزان
عهد الصراحة والمروءة والندى ... وتَألُّفِ الخلان بالخلان
عهد المحبة والأخاء وربما ... تُلْفِيها في القلب يمتزجان
عهد إذا طلب الكرى لم يُعْيِه ... وكرى المشيب مؤرَّق الأحزان
عهد الصِّبى عهد المنى، فإذا مضى ... لم يبق الأمُرُّ سُؤْرِ دنان
وتكاد ذكراه إذا فات الصبى ... تحيي الصبى وترد غرب زمان
أطماعه عُلْوِيَّةٌ، أحلامه ... ذهبية الآمال كالعقيان
عهد الصيال ولا صيال لأشيب ... هاب الحياة وصولة العدوان
والخطب أن يَهْوِي المشيب بصائل ... ما كان يخشى جولة الحدثان
حتى تراه بالحياة مُرَوَّعاً ... قلق الضلوع مؤرَّق الأجفان
والخوف طبع في المشيب وقلما ... تلقى الشباب على غرار جبان
ولربما جمح الشباب بِسادر ... عَبَدَ الحياة عبادة الشيطان
ولربما عبد الحياة أخو النهى ... كعبادةٍ لله والأوطان
قال المشيب ورُبَّ قولة صامت ... تعظ المصيخ له بغير لسان
ما سَرَّني أني فطنت وإنني ... والحلم والتبيان في أكفان
ونسيت ما نَشْرُ الجنان وخلدُها ... وذكرت أن العيش مهلة فاني
ولقد علمت الآن ما عهد الصبى ... من بعد جهلي فيه والنسيان
والآن عالجت الحياة كما أرى ... لا ما أريد من البعيد الداني(111/53)
وعددت من سُنَنِ الحياة وحكمها ... ما يفعل الإنسان بالإنسان
في حرصه أو قَسْوِهِ أو رِقِّهِ ... من فتكه بالروح والأبدانِ
وفزعت من ظُلْمِ الحياة وطالما ... ذَلَّلْتُ منها أيَّمَا طغيان
وتلوت في التاريخ آيات الأسى ... مسطورةً بمدامع الأحزان
فعسى الشباب بمقبل من دهره ... يبلو الحياة بعزمة وأماني
ويَسُنُّ للدنيا الوسيعة سُنَّةً ... لا سنة للحرص والحرمان
يستنقذ الأزمان من عبث الورى ... ويُطَهَّر الأحشاء من أضغان
ويُذِل طاغوت الأمور فيحتذي ... شرعُ الحياة شريعةَ الرحمن
ويُحيلُ ظلم العيش عدلاً سائغاً ... يُنسَى به ما كان من عدوان
عبد الرحمن شكري(111/54)
ذكرى سعد
للأستاذ فخري أبو السعود
تهفُو لذكرِكَ أنْفُسٌ ومَشاعر ... وتجود أفئدةٌ له وخواطر
ويُضيءُ شِعرٌ من عَلائك قابِسٌ ... ويَتِيه فخراً في مديحك شاعر
وعلوتَ أنت فما يزيدك مادحٌ ... مجداً ولا يُعلى مكانك ذاكر
يا فخر مصرٍ في الشعوب على المدى ... ما قام فيها بالرجال مُفاخر
كانت حياتك صفحةً كم سُطِّرَتْ ... فيها لمصرَ محامدٌ ومآثر
أنت الذي أعلَيْتَ خافتَ صوتها ... والخصم يُرعِد والخطوبُ بوَاسِر
فَشَدَتْ بذكرك ألسُنُ وصحائفُ ... وبذكرِ مصرَ عواصمٌ وحواضر
رَوَّعْتَ عنها غاصباً متجبراً ... الموتُ من أسيافه متقاطر
ليثٌ يَرُوعُ العالمين مهابةً ... قد راعهُ مِن ليث مصر زَماجر
لما رأَوك تُثير شعباً هامداً ... وتمُجُّ سِحرَ القول قالوا: ساحر
لو أنصفوا قالوا: نبيٌّ مرسل ... الوَحْيُ يَتْبَعُ خَطْوَهُ ويُساير
أدَّيْتَ أمس رسالةً عُلوِيَّةً ... العِزُّ أولُ آيِها والآخِر
في عهدك الزاهي الأغَرِّ - ولم يَطُل - ... يَنَعَتْ أمانٍ للبلاد زواهر
شَرَقَتْ لمصر سيادةٌ كانت خَبَت ... من عهد فرعون وعزٌّ باهر
وطَلَعْتَ في دست الرياسة قائداً ... في راحتيه أزمَّةٌ ومصائر
ومَثَلْتَ في دار النيابة مِدْرَهاً ... شَخَصَتْ إليه جوارحٌ ونواظر
أنَّى حَللْتَ سما بمجدك منصبٌ ... أن زانه سعد العظيمُ الكابر
اسُتقبلِتْ بك مصرُ سالفَ رفعةِ ... وبدَتْ لمأْمُول النهوض بشائر
فأتتْ ثمان بعد ذاك كأنها=دهرٌ على الوادي المروَّع داهر
وئُدَتْ بها الآمال في إبَّانِها ... وتَلَتْ سناك على البلاد دياجر
سَرَقتْ زمامَ الحكم فيها عصبةٌ ... لا عاد عهدهم الأثيم الدَّاثر
من كان قاعُ السجن مأوى مِثلِهمْ ... عَمَرَتْ محافل باسمهم ومنابر
أجْرَوْا على الأهلين ما لم يُجْرِهِ ... في سالف الأحقاب غازٍ فاجر(111/55)
وتحكموا والأجنبيُّ مُظاهرٌ ... لهمُ وجُندُ الأجنبيِّ مُناصر
أوْهَى وَأوْهَنُ ما رأوه شرائعٌ ... عَبَثوا علانية بها ودساتر
أعداءُ مِصرَ همُ كواشحُ سعدِها ... قد شفَّهم حقدٌ عليه ساعر
نَقِمُوا عليه في النفوس مكانةً ... مَسعاتهم عن دَرْكها تتقاصر
ضنُّوا على سعدٍ بتمثال وقد ... ضَمَّتْ جوانحُ رَسْمَهُ وسرائر
في موطنٍ كم فاز بالأنصاب في ... ساحاته عِلْجٌ دخيل ماكر
وحَموْا بَقِيَّتَه ضريحاً شادَهُ ... لرُفاته الشعبُّ الحفِيُّ الشاكر
ولو استطاعوا فوق ذاك لما ثَوَى ... في مِصرِهِ جسد الزعيم الطاهر
حَسَدٌ لعلياءِ الرئيس وفضلهِ ... حيّاّ وميْتاً ما يزال، يُساور
إن يَمنعُوا عنه بناَء حجارة ... فلهُ البناءُ المشمَخِرُّ الفاخر
بُنيان مجدٍ شادَهُ بيمينه ... هيهاتَ يَبلُغه الحسود الخاسر
يمضون في غدهم حُطاماً مُغْفَلاً ... وهو المخلَّدُ في العصور الظافر
فخري أبو السعود(111/56)
راتبي
للأستاذ محمود غنيم
ولى راتبٌ كالماء تحويه راحتي ... فيُفلت من بين الأصابع هاربا
إذا استأذن الشهر التفتُّ فلم أجد ... إلى جانبي إلا غريماً مطالبا
فأمسيتُ أرجو نعيهُ يومَ وضعِه ... وليس الذي يمضي من العمر آيبا
لعمرك ما فوق المكاتب راحةٌ ... ولا تحتها كنز يدِرُّ المكاسبا
قضيت حياتي بين داري ومكتبي ... فألفيتُ وجهَ العيش أصفر شاحبا
تشابهت الأيام عندي كأنما ... مضى العمر يوماً واحداً متعاقبا
فقل لشباب النيل قالةَ ناصحٍ ... تعاف له أخلاقه أن يواربا
إذا مصرُ لم ترفعْ قواعد مجدها ... بساعدها لم تقض منه مأربا
وإن نَكُ في كل المرافق عالةً ... على غيرنا عشنا بمصرَ أجانبا
أما من سبيل للحياة وغيرُنا ... يرى سبلاً شتى ومذاهباً؟
محمود غنيم(111/57)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
17 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديدريك نيتشه للأستاذ خليل هنداوي
غزوات نيتشه
أثرت في نيتشة تعاليم شوبنهاور تأثيراً ظهر في كتابه (نشأة المأساة) وعنه اقتبس قواعد كتابه. فاتخذ الإرادة منه كشيء قائم بنفسه؛ والذاتية في الوجود مصدر كل ألم، والموسيقى كلغة أصيلة للإرادة. وفي الكتاب ذاته يرحب بشوبنهاور ويحييه تحية العبقرية، يرى فيه هاديه إلى الحقيقة، ويحلل تأثيره وما يمكن لهذا التأثير أن يفعله في الأرواح الحديثة. يقول: (إن الإنسان اليوم يتحرى عن ذاته، ولا يفتأ يتحرى حتى تهديه المصادفات إلى معلم نافع فيتبعه، لا يعمل هذا المعلم على تخطيط آثار وتعيين طريق من الطرق المختلفة، ولكنه يعمل على استنقاذه من كل ما يمسك عليه حريته ويحول بينه وبين الوصول إلى هذه (الذات) الغامضة المتوارية في أحناء كل إنسان)، ولم يكن معلمه إلا شوبنهاور
شاهد فيه للوهلة الأولى ذلك الفيلسوف الصادق المستقيم الذي يتحرى عن الحقيقة في كل ما حبر وسطر. وفي مدرسة شوبنهاور تعلم نيتشه أن يرى الحقيقة كما هي بما فيها من قبح وبما تنطوي عليه من ألم. وتعلم أن العبقرية يجب أن تناضل عصرها وأبناء عصرها حتى تحمل الناس على الاعتقاد بوجودها، فهي حين تناضل الضعف وتحارب الرذيلة، تحاول في هذا كله أن تطهر ذاتها من كل الأوضار التي دخلت عليها من مجتمعها
وأخيراً وجد نيتشه في شوبنهاور تعريفه لحياة البطولة؛ (أما الحياة السعيدة فهي ضرب من المحال. ولكن الذي يمسح الإنسان بمسحة الجلال هو أن يعتنق حياة البطولة، وأن يقضي وجوداً تزينه الرجولة. لا تحفل بأن تكافأ على حياتك، فخير ما تكافئ به نفسك أن تكون عظيماً ظافراً، ذكراك تبقى حية، وأنت تمجد تمجيد الأبطال؛ وإرادتك نثب من خطر إلى خطر. وتصعد من قدر إلى قدر، حتى تتلاشى في (النرفانا)) وهكذا خال نيتشه أنه وجد في شوبنهاور روح (ديونيزيوس) التي تعتمد على الإرادة وحدها
الغزوة الرابعة(111/58)
وهناك صداقته القديمة للموسيقى الفنان (ريشادر فاجنر) هذه الصداقة التي يعود عهدها إلى أيام الحداثة، ما عمرها إلا إعجاب نيتشه بآثار هذا الفنان إعجاباً تسامى عن إعجاب فنان بفنان إلى امتزاج إنسان بإنسان؛ فقد تقاربا وتعاشرا ردحاً طويلاً من الزمن، كانا خلاله مثلين للثقة العمياء والمودة الراسخة؛ وظلا ثابتين على هذه الصداقة حتى شاءت الظروف أن تفرق بينهما فمضى (فاجنر) إلى (بابروت) حيث أسس فيها داراً للتمثيل، فكان نيتشه يعوده بذات الإعجاب؛ وفي إحدى مطالعاته الأخيرة وصف (فاجنر) كبطل من أبطال العبقرية على النحو الذي ذهب إليه في معلمه (شوبنهاور)، ولكن هذا أدى رسالته عن طريق الفلسفة، وذاك يؤديها عن طريق الفن بأسلوب حي يمازجه شيء من الغموض، هو ذلك العبقري (الديونيزوسي) الذي لا يستطيع أن يعبر عن عالم عواطفه الزاخرة في نفسه بطريقة الكلام والبيان الناقص؛ فهو عبقري جمع إليه جملة فنون متصاحبة: فيه براعة الممثل، وعبقرية الموسيقى، وسمو الشعر؛ تساعده كلها على التعبير عما يخالج نفسه ويغشي حسه، وقد كان هدف (فاجنر) من افتتاحه لدار التمثيل أن يخلق درامة موسيقية يحي بها عهد المأساة عند اليونان؛ وإن تحقيق هذه الدرامة لَيُعد أول محاولة من نوعها في تاريخ أدب الغرب الحديث؛ لأنها محاولة لا ترمي في الحقيقة إلا إلى إحياء العبقرية اليونانية الهامدة، ولو أن هذا العمل قُدر له الانتصار والبقاء، لاعتبر طليعة صادقة من فجر جديد في تاريخ الإنسانية
ولكن نيتشه بعد إنجازه ما كتب بأسابيع قفل راجعاً إلى أهله، وقد تراكم عليه اليأس والضجر، فجعته الأيام في أحلام صباه، وانتصر فيه إعجابه بفاجنر على كل شيء
هذا نيتشه الذي كان قذفه كل خاطرة طفق يدنو من استقلاله الفكري الذي قهره عليه سلطة هذين المعلمين، وهو أحد المتعصبين لأفكارهما وآرائهما، وأحد العاملين على بثها، لأنهما في اعتقاده أكمل ما جاد به المثل الأعلى. ولكن نيتشه أخذ يعمل بينه وبين نفسه على الانفصال من قيودهما. وقد عرفنا كيف انفصل عن (شوبنهاور) في مسائل واضحة من مذهبه. فقد أصبح يرتاب في كل ما ينطوي عليه هذا المذهب من المسائل التصورية، وفي الخاصيات التي يعزوها صاحبها إلى الإرادة، وفي الإرادة التي يزعم صاحبها أنها كنه أكناه الكون، وفي الشيء القائم وجوده بنفسه. وبعد قليل حمل على التشاؤم الذي يدعو إليه(111/59)
شوبنهاور، فأبى الخضوع والاستسلام ورفض الجنوح للسكون الفلسفي. وبهذا قضى على فلسفة الحكمة (الراكدة) اللابسة لباس اليأس. هو يريد الحقيقة مهما كان ثمنها. ولو كان للعلم فوز في تضحية بني البشر لفعل. ويمدح الحكمة الممزوجة بالمأساة، التي تكفر بعلم ما وراء الطبيعة ثم تخضع المعرفة لها لتخدم أجمل شكل في أشكال الحياة، ويعيد للفن حقوقه التي انتزعها العلم منه، هذه الحقوق التي تخول الإنسان حق التخيل وحق التوهم
ولم يكن حكم نيتشه على (فاجنر) أقل جرأة وقسوة. فقد أخذ يبدي فيه مواضع ضعف يحسبها الناظر ذخائر جمال، ويظهر ما يطغى على روحه من روح الفوضى والاضطراب. ويقارن بينه وبين (باخ وبيتهوفن) اللذين هما أصفى مزاجاً منه. وأصبح في شك من قيمته الفنية التي تدس فيه الموسيقى والشاعر والمفكر. وأخذ عليه تشبثه بالقديم وعودته إلى الآراء القديمة. منها توقانه إلى القرون الوسطى وميله إلى المسيحية والذهول البوذي، وحبه للأشياء الغريبة. أصبح في شك من أي تأثير يحمله (فاجنر) إلى الشعب الألماني
هذا نيتشه الذي كان يرى في موسيقى (فاجنر) المثل لأسمى قد انقلب عليها وجحد بها، فما هي علة هذا الانقلاب؟
يقول نيتشه جواباً على هذا السؤال أثناء تحدثه عن شوبنهاور (إننا نخاله فيلسوفاً: ثم نرى: إذا خدع في الأسلوب الذي أبدى به ملحوظاته فإن هذه الملحوظات لا يشوبها خلل. لأن منازل هذه الملاحظات لا خلاف فيها، فهو كفيلسوف يُعلِّم قد يكون مخطئاً مائة مرة. ولكن شخصيته ذاتها لا تظهر إلا على حقيقة، مرتدية أزياء الحقيقة. . . وههنا مجال النظر والتأمل؛ ففي الفيلسوف شيء لا تنطوي عليه الفلسفة، هذا الشيء هو الذي يخلد الفلسفة ويولد العبقرية)، وفي هذا الرأي يكاد يتبين لنا هوى نيتشه وميله لهذين الرجلين، فهو قد مال إليهما بآثارهما والتعصب لهما. ثم انقلب هذا الميل والتعصب إلى الآثار إلى إعجاب مجرد بالشخصية، فأحبهما كرجلين عبقريين منفصلين عن آثارهما. ثم عمل على أن يتجنب كل ما يعكر هذه الصداقة أو يشوش أسبابها، ولكنه اضطر إلى نقد مالا يوائم فكرته نقداً عاماً، وأخيراً اقتربت تلك لساعة التي وجد فيها أن الفواصل التي تفصله عنهما هي أكبر من أن تُخنق
وألفى أن في سكوته عنها خيانة لنفسه، فبدأ ينقد آثارهما ويظهر أخطاءهما. وهو في كل(111/60)
ذلك لا يحاول أن يفهمهما بحقيقتها ولكنه عامل على تفهم نفسه بالاتصال بهما؛ وهو بدلاً من أن يصور نفسه بصورتها رأيناه قد حوّل صورتهما إلى صورته، وأذاب ذاتهما في ذاته، كالحر الذي يحول فيه الفرات أجاجاً. وصورة (شوبنهاور) التي رسمها نيتشه ليس بينها وبين صورة الفيلسوف الحقيقية مشابهة، وإنما هي صورة للمثل الأعلى للفيلسوف (التراجيدي) كما يتخيلها نيتشه. وهكذا قل في صورة (فاجنر). وهو دائماً لا يعبر في كل ما يصف ويصور إلا عن حلمه الباطن
(يتبع)
خليل هنداوي(111/61)
القصَص
صور من هوميروس
حروب طروادة
التفاحة المشؤمة
للأستاذ دريني خشبة
نشيد الزمان!
وقصيدة الماضي!
وغناء السلف!
وحُداء القافلة التي لا تفتأ تخب في بيداء الأزل، إلى الواحة المفقودة في متاهة الأبد؛ رُكبانها الآلهة، وأبوللو وكيوبيد ومَلؤهما وِلدانها المخّلدون!
أنشد يا هوميروس!
واملأ الأحقاب موسيقى!
واللانهاية جمالاً وسحراً!
فالأرواح ظامئة، والقلوب متعبة، والإنسانية واجفة، والآذان مكدودة من دويّ العصر، فهي أبداً تحنّ إلى سكون الماضي!
لن تصمت يا هوميروس!
فالقيثارة الخالدة ما تزال بيديك!
والقلوب هي القلوب!
فدع أوتارها تملأ الدنيا رنيناً، فلقد أوسعتنا هذه الدنيا أنيناً؛ ورنينك العذب أذهب لأنين الشاكين الباكين!
- 1 -
رآها تخطر فوق الثبج، وتميس على رؤوس الموج؛ فهام بها، وشغلته زماناً عن أزواجه في قصور الأولمب، فكان يقضي عند شاطئ البحر أياماً يترقب الفرصة السانحة، ويفتش في كل موجة عن حبيبته (ذيتيس). . . عروس الماء الفاتنة، (ذات القدمين الفضيتين)،(111/62)
ابنة نريوس، رب الأعماق؛ الثاوي مع زوجته الصالحة دوريس، في قصور المرجان. . . هناك. . . هناك تحت العُباب. . .
ورقت له الفتاة، حين علمت أنه رب الأرباب، وسيد آلهة الأولمب، زيوس العظيم، فوصلت بحبالها حباله، تطمع الخبيثة أن تصبح زوجة أولمبية عظيمة، تصاول حيرا أم مارس وفلكان، وتفاخر لاتونا أم ديانا وأبوللو، وتدِل على ديون أم فينوس. . . وعلى سائر ربات الأولمب!
وابتسم لهما الزمان، وتساقيا كؤوس الغرام دهاقاً؛ وأوشك الإله الأكبر أن يبني بها لولا وسواس خامر قلبه، فآثر أن يستشير ربات الأقدار قبل أن يبت في الأمر أو يقطع فيه بشيء
ولقد شاء حسن طالع الإله الأكبر أن يفعل؛ إذ أخبرنه أن ذيتيس الجميلة التي يهواها سيد الأولمب، تلد غلاماً ما يزال يقوى ويشتد حتى يخلع أباه ويستأثر بالملك من دونه؛ أو على الأقل، تكسف شمسُ عظمته شمس أبيه، فيعيش إلى جانبه إمَّعةً لا شأن له. وهَو لن فحدثنه عما يكون للغلام من مقام حين يثأر النقع، ويستحر القتال، بين شعبه (الإغريق) وجيرانه (الطرواديين). . .
وخفق قلب زيوس، وذكر تلك الحرب الضروس التي انتصر فيها على أبيه ساترن بعد فظائع وأهوال، فأشفق أن يكون له ولد يصنع به ما صنع هو بأبيه
لذلك قصر هواه، وأصدر على غفلة من كل آلهة الأولمب إرادة سامية تقضي أن تتزوج ذيتيس من بليوس ملك فيتيا، الذي كان هو الآخر مولعاً بها، مشغوفاً بجمالها حباً. . . حتى لقد خطبها إلى أبيها غير مرة فرفض رب الأعماق أن تبني ابنته على بشريٍّ هالك واو كان ملكاً. بيد أنه صدع بأمر الإله الأكبر، وقبل بليوس لابنته بعلاً. . .
وحزنت ذيتيس، وانعكفت في غرفتها المرصعة باللآلئ تشكو وتبكي؛ فلما علم زيوس ما حل بها، زارها من فوره، وطفق يلاطفها ويترضاها، حتى رضيت أن تكون زوجة لبليوس الملك: (على أن تحضر بنفسك، أنت وجميع الآلهة ليلة الزفاف، وليعزف أبوللو على موسيقاه، ولترقص ديانا ربة القمر. . .)
- 2 -(111/63)
ودُقَّت البشائر، واضطرب بطن اليم، وانشق الماء عن طريق رحب يتهادى فيه موكب الآلهة إلى قصر نريوس في أعماق المحيط، ووقفت الأوسيانيد والنيرييد وسائر عرائس الماء صفوفاً صفوفاً تحي الضيوف الأعزاء، الأودّاء الأحبّاء، وتغني وتنشد وترسل ألحانها الخالدة موقعة على الموسيقى المشجية
وانبرى أبوللو يوقع على قيثارته الذهبية. أبوللو!! الذي اشترك في بناء أسوار طروادة، فلم يكن يصنع شيئاً أكثر من أن يلعب بأنامله على أوتار القيثارة، فتقفز الحجارة مترنحةً من الطرب إلى مكانها من الأسوار!!
وانطلقت ديانا ترقص. . . فما علم أحد من الآلهة أخطرات نسيمتهبط من القمر الفضي، وتعلو في السماء، أم ديانا الهيفاء ترقص في القلوب والأحشاء!!
ونهض الجميع إلى المقصف الفاخر الذي تفننت في تنويع آكاله وأشرباته أيدٍ إلهية ماهرة، فأكلوا ما لذ، وشربوا ما طاب، وأخذوا في سمر جميل. وكان هرمز يرسل نكاته الطريفة فيقرقع المكان الحاشد بالضحك. وتُدَوّي الأكف بالتصفيق.!
وبينما الآلهة في قصفهم، لا يفكر أحدهم إلا في هناء العروسين، إذا بالرَّبَّة الخصيم أيريس تظهر فجأة في وسط الجماعة، ثم شرعت تقلب فيهم عينين تقدحان بالشرر، وتنفثان سم البغض، وعلى رأسها الفاحم الأسود تتلوى خِصَلٌ ثعبانية شائهة ذات فحيحٍ وصلصلة، وعلى صدغيها الأبرصين يخشخشن عقربان منكران لكل منهما ذُنَابَي يقطر الموت الأسود منها ههنا وههنا
ظهرت إيريس غاضبة حانقة، لأن القائمين بالدعوة إلى العرس أغفلوها فلم يرسلوا إليها بالدعوة التي أرسلت إلى الأرباب جميعاً. وهم قد قصدوا إلى ذلك عن عمد، لأنهم خشوا على العروسين من أذاها الذي ما تفتأ تثيره في كل مكان وطئته قدماها. أليست هي ربة الخصام، النافخة في نار العداوة التي تتضرم منذ الأزل في الجوانح والقلوب؟
لكنها لم تنس لهم هذا الإهمال، بل أقبلت، وهي تتميز من الغيظ، لتقلب هذا العرس الكريم إلى مأتم أليم
ولقد أوجس الآلهة جميعاً خيفةً حين رأوا إليها تُقلّب فيهم ناظريها المشتعلين، غير أنهم اطمأنوا قليلاً، حين رأوها تنصرف بعد إذ ألقت على الخِوان الفخم تُفَّاحةً كبيرة من الذهب،(111/64)
نُقشت عليها هذه الكلمة المقتضبة: (للأجمل!)
- 3 -
باريس:
درجت عادة القدماء أنه كلما ولد لأحدهم غلام توجه من تَوّه إلى الهيكل يقدم القرابين ويزف الهدى، ثم يستوحي المعبود عما يكون من مستقبل ولده وما يفيض به من سعادة أو شقاء، ليأخذ للأمر أهبته، وليعد لكل شيء عدته
فلما وضعت هيكيوبا، ملكة طروادة، غلامها باريس، حمله أبوه الملك، بريام، إلى هيكل أبوللو، ليرى رأي الإله فيه
واربدّ وجه الملك الشيخ، وتغضَّنت أساريره، حين قال له كاهن المعبد: إن ولده سيكون كارثةً على قومه وعلى بلده! يأتي من الإثم ما يجر إلى قتل إله وبني جلدته، ويُفضي إلى سقوط طروادة في يد أعدائها
وتحدث بريام إلى هيكيوبا في ذلك، فصمما على الخلاص من الطفل بتركه في العراء، فوق واحدةٍ من جنبات الجبل، ينوشه طير جارح، أو تفترسه ذئاب البرية. وأنفذا فعلتهما الشنعاء! ولكن القضاء ينبغي أن يتم، والقدر يجب أن يأخذ مجراه! فلقد جاز بهذا المكان من الجبل أحد رعاة الأغنام فوجد الغلام وفرح به، واتخذه لنفسه ولداً؛ ثم سهر عليه واعتنى به، ونَشَّأه تنشئة الفروسية التي كانت أحب مزاولات الحياة هذا الزمن
وشب باريس فتى يافعاً، جميلاً ممشوقاً، فعمل مع الراعي الذي أنقذه. وكان مولعاً بالبحر، تشوقه أمواجه، وتفتنه أواذيه، فكان يختلف إليه ريثما تفيء الأغنام من الحر، يلهو بالسباحة، ويتربص بمصارعة الموج. وبدت له إحدى عرائس الماء - إيونونيه - وكانت قسيمةً وسيمة، فهويها وعلقها قلبه، وما لبثت أن أصبحت أعز شيء عليه في هذه الحياة
وعشقته إيونونيه، وأخلصت له الحب، وكانت تنتظر أوبته من رعي الغنم كما ينتظر الظمآن جرعة الماء، والعليل برد الشقاء
وا أسفاه!
لقد قضت ربات الأقدار - كلوتو وأختاها - ألا يدوم هذا الحب طويلاً!
- 4 -(111/65)
اجتمع الغانيات حول التفاحة كل تريدها لنفسها، وكل تدعي أنها أجمل من في الحفل جميعاً. . . ثم ساد صمت عميق حين نهضت حيرا ومينرفا وفينوس، ميمماتٍ شطر الجهة التي يتنازع فيها الغانيات من سائر الربات على التفاحة الثمينة. . .
- (أنا حيرا العظيمة، مليكة الأولمب، وصاحبة الحول والطول فيه، وآثركنّ إلى قلب الإله الأكبر، أنا، أحقكن بهذه التفاحة العلوية، وأعرفكن بقدرها. . . سأضمها إلى تفاحات هسبريا، فهي بهن ألبق، وهن عليها أحفظ. . . سيعلقنها مع أخواتها الثلاث لتزدان بها حدائقهن. . .)
- (أنت تفاخرين بملك الأولمب، وبالجاه والسلطان؟ إذن أين جمال الحكمة، وأبهة الموعظة الحسنة، وجلال الرأي السديد؟ بل أنا. . . مينرفا. . . ربة الهدى والسبيل الحق. . . أحق منك بهذه التفاحة. . .)
- (فيم تختصمان يا أختي العزيزتين؟ أليس قد كتب الحكم على التفاحة نفسها؟ أليست هي للأجمل؟ أولست أنا. . . فينوس جميعاً. . . ربة الجمال؟ لِم تربعت على عرش الفتنة إذن؟ هي لي من دونكما!. . .)
واختلف الآلهة، وساد هرج ومرج، ولم يجسر أحد ممن احتشد حول الخوان أن يفوه بكلمةٍ يفضل بها إحدى الرَّبات الثلاث حتى لا يقع في سخط الأخريين، وحتى لا يكون أبداً عرضة لنقمتهما. . .
وتفرق الجميع بدداً
وقصدت الربات الثلاث جبلاً شامخاً يشرف على البحر فتلبَّثن به، واتفقن على أن يفصل أول عابر، مهما يكن شأنه بينهن في أمر التفاحة، وتعاهدن، بالإيمان المغلَّظة، أن يخضعن لحكمه، وأن تكون كلمته فصل الخطاب فيما اختلفن فيه
وتنظرن طويلاً؛ وكان البحر يضطرب من تحتهن فيقذف باللآلئ والمرجان، كأن إلهاً حاول أن يشبع نهم الربات بالجواهر الغالية فلا يتشاجرن من أجل تفاحة، ولكنهن ما كن يأبهن لحصباء الدر المنثور على الشاطئ، بل ما كانت أعينهن تريم عن لُقية إيريس!!
وكانت عروس فتانةٌ من عرائس الماء تعلو وتهبط مع الموج ولا تفتر تحدق ببصرها في الجهة التي جلست بها الربات يتربصن. . .(111/66)
وكانت إيونونيه من غير ريب! وكان الجبل مُستراد باريس الذي يُريح فيه قُطعانه، ثم ينطلق للقاء حبيبته، فيتباثان ويتشاكيان
وأقبل باريس يشدو لشأنه ويغني، فزلزل قلب إيونيه، وهلعت نفسها، وفرقت على حبيبها فرقاً شديداً، ذلك أن أخبار النزاع الذي انتهى إليه يوم الزفاف من أجل تفاحة إيريس قد ذاعت وشاعت، وتسامع بها كل عرائس البحار؛ فلما عرفت إيونونيه ما اجتمع الربات في هذه الناحية من الجبل من أجله، اضطربت أيما اضطراب، وقلقت على باريس أيما قلق. لأنه وحده هو الذي يجوز بهذا الطريق، حين ينفذ إليها يحلمان ويتناجيان. وكان مصدر قلقها هو ما عساه أن يجره على نفسه - إذا قضى بينهن - من سخط الربتين اللتين لا يقضي لهما بالتفاحة. . .
- 5 -
وصاحت حيرا: (قف أيها الراعي الجميل فاحكم بيننا فيما نحن مختلفون فيه. تلك تفاحة من الذهب ساقتها السماء إلينا منحة منها لأكثرنا جمالاً وأسطعنا رونقاً، وأنا - حيرا - مليكة الأولمب وذات الحول والطول فيه، وربة التاج والصولجان، وصاحبة القوة والسلطان، وآثر أزواج ربك، كبير الآلهة؛ واحبّهن إليه. . . أنا - حيرا ذات الجبروت - وولدي مارس إله الحرب، ورب الطعن والضرب، أقوى أبناء زيوس العظيم. . . وولدي فالكان كذلك، إذا شئت سرد لك الدروع من حديد فتصبح سيد أبطال لعالم، لا يشق لك غبار، ولا يجري معك في مضمار! إذا خضت حرباً حماك مارس وأيدك، ونصرك فلكان وآزرك. . . ألست ترى أيها الراعي الجميل أنني أحق من هاتين بتلك التفاحة؟ أنا - حيرا مليكة الأولمب - سأمنحك الثروة التي لا تفنى، والسلطان الذي لا يبيد. . . سأجعلك ملك هذه الديار التي ترى. . . ستكون صاحب عرش وتاج، وستستريح إلى الأبد من هذه الحياة الضنك التي تحياها. . . أنت جميل يا فتى. . . وأنت بعرش عظيم أولى منك بهذا القطيع الذي يثغو. . .)
وصمتت حيرا. . . وجع باريس يقلب في التفاحة ناظريه، وفي قلبه مما رأى وسمع فرَقٌ عظيم. . .
لقد كانت حيرا تختال في ثوبها الأولمبي الموشى، وكان طاووسها الجميل - الذي اتخذته(111/67)
منذ الأزل رمزاً لها - يتشبث بناصيتها ويميس، فيزيدها جلالاً وكبرياء
- وأوشك الفتى الراعي أن يقدم التفاحة لحيرا، لولا أن صاحت به مينرفا:
- (على رسلك أيها الشاب. . . اسمع منا جميعاً ثم اقض بيننا. . . أنا لن أزخرف عليك بملك ولا سلطان، فأنت أعقل من أن تنخدع للعرض الزائل، وأعلى من أن يهيمن جسمك على عقلك، وهواك على قلبك. . . أنا مينرفا ربة الحكمة وإلهة الروح الأعلى المقدس. . . سأمنحك السداد، وسأكشف لك حجب الجهالة، وسيضيء مصباح المعرفة بين يديك فتكون أهدى الناس، وأعلم الناس، وأحكم الناس. . .)
- وسكتت مينرفا؛ وسمع هاتف من جهة البحر يصيح:
- (باريس! أعطها لمينرفا يا باريس. . .)، وكانت أيونونيه ما في ذلك شك!!
وكاد باريس يلقي بالتفاحة في يدي مينرفا. . . لولا أن تقدمت فينوس الصنَاع. . . فينوس الحلوة. . . فينوس الساحرة. . . فينوس ذات الدل. . . فينوس التي تكفي غمزة ماكرة من طرفها الفاتر الساجي لإذلال ألف قلب. . . . . . لولا أن تقدمت فينوس كلها تطارد قلب باريس وتحاصر عينيه حتى ما يقعان إلا على عينيها. . . . . . . . . تقدمت فينوس ترنو وتبتسم، وتتبرّج وتهتز، وتشد هذا الثدي وتثني هذا الذراع، وتميل برأسها الذي كله خدود وعيون وأصداغ. . . تقدمت فينوس تبسم للراعي الجميل عن فم حلو رقيق، تتلألأ ثناياه، ويتضوع عبير خمره، وقالت: (باريس! هل لك عينان تعرفان الغزل، وقلب يعرف الحب؟. . . باريس! أنا فينوس التي صليت لها بالأمس، والتمست منها التوفيق. . . هاأنا ذي يا باريس. . . أليست التفاحة للأجمل! ألست تحب أن أهبك أجمل زوجة في العالم؟ ستكون زوجتك مثلي، تغمرك بجمال لا نهائي لا حدود له، ولن تشعر معها إلا أنك تعيش منها في جنة. . . قبل. . . نظرات حلوة. . . خدٌّ مورّد. . . أهدابٌ كظلال الخلد. . . ساق ملتفة عبلة. . . جسم ممشوق طوال. . . جيد مهتز ناضج. . . ثدي مثمر يتحلّب نعيما. . . . . . هاتها يا باريس. . . هاتها يا حبيبي. . .)
وقبل أن تتم الخبيثة سحرها، كان الفتى البائس قد ألقى التفاحة في يديها الجميلتين، برغم الصيحات المتتالية التي كانت تهتف به من البحر: (لا يا باريس. . . لا يا باريس. . . أعطها لمينرفا يا باريس. . .!)(111/68)
وجر على نفسه غضب حيرا ومينرفا، وكتبت التعاسة عليه وعلى قومه. . . ولم يلق إيونونيه بعدها!!
(لها بقية)
دريني خشبة(111/69)
البريد الأدبيّ
نصوص سريانية عن العلوم الإسلامية في بغداد
صدرت أخيراً في إنكلترا موسوعة نفيسة للعلوم العربية وأحوالها في بغداد في أوائل القرن التاسع الميلادي (أوائل القرن الثالث الهجري) وعنوانها: (موسوعة للعلوم الفلسفية والطبيعية كما كانت تدرس في بغداد حوالي سنة 817م) أو (كتاب كنوز أيوب الرهاوي)، وقد نشرت هذه الموسوعة بالسريانية وهو نصها الأصلي مقرونة بترجمة إنكليزية وملاحظات نقدية بقلم العلامة الشهير الدكتور منجانا صاحب مكتبة (رينولدز) الشهيرة لتي تحتوي طائفة كبيرة من أنفس المخطوطات الئرقية؛ وقد سبق أن نشر الدكتور منجانا بعض هذه النصوص والتراجم نقلا عن المخطوطات السريانية والجرشونية التي تحتويها مكتبته. وهو يقول لنا في مقدمته إن هذا الجزء هو المجلد الأول في سلسلة جديدة علمية يراد إصدارها
وأهمية النصوص السريانية في تفهم أحوال العلوم الإسلامية الأولى تبدو جلية متى ذكرنا أن العرب حينما بدأوا ترجمة العلوم اليونانية، استعانوا في نقلها بالسريانية، فكانت تنقل أولاً إلى السريانية ثم تنقل بعد ذلك إلى العربية، وكان أعظم أولئك المترجمين كما هو معروف حنين بن إسحاق، أما أيوب الرهاوي هذا صاحب (الكنوز) التي أصدرها الدكتور منجانا، فهو من أشهر المترجمين الذين نقلوا المؤلفات اليونانية العلمية إلى السريانية، وقد ذكره ابن النديم في كتابه (الفهرست)، وعرفه العرب بالأخص من تراجمه للكتب اليونانية الطبية؛ وقد انتفع حنين بن إسحاق بترجمة الرهاوي لمؤلفات جالينوس، وترجم الرهاوي أيضاً بعض مؤلفات أرسطو، وألف رسالة دينية عنوانها (كتاب الإيمان). وقد ولد هذا لعلامة في مدينة إذيسا أو (الرها) حوالي سنة 760م وتوفي حوالي سنة 840
ولا شك أن المجلد الأول الذي أصدره الدكتور منجانا من النصوص السريانية التي اتخذت واسطة لنقل العلوم اليونانية إلى العربية سيكون له شأن يذكر في درس الحركة العلمية الإسلامية في بغداد في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع أعني في أزهر عصور الدولة العباسية
لجنة الفتاوي في الأزهر والمعاهد الدينية(111/70)
رأى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن رسائل الاستفتاء عن مختلف المسائل الفقهية تنثال كل يوم على الرياسة الدينية من مصر ومن جميع الأقطار الإسلامية فأراد أن يجعل لهذا التثقيف المثمر جهة خاصة تتولى الفتوى على هذه الأسئلة وترجمتها إلى لغة المستفتى ثم عرضها على الرياسة العليا. فأصدر قراراً بتأليف لجنة تسمى (لجنة الفتاوي في الأزهر والمعاهد الدينية) وأسند رياستها إلى العالم الجليل الأستاذ حسين وإلى عضو هيئة كبار العلماء، وعضو مجمع اللغة العربية الملكي. وجعل أعضاءها أحد عشر عضواً يمثلون المذاهب الأربعة المشهورة، وسيكون دستورها في الفتوى أن تجب الطالب على المذهب أو المذاهب التي يريد الإجابة على مقتضاها. فإذا لم يعين المستفتى مذهباً أجابته بحكم الله المؤيد بالأدلة من غير تقيد بمذهب من المذاهب الشرعية
العارية الدولية للكتب
اجتمع في شهر مايو الماضي المؤتمر الدولي الثاني للمكتبات وفنونها بمدريد واشبيلية وسلمنكا وبرشلونة، وكان الغرض من اجتماعه إيجاد اتحاد أدبي بين الدول لنشر العلوم والثقافة بالتعاون بين مكتبات العالم. وكان من أهم ما نظر فيه مسألة (العارية الدولية للكتب) فاتخذ فيها قراراً ننقل خلاصته عن تقرير المندوب المصري فيما يلي:
1 - أن تكون المعاملة بين الدول في مسألة العارية الدولية للكتب على قاعدة المثل في أوسع معانيها
2 - أن تتعهد المكتبة المستعيرة بضمان كل ما ينشأ من ضياع أو تلف للكتب التي ترسل إليها
3 - تتعهد المكتبة المستعيرة بأن تتحمل كل نفقات الإرسال والتأمين
4 - أن تنفذ عملية الاستعارة بأسهل الطرق وأسرعها وبأقل النفقات الممكنة
5 - أن تكون الاستعارة بين الدول بطرقة مباشرة
6 - يجب على كل مكتبة قبل أن تطلب مؤلفات من الخارج أن تتأكد من عدم وجود هذه المؤلفات في بلادها
7 - يحسن أن يعين في كل مكتبة موظف خاص باستعارة الكتب وهو الذي يرسل ويتسلم(111/71)
الكتب المطلوب استعارتها
8 - وعلى المكاتب المنضمة إلى الاتحاد أن تعمل إحصائية عن الكتب التي أعارتها أو استعارتها كل عام
الإنكليز واللغات الأجنبية
المعروف عن الإنكليز أنهم أقل الشعوب الأوربية ميلا إلى تعلم اللغات الأجنبية، وقد يرجع ذلك من وجوه كثيرة إلى انتشار لغتهم في كثير من البلاد والأمم التي يبسطون عليها سيادتهم أو نفوذهم؛ ولكن الواقع أن الإنكليز يرغب بطبيعته عن بذل أي جهد لتعلم لغة أخرى؛ بيد أنه لوحظ منذ بداية هذا القرن أن الشباب الإنكليزي قد أخذ يميل إلى تعلم لغة أجنبية، وأنه يؤثر الفرنسية في ذلك على كل لغة أخرى، وتليها اللغة الألمانية؛ وقد أذاع أحد كبار الأساتذة الفرنسيين الذين يتولون التدريس في جامعة لندن أخيراً تقريراً عن تقدم اللغة الفرنسية في إنكلترا وفيه يقول إنها أصبحت اللغة الأجنبية الوحيدة التي تدرس في المدارس الابتدائية الممتازة في إنكلترا وعددها نحو خمسمائة مدرسة؛ وأنه يوجد زهاء خمسين ألفاً من الشبان الإنكليز يتعلمون الفرنسية في المدارس الليلية، وعشرين ألفاً يتعلمون الألمانية، وتسعة آلاف يتعلمون الأسبانية. ويغلب تعلم الفرنسية في المدارس الابتدائية الحرة وفي المدارس الثانوية. ويختار الفرنسية كلغة أجنبية إضافية نحو تسعين في المائة من تلاميذ هذه المدارس. غير أنه يلاحظ من جهة أخرى أن الطلبة بعد تعلم الفرنسية في المدارس لا يجرؤن على التكلم بها بعد تخرجهم، لأنهم يجدون صعوبة كبيرة في التحدث بها سواء من جهة النطق أو النحو؛ ويلاحظ من جهة أخرى أنهم لا يقرأون بها سوى القليل من الكتب والنشرات السخيفة. وإلى جانب ذلك التقدم يتعلم اللغة الألمانية خصوصاً في الأقسام العلمية للجامعات
جائزة نوبل للسلام
من المعروف أن معهد نوبل يخصص جائزة سنوية لسلام يمنحها للشخص أو الأشخاص الذين يقدمون أعظم خدمات لقضية السلام العالمي. وقد منحت هذه الجائزة في العام الماضي للمستر ارثور هندرسون الوزير الإنكليزي السابق ورئيس مؤتمر نزع السلاح،(111/72)
والسير نورمان آنجل الكاتب الإنكليزي الذي اشتهر بمقالاته وكتبه لتأييد قضية السلام. وفي أنباء (أوسلو) الأخيرة أنهم يرشحون لنيل جائزة السلام عن سنة 1935، المسيو مازاريك رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا، والهير كارل فون اسيوتسكي. والأول معروف بحبه وخدماته للسلام، وأما الثاني فهو كاتب ألماني ذو نزعة ديموقراطية، كان يحرر صحيفة (دي فلث بينه) (المسرح العالمي)، وقد اشتهر بحملاته على الجمعيات الوطنية النازية السرية. فلما تولى النازي الحكم في يناير سنة 1933، قبض عليه وأودع في معسكر الاعتقال. ولا يزال معتقلاً حتى اليوم
مشروع أدبي ضخم
وضع أحد كبار الناشرين في السويد مشروع مباراة أدبية ضخمة، خلاصتها أن يتقدم اثنا عشر ناشراً يمثلون كبرى الدول الأوربية، ويقدم كل ناشر منهم أنفس ما لديه من مخطوطات كبار المؤلفين المعدة للنشر إلى لجنة من المحكمين من أكابر المفكرين؛ وتنتخب كل لجنة مما يقدم إليها أنفس وأجمل رواية؛ ثم ترسل الروايات الاثنتا عشرة المختارة إلى السويد وتعرض هنالك على لجنة عليا من المحكمين، وهذه تختار أنفس وأجمل رواية من الجميع؛ ويمنح مؤلف هذه القصة المختارة مكافأة مالية قدرها ثلثمائة ألف فرنك (نحو أربعة آلاف جنيه). ثم تترجم إلى معظم اللغات الحية وتنشر في مختلف بلاد العالم؛ ويقدر واضع المشروع أنه يمكن أن يجتني من تنفيذه نحو مليون فرنك. بيد أن المهم في ذلك كله هو ما يصيب المؤلف الذي يسعده الحظ بأن تفوز قصته بالجائزة الكبرى، فهو يغدو بالحصول عليها من أصحاب الثراء(111/73)
الكتب
روض الشقيق في الجزل الرقيق
ديوان المرحوم الأمير نسيب أرسلان 1284 - 1346هـ
للأستاذ محمد بك كرد علي
بيت الأمراء أرسلان في لبنان عريق في النسب والأدب، وأشهرهم في هذا العصر الأمير شكيب أرسلان أحد من انبغتهم الشام من أرباب الأقلام، ويليه في الشهرة الأدبية شقيقاه الأمير عادل والأمير نسيب صاحب هذا الديوان. طبعه في دمشق شقيقه الأمير شكيب وقدم له مقدمة التزم فيها السجع على عادة أهل القرن الماضي، وعلق عليه حواشي وأردفه بترجمة الناظم ونسب العائلة الأرسلانية التي تنتسب إلى الأمير عون المتوفى سنة 13هـ. وكان قد حضر وقعة أجنادين، حضر مع خالد بن الوليد من العراق إلى الشام لنجدة أبي عبيدة بن الجراح، وحضر الأمير مسعود المتوفى سنة 45هـ وقعة اليرموك بألف وخمسمائة من أصحابه، وشهد وقعة قِنَّسرين. وأرومة هذا البيت ترتقي بعد ذلك إلى المنذر بن الملك النعمان الشهير بأبي قابوس ممدوح النابغة الذبياني. وقد فصل الأمير شكيب كل ذلك تفصيلاً وافياً استغرق أكثر من نصف هذا الديوان، وهو في 270 صفحة متوسطة القطع، وترجم لمن ورد ذكرهم من القضاة والعدول وغيرهم ممن شهدوا لهذا النسب، وردّ على بعض المؤرخين الذين أغفلوا لمقاصد حزبية ذكر آل أرسلان في بعض المواضع والمواقع، وقديماً قالوا: الناس مصدّقون بأنسابهم.
سمى الأمير أرسلان ديوان أخيه بروض الشقيق، في الجَزْل الرقيق، وذلك لجمعه بين متانة التركيب، ورقة الشعور؛ وفي لفظة الشقيق من التورية ما لا يخفى. وقد أشار إلى أصحاب الأدب الجديد، وهو من أنصار الأدب القديم بقوله: (لا ينبغي لناشئة العرب أن يعدلوا بهذه الأم العربية البرة أماً، ولا يجوز أن يجعلوا لها من بين اللغات نِداً، بل يجب أن يجعلوها قطب رحى المثافَنة، ويعلموا أنها نعم السند يوم المماتنة. فلا يرتبوا أفكارهم في لغة قبلها، ولا يضلوا في الأبانة عن ذات نفوسهم سبلها، حتى إذا صفت لهم مشارعها، وحنَت عليهم أجارعها، وصارت مَلَكتها جارية مجرى المهج من نفوسهم، نازلة منزلة(111/74)
الأدمغة من رءوسهم، كان لهم أن يستزيدوا من آداب الغرب والشرق ما شاءوا وتطالت إليه عزائمهم، وأن يضموا إلى البلاد العربي القديم طريف البضائع، وأن يضيفوا إلى الإرث العُدُملي الكريم حديث البدائع، مشروطاً في نقلها إلى خزانة العربية، لأجل تمام المقصد واجتناب الهجنة، أن يكون الأسلوب العربي الأصيل ظلها وماءها، وديباجة النطق بالضاد أرضها وسماءها، وأن تكون لغة الكتاب المنزل على أفصح العرب ألفها وياءها. .).
وهاكم نموذجاً من شعر هذا الأمير الشاعر من قصيدة يصف الفقير في ضنكه ويحث الموسر على إعانته، (وهي قصيدة فذة في بابها في وصف الفقر وشدته على المرء واستجلاب الرحمة والتحنان على الفقراء والتحذير من مغبة إرهاقهم):
رأيت سليل الفقر يعمل في الثرى ... مكباً على محراثه يتلهف
يخدُّ أديم الأرض خداً كأنه ... له قِبَل الغبراء ثار مخلف
كأني به نادته للحرب فاغتدى ... يكرُّ عليها بالحديد ويعطف
كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف
كأني به إذ خط في الأرض قبره ... يهمُّ على جثمانه ثم يصدف
به آية الجهد الذي ليس ناهضاً ... بهِ بشر غض البنان مهفهف
جبين بمرفضِّ الصبيب مضمَّخٌ ... وشعر بملتصِّ الغبار مغلف
وجِيد خفوق الأخدعين كأنما ... تبينت من أوداجه الدم ينطف
رثيت لمكروب سحابة يومه ... إذا قرَّ منه معطف ماج معطف
إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تتقصف
كأن أزيز الجوف عند وجيبه ... حسيسُ هشيم والندى يتوكف
يشقق عنه الثوب فالريح قد غدت ... تصافح منه جلده حين تعصف
وأثبت حَمْىُ الشمس في أم رأسه ... نبالاً فراس العظم منها منقف
تبطن منثور الغبار جفونه ... فضرَّج منها مقلة تتحسف
كأن حماة الشوك في ذيل برده ... طراز حواه العبقري المفوَّف
يمدُّ إلى الجبار كفاً تكدحت ... أناملها والله بالعبد أرأف(111/75)
ومنها:
وصفت لك الضراء يا صاحب الغنى ... وهل تعرف الضراء من حيث توصف
هي الفقر ما أدراك ما الفقر إنما ... لهاث الردى منه أخف وألطف
حياة بلا أنس وعيش بلا رضى ... فلا الرغد ميسور ولا العمر ينزف
بكيتك يا خلوَ اليدين بأدمعي ... فأنت صريع النائبات المذفف
يروح كثير المال يسحب ذيله ... وأنت المعِّني يا فقير المكلف
ألست الذي شاد الحصون بعزمه ... وناط نجاد السيف للحرب يزحف
وأجرى سفين البحر في اللج ينثني ... ومَّشى قطار النار في البيد يهذف
وقد ملأ الأنبار للخلق ميرةً ... وحاك لهم موشية تتغضف
بلى إن من هان العسير بكده ... على الأرض مفتول الشوى متقشف
أخو فاقة لم يدخل الطيب رأسه ... ولا مسَّ كفيه القضيب المعقف
أفي الحق أن يشقى الفقير بعيشه ... وذو المال في شر الغواية يسرف
وأن يدنف المثرى بأعقاب بطنه ... غداة خفيف الحاذ بالجوع يدنف
أما في كبود العالمين هوادةٌ ... ولا رحمة عند الشدائد تعطف
وهل فقدت بين الأنام قرابة ... يحثُّ بها منهم عديم ومترف
أرى المرء لا يأسو جراحة مملق ... ولو هزَّ فوْديه النصيح المعنف
أراه إذا ما نَعَّم الرغد جسمه ... غدا قلبه يقسو لديه ويصلف
إليكم بني غبراَء تدمى عيونهم ... وليس لهم إلا المياسير مسعف
يمدون نحو المحسنين أكفهم ... وما يستوي المكفيُّ والمتكفف
سألت عزيز المال حين يغوثهم ... من الرمل تحثو أم من البحر تغرف
ألا إنما الحسنى إليهم فريضةٌ ... وفي ذلك الآيات لا تتحرف
فإن طلبوا الإنصاف قيل سماجة ... ومن لك بالمظلوم لا يتنصف
عليكم بكشف العسر عنهم فإنما ... أخو الضر يمسي ضارياً حين يهجف
فلا ترهقوهم بالشقاوة والطوى ... فيبدو منهم بادر لا يكفكف
فإن لم ينالوا بالهوادة حقهم ... ينالوه يوماً والصوارم ترعف(111/76)
ولا تهملوا حسن الخطاب ولينه ... فإن الخطاب العذب نعم المثقف
لكم عبرة في الغرب من كل فتنة ... تهز الجبال الراسيات وتخسف
فلو كان عيش للمفاليس طيب ... لما قام منهم قائم متطرف
وفي الديوان كسائر الدواوين الشعرية مديح وقصائد في التهنئات، ومقاطع في الغزل والنسيب، وكلها من الشعر الجزْل. رحم الله ناظم عقودها وأمد في حياة ناشرها.
إلى صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان
نعم شقّ عليّ يا أخي أن تلقى دلوك في الدلاء، وأن تكتب مقدمة كتاب (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث) بهذا اللسان الذي ما عهده فيك من تأدبوا بأدبك، وأكبروا عظمة بيانك. بالأمس كتبت مقدمة (النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي) للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فمن منا لم يعجب بما كتبت وحبرت، وإن كنت أطلت وتوسعت؟ واليوم تكتب ما تكتب لقواعد التحديث، في فن لست منه ولا أنا في العير ولا في النفير، وجئت تغالي بكتاب ليس فيه من حديثه ولا أسلوبه أسلوب المؤلفين، ولا يستحق هذه العناية والدعاية وهذه الضجة؛ ولكل رأيه واجتهاده
أنا أجلك عن الدخول في هذه المآزق، لأنك في غنية عنها، ولست بحمد الله محتاجاً إلى مصانعة الناس، ولا نضبت أمامك الموضوعات، تحتاج لمعالجتها لتورثك شهرة وحسن ذكر؛ وما أخالك إلا كتبت ما طلب منك في غير وقت نشاطك، وليس لك من القول ما تقول فتبدع على عادتك. ومهما كانت منزلة الكتاب وكاتبه من نفسك، ما أرى لقلمك أن يجري إلا فيما يصلح أن ينسب إلى إحسانه؛ وحملة الأقلام مسؤولون إذا اقتصروا مع المؤلفين والطابعين على مقارضة الثناء، ولم يتعاودوهم بالنقد الصحيح؛ والإفراط في التقريظ شيمة المتأخرين من أهل عصور الانحطاط الأدبي في العرب؛ والنقد المفيد عادةُ نقاد الإفرنج في زماننا. ومن الأمانة للعلم والأدب أن يُدَلّ كل كاتب على مواضيع الخطل من كلامه، إلا أن نغشه ونغش قراءه، فنجسم ما صغر حجمه في العيان، ولا يشول مهما نفخناه في الميزان
وأكتفي الآن بجملة من مقدمتك، وقد بدأتها بقولك: (لا يخفى على أهل الأدب، أن الجمالَ والقسام في العربي (؟) واحد، وأن معنى القاسم هو الجميل، فلا يوجد إذن لتأدية هذا المعنى أحسن من قولنا (الجمال القاسمي) الذي جاء اسماً على مسمى، مع العلم بأن الجمال(111/77)
الحقيقي هو الجمال المعنوي، لا الجمال الصوري، الذي هو جمال زائل؛ فالجمال المعنوي هو الذي ورد به الحديث الشريف: إن الله جميل ويحب الجمال. وعلى هذا يمكنني أن أقول إنه لم يُعط أحد شطر الجمال المعنوي الذي يحبه الله تعالى، ويشغف به عباد الله تعالى، بدرجة المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، الذي كان في هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق، وجمال القطر الشامي بأسره، في غزارة فضله، وسعة علمه، وشفوف حسه، وزكاء نفسه، وكرم أخلاقه، وشرف منازعه، وجمعه بين الشمائل الباهية، والمعارف المتناهية، بحيث أن كل من كان يدخل دمشق، ويتعرف إلى ذاك الحبر الفاضل، والجهبذ الكامل، كان يرى أنه لم يكن فيها إلا تلك الذات البهية، المتحلية بتلك الشمائل السرية، والعلوم العبقرية؛ لكان ذلك كافياً في إظهار مزيتها على سائر البلاد، واثبات أن أحاديث مجدها موصولة الإسناد. . . الخ)
بأبي أنت وأمي يا شكيب! هل هذا بيانك الذي عرفته وعرفه فيك قومك؟ أنا لا أطلب غير حكمك، فلا أحتكم إلا إليك. أهذا كلام ترضاه لنفسك في كتاب يبقى؟ وما هذا القلق في المعاني والمباني؟ ربما أغتفر صدور مثل هذا الصدر من فتى يشدو في الأدب، ولكن من شيخ كتاب العرب لا ثم لا! وحديث السجع أنت عرفت رأيي فيه، ولعلك تذكر أني كنت لفت نظرك إلى ما أسميت به كتاب رحلتك إلى الحجاز: (الارتسامات اللطاف، في خاطر الحاج إلى أسمى مطاف) وقلت لك يومئذ إن القارئ مهما بلغ من ثقوب ذهنه لا يدرك لأول وهلة معنى هذا العنوان المسجوع، إلا بكثير من إجهاد الفكر؛ وهكذا كدت باستحسانك السجع في بعض المقامات والغلو في تقريظ من ترى تقريظه، أن تنسينا حسناتك علينا في كلامك المرسل الكثير، وأنا على ما تعلم من أحرص الناس على تخليده وتأبيده
بحقك، هل رأيت لأحد من بلغاء القرون الأولى سجعاً في شيء من أسماء كتبهم؟ وهذا الجاحظ وابن المقفع، وهذه أسماء كتبهما ورسائلهما، هل وجدت لهما سجعاً تتقزَّز منه كصاحبك أبي إسحاق الصابي الذي أفسد اللغة على علو مكانته في الأدب بما سجع ورصع؟ وأظنك موافقي على رأيي في أن التسجيع أضعف ملكات المؤلفين من عهد ابن العميد إلى زمن أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده الذي قضى بقوة حكومته على استعمال السجع في الصحف والرسائل الرسمية، فعدّ عمله هذا أكبر حسنة منحسانته؛ ولولا عمله ما(111/78)
دخلت اللغة في هذا الأسلوب الممتع الذي نقرؤه اليوم للمنشئين والمؤلفين؛ ونرجو أن تعود به اللغة إلى رونقها السالف من الرشاقة والجزالة، على نحو ما كانت على عهد سهل بن هرون والجاحظ وعمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف الكاتب وابن المقفع وإضرابهم. وما أظنك تنكر عليّ أن رصف أبي حيان التوحيدي في القرن الرابع، وابن خلدون في القرن التاسع، أرفع وأمتع من تعسف الصابي والصاحب بن عباد وأبي بكر الخوارزمي والقاضي الفاضل والعماد الكاتب وابن الأثير إلى آخر أعيان ذاك المذهب المتكلف.
وأظنك موافقي أن في قولك: (وإن كان يجب حذفه (السجع) من هذه اللغة من أجل كونه في طريقة قديمة، ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية، فإن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر أيضاً) - إن في قولك هذا مغالطة لطيفة، وفي علمك أكرمك الله أن النثر غير الشعر، والكراهة آتية من التزيد والتكلف
لو كنت على مقربة منك ما تركتك تقول في مقدمة الديوان الذي نشرته بأخَرةٍ ودعوته: (روض الشقيق، في الجزل الرقيق) ما قلته في فاتحته: (. . . الذي لا أجد لشعره وصفاً أو في من عرضه على الأنظار، ولا لديوانه حلية أجمل من نشره في الأقطار؛ وخير وصف الحسناء جلاؤها؛ والجواد عينه تُغني عن الفُرار. ولعمري لو وصفته بأزهار الربيع، وأنواع البديع، وشققت في تحليته أصناف الأساجيع، وكان هو في الواقع دون ما أصف لما أغنيته فتيلاً، ولا رفعته عن درجته كثيراً ولا قليلاً؛ كما أني لو قدمته للقراء فريدة معطالاً، لا يرن له حجل ولا سوار، ولا يتلألأ عليه ياقوت ولا نضار، وكان هو في نفسه دراً نظماً، وأمراً عظيماً، وديواناً تتأرج أرجاؤه ندّاً ولطيماً، لما خفي أمره على ذوي الوجدان، ولا تعامى عن سبقه أحد ممن له عينان. .) ولو كنت مكانك لقلت وما باليت: (. . . الذي لا أجد لشعره وصفاً أوفى من عرضه على الأنظار؛ ولو وصفته بأزهار الربيع، وكان هو في الواقع دون ما أصف لما أغنيته فتيلاً؛ ولو قدمته للقراء فريدة معطالاً، وكان هو في نفسه دراً نظيماً، لما خفي أمره. .)
أليس هذا الإيجاز أوقع في النفس، وأجمل في أداء المعنى، وأدعى إلى الأفهام من أسجاع تثقل على الطباع؟ ونحن إنما نكتب لنُفهم، لا لنُعجم ونُبهم. وبعد فمالنا وللتقيد بما قاله بعض المتأخرين في معنى التعلق بأهداب السجع، ولدينا في أقوال المتقدمين والمأثور من(111/79)
كتاباتهم ما يحملنا على تقليدهم في أساليبهم، يوم لا هذا الترصيع والتسجيع، ولا ذاك الضرب المستكره من أنواع البديع
محمد كرد علي(111/80)
العدد 112 - بتاريخ: 26 - 08 - 1935(/)
2 - سعد باشا زغلول
بمناسبة ذكراه الثامنة
كانت رسالة سعد كما رأيت (الدفاع عن الحق) في زمن خذل الحقَّ فانتهى فيه الحكم إلى الأثرة، وشعب جهل الحق فجرى به الأمر على الباطل. وكانت عُدة هذا المحامي المِدْره لذلك الدفاع البلاغة والمنطق والقانون: فالبلاغة للجمهور، والمنطق للخصوم، والقانون للحكومة؛ ولست أرمي بذلك إلى تقسيم كلام الزعيم إلى التأثير المحض، والإقناع المطلق، والتطبيق المجرد، فإن خطبته في كل موضع وفي أي موضوع لا تخلو من هذه العناصر الثلاثة، وإنما يظهر بعضها على بعض حين يقتضي المقام ذلك الظهور؛ فهو يوجه التأثير بالفكرة إلى الذهن إذا هاجم الإنكار والجهل، وبالعاطفة إلى النفس إذا عالج الخمود والغفلة، وبالنصوص إلى الذاكرة إذا عارض القوة والسلطة. ولم ير التاريخ المصري بل الشرقي قبل سعد خطيباً بليل اللسان، نديَّ الصوت، طلق البديهة، دامغ الحجة، حافل الخاطر، رائع البيان، أنيق اللهجة، حسن السمت، يزاوج بين المنطق والشعر، ويعاقب بين الإقناع والإمتاع، ويراوح بين الجد والهزل، ويتصرف في فنون القول تصرف الشاعر برقة الأسلوب، والفيلسوف بدقة الفكر، والموسيقي بجمال الإيقاع؛ وكل ذلك في هالة من الشخصية المهيمنة الجذابة، تساعد بلاغة اللسان والعين واليد بشعاع إلهي باهر، ينفذ إلى النفوس المتكبرة فتَتَّضع، وإلى الأذهان المكابرة فتقتنع، وإلى القلوب اللينة فتنماع
كان سعد رجل جلاد وجدل؛ تمرس منذ الحداثة بشدائد الحياة ومكاره العمل، وراض نفسه منذ الدراسة على أدب اللسان والقلم، وتنفّس به العمر في ميادين الجهاد في الحق، فتكلمت عبقريته الموهوبة بالمعرفة، وتثقفت بالتجربة، وتقوت بالمران، حتى كان منه ذلك الخطيب المرتجل الذي يَهْضب بالكلام أربع ساعات متواليات لا يتلكأ، ولا يتلجلج، ولا يتكثر باللغو، ولا يستعين بالتكرار، ولا يطرد نشاط السامع؛ وكأنما كانت الخطابة لطول ما زاولها تصدر عنه كما يصدر الفعل عن الطبع الملازم والعادة المستحكمة؛ فالفكر عميق من غير إعنات، والأسلوب رشيق من غير تكلف، واللفظ متخير من غير قصد، والمعاني متساوقة تختلف باختلاف العقول والميول والحال، فتقع من قلوب سامعيها العشرين ألفاً موقع الأنداء من جفاف الأرض: هذا بالصورة الآخذة، وذاك بالفكرة النافذة، وذلك بالحجة(112/1)
الوثيقة، وأولئك جميعاً بالبيان الملهم، والأداء العجيب!
أكثر ما في خطب الخطباء حنجرة وإلقاء وحركة؛ فإذا قرأت بعد ذلك ما سمعت تبينت فيه الكلام الزائف والرأي المجازف والأسلوب المشوش؛ أما سعد فتسمعه وتقرأه فلا تجد بين الحالين إلا الفرق بين الخطيب الماثل بشخصه، والكاتب الماثل بروحه؛ ذلك لأنه يخطب كما يكتب ويكتب كما يخطب، متوخياً في الأمرين براعة التفكير، وبلاغة الأداء، وجمال الأخيلة، وصحة الأقيسة، وقوة الأدلة
كان سعد برد الله ثراه وخلد ذكراه يحب الكلام كما يحب العمل، وينشط بالجلاد كما ينشط بالجدل، ويطرب لِلَفتة الذهن كما يطرب لقهر الخصومة، ويقدس المنطق حتى ليأخذ به من نفسه لعدوه، ويقوى بالكفاح حتى ليركبه المرض والوهن إذا ما استجمَّ
دخلت ذات يوم بيت الأمة في وفد من قومي نجدد الثقة بالرئيس حين انصدع من حوله الوفد، وائتمرت به الحكومة، وتخشَّنَ عليه الإنجليز، ودس له المراءون الغدر في الملق، ولم يبق معه إلا اعتداده بنفسه، واعتقاده بحقه، وثقة الشعب الأعزل به؛ وكان في ذلك اليوم عليلاً لا يخرج إلى أحد ولا يدخل عليه أحد، ولكن الوفد المسافر المشوق يأبى في إلحاح وإصرار إلا أن يرى رئيسه وإن لم ينزل، ويسمعه رأيه وإن لم يتكلم؛ فنزل الزعيم النبيل مدثَّراً بلفائف المرض يتحامل على نفسه ويتهالك على مقعده؛ وكان فناء الدار وشارع الدار وحجرات الدار قد انفجرت انفجار عرفات بالدعاء والتفدية حين لاح وجهه الشاحب من العلة
قدَّم وفدنا إلى الرئيس عرائض الثقة في غلاف حريري جميل، ثم تعاقبت الخطب على الأسماع ما بين سمين وهزيل، والخطيب المعجز جالس إلى مكتبه يصغي إلى كل خطيب ويصفق لكل خطبة، حتى انتهى القوم ووقف هو يقول كلمة الشكر، فبدأها بصوت خافت متهافت، ثم ما لبث أن شبا وجهه، واستقام عوده، وارتفع صوته، وتنوعت لهجته بالنبرات المؤثرة، وتحركت يده الإشارات المبينة، ثم تدفق تدفق السيل الهادر ساعة كاملة هتك فيها أستار الغلول والخديعة عن سياسة الحكومة والخصوم، فما سمع الناس كاليوم خطيباً ينطق عن الوحي، وأسلوباً يتسامى للإعجاز، وصوتاً يمتزج رنينه الفضي بأجزاء النفس، وخطبة لا يظفر بمثلها البيانيون نموذجاً كاملاً للفن!(112/2)
تلك صورة جانبية لناحية من نواحي فن الزعيم، جلوناها على قدر هذه الصفحة؛ ولعلنا نعود يوماً إلى هذا الإجمال فنفصله، وإلى هذا التركيب فنحلله
أحمد حسن الزيات(112/3)
القومية العربية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كثيراً ما يسألني الذين لم يشهدوا الثورة المصرية - لأنهم كانوا أطفالاً - (هل كانت حقيقة رائعة؟)
فأقول: (لقد بلغت غاية الروعة - في حدودها. ولم يكن في الوسع أن تكون فوق ما كانت؛ ولكنها فشلت - مع الأسف - لأنا أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين)
ذلك أني أؤمن بما أسميه (القومية العربية) وأعتقد أن من خطل السياسة وضلال الرأي أن تنفرد كل واحدة من الأمم العربية بسعيها غير عابئة بشقيقاتها، أو ناظرة إليها؛ ويحنقني ويستفزني أن أرى أحداً ينظر إلى مصر كأنها من أوربا وليست من الشرق. وعندي أن الجنسية الشرقية هي أساس حياتنا وتاريخنا، وأن هذه النظرة تفسد مزايانا الشرقية - إذا لم تفقدنا إياها - ولا تكسبنا مزية من مزايا الغرب؛ والعلم ينقل، وقد نقل من الشرق إلى الغرب، ومن اليسير أن ينقل من الغرب إلى الشرق من غير أن يحاول الشرق أن يغيّر جلده أو يخسر خصائصه
وقد اعترض عليّ شاب - ذات مرة - ونحن في حديث كهذا، فقال: (وما الرأي في القومية؟ أليست حقيقة تاريخية تفرّق بين هذه الشعوب والأمم التي تريد أن تجمعها وتربطها برباط واحد؟)
فقلت له: (إن هذه القوميات العنيفة الضيقة الحدود، حديثة من الوجهة التاريخية، وهي - بحدتها الحاضرة - بنت العصر الحديث، أو إذا شئت، فقل إنها وليدة الحرب العظمى، وإن كان صحيحاً أنها سبقت الحرب بنصف قرن تقريباً، بل إن فكرة الإمبراطورية البريطانية نفسها ليست إلا بنت القرن العشرين. ولعل أكبر مسئول عن بث هذه الفكرة هو الشاعر كبلنج. ما علينا من هذا، ولنرجع إلى حديث الشرق: لقد كانت هناك وحدة وثقافة إسلاميتان دان لهما الشرق، أو ما يعنينا منه، وظلت هذه الوحدة قائمة على الرغم من انحطاط الثقافة، ولم يمنعها أن تظل قائمة أنَّ ثورات شبت، وحروباً استعرت، فإن هذه أشبه بالفتن الداخلية والحروب الأهلية؛ وقد كان العلماء والأدباء والفقهاء يرحلون من بلد إلى بلد، ولا يحسون أنهم تركوا أوطانهم وتغرّبوا، ولا يشعرون أنهم اجتازوا حدوداً، وتخطوا تخوماً، تفصل بين(112/4)
أقطار، وتعزل أمة عن أمة. ولا يزال الحال كذلك؛ ولو جبتم هذا الشرق لما شعرتم أنكم في غير مصر - إلا من حيث التقدم المادي - وكانت اللغة العربية هي اللسان الذي لا يحتاجون إلى اتخاذ غيره في حيثما يكونون من هذا الشرق العظيم الذي تقسمونه اليوم أمماً وشعوباً وتقولون هذا مصري وذاك فلسطيني أو شامي أو حجازي. وعلى أن القومية هي اللغة لا سواها. ولتكن طبيعة البلاد ما يشاء الله أن تكون، ولتكن الأصول البعيدة المتغلغلة في القدم ما شاءت، فما دام أن أقواماً لهم لغة واحدة فهم شعب واحد. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر - إلى الآن على الأقل - إلا بالألفاظ. هي وحدها أداة التفكير، فلا سبيل إليه بدونها؛ ومن المستحيل - الآن - أن نتمثل معنى مجرداً عن ألفاظ تعيّنه. ولكل لغة أساليبها وطرائقها، فأساليب التفكير وطريقة التصوّر خاضعة للأساليب التي يتألف على مقتضاها الكلام في اللغات المختلفة؛ ومن هنا يتفق ويتشابه أبناء كل لغة، ويختلفون عن أبناء كل لغة أخرى؛ وهذا فرق ما بين الإنكليزي والفرنسي، وما بين الإنكليزي والهندي؛ وهذه فيما أظن، حقيقة علمية، ومتى كان الأمر كذلك فكيف نكون إلا عرباً كالعراقيين، والسوريين، والفلسطينيين، والحجازيين، واليمانيين، مع اختلاف يسير تحدثه طبائع هذه البلاد؟)
فعاد الشاب يسألني: (وأصلنا المصري؟ وتاريخ الفراعنة ومدنيتهم؟)
فقلت له: (أكرم بهذا من أصل! وإنها لمدينة باهرة تلك التي كانت للفراعنة؛ وإن العالم كله لمدين بأكثر مما يعرف لهذه الحضارة القديمة، ولكنها بادت واندثرت، ولم يبق منها إلا الأثر المدفون في التراب، والذي لا يمكن أن يؤثر في حياتنا الحاضرة إلا من طريق واحد - هو إشعارنا العزة، وحثنا على استحقاق هذا الميراث الجليل، كما يكون الأب كريماً فيخجل الابن أن يكون كزاً لئيماً وأن يفعل ما ينافي كرم آبائه وطيب أرومتهم؛ ولكن المدينة العربية - أو قل الإسلامية إذا شئت - لم تفن، ولم تبد، ولم تندثر، ولم تفقد إلا القوة ومظاهر السلطان، وهذه تكتسب وتستفاد؛ ولكنها فيما عدا ذلك، بقيت حية، وأبقى ما بقي منها لغتها بكنوزها المختلفة، فهي - أي المدنية العربية - عاملٌ مؤثرٌ بوجوده - لا بذكراه كالعامل الفرعوني. ومن الممكن هدم هذه الحواجز المفتعلة التي يقيمها الغرب ويرفع منها سدوداً بيننا وبين إخواننا)(112/5)
وكثير ممن أحدثهم هذا الحديث يقتنعون، ولكنهم يرون أنفسهم شباناً، ويستهولون أن يوكل إلى أسنانهم الغضة توثيق ما أوهنه تفريط الشيوخ أو ضيق إدراكهم، ولكني أنا أؤمن بقدرة الشباب على المعجزات، لأن خياله أنشط، وجرأته أعظم وعزيمته جديدة لم تنل منها الخطوب والخيبات، وآماله فسيحة. وإذا كان الشباب لا يقدم، فمن ذا عساه يفعل؟؟
ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهماً لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ، لوجب أن نخلقها خلقاً، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة، وما خير مليون من الناس مثلاً؟ ماذا يسعهم في دنيا تموج دولها بالخلق، وكيف يدخل في طوقهم أن يحملوا حقيقتهم ويذودوا عن حوضهم؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلاً بلحمهم وعظمهم. ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليهم مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلاً يصبحون شيئاً له بأس يتقى. وهذه البلاد ما انفكت زراعية على الأكثر، وجل اعتمادها على حاصلات الأرض، والصناعة فيها ساذجة محدودة، وضيقة النطاق، والزراعة لا تفني الأمم كما تفنيها الصناعة، والمال عصب الحياة وسر القوة، وأخلق بهذه الأقطار العربية أن تظل صناعاتها ضئيلة ما بقيت هي مقسمة موزعة، لأنه لا يوافق الدول الغربية التي لها فيها سلطان أو نفوذ أن تدع صناعاتها تنشط وتنهض، ولا سبيل إلى نشاطها إلا إذا فتحت أسواق مصر، لجاراتها الشرقية، وأسواق الجارات لمصر، ومعقول أن تشتري منا دول أوربا حاصلاتنا الزراعية أو ما يزيد على حاجتنا منها، ولكن صناعتنا لا يعقل أن تجد لها أسواقاً في أوربا، فما بها حاجة إلى ما نصنع بالغاً ما بلغ التجويد فيه، وإنما يتسع الميدان لصناعتنا إذا وجدت سبيلها إلى الشرق، ومثل هذا يقال عن البلاد العربية الشرقية
قد يقال ولكن هذا ليس إلا حلماً، فنقول نعم إنه الآن حلم، لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، وعسى أن تكون العقبات المعترضة والصعاب القائمة قد صرفت كثيرين عنه بعد أن دار زمناً في نفوسهم، ولكنه، على كونه حلماً، ليس أعز ولا أبعد منالاً مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر؛ وبالأمم حاجة إلى الأحلام، وإلى الإلحاح على نفسها بها حتى تخلد إليها وتتعلق بها ولا تعود ترى للحياة قيمة أو معنى إذا لم تسع لتحقيقها، وإلا فلأية غاية تسعى؟؟ ماذا تطلب من الدنيا؟ وماذا عسى أن يكون مرامها في الحياة إذا لم تحلم بأمل؟ أيكون كل ما تبغي أن تأكل هنيئاً، وتشرب مريئاً، وتنام ملء(112/6)
جفونها؟؟ وهيهات أن يتيسر لها ذلك إذا هي أقصرت وكفت عن الأحلام والتأميل وما يغريان به من السعي، وغيرنا يحلم بنا إذا كنا نحن لا نحلم بشيء، وحقيق بنا إذا سلمنا إلى حين أن نعود فريسة لأمة من الأمم الطامعة الحالمة
والأحلام ضرورة من ضروريات الحياة، للأفراد والجماعات وبغيرها يمتنع السعي وتنقطع الحوافز، وتركد الدنيا ويأسن العيش، ومن لا حلم له، لا أمل له، ولا مستقبل، فلما يعيش إذن؟
إبراهيم عبد القادر المازني(112/7)
مصر وقت الفتح الفاطمي والعوامل التي مهدت لهذا
الفتح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
- 3 -
كانت الدولة الفاطمية تضطرم بهذا الروح الوثاب، وهذه الخلال البدوية النقية حينما اعتزم المعز لدين الله فتح مصر، وكانت هذه الروح والخلال هي دعامة الدولة الجديدة؛ نشأت في مهدها، كما تنشأ معظم الدول المغامرة التي تجد في قفار المغرب خير ميدان لطالعها ونشاطها. وكانت هذه الإسبارطية الصارمة تطبع تصرفات الغزاة منذ البداية؛ وبينما كان أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين وطليعة دولتهم يزحف بعصبته من البربر على بني الأغلب لينتزع ملكهم، كان زيادة الله بن الأغلب مكباً على لهوه ومسراته، ولم يك ثمة شك في مصير ملك يغشاه مثل هذا الانحلال في الروح وفي الخلال؛ ولما تم الظفر لأبي عبد الله ودخل رقادة عاصمة الأغالبة، واحتوى على تراث بني الأغلب، عرضت عليه جواري ابن الأغلب وفيهن عدة فائقات الحسن، فلم ينظر إلى واحدة منهن، وأمر لهن بما يصلح شأنهن وأقام على ما كان عليه من تقشف بالغ وخشونة في المأكل والملبس، ولم تزد إقامته في القصر الأنيق على إقامة القفر الساذج
ولما اعتزم المعز أن يحقق أمنية أسرته في افتتاح مصر، استعد لذلك استعداداً عظيماً، وحشد كل ما استطاع من جند وذخيرة ومال، وعهد بتلك الحملة الزاخرة إلى أعظم قواده جوهر الصقلي؛ ومع أن المعز كان قوي الأمل في التغلب على مصر، ومع أنه كان يعرف من طلائعه وعيونه مبلغ ما انتهت إليه من التفكك والضعف عقب موت كافور، فإنه لم يدخر عدة في الرجال أو المال، وإليك رواية توضح لنا ضخامة هذه الأهبة: استدعى المعز يوماً أبا جعفر حسين بن مهذب متولي بيت المال، وهو في وسط القصر، وقد جلس على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها، قال الحسين، فأخذت أجمعها حتى رتبت، وبين يديه جماعة من خدام بيت المال والفراشين،(112/8)
فلما رتبت أمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها ويختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وكان ذلك في سنة 357هـ؛ فأنفقت جميعها على الحملة التي سيرها إلى مصر؛ ويقال إن الحملة الفاطمية على مصر بلغت نيفاً ومائة ألف فارس، غير الجند المشاة، وهي قوة زاخرة تقتضي لكي تقطع هذا القفر الشاسع بين إفريقية ومصر بعددها وعددها جهوداً جبارة؛ ولقد أذكى منظر تلك القوى الجرارة وأهبتها الهائلة وقت خروجها من القيروان إلى مصر في يوم من أيام ربيع الأول سنة 358هـ خيال الشاعر المعاصر ابن هانئ، فأنشد في وصفها:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
إلا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حل في أرض بناها مدائناً ... وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع
تحل بيوت المال حيث محله ... وجم العطايا والرواق المرفع
وكبرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رقَّ الصباح الملمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ولم تمض أسابيع قلائل حتى سرت الأنباء في مصر بمقدم العساكر الفاطمية؛ ولم يكن مشروع الفاطميين في فتح مصر مجهولاً؛ وكان للمعز بمصرَ دعاة يبثون دعوته خفية، ويبشرون بالفتح الفاطمي. ولم يك ثمة ما تخشاه الأمة المصرية من هذا الفتح، خصوصاً بعد الذي شهدته من عسف الجند العباسيين، وطغيان الولاة المستعربين، وما انتهت إليه شؤونها في أواخر عهد الدولة الأخشيدية من الاضطراب والفوضى، وما توالى عليها من محن الغلاء والوباء؛ ولقد كان من سخرية القدر أن يتولى حكم مصر أسود خصي هو كافور؛ وكان لهذا الحادث الفذ في تاريخ مصر الإسلامية، بلا ريب، وقع عميق في جرح الشعور القومي؛ وكانت الدولة الفاطمية تجذب إليها الأنظار بقوتها وغناها؛ وكان سواد الشعب المفكر يؤثر الانضواء تحت لواء دولة قوية فتية، تستظل بلواء الإمامة الإسلامية(112/9)
كالدولة الفاطمية، على الاستمرار في معاناة هذه الفوضى السياسية والاجتماعية؛ وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى مصر، جواً ممهداً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير الوجوه
ولما ذاعت الأنباء بوصول العساكر الفاطمية إلى الأراضي المصرية، اشتد الاضطراب في مصر، وكثر الخلاف في الرأي، فرأى جماعة من الزعماء والجند من أنصار بني الأخشيد وكافور أن يحاولوا رد الغزاة بقوة السيف، وأخذوا يتأهبون للقتال؛ ولكن معظم الزعماء المصريين آثروا مهادنة الفاتحين والتفاهم معهم، وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى جوهر بطلب الأمان والصلح، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات على أن يتولى تلك المهمة؛ وسألوا أبا جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون سفيرهم فأجابهم إلى ذلك؛ وسار على رأس جماعة من وجوه مصر إلى لقاء جوهر، فلقيه على مقربة من الإسكندرية، في قرية تعرف بأتروجه؛ (أواخر رجب سنة 358) فاغتبط جوهر بمقدمهم وأجابهم إلى ما طلبوا؛ وكتب لهم أماناً يعتبر وثيقة هامة في الكشف عن غايات السياسة الفاطمية وأصولها المذهبية؛ وفيه ينوه بمزايا الحماية الفاطمية على مصر (بعد أن تخطفتها الأيدي واستطال عليها المستذل؛ الممعنة نفسه بالاقتدار عليها، وأسر من فيها، والاحتواء على نعمها وأموالها، حسبما فعله في غيرها من بلدان المشرق) وأن أمير المؤمنين بادر بتسيير الجيوش المظفرة لمجاهدته وحماية المسلمين ببلدان المشرق مما شملهم من الذل واكتنفهم من المصائب والرزايا، ثم يشير جوهر إلى ما تطرق إلى شؤون الحكم من فساد وإلى ما يعانيه الشعب من مظالم ومتاعب، وإلى ما يزمعه أمير المؤمنين من إقامة العدل وتأييد الشريعة وإصلاح المرافق والشؤون، ويختتم ببيان بعض الأحكام الشرعية الفاطمية وتوكيد الطاعة لأمير المؤمنين
وفي هذا الأمان الذي أصدره جوهر لأهل مصر إشارة ظاهرة إلى خطر القرامطة الذين كانوا قد اجتاحوا الشام يومئذ، وأخذوا يهددون مصر؛ وقد كان الخطر حقيقياً لا ريب فيه، ولو لم يبادر الفاطميون إلى احتلال مصر، لسقطت قبل بعيد فريسة هينة في يد أولئك الغزاة السفاكين؛ بل لم يمض على وجود الفاطميين بمصر زهاء عامين حتى اضطروا إلى لقاء القرامطة في أرض مصر ذاتها ولم يردوهم عنها إلا بعد جهد جهيد(112/10)
على أن جوهراً اضطر مع ذلك إلى خوض بعض المعارك قبل أن يفتتح مصر. ذلك أن فلول الأخشيدية والكافورية ومن والاهم من الجند لم يقبلوا الأمان وآثروا أن يقوموا بمحاولة أخيرة للدفاع عن سلطانهم الذاهب؛ فاختاروا لهم أميراً، واحتشدوا لقتال جوهر بالجيزة؛ ولما وصل الجيش الفاطمي إلى الجيزة ألفى القوى الخصيمة تتهيأ لرده عن عبور النيل، فدفع جوهر بعض قواته فاجتازت النيل خوضاً، ونشب القتال بين الفريقين، فانهزم الأخشيدية بعد أن قتل منهم عدد كبير، ولاذوا بالفرار وتم الفتح الفاطمي لمصر (منتصف شعبان سنة 358)
واستجاب جوهر إلى رغبة المصريين كرة أخرى، فجدد لهم الأمان؛ وذهب الوزير ابن الفرات، والشريف أبو جعفر إلى لقائه على رأس العلماء والكبراء؛ وسار جوهر في ركبه المظفر إلى عاصمة مصر في عصر يوم الثلاثاء 17 شعبان سنة 358هـ (7 يوليه سنة 960م) (وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر)؛ وشق مدينة مصر (الفسطاط) ونزل في المكان الذي غدا فيما بعد مدينة القاهرة، واختط العاصمة الجديدة في نفس الليلة إيذاناً بقيام الدولة الجديدة، وبعث البشرى إلى مولاه المعز بالفتح العظيم، فوصلته في منتصف رمضان، وأنشد ابن هانئ بهذه المناسبة قصيدة مطلعها:
يقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه البشرى ويقدمه النصر
- 4 -
وقامت القاهرة عاصمة الدولة الجديدة بسرعة، وأعدت بقصورها ومسجدها (الجامع الأزهر) لتكون منزلاً ملوكياً لبني عبيد وعاصمة للخلافة الفاطمية، وبدأ الحكم الفاطمي بمصر على يد مبعوث الخليفة الفاطمي وقائده جوهر؛ وكان خطر القرامطة الذي أشار إليه جوهر في رسالته لأهل مصر يشتد ويتفاقم، ويهدد مصر بالويل والدمار، وملك الفاطميين بالفناء العاجل. وقد زحف القرامطة على مصر بالفعل في أوائل سنة 361هـ بقيادة زعيمهم الحسن الأعصم، ونشبت بينهم وبين الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر، معارك هائلة في ظاهر الخندق (على مقربة من القاهرة) انتهت بهزيمتهم وارتدادهم نحو الشام. ولما رأى المعز أن ملكه الجديد قد توطد بمصر، سار من أفريقية إلى مصر بأهله وأمواله في(112/11)
ركب هائل تفيض الرواية المعاصرة في وصف ضخامته وروعته، فوصل إلى الإسكندرية من طريق برقة، في 24 شعبان سنة 362؛ وهرع وفد من أكابر المصريين للقائه وتحيته عند المنارة، فقال لهم (إنه لم يسر إلى مصر لازدياد في الملك أو المال، وإنما سار رغبة في الجهاد ونصرة المسلمين وإقامة الحق والسنة). ودخل المعز القاهرة، عاصمته الجديدة في أوائل رمضان، ولما وصل إلى قصره خر ساجداً في مجلسه شكراً لله، ثم صلى ركعتين، وصلى بصلاته كل من دخل؛ وسطعت في الحال آيات من عظمة الملك الجديد
وبذا استقرت الخلافة الفاطمية في مصر، وبدأت زعامتها الدينية في المشرق؛ وكانت الإمامة الدينية أخص الصفات التي تبدو بها الخلافة الجديدة، وكان المعز لدين اله يحرص جد الحرص على صفة الإمامة ورسومها؛ بيد أن الفاطميين قدموا إلى مصر يحيط بنسبتهم وإمامتهم نفس الريب الذي أحاط بهما منذ قيام دولتهم في المغرب؛ وقد أثيرت هذه المسألة عند مقدم المعز إذ اجتمع به جماعة من الأشراف العلويين الذين ينتسبون إلى علي وفاطمة، فسأله الشريف عبد الله بن طباطبا عن نسبه، فأجابه المعز أنه سيعقد مجلساً ويتلو عليهم نسبه. ثم عقد المعز مجلسه بالقصر ودعا إليه الكبراء، وسل نصف سيفه من غمده وقال لهم هذا نسبي؛ ونثر عليهم ذهباً كثيراً، وقال هذا حسبي؛ فقالوا جميعاً سمعنا وأطعنا!، وفي ذلك ما يدل على اعتداد الدولة الجديدة بقوتها وجاهها، قبل اعتمادها على إمامتها وهيبة انتسابها لآل البيت، وإن كانت قد اتخذت الإمامة شعارها لدى الكافة منذ الساعة الأولى، وأقامت ملكها السياسي على أسس دعوتها الدينية
وكان عهد المعز بمصر عهد توطيد ودفاع عن الملك الفتي. وكان خطر القرامطة لا يزال جاثماً في الأفق ينذر دولة الفاطميين الجديدة بالمحو والفناء. ولم يمض بعيد حتى غزا القرامطة دمشق وانتزعوها من يد حاكمها الفاطمي. ثم زحفوا على مصر بقيادة الحسن الأعصم كرة أخرى، فلقيتهم جيوش المعز على مقربة من بلبيس في أواخر سنة 363هـ وأوقعت بهم هزيمة فادحة. بيد أنها لم تكن خاتمة النضال؛ فقد لبث المعز حتى وفاته في معارك مستمرة في الشأم مع القرامطة والروم؛ بيد أنه أتيح له قبيل وفاته أن يشهد ظفره؛ ولم يغادر هذه الحياة، (في ربيع الثاني سنة 365) حتى كانت الخلافة الفاطمية تبسط سلطانها وإمامتها على المغرب ومصر والشأم والحرمين(112/12)
(تم البحث)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان(112/13)
3 - فريزر ودراسة الخرافة
الزواج
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
قد لا تكون الخرافة استولت على أية ظاهرة اجتماعية استيلاءها على الزواج وشؤونه؛ فرفعت قدره، ودعت الناس أليه، وحددت قيوده، ونظمت ما يحيط به من طقوس ورسوم؛ فلا يكاد المرء يفكر في أن يتزوج حتى تتسرب الخرافة مسرعة إلى تفكيره هذا، محاولة أن تعين له الزوجة التي تليق به، وباحثة عما إذا كان نجمها يتفق مع نجمه، وطالعها يتلاءم مع طالعه. وكثيراً ما أحيطت حفلات العقد والزفاف برقي وتعاويذ أملتها الخرافة وأحكمت وضعها. وبين ظهرانينا من هذه الخرافات الشيء الكثير؛ (فالتبييته)، وحساب الطالع، وقراءة الكف، (وضرب الرمل)، ترمي غالباً إلى اختيار الزوجة الصالحة والشريكة الملائمة في الحياة الأسرية؛ وإذا ما قر رأي الشاب والشابة على الزواج أسبغت عليهما الأحراز والتمائم التي تقيمها الساحر وضره والحاسد وشره. فتارة يكتب لهما بالألفة والمودة، وأخرى يحصنان مما يوقع بينهما الشحناء والبغضة. ولم تتعفف الخرافة عن التدخل في العلاقات الجنسية بين المرء وزوجه فتثيرها وتنشطها، أو تقف في طريقها وتقضي عليها. وكلنا يعرف خرافة (الحل والربط) السائدة في قرانا، والتي كانت ولا تزال مصدر رزق لجماعة السحرة والدجالين، وباب شر دائم وألم مستمر للزوجين ومن يتصل بهما من أهل وأصدقاء. طغت الخرافة كذلك على الأسرة المكونة فسولت لبعض الناس أنها قادرة على أن ترد العاقر ولوداً، وتسلب أم الأولاد نسلها وتقضي عليها بالحرمان والعقم
لم يعن فريزر في كتابه (محامي الشيطان) بدراسة هذه الخرافات المتعددة؛ وإنما تفرغ لإيضاح نقطة واحدة هي موضوع كلمة اليوم. وتتلخص في أن الخرافة غرست في القلوب حب الحياة الزوجية وتقديسها، وحملت الناس على احترام القواعد الخلقية والقوانين الجمعية الخاصة بالعلاقات الجنسية بين العزب والمتزوجين. ذلك أنها أثارت على الزنا والفسق حرباً شعواء وصورتهما في أقبح صورة ممكنة، فأبعدت الناس عنهما بقدر ما قربتهم من الحياة الأسرية المنظمة. فالزنا واللواط وكل اختلاط جنسي غير مشروع كانت ولا تزال لدى كثير من القبائل الهمجية من أفحش الخطايا الخلقية التي لا يقع إثمها على(112/14)
مرتكبيها وذويهم فحسب، بل يتعداهم إلى الطبيعة فيقلب نظامها، وإلى الآلهة فيثير سخطها وغضبها. وربما أدت فعلة من هذه الفعال السيئة إلى هلاك الحرث والنسل، وموت الزرع، ويبس الضرع، وسقوط المطر، والرعد والبرق، ونزول الصواعق التي لا تبقي ولا تذر. ذلك أضحى الزنا وتوابعه جريمة شعبية تهدد المجتمع بأسره وتعدو عليه في أهم عناصر حياته من غذاء وماء وأمن وعافية
يزعم سكان برمانيا من أعمال الهند الصينية أن الزنا ذو أثر سيئ على الحاصلات المختلفة. فإذا ساء المحصول في قرية من القرى أو انقطع عنها المطر عاماً أو عامين متتاليين اعتقد الناس أن ذلك راجع إلى ارتكاب الفحشاء التي أغضبت الآلهة. وإذا وقف البرمانيون على حادثة من حوادث الزنا ألزموا الجناة بشراء خنزير صغير يكون في سكب دمه ما يغسل خطيئتهم الشنعاء؛ وقد جرت عادة المتقرب أن يبتهل إلى الله حين يقدم قربانه قائلاً: (إله الأرض والسماء والجبال والهضاب، قد أجدبت الأرض من أجلي، فلا تنزل عليَّ جام غضبك ونذير سخطك، وارأف بي وارحمني. هأنذا أصلح الجبال وأسوي الهضاب وأحفر الأرض وأشق الأنهار، فاللهم رد إلينا الحصَل المفقود، ولا تضيع علينا أي مجهود، وأخصب أرضنا، ونم زرعنا)
ويعتقد كذلك كثير من برابرة أفريقية الغربية أن الآلهة تعاقب بالجوع والخوف والقحط والجدب كل جماعة انتهك فيها عرض إذا اعتدي على محرم. ويروى أنه سنة 1898م انقطع المطر عن هذه الجهات زمناً طويلاً، فجفت الذرة، واحترقت أوراق البطاطس والنباتات الأخرى. فهرع الأهلون إلى قسسهم يرجونهم أن يستكشفوا سر هذا السخط العظيم. وبعد تضرع طويل وابتهال خالص تبين هؤلاء القسس أن آلهة السماء غاضبة على سكان الأرض لسوء سلوكهم. فجمع كل رئيس أتباعه، وأرسل فيهم العيون والأرصاد للبحث عن أصل هذه الجناية الكبرى. وقد أدى البحث الدقيق إلى إثبات أن ثلاث فتيات أبحن أعراضهن وأكلن بأثدائهن؛ وما إن همت القبائل بمعاقبتهن حتى نزل المطر مدراراً! ويزعم كثير من متوحشي سومطرة أن الزنا مجلبة للطاعون والأمراض المهلكة واعتداء الحيوانات المفترسة أمثال النمر والتمساح. وعلى الجملة فمعظم القبائل الهمجية الباقية إلى اليوم يعتقد أن كل اعتداء على العرض أو مخالفة لقوانين الزواج مصدر عقوبات سماوية(112/15)
كثيرة أخصها انقطاع المطر وجفاف الأرض ونقص الزرع
وليست هذه المعتقدات بمقصورة على القبائل المتوحشة، بل إن لها أثراً لدى بعض الشعوب المتمدينة. فالإغريق مثلاً يؤمنون ببعضها ويفسحون للخرافة المجال في العاقات الجنسية كما أفسحوا لها في شؤونهم الاجتماعية الأخرى. يروي سوفوكل أن بلاد تيبان أصيبت بالجدب والطاعون تحت حكم أوديب الملك الذي قتل عفواً أباه وتزوج أمه. فأصبحت القرى والحقول قفراء، وأضحى كثير من المدن خراباً يباباً. وأعلن وحي (دلف) أن لا سبيل لرفع هذه الطامة ورد الحياة إلى هذه الأرض الموات إلا بطرد المجرم. وفي شرائع بني إسرائيل ما يؤذن بأن ارتكاب الفحشاء يغير نظام الطبيعة، ويبدل سنة الله في خلقه. يقول أيوب: (الزنا جريمة شنعاء، وخطيئة تستوجب قصاصاً لا مفر منه وناراً تأكل الشحم واللحم وتقضي على الحاصلات كلها). وفي القرن الثالث الميلادي لم تؤت الحقول الأرلندية أكلها، فيما يزعمون، لأن أحد الملوك تزوج بأخته. وما لنا نذهب بعيداً وكثير منا يعتقد أن مرور الزاني بحقل أو وقوفه في بيدر يؤذي ثمره وينقص غلته ويذهب ببركته
أما أخطار الزنا المباشرة وأثره السيئ في مرتكبيه أنفسهم، فيكاد يسلم بها في مختلف الجمعيات الإنسانية. وكثيراً ما علل فقر الرجل وفشله في صناعته أو زراعته بفجوره وفسقه. وإذا أصاب المرء أمر أو حل به حادث، ظن الناس أن في هذا انتقاماً منه لجرم اقترفه أو عرض انتهكه. والأمثلة في هذا الباب كثيرة سواء لدى القبائل الهمجية أم في الأمم المتمدينة؛ وسنكتفي بعرض بعضها. فبدو روديسيا يلعنون كل امرأة تموت أثناء وضعها، ويتهمونها بالفجور والفسق وقتل روح بريئة لا إثم لها. وتزعم طائفة من سكان أفريقية الشرقية أن الطفل الذي يعدو على زوج أبيه يصاب بعاهة دائمة. وتقول طائفة أخرى إن المرأة تموت إن أتى زوجها الفاحشة أثناء حملها؛ وإذا لمس أب ابنه الصغير صبيحة ارتكابه المنكر مرض ولده على الأثر. وحدث مرة أن مات ثلاثة أخوة في فترة قصيرة، فاتهمت أمهم بالزنا مع رحم محرم. ويعتقد كثير من القبائل الهمجية أن خيانة الزوجة سبب محقق لفشل الزوج في صيده ورحلاته وحروبه؛ وربما أدى ذلك إلى موته. لهذا اعتاد كثير من الهنود، إن خرجوا إلى الحرب، أن يجمعوا نساءهم في صعيد واحد كي ترقب إحداهن الأخرى(112/16)
فواضح إذن أن الزنا وما اتصل به، في نظر كثير من الشعوب البائدة والحاضرة، خطر يهدد الفرد والأسرة والجماعة؛ فليس شره مقصوراً على مرتكبيه وحدهم، بل يتعداهم إلى القبيلة جميعها والشعب بأسره؛ هو جناية عامة وجريمة شعبية تصيب الأمة في أموالها وأرواحها. لذلك قسا الناس في محاربته وأنزلوا بالزناة أشد العذاب. وإذا صح أن نقيس الجريمة بما قدر لها من قصاص، استطعنا أن نقول إن الزنا من أشنع الجرائم التي عرفها الإنسان، إن لم يكن أشنعها. وهذه القسوة الزائدة في مطاردة الزنا والزناة سهلة التعليل؛ فإن المسألة مسألة حياة وموت، مسألة دفاع عن مجتمع مهدد في أعز شيء لديه، فهو مدفوع بطبيعته إلى أن يحارب من يحاول الاعتداء عليه
ومن هنا كانت العقوبات الصارمة التي أنزلتها الأمم والشرائع المختلفة بكل من استباح عرضاً أو جنى على عفاف امرأة. فقوانين (ماني) تقضي بأن ترسل على الزانية كلاب تنهشها جهرة تحت سمع الجمهور وبصره، وعلى الزاني بأن يوضع فوق حديدة محماة يقلى بها قلياً. وتعاقب قوانين حامورابي الزناة بالشنق والإغراق؛ وقد كان بنو إسرائيل يحكمون على الزاني غير المحصن بالرجم، وعلى المحصن بالقتل. ولا تزال بعض القبائل الهمجية تطبق هذه العقوبات على الزناة في غير ما شفقة. ففي أفريقية الوسطى يجلد الزاني وتهاجم حقوله ومنازله ويسلب ماله. وإذا تبين أحد الأحباش أن أخته أو ابنته ارتكبت الفاحشة قتلها جهرة وقتل عشيقها معها. ولدى الهوثيثوت قانون مشهور يحكم على الزناة بالقتل ضرباً بعصا غليظة. وقد اعتاد سكان الهند الشرقية أن يرموا الزناة في عرض النهر بعد أن يثقلوهم بالحجارة، فإذا استطاع أحدهم النجاة عفي عنه، وفي سومطرة يوأد الزاني ويقبر حياً
وهناك نوع خاص من الفحشاء اشتد هوله فقست الجمعية في محاربته، وهو ما كان بين أفراد الأسرة القريبين كالرجل وزوجة ابنه، والمرأة وأب زوجها. ولكي يُدرأ خطر هذا المنكر وضعت في سبيله عقبات تحول دون وقوعه؛ وهذا هو السر في أن القبائل الهمجية تباعد بين الأقارب الأقربين، في حين أنها لا تجد غضاضة في أن يختلط الأجانب بعضهم ببعض، فجماعة البنتو في أفريقية الوسطى لا يسمحون مطلقاً للرجل بأن يتناول طعام العشاء مع حماته، ولا للمرأة بأن تتعشى مع حميها منفردين، ومن الجرم أن يرى رجل(112/17)
حماته تأكل؛ وعليه أن يكفر عن هذا بمختلف القرابين، وليس له أن ينعم النظر فيها، وإذا خاطبها وجب عليه أن يطأطئ رأسه ويغض من طرفه، وإن صادفها على غرة أفسح لها الطريق، وسارع إلى الغابة مختفياً كي لا تراه ولا يراها تماماً. وأغرب من هذا أن أهل سومطرة لا يبيحون للرجل أن يأكل مع صهره عاري الوجه؛ وإذا رأى صهره فمه مفتوحاً أحس بخجل عظيم، وتوارى في الغابات المجاورة، فهذه العادات والتقاليد الغريبة يفسرها شيء واحد، وهو أن هذه القبائل تحول دون أي اختلاط يكون وراءه معصية الأقارب الأقربين
نرى بعد الذي تقدم أن الخرافة صورت الزنا والفسق بصورة شنعاء لدى كثير من الشعوب قديمها وحديثها، وأبرزتهما في مظهر عاملين خطرين من عوامل القضاء على الفرد والأسرة والجماعة، وبذا استطاعت إلى حد كبير محاربتها والقضاء عليهما. وإذا كانت الجمعية تنظر بعين السخط والمقت إلى كل اختلاط جنسي غير مشروع، فإنها تدفع الأفراد تبعاً إلى احترام الزواج والخضوع لقيوده. وكل رأي أو عقيدة أو تشريع يحارب الإباحية هو في الوقت نفسه سلاح قوي لتثبيت دعائم الحياة الأسرية.
(لها بقية)
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة(112/18)
البدر الحسني
محدث ولغوي أيضاً
للأستاذ عبد القادر المغربي
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
وهي الكلمة التي ألقاها الأستاذ المغربي رئيس المجمع العلمي في الحفلة الكبرى التي أقيمت على ذكر المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني والد فخامة الشيخ تاج الدين رئيس الوزارة السورية، وذلك في يوم الثلاثاء 13 من أغسطس سنة 1935، وقد أقيمت الحفلة في مدرج الجامعة السورية
شيخُنا البدر، أشبه ما يكون بالبحر: فهو من أيّ النواحي أتيته وجدت علماً وفضلاً، ووجدتَ ورعاً وتقوى، ووجدت من جميل خصاله ومستحبّ أخباره مجالاً للقول، وموضعاً للعظة، وموضوعات للبحث
لكنني لضيقِ الموقت سأقتصرُ من ترجمة حياته على وصف طريقتنا في الدروس التي أخذناها عنه، تعرفون منها أنه كان رحمه الله نسخة طبق الأصل عن رجال سلفنا الصالح في وَرَعهم وتقواهم ووقوفهم عند حدود الشريعة
في شهر ذي الحجة سنة ألف وثلثمائة وأربع وثلاثين بدأت بقراءة صحيح مسلم على شيخنا رحمه الله في دار الحديث الأشرفية، وشاركني في هذه الدراسة قليلً من الإخوان، حتى إذا أتممت صحيح مسلم وشرعت في سنن الترمذي ازدحم علماء دمشق وفضلاؤها على غرفة الدرس؛ وكنت عدا ضبط الأحاديث والتعليق عليها، ألتقط من فم شيخنا بالمناسبة فوائد تتعلق بعلم الحديث، من ذلك قوله:
- كلُّ حديث فيه لفظ (الحميراء) مثل حديث (خذوا ثلثي دينكم عن هذه الحميراء) يعنون عائشة رضي الله عنها - فهو دليلٌ على ضعفه
- حديث (توسّلوا بجاهي الخ): قال شيخنا اشتهر على الألسنة وهو غيرُ صحيح
- حديث: إن جبريل كان يدسُّ الطين في فم فرعون كي لا ينطق بالشهادتين استبعدته أنا، وأقرني الشيخ قائلاً: (الله أعلم بصحة هذا الحديث)(112/19)
- وسمعته مرة يروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أُلهُو والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة) وبديهيُّ أن المراد باللهو واللعب المباحان شرعاً
وبمناسبة حديث الأمَةِ التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: أين ربك يا جارية؟ فأشارت إلى السماء - قال الشيخ: (مرّ عيسى عليه السلام برجلٍ يصلي وصنعته عمل البراذع وهو يقول في سجوده: (دُلَّني يا ربّ على حمارك لأصنع له برذعه من ذهب) فاعترضه عيسى. فأوحى الله إليه: (دعهُ فإنه مَجّدَني بحسب عقله)
وكنا أحياناً نلمح في الحديث بصيصاً من معنى يتعلق بأحوالنا الاجتماعية، فنريد شيخنا على التوسع في شرح الحديث، فيأبى تورعاً وخشية أن نقعَ في باطل من القول:
جاء في حديث عائشة أن جبريل أراه صلى الله عليه وسلم صورتها في قطعة من جيّد الحرير. فتساءلنا في الدرس عما إذا كان هذا الحديث يدلُّ على جواز التصوير؟ أو على جواز أن يرى الرجلُ من يَوَدُّ خِطبتها من النساء: فيكون التصوير حاجةً من حاجات الاجتماع
فقال أحد الإخوان: ما دام للرجل الحقُّ أن يرى خطيبته نفسها فليس ثم حاجةٌ إلى رؤية صورتها. فرد عليه آخر بأنه قد يتفق أن يكون هو في بلد وهي في بلد آخر فيحملَ إليه البريدُ صورتها، كما حمل جبريلُ صورةَ السيدة عائشة
كان يجري هذا الحوارُ في الدرس وشيخنا ساكت وأردناه على أن يفيدنا ما عنده في هذا الموضوع فلم يفعل، وظل ساكتاً. واستدرجتُه مرةً إلى موضوع عصريّ طريف فأفتى به أو كاد. ثم عاد إلى الاعتصام بالسكوت:
ذلك أنه مرَّ معنا في حديث مسلم قوله: (لِمَ؟ أُصلي فأتيمم)، فقرأتها (لمْ أصلي فأتيمم) واستشكلت رفع (أصلي)، فقال الشيخ (لمَ) للاستفهام لا للجزم، وأصلي مستأنف مرفوع
فاغتنمت هذه الفرصة وقلت له: إنهم اليوم اصطلحوا على علامات يرقمونها بين الجمل، ويسمونها علامات التنقيط: وهي نقطة، ونقطتان، وواو صغيرة كالضمة، وخط صغير أفقي، وخط آخر عمودي، وغير ذلك مما يستعملونه في مقامات التعجب والاستفهام والوقف
فقولُ الحديث (لمَ أُصلّي فأتيمم)؛ لو وُضعتْ علامة الاستفهام بعد (لمَ) لقُرئت استفهاماً من أول الأمر(112/20)
فهل يجوز لنا استعمالُ هذه العلامات المستحدثة في كتاباتنا كما استعمل السلف الصالح ما أحدثوه من النقط والتشكيل؟
قال الشيخ: يجوز، قلتُ ونستعملها في كتب الحديث؟ قال يجوز، قلت وفي القرآن. قال يجوز
ثم سألني قائلاً: ولكن لماذا لم نُرْقم هذه العلامات في كتابِ مسلمٍ المطبوع الذي نقرؤه؟ قلتُ لأنه كتابٌ دينيٌ. وطابعوه يخشون إنكار بعض العلماء عليهم فلا يباع الكتاب، فلم يضعوا هذه العلامات، واجتهدتُ أن لا أسميها له بأسمائها الإفرنجية مثل فلحظ الشيخُ أن في الأمر سراً، فتبسم وضرب على كتفي وقال: (الله يصلحك) ولم يُردْ أن يُفتي بشيءٍ جديدٍ قد يمكن أن تكون فيه شائبة بدعة
إلى هذا الحد كان شيخُنا رضي الله عنه يحرص على سلامة الدين ويحذَر أن يَتسرَّب إليه شيءٌ من البدع
ومن ذلك أيضاً أنه مرَّ معنا في الحديث نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن تشييدِ المساجد، وفسر ابنُ عباسِ التشييد بالزخرفة، فقال بعض الإخوان: المراد بالتشييد رفع بناء المساجد. فقلتُ بل الصحيحُ ما قاله ابنُ عباس من أن التشييد هو الزخرفة وهو مشتقُّ من (الشيد) الذي معناه الجصّ، والجصّ عادة تزخرف به الأبنية. أما رفع بناءِ المساجد فأمرٌ مستحبٌ في عمارتها، وذلك لكي يتخلّلها الهواء ويَسْهُل التنفّسُ على المصلين، فالتفتَ إليَّ الشيخُ وقال مبتسماً: وما دخل الهواءِ والتنفس في الدين والتشريع؟ وعجبَ من قولي أشدَّ العجب
أما أن الشيخَ كان متوسعاً في اللغة العربية؛ فهذا يلحظُه منه كلُّ من أطالَ مجالسته، وراجعه القولُ في تفسيرِ غريبِ الحديث؛ ولكنه رحمه الله ما كان يُكثر من الاستشهاد بنصوص الأدباء، ولا بأقوالِ الشعراء، لما يقعُ فيها أحياناً من اللغوِ وعَبَثِ القول
وقد سمعتهُ مرةً يُنشد بنغمة حزينةٍ:
(أيا نجدُ لو كان النوى منك مرةً ... صَبَرنا ولكنَّ النوى منكَ دائم)
وأنشدني مرةً أُخرى:
صديقُ الصدقِ في الدنيا قليل ... فمنْ لكَ إنْ ظَفِرتَ به فمن لك
لحاجتهِ يَوَدُّكَ كلُ شخصٍ ... وذاكَ إذا قضاها منك ملك(112/21)
صديقُكَ مَنْ إذا ما كنت منه ... طلبتَ الروحَ بالتمليكِ ملّك
وجاء يوماً ذكرُ طرابلس الشام وليمونها فسألني: ما معنى قولهم في المثلَ (مَنْ لم يجئ بشراب الليمون يجئ بشوكِهِ وحَطَبه) فتجاهلتُ الجواب لأسمع من فمه ولو مرةً تفسيرَ النصوص الأدبية - كما سمعتُ منه مراراً تفسير النصُوص الدينية
ففسره لي قائلاً:
المرادُ بشوكه وحَطَبه قُضبانُه وعيدانه. والمعنى من لم يجئ باللين واللطفْ، يجئ بالشدّة والعُنف
وأنشدني يوماً قولَ الراجز:
(التمرُ والسَمْنُ جميعاً والأقِط ... الحيْسُ إلاَّ أنه لم يختلط)
فاعترضتُ بأن الحيسَ هو حلوى للعرب تكون مختلطةً من التمر والسمن والأقِط الذي هو ضربٌ من الجبن فكيفَ يقولُ الشاعر (لم يختلطْ). ثم قلتُ للشيخ لعلَّ صحةَ الروايةِ في البيت هكذا: (لكنْ شرطهُ أن يختلط). ثم راجعت كُتُبَ اللغة فوجدتُ رواية البيت كما قال شيخنا رحمه الله ورأيتُ علماءَ اللغة استشكلوا البيتَ كما استشكلته أنا. وأجاب بعضهم على هذا الإشكال بجوابِ لم يعجبني
ومن عادة شيخنا رحمه الله أنه إذا طَلبَ منه أحدٌ إجازةً بالعلوم تمنَّعَ وتَمثَّل بقول القائل
(ولستُ بأهلٍ أن أُجازَ فكيفَ أنْ ... أُجيزَ ولكنَّ الحقائق قدْ تخفى)
وأنقُلُ من مذكّراتِ شاعرنا (خليل بك مردم) - وكان رفيقي في درس صحيح مسلم - هذا الخبرَ الذي يتعلَّقُ بي، وقد أنسيته أنا وهو: أَنني قرأتُ يوماً على الشيخ عدةَ أحاديثَ يدلُّ ظاهرها على عَدَم إيمان أبي طالب. فأطبقتُ الكتابَ بين يَدَيَّ وسألت شيخنا عن حقيقة ذلك وأبيت إلا كلمةَ صريحةَ منه يطمئنُّ إليها القلبُ في إيمان عمَ النبي صلى الله عليه وسلم. فامتعضَ الشيخُ من إلحاحي، وقالَ سبحانَ الله يا شيخ عبد القادر أنت كاتبٌ وأديب، أما سمعتَ ما قاله (أبو طالب) مخاطباً النبيَّ صلى الله عليه وسلم
ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحٌ ... ولقد صدقتَ وكنتَ ثمَّ أميناً
فأنتَ تسمعُ أبا طالبٍ يقولُ لابن أخيه (ولَقَدْ صَدقت) ثم تستشكل؟
فسررت يعلم الله بجواب شيخنا كما سرني استظهاره للشعر القديم واستحضاره له حين(112/22)
الحاجة إليه
ولا عجبَ أن يكونَ شيخُنا لغوياً، فإنه لا يكادُ يوجد محّدِث إلا وهو لُغَوي، ولا لُغَوي إلا وهو محدّث؛ لأن المحّدِث لا يمكنه أن يفهم معانيَ أحاديثِ الرسول إلا بعد فهمِ معنى كلماتها اللغوية، واللغويُّ لا ترسخُ قدمه في اللغة ما لم يستظهر الجمَّ الكثيرَ من أحاديث الرسول، تكون له عُدّةً في الاستشهاد بها حين الحاجة فاللغويُّ المتقنُ محّدِث، والمحدث المتقنُ لُغوي
وشيخنا الذي يحفظُ على أقل تقدير خمسة آلاف حديث يحفظ على أقل تقدير ألف كلمة لغوية بشواهدها من كلام النُّبوة
فأنتم ترون أن بين شيخنا البدر، وبين مجمعنا العلمي العربي نسبةً موصولة السببْ في خدمة لغة العرب
هو (رحمه الله) كان ينشر اللغة العربية بواسطة دروسه المشهورة، ونحن ننشرها بوسائطنا المجمعية المعروفة
أذكرُ أنه زارني يوماً في دار المجمع العلمي، فأجلستُه في صحن المدرسة، خشية أن يرى في ردهتها صُوَرَ المتوفين من أعضاء المجمع، معلَّقةً على جدرانها، فيمتنعَ عن الدخول كما هي عادته
وبعد أن استقرَّ به المجلس سألني: وماذا تصنعون هنا؟
قلت: إننا يا مولانا نشتغلُ في خدمة اللغة العربية ونشرِها وفي ذلك خدمة للدين الإسلامي ونشرِه
وإذا أحد تلاميذه (اللطفاء) يَلمَسُ كتفه من ورائه، ويشير إلى التماثيل الحجرية المنصوبة في أحد أركان المدرسة، فقال لي الشيخ: وما هذه التماثيل؟ وأشار إليها بإصبعه
فشعرتُ إذ ذاك بخطورة الموقف، وبصعوبة الاعتذار عن وجودِ تماثيلَ في صحنِ مدرسةٍ دينية إسلامية؛ غير أن الله ألهمني جواباً تضَّمن حقيقة معقولة، لكنها ويا للأسف منسيةٌ مجهولة
فقلت: إن هذه التماثيل تجْمعُ في دوْر الآثار للاستدلال بها على تاريخ الجاهلية الأولى، ويدخل في ذلك عبادة تلك الأمم للتماثيل، وإرسال الرسل لإنقاذهم من تلك العبادة، كما كان(112/23)
من نبينا صلى الله عليه وسلم مذ أنقذَ أهلَ الجاهلية من الشرك، وصَقَلَ نفوسهم بصقالِ التوحيد
ولكنَّنا اليوم نرى الناسَ قد أغفلوا دراسة هذه الناحية من تاريخ الأمم القديمة، ونسوا نعمةَ الله عليهم بالبعثة المحمدية، حتى إذا رأوا هذه التماثيل في المتاحف تذَّكروا النعمة، وحمدوا الله عليها
قلتُ هذا وسكتُّ منتظراً ماذا يقول الشيخ؟ فلم يقل إلا خيراً وتبسم ودعا لي وللمجمع
رَحِمَ الله شيخَنا البَدرْ، وأثابه عن حياتهِ الصالحة بأجزل الأجر. . . .
المغربي(112/24)
استعطاف
بقلم رفيق فاخوري
هواكَ عن هذا الوجودِ شاغلي ... والوجدُ منذ غبتَ عني واصلي
إبعثْ مَوَاتَ خاطري بزورةٍ ... واخطُ خُطا الظلال في الخمائل
واحملْ إلى قلبي الكليم باسماً ... وشافياً من عَطفك الممنَّع
ما سَرّني أنَّ النعيم قسمتي ... إنْ لم تكن في ناظري ومسمعي
لأَنتَ حسبي مِنْ ضياءٍ إن دجا ... يومي، وحسبي من هُدًى في حَيرتي
رُدَّ على عيني جَلاَءها ومُرْ ... يَسطعْ مُحَيّاك على دُجُنَّتي
وينحسِرْ عن مقلتي سهادُها ... يا طالما منعتَها رقادَها!
عِدْني أعشْ إلى غدٍ بنظرةٍ ... عابثةٍ كم أخْلَفتْ ميعادَها!
وبَسْمةٍ تُفحمني ولم تَقُلْ ... شيئاً، وإنما البيانُ في الصُوَرْ
إذا عَلَتْ ثغرَكَ فَدّاها الحشا ... بِدَمِهِ ثم مشى على الأثر
وهمسةٍ أرقَّ من نَفْحِ الصَّبا ... تسكُنُ في أُذْنَيَّ ما عاش الهوى
تألفُها جوارحي فكُلُّها ... أُذْنٌ، وينزاح عن الصدر الجوى
يا منيةَ الولهان صِلْ بعد النَوى ... أوْ لاَ فَخُذْ قلبي وخُذْ لسانيا
هذا شغلتَهُ بذِكْرٍ دائمٍ ... وذاكَ قد أسهرتَه اللياليا
حمص
رفيق فاخوري(112/25)
طموح
للأستاذ محمود غنيم
خليليَّ هل للمجد حدٌّ فأنتهي ... إليه لقد طال العبورُ ولم أُرْس
مآربُ تتري، كلما نلتُ مأرباً ... تنازعُني عنه إلى غيره نفسي
فلا النفسُ إن أبْلُغْ تقفْ عند غايةٍ ... ولا هي إن أُخفِقْ تُرحْنيَ باليأس
كذلك أشقى ما حييتُ فإن أمت ... فيا ليت شعري ما ورائيَ في رمسي
محمود غنيم(112/26)
وراثة العبقرية
(نشرت مجلة (الشهر) الفرنسية بحثاً طريفاً في وراثة العبقرية استعرض فيه كاتبه أحدث النظريات العلمية في هذا الموضوع. فآثرنا نقله إلى قراء الرسالة)
شغلت مسألة وراثة العبقرية طائفة كبيرة من العلماء والفلاسفة منهم جالتون وموبياس وريبو ولمبروزو وكرتشمر وغيرهم من الباحثين
وهذه المعضلة تبدو في أشكال مختلفة. تبدو أولاً كحالة خاصة من معضلة الوراثة على العموم. إذ ما هي الآثار التي يتركها الآباء والأمهات؟ وبأي الأشكال تظهر؟ وما هي الآثار النسبية في تكوين الشخصية للوراثة المجردة من جهة، وللبيئة والتربية من جهة أخرى؟ وهل أثر الوراثة دائم أو غير دائم؟ وهناك وجهة نظر أخرى تعتبر العبقرية والذكاء شذوذاً إذا قورنا بحالة الشخص العادي. وكثيراً ما يصحب هذه العبقرية وهذا الذكاء فقدان في التوازن الجسماني، وغالباً في التوازن النفسي. كذلك قد تصحبهما حالة جنون
ولأننا نعلم أن عدداً من هذه الأمراض ينتقل بالوراثة، كان لنا أن نتسائل عن صدى هذا الاتجاه المزدوج: وراثة العبقرية، ووراثة الاضطراب العصبي أو المرض
إن مما لا شك فيه أن (في بعض الحالات) تكون العبقرية أحياناً وراثية. وقد ظهر ذلك جلياً في كثير من رجال العلم والموسيقيين والمصورين والشعراء وكبار الكتاب
فبين العلماء استطاع جالتون أن يجد أسراً كان بها عالمان وأحيانا ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وأحياناً أخرى أكثر من ذلك. ووجد موبياس 215 أسرة اتفق فيها أن كان الأب والابن وافري الاستعداد الرياضي، (بين هذا العدد ثلاثة وثلاثون والداً لكل منهم أكثر من ابن واحد موهوب). وقد وجد هذا الاستعداد في ثلاثة أجيال متتالية سبع عشرة مرة، وبين خال وابن أخته عشرين مرة: وبين أبناء العم مرتين، وبين أشقاء أو شقيقات 131 مرة، وبين أكثر من شقيقين ثلاثة وعشرين مرة. وكان العالم الفلكي الكبير (دومينيك فرانسوا آرجو) له ثلاثة أشقاء وولدان كلهم موهوبون في استعدادهم الرياضي. وكانت أسرة برنولي أعظم أسرة علمية عرفها التاريخ مما دفع الأستاذ دوبليه الفلكي بمرصد بوردو أن يخصص للكتابة عنها كتاب صدر عام 1929 وسماه هذا الكتاب ذكر الأستاذ دوبليه أن أسرة برنولي شغلت كرسي العلوم الرياضية في جامعة بال - مسقط رأسها - مائة عام وثلاثة دون انقطاع؛ وبقيت أكاديمية العلوم في باريس نحو أحد أفراد أسرة برنولي مدة واحد(112/27)
وتسعين عاماً متوالية
وكما نرى أثر الوراثة بين العلماء نراه أيضاً بين الشعراء. وقد وجد جالتون اثنين من العباقرة في الشعر بين أسر: بيرون وشنييه وجوته وهين وراسين. . . . وثلاثة أو أربعة في أسر: أسكيل وارستوفان وكورني وملتون. . . وخمسة أو ستة في أسرتي كولردج ووردثويرت. . .
ووجد جالتون اثنين من الكتاب والأدباء في كل أسرة من أسر بوسويه وشاتوبريان وشامبليون وادجاربون ومِلْ. . . الخ وثلاثة أو أربعة في أسر بنتام وبوالو وفينيلون ولِسِنْج وسفيني، وخمسة أو أكثر في أسر فيلينج وماكولي وشليجل وستايل وغيرها
وبين الموسيقيين تجد أسرتي باخ وسترس هما الأسرتين اللتين ظهر فيهما أكبر عدد من الموسيقيين. ويبدأ تاريخ أسرة باخ عام 1550، واستمر يظهر منها الموسيقيون الموهوبين ثمانية أجيال متعاقبة؛ وكان من عادة هذه الأسرة أن يجتمع أعضاؤها المغرمين بالفنون مرة في كل عام؛ فكان يصل عدد المجتمعين أحياناً إلى مائة وعشرين فناناً؛ وقد ذكر فتيس أن هذه الأسرة حوت سبعة وخمسين موسيقياً منهم تسعة وعشرون كانوا في عداد النابغين
على أننا لا ينبغي أن نخرج من هذه الحقائق بأن العبقرية (دائماً) وراثية. إذ أن توارث العبقرية محدد ببضعة أجيال فقط، كما أنه ليست هنالك قاعدة عامة لتوارث العبقرية. بل بالأحرى هناك استثناء. ويمكن أن نقول أكثر من ذلك وهو أن العبقرية الحقيقة دائماً منعزلة، أو كما يقول لوردا (إن العباقرة هم أطفال لقطاء ورجال أعزاب) ويقصد بذلك أن الطبيعة تمحى حين يُخلق العبقري
ولو كانت العبقرية تنتقل بالوراثة دائماً لكان من الضروري أن توجد (أجناس) معينة من العباقرة. وهذا ما لا وجود له. (إن العبقرية حادث فجائي يكون أحياناً وراثياً) ,
وقد ذكر لومبروزو الملاحظة الآتية: (إذا وضعنا جانباً عدداً قليلاً من الحالات الاستثنائية كالتي نجدها في أُسَرْ دارون وكاسّيني وبرنولي وسان هيلير وهيرشل، وجدنا أن العبقري لا ينقل إلى ذريته إلا اتجاهاً حقيقياً يُعظّمه في عيوننا الاسم المجيد!)
إن أبناء العباقرة هم في الغالب مخلوقات عادية بل أقل من العادية. ويقول ج. مورودوتوز: (إن الملاحظة العامة ترينا أن غالبية أبناء الرجال العباقرة ليسوا فقط أقل من آبائهم، بل هم(112/28)
كسائر الناس العاديين)، وقد أكد ألكسندر تاسوني أحد كتاب القرن السابع عشر أنه كثيراً ما يحدث أن ينجب آباءٌ عباقرة أبناءً عظيمي الغباوة، وآباءٌ شديدو الغباوة أبناءً علماء. واستشهد على النوع الأول بأبناء أفريكان الكبير وأنطوان وشيشرون ومارك أوريل وسقراط. ويعتقد أوسوالد الكيميائي الألماني الشهير أن أبناء الرجل العبقري لا بد أن يكونوا أقل منه
وذكر تاسوني رأي أحد العلماء المعاصرين له وكان يفسر النقص في كثرة أبناء الرجال العباقرة بقوله: (في الرجال العظام تتجمع معظم القوى الحيوية في المخ كيما تقويه وتبعث الحياة والعنف في القوى الفكرية. ولهذا السبب يكون الدم والخلية باردين ضعيفين. والنتيجة أن يكون أبناء أولئك الرجال وخصوصاً الذكور أغبياء)
وهناك حقيقة أخرى هامة فيما يختص بوراثة العبقرية، وهي أن هناك ظواهر من الجنون والاضطراب العصبي تحول دون وراثة هذه العبقرية. ذلك أن العبقري تصحبه غالباً أنواع خاصة من الأمراض النفسية. وكثيراً ما يُلاحظ المرض العقلي عند سلف وخلف الرجل العبقري. ومن المعلوم أن الجنون ينتقل غالباً وبكثرة شديدة في الأجيال القريبة. وحالات الجنون الوراثي في ثلاثة أجيال متعاقبة عديدة جداً. وكان الجنون فيها في الغالب من نوع واحد. والآن، أليس هنا تشابه - وإن لم يكن كاملاً - بين وراثة العبقرية ووراثة الجنون؟
وقد ذكر مورو دوتور أن بين طبقات المجتمع التي تحوي أكبر عدد ممكن من الرجال الممتازين بذكائهم الشديد يوجد أيضاً أكبر عدد ممكن من المجانين. وقد لاحظ كل علماء النفس أن هناك عدداً من المجانين لهم أقارب يتميزون بذكاء تتفاوت درجاته. من ذلك أولبمبيا أم اسكندر الأكبر التي كانت امرأة فاسدة الخلق ظاهرة الوضاعة. وكان أب الاسكندر داعراً إلى أقصى حد. وكان الاسكندر نفسه مصاباً بحالة عصبية في كوعه. وكان شقيقه أريدوس - الذي قتل بأمر أولبمبيا - أبله معتوها
وكان ابن برناردين دوسانت بيير، وإحدى بنات فكتور هوجو، ووالد وأشقاء فيلمان، وشقيقة الفيلسوف كانت، وشقيقة هيجل، وغيرهم وغيرهم كانوا جميعاً مجانين. وكانت شقيقة ريشليو تتصور أن ظهرها من البلور، وكان شقيقه معتوهاً. وكان والد الموسيقى بيتهوفن مدمناً الخمر، وكان الشاعر بودلير نفسه نصف مجنون. وقد كتب يقول: (أن(112/29)
والديّ اللذين كانا إما معتوهين أو مجنونين قد ماتا ضحيتي جنون فظيع) وكان والدا الشاعر الأمريكي الشهير ادجار بو شديدي الإدمان لتعاطي المشروبات الروحية
وكانت تحدث لشاتوبريان حركات تشنجية في ذراعه، وكان دائم التفكير في الانتحار، وكان أخوه نصف مجنون؛ وكان والد بلزاك غريب الأطوار، وكذلك كان بلزاك نفسه. وكانت جورج صاند شديدة الانقباض والحسرة وهي في السابعة عشرة من عمرها، وقد حاولت الانتحار فيما بعد عدة مرات. وقد كان والدها يشبهها من هاتين الناحيتين. وكان كثير من أقارب هوفمان مجانين. أما هوفمان نفسه فقد أصابه الخَرَف لطول استسلامه للشراب، وكان يتصور أمام عينيه أشباحاً ويصيبه من جراء ذلك الرعب الشديد، فيطلب من أمه أن تجلس بجانبه. وكانت خالة هيرنر مجنونة وأخته شديدة الكآبة؛ وقد جن ابنها
وكان أثر الوراثة المرضية بارزا في لورد بيرون. إذ كان أبوه رجلاً فاسد الخلق وقحاً. وكانت أمه غريبة الأطوار متكبرة طائشة. كذلك كان شوبنهور وارثاً لما كان عليه من غرابة الميول واضطراب الأعصاب. فقد كانت خالة جدته وجدها مجنونين. وكان أبوه تنتابه نوبات قوية من الغضب المتزايد والهم الدفين الذي يكشف عن نفسه المريضة
وكانت أسرة الفيلسوف رينان - الذي كان يعذبه اضطراب أعصابه - تسودها أنواع مختلفة من الجنون؛ وكان عمه مأفونا. وقد قضى حياته في التصعلك حتى وجد ذات ليلة ميتاً على قارعة الطريق. وكان جد رينان شديد الوطنية عظيم الإخلاص، ولكنه فقد عقله عام 1815م نتيجة همّ ألمّ به. وقد أصبحت بلدة تريجويير التي ولد بها رينان ممتلئة بالمجانين وأنصاف المجانين نتيجة إكثار أهلها من زواج بعضهم ببعض
فمما ذكرنا يظهر أن العبقرية ليست محدودة. وأنها لا تمتد إلا لأفراد مخصوصين، فلابد إذن من أن نعرف أن هناك شيئاً آخر غير الوراثة المجردة. إن العبقري يظهر في الأسرة في لحظة معينة ولا يمكن أن يظهر قبل ذلك. كذلك قد يتبعه وقد لا يتبعه عباقرة آخرون. والأب العبقري قد يكون له ابن عادي، وقد يكون هذا الابن غبياً. وإذا استمرت الأسرة في إنتاج عباقرة كثيرين فإن هذه الظاهرة تقف بعد بضعة أجيال كأن الطبيعة قد نالها الرهق والضنى. وأخيراً كثيراً ما يحدث أن يحل الجنون محل العبقرية ويكون ذلك راجعاً إلى نوع خاص من الوراثة متأثر بعوامل غير وراثية(112/30)
وقد قال البعض: إن الوراثة والبيئة يتعاونان معاً بنشاط على إيجاد العبقري، إذ أن (الوراثة) لا تنتج في الرجل إلا (ما يمكن أن يكون) وليس ما سيكون، أما آثار الوسط وحدها فهي قادرة على تحويل الاحتمال إلى أمر واقع. على أن (الوسط) لا يكون تأثيره بعد الولادة فقط، بل إنه يؤثر في الشخصية المستقبلية قبل الولادة، وذلك بطرق مختلفة
ولقد عملت أبحاث في جلاسجو عن علاقة عدد المواليد بالذكاء فظهر أن عدد المواليد يزيد عند الرجال الأقل ذكاء، كذلك الأسر يتكاثر عددها كلما قلت الكفاءة العقلية عند أعضائها
إن العبقرية شذوذ وشرود عن الحالة العادية، وهي بلا شك اضطراب أكيد؛ هي حادث فجائي، وكذلك الجنون، وهذا الحادث الفجائي قد يرجع إلى حالة الوالدين قبل الحمل أو إلى اضطراب يصيب الجنين، فما يحدث للوالدين قد ينتج عند الطفل نوعاً من الشذوذ النافع، وقد ينتج تشويهاً في خلقته، أو يؤدي إلى التحام الجنينين ببعضهما إذا كانت الأم تحمل اثنين: وهذا الشذوذ قد ينتقل بدوره بالوراثة. على أن انتقاله يكون بدرجة محدودة ولبعض أجيال فقط، والاضطراب الذي يحدث في حالة عدم استمرار التحام الجنينين قد يكون أثره فيما بعد إما أن ينتج عبقرية وإما جنوناً، أو اضطراباً في الأعصاب؛ وقد تجتمع الحالتان معاً. وأخيراً قد تتبع كل منهما الأخرى، أي أن يجمع الشخص أحياناً صفات العبقري ومواهبه، وأحياناً أخرى اضطراباً في الأعصاب يجعله أشبه ما يكون بمجنون حقيقي
وهناك أنواع من الشذوذ تنتقل أحياناً بالوراثة، وأحياناً لا تنتقل، مثل الحوَل، وقصر النظر، وصغر أحد أعضاء الجسم أو كبره أكثر من الحد الطبيعي؛ وأحياناً يكون هناك اتجاه نحو مصادر الإنسان الأولى. وقد تكلم عن ذلك ريبو في كتابه عن (الوراثة) إذ ذكر أن أسرة كلبورن كان بها شذوذ الست أصابع (أي زيادة إصبع في اليد أو في القدم) وقد استمر هذا الشذوذ في الأسرة مدة أربعة أجيال
والآن، أليس هناك تشابه بين الشذوذ الجثماني والشذوذ العقلي الذي يسمى العبقرية والذي تكون فيه الوراثة أيضاً محدودة؟
ذكرت مدام ناجوت ولبو كفتش أن سيدة كانت تتبع عبثاً وسائل لإجهاض نفسها، فعندما وضعت الطفل في ميعاده المعتاد كان هذا الطفل قويّ البنية ولكنه كان أبله. وكانت والدة (كاردان) قد حاولت إجهاض نفسها أيضاً عدة مرات دون جدوى، وكانت النتيجة أن أصبح(112/31)
الطفل الذي ولدته وهو (كاردان) عبقرياً فذاً؛ وقد تكون محاولة السيدتين كلتيهما إجهاض نفسيهما ليس هو السبب الحقيقي، ولكن هذا التشابه كاف لأن يرينا كيف تنتج حالات الشذوذ التي تسمى بالعبقرية. والتي هي وراثية ولكن إلى درجة محدودة
إذن ماذا عسى أن يكون قانون هذا الشذوذ؟ ذلك ما لا يعلمه أحد. ومنذ بضعة أعوام قال الأستاذ ج. هكسلي إنه قد يمكن في المستقبل أن يجعل كل طفل عبقرياً بتغيير بعض غدده، وقد يكون ذلك حلماً خيالياً. على أن مجموع الحقائق المعروفة تثبت أن في تكوين العبقرية قانوناً ينتج (شذوذاً) خاصاً. فمن يدري؟ قد يستطيع الإنسان في حالة فهم هذا القانون ودراسته أن يصنع العبقرية.
(. . .)(112/32)
دراسات في الأدب الإنكليزي
4 - وليم وردزورث
بقلم جريس القسوس
تتمة
الحركة الإبتداعية
أما أبطال هذه الحركة فهم: الفيلسوف الشهير كانت في ألمانيا، والكردينال وسلي في بلاد الإنكليز، وروسو في فرنسا. ولا غرو في أن الأخير كان فارس هذه الحلبة وسيد زعمائها في مختلف البلدان. فقد نادى بالرجوع إلى الطبيعة، وبسيطرة العاطفة على أعمال الإنسان؛ ونظريته في التربية تتلخص فيما يلي: (ترك غريزة الإنسان وجسمه وقواه العقلية تنمو في مجراها الطبيعي، وذلك بنبذ قيود المدنية الحاضرة، والتقرب من الطبيعة)
وبعد مرور نحو ربع قرن على وفاة فيلسوف الثورة رجع شاعرنا صدى صوته في إقليم البحيرات، وأصبح حامل اللواء (الرومانتيكي) في بلاد الإنكليز. وتمتاز هذه الحركة بسمو مقام الرجل العادي، فقد أصبح موضوع الأدب بدل الرجل الأرستقراطي؛ وهذه الميزة تظهر بجلاء في قصص سرولتر سكوت، ودكنز، وفي معظم قصائد شعراء القرن التاسع عشر، وتشجع هذه الحركة حب الأطفال وتقليدهم لأنهم - كما أسلفنا - أقرب إلى الفضيلة من الشيوخ. ولقد رأينا شيئاً من هذا في أشعار وردزورث، وظهر شيء منه في نثر (لامب) وخصوصاً فصله المشهور: (أطفال الحلم)، وفي أشعار سونبرن أحد شعراء القرن التاسع عسر المتأخرين. وتمتاز أيضاً بالولع بالحيوانات الأهلية منها والبرية، وبحب القصص التي تدور حوادثها على الحب والحرب، خصوصاً ما كان منها شائعاً في العصور الوسطى؛ والتي بطلها الرجل العادي لا الأرستقراطي. ومن أهم مظاهرها شيوع الدين والتقوى، والتأمل والبحث في أسرار الكون، والخروج على العادات المألوفة، والتمرد على الهيئة البشرية. ولقد اتُخذ الأدب سلاحاً لمحاربة سخائف الحضارة وقيودها، ومن أهم أبطال هذا المظهر بيرون وشلي وكيتس. وتتميز هذه الحركة أيضاَ بالتقرب إلى الطبيعة(112/33)
وانتزاع الموضوعات الأدبية منها، والابتكار في اختيار الموضوع، والتفنن في التعبير عنه، لا النسج على منوال الأقدمين كما هو شائع في العصر الكلاسيكي
وإذا ما ألقينا نظرة على شعر وردذورث ألفيناه يمثل الأدب (الرومانتيكي) أصدق التمثيل، وما يصدق على شعره يصدق على آرائه ونزعاته، وخاصة في مستهل جهاده الأدبي، حينما كان من أنصار الثورة الفرنسية التي كانت ثمرة فلسفة روسو بطل الحركة الإبتداعية
زواجه، كهولته، منتهى حياته
تزوج وردزورث سنة 1802م من ماري هتشنسن، من تلك العائلة التي كان يكثر من الترداد عليها. ويُروى أنه أراد أن يغتفر زلّته مع خدينته (أنيت فالون) قبيل إقدامه على الزواج، لهذا شرع في استرضائها بشتّى الوسائل، والظاهر أنه نجح في ذلك. والذي نعلمه أن (أنيت) هذه لم تلاق جفاءّ ومضضاً في عيشتها، وأن ابنتها زُوجت من أحد السراة. وفي قصيدة للشاعر موضوعها (على الشاطئ قرب كاليس) يخاطب ابنته هذه ويرخّم بها بكل وداد وتحنان. على أن هذه القصة لا تزال طيّ الخفاء ولم ينكشف لنا منها إلا الشيء القليل. والباحث في ترجمة حياة وردزورث وتحليل عبقريته يود لو أنه ذكر لنا تلك الحادثة بالتطويل شارحاً بذلك عواطفه نحوها وحبه لها قبل وبعد وقوعه في الجرم. لو فعل الشاعر ذلك لوفّر على الباحث الشيء الكثير من الحدس، ولأنار لنا هذه الناحية المهمة من حياته غير تارك مجالاً لتقوّل المتقولين، وإشاعات المشيعين
ولقد وجد في زوجته امرأة سامية الخلق عالية المدارك شديدة العطف والإحساس، لا تقلّ بذلك عن أخته دوروثي. فلا عجب أن رأينا دوروثي تخلد إلى الراحة بعد أن أدت واجبها إلى أخيها ونحو الأدب بكل أمانة وإخلاص، إذ رأت في امرأة أخيها خير خلف لها. ولقد خلّد الشاعر اسم زوجته هذه في قصيدة موضوعها (هي مثال الرضا)
وفي سنة 1808 ورده نعي أخيه يوحنا، فقد مات غرقاً في أحد المراكب التي كان يتولى إدارتها. فكان ذلك باعثاً للحزن والأسى في نفسه. وعلى أثر موت شقيقه نظم قصيدة خالدة عنوانها (أخلاق المجاهد السعيد) مشيراً فيها إلى أخيه وحياته الحافلة بجليل الأعمال؛ ولهذه القصيدة من الشهرة ما جعل الإنكليز والأمريكان يتلونها في مآتمهم، فيجدون في ذلك ما يعزّي النفوس ويسرّي عنها الأحزان(112/34)
وفي تلك السنة أيضاً انتقل الشاعر وامرأته وأولاده الأربعة إلى ألان بارك إلى بيت رحب الفناء جميل الشكل حيث أتم قصيدته: (النزهة). هنالك افترق الشاعران الصديقان كولردج ووردزورث، وذلك على أثر تعريض وردزورث بصديقه ووصمه إياه بالجنون الناتج عن إدمانه الأفيون، فكان لهذا أثر بليغ في نفس كولردج لم يطق بعده العيش معه، وبانتهاء صداقتهما انتهت حياتهما الأدبية الخصبة، ويندر أن تجد بين عيون قصائد وردزورث واحدة نظمت بعد ذلك الافتراق
وفي سنة 1811 انتقل شاعرنا إلى بيت مجاور لإحدى الكنائس حيث توفي اثنان من أولاده، إلا أنه لم يمكث هناك طويلاً، بل رحل سنة 1817 إلى بيته الجميل في (كدل ماونت) حيث أتيح له أن يلقى شخصيات ذات أدب جم ومكانة اجتماعية سامية؛ ولقد قام برحلات شتى أهمها إلى أواسط أوربا، وأخرى إلى سكوتلندا، وعلى أثر رحلته الأخيرة نظم خمس عشرة قصيدة تفيض بذكريات الطفولة وأحلام الشباب، منها قصيدته المشهورة (الحصاد المنعزل)
ولقد لبث طيلة هذه المدة مكلوم الفؤاد، حزين النفس، لما حل به من المصائب والويلات العديدة، ولما كان يلاقيه من جفاء وخصومة في الأوساط الأدبية. غير أنه حدث في سنة 1839 ما طيب نفسه وسرى عنه شجونه وهمومه، وشجعه في مبدئه، فقد عرّفه كيبل أحد كبار أساتذة كمبردج إلى إحدى الشخصيات الكبرى في البلاط، وأشاد بذكره أمام ذوي المناصب السامية، فذاع صيته بين الخاص والعام، وأحرز مركزاً رفيعاً في الأدب لا يقل عن مركز ملتن
وفي سنة 1842 منحته الدولة مرتباً سنوياً مقداره 300 جنيه تشجيعاً ومكافأة له؛ وبعد موت روبرت سذى سنة 1843 عرض عليه منصب شاعر الدولة، فرفضه في بدء الأمر لبلوغه الرابعة والسبعين، وقيل لأنه رأى صعوبة وعناء في نظم قصيدة في كل سنة يلقيها في عيد ميلاد الملكة كما جرت العادة قبله، غير أن رئيس الوزراء سر روبر بيل عاد وبعث إليه بكتاب نقتطف منه ما يلي:
(لما كانت صاحبة الجلالة توليك ثقتها الغالية فبادر بقبول هذا المنصب، وكن عند أملها فيك. وإنها لتتوخى بعملها هذا أن ترفعك إلى المركز الذي يليق بمقامك الأدبي والاجتماعي،(112/35)
ما دمت في رأيها ورأي الجميع سيد الشعراء الأحياء على الإطلاق؛ فلا ترفض هذه النعمة)
وبعد ما اطلع وردزورث على هذا الكتاب الرقيق قبل هذا المنصب السامي فتُوّج بإكليل من غار، وأصبح خليفة ملتون الأوحد، ولم يُنتجْ بعد تبوئه هذا المركز الرفيع شيئاً خالداً، بل استولى عليه الخمول منذ زواجه، ومنذ أن بدأت الحكومة تمدّه بمعاش سنوي كاف. ومن القصائد المشهورة التي نظمها بعد ذلك الأوان واحدة ضمنّها ولاءه وشعوره نحو صاحبة الجلالة قدّمها إليها مع نسخة من ديوانه
وفي سنة 1847م تُوفيتْ ابنته (دورا) فعجلت بذلك وفاته. وكانت وفاته في الثالث والعشرين من أبريل (في اليوم الذي توفي فيه شكسبير) من سنة 1850م. وهكذا خمد ذلك النفس الذي كان يلتهب عاطفة وعطفاً على الفقراء وولعاً بالطبيعة
ولقد دُفن جثمانه في كنيسة في (قراسمير) - حسب طلبه - في حضن ذلك الوادي الذي نشأ فيه وترعرع، وبه تغّنى، وبذكره أشاد
ولقد أقيم له نصبٌ تذكاري من رخام في مقبرة الشعراء في (وست منستر أبى) تحيط به أنصاب تذكارية لكبلْ وأرنلد وكنجزلي وموريس، ونقش على هذا النصب الكلمات التالية:
(لذكرى وليم وردزورث الشاعر الملهم والفيلسوف الكبير الذي وُهبَ عقلاً نيّراً، ولساناً غنياً، ليتحدث إلى الطبيعة والبشر، الذي لم يألُ جهداً في نشر الفضيلة والكمال، والذي تغنّى وأشاد بذكر البسطاء والفقراء، فذاع صيته بين العام والخاص، وأصبح رسول الحقّ وربّ الشعر. لذكراه يشيد أصدقاؤه والمعجبون بأدبه هذا النصب التذكاري، لينطق بنبوغه على مدى الأيام)
الكرك - شرقي الأردن
جريس القسوس(112/36)
صور من التاريخ الإسلامي
عبد الله بن الزبير (1 - 73هـ)
بقلم محمد حسني عبد الرحمن
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وقد يكون من الإنصاف للحق والتاريخ أن نثبت هنا آراء غيره، ممن عاصروه، في أسباب طلبه هذا الأمر، وانهماكه فيه: يروي المسعودي أن ابن عباس كان يقول (أما والله ما عرفت عبد الله إلا صوّاماً قوّاماً؛ ولكني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته تعجبه بغلاتُ معاوية الشهب؛ وكان معاوية قد حجّ فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء، عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري الحسان، عليهن الثياب معصفرات، ففتن الناس بموكبه)
وقال ابن الزبير لامرأة عبد الله بن عمر بن الخطاب: إنني لم أخرج ولم أطلب الخلافة إلا غضباً لله وللمسلمين من أثرة معاوية وابنه، فهم يستأثرون بالفيء دون الناس، ويستحلون محارمَ الله. قال هذا وسألها أن ترجو زوجَها في مبايعته؛ فلما جاء زوجها ذكرت له ابن الزبير وعبادته وجهاده، وأثنت عليه قائلة إنه يدعو إلى طاعة الله عز وجل وأطنبت في مدحه، ثم طلبت من زوجها أن يبايعه ويؤيده، فأجابها ابن عمر (ويحك! أما رأيت البغلات الشهب التي كان يحج عليها معاوية قادماً إلينا من الشام؟ قالت، بلى! قال والله ما يريد ابن الزبير بعبادته غيرهن!!)
فهذان اثنان من أقطاب الرجال في عصره، ومن ذوي الشرف والفضل والنزاهة في المسلمين، يقرّران أنه ما يبغي إلا الدنيا، وأنه يتّخذ من العبادة سلماً يرقى به إلى قلوب الناس، ليساعدوه على قضاء مأربه في الخلافة
والذي يمكن أن نستنبطه من ظروف الحوادث في ذلك العصر، أن سعيه وراء الخلافة كان مبنياً على طائفة من الأسباب إذا راعيناها جميعاً، أمكن التوفيق بين وجهات النظر المختلفة؛ فقد أراد أن يليَ أمور المسلمين، ليحقق نزعتَه ويشبع رغبته، وليعدل في المسلمين، فيردّ الأمور إلى حالتها الأولى، ويقيم الأمر بالقسط؛ فكأنه كان يبغي بذلك أمْري الدنيا والآخرة معاً(112/37)
ومهما يكن الداعي إلى طلبه الخلافة، فإنه كان كفؤاً لها، وقد واتتْه الفرصة، التي لبث يترقبها زَمناً، بموت يزيد وابنه معاوية الثاني، ولم يبق في السفيانية من يقوى كاهله للقيام بأعباء الخلافة؛ وحينئذ نرى عبد الله يُهمّ بالعمل الجريء، فهو رجل الساعة، والظروف المهيَّأة تنتظر منه الوثوب والظهور، وقد كان ذلك؛ إذ دعا لنفسه على منبر الحجاز سنة 64هـ، ولم تلبث الدعوة الجديدة أن سرت في أنحاء العالم الإسلامي؛ فخطب له على كافة المنابر (بالعراق وخراسان والحجاز والشام) سوى بعض جهات بالشام كان هواها ما يزال أموياً
وهنا تقوم عقبة شاقة أمام الخليفة الجديد! فأهل الشام الذين لم يبايعوا قد أخذتهم نعرة العصبية لبلدهم، فيمشي بعضهم إلى بعض، وفيهم الرؤساء والقواد يتشاورون ويقلّبون الأمر على كافة وجوهه، حتى لا يُفلتَ الملك من أيديهم، ولا يخرج السلطان من بلدهم؛ ثم يسفر اجتماعهم وتشاورهم على أن يبايعوا لمرْوان، وإن لم يكن سفيانياً فإنه أموي؛ وهو بعدُ أرشد القوم وأحزمهم وخير من يسند إليه هذا المنصب من أهل هذا البيت، في مثل تيك الظروف؛ ولكن الضحاك بن قيس ومعه جنده يعارض هذه البيعة بشدة، يريد أن يتم الأمر لابن الزبير، فتقع الحرب بين الفريقين بالشام، وتلوح بشائر النصر للضحاك، فيعمد مروان الداهية إلى الحيلة (كما فعل معاوية مع علي سابقاً) ويطلب الهدنة، ثم ينقض بجنده على جيش عدوه بغتة، فيشتتهم، ويقتل قائدهم الضحاك (بمرج راهط). وبهذه الهزيمة تنطفئ دعوة ابن الزبير بالشام، وتقوم الراية المرْوانية تخفق في ربوعه
ولو أن الضحاك ساعده الحظ وانتصر في مرج راهط لتغير أمر الخلافة، ولمحيَت الدولة الأموية في أول عهدها، وانقلبت سلسلة التاريخ الإسلامي، فرويت على غير وجهها الذي ترُوى عليه اليوم
بعد هذه الموقعة أضحى للمسلمين خليفتان؛ أحدُهما بالحجاز، والثاني بدمشق، ولكن مروان تعاجله المنيةُ بعد قليل، فيلي الأمر من بعده ابنه عبد الملك سنة 65هـ. وكان عبد الملك حازماً وفيه صرامة، وله عزيمةٌ ورأي سديد، ولكنه مع هذا كله نراه يتهيب ابن الزبير؛ لما ثبت له في قلوب الناس من المكانة، ولأن كثرة الأقطار الإسلامية تؤيده. فكَّر عبد الملك في الأمر طويلاً، ثم طفق يُعد لحرب عدَّتها، فأخذ يحشد الجنود، ويعرضها بنفسه، وصمم أن(112/38)
يحسم هذه المشكلة الخطيرة التي بينه وبين منافسيه؛ فيحسن بنا أن نتركه قليلاً يستقرّ في منصبه الجديد، وينظم جيوشه، ويرى رأيه، لننظر ماذا يفعل الخليفة الآخر مع الوفود التي كانت تأتيه من أنحاء البلدان وأقاصي الأمصار، لتُقرَّ بخلافته، وتجدّدَ بيعته، وتطلب منه العطاء وتظهر له حسن استعدادها لنُصرته وتأييده، ولنرى في الجملة سياسته مع جنده الذين هم عماد خلافته وسند دعوته
جاءه مصعب أخوه بجماعة من أعيان أهل العراق، بعد أن مهَّدها، وملك زمامها، وخاطبه قائلاً: (لقد جئتُك بوجوه أهل العراق ورجالاتها، ليؤكدوا لك البيعة، وليأخذوا منك العطايا!) فيدعوه حرصه أن يمنعهم العطاء ويقول لأخيه: (إنما جئتني بعبيد أهل العراق، يستنزفون بيت المال؛ لوددت أن لي بهم صرفَ الدينار بالدرهم!!). وكان هذا الردّ طعنةً نجلاء أصابت قلوب أهل العراق، فزلزلت خلافته ولما تزل في مهدها؛ وما فتئ يجري على هذه السياسة، سياسة الحرص والشحّ بالمال، مع التأنيب والزجر، وعدم التشجيع بالكلمة الطيبة - ولقد بالغ في تقتيره على الجنود أيما مبالغة، فكان أحياناً يقتصر على إطعامهم التمر، مع التقتير في صرفه لهم، فإذا فرُّوا أنَّبهم بقوله: (أكلتم تمري، وعصيتم أمري!) حتى قال فيه شاعرهم:
ألم تر عبد الله، والله غالب ... على أمره، يبغي الخلافةَ بالتمر!؟
وكان يدعوه حرصهُ أن يقول: ماذا عسى أن أنتفع بالدنيا، وإنما بطني شبرٌ في شبرٍ؟ ويقول المسعودي: أظهر عبدُ الله الزهد وملازمة العبادة مع الحرص على الخلافة، وشبر بطنه. وليس من شك في أن سياسة التقتير التي نهجها هي سياسة عاجزة، لا تنتج إلا الهزيمة وسقوط الدعوة، وضياع الأمر، فلا يسعُنا إلا أن نقول إن هذا موطن ضعفٍ كبير، ما كان ليليق بطالب الخلافة، ولا سيما إذا وجد أمامه مزاحماً قوياً، وخصماً عنيداً كعبد الملك بن مروان!! إذ كيف يبذل الجنودُ في سبيله الدماء، ثم يضنّ عليهم بالعطاء؟ إن هي إلا الهزيمة الكبرى! وإذن فقد جنى على عبد الله بخله، حيث صرف عنه القلوب، فتحولت الوجوه إلى الخليفة الآخر، يجدون فيه ملكاً يكثر العطايا، ويكرم الوفود، ولا يُعزُّ الدرهم والدينار، بل يجود بالدنيا لتقبل عليه الدنيا؛ اتجهت قلوبُ الناس إلى عبد الملك، وشخصت أبصارهم إلى بريق نُضاره، فلما أنس بهذا، ووثق بضعف عدوّه من هذه الناحية، توجه(112/39)
يقود جيشه الكبير إلى البصرة - وكانت لعبد الله مركز قوته، كما كانت الحجاز موطن دعوته - فلاقى بها أخاه مصعباً، ودارت بينهما رحا الحرب، فقُتل مصعب، وهُزم جنده، واستولى عبد الملك على العراق حصن الدعوة الزبيرية. وفي الحق أن عبد الملك ما قتل مصعباً، وإنما أرداه وهزم جيشه حرص أخيه على الدنيا، حرصاً نفر منه القلوب، فأسلمه أهل البصرة: وفروا إلى صفوف العدو، فقلّ ناصره، وراح ضحية التقتير وسوء التدبير
لم يبق بعد هذا إلا أن يلتقي القرنان ويتصادم الجيشان بالحجاز. فلندع عبد الملك ينظم أمر العراق الذي دخل في حوزته بعد النصر، ولنترك له فرصة يجهز فيها جيشاً آخر، تحت إمرة قائده الجبار الحجاج بن يوسف الثقفي، ليلقى به عبد الله في الحجاز. لندع كل هذا جانباً، لنشاهد موقف بني هاشم من خلافة ابن الزبير، وما صنع هو معهم بالحجاز!
كان ابن عباس وابن الحنفية وغيرهما يعلمون من قبلُ طموح عبد الله إلى الخلافة، وينكرون عليه في أنفسهم، بل كانوا يستكثرون عليه ذلك، ويرون أنه ليس أحق منهم بالأمر (وإن كان أحقّ من مروان وابنه) وكانوا يرون أن الذي يدفعه إلى هذا إنما هو الجشعُ والحرصُ على المظاهر الدنيوية (وقد ذكرنا حكاية البغلات الشهب عن ابن عمر وابن عباس) - لذلك لم يبايعوه، فحنق عليهم، وضيق خناقهم، حتى إنه فكر في الخلاص منهم، فحبسهم في شعب عارم، وجمع حولهم حطباً كثيراً، وهددهم بالإحراق، وكاد يقضي عليهم؛ ويقال إنه ما فعل هذا إلا خوفاً من تفوق الكلمة، واختلاف الناس، كما فعل عمر مع عليّ لما تأخر عن مبايعة أبي بكر، فقد هدده كثيراً
ولقد لجأ ابن الزبير إلى النفي عقاباً لمن تخلف عن بيعته، فأخرج محمد بن الحنفية من مكة والمدينة، ونفى ابن عباس إلى الطائف، وبهذا العمل العدائي مع بني هاشم، واضطهاده لهم، ضم سبباً جديداً قوياً إلى أسباب خذلانه، ولإفلات الأمر من يده، فكان بذلك مجانباً الحزم والسياسة الرشيدة
ويسير الحجاج ذلك القائد العنيد إلى الحجاز، فيستولي بعد مناوشات قليلة على جبل أبي قبيس الذي يطل على مكة ثم يحاصر البلد الحرام، فتتعطل مشاعر الحج، حتى إنه هو وجنوده وقفوا بعرفات ولم يطوفوا بالبيت ذلك العام، وطاف عبد الله ومن معه بالبيت ولم يقفوا بعرفات؛ وطال الحصار حتى سئم أهل مكة؛ ويقول الطبري إن الحجاج حصره(112/40)
ثمانية شهور، ولم تزل الحرب بينهما حتى تفرّق عنه عامة أصحابه، وخرج أهل مكة إلى الحجاج بأمان، ولم يصبر مع ابن الزبير سوى نفرٍ قليل ممن بايعوه على الموت دونه
وفي يوم عصيب، من أيام الحصار الرهيب، يدخل عبد الله على أمه أسماء، فيدور بينه وبينها حوار رائع، يعرض عليها حاله وما آل إليه أمر أصحابه، ويطلب مشورتها، فتبذل له النصح، وتحثه على الاستمساك بما ولاّه المسلمون، وأن يدافع عن حقه إلى آخر قطرة من دمهِ، وألاّ يقبل من عدوه خطة يصحبها الذلُّ، وتقول له في عبارة حماسية مؤثرة: (والله يا بنيّ لضربةُ سيفٍ في عزّ، خيرٌ من ضربةِ سوطٍ في مذلةٍ) وتلهِبه هذه النصيحة، وتثير نخوته، فيخرج إلى العدو في قلة من صحبه، وفي كثير من جَلَدِه وإيمانهِ، وقوة عزمهِ؛ وحينئذ نقرأ في جهاده واستبساله أروع صفحة للبطولة الكريمة، والدفاع عن الحقّ الهضيم، صفحة يتجلى فيها البلاءُ الحسن، والصبر الجميل والاعتماد على قوة اليقين، مع ضعف العُدّة والعدد، ووفرة العدوّ وإحاطته، وتمكنه من ناصية الموقف. ملك الحجاجُ عليه أبواب المسجد الحرام، وحاصره فيه، فبات يصلي ليلته، ثم أغفى قليلاً، وقام يصلي الفجر، ولما انتقل من صلاته أخذ يستعد للنزال ليرمي آخر سهم في كنانته، وليموت بعده شهيد الوفاء لمبدئه، ثم قال لمن معه: (يا آل الزبير! لو طِبتم لي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيتٍ من العرب! أما بعد فلا يرعكم وقع السيوف. . . غضوا الأبصار عن البارقة، ولا يلهينكم السؤال عني، فلا يقولنَّ أحدكم أين عبد الله!. . . ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. .) وبعد أن بثَّ الحميَّةَ في قلوب من حوله، وألهبهم حماسة، حمل على عدوه بسيفين صارمين، يضرب بهما معاً، فيهزم الداخلين عليه من هذا الباب، ثم لا يلبث أن يتكاثر الهاجمون على الباب الآخر، فيصمد لهم، حتى يولوا الأدبار، فيوقع بهم، وهو يقول: (يا له من نصرٍ، لو كان له رجالٌ!!)
لو كان قرني واحداً أرديتُه ... أوردتُه الموتَ وقد ذكيتُه!
ولم يزل يضرب القوم بصارميه ويشتت شملهم، حتى قُذِف بحجرٍ ضخم أصابه بين عينيه فخرَّ صريعاً، وتكاثر الجند على البطل المضرَّج بدمهِ الحرام، في المسجد الحرام، واحتزُّوا رأسه ولم يرْعَوا فيه ديناً ولا رَحماً
وكان مصرع البطل الشهيد سنة 73هـ بعد أن أدرك وطره وسلّم الناس عليه بالخلافة(112/41)
زهاءَ تسع سنوات، كانت كلُّها خُطباً واستعداداً، وحرباً وجهاداً
وبعد فهذا بطل صنديد، وخليفة شهيد، نرى في طلبه الخلافة، وتعريض نفسه للمخاطر، إبان تلك الظروف العصيبة حدباً على المسلمين، وأنفةً أن يساموا الخسف من بني أُمية، ونوعاً من التضحية في سبيل الجماعة، كما نلمح في نفسه نزعةً ساميةً، وشرفاً وشجاعة، لا نجدها في كثير من رجالات عصره، فلقد كان هو رجل الوقت بلا منازع، لم يتوقع بنو أُمية الوثوب الظافر عليهم من غيره؛ ولقد صدقت فيه فراسة معاوية
والحق أن خلال عبد الله منذ تنشئته كانت ترشحه وتعده للخلافة، ولكن لأية خلافة؟ للخلافة المتقشفة الحريصة على أموال المسلمين أن تنفق في غير وجهها، لا تلك الخلافة المترفة التي تنغمس في النعيم، وتغمرُها أبهة الملك ومظاهر السلطان؛ ولو لم يرْنُ عبد الله بطرفه إلى هذا المركز السامي، لكان ذلك غريباً عن طبعه، مناقضاً لنشأته، وعلو همته وطموحه؛ فلنسجل له ثورته العنيفة الدامية على من طلبوا الملك والدنيا باسم الخلافة الإسلامية العتيدة
(ميت غمر)
محمد حسني عبد الرحمن(112/42)
نحو الفجر
للأستاذ عبد الرحمن شكري
المقدمة:
إن الذي يأمل للإنسانية فجراً تنجاب فيه ظلمة الضيم والشر، يرى في فجر كل نهار رمزاً له ووعداً به؛ فيتعلل بهذا الرمز ويتنظر إنجاز الوعد آملاً أن النومة التي يحدث فيها للإنسانية كابوس من الأضغان والأذى والتنابذ والكيد، والاستهتار في العبث بالحق، يكون فيها أيضاً نسيان لخصالها الوضيعة يدركها من طريق سنة النوم فتستيقظ في خلق الحق والخير (الناظم)
أرقتُ فطال الليل أم طال بي عمري ... كأن انجياب الليل في موعد الحشر
كأنِيَ في لج من الليل غارق ... سوى هدأة لم تُلْفَ في لجج البحر
كأني غريب من حراك لواعجي ... بِعَلِم صمت غاله الصمت من سحر
كأن غصون الدوح في حندس الدجا ... رءوس ثكالى أرسلت أسود الشَّعر
كأن النجومَ الغانياتُ تَرَهَّبَتْ ... تبيت طوال الليل تعبد في دير
أو الفلُّ مزروعاً بحقل بنفسج ... وكاللازورد الأفق رُصِّع بالدر
أو أنَّ ثقوباً في جدار زبرجد ... تَطَلَّعُ منها الغيدُ يشرِفن من خدر
أُقَلب طرفي بينها مُتَفَهِّماً ... تَفَهُّمَ معنى اللفظ في صفحة السِّفر
كأن الدجا دَيْرٌ به البدر راهب ... جميل المُحَيَّا حوله هالة الحبر
كأن صقيعاً قد كسا الأرضَ نورُه ... أو أن عليها أبيض الطُهر ما يمْرِي
كأن فراشاً أبيضاً مَدَّ نُورُه ... مهاداً لروح أو شبا كامن السحر
أما يذهل الراؤون من سحر ضوئه ... وقد تحسب الأحلام تسري وما تسري
وإن تكُ أحلام فأوهام خاشع ... عراه جلال الحسن في الليل والبدر
أيحلم هذا الدوح في سحر ضوئه ... فقد خلته من هدأة النوم في أسر
كأن حفيف الدوح أضغاث حالم ... أو أنَّ حديثاً بينه خافت السر
أدور بعيني لا أرى غير ساكن ... فأين احتيال الناس بالغدر والمكر
وأين نشاط القوم للهو والهوى ... وأين مساعي الناس في الخير والشر(112/43)
ألا ليت نسياناً كذا النوم ساقياً ... يدير لهم كأساً ألذ من الخمر
لتذهلهم عن كل شر وفتنة ... فيستيقظ النُّوّامُ في خلق الطهر
خواطر آمال أُسَلِّي بها الدجا ... وتمضي مُضيَّ الليل أو طيرة الطير
فلما تَقَضَّى الليل وانجاب جنحه ... رأيت صباحاً يصبغ النبت بالتبر
تَشُوب اخْضِرَارَ الروض صفرةُ ساطع ... من الضوء مثل الغيد في حلل خُضْر
كما تينع الأثمار شاب اخضرارَها ... لدى النضج لونٌ في غلائلها الصُّفْر
كأن نبات الزهر من نبت جنة ... رمى مَلَكٌ من أفقها الأرض بالبذر
أظل وطرفي في مدى الأفق ذاهل ... أحاك عليه الفجر وشياً من السحر
ويرنو إليَّ الفجر من خلف ظلمة ... بنور كما شَفَّ الرماد عن الجمر
كأن مَماتاً في الدجا أهلك الدُّنا ... فتبعث فيها الروح في وضح الفجر
كأن كيان الكون يخلق ثانياً ... فإن انفجار الفجر كالخلق والنشر
تخال تباشير الصباح أزاهراً ... إذا ما بدت فوق الشجيرات كالنَّوْرِ
فيختلط الزهران حسناً ومنظراً ... ويزداد نِظْرُ الحسن من مشهد النِّظْرِ
تحَدِّث أنباء السماء بمشرق ... من الضوء مثل الرُّسْل تُبْعَثُ بالخير
تبادهنا منها محاسن جمة ... كما باده الأذهان من حَسَن الفكر
تفض ختام النفس عن كل ذكرة ... وكم ذِكَرٍ في الضوء والزهر والعطر
تذكرنا الآمال والحب والصِّبَى ... كأن رواء الصبح ضرب من الشِّعر
كذلك يغدو منظر الحسن ذكرة ... وخاطرة في النفس تُسعِدُ في الضُّر
وتستيقظ الأرض النَّؤوم إذا حنا الص ... باح عليها يلمس الثغر بالثغر
كما استيقظ الطرف المُغَمَّضُ بعدما ... أريق عليه ساطع من سنا البدر
تحن إليه النفس من بعد ظلمة ... فتحكي حنين الطير تهفو إلى الوكر
ترى الصبح يجلو النهر كالقين سيفه ... ويذكي الندى فوق الشجيرات كالدر
أُطِلُّ بأفكاري على النهر مثلما ... لدُنْ هدأة يحنو النبات على النهر
تصب عليه الشمس رقراق عسجد ... فيعلو لجينَ النهر نهرٌ من التبر
ترى تارة في متنه الماَء راجفاً ... كما ارتعدت أبشار غيدٍ من القُرِّ(112/44)
وتحسب أن النهر يشعر بالذي ... يعالج من حالَيْه في القر والحر
ترى النهر مثل العين سحراً وبهجة ... ويُمْلأُ مثل العين بالصُّورِ الكُثْرِ
يبوح بسر الحسن لونٌ مجدد ... ولولاه ما ألفيت في الكون ما يُغري
وأروعه ما كان منه فجاءةً ... فجاءة صبغ النهر من سُحُبٍ حُمْر
وليس رواء الكون في الصيف وحده ... فرب شتاء ناثر أيما ذُخر
جلال يريح النفس من بعد رونق ... نصيبك من سحرين في الحر والقر
على أن ذكرى الصيف فيه جلية ... ففي النهر من ذِكرٍ وفي الروض من ذكر
وقد يحلم المحروم باليسر واللهى ... كذلك حلم الأرض بالصيف واليسر
فلما تقضي الليل يحدو لواعجي ... وذكرى طيور الصيف تهزج في صدري
أخذت نصيباً من جَدَى الفجر وافراً ... فنهنهت آلامي وأرخيت من صبري
وأملت للدنيا صباحاً مؤجلا ... سيكشف عنها ظلمة الضيم والشر
فكل صباح رمزه ومثاله ... ووعد به يحدو إلى الزمن النضر
نسر بنعماه وإن لم تكن لنا ... وننشده فيما يكون من الدهر
عبد الرحمن شكري(112/45)
المثل الأعلى في السينما
حياة عبقرية متألمة
اللحن الذي لم يتم
للأستاذ خليل هنداوي
- 1 -
قد يكون الإقبال على هذا الفلم الناطق بالألمانية ضعيفاً، لأن مخرجه لم يترك مجالاً للمادة تعبث بالفن، وللمصلحة تغلب على العاطفة، وللعبث تسطو يداه على (مثل أعلى) ألفته عبقرية - أقامت في الأرض عمرها - بمداد روحها ودماء قلبها. على أن هذه الحياة قد فسدت، ولم يبق خالصاً ظاهرها ولا باطنها، فالقوم قد لجوا من صراع المادة المستحوذة عليهم، وهم الذين تركوا لها مجال التسيطر، تفر منهم، وهم إليها يفرون! وقد آل بهم هذا الصراع الدائم إلى أن يعموا عن جوهر الحياة الذي وضعته الحياة على أبنائها يوم كانت، فهم من صراع إلى صراع، ومن نزاع إلى نزاع، لا ترتاح لهم جنوب ولا تستقر مضاجع. أحلامهم طافحة بالعراك كيقظاتهم، وليت شعري لِمَ هذا العراك، وليت فيه هذا النزوع إلى محجة الحياة، فهم مضطرون إلى تهدئة أعصابهم المجنونة وقلوبهم الثائرة باللهو واللعب، يطلبون اللهو متى انتهوا من جدهم، ويتوخون العبث متى خرجوا من دائرة عملهم. لهو كثير وجد كثير تذوب بينهما حياة شفافة في سبيل الحياة البهيمية! وقد شعرت السينما بتعب الإنسانية وأحست بضناها، فأحبت أن تسعفها في جهادها، وتريها ومضات تلمع وتخبو في جنبات (الشاشة البيضاء). فهي تتشبث بالألحان والحسان ومظاهر الخيال الذي لا ينطبق على حقيقة، لتفرِّج عن هذه الإنسانية المنكوبة، ولكنه دواء من ينقش الشوكة بشوكة، وينير للشمعة سبيلها بذوبها. لأن مثل هذه الألحان المضطربة والنجوم الساطعة الخابية سرعان ما تفقد تأثيرها لأنها لم تصب هدفاً معلوماً ولم تطرق نهجاً مرسوماً
قد تكون السينما للأدب حليفة وقد تكون عدوة، لأنها تريد أن تهضم (الأدب) وتبلع زاد(112/46)
العقل لتحمله للناظر عن طريق العين، فهي مساعدة للأدب على خلق (المثل الأعلى)؛ وباعثة في الأرواح مختلف الأشواق والحنين إلى ربوع (المثل الأعلى)، ولكن من المخرجين من لا يبالي بهذا المثل ولا يسمع صوته، لأنه يريد أن يقبض على عيون الناس وجيوبهم، وهذا هو الأديب التاجر، ومنهم من يؤمن بهذا المثل، ولكنه لا يجد الفرصة سانحة لمثل هذا النوع. فهو يُلقي الومضة إثر الومضة لأنه لا يقدر أن يتبرأ من كل ما يجيش في صدره، ولكن أكثر بضاعته بضاعة يرضى بها رؤساءه. ورؤساؤه يعرضونها ليكسبوا بها جنوداً ونقوداً، وهذا هو البائس المداري، ومنهم من بلغ إيمانه بالمثل الأعلى مبلغاً عظيماً، يخرج من الروايات ما تؤمن به روحه، ويخلق فيها شيئاً جديداً متدفقاً لأنه يعمل بقلبه لا بيده، وهذا هو من يشفق على هذه الإنسانية، ويريد أن يحملها على أجنحة صوره وألحانه - ولو ساعة - إلى عالم المثل الأعلى؛ يريها ما هنالك من نور طافح وأمل خافق. والجالس إلى أفلام هذا المخرج ليجد نفسه وقد انسلخت عنه بغير شعور منه إلى عالم شعري بعيد، ما كان حامله إليه إلا فكرة سامية نقلتها أشعة العين إلى القلب فهام واستُهيم. . . إن مثل هذا المخرج يعطي أكثر مما يأخذ، ويهمه من الناس قلوبهم قبل جيوبهم
مرّت بي هذه الخطرات وازّاحمت في نفسي يوم رنت عيناي وخشع قلبي لهذا (اللحن الذي لم يتم) أراه للمرة الثانية، وقد تجردت روحي عني لتتسامى في هذا اللحن ما شاء لها التسامي
- 2 -
هذا اللحن أو هذا (الفِلم) ترجمة دقيقة لفصل من حياة (شوبير) الموسيقي النمساوي الذي لم تفض عليه الحياة أجله (1797 - 1828) لكنه فصل مشحون بكل ما يتمثله فكر عن فنان. وسأعرض عليك هذا الفصل لتتلمس فيه هذا المثل الأعلى الذي نجح المخرج في إظهاره. وإنما هو حياة فنان يشق طريقه إلى المجد بأوتار قيثارته وأنامل (بَيانه) البيضاء، وتاريخ صراع هذا العبقري للمصادفات والأقدار التي انتصر عليها
نحن الآن في منزل (رهون) تجتمع فيه البذلة الثمينة بجوار تمثال (نابليون) والقيثارة الجريح بقرب الحسون في قفصه (رهين المحبسين!) تتسلم هذه الأشياء فتاة جميلة، لامعة(112/47)
العينين، لا تقدر قيمة الأشياء إلا بحسب قائمة عندها
يطل على النافذة فتى تكاد تيبس عضلات وجهه المتصلب، على عينيه نظارتان، يمد قيثارته التي طالما ملأت ألحاناً، وأشبعت وحدته أماناً، يقدمها بيد مرتعشة ليرهنها، يجد ثمن الرهن ضئيلاً فيراجع الفتاة الجالسة فتجيبه: هذا هو الثمن المحدد! ولكن صوتاً يهيب بها في داخلها، وإنما هو صوت الحنان على الفن الذبيح. . . فتزيد الثمن وتدعو الله أن يذهل والدها عما زادت، ليتسنى لصاحب القيثارة أن ينتفع ببدل قيثارته. فيأخذ الثمن ويحصيه بعد خروجه فيجده أكثر مما قالت، فيعود بقلبه البسيط، فيعثر بالفتاة خارجة وتخبره أنها شذت معه إكراماً لفنه؛ وإذ يسمع - شوبير - ألحاناً تأتي من بعيد فينطلق وراءها وهي تقودها إليه عاطفة غريبة، فتسأله سر ابتهاجه بهذه الألحان، فينبئها أنها ألحانه يرددها الصبايا الحانيات على الماء
- إن ألحانك ترددها (فينا)؟
- أجل! ترددها (فينا)
- أنت سعيد إذاً شوبير! ولابد أنك غني
- أما الغنى فلا
- ولماذا تثابر إذن على التلحين؟
- وما يكون عمل شوبير في الوجود إذا انصرف عن التلحين؟
- وهذه الأبيات الرقيقة التي أسمعها أهي من (جيته)؟
- لا!. ومن هو جيته؟ إنني لم أسمع به قبل اليوم
- إنها من نظم صديقي (موللر)
- عجيب، ألا تعرف (جيته)؟
وهنا يعودان على آثارهما فتثب إلى غرفتها وتقذف له على طريقه بديوان (لجيته) فيأخذ الكتاب، ويلتهم ما في الكتاب ويتلو ذاهلاً غافلاً؛ يخطر في الشوارع وعيناه شاخصتان في الكتاب، ويدخل قاعة الدرس وطلابه في حرب يعلنها بعضهم على بعض، سلاحها الأوراق والكتب وإهراق المداد! وقد تصيب دواة قبعته فتطير عن رأسه فلا يشعر: ولكنه لا يكاديستقر في مكانه حتى تهدأ الجلبة وتقر الحركة، فيعجبه هذا السكون ويشكر طلابه(112/48)
عليه، فيبدأ درس الحساب ويكتب على اللوح الأسود بادئاً بجدول الضرب، ولكن هذه اليد تتحرك بغير وعي وتنتقل بغير إرادة. لأن القلب الموسيقي الذي أطل عليه من وراء (جيته) قد استولى عليه، فيده تسطر وقلبه يلحن، وما هي إلا لحظة حتى كان الطلاب من ورائه يرددون اللحن الذي سطره! وإذا بدرس الحساب يتحول إلى درس موسيقى! فيسمع الرئيس الألحان شائعة في الفناء، فيطرق غرفة (شوبير) فيجده لاهياً وطلابه بهذه الأغنية، فيطلب إليه أن يهرع إلى مقابلته، ولكن هذه المقابلة التي يتخيلها الناظر عثور جد وسوء طالع، قد هيأت لشوبير أن يقابل (مدير الأوبرا) في (فينا) المعجب ببراعته، وهو ينتظره في بهو الرئيس يحمل إليه دعوة إلى منزل الكونتس (دي رنسكي) ليعزف في إحدى سهراتها الموسيقية الحافلة التي تقيمها كل خميس وتجعل من منزلها ملتقى أرباب الفن وأنصاره. وجدير بمثل هذه المقابلة أن تفتح أمام (شوبير) مستقبلاً زاهياً مضموناً. ولكن أنى له أن يخشى هذه الحفلة وليس عنده رداؤها. وقد طرق بيت الرهون فرده صاحبه خائباً، لأنه لا يملك ما يفك به رهينة، ولكن الفتاة الهائمة بفنه أعادت إليه رداءه وقبعته لتحقق له ظفره في هذه الليلة
كان بهو (الكونتس) يعج بالزائرين والزائرات ممن سما بأرواحهم الفن والموسيقى؛ وفجأة دخل (شوبير) منتفخ الرداء ساطع الوجه، يلمس غده بيده. ولكن نشوة السرور قد أذهلته عن أن ينزع (علامة الرهن) عن ظهر الرداء. فمر وعيون القوم رانية إليه، تتغامز عليه. فقبل يد الكونتس وحطم بخيط (العلامة) تمثالاً عزيزاً علق به، ولكن الكونتس لم تزد إلا ترحيبا به
جاء دور (شوبير) ومرت أنامله على (البيان) أنشودة أبدعها لمثل هذه الساعة. وأودعها كل ما يختلج في صدره من أماني وأشجان. فترى القوم سكارى وما هم بسكارى! فتدخل - خلال ذلك - الكونتة استركاز الفتاة الحسناء وهي متأخرة، فتأخذ مقعدها وتصغي بروحها المرحة إلى هذه النغمات، فتسأل فتاها فيجيب همساً: إنه (شوبير) فلا تفهم. فيكتب على صفحة مرآتها بعد ذر (البودرة) أحرف (ش وب ي ر) فلا تفهم. . . وتنفخ على اسمه فيطير. ولكن أوضاع جلوس شوبير على البيان تهيب بها إلى الضحك فتملك نفسها فلا تقدر، فترسلها ضحكات عالية تنال من عزة (شوبير) فيرمقها شزراً، ويغلق البيان بعنف،(112/49)
ويهب من مقعده لا يملك نفسه المهتاجة، فيدركه (مدير الأوبرا) فيجيبه بإباء وأنفة:
- أنا لست ممن يعزفون وهم يضحكون!
وانطلق وقد ترك في المنزل، زوبعة، وصاحبة المنزل تقول للفتاة (ومما يؤسف له أن المقطوعة لا تبعث على الضحك)
تلك عزة الفن دعته فأجاب، وهو يقدر أنه قاتل مستقبله، وداع البؤس إلى ساحته، ولكن ما همه بمستقبله وبغناه إذا كان الفن يحيا في منزله مهاناً ويرضى بهوانه؟ أليس هذا المثل يضرب لكل فنَّان معنى العزة ويبعث فيه الكبرياء؟
خرج (شوبير) دامي القلب، ولكنه عنيف الثورة شديد النقمة على هذه الغادة التي حالت بينه وبين إتمام لحنه. . . آب إلى غرفته بأمانيه المهزومة كالقائد المنكسر يعود بفلول جيشه وأوسمته القديمة، فألفى غادته الأولى في انتظاره، وهي لم تكن لتحب أن تراه مقطباً عابساً، جلس إلى البيان يعاود ذلك اللحن الطائر، فلا يكاد يشرف على المهوى الذي تعالت فيه ضحكة الساخرة، حتى يتمثل أن ضحكتها تملأ جو غرفته، فيهب مذعوراً يسد أذنيه، وكأن يداً سحرية تحول بينه وبين الانتقال إلى المهوى الثاني. وبعد محاولة غير مجدية غادر البيان والبيان يضحك، وجدران الغرفة تضحك، وهي في قرارة ضميره تضحك. . .
كلفه هذا الحادث كثيراً، فقد أخرجوه من المدرسة، وحرموه الخبز الذي يأكله، فألحف الدائنون في الطلب، ولج الأصدقاء في الهرب. وشفعت له (فتاته ايمي) عند (مدير الأوبرا) ولكن هذا قد قُدَّ قلبه من جماد!
- كن لطيفاً معه
- أنا لست بلطيف
- لا تهجر شوبير!
- إنه يستحق
- ولكن اذكر أن (فينا) تترنم بأغانيه، فأين أغانيك؟
بمثل هذه البساطة وهذه الحدة كانت تجادل (ايمي) مدير الأوبرا لاستمالته إلى معاضدة (شوبير) ولكن العبقرية كتب عليها القدر ألا تخط طريقها إلا بدماء القلب الجريح، والشقاء الدائم، فليمش (شوبير) على طريق العبقرية. . .(112/50)
- 3 -
طلب أحد الأمراء الموسرين في (هونفريا) إلى شوبير أن يقدم عليه ليعلم فتاته الموسيقى، فارتاح لهذا الطلب وأيقن أن الأمل طفق يبسم له، فودع (ايمي) ووعدها بأن يكاتبها وسار وراء الأمل الجديد
دخل المنزل فاستقبله الوالد بابنتيه (ماريا وكارولين). نظر شوبير في وجه (كارولين) فأدرك أن هذا الوجه هو وجه الساخرة، فاربّد وجهه وتقلصت شفتاه. ولكنه هدأ نفسه وكظم غيظه. وغادر الوالد المكان، وعدت وراءه (ماريا) لأنها لا رغبة لها في الموسيقى، وخلا له ولها المكان
قالت كارولين باسمة:
- أريد أن أعرفك، لأنني جعلت درس الموسيقى سبباً!
- أتودين أن تسخري مني أيضاً؟
- لا يا شوبير! أريد منك أن تغلق هذا البيان
فدنا شوبير من البيان وأغلقه بهدوء، فضحكت كارولين وقالت:
- في إمكان الإنسان أن يغلقه بدون ضوضاء! قد شعرت بخطيئتي العظمى، وإني لأرجو أن تصفح عني. . .
- قد صفحتُ!
- إذا سنبدأ غداً. . .
وفي اليوم الثاني كان (شوبير) يلقي على تلميذته قواعد في الموسيقى وفي الإيقاع، ويبدي لها أن الإيقاع هو حياة الموسيقى وأصل توازن ألحانها؛ ويعرض عليها مقطوعة صغيرة له تتلوها بصوت عال، فتتلو السطر الأول والثاني ثم يتعالى صوتها شادية مرنمة يتلاشى أمام نغماتها ونبراتها عزف البيان ولحن القيثار، فيذهل شوبير وأي ذهول! ويتصاغر أمام جلال هذا اللحن المتناسق؛ حتى انتهت من تلاوتها وجاءت على هذه الكلمة (وهي مقطوعة مهداة إلى الفتاة ايمي) فثارت في نفسها غيرة عميقة، لأنها كانت تشعر بأن هذا الفنان يجب أن يكون لها وحدها، فطلبت إليه أن يقدم لها في المرة الثانية من أغانيه ما لا تشركها فيها امرأة! ولتكن تلك الأغنية التي لن تكمل. . . ولكن هذه الأغنية ظلت غير تامة لأنه لم(112/51)
يستطع أن يتمها
قالت له كارولين في إحدى خلواتها:
- سمعت بأنك تختلط بعمالنا في المزرعة في جلسات طربهم وأني لأربأ بأستاذي أن يغشى هذه المجاميع الساقطة
ولكن شوبير كان يستوحي الفن حيثما كان، ويعتقد أن الفن يسكن في الأكواخ، وفي الجماعات المنحطة، وفي التراب. وظل يغشاها كعادته، حتى فجأته يوماً في مجلس لهؤلاء (الغجريين) الذين تخذوا الحياة عزفاً وطرباً، وقذفوا بهمومها من وراء ظهورهم. فجأته وهي ترتدي رداء (الغجريات) وعلى وجهها تطفو بهجتهن وسرورهن. فرقصت حتى بات المكان كله لا يتسع إلا لقدميها. رقصت حتى أعيت، ودنت منه تنشد مقطوعة رقيقة تدعو إلى الاستسلام الذي تولده الغبطة الكئيبة:
(قل انك تحبني؛ قل بدون انقطاع
قل انك تحبني قليلاً. . .
كلماتك هذه تبعث الغبطة في نفسي، والراحة في قلبي
عيناك هما السبيل الجميل حيث يتوارى حلمي
قل انك تحبني، واكذب إذا وجب الكذب. . .
قل ذلك. . . لأنك - إذا سكتَّ - تسلمني إلى الموت)
وجدير بمثل هذه الأغنية الرقيقة أن تذهلها عن نفسها، وأن تغيب أستاذها عن وعيه. فيلثم يدها، والزوبعة لا يزال هزيمها بين الأغصان. فغادرت المكان راكضة بين المروج الذهبية التي هي قبلة العشاق، ومرتجى أصحاب الوحدة، فتبعها ليرجع إليها نقابها
- قفي يا كارولين. . . لقد نسيت نقابك. ما عسى يقولون في القصر إذا عرفوا؟ لماذا جئت؟
- ألا تعرف أنت حتى الآن. . عانقني يا شوبير!
وهنا ضمتهما قبلة عميقة لم تشهدها إلا السماء. ولم تسمع همسها إلا الأزهار والأعشاب. . . . أذهلتها عن نقابها الذي سقط على الأرض فعادت بغير نقاب
- 4 -(112/52)
أدرك الأمر والدها، ورأى في فتاته ميلاً إليه قد ينتهي بالزواج. فأحب أن يحول بينهما، فصرف (شوبير) صرفاً أدبياً ليعود إلى عزلته الأولى. وشوبير في كل غيبته لم يذكر (ايمي) بكتاب. لأن كفة (كارولين) رجحت على كفتها. فلم تستقبله (ايمي) ولكنها سمعت أنه يكاد يغدو مجنوناً. وهو في كل يوم يرتقب كتاباً من (كارولين) وهاقد دب اليأس في نفسه بعد انتظار ثلاثة أشهر، وهاقد أشفقت (ايمي) عليه فهرعت إليه بدون إرادة ولا عزيمة. . . . وفي لحظة حضورها وردت عليه بطاقة من القصر تأمره بالحضور العاجل. فما قابل (ايمي) إلا ليودعها وتودعه
- ايمي! كوني سعيدة إنني مسافر، سوف أبعث إليك بأنبائي
انطلق (شوبير) ولا يعرف ما كُتب له. فشاهد في القرية حالة غير معهودة؛ أجراس تدق، وثياب بيضاء ترف. وأغنٍ تتعالى. إنه عرس (كارولين) أجئتَ يا شوبير لتودع كارولين؟
لم يكن صاحب البطاقة المرسلة إلا (ماريا) أخت (كارولين) دعت (شوبير) ليحضر حفلة زفاف أختها. وليصفح عنها لأنها كفَّرت عن وزرها بالبكاء الطويل، ولكنها أذعنت لوالدها مضطرة غير مختارة. . . وقد وقف (شوبير) بين الجموع يشهد مرورهما أمامه
وقفت (ماريا) فجأة بين جموع المهنئين في بهو القصر، تعلن أن (شوبير) يريد أن يهنئ العروسين (فدخل شوبير وقد رنت العيون إيه، ومشى حتى بلغ موقف (كارولين) وقال لها: (يا سيدتي! هل تتفضلين بأن أقدم تتمة اللحن الذي لم يتم تقدمة لك في يوم عرسك؟) واختلف إلى البيان يردد اللحن الأول (وكارولين) بين الجموع تنتفض طوراً وتختلج تارة تحت تأثير الذكريات الهافية حولها. تفيض على قلبها مرارة، وعلى محجريها تطفح دمعتان. وما كاد ينتق (شوبير) إلى تتمة المقطع، وقد اختلفت النغمة، وامتزج الجلال بالجمال، ونطقت العاطفة، وغلب القلب على الأنامل، حتى سقطت (كارولين) مستخرطة في البكاء في الموقع الذي قاطعت شوبير بضحكتها. فانفض الجمع وأخذوا المريضة. وشوبير مُسمَّر في مكانه لا يتزحزح. وبعد برهة عاد إليه زوجها يقول له: (إنها تحسنت قليلاً وتود أن تقابلك). عادت كارولين ووجهها مقنع بكل ما رسمت على وجهها الحياة منذ طفولتها حتى الساعة. فالآمال مجاورة للآلام. واليأس مؤتلف مع القنوط: إنه وجه حياة كاملة(112/53)
- شوبير! هذه مقطوعتك أرسلها إليّ
- ولِمَه؟ أنها مكتوبة للجميع
- عش سعيداً يا شوبير! ولا تحزن. إنك تملك شيئاً هو أسمى من كل شيء. . . هو الفن الذي يعطيك الخلود
طفرت من عينها دمعة، وانصرفت راكضة لأنها لا تستطيع أن تقف أمام هذه السحابة الجارفة التي يسوقها فن عميق سامٍ جارف
عاد (شوبير) إلى لحنه، فأبقى ما عزفه، ومزق تتمة اللحن، وكتب حول ما مزقه: (ليكون دليلاً على حبي الذي لا ينتهي، جعلتُه لحناً لا ينتهي). وخرج (شوبير) يسلك الطريق الذي أبصر أحلامه الواثبة، والآن يبصر نفسه المكتئبة؛ وما زال يقذف به السير حتى وقف على تمثال (مريم العذراء) وهنالك تمازج كل ما فيه من عوامل متضادة، من يأس ورجاء. من غبطة وكآبة، وفن ومثل أسمى، لتؤلف هذه العوامل (أنشودة السلام الملائكي) التي خلدت شوبير في عالم الموسيقى. .
(السلام الملائكي)
سلام عليك يا مريم! يا ملكة السماء
إليك ترتفع صلاتي، وأرى العطف في عينيك
وفيك أيتها الطاهرة أضع رجائي
ولدي كان مخفف بؤسي، ومعزى فاقتي
إنه تألم، وا أسفاه، إنه قضى
افهمي دموعي أنتِ، يا من كنتِ أماً
وأعيدي إليّ طفلي البائس. . .
سلام عليك يا مريم! إن ولدي جميل
كنتُ به مختالة معجبة. . .
باركي سريره الصغير. . .
إنه كان خيري، بل خيري الوحيد
إذا أصابني الله في غضبه(112/54)
فاعطفي أنتِ على الصغير البريء
واستجيبي لي. . . إنني أُم
تطلب الموت في سبيل ولدها
سلام عليك يا مريم
أرى طفلي ولد ثانية بالصلاة
كأنه الزهرة العاطرة، والمنحة الجميلة،
والجمال الجذاب، والسر المقدس،
انظري إليّ! أنت يا موضع أملي!
ولدي! إن جبينك ليسطع نوراً. . .
شكراً لك أيتها الأم الإلهية
أنتِ التي أنقذتِ ولدي
سلام عليكِ يا مريم. . .
هي مقطوعة تناجي بها أُم ثكلى (مريمَ) وتبثها شكواها. وقد برح بها الحزن وأمضها الألم. والآن تغلق قلبها المفتوح وتطوي ألمها المنشور، وتحس براحة نفسية، تصافح الألم فلا تراه شائكاً، بل هي الآن أوسع صدراً للألم لأنه لا يطغى على إيمانها. وقد تكون هذه الفكرة فكرة فنان شاعر يناجي مثله الأعلى الذي وجد فيه أمله الأسمى. فهو يحمل نفسه المجرّحة يريد أن يلقى لها منزلاً تنزل فيه، فيجد الأبواب كلها مسدودة، وهاهو ذا الآن على طريق المثل الأعلى الذي سلخه عن الوجود
قد تلاشى الحب في (شوبير) وانطفأت جذوته الملتهبة، وابتعدت ذكرياته العذبة. لا لأن شوبير محب كاذب يسهل عليه الاتصال والانفصال. ولكن شوبير قلبه قلب فنان، وقلب الفنان كبير، قد ارتسمت - على قلبه - كل أشواقه الماضية، وآلامه الغابرة وسرت معه لتؤلف (ذلك المثل الأعلى) بفنه الذي - كما قالت كارولين - إنه وحده يعطيه الخلود
وقد يتسائل القارئ: أما وقد عاد شوبير خائباً، فكيف التقت به (ايمي) فتاته الأولى؟ بقيت نقطة غامضة لم يعالجها المخرج ليترك المثل الأعلى منتصراً على كل شيء
- 5 -(112/55)
قد لا تروق هذه النتيجة للبعض، لأنهم يتلقونها بعقولهم وعقولهم لا يرضيها شيء من غذاء العاطفة، ولا تقبل إلا بما فيه غذاء لمنطقها، ولا يغذى منطقها إلا عالم الواقع الملموس. . . ولكن فاتهم أن هذا العالم الواقعي قد بدأت تطفو عليه عوا الاضمحلال لأنهم قتلوا فيه كل مثل، سواء ذلك المثل الذي يوحيه الفن أو يوحيه الشعر
لا يحمل الناس من هذه الوهدة التي نزلوا فيها وهذه المادية التي استغرقوا فيها إلا الإيمان بالمثل الأعلى فهل نرى - السينما! - تقف يوماً أمام الفن والشعر جنباً لجنب، لتؤدي ما عليها من التبشير بهذا (المثل الأعلى)؟
خليل هنداوي(112/56)
9 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
زهده وتكسبه بالشعر:
كان أبو العتاهية مع زهده لا يترك التكسب يشعره، وإذا رجعنا إلى حاله في ذلك وجدناه لم ينقطع عن بني العباس وقبول جوائزهم من عهد المهدي الذي ابتدأ اتصاله بهم فيه، إلى عهد المأمون الذي انتهت فيه حياته، وقد طعن عليه بذلك في زهده كثير من منافسيه في الشعر وغيره، وحملوا ذلك منه على الرياء والمخادعة، وقد أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلماً الخاسر:
تعالى اللهُ يا سَلَم بن عمرو ... أذلَّ الحرص أعناق الرجال
فقال المأمون: إن الحرص لمفسد للدين والمروءة، والله ما عرفت من رجل قط حرصاً ولا شرها فرأيت فيه مصطنعاً. فبلغ ذلك سلماً فقال: ويلي على المخنث الجرار الزنديق، جمع الأموال وكنزها، وعبأ البدر في بيته، ثم تزهد مراآة ونفاقاً، فأخذ يهتف بي إذا تصديت للطلب. واجتمع أبو العتاهية مع جماعة عند قُثَم بن جعفر بن سليمان فأخذ ينشد في الزهد، فطلب قثم الجماز فأحضر إليه وأبو العتاهية ينشده، فأنشأ الجماز يقول:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهِّد الناس ولا يزهّد
لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد
يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
والرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود
فالتفت أبو العتاهية إليه فقال من هذا؟ قالوا الجماز، وهو ابن أخت سلم الخاسر، اقتص لخاله منك، فأقبل عليه وقال له: يا ابن أخي إني لم أذهب حيث ظننت ولا ظن خالك ولا أردت أن أهتف به، وإنما خاطبته كما يخاطب الرجل صديقه، فالله يغفر لكما، ثم قام
وحدث حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال: كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء، فقال والله ما لنا عند الله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته، ولولا عز السلطان وكراهة الذلة، وأن أصير بعد الرياسة سوقةً وتابعاً بعد ما كنت متبوعاً، ما كان في الأرض أزهد ولا أعبد مني، فإذا هو بالحاجب قد دخل عليه(112/57)
برقعة من أبي العتاهية فيها مكتوب:
أراك امرءاً ترجو من الله عفوه ... وأنت على ما لا يحب مقيم
ندل على التقوى وأنت مقصر ... أيا من يداوي الناس وهو سقيم
وإن امرءاً لم يلهه اليومُ عن غد ... تخوَّف ما يأتي به لحكيم
وإن امرءاً لم يجعل البر كنزه ... وإن كانت الدنيا له لعديمُ
فغضب خزيمة وقال: والله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر. فقيل له وكيف ذاك؟ فقال لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
وقد كان أبو العتاهية يجمع إلى أخذه بهذا التكسب الذهاب في البخل إلى حد مكن منه خصومه فشوهوا به زهده أيضاً، وله في بخله نوادر كثيرة، وأخبار مأثورة، قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية:
إذا المرء لم يعتق من المال نفسَهُ ... تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنتَ ذا مال فبادر به الذي ... يحق وإلا استهلكته مهالكه
فقلت من أين قضيت بهذا؟ فقال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. فقلت له أتؤمن بأن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه الحق؟ قال نعم، قلت فلم تحبس عندك سبعاً وعشرين بدرة في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي، ولا تقدمها ذخراً اليوم فقرك وفاقتك؟ فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس. فقلت وبم تزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد. فترك جواب كلامي كله، ثم قال لي والله لقد اشتريت في يوم عاشورا لحماً وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم، فلما قال لي هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام
وحدث محمد بن عيسى الخزيمي وكان جار أبي العتاهية قال: كان لأبي العتاهية جار يلتقط(112/58)
النوى، ضعيف سيئ الحال، متجمل عليه ثياب، فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار، فيقول أبو العتاهية اللهم أغنه عما هو بسبيله، شيخ ضعيف سيئ الحال عليه ثياب متجمل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه، فبقى على هذا إلى أن مات الشيخ نحواً من عشرين سنة، فقلت له يوماً يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ، وتزعم أنه فقير مقل، فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال أخشى أن يعتاد الصدقة، والصدقة آخر كسب العبد، وإن في الدعاء لخيراً كثيرا
وقال علي بن مهدي حدثني الحسين بن أبي السرى قال: قيل لأبي العتاهية مالك تبخل بما رزقك الله؟ قال والله ما بخلت بما رزقني الله قط، قيل وكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى؟ قال ليس ذلك رزقي، ولو كان رزقي لأنفقته
وقال محمد بن عيسى قلت لأبي العتاهية أتزكي مالك؟ فقال والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي، فقلت سبحان الله، إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين، فقال لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم
فأما تكسب أبي العتاهية بالشعر فلا شيء فيه عندي مع أخذه بذلك الزهد، لأن الزهد في الإسلام لا يمنع صاحبه من الأخذ بالأسباب والسعي في الحصول على الرزق، والتكسب بالشعر سبب من تلك الأسباب، والشعر فن من الفنون التي لا غنى للدولة عنها، فيجب أن يأخذ حظه من الأموال التي تجبي فيها، ويجب على أرباب الدولة أن يبسطوا أيديهم بالعطاء لرجاله، ليتوفروا على إجادته، ويتضافروا في النهوض به، وليس على الشعراء من حرج إذا لم يصل نصيبهم من ذلك إليهم أن يتلطفوا في الوصول إليه بمدح الملوك والوزراء، وكذا غيرهم ممن في أيديهم تلك الأموال، وإنما يذم التكسب بالشعر إذا بالغ صاحبه في الإلحاح به، وجعله كل غايته من الشعر، فحمله ذلك على الالتواء في سبيله، واتخاذ الشعر أداة شر بين الناس، يقلب الحقائق بينهم، ويجعل في سبيل المال الباطل حقاً والحق باطلاً، والظلم عدلاً والعدل ظلماً؛ وقد تكسب الشعراء بشعرهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له شعراء يمدحونه وينصرون دعوته، ويدافعون عنه أعداءه، ويردون عنه هجائهم بالحق إذا هجوه بالباطل
ولم يكن شاعرنا أبو العتاهية بحيث يصل به التكسب بالشعر إلى هذا الحد، وقد مضى لنا(112/59)
في ترجمته ما يؤيد ذلك له، وكم له من مواقف مشهودة مع ملوك عصره وأمرائه، لم تنسه فيها جوائزهم أن ينكر عليهم ما يستحق الإنكار منهم، أو يغضب لنفسه إذا رأى منهم أقل تهاون به. حدث الحسين بن أبي السرى قال: مر القاسم بن الرشيد في موكب عظيم، وكان من أتْيَهِ الناس، وأبو العتاهية جالس مع قوم على ظهر الطريق، فقام أبو العتاهية حين رآه إعظاماً له، فلم يزل قائماً حتى جاز فأجازه ولم يلتفت إليه، فقال أبو العتاهية:
يتيه ابنُ آدم من جهله ... كأن رحا الموت لا تطحنُهْ
فسمع بعض من كان في موكبه ذلك فأخبر به القاسم، فبعث إلى أبي العتاهية وضربه مائة مقرعة، وقال له: يا ابن الفاعلة أتعرض بي في مثل ذلك الموضع؟ وحبسه في داره، فدس أبو العتاهية إلى زبيدة بنت جعفر وكانت توجه له هذه الأبيات:
حتى متى ذو التَّيهِ في تيهه ... أصلحه الله وعافاهُ
يتيه أهل التيه من جهلهم ... وهم يموتون وإن تاهوا
من طلب العِزَّ ليبقى به ... فإن عز المرء تقواه
لم يعتصم بالله من خلقه ... من ليس يرجوه ويخشاه
وكتب إليها بحاله وضيق حبسه، وكانت مائلة إليه فرقت له، وأخبرت الرشيد بأمره وكلمته فيه، فأحضره وكساه ووصله، ولم يرض الرشيد عن القاسم حتى بر أبا العتاهية وأدناه واعتذر إليه
وحدث محمد بن عيسى قال: كنت جالساً مع أبي العتاهية إذ مر بنا حميد الطوسي في موكبه، وبين يديه الفرسان والرجالة، وكان بقرب أبي العتاهية سوادي على أتان، فضربوا وجه الأتان ونحُّوه عن الطريق، وحميد واضع طرفه على معرفة فرسه، والناس ينظرون إليه يعجبون منه وهو لا يلتفت تيهاً، فقال أبو العتاهية:
للموتِ أبناءٌ بهمْ ... ما شئت من صلف وتيه
وكأنني بالموت قد ... دارتْ رحاه على بنيهْ
فلما جاز حميد مع صاحب الأتان قال:
ما أذَلَّ المُقِلَّ في أعين النَّا ... س لإقلاله وما أقماهُ
إنما تنظر العيون من النَّا ... س إلى من ترجوه أو تخشاه(112/60)
وقد كان أبو العتاهية في آخر أمره يحاول جهده أن يجعل جوائز الملوك وغيرهم إليه في نظير هدايا يتقدم بها إليهم، كما كان يفعل ذلك مع الأمين والمأمون فيما ذكرنا في ترجمته، وهو في ذلك يشعر بسمو منزلته إلى منزلتهم، ويترفع عن ذلك التكسب الذي كان يأخذ به في أول أمره، وإن كان على تلك الطريقة التي لم يكن لها أثر معيب في نفسه
وأما بخله فنعتقد أنه لم يصل فيه إلى ذلك الحد الذي يؤثر فيه ما أثر عنه من تلك النوادر وغيرها، وإنما ذلك من اختلاق خصومه ومنافسيه عليه، ليشوهوا منه تلك الصيحة المُدَوِّيةَ في الزهد، ويظهروه في مظهر من يقول بما لا يفعل، فلا يتأثر الناس بدعوته، ولا ينظرون إلى أقواله، ولا شك أنه يشفع لأبي العتاهية في ضنه بماله أنه كان رجلاً شاعراً يجمع ماله من أيدي الملوك والعظماء، ويبذل في ذلك ماء وجهه على ما كانت عليه نفسه من عزة ورفعة، فإذا ضن به بعد هذا فإنما يحمله على ذلك أن يكون دائماً في غير حاجة ملحة إلى من يحاول أن يشتري شعره بها، فيسير فيه كما يشتهي هو لا كما يشتهي غيره، وقد كان أبو العتاهية دائماً مهدداً من أجل هذا بالحرمان، وعرضة للتضييق والسجن واستباحة المال، فهو يجمع من ذلك ما يجمع ليجده في وقت حرمانه، ويضن به على من لا يجده في ذلك الوقت إلا عدواً له أو شامتاً فيه، وقد كان يجد من الناس ما ساء به ظنه فيهم، وآثر به العزلة عنهم، وكان له فيهم مذهب غريب يقضي بتبخيلهم كلهم، فهو يقارضهم بخلاً ببخل، ويضن عليهم ضناً بضن، قال مخارق: لقيت أبا العتاهية على الجسر، فقلت له: يا أبا إسحاق أتنشدني قولك في تبخيل الناس كلهم؟ فضحك وقال لي: هاهنا؟ قلت: نعم، فأنشدني:
إن كنت متخذاً خليلاً ... فَتَنَقَّ وانتقد الخليلا
من لم يكن لك منصفاً ... في الود فابغ به بَدِيلا
ولربما سئل البخي ... لُ الشيء لا يسوي فَتيلا
فيقول لا أجد السبي ... ل إليه بَكْرَهُ أن يُنِيلا
فلذاك لا جعل الإل ... هُ له إلى خير سبيلا
فاضرب بطرفك حيث شئ ... تَ فلن ترى إلا بخيلا
فقلت له: أفرطت يا أبا إسحاق، فقال: فديتك فأكذبني بجواد واحد؟ فأحببت موافقته، فالتفت(112/61)
يمينا وشمالاً، ثم قلت: ما أجد؛ فقبل بين عيني وقال: فديتك يا بني، لقد رفقت حتى كدت تسرف
وهكذا مضى أبو العتاهية عظيماً لم يزر به بخله ولا تكسبه بشعره، كما أزرى ذلك بغيره، ولو أن ذلك أزرى به كما زعمه خصومه لما كان لمنصور بن المهدي أن يمد إليه يده ليزوجه إحدى ابنتيه، وقد كان لأبي العتاهية بنتان: إحداهما (لله) والأخرى (بالله)، فخطب منصور منه (لله) فلم يزوجه، وقال: إنما طلبها لأنها بنت أبي العتاهية، وكأني به قد ملها فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل، وما كنت لأزوجها إلا بائع خزف وجرار؛ ولكني أختاره لها موسراً.
عبد المتعال الصعيدي(112/62)
في اللغة والأدب
2 - المثنيات في التاريخ والجغرافية والفلك
للأستاذ محمد شفيق
(الأخشبان) هما جبلا مكة الملصقان بها: أبو قبيس والأحمر، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب في اللغة هو الجبل الخشن العظيم، ويقال هو الذي لا يرتقي علوه. وهما جبلا منى. وقيل هما الأخشب الشرقي والأخشب الغربي، فالشرقي أبو قبيس والغربي جبل الخُط من وادي إبراهيم. قال أبو عبيد: وأخشبا المدينة حرتاها
(البونان) بفتح الموحدة وسكون الواو: موضعان باليمن البون الأعلى والبون الأسفل، وهما متصلان من أعمال صنعاء، ويقال إن فيهما البئر المعطلة والقصر المشيد المذكوران في القرآن الكريم
(الخراتان) نجمان من كواكب الأسد، وقيل كوكبان بينهما قدر سوط وهما كتفا الأسد، وقيل سميا بذلك لنفوذهما إلى جوف الأسد
(الزبانيان) هما كوكبان نيران، وهما قرنا العقرب ينزلهما القمر، وهما مفترقان بينهما أكثر من قامة الرجل في رأي العين، ويسميهما أهل الشام يدي العقرب، ويقال لهما زباني الصيف، لأن سقوطهما في زمن تحرك الحر
(الشرَطان) نجمان من الحمل وهما قرناه
(الشرفان) بالوادي الأخضر من دمشق وهما الجانبان المتقابلان شرف أعلى وهو الشمالي وأدنى وهو القبلي، وبينهما الوادي والنهران بردى وبانياس. ويقال: فلان حاز الشرفين أي شرف الأب والأم
(الغوطتان) بدمشق معروفتان قبلية وشمالية
(الصفصافتان) معروفتان عند الدمشقيين، وهما: شجرتا صفصاف بالوادي التحتاني معدتان للتنزه ذكرهما الشعراء المتأخرون في أشعارهم فمنهم الأمير المنجكي حيث قال:
وبالصفصافتين مقام أنس ... عليل نسيمه يبري السقاما
إذا غنت حمائمه سكرنا ... بما تملي ولم نشرب مداما
(العزيزيتان) قريتان بمصر في ناحية الشرقية منسوبتان إلى العزيز بن المعز(112/63)
(العسكريان) محمد بن علي والحسين بن رشيق، منسوبان إلى عسكر: محلة بمصر، وأبو الحسن علي بن محمد. . . بن جعفر وولده الحسن منسوبان إلى عسكر المعتصم وهي مدينة سر من رأى (سامرا)، والعسكريان الأديبان أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري وتلميذه أبو هلال الحسن بن عبد الله منسوبان إلى عسكر مكرم
(الفرقدان) نجمان منيران في بنات نعش يضرب المثل بهما في طول الصحبة في التساوي والتشاكل. قال البحتري:
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعد موضع فرقد عن فرقد
(القرافتان) القرافة الصغرى والقرافة الكبرى، فيهما مقبرتا مصر، وكانتا من قبل خطتين لقبيلة من اليمن ثم من المعافر ابن يعفر يقال لهم بنو قرافة
(المحلفان) نجمان يطلعان قبل سهيل فيظن الناظر لكل منهما أنه سهيل، ويحلف آخر أنه ليس به
ما يتعلق بالمنطق من المثنيات
(الجنسان) الجنس القريب والجنس البعيد
(الحدان) الحد التام والحد الناقص
(الضدان) صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض
(المتقابلان) بالعدم والملكة أمران أحدهما وجودي والآخر عدم ذلك الوجودي لا مطلقاً بل من موضع مقابل له كالبصر والعمى، والعلم والجهل، فإن العمى عدم البصر عما من شأنه البصر، والجهل عدم العلم عما من شأنه العلم
(المتقابلان) بالإيجاب والسلب هما أمران أحدهما عدم الآخر مطلقاً كالفروسية واللافروسية
(المضافان) هما المتقابلان الوجوديان اللذان يعقل كل منهما بالقياس إلى الآخر كالأبوة والبنوة
(النوعان) الحقيقي والإضافي: فالحقيقي الكلي المقول على واحد أو كثيرين متفقين في الحقائق في جواب ما هو، والإضافي ماهية يقال عليها وعلى غيرها الجنس قولاً أولياً أي بلا واسطة كالإنسان بالقياس إلى الحيوان
المثنيات المتعلقة بالتفسير والقراءات(112/64)
(النجدان) هما الضلالة والهدى، في قوله تعالى (وهديناه النجدين)
(مدهامتان) هما في القرآن بمعنى سوداوين من شدة الخضرة من الري لأن العرب تسمي كل أخضر أسود
(الصدفان) هما في الآية الكريمة جبلان متلاصقان، من المصادفة أي المقابلة، وقيل من الصدف وهو الميل لأن كل واحد منهما منعزل عن الآخر
(السدان) هما في قوله جل وعز (حتى إذا بلغ السدين) الجبلان المبني بينهما السدان وهما جبلا أرمينيا وأذربيجان، وقيل هما جبلان منعيان في آخر بلاد الترك
(الابنان) هما في مصطلح أهل القراءات ابن كثير وابن عامر
(الأبوان) هما أبو عمر وأبو بكر بن عاصم القارئان المشهوران
(الأخوان) هما حمزة والكسائي. (الحرميان) هما ابن كثير ونافع من القراء السبعة
المثنيات المتعلقة بالحديث الشريف
(التدليسان) أحدهما تدليس الإسناد وهو أن يروى عمن لقيه ولم يسمع منه موهماً أنه لقيه أو سمع منه، والآخر تدليس الشيوخ وهو أن يروى حديثاً عن شيخ سمعه منه فيسميه أو يكنيه ويصفه بما لم يعرف به كيلا يعرف
(الشيخان) هما عند الإطلاق أبو بكر وعمر، وعند المحدثين يراد بهما البخاري ومسلم
(الذبيحان) في حديث (أنا ابن الذبيحين) اسمعيل أو إسحق وعبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم. والمرجح أن الذبيح هو اسمعيل، وأما القول بأنه إسحق فمردود بأكثر من عشرين وجهاً
(العودان) منبر النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه، وقد ورد ذكر العودين في الحديث وفسرا بذلك، وقال شمر في قول الفرزدق:
ومن ورث العودين والخاتم الذي ... له الملك والأرض الفضاء رحيبها
وكني بالعودين عن الشاهدين، قال شريح: القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين
(الأسودان) الحية والعقرب، وفي الحديث (اقتلوا الأسودين)
(الثقلان) الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض ولرزانة رأيهم وقدرهم، أو لأنهم(112/65)
مثقلون بالتكليف، وفي الحديث (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) سماها ثقلين لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل إعظاماً لقدرهما وتضخيماً لشأنهما
(الأسواريان) محيسن ومحمد بن أحمد نسبة إلى أسوار - بالفتح - قرية بأصبهان، محدثان
(الأماميان) محمد بن عبد الحبار ومحمد بن اسمعيل البسطامي محدثان
المثنيات في الطب والكيمياء والنباتات
(البهقان) أبيض بياضه دقيق ظاهر البشرة لسوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم، وأسود يعتري الجلد إلى السواد لمخالطة المرة السوداء الدم
(الحلولان) حلول سرياني وهو عبارة عن اتحاد الجنسين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد فسمي الساري حالاً والمسري محلاً، وحلول جواري وهو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر كحلول الماء في الكوز
(الزرنيخان) أراد به الأطباء الزرنيخ الأحمر، والزرنيخ الأصفر
(البهمتان) نباتان أحمر ظاهره السواد وأبيض كذلك، وهما فارسيان معربان وكلاهما يضران السفل ويصلحهما الأنيسون والكثيرا أو العناب
المثنيات المتصلة بالفلسفة والأخلاق والتصوف
(الأجلان) هما على رأي الفلاسفة طبيعي واخترامي فإنهم قالوا: الرطوبة الغريزية من الحرارة الغريزية بمنزلة الدهن للفتيلة المشتعلة وكلما انتقص تتبعها الحرارة الغريزية في ذلك. . . . الخ ما ذكره المحبي في (جني الجنتين)
(الأدبان) أدب الغريزة، وهو الأصل، وأدب الرواية وهو الفرع، ولا يتفرع شيء إلا بنمو أصله، ولا ينمو الأصل إلا باتصال المادة، وقيل الأدبان أدب النفس وأدب الدرس
(الإمامان) هما في اصطلاح أهل التصوف: الشخصان اللذان أحدهما عن يمين العرش أي القطب ونظيره في الملكوت وهو مرآة ما يتوجه في المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي هي مادة الوجود والبقاء، وهذا الإمام مرآته، والآخر عن يساره ونظيره في الملك وهو مرآة ما يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية وهذا مرآته ومحله أعلى من صاحبه وهو يخلف القطب إماماً إذا مات(112/66)
(الفناءان) أحدهما سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة وهو بكثرة الرياضة، والثاني عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، وهو بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق
(الصورتان) النوعية والجسمية، وهما مجلهما الهيولي، وهي جوهر في الجسم قابل لما يعرض له من الاتصال والانفصال
ما يتصل بالفقه والأصول من المثنيات
(البيِّعان) هما البائع والمشتري، وفي الحديث: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)
(المفهومان) مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة: فالأول ما يفهم من الكلام بطريق المطابقة، والثاني ما يفهم من الكلام بطريق الالتزام، وقيل هو أن يثبت في السكوت على خلاف ما يثبت في المنطوق
(الخليطان) هما الشريكان يخلط أحدهما ماله بمال الآخر، وفي الحديث: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
(البهيقان) حنفي وشافعي: فالحنفي إسماعيل بن الحسن، والشافعي أحمد بن الحسين
(يتبع)
محمد شفيق(112/67)
القصص
صور من هوميروس
2 - حروب طروادة
باريس يعود
للأستاذ دريني خشبة
- (ألست تحن إلى وطنك، وتتمنى لو ترى والديك يا باريس؟. . .)
- (وطني ووالدي؟)
- (. . .؟. . .)
- (وهل لي وطن غير هذه المروج الخضر، ووالدان غير أبي الراعي وأمي المتداعية الفانية؟)
- (مسكين!!)
- (بل أسعد الناس بأن أكون ابنهما! ولمهْ؟ أليس أبي سيد هذه الفلوات، وأمي أعز الأمهات؟)
- (ذلك حق لو أن أباك هذا الراعي يا باريس!)
- (ماذا تعنين؟)
- (أعني أنك لست ابنه؟. . .)
- (وَيْ! لو لم تكوني فينوس لقتلتك!)
- (الحق أقول أيها العزيز!)
- (أنت تعذبينني! ابن من إذن؟. . .)
- (أترى إلى جمالك البارع، وجسمك الممشوق السمهري؟ أيكون هذا الخلق من نسل الرعاة الأجلاف؟)
- (. . . . . .؟. . . . . .)
- (أتدور بك الأرض إذا علمت أنك ابن ملك؟. . .)
- (سخرية وهزؤ. . . إلام تلذعين فؤادي يا ربة الحسن والحب؟ ألأنني أعطيتك التفاحة(112/68)
الخالدة؟. . . . . .)
- (الآلهة لا تكذب يا باريس!)
- (أنا؟. . . أبي. . . ملك؟. . . هذا الراعي؟! ملك ماذا؟)
- (ليس هذا الراعي قلت لك!! أنت لست ابنه! أنت سليل الملوك، الصيد!!. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)
- (إذن من عسى أن يكون أبي؟. . . . . .)
- (ملك طرودة!!. . . . . .)
- (ملك طروادة أبي؟. . . بريام؟!. . . . . .)
- (هو. . . هُوَ. . . . . . . . .)
- (ها ها ها. . . . . . ومن جاء بي هنا؟ سرقوني؟. . . أليس كذلك؟. . . . . . . . .)
- (لا تنس يا باريس أنك في حضرة فينوس. . . وأقولها لك كرة أخرى: إن الآلهة لا تكذب. . . أجل أنت ابن بريام ملك طروادة. . . قيل له إنك تجر عليه ألواناً من العذاب فصدق، وأرسل بك من تركك فوق جبل بعيد، لتأكلك الذئاب. . . كل هذا إذ أنت طفل صغير. . . وليد. . . ولقد عثر بك ذلك الراعي الذي أباك ففرح بك وقال لامرأته: عسى أن يكون لنا منه ولد. . . والآن. . . لقد وعدتك زوجة جميلة. . . أجمل امرأة في العالم. . . فاذهب أولاً إلى طروادة، والق أباك فإنه سيعرفك. . . سيعرفك لأن له أبناء خلقهم كخلقك. . . وسيحدثه قلبه. . . وتكلمه روحه أنك ابنه. . . سيفرح بك بريام يا باريس، وسيخفق قلب هكيوبا. . . أمك التي تبكي من أجلك، وتتمناك بنصف ملكها!
فإذا اطمأنوا بك، ولبثت فيهم أياماً، فأبدِ لهم رغبتك في الإبحار إلى بلاد الإغريق في أسطول كبير. . . . . . إن ثمة المرأة التي وعدتك. . . أجمل نساء العالم. . .)
وغابت فينوس!
جلس باريس على صخرة تشرف على البحر المضطرب من جهة، وعلى السفح المعشوشب المصطخب بالحياة من جهة أخرى، ثم أخذ يفكر في كل كلمة انفرجت عنها شفتا فينوس. . .
(تُرى؟! أصحيح ما قالته فينوس؟ أصحيح أن بريام أبي؟ ألا أنادي أبي الراعي بعد اليوم؟(112/69)
وأنت أيتها الشاء والنَّعم: أفراق لا لقاء بعده؟ وا أسفاه! لم لقيت فينوس؟ عزيز علي أن أهجرك إلى الأبد أيتها البطاح! وأنت أيتها السماء الحبيبة؟ بمَ أستبدل قلائدك الدرية في الليل، وشمسك الدافئة، وسحبك الموشاة بالذهب في النهار؟!. . . . . . . . . . . . . . . . . .)
الآلهة لا تكذب!! هكذا كانت تقول فينوس! أنا إذن ابن ملك! وأبي لا بد أن يكون غِرَّا ضيق العطن، وإلا فلم صدق ما ذكرته له الكهنة عني؟ طفل صغير يُنبذ بالعراء لتأكله السباع! يا لقساوة القلوب، وتحجر الأكباد؟! وأمي؟ أين كانت أمي؟ وأين كان قلب الأم في هذه المرأة؟ كيف سهل عليها أن تدعني يُنطلق بي لأنبذ بالعراء، فريسة لا حول لها لكلاب الجبل، وطعمةً شقية لسباع البرية؟!. . . . . . . . . . . .)
لابد أن أذهب! لابد أن أعلم حقيقة أمري! وداعاً أيها البحر! وداعاً أيتها المروج! يا كل شيء هنا. . . وداعاً!)
وانطلق لا يلوي على شيء. . .
وكان أصدقاؤه الرعاة يلقونه في الطريق فينكرون منه كل شيء! ينكرون منه انقباضه وعهدهم به طلق المُحيّا لا يفارق المرح ثغره البسام، وينكرون منه صمته الطويل وهو الثرثار الذي لا يقف لسانه ولا تسكن شفتاه! وينكرون منه هذه النظرات العميقة الحزينة، وهو ذو العينين الضاحكتين والجبين المشرق الطروب. . .
وكان هو ينكرهم جميعاً كذلك! أليس قد عرف أنه ابن ملك؟ وابن أي ملوك العالم؟ ابن ملك طروادة! وهل أقوى وأعظم في ملوك العالم من ملك طروادة؟
وبرغم هذا الإنكار كان الرعاة ما يبرحون يحبون باريس ويعجبون به، وقد أحزنهم أن ينطلق فريداً وحيداً في فلوات تدمدم فيها السباع وتهمهم الوحوش، فذهبوا يقتصون أثره، وكانوا له حرساً شديداً في وحشة هذه البرية المخوفة. . .
ووصل إلى طروادة. . .
وجلس فوق هضبةٍ مرتفعةٍ قليلاً فنظر إلى المدينة الخالدة!
واجتمع حوله أصدقاءه الأمناء الأوفياء يسألونه فيم جاء إلى هذا البلد، ولم هجر قطعانه وأوطانه، وهل في أمره. . . حب. . .؟(112/70)
وطمأنهم باريس، وزوّق لهم الأحلام والأماني، ووعدهم خيراً (لا ترى مثله عين، ولا يخطر على قلب بشر)
ودخلوا المدينة. . .
ويمموا ميدانها الرحب الفسيح، حيث اجتمع خلق كثير يشهدون المهرجان الرياضي، ويمتعون أنظارهم بشتى الألعاب التي يمارسها أبطال طروادة وما جاورها من القرى. ولبث باريس وأصحابه ينظرون إلى المتبارين ساعة، ثم زهاههم الروح الرياضي فقدموا أنفسهم إلى الرئيس المشرف على الألعاب، فأشركهم في كثير من المباريات. . .
ولقد برّز باريس على أقرانه، وبذَّ كل من تبارى معهم في مضمار، حتى لفت إليه أعين النظّارة وأصبح موضع إعجاب الحاضرين. . .
وكانت الأسرة الملكية، الملك وزوجه وأبناؤه وحاشيته، يحدّقون في الفتى مشدوهين مأخوذين، وكانت الملكة خاصةً تحس كأن رباطاً روحانياً يجذبها إلى الناحية التي يجول باريس فيها ويصول؛ بل كانت تشعر كأن الحديد الذائب في عضلات البطل، إنما يتدفق من عضلاتها هي! وأعجب من ذلك جميعاً، ذلك الحنان المتفجر في قلبها، وذاك الحب الحزين السادر الذي يغمرها كلَّها من أجل هذا الغريب المفاجئ المجهول!
ولمحت كاسّنْدرا، ابنة الملك، ما كان ينتاب أمها من عواطف، وكانت فتاةً بارعة الحسن، مليحة الدل، فينانةً ريّانة؛ أعجب بها أبوللو فمنحها حبه، وهام بها حتى لكان يعبدها عبادةً، وهو الإله المعبود!
وكان ما يفتأ يباركها ويخلع عليها من نعمه؛ فمن ذلك أنه وهبها القدرة على كشف الغيب، والتنبؤ بما كان وما يكون؛ فكانت تخبر الناس بماضيهم وحاضرهم وما يكون من مستقبلهم وهم يسمعون ويعجبون. . .
ولكنها تاهت على أبوللو ودلّت، وكانت أبداً تمنحه الجفاء والصدود، وتُعرض عنه وهو المقبل عليها بروحه وقلبه وشعره وموسيقاه!
رجاها أبوللو أن تكون له، وأن ترتضيه لها بعلاً، ووعدها لقاء ذلك أن يبني لها القصور الشماء في قبة السماء، وأن يحملها معه أبداً في رحلاته العلوية فترى كل ما يدب على الأرض، وأغراها بالتوسط لدى كبير الآلهة زيوس الأعظم فيمنحها الخلود وربما رفعها إلى(112/71)
صفوف الآلهة أنفسهم. . . . . . بيد أنها ما كانت لتزداد إلا شماساً وعناداً
ولما ضاق أبوللو بها ذرعاً، صب جام غضبه عليها، وسلَّط عليها سخرية سامعيها، فما تقول شيئاً، ولا تتنّبأ بشيء، ولا تكشف غيباً، إلا استهزأ بها الناس، وعيروها بأنها تكذب وتهرف وتدعي!. . .
فلما شاهدت ما كان من فورة الإحساس التي تجرف قلب أمها من أجل باريس، ذكرت لها أن هذا الشاب إن هو إلا أخوها الذي نبذوه بالعراء فوق الجبل لتأكله السباع، وآيتها على ذلك هذا التشابه بينه وبين أخيها هكتور وبينه وبين أبيها الملك. وحاجها قومها فأحضروا باريس ليطابقوا بينه وبين هكتور. . . ولكن ما كادت المطابقة تتم حتى أخذته هكيوبا في حضنها الحنون المرتجف، صائحة مستعبرة: (ولدي باريس. . ابني باريس. . . ولدي. . . إليّ يا بني. . .!!). أما الملك فقد بكى هو الآخر، ونهض فعانق ابنه عناقاً طويلاً حاراً، غاسلاً جبينه المتلألئ المشرق بدموع الاعتذار عن الماضي البعيد المحزن
ولما أخبرهم باريس أن فينوس، ربة الحب والحسن، هي التي هدته إلى مولده ومنشئه وكريم أرومته، خر الملك وأهله لها ساجدين. . . إلا كاسندرا
لقد عبست عبوسةً قاتمة، وحدجت أخاها الغريب بنظرةٍ كالحةٍ!! ثم صاحت بالملك: (أبي! لتحذر هذا الأخ. . . لتحذر باريس. . . ولتذكر نبوءة الكهنة في معبد أبوللو. . . . . . ابنك يجر الخراب على مملكتك، ويعرض شعبك للدمار، وينشر الموت في بيوت رعاياك!!)
وهنا ينتقم أبوللو، ويسخر من حبيبته الجافية!
لقد تضاحك الملك مستهزئاً، وغمزت الملكة ابنتها ولمزتها بكلام قارص. . . أما هكتور، فقد عبث بأخته ومازحها مزاحاً ثقيلاً. . .
مسكينة كاسندرا!
حتى الحاشية استهزأت بها وأشعرتها المذلة والهوان. . .!
كل ذلك والرعاة. . . أصدقاء باريس. . . ينظرون ويعجبون. . . ولا يفهمون!!
الآلهة لا تكذب!!
أفرخ روْع باريس إذن! وصدق كل ما ذكرته فينوس!(112/72)
هاهو ذا يعيش في قصر منيف باذخ؛ وهاهو ذا، لأول مرة في حياته يخلع هذا الصوف الخشن الغليظ، ليلبس من سندسٍ أبيض وإستبرق! والولدان البيض كالتماثيل يطوفون عليه بأكواب الخمر من فضة، وصحاف الآكال من ذهب! وشعب بأسره يطيع أباه ويطيعه، وجيوش تصدع بأمره، وأساطيل لجابٌ تملأ البحر، إذا شاء أقلعت وإذا شاء أرست؛؛؛ وملك وسلطان، وتاج وصولجان. . .!!
لا تنقصه الآن إلا أجمل فتاة في العالم. . .
تلك الفتاة التي وعدته فينوس! وما دامت الآلهة لا تكذب فأجمل فتاة في العالم هي من غير ريب في بلاد الإغريق. . . لأن فينوس أوصته بوجوب الإبحار إليها. . . وهل أجمل من حسان إسبرطة في بلاد الإغريق؟! إنهم قوم يعبدون الجمال واعتدال القوام
إذن، فليبحر باريس إلى إسبرطة!!
(لها بقية)
دريني خشبة(112/73)
البريد الأدبي
كتاب جديد عن ستالين
قرأنا في مجلة (لوروب نوفيل) وصفاً لمؤلف جديد عن (ستالين) بقلم مسيو بيير فريدريس. والظاهر أن شخصية ستالين (أو الرجل الصلبي) طاغية روسيا السوفيتية أضحت مستقر الاهتمام والدرس؛ فلأسابيع قلائل يصدر عن ستالين كتاب جديد بالفرنسية. وقد سبق أن أشرنا في هذا المكان إلى صدور الكتاب الأول وهو بقلم مسيو هنري باربيس الكاتب الفرنسي الثوري؛ وأما الكتاب الثاني فعنوانه ستالين أيضاً وهو بقلم مسيو بوريس سوفارين الكاتب الشيوعي؛ والكتاب الجديد بالفرنسية أيضاً مع أن مؤلفه مسيو سوفارين روسي الأصل نشأ في مهد الصحافة الروسية، ولكنه نزح إلى فرنسا منذ الثورة البلشفية، وغدا من أقطاب الشيوعيين في فرنسا، وكتابه يقع في مجلد ضخم يناهز الستمائة صفحة، وهو كما يسميه في عنوانه (خلاصة لتاريخ البلشفية) بيد أنها خلاصة ضافية جداً. ويبدأ مسيو سوفارين بالكلام عن ستالين ونشأته الأسيوية في بلاد الكرج في أسرة ريفية فقيرة؛ ثم يتناول تاريخ الحركات الثورية في روسيا منذ أواخر القرن الماضي بإفاضة، وتاريخ الأحزاب الثورية ومبادئها، وكيف تمخضت عن قيام الحزب البلشفي في أوائل هذا القرن؛ ويتطرق من ذلك إلى الحديث عن مقدمات الثورة البلشفية التي انتهت بقيام الحكومة السوفيتية وقبض البلاشفة على أقدار روسيا إلى اليوم ويستعرض خلال ذلك كل ما سنه البلاشفة من القوانين أو النظم الجديدة الاقتصادية والاجتماعية؛ ويعنى عناية خاصة باستيعاب كل ما يتعلق بتلك الشخصية الغامضة - ستالين - وكل ما يمكن أن يلقي الضياء على خواصها الغريبة. ويبدو ستالين خلال هذا الدرس شخصية مدهشة، فبينما نراه في ثوب متواضع جداً رجلاً لا يتمتع بثقافة محترمة، إذا به رجل ذو إرادة حديدية مخيفة، وإذا به طاغية خطر، يتذرع بأقسى الوسائل لتحقيق سياسته وأهوائه، ثم إذا به لا يزال مطبوعاً بالنزعة والصفات الأسيوية القديمة في الشغف بالدس والعمل من وراء ستار. ثم لا ريب مع ذلك أن ستالين من أعظم شخصيات التاريخ الحديث، وهو بذلك جدير بأن يدرس دراسة عميقة واسعة كتلك التي يقدمها إلينا مسيو سوفارين بعد أعوام طويلة من البحث والدرس في جميع المصادر والمحفوظات الروسية والأجنبية(112/74)
وفاة شاعر إنكليزي كبير
توفي أخيراً الشاعر الإنكليزي السير وليم وطسون في نحو السابعة والسبعين من عمره، وكان يعاني آلام المرض منذ أعوام؛ وولد السير وطسون في سنة 1858 في بلدة من أعمال يوركشير، وتلقى تربيته الأولى في ليفربول حيث كان أبوه يشتغل بالتجارة، ثم درس الحقوق في جامعة ابردين؛ وفي سنة 1880 نشر أولى قصائده في كتاب سماه (أمنية الأمير) وظهر فيه تأثره بنفوذ الشاعرين كيتس وتنيسون؛ وبعد بضعة أعوام أخرج كتابه (صور من الفن والحياة والطبيعة)، ولكنه لفت الأنظار لأول مرة حينما نشر في سنة 1890 قصيدته الشهيرة (قبر وردسورث) التي أثارت يومئذ إعجاب النقدة، واعتبرت دليلاً قاطعاً على مقدرته الشعرية؛ وأعقب السير وطسون ذلك بعدة قصائد وأناشيد شعرية؛ وظهر من ذلك الحين بمواهبه الأدبية، واشترك في تحرير كثير من الصحف الأدبية الشهيرة. ولما توفي الشاعر تنيسون رثاه بقصيدة رائعة ضم إليها قصيدة أخرى في الذكرى المئوية للشاعر شيللي (سنة 1893). وفي ذلك العام منحته الحكومة (معاش الأدب) الذي كان مخصصاً لتنيسون وقدره مائتا جنيه. ولما وقعت المذابح الأرمنية في تركيا في أواخر القرن الماضي، نشر السير وطسون عدة قصائد وأناشيد عنها في جريدة (الوستمنستر جازيت) ثم جمعت بعد ذلك في ديوان سمي (عام العار). وفي سنة 1909 نشر ديواناً سماه (القصائد الجديدة) فلقي نجاحاً عظيماً، ثم نشر (الشعر في المنفى)، وأنعم عليه بلقب (السير) سنة 1917؛ واستمر السير وطسون يعد ذلك يخرج مجموعات شعرية متعاقبة
ويحمل شعر السير وطسون طابع المدرسة الروائية وميلها إلى البلاغة، بيد أنه يمتاز بالوضوح الجم والاحتشام الرفيع
ولما مرض السير وطسون منذ أعوام ولم تف موارده بحاجته للعلاج، أبدى مواطنوه له تقديرهم وإعجابهم بفتح اعتماد مالي شعبي يمكنه من إتمام علاجه وارتياد المصحات اللازمة؛ وقد نجح الاكتتاب نجاحاً عظيماً
وفاة السيد محمد رشيد رضا
استأثر الله في يوم الخميس الماضي بالعالم الكاتب والفقيه الحجة السيد محمد رشيد رضا(112/75)
صاحب (المنار)؛ أدركه موت الفجاءة وهو في السيارة عائداً من توديع الأمير سعود في السويس. وليس في العالم الإسلامي مثقف يجهل تلميذ الأستاذ محمد عبده، وحامل لواء الإصلاح الديني من بعده؛ فإن أربعين سنة قضاها الفقيد الكريم في تحرير المنار يفسر كتاب الله على طريقة الإمام، ويبسط أحاديث الرسول على نهج السلف، ويحرر الفتاوى في المسائل الدينية المختلفة، ويقطع ألسنة المبشرين والملحدين بالأدلة النواهض، ويجلو عن الشريعة ظلام الشُبه بالعقل النير، ويزيد في ثروة الأدب الإسلامي بالمصنفات القيمة، حرية أن تحله من قلوب المؤمنين موضع التجلة، وتبوئه من صفحات التاريخ مكان الأئمة
ولد الفقيد في قرية (القلمون) إحدى قرى لبنان القريبة من طرابلس، فتلقى العلم طفلاً ويافعاً في هذه المدينة، ثم هاجر إلى مصر، فدخل الأزهر واتصل بالإمام محمد عبده اتصالاً وثيقاً، فأشار عليه أن يصدر (المنار) فكانت سجلاً لآراء الأستاذ الاجتهادية في حياته، واستمرار لدعوته الإصلاحية بعد مماته. ثم ساهم في النهضة العربية واتصل بجمعياتها السرية في أطوارها المختلفة من سنة 1908 إلى قيام الحرب الكبرى. فلما أُعلنت الهدنة عاد إلى سورية فانتخب رئيساً للمؤتمر السوري الذي نادى بالأمير فيصل ملكاً؛ ثم ظل في خدمة هذه الدولة العربية الجديدة حتى ثل عرشها الفرنسيون سنة 1920، فارتد إلى القاهرة يحرر المنار ويعالج التأليف، فأصدر طائفة من الكتب القيمة أشهرها تكملة تفسير الإمام على هديه ووحيه، ثم الجزء الأول من تاريخ الإمام وكان قد أصدر منه جزءه الثاني فيما قاله، والثالث فيما قيل فيه، ثم كتابه الجليل (الوحي المحمدي) وهو من غير شك معجزة نبوغه وكتاب خلوده. رحمه الله رحمة واسعة وعوض فيه الإسلام والمسلمين خيراً
ذكرى آندرسن معبود الطفولة
احتفل أخيراً في كوبنهاجن عاصمة دانماركه بإحياء ذكرى الكاتب القصصي الكبير هانز كرستيان آندرسن، وذلك لمناسبة مرور ستين عاماً على وفاته. ويحق لدانماركه أن تفتخر أيما فخر بأن ينتسب إليها ذلك الذي يعتبر بحق معبود الطفولة في جميع أنحاء العالم. ذلك أن آندرسن هو أمير القصص الساذج الذي مازال سحر الطفولة المرحة منذ ثلثي قرن. وقد ولد آندرسن سنة 1805 في مدينة أودنسي من أعمال جزيرة فينن؛ وكان أبوه صانع أحذية شديد الفاقة فلم يتمكن من تربيته، ولكن جماعة من أصدقائه لاحظوا مواهب الطفل الخارقة(112/76)
ولا سيما في الموسيقى؛ ولما بلغ هانز أشده أبدى مقدرة في قرض الشعر، وحاول أن ينتظم في سلك المسرح في كوبنهاجن؛ ولكن تربيته الساذجة حالت دون هذه الأمنية؛ وبلغ الملك خبر هذا الفتى العجيب ومواهبه الخارقة، فأمر بأن يلقن بعض ضروب الثقافة؛ وكان لذلك العامل الجديد أحسن الأثر في إبراز مواهبه الشعرية والفنية. وكان بدء شهرته ومجده قصيدته الخالدة (الطفل المحتضر). ثم تلاها بقطعة أدبية ساخرة اسمها (نزهة إلى آماك) وقد صدم آندرسن في بدء حياته الأدبية بمهاجمة النقدة؛ ولكنه لم يعبأ بهم؛ وأمر الملك بأن يسافر آندرسن في بعض الرحلات على نفقته. وكان أعظم ما أخرج آندرسن بعد رحلاته، قصصه الخالدة التي تعرف (بقصص الجن). ومنها (كتاب الصور الذي لا صور فيه) (سوق شاعر) (قصص من جتلندة) (البجعة المتوحشة) (العذراء الثلجية) (الجندي الشجاع) وغيرها؛ وهي جميعاً من القصص البريء الساذج الذي وضع للطفولة، ومن أبدع ما أخرج القلم في هذا الباب من القصص؛ ويمتاز آندرسون بخياله المبدع وأسلوبه الساحر، وخفة روحه التي تخلب لب قرائه الأطفال في جميع أنحاء العالم، وقد ترجمت قصصه إلى جميع اللغات الحية، بحيث أصبح بحق كاتباً عالمياً عظيماً.
قصور بيزنطية
من أنباء استانبول الأخيرة أن المباحث الأثرية التي يجريها العلامة الأثري الايكوسي الأستاذ باكستون للبحث عن مواقع بيزنطية القديمة قد أسفرت عن العثور على بعض آثار تحدد موقع القصر الإمبراطوري القديم أو قصر قياصرة الدولة الشرقية. وقد توفر على درس هذه المسألة عدد كبير من العلماء؛ ودرسوها على ضوء الخطط القديمة لعاصمة القياصرة؛ ولكن مباحثهم كانت نظرية في الغالب؛ وأشهر من قام بهذه الدراسات العالمان الأثريان ممبوري وفياند في رسالتين شهيرتين أثبتت بهما بعض الخرائط والخطط النظرية القديمة لعاصمة القياصرة. وقد استعان الأستاذ باكستر بهذه الدراسات التاريخية على إجراء مباحثه؛ وبدأ بالحفر على مقربة من جامع السلطان أحمد الذي تجتمع فيه عدة من أشهر الآثار البيزنطية مثل كنيسة أياصوفيا الشهيرة، وهي على مقربة منه، ومسرح الهيبدروم (مسرح الخيل)؛ وحصر الأستاذ حفرياته في المنحدر المتجه نحو البحر، فعثر على عمق مترين ونصف متر على ممشى من الرخام وعلى بعض الأساسات القديمة، ووجد بينها آثار(112/77)
أحجار وفسيفساء تدل على أنها من صنع الترك في القرن السادس عشر؛ ولما نظفت هذه الأسس وحفر حول الممشى الرخامي ظهرت فسيفساء أخرى، عرف في الحال أنها من بقايا القصر الإمبراطوري، فتوسع الأستاذ باكستر في الحفر في تلك المنطقة، فعثر على قطع أخرى من الفسيفساء البيزنطية القديمة، ولم يعرف بعد أي جزء من القصر الإمبراطوري هذا الذي أكتشف؛ على أن هذا الممر الرخامي يمتد نحو عشرين متراً، وعرضه نحو عشرة أمتار، وتظلله أعمدة ترتفع نحو خمسة أمتار ونصف متر. والمظنون أن هذا الممر إنما هو أحد أروقة (الهيبدروم)؛ وقد كانت هذه الأورقة في العصور القديمة داخل القصر في الجناح المخصص لشخص الإمبراطور؛ وربما كان هذا الممر الرخامي وهذه الفسيفساء من بقايا كنيسة (ثانيا) وهي الكنيسة الإمبراطورية الخاصة، وربما كان من بقايا الجناح الصيفي الذي بناه الإمبراطور تيوفيلوس. ومهما كانت الآراء الخاصة بهذه الآثار، فإن الرأي مجمع على أنها على أعظم جانب من الأهمية في الكشف عن مواقع القصر الإمبراطوري القديم
نظريات الجنس والدم في ألمانيا
تتخذ نظريات الجنس والدم والسلالة في ألمانيا كل يوم صوراً مدهشة من الغلو والإغراق؛ ومازالت التفرقة بين الجنس الآري والجنس السامي (وبخاصة اليهود) عماد الفكرة الجنسية؛ ولكن تحدث أخيراً بعض غلاة الوطنيين الاشتراكيين (الهلتريين) فقال إن الطب الحديث هو من عوامل فساد الدم، ويجب أن يحذر الجنس الآري والجنس الجرماني بنوع خاص تجارب الطب الحديث لأنه يهودي المنشأ والصبغة؛ وقد تفنن أقطاب الأطباء والباحثين اليهود في اختراع نظريات الميكروبات وغيرها وأفسدوا بذلك نظام الطب الطبيعي الذي يجب أن يكون شعار الجرمانية إلى غير ذلك من الأقوال المغرقة التي تدل على غلوّ لا في التعصب فقط ولكن في تشويه العلم والحقيقة أيضاً. وثمة صيحة غريبة أخرى يلقيها غلاة الهتلريين، فهم يحذرون الألمان من أكل البقول والمنتجات الأجنبية، لأنه لا يصح أن يتكون الدم الألماني النقي إلا بالأغذية والبقول التي تنتجها الأرض الألمانية. وضربت جريدة (الفرانكيشه تسيتونج) مثلاً لذلك بالليمون الذي ارتفعت أسعاره أخيراً في ألمانيا، فقالت يجب على الألمان أن يصرفوا النظر عن الليمون الأجنبي لأنه يفسد دماءهم،(112/78)
وأن يستعيضوا عنه ببقل ألماني آخر يسمى (الرها بارب) وهو بقل حامض يزرع بكثرة في ألمانيا ويمكن استخراج حامضه واستعماله مكان الليمون؛ وهكذا يخلط القوم خلطاً غريباً في نظريات الدم والسلالة والقومية وغيرها من حميات التعصب المغرق التي تجرف ألمانيا الهتلرية
الرقص العاري ليس فناً
هل يعتبر الرقص العاري منافياً للحياء؟ لقد انتشر الرقص العاري أخيراً في فرنسا وأصبحت عدة من ملاهيها الشهيرة تخصص للرقص العاري في برنامجها أهم مكان. والمقصود بالرقص العاري هو العراء المطلق، ويقوم به راقصات حسان يرقصن أمام الجمهور عاريات تماماً، ولم يكن البوليس يتدخل في أمر هذا الرقص لاعتباره داخلاً في باب الفن، ولكن القضاء تدخل أخيراً بناء على شكوى قدمت إليه من أحد النظارة، فقد اصطحب رجل زوجه وابنته إلى أحد الملاهي الشهيرة، وبعد حين غادرت ابنته المكان لسبب ما، ولم يمض على خروجها برهة حتى ظهرت الراقصة الشهيرة جوان وارنر عارية تماماً وأدت رقصتها، وهتف لها الجمهور طويلاً. ولكن السيد المشار إليه ذهب تواً إلى إدارة البوليس وقدم شكواه ضد هذا المنظر المنافي للحياء والذي ينطوي على فسق بين. ورفع الأمر إلى القضاء، فقدمت الراقصة وصاحب الملهى متهمين بارتكاب عمل ينافي الحياء، وأخذت المحكمة بهذا الرأي، وقضت على الراقصة بغرامة قدرها خمسون فرنكاً، وعلى صاحب الملهى بمائة فرنك، وذلك برغم ما دفعت به الممثلة من أن رقصها العاري إنما هو رقص محتشم يدخل في باب الفن، وبرغم ما دفع به صاحب الملهى من أن برنامج الليلة كان مذكوراً فيه هذا المنظر، وقد كان على المشتكي أن يمتنع من الدخول(112/79)
الكتب
كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك
للمقريزي
نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر
للأستاذ محمد بك كرد علي
المقريزي مؤرخ القرن التاسع غير مدافع (845هـ)، استفاضت شهرته بتآليفه في حياته وبعد مماته، وقد طبع له حتى الآن (كتاب التنازع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم) و (الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام) و (البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب) و (الأوزان والمكاييل الشرعية) و (الطرفة الغريبة في أخبار حضرموت العجيبة). وأهم كتبه الذي حفظ به تاريخ عمران مصر كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) الذي يدعى تسهيلاً (الخطط) طبع غير مرة وعنى به علماء المشرقيات عناية خاصة ومنهم من اقتطع منه فصولاً نقلها إلى إحدى اللغات الأفرنجية، ومنهم من درسه في الجامعات وعلق عليه
ومن كتب المقريزي التي بقيت محفوظة في بعض دور الكتب العامة، واكتفى علماء الشرقيات بنقل ما يتعلق بغرضهم منها (كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك) وقد وفق الأستاذ محمد مصطفى زيادة المدرس بقسم التاريخ في كلية الآداب بالجامعة المصرية بإخراج هذا السفر الجليل على طريقة علماء المشرقيات في إحياء تراثنا الأدبي، معارضاً له على عدة نسخ مخطوطة وأهمها نسخة بخط المؤلف. وتجد في كل صفحة أثر العناية البالغة في هذا الجزء الأول - القسم الأول 261 صفحة من القطع الأخير
(كتب المقريزي - كما جاء في تصدير الناشر - كتابه على نظام الحوليات الشائع في مؤلفات المؤرخين الشرقيين في القرون الوسطى فسرد تاريخ كل سنة على حدته، ولم يحاول أن يصل بين سنة وأخرى أبداً، ولم يستوقف القارئ في وسط السنين إلا عند حدوث عهد جديد) وقال المقريزي إنه لما أكمل كتاب (عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط) و (كتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء) وهما يشتملان على ذكر من ملك مصر(112/80)
من الأمراء والخلفاء منذ فتحت وإلى أن زالت الدولة الفاطمية. أحب أن يصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من الملوك الأكراد الأيوبية والسلاطين المماليك التركية والجركسية غير معتن فيه بالتراجم والوفيات لأنه أفرد لها تأليفاً آخر
وفي هذا الكتاب كما في أكثر ما خطته يد المقريزي يسقط الباحث على شذرات في التاريخ وآراء سديدة في نقد الحوادث ما عرف عنه مثله في سائر كتبه المنقحة، فقد قال في دولة بني العباس وهو ما سبق له التصريح بمثله في كتابه النزاع والتخاصم: (وفيها افترقت كلمة الإسلام وسقط اسم العرب من الديوان، وأدخل الأتراك في الديوان، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصار لهم دول عظيمة جداً، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر) وقال في المنصور إنه أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي بن أبي طالب وكان قبل ذلك أمرهم واحداً، وهو أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات، وأول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله وقدمهم على العرب، فاقتدى به من بعده من الخلفاء، حتى سقطت قيادات العرب وزالت رياستها وذهبت مراتبها، وكان قد نظر في العلم فكثرت في أيامه روايات الناس واتسعت علومهم
ومما دونه من حوادث سنة 594 أن معز الدين إسماعيل ابن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن ادعى الألوهية نصف نهار وكتب كتاباً وأرخه من مقر الألوهية ثم رجع عن ذلك، وادعى الخلافة، وزعم أنه من بني أمية ودعا لنفسه في سائر مملكته بالخلافة، وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس ولبس ثياباً خضراً وعمائم خضراً مذهبة، وأكره من كان في مملكته من أهل الذمة على الإسلام. . . وفي حوادث سنة 607 أن الملك الأوحد ابن العادل ظفر بملك الكرج ففدى هذا نفسه منه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير من المسلمين، وأنه يلتزم الصلح ثلاثين سنة وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها. وفي حوادث 609 أنه كان في جهاز ضيفة خاتون ابنة العادل مائة مغنية يلعبن بأنواع الملهى، ومائة جارية يعملن أنواع الصنائع البديعة. وفي حوادث 626 أنه وقعت الحوطة على دار القاضي الأشرف أحمد بن القاضي الفاضل، وحملت خزائن الكتب جميعها إلى قلعة الجبل بمصر، وجملة الكتب ثمانية وستون ألف مجلدة، وحمل من داره خشب خزائن الكتب(112/81)
مفصلة وحملها تسعة وأربعون جملاً، وإن عدة الكتب 11808 كتب، ومن جملة الكتب المأخوذة كتاب الأيك والغصون لأبي العلاء المعري في ستين مجلداً
وقال في الموفق العباسي إنه أول خليفة قُهر وحجر عليه ووكل به. وروى قول ابن مقلة: (إنني أزلت دولة بني العباس وأسلمتها إلى الديلم لأني كاتبت الديلم وقت انفاذي إلى أصبهان وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد فإن اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي وإلا فهي تجتني بعد موتي.) وذكر أنه قلت الجباية في عهد العزيز من الأيوبيين بمصر فاتفقوا في دار السلطان على ما يصرف إلى عياله وما يقتات به أولاده، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء أسعار المأكولات، فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة وضمن باب المزر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا السحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال. . . العزيز هو الذي منع من استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار في عهده، وأعاد المكوس التي كان أبطلها أبوه صلاح الدين وزاد في شناعتها، وتجاهر بالمعاصي والمنكرات، وأباح أرباب الأمر والنهي الخمر والحشيش، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة، واضطربت أحوال الديار المصرية من قلة العدل وكثرة المعاصي والفسوق، وكثر اجتماع النساء والرجال على الخليج لما فتح، وعلى ساحل مصر، وتلوث النيل بمعاص قبيحة (وعدمت الأرزاق من جانب الديوان، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزق الحرمان، واستبيح ما كان محظوراً من فتح أبواب التأويلات وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات) ومع هذا قال المقريزي في هذا الملك لما مات: إنه كان ملكاً كريماً عادلاً رحيماً، حسن الأخلاق، شجاعاً، سريع الانقياد، مفرط السخاء، سمع الحديث من السلفي وابن عوف وابن بري، وحدث، وكانت الرعية تحبه محبة كثيرة، وكان يعطي العشرة آلاف دينار، ويعمل سماطاً عظيماً يجمع الناس لأكله، فإذا جلسوا للأكل كره منهم أكله، ولا يطيب له ذلك، وهذا من غرائب الأخلاق &(112/82)
ووصف في حوادث سنة سبع وتسعين وخمسمائة الغلاء الذي حدث في مصر حتى أكل الناس الميتات وأكل بعضهم بعضاً وتبع ذلك فناءٌ عظيم، وتمادى الحال ثلاث سنين متوالية لا مدُّ النيل فيها إلا مداً يسيراً، وشنع الموت في الأغنياء والفقراء فبلغ من كفنه العادل من الأموات في مدة يسيرة نحواً من مائتي ألف إنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها، وأُكل من الأطفال خلق كثير، وصار الناس يحتال بعضهم على بعض ويؤخذ من قُدر عليه فيؤكل، وإذا غلب القوي ضعيفاً ذبحه وأكله، وفقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إلى المرضى فإذا صار الطبيب إلى دار المريض ذُبح وأُكل. وهذا الوباء والغلاء يشبهان ما وقع من مثلهما في أواخر عهد الفاطميين في مصر والشام
ويطول بنا المقال إذا أردنا الاستكثار من الاقتباس من كتاب الملوك، وقد استفدنا منه أنهم كانوا يطلقون على النبيلات من ربات الحجال (الستر العالي الصاحبة فاطمة)، (الستر العالي الصاحبة غازية خاتون)، (الستر الرفيع فلانة) كما نقول اليوم (صاحبة العصمة)، وكنت قرأت على حائط فناء مدرسة الفردوس بحلب: (هذا ما أمرت بإنشائه ذات الستر الرفيع والجناب المنيع الملكة الرحيمة عصمة الدنيا والدين، ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب. . .)
محمد كرد علي(112/83)
العدد 113 - بتاريخ: 02 - 09 - 1935(/)
مصر والأمم الشرقية
أثارت زيارة سمو الأمير سعود ولي عهد المملكة السعودية لمصر مسألة قديمة لا تزال منذ أعوام موضع الدهشة والتساؤل، هي مسألة العلائق الرسمية بين مصر والمملكة السعودية؛ فمصر لم تعترف حتى اليوم بصفة رسمية بالمملكة السعودية، أعني بحكومة نجد والحجاز، كما أن المملكة السعودية لا تعترف من جانبها بالدولة المصرية؛ ولا توجد دولة أخرى من دول العالم لا تعترف بها مصر سوى روسيا السوفيتية
وقد كشفت الحفاوة الودية الرائعة التي استقبل بها الأمير سعود في مصر، واشتركت فيها الحكومة بصفة غير رسمية، عن مبلغ ما يعتور العلائق بين مصر والمملكة السعودية من شذوذ ونقص؛ وكانت حماسة الأمة المصرية في استقبال ضيفها العظيم أكبر دليل على ما تكنه مصر للأمة العربية الشقيقة من صادق الحب والإخاء، وعلى مبلغ ما تشعر به من بواعث الأسف لهذا الوضع الشاذ الذي ما زال يغشى صفاء العلائق الرسمية بين الدولتين
لماذا لا تبادر مصر بالاعتراف بالحكومة السعودية، وقد اعترفت بها
دول العالم جميعاً؟ هذا ما نتساءل عنه منذ أعوام. إن مصر تستطيع
أن تبرّر عدم اعترافها بروسيا السوفيتية، وهي الدولة الوحيدة الأخرى
التي لا تعترف بها، بما شاءت من الحجج والمعاذير؛ ولكن موقفها من
المملكة السعودية مما يصعب فهمه وتعليله. وإذا لم يكن ثمة موضع
للتحدث عن التبعات في هذا المقام، فانه مما يجدر ذكره أن جلالة ابن
السعود قد أبدى في كل فرصة استعداداً يحمد لتنظيم العلائق بين مملكته
وبين المملكة المصرية. وقد تكون ثمة مسائل وتفاصيل لابد من
تسويتها لإقامة الروابط الرسمية بين الحكومتين على أسس وطيدة
مرضية؛ ولكنا لا نعتقد أن هذه المسائل من الخطورة بحيث يتعذر
تذليلها وحلها
ولسنا في حاجة لأن تنوه في هذا المقام بما يجمع بين الأمتين من الروابط التاريخية(113/1)
القديمة، ولا بما يوثق بينهما من أواصر الدم والدين واللغة ومختلف المصالح المعنوية والمادية؛ وإذا كان مما يدعو إلى الغبطة أن الأمتين رغم هذا الشذوذ القائم في علائقهما الرسمية، تقدر كلتاهما واجبها نحو الأخرى، وتعاملها معاملة الأخت الشقيقة، بل وتبعث إليها بممثل غير رسمي يتمتع فعلاً بجميع المجاملات الممكنة، فإنه لابد من تتويج هذه الحالة الفعلية القائمة بالصبغة الرسمية الصريحة حتى يزول كل ريب والتباس في علائق الدولتين
وثمة ملاحظة أخرى في موقف مصر من الأمم الشرقية الشقيقة هي تصرفها في مسألة تبادل التمثيل السياسي مع أفغانستان؛ فقد أنشأت أفغانستان لها في مصر منذ أعوام مفوضية خاصة وبعثت إليها بوزير مفوض؛ ولبثت أفغانستان تنتظر مدى أعوام أن تعاملها مصر بالمثل، وأن تقوم في كابول مفوضية مصرية يتولى أمرها وزير مصري مفوض؛ ولكن الحكومة المصرية رأت أخيراً أن تكتفي بأن تنشئ في كابول مفوضية اسمية يتولى أمرها (قائم بالأعمال) وأن تسند إلى وزير مصر المفوض في طهران، فاضطرت الحكومة الأفغانية إزاء ذلك أن تلغى مفوضيتها في مصر، وأن تبعث بوزيرها المفوض إلى جهة أخرى، وأن تكتفي كالحكومة المصرية بمفوضية اسمية يتولاها (قائم بالأعمال) وتسند إلى وزير أفغانستان المفوض في تركيا
وهذه نتيجة يؤسف لها؛ خصوصاً إذا ذكرنا أن مصر في الوقت الذي تقدم فيه على هذا التصرف إزاء أفغانستان، وفي الوقت الذي تكتفي فيه بأن يمثلها في العراق (قائم بالأعمال)، تنشئ لها مفوضية جديدة في النمسا يتولاها وزير مفوض خاص
هذه مآخذ في سياسة مصر الخارجية نحو الأمم الشرقية، كنا نود أن تنزه عنها وأن ترتفع فوقها؛ فمصر وحدة بارزة في هذه الكتلة الشرقية التي تضطرم اليوم بروح جديدة، وتحفزها آمال وأماني مشتركة، وتجمع بينهما جميعاً صلات التاريخ والأجيال، وسياسة مصر نحو هذه الأمم الشقيقة يجب أن تقوم على اعتبارات معنوية سامية ترتفع فوق كل الاعتبارات المادية
ويجب أن تذكر مصر دائماً أنها تضطلع بتبعات خاصة نحو العربية والإسلام؛ فهي تحمل رسالة الثقافة العربية، وإليها تتجه أنظار الأمم العربية، تقفوا أثرها وتتعاون معها في إحياء(113/2)
الآداب العربية، ثم هي تحمل زعامة الإسلام الدينية والاجتماعية، وإليها تتجه أنظار الأمم الإسلامية لتتعاون معها في حماية التراث الإسلامي المشترك؛ وفي تضامن مصر مع الأمم العربية والإسلامية في بصوره الممكنة قوة لا يستهان بها؛ وهذا المركز الخاص الذي تتبوأه مصر بين الأمم العربية والإسلامية يحتم عليها أن تكون قدوة في حسن التفاهم مع هذه الأمم الشقيقة التي تلتف حولها وتحبوها بعطفها وتقديرها
فهل لنا أن نؤمل أن تتجه سياسة مصر الخارجية إلى تقدير هذه العوامل والاعتبارات الخطيرة؟ وهل نشهد في القريب العاجل عقد معاهدة الصداقة المصرية الحجازية؟ هذا ما نرجو لخير مصر، وخير العروبة والإسلام(113/3)
في الربيع الأزرق
خواطر مرسلة
للأستاذ مصطفى صادق الرفاعي
ما أجملَ الأرضَ على حاشيةِ الأزرقَيْن البحر والسماء؛ يكادُ الجالسُ يظنُّ نفسَه مرسوماً في صورة إلهية
نظرتُ إلى هذا البحر العظيم بعينَيْ طفلٍ يتخيل أن البحر قد مُلئَ بالأمس، وأن السماءَ كانت إناءً له، فانكفأ الإناء فاندفق البحر؛ وتَسرَّحْتُ مع هذا الخيال الطفليَّ الصغير فكأنما نالني رشاشٌ من الإناء. . . .
إننا لن ندركَ رَوعةَ الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفسُ قريبةً من طفولتها، ومرَح الطفولة، ولعبها، وهَذَيَانها
تبدو لك السماءُ على البحر أعظمَ مما هي، كما لو كنتَ تنظر إليها من سماءٍ أخرى لا من الأرض
إذا أنا سافرتُ فجئتُ إلى البحر، أو نزلتُ بالصحراء، أو حللتُ بالجبل؛ شعرتُ أولَ وهلةٍ من دهشة السرور بما كنت أشعر بمثله لو أن الجبلَ أو الصحراءَ أو البحرَ قد سافرت هي وجاءت إليّ
في جمال النفس يكون كلُّ شيء جميلا إذ تُلقي النفسُ عليه من ألوانها، فتنقلب الدارُ الصغيرةُ قصراً لأنها في سَعِة النفس لا في مساحتها، وتَعرفُ لنور النهار عذوبةً كعذوبة الماء على الظمأ، ويظهر الليل كأنه معرضُ جواهر أقيم للحُور العِين في السماوات، ويبدو الفجرُ بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنةٌ سابحة في الهواء
في جمال النفس ترى الجمالَ ضرورةً من ضرورات الخليقة وَيْ كأن الله أمرَ العالَم ألاَ يَعبسَ للقلب المبتسم
أيامُ الَمصِيف هي الأيامُ التي ينطلق فيها الإنسان الطبيعيُّ المحبوسُ في الانسان؛ فيرتدُّ إلى دهرِه الأول دهر الغابات والبحار والجبال
إن لم تكن أيامُ المصيف بمثل هذا المعنى، لم يكن فيها معنى
ليست اللذة في الراحة ولا الفراغ، ولكنها في التعب والكَدْح والمشقة حين تتحولُ أياماً إلى(113/4)
راحة وفراغ
لا تتمُّ فائدةُ الانتقال من بلد إلى بلد، إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهمُّ فأنت مقيمٌ لم تَبرحْ
الحياةُ في المصيف تثبت للإنسان أنها إنما تكونُ حيث لا يُحْفَلُ بها كثيراً
يشعر المرءُ في المُدُن أنه بين آثار الإنسان وأعماله، فهو هناك في رُوح العَناء والكَدْح والنزاع؛ أما في الطبيعة فيحُسُّ أنه بين الجمال والعجائب الإلهية، فهو هنا في روُح اللذة والسرور والجلال
إذا كنت في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خالياً وفَرِّغْه للنَّبت والشجر، والحجَر والمَدَر، والطير والحيوان، والزهر والعُشْب، والماءِ والسماء، ونورِ النهار وظلام الليل، حينئذ يفتح لك العالَم بابَه ويقول: ادخل
لطْفُ الجمال صورةٌ أخرى من عظَمَة الجمال؛ عرفتُ ذلك حينما أبصرتُ قطرةً من الماء تلمعُ في غصن، فخيِّل إليّ أن لها عظمة البحر لو صَغُر فعُلِّق على ورقة
في لحظة من لحظات الجسد الروحانية، حين يفورُ شِعرُ الجمال في الدم - أطلتُ النظرَ إلى وردة في غصنها زاهيةٍ، عطرة، متأنقة، متأنثة؛ فكدت أقول لها: أنتِ أيتها المرأة، أنت يا فلانة. . .
أليس عجيباً أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنةٌ للروح خاصة؛ فهل يدلّ هذا على شيء إلا أن خيالَ الجنة منذ آدمَ وحوَّاء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية؟
الحياةُ في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف؛ والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلُّور الساطع؛ ذاك يحتوي الماءَ وهذا يحتويه، ويُبدي جمالَه للعين
واأسفاه، هذه هي الحقيقة: إن دقَّةَ الفهم للحياة تُفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب؛ وإن العقل الصغير في فهمه للحب والحياة، هو العقلُ الكاملُ في التذاذه بهما. واأسفاه، هذه هي الحقيقة
في هذه الأيام الطبيعية التي يجعلها المصيفُ أيامَ سرورٍ ونسيان يشعرُ كلُّ إنسان أنه يستطيع أن يقول للدنيا كلمةَ هزلٍ ودُعابة. . .
من لم يرزق الفكرَ العاشقَ لم ير أشياءَ الطبيعة إلا في أسمائها وشِياتها، دون حقائقها(113/5)
ومعانيها؛ كالرجل إذا لم يعشق رأى النساء كلَّهن سواءً؛ فإذا عشق رأى فيهن نساءً غير من عرَف، وأصبحن عنده أدلةً على صفات الجمال الذي في قلبه
تقوم دنيا الرزق بما تحتاجُه الحياة؛ أما دنيا المصيف فقائمةٌ بما تلذُّه الحياة؛ وهذا هو الذي يغير الطبيعة ويجعلُ الجوَّ نفسه جوَّ مائدة ظُرفاء وظريفات. . .
تعمل أيام المصيف بعد انقضائها عملاً كبيراً، هو إدخالُ بعض الشعر في حقائق الحياة
هذه السماءُ فوقنا في كل مكان، غير أن العجيبَ أن أكثر الناس يرحلون إلى المصايف ليروا أشياءَ منها السماء. . .
إذا استقبلتَ العالم بالنفس الواسعة رأيتَ حقائقَ السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغُرُ وتضيق، وأدركتَ أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيَّقُ لا هي
في الساعة التاسعة أذهبُ إلى عملي، وفي العاشرة أعملُ كيت، وفي الحادية عشرةَ أعملُ كيتَ وكيت؛ وهنا في المصيف تفقد التاسعةُ وأخواتها معانيَها الزمنيةَ التي كانت تضعها الأيامُ فيها، وتستبدلُ منها المعانيَ التي تضعها فيها النفسُ الحرة
هذه هي الطريقة التي تُصنع بها السعادةُ أحياناً؛ وهي طريقة لا يقدر عليها أحدٌ في الدنيا كصغار الأطفال
إذا تلاقى الناسُ في مكان على حالة متشابهة من السرور وتوهمه والفكرة فيه؛ وكان هذا المكانُ مُعَداً بطبيعته الجميلة لنسيان الحياة ومكارهها - فتلك هي الرواية وممثلوها ومسرحها أما الموضوعُ فالسخريةُ من إنسان المدنية ومدنية الإنسان
ما أصدَق ما قالوه: إن المرئيَّ في الرائي. مرضتُ مدةً في المصيف، فانقلبت الطبيعةُ العروسُ التي كانت تتزينُ كل يوم إلى طبيعة عجوز تذهب كل يوم إلى الطبيب. . .(113/6)
حول النزاع الإيطالي الحبشي
عصبة الأمم
وما تستطيع أن تفرضه من العقوبات
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تعاني عصبة الأمم أزمة دقيقة من جراء تعرضها للنزاع بين إيطاليا والحبشة؛ ولم يكن في وسع العصبة أن تقف جامدة أو أن تتنحى عن بحث مشكل يقع في صميم اختصاصها بمقتضى (الميثاق) وتثيره دولتان كلتاهما عضو في العصبة، وعصبة الأمم تعرف من البداية أنها تواجه في المشكلة الإيطالية الحبشية أزمة خطيرة، بل تواجه محنة قد يقوض الفشل في درئها صرح العصبة، وكل المبادئ الدولية التي يقوم عليها، وتعرف منذ البداية أيضاً أنها لن تستطيع أن تقوم في معالجة هذه الأزمة بدور فعال، أو بإجراء حاسم، ولكنها أيقنت في نفس الوقت أن قليلاً من الشجاعة في مواجهة الموقف، وأن تطبيق بعض الإجراءات النظرية التي ينص عليها ميثاق العصبة في مثل هذه الأحوال، وأخيراً أن محاولة اكتساب الوقت في بعض المجادلات الفقهية قد ينتهي بإنقاذها من مأزق الحياة والموت
وقد أبدت العصبة هذا القليل من الشجاعة فاستمعت إلى نداء الحبشة في بحث النزاع، وإن لم تبحثه إلا في الحدود الضيقة التي ارتضتها إيطاليا، وسعت إلى تطبيق المادة الثالثة عشرة من الميثاق، واتفق الطرفان على محاولة إجراء نوع من التحكيم، وألفت بالفعل لجنة تحكيم مشتركة تمثل الفريقين المتنازعين؛ ولكن الحوادث تطورت بسرعة، وأكدت إيطاليا وما تزال تؤكد بمنتهى الصراحة أنها لا تبغي بديلا بافتتاح الحبشة والاستيلاء عليها، وأنها سوف تلجأ لتحقيق غايتها بالقوة القاهرة، وأنها لن تني عن مشروعها أمام أي تدخل أو أية قوة في العالم؛ وهكذا تحطمت جميع الآمال التي علقت على تدخل العصبة، وعلى لجنة التحكيم، ولن يحول دون اضطرام الحرب في شرق أفريقية سوى معجزة، أو تطور في الحوادث لا يخطر ببال إنسان، ولن تحدث هذه المعجزة أو هذا التطور الخارق
ونحن نعرف كيف حاولت السياسة البريطانية جهد استطاعتها أن تحول دون اضطرام(113/7)
الحرب في هذه المنطقة التي تجاور عدة من الأملاك البريطانية، ويهدد حلول إيطاليا فيها وادي النيل من منبعه إلى مصبه، ويضع السودان ومصر في مأزق خطر، ويجعلها عرضة لأخطار النزعة الاستعمارية التي تضطرم في إيطاليا، ويهدد من جهة أخرى مواصلات الإمبراطورية البريطانية في البحر الأحمر، وفي عدن وباب المندب بصفة خاصة؛ ولكن السياسة البريطانية لم توافق رغم ما بذلته من الجهود وما عرضته من الحلول إلى إقناع السياسة الإيطالية الجامحة المتوثبة بالعدول عن مطامعها وأحلامها العريضة في إقامة إمبراطورية استعمارية ضخمة في شرق أفريقية
والآن، وقد فشلت كل محاولة للتسوية السلمية، ولم يبق سوى اضطرام هذه الحرب الهمجية التي تصر الفاشستية على إضرامها تحقيقاً لمطامعها ومشاريعها المثيرة في افتراس الشعوب الآمنة، تحاول السياسة البريطانية أن تجد سبيلاً لمقاومتها وتحطيم مشاريعها، لا حباً بالحبشة، أو نصرة لقضية السلام في ذاتها، ولكن توسلا إلى درء الأخطار التي تتهدد سيادتها ومصالحها الإمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط وفي شرق أفريقية إذا استطاعت الفاشستية أن تفوز ببغيتها في افتتاح الحبشة. وقد تستطيع السياسة البريطانية أن تشل حركة الفاشستية ببعض الإجراءات والمساعي التمهيدية، وقد لا تحجم عن أن تخوض معها غمار الحرب إذا لم تجد مناصاً من خوضها
ومن هذه الإجراءات والمساعي التمهيدية التي تفكر إنكلترا في التذرع بها لرد الفاشستية عن عدوانها، محاولة توقيع العقوبات الدولية التي ينص عليها ميثاق الأمم. وقد كثرت الإشارة أخيراً إلى هذه العقوبات ومداها ومبلغ ما ينتظر من تأثيرها إذا طبقت. ولهذا نرى مناسبة لأن نتناولها بشيء من الشرح والتفصيل، فنقول إن المادة (15) من ميثاق العصبة تنص على الإجراءات والقرارات التي يمكن اتخاذها لتسوية المنازعات الدولية التي قد تقع بين أعضاء العصبة عن يد العصبة ذاتها وما يمكن أن يقوم به مجلس العصبة في هذا السبيل. وتنص المادة التالية أي المادة (16) على العقوبات الدولية التي يمكن توقيعها على الدولة التي تخالف تعهداتها وتلتجئ إلى الحرب، وإلى القارئ نص هذه المادة الشهيرة كاملاً:
(إذا التجأ عضو من أعضاء العصبة إلى الحرب خلافاً للتعهدات المنصوص عليها في(113/8)
المادتين 12 و13 أو المادة 15، فانه يعتبر فعلاً قد ارتكب عملاً حربياً ضد كل أعضاء العصبة الآخرين. ويتعهد هؤلاء أن يقطعوا في الحال معه كل علائقهم التجارية والمالية، وأن يحظروا كل علائق بين رعاياهم وبين رعايا الدولة التي خرقت الميثاق، وأن يقطعوا كل المواصلات المالية والتجارية والشخصية بين رعايا هذه الدولة وبين رعايا أية دولة أخرى سواء أكانت عضواً في العصبة أم لا
(وفي هذه الحالة يجب على المجلس (مجلس العصبة) أن يوصي إلى الحكومات المختلفة ذات الشأن بتقديم القوى العسكرية أو البحرية أو الجوية التي يساهم أعضاء العصبة في تقديمها للقوى المسلحة التي تقوم بالعمل على احترام تعهدات العصبة
(ويتعهد أعضاء العصبة أيضاً أن يعاونوا بعضهم بعضاً في تطبيق الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تتخذ طبقاً لهذه المادة والتي يراد بها أن تخفض إلى أدنى حد ما يمكن أن يترتب عليها من الخسائر والمضار. ويتعهدون بالتعاون أيضاً في مقاومة كل إجراء خاص يوجه إلى أحدهم من جانب الدولة التي خالفت الميثاق؛ ويتخذون الإجراءات اللازمة لكي يسهل المرور في أراضيهم لقوات أي عضو من أعضاء العصبة يساهم في العمل المشترك الذي يقصد به العمل على احترام تعهدات العصبة
ويمكن أن بفصل من العصبة كل عضو ينتهك أحد التعهدات المترتبة على هذا الميثاق. ويصدر قرار الفصل بموافقة جميع أعضاء العصبة الآخرين الممثلين في المجلس)
هذا هو مجمل الإجراءات التي سجلها ميثاق العصبة لتوقيع العقوبات الدولية على العضو المعتدي أو المنتهك لميثاق العصبة. وظاهر أن هذه العقوبات ذات صبغة اقتصادية محضة؛ ويمكن وصفها بأنها نوع من الحصار الاقتصادي. ولهذا الحصار الاقتصادي إذا طبق على دولة من الدول أكبر الأئر في الضغط عليها وشل مشاريعها العسكرية، خصوصاً إذا كانت مثل إيطاليا تعتمد على الخارج في كثير من المواد الأولية الأساسية. بيد أن هذه النصوص التي سجلتها عصبة الأمم في ميثاقها لا تزال نظرية محضة، ولم يجر تطبيقها حتى اليوم بصورة فعلية، وإن كان ذكرها قد جرى في بعض الأزمات الدولية، ولا تزال أكبر نقطة ضعف فيها خلوها من أي ضمان فعلي للتنفيذ؛ فليست لعصبة الأمم أية قوة أو أية سلطة فعلية تمكنها من تطبيق مثل هذه العقوبات، وليس في وسع مجلس العصبة إلا أن (يوصي)(113/9)
إلى الحكومات ذات الشأن بتقديم القوى اللازمة، فإذا رفضت هذه الحكومات أن تقدم هذه القوى، فماذا عسى أن يستطيع مجلس العصبة إزاء الدولة (المعتدية)؟ هذا ومن جهة أخرى فان صفة (الاعتداء) لم تعرف حتى اليوم تعريفاً كافياً؛ وربما كان من الميسور أن يعرف (المعتدي) حالاً في مسألة النزاع الإيطالي الحبش، إذ لا ريب في أن (المعتدي) هو إيطاليا؛ ولكن ليس من السهل في كثير من المنازعات الدولية أن يقطع في أمر (المعتدي) قطعاً لا مرية فيه
وقد كان هذا النقص في ضمان التنفيذ وما زال أعظم نقط الضعف في مواثيق السلام والتحكيم الدولية، وهو أعظم نقط الضعف في ميثاق تحريم الحرب (ميثاق كلوج) الذي اغتبط اعقده أنصار السلام أيما اغتباط، ثم لم يلبث أن ظهر عقمه حين الحاجة إلى تطبيقه. وقد كان اعتداء اليابان على منشوريا أعظم صخرة ارتطم بها ميثاق عصبة الأمم وميثاق تحريم الحرب. والآن يبدو عقم هذه المواثيق الدولية مرة أخرى إزاء النزاع الإيطالي الحبشي؛ وحيثما كان الفريق الأقوى يعتبر المواثيق الدولية قصاصات لا قيمة لها، كما هو الشأن في حالة إيطاليا التي ترتبط مع الحبشة ومع فرنسا وإنكلترا بأكثر من معاهدة لاحترام استقلال الحبشة وسلامة أراضيها، فان المناقشات الفقهية في احترام مواثيق السلام لا تجدي ما لم تكن مؤيدة بالقوى الفعلية لتنفيذها
ولكن السياسة الإنكليزية ما زالت تعول على دستور عصبة الأمم في سعيها لرد عدوان السياسة الفاشستية. وهي تشير إلى مسألة العقوبات الاقتصادية التي نصت عليها المادة السادسة عشرة كوسيلة من وسائلها. والواقع أنه ربما كان لهذا السعي أثره المادي إذ أيدته الدول. فقد حدث في سنة 1921، حين غزت يوجوسلافيا الأراضي الألبانية، أن هددت عصبة الأمم بتطبيق العقوبات الاقتصادية، فكان ذلك كافياً لوقف الاعتداء. وقد عجزت العصبة في سنة 1923 أن ترد السنيور موسوليني عن احتلال جزيرة كورفو البونانية تنفيذاً للبلاغ النهائي الذي وجهه إلى اليونان، ولكنها استطاعت بعد ذلك بعامين أن تحول دون اضطرام الحرب بين اليونان وبلغاريا من جراء النزاع بينهما على الحدود. وقد فطنت عصبة الأمم نفسها إلى هذا النقص الذي يعتور نص المادة (16)، وبحثت في أمره، وقررت في شأنه بعض التعديلات التي من شأنها أن تسهل الإجراءات في حالة الأزمات(113/10)
الخطيرة؛ ويقضي هذا التعديل (بأنه يجب على مجلس العصبة أن يقرر ما إذا كانت قد ارتكبت مخالفة للميثاق) ولكن العصبة صرحت أيضاً أن المجلس لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن يدعو الأعضاء إلى تطبيق العقوبات الاقتصادية، وقد يستطيع بعد ذلك أن يطالب الدول بتقديم المعاونة العسكرية التي يمكن استخدامها ضد الدولة المعتدية. بيد أن هذا التعديل لم تصدقه عليه الأغلبية المطلوبة من الأعضاء حتى اليوم
وقد تستطيع السياسة الإنكليزية أن تقنع عصبة الأمم بتوقيع العقوبات الاقتصادية على إيطاليا، وهذا الإقناع ميسور إذا استطاعت أن تجذب السياسة الفرنسية إلى جانبها وأن تقنعها بضرورة العمل معها لدرء الأخطار التي تهددها وتهدد أوربا من جراء الحرب التي تعمل الفاشستية لاضرامها. وعندئذ يمكن أن تؤدي إنكلترا في هذا الحصار الاقتصادي الذي ينص عليه ميثاق العصبة أكبر دور، هذا فضلاً عن الدور الذي تؤديه باقي الدول المؤيدة لإنكلترا ضد إيطاليا، وذلك بقطع المواد الأولية عن إيطاليا ورفض التعامل معها في كل ما يمكن أن يسهل استعداداتها الحربية؛ أما إنكلترا ففي وسعها أولاً أن تلجأ إلى إغلاق قناة السويس بالاستناد إلى نص المادة (20) من ميثاق العصبة، وهي التي تنص على إلغاء جميع المعاهدات السابقة التي لا تتفق مع نصوص الميثاق وغاياته، باعتبار أن معاهدة سنة 1888 التي تضمن حيدة القناة وفتحها في كل وقت من أوقات السلم أو الحرب ولسفن جميع الدول أضحت مناقضة لميثاق العصبة، وهذا ما تنكره إيطاليا على إنكلترا كل الانكار، لأن معاهدة سنة 1888 ما تزال قائمة في نظرها ويجب احترامها طبقاً لنص المادة 282 من معاهدة فرساي (بند 11)، حيث ينص على تعداد المعاهدات التي تبقى نافذة المفعول مع ألمانيا، وميثاق عصبة الأمم ليس إلا فصلا من فصول معاهدة فرساي. وفي وسع إنكلترا أن تلجأ أيضاً إلى إغلاق جبل طارق في وجه السفن الإيطالية، كما أنها تستطيع أن تغلق في وجهها بوغاز باب المندب فتقطع بذلك على إيطاليا كل سبيل للاتصال بالإرترية أو السومال. على أن إيطاليا ترى في هذه التصرفات كلها أعمالاً عدائية وإعلان حرب تقابله بالمثل، ومن المحقق أن إنكلترا ستفكر طويلا قبل أن تقدم على شيء منها
وهناك مسألة تصدير السلاح إلى الحبشة، وهذه أيضاً وسيلة ناجعة في يد إنكلترا؛ وقد ألغي(113/11)
تصدير السلاح إلى الحبشة مؤقتاً في انتظار نتيجة المساعي السلمية، فإذا أصرت إيطاليا على موقفها، وهو الأرجح، فان إنكلترا ستعود إلى تصدير السلاح إلى الحبشة؛ وتزويد الحبشة بالسلاح يطيل أمد الحرب، ويزيد في متاعب إيطاليا إلى حدود قد لا تقوى على مغالبتها
وسنرى على أي حال ما إذا كانت عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى ما إذا كانت الدول التي تسيطر على مجلس العصبة، تستطيع في هذه الدورة القريبة التي ستعقد بعد يوم أو أثنين، أن تذهب في الشجاعة والحزم إلى حد المطالبة بتوقيع العقوبات على إيطاليا(113/12)
بين ثقافتين
يتَّجه الناقد الأدبي بنظره إلى مختلف النوازع الفكرية والمتَّجهات الأدبية في هذا البلد، فلا يلبث أن يرتدّ إليه الطرف حيران؛ فما نستطيع أن ندّعي عن يقين أن لهذا العصر اتجاهاً أدبياً يُنسب إليه ويعرف به ويتسم بطابعه. ولكنها تيارات مختلفة يتنازعها الضعف والوهن، وتتوزَّعها الأهواءُ والشِّيع؛ وبين دُعاة الجديد وأنصار القديم حرب مشبوبة ومعركة هدّامة، لا نراها سيُؤذن لها أن تهدأ فتستقر إلا أن نعرف مدى هذا الجديد، وماهية ذلك القديم
ولن يتأتى لنا أن نعرف ذلك أيضاً، مادامت مناهج الدراسة الأدبية في مصر لا تعرف لها مُتجهاً ومذهباً، وعندنا عديدٌ من معاهد الأدب، يذهب كل منها مذهباً في تخريج طُلابه، ويُمثل في منهاجه الدراسي صورة مصغرة للصراع الأدبي المختلف النزعة والاتجاه بين أدبائنا الكبار!
فعندنا الأزهر، قديمٌ موغلٌ في القدم، لا يرى العلم والأدب والثقافة إلا كما كان يراها القُدامى الأولون من علمائه؛ وهو مذهبٌ في الإعداد الأدبي له قيمته وأثره، ولكن له إلى جانب ذلك عيوبه وخطره - وما نعني الأزهر الجديد الذي يخطو اليوم إلى التجديد خُطاه الأولى، بحنكة شيوخه وهمة شبابه، فانه ما يزال على الطريق، ولا نعرف أين تستقر به الغاية من الهدف الذي يرمي إليه
ولو أنا تركنا الأزهر وولينا النظر شطر الجهة الأخرى، لرأينا منهجاً جديداً في كلية الآداب، بينه وبين منهج الأزهر ما بين طرفيْ خيطٍ طويل يصل أول التاريخ بما بعد التاريخ؛ فهناك القديم الغارق في القدم، كأنما يحاول أن يقف خطْو الزمان، وهنا الجديد الغالي في الجدَّة، كأنما يحاول أن ينسلخ من ماضي التاريخ. وهناك في الأزهر يُدرس القديم ويُعنى بالقديم، بعيداً من روح العصر وسنة التطور؛ وهنا في كلية الآداب يُحاول الجديد من غير أن يستند إلى أساس من العلم القديم، وهو بذلك كذلك، بعيدٌ من روح العصر وسنة التطور؛ ومن ثم ترى في أكثر ما ينتج أدباؤنا لهذا العهد نوعين من الأدب، لو وضعت أولهما في الذروة من بلاغة الوضع وحسن الأداء، لوضعت ثانيهما في المنحدر؛ على أنك لو نظرت إليهما من ناحية الموضوع والفكرة لجعلت أعلاهما أسفل وصعدت بالثاني. . . ولكنك لن تجد في واحد منهما - على الأكثر - ما يبعثك على(113/13)
الإعجاب بالفكرة والأسلوب معاً، ومن هذا لا ترضى عن أحدهما في ناحية إلا أغضبك في الأخرى، ومنه جاءت الدَّعويان اللتان تسمعهما دائماً عند ما يستحرُّ الجدل بين دعاة الجديد وأنصار القديم: (هذا أدب فارغ أكثر عنايته بأسلوب الأداء دون المعنى) أو (هذا أدبٌ ساقط يتحيفُ اللغة ويُهمل الجمال الفني في اللفظ)
وكلتا هاتين الدعويين صادقة من وجه؛ لأن الأدب فكرةٌ وبيان، لا يتم تمامه إلا بهما معاً؛ وأنت قلما تجد بين الكاتبين والشعراء من أدبائنا من بجمع إلى جمالِ الفكرة جمال الأسلوب
ولو قد تركنا الأدب في ناحية وأردنا أن نعرف اتجاه الثقافة في مصر بوجهٍ عام، وأثر ذلك في أخلاق أبنائها وفي المثُل العليا التي ينشدونها - لوجدنا مثل هذا الاضطراب وتلك الفوضى، ففي الأزهر ثقافة دينية، ولكنها جامدة لا تتطور، واقفة لا تتحرك، مغلقة من دونها الأبواب فلا تؤثر تأثيرها إلا في أبناء الأزهر وحدهم، أو في المحيط الضيق الذي يضطربون فيه من قسُراهم
على أن في جمود الأزهر مدى طويلاً، قطعاً بين الأزهريين وبين عصرهم، ومن ثم أخذت الثقافة الدينية تتقلص رويداً رويداً، حتى غدت مقصورة على طائفة قليلة من أبناء الريف، وبدأ تأثير الأخلاق ينحسر تبعاً لذلك حتى نوشك بعد قليل ألا نرى أثراً له في نفوس الكهولة والشباب منا
إلى جانب ذلك أخذت الثقافة المدنية في مدارس التعليم العام تفتن أبناءنا بالمناصب والوظائف والسلطان المرموق، فاتجهوا إليها بعقولهم وأفرغوا لها أنفسهم، حتى ما يكاد أبٌ يفكر في تعليم بنيه وبناته إلا ذهب إلى هذه المدارس المدنية
ومنهاج التعليم في هذه المدارس هو ما نعرف، وهو ما يشكو منه واضعوه والقائمون عليه، ولعل شر عيوبه انه لا يرمي إلى غرض عام من أغراض التربية الصالحة، وأنهُ يُعنى أكثر ما يُعنى بتلقين المعلومات وتحفيظ النظريات، فلا الدين، ولا القومية، ولا الأخلاق، ولا المثُل العُليا؛ ومن ثم كانت القومية مريضة، والدين الزائغ، والأخلاق المنحلة، والأمثلة الدُّنيا
هذان نوعان من التربية وأساليب التعليم في مصر، يكاد الشعب بهما أن يكون طائفتين مختلفتي الخلق والثقافة والتفكير كأنما تعيشان في عصرين مختلفين، وهاتان الطائفتان من(113/14)
متعلمينا وهذان المذهبان في التربية المصرية، هما اللذان يكشفان عن سر الاضطراب في الثقافة المصرية، كما يكشفان عن مقدار الفوضى في اتجاهنا الأدبي
وإننا بسبيل هذا البحث لنُحاول أن نتعرف أي هذين المذهبين ستكون له الغلبة، وأي هاتين الثقافتين أجدر بالبقاء؟
إن تيار العصر يجرفنا في مسراه فما يدع لنا الفرصة أن نتلبث قليلاً لنعرف موقفنا، على أن كلتا التربيتين لا تجديان علينا الجدوى التي تقربنا إلى المثل الأعلى الذي ننشده؛ ولسنا بمستطيعين أن نظل أبداً نحلم بالماضي والحياةُ تتقدم، ولسنا بقادرين على أن ننسلخ من هذا الماضي ونخلع قوميتنا لنعدو في غبار الأوربيين، فلا غنى لنا عن المزاوجة بين هاتين الثقافتين والمزج بينهما، لنخرج من ذلك بمنهج تعليمي صالح، يحفظ علينا قوميتنا، ويصل بين ماضينا والعصر الذي نعيش فيه
على أن فوضى الأدب ودعوى الجديد والقديم، يجب أن ينتهيا إلى غاية؛ فما في اللغة والأدب جديد ولا قديم، وما حسن أن نتنكر لتراث أدباء العربية الماضين بدعوى التجديد، ولا أن ننكر حكم العصر وسنة التطور بالدعوة إلى القديم؛ فما ينهض هذا إلا بذاك، وما يستطيع بانٍ أن يبني على غير أساس، ولابد لمن يتهيأ لحمل رسالة الأدب لينشئ فيه الجديد الذي تُنصت له الدنيا ويفاخرُ به العصر، أن يأخذ لهُ عدته ويتزود بزاده: فيتوفر على دراسة الأدب القديم، ويستمع إلى أئمته، ويروى عيونه، ويستظهر من روائعه، ثم يأخذ بسببٍ من كل علمٍ وفن مما يعرفه عصرُه، فإذا اجتمعت له الأسبابُ واستكمل الأهبة، عاد إلى دنياه التي يعيش فيها، وإلى عصر الذي يتصل به، وإلى الأحداث التي تنفعل بها نفسهُ، وإلى عواطفه التي انطبعت فيها صورة دنياه؛ ثم ليُنشئ ما ينشئ، فسيأتي بالجديد في الديباجة الصافية، وبالمعنى البكر في العبارة المستقيمة، وبالشعر الرائق في اللفظ الجزل، وبالفكر العميق في البيان الساحر
ولكن أين نجد هذا مما يدرس هنا وهناك، وما نجد هنا وهناك إلا فكراً بلا بيان، أو بياناً بلا فكر؟ وما نرى هناك وهنا إلا رطانة مستعربة، أو عربية فارغة، نسميها الجديد والقديم!
على أن في مصر مدرسة نحمد أثرها، ونذكر يدها على الأدب والثقافة العربية، هي مدرسة دار العلوم، فهي الصلة بين الثقافتين، والملتقى بين الغريبين؛ جمع منهجها بين(113/15)
الثقافة العربية والإسلامية التي تدرس في الأزهر، والثقافة المدنية التي تدرس في المدارس العامة؛ فإلى جانب دراسة الدين، ونصوص اللغة، وتراث السلف من أدباء هذه الأمة وعلمائها - يدرس التاريخ، والفلسفة، وأشتات من الرياضة والعلوم والفنون والآداب؛ فمن أجل ذلك كان لدار العلوم هذا الأثر القوي في النهضة الأدبية الحاضرة، وكان لأبنائها السبق في كثير من ميادين الإنتاج؛ وأنت ترى فيما يبدعه الكتاب والشعراء من أبناء دار العلوم، طابعا خاصا قلما تراه فيما ينتجه غيرهم من الكتاب والشعراء؛ ذلك لأنهم درسوا القديم دراسة روية وفهم، وعاشوا في عصرهم كما يعيش أهله؛ فلم ينسلخوا عن ماضي أمتهم، ولم يتخلفوا عن عصرهم، فكانوا بذلك صلة التاريخ بين ماضيه وحاضره
تلك شهادة الحق لهذه الدار التي أنشأها إسماعيل منذ ستين عاماً ونيف، فنهضت بتبعاتها على أكمل وجه، وأدت أمانة العلم أحسن أداء، نذكرها لها منصفين في الوقت الذي تحاول فيه أحداث الزمان أن تنال منها وتنكر جدواها
على أن فضل هذه الدراسة ليس مقصوراً على أثرها في اللغة والدين؛ فلعلها المدرسة الوحِدة التي تخرج المدرس القومي، والمدرسُ في بلدنا - كمناهج التعليم في مدارسنا - لا يراد منه أن يمثل الروح القومي أكثر مما يراد منه أن يكون مدرس مادة بعينها، ولكن خريج دار العلوم بحكم ثقافته وتربيته، هو وحده يمثل الروح القومي أصدق تمثيل، بعربيته، ودينه، وخلقه، ومكانه من زمانه؛ فليت وزارة المعارف عرفت له ذلك فلا تدعه في هذه الدائرة الضيقة من برنامج عمله المحدود، فان مصر في حاجة إلى هذا الروح القوي ليبعث في التلاميذ من أبنائها معنى القومية وينشئهم التنشئة القويمة التي تؤهلهم لحمل تبعات الجهاد في المستقبل القريب
ونحن مستيقنون أن دار العلوم يوم ينفسح لها الميدان لتؤدي رسالتها ويمكن لها لتنهض بما استعدت له، ويزاد في مناهجها ما يؤهلها لأن تنظر في كل جديد فتتبع أحسنه - نكون قد عرفنا الاتجاه الأدبي الذي نسير إليه، ورسمنا لنا في الثقافة منهاجاً صالحا، لا يمكن للأجانب أن يغزونا في آدابناً وعقولنا، بعد أن نالوا منالهم من أرضنا وأموالنا.(113/16)
من تراثنا العلمي
كتاب في البَيْزَرَة
وصف وتحليل لنسخة فريدة من كتاب مفقود، في علم ضائع،
لمؤلف مجهول
للأستاذ علي الطنطاوي
البَيْزَرَة (أو البَزْدَرَة): علم يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها، وإزالة مرضها، ومعرفة العلامات الدالة على قوتها في الصيد، وضعفها فيه - قاله في كشف الظنون
والكلمة معرّبة، وهي من قولهم (بَيْزار) معّرب (بازْدّار) و (بازْيار)، أي حافظ البازي وصاحبه، والجمع (بيازرة) كما في التاج واللسان، قال الكُميْت:
كأن سوابقها في الغبار ... صقور تعارض بيزارها
وجاءت بالدال في قول أبي فراس:
ثمّ تقدمت إلى الفهّاد ... والبازداريين باستعداد
قال الشيخ داود الأنطاكي: وغايته اقتناص ما يشق اصطياده واللهو والرياضة، وشرح الصدور، وتسكين نحو الجذام والنقرس والمفاصل لتوالى الفرح، وسكون الغضب الخ
وقد سموه علم البزدرة (أو البيزرة)، إضافة له أشرف أنواعه وأخفها، وهي البزاة
ولخصه في (التذكرة) في مقدمة وثلاثة مباحث:
فالمقدمة في كيفية اهتداء الناس إلى اتخاذ الطيور، وأول متخذ لها، وما هو المعتبر منها
والمبحث الأول في كيفية الاستدلال على الجيّد منها باللون والصفة، وفي ذكر طرق التعليم
والمبحث الثاني في أوقات الإرسال وكيفية الصيد، واختلاف حال الطيور
والمبحث الثالث في علامات الصحة والمرض وطب الجوارح
وقد كان هذا العلم مزدهراً معروفاً أيام عز العرب وازدهار مدنيتهم، ثم ضاع فيما ضاع من تراث الأجداد، وفقدت كتبه كلها، ونسيه الناس، فلم يكد يذكره أحد ممن ألفّ في تاريخ الثقافة الاسلامية، ولم بيقى بين أيدينا من المراجع في هذا العلم إلا هذا الفصل الذي كتبه(113/17)
الشيخ داود الانطاكي في كتابه تذكرة أولي الألباب وكلمة في كشف الظنون للحاج خليفة لا تعدو الأسطر الثلاثة، نقلا عن جامع السعادة لكاشكري زاده، وكلمة في مُعْلم (دائرة معارف) البستاني تحت عنوان: بزدرة
على أن للمتقدمين كتباً كثيرة في هذا العلم عدّ منها أبن النديم في الفهرست: كتاب الجوارح لمحمد بن عبد الله بن عمر البازيار، وكتاب البزاة للفرس، وكتاب البزاة للروم، وكتاب البزاة للترك، وكتاب البزاة للعرب، وكتاب البزاة واللعب بها لأبي دلف العجلي وسماه أبن خلكان كتاب البزاة والصيد
ومن الكتب المؤلفة في هذا العلم كتاب (القانون الواضح) ذكره في كشف الظنون نقلا عن جامع السعادة لكاشكري زاده ووصفه بأنه كاف في هذا العلم ولم يسم مؤلفه
وذكر الشاعر الكبير الأستاذ الشيخ رضا الشبيبي (وزير المعارف العراقية اليوم) في مجلة المقتبس أن في الخزانة التيمورية كتاباً اسمه (القانون في البيزرة) ولعله هو
وذكر أن من كتب هذا العلم كتاب (أنس الملا بوحش الفلا) تأليف محمد بزمنكلي نقيب الجيش المصري في أواخر القرن الثامن، وهو في خزانة باريز تحت الرقم 2834، والقواعد المحبرة في البيطرة والبزْدَرَة للأنطاكي
وهناك آثار تعم الصيد بالكلاب والنبل والنشاب وهي كثيرة منها: كتاب المصائد والمطارد لكشاجم ذكره أبن خلكان في الوفيات، وانتهاز الفرص في الصيد والقنص للشيخ تقي الدين الناثري ألفه بزبيد سنة 910، ذكره الحاج خليفة في كشف الظنون وغيرها
وقد تكلم في طباع الجوارح وأحوالها كثيرون منهم: الدّميري في حياة الحيوان. والقزويني في عجائب المخلوقات وغيرهما
وفي الأدب العربي أدب للصيد قائم برأسه، يعرف بالطرديات نبغ فيه جماعة منهم: أبو نواس، وأبو فراس، وكشاجم، والحلي وغيرهم
وفي سنة 1332هـ وجد الأستاذ الشيخ رضا الشبيبي بين (نفيسات آثار شعثها الإهمال، وطمسها الابتذال، منبوذة في ناحية غامضة، نبذك سقط المتاع، ملقاة نالت منها الأرضة والحشرات، أضعاف ما اقتبسه منها العقول النيرات. قد علاها من الزبل وسلح الطيور ونحوها ما غير محاسنها، وأخلق كريم ديباجتها) وجد بين هذه الآثار كتاباً في البيزرة،(113/18)
وأول شيء في هذا الكتاب إغفال تسمية مؤلفه فيه، وأنه خالٍ من البسملة والحمدلة، عار من تقديم مقدمة قبل الشروع في المقصود، وعلة ذلك انقطاع دابر هذا الفن وأهله حتى لم تتألف من مشاهيرهم إلا طبقة محدودة. . . وليس هذا الكتاب مما ألف للإسكندر الرومي ثم نقل إلى العربية كما يظهر مما جاء على ظهره وهذا نصه: (كتاب البيزرة صنفه الحكماء المتقدمين (كذا) للملك الاسكندر الرومي؛ وهو كتاب عجيب مما يصلح بالملوك إذ لابد لكل ملك من مسير إلى صيد بأحد هذه الطيور الجوارح)، والذي أوقع الوراقين في هذا الوهم ما ورد في نحر الكتاب من أن ثقات الروم من أهل المعرفة؛ ذكروا أن الاسكندر الرومي قال للحكماء المحتفين بخدمته: (أريد أن تعرفوني بطبيعة البازي وأمراضه وعلامة كل مرض ودائه وهل طبيعته تقارب طبيعة الآدمي أم لا؟) وأنت تعلم قصور هذه العبارة عما يدعون، كيف وفي الكتاب نقل كثير عن حكماء العرب والمستعربين، ومنهم من صحب الرشيد!! فالكتاب إذن من طرائف عصر عربي راقٍ كما يظهر أيضاً من أسلوب إنشائه السهل الممتنع البليغ. ولا يبعد أن يكون مؤلفه من رجال أواخر القرن الثالث أو الرابع للهجرة. يدلنا على ذلك أن المسعودي المتوفى سنة 346 أورد في مروج الذهب عن الجوارح فصلين ترجح - بقول الأستاذ - أنهما منقولان عن هذا الكتاب باختلاف يسير
وروى لنا خبير أن في خزانة باريز كتاباً رقمه 2831 بدون اسم إلا أنه كتب على ظهره بخط غير خطه: (كتاب الجوارح والبزدرة تصنيف الفيلسوف (أبو) بكر بن يوسف بن أبي بكر أبن حسن بن محمد القاسمي القرشي العلوي الأشعري) تاريخ كتابته سنة 848هـ
فاسم هذا الكتاب طبق المحز وأصاب المفصل من الكتاب المماثل أمامي الآن، لكن لا تزال حقيقة مؤلفه مبهمة مجهولة. هذا وكتابنا جزآن أو مقالتان، في المقالة الأولى 52 باباً في تاريخ الصيد بالجوارح وتقسيمها إلى أقسامها وكيفية ترتيبها وسياستها ثم إرسالها إلى غايتها
وفي المقالة الثانية 63 باباً في أدواء الجوارح وعللها وما يتخذ لعلاجها من المركبات فجملة الأبواب 115 باباً في حجم 145 قائمة أو 290 صحيفة صغيرة مخطوطة خطاً واضحاً متأخراً، أغاليطه يخطئها العد، وفي آخره: (وقع الفراغ من كتابة هذه البيزرة نهار السبت 12 جمادى الأخرى سنة 1201 من الهجرة على يد ملامط ابن عبد الله الطرفي) اهـ.(113/19)
كلام الأستاذ الشبيبي
أما الكتاب الذي أصفه اليوم فقد وقع عليه صديقنا الوراق العالم الشيخ حمدي السفرجلاني في خزانة قديمة في دمشق فعرف قدره فاشتراه. ثم كانت له قصة انتهت بأن بيع الكتاب إلى أحد المولعين بالكتب القديمة من الإفرنج وبقيت منه النسخة الفوتوغرافية التي أصفها عند الأستاذ السفرجلاني
وكتابنا - وإن لم يعرف مؤلفه - من أقدم الكتب المصنفة في هذا العلم وأجلها. فقد وضع للعزيز بالله أبي منصور نزار بن المعز معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدي العبيدي الفاطمي صاحب مصر والشام المتوفى في الحمام يوم الثلاثاء 28 رمضان سنة 386هـ
وكانُ مغرى بالصيد، يصيد بالحبل والجارح من الطير ويصيد بالسباع. وكان مؤلف الكتاب كما يتحدث عن نفسه من بيازرة العزيز والمقربين إليه، وكان غالباً في التشيع لا يذكر العزيز مرة إلا صلى عليه وسلم! ومن قوله وهو يتحدث عن بازٍ: (ولم أر في المدة التي لزمت فيها الصيد ومبلغها عشرون سنة إلى أن صنفت كتابي هذا في علم البيزرة مثل هذا البازي على كثرة ما رأيت منها. ولقد وصل إلينا في ليلة واحدة مائة باز من الشرق والغرب. فكم تراه يصل في كل سنة محمولاً إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه، مما لم يحمل إلى ملك قبله كثيرة وجوده، وكل ذلك أتولى تدبيره، وأمارس تضريته، والاصطياد به الخ)
وقال في آخر الكتاب:
(وقد كان مؤلف هذا الكتاب في جملة البيازرة متقدماً عليهم - لا في جملة واحد منهم لا يحسن شيئاً من البيزرة، ثم أفرده أمير المؤمنين صلى الله عليه عنهم، وله من العمر إحدى عشرة سنة، وعلمه وهو لا يملك عشرة دراهم وعليه ثواب - ثم خرج في صناعته إلى ما قد شاهده الناس وعرفوه، ورقى أمير المؤمنين صلى الله عليه منزلته إلى أن صار اقطاعه عشرين ألف دينار، وبلغ المنزلة التي لو رآها في النوم لما صدقها، فلا يخْف عن الناس ما كان فيه، وما صار إليه)
والكتاب كله من النمط العالي في إنشائه وأسلوبه، وهو مشحون بالفوائد والأخبار الأدبية،(113/20)
والأشعار المستملحة، والقصص اللطيفة، ويقع في 300 صفحة مكتوبة بخط قريب من النسخى، قليلة أخطاؤه، مشكول شكلاً لا يعتمد عليه دائماً، فيه إشارات خاصة كانت توضع على الحروف المهملة ثم أهملت، ومقدار المكتوب من الصفحة (18 - 10) سنتيمترا، وفيه 13 سطراً وفي آخره: (وقد وصينا بما فيه الصلاح لمن انتهى إليه وعمل به، وبالله نستعين وعليه نتوكل
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين، كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على نبيه محمد خاتم النبيين، وعلى الأئمة من عترته الطاهرين الأخيار وسلم تسليماً)
وبعد ذلك ست صفحات يختلف خطها قليلاً عن خط الكتاب فيها:
باب النفقة على البيازرة وما يصل من أموال أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين إليهم في كل سنة
وباب في أحكام الصيد الشرعية وما يحل من ذلك وما يحرم في خمس صفحات في الثلاث الأخيرة منها خرم يصعب معه قراءتها وقد صرح بأن هذه الأحكام على المذهب الشيعي وعرض بالمذاهب الأخرى
وليس في أول الكتاب أو آخره ما يدل على تاريخ كتابته ولكني عثرت في وسطه على جملة مكتوبة تحت (باب ذكر ما يحتاج إليه البازي في القرنصة) بخط الناسخ هذا نصها:
(وكتب هذا الكتاب تاريخ سنة خمسمائة في شهر شوال) وإذن فيكون عمر النسخة التي نصفها أكثر من ثمانية قرون
هذا وسنعرض على القراء خلاصة أبواب الكتاب، ونماذج منه صالحة في مقالة أخرى، فقد طال بنا نفس الكلام، والله المستعان
علي الطنطاوي(113/21)
في الكتب
ما كنت أتمنى أن أقرأ
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
ليس أكثر من الكتب في الدنيا، ولعلها الشيء الوحيد الذي يزيد ولا ينقص، ولو أن ما كتبه الناس من أقدم العصور التي بقى لنا منها أثر - ودع ما نقل بعضهم عم بعض - جمع في مكان واحد، لملأ المدينة واسعة كالقاهرة ومعها ضواحيها التي تزحف بها على الريف من ناحية، وعلى الصحراء من نواح، وليس أشد شرها ممن يستقل ذلك، أو لا يرى فيه غناء، وهنا موضع التحرز أو التنبيه إلى وهم قد يسبق إلى بعض الأذهان، فما أعني أن في الموجود من الكتب ما يغني عن الاستزادة أو يصدّ عن التطلع؛ أو ما يكتفي به العقل الإنساني عن المضي في البحث والتقصي، وإنما أعني أنه حسب من شاء أن يقرأ، فما يتسع عمرٌ - مهما طال - للإلمام ببعض هذا الموجود من ثمار العقول، ولو أن أعمار الذين لا خير فيهم أضيفت إلى عمر الواحد منا (!!) وزيدت عليه، لما كانت كافية لتحصيل ذلك كله، ولكني، مع ذلك، أراني أحياناً - وأنا جالس بين ما بقى لي من كتبي - أتحسر وأتمنى: أتحسر لأن مطبوعاً من هؤلاء المؤلفين، على الشعر، أبى إلا أن يكون جاهلا نفسه، وتوهم أنه ناقد أو فيلسوف أو غير ذلك، وذهب يكتب. أو أن كاتباً فذاً غالط نفسه فراح يقرض الشعر، ويجئ بالغث ويحسب أنه صنع شيئاً، وأتمنى لو أن بعضهم نظم قصيدة في معنى يخطر لي، وأراه كان أقدر على صوغه، أو وضع كتاباً في بحث معين، أو كتب قصة مثلا، أو أردف ما كتب بشرح ما يعني، كأنما كل هذه الكتب لا تكتف ولا تقنع!
وأتساءل أحياناً - لو أن أبا العلاء لم ينظم أكثر سقط الزند وبعض اللزوميات، وزادنا من مثل رسالة الغفران، أكان هو ينقص شيئاً أم كان يزيد؟؟ وهل كنا نحن القراء نخسر أم نكسب؟؟ كنا نربح فيما أعتقد، ولم يكن يضيع علينا شيء من نظمه لا نهمله الآن، ولكن أبا العلاء غلط وآثر التكلف، ليرضي غروره، وليتعزى أيضاً بإظهار اقتداره. وإنه لفحل عظيم، وما يطيب لي أن يظن أحد أني أغمطه أو أنزله دون منزلته، وإني لأعلى به عيناً من أن يخطر لي أن في وسعي أن أظلمه، ولكني كنت أود لو زادنا من مثل الرسالة، وفي(113/22)
يقيني أنه لو كان فعل، لبلغ الذروة واستولى على الأمد
ويؤسفني أحياناً أن الجاحظ لم يكتب قصة. أما لو كان فعل!؟ أين بين كتاب العرب، من كان أقدر على ذلك منه، وأولى بأن يكون أبرع فيه، وأسحر وأفتن؟؟ من له مثل قدرته على الكتابة ووفاء التعبير بلغته؟ من له مثل فطنته ونفاذ نظره، وفكاهته، وحسن تأتيه، ولطف مداخله، وحذقه في التناول والعرض، ودقة في فهم الناس واستبطانهم، والإحاطة بجوانبهم المتخلفة، والتفطن إلى نواحي الجد والهزل فيهم، وإلى مبلغ اختلاط هذا بذاك، وإرباء ذاك على هذا؟؟
أوليت الجاحظ كان مصوراً!؟ أترى كان يستطيع - لو ساعفته الأحوال وتاحت لذلك فرصة - أن يحول مواهبه إلى هذه الجهة؟؟ أكان يسعه أن يسخر قدرته اللفظية على البيان إلى قدرة من نوع آخر، على الأداء، فيثبت ما يريد على اللوح ويدعه، وهو ساكن لا حركة فيه ولا تتابع للحظاته ومناظره، ينطق بما حمله من المعاني؟ ومن يدري؟ إن مطلب الكاتب غير مطلب المصور، وأداة هذا غير أداة ذاك، وأقل ما بينهما من الفروق ووجوه الاختلاف أن الكاتب يقوم أسلوبه على الحركة والتعاقب، وأن المصور لا يسعه إلا أن يثبت لحظة ويعرضها ساكنة، والسكون لا ينفي التعبير والنطق، وقد يكون أنطق وأبلغ في نطقه من الكلام. فهل كان بيان الجاحظ - وهو فيض لا تصده السدود - يستطيع أن يحتمل الحصر والتجمد والتجمع، والنطق بقوة الإبراز لا بفضل الانسياب أو التدفق؟ أعود فأقول، لا أدري؟
وتمنيت، وأنا أدير عيني في كتبي على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا - أو لي أنا على الأقل - ماذا يريدون أن يقولوا. عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم - وأظنه (هجل) فما أذكر الآن بعد هذا الزمن كله - كتاباً في (فلسفة التاريخ) فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما إني أنا حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكني أفهم عن غيره فلماذا أراني لا أفهم عنه؟؟ وكيف يعقل أن أعجز عن فهم ما أخرجه عقل إنسان مثلي؟ وكان في هذا الكتاب فصل عن المدنية الإسلامية أو عن تاريخ العرب - فقد نسيت - خيل إلى أني فهمت أقله، ودارت الأيام، ووقع في يدي كتاب لرجل أمريكي اسمه (دريبر) عن المدنية ونشوئها، يكتب كما يكتب(113/23)
خلق الله - لا الألمان - فإذا فيه فصل طويل عن العرب يعد تطبيقاً لنظرية هجل التي لم أفهمها، فسألت نفسي: لماذا لم يكتب هجل كما يكتب هذا الرجل؟؟ ثم عدت أسألها وأتعجب: لماذا فهم (ديبر) عن (هجل) ولم أفهم أنا عنه؟ وأسأت الظن بنفسي واعتقدت أن بي نقصاً في التدريب العقلي، وراجعت (هجل) وكررت إلى هؤلاء الألمان المعوصين كرة المصمم المستميت، ولكن مضغ الجلاميد أعياني، فنفضت يدي منهم - ومن نفسي - يائساً، وقلت: يا هذا، لقد صدق القائل: كل ميسر لما خلق له، وأنت لم تخلق لتقرأ فلاسفة الألمان، فارجع عنهم، وانج بنفسك منهم
ولست أعرف أن للمتنبي نثراً، وإن شعره لحسبه، فما يحتاج بعد أن قال هذا الشعر أن يصنع شيئاً آخر، أو يجشم نفسه جهداً في باب غيره، ولكني مع هذا أحس بحسرة لأنه لم يشأ أن يترك لنا كتاباً عن مقامه في مصر ورحلته إلى (الأستاذ) كافور! ألا يشعر القارئ معي أن كنوز الأدب العربي ينقصها هذا الكتاب من قلم المتنبي في (كافور)؟ يا لها من تحفة نادرة، ضن بها علينا المتنبي؟؟ أتراه لم يخطر له هذا قط؟ فماذا كان يصنع يا ترى حين لا يعالج النظم؟؟ لقد كان مقلا، وليس ديوانه الذي خلفه بالذي يستنفذ عمر مثله أو جهده، فلماذا يا ترى لم يشغل فراغه الطويل بالكتابة؟ أكان الكلام الجيد لا يؤاتيه إلا منظوماً، لأن عواطفه لا تتدفق إلا على لحن؟ وخواطره لا تنتظم أو تتسق إلا على النغم؟ ربما
وينقص الأدب العربي - في رأيي - اعترافات رواته، فقد ملأوا عالمه بالدخيل والمنحول والمخترع؛ وتركوا لنا نخل ذلك كله وغربلته، فليت واحداً منهم كانت له جرأة (روسو) إذن لارتفعت عن الباحثين تكاليف ثقيلة، ولاستغنوا عن هذه الغرابيل التي لا نراها تغربل شيئاً، ولأمكن أن تنفق الأعمار التي تضيع في هذا البحث، فيما هو أجدى. لو أن الرواة كتبوا اعترافات لخلفوا لنا قصصاً من أمتع ما في الآداب، غربيها وشرقيها، ولكشفوا لنا عن خصائص، نفسية وعقلية، ينفع الناس العلم بها، ولتسنى أن نعلل هذه الفوضى التي أغرق فيها الرواة أدبنا، ولاسيما القديم منه. ومن الذي لا يشتاق أن يعرف لماذا كان الواحد منهم ينظم الأبيات ثم يحشرها في قصيدة لشاعر قديم، أو يخترع القصة أو النادرة ويعزوها إلى هذا أو ذاك من الأولين، ويصر على أن الأمر حق وأنه صادق، ويزعم أنه أخذ ذلك(113/24)
عن فلان وعلان، أو تلقفه من أفواه البدو الضاربين في الصحراء؛ والغريب من أمرهم أنهم ينزلون عن مزية كبيرة في سبيل مزية أصغر منها، ذلك أن اختراعاتهم وتصنيفاتهم تدل على خصب في القريحة، وعلى قوة الخيال ونشاطه، بل على وجود ملكات كافية لأن يكون الواحد منهم شاعراً مجيداً أو قصاصاً بارعاً؛ ولكنهم يزهدون في ذلك، ويظلمون أنفسهم، ويقنعون بأن يكونوا رواة فحسب؛ أي حفاظاً ليس إلا؛ أي خزانة مفتاحها في لسانهم؛ وأغرب من ذلك أنهم لو قنعوا بما حفظوا، وتوخوا الأمانة في الحفظ والرواية، لعدوا علماء، ولكانوا محل الثقة والاطمئنان؛ ولكنهم يأبون لأنفسهم منازل الكرامة، ويروحون يزورون ويفترون ويلفقون، ويظهرون في ذلك من الحذق والبراعة ما لو أظهروا بعضه في غيره لرفعهم مقاماً عالياً. فلابد أن يكون هناك عوج في طباعهم والتواء في عقولهم يزينان لهم الطريق الذي سلكوا، ويعدلان بهم عن المنهج الأقوم، ويغريانهم بإهمال مواهبهم، أو سوء استخدامها
وعلى ذكر الاعترافات أقول إني لا أحب أن أقرأ اعترافات لذلك النواسي الفاجر، وليس هو بأفجر من سواه من أصحابه في زمانه، ولكنه أظهرهم لأنه أعلاهم لساناً وأقواهم بياناً، ومثل سيرته لا يزيد الناس فهماً للحياة وحسن إدراك لها، وما في الأمر إلا أنه كان أجرأ فلم يكتب نقائصه، كما يفعل غيره، ولم يحاول أن يستتر لما ابتلى، ولولا أنه شاعر لما شغل بقصصه أحد، والشهرة هي التي جنت عليه فأبرزت جانب السواء والاستهتاك من حياته، ولولا ذلك لكان شأنه كشأن سواه من أمثاله الذين لا يخلو منهم عصر أو شعب. فلو أنه كتب اعترافات لما كانت لها مزية يفيدها الناس، وماذا كان يمكن أن يكون في اعترافاته مما يجهله الناس، وإن كانوا لا يجاهرون بالعلم به. كل ما كنا خلقاء أن نستفيده هو صورة الحياة، كما عرفها وعاناها، فاسق عظيم
وليت دعبلاً ترك لنا مذكرات! فانه متمرد ظريف، وليس أحب إلى المرء من الوقوف على مظاهر التمرد، ولكن التمرد صنيعه في حياته، وصنيع شعره معه - أو أكثره - فلو أنه كتب مذكرات لما أعوز خصومه الحطب
لو ذهبت أذكر ما كنت أتمنى أن أجد فيه كتاباً، لما فرغت، فما لهذا آخر، فحسبي ما بينت، وليكن كإشارة الفهرس(113/25)
إبراهيم عبد القادر المازني(113/26)
الدكتور محمد إقبال
أكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر
(إن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران ولكن العرب
لا يعرفون شيئاً عن نغماتي الشجية)
(إقبال)
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
شدا صديقنا المفضل الشاعر الفيلسوف الدكتور السر محمد إقبال بهذا البيت في ديوانه (بيام مشرق) (أي رسالة الشرق) منذ ثلاث عشرة سنة، ولكنه لم يسمع صدى المعرفة الحقيقة (لنغماته الشجية) من العرب إلى اليوم. وثلاث عشرة سنة مدة طويلة. لأن الشيء إذا مر عليه زمن قليل يقال إنه مضى ودخل في ذمة التاريخ، وليس كل ما دخل حصن الماضي نال رعاية التاريخ. لأن مخالب التاريخ الحديدية لا تقتطف إلا ما هو مؤثر مباشرة في الحوادث المادية ولا تهتم بوجود الكائن الحي بنفسه أياً كان، ولكن هناك أشياء خارجة عن وصول مخالب التاريخ ومؤثرات الزمن مع كونها مؤثرة في الحوادث المادية. وتلك الأشياء هي الحقائق الملهمة، ومنها الشعر أو (النغمات الشجية) كما عبر الدكتور. فالحقيقة الملهمة شيء خالد بعيد المرام عن تلاعب الزمن، وعزيز المنال من مخالب التاريخ، تظمأ الحياة الإنسانية إلى مناسمته في كل زمان، وتتطلع إلى مؤانسته في كل مكان
وعلى هذا أريد أن أعرف إخواني الناطقين بالضاد بتلك (النغمات الشجية) وأن أكون على الأقل ترجماناً لها إن لم أكن راوية، فأقدم اليوم إليهم على صفحات (الرسالة) ترجمة حياة الدكتور بالإيجاز، وسأتبع ذلك بحديث عن شعره وفلسفته وآرائه في نواحي الحياة المختلفة إذا وفقني الله لذلك
انحدر الدكتور السر محمد إقبال من سلالة وثنية عريقة في المجد والشرف من طبقة (بَنْدِتْ) القاطنة ببلاد كشمير في شمال الهند. و (بندت) لقب يلقب به أهل العلم والفضل من طبقة البراهمة التي هي أرفع الطبقات وأعلاها شرفاً وعلماً ونفوذاً في النظام(113/27)
الاجتماعي الوثني في الهند، وقد أشار الدكتور إلى ذلك إذ قال:
مرا بنكَركه درهند وستان ديكَرنمي بينى
برهمن زاده رمزآ شناى روم وتبريزاست
(انظر إلي لا تجد في الهند مثلي
من سلالة برهمن ولكنه يعرف رموز روم وتبريز)
تشرفت عائلة الدكتور باعتناق الإسلام قبل مائتين وخمس وعشرين سنة. وذلك أن أحد أجداده اتصل بولي من أولياء الله من الصوفية المسلمين فأشرب قلبه حب الإسلام فأسلم. وكان من آثار تلك الحادثة أن حسن الاعتقاد في الصوفية المخلصين لا يزال من الأوصاف المميزة لعائلة الدكتور إلى اليوم
ولد الدكتور محمد إقبال في سنة 1876 ميلادية في بلدة سيالكوت مسقط رأس فيلسوف الإسلام العلامة الشهير عبد الحكيم السيالكوتي من إقليم بنجاب في شمال الهند. فلما بلغ سن التعليم أدخله أبوه في مكتب من المكاتب الإسلامية في تلك البلدة، ومن وهبه الله الذكاء المتوقد والحذق الحاد ظهرت بوادره منذ نعومة أظافره. كذلك الدكتور إقبال فانه لم تمض عليه مدة قليلة حتى أتم دراسة المكتب فأدخله أبوه في المدرسة، وفي المدرسة أيضاً بقى مثالاً لحدة الذهن وموضع الإعجاب من جميع أساتذته. فانه لم ينتقل من فصل إلى فصل ولم ينل شهادة بعد شهادة إلا بتفوق على أقرانه وباستحقاق مساعدة مالية شهرية من قبل الحكومة جائزة لنبوغه إلى أن أتم دراسته الثانوية، وبعد إتمام الدراسة الثانوية دخل الدكتور كلية في نفس البلدة، وكان في تلك الكلية أحد كبار العلماء الدين أستاذا للغة الفارسية والعربية وهو شمس العلماء مولانا مير حسن الذي كان يشار إليه بالبنان في الأدب الفارسي والعربي فتتلمذ له الدكتور ونبغ في الفارسية كما تعلم منه العربية أيضاً. وبعد إتمام دراسة الكلية انتقل الدكتور إلى كلية الحكومة ببلدة لاهور حاضرة إقليم بنجاب ونال منها شهادة بتفوق حيث استحق مداليتين ذهبيتين والمساعدة المالية الشهرية من قبل الحكومة. وفي هذه الأثناء انتقلت خدمات المستشرق الشهير السر توماس آرنلد من كلية عليكره إلى كلية لاهور. وكان السر آرنلد هذا مشهوراً بسعة اطلاعه في علوم الفلسفة، وكان عند الدكتور إقبال أيضاً ميل غريزي إلى الفلسفة حيث لم يترك دراستها في نيل(113/28)
جميع شهاداته الماضية فتتلمذ للسر آرنلد. فكان السر آرنلد يعترف دائماً بذكاء تلميذه المتوقد واستعداده للفلسفة ويفتخر به إلى أن أتم الدكتور دراسة الجامعة ونال شهادة مع مدالية ذهبية
عين الدكتور بعد إتمام دراسته مباشرة أستاذاً للفلسفة والسياسة المدنية في الكلية الشرقية بلاهور ثم أستاذاً للفلسفة واللغة الإنجليزية في كلية الحكومة بلاهور. فصنف في أيام تدريسه كتاباً في السياسة المدنية باللغة الأردية. وكان الدكتور طول مدة التدريس في الكليتين حسن الصيت في العلم والفضل عند أساتذتهما، وممدوح الخلال مأثور المحامد عند تلاميذه
لم يسمح للدكتور عشقه للعلوم وطموحه إلى التوسع فيها بأن يقنع بتلك الوظيفة؛ فهجر في سنة 1905 وطنه وأقاربه ثلاث سنوات طلباً للتوسع والمزيد في الفلسفة والقانون وللتحقيقات العلمية الأخرى إلى إنجلترا والتحق بجامعة كمبردج ونال منها شهادة في فلسفة الأخلاق، ثم انتقل إلى ألمانيا والتحق بجامعة مونيخ فيها ونال منها شهادة الدكتوراه في الفلسفة، ثم رجع إلى إنكلترا والتحق بجامعة لندن ونال منها شهادة المحاماة -
إن كثيراً من طلاب الشرق حينما يذهبون إلى الغرب يجدون أنفسهم في عالم جديد لم يخطر ببالهم ولا هجس في ضمائرهم، إذ الفوضى الأخلاقية قد استحكمت عراها، والإباحية قد شيدت وطائد رباها، وأبواب المفاسد المفتوحة، ودواعي الخلاعة مسروحة. فيندفعون في تياره ويضيعون فيه أوقات فراغهم حتى أوقات أشغالهم، ولكن الدكتور لم يضع أوقاته، بل كان يستغل حتى وقت فراغه فقد سعى فيه لخدمة الإسلام بتبليغه إلى العوام، إذ ألقى في غضون قيامه في إنجلترا ست محاضرات في الإسلام بين حشد الخاص والعام. وقد منح الله الدكتور العبقرية الشاملة وأسبغ عليه جميع مزايا النبوغ، فهو ناثر بليغ كما هو ناظم مطبوع، وكاتب بارع كما هو خطيب مصقع فكان لمحاضراته رنة بين الناس ووقع حسن في أوساط العلم والأدب
وإذا كان غاية ما يبتغيه الأستاذ من تلميذه ويتمنى له، لعكوفه على تعليمه ومكابدته في تهذيب نفسه وتنوير عقله، أن يبلغ منزلة في العلم والأدب، وأن يقوم بمهمته أتم قيام، وأن ينوب عنه أحسن مناب لا يشوبه خلل، ولا يعتريه أود ولا يخالطه وهن ولا أمْت. فقد بلغ(113/29)
فيه صديقنا الدكتور إقبال حيث لم تبلغ الآمال والهمم، إذ الدكتور بذكائه المتوقد، وفكره الحاد، وحصافة رأيه، وطول باعه في العلوم والصناعات نال أجل مكان وأخص محل في أنظار جميع أساتذته فكانوا يتباهون به في السر والعلن، ويذكرونه فخراً في مسامرات الأدب وأندية العلم. وهذا هو الذي حفز أستاذه السر توماس آرنلد أن يفوض إليه القيام بأعمال وظيفته بجامعة كمبردج لستة أشهر عند غيابه عنها فخلفه الدكتور أستاذاً بالجامعة، وقام بالمهمة خير قيام تناقلته ألسنة المديح وناطه الذكر الجميل
رجع الدكتور من أوربا إلى الهند في سنة 1908 مزوداً بالعلوم والصناعات ومتأهباً لخدمة وطنه وأبناء دينه، فاستقبله حشد كبير من جميع الأجناس والطبقات والأديان والملل. وأقيمت في تكريمه مأدبة فاخرة ليلة وصوله إلى لاهور هنأه فيها أعيان البلد ورؤساء القوم بسلامة وصوله إلى وطنه، كما اعترف غير واحد من الشعراء والأدباء والعلماء والفضلاء بالقصائد والخطب فيها بعلمه وفضله. ومن ذلك الحين اختار الدكتور لنفسه الحياة الحرة ولم يقبل مناصب الحكومة لكي يجد مجالاً واسعاً لبحوثه العلمية، وميداناً أوسع لخدمة إخوانه ودينه. فبدأ يمارس مهنة الإرشاد القانوني للطالبين
والدكتور بنفسه رجل قنوع، نزيه، عزيز النفس؛ يقنع بالكفاف ويرضى بالميسور، كما عبر عن ذلك في بيت من ديوانه: (رسالة الشرق) قال:
ناز شهان نمى كشم ... زخم كرم نمى خورم
درنكَراى هوس فريب ... همت اين كَداى را
(أنا لا أتحمل دلال الملوك، ولا جرح الإحسان
يا من انخدعت بالطمع! انظر إلى همة هذا الفقير)
فقد رفض غير واحد من مناصب الحكومة التي قدمت إليه وآخرها منصب ممثل الحكومة الهندية لدى حكومة جنوب أفريقيا وهو منصب ذو مرتب باهظ وشرف عظيم
اشتغل الدكتور بعد رجوعه من أوربا في تصنيف ديوانين (أسرار خودي) و (رموز بيخودي) على الترتيب باللغة الفارسية. فنالا إعجاب الجميع من ذوي الفضل والعلم، وترجم الأول الدكتور نكلسن إلى الإنجليزية فذاع به صيت الدكتور في أوربا وأمريكا فمنحته الحكومة في سنة 1923 لقب (السير) اعترافاً بفضله في الشعر وطول باعه في(113/30)
العلوم
وفي سنة 1926 أجبره أحبابه وأصدقاؤه وأهالي لاهور على أن يرشح نفسه لعضوية المجلس التشريعي في إقليم بنجاب. فلم يقبل أولاً. فلما ألحوا عليه كثيراً قبله. فانتخب عضواً بأكثرية ساحقة. فسعى الدكتور سعياً حثيثاً لتخفيف الضرائب الفادحة عن كاهل الفلاح الهندي، ولسن قانون العقاب لكل من يطعن في شارع الدين أو أحد رؤسائه من غير دينه هو، وقد سنّ فعلاً، ولتقرير غاية الإصلاح لإدمان الخمر عند الحكومة حرمتها التامة تنفذ في مدة خمس عشرة سنة. وفي سنة 1928 أثار الدكتور في مجلس بحثاً طريفاً استوقف الأنظار، وهو هل الأراضي من ملكية الحكومة أو ملكية الشعب؟ وفي سنة 1932 عند انتقاد ميزانية الحكومة أثبت بالدلائل الناطقة والشواهد الصادقة أن الأراضي ليست من ملكية الحكومة فلا يجوز للحكومة جمع المال بالضرائب الفادحة على أراضي الفلاح
وفي سنة 1931 انتخبه الحكومة عضواً في مجلس المائدة المستديرة المنعقدة في لندن لإصلاح الهند الدستوري فسافر إلى لندن وعند الرجوع لبى دعوة المؤتمر الإسلامي بالقدس وزار مصر أيضاً وألقى على طلبي منه محاضرة قيمة فلسفية دقيقة في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة موضوعها (الإسلام كالتحول في التاريخ) باللغة الإنجليزية، ولكن من الأسف لم يقدر أحد من السامعين ولا من أركان إدارة الجمعية أن ينتقل تلك المحاضرة القيمة المفيدة إلى العربية للحاضرين أو يكتبها على الأقل وينشرها على صفحات الجرائد للإفادة
وفي أواخر سنة 1928 دعي الدكتور من قبل جمعية إسلامية ببلدة مدراس حاضرة إقليم جنوب الهند لإلقاء محاضرة في الإسلام، فلبى الدعوة، فلما وصل إلى مدراس احتفل به أهالي مدراس من جميع الأجناس والملل احتفالاً باهراً، وأقيمت في تكريمه مآدب كثيرة من قبل جمعيات مختلفة منها جمعية العلماء البراهمة وغيرها من جمعيات الوثنيين؛ ومن مدراس توجه الدكتور إلى حيدر آباد تلبية لدعوة صاحب السمو نظام حيدر آباد فمر بأمارة ميسور، وهي أمارة وثنية كبيرة في جنوب إمارة حيدر آباد، فلما وصل بنجلور بلدة من بلادها استقبله حشد كبير من الطلبة والعلماء والوجهاء، وكان بينهم رئيس الوزراء لأمارة ميسور أمين الملك ميرزا إسماعيل (وهو مسلم) فسافر معهم إلى بلدة ميسور حاضرة إمارة(113/31)
ميسور، ونزل ضيفاً على الأمير الوثني مهراجا ميسور، وأقيمت في تكريمه مآدب كثيرة أهمها مأدبة جامعة ميسور التي خطب فيها الدكتور، وفي هذه المأدبة خطب عالم وثني كبير وهو أستاذ الفلسفة بالجامعة فقال: (إن المسلمين مهما قالوا إن الدكتور إقبال منهم، فان الحقيقة أنه منا جميعاً، هو ليس من ملك دين واحد أو جماعة واحدة، فان افتخر المسلمون بأنه من أبناء دينهم، فلسنا نحن الوثنيين بأقل فخراً منهم بأنه من أبناء وطننا الهند). ومن ميسور توجه الدكتور إلى حيدر آباد، فاستقبله جمع غفير من جميع الأجناس والملل، بينهم أركان الحكومة وأساتذة الجامعة وطلبتها وغيرهم من ذوي الجاه والشرف، وكان طلبة المدارس مصطفين في الشوارع والمحطة ويغنون بأصواتهم الشجية (نشيد المسلم) الذي صنفه الدكتور باللغة الأردية وأوله:
جين وعرب همارا، هندوستان همارا
مسلم هين هم وطن، هي سارا جهان همارا
(إن الصين والعرب لنا، (كما) أن الهند لنا
إننا المسلمون، فالعالم كله وطننا)
نزل الدكتور ضيفاً على سمو نظام حيدر آباد وحظي بالمثول في حضرة سموه، وألقى محاضرات عديدة بالجامعة العثمانية بحيدر آباد، ثم توجه من حيدر آباد إلى الجامعة الإسلامية بعلي قره تلبية لدعوتها، فألقى فيها أيضاً غير محاضرة؛ وجميع هذه المحاضرات التي ألقاها في مدراس، وحيدر آباد، وعلي قره، ست تحتوي على أعمق الأفكار وأدق المعاني، في فلسفة دين الإسلام، وقد سعى الدكتور فيها لتشكيل علم الكلام الجديد على ضوء الفلسفة الحديثة، وقد نشرت في شكل كتاب ونحن مستعدون أن نتحف قراء الرسالة بشيء منها لو تحملوا جفاف الفلسفة في جنب حلاوة الأدب
وفي سنة 1933 دعا الدكتور المغفور له جلالة الملك نادر شاه خان ملك أفغانستان مع عالمين كبيرين هنديين وهما الافوكاتو السيد راس مسعود رئيس الجامعة الإسلامية بعلي قره، وصديقي صاحب الفضيلة الشيخ السيد سليمان الندوي من كبار علماء الدين للاستشارة في تأسيس جامعة بكابل، وفي أمور تعليمية أخرى. فلبى الدكتور الدعوة، وفي هذا السفر صنف الدكتور ديوانه المسمى (مسافر) باللغة الفارسية(113/32)
وفي سنة 1934 سافر الدكتور لزيارة البلاد الإسلامية في المغرب ولمشاهدة الآثار الإسلامية في الأندلس وصنف في هذا السفر ديوناً باللغة الأردية مسمى (بال جبريل) وفي أواخر نفس السنة دعي الدكتور إلى إنجلترا لإلقاء محاضرات في فلسفة الدين في سلسلة محاضرات هيبرت فلبى الدعوة
هذه هي ترجمة حياة الدكتور بالاختصار وموعدنا بالحديث عن شعره المقال الآتي إن شاء الله.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(113/33)
من بدائع شكسبير
حلم منتصف ليلة صيف
'
بقلم محمد رشاد رشدي
يحملنا جو القصة أجيالاً عديدة إلى الوراء حيث (ثيزيوس) دوق أثينا يعد قصره للاحتفال بقرانه بملكة الأمازون الساحرة. أما أسلوب القصة فهو ملئ بالصور الخلابة التي تشيع في الذهن جواً يشبه جو الحلم الغريب. كذلك تنشر أشخاص الجن التي ما تزال تظهر ثم تختفي في القصة روحاً غريبة نائية حالمة. . . . والحب - سيد خالقي الأحلام والخيالات - هو موضوع القصة. . . بيد أن ليس بالحب المداعب اللاهي تحمله السطور في خفة ورشاقة مقبلاً حيناً مدبراً حيناً آخر. بل هو حب قوي قاهر يبهر النظر والسمع ويأبى إلا أن تعبر عنه الاستعارة والمجاز واللغة الشعرية الحارة. تبعثه من الصدر مثلما تبعث ليلة مقمرة هادئة من ليالي الصيف شعر شاعر من صدره، أو زفرة عاشق من حنايا ضلوعه
(ليساندر) و (هرميا) يتفاقان على اللقاء:
ليساندر: في مساء الغد عندما تبصر (نيبي) طلعتها في البحيرة ناشرة على العشب الأخضر لباساً من اللؤلؤ السيال - في ذلك الوقت قد اتفقنا على أن نجتاز أبواب أثينا ونمضي هاربين
هرميا: وفي نفس الغابة حيث اعتدنا اللقاء، وحيث كنا أحياناً نرقد على العشب اللين الرخص ونشم أنفاس الزهر الوحشي. هناك يلقى أحدنا الآخر، أي ليساندر!
ويضل كل من العاشقين سبيله وينهكهما البحث والفكر فيرقد كل تحت شجرة من أشجار الغاب ويغلب عليهما النعاس فما يدريان من أمرهما شيئاً، ويأتي (بَكْ) رسول ملك الجان فيهصر في عيني الفتى زهرة من أزهار الغاب سحرية تغير قلبه حتى إنه إذا ما صحا من نومه وقع في حب أول امرأة يلقاها. . . وفي نفس الوقت يهيم في الغاب الفسيح (يمثريوس) عاشق (هرميا) المنبوذ منها تتبعه (هيلينا) التي ينبذها هو ولا يصغي لما تريد أن تصل أذنه من ألفاظ الحب والتوسل. بيد أن (بَكْ) سرعان ما يأتيه هو الآخر بالزهرة(113/34)
السحرية فيغير قلبه، ويصبح فإذا به مدله في حب (هيلينا)، ويهيم العشاق في الغاب كل يبحث عن أليفه تارة متباطئاً وأخرى مسرعاً. تراقبهم من علٍ أشجار البلوط الشاهقة ويظلهم الليل في ردائه الهادئ. ونبسم نحن إذ نرى كيف يتغيرون. كيف يشكون وكيف يتدلهون - على أننا لا يسعنا إلا الاشتراك في كل ما يفعلون
هذه العاطفة هي حلم، غير أنه حلم يحركنا، فان الشاعر يلعب بالعواطف فيخلطها ويمزجها سوياً ثم يثنيها ثم يعود فيفصلها ويقيم كلا منها على حدة كأنما هي خليات رقصة جميلة، ونشاهد نحن الوجوه الغضة الوديعة تمر سريعة إلى جوار الشجيرات الخضراء وتحت أبصار النجوم اللامعة، تبللها حيناً دموع الشوق والألم ويشيع فيها حيناً آخر بريق الحب والأمل. . .
أولئك قوم قد وهبوا أنفسهم للحب خالصة لا يبغون من عطائهم هذا جزاء ولا مقصداً، وإنما هي هبة نقية خالصة لأنها موجهة لله لا للشيطان، وللحب الخالص لا لشهوات البدن
هي - في الحق - هبة للجمال الذي يخالج مشاعرهم ويملك عليهم حسهم وفكرهم - وإن مرآهم يألمون ثم يسعدون - يشكون ثم يفرحون، يطربهم التافه من الخير، ويعصف بهم خالج الفكر البسيط، تحنو عليهم بنات الغاب ساعة مداعبات، ثم تسخرن بهم ساعة أخرى لاهيات - لهو نوع من السحر المبين. . .
ونشاهد بين الحين والآخر جماعة من القرويين يتدربون على تمثيل قطعة مسرحية يحيون بها حفل زواج أميرهم (تينريوس) - أولئك قوم بسطاء يعيشون مثل كل أهل الريف يعيشون عيشة طبيعية بسيطة لا يشغل فكرهم خاطر ولا يعذبهم شك لاهين قانعين مؤمنين كل الأيمان بالحياة، بعيدين كل البعد عن بحثها والتأمل فيها. ويفزعهم مرآى رفيقهم (بوتوم) وقد أتاهم يحمل فوق عنقه رأس حمار فيصيح أحدهم:
(يا للشيطان! يا للغرابة! لقد زارنا إبليس
صلّوا أيها الرفاق - اهربوا أيها الرفاق - المعونة!)
كان هؤلاء رجالاً من المحتمل أن يكون شكسبير قد رأى وخبر أمثالهم في بلدته، لأن الدرامة لم تعد بعد مقصورة على بلاط الملوك والأمراء، بل عمت البلاد والقرى جميعها، وأصبحت وكأنها ضرورة من ضروريات العيش ومرفقاً من مرافق الحياة لا ينفصل عنها،(113/35)
ولقد كان كل عيد من أعيادهم مهرجاناً عظيماً يشترك فيه الصغير والكبير ويتعاون على إقامته الجميع، إذ أن القوم في ذلك العهد كانوا يعشقون التمثيل ويجيدونه بالطبيعة، لأن الروح إذا ما كانت ناضجة ممتلئة فهي لا تميل إلى التعبير عن خواطرها بالأرقام والمنطق، بل تعمد إلى تصويرها فتقصها وتقلدها، تلك هي لغة الأطفال، لغة الفن والخلق والسرور
وفوق كل هؤلاء العشاق والممثلين البسطاء تلهو وترفرف بأجنحتها جماعة الجنّ وبنات الغاب. هم أيضاً يعشقون (فتيتانيا) ملكتهم التي تحب صبياً صغيراً أتت به من بلاد الهند، ويغار زوجها (أوبرُن) منه فيريد أن يبتاع الصبي منها على أنها لن تنيله ما يريد:
تيتانيا: لو اجتمعت الجن كلها لما استطاعت أن تبتاع مني هذا الصبي، كانت أمه من أتباعي ولكم جلسنا جنباً إلى جنب على رمال نبتون الصفراء في الليل الهادئ، تهب علينا نسمات الهند العطرة، نرقب السفن يحملها الفيضان فوق تياره سريعة تتسابق - وكم كنا نضحك عندما نرى الشراع وقد حملت وانتفخت منها البطون، وكانت الريح العابثة هي الزواج أو العاشق المسئول
ويتشاجر (أوبرن) مع زوجته فتهرع الجن خائفة إلى أكمام الزهر تختبئ فيها وتتخذ منها ملجأ يقيها غضب الملك والملكة
ويريد (أوبرن) أن يثأر لنفسه، فيرسل خادمه (بَكْ) يلمس بالزهرة السحرية أجفان زوجه، حتى إذا ما صحت أجمل بنات الغاب وأرشقهن من سباتها وجدت نفسها مدلهة بحب مخلوق عجيب له رأس حمار وجسم رجل، هو (بوتوم) القروي الممثل
وتركع الملكة أمام المريض المسحور، وتضع فوق كتفه المليء بالشعر إكليلا من الزهر النضر، ثم تنادي أتباعها وتخاطبهم:
(ترفقوا بهذا الرجل وأحسنوا مثواه، غنوا له وارقصوا أمامه كلما مشى خطوة، أطعموه المشمش، والعنب، والتين الأخضر والتفاح)
كان لزماً على (تيتانيا) أن تفعل هذا، لأن حبيبها كان ينهق نهيقاً فاحشاً، وكان إذا ما قدمت له الزهور والفاكهة هز رأسه في طلب الهشيم والبرسيم!
أهناك أعذب وأمر من سخرية شكسبير هذه؟ أي هزء بالحب، وأي حدب عليه! العاطفة في(113/36)
نفسها نبيلة، بيد أن موضوعها تافه حقير، هي فراش ذهبي لكنه يطير في الوحل، فراش أعمى لا يدري أين يسير
وشكسبير إذ يصف كل آلامها يحتفظ أيضاً بكل ما هو حلو وجميل فيها
تيتانيا: تعال نجلس فوق هذا الزهر، دعني ألمس وجنتيك الجميلتين وأرشق الورد في رأسك الناعم، وأقبل أذنيك الطويلتين الحلوتين
لقد طمس الحب عيني ملكة الغاب فباتت ترى في صدغي الحمار جمالاً، وتلمس في رأسه نعومة، وتحس في أذنيه حلاوة وطراوة
وينقضي الليل، ويأتي الصباح فيبطل السحر ويزول، وتفيق (تيتانيا) إلى نفسها فتبدو لها ذكريات الأمس (مثل أشياء صغيرة يصعب تمييزها، فكأنها رؤوس جبال نائية يراها الإنسان عن بعد كالسحب الكثيفة قد تجمعت فوق الأفق)
هذه هي القصة، فهل لنا أن نناقشها جدياً مثلما نناقش (هملت) أو (عطيل)؟ هل لنا أن نفرض منطق الحياة على حوادثها وأسلوبها وأشخاصها، أو أن نبحث عن الجمال والانسجام في كيانها وتركيبها؟
لا، فنحن إن فعلنا ذلك بعدنا عن الروح التي يجب أن نتفهمها فيها
هذه القصة لا تصور الحياة بل تمثلها - هي تمثل الناحية الحلوة الناعمة السهلة الهادئة من العيش مثلما تصور قصة (لير) الناحية الأخرى العاصفة، المظلمة، المريرة، الموحشة
على أن الحياة ليست دائماً عاصفة موحشة؛ كما أن القبرة لا تنشد كل يوم ألماً ونحيباً، فهناك في حياة الرجال لحظات يحسون فيها بجسومهم، وأرواحهم، وقد رقت وصفت وارتفعت فأصبحت في صفاء نسمات الخريف تهب عند الأصيل، وفي هذه اللحظات يكفي أن يثلج أفئدتهم ويملأها طرباً وحبوراً أن يشاهدوا زهرة جميلة قد تفتحت أكمامها، وتلألأ على أوراقها ندى الشروق، وأن يحرك مشاعرهم ويملأها عطفاً ورقة وحناناً، مرأى كلب بائس ينبح ألماً ويتضور جوعاً
ذلك لأن في النفس حينذاك لحناً ونشيداً يعزف، فإذا كل ما بالعيش قد أصبح بهياً جميلاً، وإذا كل ما يدب على الأرض قد أمسى طيباً وديعاً كالحمل، ذلك أن بالروح موسيقى تسبغ الدفء والسلام والحب على كل شيء خارج الروح: موسيقى (أحلى من نغم الكروان،(113/37)
يسمعه الراعي وقد ترعرع قمحه ومشى النضوج في سنابله)؛ فهل نترك تلك الأوقات السعيدة دون أن نسجلها
إن أكثر الواقعيين تطرفاً، وأشدهم تشاؤماً وانقباضاً لا يستطيع أن ينكر وجود أمثال تلك اللحظات، فان هو فعل فقد ترك إنتاجه ناقصاً مبتوراً ونفسه ضيقة يعوزها الاتساع والبسطة، على أن شكسبير الكامل لم يكن يستطيع أن يكون ناقصاً، فلم تكن تلك الأوقات النادرة لتمر دون أن يرقبها ويسجلها معاً
لقد سجلها الشاعر كما يجب أن تسجل - أعني أنه لم يصورها كما هي في الحياة - لم يرسم لنا أحلام الشباب نفسها، يحلمها وهو يقظان فتسعده وتزكي خياله، بل صور لنا عالماً جميلاً غريباً حتى إذا ما تعرفنا إليه ودخلناه أحسسنا نفس ما يحسه الشباب الحالم من سعادة ودفء وسلام، وكانت المشاعر التي تختلج بها نفوسنا حينذاك هي نفس المشاعر التي تنتجها هذه الأوقات السعيدة في حياة الرجال
أقول إن شكسبير كان واقعياً حتى في أحلامه وخيالاته وقد يبدو هذا القول غريباً، على أنه شرحه سهل بسيط؛ فكثير من الناس يحسب أن الفنان ساعة الخلق يقلد مظاهر الطبيعة نفسها ويصورها فان هو قلد - في زعم هؤلاء - شيئاً لا يراه الجميع في الطبيعة ويحسونه - كان تقليده خاطئاً وخلقه وهماً باطلا، وعندي أن هذا الرأي خاطئ من أساسه؛ فالحق أن الفنان لا يقلد مظاهر الطبيعة نفسها، بل يدرس ويقلد السبيل الذي تسلكه الطبيعة في خلق مظاهرها، وإنما هي الآلة المصورة التي تعنى بتصوير هذه المظاهر دون أن يهمها تقليد السبيل الخالقة وتصويرها. ومن هذا يكون الحكم على العمل الفني من حيث قربه من الواقع والحق لا يتعلق بمحتويات العمل نفسه بل بالإحساس الذي تنتجه هذه المحتويات على القارئ أو المشاهد أو المستمع
فشكسبير هنا لا يعطينا هذه اللحظات السعيدة في حياتنا نفسها بل ما قد تنتج هذه اللحظات أو ما يقرب منها
إن ما يعطينا الشاعر هو حلم حلمه ساعة منصف ليلة صيفية حيث يرق النسيم ويصفو، ويهدأ الفكر ويرتاح البدن، ذلك هو كائن دقيق يهيم وينتقل من حلم إلى حلم، له أجنحة فضية رقيقة تتكسر جميعها وتتلاشى إذا ما حاولنا أن نحبسه أسيراً في سجن العقل(113/38)
والمنطق وأن نضيق الخناق عليه هناك. فليس من الواجب أن نخبر طبيعة هذا الكائن ولا أن نديم البحث في حقيقته بل ندعه يمضي أمام أبصارنا ترفرف فوقه أجنحة الجميلة، فيبهر منا البصر ويحملنا معه إلى عالم الأحلام من حيث أتى. وهل هناك أحلى من أن نترك حياة الحقيقة هذه وراءنا لحظة لنريح الفكر في حياة اللاحقيقة؟
لقد يسعدنا أن نتحرر من أسر المنطق الثقيل لنمضي ونحيا حياة المغامرة والغرابة والشعر حيث لا قيد ولا شرط - مثل هذه الحياة للعقل تريحه وتجدد نشاطه، وللنفس تنقيها وتنضجها، ولكننا يجب أن نصدق ما نراه لكي نستمتع هذه المتعة ونستريح هذه الراحة
نعم. إن بالقصة ما لا يمكن تصديقه وما لا يمكن وقوعه في الحياة، لكن عدم الإمكانية هذا هو الذي قد يمد العقل بالراحة والهدوء إذ أنه يجرد العواطف من حرارتها فلا يجعل المشاهد يتألم أو يشقى؛ فإذا ما جاءت اللحظة التي يقوى فيها إحساسه بالقصة ويشتد عطفه يذكر نفسه بأن الموضوع كله حلم وخيال فقط، فتهدأ نفسه ويبدأ يرى حوادثها مثل أشياء بعيدة نائية يكسوها البعد لباساً من الهواء أزرق شفافاً
ولكن أترى ينقص عدم الإمكانية هذا من قيمة القصة أو يحط من مغزاها؟ ثم ترى هل الحياة خالية كل الخلو من الجني المداعب (بك) ورفقائه؟
لا! إن بنات الغاب يعشن فوق أرضنا هذه من وقت لآخر مداعبات حيناً نفوس الشباب وقلوبه، حدبات حيناً آخر على عقول رجال الأعمال الجامدة وأفئدتهم الصلدة، وأحياناً مشفقات منشدات للفقير والمكلوم أناشيد الراحة والأمل، ونحن نخشى (بك) الساحر ولكنا لا نراه - نحسه يسير معنا في حياتنا، ونحس سحره الفعال كما صوره شكسبير بغير رؤوس الرجال: إلى رؤوس الحمير والبغال - بيد أن سحره قوي لا يقاوم مرغوب من الناس محبوب من الشعراء. . .
أحب أن أقول إنه برغم كل ما بهذه القصة من شذوذ وغرابة فإنها تطابق الحياة والواقع، ولا تقل في هذا عن قصة (لير) أو (هملت) - تطابق الحياة فقط في أن الإحساس الذي تنتجه في النفس هو إحساس صادق حقيقي كثيراً ما نحسه في حياتنا، العادية ونحتاج إليه، ولو أن ما بالقصة نفسها يختلف عن الحياة وذلك نوع من أنواع الخلق الفني النادر، ومثل من أمثلة الفن الإيعازي الذي ما أحسب أحداً غير شكسبير يستطيعه بسهولة ووضوح(113/39)
لقد نحلم أحياناً عند ما نسمع لحناً شجياً أو نرى وجهاً بهياً. بيد أن الشاعر هنا يدعونا لأن نحلم عندما نقرأ شعره. فهل نرفض الدعوة؟ إن الحلم الهادئ الجميل نادر في هذا العيش، وإن الإحساس بالراحة والطمأنينة وحلاوة الحياة الذي يعقب الحلم ويقطن النفس بعد رحيله عنها أندر من الحلم نفسه وأثمن. . .
فلزم علينا إذن أن نقبل دعوة الشاعر، وأن نقبلها فرحين شاكرين
محمد رشاد رشدي
بكالوريوس بامتياز في الأدب الإنجليزي(113/40)
10 - شاعرنا العالمي
أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
حماقاته: روى صاحب الأغاني عن الحسن بن علي قال: حدثنا محمد أبن القاسم قال: حدثني إسماعيل بن عبد الله الكوفي قال: حدثني عمروس صاحب الطعام، وكان جار أبي العتاهية قال: كان أبو العتاهية من أقل الناس معرفة، سمعت بشراً المريسي يقول له: يا أبا إسحاق لا تصل خلف فلان جارك وإمام مسجدكم فانه مشبه، قال: كلا إنه قرأ بنا البارحة في الصلاة (قل هو الله أحد)، وإذا هو يظن أن المشبه لا يقرأ قل هو الله أحد
وقد ذكرنا عن مخارق فيما سبق ما جرى لأبي العتاهية معه حينما دعاه فغناه وشرب معه ثم أمر غلامه فكسر كل ما بين أيديهم من النبيذ وآلته والملاهي، قال مخارق: فظننت أنها بعض حماقاته، فانصرفت وما لقيته زماناً، ثم تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها، وأقامها مقام القميص، وثقب أخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل، فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته، وضحكت والله ضحكاً ما ضحكت مثله قط، فقال: من أي شيء تضحك؟ فقلت: أسخن الله عينك هذا أي شيء هو؟ من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة والمجانين؟ انزع عنك هذا يا سخين العين، فكأنه استحيا مني؛ ثم بلغني أنه جلس حجاماً، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره، ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه، فأتيته عائداً، فخرج إلي رسوله يقول: إن دخلت إلي جددت لي حزناً، وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به
وذكر بشر بن المعتمر أنه قال يوماً لأبي العتاهية: بلغني أنك لما نسكت جلست تحجم اليتامى والفقراء للسبيل، أكذلك كان؟ قال: نعم، قال له: فما أردت بذلك؟ قال: أردت أن أضع نفسي حسبما رفعتني الدنيا ليسقط عنها الكبر، وأكتسب بما فعلته الثواب، وكنت أحجم اليتامى والفقراء خاصة، فقال له بشر: دعني من تذليل نفسك بالحجامة، فانه ليس بحجة لك أن تؤديها وتصلحها بما لعلك تفسد به أمر غيرك، أحب أن تخبرني هل كنت(113/41)
تعرف الوقت الذي كان يحتاج فيه من تحجمه إلى إخراج الدم؟ قال: لا، قال: هل كنت تعرف مقدار ما يحتاج كل واحد منهم إلى أن يخرجه على قدر طبعه مما إذا زادت فيه أو نقصة منه ضر المحجوم؟ قال: لا، قال: فما أراك إلا أردت أن تتعلم الحجامة على أقفاء اليتامى والمساكين
قالوا وإنه من أجل هذا وأشباهه غلب عليه هذا اللقب (أبو العتاهية) وقد أخبر ميمون بن هارون عن بعض مشايخه قال: كني بأبي العتاهية أن كان يحب الشهرة والمجون والتعته. وأخبر محمد بن موسى بن حماد قال: قال المهدي يوماً لأبي العتاهية أنت إنسان متحذلق معته، فاستوت له من ذلك كنية غلبت عليه دون اسمه وكنيته وسارت له في الناس، قال: ويقال للرجل المتحذلق عتاهية، كما يقال للرجل الطويل شناجية، ويقال أبو عتاهية بإسقاط الألف واللام
ومن المحتمل عندي أن يكون تلقيته بذلك من أجل ابنه عتاهية الذي روينا عنه فيما سبق بعض أخبار أبيه، وأن تلك الأمور التي نسب إليه من أجلها هذا الحمق كان يتحامق بها لأغراض له فيها، وقد تحمل الأغراض بعض ذوي العقول على هذا التحامق فلا يكون لهم منه بد، كما قال الشافعي رحمه الله وقد جرى بينه وبين بعض من صحبه مجانة:
وأنزلني طولُ النوى دارَ غربة ... إذا شئت لاقيتُ امرأ لا أشاكلهْ
أحامقه حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
ويمكن أن يكون من تلك الأغراض التي حملت أبا العتاهية على ذلك اتقاء ما كان يدبر له من ضروب الكيد، ومحاولة الإيقاع به، وأخذه بتهمة الزندقة وما إليها، فان ظهوره بهذا المظهر يهون من أمره، ويجعله امرأ لا يخاف شره
ويؤيد هذا ما رواه أبو الفرج قال: أخبرني محمد بن الصولي قال: حدثنا أبو ذكوان قال: حدثنا العباس بن رستم قال: كان حمدويه صاحب الزنادقة قد أراد أن يأخذ أبا العتاهية ففزع من ذلك وقعد حجاماً
وإذا كان خوفه من حمدويه هو الذي حمله على أن يحترف هذه الحرفة التي ليست من شأنه، لا ما تظاهر به من إرادة تذليل نفسه، فيمكننا أن نحمل على ذلك كل تلك الحماقات التي تؤثر عنه، ونخرجها على ذلك التحامق الذي يقصد به مداراة أهل الظلم والحمق(113/42)
وقد كان أبو العتاهية يعتمد في هذه الحياة المضطربة التي عاش فيها على ضروب من الحيلة كان يجيد تمثيلها، ولولاها لطاحت رقبته فيمن طاحت رقابهم ممن لم تساعفهم الحيلة في تلك البيئة، ولأبي العتاهية في ذلك نوادر لطيفة كان يتوصل بها إلى ما يعجز عنه غيره، ويحوز بها القبول لدى أرباب الحل والعقد في عصره من رجاله ونسائه، ولنختم هذا الفصل بتلك النادرة الظريفة من نوادره
ذكر أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي أن أبا العتاهية لما ألح في أمر عتبة لأول دخوله بغداد ولم ينل منها شيئاً، وجدها يوماً قد جلست في أصحاب الجوهر، فمضى فلبس ثياب راهب، ودفع ثيابه إلى إنسان كان معه، وسأل عن رجل كبير من أهل السوق، فدل على شيخ صائغ، فجاء إليه فقال: إني قد رغبت في الإسلام على يدي هذه المرأة، فقام معه وجمع جماعة من أهل السوق وجاءها فقال: إن الله قد ساق إليك أجراً، هذا راهب قد رغب في الإسلام على يديك، فقالت هاتوه، فدنا منها فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله، وقطع الزنار ودنا فقبل يدها، فلما فعل ذلك رفعت البرنس فعرفته، فقالت نَحُّوهُ لعنه الله، فقالوا لا تلعنيه فقد أسلم، فقالت إنما فعلت ذلك لقذره، فعرضوا عليه كسوة فقال ليس لي حاجة إلى هذه، وإنما أردت أن أشرف بولائها، فالحمد الله الذي من علي بحضوركم، وجلس فجعلوا يعلمونه الحمد وصلى معهم العصر، وهو في ذاك بين يديها ينظر إليها لا تقدر له على حيلة
عبد المتعال الصعيدي(113/43)
أسطورة يونانية (اورفيوس وبوريديس)
الألم
(مهداة إلى شاعر يتألم: إلى الصديق محمد الفراتي)
للأستاذ خليل هنداوي
(أعيدوه إلى أرض الحياة وحده! إن عوده سيسكت إذا عادت معه، وان قيثارة الأرض ستنقص وتراً، إني أريده يغني فلا تعطوها له. نحن في السماء كما على الأرض نتلذذ بالآلام المولدة)
قد أَطرَبَ الطيرَ بأَنغامِه ... وسهَّدَ الوحشَ بألحانِهِ
يغيبُ عن إحساسهِ ذاهلاً ... منتقلاً في غير أوطانه
يشكو إلى القيثارِ أشجانَه ... فيملاُّ الكونَ بأشجانِهِ
سكرانُ! لا يُدرك ما مسَّه ... نشوانُ! لا يَخرجُ من حانِه
البحر والأمواجُ تصغي له ... والليلُ إن أَسبلَ أستارَه
يأوى إلى عزلتِه حائراً ... يُذيعُ في العزلةِ أسرارَه
ما باله يُعول قيثارُه ... فحطموا الليلةَ قيثارَه
هو الهوى امتدَّ إلى قلبه ... وأضرمَ الحبُّ به نارَه
وهذهِ من أيقظَتْ روحَه ... تسرَحُ في الغابةِ كالحالمه
خاليةُ القلبِ، تلاقي الفتى ... معرضةً عن حِّبه، واجمه
لا تفهمُ اليومَ نداء الهوى ... لا توقظوها! إنها نائمه
يا هائماً قد لجَّ منه الجوى=إنهَدْ إلى غانيةٍ هائمه. . .
سيفُتح القيثارُ من نفسِها ... ما تعجِزُ الأزهارُ عن فتحِه
ويفتحُ الألحانُ محزونُها ... جرحا بها أعمقَ مِن جرحهِ
وينقلُ النَّغمُ إلى سمعِها ... ما راحَ يشكو الصبُّ من برحهِ
لا تُنزِلي الرأفة في قلبها! ... فانما الإبداعُ في نوحهِ. . .
طفا على الكون سكونُ الدجى ... وقد غفا غيرُ عيونٍ الزهرْ(113/44)
وخفَّ في الأجواءِ عبقُ الشذا ... ونامتِ الأكوانُ إلا القَدَرْ
هبَّا إلى الرقص يُحيَّيهما ... في صفحةِ المشرقِ ضوءُ القمر
من يُنبئ الإلفينِ أن القضا ... مُبدِّلٌ صفوَهما بالكدر؟
تسلَّل الصلُّ إلى جسمِها ... بوخزةٍ من وَخَزاتِ المنونْ
فلم يكن في عمرها فسحةٌ ... فخاطَبتْ محبوبَها بالسكونْ
يا ليلةً ضلَّتْ مسراتُها! ... وما اهتدَتْ إلا عيونُ الشجونْ!
زَفوا عروسَ الموتِ يا ويلتا! ... للموتِ، ما تُغني فتاها الشئون
استنطَقَ القيثارَ لكنما ... قيثارُه المحزونُ لا يُسعدُ
سعى إلى وادي الردى ذاهلاً ... لكي يناجي روحَ من يعبُد
أصغى إليه الموتُ في فترةٍ ... فجاَءه يسألُ ما يقصدُ؟
فقال: والقيثارُ في شجوِه ... لي عندكم محبوبةٌ ترقدُ
يأيها النادي إلى عالمٍ! ... داخلُه المفقودُ لا يرجعٌ
ليس شفيعٌ للذي جاَءنا ... بمهجةٍ محزونةٍ يشفعُ
أجابَ عندي لكَ أغنيةٌ ... أنشدَها قلبي، فهل تسمعُ؟
ثم انبرى يَنفُثُ من حزنهِ ... ما تنهمي حزناً له الأدمعُ
رقت له زوجُ الردى فانثنت ... تستعطفُ الموتَ على من نزلْ
قالت له: عطفاً على هائمٍ ... ليس له من بعدها من أملْ. . .
أرجع إليه من سَبت عقله ... نوَّارةَ الوادي، ونورَ المقل
قد أرعنَ الوادي برناته ... ألم يُلن قلبك هذا الغَزَلْ؟
قال له الموتُ وقد راقُه ... ورق، والقلبُ أسيرُ النغمْ
أُخرج من الوادي، ولا تلتفت! ... إني معيدٌ خلقها من عَدَمْ
فحطَّمَ القيثارَ من بشرِه ... وخفَّ جذلانَ، سريعَ القدمْ
يسبق من تسري بأعراقها الروحُ وتهتزُّ اهتزَازَ النَّسَمْ
مشى وئيداً مرهفاً سمعه ... لعله يُصغِي إلى جرسها
أصغى إلى الأزهار من حولهِ ... أصغى، فلم يسمع سوى همسها(113/45)
الزهرُ والأعشابُ في يقظةٍ ... كأنها تمشي إلى عرسِها
أَوَقْعُها أَلينْ من وقعِها؟ ... أم حُّسها أرفقُ من حسِّها؟
رنا إلى خلفُ على رقبةٍ ... وقد عراه الشكُّ من عودِها
إن لم تعد حيةً فلأَعد! ... إنَّ الردى أهونُ من فقدِها
فأبصَرَ الغادةَ شفافةً ... كشعلةٍ تَسطعُ من وقدِها
ولمعةُ الأحلاِم في عينهِا ... وجذوةُ الأشواقِ في خدِّها
تقابلا! لكنَّ صوتَ الردى ... صاحَ، فحالَت كُتلةً من ترابْ
فلم يعانِقْ غير أحلامِه ... ولم يُشارِفْ غيرَ لمعِ السرابْ
وهاتفٍ صاح به: يا فتى ... عُدْ للهوى الباكي، وعُدْ للعذابْ
واحمل بقايا العود، لا تمتهِلْ ... حَرَقْتَهَا: ليس لها من إيابْ
غداً إذا آبَ وآلامهُ ... هادئةٌ، يسكُتُ قيثارُه
غذوه بالآلام لا ترأَفوا ... تَرِنُّ بالآلام أوتارُه
لا تقتلوا الأشجانَ في نفسِه ... تفيضُ بالأشجانِ أشعارُه
لولا الذي تسكُبُه يا ندى! ... ما ضحِكَتْ في الروضِ أزهارُه
لنا بآلامِ الورى لذةٌ ... وبالنَّدَى يُشرِقُ لونُ الزهَرْ
نريدُه يشدو لنا فليعدْ! ... حليفُه الهمُّ وطولُ الضجرْ
نريده يشدو فلا تَقطعوا ... من مِعزَف الألحانِ هذا الوترْ
قد يَطرَبُ اللهُ وأملاكُه ... لنكبةٍ تُنطِق قلبَ البشرْ
لِلأرضِ من قلب الفتى مِزقةٌ ... ومزقةٌ يرفعها للسماءْ
فوزعِ القلبَ على أهلهِ ... وامنحْ من الآلاِم معنى الهناءْ
خُلقتَ هتافاً فلا تبتئسْ=هل نتاجُ الطيرِ إلا غناءْ؟
إن تَبقَ منه بضعةٌ فلتكنْ=هديةً مشكورةً للفناءْ. . .
دمشق
خليل هنداوي(113/46)
ظمأ على ظمأ
بقلم فريد عين شوكه
ظمأ على ظمأ وليس لمهجتي ... رِيٌّ سواك يَبُلُّ حَرَّ ظِمائي
يا مهد أحلامي ومُتعة خاطري ... ومناط آمالي وفيض رجائي
أنت الحياة ولا أزيدك بعدها ... وصفا، فذلك منتهى إيفائي
كم ذا تشعُّ بخاطري فأغيب عن ... صحبي ولا أصغي إلى خلصائي
وأظل أسبح في هواك وألتقي ... بك في الخيال وأنت عنيَ نائي
وأراٍجع العهد الحبيب المشتهَى ... فلعل في ذكراه بعض عزائي
والصحب من حولي عيون تجتلى ... حالي وتلحظني على استحياء
حتى إذا جمح الحنين ولج في ... خلدي وألهب بالأسى أحشائي
مدُّوا إليَّ عيونهم وتساءلوا ... عما يغُول بشاشتي وصفائي
فأحار ثم أجيب غيرَ موفَّق ... مع وفرة الأعذار في حوبائي
يا غائباً عن ناظريّ وليس في ... قلبي سواه يرِفُّ بين دمائي
كم أشتهي برح الضنى لتعودني ... وأراك رأي العين في جلسائي
يا مستريح البال من عبث الهوى ... لو كنت تعلم في نواك شقائي
الفرقة الهوجاء قد رانت على ... كبدي فيا للفرقة الهوجاء
شتان ما بيني وبينك في النوى ... كالبعد بين قراراتي وسمائي
ما أبعد الحالين! أنت منعَّم ... غافي العيون على رضىً وهناء
تسعى لك الدنيا وتحتشد المنى ... للقاك كل صبيحة ومساء
وتعيش في وادي الهوى متفيئاً ... أندى الظلال وأكرم الأفياء
وأنا، وقاك الله من سَرَف الجوى ... وكفاك ما ألقى من الأعباء!
وأنا - كما تدري - أهيم بمهمه ... قفر الجوانب موحش الأرجاء
حَرَّانُ تلفحني الهواجر باللظى ... حتى تذيب عزيمتي ومضائي
ظمآن أستسقي الغمام وإنه ... ليضن أن يهمى بقطرة ماء
حيران ما أرتاح لحظ بصيرة ... حتى أعاف إقامتي وثوائي(113/48)
وا لوعة المهجور في وادي النوى ... مما يساوره من البرحاء
يا جنة السلوان، ناءت عزمتي ... من فادح الذكرى وخار بنائي
فمتى أفيء إلى ذَراك وأستقي ... بَرْد العزاء ونشوة التأساء
فريد عين شوكه(113/49)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
18 - تطور الحركة الفلسفة في ألمانيا
فريدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
الآن تبين لنيتشه أن هاوية سحيقة تفصل بينه وبين شوبنهاور وفاجنر، وقد تقبل مذهب التشاؤم من قبل ليتخذه سلاحاً يصرع به التفاؤل الخادع، وقد بدا له أن نقد الوجود نقداً مصحوباً بالتشاؤم هو من واجب كل نفس خالصة، ولكنه لم يتقبل تلك النتائج السلبية التي استخلصها شوبنهاور من نظراته، ولم يتقبل العدم وسلب الحياة كغاية منشودة في الوجود. ولكن هذا المذهب العدمي الذي يستسر فيه الخطر، قد لا يكاد يقل مذهب التفاؤل المطلق عنه خطراً، فان جيلنا إذا نمت فيه الروح الراضية القانعة والذات الخانعة، كان هذا منه علامة الوهن والضعف والانحطاط. تنشأ في جيل تعب من الحياة وتصدع من الألم، ويرتاح إلى الراحة المتمثلة في العدم، وهكذا بدرت لنيتشه مسألة جديدة شغلته طيلة حياته. . . ما هو منشأ هذا الانحطاط الحديث؟ ما هي العلامات التي ساعدت على نشره. وما هو داء العدمية؟ وما هو دواؤه؟ ولم يكد يبلغ هذه النقطة حتى وجد أن حكمه على ذينك المعلمين قد تحول من الكل إلى الكل. وإذا برفيقيه اللذين كانا عدته في مكافحة التفاؤل يغدوان خصمين عنيفين له تثقل عداوتهما عليه وعلى المجتمع. وأدرك في النهاية أن ثباته على صداقتهما فيه خطر عليه كبير، فإذا لم يبرأ من هذه الصداقة ويخلص من تأثيرها ومرضها فانه لن يتاح له أن يقف أمام نفسه واعياً همسها فاهماً نجواها لابساً لباسها، ولن يتاح له أن يأتي الناس بإنسانه الكامل الذي أوحته إليه تعاليمه الجبارة فيما درس من عبقريات اليونان، فنفض عنه هذه الزخارف الصبيانية التي يتحلى بها أسلوب (فاجنر) ووجد فيه ذلك الدليل الأمين الذي ينفع المفكر الذي يبغي أن يدرس هذه النفس وينحدر إلى أعماقها. فهو اعتنق مذهب (فاجنر) بادئ ذي بدء ليصل إلى هذه النفس. والآن يحاول أن ينجو من حبائل هذا الساحر. (إن ما يشغلني الآن هو الشقاء. . . لم يكن (فاجنر) إلا علة من عللي). . على أن الأندية الأدبية قد ارتاعت لهذا الانقلاب وهذه المفاجأة. وأجمعت كلها(113/50)
الحملة على نيتشه العقوق الذي رأت فيه الناكث للعهود. وأخذت الأندية تبعث بتآويل شتى لمعنى هذه الانفصال. وكلها أزمعت القول بأن نيتشه كان في الحالة الأولى خير من تفهم (فاجنر) ووقف على دقائق مذهبه، وكان تحليله الأول له خير ما أخرجه ناقد محلل عن هذا الفنان. وعللت بأن ما عراه من مرضه العقلي الذي ساقه إلى قطع علاقاته مع المجتمع، هو الذي ساقه إلى التنكر لأصدقائه، ولكن هذا التعليل تعليل فاسد يفسد على الرجل كل فلسفة، وهو الذي كتب نظراته وأعطى مذهبه حراً مفكراً مختاراً. لم يكن مجنوناً ولا مخبولاً يوم طعن (فاجنر) ونال من مذهبه. أما أصدقاء نيتشه فهم يعزون ذلك إلى انخداع نيتشه بهذا الفنان. وهنالك آراء تقاربت تجئ طوراً مع نيتشه وتارة عليه. أما الذين يمقتونه فهم ينقمون منه هذه الشخصية أو هذه الأنانية التي قادته إلى نكران الصداقة، زاعمين أن شخصية نيتشه لا تود أن ترى ظلاً لشخصية غيرها، وشخصية نيتشه في الحقيقة شخصية ذاتية قوية، لأن الرجل يرى أن الشخصية هي كل شيء، يضحي في سبيلها بكل شيء ولا يضحي بها في سبيل أي شيء. فوجد نيتشه أن شخصيته تكاد تفنى في شخصية (فاجنر) وهو الذي التصق به واتصل لمجرد الوصول إلى نفسه وتفهمها. ولم يجعل منه رسولاً هادياً ولا مثلاً سامياً. . وهكذا أخذت هذه الشخصية الغالبة تضيق عليه ويضيق بها، وتخفي صوته الحقيقي، فليضح بكل شيء في سبيل ذاته. ولعل نيتشه أدرك أن القوم سيختلفون في تعليل هذا الانقلاب فكتب هذه الرسالة التي تنطوي على صفاته ولون تفكيره. (كنا صديقين غريبين. . . . . كنا كمركبين. كلاهما له غايته وله سبيله. . . . قد نتلاقى ونرفع أعلام اللقاء كما فعلنا. . . وفي هذه اللحظة ذاتها قد رسا المركبان في مرفأ واحد، يغمرهما شعاع واحد، كأنهما مقدمان على هدفهما، وكأن هذا الهدف واحد عندهما، ولكن الضرورة التي لا تُدفع قد تقذف بمركبينا قذفة جديدة نحو بحار مختلفة وأنواء متباينة. وقد نتراءى ولكن لا نتلاقى. كم لوحتنا الشمس والأمواج! نظل غريبين لأن الشريعة الغالبة تريد ذلك. . ولكن صداقتنا القديمة تبقى شيئاً قدسياً. . . وهكذا نريد أن نؤمن بصداقتنا (في النجوم) حتى في العهد الذي يجب أن نكون فيه خصمين علٍى الأرض)
أليس في هذه الكلمة ما يجعل نيتشه بريئاً شريفاً بازاء خصميه وأنصار خصميه؟
نيتشه الفيلسوف!(113/51)
- 1 -
لم تكن نهاية عمر نيتشه إلا معركة متصلة الأسباب، يشنها صاحبها على الداء الذي خامره، يصرعه حيناً وحيناً يصرعه. وهو خلال ذلك يطول صراعه ويمتد نزاعه، يحول الداء بينه وبين إتمام عمله الذي تصدى له، ولا يشعر بالمجد الذي صار يركض إليه في أصقاع العالم
هذه الفلسفة الغريبة الشاذة قد شك عند مناقشتها النقاد الذين لم تتسع لها عقولهم، فقالوا عنها: إنها فلسفة طائشة جاء بها مجنون، قد تمخض بها الجنون فناً من قبل! وهؤلاء قد ظلموا الرجل ميتاً كما ظلمته الطبيعة حياً، على أن شذوذ هذه الفلسفة لا يدعو إلى حسبانها فلسفة مجنونة، فقد كتبها صاحبها واعياً وغالب بها ألمه قبل أن يستحيل إلى جنون، ومهما ذهب النقاد في تعليل جنون نيتشه: أهو جنون اكتسابي أم وراثي، فان الرجل قد استطاع بما أوتي من عبقرية سامية أن يحدث في صفحة الحياة أمواجاً عنيفة بالحجر الذي ألقاه. وبهذا لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الجنون أثر في آثاره وهو الذي دل على وعي خارق في أحدِّ نوباته وأعنف آلامه
- 2 -
أراد نيتشه آلامه، وعمل على تحملها غير مستثقل ولا مستضعف، يحولها إلى الحاجة التي يريدها ويستخلص منها ما يلائم حياته. فإذا لم يكن هذا الرجل جديراً بالرأفة والشفقة لأنه لا يريدهما؛ فهو جدير بالاحترام. والبطل يحترم مستلئماً ومكفَّناً
أول نعمة احتسبها للألم أنه أنقذه من مهنة التعليم ودراسة اللغات المندثرة، إذ أخذ يحس أن هذه المهنة برغم شرفها لا تتلاءم والغرض الذي تتوق إليه روحه. فهو فيلسوف قبل أن يكون عالماً بدراسة اللغات. وأخذ يشعر بأن وفاءه لهذه المهنة دفعه إلى قتل أزهى أيامه وتعطيل دراساته، فما أثقل اليوم على ظهره هذه الأعباء! فجاء الداء وأجبره على تحطيم كل حلقة تربطه بالماضي الذي أصبح يعده غريباً عنه وهو منه. جاء فبدل حياته بحياة ثانية تختلف مظاهرها، وألقاه في عزلة عميقة لا يقر فيها إلا إلى نفسه لأنها حرمت عليه الانكباب على المطالعة والانصراف إلى الدرس. فهو اليوم وحيد مع نفسه، أمام نفسه. يسمع نداء من كان في أذنه وقر عنها. فرحت اليوم نفسه بعودته إليها، بأوبته إلى العزلة(113/52)
والراحة الخالدة: هذه النفس التي كادت تقتلها الحادثات وتطغي عليها جبلة المجتمع قد نفضت عنها الأكفان ورفعت صوتها الرنان (ما تذوق يوماً من السعادة ما تذوقه خلال أيام دائه لأنه عاد إلى نفسه. وهذه العودة إليها كانت شفاءه. وهذا الشفاء يتلوه شفاءه المادي)
على أن الداء لم يزد نيتشه إلا احترازاً في النظر إلى مسائل الكون والحياة، وهو عاكف على التطلع إلى هذه المبادئ الفلسفية، ولكن يراها بمجموعها جملة مبادئ هي حقائق بعينها؛ اطلع إليها كأنها ابنة طبع مبدع وشخصية مبدعة، ومما ينبغي أن ينظر إليه بعين الاعتبار مسألة تأثير الصحة والسقم في العقل البشري، فإذا تألم جسدنا - وهو العقل الأكبر - فالعقل الصغير لابد متأثر بما نزل بالعقل الكبير، وإذ ذاك يسأل السائل: هل هذا المذهب علامة من علامات صحة صاحبه أو انحطاطه؟ وقد أيقن نيتشه بأن السقم زاده احتراساً وانتباهاً من سلطة الأخلية والأوهام التي تتولد عادة عند من راقت لهم صفحة الحياة وبهجة الدنيا (بلى! إنني أدرك أن الألم لا يحمل الإنسان إلى المقام الأحسن، ولكن الألم ينحدر بنا إلى أعماقنا!)
والإنسان الذي يريد أن يناضل ما ينتابه من قلق جسماني متسيطر ينبغي له أن يفرض على نفسه قوة يقهر بها نفسه، تخرج منها إرادته المتمرنة ظافرة كما يصنع الهندي المستسلم لألوان من العذاب، أو أن يستسلم لزهد مطلق واعتزال كامل وهجر للإرادة، والإنسان الذي يتمكن من هذا الامتحان يقضيه من غير ضعف، يتعلم منه أن يتأمل مسائل الحياة بوضوح وجلاء، لا يخدعه عن حقيقتها شيء؛ فهو يأبى أن تصرفه عن حقيقة الوجود هذه التشابيه والخزعبلات المغرية، وكأن دافعاً للانتقام والثأر من الحياة يتحرك في طوايا نفسه، يريد أن يستبدل بها آلاماً تتولد له حين يقابلها وجها لوجه يميط عن وجهها النقاب. وينزع كل زينة خادعة تتبرج بها لإغواء الناس؛ وهو إذا أحب الحياة بعد ذلك فانه يحبها كالعاشق الغيور المتحرز، حبك لامرأة خدعتك وأصبحت مثار الشك عندك
يلاحظ نيتشه أن الألم هو الذي جعله متفائلاً، والسقم قد علمه ما يبلغ تأثير الانحطاط الجسماني في عقل المفكر، ولاحظ به كيف يسعى الألم إلى قهر عزة النفس العقل الفلسفي ورد هذه العزة ضعفا وذلة وحزناً وكآبة. وأدرك ما هي المواضيع والزوايا السماوية التي يلجأ إليها عقل المرضى والمنحطين سعياً وراء ما يخفف عنهم من فاقتهم وكآبتهم. وأدرك(113/53)
بعد هذا كله أن كل فلسفة تضع السلم فوق الحرب، وكل فضيلة تعطي للسعادة تحديداً سلبياً، وكل علم من علوم ما وراء الطبيعة يرى أن في مراحل الاعتدال والراحة التامة والأمل الديني في عالم خير من هذا العالم، وفي برزخ غير هذا البرزخ، يرى في هذا كله حداً للرفعة والسمو؛ إن هذه الفلسفة مهما كانت مظاهرها فهي تحمل طابع الفساد والانحطاط؛ وآمن بأنه فهم أن كل هذه المذاهب الداعية إلى التشاؤم والركون المطلق تدل على أن أصحابها الواضعيها كانوا في حالة مرض عضوي؛ ولما أراد هذا المريض أن يشفى ركن إلى التفاؤل؛ وقد نفعته أيام البلاء بالوقوف على أسباب التشاؤم، فانصب على الداء بكل ما يحوي جسده ونفسه من عزم، يقاومه في معركة لا هوادة فيها ولا رحمة، وبقوة روحه قد انتصر في عالمي جسده ونفسه؛ عاد متفائلاً، وعادت إليه العافية، (ألا إنني اكتشفتُ حياة جديدة؛ اكتشفتُ نفسي. إنني قد جرعتُ الأشياء الكبيرة كما رشفت الصغيرة منها، وجعلتُ من رغبتي في الشفاء والحياة كل فلسفتي، حذار جميعاً؛ إن الأعوام التي انحطت فيها حيويتي، هي الأعوام التي طلقتُ فيها تشاؤمي، وغريزة الوقاية هي التي صرفت عني فلسفة اليأس والفاقة)
(يتبع)
خليل هنداوي(113/54)
القصص
صور من هوميروس
3 - حروب طَرْوَادَة
إلى أسبارطه!
للأستاذ دريني خشبة
- (سمعت يا أبي قصة أختك المعذبة (هسيونيه) إذ أنا أرعى الشاه والبهم، فكان قلبي ينفطر أسى، كيف يسكت شعب عظيم كشعب طروادة على إهانة تصيبه في الصميم من شرفه، وعار ليس أيسر من دفعه، لكنه يغضي عليه، وينام عنه، كأن العزة القومية عند أهل هذا البلد ليست إلا أسطورة قديمة، أو حلماً لا يدور لهم بخلد!؟)
- (حسبك يا باريس! حسبك يا بني! إنها محنةٌ كتبت على طروادة،، صنعها جدك بيديه!)
- (جدي؟)
- (أجل! جدك. . . أبي. . . أبي لا يوميدون! هو الذي نكث بعهده لبطل الأبطال هرقل. . . الرجل العظيم الذي أنقذ هسيونيه من براثن هذا الوحش البحري الهائل. . . الوحش الذي فتك بعذارى طروادة. . . لقد أعلن أبي أن من يقتل هذا التنين فانه يتزوج هسيونيه. ولما قتله هرقل العظيم. . .
- (رفض والدك أن يزوجها منه!)
- (هو ذاك!)
- (لم أسمع بهذا من قبل. . . ولكن كيف سمحتم لهرقل وملئِه أن يستبيحوا طروادة ويذهبوا ببعض الأعزاء من أفراد البيت الملكي!
- (كنت طفلاً. . . وقد كنت بعض هذا السبي. . . ثم من كان يستطيع دفع هرقل، أقوى أبناء زيوس، وصاحب المجازفات الخرافية! من كان يستطيع حماية طروادة منه، بعد أن نكث الملك بوعده؟
أنت كنت بعض السبي؟ أنت يا أبي؟
- (أجل يا باريس! وقضيت في أيدي أعدائنا الشرفاء أجمل حقبة من شبابي! لله كم كانوا(113/55)
كرماء حقاً؟. . .)
- (وكيف عدت إلى طروادة إذن؟)
- (مات أبي بعد حياة مفعمة بالمتاعب، ولم يكن له ولي عهد غيري، فتوجه الطرواديون إلى الأعداء يطالبونني ملكا لهم، بأي ثمن. . . ولكن أعداءنا كانوا أكرم من أن يسترقوا الملوك أو يبيعوا الأمراء. . . لقد أعادوني معززاً مكرماً إلى وطني، بعد إذ أخمد خصومتهم موت هرقل. . .
- (ولم لم تعد عمتي هسيونيه يا أبتاه؟)
- (لقد تزوجها تيلامون يا بني، وأحسبها الآن أيما)
- (ذلك أدعى لعودتها. . . إنها لا شك تتعذب في دار غربتها. . . مسكينة!! إن حدائق الخلد لا تجدي نفعاً إذا كانت سجناً لأحدنا!
- (هذا حق يا بني. . . ومثله القفص من ذهب يحبس فيه البلبل المحزون!
- (أنا حزين يا أبتاه. . . لابد أن تعود عمتي. . . أفتأذن لي في الإبحار إلى هيلاس؟ إذا أذنت، فلن أعود إلا بها
الآلهة لا تكذب!
هكذا قالت فينوس! وإذا كانت الآلهة لا تكذب، فلن يكذب أبوللو! لابد أن تصدق النبوءة القديمة؛ لابد أن يبحر باريس إلى هيلاس ليجر الخراب على طروادة، وليخيم الموت في داراتها جميعاً. . .
الآلهة لا تكذب!
لقد أبحر إلى إسبارطة في يوم عاصف؛ أسود من جبين الموت! وأبرد من بطون القبور! ولقد كان أسطوله اللجب يرقص على نواصي الموج، كما يرقص الطائر المذبوح في قبضة الفناء. . .
هيلين
ثمرة الحب الأولمبي الساحر. . . ابنة زيوس، الغزل، زير النساء؛ من ليدا الفاتنة، التي حولها حبيبها كبير الآلهة، وسيد أرباب الأولمب؛ إلى بجعة بيضاء تتهادى في مرايا المستنقعات والغدران، ليسهل عليه لقاؤها دون عزول. . . أو رقيب! ولقد ولدت له هذه(113/56)
الطفلة التي كانت كقطرة المداد يمهر بها إعلان الحرب!
شبت هيلين وشبت في أثرها شياطين الفتنة؛ وكبرت، وكثرت تحت قدميها مصارع العشاق!
لقد كان جمالها أسطورةً مصورةً في السحب، موشاةً بذهب الأصيل! كانت نظراتها تغتذي بأرواح المحبين في غير شره، وترتوي بماء حياتهم في غير نهم. . . وإن كان محبوها يحصون بالآلاف. . .!
وهي لم تعمد يوماً إلى قتل هذه الأرواح المظلومة؛ ولم يكن ذنبها كذلك أن تنظر فتصرع، أو تنعس فتُصمي. . . ولكن القتل كان يذهب بأرواح عاشقيها عفواً كلما نظرت هنا أو هنا. . . وذاك هو القتل البريء. . .!
وكان لها فم شَتيتٌ حلو، أودعت فيه السماء أسرارها، وصبغته عرائس الفنون بحمرة القبل؛ فهو دائماً يبتسم، وكل ابتسامة منهُ تحي وتُميت!
وخداها الأسيلان كذلك! لقد كانت لهما نعومة ولمعة، و (نونةٌ) خلابة، هي ملتقى الفتنة بين الخد والفم والعين والأنف!!
ثم عنقها الطويل البلوري الشفاف، وجيدها الممتلئ الخصب! وجسدها الرخص المرمري! وساقاها الملتفتان، يختلط في بشرتهما بياض الندف بحمرة الورد!
هذه هي هيلين!
فإذا فترت العينين؛ وأرخيت الأهداب الكحيلة السوداء، ذات الوطف؛ وأرسلت نظراتك المذهولة ترف بالخد والجيد، والفم النضيد، فترتد إلى فؤادك بأحمال الحب، وأثقال الهوى. . . رأيت التمثال المعبود الذي خلب ألباب أمراء هيلاس، وأجج قلوبهم بالفتنة، وقرح أجفانهم بالسهاد!
لم تنشأ هيلين مع ذاك في حجور الآلهة، إذ تزوجت أمها، بعد أن هجرها زيوس، من تنداريوس، أحد أمراء هيلاس، فترعرعت الطفلة في مهاد النعمة، وسعدت بالهناءة والعيش المخفرج حتى كانت هيلين التي رأيت!؟
وقد تقدم إلى خطبتها كثير من سادة الإغريق ونبلائهم، ولكن أحداً منهم لم تقبله هيلين بعْلاً لها. . . لا لعيب فيهم. . . ولكن القلب!!(113/57)
أجل، لم يكن يتفتح قلب هيلين الأولمبية الرائعة، إلا لكل جميل رائع! ولما لم يكن في كل من تقدموا لخطبتها من هو سليل الآلهة مثلها، فقد رفضتهم جميعاً، وعلة ذاك هذا الدم المتكبر الذي يتدفق في عروقها، وذلك الجمال المعبود الذي كان أكثر من أن يحصر في امرأة واحدة!!
وجرت الألسن في هيلين، وجمال هيلين، وعشاق هيلين. . والساخطين على هيلين ممن جرحت كبرياءهم لرفضها إياهم، ولقي زوج أمها من جراء ذلك هولاً شديداً ورهقاً. . .
تحدثوا أن عشاق هيلين، ومنهم أبطال هيلاس وشجعانها وذوو الصولة والجبروت فيها، كانوا يضربون معسكراتهم حول بيت زوج أمها، يطمع كل منهم أن يفوز هو بيد هذه الغادة ذات المفاتن، التي أذلت الأعناق العزيزة، ورغمت بها الأنوف الإغريقية الشماء!
وخشي تنداريوس أن تشب الحرب بينهم، لو أن هيلين قبلت أحدهم زوجاً لها دون الآخرين. . . وأسقط في يده حين تقدم منالايوس، ملك أسبارطة، وسليل الآلهة أيضاً، إلى هيلين يطلب يدها. . . فلما أسرت الفتاة إلى زوج أمها أنها ترضى ملك إسبارطة بعلاً لها، تضاعف فزعه، وازدادت خشيته، وأيقن أنه لو أنفذ من أمر ذلك الزواج شيئاً، فان أمراء هيلاس بأسرهم يصبحون له أعداء ألداء، وهو لا حول له بعداوة أحدهم بمفرده ولا طول!!
ولجأ تنداريوس إلى الحيلة. . .
لقد أقام حفلاً شائقاً دعا إليه كل من تقدموا لطلب يد هيلين، وبالغ في إكرامهم والاحتفاء بهم، ثم خطبهم فتحدث عن فتاته وما كان من أمر خطبتهم لها وعدم التوفيق في إنجاز شيء مما أقدموا له واختلفوا فيه. . .: (أفأن بدا لهيلين يا سادة أن تختار أحدكم ليكون لها زوجاً من دونكم انقلبتم على أعقابكم وثرتم بمن يقع عليه اختيار الفتاة فقتلتموه أو فضحتموه في عرضه، وجعلتم اسم هذا البيت الكريم مضغةً في أفواه الهيلانيين وجيرانهم؟؟ إنما نريد أن نتقي هذا الشر فلا يستطير، ونتدارك الأمر؛ فلا ندعه همجية بيننا؛ ولن أكلفكم في سبيل ذلك شططاً. . . يمين، يا سادة، صادقة، تقسمونها فتكون عهد الوفاء بيننا، أن ترتضوا جميعاً ما ترتضيه هيلين، وأن تكونوا يداً على من يحنث ولو كان أعزكم جانباً وأكثركم قوة. . . بل لنتفق جميعاً على أمر يكون أعم مما أشرت إليه، أن نكون يداً على من تحدثه نفسه بالأضرار بهيلين أو بِسَبْيها، فقد تحدث إلي من عنده علم أن بعضكم ينتوي هذه النية(113/58)
السوداء. . . ينتوي أن يسرق هيلين إذا لم يكن من حظه أن يقع اختيارها عليه ليكون بعلاً لها، وأنتم السادة النُّجب من علية الإغريق وجيرة الأولمب، أفترضون أن يحدث هذا الحدث في أمر كلكم شاركتم فيه من قبل؟. . .)
ويجيب المدعون في صوت واحد: (حاشا حاشا! لنقسم جميعاً. . .) وأشرقت هيلين على الملأ، وكادوا يفتتنون بعد إذ أقسموا، لولا أن أرسلت الفتاة صوتها الموسيقي الرنان. . . تختار ملك إسبارطة، الملك منلايوس، ليكون زوجها الوفي الأمين!!
وطأطئوا رؤوسهم. . . وانصرف أحدهم في إثر الآخر. . .
رسا أسطول باريس في مرفأ ليسديمونيا الأمين، وخرج الإسبارطيون وعلى رأسهم ملكهم ومليكتهم للقاء أبن بريام العظيم، حيث شاع أنه ينزل ضيفاً كريماً على صاحبي العرش، فيلبث أياماً في ضيافتهما، ثم يعود أدراجه إلى طروادة مصطحباً عمته الأيم هسيونيه!
وتقدم الملك والملكة فسلما على الضيف الشاب، وتحرك الموكب الكبير في طريق حُفت بالشعب الطروب، وفُرشت بأوراق الورد، وتأرجت في جنباتها أنواع الرياحين. وكانت فرق من الموسيقيين تعزف هنا وهناك، فتراقص ألحانها العذبة حبات القلوب. وكم كان جميلاً رائعاً إنشاد الجنود وقد وقفوا صفوفاً صفوفاً، كلما مر الموكب الملكي بفرقة منهم دوى هتافها حتى يبلغ عنان السماء. . . فإذا فرغوا وصلت هتافهم فرقة تالية. . . وهكذا. . .
وكان سرب من أجمل قيان اليونان وحسانها يحيط بالملكة الجميلة، وقد قصرن ثيابهن وأرسلن شعورهن، فبدون فتنة الركب، وكن سحر الموكب، ولفتن من باريس بصره وسمعه وفؤاده!
وكان الفتى يخالسهن نظرات مشغوفةً، وكن بدورهن يبسمن له ويتبرجن، حتى التقت عيناه بعيني الملكة. . . فنسى نفسه!!
لقد خُيل له أن قلبه انخلع من مكانه الذي بين جنبيه، ليتأرجح في مقلتيه! أين رأى هذه الملكة من قبل يا ترى؟ إنه لم يذهب إلى الأولمب قط، وهل لبشري أن تطأ قدماه أرض الأولمب فيرى مثل هذا الجمال الساحر، والحسن الفتان؟
الحق أن هيلين تعمدت أن تشك قلب باريس في قوة وعنف، حين أدركت رُسُل العيون(113/59)
تنتقل بسرعة بينه وبين قيانها وحسانها! فلما التقت عيناها بعينيه غمزت قلبه الضعيف الغض بسهمٍ مُراش من عينيها الساجيتين، انطلق إلى جوانحه في بروقٍ من بسماتها. . . ورعود!
لقد زلزل قلبه. . .
وأحس كأن قوى خفية تجذب روحه لتمرغها تحت قدمي هيلين! وطفق يفكر ويفكر أين رآها من قبل. . . ولكن بلا جدوى. . .
ثم بدت له فينوس بحيث لا يراها أحد غيره. . . وقالت له: (هِيَ. . . هي. . . كن شجاعاً!). . . ثم غابت ربة الحسن. . .
فذكر ماضيه القريب، وذكر ما وعدته به فينوس، وذكر أن هيلين إن هي إلا صورة أرضية. . . سماوية. . . من ربة الحب، وأنها مخلوقة كخلقها، عذوبة روح، ورقة نفس، ودفء دم، وسحر عيون. . .
فصمم على أن تكون له!!
ولبث باريس في ضيافة الملك أياماً كانت تتصرم كأطياف الأحلام! ثم حدث حادث جلل في أطراف المملكة استلزم وجود الملك نفسه ليرى رأيه فيه، فلما كان يوم السفر ودع منلايوس زوجته الحسناء، وأوصاها بإكرام ضيفه العظيم، باريس، (ابن صديقي ملك طروادة!). فطمأنته هيلين، وخرجت تودعه، حتى إذا كانت عند أسوار ليسديمونيا، حيته تحية فاترة. . . وعادت لترعى عصفورها الغِرّيد. . .!!
أقبلت هيلين على ضيفها غير هيابة، وأقبل هو عليها في غير وجل. أقبلت عليه تؤانسه كما أوصاها زوجها! وأقبل هو عليها يغازلها، ويبحث فيها عن أجمل امرأة في العالم كما وعدته فينوس!
(هيَ هيَ. . . كن شجاعا!). وهكذا كانت تتردد هذه العبارة المقتضبة في أذني باريس كلما ذكر الوفاء وشكران الجميل؛ وكلما هم أن يبتعد بقلبه عن زوجة الملك الكريم المضياف الذي احتفى به وأكرم مثواه. . .
(هيَ هيَ. . . كن شجاعاً!) إذن فليكن باريس شجاعا كما أمرته فينوس! ليقترب من هيلين في هذه الخلوات الحلوة التي تمن عليه بها، فتستطيل كل مرة إلى ساعات وساعات؟(113/60)
ليقترب منها، ولتصب هي سلسبيلاً من الموسيقى في أذنيه المرهفتين لكل كلمة من كلماتها. . . وليرشف هو هذه الخمر التي تتدفق من عينيها وأهدابها. . . ليرشف من هذه الخمر حتى تثمل روحه، ويسكر قلبه، وتزيغ عيناه!
ليقترب! ليقترب كثيراً! ليمس جسده المشتعل، جسدها المعطر الفينان! إنها لا ترفض أن يكون ذراعه فوق كاهلها! بل هي أيضاً تنثر ذراعها فوق كاهله؟ هاهما يتخاصران! الخبيث يضغط ثديها الأيسر بشدة! هل يبحث عما يكنه قلبها؟ أم يفتش عن شيء مفقود في نفسها؟ إن عينيه ما يتحولان عن عينيها! إنه يحملق فيهما بشراهة!
قُبلة. . .
هي القبلة الأولى من غير شك! هي الاعتراف الصريح بنضوج الحب!
وقبلة ثانية. . .
وهي القبلة المؤكدة لأختها الأولى! هي عدم المبالاة بما عساه أن يكون! هي أول شرط في عقد هذا الغرام الأثيم. . .! هي الاعتداء الصارخ على عرض منالايوس. . . منالايوس العظيم ملك إسبارطة. . . وسليل الآلهة!!
- (ألا يسرك يا هيلين أن نعيش سوياً أبد الدهر!. . .)
- (ألا يسرني! ما السرور إذن يا حبيبي باريس؟)
- (إذن فلنرحل في ظلام الفجر!)
- (إلى أين؟)
- (إلى طروادة؟)
وأقلع الأسطول في غبشة البكور يحمل. . .
هيلين!!
وعفا الحب عن عمة باريس! عفا الحب عن الأيم هسيرنيه!
(لها بقية)
دريني خشبة(113/61)
من أساطير الإغريق
المحسن
(مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة)
للأستاذ محمد روحي فيصل
منذ آلاف السنين، بينما الناس في اللهو والضلال كانوا منغمسين، سُمع من جانب السماء صوتٌ هائل كأنه الرعد القاصف قد اهتزت له أطباق الفضاء ومادت منه جوانب الأرض؛ فإذا بميازيب النور تجف على أثر ذلك، والظلام يغمر الدنيا كلها؛ كأنما الشمس الحبيبة - أمُّ الحياة - قد غاضت أشعتها الزاهية وانطفأ معناها الحي، وإذا بالأنهار والينابيع والغدران تجمد وتكف عن السعي، وقد استحال خريرها المؤنس الجميل إلى صمت كئيب موحش كصمت القبور، وإذا بريح صرصر عاتية تهب مجنونة على الأرض فتقتلع الأشجار بأصولها وفروعها وتهيج الغبار، وتخطف المنازل من أماكنها، وإذا بالضواري المروعة تنفر من مكامنها هائجة غاضبة تزأر. . .!!
وريع الناس وجبنوا فما يدرون ماذا دهاهم من الخطوب، ثم أقبل بعضهم إلى بعض يتساءلون: أي ذنب اقترفناه، وأية فريضة لم نقم بها حتى صب علينا الإله العظيم غضبه وويله؟
وكانت قافلة الحياة يومئذ من الشر والضلال في منزلة لم يعرفها التاريخ في أدنى عهوده، تسير على غير هدى وإلى غير غاية في معمعهٍ من الفساد وطريق من الرذيلة، وكان رجال الفن أدق الناس شعوراً وأرهفهم إحساساً. فقال الشاعر: (إني نظمت في مديح الإله قصيدة رائعة منتزعة من النفس؛ لا صادرة عن اللسان، ما احسب أن أحداً من الشعراء سبقني إلى مثلها على كثرة المادحين، أودعت فيه قلبي ودمي، وحرقت لها مخي وكبدي، ثم صغتها في لفظ عذب جميل! فأنا أسبح بحمده ما نطقت، وأنشر روحه أنى حللت ولقد أجثو في محرابه خاشعاً متصدعاً، أتلو آي التمجيد والاجلال، فكيف يغضب مني وينقم علي؟)
وقال الموسيقي: (وأنا أيضاً لحنت أنشودة قوية تحكي هديل الحمام وتغريد العنادل، ورجعتها ترجيع عاشق محزون، ثم قدمتها هدية حقيرة للإله الجبار، فلماذا غضب.؟)(113/62)
وقال النحات: (أما أنا فقد صنعت له تمثالاً عظيماً يجمع إلى معاني الجبروت تهاويل الجمال، وإلى قوة البنية رشاقة القسمات تُرى أيغضب الإله مني وأنا مجسَّده؟)
وانتفض المصور وقال: (أأنا مغضب الإله إذن؟ لقد أخذت زرقة السماء وخضرة الأوراق واحمرار الشفق، ونزعت من الورود ألوانها، والتمست من ذلك كله صورة لألهنا الكبير فما زلت أعمل فيها وأنسقها حتى برزت حية ناطقة في إطار واضح مشرق. . .)
ويضطرب الناس، وتطغي عليهم حيرة جاهلة عمياء؛ تتبينها في الوجوه الواجمة، والنظرات الحائرة، والخطى الثقيلة! ويتداولون الأمر همسا ويلتمسون الخلاص من الخطب ويجمعون رأيهم على الذهاب إلى وادي عبقر، موطن الوحي والإلهام. فراحوا جميعاً إلى حيث يلاقون إلههم الغاضب، يتقدمهم الشاعر ساهم الوجه، تائه البصر، وحمل المصور لوحته وريشته العذراء، وتأبط الموسيقي قيثارته المشدودة الأوتار، وجمع النحات إزميله ومنقاشه وحجره. . .
وفي لمحة خاطفة، طلعت الشمس، وغردت الطيور، واستأنفت الأنهار سعيها، ثم لامست الوادي غيمة كبيرة بيضاء هبط منها الإله الجبار!!
وخر الناس من الخشية سُجداً يلتمسون البركة والضراعة والغفران! وكما يسمع الحالم في النوم سمعوا صوت إلههم يقول:
لقد بعثت فيكم رسولاً كريماً ينشر الرحمة ويعلمكم العطف والتقدير فتجاهلتموه!
بعثته والإخلاص ملء برديه وفيض إهابه فلم تقدروه!
هو خادمكم الأمين يبذل عرق جبينه لصلاح مجتمعكم الواهي وينفق المال الذي بين يديه دون أجر غير أجري؛ لأنه يعطيكم أكثر مما يأخذ منكم، ويبني المستشفيات والملاجئ، ويقيم دوراً للعلم فنسيتموه أو تناسيتموه!
وحق عظمتي، لولا رحمتي التي وسعت كل شيء لجعلت الأرض فوقكم قاعاً صفصفاً. . .
عند ذلك صاح الساجدون كلهم:
ما اسم هذا الرسول الكريم؟
فأجاب الإله الجبار: المحسن
حمص(113/63)
محمد روحي فيصل(113/64)
الهدية
للأستاذ بشير الشريقي
حدثني صديق لي وهو في مقتبل عمره، وأول عهده بالوظيفة، قال:
في صباح أحد الأيام، وأنا متهيئ للخروج إلى عملي، إذا بباب غرفتي يطرق، وإذا بالطارق فتى جميل المحيا، يقظ الملامح، يحمل على يديه سفطاً مستطيل الشكل، كبير الحجم، فما وقع نظري على الفتى والسفط بين يديه حتى تولاني الانقباض، لأنني عرفته من هو؟ وأين يشتغل
تمتم الفتى: لقد عاد عمي الشيخ من دمشق مساء أمس وهو يهديك تحياته، وقد أرسلني بهذا السفط هديته من دمشق إليك
ولكن عقلي كان قد اهتدى إلى أني موظف، وأن لصاحب هذه الهدية مصالح كثيرة عندي يهمه قضاؤها
فبادرت الفتى بتؤدة: ما هذا؟ ليس من الضروري. . . . له مني الشكر. . . أعد السفط إليه. . . ليس من الضروري. . . ولكنه قاطعني بأدب: لقد بعث به الشيخ إليك. . وهو هديته من دمشق. . . وسيغضب علي إن رجعت به
قلت بلهجة الآمر: أرجعه. . . سوف لا آخذه
عاد الفتى بالسفط وهو لا يصدق أني رفضت قبوله؛ وعدت فأغلقت علي باب غرفتي أفكر في الذي صنعت: لولا أنه صاحب حاجة عندي لما خطرت هذه الهدية له على بال ولما فكر في لحظة، إذ لا صداقة بيني وبينه، وأنا لا أراه إلا في الدائرة حين يريدني في أمر رسمي، أو في الطريق فنتبادل التحية من بعيد، وفوق ذلك فهو من التجار الذين يحاسبون على السحتوت والقطمير، والذين يعطون القرش ليستردوه قرشين؛ وهكذا كان الظاهر محاطاً كله بالريب فلم يدخل في نفسي أن هدية الشيخ منزهة عن الغرض
وبينا أنا على هذه الحال، إذ أرى الشيخ من نافذة غرفتي قادماً إلي، فأسرعت وفتحت له الباب:
أهلاً وسهلاً بحضرة الشيخ، الحمد لله على سلامتك، تفضل. . . جلس فإذا به قد تجاوز الخامسة والخمسين، ولكنه لا يزال محتفظاً بقوته ونشاطه، قد تدلت من ذقنه لحية كبيرة(113/65)
بيضاء، يرتدي سروالاً وجبه، نظيف البزة، وسيم الطلعة، حسن القيام على نفسه
- ماذا فعلت يا ابن أخي، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية
قلت: ويرد الصدقة
قال: ويرد الصدقة؟! ولكن قسما بهذه اللحية - وقبض على لحيته - إن الهدية قد صنعت على اسمك وحملتها من دمشق إليك
قلت: أشكرك. . . أشكرك. . .
قال: ولا أزيدك علماً أنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: (من أُهدي إليه شيء ورده فكأنما ردّه على الله)
قلت: صدق رسول الله الكريم. . أنا لا أشك في حسن نية الشيخ، ولكن القانون يا عم. . . هذا القانون المكلفون نحن قبل غيرنا بحفظه واحترامه ينهانا عن أخذ مثل هذه الهدية، فهي في عرفه رشوة والعياذ بالله، يستحق معطيها وآخذها شديد العقاب - إليك المواد - 67 و68 و69 و76 من قانون العقوبات العثماني - وقرأت له نصوصها - إنه لأمر خطير
وقلت له:
ولكي تثق بواسع علم المشرع الذي سن لنا قانون العقوبات وببعد نظره أروي لك هذا الحديث الشريف المثبت في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن النبيه على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي: ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي فهل قعد في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا!)
وهنا صمت الشيخ ولكن لسان حاله كان يقول:
- لقد عرفت كثيرين غيرك من الموظفين كباراً وصغاراً فلم يحدثني واحد منهم عن مواد قانون العقوبات ولا عن حراسة القانون، لم يذكر لي واحد منهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع عامله على الصدقة بل كان أمري معهم ولا يزال على عكس تماما فأنا مكلف عند كل خطوة وعند كل حاجة أن أقدم الهدايا وألبي الطلبات. . .
وإلى هنا انتهى حديث الصديق فوجدته جديراً بالتدوين؛ فدونته في الحال؛ وهاهو كما سمعته بلا زيادة ولا نقصان.(113/66)
(شرق الأردن)
بشير الشريقي(113/67)
البريد الأدبي
جورج رسل عميد الشعر الارلندي
من أنباء ارلندة أن شاعرها الكبير جورج وليم رسل قد توفي في الثامنة والستين من عمره. وكان رسل عميد الشعراء الأرلنديين منذ أوائل هذا القرن، كما كان السير وليم وطسون عميد الشعراء الإنكليز، وقد توفي كلاهما هذا الصيف، ففقد الأدب الإنكليزي بذلك آخر زعماء المدرسة الشعرية القديمة؛ وكان مولد جورج رسل في لورجان سنة 1867؛ وتلقى تربيته في دبلن ودرس التصوير ومارسه؛ ثم غدا زعيما لحلقة أدبية كانت تنشر صحيفة عنوانها (الثيوسوفي الأرلندي)، وفيها نشر أشعاره الأولى التي جمعت بعد ذلك في ديوان سمي (أغنية وطنية متناثرة) (سنة 1894) وفي مجلد آخر سمي (أنفاس الثرى) (سنة 1897). وكان رسل إلى جانب مواطنه الشاعر ييتس زعيما للأحياء الأدبي في أرلنده؛ ودرس رسل التصوف الشرقي، وتوثقت أواصره بزميله ييتس؛ وكان يعمل مدى أعوام طويلة كاتباً في شركة للأقمشة، فقدمه صديقه ييتس إلى الزعيم والمثري الأرلندي الكبير السير هوراس بلانكيت وأوصاه به خيراً، فألحقه بالشركة الزراعية الكبيرة التي ألفها لمعاونة المزارعين؛ وتولى رسل الطواف على دراجة في القرى الأرلندية يستفهم من السكان عن أحوالهم ورغباتهم. وفي سنة 1905 اختار السير بلانكيت لتحرير صحيفة الجمعية، وهي صحيفة سياسية تعاونية، فاستمر في تحريرها حتى سنة 1923. وفي ذلك العام أصدر رسل لنفسه صحيفة جديدة عنوانها (السياسي الأرلندي) فاستمرت حتى سنة 1930. وأصدر خلال هذه الفترة عدة مؤلفات شعرية ونثرية منها كتاب (لب المعرفة) (سنة 1903) ورواية مسرحية عنوانها (ديدري) (1907) وكتاب (مثل المجتمع الأرلندي الريفي) (1911) وقصيدة كبيرة عن ثورة سنة 1916 عنوانها (التحية)، وديوان عنوانه (السحر وقصائد أخرى) وغير ذلك مما يضيق بذكره المقام
وقد كان رسل وطنياً كبيراً، يشتغل بالسياسة إلى جانب الأدب، ويسخر الأدب لخدمة وطنه، وتأييد مثله العليا في الحرية والاستقلال، وكان أيضاً إنسانا عظيما يبذل وسعه لمعاونة البائس وغوثه، وانتشال الطبقات الدنيا من وهدتها
فكتور هوجو الصحفي(113/68)
كان فكتور هوجو شاعر فرنسا الأشهر صحفياً كبيراً؛ وقد تناول هذه الناحية من حياة الكاتب الكبير، مسيو بول سوشون، بمناسبة الذكرى الخمسينية لوفاته، فقال: إن هوجو قد مارس خلال حياته ثلاثة أنواع من الصحافة: الصحافة الأدبية، والصحافة السياسية، والصحافة الخبرية. وقد بدأ هوجو حياته الصحفية في جريدة (كونس فاتير لترير)، وكان يكتب فيها فصولاً نقدية، أثارت إعجاب النقدة يومئذ، ووصف ادموند بيريه يومئذ كاتبها بما يأتي: (صحفي وناقد، كانت لذعاته الأولى لذعات أستاذ مبرز؛ وعند هذا الفتى الذي لم يجاوز الثامنة عشرة موهبة نثرية لا تقل عن موهبته الشعرية. ومما يلفت النظر لأول وهلة سعة معارفه الأدبية، فهو يكاد يستوعب كل شعراء العصر القديم. ثم الشباب! وهذا هو الذي يفيض على صحف (الكونسر فاتير لترير) سحراً لا يقاوم)
ولما صدرت في سنة 1809 أول طبعة من مؤلفات شينيه، كتب هوجو في التعليق عليها أن نزعة شعرية جديدة قد ولدت، ولما صدر ديوان (التأملات) استقبله بحماسه وترحاب
أما في الصحافة السياسة فان هوجو لم يرتفع إلى هذا المدى وقد أبان مسيو سوشون في بحثه وجوه الضعف التي كانت تغلب على الشاعر الكبير في هذا المضمار. بيد أن هوجو كان من الناحية الخبرية صحفياً لا يجارى. وقد كان يقدم أخباره للجمهور تحت عنوان (أشياء رؤيت). وقد ظهرت مجموعة منها بعد وفاته تحت هذا العنوان، وفيها يقيد الحوادث التي شهدها خلال حياته وخواص العظماء الذين لقيهم
تلك صفحة من حياة هوجو لم تأخذ حقها من التعريف في حياة الشاعر الكبير
آثار قديمة في سوريا
كشفت الحفريات الأثرية التي يقوم بها العلامة الأثري الفرنسي أندريه بييرو في سوريا على مقربة من بلدة أبي كمال عن آثار هامة ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام قبل المسيح، وتدل على أن حضارة زاهرة قامت في ذلك العهد في تلك الانحناء، وتدل النصوص والنقوش التي عثر عليها أن هذه المنطقة كانت منزل الحيثيين الذين استطاعوا أن يقاوموا طويلاً غزوات البابليين والمصريين، أما الآثار المكتشفة فهي عبارة عن بقايا قصر تبدو منه مراكزه الوسطى، ويلوح أنه كان مقراً ملوكياً، وملاذاً للكبراء ومركزاً لبعض(113/69)
الصناعات التي كانت زاهرة في ذلك العصر، وهنالك ما يدل على أن حصونه التي كانت محيطة به قد قوضت، وأن حمورابي زعيم البابليين قد اقتحمها وأحرق القصر
ومن الآثار الغريبة التي اكتشفت فصل حقيقي من فصول التعليم بمقاعده وأدراجه، مما يدل على أنه كان مدرسة يؤمها الشباب. وتدل مواقع القصر في مجموعها على أن كبراء هذا العصر كانوا يتمتعون بضروب من الرفاهية والترف، لم تعرفها العصور الوسطى في أوربا؛ وتتخلله طرق مستقية ذات زوايا قائمة، وسلالم داخلية كبيرة، ومخازن للمؤن، ومجار منظمة تحمل المياه والفضلات إلى خارج المدينة، ووجدت في معظم الأبنية المجاورة آثار حمامات وأحواض للاستحمام صنعت من الفخار المحروق
برناردشو في التاسعة والسبعين
احتفل الكاتب الإنكليزي الأشهر جورج برناردشو أخيراً ببلوغه التاسعة والسبعين من عمره، وذلك في بلده ومسقط رأسه هرتفوردشير. وفي يوم الاحتفال بمولده اعتكف الكاتب الشهير واحتجب طول الصباح في مكتبه؛ وعند الظهر أعلن انه قد انتهى من كتابة الفصل الأول من قطعة مسرحية جديدة، وقال انه سيعالج فيها موضوعا جديدا هو (الحب)
حول كتاب قواعد التحديث للقاسمي
أليس من الحق وقد كتب عن هذا الكتاب كاتبان من أكبر كتاب العربية في كبرى مجلاتها، وكان السبب في هذه الفصول الممتعة، وهذه المساجلات الأدبية الطريفة بين أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، ومؤرخ الشام وكاتبها العلامة محمد بك كرد على أن ننوه في (الرسالة) بفضل هؤلاء الشباب الغير على الدين واللغة والثقافة الإسلامية الذين ألفوا (مكتب النشر العربي) ونشروا طائفة صالحة من كتب الفلسفة والحديث للغزالي وابن الطفيل والقاسمي وغيرهم، وأنجزوا في مدة قليلة ما لم ينجز مثله سواهم في برهة طويلة؟
أليس من الحق أن نشكر للسادة الأذكياء المثقفين العاملين: ظافر القاسمي، وداود التكريتي، وعصام الإنكليزي، أعضاء (مكتب النشر العربي) قيامهم بهذا الغرض الذي قصرنا جميعاً في القيام به؟ وثباتهم على تأدية على قلة التشجيع، ورقة الحال، وشدة الزمان؟
(متأدب)(113/70)
ملكة الجمال في سوريا ولبنان
تقوم الزميلة جريدة ليزيكو الغراء بتنظيم مباراة الجمال التي كلفت القيام بهذه المهمة لتشترك ملكة الجمال في سورية ولبنان بمباراة الجمال في مدينة بروكسل وقد تقرر أن تقام حفلة كبرى في فندق بلودان يوم الخميس المقبل لهذه الغاية وتألفت لجنة من السيدة عقيلة رئيس الجمهورية والسيدة عقيلة وزير المعارف والسيدة عقيلة مدير البرق والبريد العام على أن يقوم بسكرتارية اللجنة السيد باسيل مكرديج مدير المطبوعات في وزارة الداخلية لانتخاب ثلاث أوانس واحدة من دمشق والثانية من حلب والثالثة من اللاذقية من بين المتباريات ثم تشترك الأوانس الثلاث في حفلة مباريات الجمال في صوفر مع الأوانس اللبنانيات اللواتي ينتخبن فيها الآنسة التي تتربع على عرش الجمال في سوريا ولبنان
وستكون هذه الحفلة تحت رعاية رئيس الجمهورية.
(الأيام)
أقول: هذا بعض ما أنشئ له فندق بلودان الذي لم يُعص الله في الشام بمثل إنشائه نبعث به إلى (الرسالة) بلا تعليق
(متأدب)(113/71)
الكتب
كتاب الأموال
في 616 صفحة
لأبي عبيد القاسم بن سلام
للأستاذ محمد بك كرد علي
ولد أبو عبيد في هراة وأبوه مملوك رومي، وتخرج في بغداد على أئمة وقته وروى عنه أئمة مذكورون، وكان آية في النحو واللغة والحديث والفقه، وعدَّ أعلم رجال عصره بلغات العرب، قال إبراهيم الحربي:
رأيت ثلاثة تعجز النساء أن تلد مثلهم: رأيت أبا عبيد ما أمثله إلا بجبل نفخ فيه روح، ورأيت بشر بن الحرث فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلاً، ورأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله قد جمع له علوم الأولين من كل صنف، يقول ما يشاء ويمسك ما يشاء. وروى الناس من الكتب المصنفة لأبي عبيد بضعة وعشرين كتاباً في القرآن والفقه وغريب الحديث والغريب المصنف والأمثال ومعاني الشعر وكتاب الأموال، والغريب المصنف زعموا أنه أجل كتبه
كان أبو عبيد خاصاً بعبد الله بن طاهر الوزير المشهور أغناه بما أعطاه، ولقد بعث أبو دُلف إلى عبد الله بن طاهر يستهديه أبا عبيد شهرين، فأنفذه إليه فأقام شهرين، فلما أراد الانصراف وصله بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها. وقال: أنا في جنبة رجل لم يحوجني إلى صلة غيره، فلما عاد إلى ابن طاهر وصله بثلاثين ألف دينار. فقال: أيها الأمير قد قبلتها، ولكن قد أغنيتني بمعروفك وبرك، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً وأُوجه بها إلى الثغر ليكون الثواب متوفراً على الأمير ففعل، وهذا من العلم الحقيقي والخلق الكامل، وعزة النفس إذا فقدت من العلماء خاصة صار العلم تهريجاً ومهزلة
قالوا: ولما عمل أبو عبيد كتاب الغريب عرضه على عبد الله ابن طاهر فاستحسنه وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق ألا يخرج عنا إلى طلب المعاش. فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر، قال أبو عبيد: كنت في تصنيف هذا الكتاب(113/72)
أربعين سنة؛ وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في مواضعها من الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني فيقيم عندي أربعة أشهر أو خمسة أشهر فيقول قد أقمت الكثير. وكان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا فيصلي ثلثه وينام ثلثه ويصنف ثلثه. وذكر من ترجموا له أنه كان فاضلاً في دينه وفي علمه، ربانياً متفننا في أصناف علوم الإسلام، صحيح النقل لم يطعن عليه في شيء من أمره ودينه
غلب على أبي عبيد جمع المتفرق في الكتب وتفسيره وذكر الأسانيد، وصنف المسند على حدته، وأحاديث كل رجل من الصحابة والتابعين على حدته، وأجاد تصنيفه، فرغب فيه أهل الحديث والفقه واللغة لاجتماع ما يحتاجون إليه فيه، وكتابه الوحيد الذي ظهر بالطبع كتاب الأموال وهو كما وصفوه من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده. جرى فيه على أسلوب قدماء المؤلفين من إيراد الرواية والسند في الأحاديث، لكنه لا يطيل في ذكر الرواة وينسب الحديث إلى آخر راوية معتمد، ثم يشرع في شرح ما أبهم وتفسير ما أعضل من الأحكام، يرجح ما هو أولى بالترجيح، ويبين عن رأيه بصراحة. بأسلوب محكم سلس ينم عن إحاطته بالأقوال الصحيحة المأثورة عن صاحب الشرع، ثم يشير إلى عمل الصحابة والتابعين من بعده في أحكام الأموال وصنوفها والفيء والصدقات والجزية وفتوح الأرضين صلحاً أو عنوة، وما يتبع ذلك من الأحكام التي قال بها القرآن أو فسرتها السنة أو عدلها بعض الصحابة بحسب الحال
فقد ذكر في باب ما لا يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا في أرض العنوة وفي أمصار المسلمين وما لا يجوز قول عمر (ض) (لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء) وقول عمر بن عبد العزيز: (لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار، ولا تحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار)، فقال أبو عبيد: أُراه يعني الكنائس والبيع وبيوت النيران يقول: لا ينبغي أن تكون مع المساجد في أمصار المسلمين. قال أبو عبيد، فهذا ما جاء في الكنائس والبيع وبيوت النار، وكذلك الخمر والخنازير قد جاء فيهما النهي عن عمر، ثم قال: وأما وجوه هذه الأحاديث التي منع فيها أهل الذمة من الكنائس والبيع وبيوت النيران والصليب والخنازير والخمر أن يكون ذلك في أمصار المسلمين خاصة، وبيانه في حديث ابن عباس. حدثنا أبو عبيد قال: سمعت علي بن عاصم يحدث عن أبي علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال:(113/73)
أيُّما مِصرٍ مَصّرَته العرب؛ فليس لأحد من أهل الذمة أن يبنوا فيه بيعة ولا يباع فيه خمر، ولا يقتنى فيه خنزير ولا يضرب فيه بنقوس، وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يوفوا لهم به. قال أبو عبيد: وقوله كل مصر مصرته العرب يكون التمصير على وجوه: فمنها البلاد التي يسلم عليها أهليها مثل المدينة والطائف واليمن، ومنها كل أرض لم يكن لها أهل فاختطها المسلمون اختطاطاً، ثم نزلوها مثل الكوفة والبصرة وكذلك الثغور، ومنها كل قرية افتتحت عنوة، فلم ير الإمام أب يردها إلى الذين أخذت منهم. ولكنه قسما بين الذين افتتحوها كفعل رسول الله (ص) بأهل خيبر. فهذه أمصار المسلمين التي لا حظَّ لأهل الذمة فيها، إلا أن الرسول كان أعطى أهل خيبر اليهود معاملة لحاجة المسلمين وكانت إليهم، فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر وعادت كسائر بلاد السلام: فهذا حكم أمصار العرب، وإنما نرى أصل هذا من قول رسول الله (ص) أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وفي ذلك آثار ثم ساق الأحاديث، والمأثور عن عمر في جلاء غير المسلمين من جزيرة العرب، وذكر بلاد الصلح كهَجر والبحرين وأَيلة ودومة الجندل وأَذْرُح. وذكر أحكام البلاد التي فتحها عمر كالشام ومصر والعراق الخ
ومما ذكر، وهو ما نطيل بنقله إرادة الوقوف على طريقته في تأليفه، (ص 169) أن عمر بن الخطاب استعمل عُمَيْر ابن سعد أو سعد على طائفة الشام، فقدم عليه قَدمة فقال: يا أمير المؤمنين، إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عرب السوس وإنهم لا يخفون على عدونا من عوراتنا شيئاً، ولا يظهروننا على عوراتهم، فقال له عمر: فإذا قدمت فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بعير بعيرين، ومكان كل شيء شيئين فان رضوا بذلك فأعطهم وخَرّبها، فان أبو فانبذ إليهم وأجلهم سنة ثم خرّبها، فقال: اكتب لي عهداً بذلك فكتب له عهداً، فلما قدِم عمر عليهم عرض عليهم فأبوا، فأجلهم سنة ثم أخَرّبها. قال أبو عبيد: وهذه مدينة بالثغر من ناحية الحدث يقال لها عرب سوس وهي معروفة هناك - ومعروفة لعهدنا بهذا الاسم أيضاً - وقد كان لهم عهد فصاروا إلى هذا. وإنما نرى عمر عرض عليهم ما عرض من الجلاء، وأن يُعْطَوْا الضعف من أموالهم، لأنه لم يتحقق ذلك عنده من أمرهم، أو أن النكث كان من طوائف منهم دون إجماعهم، ولو أطبقت جماعتهم عليه ما أعطاهم من ذلك شيئاً إلا القتال والمحاربة، وقد كان نحوٌ من هذا قريباً الآن في(113/74)
دهر الأوزاعي بموضع بالشام يقال له جبل لبنان، وكان ناس من أهل العهد فأحدثوا حدثاً، وعلى الشام يومئذ صالح بن علي فحاربهم وأجلاهم، فكتب الأوزاعي فيما ذكر لنا محمد بن كثير برسالة طويلة منها: (قد كان من إجلاء أهل الذمة من أهل جبل لبنان، مما لم يكن تمالأ عليه خروج من خرج منهم، ولم تُطبق عليه جماعتهم، فقتل منهم طائفة ورجع بقيتهم إلى قراهم. فكيف تأخذ عامة بعمل خاصة فيخرجون من ديارهم وأموالهم. وقد بلغنا أن من حكم الله جل وعز أنه لا يأخذ العامة بعمل الخاصة ولكن يأخذ الخاصة بعمل العامة، ثم يبعثهم على أعمالهم، فأحق ما اقتدى به ووقف عليه حكم الله تبارك وتعالى، وأحق الوصايا بأن تحفظ وصية رسول الله (ص)، وقوله: (من ظلم معاهداً أو كفله فوق طاقته فأنا حجيجه، ومن كانت له حرمة في دمه فله في ماله والعدل عليه مثلها، فانهم ليسوا بعبيد فتكونوا من تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة، ولكنهم أحرار أهل ذمة الخ). وكتاب الأوزاعي هذا نقله البلاذري في فتوح البلدان مع اختلاف يسير
وهكذا يمضي المؤلف في تأليفه ومعالجة فصول كتابه الممتع. يأتي بالآثار المشهورة الصحيحة على مثل هذه الطريقة السهلة، وفيها جمل من الأحكام التي استخرجها الحكام بعد عهد صاحب الشرع الأعظم. وقد أورد كثيراً من الكتب والمعاهدات والعقود والاقطاع، وذكر فصولاً في الصدقات والغنائم والزكوات وثمار الأرضين وما يجبى منها وما لا يجنى والمعادن والركاز والمكاييل والمكوس والعشور ومخارج الصدقة وسبيلها التي توضع فيها والوقف، إلى غير ذلك من الأبواب بحيث لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه من يريد الوقوف على أحكام كل ذلك في الإسلام، وإن كان أكثره، ويا للأسف أصبح يتلى اليوم للعلم به فقط، أو التربك بسيره السلف الصالح وترداده لمعرفة تاريخ تشريعهم
ومما قال في إسقاط الجزية عمن أسلم: وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار (عن الصحابة وغيرهم) في زمن بني أُمية، لأنه يروى عنهم أو عن بعضهم أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا، يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة الضرائب على العبيد، يقولون فلا يسقط إسلام العبد عنه ضريبته، ولهذا استجاز من استجاز من القراء الخروج عليهم، وقال إن عمر بن عبد العزيز فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين، ولا أرى عمر فعل هذا إلا لعلمه بطاقتهم له، وأن أهل دينهم يتحملون ذلك لهم، كما أنهم يكفونهم جميع مؤوناتهم! وقال(113/75)
إن رسول الله (ص) استحل دماء بني قريظة لمظاهرتهم الأحزاب عليه، وكانوا في عهد منه، فرأى ذلك نكثاً لعهدهم وإن كانوا لم يقتلوا من أصحابه أحدا، ونزل بذلك القرآن في سورة الأحزاب، قال وكذلك آل أبي الحقيق رأى كتمانهم إياه فاشترطوا له ألا يكتموه نكثاً، وقد حكم بمثل ذلك عمرو بن العاص بمصر
وقال في القريات التي أقطعها الرسول لتميم الداري في فلسطين: إنها أرض معمورة لها أهل فإنما ذلك على وجه النفل له من رسول الله (ص)، لأن هذا كان قبل أن تفتح الشام، وقبل أن يملكها المسلمون، فجعلها له نفلا من أموال أهل الحرب إذا ظهر عليها، وهذا كفعلة بابن بقيلة عظيم الحيرة حين سأله إياها الشيباني، فجعلها له بمثل افتتاح الحيرة، فأمضاها له خالد ابن الوليد حين ظهر عليها، وكذلك إمضاء عمر لتميم حين افتتح فلسطين. ومما قال في الإقطاع: (وأما إقطاع أبي بكر طلحة وعيينة، وما كان من إنكار عمر ذلك وامتناعه من الختم عليه، فلا أعلم له مذهبا إلا أن يكون رأي عمر أنه كان يومئذ يكره الإقطاع ولا يراه، ألا تسمع قول طلحة: (أهذا لك دون الناس) ثم رأى بعد ما أفضى الأمر إليه غير ذلك، فقد علمنا أنه قد أقطع غير واحد في خلافته، وهذا كالرأي يراه الرجل ثم يتبين له الرشد في غيره فيرجع إليه، وهذا من أخلاق العلماء قديما وحديثا)
ومما قال في السبب الذي دعا إلى ضرب الدراهم: (قال أبو عبيد: سمعت شيخا من أهل العلم بأمر الناس، كان معنياً بهذا الشأن، يذكر قصة الدراهم وسبب ضربها في الإسلام، وقال: إن الدراهم التي كانت نقد الناس على وجه الدهر لم تزل نوعين: هذه السود الوافية، وهذه الطبرية العُتُق، فجاء الإسلام وهي كذلك، فلما كانت بنو أُمية وأرادوا ضرب الدراهم نظروا في العواقب فقالوا: إن هذه تبقى مع الدهر، وقد جاء فرض الزكاة (إن في كل مائتين أو في خمس أواقيَّ خمسة دراهم) والأوقية أربعون، فأشفقوا إن جعلوها كلها على مثال السود؛ ثم فشا فشواً بعد لا يعرفون غيرها، أن يحملوا معنى الزكاة على أنها لا تجب حتى تبلغ تلك السود العظام، مائتين عدداً فصاعداً، فيكون في هذا بخس للزكاة؛ وأشفقوا إن جعلوها كلها على مثال الطبرية أن يحملوا المعنى على أنها إذا بلغت مائتين عدداً حلت فيها الزكاة، فيكون ذلك اشتطاطاً على رب المال، فأرادوا منزلة بينهما يكون فيها كمال الزكاة من غير إضرار بالناس، وأن يكون مع هذا موافقا لما وقت رسول الله (ص) في الزكاة؛(113/76)
إلى أن قال بعد شرح ما عملوه بشأن الدراهم: فمضت سنة الدراهم على هذا واجتمعت عليه الأمة فلم تختلف أن الدرهم التام هو ستة دوانيق، فما زاد أو نقص قيل درهم زائد أو ناقص، فالناس في زكاتهم بحمد الله ونعمته على الأصل الذي هو السنة والهدى لم يزيغوا عنه ولا التباس فيه، وكذلك المبايعات والديات على أهل الورق، وكل ما يحتاج إلى ذكرها فيه، هذا كما بلغنا، أو هذا معناه اهـ)
ومما روي في صدقة الحلي من الذهب والفضة: (إن عبد الله ابن عمرو حَلّى ثلاث بنات له بستة آلاف دينار، فكان يبعث مولى له جليداً كل عام فيخرج زكاته منه)، ومما قال: (وشرائع الإسلام أُمهات لا يقاس بعضها ببعض، لأن لكل واحدة حكماً غيرُ الأخرى)، ونقل كثيراً من كتب عمر بن عبد العزيز تأييداً للأحكام التي وردت في القرآن وفسرتها السنة، وكان عمل الراشدين ومن بعدهم سنة متبعة في الأموال، ومنها كتب عمر بن عبد العزيز: أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث. فكتب عمر: لابد للمرء المسلم من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته، نعم فاقضوا عنه فانه غارم)
ويغتبط قارئ كتاب الأموال أن يرى نور العقل يتخلل كلام أبي عبيد، وأن يقرأ فيه صورة جميلة من تأليف القوم في القرن الثاني وأوائل الثالث بهذه البلاغة الخالية من التكلف. ولو كتبت العلوم الإسلامية كلها على المثال الذي كتب به علماء القرون الأولى لاقتصرت على طالبها طرق التعليم. ولنجا الناس من استظهار تلك الدساتير التي جمد من اقتصر عليها، وسار من تفلت من قيودها سيراً متساوقاً وصل به إلى الغاية، ويشبه كتاب الأموال في تأليفه تأليف يحيى بن آدم في الخراج، ولا يشبه كتاب الخراج لأبي يوسف بأسلوبه، لأن هذا عبارة عن رسالة شرعية سياسية إدارية كتبها إمام عظيم لإمام عظيم في إصلاح مملكته، وأورد له الأحكام للتدليل على ما يقول، ولم يكتبها للتعليم والتفقيه، وفي كتاب الأموال كثير من الفصح والشوارد اللغوية وألفاظ يمكن إحياؤها وهي اليوم منسية أو في حكم المنسي
ويسرني أن ناشر كتاب الأموال الأستاذ محمد حامد الفقي هو من علماء الأزهر، وقد جوّد في التصحيح والتعليق عليه، وإيراد الروايات المختلفة، وطبعه على نسختين مصرية(113/77)
وشامية، على ما كان وقف على طبع غيره مثل: (تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول) لابن الديبع الشيباني (944هـ)، ويلاحظ أنه كان من المفيد للكتاب لو أن ناشره الأستاذ الفقي وضع له فهارس على نحو ما فعل الأستاذ أحمد محمد شاكر لما أعاد نشر كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي، فانه حلاه بالفهارس على مثال علماء المشرقيات عندما يعانون نشر كتبنا، فيقربون فوائدها بما يؤلفون لها من فهارس بأسماء الرجال والبلدان وغير ذلك، وقد يضعون للكتاب الواحد خمساً أو سبعاً من الفهرستات المختلفة تيسيراً على القارئ، وهذا ما بدأت به دار الكتب المصرية في مطبوعاتها في الأمهات المعتبرة التي تتحف بها العالم العربي الحين بعد الآخر
محمد كرد علي(113/78)
العدد 114 - بتاريخ: 09 - 09 - 1935(/)
مصر وعصبة جنيف
تحدث بعض الكتاب لمناسبة الموقف الدقيق الذي تقفه مصر من النزاع الإيطالي الحبشي، عما كانت تجنيه مصر من المزايا لو أنها كانت عضواً في عصبة الأمم، وعما كانت تستطيع أن تؤديه في الظرف الحاضر لصون حقوقها لو أتيح لها أن تبسط وجهة نظرها أمام العصبة؛ وفي رأي هؤلاء أن مصر تخسر كثيراً إذ تحرم في هذه الآونة من رفع صوتها بطريق العصبة، وأن السياسة الإنكليزية هي التي عملت لإسكات صوتها وحالت بينها وبين جنيف.
ولسنا من رأي هؤلاء، ولسنا ممن يحسن الظن بالعصبة ولا ممن يؤمنون بوسائلها ومبادئها وغاياتها؛ ومن رأينا أن مصر لم تخسر شيئاً بابتعادها عن العصبة مهما كانت أسباب هذا الابتعاد.
ويكفي أن نتأمل هذا المنظر الذي تقدمه إلينا عصبة جنيف ونحن نكتبهذه السطور، لنقتنع بأن هذه الهيئة التي تزعم أنها رسول السلام والإخاء والحقوق الإنسانية، إنما هي شبح وستار فقط، تعمل وراءه قوى الاستعمار، فتأتمر وتتجاذب وتمثل مختلف الأدوار التي تمكنها من أعناق الفرائس؛ والفرائس هي الأمم الشرقية التي سلبت أو يراد أن تسلب حرياتها باسم المدنية الأوربية والتهذيب الأوربي.
فإيطاليا والحبشة كلتاهما عضو في عصبة الأمم، وبينهما نزاع أثارته السياسة الإيطالية عن عمد وإصرار سابق، وقد طرح النزاع أمام عصبة جنيف منذ يناير الماضي،، فماذا فعلت العصبة لتطبق نصوص ميثاقها؟ لقد أوصت بالعمل على حسم النزاع بطريق التحكيم، ولكنها ما زالت تصغي إلى وعيد السياسة الإيطالية، وتشهد نياتها وتصريحاتها الواضحة لغزو الحبشة وافتراسها؛ والحبشة تستغيث بالعصبة، والعصبة تسوف وتمد إيطاليا بالوقت اللازم لاستكمال أهبتها، وتفسح كل مجال لما تعرضه دول الاستعمار لاقتسام الحبشة أو فرض نوع من الحماية أو الانتداب عليها كوسيلة لإرضاء إيطاليا وحسم النزاع وتأييد السلام، وإيطاليا خلال ذلك تبرق وترعد وتصرح بأن العصبة إذا حاولت أن تنحرف ضد المطامع الإيطالية أو تنتقص من شرعيتها، فإنها تصفع العصبة وتجري مشيئتها بالعنف والقوة القاهرة
والدول الاستعمارية تحرك اليوم عصبة الأمم، وتوجهها علنا دون خفاء؛ وقد ابتدعت(114/1)
العصبة أو حملت أن تبتدع يوم قيامها نظام الانتداب خدعة غادرة تصفد بها عدداً من الأمم والشعوب التي وقعت في يد الحلفاء غداة النصر، والتي ما زالت ترزح تحت هذا الرياء الشفاف.
ولم نشهد عصبة الأمم تنتصر مرة لدولة شرقية أو أُمة مستضعفة مهما كان في جانبها الحق، ولا سيما إذا كانت هنالك مصلحة أو غاية لدولة من دول الاستعمار، سادة العصبة؛ ولم يغب عن الذاكرة بعد موقفها من النزاع بين إنكلترا وتركيا على مسألة كردستان، وموقفها من النزاع بين إنكلترا وإيران على مسألة جزائر البحرين، ثم موقفها من مسالة منشوريا وعجزها المطبق عن أن تعمل شيئاً لرد الاعتداء الياباني على الصين؛ بل لم يغب عن الذاكرة بعد موقفها من العراق يوم التحقت بها ويوم اشترطت عليها أفدح الشروط ثمناً لهذا الالتحاق
ولماذا نذهب بعيداً ونقلب صحف العصبة ونحن نشهد موقفها اليوم إزاء النزاع بين إيطاليا والحبشة؟ إن صفة الاعتداء الصارخ هنا تلحق إيطاليا بلا ريب، ومع ذلك فهل استطاعت العصبة أن ترفع صوتها ضد المعتدي؟ وهل استطاعت حتى اليوم أن تفعل شيئاً ولو من الوجهة النظرية لغوث المجني عليه؟ وهو لن تفعل شيئاً بلا ريب حتى يقع المحتوم وتنقض إيطاليا على الفريسة تحاول التهامها، ولن ينفع الفريسة يومئذ إلا ما يتاح لها من وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها.
وبعد، فمن هم السادة في العصبة؟ ومن هم الذين يشرفون على مجلسها ويوجهونه؟ هم أقطاب الاستعمار ومنظموه، وهم المغيرون على حريات الأمم، وهم المستمرئون لاستغلالها وإذلالها واستلاب حقوقها المدنية الأوربية؛ هذه المدنية التي أضحت تلتمس ذريعة للسفك وافتراس الشعوب الآمنة
لقد كان قيام عصبة جنيف مهزلة وخديعة شائنة؛ مهزلة لأنها زعمت في ميثاقها أنها قامت لتحقق ما لم تستطع أن تحققه الأمم والإنسانية جميعاً مدى الأحقاب، أعني منع الحرب وتحقيق العدالة الدولية، وحماية الضعيف من القوى بالوسائل السلمية؛ وخديعة شائنة لأنها تبطن وراء هذه المظاهر الخلابة دستور الاستعمار المنظم والانتهاك المثير لحقوق الأمم باسم الانتداب والمدنية والتهذيب وما إليها.(114/2)