تفصيل كيف حوكم هذا المتهم البريء وكيف نفذ فيه حكم الإعدام. وابن أبي أصيبعة يشارك القفطي في ترجمته المطولة ويضم إليها بعض حكم يعزوها إلى سقراط إلا أن هذه التراجم في جملتها تحوي أخطاء يجدر بنا أن نشير إلى بعضها فمثلا يزعم ابن النديم ومن جاء بعده أن سقراط ألف مقالة في السياسة ورسالة في السيرة الجميلة؛ والحق أن هذا الفيلسوف لم يكتب شيئاً قط. ومن الغريب أن ابن أبي أصيبعة قد تنبه إلى هذا ولاحظ أن سقراط (لم يصنف كتاباً، ولا أملي على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس وإنما كان يلقنه تلقيناً لا غير)؛ ولكنه عاد فوقع فيما وقع فيه من قبله من الخطأ. ويكاد يجمع أصحاب التراجم هؤلاء على أن سقراط عاش ثمانين سنة أو جاوزها إلى مائة مع أنه توفي عن إحدى وسبعين سنة. ويروي القطفي عن بعضهم أن سقراط كان شآمياً وهذا خطأ واضح فإن هذا الحكيم أثيني في نشأته ونسبه ويمثل أول خطوة في الحركة الفلسفية التي دامت في أثينا نحو قرن أو يزيد. ومهما يكن من شيء فإن إن غضضنا الطرف عن هذه الهفوات الصغيرة وجدنا أن هؤلاء المؤلفين وصفوا حياة سقراط في جزيئاتها الهامة
لم تلفت هذه الحياة العظيمة نظر مؤرخي العرب وحدهم بل كان لها اثر بين كل طائفة من الفلاسفة والعلماء فالكندي بلغ به حبه للفيلسوف الإغريقي وإعجابه به أن كتب فيه عدة مؤلفات منها: رسالة في خبر فضيلة سقراط، رسالة في ألفاظه رسالة في ما جرى بينه وبين الحرانين، رسالة في موته. وهناك تشابه بين سقراط والكندي لن يفوتنا أن ننبه إليه؛ فلئن كان الأول قد مهد (للفلسفة الفكرية) في العالم الإغريقي ووضحها بأمثلة من الأخلاق والحياة الدارجة، فأن الثاني هو أول من أتجه نحو الدراسات الفلسفية في العالم العربي. وإخوان الصفا يصعدون بسقراط إلى درجة النبوة، ويعقدون لموته فصلاً قيماً في رسائلهم؛ وعلهم استقوه مما كتبه الكندي من قبل. ويرى الرازي طبيب الإسلام الأكبر وفيلسوفه الذي لم يدرس بعد الدرس اللائق به إن سقراط هو الفيلسوف الحق، ويعارض به أتباع أرسطو من زملائه ومعاصريه المسلمين. ومعروف ما بين الرازي وإخوان الصفا من صلات في العقيدة والآراء الفلسفية والسياسية. فلسقراط إذن أبناء وتلاميذ في الديار الإسلامية، كما كان له من قبل في البلاد الإغريقية؛ وهؤلاء التلاميذ ألصق بشعبة الإسماعيلية والمتصوفة الذين شاءوا أن ينهجوا نهج حكيم أثينا في زهده وتقشفه وأن يتفانوا تفانيه في نصرة(97/25)
مبادئهم
أما تعاليم سقراط وإن بدت ثانوية في نظر مفكري فإنها لم تكن مجهولة لديهم. وقد أختص الشهرستاني بإيراد أكبر قدر منها في كتابة الملل والنحل. فهو يعرضأولاًآراء سقراط الدينية والميتافيزيقية، مبيناً ما قاله في صفات الباري وذاته ومفيضاً في ذلك بدرجة محسوسة. ثم يجاوز هذا إلى الكلام عن مذهب سقراط في المبادئ والعلل، وفي أزلية النفوس الإنسانية ووجودها السابق لوجود الأبدان. وهذه الآراء المنسوبة إلى سقراط قد جاءت بنصها على لسان أفلاطون؛ على أن العرب أنفسهم لم يستقوها إلا من مؤلفات الأخير. وهنا تعترضنا مشكلة تاريخية مشهورة، ألا وهي أنا إن سلمنا بأن كل ما رواه أفلاطون باسم أستاذه من عمل الثاني لم يبقي للأول شيء وعلى العكس من ذلك إن كانت مؤلفات التلميذ تترجم عن رأيه الخاص فإنا لا نكاد نجد لسقراط نظرية مستقلة؛ وقد كنا نأمل أن نحل هذه العقدة التي حار فيها المؤرخون المعاصرون على ضوء المصادر الإسلامية، فلم نظفر فيها بما ينقع الغلة. وفي رأينا إن سقراط لم يعن بتكوين نظريات فلسفية مفصلة، وكل مهمته أنه أشار إلى أفكار عامة تولاها أفلاطون من بعده بالدرس والتحليل
بيد إن لسقراط عمل آخر شخصياً لا ينكره عليه أحد؛ وهو طريقته الجدلية المبنية على الاستنباط والتشكيك. بهذه الطريقة أشتهر، وبها تمكن من قهر جماعة السوفسطائيين وبواسطتها أصلح كثيراً من الأخطاء الشائعة، ومهد السبيل لتكوين الأفكار العامة. وقد وصلت هذه الطريقة إلى العرب - كما وصلت إلى المحدثين - في ثنايا كتب أرسطو وأفلاطون؛ ولفلاسفة الإسلام في شرحها ومناقشتها أبحاث مختلفة؛ فسقراط المثل الأعلى في التضحية، وسقراط الباحث النظري، وسقراط المناظر القوي الحجة قد وجد في العالم العربي أتباعاً وتلاميذ، بل أنصاراً ومحبذين
إبراهيم بيومي مدكور
دكتوراه في الآداب والفلسفة(97/26)
رسالة الأزهر للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
. . . قد يسال بعض الناس: ما فائدة الأزهر، أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام. ومتى عرفت رسالة الإسلام عرفت رسالة الأزهر
الإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العز والكرامة. قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، وصل بين العبد وبه. ولم يجعل لأحد فضلاً على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل. وفرض عبارات كلها ترجع إلى تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرف إلا الخبائث، ووضع حدوداً تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين: قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني
هذه صورة مصغرة جداً للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيباً عظيماً من السعادة والخير للجمعية الإنسانية
في القرآن الكريم حث شديد على العلم، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون، وليس هناك علم يخرج موضعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحق. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيءٌ ممكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها
نعم قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، ولكن لا نهتم لهذا. فليس العلم في طريقه، ولنصحح معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر
ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية للكيمياء أو ما يشابه هذا: ولكني أعني إن هناك علوماً ومعارف لها صلة بالدين وثيقة، تعين على فهمه،(97/27)
وتبرهن على صحته، ويدفع بها عن الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني ويتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه
قد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها ضرورياً لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفاً وأكثر قيمة وأمتن مادة، ومع ذلك فهي في كساد
وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي عنه الملل والسأم
حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب أيضاً. وهذا المثل ينطبق علينا. ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر، أعلاق نفسية لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم
على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وان ييسر لهم هذه المعارف وأن يعرضها عرضاً حديثاً جذاباً مشوقاً
ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: هي تطهير الدين الإسلامي من البدع، وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. فهناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها ظناً بكرامة الفقه والدين
ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي:
(كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما(97/28)
يرى إنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضي الأحكام لم يستطيع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه. سأل ذلك القاضي إمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات فقال الطحاوي: أتسألني عن رأي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي: ولما هذا السؤال؟ قال الطحاوي: ظننتك تحسبني مقلداً. فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟)
فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه
إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً
وأنا ارجوا الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين ولدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر
ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجياً تدبرها، هي احترام حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر ولا أطالب بشيء يدعى بدعة. ولا أحدث في الدين حدثاً لهذه النصيحة. فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأئمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي
وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا
أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقاً. على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه الأئمة، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضا
وعلى الجملة فما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئاً منه، ولا يكذب ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بطريق قاطعة فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر
عرضت لهذه النصيحة لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس، والعمل بها يمكن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة. والعمل على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة(97/29)
أسأل إليه أن يهبنا رشداً، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلال الله، ويملأها عزاً وشفقة ورحمة لعباه
وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم فمن أول واجب على أهله أن يعدو أنفسهم لتعلم اللغات، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم
فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم: وسأعنى بهذه المسألة كما أعنى بتثقيف إخواننا الذي أسماهم القانون (أغراباً) فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع(97/30)
في طريق المدينة
للأستاذ علي الطنطاوي
لفح وجهه نسيم الفجر البارد، فهم بأن يقوم إلى النافذة فيغلقها ويعود إلى سريره، ثم تخاذل واسترخى، ولبث مستلقياً، فسمع أصواتاً غريبة، خيل إليه أنها أصوات الوحوش، أو أحاديث الجن، فجمد من الخوف، وحدق فيما حوله، فرأى كأنما هو نائم في أرض الشارع، وعلى جانبيه أبنية فخمة عالية، مربعة ومستديرة، والوحوش تطل عليه من أعاليها، تصرخ صراخاً مرعباً، فاستعاذ بالله من هذا الحلم - وتقلب في فراشه، وألقى بيده على طرف السرير، فأحس كأن قد وخزته إبرة، أو كأن حية لدغته، فقفز مذعوراً. وإذا هي بالحقيقة لا الحلم، وإذا حيال يده نبت من نبت الصحراء، قصير شائك يقال له القتاد. . . كانت تضرب به الأمثال، وإذا هو في البادية، في (خور حمار) وإذا هي الرحلة تمتد به ثلاثة عشر يوماً، وهو لا يزال دون (العلا)، ولا يزال بينه وبين المدينة جبال وصحاري تسير فيها السيارة أياماً
فجلس يذكر ما رأى في هذه الرحلة من ألوان العذاب، وأشكال الخوف، وما مر به من مشاق وصعاب أبصر فيها الموت عياناً، ويئس فيها من النجاة. . . . وذكر أنهم طالما تمنوا الموت لما وجدوا من العذاب، وأنهم طالما سلكوا من شعاب تقوم فيها السيارة وتقعد، ولا تنجو من شدة إلا إلى أشد منها، وطالما ساروا في رمال كانت تغوص فيها السيارة إلى المرقاة فيدفعونها دفعاً، ويمدون لها الخشب على الأرض مداً، وطالما صعدوا جبالاً يعجز صعودها الماشي على رجليه، فكانوا يجرون السيارة بالحبال، وطالما هبطوا أودية لا يهبطها ممثلو الروايات الأمريكية. . . وأنهم ساروا ألفاً وثلثمائة كيل في أرض لم تطأها قط سيارة. . .
وأنهم سلكوا بين تبوك والعلا مسلكا في جبال الطلع، ساروا فيه بالسيارة من ضحوة اليوم إلى عصر الغد، فلم يقطعوا من الطريق خمسة عشر كيلاً. . . وكانوا يدورون فيه كما دار بنو إسرائيل في التيه. يمشون ما يمشون ثم يعودون من حيث جاءوا، وجبال المطلع جبال عظيمة غريبة الشكل، ليست سلاسل، ولكنها آكام عالية، وجبال منفردة، عالية الذرى محددة القمم، تشبه ذراها رءوس المآذن وهام البروج، لها منظر جميل فتان، فيه هيبة،(97/31)
وعليه جلال، وهي منثورة نثراً، تفصل ما بينها مضايق وطرق صخرية ملتوية متشابهة، حار فيها الدليل؛ وكان معهم دليل حاذق شيطان من شياطين العرب، يقال له محمد الأعرج من مشايخ بني عطية، وهو أعرج طويل له عينا ذئب، حاد الذكاء، ضيق الصدر، مخيف كانوا يتهيبون سؤاله، فداروا في هذه المسالك حتى نفد منهم الصبر، وأدركهم اليأس، فصعد الدليل قنة أكمة، فنظر يميناً، ونظر شمالاً، ثم صاح: لا إله إلا الله، وتلك عادتهم: إذا أبصروا وادياً، أو رأوا سهلاً، أو طلع عليهم جبل، تشهدوا. . . ثم نزل يظلع وقادهم في طريق ملتوية حتى جاوز بهم المطلع، وأشرف بهم على السهل الفسيح. وكان عليهم أن يهبطوا السهل ليخترقوا جبل الأقرع وهو قبالتهم، فنظروا فلم يجدوا مهبطا، وكانوا على رأس جدار قائم من الصخر، ارتفاعه أكثر من أربعين متراً، والنزول منه خطر محقق، ولكن الرجوع موت أكيد، وإذا هم رجعوا وضلوا أياماً نفذ فيها ما معهم من ماء، فهلكوا لا محالة عطشاً، فاستخاروا الله ونزلوا نزولاً ما نظن سيارة نزلته مذ خلق الله السيارات: تتدحرج من تحتهم الحجارة إلى قرارة المنحدر، فيكون لها قرقعة مخيفة، والسيارة كأنما هي من الانحدار قائمة على مقدمها، والركاب شاخصة أبصارهم، ينظرون عن أيمانهم وعن شمائلهم، لا يدرون من أين يأتيهم الموت وقد تابوا واستنفروا، واستودعوا اللهأولاً دهم وأموالهم.
ومرت عليهم ربع ساعة أهون منها رباط سنة في جبهة الحرب، ثم وفق الله فبلغوا السهل، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. . . ويهبون كمن حلم مروع!
وكانت الشمس قد غابت، والليل قد ارتفع، فنزلوا للمبيت يستعدون لوادي الأقرع، وكانوا على رغم ما لقوا يسمعون من الدليل أنه هين بجنب خور حمار، وان العناء والبلاء إنما هما في خور حمار، فكانوا يرون خور الحمار هذا في أحلامهم، ويبصرونه فاتحاً فاه لابتلاعهم، ويرون حيال رأسه حجراً مكتوباً فيه: هنا مات الوفد الأول الذي ذهب لفتح طريق السيارات. . .
وتلقوا من الغد وادي الأقرع، فلما ولجوه ذكروا بالخير جبال المطلع، ووجدوها حيال نار الأقرع جنة النعيم، والوادي عريض فسيح ولكنه وعر، كله صخور عظيمة، ورمال خطرة، إذا نجت السيارة من رملة صدمتها صخرة، وان خلصت من الصخر غاصت في الرمل،(97/32)
فداروا فيه كما يدور الحمار في الساقية، وكان سيرهم سير السواقي، سفراً لا ينقطع. . . . ثم فتق لهم التفكير وجه الحيلة، فأجمعوا الرأي على أن يركبوا السكة بالسيارات وعجبوا من أنفسهم كيف حملوا هذا العناء كله، ولم يهتدوا إلى هذا الرأي. . . وكانت السكة عالية تمشي فوق الوعرة كأنها الصراط ممدوداً فوق جهنم، فامضوا ساعتين في ارتقائها، ثم لما ركبوها تعذر المسير عليها، فعجبوا من أنفسهم كيف ارتكبوا هذه الحماقة، ولم يعلموا أن السيارة لا تمشي على سكة القطار، وأنفقوا ساعتين أخريين في النزول عنها، حتى إذا نزلت جلسوا على الأرض. قد طحن الجهد أجسامهم، وملأ اليأس نفوسهم، وانقطع أملهم من كل شيء إلا من الله، وضل من يدعون إلا إياه، فاقبلوا على الله بالدعاء والاستغفار، وذاقوا من حلاوة الإيمان وبرد اليقين، ما اطمأنت به نفوسهم، وارتاحت له ضمائرهم؛ ثم لم يلبثوا أن استجاب الله دعاءهم، وجاءهم منه الفرج، وسمعوا هتاف الجند الذين بعث بهم أمير العلا بأمر جلالة الملك عبد العزيز لمعونتهم وخدمتهم. . .
جلس يفكر في هذا كله، فيراه هيناً إذا قيس بخور حمار وذكر كيف أمضوا نهاراً بطوله، يستعدون لدخول الخور، فلما أقبلوا عليه رأوا مدخله كالشارع العظيم، على جانبيه صخور كبيرة مكعبة مستوية قائمة كالبنيان، كأنما قد بنتها يد بناء حاذق، بميزان الزئبق والشاقول، وفي وسطها جدار من الصخر عرضه ستة أمتار، يشبه غي شكله سفينة عظيمة لم تنزل بعد إلى البحر، لها مقدمها وجوانبها، وقد قدر أصحابنا علو هذه الصخور من مائة إلى مائة وخمسين متراً، فامتلأت نفوسهم رهبة وخشوعاً، وأحسب أن لو رأى هذا الممر سياح الأمريكان لحملوا في سبيل رؤيته عناء السفر في البادية مهما طال وشق. . .
وأرض هذا المضيق رملية حمراء يغوص فيها الماشي إلى الركبة، لها شكل متموج جميل يشبه شكل البحر، يلذ المرء أن يلقي بنفسه عليها، فيشعر كأنما يلقي بنفسه على فراش ناعم حلو. أو ينام على سطح الماء. . .
وذكر كيف انقضى النهار وانقضى الغد ولم يجاوزا نصف المضيق، ورفع رأسه وكان الفجر قد انبلج، وبدت طلائع النهار، فرأى هذه الصخور الشاهقة المستوية، وهذه الشقوق التي تحدث فيما بينها مثل الأزقة، يملأ مرآها النفس خشوعاً
وذكر كيف بذلوا جهدهم، واستعانوا بعشرين من الجنود الأقوياء ثم لم يقطعوا في يومين(97/33)
أكثر من كيلين في هذا المضيق، وخالط نفسه الضيق والملل من طول هذه الرحلة وعنائها وما قاسى فيها من التعب والجوع والعطش والنعاس، وما عانى من سوء الصحبة، وقبح الأخلاق، وخلف أن تعطل السيارة، أو يضلوا الطريق، أو تمسكهم وعرة، فينفد الماء ويموتوا عطشاً. . ولم يخف لصاً ولا سارقاً، فقد جعل ابن السعود خور حمار وهو أفظع مكان في البادية، آمن من ميدان النجم في باريز!
وفكر أيبلغ المدينة أم يهلك من دونها، وهاجمه تصور المدينة، وأحيا في نفسه الأمل مرأى القبة الخضراء وهي طالعة عليه من وراء الأفق البعيد، وطار بها إلى الملأ الأعلى تخيله الوقوف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاته في الروضة، وقيامه من بعد أمام الكعبة، وشربه من ماء زمزم، وسعيه بين الصفا والمروة، وشهوده هذه الأماكن التي ولد فيها الإسلام وعاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت مهبط الوحي، ومطلع شمس النبوة، ومعقد الآمال من نفس كل مسلم.
واستغرق في تفكيره فلم ينبه إلا صوت مؤذن القوم يرن في هذا الوادي الساكن: الله أكبر، لا إله إلا الله فتردد نداءه هذه الصخور الشم. وتمد الإبل أعناقها مصيخة هادئة، ويهب البدو من منامهم ليقيموا الصلاة، وأصحابنا السواقون ومعلموهم يغطون غطيط البكر. . .
ثم قاموا إلى الصلاة، فأمحى الخوف من نفسه، وصغرت عليه البادية، وهانت عليه مشاقها، وتضاءلت هذه الجبال القائمة حتى كأنما لصقت بالأرض، وكأنما طويت له الغبراء فلم يعد ملقى في البادية على بعد ألف وثلثمائة كيل من منزله في دمشق كحبة من الرمل، أو هو أهون على الحياة منها، لأنها وان طار بها ريح، أو حملها سيل، باقية كما كانت، لا تموت ولا تندثر، وهو يموت من أجل رغيف من الخبز وكأس من الماء، بل أحس كأنما هو في منزله، ولم لا؟ وما يناله في البادية إلا ما قد كتب عليه، ولا ينال في منزله إلا ما كتب له، وإذا كان يأمن على نفسه اللصوص والأعراب وينام في عرض الصحراء، كما ينام في أرض غرفته، لا يمنعه باب، ولا يحميه حارس، ولا يخالط نفسه خوف ولا جزع، لأنه في حمى ابن السعود وأرضه، أفلا يأمن من كان في حمى الله رب ابن سعود وأرضه؟
وكان القوم قد هبوا فأقبلوا يضمون الشاي والقهوة، وجلست حيال صخرة أكتب هذه الكلمة (للرسالة)، لأبعث بها مع جندي من البدو إلى بريد العلا. . . . . ولست أدري أتخرج من(97/34)
هذه البادية فنقرؤها، أم تبتلعنا هذه الصحراء التي ابتلعت دولاً وأمماً وجيوشاً
وسيقرأ هذا الفصل قراء (الرسالة) وهم في دورهم ومساكنهم، لا يدرون ما الصحراء، ولا يعرفون منها إلا ذكرها في الكتب ووصفها في الأشعار، فيحسبونها تسلية أو خيالاً، وما هي بالتسلية ولا بالخيال، ولكنه مقام بين الموت والحياة. . . اللهم سلم!
علي الطنطاوي(97/35)
هل تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني؟ أو الحقيقة
هي العكس؟
بقلم صالح بن علي الحامد العلوي
اطلعت في العدد الحادي والتسعين من (الرسالة) الغراء على مقالين أحدهما للأستاذ أمين الخولي، والآخر للأستاذ علي الطنطاوي؛ وكلا المقالين دائر على مقال آخر قد نشرته الرسالة عن الإمام الأوزاعي للأديب الفاضل عبد القادر الجاعوني
ولم يستثر كتابتي من هذا ولا ذاك شيء إلا نقطة واحدة طرقها الثلاثة وكانوا فيها جد مختلفين، وكادت بل شاءت الرسالة أن تساهم في المعمعة ولكن بإيجاز وإيماء. والنقطة المختلف فيها هي ما جعلته عنواناً لأسطري هذه وهي: هل تأثر الفقه الإسلامي بالقوانين الرومانية أم الحقيقة هي العكس؛ إذ تعرض الكاتب الجاعوني فيما كتبه عن الأوزاعي لقولة كولد زهير يتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني وقال: (إن كان هذا صحيحاً فأحر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي ومن أقربهم إلى اتباع الكتاب والسنة، والكتاب والسنة ابعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني) فكان الأستاذ الخولي فيما كتبه مؤيداً لرأي تأثر الفقه الإسلامي بغيره، وكان الأستاذ علي الطنطاوي في مقاله منكراً كل الإنكار أن يكون الفقه الإسلامي مأخوذا من الفقه الروماني، وتشاء الرسالة أن تعلق عليه بان هناك فرقاً شديداً بين التأثر والأخذ
وعلى تسليم صحة الفرق بين التأثر والأخذ فمحصل كلام الأستاذ الطنطاوي إنكارهما معاً والجزم بان ذلك في زمن العلم خرافة من الخرافات
هذه هي وجهات نظر هؤلاء الكتاب. ومهما قلنا بالفرق بين الأخذ والتأثر فكلا المعنيين بجريان إلى مدى واحد، وهو أن يكون في أصل الفقه الإسلامي ومزاجه شيء من الفقه الروماني. غير أنه على الأول بوجه مباشر، وعلى الثاني بواسطة الثقافة كما يقول الأستاذ الخولي
وموضوع مناقشتي الآن هو ما ارتآه الأستاذ أمين الخولي - من تأييد دعوى كولدزهير بأن الفقه الإسلامي متأثر بالفقه الروماني. وقد كنت في غنية عن كتابة هذه الأسطر لو كان الأستاذ علي الطنطاوي - الذي أؤيده الآن - أسهب في الموضوع ووفاه حقه من البسط(97/36)
والتدليل، لكنه على قوة حجته نحا في الموضوع منحي الإيجاز والاختصار، وذاك ما حملني على أن أعود - على بعد الدار - للفت أنظار قراء الرسالة للموضوع مرة اخرى، وبما أن مثار مناقشتي إنما هو ما كتبه الأستاذ الخولي أذكرأولاًما قاله في هذا الصدد قال: (. . ومع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر ومع القصد في بيانه فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية، فإن متبع الكتاب والسنة لابد له من أن يفهمهما أو يتبين مراميهما وأغراضهما وعللهما وحكمهما، ولكل شخص في هذا الفهم والتبين عقله الخاص وشخصيته الخاصة ومنهجه الخاص، وذلك كله من أشد ما يكون تأثراً بالثقافة والبيئة، فلا غرابة في أن يتأثر منهم الفاهم للكتاب والسنة المتبع لهما تأثراً جلياً بعوامل تثقيفه وظروف حياته كما تأثر بذلك تفسير القرآن في كل الأزمنة، بل كما تأثر بذلك فهم العقائد وأصول الدين ذاتها تأثراً لا يسعنا إنكاره، ولا قيمة لحرصنا على هذا الإنكار لأننا بذلك نقاوم سنن الله في خلقه)
وقبل كل شيء نقول إن الإسلام في ذاته جاء خارقاً لقاعدة البيئة والثقافة، إذ قام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي نشأ من ابعد الناس عن يطلع على قانون روماني أو حكمة منقولة، وأتى بهذا الدين الأقدس مناقضاً كل التناقضات لما عليه قومه، مبايناً لهم في عاداتهم وعقائدهم إذ وجد في وسط بعيد عن العلم، ودرج في بيئة كلها شرك، وجو كله خرافات وأوهام، وبينما هو في هذا المحيط المشبع بالشرك والجاهلية إذا هو ينهض بدين كله حكمة، ونور يسفه الشرك وينبذ الخرافات، ويدعو إلى شريعة سمحة بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
ورداً على زعم التأثر نقول: إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة، أو بعبارة أصح جاءت في زمن واحد، واستقيت من ينبوع واحد، هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الجزيرة العربية إلى العراق وأطراف الشام، ولم يلحق الشارع الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء، وهيأ لنا شريعة كاملة وقانوناً ربانياً منظما يصلح لأن يطبق على أي جيل، وعلي أية أمة، ولم يزد فيه الفقهاء بعده شيئاً قط إلا تصنيفه ونقله، غير أنهم فيما لم يجدوا فيه نصاً صريحاً يطبقونه على قواعده الأساسية. والنصوص الفقهية كلها(97/37)
صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي، أما الأغلب منها فمن الحديث والسنة، وبعضها عن الكتاب مفسراً بالسنة، فكيف يكون لكل شخص فيها فهمه الخاص وشخصيته الخاصة ومنهجه أو عقله الخاص، متأثراً بالثقافة والبيئة كما يقول الأستاذ الخولي؟ إن الكلام الصريح لا يحمل معنى غير ما يتبادر لذهن سامعه، فإذا قلت مثلاً: لا تكذب فليس معناه إلا لا تخبر بغير الواقع، سواء كان ذلك في القرن الأول للهجرة أو في يومنا هذا في القرن الرابع عشر، وسواء أكان السامع متأثرا بثقافة عربية أو رومانية أو صينية فلن يستطيع بعامل ثقافته وظرف حياته أن يزيد في معناها شيئاً، وأرى أننا لو نقلنا خطبة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع مثلاً ونشرناها اليوم لما فهم منها من يعرف مدلولات الكلام العربي من مثقفي اليوم إلا ما فهمه عشرات الألوف من المسلمين حينما خطبهم رسول الله صلى عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الرهيب قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف
ولا يجوز أن يقاس الفقه بالتفسير، إذ لا يقاس بكتاب الله شيء لبلاغته وأسلوبه العجز، مع عمق معانيه وبعد أغراضه التي لا يستطيع حصرها واكتناهها فهم أو فكر، وهذه فيه من أعظم الدلالات على إعجازه، فهو لا يزال على الأحقاب والأجيال ينفحنا بمعانيه ومراميه بما يشرح الصدور ويقوي الإيمان
على أن الاختلاف في تفسيره وهو ما يراه الكاتب من تأثير البيئات - ليس إلا لا يجازه المعجز مع بعد مراميه الغيبية مما تاه لبعضه المفسرون الأولون، فجاء الزمن يفسره، فكان هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
ثم إن الفقه الروماني الحديث على الرغم أنه اختفى ثم اكتشف لم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر بعد الميلاد. أما قبل الحادي عشر فإنه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم
ولاشك أن الفقه الإسلامي قد قرر وصنف قبل ظهوره بقرون، فكيف يكون متأثراً بشيء لما يوجد بعد؟ وما قيمة زعم تأثر الفقهاء بالقوانين الرومانية إذا كان مصنفو الفقهاء وأئمتهم، ومنهم مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي الخ درسوا وألفوا وصنفوا قبل أن توجد أو تعرف القوانين الرومانية للرومان أنفسهم؟ أليست هذه مهزلة(97/38)
مضحكة؟
وفحوى هذا كله أنه محال أن يكون الفقه الإسلامي متأثراً بالفقه الروماني فضلاً عن أن يكون مأخوذاً منه، وسنبين بالبراهين القاطعة أن القوانين الرومانية هي المتأثرة به
الفقه الروماني هو المأخوذ من الفقه الإسلامي
وإذا سقط احتمال تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني، فإذا كان هناك تشابه بينهما فالمرجح بل المحقق أن الفقه الروماني هو الذي أخذ مباشرة عن الفقه الإسلامي. وقد كتب أحد علماء العلويين الحضارمة مقالاً في هذا الموضوع وفاه حقه بعنوان: من أين أخذ الإفرنج قوانينهم، نشرته مجلة النهضة الحضرمية قال فيه ما ملخصه:
إن دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره بعد ستة قرون أكذوبة لا مرية فيها، وقد كان الفقه الروماني معروفاً، وهو أشبه شيء بالفصول المضحكة. أنظر تاريخ الدولة الرومانية للعالم جيبون الجزء 4 صفحة 527، وذكر أمثلة من معاملاتهم ثم قال: يمثل هذه المحاكات القاسية كانت تجري الأحكام لغاية القرن الحادي عشر، ولم تتبدل إلا في الثاني عشر أو الثالث عشر. وقد قال ابن تيمية في القول الصحيح: (إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذ لم يكن لهم شرع عام يحكم به بين الناس، وليس في الإنجيل حكم عام، بل عامته الأمر بالزهد)
فكيف يصح أن ينسب هذا الفقه المشابه للفقه الإسلامي الحكيم بزعمهم إلى أمة معروفة، ولها فقه شائع معروف، وكله قسوة وهمجية؟ وكيف يسوغ عقلاً لأمة عظيمة أن يضيع عليها فقهها جملة، ويبقى غائباً عنها طيلة قرون عديدة ثم يعود إلى الظهور؟ هل يصح هذا إلا إذا صح أن تضيع عن أمة عاداتها وأخلاقها ودينها جملة؟
ثم إن حكاية اختفائها وبروزها في القرن الحادي عشر لم يقل بها غير هولود نيكوس سنة 1501م. ثم راجت، انظر جيبون 4 صفحة 555، وقد اعتبرها بعض العلماء إذ ذاك غير حقيقة، فقد قال القانوني الشهير سافينيه: إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى البوم من غير انقطاع اه. ويعني بها القوانين القديمة المتقدم ذكرها. وبهذا وذاك تدحض دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره. ويتضح أن القوانين الحديثة ليست إلا حديثة الوضع، وضعها بعض علمائهم مقتبسة من الفقه الإسلامي وتبريرا لها عند العامة(97/39)
انتحلوا اختفاءها وظهورها كسراً لتعصبهم
أما أدلة أخذ القوانين الرومانية من الفقه الإسلامي فهي:
(أولاً) ما قدمنا من إقرار الإفرنج بفضل الفقه الإسلامي وإعجابهم بأحكامه، ونصلهم في بعض بلادهم قضاة يقضون به كما نقل ذلك العلامة ابن تيمية
(ثانياً) إن الفقه الإسلامي، كما قدمنا، قد ألف وصنف قبل أن تبرز القوانين الرومانية الحديثة من اختفائها المزعوم، فلم يبق يد من أحد أمرين: إما أن يكون الفقه الإسلامي قد تأثر بها قبل وجودها وظهورها، وهذا محال، أو تكون هي المأخوذة عن الفقه الإسلامي، وهذا هو المعقول والمنقول
(ثالثاً) ما نقله العلامة العلوي الذي اعتمدنا على ما كتبه في مقالنا هذا قال: نقل العلامة المحقق الأستاذ الجرفادقاتي الإيراني في مقالة له في هذا الموضوع من مجموعة للعالم الباحث مفضل بن رضى الفراوي الاسفارنكي (وفراوة كورة من خراسان بين شهرستان ومرو) فيها رسالة في شرائط كمال الفقه للفتوى قال: كتب أبو العباس الكركري من تلامذة بهمنيار، وهو تلميذ الشيخ الرئيس ابن سينا، في رسالته إلى مفتي مرو أحمد بن عبد الله السرخس في معنى كمال الفقه: إن أبا الوليد محمد بن عبد الله بن خيرة نقل في تعليقاته على النهاية: إن طلبة العلم من الإفرنج الذين كانوا يسافرون إلى غرناطة لطلب العلم، اهتموا كثيراً في نقل الفقه الإسلامي إلى لغتهم لعلهم يستعملونه في بلادهم لرداءة الأحكام فيها خصوصاً في المائة الرابعة والخامسة من الهجرة، فقد برعوا في اللغة العربية، ومنهم غربرت والبرت، فإنهما طلبا مساعدة العلماء لإبراز مقصودهما، وقد ساعدوهما حتى دونوا الفقه كاملاً وحوروه إلى ما يوافق بلادهما اه، وقال موسهيم الجرماني إن غربرت المذكور كان مديناً في معرفته لعرب أسبانيا ثم قال: (إن العرب ولا سيما عرب أسبانيا هم أصل وينبوع كل معرفة. . من القرن العاشر فصاعداً) كما نقله الأستاذ العلوي المذكور آنفاً هذه البراهين كلها تؤيد ما قاله الأستاذ علي الطنطاوي من أن الفقه الروماني جديد لفقه جماعة من العلماء وتحقق أنهم أخذوه من الفقه الإسلامي، وهذا ما يجب ألا يعتقد خلافه كل مسلم
ولست أرى دعوى تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني إلا مكيدة دبرها من يريد الطعن في الإسلام بطريق غير مباشر مثل كولدزهير وأمثاله، وتلقنها عنهم منا معشر المسلمين من لم(97/40)
يدرك مراميهم السيئة وأغراضهم العدائية، وجعل يقررها كأنها قضية مسلمة لا تصادم عقلاً ولا ديناً؛ وعجيب جداً أن تجد هذه الفكرة لها قبولاً في مصر. وأن تطبع وزارة الأوقاف كتاباً في الفقه على المذاهب الأربعة يأتي في مقدمته تقرير هذه الفرية التي انتحلها كولد زهير وتأييدها؛ وعجيب أن يأتي الأستاذ الخولي مستسيغاً لها بل مبرهناً ومؤيداً مطبقاً ذلك على قاعدة تأثير الثقافة والبيئة
وبعد، فلم يبق مساغ لدعوى التأثر في الفقه الإسلامي، ولا مجال للريب في بطلانها، وأنها ليست إلا خرافة وفرية تلقنها بعض المسلمين، وليست إلا أغنية من تلحين مستشرقي المبشرين.
سنغافورة
صالح بن علي الحامد العلوي(97/41)
22 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قال سقراط: كفى يا سيبيس حديثاً عن هارمونيا؛ آلهتكم الطيبة، فما أحسبها قد أغلظت معنا الصنيع، ولكن ماذا أقول لكادموس الطيب، وكيف أسترضيه؟
قال سيبيس: أظنك واجداً سبيلا إلى استرضائه، فلست أرتاب في أنك رددت حديث الانسجام بطريقة لم أكن أتوقعها قط. فقد أيقنت حينما تقدم سمياس باعتراضه أن ليس إلى أجابته من سبيل، فأدهشني لذلك أن أرى قوله يخور فلا يثبت أمام هجمتك الأولى، وليس بعيداً أن يلاقي الآخر، الذي تدعوه كالدوس مصيراً كهذا المصير
فقال سقراط: لا يا صديقي العزيز، فما ينبغي أن نزهي خشاة أن تنطلق من عين خبيثة هذه الكلمة التي أوشك أن أنطق بها، فلنا أن ندع الأمر بين أيدي من هم في عليين، حتى أدنو، على طريقة هومر، فاختبر ما يتوقد في عبارتك من حماسة، وخلاصة اعتراضك باختصار هي ما يأتي: انك تريد أن يقام لك الدليل على أن الروح باقية خالدة، وتظن أن الفيلسوف الذي يطمئن إلى الموت إنما يركن إلى طمأنينة فارغة حمقاء، إذا هو ظن أنه سيكون في العالم السفلي أوفر جزاء ممن سلك في حياته سبيلا أخرى، ما لم يستطيع أن يدلل على ذلك، وأنت تزعم أن إثبات ما للروح من قوة وألوهية، واثبات وجودها السابق لوجودنا في هيئة البشر، لا يقتضي بالضرورة خلودها. فإذا سلمنا بأن الروح قد عمرت طويلاً، وأنها في حالتها الأولى علمت وعملت شيئاً كثيراً، فليس هذا الاعتبار دليلاً على خلودها، وقد يكون حلولها في الصورة البشرية ضرباً من الموت الذي هو ابتداء الانحلال، وقد تنتهي آخر الأمر إلى ما يسمى بالموت، بعد أن تفرغ من عناء الحياة. وسواء أكانت الروح تحل في الجسد مرة واحدة فقط أم مرات عدة، فذلك، كما قد تقول، يخفف من مخاوف الأفراد شيئاً، فليس يخلو إنسان من الشعور الطبيعي، فإن لم يكن لديه عن خلود الروح علم وبرهان حق له أن يخاف. ذلك ما أحسبك قائلة يا سيبيس، وهو ما أعيده عامداً،(97/42)
حتى لا يفلت منا شيء منه، ولكي نستطيع إن شئت أن تضيف إليه أو تحذف منه شيئاً
فقال سيبيس: ولكن، فيما أرى الآن، لا أجد ما أضيفه أو ما أحذفه. إنك عبرت عما أريد
فسكت سقراط هنيهة، وبدا عليه كأنما غاص في تأمله، وأخيراً قال: إن هذا المبحث الذي أثرته يا سيبيس لذو خطر عظيم، فهو يتضمن موضوع النسل والفساد برمته، وذلك ما أود، إن شئتم بعين على حل إشكالكم
فقال سيبيس: لشد ما أرغب في أن أنصت لما تقول
قال سقراط: إذن فهاك حديثي يا سيبيس: لقد كنت في صباي شديد الرغبة في معرفة ما يسمى بالعلم الطبيعي من أبواب الفلسفة، فقد ظننت أن له أغراضا سامية، إذ هو العلم الذي يبحث في علل الأشياء، فينئنا لماذا وجد الشيء، وفيم خلقه وفناؤه، وكنت لا أنى أقلق نفسي بالنظر في مسائل كهذه: هل يرجع الناس؟ أيكون العنصر الذي نفكر به هو الدم أم الهواء أم النار؟ أم قد لا يكون شيئاً من هذا القبيل؟ - فربما كان المخ هو القوة التي تبتدع أحاسيس السمع والبصر والشم، وقد تنشأ عن هذه الأحاسيس الذاكرة والرأي، وعلى الذاكرة والرأي قد يبني العلم، ولكن إذا وقفت فيهما الحركة وأدركهما السكون؛ وبعدئذ مضيت أختبر انحلال الأحاسيس، وأتناول بالبحث أشياء الأرض والسماء، واستخدمت أخيراً أنني عاجز كل العجز عن هذه المباحث، وعلى ذلك سأقيم لك الدليل قاطعاً.
فقد فتنت بها إلى درجة عميت معها عيناي أن ترى الأشياء التي كنت أحسبني، ويحسبني الناس، عالماً بها علم اليقين؛ وقد أنسيت ما كنت ظننته من قبل بديهياً لا يحتاج إلى دليل، وهو أن نمو الإنسان نتيجة الأكل والشرب، لأنه بهضم الطعام يجتمع لحم إلى وعظم إلى عظم، وحيثما تجمعت عناصر متجانسة كبر الجرم الضئيل، وعظم الإنسان الصغير. ألم يكن ذلك رأياً معقولاً؟
قال سيبيس: نعم أظن ذلك
حسناً، دعني أنبئك شيئاً آخر، فقد مر بي زمن كنت فيه أحسب أني أفهم معنى الأكبر والأصغر فهما جيداً، فإذا أبصرت رجلاً ضخماً واقفاً إلى جانب رجل ضئيل، توهمت أن أحدهما أطول من الآخر قيد رأس، أو أن حصاناً كان يلوح لي أنه أكبر من حصان أخر، بل أوضح من ذلك أنني كنت فيما يظهر أحسب العشرة تزيد على الثمانية باثنين، وان(97/43)
ذراعين أكبر من ذراع واحدة، لأن الاثنين ضعف الواحد
قال سيبيس: وماذا أنت اليوم قائل في مثل هذه الأمور؟ - فأجاب: كان ينبغي أن أنأى بنفسي بعيداً عن توهم أنني اعلم إليه سبباً؛ حقاً كان ذلك ينبغي، فلست أستطيع أن أقنع نفسي بأننا لو أضفنا واحداً إلى واحد صار الواحد الذي جاءته الإضافة اثنين، أو أن الوحدتين مضافتين معاَ تساويان بسبب الإضافة أثنين، فلست بمسيغ كيف أنه إذا انفصلت إحداهما عن الأخرى كانت واحداَ لا أثنين، ثم إذا تلاقيا، فقد يكون مجرد التقارب بينهما سبباً في أن تصبحا اثنتين: هذا ولست أفهم كيف تكون قسمة الواحد سبيلاً للحصول على اثنين، لأنه عندئذ تكون النتيجة الواحدة ناتجة من سببين متباينين - ففي المثال الأول نشأ اثنان من جمع واحد إلى واحد وتقاربهما، وفي الثاني كان السبب هو انفصال واحد من واحد وطرحه منه ولست مقتنعاً بعد ذلك بأنني أفهم لماذا يتولد الواحد، أو أي شيء آخر، ولماذا نزول، بل ولماذا يكون إطلاقاً. إنني لن أسلم بهذا قط وإني لأتمثل في ذهني فكرة مهوشة عن طريقة أخرى
ثم استمعت إلى رجل كان عنده كتاب أناكسجوراس، كما قال، وطالع فيه أن العقل هو المصرف والعلة لكل شيء، ولشد ما اغتبطت لذكر هذا الذي كان باعثاً على الإعجاب. وقلت لنفسي: إذا كان العقل هو المسير فإنه سيسير بكل شيء إلى الصورة المثلى، ويضع كل شيء أحسن موضع، وزعمت أن من يرغب من الناس في استكشاف علة تولد أي شيء أو زواله أو وجوده، فعليه أن يرى كيف تكون الصورة المثلى لذلك الشيء من حيث وجوده وسعيه وعمله، لذلك كان لزاماً على المرء ألا يضع نصب عينه إلا الحالة المثلى بالنسبة إلى نفسه وإلى الناس، ثم عليه بعد ذلك أن يعلم الأسوأ أيضاً، فالأمثل والأسوأ يحويهما علم واحد. وسرني ما ظننت أي واجد في اناكسجوراس من يعلمني ما وردت أن أعلم من أسباب الوجود، وخيل إلى أنه منبئي أول الأمر عن الأرض أمسطحة هي أم كروية، وأنه باسط لي بعد ذلك علة هذا وضرورته، وأنه معلمي طبيعة الأمثل ومظهري على أن الأمثل إنما هو هذا، فإن زعم أن الأرض قائمة في المركز شرح كيف أن هذا هو الوضع الأمثل، وكنت سأقتنع به ولو بين لي ذلك، وما كنت لأقتضيه غير ذلك سبباً، وحسبت أنني قد التمسه بعد ذلك فأسائله عن الشمس والقمر والنجوم، فيشرح لي سرعتها(97/44)
المقارنة، ونكوسها ومختلف حالاتها، وكيف أنها تتجه بميولها المتعددة، القابلة منها والفاعلة نحو الأمثل دائماً، وما كنت أتصور أنه إذا ما تحدث عن العقل باعتباره مصرفاً لها، يعلل وجودها على هيئتها الراهنة بغير علة أن هذه هي الصورة المثلى، وظننت أنه بعد أن يفرغ من الشرح المفصل لعلة كل منها وعلتها جميعاً، سيمضي يبين لي الحالة المثلى لكل منها والأسوأ، فتلوثها مسرعاً ما استطعت إلى السرعة سبيلا، وقد رجوت آمالاً لم أكن لأبيعها بكثير.
(يتبع)
زكي نجيب محمود(97/45)
في الأدب الفرنسي المعاصر
رومان رولان
بقلم علي كامل
تتمة
في (النهار الجديد) (1912) وهو آخر جزء من قصة (جان كرستوف) كتب رومان رولان يقول: (إن أوربا الآن توحي للناظر كأنها في ليلة حرب). كتب ذلك قبل أن تعلن الحرب بعامين. وعندما اندلعت الحرب الشرارة الأولى عام 1914 كان رومان رولان في سويسرا. فكان بعده عن وطنه مساعداً له على أن يكون حر الرأي بعيداً عن التأثر بضروب الدعاية المختلفة التي كان يصيح بها ساسة الدول المتحاربة - ومنها فرنسا - تبريراً للحرب وحثاً للناس على خوض غمار القتال (كإنقاذ المدنية) أو (الحرب من اجل السلام الخالد) إلى غير ذلك من الأقوال
ومنذ التاسع والعشرين من أغسطس عام 1914 شرع رومان رولان يكتب سلسلة مقالات في (جريدة جنيف) بدأها بخطاب مفتوح إلى الكاتب الألماني هويتمان مستنكراً الوحشية الألمانية التي أحرقت بلدة (لوفان) البلجيكية. وقال فيه: (كثير منكم أن يبدو ذلك العنف الذي تعاملون به هذه الأمة الكبيرة النفس - يقصد بلجيكا - التي لا ذنب لها إلا الاستماتة في الدفاع عن استقلالها وعن الحق كما فعلتم أنتم الألمان عام 1813. . .! احتفظوا بهذه القسوة لنا نحن الفرنسيين أعداءكم الحقيقيين. أما أن تتحمسوا ضد ضحاياكم، ضد ذلك الشعب البلجيكي الصغير السيئ الحظ البريء. فيا له من عار!) ثم يقول: (ولم تكتفوا بان تأخذوا البلجيك الحية، فأعلنتم الحرب على الأموات، على مجد القرون، فأمطرتم (مالين) بالقنابل وأحرقتم (روبان)، وأصبحت لوفان تلاً من الرماد، لوفان بكنوزها الفنية وعلمها، لوفان المدينة المقدسة. . . . هل تحاربون الجيوش أم الفكر الإنساني؟ اقتلوا الرجال لكن احترموا الأعمال الفنية، إنها تركة الجنس البشري الذي أنتم منه والذي نحن جميعاً الأمناء عليه. إنكم حين تحطمونه كما تفعلون الآن تثبتون أنكم غير جديرين بذلك(97/46)
التراث العظيم).
وفي مقالته الثالثة (فوق المعركة) - التي أطلق عنوانها على مجموعة المقالات حين جمعها فيما بعد، نسمع رومان رولان يوجه اللوم الشديد إلى قادة الرأي العام والرؤساء الدينيين والمفكرين والخطباء الاشتراكيين قائلاً: (بين أيديكم ثروات حية، كنوز من البطولة، فماذا فعلتم بها؟ لقد وجهتموها إلى الصراع والموت!) ثم تراه يظهر استنكاره المرير من أن تنتقل شهوة رجال السياسة إلى رجال الفكر فتتولد بينهم العداوة (فيصبح أوكن ضد برجسون، وهويتمان ضد مترلنك، ورولان ضد هويتمان، وولز ضد برناردشو. كما يتغنى كبلنج ودانونزيو ودو رينييه وبارس ومترلنك بأغاني الحرب والقتال. بينما يطلب الفيلسوف الشيخ قندت - الذي بلغ من العمر الثانية والثمانين - بصوته المحطم من طلبة جامعة ليبنزج الاشتراك في (الحرب المقدسة))
وفي هذا المقال أيضاً صرح رولان أن اعظم هيئتين خانتا مهمتهما وظهرتا بمظهر الضعف أثناء الحرب هما (أولاً) المسيحية: أي السلطة الدينية (وثانياً) الاشتراكية. إذ أن كلا من هاتين الهيئتين من أول مبادئهما الدعوة إلى السلام العالمي والإخاء بين الشعوب. لهذا كان تأييدهما للحرب وقبولهما دخول سعيرها إنكارا لا يليق لمبادئهما السامية. (فهؤلاء الاشتراكيون الذين لم يجدوا في نفوسهم الشجاعة على الموت في سبيل عقيدتهم قد وجدوها للموت في سبيل عقيدة الآخرين)
وعندما يتكلم عن الباعث الحقيقي على الحرب يقول: (إن العدو الألد ليس خارج حدود الوطن بل هو رابض داخل كل أمة. وليس هناك أمة واحدة تملك الشجاعة لمحاربته. إنه ذلك الشبح ذو المائة راس الذي يسمى التوسع الاستعماري. تلك الإرادة في الكبرياء والتسيطر التي تريد أن تمتص كل شيء فإما الخضوع لها وإما الهدم. تلك الإرداة التي لا تحتمل مطلقاً أي عظمة ونمو خارج دائرتها)
وبعد أسبوع من معركة المارن أعلن رومان رولان فكرته العالمية (ووجوب إقامة المدينة الواسعة الممتدة الأطراف التي تزال منها المظالم وأحقاد الأمم وتجتمع فيها النفوس المتآخية الحرة في العالم أجمع) على أنه لم يكن يطلب تحقيق ذلك عن طريق العنف فهو ألد أعدائه. بل يترك للزمن تحقيقه على مهل حين تسمو النفوس عن الصغائر وتتجرد العقول مما(97/47)
تتعلق به الأوهام
لقد رأينا كيف أن رومان رولان في مقالاته كان متجرداً من كل خضوع لفكرة وطنية، أو التأثر بتيار الحماسة الذي كان يجرف كل الأمم المتحاربة. ولذا لم يتردد - كما رأينا - في السخرية من كل رجال الفكر والدين، لأنهم خانوا مبادئهم النبيلة في الوقت الذي كان يمكنهم فيه تأدية أكبر جانب من مهمتهم في الحياة. كما أنه لم يتردد في إظهار ألمه من تردي العلم في حمأة الأغراض، حين يدعى الأستاذ بيريه مدير المتحف وعضو أكاديمية العلوم في باريس أن البروسيين لا ينتمون إلى ينتمون إلى الجنس الآري. كذلك كان من الأسباب التي زادت عدد مهاجميه احتفاظه بعد أن أعلنت الحرب بصداقة من كان يعرفهم من الكتاب الألمان (إذ ليس حبي لوطني - كما قال - معناه أن أكره أناساً مخلصين يحبون هم كذلك أوطانهم)
كل هذه الأسباب إلى جانب التهم التي وجهت إليه قبل الحرب عن طعنه في العبقرية الفرنسية جعلت عدداً من جرائد بلاده تنشر مقتطفات محرفة من مقالاته في لتثير عليه الرأي العام. ولقد استطاعت بلوغ ذلك إلى حد كبير. فكان جواب رومان رولان على هذا أن نشر مقالاته لتثير عليه الرأي العام. ولقد استطاعت بلوغ ذلك إلى حد كبير. فكان مستقل في سبتمبر عام 1915، حتى يطلع الشعب الفرنسي بنفسه على حقيقة ما كتب ليعرف مقدار اتهامات أعدائه من الحق أو الضلال. وقد قال في مقدمة كتابه ما يأتي: (إذا باغتت الحرب شعباً عظيماً فإنه ليس فقط أن يدافع عن حدوده، بل أمامه عقله أيضاً فإنه ليس عليه فقط أن يدافع عن حدوده، بل أمامه عقله أيضاً يجب أن يحميه من الخرافات والخروج على العدل ومن السخافات. تلك الأمور التي تطلقها من عقالها المصيبة العظمى لكل شخص مهمته، فكما أن على الجيوش أن تحافظ على أرض الوطن، كذلك على رجال الفكر الدفاع عن الفكر؛ فإذا سخروه لخدمة شهوات شعبهم، فقد يستطيعون أن يكونوا آلات نافعة، ولكنهم يخاطرون بخيانة العقل الذي ليس هو أقل جزء من تراث هذا الشعب) ثم يقول في النهاية: (لقد ظللت عاماَ بأكمله غنياَ بالأعداء، والآن أقول لهم أنهم يستطيعون أن يحقدوا علي، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعلموني أن أكون حقوداَ. . . أن مهمتي أن أقول ما أعتقده عدلاً وإنسانياً)(97/48)
والواقع أن التهم التي أسندت إلى مقالات رومان رولان في (جريدة جنيف) لا أساس لها من الصدق، إذ خلقتها عداوة بعض الإفراد والجرائد من جهة، ومن جهة أخرى الرقابة على المطبوعات إبان الحرب التي كانت حين تحذف من مقالاته كثيراً من الفقرات التي ترى فيها تطرفاً لا يجوز نشره، تترك بذلك المجال لأعدائه لتأويل الجزء الضئيل الباقي تأويلاً سيئاً
وعلى كل حال فقد كان هذا الصراع الهائل بين رجل وأمة داعياً لأن تتسع شهرة رومان رولان بعد الحرب، وخصوصاً وقد حصل عام 1916 على جائزة نوبل للآداب، وكانت شهرته خارج فرنسا أوسع من داخل فرنسا نفسها؛ وقد قوبلت كتبه التي ظهرت بعد الحرب بشغف زائد وإقبال عظيم، فطبعت عشرات الطبعات ومن هذه الكتب: (1917) - الذي طبع عام 1914 ولم ينشر إلا عام 1919 - , ' ' (1920) - (1924) - ' (1925) ' (1926 - 1927) و (1926) (1928) - ' (1930).
ولا يزال رومان رولان يعيش في سويسرا متخذاً إياها وطناً ثانياً له، محافظاً كل المحافظة على تفكيره وآرائه التي أثارت عليه الحملات غير عابئ بها، مؤمناً بذلك الإحساس الذي دفعه إلى أن يقول أثناء الحرب رداً على متهميه في إحدى مقالاته ' إن (الوقت الذي يخصصه الرد على خصم ما إنما يعتبر كزقة من أولئك التساء، أولئك السجناء. من تلك الأسر التي تسعى ونحن في جنيف أن نمد لها أيدينا).
ويرى الناقد رينيه لالو أن هذه الصلابة الشديدة التي نجدها عند رومان رولان في التسمك برأيه والاحتفاظ بنقاء ضميره كرجل أخلاقي قد آذته إلى حد ما - كفنان، إذ أفقدت قصصه كثيراً من الليونة والطراءة. على أن هذا الإخلاص لعقيدته بين عواصف الافتراء الكاذب، وذلك الاحتمال الباسم للاضطهاد الذي بعثنه النفوس الصغيرة، وتلك السعادة في العذاب التي انعكست عليه من أبطاله بيتهوفن وتولستوي وغاندي، قد جعلت جميعاً منه أحد أعاظم قادة الفكر الأوربي الحديث الذين في أعناقهم - هم وسائر مفكري العالم - يقف مصير المجتمع الإنساني
علي كامل(97/49)
ملوك الغرب
لمناسبة احتفال الإنجليز بعيد ملكهم
للأستاذ فخري أبو السعود
تيهوا بعيد المليك المفرد العلم ... وفاخروا بِعُلاهُ سائر الأمم
ومجِّدوا فيه عنواناً لمجدكمُ ورمز ... مُلْكٍ وطيدٍ ثابت الدعم
مُلْكٍ حَوَى مشرقَ الدنيا ومغربَها ... لم يَرْوِ عن مثلهِ التاريخُ من قِدَم
تيهوا بني الغرب بين العالمين بما ... بلغتم اليوم من مجد ومن عِظم
ولْتَزْدَهُوا بملوك في عروشكُم ... همْ زينة المُلْكِ والأحكام والنظم
تأوي الشرائع منهم والحقوقُ إلى ... حصنٍ حصينٍ وركنٍ غير منهدم
هم أول الحارسي الدستور من عبث ... والحافظين لِما أولوه من ذِمم
وهم مَناَطُ أمانيِّ البلادِ وَهُمْ ... أبُوَّةُ الشعب في الأحداث والغُمم
في كل يومٍ لهم في الشعب مأثرة ... تُغيث منه مكان الداء والألم
ملائكُ النور في سلم وفي دعة ... وهم حُماةُ وَأوج كمال الخُلق والشيم
وسادة الناس في علم وفي أدب ... هُمُ وُأَوْجُ كمال الخُلق والشيم
نالوا من العز شَأواً لم يُنَلْ ولهم ... محبةٌ في قلوب الشعب لم تُرَم
محبةُ الشعب ترعاهم وتحرسهم ... لا الشاهقاتُ من الأسوار والأُطم
محبةٌ هي أغلى لِلْمُدِلِّ بها ... من منظرٍ فارهٍ أو مظْهَرٍ سَنِمِ
تَوَارَثوا صولجانَ المُلْك في أُمم ... لا تبتغي بَدَلاً - لو خُيِّرَتْ - بهِم
لا كالملوك الأُلى - بالأمس - إذ حَكموا ... ساقوا الرعيةَ سَوْقَ الشاء والنَّعَم
ولم يخالوا شعوباً تحت رايتهم ... سوى عبيدٍ لرَبَّ التاج أو حَشَم
ولم يرَوا لهمُ جاهاً ولا حَسبَاً ... في الناس حتى يُذلُّوا كلَّ ذِي شمم
يقُصي الأبيُّ ويَشْقَى الحُرُّ عندهم ... ويَمْرَحُ المالٍقٌ الأفَّاكُ في النِّعَم
باسم المكارم أعْلَوْا مُلكَهُم وهُم ... حَرْبٌ على كَرَم الأخلاق والهمِم
عن حاجةِ الشعب باللذات في شُغُلٍ ... كانوا وعن دعوة المهضوم في صمم
سِيَّانِ إن سَعِدَتْ في ظل دَوْلتهِم ... رعيةٌ أو هَوَتْ في البؤس والوصَم(97/51)
لا يِرْقُبُ الناسُ منهم فضلَ مكرمة ... لكن يخافون منهم بطش محتكم
ذيَّاك عهدٌ تولى غيرَ مرتجَع ... هيهات يَبعْثَهُ باغٍ من العَدَم
وعاصرتْنا ملوكٌ في ممالكهم ... همُ لمن حكموهم أول الخدم
يشاطرون صروفَ الدهر قومَهُمُ ... ويعطفون عليهم عطفَ ذي رحم
وهم على شعبهم في كل ما صنعوا ... فيضٌ من البرِّ لا صوبٌ من النِّقم
تَسَنَّمُوا ذروةَ العليا، وباسمِهم ... تُزْجى الجحافلُ في الوديان والأكَم
وينزلون - إذا ما الجِدُّ جَدَّ - على ... ما قالهُ قائلوا الساداتِ والعَمَم
ولا يرَوْنَ لهم من دون أُمتهِم ... مجداً ولا دون حب الشعب من عِصم
فخري أبو السعود(97/52)
يعجبني. . .
للأستاذ محمد الحليوي
يُعجبني الحطَّابُ في غابه ... وفأْسُه تعملُ في جذعِهِ
يِهوِي بها - فهي قضاً نازلٌ ... تَرْتجف الغابة من وَقْعِهِ
وتحملُ الريحَ إلى مسمعي ... صَدَى نحيب الغاب في رجعه
يُعجبني المِزْمار في ساَمِرٍ ... في هَجعة اللَّيل وفي وَهْنهِ
غناؤه في الحيِّ يَهْتاَجُني ... ويستبيني بشجي لَحْنِهِ
وتحمِلُ الرِّيحُ صدَى شاكياً ... مثْلَ شَكاةِ الْقَلْبِ في حُزْنِه
يُعجبني الآذانُ في هَدْأَةٍ ... يُرْسِله العابدُ من جوِّه
يُرسله شَفْعاً يهز الفضا ... مُرَجَّعاً يهتاَجُ في شَجْوِهِ
وتحمل الرِّيح صدَى هائماً ... تَنْجَذِبُ الرُّوح إلى نحوِه
يعجبني الدُّولاب في رَوضَةٍ ... وصوتُه الآتي على رِودِهِ
وَجُلْجُلُ الناقِةِ في عنقها ... والماءُ إذ يهمس في وخْدِه
وتحمل الريح صدَى غامضاً ... يستَوْقِف الآذانَ في بُعدهِ
وإذ تَؤُمُّ الريحُ في سيرها ... بَيتِيَ أو تجثُمُ في قُربهِ
أُحبُّ أن تحمل أمواجها ... شتَّى اللُّغَي، كلٌّ على ضربهِ
وهْمسةُ الأورَاق في دَوْحِها ... وغُنَّةُ الطائرِ في سِرْبِهِ
وَنَقَّةُ الضِّفْدعِ في مائها ... وهزمةٌ للرعدِ في سُحْبِهِ
تُبهجني، تُعجبُني كلّها، ... وتلك حسبُ القلب من حبِّهِ
يا عجباً! قد تأملُ الأذْنُ أنْ ... تستوعب الكونَ على رُحْبِهِ
(تونس)
محمد الحليوي(97/53)
الدبكة
ليلة عرس في القرية
بقلم محي الدين الدرويش
سكب البدر على القر ... ية ضوءاً فزهاها
وبدت حالية الأك ... ناف تهتزُّ رُباها
نَفَحتها نسمةٌ عط ... ريةٌ يُغرى شذاها
يا لها من ليلة قد ... أغرقتني في سناها
جُليتْ فيها فُتو ... نٌ ضلّ عقلي في مداها
وَفَدَ القوم إلى السّهلِ ... نساءً ورجالا
يتهادون نَشَاَوي ... ويميلون دلالا
موكبٌ للعرس أضحى ... يملأ العين جلالا
علت الضّوضاء فيه ... وكذا الطبل تعالى
وبدت فيه العذا ... رى كنجوم تتلالا
يا عذارى الحيّ هذى ... فَرحةُ العرس السعيدِ
عرس هند إتها ... كالظّبي في لحظٍ وجيد
غادةٍ عوذتها با ... لله من عين الحسود
يا عذارى لا رأي ... تنْ سوى عيشٍ رغيد
كمل الأنس فبادِ ... رْنَ إلى رقص فريد
علت الأنوار حتى ... أصبح الليل نهارا
وغدا كلُّ فؤادٍ ... من رُؤاها مستطارا
بُسُطُ الديباج صُفَّتْ ... فبدت تحكي إطارا
جلس القوم عليها ... وبها الرَّقص استدارا
جُنَّ صوت الطبل في ... البطحاء والزَّامر ثارا
عقدوا الأيدي وداروا ... هالةً فيها النُّجومُ
كهرباءُ قد سرت ... فارتعشت منها الجسوم(97/54)
مالت الأعناق وال ... أعطافُ تهوى وتقوم
والنُّهود اختلجت، في ... حسنها تَغْوَى الحُلُو
لُجَجٌ فوق صُدورٍ ... ليتني فيها أعُومُ
وقَّع الزّامر أنغا ... ماً فمالت بالصُّفوفِ
من رجال ونساءِ ... وغويّ وعَزُوفِ
أرسلوا الأرجلَ في الأرْ ... ض وعادوا للوقوف
ماجت الأعطاف فالقا ... ب بها جِدُّ شَغُوف
يا لأعطاف العذارى ... فتنتْ كلَّ عفيف
وتعالتْ نغماتٌ ... سلبت منّى نُهايا
مشجيات ردَدَت أص ... داَءها كلُّ الزَّوَايا
وأثارت ذكرياتٍ ... رَقَدَتْ بين الحنايا
يا صبايا حسبكنَّ اليو ... مَ شجواً يا صبايا
نحن نهواكنَّ فأر ... فُقْن قَليلاً بالضْحايا
حمص (سوريا)
محي الدين الدرويش(97/55)
13 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: أثبت بستور أن المكروب ضروري للحياة على ظهر هذه الأرض. فإن الأموات من الحيوان والنبات لابد من تعفنها وتحللها وأكسدتها لتتسع البسيطة للنبات الجديد والحيوان الوليد. وأن هذا التحلل لابد له من الأكسجين. ولكن أكسجين الجو عاجز عن هذه الأكسدة فإنها لا تتم إلا بواسطة المكروب. ثم أثبت بستور بعد ذلك أن المكروب منشؤه الهواء، يحمله غباره. وأنك لو أدخلت الهواء دون الغبار إلى اللبن والأمراق ونحوها بعد إغلائها جانبها الفساد، فقضى بذلك على نظرية الانبعاث التلقائي التي تقول إن المكروب ينشأ في الأمراق والألبان وأمثالها من تلقاء نفسه، من العدم
وبعد ذلك قام بستور بتجربة يدلّ البحث الدقيق بين المخلفات والسجلات أنها من صنع نفسه. تجربة هائلة، ركب لها القطار، وصعد من أجلها الجبال، ودار في أعاليها في حذر وريبة حول ما انجمد بها من الأنهار. وعاد معمله مرة أخرى فازدحم فيه القباب، ورنّ الزجاج، وغلت الأحسية فأرغت وتفقعت. وقام أعوانه على العمل قومةً واحدة، فلم تر فيهم إلا رائحاً مسرعاً أو غادياً مهرولاً، حتى لكائنهم عبيد مسترقّون السياط، وما كان وراءهم إلا قلوب مؤمنة وعزمات صوادق. قاموا يجهزون مئات القوارير، ويملئونها بالأحسية بعض الملء، ثم يُغلون كل واحدة منها دقائق، وبينا هي تغلي يسيحون رقابها في نفخات اللهب الشديد، ثم يمطونها ويختمون على القوارير وقد ذهب هواؤها. فإذا بردت لم يكن بها غير الحساء فوقه فراغ. وقاموا على هذا التجهيز ساعات عديدة طويلة حسبوها دقائق من فرط اهتمامهم(97/56)
وبدأ بستور رحلته بهذه القوارير. فذهب أول ما ذهب إلى مرصد باريس فنزل إلى حجراته المطمورة تحت الأرض. وأجال نظره فيها ثم التفت إلى صبيته وقال: (كيف تجدون هذا المكان؟ إنه هادئ بالغ الهدوء، ساكن بالغ السكون، قل فيه الغبار فعز فيه المكروب)، وقام الصبية إلى القوارير فامسكوها بعيداً عن أجسامهم بمقابض من المعدن أحميت في النار قبل ذلك، وأخذوا يفضون أختامها حتى بلغ المفضوض منها عشر قوارير، وكلما فضوا ختم قارورة دخلها الهواء فسمعوا له صفيراً. وما كاد يدخلها الهواء حتى عادوا فختموا القارورة على التو مرة أخرى، وذلك في لهب مصباحٍ زيته الكحول. وذهبوا إلى فناء المرصد ففضوا فيه عشر قوارير أخرى على مثال ما وصفنا: ثم أسرعوا عائدين إلى معلمهم، إلى ذلك المحضن تحت حنية السلم، فوضعوا القوارير فيه
وبعد أيام كنت تجد بستور قاعداً القرفصاء أمام هذا الفرن ينظر قواريره في رفق وحنان، وعلى فمه ابتسامة من ابتساماته النادرة، فإنه لم يكن يضحك إلا إذا جاءه التوفيق والنجاح. وكتب شيئاً في كراسته وحرج يزحف من هذا الحجر ليخبر أعوانه أنه وجد تسع قوارير رائقة من العشر التي فتحوها في قاع المرصد، (فهذه القوارير التسع لم يدخلها مكروب واحد. أما العشر التي فتحناها في الحوش فتعكرت كلها بالملايين من تلك الخلائق. إن الهواء هو الذي أدخلها في القوارير. إن هباء هذا الهواء هو الذي حملها معه!)
وكان الوقت صيفاً، ودراسات المعاهد معطلة والأساتذة يستجمون، وحق لبستور أن يستريح مثلهم، ولكنه جمع ما بقي من القوارير وأسرع إلى القطار، إلى بلده القديم في جبال الجورا فصعد جبل بوبية وهناك فض أختام عشرين قارورة ثم لحمها. وذهب بالقوارير إلى سويسرا، وتسلق جبل مونت بلان مغامراً مخاطراً، وعلى أكتاف هذا الجبل العظيم فض أختام عشرين قارورة أخرى فدخلها الهواء صافراً. ورجا بستور أنه كلما علا في الجو قل العدد الذي يتعكر من قباباته. وقد تحقق رجاؤه. قال: (هذا ما كنت أرجو، وهو ما يجب أن يكون. فإني كلما صعدت في الهواء قل الغبار فقل المكروب الذي يركبه دائماً). وعاد إلى باريس فخوراً، وأخبر الأكاديمية أنه اصبح من الثابت المحقق أن الهواء وحده لا يستطيع إحداث المكروب في الأمراق، وأن لديه على ذلك براهين سيدهش لها كل إنسان. صاح فيهم يقول: (هنا، بهذا المكان توجد مكروبات. وهنا، على مقربة من المكان الأول لا توجد(97/57)
المكروبات. وهناك، في ذلك المكان الأبعد توجد مكروبات غير تلك التي وجدناهاأولاً. . . . وهذا مكان آخر، قد هدأ هواؤه هدوءاً بالغاً، فلم نجد فيه مكروبا أصلاً). وأراد أن يمهد لانتصارات أخرى، فقال: (لوددت أن أصعد في منطاد إلى طبقات أعلى في الجو فأفتح فيها قباباتي). ولكن سامعيه اغتمروا حساً بحديثه، واكتفوا بالذي كان، ووثقوا بالذي يقول، فلم يعد بستور عندهم عالماً باحثاً عادياً فحسب، بل وقع من حسبانهم موقع أولئك الأفذاذ الذين يجود الدهر بهم آنا بعد آن. كان بستور أول الأبطال المخاطرين في عصر المغامرة الذي تلا، والذي سنتحدث عنه في هذه القصة بعد حين
وكان بستور كثيراً ما يفور في خصوماته بالتجارب البارعة التي كانت تترك خصومه طرحى صرعى. ولكن في بعض أحايين كان فوزه لضعف في خصومه أو لغباوة فيهم. وأحياناً كان يأتيه الفوز حظاً ومصادفة. قام بستور يوما في جماعة من الكيميائيين فحط من المقدرة العلمية للطبيعيين صاح فيهم: (فإن أعجب فعجبي لهؤلاء القوم كيف لا يدخلون على العلم من بابه، من باب التجربة. فإنهم لو فعلوا، إذن لنفخوا في علمهم روح الحياة). وأنت تستطيع أن تتصور ما كان من كره الطبيعيين لهذا المقال. فقد كرهه بخاصة المسيو يوشيه مدير متحف روان وشركه في كرهه الأستاذ جولي والأستاذ موسيه وهما الطبيعيان الشهيران بكلية تولوز. ثلاثة من أعداء بستور لم يستطع شيء في الدنيا أن يقنعهم بان تلك الأحياء المكرسكوبية إنما تتخلق من آباء. لم تستطع حجة أن تذهب باعتقادهم في إمكان نشوء الحياة والأحياء من ذوات أنفسها. ومن أجل هذا أجمع الثلاثة أمرهم على أن ينازلوا بستور في أرضه وبنفس سلاحه
فملئوا مثله القوارير، ووضعوا فيها الأحسية على مثال ما صنع، وأغلوها وختموها كما أغلى وختم، إلا أنهم اتخذوا أحسيتهم من مرق الأعشاب الجافة لا كما اتخذها هو من أمراق الخمائر. وحملوا قواريرهم إلى جبل مالاديتا في البرنيز فأخذوا يصعدون فيه ثم يصعدون حتى بلغوا مكاناً أرفع مما بلغ بستور على جبل مون بلان في سويسرا. وهناك خرجت عليهم من مغاور الثلوج رياح قارسة نفذت من خلال أكسبتهم الغليظة إلى جلودهم. وزلقت رجل المسيو جولي من فوق كتف الجبل، فكاد يذهب ضحية العلم لولا أن أمسك بعض الأدلاء بذيل كسوته. وقاموا وهم في هذه الحال بفتح القوارير وملء فراغها بالهواء ثم(97/58)
ختمها. ونزلوا يجرون أقدامهم، وقد نال الجهد منهم والبرد، فدخلوا إلى خان في الطريق فنصبوا فيه محضنا حيثما اتفق، ثم أودعوه قواريرهم. وبعد أيام نظروا إليها فبرقت أساريرهم لما رأوا أمراقها تعج بالخلائق الصغيرة. إذن لقد أخطأ بستور
وعندئذ أشهروا الحرب بينهم وبينه. وقام بستور يهزأ في الناس بتجارب الأسياد: يوشيه وجولي وموسيه. وقارعهم بحجج نعلم نحن اليوم أنها كانت تمحكا ولجاجة
فرد عليه يوشيه. قال فيما قال: (إن بستور قدم قواريره هو إنذاراً أخيراً للعلم ليدهش كل إنسان). فغضب بستور واهتاج، ووسم يوشيه بالكذب، وطلب اعتذاره على رؤوس الأشهاد. وخيل للناس أن الفصل بين الحق والباطل سيكون للدماء الصبيبة بدل التجارب الهادئة. وكان من بعد ذلك أن احتكم يوشيه وصديقاه إلى تجربة يجرونها بين رجال أكاديمية العلوم، فإذا وجد واجد أن قارورة واحدة من قواريرهم خالية من المكروبات عقب فتحها، إذن لأقروا بأنهم مخطئون. وجاء اليوم الموعود، واقتربت ساعة النزال، ساعة الاحتكام إلى القوارير، واشرأبت أعناق الناس، ودفئت قلوبهم في انتظار ما يكون. ولكن خصوم بستور رجعوا على أعقابهم ناكصين. فروا من المعركة قبل أن تكون. فقام بستور نفسه بتجاربه أمام المحكمين، أجراها في وثوق واطمئنان، وسخر من خصومه وهو يجريها. وبعد قليل أعلن المحكمون (أن الوقائع التي ارتآها المسيو بستور، فخاصمه فيها يوشيه والمسيو جولي والمسيو موسيه حقائق لا تحتمل النزاع ولا تسمح بالخصومة)
انتصر بستور بالحق، وكذلك انتصر بالحظ، فإن خصومه لم يكونوا مخطئين في الذي وصوفه من تجاربهم. لأنهم لسوء الحظ اتخذوا أمراقهم من العشب، لا من حساء الخمائر. وقد أثبت العالم الإنجليزي تندال بعد ذلك بسنوات أن هذه الأعشاب تحمل جراثيم مكروب تصمد للغليان ساعات فلا تموت. فالذي أنهى الخصومة بين بستور وأصحابه إنما هو في الحق تندال. وهو هو الذي أثبت ان بستور مصيب
- 5 -
وعندئذ حظى بستور بالمثول بين يدي الإمبراطور نابليون الثالث. فقال لهذا الملك الحلام إن كل أمله أن يعثر على تلك المكروبات التي تتسبب عنها الأمراض يقيناً، ودعاه الملك إلى نزهة ملكية في كومبين وهناك صدر أمر الملك إلى ضيوفه بالاستعداد للصيد، فتوسل(97/59)
بستور ورجا أن يعفى من هذا، لأنه كان في انتظار حمولة عربة من الأجهزة ستأتيه من باريس، مع أن ضيافته في القصر الملكي كانت لأسبوع واحد. وأكبره الملك والملكة لما رأياه مكباً على مجهره، بينا يكب الآخرون من الأضياف على صنوف اللهو والخلاعة
لابد أن يعلم الناس أن المكروب لابد له من آباء! وفي باريس، في سهرة علمية بالسربون، قام بستور فالقى خطاباً سهلاً في الجمهور الحاضر، وكان من بينهم اسكندر دوماس القصصي الشهير، وجورج ساند المرأة العبقرية المعروفة، والأميرة ماتلدا، ومئات من ذوات البلد وأعيانه. وقام في هذا الحشد بقطعة مسرحية رجعوا من بعدها إلى بيوتهم يثقلهم الهم ويساورهم الخوف. فقد أراهم بستور على الشاشة صوراً عديدة من مختلف المكروبات. وبدون إنذار أظلم المكان فجاءة، وأرسل في كتلة الظلام الأسود شعاعاً ابيض من الضياء. وصاح فيهم: (انظروا إلى هذا الشعاع، وانظروا إلى العدد الهائل من ذرات التراب التي ترقص فيه، ثم اعلموا أن الهواء الذي انتم فيه مليء بهذا الهباء، ثم تعلموا إلا تحتقروا دائما شيئا لصغره، فتلك الذرات الصغيرة قد تحمل المرض والموت، قد تحمل فوق ظهورها مكروب التيفوس والكوليرا والحمى الصفراء، وأنواع كثيرة غير هذه من الوباء). هذا هو النبأ الفظيع الذي جمعهم من أجله! ألقاه إليهم في صوت يتهدج غيرة وإخلاصا، فآمنوا به وارتجفوا ارتياعا منه. بالطبع لم يكن هذا النبأ صادقا كله، ولكن بستور لم يكن كذاباً فياشا، بل كان يؤمن كل الإيمان بالذي يقول. فهذا الهباء، وهذا المكروب الذي حمله، أصبحا من ضرورات حياة صاحبنا. إذا فكر ففيهما التفكير، وإذا نظر فإليهما النظر. ويدعوه الداعون من رجالات المجتمع إلى موائدهم فلا يبالي أن يرفع إلى أنفه الصحون والمعالق، فيحملق فيها، ثم يدور عليها يمسحها بمنديله. كان كل عمل يأتيه إعلانا بعيد المدى عن تلك المكروبات
نعم أغرق بستور كل فرنسي أن يهتم لهذه المكروبات، من الإمبراطور في عظمته وأبهته، إلى الزبال بين قمامته. وتسارق الناس الأخبار من أبواب مدرسة النرمال عن أحداث مريبة غريبة، حدثت أو تحدث قريباً: ومر الأساتذة والطلاب بتلك المعامل، وفي خطاهم بعض سرعة، وفي قلوبهم شيء من فزع؛ وكأني بك تسمع الطالب يتحدث إلى رفيقه الطالب، وقد مرا في طريقهما بمدرسة النرمال فأظلتهما حيطانها العالية الغبراء، فيقول له:(97/60)
(إن وراء هذه الحيطان رجلا يدعى بستور يكشف أموراً عجيبة عن مكنة الحياة، وقد بلغ من علمه أنه يعرف كيف تنشأ الحياة، ويقولون إنه ربما كشف منشأ الأمراض وأسبابها) ونجح بستور في إغراء السلطات بزيادة سنة على سنوات الدراسة، وبدأت المعامل تزداد عدداً، وخطب في تلاميذه خطباً من نار، فبعث بفصاحته الدمع إلى عيونهم، وتحدث عما تحدثه المكروبات من العلل في الأجسام قبل أن يعلم عن هذا شيئاً، فلم يكن بعد بحث الطاعون، ولم يكن بعد كشف غيره من الأوبئة القتالة، ولكنه فعل ذلك ليحمس الجمهور، والجمهور الفرنسي عنيد، عسير تحميسه
كتب يوماً رسالة صغيرة حارة يخاطب فيها جمهور الفرنسيين قال: (أرجوكم، أتوسل إليكم أن تعيروا شيئاً من اهتمامكم هذه البيوت التي أسميت معامل عمداً وقصداً. طالبوا بزيادتها. طالبوا بتكميل ما نقص منها. إنها معابد الغد. ومنها ستخرج لكم أسباب الرفاهية وأسباب الغنى). بقد سبق بستور زمانه بنصف قرن، وكان كالنبي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، فنصب لقومه مثلاً للكمال عظيمة، ولكنه لم ينس أن يذكرهم بما سيكون لهم كذلك من متع مادية دون تلك المثل عظماً، لم يكن بستور بحاثاً كبيراً فحسب، بل كان خبيراً بأمور دنياه خبرة فائقة
(يتبع)
أحمد زكي(97/61)
القصص
من أساطير الإغريق
ثيذيوس يقتل المينوطور ويخلص أثينا
لعب يثير حرباً
للأستاذ دريني خشبة
كان الملك إيجوس، ملك أثينا، في شرخ صباه وعنفوان شبابه زير نساء، وأخا شهوات؛ وكان ذا نزواتٍ تكاد تسعى به إلى حتفه. . . . بظلفه. . .
ذهب مرة يجوب ريف مملكته، فلمح وجهاً مشرقاً ينبثق من كوة كوخ في إحدى القرى، تتراقص حول ثغره الصغير بسمات هن رسل الحب، وتنطلق من عينيه النجلاوين نفثات تصرعن ذا اللب. . . حتى لا حراك به. . .
وطرق الباب يستسقي، وما به ظمأ، فامتدت إليه ذراع عاجية لدنة، تحمل كوباً من البلور مفعماً برحيق الحب، وإن لم يحو غير الماء القراح!
وتناول الكوب ولبث لحظة يشرب ما به بعينيه، دون أن يمتد فمه إليه، ثم أرسل زفرةً دفعت الباب فانفتح على مصراعيه، ودخل غير مستأذنٍ، فروى فمه، وبرد قلبه، وبل جاحم الحب الذي زلزل أركانه
ثم تزوجها، ومكث عندها شهراً كان عسلاً كله!
ووصل إلى قاعدة الملك، وأم القرى، أثينا، بعد أن ترك وصاته المكتوبة الآتية: (في الغرفة التي ضمتنا لأول مرةٍ نلتذ الحياة وننعم بطيب العيش؛ هنا؛ في هذا المنزل الصغير الذي اتسع لدنيا من الآمال والأحلام؛ وتحت الحجر الكبير الملون، حيث كانت قدماي تحييان في سكرة الهوى قدميك؛ قد استودعت نعلي اللتين حملتاني إليك، وسيفي الذي فربت به رؤوس الأعداء حتى سعدت بك؛ فإذا وضعته غلاماً فسميه ثيذيوس، ونشئيه وطرئيه حتى يصلب عوده، ويشتد ساعده، فخذيه إلى الحجر فليرفعه، وليلبس نعلي وليمتشق سيفي، ثم ليمض إلى أثينا، لا حافظ له إلا قلبه، ولا حارس إلا سيفه، فإذا شاءت العناية فإنه بحول زيوس العظيم ولي عهدي، وصاحب التاج من بعدي.)(97/62)
وتتابعت السنون
وكانت أثينا تزهى كل سنةٍ بعيدها الرياضي الفخم؛ فتلبس حلةً من البهجة والإيناس، وتؤمها وفود الأقاليم المجاورة تتفرج بالألعاب الجميلة، وقد تشترك فيها
وكان لمينوس ملك كريت، ابن مفتول العضل قوي البنية حبيب الطلعة، كان يقدم إلى أثينا إبان عيدها الرياضي ليباري أبطالها، ثم يعود مشمولاً بحب الأثينيين وإعجابهم الشديد، ولقد كان يحدث ألا يكون للموسم بهجته المعتادة إذا تخلف ابن مينوس فلم يحضر إلى أثينا
ومن غريب المصادفات أن يولد ابن ملك كريت هذا في نفس اليوم الذي تضع فيه القروية الحسناء الغلام ثيذيوس ابن ملك أثينا
ومن يرغب المصادفات أيضا أن ينشأ ثيذيوس هذه النشأة الرياضية التي نشأها ابن مينوس، والتي كانت إماراتها تبهر الأثينيين وتخلب ألبابهم في موسمهم الرياضي
ولم يكن الأثينيون يعلمون أن لملكهم ولداً، هو إن لو يبرز على ابن مينوس في الألعاب الرياضية، فإنه لا يقل عنه شأنا فيها. ولم يكن الملك نفسه يعلم عن ولده شيئاً، ولو قد علم عنه شيئاً لما سولت له نفسه الأثيمة أن يدبر غيلة ابن مينوس في حلك الليل، وفي طريقه المقفرة إلى المرفأ، حين آب بأكثر جوائز الموسم الرياضي، في المصارعة والملاكمة والعدو ورمي القرص. .!
لقد أكلت الغيرة العمياء قلب الملك الجبان، وتلظى فؤاده بحقد أسود حجب بصيرته، فأرسل عصابة من اللصوص وقطاع الطرق والسفاكين، ذبحوا الشاب المسكين، ونبذوا جثته بالعراء، تنوشها الوحوش وسباع الطير!
واهتزت أثينا المضيافة، أثينا أم القرى، لهول الجريمة، ونقموا على القتلة الأشرار اعتداءهم الشنيع على ضيفهم المحبوب؛ وكادت تندلع ألسن الثورة حين استفاضت الإشاعات وراجت سوق الأقاويل، لولا أن وصل في صبيحة ليلة الجريمة، البطل الصغير ثيذيوس ولي العهد فجأة، ومن غير سابق علم، ولا ترقب ولا انتظار!
(ثيذيوس! ومن يكون ثيذيوس هذا؟!
(ولي عهد المملكة، ورجاؤها، ومعقد آمالها
(وأين كان الشاب؟ وابن من؟ ومتى ولد؟(97/63)
(كان ينشأ في الريف، وهو ابن حسناء من أميرات الأقاليم وولد منذ عشرين
ولم لم تعلم به أثينا من قبل؟
(أراد الملك أن يفاجئ شعبه بهذا الخبر السار، لولا اغتيال ابن مينوس؟!
(وهل هو حقاً أشجع من ابن مينوس؟
(ومن يكون ابن مينوس، وألف بطل كابن مينوس إلى ولي عهدنا ثيذيوس؟ وهكذا راحت الجماهير يتحدث بعضها إلى بعض حديث ثيذيوس
أما كيف وصل هذا الأمير الصغير، فإن أمه لما آنست فيه القوة واكتمال البنية، ولما رأت من تدفق ماء الشباب في وجناته، وسريان كهرباء الحياة في عضلاته، قادته إلى الحجرة التي لقيت فيها لأول مرة أباه، ثم ناولته الخطاب المكنون الذي يحمل وصاة الملك. وما قرأ الفتى ما جاء بالخطاب حتى تأكدت له الأماني العذاب التي كانت أمه تهتف له بها، فتقدم إلى الصخرة فرفعها بأقل جهد، ثم حمل السيف فقبله، ووضعه هنيهة على رأسه، ثم على عينيه، ثم على قلبه، كأنه يطبع به خاتم المحبة الأبوية على أعز جوارحه!
وربط النعلين العزيزتين على قدميه، وانهال على خدي أمه ويديها يقبل هذين ويلثم هاتين، وودعها، وتزود من نصائحها، وانطلق ميمما شطر أثينا
وكانت الطريق إلى العاصمة صعبة شائكة محفوفة بالمكاره، ككل طريق تؤدي إلى جنة أو نعيم؛ فاللصوص وقطاع الطرق والسفاكون يأخذونها من كل حدب، والسباع الضواري تعج في جنباتها، والغيلان والأبالسة تهمهم في جميع منعطفاتها. . . ولكن هذا كله لم يثن من عزم ثيذيوس؛ فلقد قتل كل من تعرض له من لصوص هذه البرية المرعبة، وفري رؤوس سباعها، حتى لقد فر الكثيرون أمامه يذيعون نبأ مقدمة في أثينا. فما وصل إليها حتى كان صيته قد سبقه وشاع فيها. وما إن تقدم إلى أبيه الملك حتى عرفه، ونزل من فوق العرش فعانقه وقبله، ثم عاد فأجلسه بجانبه، وألقى إليه بأذنيه يصغي إلى قصة حياته، ومجازفته في الطريق التي تكتنفها الأهوال إلى أثينا!
وأعلن السرور العام في المدينة، وطفقت النواقيس تدق في الهياكل، وأطلق سراح المجرمين من جميع السجون، وجعل الناس يتندرون بشجاعة ولي العهد وقصته العجيبة، حتى لأنساهم ذلك هول المأساة الدامية التي روعتهم وزلزلت قلوبهم(97/64)
وانتظر مينوس أوبة ابنه، بيد أنه قلق لانقطاع أخباره، وساورته الظنون من أجله، وحسب أن ريحاً عاصفاً ثارت بمركبه في البحر الإيكاري فأغرقته، لولا أن أحد التجار الكريديين عثر بجثة القتيل فاحتملها إلى الملك، الذي تصدع قلبه من الأسى!
ولا تسل عما انتاب مينوس من الحزن، وما شمل كريد من الهم، حتى لم تبق فيها عين لم تذرف ماءها على ولي العهد!
واتصل بالملك ما كان من فعلة إيجوس ملك أثينا، فاستيقظ الناس صبيحة اليوم التالي على صيحة الحرب، تدوي في غبشة الفجر فتقض المضاجع، وترن في الآذان وتتجاوب لها حبات القلوب! وما تطلع الشمس حتى تكون البطاح مائجة بجنود كريد البواسل، هائجة بالمتحمسين من الشبان والشيب، هرعوا جميعا فدى الملك، وريا لمجد الوطن، وإثئاراً لولي العهد!
وترامت الأخبار إلى أثينا، فاعتكرت أفراح البلاد، وسكن ضجيج الشعب، وسارع الجميع يستعدون للقاء العدو، فها هي القلاع قد سهر عليها حراسها، والسبل منبثة فيها الجنود شاكي السلاح، والمرافئ تعج بالسفائن الحربية، وكل رجل في المملكة قد اضطلع بنصيبه في الذود عن بيضة الوطن!
وأقلع مينوس بأسطوله اللجب، وعسكره المجر، وفرسانه العديدين، مزودين بميرة ليس كمثلها ميرة، وذخيرة يا لها من ذخيرة. . . ومخر الأسطول لا تحول بينه وبين مطمحه عقبة، ولا يقف من دونه محمق ولا مجنون
ووصل الأسطول إلى أثينا، غادة هيلاس، وهدية الآلهة إلى فينوس، وعروس الأحلام الجميلة؛ فوجد الأسوار مخفورة، والبوابات مغلقة، والناس داخل المدينة مستعدين للدفاع عنها، فألقت الفلك مراسيها. واندفع الكريديون يحتلون السهل الواسع المحيط بالمدينة حتى ملأه، وحتى لا ترى إلا خياماً تصل أقصى الشمال بأقصى الجنوب، وتربط أول الشرق بآخر الغرب. . .
جنود وضوضاء. . . وصهيل ورغاه. . . وعسكر كالجراد المنتشر لا تبلغ آخره عين، ولا يذهب إلى آخره خيال!
وصابر مينوس يحاصر المدينة أياما طوالا حتى قلت الأقوات داخلها، وأخذ أهلها يشكون(97/65)
الجوع والجهد، وزاد شدتهم أن نضب الماء، فعم البلاء
ولم يكن أمام الأثينيين إلا إحدى اثنتين: إما الموت داخل الأسوار صبراً وهذا ما لن يكون، وإما الخروج للقاء المحاصرين ومناضلتهم، وذلك مالا طاقة لهم به، ولا قدرة لهم عليه
أمران أحلاهما مر، وأخفهما فيه الويل، وعقباه الدمار والبوار! وأجمع بعض عقلائهم على أن يذهبوا إلى ملكهم يرجونه أن يذهب إلى الهيكل فيقدم القرابين إلى الآلهة حتى تأتيهم نبوءة السماء ووحي الأولمب بما ينبغي أن يكون. . . ولكن الملك أبي واستكبر، ثم قبل بعد إلحاح أعيان القوم أن ينوب عنه في هذا الشأن أحدهم
وقصد قائم مقام الملك إلى هيكل فينوس فتقرب بالضحايا وعقر القرابين، وقبل الأرض بين يدي تمثالها المنتصب فوق المذبح، ولبث غير قليل. . .
وخشعت الأبصار وسكنت القلوب، وساد المعبد وجوم عجيب. . .
ثم انبعثت الصوت القدسي الضعيف من خلوة الكاهن يقول:
(ليفعل الأثينيون ما يأمرهم به مينوس ملك كريت. . . الويل لهم إن حاربوا؟!)
وهلعت الأفئدة. . . وطاشت الأحلام!!
وتلقاها الملك كما يتلقى الإنسان حكما عليه بالإعدام. . . ولكن ما العمل؟ ولا حيلة لبني الموتى في دفع أحكام القضاء؟ وأرسل إيجوس إلى ملك كريد يعرض عليه الصلح، ويسأله عن شروطه. . . فقال مينوس لرسل الملك: (قولوا لإيجوس، الآن عرفت كيف طعنت فؤاد مينوس تلك الطعنة النجلاء بقتلك ابنه ولي عهده. . . ولقد جئناك نطلب ثمن هذه الفعلة الشنعاء، ولن تكفينا أثينا كلها ثمناً لها! أما وقد ذللت، فحسبنا أن نرجع بسبعة من خير شبابكم وأجمل فتيانكم، وسبع من أبكار الأثينيات وأبهى حسانها، ليكون الجميع غذاء حلالاً للمينوطور، وعلى أن ترسلوا كل عام في مثل هذا الزمن أربعة عشر آخرين من خيرة شباب أثينا وأكرمهم حسباً
إن رضي الملك وسلم فدية هذا العام رحلنا عنكم إلى العام المقبل. . .)
وسكت الملك، وتحدرت من عينيه دموع غلاظ، وثار في قلبه هم قديم. . .
طلب مرعب ينم عن قسوة وغلظة! غير أن قتل ابن مينوس غيلة، في رحاب أثينا، وفي دجنة الليل، وبتدبير الملك، كل ذلك يبرر الغرامة الوحشية التي فرضها ملك كريت!(97/66)
وكاد إيجوس يرفض هذا الهوان الذي طلب إليه أن يؤديه عن يدٍ وهو صاغر، ولكن الشعب هاج هائجه، وضج الرعاع يطلبون الخبز، أو تسليم المدينة، أو. . . دم الملك!!
فذل إيجوس المسكين وصغر، وقبل شروط مينوس مرغماً، واختير من شباب المدينة سبع كواكب أتراب، وسبع فتيان في ريعان الصبى، وشيع هؤلاء وهؤلاء إلى الأسوار بين بكاء الأمهات وعويل الآباء وآلام المحبين!
وهرع الكريديون إلى خيامهم فاقتلعوها، وإلى شراعهم فنشروها، وأقلعوا في الصباح الباكر بعد أن القوا على كبرياء إيجوس هذا الدرس المهول!
ومضت سنون وأثينا العظيمة تؤدي الفدية عن يد وهي ضارعة، حتى ثارت كبرياء ثيذيوس وفارت نخوته، وتقدم إلى أبيه الملك الشيخ، حين دعا النفير العام لتقديم الفدية، يضرع إليه أن يكون هو الفداء الرابع عشر من شباب هذا العام: (على الأقل يا أبي يكون هذا بعض العزاء للأثينيين، وليثقوا أننا لا نذلهم، وأننا منهم وهم منا، وأننا آخر الأمر، نشرب الكأس التي يشربون!)
وصعق الوالد حين تقدم إليه ولي عهده بهذا الطلب، ورفض رفضاً باتاً. . ويغلي الدم في راس البطل، فيقول للملك: (إذن فأنا أحطم كأس الحياة التي أفعمت مذلة وهوانا، وسأريق مع سمها الأسود هذا الدم الأرجواني الذي لا استحقه، ولا أشرف به. . أبتاه! لن تتحرك السفينة الحزينة حاملة ضحايا قسوتنا واستبدادنا حتى أحييها بحياتي، وأرويها بدمي، ليكون قرباناً لمن عليها من عشيرتي ولداتي. . .)
وقبل أن يفصل البطل الشاب، ناداه والده باكياً، ونهض فباركه، وقبل، والهم يمزق أحشاءه، أن يكون بين الضحايا. .
وفي الحق إن ثيذيوس لم يكن يعرض نفسه للتهلكة، ولكنه كان واثقا من شجاعته، مؤمنا بما وهبته الآلهة من جلد وبأس، وقلب لا يفله إلا الحديد، لأنه من حديد. ولقد صمم أن ينازل هذا المينوطور الخبيث، فأما قتله وعد مرفوع الرأس، موفور الكرامة، ليعيش في وطنه منقذا لأثينا، وإما قضى القضاء أمره فيه، وليس هو بأعز ممن راحوا ضحية هذا الوحش المخيف!
وقال لأبيه وهو يودعه، حينما ركب المركب السوداء التي يرفرف عليها علم الموت (أبي!(97/67)
لا تبك! إنك ملك، ودموع الملوك لا تذرف إلا في سبيل الوطن! إنني ذاهب إلى معركة أرجو أن يكتب لي النصر فيها! لقد كنت أتغلب على عشرات من أمثال هذا الوحش ولما أكن بعد إلا طفلاً. . . ادع لي أن أفوز به، فأريح أثينا العزيزة من شره)
وأقلعت السفينة تحمل هذه الفلذات الغالية من أبناء البلاد، ومخرت في بحر تلاطمت أمواجه، وزخرت أثيابه، واشمخر أنفه، وانتفخت أوداجه، حتى وصلت إلى كنسوس حاضرة كريت. وهرع الناس من كل فج يستقبلون ضحايا المينوطور، وفي وجه كل منهم عبوسة حزن، وملء قلوبهم ثورات مكبوتة من الأسى، على هذا الشباب الناضر الذي أقبل إلى الموت من قرار بعيد!
وكانت في الجماهير فتاة غضة الأهاب، بضة الشباب، حلوة ناعمة، نهضت في مركبتها لمشاهدة الضحايا الأثينيين، وما كادت عينها تصيب نظرة ثيذيوس، حتى أحست في أعماقها بنفحة السماء التي تسبق لفحة الحب!!
(ترى من يكون هذا الشاب الأنيق والفتى الرقيق؟
(إنه يقبل في غير وجل، ويقتحم الجماهير في غير هيبة! أعبر بحار الموت قبل هذا؟
(لا شك يا فتاة أنه أمير إن لم يكن ابن الملك!
(إن الحمرة التي تطير من الورد إذا قطف، ما تفارق خديه، وهو مقدم على الردى!!
(إن صفرة الموت تستحي أن تموه هذه الوجنات!؟. . .
(أمن السماء هذه الزرقة التي تملأ عينيه؟. . .
(بل مثله لم يخلق إلا ليكون زهرة هذه الحياة الدنيا. . .
(أيها الشاب. . . لن تموت!
وهكذا جعلت تتحدث تلك الغادة. . . الأميرة الجميلة بنت مينوس. . .!!
وكأنما قرأت وصيفتها الأمينة ما دهى سيدتها من حب الفتى قي كتاب عينيها، فقالت: (أتحس سيدتي بتعب؟
(لا يا فتاة. . ولكن انظري إلى هذا الفتى المتفتح كالزهرة!
(والله يا سيدتي إنه جدير بعطفك، خليق برحمتك. . .
(وما العمل يا فتاة وليس لنا في إنقاذه يدان!(97/68)
(هوني عليك يا مولاتي! إنه وايم الله من سلالة الملوك، إن لم يكن ابن ملك! وهو بادي الشجاعة ظاهر الفتوة! وإن له سيفاً طويل النجاد ما حمل أحد مثله، ولم أعهد قط أن من ضحايا المينوطور من جاء بذي غرارين من شنه. . . فلم لا ندبر معه قتل المينوطور!؟. . .)
(قتل المينوطور؟ إنك تهرفين! ومن يجسر أن يدخل والمينوطور في معترك؟
(لا عليك؟ نرشو السجان فيفلت الشاب في ظلام الليل، ونهديه إلى باب اللابيرنث فينطلق إلى الوحش الغاط في نومه العميق فيجذ رأسه بهذا الجراز الذي ترين!)
(ياله من تدبير! ولكن كيف يعود الشاب وأنت تعرفين من منعرجات اللابيرنث وشعابه ما تعرفين؟. . .)
(لا أسهل من هذا أيضاً! خيط طويل من أمراس الكتان يمسك هو بطرفه الأول، ونمسك نحن بطرفه الآخر، يهديه في الأولى ويرشده في الثانية!!)
وطربت بنت منيوس لتدبير وصيفتها، فمنحتها قبلة شهية وخلعت عليها جائزة سنية. . . وانطلقتا تترقبان المساء!
وعرف ثيذيوس أنها ابنة الملك فاستطير من الفرح؛ وعرفت أنه ابن ايجوس؛ فكبر رجاؤها وتلألأت آمالها. . .
وقتل المينوطور؛ وفك اسار رفاقه ورفيقاته، وأقلعت بهم الفلك؛ حاملة جوهرة جديدة غالية: هي ابنة مينوس. . . وربيبة كريد
أما الملك!
فقد صبر! وأرضاه أن يحضر إيجوس فيعتذر له ويصالحه!. . وهكذا حسم الحب هذا الخصام الطويل
دريني خشبة(97/69)
البريد الأدبي
كتاب العام
أزمة أوربا
بقلم أندريه زيجفريد
صدر أخيرا بالفرنسية كتاب يعتبره بعض النقدة (كتاب العام)، وهو كتاب (أزمة أوربا) ' لمؤلفه الكاتب السياسي والاقتصادي الكبير أندريه زيجفريد، وهو يصدر في ظروف عصيبة تواجهها القارة القديمة. وقد شغلت هذه المعضلة منذ نهاية الحرب كثيراً من رجال السياسة والاقتصاد ولكن لم يلفت الأنظار مما كتب فيها سوى كتب ثلاثة: الأول كتاب (مصير أوربا) ' الذي ظهر غداة الصلح بقلم مسيو آبير ديمانجون، وفيه ينوه بخطورة التقدم الصناعي الذي حققته أمم كاليابان والولايات المتحدة (أمريكا). ثم أصدر مسيو لوسيان رومييه كتاباً ينوه فيه بعجز أساليب الإنتاج الأوربية القديمة عن مناهضة الإنتاج الضخم الذي تتبعه أمريكا؛ وتلاه مسيو شارل بوماريه في كتاب يبحث فيه أسباب نجاح الغزو الذي قامت به أمريكا لأسواق أوربا القديمة في القارة ذاتها
ولما وقعت الأزمة الاقتصادية الأمريكية خفت حدة هذه المسألة الشائكة؛ وخفت حدة الجدل عن الصراع الاقتصادي بين أمريكا وأوربا؛ ولكن الأزمة لما انتقلت إلى أوربا وعصفت بصرحها الاقتصادي، عادت نظرية الغزو الأمريكي والياباني لأوربا تشغل أذهان الساسة والاقتصاديين
وقد جاء كتاب مسيو أندريه زيجفريد يذكر أوربا القديمة أن الداء لا يذهب بداء آخر؛ ويقول مسيو زيجفريد إن أوربا يجب أن تواجه نفس المشاكل التي تواجهها باقي الأمم، ويجب أن تصلح نفس الأخطاء، ولكنها تواجه في نفس الوقت مشاكل خاصة بها؛ وقد لاحظ كثير من الباحثين ذوي النظر البعيد منذ نهاية الحرب أن الأمم الصناعية القديمة تجد نفسها اليوم أمام أمم فتية منافسة لم تكن تتوقع نهوضها؛ أمم تتفوق عليها بأجورها المنخفضة، وإنتاجها الضخم، وحداثة أدواتها واستعداداتها الفنية. ويلاحظ مسيو زيجفريد يحق أن ذلك الاحتكار القديم الذي كانت تتمتع به أوربا قد دخل في دور الانحلال، وهذه(97/70)
هي ناحية المشكل التي يعالجها ببراعة ووضوح
وأهم قسم في الكتاب هو الذي يشرح فيه المؤلف لنا كيف استطاعت أوربا أن تفرض سيادتها على العالم، وكيف بدأ العالم ينازعها هذه السيادة، ويقدم لنا المؤلف صورة قوية مما كانت عليه أوربا والعالم في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كانت أوربا تكاد تحكم العالم في نوع (من الحق الإلهي). وقد استطاعت أوربا منذ عهد الأحياء (الرينصانص) (بوسائلها وشهواتها) أن تتفوق على باقي القارات الأخرى؛ ولم يمض قرنان على ذلك حتى استطاعت أوربا بواسطة ثورتها الصناعية أن توطد احتكارها بلا منازع؛ وكأن عناية إلهية مكنتها من تحويل جميع المواد الأولية التي ينتجها العالم إلى سلع ومنتوجات تستدر بها ثروات العالم كلها؛ وقامت سيادتها على إمبراطوريتها الاستعمارية التي شملت معظم بقاع الأرض، وسادت أساطيلها جميع البحار؛ واستطاعت بالاعتماد على قانون دولي مرن أن تفرض من النظريات والنظم على معظم الأمم ما يوافق مشاريعها ومصالحها؛ وانتهى الأمر بإقامة نظام اقتصادي هائل تستولي أوربا بمقتضاه على جميع المواد الأولية، ثم تردها إلى العالم سلعاً مصنوعة. يقول مسيو زيجفريد: وهذا نظام ضخم ذكي، تخضع فيه الحريات لصولة التوسع، والأخلاق لسلطة الفتح؛ تخضع فيه الحريات لصولة التوسع، والأخلاق لسلطة الفتح؛ ويعتبر فيه الحريات لصولة التوسع، والأخلاق لسلطة الفتح؛ ويعتبر فيه من الأمور المشروعة الخالدة أن يقسم العالم إلى طبقتين متباينتين: أرستقراطية أوربية تحتفظ لنفسها بالعمل الفني المثمر، وطبقة فقيرة يترك لها العمل الخشن المضني
ولكن هذه السيادة تبدأ منذ القرن التاسع عشر دور الانحلال؛ وقد كانت أول خطوة في ذلك تحرر بعض الأمم البيضاء كالولايات المتحدة والمستعمرات الأسبانية والبرتغالية، والدومنيون البريطانية. وفي أوائل القرن العشرين نزلت إلى الميدان بعض الأمم الملونة التي كانت تعتبر منحطة، وجاءت الحرب فزادت في بواعث الأزمة؛ ذلك أنها حطمت الأداة القديمة التي كان يقوم عليها توازن العالم، وحولت الإنتاج الأوربي عن مهمته الطبيعية، فاستطاعت القارات الفتية أن تغتني بسرعة وأن تغدو دائنة، وأن تنظم صرحها الصناعي على قواعد ضخمة، وبعد نهاية الحرب لاحظت أوربا أن منافسيها الجدد يحاربونها بأسلحة لا تستطيعها مثل الأجور المنخفضة في الشرق الأقصى، والإنتاج(97/71)
الضخم في أمريكا، يقول مسيو زيجفريد: (ولقد نزلنا إلى معترك عام، وحصرنا بين نارين؛ بين آسيا وأمريكا؛ بين الأجر المنخفض في الأولى، والأجر المرتفع في الأخرى؛ ومهما كان من الأمر فأنا نستكين إلى ذلك في ضعف)
ويتساءل مسيو زيجفريد، هل حكم على هذه القارة التي سادت العالم مدى ثلاثة قرون حكماً نهائياً لا مرد له؟ وهنا يعدد المؤلف لنا ما بقى لأوربا من عناصر التفوق ووسائل النضال؛ ويرى أن افضل طريق للسلام هو تمسك أوربا بالإنتاج الفني الرفيع الذي يقتضي علماً وخبرة فنية، بيد أن هذه الطريق ليست أيضاً محققة ولا حاسمة؛ ذلك أن اليابان تخطو نحو الإنتاج ليست أيضاً محققة ولا حاسمة؛ ذلك أن اليابان تخطو نحو الإنتاج الفني خطوات سريعة؛ وقد بدأت أمريكا تحتل مكان ألمانيا في التطبيقات العلمية والفنية. فالمستقبل إذن غامض ومصير أوربا القديمة في كفتي ميزان: (عن لورب نوفيل بتصرف)
تكريم الدكتور محمد حسين هيكل بك
بمناسبة صدور كتاب (حياة محمد) تألفت لجنة لتكريم الدكتور محمد حسين هيكل بك برياسة حضرة صاحب العزة الأستاذ أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة
وسيقام لهذا الغرض حفلة شاي بفندق الكونتننتال مساء يوم الأربعاء 15 مايو الجاري، وستذاع بالراديو الخطب التي تلقى في هذه الحفلة
وسيصدر عدد خاص من جريدة السياسة بآراء وأبحاث رجال الفكر بمصر والشرق فيما ألفه الدكتور هيكل بك، وفي آثاره الأدبية ومؤلفاته المختلفة
وترجو اللجنة أن تكون جميع المراسلات باسم الأستاذ جلال الدين حسن بشارع الناصرية رقم 60 بمصر
كتاب جديد لفرنسيس كاركو
فرانسيس كاركو كاتب فرنسي يعرفه الكثيرون في مصر. وقد زار مصر منذ نحو عامين وكتب عنها سلسلة من المقالات والصور كانت أشنع وأقبح ما كتب منها من الوجهة الاجتماعية والأخلاقية. ذلك أن فرانسيس كاركو كاتب لا يرتع قلمه إلا في عالم الطبقات الدنيا والمجتمعات السافلة، عالم البغاء والفجور والإدمان والتدهور الاجتماعي. ولكن كاركو(97/72)
يدهش اليوم قراءة بإخراج قصة جديدة جردت عن هذه الخاصة عنوانها (ظلمات) ففي هذه القصة الجديدة يعالج كاركو مأساة عائلية عادية، لا أثر فيها للسفلة والأوغاد والحياة السافلة، قصة زوج فتى متعلم خانته زوجه، وضبطها متلبسة بالخيانة فقتل منافسه، وقدم إلى القضاء فحكم عليه بأعوام في السجن. ويحاول كاركو أن يبدد (الظلمات) التي حاقت بضمير هذا الزوج المعتدى عليه، ويحاول أن يحلل بالأخص تلك العواطف المختلفة التي جاشت بنفسه؛ فهو من جهة يشعر بأنه يحب الزوجة الخؤون أكثر مما كان يتصور، ومن جهة يشعر بأنه يبغضهاأولاًلأنها خانته وسحقت عرضه، وثانياً لأنها صيرته مجرماً يلفظه المجتمع؛ وهكذا. ويرى النقدة أن كاركو بإصدار هذه القصة الجديدة ينحو في الكتابة والتصوير ناحية جديدة ربما كانت فاصلة في حياته الأدبية
بين السياسة والأدب
في أنباء سان فرنسيسكو (أمريكا) إن الكاتب الأمريكي الكبير أوبتون سنكلير قد اعتزم نهائياً أن يعتزل الحياة السياسية. وسنكلير كاتب اجتماعي كبير، ولكنه يخوض غمار السياسة إلى جانب الحزب الراديكالي منذ عشرين عاماً. وكان قد حاول أخيراً أن يرشح نفسه لمنصب حاكم كاليفورنيا، ولكنه فشل في الانتخاب؛ وأثر هذا الفشل في عواطفه ونفسيته، فمرض مدى حين، ومازال مريضاً يستشفي. وقد كان من أثر الصدمة أن عاف الحياة السياسية وقرر أن ينبذها نهائياً(97/73)
الكتب
كتابا المواقف والمخاطبات للنفري
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت في عدد الرسالة الماضي كلمة عن كتابي محمود بن عبد الجبار النفري المعروفين باسم المواقف والمخاطبات، ونقلت شذرات من الكتاب الأول، وهو يحوي سبعة وسبعين موقفاً عرف القارئ مثالاً منها فيما قدمت
واليوم أنقل شذرات من الكتاب الثاني كتاب المخاطبات وهو يحوي ستا وخمسين مخاطبة على أسلوب قريب من أسلوب المواقف، وعسى أن أفرغ قريباً لبحث مفصل عن الكتاب، ما استبان من معانيه وما غمض، وما وقع من تحريف في سياقه، وللكلام عما كتب عليه من الشروح. فمثل هذا الكتاب العجيب لا يكتفي فيه بهذه النظرة العجلى:
مخاطبة
يا عبد! قل أعوذ بوحدانية وصفك من كل وصف، وأعوذ برحمانية برك من كل عسف
يا عبد! قل أعوذ بوجهك من كل وجه
يا عبد! قل أعوذ بقربك من بعدك، وأعوذ ببعدك من مقتك، وأعوذ بالوجد بك من فقدك
يا عبد! اجعل ذنبك تحت رجليك، واجعل حسنتك تحت ذنبك
يا عبد! من رآني عرفني وإلا فلا، من عرفني صبر على وإلا فلا
يا عبد! من أبصر نعمتي شكرني وإلا فلا
يا عبد! من شكرني تعبد لي وإلا فلا
يا عبد! من تعبد لي أخلص وإلا فلا، من أخلص لي قبلته وإلا فلا، من قبلته كلمته وإلا فلا
يا عبد! من كلمته سمع منى وإلا فلا، من سمع مني أجابني وإلا فلا، من أجابني أسرع وإلا فلا، من أسرع إلى جاورني وإلا فلا. من جاورني أجرته وإلا فلا، من أجرته نصرته وإلا فلا، من نصرته أعززته وإلا فلا
مخاطبة
يا عبد! إن عبدي الذي هو عبدي هو اللقي الملقي من يدي(97/74)
يا عبد! عبدي الذي هو عبدي هو الغضبان لي على نفسه فلا يرضي
يا عبد! إن عبدي الذي هو عبدي هو المستقر في ذكرى فلا ينسى
يا عبد! إذا جاءت ترجمتي فانقطع بها عن ملكي وملكوتي، ثم إذا بدت ترجمتي فانقطع عنها إلى نصير التراجم والحروف آلة من آلات معرفتك، ومركبا من مراكب نطقك
يا عبد! أقبل على لا من طريق ولا من علم، تقبل على وأقبل عليك
يا عبد! اجأر إلي بمحامدي في السراء أدافع عنك بنفسي في الضراء
يا عبد! واصل بين طهارتك تواصل بين نعميك، إنك إن لم تفصل بين طهارتك لم تفصل بين نعميك
يا عبد! لن تعرفني حتى تراني أوتى الدنيا ارغد وأهنأ ما عرفت من الدنيا لعبد عصي، وأغنى من عرفت من العبيد فترضى بما زويت عنك، وتعلم أنني زويت إعراضي عنك وزويت حجابي
يا عبد! ميعاد ما بينك وبيتن أهل الدنيا فترى أين أنت وأين أهل الدنيا
مخاطبة
يا عبد بنيت لك بيتاً بيدي إن هدمت ما بنيته بيدك
يا عبد إذا رأيتني فلا والد يستجرك ولا ولد يستعطفك
يا عبد! إذا رأيتني في الضدين رؤية واحدة فقد اصطفيتك لنفسي
يا عبد! ولني أمرك بطرح أمرك
يا عبد! الغيبة ألا تراني في شيء، الرؤية أن تراني في كل شئ!
يا عبد! اجعل لي يوماً ولك يوماً وابتدئ بيومي يحمل يومك يومي
يا عبد! اصبر لي يوماً أكفك غلبة الأيام
يا عبد! إذا لم ترني تخطفك كل ما ترى
يا عبد! لو ألفت بحزنك بين ما يختلف عليك، وارتبطت بفرحك ما يلائمك كان مرادي الغالب
مخاطبة(97/75)
يا عبد! استغن بي تر فقر كل شيء
يا عبد! من استغنى بشيء سواي افتقر بما استغنى به
يا عبد! سواي لا يدوم، فكيف يدوم به غنى
يا عبد! إن أحببت أن تكون عبدي لا عبد سواي، فاستعذ بي من سواي وإن أتاك برضاي
يا عبد! رضاي يجعل رضاي سكنا بقلوب العارفين، سواي يحمل رضاي فتنة لعقول الآخذين
يا عبد! رضاي وصفي، وسواي لا وصفي، فكيف يحمل وصفي لا وصفي؟
يا عبد! أنا القيوم بكل ما علم وجهل على ما افترقت به أعيانه واختلفت به أوصافه
يا عبد! استعذ بي مما تعلم تستعذ بي منك، واستعذ بي مما لا تعلم تستعذ بي مني
يا عبد! أين ضعفك في القوة، وأين فقرك في الغنى، وأين فناؤك في البقاء، وأين زوالك في الدوام؟
عبد الوهاب عزام
رسالة العلم
تلقينا العدد الرابع من السنة الثانية لرسالة العلم، وهي الصحيفة التي تصدرها جمعية خريجي كلية العلوم بالجامعة المصرية في 166 صفحة من القطع الكبير. وهذا العدد حافل بالمقالات الممتعة والبحوث القيمة في النبات والحيوان والكيمياء والفيزياء والفلك، مدبجة بأقلام الأساتذة والطلاب على أسلوب واضح وغرض مشوق واستيعاب مفيد. و (رسالة العلم) تحمل طابع العلم من خشونة الجد، والذهول عن حركة الكلية، وعن تصوير الحياة الجامعية فيها، فهي لا تعني بأخبار المحاضرات والمناظرات والرحلات والجمعيات والرياضة، وحظها من كل ذلك موفور مشكور يستحق التسجيل ويستوجب الإشادة
صحيفة الجامعة المصرية
كذلك تلقينا العدد الأول من السنة الرابعة لهذه المجلة التي يصدرها مجلس اتحاد الجامعة المصرية في 160 صفحة ممن القطع المتوسط، وهي تعتبر صورة لألوان الثقافة في كليات الجامعة، ولكن أثر كلية الآداب فيها غالب، ولعل هذا العدد بتبويبه وتنويعه وشموله(97/76)
أقرب إلى الذوق الصحفي من سوابقه؛ وقد يكون في بعض فصوله هبوط عن مستوى التفكير الجامعي، ولكن الآنسة نهير القلماوي رئيسة تحرير الصحيفة تقول في افتتاحها: (والآن تقبلون صحيفتكم فستجدون ثرثرة وجدا، والطلبة ثرثارون دائماً، وثرثرتهم حبيبه إلى كل نفس وقلب، والطلبة جادون أحياناً أو كثيراً. ومن ذا الذي لا يستبشر بجد الطلاب؟ فهذه صحيفتكم دون لكم فيها مختار من ثرثرتكم وكثير من جدكم، لتكون لكم ذكرى جميلة لأجمل أيام الحياة)
جريدة الوفاق
بمناسبة دخول جريدة الوفاق في عامها الثامن. تصدر هذه الجريدة على عادتها صباح الاثنين الموافق 13 مايو سنة 1935 في ثماني صفحات كبيرة مزينة بالصور والألوان، حافلة بالموضوعات الأدبية الطريفة والمقالات الاجتماعية الممتازة. وقد فتحت أبواباً جديدة تعالج فيها قضية المرأة وتعني بكل ما يهم المتأدب الاطلاع عليه مدبجة بأقلام الكتاب البارعين والأدباء الممتازين.(97/77)
العدد 98 - بتاريخ: 20 - 05 - 1935(/)
هو ذا الربيع!
للآنسة النابغة (مي)
الربيع الربيع، هو ذا الربيع!
في قمر الأسحار، في انبلاج الأسحار
في مرح الأطيار، في عبير الأزهار
في النهار الدوار، في الأصيل البديع!
الربيع الجديد، هو ذا الربيع!
أنا القلب السعيد، وهو ذا الربيع!
في سويدائي يحتجب الوجه المحبوب دواماً
وراقه أن يستهل مشرفاً على البرية، فانقلبت قبة الفلك محراباً تلألأ فيه طيف من بهائه، وفي مدى الأبعاد شاعت بهجة تعكس شيئاً من حلاوة ابتسامته وفيض سنائه. وانبرى الربيع يزجي آيات التسبيح والتهليل بأشكاله وألوانه، لأنه اقتنص لمحة من ذلك الوجه، فتنضحت مجاليه برونقه واتزرت بروائه
وتجمدت الأزمان في لحظة، فهي أبدية آبدة تخلد حبوري والوجود كله هالة تحيط بالوجه الفريد المعافى وخوالجي حيال الوجه وهالته نبض للوجود وترتيل:
(أنت مرتع هيامي، أيها الربيع!
(يا ربيع النشوان، أيهذا الربيع!)
أنا الحدائق والرياض، وهو ذا الربيع!
أرواح الأحباب والخلان متجمهرة في رحابي
معارض الوشى والزركشة نضيدة، ومتاحف اللمعان والإشراق عديدة؛
الأشجار تكللها تيجان الظلال والأنوار، وفيالق الغصون خاشعة كأنها في حضرة ربانية؛
والمرئيات كلها على ارتقاب وانتظار، تتوقع نبأ خطيراً قد يكون إفصاحاً عن بعض ضمير الأكوان.
أقضي الأمر ففزت، يا أخواتي الكائنات، بما كنت تتوقعين؟
سيال من ذوب النصر والابتهاج يدفق علينا، وكان كل ما ترى في الأمكنة من مراجع(98/1)
الألحان يتلخص في حضني نشيداً:
(شتيت الأجزاء وحدة واحدة، أيها الربيع!
على طور حسنك نتجلى معك، أيهذا الربيع!)
أنا الينبوع الصافي، وهو ذا الربيع!
ظليلة تحنو الشجرة علي، وأنا في فيئها الحنون جاثم.
بلورية الجلباب بلورية الرنين تتلاحق مياهي، وقد أودعها الربيع لاعج الشوق ووصب الحياة؛
وفي مترنح أسجوعتها نداء وإغراء، ونعومة واستعطاف، ووعد ووفاء، وثقة ونوال.
مياهي تفضض الحصى وترطب الأعشاب والادغال، في جريها الحثيث إلى حيث لا تدري. هي تتوق إلى رشيد السخاء كيلا تحسب ولا تدخر.
وتتوالى الساعات فلا يتفيأ شجرتي شريد الهجير، ومرآتي المتثنية لا ترسم وجه المرتوي الشكور!
ليس من عابر، غير ذلك الذي مني أخذ ما أخذ ليقذفني بالأحجار، ويترك منه تذكاراً، اللعنة والأقذار!
اليأس خالط صفائي، والكآبة حلت في مياهي!
وبت أحلم بالذين طوحت بهم السبل فهاموا في القفر عطاشا، بينا مدرار أجاجي يناديهم وينطق باسمهم جزافاً!
ولامستني مؤاسية في الظلام الأفنان، فاستحالت مياهي عبرات وغدا نشيدي شهيقاً وانتحاباً:
(الربيع الحزين الحزين، هو ذا الربيع!
(ربيع الجحود والهجران، كيف احتمل الربيع؟)
أنا الصحراء القحطاء، وهو ذا الربيع!
الصحراء الواجمة الكتوم، كذلك كنت وكذلك أكون!
الحياة صور وأشكال وسنن؟
أفي الحياة ولادة وموت؟(98/2)
أفي الحياة تبديل وتحويل؟
أفي الحياة نمو ونشوء وازدهار؟
مه عن الصحراء، أيهذا اللغو السقيم!
أنا مملكة العي والبكم والصمم والعمي!
أنا منطقة السأمة الآيسة والغليل القتال!
مائي سراب، وظلي تراب، وسبلي أتاويه، وملامسي لوافح وسموم، ومعالجي مجاهل المفاوز، وأفجاج الأهوال.
إني في ربدتي ومحلي حجة رهيبة على إجحاف الأقدار، الأقدار التي تعاقب بلا ذنب وتغرم بلا سبب، وتبتاع خصب المروج بعقمي المقيم
أنا في قحطي المفروض وسكوتي المستمر، أسيرة الوحدة والانزواء.
أنا في رحاب الأرض حبيسة.
أنا تزدردني الرمال على الدوام، فأنى لي أن أعول:
(ليس لي الربيع، ليس لي الربيع!
(ربيع الرمال والسعير، ما حاجتي إلى الربيع؟)
هو ذا الربيع، هو ذا الربيع:
مغرياً في الفضاء، فتاناً في الحدائق،
بهيجاً في الالوان، رشيقاً في الشقائق،
طروباً في قلب الجذلان!
هو ذا الربيع، هو ذا الربيع!
كئيباً في قلب المظلوم، جريحاً في قلب المحروم؛
شاملاً بعطف نصفه قسوة،
حاضناً برفق نصفه عنف،
موحياً أملاً نصفه يأس،
مذكياً خصباً نصفه قحل،
حافزاً شباباً نصفه هرم،(98/3)
مجدداً حياة نصفها ردى!
الربيع الربيع، لمن يكون الربيع؟
الربيع الجديد هو ذا الربيع!
الربيع العابر، هو ذا الربيع!
(مي)(98/4)
4 - الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيب بن رافع: ومد الإمام عينه وقد رفع له شخص من المجلس؛ ثم جلى بنظره كأنما يتطلع إلى عجيبة كالحق إذا بطل، والصدق إذا كذب؛ ثم رد بصره علي كأنه يعجبني من عجبه؛ ثم سجا طرفه كأنما أنكر رأى عينيه فهو يلتمس رأى قلبه. وتبينت في وجهه انقباضاً خيل إلى أن الشيطان جاءه بهذا الرجل يفحمه به يريه كيف يجعل أحد المؤمنين الصالحين يتحمس في دينه ليرجع بعد ذلك أصلاً لا غنى عنه في إنشاء قصة كفر!
هذا هو ضيفنا (أبو محمد البصري) يتخوض الناس ليجيء فيحدثنا حديثه في قتل نفسه والأثم بربه؛ فلو قيل لي: إن قوس السماء بأحمره وأصفره وأزرقه وأخضره، قد وقع إلى الأرض واصطبغ من ألوانه أوحالاً وأقذاراً - لكان هذا كهذا في تعاظمه وإنكاره والعجب منه؛ فأبو محمد من الرجال الخمس الذين لو كفر أحدهم ثم قيل (إنه كفر)، لقصر اللفظ أن يبلغ الحقيقة أو يصف شنعتها، كما يقصر لفظ الجنون عن وصف حكيم تآلى أن يعمل عملاً يخرج به من الكون، فلا يبقى في أرض ولا سماء ولا تناله يد الله! إن يف لفظ الكفر مع ذاك، وفي لفظ الجنون مع هذا - شيئاً من نفاق العقل وتأدبه في أداء المعنى الأخرق الذي لا يشبهه جنون ولا كفر
ونعوذ بالله من خذلانه؛ فلقد يكون الرجل المؤمن في تشدده وإيغاله في الدين - كالذي يصنع حبلاً يفتله فتلاً شديداً فيمره على طاق بعد طاق، ليكون أشد له وأقوى، ثم يجاذبه الشيطان حبله، فإذا هو كان في الوهن مثل العنكبوت اتخذت بيتاً في سقف حداد؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلةً حلقةً في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطاً في خيط تزعمه سلسلة. . .!
إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبداً محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفاً يستقبل بها لدنيا جديدة على نفسها بين الفترة والفترة؛ ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن وأن تقام الصلاة مراراً في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى
وقال الأمام هيه يا آبا محمد! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الأمام: لا يفز عنك(98/5)
أيها الشيخ؛ فإن الله تعالى قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن؛ وليس للأقدار لغة فتجرى على ألفاظنا؛ وقد نسمي النازلة تنزل بنا خساراً وهي ربح، أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة، ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفكر. إنما لغة القدر في شيء هي حقيقة هذا الشيء حين تظهر الحقيقة؛ وكأين من حادثة لا تصيب أمراً في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها، فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسباباً في أعمال العقل المنتصر
وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسان إلى عالم فكره الخاص به؛ فإن هذه الدنيا عالم واحد لكل من فيها، ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده. والسعيد من قر فيعالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك المطاع في مملكته، نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها؛ والشقي من لا يزال ضائعاً بين عوالم الناس، ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود، وإلى ذلك الوفق؛ وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله، إذ كل شيء يصبح أجنبياً عن الإنسان ما دام هو أجنبياً عن نفسه
لقد كنت ضالاً عن نفسي وعالمها، فكنت في هذه الدنيا أستشعر شعور اللص، أشياؤه هي أشياء الناس جميعاً؛ واللص ينظر إلى أموال الناس بعيني شاعر متحبب كلف، وهي تنظر إليه بعيني مقاتل متربص حذر
كنت والله إن ضقت بالناس أو وسعتهم - رأيت في ذلك معنى من ضيق اللص وسعته؛ هو على أي حاليه لا ينظر في أعماق نفسه إلا شخصاً متوارياً تحت الظلام يتسلل في خشية وحذر!
وكنت نزقاً حديد الطبع سريع البادرة؛ ومن فقد عالم نفسه، وكان في مثل اللص الذي ذكرت - فإن هذه الطباع تكون هي أسلحته يدفع بها أو يعتدي. وما قط تمكن إنسان من نفسه وأحاط بها ونفذ فيها تصرفه - إلا كان راضياً عن كل شيء، إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها، حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من لأشياء؛ فما يرى هؤلاء وهؤلاء إلا امتحاناً لفضائله وإثباتاً لها. وقد يكون عدوك في بعض الأمور عيناً لك في رؤية نفسك؛ ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها(98/6)
ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا (صلى الله عليه وسلم) وإسلام المقتدين به من أصحابه - لأدركنا سر الكمال الإنساني؛ وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه. والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وأن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه
ولقد نشأت في مغرس كريم، وعلى صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق؛ فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل. . . وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقاً، وكانت حدية فزادت حدة -، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة؛ وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه إنها هي البصلة!
ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها - قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، ومادام سر الكون مغلقاً فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها
قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذ لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي؛ فكان كل ما حولي منبجساً في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلاً عزباً متعففاً؛ وما أشبه فراغ الرجولة من المرأة بفراغ العقل من الذكاء؛ هذا هو العقل البليد، وتلك هي لرجولة البليدة! والمرأة تضاعف معنى الحياة في النفس، فلا جرم كان الخلاء منها مضاعفة لمعنى الموت؛ علم هذا من علم وجهله من جهل، فكنت أعيش من الكون في فراغ ميت، وكنت أحس في كل ما حولي وحشةً عقلية تشعرني أن الدنيا غير تامة؛ وكيف تتم في عيني دنيا أراها غير الدنيا التي في قلبي؟
وعرفت أن كل يوم يمضي على الرجل العزب المتعفف لا يمضي حتى يهيء فيه مرض(98/7)
يوم آخر. ومن هذه الأيام المريضة المتهالكة، تعد الحياة انتقامها من هذا الحي الذي نقض آيتها وافتات عليها، وجعل نفسه كالإله لا زوجة له ولا صاحبة!
وأيم الله إن الشيطان لا يفرح بالرجل الزاني وبالمرأة الزانية ما يفرح بالرجل العزب والمرأة العزباء؛ لأنه في ذينك رذيلة في أسلوبها، أما في هذين فالشيطان رذيلة في أسلوب الفضيلة. . .! هناك يلم الشيطان ويمضي، وهنا يأتي الشيطان ويقيم!
وقد عشت ما عشت بقلب مغلق وعقل مفتوح؛ وليتني كنت جاهلاً مغلقاً عقله، وكان قلبي مفتوحاً لأفراح هذا الكون العظيم!
ومضت أيامي يضرب بعضها في بعض، ويمرض بعضها بعضاً حتى أنهت منهاها، وجاء اليوم المدنف الهالك الذي سيموت. . .
أصبحت فقلت لنفسي: كم تعيشين ويحك في أحكام جسد مختل لا تصدق أحكامه، وما أنت معه في طبيعتك ولا هو معك في طبيعته؛ ففيم اجتماعكما ألا على بلائي ونكدي؟
لم تصطلحا قط على واجب ولا لذة، ولا حلال ولا حرام؛ فأنتما عدوان لا هم لكليهما إلا إفساد المسرة التي تعرض للأخر. وما أدرى بمن يسخر الشيطان منكما؟ فالعابد الذي يوسوس باللذات يتمنى اقترافها، كالفاجر الذي يواقعها ويقتحمها!
ويحك يا نفس! إني رأيت هذه الدنيا الخرقاء لم تقدم لي إلا رغيفاً وقالت: املأ بهذا بطنك وعقلك وعينيك وأذنيك ومشاعرك. آه آه! ممكن واحد معه أربعة مستحيلات؛ إن هذا لا يلبثني أن يذهب مني بالأربعة التي تمسني على الحياة: الأمل والعقل والأيمان والصبر
لقد استوى في هذه الكآبة صغير همي وكبيره، وما أراني إلا قد أشرفت على الهلكة التي لا باقية لها، فإن وجهي المتكلح المتقبض يدل مني على أعصاب محتضرة تهكتها أمراضها ووساوسها، وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه دنياه تعبس أو تبتسم
وتالله لقد عجزت عن كفاح الدنيا بهذه الأعصاب المريضة الواهنة، فإن حبالة الصيد، صيد الوحش، لا تكون من خيط الإبرة. . .! وأراني أصبحت كإنسان حجري ليس في طبيعته الالتواء إلى يمين الحياة ويسارها؛ ويخيل إلى من صلابتي أني الأسد، ولكني أسد من حجر، لانقرض قوته الفرار منه على أحد!
قال أبو محمد: ورأيت نفسي في هذا الحوار كالميتة، لا تجيب ولا تعترض ولا تنكر؛(98/8)
وكنت أظنها تراودني على الحياة أو تردني عن غوايتي؛ فملأني سكونها جزعاً، وأيقنت أن الشيطان بيني وبينها، وأنه أخذ بمنافذها، فأرادت الصلاة فثقلت عنها ورأيتني لا أصلح لها، بل خيل إلى أني إذا قمت إلى الصلاة فإنما قمت لأتهزأ بالصلاة!
وجعل الشيطان يأخذني عن عقلي ويردني إليه، ثم يأخذني ويردني، حتى توهمت إني جننت، وكأنما كان يريد اللعين بقية إيماني يجاذبني فيها وأجاذبه، فلم ألبث أن مسني خبال وألقيت هذه البقية في يديه!
ثم أفقت إفاقة سريعة، فرأيت (المصحف) يرقبني من قريب، فعذت به وعطفت عليه وقلت له: امنع الضربة عن قلبي. بيد أني أحسست أنه خصمي في موقفي لا ظهيري؛ كأني جعلته مصحفاً عند زنديق، فكان كل أيماني الذي بقي لي في تلك اللحظة أني ضعفت عن حمل المصحف كما ثقلت عن الصلاة، فبقي الطاهر طاهراً والنجس نجساً
ولم تكن نفسي في ولا كنت فيها؛ فرأيت الدنيا على وجه لا أدري ما هو، غير أنه هو ما يمكن أن يكون معقولاً من تخاليط مجنون تركه عقله من ساعة: بقايا شعور ضعيف، وبقايا فهم مريض، تتصاغر فيهما الدنيا ويتحاقر بهما العقل
فلما انتهيت إلى هذا لم أعقل ما عملت، وكانت الموسى قد أصابت من يدي عرقاً ناشزاً منتبراً، ففار الدم وانفجر منه مثل ينبوع ضرب عنه الصخر فانشق فانبثق
وتحققت حينئذ أنه الموت، فنظرت فرأيت. . .
قال المسيب راوي القصة: وتجهم وجه الرجل فأطرق وسكت، وكان على وجهه شفق محمر فأظلم بغتة عندما قال: (فنظرت فرأيت)
وأرتج المسجد بصيحة واحدة: فرأيت ماذا، رأيت ماذا؟ وبعثت الصيحة أبا محمد فقال: رأيت ثلاثة وجوه أشرفت من المصحف تنظر إلي كالعاتبه، وكان أوسطها كالقمر الطالع، لو تمثلت آيات الجنة كلها وجهاً لكانته في نظرته وبشاشته. وغمغمت بكلمات لم أسمع منها شيئاً، ولكن نظرها إلى كان يؤدي لي معانيها وكأنها تقول: (أكذلك المؤمن. . .؟) ثم غابت وتخلت عني وبرزت ثلاثة وجوه أخرى، كأنها نقائض تلك، وأعوذ بالله من أوسطها، لو تمثلت آيات الجحيم كلها وجهاً لكانته في نكره وهوله، وخيل ألي أن الوجه الأصغر منها وجه سورة من سور المصحف، ففكرت، فوقع لي مما قام في نفسي من اللعنة أنها: (تبت(98/9)
يدا أبي لهب وتب. . .)
وطمس الظلام هذه الرؤيا وتغيمت الدنيا، فأيقنت أن آثامي قد أقبلت على ظلمة بعد ظلمة، والتمع شيء أحمر، فنظرت فإذا الدم يتخايل في عيني كأنه شعل تتلوى، فجزعت أشد الجزع، وحسبتها طرائق ممتدة لروحي تذهب بها إلى الجحيم
وماتت كل خواطري بعد ذلك إلا فكرة واحدة بقيت حية تأكل في قلبي أكل النار، وهي: (كيف تجرأت فوضعت بيني وبين الله حمقي؟)
ويقولون: إن أختي قد رأتني أتشحط في دمي فصاحت، وجاء الناس على صوتها، وكان فيهم طبيب، فبعد لأي ما استطاع حبس الدم، واحتال حيلته حتى أسف الجرح دواء وضمده، فجعلت أثوب نفساً بعد نفس، وراجعت قليلاً قليلاً. . .
ثم طافت الحياة على عيني ففتحتهما، فإذا الأشياء تبدو لي وليس فيها حقائق ولا معان، كأنها تتخلق جديدةً تحت بصري، وكأنها خارجة لساعتها من يد الله!
وتماثلت شيئاً بعد ساعات، فأحسست أن نفسي قد رجعت إلى ساخرة مني تقول: كيف رأيت عمل العقل أيها العاقل؟
وبدأت الحياة تتجدد، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد إيماني بالله. ولم أكد أفعل حتى أحسست كأن قوة الوجود كلها مستقرة في روحي، وخيل إلى أني أنا وحدي القوي على هذه الأرض قوة جبالها وصخورها، على حين كان جسمي ممدداً كالميت لا يتماسك من الضعف!
فأيقنت حينئذ ما لم أعرفه قط من الدنيا ولم أشعر به قط في الحياة ولم يأتني به علم ولا فكر: أيقنت أنها معجزة الأيمان الجديد الغض، المتصل بالله لتوه كأيمان الأنبياء دون أن تلمسه شهوة، أو تعترضه خاطرة، أو تكدره ذرة واحدة من فكر أرضي دنس
قال المسيب: ثم جلس المتحدث، وكان الناس في آخر كلامه كأنما غادروا الدنيا ساعة ورجعوا إليها على مثل حالته ومثل إيمانه؛ فسكت الأمام ولم يتكلم، ليدع كل نفس تكلم صاحبها
(للمجلس بقية)
(طنطا)(98/10)
مصطفى صادق فهمي(98/11)
شم النسيم
في مركز بوليس!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اشتهيت مرة أن اخرج إلى الظل، ورقاق بغيضة معشاب، وأن أجلس تحت شجرة عظيمة تميل على أفنانها من الري واللين، فقلت لصاحب لي: (إني في ارض واسعة سهلة، ولكني كرهت مقامي بها، وأضجرني منها أني لا أرى في فضائها الرحيب عوداً ثابتاً، ولا أسمع إلا صوت الرمال وهي تجري على رمالها وتوقع بعضه على بعض، وغدا شم النسيم، فتعال بنا إلى ناحية من الريف قريبة من بعض أرباض المدينة، وعسى أن أحمد بقعة في طريقنا، فأنزل بها وأسكنها، فقد اجتويت الصحراء كما قلت لك، وما أظن بي ألا أن الحنين إليها سيعاودني، ولكن البعد عنها سنة أو سنتين، يكون كالاستجمام، فما قولك؟)
قال: (وتخرج في شم النسيم؟)
قات (: ومالي لا أفعل؟ أهو حرام - علي وحدي؟)
قال): لا، ولكنه يوم تكثر فيه العربدة، وأولى بك أن تلزم دارك - كعادتك)
قلت (: يا أخي، الله يوسع لي في الأرض، وأضيق على نفسي! كلا، ولن نعدم مكاناً ننأى فيه عن ضجات السكارى والمعربدين، فاختر لنا مكاناً، وتوكل معي على الله)
فاختار (المرج)
وحملنا معنا كفايتنا من الطعام والشراب، وكنا أربعة - أو خمسة، لا أذكر - وركبنا قطار الزيتون وكان كالحمار النهاق البليد، يمضي ويتوقف، ويميل هنا وههنا، ولا يزال يصلصل، كأنما يقطع أرضا أو يصنع شيئاً يستحق هذه الضوضاء، وأنا أمرؤ خلقني الله أكره التثاقل والاسترخاء، وأحب أن أفرغ مما أكون فيه بأسرع ما أستطيع، فمشي قفز،، وأكلي لقم، وكلامي لغط، وخطى أشبه بما تتركه أرجل على الرمل، من فرط العجلة؛ ولا صبر لي على دلال امرأة، ولا أعرف التمهيد لشيء؛ فإنه لف أو تطويل لا موجب له؛ وما أكثر ما أحببت، وما أسرع ما سلوت، وكم قلت لامرأة: (يا صاحبتي لقد أحببتك، ولكنني لم أحبك ليوجعني رأسي وقلبي، فإن كنت لا تحسنين إلا تصديعي وتنشيف ريقي، وإلا هذا الذي تسمينه دلالاً، فلا يا ستي ويفتح الله عليك بغيري) وأدعه وأمضي، ولا أعود بعدها(98/12)
إلى ذكرها. وما أكثر ما قلت لنفسي: (ما هذا يا مازني؟ إني أرى حبك قد طال ساعاتٍ، وهذا شيء يمل ويسئم، وليس معقول أن تحب غائباً كأنه حاضر معك! نعم معقول أن تحبه ساعة يكون إلى جانبك، ولكن بعد أن يمضي عنك أو تمضي أنت عنه، لا يقبل منك أن يظل قلبك يتلفت إليه ويشغل به عن سواه)
فتقول نفسي: (أي والله، صحيح)
وأستلقي على سريري وأغمض عيني، وأنام، ثم أقوم وقد نسيت حتى اسم من أحببت. لهذا قلت لأصحابي (يا رفاق! ما قولكم؟)
قالوا: (ماذا؟)
قلت: (ننزل من هذا القطار ونذهب نعدو إلى جانبه)
فضحكوا ولم يسمعوا مني، ولكني كنت واثقاً أني أستطيع أن اسبقه على الرغم من عرجي؛ ونزلنا في (المرج) فلم نجد شجرة نجلس في ظلها، ولا جداراً يقينا وقدة الشمس، ولم نلمح في الأفق البعيد شيئاً يغري بالأمل، فقلت: أرجع إلى صحرائي فهي بي ارفق من هذا المرج فإن لي فيها على الأقل بيتاً آوى إليه، ولذي لا يرضى بالخوخ يرضى بشرابه
وإنا لكذلك وإذا بضابط يقبل علينا ويحي واحداً منا، ويسأله عما جاء به، فيخبره أنه جاء معنا، ليشم النسيم، ولكنا لا نجد مكاناً ظليلاً نميل اليعه، فيقول الضابط الكريم: (تعالوا عندي)، فنسأله (عندك أين؟ فأنا لا نرى بيتا ولا كوخاً) فيقول: (في مركز البوليس، فإني ملاحظ النقطة!) فينظر بعضنا إلى بعض وأقول: (نشم النسيم في مركز البوليس! هذا جديد!) وترددنا، ولكنه ضابط بوليس، وتحت أمره قوة كافية لإرغامنا، فقلنا: (لا بأس! هي تجربة جديدة فلننظر ماذا عسى أن تفيدنا من المتعة؟ وما يدرينا؟ لعل مركز البوليس خير مكان نقضي فيه يومنا! وما نظن أن أحداً جرب ذلك من قبل، فهي ميزة ننفرد بها ونستبد)
ودخلنا المركز، فدبت أقدام الجنود، وارتفعت أيديهم إلى رؤوسهم بالتحية، وتحركت عيونهم دون وجوههم، وجعلت تنظر إلينا وتتبعنا ونحن داخلون ومعنا السلة فيها الطعام والشراب، وصعدنا إلى غرفة فيها مائدة من خشب غير منجور، وحولها كراسي ثقيلة، وأنا نحيف هزيل، يقول أحد الأطباء في وصف جسمي إنه شبكة من الأعصاب تحملها طائفة من العظام، وتكسو هذه وتلك طبقة رقيقة من الجلد، ولا لحم لي ولا شحم فأحتمل الجلوس على(98/13)
هذه الكراسي الناشفة، ولكن ما حيلتي؟
وجاءونا بأطباق وملاعق وسكاكين وأشواك وفوط، فسألت الضابط:
(من أين لكم هذا!)
قال: (ماذا تظن؟)
قلت: (أظنكم أخذتموها من اللصوص الذين وقعوا في قبضتكم)
قال: (أو لعلنا سرقناها؟ هيه؟)
قلت: (كل شيء جائز في هذه الدنيا! ومتى صار جائزاً أن نشم النسيم في مركز البوليس، فكل شيء بعد ذلك هين ومقبول ومعقول)
وكان الجنود كلما دخلوا علينا بصحن أو كوب أو فنجان، يدبون بأحذيتهم الضخمة الثقيلة، ويحيون، ويضعون ما في أيديهم الأخرى، ثم يعودون إلى التحية والدب بالأرجل، ويخرجون، وتكرر ذلك منهم ألف مرة، فقلت للضابط:
(ألا تعفيهم من هذا التكليف؟)
قال: (إنهم جنود وقد ألفوا ذلك فليس في وسعهم إلا أن يفعلوه)
قلت: (لو لم تكن معنا لما تكلفوه)
قال: (ولكني معكم)
قلت: (إذن فأعفنا نحن، فإنه إزعاج)
فسال: (كيف أصنع؟)
قلت: (والله لا أدري! هل تستطيع أن تختبئ تحت المائدة حين يدخل منهم أحد؟)
وأكلنا هنيئاً، وشربنا مريئاً، ولم تمنعنا هذه التحيات والدبات أن نضحك ونمزح، ولم يحل شعورنا بوجودنا في (مركز البوليس) دون التبسط والمرح، واحتجت بعد ذلك أن أنام دقائق، والنوم من عاداتي بعد الغداء، فإذا حرمته حرمت الراحة، وتفتر جسمي، وغاض معين نشاطي، وساء خلقي، وانقلبت مخلوقاً شرساً مشاكساً، وشريراً مجرماً، تقذف عيناه الشرر، ومن أجل هذا تتخذني زوجتي هولة تخوف بي الأطفال والخدم. فإذا رأت أني لم أنم بعد الظهر، أقبلت تقول: (تعال!)
فأقول: (إلى أين؟)(98/14)
فتقول: (تعال خوف الأطفال، فإنهم لا يريدون أن يسكنوا!)
فأقول: (يا سيدتي، إن التخويف شر أساليب التربية)
فتقول: (دع هذه الفلسفة وقم، فقد كاد رأسي يطير من ضجتهم، ثم إن عند الجيران أطفالاً كثاراً يصيحون، فأخرج لهم وجهك من النافذة يخرسوا، وفي الشارع رجال يتشاجرون فاذهب إليهم واطردهم إلى شارع آخر)
فأهز رأسي وأقول: (تالله ما اشتهي إلا أن أخوفك أنت!) ثم أنهض آسفاً، وأصدع بما أمرت، فيهدأ البيت ويسكن الشارع، ويخفت كل صوت حتى صوت الترام، فينشرح صدرها وتقرعينها، وتتنهد مسرورة، وتقول: (ليت أنك لا تنام بعد الظهر أبداً!)
فأسألها: (أتكرهين لي الراحة؟)
فتسألني مغالطة: (أتكره أي أنت الراحة؟)
فلا أجد جواباً حسناً، وأسألها: (هل أستطيع أن أنام الآن؟)
فتقول: (وإذا قامت ضجة جديدة؟)
فأقول: (اطمئني. . . وفي وسعك دائماً أن توقظيني لهم) فتذهب تصف وجهي معجبة بما يكون مرتسماً عليه من مظاهر الإفزاع وبواعث الرعب، مباهية به وجوه القتلة والسفاحين وقطاع الطريق؛ ولكن هذا أستطراد، فلنرجع إلى ما كنا فيه من شم النسيم
كان لا بد أن أنام، فنمت على كرسيين، حططت نفسي على واحد، ومددت ساقي على الآخر، ولم يكن هذا فراشاً وثيراً بالمعنى الصحيح، ولكن النسيم كان عليلاً في مركز البوليس، فأغفيت دقائق زعمها أصحابي ثلاثين، وقالت لي عظامي المهيضة إنها كانت رقدة أهل الكهف
ولم تكن لي يومئذ زوجة، فلما عدت إلى البيت لاحظت أمي أشكو وجعاً في ظهري وتكسيراً في عظامي، فسألتني: (أين كنت؟)
قلت: (في مركز البوليس بالمرج)
فصاحت بي: (مركز البوليس؟ لماذا؟ ماذا صنعت؟)
قلت: (شممت النسيم!)
قالت: (أكنت تشم النسيم أم تضرب علقة؟)(98/15)
وظلت إلى أن ماتت، وهي في شك من هذا الأمر
إبراهيم عبد القادر المازني(98/16)
مصرع الصحافة العظيمة في ظل النظم الطاغية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لا يستطيع مؤرخ أن يتجاهل الدور العظيم الذي أدته الصحافة في تطورات العالم السياسية والثقافية منذ أوائل القرن الماضي؛ ولا يستطيع مؤرخ الحرب الكبرى أن ينسى أن الصحافة كانت إلى جانب الجيوش والأساطيل أداة من أدوات النصر؛ وليس مبالغة أن توصف الصحافة الحديثة بأنها في الدولة سلطة رابعة إلى جانب السلطات الدستورية الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ وفي ظروف معينة تبدو الصحافة أولى السلطات وأهمها في الدولة أو المجتمع: تنشئ حكومات وتسقط حكومات، وتحشد الرأي العام لتحقيق برنامج معين أو فكرة معينة، وقوتها في ذلك لا تعادلها قوة، ونفوذها لا يجاريه نفوذ. هذه حقائق بديهية لا تقتضي جدلاً أو مناقشة. وما زالت الصحافة في الأمم العظيمة الحرة هي صاحبة المقام الأول في قيادة الرأي العام، وفي توجيه القوى السياسية والاجتماعية. وفي عصرنا قطعت الصحافة في سبيل التقدم العلمي والفني مراحل مدهشة؛ ولكن الصحافة أصيبت في عصرنا أيضاً بأقسى محنة عرفتها في تاريخها القصير المدى. ففي عدة من الأمم العظيمة لقيت الصحافة ضربتها القاضية، وأصبحت شبحاً فقط لما كانت عليه من قبل، وجردت من أعظم وأسمى مظاهرها: حرية التفكير والكتابة؛ ولم تبقى سوى أداة ذليلة خانعة للقوى الطاغية التي تخنقها وتسيرها كيفما شاءت
وقد كانت الصحافة الحرة وما زالت مظهراً من أهم مظاهر الديمقراطية والنظم الحرة؛ وقد أصيبت الديمقراطية والنظم الحرة في عصرنا برجعة خطيرة، وأصيبت معها كل مظاهرها الحقيقية ومنها الصحافة؛ فحيثما نكبت الديمقراطية: في روسيا السوفيتية، وفي تركيا الكمالية، وفي إيطاليا الفاشستية، وأخيراً في ألمانيا الهتلرية، تلقى الصحافة أشد محنة عرفتها، وتسحقها النظم الطاغية التي رأت أن تتخذها مع باقي القوى العامة، أداة لتحقيق برنامجها وتوطيد سلطانها. وفي هذه البلاد التي يسود فيها الطغيان المطلق، لم بيق رأي حر يستطيع أن يتنفس، ولا رأي عام يستطيع أن يعبر عن شعوره أو يحدث أثره المشروع في الحياة العامة؛ ولا تستطيع أن تخرج من الصحافة إلا بصورة واحدة مكررة هي إرادة الطغاة ومزاعم الطغاة، تفرض على ملايين من الناس لا حق لهم في مناقشة أو تذمر، ولا(98/17)
يسمح لهم بغير التأييد الأعمى
وتزعم هذه الحكومات الطاغية دائماً بأنها تحظى بتأييد الأمة المطلق، وتحاول دائماً أن تتخذ من إجماع الصحافة المصفدة المسيرة دليلاً على هذا التأييد؛ ولكن كيف يعرف رأي أمة لا يسمح لها بإبداء الرأي، وكيف يوصف شعور أمة نحو الطغاة، وهي ممنوعة بالقوة عن إبداء هذا الشعور؟ إن حكومات الطغيان تسن من القوانين الاستثنائية ما يكفل إخماد كل صوت وكل رأي معارض، ثم هي لا تقف عند هذه القوانين، بل تلجأ في أحيان كثيرة إلى إجراءات الهوى، فتنزل بأولئك الذين يجرءون على معارضتها أشنع العقوبات من قبض واعتقال ومصادرة، بل ومن إعدام، كل من ذلك دون قانون ودون تحقيق أو محاكمة؛ وليس من المبالغة أن نقول إن الحياة البشرية في هذه الأمم، أضحت كالحريات العامة، دون ضمان وطمأنينة؛ وما زلنا نذكر كيف أن مئات من الألمان أزهقوا في 30 يونيه الماضي بيد هتلر ومعاونيه لريب في تأييدهم للنظام القائم؛ وقد أهدر دمهم جميعاً لأن (الزعيم) أراد إعدامهم وكفى
تصفد الحرية الفكرية بهذه الأغلال حيثما يقوم الطغيان (الدكتاتورية). وقد كان البلاشفة أول من أخضع الصحافة لهذا النظام الحديدي، فلقيت في ظل العهد الجديد ما لم تعرفه في ظل القيصرية من القيود والأغلال المرهقة، ولم تلبث أن استحالت إلى أداة رسمية صماء لا رأي لها ولا إرادة، وخفت الرأي العام الروسي منذ ثمانية عشر عاماً فلا يعرف العالم لخارجي عنه شيئاً؛ وحذت الفاشستية حذو البلشفية في استبعاد الصحافة وإخماد هذا المتنفس الذي قد يثير حولها الصعاب إذا ترك طليقاً؛ ثم اقتفى الكماليون هذه الخطة في تركيا، وفرضوا على الرأي العام أغلالاً لم يعرفها في العصر الحميدي؛ ولما قام الطغيان الهتلري في ألمانيا، كانت أولى وسائله لتوطيد سلطانه أن يسحق الرأي العام الألماني، وذلك بسحق الصحافة متنفسه الطبيعي. وقد ذهب الهتلريون في ذلك إلى حدود لم تعرفها أشد عصور الطغيان
كان في ألمانيا، قبل أن يغمرها طغيان الوطنية الاشتراكية، صحافة عظيمة زاهرة تعد في مقدمة أعظم صحافات العالم؛ وكان لها نفوذها القوي في توجيه الرأي العام وفي التعبير عن رغبااته وميوله، شأنها في كل الأمم العظيمة. ولكن زعماء النظام الجديد أدركوا قوة(98/18)
الصحافة وخطرها على نظم الطغيان، فسحقوها بيد من حديد ووضعوا لها تشريعاً استثنائياً خاصاً يسلبها كل حرية وكل استقلال في الرأي، وجعلوا منها صناعة رسمية، ومن محرريها المسئولين عمالاً للحكومة؛ وأنشأوا وزارة خاصة للدعاية، تتمركز فيها جميع عناصر الوحي والرأي والقول في ألمانيا كلها؛ ولم يحجموا بذلك عن أن يمزقوا بيدهم آخر الأقنعة التي تستتر بها الدكتانورية، وأن يعترفوا جهاراً بأنهم هم الذين يوجهون الصحافة ويغذونها بكل عناصر القول والرأي؛ ولم يصفد الهتلريون الصحافة السياسية فقط، ولكنهم صفدوا كل أنواع التفكير والكتابة؛ والأدب والشعر، والفنون والعلوم وكل ألوان الثقافة، وجعلوا منها جميعاً أداة لبث مبادئهم وتمكين سلطانهم من أعناق الأمة التي يدعون الوصاية عليها. ومنذ أيام قلائل أصدرت الحكومة الهتلرية قانوناً استثنائياً جديداً يشدد أغلال الصحافة الألمانية ويقضي على آخر المظاهر التي بقيت لها. وقد وصف القانون الجديد بأن القصد منه (صون استقلال الصحافة) والواقع أنه يقضي على أخر ما بقى لها من لمحات الاستقلال، والمقصود به بنوع خاص أن يقضى على الصحافة التي تمثل مصالح المهن والطوائف والجماعات العامة، وعلى الصحافة الكاثوليكية التي ما زالت قوية في جنوب ألمانيا وغربها. وهو ينص على حرمان كل شخص لا ينتمي إلى الجنس الآري من العمل في الصحافة وكل متعلقاتها؛ وإذا أريد تغيير ناشر الصحيفة أو محررها وجبت موافقة السلطات؛ وإذا رؤى في أي جهة من الجهات أنه يوجد من الصحف ما يزيد عن حاجتها عطل منها ما كان زائداً عن الحاجة، وقد نص أيضاً على تعطيل جميع الصحف التي تعنى بنشر الحوادث الجنائية والاجتماعية ووصفت في المرسوم بأنها (صحافة الفضائح)، والخلاصة أن القانون الجديد لا يفسح مجال الحياة والظهور لغير الصحافة النازية الحكومية
ولقد كانت هذه الضربة الجديدة لقتل صحافة عظيمة مثار الاشمئزاز حيثما تقدس حرية الفكر والرأي، واستقبلتها الصحافة الإنكليزية بعاصفة من السخط؛ وكتبت (التيمس) مقالاً رناناً قالت فيه؛ (إن خضوع الشعب الألماني أمام تقييد حرياته ومورد أخباره يعتبر حادثاً مزعجاً جداً. وكيف يستطيع الشعب الألماني بعد ذلك أن يقف على الظروف الحقيقية للسياسة الدولية من هذه المصادر التي تقدم له الآن. وكيف يفهم الألمان عبارة (الاعتزال(98/19)
السياسي) في أوربا، وهي عبارة يرددها زعماؤهم وهي في الغالب من صنعهم وتدبيرهم؟ وهل يفهمون الظروف الحقيقية التي قتل فيها الدكتور دولفوس المستشار النمساوي؟ والتي دبرت فيها مذبحة 30 يونيه في ألمانيا؟ وما يلقاه اليهود والسجناء السياسيون، وما يكون لهذه الأمور من أثر في الرأي العام الأوربي؟) وقالت الجارديان: (أن الصحافة التي كانت في ألمانيا من أعظم الحرف وأرفعها، تنحدر الآن إلى الحضيض. وليست الجرائد (النازية) الحالية التي حلت محل الصحف التي كانت من قبل من أمهات الصحف العالمية، سوى وريقات لبث الدعاية الخاصة؛ ولم يبق أثر للحرية الفكرية والجدل والمناقشة. وكان من مفاخر هذه الحرفة الكريمة في ألمانيا أن عدداً عظيماً من كتابها وصحفييها آثروا الخراب والنفي والسجن على هذا الانحطاط الشنيع) ثم تتساءل الجارديان: (فهل بقي في الشعب الألماني روح حي يأسف على ضياع حرياته الفكرية والقلمية أو يثور على تلك التدابير التي تخذ لسحق هذه الحريات بصفة نهائية؟)
والواقع أن الصحافة الألمانية سقطت من عداد الصحافات العظيمة مذ تولى الهتلريون الحكم؛ ولم تفقد كل قوتها ونفوذها السياسي والاجتماعي فقط، ولكنها فقدت كل قوتها ونفوذها السياسي والاجتماعي فقط، ولكنها فقدت كل خواصها ومميزاتها الثقافية الممتعة التي كانت من قبل فجر التفكير الألماني؛ وأخذت الصحف الألمانية العظيمة تختفي من الميدان تباعاً بعد أن فقدت مركزها وخاصة قرائها، وامتدت النكبة إلى الصحافة الأدبية والفنية والعلمية، فأخذت تنحدر إلى نفس المصير المحزن؛ وتسيرها نفس الدعاية السياسية والثقافية التي غمرت ألمانيا؛ وغدت الصحف الألمانية العلمية التي كانت من قبل أسفاراً جليلة تحمل على الإعجاب والاحترام، أدوات للدعاية الهتلرية، تحدثك باستمرار عن نظريات (الزعيم) في خواص الجنس الآري، وانحطاط الأجناس السامية، وتفوق السلالة الألمانية، وأصول الثقافة الجرمانية القديمة، ويغره من المبادئ والنظريات الجنسية المتعصبة التي أصبحت ظاهرة الحياة العامة في ألمانيا، وأضحى أصدقاء الثقافة الألمانية الحرة في حيرة من هذا الخلط المحزن بين الحقائق والغايات العلمية، وبين النظريات والدعيات الحزبية التي جعلتها وزارة الدعاية الهتلرية فوق كل شئ في حياة الشعب الألماني وتشعر الدوائر العلمية والأدبية والطبقات المفكرة الألمانية عامة بخطر هذا التيار(98/20)
الجارف على مستقبل التفكير وال آدابالألمانية، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً لمقاومة هذا الخطر لأنها توضع تحت نفس انظم الجديدة التي جعلت من الصحافة ووسائل الثقافة الفنية كالمسرح والسينما والموسيقى والراديو، أدوات لدعوة الحزبية المحضة. ويشعر الزعماء الهتلريون أنفسهم بفداحة الأثر الذي أحدثه هذا الاستبعاد المطلق للتفكير الألماني، ويحاولون تبريره بمختلف النظريات والمحاذير. وملخص نظريتهم في ذلك هو أن الصحافة من مظاهر الأنظمة الحرة وخواصها، ومثل هذه المظاهر لا توجد في ظل الاشتراكية الوطنية؛ والمبادئ الحرة لم تسمح بتوحيد كلمة الشعب، والاشتراكية الوطنية تريد الشعب كتلة واحدة. وقد كانت الصحافة في عهد الحريات القديمة تستمد أعظم قواتها ونفوذها من الانتماء إلى الأحزاب، أو زال منه تلقاء نفسه انحدرت الصحافة الحرة إلى مثل هذا المصير، وفقدت أهميتها الحزبية والسياسية؛ والاشتراكية الوطنية لا تقيم وزناً للجدل السياسي، وفي رأيها أنه متى زالت البواعث الموجبة لهذا الجدل، وهو الخلاف الحزبي، فإن الصحافة تغدو أداة متماثلة في عملها ومظهرها. والاشتراكية الوطنية لا تعتمد على الصحافة كأداة للدعوة، ولكنها تعتمد في ذلك على الإذاعة اللاسلكية؛ وهي عمادها في قيادة الشعب وإرشاده. وأما الصحف فمهمتها أن تنقل للناس ما يسمعونه بواسطة (الراديو) لكي يعودوا فيقرءوه ويتدبروه. وأخيراً ترى الاشتراكية الوطنية أن الصحافة من الأنظمة القومية، فيجب أ، تكون حرفة رسمية تشرف عليها الدولة، ويجب ألا يشتغل بها سوى الآريين، فلا يسمح لليهود أن يشتغلوا بها سوى الآريين، فلا يسمح لليهود أن يشتغلوا بها أو يساهموا في امتلاكها (وهذا ما يقرره قانون الصحافة الهتلري). وكما أن الصحافة السياسية تتلقى كل مواد الكتابة والتعليق من المكتب السياسي بوزارة الدعاية، فكذلك تشرف على توجيه الصحافة العلمية والأدبية والفنية (غرفة للثقافة) وعلى توجيه الصحافة الاقتصادية والمالية (غرفة الدعاية الاقتصادية)، وهكذا يسير التفكير الألماني كله طبقاً لخطة حزبية موضوعة تقرر له المبادئ والمواد من وراء ستار وتلقنها إليه تحت سلطان القوة والوعيد
وهل نحن في حاجة لأن ندحض هذه النظريات والآراء الرجعية الطاغية؟ إن الاشتراكية الوطنية تعترف بأنها تقتل الصحافة لأنها لا تطيق النظم الحرة، وفي ذلك ما يكفي للحكم على تدليلها ووسائلها. ولقد كانت حرية التفكير في جميع العصور والأمم من خواص(98/21)
الأنظمة والحضارات العظيمة. ولكن ما هي الاشتراكية الوطنية الألمانية في الواقع؟ هي مزيج من الآراء والنظريات القومية والجنسية المغرقة، التي تحمل في معظمها طابع التناقض وضيق الأفق، وهي في روحها واتجاهها، أشد طغياناً من البلشفية والفاشستية، وأشد إذكاء للشهوات والأحقاد الجنسية والطائفية، وهي أوهام أذهان ضيقة متعصبة، لا تؤمن بغير القوة والعنف؛ وإنما يسبغ العنف عليها طابع النجاح. ومن الطبيعي أن تمقت كل صنوف الحرية وتخشاها. والصحافة الحرة من أخطر القوى على نظم الطغيان
ولنلاحظ أخيراً أن محنة التفكير الألماني لا تقف عند مصرع الصحافة، بل هي أشد أثراً وأوسع مدى، فهي تشمل كل صنوف التفكير وال آداب والعلوم والفنون؛ وهذه كلها تخضع اليوم لنفس الأغلال والقوى، وتمزقها وتشوهها نفس الأهواء والشهوات الهدامة؛ وهي كلها تسير في ظل الاشتراكية الوطنية إلى نفس المصير المحزن الذي تنحدر إليه جميع القوى الروحية والفكرية في ألمانيا
محمد عبد الله عنان المحامي(98/22)
أيا صوفيا
للأستاذ علي الطنطاوي
كنا في (أوتيل مكة المكرمة)، ذلك القصر الفخم، الذي كان للشريف عدنان حمى منيعاً، وحصناً حصيناً، يهاب الجبابرة الدنو من بابه، وتخشى الطير التحليق في سمائه، ويتجنب الناس النظر إليه إلا نظر الخائف الحذر، لأنهم يعلمون أن الكلمة متى خرجت من فم صاحبه كانت كسهم القضاء، من أصابت أصمت، وأنه ليس بين أحدهم وبين أن يقتل أو يدفن حياً في جب القصر المظلم، أو تهب أمواله، أو تحرق دوره. . . إلا أن يشي به إلى الشريف واش، أو تصيبه عرضاً نقمة من نقماته!
وكنا في الردهة الكبرى التي بناها فأجاد بنيانها، وزخرفها فبالغ في زخرفها، حتى كانت تحفة من التحف، وآية من آيات العمران، نعجب من تصاريف القدر، وأحداث الزمان: كيف ذهب الملك، واندثر السلطان، وغدا الشريف الجبار، الذي كان يتبختر في ثياب الوشي، وأردية الديباج، وتمشى أمامه العبيد بالسيوف، والخدم بالمجامر، ويسير وراءه الوجهاء والأعيان. . . كيف غدا بعد هذا الجمال الناظر، عظاماً نخرة، في حفرة مقفرة، وكيف استبدل بالقصر الكبير، هذا القبر الحقير، وكيف ذهب المال والولد، والخدم والعبيد، والحجاب والأعوان، والعداء الأخوان، ومات الحب والبغض، والخوف والرجاء. . . حتى لكأنما لم يمر يوماً سيد مكة وجبارها، وكيف ورثنا القصر أياماً وليالي نطؤه مطمئنين، وننام فيه آمنين، ونأمر فيه مطاعين، لا نذكر صاحبه وبانيه، ولا نقيم له وزناً، ولا نحسب له حساباً!
كنا جالسين مع إخواننا رجال الوفد السوري، نتحدث أن لا بقاء للإنسان. وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، ومن ذليل قد عز، ومن ملوك كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم، فلا يغرن امرؤ بالدنيا:
فما الدنيا بباقية لحي وما حي على الدنيا بباق ولا يدخرون وسعاً في كسب الذكر للدنيا والأجر للآخرة، فما الحياة إلا حياة التاريخ، وحياة الجنة. . .
وكنت لا أني أسأل عن (الرسالة)، وألح على مدير الأوتيل وهو من المشتركين فيها، أن يأتيني بالأعداد الأخيرة منها، وقد كنت في دمشق إذا تأخرت (الرسالة) يوماً قلقت من(98/23)
تأخرها، وأشتد شوقي إليها، فكيف وقد مرت أربعة أعداد لم أرها؟ صدرت ونحن على هامش الحياة، من وراء حدود العالم، نسير في الصحراء سبعة عشر يوماً من دمشق إلى المدينة، لم نر فيها إلا ثلاث قرى، مالقينا من دونها بشراً ولا شجراً، ولا وحشاً ولا طائراً، وما أبصرنا إلا سلاسل الجبال، وتلال الرمل التي تتعاقب لا حد لها، فتانة متموجة، كأنها قد مرت عليها يد نقاش صناع، سبعة عشر يوماً، ملأت فصلاً طويلاً من سفر حياتي، بأعمق الشعور، وأشد العواطف
فلما جاءني خادم الأوتيل بأعداد الرسالة، أقبلت أصفحها وأقرأ من كل مقالة عنوانها، فرابني منها عنوان مقالة، ما إن قرأتها حتى سقطت الرسالة من يدي وعرتني رجفة وأحسست أن قد دبر بي خبر هائل تصدع له القلوب، قلوب المؤمنين حزناً وألماً، وتندى له الجباه حياء وخجلاً، وتكل عن وصفه الألسنة دهشة وتفظعاً
ذلك إن الجمهورية التركية، لم يشف غيض قلوبها، كل ما صنعته بالإسلام، وما أنزلته بأهله، فعمدت إلى بيت من بيوت الله، تقام فيه شعائر الله، فجعلته بيتاً للأصنام، ومثابة للوثنية، أماتت فيه التوحيد، وأحيت فيه الشرك، وطمست منه آي القرآن، وأظهرت فيه الصور والأوثان، لم تضق بها الأرض حتى ما تجد مكاناً لمتحفها هذا إلا المسجد الجامع، ولكن النفوس الملحدة ضاقت بهذا المسجد، وأحس أصحابها كأن هذه المآذن في عيونهم، وكأن هذه القبة على ظهورهم، وعشيت أبصارهم من نور الله، فأرادوا ليطفئوه بأفواههم، ويمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها أسمه، فعطلت الصلاة في أيا صوفيا فلا تقام فيها بعد اليوم - وسكت المؤذن فلا يدعو في مآذنها إلى الله - ولا يصدع بالتهليل والتكبير، ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلا مستعبرين باكين، يندبون فيها مجد الإسلام، وعظمة الخلافة، وجلالة السلطان، وذل فيها المسلمون وصاروا غرباء عنها وهم أصحابها وأهلوها، وعز فيها المشركون، وشعروا أن أيا صوفيا قد ختمت فيها صفحة الإسلام، باسم هذا الـ. . (أتاتورك) كما فتحت باسم (محمد الفاتح)!
أيا صوفيا التي صيح في مآذنها خمسين وثلاثمائة واثنتين وسبعين وثمانمائة (872350) ألف مرة: حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. . . لا إله إلا الله، فاصطف فيها المسلمون خاشعة أبصارهم مؤمنة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، قد وضعوا الدنيا(98/24)
تحت أقدامهم، ودبر آذانهم، وأقبلوا على الله بخشوع وإخلاص، فجزاهم بما خشعوا وأخلصوا، قلوباً استنارت بالإيمان، وعمرت باليقين، وكان القلب منها وهو يخفق بين جوانح صاحبه، أكبر من الأرض وهي تجري في ملكوت الله. . . فملكوا بهذه القلوب الأرض، وفتحوا بها العالم!
أيا صوفيا التي بات فيها المسلمون سبعين وأربعمائة وأربعاً وسبعين ومائة ألف (174470) ليلة، ولهم في جوفها دوي بالتسبيح والتكبير والتهليل كدوي النحل، وما في أرضها شبر لم يكن موطئ قدم مصل، أو مجلس قارئ، أو مقام ذاكر، أو مقعد مدرس أو سامع، وليس يحصى إلا الله، كم ختم فيها من ختمة، وكم ألقى فيها من درس، وكم ذكر فيها الله، وكم أقيمت فيها الصلاة!
أيا صوفيا التي تشهد كل حجرة فيها، وتشهد أرضها وسماؤها، وتشهد قبتها المشمخرة، وتشهد مآذنها السامقة، ويشهد الناس، ويشهد الله وملائكته، أنها بيت من بيوت الله، وحصن من حصون التوحيد، ودار من دور العبادة. . .
أيا صوفيا. . . تعود للجبت والطاغوت، وتحمل الصور والأصنام، ويخسرها الإسلام والشرق، ليربحها الكفر والغرب؟ لقد أريقت حول أيا صوفيا دماء زكية، وزهقت في سبيل أيا صوفيا أرواح طاهرة، من لدن معاوية إلى عهد الفاتح، إلى عهد عبد الحميد. . . أفراحت الدماء هدراً وذهبت النفوس ضياعاً، وعادت أيا صوفيا بعد سبع وثمانين وأربعمائة سنة وكأنما لم يذكر فيها الله، ولم يتل فيها القرآن، ولم تقم فيها الأئمة، ولم تتجاوب مآذنها بالأذان؟
لقد بنى المسلمون هذا المجد على جماجمهم، وسقوه بدمائهم، وحموه بسيوفهم، ثم وقفوه على الإسلام، أفيأتي في ذيل الزمان، من يعبث بالوقف، ويهزأ بالدماء، ويلعب بالجماجم، ثم لا يردعه رادع، ولا يعظه واعظ؟
ومن هم الأتراك لولا الإسلام؟ على أي حسب يتكلمون، وبأي نسب يفخرون، وبأي ماض يعتزون، وبأي مجد يباهون؟ أبمجد رعاة البقر في تركستان، أم بمجد أرطغرل بك، وقد جاء من مشرق الشمس بدوياً جافياً فقيراً لا يملك إلا أعنة ركائبه، وطنب خيامه، يفترش الغبراء، ويلتحف السماء، فصار أحفاده بالإسلام سادة القارات الثلاث؟ أفرأيت من ينطح(98/25)
برأسه الصخر، ويشرب بفيه البحر، ذاك هو التركي حين ينكر الإسلام، ويسعى لإيذائه. إنه لا يحطم الصخر، ولا يجفف البحر، ولكن يمشي على رأسه إلى القبر، وإن الإسلام إلا يكن بالترك يكن بغيرهم، ولكن الترك إلا يكونوا بالإسلام لا يكونوا والله بغيره أبداً. . .
وعدنا نعتبر ونتحدث أن لا بقاء للإنسان، وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، وكم ذليل قد عز، وكم من ملوك (ورؤساء جمهوريات) كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم وأن (الشريف عدنان) مهما يكن جباراً قوياً، فنه سيصبح ويصبح أعوانه، رمماً بالية، في حفر خالية، وسيبقى الله، وسينصر دينه، ويؤيد حزبه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
أيها (الشريف عدنان)! لاتغتر، قد ورثنا القصر، وورثت القبر، وهدمنا ما بنيت، وبنينا ما هدمت. . وما هدمت إذ هدمت، إلا مجدك في التاريخ، وأجرك في الآخرة. . .
مكة المكرمة
علي الطنطاوي(98/26)
صديقي الكاظمي
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
رئيس المجمع العلمي بدمشق
قرأت في الرسالة (عدد96) نعي شاعر العرب الأكبر الشيخ عبد المحسن الكاظمي رحمه الله. فألمت لفقده، وتذكرت سابق عهده، وقديم وده
وقد ذكر ناعيه من خبره: (إنه لاذ بكنف الإمام محمد عبده الذي ظاهر نعمه عليه. وإنه نكد عيشه بعد الإمام، فرضى بالكفاف من الرزق) فرأيت خدمة للتاريخ، وتوفية لحق الصديق، وتنويراً لسيرة حياته - أن أضيف إلى الجملة المذكورة ماله من اتصال بها، أو هو كالشرح يعلق عليها
عرفت الشيخ عبد المحسن في إدارة (المؤيد) لأول عهدي بالتحرير فيه. وهناك توثقت بيني وبينه عرى المودة، وأخذت أعرف من دخيلة أمره ما لا يعرفه سواي. وكان ذلك بعد وفاة أستاذنا الأمام بسنة ونيف
ومما أخبرني به أن الإمام رحمه الله كان يتعهده في آخر كل شهر بعشرة جنيهات: يودعها غلافاً ثم تسلم إليه في داره من دون أن يشعر بما في الغلاف أحد. وبعد وفاة الإمام لم يجد مندوحةً عن السعي لدى الخديو في أن يكون له مرتب شهري من الأوقاف. فتوسط في هذا الأمر الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد. فكان الشيخ يراجع الخديو في تقرير الراتب، والخديو يأبى - كلما روجع بشأنه - إلا الرضخ له من مال الأوقاف بنحو خمسين جنيهاً؛ وكنت أذهب مع الشيخ عبد المحسن إلى الديوان فيقبضها. وقد تكررت هذه المعاملة المرة بعد المرة. والشيخ عبد المحسن في كل مرة يظهر التأفف من تناوله المعونة على هذه الصورة التي ما كان يراها تتفق مع كرامته وإباء نفسه. وكان يلح على الشيخ علي: تارةً بنفسه، وطوراً بواسطتي - أن يكلم الخديو في تعيين راتب شهري مقطوع: (عشرة جنيهات فقط) يربحه بها من عناء التوسط ومكابدة المعاملات الديوانية وان انتساب الشيخ الكاظمي إلى الإمام المفتي إن كان من شأنه أن يحدث فتوراً نحوه في نفس الخديو، فما كان قط ليحدث مثل هذا الفتور في نفس الشيخ على يوسف. فكنا ننزه الشيخ علياً عن وصمة الفتور، لكننا كنا واقفين وقفة الإيجاس من حالة الخديو عباس(98/27)
ثم ضاق الشيخ عبد المحسن بالأمر ذرعا، فكلفني أن اخذ من الشيخ علي وعدا بإنجاز المسألة مع الخديو: أما سلبا يريح النفس أو إيجاباً يزيح العلة
فتركت الشيخ عبد المحسن في غرفة التحرير، ودخلت على الشيخ علي، وبلغته الرسالة، وكان يصحح مقالةً للطبع. فترك القلم من يده، وتنفس الصعداء ثم قال: ماذا أصنع يا أستاذ؟ أنهيت القضية أمس مع الخديو، ووعد وعداً أكيداً بإصدار أمره بتعيين الراتب، وقد شكرت له وخرجت من عنده. لكنني لم أكد أبرح الباب حتى دخل عليه بعض الناس (ولم يسه لي) فقال للخديو: رأيت فلاناً خارجاً من عندك، فماذا يبغي؟ قال: قررنا راتباً للشيخ عبد المحسن الكاظمي. قال: أنسيت أنه الشاعر المفتى، وقد قال فيه من الشعر كذا وعرض فيك بكذا وكذا؟
قال الشيخ علي: فما كان من الخديو إلا الشح برفده والنكول عن وعده
فلما وعيت هذا رجعت إلى الشيخ الكاظمي، فأخبرته الخبر، فتأثر جد التأثر، وقال لي: أتعرف من هو بعض الناس؟ قلت: لا. قال: هو أحمد شوقي
وكنت إلى ذلك الحين لم أعرف سعادة أحمد شوقي بك رحمه الله، ولا اجتمعت به، وإنما لقيته بعد ذلك في إدارة المؤيد وقد طلب من الشيخ علي أن يراني فتلاقينا وتعارفنا
ثم قال لي الشيخ عبد المحسن: وما الحيلة الآن يا أستاذ؟ قلت: تحسين العلاقة مع أحمد شوقي بك، ففارقته على نية اللقاء في وقت نذهب فيه إلى (كرمة ابن هانئ)، وكانت الكرمة بنيت، حديثاً فذهبنا إليها وأرسل الشيخ عبد المحسن بطاقته إلى البك، فأجيب بأنه خرج، أما الشيخ عبد المحسن فقد أقسم أنه لم يخرج، وإنما أراد ألا يقابله
ومن ذلك الحين يئس من الخديو والراتب. وفوض أمره إلى الله. ثم لما اشتد به المرض، ولازم داره في (درب الكحكيين) جعلت أتردد إليه فيها، وكنا نقضي ساعات في الحديث ورواية الشعر ومطارحة الأدب وأخبار الأدباء، وخاصة أدباء العراق من الشيعة، وقد لخصت بعض أحاديثه عنهم في أملية العدد الصادر في 1 يوليو سنة 1907 من (آمالي الأدب) التي كنت أنشرها في (المؤيد) من وقت إلى آخر
وكان الشيخ عبد المحسن يخص بإعجابه من بين شعراء العراق (إبراهيم الطباطبائي النجفي) الذي جمع بين جودة الشعر وحسن الإنشاد ورخامة الصوت، وهو الذي يقول في(98/28)
صغيريه حسن ومحمد من قصيدة:
أما وضوء الأبيضين لأنتما ... قمراً سعودي في الليالي السود
ما أنتما إلا كقرطي غادةٍ ... يتذبذان على خدود الخود
وتأخرت عن زيارة (الكاظمي) أياماً فكتب إلى بهذه الأبيات:
يا من تخّيرتُه دون الرفاق أخاً ... ألقى به عادياتِ الدهر والأزما
ُعد مدنفاً كاد يُملي جسمه سَقم ... لعل قربك منه ُيبعد السقما
إذا ألمتْ به غماءُ جائحة ... فنور وجهك عنه يكشف الغما
كم منة لك طول الدهر في عنقي ... مازلت أذكرها أو أسكن الرجما
وقوله (الأزما) بكسر الهمزة وفتح الزاي جمع أزمة بمعنى الشدة والضيق، وهو جمع نادر. ومنه قولهم في جمع (بدرة) (بدر) ولم آسف على شيء أسفي على خبرين كان حدثني بهما فلم أستقص تدوينها في مذكراتي عنه
(الأول) ما وصفه لي من نشأته الشعرية تحت إشراف أخيه الأكبر، وكانت دار أخيه (في بغداد أو الكاظمية) مثابة لشعراء الشيعة وأدبائهم. فكان الكاظمي الحدث يطارحهم الأدب ويسابقهم إلى قرض الشعر، وكان أحياناً يجيد إجادة يعجب بها القوم ويهتز لها أخوه طرباً وسروراً. وأنشدني قطعاً من شعره قالها لمناسبات عرضت في تلك الاجتماعات فاتني تدوينها مع المناسبات التي قيلت فيها
(الثاني) ما وصفه لي من إلحاح الفاقة عليه في بعض الأيام حتى أنه سأل تاجر الدجاج الذي كان يبتاع من دجاجه أن يصف له طريقته في تفريخها وتغذيتها والقيام عليها ليعتاش هو من وراء ذلك. فوصفها الرجل له. وحاول أن يجربها، ففعل. وأصبح عنده ألوف من الفراريج. وكان يعتني بها ويطعمها الأرز، لكنه لم ينجح في تجربته، وكانت الخسارة عليه عظيمة. قال: وما كان يخطر لي قط أن الكتاكيت سريعة العطب، رقيقة المزاج إلى هذا الحد. وأنها إذا لم يتدبر صاحبها أمرها بانتباه وفرط حيطة، ومراعاة الأصول في تغذيتها وتدفئتها لا يبقى من الألف منها سوى بضعة عشر كتكوتاً
وكان في سرده لهذه الحادثة استقصاء دقيق، ودرس اقتصادي عميق، وفكاهة تسري عن النفس البائسة كآبتها، وتعيد إلى الأسارير العابسة بشاشتها(98/29)
ولما زرته في السنة الماضية مع صديقي الأستاذ (الهراوي) في داره بمصر الجديدة ظننت أنه يمكنني محادثته بشأن كتاكيته، فلم أصادف من صحته ونشاطه ما يساعد على الكلام في هذا الموضوع، وإنما اقتصر حديثنا على وصف المسرة بتلاقينا بعد نحو ثلاثين سنة من تنائينا
والكاظمي ينظم الشعر على طريقة شعراء عرب الجزيرة من حيث متانة الأسلوب وجزالة الألفاظ، وربما امتاز عن كثيرين منهم يخلو شعره من المعاظلة والتعقيد والأغراب
وكما أنه تفوق على شعراء زمانه بهذه الطريقة الفحلة نراه امتاز عنهم أيضاً في أنه يرتجل الشعر ارتجالاً غاية في السلاسة لا جمجمة فيه ولا تلكؤ. وإذا إرتجله وقع شعره المرتجل في قالب طريقته الشعرية المطبوعة، أي إنه مهما طال نفسه في الارتجال جاء شعره المرتجل موسوماً بطابعه الشخصي، متقاوداً مستوى المتون، لا تشاخس فيه ولا تفاوت؛ لا يخذل آخره أوله، ولا ينوء عجزه بكلكله، وهذا موضع الغرابة في ارتجاله. وربما لا يجاريه في هذه المزية إلا القليل من الشعراء الأقدمين بله المتأخرين من شعراء هذه الأيام
ومن ظريف أخبار بداهته ما اتفق لي معه: ذلك أنه زارني يوماً في إدارة المؤيد، فابتدره زميلي الصحافي المشهور سليم سركيس رحمه الله بالعتب الشديد عليه لإغفاله تهنئته بزيه البلدي الجديد وكان من خبر هذا الزي أن (سليماً) تضايق من اللبوس الإفرنجي المحزق ولا سيما ياقة القميص المكوي، وربطة الرقبة (الكرافات) وشطاطها أو بكلتها التي كانت تمنعه الحركة وإدارة رأسه يمنة ويسرة وهو يحرر ويترجم والفصل فصل الصيف والحر حر القاهرة. فما كان منه إلا أن أعلن هجر ذلك الزي والزراية عليه، واصطنع لنفسه الزي البلدي: قفطاناً مشدود الوسط بالزنار، ويحيط أعلى القفطان بعنقه من دون الياقة ولا عرى ولا أزرار؛ وقد سدل فوق القفطان جبةً بلديةً مخصرة الوسط، فضفاضة الأذيال، سهلة الطي، سريعة اللي. وأعلن خبره هذا في الصحف المحلية مشفوعاً يرسمه العربي الأصيل، وزيه البلدي الجميل؛ وأخذ إخوانه المحررون - وهم كثر - يصفون خبره في صحفهم، والشعراء منهم يهنئونه بقصائدهم
وكان صديقنا (سليم) تعجبه طريقة الصحافي الأمريكي الكبير (برزباين) الذي يتخذ في موضوعات كتابته من الحبة قبة، فكيف لا يتخذ هو موضوعاً يلذ المصريين من القفطان(98/30)
والجبة؟
وكم مرة سمعته يقول: إنني أنا الكاتب الصحافي، وقد تلقيت فن الصحافة من سفري إلى أمريكا ومعاشرة صحفييها. أما زميلاي: (المنفلوطي) و (المغربي) فليسا صحافيين بالمعنى المقصود من كلمة الصحافة: المغربي كاتب عالم، والمنفلوطي كاتب شاعر
فلما دخل علينا السيد الكاظمي وأسمعه سليم عتبه عليه قال له:
ألِقُ دواتك واقربُ ... وخذ أداتك واكتبُ
ثم جعل يرتجل شعراً في مدح سليم، ووصف زيه الجديد. يمليه عليه وهو يكتب. حتى إذا طال نفس القول اعترضته أنا قائلاً: أرى أنه سيكون لهذه القصيدة نبأ عظيم بين أدباء القاهرة، فلم لا يكون لي فيها ذكر وأنا ثالثكما وشاهد حادثتكما؟ فتحول الكاظمي عن (سليم) وأقبل علي، وخاطبني ببضعة أبيات من شعره المرتجل على وزنه وقافيته. ثم عاد إلى إتمام الكلام في سليم حتى أكمل قصيدة بلغت الثلاثين بيتاً فيما أذكر، وقد نشرها صديقي سليم في مجلته - سنتها الثانية أو الثالثة - وحكى القصة كما وقعت، لكنه ذهب إلى أنني، إنما اقترحت على السيد الكاظمي أن يذكرني في القصيدة امتحاناً له، واستيثاقاً من أمر ارتجاله. رحم الله (الكاظمي) وعوضنا الدهر منه ولا أراه فاعلاً
دمشق
المغربي
رئيس المجمع العلمي العربي(98/31)
ماذا يقولون عنا؟
العالم الإسلامي
فرنسا وشمال أفريقية
ترجمة مقال نشرته مجلة (لموا) لكاتب فرنسي مطلع
العالم الإسلامي:
العالم الإسلامي إمبراطورية واسعة تنقسم كالعام المسيحي إلى عدد كبير من الممالك التي تجمعها عقيدة مشتركة ويفصلها اختلاف الجنس والموقع الجغرافي والنظام السياسي. وهذه الممالك تتفاوت درجات تقدمها الاقتصادي والفكري تفاوتاً شديداً. ففي نجد وملحقاتها التي تسمى الآن المملكة العربية السعودية لا تزال تسود حياة القبائل الرحل، بينما نجد تركيا والبلاد التي تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني وأفريقيا الشمالية قد بلغت الآن درجة رفيعة في مدينتها الصناعية.
نهضة العالم الإسلامي:
ولقد كان من نتيجة احتكاك هذه الممالك بالمدينة الحديثة أن دخلت كلها في دائرة النشاط العالمي بعد أن كانت بعيدة - مع تفاوت درجات هذا البعد - عن تيارات التعامل الكبرى. وذلك هو ما يمكن أن نسميه نهضة العالم الإسلامي، ويقصد بها نفس ما قيل عن نهضة الصين. ولقد عجلت الحرب الكبرى هذه الحركة بصهرها شعوب العالم في الأتون الجهنمي، فقد كان لهذه الحرب نتيجتان - على الأخص - غير منتظرتين ولكنهما كانتا عظيمتي الأثر؛ إذ منحت اليهود وطناً قومياً في فلسطين فتحقق بذلك الحلم الذي كان يسعى وراءه بنو إسرائيل منذ تخريب بيت المقدس على يد عام 70م. ثم حررت العالم العربي من الحكم التركي
وبعد الحرب سارت نهضة العالم الإسلامي بخطوات سريعة لأن المحاربين وجدوا أنفسهم مضطرين كيما يصلحوا الأضرار التي أصابتهم إلى أن يوسعوا تجارتهم ويجدوا للحصول على أسواق جديدة، فكان استغلال المناجم وأعمال الري وبناء الطرق والسكك الحديدية(98/32)
والسيارات والطيران وبعبارة موجزة (كل المعدات الحديثة للدول الشرقية التي تقوم على قدم وساق وتعمل على تغيير أحوال معيشتها تغييراً عميقاً) ولقد انقلبت دار الصناعة رأساً على عقب وهي التي عليها تقوم حياة البلاد الاقتصادية. وذلك بسبب طرق الصناعة الحديثة ومنافستها. ففي عام 1932 كانت المنسوجات اليابانية تعادل 70 % مما في أسواق العراق، وفي سوريا توقفت صناعة النسيج وكان في ذلك القضاء الأخير على دور دودة القز
ولقد نتج عن ذلك كثير من ضروب العراك بين المعتقدات والعوائد الماضية، وبين الأفكار والمستلزمات الجديدة. فلا تزال المساجد مركزاً للهياج السياسي، ووسط جزيرة العرب لا يزال متمسكاً بالقانون الديني التقليدي الذي يقول بقطع يد السارق، والجماهير لا تزال في كل مكان شديدة التأثر بخطب المهيجين. على أن نخبة القوم في مصر وسوريا والعراق يهجرون شيئاً فشيئاً الدراسات الدينية، ويوشك أن يزول أثر الإسلام في شئون الحكومات. وبالرغم من ذلك فقد أثار تحرر تركياً من سيطرة الدين كثيراً من الاضطرابات. على أن ضروباً من التقاليد المقدسة قد أمحت الثقة بها، وثل ذلك أعمال الدراويش في حلقات الذكر. ومن ناحية أخرى فإن مسألة القبعة وإن لقيت تقدماً بطيئاً نجد مشكلة حجاب المرأة لم يطرأ عليها تغير ما بالرغم من الثورة التركية. أما الخلافة فليس لها الآن إلا عدد قليل من الأنصار إذا استثنينا الهنود
في وسط هذه الحركات المختلفة نرى اتجاهين رئيسيين كانا نتيجة لتقدم السكان ورقي البلاد: اتجاه توحدي واتجاه قومي
الاتجاه التوحدي:
إن الاتجاه التوحدي يستمد قوته من النهضة العامة للضمير الإسلامي، ومن شعور هذه الممالك باشتراكها من حيث الأصل. وهذا الشعور يقويه مكافحة الغرب وكره الأجنبي. ومن هنا قامت كل هذه الهيآت والمؤتمرات التي تحاول جهدها أن تربط جميع الشرقيين على اختلاف طبقاتهم وأديانهم وممالكهم لتوجههم إلى غرض واحد هو الاتحاد ومقاومة الأجنبي. ولاجتماعات المسلمين في الظاهر صفة دينية على الأخص. وهي بغية الوصول لتحقيق فكرة الجامعة الإسلامية، لكن فكرة مؤتمر مكة قد أهملت دون أن يصيبها النجاح(98/33)
(في عام 1930 وعام 1931) ويؤكد بعضهم من جهة أخرى أن عدد الحجاج الذين يذهبون إلى مكة قد هبط من 120ألفاً في عام 1929 إلى 90ألفاً في عام 1930 و70 ألفاً في عام 1931 و 30 ألفاً في عام 1932 ومن 20 ألفاً إلى 25 ألفاً في عام 1933 ولم يأت من مصر إلا ألفان من الحجاج عام 1933 وليس للأزمة الاقتصادية إلا أثر جزئي في هذا الهبوط
والواقع أن فكرة الجامعة الإسلامية تصطدم باستحالة توجيه ثلثمائة أو أربعمائة مليون من المسلمين. كما أن الفكرة الدينية لا تكفي لربط العالم الإسلامي وحفزه. وهناك برهان مادي على صدق هذا القول وهو فشل فكرة الخلافة: (ففكرة الخلافة التي تقاومها السلطات التركية باستمرار في كل المناسبات يظهر أنها قد ماتت تماماً في الوقت الحاضر في البلاد العربية. ولقد أعلن الملك عبد العزيز بن سعود نفسه وهو يستقبل الحجاج في مكة أنه لم يجر ولن يجري مطلقاً وراء لقب خليفة المسلمين. فالخليفة يجب عليه مراقبة أوامر الدين ونواهيه في كل أجزاء الأرض. وفي عصرنا الحاضر لا يوجد رجل قادر على أن يضطلع بهذا الأمر. وعلى ذلك فإن النهضة الدينية في الشرق الإسلامي يمكن اعتبارها (رد فعل) في سبيل الدفاع السياسي أكثر منها بداية نهضة. فالإسلام هو الآن قوة لمكافحة الاستعمار الغربي واليهودي، لكن أثره في حياة الحكومات يفقد تدريجياً خطره الذي كان له في الزمن السابق. ويجب أن نضيف أيضاً أن مما يتفق وتاريخ المدينة الإسلامية ما نراه الآن من تقدم حركة دينية قوية ترمي إلى توحيد قوى قسمتها السياسية، وإقامة جبهة صلبة ضد الغرب) ومنذ عهد قريب تبذل الجهود لبعث النشاط الإيجابي في كل عضو من جسم العالم الإسلامي
ولقد نتج عن الحبوط (النسبي) لفكرة الدينية أن اتخذت كل الحركات المبذولة في سبيل الوحدة صبغة سياسية. وقد قوى تقدم الحركة الصهيونية في فلسطين الشعور بواجب الدفاع عن بيت المقدس وهو المدينة المقدسة الثانية للعالم الإسلامي. وفي أثناء عام 1931 دعا المفتي الأعظم إلى المؤتمر الذي عقد في ديسمبر، (وكان الغرض من هذا المؤتمر يبدو أولا دينياً محضاً: وهو التعاون الإسلامي ونشر الثقافة الإسلامية ومقاومة الإلحاد، والدفاع عن الأراضي المقدسة، والمحافظة على التقاليد، وإنشاء جامعة علمية في بيت المقدس،(98/34)
وبحث حالة سكة حديد الحجاز) والواقع أنه لم يكن المحافظة على البرنامج المبدئي. فقد كان من اللازم التوسع فيه حتى يستطيع أن يعالج أيضاً موضوعات مختلفة تهم حالة الشعوب الإسلامية من الناحيتين السياسية والثقافية. وبالرغم من ذلك فإن سلطة المؤتمر قد ضعفت لغياب الممثلين الرسميين لمصر والعراق ونجد، وبتأكيد الحكومة التركية عداوتها لكل سياسة داخلية أو خارجية (تستخدم الدين كوسيلة سياسية)، وفي بيت المقدس نفسه أعلن الحزب المعادي للمفتي الأكبر أن الرؤساء المسلمين لم يؤيدوا المشروع إذ لم يؤخذ رأيهم فيه
الجامعة العربية:
ومنذ الحرب الكبرى، أو بعبارة أخرى منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية تتخذ الحركة التوحدية صبغة جديدة. فالجامعة الإسلامية قد تحولت إلى توسع استعماري عربي. إذ حلت محل الفكرة الدينية التي حاق بها الضعف فكرة الوحدة الثقافية: أي وحدة البلاد التي تتكلم اللغة العربية، والتي يبلغ مقدارها 70 مليوناً، ولقد بذل منذ نصف قرن على الأخص مجهود في سبيل اللغة - لم يكن الغرب يشك في قوته - كان له أثر في تغيير الحالة الثقافية للبلاد العربية لدرجة أنه لم يعد من السهل المقارنة بين اللغة القومية واللغات الأجنبية من جهة، وبين البلاد العربية وأفريقيا الشمالية من جهة أخرى. وفي منتصف القرن التاسع عشر كان السكان الذين يتكلمون اللغة العربية في الشرق الأدنى وخصوصاً في سوريا وفلسطين يعتمدون على المصادر التي لا بأس بها في لهجاتهم الدارجة، وكانت اللغة الفصحى غير كافية، ولم تكن تؤدي الحاجة الضرورية. لذا كان من اللازم الالتجاء إلى اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والتركية واليونانية والروسية ولقد غيرت هذه الحالة تغييراَ عميقاَ بخالق لغة فصحى حديثة. وكان مركز الحركة في دمشق وفلسطين وبغداد. وكان جعل التعليم العام باللغة العربية الفصحى الحديثة في كل البلاد الشرق الأدنى مما ساعد بطريقة أكثر تحقيقاً للغرض على التقليل المسافات التي تفصل لغة الكتابة عن اللغة الدراجة. وتبين الإحصاءات المدرسية التي نشرت في السنين الأخيرة في مصر وسوريا ولبنان والعراق وفارس أن عدد طلبة المدارس قد أزداد بعد الحرب في معظم هذه البلاد 300 إلى 600 %(98/35)
وفي ظل هذه الأشكال المختلفة التي تبدو بها حركات الجامعة الإسلامية والجامعة العربية قام عمل متوصل لتعديل الالتزامات المالية والاقتصادية والسياسية التي عقدتها أو فرضتها البلاد الغربية. وهذأ التعديل يصعب على الأخص في بعض البلاد مثل فلسطين حيث يتقابل وجها لوجه العنصران اليهودي والعربي اللذان حررتهما الحرب. ولقد استطاعت الحكومة البريطانية أن تتحاشى حتى الآن (الانفجار القوي الذي كان يحق للمرء أن يخشاه. . . وعلى الرغم من اضطرابات أكتوبر عام 1933 كانت مما يوجب أشد الأسف فقد تبدو حركة ضئيلة إذا قارنها باتساع مأساة الكفاح بين الصهيونية والقومية العربية)
الاتجاه القومي:
والاتجاه الضروري الآخر الذي يبدو في البلاد الإسلامية هو الاتجاه القومي، وهو يظهر بشكل أقوى في أفريقيا الشمالية، والواقع أن (البلاد العربية) تفكر تفكيراً غامضاً في الوحدة، أي في تحقيق أمة عربية. بينما تجد بلاد أفريقيا الشمالية تظهر الرغبة من تلقاء نفسها - كمصر مثلً - في أن تبقى أمماً مستقلة. والواقع أن حوادث العراق وفلسطين يصل صداها مباشرة إلى دمشق، كما أن اليمن - على رغم اختلاف الجو والحياة المادية والعقائد الدينية - قد تكون من الناحية السياسية أقل بعداً عن سوريا من بعد مراكش عن الجزائر
أفريقيا الشمالية:
إن حوادث أفريقيا الشمالية قليلة وغير معروفة. وهي بذلك تترك المجال للأقاويل التي تدخلها الأغراض، وللحملات الصحفية التي تصول فيها الشهوات السياسية لأحزاب اليسار واليمين. ولا تزال المعلومات في الوقت الحاضر سيئة للغاية فيما يتعلق بالاضطرابات التي حدثت أثناء الحرب في مراكش والجزائر وتونس، ومع ذلك فإن مسألة باتنا لا تزال على حرارتها حيث فقد هناك وكيل المديرية حياته
ولتعويض الأعمال المجيدة التي قامت بها الفرق الوطنية في ساحات القتال أثناء الحرب العظمى منحت حكومة كليمنصو سكان أفريقيا الشمالية وعودا لم تنفذ لسبب من الأسباب، ولقد اعترف المقيم العام مسيو بيروتون للنائب الاشتراكي مونيه فقال: (الواقع أن من(98/36)
سبقوني قد تركوا الحبل كله على الغارب. ولقد وجدت من اللازم أن يصلح كل شئ من جديد سواء من جهة الخطة السياسية أو من جهة الخطة الاقتصادية)
وقد كان مسيوب. هيريكور يجمع هذه الشكوى التي تقول: (ألا تعتقدون أن أولئك الذين هم منا والذين دفعوا ضريبة الدم ليس لهم بعض الحق في أن يتألموا لكرامتهم حيت يرون أنفسهم يعاملون معاملة الأهل الضعفاء وسط الجالية الفرنسية ذات الصدر الواسع بالنسبة للإيطاليين والأسبان والمالطيين بل وحتى الألمان؟) وبالرغم من اختلاف وجهات النظر الذين ينتقدون السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا فإنهم متفقون على أنه ليست هناك وحدة ما في إدارة الجزائر وتونس ومراكش. ولقد حدثت محاولة واحدة بعد الحرب للوصل بين هذه الأدارات، على أنها لم تتلها أخرى. وهذا هو أحد أسباب الضعف الخطير أمام ثورة الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، ويضاف إلى ما سبق أن أعباء دولية تثقل تونس لأن السياسة الإيطالية ما تزال على نشاطها، وتثقل مراكش لأن للمصالح البريطانية أهميتها. ومن الآن يظهر أن إنكلترا سوف تطلب تعويضاً من مراكش الإسبانية عند احتمال تركها لجبل طارق
اضطراب شمال أفريقيا:
في خلال عام 1934 قامت في تونس والجزائر ومراكش سلسلة من الحوادث والاضطرابات والثورات يجد المرء تفصيلاتها في مجلة (أفريقيا الفرنسية) التي بينت في عدد سبتمبر أخطاء حكومة الجمهورية بقولها: (عندما تكونت الجبهة المعادية لفرنسا بشكل كتلة عربية، كانت تقابل على الدوام بسياسة تشتيت الجهود والمجاهرة بالعداء للأقاليم الفرنسية وتصديق الأخبار الكاذبة الخاصة بحالة هذه الأقاليم. . . إن المسئولية الكبرى فيما يتعلق بحالة القلق في شمال أفريقيا ترجع إلى باريس، فحكومة الجمهورية تغمض عيونها عن المطالب الشرعية التي تقتضيها الحالة الاقتصادية في شمال أفريقيا، ويجب ألا ننسى أن أفريقيا الشمالية قد أصبحت العنصر الأساسي في حياة الجمهورية الاقتصادية)
في الجزائر:
إن الجزائر هي مركز المصالح الفرنسية والنشاط الفرنسي في شمال أفريقيا. فإذا هدد(98/37)
المركز عرض كل شئ في تونس ومراكش للخطر. وقد قال أحد العلماء الذين هم على جانب كبير من الخبرة في هذه المسألة ما يأتي: (إن أهمية الجزائر لفرنسا أكثر من أهمية الهند لانجلترا، لكن الواقع أن الهند بالنسبة للإمبراطورية البريطانية مصدر قوة، بينما الجزائر تصبح من حيث القوة أمة من الدرجة الثانية)
ولقد كانت الحوادث الدموية التي شبت في الخامس من أغسطس شيئاً جزئياً استغلته الأحزاب السياسية. فصحافة اليسار قالت إنها حركة موجهة ضد اليهود، بينما اعتبرت صحافة اليمين مرسوم كرميو الذي يمنح عدداً كبيراً من اليهود الجنسية الفرنسية عملاً إجرامياً. والواقع أن مرسوم كرميو لم يقابله المسلمون عند إعلانه مقابلة سيئة، والربا هو إحدى النكبات الكبرى التي تضني الجزائر، وهو مهنة نمت على يد اليهود الجزائريين، ولكنها الآن تسير بنجاح في شمال أفريقيا بواسطة أفراد ليسوا من اليهود. هذه الضروب المختلفة من الشطط تعرض للخطر شيئاً فشيئاً أبناء المستعمرات الفرنسية وفرنسا نفسها. وإذا أضفنا إلى ذلك أثر الأزمة الاقتصادية كان لابد لهذه الحالة من أن تنتهي بالمذابح. ومن الغريب أن الحكومة التي من واجبها السهر على النظام والعدالة والرخاء لا تجد إلى الآن وسيلة لوضع نظام للأقراض يضع حداً للسلف الصغيرة التي كانت أول ما اهتمت به الحكومة الإنجليزية في مصر
السياسة البربرية:
يعيش في أفريقيا الشمالية مليون من الفرنسيين لا يمكن أن
يتركوا وسط عدد من السكان الوطنيين يبلغ اثني عشر مليوناً.
فيجب أن توجد طريقة للتوفيق بين فريقين مختلفين حتى
يستطيعا الحياة. ولقد حاول بعضهم إيجاد سياسة خاصة ببلاد
البربر يقصد بها خلق العداوة بين أهل هذه البلاد وبين العرب
وذلك عملاً بالمبدأ القائل: فرق تسد. وبناء على تقرير مسيو(98/38)
ماسينيون السنوي يوجد 29 % من البربر في الجزائر، و60
% في مراكش، و12 % في تونس. على أن الالتجاء إلى
سياسة بذر الشقاق لم تأت كما سمعنا بإحدى النتائج المنتظرة.
ولقد كان ظهير عام 1930 مبعث الاضطرابات التي انبعثت
من ذلك الوقت في مراكش؛ ومؤهلات المسلمين في شمال
أفريقيا تحتم أن تكون الثقافة هناك عربية محضة. وعلى ذلك
فالقوانين في بلاد البربر بدائية، وبعبارة أخرى متأخرة جداً
بالنسبة للقوانين في سائر البلاد الإسلامية فالمرأة مثلاً بموجب
القوانين في بلاد البربر سلعة من السلع، وهي تعتمد على
والدها الذي يستطيع أن يبيعها، وعلى زوجها الذي يملك
طردها، وعلى أشقائها الذين يمكنهم إنزال العقاب بها. لذا كان
من الوهم الاعتقاد بأن البربر يستطيعون أن يصبحوا فرنسيين
دون أن يصلوا أولا إلى ما وصل إليه المسلمون. وتطبيق ما
يسمى السياسة البربرية لا يمكن أن ينتج غير بقاء الاعتقادات
البالية واستمرار العادات الماضية
المعارضة الوطنية:
يكاد ينحصر البربر المقيمون بالجزائر في بلدة قابلية وقد اقترح إنشاء إقليم رابع لهم، على أن هناك عوائق لابد من انتظار حل لها، وهي أن التعليم غير كاف، وسكان(98/39)
المستعمرات لا يتعلمون العربية، كما أن هناك هوة تزداد تدريجياً بين الفرنسيين وأهل البلاد. ولقد كان هؤلاء مخلصين حتى عام 1930 وخصوصاً المتعلمون الجزائريون وعددهم 20 ألفاً. ويرى أكفأ الخبراء أن عدم السماح لهم بالتجنس بالجنسية الفرنسية كان خطأ بيناً. ولكن هل هذا صحيح؟ إننا لا نستطيع أن نعطي رأياً قاطعاً. على أن الواقع أن الاحتفالات بمرور مائة عام على احتلال الجزائر لم تحمل لأهل البلاد إلا خطباً فارغة. ومنذ أربعة أعوام لم يتحقق إصلاح واحد من الإصلاحات التي طلباها أو وعد بها أهل البلاد. ولذا ابتدأت المعارضة وشجعتها الأزمة الاقتصادية. فحمل (الوفد)، وهو الحزب الوطني، إلى باريس شكواه من الحكومة العامة، وأحيت جمعية العلماء المسلمين الثقافة العربية بين جماهير الشعب. والنتيجة أن سكان المستعمرات يزداد قلقهم تدريجياً، وأهل البلاد يتفاقم تذمرهم، والحكومة المركزية لم تصل إلى تسوية الحالة
في تونس:
إن معلومات الصحافة عن الاضطرابات التي قامت في سبتمبر عام 1934 سيئة. وقد شكت مجلة (أفريقيا الفرنسية) من (العقبات التي تصادفها الأخبار الواردة من تونس) في النصف الأول من شهر سبتمبر. وفي أوائل يونيو أكد البيان الرسمي للجنة المستعمرات في مجلس النواب أن تونس (تسير في الطريق السوي) وبعد ذلك بشهر عرف أن الجرائد (الخطرة) قد عطلت، وأن تذمراً هائلا يسود الموظفين والعمال والفلاحين. وإن السكان الوطنين محرضون على الامتناع عن دفع الضريبة. ومن الجلي أن المتطرفين من الدستوريين الحديثين يريدون بذلك التغلب على الأحرار الدستوريين. وفي 3 سبتمبر اتخذ المقيم العام عقوبات صارمة. فتكاثرت الحوادث وقامت المظاهرات الصاخبة أمام دار المقيم، وأغلقت الحوانيت وحدثت الاضطرابات، وهوجمت الفرق الحربية وشبت الحرائق. وحدث في موكنين حادث خطير نسبياً حيث هاجم الثائرون عساكر البوليس، فعطلت الجرائد المتطرفة
ولا يكفي أن تلقى تبعة اضطرابات شمال أفريقيا على الدعاية الشيوعية. فالواقع أن التذمر العام له أسباب محلية أكثر عمقاً، هي أسباب سياسية واقتصادية. لكن الواضح أن اضطراب البلاد الاقتصادي والفكري قد استغلته الدعايات الخارجية من الشيوعية وغيرها.(98/40)
والحقيقة أن المقيم العام في تونس أعلن في 14 سبتمبر قرارات لغرض تسوية الديون الزراعية وتعطيل الإجراءات القضائية ووقف الحجوز. وعهد إلى خمس لجان تحكيم بحث موقف المدينين المعسرين. وأعظم نقص في السياسة المتبعة في تونس أنها تتحول مرة واحدة من لين شديد إلى قسوة شديدة. فهناك يباح كل شطط يرتكبه المرابون ونقابات الموظفين إلى أن يأتي يوم تجد فيه الحكومة نفسها مرغمة على الالتجاء إلى الشدة. وتلك هي السياسة المرتكبة التي مآلها الفشل العظيم
في مراكش:
ومراكش ليست محرومة هي الأخرى من الفضائح، فهناك حكاية حي مراكش المحجوز أو - من الناحية الاقتصادية - المضاربات على القمح الذي قدر بستة وثلاثين فرنكا، واشترى بخمسة وعشرين، ثم بيع ثانية للرباط بمائة وعشرة فرنكات مع كل ضروب المجاملة التي يؤسف لها.
ويظهر أن حكومة المقيم العام قد أخذت تشعر، ولكن - كما تقول مجلة أفريقيا الفرنسية - (إذا لم تحقق هذه الآمال وخصوصاً القضائية والمالية فلا بد من عودة الأيام العسيرة)
النتيجة:
والنتيجة أن شمال أفريقيا يعاني نقصا في وحدة الإدارة، وكذلك يعاني - كحكومة الجمهورية - نقصاً في السلطة. وهو يعاني أيضاً من نظام الإنتاج والتبادل الذي يرتكز كما هو واضح على مذهب الحرية. والواقع أن تدخل السياسة في الأعمال ينتج أثرين: يساعد المصالح الخاصة على حساب المجموع، ويعارض تطور القوانين اللازم منذ الحرب. إن من الواجب وجود توازن بين حقوق حكومة الجمهورية وآمال أهالي البلاد؟
ع. ك(98/41)
استدراكات وتصويبات
1 - اطلعت في العدد 96 من (الرسالة الغراء) على المقال البحاث المؤرخ السيد محمد عبد الله عنان عن (الحاكم بأمر الله) فرأيته يسمى صاحب (مرآة الزمان) (ابن قزأوغلي)، ولعل ذلك تصحيف وقع في الكثير من الكتب ككشف الظنون، والنجوم الزاهرة، والأعلام وغيرها، وصوابه (فرغلي) كما في نسخة قديمة من الوافي بالوفيات، ووفيات الأعيان لابن خلكان حيث نص عليه بما يوافق ما قاله الزبيدي في شرح القاموس، ويعلل بعضهم لصحة (قزأوغلي) بأنه ابن البنت في اللغة التركية، وغفل عن أن ابن البنت هو السبط نفسه لا أبوه (فرغلي)، كما ترى ذلك مبسوطاً في شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) في ترجمة سبط ابن الجوزي يوسف بن فرغلي صاحب مرآة الزمان وغيرها
2 - وورد في العدد نفسه من (الرسالة الجليلة) في (باب القصص) مقالة فيها (قبرص) بالصاد، وهو غلط فاش بين الناس غالب على أقلامهم، وصوابه (قبرس) بالسين كما قيده ياقوت في معجم البلدان والفيروز إبادي في القاموس وغيرها
3 - وتقدم في عدد سابق من (الرسالة) أيضاً الكلام على المدرسة (السميساطية) في دمشق الشام فجاءت محرفة، وهي تنسب إلى أبي القاسم السميساطي حيث كانت داره فوقفها على الفقراء المؤمنين والصوفية ووقف علوها على الجامع الأموي الملاصق لها، وسميساط بضم السين للهملة الأولى وفتح الميم والسين الثانية بينهما مثناة تحتية وآخره طاء مهملة بلد بالشام. وواقف المدرسة المذكورة كان من أكابر الرؤساء والمحدثين بدمشق، بارعاً في الهندسة والهيئة، صاحب حشمة وثروة واسعة، عاش ثمانين سنة وتوفي سنة 453 كما في شذرات الذهب ومعجم البلدان وغيرها
أبو أسامة(98/42)
أبو سيلمان الخطابي
319 - 388 هـ
بقلم برهان الدين محمد الداغستاني
إذا تصفحنا كتب غريب الحديث المؤلفة بعد القرن الرابع الهجري أو قرأنا شرحاً من شروح كتب الحديث المشهورة - وجدنا اسم الخطابي ورأيه بارزين واضحين، يكفي لمن يريد تأييد رأي على آخر أن ينقل عن الخطابي ما يؤيده كما يكفي من يريد الاحتجاج على أمر أن يذكر رأي الخطابي فيه حتى يتم له ما أراد
وقد درج الكثير من المؤلفين والرواة عنه على الاكتفاء عند ذكر اسمه بالخطابي، وسواء أكان اقتصارهم هذا لشهرته عندهم أم لعدم معرفتهم اسمه الحقيقي، فقد كان سبباً من أسباب الخلاف الطويل حول اسمه الذي سمي به
وقد خدم الخطابي رحمه الله اللغة العربية وعلم الحديث بنوع خاص - بما كتبه في غريب الحديث وإصلاح خطأ المحدثين وشرحي البخاري وسنن أبي داود خدمة جليلة فوق ما كتبه في فنون أخرى. حتى لقد أصبحت كتبه من بعده مصادر لمن أتى بعده يأخذ منها ويعتمد عليها، غير أن أكثر كتبه مفقودة الآن لا يعرف غير أسمائها ككثير من كتب الأقدمين من علمائنا الأعلام وسأحاول - بقدر الإمكان - أن أصور للقارئ الكريم صورة واضحة جليلة لأبي سليمان الخطابي البستي في هذه الكلمة الوجيزة
اسمه ومولده ونسبه
هو حمد (بفتح الحاء وسكون الميم) بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي، كذا ذكره النووي في طبقات الشافعية والحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وعبد الجبار الهروي في تاريخ هراة والحاكم ابن البيع في كتاب نيسابور وابن خلكان في وفيات الأعيان والسبكي في طبقات الشافعية وهو الصواب وعليه المعول، فقد سئل الخطابي نفسه عن اسمه فقال: (اسمي الذي سميت به حمد ولكن الناس كتبوه أحمد فتركته عليه)
ووهم الثعالبي في اليتيمة وأبو عبيد الهروي صاحب كتاب الغريبين والوزير المؤرخ جمال الدين القفطي في أنباه الرواة في أنباه النحاة حيث سموه أحمد(98/43)
ولد الخطابي في رجب سنة تسع عشر وثلثمائة بمدينة بُستْ (بضم الباء وسمون السين) وهي من بلاد كابل عاصمة الأفغان، بين هراة وغزنة، كثيرة الأشجار والأنهار، وكما اختلف الذين ترجموا في نسبته. إلى من هذه النسبة (الخطابي)؟ فياقوت في إرشاد الأريب (معجم الأدباء)، والسيوطي في بغية الوعاة، والسمعاني الأنساب يذكرون بأنه من ذرية زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي آخى عمر بن الخطاب مقتصرين عليه، بينما ابن خلكان والسبكي والشيخ محمد الأنصاري البهنسي في الكافي يقولون: أنه منسوب إلى جد أبيه الخطاب، ثم يقولون: وقيل إنه من ذرية زيد بن الخطاب آخى عمر رضي الله عنه
شيوخه وتلاميذه
تفقه الخطابي على الأمام الجليل محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي الكبير والقاضي الإمام أبي علي بن أبي هريرة وسمع الحديث من أبي سعيد بن الأعرابي بمكة، وأبي بكر بن داسة بالبصرة، وإسماعيل الصفار ببغداد، وأبي العباس الأصم بنيسابور، وتأدب أخذ اللغة عن أبي عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي المعروف بغلام ثعلب، وسمع من أحمد بن سليمان النجار، وأبي عمر السماك، ومكرم القاضي، وجعفر الخلدي، وأبي جعفر الرزاز وأخذ عنهم
وسمع من الخطابي وروى عنه الإمام الفقيه الشيخ العراق أحمد ابن محمد بن أحمد الأسفراييني، والحاكم أبو عبد الله محمد بن البيع النيسابوري، وأبو عبيد الهروي صاحب كتاب الغريبين، وعبد الغفار بن محمد لفارسي، وأبو القاسم عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي، وأبو نصر محمد بن أحمد البلخي الغزنوي، وأبو مسعود الحسين بن محمد الكرابيسي، وأبو عمر محمد بن عبد الله الزرجاهي وخلق كثير غيرهم
مكانته العلمية وثناء الناس عليه
كان الخطابي رحمه الله تعالى عالماً أديباً زاهداً ورعاً حسن التدريس والتأليف، إماماً في اللغة والفقه والحديث، ثقة متثبتاً من أوعية العلم، حجة صدوقاً من كبار أئمة الشافعية. رحل في طلب العلم إلى العراق فسمع ببغداد والبصرة والحجاز وجال خرسان وخرج إلى ما وراء النهر، كريماً يتجر في ماله الحلال وينفق على الصلحاء من إخوانه(98/44)
قال أبو منصور الثعالبي: كان يشبه في عصرنا بأبي عبيد القاسم بن سلام في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً إلا إنه كان يقول شعراً حسناً وكان أبو عبيد مفحماً
وقال أبو المظفر السمعاني: كان الخطابي حجة صدوقاً رحل إلى العراق والحجاز وحال خراسان وخرج إلى ما وراء النهر، وكان يتجر في ملكه الحلال ويتفق على الصلحاء من إخوانه. وقال أيضاً: كان من العلم بمكان عظيم وهو إمام من أئمة السنة صالح للاقتداء به والإصدار عنه
وقال الذهبي: كان ثقة مثبتاً من أوعية العلم قد أخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد ببغداد، والفقه عن أبي علي بن أبي هريرة والقفال، وله شعر جيد
وقال ابن خلكان. كان فقيهاً أديباً محدثاً له التصانيف البديعة، وعدد كتبه ثم نقل عبارة الثعالبي المتقدمة
وقال ياقوت: قد أخذ العلم عن كثير من أهله ورحل في طلب الحديث وطوف وألف في فنون من العلم وصنف وقال النووي في طبقات الشافعية له: حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الفقيه الأديب أبو سليمان الخطابي البستي صاحب التصانيف المتداولة. قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري أقام عندنا بنيسابور سنين وحدث بها، كثرة الفوائد من علومه وقال الشيخ شرف الدين البهنسي في الكافي: ألو سليمان الخطاب من الأئمة الأعلام المجتهدين في قواعد الأحكام. كان رحمه الله فقيهاً محدثاً أصولياً جمع بين الحديث والفقه، ومد في تحقيق العلم باعاً مديداً، وأحكم من مبانيه ركناً شديداً حتى قلد أعناق أهل العلم المنن
وأورد النووي في طبقات الشافعية هذه الأبيات الثلاثة:
أخ تباعد عني شخصه ودنا ... معناه مني فلم يضعن وقد ضعنا
أبا سيلمان سر في الأرض أو فأقم ... بحيث شئت دنا مثواك أو شطنا
ما أنت غيري فأخشى أن تفارقني ... قد بت روحك يا روحي فأنت أنا
وقال إنها لأبي الفتح علي بن محمد البستي قالها في أبي سليمان الخطابي؛ وياقوت في معجم الأدباء ذكر البيتين الأخيرين هكذا:
أبا سليمان سر في الأرض أو فاقم ... فأنت عندي دنا مثواك أو شطنا(98/45)
ما أنت غير فأخشى أن تفارقني ... قدبت روحك بل روحي فأنت أنا
وقال إنهما من شعر الثعالبي في الخطابي. والظاهر أن هذه الأبيات من شعر الثعالبي فس شيخه وصديقه أبي سليمان، فقد كانت بينهما صلة وثيقة نلمسها في شعر الخطابي نفسه الذي يقوله في الثعالبي بعد مفارقته، فقد قال فيه:
قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين يستقري البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذبة ... منها التقي والنهي والحلم ينتسخ
وفاة ورثاؤه
أكثر الذين أرخوا وفاة الخطابي يؤرخونها سنة ثمان وثمانين وثلثمائة من غير تعيين يوم أو شهر، إلا أن الذهبي قال ليست في ربيع الآخر، والسبكي يقول في ربيع الآخر من دون تعيين يوم، وابن خلكان يقول كانت وفاته في شهر ربيع الأول وجاء في معجم الأدباء: نقلت من خط أبي سعيد السمعاني قال نقلت من خط الشيخ ابن عمر توفي الإمام أبو سليمان الخطابي ببست في رباط على شاطئ هندمند يوم السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وثلثمائة، ومع اختلافهم في سنة وفاته على ما سبق ذكره فهم متفقون على أنه توفي ببست كما اتفقوا على أنه ولد فيها أيضاً
ولما مات الخطابي رثاه تلميذه وصديقه أبو منصور الثعالبي فقال:
انظروا كيف تخمد الأنوار ... انظروا كيف تسقط الأقمار
انظروا هكذا تزول الرواسي ... هكذا في الثرى تغيظ البحار
ورثاه أبو بكر عبد الله بن إبراهيم الحنبلي أيضاً فقال:
وقد كان حمداً كاسمه حمد الورى ... شمائل فيها للثناء ممادح
خلائقٌ ما فيها معاب لعائب ... إذا ذكرت يوماً فهن مدائح
تغمده الله الكريم بعفوه ... ورحمته والله عاف وصافح
ولازال ريحان الإله وروحه ... قرى روحه ما حن في الأيك صادح
تآليفه:
ليس الخطابي من المكثرين في التأليف لكنه من المجيدين فيما ألف. فمن تآليفه القيمة:(98/46)
1 - (معالم السنن) في شرح سنن أبي داود شرح فيه غريب اللغة وبين وجوه الأحكام التي تأخذ من الأحاديث الواردة في السنن وذكر أقوال العلماء وآراء الفقهاء بلفظ جزل، وأسلوب سهل، وعبارة موجزة، قال في مقدمته: (ورجوت أن يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث ونهجته من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاء ذلك إلى طلب الحديث وتتبع عمله، وإذا تأمله صاحب الحديث رغبة في الفقه وتعلمه)
2 - (غريب الحديث) ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبي ولا ابن قتيبة في كتابيهما وهو كتاب ممتع مفيد، في غاية الحسن والبلاغة
برهان الدين محمد الداغستاني(98/47)
3 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ترجمته:
كان المسلمون حينما ثاروا ثورتهم على بني مروان ينشدون في بني العباس حكماً يعيد لهم عهد الخلفاء الراشدين، ويكون خليفتهم فيه كأحدهم لا يؤثر نفسه بشيء من أمور الدنيا عليهم، ولا يأخذ لنفسه من أموال الدولة إلا ما يفرضونه له منها، كما فرضوا لأبي بكر وغيره، فلم يحقق لهم بنو العباس كل هذا الرجاء، بل ظهروا بأبهة الملك التي كان يظهر بها بنو مروان، واستأثروا لأنفسهم بأموال الدولة، وجعلوها ملكاً لهم ينفقون منها في مصالح المسلمين ما تجود به أنفسهم، وما يبقى بعد حاجتهم، وحاجات أهل بطانتهم وحاشيتهم، وكذا أهل الملق من الشعراء والندماء ومن إليهم، ولم يحققون للمسلمين من كل ما أملوه فيهم إلا هذين الأمرين المهمين: المساواة بين الشعوب الإسلامية في حكم الدولة، وتحضير الدولة الإسلامية بالثقافة العلمية الواسعة التي أحسنوا البلاء فيها
وقد انقسم المسلمون في شأن هذه الدولة بعد قليل من ظهورها إلى قسمين: فتجافاها أهل الورع منهم وأبوا أن يتولوا أعمالها، وسار معها جمهور المسلمين في ذلك السبيل الذي سارت فيه، واستولى عليهم اليأس من ذلك المثل الأعلى في الحكم الذي كان على عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ثم أقبلت الدنيا عليهم فانغمسوا فيها أيما انغماس، وتفننوا في أنواع التلذذ بها أيما تفنن، وكادوا ينسون الآخرة كما نسيها من كان قبلهم، فكانوا في أشد حاجة إلى شاعر ملهم يوقظهم من تلك الغفلة القاتلة، ويؤدي في الشعر رسالته التي يجب أن يؤديها في كل عصر على الوجه الذي يتطلبها، وكان لهم ذلك في شاعرنا أبى العتاهية
ولد أبو العتاهية سنة ثلاثين ومائة من الهجرة قبل قيام الدولة العباسية بسنة أو سنتين، ونشأ بالكوفة ولكن أصله من عين التمر، وأبو العتاهية لقبه، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة، وكان خالد بن الوليد قد سباه مع جماعة صبيان من أهل عين التمر، فوجه بهم إلى أبي بكر، وكانوا أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، ففرقهم في أهل البلاد والأمصار، فاعتنقوا الإسلام وأعتقهم مواليهم، فكان لهم أثر صالح في العلم والأدب،(98/48)
ونبغ من أولاًدهم جماعة كانوا من أكابر رجال العلم والسياسة والحرب، مثل موسى بن نصير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن إسحاق. وكان كيسان جد أبي العتاهية من نصيب عباد بن رفاعة العنزي، لأنه سمعه حين سأله أبو بكر عن نسبه يذكر له أنه من عنزة، وكان يكفله في عين التمر قرابة له منهم، فاستوهبه عباد من أبي بكر ثم أعتقه فتولى عنزة؛ وكان بنوه يزعمون أنهم منها ويكرهون من ينسبهم إلى النبط الذين كانوا يسكنون عين التمر، ولكن الظاهر أن أصلهم منهم، لأنهم كانوا يحترفون بالكوفة من صنعة الجرار ما كانت تأباه فطرتهم لو كانوا عرباً
وقد نشأ أبو العتاهية بالكوفة بين أسرته يعمل الجرار معهم، ولم يذكر الرواة أنه اشتغل بالتعليم في صغره، ولكن الظاهر من أمره أنه اشتغل بقدر منه كان له عوناً في الحياة التي آل إليها أخيراً أمره؛ وكان بالكوفة طائفة من خلفاء الشعراء وأهل المجون والمخنثين، وناهيك بشاعرها والبة بن الحباب الأسدي وما بلغ إليه في الخلاعة والعبث، وهو في ذلك أستاذ أبي نؤاس وغيره، فاتصل أبو العتاهية بتلك الفئة اللاهية، وأطلق لنفسه في ذلك عنانها، فوصل فيه إلى غايته، وتخنث وحمل زاملة؛ وأخذ عنهم شعرهم الخليع في التغزل والمجون وما إليهم، فنبغ فيه، واشتهر به أمره، وكان الأحداث والمتأدبون يأتونه وهو جرار فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيه
ثم قصد بغداد في عهد المهدي ليتصل بأمرائها. ويستفيد بشعره عندهم، وكان ثالث ثلاثة فتيان شباب أدباء، ولم يكن لهم ببغداد من يقصدونه، فنزلوا غرفة بالقرب من الجسر، وكانوا يبكرون فيجلسون بالمسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بهم يوماً امرأة راكبة، معها خدم سودان، فقالوا من هذه؟ قالوا خالصة، فقال أحدهم: قد عشقت خالصة، وعمل فيها شعراً فأعانوه عليه، ثم مرت بهم أخرى راكبة، معها خدم بيضان، فقالوا من هذه؟ قالوا عتبة، فقال أبو العتاهية: قد عشقت عتبة؛ ولم يزالوا كذلك إلى أن التأمت لهما أشعار كثيرة فيهما، فدفع صاحب خالصة بشعره إليها، ودفع أبو العتاهية بشعره إلى عتبة، وألحا في ذلك إلحاحاً شديداً، فمرة تقبل أشعارهما، ومرة يطردان، إلى أن صح عزم الجارتين على امتحان عاشقيهما بمال على أن يدعا التعرض لهما، فإن قبلا المال كانا مستأكلين، وإن لم يقبلاه كانا عاشقين، وكان لهما معهم شأن في الحالين. فلما كان الغد مرت(98/49)
خالصة فعرض لها صاحبها، فقال له الخدم اتبعنا فتبعهم؛ ثم مرت عتبة فعرض لها أبو العتاهية، فقال له الخدم اتبعنا فتبعهم؛ فمضت به إلى منزل خليط لها بزاز، فلما جلست دعت به فقالت له: يا هذا إنك شاب وأرى لك أدباً، وأنا حرمة خليفة، وقد تأنيتك فأن أنت كففت وإلا أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ثم لم آمن عليك. فقال لها: فافعلي بأبي أنت وأمي، فإنك إن سفكت دمي أرحتني، فأسألك بالله إلا فعلت ذلك إذ لم يكن لي فيك نصيب، فأما الحبس والحياة ولا أراك فأنت في حرج من ذلك. فقالت: لا تفعل يا هذا وأبق على نفسك، وخذ هذه الخمسمائة الدينار وأخرج عن هذا البلد. فلما سمع ذكر المال ولى هارباً. فقالت ردوه، وألحت عليه فيها فقال: جعلت فداك ما أصنع بعرض من الدنيا وأنا لا أراك، وإنك لتبطئين يوماً واحداً من الركوب فتضيق بي الأرض بما رحبت. فزادت له ذلك إلى ألف دينار، فجاذبها مجاذبة شديدة، وقال لها: لو أعطيتني جميع ما يحويه الخليفة ما كانت لي فيه حاجة، وأنا لا أراك بعد أن أجد السبيل إلى رؤيتك. ثم خرج فجاء الغرفة التي كانوا ينزلونها فإذا صاحبه مورم الأذنين، وقد أمتحن بمثل محنته، فلما مد يده إلى المال صفعوه، وحلفت خالصة لئن رأته بعد ذلك لتودعنه الحبس، فأستشار أبا العتاهية في المقام فقال له: اخرج وإياك أن تقدر عليك
ثم التقتا فأخبرت كل واحدة صاحبتها الخبر وأحمدت عتبة أبا العتاهية، وصح عندها أنه محب محق. فلما كان بعد أيام دعته إليها وقالت له: بحياتي عليك - إن كنت تعزها - إلا أخذت ما يعطيك الخادم فأصلحت به من شأنك، فقد غمني سوء حالك، فأمتنع أبو العتاهية من ذلك؛ فقالت له: ليس هذا مما تظن، ولكني لا أحب أن أراك في هذا الزي، فقال لها: لو أمكنني أن تريني في زي المهدي لفعلت ذلك، ثم أقسمت عليه فأخذ الصرة فإذا فيها ثلاثمائة دينار، فاكتسى كسوة حسنة، وأشترى حماراً يركبه، وحسن بها حاله
وهذه الرواية تعطينا أن أبا العتاهية كان صادقاَ في حب عتبة التي شبب بها في شعره، وتوله بها فيه إلى أن اقلع عن ذلك فيما سيأتي من نسكه، وربما يكون ذلك كله حسن حيلة منه، وهو ما كان يراه فيه ابنه عتاهية، وقد روي عنه أن أباه إنما أقبل إلى بغداد ليمدح المهدي، ويجتهد في الوصول إليه، فلما تطاولت أيامه أحب أن يشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم، تتصرف في حوائج الخلافة تعرض لها،(98/50)
وأمل أن يكون تولعه بها هو السبب المصل إلى حاجته، وأنهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتفرد بذكرها، وإظهار شدة عشقها، وكان أول شعر قاله فيها:
راعني يا زيد صوتُ الغراب ... بحذاري للبين من أحبابي
يا بلائي ويا تقلقل أحشا ... ئي وتعْسي لطائر نعَّاب
أفصح البينُ بالنعيب وما أف ... صح لي في نعيبه بالإياب
فاستهلت مدامعي جزعاَ من ... هـ بدمع ينهل بالتسكاب
ومُنعتُ الرقادَ حتى كأني ... أرمدُ العين أو كحلتُ بصاب
قلت للقلب إذ طوى وصل سع ... دي لهواه البعيد بالأنساب
أنت مثل الذي يفر من القط ... ر حذار الندى إلى الميزاب
والذي أرجح من ذلك رأى عتاهية، لأنه أدرى بأبيه، ولأن عتبة لم تصدق في حبه حتى يصدق في حبها، وإنما كانت تتخذه للإعلان عنها لتنافس بذلك أترابها من جواري المهدي، وقدهم المهدي يوماَ بعد اتصاله به أن يدفعها إليه فجزعت وقالت: يا أمير المؤمنين: حرمتي وخدمتي! أتدفعني إلى رجل قبيح المنظر، بائع جرار، ومتكسب بالشعر؟ فأعفاها منه. ولم يكن أبو العتاهية إلا رجلاَ تاجراَ لا يهمه الحب، وهو لم يقصد بغداد إلا من أجل المال كما سنبينه بعد.
عبد المتعال الصعيدي(98/51)
كلفت فكرا عسرا
للأستاذ فخري أبو السعود
ما خِلْتُ ذَا الفِككْرِ بالتفكير ينتفع ... كلُّ المذاهبِ إِنْ قلَّبْتَهَا شَرَعُ
كلٌّ له مذهب في العيش يُؤْثِرُهُ ... ولستِ تعلم ما الحُسنى وما البِدَع
كلَّفْتَ فِكْرَك عُسراً إن طمحتَ به ... إلى يقينٍ لديه الريبُ ينقطع
يَمُّ الحياة يُضِلُّ الفكرَ مُلتَطِم ... مِنْ مَوْجِهِ هائلُ الأثباج مُندفع
تَظَلُّ فيه وجوهُ الرَّأي ساهمة ... حَيرى مفرَّقةَّ من حيث تجتمع
لَكَمْ تَفَكَّرْتُ في الدنيا وفي أُمم ... تَفرَّقُوا في فجاج الأرض واصطرعوا
الجبيرُ والشرُّ ما قالوا وما فعلوا ... والنفع والضُّرُّ ما سَنُّوا وما ابتدعوا
يا هل يُراد بهم في أمرهم رَشَدٌ؟ ... أم هل ترى القومَ قد ضلوا بما اتَّبعوا؟
فَشَرَّدَ اللُّبَّ تفكيري وأَجْهَدني ... وما اهتديتُ لأمرٍ فيه مُقْتَنًع
وكلما زدْتُ علماً زدْتُ - وَا أسفي - ... جهلاً، ولم أدْرِ ما آتي وما أدَعُ
فَرُحْتُ أشكو إلى روض الضحى نَصَبي ... فضمَّني منه مُرتادٌ ومُنْتَجَع
ومَرَّ بَرْدُ بنانٍ من نسائمِهِ ... على جبيني فزال الهمُّ والوَجَع
وقال لي الزهرُ: ذا عطري نفحتُ به ... من رام، ليس على من رام يمتنع
وقال لي النهر: ذا مائي النمير به ... - إن رُمْتَ منْتَقَعَاً - للروح منتَقَع
وقال لي الروض: فُزْ بالطيبات ولا ... تحفل بما قاله قومٌ وما اشترعوا
إن رمتَ حقَا فهذا الحسنُ في كَنَفِي ... هو الحقيقةُ لا رَيبٌ ولا خُدَع
مجدَّد النسيج موصول الحُلي أبدا ... يطيب في ظلِّهِ مَشْتى ومُرْ تبَع
وليس يُصلحه قوم إذا رَشَدُوا ... ولن يضيروه - إن ضَلوا - بما صنعوا
يبقى على الدهر مرموقَ السنَى بَهِجاً ... وتنقضي شَيِعٌ في إثرهم شَيِع
فخري أبو السعود(98/52)
خواطر في العلم
للأستاذ محمد الحليوي
العلمُ أصبحَ في أيّامنا صنماً ... وأصبح الجيل من عُبَّادِ ذا الصنم
دينٌ جديدٌ بدت للِقل آيتُه ... فآمن العقل بالآيات والكِلَمِ
عصاهُ بالسحر تُنشى العُدْمَ مُعجِزةً ... وَتبْرئُ الصخْرةَ الصَّماء من صَمَمِ
وتجعَلُ في كلّ آنٍ آيةً عجباً ... وَيَلْبِسُ الواقِعَ المشْهودَ بالحُلم
فَفي الهَبَاءةِ روحُ الكَوْنِ شاَئقةٌ ... وفي القُطَيْرَةُ آزالُ مِنَ النُّظمِ
وَرةُ النّور في إشعَاعِهَا أبَدٌ ... وزَهْرَةُ الحقْلِ لا تَخْلو من الألم
كما فيه من رَحْمةٍ عمَّتْ مراحمُهَا ... نعمْ وكم فيه من بَلْوى من نِقَم
كأنهُ ربُّ (ماني)، في طبيعته ... تصارعت آيةُ الأنوار والظلم
العلمُ لا يُرتجي للحقّ يَرفَعه ... كلا ولا هو يهدي النفْسَ للقُدسِ
الغرْبُ في علمِه ساءت خلائِقُه ... وبات في خُلقْه يمشي إلى خَنَسِ
الغربُ ينعم واللَّذَّات ضاريةٌ ... والحسَ يعرم والأفراحُ في عًرُسِ
والرّوح قَفْرُ فلا إيمان يَعمُرها ... ولا بقينَ يًضيءُ القبَسِ
العلمُ هدَّم أَوْهاما مُحبَّبة ... كانت تقيءُ لها الأرواحُ الغَلَس
العلمُ هل طهَّر الأخلاق فاحترقَتْ ... بنَارِهِ من أصيل اللوْمِ والدنَسِ
العلمُ! هَلْ صَدَّ أقواماً ذَوِى حرس ... أن يستطيلوا على قَومٍ بلا حرسِ
وهل كفى أهلَهُ شتَّى مذابِحهِم ... وكيف بات يسرْ الكَوْنِ في خرسِ؟
كفى هُراءً فإن البحر يُدهشنا ... ونحن لَّما نزلْ في السَّاحل اليَبَسِ
تونس
محمد الحليوي(98/53)
من مآسي الفيضان في العراق
الفلاح المنكوب
للأستاذ أنور شاءول
أًرأَيْتَ الحَقْلَ يُصبي الناظرينْ؟ ... أسَمِعْت الطَّيرَ حولَ الجدوَل؟
ذَاكَ يُحيي السعدَ في القلبِ الحَزينْ ... وَهْي تشدو تَغماتِ الأَملِ
أَنَشِقتَ الزَّهرَ قد فاحَ شذاهْ ... يُتْرِعُ الأرواحَ طيباً مُلُهِماً
فَتُذِيع الرِّيحُ سِراً قد طَواهْ ... في حَناياهُ ولم تَفْتَحْ فَما
أَوَعَى الفكْرُ حدِيثاً قد رواهْ ... بُلْبلٌ حُرٌّ أطالَ النّغما؟
قِصّةُ الفَلاَّحِ رَمْزِ الْبَائسينْ ... قِصَّةٌ تَعْصُرُ دَمْعَ المُقَلِ
سوفَ يَبقى ذِكْرُها في كلَّ حينْ ... وَمكانٍ غَيْمَمةً لا تَنْجلِي!
قد سَقَى الزرعَ صباحاً ومساءْ ... تارةً ماَء وَطوْراً عَرَقا
رمزُهُ في السَّعْي جِدُّ وَعَنَاءْ ... مُنْذُ ما الشَمسُ تُحَيِّ المَشرِقا
أَسًيُولُ الْغَيْثِ أم نارُ ذُكاءْ ... داهَمتْهُ ليسَ يَخشى المُلْتَقَى
مُستعيناً بِبنَاتٍ وَبَنينْ ... وبِزَوْجٍ ذاتِ خُلْقٍ أمثلِ
أُسْرَةٌ تَحْياَ بِمَسفوحِ الجبينْ ... تَرْتَجي الخيرَ جَراَء العملِ
هُو ذَا الزرع، وما أَوْفَرَهُ! ... يَنبئُ الفَلاّحَ بالخيرِ العميمْ
إن تُجِلْ طَرْفاً فلَنْ تحصُرَهُ ... أيْنَ مَنْ يُمكِنُهُ حَصْرُ النجومْ
ناضر الخُضْرَةِ؛ ما أزهَرَهُ؛ ... يُطْرِقُ الرأْسَ إذا هَبَّ نسيمْ
فمتى تُصْبحُ يَا مَرْعَى العيونْ ... ذَهَبيَّ اللَّوْنِ زَاهِي المَخُملِ؟
وَمتى حَبُّكَ يُهْدِي الجائعينْ ... خُبْزَةً تُشْبعُ ذَا الجَوْفِ الخليِ؟
رَقَدَ الفَلاحُ مَقْرُورَ الفؤاد ... حالماً والسَّعدُ في أحلامِهِ
يُبصِرُ الآتيَ مُنْصاعَ القِيادْ ... وَيَرى الأيامَ من خُدَّامِهِ
لا عناءٌ، لا شَقاَءٌ، لا سُهاَدْ ... قلُبهُ حُرِّرَ مِنْ آلامِهِ
يَا لأبناء الرزايا البائسينْ ... يَا لَمخْدوعي الرُّؤى والأملِ
ما دَرَوْا أنَّ اللَّيالي في الكَمينْ ... سوفَ تُصْلِيهِمْ بِخَطْبٍ جَلَل(98/54)
دَوتِ الآفاقُ ليلاً وَالقِفَارْ ... بِصُراخٍ رَدَّدَتْهُ الصَّائحات
قد طَغَى النهرُ فيا قَومُ البَدارْ. . . ... أَنْقِذُوا الأَنْفُسَ. . . صُدُّوا النّكَبَاتْ
أًنْقِذُوا النسوَةَ والوُلْدَ الصِّغارْ ... وَشُيُوخَ الحيِّ مِن قَبلِ الفَواتْ. . .
جنباتُ الكَونِ ضجَّت بالرَّنين ... فكأنَّ الشُّهْبَ حَطَّتْ مِن عَلِ
وتوالت صعقَاتُ الصَّاعقين ... يَستحِثُّونَ الخُطى في وجَلِ
وَزَهاَ الصُّبحُ وفي طلعتِه ... تبسمُ الأنوارُ في الأفق البعيد
إنما الفلاحُ من نَكْبَتِه ... يشتكي لله ذي البَأْسِ الشديد
الأسى والحزُنُ في نَظًرَتِهِ ... واللَّظى في صدرِه حامي الوُقُود
(أين حقلي وحِمَى كُوخي الأمين؟ ... أين زرعي؟ أينْ زاهي الُّنُبلِ؟
قد حواهُ اللُّجُّ مَسْدولَ الجفُون ... قَبْلَما لاقَى بَريق المِنْجَلِ)
ساَرَ والأطَفَالُ نَهْبٌ لِلْبُكاءْ ... وأًنينُ الأمِّ مَسْموعُ النّغَم
وَدَّ لو عادَ قليلاً لِلوراءْ ... إنمَا هَيْهَاتَ إرجاعُ القَدَمْ
أيْنَ يَأْوي؟ هُو ذا قَصرُ عَلاَءْ ... ظاهِرُ الرّونَقِِ، مَلْموس النَّعَم
(أيُّهَا السَّاكِن في القَصرِ الحصينْ) ... هتفَ الفلاّحُ: (هَلْ من مَوْئِلِ؟)
(ليسَ بَيتي مَلجَأً للِشاردين) ... صِرَخَ السَّاكِنُ في القَصر العَلي
بغداد
أنور شاءول المحامي(98/55)
فصول ملخصة من الفلسفة الألمانية
10 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فلسفة نيتشه 1844 - 1900
للأستاذ خليل هنداوي
(عملت على إنجاز كتاب (فلسفة نيتشه) للأستاذ (هنري
ليشتانيرجر)
(خ. هـ)
- 1 -
نيتشه هو ممثل الفكرة الألمانية الجبارة في تاريخها الحديث كما كان (بسمارك) رجلها الحديدي في السياسة. فهما وإن اختلفت منازعهما وتباينت الحقول التي غرسها فيها، فما غرس الاثنان إلا بذور القوة والإرادة في شعب تلقحت دماؤه وأفكاره بمصل القوة والإرادة.
هنالك كلمة تسطرها براعة الفلاسفة والنقاد وتشغل مكاناً من العصر الحديث. هذه الكلمة هي كلمة (الانحطاط الاجتماعي) وفلاسفة الاجتماع لا يرون في هذا الانحطاط شيئاً سياسياً يمكن إصلاح الفاسد فيه، أو اعوجاجاً يمكن تقويمه، بل هو داء عضال قد تأصل في جسم البشرية وتمشى في لحمها وعظمها ودمها فهو لا يذهب إلا بذهابها ولا يتلاشى إلا بانقراضها. ومن هؤلاء المغالين في تشاؤمهم (فردريك نيتشه) الذي نازل العالم كله وحده، وهدم العقائد والتقاليد مستمداً من عقله وقلبه عقائد وتقاليد أسمى منها.
- 2 -
الشخصية في نيتشه
إن من الجور أن ننظر فيما ترك نيتشه من تعاليمه (كمذهب محدود) لأن الرجل لم يعمل على أن يؤلف مدرسة فلسفية، ولم يكن لمثل عقله الوثاب أن يقيد نفسه بقيود ضيقة؛ وإنما هو الثورة المتدفقة التي لا تعرف نظاماً ولا انتظاما يملك عليها الاضطراب في اندلاعها،(98/56)
ويملك على عقله التناقض حتى في الفكرة الواحدة. وإنما الأجدر بنا أن ندرس من فلسفته (الناحية الفردية والشخصية) وهي أبرز نواحي فلسفته جلاء وقوة، لأنها ابنة طبع خاص، وهوى صادق مستقيم إن فلسفة (نيتشه) فلسفة تتجلى فيها (الذاتية) المنقطعة عن الناس. (ماذا يقول لك شعورك؟ يجب أن تكون كما أنت! فينبغي للإنسان أن يعرف نفسه وجسده وحواسه، وأن يمشي بحياته كما تريد ذاته وشخصيته، وأن يغتنم من الفرص أحسن ما يغتنم، ومن المصادفات ما يحقق مطامعه، وبقرب غايته. وأن يصحح - بقدر ما يستطيع - هذه الطبيعة بالفن، ليتسنى له أن يظهر ذاته ويبعث حياته. كلٌ يغترف من هذا المذهب بحسب غريزته وطبيعته؛ إذ لا قواعد ولا أساليب محدودة تصنع لكل إنسان نفسه. فمذهب (عدم المساواة) بين الناس هو من مبادئ نيتشه. إذ ينبغي لكل إنسان أن يخلق بنفسه حقيقته وهدفه وفضيلته؛ فما كان صالحاً للواحد قد يكون ضاراً للآخر. وما كان ضاراً للواحد يكون صالحاً للآخر. وكل ما يستطيع المؤرخ أن يصنعه هو أن يقص تاريخ نفسه، والطريقة التي اكتشف بها نفسه، والإيمان الذي وجد به راحة نفسه. وأن يكون المثال الذي يقتدي به معاصروه للوصول إلى عوالم أنفسهم. . . . ولكنه ليس له بعد هذا كله من مذهب أو من طريق. لأنه لا يود أن يكون راعي قطيع خاضع ذليل
(يقول (زرادشت) لرفاقه الأمناء: (إنني وحدي أذهب يا رفاقي. . . وأنتم وحدكم اذهبوا. . . أنا أريد ذلك
في الحقيقة أعطيكم هذه النصيحة. ابتعدوا عني كثيراً، واحموا أنفسكم من زرادشت. . . وخير لكم أن تخجلوا منه
أنتم تقولون: إنكم مؤمنون به ولكن ماذا يهمه إيمانكم؟ أنتم المؤمنون به، ولكن ماذا يهمه كل المؤمنين؟
أنتم لم تفتشوا بعد عن أنفسكم، ولذلك وجدتموني. هكذا يقول كل المؤمنين، ولهذا أرى أن كل إيمان هو شيء ضئيل. والآن آمركم بأن تفقدوني لتجدوا أنفسكم، وعندما تكفرون بي أعود إليكم في تلك الساعة. . .)
يتميز تيتشه من أصحاب المذاهب الفلسفية بأنه لا يخاطب العقل وحده كما يفعلون، بل يخاطب الإنسان بأسره عقلا وجسداً. فما التفكير عنده والعاطفة إلا أهواء تعبث بها قوة(98/57)
خفية كامنة تصرفها كما تشاء إلى أين تشاء. (إن وراء أهوائك وعواطفك - يا أخي - سيداً (قادراً) وعاقلاً مجهولاً يسمى (الذات) يسكن جسدك، وإنما هو جسدك، فالجسد بما يضم من أعضاء وبما يحتوي على إرادة القوة، ذا ما يدعوه نيتشه (العقل الكبير للإنسان) وأن العقل الحقيقي - وحده - ناقص سريع العطب. تستعين به الذات على بسط قوتها ونفوذها. فإذا أراد إنسان أن يؤثر في آخر فبهذه الذات الخفية وحدها يمكنه أن يؤثر. وكل شيء سواها باطل. ومن اللغو أن تعرض مذهباً فلسفياً بالطرق المنطقية، أو تحدد العقل بالمقاييس التي اخترعها العقل. وإنما هذه الأحكام المنظمة (مجموعة التقاليد المقدسة) محددة الخير والشر، والجميل والقبيح، هي أحكام موضوعة لا ظل لها من حقيقة، ولكن الإنسان هو واضعها ومقدسها. وخيرهم من ساعد على نشر (ذاته) وشخصيته. فالكتاب - مثلاً - إن هو إلا فعل يقوم بقيام شخصية صاحبه، وبكيانه الكامل. فهو ليس بمفكر فحسب بل هو نبي. . . لا يقول للناس (أنا أحمل إليكم الحقيقة العالمية غير المتعلقة بذاتي. ولكنه يقول (ها أنا بما فيّ من إيمان وحقيقة وخطأ، كما أنا. أقول (نعم) للكون، لكل أفراحه وآلامه. فانظروا إن كنتم تجدون أيضاً سعادتكم في هذه الآراء التي وجدت فيها سعادتي)، وبينا يروح غيره من الفلاسفة متباهين (بانسلاخهم عن شخصيتهم نرى نيتشه يجعل من شخصيته مدار فلسفته. . . فلسفته في الحقيقة هي تاريخ نفسه. وزرادشت النبي الذي يكتب عنه بلهجة شعرية مؤثرة هو ذات نيتشه بما يجول في ذاته من رغائب وآمال وأحلام ومن لم يفهم شخصيته لا يفهم فلسفته
- 3 -
صفحة من حياته الأولى:
ولد نيتشه عام 1844 من أسرة يعتقد بأنها أسرة بولونية قديمة ألجأها إلى ألمانيا ما ألجأها. نراه في حداثته مثال السيطرة والاعتماد على الذات وقهر الآلام الجسدية. وقد كان كثير الوفاء والاحترام لأصدقائه برغم ميله الطبيعي إلى العزلة، صارماً في معاملته. لا يميل إلا إلى من يلائم هواه ويوافق مزاجه ولا ينفر إلا ممن طغت الرداءة والشراسة على خلقه. صارم في حديثه، جاد في مزحه. لا يهوى المزح الكاذب مهما كان عنصره. لأن خروج(98/58)
الرجل عن طبيعته في الحياة الخاصة يخرجه عنها ما يخرجه في الحياة العامة. لا يطيب له مجلس العوام ولا الدخول في حلقاتهم. وإنما هو في حياته كما تمثله لنا كتاباته إرادة فولاذية وسيطرة بعيدة. وكأنه جبل من طينة غير طينة البشرية. لا يهوى الضعف ولا الاستكانة ولا يميل إلى الاستسلام. ولعل الكاتب الدانماركي (أبسن) قد رسم شخصية نيتشه في روايته التمثيلية (الراعي براند) الذي كان رجل كل شيء ولا يقفه حائل. لا يشفق على نفسه ولا على غيره. يضحي - بدون وجل - بسعادته في سبيل تتميم إرادته؛ يمشي ولا يتسرب إليه الضعف، دامي القدم، محطم القلب. مخترقاً سبيله، بطلاً أبسل في كل ما يخترق. ولا يزال هذا دأبه حتى يريحه الجنون، وترحمه المنون) مثل نيتشه مثل هذا الراعي رجل كل شيء أو رجل لا شيء. يذهب بإرادته لا يصده صاد ولا يمنعه مانع. وقد تكون هذه البطولة - عند نيتشه - أحد عوامل سروره. كما يكون الاستشهاد عند من يقضي في سبيل وطنه. على أن هنالك (نفوساً شاذة) في هذا المجتمع، ممن يقدر لها أن تحارب التعالم وهي تلم أن في هذه الحرب شقاءها وبلاءها، تراها مضطرة بطبيعة حالها إلى أن تكون ذات قلب شديد وإرادة فولاذية، تستعين بها على اقتحام المصاعب ومثل هذه البطولة بطولة المجاهد الذي تتصلب إرادته، وتتحجر عزيمته وهو - خلال ذلك - مفتقر إلى صداقة تسعفه وتساعده، ومن عسى يتخذ صديقاً من بين هذه (المخاليق الناقصة) ولكنه اتخذ أصدقاء يقبل بكمالهم ويؤمن بمثلهم ويغضي طرفه عن نقصهم، وقد صور في مطلع حياته بعض صور أصدقائه تامة كاملة كأنها المثل الأعلى، وبهذا وجد في (شوبنهاور) أسمى مثل للفلسفة. وفي (ريشارد فاحبز) أسمى مثل للفن. وإذا هو وجد في صحبة هؤلاء راحة نفسية فإنه وجد في نهاية هذه الصحبة ألماً طالما أمضه وعذبه. ومبعث هذا الألم أن الفيلسوف ظل ساعياً دائباً وراء الإنسان الكامل الذي كان مثله الأعلى. فكان - لذلك - في نزاع مستمر مع نفسه، وقد كلفته هذه الصداقة كثيراً، لأن مثله الأعلى يقضي عليه بأن يضحي بها. فجرب كثيراً أن يغض الطرف عن نقص صديقيه، وألا ينظر فيهما إلا مثلاً أعلى الصداقة. فتذوق من الصداقة مرارتها كما تذوق حلاوتها. . . وهكذا آب إلى عزلته لأن طبيعته تدعوه إليها
(يتبع)(98/59)
خليل هنداوي
-(98/60)
القصص
من أساطير الإغريق
بلوتو يخطف برسفونيه
أسطورة الربيع
للأستاذ دريني خشبة
كانت ديميتير الطيبة، ربة الخيرات ومغدقة البركات؛ الرحيمة البارة؛ ملونة الزهر، ومنضجة الثمر؛ واهبة الحقول خضرتها والبساتين نضرتها. . . كانت ديميتير الطيبة تسكن في قصر منيف يشرف على سهل إنا أروع سهول جزيرة صقلية جمالاً وأعذبها ماء وأطيبها هواءً، وكانت، حين يتنفس الصبح، تلبس تاجها اليانع الذي ضفرته من سنابل القمح، وتتناول باقة من زهرات الخشخاش ريانة، وتقبض بيمينها على صولجانها العتيد، المرصع بالزبرجد، ثم تستوي في عربتها المطهمة فتنطلق بها الصافنات الجياد تجوب أنحاء الأرض، وتمر بكل مزرعة، وتقف عند كل كرمة؛ تهب القمح من نفحاتها فيربو، والثمر من بركاتها فيزكو، والينع من أنفاسها فيطيب. ثم تعود إذ يجن الليل، فتهرع إليها ابنتها الصغيرة برسفونيه فرحة متهللة، لافة ذراعيها الجميلتين حول ساقي أمها، كأنما تبثهما ما في قلبها الصغير من لوعة وغليل!
وكانت الفتاة - برسفونيه - تقضي ساحبة النهار، إلى أن تؤوب أمها، في سرب من أترابها، بنات الغاب الحسان؛ فيظلن يقطفن الزهر، ويجمعن الرياحين، ثم تنشب بينهن معركة حامية من معارك الطفولة، وملحمة صاخبة من ملاحم الصبى؛ فيتراشقن بالورد، ويترامين بالزنبق الغض، ويتضاربن بأفواف السوسن. . . وهن فيما بين هذا وذاك يقرقعن بالضحك، ويتبادلن النكات، ويتغنين الأغاريد؛ فتستجيب الغابة لهن، وتترقرق الغدران من تحتهن، وتهدل الأطيار من فوقهن، وتمتلئ الدنيا حولهن نشوة وحبوراً
وكأن بلوتو: إله الموتى، ورب الدار الآخرة؛ قد مل هذا السكون المخيم في مملكته تحت الأرض: هيدز، وسم هذه الأشباح التي تطيف به هنا وهناك في الظلمات المحيطة به، وأرواح الموتى تئن وتتوجع في كل مكان من ملكه القابض الحزين؛ فأسرج عربته(98/61)
الضخمة، وألهب جيادها بسياطه القاسية، فانطلقت تعدو به إلى. . . الدار الأولى. . . هذه الحياة الدنيا!!
خرج بلوتو يروح عن نفسه، وينشق هذا النسيم الحلو الذي يغمر ملكوت أخيه زيوس، ويروي روحه الظامئة بالتفرج على عرائس الماء وبنات الغاب، إذ أبين جميعاً أن يشاركنه ملكه الرحيب، ورفضن التزوج منه، برغم ما أغراهن به من اللآلئ واليواقيت
وفيما هو ينهب الأرض بعربته، إذا به يسمع في غيضةٍ قريبة، ضحكات مرنة، وأصواتاً موسيقية متقنة، وأحاديث كأنها دنانير من ذهب في كف صيزفي حذق! فساقه الفضول إلى استكشاف أولئك الغيد اللائي يتضاحكن هكذا، كأنما يترنمن بالشدو، ويرجعن بالغناء! ففرق العساليج التي كانت تحجبهن، فرأى البدور البيض يتلاعبن على الحشيش الأخضر، كأنهن نغمات حلوة تنطلق من أوتار أرفيوس!
وجن جنون بلوتو!. . . وأقسم ليخطفن هذه الفتاة الخدلجة الممشوقة، التي تدل على الجميع كأنها فينوس في دولة الحب، أوديانا تخطر بين أماليد!
(إلام أظل في هذا الديجور الحالك وحدي؟! وحتام أقاسي منفاي السحيق من غير صديق أو رفيق؟! وما قيمة ملكي الشاسع، وأنهاري الفائرة بالحمم، مادمت لا سمير لي ولا مؤنس، إلا زبانيتي وكلابي؟ وإلا شارون المسخ الكئيب؟
لقد مللت! ولا بدلي من هذه الكاعب الحسناء، والغادة الهيفاء!
إن لها لفماً رقيقاً. . . . وإنها لتتثنى كالغصن، وتخطو كالقطاة!
يا للثدين!
مالهما بارزتين هكذا؟ أتطلبان حضناً قوياً كحضني؟ أم يملؤهما لبن الآلهة، ورحيق السماوات؟!
يا للفخذين الملتفتين الممتلئتين!!
إنهما مترعتان باللذة، فياضتان بالإغراء والترغيب! مالهما تنفجان شهوة هكذا؟!
وهاتان حماتا الساقين! ويلي عليهما وويلي منهما!!
إنهما حماتان خبيثتان كأبرع ما تنحت يدا فنان! إنهما تمتلئان لذاذة، وتطلقان رقي السحر في قلوب الناظرين! كورتا تكويراً خفيفاً من فوق، وانعقد دهاء الفتنة عند التفاف العضل(98/62)
فأفعمهما رغبة واشتهاء!!
وقدماها!!
يا للكعبين المستديرين، والجنة النائمة فيهما!!
والذراعين الناعمتين!
والظهر العاجي الناصع!
والشعر الذهبي الذي يداعبه النسيم كأنه خصلة من ظلال الخلد!
ويلي!
أنا لا أري إلا هذه الأعضاء السابية، وأغفل عن هذه الابتسامة التي ترف حول الفم!!
إنها أجمل من زهرة التفاح في أوائل شهر مايو، وأرق من بتلات أزهار اللوز في شهر أبريل!!
تلمظ يا فمي فإنك ظمئ إلى قبلة تطبعها على هاتين الشفتين الأقحوانيتين!
وسمع إحدى الفتيات تناديها: (برسفونيه! أنظري! هاك بنفسجةً حلوة!)
فتحدث إلى نفسه:
(برسفونيه!
هذه عروس الربيع إذن! ابنة ديميتير من أخي زيوس!
لقد كبرت وترعرت، ونهدت؛ وطابت في جسمها البض ثمرة الحياة!!
اغفر لي يا أبي ساترن! سامحيني يا رها!
سأخطفها! سأجلسها بجانبي على عرش هيدز! ستصبح مليكة دار الموتى! ستنقشع ظلمات ملكوتي بوجهها المشرق الجميل
لن أشعر بشقوة، ولن أحس خباء في ملكي!! إنها ستكون جوهرة التاج، وفتنة العرش، وستسجد الأرواح تحت قدميها المعبودتين!!
سأترك لها أن تغفر وتثيب، وسأدع لها مقاليد السفل تصنع فيه ما تشاء!)
ثم ألهب جياده فانطلقت نحو الفتيات، ولشد ما تفزعن إذ لمحن وجهه الأغبر، يتدلى عليه شعره الأشعث؛ والظلال المظلمة تتخايل فوق جسمه البار كالسمادير!
ولقد كان كلبه سير بيروس، ذو الرؤوس الثلاثة، يلقى الرعب في القلوب!(98/63)
وفر الحسان مذعورات. . . . إلا برسفونيه، فقد قبض بلوتو على ذراعها الرخصة، وجذبها إليه في العربة، وذهب يسابق الربح ويلاحق البرق، حتى اعترضه ماء نافورة أخذ عليه سبيله. وسرعان ما فار الماء كالتنور، وصار يغلي كالحميم الآن، حتى خشى بلوتو الجبار أن يعبره، وأوجس، إن هو انثنى يبحث عن طريق آخر، أن يضيع الوقت، وتفلت الفرصة، وتروح ديميتير تفتقد ابنتها حتى تستنقذها من يديه. فتناول صولجانه الهائل، وضرب به الأرض فرجفت وزلزلت، وانشقت عن أخدود كبير بعيد الغور. . .
وكانت برسفونيه قد أفيقت من هلعها، فلما رأت النافورة تغلي وتصطخب، أدركت أن إحدى عرائس الماء قد عرفت من أمرها كل شئ، وأنها قد تستطيع أن تؤدي لها خدمة في ذلك المأزق الحرج، فحلت (برسفونيه) زنارها الحريري الأبيض وألقت به عند ضفاف النافورة عسى أن يصل يوماً إلى أمها عن طريق هذه العروس، فتعلم أين هي، وماذا تم من أمرها
وانطلق بلوتو في ظلام الأخدود حتى وصل منه إلى مملكته. . هيدز! فاستوى على عرشه مثلوج الصدر خفاق الفؤاد!
ثم طفق يترضى برسفونيه بشتى الوسائل، وهي ما تزداد إلا شماساً ونفوراً. . . طاف بها أرجاء مملكته الشاسعة، وأراها شطئان ستيكس وأشيرون وليث، وسائر أنهار الجحيم؛ ثم خاض بها وادي الأفاعي والعقارب، ومدينة الزنابير واليعاسيب، والدرك الأسفل من النار حيث يأوي المنافقون والكذابون، وحديقة الخونة واللصوص ذات الأشجار من لظى ولهب. . . ولم يفقه المغفل أنه كان يضاعف فزعها أضاعفاً مضاعفة كلما مر بها على منظر جديد من ملكه البغي!!
وعادت ديميتير في المساء، ولكن برسفونيه لم تهرع للقائها كعادتها؛ فحسبتها نائمة. . . بيد أنها لم تجدها في مخدعها، فافتقدتها في جميع الغرفات، ولكن عبثاً حاولت أن تقف لها على أثر! فاضطربت نفسها بالوساس، وخرجت تبحث عنها في الحديقة، فلم تجدها كذلك!
ريعت الأم وارتعدت فرائضها، وانطلقت تعدو وهي تصيح كالمجنونة:
(برسفونيه! برسفونيه! أين أنت يا برسفونيه!) ولكن لسان الصدى - إيخو - وحده الذي كان يردد نداءها. . . . .(98/64)
ووصلت إلى ابن أخيها هيفيستيوس إله النار فأعارها شعلة عظمية تنير لها ظلمات العالم، ودياجير الليل، عسى أن تهتدي إلى برسفونيه
جاست خلال الغابات، واخترقت الأودية. وفتشت الشطوط، ونفذت إلى أعماق الكهوف، وجالت في مهاوي الجبال، ورقت إلى شعاف الآكام. . . وبحثت عنها في جميع الآفاق. . . فلم تعثر به!!
استعانت بالآلهة، واستنجدت بعرائس البحار، ولكن جهودها ضاعت عبثاً. . .
وجلست ديميتير كاسفة البال ملتاعة القلب، تعلو جبينها عبوسة قمطريرة، وتنوء بروحها آلام وأشجان. . . وأضربت عن الطعام، وآلت لا ينضر حقل ولا يذر نبات، ولا تثمر شجرة، ما دامت ابنتها نائية عنها.! فجفت السهول، ويبست سوق الحنطة قبل أن تؤتى أكلها، وخرقت البساتين دون الثمر، فعجف الناس، وضمرت بهيمة الأرض، ونشر الجوع ألوية الخراب في العالمين!!
وانصرف الناس يصلون لزيوس، ويضرعون لديميتير، ولكن الحزن صرفها عنهم، فلم تسمع لصلاتهم ولم تلب ندائهم. . .
وفيما كانت تجوب القفار، وتطوي المهامه البيد، إذا بها تصل إلى النافورة التي ألقت عندها برسفونيه بزنارها
وإنها لتجلس عند حفافيها تفكر في أعز البنات، إذا بعروس الماء أريثوذا؛ التي لمحت بلوتو يخطف برسفونيه، والتي أهاجت النافورة لتقطع عليه سبيله، تظهر من الماء فجأة لترى من هذه الجالسة عند دارتها تئن وتتوجع؛ وتعلم أنها الربة ديميتير وأم الفتاة، فتتحدث إليها قائلة: (ديميتير! عزيز علينا أن تجزعي هكذا؟! طيبي نفساً وقري عينا، فإن بلوتو رب هيدز هو الذي خطف برسفونيه! وهاك زنارها شاهدي على ذلك! ولقد تبعتها إلى الدار الآخرة أحسب أني أستطيع أن أؤدي لها يداً أو معونة ولكن الإله القاسي أغرى بي زبانيته، فانطلقت مذعورة من اللعين ألفيوس. . . . وعليك أن تخلصي الفتاة فنها لا تذوق طعاماً، ويكاد الحزن يصعقها برغم أنها أصبحت مليكة دار الفناء
وتناولت ديميتير زنار ابنتها فعرفته، ثم طفقت تلقيه على عينيها وصدرها. . . ساكبةً دموعها الغوالي!(98/65)
وقصدت من فورها إلى زيوس فحدثته بما قالت عروس الماء أريثوذا، وأقسمت لديه، إن لم يأمر أخاه برد برسفونيه، لتهلكن عباده جوعاً، ولتجعلن وجه الأرض فدفداً يبابا. . . لا تسمن بزرع، ولا تروي بضرع!!
فتأثر زيوس من قولها، وابتسم ابتسامة حزينة، ثم قال: (لا بأس من عودة برسفونيه إذن. . . . ولكن! على شريطة ألا تكون قد ذاقت طعاماً في هيدز، مملكة أخي! فإنها، إن كانت قد فعلت، لا تصلح للحياة في هذا الدار الأولى!)
ولسوء الحظ، كانت برسفونيه، بعد امتناعها عن ذوق شيء من طعام هيدز طوال هذه الأشهر، قد أكلت في نفس ذلك اليوم الذي وعد فيه زيوس بعودتها إلى الدنيا ست حبات من الرمان فحسب! فلما علم زيوس بذلك، عدل حكمه، فقضى أن تلبث برسفونيه في هيدز عند شقيقه بلوتو ستة أشهر من كل سنة، أي شهراً بكل حبة مما أكلت!! وتعود إلى أمها فتلبث معها ستة أخرى؛ فيعود بعودها الماء إلى الزروع، والأزدهار إلى الحدائق، والشبع والثروة إلى الناس، ويكون عودها ربيع الحياة وبهجة الأرض
عاشت برسفونيه ربة الربيع! ولا طال عن الناس مغيبها في هيدز. .! عند الشرير بلوتو. . . الذي حرم الحياة من أن تكون ربيعاً كلها!!
دريني خشبة(98/66)
البريد الأدبي
عيد الأكاديمية الفرنسية
سبق أن تحدثنا عن الظروف التي نشأت فيها الأكاديمية الفرنسية منذ ثلاثة قرون في عهد لويس الثالث عشر ووزيره الكاردينال ريشيلو، وعما تعتزمه الحكومة الفرنسية والأكاديمية من إحياء هذا العيد والاحتفال به. وقد صدر أخيراً أول بيان رسمي عن برنامج هذا الاحتفال؛ وسيبدأ تنفيذه منذ 17 يونيه القادم؛ ففي هذا اليوم قداس رسمي في كنيسة جامعة السوربون؛ ويفتتح معرض الأكاديمية في المكتبة الوطنية؛ ويستقبل رئيس الجمهورية أعضاء الأكاديمية؛ وفي اليوم الثاني (يوم 18)، تعقد جلسة رسمية للأكاديمية في قصر اللوفر في بهو (الكارياتيد)، وتلقى الخطب، وتقام حفلة تمثيلية، ثم تقام مأدبة عشاء يعقبها استقبال في دار البلدية. وفي يوم 19، تقام مأدبة للأكاديميين في حدائق شانتيلي، ويزار متحف كوندي؛ وفي يوم20 منه تعقد الأكاديمية جلسة رسمية في دارها (تحت القبة)؛ ثم تولم في المساء وليمة رسمية كبرى. هذا وستصدر الأكاديمية بهذه المناسبة كتاباً ذهبياً يشترك فيه كل عضو بكتابة فصل من فصوله، وستقدم نسخة من القاموس الجديد في جلد فخم إلى رئيس الجمهورية (وهو النصير الرسمي) للأكاديمية
ذكرى الفرد دي موسبه
عنيت جمعية أصدقاء الشاعر الأشهر الفرددي موسيه بإقامة معرض لكتبه ورسائله وآثاره في السابع من مايو الجاري، وذلك لمناسبة مرور مائة عام على نظمه (ليالي مايو)، وأقيم هذا المعرض في نفس المنزل الذي كان يعيش فيه دي موسيه حين ألف هذا الكتاب وهو يقع في شارع جرنيل رقم 59. وقد رأت جمعية أصدقاء الشاعر بهذه المناسبة أيضاً أن تصدر كتاباً يحتوي على طائفة من الوثائق والرسائل التي تتعلق بحياة الشاعر ولم تنشر بعد
الفكرة الاشتراكية - شرح جديد لها
صدر أخيراً كتاب عنوانه (الفكرة الاشتراكية) بقلم العلامة الاقتصادي البلجيكي هنري دي مان أحد وزراء بلجيكا اليوم. ولهذا الكتاب أهمية خاصة من الوجه الاقتصادية والعملية لأن(98/67)
مؤلفه يشترك اليوم في حكم مع وزارة مسيوفان زيلند التي تحكم البلجيك على قواعد اقتصادية. ونظرية دي مان في الاشتراكية هي أنه يجب التفريق بين المركسية وبين المركسيين (والمركسية هي الاشتراكية طبقاً لمبادئ، كارل ماركس)، كما أنه يجب التفريق بين المعارك الحزبية وبين العمل لتغيير المجتمع. وما هي الاشتراكية؟ هي أن يسحق النظام الرأسمالي؟ يجيب هنري دي مان أن نعم وأن لا، ذلك أن الغاية هي أن نجعل الإنسان ينعم بقسط أوفر من السعادة، وذلك بتحسين الانتاج، وأن نقلل جهد الاستطاعة من تبديد الجهود البشرية في العمل، وأن نقسم ثمرات الإنتاج بطرق أكثر عدالة؛ ومن أجل هذا يرى دي مان أنه يجب تغيير الوسائل الاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع الحاضر، وهذه مسالة في الواقع يكاد يتفق عليها العالم؛ وما يقع اليوم في إيطاليا الفاشستية، وألمانيا الهتلرية، وروسيا السوفيتية، وأمريكا في عهد روزفلت إنما هي محاولات من هذا النوع وفي سبيل نفس الغاية. كذلك تسير الأمم القديمة الحرة إلى تحقيق هذا المثل وإن كانت تسير بطيئة كسير الشيوخ.
ويقول مسيو دي مان أن المسالة كلها تتوقف على الوسائل التي تكفل النجاح. ومن رأيه أن الثورة تنجح بالعنف والسفك، والواقع أن (الماركسية) هي التي هزمت سنة 1917 وليست الرأسمالية، ولم تهزم الرأسمالية إلا فيما بعد، حين بدئ بتطبيق الوسائل والنظريات الاقتصادية الجديدة. بيد أن مسيو دي مان يرى أن أنصار فكرة الإصلاح لقوا نفس الفشل الذي لقيه أنصار الوسائل الثورية؛ ففي ألمانيا، وفي إيطاليا وفي غيرهما من الأمم الغربية قد فشلوا، إما في الوصول إلى الحكم كما حدث في فرنسا، والسبب في ذلك هو أنه في ظل البرلمان وهو نظام رأسمالي، لا تملك الدولة إلا قوة محدودة، ولا يتم النصر إلا إذا كان العمل مباشراً وسريعاً لا يحد منه شيء
مارك توين لمناسبة عيده المئوي
تحتفل الدوائر الأدبية الأمريكية بذكرى العيد المئوي لمولد الكاتب القصصي الفكه (مارك توين) الذي يعتبر أمير الدعابة والفكاهة في الأدب الأمريكي. ويجب أن نعرف بادئ بدء أن (مارك توين) ليس هو اسم الكاتب الحقيقي، وإنما هو اسمه القلمي؛ وأما اسمه فهو صامويل لانجهورن كليمنس؛ ولد منذ مائة عام (سنة 1835) في فلوريدا من أعمال(98/68)
ميسوري (بالولايات المتحدة) من أبوين فقيرين، وتلقى تربية مدرسية عادية في هذه المدينة، واضطر منذ حداثته أن يحترف أعمال الطباعة ليكسب قوته، واشتغل بهذه الحرفة مدى حين في سان لوي وفي نيويورك وفي غيرهما من العواصم. وفي سنة 1851، حينما بلغ السادسة عشرة، ترك أعمال الطباعة واشتغل بحاراً نوتياً في قارب بخاري يعمل في نهر المسيسيبي، وفي أثناء عمله في النهر راقت له صيحة بحرية مما يستعمل حين سبر أغوار الماء: (مارك توين)، فاتخذها فيما بعد اسما رمزياً للتوقيع على كتاباته. وقد أثارت حياة النهر خياله، وأمدته بطائفة من التأملات والملاحظات اتخذها فيما بعد مادة لبعض صوره وأقاصيصه، ولما نشبت الحرب الأهلية الأمريكية كان (مارتن توين) في نحو السادسة والعشرين من عمره، فترك حياة النهر، وذهب إلى ولاية نيفادا وأشتغل بالصحافة، وتولى تحرير جريدة (انتربرايز) في فرجنيا سيتي. واشتغل في نفس الوقت بهندسة المناجم وإلقاء المحاضرات. وفي سنة 1867 أصدر أول كتبه محتوياً على عدة أقاصيص وصور فكاهية بعنوان (الضفدعة الوثابة) وغيرها، فلفت الأنظار بطرافته وخفة روحه وفكاهته الفياضة، وكان نجاحاً عظيماً. وربح مارك توين من كتابه الأول مبلغاً حسناً أنفقه على رحلة إلى أوربا، طاف خلالها ثغور البحر الأبيض، واتخذها مادة لكتاب أصدره سنة 1869 بعنوان (الأبرياء في الخارج)، فزاد هذا الكتاب في شهرته الأدبية وبالأخص في شهرته كأستاذ للفكاهة والأدب المرح. وفي هذا العام تولى تحرير جريدة جديدة هي (اكسبريس بافالو)، واستمر في تحريرها مدى عامين. وفي سنة 1872، أصدر كتابه (كيف تخشن) وفيه صور وملاحظات عن الحيات في الولايات الغربية، وفي العام التالي أصدر كتاباً بالاشتراك مع صديقه وارنر عنوانه (العهد المذهب)، وظهرت له بعد ذلك تباعاً عدة قصص ومجموعات نقدية وقصصية نذكر منها (سائل في الخارج) (1880)، (الأمير والحقير) (1882) (الحياة في نهر المسيسيبي) (1883) (مخاطرات هكلبري فن) (1885) (الورقة ذات المليون جنيه) (1893) (مأساة بدهد ولسون) (1894) (ذكريات جان دارك) (96) (سائلون آخرون في الخارج) (97) (الرجل الذي أفسد هدلبرج) (1900) (مذكرات ايف) (1906) (العلم المسيحي) (1907) وغيرها.
ومما يذكر في حياة مارك توين أنه في سن 1884 اشترك مع صديقه تشارلس وبستر(98/69)
وشركائه في إنشاء دار نشر كبيرة، وازدهرت أعمال الشركة بادئ بدء، ولكنها ساءت بعد ذلك وأفلست سنة 1895، وتحمل مارك توين بسبب هذه النكبة أعباء مالية فادحة، ولم ير مارك توين وسيلة للاقلة من هذه العثرة سوى الطواف حول العالم وإلقاء المحاضرات الفكهة. وقد نجحت رحلته نجاحاً عظيما وجمع مبلغاً كبيراً من المال، واستطاع أن يسدد ديونه. وكان مثله في ذلك مثل الكاتب الفرنسي يلزاك الذي أراد أن يحقق الغنى من الاشتغال بنشر الكتب فباء بالخسارة والإفلاس.
ومن ذلك الحين كان مارك توين يقضي معظم أوقاته في أوربا، وفي سنة 1901 عاد إلى الولايات المتحدة وتابع الكتابة، وفي سنة 1907 زار إنكلترا فاستقبل بحماسة عظيمة، وأنعم عليه بدرجة فخرية من جامعة أكسفورد. وتوفي 1910 في الخامسة والسبعين.
ومارك توين من أقطاب الأدب الفكه، وهو أستاذ هذا الفن في الأدب الأمريكي، كما أن جورج كورتلين هو أستاذ هذا الفن في الأدب الفرنسي، وفكاهة مارك توين مرسلة ليس فيها تكلف، وقد تكون أحياناً خشنة يطبعها الاغراق، ولكنها على أي حال ممتعة مؤثرة؛ وأحياناً تبدو دقيقة تقوم على بعض المبادئ الجدية. وما يزال تراث مارك توين فريداً في الأدب الأمريكي.
تكريم الدكتور محمد حسين هيكل بك
في مساء الأربعاء الماضي أقامت لجنة ممتازة رئيسها الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية، حفلة تكريمية في فندق الكونتننتال، للأستاذ الكاتب النابغ محمد حسين هيكل بك، بمناسبة إصداره كتابه القيم (حياة محمد)، شهدها صفوة متخيرة من رجال الفكر، وتكلم فيها نخبة متميزة من رجال البيان، وكان الكلام الجاهر على المنصة، والحديث الخافت حول الموائد، يدور على هذا الجهاد المنصور المبرور الذي جاهده الأستاذ هيكل في الأدب والسياسة هذه الحقبة الطويلة. والأستاذ هيكل في الأدب أحد الأساطين الرواسي التي قام عليها أدبنا الحديث ما في ذلك خلاف؛ توفر بحكم دراسته على الثقافة الغربية، ومال يحكم قراءته إلى الآداب الفرنسية، وتعصب بحكم مصريته للفنون الفرعونية، وهو كاتب بالاستعداد، فنان بالفطرة، فلابد أن يكتب، ولابد أن يكتب بالعربية؛ والعربية لم يعطها بعد نصيباً جدياً من ذكائه، فظهر في الثمرات الأولى ضعف الائتلاف بين المعنى القوي(98/70)
والتفكير المهذب، وبين اللفظ الضعيف والأسلوب المهمل، ولكن النفوس الفنية تهتدي بغرائزها إلى الطريق، وتسير وراء إحساسها إلى القاعدة، فلم يلبث الأستاذ هيكل أن فرض أسلوبه الغني بالصور، وأدبه القوي بالمنطق، على أبناء الأدب العربي؛ ولم يلبث الدكتور هيكل الذي خضع لأثر الفرنسية والفرعونية وبدأ (بزينب)، أن يسمو إلى العربية والإسلامية وينتهي بـ (حياة محمد).
فوز مبين للإسلام والعرب والشرق أن يصدر عن الأستاذ هيكل هذا الكتاب الروحي الخالد؛ فهو يدل فيما يدل على أن أدبنا الأصيل العريق أخذ يرتد إلى منبعه، ويستمد من وحيه، ويتمتع باستقلاله. والاحتفال بالدكتور هيكل هو احتفال ضمني بهذا التطور الأصيل المحمود الذي سما بالفكر المصري إلى رتبة الخلق، وبالأدب العربي إلى مقام الأصالة.
من رونسار إلى بودلير
صدر أخيراً في باريس كتاب عنوانه (من رونسار إلى بودلير) بقلم مسيو فرنان فليريه، ورونسار هو شاعر فرنسا الأكبر في القرن السادس عشر؛ وبودلير هو شاعرها الأكبر في القرن التاسع عشر. وقد تناول مسيو فليريه فبي كتابه تطور الشعر الفرنسي؛ وحياة أقطابه منذ القرن السادس عشر؛ وتحدث عن الأساليب الأدبية التي توالت على الأدب الفرنسي في هذه العصور؛ وخص الأسلوب التهكمي منها بفصل بديع. ومسيو فليريه ناقد قدير؛ وقد سبق أن نشر معظم فصول كتابه في بعض الصحف والمجلات الأدبية فأثارت تقديراً واهتماماً.
وفاة كاتب روماني
من أنباء بوخارست أن الكاتب الشاعر الروماني الشهير بنايت استراني قد توفي في سن الحادية والخمسين بعد مرض طويل. وقد بدأ هذا الكاتب حياته العامة عاملاً؛ ولكنه ظهر بمواهبه الفكرية، وجذبه المعترك السياسي منذ حداثته، فكان زعيم حركة اشتراكية قوية. ولما أعلنت الحرب الكبرى هاجر إلى سويسرا اتقاد الاضطهاد، وهناك كتب عدة قصص قيمة؛ منها: (العم انجل) و (كيرالينا)؛ ولفتت قصصه أنظار الدوائر الأدبية، ولا سيما الدوائر الفرنسية؛ وترجمت إلى معظم اللغات، ووصفه الكاتب الفرنسي رومان رولان بأنه(98/71)
(جوركي البلقان)
وبعد الحرب زار استراتي روسيا السوفيتية ليدرس التجربة الاشتراكية ولكن عاد بخيبة أمل، وانهارت عقيدته الاشتراكية وتحول إلى مبادئ الوطنية البرجوازية (الرأسمالية) وكان في أعوامه الأخيرة يشترك في المعترك السياسي بحماسة ونشاط، وكان يقارع خصومه السياسيين بحملات صحفية شديدة كانت تثير كثيراً من الجدل والاضطراب.
العيد المئوي لبلليني
من الأعياد الفنية الشهيرة التي تتأهب إيطاليا للاحتفال بها بعد بضعة أشهر؛ العيد المئوي لوفاة الفنان المؤلف الموسيقي الأشهر فنشتر بلليني الذي توفي شاباً في عنفوان فتوته وفنه منذ مائة عام. وقد ولد هذا الفنان البارع في مدينة قطانية من أعمال صقلية في أواخر سنة 1801؛ وكان أبوه معلماً للموسيقى. فنشأ الطفل موهوبا في الفن. وأخذ يؤلف القطع الموسيقية منذ السادسة من عمره. وفي سن الثانية عشرة ذهب إلى نابولي والتحق بمعهدها الفني؛ وكان أستاذه هنالك تسنجار يللي المؤلف الموسيقي المشهور وملحن رواية (روميو وجولييت). ولم تمض بضعة أشهر حتى وضع الطالب بلليني أول (أوبرا ته) وعنوانها (أدلسون وسالفيني)، ومثلت في قاعة المعهد ونالت نجاحاً عظيماً حتى أنها كانت تمثل كل يوم أحد. ولما رأى الفتى نجاحه السريع وضع قطعة أخرى عنوانها (بيانكا وفرناندو)، ومثلت في مسرح سان كارلو، فنالت نجاحاً أعظم، وذاع صيت الفتى الفنان حتى أن دومنيكو بارباجا أعظم مخرجي العصر دعاه إلى وضع قطعة جديدة تمثل في مسرح (سكالا) بميلانو وهو أعظم مسارح إيطاليا يومئذ؛ فسافر بلليني إلى ميلانو ووضع قطعته الشهيرة (القرصان) (سنة 1827)، فكان ظفره بتمثيلها عظيماً، وارتفع في الحال إلى وصف أعظم فناني العصر؛ وأتبعها بقطعة جديدة عنوانها (الأجنبية) ثم بأخرى عنوانها (جولة الليل) ثم (نورما) وهي قطعة موسيقية بلغ بها ذروة مجده، وبعدئذ وضع بلليني قطعاً خاصة لمسارح إيطاليا الشهيرة في البندقية ونابولي وغيرها، ثم سافر إلى باريس ووضع هناك قطعة (البورتانيين) فنالت نجاحاً عظيماً، ولكن المرض كان قد أخذ يسري إلى الفنان الفتى وأخذت صحته تسوء بسرعة؛ ولم يلبث أن توفي في باريس في سبتمبر سنة 1835 ودفن بمقبرة (بير لاشيز) ثم نقلت رفاته بعد ذلك إلى مسقط رأسه (قطانية) سنة 1876(98/72)
وقد احتفلت الأوبرا النمساوية (بمدينة فينا) بذكرى بلليني احتفالاً خاصاً مؤثراً، فأحيت ذكرى روايته (جولة الليل) بتمثيلها مدى أسبوع لأنها في هذا الشهر شهر مايو مثلت بالأوبرا النمساوية من مائة عام(98/73)
الكتب
قصة الفلسفة اليونانية
تصنيف الأستاذين أحمد أمين وزكي نجيب محمود
للدكتور عبد الوهاب عزام
أستاذنا أحمد الأمين رجل بارك الله عليه، فرزقه من الفكر السليم، والعلم الواسع، والدأب على الأعمال وتأديتها في أوقاتها، وترتيبها ما أتاح الله للتأليف القيم النافع. فاخرج للناس في بضع سنين كتابيه فجر الإسلام وضحى الإسلام
والأستاذ منذ عهد بعيد معنى بالفلسفة، ترجم في مبادئها كتابا عن الإنجليزية، قبل خمسة عشر عاما، ودرس نواحي منها في درسه علم الإخلاف والتأليف فيه. وقد أحس، وهو يألف ضحى الإسلام، حاجة إلى الاستزادة من الفلسفة اليونانية ليستعين بها على فهم الفلسفة الإسلامية. يقول الأستاذ: (حتى إذا عرضت لوصف الحياة العقلية عند العرب وألفت في ذلك فجر الإسلام وضحاه، ووصلت في التأليف إلى المعتزلة والمتكلمين في العصر العباسي، رأيت أنهم تعرضوا لمسائل هي من صميم الفلسفة اليونانية، ورأيت أن لابد لفهمها من الرجوع إلى منابعها لأعرف كيف فهموها وكيف نقلوها وما الذي زادوا عليها، فاضطرت إلى العودة إلى كتب الفلسفة استعرض مسائلها، وأتفهم غوامضها الخ)
قرأ الأستاذ ودون خلاصة ما قراء، فأخرج بمعونة شريكه الكتاب الذي سماه (قصة الفلسفة اليونانية). يقول الأستاذ: (فلما عاودت القراءة في الفلسفة بدت مني رغبة في أن اكتب خلاصة ما أقرأ فذلك أدعى إلى وضوح الفكرة في ذهني، وإذا أن ينتفع بما انتفعت به غيري. وكان من حسن حظي أن رأيت أخي وزميلي الأستاذ زكي نجيب محمود يرغب رغبتي ويتمنى أمنيتي، فتعاونا معا على إخراج هذا الكتاب وتقديمه للقراء)
من هنا تم التصليح
- 2 -
وكنت وعدت أن أكتب في مجلة الرسالة عن (ضحى الإسلام)، وحالت حوائل دون المبادرة بإنجاز الوعد؛ ثم تيسر لي الفراغ لكتابة المقال الأول، وبنا أن في شغل به مررت(98/74)
على لجنة التأليف والترجمة والنشر فأخذت الكتاب الجديد (قصة الفلسفة اليونانية): ولما أخذت مكاني في قطار حلوان فتحت الكتاب لأقراه مقدمته وفهرسه، ثم أطبقه إلى أن تتاح فرصة لقراءته. فلما قرأت المقدمة شاقني ما بعدها، وقادني حسن البيان، وسلاسة العبارة، وسهولة الشرح من صفحة إلى أخرى حتى عبرت من الكتاب صفحات كثيرة، فآثرت أن أتمة، وبدا لي أن اكتب عنه إذا أتمته، ناقداً حاسباً ما للكتاب وما عليه. فلما انتهت بي القراءة إلى فصل سقراط قولت: هنا فاصلة يحسن الوقوف عندها فقد كان سقراط فصلا في تاريخ الفلسفة تغيرت به سيرتها، فوقفت القراءة لأكتب عما قرأت، وأجعل بقية الكتاب موضوع مقال آخر. وهكذا يأبى الأستاّذ احمد الأمين إلا أن يعمل ويشغلنا بعمله عن أعمالنا.
- 3 -
أراد المصنفان أن يعرضا على القارئ العربي الذي لا علم له بالفلسفة اليونانية قصة هذه الفلسفة في نشأتها وتطورها في إيجاز وإيضاح، وتسهيل وتيسير، وبعد عن التعمق والتفصيل، والتقصي في البحث. وقد تسنى لهمه ما أرادا فجاء الكتاب كما ابتغيا (قصة) يسيرة شائقة، كفيله بتقريب الفلسفة اليونانية إلى المبتدئين. ولا يحتاج الناقد إلى تبيين هذا، فكل صفحة في الكتاب شاهدة به. يبدأ المصنفان كل فصل ببيان ما يريدان، حتى إذا بلغا ما أرادا أجملا ما قد ما، فإذا بدأ الفصل التالي ذكرا القارئ بما قدماه. حتى إذا جاوزا عهدا من عهود الفلسفة إلى عهد آخر وفقا بالقارئ يلفتانه إلى ما أوضحا من قبل ليتعرف فرق ما بينه وبين ما يستقبله في العهد التالي، وهلم جرا وقد قرأت ما قرأت من الكتاب مثنيا على المصنفين مسرورا راضيا إلا هنات يسيرة منها ما يلي:
1ـ قال المصنفان إن من الفروق بين العلم والفلسفة أن كل علم يبحث في ظواهر محدودة من العالم، وأن الفلسفة تحاول النفاذ إلى بواطن الأشياء كلها واستكناه حقائقها. وقد أوضحا هذا إيضاحا حسنا وساقا الأمثلة، ولكن فرطت في أثناء ذلك عبارات تثبث أن العلوم تقنع بالظن وأن الفلسفة لا تقف دون اليقين. فقالا في صفحة 10: (ولكن هذا الذي أقنع العلم لن يرضى الفلسفة. هي لا تطمئن إلى هذا الركون والركود، ولا تستقر إلا إذا وجدت لكل ظاهرة ما يؤيدها تأييداً تاماً.) وقالا في صفحه 13: (وهي (الفلسفة) لا تجيز لنفسها أن(98/75)
تركن إلى حكم من الأحكام بالغا ما بلغ من القوة والذيوع إلا إذا أيداه الدليل القاطع) وفي الصفحة نفسها (كذلك لا ترضى الفلسفة أن تسلم بصحة مبدأ أو فكرة إلا إذا ثبتث لديها ثبوتاً لا يدع مجالا للريب والشك. فهاتان صفتان تستطيع بهما أن تفرق بين العلم والفلسفة:) وهذا كلام يفهم القارئ أن الفلسفة قائمة على اليقينيات وأن العلوم قائمة على الظمنيات، والمعروف غير هذا. فقد كانت الفلسفة نظراً عاماً في الكون ظاهره وباطنه، ثم تحددت مواضع النظر وأدرك الباحثون قوانين في العالم نشأت بها العلوم المختلفة يؤيدها التجربة والاستقراء والبرهان العقلي. وكلما خرجت طائفة من ظواهر الكون من الحدس إلى اليقين خرجت من حضانة الفلسفة حتى لم يبقى للفلسفة في العصر الحاضر إلا موضوعات لم تحط بها التجارب ولم تضبطها البراهين وهي ما وراء الطبيعة، والنفس، والأخلاق، والنطق، والجمال الخ
نحن نعترف بأن العلم لا يبحث في حقيقة موضوعه ولكن في خصائصه. فهو لا يبالي بحقيقة الزمان والمكان والمادة، بل يبحث في خصائصها ومظاهرها، ولكن هذا لا يستلزم أن تكون العلوم الظنية والفلسفة يقينية، بل مجال الظن والغرض أوسع في الفلسفة منه في العلم. وقصارى القول أنه ينبغي التفريق بين غاية العلم والفلسفة ومباحثهما، فغاية العلم بحث ظواهر ولكن مباحثاته قائمة على الحس والتجربة، وغاية الفلسفة النفاذ إلى حقائق الأشياء ولكن مباحثهما مليئة بالحدس والظن
2 - أين بدأت الفلسفة؟
قال المصنفان تحت هذا العنوان: (لعلك الآن في ضوء هذا التحليل الذي تقدمنا به إليك تدرك معنا أن هذا الضرب من التفكير الذي يحاول أن يوحد بين ظواهر الكون المتنافرة والذي يرفض التسليم الساذج رفضاً تاماً، والذي يسمو بالعقل فوق المستوى المادي من حيث أسلوب التفكير وصور الفكر - نقول لعلك تذهب إلى ما ذهبنا إليه من أن هذا التفكير الفلسفي الصحيح لم ينشأ ولم يتم إلا عند شعب واحد دون الشعوب القديمة جميعاً هم اليونان القدماء:)
وقالا في الصفحة 16: (لم تستمد الفلسفة اليونانية أصولها من تلك الأمم القديمة ولكن خلقها اليونان خلقاً وأنشئوها إنشاء. فهي وليدتهم وربيتهم ليس في ذلك ريب ولا شك:) فأما ادعاء(98/76)
أن الفلسفة على هذا النحو لم تنشأ إلا عند اليونان فهو مجازفة. ولو اطلعا على فلسفة الهند مثلاً لاقتصدا في هذه الدعوى. ولعلهما يسمعان عما قليل بقصة الفلسفة الشرقية كما أسمعا الناس قصة الفلسفة اليونانية. وقد ذكرا في أول الفصل الثاني أن فيثاغورس رحل إلى مصر وبلاد الشرق، وقالا في آخره: (وأنت ترى من ذلك أنهم (الفيثاغوربين) خطوا بالفلسفة خطوة جديدة نحو التفكير المجرد، فبدأت الفلسفة منذ ذلك الحين تتحلل بعض الشيء من تلك النزعة الطبيعية التي سادت عند فلاسفة يونيا لتستقبل صبغة جديدة - هي صبغة الفلسفة في أصح معانيها - أعنى التفكير المحض فيما وراء الطبيعة وظواهرها. الخ) وقالا في الفصل السادس إن ديمقريطيس (كان واسع العلم، راغباً في تحصيله رغبة حارة. . . . وقد حفزته تلك الرغبة الملحة في التحصيل إلى الرحلة في أقطار الأرض، فزار مصر وجاس خلالها، وعرج على بابل وطوف في أنحائها.) فإن يكن فيثاغورس الذي تعلم في مصر ورحل إلى الشرق قد نحا في الفلسفة نحواً جديداً، وارتقى بها إلى التفكير المجرد الذي هو أقرب إلى الشرقيين، فلم نجزم جزماً أن فلاسفة اليونان لم يستمدوا قط من الأمم الأخرى؟ وإن يكون ديمقريطيس وهو إمام مذهب في الفلسفة رحل إلى مصر وبابل في طلب العلم فكيف نجزم بأن اليونان لم يأخذوا عنهم (ليس في ذلك ريب ولا شك)
3 - وقالا ص33 أثناء الكلام على آراء الفيثاغوريين:
(أي انك تستطيع أن تتخيل في غير عسر كوناً يخلو من اللون والطعم والحرارة). وقد جهدت أن أتخيل عالماً لا لون له فلم يتيسر لي
4 - في الكلام على هرقليطس ص56 (بعد أن عمر نحو ستين عاماً كان فيها معاصراً لبارمنيدز.) والعبارة توهم أنه عاصر بارمنيدز ستين عاماً، وليس هذا مقصوداً كما يعرف من تاريخ الرجلين
5 - في الكلام على السوفسطائيين ص99: (ومن أجل ذلك سمي اللعب بالألفاظ والتهريج في الحجج سفسطة اشتقاقاً من السوفسطائيين.) وكان ينبغي هنا تفسير كلمة سوفسطائي في وضعها الأصلي حتى لا يتوهم القارئ أن فيها معنى السفسطة المعروف
6 - تكلم المصنفان على الأحوال السياسية والاجتماعية في بلاد اليونان عند ظهور السوفسطائيين ليبينا أثرها في فلسفتهم، ولم يذكر آثار الحروب الفارسية المتمادية، وكانت(98/77)
ذات أثر بليغ في اليونان
وهناك هنات لفظية كثيرة نتركها حتى نفرغ من نقد الآراء والمعاني(98/78)
العدد 99 - بتاريخ: 27 - 05 - 1935(/)
إلى بعض الكبراء. . .
عندكم يا سادتي المال، ولكم الجاه، وكان فيكم الحكم، فلم تأبون أن يكون معكم المجد أيضاً؟ رفعناكم واتضعنا، وحكّمناكم وأطعنا، ثم صغنا مجداً ألقاباً لعظمتكم، وحشدنا أبناءنا جنداً لسطوتكم، وجعلنا أموالنا مدداً لثروتكم، وقلنا أفراد تقويهم روح الجماعة، ورموز تلبسهم فكرة الوطن، وألوية ترفعهم سواعد الأمة، فإذا ضعفكم ينوء بقوة الحكومة، وإسفافكم يهبط بسمو المنصب، وارتفاعكم كارتفاع الأسهم النارية: فرقعة ولألا، ثم سقوط وفناء!
يزعم أرباب الشعر وأصحاب الخيال أن الإنسان ملكٌ مُرنَّق الجناح هبط من سمائه ولم يصعد، فهو لا ينفك ما عاش نزوعاً إلى موطنه! وهم يعنون بذلك أن الإنسان بالجزء الإلهي الذي فيه مسوق إلى الكمال مشوق إلى الرفعة، فهو يفرغ من مطالب الجسد ليخلص إلى رغائب الروح، ويبتدئ بالأثرة في ضيق الأنانية لينتهي إلى إيثار في سعة الغيرية، وينشأ على هوى الطبيعة معنى جزئياً ليعود بحكم التطور فكرة إنسانية! فما الذي قتل فيكم هذا النزوع السماوي، وصرف عنكم هذا الطموح المقدس، فقيدتكم جاذبية المادة، وعقلتكم شهوة الغرض، وأبيتم على نداء البطولة واسحثاث الرجولة إلا أن تكونوا ناساً كأقل الناس، لكم كروش لا تكتفي، ونفوس لا تشتفي، وأطماع لا تحد
ربما علل النفسيون هذا الميل الشاذ في بعض كبراء اليوم، بأنهم من فقد الخلق الصالح في قصور ذاتي معنوي لا ينفك؛ فهم يرتفعون قذفاً في السماء، ويسقطون جذباً إلى الأرض، ولا يشعرون إلا كما يشعر الحجر بأن القاذف المجهول رمى بهم أماني فوق، وسحق بهم أناسّ تحت!!
كذلك من يتعلم ولا يتربى، ويتربى ولا يتدين، ويتحرك ولا يقصد، ويتصرف ولا يريد! أولئك يحُدون دنياهم بالأفق، ويختمون حياتهم بالموت، ويزنون سعادتهم بالمادة، ويضخمون على أقوات الشعب ضخامة الفيلة المروضة ليكونوا مركباً للملوك، وفرجة للناس، وغذاء للأرض!! وهؤلاء أنماط من الخلق كانوا صُبابة العهد القديم رسبت فيها أكداره وشوائبه، ثم كانوا بحكم تخلفهم جسراً محطم الأركان مهدَّم القواعد، لابد للجيل الجديد من اجتيازه لينتقل من عالم إلى عالم، ويخرج من عصر إلى عصر، فهو يحملنا على اضطراب وخلل، ونحن نعبره على احتراس ومهل، وفي هذا الاحتراس وذلك الاضطراب سر ما ترى في خُطانا من قِصَر وفي نهضتنا من بطء(99/1)
ما علة هذه الهزيمة في مصر، وما سبب هذا الخلاف في فلسطين، وما باعث هذه الثورة في العراق؟ لا تلتمس دواعي ذلك كله في كيد الدخيل وخداع العدو، فإن الغاصب يستطيع إن شاء أن يسلبك مالك بالحيلة، أو استقلالك بالغيلة، ولكنه لا يستطيع أن يفتنك عن شرفك وخلقك وضميرك وأنت رجل! إنما يدفع هذه الفيلة الأهلية الغُلف بخراطيمها الماحقة، وأخفافها الساحقة، وإهابها الصفيق، فتسوّى أمامه الأرض، وتمهد له الطريق، وتحمل له فوق ظهورها العرش!
إن مشكلة الدستور، وقضية (نزاهة الحكم) برهانان صارخان على أننا أُُتينا يوم أُُتينا من ناحية الخلق! وتلك ناحية لا يحصنها وا أسفاه شهادة تُعطى، وخطبة تُلقى، ومقالة تُكتب؛ إنما يحصنها الله بدينه، والمعلم بتهذيبه، والأب بسيرته، والزمن بطوله. وهل في سيادتنا وكبرائنا الذين أضلونا السبيل من لم يشدُ شيئاً من العلم في المدارس، ويدرك ذرواً من الأخلاق في الكتب؟ ولكن علم هؤلاء بالحلال والحرام كعلم القاتل واللص، لا يعصم النفس، ولا يوقظ الضمير، ولا ينفي الجهل، ولا يمس الحياة العملية! فنحن كما ترى مقضيّ على نهضتنا بالتثاقل، وعلى أمتنا بالتخاذل، حتى يصبح الدين قائماً، والضمير حاكماً، والعمل عقيدة، والإحسان طبيعة، والواجب مرعياً، والتبعة مفروضة؛ وحينئذ ينتظم وضعنا الشاذ، ويتسق وجودنا النافر، وتنفق من السُّلال مطايا الرجعية الذميمة!
قل لأولئك الذين أحرقوا روما وما زالوا يعزفون أناشيد الجحيم على أوتار نيرون! ماذا جنى هذا الشعب الكريم حتى سفهتهم حقه في الحياة، وأضعتم نصيبه من الحرية؟ كان في يديه دستور فأين ذهب؟ وفي طريقه استقلال فأين اختفى؟ وفي تاريخه ستة عشر عاماً حامية بالجهاد، دامية بالضحايا، فأين قطوفها المشتهاة، وحصائدها المرجوة؟
تصرفتم في حقوقه تصرف السفيه في المال المتروك، واتخذتم من مرافقه وسائل للكيد الأحمق وموارد للربح الخاص، وجعلتم من وحدته أولياء لا يعدوهم الإحسان وخصماء لا تُغبهُّم الإساءة، ونسيتم أن في البلد احتلالاً يقظ الرأي، كلوء العين، يحصى عليكم الأنفاس، ويتربص بكم الدوائر!
كان يقظان وكنتم غارّين، فدلف إلينا من جهتكم، واحتج علينا بخطئكم، ثم ذبكم عن الحكم ذبَّ البعوض، وقبض بيديه العاريتين على سياسة البلاد، ووقف الأمة المنكودة بين الحيرة(99/2)
والشك في عواقب هذا الفساد!!
أحمد حسن الزيات(99/3)
5 - الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيَّب بن رافع: وأطرق الناسُ قليلاً بعد خبر (أبي محمد البصري)؛ إذ كان كلُّ منهم قد جمع باله لما سمع، وأخذ يحدسُ في نفسه ويراجعها الرأي؛ وكان المجلسُ قد امتدّ بنا منذ العصر وما يكاد النهارُ يشعرُ بأدباره، حتى اعترضت في شمسه الغبرةُ التي تعتريها إذا دنت أن تعربُ.
وكان إلى يساري فتى ريان الشباب، حسن الصورة، وضيءٌ مشرق له هيئة وسمت، أقبل على الأيام وأقبلت الأيام عليه
فسمعني أطن على أذن (مجاهد الأزدي)؛ وكنت اعرفهُ شاعراً في كلامه وشاعراً في قلبه؛ فقلت له: إنه لم يبقَ من النهار يا مجاهد إلا مثلُ صبر المحبِّ دبا له الموعد، ولم يبقَ من الشمس إلا مثلُ ما تتلفف صاحبته، تأخذُ عليها ثوبها وغلائلها ولكن بعد أن تسقطها من هنا ومن هنا، لترى جمال جسمها هنا وهنا!
فاهتز الفتى لهذه الكلمات وسالت الرقَّة في أعطافه وقال: ياعم، أما ترى ما بقى من النهار كأنه وجهُ باكٍ مسح دموعه وليس حوله إلا كآبة الزمن؟
قلت: كأن لك خيراً يا فتى، فإن كان شأنك مما نحن فيه فقصَّه علينا وعلّ لنا به سائر الوقت إلى أن تجب الشمس، ولعلك طائرٌ بنا طيرةً فوق الدنيا.
قال: فمهْ؟
قلت: تقومُ فتتكلم، فإني أرى لك لساناً وبياناُ
قال: أو يحسن أن أتكلم في المسجد عن صرعه الحب وصريعه، وعاشقةٍ وعاشق؟
فبادر مجاهدٌ فقال: ويحك يا فتى! لقد تحجرت واسعاً؛ إن المؤمن ليصلّى بين يدي الله وكتابُ سيئاته في عنقه منشورٌ مقروء. وهل أوقات الصلاة إلا ساعاتٌ قلبية لكل يومٍ من الزمن، تأتي الساعة مما قبلها كما تأتي توبةُ القلب مما عمل الجسم؟ إنما يتلقَّى المسجدُ من يدخله لساعته التي يدخله فيها، ولو أنه حاسبه عن أمسِ وأول منه وما خلا من قبل، لطردهُ من العتبة! إن المسجد يا بني إنما يقول لداخله: أدخل في زمني ودع زمنك، وتعال إلي أيها الإنسانٌ الأرضي، لتتحقق أن فيك حاسةً من السماء، وجئني بقلبك وفكرك، ليشعرا ساعةً(99/4)
إنهما في لا فيك. ولسنا الآن يا بني في متحدثٍ كنديِّ القوم يتطارحون فيه أخبارهم، بل نحن في مجلس علمٍ تكلمت فيه رقبةُ هذا ورقبةُ هذا بما سمعت؛ فقم أنت فاذكر علم قلبك وقص علينا خبر طيش الحبَّ والشباب الذي يشبه الكلام فيه أن يكون كلاماً عن الصعود إلى القمر والقبضِ من هناك على البرق!
قال المسيّب: فانتهض الفتى، ورأيت مجاهداً يتنهّد كأنما انصدعت كبده؛ فقلت: ما بالك؟ قال: إن شبابي قد مرّ على الساعة فنسمت منه في بردة هذا الفتى، ثم فقدته فقداً ثانياً فهرمت هرماً ثانياً، وجاءني الحزن من إحساسي بأني شيخ حزن من همّ أن يدخل باب حبيبٍ ثم رُدّ. . .!
وتحدث الفتى، فإذا هو يديرُ بين فكيه لسان شاعرٍ عظيم، يتكلم كلامه بنفسين: أحدهما بشريةٌ تصنع المعنى واللفظ، والأخرى علويةٌ تلقى فيها النار والنور
قال: إن لي قصة أيُها الشيخ، لم يبقى منها إلا الكلامُ الذي دفنت فيه معانيها؛ وقد تأتي القصة من أخبار القلب مفعمة بالآلام والأحزان، لا يراد بآلامها وأحزانها إلا إيجاد أخلاق للقلب يعيش بها ويتبدّل. والذي قُدِّر عليه الحبُّ لا يكون قد أحب غيره أكثر مما يكون قد تعلم كيف ينسى نفسه في غيره، وهذه كما هي أعلى درجات الحبّ - فهي أعلى مراتب الإحسان
ومتى صدق المرءُ في حبّه كانت فكرتهُ فكرتين: إحداهما فكرةٌ والأخرى عقيدةٌ تجعل هذه الفكرة ثابتة لا تتغيّر؛ وهذه كما هي طبيعة الحب فهي طبيعة الدِّين
ولا شيء في الدنيا غير الحب يستطيع أن ينقل إلى الدنيا ناراً صغيرة وجنة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفس واحدةٍ أو نعيمها! وهذه حالة فوق البشرية.
والفضائلُ عامَّتُها تعمل في نقل الإنسان من حيوانيته، وقد لا تنقل إلا أقلّه ويبقى في الحيوانية أكثره؛ ولكن الحب الصادق يقتلع الإنسان من حيوانيته بمرةٍ واحدة، بيد أنه لا يكون كذلك إلا إذا قتله بآلامه؛ فهو كأعلى النسك والعبادة.
كان من خبري أني دٌعيتُ يوماً إلى ما يدعى لمثله الشباب في مجلس غناءٍ وشراب يا له من مجلس! وقد قال تعالى: (إن اللهَ لا يَسْتَحي أن يَضرِبَ مَثلاً ما بَعُوضةً فما فوْقَها) والبعوضةُ في قصتي أنا كانت امرأة نصرانيّة. . . قينة فلان المغنية الحاذقة المحسنة(99/5)
المتأدبة، تحفظ الخبر وتروي الشعر، وتتكلم بألفاظ فيها حلاوة وجهها، وتخلق النكتة إذا شاءت خلق الزهرة المتفتحة عليها سقيط الندى؛ وتجدُّ بالحديث ما شاءتْ وتهزل، فتجعل للكلام عقلاً وشهوة تضاعفُ بهما من تحدثه في شهواته وعقله!
وستجري في قصتها ألفاظ القصة نفسها، لا أتأثَّمُ من ذلك ولا أتذمم؛ فقد ذكر الله الخمر بلفظ الخمر ولم يقل: (الماء الذي فيه السكر)، ووصف الشيطان ولم يقل: (الملك الذي عِمل عملَ المرأة الحسناء في تكبرها)، وذكر الأصنام بأنها الأصنام ولم يُسمِّها: (حاملة السماء التي يصنعها الإنسان بيديه)، وحكاية ما بين الرجل والمرأة هي كلامٌ يقبِّل بعضهُ بعضاً ويلتزمُ ويتعانق!
قال المسيَّب: فتبسم إمامنا ونظرتْ عيناه تسألان سؤالاً. أما مجاهدٌ الأزدي فكان من هزةِ الطَّرب كأنه على قتب بعير، وقال: لله دَرُّه فتىً، إن هذا لبيان كحيلُ العين. . .
ثم قال الفتى: وذهبت إلى المجلس وقد جعلته هذه المغنيةُ من حواشيه وأطرافه كأنه تفسيرٌ لها هي. أما هي فجعلتْ نفسها تفسيراً لكلمةٍ واحدة هي: (اللذّة. . .)
قال المسيَّب: وطرب مجاهدُ طرباً شديداً، وسمعته يخافت بصوته يقول: (لله درُّها امرأة، هذه، هذه عدوّةُ الحور العين!)
ثم قال الفتى: وتطرّب جماعة أهلِ المجلس إلى الشرب، وما ذقت خمراً قط، ولن أتذوقها ولو شربها الناس جميعاً، ولن أذوقها ولو أنقطع الغيثُ ولم تمطر السماء إلا خمراً؛ فأني مذ كنت يافعاً رأيت أبي يشربها، وكانت أمي تلومه فيها وتشتد في تعنيفه وتحتدم، وكانا يتشاحنان فينالُها بالأذى ويندرئُ عليها بالسبَّ وفحش القول. وسكر مرة وغلبه السكر حتى ثارت أحشاؤه فذرعه القيء فتوهمني وعاء، وجاء إلى وأنا جالس فأمسك بي وقاء في حجري، حتى أفرغ جوفه، وثارت أمي لتنتزعه وأنشأت تعالجه عني فتصارع جنونه وعقلها حتى كفأته على وجهة كالإناء؛ فالتوى كالحية بطناً لظهر وستجمع كالقنفذ في شوكه، ثم لكزها برجله أسفل بطنها فانقلبت، وأصاب رأسها إجانة العجين فتثلم تثليم الإناء كأنما شدخ ضرباً بحجر، وأنتثر دماغها على الأرض أمام عينيّ، ورأيتها لم تزد على أن دفعت بإحدى يديها في الهواء وضمت بالأخرى إلى صدرها، تتوهم أنها تحميني وتدفعه، ثم سكنت ولو لم تمت من الشجة في رأسها لماتت من الضربة في بطنها!(99/6)
قال المسيَّب: وأطرق الفتى هُنيهةً وأطرق الناسُ معه؛ فرفع مجاهد صوته وقال: رحمها الله! فقال الناس جميعاً: رحمها الله!
ثم قال الفتى: وكان عامة من في المجلس يعرفون ذلك مني، ويعرفون أنه لو ساغ لإنسان أن يشرب دم أمِّه ما شربتُ أنا الخمر. فقالوا للمغنيِّة: إن هذا لا يدخلُ في ديواننا. فنظرت إليّ، وهربتُ أنا من نظرتها بإطراقة؛ ثم قالت: تشربُ على وجهي؟ فقلت لها: إن وجهك يقول لي: لا تشرب. . . فتضاحكت وقلت: أهو يقول لك غير ما يقول لهؤلاء؟ فهربتُ من كلامها بإطراقةٍ أخرى، ووصلت الإطراقتان ما بيني وبين قلبها؛ وتنبه فيها مثل حنوِّ الأمّ على طفلها إذا آذته بلسانها فأطرق ساكتاً يشكوها إلى قلبها!
والتفت لمن حضر وقالت لهم: لست أطيبُ لكم ولا تنتفعون بيّ إلا أن تشربوا لي ولهُ ولأنفسكم، وانحطّ عليهم الساقي، فشربوا أرطالاً وأرطالاً، وهي بين ذلك تغنيّهم وقد أقبلت عليهم وخلا وجهها لهم من دوني وإنما تخالسني النظرة بعد النظرة
فوسوس لي شيطاني أن تشدد مع هذه بمثل عزمتك مع الخمر. ولكني كنتُ أُحدُّ النظر إليها، فمرةً أوامقُها نظرة المحبِّ للحبيب؛ وكأني بذلك كنتُ آخذها وأدعها، وأصلها وأهجرها. فقالت لي كالمنكر عليّ: ما بالك تنظر إليّ هكذا! ولكن هيئة وجهها جعلت المعنى: لا تنظر إليّ إلا هكذا. . .!
وأسرع الشرابُ في القوم وأفرط عليهم السُّكر؛ فبقيت لي وحدي وبقيتُ لها وحدها؛ ثم تناولت عودها وضمته إليها ضماً شديداً أكثر من الضمّ. . . وألمسته صدرها ونهديها، ثم رنت إليّ بمعنى، فما شككتُ أنها ضمةٌ لي أنا والعود؛ ثم غنت هذا الصوت:
ألا قاتل اللهُ الحمامة غُدوةً ... على الغصن؛ ماذا هيجتْ حين غنتِ؟
فما سكتت حتى أويتُ لصوتها، ... وقلتُ: تُرى هذى الحمامة جنتِ؟
وما وجْدُ أعرابيةٍ قذفتْ بها ... صُروفُ النوى من حيث لم تكُ ظنتِ. . .
إذا ذكرتْ ماَء العضاهِ وطيبَه، ... وبرْد الحمى من بطنِ خبتٍ، أرنِّتِ. . .
بأكثر مني لوعةً، غيرَ أنني ... أجمجمُ أحشائي على ما أجنتِ!
وغنَّته غناءً من قلبٍ يئنّ، وصدرٍ يتنهّد، وأحشاءٍ لا تخفى ما أجنتْ؛ وكانت ترتفع بالصوت ثم كأنما يهمي الدمعُ على صوتها، فيرتعش ويتنزّل قليلاً قليلاً حتى يئنَ أنين(99/7)
الباكية، ثم يعتلج في صدرها مع الحب، فيتردد عالياً ونازلاً، ثم يرفضُّ الكلامُ في آخره دموعاً تجري
قال المسيَّب: فنظر إليّ مجاهد وقال: عدُوّةُ الجنة والله هذه يا أبا محمد، لا تقبل الجنةُ من يكون معها. تقول له: كنتَ مع عدُوتي!
ثم قال الفتى: وكان القوم قد انتشوا، فاعتراهم نصف النوم وبقى نصف اليقظة في حواسهم، فكل ما راؤه منا راؤه كأحلام لا وجود لها إلا خلف أجفانهم المثقلة سكراً ونعاساً. ووثبت المغنيةُ فجاءت إلى جانبي والتصقت بيّ، وأسرع الشيطانُ فوسوس لي: أن أحذر فأنك رجلُ صدق، وإذا صدقت في الخمر فلا تكذبنّ في هذه، ولئن مسسْتها إنها لضياعك آخر الدهر!
فعجبتُ أشدّ العجب أن يكون شيطاني أسلم وأعنْت عليه كما أعين الأنبياء على شياطينهم. ولكن اللعين مضى يصدُّني عن المرأة دون معانيها، وكان مبني كالذي يُدني الماءَ من عيني القتيل المتلهبِ جوفه ثم يجعله دائماً فوتَ فمه، ولقد كنتُ من الفحولة بحيث يبدو لي من شدة الفورةٍِ في دمي وشبابي أن أجمع في جسمي رجالاً عدةٍ، ولكن ضربني الشيطانُ بالخجل فلم أستطع أن أكون رجلاً مع هذه المرأة
وعجبتْ هي لذلك وما أسرع ما نطق الشيطانُ على لسانها بالموعظة الحسنة. . .! فقالت: لقد أحببتك ما لم أحبّ أحداً، وأحببتُ خجلك أكثر منك، فما يسرُّني أن تأثم فيّ فتدخلَ النار بحبي، ولو أنك ابتعتني من مولاي؟ فقلت: بكم اشتراكِ؟ قالت: بألف دينار! قلت: وأين هي مني وأنا لو بعت نفسي ما حصلت لي؟
فتمم الشيطانُ موعظته وقالت: إن قلبي قبلك غنياً كنت أو فقيراً، وأحسّ بك وحدكُ حبِّ العذراء أول ما تُحبّ، وأنا - كما تراني - أعيش في السيئات كالمكرهة عليها، فأعمل على أن تكون أنت حسنتي عند الله، أذهب إليه حاملةً في قلبي إياك وعفتي عنك، ولئن كانت عفةُ من لا يشتهي ولا يجد تعدُّ فضيلة كاملة، إن عفة من يجد ويشتهي لتعدُّ ديناُ بحاله. ولا يزال حبي بكراً، ولا أزال في ذلك عذراء القلب، وهؤلاء قد نزعوا الحياء عني من أجل أنفسهم، فألبسينهِ أنتَ من أجلك خاصة، وإن قوة حبي الذي سيتألم بك ويتعذب منك لطول ما يصبر عنك، ستكون هي بعينها قوةً لفضيلتي وطهارتي ثم تناولتْ عودها(99/8)
وسوته وغنتْ:
فلو أنا على حجر ذُبحْنا ... جرى الدّميان بالخبر اليقين
وجعلت تتأوه في غنائها كأنها تُذبح ذبحاً، ثم وضعت العود جانباً وقالت: ما أشقاني! إذا اتفقت لي ساعةُ زواجي في غير وقتها فجاءت كالحلم يأتي بخيال الزمن فلا يكون فيه إلا خيال الأشياء
ثم سألتني: ما بالك لم تشرب الخمر ولم تدخل في الديوان؟ فبدر شيطاني المؤمن. . . وساق في لساني خبر أمي وأبي، فانتضحت عيناها باكية وتم لها رأيٌ فيّ كرأي أنا في المسكُر؛ وكان شيطانها بعد ذلك شيطاناً خبيثاً مع أصحابها، وبطريقاً زاهداً معي أنا وحدي!
ورأيتها لا تجالسني إلا مُتزايلة كالعذراء الخفرة إذا انقبضت وغطت وجهها، وصارت تخافني لأنها تحبني، وهيّبني الشيطان إليها فعادت لا ترى فيّ الرجل هو تحت عينيها الثَّيِّبتين. . . ولكن القديس الذي تحت قلبها البكر
ولم يعد جمالي هو الذي يعجبها ويصبيها، بل كان يعجبها مني أني صنعةُ فضيلتها التي لم تصنع شيئاً غيري. . .
وأنطلق الشيطانُ بعد ذلك فيّ وفيها بدهائه وحنكته وبكل ما جرَّب في النساء والرجال من لدن آدم وحواء إلى يومي ويومها. . .! فكان يجذبني إليها أشدَّ الجذب، ويدفعها عني أقوى الدفع، ثم يغريني بكل رذائلها ولا يغريها هي إلا بفضائلي. وألقى منها في دمي فكرة شهوةٍ مجنونةٍ متقلّبة، وألقي مني في دمها فكرةٍ حكمةٍ رزينةٍ مستقرّة. وكنت ألقاها كلُّ يومٍ وأسمع غناءها؛ فما هو بالغناء ولكنه صوتُ كلُّ ما فيها لكل ما فيّ، حتى لو التصق جسمها بجسمي وسار البدنُ البدن، وهمس الدم للدم، لكان هو هذا الغناء الذي تغنيه
وأصبحت كلما استقمتُ لحبها تلوّت عليّ؛ إذ لستُ عندها إلا الأمل في المغفرة والثواب، وكأنما مسختُ حبلاً طوله من هنا إلى الجنة لتتعلّق به. وعاد امتناعها جنوناً دينياً ما يفارقها، فابتلاني هذا بمثل الجنون في حبها من كلف وشغف
وانحصرت نفسي فيها، فرجعتُ معها أشد غباوةً من الجاهل ينظر إلى مدّ بصره من الأفق فيحكم أن ههنا نهاية العالم، وما ههنا إلا آخر بصره وأوّلُ جهله. وانفلت مني زمامُ روحي، وانكسر ميزان إرادتي، وأختل استواء فكري، فأصبحت إنساناً من النقائض المتعادية أجمع(99/9)
اليقين والشك فيه، والحبّ والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها. وفي أقل من هذا يخطفُ العقل، ويتدلّه من يتدله
ثم ابتليتُ مع هذا اللّمم بجنون الغيظ من ابتذالها لأصحابها وعفتها معي، فكنت أتطاير قطعاً بين السماء والأرض، وأجدُ عليها وأتنكر لها، وهي في كلُّ ذلك لا تزيدني في حالةٍ واحدة من الرهبانية؛ فكان يطير بعقلي أن أرى جسمها ناراً مشتعلة، ثم إذا أنا رمتهُ استحال ثلجاً. وقرحت الغيرة قلبي وفتّتت كبدي من عابدة الشيطان مع الجميع، الراهبة مع رجل واحد فقط. . . .!
ورجعت خواطري فيها مما يعقل وما لا يعقل؛ فكنت أرى بعضها كأنه راجع من سفرٍ طويل عن حبيب في آخر الدنيا، وبعضها كأنه خارج من دار حبيبٍ في جواري وبعضها كأنه ذاهب بيّ إلى المارستان. . .!
ورأيتنا كأننا في عالمين لا صلة بينهما ونحن معاً قلباً إلى قلب، فذهب هذا بالبقية التي بقيت من عقلي؛ ولم أرَ لي منجاةً إلا في قتل نفسي لأزهق هذا الوحش الذي فيها
وذهبتُ فابتعت شعيرات من السم الوحي الذي يُعجل بالقتلِ، وأخذتها في كفي وهممتُ أن أقمحها وأبتلعها، فذكرت أُمي، فظهرت لخيالي مشدوخة الرأس في هيئة موتها، وإلى جانبها هذه المرأة في هيئة جمالها، وثبتت على عيني هذه الرؤيا، وأدمنتُ النظر فيها طويلاً فإذا أنا رجلٌ أخر غير الأوّل، وإذا المرأة غير تلك، وطغت عبرةُ الموت على شهوة الحياة فمحتها، وصح عندي من يؤمئذٍ أن لا علاج من هذا الحبّ إلا أن تقرن في النفس صورة امرأة ميتة إلى صورة المرأة الحيّة، وكلما ذكرت هذه جيء لها بتلك، فإذا استمر ذلك فإن الميتّة تميتها في النفس وتميت الشهوة إليها، ما من ذلك بُد، فليجربه من شك فيه
وانفتح لي رأى عجيب، فجعلت أتأمل كيف آمن شيطاني ثم كفر بعد، على أن شيطانها هي كفر في الأول ثم آمن في الآخر؟ فوالله ما كنت إلا غبياً خامد الفطنة إذ لم يسخ لي الصواب حتى كدت أزهق نفسي وأخسر الدنيا والآخرة؛ فإن الشيطان - لعنه الله - إنما ردّني عن الفاحشة وهي ذنب واحد ليرميني بعدها في الذنوب كلها بالموت على الكفر!
وردّ إلى هذا الخاطرُ ما عزب من عقلي؛ ومن ابتلى بلاءٍ شديد يزلزل يقينه ثم أبصر اليقين، جاء منه شخص كأنما خلق لساعته؛ فلعنت شيطاني واستعذتُ بالله من مكره،(99/10)
وألقيت السمّ في التراب وغيَّبته فيه، وقلتُ لنفسي: ويحك يا نفس! إن الحياة تعمل عملاً بالحي، أفترضين أن تعمل الحياةُ بأبطالها ورجالها ما عرفت وما علمت، ثم يكون عملها بك أنت القعود ناحية والبكاءَ على امرأة؟
أيُتها النفس، ما الفرق بين سرقة لحم من دكان قصاب، وبين سرقة لحم امرأة من دار أبيها، أو زوجها، أو مولاها. .؟ أيُتها النفس إن إيمان أسلافنا معنا؛ إن الإسلام في المسلم
قال المسيَّب: وهنا طاش مجاهد واستخفه الطرب، فصاح صيحة النصر: الله أكبر! وجاوبه أهل المسجد في صيحةٍ واحدة: الله أكبر! ولم يكد يهتف بها الناس حتى ارتفعت صيحة المؤذِّن لصلاة المغرب. الله أكبر. . .
(انتهى المجلس، وبقيت لحديث المسيَّب بقية)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(99/11)
سبيل المدنية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
رآني مرةً صاحبٌ لي آكل لحماً نيئاً، فاستغرب، وسألني عنه كيف أجده؟ قلت: أطيب ما يكون، فأبى أن يصدّق، وذهب يكابر، وجعل يسأل: (كيف تستطيبه وهو نيئ؟)
قلت: (يا أخي إن المسألة ليست مسألة منطق وجدل، إنما هي مسألة طعام، فخذ منه وذق، وأنظر بعد ذلك كيف تجده، ثم إنه لا شك أخف على المعدة وهي أقدر على هضمه من اللحم الذي أنضجته النار، وأثقله ما يخلط به)
فهز رأسه منكراً، وأبى أن يجرب. ومضت أيام، فاشتهيت أن آكل كبداً نيئة، فصارت الخادمة بعد ذلك تعلن الخوف مني ولا تخفيه، وتغلق عليها الأبواب حين تنام، كأنما خشيت أن آكلها حية، ثم لم تطق صبراً فتركت البيت، وتحدث إلى المخدم بأني (غول) فتعذر عليه أن يقنع غيرها بالعمل في بيتي، فجئت بواحدة من الريف ويخيل إلي أن المدينة تضعفنا من حيث ترقينا، وتشيع في نفوسنا روح الأنوثة، فنزداد عليها رقة وتطريا، ولا نزداد قوة وقدرة على المقاومة. فنحن مثلاً نقاوم البرد بالثياب لا بأجسامنا وما فيها من المناعة الطبيعية التي تستفاد من التجرد، ولا يستطيع الواحد منا أن يخطو عشر خطوات بقدم حافية، وما أكثر ما تسمع الأم تحذر ابنها أن يمشي حافياً حتى في البيت مخافة أن يصيبه أذى من الرطوبة أو نحوها. والخبز يوضع على المائدة في طبق حتى لا يمس السفرة، والأشواك والسكاكين والملاعق نوضع مستندة إلى قطع من الزجاج أو المعدن ترفع أطرافها، وهكذا في كلُّ شيء، ولكن القطة مثلاً تعتمد إلى كوم الزبالة فتنبشه وتأكل ما تجد فيه من فتات الخبز أو غيره، والكلب يقضم العظام مخلوطة بالتراب فلا يصاب بسوء ولا تعروه حمى، وينام تحت عين الشمس فلا تضربه، وإذا جاء الشتاء لم يتخذ لحافاً ولا شبه. وحدثني طبيب يعمل في الريف أنهم قلما يعنون بتطهير أدوات الجراحة في مستشفيات القرى عنايتهم بذلك في المدن، ولا يرون أن هذا يضير المرضى، أو يحدث لهم تسمماً، وهو يعلل ذلك بأن الأجسام في القرى أعظم حصانة وأقوى مناعةً لكثرة تعرضها، على خلاف الحال في المدن
ونصحني مرة طبيب من أصدقائي أن أكف عن أكل اللحم وأن أقتصر في طعامي على(99/12)
الخضر والفاكهة، فقلت له: (لا يا صاحبي، فأني أرى الحيوان أقواه آكل اللحم وأضعفه آكل النبات، وأنا أكره لنفسي أن أحيا حياة خروف. والعمر طوله أو قصره لا قيمة له، وليست العبرة بأيام تزداد في الأجل أو تنقص منه، فأنه إلى انتهاء على الحالين، (ومرجوع وهاج المصابيح رمدد) كما يقول الشاعر، ولأن يحيا المرء حياة قصيرة ولكنها قوية، خير ألف مرة من يعيش ألف سنة ويكون بغلاً أو حماراً)
فضحك ولكني كنت جاداً ومن ذا الذي لا يؤثر أن يكون نمراً على أن يكون ثوراً؟ أعني أن تكون له قوة النمر وصولته وبطشه، ولا بأس بالغدر والقسوة أيضاً، فأن لكل مزية ثمنها، وعسير أن تؤتي فضلاً وأن تسلم من عيب أو نقيصة؛ وإذا كان ثمن القوة القسوة أو الغدر، فأن ثمن الجمال الضعف، وهكذا في غير ذلك
وعلى ذكر ذلك إن الحب عند الحيوان تنزّ، وهو بين البدو شهوة تغري بالاستحواذ بالقوة أو الحيلة، ولكنه في ظل المدينة يستحيل حنين عاجزٍ، وصبوة حائرٍ، ولهفة ضائع، ودموع مفؤود، لا حيلة له ولا دواء من دائه إلا أن يرق له المحبوب ويحنو عليه كما تحنو الأم على طفلها الرضيع. والتماس معاني الجمال في الإنسان والحيوان والأشياء عنوان رقي ودليل على دقة الحس والتمييز، ولكنه أيضاً التماس لمعاني الضعف، وتطرٍّ من الإنسان، ونزوع إلى الأنوثة. وهذا كلام أحسب القراء سينكرونه ولا يقبلونه، ولعل منهم من يتوهمه إغراقاً في التخيّل، ولكنه الحقيقة - وسبيل المدينة هذا، ولا حيلة لي ولا لهم.
وأحسب أن في نفسي أثراً من آثار البداوة، فأني أحب الصحراء وأكره هذه البني العالية ولا أرتاح إلى الفرش الوفير، وأمقت التعقيد وأوثر البساطة في كلُّ شيء؛ وقد أرتاب بعض أهلي في صحة عقلي لما تزوجت، لا لأني تزوجت، فما في ذلك من بأس، بل لأني قلت لهؤلاء الأهل لما أبلغوني أن صاحبهم يأبى أن يزوجني الصغرى قبل تتزوج الكبرى: (قولوا له أني سآخذها على الرغم منه إذا لم آخذها برضاه)
فعجبوا وقال قائلهم: (كيف؟ في أي عصر نحن؟ أم تريد أن تحدث حدثاً في الأسرة؟)
قلت: (كلُّ ما أعرفه أني أطلبها وأني سآخذها - خطفاً أو غصباً أو سرقة - آخذها والسلام، فقولوا ما بدا لكم، وظنوا ما شئتم، ولكني أنصح لكم أن تردوا صاحبكم إلى الرشد)
فلم يسمع منهم، فكان أن أخذتها على رغم كلُّ أنف - إلا أنفها! ولم أخطفها ولم أسرقها،(99/13)
ولكني أحسنت التدبير وجودت الحيلة. وما معنى أن أطلب شيئاً، وأروح أنحسر وأتلهف وأقطع قلبي عليه؟ هذا كلام فارغ! والطلب يقتضي السعي، فأما أن يوافق المرء وإلا فليقصر إذا عزه المطلب، ولكنها المدنية تحيل النفوس كالورق المبلول، فمن كان يريغ القوة فليجفف نفسه قليلاً، ولينأ بها عنا الترف والرقة
وقد قرأت للكاتب الإنجليزي هـ. ج. ولز، قصة لا أذكر أسمها، ولكني أذكر أنه يتخيل أن البطل انتقل إلى كوكب آخر أرقى من هذه الأرض، وأعلى في درجات الحضارة وأسبق إليها ببضعة آلاف من السنين، فكان أن ظهرت الأنفلونزة، ففشت بسرعة ولم يدرِ سكان هذا الكوكب كيف يتقونها أو يصدونها، لأن جرثومتها لا تجد من أجسامهم مقاومة، فأخذوا يعزلون المصابين بالطيارات
وهذا فعل المدينة لأنها ترمي إلى التسهيل والتيسير على الإنسان والتخفيف عنه، ورفع مؤونة الكد والتعب، وهذا مفضٍ إلى التطري والضعف. وقد قيل للمشترع الإسبرطي مرة: (ألا تبني لنا سوراً يقينا الغارات المفاجئة؟)
فقال: (كلا. خير سور ما كان من اللحم والدم)
يريد أن يقول إن بناء السور من الحجر يغري بالاستنامة والاطمئنان ويؤدي إلى الضعف، أما إذا بقيت المدينة بلا سور يحميها فإن هذا يبعث على تنبه أهلها ويقظتهم ويدفعهم إلى الاستعداد الدائم، فلا تضعف نفوسهم ولا تذهب رجولتهم. وهذا صحيح. وقس على ذلك في سائر الأمور.
إبراهيم عبد القادر المازني(99/14)
من آثار هوجو
أمبير جلوا
رمز الشبيبة المعذبة
للآنسة النابغة (مي)
بمناسبة انقضاء خمسين عاماً على وفاة فيكتور هوجو، سيكون النظر في كتاباته والتحدث عنها من خير الوسائل للاحتفاء بذكراه، بل هو أحسنها على الإطلاق، لأن الشاعر يعيش بآثاره لا بما يقول الناس عنه، ولا بما يصنعون (لتخليد) اسمه
ومن آثار هوجو ما هو خصيص بعصره، ومنها ما لن يستوعبه إلا المستقبل، ومنها ما هو لكل زمنٍ وكل مكان، ومنها ما يخيل أنه وضع لأيامنا هذه. ومع أن حكاية أمبير جلوا من أقل كتابات هوجو ذيوعاً، فهي أكثر ما تكون انطباقاً على حالة طائفة من الشبان في هذا العصر، حتى في هذه البلاد - مع اختلاف نوع الحافز لانفعال الغرام
ومن يكون أمبير جلوا؟
هو فتى سويسري، ووالده يعلم الخط في مدارس جنيف، استغواه أسم باريس، فراح يجري وراء السرابِ الذي أغرى الكثيرين بأن تلك المدينة العظيمة هي عاصمة المغامرة بالمواهب والمضاربة، وأن كلُّ لبيبٍ باسلٍ يجد فيها المستقبل الذي يستحقه وخلاصة ما يصبو إليه من نجاح وثروةٍ وشهرةٍ ومجد. (فمن دخلها بلا حذاء، خرج منها في مركبة)
وقد دخلها أمبير جالوا في أكتوبر 1827، ومات فيها بؤساً ويأساً في أكتوبر 1828
عامٌ واحدٌ لا غير، لتحيا فيه جميع الآمال، ولتخيب فيه جميع الآمال. ويصف هوجو بطله شاباً مديد القامة، محني الظهر قليلاً، برّاق العينين، فاحم الشعر، وردي الوجنتين، يرتدي رادنجوتاً أبيض، وعلى رأسه قبعة قديمة. في الجملة الأولى يتلعثم إذا هو يذكر أسمهُ وأسم المدينة التي كان فيها طفلاً ثم أسم المدينة التي يريد أن يكون فيها رجلاً. هو في الحادية والعشرين من عمره، وثقته بنفسه أقلّ من ثقافة فكره ومن خصب جنانه. هو يسعل قليلاً؛ وبحركةٍ مرتبكةٍ يحاول إرجاع قدميه إلى الوراء تحت الكرسي. ربما ليخفي حذاءه الرث ذا(99/15)
الخروق، أو هو يحاول تدفئة قدميه بعض الشيء بعد تسرُّب ماء المطر إليهما من هاتيك الخروق. وبعد الكلمات الأولى يتركز صوته، ويتكلم بطلاقه، وتكاد تقتصر أحاديثه على شعراء إنجلترا. كذلك عرفهُ الرجال الثلاثة أو الأربعة من كبار الكتّاب والأدباء الذين رحّبوا به وشجعوه وساعدوه قدر المستطاع، مقدرين فكرهُ المشبوب وثقافتهُ وتأدبه وحسن بيانه
انتابته في الشهور الأولى حمى باريس، فأراد أن يرى كلُّ شيء ويسمع كلُّ شيء. لم يعن بأهل السياسة والتسوس، ولا بالمتحذلقين الذين لا هم لهم غير (قتل الوقت) والظهور، ولا بجماهير المتقاطرين لزيارة المكاتب والمتاحف، بل كان همه روح باريس الحية، ورسالة باريس الفكرية واتجاهات باريس في تطورها الفني. وحيث الجدل الأدبي واحتكاك الآراء فهو موجود، يساهم في الحديث والمناقشة، ويطرح أفكاره العديدة لمن يبغي النقد والتحميص
كذلك كان في الشهور الأولى. أما في الشهور الأخيرة فاستسلم لليأس، وقد مل كلُّ شيء، وزهد في كلُّ شيء. أترى مثله الأعلى كان أكبر من باريس أم أصغر؟
ليس من يعلم. إلاَّ أنهُ بات يوماً وقد أعرض عن الحياة، وكأنه قد صمم على الموت بدون انتحار. وكان عارفو مواهبه يمكنونه من مزاولة بعض الأعمال الكتابية التي يسعى إليها ويعيش عليها الألوف، كتحضير المواد اللازمة لتأليف المعاجم، وجمع المعلومات المقتضاة لتدوين سير العظماء - العمود الواحد منها بعشرين فرنكاً! فاشتغل قليلاً ثم أحجم. والعلة البطيئة التي لازمتهُ منذ الطفولة أخذت تتفاقم وتشتدّ بسرعة. وقد تلاشت آماله، واختفت من حواليه رؤى المجد المرجوّ، وأمتهن حتى ما تركه من منثورٍ ومنظوم، لعجز شعره بنثره عن تقديم شيء ولو صورة باهتة من نفسيّته المتفجّعة. وعندما قضى نحبه في الثانية والعشرين كان موقناً بأن شيئاً من آثاره لن يبقى
أما فكتور هوجو فيرى أنه كان مخطئاً، إذ بقيت منه رسالةٌ متقطعة كتبها في عدة شهور إلى أحد أصحابه السويسريين، ولا يقتصد هوجو في إعجابه بتلك الرسالة التي يعتبرها (اعترافاً سرياً من نفس قليلاً ما تشبه غيرها، على حين أنها صورة لجميع النفوس. وهذه هي ميزة تلك الرسالة: فهي الاستثناء، الشاذ، وهي الشيء الشائع المألوف)(99/16)
ونشر هوجو الرسالة بنصها المكتمل، فلم يحذف منها إلا الأسماء مراعاة لأصحابها. وإلى القارئ فقرات جوهرية من تلك الرسالة التي لا يتسع المجال لنشرها كلها. ففي هذه الفقرات ترتسم من أمبير جلوا صورته النفسية، مع خيال الغرام الواحد الذي عاش عليه إلى النهاية:
(اليوم 11 ديسمبر، ونحن في الساعة الثالثة. لقد مشيت، وقرأت. السماء جميلة، وأنا أتألم في تفطر. وصلت باريس في 27 أكتوبر، فأنا هنا أذبل وتذهب قواي بلا رجاء. عرفت ساعات وأياماً بتمامها لامس فيها يأسي الجنون. متعباً، في انقباض حسيّ وأدبي، متشنج النفس في هذه الأحياء المليئة بالوحل والدخان، كنت بلا توقف أهيم مجهولاً، وحيداً وسط جمهورٍ عظيم من الناس يجهل بعضهم بعضاً هم أيضاً)
(اتكأت ذات مساء على جدار جسر نهر (السين)؛ ألوف الأنوار تترامى إلى بعيد المدى، والنهر يجري، وكنت من الكلال بحيث لم أستطع مواصلة السير. وهناك، وقد نظر إلى بعض السابلة كأني مجنون، اشتدت على وطأة العذاب فلم أقو على البكاء. أنت في جنيف كنت أحياناً تمازحني هازئاً بشدة تأثراتي. وأنا هنا ألتهمها وحيداً، تلك التأثرات التي تنكل بي، ولا تفتأ تهتاجني بلا مهادنة. كلُّ شيء يتعاون على تمزيق نفسي: الإحساس الرحيب المتوالي الذي يشعرني بفناء زهونا وأفراحنا وأتراحنا وأفكارنا وتزعزع موقفي، ورهبة الفاقة، ومرضى العصبي، خمول اسمي، وبطلان ومساعيّ، وعزلتي حيال عدم اكتراث الآخرين وأثرتهم، ووحدة قلبي، وحاجتي إلى السماء والحقول والجبال والأفكار الفلسفية أيضاً، وفوق هذا - أجل، واهاً! فوق كلُّ هذا، الحنين الموجع إلى بلاد الجدود. يتفق لي في بعض الأوقات أن أحلم يقظان بكل ما أحببت، فأمضى متنزهاً في بلادي أُطيل التذكر بما قاسيت من الآلام في جنيف، وبنادر المسرات التي ذقتها هناك. وملامح من أصدقائي وأهلي، وطيفٌ من مكان قدّستهُ الذكرى، أو شجرة، أو صخرة، أو زاوية شارع، تتخايل لي، فتنبهني إلى الواقع صيحات سقاء باريسي. واهاً! كم أتألم عندئذ! وكثيراً ما أعود إلى حجرتي المنفردة عيّ الجسد والروح، فأجلس لأحلم أحلاماً مريرة مدلهمة في بحران وهذيان). . .) (ألا ما أتعس الذي يأسف على ما يسارع إلى لعنه عندما يجدهُ! ليس لي حتى أن أستمتع بألمي، لأن روح التحليل قائمة عندي على الدوام تشوِّه كلُّ شيء)(99/17)
(. . . . . سآمة نفس ذبلت في سن الحادية والعشرين، الشكوك القاحلة، الأسف المبهم على سعادة تراءت لي في إبهام أيضاً كمجد الغروب على ذرى جبالنا، أوجاع حسية، وأوجاع إيدياليستية، الاقتناع بأن الشقاء متأصل في النفس، اليقين بأن الثروة على ما فيها من كثير خير لن تجعل السعادة تامة: هذا ما يفطِّر نفسي البائسة. واهاً! يا صديقي الوحيد، ما أتعس أولئك الذين ولدوا تعساء!)
(ومع ذلك، يخيل إليَّ أحياناً أن موسيقى تعزف في الهواء لمسمعي، وأن ألحاناً شجيةً غريبةً عن أنواء البشر تدوي من فلك إلى فلك لتنتهي إليَّ. ويخيَّل إليَّ أن ممكنات آلام جليلة هادئة تحط على أفق فكري، كأنهار قصيّ الديار في أفق الخيال. غير أن كلُّ شيءٍ يضمحل بقسوة الرجوع إلى الحياة المجسوسة، كلُّ شيء! كم مرةٍ قلت مع روسو: (يا مدينة الوحل والدخان! كم تعذَّب هنا صاحب تلك النفس الحنون! وحيداً، شريداً، منكلاً مثلى - ولكن أقلّ شقاء بستين عاماً من عصر جادّ خطير الحوادث - كان في باريس ينتحب، وأنا أنتحب. وسيأتي غيرنا ينتحبون. يا للفناء! يا للفناء!
(. . . إلى الآن لا أربح شيئاً، مع أن لي أصدقاء مخلصين يجهدون ليجدوا لي عملاً. . . . .
(يا صديقي. أعود إلى رسالتي بعد بدأتها، ثم استأنفتها. نحن في 31 مارس والساعة الثامنة مساءً. أكاد أجنّ من فرط الآم، ويأسي يفوق الاحتمال. تألمتُ اليوم ألماً يكاد لا يستطيع أن يتخيله بشر. ثم داهمتني الحمى في هذا المساء، وما الحمى المحسوسة سوى فضلة الحمىّ النفسية). . . (أسمع). . .
(قد اكتشفت شيئاً فيّ فعلمتُ أني لستُ شقياً بسبب هذا الأمر أو ذاك، ولكن فيَّ عذاباً مقيماً يتخذ أشكالاً عدَّة. . . أنت تعلم أني في جنيف كنتُ أتخيل أني لو نفذتُ إلى باريس كنت سعيداً. وأنا، يا صديقي، هنا أعاشرُ أكبر الأدباء. . . وأشعر أحياناُ بنشوة الظفر في الأندية والسهرات والاجتماعات. . . وما كلُّ ذلك؟. . . إن في أعماق حياتي سرطاناً آكلاً. . . منذ شهرين تجمعت قوى عذابي على نقطةٍ واحدة، أخافُ أن أذكرها لك لفرط شذوذها). . . (ذاك المصدر المركزي لآلامي هو أني لم أولد إنجليزياً. أتوسل إليك ألا تضحك، فعذابي مبرح. العاشقون حقاً مهووسون لاعتكافهم على فكرة واحدة تستغرق جميع تأثراتهم. وأنا(99/18)
بعد أن كانت نفسي زمناً طويلاً فريسة جبلةٍ منوَّعة، أنا الآن مهووس أيضاً
(هاك منشأ غرامي بإنجلترا: أنت تعلم أني أحب أن أعيش مع الموتى متعرفاً حياتهم السالفة فأقطنها معهم وأسايرهم في أحوال معيشتهم، وأن أخلق بيني وبينهم تعاطفاً ييسرهُ وهم الزمن، فلا يستطيع بعد أن يزعزعه وجود الأفراد. وأجد في إنجلترا خمسين شاعراً على الأقل، زخرت حياتهم بالمغامرات، وعمرت كتبهم بالفكر وبالخيال. أما في فرنسا فلا أجد ثلاثة. وفيما عدا ذلك، قد كنت أحب من وطني الإنجليزي حتى مزاعمهُ اللاغية. ففي مزاعم إنجلترا كثير من الشاعرية وكثير من الخيال. وبدلاً من أدب واحد، فللإنجليز آداب أربعة: الأمريكي والإنجليزي والاسكوتلاندي والايرلندي، تُكتب جميعاً بلغةٍ واحدة ولكلّ منها خصائص تميزها. فأية ثروة أدبية!. . .
(يوجد الآن ثلاثون شاعراً بين الأحياء، كلُّ منهم مستقلٌ بشخصيته لا ينتحلُ طريق غيره، وكلّ منهم خصيب. بالثروة! وبالمغامرات سافيج المسكين، وشليِّ! وأيّ عملاق هو بايرون! كم من كنز عند هؤلاء للنفس التي تحبُّ الفرار من العالم لتلقي بأصدقائها في مخدعها! وكم ذا يعني الإنجليز بكتّابهم! إنهم يطبعون مؤلفاتهم في جميع الأحجام، وأي ذوق في طباعتهم، وكم من الخيال في نقوشهم! وأنظر إلى الأمة نفسها. فذوو السحنة الخسيسة في إنجلترا نادرون ندرة ذوي الهيئة الممتازة في فرنسا! كلُّ ما في تلك الأمة شاذّ. هناك تسود الحماسة في ألف شكل. هناك إلى جانب الآراء الوضعية الأكثر صرامة، تجد الترهات الأكثر نضارة. هذا بلد يحوي المذاهب الوضعية والنظريات الإيديالستية: فرنسا وألمانيا معاً. هو وحده له من القوة ما يكفي ليفهم كلُّ شيء، ومن العظمة ما يكفي كيلا ينبذ شيئاً. وأية ذاتية! إنك لتميز الإنجليزي بين ألف شخص. أما الفرنسي فيشبه الجميع. ووفرة الشيع الدينية في إنجلترا تثبت على الأقل خلوص النية في نفوس تحتاج إلى الرجاء ولم تجففها الماديات. وشذوذ شبان الإنجليز وتهورهم ينم على نفوس يتنازعها القلق). . .
(أتألم لشعوري بأني في غير مكاني وسط شعبٍ طائش ثرثار، ملحد، ما حل، ذي زهوٍ وبرودة، في حين أن الدنيا تحوي شعباً متديناً أو متطرفاً في التشكُّك، ولكنه على الأقل لا يعيش في غير اكتراث، شعباً تجد فيه الأصدقاء الخلصاء، والنفوس المتفززة، وحيث الطيش نفسه ذو نكهة غريبة شاذة ليس له هذه اللهجة الماجنة الفاترة التي نجدوها في(99/19)
فرنسا
(في المطعم الذي أتناول فيه طعامي يوجد إنكليز وفرنسيون. ويا للفرق! جميع الفرنسيين تقريباً مشاغبون صخابون عاديون، وجميع الإنجليز نبلاء محتشمون. وختاماً، يا صديقي، أظن أن صديقاً يستطيع التحدث إلى صديقه عن غرامه، لأن انفعال الحب يلاقي صدىً في جميع النفوس وليس فيه ما يستدعي الامتهان. على أن ألمي العارم من الشدة بحيث لا أستطيع التبيان، ولأنه جد شخصيّ خاص فقد يبدو سخيفاً مزرياً للذين لم يشعروا بمثله. ومع كلُّ ذلك، فهذا الجنون يشعرني بآلامٍ مروعةٍ لا تطاق. وكلَّ ُ شيء يرهفها: مشهد شخص إنجليزي، أو كتاب إنجليزي، حتى السخرية الموجهة إلى الإنجليز تلتهمني التهاماً. . . وهوسي هذا يجعلني أمجّ حتى الطمع في المجد. أودُّ أن أكون شهيراً في إنجلترا، وعليَّ لذلك أن أكتب بالإنجليزية. . . لو كنت إنجليزياً بمزاجي هذا المريض، لما تألمت دون ألمي الحاضر، ولكن معنى الألم قد كان يتغير. يخيل إليَّ أني لو ولدتُ إنجليزياً لاستطعت احتمال جميع آلامي. ولو ولدتُ لورداً إنجليزياً من أهبل اليسار، بنفسي ومزاجي كما هما، لكانت جميع ميولي وجميع أطماعي راضية قانعة، وعند ما أقارن بين هذا الحظ وحظي الراهن أجنّ. . .
(استأنفتُ دراسة الإنجليزية منذ شهرين بنشاط وحماسة حتى صرت أقرأ الشعر بسهولة. أفكر في الذهاب إلى إنجلترا والكتابة بالإنجليزية بعد أعوام. صاحبي ج. ل. يسلفني شعراء البحيرات الإنجليز. إنهم يفتنونني. وقد استبدلت بالكتاب الذي أرسلتهُ أنت إليَّ مجموعة مؤلفات بايرون في مجلد واحد، وتلوث فيه قصيدة صغيرة، (الحلم)، فكان لها عندي وقع الصاعقة). . . (تقول السيدة الإنجليزية التي تعطيني دروساً إني بعد الإقامة بإنجلترا عامين اثنين سأجيد كتابة الإنجليزية، لأني منذ الساعة أكتبها كما يكتبها قليلون من الفرنسيين. والواقع أني أنفق نصف نهاري في دراسة الإنجليزية
(إن هوسي شديد دائماً، فيا للضنى؟ وأني وجهت نظري وجدت التباريح. ومسائل العيش عندي ومازالت موضوع عذاب. أشتغل الآن في كتابة ترجمة حياة، ولكني في حاجة إلى النقود، بل أنا في ارتباك عظيم من جراء ذلك) انتهى
وقد علق هوجو على هذه الرسالة في تبسط، وبإنشائه وبتوسعه في اقتناص المعاني و(99/20)
الاستشهادات، مما يتعذر نقله إلى العربية. إلا أني ألخص من تعقيبه قوله: (عند ما نذكر أن الرجل الذي كتب هذا، مات عليه، تأملات من كلُّ صنفٍ تتفجر من كلُّ سطر في هذه الرسالة الطويلة. أية رواية، أي تاريخ، أية سيرة هي هذه الرسالة!). . . (ليست هذه سيكولوجية تدرس على السمع أو على الجثة، ولكنها تدرس في الأعصاب والأنسجة والعروق، في اللحم الحي ينز دماً، في اللحم الذي يعول. أنت ترى الجرح وتسمع الصيحة
(كتابة خطاب كهذا في تفطُّر وإهمال وجمال، دون بؤس كبؤس أمبير جلوا، كتابة خطاب كهذا بمجرد مجهود الإبداع الأدبي تقتضي العبقرية. أمبير جلوا متألماً يوازي بايرون. شيئان يجعلان الإنسان شاعراً: العبقرية أو الغرام، وهذا الرجل الذي كان نثره باهتاً وشعره فاتراً أصبح في خطابه كاتباً يستدعى الإعجاب. عندما ينسى أن يطمع في أن يكون شاعراً وناثراً، ينقلب شاعراً عظيماً وناثراً عظيماً. وسيبقى هذا الخطاب، فقد اشتمل على خليط قد يكون أدهش من كلّ ما أنتجه إلى الآن دماغ بشريّ في بابه، وبتأثير تضاعف الألم الحسي والألم الأدبيّ، والذين عرفوا جالوا يرون تشريحاً رهيباً، تشريح نفس، في الخطاب المتوتر، المضطرب، الطويل، حيث الألم يرشح قطرةً قطرةً مدى أسابيع وشهور، حيث الرجل الذي يجري دمهُ ينظرُ إلى دمهِ جارياً، حيث الرجلُ الذي يصبح يصغي إلى صوته صائحاً، وحيث في كلُّ كلمة دمعة) (لا حوادث في الحياة، ولكن فيها أفكاراً. اروِ الأفكار تسرد حياة الرجل. بيد أن حادثاً عظيماً يهيمن على هذه الحكاية المكدرة؛ وهو أن مفكراً مات من فرط البؤس! هذا ما فعلته باريس، مدينة الذكاء، بفتىً ذكىّ. . .)
(. . . أمبير جالوا، ليس فقط أمبير جلوا، بل هو في نظرنا يرمز إلى طائفة معدودة من شباب اليوم الكريم. في داخل هذا الشباب عبقرية غير مفهومة تلتهمه، وفي الخارج مجتمع ساءت أوضاعه، يخنق الشباب والعبقرية. فلا منفذ للعبقرية المحاصرة في الدماغ، ولا منفذ للإنسان المحاصر في المجتمع)
(الذين يفكرون ويتولون الحكم لا يهتمون في أيامنا قدر الضرورة بحظ هذه الشبيبة الزاخرة بعديد الغرائز، المتهافتة بحرارة ذكية، وبصبر واحتمال على جميع اتجاهات الفن. جمهور هذه العقول الفتية المختمرة في الظل، يحتاج إلى الأبواب المفتوحة، وإلى الهواء والنور والعمل والمسافة والأفق. ما أكثر ما يمكن عمله بهذا الجيش من الفطن! كم من قناة يمكن(99/21)
حفرها، وكم من سبيل يمكن تمهيدها في العلم، وكم من مقاطعة يمكن غزوها، وكم من عالم يمكن اكتشافه في الفن! ولكن، لا! جميع المهن مغلقة أو مزدحمة. وهذا النشاط المنوَّع الذي يستطيع أن يكون نافعاً مجدياً، يُترك متراكماً، مزدحماً، مختنقاً في ضيِّق الأزقة. قد كان هذا الشباب يكون جيشاً، فإذا به غمارة. إن تنظيم المجتمع سيئ حيال المقبلين، مع أن لكلّ ذي فكرٍ حقاً عند المستقبل. أليس محزناً حال هؤلاء المتألمين من العقول، المستقر نظرهم على الشاطئ المنير حيث كثير من الأمور الساطعة من مجدٍ وقدرةٍ وشهرةٍ وثروةٍ؟. . .)
وهذا بعض تعقيب هوجو، وهو في عطفه شفيقٌ نبيل. ولهجتهُ في كلُّ هذا التعقيب تحملني على الاعتقاد بأنه عرف أمبير جلوا وأحبه في حياته. ومن يدري؟ قد يكون الخطاب موجهاً إليه لا إلى غيره، وكون أمبير جلوا يرمز إلى الشبيبة المعذَّبة صحيح من الناحية الواحدة
على أن لهذه الشبيبة نفسها رمزاً آخر، هو فيكتور هوجو نفسه. فقد نشأ مريضاً، فقيراً، مجهولاً، مكروها من أخويه اللذين كانا يحسدان لمواهبه، بين أبوين منفصلين، فكان والدهُ بعيداً لا يعتني بزوجته الأولى وبأبنائه، في حين أن الشخص الوحيد الذي يكبرهُ ويحبه، أي والدته، أنكرت حقوق عواطفه وحالت دون اتصاله بالفتاة التي جعلت للحياة رونقاً ومعنى عنده.
وكان فيكتور هوجو باسلاً، فاحتمل الألم بقوةٍ أقوى من قوة الألم، وأستغلَّ جميع المصائب والمصاعب والحوائل لإنماء شخصيته واستحثاث مواهبه. فكان سيداً في زمنٍ عصفت فيه الأطماع وكثر فيه السادة والنابهون.
إن ما كتبه عن أمبير جلوا موضوع تأمُّل لجميع القارئين. أما حياته وبسالتهُ وانتصارهُ فمثالٌ لجميع العاملين.
(مي)(99/22)
1 - لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عصر الأحياء - إحياء العلوم - وشرق الأنوار على ظلمات العصور الوسطى، وتفتح العبقرية العظيمة في مختلف ضروب النبوغ الإنساني: في العلوم والآداب والفنون؛ وعصر المعارك والتطورات السياسية والاجتماعية العظيمة؛ وعصر اضمحلال المشرق ونهوض المغرب؛ وذوي الحضارات الإسلامية الزاهرة الأوربي (الرينصانص) الذي ينبثق فجره في إيطاليا منذ القرن الرابع عشر، في تلك الجمهوريات والدول الصغيرة الزاهرة، التي تستطع تواريخها كالآلىء في حلك العصور الوسطى؛ ثم لا يلبث حتى يغمر معظم أمم الشمال والغرب.
ولكنه أيضاً عصر الانقلابات السياسية والاجتماعية العنيفة، والشهوات المضطرمة، والمؤامرات والدسائس المروعة؛ وعصر المعارك الدينية والفورات المذهبية، وطغيان الأحبار، وعصفت مجالس التحقيق؛ وإذا كان يبدو في إيطاليا من بعض النواحي في أسطع وأبهى ألوانه، فإنه يبدو من بعض نواحيه الأخرى في ألوان قاتمة، فيما يجرف المجتمع الإيطالي يومئذ من عوامل الفساد والانحلال؛ وغمر اللهو والفجور والترف، وتدهور معاني الفضيلة والحشمة والحياء، واضطرام نزعة العدوان والأجرام والشر، وعلى الأجمال في تغلب الغرائز والشهوات المادية على المثل الروحية العليا
كان المجتمع الإيطالي يومئذ، كالمجتمع الروماني في عصوره الأخيرة، ويسطع بأشعته عظمته الأخيرة، ويسطع في نفس الوقت بحياة المجون العاصف، والترف الناعم
في أواخر القرن الخامس عشر تألق في أفق ذلك المجتمع الإيطالي الزاهر، نجم أسرة جديدة طبعت تلك المرحلة من تأريخ رومة بطابعها الخالد، وأسبغت مدى حين على المجتمع الروماني آية من الفخامة والبهاء، ونثرت عليه ألواناً من المرح الصاخب، ولكنها بسطت عليه في نفس الوقت ريحاً من التوجس والخشوع والورع
تلك هي أسرة بورجيا التي اعتلى مؤسسها وعميدها ردريجو بورجيا عرش البابوية باسم اسكندر السادس، وأنشأ ولده الطاغية الدموي تشيزاري (سيزار) بالسيف والنار مملكة(99/23)
رومانية قصيرة المدى؛ وأثارت حياة أبنته الحسناء. لوكريسيا ثبتاً حافلاً من التواريخ والأساطير الشائقة
لوكريسيا (أو لوكريس) بورجيا! تلك الحسناء الفاتنة التي تحيطها الروايات المعاصرة أحياناً بألوان ساحرة من البهاء والفخامة، وأحياناً بألوان مثيرة من الإثم والفحش، وتصورها أحياناً ملكاً كريماً يسمو عن ذلك المجتمع الروماني الفياض بالدس والفجور والجريمة، وأحياناً بغياً سحيقة تنحط إلى أسفل درك من الإثم والرذيلة، هي نموذج لتلك الشخصيات النسوية الساحرة التي يثير جمالها وسحرها حولها نوعاً من الغموض والخفاء، فلا يستطيع التاريخ أن يقول فيها كلمته بعيدة عن مؤثرات الرواية الخيال
كانت لوكريسيا ابنة للكردينال ردريجو بروجيا من خليلته الرمانية روزا فانوزا. وكان ردريجو ينتمي إلى أسرة أسبانية نزحت قبل ذلك إلى إيطاليا وسمت إلى بعض الوظائف الكنسية الرفيعة، وتولى أحد أعضائها كرسي البابوية باسم اسكندر الثالث، ورقي ردريجو ولد أخيه إلى مرتبة الكردينال. وكانت فانوزا كانتاني فتاة حسناء من أسرة طيبة، وكانت زوجة لسيد يدعى دي كروشي، يشغل وظيفة في الديوان الرسولي فهام بها الكردنال ردرريجو، وأغضى كروشي عن تلك العلاقة الغرامية لما غمره به الكردينال من صنوف الرعاية والبذل. ورزق الكردينال من خليلته بأربعة أولاد هم: بيدرولويس الذي توفي حدثاً، وجوفاني (جان) وشيزاري (سيزار) ولوكريسيا، وجوفري. وكانت فانوزا تقيم مع أولادها في منزل يجاور قصر الكردينال؛ ولم تكن علائقهما سراً، بل كانت أمرا ذائعاً في المجتمع الروماني، حتى أن فانوزا كانت تدعي فانوزا بورجيا. وعهد الكردينال ردريجو بتربية أبنته لوكريسيا إلى ابنة عمه أدريانا دي ميلا أورسيني، وهي سيدة رفيعة المقام والخلال يثق بها أعظم ثقة؛ فبعثت بالطفلة إلى دير القديس سكستوس في وادي (الابنين) على مقربة من رومة؛ وتلقت لوكريسيا هنالك تربية دينية عميقة ودرست الإيطالية والأسبانية والفرنسية واللاتينية والرسم والموسيقى، وتلقت بالجملة تربية تليق بأميرة عظيمة. وفي سنة 1489، هجر الكردينال ردريجو خليلته فانوزا واستبدلها بفتاة رائعة الحسن تدعى جوليا فارنيسي؛ ورأى حرصاً عليها أن يزوجها، فزوجها بفتى يدعى أورسينوس وهو ابن لابن عمته أدريانا. وكانت لوكريسيا عندئذ في التاسعة من عمرها - لأنها ولدت سنة1480(99/24)
- وبعد عامين فقط رأى والدها أن يزوجها، وعقدت خطبتها على فتى نبيل أسباني يدعى الدون شيروبان؛ ثم ألغيت هذه الخطبة بعد بضعة أشهر فقط، وعقدت خطبة لوكريسيا على نبيل أسباني آخر يدعى الدون جسبارو، وذلك في إبريل سنة 1492 وكانت لوكريسيا عندئذ في الثانية عشر، وكان خطيبها في الخامسة عشرة.
ولم تمضِ سوى أشهر قلائل حتى وقع حادث عظيم في حياة ردريجو بورجيا. ذلك أنه في ليله 11 أغطس سنة 1492، أنتخب لعرش البابوية، وتولاه باسم اسكندر السادس؛ وكان عندئذ في الحادية والستين.
وكان اسكندر السادس من أعظم الأحبار الذين تولوا كرسي القديس بطرس؛ وكان رجلاً وافر الذكاء والعزم، وافر الدهاء والجرأة، قوى الشكيمة، مقداماً لا يحجم عن وسيلة لتحقيق مشاريعه. وكان يعشق حياة المجون واللهو ويشغف بالمرح الخليع، ويهيم رغم سنة بالنساء الحسان، ويعيش في بذخ طائل.
وكانت مآدبه وحفلاته الشائقة من أعظم ظواهر الحياة الرومانية يومئذ، ولكنه كان رغم بذخه ومجونه وخلاعته يقبض على مصاير الكنيسة والبابوية بيد من حديد، ويوجهها طبق أرادته، ويأخذ بقسط وافر في مجرى الحوادث السياسية العظيمة التي كانت تجوزها الدول الإيطالية يومئذ؛ وكان يقرن مصاير الكنيسة بمصاير أسرته، ويعمل لمجد أسرته، وأولاده، ما استطاع سبيلاً، وبعد ابنه الأكبر شيزاري لمستقبل عظيم باهر؛ وقد ترك لنا الكردينال دي فتربو زميل اسكندر السادس ومعاصره عنه وعن مجتمع عصره تلك الصورة القوية الآتية:
(كان اسكندر ذا ذكاء خارق؛ وكان بارعاً، حازماً، نشيطاً ثاقب النظر، ولم يعمل أحد من قبل قط بمثل براعته، ولم يقنع بمثل صرامته؛ أو يقاوم بمثل ثباته. وكان يبدو عظيما في كلُّ شيء، في تفكيره وفي كلامه وفي عمله وعزمه؛ ولو تفتحت المواهب التي يتمتع بها، ولم تخنقها رذائلة العديدة، لكان أميراً وافر العظمة، وكان يخيل لمن يشهده في القول أو العمل أنه لم يكن ينقصه شيء ليقود العالم؛ فقد كان دائماً على أهبة لأن يحرم نفسه متعة الراحة، وكان يسرف في ملذاته، ولكنها لم تحل مطلقاً دون حملة عبء الشئون العامة. بيد أنا لا نستطيع رغم اتصافه بهذه الخلال أن نقول إن عهده امتاز بيوم سعيد؛ ظلمات وليل(99/25)
عميقة. ولنضرب صفحاً عن هذه المآسي المنزلية المروعة، ولكن الاضطراب في الأراضي الكنسية لم يكن أشد وأخطر، ولم يكن السطو أكثر، والقتل والعيث في الطرق العامة أروع، ولم تكن طرق السفر أخطر، ولم تشهد رومة من قبل قط أياماً أسوأ ساد فيها الشر والجريمة واللصوص ولم يكن ثمة حق ولا حرية. كان المال والقوة والفجور صاحبة السلطان والحول؛ ولم تتحرر إيطاليا النير الأجنبي إلا يوم انهار ذلك الطغيان البربري).
كان اسكندر السادس أباً رحيماً يحب أولاده حباً جماً؛ وكان أول عمل عائلي قام به إثر ارتقائه عرش البابوية، هو إلغاء خطبة ابنته لوكريسيا لدون جسبارو؛ ذلك أنه لم يبقِ بعد قريناً كفؤاً لابنة سيد الكنيسة وخليفة النصرانية؛ وأرغم دون جسبارو على التنازل على الخطبة نظير مبلغ من المال، وطرحت مسألة زواج لوكريسيا على بساط البحث كرة أخرى. وهنا تدخلت العوامل السياسية التي أخذت تملي على اسكندر السادس خططه ومشاريعه في تقرير مصير ابنته؛ ذلك أن صديقه الكردينال اسكانيو سفورزا الذي كان أكبر عون له على ارتقاء عرش البابوية تسعى لعقد التحالف بين البابا بين أخيه لودفيكو سفوزرا طاغية ميلان ضد آل أورسيني أقوى أمراء رومة الإقطاعيين، وحماتهم آل أرجوان ملوك نابولي، ورأى توطيداً لهذا التحالف أن تزوج لوكريسيا من ابن أخيه جان سفورزا أمير بيزارو؛ وأثمر سعي الكردينال، وعقد الزواج في رومة في أبريل سنة 1493؛ وكانت لوكريسيا يومئذ في نحو الثالثة عشرة، ولكن سجل في عقد الزواج أنها بلغت السن المرغوبة، وكان جان سفورزا في السادسة والعشرين.
واحتفل بزفاف لوكريسيا في قصر الفاتيكان في 12 يونيه احتفالاً فخماً شهده أكابر الأحبار والأمراء والسفراء؛ ومثل جان سفورزا على يد وكيله المختار طبقاً لرسوم العصر؛ وفي المساء أقيمت حفلة شائقة في قصر بلفيدير، تحت إشراف جوليا فارنسي خليلة البابا ونخبة من سيدات رومة، وشهدها اسكندر السادس وأعضاء أسرته. ويصف البابا شاهد عيان لهذا الحفل في قوله: (كان عظيم القامة، مورد الوجه، أسود العينين، يفيض صحة ظافرة، تمكنه من تحمل أعباء المنصب، وشؤون الدولة وعصف الملاذ، وكان دائماً متألقاً ظريفاً رقيقاً). أما لوكريسيا بورجيا فقد كانت عندئذ فتاة صغيرة القد، وافرة الحسن، شقراء تسطع كالذهب، خفيفة الروح والخلال، دائمة المرح، يزيد في سحرها الطبيعي القاهر، مزحة من(99/26)
الحياء ومحيا عذري، أو كما يصفه بعض الرواة المعاصرين محيا كاثوليكي، هو مظهر تربيتها الدينية، وحياتها في الدير، وتفيض نظراتها رقة ووقارً).
وأفرد البابا لابنته قصر سان مارتينللو المجاور للفاتيكان، وعين لها خليلته جوليا فارنيسي وصيفة شرف تقيم معها، وكان فرق نهائياً بينها وبين زوجها؛ وكانت كلتاهما آية ساطعة من الجمال والسحر؛ واستمرت لوكريسيا مقيمة في رومة حتى صيف سنة 1494، وعندئذ حل برومة الملاريا، فبادرت لوكريسيا إلى مغادرة رومة مع زوجها إلى قصره في مدينة بيزارو تصحبها في هذه الرحلة والدتها فانوزا، وجوليا فارنيسي، وعمتها أدريانا اورسيني، فوصل الركب إلى بيزارو في 8 يوليه. وكانت بيزارو مدينة متواضعة، ولكن بديعة الموقع تشرف على وديان نضرة على مقربة من الأدرياتيك؛ وكانت إمارة متواضعة لا تقاس بإمارات فيرار، وأربينو، ومانتوا وغيرها من الإمارات الزاهرة في ذلك لعصر؛ ولكن لوكريسيا كانت ذهناً رضياً متواضعاً، فتذوقت حياتها الجديدة بسرعة، وقضت في بيرازو زهاء عام كامل.
ثم استدعتها بواعث السرة والسياسة إلى رومة، فعادت إليها مع زوجها بمناسبة زواج أخيها الأصغر جوفري من دوناسانسيا وهي ابنة غير شرعية لألفوسو الأرجوني ملك نابل (نابولي)، وأقامت لوكريسيا مع زوجها إلى جانب أبيها واخوتها في رومة؛ وكان اسكندر السادس يحرص على أن يستبقي أولاده حوله في المدينة الخالدة؛ فكان ولده جان أو دوق جانديا يقيم معه في قصر الفاتيكان، وأخوة شيزاري في حصن سانت انجلو المجاور للفاتيكان، وأخوة جوفري على مقربة منه؛ وتقيم لوكريسيا وزوجها في قصر آخر مجاور للفاتيكان.
وغدت لوكريسيا وزوجة أخيها سانسيا زينة الحفلات الرسمية والاجتماعية في الفاتيكان، وكانت سانسيا فتاة وافرة الحسن، وافرة الجرأة، عنيفة الشهوات، يقال إنها كانت تصطفى العشاق من الأمراء والكرادلة. وأما لوكريسيا فكانت متحفظة، ولكنها كانت ترغم بحكم الظروف على خوض هذه لحياة الباهرة المنحلة التي كانت تسود قصر الفاتيكان؛ وكانت أداة مسيرة في يد أبيها البابا وأخيها الطاغية شيزاري؛ ولكنها كانت دائماً فياضة المرح فياضة البهجة، وكانت روح هذه الحفلات الباذخة الصاخبة التي كان يعشقها البابا، والتي(99/27)
كانت دائماً مثار الأقاويل والظنون.
وكان يسود ذلك المجتمع الروماني الرفيع يومئذ نوع من الفساد الشامل، وتغلب فيه حياة الفجور والمرح؛ وما قولك بمجتمع يقدم فيه سيده وزعيمه الروحي - البابا - أسوأ المثل الأخلاقية، فيصطفى الخليلات جهاراً، وينتزع الزوجات من أزواجهن؛ ويقتني فيه شيوخ الدين من كرادلة وأساقفة الخليلات جهاراً، وتنتقل فيه الزوجات الشرعيات، زوجات الكبراء والأمراء بين أحضان العشاق من مختلف الطبقات، ويغمره ظمأ التهتك والخلاعة، ويغفل في حفلاته وفي مرحه ومجونه كلُّ مظاهر الحشمة والحياء؟ هكذا يصف لنا بوركات مجتمع رومة في عصر آل بورجيا. وقد كان بوركات يومئذ مدير التشريفات البابوية، وكان شاهد عيان لكثير من الحوادث والمظاهر ولظروف التي امتاز بها العصر؛ وقد ترك لنا عن حوادث عصره ومجتمع عصره مذكرات نفسية سنعود إليها من آن لآخر.
كانت لوكريسيا بورجيا من آلهة هذا المجتمع؛ وكان يثور حولها من الريب والظنون ما يثور عادة حول (آلهة) للجمال والحب. هل كانت هذه الفتاة الشقراء الفاتنة التي لم تجاوز السابعة عشرة من عمرها كما تصورها الرواية المعاصرة بغياً سافلة تتقلب بين أذرع عشاق لا حصر لهم؛ بل تتقلب بين ذراعي أبيها - البابا - وبين أذرع إخوتها؟ أم ظلمتها الرواية وبالغت في اتهامها اعتماداً على ظواهر خادعة؟ هذا ما سنحاول أن نناقشه في البحث.
للبحث بقية
محمد عبد لله عنان المحامي(99/28)
بين الفقه الإسلامي والروماني
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
رئيس المجمع العلمي العربي
. . . وقع نظري على ما كتب أخيراً في مجلة (الرسالة) بشأن علاقة الشرع الإسلامي بالشرع الروماني، وقد كان بعض الفضلاء من الشبان المسيحيين حملة الشهادات الحقوقية العالية - منذ بضع سنوات - كتب في (مجلة القضائية) تصدر في منطقة سورية سمتها السياسة (منطقة العلويين) وهي متصرفية اللاذقية - كتب في هذا الموضوع كتابة خشنة تدل على أن القوم يريدون أن يجردوا الإسلام ونشأته من المزايا القدسية. وقد رددت عليه يومئذ بهذا المقال، وسلكت في الرد مسلكاً ربما أعجب الباحثين لديكم.
المغربي.
لقيني بعض الأصدقاء في سوق الحميدية فجذبني من يدي إلى مخزنه وقال: تعال أنظر.
وإذا هو يريني العدد 22 من مجلة (الأبحاث القضائية في دولة العلويين).
وإذا في فاتحتها مقال السيد ميشيل بولص حامل رتبة العالمية (الدكتوراه) في الحقوق، وإذا موضوع المقال (الوكالة الدورية) وإذا نتيجة الموضوع - كما لخصها كاتب المقال - ما نصه:
(إن الوكالة الدورية إنما هي طريقة رومانية. وشكل هذه الوكالة وأصولها وكيفية استعمالها هي هي عند العرب المسلمين كما كانت عند البيزنطيين. (السُّنة) في الإسلام ما هي إلا مجموعة القوانين الرومانية في عصر الفتح العربي. وإن المبدأ الساري منذ الأجيال بين علماء الغرب والشرق بأن الشرع الإسلامي مستقل تمام الاستقلال عن بقية الشرائع اللاتينية - ليس إلا أسطورة لا أساس لها!!! والأحاديث الإسلامية مختلقة اختلاقاً بدليل أن الأمام الأعظم أب حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً من أربعمائة ألف حديث) - أهـ.
هذا ما صرح به الأستاذ ميشيل بولص في بلادنا العربية وبلغتنا العربية. فكيف ترونه يقول لو أراد أن يكتب عن الشرع الإسلامي في بلاد أجنبية بلغة أجنبية؟
هذا ما قاله عن السنة النبوية بين ظهر أني قوم توفروا من علوم الدنيا على حفظ تلك(99/29)
(السنة) والاستيثاق من صحة أسانيدها، والتقرب إلى الله بخدمتها. ثم بعد هذا كله يقول الأستاذ ميشيل عنهم أنهم لم يعلموا شيئاً سوى أنهم أوجدوا للعالم في السنة نسخة ثانية من مجموعة القوانين الرومانية. فكيف تكون جرأته أو أمانته في النقل إذا أراد أن يكتب لنا مقالاً في علم يجهله المسلمون سكان هذه البلاد كلُّ الجهل؟؟ يقول بعضهم: ولكن الكاتب إنما كتب في مجلة تصدر في بلاد العلويين للعلويين. وأوطناه! كأن بلاد العلويين في عالم المريخ وليست جزءاً من وطننا؟
وكأننا لسنا على مقربة من بلاد العلويين نسمع ونرى؟ وكأنه لا يوجد في بلاد العلويين فقهاء راسخون، وحقوقيون متضلعون؟
كأن العلويين إنما سموا علويين من أجل أن يطعنوا في كرامتهم، ويساوموا على إسلاميتهم!
وأية كرامة تبقى إذا قيل لهم: إن (علياً) الذي اشتق اسمكم من اسمه الكريم ما كان يقاتل ويناضل لأجل تأييد سنة الإسلام، وإنما كان يقاتل ويناضل من أجل أن تأييد سنة (يوستينانيوس) ملك الرومان؟
وبعد، فإذا اقتضت حالة الرومانية الاجتماعية أن يستندوا في بعض معاملاتهم على (الوكالة الدورية) فقرروا أحكامها في قوانينهم، ألا يوجد في الاجتماع الإسلامي حالة تشبه تلك الحالة تستدعي تقرير أحكام الوكالة الدولية في فقه المسلمين أيضاً؟
لا جرم أن طبائع الأمم والشعوب وأخلاقها وأطوارها مترشحة من ينبوع (الإنسانية) الأعظم.
والإنسانية مهما اختلف أبناؤها في ظواهر الاجتماع، يبقون متحدين في جواهر الأخلاق والعادات والطباع.
والشرائع سواء أكانت سماوية أم وضعية إنما تستند إلى هذه الأخلاق والعادات، فكثيراً ما تشَّابه بين الأمم بسبب تشابه الأمم نفسها فيما ذكرنا من الأخلاق والعادات.
فإذا وجدنا في الشريعة الإسلامية أحكاماً تشبه أحكاماً مقررة في الشريعة اللاتينية مثل (إن البيع يتم بإيجاب وقبول) لا ينبغي لنا أن نتسرع في الحكم بأن الشريعة الأولى اقتبست من الشريعة الثانية مباشرة، ولا سيما إذا كان هناك أسباب جوهرية تدل على عدم إمكان هذا الاقتباس.(99/30)
إذ كيف يتصوّر من أئمة الإسلام الذين حرموا التصوير ابتعاداً عن الوثنية - أن يقتبسوا أحكاماً مدنية من شريعة وثنية، وهم يعتقدون أن العمل بهذه الأحكام المدنية عبادة يتقرب إلى الله بها كما يتقرب إليه بممارسة الصوم والصلاة!
خلفاء الإسلام إنما رحبوا بالفلسفة اليونانية لأن نظرياتها لا رائحة للديانة الوثنية فيها. أما الآداب اليونانية والميثولوجيا والتمثيل والإلياذة والفنون الجميلة فلم يجرؤ الخلفاء على ترجمتها إلى لغة الإسلام، وذلك لأنها مشبعة بروح الوثنية، ومتشربة بروح عقيدة تعدد الآلهة. فهل يعقل أن يجرؤ أئمة الإسلام الأتقياء الورعون على انتحال شرائع وثنية تتعلق بالحلال والحرام، ويدخلونها في فقه الإسلام، وهم يعتقدون أن كلُّ حكم شرعي لا يستمد من محمد (ص) وقرآنه وسُّنته باطل بل كفر.
كلُّ إمام من الأئمة الأربعة كلُّ يبرر نفسه رافعاً صوته أمام الجماهير من المسلمين بأن مذهبه وسنده في استنباط الأحكام إنما هو القرآن وحديث النبي (ص) الذي ثبتت صحته، وإلا فأنه يقيس الحكم على حكم آخر مستنبط من حديث يطمئن إليه قلبه
بهذه الصورة من الإخلاص والورع والتمسك بتعاليم محمد (ص) حاز الأئمة ثقة المسلمين كلهم، فوقروهم وعظموهم وقلدوا مذاهبهم ولم يعولوا على غيرها من لمذاهب
وقد بلغ الورع في هؤلاء الأئمة حداً لم يقع مثله في أمة من الأمم. حتى أن أبا حنيفة سجن وضرب ولم يتول القضاء مذ بلغه أن نبيه قال: (من تولى لقضاء فكأنما ذُبح بغير سكين)؛ وأحمد بن حنبل لم يأكل البطيخ طول عمره لأنه لم يبلغه كيف كان نبيه (ص) يأكله: أيقطعه بالسكين ويتناوله قطعة قطعة، أم يمسك الحزة بيده ثم يتناولها بأسنانه؟
أئمة هذا ورعهم وتشددهم في تقليد نبيهم في الأشياء المباحة؛ أيتصور في العقل يحيدوا عن شريعته إلى الشريعة الوثنية، شريعة الإمبراطور الروماني (يوستينانيوس) فيستندون إليها بتقرير أحكام الحلال والحرام التي هي الطريق الوحيد إلى الجنة والنار؟ وقول الأستاذ ميشيل أن أبا حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً ليس معناه ما ظن. وإنما المعنى أن هذه الأحاديث القليلة هي التي بلغت في الصحة والثبوت ما يقرب من درجة القرآن. وإلا فأن بقية الأحاديث الأخرى لها درجتها. وبحسب هذه الدرجة تستنبط منها أحكام ليست في وجوب العمل بها كوجوب العمل بأحكام الأحاديث التي ثبتت صحتها عند الإمام أبي حنيفة،(99/31)
بدليل أن تلاميذ هذا الإمام (أبو يوسف ومحمد وزفر) الذين دونوا فقهه وشرحوا مذهبه كانوا يعتمدون في استنباطهم على أحاديث أخرى غير القليل الذي أعترف به أبو حنيفة بعد أن يعرضونها على قواعد فن (مصطلح الحديث). على أنه لو فرض أن أبا حنيفة لم يعترف إلا بأحاديث قليلة لكان ذلك من أدلة ورعه وحرصه على متابعة نبيه (ص)، فهو يخشى أن يعمل بحديث لا يثق بصدوره عن النبي، وهذا هو السبب في إنكاره الكثير من الأحاديث، فهو قد أنكرها تورعاً وخشية ألا يكون تابع النبي (ص)، ولم ينكرها استهتاراً وجنوحاً إلى شريعة الرومانيين الوثنيين
أحاديث مروية بالسند: فلان التابعي الجليل فلان الصحابي الكريم، ولكلُّ واحد منهم ترجمته وسيرته، يتورع أبو حنيفة فلا يثق ببعض ما روي عنهم، ثم هو بعد ذلك يجيز لنفسه العمل برواية بطرس عن فيلبوس عن نيقولاوس عن الملك (يوستينانيوس)!!! سبحانك هذا بهتان عظيم!
لما فتح المسلمون البلاد التي كانت خاضعة للرومانيين وجدوا لأهلها عادات راسخة، وأحكاماً متوارثة، فأقروهم عليها، وبعضها ينطوي تحت أصول الإسلام الثابتة في القرآن، وعمل النبي (ص) والصحابة: مثل (العادة محكمة) (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)، (استعمال الناس حجة يجب العمل بها)، (التعيين بالعرف كالتعيين بالنص) فإذا أعتبر أئمة الإسلام تلك الأحكام اللاتينية التي يعمل بها سكان تلك البلاد وأقروهم عليها، ثم دونوها أو دونوا نظاهرها في كتبهم الفقهية، لا يكون ذلك منهم اعترافاً بشرائع اللاتين وإذعاناً لها، وإنما هو منهم عمل بأحكام مستندة إلى القواعد الإسلامية وسُّنة النبي (ص).
وهم كما دونوا في كتبهم الفقهية أحكاماً تشبه الأحكام الرومانية دونوا أيضاً أحكاماً تشبه أحكام شرائع الفرس والترك والتتار الطورانيين وغيرهم من الأمم التي فتحوا بلادها.
فمن جملة القواعد في مجلة الأحكام الشرعية:
(إن الحاجة سواء كانت عمومية أو خصوصية تنزل بمنزلة الضرورة، ومن هذا القبيل تجويز (البيع بالوفاء) فإنه لما كثرت الديون على أهالي بخارى جوزت هذه المعاملة لداعي الاحتياج) أ. هـ. فهل يقوم أحد من الكماليين فيزعم أن (البيع بالوفاء) شريعة طورانية(99/32)
عمل بها أئمة الإسلام كما عملوا (بالوكالة الدورية) التي هي شريعة رومانية في رأي الأستاذ ميشيل!
إذا رأينا الشاعر العربي (معروف الرصافي) وافق (كيبلنغ) الشاعر الإنكليزي في بعض معانيه الشعرية المبتكرة فهل يسوغ لنا أن نقول إن ديوان (معروف) هو نفس ديوان (كيبلنغ) مع أن شاعرنا لا يعرف الإنكليزية، ولا عاش في وسط إنكليزي ولا اجتمع بكيبلنغ ولا برواة شعره، وإنما هو توارد الخواطر.
ونحن إذا راجعنا تاريخ حياة أئمة الإسلام نراهم قد عاشوا في محيط إسلامي محض: الكوفة، وبغداد، ومكة، والمدينة؛ نعم سكن (الشافعي) مصر ودفن فيها، ولكنه جاءها قبل وفاته بنحو خمس سنين.
فأئمتنا ما عرفوا لغة لاتينية قط، ولم يدرسوا فقهاً لاتينياً قط، ولم يعاشروا مشترعين لاتينين قط، ولو لوحظ من أحدهم شيء من ذلك لسقط اعتباره وتحاماه المسلمون، ولما كان إماماً وأحب الاتباع.
ومن العجب قول الأستاذ ميشيل إن (السُّنة) في الإسلام ما هي إلا مجموعة القوانين الرومانية؛ إذن محمد (ص) عضواً في مجلس العشرة الذين جمعهم الملك (بوستينانيوس) تحت رياسة الفقيهة الروماني (تريبونيان) فقام في الحجاز وانتحل وما تعلمه من القوانين الرومانية التي وضعها المجلس الروماني وبشر بها المسلمين!!!
ذكرت بهذا ما كنت سمعته من القوماندان الفرنسي (ميلانجو) مدير مدرسة الترجمة في دمشق (وقد توفي) - قال لي: إن بعض أهل بلادنا (يعني الأوربيين) يتحدثون أن (محمداً) كان أسقفاً مسيحياً، فطمحت نفسه إلى رتبة كهنوتية فوق رتبته، فغضب عليه البابا فحرمه، فادعى النبوة نكاية به!!!
قال لي المرحوم ميلانجو هذا القول مستغرباً مستحيياً بعد أن عاشر فضلاء المسلمين في الجزائر ودمشق، وفهم حقائق كثيرة عن الديانة الإسلامية جعلته على قاب قوسين من اعتناقها.
والأعجب من قول الأستاذ ميشيل السبق قوله الآخر: (إن الأحاديث الإسلامية مختلقة اختلاقاً)، أي إنها كلها مكذوبة على النبي(99/33)
لكن أيصح من حضرته هذا الحكم الجائر على الأحاديث لوجود طائفة من الأحاديث موضوعة مكذوبة؟
إن دعواه هذه كدعوى أحد المسلمين أن الأناجيل الأربعة باطلة لا أصل لها، لأن هناك أناجيل وهي المسماة (أبو كريف) موضوعة لا أصل لها!!
والعجب الثالث، (وهو لعمري مثار للدهشة أيضاً) قول الأستاذ ميشيل:
(إن المبدأ الساري منذ الأجيال بين علماء الغرب والشرق بأن الشرع الإسلامي مستقيم تمام الاستقلال عن بقية الشرائع اللاتينية، ليس إلا أسطورة)!!
وإذن قام الأستاذ ميشيل في (وجه علماء الغرب والشرق) يفهمهم حقيقة يجهلونها، ويبرهن على كذب أسطورة يزعمونها وهي أن شريعة الإسلام شريعة لاتينية!
أدرك هذا هو وحده وجهله علماء الشرق والغرب!! وإذن يحق لي أن أنسحب من ميدان البحث وأترك الكلام فيه لعلماء الشرق والغرب، فلعل فيهم من يقدر بزلاقة لسانه ونصاعة بيانه أن يقنع حضرة الأستاذ ويفهمه خطأه.
أإلى هذا الحد يجهلنا ابن وطننا الأستاذ ميشيل بولص ويجهل تاريخنا الديني؟
أيصح لأبناء أمة واحدة، في بقعة واحدة، أن يجهل بعضهم بعضاً كلُّ هذا الجهل؟
وأخيراً أقول: إن ابن وطننا الأستاذ ميشيل لم يسيء إلى الأمة الإسلامية وكرامتها، بقدر ما أساء إلى (الدكتوراه) وشهادتها.
عبد القادر المغربي(99/34)
الجمال في الشعر والحب
(المرأة)
للأستاذ الحوماني
صاحب مجلة العروبة البيروتية
الجمال وحي الطبيعة يلهمه الشاعر من أبنائها ليكون صلة بينهم وبين المثال الأعلى في حياة. فهو رسول أمة الطبيعة يرسل بنات أفكاره إلى قومه فترفع بيمينها حجاب الغفلة عنهم، ثم تمر بها على أعينهم فتمسح عنها غشاء الجهل، وتقابلهم يسارها بمرآة الحياة فيتبينوا فيها من نفوسهم الماثلة رموزاً تشير لهم إلى مثُل الحياة العليا.
والشاعر ينشد الجمال في كلُّ شيء فيفتتن بكل جزئي منه، ولكنه أشد اقتناناً بما هو إلى الروح أقرب منها إلى المادة، ولا أقرب إلى الروح من هذا يشاركه الشعور بالحياة وينشد معه ذلك الجمال.
يفتن بالمرأة التي هي رمز الجمال التام في الحياة، يفتتن بها للجمال، ويفتتن لها بكل ما في الحياة من جميل يشعر به. فالجمال التام علة لفتنة الشاعر بالمرأة، أما المرأة فهي علة ولفتنته بكل ما يشير إلى هذا الجمال الكلي من جمال جزئي في نبات أو جماد، فالشاعر ينشد الجمال في الحياة ولن يظفر به كما يشاء إلا عن طريق الحب:
وهل المرأة إلا رمز الحب الخالد؟
الشاعر كالطائر يحلق في أفق الجمال، وكما يقع الطائر على الشجرة يفتش عن الثمرة الناضجة ليتقوم بها، حتى إذا بلغها وقف حيالها يداعب الروض من على فننه، هكذا يقع الشاعر على المرأة آلهة الجمال يستلهما الشعر فيشخص إليها وهي بعينه تمر على وجهه بيدها البضة، وتمسح عينيه ببنان يحس روحها من ورائه ترف على أهدابه.
فهو من أجلها (يصعد الرابية)، والقمر يهبط من عليائه، فيفترش الترب، ويتوسد الصخر، يصغي إلى نجيء الكواكب فيستوحي منها الشعر ثم يلهمه الطبيعة؛ حتى إذا تنفس صبحه، وهبط إلى الأودية فهام فيها عائماً في بحر ضبابها ينشد هذا الجمال، وقفت به آلهة الشعر بين الرياض، والصبح لما تخمد أنفاسه، فأحنى على الورد يلثمه، وعلى النرجس يمسح(99/35)
دمعه، يضع خده تحت الزهرة ويده فوق كبد يكاد يعصرها دمعاً ينحدر على وجناته).
وهو من أجل آلهته تلك (يمسك الماء، ويقبض على الريح، سعياً وراء الجمال في الحياة، وهو هائم به، ولعل الروح التي تخفق بين جنبيه، والشعر الذي يحوم على شفتيه).
يستحيل على الشاعر وهو رسول الجمال، أن يكتم شعوره، فما بينه وبين إبلاغ رسالته إلا أن يشعر، وربما بلّغ هذه الرسالة بدمعه:
وإذا الحزين بكى ولم يك شاعراً ... فالشعر ما نطقت بهِ عبراته
(أو ما تراه، وقد جلس إلى ظل سرحة، أو إلى جنب صخرة، على رابية يراقب منها نزاع الشمس بين يديه المغيب، فتحس كأن شعوره يغيب معها في ظلمات الحزن؟؟؟
وقد يحنو على الزهرة في حر الظهيرة يقيها لفح الهاجرة بنفسه، فكلما ألوى بها الذبول شاطرها جفاف الرونق وشحوب اللون، وربما لصقت بالأرض فغسلها بدمعه وود لو واراها في حنايا ضلوعه).
ذلك هو الشاعر الصامت، لم يخلد بشعره لكن بروحه الشاعرة، ولم يشعر بلسانه لكن بقلبه المتفجر عيوناً تفيض بالدمع على خديه.
يفتن الشاعر في وصف المرأة وتأثير جمالها لا ليعلن هذا الجمال إلى الملأ ولا ليلفت إليه الغافل عنه فحسب، وإنما يريد بذلك إلى تأدية ما حُمّل من أمانة، أن ينادي على جمال نفسه بما أدرك من جمال، ثم ليثبت في نفس السامع ما يحمله على عذر في الهيام به، من أجل ذلك يعمد في وصفه الجمال إلى التفصيل دون الإجمال
فلن تستطيع أن تبث في نفس سامعك دعايةً لهذا الجمال وأنت تجمل في وصفه حتى تأتي على جزيئاته مفتنَّا في إثباتها على مرآة النفس الشاعرة عن طريق القلب.
فليس لقول القائل:
أبصرت دون شعاب مكة مصبحاً ... سبعاً أجزن وكلهن جميل
من التأثير البالغ في نفس السامع ما لقول الآخر:
وتملكت قلبي ثلاثٌ كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
للفرق بين إجمال الأول وتفصيل الثاني.
وقد يفتن الشاعر في وصف من أحب لمجرد البث والتغلب على اليأس كما يكون للنفس(99/36)
عزاء وسلوة.
وقد يشعر بما يحب للشعر، كما قد يحب فيما يشعر للحب وليست ميزة الشاعر في النداء على جمال من يفتن في وصفها وإنما الميزة في إثبات ذلك الجمال في نفس السامع والذهاب بها في اللذة مذاهب تتركها وفقاً على جمال ما تسمع حتى كأنها تنظر إليه وتلمسه وتشمه فتشعر به شعور من وقفها عليه، وليس من ذلك للإجمال يد طولى وهو يمر بالنفس لمحاً بينما الشعر يمعن في تمكينها منه عن طريق التفصيل.
أفلا تبصر بقوله:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العِذابا
والذي ألبس خدي ... ك من الحس نقابا
والذي أودع في في ... ك من الشهدِ رضابا
والذي صير حظي ... منك هجراً واجتنابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟
كيف يهز النفس بما فيه من روعة لم تكن لتتوفر في كلماته لو أجمل فقال:
بالذي أفرغ في قا ... لبك الحسن الُجابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟؟؟
فإن في تعداد جزيئات الجمال في الأبيات الأولى ما يشغل النفس في تصورها، فيثبت فيها جمال الوصف والواصف ثم الموصوف آخر الأمر، وهي في مجموعها مصداق البيت الأول من البيتين الآخرين وهما كما ترى.
تحب في المرأة وأنت شاعر خلاف ما تحبه منها وأنت لا تشعر، فالشاعر يحب المرأة لجمالها الذاتي، وغيره يحبها لجمال ما يحف بها، فقد يعبدها الغبيُّ لما لها، وقد يستغويه ما يمت بها إلى نسب عريق، وربما كان علمها سبباً في أسر هواه، أما الشاعر فلم يكن ليحب المرأة يغمرها المال، ويزهوها النسب، ويسمو بها العلم، وهي بعيدة عن روحه الهائمة بالجمال. ومقياس هذا الشعور شدةً وضعفاً تجده في جمال ما يحب كمالاً ونقصاً.
فلم تستطيع أن تحكم على الشاعر بما يهيم به من جمال، ولكنك، وأنت تحكم عليه، يجب أن تكون شاعراً لئلا يفوتك من أسرار الجمال ما تشعر به وأنت غافل عنه.(99/37)
فقد يقف في طريق الشاعر إلى حب المرأة أن يشم منها ما يكره، وهي قطعة من جمال الحياة، روحاً وجسداً لولا أنها أهملت جسدها أن تتعهده بالنظافة فكان ذلك حائلاً دون خلوصه إلى روحها إذ كان نقصاً بيناً في جمال هذه الروح.
وربما هام الشاعر بالمرأة، وهي ناقصة الجمال، لتضاؤل ما يبدو من نقصها في عينه إلى جنب ما امتازت به من جمال يأخذ العين والأذن بما فيه من سحر، فهو إذ ذاك أعمى عن كلُّ ما ينقصها لما تفتن في تنمية هذه الناحية فيها وصرفه عن الشعور بما عداها.
وكثيراً ما تستطيع المرأة أن تسبغ جمال روحها على ما يشين جسدها من قبيح فتتغلب على شعور الهائم بالجمال بما امتازت به من خصائص النفس، فللشاعر إذ ذاك العذر في قصر هواه على جمالها الناقص.
وله هذا العذر أيضاً في محيط نماه وليس فيه من ربات الجمال التام من يهيم بها فلجأ إلى الجمال الناقص يهيم به ويسبغ عليه فنه الخالد إذ كان هو الجمال التام عنده.
وهكذا هو مع المرأة التي مُني بها قبل أن يشعر وهي ناقصة الجمال، فلما دق شعوره بالحياة نظر إليها نظرة شاعر فوقف منها على ما خفي عنه من قبل، ورأى أن في العدول عنها عذاب الضمير ثم التياث الغرض من وراء ذلك كله، فحمل نفسه على القنوع بها وأغضى عما يعترضه من جمال خارج، فكانت عروس خياله تجلو عليها آماله وينفحها من شعره بما تخلد به إلى جنبه
الحوماني(99/38)
مستشرق إسباني
في طليعة علماء إسبانيا الحديثين يظهر أسم جوليان ريبيرا العالم البحاثة المؤرخ المتغلغل في قلب تاريخ إسبانيا في جميع أطواره ومراحله. وهو متضلع من اللغة العربية ومطلع كلُّ الاطلاع على تاريخ آدابها وله فيها أبحاث جليلة. وليس ريبيرا من اللغويين الذين يقصرون همهم على درس قواعد اللغة العربية شأن أكثر المستشرقين الأسبان باستثناء العالمين غايانكوس وكوديرا، بل جاوزه إلى التاريخ والثقافة العربية فعني بهما عناية البحَّاثة المدقق والعالم المحقق.
اعتبر ريبيرا أن للتاريخ الإسلامي كما لتواريخ بقية الأمم وجهين. السياسي والأدبي. وقد اكتفى المستعربون الأسبان قبل ريبيرا بدرس الحوادث السياسية دون أن يهتمُّوا بسواها. وأن لهذه الإهمال عذره وأسبابه، فالبحَّاثة التاريخي يبدأ بدرس الناحية السياسية لأن حوادثها أكثر وضوحاً وأسهل درساً وأقرب منالاً من درس تاريخ الثقافة وكيفية نشوئها وتطورها مما يقضي البحث في أخلاق الأمة وعاداتها وطرق معيشتها ونظمها الأدبية والاجتماعية والدينية لكي يتمكن من تفهُّم ما نعّبر عنه بكلمة - تمدن - التي هي لباب التاريخ، ولكي نتوصل إلى الإلمام بكل هذا وجب علينا أن نبدأ بما هو أبسط وأجلى وهو الوجه السياسي أي الخارجي.
إن درس التاريخ يخضع للقاعدة ذاتها التي يخضع لها درس الفلسفة، إذ لا يمكن البحث فيما وراء الطبيعة إلا بعد فهم علم الطبيعة. وعلى من شاء درس تاريخ التمدن درساً وافياً أن يكون مراقباً بصيراً ومدققاً حصيفاً يتمكن من فهم الحوادث وتمحيصها وغربلتها، لأن الحقيقة كثيراً ما تختفي وراء نقاب شفاف من الظواهر الخدَّاعة. وينبغي له أن يكون ذا قدرة على جمع الحوادث ووصلها واستنطاقها والمقابلة بينهما. وأخيراً أن يكون ذا ضمير حي فيما يرتئيه ويعلله.
لم يقدم ريبيرا في أواسط القرن الماضي على درس تاريخ التمدُّن الإسلامي الشرقي عامة والأندلسي خاصةً إلا بعد أن اجتمعت فيه كلُّ هذه الصفات الأساسية الضرورية، فولج وحده هذا الباب الذي لم يطرقه عالم قبله. وبعزيمة صادقة توغل في مجاهل هذا البحث وأكتشف حقائق كانت مجهولة أودعها كتبه القيّمة التالية: (تاريخ التدريس في الإسلام). (تاريخ المكاتب والمدارس الفقه في الإسلام). (تاريخ الفلسفة الإسلامية). (تاريخ شيوع(99/39)
اللغة الأسبانية بين عرب الأندلس). (تاريخ أصل الشعر الغنائي والشعر الحماسي). (تاريخ الموسيقى العربية وتأثيرها على الموسيقى الإسبانية).
وكفى بهذه المؤلفات شهادة تفوق ريبيرا في التاريخ الإسلامي، وعلى جهوده التي تحله في المقام الأول بين كلُّ العلماء الذين عنوا بدراسته. ويمتاز ريبيرا على كثير من هؤلاء بأنه شق لنفسه طريقاً جديدة في أبحاثه، غير مثقف آثار من تقدموه من البحاثين الذين يتبعون خطوات من تقدموهم، ويحتذونهم في كلُّ شيء تقريباً. ولا غرو أن يتبوأ أحد المراكز الأولى بين العلماء الذين درسوا التاريخ والآداب الإسلامية. ومن أظهر مميزاته تحري الحقائق المدعمة بالبراهين، وإثباتها بعد أن يحللها تحليلاً عقلياً ومنطقياً. وحجتنا على هذا أبحاثه في التعليم الإسلامي في الشرق والأندلس، فهي تطلعنا على أنه كان مقيداً وخاضعاً للسلطة في الأقطار الشرقية الإسلامية، على حين كان حراً طليقاً من كلُّ رقابة في الأندلس. وترينا أن أسلوب التعليم الإسلامي كان في عهده قدوة ومثالاً للتعليم في مدارس أوربا المسيحية التي أخذت عنه رتبها وألقابها وتنظيم صفوفها وطريقة امتحانها.
وإذا كان قد درس بإسهاب كيفية تأسيس القضاء وتنظيمه في مملكة أراغوان، فلكي يبرهن أن نظامها القضائي ككثير من الأنظمة القضائية نسخته إسبانيا المسيحية عن الإسلام، كما أن شكل القضاء في الإسلام هو نسخة طبق الأصل عن نظام القضاء الفارسي القديم. وما درس موشحات (ابن قزمان) التي هي منبع الأغاني العربية الأسبانية إلا لكي يفتش بين تقاطيعها وأوزانها وتراكيبها ومعانيها عن المثال الذي نسجت على منواله الأغاني الأسبانية العامية المعروفة (بالبروفينسيال). وقد كان مؤرخو الآداب الأسبانية يعتبرون هذه الأغاني وليدة بيئتها حتى جاء ريبيرا وكشف عن حقيقة أصلها العربي الأندلسي؛ وقد أوصلته أبحاثه إلى اكتشاف ذاته فيما يتعلق بالقصائد الفرنسية الحماسية إذ أن أقدمها عهداً هو أحدث من الملاحم الأندلسية، فضلاً عن التشابه الموجود بين أبطالها ومواضيعها، وأبطال ومواضيع الشعر الحماسي الأندلسي الذي نبشه ريبيرا من بطون النسيان.
(العصبة)
أديب سعادة(99/40)
14 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثة
وصل الفائت: أثبت بدستور أن تخمر عصير العنب وفساد اللبن واللحم مرجعها كلها إلى وجود أحياء صغيرة يحملها تراب الهواء، وإنه كلما قل تراب الهواء قلت الأحياء التي فيه حتى تكاد تعدم. واليوم نقص كيف طبق علمه على حالتين ونجئ به صناعتين كان مآلهما الخراب: صناعتين الخمر وصناعة الخل، فأثبت للناس كيف يلي العلم دعاء هم في شدة المحنة وظلمة اليأس.
وبدأ مرة أخرى يرى فرنسا كلها كيف يستطيع العلم أن يوفر المال لصناعتها. فحزم صناديق ملأى بالأواني والأجهزة الزجاجية، وحزم معها مساعداً نشيطاً من مساعديه أسمه (ديكلو)، وسافر مسرعاً إلى بلده القديم (أدبوا) ليدرس أمراض الخمور وما نزل بهذه الصناعة من الدمار. واتخذ معمله في مكان مقهى عتيق. واكتفى عن مصابيح الغاز بموقد من الفحم النباتي قام (ديكلو) عليه يؤجج جمراته بمنفاخ في يديه شغله طويلاً في غير ملل أو كلل. وكانا كلما أراد الماء ذهب (ديكلو) إلى مضخة القرية يستقي منها. أما ما احتاجوه من الأجهزة فصنعه لهم نجار القرية وسمكاريها في غير أناقة كبيرة، وذهب بدستور إلى معارفه الأقدمين يسألهم بضع زجاجات من الخمر، المرة، والخمر الهلامية، والخمر الزيتية، واختصاراً من كلُّ خمر فاسدة مريضة. كان بستور قد أيقن من أبحاثه السابقة أن الخمائر هي التي تصنع من عصير العنب خمراً، فلما جاء اليوم يبحث أدواءها وقع في نفسه أن هذه الأدواء لا بد ترجع إلى أحياء مكرسكوبية أخرى.
وما أسرع ما تحققت نبوءته! فما كاد يصوّب عدسته إلى الخمر الهلاميّة حتى وجدها تعجّ بمكروبات جديدة غريبة غاية في الصغر يتصل بعضها ببعض كالعقد النظيم. ونظر إلى الخمر المرّة فوجدها مليئة بنوع جديد من الأحياء. ونظر في الخمر الفاسدة الأخرى فوجد(99/42)
بها أحياء أخرى. ثم جمع زراع العنب وصناع الخمر وتجار الإقليم، وأعتزم أن يفتنهم بسحره.
صاح فيهم: (هاتوا لي ست زجاجات من خمر أصابتها ستة أمراض مختلفة، ولا تخبروني بنوع مرضها، فأنا أدلكم عليه بالنظر إليها). فلم يصدقه منهم أحد، وتغامزوا وتلامزوا عليه وهم في طريقهم إلى إحضار خمورهم المريضة، وضحكوا من أجهزته الغريبة في ذلك المقهى القديم، وتفاكهوا بحاله تفاكههم بمخبول جاد غير هازل. وجاءوا بين الخمور المريضة بخمر صحية ليخدعوه ويضلوه. فقام فيهم يملأ قلوبهم عجاباً وإعجاباً. فأخذ أنبوبة دقيقة من الزجاج وإدخالها في إحدى قوارير الخمور ورفعها بقطرات فيها ووضعها بين قطعتين منبسطتين من الزجاج وانحنى فوق الغمزات. ومضى زمن وصاحبنا في تحديقه، وأصحابنا يزدادون بمر الدقائق جلبة ونكاتاً. . .
وبغتةً رفع بستور رأسه وقال: (ليس بهذه الخمر مرض. أعطوها للذواق وانظروا هل يؤمن على قولي.)
وذاقها الذوّاق , ثم رفع أنفه الأحمر فتجمّد، واعترف أن بستور صدق فيما ذهب إليه. وجرى بستور على صف الزجاجات واحدة واحدة. وكان كلما رفع رأسه عن المجهر وصاح (هذه خمر مرة) أمن على قوله الذوّاق. وكلما قال هذه (الخمر هلامية) أكد ما وجد الذوّاق.
وانصرف الجماعة من عنده مكشوفي الرؤوس تلهج ألسنهم بالثناء وتتعثر بالشكر. (لا ندري ما يصنع بهذه الخمور ليتعرفها. ولكنه رجل ماهر غاية في المهارة) هكذا قال بعضهم لبعض، وهو اعتراف لعمر ربي منا الفلاح الفرنسي ليس بالهين اليسير. .
وبعد انصرافهم أخذ بستور ومساعده ديكلو يعملان في هذا المعمل الخرب، وقد شد النصر عزائمهما وقوّى النجاح قلبيهما. وأخذا يدرسان كيف يمنعان هذه المكروبات الغريبة من الدخول إلى الخمور السليمة، وخرجا على أنهما إ ذا سخنا الخمر، ولو تسخينا هينا دون درجة غليانها بكثرة، فإن هذا التسخين يقتل تلك المكروبات الدخيلة فلا تفسد الخمر بعد ذلك. وهذه الحيلة اليسيرة التي جاءا بها هي التي تعرف اليوم (بالبسترة) نسبةً إلى اسم صاحبها بستور، وعلى مقتضاها تعالج الألبان اليوم فتعقم فتنجو من التخثر طويلاً.(99/43)
وما كاد يطمئن الفرنسيون في شرق فرنسا على خمرهم، ويتعلمون كيف يمنعون الفساد عنها، حتى علا الصراخ في المقاطعات الوسطى يهتفون ببستور ليأتيهم فينجي صناعة الخل لديهم من البوار. فأجاب بستور دعاءهم وسافر مسرعاً إلى مدينة وكان في هذا الوقت قد ألف البحث عن المكروب والعثور عليه حيثما كان، فلم ينفق في التحديق وراءه ذلك الجهد الكبير والزمن الطويل اللذين أنفقهما أولاً. ولما اقترب من البراميل التي فيها تستحيل الخمر خلا، رأى على سطح سائلها زبداً غريب المنظر. فصاح به الخلالون: (هذا الزبد لا بد منه لتخليل الخمر) وقضي بستور بضعة أسابيع في البحث فوجد أن الزبد إن هو إلا ملايين بعضها فوق بعض من خلائق مكرسكوبية. فأخذها، فامتحنها، فوزنها، فصنع بها ما لا يُصنع. وأخيراً جاء إلى جمع من الخلالين وزوجاتهم وأولادهم وأقاربهم فأخبرهم أن الذي يحيل خمرهم إلى خل إنما هي مكروبات صغيرة، وأنبأهم أن هذه المكروبات تحيل من كحول الخمر إلى حامض الخل مقادير تبلغ عشرات الألوف من أوزانها. (فانظروا واعجبوا من ضخامة العمل الذي تقوم به هذه الأحياء الضئيلة. ماذا تقولون لو أن رجلاً زنته مائتا رطل قام يقطع خشباً فقطع مليوني رطل في أربعة أيام!) وبهذه التشبيهات الساذجة، أدخل بستور هذه المكروبات الصغيرة في حياة هؤلاء السذج فأكبروها واحترموها. وبستور نفسه ظل يفكر طويلاً في جسامة ما تقوم به من الأعمال حتى ألف الفكرة واعتيادها.
وخطر له أن المكروب على ضآلته قد يدخل جسم الثور العظيم أو جسم الفيل أو جسم الرجل فيميته، فلم يجد في هذا الخاطر استحالة أو غرابة. وقبل أن يرحل عن بلدة (تور) علم أهلها كيف يربون هذا المكروب النافع ويعنون به حتى يحسن استلاب الجوأ كسجينه لأكسدة الكحول في خمرهم فيملأ بذلك جيوبهم بالملايين من الفرنكات.
وبهذا النجاح وأمثاله زاد بستور ثقة بالتجربة أداةً لكشف الغامض من الأمور. وأخذ يحلم الأحلام الطويلة العريضة المستحيلة عن فتوحات المستقبل التي سيأتيها في تقفي آثار هذه الخلائق الضئيلة ولم يحبس هذه الأحلام على نفسه، بل وصفها في خطبه ونادى وبشر بها كما بشر الرسول يوحنا المعمدان بالنصرانية، سوى أن صاحبنا كان أكثر حظاً من يوحنا الرسول، لأنه قدر له أن يعيش يتحقق ولو قليلاً من نبواته.(99/44)
وتلت ذلك فترة قصيرة قضاها بستور في معمله بباريس يشتغل هادئاً ساكناً. فلم يبق له من الصناعات ما ينجيه. وظل في هدوئه حتى يوم من أيام عام 1865، ففي هذا اليوم جاء القدر يدق بابه. وما كان الطارق إلا أستاذه القديم دوماس، جاءه يتطبب لدود القزّ المريض. فقال بستور دهشاً: (وما الذي دهى دود القزً، فما كنت أعلم أن المريض يعتريه؟ على أني لا أعرف عن هذا الدود شيئاً، وإن شئت المزيد ففي الحق أني لم أر دودة قزّ واحدة في حياتي).
(يتبع)
أحمد زكي(99/45)
أبو سليمان الخطابي
319 - 883 هـ
بقلم برهان الدين محمد الداغستاني
تتمة
تابع مؤلفاته
3 - (أعلام السنن) في شرح البخاري، وهو شرح لطيف فيه نكت لطيفه وفوائد شريفة.
4 - (كتاب الاعتصام بالعزلة) كتبه بطلب من أحد تلاميذه حقق فيه معنى العزلة وما المراد منها، ثم عرض لأدلة من أنكر العزلة ومن قال بها ووازن بينها، فكانت الغلبة في جانب أنصار العزلة.
5 - (كتاب شأن الدعاء) ذكر فيه بعض الأدعية المأثورة وشرح معانيها.
6 - (إصلاح غلط المحدثين) أورد فيه قرابة مائة وثلاثين حديثاً يرويها أكثر المحدثين ملحونة أو محرفة أصلحها وبين الصواب فيها.
7 - (شعار الدين) التزم فيه إيراد أوضح ما يعرفه من الأدلة من غير أن يلتزم طريقة المتكلمين.
8 - (كتاب الشجاج)
9 - (كتاب شرح أسماء الله الحسنى)
10 - (كتاب الغنية عن الكلام وأهله)
11 - (كتاب العروس)
12 - (الرسالة الناصحة) فيما يعتقد فيما يعتقد في الصفات، وهذه الستة الأخيرة لم أراها ولم أعلم مكان وجودها.
هذه هي كتب أبي سلمان التي ذكرها الذين ترجموا له. وجاء في طبقات الشافعية الكبرى للسكي (ج2ص222) ما يأتي:
قال الخطابي في كتابه تفسير اللغة التي في مختصر المزني في باب الشفعة: بلغني عن إبراهيم بن السرى الزجاج النحوي أنه كان يذهب إلى أن الصاد تبدل سيناً مع الحروف(99/46)
كلها لقرب مخرجهما، فحضر يوماً عند على بن عيسى فتذاكرا هذه المسألة واختلفا فيها وثبت الزجاج على مقالته، فلم يأت على ذلك إلا قليل من المدة، فاحتاج الزجاج إلى كتاب إلى بعض العمال في العناية فجاء إلى علي أبن عيسى الوزير ينتجز الكتاب، فلما كتب علي بن عيسى صدر الكتاب وانتهى إلى ذكره كتب: وإبراهيم بن السرى من أحسن أخواني، فقال الرجل أيها الوزير: الله الله في أمري! فقال له علي بن عيسى إنما أردت أخص، وهذه لغتك فأنت أبصر، فإن رجعت وإلا أنفذت الكتاب بما فيه. فقال قد رجعت أيها الوزير فأصلح الحرف واطو الكتاب. أ. هـ.
فهذا الذي نقلناه عن طبقات السبكي يفيد أن للخطابي كتاباً شرح فيه غريب اللغة التي في مختصر المزني ولكني لم أر أحداً ذكر هذا الكتاب من كتب الخطابي، ولم يذكر صاحب كشف الظنون هذا الشرح لمختصر المزني مع أنه عدد الكثير من شروحه لكثير من المتقدمين والمتأخرين.
شعره:
يُعد الخطابي أديباً ذا حظ وافر في الصناعتين النثر والنظم؛ فإما نثره ففي إمكان القارئ الكريم الاطلاع عليه في كتبه التي كتبها في العلوم، ومنها ما هو مطبوع، لذلك لا أرى حاجة إلى ذكر شيء منه، وأما شعره فمع أنه شعر جيد سلس عذب الألفاظ فهو مفرق هنا وهناك بين بعض كتبه وكتب بعض الذين ترجموا له، وإني لذلك ذاكر منه كلُّ ما عثرت عليه.
قال أبو سعيد الخليل بن محمد الخطيب: كنت مع أبي سليمان الخطابي فرأى طائراً على شجرة فوقف ساعة يسمع ثم أنشأ يقول:
يا ليتني كنت ذاك الطائر الغردا ... من البريّة منحازاً ومنفردا
في غصن بأن دهته الريح تخفضه ... طوراً وترفعه أفنانه صعدا
خلو الهموم سوى حب تلمسه ... في الترب أو نغبة يروى بها كبدا
ما إن يؤرقه فكر لرزق غدٍ ... ولا عليه حساب في المعاد غدا
طوباك من طائر طوباك ويحك طب ... من كان مثلك في الدنيا فقد سعدا
وله في معاملة الناس بالحسنى وحب الخير لهم:(99/47)
أرض للناس جميعاً ... مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعاً ... كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك ... ولهم حس كحسك
وله في الرد على من لامه على اعتزاله الناس وطول احتجابه:
وقائل ورأى من حجتي عجباً ... كم ذا التواري وأنت الدهر محجوب
فقلت حلت نجوم العمر منذ بدا ... نجم المشيب ودين الله مطلوب
فلذت من وجل بالاستتار عن الأ ... بصار إن غريم الموت مرعوب
وله في مدارة الناس ومصانعتهم:
مادمتُ حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديماً للندامات
وله يشكو إيذاء الناس بعضهم بعضاً فوق أذى الوحوش الضارية:
شر السباع الضواري دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما نرى بشراً لم يؤذه بشر
وله يشكو من وسطه الذي لا يجد فيه من يفهمه وتسكن إليه نفسه:
وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بُست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وله في تهوين أمر الدنيا وعدم الاهتمام بها:
لعمرك ما الحياة وإن حرصنا ... عليها غير ريح مستعاره
وما للريح دائمة هبوب ... ولكن تارة تجري وتارة
وله في الحث على انتهاز الفرص قبل فواتها:
تغنم سكون الحادثات فأنها ... وإن سكنت عما قريب تحرك
وبادر بأيام السلامة إنها ... رهون وهل للرهن عندك مترك
وله في التحذير من الجهال وعدم الركون إليهم:
تحرز من الجهال جهدك إنهم ... وإن لبسوا ثوب المودة أعداء
وإن كان فيهم من يسرك قربه ... فكل لذيذ الطعم أو جُلُّه داء(99/48)
وله في العفو والقصد والذم المغالاة:
تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستقص قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرّفيْ قصد الأمور ذميم
وأورد جعفر بن شمس الخلافة في كتاب للخطابي هذين البيتين:
وإني لأعرف كيف الحقوق ... وكيف يبر الصديق الصديق
ورحب فؤاد لفتى محنة ... عليه إذا كان في الحال ضيق
وله يذكر حسن أثر العزلة في نفسه:
إذا خلوت صفا ذهني وعارضني ... خواطر كطراز البرق في الظلم
وإن توالى صياح الناعقين على ... أذني عرتني منه حكلة العجم
وله يصف ميله إلى البعد عن الناس وقلة مخالطتهم:
قد أولع الناس بالتلاقي ... والمرء صب إلى هواه
وإنما منهم صديقي ... من لا يراني ولا أراه
وله في عزة النفس والتعفف مع الحاجة الملحة:
دعني فلن أخلق ديباجتي ... ولست أبدي للورى حاجتي
منزلتي يحفظها منزلي ... ديباجتي تكرم ديباجتي
وله:
قد جاء طوفان البلاد ولا أرى ... في الأرض ويحي للنجاة سفينه
فاصعد إلى وزر السماء فأن يكن ... يعييك فابك لنفسك المسكينه
وله:
سلكت عقاباً في طريقي كأنها ... صياصي ديوك أو أكف عقاب
وما ذاك إلا أن ذنباً أحاط بي ... فكان عقابي في سلوك عقاب
وله:
قل للذي ظل يلحاني ويعذلني ... لنائل فاته والخير مأمول
لا تطلب السمن إلا عندي سمن ... نال الولاية فالمعزول مهزول
بعض الآراء المنقولة عنه(99/49)
كان الخطابي شديد الإنكار على الفقهاء الذين يغفلون الحديث أو يتساهلون فيه ويقصرون همهم على آراء أئمتهم من الفقهاء كما كان ينكر على المحدثين إغفالهم الفقه واشتغالهم بالغريب وجمع الروايات لذلك لم يكن غريباً من الخطابي أن يخالف من تقدموه إذا رجوت رأى الدليل يسعفه؛ فمن ذلك قوله برد شهادة أحد الزوجين للآخر لما في ذلك من التهمة قياساً على رد شهادة القانع لأهل البيت الوارد في الحديث، والقانع من يخدم القوم ويكون في حوائجهم. وكان يرى تحريم البول في الطريق لحديث فيه ولما فيه من إيذاء المسلمين. وكان كراهة خاتم الفضة للمرأة لأنه من شعار الرجال كما أن الذهب من شعار النساء، وكان يرى أن أكل الثوم والبصل لا يعد عذراً في ترك الجمعة لما لها من الأهمية والخطر. وكان يعيب على المتكلمين قولهم في صفات الله الذاتية: إنها قديمة، ويختار أن يقال فيها أزلية، لأن معنى الأزلي هو ما لم يزل كائناً، ومعنى القديم هو ما له صفة القدم، ولا يجوز أن يكون للصفة صفة.
هذه كلمة أردت بها الكشف عن فضل هذا العالم الذي نسي الناس حتى أسمه فلا يعرفونه على حقيقته، وأرجو أن أكون قد وفقت ولو إلى بعض ما أردت.
برهان الدين محمد الداغستاني(99/50)
23 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
ما أبعد ما رجوت من أمل، وما أسوأ ما عدت به من فشل! فما مضيت حتى ألفيت فيلسوفي قد نبذ العقل نبذاً كما نبذ كلُّ ما سواه من أسس الاتساق، وانتكس إلى الهواء والأثير والماء وما إليها من شوارد الآراء، فكان عندي أشبه برجل أصر بادئ ذي بدء أن العقل هو علة أفعال سقراط بصفة عامة، فلما أراد أن يبيّن بالتفصيل أسباب أفعالي العديدة، أخذ يبرهن أنني أجلس ها هنا لأن جسمي مصنوع من عظام وعضلات، وأن العظام، كما كان ينتظر أن يقول، صلبة تفصل بينها أربطة، وأن العضلات مرنة وهي العظام التي يحتويها كذلك غشاء، أو محيط من اللحم والجلد. ولما كانت العظام مشدودة إلى مفاصلها لقبض العضلات وسطها، كان في استطاعتي أن أثنى أطراف بدني، وهذا علة جلوسي ها هنا في وضع منحنٍ. أنه كان سيزعم هذا، وكان سيشرح بمثل هذا كلامي إليكم، فقد كان سيفرده إلى الصوت والهواء والسمع، وكان سيذكر من هذا النوع من الأسباب عشرة آلاف سوى ما ذكر، ناسياً أن يشير إلى السبب الحقيقي وهو أن الأثينيين قد رأوا في إدانتي صواباً، فرأيت أنا بناء على ذلك أن الأفضل والأصوب هو مقامي ها هنا محتملاً ما حكم عليّ به، فأرجح الظن عندي أن عظامي وعضلاتي هذه كانت تود لو فرت إلى ميغاراً أو بوتيا - وإني لأقسم بكاتب مصر أنها كانت تود ذلك، إذا لم يكن يسيرها إلا فكرتها هي عن الأمثل، وإذا لم أكن أنا قد آثرت أن أحتمل كلُّ عقوبة تقضي بها الدولة، على اعتبار أن ذلك أفضل وأشرف مسلكاً، بدل أن أمثل دور الآبق فألوذ بالفرار. لا شك أن في هذا كله خلطاً عجيباً بين الأسباب والحالات. وقد يمكن القول حقاً أنني لا أستطيع تحقيق غاياتي بغير العظام والعضلات وسائر أجزاء الجسد، أما القول بأنني أفعل ما أفعل من أجلها، وأن فعل العقل إنما يكون على هذا النحو ولا يكون باختيار الأمثل، فذلك ضرب من القول العابث العقيم؛ وإني لأستغرب ألا يستطيع الناس أن يفرقوا بين السبب والحالة، وهو(99/51)
ما يخطئ الدهماء فيه وفي تسميته دائماً، لأنهم يتخبطون في الظلام؛ وهكذا ترى واحداً من الناس يصطنع دوامة من الماء تشمل الكون فيثبِّت الأرض بالسماء، وترى آخر يذهب إلى أن الهواء عماد الأرض وأن الأرض في شكل الحوض الفسيح، ولا تسيغ عقولهم قط وجود أية قوة تسير بهم إذ تصرفهم نحو الأحسن وهم لا يتخيلون أن في ذلك قوة فوق القوة البشرية، إنما هم يتوقعون أن يجدوا للعالم عماداً آخر أقوى من الخير وأكثر منه دواماً وشمولاً، وهم بغير شك يرون أن قوة الخير القسرية الشاملة هي كلُّ شيء، ولكني مع ذلك أتمنى أن أكون هذا هو المبدأ الذي أتعلمه إن وجد من يعلمنيه، ولما كنت قد فشلت أن أستكشف بنفسي أو بإرشاد غيري من الناس طبيعة الأمثل، فسأعرض عليكم إذا شئتم طريقة البحث في العلة التي وجدتها تتلو الأمثل في المثالية.
أجاب: لشد ما أحب أن أصغي إلى ذلك.
فمضى سقراط: ظننت أني ما دمت قد فشلت في تأمل الوجود الحقيقي فينبغي أن أحرص على عين روحي فلا أفقدها كما قد يؤذي الناسُ عيونهم الجثمانية بشهود الشمس والنظر إليها أثناء الكسوف، ما لم يتحوطوا فلا ينظرون إلا إلى الصورة المنعكسة على الماء أو ما يشبه الماء من وسيط؛ حدث لي ذلك فخفت أن تصاب روحي بالعمى الشامل إذا أنا نظرت إلى الأشياء بعينيّ أو حاولت أن أتفهمها بوساطة الحواس، وفكرت أنه يحسن بي أن أعود إلى المُثل فأبحث فيها عن حقيقة الوجود، وأني لأعترف ينقص هذا التشبيه - لأنني بعيد جداً عن التسليم بأن من يتأمل صور الوجود بوساطة المثل يراها (معتمة خلال منظار) دون من ينظر إليها وهي في نشاطها وبين نتائجها، ومها يكن من أمر فهذه سبيلي التي سلكتها: فرضت بادئ الأمر مبدأ زعمت أنه أمتن المبادئ، ثم أخذت أثبت صحة كلُّ شيء يبدو متفقاً مع ذلك المبدأ، سواء أكان ينتمي إلى السبب أو إلى أي شيء آخر، واعتبر كلُّ ما يتنافر وإياه غير صحيح، ولكني أحب أن أوضح بالشرح ما أعني، فما أحسبكم تفهمون ما أريد.
فأجاب سيبيس: كلا، حقاً إنا لم نفهم جيداً.
قال: ليس فيما أوشك أن أنبئكم به من جديد، فهو ما ظللت أكرره أينما حللت، فيما سبق من نقاش، وفي ظروف غيره سلفت، فثمة علة قد ملكت على خواطري، أريد أن أبسط لكم(99/52)
طبيعتها، ولا مندوحة لي عن العودة إلى تلك الألفاظ المألوفة التي يلوكها كلُّ إنسان، فأزعم قبل كلُّ شيء أن ثم جمالاً مطلقاً وخيراً مطلقاً وكبراً مطلقاً وما إلى ذلك. سلم معي بهذا ولعلي أستطيع أن أدلك على طبيعة العلة، وأن أقيم لك الدليل على خلود الروح.
فقال سيبيس: تستطيع أن تمضي من فورك من برهانك، فلست أتردد في أن أسلم لك بهذا.
فقال: حسناً، إذن فأحب أن أعلم هل تتفق معي في الخطوة التالية، وتلك أنه لو كان هنالك شيء جميل غير الجمال المطلق لما شككت في استحالة أن يكون ذلك الشيء جميلاً إلا بمقدار مساهمته في الجمال المطلق - وأني أقرر هذا عن كلُّ شيء. أأنت موافقي على هذا الرأي في العلة؟
فقال: نعم أوافقك.
فمضى قائلاً: لست أعلم شيئاً ولا أستطيع أن أفهم شيئاً عن أي سبب آخر من تلك الأسباب الحكيمة التي يزعمونها، فإن قال لي أحد إن جمالاً ينبعث عن ازدهار اللون أو الشكل أو ما شئت من شيء من هذا القبيل، لطرحت قوله جملة، فليس لي منه إلا ربكتي، ولتشبثت بفكرة واحدة دون غيرها تشبثاً قد يكون على شيء من الحمق، ولكني من صوابها على يقين، وهي أنه لا يجعل الشيء جميلاً إلا وجود الجمال والمساهمة فيه، مهما تكن سبيل الوصول إلى ذلك، وكيفية الحصول عليه، فلست أقطع برأي في الكيفية، ولكني أقرر بقوة أن الأشياء الجميلة كلها إنما تكون جميلة بالجمال، وعندي أن ذلك وحده هو الجواب المعصوم الذي أستطيع أن أدلي به لنفسي أو لأي أحد آخر، وإني لأتشبث به، ويقيني أن لن تصيبني الهزيمة قط، وأنه في مكنتي أن أجيب، في عصمة من الزلل، على نفسي أو على أي أحد من الناس، بأن الأشياء الجميلة لا تكون جميلة إلا بالجمال. ألست توافق على ذلك؟
- نعم أوافق.
- وبالكبر وحده تصير الأشياء الكبيرة كبيرة فأكبر وأكبر، وبالصغر يصير الصغير صغيراً؟
- حقاً.
(يتبع)(99/53)
زكي نجيب محمود(99/54)
سل الجديدين
للأستاذ فخري أبو السعود
هذي الحياة التي راقت مجاليها ... يُحصَى حصاها ولا تُحصى مآسيها
ما كنت تلهو بما أَبدت ظواهرُها ... لو كنت ما تُخفي خوافيها
تَظَلُّ تَعْرِضُ ألواناً مَفاَتنَها ... وللشرورِ مجالٌ في نواحِيها
تجاور الحُسْنُ فيها والأسى ومشت ... ما بين أفراحها الكُبرى مناَعيها
يشقى ويفنى بنوها وهي لاهيةٌ ... بدلّها وحُلاها عن ذراريها
تروقك الغابةُ الفيحاء ناضرًة ... يرفُّ بالحُسنِ عإليها ودانيها
ويانعُ الزهرِ في أفنانها عبقٌ ... وَرَيِّقُ الماء يجري في مساريها
ويَسْتبيكَ برودٌ من نسائمها ... هينٌ وظلٌ ظليلٌ من حواشيها
وبين أطوائها حربٌ مخلّدة ... تعجَّ ما بين ماضيها وآتيها
في عشبها أو ثراها أو لفائفها ... يُكنُّ رائُحها شرّا لغاديها
وما اغتذى حبُّها إلا بهالكها ... ولا سما نضرُها إلاَّ بذاويها
تغلغلَ الظّلْمُ في أحنائها وَعَدَا ... على الضعيف من الأحياء عاديها
في كلَّ طرفة عين ثمَّ مهلكهٌ ... أو ثمَّ معركةٌ يا ويحَ صاليها
تشقى وتألمُ آلافٌ مؤلَّفة ... في كلُّ آن وترْدى في دياجيها
وتعشق البحر في رحبٍ وفي عظمٍ ... والبحرُ مطَّرد الأمواج طاميها
تُلاعِبُ الريح أحياناً غوار به ... وساكبُ النُّور أحياناً يناغيها
يصفو الأصيل عليها والضحى ولها ... تردُّدٌ وخريرٌ في شواطيها
وتحت أثباجها حربٌ مُؤرَّثة ... موصولةٌ ليس يخبو الدَّهر واريها
وكم مآسي في قيعانها دَرَجَت ... وكم فجائعَ غابت في غواشيها
سل الجديدين كمكرَّا على مُهجٍ ... مَرُوعةٍ عزَّ في اللأواء آسيها
قد عزَّ في قبضة الأقدار ناصرها ... وعزَّ مِنْ بَعْدُ رائيها وباكيها
لو أطْلَقَ المرءُ للعين العنانَ على ... تلك المآسي لما جفَّتْ مآقيها
ولو رَأى لضحاياها العِداِد لما ... حلا له الشعرُ إلا في مراثيها(99/55)
ولو تدبَّرت النفسُ الحياة لما ... صَحَتْ من الهم، لكنّا نُماريها
نشيحها عن مآسيها ونصرفها ... لما تُحبُّ وترضى من ملاهيا
فخري أبو السعود(99/56)
نِدَاءُ الحُبّ
وقلبي أنشودة حلوة=تغنى بها قافلات الهوى
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
تعالَ أيا حُبُّ نولِ الوُجودَ ... أناشيدَ يملكُها مَنْ روَى
تعال نُغَنِّ السُّهولَ الفساحَ ... ونُصبِ الهضابَ ونُغْرِ الرُّبا
تعال نَهمْ هَيَمانَ العُطورِ ... ونَهْتزَّ مثلَ شُعاعِ الضُّحَى
تعال نُطوِّفْ رِحَابَ الفضاءِ ... ونسْرِ إلى غامضِ المُنْتَأَى
تعالَ نَغُصْ في عُبَابِ السَّماءِ ... ونُفْنِ الزمانَ ونطْوِ الدُّنا
ولا ندَّحرْ فَرْحَةً للجنَان ... ولا نُبقِ للرُّوح من مشَتَهى
ونَحْىَ مِنَ الحُبّ في عالمٍ ... نضير الأزاهيرِ حُلوِ الجنى
تُؤلِّفنا الطَّيْرُ أُغرودةً ... وتَمزُجُنا بنُفاحِ الشّذا
نعيشُ نجيّيْن في سكرةٍ ... كما عاشَ في الزهرِ خَمْرُ الندى
فما العُمرُ إلا سَناً راجفٌ ... تَلألآ بارقةُ وأمَّحَى
فأيامُهُ ضُيَّعٌ كالسَّرابِ ... وأحْلامُه ذاهباتٌ سُدى
نطيرُ إلى ربواتِ النّعيمِ ... ونلكُ أنفاسَ ريح الصَّبا
لنا في النَّسائمِ أُرْجوحةٌ ... تَطُوفُ بنا في فجاج السَّما
تُهدْهِدُنا بالنشيدِ الحبيبِ ... وتغمُرنا بالسّنَا المرتجى
ننامُ وفي الأُذنِ أُغنيةٌ ... وفي العين حُلْمٌ رقيقٌ سَرَى
وأرواحُنا انطلقتْ في العَلاءِ ... تَغلغلُ في سدرةِ المنتهى
فيا لكِ غيبوبةً لذَّةً ... تراءى الخَفَاءُ بها وانجلى
ويا لكِ أُمْنَّيةً تُستَطابُ ... ولحْناً على الدَّهْرِ لا يُجتوى
ويا لكِ دُنيا قَلَتْهَا الهمومُ ... وماتَ الرَّياءُ بها وانطوى
فلا الشَّرُّ يأوي إلى ساحها ... ولا البُغْضُ يَسْكُنها والقلى
تَنَقّتْ من العابِ أعطافُها ... ورَفَّ النعيمُ بها وازدهى
يَسودُ حِماها هوىً خالدٌ ... وحُبٌّ تسامى وعيشٌ صفا(99/57)
ويهفو إليها الشعاع الرقيقُ ... ويألفها الأملُ المُبتغى
وتَنْفُثُ فيها الثُّغُورُ الحِسانُ ... أحاديثَ يلتذُّها منْ وعى
فما يَبْهَجُ الرُّوح بَادٍ هُناكَ ... لَمَنْ يَشْتَهيهِ وخافٍ هُنا
تعال لقد بُحُ صوتي الشّجيُّ ... وعاجلني منْ صُراخي الونى
تعال فإني مُستوْحشٌ ... يُريني طولُ الضّنى ما اختفى
أُحسُّ يداً مٌلئتْ بالحنانِ ... تُنهنهُ دمعي إذا ما همى
وألمسُ في وحدتي خافقاً ... يذوبُ على ما أُعاني أسى
وألمح في وحدتي طيفاً يلوحُ الهُزالُ ... على وجههِ ويبينُ الضَّنى
يُغمغْمُ في سرِّهِ دائباً ... ويرعى خُطاي ويحمي الحِمى
ويُؤنُسني إن عَراني الملالُ ... ويحَمْلُ عني وقْدَ الجَوى
ويَنْفَحُني بأريجِ الخلودِ ... ويَغْمُرني بشهيِّ المُنى
كأني أبصرْتُ شِهْاً لهُ ... تعلَّقْتهُ في غُصونِ الصِّبَا
يُذكِّرُني وجُههُ بالحبيبِ ... وإنْ غَيَّرتْهُ عوادي النوَّى
من الزائري في إسارِ الشُّجونِ ... يُزحْزِحُ عَنّى خطباً عرا
يُقاسمُني غَمراتِ الحياةِ ... وما رَوَّعَ القَلْبَ أو ما دهى
ويُنقذنُي من وجومي الرّهيبِ ... ومن ليليَ الجْهمِ إما غشا
ومنْ هاجسٍ ضجَّ منهُ الجَنَانُ ... ومِنْ خاطرٍ فرَّ منه النهى
غَنيتُ بهذا الخيال العجيبِ ... وشئَّتَ لُبِّي هذا الغنى
ذهِلتُ ولم أدْرِ مِنْ حيرتي ... ألِلْغَيً مَسْرَاي أمْ للُهدى
فلا العَيْنُ تعرِفُ سجو المنامِ ... ولا الليل يُسعدُها إن سجا
يُريني اكتئابي طُيوفاً تموجُ ... وقافلةً لا تقلُّ السُّرى
ترامتْ بها نائياتُ القِفِارِ ... فضاعتْ معالمُها والصُّوى
وجنَّا تألقُ مثلَ اللَّهيبِ ... وجنَّا تأجَّجُ مثلَ اللَّظى
وأرْضناً تَفَجَّرُ منها الدَماءُ ... وفيها تغُوصُ أُلوفُ المُدى
وجرحى يثنُّون خلفَ الزِّحام ... وصرعى يغيبون تحت القَنا(99/58)
وأُفقْاً تدوِّي بهِ السَّافياتُ ... وتملأُ جَنْبيهِ نارُ الوَغى
فمنْ أسهمٍ لَمعتْ كالوميضِ ... ومِنْ أسْيُفٍ إثْرَها تُنتضى
ومنْ أجنُحٍ دوَّمتْ في الفَضَاءِ ... ومدتْ على الكوْنِ ظلاَّ ضفَا
ومن خائف قد عصاه الصياحُ ... فخارتْ عزائمه والقُوى
ومنْ نهمٍ أكلَ الكائناتِ ... وَعَبَّ خِضَمَّاتها واحتسى
وغالَ منَ النَّجْمِ مالا يُعَدُّ ... ومالا يُرَامُ ولا يُحتوى
يُقهْقهُ قهْقهة كالرُّعودِ ... ويمتدُّ كالبرق إما بَدا
وينَفُثُ حتى إدخال السَّحابَ ... تدفَّقَ من جانبيهِ الحيا
وعيني إلى مَلكٍ نائم ... يُجمْجِمُ في الحُلْمِ أحلى اللُّغى
أُناديه مِنْ طول شوقي المِلحّ ... فيبسم والقلبُ منه هَفا
سريرك حوَّمَ بينَ الغُيوم ... وأغفى على شُرُفاتِ السُّها
وفي القلْبِ عُشُّقكَ لكّنهُ ... عفاهُ ومِنْ طيْرهِ قد خلا
وأنت أيا طيفُ ظلَّلْتني ... بِعَطْفِكَ حتى ازدَهاني الرِضا
أُفدِّيكَ من مُشفِقٍ لاهِفٍ ... ويا ليتَ يُرضيك أنيِّ الفدا
تكلمْ عَلاَمَ تُطيلُ السكوتَ ... وفي شَفَتَيْكَ كلامٌ يُرى
تعالَ فها ذاكَ ركْبُ الحياةِ ... تَسَربلَ صحراءها وارتدى
ولم يَبْقَ مِنهْ سِوَى ومضةٍ ... كخطِّ الأصيلِ بأقصى الفلاَ
تعال فإنْ يحتجبْ نورُهُ ... يَعُمَّ الشقاءُ ويطْغَ الأذَى
تعال فإني أُحسُّ المَاَء ... يَحُطُّ على شامخاتِ الذُّرى
وينشُرُ أجنحَهُ الضافيات ... ويُرسِلُها في رحابِ الفَضا
محفّتُهُ حَيِليَتهْا العُيونُ ... وإنْ غامَ لآلأؤُها أو دَجَا
تعالَ فِلِليلِ حُزنٌ يَطولُ ... وهولٌ إذا ما تناهى ابتدا
تعالَ فإنْ أدركتْنا خُطاهُ ... فليسَ يُتَاحُ لنا المُلتقى
حياتي طائفةٌ كالخيالِ ... وصوتيَ ليسَ لهُ منْ صَدَى
ونفسيَ تحملُ همَّ أثنينِ ... وهَمِّي جاز بنفسي المدَى(99/59)
كأنيَ قَبرٌ ترامَى العفاءُ ... على جانبيهِ وعَجّ البِلَى
وقلبي أُنشودةٌ حلْوةٌ ... تغنى بها قافلاتُ الهوى
مررتُ بصحراءِ هذي الحياةِ ... كما مرَّ الغُمْضِ طيفُ الكَرَى
على منكبيَّ بياضُ النَّهار ... وفي مُقلتيَّ سواد الدُّجى
لئنْ نَقَمَ القلبُ أشجانهُ ... لما كربتْهُ صُروفُ الرَّدى
وإن أنكرتهْ الأماني العذابُ ... فما حَفَلَ الدهرَ مُرَّ الشَّجا
تصبَّرتُ حتى فقدْتُ المعِينَ ... وأجملْتُ حتى مَلِلْتُ الأُسا
فيا قلْبُ حَبْسٌ عليكَ العذَابُ ... ويا عينُ وقفٌ عليكِ البُكا
أُحسُّ كأنيَ قمرْيَّةٌ ... تنُوحُ على حُلُمٍ قد نَأَى
تُودِّعُ آمالهَا الضحكاتِ ... وما ضَمَّ عالمُها منْ دُمى
وتمشي إلى شَجَنٍ قاتمٍ ... رهيبِ الكونِ سحيقِ الهُوى
عييتُ بحبِّيَ لَمَّا استفاضَ ... وذُقْتُ لذاذَتهُ مذْ مضى
وعشتُ بفرحتهِ حالما ... أَطوفُ بأوهامهِ والرُّؤَى
فيالكَ من جَدوِلٍ هانئٍ ... إذا شَربَ القلّبُ منه ارتوى
فواردُهُ لا يُحسُّ الشقآَء ... وراشفُهُ لا يذوق الصَّدى
ويا رُبَّ واهٍ براهُ الهزال ... ترشَّف أمواههُ فاشتفى
وسكران من كأسِ هذا الزَّمان ... تنشَّقَ نافحه فانتشى
تموجُ الغُيوبُ بأعطافه ... ويطفحُ في حافتهِ الجَدَا
خلاَ منْ منا كدِ هذي الحياةِ ... ومن رتقِ جرعتها والقذى
يُعنِّى فيهتزُّ هذا الوجودُ ... ويشدو فيطربُ هذا الوَرَى
أُحِبُّ السماَء ولكنما ... يدافعني عنْ هواي الثرى
هي الأرض مهدى أَتى شردْ ... ت وحنّقْت في الكائنات العلى
ولكنَّ روحي مِلْكُ الخلودِ ... ورهن البقاءِ وخذن السَّنا
أنور العطار(99/60)
القصص
من أساطير الإغريق
بَنْدُورَا وسرقة النارُ المقدسة
للأستاذ دريني خشبة
(هدية الآلهة إلى الآنسات في جميع العصور!!)
توزَّعَ الآلهة تعمير الكون، فكانت الأرض من نصيب برومثيوس بن يابيتوس، أحد ذراري التيتان العمالقة، الذين حبسهم أبوهم خشية جبروتهم ومخافة بأسهم. . .
وطفق برومثيوس يفكر ويفكر، حتى بدا له أن يجعل في الأرض أناسيٌّ يخلقهم على صورِ الآلهة، فاستعان أخاه أبيمثيوس فهداه إلى الحمأ المسنون، أو الطينة البشرية، فخلقا منها الإنسان الأول، وذهبا إلى إيروس فنفخ فيه من روحه؛ التي هي الحياة؛ وقصدا إلى فنفثت فيه نفثتين، هما النَّفس والعقل.
وخلق برومثيوس رجالاً كثيرين على هيئة آدم الأول، وجلس على أكمة عالية يشرف على عبادة الصالحين!! ولشد ما كانت الكبرياء تشيع في أعطافه، كلما نظر فوجدهم يتحدثون بآلائه، ويسجدون له، حتى فكَّر في نعمة أخرى يسبغها عليهم فتكون أجزل النعم!
(النار! النار المقدسة تنفعهم وتُلين لهم حديد الحياة!).
(فلا ذهب إلى الأولمب ولأتحسَّس؛ فإذا استطعت أن أتغفَّلَ زيوس، فأني سارقٌ لهم قبساً من ناره التي آثر بها نفسه على سائر العالمين!).
ومع أن برومثيوس يعلم من أمر هذه النار ما يعلم، ومع أنه يعلم أنها محرمة على غير الآلهة، وأن كلُّ من استباحها لنفسه ممن عداهم تعرض لمقت الإله الأكبر ونكاله، فقد ذهب إلى الأولمب وتغفل زيوس، ودسَّ قبساً من النار في تضاعيف ثيابه، وعاد كالبرق إلى عباده المخلصين يقدم إليهم هديته التي سرقتها من أجواز السماء!.
ونظر زيوس من علياء الأولمب، فرأى النيران تتأجج هنا وهناك في أديم الأرض، ففطنا إلى السرقة المنكرة، وانقذفت من فمه المزبد رعود الغضب!
وارتجف الأولمب، وزُلزلت السماء، وارتعدت فرائض الآلهة، وأمر الإله الأكبر فأحضر(99/61)
برومثيوس مُكبلاً بالأصفاد، مُلطخاً بالوحل؛ وعبثاً حاول الدفاع عن نفسه؛ ثم حُكم عليه فسيق إلى جبال القوقاز، حيث غُلَّ عنقه الضخم وذراعاه الكبيرتان، وفخذاه اللتان تزريان بفخذي فيل، في قنَّةٍ عالية. وسخَّر الإله الأكبر رُخَّا عظيم الجثة، حاد الأظافر، كبير المنسر، فذهب إلى حديث برومثيوس، ينوشه، ويمزق جسمه، وينفذ أظافره ومنسره في أحشائه حتى تبلغ الكبد، فيهرأه ويطعمه حتى يأتي عليه، وينصرف إلى غد.
فإذا كان الليل، وهبّت الريح سجسجاً، التأمت جراحات الإله المسكين، وخلق له كبدٌ آخر؛ وينام حتى تشرق الشمس، فيعود الرخ ليبدأ ما انتهى منه أمس، وليأخذ في تعذيب بروميثيوس التعّس، إلى تغيب ذكاء!! وهكذا دواليك، أحقاباً وأحقاباً. . .
ويلبث الإله المنكود في هذا العذاب الطويل حتى يلقاه هرقل الجبار في أحد أسفار، فتثور الشفقة في قلبه، وينقض كالصاعقة على الرخ، ولا يتركه حتى تزهق روحه، بعد صراع عظيم، ثم يفك أغلال بروميثوس ويحرسه، حتى يقبل الليل فيشفى مما يه، ويسير بين يديه حتى يبلغ أوطانه، حيث عباده الصالحون!!
وفرح الناس بإلههم وسروا بقائه، وقدروا ما ألقى في سبيلهم ومن أجل سعادتهم فعنوا له وأخبتوا.
وكانوا يحيون في بًلهنيةٍ، غارِّين في طراوة من العيش، وسعةٍ من الرزق، هواؤهم رخاء وماؤهم صفاء، لا يشكون متربةً ولا يعرفون ضنكاً، ولا تلم بهم ملمة من مرض أو رجسٍ.
ولم يعرفوا الموت، ولم يدروا ما البكاء، فكأنما كانت حياتهم طوبى، ونعيماً مقيماً.
وعلم زيوس ما كان من أمر بروميثيوس وفرح الناس بأوبته إليهم، فغيظ غيظاً شديداً، وآلى ليكيدن لهم كيداً، وليرسلن عليهم من مكره ما لا طاقة لهم به. . .
ونظر زيوس فرأى أنهم مخلوقون على صور الآلهة، ولكنهم كلهم ذكران، (ومن الآلهة أنثيات، فلم لا أصنع لهم أنثى تذهب بحرثهم ونسلهم، إن صح أن يكون لهم نسل؟. . .)
وأرسل دعوةً عامة إلى جميع الآلهة فسعت إليه من كلُّ فج عميق، وأخذ يحدثهم حديث بروميثيوس، ثم أخبرهم أنه يريدهم أن يخلقوا له أنثى جميلةً يودع فيها كلُّ منهم سراً من أسراره: (لأنني سأرسلها هدية إلى هذا المجنون بروميثيوس ليشهد بعينيه ماذا تصنع بعبادة الذين خلق. . .).(99/62)
واقترح الآلهة أن يفرغ هيفستوس إله النار والفن، وابن زيوس، إلى ابتداع هذه الأنثى، فسوّاها من نفس الحمأ الذي خلق منه الإنسان، وجاءت آيةً من آيات الحسن، رقيقة كأنها صُوِّرت لنكون فتنة الأولمب.
واحتملها إلى زيوس، وأقبل الآلهة بنفثوس فيها أسرارهم، ويستودعون نفحاتهم؛ فهذه فينوس تهها من جمالها، وحيرا من ثرثرتها، ومينرفا من حكمتها، ولاتونا من استيحاشها، وديانا من رشاقتها، وكيوبيد من حبه، وأبوللو من شعره وموسيقاه. . .
أما هرمز الخبيث، فقد أنتظر واستأنى حتى فرغ الآلهة من إسباغ آلأئهم، ثم تقدم، وملء وجهه ضحكةٌ ساخرة، فأودع الحواء قلبَ كلبٍ، ونفس لص، وعقل ثعلب!!. .
ثم نفخ فيها زيوس من روحه، فذبت الحياة في أعطافها، ونظرت حولها فأبصرت الآلهة مشدوهين، مأخوذين بسحر جمالها، فولَّت مدبرةً، ولكن إلى غير مهرب!
وشرع الآلهة يتخيرون لها الأسماء، ثم سماها ربها (يندروا.) وأومأ إلى هرمز فاحتملها، كالطفلة المدللة، وذهب بها، هديةً غاليةً من السماء إلى التعس بروميثيوس، الذي رفضها غير شاكر وأباها غير حميد!!
وكان لديه أخوه أبيمثيوس فكادت نفسه تذهب شعاعاً حين أبصر هذه الغادة الهيفاء، يرفضها أخوه هدية من السماء! وتقدم هو فضرع إلى هرمز أن ينزل عنها، وأن يغفر لأخيه حماقته، وقلة بصره، وكفرانه الذي لا كفران بعده!!
ومع ذلك فقد نصح بروميثيوس لأخيه ألا يقبل هذه الهبة من الآلهة، وأن يرفضها، غير مشكورة، كما رفضتها:
- (إنها فتنة يا أخي، بل هي خدعة من خدع السماء حريٌّ ألا تنطلي علينا!).
- خدعة؟! خدعة ماذا يا أخي؟ خذ عينيّ فابصر بهما، وقلبي فضحِّه على مذبح هواها. . . ألا ترى إلى عينيها النجلاوين، وشفتها القرمزيتين، وثدييها الناهدتيين، وفخذيها المملؤتين، وساقيها الجميلتين؟. . .
- (بل بحبي عيناي يا أخي! إني أستشفُّ بهما فتوناً نفثته الآلهة في كلُّ جوارحها، فحذار! إنها ستكون خراب هؤلاء المساكين الذين صنعتهم يداي!!).
- (حسبك يا أخي وحسبي! هي لي من دونك، فتوّل عنا أودعْ!).(99/63)
وعاشت بندورا مع ابيمثيوس كما يعيش الآلهة في الفردوس. . . حياة كلها مرح، وأياماً جميعها لذة وإيناس، يخلو إليها فتمتزج روحهما، وتختلط نفساهما، وتكون هي فتنة زوجها المسكين؛ تأسر لبه بموسيقاها الحنون: وتسحره بالرزقة النائمة في عينيها، وتبهره بكلماتها الغوالي في الحكمة والموعظة الحسنة!!
وتركهما زيوس حيناً من الدهر ينهلان خمر الحياة، ويعبان من عسلها المصفى؛ ثم دعا إليه هرمز، فحمله صندوقاً ثميناً، وأنفذه به إليهما. . . (. . . وإياك أن تبعث به في الطريق، فأنه هديتي إلى بندورا، وفيه انتقامي من عباد بروميثيوس؛ فسر به إلى الفتاة، وأوصها به خيراً. . .).
وكان الزوجان يتراقصان على الحشيش الأخضر أمام قصرها المنيف حين أقبل هرمز بالصندوق، يتعثر في مشيته، وقد بدت وثاء السفر عليه، وعلق الثرى بأسماله البالية، فلفتت بندورا نظر زوجها إليه، وذهبا سويه للقائه والاحتفاء به؛ لكن هرمز أبى إلا أن يذهب إلى القصر، ليسلم الهدية، وليبلغ رسالة السماء. فسار الجميع حتى كانوا في المخدع الوثير وجلس هرمز يستريح قليلاً، ثم قال:
(هاك يا بندورا العزيزة هدية الإله الكريم إليك، خصك بها من دون براياه أجمعين. وأحسبك في غني عن أن أصفها لك. فها هي أمامك تتكلم عن نفسها. ولكن الإله الأكبر يشترط ألا تفتحها إلا بإذنه، فلا تتعجلي، حتى يأتيك أمره. وإنه لقريب.).
ونهض هرمز، وسلم وانصرف، وما تزال بوجهه تلك الضحكة الساخرة التي كانت عليه يوم استودع بندورا قلب الكلب، ونفس اللص، وعقل الثعلب. . .
وكان ابيمثيوس قد قدم إليه من ثمر حديقته الشيء الكثير، ولكنه لم يمد يده إليه. . .
وكان الليل قد قارب أن ينتصف، وكان الكري قد لعب بطرفها الوسنان، فاستلقت على أريكتها الحريرية، وغرقت في سبات عميق، ممتلئ بأحلى الرؤى، وأطيب الأحلام.
وخيِّل إليها أن في الصندوق أرواحاً سحرية تكلمها، وتنسج الأماني العذاب لها؛ وأن دينا بأكملها تتفتح وتزهر حولها. . . فلما نهضت من نومها من في بكرة اليوم التالي، أحست أن أملا كبيراً يملأ قلبها، وأن رغبة ملحةً تسوقها إلى الصندوق كلما ابتعدت عنه؛ وحدثت زوجها بما تجد، فعللها هو الآخر بالآمال، وأخذ يهدئ من روعها الذي بدا اضطرابه بأحلى(99/64)
مظاهره. . . ودعاها إلى نزهة خلوية فأقسمت لا تغادر البيت، بل لا تغادر الغرفة التي تضم الصندوق الصغير، (الذي أحس أنه مغلق على قلبي ونفسي جميعاً. . .!) فرثى لها، وانطلق هو، لأول مرة منذ عرفها، وحده، ينام إخوانه الآلة ويلاعبهم؛ وبندورا، وحدها في مخدعها، تقلب الصندوق العجيب، وتتحدث إليه، كأنه يسمع ويرى.
وغبرت أيام وهي في حال من الهم لم تعهدها من قبل، وكانت تجلس وحدها حزينة كاسفة، تنتظر بشير الآلهة الذي يأذن لها بفتح الصندوق. . . ولكن هيهات!. . . لقد طال ما انتظرت حتى نفذ صبرها وعيل، ونهضت إلى الصندوق تقلبه، وتقلبه، وهي مأخوذة بجمال صنعه، ودقة زخرفته، وهذا الغطاء المزركش الذي انغلق على آمالها وأحلامها. . .
وحاولت أن تفتحه، ولو أغضبت بذلك السماء ومن فيها من آلهةٍ وأرباب، ولكنها فشلت غير مرة، وضاقت بها الدنيا بما رحبت؛ فدفعت بالصندوق دفعة قوية على أديم الغرفة، فانصدع، ولما تناولته ثانية، هالها أن وجدت بعض أربطة الغطاء قد تقطعت، ثم هالها أكثر أن تسمع هذه الأصوات، منطلقة من الداخل:
(بندورا! بندورا! بندورا العزيزة! حنانيك! خلصينا من هذا السجن السحيق! إننا نتعذب هنا. . . أنقذينا يا بندورا فقد ضقنا بما نحن فيه. . . إننا لم نصنع شئياً حتى نرسف في هذا الحيز الضيق. . .).
(ماذا؟. . .
ما الذي يتحدث هكذا في هذا الصندوق. . .؟ إنها أصوات حزينة ملكومة، وإني لابد منقذتها! ماذا أنتظر؟ أمر السماء! هذا لا يهم!!
أنفتح أيها الغطاء. . .!)
وضغطت الصندوق ضغطة هائلة فانفتح الغطاء؛ وسرعان ما انطلقت خفافيش سوداء ذات مخالب حادة فملأت هواء الغرفة، وأهوت على بندورا المسكينة تعضها وتجرح بدنها الغض، وكلما وخزها خفاش لعين، انطلق قائلاً: (أنا المرض!) ويقول آخر: (أنا الفقر!) ويقول ثالث: (أنا الجوع!). ويقول رابع: (أنا البخل!). وخامس: (أنا القحط). وسادس: (أنا النفاق!) وسابع. . وثامن. . . إلى آخر الرذائل التي تكظ الحياة إلى يومنا هذا؟!. . .
وانطلقت الخفافيش من الغرفة إلى القصر، فجرّحت الخدم والخول ثم انطلقت إلى الحديقة.(99/65)
والى الطريق حيث كان ابيمثيوس وأقرانه الآلهة، فأوسعتهم عضاً وقضماً وتجريحاً. وتركتهم يترنحون من الألم، وذهبت تفسد في الأرض، وتنتقم لزيوس الجبار من عباد بروميثيوس المخلصين، فكثرت الآلام، وعم الفقر، وامتلأت الأرض رذائل وأشجاناً!!. . .
وكانت بندورا قد أسرعت إلى الصندوق فأغلقته، حين رأت من أمر هذه الخفافيش ما رأت.
ولكن: وا أسفاه!!
إنها حين أغلقت الصندوق، حبست فيه الروح الطيب الوحيد، الذي خبأه فيه زيوس. . . ألا وهو: (روح الأمل!).
وانبطحت بندورا على أرض الغرفة تئن وتتوجع، وتشكو البرح الذي ألم بها، حتى أقبل ابيمثيوس فانبطح إلى جانبها يشكو شكاتها، ويتألم آلامها. . .
ولبثا يبكيان. . .
وكلما حدثته بندورا حديث الصندوق، تسخط الإله التعس وتبرم، وحدجها بنظرة فاترة، قائلاً: (نصحتك فلم تصيخي. . .!).
وسمعا صوتاً ضعيفاً في الصندوق يقول: (بندورا! بندورا! لماذا حبستني هنا وحدي، وأنا روح الخير. . . افتحي. . . افتحي. . . إني سأشفيك من جراحك، وآسو آلامك وأوجاعك. . . افتحي. . .).
ولكن بندورا كانت في شغل بآلامها فلم تنهض ولم تجب، ولكن ابيمثيوس تناول الصندوق ففتح غطاءه، فانطلق فراش أبيض جميل، وهو روح الأمل، ما فتئ يرف بكل جرح من جراحات الزوج حتى شفاها جميعاً؛ ثم شفى جراح الزوجة كذلك، وانطلق إلى عباد بروميثيوس يشفيهم ويأسو جراحهم؛ وما فتئ إلى اليوم، هذا الفراش الأبيض الجميل، روح الأمل، يشفي أوجاع المحزونين والملكومين.
بورك الفراش الأبيض!
ولا بوركت خفافيشك السوداء يا بندورا!
دريني خشبه(99/66)
البريد الأدبيّ
الذكرى الخمسون لفكتور هوجو
في 22 مايو سنة 1885 توفي فيكتور هوجو الشاعر والكاتب الفرنسي الأشهر، ومحيى روح المذهب الابتداعي (الرومانتزم) في الأدب الفرنسي في أواخر القرن الماضي؛ وكانت الدوائر الأدبية الفرنسية تستعد منذ حين للاحتفال بمرور الذكرى الخمسين على وفاته؛ وقد بدأت هذه الاحتفالات التذكارية منذ 19 مايو الجاري في باريس على أن تستمر شهراً يسمى بشهر (فكتور هوجو)؛ وكانت فاتحة هذه الاحتفالات في قصر (التريكاديرو) الشهير، وهنالك اجتمع جمهور كبير من الكتّاب والشعراء والأساتذة والطلبة للاحتفاء بذكرى الشاعر الأشهر؛ وفي اليوم التالي، أعنى في يوم 20 منه، أفتتح في المكتبة الوطنية معرض كبير خاص بهوجو، وعرض فيه كلُّ ما يتعلق بالشاعر من الآثار والذكريات من مخطوطات ورسائل بخطه، وصور له في بعض أدوار حياته لم تنشر من قبل، وصورة رائعة (لجان فالجان) بطل (البؤساء) وهو أمام محكمة الجنايات، وصورة لهوجو وهو على سرير موته، وعدة رسوم مختلفة من رسم الشاعر نفسه، إذ المأثور عنه أنه كان يلهو بالرسم عن التفكير وقت الكتابة، وغير ذلك من التحف الفنية التي احتشدت الجماهير لرؤيتها.
وفي يوم 22 مايو، وهو اليوم الذي توفي في مثله الشاعر منذ خمسين عاماً افتتحت الاحتفالات الرسمية بحفلة أقيمت في (البانثيون) (مدفن العظماء)، حيث ترقد رفات الشاعر، شهدها رئيس الجمهورية ووزير المعارف، وأعضاء الأكاديمية، وعدد كبير من الكتّاب والشعراء والفنانين، وألقيت الخطب والتحيات المناسبة.
وهذا تستمر الاحتفالات الرسمية وغير الرسمية مدى شهر كامل، ومنها احتفال في مجلس الشيوخ، واحتفالات في دار (الكوميدي فرانسيز) تشمل تمثيل بعض قطع الشاعر مثل (هرماني) و (ماريون دي لورم)، واحتفال آخر يقام في المنزل الأثري الذي كان يقيم فيه الشاعر في ميدان (اثموج)، واحتفالات رسمية أخرى في مدينة (بيزانصون) مسقط رأسه.
وسنعود في فرصة أخرى إلى ترجمة الشاعر ودرس آثاره.
عيد الفن في روسيا
طغت الثورة السياسية والاجتماعية التي شهرها البلاشفة على المجتمع القديم على كلُّ شيء(99/67)
في حياة روسيا القديمة؛ ولكن شيئاً واحداً لم يتأثر بهذه الحرب الهدامة، هو الفن، فالفن ما زال في روسيا السوفيتية محتفظاً بتراثه القديم، بتطور ويتقدم في جو سلمي هادئ، بل لقد كان الفن من نواحي الحياة التي شملتها الثورة البلشفية بالعطف والحماية، فأسبغت عليه حكومة الثورة كلُّ تشجيع ومؤازرة؛ وقد لقي الفن في ظل البلشفية عهده الزاهر؛ وشمل هذا التشجيع كلُّ ضروب الفن الجميل من التصوير والنحت والموسيقى والمسرح، وغدت موسكو كعبة الفن الرفيع وملاذاً لأقطاب الفنانين؛ ولكن لننجراد عاصمة روسيا القديمة ما زالت كما كانت في عهد القياصرة ملاذاً للفنون، وما زالت عاصمة روسيا الفنية.
وقد رأت حكومة موسكو أخيراً أن تقيم عيداً عظيماً للفن في لننجراد، وسيبدأ هذا العيد من أول يونيه القادم ويستمر إلى العاشر منه، وستقام حفلات مسرحية باذخة ينظمها معهد الموسيقى الشهير في لننجراد في يومي أول ورابع يونيه، وتعزف فيها روائع الأوبرات والقطع الخالدة، وتمثل عدة روايات شهيرة روسية وأجنبية، من شكسبير إلى سكوثارفسكي وغيرهم. وفي نفس الوقت تفتح متاحف لننجراد الشهيرة أبوابها للزائرين، وتعرض أبدع الأشرطة السينمائية التي أخرجها الفن السوفيتي، وقد منحت السلطات السوفيتية تسهيلات عظيمة للزائرين في أجور النقل وغيرها.
والمفهوم أن هذا العيد إذا انتهى بنجاح، فأن حكومة موسكو تنوي أن تجعله عيداً دورياً، وأن تقيم للفن في لننجراد مواسم عظيمة أسوة بمدن الفن العظيمة الأخرى، مثل سالزبورج في النمسا، وبايرويت في ألمانيا وغيرهما.
كتاب عن نابوليون الثاني
صدر أخيراً كتاب عن (نابوليون الثاني) بقلم الكاتب الفرنسي رنيه درفيل. ونابوليون الثاني هو كما نعلم ابن نابوليون الأول من زوجته الثانية ماري لويز، وهو المعروف بملك رومه، (والنسر الصغير) وأخيراً بدوق ريخشتات. وليس في حياة هذا الأمير الذي عاش وتوفي في ظروف مؤلمة ما يستحق الذكر من الوجهة التاريخية؛ فقد أخذته والدته ماري لويز طفلاً إلى فينا، وهنالك ربي تربية نمسوية، واحتجزه البرنس ماترنيخ رئيس الحكومة النمسوية، وفرض عليه نوعاً من الحراسة، لكي يبقى رهينة بيد النمسا؛ وقطع في فينا حياة أليمة مؤثرة يكدر صفاءها السقم والمرض؛ ثم أصابه السل حدثاً، وبعثه إلى القبر في ربيع(99/68)
الحياة؛ وكانت حياة (النسر الصغير) مأساة أثارت كثيراً من قريض الشعراء، وخيال القصيين؛ ولكن الاهتمام بتدوين حياته من الوجهة التاريخية لم يظهر إلا في العصر الأخير، حينما نشرت مذكرات (الدوق ريخشتات) (النسر) وكشفت عن كثير من دخائل هذه الحياة المؤثرة، وليس في كتاب رنيه درفيل جديد في حياة النسر الصغير، ولكنه من الكتب التاريخية القليلة التي دونت عن هذه الحياة.
الكولونيل لورنس
توفي في الأسبوع رجل يرتبط أسمه أشد الارتباط بتاريخ الثورة العربية، هو الكولونيل توماس لورنس، والذي يهمنا في هذا المقام هو ناحيته الأدبية، فقد كان لورنس أديباً ومستشرقاً وأثرياً معروفاً. وكان مولده سنة 1888 في كارنارفون شير (إنكلترا)، وتلقي تربية جامعية حسنة، وبدأ حياته العملية بالاشتغال بالتنقيب الأثري مع العلامة الشهير فلندرزبتري في مصر وسينا منذ سنة 1910، ولما نشبت الحرب الكبرى أرسلته السلطات البريطانية إلى القاهرة في سنة 1916 ليتصل بزعماء العرب، ويعمل معهم لتنظيم ثورة عربية على الترك، فسافر لورنس إلى الحجاز وقام بمهمته خير قيام، واشتغل بالتعاون مع الأمير فيصل (المرحوم الملك فيما بعد)؛ ونثر الأعطية على البدو، وجمع قوات لا بأس بها، وخرب مواصلات الترك، ومهد الظفر لقوات الماريشال اللنبي، وسقوط فلسطين وسوريا في يد الإنكليز. ولما انتهت الحرب تظاهر لورنس بالعطف على العرب ومشاركتهم في السخط على السياسة الإنجليزية لأنها نكثت بوعودها للعرب، ونزل عن ألقابه ورتبه العسكرية، واشتغل عاملاً بسيطاً بالطيران المدني باسم جديد هو (شو)؛ ومن ثم كان اللقب الذي خلع عليه من بعض العرب الحسني الظن وهو (صديق العرب).
والواقع أن لورنس لم يكن صديقاً للعرب، وإنما كان طليعة الاستعمار البريطاني وأداته النافذة في جزيرة العرب، وهو الذي مهد لتمكين النير الإنكليزي منها باسم العمل لتنظيم الثورة العربية وإنشاء دولة عربية مستقلة؛ وكان كمعظم أقرانه طلائع الاستعمار يستتر بالأثواب والمظاهر المعروفة؛ حب الإسلام والعروبة، والاستشراق، والعطف على مجد العرب.
وكان لورنس مع ذلك مستشرقاً أدبياً، وقد ترك عدة آثار قيمة، منها (سبعة عمد من الحكمة)(99/69)
وهي دراسات وصور وصفية للقاهرة وإزمير واستنبول وحلب ودمشق والمدينة. والثورة في الصحراء وهي قصة بديعة لأدوار الثورة العربية، وفيها يكشف عن كثير من أسرارها.
وفاة كاتب نمسوي كبير
من أنباء النمسا الأخيرة أن الكاتب القصصي النمسوي الكبير أميل أرثل قد توفي في جرائر في الثالثة والسبعين من عمره. وقد ولد أرثل في فينا وربى بها، ولكنه ذهب إلى جزائر منذ فتوته، وتولى هنالك إدارة مكتبة المدرسة العليا للفنون، وهنالك انقطع لدرس الأدب، وتوثقت صداقته مع الكاتب الشهير بيتر روزيجر وحلقته، وأصدر عدة كتب نقدية وقصص لها المقام الأول في الأدب النمساوي الحديث.
إحياء ذكرى المتنبي في الجامعة الأمريكية ببيروت
جاءنا من بيروت أن (جمعية العروة الوثقى) ستقيم في الجامعة الأمريكية حفلة لأحياء ذكرى المتنبي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته، وذلك في الساعة الخامسة بعد ظهر الأحد الموافق 2 يونيو 1935 في القاعة الكبرى من الجامعة.
وسيشترك في الحفلة أكثر الأقطار العربية، فيتكلم فيها الدكتور حسين هيكل عن (مصر)، والأستاذ معروف الرصافي عن (العراق)، والأستاذ معروف طوقان عن (فلسطين)، وفؤاد باشا الخطيب عن (شرق الأردن)، والأستاذ الكيالي عن (حلب)، والأستاذ شفيق جبري عن (دمشق)، والأستاذ فؤاد البستاني، وأنيس المقدسي عن (بيروت).
تنقية اللغة الإيرانية من الألفاظ الدخيلة
عقد المؤتمر اللغوي في طهران ثلاث جلسات إلى الآن، وقد وضع كلمات إيرانية بدلاً من كلمات عربية وأجنبية، وسيذيعها في الصحف بعد شهر لتصقلها الألسنة والأقلام، والمعروف في الأندية العلمية أن المؤتمر متردد في ترك الحروف العربية إلى حروف أخرى، ففريق من أعضائه يريد استعمال البهلوية، وآخرون يريدون الحروف اللاتينية، ويظهر أن الشاه لا يرغب في إملاء إرادته في هذا الشأن ويفضل أن يترك البت في حل هذه المسألة إلى رجال العلم والأدب.(99/70)
اكتشاف أثر مصري في إنكلترا
كتب أحد المراسلين إلى جريدة الديلي تلغراف يقول إن المتحف البريطاني تمكن من الحصول على تمثال من الرخام الأسود المصري بدون رأس يرجع إلى عهد البطالسة، ولكن لهذا التمثال أهمية مخصوصة لأنه وجد في هايس من مدلكس في إنكلترا على أعماق 8 أقدام أو 9، حيث كان مدفوناً بين الحصى تحت طبقة كثيفة من الصلصال.
وقد قيل في تعليل وجوده هناك إن بعض محبي الآثار ابتاعه ثم رماه غير حافل به. لكن العمق الشديد المدفون فيه ينقض هذا التعليل.
وقد سبق أن وجدت آثار مصرية صغيرة متعددة في إنكلترا ولكن لم يوجد حتى الآن أثر بهذا الحجم الضخم الذي يستحيل وروده إلى إنكلترا بالطرق التجارية القديمة.
مسكوكات عربية قديمة ضربت في عهد الدولتين الأموية
والعباسية
حصلت إدارة المتحف العراقي قبل مدة على عدد من المسكوكات القديمة كانت في حيازة بعض الرعاة، وهذه المسكوكات وجدت في تلول كشكوبل علي باشا التابعة إلى ناحية قره تبه، وبعد دراسة المتحف لها تبين أنها مسكوكات عربية (ما عدا قطعة واحدة ساسانية) وأن تواريخ هذه المسكوكات تختلف ما بين عام 122و171 للهجرة، وفيما يلي تواريخ هذه النقود:
أربع قطع باسم هشام بن عبد الملك، وضرب واسط، سنة 122و124هـ، قطعتان باسم الوليد الثاني بن يزيد الثاني، ضرب واسط، سنة 125هـ، ثلاث قطع بأسم إبراهيم الأول بن الوليد الأول، ضرب واسط سنة 126هـ، أربع قطع باسم مروان الثاني بن محمد، واحدة في البصرة سنة 128هـ، والباقي واسط سنة 129و130هـ، ست قطع باسم السفاح، أربع من ضرب الكوفة في 132و123و136هـ واثنان من ضرب البصرة في 133و135هـ، أربعون قطعة باسم أبي جعفر المنصور. إحدى عشرة من ضرب الكوفة في 137، 129، 141، 1242، 144، 147هـ، وخمس من ضرب البصرة في 137، 139، 140، 145هـ، واثنتان وعشرون من ضرب مدينة السلام في 150، 151،(99/71)
152، 154، 155، 156، 157، 158هـ، واثنتان من ضرب المحمدية في 150، 154هـ، ستة وأربعون باسم المهدي، ثلاثون من ضرب مدينة السلام في 159، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168هـ، وثمان من ضرب المحمدية في 160، 161، 165، 166، 168، 169هـ، وثلاث من ضرب البصرة في 160، 162، 166هـ، وثلاث من ضرب حبي في 162، وواحدة من ضرب كرمان في 196هـ، وواحدة من ضرب المنصورية 161هـ، باسم محمد بن سليمان والي البصرة. قطعة واحدة باسم الأمير هارون في عهد الهادي، من ضرب اليمامة في 170هـ، قطعة واحدة باسم الخليفة هارون الرشيد، من ضرب المحمدية في 171هـ قطعة واحدة باسم الأمير الأمين في عهد هارون الرشيد، من ضرب المحمدية سنة 171هـ.(99/72)
الكتب
الأوشال
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
بين يدي الآن الديوان الخامس من شعر الأستاذ الزهاوي الذي فاضت به قريحته الخصبة في الأيام القريبة، والذي شاء له تواضعه أن يسميه (الأوشال) بينما تزخر صفحاته التي تربو على الثلاثمائة صفحة بالقصائد الغر في شتى الموضوعات ومختلف الفنون.
قلب صفحات هذا الديوان يتولك الدهش من ذلك النشاط الذهني العجيب، إذ ينتقل بك الزهاوي من العراق إلى مصر، ومن مصر إلى سوريا، تارة صادحًا وتارة نائحًا، وطوراً حافزاً إلى المجد قومه، أو ناعياً عليهم تقاعدهم، وأحياناً تراه يرسم لهم سبل النجاح، ويدلهم على ما يرقي بهم إلى العلى، هذا ولا تنسى نزعته الفلسفية وصفاء ذهنه إذا اتجه في شعره إلى وصف الحياة وآلامها وما وراء الحياة من عالم الغيب، والنفس البشرية وما ركب في طباعها من ميول، والمجتمع الإنساني وما يجول فيه من نزعات أو يختلج من مشاعر. وانك لتجد الزهاوي إلى جانب ذلك يضع الأناشيد ويحكم صوغها، ثم تراه يعتمد إلى الوصف فيأتي به متنوعاً يوائم تقدم العصر ويسايره مستحدثاً، فهو يصف لك كمنجة الشوا، وألحان عبد الوهاب، وترانيم أم كلثوم، ويصف لك جمال الطبيعة في العراق أرضه وسمائه. أما مرايته فيتدفق فيها الشعر تدفقاً مدهشاً، فهو لا يكتفي مثلاً إلا بقصيدتين في رثاء شوقي، ثم هو يرثي أديسون ويتفجع على العلم من بعده، بله أعلام الشرق حديثهم وقديمهم. وجملة القول أن الزهاوي على الرغم من شيخوخته فياض المعاني، تواتيه قريحته في سهولة ويسر بكل ما يختلج في نفسه أو يجول في رأسه، فهو بحق فتى الشيوخ، وما أظنك لو طلعت على ديوانه غفلاً من أسمه كنت تصدق أنه ديوان شاعر اجتاز مرحلة الشباب.
أما عن شعره، فيكفي أن نقول هنا لضيق المجال، إن آثار الزهاوي قد أصبحت في ذاتها ناحية هامة من نواحي الحركة الفكرية العصرية، وسوف يكون لها فصل مستقل في تاريخ الأدب المعاصر، وما أظنني أستطيع أن أوفى شعر هذا الديوان ما هو جدير به من الدرس والتحليل في عجلة كهذه، ولعلي أعود تلك الدراسة في فرصة قريبة، مكتفياً الآن بتقديم(99/73)
تحياتي إلى الشاعر الكبير.
الخفيف(99/74)
جولة أثرية في بعض البلاد الشامية
بقلم أحمد وصفي زكريا
شاء لي حسن الحظ أن أهبط يوماً دار صديقي المصور الفنان النابغ الأستاذ شعبان زكي بالمطرية، فلم تكد عيني تقع من الجدر على ما زينها به صاحبها من آيات الفن الرائعة حتى أحسست في أعماق النفس غبطة ونشوة، وكأنما سمعت حينئذ صوتاً يجلجل في أغوار الضمير يصيح بي: مصر العزيزة كنانة الله في أرضه!! ومبعث هذا الصوت وذلك الإحساس هو أني رأيت بلادي داخل الأطر وقد ألبسها الفنان زخرفاً وزينة لم يكن لي بهما عهد من قبل. . . قال لي الأستاذ: ذلك مبدئي وهو أن يأخذ الفنان بأيدي الناس حتى يضع أصابعهم على مواضع الجمال من بلادهم، فأن وفق كانت لنا وطنية تشتعل في الصدور، فأصل الوطنية حب الوطن، وباعث حب الوطن إحساس بجماله. قلت: والله ما أجمل أن يكون هذا وسيلة الفنون جميعاً، تصويراً وكتابة وشعراً وموسيقى.
ومنذ ذلك اليوم رسخ في نفسي مذهب مصورنا الفنان، وتمنيت أ، يكون لنا بين الكتّاب والشعراء من يضعون لنا بلادنا تحت أبصارنا وأسماعنا تستهوي الألباب فتدفع الأفئدة إلى الفتنة والهيام ثم إلى العبادة والتفاني
ذكرت ذلك كله عندما أخذت أتصفح هذا الكتاب القيم الجليل، الذي نقدمه الآن إلى القراء، فهو كما ترى من عنوانه جولة في بعض البلاد الشامية، وصفت وصفاً دقيقاً بارعاً، فلا تقرأ من الكتاب جزءاً إلا وقد ارتسمت في ذهنك له صورة قوية رائعة كأنما جاءتك من رؤية العين، بل إن الكثرة الغالبة من الأعين لتمر مر الكرام على أغلب ما تقع عليه مما لا يفوت الأستاذ المؤلف منه شيء؛ فما أحوجنا في الحق إلى مطالعة بلادنا بأقلام الكاتبين، إذ الحقيقة المرة هي ما يصفها المؤلف في مقدمة الكتاب بقوله: (فقد كنت وأنا أتوغل في هذه الأبحاث أرى بكثير من الأسف أن جل مثقفينا ومفكرينا لا يعرفون من شؤون مساقط رؤوسهم وجغرافيتها وتاريخها القديمين والحديثين ولا من بقاعها ومصانعها الأثرية ومفاخرها التليدة ومدافن رجالاتها البارزة وتراجمهم قدراً كافياً. . .).
وقد رجع المؤلف فضلاً عن المشاهدة إلى عشرات من أوثق المصادر، وإن نظرة عجلى لتكفي للدلالة على ذلك المجهود الجبار الذي أنفقه الأستاذ المؤلف في هذا السفر الجليل:(99/75)
(ومعظم هذه الأوصاف مما رأيته بعيني وتحققته بنفسي أو بالوساطة الوثيقة على عسرة نواله، أو مما عثرت عليه فيما ظفرت به من الكتب الجغرافية والتاريخية والرحلات القديمة والحديثة العربية والتركية والإفرنجية على تفرقة في تضاعيف السطور. فجاء الكتاب وافياً على ما أظن ببعض حاجة من يقدر هذه الأبحاث قدرها ويعرف مبلغ التعب والنشب اللذين تتطلبهما. . .).
الحق الذي لا ريب فيه أنه كتاب تفتقر إليه المكتبة العربية افتقاراً شديداً، وإننا لننتهز الفرصة لنتقدم مخلصين إلى المؤلف بكل إعجاب وتقدير.
ويقع الكتاب في نيف وأربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وهو فوق ذلك كله أنيق طبعاً وورقاً وذوقاً.
زكي نجيب محمود(99/76)
شرح ديوان علقمة الفحل
- عمل السيد أحمد صقر خاتم النبيين -
تأليف عبد الغفار الجيار
أما شرح ديوان علقمة الفحل فهو عمل أدبي أضطلع به شاب ناشئ هو الأديب سيد أحمد صقر من طلاب القسم الثانوي بالجامعة الأزهرية، فأخرج لنا ديوان علقمة في طبعة أنيقة تقع في ثمانين صفحة من القطع الكبير، ولقد صدره بمقدمة جيدة في حياة علقمة ورحلته إلى الشام وآراء الأدباء في شعره، ثم قام بشكل شعره وضبطه، وشرح مفرداته في ذيل كلُّ صفحة، ولعل اختياره علقمة دون سواه راجع إلى شغفه بشعره، فهو يحدثنا أنه (طحابه في علقمة قلب نابض كله صوغ قريضة وجشمه تبيان غريبة فشرع ينقب درره المتناثرة حتى جمعها ونظمها في هذا العقد).
وأنا مع شأني على نشاطه الأدبي أحب أن أصارحه بأنني لا أميل كثيراً إلى هذا النوع من الشرح الذي يقف عند المعاجم والإتيان بالمرادفات، وخير ما يعمله الأديب في رأيي وبخاصة إذا كانت تحدوه عاطفة الحب والإعجاب كما هو الحال في موقف صاحبنا من علقمة؛ أن يبين لنا جمال شعر الشاعر ومقدرته على التعبير عما في نفسه ومقدار ما في شعره من قوة وعذوبة، وبذلك يكون لعمله من القيمة أكثر مما لو أقتصر على شرح المفردات، على أنها باكورة طيبة أكبر ظني أن ستعقبها خطوات موقفه في خدمة الأدب. كذلك يجدر بمثل أحمد صقر أن يضرب صفحاً من الآن عن تلك (التقاريظ) التي ذيل بها كتابه، والتي لا نرى فيها إلا غلواً يسئ إلى الحقيقة بقدر ما يسئ إلى الأدب.
يأتي بعد ذلك كتاب خاتم النبيين ويقع في نحو مائة وسبعين صفحة كبيرة طبع طبعاً جيداً على ورق متين، ويدور حول حياة النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته، ولقد سار فيه على طريقة طريفة ارتحت إليها كثيراً، فبعد أن سرد في إيجاز حياة الرسول، عمد إلى توضيح بعض المسائل والعقائد بأن يذكر الموضوع، ثم يعرض في إيجاز ما كان يدور في خلد العرب عنه، وبعد ذلك يأتي بالآيات أو الأحاديث التي تبين ما أحدثه الإسلام في تلك المسائل في ترتيب ووضوح يبعدان السأم عن كتابه، ولقد يضطر إلى شيء من الإفاضة فيأتي به بين حين وآخر تحت عنوان على الهامش، وقد استطاع بذلك أن يجتذب(99/77)
القارئ إلى كثير من المسائل الدقيقة دون أن يشعره بملل أو يجعل للفتور سبيلاً إليه، وهي طريقة جديرة بالثناء والتقدير.
الخفيف(99/78)
العدد 100 - بتاريخ: 03 - 06 - 1935(/)
مأساة الآثار المصرية
اكتشفت أخيرا عدة حوادث جديدة تسربت فيها آثار مصرية إلى الخارج بطرق غير مشروعة، ومن ذلك مجموعات ثمينة من أوراق البردي المصري القديمة ظهرت في لندن وبرلين. ولتسرب آثارنا القديمة، أو بعبارة أخرى لسرقة آثارنا، حديث قديم مؤثر، فليس بين بلاد الأرض بلد نكب في آثاره كما نكبت مصر؛ ونكبتنا في آثارنا فادحة مضاعفة، لأن القدر شاء أن تتلقى مصر من أجيالها الغابرة المجيدة أقدم تراث أثري وأنفسه، ولأن هذا التراث مازال مطمع أنظار المتربصين من الهواة والعلماء. .
ليس بين متاحف العواصم الأوربية الكبرى متحف لا يضم بين أبهائه
مجموعة كبيرة من آثارنا المصرية؛ ففي لندن وباريس ورومة وفينا
وبرلين وغيرها أقسام خاصة للآثار المصرية، ومن هذه الأقسام ما لا
يقل كثيرا في ضخامته وتنوعه عن متحفنا المصري؛ هذا عدا المتاحف
الامريكية، وعدا المجموعات الخاصة التي تسربت إلى أيدي الهواة.
وإن المصري الذي يتاح له أن يزور هذه المتاحف ويرى كل هذا
التراث المصري المنهوب يزين هذه الأبهاء الشاسعة كلها لتأخذه دهشة
يمازجها الألم والحسرة لفداحة الخطب الذي نزل بتراثنا الأثرى.
ومن الحقائق المؤلمة أن تكون مصر هي أول مسؤول عن هذا الخطب، وأن تحمل فيه اكثر تبعة؛ فهي التي أسلمت تراثها الأثرى منذ أواخر القرن الماضي إلى طائفة من البعثات الأجنبية تعمل في أرضنا باسم العلم والاستكشاف الاثري، ولكنها لم تكن دائما حريصة على مبادئ العلم ونزاهة العلم، ولم تكن بالأخص جديرة دائما بالثقة التي وضعت فيها، فلم ترع حرمة الأمانة والذمة، بل كانت تتربص دائما لما تعثر عليه من آثارنا، فتهرب منه إلى بلادها بمختلف الوسائل ما استطاعت، ثم تعود فتتقسم ما تعف عنه من البقية الباقية مع حكومتنا وتفوز دائما في ذلك بالنصيب الأوفر.
ومصر هي التي وضعت لنفسها تلك اللائحة السخيفة التي تسمح للبعثات الأجنبية والمكتشفين الأجانب باقتسام آثارنا المكتشفة معنا؛ ومصر هي التي تقصر في حراسة(100/1)
مناطقها الأثرية؛ ومصر هي التي تسلم إدارة مصلحة الآثار والمتاحف المصرية إلى الأجانب، وهي التي لا تسمح لأولئك الأجانب بأن يعتقدوا أن هذا الأشراف على آثارنا ميراث لهم يدخل في منطقة نفوذهم وحقوقهم في بلادنا.
لقد وقعت حوادث مثيرة في انتهاب الآثار المصرية كانت حرية أن تنبه الحكومة المصرية إلى خطورة هذا التقصير المؤلم؛ منها حادث تمثال الملكة نفرتيتي الذي يعتبر اجمل قطعة آثار في مصر القديمة، والذي استطاع عالم ألماني أن يستلبه بوسائل غير شريفة مازالت وصمة في جبين العلم الألماني؛ ومنها حادث أوراق البردي التي وجدت منذ أعوام في الفيوم وتسربت إلى متحف برلين ووجد أنها من انفس ما وجد من أوراق البردي القديمة، لأنها تحتوي على نصوص كاملة لبعض كتب ماني الفيلسوف الفارسي وصاحب المذهب المشهور؛ ومنها حادث أوراق البردي الأخيرة التي ظهرت في لندن؛ ومنها كثير غير ذلك مما لم يذع أمره.
كل ذلك ونحن سكوت؛ نشهد هذا الانتهاب لآثارنا تحت ستار العلم والبحث لا ساخطين، ولكن مستسلمين؛ وإذا اهتمت حكومتنا فكل مظاهر اهتمامها أن تدعو لجنة الآثار لبحث الأمر، كما فعلت أخيرا؛ ثم يطوى أمر اللجنة وأمر الآثار.
الواقع أنها مأساة، ومأساة أليمة لا تحتمل السكوت بعد؛ فإذا كانت مصر تحرص على آثارها حقا، وإذا كانت تريد أن تعتبر بالحوادث وأن تعمل لصون تراثها الاثري، فعليها أن تبادر قبل كل شيء إلى إلغاء هذه اللائحة الأثرية العتيقة التي تنص على اقتسام الآثار، وهو نص لا نظن له نظيرا في أي بلد متمدين يحرص على تراثه القومي، وان تستبدل بها لائحة جديدة تناسب روح العصر، وتكفل نصوصها المشددة صون الآثار المكتشفة وبقائها في مواطنها؛ وعليها بالأخص أن تحرم المباحث الأثرية على البعثات الأجنبية بعد أن أثبتت الحوادث منذ نصف قرن أن هذه البعثات هي أساس الشر، وأنها لم ترع حقوق الأمانة التي ألقيت إليها؛ ولتكن المباحث الأثرية في المستقبل مهمة حكومية أو مهمة جامعية تتولاها الحكومة أو الجامعة المصرية بمعاونة بعض الخبراء الأجانب الذين يعملون بإشراف الحكومة مدى حين، حتى يجيء الوقت الذي يستطيع الأخصائيون المصريون فيه أن يستأثروا بالبحث عن كنوز بلادهم، وهو فيما نعتقد غير بعيد.(100/2)
وليترك ولاة الأمر تلك النظرية العتيقة التي ترى في الأجانب وحدهم الأهلية لإجراء المباحث الأثرية، فقد دلت الاكتشافات الأثرية الباهرة التي وفق إليها الأساتذة المصريون في منطقة الأهرام وفي بعض مناطق الوجه القبلي بإشراف الجامعة المصرية على خطأ هذه النظرية المجحفة، وعلى أن الشباب المصري إذا مهدت له سبيل الدرس والتخصص استطاع أن يضطلع بجلائل البحوث والمهام.
وليعمل ولاة الأمر أخيرا على انتزاع مصلحة الآثار والمتاحف المصرية من تلك الأيدي الأجنبية التي ما زال تراثنا يبدد في ظلها، ولتسلمها إلى الأيدي المصرية، فهي ابر بتراثها القومي واكفل بصونه وحمايته من عدوان الطامحين والمتربصين.
(ع)(100/3)
6 - الانتحار
تتمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيب بن رافع: وانفض مجلس الشيخ، ودرجت بعد أعوام في عدة شهور من حمل المرأة، بلغت فيها أمور الناس مبلغها من خير الدنيا وشرها، مما أعرف وما لا اعرف؛ ودخلت البصرة وأنا ومجاهد الأزدي، نسمع الحسن
ونأخذ عنه؛ فإنا لسائران يوما في سكة بني سمرة، إذ وافقنا الفتى صاحب النصرانية مقبلا علينا، وكنا فقدناه تلك المدة، فأسرع إليه مجاهد فالتزمه وقال: مرحباً مرحباً بذي نسب إلى القلب؛ وسلمت بعده وعانقته؛ ثم اقبلنا نسأله، فقلت له: ما كان آخر أو لك؟ قال مجاهد: بل ما كان آخر أولها هي؟
فضحك الرجل وقال: النصرانية تعني؟ قال: نعم. قال: آخرها من أولها كهذا مني؛ وأومأ إلى ظله في الأرض ممدودا مشبوحاً مختلطا غير متميز؛ كأنه ثوب منشور ليس فيه لابسه، وكنا في الساعة التي يصير فيها ظل كل شيء مثليه فهو مزج المسخ بالمسخ. .
قال مجاهد: ما أفظ جوابك وأثقله يا رجل؟ كأنك والله تاجر لا صلة له بالأشياء إلا من أثمانها؛ فنظره إلى فراهة الدبة من الدواب وإلى فراهة الجارية من الرقيق سواء: قال الرجل: فأنا والله تاجر، وأنا الساعة على طريق الإيوان الذي يلتقي فيه تجار العراق والشام وخراسان؛ وقد ضربت في هذه التجاراات وحسنت بها حالي وتأثلت منها؛ غير أن قلب التاجر غري التاجر، فليس يزن ولا يقبض، ولا يبيع ولا يشترى. أما (تلك) فأصبحت نسيانا ذهب لسبيله في الزمن!
قال مجاهد: فكيف كنت تراها وكيف عدت تنظر إليها؟
قال: كنت انظر إليها بعيني وأفكاري وشهواتي؛ فكانت بذلك اكثر من نفسها ومن النساء، وكانت ألونا ألوانا ما تنقضي؛ فلما دخل بيني وبينها الزمن والعقل، أبعدها هذا عن قلبي وأبعدها ذاك عن خيالي؛ فنظرت إليها بعيني وحدهما، فرجعت امرأة ككل امرأة؛ وبنزولها من نفسي هذه المنزلة، رجعت اقل من نفسها ومن النساء، وهذه القلة فيما عرفت لا تصيب امرأة عند محبها إلا فعلت بجمالها مثل ما تفعله الشيخوخة بجسمها، فأدبرت به ثم أدبرت(100/4)
واستمرت تدبر!
وأنت إذا أبصرت امرأة شيخة قد ذهبت التي كانت فيها. . وأخطرت في ذهنك نية مما بين الرجال والنساء، فهل تراك واجدا للشهوة والميل، إلا النفرة والمعصية؟ إن هذا الذي كان الحب والهوى والعشق، هو بعينه الذي صار الإثم والذنب والضلالة!
قال مجاهد: كأنك لما ذهبت تقتل نفسك من حبها قتلتها هي في نفسك؟
قال: يا رحمة قد رحمت بها نفسي يومئذ! أما والله إن الذي يقتل نفسه من حب امرأة لغبي. ويحه! فليتخلص من هذا الجزء من الحياة لا من الحياة نفسها. وقد جعل الله للحب طرفين: أحدهما في اللذة، والآخر في الحماقة؛ ما منهما بد. فهذا الحب يلقي صاحبه في الأحلام ويغشى بها على بصره، ثم إن هو اتجه بطرفه السعيد إلى حظه المقبل واتفقت اللذة للمحب - أيقظته اللذة من أحلامه؛ وإن اتجه الحب بطرفه الشقي إلى حظه المدبر وقعت الحماقات فنونا شتى بين الحبيبين، وفعلت آخراً فعل اللذة فأيقضت العاشق من أحلامه أيضاً. وهذا تدبير من الرحمة، في تلك القسوة المدمرة المسماة الحب. أفلا يدل ذلك على أن اللذة وهم من الأوهام مادام تحققها هو فناءها؟
خذ عني يا مجاهد هذه الكلمة: (ليس الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها، ولا هو شيء يدرك، ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له أو إدراكه)
قال مجاهد: لقد علمت بعدنا علما، فمن أين لك هذا، وعمن أخذت؟
قال: عن السماء؟
قال: ويلك! أين عقلك، فهل نزل عليك الوحي؟
قال الرجل: لا، ولكن تعاليا معي إلى الدار فأحدثكما
قال المسيب: وذهبنا معه؛ فآتينا بطعام نظيف فأكلنا، وأشعرتنا الدار أن ربها قد وقع فيما شاء من دنياه وتواصلت عليه النعمة؛ فلما غسلنا أيدينا قال مجاهد: هيه يا أبا. . يا أبا من؟ قال: أبو عبيد. قال: هيه يا أبا عبيد. .
ففكر الرجل ساعة ثم قال: عهد كما بي منذ تسع في مجلس الإمام الشعبي بالكوفة؛ وقد كنت في بقية من النعمة أتجمل بها، وكانت تمسكني على موضعي في أعين الناس؛ فما زالت تلك البقية تدق وتنفض حتى نكد عيشي ووقعت في الأيام المقعدة التي لا تمشي(100/5)
بصاحبها، وانقلب الزمن كالعدو المغير جاء ليصطلم ويخرب ويفسد، فأثر في اقبح آثاره، فبعت ما بقي لي وتحملت عن الكوفة إلى البصرة، وقلت: إن لم تتغير حالي تغيرت نفسي، ولا أكون في البصرة قد انتهيت إلى الفقر، بل أكون قد بدأت من الفقر كما يبدأ غيري، وأدع الماضي في مكانه وامضي إلى ما يستقبلني.
فالتمست رفقة فالتأمنا عشرين رجلا، فلما كنا في الطريق، سلبنا اللصوص وحازوا القافلة وما تحويه، ونجوت أنا راكبا فرسي وعمري، وأدركت حينئذ أن الحياة وحدها ملك عظيم، وأنها هي الأداة الإلهية، والباقي كله هو من أنفسنا لأنفسنا والأمر فيه هين والخطب يسير.
وقلت: لو أن اللصوص قد مروا بنا كما يمر الناس بالناس لما نكبونا، ولكنهم عرضوا لنا عروض اللص للمال والمتاع لا للناس فوضعوا فينا الأيدي الناهبة، ومن هذا أدركت أن ليس الشر إلا حالة يتلبس بها من يستطيع أن يتخلص منها. فإذا كان ذلك فاصل السعادة في الإنسان ألا يعبأ بهذه الحالات متى عرضت له؛ وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا تمثل الشر كما يراه واقعا في غيره؛ فالمرأة العفيفة إذا عرضت لها حالة من الفجور ونظرت إلى نفسها وحظ نفسها فقد تعمى وتزل، ولكنها إذا نظرت إلى ذلك في غيرها وإلى أثره على الفاجرة كانت كأنما زادت على نفسها نفسا أخرى تريها الأشياء مجردة كما هي في حقائقها.
قال: ومضيت على وجهي تتقاذفني البقاع والأمكنة، وأنا أعاني الأرض والسماء، وأخشى الليل والنهار، وأكابد الألم والجوع، حتى دخلت البصرة دخول البعير الرازح قطع الصحراء تأكل منه ولا يأكل منها، فأنضاه السفر وحسرة الكلال ونحته الثقل الذي يحمله، فجاء بينية غير التي كان قد خرج بها. وكانت أيامي هذه عمرا كاملا من الشقاء جعلتني أوقن أن هؤلاء الناس في الحياة إن هم إلا كالدواب تحت أحمالها، لا تختار الدابة ما تحمل ولا من تحمل، ولا يترك لها مع هذا أن تختار الطريق ولا مدة السير وليس للدابة إلا شيئان: صبرها وقوتها؛ إن فقدتهما هلكت، وإن وهنا فيها كان ضعفها بحسب ذلك
إن هناك أوقاتا من الشقاء والبؤس تقذف بالإنسان وراء إنسانيته وإنسانية البشر جميعا لا تبالي كيف وقع وفي أي واد هلك، فلا ينفع الإنسان حينئذ إلا أن يعتصم بأخلاق الحيوان، في مثل رضاه الذي هو احكم الحكمة في تلك الحال، وصبره الذي هو أقوى القوة، وقناعته التي هي أغنى الغنى، وجهله الذي هو اعلم العلم، وتوكله الذي هو إيمان فطرته بفطرته.(100/6)
لا يبالي الحيوان مالا ولا نعيما ولا متاعا ولا منزلة ولا حظا ولا جاها، ولن تجد حمار الملك يعرف من الملك اكثر مما يعرف حمار السقاء من السقاء؛ ولعلك لو سألتهما وأطاقا الجواب لقال لك الأول: إن الذي فوق ظهري ثقيل مقيت بغيض؛ ولقال لك الثاني: إن الذي يركبه خفيف سهل سمح!
ولكن بلاء الإنسان أنه حين يطوحه البؤس والشقاء وراء الإنسانية، لا ينظر لغير الناس؛ فيزيده بؤسا وحسرة، ويمحق في نفسه ما بقي من الصبر، ويقلب رضاه غيظا، وقناعته سخطا، ويبتليه كل ذلك بالفكرة المهلكة أعجزها أن تهلك أحدا فلا تجد من تدمره غير صاحبها؛ فإذا هي وجدت مساغاً إلى الناس فأهلكت وعاثت وأفسدت جعلت صاحبها إما لصا أو قاتلا أو مجرما أي ذلك تيسر!
وقال: وكنت اعرف في البصرة فلانا التاجر من سراتها ووجوه أهلها، فاستطرقته فإذا هو قد تحول إلى خراسان، وليس يعرفني أحد في البصرة ولا اعرف أحدا غيره؛ فكأنما نكبت مرة ثانية بغارة شر من تلك، غير أنها قطعت علي في هذه المرة طريق ايامي، وسلبتي آخر ما بقي لنفسي وهو الأمل!
ورأيت أنه ما من نزولي إلى الأرض بد، فأكون فيها إنسانا كالدابة أو الحشرة، حياتها ما اتفق لا ما تريد أن يتفق؛ وأنه لا رأي إلا أن اسخر من الشهوات فازهد فيها وأنا القوي الكريم، قبل أن تسخر هي مني إذا جئتها، وأنا الطامع العاجز!
وفي الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس؛ وما دامت هذه الدنيا قائمة على التغيير والتبديل وتحول شيء إلى شيء، فهذا الظبي الذي يأكله الأسد لا تعرف الأرض أنه قد أكل ولا أنه افترس ومزق، بل هو عندها قد تحول قوة في شيء آخر ومضى؛ أما عند الناس فذلك خطب طويل في حكاية أوهام من الخوف والوجل؛ كما لو اخترعت قصة خرافية تحكيها عن أسد قد زرع لحما. . . فتعهده فأنبته فحصده فأكله، فذهب الزرع يحتج على آكله، وجعل يشكو ويقول: ليس لهذا زرعتني أنت، وليس لهذا خرجت أنا تحت الشمس، وليس من اجل هذا طلعت الشمس عليّ وعليك!
والإنسان يرى بعينيه هذا التغيير واقعا في الإنسانية عاميتها وفي الأشياء جميعها؛ فإذا وقع فيه هو ضج وسخط، كأن له حقا ليس لأحد غيره؛ وهذا هو العجيب في قصة بني آدم، فلا(100/7)
يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تفهم هنا؛ بل محل الاعتراض بها حين يكون الإنسان خالدا لا يقع فيه التغيير والتبديل. ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو دائما باعث الحماقة الإنسانية.
قال أبو عبيد: وذهبت أعتمل بيدي وجسمي على آلام من الفاقة والضر، ومن الخيبة والإخفاق، ومن إلجاء المسكنة وإحواج الخصاصة؛ فلقد رأيتني وإن يدي كيد العبد، وظهري كظهر الدابة، ورجلي كرجل الاسير، وعنقي كعنق المغلول، ويطلع قرص الشمس على الدنيا ويغيب عنها وما اعتمل إلا بقرص من الخبز، ولقد رأيتني أبذل في صيانة كل قطرة من ماء وجهي سحابة من العرق حتى لا أسأل الناس، ويا بؤسا لي إن سألت وإن لم أسأل
وما كان يمسكني على هذه الحياة المرمقة، تأتي رمقاً بعد رمق في يوم يوم - إلا كلام الشعبي الذي سمعته في مسجد الكوفة، وقوله فيمن قتل نفسه، فكان كلامه نورا في صدري يشرق منه كل يوم مع الصبح صبح لأيماني. ولكن بقيت أيام نعمتي الأولى ولها في نفسي ضربان من الوجع كالذي يجده المجروح في جرحه إذا ضرب عليه، فكان الشيطان لا يجد منفذا إلى إلا منها. وفقدت الصديق وعونه، فما كان يقبل عليّ صديق إلا في أحلامي من وراء الزمن الأول
قال مجاهد: والحبيب؟
فتبسم الرجل وقال: إذا فرغت الحياة من الذي هو أقل من الممكن، فكيف يكون فيها الذي هو اكثر من الممكن؟ إن جوع يوم واحد يجعل هذه الحياة حقيقة جافية لا شعر فيها، ويترك الزمن وما فيه ساعة واحدة معطرة. . والبؤس يقظة مؤلمة في القلب الإنساني تحرم عليه الأحلام؛ وما الحب من أوله إلى آخره إلا أحلام القلوب بعضها ببعض!
قال أبو عبيد: وتضعضعت لهذه الحياة المخزية وأبرمتني أيامها، وحملت في الميت والحي، ورأيت الشيطان لعنه الله كأنما اتخذني وعاء مطرحاً على طريقه يلقي فيه القمامة. .؛ وظهر لي قلبي في وساوسه كالمدينة الخربة ضربها الوباء فأعمر ما فيها مقبرتها؛ وعاد البؤس وقاح الوجه لا يستحي، فلا أراه إلا في أرذل أشكاله وأبردها؛ ولقد يكون البؤس لبعض الناس على شيء من الحياة فيأتي في أسلوب معتذر كالمرأة الدميمة في نقابها.(100/8)
وقلت لنفسي: ما هو والله إلا القتل، فهذا عمر أراه كالأسير أقيم على النطع وسل عليه السيف، فما ينتقم منه المنتقم بأفظع من تأخير الضربة، وما يرحمه الراحم بأحسن من تعجيلها!
وبت أوامر هذه النفس في قتلها وأحدثها حديث الموت فسددت رأيي فيه، وقالت: ما تصنع بجسم كالمتعفن اصبح كالمقبور لا أيام له إلا أيام انقراضه وتفتيته؟ بيد أني ذكرت كلام (الشعبي) في ذلك المجلس وأنا أحفظه كله، فجعلت أهذه ما أترك منه حرفا، واتخذته متكلما مع نفسي لا كلاما، وكنت كلما غلبني الضعف رفعت به صوتي وأصغيت كما أصغى إلى إنسان يكلمني؛ فرأيت الشيطان بعد ذلك كاللص إذا طمع في رجل ضعيف منفرد، ثم لما جاءه وجد معه رجلا ثانيا قويا فهرب!
قال أبو عبيد: ونالني روح من الاطمئنان وجدت له السكينة في قلبي فنمت، فإذا الفزع الأكبر الذي لا ينساه من سمع به فكيف الذي رآه بعينيه؟
رأيتني ميتا في يد غاسله يقلبه ويغسله كأنه خرقة؛ ثم حملت على النعش، كأن الحاملين قد دفعوني يقولون: انظروا أيها الناس كيف يصير الناس؛ ثم صلى عليّ الإمام الشعبي في مسجد الكوفة؛ ثم دليت في قعر مظلمة وهيل التراب عليّ، وتركت وحيدا وانصرفوا!
وما أدري كم بقيت على ذلك؛ ثم رأيت كأنما نفخ في الصور وبعثرت الأموات جميعا، فطرنا في الفضاء، وكانت النجوم غباراً حولنا كتراب العاصفة في العاصفة؛ وإذا نحن في عرصات القيامة وفي هول الموقف!
وتوجهت بكل شعرة في جسمي إلى الرجاء في رحمة الله؛ ورأيت أعمالي رؤية احزنتني، فهي كمدينة عظيمة كل أهلها صعاليك إلا قليلا من المستورين، أرى منهم الواحد بعد الواحد في الساعة بعد الساعة، ندروا وتبعثروا وضاعوا كأعمالي الصالحة!
وذكرت أني كدت اقتل نفسي فرارا بها من العمر المؤلم، فنظرت، فإذا الزمن قد ظهر في أبديته، ورجع الماضي حاضرا بكل ما حوى كأنه لم يمض، وإذا عمري كله لا يكاد يبلغ طرفة عين من دهر طويل، فحمدت الله أني لم أفتد ألم اللحظة القصيرة القصيرة، بعذاب الأبد الخالد الخالد الخالد.
وجيء على أعين الخلق بأنعم أهل الدنيا وأكثرهم لذات في تاريخ الدنيا كله، فصاح صائح:(100/9)
هذا أنعم من كان على الأرض منذ خلقها الله إلى أن طواها. ثم غمس هذا المنعم في النار غمسة خفيفة كنبضة البرق، واخرج إلى المحشر، وقيل له الناس جميعا يسمعون: هل ذقت نعيما قط؟ قال: لا والله
ثم جيء بأتعس أهل الأرض وأشدهم بؤسا منذ خلقت الأرض، فغم في الجنة غمسة أسرع من النسيم تحرك ومر، ثم أخرج إلى المحشر وقيل له: هل ذقت بؤسا قط؟ قال: لا والله.
وسمعنا شهيق جهنم وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ؛ فأيقنت أن لها نفسا خلقت من غضب الله. وخرج منها عنق عظيم هائل، لو تضرمت السماء كلها نارا لأشبهته، فجعل يلتقط صنفاً صنفا من الخلق؛ وبدأ بالملوك الجبابرة فالتقطهم مرة واحدة كالمغناطيس لتراب الحديد؛ وقذف بهم إلى النار؛ ثم انبعث فالتقط الأغنياء المفسدين فأطارهم إليها؛ ثم جعل يأخذ قوماً قوما وقد ألجمني العرق من الفزع؛ ثم طرت أنا فيه ونظرت فإذا أنا محتبس في مظلمة نارية كالهاوية، ليس حولي فيها إلا قاتلوا أنفسهم. ولو أن بحار الأرض جعل فيها البحر فوق البحر فوق البحر، إلى أن تجتمع كلها فيكون العمق كبعد ما بين الأرض والسماء، ثم تسجر نارا تلظى لكانت هي الهاوية التي نحن في أعماقها، وكنت سمعت من إمامنا الشعبي أن عصاة المؤمنين الموحدين إذا ماتوا على إيمانهم كانوا في النار أحياء وجوارحهم وينتظرهم إيمانهم على باب النار، فكان إلى جانبي رجل قتل نفسه، فسمع قائلا من بعيد يقول لمؤمن: أخرج فإن إيمانك ينتظرك. فصاح الذي إلى جانبي: وأنا، أفلا ينتظرني إيماني؟ فقيل له: وهل جئت به؟
ورأيت رجلا ذبح نفسه يريد أن يصرخ يسأل الله الرحمة، فلا يخرج الصوت من حلقه، إذ كان قد فراه وبقى مفريا! وأبصرت آخر قد طعن في قلبه بمدية، فهو هناك تسلخ الزبانية قلبه تبحث هل فيه نية صالحة، فلا تزال تسلخ ولا تزال تبحث!
ورأيت آخر كان تحسّى من السم فمات ظمآن يتلظى جوفه، فلا تزال تنشأ له في النار سحابة روية تبرق بالماء، فإذا دنت منه ورجاها انفجرت عليه بالصواعق ثم عادت تنشأ وتنفجر!
وقال رجل إنما كنت مجنونا ضعيفا عاجزا فأزهقت نفسي فنودي: أو ما علمت أن الله يحاسبك على أنك عاقل لا مجنون وقوي لا ضعيف، وقادر لا عاجز؟ كنت تعقل بالأقل أنك(100/10)
ستموت، وكنت تقوى على أن تصبر، وكنت تقدر أن تترك الشر.
وقال رجل عالم قد حز في يده بسكين فمات: (لم يكن الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها ولا هو شيء يدرك.) فصرخ فيه صوت رهيب: (ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه!).
قال أبو عبيد: ثم انتصب بازائي شيطان مارد أحمر، يلتمع التماع الزجاج فيه الخمر، فقام في وجهي وقال: بماذا جئت إلى هنا يا عدو الخمر؟ فما كان إلا أن سمعت النداء: شفعت فيك الخمر التي لم تشربها، أخرج إن إيمانك ينتظرك!
فصحت الحمد لله! وتحرك بها لساني فانتبهت. لقد علمت أن الصبر على المصائب نعمة كبرى لا ينعم الله بها إلا في المصائب.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(100/11)
2 - لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أقامت لوكريسيا في رومة مدى حين، أداة لمشاريع أبيها البابا وأخيها شيزاري، ومستودعا لدسائس البلاط الروماني؛ وكانت تشعر أنها في هذا المعترك تعيش في نوع من الأسر؛ وقد قالت فيما بعد: (إن رومة كانت سجني). وكان زواجها من جان سفورزا كما رأينا، لبواعث سياسية ترجع إلى رغبة اسكندر السادس في تقوية التحالف بينه وبين لودفيكو سفورزا طاغية ميلانو وعم جان. ولكن لودفيكو لم يلبث أن ارتد عن هذا التحالف إلى محالفة شارل الثامن ملك فرنسا وتحريضه على غزو إيطاليا، والاستيلاء على مملكة نابل اعتمادا على زعم قديم بوراثة عرشها. عندئذ رأى البابا أنه لم يبق حكمة لبقاء هذا الزواج، فاعتزم إلغاءه حتى يستطيع بعد أن تسترد لوكريسيا حريتها أن يتخذها أداة لعقد صفقة أخرى.
ولكن جان سفورزا لم يقبل الانفصال عن زوجته الحسناء طوعا، فهدده شيرازي بالقتل وفر إلى بيزارو؛ ولجأت لوكريسيا حزينة باكية إلى دير القديس سكستوس لأنا كانت تحب زوجها؛ وعمد البابا لإبطال الزواج إلى إجراء مدهش، فانتدب لجنة مؤلفة من كردينالين لتهيئة أسبابه، ورأى الحبران أن يسندا الفسخ إلى أن لوكريسيا ما تزال بكرا عذراء، وأن زوجها جان سفورزا كان عنينا ولم يكن رجلا كاملا؛ وأرغم البابا ابنته على أن توقع إقرارا بأنها ما تزال بكرا عذراء كيوم مولدها. وعلى ذلك أعلن فسخ الزواج؛ ودهشت رومة، ودهشت إيطاليا كلها لهذا الزعم، لأن جان سفورزا كان فتى متين البنية، وكان أرمل توفيت عنه زوجته الأولى بعد أن رزق منها طفلة. وحاول جان أن يثور على هذا القرار وأن يقاوم، ولكنه أذعن لنصح عمه لودفيكو وعمه الآخر الكردينال اسكاينو وكيل الكرسي الرسولي، وارتضى مصيره صاغرا؛ وكان ذلك في ديسمبر سنة 1497؛ وكانت لوكريسيا عندئذ في عامها السابع عشر. وهنا يصيح مؤرخ معاصر هو (جيشا ردينو): (لم يحتمل البابا أن ينافسه في ابنته أحد حتى زوجها!). وثار حول لوكريسيا سيل من أروع الإشاعات والأقاويل.
وحدث في ذلك الحين أيضاً حادث اهتزت له رومة، هو مقتل جان دوق جانديا ابن البابا؛(100/12)
وكان إلى جانب الطلاق مستقى خصبا لهذه الإشاعات الغريبة التي تصور الأسرة البابوية عرينا من الضواري التي جردت من كل عاطفة بشرية. وكان دوق جانديا أكبر أبناء اسكندر السادس، في الرابعة والعشرين من عمره، وأخاه شيزاري في الحادية والعشرين؛ وكان البابا يعتبر ابنه البكر عميد أسرته من بعده، ويرشحه دون شيزاري لكل مشاريعه السياسية العظيمة. أما شيزاري فقد زجه أبوه إلى الحياة الكنسية، ورقاه بسرعة كردينالاً لبلنسية؛ ولكن شيزاري كان بطبيعته الوثابة المغامرة، وأطماعه الدنيوية البعيدة يزهد في الحياة الكنسية ويتلمس الفرار منها؛ وكان يرى في أخيه الأكبر دوق جانديا حائلا دون أطماعه. ففي ربيع سنة 1497، كان البابا قد عاد إلى التفاهم مع مملكة نابل (نابولي) واتفق مع ملكها الجديد فردريك الأرجوني على أن يتلقى التاج من قبل الكرسي الرسولي، وأن يقطع بعض ولاياتها الجنوبية لدوق جانديا ولد البابا؛ وانتدب البابا ولديه جان وشيزاري للسفر إلى نابل، الأول ليتسلم إقطاعه الجديد، والثاني ليمثله في تتويج ملك نابل. وفي مساء 14 يونيه، قبيل رحيلهما، أقامت لهما والدتهما فانوزا مأدبة عشاء حافلة في قصرها المتواضع؛ وبعد العشاء انصرف دوق جانديا مع أخيه شيزاري، ثم افترق الاثنان في منتصف الطريق، وسار الدوق مع تابع له واختفى في جوف الظلام؛ ولم يعرف قط ما حدث له بعد ذلك؛ ولكن تابعه وجده ملقى في صباح اليوم التالي على شاطئ التقيري (التيبر) جثة هامدة، وانتشلت جثة الدوق بعد ذلك من النهر، وقد أثخنت طعنا، ولم يكشف سر الجريمة قط.
وطار الخبر في رومة بأن دوق جانديا قد قتل، وحزن البابا لمصرع ولده الأكبر أيما حزن، ولبث يذرف الدمع الثخين مدى يومين وهو معتكف في غرفته لا يتذوق طعاما ولا يرى أحدا. من اجترأ على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء؟ ولأي الأسباب؟ كثرت في ذلك الظنون والريب، وتنوعت التهم والبواعث؛ فقيل إن الجريمة من تدبير جان سفورزا انتقاما للتفريق بينه وبين زوجته، وقيل إنها من تدبير عمه الكردينال اسكانيو انتقاما لشرف الأسرة، وقيل إنها من تدبير آل أورسيني ألد خصوم البابا؛ ولكن هذه التهم لم تلق كبير سند؛ أما أولئك الذين يعرفون آل بورجيا فقد ألقوا تبعة الجريمة على شيزاري بورجيا نفسه.
أجل، قتل شيزاري أخاه جان دوق جانديا لأنه يفوز دونه بعطف أبيه، ويخصه أبوه دونه(100/13)
بمشاريعه السياسية، ويعتبره لسنه زعيم الأسرة. وشيزاري لا يطيق أن يرى دون أطماعه عقبة إلا ويسحقها. ولذلك التعليل الظاهر من الوجاهة. ولكن الرواية تذهب إلى أبعد من ذلك، فتقول إن شيزاري قتل أخاه لأنه ينافسه في غرام أختهما لوكريسيا!
أرأيت كيف تميل الرواية دائما إلى تصوير هذا الغادة الفاتنة آلهة للحب الأثيم والفجور في أروع مظاهره؟ كانت لوكريسيا خليلة أبيها، خليلة أخويها! وكان ثمة معارك خفية تضطرم في ذلك العرين بين عباد الجمال والهوى المحرم؛ وكان جان سفورزا زوج لوكريسيا اشد الناس تأييدا لهذه التهم، يؤكد لزملائه الأمراء ولصحبه وللناس جميعا أنه إذا كان البابا قد عمل على تمزيق العلائق التي تربطه بزوجته لوكريسيا، فذلك بسبب الهوى الأثيم الذي تبثه إلى أبيها، وإنه إذا كان شيزاري قد دبر مقتل أخيه وألقاه في التفيري، فذلك بسبب المنافسة بينهما على حب لوكريسيا. وكانت الفضيحة رائعة، والتهم أروع، تجوب إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها، وتجوب قصور أوربا كلها! ويتناولها الرواة والسفراء والشعراء بالتدوين نثرا ونظما باعتبارها من أهم حوادث العصر وأعجب السير.
وهنا يرى بعض النقدة المحدثين الذين يميلون إلى تبرئة لوكريسيا من هذه التهم الشنيعة، أن هذه الخصومة الزوجية هي أصل هذه التهم وهي روحها، وأن هذه التهم قد تلقاها المعاصرون من الأفواه الخصيمة، ثم زادوا عليها وبالغوا في تصويرها، ثم تناقلتها أجيال الخلف، واستمرت على كر العصور مستقى خصبا للشعراء وكتاب القصص.
لم تمض أشهر قلائل حتى وضع مشروع جديد لزواج لوكريسيا، وكان اسكندر السادس يتجه يومئذ نحو مملكة نابل، ويلتمس وسيلة لبسط نفوذه عليها؛ وكان يرى هذه الوسيلة في تزويج ابنه شيزاري من ابنة فردريك ملك نابل؛ ولكن ملك نابل أبى أني يزوج ابنته (لقس ابن قس) بيد أنه ارتضى أن يتخذ ابنة البابا زوجة لألفونسو ولد أخيه غير الشرعي، وعقد الزواج الجديد في قصر الفاتيكان في يولية سنة 1498 وكان الزوج الجديد فتى حديثا لا يجاوز السابعة عشرة؛ وكان جميلا، حلو الشمائل، تصفه الرواية المعاصرة بأنه أجمل فتى في رومة؛ وكانت لوكريسيا عندئذ في الثامنة عشرة؛ ومنح الفونسو دوقية بيزيليا، وغدت لوكريسيا دوقة بيزيليا؛ واشترط أن يقيم الفونسو مدى عام في رومة، وألا تغادر لوكريسيا رومة إلا بعد وفاة أبيها؛ وشغفت لوكريسيا بزوجها الفتى النضر، وعاشت مدى حين في(100/14)
نوع من السعادة والسلام.
ولكن هذه السكينة لم يطل أمدها. ذلك أن اسكندر السادس ألغى فرصة جديدة للعمل السياسي؛ وكان ملك فرنسا الجديد لويس الثاني عشر يتوق إلى التخلص من زوجته جان دوقة بري، والتزوج من الدوقة حنه أرملة سلفه شارل الثامن لكي يستطيع أن يضم إمارتها بريطانيا إلى مملكته؛ وكان لابد له لإجراء الطلاق من مرسوم بابوي؛ فرأى اسكندر السادس أن يجيز هذه الرغبة، وبعث ولده شيزاري إلى فرنسا، ليلقي صيغة الطلاق، فاستقبله ملك فرنسا أعظم استقبال، وأنعم عليه بلقب دوق فالنتنوا؛ وعندئذ خلع شيزاري ثوبه الديني، وزوجه لويس الثاني عشر من أميرة فرنسية هي شارلوت دالبير أخت ملك نافار؛ وبذلك وثقت أواصر التحالف بين فرنسا والفاتيكان، وكلاهما خصم لمملكة نابل وكلاهما يدعي فيها حقوقا.
وهنا فكر شيزاري في التخلص من زوج أخته الجديد إذ غدا يراه عقبة في سبيل مشاريعه؛ وشعر الفونسو دوق بيزيليا بحرج مركزه في الفاتيكان إزاء تطورات الحوادث على هذا النحو، وخشى بالأخص غدر شيزاري وعدوانه، ففر من رومة والتجأ إلى ال كولونا في جينازارو، تاركا زوجه الفتية حاملا تبكي فراقه؛ واستمر يكاتب لوكريسيا ويتوسل إليها أن تلحق به، ولوكريسيا مستسلمة إلى حزنها لا تجرؤ على تلبية دعوته. فلما رأى البابا يأس ابنته، فكر في وسيلة للجمع بينها وبين زوجها، لا تؤذي كرامته في نفس الوقت، فعين ابنته حاكمة لسبوليتو؛ وسافرت لوكريسيا إلى سبوليتو مع أخيها الأصغر جوفروا؛ وهنالك لحق بها زوجها؛ وأقاما هناك مدى حين حتى هدأت العاصفة؛ ثم عادا معا إلى رومة؛ ولم تمض على عودتهما أيام قلائل حتى وضعت لوكريسيا غلاما سمى رودريجو باسم جده البابا رودريجو بورجيا (31 أكتوبر سنة 1499).
واحتفل البابا بمولد حفيده في حفلات شائقة، وغدت لوكريسيا كأنها ملكة رومة يحف بها الحب والعطف والإجلال أينما حلت؛ وأقطعها والدها حكم عدة مدن وجهات من أملاك الكرسي الرسولي.
ولكن القدر المروع كان جاثما يتربص. ففي مساء 15 يوليه سنة 1500، بينما كان الفونسو دي بيزيليا زوج لوكريسيا يصعد درج الفاتيكان المفضي إلى الجناح البابوي، إذ(100/15)
فاجأه عدة رجال مقنعين وأثخنوه طعنا بالخناجر حتى خر صريعا يتخبط في دمه؛ ثم فر الجناة دون أن يراهم أو يظفر بأثرهم أحد.
ولكن الفونسو لم يمت على الأثر؛ بل استطاع أن يجرجر نفسه حتى الجناح البابوي؛ وهناك تلقاه البابا ولوكريسيا في دهشة وانزعاج؛ وأغمى على لوكريسيا وأصابتها الحمى؛ وحمل الجريح إلى إحدى القاعات، ولزمته زوجته تعني به، وأقام البابا حرسا خاصا على غرفته؛ وأخذ يتماثل إلى الشفاء سريعا.
ولم يك ثمة ريب في مدبر هذه الجريمة الشنعاء؛ فقد كان شيزاري؛ وكان يرى بعد أن رزقت أخته بهذا الغلام، أنه لا سبيل إلى فسخ زواجها، وأنه لا سبيل إلى التخلص من الفونسو غير الجريمة، ولما لم تحقق هذه الجريمة الأولى غرضها، قرر شيزاري أن يعيد الكرة، فدخل ذات يوم إلى حيث يرقد الجريح ومعه ميشليتو وصيفه وساعده الأيمن في مشاريعه السوداء؛ وأبعد أخته عن غرفة زوجها، وأمر ميشليتو فأجهز على الفتى الجريح خنقا.
هكذا يقول لنا بور كارت مدير التشريفات البابوية في مذكراته. بيد أن شيزاري لم ينكر الجريمة بعد أن حققت غايتها؛ وكان يقول إن الفونسو كان يزمع قتله فسبقه هو إلى القصاص. ولم يفه البابا بكلمة احتجاج أو تذمر خشية بطش ولده الأثيم.
أما لوكريسيا الزوجة الثاكل، والأم الأرمل، فلم تستطع البقاء في رومة، وذهبت بإذن أبيها تجرجر أذيال الحزن والعزلة في قصر نيبي على مقربة من سبوليتو، وهنالك فعل النسيان فعله سريعا، فلم يمض عام حتى استعادت الأرمل الفتية كل بهجتها، وعادت مسرعة إلى رومة تخوض غمار هذه الحياة العنيفة الباهرة التي كأنما خلقت لها.
وفي يوليه سنة 1501، غادر اسكندر السادس رومة على رأس حملة عسكرية ليتم الاستيلاء على بعض المناطق والحصون المجاورة للولايات البابوية والتي يزعم للكنيسة حقا في انتزاعها، وهنا وقع حادث فريد من نوعه ومغزاه. ذلك أن اسكندر السادس انتدب ابنته لوكريسيا للقيام بالشؤون البابوية أثناء غيابه، ويقول لنا بور كارت إن قداسته (عهد بالقصر كله، وتصريف الأمور الجارية إلى ابنته السيدة لوكريسيا، وفوض إليها أن تفتح كل الرسائل التي ترد لقداسته، وأن تستعين في المسائل الصعبة برأي كردينال لشبونه)(100/16)
وفي ذلك ما يدل على تقدير خاص من البابا لمواهب ابنته ومقدرتها على الاضطلاع بمهام الأمور. والواقع أن لوكريسيا بورجيا كانت فتاة وافرة العقل وافرة الذكاء، تتبع سير الشؤون العامة بدقة، وتفهم بالأخص آراء والدها واتجاهاته المختلفة؛ وكانت عند ثقة أبيها حيث قامت بمهمتها زهاء شهرين بفطنة وذكاء.
ثم عاد البابا إلى رومة، واستأنف بلاط الفاتيكان حياة البذخ والحفلات الشائقة، وكانت لوكريسيا يومئذ قد ناهزت عامها الحادي والعشرين، واكتملت زهرة شبابها وجمالها.
وهنا، وفي تلك الفترة، تقدم لنا الروايات المعاصرة، أغرب الصور وأروعها عن تلك الحياة الأثيمة الفاجرة التي كانت تنتظم وراء جدران الفاتيكان، وتخوض لوكريسيا بورجيا غمارها إلى جانب أبيها الحبر المتهتك وأخيها الطاغية الفاجر.
ومن ذلك تلك الحفلة الراقصة الشهيرة التي تفيض في تفاصيلها روايات العصر وتسميها (مرقص الكستنة) والتي كانت مسرحا لأسفل ما يتصور الذهن الخليع من مناظر التهتك والفحش.
ويقول لنا بور كارت في مذكراته إن تلك الحفلة الشهيرة كانت في مساء 31 أكتوبر سنة 1501؛ وفيه استقدم البابا خمسين غانية من أجمل نساء رومة؛ ومثلن جميعا عاريات أمام البابا وابنه شيزاري وابنته لوكريسيا، وقمن بأفحش المناظر الراقصة والجنسية التي يمكن تصورها؛ ومن ذلك أنهن كن يركضن عاريات على أربع وراء حبات الكستنة التي كان يلقيها البابا وابنه وابنته تحت الأضواء الساطعة، وتعطى الجوائز للسابقات، كما تعطى لأبرعهن في عرض افحش المناظر والأوضاع.
هذا ما يرويه بور كارت مدير التشريفات البابوية في مذكراته الشهيرة بإفاضة مثيرة تحمر لها الوجوه وتندى الجباه حياء وخجلا، وهذا ما ترويه معظم الروايات والتواريخ المعاصرة مع فرق في بعض الوقائع والتفاصيل.
كانت هذه الحفلات والمناظر الشائنة تتكرر وراء جدران الجناح البابوي في الفاتيكان؛ في تلك الأبهاء الشهيرة التي أنشأها اسكندر السادس، وأفاض عليها أقطاب الفنانين والمصورين أروع بدائعهم، والتي ما زالت تعرف حتى اليوم (بجناح آل بورجيا) وتعرض لأنظار السائح المتجول، فيحمله التأمل والخيال إلى تلك الأيام والذكريات المرحة البعيدة.(100/17)
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(100/18)
الخرافة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
الخرافة حليفة الجهل، وأليفة الأوهام، عنوان ناقصي الثقافة، ورمز ذوي العقول الضعيفة؛ كالحشرات الدنيئة، لا يحلو لها العيش إلا في الأماكن المظلمة، أو كالحشائش الضارة، لا يعظم نموها إلا في التربة الفاسدة؛ تقف في طريق الحق، وتقاوم كل تفكير. وكأنها ذات قوة سحرية تغشى الأبصار، وتصم الآذان، وتقضي على كل ما في المرء من عقل وروية؛ أو كأنها مظهر لوحي خفي يستولي على النفوس والأفئدة. وكيف لا والسحر خرافة لبست ثوب الفن؟ والخرافات في أغلبها اكتست بكساء الدين، لذلك لبى نداءها معتنقوها، ونزل عن إرادتها من آمن بها، ولو أدى ذلك إلى ارتكاب جرائم شنيعة، وإزهاق أرواح بريئة، وتبديد ثروات طائلة. وكم باعدت الخرافة بين الصديق وصديقه، والمرء وزوجه، والأخ وأخيه، والابن وأبيه. وقد لا يقف عدوانها عند الأحياء، بل يتعداهم إلى الأموات، فخرجت من جرائها قبور، وانتهكت حرمات. وبذا كانت من أشد أخطار الإنسانية وأكبر أعداء الحضارة والمدنية. وما أصدق مونتيسكيه حين يقول: (أعد نفسي أسعد الأحياء إذا استطعت أن أبرئ الناس من خرافاتهم).
بيد أن الخرافة ليست شرا كلها؛ ففي حجرها درج العلم، وتحت كنفها نما كثير من النظم الاجتماعية. فالعلوم في نشأتها كانت سلسلة خرافات متصلة، وطائفة غير ملتئمة من الظنون والأوهام؛ وما الكيمياء الحقيقية إلا وليدة الكيمياء الصناعية وما الفلك في قواعده وأصوله إلا ربيب العرافة والتنجيم، وما الطب إلا نتيجة وصفات بلدية هذبت، وتجارب عادية سلك بها سبيل البحث والتمحيص؛ وما طبيعة اليوم المملوءة بالأصول والقوانين إلا الثمرة الناضجة للآراء الخاطئة المشحونة بالأوهام والخزعبلات، والتي أدلى بها فلاسفة الإغريق الأول أمثال طاليس وأنكسمندر. والحكومة في سلطانها، والأسرة في نظامها، والملكية في احترامها مدينة للخرافة إلى حد كبير: فالملك مسموع الكلمة مطاع الأمر، لأن الخرافة شاءت قديما أن تضعه في صف الآلهة والأرباب؛ والزواج محترم لأن الزنا والفسوق ما كانت لتغضب الله والناس فقط، بل وربما استتبعت هلاك الحرث والنسل وخراب القرى والأمصار؛ والملكية مقدسة لأن الاعتداء عليها كان يثير غضب المردة(100/19)
والشياطين والقوى الخفية المتصرفة في هذا العالم؛ وإذا بحثنا عن منشأ كثير من عاداتنا الاجتماعية وجدناها ترجع إلى أصل خرافي: فتفضيل اليد اليمنى على اليد اليسرى يفسر في غالب الظن مبدأ من مبادئ السحر والشعوذة؛ والعطلة الأسبوعية التي ننعم بها الآن لم تكن إلا لأن الإنسان اعتقد أن هناك أوقات نحس وأوقات سعادة وفوق هذا وذاك فالخرافة تغذي ناحية نفسية لا يصح تجاهلها، ذلك لأن الإنسان لا يلبي داعية العقل والمنطق فقط، بل هو خاضع لخياله وعواطفه. وللخيالة ميادين تسبح فيها، وعالم يتفق مع ميولها وأهوائها؛ وما الخرافة إلا مظهر من مظاهر هذا العالم وأثر من آثار هذا الصنع، وحياة لا تعتمد إلا على الأسس الطبيعية والبراهين العقلية - كما ينادي بها أصحاب الرواق - جافة قطعا ولا وجود لها إلا في أدمغة زينون وكريزيب.
ليس هناك شك في أن الإنسان مستعد بطبعه لقبول الخرافة؛ فهو ميال دائما لأن يعرف أكثر مما يرشده إليه بصره وعقله، ولأن يخلق بجانب الحقائق الحسية والفكرية صورا أخرى تحقق رغبة من رغباته، أو تسد ناحية من نواحي نقصه. هذا إلى أنه في ضعفه يحاول أن يعتز بقوى خفية - وإن تكن خيالية - في التغلب على مشاق الحياة. ومن هنا كان التعلق بالخرافات عالميا، وكان قدر منها مشتركا لدى عامة الشعوب. فالسحر والتنجيم والشعوذة من خرافات الإنسانية بأسرها، قام عليها معظم تقاليد الأمم المتوحشة، وتشبث بها الناس بعد أن خطوا خطوات فسيحة في سبيل العلم والمدنية، ولا يزالون خاضعين لشيء من سلطانها إلى اليوم. وحديث القصور الزبرجدية والآرائك المسجدية التي بناها المردة والشياطين في أرض نائية وجزر منقطعة، بهر الإنسان الهمجي وشغل عقول بعض أبناء القرن العشرين. والتفاؤل والتشاؤم والطيرة كانت من خرافات الإغريق والرومان والعرب، وحتى الساعة يقول عاميتنا: (خذوا فألكم من قبالكم)، وإذا سمعوا نعيق غراب رددوا الجملة المشهورة: (اللهم اجعله خيرا). وبديهي إن انتشار الخرافة يختلف من بلد لآخر تبعا لدرجة الثقافة، ونمو التربية الدينية، وطرق الحكم السياسية من ديمقراطية واستبدادية، ولظروف اجتماعية أخرى متعددة. ويحاول بعض الباحثين أن يعقد موازنات بين الأمم في هذا المضمار، فيزعم مثلا أن المشاهد السينمائية في إنجلترا وفرنسا تؤذن بأن الشعب الإنجليزي إلى الغريب أميل، وفي الخرافة أرغب. وهذه الموازنات وإن تكن مثار شك(100/20)
كبير، ربما وصلت إلى نتائج شيقة إن عني بضبطها وصحتها. وإذا كنا نتحدث عن الأفراد والشعوب واستعدادهم لقبول الخرافة، فيجدر بنا أن نشير إلى ملاحظة هامة، وهي أنه لا يوجد شخص يسلم بالخرافة التي يعتنقها في حين أنه متيقظ دائما إلى خرافات الآخرين. وقد يصل بنا الأمر إلى أن نقيس الشيء الواحد بمقياسين مختلفين، وننظر إليه بمنظارين متباينين، فإن كان مما عرفناه وألفناه أضحى دينا وعقيدة؛ وإن اتصل بتقاليد غريبة عنا استنكرناه وتبينا ما فيه من تضليل وتخريف: وكأن ما هو دين في رأيك خرافة في رأي غيرك وبالعكس: وعل ذلك راجع إلى أن الخرافة تسلب معتنقها قوة النقد والحكم الصحيح؛ هذا إلى أنها نسبية وصعبة التحديد: فما كان عقيدة بالأمس أصبح خرافة اليوم؛ وما هو صواب شرق جبال البرانس يعد خطأ غربها؛ ومقياس الخرافة - كمقياس الحق والباطل - يتغير بتغير الظروف والأزمنة.
يعز علينا حقيقة أن نعرف الخرافة تعريفا شاملا، وأن نضع لها حدا ثابتا. فلا يمكننا أن نقول إنها كل ما خالف العلم الصحيح، فإن هذا العلم نفسه لما يحدد تماما؛ على أنه قد يقصد أمورا يصعب علينا أن نخرج بها عن دائرة الخرافة. فكثير من المثقفين يؤمن اليوم بتحضير الأرواح، ويجتهد في أن يفسره تفسيرا علميا. ولا نستطيع أن نقول إن الخرافة كل ما ناقض الدين، فإن هناك أشياء اكتست بكساء ديني كامل في حين أنها خرافة صريحة. وفي شيء من التقريب يمكن القول بأن الخرافة كل فكرة أو عقيدة فردية أو جمعية تفسر ظواهر العالم على نحو لا يلتئم مع العقل ولا مع درجتنا العلمية الحاضرة. وعلى في سرد بعض الأمثلة ما يعيننا على تفهم الخرافة في حقيقتها ومدلولها. من ذلك أن بعض الأوربيين يرى أن كب الملح نذير سوء. وأن اجتماع ثلاثة عشر شخصا على مائدة واحدة مؤذن بأن واحدا منهم سيموت في العام نفسه، وأن تقديم السكين يقطع المودة، وأن وضع المكنسة في الماء مجلبة المطر. وخرافاتنا المصرية التي هي ميدان فسيح للدراسة غير متناهية العدد؛ ومن أشهرها حديث (الشمامة) ورعراع أيوب وأكل البصل أيام شم النسيم، وصناعة التبخير أو (الزار) والرقى والتعاويذ. وعبثا نحاول إن شئنا أن نأتي هنا على مختلف الخرافات العالمية أو المصرية. وفي مقدورنا أن نلاحظ بوجه عام أن الخرافات تكاد تتمركز حول نقطتين هامتين: المعتقدات والعبادات الدينية؛ وهذا ما سماه(100/21)
الألمان
لقد شغل الباحثون بالخرافة منذ زمن بعيد؛ فبينوا مضارها السياسية والدينية والاجتماعية، وعملوا على إحصاء الخرافات المتعددة وإثباتها في قواميس خاصة (نذكر من بينها: وتقسيمها إلى فصول وأنواع مختلفة. ومن أقدم من كتب في هذا الباب؛ لكريس + 51 - وفلوطرخس + 125 والأخير بوجه خاص هو أول باحث درس الخرافة في شيء من التوسعة ونقدها نقدا مرا؛ وربما كان متأثرا في ذلك بما ساد عصره من خرافات لا حصر لها إلا أن الفضل في دراسة الخرافة دراسة علمية منظمة يرجع إلى علماء الاجتماع المحدثين الذين تولوها بالشرح والتحليل. فبحثوا عن أصلها، وسبيل انتشارها، وأثرها في المجتمع، وطريق علاجها. وكان لهم في ذلك مؤلفات قيمة جذابة نخص بالذكر منها كتاب فريزر الذي سنعرض له بالتفصيل في فرصة مقبلة إن شاء الله.
إذا تصفحنا التاريخ وجدنا الإنسانية نشأت حاملة معها خرافاتها. فالأمم المتوحشة الأولى خضعت للخرافة خضوعها لدين ثابت وأصل مقرر؛ ولا زلنا نرى أثر هذا الخضوع لدى القبائل الهمجية المعاصرة. وإذا جاوزنا هذه الأمم إلى الشعوب التي أخذت من الحضارة بنصيب، لاحظنا أنها تعلقت بقسط وافر من الأوهام والخزعبلات. وخرافات قدماء المصريين أعرف من أن ينوه عنها. والإغريق الذين بهروا العالم بعلمهم وثقافتهم لم يكونوا أقل اعتناقا للخرافة من غيرهم، وتاريخهم الديني مجموعة خرافات سخر منها فلاسفتهم غير مرة. وربما كان اللاأدريون من أول من رفع الصوت جهرة في وجه الخرافة والانقياد الأعمى، ودعا إلى تحرير الفكر الإنساني. كذلك حاربت الديانات السماوية بعض الخرافات وقضت عليها. غير أن رجال القرون الوسطى عادوا - تحت تأثير الجهل وعاطفة دينية عمياء - فارتطموا في بؤرة الخرافة، وتفننوا فيها أيما تفنن. ثم جاء عصر النهضة والإصلاح الديني فسلكا بالعقل الإنساني مسلكا جديدا وآثارا على الخرافة حربا شعواء. ولا تزال العلوم الحديثة تنكل بها يوما بعد يوم، وتطاردها في كل مكان.
والآن يحق لنا أن نتساءل هل الخرافة في سبيل الانقراض؟ وهل تأمل الإنسانية أن تتخلص منها بتاتا؟ ليس بيسير أن نجيب إجابة شافية على السؤال الأول، فإن الإحصاءات في هذا الميدان ناقصة وغير دقيقة؛ والخرافة، وقد تمكنت من نفوسنا وأضحت جزءا من(100/22)
عاداتنا وتقاليدنا، صعبة التمييز وكثيرا ما بدت بمظهر الشيء المعقول والمسلم به. ولكن مما لاشك فيه أن الفكر الإنساني تبرأ من خرافات كثيرة كان يرزح تحت نيرها آباؤنا الأقدمون. وكلما بسط العلم نفوذه بدد غياهب هذه الترهات والأباطيل، فهو من الخرافة كالنور من الظلمة بكشف دخيلها وبين ما اشتعلت عليه من خطر وأضرار. ومع هذا يخيل إلينا أنه لن يتمكن من انتزاع جرثومتها والقضاء عليها تماما، وستبقى الخرافة ما بقى الإنسان لتسد حاجة من حاجاته النفسية والاجتماعية.
وها هي ذي خرافة تفنى لتحل محلها خرافة أخرى، فلئن بادت الخرافات الوحشية لقد أعقبها خرافات حضرية. على أنه ليس ثمت ضير - على ما يظهر - في أن تتعلق أمة من الأمم بقدر محدود من الخرافات، فإن فشت الخرافة وسدت طريق التفكير والحكم الصحيح فهنا الداء القاتل والخطر المحدق.
وكأني بهذه الحال تنطبق تماما على ما يعانيه بلدنا اليوم. فنحن فريسة للخرافة في طعامنا وشرابنا، في ملبسنا ومسكننا، في حركاتنا وسكناتنا، في مختلف عاداتنا وتقاليدنا، بل وفي آرائنا ومعتقداتنا، وكثيرا ما وقفت الخرافة عقبة كأداء في طريق تقدمنا العقلي والجسمي، والخلقي والاجتماعي. وفي رأينا أن خرافاتنا المتفشية ترجع إلى أسباب كثيرة أهمها:
(1) طريقة الوعظ والإرشاد والتربية الدينية الفاسدة، (2) حياة القهر والاستبداد، (3) الفقر، (4) والجهل. لقد سلكت طائفة من وعاظنا مسلكاً خاطئاً للغاية، وأرسلت لنفسها العنان - طمعا في الترغيب أو الترهيب - في سرد خرافات يأباها العقل والدين، وخاصة ما اتصل منها بالحشر والنشر واليوم الآخر وعمدتها في ذلك مجموعة ضارة من كتب القصص والتفسير المملوءة بالإسرائيليات والآثار الضعيفة أو المكذوبة. وكأن علم هؤلاء الوعاظ خرافة كله، أو كأنهم يحيون على حساب الخرافة فهم يثبتون دعائهما ويبالغون في نشرها. وليست حياة القهر والاستبداد بأقل آثراً في نشر الخرافة من هذا الوعظ الفاسد، فالمغلوب على أمره يبحث عن قوى خفية يزعم أنها تعينه على التخلص مما هو فيه. كذلك تمني الخرافة الفقراء بأحلام ذهبية وآمال خلابة، وتسبغ عليهم من الخيال ما عجزت الحقيقة عن الوفاء به. ويحرم الجهل أخيرا عامة الناس من أن يفتحوا أعينهم للضياء، وقلوبهم للرجاء، لذلك كانت الخرافة والجهل نوعين متلازمين، وأخوين لا ينفصلان، وقديماً قالوا: الخرافة(100/23)
عمياء تخشى ما تحب، وتحب ما تخشى. وإذا كنا قد شخصنا الداء فلنعالج أسبابه الدفينة وعوامله الخفية وحذار أن نحارب الخرافة وجها لوجه ونقتصر على تسفيه أحلام معتنقيها، فإنه قد يكون أيسر أن نصرف الملحد عن إلحاده من أن نحول المخرف عن خرافته.
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة.(100/24)
حول الأوزاعي (ثانياً)
للأستاذ أمين الخولي المدرس بكلية الآداب
كنت كتبت في العدد 91 من الرسالة، كلمة عن الأوزاعي، قصدت فيها أول ما قصدت إلى ملاحظات في أسلوب تفكير الكاتب، وعرضت في ذلك لإنكاره تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني في الشام. ودار حول ذلك كلام، آخره ما كتبه الأديب الفاضل صالح بن علي الحامد العلوي في العدد 97 من الرسالة، تحت عنوان: (هل تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني أو الحقيقة هي العكس)؛ وإني أشكر لحضرته غيرته الدينية، وجميل أدبه في نقاشه، ثم أعود إلى الموضوع من الناحية التي عرضت له منها أول ما عرضت: ناحية أسلوب التفكير، وصحة الانتقال والاستنتاج.
ويبدو لقارئ مقال الأديب السنغافوري أنه متأثر بمقال نشر في مجلة النهضة الحضرمية بعنوان: (من أين أخذ الإفرنج قوانينهم) وقد نقل منه قدرا كبيرا. ولعله يسر حضرته أن أبلغه أن هذا الموضوع نفسه نشر في مصر - وربما بنصه - منذ ربع قرن مضى، ملحقا بكتاب مقدمة القوانين للأستاذ عبد الجليل سعد، وقد طبع سنة 1910م. وقرأت هذا الموضوع منذ بضعة عشر عاما، ولا أزال أذكره جيدا، ومع ذلك كله قلت فيما قلت عن تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني تلك الكلمة المتواضعة العلمية وهي: مع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر، ومع القصد في بيانه فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية. . . الخ) ولا أزال أقول للكاتب إن ما نقله عن مجلة النهضة الحضرمية لا يؤثر في هذا الرأي كما لم تؤثر فيه قراءتي لهذا الموضوع في مصر منذ عهد بعيد؛ ولا أجعل موضوع الأخذ أو التأثر هنا محل بحث جديد ومناقشة على صفحات مجلة سيارة، لأنه أوسع من ذلك وأعمق، ولأن ملاحظاتي لا تتوقف عليه، كما لن أعمد في تعليق على ذلك المقال إلى الإطالة والإسهاب نزولا على حكم الوقت الضيق الآن، ثم نزولا على حكم البتة، إذ لا أرى قراء الصحف الأسبوعية ينشطون لتلك المناقشة الفنية الطويلة. وسأكتفي بأن أضع بين يدي السيد العلوي والقراء ما أراه موضع ملاحظة في إجمال تام.
1 - قال السيد: ومهما قلنا بالفرق بين الأخذ والتأثر لكلا المعنيين بجريان إلى مدى واحد،(100/25)
وهو أن يكون في أصل الفقه الإسلامي ومزاجه شيء من الفقه الروماني)، ومع صرف النظر عن مسألة الفقهيين لا نرى محلا للتسوية بين التأثر والأخذ هذه التسوية، لأن التأثر قد يكون سلبيا صرفا، فنقول إن الوثنية العربية قد أثرت في تحريم الإسلام للتصوير والنحت، ولن ينتهي هذا إلى أن في مزاج الإسلام وأصله شيئا من الوثنية الجاهلية. والنظر يقضي بأن التأثر السلبي قد يكون أقوى أنواع التأثر وأشدها، فلا محل للتسوية بين التأثر والأخذ.
2 - وقال: إن الإسلام في ذاته جاء خارقا لقاعدة البيئة والثقافة، إذ قام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي نشأ أبعد الناس عن أن يطلع على قانون روماني أو حكمة منقولة، وأتى بهذا الدين الأقدس مناقضا كل التناقض لما عليه قومه،. . . الخ. وغريب هذا القول من السيد، لأنه لا يصح إلا على تقدير أن هذا الدين من صنيع الرسول نفسه، وهو أمي. . الخ فعمله ناقض لقاعدة البيئة والثقافة، أما على أن الإسلام - كما هو في حقيقته - وحي إلهي فلا يستقيم هذا التمثيل مطلقا في نقض قاعدة البيئة والثقافة، لأنا لم نقل إن الله خاضع للبيئة والثقافة، بل نقول إن الله أجرى الحياة على نواميس منها تأثير البيئة والثقافة. . . الخ. وعلى وفق هذه النواميس جاء الإسلام العرب موافقا لحالهم معالجا لأمراضهم، جاريا على أسلوب تعبيرهم محكما له في فهم القرآن الكريم دستور العربية، ولم لم يجيء الإسلام بحيث تتقبله النفوس العربية، وتفهمه العقول العربية لكان عبثا - تعالى الله عنه - ولم يعش ولم ينجح.
3 - وقال: (إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة، أو بعبارة أصح جاءت في زمن واحد،. . الخ) وهذه العبارة أوضح من أن تحتاج مخالفتها إلى دليل، ويتجلى ذلك في قوله بعد، (وهيأ لنا شريعة كاملة وقانونا ربانيا منظما يصلح لأن يطبق على أي جيل وعلى أية أمة، ولم يزد فيه الفقهاء بعده شيئا قط إلا تصنيفه ونقله. .) فهذا الكلام ليس أحسن حالا من سابقه، فالفقهاء قد فهموا وطبقوا، واستنتجوا واستنبطوا، وخلفوا كل هذا المجهود الفقهي الكبير الهائل مبنيا بيدهم على الأصول العامة التي جاء بها الوحي، ولم يكونوا مصنفين وناقلين فقط، على أن حضرته يقول (. . . والنصوص الفقهية كلها صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي) وهذه العبارة بنفسها ينقضها هو في الصفحة ذاتها حين يقول(100/26)
عن القرآن: (على أن الاختلاف في تفسيره. . . ليس إلا لإيجازه المعجز مع بعد مراميه الغيبية) فإن هذا الإيجاز المعجز لم يفت آيات الأحكام كذلك، وبعد المرامي يشملها أيضاً؛ وإذا كانت النصوص صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي ففم اختلف فقهاء المذاهب الكثيرة المتعددة، وفيم اختلف فقهاء المذهب الواحد في الزمنين المختلفين، وفيم تغايرت الأحكام في المسألة الواحدة هذا التغاير البين؟ والطريف في ذلك أن السيد يمثل لهذه الصراحة والوضوح بقولك مثلا لا تكذب، وأنه ليس معناه إلا لا تخبر بغير الواقع في كل زمن ومكان، وفات السيد أن هذه المسألة الخلقية نفسها على وضوحها الشديد عنده محل خلاف طويل تعدى حتى إلى كتب البلاغة، فقيل الصدق مطابقة الخبر الواقع، وقيل مطابقته للاعتقاد، وقيل مطابقته للواقع مع الاعتقاد؛ وعلى هذا يختلف كذلك تفسير الكذب، فحبذا لو كان الأمر من السهولة والصراحة والوضوح على مثل ما يراه السيد.
4 - ويقول حضرته في النصوص الفقهية (. . . أما الأغلب منها فمن الحديث والسنة، وبعضها عن الكتاب مفسرا بالسنة) ولا نعرف وجها للحكم بأن أغلب النصوص من السنة لا من الكتاب، ولا يفهم أن الأغلب ما هو من السنة والكتاب معا إذ ليس هناك مصدر للنصوص سواهما.
5 - ويقول (ولا يجوز أن يقاس الفقه بالتفسير) ولا أدري كيف لا يقاس الفقه بالتفسير في الاختلاف والفقه ليس إلا تفسير آيات الأحكام!!
وعندي أن الكاتب الفاضل يحسن أن يعدل رأيه في هذه الأشياء قبل أن يهتم بمسألة الفقه الروماني وأخذه أصوله عن الفقه الإسلامي، أو تأثر للفقه الإسلامي به، فتلك مسائل متأخرة.
ويلي ذلك في مقال السيد ما نقله عن مجلة النهضة الحضرمية وأشرت إلى أنه منشور في مصر منذ زمن طويل؛ وقد وعدت ألا أحمله ولا أحمل القراء مؤونة مناقشته - على كثرة مواضع ذلك فيه - وإنما أقول للسيد إن كلمتي في التأثير والتأثر لا تتوقف على البت في تاريخ أصول القانون الروماني الحديث، وإنما ترجع إلى مسلمات لا محل لاختلافنا فيها: تلك هي أن الرومانية حكمت الشام قطعا، وكان ذلك الحكم لقرون كثيرة قطعا، وكانت الدولة الرومانية التي ورثت حضارة اليونان نظم للحكم قطعا، وكانت لها شرائع مدنية(100/27)
وعسكرية ومالية قطعا، وكان الإسلام هو الذي خلف على ذلك كله بلا شك، - وكان لهذا على طول الزمن أثره الذي تختلف به الشام عن الحجاز مثلا ولا بد، والأوزاعي ابن هذه البيئة الحديثة العهد بهذه الحال الرومانية، فلتلك البيئة وهاتيك الثقافة أثرهما المحتوم في تكوين الأوزاعي، ولهذا التكوين أثره في فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما - ولا يتوقف شيء مما قلنا على درجة رقي الفقه والنظام الروماني، ولا على أن الحديث منه مسروق من الإسلام أو مقتبس منه أولا.
لكني حينما أترك هذا المقال في الفقه الروماني الحديث دون مناقشة لا أدع منه عبارة ختامية للسيد في مقاله، تلك هي قوله (. . . إن الفقه الروماني جديد لفقه جماعة من العلماء وتحقق أنهم أخذوه من الفقه الإسلامي، وهذا ما يجب ألا يعتقد خلافه كل مسلم). بل أقول للسيد لسنا في شيء من المطالبة بهذه العقيدة المعروفة ثم سرقة الفقه الروماني من الفقه الإسلامي. وحرام علينا في الدين والعقل أن نعتقد ما نشاء ونلزم بما نشاء، فدع يا سيدي هذا لمثله من الرأي والبحث. ولا تتوجس خيفة من كل شبح، ولا تعدن كل رأي دسيسة، ولا تتهمن كل مسلم بالضعف والانخداع، فالأمر أخطر من ذلك كله، وأهون من ذلك كله أيضاً.
أمين الخولي(100/28)
التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة
للأستاذ فخري أبو السعود
أدخلت الإصلاحات والتغييرات العديدة على أنظمة مدارسنا، ولكنها كانت دائما تدور حول طرق تدريس العلوم ومناهجها، ولم تتجه إلى الناحية الخلقية - كما أشار إليه صاحب المعالي وزير المعارف في تقريره عن التعليم الثانوي - والحقيقة التي لا شبهة فيها أن مدارسنا لا تهتم بغير المواد المدرسية ولا تعمل شيئا في سبيل تربية أخلاق الطلاب.
بل الحقيقة التي يعترف بها الخبير المنصف أن مدارسنا كانت بنظمها سببا في نشر الفوضى الخلقية بين الشبان: لقبولها الطلاب من جميع الطبقات، ووضعها أبناء الطبقات المحترمة بجانب أبناء الطبقة الوضيعة في المدرسة الواحدة بلا تمييز؛ وقد دلت المشاهدات على أن الطالب المهذب يكتسب أخلاق زميله الوضيع التربية ولا يحدث العكس؛ وقد زاد هذا البلاء استفحالا في السنين الأخيرة بإقبال الطبقة السفلى على تعليم أبنائها لتأهيلهم للوظائف واكتظاظ المدارس بطلابها.
مع أن إنجلترا - على عراقتها في الحرية والديمقراطية - مدارس لا تقبل إلا أبناء الطبقات المحترمة التي تستطيع دفع المصروفات العالية، فيظل أبناؤها بمنجى من مخالطة أبناء السوقة، ذلك بان الحرية والديمقراطية يجب ألا تتعارضا مع الأمر الواقع، أو تتجاهلا وجود الطبقات المتفاوتة.
لا تعمل مدارسنا شيئا لتهذيب أخلاق أبنائها مع أننا أحوج من غيرنا إلى التربية الخلقية في مدارسنا: إذ لا يجد ناشئتنا هذه التربية غالبا في بيئة غير بيئة المدرسة: فلا في البيت ولا في الشارع ولا في المجتمع: فالتربية المنزلية عندنا ناقصة، ومعظم الآباء لا يوجهون إلى تربية أبنائهم من وقتهم وعنايتهم ما يجب، وهم يتقادون لحنانهم الأبوي فيسمحون لأبنائهم بكل ما يريدون وإن عارض مصلحتهم وجنى على تنشئتهم؛ وطبقة العامة التي يصادفها الناشئ في غدواته وروحاته فاسدة تعم فيها رذائل الكذب والغش والقحة وجرأة اللسان مما لا مثيل له في بلد راق؛ والحجاب الذي فرضته التقاليد على المرأة يحرم المجتمع من اختلاط الجنسين وهو عامل كبير في تهذيب الخلق وترقيق الطبع وتنمية الذوق وتربية الرجولة الصحيحة.(100/29)
ومصر التي جربت في مراكز الحكم زمرا من أبنائها لا يشك أحد في عظيم ذكائهم وكبير مواهبهم وواسع تعليمهم وثقافتهم، ومع ذلك كانوا عليها سوط عذاب وبثوا فيها فساد الأخلاق، مصر هذه يجب أن تنتبه إلى النقص الجسيم في نظم تربيتها، وأن تعرف جيدا قلة جدوى التعليم بدون التربية الخلقية الصحيحة التي تقوم الطباع وتبعث الاستقامة وتشعر الفرد بمسئوليته أمام ضميره وواجبه نحو مجتمعه ووطنه.
فمدارسنا اليوم تجعل واجبها الأول التربية العقلية، على حين يجب أن تكون التربية الخلقية أول مراميها، وأن يأتي تزويد الناشئ بالعلوم بعد ذلك في المحل الثاني: فتختلف برامج التعليم زيادة ونقصا وتعديلا كما تدعو الحاجة أو تشير التجارب. ووظيفة المدرسة الخلقية هي هي في مكانها الأول، وهي هي الغرض الأسمى من كل تربية وفي كل معهد، وهي عدة الناشئ وكفيلة بالنجاح في حياته مهما زادت معلوماته أو نقصت أو تنوعت.
ومن المسائل المفروغ منها بين المشتغلين بالتربية والتعليم أن التربية الخلقية لا تأتي بالتلقين ولا تكون باستظهار فوائد الفضائل ومضار الرذائل، وإنما العامل الأكبر في تشكيل أخلاق الناشئ وتوجيهها إما إلى الحسنى وإما إلى الخسران، هو الوسط الذي يعيش فيه، والناس الذين يخالطهم في ذلك الوسط، والأعمال التي يزاولها فيه كل يوم؛ فأخلاقنا تنمو نموا غير مقصود ولا متعمد ولا سيما في عهد نشأتنا، وتتشكل بالمحاكاة والاقتداء ومسايرة الغير، فالطفل الناشئ في وسط راق ينشأ فاضلا دون أن تلقى إليه كلمة واحدة في مزايا الفضيلة، والناشئ في بيئة مسمومة يشب دنيئا مهما أسمع من عظات الحكماء، ووضع بين يديه من كتب الفضلاء.
فإذا هيأنا في المدرسة للناشئ جوا نقيا صالحا نمت أخلاقه نقية صالحة دون بذل جهد ما من جانبه أو من جانب المدرس أو إدارة المدرسة؛ ولكن جو مدارسنا ليس من النقاء والصلاح بحيث ينشئ الطلاب تلك النشأة، ومهما فرض المدرس وإدارة المدرسة بعد ذلك من أنظمة وقواعد وعقوبات فعبث ليس وراءه طائل.
فقد تقدم كيف يختلط في المدرسة ابن الأسرة الطيبة بابن الأسرة الوضيعة فتسود الفوضى الخلقية الجو المدرسي، ثم إن ازدحام ساعات المدرسة بالمواد الدراسية يحول دون توثق الحياة الاجتماعية المدرسية، ويجعل الطلاب في حالة من الإرهاق والملال تحفزهم إلى(100/30)
التمرد والإخلال بالنظام وإساءة المسلك كلما لاحت لهم الفرصة لذلك، وكل المواد الدراسية تتطلب منهم إجهاد عقولهم وتقييد أبدانهم، فتنوء عقولهم بالمجهود المتواصل العقيم، وتضيق أبدانهم بالتقييد، ويتجمع نشاطهم الجثماني المكبوح الذي لا يجد منصرفا في وجهة الخير فينصرف إلى ضروب الفساد والعبث بالنظام ومشاكسة الغير والتفكير في أنواع الإثم أو اللهو الفارغ.
ومن هذا تتضح الوسائل التي يجب أن تتذرع بها مدارسنا لتربي أخلاق أبنائها؛ وهي: تنقية الجو الدراسي، ووضع التربية البدنية في مكانها الذي هي جديرة به بجانب التربية العقلية، وتوثيق عرى الحياة الاجتماعية في المدرسة:
(1) فيجب أن تراعى طبقة الطالب الاجتماعية قبل أن يقبل في المدرسة، وأن يكون لهذا شأن في توزيع الطلاب على المدارس بل على الفصول، وتخصيص مدارس في البلدان المختلفة لأبناء الطبقات الممتازة والأسر الطيبة. وليس هذا بدعا: ففضلا عن وجود هذا التفريق في إنجلترا كما سبق كان بمصر ذاتها شيء منه فيما مضى: إذ كانت بعض المدارس كالخديوية والسعيدية تكاد تختص بأبناء الأسر الراقية، ولكن المدارس التي كانت لها هذه الميزة قد فقدتها أخيرا، وصار بعض المصريين يحجم عن إلحاق الأبناء بالمدارس المصرية مخافة أن يختلطوا بمن لا تحسن مخالطتهم ويفقدوا ما شبوا عليه في بيوتهم من طيب العادات والأخلاق.
(2) وأن تختصر برامج التعلم اختصارا كبيرا وتقلل ساعاتها في اليوم المدرسي، ويخصص جانب كبير من الوقت للألعاب الرياضية التي يجب أن يمارسها جميع الطلاب في كل يوم، فإن هذه الألعاب هي أساس كل تربية صحيحة شاملة ترمي إلى تكوين الفرد والمجتمع، ولا نعلم أمة بلغت شأوا كبيرا من العظمة والرقي في ماض ولا حاضر إلا كانت التربية البدنية المكان الأول في تنشئة أبنائها.
فرياضة البدن ضرورية لنموه وصحته، وصاحب الجسم الصحيح أقدر على تلقي العلوم وأداء الأعمال، ونظرته إلى الحياة نظرة تفاؤل وإقدام ورغبة في العمل وعزيمة واعتداد بالنفس، والناشئ الذي ينمو سليم البدن كذلك ينمو سليم النفس مستقيم الطبع متجها إلى الخير يؤثر من أنواع الترويح والاستجمام والسرور ضروب الألعاب الرياضية وصنوف(100/31)
اللهو البريء، ولا تنحصر معظم أفكاره في مسائل الجنس ومرذول العبث كما يرجح أن تنحصر أفكار صاحب الجسم البليد الخامل.
من ذاك ترى أن الألعاب الرياضية هي قوام التربية البدنية والعقلية والخلقية، ويكفي دليلا على فشل طرق التعليم عندنا أن الزمن المخصص في المناهج لهذا العامل الحيوي في التربية هو دون الساعة في الأسبوع، وأن تعليم الرياضة البدنية في مدارسنا منوط بالجنود القدماء، وأنها لا تحسب من المواد الأساسية، وكل أولئك يزيد الطالب استخفافا بها.
(3) كذلك يجب أن يصرف جانب كبير من أوقات المدرسة في الألعاب والأعمال الجمعية والحفلات لشتى المناسبات: من ابتداء العام المدرسي أو انتصافه أو انتهائه أو توزيع الجوائز أو تكريم أبناء المدرسة أو خريجيها أو زوارها أو المحاضرات المشوقة الممتعة: ففي قيام الطلاب بتنظيم هذه الجماعات واشتراكهم فيها واهتمامهم بنجاحها خير تربية لأخلاقهم الاجتماعية، وأحسن تدريب لهم على حسن المسلك بين الجماعة، وأفضل تهذيب لذوقهم العام، وهم بأشد حاجة إلى ذلك: فما يقول مطلع منصف إن مسلك شبابنا المتعلمين في أغلب مجتمعاتهم مما يشرف. فأغلبهم يعوزهم التعقل، وحسن الذوق، والتمييز بين مقام ومقام، وما يقال هنا ويفعل، ومالا يقال أو يفعل هناك؛ وكثير منهم يعجزون عن استشعار الجد ومواصلة الرزانة في أمر من الأمور، وبهم نزعة إلى الهزل لا تقاوم ولا يكاد يطيب لهم مجتمع حتى يهبطوا به إلى قرار بعيد من التبذل والإسفاف.
نعم إن بالمدارس المصرية أنواعا من الجمعيات العلمية والعملية، ولكنها مقصورة على عدد محدود من الطلاب بينما يجب أن تكون شاملة للجميع، ويعد الالتحاق بها أمرا إضافيا على حين يجب أن يكون أساسيا، وما دامت لا تدخل في المنهاج ولا يمتحن في أعمالها الطلاب المرهقون خارجها ببرنامج حافل فإنها لا تجتذب إلا القليلين، وأغلبهم ممن لا يحفلون بالمواد الدراسية وكان يجدر الجمع بين الأمرين.
فبتطهير الوسط المدرسي من أوشاب السوقة، ولإعطاء الرياضة البدنية مقامها اللائق، وخلق الحياة الاجتماعية الجذابة بالمدرسة مكان الحياة المقفرة المنفرة، تهيئ المدرسة الجو النقي الصالح الذي يبعث الطالب على مكارم الأخلاق، ويهديه إلى القدوة الحسنة، ويسموا به إلى احترام النفس والمجتمع، وبذلك تؤدي المدرسة واجبها الأول، وتحقق التربية(100/32)
غرضها الأسمى.
وهذه بعينها هي السنة التي درجت عليها المدارس الإنجليزية من قديم، ولاشك أن المدرسة الإنجليزية تفوق غيرها من المدارس، ولم يبلغ الإنجليز ما بلغوا من العظمة بتزويد أبنائهم بمقدار من المعارف أكبر مما يناله غيرهم، بل بالرياضة البدنية والحياة الاجتماعية المدرسية، وهذه هي وسيلة التربية الخلقية وهي أداة الكفاح والنجاح في الحياة للأفراد والأمم. ومن المأثور المشهور قول ولنجتون إن معركة واترلو كسبت في ملعب كلية إيتون، فهو لم يقل إنها كسبت في حجرات الدراسة أو معاملها، بل في الملعب حيث تخرج الرياضة البدنية جسما سليما وعقلا سليما وخلقا قويما وفردا ينفع نفسه والمجتمع.
الإسكندرية
فخري أبو السعود المدرس بالعباسية الثانوية(100/33)
هراقليوس في المعبد
البطل
للأستاذ المعروف الأرناءوط
(أي صديقي معروف! إنك لتغمر أشخاص عالمك الذي صغت في هذه الرواية البارعة، بشعاع رقيق يحفل بالطيوب واللحون والألوان والصور.
إنك تفيض على كل ما تكتب بركة الحياة والنور، فالأشكال تتكلم، والصور تغني، والأخيلة تتفتح عن ألوان لماحة كالطيف، مفترة كالصباح.
فهنا حياة كاملة لجبل من الناس تنبسط وتأتلق حتى تملأ الأكوان بسعتها وإشراقها.
وهنا الحدائق تتدفق بأنهار كأنهار الجنة تتنهد وتغرد، وتتلفت وتزهى، وتعبق حافاتها بخمائل الحلد وأزاهير النعيم، ثم تذوب في الجو الساهم الهائم أنفاسا مشبوبة بالعطر، لاهبة بالغناء طافحة بالشوق.
فمن أحب أن يشعر بهنائة الفن، ورغادة الأدب فليقرأ (عمر بن الخطاب).
ومن فاته أن يرى إلى جنائن عبقر، وحدائق الشرق المسحورة، ويتسمع إلى حكايات الحب وأناصيص الحرب، وينظر إلى مواكب المجد وكتائب النصر فيلتمسها في هذه الملحمة الكبرى!)
أنور العطار
سرب (هراقليوس) في أنحاء الكنيسة بين العمد والأقواس والحنايا والقناطر والتصاوير والشموع، فكأنه في سروبه طائف ألقت به دنيا الأموات إلى دنيا الناس، وما كان قاهر الفرس وسيد الكتائب الظافرة في أفريقية وأوربة ليستطيع أن يكافح شجونا علقت في نفسه وملكت عليه إحساسه وشعوره، وتلك هي شجون لم يحسر عنها أمام خلصائه وأصفيائه استبقاء لزهوه وكبره، وحرصا على ذلك المجد الذي بلغ نواحيه في عمره الطويل، ولكنه أحب أن يلقي بحزنه وشجوه إلى هذا الليل الغاسق الذي بسط جناحيه على غابة تمور بالصور والدمى والمرمر والبرفير واللآلئ واليواقيت، وقد يكون من الخير لنفسه أن تطفو روحه على هذه المشاهد والاشياء، فكان كلما مر برواق من هذه الأروقة الممتعة هتف الجرح بقلبه وحسه، فترسل في مشيته، وأقبل إلى العمد المرمرية الماثلة فترفق على(100/34)
جذوعها وجعل ينظر إلى أضواء الشموع، ثم إلى هذه الصور التي قبست شحوبها من نفوس عمرت بالألم والتقى والورع، فإذا صدف عن العمد المرمرية ونازعته نفسه إلى الطواف بالأماكن المقدسة، انبسط أمامه فضاء الكنيسة واتسع، وخيل إليه أن الحوائط والجدر تفر منه وتنأى عنه، فما يستطيع لحاقا بها، ولا تستطيع أن تسايره في منازعه فتسكن وتستريح؛ وكان في بعض الأحايين لا يجد معدى من الوقوف أمام هذه الصور الملونة رجاة أن يتعرف إلى أصحابها، فيفتح عينيه ويمد يده إلى مذبح صغير ازينت أطرافه وجنباته بالذهب، ويأتي إلى الصور ويقرأ أسماء الرسل على الضوء، ثم لا تعجبه هذه الأسماء فيرتد عنها في مثل خفة الوميض، ويطرح الشمعة إلى حضيض البيعة، فيخبو نورها، ثم لا يغمه ويحزنه أن يستأنف طوافه في ليلين راعبين: ليل نفسه، وهذا الليل الذي يغشى المعبد!
وربما كان من أحب أمانيه ألا يقول شيئا لأصحاب التصاوير، وقد يكون من أرضى هذه الأماني أن يلقي بدخيلة نفسه إلى المسيح وحده، وذريعته في الحرص على صمته حتى يخلو إلى صورة السيد المسيح أنه ناضل ونافح في سبيله، فأولى للنبي الذي نصره على الوثنية وبارك سلاحه في سوق الوغى أن يفزع إلى الرسول العبقري، وإنما يضيره أن يقص حياته على صور مكان أصحابه من طرازه وعنصره!
ولقد وقف (هراقليوس) بعد إفلاته من القبر المقدس بجوار صخرة قيل إن ملكا من السماء وقف عليها ليتحدث إلى العذراء مريم، فتهافت عليها وتمسح بها، ثم دخل إلى بيعة صغيرة أسماها نصارى القرون العافية (معبد الملائكة)، ثم لم يلبث أن ازور عنها وجاء إلى بيعة محاذية في رحبتها قطعة كبيرة من المرمر الرمادي قيل إن السيد المسيح صعد عليها وتراءى لمريم المجدلية، وعليه لباس جنان يحمل الورد، وكانت البيعة الصغيرة تسبح في ظلام شديد، فثنته الجهمة الراعبة عن شعور الرجل التقي، فجثم مصليا على المرمر وحدق إلى سماء المحراب كأنه يريد أن يتعرف المكان الذي خرج المسيح منه بعد دفنه، ولم يطل مكثه في المحراب، فعافه وغشى المعبد الذي ظهر فيه السيد للعذراء بعد بعثه، فطاف بودائعه طوفة الحاج المنيب، وكانت المصابيح المذهبة الملونة تضيء جوانب المعبد، فرأى هراقليوس على وميضها صورة تمثل المسيح ووالدته، فرق للصورة وابتسم، ولكن(100/35)
ذلك العزاء الذي تمناه لم يخالط نفسه، فجمع ذيول ردائه وخرج من المعبد ليدأب في طوافه، فاستقبلته العمد المرمرية الرفيعة، كأنها خيالات الموتى، فأخافه ما عليها من سعف النخيل وورق الغار، وأنمى مخاوفه احتراق البخور في كل ناحية من نواحي البيعة الكبرى، وإطلال الصور على الحوائط والجدر، وكان يخيل إليه أن حجه قد انتهى، فينبغي له وقد بلغ غايته من زيارة الأماكن الطاهرة أن ينقلب إلى أحراسه الذين أبوا مفارقة أبواب الكنيسة قبل فراغه من حجه، فلما هم أن يخرج لم يستطع أن يتعرف الأبواب، فقد امتد صحن الكنيسة وفاح حتى مائل الحرجة الغبياء، فألقى بنفسه إلى تيه راعب، وبلغ به المطاف محراب القديسة (هيلانة) المائل إلى يساره، فشخص إليه وقرأ اسم هيلانة منقوشا على المرمر بحروف إغريقية، وهو لا يجهل أمر هذه المرأة التي لبست التاج في كنيسة الرسل، وابتعثها شغفها العنيف بقصة حياة المسيح على فراق القصر، فجاءت إلى بيت المقدس لتبحث عن خشبة الصليب، فلما عثرت عليها بالغت في تكريمها، ثم رفعت هذه الكنيسة تخليدا لذكريات تلك الحياة الماجدة!
لألأ الفرح على جبين هراقيلوس فتشاجى ورق، وجعل يستعرض تاريخ تلك المرأة التقية التي أزجاها الورع الشديد العنيف إلى الإيغال في منافحة الوثنية، فأكبر حياتها. ثم فاضل بين هذه الحياة وحياته، فراقه تساوق عجيب في الحياتين، ولذه أن تبدأ المرأة العاقلة أمرها في البحث عن الصليب حتى حصلت عليه، وأن يبدأ هراقيلوس أمره في إرجاع الصليب إلى مكانه الأصيل بعد انتصاره على جيوش ملك الملوك كسرى!
وكانت هذه المفاضلة التي ذهب إليها ساعة وقف إلى جانب المحراب مثارا لذكريات نبيلة في نفسه، فاطمأن البطل المقارع إلى خاتمة حياته، ووثق بقدرته على اجتناء النصر حتى يغيب في رمسه! وما عاد يخيفه هذا البغض الذي يشعر به الناس في الشام وفلسطين ومصر، بل عاد هراقيلوس يخاف أمر هذه الصحراء التي أخرجت الأبطال والمساعير إلى مشارف الشام للثأر بدم الرسول الذي قتله أمير من غسان! ومن أين لهذه الصحراء الغارقة في الرمال، والتي لا يسمع لها نشيد في البلاد الوارفة الظل، حظ هراقيلوس اللامع وجده الساطع؟ وهذا الملك الطويل العريض الذي استعبد الشعوب وأذل الملوك؟ بل من أين لهذه الصحراء الغطشاء السادرة في حر الهاجرة، هذه الأنهار الجارية، وهذه البحار الطاغية،(100/36)
وهذه الشطآن التي لا حد لها ولا انتهاء!
قد تغري الحماسة فرسان الصحراء بالوثوب على القرى والمسالح، ولكن دون وصول هؤلاء الفرسان إلى المدن الضاحكة على ضفاف الأنهر وشواطئ البحار، حمية هؤلاء الملوك الذين مشوا في ركاب قيصر لقتال كسرى في مدائنه! وبسالة الجيش الذي ظفر بأسلاب العدو في جبال الألب وفي سهول مقدونيا، وعلى شواطئ البحر اليوناني!
وماذا يستطيع (فروة بن عمرو) الذي ثار على سيده ومولاه أن يفعل، وفي جيش هراقيلوس قواد ما تزال صدورهم تخفق بتلك الأناشيد التي سمعها العراق وسمعتها فارس، ولا يزال صليلها الراعب يرعد في سمع هذه الدنيا التي لا يرتفع لها علم بجوار علم قيصر!.
لقد همس هراقيلوس باسم فروة، وهو منحدر إلى الهاوية العميقة التي نقرت على جلامدها كنيسة القديسة هيلانة، همس الساخر العابث، ولما جاز السلاليم إلى ذلك المنحدر الأوهد رفع يده إلى الفضاء كأنه يتوعد الفيلارك فروة بن عمرو الجذامي، ثم تضاحك، حتى لقد رن ضحكه في جوف الهاوية وأردف صائحا: (ما أنا بحاجة إلى قتالك أيها الفتى الذي ابتعثته أماني الشباب على الزراية بسيد الجيوش وأمير الجحافل! فمثلك لا يقاتله رجل إلا من طرازه ونوعه، وقد وفقت في العثور على الرجل فاليكه، فأنه الحارث الغساني أمير دمشق وسيأتيك من حيث لم تحذر، ويقاتلك من مأمنك).
جاز قيصر السلاليم في رفق وهوادة، فاستقبلته الظلمة الفاحمة، وارتمت على جبينه الرطوبة، وسرت إلى نفسه عفونة ما كان يستطيع عليها صبرا، ومع هذا كله مضى هراقيلوس لما شاء، ودأب في انحداره حتى انتهى إلى الهاوية، فإذا عليها سحب من ليل صارد، وإذا الرطوبة التي استقبلته على وصيد الباب تستقبله عند كل خطوة، وإذا هو لا يبصر غير بريق الفسيفساء على الحياط والجدر والحنايا، فانكمش وتقاصر وردت إليه هواجسه، وثابت إلى قلبه وساوسه، وامتلأ رأسه بالتهاويل والتصاوير، فاطرح عبقرية الرجل الأريب، وأخذته جنة الرجل السروب، وفكر في الرجوع على عقبيه فما جرؤ على رجعة وشيكة، فقد سالت نفسه على الحياط والجدر، وأنمى مخاوفه بصيص من ضياء يتسرب إلى حضيض البيعة من ثقوب في قبتها السامقة، وقد تسايل على الجدر والحياط(100/37)
فضوءها، فنظر هراقيلوس إليها فإذا عليها تصاوير غاتمة شاحبة تمثل أشخاصا ذوي وجوه كامدة، وقد قعد هؤلاء القرفصاء، وحسروا عن صدورهم فإذا هي قد أكلتها القروح وأثخنتها الجروح، فسال صديدها على أطمار بالية عافية، وبين هؤلاء المناكيد المشائيم فقراء متسولون يغشى وجوههم الناصلة أثر غير يسير من بؤس ويأس، ومن حولهم فتى رائع الجمال، ضاحك الأسارير قد سدر شعوره الشقر على منكبيه حتى ماثل المسيح في ملامحه البارعة؛ ولكنه ضرير لا يبصر ما حوله!
خيل إلى هراقيلوس وهو ينظر إلى هذه التهاويل أنه في مكان يسوده العذاب، فتلطفت نفسه ورجفت أسنانه ووضع يده على عينيه كأنما هو يحاول ألا يرى إلى هذه الأشياء الجاهمة، ثم فكر في الرجوع إلى المعبد، ليلحق برجاله الذين ينتظرون معاده على الأبواب فما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلقد أمالته مخاوفه إلى الإيغال في الطواف فمشى بين صفين متقابلين من أشباح وصور ثم لم يعد في ميسوره أن يدأب في طوافه، فوقف تحت قنطرة المعبد وجعل يستمع لفحام مؤلم ينبعث من صدره.
ليس بين هذه المحاريب التي غصت بها أنحاء كنيسة القبر المقدس ما يماثل محراب القديسة هيلانة في ظلمته وروعته، وفي ذكرياته الحافزة المثيرة، فلقد يستطيع الإنسان أن يمر بالمعابد جميعا وينسل إلى الأروقة جميعا، ويتجسس العمد والتصاوير جميعا فلا يحس خوفا، فإذا ألقت به حظوظه العاثرة إلى معبد القديسة هيلانة بدت له نواحيه وأطرافه صامتة ذاهلة، فإذا تدفق في سيره ألفاه خياليا عاطلا إلا من هذه الأشباح والأطياف الجاثمة على سلاله ودرجاته وعند مداخله، وإلا من هذه التصاوير التي لا تفارق جدره وحياطه، فإذا طاف بهياكله ومنابره لم تتبدل في عينيه هذه الصور التي أبصرها على عمده وحناياه وأقواسه، ثم لا يلبث أن يفر من هذا المكان الراعب الذي يماثل في تهاويله وتصاويره معابد الوثنية.
لم يجد هراقيلوس معدى عن الصلاة فخافت بصوته لعل صلاته تنسيه هذا الضجر الأحمق الذي علق بنفسه، أو لعل هذه الصلاة التي همس بها في الراموس الراعب ترجع به إلى حزمه ومضائه فينقلب على أحلامه وهواجسه، ويجفو هذه العزلة الجاهدة، ويفيء إلى سريه صحيح العقل موفور الذكاء، ولكن الرجل الذي أوفى لنصرانيته وبر بمسيحه ما كان(100/38)
يجد في هذه الصلاة التي رددها أمام التصاوير، ذلك الصفاء الذي كان يشتاقه، وذلك لأن ماضيه مثل له في الراموس النابي، فزحمته طيوفه وأشباحه، وخرجت على فمه أسماء معاركه وملاحمه، وانفلتت من صدره ذكريات مخازيه ومساويه، فوازن بين انتصاره على الوثنية وبين إيغاله في تنكيد أبناء الشيع النصرانية، فرجحت كفة رذائله على كفة فضائله، فتشاجى ورق وهام على وجهه في فضاء المعبد حتى بلغ هيكله المرمري، فوقف خياله كأنما هو يريد أن يعترف بذنبه، أو كأنما هو ينزع إلى إلقاء جرائمه في هذا المكان المخوف، فذكر أمام الهيكل اسم: (مارتينا) زوجه، وقد نهاه البطريرك (سرجيوس) عن مخالطتها، فأبى ذلك مسايرة لميول قلبه، ثم تزوجها وألبسها لباس القياصرة ومشى بها إلى كنيسة أيا صوفيا من غير أن يفطن إلى عظيم ذنبه عند ربه.
وكان كلما طافت به هذه الذكر الشجية لا يمنع عينيه البكاء حتى لقد استفاض أنينه في أنحاء المعبد، فاستمعت لها التصاوير ووعتها السدفة، ثم غشيته ذهلة قاتلة، فجعل يهذي هذيانا بليغا، وانكفأ يخلط ماضيه بحاضره، وقذف فمه أسماء ضحاياه، وبين هذه الأسماء التي لا تحصى اسم فتاة وطئ قيصر عفافها في ليلة عاصفة بالبروق والرعود، وأرادها على فراق وطنها فخرجت منه إلى ربوع الشام وفي نفسها المحطمة من الذكر الراعبة ما ليس في كتاب.
وكان هذا الخوف الذي تولاه ساعة نظر إلى صورة الأعمى مبعث حيرته ومصدر وساوسه، فسأل نفسه عن هذا الجزع الذي غشيها وهو الزعيم الكمي الذي جاز بفرسانه شواهق إنطاكية وسهولها ليلحق بجيوش (كسرى) عند (تدمر) فتنة الصحارى، فلما فرت جيوش كسرى أمام كتائبه ثارت حميته واستأنف زحفه في أرض محصبة واعرة، حتى لقى كسرى عند دجلة فنهد إلى مقارعته وحمله عار الانكسار، ولحق به إلى المدائن وأقسره على إرجاع الصليب الذي حمله ملك الملوك من بيت المقدس.
وليس هذا كل ما فكر فيه، بل لقد ذهب في تفكيره إلى أبعد مدى، فتمثل دخوله إلى هياكل الوثنية في موكب ضاحك ينس تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد (جوبيتير) و (منرفا) فوازن بينها وبين هذا الفتور الذي استقبلته به معابد النصرانية! وعيناه لا تزالان تنظران إلى صورة الفتى الأشقر الذي لا يبصر!(100/39)
(البقية في العدد القادم)
معروف الأرناءوط
-(100/40)
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ويجب أن نضيف إلى تلك الأدلة على أن حب أبي العتاهية لعتبة جارية المهدي لم يكن حبا صادقا، دليلا آخر هو ذلك الشكل الذي ابتدأ به حبه لها، وحب صاحبه لخالصة صاحبتها، فإن وقوف كل واحد منهما في الطريق لتمر عليه أي امرأة كانت، فيتفق أن تمر عليهما هاتان الجاريتان، فيقول أحدهما قد عشقت عتبة، ويقول الآخر قد عشقت خالصة، لا يدل إلا على أنهما كانا يريدان حبا كيفما اتفق، حبا يتخذانه وسيلة للظهور والمران على الشعر، لا حبا صادقا يملك عليهما حياتيهما وشعريهما، كما ملك ذلك على الشعراء العشاق قبلهما.
ولم يكتف أبو العتاهية باتخاذ عتبة وسيلة له إلى الاتصال بالمهدي، بل اتصل أيضاً بيزيد بن منصور خال المهدي، وكان بارا بأبي العتاهية، كثيرا فضله عليه، وكان أبو العتاهية منه في منعة وحصن حصين، مع كثرة ما يدفعه إليه، ويمنعه منه من المكاره، ومن أجله كان أبو العتاهية يتعصب لليمانية أخوال المهدي، ويمدحهم فيما يمدحه به من شعره، ومن ذلك قوله:
سُقيت الغيثَ عليك نورا ... فنعم محلَّةُ الملك الهمام
لقد نشر الإله عليك نوراً ... وخفَّك بالملائكة الكرام
سأشكر نعمة المهديَّ حتى ... تدور عليَّ دائرة الْحِمَام
له بيتان، بيتٌ تُبَّعِيُّ ... وبيت حَلَّ بالبلد الحرام
وقد اتصلت مدائحه بالمهدي فقربه منه، وعظم مقامه في دولته، ونال من جوائزه ما لم ينله غيره، وكان الأمر يصل بينهما أحيانا إلى التبسط في أوقات اللهو إلى حد تسقط في الكلفة، وينسى الفارق بين المهدي وبينه، ومن ذلك أنه خرج معه يوما إلى الصيد في بعض من حاشيته، فوقعوا منه على شيء كثير، وتفرقوا في طلبه، وأخذ المهدي في طريق غير طريقهم وكان معه أبو العتاهية، فعرض لهم واد فسيح، وتغيمت السماء وبدأت تمطر، فتحيرا في أمرهما، وأشرفا على الوادي، فإذا فيه ملاح يعبر الناس، فلجأ إليه وسألاه عن الطريق، فجعل يضعف رأيهما، ويعجزهما في بذلهما أنفسهما في ذلك الغيم للصيد؛ ثم ادخلهما كوخا له، وكاد المهدي يموت بردا، فقال له الملاح: أغطيك بجبتي هذه الصوف؟(100/41)
قال: نعم، فغطاه بها فتماسك قليلا ونام، فافتقده غلمانه، وتبعوا أثره حتى أتوا إليه، فلما رأى الملاح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب، وتبادر الغلمان فنحوا الجبة عنه، وألقوا عليه الخز والوشى، فلما انتبه قال لأبي العتاهية: ويحك ما فعل الملاح فقد والله وجب حقه علينا، فقال: هرب والله خوفا من قبح ما خاطبنا به، فقال إنا لله، والله لقد أردت أن أغنيه، وبأي شيء خاطبنا؟ نحن والله مستحقون لأقبح مما خاطبنا به، بحياتي عليك إلا ما هجوتني، فقال: يا أمير المؤمنين كيف تطيب نفسي بأن أهجوك، فقال: والله لتفعلن فإني ضعيف الرأي مغرم بالصيد. فقال:
يا لابس الوشى على ثوبه ... ما أقبح الأشيب في الراح
فقال له زدني بحياتي فقال:
لو شئت أيضاً جُلتَ في خامة ... وفي وشاحين وأوضاح
فقال له: ويلك هذا معنى سوء يرويه عنك الناس وأنا أستأهل، زدني شيئا آخر. فقال: أخاف أن تغضب، فقال لا والله، فقال:
كم من عظيم القدر في نفسه ... قد نام في جُبةِ ملاَّح
وهذه حادثة أخرى له مع المهدي تدلنا على أن اتصاله به لم يكن اتصال الشاعر المستجدي الخانع، بل اتصال الشاعر الذي يعرف لنفسه قدرها، فإذا رأى شيئا أمامه من ممدوحه لا يرضى عنه، نسى فيه ماله وجوائزه، ولم يذهب فيه معه على ما يرضى هواه، بل يذهب فيه على ما يرضى نفسه هو، وإن كان يتلطف في ذلك بقدر ما تسمح به ظروف عصره في مخاطبة الملوك، وتهدئة ثائرتهم عند غضبهم.
دخل على المهدي وزيره أبو عبد الله، وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه، وأبو العتاهية حاضر مجلسه، فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه، ثم أمر به فجر برجله وحبس، ثم أطرق المهدي طويلا فلما سكن أنشده أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كبرت عليه
تهين المكرمين لها بصُغر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية: أحسنت، فقام أبو العتاهية ثم قال: والله يا أمير المؤمنين(100/42)
ما رأيت أحدا أشد إكراما للدنيا، ولا أصون لها، ولا أشح عليها، من هذا الذي جر برجله الساعة؛ ولقد دخلت إلى أمي المؤمنين، ودخل هو، وهو أعز الناس، فما برحت حتى رأيته أذل الناس، ولو رضى من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت. فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضى عنه، فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية.
فإذا قيل لنا كيف صار الفتى بائع الجرار إلى هذه المنزلة من علو النفس، بحيث يسمو ذلك السمو على وزير المهدي، إذا بدا للناظر غريبا أن ينقلب هذا الشاعر الماجن ذلك الانقلاب الذي يتنافى مع ماضيه كل المنافاة، فإن هذا لا يجعلنا نتعجل درس هذا الشاعر العظيم، ولا بد أن ننتظر ذلك الإرهاص إلى غايته، ونمضي في درسه مرحلة مرحلة.
ومن مدائحه في المهدي تلك القصيدة التي مدحه بها أمام بشار وأشجع السلمي وغيرهما من الشعراء، وقد إذن لهم المهدي فجلسوا وسكت أهل المجلس، فسمع بشار حسا، فقال لأشجع: من هذا؟ فقال أبو العتاهية، فقال: لا جزي الله خيرا من جمعنا معه، ثم أمره المهدي فأنشد:
ألا ما لسيدتي ما لها ... أدَلاَّ فأحمل أدلالها
وإلا ففيمَ تجنَّت وما ... جنْيتُ سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما ... م قد أسكن الحب سربالها
مشت بين حور قصار الخطى ... تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها ... وأتعب باللوم عذالها
فقال بشار لأشجع: ويحك يا أخا سليم! رأيت أحر من هذا؟ ينشد مثل هذا الشعر في هذا الموضع! حتى بلغ قوله:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلو ... ب لما قبل الله أعمالها
فقال بشار: أنظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي؟
والناظر في هذه القصيدة يرى أبا العتاهية إلى هذا العهد يبتدئ مدائحه بالنسيب على(100/43)
عادتهم في ذلك، ولكنه لا ينسب بليلى ولا هند كما كان ينسب الشعراء قبله، وإنما ينسب بالجواري البغداديات الحسان، ليجاري في ذلك عصره الذي يعيش فيه، ولا يجمد على ما كان يجمد عليه غيره، ولم يكن مع هذا يعني بتطويل النسيب أمام المديح حتى يستفرغ فيه وسعه، بل يلم به إلماما، ثم يدخل في مقصده. قال صاحب الأغاني حدثنا الصولي، قال حدثنا الغلابي، قال حدثنا عبد الله بن الضحاك أن عمرو بن العلاء مولى عمرو بن حريث صاحب المهدي كان ممدحاً، فمدحه أبو العتاهية، فأمر له بسبعين ألف درهم، فأنكر ذلك بعض الشعراء وقال: كيف فعل هذا بهذا الكوفي! وأي شيء مقدار شعره؟ فبلغه ذلك، فأحضر الرجل وقال له: والله إن الواحد منكم ليدور على المعنى فلا يصيبه، ويتعاطاه فلا يحسنه، حتى يشبب بخمسين بيتا، ثم يمدحنا ببعضها، وهذا كأن المعاني تجمع له، مدحني فقصر التشبيب وقال:
إني أمنت من الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الوجوه نعالا
عبد المتعال الصعيدي(100/44)
24 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
فلو لاحظ شخص أن (أ) أطول من (ب) بمقدار رأس، وأن ب أصغر بمقدار رأس، فسترفض أن تسلم له بهذا، وستزعم بقوة أنك لا تعني إلا أن الأكبر أكبر بالكبر، وبسببه، وأن الأصغر ليس أصغر إلا بالصغر، وبسببه، وهكذا تجنب نفسك خطر القول بأن الأكبر أكبر، وأن الأصغر أصغر، بمقياس الرأس، الذي هو هو في كلتا الحالتين، وستجنب نفسك كذلك ما في افتراض أن الرجل الأكبر أكبر بسبب الرأس الذي هو صغير، من سخف فظيع. ألم تكن لتخشى ذلك؟
فقال سيبيس ضاحكا: كنت لأخشاه حقا
وكنت تخشى، بنفس الطريقة، أن تقول إن عشرة تزيد على ثمانية بأثنين، وبسببها، ولكنك كنت تقول إنها تزيد عليها بالعدد، وبسببه، أو أن ذراعين يزيدان على ذراع واحد بنصف بل هما يزيدان عليه بالكبر - ذلك ما كنت تقوله لأن الخطر بذاته موجود في كلتا الحالتين.
قال: جد صحيح
- ثم ألم تكن لتحذر من التأكيد بأن إضافة واحد إلى واحد، أو قسمة واحد، هي سبب اثنين، وكنت لتقسم أمام الملأ بأنك لا تدري طريقة يجيء بها أي شخص إلى الوجود، إلا مشاطرته لجوهره الأصلي، فينتج أن سبب الاثنين الأوحد هو - في حدود ما تعلمه أنت - مشاطرة الأثنينية، فهذه المشاطرة هي طريقة عمل أثنين كما أن مشاطرة الواحد هي طريقة عمل الواحد؛ وكنت ستقول إني مطرح ألغاز القسمة والإضافة جانبا - فقد تجيب عنها رؤوس أبلغ من رأسي حكمة، وما دمت كما أنا عديم الخبرة، أفزع من ظلي كما يذهب المثل، فلست أقوى على أن أتناول بالهدم مبدأ ذا أساس مكين. فإن هاجمك في ذلك مهاجم، لم تحفل به، أو أجبته حتى ترى إن كانت النتائج الناجمة متفقا بعضها مع بعض أولا، فإن طلب إليك بعد ذلك أن تتناول هذا المبدأ بالشرح، مضيت تزعم مبدأ أسمي، فأسمى المبادئ(100/45)
السامية، حتى تجد لنفسك مكمنا، ولكنك لم تكن لتخلط في تدليلك بين المبدأ والنتائج، كما فعل الأرستيون على الأقل إذا أردت أن تستكشف الوجود الحقيقي. لا لأن هذا الخلط كان سيتبين لهؤلاء الذين لا يعنيهم الأمر إطلاقاً ولا يفكرون فيه، فلديهم من الذكاء ما يكفي أن يجعلهم يغتبطون بأنفسهم غبطة عظيمة، مهما يكن ما تحويه أفكارهم من عناء كبير، ولكني أعتقد أنك فاعل كما أقول إن كنت فيلسوفا.
فقال سيمياس وسيبيس في صوت واحد: إن ما تقوله لحق بالغ اشكراتس - نعم يا فيدون، وليس يدهشني منهما هذا التسليم، فكل إنسان له من الفكر أدنى حدوده ليقر بما في تدليل سقراط من وضوح عجيب.
فيدون - يقينا يا اشكراتس، بلى، وهو إحساسنا أيضاً، نحن الذين نصغي الآن لروايتك ولم نكن من الرفاق، ولكن ما الذي أعقب هذا؟
فيدون - بعد أن سلموا بهذا كله، ووافقوا على وجود المثل، وعلى مساهمة سائر الأشياء فيها، تلك الأشياء التي اشتقت أسماؤها من تلك المثل، قال سقراط ما يأتي، إن كنت مصيبا فيما أتذكر:
تلك هي طريقتك في الحديث، ومع ذلك فحين تقول إن سمياس أكبر من سقراط وأصغر من فيدون، ألست بذلك تضيف إلى سمياس الكبر والصغر معا؟
- نعم إني أفعل ذلك
- ولكنك على رغم هذا تسلم بأن سمياس لا يزيد في الحقيقة عن سقراط بسبب أنه سمياس، كما قد يدل عليه ظاهر العبارة، ولكنه يزيد عليه بسبب ما له من حجم. فليس يزيد سمياس على سقراط لأنه سمياس أكثر مما يزيد عليه لأن سقراط هو سقراط، إنما بسبب الزيادة أن فيه صغرا حينما يقرن إلى كبر سمياس؟
- حقاً
- وإذا كان فيدون يربي عليه حجما، فليس ذلك لأن فيدون هو فيدون، بل سببه أن في فيدون كبرا بالنسبة إلى سمياس الذي هو أصغر بالمقارنة؟
- هذا حق
- وإن فسمياس يقال عنه إنه كبير كما يقال عنه إنه صغير لأنه في موقف وسط بينهما،(100/46)
فهو يزيد بكبره على صغر أحدهما، وهو يسمح لكبر الآخر أن يزيد على صغره. ثم أضاف ضاحكا: ما أشبهني فيما أقول بكتاب، ولكني أعتقد أن ما أقوله حق
فوافق سمياس على هذا
- والسبب في هذا القول مني هو رغبتي في أن تروا معي أنه ليس الكبر المطلق وحده هو الذي يستحيل عليه أن يكون كبيرا وصغيرا في آن واحد، بل إن ما فينا من كبر، وكذلك ما في المحسات، لن يقبل كذلك الصغير بتاتا، ولن يرضى أن يربي عليه، وسيحدث بدلا من هذا أحد شيئين - إما أن الأكبر سيزول أو يتراجع أمام ضده، وهو الأصغر، أو أنه سيتلاشى بازدياد الأصغر، لكنه لو قبل أو سلم بالصغر فلن يتغير ذلك منه، كما أني لا أزال كما كنت تماما الشخص الصغير بذاته مع كوني قد تلقيت الصغير وقبلته حينما قرنت إلى سمياس. فكما أنه يستحيل قطعا على مثال الكبير أن يتنازل ليكون أو ليصير صغيرا، كما يستحيل على أي ضد آخر كما هو، أن يكون أو يصير ضد نفسه ابدا، فهو إما أن يزول أو يمحى أثناء التغير
أجاب سيبيس: هذا عين ما أرتئيه
فلما أن سمع ذلك أحد الرفاق، ولست أذكر على التحقيق من هو، قال: بحق السماء، أليس هذا هو النقيض تماما لما سبق التسليم به - ذلك أن من الأكبر جاء الأصغر، ومن الأصغر جاء الأكبر، وإن الأضداد إنما تولدت من أضداد، فأحسبكم الآن منكرين هذا إنكارا قاطعا.
فمال سقراط نحو المتكلم برأسه منصتا، ثم قال: تعجبني جرأتك في تذكيرنا بهذا، ولكنك لم تلاحظ أن هنالك اختلافا بين الحالتين، فقد كنا نتحدث فيما سلف عن الأضداد في المحسوسات، أما الآن فحديثنا عن الضد في الجوهر الذي يستحيل عليه - كما هو مقطوع به - أن يكون على خلاف مع نفسه سواء أكان هذا الضد فينا أو في الطبيعة. إذن فقد كنا يا صديقي نتحدث عن الأشياء التي تكون الأضداد فطرية فيها، والتي سميت تبعا لها، أما الآن فنحن إنما نتكلم عن الأضداد التي تكون فطرية فيها (في الأشياء) والتي تخلع اسمها عليها، فلن تقبل قط هذه الأَضداد الجوهرية، فيما نعتقد، التوليد أو الخروج بعضها من بعض. وهنا التفت إلى سيبيس وقال: هل أدخل اعتراض صاحبنا شيئا من الحيرة في نفسك يا سيبيس؟(100/47)
فأجاب سيبيس: لم أشعر بذلك، ولكني لا أنكر أني أوشك أن أحس الارتباك
فقال سقراط: إذن فنحن بعد هذا كله متفقون على أن الضد لن يكون مضادا لنفسه بأية حال؟
فأجاب: إننا في هذا على اتفاق تام
- ولكن اسمح لي أن أطلب إليك مرة ثانية أن تنظر إلى المسألة من وجهة أخرى، لترى إن كنت متفقا معي: أهنالك شيء تسميه بالحرارة وشيء آخر تطلق عليه اسم البرودة؟
- يقينا
- ولكن أهما النار والثلج ذاتهما؟
- كلا، بغير شك
- ليست الحرارة هي النار، ولا البرودة هي الثلج؟
- لا
- ولكنك لن تتردد في التسليم بأنه إذ يكون الثلج تحت تأثير الحرارة، كما سبق القول، فلن يلبثا ثلجا وحرارة، بل كلما ازدادت الحرارة، تراجع الثلج أو أدركه الفناء؟
أجاب: جد صحيح
(يتبع)
زكي نجيب محمود(100/48)
أرض النبوة
مهداة إلى الصديق النابغة علي الطنطاوي بمناسبة عودته من
الديار المقدسة
للسيد أمجد الطرابلسي
حَدِّثْ رِباعَكَ عن أفياءِ عدنان ... يا شِبْلَ غَسّانَ هِجْ أشبالَ غسانِ
هاتِ الأحاديث عنها فَهْيَ شيقَةٌ ... تَشفى بها النفسُ من سُقْمٍ وأحزانِ
أرضُ النبوةِ ماذا في أباطِحِها ... ماذا أجَدَّ بأهليها الجديدان
ومبعثُ النورِ هل تدوي كَأمْس بهِ ... آياتُ (أحمدُ) أو أشعارُ (حسّان)
ومَهِبطُ الوحيِ، والذكرى مُواسِيَةُ ... ماذا تُحَدِّثُ عن وَحيِ وفُرْقان!
حَدِّثْ عنِ المُلْكِ في أرضِ النبيِّ وعنْ ... عَرْشِ هناكَ وريفِ الظلِّ فَيْنان
تَهْفو الملائِكُ فَرْحى حول سُدَّتِهِ ... مثلَ الحمائِمِ تهفو فوق أفنان
حَفتْ به مُهَجُ الإسلام تَكْلؤهُ ... ورفْرَفَتْ فوقَهُ آمالُ عدنان
حدث عن القَبْرِ! هل أشجَتهُ مائجِةً ... أنباءُ (جِلَّقَ) أو أرزاءُ (تَطْوان)
لهفي عليهِ يُقِضُّ اليومَ مضْجَعَهُ ... ما يُرهقُ العُرْبَ من بَغْيٍ وعدوان
مَهْدَ النبي! يكادُ الشوق يَحملُني ... إليك مستيِقظا أو غير يَقظان
ماذا أُرددُ عن وجدٍ يساوِرُني ... قلبي لهيفُ وَطَرفي جِدُّ هَتّان
أرضُ عليها جرى الإسلامُ مندفِقاً ... ليغسل الأرضَ من رِجْسٍ وأدران
أهفو إليها لعلَّ العيشَ يَهْنَأُ لي ... ما بين أهلي وأرحامي وإخواني
مُلَّ المُقامُ بأرْضِ الشام في زمَنٍ ... طغى به الجوْرُ فيها شَرَّ طُغْيان
عفا بها كلُّ مَجْدٍ بعد عزَّتِها ... واندكَّ لْلعُرْبِ فيها كلُّ سلطان
لا الزهرُ في (نَيْرَبَيْهاَ) باسِمُ أرِجُ ... ولا البَلابِلُ تَشْدُو فَوْقَ (كيوان)
يا من رأى (تَرَدى) والحزنُ يُثقِله ... يجرى مع الدهرِ شَأْنَ المُتْعبِ الواني
أسْوانُ تَغْشاهُ سُحْبُ الهمِّ داجِيَةً ... فيقطعُ الليل في بَثٍّ وأشجان
تمشي المُسوخُ على جنبيهِ معجَبَةً! ... يا لَلْبَهاليلِ من فِهْرٍ وعدنانِ(100/49)
يا شامُ لولا ضحايا جِدُّ غاليَةٍ ... زانَتْ بِطاحَكِ من شِيبٍ وشُبَّان
لولا ثَرًى طَيِّبُ كالمِسكِ تُرْبتُهُ ... جرتْ عليهِ دماهُمْ مثلَ غُدْران
لَسِرتُ عنكِ إلى أرضِ النبي هوًى ... أليس كلُّ بلادِ العُرْبِ أوطاني؟
لكن أأنسى بلادي وَهْيَ داميةُ ... تَئِنُّ من عَسفِ أعلاجٍ وَذؤبان
حسبي فَخارا وحسبي عِزّةً وَطَنُ ... في كلِّ شِبْرٍ بهِ أشلاءُ قُربان
يا فتَيةَ العُرْب والإسلامِ قاطِبَةً ... كونوا على النصْرِ طُرا خير أعوان
دعوا التخاذُلَ إنّا كلَّنا عرَبُ ... هل نابنا منه إلا كلُّ خذلان؟
ماذا تُرَجُّونَ من دُنياكُمُ فِرَقاً ... مصَفًّدينَ بها أشْبَاهَ عبدان
تِلْكُمْ جزيرتُكُم يا عُرْبُ باسِمةُ ... ترْنو إليكمْ وتحنو أي تحنان
سيروا إليها نُعيدُ البَعثَ ثانيةً ... ونملأَُ الأرضَ من عدلٍ وعُمْران
أليس مِنّا الأولى قادوا جَحَافِلَهُمْ ... وأخضعوا الأرضَ من فُرْسٍ ورومان
مشوْا لنصرِهُم والأرضُ تحتهمُ ... فرحى تمايَلُ تِيهاً مثل نَشوان
ساسوا الأنامَ بعدلٍ غير ذي وهَنٍ ... وأنطَقوا الدهرَ من بِرٍ وإحسان
شادوا على جبْهِة الدنيا عروشهمُ ... ولو أرادوا بَنْوها فوقَ كيوان
تباركَ المُلْكُ في (الفَيْحاَءِ) منبسطاً ... لا الملك دامَ ولا أسادُ مروانِ
تباركَ العرشُ في (بغْدانَ) مزدَهِراً ... يا أرضُ أين تولَّى عرشُ (بغدان)
يا ليت شعري أطيْفُ ذاك مرَّ علي ... وجهِ البسيطةِ أم أحلامُ وَسُناَن؟!
أرضَ النُبُوّة، والأيامُ جاهِمَةُ ... ماذا أُردَّدُ من بثِّي وأشجاني
دارَ الزمانُ، وللأزمانِ دورتُها، ... والدهرُ - مُذْ كان هذا الدهر - يومان
فلا (الوليدُ) وعرشُ الشامِ مبتسم ... يشيدُ لْلمجْدِ فيها خيرَ بٌنيان
ولا (الرشيدُ) على بغدانَ في يدهِ ... دهرٌ يُصرَّفُهُ كالموثَقِ العاني
يا دهرُ ويحَكَ! رُدَّ العرشَ ثانيةً ... فكم عروشٍ مَلَكناها وتيجان
لنا نفوسٌ أبيّاتٌ تُهَيَّجُها ... ذكرى جدودٍ كنُورِ الشمس غُران
يشُوقُها المجدُ وضّاَء بقُرطُبةٍ ... والعزّ منبسطاً في ظِلّ (بْغدان)
أراجعٌ أنت ذَيّاكَ الزمانِ لنا ... أم لا رُجوعَ لأيام وأزْمان(100/50)
سنرجع المجدَ أو نقضي بساحتِهِ ... ذُلّ الحياةِ وطعمُ الموتِ سِيّان
دمشق
أمجد الطرابلسي(100/51)
الحياة
للأستاذ محمود غنيم
حرةٌ لا تزور إلا لِماما ... تيّمَ الشيخَ حبُّها والغلاما
تيم النملَ حبُّها فتولّى ... يطلب الماَء مثلَنا والحطاما
كشرت عن أنيابها لِلْبرايا ... فرأوْا ذلك القطوبَ ابتساما
كم سقتهم من الجفاء زعافاً ... وسقَوْها من الوفاء مداما
قد يراها السعيد حلماً لذيذاً ... ويراها الشقي موتاً زؤاما
أنا لولا الحياة ما بت أخشى ... شبح الموت أو أهاب السقاما
قال بالجنّ معشرٌ وأرها ... وحدها جنَّا يلبس الأجساما
أوليست تحزُّ لحم البرايا ... مثلَ حزّ المُدى وتبرى العظاما
قسما لو أَنَّ الأجنة تدري ... كنهها لم تفارق الأرحاما
أيهذا الجمادُ حسبُك ألا ... تصحبَ الشيب أو تذوقَ الحِماما
صاح أن الحياة لغز إذا ما ... زدتُه بحثاً زادني إبهاما
ليت شعري ماذا تكون، أحسَّا ... أم خيالاً ويقظة أم مناما؟
أم طريقاً إلى الفناء قصيرا ... قد ركبنا لطَّيه الأياما؟
كل حي له كتابٌ، ولكن ... أعجم اللهُ خطَّه إعجاما
لو عرفنا متى تكون المنايا ... لانتظرناها مذ بلغنا الفطاما
أيها العلم كم هتكت حجابا ... فأمط عن سر الحياة اللثاما
تلك آثارها إذا عرضت لي ... ألهمتني وجودها إلهاما
فإذا رمتُ وصفها بلساني ... ألجمتني فلا أحير كلاما
هي كالكهرباء لستُ أراها ... وأرى ضوءها يشق الظلاما
هي من روح الله وهو خفيٌّ ... ذو صفاتٍ دلت عليه الأناما
يا ابنة الشمس وجهُ أمك بادٍ ... فعلام احتجبتِ أنت علاما؟
عرف الناس فضل أمك قِدْما ... فتلقّوْها سجَّداً وقياما
حدثينا كيف ابتدأتِ على الأر ... ض وحرّكتِ هذه الأجراما؟(100/52)
وأرينا متى ظهرت عليها ... وإلى م البقاء فيها إلى ما؟
أخذ الناس في التكاتف حتى ... باتت الأرض وهو تشكو الزحاما
ليث شعري أضل (دَرْون) بحثاً ... حين آخى الوحوش والأنعاما
قال قوم هلا شهدنا ذبابا ... في الحياة ارتقى فصار حَماما
وغلا آخرون فيه فقالوا ... كان في مذهب النشوء إماما
قد عرفنا أبا الأنام جميعا ... فهل الطير والوحوش يتامَى؟
وهل الجن تنتمي كالبرايا ... لأبٍ يُدعى يافثاً أو حاما
سائل البحر كيف أنبت لحما ... من أواذيَّة وسوّى عظاما
وتأملْ بين الحقول نباتا ... سوت الأرض سوقَه فاستقاما
علَّ من بارد النمير شرابا ... وتغذى من الهواء طعاما
ولقد يولد النباتُ ويفنى ... ويعاني مثل الأنام سقاما
حكمة تملأ النفوس يقينا ... بإله يدير هذا النظاما
سائل الشمس عن بنيها لماذا ... كانت الأرض وحدها مِتآما
ليت شعري ألْلكواكب نسل ... يشبه الناس أم تُراها عِقاما
ليتني أركب الرياح إلى الأف ... لاك أو أمتطي إليها الغماما
أيُّهذا الأثيرُ إن كان في المر ... يخ حيٌّ فأحمل إليه السلاما
حيَّ أهليه إن مررت عليهم ... إن للجار حرمة وذماما
محمود غنيم(100/53)
القصص
من أساطير الإغريق
فينوس ربة الجمال والحب
مولدها، نشأتها، إحدى مغامراتها الغرامية
للأستاذ دريني خشبة
تعالوا يا أعزائي المحبين نسمع أغنية الجمال والحب، من ربة الجمال والحب، بارزة من الثبج، فوق الموجة الكبيرة وسط اليم.
لقد كانت السماء زرقاء صافية، ولكنها لطفت ورقت، وتضاعف صفاؤها، عندما ذاع في ملكوتها النبأ العظيم، وبشرت بمولد فينوس!
ابتسمي أيتها الشفاه الحزينة، وانبسطي أيتها الأسارير المقطبة، وأثلجي يا صدور المكلومين!
وأنت أيها القلب الملتاع قف خفقانك، وأنت أيها الطرف الساهم كفكف عبرتك، ويا نفوس العاشقين اطربي، فقدت ولدت فينوس!
برزت عرائس البحار يصلين في بكرة الصباح لأبوللو، فما راعهن إلا الطفلة المعبودة تخرج من الزبد الأبيض كما تخرج من الصدفة لؤلؤة غالية؛ وتتهادى على رؤوس الموج كطيف نوراني فيسجد الماء تحت قدميها الصغيرتين، متمما بصلاة الحب لربة الحب، مرتلا أنشودة الجمال لربة الجمال!
وافتر فم الدنيا عن ابتسامة سعيدة حلوة، يحيي الفم السعيد الحلو، الذي سيملأ قلوب العالمين رضى وسعادة!
وأشرقت ذكاء حمل أبوللو فلمح السوسنة الوردية تخطر على لازورد الماء، فترك عربته المطهمة بالذهب تعرج وحدها في القبة الزرقاء، وانثنى هو يزف البشري إلى آلهة الأولمب!
وهرعت عرائس الماء إلى فينوس الطفلة فرقصن وزغردن وتغنين وحملنها إلى قصورهن المرجانية في الأعماق، حيث أرضعنها لبان الهوى، ولقنها كلمات المحبة، ونشأنها على(100/54)
أساليب الصبابة والغرام، حتى أينعت وترعرت، فأزمعن المسير بها إلى الأولمب حيث يتلقاها الآلهة، فتأخذ مكانها بينهم. . .
وكم كان جميلا رائعا أن يصطف التريتون والأوسيانيد والنيريد من حولها؛ وكم كان جميلا رائعا رقص التريتون على صفحة الماء الجياش بالزبد، وتغريد الأوسيانيد كأنهن بلابل الروض الأخضر ترسل في هدير المحيط شدوها فيحور غناء كله!
وكم كان جميلا رائعا من النيريد أن يتضاحكن مترنمات في الحلقة الأولى حول فينوس فتستجيب السماء لهن، ويميد البحر من طرب بهن!
كم كان جميلا رائعا أن يخب موكب الحب فوق الماء حتى يكون على فراسخ من قبرص معدودات، فينثني الجميع إلا فينوس التي يهدهدها زفيروس الطيب، رب النسيم الجنوبي، حتى يصل بها إلى الشاطئ، حيث يكون في انتظارها بنات ثيميز ربة العدالة، وبنات يورينوم ربات الفضيلة والخلق الحسن، فيتقدمن إلى ربة الحب، فيصلين لها، ويجففن شعرها الذهبي المتهدل فوق كتفيها العاجيتين؛ ثم تدلف بينهن، لفاء هيفاء غراء غيداء مهتزة الجيد وضاحة الجبين، كلما خطت خطوة قبلت الأرض قدميها المعروقتين، وكلما مرت ببلقع اهتز وربا، واعشوشب وأزهر، حتى يلقاها آلهة الحب الأربعة، رب الشهوة هيميروس، ورب الغزل سواديلا، ورب الألفة بوثوس، وهيلين رب الزواج؛ فينخرطون في الجماعة، ويهطعون إلى الأولمب!
وتكون الأنباء قد تواترت عن قدوم الربة الجديدة، فيصنع لها عرش عتيد ما تكاد آخر ياقوتة تركب فيه حتى تصل فينوس فجأة فتستوي عليه، وتتصارع أبصار الآلهة العطشى حول جسمها الخصب، المترع بالمفاتن، وتتلمظ الشفاه الجائعة تود لو تفترس هذا الفم الأحوى الجميل، وتسري كهرباء الاشتهاء في الأذرع القوية، والصدور الهرقلية، تحلم بضم الجيد الناهد، ومخاصرة الوسط المياس، و. . . تثور الرغائب، وتفور الشهوات. . . . وفينوس ممتلئة كبرياء. . . كأنها العنقاء. . . ترسل اللمحة عن طرفها الساجي فتصرع هؤلاء وهؤلاء!!
وتقدم الآلهة كل بدوره يطلب يد فينوس، وكان كل إله يفاخر أخاه بما لديه من نعم وآلاء. وكان مضحكا أن يسفه الآلهة بعضهم بعضا بين يدي ربة الجمال والحب حتى ازدرتهم(100/55)
جميعا، وخبرت حماقاتهم مالا يتفق وهذا الورد المتفتح في خديها، والسحر النائم في مقلتيها، والفتنة الثاوية في كل جارحة من جارحاتها؛ فرفضتهم أجمعين، وإن تكن برفضها قد أغضبت أباها كبير الآلهة وسيد أرباب الأولمب.
ولم يغض الآلهة عن تحقير فينوس لهم، بل انقلب إعجابهم ثورة، وارتد افتتانهم نقمة، وود كل منهم لو خلى بينه وبينها فيبطش بها بطشا شديداً
وأجمعوا أمرهم ضحى، وذهبوا إلى زيوس يطالبونه بالإثئار لكرامتهم كأرباب مرهوبي الجانب مخوفي الشيطان، من ابنته ربة الحب الطائشة!!
وخاف زيوس ثورة الآلهة، وأفزعه تجمهرهم في ردهة الأولمب يتصايحون ويصخبون، فخرج إليهم هاشا باشا، ودق بصولجانه على الأرض المرمرية وقال: إخواني. . أبنائي:
(لستم أنتم وحدكم تنقمون على فينوس الجميلة ما بدر منها في حضرتكم من زهو وخيلاء، بل أنا معكم ناقم على هذه الابنة العاقة التي صعرت في حضرتي خدها، وشمخت بأنفها، وحسبت أنها خير من الآلهة درجة وأعلى مقاما. .
لتطب نفوسكم يا إخواني ويا أبنائي! لقد أصدرت الساعة إرادة أولمبية تقضي بأن تتزوج فينوس المتكبرة المتغطرسة المختالة، من فلكان الحداد صانع دروعكم ولجم خيولكم!).
وما سمعها الآلهة حتى صاحوا لسانا واحدا: (ليحي زيوس العادل! تقدست يا زيوس! طوبى لك يا أولمب!)
وكان فلكان بين الجماعة وهي تهتف، ولكنه كان مشغولا عنهم بتلك السعادة التي هبطت عليه من السماء، وكان يحمل إرزبته الهائلة، فلما سمع النطق الأولى، ضرب بها الأرض ضربة راجفة، أحس بها بلوتو في أعماق الجحيم. . .
- (يحسب الآلهة أننا معشر الربات ملك أيمانهم دائما، يتصرفون بنا كما يحلو لهم! ما عليهم إلا أن يأمروا، وما علينا إلا أن نطيع! لقد كنت أؤثر أن ألبث في القصور المرجانية في أعماق الأعماق، على أن تشرق علي شعاعة من الشمس الدافئة التي يرتع فيها أولئك الآلهة العتاة الظالمون!)
- (هوني عليك يا مولاتي فقد يصفح غدا سيد الأولمب!
- (يصفح أو لا يصفح. .(100/56)
- (يا للهول!. . .
- (أي هول يا فتاة. . .
- (ينبغي ألا تعرضي نفسك لغضب رب الأرباب. . .
- (رب الأرباب! أنت تضحكينني يا أجمل العرائس الأوسيانيد!
- (مولاتي. . . .!
- (إن رب الأرباب يحكم دنيا من الخزعبلات. . أما القلوب. . أما قلوب العذارى. . فالحب وحده يتولاهن، ويهيمن عليهن. . .
- (إلهتي فينوس. . .
- (لا تنزعجي هكذا يا عروس الماء. . . لقد ولدت لأكون ربة الجمال والحب. . فأولى لي ثم أولى، أن أسعد بالحب، وأن أختار من ذوي الحسن متعتي الغالية ونعيمي الأوفى. . . فلكان!! أنا أقسم أن هذا الحداد لا يفرق بين القبلة والجذوة، ولا بين نشوة الحب وزفير الكير!! وأخشى أن يغازلني يوما فيحذفني بإرزبته، يحسبها ريحانة أو زنبقة!! يا للحداد القذر!!).
- (ولكن زواجكما تسجل في السماء يا ربتي!
- (إن كان سجل السماء مدنسا بكل هذه المقابح الاستبدادية، فأنا. . فينوس ربة الجمال والحب والزواج. . آنف أن يدرج في صفحاته اسمي!
والآن اسمعي يا أوسيانة، اذهبي إلى حبيب مارس فبلغيه أنني منتظرته الليلة، بعد مغيب الشفق، تحت السنديانة الكبرى في أول منعرجات الغابة. . .)
وهكذا أقبلت ربة الحب على كؤوس الحب تنهل منها ما تشاء، وتستعرض الآلهة وأنصاف الآلهة تقبل منهم على من تشاء وتعرض عمن تشاء. . وما أكثر القطيع وما أنهم الذئب!
لقد علقت مارس القوي، إله الحرب، ورب الدمار، ولم تبال بزوجها الفظ القذر المنتن، الذي لا يميز جرس الموسيقى من طرق الحديد، ولا نسيم الجنة من زفرات الجحيم!
وعلقها مارس وافتتن بها، حتى لكان يعد دقات قلبه دقة فدقة، حتى يلقاها، فتهدأ أعصابه، ويطمئن قلبه، ويثوب إليه رشده
ولقد كان اللعين إذا خلا إلى فينوس، يذهب في الاستمتاع بها إلى أقصى حدود الطاقة؛(100/57)
وكان يبهره منها ألا يلقاها إلا متجردة، فيجس هذه الذراع، ويتحسس ذلك الثدي، ويرشف ذياك الفم، ويرتع في هذه الجنة ذات الثمر التي نسميها الجيد، ويخضع لرقي السحر النافذة من جفنيها المدججين بالسهام؛ ثم يضل في تلك الظلال الشفقية التي يعكسها عليه شعرها. فإذا أفيق زودته بابتسامة تظل ترقص على الخدين والشفتين، وشكت فؤاده بغمزة من طرفها تتركه بين الحياة والموت. . . وهكذا حتى يرضى!!
وكان لا يخشى من أعين الرقباء مثل ما يخشى من عين أبوللو، ولذا كان إذا وافى فينوس في هذا المنعزل الغرامي السحيق، في أعمق أحشاء الغابة، ترك خادمه أليكتريون عند أول الشعب المؤدي إلى الطريق العام، يلحظ المارين وينبه إلى خطر الأعداء والناقمين، حتى يكون الأليفان بنجوة من الفضيحة، وفي حرز من ألسن الكاشحين. فإذا تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ذهب أليكتريون فأيقظ العاشقين الآثمين، فينهضان من غفوة الهوى إلى يقين الفراق، قبل أن تشرق الشمس ولكن! وما أقسى ولكن هذه إذا لم تكن سعودا على المحبين!! لقد ذهب العاشقان يتراشفان كؤوس الهوى دهاقا، ويلتذان بكل مأثم ومحرم، حتى إذا نال منهما الجهد، وترنحت أعينهما تحت عبء السهاد الطويل، انبطحا على الحشيش الأخضر، هو إلى جانبها، وهي إلى جانبه، غارقين في سبات هنيء! ولمح أليكتريون ظبيا نافرا، يتفزع في ظلام الغابة؛ فتبعه، وطفق يدور وراءه حتى لحق به بعد عناء شديد، فاحتمله وعاد به إلى مركزه من مكان الحراسة. . ولكنه ما كاد يصل ثمة، حتى تساقط متهدما من التعب، وغلبه نعاس عميق. . .
وأشرقت الشمس!! وبرزت المركبة الذهبية حاملة أبوللو، رب هذا الكوكب المشرق المتأجج، وبدأت رحلتها السماوية، وأخذت ترتفع في العلاء رويدا، حتى إذا كانت بمنزلة الضحى، أطل أبوللو فرأى مارس الأثيم، وفينوس الغاوية، متعانقين على الحشيش الأخضر، وكانت بين أمه لاتونا، وأمها ديون ما يكون عادة بين (الضرائر) من بغضاء ومشاحنات؛ وكانت ديون تفخر على زوجات زيوس جميعا بأنها أم فينوس وحسب!
وكانت لا تعدل بابنتها واحدة من جميلات الأولمب، بما فيهن ديانا أخت أبوللو، وابنة لاتونا
انطلق أبوللو والشماتة تضطرب في قلبه الناقم على فينوس، يحمل الخبر الفاجع إلى فلكان، فألفاه مستغرقا في صنع شبكة حديدية هائلة، والنار تتلظى في أتونها الكبير، والدخان ينعقد(100/58)
في جو المصنع كأنه ينقذف من بركان، والملاقط والمبارد والمخارط متناثرة على الأديم المعفر القذر كأنها أعجاز نخل. . .
- (فلكان!. . .)
- (هلا. . . أبوللو. . ماذا جاء بك في هذه الضحوة. . . وأني غادرت عربتك؟)
- (أثرت أن أطأ ثرى هذه الأرض بقدمي على أن تحملني يوح، وقد تدنس شرف الأولمب بالفضيحة المزرية!. . .)
- (الفضيحة المزرية؟ ماذا وراءك يا أبوللو؟. . .)
- (فلكان! أين زوجتك؟. . . هل أويت إليها الليلة؟)
- (زوجي؟ فضيحة مزرية؟. . . ماذا تعني أيها الأخ؟)
- (أولم تفقه بعد؟. . . ولكن قل لي: ماذا تصنع بكل هذه الأسلاك الغليظة؟)
- (أصنع شبكة كبيرة. . .)
- (ولمة؟)
- (لقد لاحظت النجس مارس يحوم حول حماي. . وأنا لا بد صائده)
- (هلم، هلم. . .)
- (وإلى أين؟. .)
- (تصيده. . ألم تنته من صنعها بعد؟)
بل انتهيت. . . وأين مارس؟. . .)
- (على الحشيش الأخضر، في أول شعاب الغابة، مما يلي الطريق العام)
- (ومع من؟. .)
- (مع. . . . . . . إنه قطعة واحدة مع. . . . فينـ)
- (معها؟. . . يا للهول؟. . . هلم. . . . يا للعرض الأحمر؟. . . .)
واحتمل شبكته العظيمة، وانطلق الإلَهان إلى حيث. . . النائمان الحالمان الآثمان!
لقد كان ملتصقين التصاقا تاما. . حتى ما يكاد ينفذ الماء بينهما ونسى كل إلف شفتيه في شفتي إلفه، فهما جلنارتان تبثان نجوى الهوى إلى جلنارتين!
يا لله!(100/59)
ليس هذا فسقا أيها الآلهة، بل هو التمازج الذي سميتموه الزواج!
وانقض فلكان كالمذنب المدمر، فألقى شبكته على الخائنين!
وانتفض مارس وهو يكاد يصعق من الذعر، وانتفضت فينوس وهي تكاد تذوب من الخجل! ولكن! أي ذعر وأي خجل وهذه الشبكة قد أمسكت بهما كسمكتين!!
لقد مضى فلكان، بعد إذ ربط الشبكة بما كسبت في أصل دوحة كبيرة، وعاد بكل الأسرة الأولمبية (لضبط الحادثة!)
وكانت ساعة رهيبة، انصبت فيها لمزات الآلهة الناقمين على رأس فينوس، وراح كل منهم ينتقم لكرامته المهدورة من كبريائها وصلفها، وهي ما تكاد تبين!!
وأطلق فلكان سراحهما؛ أما فينوس فذهبت تنشد عشاقا آخرين!
وأما مارس، فمضى إلى حيث خادمه الأحمق أليكتريون، فألفاه ما يزال يغط في نومه غطيطا مزعجا، فركله ركلة أطارت صوابه، وأخذ بتلابيبه فخضضه تخضيضاً!
ثم إنه أقسم لينتقمن منه انتقاما يكون أحدوثة الآباد وضحكة العباد، فنفث في أذنيه نفثتين، ارتد بهما الخادم المسكين ديكا عجيب الصورة، أرجواني التاج، طويل الجناحين، عظيم الذل!
وركله مارس ركلة ثانية، وقال له: (اذهب إذن فلن تذوق عيناك غفوة الفجر أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وستصحو قبل كل الخليقة لتصيح في النائمين:
ويحكم أيها الغفاة، هبوا فقد كاد أبوللو يقطر مركبة الشمس!. . .
وما يزال أليكتريون، ديكنا المحبوب، يوقظنا قبل الشروق إلى اليوم!. . .
دريني خشبة(100/60)
من الأدب الإيطالي
الليالي العشر
ترجمة اليوزباشي الأديب احمد طاهر
يعد جيوفاني بوكاشيو زعيم النثر الإيطالي غير منازع في زعامته، وكانت رسائله نبراسا يستضيء به الكتاب من بعده، ونذكر منهم بترارك، شوسر، دريدن، كيتس، تنيسون. أولئك وغيرهم كانوا فيما يخرجون للناس من كتب يغترفون من بحر بوكاشيو ويستلهمون وحيه ويتقفون أثره.
ولد في قرية سرتالدو التي تبعد عشرين ميلا عن فلورنسا ونشأ بها. ولما جاوز الحول السادس والعشرين رحل إلى نابولي وكانت مهد غرامه ومهبط وحي الحب على قلبه، فشغف بحب (ماريا داكوينو) فبدأت من حياته صفحة جديدة فياضة بالخير سيالة بالنفع. فلقد كان حبها حبا كريما: بسط على نفس الفتى فضله فلقي فيه ما لقي المحبون من سعادة ونعيم، وفاض على نفوس الناس أجمعين بما أوحى إلى الفتى، فتلقوا منه نثرا هو أبدع ما أخرج للناس من أقلام الكاتبين، فيه دقة، وفيه روعة، وفيه جمال، على نحو ما خلقت الفتاة من دقة وروعة وجمال. حتى لقد زعم الناس أن هذا البيان إن هو إلا وحي يوحي من الفتاة إلى هذا المحب المختار، ثم اصبح زعمهم يقينا فأغمضوا العين عن تلك الصلة الوشيجة بين المحبين، وانصرفوا إلى فضل الفتاة على رسائله، فما يذكرونها إلا برسائله وما يذكرون رسائله إلا بها، وغالوا فيما انصرفوا إليه فسموا الفتاة (صاحبة رسائل بوكاشيو).!!
وعاد الفتى إلى فلورنسا عام 1350 وكان قد انتهى من كتابة الليالي العشر أو كاد، وأخرجها إلى الناس عام 1353م. ولقد دفعه إلى كتابتها عاملان ألحا عليه: رغبته في إخراج شيء بديع قيم يزجيه إلى محبوبته، ولا أبدع لدى الكاتب من ثمرات قلمه، والزلفى إلى ملكة نابولي، وكانت تشتهي أن تقرأ للفتى خير ما ينتجه يراعه.
وكانت عودته إلى فلورنسا في الوقت الذي أفلتت فيه المدينة من براثن الطاعون، ونضت عنها قميص قيصر بعد أن لم يترك فيها موضعا بغير قرح، ولا عضو بغير جرح. وكان(100/61)
هذا الوباء على ما روى لنا الكتاب حديث الناس في تلك السنين العجاف، فما كان عجبا أن يصدر بوكاشيو كتابه بوصف هذه المحنة التي تزلت بالبلاد. ولقد وصفها في بيان فصيح، وأسلوب صريح، ثم تخلص من وصف الوباء إلى سرد قصصه المائة في الليالي العشر التي قدر لها أن تكون من اكبر كتب العالم مدى الدهر
الفتيات السبع
هذه إحدى قصص الليالي العشر، أو هي مقدمة قصص الليالي نوردها في اختصار وتلخيص، لا نحاول أن نتسامى إلى منزلة الكاتب في براعة الأسلوب، ولا ندعي القدرة على مجاراته في ميدان البلاغة، ولكن حسبنا الأمانة في النقل والدقة في التعبير عما أراده الكاتب مما كتب، أمانة ودقة لا ينقص منهما ما يقتضيه الأسلوب العربي من أحكام وأوضاع.
فلورنسا اجمل مدائن إيطاليا، وأبهاها، وأغناها، تصبح ما بين عشية وضحاها أفقر البلاد واشدها بؤسا وفاقة بما أصابها من كارثة الوباء التي نزلت بها عام 1348م. لقد كان هذا الوباء مرضا ملحا جبارا لم تفلح فيه عقاقير الأطباء ولا اعتصام الناس بالعزلة والفرار. وماذا تعني العزلة وماذا يفيد الفرار؟ والوباء ينساب بين الناس انسيابا تحمله أنفاسهم حين يتحدث بعضهم إلى بعض، ويسري بينهم إذا لمس السليم ثياب الموبوء. حتى إذا بدت على الجسم علامات حمر كانت نذيرا بالموت لا مفر منه، ودليلا على انقضاء الاجل، وتصرم أسباب الأمل، إن هي إلا أيام ثلاثة ثم ينتهي كل شيء إلى ما تنتهي إليه كل الأشياء.
وغشي الناس من هول الكارثة فزع وجزع. وإذا فزع الناس فما ايسر خروجهم على القوانين الوضعية، وإذا خلت قلوبهم من طمأنينة الثقة فما أيسر خروجهم على الشرائع السماوية، فإن تحرروا من هذه وتلك فليفعل كل امرئ ما شاء. وإنهم لواجدين في هذه الفوضى متسعا لإشباع الشهوات، ورضاء النزوات، ومتى لم يكن من الموت بد ففي رأيهم أن من الخرق أن تموت عابسا كئيبا، وهذه قصور الأغنياء وخدور الغانيات فلنقتحمها وردا، ولننعم فيها قبل الموت بما حرمنا منه في الحياة، ولنمت وعلى وجوهنا ابتسامة اللذة ومخاييل السرور!! كذلك كانوا يقولون. على أن بعض الناس أقام بينه وبين الناس سدا وحسب أن الحمية تعصمه من فتك المرض وظن بعضهم أن في الاعتصام بالجبال والتأبد(100/62)
في الخلاء، منجاة من الوباء، ففروا تاركين وراءهم حطام الدنيا ومتاع الحياة، وما يغني متاع الحياة وحطام الدنيا إذا فر الأخ من أخيه، وفصلت الزوجة عن زوجها، وأفزع الآباء والأمهات عن فلذات الأكباد؟ هذه جثث الموتى متناثرة في الطرق رأيتها بعيني ورأيت الكلاب تدس أنوفها في الأجساد فيسري إليها الداء، فتخر صريعة على الأرض وتقعد مكانها بين ضحايا الوباء.
في خمسة اشهر من العام بين مارس ويوليو فتك الطاعون بمائة ألف من الأنفس، وما كنا نحسب أن في فلورنسا هذا العدد من الناس.
ولكن! مالي اردد ذكرى هذه الفاجعة، ولقد برمت بها وبذكراها! أليس الخير كل الخير في أن يجتنب المرء ذكر ما تسوئه ذكراه، وينسى ما يجد السبيل إلى أن ينساه؟
فلأذكر إذا أنه عندما أصبحت فلورنسا قفرا من الأهل والسكان جمعت البأساء بين فتيات سبع لهن من الجمال حظ وافر، وعليهن من الثياب سواد، واجتمعن يوم الثلاثاء في كنيسة سنت ماري، ولم تحو الكنيسة غيرهن من شهود الصلاة. وكانت تربطهن فوق رابطة البأساء صلة القرابة الوشيجة، وصلة أوثق من هذه وتلك هي صلة الصداقة والوفاء. شهدن الصلاة ثم انتبذن ناحية من الكنيسة خلصن فيها نجيا يتدبرن فيما يجمل بهن أن يتخذن من سبيل في الحياة وقد تخلين عن متاع الدنيا وتخلى عنهن الأهل والخلان. قالت كبراهن - يامبينيا: (الرأي عندي أن نرحل عن فلورنسا فننجو بأنفسنا من خطرها المحدق وشرها المحيق، وأي خطر اشد من الطاعون، وأي شر أسوء من أولئك المارقين يجوسون الطرق ويقتحمون الدور؟ هيا إلى الريف نجد فيه مراغماً، وهواء طلقا، وحياة وادعة، في كنف التلال الخضراء والمزارع تموج فيها الحنطة كموج البحر، ولا يرى البصر إلا نعيماً، مالنا ولهذه المدينة الخاوية على عروشها تبعث في النفس أمض الذكريات وأقساها؟).
- قالت فلومينا (وكيف السبيل إلى هذه الرحلة وليس لنا ساعد من الرجال؟).
- قالت أليزا (وأين الرجال يا أختاه، وكل أترابنا منهم قد تبدد شملهم، وانصدع جمعهم، فمنهم من فتك به الطاعون، ومنهم من ضرب في الأرض لا يعرف له مستقر فهم لا يرجعون).
وفيما هن يقلبن الرأي على وجوهه إذ وفد عليهن ثلاثة فرسان: فتيان في ميعة الصبى(100/63)
وروعة الجمال، خرجوا يلتمسون بين الناس فتيات لهم بهن صلة، وما كانوا يبحثون إلا عن (نيفيل) و (يامبينا) و (فيلومينا) من فتياتنا السبع.
صاحت يامبينا (لقد ابتسمت لنا الأقدار فساقت إلينا ثلاثة رجال أكفاء أشداء وأنا زعيمة لكن بأنهم سيلبون دعوتنا إذا دعوناهم) ثم أقبلت على الفرسان تقص عليهم ما كان فيه يتحدثن، وطلبت إليهم في توسل ورجاء أن يكونوا عونا لهن ونصراء، وأن يصحبوهن إلى حيث أردن.
ضحك الفرسان منهن وتندروا على هذا الرأي ما شاء لهم أن يتندروا، ثم أنسوا من الفتيات جدا في الرأي وصلابة في العزم، فأذعنوا راضين، وتقدموا غير هازلين، وافترق الجمع على أن يكون الرحيل عن فلورنسا في صبيحة اليوم التالي.
وذر من الشمس شعاع، فهب الفتيات والفرسان ومعهم الوصفاء وساروا على هدى العزيمة فرسخا ألقوا بعده عصا الترحال، وكان ذلك عند شَرَف من الأرض يشبه التل، تجلل هامته غابة باسقة الرماح، ممتدة الصفاح، يقوم في جوفها صرح شاهق يعجبك رواؤه، ويبهرك بناؤه، قد انبسط تلقاءه سرح فسيح، وتشعبت في أنحائه أبهاء واسعة، وفي مقاصيره من دلائل العز والميسرة، تحف مثورة، وصور مشهورة، وحاطت بالقصر حدائق ذات أشجار وأثمار تقوم على ريها نافورات تقذف بسهام الماء، فكأنما يصب على الأرض من السماء. وكان كل ما في القصر متسقا منضوداً، كأنما أعد لاستقبال الوافدين، واسترواح المتعبين؛ وظل الفتيات والفتيان يمشون في سروحه وارجائه، وأفنيته وأبهائه، ويقطفون من زهوره وأثماره، ويتغنون في هذه الجنان، بأعذب الألحان، حتى حان موعد الغداء فمد سماطه في بهو الولائم. وما انتهوا منه حتى تناول (ديونيو) أحد الفرسان آلة من آلات الموسيقى، وأمسكت (فيامتا) إحدى الفتيات بآلة أخرى، وواءمتا بين نغمتين طرب من مزاجهما الجميع حتى غنى ورقص ما وسعه الجهد.
وظلوا كذلك حتى أدركهم الليل وهم في طربهم ماضون، وأسلمهم التعب إلى نوم عميق، وكانوا قد اتفقوا فيما بينهم على أن ينصبوا (يامبينيا) أميرة عليهم في الغداة، ولها عليهم حق الامر، وعليهم لها واجب الطاعة، على أن تدبر لهم شأن المحافل والجلسات وما يتخللها من الملاهي والمسرات.(100/64)
وفي ضحوة اليوم التالي لبوا دعوة الأميرة وانتظموا حولها فحيتهم تحية جميلة، وأخذت عليهم في رفق ولين تكاسلهم عن النهوض مبكرين، وفي نوم الضحى مضرة للأبدان تشفق منها عليهم وتعيذهم من إذا ها. ثم سارت أمامهم إلى واد ذي زرع أخضر تقوم على عطفيه أشجار باسقة، وقالت: (هنا الشمس مشرقة مشرفة، ترسل علينا أشعة حامية محرقة، فليس من الرأي أن نواصل المسير ضنا راحتنا وحرصا على هنائنا، فلنجلس إلى ظل هذا الوادي الوادع تحت أغصان الزيتون، ولتكن جلستنا على نحو دائرة لا يلتقي طرفاها، وليقصص كل واحد وكل واحدة منا قصة شيقة، فإن هدأت الشمس وانكسرت حدتها اتخذنا في اللهو سبيلا آخر؛ ولتكن أنت يا (بامفيلو) أول من يقص علينا قصته:
واستوى الفتى في جلسته وقص القصة الآتية: -
(يتبع)
اليوزباشي احمد الطاهر(100/65)
البريد الأدبي
ذكرى العلامة روبرت كوخ
احتفل أخيرا في ألمانيا بذكرى روبرت كوخ أحد أقطاب العلم الألماني، وذلك بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاما على وفاته؛ وقد خلد كوخ اسمه في عالم الطب بما وفق إليه من الاكتشافات الطبية والبكترلوجية الباهرة؛ ولاسيما في شأن السل والكوليرا؛ وكان مولد هذا العلامة في سنة 1843. وفي سنة 1876 بدأ اكتشافاته البكترلوجية باكتشاف (البشيل) وطريقة الحقن باللقاح، وفي سنة 1882 كان اكتشافه الباهر (لبشيل) السل الذي يفتك بعشرات الملايين، فكان ذلك بدء تلك الجهود الطبية الجاهدة التي تبذل منذ كوخ إلى عصرنا لمكافحة هذا الداء الوبيل؛ وفي العام التالي زار كوخ مصر والهند على رأس بعثة لبحث أسباب الكوليرا، ثم عين أستاذا في جامعة برلين، ومديرا لمعهد الأمراض المعدية. وكان من رأيه أن هناك فارقا بين السل الذي يصيب الإنسان، والسل الذي يصيب الماشية، وأن المرض لا ينتقل من هذا الجنس إلى ذاك، ولكن الجمعية الملكية البريطانية عارضت هذه النظرية بمباحثها وتقاريرها. وفي سنة 1896 زار كوخ أفريقية الجنوبية ليدرس طاعون الماشية، وفي العام التالي زار أفريقية الشرقية الألمانية ليدرس خواص الملاريا ومرض النوم. وله عدة مؤلفات عن السل والملاريا والتيفوس تعتبر حجة في موضوعها، وكانت وفاة كوخ في 1910.
وقد احتفل العلم الألماني بتكريم ذكرى هذا العلامة في احتفال رسمي أشيد فيه بعبقرية كوخ وفضله على الإنسانية كلها بما وفق إليه من الاكتشافات العظيمة التي مازالت أساساً لبحوث الطب في عصرنا؛ وأعلن بهذه المناسبة أن الحكومة الألمانية قررت إنشاء (معهد كوخ) الذي تقرر إنشاؤه قبل الحرب لتخليد ذكرى كوخ ثم حالت الحرب دون إنشائه؛ ثم رأى العلم الألماني أن ينتهز فرصة هذه الذكرى ليعمل بمعونة الحكومة الألمانية على تحقيق هذا المشروع الإنساني الجليل.
موسم الكتب في فرنسا
يعاني الأدب وتعاني الكتب في مختلف الفنون أزمة ظهرت آثارها واضحة في كثير من الأمم الأوربية؛ ولهذه الأزمة أسباب كثيرة أهمها الإذاعة اللاسلكية والسينما وطغيان(100/66)
الترجمة الرخيصة على الأدب المحلي، ومنافسة الصحافة للكتب بما تخرجه من الصحف العلمية والأدبية والفنية وغيرها وتعرضه بأبخس الأثمان؛ وقد نشطت السلطات والهيئات المختصة في فرنسا لمحاربة هذا الركود الفكري، وبث الدعاية لنشر الكتب بمختلف الوسائل المرغبة؛ فأقامت نقابة الناشرين وغرفة المكاتب معرضا كبيرا في حي سان جرمان أطلق عليه (عشرة أعوام من الطباعة الفرنسية)، وعرضت فيه الكتب في سائر العلوم والفنون من أرخص الطبعات إلى أغلاها وأثمنها، بطريقة تبين تطور الطباعة وأساليب النشر في عشرة الأعوام الأخيرة؛ وصفت كتب الفلسفة والدين والعلوم والآداب والمباحث الروحية والقصص كلها جنبا إلى جنب. وأقيم في بهو خاص منصة فخمة خصصت للجوائز الأدبية التي منحت منذ سنة 1925، وأسماء الفائزين وأنواع الجوائز؛ وقد أم هذا المعرض الحافل جماهير غفيرة من الزوار، وأحدثت أقامته حركة كبيرة في اقتناء الكتب.
وفي الوقت نفسه أقامت نقابة الناشرين مظاهرتها السنوية التي تعرف (بيوم الكتاب) وهي مناسبة تتخذها المكاتب كل عام لتعرض في واجهتها أكداسا من الكتب الجديدة الخلابة بأثمان معتدلة، وقد أصبح يوم الكتاب (أسبوعا) كاملا يجرى فيه هذا العرض في جميع مكاتب باريس الشهيرة ومكاتب المدن الكبيرة، وتقدم فيه بهذه المناسبة فرص حسنة للشراء، وفي كل عام تصدر نقابة الناشرين مؤلفا نفيسا يهدى إلى من يشتري كتبا قيمتها عشرون فرنكاً. وأسبوع الكتب يعتبر من المواسم الأدبية الحافلة، التي تدر الخير على الناشرين والمؤلفين.
فمتى نفكر في مصر في تنظيم مثل هذه الحركات والمعارض المفيدة، ومتى نفكر في محاربة ذلك الركود الأدبي الذي يكاد يشل عندنا كل تقدم فكري وأدبي؟
بلسودسكي الشاعر والكاتب
لم يكن المارشال بلسودسكي بطل بولونيا القومي الذي توفى منذ أسابيع قلائل جنديا وسياسيا عظيما فقط، ولكنه كان كذلك شاعرا وكاتبا له آثار في الشعر والنثر، والمعروف عن المارشال أنه تربى وتكون في معترك الصحافة، وكان في شبابه يحرر جريدة ثورية سرية، كان ضبطها سببا في الحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا؛ ولما قبضت القيادة الألمانية(100/67)
على بلسودسكي أثناء الحرب الكبرى حينما ارتابت في حركاته وخشيت من نفوذه على الجيش البولوني، وزجته في قلعة مجدبرج لم يجد المارشال وسيلة لتخفيف آلام الأسر سوى الكتابة، فوضع كتابا سماه (معاركي الأولى)، وصف فيه ما خاضه من المعارك الثورية ضد جنود القيصر، ثم المعارك الأولى التي خاضها عند نشوب الحرب الكبرى بأسلوب بليغ ينم عن مقدرته الكتابية، وأصدر بعد الإفراج عنه كتابا آخر عنوانه (سنة 1920) وصف فيه الحرب الروسية البولونية، وكان المارشال ينظم الشعر، ويشغف بقراءة دواوين أكابر الشعراء الفرنسيين، مثل لامرتين وهوجو وبودلير، وفيريلين ومالارميه. ومما يؤثر عنه قوله: (إن الشعراء هم أقرب الناس إلى رجال العمل!).
مركز هوجو في النثر
مازالت الصحف الأدبية الفرنسية فيض في الحديث عن فيكتور هوجو، وعن نظمه ونثره ورفيع منزلته في الأدب الفرنسي، وذلك لمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسينية لوفاته حسبما أشرنا بالعدد الماضي، وليس بين النقدة خلاف في المنزلة الرفيعة التي تبوأها في الشعر؛ بيد أن هنالك من يقول بأن هوجو يتبوأ في النثر أرفع من هذه المنزلة. وقد شهد لهوجو بالعظمة في النثر كتاب عظام مثل بلزاك صديقه ومعاصره، ثم جاء موريس باريس بعد ذلك فقال: (إن هوجو أعظم ناثر في القرن التاسع عشر). وقد وصفه أخيرا كاتب كبير في إحدى المجلات الأدبية، فقال: إن هوجو الناثر يتفوق في تحليل أشد عواطف الروح وأحوالها تعقيدا، وأعمق أزمات الضمير، ومعارك الإنسان والقدر. ولمناسبة الاحتفال بذكرى الشاعر الكبير أصدرت إحدى دور النشر الباريسية الكبرى طبعة كاملة من جميع مؤلفاته تقع في 82 مجلدا.(100/68)
الكتب
ضحى الإسلام
الجزء الثاني تأليف الأستاذ أحمد أمين
للأستاذ عبد الوهاب حمودة
لقد أخرج للناس الأستاذ الجليل (أحمد أمين) كتابه ضحى الإسلام، الجزء الثاني منه، فقرأته قراءة ناقد متفحص؛ فألفيته قد هوى جهدا محمودا، ونهج منهجا جديدا. استقصى الأستاذ فأحسن الاستقصاء، وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط فوفق إلى الصواب، في حسن ترتيب، وجمال تصوير، وقدرة على الإحاطة، وصبر على التفصيل.
وصف الأستاذ في الفصل الأول من (الضحى) قوانين الرقي العقلي، ثم طبقها على الفكر العربي، وتدرج من ذلك إلى انقسام العلوم عند العرب في العصر العباسي، ثم ختم هذا الفصل بالكلام على حرية الرأي في ذلك العصر، فكان الأستاذ في هذا نسيج وحده، مبتكرا لمنهج جديد في البحث، وأسلوب طريف في التعليل.
وفي الفصل الثاني والثالث تكلم الأستاذ على معاهد التعليم ودرجات التدريس، وعلى المكتبات والمناهج، ثم انتقل بعد إلى الحديث عن مراكز الحياة العقلية، فأبدى في مطاوي هذا البحث عن شخصية قوية، ورأي مستقل. وقد وفق الأستاذ التوفيق كله في المقابلة بين الروايات المختلفة عن (بيت الحكمة) وفي الاطمئنان إلى نتيجة معقولة حسنة، ولاسيما عند استخدام الأستاذ في تحقيقه (فقه اللغة) وتاريخ الألفاظ. فهو طرافة في التفكير، وجدة في الأساليب. وما أجمل الأستاذ وهو يعلل ضعف الفن في الحجاز في عصر الدولة العباسية تعليلا متواضعا مقنعا. أما كلامه عن (المربد) في هذا الفصل، فكلام المستقصي الدارس. ولست مغاليا إذا قلت إن باحثا لم يسبق الأستاذ في إلقاء نور وضاء قوي على هذا (المربد) وبيان أثره في الحياة العقلية عامة، واللغوية خاصة، بل كان المؤلفون يمسونه مسا رقيقا، ويمرون به في أبحاثهم مرا رفيقا.
وجاء الأستاذ أيضاً في هذا الصدد بنظرية العصبية للقطر، ثم للبلد، ثم تدرج بعد ذلك إلى نشوء مدارس النحو المختلفة حتى وقف بمصر فإذا بالشعور القومي الخالص يملك على(100/69)
الأستاذ عواطفه، وإذا بالوطنية الصادقة تأسر عليه مشاعره، فيأبى إلا أن يجلي مصر في مضمار النهضة العلمية تجلية مشرقة، فينصفها في البحث وإن لم ينصفها الدهر في الحظ، في غير محابة ولا تحيز، شأن العالم الورع، والمحقق العادل.
أما في الفصل الرابع والخامس فقد تكلم الأستاذ عن الحديث والتفسير والتشريع. ومن أجدر من الأستاذ (أحمد أمين) بتوفيه هذه البحوث والقيام بواجب تحقيق هذه المسائل، فهو ابن بجدتها، وأبو عذرتها. ولا يرضيني في الكشف عن محاسن هذين الفصلين إلا أن أشير على القارئ الكريم بقراءتهما، وأرغب إليه في دراستهما حتى يتذوق جمال حقائقهما بنفسه؛ ويقف على بديع تنسيقهما بدرسه. إذ هما يقعان فيما يقرب من مائة وخمسين صفحة من الكتاب. فجزى الله الأستاذ عن الحديث والقرآن خير الجزاء.
أما في الفصل السادس من الكتاب، وهو الفصل الذي يمت إلى الأدب في صميمه، ويرتبط في اللغة في أصولها. فقد بحث فيه الأستاذ اللغة والأدب والنحو، فتراه في هذا الفصل أمينا محافظا على طبيعة هذه العلوم من الوقوف عند النقل والاقتصاد في الرأي والنقد في غير ما سرف ولا إفراط.
أما الفصل السابع وهو الأخير في الكتاب فكان الكلام فيه عن التاريخ والمؤرخين. أتى فيه الأستاذ بتقسيم جميل لأنواع التاريخ، من تاريخ في السيرة، وتاريخ للحوادث، وتاريخ للأنساب، وتاريخ للرجال، وأخبار وقصص. فكان موفقا جد التوفيق في تحليله لمغازي ابن اسحق تحليل المنصف الدارس في بصيرة نافذة ورأي حر طليق. ثم ختم الأستاذ هذا الفصل بالكلام على عيوب المؤرخين الإسلاميين ومزاياهم فأنصفهم ووفاهم حقهم.
وبعد، فسأذكر ما أخالف الأستاذ فيه من الرأي، وهي مخالفة يسيرة واختلاف هين. وقد عودنا الأستاذ تقبل ذلك بما عهدناه فيه من سمو في الخلق ونبل في القصد.
أولا: أحصى الأستاذ في ص (173) المذاهب الفقهية التي ظهرت في العصر العباسي سوى المذاهب الأربعة، ولكنه أغفل مذاهب الشيعة. مع أنها مذاهب لها قوتها ولا يزال بعضها منتشرا كمذهب الزيدية في اليمن والإمامية في العراق وإيران. فلهذا المذهب أئمة ومؤلفون وكتب فقهية تطبع وتدرس.
إلا إذا كان الأستاذ قد رأى تأخير ذلك إلى الكلام على عقائد الشيعة في الجزء الآتي بعد من(100/70)
الضحى.
ثانيا: ذكر الأستاذ في ص (245) أن من نتائج الاختلاف بين القبائل كثرة المترادفات في اللغة العربية ثم ساق مثلا لذلك فقال (إن السُّكّر اسمه المِبرَت بلغة اليمن).
ولي على هذا اعتراضان: الاعتراض الأول أن لفظ السكر ليس بعربي بل هو تعريب للفظ شكَر الفارسية وهي قريبة جدا في نطقها من لفظها في اللغة الإنجليزية (راجع ص 92 من كتاب الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدّي شير. وص 8 و105 من شفاء الغليل للخفاجي. والقاموس للفيروز أبادي وص 326 من مجلة مجمع اللغة العربية الملكي. وجـ 6 من اللسان وص 166 جـ1 من المزهر لليسوطي).
والاعتراض الثاني هو أنني كنت أود أن يذكر الأستاذ من آثار ذلك الاختلاف بين القبائل، المشترك من الألفاظ بقسميه لأن هذا النوع له أثر واضح في اختلاف المذاهب في التشريع كلفظ القروء في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء).
ثالثا: ذكر الأستاذ في ص (248) أن استعمال الكلمات المعربة كثر بعد الإسلام والفتح، ثم أخذ يسرد أمثلة للألفاظ التي تغلغلت في اللغة إثر الفتح.
واعتراضي أن بعض تلك الألفاظ التي ساقها الأستاذ كان قد دخل اللغة العربية وعُرّب منذ عصر الجاهلية فلم يكن دخوله إذن نتيجة للفتح الإسلامي. مثال ذلك لفظة (الفلفل) قال امرؤ القيس في معلقته:
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل
وقال أيضاً:
كأن مَكاكِيَّ الجواء غُدَيّةٌ ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل
وجاء في اللسان خمر مفلفل ألقى فيه الفلفل.
مثل آخر لفظة (الورد)
فقد جاء في اللسان ص (470) من الجزء الرابع (الورد ببلاد العرب كثير ريفية وبرية وجبلية. قال الزجاج في قوله تعالى: فكانت وردة كالدهان: أي صارت كلون الورد). وقد جاء في القاموس أن أم طرفة سميت بوردة.
ومثل ثالث وهو لفظة (مسك) ويكفي في إثبات جاهليتها في التعريب ورودها في القرآن(100/71)
الكريم قال تعالى (ختامه مسك).
رابعا: لقد استقصى الأستاذ الكبير الفروق في اللغة والنحو بين مدرسة البصرة والكوفة.
وودِدتُ لو أنه أعقب ذلك بذكر خصائص المدرسة البغدادية في النحو أيضاً. وهو قد ألمع إلى هذه المدرسة في ص (83) حيث قال: ثم تظهر في النحو مدرسة بغدادية لها طابعها الخاص ولها لونها ولها متعصبوها.
ومهما يكن من شيء فهذه هنات يسيرة لا خطر لها ولا أثر في حسن الكتاب وقيمته. وإني أشهد مع الدكتور طه بحق أن الأستاذ (أحمد أمين) قد وفق في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية، وكشف عن الحياة العقلية الإسلامية كشفا، ثم عرضه عرضا هو أبعد شيء عن جفاء العلم وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته. فلينعم القراء بفصول هذا الكتاب ولينعم المؤلف بما ينعم به الظافر الموفق.
عبد الوهاب حمودة(100/72)
الدسائس والدماء أو علي بك الكبير
كتاب للأستاذ خيري سعيد
للأستاذ محمود تيمور
إنها لصفحة مروعة تلك التي قرأناها في هذا الكتاب. صفحة الدسائس والدماء حقا. صفحة تصور لك في أسلوب روائي أخاذ ذلك العصر الدامي الفاجر الذي عاشت فيه مصر حقبة من الزمن، وهي ترى بعيون ذاهلة وقلب ينبض حسرة وألما، ونفس صابرة هذه المشاهد الجهنمية التي تمثل على مسرحها. ذلك هو عصر المماليك الذي أحياه أمامنا في لباقة صديقنا القصصي الأستاذ خيري سعيد، فاستطعنا ونحن نقرأ كتابه أن نحيا في ذلك العصر نعاشر أهله ونصاحب حكامه ونشهد مواقعه المتلاحقة، ونحضر حفلاته الرائعة - حفلات الانتصار والاندحار - استطعنا أن نعيش في ذلك الجو الغريب نشم فيه رائحة البخور ممزوجة في الدم، ونصغي فيه إلى صوت المؤذن يطغي على أنات المحتضرين وصليل السيوف، وهي تهوى على الرقاب. أجل لقد استطاع الأستاذ خيري بأوصافه الدقيقة وخياله الواسع أن ينقلنا إلى ذلك العصر ويتركنا فيه برهة من الزمن، شعرنا أثنائها أننا رجعنا القهقري إلى القرون الوسطى، وأن الدنيا غيرها بالأمس، فلا كهرباء ولا قهوات ولا ولا. . فإذا أردنا أن ننتقل فعلى الدواب ذات السرج المفضضة والبراذع المنقوشة تخترق بنا الحارات الضيقة. نذهب بها في نزهة إلى الخليج. أو في مهمة إلى بركة الفيل حيث قصور الأمراء. أو في أمر بيع وشراء إلى ساحل بولاق، ذلك المرفأ النيلي العظيم المزدحم بخيرات البلد. . وإذا أردنا أن نعلم شيئا مما هو جار من الحوادث تسقطناه لماما من أفواه الناس. فهناك فتنة تختمر، أو مجزرة تستعر، أو حرب على الحدود تدور رحاها. وإذا أردنا أن نريح أعصابنا ورغبنا في الترويح عن أنفسنا قصدنا إلى دور أصدقائنا العلماء فنحظى بجلسة هادئة نشرب فيها القهوة الفاخرة، ونتناول العشاء السخي، ونستمع إلى مسامرتهم الجميلة أو إلى أناشيد المنشدين. . أجل لقد عشنا حقا في مصر في ذلك العهد القاسي المضطرب. رأينا الأمة منقسمة إلى طبقات لا يتعدى أهل الواحدة على الأخرى. فهناك طائفة الفلاحين تعمل طيلة العام لتمون الكُشاف والسَّناجِق (الأمراء المماليك) إذ أن الحكم حكم إقطاع. الفلاح آلة نشطة طيعة ليس لها إلا أن تعطى. ولكنها كانت في الوقت(100/73)
نفسه آلة ماكرة تعلمت الخبث من هؤلاء السادة الطغاة فاستطاعت أن تراوغهم هازئة بهم. ترشو هذا لتبعد ذاك، وتعطي جزءا لتحتفظ لنفسها بأجزاء. ثم هناك الطبقة الحاكمة وهي المماليك، تلك الطائفة الغريبة التي امتهنت الحكم ورضيت بما يحفه من خطر دائم. طائفة كانوا يشترونها في الأسواق أطفالا أرقاء يأتون بهم من مواطنهم في بلاد الشركس وأواسط آسيا، وينشئونهم نشأة حربية، فإذا ما نما المملوك واكتمل أصبح فارسا يجيد الحرب كما يجيد الحكم. وهو في الحالتين غدرا خبيث يعمل بقول القائل: الغاية تبرر الواسطة. يعيشون طول حياتهم والسيف لا يهمد لحظة في يدهم. وانك لترى على ملابسهم المزركشة المقصبة المحملة بالخناجر والسيوف بقعا من الدم كأنها أوسمة فخار. . وإذا ما دخلت دورهم عثرت قدمك برأس أو بضعة رؤوس بشرية تعترض طريقك. فإذا ما أغضيت النظر وتابعت سيرك دوى في أذنك صراخ مستغيث، فإذا بهارب يهوي أمامك متخبطا في دمه. . هؤلاء المماليك وعلى رأسهم شيخ البلد كانوا حكام مصر الحقيقيين في تلك الحقبة الرهيبة التي زعم العثمانيون أن البلد فيها إيالة تركية لا أكثر ولا أقل. ولكن أين مظهر تلك التبعية؟ أفي الباشا الوالي ذلك الحاكم المسكين الذي كان يوليه السلطان حكم مصر فلا يتعدى حكمه دائرة القلعة المسجون فيها؟ وليته كان يُترك سعيدا بحكم هذه المنطقة الصغيرة. إنه كان فيها أشبه بالطرطور يلبسه شيخ البلد. ليس عليه إلا أن يصدر الفرمانات التي يطلبها منه هذا الشيخ، فإذا عصى فإلى العزل أو الحبس أو القتل!! أم في تلك الحامية التركية الضعيفة التي نقص أفرادها على توالي الزمن فاستعيض عنهم بنفر من أهل البلد؟. . وهناك غير هاتين الطائفتين طائفة قوية تحتكم في ثروة البلد هي طائفة التجار، تلك التي كانت كلها من أبناء البلد والتي عاشت بالرغم مما انتابها من عسف كان يهد في ثروتها، عاشت في شيء من الرخاء والهدوء؛ وبجانب هذه الطائفة كانت طبقة العلماء - شيوخ الأزهر - تلك التي كانت تسيطر على البلاد بقوتها الروحية. وكانت الأمة كلها وحكامها على رأسها تضمر لها الاحترام وتعمل بنصائحها. ولكن هذا لم يكن يمنع عنها في بعض الأحيان بطش هؤلاء الحكام وغدرهم.
. . . أجل لقد استطاع الأستاذ خيري سعيد أن ينقلنا إلى ذلك الجو وكأنه أركبنا طيارة وطار بنا على صعيد مصر كلها فإذا بنا نرى النار تشتعل في كل مكان: حكام القاهرة(100/74)
يريدون أن يسيطروا على الأرياف، وحكام الأرياف يريدون أن يحتفظوا باستقلالهم الإداري يستمتعون بما جنوه من أموال وخيرات، وبين هؤلاء الحكام وبعضهم حروب لا يخمد لها لهيب، والناس لا تعرف من الأمن إلا اسمه. فإذا ما سار التاجر بأسطوله النيلي المحمل بخيرات البلد من منطقة إلى أخرى وجب عليه دفع الإتاوة إلى شيوخ قطاع الطرق - طائفة أخرى مستقلة عن كل الطوائف امتهنت السلب وتفننت فيه وأثرت منه - وإلا أصاب أسطوله النهب والتحطيم.
في ذلك الجو الخانق ظهر علي بك الكبير. وكان كبقية المماليك. عاش منذ نعومة أظافره بين مؤامرات الخيانة تطيح برؤوس الأمراء. عاش مملوكا طيلة حياته تتمثل في سياسته أساليب القسوة والغدر. ولكنه كان مملوكا أكثر ذكاء وأشد صلابة وأكبر أطماعا من غيره. تمثلت فيه صفات الملك فاستطاع أن يستخلص لنفسه حكم مصر فاستغنى عن الباشا الوالي وأخضع سائر المماليك لحكمه وضرب على أيدي قطاع الطرق. فاستمتعت البلاد في عهده بالأمن وبشيء من الطمأنينة لم تستمتع بهما في عهد غيره. وأحست بنوع من الكرامة الوطنية تذكو في فؤادها. فقد رأت حاكمها العظيم يقطع صلته بالدولة العثمانية ويجعل لمصر مركزا ممتازا بين الدول. . . ولكن هذا العهد لم يدم طويلا، فقد تألب المماليك المدحورون برياسة محمد بك أبي الذهب مملوك علي بك وساعده الأيمن فيما مضى - وشقت عليه عصا المطاعة وقاتلته حتى دحرته، ومن ثم أرجعت الباشا الوالي إلى عرشه الواهي المتآكل. . . وعادت الحياة كما كانت قبل أن يحكمها ذلك العاهل الكبير.
صور عنيفة جبارة، يعرضها أمامك المؤلف في دقة غريبة وتنسيق جميل في كتابه الدسائس والدماء، وإنك لتعجب وأنت قرأ هذه الصحائف الممتعة كيف استطاع الكاتب أن يجمع لك في كتاب لا يتعدى المائة والخمسين صفحة، هذه الحوادث الجسيمة والشخصيات المعقدة في شبه ملحمة لم تدع كبيرة ولا صغيرة عن هذا العهد إلا سجلته. ولعلك تعجب أيضاً إذا علمت أن كل فصل من فصول هذا الكتاب يصح أن يكون قصة مستقلة يستطيع مؤلفها أن يملأ بها عشرات الصفحات. . .
فإلى صديقي خيري تهنئتي الخالصة وتقديري الكبير.
محمود تيمور(100/75)
العدد 101 - بتاريخ: 10 - 06 - 1935(/)
ذكرى المولد
ذكرى مولد الرسول هي ذكرى قيامة الروح وولادة الحرية ونشور الخلق؛ فكأن مولده كان البعث الأول الذي طهر النفس وعمر الدنيا وقرر الحق للإنسان، كما أن البعث الأخير سيخلص الروح ويبتدئ الآخرة ويعلن الملك لله
كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادة، وعبودية الشهوة، وسلطان القوة، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه؛ إنما كان حيواناً شهوته الغلب، مادياً غايته اللذة، أنانياً شريعته الهوى؛ ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر، وفي المادية حيث اتخذ إلهه من خشب أو حجر، وفي الأنانية حتى قتل أولاده خشية الإملاق والضرر. فلما أتى النبي العربي فتح في غار حراء، باباً إلى السماء، تنزلت منه الملائكة والروح على هذا الهيكل المنحل والجسد المعتل، فنفخت فيه سر الحياة ومعنى الخلود وحقيقة الله. وحينئذ شعر سليل الأرض أن له أسباباً إلى السماوات رثت على طول غفلته، وأن له حياة خيراً من هذه الحياة استسّر علمها في جهالته؛ فتشوف إلى الأفق البعيد، واستشرق إلى السمت العالي، وأرسل نظره وراء النظر النبوي من فوق الجبل، في صمت حراء المفكر، وفي سكون الوادي الملهم، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق
كانت العقيدة قبل محمد أن تموت الروح أو يموت الجسم، وأن يحكم الله أو يحكم الإنسان، وأن يظهر الدين أو تظهر الدنيا، أما تقرير الصلة بين المعنى والذات، وبين المصباح والمشكاة، وبين الحياة الأولى والحياة الأخرى، وبين الإرادة السفلى والإرادة العليا، فذلك هو القصد الإلهي من رسالة محمد، والتنفيذ المحمدي لإرادة الله
وكان العالم قبل يوم محمد يرسف في عبودية عقلية تقتل التفكير، وعبودية جسمية تعقل التصرف؛ فلم يكن للأسرة نظام، ولا للقبيلة قانون، ولا للأمة دستور، ولا للعقيدة شريعة؛ إنما هو طغيان عاسف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة: فالأب يملك على بنيه الموت والحياة بحكم الطبيعة، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف، والملك يخضع نفوس الشعب باسم الدين، والكاهن ينسخ عقول الناس بقوة الجهل، والناس أجمعون عدا هؤلاء الأربعة أتباع وأوزاع وهمل(101/1)
فلما بعث الرسول الكريم رحمة للعالمين بعث الحرية من قبرها، وأطلق العقول من أسرها، وجعل التنافس في الخير، والتعاون على البر، والتفاضل بالتقوى، ثم وصل بين القلوب بالمؤاخاة، وعدل بين الحقوق بالمساواة، ودخل بين النفوس بالمحبة، حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته، والفقير أن بيت المال ثروته، والوحيد أن المؤمنين جميعاً اخوته؛ ثم محا الفروق بين أجناس الإنسان، وأزال الحدود بين مختلف الأوطان، فأصبحت الأرض كلها وطناً مشاعاً، والعالم كله أسرة متحدة، لا يهيمن على علائقها إلا الحب، ولا يقوم على مرافقها إلا الإنصاف، وليس فيها بين المرء وخليفته حجاب، ولا بين العبد وربه واسطة
يا رعى الله ذكراك المقدسة يا غار (ثور)! لقد كنت مبعث الحرية، كما كان غار (حراء) مبعث الروح! فأنت في جبل الخلاص وهو في جبل التجلي!!
وكان العالم قبل مولد محمد يعاني تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتقلب الأثرة وتحكم السفاهة؛ فسطوة اليد تسرف على العدل، وعصبية الدم تبغي على الحق، وسلطان المال يجني على الإنسانية، وسورة الترف تتعدى على المروءة؛ فالتجارة بخس وتطفيف، والعهود نقض وتسويف، والناس يعيشون عيش الوحش، تنافر وتدابر واحتيال واغتيال وشهوة!! فلما ظهر البطل العظيم والإنسان الكامل كانت شمائله وأفعاله رسالة أخرى في الخلق: كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمثل، وتعليماً لآداب النفس بالعمل، وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة؛ ثم فعلت شخصيته ودعوته في نفوس رويت بالدماء، ونغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، فألفهم على المودة، وجمعهم على الوحدة، ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً، ومن سنته دستوراً، ورمى بهم فساد الدنيا فأصلحوا الأرض، ومدنوا العالم، وهذبوا الناس
ذلك ما تلقيه ذكرى مولد الرسول في روع المؤمن العقول الذاكر! فليت شعري ماذا يجد في نفسه وفي قومه من روح محمد وحرية محمد وخلق محمد! ألسنا نعيش اليوم صوراً كقطع الشطرنج، وأتباعاً كعبيد الأرض، وهمجاً كهمج الجاهلية؟ وهل كان ذلك يكون لو أننا اتخذنا من أحكام الله منهاجاً، ومن كلام رسوله علاجاً، ومن حياة السابقين الأولين قدوة؟
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكام، وسلطان الجهالة، فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً(101/2)
لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!
أحمد حسن الزيات(101/3)
ورقة ورد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(وضعنا كتابنا (أوراق الورد) في نوع من الترسل لم يكن منه شيء في الأدب العربي على الطريقة التي كتبناها بها في المعاني التي أفردناه لها، وهو رسائل غرامية تطارحها شاعر فيلسوف وشاعرة فيلسوفة على ما بيناه في مقدمة الكتاب. وكانت قد ضاعت (ورقة ورد)، وهي رسالة كتبها ذلك العاشق إلى صديق له، يصف من أمره وأمر صاحبته، ويصور له فيها سحر الحب كما لمسه وكما تركه. وقد عثرنا عليها بعد طبع الكتاب فرأينا ألا تنفرد بها، وهي هذه:)
. . . كانت لها نفس شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمعنى واحد أحياناً؛ فيسرها مرة أن تحزنها وتستدعي غضبها، ويحزنها مرة أن تسرها وتبلغ رضاها، كأن ليس في السرور ولا في الحزن معان من الأشياء ولكن من نفسها ومشيئتها
وكان خيالها مشبوباً، يلقي في كل شيء لمعان النور وانطفاءه؛ فالدنيا في خيالها كالسماء التي ألبسها الليل، ملئت بأشيائها مبعثرة مضيئة خافتةً كالنجوم
ولها شعور دقيق، يجعلها أحياناً من بلاغة حسها وإرهافه كأن فيها أكثر من عقلها؛ ويجعلها في بعض الأحيان من دقة هذا الحس واهتياجه كأنها بغير عقل
وهي ترى أسمى الفكر في بعض أحوالها ألا يكون لها فكر ألبته؛ فتترك من أمورها أشياء للمصادفة، كأنها واثقة أن الحظ بعض عشاقها. على أن لها ثلاثة أنواع من الذكاء، في عقلها وروحها وجسمها: فالذكاء في عقلها فهم، وفي روحها فتنة، وفي جسمها. . . خلاعة
وكنت أراها مرحة مستطارة مما تطرب وتتفاءل، حتى لأحسبها تود أن يخرج الكون من قوانينه ويطيش. . .؛ ثم أراها بعد متضورة مهمومة تحزن وتتشاءم، حتى لأظنها ستزيد الكون هماً ليس فيه!
وكانت على كل أحوالها المتنافرة - جميلة ظريفة، قد تمت لها الصورة التي تخلق الحب، والأسرار التي تبعث الفتنة، والسحر الذي يميز روحها بشخصيتها الفاتنة كما تتميز هي بوجهها الفاتن
وكان حبي إياها حريقاً من الحب. فمثّل لعينيك جسماً تناول جلده مس من لهب، فتسلّخ هذا(101/4)
الجلد هنا وهناك من سلخ النار، وظهر فيه من آثار الحروق لهب يابس احمر كأنه عروق من الجمر انتشرت في هذا الجسم. إنك إن تمثلت هذا الوصف ثم نقلته من الجلد إلى الدم - كان هو حريق ذلك الحب في دمي!
والحب - إن كان حباً - لم يكن إلا عذاباً؛ فما هو إلا تقديم البرهان من العاشق على قوة فعل الحقيقة التي في المعشوق، ليس حال منه في عذابه، إلا وهي دليل على شيء منها في جبروتها
ولقد أيقنت أن الغرام إنما هو جنون شخصية المحب بشخصية محبوبه، فيسقط العالم وأحكامه ومذاهبه مما بين الشخصيتين، وينتفي الواقع الذي يجري الناس عليه، وتعود الحقائق لا تأتي من شيء في هذه الدنيا إلا بعد أن تمر على المحبوب لتجيء منه، ويصبح هذا الكون العظيم كأنه إطار في عين مجنون لا يحمل شيئاً إلا الصورة التي جنّ بها!
وتالله لكأن قانون الطبيعة يقضي ألا تحب المرأة رجلاً يسمى رجلاً، وألا تكون جديرة بمحبها، إلا إذا جرت بينهما أهوال من الغرام تتركها معه كأنها مأخوذة في الحرب. . . تلك الأهوال يمثلها الحيوان المتوحش عملاً جسمياً بالقتال على الأنثى، ثم ترق في الإنسان المتحضر فيمثلها عملاً قلبياً بالحب
أحببتها جهد الهوى حتى لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد، ولكن أسرار فتنتها استمرت تتعدد فتدفعني أن يكون حبي أشد من هذا؛ ولا أعرف كيف يمكن في الحب أشد من هذا؟
ولقد كنت في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففر إلى ربوة عالية في رأسها عقل لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه؛ ولا سيل ولا بركان إلا حرقتي بالهوى وارتماضي من الحب
أما والله إنه ليس العاشق هو العاشق، ولكن هي الطبيعة، هي الطبيعة في العاشق
هي الطبيعة، بجبروتها، وعسفها، وتعنتها. إذا استراح الناس جميعاً قالت للعاشق: إلا أنت. . .!
إذا عقل الناس جميعاً قالت في العاشق: إلا هذا. . .!
إذا برأت جراح الحياة كلها قالت: إلا جرح الحب. . .!
إذا تشابهت الهموم كالدمعة والدمعة، قالت: إلا هم العشق. . .!(101/5)
إذا تغير الناس في الحالة بعد الحالة، قالت في الحبيب: إلا هو. . .!
إذا انكشف سر كل شيء، قالت: إلا المعشوق؛ إلا هذا المحجب بأسرار القلب. . .!
ولما رأيتها أول مرة ولمسني الحب لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها ذلك الضياء المسكر الذي تعربد له الروح عربدة كلها وقار ظاهر. . . فرأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعّب ويجري
وكنت ألقي خواطر كثيرة، جعلت كل شيء منها ومما حولها يتكلم في نفسي، كأن الحياة قد ضاقت وازدحمت في ذلك الموضع الذي تجلس فيه، فما شيء يمر به إلى مسته فجعلته حياً يرتعش، حتى الكلمات
وشعرت أول ما شعرت أن الهواء الذي تتنفس فيه يرق رقة نسيم السحر، كأنما انخدع بها فحسب وجهها نور الفجر!
وأحسست في المكان قوة عجيبة في قدرتها على الجذب، جعلتني مبعثراً حول هذه الفتانة. كأنها محدودة بي من كل جهة
وخيل إلي أن النواميس الطبيعية قد اختلت في جسمي إما بزيادة وإما بنقص؛ فأنا لذلك أعظم أمامها مرة، وأصغر مرة
وظننت أن هذه الجميلة إن هي إلا صورة من الوجود النسائي الشاذ، وقع فيها تنقيح إلهي لتظهر للدنيا كيف كان جمال حواء في الجنة
ورأيت هذا الحسن الفاتن يشعرني بأنه فوق الحسن، لأنه فيها هي، وأنه فوق الجمال والنضرة والمرح، لأن الله وضعه في هذا السرور الحي المخلوق امرأة
والتمست في محاسنها عيباً، فبعد الجهد قلت مع الشاعر:
(إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً. . .!)
ورأيتها تضحك الضحك المستحي؛ فيخرج من فمها الجميل كأنما هو شاعر أنه تجرأ على قانون. . .
وتبسم ابتسامات تقول كل منها للجالسين: أنظروها! أنظروها. . .!
ويغمرها ضحك العين والوجه والفم، وضحك الجسم أيضاً باهتزازه وترجرحه في حركات كأنما يبسم بعضها ويقهقه بعضها. . .(101/6)
وتلقي نظرات جعل الله معها ذلك الإغضاء وذلك الحياء، ليضع شيئاً من الوقاية في هذه القوة النسوية، قوة تدمير القلب
وهي على ذلك متسامية في جمالها حتى لا يتكلم جسمها في وساوس النفس كلام اللحم والدم؛ وكأنه جسم ملائكي ليس له إلا الجلال طوعاً أو كرهاً
جسم كالمعبد، لا يعرف من جاءه أنه جاءه إلا ليبتهل ويخشع
وتطالعك من حيث تأملت فكرة الحياة المنسجمة على هذا الجسم، تطلب منك الفهم وهي لا تفهم أبداً؛ أي تريد الفهم الذي لا ينتهي؛ أي تطلب الحب الذي لا ينقطع
وهي أبداً في زينة حسنها كأنها عروس في معرض جلوتها؛ غير أن للعروس ساعة، ولها هي كل ساعة
أما ظرفها فيكاد يصيح تحت النظرات: أنا خائف، أنا خائف!
ووجهها تتغالب عليه الرزانة والخفة، لتقرأ فيه العين عقلها وقلبها
وهي مثل الشعر، تطرب القلب بالألم الذي يوجد في بعض السرور، وبالسرور الذي يحس في بعض الألم
وهي مثل الخمر، تحسب الشيطان مترقرقاً فيها بكل إغرائه!
وكلما تناولت أمامي شيئاً أو صنعت شيئاً خلقت معه شيئاً؛ أشياؤها لا تزيد بها الطبيعة، ولكن تزيد بها النفس
فيا كبداً طارت صدوعاً من الأسى. . .!
ورأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعب ويجري
يا سحر الحب! تركتني أرى وجهها من بعد هو الوجه الذي تضحك به الدنيا وتعبس وتتغيظ وتتحامق أيضاً. . .
وجعلتني أرى تلك الابتسامة الجميلة هي أقوى حكومة في الأرض. . .!
وجعلتني يا سحر الحب؛ وجعلتني يا سحر الحب مجنوناً. . .!
(طبق الأصل)
طنطا(101/7)
مصطفى صادق الرافعي(101/8)
في الجبانة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قالت لي أمي - رحمها الله - مرة:
(ألا تنوي أن تزور أباك في هذا الموسم؟)
وكنا قد أوشكنا أن ندخل في رجب، وكانت حريصة على زيارة موتاها في كل موسم، بل في كل خميس وجمعة، لا تهمل منهم أحداً، فتطوف بهم جميعاً وتقرأ لهم الفواتح، ولا تأكل فاكهة جديدة حتى (تفرق) منها على قبورهم، وكان ذلك يثقل علي، ولكني كنت أكلها إلى رأيها فيه، إيثاراً لمرتضاتها
فقلت - بلهجة من ضاق صدره: - (كيف أزوره وهو ميت وأنا حي، وهو تحت الأرض وأنا فوقها، فلا يسمع مني ولا يراني ولا يحسني؟)
فقالت: (إني أراك مغتراً بالحياة ومعتزاً بها، ولا أستحسن لك هذا) ولم تزد، فأقصرت أنا أيضاً وقد شعرت أني آلمتها بسخافتي وحماقتي، وكرت الأيام، فما يقف الدهر، وماتت - كما يموت كل حي - فكان أوجع لي من موتها أنها ذهبت وهي موقنة أني لن أزور قبرها، وكأنما أردت أن أغالط نفسي فيما تحسه من الوخز والندم، فجعلت أزورها من حين إلى حين، ولكني كنت أتسلل كاللص، وأتخير أوقاتاً غير أوقات الزيارة المألوفة، فلا يعلم بذلك أحد، ولا يراني مخلوق، ثم كففت لأني أنكرت هذا كله من نفسي، وكبر علي أن أذهب إلى المقابر على رجلي، وقلت لنفسي: (إذا كان المراد بالزيارة الذكر، فإنها به أبداً بين العين والقلب، وإذا كان صحيحاً ما يقال من أن الميت يموت مرة أخرى كلما نسيه واحد من الأحياء، فإني لن أجني ميتة جديدة على أمي ما دمت حياً)
ولم يفتر ندمي مع ذلك، فظل دائراً في نفسي، فتشددت، وحملت نفسي على مكروهها، ومضيت إلى قبرها في ليلة سوداء - أعني مظلمة - وفتحت الباب ودخلت المقبرة وقلت (السلام عليكم) كأنما أردت أن أونس نفسي بصوتي في هذه الوحشة، فما راعني إلا صوت يقول: (وعليكم السلام! من تراك تكون؟)
فذعرت، وهممت بالجري، ولكني استحييت، فما يمكن أن يرد السلام غير حي، ولعله مسكين أوى إلى هذا المكان الموحش من الفاقة، وما أكثر من رأيتهم يفعلون ذلك! فما(101/9)
خوفي من رجل يقول: (وعليكم السلام)؟؟ ولو كان امرءاً سوء لاستخفى، فتشجعت وأدرت عيني في المكان فلم تأخذ شيئاً في هذا السواد، فقلت:
(من عساك تكون أنت يا صاحبي؟)
فقال الصوت: (وما سؤالك هذا؟ لن تعرفني على كل حال. فإني قديم - قديم، ولكن تعال ساعدني واحتقب شكري)
فدنوت منه - أعني من مصدر الصوت - وسألت: (على أي شيء تريد أن أساعدك؟)
قال: (على حمل هذا الحجر - فقد وهن عظمي جداً)
قلت: (ولماذا تريد أن تحمله؟ دعه حيث هو، فإنه من حجارة المقبرة وليس لأحد أن يزحزحها عن مكانها أو ينقلها)
قال: (إنك معذور)
قلت: (كيف؟ ماذا تعني؟)
قال: (هذا قبري. وهذا من سواه - عليه اسمي مكتوباً. . . تستطيع أن تقرأه إذا شئت)
فكان من دواعي عجبي بعد ذلك أني لم أذعر ولم أول هارباً، بل أقبلت عليه أسأله وأستخبره فقال: (لقد هجرنا جميعاً هذه المقبرة المهملة - لم يبق لنا فيها مقام. وكيف المقام في قبور متهدمة؟؟ لقد كانت جديدة حسنة البناء يوم جئنا، وكان أهلنا - الباقون منا على قيد الحياة - يعنون بها ويرشون أرضها بالماء ويحملون إليها الزهر والرياحين، فكان نشرها يفوح ويتضوع، فإذا جن الليل خرجنا من القبور مسرورين وأقبلنا عليها نشمها وننعم بشذاها، وكان القراء يتلون على أجداثنا القرآن فيندى على قلوبنا وترف له نفوسنا ونحس أن عظامنا قد طريت. أما الآن. . .!؟ لا يا صاحبي، لم تعد هذه المقبرة صالحة للإقامة! وقد هجرناها، وجمع كل منا كفنه وحمل من له حجر حجره، ورحلنا، وكيف كان يسعنا غير ذلك؟ إنها لم تعد جبانة. . . هذه هي مساكن الأحياء أراها من مكاني هنا. . . فهل هذه مقبرة؟ لقد زحف الناس ببنائهم وغزوا أرضنا وجاروا علينا، وجاورونا، فبالله كيف نطيق جوارهم؟ كيف نحتمل لغطهم وضجاتهم التي لا تنتهي؟ ما عسى صبرنا على حركاتهم التي لا يعقبها سكون؟؟ لكأنا ما متنا ولا استرحنا إذن!؟ وأقول لك الحق لقد بدأنا نأسف على أنّا متنا. . . لا يا صاحبي، لم تبق هذه الأرض للموتى، ولم يعد ثم مفر من(101/10)
الرحيل عنها. . . لقد تعبنا جداً هنا واضطررنا إلى ما لم يكن لنا في حساب. ومن لطف الله بنا أن هذه البلاد قليلة المطر، ومع ذلك كنا إذا أمطرت ينفذ إلينا الماء من سوء حال القبور، وتبتل أكفاننا فنضطر إلى الخروج وننشرها بين أيدينا أو على هذا السور حتى تجف وتعود صالحة للبس. وعلى ذكر ذلك أقول إني لا أدري ماذا جرى للدنيا؟ لقد كانت حفيدة لي مدفونة هنا، وكان عليها كفن من الحرير الغالي، فسرقه لص! تصور هذا؟ ولا أعلم هل سرقه واحد من الأحياء، أو تغفلتها ميتة أخرى وسرقته؟ فإن كان السارق من الموتى فلابد أن يكون من جيراننا فما في أسرتنا هذا السوء. وقد شكت إلي ما صارت إليه من العري، فلم أدر أول الأمر ماذا أصنع؟ وكيف أكسوها؟ وخطر لي أن أنتظر حتى يجيئنا ميت جديد، أو يموت ابنها فآخذ من كفنه لها، فإن الميت الجديد يلف في أكثر مما يحتاج إليه، ولكنه لم يمت مع الأسف، فلم أجد حيلة إلا أن أجعلها دقة بدقة، والبادئ أظلم، فذهبت أرتاد هذه الجبانة حتى رأيت كفناً من الحرير لا أشك في أنه الكفن المسروق، فجئتها بشق منه وتركت شقاً)
وضحك - أعني أنه أخرج صوتاً سألته عنه لأني حسبته كلاماً فقال إنه كان يضحك، فسرت في بدني رعدة، واستأذنته في الانصراف
فقال: (ألا تعينني؟ إن الحجر ثقيل، وأنا هرم، وقد فتر نشاطي من طول الرقاد)
فتناولت الحجر من ناحية، وتناوله من طرفه الآخر، ووضعناه معاً على ظهره، وذهب يخطو، وكانت عظامه تقرقع وهو يمشي، فلما بلغ الباب سألته:
(ألم يبق هنا أحد منكم؟)
قال: (لا. . . ماذا نصنع هنا؟ كلا ليبن فوقها الأحياء إذا شاءوا)
قلت: (وأين ذهبتم، فقد نحب أن نزوركم)
قال: (أين ذهبنا؟ وأين تنتظر أن نذهب؟ انتشرنا في فضاء الله، فإن أرضه ما زالت واسعة، ولن نعدم فيها منأى عن مساكن الأحياء. . . وعلى ذكر ذلك أسألك: ألستم تموتون في هذه الأيام؟)
قلت: (يا له من سؤال؟ كيف لا نموت؟)
قال: لماذا إذن هذا الزحف علينا كأن الدنيا تضيق بكم وكأنكم تزيدون ولا تنقصون؟ لماذا(101/11)
لا يكفيكم ما كان يكفينا؟ كل الجبانات المشهورة صارت أحياء عامرة بالسكان فكيف هذا؟)
فسألته: (وجلا عنها الموتى؟)
قال: (بالطبع! وهل يمكن أن يحتملوا الناس؟ إذن لماذا ماتوا؟)
قلت: (هل تفزعكم الحياة إلى هذا الحد؟)
قال: (كما يفزعكم الموت - كلا. لا يطيق الحياة من نجا منها. . . والآن عم مساء يا صاحبي! هل لك في مرافقتي؟ لا؟ لا بأس! كل شيء مرهون بوقته. . .)
فلم أطلق أكثر من ذلك، وخرجت من الجبانة أعدوا. . .
إبراهيم عبد القادر المازني(101/12)
3 - لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وينكر بعض الباحثين المحدثين هذه الروايات المثيرة، ولا يرون فيها سوى حديث خرافة أو على الأقل أحاديث مغرقة لا تؤيدها أدلة مقنعة؛ ويستبعدون بالأخص أن تمثل لوكريسيا بورجيا في مثل هذه الحفلات العاصفة الشائنة إلى جانب أبيها وأخيها
ولكن الرأي الغالب يميل إلى الاتهام؛ ويرى في أقوال بوركارت ما يؤيد تهمة مخزية أخرى تنسب إلى لوكريسيا هي عشرة المحرم التي أشرنا إليها؛ والتي تزعم أنها كانت خليلة أبيها، خليلة اخوتها
وإليك واقعة خطيرة يستشهد بها الاتهام. في أول سبتمبر سنة 1501، أصدر البابا اسكندر السادس مرسومين مازالا يحفظان حتى اليوم في محفوظات مودينا؛ في أولهما يعلن البابا بأن أبنه شيزاري قد رزق غلاماً غير شرعي يدعى جوفاني في نحو الثالثة من عمره، وأنه يبرئه من عيب هذا المولد غير الشرعي، ويباركه ويعتبره أبناً شرعياً لولده شيزاري، يتمتع بكل حقوق الوراثة الشرعية، وينعم عليه بلقب دوق نيبي؛ وفي المرسوم الثاني يقرر البابا، أنه وإن كان يبرئ هذا الغلام ويرفعه إلى مرتبة الولد الشرعي، فإنه يقرر بأن عيب هذا المولد لا يرجع إلى ولده شيزاري بل يرجع إليه هو (أي البابا) وسيدة حرة (من قيود الزواج)، وإن كان ما يؤول إليه من الحقوق والمزايا طبقاً للمرسوم السابق يؤول إليه أيضاً بصفته ولد البابا وليس ولد ولده شيزاري؛ أو بعبارة أخرى يعترف البابا في هذا المرسوم بأن هذا الطفل هو ولده وثمرة غرامه
فمن هي أم هذا الطفل (الروماني)؟ ومن هي هذه السيدة الحرة، حظية البابا أو حظية ولده شيزاري أو حظيتهما معاً؟
يقول المؤرخ الكبير أميل جبهارت في الرد على ذلك: إن مولد هذا الغلام الروماني (جوفاني) الذي تولت لوكريسيا فيما بعد، حين غدت دوقة فيرارا تربيته، باعتباره أخيها، هو اشد ما في حياة اسكندر السادس وحياة شيزاري غموضاً وإيلاماً. والواقع أن لوكريسيا قد وضعت في سنة 1498 ولداً يتفق مولده بالضبط مع تفاصيل المرسومين البابويين،(101/13)
وتوجد مراسيم أخرى في محفوظات الفاتيكان تنسب هذا الولد إلى شيزاري. يقول جبهارت، فهذا الاعتراف المزدوج بالأبوة، وهذا التناقض، مما يسمح لنا بالإشارة إلى عناصر هذه المسألة المحزنة دون أن نحاول بسطها
وبعبارة أخرى يرى جبهارت أن هذا الغلام هو ولد اسكندر السادس من أبنته لوكريسيا، أو ولد شيزاري من أخته؛ وأن ما كان ينسبه جان سفورزا إلى زوجته عندئذ من أنها كانت خليلة أبيها، خليلة أخيها، إنما هو حق صراح
بيد أن العلامة فوك برنتانو يعترض على هذا الإيضاح بشدة، ويقول أن بوركارت الذي يعني في مذكراته بكل ما يتصل بالفضائح البابوية وبالأخص بفضائح لوكريسيا لا يشير إلى مولد هذا الغلام بشيء؛ وليس معقولاً أن تعنى لوكريسيا بتربية غلام غير شرعي ينسب إليها في بلاط زوجها دوق فيرارا، وهو أمير رفيع الجلال والكرامة؛ وكيف تفعل ذلك، وقد تركت ولدها الشرعي رودريجو لعناية جده؟ ويرى هذا العلامة أن مصدر الشنائع كلها هم سفراء البندقية لدى الفاتيكان، وقد كانت مهمتهم الحقيقية أن يشهروا بإسكندر السادس وأسرته وكل ما يتصل بها
ويرى بعض الرواة المعاصرين أن هذا الغلام إنما هو ولد البابا من خليلته جوليا فارنيسي؛ ويرى آخرون أنه ولد لوكريسيا من وصيف البابا المدعو بيروتو، وقد عاقبه البابا بأن زجه إلى ظلام السجن
وعلى أي حال، فإن في هذه الروايات والشواهد كلها، ما يسبغ أشد الريب على خلال لوكريسيا بورجيا؛ تلك الفتاة الطروب الفاتنة، التي كانت تخوض بلا انقطاع حياة فياضة بالفتنة والغواية، والتي كان جمالها الساحر يثير حولها ضراماً من الشهوات الخطرة؛ وما يسبغ اشد الريب على علائقها بأبيها الحبر الفاسق الذي يسحق تحت قدميه كل مبادئ الأخلاق والحشمة، وأخيها الطاغية الذي كانت الجريمة وسيلته الوحيدة إلى كل غاية
ننتقل الآن إلى صفحة جديد وفي حياة لوكريسيا بورجيا
لم يكد يزهق زوجها الثاني الفونسو دي بزيليا، حتى وضع مشروع جديد بزواجها. وكان المرشح هذه المرة الفونسو ديستي ولد دوق فيرارا وولي عهده؛ وكان الترشيح لنفس البواعث السياسية التي ما زالت تملي على اسكندر السادس وشيزاري تلك المشاريع(101/14)
الزوجية المتعاقبة. وقد تردد الدوق وولده في قبول هذه المصاهرة بادئ بدء لما يعلمانه من غدر البابا وولده، وما توصم به لوكريسيا من شنيع التهم؛ ولكن سفراء فيرارا قدموا عن لوكريسيا تقارير حسنة وصفت فيها بالحشمة والتواضع والتحفظ وبأنها ضحوك يغلب عليها المرح. وتمت الصفقة على أن يدفع البابا لابنته مهراً قدره أربعون ألف دوقة، وأن يتنازل لدوق فيرارا عن بعض الحصون والجهات، وأن يخفظ إتاوته للكنيسة إلى أدنى حد. وتم العقد في فيرارا في أول سبتمبر سنة 1501؛ وفي اليوم الخامس احتفل البابا بإشهار زواج ابنته في كنيسة القديس بطرس احتفالاً شائقاً
وفي أواخر ديسمبر قدم وفد حافل من أمراء فيرارا وأعيانها وعلى رأسه فرديناند ديستي أخو الزوج لينوب عنه في استقدام زوجه، وشهدت رومة مدى أيام سلسلة من الحفلات والمأدب الباذخ والليالي الساطعة المرحة؛ وفي السادس من يناير (سنة 1502) أجريت مراسيم الوداع؛ وغادرت لوكريسيا رومة في ركب فخم من الأمراء والفرسان إلى وطنها الجديد فيرارا فوصلت إليها في الثاني من فبراير بعد رحلة باهرة، واستقبلت بأعظم مظاهر الفخامة والتكريم
وكان مقامها الجديد في قصر قاتم موحش لا يتناسب مع مقامها الفخم في رومة، ولكنها اعتادت حياتها الجديدة بسرعة، وعاشت في هدوء وبساطة، ولم تفقد شيئاً من مرحها وبهجتها؛ وكان هذا المرح الفياض يسحر أهل فيرارا ويجذبهم إليها، وكان زوجها الفونسو ديستي فتى متين الخلق والخلال كثير الخطورة والجد، يؤثر الاهتمام بالشؤون الحربية، ولكن رقيق الشمائل وافر الثقافة، يعشق الفن ويحميه؛ وكانت لوكريسيا تعيش معه في وفاق، يحيط بها حب الأسرة الجديدة واحترامها
بيد أن هذه الحياة الهادئة كانت تكدرها عن بعد مشاريع شيزاري وأعماله؛ وكان شيزاري يومئذ يخترق أواسط إيطاليا بجيشه، ويمزق العدو والصديق معاً، ويحاول بتلك الوسائل الدموية الغادرة، التي أثارت إعجاب مكيافيللي وجعلته يعتبر شيزاري مثله الأعلى للأمير البارع - أن ينشئ مملكة رومانية كبرى؛ وكانت لوكريسيا تقاسي في عزلتها من التبعة المعنوية التي تلحقها من جراء هذه المشاريع والأعمال المثيرة
ثم نزل بها مصاب فادح، ذلك أن ولدها رودريجو الذي كان يربى في بابل في أسرة أبيه،(101/15)
توفي في الثالثة من عمره (أغسطس سنة 1502) فحزنت عليه أيما حزن، وأثر الحزن في هيكلها الدقيق، فلزمت فراشها مدى حين وجداً وأسى؛ ولكنها لقيت من عطف زوجها ووفائه في محنتها ما خفف لوعة وجدها وعاونها على استكمال صحتها
وهنا يحمل بعض المؤرخين على لوكريسيا، ويتهمونها بالقسوة والنذالة لأنها لم تعن بتربية ولدها بنفسها في حين أنها عنيت بتربية (الطفل الروماني) الذي أشرنا إلى قصته
وكانت لوكريسيا في تلك الفترة تعنى بالقراءة؛ ولم تلق في فيرارا شيئاً من تلك الحفلات المرحة التي كانت كل حياتها في الفاتيكان، بيد أنها كانت قد عافت هذه الدنيا الصاخبة، وارتاحت إلى حياة العزلة والسكينة
ولم يمض عام آخر حتى فقدت لوكريسيا أباها اسكندر السادس؛ وكانت وفاته في 18 أغسطس سنة 1503 في سن الثالثة والسبعين
ويصف لنا المؤرخ جيشاردينو وقع وفاته في روما فيما يأتي: (هرعت روما بأسرها، وقد غمرها فرح لا يوصف، إلى كنيسة القديس بطرس، تتأمل ذلك الميت؛ ذلك الشيطان الذي يضطرم طمعاً ويفيض غدراً؛ ذلك الذي سمعت قسوته الوحشية، وفجوره المروع، وجشعه، وجرأته المثيرة في إدارة الشؤون المدنية والدينية، جو العالم كله)
ووقع النبأ كالصاعقة على لوكريسيا. ذلك أنها كانت تحب أباها رغم رذائله وآثامه، حباً جما؛ وكانت تشعر بأن هذا الحنان الفياض الذي كان يغدقه عليها دائماً، هو ملاذ حياتها وعزها، فغمرها الحزن مدى حين. ولكن زوجها وأسرته استقبلا النبأ بارتياح؛ ولم تر لوكريسيا أباها مذ غادرت رومة عقب زواجها، لأن زوجها كان يأبى دائماً أن تزور رومة أو يزورها أبوها في فيرارا
وقد كانت وفاة اسكندر السادس خاتمة ذلك السلطان إلى تبوأ آل بورجيا في إيطاليا مدة ثلاثة عشر عاماً، وكان نكبة حقه لولده شيزاري. ذلك أن مشاريعه انهارت في الغداة كانهيار قصر أسس على الرمال أن فقد ذلك العضد القوي الذي كان مصدر كل قوته وبطشه؛ فالتجأ إلى جونزالفو دي كردوفا قائد الجيوش الإسبانية في نابل، ولكنه اعتقله وسلمه إلى ملك إسبانيا فردياند الكاثوليكي؛ فزجه إلى السجن معتزماً أن يحاكمه على جرائمه التي أصابت كثيراً من أفراد أسرته؛ ولكن شيزاري استطاع أن يفر من سجنه بعد(101/16)
خطوب جمة، وان يلتجئ إلى حمية ملك نافار؛ وهناك جرح في إحدى المعارك، وتوفي في سنة 1507؛ واختتمت بذلك حياته المدهشة التي اتخذها الفيلسوف ماكيافيللي مادة لشرح كثير من آرائه من خلال (الأمير) الأمثل
في يناير سنة 1505 توفي هرقل ديستي دوق فيرارا، فخلفه ابنه الفونسو في الحكم، وغدت لوكريسيا بورجيا دوقة فيرارا
وكانت فيرارا تجمع في ذلك العهد طائفة من أكابر الكتاب والشعراء والفنانين بظلهم الدوق برعايته، أسوة بباقي القصور والعواصم الإيطالية الزاهرة؛ وكان ذلك السحر الذي تنفثه لوكريسيا أينما حلت يجذب إليها هذه الصفوة، فتجتمع حولها في ذلك البلاط الزاهر؛ وتشملهم الدوقة المستنيرة النابهة بعطفها وحمايتها
وكان من هؤلاء الشاعر الشيخ شتروتسي وولده هرقل شتروتسي وهو شاعر أيضاً، وأنتونيو تبالديو، وكالكانيني؛ ونيكوليو كوريجيو وهو من اعظم شعراء العصر؛ وجاكوبو كافيشيو أسقف فيرارا، وهو كاتب قاص؛ ثم الشاعرين الفتيين لاريوستي وبيتروبمبو
وكانت هذه الصفوة المفكرة تتغنى بسحر الدوقة الحسناء وتشيد بخلالها ومواهبها في نثرها وشعرها؛ وتهدي إليها كتبها وقصائدها. ومما يذكر أن شتروتسي الشيخ وصفها في بعض قصائده بأنها (مجمع عجائب الأرض والسماء كلها، وليس يوجد لها نظير في العالم كله)
وكانت لوكريسيا تبادلهم القريض أحياناً، وتنظم باللاتينية قصائد ساحرة، فتذكى بذلك إعجابهم وهممهم
بيد أن هذا الجو الأدبي الزاهر كانت تكدره سحب الريب والظنون، وكان اشد أولئك الشعراء تأثراً بسحر لوكريسيا بيتروبمبو؛ وكان بمبو من سادة البندقية، فتى جميلاً، بديع الخلال والمواهب، بارعاً في التاريخ والشعر، وكان من شعراء بلاط فيرارا، ومن أخصاء الدوق، يضطرم نحو الدوقة الحسناء إعجاباً وحباً؛ وكان يوجه إليها كثيراً من الرسائل والقصائد في مختلف المناسبات؛ ومن ذلك تلك القصيدة التي نظمها باللاتينية للإشادة بمعبودته
إلى لوكريسيا بورجيا
(أيتها الحسناء، أنت أجمل من أوربا، أنت ابنة ملك آجنور، ولست مثل هيلانة الإسبارطية(101/17)
التي اختطفها باريس التروادي، تسمحين لجمالك أن يطغى على عبقريتك. وإذا قلت الشعر بالإيطالية فأنت ابنة الأرض الإيطالية. وإذا تناولت القلم لتكتبي القريض بنفسك، فإنه لقريض يجدر بوحي الشاعر؛ وإذا راق لك أن تهزي أوتار القيثارة، فإن أمواج نهر بو ترتجف في مجراها سحراً من غنائك، وإذا راق لك أن تستسلمي إلى الرقص بقدمك الطائر، فآه! إني لأخشى أن تلفتي نظر إله ما، فيأتي لاختطافك من قصرك، ويحملك إلى السماء، ويجعل منك أيتها الحسناء الرائعة، إلهة كوكب جديد)
كان بمبو يشعر نحو لوكريسيا بأكثر من الإعجاب والحب، كان يشعر نحوها بهيام مبرح؛ وكان هذا الهيام يبدو في قصائده ورسائله مع شيء من التحفظ تمليه عليه الظروف واتقاء الريب. ذلك أن الفونسو ديستي كان أميراً صارماً عنيف الأهواء، وكان يحب زوجه، وإن لم تكن كل شيء في حياته الغرامية؛ وكان يحيط الدوقة بسياج منيع من غيرته وصرامته، ويرد العواطف المتوثبة إلى سحرها وجمالها في مهادها
بيد أن الروايات المعاصرة تقول إن لوكريسيا كانت تقابل حب بمبو بمثله، وأن علائقهما الغرامية اتصلت مدى حين أثناء إقامة الشاعر في فيرارا حتى سنة 1506؛ وقد كان طبيعياً أن يتفتح قلب لوكريسيا في مثل هذه الظروف؛ فقد كان الفونسو ديستي مشغولاً عن حب زوجه بمشاريعه السياسية والعسكرية، وكانت لوكريسيا تتأثر بجمال الشاعر ورقة شمائله وفيض هيامه؛ وكانت تبادله الرسائل؛ وما زالت رسالة منها تحفظ في مكتبة امبرواز بميلان ومعها خصلة من شعرها، ذلك الشعر الذهبي الأشقر الذي كان يبث من حولها النور والسحر. وقد كانت نفحة الوداع. ذلك أن بمبو رأى أن يغادر فيرارا فجأة (سنة 1506) بعد أن أقام بها ثلاثة أعوام؛ وقد كان ذهابه نوعاً من الفرار، ولعله كان اتقاء لريب الدوق وبطشه، وربما رأى المحبان أن الفراق خير وسيلة للسلامة من عواقب غرام خطر
ولقد لبث بمبو يكاتب معبودة قلبه من أوربينو مقامه الجديد حتى وفاته في سنة 1519. وهناك من يرى أن علائق لوكريسيا بالشاعر لم تتعد الصداقة الحميمة، وأن هيامه بها لم يكن سوى نوع من عبادة الجمال والحب الفلسفي
ولا ريب أن بمبو كان فتى حريصاً فطناً حين خشي نقمة الدوق. ذلك أن زميله الشاعر الفتى شتروتسي وجد ذات يوم قتيلاً مخضباً بدمائه (يونيه سنة 1508). وطارت الإشاعة(101/18)
في الحال بأنه ذهب ضحية لغيرة الدوق وبطشه، ذلك أنه كان يهيم بالدوقة، ويشيد بجمالها في شعره دون تحفظ. ولكن رواية أخرى تقول إن لوكريسيا لم يكن لها في تلك المأساة شأن، وأن الدوق كان يهوي فتاة حسناء هي بربارة توريللي، وقد تزوجت من شتروتسي، فقرر الدوق موته لكي يزيله من طريق هواه
وعلى أي حال فإن الرواية تقرن اسم لوكريسيا بكثير من مآسي الحب الخفية التي وقعت يومئذ ببلاط فيرارا.
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي(101/19)
استدراك وتصويب
قرأت في العدد 99 من (الرسالة الغراء) مقال الأستاذ المغربي (بين الفقه الإسلامي والروماني) فرأيته تلطف في الرد على الخواجه ميشيل عند قوله:
(إن أبا حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً) وهي غلطة ظاهرة لا يسوغ لأحد أن يغتر بها، لأن روايات أبي حنيفة على تشدده في شروط الصحة لم تكن سبعة عشر حديثاً فحسب بل أحاديثه في سبعة عشر جزءاً يسمى كل منها بمسند أبي حنيفة، وقد خرجها جماعة من الحفاظ بأسانيدهم إلى الإمام ما بين مقل منهم ومكثر حسبما بلغ إليهم من الأحاديث التي يرويها، وليس بين تلك الأجزاء جزء أصغر من سنن الإمام الشافعي رواية الطحاوي ولا من مسند الشافعي رواية أبي العباس الأصم اللذين عليهما مدار أحاديث الإمام الشافعي. وقد عنى أهل العلم بتلك المسانيد جمعاً وتلخيصاً وتخريجاً وقراءة وسماعاً ورواية؛ فهذا الشيخ محدث الديار المصرية الحافظ محمد بن يوسف الصالحي صاحب الكتب الجليلة في السير وغيرها يروي تلك المسانيد السبعة عشر عن مشايخه ما بين قراءة وسماع ومشافهة وكتابة بأسانيدهم إلى مخرجيها، وذلك في كتابه (عقد الجمان). وكذا يرويها بطرق كثيرة محدث الديار الشامية الحافظ شمس الدين بن طولون في (الفهرست الأوسط) عن شيوخه سماعاً وقراءة ومشافهة وكتابة بأسانيدهم كذلك إلى مخرجيها، وذانك الحافظان هما زينا القطرين في القرن العاشر الهجري، وكذلك حملة الرواية إلى قرننا هذا ممن لهم عناية بالسنة. وما تلك المسانيد والكتب ببعيدة عن متناول أهل العلم، بل بعضها مطبوع في الهند. . . إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً في (شروط الأئمة الخمسة للحازمي المطبوع سنة 1346)
أبو أسامة
هراقليوس في المعبد
البطل
للأستاذ معروف الارناءوط
كاتب (سيد قريش) وصاحب (فتى العرب)(101/20)
تتمة المنشور في العدد الماضي
كان معبد القديسة هيلانة غارقاً في الصمت، فليس في نواحيه أثر من صلاة، ولا تنير محارمه ومناسكه هذه الشموع الكثيرة التي تنير أروقة كنيسة القبر المقدس؛ وقد جفاه المرتلون والعازفون، فما يسمع هراقليوس في عزلته صوتاً يحرك في نفسه شعور التقي والورع، بل ليس في هذا الرمس الذي انحدر إليه، قسيس يطمئن إلى لباسه أو يستريح إلى إرشاده ونصحه، ولو كان هنالك تقي لخف إليه وسأله أن يترع نفسه بالعزاء الذي يحبه ويشتاقه
ثم عاف هراقليوس الهيكل وأقبل على الجدر يتجسسها ويتفحصها ويستند إليها، وهو يحاول الخروج من المعبد؛ وأنه ليمشي في لين ورفق حذر السقوط إذ صافحت عيناه نزلة أخرى صورة ذلك الأعمى، فوقف ينظر إليها على ذلك النور الضعيف الذي يرسله القمر من صدوع في القبة الفيحاء، فلما حدق إليه ارتد به الخاطر في خفة الوميض إلى الحياة (موريس) التعس الذي سوغ الظالم (فوكاس) قتله مع بنيه في ليلة من ليالي الخريف الحافزة. وقد كان (موريس) قيصر الرومان وسيد هذه الدنيا طولا وعرضا، فألب (فوكاس) عليه الغوغاء وهاجمه وهو نائم في قصره، ففر إلى جزيرة (انتيغون) على الساحل الهادئ في بحر (مرارا) ولحق به بنوه وصحبه، فما تريث الطاغية (فوكاس) في اللحاق به حتى أدركه وقتله شر قتلة بعد أن غمس يده في دماء بنيه الخمسة، ولم يفلت من هذا الموت الكريه غير فتى صغير اسمه (كريستيا)، وغير فتاة صغيرة اسمها: (سافو) ومعهما تلك الإمبراطورة التعسة (تيوفانو)، ثم ثار الشعب على (فوكاس) الذي لبس التاج، وكان (هراقليوس) زعيم هذه الثورة وبطلها، وكان شعاره وشعار الثائرين الذين صحبوه إلى قصر الطاغية اسم الصغير: (كريستيا)، وكان ينبغي لهراقليوس بعد ظفره بالقاتل السفاح أن يضع على رأس الفتى تاج أبيه. فما فعل إرضاءً لمطامعه ونزواته، ثم كان من أمر (كريستيا) أن توارى عن الناس خشية أن يفتك به أنصار هرقليوس، وطويت الأحاديث عنه وما عاد رفاق أبيه يذكرون من أمره وأمر أخته وأمه شيئاً!
لقد كانت خيالة الفتى الأعمى في الصورة المائلة تشبه خيالة كريستيا، فهتف هرقليوس(101/21)
وهو ينظر إليها: (كريستيا! كريستيا!) ثم وضع يده على عينيه كأنما هو يحاذر أن لا ينظر إلى الصورة نزلة أخرى، ولكن الذكريات المؤلمة التي تعاورت نفسه في المعبد المقدس، ظلت على عنفوانها وعنفها، فما كان يستطيع أن يفلت منها، ثم زحمته هذه الذكر الطاغية وانقلبت به إلى تلك الليلة الصادرة التي ابتعث فيها بعض رجاله على الذهاب إلى (نيكوميديا) تحت الودق المنهمر، فذهبوا وبعد قليل عادوا ومعهم فتاة حسناء احبها قيصر حتى شغفه حبها، ثم جاءوا بضحيتهم إلى القصر والقوا بها إلى سرير في غرفة ينام فيها هراقليوس وعلى حوائطها صور الصالحين والرسل!
لقد ناشدته تلك الفتاة انتصاراته لعله يستبقي عفافها فلا يدنسه، فلما لم تنجح في استمالته أو مضت بيدها إلى صور الصالحين والرسل، وسألته بحق هؤلاء ألا يعبث بطهارة فتاة يتيمة كان أبوها من احسن المنافحين الذائدين عن حياض النصرانية، فما أمالته ذكريات انتصاراته عن أهوائه، ولا ثنته صور الصالحين والرسل عن منازعه، فراح يحتبس الفتاة العانية بين ذراعيه المشبوبتين غير ذاكراً فضل أبيها النبيغ البطل في تأثيل انتصاراته وتوثيق غاراته!
اسم هذه الفتاة (بليتزا) واسم أبيها الغطريف (تيوفان)، ذكر هراقيليوس هذا كله فيئس وابتأس وترجف ورعد، ورأى إلى كوارث حياته كأنها تجتمع في حضيض البيعة الصغيرة، فأدرك وهو الذكي الألمعي لماذا لم تستقبله الأماكن الطاهرة بمثل تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد الوثنية، فصاح صيحة أليمة وخرج على شفتيه اسم (بليتزا)، فردد هذا الاسم فضاء المعبد الساكن! وراح الرجل الذي دخل بيت المقدس في حاشية من بطاريق الجيش وبطاريق الكنيسة يغمس يده في صدره، فيمزق ثوبه القيصري ويرمي بدرره وذهبه إلى حضيض المعبد، وشفتاه تتحركان بذلك الاسم الذي ما كان يفكر فيه قبل هذه الليلة:
بليتزا، بليتزا!
كان هذا الاسم أول ألحان هراقليوس في الأماكن الطاهرة، ولكن هذا اللحن الشجي لم يلبث أن استحال إلى نواح مذيب، فجعل الرجل المنتصر على الوثنية ينشج ويده تتجسس العمد الرخامية، ثم جلس على الأرض ووارى عينيه حتى لا يرى إلى هذه الصور!(101/22)
ولما فتح عينه وردد نظراته في الجدار القائم إلى يساره أخذته صورة جديدة لم ينظر إليها من قبل فحدق فيها على زهده في الصور وابتعثته هواجسه الثائرة على الوقوف حيالها وفمه لا يزال ندياً بذلك الاسم الذي ألقى به إلى جوف الكنيسة الكبرى ثم ترعد وترجف وانفلت من صدره صياح اليم وارتد القهقري مسفوعاً عانياً، وأخذت الصورة التي أبصرها قائمة إلى يساره تتحرك وتهتز. ثم جفت الجدار ومشى ناسها في صف واحد إلى ناحية هراقليوس، فكان كلما تراجع أمام أشباحها أخذته هذه الأشباح أخذ عزيز مقتدر ومنعته أن يشق طريقه!
فأي صورة هذه؟ وكيف قدر لأشباحها أن تترك مكانها على الحائط لتمشي في حضيض المعبد كما يمشي الناس، وتنظر بعيون فيها من وميض الحياة وإشراقها ما في عيون الأحياء من وميض وإشراق!
ولما أوشكت هذه الطيوف الخرساء أن تزحمه حدق فيها عن كثب فإذا هي أربعة أشباح أحدها مشوه الخلقة، محمر الصدر، تضطرب في وجهه عينان غائرتان وإلى جانب هذا الشبح ثلاث نساء، فيهن امرأة عمياء على وجهها الصبيح شيء كثير من النعماء، وكانت العمياء تلبس السواد، وقد سدرت شعرها الأشقر على كتفيها وراحت تستند إلى ذراعي فتاة ما تزال حديثة عهد بالحياة، فما قدر هراقليوس أن يتعرف إلى خيال المرأة الثالثة، فصدف عنه وتهافت على العمياء ينظر إليها في خوف وإشفاق، واخذ فمه يردد اسم (بليتزا) بينما ضياء القمر لا يزال يتسرب من صدوع في القبة إلى الحوائط والجدر، وبينما ملابس الأشباح قد حاكت في حمرتها وصفرتها وزرقتها ألوان الفسيفساء التي أخذت تخطف على العمد والأقواس والقناطر، ولقد خيل إلى هراقليوس أن الصورة التي خرجت من الحائط الشمالي ما عادت تمعن في اللحاق به فسخر من هذا الجنون الذي تولاه، وتضاحك حتى لقد سرى ضحكه إلى أنحاء المعبد وأدرك أن قيصر الرومان قد افرط في مخاوفه، وما ينبغي له أن يفرق من صورة تراءت له على الرخام، ولما اطمأنت نفسه جعل ينظر إلى يده فإذا عليها ذلك الدم الذي تسايل من جبينه، وللمرة الأولى أخذته عزة الزعيم الغطريف، فأزرى بالشعور الذي رافقه في مطافه، وهو شعور يشعر به الدهماء، ولا يشعر به الزعيم تحت اللواء(101/23)
وفيم هذا الخوف؟ ولماذا تميد نفسه لذكريات الماضي، وليس في هذه الذكريات ما تنكره السلائق والشيم؟ نعم، لقد احب في مواضي أيامه امرأة اسمها (بليتزا)، وأحب القياصرة من قبل نساءً من الشعب، ثم ماتوا، ولم يقرض نفوسهم المخاوف، وحيث قد احب هراقليوس فتاة من بنات الشعب فأولى له أن يطمئن إلى هذا الحب ثم أولى له أن يطمئن إلى غده، لان (بليتزا) التي احب صارت في الغابرين
ولما رفع رأسه شامخاً مستكبراً، وأنحى ناحية الباب يريد الإفلات من هذه الهوة الراعبة، لحق به الأشباح في صف واحد، فما حفل بهذا المشهد، وخيل إليه أن اهتزاز الصورة ما كان غير وليد تصوراته وسبحه، ولكن المرأة العمياء أدركته عند الباب وهتفت باسمه (هراقليوس!)
وفي هذه الفينة لم تفته الحقيقة الراعبة فعضض يده من جزع وإشفاق وسرى جرس العمياء إلى نفسه كالصليل، فتلفت فإذا التي تصورها خيالاً تقبض على يده فتناديه: هراقليوس! هراقليوس! انظر إلى وجهي ملياً وقل لي ماذا رأيت عليه؟
وأخذت (بليتزا) تجذبه إلى ناحيتها فشعر بحرارة أنفاسها ينظر إليها مبهوتاً حائراً ثم أطبق عينيه كأنما هو يريد ألا يرى إلى صورتها الشجية، وظلت (بليتزا) تستجيشه وتحركه وتذكر له الماضي حتى أفاق وفتح عينيه على الصورة الجاهمة سائحاً:
- بليتزا! بليتزا! قالت:
- نعم بليتزا، تلك الفتاة التي جئت بها من حجرتها في (نيكوميديا) إلى حجرتك في القصر ورحت بها إلى سريرك، فتوسلت إليك ألا تعبث بعفافها عن كثب من صور الصالحين والقديسين والرسل! نعم أنا بليتزا، ولست خيالاً كما توهمت، فإذا كنت لا تزال في ريب من أمري، فهاك يدي فجسها، ودونك صدري فاستمع إلى وجيبه، وقل بعد ذلك إذا كنت لا تزال تحلم أم انك تؤمن بهذا الذي ترى!
لقد كان البرد الشديد، وهذا الخوف الذي تولاه، وذكريات الماضي التي تجددت في نفسه، وانبعاث بليتزا في المكان النابي المليء بأوجاع النصرانية وآلامها، وهذه الأشباح التي رافقته في مطافه، كان هذا كله مثار أحزان جديدة في نفسه، فما عاد يستطيع أن يجنب عينيه النظر إلى رفاق بليتزا، فرأى إلى (نفتالي) ثم إلى (بنيامينا) ثم إلى (مارية)! وفتح(101/24)
فمه ليتكلم فما خرج لسانه على شفتيه، فأومض بيديه كأنه يريد أن يسأل العامدة عن رفاقها ففطنت إلى أمره وقالت له:
- هذه الصغيرة التي ترى هي ابنتي وقد أسميتها (مارية) تحبباً إلى مريم والدة السيد المسيح، ولقد تسألني عن أبيها، ألا فاعلم يا مولاي أن أباها هو هذا الرجل الذي سألت نفسه على حوائط الكنيسة في هذه الليلة القمراء! واسمه هراقليوس ومكانه في قصر (الشالسيه) عند شاطئ البحر الأزرق في القسطنطينية! فانطلق لسانه ساعة رن في سمعه اسم مارية وأثنى صائحاً:
- ابنتي! ابنتي! فقالت العمياء:
- ابنتك وابنتي معاً!. . . فقال:
- وهذا؟ فصاحت العمياء:
تقدم أيها السيد نفتالي وقل له أي رجل أنت، واحسر له عن أمر هذه الفتاة التي هي ابنتك، فتقدم ذو القروح من قيصر وكشف عن صدره سائحاً:
لعلك أيها المولى الذي تفيأ أعلام الحرب، واستمع لأناشيد النصر من شواطئ أفريقيا إلى شواطئ البحر الزاخر في بيزنطية، لم تنس ذلك الرجل السري الذي كان يجوب شطآن البحر الأحمر باسمك، ثم يفيء إلى دار ملكك وقد ملأ سفنه بطيوب الهند ونفائس عدن
كان الناس يعيدون ذكرى ليلة الميلاد، وكنت في جملة الذين آمالهم التقى والورع إلى الصلاة، وكان الناس يرون في (نفتالي) وذلكم هو اسمي البغيض الكريه، سيد بلاد الجليل في ثرائه وترفه، فحسدني الجميع، وأخذتهم الغيرة من ذيوع أمري، فلما صليت مع المصلين راحت عيناي تنظران إلى صورة للسيد الناصري، فالتقيت إليها بنجوى القلب، وسألت الرجل الذي طربت جبال الجليل لصوته أن يباركني، ثم رجعت إلى منزلي لأمضي ليلة العيد حيال طفلتي وامرأتي، وفي الصباح أحاط الجند بمنزلي وتبارى الناس في سبي ولعني، ثم خرج بي الجند إلى الميادين، وقرئ علي أمر قيصر بإحراقي، لأنني نظرت في صلاتي إلى صورة السيد، ولان هذه الصورة وجدت مطروحة على أديم المعبد، ثم استبدل قيصر التحريق بالتغريب، وألقى بي رجاله في القفرة النائية بجوار البحر الميت، وماتت امرأتي من الألم والغم، وعاشت ابنتي عيشة لا تشرف حياتها!. . . هذا هو(101/25)
كل أمري فما أظنك نسيت نفتالي، ولا أراك نسيت (بنيامينا) ابنته التعسة
لقد جئت هذا المكان الطاهر من مكاني السحيق البعيد، لأرى إليك وأسمعك دعاء وعيته وحفظته، ثم علمته ابنتي لتجهر به أمام السيد الذي رد إلى المحزونين والماحلين وما هم في حاجة إليه من شباب وعافية، وطلاقة وبشر. انظر يا مولاي إلى ابنتي! لقد كانت في عفافها ونقائها كهذه الصورة التي تمثل السيد في طفولته، فعبث بها رجالك، هؤلاء الذين جابوا العالم كله باسم النصرانية، فلما رجعوا إلى مهدها رجعت إليهم سلائق الوثنية فقتلوا البريء واضطهدوا البريئات!
ولما سكت (نفتالي)، قالت (بليتزا): (لقد حرمني الألم والنفي والسهد ضياء عيني فما نعمت بالنظر إلى محيا الطفولة التي انبثقت من دمي، وعشت في (عين كارم) عيشة راعبة لا تليق بمن كانت ابنة لتيوفان البطل! وكانت آلامي تنمو بجانب نمو ابنتي حتى كرهت الحياة ومللت مقامي بين الأحياء، ولكن صوت الطفلة التي أحببت جنبني موتاً ما كنت أجد في غيره راحة لنفسي، ثم نذرت لأمضين إلى المسيح في مهده فاسمعه بثى، فإذا لم يسمع انطلقت إلى لحده وأيقظت رفاته
وكنت عالمة بوصولك الوشيك إلى الشام فرجعت أسأل عنك فإذا قيل لي أنك بلغت في زحفك شواطئ الفرات، حلق وهمي في فضاء النهر الزاخر، وطغت هواجسي، فلعنتك وأسرفت في اللعن، وإذا قيل لي أن قيصر وطئ البوادي سرب خيالي على الرمال وقذف فمي البغض والحقد وإني لأقسم لك أن بغضي في احتدامه وثورته مقتبس من سموم الرياح الهوج ساعة ترتمي على الرمل فتذروه في كل فضاء! فإذا قيل لي انك نزلت في منازل عدوك عند المدن الوارفة الظل نزل بي شعوري حيث أنت ورفعت صورتي لأمنعك من غناء جندك الظافر، وهكذا كنت اتبع ظلك وأترسم خطوك وأنا في القرية المتواضعة فالحق بك إلى الأنهار والرمال وإلى المدن حتى اطل شبحك على المدينة المقدسة وسمعت عزيف أبواقك ولم يفتني صليل سلاحك فجفوت مكاني في (عين كارم) وجئت (بيت لحم) فدعوت عليك ورافقت موكبك إلى الكنيسة (القبر المقدس)، وما زلت ارقب خطوك حتى خلت الكنيسة من المصلين والزائرين، وحتى رأيتك تنحدر إلى محراب القديسة هيلانة فسبقتك إليه ووقفت مع رفاقي في الألم والعذاب انظر بعيني قلبي إلى نفسك السائلة على الحوائط(101/26)
والجدر! هراقيليوس! هراقيليوس! كيف أنت؟ كأننا لم نفترق وكأن الأيام لم تفصل بيني وبينك وكأن تلك الحجرة التي ازدانت بتصاوير الصالحين والرسل، وما زالت تحتوينا معاً! ولكن مصاير الناس تعاورها الحذف والتبديل فقد كنت لسنين خلت ذلك الرجل المزهو بانتصاراته، وكانت (بليتزا) التي فزعت إلى الناصري في الليلة الليلاء تنظر في كثير من الزهو إلى مصرع ذكائك!. . هراقيليوس! ناشدتك الله أن تقول لي كيف أنت؟
لم يكن في ميسور هراقليوس أن يرفع عينيه إلى هذه الأطياف فلقد برح الرعب به تبريحاً أليماً، وأيما بأسه وشجونه خيال بليتزا، وخيال ابنتها واستجاش جواه ذلك الصدر القريح الذي حسر نفتالي عنه، فتقاصر وتصاغر وراح جاثياً على قدمي العمياء مستغفراً تائباً، فسمعت مارية ابنته صلاته الهامسة، فدلفت إليه وقالت: أبي! أبي! فما سمع ندائها الرفيق الشجي، بل ظل يتخافت بصوته، بينما كان نفتالي وبنيامينا يصليان في زاوية المعبد صلاة لم يخالطها كثير أو يسير من البغض، وبينا ماريا الصغيرة تنظر إلى أبيها الدميع بعينين رحيمتين بريئتين
وكان ضياء القمر لا يزال يتسرب من صدوع في القبة إلى أرض المحراب، فينير الصور التي على الحوائط والجدر. ثم ينثر أشعته الخفيفة على وجوه الأربعة الذين أتموا نذورهم في الليلة الرهيبة التي أرادها هراقيليوس خاتمة صومه وحجه!
رزح قيصر تحت وقر هذه الصور القائمة، فأغفى على الحجارة، وسبحت نفسه في عالم قصي بعيد، فلما استوثق نفتالي من إغفاءته تلفت إلى بليتزا وقال لها: (لنذهب يا سيدتي قبل أن يستفيق، فلقد قضينا نذورنا ولم يبق لنا ما نعمله في الأماكن الطاهرة! فقالت بليتزا: (أترجع إلى البحر الميت أيها السيد نفتالي، قال: نعم سأرجع إلى منفاي مع ابنتي، قالت: فإذا أبصرك الحرس فماذا تقول؟ فقال: لن يبصرنا الحرس يا سيدتي، لأننا سنخرج من باب خفي، وما اكثر الأبواب الخفية في هذه المحاريب! فقلت: افعل ما تريد فعله حماك الله ورعاك! ثم نظرت إلى هراقيليوس النائم نظرة راثية وألقت بنفسها بين ذراعي ابنتها هامسة: لقد عفوت!. . .) فبرقت أسارير الصغيرة من الفرح وقالت:
- إن الله قد عفا يا أماه!
ولم يشأ نفتالي أن يكون في معزل عن هذه الرحمة التي خالجت قلبي الأم والبنت، فاخذ(101/27)
بذراع ابنته وقال لبيتزا:
- لقد عفوت يا سيدتي وعفت ابنتي!
وفي خفة البرق صعد الأربعة سلم المحراب فاستقبلتهم جميعاً سدفة فاحمة تغشى الكنيسة الكبرى!
دمشق
معروف الارناءوط(101/28)
تطور الحبشة
لكاتب مطلع
الحبشة بلد المتناقضات إلى أقصى حد، فهي تجمع بين مناخ المنطقة الاستوائية ومناخ جبال الألب، وبين الخشونة والرقة؛ وهي أفريقية الموقع، ولكنها وليدة التقاليد العريقة التي تعاونت على إيجاد أوربا. والإمبراطور يحمل فوق رأسه تاج سليمان ويحكم أقواماً حربيين يعيدون ذكرى رجال الإقطاع في العصور الوسطى، وفوق ذلك كانت الحبشة موطن قبائل الجالا أثناء حكم الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، كما أنها غزت مصر قبل المسيح بثمانية قرون
ولقد ساعد اختلاف الجو وتراوح ارتفاع الأرض عن سطح البحر بين 4000 , 900 متر على اختلاف الأجناس. ولعل هذا الاختلاف في الأجناس كان السبب في إطلاق العرب على هذه البلاد لفظ الحبشة، ويعنون به (تعدد الأقوام)، فإن الواقع أنك تجد كل أنواع الأجناس البشرية فوق هذه الهضبة العالية المنفصلة عن العالم بأسوار شامخة وصحار سحيقة. والأحباش يتكونون في الأصل من قبائل الجالا والصومال، ثم كان نتيجة اكتظاظ القصور بالجواري السود أن نشأ جنس ضارب إلى السواد. أما قبائل الوالوس فهم يهود يدعون أنهم من نسل أصحاب ملكة سبأ ومن التجار الذين كانوا يتاجرون أيام سليمان. وكل هؤلاء الأقوام يتكلمون لغات مختلفة تقرب من ستين لغة فصيحة ومائتي لغة دارجة. على أن أكثر اللغات تداولاً هي اللغة الأمهاريكية وهي لغة اليهود الأولى بعد اللغة العربية، واللغة التيجربة المسماة (لغة المسيحيين)، أما اللغة الجيزية فهي اللغة الأدبية التي ترجمت إليها التوراة. على أن من يحسنها من أبناء الشعب لا يتعدى عدداً يسيراً. ويجب أن نفهم من هذا الاختلاف الظاهر تاريخ هذه الأمة التي استطاعت حتى الآن أن تحافظ على استقلالها بفضل استعدادها الحربي والمنافسات القائمة بين أعدائها
إن الأحباش على رغم اختلافهم يشتركون جميعاً في الاستعداد الحربي الذي هم مدينون به لطبيعة بلادهم. فالجبل يخلق أجناساً أقوياء البنية، ولقد روى مسيو مونفريد أنه كثيراً ما أرسل سعاة يحملون رسائل إلى دير داؤوا حيث كان يسكن تشرشر، وكانت المسافة ثمانين كيلو متراً خلال الجبل والوديان المحرقة (فكان الرجل يرحل عند الصباح حاملاً خطابه في(101/29)
عصا مشقوقة، ويعود بالجواب في مساء اليوم التالي، فكأنه قطع مسافة 160 كيلو متراً في ست وثلاثين ساعة. وفي المرة الأولى كنت عظيم الدهشة والحيرة، إذ بينما كنت أنتظر من الرجل أن يلهث أمامي من الإعياء إذا بي أراه بعد ساعة يشترك في الرقص دون أن تظهر عليه دلائل التعب. ومما يبعث على العجب أن أولئك الرجال يقومون بهذه الرحلات الشاقة وطعامهم حفنة من القمح وسيقان من الذرة يقتلعونها أثناء الطريق ويأكلونها أثناء جريهم، أما نساء بعض الأقاليم فهن يقطعن كل يومين مسافة 35 أو 40 كيلو متراً تقريباً حاملات على ظهورهن حملاً يبلغ خمسين كيلو، وذلك لقاء ثمانية أو عشرة قروش، أو ما يعادل فرنكين وخمسين سنتاً تقريباً، وعندما يعرض عليهن في منتصف الطريق شراء ما يحملن بالثمن الذي سيبعن به في دير الداؤوا يرفضن خشية أن يفقدن بذلك نصف قرش. وأولئك التاجرات اللواتي لا يتعبن هن اللواتي يصحبن الجنود في غزواتهم، فالجيش تمده ذخيرة من النساء فيسهلن له أكلاف الحياة الضرورية، ويحملن أدوات المنازل المتنقلة. وحالة الجيش المعنوية تكون دائماً على جانب عظيم من القوة، والجندي لا يعرف نظام المعسكرات، وهو يحيا حياة كاملة الحرية، فينزل في أي مكان كأنه في داره الخاصة؛ والإنجليز والطليان يعرفون بالتجربة القيمة الحربية للشعب الحبشي: يعرفها الإنجليز منذ الاستيلاء على مجدلة وإخلائها عام 1868، ويعرفها الطليان منذ هزيمتهم في دوجالي عام 1887، وفي عدوه عام 1896)
وعواطف هذا الشعب من نوع شجاعته أثناء العمل وأثناء القتال، وهي ترجع إلى تمسكه الشديد بالعوائد والمعتقدات، وقد دخلت البلاد مع الديانة المسيحية منذ القرن الرابع. ويروي أن القس فيليب الذي كان من أوائل المبشرين المسيحيين هو الذي نصر رئيس خدم أميرة حبشية (ففتح بذلك في الحبشة السبيل للديانة المسيحية). ومن المعلوم أن القرن الخامس كان شديد الاضطراب بسبب المسائل الدينية، إذ قامت المناقشات حول مريم إن كانت أم الله أو أم المسيح فقط. كما أن مجلس إفيز الديني طرد نسطورياس الذي دامت هرطقته وانتشرت حتى يومنا هذا. وفي نفس ذلك الوقت أعلنت عدة مجالس دينية على التوالي إيمانها أو إنكارها لطبيعة السيد المسيح الواحدة أو المزدوجة. وقد أعلن مجلس ال451 عداوته لفكرة طبيعة السيد المسيح الواحدة، واستند المعلنون في قرارهم إلى الكنيسة(101/30)
المسيحية في مصر التي استطاعت خلال القرون أن تحافظ على استقلالها تحت اسم الكنيسة القبطية. والعلاقات بين مصر والحبشة ترجع إلى زمن بعيد مما كان سبباً في أن تصبح الكنيسة الحبشية فرعاً من الكنيسة القبطية في مصر، فرئيس الكنيسة المسيحية في الحبشة الملقب بالأب (أب السلام) إنما يعينه بطريق الإسكندرية الذي يقيم في القاهرة؛ ولقد فشلت محاولة البابوية ضم كنيسة الحبشة إليها. وقد تمكن البرتغاليون في أوائل القرن السادس عشر أثناء كفاحهم مع المسلمين في سبيل السيادة على طريق الهند من إرسال بعثة كاثوليكية، ولكن سيطرة الجزويت لم تدم، واستعادت الكنيسة القبطية في الحبشة علاقاتها مع بطريق الإسكندرية عام 1633. على أن حوادث جديدة قامت فدلت على أن السياسة لا تترك مطلقاً الفرصة لاستغلال العواطف الدينية مما أحدث تغييراً في أفكار البلاد الحبشية. إذ في 2 يونيو من عام 1929 استطاع أخيراً بطريق الإسكندرية بعد إجازة دامت ثلاثين شهراً أن يرسم الأب كيرول سيداروس، وكان عليه في الوقت نفسه بالرغم منه أن يرسم خمسة أساقفة حبشيين، فكان في هذا الحادث الذي لم يسبق له مثيل تحديد لتقدم الاتجاه القومي في الحبشة، فتوترت العلاقات بين النجاشي والبطريق، وكان الدليل على ذلك تلك الرحلة التي قام بها الأب إلى الإسكندرية في مارس من عام 1931، وقيل يومئذ إنها التمضية مدة النقاهة بعد الإبلال من مرضه. وهناك حادث آخر عظيم الخطر هو زيادة نفوذ الفاتيكان، فقد قامت محاولات منذ سنين طويلة لفصل إرتريا عن الكنيسة القبطية الحبشية. وبطريق الإسكندرية يواصل رسم القسس في هذه البلاد، على الرغم من أن قسس إرتريا يستمدون الأوامر الدينية من رومة لا من أديس أبابا. ولا شك أن الدعاية الدينية تصحب التقدم الاقتصادي وتقوية
وللقس حق التزويج مرة واحدة. وهم على العموم على جانب عظيم من الجهل. ومعلوماتهم لا تكاد تتعدى أمور العبادة، وللقسيسين والرهبان سلطان عظيم على الجماهير الجاهلة التي كان يحتم عليها سلطانها المدني الذي نالته منذ القرن الثالث عشر الدفاع عن حقوقها ومصالحها. ولقد أصبح رئيس الأديرة الأكبر - وكانت مهمته في البداية التفتيش على الأديرة - الرئيس الحكومي للأب والكنيسة. والأب يكون دائماً أجنبياً يعينه بطريق الاسكندرية، ورئيس الأديرة الأكبر يكون دائماً حبشياً تعينه السلطة المدنية. وسلطان رجال(101/31)
الدين شديد النفوذ عظيم القوة، حتى أنهم يمتلكون جزءاً كبيراً من الأرض المزروعة وقرى بأكملها، وعلى حسب العرف الجاري في البلاد ينال المالك خمس محصول الأرض، ومن ذلك يستطيع المرء أن يتصور المعارضة التي يصادفها مشروع يرمي إلى تغيير نظام مضت عليه أجيال طويلة. وكل حياة الأحباش تقوم على الأيمان بالمعجزات وتقديس القديسين والملائكة وعلى الفرائض الدينية: كالاعتراف بالخطايا والصيام القاسي والغفران، والحج إلى بيت المقدس واجب يكفر عن الذنوب. وقد أخذت الديانتان المسيحية والوثنية يؤثر تدريجياً بعضهما في بعض، فديانة قبائل الجالا الأفريقية الأصل قد تأثرت بالمسيحية. ومع ذلك فقد تأثرت أيضاً الديانة المسيحية القبطية بالخرافات والسحر، وقد امتزج الإيمان بآله إبراهيم والمسيح بضروب الإيمان التي كانت شائعة قبل التاريخ، كتعظيم الماء والأمواج والغابات والأشجار المقدسة والشمس، وفي الوقت الحاضر يتقدم الدين الإسلامي في الحبشة كما يتقدم في كثير من البلاد الأفريقية
وهكذا نرى الحبشة تبدو حكومة من حكومات القرون الوسطى التي كان يحكمها الكهنة نيابة عن الله. فهناك لا يمكن أن يحدث شيء لا يريده رجال الدين، والحاكم الذي يأمل في السلطة العليا يجب أن يتأكد قبلا من تأييدهم ومعونتهم. على أن الدهماء ورجال الدين الجهلاء يستفيدون من تلك المدينة القديمة التي يمكن أن يقال إنها بدائية وفي نفس الوقت مهذبة. فمبدأ الصدقة المسيحية قد تغلغل في أعماق الغشاء الكثيف الذي يغشى القلوب. حتى أن فضيلة إعطاء الصدقات التي كانت واجباً أضحت غريزة. وهذه المدينة الدينية القديمة تنتج رجالاً أكفاء. ولقد روى مسيو دو مونفريد فقال: (عندما بلغنا قمة الهضبة قدم إلينا رجل حبشي تغطى رأسه عمامة بيضاء كالتي يلبسها الرهبان. كان وجهه دقيق التقاطيع عليه مخايل المهابة والهدوء. وكان هذا الوجه طويلاً مسنوناً تطفر منه نظرة تائهة شاردة. وقد تناول يدي بحركة لا شعورية كأنه أحد أصدقائي. لقد كان ذلك الرجل هو الراهب حنا ممثل الكنيسة والحارس للأمير المخلوع. وكانت عباءته من الكتان الغليظ، وكان عاري القدمين، لكن يده كانت ناعمة رقيقة. وكان يتكلم بصوت منخفض لكنه مؤثر. ونظراً لأني أعرف إلى أي حد يتمتع رجال الدين الأحباش بقوة تختفي وراء ما للأباطرة من مظهر السلطان، فقد دهشت دهشة عظيمة لذلك المظهر المتواضع الذي يبدو به ذلك الرجل(101/32)
الضئيل ذو العمامة البيضاء المصنوعة من القطن. ولم يكن يتبعه حاشية ولا حرس خاص، إذ لم يكن في حاجة لذلك، لأنه أينما ذهب انحنى أمامه كل من صادفه مظهراً الإجلال والاحترام. وجاء في ذلك الوقت ددجاز جوبانا يرى الأعمال الجارية. وكان راكباً بلغته السوداء الموشاة بالفضة، وكان يحف من حوله خمسون جندياً، وهو رافع بندقيته على كتفه. حقاً لقد كان منظره رهيباً وهو ينظر نظرة النسر ملتحفاً بردائه الرمادي. ها قد اجتمع الراهب وقائد الحرب. وقد يقول قائل: قد اجتمع عدوان في مكان واحد. على أن رجل الكنيسة هو أعظم الاثنين رهبة وأشدهما خطراً. وهو نفسه يشعر بذلك، فكان يبتسم ابتسامة هادئة. ومستقبل الحبشة يقف على هذين الرجلين، وشقاؤها يرجع إلى أن كلا منهما يستخدم الآخر ويستعين به. فرجل الحرب يستعين برجل الدين على الاستيلاء على عرش ملك الملوك، ورجل الدين يستعين برجل الحرب على الاحتفاظ بسيطرته على النفوس وبثروته العقارية. على أن وحدة البلاد المعنوية أثناء ذلك تتفكك. والأجنبي رابض أمام جميع أبواب البلاد
وتاريخ الحبشة السياسي يكاد ينحصر في حروب دائمة بين كبار رجال الإقطاع في سبيل الفوز بتاج سليمان. وفي اللحظة التي تقاسمت فيها أوربا القارة الأفريقية، وجدت الحبشة في مينليك الرجل الذي استطاع صد أول هجمة على البلاد. ولقد عرف ذلك الإمبراطور العظيم كيف يفرض سلطته على الجميع بفضل نشاطه الحربي وحنكته السياسية وكان أول همه تأييد سلطته في الداخل وإغلاق أبواب البلاد في وجه الغزاة. على أنه وقف عند ذلك الأمر ولم يتعده. إذ كان من الواجب الاستفادة من الانتصار المزدوج لينظم البلاد على الطريق الحديثة في الإنتاج والتبادل. ولكن الإمبراطور العظيم لم يستطع أو لم يرد ذلك. وقد يكون الموت عاجله قبل أن يتم ما أراد. ولقد حدثت قريباً حوادث عدة تبين أن النجاشي ليست له على بعض الأقاليم البعيدة إلا سلطة اسمية، وأن هناك كثيراً ممن يدعون الحق في عرش ملك الملوك. ويقال إن النجاشي يفهم تماماً حقيقة الموقف ويعرف ما يجب أن يفعله. على أن هناك عقبات تقف في طريقه، ذلك أن من الواجب اليوم أن يبذل جزءاً من قواه في سبيل المحافظة على سلطته، وأن يطلب مساعدة كل أولئك الذين يشلون حركته في كل مشروع إصلاحي، وذلك في الساعة التي تهدد فيها مملكته بغزوة استعمارية جديدة.(101/33)
ومنذ عصر مينليك، أي منذ خمسين عاماً، تغيرت في العالم وفي الحبشة نفسها أمور كثيرة. فدخلت أفريقيا كلها في تيارات التجارة العالمية الكبرى، وصحب ذلك كل ما يلزم من الضرورات والآراء الجديدة. فالسيارات والطيارات زادت في طرق المواصلات، ولم تعد هناك قوة إنسانية نستطيع أن تطيل تلك العزلة التي ملكت الحبشة عدة قرون، إذ كان لزاماً عليها أن تستعد لتأخذ مكانها بين سائر الشعوب. وكل ما في المسألة هو معرفة ما إذا كانت تستطيع ذلك بمفردها مستعينة بوسائلها الخاصة، أم هي - نظراً لشدة شبهها بمراكش - في حاجة إلى دولة تحميها
إن استقلال كل دولة من الدول يقف من جهة على الدولة نفسها، ومن جهة أخرى على الدول المجاورة. ولقد كان لينليك الحظ في استطاعته الاستفادة من المنافسات الاستعمارية في الوقت الذي كان يوجد فيه كثير من الأراضي الأفريقية القابلة للاستعمار. والآن انتهى التقسيم. وبدلا من البحث في هذه لم يبق إلا الابتداء في استغلال الحبشة. ويضاف إلى ما سبق أن المنافسات على هذه البلاد يلوح عليها الهدوء، وأن الاتفاق بين الدول المتنافسة محتمل الوقوع. ومن هنا يعظم الخطر على الحبشة
وهذا الخطر الأجنبي يجعل المهمة الواجب القيام بها فيما يتعلق بالسياسة الداخلية تفوق قدرة رجل فرد مهما كان نابغاً. إن من الواجب إزالة الفوارق القائمة بين المدينة البدائية الدينية الساذجة والمدنية الغربية المادية. والواقع أن الحياة في الحبشة قد تطورت، إذ من العسير أن يعيش شعب بأكمله عيشة الزهد والتقشف. ومن المحال إقامة روابط طبيعية دائمة بين الأفراد والجماعات من غير وجود مبادئ مشتركة بين الجميع. من الحق أن المدنية الغربية تتضمن كثيراً من الرياء، فالرق على شكله الذي نراه في الحبشة ليس أفظع من العمل الذليل في الصناعة الكبرى، إلا أن في الحبشة نظماً معينة هي تراث الماضي العتيق يجب أن تختفي من الوجود. وسواء دخلت الحبشة عصبة الأمم أم لا فهي لا تستطيع في العالم الحديث الإبقاء على قانون التعذيب وعلى السطو والنهب والرق. على أن المرء يتساءل: على أية قوة منظمة يستطيع أن يستند ملك عظيم للقيام على خير ما يرام بالإصلاحات الضرورية إذا كان السكان لا يشعرون بالحاجة إليها قبله؟ إن رجال الطبقات العليا الذين يملكون الأرض والسلطة لا يرغبون في تغيير يظنون أنه سيفقدهم كل(101/34)
شيء ولا يربحهم شيئاً. ذلك أنهم لا يطلبون إلا أن تزيد ثروتهم يوماً بعد يوم. وليس عند الطبقات العاملة في مختلف الأقاليم فكرة ما عن إمكان تحسين حالهم. واستغلال القوي للضعيف كأنه قانون طبيعي لا يجب أمامه إلا الاستسلام والخضوع. أما رجال الدين والرهبان وهم أصحاب السلطة العليا فأية مصلحة سيجنونها من نظام جديد؟ بقيت الشبيبة المتعلمة القليلة العدد التي تطلب العلم في جامعات أوربا وأمريكا، إنها تعود إلى بلادها خشنة الطباع كارهة للأجانب. على أن الفكرة القومية وحدها لا تكفي، إذ يجب أن تستخدم هذه الفكرة في تحقيق أمر من الأمور أو مبدأ من المبادئ. على أن المظنون إن استخدام هذه الفكرة في سبيل خدمة الحبشة سيكون أقل من استخدامها في سبيل الاحتفاظ بالحالة الراهنة من اقتصادية واجتماعية ودينية. وأمام هذه الحالة، فإن حدوث حرب ولو انتصرت فيها الحبشة، سوف لا ينتج إلا نصراً مؤقتاً. ليس في الحبشة فلاح واحد يقارن بين ما يحدث في أسواق بلاده وطرقاتها وبين الحالة التي يستطيع أن يراها وراء الحدود. أما حال العقيدة الدينية فمن المحقق أن الكنيسة القبطية في مصر تسودها الآراء الحديثة، وأن المعتقدات القديمة تفنى شيئاً فشيئاً تحت تيارات العقل المستنير. ومن المحتمل أن هذه التيارات والاتجاهات ستظهر أخيراً عند مسيحي الحبشة نظراً لموقع البلاد الجغرافي
(لموا)
ترجمة ع. ك(101/35)
الأدب العربي في المغرب
أبو العباس أحمد المقري
1041هـ - 1631م
بقلم عبد الهادي الشرايبي
- 1 -
إننا نشاهد، بملء الأسف، كثرة مفكرة من شباب المغرب ورجاله، يساور نفوسهم ضعف الثقة وارتياب مؤلم من ماضيهم القومي وتراثهم الجليل. فنجدهم لذلك يتأففون ويضجرون كلما عرضت عليهم صورة من ذلك الماضي الزاهر، ويكيلون للمغرب والمغاربة عواصف من النقد اللاذع والسخط الشديد
ولعل منشأ ذلك، فيما نرى، هو الجهل بما للمغرب في عصوره الغابرة من روعة وسمو يفوقان كثيراً ما يتخيله أولئك في تاريخ المغرب
ولو أنهم عمدوا إلى الوقوف على بعض من تلك الآثار الجليلة، واستعراض النماذج المتناثرة في ثنايا الكتب، لوجدوا في سجل المغرب من الصور الطريفة الرائعة ما يكون غذاء لروحهم المجدبة، ورياً لنفوسهم الظمأى!
ولعلهم إن فعلوا فتذوقوا من ذلك الجمال الحي الخالد، ونهلوا من تلك المتع اللذيذة، فسوف يجدون فيه المرهم الشافي لنفوسهم المريضة بداء اليأس، ويستبدلون بتشاؤمهم القاتل تفاؤلاً
- 2 -
وها نحن أولاء نجلى لهم اليوم صورة حية من ذلك التراث المجيد، وينتزع لهم من بين الصور الكثيرة مثلاً سامياً لنهضة الأدب العربي في المغرب في القرن الحادي عشر:
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني المالكي الأديب الكبير، الشاعر المؤرخ، ولد في تلمسان، ونشأ بها في بيت علم وأدب، وثقف كثيراً من الفنون على عمه أبي عثمان سعيد المقري الأديب العالم الشهير، وأتقن اللغة العربية وآدابها، وبرع في معرفة أخبار العرب وأنسابها. وكان له ميل شديد واطلاع واسع على الآداب العربية وتاريخها في مختلف العصور، وأولع من لدن نشأته بالمطالعة والتنقيب عن أحوال الدولة(101/36)
الإسلامية، واستظهار آثارها، وبصفة خاصة ما كان متعلقاً منها بدولة العرب في الأندلس، والوقوف على سر عظمتها، وتطورها بين صعود ونزول، وكيف عبثت يد الزمان بتلكم الآثار الحافلة التي خلدها العرب في أوربا
شب الفتى، خصب الفكر، متقد الذهن، واسع الذاكرة. يتقلب في فنون من الحديث، ويحلق في جو رائع من الخيال. ينتقل بين قصور قرطبة ومغانيها، ويقلب نظره الحائر في بدائع الحمراء ومجاليها، ثم يعود فيسترحم القدر إشفاقاً على مجالس أدبها الممتعة ونواديها
وقد حدثته نفسه الطموح إلى مشاهدة آثار الفن الأندلسي الجميل بالذهاب إلى (فاس) وريثة الحضارة الأندلسية، ورؤية هذه الآثار عن كثب، إذ هي صورة مصغرة من الحياة الأندلسية، بما فيها من مبان وآثار، ومجالس علمية وأدبية تضم أئمة الأدب وفطاحل العلم. فقصد فاس سنة 1009 وملأ بها وطابه، وأخذ عن جلة العلماء كالشيخ القطار، وابن أبي النعيم، وأحمد بابا السوداني التمبكتي وغيرهم؛ وأقام بفاس ميمون الحظ بين مظاهر الإجلال والاحترام إلى أن صار مفتى فاس وخطيب (جامعة القرويين)؛ ثم رحل إلى مصر والشام، وتردد على الحجاز كثيراً، وألف بالقاهرة كتابه (نفح الطيب). وله مطارحات ومساجلات مع أدباء مصر والشام
- 3 -
آثاره الأدبية: أبو العباس المقري متشعب النواحي كثير المباحث لمن شاء دراسته. له آثار قيمة في الفقه والكلام والأدب والتاريخ، وشعر متناثر في ثنايا كتابيه الجليلين: (نفح الطيب، من غص الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب) و (أزهار الرياض، في أخبار القاضي عياض)
وقد قصرنا هذا البحث على الناحية الأدبية، إذ كانت هي البارزة في حياته، فهو (حافظ المغرب وجاحظ البيان) شاعر رقيق العاطفة، يصطبغ شعره بلون الأدب الأندلسي في الرقة والجزالة، والسهولة والامتناع
ولا بدع، إذا وجدنا ذلك الطابع بارزاً في آثاره الأدبية، فقد رأيناه كلفاً بالفن الأندلسي وآثار العرب في الأندلس منذ النشأة إلى حد التوهم أنه كان يعيش في ذلك الوسط الخصب المشبوب العاطفة(101/37)
وقد قال في أكثر أغراض الشعر: في الغزل، والشوق، والمدح، والوصف، والحكم، والعتاب، والذكرى المؤلمة، والقصص الشعري
وإذ كان الشطر المهم من حياته قد أمضاه في الشرق بعيداً عن الأهل والوطن، نائياً عن معاهد الصبى ومسارح الطفولة الأولى التي لم يبق في ذهنه منها إلا الذكريات المرة الممضة، فنستطيع أن نكشف كيف كان الشوق والحنين أبرز صفة في شعره؛ ولنسق لك مثلاً من ذلك. فمن قوله وهو في الشام يتشوق إلى بلاد المغرب:
كساها الحيا بُرد الشباب فإنها ... بلاد بها عق الشباب تمائمي
ذكرت بها عهد الصبي فكأنما ... قدحت بنار الشوق بين الحيازم
ليالي لا ألوي على رشد ناصح ... عناني، ولا أثنيه عن غي لائم
أنال سهادي من عيون نواعس ... وأجني مرادي من غصون نواعم
وليل لنا بالسد بين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأراقم
تمر إلينا، ثم عنا، كأنها ... حواسد تمشي بيننا بالنمائم
وبتنا، ولا واش نخاف كأنما ... حللنا مكان السر من صدر كاتم
وأسمعه يقول:
شربت حميا البين صرفاً وطالما ... جلوت محيا الوصل وهو وسيم
فميعاد دمعي أن تنوح حمامة ... وميقات شوقي أن يهب نسيم
ويثور كامن عواطفه كلما سمع ترجيع حمامة بصوتها الشجي، فيصف لك حاله عند سماعها بهذه القطعة الرقيقة:
رُب ورقاء في الدياجي تنادي ... إلفها في غصونها المياده
فتثير الهوى بلمس عجيب ... يشهد السمع أنها عواده
كلما رجَّعت توجعت حزناً ... فكأنا في وجدنا نتبادَه
ثم يحاول أن يطفئ غلة ذلك الشوق المضني بالصبر، ويتخذه شعاراً وسلوة، فيسير على سنن غيره من الشعراء، ولكنه يخفق إذ يجد أن الصبر معناه إلهاب نار الشوق:
وإني لأدري أن في الصبر راحة ... ولكن إنفاقي على الصبر من عمري
فلا تُطفِ نار الشوق بالشوق طالباً ... سلواً، فإن الجمر يسعر بالجمر(101/38)
ويعاوده الأمل في أن يلمس غرة من الدهر، فيلتقي بعد طول البين، ويجتمع بعد أليم الفراق
فنلتقي، وعوادي الدهر غافلة ... عما نروم، وعقد البين محلول
والدار آسنة والشمل مجتمع ... والطير صادحة والروض مطلول
ولو أنا ذهبنا في هذا الباب نقتطف قطعاً من زهراته المتناثرة، لاقتضى ذلك منا وقتاً أوسع مما افترضناه لهذا البحث من الإيجاز
وفي الوصف نجتزئ بهذه القطعة:
ورياض تختال منها غصون ... في برود من زهرها وعقود
فكأن الأدواح فيها غوان ... تتبارى زهوا بحسن القدود
وكأن الأطيار فيها قيانٌ ... تتغنى في كل عود بعود!
وكأن الأزهار في حومة الرو ... ض سيوف تُسَلُّ تحت بنود
ويبهره ما يرى في جنة الدنيا (دمشق) ضريبة الأندلس والمغرب في بساتينها، وأنهارها، وجداولها، فتعاوده الذكرى ويقول:
ذكرتني الورقاء أيام أنس ... سالفات فبت أذرى الدموعا
ووصلت السهاد شوقاً لحبي ... وغراماً، وقد هجرت الهجوعا
كيف يخلو قلبي من الذكر يوما ... وعلى حبهم حنيت الضلوعا؟
كلما أولع العذول بعتبي ... في هواهم، يزداد قلبي ولوعا!
ثم يقول في وصفها:
محاسن الشام أجلى ... من أن تحاط بحد
لولا حمى الشرع قلنا ... ولم نقف عند حد:
كأنها معجزات ... مقرونة بالتحدي
ويقول:
قال لي ما تقول في الشام حبر ... كلما لاح بارق الحسن شامه؟
قلت ماذا أقول في وصف قطر ... هو في وجنة المحاسن شامه!
(البقية في العدد القادم)
عبد الهادي الشرابي(101/39)
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
وجهت أجدى المجلات الكبيرة في مصر إلى بعض الكتاب هذا السؤال: (إلى أي حد يجب الاقتداء بتركيا في نواحي نهضتها الأخيرة)، فحفزني هذا إلى الكتابة في موضوع تجنبته زمناً طويلاً، لا استهانة به فهو جد خطير، ولكن إشفاقاً مما يثور بالنفس حين تعالجه
- 1 -
الترك العثمانيون إخوان لنا، نشأنا على حبهم، ومنحناهم قلوبنا فتمكن بها ولاؤهم، وشببنا نعدهم على المسلمين الخفاف في زمن تنكست فيه أعلامهم، وجيشهم المجاهد على حين تفرقت الأجناد، وتخاذلن الأعضاد. كنا نعد مفاخرهم مفاخرنا، ومثالبهم مثالبنا، ونرى صلاحهم صلاحنا، وفسادهم فسادنا، ونفرح كما فرحوا، ونبتئس كلما ابتئسوا. وكلما نزلت بهم نازلة نصرناهم جهد العاجز بألسنتنا وأموالنا وأيدينا وسع الأيدي المغلولة، والأعضاد المغلوبة. ولا يزال التاريخ الحديث يدوي بحادثات المدرعة (حميدية)، وحروب طرابلس والبلقان، وقدوم الطيارين العثمانيين إلى مصر، وغير هذا مما يشهد بالحب الصادق، والمودة المخلصة
ولقد نشأت على هذا الحب، لا يطربني إلا ما أطرب الترك، ولا يسوؤني إلا ما ساءهم؛ وفيهم تعلمت الشعر فشدوت به في حروب طرابلس والبلقان، وكتبت في الحرب الأخيرة أعطف عليهم القلوب، وأستحث الهمم على الإمداد بالمال. ولست أمن عليهم بذلك فقد كان فرضاً علي وعلى غيري
ولما قذف جنود الترك الأنجاد بجيش اليونان في البحر كاد الناس في مصر وغير مصر يجن جنونهم فرحاً وزهواً
- 2 -
ثم وقعت هذه الواقعات التي تسمى (النهضة التركية الأخيرة)، فخاجت من الناس الظنون، وتحطمت الآمال وتصدعت القلوب، ووقفوا وقفة من أصيبت آماله في أخ صميم أو صديق حميم، يراه قد ركب رأسه، واشتط في هواه، يقطع أواصر الأخوة، ويصرم حبال المودة،(101/41)
لا يستطيع أن يغضي عن سيئاته وهي وخيمة العواقب، ولا تطيب نفسه أن يسمع به ويذيع عيوبه على مسمع من الأعداء
قومي همُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فوقف يلومه حيناً، ويجادل عنه حيناً، ويرد مقالة الخصماء، ويحذر شماتة الأعداء، ويلتمس له المعاذير، ويتربص به الأفاقة من غيه، والإياب إلى رشده، ويدعو الله أن يلهمه السداد، ويهديه سبيل الرشاد. وها نحن أولاء ندعوا ونرجوا وننتظر
- 3 -
وبعد فما هذه الأحداث التي تسمى (النهضة التركية الأخيرة)؟ نستعرض الحادثات لنرى ما هي:
فأما ذود الترك عن حياضهم، ودفعهم عن استقلالهم، وإيثارهم الموت الحر على العيش الذليل فشنشنة أعرفها من أخزم، عرف الترك بها في كل زمان، وامتازوا بها في كل ميدان، وكان لسلفهم فيها غرر مشهورة، وأعمال مأثورة، يدوي بها التاريخ ويشهد بها العدو والصديق. فلا ينبغي أن يعد هذا من (النهضة الأخيرة). فقد كان السلف فيه خيراً من الخلف. كان ميدانهم أوسع، وعدوهم أكثر، وخطبهم أفدح، وعبثهم أثقل. وتلك، على كل حال، محامد ينبغي أن تتقيلها الأمم، ويتنافس فيها أولو الهمم
وأما عكوف الحكومة التركية الحديثة على إصلاح البقعة التي أبقتها الأحداث في أيديها، وتركتها النوائب من الميراث العظيم - عكوفهم على الإصلاح والتعمير والتنظيم فأمر محمود، وسعي مشكور، وفرض تأخر عن وقته، إذ حالت دونه الخطوب الكارثة، والمصائب المتوالية؛ وهم في هذا الإصلاح ليسوا مبتدعين ولا سابقين، فهم يحتذون على مثال الأمم التي سبقتهم في الغرب والشرق. هم في ذلك مأمومون لا أئمة، ومقتدون لا قدوة. والأئمة في ذلك أمم أوربا، عنها أخذوا وبها اقتدوا. وعملهم في هذا التقليد، عمل حميد. والله يهيئ لهم في ذلك رشداً، ويهديهم إلى الخير أبداً
- 4 -
وبعد ذلك أمور نجمل الكلام فيها واحدة واحدة، ثم نلق عليها نظرة جامعة لنتبين أين مبدؤها(101/42)
ومنتهاها، ومصدرها وموردها، ونرى مكانها من الاختراع أو المحاكاة، وسنعترف لهم في هذا بحسناتهم، ونأخذ عليهم سيئاتهم، أخذ الصديق الناصح لا العدو الشامت، آملين أن يزدادوا من الإحسان، وينزعوا عن الإساءة
ونحن إذا خاصمنا القوم في هذه الأمور فليس خصمنا الأمة التركية جميعها بل الحكومة التركية، يشاركنا في رأينا كثير من رجالات الترك الذين حملت كواهلهم أعباء الحرب الأخيرة، ومهدت أعضادهم لهذا النصر المجيد، ويشاركنا كثير من العلماء وأولى الرأي، وكثير من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً
ونبدأ بمسألة الخلافة، إذ جعلوها فاتحة هذه الأمور، ومفتاح هذه النهضة، قانعين بالقول الموجز واللمحة الدالة في هذا الموضوع الواسع:
مهما يقل القائلون في صحة الخلافة العثمانية وفسادها، وجدواها وضررها، ومهما يفتن المجادلون في تبيان ما جلبت على الدولة من مصائب، ورمتها به من عداوة أوربا، فلا ريب عندي أن الخلافة ما أضرت بالدولة العثمانية قط بل نفعتها أحياناً.
ما حاربت أوربا العثمانيين بما كانوا دولة الخلافة، بل بأنهم دولة مسلمة شرقية. وقد ثارت الحروب منذ نشأت الدولة قبل أن يلقب الخليفة العباسي في مصر بيزيد الأول بلقب (سلطان الروم)، وقبل أن يفتح السلطان سليم مصر ويحمل إلى استنبول الخليفة المتوكل على الله. ولم يكن مكان الترك في الخلافة الإسلامية واضحاً في معظم أطوار حروبهم، بل استقرت لهم الخلافة عند المسلمين ودول أوربا أثناء هذا الجلاد المديد، والحروب المتوالية، إذ اعترف المسلمون أن رأسهم هو هذه الدولة القوية المجاهدة، واعترف الأوربيون في العصور الأخيرة أن للترك أن يتكلموا عن المسلمين كما يتكلم الروس عن المسيحيين. فلم تكن الحروب نتيجة الخلافة، بل كانت الخلافة نتيجة الحروب، وهي على هذا لم تكن واضحة ولا ادعاها العثمانيون صراحة إلا في العصور الأخيرة. . . لو أن أوربا شنت على الدولة العثمانية غاراتها من أجل الخلافة فلماذا قضت على الدولة التيمورية في الهند، ودولة الأشراف السعديين في المغرب وغيرهما؟ ووالت غاراتها على المسلمين في المشرق والمغرب
والحق أن انتحال الخلافة نفع الدولة العثمانية حين ضعفها، وكساها هيبة وجلالاً في الشرق(101/43)
والغرب؛ وقد أدرك ذلك السلطان عبد الحميد فاجتهد أن يمكن هذه الخلافة في نفوس المسلمين كافة ليرهب بهم أوربا
وإن يكن المسلمون قصروا في الدفع عن الدولة، وإمدادها بالمال والجند، فماذا عسى أن تستطيع الأمم المغلوبة على أمرها، الذليلة في أسر أعدائها. وقد خاف الأوربيون أثناء الحرب الكبرى أن يلقوا الدولة برعاياهم المسلمين فاحتالوا لذلك حيلاً شتى: كان الفرنسيون يأخذون جنود أفريقيا يوهمونهم أنهم سيدافعون عن الخلافة والإسلام، ولم يستطع الإنكليز، بعد تمرد الرديف المصري وإبائه أن يحارب الترك، أن يرسلوا إلى القتال جندياً من المصريين، فاحتالوا عليهم وأخذوهم عمالاً وراء الجيش. وقد تطوع كثير من المسلمين لنصرة الدولة في الحرب والسياسة، ولو كان أمر المسلمين بأيديهم لكان لهم موقف آخر. وقد سمعنا من كبار الساسة الترك وغيرهم أن إنكلترا أشفقت من أن تقف بجانب اليونان جهرة، وتنصرهم بكل قواها في الحرب الأخيرة، حين ثار المسلمون الهند وطلبوا منها الإبقاء على دولة الخلافة، وأن هؤلاء المسلمين على ضعفهم عاونوا على إنقاذ البقية الباقية من الدولة العثمانية. ولا تنس معاونة أمثال السيد السنوسي وطوافه في الأناضول وكردستان لتأليب الناس وإثارتهم للجهاد. وقد رأيت بعيني صورة الغازي مصطفى كمال باشا في قلعة سنوسية أهداها إليه السيد أحمد فلبسها تبركاً
ثم هذه الخلافة العثمانية على وهنها وغموضها كانت في هذا الزمن العصيب علماً ينظر إليه المسلمون إن لم ينحازوا إليه، وتنضوي إليه آمالهم إن لم تنله أيديهم، وتعتز به نفوسهم وترى في خفقانه ذكرى الماضي العظيم، وتباشير المستقبل العزيز
ولقد كان إلغاء الخلافة في هذه الخطوب المكفهرة كحل رباط حزمة من القصب في ريح عاصف بلغت من المسلمين أسوأ مبلغ، وبلغت أعداءهم أبعد غاية. لا ينكر هذا إلا جاهل بطبائع الأمم أو غبي عن تاريخ المسلمين. وأحسب أن الإنكليز - مثلاً - كان يهون عليهم أن يبذلوا ملايين الجنيهات ليبلغوا الغاية التي بلغهم إياها الكماليون بغير ذل ولا كد
ولا ريب أن الترك حين دفعتهم نشوة الظفر على اليونان إلى إلغاء خلافة الإسلام قد أخروا دولتهم من صف الدول العظيمة إلى صف الدول الصغيرة، فهم اليوم في صف دول البلقان، وإن دول العالم العظيمة كانت تتمنى أن تشتري مكانة الترك بين المسلمين بالجهد(101/44)
الطويل، والمال الوفير، طيبة نفوسهم بما بذلوا وما نالوا
يقال إن للثورة آثارها، وللمحنة أعذارها، وما كان إلغاء الخلافة ضرورة اقتضاها الإصلاح، ولكن إفراطاً أدت إليه الثورة. ونحن نقول مهما يكن السبب فذلك شر أصاب المسلمين لا محالة، وإن عجز عن إدراكه الثائرون في غبار الثورة، فقد أدركه البعيدون يقيناً، وبكوا من أجله طويلاً. على أن عمل الكماليين من بعد دل على أن إلغاء الخلافة لم يكن نزوة ثورة، بل كان الحلقة الأولى في سلسلة مصنوعة، والخطوة الأولى في خطة موضوعة. ويعتذر بعض المعتذرين بأنه كان لابد للنهضة الأخيرة من جمهورية، وكان لابد للجمهورية من إلغاء الخلافة، وهذا عذر أشبه بالذنب. ويعتذر آخرون بأن الصلة بين الروس والترك وحاجة هؤلاء إلى معونة أولئك اضطرتهم إلى إلغاء الخلافة، فهل يرضى الكماليون أن يعد عملهم في الخلافة وما بعدها خطة أملاها الروس عليهم؟ ما أحسبهم يرضون من أصدقائهم أن يقفوهم هذا الموقف ليدافعوا عنهم: وهذا بعد لا يخفف المصيبة التي أصابت المسلمين بإلغاء الخلافة
له بقية
عبد الوهاب عزام(101/45)
15 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: ذهب بستور إلى شرقي فرنسا يبحث فساد الخمور فأصلحها، ثم ذهب إلى أواسط فرنسا على نداء الخلالين واستغاثتهم فأصلح ما فسد من صناعة الخل. وما كاد يستقر في معمله بباريس حتى جاء القدر يدق بابه، جاءه أستاذه القديم (دوماس) يتطبب لدود القز المريض في جنوب فرنسا
- 6 -
فأجابه دوماس: (إن إقليم الحرير في الجنوب هو مسقط رأسي، وقد حضرت تواً من هناك. وقد رأيت، ويا هول ما رأيت! رأيت بلدي المسكين، قريتي (ألياس) المنكودة، تلك البلاد التي كانت ثرية بالأمس، زاهية بشجر التوت حتى أسموه الشجر الذهبي، تلك البلاد أصبحت عراء بلقعا، وتلك العراص الخضر أصبحت غبراء ذابلة، وأهملها وهم أهلي أصبحوا لا يجدون القوت). وكان صوت الشيخ فيه حزن وضيق حتى كاد يتندى بالدمغ
وكان بستور يقدر نفسه ويعضها فوق الرجال، وكان قليل التقدير للغير، إلا أنه حفظ في قلبه إجلالاً خاصاً لدوماس. واعتزم أن يبذل المعونة لهذا الأستاذ الشيخ الحزين. ولكن كيف؟ فبستور في هذا الوقت لم يكن يستطيع على الأرجح أن يميز دود القز من دود الأرض. بل لقد حدث بعد ذلك الوقت أنهم أعطوه شرنقة حرير فرفعها إلى أذنه وهزها وصاح: (ما هذا! كأن داخلها شيء!). جهل مطبق بالشرانق والدود
وكره بستور السفر إلى جنوب فرنسا ليفحص مرض هذا الدود، لأنه كره أن يخيب، والخيبة كانت أبغض الأشياء إلى نفسه. ولكن الجميل فيه أنه برغم كبريائه، وبرغم اعتداده المرذول بنفسه، استبقى من صباه حب الطفل واحترامه لعلمه القديم. فقال لدوماس: (أنا ذا(101/46)
طوع يديك، فمرني بالذي تريد، وارم بي حيث شئت من الأرض)
وحزم أدواته ومكرسكوباته، وحزم ثلاثة أعوان نشيطين من خلصائه ومريديه، وحزم كذلك أولاده، ومدام بستور - تلك المرأة الصبور التي لم تكن تشكو أبداً - وسافر بهذه الحمولة كلها إلى حيث الوباء يفتك بالملايين من دود القز، ويفقر الألوف من الخلق في جنوب فرنسا. وبلغ (ألياس) فأخذ يتعلم هناك أن دودة الحرير إن هي إلا دودة كالديدان تغزل حول نفسها ثوباً من الحرير يعرف بالشرنقة، وأنها تتحول إلى يرقة داخل الشرنقة، ثم إلى فراشة ترفض ثوبها الحريري فتخرج عنه فتتسلق الشجر وتبيض البيض، وهذا يتفقس في الربيع التالي عن جيل جديد من دود جديد. واستاء رعاة الدود من جهله الفاضح. وذكروا له أن المرض الذي يصيب دودهم يعرف بالندوة، وأنه يتراءى على الدود في صورة بقع صغيرة سوداء كالفلفل. ووجد بستور هناك مئات من النظريات تدعى كلها تفسير هذا المرض، ولم يجد من الحقائق الثابتة غير اثنتين، أولاهما تلك البقع السوداء التي تظهر بظهور المرض، وثانيتهما كريات صغيرة تتكون داخل الدودة، صغرت حتى لا ترى إلا بالمجهر
وقبل أن يستقر في مهبطه الجديد، وقبل أن تستقر أسرته في بيتها الجديد، كشف عن مجهره وأخذ يحدق في باطن هذا الدود المريض، ولا سيما في تلك الكريات، وخرج سريعاً على أن هذه الكريات عرض ثابت من أعراض الداء. وبعد خمسة عشر يوماً من حلوله بـ (ألياس) دعا إليه أعضاء اللجنة الزراعية وقال لهم: (عندما يحين أوان اللقاح، ضعوا كل أنثى وذكر وحدهما، ثم اتركوهما لينسلا وتبيض الأنثى، فإذا خرج البيض فافتحوا بطنيهما وأخرجوا من تحت الجلد شيئاً من شحمه، وانظروا إليه بالمجهر، فإذا هو خلا من تلك الكريات فاعلموا أن هذا الزوج من الدود سليم، وأن بيضه سيفرخ في الربيع المقبل دوداً سليماً
ونظر الريفيون إلي المكرسكوب وهو يلمع وقالوا: (نحن الزراع لا نعرف كيف نعالج مكنة كهذه). وكان في قلوبهم ارتياب وكان فيها قلة إيمان بهذه البدعة الجديدة، فعندئذ تراجع عنهم بستور العالم، وتقدم إليهم بستور الداهية الخبير بأهواء الرجال، فقال لهم: (حسبكم! حسبكم! واخفتوا أصواتكم حتى لا يتناقل الناس هذه الفضيحة عنكم! كيف تعجزون يا(101/47)
رجالاً ضخاماً عن استخدام المكرسكوب وعندي في معملي بنت لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات تعالجه في لباقة، وتكشف هذه الكريات في سهولة؟!). وقررت اللجنة شراء مكرسكوبات وانصرفوا يعملون بنصائحه
وذهب بستور يبذل من نفسه لحركة لا تعرف السكون، فطاف بالمناطق المصابة بالداء وألقي المحاضرات، ويسأل الأسئلة، ويعلم الفلاحين استخدام المجاهر. ثم يعود في رجعة الطرف إلى معمله يوجه مساعديه ويزودهم بالنصائح في تجارب لم يستطع هو أجراءها حتى ولا ملاحظتها. ثم يملي في المساء على مدام بستور أجوبة كتابات وخطباً ومقالات، ولا يطلع الصباح حتى تراه عاد إلى مناطق الوباء يروح عن الزراع البائسين، ويخطبهم ويبشر فيهم بالفرج القريب
ولكن عاد الربيع بغير الفرج والبشرى. وجاء الوقت الذي يبدأ الدود يصعد فيه إلى أفرع التوت لينسج عليها الشرانق فعجز عن الصعود. وقعت الواقعة وخابت الآمال وأنفقت الجهود في غير طائل! أنفق هؤلاء القوم الطيبون أيامهم على المكرسكوب حتى نال الكلال من عيونهم وأوجع ظهورهم، يطلبون الفراش السالم الصحيح ليخرج لهم البيض الخالي من تلك الكريات اللعينة، فلما حصلوا على هذا البيض السليم، أو الذي حسبوه سليماً، فرخ فخرج منه دود سقيم، قل نماؤه، وضعفت شهيته فقل طعامه، وذهب نشاطه، فأخذ يدور حول عيدان التوت عاجزاً عن تسلق أطرافها، زاهداً في الحياة وفي أطوارها، غير آبه لهوى الغواني الحسان في مفوفات الخز وجوارب الحرير
وا رحمتاه لبستور في تلك الخيبة! جمع المسكين كل همه لتخليص صناعة الخز مما دهاها، فسار ودار وخطب، ولم يبق لنفسه وقتاً يقبع فيه في معمله هادئاً ساكناً يتعرف كنه الداء الذي أصاب الدود. أغراء المجد فخدعه عن العلم، وأغواه الصيت فصرفه عن الحقيقة، والحقيقة لا يفوز بها إلا ساخر بالمجد، عازف عن الصيت، صبور على العمل، جلد على التجربة المسئمة الطويلة
ودفع البأس بعض أصحاب الدود إلى السخرية به والضحك منه، ودفع بعضهم إلى السخط عليه والنيل منه. واسود بياض أيامه، وطلب الخلاص في العمل فزاد انهماكاً فيه، ولكنه كان الغريق ينهمك في العوم يرجو النجاة ويبغي الساحل، ثم يقف هنيهة بعد إجهاد ليحس(101/48)
الأرض عله يجد قراراً فلا يجد قراراً. واختلط عليه أمر هذا الدود، فقد كان يقع أحياناً على نسائل تسرع في تسلقها عيدان التوت وتأخذ في نسج شرانق جميلة فيأخذ منها أفراداً للتشريح وينظرها تحت المجهر فيجدها مليئة بتلك الكريات التي كان يحسبها دليل الداء. وأحياناً أخرى كان يقع على نسائل أخرى من الدود سقيمة لا تكاد تهم بالصعود إلى أفرع التوت، حتى يعتريها إسهال غازي ثم تنضمر فتموت، فهذه أخذ منها أفراداً للتشريح ونظرها تحت المجهر فلم يجد فيها من تلك الكريات شيئاً. فأخذ بستور يتشكك في اعتبار هذه الكريات عرضاً من إعراض الوباء. وزاد الطين بلة والحالة سوء أن دخلت الفئران إلى دوده الذي كان يجري عليه تجاربه فاستطعمته فالتهمته، وأخذ أعوانه الثلاثة المساكين (ديكو) و (مايو) و (جرنيه) يسهرون الليل بالتناوب على حراسة الدود واصطياد الفئران. وقد يطلع الصباح فلا يكاد ينصرف كل إلى عمله، حتى تظهر السحب في الغرب قائمة، فيترك كل عمله ويهرول إلى شجر التوت يغطيه من المطر. وكنت ترى مدام بستور في أعقابهم والأطفال في أعقابها. وبستور المتعب المجهود كان لا يستقر في المساء في كرسيه الكبير المريح حتى يأخذ في إجابة رعاة الدود المناكيد الذين خسروا كل شيء باتباعهم طريقته في تصنيف البيض
ومضت أشهر طويلة ثقيلة على هذه الحال، جاءته بعدها غريزته تحضه على التجريب، والقدر يمهد له سبيل الخلاص، قال لنفسه: (أنا على الأقل نجحت في الحصول على بعض نسائل من الدود صحيحة سليمة، فإذا أنا غذيتها على ورق التوت بعد تلويثه بإفرازات الدود المريض، فهل يا ترى تموت هذه النسائل السليمة أم تمرض وتذهب؟!). وفعل هذا فماتت النسائل يقينا. ولكن غاظه أن التجربة لم تأت بكل الذي حسبه، فبدل أن يتغطى الدود بنقط كالفلفل سوداء ويموت بطيئاً في خمسة وعشرين يوماً كما يفعل الدود المريض بهذا الوباء، إذا به يتقوس وينضمر ويقضي في اثنتين وسبعين ساعة. واغتم بستور وناله اليأس فأوقف التجربة، وخاف عليه إخوانه الخلصاء مما هو فيه، وودوا لو أنه يعيد هذه التجربة مرة أخرى
(تبع)
أحمد زكي(101/49)
مراجعات
1
السكر والمبرت
كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة في العدد (100) من (الرسالة) كلمة طيبة حقاً عن الجزء الثاني من (ضحى الإسلام) للأستاذ أحمد أمين. ثم أعترض على عبارة وردت في الكتاب. وقد استغلق على فهم الاعتراض فأحببت أن أناقش فيه الأستاذ عبد الوهاب، عله يجلو لنا وجه الصواب
قال: (ذكر الأستاذ - أحمد أمين - في ص245 أن من نتائج الاختلاف بين القبائل كثرة المترادفات في اللغة العربية، ثم ساق مثلاً لذلك فقال إن السكر اسمه المبرت بلغة اليمن؛ ولي على هذا اعتراضان: الاعتراض الأول أن لفظ السكر ليس بعربي، بل هو تعريب للفظ شكر الفارسية، وهي قريبة جداً من لفظها في اللغة راجع. . . والاعتراض الثاني هو أنني. . . . الخ) وهذا الثاني ليس في موضوع المناقشة
ولقد رأيت أن الأستاذ أحمد أمين لم يقل أن كلمة سكر عربية، ولا يمكن أن يفوته أنها معربة، ولا سيما وقد سردها في الكلمات التي أخذها العرب الفاتحون من الفرس في ص248 من الجزء الثاني من (ضحى الإسلام)
لهذا لم أخرج اعتراض الأستاذ عبد الوهاب إلا على وجه أنه ينكر الترادف في اللغة العربية بين لفظين أحدهما معرب والآخر عربي
وقبل الإفاضة في هذا البحث أرى أن أضع أمام القارئ نص العبارة التي وردت في (ضحى الإسلام)، والتي وجه إليها الاعتراض لتكون على بينة في فهمها وفهم الاعتراض. وها هي ذي: (وكان هذا الاختلاف أيضاً أهم الأسباب في كثرة المترادفات في اللغة العربية، فإحدى القبائل تضع اسماً لشيء، وتضع قبيلة أخرى اسماً آخر، وقد وردت أدلة على ذلك فقالوا: - مثلاً - إن السكر اسمه المبرت بلغة اليمن. . . ولهذا كثرت المترادفات كثرة غريبة، فقالوا إن للعسل ثمانين اسماً و. . . الخ). وعبارة الأستاذ أحمد أمين على هذا الوضع لا تفيد أن السكر لفظ من وضع إحدى القبائل، إنما هي تفيد أن المبرت من وضع أهل اليمن، وأن المبرت والسكر قد أصبحا مترادفين. والترادف على ما عرفه الإمام فجر(101/51)
الدين هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد، كذا من الجزء الأول من المزهر للسيوطي ص238. وهذا ينطبق على سكر ومبرت، فلا خلاف في أن كلمة سكر وإن كانت معربة قد اندمجت في العربية واستقرت بين ألفاظها وجرت في كلام فصحاء العرب (وأصبحت ذات حق بمضي مدة طويلة عليها تجري على أسلات الأقلام، وتجيء في أفصح الكلام، وقد عربها العرب فجرت مع الألفاظ العربية في عنان)
هكذا يقول الأستاذ الجارم في ص 326 من مجلة المجمع اللغوي الملكي. وقد ذكر عدة ألفاظ من هذا القبيل من بينها سكر ومبرت. وإن كان الأستاذ الجارم قد عبر عن هذا بأنه ترادف متوهم فقال: (وهناك أسباب دعت إلى توهم الترادف: منها دخول كلمات في العربية من لغات أخرى. . . الخ) إلا أنه عد هذا التوهم من مذهب المتشددين ثم استدرك بما يفيد جواز الترادف فقال: (نعم إن المتشدد لا يعد هذه الكلمات من المترادفات لاختلاف اللغة، ولكن ما الحيلة وقد شاع استعمالها وأصبحت ذات حق بمضي المدة الطويلة. . . الخ) العبارة التي اقتبسناها. وهناك دليل آخر على صحة إطلاق الترادف بين لفظين أحدهما عربي والآخر معرب نجده في كلام الأستاذ الجارم الذي استند إليه الأستاذ عبد الوهاب في اعتراضه. بل هو دليل على صحة إطلاق الترادف بين لفظين أحدهما عربي والآخر أعجمي خالص. ذلك قوله في ص314 من مجلة المجمع: (والمثل الذي نختاره لذلك هو ما أورده السيوطي في المزهر للعسل من الأسماء؛ وقد وردت على أنها من باب الترادف. . . فمن مرادف العسل الدستفشار - والمستفشار. وهو العسل الذي لم تمسه النار؛ وليست واحدة منهما عربية. . . إلى أن قال. . . ونستطيع مما سقناه من مرادفات العسل أن نقيس عليه غيره). فلعل الأستاذ عبد الوهاب يرى بعد هذا جواز إطلاق الترادف بين لفظين في لغة أحدهما عربي والآخر أعجمي أو على الأقل معرب وللفظ السكر بين المعربات مكان وطيد في العربية
اليوزباشي أحمد الطاهر
2
التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة(101/52)
إلى الأستاذ فخري أبو السعود
قرأت يا سيدي مقالك الذي دبجه براعك تحت هذا العنوان في عدد (الرسالة) السابق، فخطر لي أن أعلق عليه هذا التعليق
كلنا متفق على أن الأخلاق في مدارسنا ليست مما يشرف ولا ينبئ بخير. ولكن الشيء الذي بلبل بالي وشرد خيالي هو طبكم لهذا الداء: هو نصحكم بفصل طبقات الناس في المدرسة، حتى تستقيم أخلاق الطلبة فيها، إذ يقولون في وصف الداء (قبولها - أي المدرسة - الطلاب من جميع الطبقات ووضعها أبناء الطبقة المحترمة بجانب أبناء الطبقة الوضيعة في المدرسة الواحدة بلا تميز) ثم قولكم في مكان آخر تصفون الدواء (فيجب أن تراعى طبقة الطالب الاجتماعية قبل أن يقبل في المدرسة، وأن يكون لهذا شأن في توزيع الطلاب على المدرسة بل الفصول وتخصيص مدارس في البلدان المختلفة لأبناء الطبقات الممتازة والأسر الطيبة)
أين يا سيدي هذه الطبقات الاجتماعية التي تعنيها؟ وعلى أي قاعدة نقسمها؟ أفنتراجع إلى القرون الوسطى نستلهم هذا التقسيم فنضع فواصل ومتاريس بين الأشراف والعامة؟ وإن كان ذلك يا سيدي، فأين طبقة الأشراف هذه أو الطبقة المحترمة كما تسميها؟ وأين طبقة العامة أو الطبقة الوضعية في رأيك؟ كيف نعرفها؟ وبم تميز إحداها من الأخرى؟
أجل أجبتم يا سيدي عن هذا السؤال فقلتم: (الطبقات المحترمة التي تستطيع دفع المصروفات العالية)
إذن يا سيدي كل غني في هذا البلد شريف عالي المكانة سامي الأخلاق، لا يجوز أن يجلس في معهد علمي إلى جانب الفقير الذي يجب أن يكون من (طبقة وضيعة فاسدة تعم فيها رذائل الكذب والغش والقحة وجرأة اللسان)
إذن كل من يستطيع أن يدفع مصروفات عالية يعد من طبقة الأشراف، وكل من يقصر عن ذلك يعد من الطبقة الوضيعة
فأين شرف أكثر الأغنياء في مصر يا أستاذ، ومن الذي يعترف بذلك الشرف؟ أمن الشرف هذه الفضائح الخلقية التي تنتشر عن بعضهم كل يوم؟ أمن الشرف هذه الفضائح المستورة(101/53)
بين جدران (الفيلات) التي لا يسكنها إلا الأغنياء، وفي قيعان (الصالات) التي لا يؤمها إلا الأغنياء؟
ما رأيك يا سيدي في أنني ما رأيت أفسد أخلاقاً ممن (يستطيع دفع المصروفات العالية)، وممن يستطيع أن يخرج لك من بطانة ثوبه من المال ما يسيل اللعاب ويغري الأفئدة، ومن يعلن في صوت كالرعد أنه اغتنى غناء لا يجاريه في غناه أحد. . ثم ما رأيك في أن أغلب من (لا يستطيع أن يدفع مصروفات عالية) ومن يطرد من المدرسة كل يوم لعجزه عنها هو المثل الكامل للخلق الكامل. . .؟
ثم أراك يا سيدي تشبهنا في ذلك بالإنجليز. . . ولست بالطبع في درايتكم حتى أتحدث عن إنجلترا حديث عارف، ولكن ترامى إلى علمي أن الإنجليزي كلما زاد غناه عظم خلقه، والأمر هنا على النقيض، فالارتفاع هناك بالخلق، والارتفاع هنا بالمال، حقيقة مرة ولكن لا شك فيها
ولكم أود مع ذلك يا سيدي لو تفصل طبقات الطلاب في المدرسة على هذه القاعدة قاعدة الجاه والغنى حتى يتسنى لكل فقير مؤدب أن يحتفظ بأدبه ويستقيم على خلقه
زكي شنودة جندي
ذكرى سيد الوجود محمد
للأديب محمد البزم
نبيُّ حبَا عدنان فضلاً وسُؤْدَداً ... فٌعَّمتْ جميع العالَمينَ مواهبُهْ
أخُو هِمَمٍ لا يُدرِكُ الدهرُ شَأْوَها ... ويجهلُها أعداؤُهُ وأقارِبُهْ
رأى الكَوْنَ في تيهٍ من الجهلِ أسفَعٍ ... تَشُقُّ عُبَابَ الداجِيَاتِ مراكبُهْ
فأطلَعَ في آفاقِهِ فَرْقَدَ الهدى ... إلى أن أصاب الحقَّ في الليلِ حاطِبُهْ
وَقِيدت له الدنيا مَقادَةَ طائعٍٍ ... ذَلولٍ فكانت في سواها مآرِبهْ
مُحَمَّدُ إني من مَدِيحِكَ عاجِزٌ ... وَشَأْوُ بياَنَي دون ما أنا طالبُهْ
أتَيتَ وقد شاخَ الزمانُ فَرَدَّهْ ... نداكَ فَتِيَّا بعد ما ارْبَدَّ حالبُهْ
سطعْتَ وَلَيلُ الغَيّ مُلْقٍ جِرَانَهُ ... على الكونٍ تَهْمي بالرزايا سحائبٌهْ(101/54)
يؤتيكَ وَحْيٌ لا يُرَام ومنطقٌ ... بوادِرُهُ مَحْمُودةٌ وعواقُبهْ
فجِئْتُ بقُرْآنٍ حوى كلَّ حِكْمَةٍ ... أنارتْ دياجي الكائناتِ كواكبُهْ
يُنَصُّ فَتُصْمي الظالمينَ حُدُودُهُ ... وَيُتْلَى فَتُرْدِى المارقينَ ثَوَاقبُهْ
وَقَوَّمْتَ من زَيغِ الأعارِيبِ فاستَوَوْا ... على مَنْهَجٍ لِلْعَدْلِ يَأْمَنُ راكِبُهْ
وَرُضْتَ جِمَاحَ المُستبِدِّينَ راكباً ... من الحقِّ متنْاً يُوضِحُ السمْتَ لاحِبُهْ
تلطفتَ بالغاوِي فَطَوْراً تُلِينُهُ ... وحيناً تُصَاديهِ وآنًا تُغالبُهْ
َجَلوْتَ عَمَاياتِ القلوبِ فأبَصَرتْ ... وزِيحَتْ عنِ الُّلبِّ السليمِ غيَاهبُهْ
ودافَعْتَ عن ذاتِ الإلهِ بِعَزْمَةٍ ... متى رامتِ الجبَّارَ صاحت نوأدبهْ
وأوصيتَ خيراً بالكنائِسِ مانعاً ... ذَوِيها، وجيْشُ الحقِّ تمضي قَوَاضِيُهْ
صَقَلْتَ حواشي الدهرِ فانْصَاعَ طَيِّعاً ... وأذْعَنَ لا تَسْرِى بِشَرٍّ عقارِبُهْ
وَقلَّمتَ أظْفَارَ الزمانِ فأعرَضَتْ ... عن الضارِعِ المسكينِ تَنْأَى مصائبُهْ
وذي أَشَرٍ أنَعْمتَ بالخيرِ قَلبَهُ ... وقد أُنعمَتْ بالشَّرِّ قَبْلاً تَرَائبُهْ
وذي دُرْبَةٍ رازَ الزمانَ تَركْتَهُ ... كَذِي الجهل ما أجدَت عليه تجارِبُهْ
وَغَضْبَةِ حقٍّ في عُلَى العُرْبِ غادرتْ ... عدوُّ بني عدنانَ سُفْلا مراتِبُهْ
وَفيْلَقِ ظُلمٍ سَارَ كالبحرِ زاخراً ... يَجْرٌّ بهِ ذَيلَ الغوايةِ ساحبُهْ
بَعثت به جيشاً من الرُّعْبِ فارْعَوَى ... تضيقُ بهِ أجْوَاؤُهْ وسباسِبٌهْ
يخِفُّ إليك الدارعونَ مخافَةً ... وقد أمنَتْ أطفالُهُ وكواعِبُهْ
تحوطُكَ من عُلْيا قُرَيْشٍ عصابةٌ ... لها الفَلَكُ الدوَّارُ تعنُو ذوائبُهْ
جَرَرْتَ بهم ما بين شَرْقٍ ومغرِبِ ... كتائِبَ عزمٍ نائيات رغائبُهْ
إذا مرَّ منْهُمْ موكِبٌ لاحَ موكِبٌ ... تمُجُّ زُعَافَ الموتِ صِرْفاً مَقَانبُهْ
بكلِّ َفتى ماضِي العَزَائِمِ لَهْذَمٍ ... إذا اعتَزَّ شَأْنُ العُرْبِ يعتَزُّ جانبُهْ
يرُومونَ مَجْداً لا تنى عزَماتُهُمْ ... عن المجدِ حتى يدرِكَ المجدِ خاطِبُهْ
دفعتَ بهم في وَجِه كلِّ عظيمةٍ ... فخاضوا إليها الموْتَ دُهْماً مسارِبُهْ
فأَسْأَرْتَ للأَقْوَامِ في كل وِجهَةٍ ... جَداً لم تَشُبْهُ بالأذَاةِ شَوائبُهْ
وغادرْتَ للإسلام صَرْحاً مَمرِّداً ... تُناطحُ أعنانَ السَّماء مناكِبُهْ(101/55)
فلا زَالَ مِنْ قُرْقانِكَ البرِّ للوَرَى ... مناهِلُ هَدْىٍ صافيات مشارِبٌهْ
دمشق
محمد البزم(101/56)
تأبين الكاظمي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
صدق النعيُّ ومات عبد المحسن ... يا شعر أَبّنه ويا نفس احزني
يا شعر أنت ومحسنٌ قد كنتما ... عمراً رفيقيْ غربةٍ وتوطّن
قد عشتما في كل منزلة معا ... كالفرقدين اللامعين وأحسن
أو زهرتين ولا أراني داريا ... أشغفتُ بالنسرِين أم بالسوسن
حتى احتوته يدُ المنايا بغتة ... بمخالبٍ معقوفةٍ كالمحجن
لمن الزعامة في القريض ومن لها ... بعد الحفيّ الشاعر المتفنّن
ملأت قصائدُه القلوبَ حماسةً ... من بعد ما شغلت جميع الألسن
شعرٌ يكاد يسيل منه لفظٌه ... مثل الندى من رقةٍ فيهزّني
شعرٌ إليه بفعل مغناطيسه ... في السمع تنجذب القلوب وتنحني
العبقريةُ فيه مُعتَرَفٌ بها ... من ذا يسئ ظنونه في المحسن؟
شيخ القريض قضى فكان عليه لي=حزنٌ بعيدٌ غورُه قد مضّي
في كل قطر أبّنته عصبةٌ ... ما كلٌ من لاقى الردى بمؤبّن
بكت العروبة في الجزيرة محسناً ... ما موتٌ شاعرها الكبير بهيّن
فقدت فأوجع قلبَها فقدانٌها ... منه فتىً شهماً كريم المعدن
مات الذي كانت به معتزَّةً ... يا رب إن الخطب جلّ فهوّن
قد كان في كل المواقف واثقاً ... بالنفس شأن الشاعر المتمكن
دفنوه في ملحودة وخياُله ... في أعيني فكأنه لم يُدفن
ما كان للآداب إلاَ روضةً ... ما شَئت من زٍهر حوته تَجتَني
مَن للغريب قضى وكان مولّيا ... للطرف عند الموت شطرّ الموطن
قدودّ لو أن المنيّة أمهلت ... وإليه عبدَ به قريرَ الأعين
لكنها قد أعجلته بضربةٍ ... من كفّها في وثبةٍ من مكمن
الشعرُ أسمع شاجياً خفقانَه ... فكأنهّ أنات قلبٍ مٌثْخَن
يا شعر أنت من الفجيعة مؤلَمٌ ... وأرى الأسى بجبينك المتغضّن(101/57)
بيني وبينك في الحياة وشيجةٌ ... وجميعٌ ما هو محزنٌ لك محزني
يا شعر بعد الناثرين دموعَهم ... إن كان عندك ما تبثّ فبيّن
ما أكبر الأخلاق في نفس امرئ ... إن خاشنته الناسُ لم يخشوشن
قد عاش عيشاً والحياةُ مُلَّحةٌ ... ما كان بالمْغنى ولا بالمسمن
من ديدن الشرق احتقار دوى النهى ... والشرق ليس مُغّيراً للديدن
الكاظميّ قد اعتني ببلاده ... وبلاده بحياته لم يعتن
لو كان يحظى في العراق ببلغةٍ ... ما سار يقصد مصرَ عبد المحسن
بلدُ به بخلاف ما في غيره ... شبع الدخيلُ وأَسغب ابن الموطن
للمرء في الأرض الفضاء مساكنٌ ... أنّي مضى والقبرٌ آخر مسكن
والموت فوق جنادل وصفائح ... كالموت حُمَّ على فراشٍ ليّن
لا تسألوني عن مصير مَن انطووا ... أنا بالعواقب لستُ بالمتكهّن
قالوا وراء الموت أهوالٌ ولم ... أحفل بما قالوا ولم أتيقّن
ولعل هذا الموت مبدأ رحلةٍ ... للروح خالدةً وراء الأزمن
تبنى الحياة لها الصروحَ من المنى ... والموت يهدم كلّ ما هي تبتني
في الكون هذا كلُ شيء ممكنُ ... إلا البقاء فذاك ليس بمكمن
وكأننا صور الخيال لبرهةٍ ... نبدو ونخفى عن شعاع الأعين
الكون عن ماضيه لم أك راضياً ... والكون عن آتية لستُ بمأمن
فرحُ بجانبه همومُ جمةُ ... هذا منيحةُ دهرك المتلوّن
لابد من موتٍ لمن هو عائشُ ... فاشجُع إذا قابلَته أو فاجبن
إن المنون لرابضٌ مُتحيّنٌ ... ماذا مرادُ الرابض المَتَحيّن
أرَبابُ إن الحزن يقتل أهلَه ... أرَبابُ يا ابنة محسنٍ لا تحزني
أرباب صبراً فالحياة فريسة ... والموت ذئبٌ إن سطا لا ينثني
يا بلبل الشعراء مالك صامتاً ... من بعد تغريد بشعرك مُشجِن
قد سرتَ قبلي للردى متعجِّلاً ... ولعّلني بك لاحق ولعلَّني
(بغداد)(101/58)
جميل صدقي الزهاوي(101/59)
أبو الطيب المتنبي
للأستاذ معروف الرصافي
كان أبو الطيب امرأ قُوَلَهْ ... يبتكر الشعر مذكياً شُعَله
صاحب نفس كبيرة شرفت ... فشرَّفت حله ومرتحله
كان هو الشاعر الذي انتشرت ... أشعاره في البلاد منتقله
أوجد للشعر دولة عظمت ... به فعزت من غيره دُوَله
من كل معنى أغر مؤتلق ... في لفظه كالعروس في الحجَله
وربما رق لفظه فبدت ... في شعره كل كِلْمةٍ ثمله
وربما لم تَبن مقاصده ... لأنها فيه غير مبتذله
فسائلن عن قريضة حلبا ... كم قطفت منه زهرة خَضِله
خلد ذكراً لسيف دولتها ... أيام وشَّى بمدحه خلله
فاعجب لسيف لم تَبْل جدته ... وشاعر بالمديح قد صقله
ولو حاز موسى مضاء عزمته ... ما تاه في التيه عندما دخله
وهو الذي اجتازه بِعْمُلَةٍ ... تحمل منه الهمام لا التُكَلَه
قد بات كافور من جراءتها ... على الموامي بمهجة وجله
إذ أعجزته بالسير عن طلب ... لا خيله تخشى ولا إِبله
فسل به النيل يوم ناقتُه ... تغمرت منه وانتحت جبله
كيف أتى مصر كالعقاب لكي ... يبلغ فيها بشعره أمله
وكيف أحيا بالمدح أسودها ... ثم وشيكا بهجوه قتله
في شعره حكمة مهذبة ... وروعة بالذكاء مشتعلة
ونغمة بالشعور صادحة ... وصنعة بالفنون متصله
قدرته في البيان واسعة ... يتيه فيها السؤال والسَّأله
إذا المعاني بذهنه ازدحمت ... ما ربكت في انتقائها حيله
كم شاعر قد قفا له أثراً ... وناقد راح يبتغي زلله
فأخفقوا عاجزين عن درَك ... لبعض ما كُلُّلهُ تيسر له(101/60)
قل لابن عباد أي منقصة ... من أجلها كنت مكثراً عذَله
أطبُعه بالذكاء متقداً ... أم نفسه بالإباء مشتملة
أم شعره والعصور ما برحت ... تسعى بكل استجادة قِبَله
لكنما رمت من مدائحه ... ما لم تكن سالكاً له سبله
طَمَاعة منك غير واعية ... وهي لعمري حماقة وبَلَهْ
أكبر من أكبر القريض به ... وأكبر القائلين من قتله
يا قاتليه لو تعلمون به ... إذن قتلتم نفوسكم بدله
لكنكم تجهلون رتبته ... ماذا فعلتم يا أجهل الجهلة
قتلتم الشعر والإجادة والإ ... بداع فيه يا الأم القتلة
لستم بذا القتل من بني أسد ... بل انتموا فيه من بني ورَله
لم يزل الدهر بعد مقتله ... يضرب في الشعر للورى مثله
كان له عند كل بادهة ... بدائع في القريض مرتجله
يصطاد في الشعر كل شاردة ... من القوافي بفطنة عَجِله
فلا تقسه بغيره أدباً ... وهل تقاس العطار بالتفله
كم شاعر يدعى وليس له ... من شعره غير منطق الجهلة
إن أنت أنشدت شعره هزؤا ... رجعت منه كآكل البصله
ورب شعر إذا لفظت به ... من هجنة فيه تأنف السبلة
الشعر معنى ألفاظه حسنت ... فنسقت في بلاغة جمله
وكلما قصرت قوالبه ... عن حسن معناه أوسعت خلله
حسن المعاني بلفظها شوه ... كحسن حسناء ثوبها سمله
من ذاق في الشعر طعم معجزه ... فاحمد الشاعر الذي أكله
أي مقام هيجاؤه احتدمت ... بالشعر يوماً ولم يكن بطله
كان عزيزاً يأبى الهوان فما ... قر عليه يوماً ولا قبله
معروف الرصافي(101/61)
القصص
من أساطير الإغريق
هيرو وليلندز
المأساة الغرامية المؤلمة
للأستاذ دريني خشبة
أرسلوها إلى الدير، طفلة بريئة النفس، طاهرة القلب، بسامة الثغر، وضاحة الجبين؛ كلما وضعت إبهامها في فمها تمصه، تمثلت فيها سذاجة الطفولة وجمالها ودعتها
ونذروها لفينوس، فكانت ربة الحب تنسرق في القمراء الصافية لترعى طفلها، ولتنفث فيها من رقى السحر ما تعدها به لمستقبل غرامي ملئ. وكان الكهنة يتفرسون في شفتي هذه الوديعة الصغيرة ألغازاً لا يدركون لها كنها، وأسراراً لا يفقهون لها معنى، إلا كنه الصبابة الحمراء تنثال فوق الثنايا الأربع البراقة، وإلا معنى القبل الناضجة يختلسونها كلما افترنا عن ابتسامة، أو انفرجتا لدغدغة أو تخميش
وشبت هيرو
وتفتح الورد في خديها الناعمين، واستيقظ النرجس في عينيها الناعستين، وضحكت فينوس في شفتيها الحمراوين، ونبت الخمل الحريري يطري صباها الغض، وشبابها الفينان! وعينت راهبة لفينوس في سيستوس، المدينة الخالدة، التي تربض على شاطئ الهلسنت الأوربي، قبالة أبيدوس، مدينة الأحلام، على الشاطئ الأسيوي
ولبثت الراهبة الرائعة تؤدي الطقوس والشعائر الدينية لربة الجمال والحب، في برج مشيد مشرف على البحر في قصر أبيها، ولبثت الشهرة تذيع محاسنها في المدينة الكبيرة، والصيت الرنان يتحدث عن جمالها بين الأهلين كما يتحدث الشذى عن ورده، والأرج عن رنده، حتى أصبح اسمها أغنية كل فم، وهتاف كل لسان
وسمع لياندر، فتى أبيدوس وأشجع شبابها، والذائد عنها في كل حومة، بهبرو الراهبة، فعجب أن تكون حقيقة كما يصفها الناس، وحسب أن المبالغة هي التي نفخت في شهرة هيرو، فلم يهتم لما سمع عن مفاتنها، وصرف ذهنه الشاب الفتى عن هذه الطوبى التي(101/62)
سلبت ألباب الفتيان، وغدت حلماً ذهبياً لكل مدله ولهان
ولكنه كان يزداد تذكراً للفتاة كلما بالغ في نسيانها أو تناسيها، وإذا صح أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، فلقد كانت أذن لينادر عاشقة وامقة، وما برحت تلح على قلب صاحبها بالعشق والمقة، وما برح يعرض عنها ولا يصغي لها، حتى أعلن في سيستوس عن حفل ضخم يقام في هيكلها تكريماً لفينوس وتقديساً، وأن الشباب من الجنسين مدعوون للمشاركة في الاحتفال بربة الجمال والحب، وليس أولى من الشباب بتكريم الجمال والحب!
وترامى خبر الاحتفال حتى بلغ الشاطئ الأسيوي في أبيدوس وحتى سمع به لياندر، فابتسم، وشعر في سويدائه بأول قبس من نار الحب، فألهب إحساسه وأشتعل قلبه، وملأ ضالعه شوقاً إلى هيرو وتحنانا
واعتزم المشاركة في الاحتفال، لا تقديساً لفينوس، ولكن لينظر إلى الراهبة الحبيبة التي ملأت خياله، وأصبحت مثله الأعلى الذي ينجذب دائماً إليه، مدفوعاً بالقوة الخفية الخارقة، خاضعاً للسحر المطوي العميق
وإذ كان اليوم المنشود، ارتدى الفتى أبهى ملابسه، وانطلق يحدث نفسه أماني الحب، ويتغنى أغرودة الجمال، وظل يحلم في طريقه إلى سيستوس بهذا الأمل اللماح، الذي يشبه في تحجبه في ثنايا المستقبل، قمر ليلة مكفهرة قمطرير، ما يفتأ يتخايل في تضاعيف السحب!
وعبر الهلسبنت في زورق أبيض جميل، مخسر ما بين العدوتين في ساعة كانت في فؤاد العاشق المشتاق أطول من أحقاب وأحقاب!
وقصد إلى الهيكل، وطفق يدافع الجماعات، ويزاحم الجماهير، حتى كان بين يدي هيرو
وكانت باقات الورد تتناثر من هنا وهناك تحت قدمي الراهبة الصغيرة التي استوت على منصة ترتفع قليلاً عن مقاعد المدعوين، مشرقة مؤنقة، كأنها زنبقة، ملتفعة بردها الحريري الأبيض، مكتثة بذراعها اللدنة الجميلة على سنادة المنصة، مقلبة عينيها الدعجاوين في الجماهير المتكببة حولها تلتمس البركات. . .
وكانت فينوس قد أقبلت من مملكة الأولمب تشهد المهرجان الحاشد، وتشبع خيلاءها باستملاء الشباب الهاتف باسمها، المترنم بعبادتها؛ وكان معها أبناؤها الغر الميامين، وفيهم(101/63)
كيوبيد وهرمونيا، فاختبأ في أبراج الهيكل، ولبثوا ينظرون إلى الملأ ويعجبون.
وأرسلت فينوس عينها الفاحصة في الملأ، فرأت لياندر العاشق يرنو إلى هيرو الراهبة، وتكاد عيناه تلتهمانها التهاماً؛ ولاحظت أن هيرو منصرفة عن الفتى المسكين لا تكاد تعيره نظرة، ولا تمنحه التفاتة، وهو مع ذاك مشرئب إليها، ينظر نظرات كلها عبادة وعيناه مغروقتان بدموع تكاد تنهمر
وتحرك حنان الحب في فؤاد ربة الحب، وأقسمت لتعاونني في هذا المشروع الغرامي العظيم!!
وذلك أن فينوس لم تكن تجيد الحب لنفسها فقط، بل كان يثلجها ويملؤها غبطةً أن ترى إلى عبرات المحبين، وتسمع إلى رنين القُبل في شفاه العاشقين؛ فأشارت إلى ولدها كيوبيد - رب الحب، وصاحب السهام الذهبية والقوس ذات الوتر العُرد - فأقبل عندها، وألقت إليه أوامرها. . .
فوتر كيزبيد قوسه، وتخيّر واحداً من سهامه، وأنتهز فرصةً من هيرو كان نظرها متجهاً فيها إلى لياندر، وأرسل إلى قلبها السهم الذي يحمل رسالة الحب، فدخله غير مستأذن، وملأه لوعةً وصبابة. . . وجُنَّت للحظتها بالفتى. . .
وتخبر كيوبيد سهماً آخر، وأرسله هدية حارةً، دامية، إلى فؤاد لياندر. وما كاد يستقر فيه، حتى أحس الفتى أنه لم يغد واحداً من هذه الأجسام الفانية الهالكة بعد، بل هو قد صار طيفاً نورانياً؛ وأحس مع ذاك بحب غمرٍ لم يكن له به عهد من قبل، جعله يفنى فناءً تاماً في هيرو الراهبة، التي نظر فألفاها تلتهمه هي الأخرى بعينيها وقلبها التهاماً!!. . .
لله يا حب ما أجملك، وما أبر فينوس بعبادتك!. . .
ودلف لياندر نحو المنصة، وتمتم بكلماتٍ خافتةٍ، (كأنما هي بَثُّ الورد للمطر!) يفهمها المحبون وحدهم، حين يتكلمون بأطراف الشفاء والعيون؛ فعلمت هيرو أن حبيبها يُقرئها حبه، ويسرُّها هيامه، ويرجو منها أن تمنحه ميعاداً يلقاها فيه على حدة، ويعبدها خلاله على انفراد.
وارتبكت هيرو، وتصارع في نفسها الخوف والحب؛ الخوف من أن يلحظ أحد راهبة فينوس تصبو، وبذلك يهوى احترامها إلى حضيض السخرية، والحب الذي تكتمه في(101/64)
صميمها للياندر، والذي أثاره فيها سهم كيوبيد، ولم إلا أن تنهر العاشق الملّح لينصرف، ولكنه ما يزداد إلا تعلقاً بها، وتشبثاً بما طلب إليها، ورجاها فيه، وتكون هيرو قد بلغت حالةً بين الهيام والإشفاق لا تحتمل، فتهمس إليه أن ينتظر حتى ينصرف الناس؛ فإذا انصرفوا، خلت إليه، وحدثته حديثاً موشى بالورد، مبللاً بدموع الحب، يختلط فيه أنين الآهات برنين الموسيقى. وتذكر له أن اتصالهما سيظل حباً في حب، وبكاءً في بكاء، ولوعةً في إثر لوعة، وزورة مختلسة تعقبها زورة مختلسة: (لأني راهبة كما تعلم، وأنا خادمة هذا لهيكل الفينوسي المقدس، وسأظل عذراء أبد الدهر، فلن ينتهي حبنا إلى هذا الزواج الذي أوثره وأتشهاه. فإذا كان الغسق يا حبيبي، وتألق النجم في كبد السماء يردد أنَّاتنا، فاقصد إلى شاطئ البحر عند أبيدوس، وأخلع ملابسك، ثم خض عباب الهلسبنت حين أعطيك إشارة من مصباحي، حيث أكون في برج قصرنا المشرف على البحر عند أقصى حدود سيستوس. فإذا وصلت، وستصل سالماً في رعاية فينوس، فهلم إليَّ فير البرج نلتذ آلام الحب، ونتغنّ أشجان الهوى، واضعة رأسي على صدرك أو واضعاً رأسك على صدري، شاكيين إلى الآلهة ما بنا من برحٍ حتى يطلع الفجر فنفترق، وتعود أدراجك إلى الشاطئ الأسيوي سابحاً، فإذا كان غد، عدت إليَّ لأفني فيك وأغمرك بالقُبل ولأ قرأ نفسك، وتقرأ في نفسي، كتاب الحب وآي الطهر. . . وبوركت فينوس!).
ولقد آثرت هيرو خطة الحذر في صلتها الغرامية بلياندر، لأن شطئان الهلسبنت كانت حرماً على السفائن والزوارق وسائر الجواري بعد ساعة من غروب الشمس، فلو قدر كب زورقاً وعبر به البوغاز، لعرَّض نفسه لأخطار جسام من بينهما عقوبة الإعدام دون محاكمة! لذلك لم يكن بد من أن يقطع البحر سابحاً كما رسمت له هيرو
(معبودتي! سأخوض العباب في سبيلك)
(وأطوي بحار الجحيم لو أنها تحجزني عنك)
(فلا الموج جياشاً باللهب، ولا الأعماق تقذف باللحم)
(ولا الفزع الأكبر في الأرض أو في السماء؛ ولا هذا ولا)
(ذاك يحول دون لقائنا يا معبودتي!)
فلما كان غد، وتوارت الشمس بالحجاب، وأقبل ليل العاشقين بشكواه ونجواه، يم لياندر(101/65)
شطر البحر، ووقف فوق رمال الشاطئ كأنه يعدها، ولبث يرقب البرج على العدوة الأخرى، وفي قلبه أمل مضطرب، وفي نفسه قلق مستمر، وملء يديه منى تملأ العالم بأسره!
وظل يذرع الشاطئ جيئة وذهوباً، وهو حين يروح أو حين ينثني، يحملق في البرج المشيد لا تريه عيناه عنه. وكانت الرياح تدمدم في جنبات الآكام الممتدة على الساحلين، والموج يزخر في غيران طوروس الشامخة، والبحر يقذف سراطينه على الكثبان البعيدة النائية، والسحب تتجمع وتتفرق كأنها موج الظلماء في خضم السماء. . .
وفجأة لمح لياندر بصيص النور في كُوى البرج الشاهق، فانفلت من ثيابه كأن الشعاعة تجذبه، ولم يعنه أن يمزق هذا الكم ويشق ذاك الجيب، ولم يبال أن يقذف بالقميص هنا وبالبرد هناك؛ ثم ينقذف في الماء ويأخذ في سباحته، ترفعه موجه حتى يحسب أنه يمسك النجم ويلمس السماء، وتخفضه موجة حتى ليخال البحر ينشطر بحرين، وهو في أعماق يؤانس التريتون، ويجالس الأوسايند!!
وكانت فينوس تنظر من علياء الأولمب وتلهو. . .
وما برح يصارع البحر والبحر يصرعه، وما برح يتقدم إلى أمام ويسحبه التيار إلى الوراء، وكلما خانته قواه نظر إلى البرج يتزود من بدره قوة، ومن القُبل الحارة التي تنتظره ثمة دفئاً ونشاطاً مجدداً!
وبلغ الشاطئ. . .
ووجد هيرو تنتظره كأنه الأمل المرتقب، والمُنية المرتجاة، فهرعت إليه استقرت في حضنه، ولبثت تتسمَّع إلى دقات قلبه الواجف الذي يخفق لأول مرة بموسيقى الحب!. . .
(وأمتد فم الفراشة المرتجف، يرشف رحيق القُبلة الأولى من الثغر الحبيب الذي تفتحت عنه جلنارة الحب)
وتمزقت السحب وتكشفت السماء، وأطلت النجوم ترنو إلى العاشقين المدلهين يتباثان ويتشاكيان، ويأخذان في لذة الهوى الطاهر، ونعيم الحب البريء. . .
وكانت فينوس تنظر من علياء الأولمب وتلهو. . .
ونسمت في الأفق الشرقي أنفاس الفجر، فنهض الحبيبان يودع أحدهما الآخر، ويتزودان(101/66)
للنهار الطويل من زاد الهوى نظرات وقبلات!!
وفصل لياندر، وأطلت هيرو من الكوَّة الصغيرة تنظر إليه وهو يداعب الموج والموج يداعبه، والزبد يلبسه ويخلعه. .
وفينوس تنظر وتلهو. . .
أشرقت الشمس وتوارت، وأقبل الليل وتنفس الفجر؛ وعصفت الريح أو هبت رُخاءً، والتمعت الشعلة تضيء للعاشق ظلمات العباب. . . واطمأن البحر إلى صاحبه حتى خاله أيسر من ظهر الأرض، فكان يطويه إلى مُنية نفسه وهويَّة قلبه في كلُّ موعد منتظر، ثم يؤوب على متنه حين ينصدع عمود الظلماء، وكأنه يمتطي من ظهور الموج الصافنات الجياد. . .
وكان فجراً شاتياً يكاد سنا برقه يخطف الأبصار، وزمزمة رعوده تهد جوانب الأفق، وكان البحر يتقلب ويرتعد كأنه زلزلة تأخذه من أعماقه، فأوجست هيرو خيفة على حبيبها، وتعلقت به، وراحت تغمره بالقُبل متوسلة ضارعة، ترجو منه أن يبقى بجانبها ولا يجازف بحياته في هذا اليم المصطخب، وهي تدبر له مخبأ يأويه ذلك اليوم، حتى تسكن العاصفة، وينام الماء. . .
وثارت النخوة في نفس لياندر، وشاعت الكبرياء في جسمه القوي المفتول، وأنف أن يجبن أما الطبيعة الساخطة الضبى، فطمأن هيرو واحتملها كالحمامة في يديه الجبارتين، وطبع على شفتيها المرتعشتين قبلة تجمعت فيها روحه كلها؛ ثم انفتل من بين ذراعيها الضعيفتين، وهرع إلى البحر فخوض فيه، ملتفتاً بين برهة وأخرى البدر الصغير المشرف عليه من الشاطئ. .
وفينوس البارة تنظر من الأولمب وتلهو. . .
وأحس في منتصف الطريق برعشة وإعياء، ولكنه كان يهتف باسم هيرو مرة، وباسم فينوس أخرى، فتنشط الثمالات القليلة الباقية من قوته الفانية. . . ورثت لحالة ربة الحب، فنفخت في ذراعيه المجهودتين حتى وصل إلى شاطئ ابيدوس مهدوداً محطماً. . . وتهالك على نفسه، فوصل إلى منزلة، وأوى إلى فراشه ليحلم بالموت المحقق الذي نجا منه منذ ساعة. . .(101/67)
وغابت الشمس؛ ولكن العاصفة ما برحت تزداد شدة وعنفواناً، والبرق ما فتئ يطوي السماء، وكان كلُّ شيء ينذر لياندر بسوء المنقلب؛ ومع ذاك فقد نهض غير مستيئس، وقصد الهلسبنت فوقف بشاطئه يبتسم للأهوال التي يضطرب بها بطنه، ثم لمح الضوء ينبعث من كوى الكوخ. . . فخلع ملابسه، وبدأ رحلته. . .
وكانت فينوس لا تنظر ولا تلهو. . .
لأنها كانت عند حبيبها أدونيس الراعي الجميل تستمتع به، بعد إذ فضحها أبوللو في حبيبها مارس.
ولم يبل لياندر من البحر ما بلا هذه الليلة. . . فلقد كان الموج كأنه ألواح من الثلج تتكسر على ظهر الفتى المسكين، وتصدع ذراعيه، وترتطم برأسه. . .
ولقد كان الماء هذه الليلة كأن شيئاً من الصبر قد ذاب فيه؛ بعد إذ كانت ملوحته تستحيل شهداً في فمه، وعسلاً مصفى!
ولقد كان البرد ينهمل من السحب القاتمة والصقيع يساقط كندف القطن الأبيض، فيعلق بشعره لياندر، وينسج فوقه قلنسوة - ولا نقول تاجاً؟. . - من برودة الموت. . .
وجاهد العاشق. . .
وسبح باسم هيرو بين موج كالجبال، وليل كله ظلمات وا أسفاه!!
لقد نظر المسكين إلى البرج يتزود من نوره، ولكنه لم يرَ الشعاعة تتألق كما عوَّدته. . .
لقد أطفأنها الرياح الهوج فأطفأت في قلبه بصيص الأمل. . واستولى عليه خور الفجر السابق، ودهاه القنوط في عضلاته، فيئس منها جميعاً. . . وضاعف النكبة شرقة بالماء حين أراد أن يهتف باسم هيرو. . .
فغاص!. . .
ولفظه أيم جثةً هامدة. . . ثم ابتلعه ثم لفظه. . .
ثم انتصف الليل، وهيرو المشوقة حاملةٌ مصباحها الخافت، بعد إذ أشعلته ثانية، ولكن الساعات تمضي. . . ولا يصل لياندر. . .
وتنفس الصبح، فسارعت الراهبة الهيمانة إلى البحر، وحملقت في الماء. . . فأبصرت الجثة الحبيبة ترتطم بأصل البرج، كأنه حنين الجسم إلى أحلام الروح. . .(101/68)
وصعقت هيرو. . .
ودارت بها الأرض، وانطفأت في عينيها مباهج الحياة بانطفاء أملها المشرق وبدرها البسام! فألقت بنفسها في الأعماق.
وما هي إلا لحظة، حتى كان الحبيبان مسجَّيين على سرير الماءُ مُلفَّفين في حرير الزبد!!
دريني خشبة(101/69)
من الأدب الإيطالي
الليالي العشر
ترجمة اليوزباشي الأديب أحمد الطاهر
2
قصة حب سيمون وأيفيجينا
قال: سمعت من القصص شيئاً كثيراً وكان أحبها إلى نفسي قصة الحب التي ستسمعون. هي قصة تريكم متا للحب من قوة وبأس بالغين الغاية في العجب، موفيين على النهاية في الغرابة
كان يسكن جزيرة قبرص في الزمن الخالي رجل عظيم القدر بين الرجال، واسع الثراء بين أصحاب المال، وكان أسمه (استيبوس)؛ غير أن الرجل لم يكن مكتمل الحظ من السعادة، فقد كان له ابن طويل القامة وسيم الطلعة، ولكنه ضعيف الإدراك سقيم الفهم مطبق الغباء. ولم يكن في وسع أبرع الأساتذة والمهذبين أن يوقظوا غفلته، أو يصقلوا طبيعته أو يهذبوا غلظته، فلم يجد الوالد بداً من أن يقصى هذا الفتى المنكود عن مرآه، ويبعده عن موطنه. فأرسله إلى منزل له في الريف يعيش فيه بين الأتباع والعبيد. ولقد كان الفتى أميل إلى طباع أولئك وأقرب: ففيه خشونتهم وجفاؤهم وغلظة طباعهم
- كان الفتى يوماً يمشي في المزرعة وقد أسند عصاه إلى كتفيه، واعتمد على طرفيها بذراعيه، فلقي فتاة بارعة الجمال مستغرقة في نوم عميق، قد اطمأنت إلى الحشائش الخضراء فراشاً وثيراً، ونام عند قدميها امرأتان وخادم. لم يكن لسيمون - وهذا أسم الفتى - عهد بوجوه النساء فاتكأ على عصاه، وحدق ببصره في وجه الفتاة، أن كانت بارعة الجمال في نومها، ساحرة الحسن في غمضها، هاج مرآها من نفسه شعوراً وإحساساً لا عهد له بهما ولا بأقل منهما، وكلما أمعن في النظر أزداد هذا الشعور وأسرف عليه هذا الأحساس، وإنهما ليغريانه بإطالة الوقوف وإمعان النظر فهو لا يريم، وينفرج جفنا الفتاة(101/70)
عن عينين يقرأ فيهما هذا الغبي في طلاقه وسهولة معاني الجمال، ومن معانيه الحلاوة والرفق والبشر. ثم هذا فمها الصغير ينفرج عن كلمات يدرك الفتى الأبله ما صيغت فيه من جمال في اللفظ وعذوبة في الجرس:
- (لم ترمقني هكذا؟ أرجو أن تنصرف عني. يفزعني مرآك)
- قال الفتى: (لا أتنحى، بل لا أستطيع)
ودار بينهما حوار أنتهي عند الفتى فلم يغادرها حتى أبلغها دارها.
ثم أرتد إلى أبيه وقد فهم اليوم معنى من أدق معاني الحياة. ولم يكن قبل اليوم يفهم أن للحياة معنى. قال: (يا أبتِ إنني أود أن أحيا حياة الرجل المهذب، ولقد برمت بحياة المتأبدين)
كان عجباً للوالد أن رأى أبنه يفكر ويصيب في التفكير، ويريد ويحسن الإرادة، ويتكلم ويجيد التعبير، في صوت رقيق، ولفظ رفيع
وألبسه ثياباً تليق بقدر أسرته ومكانتها وبعث به إلى المعلمين والمهذبين فقضى بينهم أربعة أعوام كان الحب فيها قوام تهذيبه وعنصره المستساغ، فما أوفى الفتى على نهاية الأعوام الأربعة حتى كان أكمل فتيان الجزيرة أدباً وأحسنهم خلقاً
وخطب الفتاة إلى أبيها وكانت تدعى (ايفيجينا) ولكن أباها أعتذر أن كانت الفتاة مخطوبة إلى الفتى (باسيمونداس) من أشرف أسر رودس وأعرقها مجداً وإنهما نجز الزفاف.
وجم الفتى وضاق الكون في عينيه، وأصرها في نفسه ليصرحن للفتاة بحبه، وليشهدنها على هذا الحب وفعله في نفسه، وليطعنها على ما خلق الحب منه من خلق جديد، وما يستشرف إليه من سعادة ترفعه إلى مقام الآلهة وعظمتهم إذا نعم منها بالزواج؛. .
(إما أن تكون الفتاة لي أو أكون من الهالكين)
وسار إلى أترابه من الفتيان الأشراف الأوفياء وائتمر معهم على أن يصنعوا سفينة قد استكملت عدتها من آلات الحرب والقتال، وتربص بها للسفينة التي تقل الفتاة إلى رودس مع زوجها باسيمونداس. فما أشرفت هذه عليها حتى رمى عليها مجذاباً ضمها إلى سفينته، وكان أول من ألقى بنفسه بين أعدائه وساقهم إلى الحرب ورداً حتى ألقوا سلاحهم واستسلموا خاضعين. قال لهم الفتى: (ما قصدت إليكم أبغي سلابكم ولكن لأنال هذه الفتاة(101/71)
النبيلة التي أحبها حباً لا يعادله حب ولا يتطاول إليه محب. فإن أسلمتموها إليَّ ألقيت إليكم السلم، وما لي عليكم سبيل، وإلاّ فلن تجدوا عن الهلاك محيصاً)
فتقدمت إليه الفتاة وفي مآقيها دموع. قال: (لا تبكي يا فتاتي، فلقد ساقني إليك حبي ومناك. ولن يعدل هذا الحب ما يسوقه إليك باسيمونداس من أعز ما يساق إلى الأزواج). وفصلت عن وجه الفتاة ابتسامة شقت طريقها إلى قلب الفتى من بين الدموع. وأخذ بيدها إلى سفينته واتخذ سبيله في البحر سرباً، حتى أشرف على جزيرة كريت أن كان له فيها أخوان وخلان، ولكن تنكرت له الأقدار ولم ينعم بهذا النصر طويلاً. فما أقبل الليل حتى أقبلت معه عاصفة نكباء، ترسل حسباناً من السماء، وطوحت بالسفينة بين شطى اليأس والرجاء، حتى ألقت بها في أحضان خليج صغير ينفرج عنه جزء من ساحل رودس على مرمى قوس من مستقر السفينة الرودسية، وما كادوا يستقرون حتى قدم باسيمونداس في فئة من أصحابه وفي أيديهم السلاح وهاجموا الفتى سيمون ومن معه وساقوهم أسرى إلى قاضي القضاة في رودس
وحوكم الفتى على ما أقترف فحكم عليه قاضي القضاة بالسجن خالداً فيه أبداً وقيد إلى السجن ذليلاً حسيراً
هنا فتانا تبرح به الآلام، وتمزق جلده الأغلال، وهناك باسيمونداس غارق في بحار الآمال ينعم بتحقيق المنى، ويعد العدة لزفافه إلى ايفيجينا. ولنترك الخصمين الآن، أحدهما يشقى بآلامه، والآخر ينعم بآماله
وكان لباسيمونداس أخ أصغر منه (هرمسداس) وكان يعلل النفس بالزواج من فتاة موفورة الحظ من الجمال أسمها (كسندار) أغرم بحبها وأخذت بشغاف قلبه. وكان ينازعه في الحب قاضي القضاة قضى على فتى هذه القصة يسجن أبداً. ولقد حسب الأخوان أن سينعمان بزفافهما إلى عروسيهما في ليلة واحدة، وأعد العدة في ثقة واطمئنان لهذا الغرض. ولكن قاضي القضاة لا يهدأ له بال، ولا يزال يحتال للأمر من كلُّ وجوهه وقد عقد العزم صادقاً على أن يحظى بالفتاة دون هذا الفتى (هرمسداس). ولكن كيف السبيل؟ أيختطفها؟ وهو قاضي القضاة؟ هذه عزة منصبه، وهذا شرف مكانته، يأبيان عليه هذه الفعلة النكراء، أم يقهر في نفسه سلطان الحب ويكظم الغيظ ويصبر على الكمد؟ إن سلطان الحب لقوي، وإن(101/72)
بأسه لشديد، وإنه لغالب، وانتهى به التفكير إلى حيث لم يعصمه الشرف المغلوب من سرف الهوى الغالب، ومضى ينفذ عزمه باختطاف الفتاة
ولم يعوزه النصراء في هذه الفعلة الهوجاء، إذ ظهر سيمون مرة أخرى على مسرح القصة. وليس أيسر على القاضي من أن يصطنعه بإخلاء سبيله وفك إساره لينال غرضه على ساعديه القويين فيختطف الفتاة، وليس أحب من ذلك إلى نفس سيمون فهو سينال حريته المسلوبة - لا شك في ذلك ولا مراء - وهو سينتقم لنفسه بنفسه من قرنه العنيد وخصمه المناجز بفجيعة أخيه في محبوبته واختطافها من بين أحضانه
وجيء إلى قاضي القضاة بسيمون وأصدقائه فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وزودهم بالسلاح وآلات الكفاح وأخفاهم في مسكنه حتى تحين ساعة العمل
وأقبل يوم الزفاف: زفاف باسيمونداس إلى ايفيجينا وزفاف هرمسداس إلى كاسندار وأقبلت معه ساعة الانتقام وإشباع الشهوة: انتقام سيمون من باسيمونداس خصمه ومزاحمه، وإشباع شهوة قاضي القضاة من الفتك بهرمسداس مناوئه ومناجزه
وأحكم قاضي القضاة التدبير: فقسم أعوانه إلى فئات ثلاث: فئة اتخذت سبيلها إلى الشاطئ واجتسرت البحر بسفينة، وثانية كمنت عند باسيمونداس، وثالثة كانت تحت إمرة سيمون وقاضي القضاة اندفعت إلى مقصورتي العريسيين الأخوين فقتلتهما واختطفت الفتاتين وولت بهما الفرار
وكانت الفتاتان تبكيان، ولكنه كان بكاءً لا يدل على الأسى ولا على الحسرة فعيونهما كانت تنم عن رغبة ورضى
وسار الجماعة منتصرين مهللين إلى كريت وتزوج قاضي القضاة بفتاته كاسندار، وتزوج سيمون بمحبوته ايفيجينا، وأقبل عليهم أصحابهم وأوفيائهم يهنئون
وعاد سيمون بفتاته المحبوبة إلى قبرس، وحمل قاضي القضاة فتاته إلى رودس، وعاشوا في نعيم ورخاء، حتى أدركهم الفناء
(عن الإنجليزية)
اليوزباشي أحمد الطاهر(101/73)
البريد الأدبي
نابغة عربي
المرحوم حسن كامل الصباح
في أول يوم من هذا الشهر احتفل في بيروت باستقبال جثمان الشاب العالم العربي النابغ حسن كامل الصباح، وقد علقته المنون بمدينة مالون بالولايات المتحدة يوم 31 مارس سنة 1935 في حادث طيارة. كان قد أشترها ليرحل بها إلى البلاد العربية. فكان فقده خسارة للعلم والاختراع وفجيعة للعرب الذين يرجون بمثل هذا النبوغ البارع أن يثبتوا للناس أن حيويتهم لا تزال فاعلة، وأن خصائصهم لا تزال كاملة، وأن مكانهم من المدينة الحديثة لا بد أن يشغلوه:
ولد الفقيد بالنبطية من جبل عامل في 16 أغسطس 1894 من أسرة تمت بنسبها لابن الصباح أمير الكويت، وشب مولعاً بالحساب والشعر والفلك، فدرس الجبر والهندسة بنفسه وهو في اليفاعة من سنه. ثم دخل المدرسة السلطانية ببيروت ثم الجامعة الأمريكية بها ولم يتم دراسته فيها لأنه دخل الجندية ونقل إلى الآستانة فعمل في قسم اللاسلكي تحت قيادة ضابط ألماني درس عليه الألمانية، وكان قد درس من قبل الفرنسية والإنكليزية، وظل يتبع دروس الرياضة في تلك اللغات حتى انتهت الحرب فعاد إلى دمشق وعين معلماً للرياضيات في المدرسة السلطانية، وفي عام 1921 تولى تدريس الحساب في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم بد له أن يهاجر إلى الولايات المتحدة فالتحق بمؤسسة (ماساتشوستس) الفنية وهي من أرقى مدارس الهندسة في العالم، ثم أنتقل إلى جامعة (النيويس)، ثم خرج إلى الحياة العاملة فعين في شركة الكهرباء العامة في (سكسنكندي) نيويورك، وهنالك أثمر نبوغه وأنتجت عبقريته، فأخذ يدهش الفنيين بابتكاره وإبداعه، فخصصت له الشركة مختبراً ومكتباً وجعلت تحت يده مهندسين يعملون بإرادته، وإرشاده، وتوالت عليه - حين دوى ذكر اختراعاته في المقامات العلمية والشركات الكهربائية - شهادات العلماء وتهاني العظماء كرئيس المؤسسة الكهربائية في بوسطون، والأستاذ كاستلو فرانش أستاذ الكهرباء بجامعة ميلان، والأستاذ موريس لبلان العالم الفرنسي الكبير، والمستر هوفر رئيس الولايات المتحدة السابق؛ وسجلت شركة الكهرباء العامة جدول(101/75)
اختراعاته في دائرة السجلات في واشنطن، وقد بلغ ما سجل منها ثلاثة وأربعون اختراعاً أنفقت الشركة في تسجيلها مائة ألف ريال، أنفقت على اختراع واحد من تلك الاختراعات ربع مليون ريال، وهو اختراع في التلفزة يحول أشعة الشمس إلى نار وقوة كهربائية، وكان يطمع بهذا الاختراع أن يسخر أشعة الشمس المحرقة في الصحراء العربية لإنارة المدن والقرى، وفي سبيل ذلك اشترى الطيارة كانت من أسباب وفاته.
ومن اختراعاته المسجلة:
1 - طريقة لضبط القوة الصادرة من المقوم الكهربائي رقم الباتنت 1669502
2 - حوافظ وضوابط لحماية المقومات الكهربائية رقم الباتنت 1776189
3 - طريقة لمنع حدوث هزات عالية في القوة الكهربائية في المقومات الزئبقية 1817312
4 - ملتقط حديث لمنع حدوث انفجار كهربائي منعكس محول للعزائم الكهربائية العظيمة رقم الباتنت 1852205
5 - جهاز للتلفزة يحول أشعة الشمس لنار وقوة كهربائية هائلة 174962
6 - جهاز للتلفزة يستخدم الكهارب المنعكسة بفعل النور رقم الباتنت 169466
7 - جهاز للتلفزة يستخدم النور كضابط للتيار الكهربائي رقم الباتنت 1706165 الخ
ومما ذكره مدير شركة جنرال الكتريك في رسالته إلى والد الفقيد الجملة الآتية:
(لقد برهن الأستاذ كامل الصباح أثناء خدمته لشركتنا على أنه من أعظم المفكرين الرياضيين في البلاد الأمريكية، وأن وفاته خسارة كبيرة لعالم الاختراع)
وقد صرح جهابذة الفن الكهربائي الذين كانوا يلقبونه بأديسون الصغير أنه أو نسأ الله لعُد من أعظم المخترعين
كتاب عن ستالين
ستالين طاغية روسيا السوفيتية من أعظم وأغمض الشخصيات المعاصرة، إن لم يكن أعظمها وأغمضها جميعاً؛ فهو يمثل في شخصه أمة عظيمة وجيلاً بأسره، ورسالة اجتماعية جديدة. وقد صدر أخيراً كتاب عن ستالين بقلم الكاتب الفرنسي هنري باربيس، وهنري باربيس كاتب ثوري، بل من زعماء كتاب الثورة الاشتراكية، ومن أعرف الناس(101/76)
بشؤون روسيا السوفيتية وزعيمها ستالين؛ منذ أكثر من عشرة أعوام لينين منشئ روسيا السوفيتية، واستمر يقودها حتى ذلك الوقت، ولكن شتان بين القائدين، فأن لينين ذهن غربي درس الماركسية (الاشتراكية) كمبدأ وعقيدة، وتلقاها في أجواء غريبة؛ ولكن ستالين أسيوي محض، فهو من بلاد الكرج، ولم يعرف الثورة ولا الاشتراكية قبل الحرب، ثم أن لينين ذهن المبادئ والمنطق؛ ولكن ستالين ذهن عملي خشن فقد تلقى تراث لينين وعمل على حمايته واستمراره بحماسة؛ ولكنه لم ير بدا من مسايرة الظروف؛ فارتد إلى النظم (البرجوازية). (غير الاشتراكية) يأخذ منها يروق له وما يعتقد أنه معين له على توطيد النظم القائمة. وقد كان ستالين في حياة لينين يمثل الجانب العملي للتجربة الجديدة، وكان لينين يعجب بآرائه العملية على الرغم معارضتها لمبادئه؛ ولما توفي لينين واستأثر ستالين بالأمر ثارت بينه وبين أقران لينين وحملت تراثه أمثال تروتسكي وزينوفييف وغيرهما معركة شديدة؛ ولم يستطع ستالين أن يبطش بهؤلاء الخصوم الذين ينعون عليه سياسته العملية بادئ بدء، ولكنه استطاع بعد عامين أو ثلاثة أن يضع يده عليهم، وأن يشتتهم، وأن يباعد بينهم وبين الثورة.
ويصف لنا ميسو باربيس هذه المراحل في كتابه، ويدرس خلال شخصية ستالين تاريخ روسيا السوفيتية، وأطوار الثورة الاشتراكية؛ وهو يرى أن ستالين بعد لينين هو الشخصية التي تتمثل فيها روسيا السوفيتية؛ ويذيل عنوان كتابه العبارة:
(عالم جديد يدرس في شخص رجل).
جائزة الرينصانص
اختتم موسم الجوائز الأدبية الكبرى في فرنسا بتخصيص جائزة (الرينصانص) لمسيو فرنان فليريه الكاتب الشاعر النرماندي؛ وفليريه من طبقة الكتَّاب والشعراء الكهول، وأصله من نورماندي، من ذلك الجيل الأدبي الخشن الذي يمتاز بقوة في أدبه؛ وقد ظهر قبل الحرب بكتاب اشترك في وضعه مع الشاعر (الكولس) ولوي برسو، عنوانه (جحيم المكتبة الوطنية) وفيه يدلل على اطلاع شاسع. بيد أنه مال إلى القريض بعد ذلك، وأخرج عدة قصائد ومنظومات قوية ساذجة تدل على تأثره بروح وطنه. ثم عالج القصة بعد ذلك فكتب منها: (ثلاث أقاصيص تاريخية)، (في عصر الحبيب)، (الملاذ الأخير)، (جيم كليك). بيد(101/77)
أن أعظم قصصه هي (قصة السعيدة راتون، الفتاة الطروب)، وهي قصة فتاة زلت، صورت بقوة ومهارة. وعنى فرنان فليريه أيضاً بالمسرح، وكتب له؛ فاشترك مع (روجيه ألار) في وضع (سلسلتين) و (مدرسة الأساتذة) ومع أمادوليجا في إخراج (كارافا كا، فنان ومصور)، وغيرها من القطع المسرحية؛ واشترك أيضاً لوي برسو في كتابه عدة قصص أخرى؛ ونشر في مجلة (مركير ده فرانس) عدة فصول وصور نقدية قوية؛ وقد روعي في منحه جائزة (الرينصانص) عمله الأدبي كله، ولم يمنحوه إياها من أجل كتاب معين(101/78)
الكتب
أبو بكر الصديق
تأليف الأستاذ علي الطنطاوي
نشرته المكتبة العربية بدمشق في 360 صفحة من القطع
المتوسط
الأستاذ علي الطنطاوي، أو الشيخ علي الطنطاوي كما يجب أن يُدعى، ثمرة ناضجة من ثمار الثقافة العربية الحديثة: ثقف علوم الدين وعلوم اللسان ثقافة محيطة، ثم درس القانون دراسة فقهيه عميقة، وشارك في إيقاظ النهضة الفكرية والدينية والاجتماعية في سوريا مشاركة منتجة؛ فله في قيادة الشباب محل، وفي توجيه الآداب طريقه، وفي سياسة الإصلاح مذهب؛ وهو نفر من صحابته يمثلون في سورية الناهضة الحلقة الواصلة بين عقيدة التنكر القديم، وعقلية تنكر التجدد. وليس الأستاذ الطنطاوي مجهولاً لدى قراء الرسالة، فهو يطالعهم الحين بعد الحين بالفصول الممتعة في الأدب والتاريخ والقصص، ينقله عن فكر خصب، واطلاع واسع، ومنطق سليم، وإيمان صادق، وعاطفة نبيلة
رغب إليه أصحاب المكتبة العربية بدمشق أن يكتب تاريخ الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فتوفر على قراءة مائة كتاب في موضوعه بين مطبوع ومخطوط أثبت أسماءها في ثبت المصادر، ثم جمع منها أخبار هذا البطل العربي، وعارض بعض هذه الأخبار ببعض، ثم جمع ما صح عنده من الروايات الكثيرة وجعلها كالحديث الواحد منبهاً إلى مصدر كلُّ رواية ودرجة كلُّ حديث. وتلك هي الطريقة السلفية التي تعتمد على الحشد والرواية، أكثر مما تعتمد على التحليل والرأي، فهي تعطيك أسباباً من غير حكم ومادة من غير صورة، وقد ركب الأستاذ هذه الطريقة الوعرة على قصد وعلم، فهو يقول: (وكان عليَّ أن أسألك في هذا الكتاب سبيل الدراسة التحليلية فأصف الحياة العقلية والاجتماعية والسياسية للعصر الذي عاش فيه أبو بكر رضي الله عنه والبيئة التي نشأ فيها، وما كان لذلك من الأثر فيه، وأدرس أخلاقه وسجاياه، وأبحث العوامل التي عملت في تكوينها، وأبين أثر الإسلام فيها، وأثرها في التاريخ الإسلامي، وما إلى ذلك من عناصر الدراسة(101/79)
التحليلية. ولكن (المكتبة العربية) ترى أن هذا الأسلوب لا يمثل إلا رأي صاحبه، وأن الرأي قد يخطئ الحقيقة وقد يصيبها، وهي لا تحب أن تخرج للناس (درساً) فيه الخطأ وفيه الصواب، بل تاريخاً صحيح السند مضبوط الرواية. . . . .
(وقد كرهت بادي الرأي هذا الأسلوب. . . فكيف أجوز أصعب الشقتين، فأجمع المواد وأفحصها وأنقحها وأسكبها وأؤلف بينها، ثم أثبتها في الكتاب كما هي فيأتي (آخر. . .) فيأخذها هينة لينة، فينشئ منها كتاباً تحليلياً تكون فاتحته انتقاصي وذمي بأني لم أنشأ منها كتاباً تحليلياً. . .
(ثم بدا لي فقلت لا بأس، فأنه مهما يكن للأسلوب التحليلي من المزايا، ومهما يكن للأسلوب العربي من العيوب (عند بعضهم) فأن الصحة ليس بغير الأسلوب العربي، وليس لأمة من الأمم ما للأمة العربية من الضبط في الرواية والتحقيق فيها والتثبت منها؛ ولا يدري أكثر من نعرف من الشبان من أمر هذه الراوية شيئاً، بل إنهم لا يجهلونها لمرة واحدة وينبزونها حماقة وجهلاً (بالكتب الصفراء) لما وضعوا في نفوسهم من أن الخير لا يكون خيراً لذاته، ولكن للطابع الغربي الذي يشترط أن يكون عليه. . . وإن الشر لا يكون شراً لذاته، ولكن للسمة الشرقية التي يتسم بها. . . وذكرت أن أتباع الأسلوب العربي - على ما سينالنا من لوم على اتباعه - خير لشبابنا (وهم جمهرة القراء) وأجدى عليهم، وأنه في طوق كثير من الشبان أن يكتبوا التاريخ التحليلي لأبي بكر إذا وجدوا الصحيح من أخباره مجموعاً في كتاب واحد، ولكنه يعجز الكثير منهم أن يجمعوا هذه الروايات ويفحصوها ويرتبوها. . .)
ولا ريب أن الأستاذ قد بلغ أقصى ما أراد في الجهة التي اختارها أو أختارها له الناشر، فقد أستوعب كتابه كلُّ ما أتصل بحياة الخليفة العظيم من الآيات والأحاديث والأخبار في سياق مطرد وترتيب محكم وأسلوب جذاب. ولكن من يقرأ تصدير الكتاب ويقف على أسلوب الكاتب في حسن التعليل، وصدق الوصف، وبراعة العرض، يتمنى لو أن الأستاذ كان قد وفق بين الطريقتين، فيجمع بين المزيتين، ويسلم من نقد القارئ المتعقب، واستغلال الكاتب الجحود(101/80)
الشاطئ المجهول
نظم الشاعر سيد قطب
للأستاذ محمود الخفيف
في ذهني، عن شعراء الشباب عندنا فكرة عامة، تزداد وضوحاً، وأزداد بها تعلقاً كلما نشر أحدهم مجموعة شعره، ولقد أتيح لي أن أقرأ عدداً من تلك المجموعات في الأيام الأخيرة، فزادتني يقيناً بأن الشعر في مصر يسير الآن لي غير قصد، أو بعبارة أخرى لم تنشأ بعد عندنا في الشعر (مدرسة) لها لونها، ولها غايتها، ولها سبلها المختلفة، التي تنتهي بها إلى تلك الغاية. وعلة ذلك أن شعراءنا إلا أقلهم مقلدون، وقل أن تلمح لأحدهم أصالة أو تتبين له جهة، وكأني بالشاب منهم يتناول القلم والورق، ويجلس لينظم، لا لأن قلبه يخفق بمعنى يريد أن يفصح عنه، بل لأن شهوة النشر تملك زمامه، والرغبة في المحاكاة تصرفه في ذلك عن الصواب، ففي نفسه بقية مما قرأ ولم يحسن فهمه من المسائل، فهو يتطلع إلى التجديد والغموض والرمز والبحث عن المجهول والتشاؤم وما سوى ذلك من معانِ يرددها دون أن يدري كنهها أو المقصود منها، وليت شعري، كيف نسمي إنتاجاً كهذا شعراً؟ وهل كان الشعر إلا الإحساس القوي ثم الإفصاح عنه في صورة تلائم الفن وترضي الذوق؟
وانك لتلتمس الدليل على ما أقول في هذا الديوان المسمى بالشاطئ المجهول، فأني على الرغم من عثوري فيه على بعض قطع أبهجتني قراءتها، قد عجزت تماماً عن استجلاء ما يريد الشاعر بما جاء في قسمه الأول الذي من أجله سماه بهذا الاسم
بيد أني أحب أن أبدأ الكلام عن هذا الديوان من الناحية الشكلية، فقد استوقفتني فيه ظاهرة أمضتني بقدر ما تولاني منها الدهش، ذلك أن الشاعر (سيد قطب)، قد مهد لديوانه بمقدمة نقدية بقلم الناقد (سيد قطب)، وراح في هذه المقدمة يمدح نفسه، ويطنب في هذا المدح في صورة يعروني لمجرد الإشارة إليها كثير من الخجل والحياء! ففي الديوان نظريات علمية وفلسفية، والشاعر ملم بها. والشاعر متصل بالعوالم المجهولة، تربط قواه الروحية بالوحدة الكونية الكبرى. وللشاعر إحساس متيقظ بالزمن ومروره، ويملأ الشغف بكشف المجهول والحديث عن السر حيزاً كبيراً من ديوانه، والشاعر في هذا الديوان يقف موقف المصور في كثير من القصائد وفي الديوان ظاهرة تستحق التسجيل، وذلك أن لوناً من ألوان(101/81)
الموسيقى يتفشى فيه كله، كذلك تبدو في هذا الديوان صورة واضحة للتعبير الدقيق المصور للأفكار إلى ما سوى ذلك مما استحى لذكره من عبارات المدح والإطراء: وتالله لقد ترددت كثيراً أن أصدق أن الشاعر والناقد شخص واحد، واكتفي أن أقول له في احترام: إن مثل هذا أن أجاز في شيء فهو لا يجوز في الأدب وعلى الأخص في الشعر
وبعد فهل رأيت في الديوان ما يتفق مع هذه المقدمة؟ الحق أني إذا أردت الأنصاف مضطر إلى أن أخالفه في كثير مما قال بل في معظمه! فالجزء الأول من ديوانه المسمى (ظلال ورموز) عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة يشملها جميعاً ذلك التعبير الذي شغف بتكراره الشاعر وهو (الوجوم الكئيب) فتلك الكآبة تخيم على معظم قصائده وعلى الأخص (الشعاع الخابي) و (خراب) و (في الصحراء) حيث (يطل الليل كالشيخ الكئيب) و (في خريف الحياة)، و (غريب). وليتنا نخرج بشيء من هذه الكآبة أو نتبين فيها شيئاً من فلسفة الحياة جديراً حقاً بهذا الأسم، ولست أدري لم أضطلع الشاعر هنا ببعض الموضوعات (كالإنسان الأخير) و (الشاعر في وادي الموت)، وهو لم يخرج منها بطائل، بله العجز عن التصور والتعبير في مثل هذه المواقف الغريبة!
أما بقية ديوانه فيشتمل على بعض قصائد ريفية، وقصائد غزلية، وقصائد وطنية، هي في الجملة جيدة، تحس أنها صادرة حقاً عن القلب، فليس فيها من تكلف والتعمل والتقليد مثل ما في سابقتها؛ ولقد أعجبني بنوع خاص قصائده (توارد خواطر) و (سر انتصار الحياة) و (المعجزة) و (الليلات المبعوثة) وطربت لها كثيراُ. ولو نظر الشاعر أو الناقد سيد قطب معي نظرة حق لفهم السر في نجاحه في تلك القصائد التي يستحق من أجلها أطيب الثناء، ولولا هنات في بعض تعبيراته لعدت هذه من عيون الشعر
والشاعر في قصائده الحديث أقوى على التعبير وأسلس عبارة منه في قصائده القديمة، ولقد لاحظت عليه كجمهرة شعراء الشباب مغرم ببعض الصور الغريبة. لا يتحرج في كثير من تعبيراته، ولا يتوخى فيها البلاغة والسير في مألوف التشبيه والاستعارة، وإلاّ فكيف يتفق مع الذوق مثل قوله (يدوي حوله صمت الفناء) والكون (مفقود القطيم) و (الهول الواجم) و (الرعب الحائم) و (الفناء الجاثم) و (ركام الفناء) و (شخوص الوهم) و (الحياء الوديع) و (الخشوع الوقور) و (العيلم المسجور) و (الصرخة الملتوية) و (الصمت في ظل الوجوم) و(101/82)
(وقف الكون شاخصاً في سكون) و (الذهول الشريد) و (القنوط العقيم) و (الدلال الشرود) و (الرشاد الرزين) و (الفتور الشغوف) وغير ذلك من الصور الذهنية الغريبة وهي مع الأسف كثيرة في الديوان
هذا إلى أنه قليل العناية بانتقاء اللفظ وتجويد القوافي، وأنا على يقين بأني حين أصارحه بهذا أحسن إليه؛ فواجبنا جميعاً أن نتضافر على رفع مستوى الشعر بعد أن نحدده ونتبين وجهته، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا توخينا الصراحة والصدق والإخلاص في كلُّ ما نقول
الخفيف(101/83)
العدد 102 - بتاريخ: 17 - 06 - 1935(/)
صيف الأديب
زفرت جهنم زفرتها السنوية كما تزعم الأساطير، فعقدت على وجهي (الوادي) غشاء من سموم ودخن؛ فالطبيعة في غلافها الناري مكبوتة، والأرض من حماها الصلب مسبوتة، والناس من إلحاح القيظ متبلدون هامدون يقابلون لفحه بجلد المضطر، ويعالجون برحه بصبر الشهيد! ولكن الجلد ينماع فهو عرق يقطر والصبر يرفض فهو بخار يتصاعد، وبين هذا التقطير وذلك التصعيد نفس تذوب، وجسم يذبل، وعزم يسرق، وفكر يضمحل؛ فليت شعري ماذا عسى أن يعمل من اضطر إلى أن يعمل؟ هذا مكتب الأديب الصحفي يشع الوهج كأتون الفرن، وينفث الضيق كحجرة السجن، ويبعث القلق كغرفة الانتظار؛ وهو مع ذلك مقضي عليه أن يفكر ويعبر، ويرتب ويهذب، ويقابل ويجادل، حتى يهن عصبه، وينقطع سببه، فيعود إلى منزله المعلق في الجو الأغبر على زحمة الشارع وضوضاء العامة، يطلب الهدوء فلا يجده، ويلتمس النوم فلا يناله!
ليس له وا أسفاه قصر يبسم بالنعيم، وينسم بالعطر، ويشرق بالجمال،
ويموج بالزهر، وتطري بالماء، ويتمطى في الظل، ويتبسط بالسعة،
ويسجوا بالخفض، ويغرق في السكون، ويضرب حواليه نطاقاً سحرياً
من الأحلام واللذة، فيعود به من وقدة الجو، ويلوذ به من مشقة العمل
وليس له وا أسفاه يعبر عليه ثبج البحر، ويرد به مدن الماء، ويبلغ فوقه قرى الجبل، فيسرى عن نفسه بعض عناء العام وبلاء الأيام بما يرى من مفاتن الطبيعة على الربى، ومجالي الفردوس فوق السهول، ومباهج المدنية على الشواطئ
وليس له وا أسفاه ما للأديب الموظف من المؤتمرات العلمية، والسياحات التعليمية، يغشاه في منازه أوربا، أو خمائل لبنان، فينال من زهرة الدنيا ومتعة العيش على حساب الدولة وعلى حب العلم
الطالب يعود في العطلة إلى الريف، والموظف الصغير يذهب في الإجازة إلى المصيف، والموظف الكبير يجد من مرتبه فضلاً يشتري به السياحة والراحة والبهجة، والموظف الأكبر يجثم نفسه الكبرى (خدمة) للحكومة في (الخارج)، فيؤديها على أتمها نائماً فوق صدور الأماني، حالماً على هدهدة الأغاني، هائماً وراء الخدمة المنشودة في أودية الشعر(102/1)
والسحر، ثم لا يكلف الخزينة العامرة إلا بضع مئات لمكافأته، وبضع كلمات لشكره؛ والكبراء الذين يعيشون علينا، ولا ينتسبون ألينا، يجمعون دم الفلاح الغالي في حقاق من ذهب، ويلفون لحمه اللذيذ في حقائب من حرير، ثم يرحلون بها إلى أسواق إبليس، في (مونت كار لو) و (نيس)، فيشترون بهما أبهة أشهر، وعربدة أسابيع، ومخازي عمر!
إذن لا يبقى لسعير الصيف إلا الطبقة التي تنسج لهؤلاء جميعاً برد السعادة: طبقة العمل التي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يجدي على أهله إلا قوت يوم بيوم: طبقة الموظف الأصغر، والصانع المستذل، والعامل المستغل، والفلاح المهمل، والتاجر المدين، والأديب المسكين، فهم يعملون في عطلة الناس - أجرهم على الله - حتى لا تسكن الدنيا، وحتى لا يقف الفلك!!
أنشأت الأمة مصا يف لأطفال الفقراء، واعدت الدولة قطار (البحر) وقطار (النزهة) لأنصاف الأغنياء، فماذا أنشأت الأمة أو أعدت الدولة لمساكين الأدباء؟ أليسوا رسل الحق والخير والجمال والمعرفة إلى من زهتهم السطوة فلجوا في الباطل، أعمتهم الشهوة فتدفقوا في الشر، ولوثهم الطمع فطمأنوا إلى القبح، وركبهم الغرور فجنحوا للجهالة؟ أليسوا أحرياء بأن تقيم لهم الحكومة (جبل البرناس) على بقعة من ضفاف النيل، أو على رقعة من شواطئ البحر، يستجمون عليه من الإعياء، ويتصلون فيه بالسماء، وينشدون الأمة من روائع الوحي اجمل مما أنشدته (الموز) التسع الهات الأدب والفنون، على قيثارة إله الشعر والبلاغة أبولون. . . ولكن رويدك يا أشعب!! إن الحكومة التي لا تشترك في مجلة الصحفي إلا بعد طلب ورجاء، ولا تشتري نسخة من كتاب الأديب إلا بعد اخذ وعطاء، يشق عليها أن تقيم (جبل البرناس)، على مثل هذا الأساس! على أن الخيال عالم والحقيقة عالم أخر، والأديب حريص على أن لا يسبح في عالمه غيره، فلماذا يمد عينيه الرغيبتين إلى عالم الناس؟
إن في ليلي القاهرة الساحرة الرخية لرضى للنفس الشاعرة: سماء كصفحة الأمل المشرق تتألق بالأنوار، وفضاء كغيب الله يموج بالأفكار والأسرار، ونسيم كأجنحة الأملاك يذهب عن الأجسام رهق النهار، وجنات الجزيرة، وخلوات الجيزة، ومسرات الجسر، ومسارح النيل، تخلق في الذهن الخصيب والشعور الفتان، مالا تخلقه جنات سويسرا ولا رياض(102/2)
لبنان!
أحمد حسن الزيات(102/3)
الطائشة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال صاحبها وهو يحدثني من حديثها:
كانت فتاة متعلمة حلوة المنظر، حلوة الكلام، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، في لسانها بيان، ولوجهها بيان غير الذي في لسانها تعرف فيه الكلام الذي لا تتكلم به. . .
ولها طبع شديد الطرب للحياة، مسترسل في مرحه خفيف طياش، لو أثقلته بجبل لخف بالجبل؛ تحسبها دائماً سكرى تتمايل من طربها، كان أفكارها المرحة هي في رأسها أفكار وفي دمها خمر. . .
وكان هذا الطبع السكران شباباً وجمالاً وطرباً - يعمل عملين متناقضين، فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضا جرأة مندفعة متهجمة. وهزيمة الدلال في المرأة إن هي إلا عمل حربي مضمرة فيه الكرة والهجوم؛ وكثيراً ما ترى فيها النظرة ذات المعنيين: نظرة واحدة تؤنبك بها المرأة على جرأتك معها، وتعذلك بها أيضا على انك لست معها أجرأ مما أنت. . .!
قلت: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟
قال: فمن يعرف ما يقول إذا أنا لم اعرف؟ لقد أحببت خمس عشرة فتاة، بل هن أحببنني وفرغن قلوبهن لي، ما اعتزت علي منهن واحدة، وقد ذهبن بي مذهباً ولكنني ذهبت بهن خمسة عشر!
قلت: فلا ريب انك تحمل الوسام الإبليسي الأول من رتبة الجمرة. . فكيف استهام بك خمس عشرة فتاة، أجاهلات هن، أعمياوات هن. . .؟
قال: بل متعلمات مبصرات يرين ويدركن، ولا تخطى واحدة منهن في فهم أن رجلاً وامرأة قصة حب. . . . وما خمس عشرة فتاة؟ وما عشرون وثلاثون من فتيات هذا الزمن البائر، الذي كسد فيه الزواج، ورق فيه الدين، والتهبت العاطفة، وكثرت فنون الأغراء، واصطلح فيه إبليس والعلم يعملان معاً. .؛ وأطلقت الحرية للمرأة، وتوسعت المدارس فيما تقدم للفتيات، وأظهرت من الحفاوة بهن أمرا مفرطاً حتى أخذن ربع العلم. . .؟
قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟
قال: يأخذنها من الروايات والسيما. علم المدارس ما علم المدارس؟ أنهن لا يصنعن به شيئاً(102/4)
إلا شهادات هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السيما والروايات فيصنعن به تاريخهن. . ورب منظر يشهده في السيما ألف فتاة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن وطافت به الخواطر والأحلام - سلبهن القرار والوقار فمثلنه ألف مرة بألف طريقة في ألف حادثة!
يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجل يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل. . .!
قلت: وما الطريق المجهول؟
قال: الطريق المجهول هو الرجل. وإطلاق الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب؛ والأخرى حرية الزواج. ولما انطلق ثلاثتهن معاً تغير ثلاثتهن جميعاً إلى فساد واختلال. أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج فعادت للزواج في الأقل، وفي الأكثر للهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار ألام وحرمة الزوجة، فاجترا عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورة لا تنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت أليها العيوب بأقدام كثيرة. . . وكانت بحملها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى وأعصابها امرأة ثالثة. . .
وأما الحب، فكان حباً تتعزف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حراً بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلة تغتر بها أحدهما الأخرى؛ ومتى صار الأمر إلى قانون الحيلة فقد خرج من قانون الشرف وعاد هذا الشرف نفسه وليس إلا كلمة يحتال بها
وأما الزواج، فلما صار حراً جاء الفتاة بشبه الزوج لا بالزوج، وضعفت منزلته وقل اتفاقه وطال ارتقاب الفتيات له، فضعف أثره في النفس المؤنثة؛ وكانت لفظتا الشاب والزوج شيئاً واحداً عند الفتاة وبمعنى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين، في أحدهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان وقليل منهم الأزواج. وبهذا اصبح تأثير الشاب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يقنعها منه أخس براهينه، لا(102/5)
بأنه هو مقنع، ولكن بأنها هي مهيأة للاقتناع. . .
وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلاً في رأي المرأة إذا هو احبها ولم يكن محتالاً حيلة مثله على مثلها ويظل في رأيها مغفلاً حتى يخدعها ويستزلها، فإذا فعل كان عندها نذلاً لأنه فعل، وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة والزواج الحر والحب الحر!
وأنظر - بعيشك - ما فعلت الحرية بكلمة (التقاليد)، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهة حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر اشهر كلمة في الألسنة يتهكم بها على الدين والشرف وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعرة والدنيئة والتصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك (تقاليد). . وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، واجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن أليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند اكثر المتعلمات من (التقاليد). . أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته وفجوره وإلحاده؛ أهي كلمة تعلقها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يحببن. .؟
(تقاليد). . .؟ فما هي المرأة بدون تقاليد؟. . أنها البلاد الجميلة بغير جيش، أنها الكنز المخبوء معرضاً لأعين اللصوص تحوطه الغفلة لا الرقابة. هب الناس جميعاً شرفاء متعففين، فإن معنى كلمة (كنز) متى تركت له الحرية واغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة (لص). .
قال صاحبنا: أما الفتاة المحررة من (التقاليد). . كما عرفتها فهي هذه التي أقص عليك قصتها، وهي التي جعلتني أعتقد أن لكل فتاة رشدين يثبت أحدهما بالسن ويثبت الآخر بالزواج. ولو أن عانساً ماتت في سن الخمسين أو الستين لوجب أن يقال: إنها ماتت نصف قاصر! ولعل هذا من حكمة الشريعة في اعتبار المرأة نصف الرجل، إذ تمام شرفها الاجتماعي أن يكون الرجل مضموماً إليها في نظام الاجتماع وقوانينه؛ فالزوج على هذا هو تمام رشد الفتاة بالغة ما بلغت
أساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تصنع فيه الحياة، وكانت دائماً ناقصة لا تتم ألا بالأخر الذي أساسه في الطبيعة شان عقله وشان قوته.(102/6)
واعتبر ذلك بالمرأة تدرس وتتعلم وتنبغ، فلو انك ذهبت تمدحها بوفور عقلها وذكائها، وتقرضها بنبوغها وعبقريتها، ثم رأتك لم تلقي كلمة ولا إشارة ولا نظرة على جسمها ومحاسنها لتحول عندها كل مدحك ذماً وكل ثنائك سخرية، فإن النبوغ هاهنا في أعصاب امرأة تريد أن تعرف مع أسرار الكون أسرار كونها هي، هذا الكون البدني الفاتن أو الذي تزعمه هي فاتنا، أو الذي لا ترضاه ولا ترضى أن تكون صاحبته، ألا إذا وجدت من يزعم لها أنه كون فاتن بديع مزين بشمسه وقمره وطبيعته المتنضرة التي تجعل مسه مس ورق الزهر
مثل هذه إنما يكون الثناء عليها ثناء عندها حينما يكون اقله باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته. وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفلتة المفردة بين الملايين من النساء؛ فكيف من دونها، وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟
دع جماعة من العلماء يمتحنون هذا الذي بينت لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم ألا: ما اعقلها، ما اعقلها، ما اعقلها! ولا ترى في عيني كل منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظرة التلميذ لمعلمة في سن جدته. . فهذه لن تكون بعد قريب إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرج عقلها من رأسها، أو. . . أو تخرج في وجهها لحية. . .!
(ما أعقلها!) كلمة حسنة عند النساء لا يأبينها ولا يذممنها، غير أن الكلمة البليغة العبقرية الساحرة هي عندهن كلمة أخرى هي: (ما أجملها!)، إن تلك تشبه الخبز القفار لاشيء معه على الخوان، أما هذه فهي المائدة مزينة كاملة بطعامها وشرابها وأزهارها وفكاهتها وضحكها أيضا
وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانة كلمته وما عرها به النساء، فأراد أن يثبت أنه عقل فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة (ما أعقلها) كل الشأن والخطر، وكل البلاغة والسحر عند. . . عند الطفلة. . . تفرح الطفلة اشد الفرح، إذا قيل: ما أعقلها. . .!
فقلت لمحدثي: كأنك صادق يا فتى! لقد جلست أنا ذات يوم إلى امرأة أديبة لها ظرف(102/7)
وجمال، وجاءت كبريائي فجلست معنا. . . وكانت (التقاليد) كالحاشية لي، فعلمت بعد أنها قالت لصاحبة لها: (لا أدري كيف استطاع أن ينسى جسمي وأنا ألي جانبه اذكره أني ألي جانبه! لكأنما كانت لقلبه أبواب يفتح ما شاء منها ويغلق)
قال محدثي: فهذا هذا؛ إن إحساس المرأة بالعالم وما فيه من حقائق الجمال والسرور، إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارته لقلبها، أو تهم أن تختاره، أو تود أن تختاره؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجلها في أولادها. وحياة المرأة لا أسرار فيها البتة حتى إذا دخلها الرجل عرفت بذلك أن فيها أسرارا، وتبينت أن هذا الجسم الأخر هو فلسفة عميقة لجسمها وعقلها
قال: وقد جلست مرة مع صاحب القصة، وأنا مغضب أو كالمغضب. . ثم تلاحينا وطال بيننا التلاحي؛ فقالت لي: أنت بجانبي وأنا أسال: أين أنت؟ فإنك لست كلك بجانبي!
قال: ومذهبي في الحب، الكبرياء، كما قلت أنت، غير أنها الكبرياء التي تدرك المرأة منها أني قوي لا أنا متكبر، كبرياء الرجل إما مهيب مرح يملك أفراح قلبها، وأما حزين مهيب يملك أحزان هذا القلب. إن المرأة لا تحب إلا رجلا يكون أول الحسن فيه حسن فهمها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانها الظريف، ووحشها الظريف!
قلت: لقد بعدنا عن القصة، فما كان خبر صاحبتك تلك؟ قال: كانت صاحبتي تلك تعلم أني متزوج، ولكن إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفة الإحساس لا وصف الكلام؛ فكأنما تنبهت فيها طبيعة زهوة الفتاة بأنها فتاة وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملاً تعمله بجمالها.
ومتى كانت الفتاة مستخفة (بالتقاليد) كهذه الأديبة المتعلمة - رأت كلمة (الزوج) لفظاً على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواء عندها في المعنى، ولا يختلفان إلا في (التقاليد). .
وعرضت لي كما يعرض المصارع للمصارع؛ إذ كانت من الفتيات المغرورات اللواتي يحسبن أن في قوتهن العلمية تياراً زاخراً لنهرنا الاجتماعي الراكد، فتاة تخرجت في مدرسة أو كلية، أو جاءت من أوربا بالعالمية. . . أفتدري أية معجزة مصرية في هذا تباهي بها مصر؟(102/8)
إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرسة، أو مفتشة، أو ناظرة في وزارة المعارف؛ أو مؤلفة كتب وروايات، أو محررة في صحيفة من الصحف. ولا يصغرن عندك شأن هذه المعجزة فهي والله معجزة مادام يتحقق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأة بلا تأنيث، أو انقلابها فيه رجلا بلا تذكير! وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أسرة؛ وان فتاة تعيش وتموت ما ولدت للأمة ألا مقالات. . .؟
فقلت: يا صاحبي، دع هؤلاء وخذ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلت إنها عرضت لك كما يعرض المصارع للمصارع. قال: عرضت لي تريد أن تصرفني كيف شاءت، فنبوت في يدها؛ فزادت إلى رغبتها إصرارها على هذه الرغبة، فالتويت عليها؛ فزادت أليهما خشية اليأس والخيبة، فتعسرت معها؛ فزادت إلى هذه كلها ثورة كبريائها، فلم أتسهل؛ فأنهت من كل ذلك بعد الرغبة الخيالية التي هي أول العبث والدلال، إلى الرغبة الحقيقية التي هي أول الحب والهوى: رغبة تعذيبي بها لأنها متعذبة بي.
ثم ردتها الطبيعة صاغرة إلى حقائقها السلبية، فإذا الكبرياء فيها إنما كانت خضوعا يتراءى بالعصيان، وإذا الرغبة في تعذيب الرجل إنما كانت التماسا لأن تنعم به، وإذا الإصرار على إخضاع الرجل وإذلاله إنما كان إصرارا على تجرئته ودفعه أن يستبد ويملك. وردتها الطبيعة إلى هذه الحقيقة النسوية الصريحة التي بنيت المرأة عليها شاءت أم أبت وهي أن تعاني وتصبر على ما تعاني!
أما أنا فأحببتها حباً عقلياً، وكان هذا يشتد عليها، لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه قالت: اجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تذيله مع الدمع، وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى، وقد اتخذت لها في دارها خلوة سمتها: محراب الدمع! قالت: لأنها تبكي فيها بكاء صلاة وحب، لا بكاء حب فقط! ثم طاشت الطيشة الكبرى. . .!
قلت: وما الطيشة الكبرى؟
قال: إنها كتبت ألي هذه الرسالة:
(عزيزي رغم أنفي). . .(102/9)
(لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تذل لي، وجعلتني على تعليمي اشد جهلاً من الجاهلة. وقد نسيت أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين -: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، أما المعرفة الثانية فتوهمها أنت فكأني قلتها لك. .
اعلم (يا عزيزي رغم انفي)، أني إذا لم اكن غريزتك رغم انفك، فسآتي ما يجعلك سلفا ومثلا، وستكتب الصحف عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفته فتاة!.
وبعد، فقد أرسلت روحي تعانق روحك فهل تشعر بها؟)
قال: فوجمت ساعة وتبينت لي خفتها، وظهر لي سفاهها وطيشها، فأسرعت إليها فجئتها فأجدها كالقاضي في محكمته، لا عقل له الأعقل الحكم القانوني الذي لا يتغير، ولا إنسان فيه ألا الإنسان المقيد بمادة كذا إذا حدث كذا، والمادة كذا حين يكون وصف المجرم كذا. . .!
فقلت لها أهذا هو العلم الذي تعلمته؟ ألا يكون علم المرأة خليقاً أن يجعل صاحبته ذات عقلين إذا كانت الجاهلة بعقل واحد؟
قالت: العلم؟
قلت: نعم، العلم
قالت: يا حبيبي، أن هذا العلم هو الذي وضع المسدس في يد المرأة الأوربية لعاشقها، أو معشوقها! ثم أطرقت قليلاً وتنهدت وقالت: والعلم هو الذي جعل الفتاة هناك تتزوج بإرشاد الرواية التي تقرؤها، ولو انقلب الزواج رواية. . . والعلم هو الذي كشف حجاب الفتاة عن وجهها، ثم عاد فكشف حياء وجهها، وأوجب عليها أن تواجه حقائق الجنس الأخر وتعرفها معرفة علمية. . . . والعلم هو الذي جعل خطأ المرأة الجنسي معفواً عنه مادام في سبيل مواجهة الحقائق لا في سبيل الهرب منها. . . والعلم هو الذي جعل المرأة مساوية للرجل، وأكد لها أن واحداً وواحداً هما واحد وكلاهما أول. . والعلم هو الذي عرى أجسام الرجال والنساء ببرهان أشعة الشمس. . . والعلم يا عزيزي هو العلم الذي محا من العالم لفظة أمس، لا يعرفها وان كانت فيها الأديان والتقاليد. . .
قال صاحبها: فقلت لها: كأن العلم إفساد للمرأة! وكأنه تعليم ممراتها ونقائصها، لا تعليم فضائلها ومحاسنها(102/10)
قالت: لا، ولكن عقل المرأة هو عقل أنثى دائماً؛ ودائماً عقل أنثى؛ وفي رأسها دائماً جو قلبها، وجو قلبها دائما في رأسها. فإذا لم تكن مدرستها متممة لدارها وما في دارها، تممت فيها الشارع وما في الشارع
العلم للمرأة، ولكن بشرط أن يكون الأب وهيبة الأب أمرا مقرراً في العلم، والأخ وطاعة الأخ حقيقة من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئا ثابتاً في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم. بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع علمية للفضيلة والكمال والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة، لأنه يبدأ من المرأة التامة
أما بغير هذا الشرط فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر، هي خير للأمة من اكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. . .
أنظر - (يا عزيزي رغم أنفي) - هذه الرسالة جاءتني اليوم من صديقتي فلانة الأديبة ال. . . فاسمع قولها:
(وأنا أعيش اليوم في الجمال، لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب. .) وفي الحياة موت حلو لذيذ؛ عرفت ذلك حينما نسيت نفسي على صدره القوي، وحينما نسيت على صدره القوي صدري. . .)
أسمعت يا عزيزي؟ إن كنت لما تعلم أن هذا هو علم اكثر الفتيات المتعلمات حين يكسد الزواج - فاعلمه. ومتى عمى الشعب والحكومة هذا العمى، فإن حرية المرأة لا تكون أبدا إلا حرية الفكرة المحرمة!
قلت لصاحبنا: ثم ماذا؟
قال: ثم هذا. . . ودس يده في جيبه فأخرج أوراقاً كتب فيها رواية صغيرة أسماها: (الطائشة)
(الرواية في العدد الآتي)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(102/11)
لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت لوكريسيا إلى جانب هذه الرعاية الأدبية التي تبذلها لأقطاب الشعر والأدب، تعاون زوجها في حكم ولايته معاونة قيمة؛ وكانت تتولى إدارة الشؤون العامة أثناء غيابه، وتبدي في تصريفها حزماً وبراعة
وكان زواجاً موفقاً في البنين، فقد رزقت لوكريسيا بغلامين أحدهما في سنة 1508 ويدعى هرقل، والثاني في العام التالي ويدعى ايبوليت، ورزقت بعد ذلك بعدة أعوام بابنة دعيت ألينور، فغلام ثالث يدعى فرنشيكسو
وخاضت إيطاليا مدى حين حروباً أهلية طاحنة، وحملت فيرارا قسطها من هذه المعارك، وتقلبت في صعاب وأزمات شديدة، ولكن لوكريسيا كانت في هذه الأعوام العصيبة مثال الثبات والجلد، وكانت تعمل على تخفيف آلام الشعب ما استطاعت، وكان الشعب يحبها ويعتبرها كالأم الرؤوم
وكانت لوكريسيا عندئذ في عقدها الرابع، أماً ناضجة، وكأنما طوت كل مراحل هذه الحياة فتية، وكانت قد اختتمت منذ بعيد هذا العهد الضاحك الذي كان قلبها يشع فيه مرحاً وغبطة، واستقبلت عهداً جديداً تسوده الرزانة والخطورة، ويسوده الزهد والترفع عن متاع هذه الحياة، فكانت في أعوامها الأخيرة في فيرارا تذهب كل صباح إلى (المعترف)
أجل، كانت لوكريسيا تقترب بسرعة من الخاتمة المحتومة، ففي 14 يونيه سنة 1519 وضعت لوكريسيا طفلة ميتة، وكانت في اشهر حملها الأخيرة تشكو آلاماً مبرحة؛ وكان الوضع هو الضربة القاضية، إذ اشتدت الآلام والمرض، وشعرت بقضائها يدنو؛ فأملت في يوم 22 يونيه خطاباً وجهته إلى البابا ليون العاشر، وفيه تلتمس من البابا أن يباركها في عبارات بليغة مؤثرة؛ وبعد ذلك بيومين فقط، كان القضاء المحتوم، وصعدت إلى بارئها تلك الروح الوثابة الساطعة، وأغلقت لوكريسيا بورجيا عينيها الساحرتين إلى الأبد، وقد أشرفت فقط على الأربعين من عمرها
هكذا كانت حياة تلك التي أثارت في عصرها بشخصيتها الساحرة وحياتها الساطعة كثيراً(102/13)
من الحب والعطف، والنقمة والروع؛ ثم غدت سيرتها بعد ذلك على كل العصور مستقى لكثير من القصص الشائق المثير معاً
والآن، وقد فرغنا من تتبع هذه الحياة في أدوارها المختلفة، نعود فنحاول أن نتلمس فيها مواطن الحقيقة والخيال
هل كانت لوكريسيا بورجيا تلك التي تصفها الرواية المعاصرة شيطاناً للرذيلة والإثم؟ وهل كانت تلك البغي السافلة التي تتقلب بين اذرع أبيها وأخويها؟ أم هل كانت ضحية اتهام شائن تمليه الخصومة والحقد؟
إن هذه التهم الشائنة التي تنسبها الرواية والقصة إلى لوكريسيا بورجيا، والتي أشرنا أليها فيما تقدم ترجع إلى الروايات المعاصرة ذاتها، وهذا ما يسبغ عليها مسحة من القوة؛ وقد رأينا كيف أن بور كارت مدير التشريفات البابوية يثبتها في مذكراته كوقائع حقيقية، وقد كان بور كارت بمركزه واتصاله المستمر باسكندر السادس وأفراد أسرته، ممن يستطيعون الوقوف على الحقائق من مصادرها
وقد حذا حذو بور كارت عدة من المؤرخين والرواة المعاصرين مثل جويشارديني المؤرخ والسياسي البارع، وقد كان من أعلام العصر؛ فهو يردد في كتابه (تاريخ إيطاليا) معظم التهم والآثام التي نسبت إلى لوكريسيا وإلى إلهها
ومن أدلة الاتهام المعاصر أيضاً وثيقة خطيرة، هي خطاب كتب في سنة 1501، ووجهه كاتبه إلى سيلفيو سافيللي، وهو أحد النبلاء الإقطاعيين الذين نزع اسكندر السادس أملاكهم؛ وكان ذلك الحين يقيم في بلاط إمبراطور ألمانيا مستجيراً به؛ ولم يعرف كاتب الخطاب، ولكن ذكر في ختامه أنه حرر في تار انتو في المعسكر الملكي (الإسباني)
وفي هذا الخطاب يعدد الكاتب آثام اسكندر السادس وآل بورجيا، ويتحدث عن أطماعهم وجرائمهم السياسية والاجتماعية، وعما يرتكبونه من صنوف العيث والفجور والهتك، وعن انتهاكهم لكل الحرمات الدينية والاجتماعية وسحقهم لكل مبادئ الحياة والحشمة؛ ويتحدث بنوع خاص عن شيزاري بورجيا وجرائمه الدموية، وعن لوكريسيا وعلائقها الأثيمة مع أبيها أخويها، وعن الحفلات الخليعة الشائنة التي يقيمها البابا وأبناؤه، ويخص بالذكر حادثة الليلة العارية التي اجتمع فيها خمسون من غانيات رومة عراة أمام البابا وأولاده وارتكب(102/14)
فيها من صنوف الفحش المثير ما ارتكب وما أشرنا إليه فيما تقدم؛ ويتحدث بوجه عام عن حالة المجتمع الروماني في ذلك الحين وما بثه إليه آل بورجيا من صنوف الفساد والآثم والروع؛ كل ذلك في إفاضة ومنطق قوي يدل على تمكن الكاتب من الشؤون التي يتناولها
وقد ترجم هذا الخطاب الذي يعرف بخطاب (سافيللي) إلى معظم اللغات الأوربية ونشر في سنة 1502 في جميع العواصم، وكان له وقع هائل في إيطاليا، وفي أوربا كلها؛ وسجلته أيضا جميع التواريخ والروايات المعاصرة
ويرى المؤرخ الألماني جريجوروفيوس في كتابه (تاريخ رومة في العصور الوسطى) في هذا الخطاب وثيقة حقيقية تمثل صورة رومة في عصر آل بورجيا، وأنه لا تفضلها وثيقة أخرى في تصوير سياستهم الفاجرة، وما بثوه من الروع في المدينة على يد أعوانهم وجواسيسهم
وترى هذه التهم ماثلة لا في الروايات المعاصرة فقط، ولكن في كثير من الكتب والرسائل السياسية المعاصرة، وفي شعر بعض أكابر الشعراء المعاصرين
ومازالت سيرة آل بورجيا، وسيرة لوكريسيا، بما يتخللها من تلك الصور المروعة المثيرة، حتى العصر الحديث مستقى القصص والشعر؛ وقلما يخترع القصص أو الشعر فيها شيئاً لم تدونه الروايات المعاصرة؛ ومع ذلك فإن هذه القطع القصصية أو الشعرية تقوم على كثير من الوقائع الغرقة أو الخيالية المحضة التي لا يستطيع المؤرخ أن يقف بها مثال ذلك ما كتبه اسكندر ديما عن (آل بورجيا) في كتابه (الجرائم الشهيرة)، فقد تناول سيرة آل بورجيا ولوكريسيا في فصل طويل فياض بالوقائع والصور المدهشة، وقدم لنا اسكندر السادس، وابنه شيزارى، وابنته لوكريسيا في أروع الصور وأسفلها: طغمة من الأبالسة، تسحق الحياة البشرية تحت أقدامها، وتبث الدمار والموت في أرجاء المدينة الخالدة، بالسم والخنجر وكل وسيلة آثمة؛ وقدم ألينا لوكريسيا في صورة بغي سافلة، تعاشر آباها وأخويها، وجمعاً كبيراً من الصحب والخلان
ووضع فكتور هو جر قطعته المسرحية الخالدة (لوكريسيا بورجيا) فجاءت خلاصة من تلك الروايات المغرقة المعاصرة، ولا بأس من أن نقدم خلاصتها ليرى القارئ كيف أن الشاعر لم يلحظ في مادته إلا أن تكون مثار السحر والروع:(102/15)
هي قطعة نثرية في ثلاثة فصول، خلاصتها أن عدة سفراء فتيان من فلورنس شهدوا في مدينة البندقية (فينزيا) مرقصاً محجباً، كانت تمثل فيه لوكريسيا بورجيا محجبة؛ وكان معهم فتى يدعى جنارو، وهو فتى مجهول النشأة لا يعرف له أماً ولا أباً. وجلس الفتية الفلرنسيون يتحدثون عن آل بورجيا ويرددون ما يذاع عنهم من قصص القتل والأثام الشنيعة؛ وجلس جنارو إلى جانبهم وقد أخذته سنة من النوم؛ وبعد هنيهة قدمت امرأة محجبة، وهوت على جنارو تقبله فاستيقظ من نومه. من هي؟ هي لوكريسيا، وهي أمه، وهو ولدها الطبيعي؛ ولم تستطع حين رؤيته أن تقاوم هذه اللذة. ورفعت لوكريسيا قناعها خلسة؛ ولكن الفتية الفلرنسيين رأوها وعرفوها، وظنوها خليلته، واعتزموا زيارتها معه في فيرارا مقامها. وظن زوجها (دوق فيرارا) أن جنارو صاحبها، فأمر بالقبض عليه، وأراد أن يرغم لوكريسيا على إعدامه بيديها بحجة أنه أهان اسم آل بورجيا وذلك بإزالة بعض حروفه المنقوشة على شرفة القصر؛ ونفذ الدوق مشروعه فعلاً، فأرغم لوكريسيا على أن تضع السم في كأس جنارو، وان تقدمه أليه. ولما شرب الفتى الكأس المسمومة، تركهما الدوق؛ فبادرت لوكريسيا إلى إنقاذ جنارو، وقدمت له الترياق؛ فتردد الفتى لأنه كان يعتبرها اشد أجراما من الدوق، ولكنه شرب الترياق أخيرا ونجا من الموت أرادت لوكريسيا أن تنتقم من الفتيان الفلرنسيين الذين عرفوها وأذاعوا اسمها، فاحتالت لدعوتهم إلى العشاء عند إحدى صاحباتها، وبينما هم في ارق لحظات المرح، إذا بهم يسمعون أناشيد الحزن، ومن ورائهم صف من الرهبان والنعوش، فاعتقد الفتيان أنها مزحة مدبرة، ولكنها كانت الحقيقة الرائعة؛ ذلك أنهم تناولوا السم في الطعام والشراب، ولم يبق بينهم وبين الموت سوى لحظات، ولكن شاء نكد الطالع أن يكون بينهم جنارو! فتقدم إلى لوكريسيا يطلب نعشه؛ فذهلت لوكريسيا، وحاولت أن تبادر إلى إنقاذه، ولكنه لم يقبل، ولم يمهلها حتى اخرج خنجره، وما كاد يطعنها حتى صاحت: (إني أمك!)
هذه هي خلاصة قطعة هوجر المسرحية الخالدة التي مازالت منذ قرن تسحر ملايين النظارة، وهي كما ترى قطعة من الخيال المغرق لم يراع الشاعر فيها شيئاً من التاريخ الحق
ومع ذلك فإن ما كتبه اسكندر ديما وهو جر إنما هو أنموذج فقط لمئات السير والقصص(102/16)
التي كتبت عن لوكريسيا بمختلف اللغات، وكلها نماذج للخيال المغرق والقصص المثيرة
بيد أننا نرى في عصرنا مؤرخاً بارعاً هو العلامة الفرنسي فرانز فونك برنتانو، يحاول في كتابه الذي أشرنا إليه من قبل اكثر من مرة أن ينتزع شخصية لوكريسيا بورجيا من تلك الغمر المروعة التي أحاطت بسيرتها، وان يمحص تلك الروايات المغرقة التي امتزجت بحياتها، وان يرد كثيراً من التهم التي نسبت إليها
وفي رأي هذا المؤرخ البارع، الذي يدعم عرضه في معظم الأحيان بمنطق خلاب، أن التاريخ قد ظلم لوكريسيا أشنع ظلم، وان هذه الفتاة التي صورتها الروايات المعاصرة بغياً فاجرة، لم تكن سوى ضحية وأداة ذلول في يد أبيها وأخيها، وأنها كانت تدفع دفعاً إلى مشاطرة هذه الحياة المثيرة التي كانت تنتظم في قصر الفاتيكان، ولكنه يرد عنها تهم الفجور الشنيعة التي نسبت إليها؛ ولاسيما تهمة عشرة أبيها وأخيها، ويرتاب في أقوال بور كارت وغيره من الرواة المعاصرين، ويرى أن هذه التهم ترجع في الأصل إلى الحملة القاذفة التي شهرها جان سفورزا زوج لوكريسيا الأول عليها انتقاماً لفصله منها، والى الحملات القاذفة التي دبرت أيضا ضدها وضد آلها في بلاط نابل على اثر مقتل زوجها الثاني الفونسو الأرجوني، وهي حملات ظهر أثرها في نظم الشعراء المعاصرين الذين يغذيهم بلاط نابل
ويصور لنا برنتانو لوكريسيا فتاة ناعمة وافرة السحر والرقة، وافرة الذكاء والحزم، ويصورها لنا في فيرارا أميرة رفيعة الخلال تحمي الأدب والفنون، ويكاد يصورها لنا في أعوامها الأخيرة قديسة فياضة الورع والتقوى
وكتاب برنتانو قطعة بديعة من التدليل التاريخي، وقد يدفع بدقة منطقه كثيراً من التهم التي نسبت إلى ابنة اسكندر السادس؛ ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يهدم كثيراً من العناصر الأساسية التي تمثل في هذا الاتهام
ومع إننا بالرغم من محاولة برنتانو البديعة، مازلنا نؤثر ناحية الاتهام في سيرة لوكريسيا بورجيا، فأنا نميل مع برنتانو إلى الاعتقاد بأن كثيراً من الإغراق والمبالغة يشوب تلك الصور المروعة الآثمة التي تركتها لنا سير العصر، عن تلك الشخصية الباهرة المظلمة معاً(102/17)
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان المحامي(102/18)
التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة
للأستاذ فخري أبو السعود
في كلمة سابقة بهذا العنوان ذكرت أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق مدارسنا الغرض الأسمى من التربية - وهو التربية الخلقية الاجتماعية - هي خلق مجتمع راق في المدرسة يساهم فيه الطالب ويكتسب فيه من محمود الصفات الخلقية ومقتضيات الحياة الاجتماعية ما تخرجه إلى المجتمع عارفاً بمطالبه، مزوداً بالمؤهلات التي تساعده على الاندماج فيه والنجاح في معتركه
وأعود الآن إلى بيان مزايا هذا المجتمع الواجب خلقه في المدرسة، فمزاياه لا تقتصر على اختلاط الطلاب بعضهم ببعض لحميد الأغراض، بل تشمل أيضا اختلاطهم بالمعلمين، وهو أمر لازم للتربية الصحيحة؛ إذ من طبيعة الناشئين الاقتداء بمن اكبر منهم واخبر، ومن طبيعة المواهب الإنسانية العقلية والخلقية ألا تنمو وتسمو إلا بتقليد أولئك الذين ينظر إليهم الناشئ نظرة إكبار، ويحسن فيهم الاعتقاد، وتنزع نفسه إلى التشبه بهم وهذا الاختلاط الجم المزايا بين الطلاب ومعلمهم سائد في معاهد إنجلترا من المدارس الصغيرة إلى الجامعات الكبيرة، وأثره في تربية الناشئة الإنجليزية اعظم من اثر كل ما يلقى في حجرات الدراسة من معلومات؛ فالمعلمون يعاملون طلابهم معاملة الزملاء الصغار أو الأقرباء الناشئين، وبهذه الروح يناقشونهم في أوقات الدراسة، ويشاركونهم ألعابهم وحفلاتهم، ويكن المعلمين لطلابهم العطف، ويكن الطلاب لمعلميهم الاحترام، وتسود معاملة الفريقين البساطة التامة، واعظم بما لذلك من اثر في تربية الرجولة والصراحة والاعتداد بالنفس بين الناشئين.! أما في مدارسنا فالهوة بين المعلمين والطلاب سحيقة، والنفرة شديدة: لا يفهم المعلم من نفسية كل طالب شيئاً كثيراً، ولا يعطف ألا النادر منهم، ولا يعلم الطلاب عن معلمهم غير ما يثرثره عليهم من معلومات لا تنتهي إلا بانتهاء السنة المدرسية، ولا يضمرون له حباً ولا ميلاً، بل يستحكم العداء بين الفريقين أحيانا إذا كان الطلاب ضعفاء في مواد الدراسة، أو كان المدرس شديدا ملتزماً للجد، وقد استحال أن يسود الود الذي هو اجدر أن يسود بين المربي والمتربي، فمن معلمينا من يأبى من التبسط مع طلابه، ومنهم من يود لو فعل فيرده علمه بما يجر إليه ذلك من فساد درسه، إذ يندفع الطلاب وراء الهزل ويسيئون المسلك(102/19)
وينسون الدرس، لان ناشئتنا من الجهل بآداب الاجتماع بحيث لا يعلمون معنى القصد في الأمور، ولا يقنعون إذا تركوا وشأنهم بما دون الإمعان في العبث
ونتيجة هذه الحال السائد في مدارسنا أن معظم الطلاب - سواء متقد موهم في العلوم ومتخلفوهم - يغادرون المدارس وهم مزيج من الخجل والتبجح والغرور والنفاق، إذا انفرد أحدهم رايته على جانب كبير من الخجل والعجز والحصر، وإذا اجتمعت فئة منهم ارتد خجلهم تبجحاً وحصرهم صخباً وعجزهم جرأة على الفساد؛ وبينما تؤدي العلاقة بين المعلم والمتعلم في إنجلترا إلى صداقة مثمرة في مستقبل الحياة تنبت الصلة بين المعلم والطالب عندنا بانتهاء العام الدراسي، حتى لقد يتقابل الاثنان فيتغاضى الطالب عن معلمه، أو يخاطبه في لهجة جريئة متطاولة، وفي كلتا الحالين لا يأسي المرء ألا على ما بهذا المسلك من دلالة على فشل التربية وعبث المجهود المنفق فيها.
والعلة في هذا ترجع إلى نظام مدارسنا التي تجعل ملء الرؤوس بالمعلومات الغاية الكبرى بل الوحيدة من التعليم، فتشغل كل أوقات المدرسة بها، فيرى المدرس - المرهق ببرنامج حافل - وقته أضيق من أن يصرف جانباً منه في مباسطة طلابه ومناقشتهم في شتى الشؤون العامة التي تمت إلى الحياة وتشغل بال كل ذي حظ من الإنسانية ونصيب من الثقافة، فتنقطع الصلة الإنسانية بين المعلم والطالب، ويترك الطلبة وأنفسهم يشبعون تلك الرغبة الفطرية في التنافس وتبادل الأفكار بثرثرتهم في أوقات الفراغ - وأوقات الدروس إن استطاعوا - ولما كانوا قد عدموا إرشاد المدرس بفكره الذي هو أرقى وشخصيته التي هي أقوى من شخصياتهم وأفكارهم فإنهم يتجهون عادة إلى السفساف من الأمور، ويألفون الثرثرة الفارغة التي لا نهاية لها ولا غاية، ويختارون قدواتهم في الحياة من خارج المدرسة أخذيها عن شخصيات قد لا تكون جديرة بالإعجاب أو محمودة التقليد
أما مخالطة الطلاب لمعلميهم فأنها - فضلاً عن صقلها لآداب المعاملة وحسن الذوق بينهم وعما تنميه فيهم من صفات الرجولة - تفتق أذهانهم وتسمو بهم إلى درجات من التفكير عالية، وتلقي ضوءاً على مواهب كل منهم وميوله، وتفسح أمامهم المطامع، وتبعث فيهم شتى الغايات يجعلونها نصب أعينهم في الحياة، على حين لا تتجاوز مطامع ألا كثرين منهم اليوم اجتياز الامتحان ونيل الشهادة(102/20)
ولقد عهد في السنوات الأخيرة إلى المعلمين بمدارسنا بمراقبة الجمعيات المدرسية، ولكن هذه الجمعيات أنشئت دون أن يفسح لها موضع من أوقات الطلاب والمدرسين المغلولي الأيدي في المناهج الطويلة، فلم تجتذب من الطلاب إلا القليلين، وزهد في رقابها المدرسون لأنها جاءت زيادة على أعمالهم المتراكمة، فلم تؤدي تلك الجمعيات الأغراض المنشودة، ولم تكن غير إرهاق على إرهاق، وستظل كذلك ما لم تزحزح المواد الدراسية عن مكانها القدسي الذي تتبوأه في مدارسنا
هذا، وليس أن يطلب من المدرس أن يكون مثلاً أعلى في الإنسانية، أو بحراً في العلم، أو نصف آله، لكي يؤدي مهمته في تربية الطلاب الخلقية والاجتماعية، بل يكفي لينهج بهم النهج القويم أن يكون مستقيم السيرة متنور الذهن مخلصاً في عمله، وهذا هو الغالب بين مدرسينا، وما يحتاج الأمر ألا إلى رفع عبء المواد الدراسية التي تثقل كواهل المعلمين والمتعلمين وتشغل كل أوقاتهم، وإفساح المكان لمجتمع في المدرسة يكون صورة صغيرة للمجتمع العام خارجها
إن إيجاد هذا المجتمع الحي الراقي بين جدران المدرسة هو الوسيلة الوحيدة لنجاح مهمتها، وإعداد الناشئين للمجتمع الأكبر خارجها، وترقية ذلك المجتمع الخارجي جيلاً بعد جيل، ولن تؤدي مدرسة مهمة التربية حتى يحيا الطلاب فيها حياة اجتماعية، ولن يؤدي المعلم واجبه حتى يمنح الفرصة لمخالطة طلابه مخالطة الإنسان المستنير للإنسان المستنير، ويحل هذا محل العلاقة الإلية الجافة القائمة بينهما اليوم، وبهذه الحياة الاجتماعية المدرسية يؤدي المدرس وظيفته (الروحية) التي أشار أليها تقرير معالي وزير المعارف
فخري أبو السعود
المدرس بالعباسية الثانوية(102/21)
المنسوجات الإسلامية المصرية ومعرض جوبلان
بباريس
للدكتور زكي محمد حسن
الأمين العلمي لدار الآثار العربية
افتتح صاحب الفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية في 17 من مايو معرضاً للمنسوجات الإسلامية المصرية أقامته متاحف جوبلان للقطع الأثرية التي بعثت بها إلى باريس دار الآثار العربية من مجموعتها النفسية، وزاد المعرض نجاحاً أن صاحب الجلالة مولانا الملك كان قد تفضل فأذن لجناب المسيو (فييت) أن يأخذ لهذا المعرض سبع عشرة قطعة من المجموعة الملكية الفاخرة، فأتيح للجمهور الباريسي أن يعجب ببدائع منتجات الفن الإسلامي، وان يرى من آيات صناعة النسج الإسلامية قطعاً منقطعة النظير ويعرف القراء أن صناعة النسيج كانت زاهرة على ضفاف النيل منذ العصور الأولى، وأنها سارت في سبيل التقدم بخطى واسعة، حتى جاء العصر القبطي فتأثرت بتيارين من المؤثرات البيزنطينية والساسانية
ثم فتح العرب مصر، واعتمدوا في أول الأمر على الصناع والفنانين الوطنيين، وأدى ذلك إلى خلق فن إسلامي جميل كان له ازدهار، وكانت له حياة طويلة على عكس التعاون بين الرومان ورعاياهم، ذلك التعاون الذي سار بالفن الهللنستي في طريق السقوط والاضمحلال
وظهر في صناعة النسج الإسلامية في مصر تطور منتظم بدا بالاستغناء شيئاً فشيئاً عن الرسوم الحيوانية والآدمية التي كان الكلف بها عظيماً في العصر القبطي، وأخذت الكتابة والزخرفة النباتية والهندسية تلعبان دوراً هاماً في تزيين الأقمشة الإسلامية على أن فن النسج لم يطبع في مصر بطابع إسلامي ظاهر ألا ابتداء من العصر الفاطمي، وفي المتاحف الكبيرة والمجموعات الأثرية كثير من القطع التي ترجع زخرفتها إلى عصر الانتقال من الطراز القطبي إلى الطراز الفاطمي، والتي قد يصعب في بعض الأحيان تمييزها من القطع القبطية. أما القطع التي عليها زخارف طولونية بحتة فإن وجودها نادر، وعلى عكس ذلك القطع التي ترجع إلى عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك(102/22)
وصناعة النسج في مصر الإسلامية كانت على نوعين: صناعة ملكية في مصانع حكومية تسمى طرازاً، وصناعة أهلية عليها رقابة حكومية شديدة
أما المصانع الحكومية أو الطراز فإن وجودها منذ العصر العباسي يثبته ما وصل ألينا من مصنوعاتها. والمعروف أنه كان هناك نوعان من هذه المصانع الحكومية: الأول طراز الخاصة، وكان لا ينتج ألا للخليفة ورجال بلاطه وخاصته، والثاني طراز العامة، وكان بالرغم من تبعيته لبيت مال الدولة ينتج للتجارة العامة، فضلاً عن إنتاجه لبلاط الخليفة أو الأمير أن دعت الحال.
ولفظ طراز مشتق من الفارسية (ترازيدن) بمعنى التطريز وعمل المدبج؛ واصبح بعد ذلك يدل على الملابس الملكية وما يشبه (ملابس التشريفة)، ولاسيما إذا كان يحليها شيء من التطريز أو أشرطة من الكتابة. وما لبث مدلول هذا اللفظ إن اتسع حتى انتهى في العربية والفارسية إلى الدلالة على المصنع والمكان الذي تنسج فيه مثل هذه الأقمشة
واحتكار الحكومات لصناعة النسج قديم لسنا نعرف أوليته، ولسنا نستطيع أن نحدد تماماً أين بدأ نظام الطراز على النحو الذي نعرفه في الفنون الإسلامية. فالعلماء مختلفون في اصله، فريق يذهب إلى أنه نشا في بيزنطية، وفريق يظنه أيراني الأصل، كما يحسبه آخرون بابلياً آشوريا
على أن مصر عرفت في عهد الفراعنة شيئاً من احتكار صناعة النسج، فقد كانت المصانع ملحقة بالمعابد، وكانت منتجاتها مشهورة في الشرق الأدنى كله، وكانت تدر على المعابد أرباحا وافرة كان الفراعنة يستولون على جزء منها ويحتفظ كهنة المعابد بما يبقى
على أن نظام الطراز ما لبث أن انتشر في كافة الأقطار الإسلامية، كسورية والعراق وإيران واسيا الصغرى، وأسبانيا وجزيرة صقلية
وكان طراز الخاصة يعمل في نسج الأقمشة اللازمة للخليفة ولكبار رجال الدولة، وحاجة الخلفاء والأمراء إلى الكثير من تلك الأقمشة ناشئة من العادة القديمة التي اتخذوها في الخلع على رجال حاشيتهم وعلى غيرهم من أفراد الرعية مكافأة لهم وإظهارا لرضاهم عنهم
وفضلاً عن ذلك كان الخلفاء والأمراء يتبارون في إرسال الكسوة السنوية إلى الكعبة الشريفة من المنسوجات النفيسة التي كانت تصنع عادة في طراز الخاصة بمصر(102/23)
لذلك لم يكن غريباً أن يعنى الخلفاء والأمراء بكتابة أسمائهم على هذه الأقمشة الثمينة بلحمة من الذهب أو الفضة أو الخطوط المتعددة الألوان تخليداً لذكراهم ووثيقة لمن خلعت عليه إظهارا لرضاء الأمير، أو على تولي إحدى الوظائف الكبرى في الدولة
وكانت الكتابة على الأقمشة تشمل اسم الخليفة وألقابه وبعض عبارات الأدعية، وكثيراً ما كان يذكر فيها اسم المدينة التي فيها الطراز، واسم الوزير، وصاحب الخراج، وناظر الطراز، ومثل ذلك ما كتب على قطعة نسجت للخليفة الأمين محفوظة الآن بدار الآثار العربية ونصه (باسم الله بركة من الله لعبد الله الآمين محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر بصنعته في الطراز العامة بمصر على يدي الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين)
أما الصناعة الأهلية فكانت تحمل ضرائب فادحة وتعاني رقابة الحكومة في مراحلها المختلفة، فكان لزاماً أن تختم الأقمشة بالخاتم الرسمي، ولم يكن يتولى البيع أو التجارة ألا تجار تعينهم الحكومة، وعليهم تقييد ما يبيعونه في سجلات رسمية، كما كان لف الأقمشة وحزمها وربطها وشحنها يقوم به عمال حكوميون يتناول كل منهم ضريبة معينة
وقد لوحظ أن المراكز الرئيسية لصناعة النسج في مصر كانت في اكثر الأحيان الجهات التي يكثر فيها الأقباط؛ وكان القطن والكتان ينسجان في البلاد المصرية المختلفة ولاسيما في الدلتا يتنيس والإسكندرية وشطا ودمياط ودابيق والفرما، كما اشتهرت أيضا بنسجها مدينة البهنسا
أما الأقمشة الحريرية فكانت تنسج في الإسكندرية وفي دابيق؛ وكانت هناك أيضا مصانع للنسج في مدينتي اخميم وأسيوط اللتين كانتا مركزين هامين لصناعة النسج في العصر القبطي، وكانتا تصدران إلى بيزنطة والى بابوات روما كثيراً من الأقمشة النفيسة التي كان يوهب جزء كبير منها إلى الكنائس والأديرة وأما الحرير الصافي فالظاهر أن المصانع المصرية لم تشتغل بنسجه قبل عصر المماليك
وقد كان متحف فكتوريا والبرت بلندن، والقسم الإسلامي من متاحف برلين، يفتخران بامتلاكهما اكبر مجموعتين من الأقمشة الإسلامية النفيسة، حتى كشفت دار الآثار العربية في السنين الأخيرة عددا كبيرا جدا من القطع في المقبرة القديمة بين عين الصيرة(102/24)
والبساتين، إذ كانت الجثث في المقبرة المذكورة ملفوفة في أقمشة على بعضها أسماء خلفاء عباسيين أو فاطميين، وأصبحت دار الآثار العربية بعد هذه الاكتشافات أغنى متاحف العالم في الأقمشة الإسلامية، كما كانت أغناها في الخشب وفي مشكوات المساجد المموهة بالمينا
واكبر الظن أن اكثر ما وجد في الحفريات المصرية من منسوجات قد صنع في مصر نفسها؛ ولسنا نجهل أن الاتصال كان كبيراً بين سورية ومصر في العصور القديمة، وان هذا الاتصال لم يضعف في العصر الإسلامي ألا في فترات قصيرة، وان مقادير كبيرة من الزجاج المموه بالمينا ومن الأواني النحاسية المكفتة بالفضة نقلت إلى مصر، وأنه من المحتمل أن يكون ذلك قد قدر لبعض المنسوجات، لان مصر نفسها كانت من اكبر المراكز لصناعة المنسوجات في الشرق الأدنى
وكانت كذلك صقلية خاضعة للخلفاء الفاطميين في شمال أفريقية، ثم ضم الفاطميون إلى ملكهم مصر وسورية، وكانت صناعة النسج زاهرة في جزيرة صقلية حين حكمها العرب، حتى لقد يصعب كثيراً التمييز بين الأقمشة المنسوجة في مصانعها والأقمشة المنسوجة في مصر وسورية. وان صح ما ذكره المقريزي من أن ابنة المعز لدين الله تركت ثلاثين آلف قطعة من نسج صقلية فإن ذلك يدل على كثرة ما كانت تنتجه المصانع الصقلية، ويثبت أن مصر كانت تستورد منها بعض الأقمشة النفيسة، ولكنا نستبعد أن تكون الواردات من الأقمشة الأجنبية إلى مصر قد بلغت شيئاً كثيراً ومهما يكن من شيء فإن تطور صناعة النسج المصرية كان بطيئاً في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، وظلت الزخارف والتقاليد الفنية القبطية غالبة في العصر الإسلامي، فترة قطعاً كثيرة من الصوف أو الكتان ذات زخارف متعددة الألوان أكثرها طيور أو حيوانات أو أشكال آدمية صغيرة في جامات بيضيه الشكل أو متعددة الأضلاع وفيها أشكال هندسية أولية وخطوط متقاطعة ودوائر متماسة، وقد يكون على بعضها صور طيور متقابلة، أو يولي كل منها الأخر ظهره، وكل هذه القطع عليها مسحة قبطية ظاهرة، أكثرها منسوج بطريق (التابستري) - التي لا مجال هنا لشرح تفاصيلها الفنية وتظهر الكتابة على المنسوجات في القرن التاسع، بل هي تظهر في القرن الثامن، وان لم يكن لدينا من دليل يؤيد ذلك ألا القطعة المحفوظة بمتحف فكتوريا والبرت والتي عليها اسم (مرون أمير المو. .) وفي اعتقادنا أن المقصود هنا(102/25)
مروان بن محمد أخر خلفاء بني أمية وقد أحصى الأستاذ فييت ما نعرفه في المتاحف والمجموعات الأثرية من قطع المنسوجات التي عليها أسماء الخلفاء العباسيين، فوجد أن هناك واحدة باسم مروان، وواحدة باسم هارون الرشيد، وواحدة باسم الآمين، واثنتين باسم المأمون، وواحدة باسم الواثق، واثنتين باسم المتوكل، واثنتين باسم المستعين، وواحدة باسم المعتز، وواحدة باسم المهتدي، وتسع عشرة قطعة باسم المعتمد، وإحدى وعشرين للمعتضد، وخمس عشرة للمكتفي، وتسعاً وثمانين ومائة للمقتدر، وإحدى عشرة للقاهر، وأربعا وخمسين للراضي، وسبعاً وعشرين للمتقي، أربع قطع للمستكفي، وخمساً وأربعين ومائة للمطيع
وفي العصر الطولوني كانت التقاليد الزخرفية القديمة والقبطية لا تزال تسود صناعة النسج. على أن هناك بعض أقمشة عليها زخارف طولونية ظاهرة على النحو الذي نعرفه في زخارف الجامع الطولوني، والأخشاب التي ترجع إلى هذا العهد، وأوضح ما تكون هذه الزخارف على المنسوجات في قطعة بمتحف برلين نشرها الدكتور رسومها بما يسمونه الطراز الأول من زخارف سامرا، وبالزخارف الجصية في المنزل الذي كشف في حفريات دار الآثار العربية منذ ثلاث سنين. وليست هذه القطعة في حالة جيدة من الحفظ، فإن زخرفتها قد سقطت في بعض أجزائها، ولكن من حسن الحظ أن متحف ليزج يمتلك قطعة أخرى من القماش نفسه، زخرفتها احسن حفظاً، واكثر ظهوراً
وفي دار الآثار العربية قطع عليها رسوم شديدة الشبه بالزخارف الطولونية مما يجعلنا نرجع أنها ترجع إلى هذا العهد. واجمل هذه القطع معروض الآن في متحف جوبلان
وتشمل مجموعة دار الآثار العربية عدداً من قطع النسج بأسماء الأمراء الطولونيين. والمعروف أن الجزية التي كانت ترسلها مصر إلى الخليفة العباسي، ثم الهدايا التي أرسلها ابن طولون إلى الخليفة المعتمد، والتي أرسلها خمارويه من بعده إلى المعتضد، كان فيها شيء كثير من المنسوجات النفيسة؛ ومن هذه القطع واحدة باسم الخليفة المعتمد تاريخها سنة 278هـ (891 م) وتشبه قطعة أخرى باسم المعتمد أيضا وجدتها البعثة الألمانية في سامرا وهي محفوظة الآن بالقسم الإسلامي من متاحف برلين. وهناك قطعة أخرى باسم الخليفة المكتفي بالله، والأمير الطولوني هارون بن خمار يه سنة 291هـ (904 م) وهي(102/26)
السنة السابقة لسقوط الدولة الطولونية
وظل الخلفاء العباسيين في عهد الإخشيديين يستمدون من مصر اكثر ما يلزمهم من المنسوجات النفيسة المحلاة بكتابات كوفية فيها العبارات والأدعية المعروفة، بيد أن أسماء الوزراء لم تعد تظهر في تلك الكتابات
أما في عصر الدولة الفاطمية فقد عظم اهتمام الخلفاء بصناعة النسج، ويروي المقريزي أن دار يعقوب بن كلس وزير الخليفة العزيز بالله نزار حولت بعده إلى مصنع للنسج، وصارت تعرف باسم دار الديباج، وان وظيفة صاحب الطراز كان لا يتولاها ألا أعيان المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف، وكانت تحت أمرته معاونون كثيرون ودار للضيافة تسمى (منظرة الغزالة) لا ينزل ألا فيها إذا ترك مقامه بدمياط أو يتنيس وقدم إلى القاهرة، (فتجري عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة فيتمثل بين يدي الخليفة بعد حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة ويعرض جميع ما معه وهو ينبه على شيء فشيء. . . وله في بعض الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب منه، ولا يمكن أن يكون إلا ولداً أو أخا فإن الرتبة عظيمة. . .) (خطط المقريزي جزء أول ص 469 - 70)
وقصارى القول أن نظام الطراز بلغ من الجودة والدقة في العصر الفاطمي مبلغاً زاد كثيراً في كمية منتجاته وفي نفاسة نوعها. وقد كانت هناك أصناف من الأقمشة الغالية المشغولة بالحرير لا تنسج إلا للخليفة نفسه، ولكن أفراد الرعية كانوا يحصلون على قطع أخرى نفيسة جداً، فكانت الجلابيب والأقمصة والعمائم والأحزمة تصنع من أقمشة غالية تزينها أشرطة مشغولة بالحرير، اخذ حجمها في الزيادة حتى صارت في القرن الثاني عشر تغطي اكثر الأرضية الكتانية في الأقمشة
وكثيراً ما أمر الخلفاء بصناعة منسوجات فاخرة لإهدائها إلى الأمراء والملوك الذين كانوا يخطبون ودهم أو تربطهم بهم علاقات الصداقة وحسن الجوار
وقد بدأت بشائر العصر الفاطمي تظهر في صناعة المنسوجات الإسلامية في القرن العاشر، فاخذ الميل يزداد إلى الرقة في الزخارف والإبداع في تنسيقها، وسارت الألوان تزداد تدريجياً في الهدوء والتناسق، واصبح في الكتابة كثير من الرشاقة كما كبر حجم(102/27)
الحروف وصارت سيقانها تتصل ببعضها وينتهي كثير منها في أعلاه بزخارف صغيرة على شكل وريقات شجر تقليدية
وقد زار ناصري خسرو الرحالة الفارسي مصر حوالي سنة 1040 ميلادية واعجب بما ينسج في تنيس من قصب ملون تصنع منه ثياب النساء، وكذلك العمائم والقلنسوات وقال: إن مثل هذا القصب الجميل لا يصنع في أي مكان أخر، وأنه سمع أن أمير إقليم فارس من بلاد إيران أرسل عشرين ألف دينار إلى تنيس ليشتري بها النسج الملكي، ولكن وكلاءه أقاموا في مصر سنين عديدة دون أن يحصلوا على بغيتهم - وروى ناصري خسرو أن مصانع تنيس كانت تنتج نوعاً من القماش يسمى البوقلمون يتغير لونه باختلاف ساعات النهار ويصدره المصريون إلى بلاد المشرق والمغرب
وفي المتاحف والمجموعات الأثرية كثير من الأقمشة بأسماء الخلفاء الفاطميين وخاصة العزيز والظاهر والمستنصر. ولعل أبدعها من مجموعة صاحب الجلالة مولانا الملك باسم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله: الأولى من شاش اسود وعليها كتابة كوفية بحروف كبيرة في سطرين متوازيين مقلوب أحدهما. ونص العلوي منهما (بسم الله الرحمن الرحيم نصر من الله لعبد. . .) والسفلي (الحاكم بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعا. . .) وتحت الكتابة شريط من حرير اصفر فيه رسم ازرق مكرر لطائرين متقابلين (شكل1) والثانية من شاش اسود أيضا وعليها كتابة نصها في كل من السطرين (الله الرحمن الرحيم نصر من الله لعبد الله ووليه المنصور أبى علي الأمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين) وفوق الكتابة شريط من حرير اصفر فيه أيضا رسم ازرق مكرر لطائرين أنظر (شكل2) ومما يلفت النظر في هاتين الطرفتين الملكيتين ما في كتابتهما من الأخطاء بالرغم من إبداع صناعتهما
ومن اكثر المنسوجات الفاطمية ذيوعاً ثلاثة أنواع أقدمها قوامة أشرطة من الطيور أو الحيوانات وسط جامات بيضة الشكل قد يتداخل بعضها في بعض
والنوع الثاني عظم الشغف به في القرن الحادي عشر، وألوانه باهتة ويسود أرضيته لون ذهبي، وتزينه أشرطة وجامات متداخلة قد يكثر عددها، وفيها أيضا رسوم حيوانات أو طيور تقليدية أو أشكال آدمية، أنظر (شكلي3، 4)(102/28)
والنوع الثالث يمثل القرن الثاني عشر، ويسوده اللون الأزرق الغامض، وتبدأ فيه الحروف الكوفية في الاستدارة لتصبح حروفاً نسخية، كما تظهر في الزخارف الفروع النباتية والأرابسك والحروف النسخية التي لا تكون كلمات ذات معنى
ومن العبارات التي يكثر ورودها على الأقمشة الفاطمية: (الملك لله)، و (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي ولي الله)، و (نصر من الله)، و (العز من الله)
وأما في العصر الأيوبي فإن الزخارف الحيوانية يقل استعمالها وتكثر الكتابة النسخية المشغولة بالإبرة، وكذلك الأشكال الهندسية من مثلثات ومعينات ودوائر. وفي المنسوجات المعروضة بمتحف جوبلان من مجموعة جلالة الملك ومجموعة دار الآثار العربية قطع قد ترجع إلى العصر الأيوبي وان كان الجزم بصحة ذلك ليس من الحكمة، لان بين المنسوجات الأيوبية والمنسوجات التي صنعت في أخر العصر الفاطمي شبهاً كبيراً يجعل من الصعب التمييز بينها
وفي عصر المماليك في القرنين الثالث عشر والرابع عشر قضى على نظام الطراز وضعفت بالقضاء عليه صناعة نسج الكتان، واصبح الأمر يدور حول نسج الحرير وتطريزه؛ وتأثرت الصناعة بمنتجات الشرق الأقصى التي ادخلها عصر المغول في العالم الإسلامي. ولسنا نجهل شهرة الديباج الصيني الذي أشاد ماركوبولو بوصفه في رحلته المعروفة، ووجد بعضه في مصر، كما وجدت أنواع أخرى من الديباج فيها تأثير الصناعة الصينية لدرجة يستحيل معها الجزم بأنها من نسج عمال مصريين، ولاسيما إن تذكرنا ما نعرفه من المصادر التاريخية عن البعثات التي تبودلت بين الصين ومصر لتحمل ما خف حمله وغلا ثمنه من المنسوجات الحريرية النفيسة. ونلاحظ أن الرسوم في النسج المطرز المملوكي تميل إلى استدارة نظراً لأسباب فنية يطول شرحها، وأهمها نوع الغرزة التي يسمونها والتي أخذها الغرب بعد ذلك عن البلاد الإسلامية
وكثيراً من الأقمشة المملوكية المعروفة عليها أسماء بعض السلاطين المماليك وبعض عبارات الأدعية نحو (عز لمولانا السلطان الناصر)، أو (السلطان الملك المظفر العالم العامل العادل)، (عز لمولانا السلطان الناصر، ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون) أو (الشرف للأشراف)(102/29)
وهناك شبه جلي بين زخارف هذه الأقمشة المملوكية وبين الكثير من الزخارف التي نراها على قطع الخزف والنحاس التي ترجع إلى العهد نفسه؛ كما أننا نرى في بعض الأقمشة المملوكية رسوماً تتكون من أشرطة قد تتعرج فتنظم بينها جامات بيضيه الشكل فيها صور طيور في مواقف مختلفة (شكلي6، 7)
بقي أن نشير إلى نوع من الأقمشة رسومه (مطبوعة) وليس منسوجة أو مشغولة في القماش نفسه، وترجع تقاليد هذه الصناعة إلى العصر القبطي، ولكن الظاهر أنها أهملت في العصر الإسلامي حتى أواخر حكم الفاطميين حين عاد القوم إلى استعمالها في الأقمشة الكتانية، وكانت الزخارف المطبوعة ذات لون واحد حتى جاء العهد العثماني فظهرت زخارف مطبوعة ذات لونين. ومهما يكن من شيء فإن صناعة هذه الأقمشة تشهد بدقة فائقة، وقد نقلها الغرب عن الشرق وانتشرت في أوربا ولا سيما في ألمانيا في حوض نهر الرين حيث يظهر تأثير الزخارف الشرقية في المنسوجات (المطبوعة). وفي دار الآثار العربية بعض أقمشة إسلامية مطبوعة، وفي اعتقادنا أنها من احسن الأمثلة المعروفة (شكل 8)
وهكذا يرى القارئ أن ما نفضل جلالة الملك بإعارته وما بعثت به دار الآثار العربية إلى جوبلان لتمثيل تطور صناعة النسج في مصر الإسلامية وسيلة جليلة لنشر الدعوة لمصر، وتعريف الأجانب بفنونها الجميلة
زكي محمد حسن(102/30)
فريزر ودراسة الخرافة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
خطت الدراسات الاجتماعية في الخمسين سنة الأخيرة خطوات فسيحة: فاتسعت سبلها، وتعددت فروعها، وتشعبت مناحيها، واستطاعت أن تثبت أن لها - كسائر العلوم - موضوعاً محدداً، وطرقاً معينة، ومبادئ ثابتة، ولا تكاد توجد مادة برهنت على خصبها برهان هذه المادة؛ كما لا يكاد يوجد علماء خلقوا فناً بأسره في مدى قصير مثل علماء الاجتماع المحدثين. فإن جملة ما كتبه أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة، وما دونه المؤرخون وعلماء الجغرافية في القرون الوسطى لا يصح أن يسمى اجتماعاً بالمعنى الصحيح، ولا يحوي أراء علمية ناضجة. ولا ننكر أن عصر النهضة القي شعاعاً من الضوء على العلوم الاجتماعية ولفت الباحثين إلى فلسفة التاريخ ومقارنة الشعوب بعضها ببعض، وقد بدا أثره الواضح في القرن الثامن عشر إذ ظهرت مؤلفات مونتيسكييه وفولتير وروسو. ثم جاءت الثورة الفرنسية التي قلبت النظم المألوفة رأسا على عقب واستبدلت بأساليب الحكم والسياسة العتيقة طرقاً مستحدثة، أنتجت بهذا ثورة أخرى في الأفكار والآراء الاجتماعية كان من أبطالها سان سيمون وأوجست كونت. بيد أن تكوين علم الاجتماع في شكله الحاضر يرجع إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فمدرسة ميل وسبنسر في إنجلترة، وفونت وفجنر في ألمانيا، ودركيم وليفي بريل في فرنسا، وأعمال السائحين والرحالة من إنجليز وأمريكان وألمان أضافت إلى هذا العلم ثروة طائلة، بل خلقته من عدم
لم تقنع هذه المدارس بطريقة واحدة، ولم تقف في بحثها عن حد. فلجا
بعضها إلى تاريخ يشرح به ما غمض من أعمال الجمعية وأقوالها،
واحساساتها، وعقائدها. واتخذ بعضهم من الإحصاء والتعداد وسيلة
لتوضيح الظواهر الاجتماعية واستنتاج القوانين المسيطرة عليها. وأبت
طائفة إلا أن تصعد بالاجتماع إلى مستوى العلوم الواقعية فبنته على
المشاهدة والملاحظات الدقيقة. لذلك عمدت إلى دراسة الشعوب الهمجية(102/31)
المعاصرة وتتبع عوائدها وتقاليدها، وتوصلت من ذلك إلى نتائج سارة
وشيقة للغاية. ومن أهم من عنوا بهذه الطريقة اجتماعيان إنجليزيان
معاصران، وهما فريزر وتيلور اللذان كتبا في خصائص الشعوب
مجموعة أبحاث قيمة
يضيق بنا المقام من أن نترجم ترجمة كاملة لفريزر تلميذ جامعة جلسجو، وأستاذ الاجتماع في ليفربول وكمبرج، وأحد رجال القانون والمحاماة في لندن. نشأ هذا العالم متشبعاً - ككل اتباع ميل وسبنسر - بفكرة أن الظواهر الاجتماعية خاضعة لقوانين ثابتة، وزاد على أساتذته أن هذه القوانين ممكنة الصوغ والتحديد إذا درست خصائص الشعوب المختلفة، ولاسيما الهمجي منها. فعلى ضوء هذه الدراسة الموازنة يمكننا أن نبين الأدوار المتتالية التي مرت بها فكرة من أفكار الجمعية، وان نقف على منشأ هذه الفكرة وكيفية تطورها. وقد تخصص فريزر في هذا النوع من البحث، وتناوله من نواح شتى في أسلوب جذاب، وعبارة عذبة، وخيال رائع، ومادة غزيرة تشهد بإطلاع واسع وعمق كبير، لهذا يعد اليوم - في حق - من اكبر العلماء المبرزين في خصائص الشعوب ويدور بحثه بوجه خاص حول الديانات في رسومها وطقوسها لدى الشعوب القديمة والحديثة؛ وله في ذلك مؤلفات عديدة أهمها: التوتيمسم والغصن الذهبي ذلك الكتاب العظيم الذي ترجم كله أو أجزاء منه إلى الألمانية والفرنسية والإيطالية. وغني عن البيان أن أبحاثا كهذه تتصل اتصالاً وثيقاً بالخرافة التي لبست ثوب الدين في كثير من الجمعيات الإنسانية.
نستطيع أن نقول - دون أن نخشى أية معارضة - إن فريزر أضحى أستاذاً غير منازع في موضوع الخرافة، درسه في رغبة أكيدة فأجاد درسه، وقلبه على وجوهه العديدة فلم يدع مجالاً لمن جاء بعده. لم يعن بالخرافات المشهورة فحسب، بل تعداها إلى خرافات ثانوية مقصورة على بعض الشعوب؛ فهو إلى جانب دراسته للسحر والشعوذة وصكوك الغفران وما أشبهها، يعرض لبعض الأعمال الخرافية المتصلة بالطعام والشراب. وبالجملة ليس ثمت كتاب من كتبه إلا وفيه تحليل لخرافة من الخرافات وشرح لسلطانها على المجتمع. ولئن كان قد أعلن أعلانا كافياً عن مضار الخرافة وسيئاتها، فهو لم ينس نفعها وحسناتها؛(102/32)
ولا ريب في أنه أول اجتماعي أبان في وضوح اثر الخرافة الصالح في الجمعيات الإنسانية. وقد وضع في هذا - فضلاً عن أبحاث جزئية مختلفة - كتاباً مستقلاً سماه: محامي الشيطان. ' ولهذا الكتاب من اسمه نصيب كبير؛ فإن مؤلفه يبدو فيه المحامي الدرة الذي يدافع عن الخرافة دفاع الأبطال، ويبين مالها من يد في تكوين بعض الأسس الاجتماعية. فرجل الدفاع في محاكم لندن يزج بنفسه في محكمة الآراء والنظريات لينصر فكرة اجمع الناس على شرها وذاقوا منها الأمرين، مهمة شاقة، وموقف دقيق للغاية، وكيف لا وفريزر يشذ عن الرأي السائد، ويخرج عن المألوف المسلم به. غير أنه قد وفق إلى حد كبير فيما حاوله، ونهض بالخرافة من كبوتها، واثبت ما فيها من نواحي الخير. وما ابلغه حين يقول: (نحن مدفوعون إلى اعتبار الخرافة خطأ في ذاتها، وشراً لا خير فيه، وضرراً محقق النتائج. وفي الحق أنها اصل كثير من الآم هذا العالم، فقد بددت ذخائر هائلة، وضحت بأرواح لا حصر لها، أثارت حروباً شعواء، أوقعت الشحناء بين الأصدقاء، وفرقت بين المرء وزوجه، والأب وابنه، مقطعة علاقتهم بحراب حادة، أو بما هو اضر منها، وملأت السجون بالأبرياء، والمستوصفان والملاجئ بالعجزة والمعتوهين، وسحقت قلوباً عديدة، وبلبلت نفوساً مطمئنة. ولما لم تقنع بإيذاء الأحياء جاوزتهم إلى الأموات، فهتكت سترهم، ونبشت قبورهم، وأوقعت بهم من العذاب والنكال ما أدمى قلوب الأبناء والأعقاب؛ صنعت الخرافة كل ذلك واكثر منه، بيد أن في مقدورنا أن نقدمها في صورة أليق، وتحت ضوء انسب. لا ندعي إنا أهل للدفاع عن هذا (الشيطان)، والظهور أمام هذا اللهيب الأزرق والغاز الخانق، وإنما نحاول فقط أن نكون ما يصح أن يسميه الرجال السمحاء دفاعاً مقبولاً عن اكبر الخصوم شبهة، على ترجيح هذه القضية. قامت طائفة من الأنظمة الاجتماعية الصالحة باعتراف الجميع أو اغلب الناس على أساس من الخرافة لدى بعض الشعوب وفي بعض مراحل التاريخ)
تخير فريزر بين هذه الأنظمة أربعة من أهمها، وهي الحكومة، والملكية الشخصية، والزواج، واحترام الحياة الإنسانية وبذل غاية الجهد في إثبات أن الخرافة ساعدت على تكوينها ودعمها مستعيناً في كل ذلك بالواقع والتاريخ. فلاحظ في دقة أن مهمة الحكومة ذللت لدى كثير من القبائل الهمجية المعاصرة بسبب الرأي القائل إن الحكام ينتسبون إلى(102/33)
طبقات سامية، وينعمون بسلطان سحري خارق للعادة؛ وأذ كانوا كذلك وجب على المحكومين أن يخضعوا لهم دون إبداء آية ملاحظة. فلدى سكان جزائر السود في أفريقية يزعم الناس أن الرؤساء قوى غير طبيعية استمدها من الملائكة والجن المتصلة بهم اتصالاً وثيقاً. وفي هذا سر نفوذهم؛ فمتى ضعفت هذه العقيدة فقد الرئيس كثيراً من سلطانه. ويعتقدون كذلك أن الحاكم أو الوالي يستمر بعد موته في سهره على رعاياه، ويعاقب بالجدب والغرق والصواعق إن أخطئوا ولم يقدموا القرابين لجدثه. ويعتبر الرؤساء السياسيون في زيلندة الجديدة كآلهة أحياء مقدسة في مختلف أجزائها بحيث لا يستطيع أحد الاعتداء عليها، وإذا قدر لمحارب أن يقتل أحد هؤلاء الرؤساء، سارع إلى عينيه فاقتلعهما وابتلعهما ليأمن شر ما يحيط به من أرواح خفية، ذلك لأنه يظن أن هذه القوى تسكن هذين العضوين ويقول بعض الأمراء الزيلندين. . (لتظن أنى رجل وأني من هذا العالم الأرضي، كلا فأنى نزلت من السماء حيث يسكن آبائي الآلهة، وسأعود إليهم يوماً). ويروون إنه بينما زيلندية تتذوق خوخة جميلة انتزعتها من سلة تحملها، علمت إنها نبتت في مكان مقدس، فاسقط في يديها وصاحت بالويل والثبور وأنها لابد هالكة لغضب الآلهة عليها وحكام ذلك المكان المقدس؛ وما اصبح الصباح إلا وقبضت روحها. ويعتقد سكان أفريقية الغربية أن حياتهم وأموالهم ملك لأمرائهم يتصرفون فيها كما يشاءون. وفي مقدور هؤلاء الأمراء أن يكسفوا الشمس ويخسفوا القمر وينزلوا المطر من السماء، لذلك يلجأ الأهلون إليهم إن ضاقت بهم الحال أو أقفرت عليهم الأرض
لم يقف أمر هذه العقائد الخرافية عند القبائل البدوية الموجودة في أفريقيا وأستراليا وأمريكا، فقد اعتنقها من قبل الشعوب المتحضرة القديمة. فقدماء المصريين كانوا يقدسون ملوكهم ويصعدون بهم إلى اصل سماوي، وإذا نقصت حاصلاتهم أرجعوا ذلك إلى غضب المليك عليهم. وفي قوانين مانو الهندية كتبت العبارة الآتية (إن الملك بفضل سره الخارق للعادة، نار وهواء، وشمس وقمر). وكان اليونان في عهد هومير يعدون ملوكهم ورؤساءهم آلهة أو كالآلهة. وما لنا نذهب بعيداً وفي التاريخ الحديث ما يؤيد بعض هذه الخرافات؟ فقد كان عامة الإنجليز يستشفون بملوكهم إلى عهد قريب، فإذا لمس الملك مريضهم برئ لساعته، واستمرت هذه الخرافة إلى أخريات القرن الثامن عشر إذ كان يعالج روبير(102/34)
الصالح، وإدوارد المعترف، بعض المرضى بهذه الطريقة. ونرى في فرنسا شيئاً من ذلك في فجر الثورة وبعدها بعشرات السنين، فإن لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر وشارل العاشر لمسوا آلاف المرضى لشفائهم. هذه الأمثلة القليلة تكفي للبرهنة على أن عدداً من القبائل والشعوب نظروا إلى قادتهم ورؤسائهم وملوكهم نظرهم إلى موجودات ممتازة مزودة بقوى عظيمة ترغم الرعية على اتباعهم والتعلق بأهدابهم، وإذا فقد ساعدت الخرافة، في بعض الشعوب وفي بعض الأزمنة، على احترام الحكومة وخاصة الاستبدادية؛ وفي هذا ما أعان على تثبيت دعائم النظام الجمعي بوجه عام
يتبع
إبراهيم بيومي مدكور دكتور في الآداب والفلسفة(102/35)
أثر خطير
كنيس الصالحية
للأستاذ عز الدين التنوخي كاتب سر المجمع العلمي العربي
دوى في دمشق تلهج به الألسنة ويردده الهواء بين الأحياء، وصدى الدهر يثير من النفوس روائع الدهشة، ويبعث فيها نوازع الاستطلاع، ويعين على تمكين ذلك من النفس التاريخ بابتعاده، والتخيل بامتداده، مئات من السنين، ومئات من الشعوب والقبائل والأجيال تمر وتنطوي على كنيس الصالحية ما بين دير الزور وأبي كمال، وهو (منذ أسس بنيانه سنة 244 ب. م) لا يزال قائماً بفارع جدرانه، وماثلاً بروائع ألوانه، يعرب بلسان الزمن عما مر بالبشر من أيام هناء وبلاء، مخبراً عن أمم زالت، ودول دالت، وأحوال حالت، مما يمحص به أبناء العصر الحاضر حقائق الدهر الغابر، فينقلب به ما كان حقيقة وهماً، وما كان وهماً حقيقة
كنيس الصالحية، وما أدراك ما كنيس الصالحية، رأيت ألواحه الجبسية المقطوعة بالمنشار متفرقة، وهي أوصاله بل أشلاؤه الممزقة، فراعني - لعمر الحق - منظرها، وأكبرت بعد التأمل الطويل مخبرها، ثم تصورت هذا الكنيس الأثرى النفيس، وقد التأمت بجوار السليمانية غداً أجزاؤه، والتحمت بعد طول الشتات والبلى أشلاؤه، فملك بتصوره القلب قبل الطرف، والهج اللسان بما لا يحيط به الوصف البارع واللسان المبين: ذلك أن صورة تلك الألواح لا ينقصها لأتقنها ألا الأرواح المثيرة والقوة المجيرة، فتغمزك بعيونها، وترمز إليك بشفافها، وتحدثك بأفواهها عن جلية أحوالها، وأخبار رجالها ونسائها وأطفالها، ولو أنها استطاعت ذلك لأغنت المنقبين والمؤرخين عن كثير من التنقيب والاستقراء والأنفاق المستمر الفادح، والعناء المتواصل المنهك
اجل، هذه الألواح لا ينقصها ألا الأرواح، فإن لكل منها جهارة رائعة، وشارة جميلة، إلى وجه سامي مسنون، وانف اقنى، وعينين ناطقتين في صورة إنسان سبط القوام، متناسب الأعضاء، تلمح عليه دلائل القوة والفتوة وتلمع في عينيه شواهد النبل والفضل
ففي لوح مستطيل منها ترى صورة موسى النبي بيده الألواح وهو بوجه المخروطي الصبيح، يشبه السيد المسيح، تحيط به هالة قاتمة اللون من شعر رأسه الفاحم ولحيته(102/36)
السوداء، وكان لآلهة الإغريق لحى تزيد في هيبة الوجوه ووقارها
وفي لوح آخر تشاهد صورة السموءل وهو النبي (صموئيل) يمسح بالزيت راس النبي داود الواقف بين اخوته الستة قابضاً بيمناه يسراه كما يقبض المصلى إذا صلى
وفي لوح ثالث آخر صورة احشويروش (الملك الأسد) ملك فارس وبابل وزوج استير وقد استوى على عرشه المخمس الدرجات، وعلى يساره الملكة استير منقذة إسرائيل، وهي على عرشها؛ وعلى جانب كل عرش صورة أسد أو نسر من ذهب، وعلى واجهة إحدى الدرجات قد نقش اسم الملك (احشويروش) فإذا أراد الملك الصعود على عرشه وقف على الدرجة السفلى فترتفع به حتى تساوي الثانية التي فوقها، فينتقل أليها فترتفع به إلى الثالثة، والثالثة ترفعه إلى الرابعة، وهذه إلى الخامسة، فيستوي هنالك على عرشه العظيم، وبذلك يشبه هذا الدرج العجيب مصعده (أسانسور) هذا العصر؛ ويقال أن هذا العرش هو عرش سليمان مسلوباً من بيت المقدس، إذ وجد فوقه لوح آخر يمثل سليمان الحكيم على عرش لا يختلف بشيء عن العرش البابلي مما يرجح القول بنقله إلى بابل، وعلى يسار هذا اللوح لوح آخر يمثل ابن عم الملكة استير وهو مردخاي ممتطياً صهوة جواد أشهب مطهم يقوده هامان الوزير قصاصاً له وانتقاماً
وهنالك لوح آخر مؤلف من سبع قطع، تمثل إلياس النبي مع أسباط إسرائيل، وهو يدعي الله أن يحي ثلاثة من الموتى فيبعث الله لإنعاشهم أرواحا ثلاثاً، والروح منها ممثلة بشكل امرأة تطير بجناحيها، وتهبط هذه الأرواح على أجسادها فتهب من رقادها، وعلى راس أحدهم يد بمعصمها ترفع الميت المنتشر من وفرة رأسه
ومن تلك الألواح ما يمثل موسى عليه السلام طفلاً تخرجه من اليم ابنة فرعون وقد ذهبت مع جواريها تغتسل في النيل فوجدته عائماً في سفط يتغلغل بين أوراق البردي، والى جانبها جاريتان تحمل أحدهما صندوقة صغيرة تشتمل من أدوات الطيب على مالا غنى للمغتسل عنها، وهي عادة مصرية قديمة
كانت كنائس اليهود قبل عهد هذا الكنيس لا تستوعب اكثر من 45 مصلياً، ولكن قاعة هذا الكنيس المستطيلة تستوعب ضعف هذا العدد، أي نحو مائة من المصلين، فقد كانت أبعادها (13. 5 متراً طولاً في 7. 5 عرضاً في 7. 5 ارتفاعاً)(102/37)
ومما يدل على أبهة هذا الكنيس النفيس إن محرابه القائم في صدره قد كان يزهو بطنافس فارس الجميلة، وتبصر على جانبه صورة شمعدان من الذهب ذي سبع شعب، في كل شعبة منها شمعة تبدد بعض ظلام الكنيس؟ وكانت مقاعد المصلين مغشاة أيضا بالطنافس كما استدل علماء الآثار على أن سماءه (سقفه) كانت مشيدة بالقرمد المزين المنقوش، وكانت أرضه مفروشة أيضا بنفائس الطنافس
هذا ولئن كانت الأمم تقاس برجالها، والرجال توزن بأعمالها، فقد حق علينا أن نختم هذه الكلمة بكلمة أخرى عادلة في شكر من كان سبباً لحفظ هذا الكنيس في بلادنا ولإعادة بناءه في دمشق غداً، وهو صاحب المعالي وزير معارفنا الهمام السيد حسني البرازي، فقد حاولت بعثة الحفر والتنقيب الأمريكية أن تستأثر به وتحرم من الانتفاع به تلك الأمة التي نبش من ترابها، لينبئ عن عمرانها وأحوال أديانها وآدابها، وكادت تفلح لولا جهاده الميمون وحسن مساعيه لدى المفوضية التي حققت بأخرة أمنيته، فخدم بذلك اجل خدمة بلاده أمته: ذلك لان هذا الكنيس المنقطع القرين لم تفتح العين على مثله بعد، ولهذا يقدر بعض علماء الآثار ثمنه بأكثر من مليون جنيه، ويعدونه استثناء اثرياً لقواعد الكنائس اليهودية التي تحرم التصوير، وما كانت صورة هذه المحرمة بعظيمة الخطورة لدارسي تاريخ الشريعة فحسب، إذ هي لدارسي تاريخ الفن اعظم خطراً، وابلغ لعمري آثرا
دمشق
عز الدين التوخي
كاتب سر المجمع العلمي العربي(102/38)
16 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثة
وذهب (جرنيه) إلى الشمال يدرس دود القز في مدينة فالنسين فكتب إليه بستور أن يعيد أجراء التجربة الفائتة. سأله هذا ولم يدر لم سأله، وكان جرنيه قد حصل على مجموعة طيبة من الدود السليم، وكان يعتقد على الرغم من تشكك أستاذ هـ أن تلك الكريات في باطن الدود ليست أحياء تتطفل عليه فتقتله. فاخذ أربعين دودة سليمة وغذاها بأوراق من التوت لم يمسها أبداً دود مريض، فخرج من هذه الأربعين سبع وعشرون دودة نسجت سبعاً وعشرين شرنقة. وخرج الفراش من الشانق خلواً من الكريات، فعندئذ عمد إلى فراشات مريضة فسحقها ولوث بسحيقها أوراقا من التوت، وغذى بهذه الأوراق دويدات سليمة صغيرة، عمرها يوم واحد، فلم تلبث هذه الدويدات أن مرضت وهزلت وماتت موتة بطيئة. وتغطى جلدها بالبقع السوداء، وامتلأ جسمها بكريات الداء. وبعد هذا لوث أوراقا أخرى بسحيق الفراش المريض وغذى بها دوداً سليماً نامياً بالغاً كان على وشك أن ينسج الشرانق. فهذا الدود عاش حتى أتم نسج ثوبه الحريري، ولكنه لما استحال إلى فراش خرج هذا الفراش وبجسمه الكريات اللعينة، وباض فكان البيض فاسداً. فسر (جرنيه) وثار، وزاد سروره وزادت ثورته في الليالي التي أكب فيها على مكروسكوبه كلما رأى هذه الكريات تزيد في الدود كلما زاد إضمارا قارب الفناء
وأسرع (جرنيه) إلى بستور يصرخ له: (حلت المسالة! فهذه الكريات حية! إنها طفيليات، وهي التي تمرض الدود!)
واستغرق بستور ستة اشهر ليقتنع بمقالة (جرنيه). ولكنه لما اقتنع وقع على العمل وقوعاً. وجمع أعضاء اللجنة مرة أخرى وخطب فيهم: (إن الكريات التي بالدود ليست عرضاً من أعراض الداء فحسب، بل هي سببه، وهذه الكريات حية، وهي تتزايد، وهي تسير في(102/39)
جسم الفراش المريض اغتصاباً حتى تعم نواحيه. وإنما كان خطانا الأول لأننا طلبنا هذه الكريات في جزء صغير من جسم الفراش فنظرنا تحت جلد البطن وحده، أما الآن فلابد من سحق الفراش كله وفحصه من بعد ذلك، فإذا نظرنا بالمجهر إلى سحيقة فلم نجد به تلك الكريات المجهرية حكمنا بسلامته واتخذنا بيضه للتفريخ في الربيع المقبل)
وتفرق رجال اللجنة واتبعوا تعاليم بستور فنجحت التجربة، ودار العام فأفرخ البيض دوداً صحيحاً قوياً نامياً أعطاهم غلة من الحرير وافرة
استيقن بستور أن هذه الكريات الطفيلية سبب الداء وأنها لا تنشأ داخل الدود، وإنما تأتيه من الخارج. فطاف في الريف يعلم الناس كيف يمنعون نسل الدود السليم من أن يمس أوراقا مسها دود سقيم، وبينما هو في هذا أصابه نزيف في المخ فكاد يموت. ولكنه سمع أنهم أوقفوا بناء معمله اقتصاداً وفي انتظار موته، فأغضبه ذلك وأصر على أن يعيش. فشل أحد نصفيه شللاً لم يشف منه تماماً في مستقبل أيامه، ولكنه قرأ كتاب الدكتور (سمايلز) في الاعتداد بالنفس، فاعتزم اعتزاماً قوياً أن يعمل بالرغم من عجزه، فبدل أن يرقد في فراشه، أو يستشفي على البحر، نهض في عسر على قدميه، وحجل إلى القطار، وسافر إلى جنوب فرنسا وهو يصيح غاضباً: (إن من الأجرام القعود عن تخليص الدود من الوباء، بينما الكثير من أربابه يطلبون القوت فلا يجدونه) فاعجب به الفرنسيون وأكبروه إلا نفراً قليلاً يحبون الأذى؛ فهؤلاء قالوا: إنما صيحة قصد بها الدعاية لنفسه لا لخير الناس
وقضى بستور ست سنوات يجاهد أدواء هذا الدود المسكين، فإنه لم ينته من علاج ندوته حتى ظهر به مرض جديد، ولكن بستور كان قد درب على هذا النوع من البحث فكشف عن مكروب الداء سريعاً، وجاءه دوماس الشيخ يشكره وقد امتلاءت عيناه بالدموع. وتحث عمدة (إلياس) عن إقامة تمثال من الذهب لبستور العظيم
- 7 -
وبلغت سنة الخامسة والأربعين، فاخذ ينعم حيناً بالمجد الذي كسبه من تخليص صناعة الحرير مما حاق بها، وذلك بعون الله وعون (جرنيه). ثم رفع عينيه إلى مجد أسمى، وأمل اسنى، وحلم مستحيل براق، حلم من تلك الأحلام التي ارتأتها نفسه الشاعرة، حلم من تلك الأحلام المستحيلة التي لا تضن الأقدار ببعض تحقيقها أحيانا؛ نعم رفع عينه الفنانة من(102/40)
أمراض الديدان إلى أحزان الإنسان، ونفخ في البوق نفخة داوية يبشر المرضى البائسين بقرب بلوغ دار الأمان، قال: (إن في مقدور الإنسان أن يمسح عن وجه الأرض كل الأدواء التي يسببها تطفل الأحياء عليه، هذا على فرض أن نظرية باطلة، وأنا واثق من بطلانها)
وجاء عام 1870 بحصار باريس في ذلك الشتاء القارس، فخرج عنها تاركاً أعماله، تاركاً معامله، وذهب إلى قريته القديمة في جبال (الجورا). ثم ذهب إلى ميدان القتال يبحث بين الأشلاء عن جثة ابنه الصريع، وقد كان جاويشا في الجيش الفرنسي. وعلى هذه الأرض، وبين هذه الدماء، نشأ فيه كره للألمان ولكل شيء ألماني اخذ ينمو فيه ثم ينمو ويفيض حتى تشرب به كل عصب من أعصابه، وبقي معه بقية حياته. واتخذ من اجل ذلك الوطنية صناعة. واخذ يصرخ في الناس: (إن كل مؤلف من مؤلفاتي سيطالعكم عنوانه بكراهة بروسيا، وينشكم الثأر والانتقام.) وبسخافة فاخرة بدأ بحثه الأول فجعله للثأر والانتقام. واعترف أن بيرة فرنسا دون بيرة الألمان، فنهض يبحث ليجعل بيرة فرنسا فوق بيرة الألمان، بل فوق بيرات الأمم جمعاء
وقام برحلات كثيرة واسعة المدى إلى مخامر فرنسا الشهيرة، واخذ يلقى الأسئلة على كل من يلقى فيها، من رئيس الخمارين في معمله، إلى غسال الأواني البسيط في مغسلة. وذهب إلى إنجلترا فأسدى النصائح إلى الرجال الفنانين ذوي الوجوه الحمر الذين يحذقون صنع النبيذ الإنجليزي، والى الخمارين الذين يخرجون تلك الجعات القدسية بمدينة برتن وحرر مجهره إلى الألوف من البيرات، ورقب الخمائر وهي تنقسم وتصنع الكحول. وكان يقع أحيانا فيها على هذا الحي اللعين الذي وجده فيها أعواما مضى وأثبت أنه سبب فسادها، وكان ينصح لأصحابها بتسخين البيرة لقتل هذه الحييات، ويؤكد لهم أنهم لو فعلوا إذن لزادت بيرتهم جودة وطابت مذاقا، وإذن لاستطاعوا تسفيرها مسافات بعيدة وهى صالحة. وكان يسال أصحاب المخامر مالاً لمعمله، ويذكر لهم أن ما يجودون به اليوم يعود عليهم بالنفع في الغد إضعافا مضاعفة. وبهذا المال قلب معمله بمدرسة النرمال إلى مصنع صغير للبيرة، لمعت فيه البراميل النحاسية الجميلة، ووهجت الغلايات الصقيلة
وبدأ عملاً مجهداً متواصلاً، ولكنه لم يلبث أن سئمه، لأنه كان يكره طعم البيرة كما يكره(102/41)
رائحة الطباق. وزاد منه سالماً أنه وجد أن الباحث العالم في البيرة لابد له من أن يكون ذواقاً حكيماً لها. ووجد كذلك البيرة الجيدة تحتاج في صناعتها إلى أمور أخرى غير منع المكروب من دخولها. وكان لعلم الفيزياء أستاذ يدعى برتان كاد يضحك من بستور لكراهيته إياها. كان بستور كلما أراد مذاقها جعد من انفه الأفطس، وغاص بشاربه في كوزها الراغي، وبلغ في عسر وكآبة ما تحتم بلعه من جرعاتها. كره البيرة ما فسد منها وما طاب. أما صديقه الفيزيائي فكان يلعق شفتيه بعد شربها ويصفقهما، ويتهلل وجه بشرا وتمتلئ أساريره خبثاً وهو يضاحك بستور فيها، لأنها بيرة ذاقها بستور وحكم عليها بالفساد. حتى لضحك منه مساعده الشاب، ولكنه لم يجرؤ بالطبع أن يضحك في وجهه. مسكين بستور! كان باحثاً قديراً، ولم يكن فيه جمود، ولم يكن فيه ركود، وكان سريع التحول، سريع التشكل للظروف، سريع الألفة لكل جديد - إلا البيرة. فحب البيرة كأنه يخلق ولا يكتسب. واللسان الذواق للبيرة تجود به الطبيعة على قليل من الناس، كالأذن الموسيقية ليست متاعاً لكل أحد
ومع هذا فلست أنكر أن بستور أعان صناعة البيرة الفرنسية إعانة كبيرة، وقد شهد بهذا الخمارون أنفسهم، أما الذي أتشكك فيه فهو الذي يقول به أحبابه ومريدوه وعباده من إنه رفع البيرة الفرنسية فجعلها ند الألمانية. على أني لا أنكر ذلك عليه، ولكني أود لو عرضت هذه الدعوى على لجنة تحكيم من تلك اللجان العادلة الدولية الوقورة، من تلك اللجان الذي كان بستور نفسه يقترح على الدنيا أن تلجأ إليها كلما أزمته خصومة لتقضي له أو لخصمائه اللعينين. . .
(يتبع)
أحمد زكي(102/42)
25 - محاورت أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- كذلك كلما ازدادت البرودة على النار فإما أن تتراجع أو تفنى وإذ أن تكون النار تحت تأثير البرودة، فلن يلبثا ناراً وبرودة، كما كانت الحال من قبل
قال: هذا حق
- وفي بعض الحالات لا يكون أسم المثال مقصوراً على المثال، بل إن لكل شئ آخر حق المشاركة في الاسم، ما دام موجوداً في صورة المثال، من غير أن يكون هو المثال، وسأسوق إليك مثلاً لعل أوضح هذا القول: أليس يطلق دائماً أسم الفردي على العدد الفردي؟
- جد صحيح
- ولكن هل هذا وحده هو الذي يسمى بالفردي؟ أليس ثمت أشياء أخرى لها أسماؤها الخاصة بها، ويطلق عليها رغم ذلك اسم الضروري، لأنها وان كانت ليست هي الفردية ذاتها، غير إنها لا تخلو من الفردية قطعاً؟ - هذا ما أريد أن أستجيب عنه - أليست الأعداد، كرقم ثلاثة مثلاً، من نوع الفردي: وهناك غير هذا كثير من الأمثلة: الست تقول مثلاً أنه يجوز أن يدعى رقم الثلاثة باسمه الأصلي، ثم يطلق كذلك اسم الفردي، وليس الفردي هو الثلاثة ذاتها؟ وليس يقال هذا عن العدد ثلاثة فقط، بل إنه جائز أيضاً على خمسة، وعلى كل الأعداد المتعاقبة - كل منها فردي دون أن يكون هو الفردية؛ وهكذا قل في اثنين وأربعة وسائر سلسلة الأعداد المتعاقبة، كل عدد زوجي دون أن يكون هو الزوجية. هل تسلم بهذا؟
قال: نعم، وهل إلي إنكاره من سبيل؟
- الق بالك إذن إلى الغاية التي انشدها؛ ليست الأضداد المعنوية وحدها هي التي يطرد بعضها بعضاً، بل كذلك الأشياء المجسدة التي ولن لم تكن متضادة في ذاتها إلا أنها تحتوي(102/43)
أضدادا؛ وأنا أزعم إن هذه الأشياء أيضا ترفض المثال الذي يكون مضاداً لما تحويه في داخلها، وهي إذا ما تقدم ذلك فأما أن تنسحب أو تفنى. خذ عدد ثلاثة مثلاً، أليس يصبر على التلاشي أو أي شيء آخر، أهون عليه من أن يتحول إلى عدد زوجي مع بقائه ثلاثة؟
فقال سيبس: جد صحيح.
قال: ومع ذلك فلا ريب في أن العدد اثنين ليس مضاداً للعدد ثلاثة؟
- إنه لا يضاده
- إذن ليست المثل المتضادة وحدها هي التي يقاوم بعضها تقدم بعض، ولكن ثمة أشياء أخرى تقاوم كذلك اقتراب الأضداد؟
- فقال: هذا جد صحيح
قال: هبنا نحاول تحديد ماهية هذه (الأشياء) إن أمكن ذلك
- لا ريب في هذا
- أليست هذه يا سيبيس ترغم الأشياء التي في حوزتها على أن تتخذ شكل بعض الأضداد فضلاً عن شكلها هي؟
- ماذا تعني؟
- أعني، كما كنت أقول تواً، وما ليس بي حاجة لأعادته إليك، إن الأشياء التي يملكها العدد ثلاثة، لا يلزم فقط أن تكون ثلاثة في عددها، بل ينبغي كذلك أن تكون فردية
- جد صحيح
- ويستحيل على المثال المضاد أن يعتدي على هذه الفردية التي انطبع العدد ثلاثة بطباعها؟
- كلا
- وهو إنما استمد هذا الطابع من عنصر الفردي؟
- نعم
- والزوجي والفردي ضدان؟
- حقاً
- إذن فمثال العدد الزوجي لن يلحق بثلاثة أبدا؟(102/44)
- كلا
- وإذن فليس لثلاثة في الزوجي من نصيب؟
- كلا
- إذن فالثلاثي أو العدد ثلاثة غير زوجي
- جد صحيح
لا عد إذن إلى ما زعمته من تمييز بين الطبائع التي ليست أضدادا وهي مع ذلك لا تقبل أضدادا: فكما في هذا المثال: على الرغم من أن ثلاثة ليست مضادة للزوجي أبدا، ولكنها دائماً تعرض الضد في الجانب الأخر أو كما أن اثنين لا تتقبل الفردي، أو النار البرودة. ومن هذه الأمثلة (ومنها كثير غير هذا) ربما استطعت أن تصل إلى نتيجة عامة أنه ليست فقط الأضداد هي التي لا تتقبل أضدادا، بل كذلك لاشيء مما يسوق الضد يقبل ضد ما يسوقه فيما سيق إليه. واسمح لي هنا أن ألخص ما سبق من قول - فليس في التكرار من ضرر، لن يقبل العدد خمسة طبيعة الزوجي، اكثر مما تقبل عشرة، وهي ضعف الخمسة، طبيعة الفردي - ولو أن الضعف ليس مضاداً للفردي تضاداً دقيقاً، غير أنه يرفض الفردي أجمالا. ولن تقبل أجزاء النسبة 2: 3 فكرة الكل، وكذلك أي كسر يكون فيه نصف، لا بل والذي يكون فيه ثلث، ولو إنها ليست مضادة الكل، هل تسلم بذلك؟
فقال: نعم أنى متفق تماماً، وذاهب معك إلى ذلك
قال: أظنني الآن أستطيع أن أبدأ ثانياً، وأني لأرجوكم أن تدلوا إلي عن هذا السؤال الذي أوشك أن ألقيه، بجواب غير الجواب القديم المأمون، وسأقدم لكم لما أريد مثالاً، وعسى أن تجدوا أساسا أخر فيما قيل الساعة تواً يكون مأمونا كذلك، أعني أنه لو سألكم أحد: (ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حاراً بحلوله فيه؟) فستجيبون أنه ليس الحرارة (وهذا ما ادعوه بالجواب المأمون)
ولكنه النار، وهو جواب يفضل ذلك كثيراً، ونحن الآن مهيئون للإدلاء به. أو لو سألكم أحد: (لماذا يعتل الجسد؟) فلن تقولوا من المرض بل من الحمى، وفي مكان القول بان الفردية هي سبب الأعداد الفردية ستقولون إن الجوهر الفرد هو سببها. وهكذا في الأشياء بصفة عامة. احسب انك ستفهم ذلك فهماً جيداً بغير أن أسوق إليك أمثلة أخري؟(102/45)
- فقال: نعم أني افهم ما تقول فهماً جيداً
(يتبع)
زكي نجيب محمود(102/46)
5 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وكان أبو العتاهية في عهد المهدي يلازم ابنه هارون، وكان ابنه وولي عهده موسى الهادي يجد على أبي العتاهية لملازمته أخاه، فلما ولي العهد الهادي بعد المهدي أراد أن يقصيه عن أخيه هارون فلم يطعه، ثم أمره أن يخرج معه إلى الري فأبى ذلك، ولكنه لم يلبث أن خافه وتهيب بطشه به، وكانت الملوك في عهده لا تحتمل مثل هذا النوع من المخالفة، والاعتداد بالكرامة النفسية، والمحافظة على العهد في حالتي الأمن والخوف، فقال يستعطفه:
ألا شافع عند الخليفة يشفع ... فيدفع عنا شر ما يُتَوَقَّعُ
وإني على عظم الرجاء لخائف ... كأني على راس الأسنة تشرع
يرَوَّعني موسى على غير عثرة ... ومالي أرى موسى من العفو أوسع
وما آمنُ يمسي ويصبح عائداً ... بعفو أمير المؤمنين يرَوعُ
وإنك لترى أبا العتاهية لا ينزل في هذا الاستعطاف إلى الاستخذاء والخنوع، ونسيان الكرامة وعزة النفس، فلا يقول في ذلك ما قال النابغة الذبياني قبله للنعمان بن المنذر:
فإن أك مظلوماً فعبد ظلمتَهُ ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يُعتِبوا
بل يقول له هذا القول (يروعني موسى على غير عثرة)، فينصف نفسه في هذا الموقف الذي تجحد فيه النفوس، ولا يرى حقاً للهادي في ترويعه على غير ذنب جناه، كما يرى النابغة للنعمان أن يظلمه لأنه عبده.
وقد روى صاحب الأغاني بعد ذلك أنه ولد الهادي ولد في أول يوم ولي الخلافة، فدخل أبو العتاهية فأنشده:
اكثر موسى غيْظَ حساده ... وزين الأرض بأولاده
وجاءنا من صلبه سيد ... أصْيدُ في تقطيع أجداده
فاكتست الأرض به بهجة ... واستبشر المُلْكُ بميلاده
وابتسم المنبر عن فرحة ... علت بها ذروة أعواده
كأنني بعد قليل به ... بين مواليه وقواده(102/47)
في مَحفِلٍ تخفق راياته ... قد طَبّق الأرض بأجناده
فأمر له الهادي بألف دينار، وطيب كثير، وكان سخطاً عليه فرضى عنه
فذا صحت هذه الرواية فلابد أنه عاد فسخط عليه حين رآه لم ينقطع عن أخيه هارون، وحين أمر أن يخرج معه إلى الري أبى ذلك، وبهذا تتفق هذه الرواية مع ما قبلها، ولا تكون متنافية معها، وإن كنا نستبعد أن يعنى مثل أبي العتاهية بتهنئة الهادي بذلك المولود في ذلك اليوم، ولا يعنى بتهنئته بهذا الملك الذي صار إليه فيه، فلعل حادثة ذلك المولود كانت بعد يوم ولاية الهادي وبعد رضاه عن أبي العتاهية
وقد عاد مع الهادي بعد رضاه عنه إلى مثل ما كان عليه في عهد المهدي، واتصلت فيه مدائحه، واتصلت من الهادي له صلاته وجوائزه. ومما مدحه به على مذهب أبي نواس في بدء المديح بذكر الخمر ووصف محاسنها:
لهفي على الزمن القصير ... بين الخَوَرْنقِ والسَّدير
إذ نحن في غُرفِ الجنا ... ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكوا عِنَا ... ن الدهر أمثال الصُّقُور
ما منهم إلا الجسو ... ر على الهوى غير الحَصور
يتعاورون مُدامة ... صهباَء من حلب العصير
عذراَء رباها شعا ... ع الشمس في حرَّ الهجير
لم تَدْنُ من نار ولم ... يعلق بها وَضرُ القُدور
ومُقرْطقٍ يمشي أما ... م القوم كالرشأ الغرير
بزجاجة تستخرج الس ... ر الدفين من الضمير
زهراء مثل الكوكب الدُّ ... رَّيَّ في كف المدير
تدع الكريم وليس يد ... ري ما قَبيلُ من دَبير
ومخصّراتٍ زرننا ... بعد الهدو من الخدور
رياً روادفهن يل ... بسن الخواتم في الخصور
غُرُّ الوجوه محجبا ... ت قاصرات الطرف حور
متنعمات في النعي ... م مضمخات بالْعَبير(102/48)
يرفلن في حلل المحا ... سن والمجاسد والحرير
ما إن يرين الشمس إلا ... القرط من خَلَل الستور
والى أمين الله مه ... ربنا من الدهر العثور
وإليه أتعبنا المطا ... يا بالرّواح وبالبكور
صُعر الخدود كأنما ... جُنَّحن أجنحة النسور
متسربلات بالظلا ... م على السهولة والوعور
حتى وصلن بنا إلى ... ربَّ المدائن والقصور
ما زال قبل فطامه ... في من مكتهل كبير
ثم انتهى عهد الهادي وحال أبى العتاهية معه مستقيمة كحاله مع المهدي؛ فلما جاء عهد هارون الرشيد كان الظنون أن يكون حاله معه اكثر استقامة من حاله مع أبيه وأخيه، لما سبق من ملازمته له، وانقطاعه إليه انقطاعاً كان يحسده الهادي عليه، ولكن حاله في هذا العهد جاءت على خلاف ما كان يقدر لها. وهنا تضطرب الروايات عن أبى العتاهية بقدر اضطراب أمره، وتغير حاله
روى صاحب الأغاني أنه لما مات الهادي قال الرشيد لأبي العتاهية: قل شعراً في الغزل، فقال: لا أقول شعراً بعد موسى أبدا، فحبسه وأمر إبراهيم الموصلي أن يغني، فقال لا اغني بعد موسى أبدا - وكان محسناً إليهما - فحبسه. فلما شخص إلى الرقة حفر لهما حفرة واسعة وقطع بينهما بحائط، وقال: كونا بهذا المكان لا تخرجا منه، حتى تشعر أنت ويغني هذا، فصبرا على ذلك مدة حتى قال أبو العتاهية لإبراهيم: إلى كم يا هذا نلاج الخلفاء؟ هلم اقل شعراً وتغني فيه، فقال أبو العتاهية:
بأبي من كان في قلبي له ... مرة حبُّ قليل فَسُرِقْ
يا بني العباس فيكم ملك ... شُعَب الإحسان منه تفترق
إنما هارون خيرٌ كله ... مات كل الشر مذ يوم خلق
وغنى فيه إبراهيم، فدعا بهما الرشيد فأنشده أبو العتاهية وغناه إبراهيم، فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب
وروي مرة ثانية عن محمد بن أبي العتاهية قال: كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر ولا(102/49)
حضر إلا في طريق الحج، وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم، فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد، وترك حضور المنادمة، والقول في الغزل وأمر الرشيد بحبسه، فلم يزل يكتب إليه الشعر يستعطفه حتى كتب إليه:
وكلفتَني ما حلت بيني وبينه ... وقلت سابغي ما تريد وما تهْوى
فلو كان لي قلبان كلفت واحدا ... هواكَ وكلفت الخليَّ لما يهوى
وروي مرة ثالثة عن محمد بن أبي العتاهية قال: لبس أبو العتاهية كساء صوف ودراعة، وإلى على نفسه أن لا يقول شعراً في الغزل، وأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال:
يابن عم النبي سمعاً وطاعة ... قد خلعنا الكساء والدُّرّاعة
ورجعنا إلى الصناعة لما ... كان سخط الأمام ترك الصناعة
فلم يزل الرشيد متوانياً في إخراجه إلى أن قال:
أما والله إن الظلم لومُ ... وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
لأمر ما تصرفت الليالي ... وأمر ما توليت النجوم
تموت غداً وأنت قريرُ عين ... من الغفلات في لجج تعوم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نَؤوم
سل الأيام عن أمم تقضت ... ستخبرك المعالم والرُّسوم
تروم الخلد في دار المنايا ... وكم قد رام غيرك ما تروم
ألا يا أيها الملك المرجيّ ... لميه نواهض الدنيا تحوم
أقلني زَلةً لم اجر منها ... إلى لوم وما مثلي مَلوم
وخلَّصني تُخلَّص يوم بعث ... إذا للناس بُرَّزّتِ الجحيم
وسنستوفي فيما بقي من هذه الروايات في هذا الشأن الجديد الذي صار إليه مع الرشيد، ونعمل على التوفيق بينهما، ونرد هذه الحال الجديدة في أبي العتاهية إلى أسبابها الحقيقية
عبد المتعال الصعيدي(102/50)
قبر الغريبة
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
قالها على لسان أحدهم يخاطب قبر حبيبته التي ماتت غريبة
قبرَ الغريبة لا باكٍ ولا ناع ... سوى محبٍّ من حزنه داع
قبر الغريبة لا ماء ولا زَهَرُ ... إلاّ دموعي وأشعاري وأسجاعي
والشعر من عنصر الراديوم جوهرُه ... فليس ينفكّ ذا ومضٍ وإشعاع
ماتت وصورتها في العين ماثلة ... أخِلَّتي لم تمت أم لستُ بالواعي
كأنها من شقوق القبر ناظرة ... إليّ نظرةً مُلتاعٍ لملتاع
نزيلةَ القبر قولي: لستُ ميّتةً ... وقد تنبهت أرنو بعد تهجاع
أم ليس ما أنا راء في حقيقته ... سوى خيالٍ لمن أراه خدَاع
فأنت ميّتة أودعتُها بيدي ... قبراً وبالرغم عني كان إبداعي
حزني شديد وأوجاعي مبرّحة ... ماذا يخفف أحزاني وأوجاعي؟
دع الدفينة تحت القاع راقدة ... فالقاع ليس لما فيه بمضياع
تحفّ بالميت أشياع لتدفنه ... أمّا الغريب فلا يحظى بأشياع
ما كان حادث هذا الموت في بلدي ... لغير قلبيَ في صدري بصدّاع
في كل عمريَ قد أحببتُ واحدة ... وهذه ارتاحت في آخر الساع
أَلمعت للركب استبقيه ملتمساً ... فلم يردّ إليَ الركبَ إلماعي
ما الأرض وهي لنا أمُّ بمشفقة ... فطالما أوقعت بي شر إيقاعي
ولم اكن هابطاً منها لأودية ... ولم اكن لثناياها بطلاَّع
ما كنت احسب أن الدهر يفجعني ... بمن أحَبَّ فؤادي شر أفجاع
والدهر مازال منّاعاَ لنائله ... عن بعضهم ولبعضٍ غير منّاع
كانت محاسنها اللائي فُتِنتُ بها ... يملأن قلبي وأبصاري وأسماعي
كنت السعيد بماضٍ كان يجمعنا ... معاً لو أن إليه جاز إرجاعي
في الحب تُسطاع أشياء وان عسرت ... إلاّ السلوّ فهذا غير مسطاع
ما أن ذكرتكِ في سري وفي علني ... إلاّ توثَّب قلبي تحت أضلاعي(102/51)
أحِسّ في حين طرفي لا يراكِ إلى ... جنبي بوخزٍ كحرّ النارِ لذّاع
لهفي على أعين وقّادة طفِئت ... بعاصفٍ هبّ يسفي الموتَّ زعزاع
قد كنتِ يوم اجتماع الغيد مفردةً ... ككوكبٍ في سماء الحسن لمّاع
سمراء فاتنة العينين خالقُها ... قد أبدع الحسنَ فيها أيّ إبداع
ما قيمة العيش في معزولة شطنت ... ما إن بها لنفوسٍ أوذيت راع
أتأذنين بدفني إن هلكتُ إلى ... جوار قبركِ في جوفٍ من القاع
فتلتقي في الثرى منا الجسومُ وإن ... كنا ولا أحدٌ منا به واع
إن انتظارك فيه لا يطول فبي ... تدنو إلى القبر أدوائي وأوجاعي
أما دنوّيَ من حتفي فيُفرحني ... كأنما أنا من نفسي له ساع
موتُ الحبيبة في دنياي زهّدني ... فلستُ إلاّ إلى حَيني بنزّاع
بكِ التحاقي أكيدٌ لا ارتياب به ... فلا يضيركِ إبطائي وإسراعي
وسوف نسبح في هذا الفضاء معاً ... وقد نطوف بشمس ذات أتباع
لا يُفزعنّكِ بحرٌ للأثير طمى ... وما هنالك من موجٍ ودفَّاع
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(102/52)
نشيد المجد
بقلم إلياس قنصل
من ديوان (السهام) الذي يصدر قريباً
إلى المجد سرْ، واغنم أكاليل غاه ... بهمّةِ جبارٍ له الخلد مأربُ
وكن قوةً يَعنو الجلالُ لبأسها ... ويسبقها من سؤدد الفضل موكب
وإن ناصبتْك الحربَ دنياك كلها ... وحفَّكَ من ليل الحوادث غيهب
فلا تشكُ فالشكوى احتضارُ مخيّبِ ... ولن يستحقّ النور شاكٍ مخيبُ
بل استلّ من عالي أباك مهنّدا ... تغلغل فيه من مضائك كهرب
وكافحْ به صرف الزمان وقل له ... سأبعث فيك الرعب من حيث تهرب
أورِ زناد الكدّ واخلق أشعةً ... من الحزمِ لا ينتابُها الدهر مُغرب
وشقّ بها درباً إلى كل غايةٍ ... سناها على عطر الثنا يتغلَّب
وإن بتَّ مهضومَ الحقوق ولم تثرْ ... فلستَ بذي نفسٍ إلى الله تُنسب
براها، ورقاها لتغدو على الثرى ... خليفتَه - وهْو العزيز المغلَّوب -
وما الموت إلا الضعف والجبن والونى ... وما العيش إلا نيل ما أنت ترغب
وما النفس إلاَّ عزة وكرامة ... يظلَّها من طارف النبل مذهبُ
عاصمة الأرجنتين
إلياس قنصل(102/53)
ذكرى محمد في عيد ميلاده
للأستاذ محمود غنيم
هو عيدُ ميلادِ ابنِ منافِ ... لا عيدُ مخترعٍ ولا كشافِ
أكبرتُ قدرَك يا ابنَ عبدِ الِله عن ... تأليف أوزانٍ ونحتِ قواف
ما أنت إلا عيلمٌ لم يُكتشف ... يَطغَي بلجَّته على الوصَّاف
بحرٌ خضمَّ غير أن جُمانَه ... مازال سرَّاً داخل الأصداف
لولاك لانقطع الزمان فلم تكن ... حلقاتُه موصولةَ الأطراف
دجت القرونُ فقام دينُك حارساً ... يحمي ذمار حضارِة الأسلاف
هزَّ الوجودَ في بكفَّه في مهده ... طفلٌ يتيمٌ من كنانةَ عاف
جادت به الفلواتُ أصفى طينةً ... وطويةً من جوَّهنَّ الصَّافي
وأشدَّ من هَضَبَاتِهِنَّ صلابةً ... وأهبَّ من إِعصارهن السَّافي
فإذا الأكاسرُ خاضعون لحكمه ... وإذا القياصرُ مرغمو الأناف
فتحت مبادئُه الحصونَ أمامَه ... قبل الصوارم والقَنَا الرعَّاف
غزت القلوب بسحرها فكأنها ... قد لامست منهنَّ كل شِغاف
أين الذي يغزو القلوبَ من الذي ... يغزو الرقاب بحدَّة الأسياف؟
تلك المبادئُ - وهي شتى - جمعت ... في مبدأين: الحقَّ والإنصاف
آخَى ابنُ عبدِ اللهِ بين معاشرٍ ... يتناحرون تناحرَ الأخْيَاف
لانت قناتُهمو لدعوته وما ... لانت قناتُهمو لغمزِ ثِقاف
ولقد يروض الأسَد رائضُها ولا ... يتغيَّر الطبعُ الغليظُ الجافي
هذا هو الأعجازُ لا بحرُ ولا ... بدرٌ قد انشقَّا إلى أنصاف
آيٌ من الذكر الحكيم أتى بها ... فإذا القلوب تلين بعد جَفاف
ولو أن ألفَيْ دوحةٍ سجداً له ... ما كان ذلك بالدليل الكافي
عجباً! أجاء محمد بالسحر في ... آياته أم شابها بسلاف؟
أم كان تنويماً خضوعهمو له ... ما ذلك السر العويصُ الخافي؟
أسرت قريشٌ مسلماً في غزوة ... فمضى بلا وجل إلى السياف(102/54)
سألوه هل يرضيك أنك سالم ... ولك النبي فدًى من الإتلاف
فأجاب كلا لا سلمت من الردى ... ويُصابَ أنفُ محمدٍ برعاف
أقسمتُ ما كان النبي محمدٌ ... بمشَعْوِذٍ كلا ولا عرَّاف
ليس النبي بساحرٍ يتلو الرُّقى ... ويُخيف بالأشباحِ والأطياف
لكنه الأيمان من يظفْر به ... يَلْقَ المفاوزَ سهلة الاكْناف
لو آمن الجبلُ ارتقى فوق السُّهى ... بقوادمٍ من ريشة وخواف
هذا الذي جعل النبيَّ ورهطَه ... إن حاربوا انتصروا على الأضْعَاف
يزداد في ساح الوغى إيمانُهم ... فيقابلون الموت باستخفاف
يُسْتَضْعَفُون لقلَّة لكنهم ... بوثوقهم في الله غيرُ ضعاف
فإذا دُعُوا للحرب هُّبوا أو دُعُوا ... للمال عفُّوا عنه أيَّ عفاف
قم سائل الأعرابَ أيةَ دولة ... نهضوا بها حملاً على الأكتاف
بزَّت أثينا في الحضارة أمة ... لم تأوِ غيرَ مضارِبٍ وفياف
شُغلوا بفلسفةٍ وعلم بعدما ... شُغلوا بوصف منازلٍ وأثاف
تخذوا القصور مساكناً وتسربلوا ... بالخز لا الأوبار والأصواف
فإذا الجزيرة بعد جَدْب جنةٌ ... مياسةٌ مهتزةُ الأعطاف
يا رُبَّ أسطولٍ بنَوْهَ كأنه ... بحرٌ خضمٌّ فوق آخَرَ طاف
السُّوقةُ الأجلافُ قد حكموا الورى ... أنْعم بحكم السوقة الأجلاف
ما شئت من عدل وتسوية ومن ... شورى فيا لثلاثة الأحْلاف
يا شرق يا مهدَ الشرائع رحمةً ... لك، ما لأهلك فيك كالأضياف؟
يا شرق أنت لكل شمس مطلعٌ ... ما بال أفقك حالك الأسْداف
أعْزِزْ علينا أن نراك تئنٌّ من ... تقييد أقدام وشدِّ كِتَاف
بدأت من الشرق الحضارةُ سيرها ... أفما لرحلتها من استئناف؟
محمود غنيم(102/55)
القصص
من أساطير الإغريق
هرقل
مولده. نشأته. قوته الخرافية. مجازفاته
للأستاذ دريني خشبة
كان قلب الإله الأكبر شيوعية في دولة الحب. . . ولم يكن يقصر هواه على ربات الأولمب فحسب، بل كان يفتتن بكل حسناء من بنات حواء وطالما وصل أسبابه بأسباب الغيد الأماليد من ظباء دار الفناء. . هذه الحياة الدنيا. . .
ولقد كانت زوجه حيرا تقعد له بالمرصاد، لما تعرف من تصابيه، ولقلة ثقتها فيه، فلما علق الفتاة الفاتنة، ألكمين، إحدى أميرات هيلاس، كان يبالغ في الحذر حتى لا تفجأه زوجه معها كما فجأته مع الحسناء يو من قبل
ونعم الحبيبان بحياة راضية، ووضعت ألكمين طفلها العاتية الجبار هرقل، وما كاد النبأ يذيع في دولة الأولمب حتى ثارت ثائرة حيرا واسقط في يدها. . . لأنها لم تعد تستطيع الانتقام لكبريائها من منافستها في قلب زوجها (زيوس) تلك المنافسة التي ارتفعت إلى مرتبة الآلهة بعد إذ وضعت غلامها ابناً لسيد أرباب الأولمب
ولكنها، وهي المجبولة على الشر دائماً، آلت إلا أن يرتد نور الحياة المتلألئ ظلاماً في عيني ألام، وذلك بالفتك بوليدها المحبوب، فأمرت حيتين رقطاوين من أبالستها أن تسعيا إلى مهد الطفل، وان تندسا فيه، حتى إذا سنحت لهما فرصة أودتا بحياته، وعادتا بإثارة منه تشهد على إنفاذ ما أمرتا به
وسعت الحيتان حتى استقرتا في المهاد الوثير، وانتهزتا غفلة من الخدم فانقضتا على الفريسة الصغيرة، وأوشكتا أن تظفرا بها. . .
ولكن هرقل الصغير الهادئ، افتر عن ثغر شتيت مشرق، وقبض بأصابيعه الصغيرة الدودية على راس كل من الحيتين، وبضغطتين هائلتين حطم عظامهما جميعاً. وكان الخدم قد اقبلوا، فلما شهدوا الأفعوانين صرخوا وأعولوا، بيد أنهم بهتوا وطار الصواب من(102/56)
أدمغتهم حينما رأوا أن الصغير، المنبطح على ظهره يضرب بظهره ها هنا وها هنا، قد قضى على الحيتين العظيمتين وألقاهما ضحيتين غير مباركتين على مذبح قوته الخرافية!!
وقدمت الكمين إلى صدرها الهائل! فرحة مستبشرة، وطبعت على جبينه الضاحك قبلة حملت أسمى معاني الأمومة
وذهلت حيرة عندما سمعت بما صنع الغلام بشيطانيها، وأيقنت ألا سبيل إلى القضاء عليه، ولكنها لم تيأس، وأقسمت أن تنثر الشوك في مستقبله القريب، وثبت العراقيل في حياته الجائية
وشب هرقل. . .
ونشأه مؤدبه، شيرون، زعيم السنتور، تنشئة حربية حافلة، ولقنه كل ما تحتاج إليه حياة الفرسان من تقشف وخشيشان؛ فمهر هرقل في زمن قصير في استعمال الأسلحة بأنواعها، ونبغ في جميع صنوف الرياضة والعاب الفروسية والقوى وكان شيرون نفسه يعجب بهذا الجسم الحديدي، يمسكه العضل البارز، ويزينه الكيان المفتول. . . وكان إذا أراد تدريبه على المصارعة والعاب القوة، آثر أن يشركه في نزال مع الثيران والعجول، والضخم ذو الأيد من بهيمة الأرض. وكان هرقل لا يخشى شيئاً من خصومه العجماوات، بل كان يقبل على مصارعتها بثغر بسام وقلب طروب، فلا يدعها معفرة بالتراب! وخشيته الحيوانات جميعاً، فكانت تجفل من طريقه كلما رأته مقبلاً نحوها، لطول ما جربت من بطشه وشديد بلائه!
وكان الفتى كلما ازداد قوة، وذاب الحديد في عضلاته، ازدادت حيرا تغيضاً وهاجت في فؤادها الأحقاد!
ولم تعد تطيق صبراً على هذا الخصم العنيد، ومادت بها الأرض، وأصبحت كأن يعاسيب العداوة تظن في رأسها تغريها بهرقل، ومن يلوذ بهرقل، فانطلقت إلى زوجها ولم تزل به حتى اصدر إرادة أولمبية تقضي أن يصبح هرقل خادماً لابن عمه، النذل الخسيس، يوريذوس أمير ارجوس، وأن يظل في خدمته بضع سنين. . .
وانتهى هرقل من تلمذته على شيرون وانطلق يكابد كفن قاس ملئ بالرغائب، مفعم بالمجازفات. فبينما كان يعبر طريقاً معروشاً بفروع السنديان، بين غابتين عظيمتين، إذا(102/57)
غانيتان جميلتان تعترضانه وتأخذان على سبيله. . . فأشاح عنهما، يحسبهما من المسكينات ملفوظات البغاء، أو من أولئك اللائى يتخذن الفسوق حرفة قذرة إلى عيش وضيع. ولكن الفتاتين تشبثا به، وأبتا إلى أن يقف معهما هنيهة، يتخير منهما واحدة تكون رائدته في هذه الحياة، تهديه وترشده وتأخذ بيده في سبلها المتشعبة
وكانت إحدى الفتاتين، (كاكيا)، شيطان الأثم، وإبليس الفجور في هذه الأرض. فتقدمت إليه متبرجة متهتكة، تغمز بهذا الطرف، وتبسم بذاك الثغر، وتهز ما سكن من الجيد، وتمط ما أشرب من العنق، وتحسر عن الساقين، وتكشف عن الذراعين، ثم هي تقرقع بضحكات مخنثة تثير الاشتهاء في نفس الشاب، وتستولي بها على مشاعره: (أنا، حبيبتك كاكيا، أجمل غادات هيلاس ومفتحة الورود في خدود العذارى، أضع قلبي وجسمي بين قدميك يا هرقل العزيز، مطية إلى الفردوس التي تجد فيها ما شئت من نعيم وما تمنيت من لذة. . . فاتبعني اجعل الدنيا كلها من حولك سعادة، وأصير طريقك أني ذهبت في الحياة منضورة بالورد، زاهرة بالرياحين. . . هلم ألي نحي حياة كالحلم، بعيدين من عناء العالم، نائمين عن شقاء الدنيا، لانفتح عينينا إلا متعة، ولا نرهف سمعينا إلا لموسيقى، ولا نغلق قلبينا إلا على نعيم. . .
مالك ولشد اربداد وجه الحياة يا حبيبي هرقل؟ إن الدنيا فرصة سانحة فانتهزها، وان العمر قصير ألا تلق به بخوراً في نار البأساء، وأن الأيام لتخب بنا دون أن نشعر بها، فلم نحاول أن نلبسها بالجد فيها هذا اللبوس الأسود الحزين القاتم؟ ولم لا نرسلها في وشي وافواف، لم لا نسمع دائماً لما توحيه ألينا قلوبنا ونفوسنا ما دامت الدنيا مخلوقة لها؟ لم تطرق هكذا يا حبيبي؟ أمتعب أنت؟ هات رأسك إذن، ودعه ملقى على صدري الجميل الخصب. . .)
ولكن الفتى نفر نفرة بادية، وأرسل نظرة فاحصة إلى (اريتيه)، الفتاة الأخرى، التي كانت تقف عن كثب، مصغية إلى حديث كاكيا، مشفقة على الشاب المسكين. أما اريتيه هذه فربة الفضيلة، ونفحة السماء، وهادية البشر ومنقذتهم من شرور كاكيا. . .
وسألها هرقل: (وأنت أيتها الفتاة، بم تشيرين؟) وقالت اريتيه، وهي تكفكف عبرة غالية: (انا؟ لا أشير عليك بشيء أيها الصديق إلا بالحذر من هذه الغادة! أنها توشك أنا تظلك وترديك!) فغضبت كاكيا وأخذها الحنق، وأجابت في غلظة ومخاشنة: (أضله وأرديه؟(102/58)
هاها. . . وأنت أتسلكين به سبيل الفضيلة الذي زرعت أرضه قتاداً، وبرزت فيها أنياب الذئاب؟ اسمع يا هرقل، أصغ ألي يا حبيبي، دعك من هذه الفتاة المحتشمة. . إليك عنها. . . إنها تغطش حياتك لو تبعتها. . .)
وتبتسم اريتيه ابتسامة هادئة وتقول: (أن الآلهة يا هرقل قد زودتك بهذه القوة الكامنة في بنيانك لغرض أسمى من جميع الأغراض الحيوانية، وقد كان أجدى للخير العام أن تخلق ثوراً ذا خوار من أن تودع كل هذا الحديد في عضلاتك، لو لم تكن قد أعدتك لفعال جسام لن يؤديها غيرك. اجل! أن طريقي لا ينمو بها غير الشوك، وأنها تدمي الأقدام وتجهد السائرين، ولن ترى فيها زهرة ولا ريحانة، بل لن تسمع بها عصفوراً يغني ولا بلبلاً يغرد، وبالعكس، قد تقتتل فيها مع السباع والضواري والثعابين، ولكنك في أخر كل نصر، وعقبى كل ظفر، ترى جنة من الرضى تحفك بالزهر، وترقص بين يديك بالغواني والقيان. أما هذه. أما ما تغريك به هذه الأنثى الهلوك، ففيه حتفك، فحذاري. وليس احب إليك كرجل كان له الشرف أن يكون ابن إله من أن تثبت للإله انك جدير بما انتدبتك له)
وسكتت اريتية ولكن كاكيا لبثت تدل وتتيه وتتبرج تحاول الفوز بهذا القنص العزيز. غير أن نخوة الرجولة ثارت في قلب هرقل فانتهر الغانية الغاوية واغلظ لها ثم تقدم إلى اريتية فتناول يدها الصغير الحلوة وطبع عليها قبلة تفيض وقاراً واحتراماً ثم قال لها بصوت متهدج خافت: (هلمي بنا يا فتاة فلن أخشى في سبيلك بأساً ولا رهقا)
وانطلقا. . . وغابا في ظلام الغابة. . .
ولم يبرح هرقل معينا للضعفاء مغيثاً للملهوفين إذا رأى مظلوماً انتصف له من ظالمه وإذا لقي جائعاً نزل له عن زاده؛ ولم يبرح ينصر الفضيلة أنى سار، ولم تبرح الفضيلة تمشي في أثره أيان، ولى حتى ضاقت الدنيا بحيرا ولم تعد تحتمل هذا الغار من المجد يكلل هامة خصمها العظيم، ولاسيما بعد أن اتصل بالملك كريون ملك طيبة وزواجه من ابنته الجميلة ميجارا
لقد أحب هرقل زوجته حباً جما وأحبته هي كذلك وأخلصت له وكانا يذهبان إلى الغابة القريبة يتناجيان نجوى الحب ويرشفان كؤوس الهوى ويعودان مع الأصيل فيسامران الملك الشيخ ويدبران معه أمور المملكة. ثم مكرت حيرا مكرها!. . .(102/59)
لقد صممت على أن تسلب هرقل رشده وتتركه يهيم في الأرض ينطح برأسه الصخر كما يفعل الضلال المجانين. فبينما كان غاراً في أحلام السعادة إلى جانب زوجته آمنين مطمئنين إذا حيرا الآثمة تندس في ظلام المخدع وتنفث سحرها الفظيع في أذني هرقل وتمضي لشانها فتختبئ في الحديقة خلف دوحة كبيرة من دوح الشاهبلوط. . . وتنظر ثمة ريثما يصحو الزوج المسكين فتشهد المأساة التي تتفزع من هولها الأرض وتميد الجبال!. . .
وأشرقت الشمس!
واستيقظ هرقل ونهضت ميجارا ولكن ناراً كانت تقدح الشرر في عيني البطل! وزبداً حاراً كان ينقذف من فمه المخوف! وأصواتا كأصوات الشياطين كانت تدوي في رأسه الضخم. . .
والدم!. . .
لقد كان ينبثق من كل جارحة في جسمه الأرجواني فيصبغ اللحف والأرائك ويسيل على أديم الغرفة المغطى بالدمقس! وذعرت ميجارا وصرخت صرخات راجفة تدعو أباها. . ولكن هرقل المسحور ينتفض انتفاضة تزلزل أركان القصر وينقض على زوجته التعسة كأنه ضبع: (تعالي يا خائنة! أين كنت طيلة الليلة الفائتة؟ آه! أجل! كنت تتمرغين بين ذراعي عشيقك الجبان! الويل لكما! شرف هرقل تلغ فيه الكلاب!)
وبضغطة قوية من يديه الصارمتين على عنق الفتاة المنكودة يتركها جثة هامدة قرباناً لموت في عنفوان الصبا وضحية للردى في ريعان الشباب. . .
وانطلق يصرخ في ردهات القصر وهرول يزمجر في حنيات الحديقة ثم أطلق ساقيه للريح. . .
وفي قنة جبل تزمزم الأعاصير في جنباته جلس هرقل المسكين ليثوب إليه رشده وليذكر أنه قتل زوجته المحبوبة في نوبة جنونية فينشج ويبكي. .
وتكون غمامة فوق رأسه تظله من وهج الشمس فتنشق عن آله كريم هو هرمز رسول السماء، حمل إلى هرقل تلك الإرادة الأولمبية القاسية التي أصدرها زيوس، متأثراً بإلحاح زوجته الآثمة حيرا التي تقضي أن يظل هرقل في خدمة ابن عمه يوريذوس اثني عشر(102/60)
شهراً يصدع خلالها بما يؤمر!
- (لقد كان عليك أن تظل في خدمته بضع سنين ولكننا ألحفنا على رب الأرباب فقصر المدة وأختزلها إلى ما ترى!)
(يختزلها أو لا يختزلها، لقد أصبحت الحياة سجناً بدون ميجارا!)
- (عليك بالصبر يا صديقي، فقد تفيدك طاعة الإله. . .)
- (الإله التي لا تحسن عملاً غير هذا العبث!)
- (صه صه. . هلم إلي يوريذوس، وستكون حراً بعد سنة واحدة. . .)
وجن جنون هرقل لهذا القضاء الأولمبي الأعمى، وفر من هرمز في مسارب المياه، ولجأ إلى الوحوش يلتمس لديه الصبر الجميل والقلب الرحيم؛ ولكنه عبثاً حاول الفرار مم كتبت السماء عليه، وهنا، بدت له صديقته ربة الفضيلة أربيته، فنصحته، ولم تزل به حتى أقنعته بخدمة يوريذوس، فذهب إليه كسير القلب مهيض الجناح، وكان جبلاً من الهم والسخط مستقر على رأسه
وقال له يوريذوس: - (وأخيراً وصلت إلي آخر الدرب يا هرقل!. . . إن أمامك أموراً فأعد لها عدتك، فما أحسب دموعك على ميجارا بمجدية عليك شيئاً. . . .)
وحدجه هرقل بنظرة يشتعل فيها الغضب وقال له: (أجل؛ لقد وصلت أخر الدرب. . ولكن ليس لك شأن بدموع أذرفها من أجل ميجارا. . . ألا فاذكر حاجتك التي أرسلتني الآلهة لأقضيها لك، وأقصر!)
وضحك يوريذوس حتى كاد الرعد يخرج من بين شدقيه، وقال: (حاجتي! إن لي لحاجات ما أحسبك تستطيع قضاء واحدة منها. وكيف تصبر مثلاً على سبع نيميا الذي يقطع الطريق إلى غاباتها ذات الكنوز والأذخار؟)
وقال هرقل: (سبع نيميا أو ألف سبع كسبع نيميا، عليك أن تكلفني ولو بهدم السماء أفعل ما تكلفني به. . والآن، أإذا جئتك برأس هذا السبع أكون طليقاً؟)
- (تكون طليقاً؟ إن أمامك اثنتي عشرة مسألة، رأس سبع نيميا أولها وأيسرها يا هرقل، فهلم إذن، وسنرى. . .)
(لها بقية)(102/61)
دريني خشبة(102/62)
من الأدب الإيطالي
الليالي العشر
ترجمة الأديب أحمد الطاهر
- 3 -
قصة صداقة جيزيبوس وتيتوس
قالت فيلو مينا: (لقد سمعتم من بامفيلو قصة رائعة تظهركم على قوة الحب وأثره في النفوس؛ وأنا ذاكرة لكم قصة أخرى تكشف عن قوة الصداقة وفعلها في الناس: وقعت حوادثها في عهد أوكتافيوس قيصر إذ كان حاكماً لروما
فصل من روما إلى أثينا شاب يدعى تيتوس ليدرس الفلسفة، وهناك عربي شاباً أثينياً شريفاً أسمه جيزيبوس، واتصلت بين الفتيين أسباب الصداقة والمحبة. ومضت سنون ثلاث تعمل على توثيق هذه الأسباب، والفتيان لا يفترقان في مسكن أو مأكل أو درس
وقدر لجيزيبوس الأثيني أن أغرم بفتاة جميلة من بنات جنسه تدعى (سوفرونيا)، وحببت إليه الفتاة، وحبب الفتى إليها، واتفق المحبان على الزواج
ورأى جيزيبوس قبل الزواج ببضعة أيام أن يصحب صديقه الروماني تيتوس إلى بيت الفتاة لزيارتها، وهو يعهد فيه نبلاً في الطبع، وشرفاً في النفس لا سبيل إلى الشك فيهما، وما أن رأى تيتوس الفتاة حتى أقصده حبها بسهم مصيب، واشتدت به تباريح الهوى، فما يغمض له جفن، ولا يهنأ له طعام. وما زال الحب يلح عليه حتى أضناه، ويسرف في النيل منه حتى أضواء، وأصبح الفتى سقيما عليلاً لا يرجى شفاؤه، ولا يرحم داؤه، وساءت به الحال، حتى أشفى على الزوال
وعز على صاحبه ما أصابه، وذهبت به الظنون كل مذهب في سبب علته، وأخذ يسائله عن مصدر أحزانه، ومبعث أشجانه، والفتى لا يستطيع جواباً بغير الدمع ينهمر من مآقيه، والصمت لا يبرح على فيه؛ ولما أسرف عليه صاحبه في السؤال وألح، قال: (يا صديقي،(102/63)
لقد أحسست بخستي ودناءتي؛ فما احسبني بعد اليوم خليقاً بصداقتك، وما أطمع منك إلا في عفوك وصفحك، أما عند الله فسيصيبني بما أجرمت صغار وعذاب شديد، وما يوم القصاص ببعيد. ولا أكتمك أن مبعث علتي، ومصدر شقائي هو حبي لفتاتك سوفرنيا. أعترف لك بهذا الأثم الشنيع الذي فارقت رحضاً لسبة الخيانة، ومعرة الإنكار، واستعداد لقضاء العادل الجبار)
وجم صاحبه لحظة، واستولت عليه حيرة، وتزاحمت عليه خواطر شتى: هذا وفاؤه لتيتوس يكبره ويقدسه، ويذود عنه بعقله وحكمته، وهذا حبه لسوفرينا يملك عواطفه ويتحكم في شعوره ويملأ قلبه. فماذا يصنع؟ والى أي العاملين يخضع؟ ثم ليست هي الصداقة وحدها تتراءى له فيقع في حيرة وتردد، بل هو الصديق نفسه قد أشفى على الهلاك والتلف، وتصرمت بينه وبين الحياة أسبابها. أطال جيزيبوس الصمت، وأغرق في التفكير، ثم استقر، ورضى، وطابت نفسه أن ينزل عن سعادته في الحب لينجو صديقه من الموت، وتنجو صداقتهما من أن يعتورها كلل أو فتور
ومضت بضعة أيام، وأقبلت سوفرنيا إلى منزل العريس، وقد أعد العدة لليلة الزفاف. وما وافت ساعته حتى انسل إلى مقصورتها، وأطفأ شموعها وقفل راجعاً إلى صديقه تيتوس في حيرة لا قبل له بها، وتزاحم عليه الخجل، والحب، ولرغبة، والأباء، والوفاء: تتنازع هذه النفس المعذبة المحطمة وتتركها شعثاً لا يرجى له اجتماع، وتضطرب في هذا القلب المتداعي حتى ليكاد ينفجر الصدر، وتنقض الأضلاع. ولم يسعه إلا أن يرفض ما عرض عليه جيزيبوس، وألح هذا الصديق الوفي في قبول ما عرض، حتى نزل تيتوس على إرادة صديقه وقبل رجائه، وأسترق الخطى إلى مقصورة العروس، فلما دنا منها تحت غلس الليل قال لها: (أتطيبين نفساً بزواجي؟) فحسبته الفتاة زوجها الموعود جيزيبوس، وأجابت (بنعم). فتناول خاتماً ثميناً ووضعه في إصبعها وقال لها شاكراً (وسأكون زوجك) ولما تنفس الصبح وافتضح التدبير أدركت سوفرونيا أن في الأمر خدعة ودلساً. فتسللت من بيت عرسها وانصرفت إلى أمها وأبيها، تشكو إليهما خدعة وقعت فيها، وذاع الخبر في أثينا، وكان حديثاً تلوكه ألسنة الناس ساخطة على فعلة جيزيبوس وخديعته لفتاة انحدرت من أطهر الأصلاب وأعرق الأنساب، ولكن لا مفر مما وقع، ولا تبديل لحكم القضاء. ولم(102/64)
يجد والدا الفتاة حيلة في هذه الكارثة المخزية إلا أن يسترا الفضيحة ويكتما العار. فطلبا إلى تيتوس أن يرحل بالفتاة إلى روما حيث لا يعلم الناس من أمرهما شيئاً.
وما كاد الفتى يفصل عن أثينا بزوجته حتى تحركت في نفوس الملأ سورة الغضب والانتقام من جيزيبوس جزاءً بما فعل بهذه الأسرة الكريمة، واشتدوا على الرجل ونكلوا به تنكيلاً، وجردوه من كل ما يملك، وشردوه من أثينا تشريدا أبدياً، فخرج منها مذموماً مدحوراً
وركب نعليه إلى روما، ومشى إليها مكباً على وجهه، كاسف البال، عليه من الثياب أسمال، لا رفيق له إلا أحزانه وأشجانه، تبطئ خطاه حيناً، وتسرع أحياناً. ولقى في سفره هذا عناءً ونصباً. وأشرف على المدينة فتلمس دار صديقه الذي لقى ما لقى في سبيل الوفاء له والإبقاء على صداقته فهداه السابلة إلى طريق اتخذ سمته فيه إلى قصر شامخ عليه مظاهر النعيم واليسار، تجري عليه من السعادة أنهار، وإذا هو قصر صاحبه تيتوس.
وتنسم أخباره فإذا هو في نعمة سابغة، وسطوة بالغة، وإذا هو في المدينة من ذوي السلطان والحول، والقوة والطول، لا يدفع له أمر، ولا يرد له قول أن كان في المقربين من أمير البلاد أوكتافيوس قيصر من الخاصة الخلصاء. وأختلس الفتى من أعين الحراس موقفاً إلى جوار الباب خفياً، وأسنده ظهره إلى الحائط وأطرق يفكر ملياً
وا رحمتاه لهذا البائس المنكود! يسبح في بحار من الأحزان والآلام لو سلطت على هذا القصر لدكته على من فيه دكاً. ترى ما الذي يختلج في هذا الصدر من لوا عج الأسى؟ وما الذي يضطرب في هذه النفس من شتى المشاعر؟. هذا صديقه الذي نزل عن سعادته في الدنيا لينعم بها دونه ولقى في سبيل الوفاء له شر ما يلقى الناس من عنت الدهر، وتجرد له من حطام الدنيا وما ملكت يداه، وأفزع من وطنه شريداً طريداً لينعم بخفض العيش ويستقر في مهاد النعمة. . أإذا خرج ورآه، يعطف عليه ويرق لمرآه؟ أيذكر له سابق فضله ويسبغ عليه من فيئه؟ وكيف السبيل إليه، ودونه من الحراس والحجاب والأبواب ما يصد الناس عن الوصول إليه ولو كانوا من ذوي المكانة. فكيف به وهو على ما نعلم من المذلة والمهانة؟
وبدت في القصر حركة تدل على أن صاحب القصر قد آذن بالخروج، فتحرك الفتى من(102/65)
موضعه، واحتبست أنفاسه، وخرجت من صدره نفثات، ومن عينه عبرات، ومر صاحب القصر به ولم يعن بشأنه ولم يلتفت إليه كأن لم يكن شيئاً موجوداً وأنصرف الفتى يتعثر في أذيال الخيبة ويهيم في الطرقات، لا يقصد غاية، ولا ينتهي إلى نهاية. كأنما وكل بسبل المدينة يذرعها ذرعاً. وأدركه الليل. وبسط عليه جناحين من سواد، فأوى إلى كهف يتخذه اللصوص مثابة فألقى عنده عصا الترحال وأسند رأسه إلى الأرض يلتمس فيها راحة البدن؛ وقد أيأسته راحة النفس، وحاول أن يغمض عينيه، ولم يجد النوم سبيلاً إليهما بين هذه العبرات الحارة المنهمرة انهماراً. ودخل إلى الكهف لصان يحملان أسلاباً، ونزع الشيطان بينهما فاختلفا في قسمة الغنيمة فهم أحدهما وضرب الآخر فأرداه قتيلاً
تنفس الصبح وطاف بالكهف بعض العسس فألفوا القتيل مضرجاً بدمائه وفتى القصة راقداً إلى جواره. فاقتادوه إلى دار الشرطة والقضاء ليتبينوا منه الأمر وهنا دفع اليأس فتانا لأن يلتمس مخرجاً من هذه الكوارث فألقى بنفسه إلى التهلكة وترامى في أحضان الموت وقال: (أنا القاتل!) وفي نفسه بارقة من الأمل، ولكنه أمل في الموت وفي أن يخرج من عناء الدنيا إلى راحة الأخرى
قال القاضي (ولقد حكمنا عليك بالإعدام صلباً) وكذلك كان يجزى القاتلون
وساقت الأقدار تيتوس ذا الحلول والطول إلى ساحة القضاء ليزجى دفاعاً عن أحد الأبرياء، فحانت منه نظرة إلى فتانا جيزيبوس فأنكره، ثم تأمله فتبينه وعرفه، فساءته حاله وأشفق عليه وعقد العزم على أن يخرجه من بأسائه إلى نعيم، وأن يبعث في حواشي هذه النفس الحالكة شعاعً من الأمل لا يخبو. ولم يكن من سبيل إلى هذه الغاية إلا أن يدحض اعتراف جيزيبوس باعتراف آخر، فمثل أمام القاضي وقال: (مهلاً أيها القاضي! أنا القاتل! وهذا الرجل برئ مما يدين به نفسه!)
وقع القاضي في حيرة يصعب الخلاص منها، وأدرك تيتوس أن صديقه يسعى لإخراجه من فم الأسد الذي أقحم نفسه بين فكيه. وهو لا يريد الفرار من بؤس الحياة إلى الحياة، وإنما وجد في الموت منجاة من عذاب الحياة. وفصل جيزيبوس من مجلسه إلى القاضي ودفع صاحبه وقال: (لا! بل أنا القاتل يا سيدي ولا ترفع قصاصك إلا عليّ!)
قال القاضي في نفسه: (أكان الصلب شرفاً يتزاحم عليه هذان المأفونان؟) وفيما هما(102/66)
يتدافعان إلى الردى برز من بين النظارة لص هصور وقال: (لقد رأيت هذين الرجلين يدفع أحدهما الآخر بما وسعه من الجهد عن حياض الردى، فما وجدت خيراً من أن أعترف لك يا سيدي القاضي بكل شيء فأريحك وأنقذ الرجلين وأريح نفسي. ما شأن تيتوس - وهو على ما علمتم من الشرف - وما سدة اللصوص يأوي إليها أو يتخذ إليها السبيل؟ وهذا الرجل ذو الثوب الخلق كان حقاً في إحدى زوايا الكهف نائماً، ودخلنا الكهف أنا وزميل لي ونزغ الشيطان بيننا فاختلفنا في قسمة الأسلاب - واللصوص كما تعلمون تدب بينهم الشحناء لخير العدالة والقضاء، ففضضت النزاع بأن سلت مديتي وأزهقت روح زميلي كما أسل اليوم لساني لأنقذ روحيّ هذين السيدين)
هذا خصم ثالث يطالب بنصيبه في الموت كاملاً، فما أشد حيرة القاضي ووجوم النظارة!
ورجع القاضي إلى ملاذ القضاة، وهو أوكتافيوس قيصر، أمير البلاد، ودفع إليه بثلاثة الرجال، فألقى السمع إلى حديثهم وعرف ما كان من أمر تيتوس وجيزيبوس منذ جمعت بينهما الصداقة، وفرق بينهما الحب، وجمعتهما الأقدار، إلى أن مثلا في مجلسه فقضى بحكمه العادل ببراءة الصديقين، والعفو عن اللص المعترف إكراما المعترف إكراماً لهذه الصداقة وإكباراً لنفسه الأبية
وخلا الصديقان أحدهما إلى الآخر في قصر تيتوس، ولما اطمأن بهما المجلس نزل تيتوس عن نصف ثروته إلى صديقه وزوجه من أخته وكانت فتاة بارعة الحسن نبيلة
واقدموا جميعاً في القصر، وزادهم الله بسطة في الرزق، وسعة في العيش.
(عن الإنجليزية)
يوزباشي أحمد الطاهر(102/67)
البريد الأدبي
مكتبة لوي بارنو
منذ أيام قلائل بيعت في باريس مكتبة لوي بارنو المؤرخ والسياسي الفرنسي الكبير الذي قتل في أكتوبر الماضي إلى جانب الملك اسكندر السربي؛ وكان بارنو من م أعظم هواة المكتب والتحف الأدبية، وقد قضى حياته وأنفق ثروته كلها في اقتناء نفائس التحف والكتب الأدبية، وجمع منها مكتبة عظيمة كانت من أشهر مكاتب فرنسا الخاصة. وقد أوصى بارتو بمكتبته النفيسة قبل وفاته إلى الأكاديمية الفرنسية التي كان عضواً فيها؛ وقررت الأكاديمية أن تعرضها للبيع بالمزاد؛ ووقع هذا البيع أخيراً؛ وكانت أيام البيع من أيام باريس المشهودة لما لهذه المكتبة العظيمة من شهرة ذائعة. وكتبت جميع الصحف الفرنسية عن مكتبة بارتو وعن تبدد هذا التراث البديع الذي أنفق فيه المفكر الكبير حياة بأسرها. ومما احتوته هذه المكتبة الفريدة مجموعات نفيسة من الطبعات الأولى لأشهر الكتب الفرنسية منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، ومنها مؤلفات لمونتاني ورونسار وبوالو وبوسيويه وفنيلون وموليير وغيرهم؛ ثم مجموعات نفيسة لبلزاك وبودلير، وجوتييه وموسيه وسانت بيف وهوجو وغيرهم. ومن التحف رسائل بخط نابليون بونابرت وتوقيعه، وكتب عديدة عليها شعار الإمبراطور، ونسخة خطية من معاهدة الصلح (فرساي) موقعاً عليها من لويد جورج وفوش وكليمنصو. وقد حققت مكتبة بارنو من البيع مئات الألوف من الفرنكات؛ ومما يذكر أن نسخة من ديوان بولدير المشهور (فلير دي مال) بيعت بمبلغ سبعة وخمسين ألف فرنك، بينما بيعت مخطوطات معاهدة فرساي بواحد وأربعين ألف فرنك، وهكذا بددت مكتبة لوي بارتو بين أيدي الهواة؛ وهذا مصير معظم المجموعات والذخائر الخاصة
السياحة على طريقة العصور الوسطى
تطورت وسائل الدرس والسياحة في عصرنا، واستطاع العامل أن يسخر البحر والهواء، وغدا الطواف حول العالم أيسر الأمور. ولكن ما زال يوجد من الرحل والباحثين في عصرنا من يفضل الطواف على طريقة السائح الهروي وابن بطوطة وماركوبولو وغيرهم من أكابر الرحلة في العصور الوسطى. فمنذ عامين فكر ضابطان بحريان فرنسيان هما(102/68)
الكابتن بيشوف وجوزيف ثاثبويه في جوب بحار العالم في قارب شراعي؛ ونفذا مشروعهما الجريء، وقطعا إلى اليوم زهاء ستة آلاف ميل، وغرقا أكثر من مرة، وسلباهما اللصوص أكثر من مرة، واعتقلا كجاسوسين وعاشا شهوراً طويلة على الحشائش والأسماك، مما يذكرنا برحلات السندباد العجيبة
خرج هذان السائحان من ثغر تونجهاي في الهند الصينية في مركب شراعي، وسارا شرقاً في عرض المحيط الهادئ إلى جزائر كارولين، وهناك كسر قاربهما، فعادا إلى الصين، وجهزا سفينة شراعية أخرى؛ وسارا فيها إلى جزيرة فرموزا اليابانية، وهنالك سطا عليهما اللصوص فجرداهما من كل شيء حتى أوراقهما الشخصية، ثم قبضت عليهما سلطات الجزيرة بتهمة التجسس، وأبعدا من فورموزا. ولكنهما لم يعدلا عن مشروعهما؛ فجهزا مركباً ثالثاً؛ وخرجا من ثغر أموي، واخترقا بحر ثيمور قاصدين إلى جنوب استراليا؛ وفي أثناء الطريق هاجمتهما كلاب البحر، ومزقت العواصف شراع المركب، فلبثا عشرة أيام تحت رحمة الموج لا يعرفان لهما مستقراً، حتى لمحا في عرض البحر سفينة نرويجية، فأغاثتهما، وأمدتهما بالمؤن، وأصلحا الشراع؛ واستمروا في رحلتهما حتى وصلا إلى ثغر بروم في استراليا الغربية، ثم عبرا بوغاز توريس حتى بور مورسي، ووصلا إلى شواطئ جزائر بابوازي بعد رحلة مروعة، وهنالك أنكسر قاربهما مرة أخرى؛ فعاشا في تلك الأرض زهاء سبعة أشهر يأكلان قواقع البحر ويشربان ألبان جوز الهند، ويدرسان أحوال هذه الجزر وأحوال أهلها المتوحشين، ولما استطاعا أخيراً أن يصلحا قاربهما، ارتدا إلى البحر كرة أخرى؛ وجاسا خلال جزائر (أوشنيا) القاصية التي اكتشفها الكبتن كوك ثم لقى حتفه فيها، وفي عزمهما بعد طواف المحيط الهادئ أن يرتدا إلى الجنوب، ثم يعبرا المحيط غرباً إلى الأطلانطيق، حيث يزمعان اختراقه إلى فرنسا. ولكن هل يستطيعان تنفيذ هذا المشروع الجريء؟
ذكرى الشاعر تاسوني
أحتفل أخيراً في مودينا بإيطاليا بذكرى الشاعر الإيطالي الكبير الساندرو تاسوني، لمناسبة مرور ثلثمائة عام على وفاته؛ وكان تاسوني من أكابر شعراء القرن السادس عشر، ومن ذلك الجيل الذي تأثرت عبقريته بتراث عصر الأحياء؛ وكان مولده بمدينة مودينا سنة(102/69)
1565، يوم أن كانت ما تزال إمارة زاهرة؛ وتلقى تاسوني تربية حسنة، وظهر في الشعر والحياة العامة شاباً؛ وأشتغل منذ سنة 1599 سكرتيراً للكردينال اسكانيو كولونا من أقطاب الفاتيكان، وقام وهو في هذا المنصب، بعدة مهام سياسية خطيرة؛ واستمر في منصبه حتى سنة 1608. ثم غادر رومة والتحق بخدمة دوق سافوا، واشتغل هنالك أيضاً بالمهام السياسية؛ ولكنه مع ذلك كان يطلق العنان لميوله الأدبية والشعرية؛ ولم ينفك أثناء ذلك عن الكتابة والنظم؛ ومن أشهر آثاره أو (اغتصاب الدلو) وهي قصة شعرية من نوع الخيال المعروف؛ ومجموعة مختلفة بعنوان (أفكار منوعة) وكتاب عن بترارك وشعره عنوانه (تأملات عن بترارك) وله قطع ومجموعات أخرى شعرية ونثرية
تكريم مستشرق روسي
احتفل المستشرقون الروسيون في 14 يونيو بتكريم المستشرق الروسي الأستاذ أغناطيوس كرنشكوفسكي لمرور ثلاثين عاماً قضاها في خدمة اللغة العربية، ألف في أثنائها ما ينيف على ثلثمائة رسالة في تأريخها وآدابها القديمة والحديثة، وهو يشتغل الآن بنشر كتاب أبن المعتز مع شرحه والتعليق عليه باللغة الإنكليزية، وقد أشترك في هذا التكريم المجمع العلمي العربي بدمشق بخطاب أرسله رئيسه ليتلى فيه
عيد ألفي لابن سينا
في بريد سورية أن الجامعة السورية تفكر في إقامة عيد ألفي لذكرى الطبيب العربي الكبير الرئيس أبن سينا
وقد فوضت إلى لجنة من أساتذة المعهد دراسة هذه الفكرة وإعداد الوسائل اللازمة لجعل هذه الذكرى متناسبة مع جلال الخدمة العظيمة التي أداها الرئيس للطب
اللغة العربية في جامعة لندن
روت جريدة البالستين بوست بالقدس أنه لمناسبة اليوبيل الفضي لجلالة ملك الإنكليز فكر السر دنسن روس أن يؤسس لهذه الذكرى مقعداً جديداً مجانياً لتعليم اللغة العربية في جامعة لندن
وقد أختار السر دنسن روس اللغة العربية لهذه الذكرى لأن الإمبراطورية البريطانية تضم(102/70)
تحت (جناحيها) أكبر عدد من الشعوب العربية، والمتكلمين باللغة العربية ولا تفوقها في ذلك دولة أوربية أخرى(102/71)
الكتب
أنظار في كتاب (حياة محمد)
بقلم الأستاذ محمد علي النجار
قرأت هذا الكتاب الجليل الغني عن التقريظ فمن لي حين قراءته أنظار راجعة إلى ألفاظه وأخرى إلى معانيه، فأحببت أن أدونها بادئاً بالأولى في هذه العجالة، وإني أعلم أن معظمها آت من القائمين بالطبع؛ غير أن حرصي على سلامة ما في الكتاب مع ما قدر له من هذه السيرورة والانتشار في الأقطار بعثني على ما فعلت، وسأنبه بالرقم الأول على الصفحة وبالثاني على السطر منها، والله الموفق للصواب
21: 33 كان الذين يعبرونها. . . قليلون. صوابه: قليلين
13: 35 صمدت لقسوة الزمان. يريد ثبتت ولم تنل منها عوادي الدهر وصروف الحدثان، وقد تكرر استعمال الصمد في الكتاب بهذا المعنى وأرى أن هذا لا يكون إلا على ضرب من المجاز، فإن الصمد القصد، ولم تذكر المعاجم من معانيه ما أراد المؤلف، والتجوز فيه أن يعتبر الثابت على حوادث الدهر متعرضاً لها، قاصداً مغالبتها، استهانة وعدم مبالاة بها، وأقرب نص لهذا المعنى قول معاذ بن عمرو بن الجموح في قتل أبي جهل: فصمدت له حتى أمكنني منه غرة، فقد قال أبن الأثير في النهاية: أي ثبت له (وفي التاج واللسان: وثبت له) وقصدته وانتظرت غفلته
3: 35 فحوروا اتجاهه الطبيعي. استعمل التحوير في التغيير، وهو استعمال شائع ولكن لا يوجد هذا المعنى فيما وقفت عليه المناجم، فالتحوير فيها الترجيع والتبييض ففيه تحويل وتبديل فتوسع فيه وأطلق على مطلق التغيير
17: 56 قصي بن كلاب هو الجد الخامس للنبي (صلى الله عليه وسلم): معروف أن قصياً هو الجد الرابع
20: 56 دراجا. صوابه رزاحا: تراجع سيرة أبن هشام والقاموس - 11: 76 بحيرا (الراهب) ضبط يلفظ المصغر، والصواب: فتح بائه وكسر حائه كما نص عليه المواهب
14: 93 فما هذه الكواكب إلا أفلاكاً: تكرر مثل هذا وهو إعمال ما مع انتقاض النفي بالا، والواجب في هذه الحالة رفع الجزأين - 7: 103 عبيدة بن الجراح. ظاهر أن هذا خطأ(102/72)
مطبعي صوابه: أبو عبيدة، وقد ورد على الصفحة فيما بعد
5: 104 إساف منعه من الصرف، ولا وجه فيما أعلم لذلك، فالواجب كتابته إسافاً - 6: 109 فوقف باهتاً يقول صاحب القاموس: هو مبهوت، لا باهت ولا بهيت
1: 109، 2 لخير له أن يموت مؤمناً. . . على أن يخذله؛ الصواب: من أن يخذله، فإن خيراً هنا أفعل تفضيل وهو إنما يقرن بمن، وقد يكون وجه ما هنا أن يضمن خير معنى مفضّل وهو بعيد - 15: 114 بنو عبد المطلب. صوابه بنو المطلب
15: 115 وإن كان هذا الذي يأتيك رأياً تراه. صوابه: رئيا كما في السير، وقد قال السهبلي الرئي فعيل بمعنى مفعول، ولا يكون إلا من الجن - 20: 121 نعيم بن عبد الله؛ ضبط بفتح النون وصوابه ضم النون، فأنه نعيم النحام وقد ضبطه النووي في التهذيب كما ذكرت - 4: 136 مبيعة. الظاهر ضبطها بفتح الياء على مفعلة وقد ضبطها السهبلي بزنة معيشة
146: شعاب الجبل. الذي في السير أن الاحتماء كان في شعب بني هاشم، والذي يظهر أنه كان محلة في مكة وفي الزرقاني على المواهب أن الشعب كان لهاشم فقسمه عبد المطلب بين بنيه حين ضعف بصره - 12: 147 أبي النجتري. صوابه: أبو النختري، وفي السطر 18 أبي البختري
3: 148 يتصالح وقريشاً، نصب قريشاً على أنه مفعول معه ومثل هذا لا يجيزه النحاة، فالواجب يتصالح هو وقريش
20: 151 تحديق ابنا ربيعة. صوابه: أبني ربيعة
8: 166 عبد الله بن محمد. كأن هذا سبق قلم، والأصل عبد الله بن أبي وهو أبن سلول - 12: 166 إن نبياً مبعوثاً الأظهر مبعوث بالرفع كما في السير، فإن الأخبار ببعثته مقصود
3: 167 وإن غشني. ضبط بفتح الغين والشين المثقلة، والصواب كسر الشين ليكون على زنة ترضى
8: 169 مسلموه وخاذلوه. صوابه مسلميه وخاذليه
(: 22 إنا بيننا. صوابه: إن بيننا - 9: 170 نهكة الأموال. ضبط بالتحريك والذي في القاموس بسكون الهاء وإن كان يجوز فتحها بوجه عام - 1: 176 برده: 1. صوابه ببرده(102/73)
7: 178 فإذا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة. سقط هنا لفظ والأصل: فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما كما في سيرة أبن هشام - 17: 179 فقد أقبل على قريش رجل. قضية هذا أن الأخبار كان لقريش وأن سراقة كان حاضراً بينهم والذي في السير أن ذلك كان في نادي بني مدلج قوم سراقة
20: 180 فيه أن بريدة جاء يحييهما، والذي في الزرقاني نقلاً عن البيهقي أن بريدة جاء طامعاً فيما طمع فيه سراقة فانتهى الأمر بإسلامه - 8: 181 فبلغ نبأهما سعد. الصواب: في الرسم نبؤهما إذ هو فاعل بلغ فهو مرفوع - 19: 196 فخيماً. الذي في المعاجم فخماً - 22: 197 وهذا هو أقوى من هؤلاء. قد يكون الصواب في هذا الأسلوب: وها هو ذا أقوى من هؤلاء
7: 204 مكان حجيجهم. الحجيج جمع الحاج ولا معنى له هنا فالأول مكان حجهم - 214: 4 عمر بن الحضرمي صوابه عمرو - 215: 4 الحكم بن كيثان. صوابه كيسان
4: 218 تهرق الدماء. صوابه تهريق الدماء
3: 221 كشد الجهني: الذي في الإصابة كسد
16: 222 أبا لهب. صوابه أبو لهب - 5: 223 مرثد ابن مرثد. صوابه مرثد بن أبي مرثد - 223: 10 عرق الظبية. ضبط بفتح الظاء وفي القاموس: عرق الظبية بالضم
2: 224 المقداد بن عمر. صوابه عمرو
13: 228 عمراه. الصواب عمراه
7: 241 العاص. صوابه أبو العاص
13: 252 على. صوابه عليّا - 9: 255 أبو كعب. صوابه أبي بن كعب وقد كان من كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام
19: 260 يخمش الناس. الرواية يحمس أو يحمش بالحاء المهملة فيهما وإن تبع المؤلف في ذلك طبعة وستنفلد
8: 278 أبا دجانة. صوابه أبو دجانة - 9: 283 يسار قد يكون صوابه ميسرة وهو غلام خديجة عليها الرضوان
1: 288 ابنتا وزيريه. صوابه ابنتي وزيريه(102/74)
12: 306 النضري. ضبط بسكون الضاد والصواب فتحها إذ هو نسبة إلى النضير - 1: 335 أذن محمد في الناس بالحج. الأولى التعبير في هذا المقام بالعمرة فإن الذي وقع الحرام بالعمرة والعمرة قد تسمى الحج الأصغر ولكن الحج إذا أطلق أنصرف إلى ما يقابلها - 2: 375 هرقلاً. صوابه هرقل لمنعه من الصرف
9: 377 نابت بن أرقم. صوابه أقرم وقد تبع المؤلف نسخة وستنفلد - 12: 386 إذ. صوابه إذا
22: 386 حكيم بن حكيم. صوابه حكيم بن حزام
20: 360 سلام بني مشكم. صوابه سلام بن مشكم
11: 363 بازان. يكتب في الكتب العربية باذام
1: 387 عسكر. صوابه عسكراً - 13: 395 قبيساً. صوابه أبا قبيس - 22: 395 جذيمة. ضبط بصيغة المصغر والصواب فتح الجيم وكسر الذال كما في الزرقاني على المواهب
3: 401 بدأت محمد. صوابه بدأ محمد
22: 408 في العلالة. الرواية اللعاعة. وهي في الأصل نبات ناعم في أول ما ينبت - 410: أسيد والد ضبط مصغراً والصواب ضبطه كأمير - 15: 414 أأتمره. كذا رسم وقد يكون الصواب آتمره على قاعدة الإبدال
5: 424 فيه أن زكاة العشر تدفع من الإبل والأموال وإنما يدفع العشر عن بعض الزروع فأما الإبل فلها مقادير محدودة في الفقه غير العشر - 23: 426 ضبط فيها سلمة بفتح اللام والصواب كسرها وهم بطن من الأنصار
20: 436 عمان. ضبط بتشديد الميم والذي في الجنوب عمان على زنة غراب، فأما عمّان بتشديد الميم فهي بالبلقاء بأطراف الشام - 21: 467 زيد. صوابه أسامة بن زيد كما في السطر قبله وإني أختم كتابتي بإعجابي بالكتاب وتحيتي لمؤلفه العظيم
محمد علي النجار(102/75)
العدد 103 - بتاريخ: 24 - 06 - 1935(/)
بين والد وولده
مثل من الشباب الصالح
عرفت منذ أيام فتى غريض الشباب رقيق الإهاب وضيء الطلمة؛ يتكلم فيشع عقله في معانيه، ويشيع ذكاؤه في مراميه، ويسيل شعوره على ألفاظه؛ وهو لا يتكلم إلا عن العمل، ولا يناقش إلا في الواقع، ولا يرمي إلا إلى غرض؛ طموح النفس فلا يحصر أفقه يأس، ولا يحد غايته مطلب؛ بعيد الهمة فلا يضله شارد الخيال، ولا يغره خادع الأمل؛ رفيع الهوى فلا يشوب غرضه سوء، ولا يفسد طموحه أثره. نبت في أكرم المنابت من إقليم الغربية، فأبوه عميد أسرته، وزعيم بلدته، وسريّ نابه من سراة إقليمه؛ رباه في مهد النعيم، ونشأه في ظلال الغنى، وقلبه في أحضان الترف، فكان خليقاً أن يمسه الغباء وهو داء الغنى، وأن يصبه الخمول وهو بلية الترف، ولكنه لقوة الطبع واستعداد الفطرة شب ذكى الفؤاد إلى درجة الحكمة، مشبوب العزم إلى حد المغامرة؛ يذهب نفسه غالباً إلى الاعتداء الواثق، ويميل بحياته أحياناً إلى الجرأة المؤدبة، وينظر إلى غاية الحياة - وهو لا يزال في بدايتها - نظر الكيّس اللبيب المجرب، فيهاجم السياسيين من ناحية استخفافهم بالخلق، والموظفين من ناحية استهانتهم بالواجب، والفلاحين من حيث اعتمادهم في الإنتاج على القديم الرث، وفي العلاج على القدر والمصادفة. على أنه أمام أبيه - وهو قرة عينه - مثال البر ورمز الطاعة، فلا يفند له رأياً، ولا يعصى له أمراً، ولا يخالف له نصيحة.
تخرج منذ أسبوع في إحدى المدارس العالية، وكان الثاني في ترتيب الناجحين، وإن شئت فقل الأول، لأن الفرق بينه وبين سابقه لا يقدم لضآلته ولا يؤخر، فالوظيفة بحكم أوليته في النجاح ومعونة أسرته بالنفوذ، تنتظر في كل مكان وتطلبه في كل وزارة، ولكنه زارني منذ يومين فوجدته على غير عادته مشغول القلب منقبض الصدر مشترك الخاطر، لا أثر عليه لنشوة الفوز، ولا للذة الراحة، ولا لفرحة المنصب، كأنما هو آخر الدبلوم أو فقير متقدم من غير وسيلة!!
- مالك ساهم الوجه، مكروب النفس يا فهمي؟ هنيئاً لك الدبلوم والأولوية! فقال ولأسى يبين في صوته ولهجته: ليتني لم أنل هذه الدبلوم، ولم أحز خطر هذا السبق؛ فلقد كان في لذة المدارسة، وشهوة المنافسة، وترقب النجاح، وانتظار الحرية، رضىً لنفس الطامحة،(103/1)
وكفاية لقلبي الرغيب. أما الآن فالفراغ يثقل حتى يقتل نفسي، والوقت يطول حتى يمك روحي، والأمل يضيق حتى يظلم حياتي! أريد أن أعمل فيمنعني أبي، لأنه يضن بصحتي على مخاطر الفلاحة، وبراحتي على متاعب الفلاحين، وبسعادتي على هموم المسؤولية
- إذن ماذا يريد لك أبوك؟
- يريد لي الوظيفة! والوظيفة سجن لنفسي الطليقة، وتعطيل لملكاتي الموهوبة، ومحو لمعارفي المكسوبة، وقتل لآمالي الناشئة، وتوجيه لميولي الطبيعية إلى الغرض الذي لا أحب والقصد الذي لا أريد.
إن في مزارعنا الواسعة مجالاً فسيحاً لنشاطي، ومراداً بعيداً لعلمي، ومختبراً صالحاً لتجاربي، ومغرساً كريماً لآمالي فأنا أوثر أن أحمل عبء العمل عن والدي، وأستغل علمي وعملي في تحقيق مقاصدي، فأحافظ بالاستقلال الذاتي على خلقي وحريتي، وأساهم بالعمل المنتج في نفع أمتي وإسعاد أسرتي.
ماذا تجدي عليّ الوظيفة؟ عشرة جنيهات في الشهر؟ لقد كان أبي ينفق عليّ خمسة وعشرين وأنا طالب، فكم جنيهاً ينفقها عليّ وأنا موظف؟ إذن سينفق عليّ أضعاف مرتبي لأخدم غيره، وأفارق بيته، وأظل السنين الطوال موظفاً وضيع المكانة، مسلوب الإرادة، محدود الرزق، خامل الحياة!
إن شهادتي في فن الزراعة؛ والوظيفة الفنية كالوظيفة العلمية لا تصلح طريقاً إلى السلطان، ولا وسيلة للجاه، ولا أداة للثروة؛ إنما الفن مجده في استقلاله، وخيره في حريته. على أن وظائف الحكومة - بعد أن خفضوا أجرها، وأخسّوا قدرها، وحفوا طريقها بالمكارة، وهددوا معاشها بالنقص، وزعزعوا ضمانها بالكيد، ورعوا أمنها بالسياسة - أصبحت مطلباً لقصار الآمال، ومذهباً لصغار النفوس، وملجأً لضعاف الحيلة. فأما الذي يجد في نفسه شعور القدرة، وفي بيته رأس المال، وفي أرضه مكان العمل، ثم يتشوف إلى قيد الوظيفة وذل التبعية، فلا أدري بما أعتذر له أمام النبّل والرجولة؟
فقلت له وأنا موزع النفس بين الإعجاب به والرثاء له والحدب عليه: كلامك هذا يا بني عنوان عقلك وبرهان فضلك ودليل دعواك. وليت شعري ما حجة أبيك الكريم أمام هذا الخلق العظيم والمنطق الواضح! لعله من أولئك الذين يعتقدون أن الولد إذا دخل المدرسة،(103/2)
ثم خرج بالشهادة، ثم لم يوظف، كان ما أنفقه خسارة لا تعوض، وما تعلمه عبثاً لا يفيد فقال: كلا! إن أبي من أرجح الناس عقلاً، وأسدهم رأياً وأعلمهم بمزايا العمل الحر، ولكنها التقاليد الموروثة، والعواطف الغالبة، وسأنتهي آخر الأمر على هواي ومناي إلى رأيه فقلت له إذن دعني على الأقل أنقل عنك هذا الحديث ليكون خطاباً إلى أبيك، ودرساً لإخوانك، وموضوعاً للرسالة!
أحمد حسن الزيات(103/3)
الطائشة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
تتمة
وهذا محصّل رواية (الطائشة) نقلناه من خط الكاتب على مساق ما دونه في أوراقه، وعلى سرده الذي قصّ به الخبر. وقد أعطانا من البرهان ما نطمئن إليه أن هذه. (الطائشة) هي من تأليف الحياة لا من تأليفه، وأنه لم يخترع منها حادثة، ولم يأتفك حديثاً، ولم يزدها بفضيلة، ولم ينقصها بمعرّة؛ وأشهد على قوله كتب صاحبته الأديبة المستهترة التي لا تبالي ما قالت ولا ما قيل فيها. وهذه الكتب رسائل منها الموجز ومنها المستفيض، وهي بجملتها تنزل من الرواية منزلة الشروح المفتنة، وتنزل منها الرواية منزلة اللمع المقتضبة؛ وكل ذلك يشبه بعضه بعضاً، فكل ذلك بعضه شاهد على بعض
قال كاتب (الطائشة):
كنت رجلاً غزلاً ولم أكن فاسقاً، ولست كهؤلاء الشبّان الذين أصيبوا في إيمانهم بالله فأصيبوا بإيمانهم بكل فضيلة، وذهبوا يحققون المدنية فحققوا كل شيء إلا المدنية ترى أحدهم شريفاً يأنف أن يكون لصاً وأن يسمى لصاً، ثم لا يعمل إلا عمل اللص في استلاب العفاف وسرقة الفتيات من تاريخهنّ. وتراه نجداً يستنكف أن يكون في أوصاف قاطع الطريق، ثم لا يأبى إلا أن يقطع الطريق في حياة العذارى وشرف النساء.
أكثر أولئك الشبان المتعلمين يعرضون للفتيات المتعلمات بوجوه مصقولة تحتمل شيئين: الحب والصفع. . . ولكن أكثر هؤلاء المتعلمات يضعن القبلة في مكان الصفعة، إذ كان العلم قد حلل الغريزة التي فيهن فعادت بقايا لا تستمسك، وبصّرهنّ بأشياء تزيد قوة الحياة فيهن خطراً وتوحي إليهنّ وحيها من حيث يشعرن ولا يشعرن، وصوّر في أوهامهم صوراً محل الصور التي كانت في عقائدهن، وأخرجهن من السلب الطبيعي الذي حماهن الله به؛ فلهنّ العفة والحياء ولكن ليس لهنّ ذلك العقل الغريزيّ الذي يجيء به الحياء والعفة، وكثيرات منهن يخشين العار وسمته الإجماعية ولكن خشية فقهاء الحيل الشرعية قد أرصدوا لكل وجه من التحريم وجهاً من التحليل، فأصبح امتناع الإثم هو ألا تكون إليه حاجة. . . .(103/4)
والعقل الذي به التفكير يكون أحياناً غير العقل الذي به العمل؛ ففي بعض الجاهلات يكون العقل الحياء والعفة والشرف والدين ـ غريزة كغرائز الوحش، هي الفكرة وهي العمل جميعاً، وهي أبداً الفكرة والعمل جميعاً لا تتغير ولا تتبدّل ولا يقع فيها التنقيح الشعريّ ولا الفلسفي. . . . وما غريزة الوحش إلا إيمانه بمن خلقه وحشاً؛ وكذلك غريزة الشرف في الأنثى هي عندي حقيقة إيمانها بمن خلقها أنثى.
وشرف المرأة رأس مال للمرأة، ومن ذلك كان له في أوهام العلم اشتراكية بحسبه تنظر فيه نظرها وتزيغ زيغها وتقضي حكمها، وأكثر من عرفت من المتعلمين والمتعلمات قد انتهوا بطبيعتهم العلمية إلى الرضى بهذه الاشتراكية، وإلى التسامح في كثير، وإلى وضع الاعتذار فيما لا يقبل عذراً، ومن هاهنا كان بعض الجاهلات كالحصن المغلق في قمّة الجبل الوعر، وكان بعض المتعلمات دون الحصن، ودون القمّة، ودون الجبل، حتى تنزل إلى السهل فتراهنّ ثمّة.
لقد غفلت الحكومات عن معنى الدين وحقيقته، فلو عرفت لعرفت الإنسانية لا تقوم إلا بالدين والعلم كليهما؛ فإن في الرجل إنساناً عاماً ونوعاً خاصاً مذكراً، وفي المرأة إنسان عام كذلك ونوع خاص مؤنث. والدين وحده هو الذي يصلح النوع بتحقيق الفضيلة وتقرير الغاية الأخلاقية، وهو الذي يحاجز بين الغريزتين وهو الذي يضع القوة الروحية في طبيعة المتعلم؛ فإن كانت طبيعة التعليم قوية كانت الروحية زيادة في القوة، وإن كانت ضعيفة كما هي الحال في هذه المدنية لم تجمع على التعلم ضعفين يبتلي كلاهما الآخر ويزيده.
فلان وفلان تعلّقا فتاتين جاهلة ومتعلمة؛ وكلتاهما قد صدّت صاحبها وامتنعت منه؛ فأما الجاهلة فيقول (فلانها) إنها كالوحش وإن صدودها ليس صدوداً حسب، بل هو ثورة من فضيلتها وإيمانها، فيها المعنى الحربيّ مجاهداّ ومتحفّزاً للقتل. . . .
وأما المتعلمة فيقول (فلانها) إنها ككل امرأة وإن صدودها ثورة ولكن من دلالها ترضى بها أول ما ترضى وآخر ما ترضى كبرياء الجمال فيها لا الإيمان ولا الفضيلة. فكأنها إيحاء للطامع أن يزيد طمعاً أو يزيد احتيالاً
وفلان هذا يقول لي: إن ضعفاء الإيمان من الشبان المتعلمين - وأكثرهم ضعفاء الإيمان - لو حققت أمرهم وبلوت سرائرهم، لتبيّنت أنهم جميعاً لا يرون قلب الفتاة المتعلمة إلا كالدار(103/5)
الخالية كتب عليها: (للإيجار). .
يقول كاتب (الطائشة):
أما أنا فقد صحّ عندي أن سياسة أكثر المتعلمات هي سياسة فتح العين حذراً من الشبّان جميعاً وإغماض العين لواحد فقط. . . .
وهذا الواحد هو البلاء كله على الفتاة فإنها بطبيعتها تتقيد ولا تنفصل إلا مكرهة، وهو بطبيعته قيده لذّته فيتصل وينفصل، غير أنها لا بد لها من هذا الواحد، ففكرها المتعلم يوحي إليها بالحياة لا يجعل في ذلك للتنكير عندها، والحياة نصف معانيها النفسية في الصديق؛ فالأنوثة بغيره مظلمة في حياتها راكدة في طباعها ثقيلة على نفسها ما دام (الشعاع) لا يلمسها. .
والدين يأبى أن يكون ذلك الصديق إلا الزوج في شروطه وعهوده كيلا تتقيد المرأة إلا بمن يتقيد بها، والعلم لا يأبى أن يكون الصديق هو الحب؛ والفن يوجب أن يكون هو الحب، وليس في الحب شروط ولا عهود إلا وسائل تختلق لوقتها وأكثرها من الكذب والنفاق والخديعة. ولفظ الحب نفسه لصّ لغويّ خبيث يسرق المعاني التي ليست له وينفق مما يسرق. وليس من امرأة يخادعها عاشق إلا انكشف لها حبه كما ينكشف اللص.
يقول كاتب (الطائشة):
تلك فلسفة لا بد منها في التوطئة للكتابة عن (عزيزتي رغم أنفي). ومن كانت مثلها في أفكارها واستدلالها وحججها وطريقتها ـ كان خليقاً بمن يكتب قصتها أن يجعل القصة من أولها مسلحة. .
لقد تكارهت على بعض ما أرادت مني ما دام الحب (رغم أنفي)، وما دامت السياسة أن أداريها وأتبع محبتها؛ غير إني صارحتها بكلمة شمسية تلمع تحت الشمس؛ إنها الصداقة لا الحب، وإنما هو اللهو البريء لا غيره، وأن ذلك جهد ما أنا قويّ عليه وفيّ به. قالت: فليكن، ولكن صداقة أعلى قليلاً من الصداقة. . . ولو من هذا الحب المتكبر الذي لا يصدق كيلا يكذب. . . إن هذا النوع من الحب يطيش بعقل المرأة ولكنه هو أول ما يستهيمها ويعجبها ويورثها التياع الحنين.
كتبت لي: أنا لا أتألم في هواك بالألم، ولكن بأشياء منك أقلها الألم، ولا أحزن بالحزن،(103/6)
ولكن بهموم بعضها الحزن، إنك صنعت لي بكاءً ودموعاً وتنهدات، وجعلت لي ظلاماً منك ونوراً منك، يا نهاري وليلي. ترى ما أسم هذا النوع من الصداقة؟
اسمه الحب؟ لا
اسمه الكبرياء؟ لا
اسمه الحنان؟ لا
اسمه حبك أنت، أنت أيها الغامض المتقلب. ألا ترى ألفاظي تبكي، ألا تسمع قلبي يصرخ، بأيّ عدل لك أو بأيّ عدل للناس تريد أن أحيا في عالم شمسه باردة. . . هذا قتل، هذا قتل
فكتبت إليها: إن لم يكن هذا جنوناً إنه لقريب منه
فردّت على هذه الرسالة:
أتكاتبني بأسلوب التلغراف. . . لو أهديت أليّ عقداً من الزمرد حبّاته بعدد من الكلمات لكنت بخيلاً، فكيف وهي ألفاظه؟ إني لأبكي في غمضة واحدة بدموع أكثر عدداً من كلماتك، وهي دموع من آلامي وأحزاني؛ وتلك ألفاظ من لهوك وعبثك.
ما كان ضرّك لو كتبت لي بضعة أسطر من تلغرافات روتر. . . ما دمت تسخر مني أأنت الشباب وأنا الكهولة، فليس لك بالطبيعة إلا الانصراف عني، وليس لي بالطبيعة إلا الحنين إليك؟
لا أدري كيف أحببتها ولا كيف دعتني إليها نفسي، ولكن الذي أعلمه أني تخادعت لها وقلت أن المستحيل هو منع هذا الشر، والممكن هو تخفيفه؛ ثم أقبلت أرثى لها، وأخفف عنها، وأقبلت هي تضاعف لي مكرها وخديعتها، وكان الأمر بيننا كما قالت: في الحب والحرب لا يكون الهجوم هجوماً وفيه رفق أو تراجع.
إن المرأة وحدها هي التي تعرف كيف تقاتل بالصبر والأناة؛ ولا يشبهها في ذلك إلا دهاة المستبدّين
سألتني أن أهدي إليها رسمي؛ فاعتللت عليها بأن قلت لها: إن هذا الرسم سيكون تحت عينيك أنت رسم حبيب، ولكنه تحت الأعين الأخرى سيكون رسم متهم وظننتني أبلغت في الحجة وقطعتها عني؛ فجاءتني من الغد بالبرد المفحم، جاءتني بإحدى صديقاتها لتظهر في الرسم إلى جانبي كأنني من ذوي قرابتها. . . فيكون الرسم رسم صديقتها، ويكون مهدى(103/7)
منها لا مني، وكأنني فيه حاشية جاءت من عمة أو خالة. . . .
وأصررت على الإباء، ونافرتني القول في ذلك، تردّ عليّ وأردّ عليها، وتغاضبنا وانكسرت حزناً وذهبت باكية؛ ثم تسببت إلى رضاي فرضيت.
حدّثتني أن صديقتها فلانة استطاعت أن تستزير صاحبها فلاناً في مخدعها في دارها بين أهلها منتصف الليل؛ قلت وكيف كان ذلك؟
قالت إنها تحمل شهادة. . . وهي تلتمس عملاً وقد طال عليها؛ فزعمت لذويها أنها عثرت في كتاب كذا رقية من رقي السحر، فتريد أن تتعاطى تجربتها بعد نصف الليل إذا محق القمر؛ وأنها ستطلق البخور وتبقى تحت ضبابته إلى الفجر تهمهم بالأسماء والكلمات، ثم إنها اتّعدت وصاحبها ليوم وأجافت باب دارها ولم تغلقه، وأطلقت البخور في مجمر كبير أثار عاصفة من الدخان المعطّر وجعل مخدعها كمخدع عروس من ملكات التاريخ القديم، وبقي صاحبها تحت الضبابة يهمهم وتهمهم. . ثم خرج في أغباش السحر.
هكذا قالت؛ وما أدري أهو خبر عن تلك الصديقة وفلانها أم هو اقتراح عليّ أنا من (فلانة) لأكون لها عفريت الضبابة. . .؟
لم يخف عليها لذعة حبها وقعت في قلبي، وأن صبرها قد غلب كبريائي، وأن كثرة التلاقي بين رجل وامرأة يطمع أحدهما في الآخرـ لا بد أن ينقل روايتهما إلى فصلها الثاني، ويجعل في التأليف شيئاً منتظراً بطبيعة السياق. . . وإلحاح امرأة على رجل قد خلها وجفا عن صلتها، إنما هو تعرضها للتعقيد الذي في طبيعته الإنسانية. فإن هي صابرته وأمعنت فقلّما يدعها هذا التعقيد من حلّ لمعضلتها. وبمثل هذه العجيبة كان تعقيداً وكان غير مفهوم ولا واضح، وقد ينقلب فيه أشد البغض إلى أشد الحب وقد تعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر. وكذلك يقع للرجل إذا أحب المرأة فنبت عن مودته فعرض للتعقيد الذي في طبيعتها وأمعن وثبت.
رأت الجمرة الأولى في قلبي فأضمرت فيه الثانية حين جاءتني اليوم بكتاب زعمت أن فلاناً أرسله إليها يطارحها الهوى ويبثها له الحنين والتياع الحب، ويقول لها في هذا الكتاب: أنا لم أشرب خمراً قط ولكني لا أراني أنظر إلى مفاتنك ومحاسنك إلا وفي عينيّ الخمر، وفي عقلي السّكر، وفي قلبي العربدة. جعلت لي نظرة سكّير فيها نسيان الدنيا وما(103/8)
في الدنيا ما عدا الزجاجة. . . ويختمه بهذه العبارة:
آه لو استطعت أن أجعل كلامي في نفسك ناعماً، ساحراً، مسكراً، مثل كلام الشفة للشفة حين تقبلّها. . .
عند هذا وقع الشيء المنتظر في الفصل الثاني من الرواية، وختم هذا الفصل بأول قبلة على شفتي (الممثلة).
قالت: هذه القبلة كانت (غلطة مطبعية) ومضت تسميها كذلك واستمرت الطبعة تغلط. . . وما علمت إلا من بعد أن ذلك الكتاب الذي استوقدت به غيرتي، إنما كان من عملها ومكرها.
وجاءتني اليوم بآبدة من أوابدها، قالت:
أنت رجعي محافظ على التقاليد، قلت لأني أرى هذه التقاليد كالصباح الذي يتكرر كل يوم وهو في كل يوم ضياء ونور
قالت: أو كالمساء الذي يتكرر وهو في كل يوم ظلام وسواد
قلت: ليس هذا إليّ ولا إليك، بل الحكم فيه للنفع أو الضرر
قالت: بل هو إلى الحياة، والحياة اليوم علمية أوربية، والزمن حثيث في تقدمه، وأصحاب (التقاليد) جامدون في موضعهم قد فاتهم الزمن، ولذلك يسمونهم (متأخرين). أما علمت أن الفضيلة قد أصبحت في أوربا زياً قديماً فأخذ المقص يعمل في تهذيبها، يقطع من هنا ويشق من هنا. .
أسمع أيها (المتأخر) وتأمل هذا الرهان الأوربي العصري أخبرتني صديقتي فلانة حاملة شهادة. . . أنها كانت في القطار بين الإسكندرية والقاهرة وكانت معها فتاة من جيرتها تحمل الشهادة الابتدائية؛ فجمعهما السفر بشاب وسيم ظريف يشارك في الأدب، غير أنه رجعيّ (متأخر). وصديقتي تعرف من كل شيء شيئاً، وتأخذ من كل فن بطرف؛ فجرى الحديث بينهما مجراه، وتركت الصديقة نفسها لدواعيها وانطلقت على سجيّتها الظريفة، ووضعت فن لسانها في الكلام فجعلت فيه روح التقبيل، ولم تبلغ إلى القاهرة حتى كانت قد سحرت ذلك (المتأخر) ووقعت من نفسه ودفعته إلى الزمن الذي هو فيه. فلما همت بوداعه سألهما: أين تذهبان؟(103/9)
فأغضت صاحبة الشهادة الابتدائية، وأطرقت حياء ورأت في السؤال تهمة وريبة، فأنّبتها الصديقة وأيقظتها من حيائها، وقالت لها: ألا تزالين شرقية متأخرة. إن لم يسعدنا الحظ أن تكون لنا حرية المرأة الأوربية في المجتمع وفي أنفسنا؛ أفلا يسعنا أن تكون لنا هذه الحرية ولو في أنفسنا؟
ثمّ ردّت على الشاب فأنبأته بمكانها وعنوانها، فأطمعه ردّها فسألها أن تتنزه معه في بعض الحدائق، فأبت صاحبته الابتدائية ولجت عمايتها الشرقية المتأخرة، ورأت في ذلك مسقطة لها، فلوت إلى دارها وتركتهما إنساناً وإنساناً لا فتى وفتاة، وتنزّها معاً، وعرف الشاب الرجعيّ الحب والخمر التي هي تحية الحب
ولم تستطع الفتاة الماكرة أن ترجع إلى دارها وهي سكرى فأوت إلى فندق، وختمت روايتها بأعراض من الشاب أجابت هي عليه بقولها: ألا زلت (متأخراً). . . . .؟
قالت (الطائشة):
نعم يا عزيزي (المتأخر) إن مذهب المرأة الحرة. . . في الفرق بين الزوج وغير الزوج، أن الأول رجل ثابت، والآخر رجل طارئ. والثابت ثابت معها بحقه هو؛ والطارئ طارئ عليها بحقها هي. . . . فإن كانت حرة فلها حقها. . .
قال كاتب الطائشة: وهنا كاد الشيطان يرفع الستار عن فصل ثالث في هذه الرواية، رواية (الطائشة). . .
نقول نحن: وإلى هنا ينتهي نصف الرواية؛ أما النصف الآخر فيكاد يكون قصة أخرى أسمها: (الطائش والطائشة).
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(103/10)
كيمياء الأفكار والعواطف
للأستاذ أحمد أمين
كان القدماء يفهمون من (الكيمياء) الإكسير المنشود، الذي إذا عثر عليه وأضيف إلى الزئبق أو الفضة بكمية محدودة، تحت حرارة معينة، انقلب الزئبق أو الفضة ذهباً إبريزاً، وليس يعنينا هنا أن نبين ما أنفق الناس من جهد في الوصول إليه، ولا ما أنفقوا من مال وزمان في سبيل العثور عليه، ولا ما ملئت به كتب الفلسفة الإسلامية من جدل في إمكان ذلك أو إستحالته، إنما يعنينا هنا أن نقول إن العلماء والأدباء نقلوا استعمال هذه الكلمة إلى المعاني بعد أن كانت قاصرة على المادة، فسمى (الغزالي) كتاباً من كتبه (كيمياء السعادة) يعني بذلك الإكسير الروحي الذي إذا عثر عليه الإنسان حظي بسعادة، وقد استعملها ابن الرومي استعمالاً ظريفاً في معنى قريب من هذا، فقال يهجو أبا الصّقر
عَجبَ الناس ' مِنْ أبي الصّقْ ... رِ إذولّي - بعد الإجارة - الديوانا
إنّ للجَدّ كيمياَء إذا مَا ... مَسّ كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء ' كما شا ... ء متى شاء كائناً ما كانا
ثم سار الزمن الذي يغير كل شيء، فغيّر - فيما غيره - مدلول كلمة (الكيمياء) وجعله قسيماً للطبيعة، فكما أن الطبيعة اختصت بالظواهر التي تغير صفات الأشياء ولا تغير جوهرها، اختصت الكيمياء بدراسة الظواهر التي تغير جوهر الأشياء، فاتسع مدلولها، وصار آخر ما تفكر فيه تحويل المعادن إلى ذهب إن كانت تفكر فيه، والذي أريد أن ألفت إليه النظر في مقالي أن هناك كيمياء في الأفكار والعواطف تشبه تلك التي في المادة، إلا أنها أعقد منها، وأصعب حلاً، وأغمض اكتشافاً - وإلى الآن لم توضع كتب - على ما أعلم - في كيمياء المعاني على كثرة ما وضع في كيمياء المادة - وإن كانت كتب علم النفس أحياناً تمس هذا الموضوع مسّاً رفيقاً.
فلكيمياء الأفكار والعواطف فصول وأبواب لا عداد لها، قد ينطبق عليها في كثير من الأحيان فصول الكيمياء المادية وأبوابها، ففي كيمياء المعاني ترشيح وتبخير وذوبان كالتي في كيمياء المادة، وفيها تبلور وتقطير، وفيها عناصر ومركبات ومخاليط، وفيها أحماض وأملاح وقواعد، وفيها جزيئات وذرات لها أوزان وكثافات - ولها رموز وقوانين أدق من(103/11)
رموز الكيمياء المادية وقوانينها، ولها معادلات أصعب حلاً وابعد منالاً
هل علمت - مثلا - أن الماء يتكون من غاز الأوكسجين والأيدروجين بنسبة واحد من الأول واثنين من الثاني باعتبار الحجم - فكذلك الشأن في الأفكار والعواطف، فقد يكون لديك فكرة من نوع ما، أو عاطفة من نوع ما، ثم تسمع فكرة من محدث أو تقرأ فكرة في كتاب، وتكون فكرتك من وزن خاص، والفكرة التي سمعتها أو قرأتها من وزن آخر، فتتحد هاتان الفكرتان، وتتولد منها فكرة جديد لا هي من النوع الأول وحده، ولا من النوع الثاني وحده، بل هي نوع خاص، علاقته بالفكرتين كعلاقة الماء بالأوكسجين والأيدروجين
وهل علمت أنك إذا ملأت قارورة ثلثها بالأوكسجين وثلثيها بالهيدروجين ثم قربت فوهتها من لهب تسمع لذلك دوياً هائلاً؟ كذلك الشأن في العواطف، فقد يكون لديك عاطفة من نوع خاص، ثم تسمع خطبة من نوع يناسبها فتنفجر نفسك لهذا الاتحاد انفجاراً هائلاً، وتحس ناراً تملأ نفسك، وتذكى حسك - أو ليس الغضب يحمر وجه صاحبه وتنقدح عيناه، ويجعله يقذف بالكلمات الحادة العنيفة، ولا تهدأ ثائرته حتى ينتقم - ضرباً من ضروب هذا التفاعل الذي يشبه تفاعل الغازين؟ أو ليست الحماسة تدفع الجندي ليرمي بنفسه في خط المار، ولا يقيم للحياة وزناً، أثراً من آثار ما يسمع من كلمات القائد وما يشعر من جو وبيئة؟ أو ليس الحب يذيب النفس، ويرهف الحس، ويملأ القلب أسى حيناً، وفرحاً وغبطة حيناً إلا نوعاً من هذا التفاعل دونه التفاعل المادي، والاتحاد الكيماوي؟
وكل ما تدرك من فرق بين التفاعل المادي والتفاعل الروحي أنا استطعنا أن نخضع المادة لبساطتها فنحلل أجزائها بالكهرباء أو ما أشبهها ونقيس مقدار العنصرين أو العناصر المتحدة، ونعرف مقدار كل منها، ونرصد أثر التفاعل. أما في الأفكار والعواطف فليس الأمر بهذه السهولة، فلكل إنسان آراءه وعواطفه وهي تختلف فيما بينها كل الاختلاف، في جوهرها، وفي قابليتها لأفكار الآخرين وعواطفهم، فقد نلقي الكلمة على عدد محدود من الناس فنشعر بأن أثرها عند كل إنسان يخالف أثرها عند الباقين، كضوء النهار يفتح أعيننا ويغمض عين الخفاش، وقد يقرأ أحد كتاباً فيزعم أنه غيّر مجرى حياته، وقلّب تفكيره رأساً على عقب، وألهمه من المعاني ما استحال بها إنساناً آخر، وأحدث في نفسه ثورة فكرية لم يحدثها أي كتاب غيره، ويقرؤه إنسان آخر فلا يشعر هذا الشعور ولا قريباً منه ولا يحس(103/12)
له ميزة ولا يجد له طعماً، وهذا بعينه ما يحدث في الأجسام، تقرب عود ثقاب مشتعل من ورق فيشتعل، وتقربه من ثلج فيذوب، وتقربه من رخام فلا يشتعل ولا يذوب، وأؤكد لك أن الرواية تعرض في السينما أو تمثل في المسرح على عدد كبير من الناس تؤثر في كل راء بمقدار لا يتفق تماماً وأثر الباقين، وأن تأثر المشاهدين متعدد بتعدد رؤوسهم. ذلك [ان الرواية وإن كانت واحدة وممثلوها متحدين فإن هناك عاملاً آخر من عوامل الوزن مختلفاً كل الاختلاف، وهو عواطف الرائي وآراؤه، وأن نتيجة التفاعل تختلف دائماً باختلاف أحد الممزوجين المتفاعلين.
إن أردت التوسع في تطبيق هذه النظرية وجدت القول ذا سعة، فالبائع الناجح في المتجر ليس هو الذي يكثر الكلام أو يقل الكلام، وليس هو الخفيف الحركة، ولا هو المهندم الثياب، وإنما هو الذي يعرف شيئاً واحداً ويتقنه وهو (قانون التفاعل) ينظر إلى المشتري نظرة نافذة فيعلم نفسه، ويعلم نواحيها، ويعرف المواضع الحساسة منه، ويعرف في مهارة نقط التأثر عنده، ومقدار الأثر، ثم يستعمل في هذا العرض والكلام وما يتفق وما درسه من نفس المشتري، وإذا بما يصدر من البائع منسب لنفس المشتري ومنفعل معها على نحو خاص، وإذا الصفقة قد تمت في سهولة ويسر، على حين إن زميله ومن بجواره لا يبيع مثل بيعه لأنه يخطأ في فهم نفسية المشتري فيتفاعل تصرفه تفاعلاً عكسياً مع نفسية المشتري، فينتج من ذلك نوع من الغضب أو نوع من الكراهية أو نوع من الغضاضة ينتهي عادة بالأعراض عن الشراء، فإن سألت كيف جهل هذا وعلم ذاك، وأين درس أحدهما ولم يدرس الآخر فنجح الدارس وفشل الجاهل؟ قلت إن هذا الدرس لا يتعلم في المدرسة وإنما يتعلم في السوق، ويتعلمه من حسن استعداده الفطري وغريزته الطبيعية، بل إن شئت طبقة هذه النظرية على كل ناجح وفاشل في الحياة، فالمدرس الناجح من استطاع أن يتعرف نواحي تلاميذه ويعرف ما يلقى وما لا يلقى، وما يقال وما لا يقال، ويصدر منه ما يتفاعل وهذه النفوس، فيصدر من ذلك التفاعل عطف وحنان وحب، ورغبة في المعلم، ورغبة في علمه، ورغبة في ما يقول، وتأثر بما يشير إليه.
وما الأسرة السعيدة؟ وما الأسرة الشقية؟ أليست السعيدة من عرفت فيها الزوجة نفسية زوجها والزوج نفسية زوجته وعمل كل منهما على أن يصدر منه ما يتفاعل ونفس الآخر(103/13)
حتى ينتج هذا التفاعل تآلفاً، فإذا انحرف أحدهما عن هذا الوجه عن جهل أو عن علم ساء البيت ونشأ تفاعل من جنس آخر نتج عن البغض والكراهية والشقاق. الحق إن هذه كلها معادلات في الكيمياء النفسية تشبه تمام الشبه المعادلات الكيماوية التي تجرب في المعمل، ومع الأسف لم يصل الناس إلى حد بعيد في دراسة هذه الكيمياء النفسية ولم ينشئوا لها المعامل الناجحة نجاح المعامل للكيمياء المادية، والخطأ في النفس كثير الوقوع لصعوبة تعرف الذرّات النفسية وتكوين المعادلات الدقيقة. وإذا أدرك الإنسان هذا التفاعل واختلافه ودقته أدرك خطورته، وخاصة فيمن يتصل مركزه بنفوس كثيرين كالصحفي والأديب، والمعلم والخطيب، والزعيم، فقد يصدر عنه ما ينفعل ونفوس الناس فيكون سماً ناقعاً، وقد ينتج عنه ما يكون دواء ناجعاً.
أحمد أمين(103/14)
2 - النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزّام
ويقول آخرون أن الترك احتفظوا بالخلافة ما استطاعت قوتهم، ووسعت ثروتهم. فلما نكبتهم الأحداث بما نكبتهم، وضاقت رقعة دولتهم، عجزوا عن الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، والتمسك بهذه الأمانة العظيمة فتركوها كارهين.
وجوابنا أن بعض زعماء الترك أشاروا بأن يدعى المسلمون إلى مؤتمر عام ويقال لهم هاكم خلافتكم قد عجزنا عن حملها، فتشاوروا بينكم، وتبينوا أمركم، وسنّوا للخلافة سنة تلائم زمانكم، وتؤاتي أحوالكم. واتفق رجال الحكومة التركية على هذا وأعلموا به عصمت باشا وهو في لوزان. فلماذا نقض أولو الحول منهم ما أبرموه، وسارعوا فنفضوا أيديهم من المسلمين وخلافتهم وآذنوهم أن لا أخوة بيننا وبينكم؟
المسلمون والتقليد
إذا نقدت أمة أمورها، ونظرت في أحوالها، فنفذت إلى بواطنها جهد النظر الثاقب، والروية والفكر، ثم هداها نظرها إلى أن تستبدل سنة بسنة، وحالاً بحال، فتلك أمة رشيدة حميدة وإن أخطأتا الصواب - وقل أن يخطئها - لأنها بذلت جهد الإنسان في تبين الحق، واجتهدت وسعها في إيثار الرشد، ولم تأل في التريث والتمحيص والنقد المتثبت والنظر الصحيح
وإذا أخذت أمة بأسباب التقليد، وأغرمت بالمحاكاة، كلما لاح لها لألاء من أمة عشت إليه، وكلما سمعت نغمة قوم هامت بها، فتلك أمة ضالة وإن نقلت عن غيرها هدى، مخطئة وإن أخذت عن غيرها صواباً. ذلكم بأنها حقرت عقولها، وأغمضت عيونها، وأسلمت إلى يد غيرها أزمّتها؛ لم تنظر لنفسها فتأخذ وتدع ولم تختر بعقلها فتستحسن وتستقبح، بل خبطت خبط عشواء، وانطلقت كالحاطب في الظلماء. هي في ذلك قد أهدرت إنسانيتها بما ألغت إرادتها واختيارها. وإن استمسكت في ظاهرها بما أخذت من نظام، واعتصمت قي رأي العين بما نسخت عن غيرها من سنن، فذلكم ظاهر ليس وراءه باطن، ورواء ليس وراءه حقيقة. تلكم أمة ممسوخة. وقد سمعنا إن أمماً مسخت فأنكرنا، وقيل إنها مسخت قروداً فعجبنا، ثم رأينا عمل بعض الناس في هذا العصر فصدّقنا(103/15)
قد ابتلى كثير من المسلمين في هذا العصر بداء التقليد، وفشا فيهم خلق العبيد، وحرموا النظرة النقّادة، والعزيمة النفّإذة، والهمّة الخلاقة. رأوا سلاحهم أضعف من سلاح أوربا، وعلمهم أقل، ونظامهم أوهن، فجعلوا ذلك تعلّة إلى نبذ ما عندهم من خلق ودين وحضارة لتتحلل النفس من تكاليف الإنسانية، وتنطلق في بحبوحة هذه المدنية. وزيّن لهم الهوى أن يقيسوا الدين والأخلاق على العلوم والصناعات، فمضوا يرون كل شيء عندهم باطلاً، وكل شيء في أوربا حقاً، فاستحسنوا أن ينبذوا كل ما عندهم ويأخذوا كل ما عند الأوربيين، وخافوا أن يؤخذ عليهم الاستمساك بدينهم وأخلاقهم، فتنافسوا في هجرها وتحقيرها، فما يحافظون على رأي أو خلق إلا أن تأتيهم شهادة عليه من عالم أو كاتب أوربي، بل هم مدينون لأهل أوربا بما عندهم من ظن حسن في حضارة الإسلام وتاريخه، ومن زيّن منهم داره بفرش عربية فإنما يسميها (أربسكا) ويحاكي فيها أهل أوربا وهلم جرا، حتى الأزهريون وهم أبعد الناس عن أوربا آثروا أن يسموا الجامع الأزهر جامعة ليترجموا كلمة وسمّوا كل قسم من أقسامه كلية ليوافقوا كلمة
وكم قلت وقال غيري أن المدنية الخلقية والدينية ليست كالمدنية الصناعية، فالصناعات قائمة على علوم طبيعية لا تختلف فيها الأمم، ولا يمتاز فيها الشرق من الغرب؛ ليست مشتقة من نفس الإنسان، ولا صلة لها بقلبه، فتستطيع أمة أن تأخذ عن غيرها علوم الطبيعة والكيمياء والحساب والفلك ونتائج هذه العلوم في الصناعات دون أن تغير دينها أو تبدل أخلاقها؛ ويستطيع زنجي من السنغال أن يذهب إلى فرنسا فيتعلم الطيران أو يدخل في زمرة الجند فيصير عما قليل في البصر بآلات الطائرات، والدربة على نظام الجيش كالفرنسي، ولكنه لا يستطيع أن يغير أخلاقه وعاداته ويكون فرنسياً في خمسين سنة؛ والحضارة النفسية هي الإنسانية حقاً، والمدنية في صميمها وهي مشتقة من نفوس الأمة تفسد بفسادها وتصلح بصلاحها ذلكم ما ينبغي أن نفكر فيه، ونتوفر على درسه، فإن الأمم لا تصلح على الفوضى، ولا تسيّر بالأهواء والشهوات؛ ذلكم ما يجب أن يعنى به أولو الرأي من المسلمين ليأخذوا بحجز أممهم أن تتهافت في هذا التقليد، وتتردّى في هذه المهالك؛ ذلكم ما يجب أن ينهض به الشعراء والكتّاب، ليضروا في النفوس الذليلة عزة تمنعها المحاكاة العمياء، وكرامة تعصمها أن تسير كالعجماء. من لي في المسلمين بعشرين(103/16)
رجلاً من كبار النفوس عظماء الهمم، البصيرين بالمدنية الحاضرة، ظاهرها وباطنها، العالمين بحضارة الإسلام جليّها وخفيها، العارفين بأدواء الأمم وأدويتها، لينيروا الطريق في هذه الضلالات المظلمة، والفتن المدلهمة؟ من لي فيهم بعشرين رجلاً كهذا العالم الكبير والشاعر المبدع الذي تنفخ أنفاسه الروح في الأجسام الهامدة، والأمل في القلوب اليائسة، الرجل المبارك محمد إقبال الذي انبعث صوته في الشرق بالحياة والهدى والعزة والكرامة، والطموح إلى العلياء، والسمو بالنفس إلى أعلى درجاتها، تلك النفس الكريمة التي تسيل في شعرها حسرات، وتتطاير في كلماتها زفرات، فما تزال تقدح قلبها لتبعث شرارة بعد أخرى تنير الطريق الحالكة، وتشعل النفوس الخامدة، ذلك الرجل الحر الذي وقف من حضارة أوربا وفلسفتها موقف الناقد البصير، يكشف عن زيوفها ويبين عن بهرجها
كم رأينا فينا علماء وأدباء وشعراء ومتفلسفين، ولكن أكثرهم لا يفكرون ولا ينطقون إلا بما سمعوا وما قرءوا، وهم لا يسمعون ولا يقرأون إلا عن أوربا. ليس فيهم رجل حر يفجر في قلبه من الحياة ينبوعاً، أو يضرم فيه من الغيرة ناراً، ليلقي على كل قلب نضحة من هذا الماء، وفي كل نفس جذوة من هذه النار، إيه يا ضلال التقليد! وعبّاد الأصنام في القرن العشرين!
إن عند المسلمين كنوزاً سفت عليها أعاصير الزمان فترت هممهم، وانطفأت نار الغيرة في نفوسهم، فآثروا الدعة حتى يأتي أهل أوربا يدلونهم عليها ويستخرجونها لهم! وإن عندهم لنفائس تنادي هممهم وعزائمهم، ولكنهم يؤثرون أن يتلقوا عن أوربا أشياء مهيأة في علب مذهّبة! ومن ركن إلى الدعة ذلّ، ومن آثر اليسير من الأمور وأشفق من لقاء المصاعب فهو حيّ أشبه بميت؛ وإليكم مثلاً من مئات:
لنا شريعة جاء بها القرآن والسنة وعملت فيها قرائح المسلمين بحثاً واستنباطاً ثلاثة عشر قرناً. فما بقيت واقعة إنسانية إلا اشتق لها حكم يلائم الزمان والمكان، فصارت هذه الشريعة جماع تجارب الأمم في عصور مختلفة وبلاد كثيرة. فلما أراد المصريّون أن ينظموا القضاء عجزوا عن النظر في هذه الكنوز المدخرة، وأشفقوا من الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، فأجلسوا نفراً يترجمون لهم قانون نابليون، فتهيأ لنا قانون مختصر مرتب مفصل، وأصبحنا نجاري فرنسا في نظامها، فقد طوينا مسألة القرون في أشهر قليلة. وماذا علينا(103/17)
بعد ذلك أن يكون هذا القانون في دين الأمة نكراً، وفي أخلاقها شذوذاً، وفي أفكارها أعجوبة، وفي جسمها شللاً، وفي نفسها موتاً؟ لا ضير فقد أخذنا قانون نابليون وناهيك بذلك فخراً وتمدناً. . .
لو أن في المسلمين أناسّ يستوحون عقولهم ويستفتون قلوبهم لخلقوا لأنفسهم نظاماً، وشرعوا لأنفسهم من دينهم قانوناً، لو أنهم أصحاب همم لسلطوا هممهم على الزمان فأسرته، ثم صرفته طوع المشيئة، ورهن الإرادة، ولما لبثوا يتعللون بالعصر ومقتضياته والزمان وفرائضه، فإن الرجل الحر سيد الزمان والمكان يسخرهما ولا يذل لهما. أين العزائم التي تلقي الزمان بملء خطوبه هيبة، وترد أحداثه بأشد منها صولة؟ آمين ثم آمين. . .
ومما أخذ فيه المسلمون بتقليد أوربا غلوهم في النعرات القومية، والتكاثر بالمفاخر التاريخية، واعتزاز كل فريق بمآثره الجاهلية، كأنهم لم يكونوا على الأحداث أعواناً، ولم يلبثوا أربعة عشر قرناً إخواناً!! قيل للمصريين: أنتم أبناء الفراعين فارجعوا إلى حضارة المصريين القدماء، واعبدوا العجل لتكونوا بذلك شهداء. وقيل لأهل الشام: وأنتم يا بني الفينيقيين تمسكوا بتاريخ الأقدمين، وائتوا بآبائكم إن كنتم صادقين! وقيل للفرس: يا بني الأكاسرة لقد فتح العرب بلادكم، وأزالوا ملككم، وفرضوا دينهم عليكم فانقضوا أيديكم من أخونهم، وردّوا إليهم دينهم، وارجعوا إلى زردشت وإن لم تعرفوه، واقرءوا كتابه وإن لم تفهموه، فالباطل الإيراني خير من الحق العربي! وقيل للترك! وأنتم يا سلالة جنكيز المقدس، وعبدة الذئب الأطلس، قد كانت لكم في سيبريه حضارة، ثم كانت لكم في قره قروم دولة، فارتدوا إلى حضارتكم الأولى، وانزعوا إلى وثنياتكم القدامى، ودعوا مجدكم في الإسلام، واكفروا بمآثره عليكم، ومآثر آبائكم في تاريخه
دعيت كل أمة إلى جاهليتها، فذهب المسلمون ينبشون القبور ليعتزوا بحجر قديم وعظم رميم، ويفخروا بعلامة من حضارة، أو آثارة من مدنية، وغفلوا عن مجدهم في الإسلام يرجف به المشرق والمغرب، وتضيء به الشمس والقمر. وليس أمة إسلامية ذات مجد في الجاهلية إلا مجدها في الإسلام أبهى وأبهر، وأعلى وأعظم، ولكنها عصبيات الجاهلية، والفتن الأوربية، تركس الإنسان في بهيميّته، وتردّه إلى وحشيته(103/18)
بينما يجهد عقلاء المسلمون لإيقاظهم من رقدتهم، ويحرقون أنفسهم لإشعال الحياة فيهم، إذا (النهضة التركية الأخيرة) فقلنا حياة في المسلمين جديدة، ويقظة لا تلبث أن تصير شاملة. قلنا أولئك إخواننا زعماء المسلمين ينفخون في الصور، ليبعثوهم من القبور؛ لعل هذه النفوس الكبيرة تخلق أمة جديدة، أو تخترع لنا سنّة رشيدة، تصل عزة الماضي بمجد المستقبل وتذهب بذل الحاضر؛ إن يخلقوا فالرجل الحر خلاق، وإن يسبقوا فالكريم إلى المعالي سباق - لا ريب إننا سنرى فيهم عمر بن الخطاب، وهارون الرشيد، وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي، وسليمان القانوني، ولكن في القرن العشرين يفتحون صدورهم لعلومه، ويتوسلون بوسائله إلى الغايات الشريفة والمثل العليا التي سعى إليها المسلمون من قبل. ثم نظرنا فإذا نفخة الصور، لا تدعوا إلى النشور، وإذا الهمم العالية تسف، والعزائم الماضية تهن، وإذا حياة تجفل من نفسها وتعتز بغيرها، وإذا نهضة من المحاكاة عليلة، وخطة من التقليد ذليلة، قصاراها: (اقطع كل من يربطك بالإسلام وأممه، وأحكم كل ما يصلك بأوربا وسننها) فانظر ماذا صنعوا إنفاذاً لهذه الخطة:
(له بقية)
عبد الوهاب عزام(103/19)
1 - شمس الدين السخاوي
حياته وتراثه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أتيحت لي في الأعوام الأخيرة فرصة لدراسة شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي
أريد بتلك الشخصية، شمس الدين السخاوي الذي تملأ شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن
كان السخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين؛ وكان ظهوره في النصف الأخير من هذا القرن، حينما أخذت عوامل الانحلال تفت في هذا الصرح الباذخ الذي شادته دول السلاطين بمصر، وأخذت الحركة الأدبية التي كانت في النصف الأول من القرن التاسع في أوج عنفها وازدهارها، تميل إلى الضعف والسقم، وتستبدل ألوانها القوية الساطعة بألوان سطحية باهتة؛ فكان ظهور السخاوي وتلميذه ومنافسه السيوطي في أواخر هذا القرن نفثة أخيرة من نفثات هذه الحركة القوية التي لم تلبث أن خبت بعد ذلك وانهارت أمام الفتح العثماني
- 1 -
ومن حسن الطالع إننا نستطيع أن ندرس شخصية السخاوي على ضوء حسن؛ فلدينا أولاً معظم آثاره نقرأ فيها خواص تفكيره وأدبه؛ ولدينا ترجمته لنفسه وعدة أخرى من التراجم المعاصرة، نتتبع فيها حوادث حياته وظروف تكوينه
ولد السخاوي، كما يحدثنا في ترجمته لنفسه، بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين، في ربيع الأول سنة831 هـ (1428م) في أسرة أصلها من بلدة سخا من أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان،(103/20)
شمس الدين أبو الخير السخاوي؛ ولما بلغ الرابعة من عمره تحولت أسرته إلى منزل جديد في نفس الحي اشتراه أبوه؛ وكان موقعه بجوار دار علامة العصر الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وكان لهذا الجوار أكبر أثر في حياة السخاوي، كما سنرى. وأنفق السخاوي بضعة أعوام في المكتب وحفظ القرآن؛ ثم أخذ يطوف بأشياخ العصر يتلقى عنهم مختلف العلوم والفنون؛ ودرس النحو والعروض واللغة والفقه والحساب والميقات والأصول والبيان والتفسير والمنطق؛ وهنا يعدد لنا السخاوي ثبت أساتذته وما أخذه عن كل منهم، وما درسه من مختلف الكتب؛ وتجلت مواهبه ومقدرته بسرعة مدهشة؛ وأجاز له الكثيرون من شيوخه، بل أجازوا له الإفتاء ولما يبلغ العشرين بعد
وقد كان ابن حجر في مقدمة أساتذته؛ وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعاً من العبادة الروحية لهذا الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين. والواقع إن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية، وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم العصر، ولا سيما الحديث والشريعة. وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة 838هـ، أعني وهو طفل لم يجاوز الثامنة؛ وكان يذهب مع أبيه ليلاً إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في الحديث. ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثاً عن نفسه: (وقبل ذلك كله سمع مع والده ليلاً الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن. وأقبل عليه بكليته إقبالاً يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه. . . وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علماً جماً، واختص به كثيراً بحيث كان من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر. . . وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه على ذلك فكان يرسل خلفه أحياناً بعض خدمه لمنزله؛ يأمره للمجيء للقراءة)
وهنا يفيض السخاوي في ذكر الكتب والمتون التي قرأها ودرسها على شيخه ابن حجر،(103/21)
سواء من تصنيفه أو تصنيف غيره، ومعظمها في الحديث، ودرس عليه أيضاً التاريخ والتراجم؛ ودرس في الوقت نفسه على كثير من شيوخ العصر؛ ويعدد لنا السخاوي كثيراً من شيوخه ويقول لنا انهم بلغوا أكثر من أربعمائة؛ بيد أن ابن حجر كان دائماً إمامه وشيخه المفضل، وقد أذن له غير بعيد في الإقراء والإفادة والتصنيف؛ ويقول لنا السخاوي إنه لم ينفك عن ملازمة أستاذه، ولا عدل له بملازمة غيره من علماء الفنون خوفاً على نقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية بل ولا حج إلا بعد وفاته؛ لكنه حمل عن شيوخ مصر الواردين إليها كثيراً، وفي الأوقات التي لا تعارض وأوقاته سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه). وقد لبثت هذه العلاقة الوثيقة بين التلميذ وشيخه حتى توفى ابن حجر في أواخر سنة 852هـ
وهنا تبدأ المرحلة الثانية في حياة السخاوي؛ وهي مرحلة درس وتحصيل أيضاً ولكن خارج مصر. وكان السخاوي يومئذ في الثانية والعشرين من عمره؛ ولكنه كان رغم حداثته قد برز في كثير من العلوم التي تلقاها؛ وكان قد استأثر في هذه الأعوام الطويلة التي قضاها إلى جانب ابن حجر بكثير من علمه ومعارفه، وتأثر أعظم تأثير بأساليبه ومناهجه؛ بل نستطيع أن نقول أن السخاوي كان بعد ابن حجر، مستودع علمه وتراثه، وكان أشد تلاميذه تمثيلاً لمدرسته؛ بل كان بعد شيخه زعيم هذه المدرسة وأستاذها القوي يرفع لواءها ويحمل مناهجها حتى خاتمة القرن التاسع؛ وقد أشار ابن حجر نفسه في أواخر أيامه إلى تلك الحقيقة، وكثيرا ما وصف السخاوي بأنه (أمثل جماعته) أو (ممثل جماعته)
وسافر السخاوي عقب وفاة أستاذه إلى دمياط ودرس على شيوخها حيناً؛ ثم سافر مع والدته بحراً إلى مكة ليؤدّي فريضة الحج؛ وانتهز هذه الفرصة فدرس على شيوخ مكة والمدينة، وطاف بالبقاع والمشاهد المقدسة كلها؛ ثم عاد إلى مصر، وسافر إلى الإسكندرية وقرأ بها مدى حين؛ وزار معظم عواصم الوجه البحري وقرأ على شيوخها الأعلام جميعاً، وحصل كثيراً من الفوائد والمعارف. ثم رأى أن يقوم برحلة إلى الشام ليزور معاهدها، ويتعرف بشيوخها؛ فسافر إلى فلسطين وطاف بيت المقدس والخليل ونابلس؛ ثم قصد إلى الشام، وزار دمشق وحمص وحماه، ثم استقر حيناً في حلب؛ كل ذلك وهو يدرس ويقرأ على أعلام هذه العواصم؛ ويقول لنا إنه (اجتمع له في هذه الرحلة من الروايات بالسماع(103/22)
والقراءة ما يفوق الوصف)؛ ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف. ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة، ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام.
ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحياناً بمنزله، وأحياناً بخانقاه (معهد) الصوفية المعروف بسعيد السعداء؛ وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب. وفي سنة 870 هـ - سافر مع أسرته - وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد - ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية؛ وصحبه أيضاً في تلك الرحلة صديقه وأستاذه والنجم بن فهد الهاشمي - وكان من أعلام العصر. ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره. ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته؛ وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث، وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عاماً
ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة 885هـ، وقضى بمكة عاماً في التدريس والدرس؛ ثم حج سنة 87 وقضى ثمة حين في الدرس والإقراء؛ وحج للمرة الخامسة في سنة 92هـ وقضى ثمة عاماً آخر في الدرس والإقراء؛ ثمّ حج في سنة 94، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطناً ثانياً له؛ وكتب بها كثيراً من مؤلفاته كما سنرى
ولما عاد إلى القاهرة في سنة ثمان وتسعين (898هـ) استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة (ترفعاً عن مزاحمة الأدعياء) حسب قوله، وترك الإفتاء أيضاً واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه؛ وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره، ولكنه استمر منكباً على الدرس والتأليف؛ وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي؛ وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي،(103/23)
ولا سيما في الشام والحجاز حيث تلقى عليه مئات العلماء والطلاب؛ ولبث السخاوي رغم مكانته العلمية الرفيعة ونفوذه القوي بعيداً عن ميدان السياسة ودسائس البلاط والمناصب الرسمية؛ واقترح عليه صديقه الأمير يشبك الداوادار أن يقرأ التاريخ بمجلس السلطان الظاهر خشقدم فأبى؛ ثم عرض عليه أن يتولّى القضاء بعد ذلك، فاعتذر وأشار بتعيين خصمه ومنافسه السيوطي رغم ما كان بينهما من الخصومات الأدبية الشهيرة
وأقام السخاوي حيناً في القاهرة؛ ثم سافر إلى مكة ليحج للمرة السابعة؛ وعكف بعد أداء الفريضة على الإقراء والدرس، وتردد حيناً بين مكة والمدينة؛ ثم استقر أخيراً بالمدينة؛ واستمر في الإقراء بها حتى توفّى في 13ذي القعدة سنة 902هـ (1497م) في الحادية والسبعين من عمره.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(103/24)
مكتبتي
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
مكتبتي شيء عظيم جدا ً - ولست أعني إنها كبيرة ضخمة، وإن في خزاناتي آلافاً مؤلفة من المطبوع والمخطوط، فما عندي مخطوط واحد، ولا ولوع لي بجمع هذا الضرب من الكتب، وما يمكن أن تبلغ كتبي الآلاف بعد أن احتجت أن أبيع منها مرات، وإني لمجنون بالكتب، ولكن جنوني بما فيها لا بأشكالها وألوانها على رفوفها. وقد اعتدت ألا أبالي أن يبقى الكتاب عندي بعد أن أقرأه أو أن يذهب، ولم أكن كذلك، ولكن المرء مما تعود. على أنه سيان أن أتحفظ بالكتاب وأن أبيعه كما اشتريته، أو أهبه، فما إلى الوصول إليه سبيل في هذه الخزانات، ولأهون عليّ أن أشتري منه نسخة أخرى من أن أهتدي إلى موضعه وأعرف أين اختبأ. ومتى كان هذا هكذا، فما حرصي على كتاب يحاورني ويهرب مني وأنا أدور بعيني على الرفوف؟؟ وليس أثقل عليّ، ولا أشقّ على نفسي من الإقامة في بيت واحد زمناً طويلاً، ولو وكل الأمر لاختياري لاتخذت كل يوم بيتاً، ولكن الكتب راضتني على السكون وردتني على مكروهي، فأنا الآن كالمقعد لا أكاد أتحول، إلا أن أحمل على انتقالي حملاً؛ ذلك إني كلما سكنت بيتاً أروح أتخير للكتب أوسع الحجرات وأكثرها شمساً وهواء، ثم أقول دعوا الصناديق والغرارات حتى افتحها وأخرج ما فيها وأرتبه بنفسي، فتترك شهوراً، تنقلب الحجرة في خلالها مزبلة، فيتبرم أهلي ويلحون عليّ على أن أفرغ الصناديق،
فأقول: (لا بأس. موافق)
فتسألني زوجتي: (ومتى تفعل؟)
فأعدها خيراً، فتلح عليّ، فأؤكد لها إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله
فتقول: (إن شاء الله معناها عندك إنك لن تفعل أبداً)
فأقول: (أستغفر الله يا امرأة! إن شاء الله يعني إن شاء الله، أليس كذلك؟)
فتقول: (ولكني أريد تنظيف الغرفة! ألا ترى هذا التراب؟)
فأقول: (صحيح! كثير) لأني أحب أن أقرأ بالحق وأكره المكابرة، فتهمل الثناء على ذلك وتقول: (وهذه الصراصير؟ والفئران؟ لا. لم يعد هذا بيتاً يسكن)(103/25)
فأقول: (ألا أقول لك وأريحك؟)
فتقبل عليّ مسرورة وتسألني: (ماذا؟)
فأقول: (أفرغي أنت الصناديق، ورصي الكتب على الرفوف - عليّ أي ترتيب - وارفعي التراب، واقتلي الصراصير، وطاردي الفيران - وعلى الجملة نظفي الغرفة - هيه؟ ما قولك؟)
فتوافق، وأعود من عملي فألقي المكان نظيفاً، فلا فيران ولا صراصير ولا تراب، ولا صناديق، ولكني أحتاج إلى أن أرجع إلى كتاب، فأفتح خزانة بعد أخرى وأنظر إلى ما تكدّس على رفوفها فأرتد يائساً وأصيح بزوجتي: (يا امرأة! أين وضعت ابن الرومي؟) مثلاً!
فتقول: (عندك بالطرد) فأسألها: (أواثقة أنت أنك لم تضعيه في المطبخ؟)
فتقول محتجّة: (المطبخ؟ كيف تقول هذا؟ أهذا جزاءي على تعبي؟)
فأقول: (معذرة، ولكني لا أراه هنا) فتقول: (ابحث عنه) فأبحث - أعني إني أروح أخرج من الخزانة صفاً بعد صف، وأضع ما أخرج على الأرض هنا وههنا، حتى تخور قواي، وينفذ صبري، ويهي جلدي، وأنظر إلى ما فرشت به الأرض فأجزع، وأغافلها - أعني زوجتي - وأتسلل خارجاً، وأرد الباب ورائي حتى لا ترى شيئاً وأعود في الليل، وفي ظنّي إنها نائمة، وفي عزمي أن أعيد الكتب إلى الرفوف، فأفتح الباب برفق، فإذا الكتب قد وثبت بقدرة ربك، وصفت نفسها على الرفوف، وتزاحمت، ودخل بعضها في بعض - خوفاً من الفئران ولا شك! فأتنفس الصعداء وأفرك كفّي، وأقول: (الحمد لله! يا ما أكرمك يا رب!)
وإذا بزوجتي تقول: (وأخرتها معاك! ألا يمكن أن تعيد كتاباً إلى موضعه بعد إخراجه؟ ألا بدء أن ينشف ريقي كل يوم بسبب هذه الكتب؟ شيء غريب والله! كيف ومتى يمكن أن أفرغ للبيت إذا كانت هذه الغرفة همّاً لا ينقضي؟ وأحب مرة أخرى أن أقرأ في كتاب، فأدخل الغرفة، فتدخل ورائي تجري، وتتناول ذراعي وتشدني فأستغرب وأسالها (ماذا؟)
فتقول بحدة (ماذا أنت؟) فيزيد عجبي وقول: (ماذا أنا؟ ألا تعرفين ماذا أنا؟ سيدك يا ستي!)
فتقول وهي تجاهد أن تعبّس، والضحك يغالبها: (دع المزاح الآن! ماذا تريد أن تصنع؟)(103/26)
فأقول: (شيء جميل! وكيف يعنيك هذا يا امرأة؟)
فتقول: (يعنيني مصير الغرفة - هذا ما يعنيني يا سيدي - ولست أنوي أن أدعك تقلبها مزبلة فقد ورمت كفاي من العمل فيها)
فأقول: (وماذا تصنع هذه العجوز؟ تأكل وتشرب فقط وتقبض أجرها آخر الشهر؛ وهذه الفتاة الخفيفة لماذا لا أراها تعمل شيئاً غير اللعب مع الأولاد؟ وتلك الثالثة. . . أهو بيت أم دكّان مخدم؟ أريد أن أعرف هذا أولاً)
فتقول: (لا تحاور. إن الكتب لا يمسّها غيري، فإني أخاف عليها التمزيق. .) فأشكرها،
فتقول: (العفو! ولكني أخاف منك على الغرفة فاصنع معروفاً وارجع عنها)
فأسألها: (ولكن كيف أرجع وأنا أريد كتاباً؟)
فتقول: (لا تتعبني. . . من فضلك. . . أرجوك) فأشعر لها برقّة وأقول: (يا امرأة! هل استطعت قط أن أرفض لك رجاء!؟) وأتبعها، وأنصرف عن الكتب والقراءة، وأعزي نفسي بأني كنت سأنصرف لا محال عن ذلك مرغماً، فما أطمع أن أجد كتاباً أطلبه من هنا صار المعقول إني إذا اشتهيت أن أقرأ كتاباً أو أرد أن أراجعه، أن أشتريه، وقد أشتريه، وأضعه على المكتب إلى المساء، فتراه زوجتي فتفتح خزانة وتدسه في صف، وأعرف ما صنعت به، فأشتري نسخة أخرى، ومن أجل هذا أيضاً صار عندي من بعض الكتب ثلاث نسخ أو أكثر.
وقال لي أخي مرة: (يحسن أن ترتب هذه الكتب)
قلت: (يا أخي، كيف أصنع؟)
قال: (أجيئك ببطاقات، تكتب فيها أسماء الكتب مرتبة على حروف المعجم، فإذا طلبت كتاباً، راجعت البطاقات، فسهل عليك إخراجه)
قلت: (رأي سديد - هات البطاقات) فجاءني ببضع مئات منها، ودفع بها إليّ، فنظرت إليها وشكرته ثم قلت له: (أما البطاقات فجاءت، وأما الكتابة فيها فأحسبها تقتضي أن أخرج الكتب واحداً واحداً، وأقيّد أسماؤها، ثم. . .)
فصاحت زوجتي: (لا لا لا لا! أرجو. . . أرجو ألا تفعل. . .)
فالتفت إليها وقلت: (يا امرأة! كيف ترضين عن هذه الفوضى؟ بل لا بد من الترتيب)(103/27)
فقالت: (أنا واثقة أن الكتب لن ترتّب. وكل ما يحصل هو أن تخرجها وتكوّمها على الأرض وتتركها، فيغطّيها التراب، وتجتمع عليها الصراصير، فأعود إلى نفض التراب وطرد الصراصير. . . لا يا سيّدي! لن أسمح بهذا أبداً!) فنظرت إلى أخي وقلت: (أتسمع؟ إنها لا تسمح! فما رأيك؟)
قال: (الحق معها. ولو كنت أنا مكانها. . .) فلم أدعه يتم الجملة وصحت به: (أعوذ بالله!) فشكرني، وقال (إنما أعني. . .) فعدت إلى مقاطعته وقلت: (دع ما تعنيه، من فضلك، وحسبك إنك نغصت على حياتي!) فدهش وقال: (كيف؟)
قلت: (سأرى وجهك بعد الآن كلما نظرت إلى امرأتي. . . أعوذ بالله. . . يا ساتر يا رب. لطفك اللهم!) وقد حرصت على البطاقات، لأقيّد فيها أسماء الكتب مرتّبة على حروف المعجم، فما من هذا مفر، ولكن العقدة إن زوجتي تؤثّر الترتيب الحالي، وقد بلغ من رضاها عنه وخوفها عليه أن يضطرب أو يفسد، إنها أخفت مفاتيح الخزانات لا أدري أين؟ بارك الله فيها - أعني لا الخزانات.
إبراهيم عبد القادر المازني(103/28)
ساعة في البقيع
للأستاذ علي الطنطاوي
خرجنا إليه في صفرة الطفل، وقد سكرت الريح، وسجى المساء. وكان اليوم روحاً، فما تجاوزنا أزقّة المدينة الضيّقة الملتوية وبدا لنا سور البقيع الهائل الذي أقاموه في وجه مدينة الموت كيلا تبتلع مدينة الحياة. . . حتى هبّت الرياح لواقح، فأنشأت سحاباً ما لبث أن أكفهر وتطخطخ وعمّ السماء، فأظلمت الأرض واسودّت، وعادت كئيبة تملأ النفس غمّاً. وكنّا قد بلغنا البقيع، فرأيته موحّشاً مظلماً رهيباً: (قاتم الأعماق خاوي المخترق) وشممت منه رائحة الموت، فتهيبت دخوله في هذه الأمسية، وأزمعت العودة، ولكن صاحبي أصرّ عليّ وشجّعني، ثم أخذ بيدي فإذا أنا وراء السور، وإذا ساح فسيحة، ممتدّة الجوانب، مظلمة الأرجاء، ساكنة سكون الموت، ليس فيها بناء ولا قبّة ولا تابوت، كأنما لم يسمح لبشر أن ينصّب في حرم الموت معالم الحياة، أو يدنس دار البقاء بشارات الفناء. . . فأغمضت عيني، وشددت على ذراع صاحبي، وجعلت أدنو منه لما أجد من الوحشة وأحس من الجزع، وما عاهدتني من قبل أعرف الخوف أو أدري ما الجزع، فسار بي يقودني حتى هبط بي غوراّ عميقاً، حال بيني وبين الفضاء، وحجب عنّي السور الذي كنت أراه فأنس برؤيته، وأذكر إنها لا تزال وراءه دنيا حافلة بالنور والجمال والحياة. . . فلم أعد أرى شيئاً، وأمحت من خيالي كل صورة، وطارت من رأسي كل فكرة، إلا فكرة الفناء، وصورة الموت، وأحسست وأنا أهبطه إني هابط إلى القبر! وخيّل إلى إن أشباح الموتى ترقص من حولي، وتدنو مني وتمسّني وتهم بعناقي، فتقف كل شعرة في جسمي، ويزداد قلبي خفقاناً، وتتخاذل ركبتاي حتى أهم بالسقوط، ويطن في أذني صوت رهيب مستطيل يلقى في روعي إنه نشيد الفناء. . . وكان كل ما يحف بي مخيفاً رائعاً، فالقبور، والظلام الشامل، والسكون العميق، والسماء التي لا تطرف فيها من النجم عين، والمكان الذي لا تبلغه نسمة من نسمات الحياة، وجلال الموت، كل أولئك كان يخيفني، ويصب في قلبي الوحشة والفزع. . . ثم صاحت بومة على سور المقبرة. . . فاستمسكت بصاحبي وقلت: عد ويحك!
قال: كيف أعود وقد بدأت الزيارة. . . هذا قبر عثمان! وكأن ذكر عثمان قد رجّع إلي(103/29)
نفسي، فنظرت فلم أجد قبراً ولا شيئاً يشبه القبر، وإنما وجدت حجارة صغيرة قد صففت على وجه الأرض، وفرشت من حولها رمال حمراء ناعمة، كحوض أعدّ لزرع فيه الورود، فقلت: أتهزأ بي يا. . .
قال: لا والله. ولكنّي أقول الحق. هذا قبر عثمان
قلت: يا لسخرية القدر! أتحرثون موضع قبر عثمان أمير المؤمنين لتزرعوا فيه الورود؟
قال: أي ورود؟ كل القبور هكذا. . .
قلت: لعلّك أخطأت القبر. اذهب فاقرأ اسمه
قال: قد طمست الأسماء، فما عليه من أسم. ولكن ثق إنه هو. أعرفه من هذه الغضاة!، أشار إلى غضاة قريبة منه لا أدري كيف دخلت حرم الموت فأنست بها. وذكرني الغضى دنيا مليئة بالصور، مترعة بالحياة نفت عني بعض ما أنا فيه من الغربة والجزع، فقلت: وكيف تعرف غيره من القبور؟
قال: ما أعرف إلا قبور آل البيت، وقد كنت أعرف قبر مالك فاختلط على ونبيسته، ولكن يعرفه إذا شئت (العم حمد) خادم المقبرة، وبعض الشيوخ من أهل المدينة. . .
وانقطع الحديث فقد استشرى البرق وائتلق، ورعدت السماء، ثم هطلت بمطر بعاق قشرة وجه الأرض. وجعل فيها بركاً وأنهاراً، فلم نجد شيئاً يعصمنا من الماء نأوي إليه، إلا هذه الغضاة وما تكاد تعصمنا. . . والمطر في الحجاز أعجب شيء رأيته: فبيّنا الشمس طالعة، والأرض متسعرة، واليوم خدر عصب، وإذا السماء قد تلبّدت بالغيوم، ودوت بالرعد، والأمطار قد نزلت كأفواه القرب، واليوم قد عاد قرّاً بارداً، ثم لا تلبث حتى تنجلي السحب، وتصحو السماء، فتنظر فإذا الأرض قد بدّلت غير الأرض، وإذا السيول قد جرفت البيوت، وخرّبت الطرق، وطمّست المعالم، كما يطمس سطر سال عليه ماء. . . ولقد ضنناها سحابة صيف ولكنّها لم تنقشع، ولم تزدد الأمطار إلا شدّة وتهطّلاً، ولم يزدد الرعد إلا قعقعة وقصيفاً، حتى كأن الدنيا مجنونة، عاودتها نوبتها، فهي تصرخ وتقفز وتمزّق ثوبها بيدها، وتشق حنجرتها بصراخها. . . بيد إني لم أكن أحفل بالبرد ولا بالمطر، ولم أكن أذكر الخوف ولا الجزع، ولم أكن أفكر إلا في هؤلاء الأبطال الذين فتحوا الدنيا، وملكوا العالم، ثم ظنّوا عليها بقبر يعرف، أو اسم يقرأ، أفكر في هؤلاء العظماء. . .(103/30)
كم انحنت تحت أقدامهم هام الجلاميد الصم حتى وطئوها، كم استكانت لهم هذه الرمال الهائلة حتى قطعوها، كم دانت لهم البادية المهلكة حتى جابوها، ليخرجوا منها فاتحين إلى أرض الرياض والعيون، فيبلغوها رسالة الصحراء، وينشروا فيها دين الصحراء! لقد انتصروا على البادية المهلكة، والشمس المحرقة، والجوع القاتل، والعطش المميت، والعدو الجبار، والجيش الجرار، ثم انتصر عليهم البقيع، فإذا هم مستقرّون في أحشاءه، وإذا هم قد ناموا فيها إلى الأبد، فلن يذهبوا إلى الحرم ليقيموا الصلاة، ولن يمتطوا ظهور جيادهم ليمشوا إلى الجهاد، ولن يحملوا الراية الإسلامية لينصبوها إلى أقصى العالم، ولن تستقبلهم زوجاتهم وأولادهم وإذا عادوا ظافرين، بل هم لا يرون طلعة الشمس ولا يبصرون صفحة القمر، ولا يسيرون على وجه الأرض. . . انتصرت أيّها البقيع؛ فما وفّيت ولا أنصفت. . . جاءك الأبطال الذين فتحوا الدنيا، ونشروا راية العدل على الأرض، وأضاءوا طريق الهدى للناس، ليستريحوا في إرجائك، ويناموا في حماك، فحرمتهم قبراً يعرف لهم، وحجراً تكتب عليه أسماؤهم ما نريد منك أن تنقش على قبورهم آيات التبجيل والثناء. فإن لهم من أسماؤهم الكبيرة، غنيّة عن كل تبجيل وثناء لكنّا نريد ألا تنسى هذه الأسماء
سيموت الشيوخ الذين يعرفون هذه القبور، أف يرضيك أيها البقيع أن يأتي الجيل الجديد، فيفتّش عن هذه القبور فلا يجدها، فيقول: هاتوا المعول، هاتوا الأحجار. . . أبنوا هنا ملعباً! لا نجد في هذه المدينة خيراً من هذه الساحة، إنها لا تترك أرض سدى! ثم بينما هم يتقاذفون الكرة، إذا بهم يخطئون فيتقاذفون واحدة من هذه الجماجم. . . أنسيت أيها البقيع إن كل مسلم يحس إنه يملك في هؤلاء الأبطال ملكاً، وإن هذا الرفات ليس من حقّك وحدك، ولكنه حق لكل مسلم ولد أو يولد إلى يوم القيامة. . . وإنك إن طمست هذه الأسماء، حتى يجهلها المسلمون، أسأت إلى كل المسلمين؟
أنسيت أن أضيافك عظماء البشر، أف تستحق العظمة هذا الإهمال الشائن، وهذا النسيان المخزي، أم ذنبهم إنهم لم يكونوا فرنجة ولا إنكليز؟! أف يكون البانتيون لأبنائه أوفى منك لأبنائك أيّها البقيع؟ إنه لم ينقص من مجدهم إنها لم تشيّد لهم القبور، ولم تنقش أسماؤهم على صفائح الحجر، وحسبهم إنهم شيّدوا مجداً وبنوا أمة وكتبوا تاريخاً، فإذا نسى التأريخ أبطاله ومنشئيه، فقدماً نسى التاريخ الأبطال! وهل ذكر التاريخ أولئك الجنود الذين سقوا(103/31)
الأرض بدمائهم حتى أنبتت مجد نابليون فأقتطفه؟. . هل ذكر أولئك القصاص الذين أهدوا إلى شكسبير قصصهم الرائعة فرواها؟ هل ذكر أولئك الملاحين الذين غامروا بأرواحهم حتى أوصلوا كولومب إلى الساحل الجديد وأمسكوا بيده حتى نزل إليه؟. . ماذا كان نابليون وشكسبير وكولومب لولا أولئك الأبطال المجهولون الذين نسيهم التاريخ؟ لا بأس أيها البقيع فإن البطل الحق هو الذي لا يعرفه أحد!
وازداد الرعد قرقرة وهزيماً، وعقّ البرق وتكلّح، وأغدقت السماء وجادت، وعصفت الريح وأعجّت وجنت الدنيا جنونها، فنظرت فإذا السيل قد جرف قبر عثمان فلم يبق له من اثر. .!
فقلت: أطبقي يا سماء، وتشقّقي يا أرض، وتصدّعي يا جبال. . . إن من ملكوا العالم لا يجدون القبور. . .
علي الطنطاوي(103/32)
القاضي النسوي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
ما أكثر الذين لم يوفّهم التاريخ حقّهم من البحث والتنقيب وقد أحاط بهم الغموض والإبهام وراحوا ضحية الإهمال فلا ترى لهم اسماً في الكتب التاريخية ولا ذكراً في معاجم الأعلام والعلماء! من هؤلاء الذين كاد يطغى عليهم النسيان أبو الحسن علي أحمد النسوي، فهو من رياضي القرن الخامس للهجرة من بلدة نسا بخرا سان، لم يكتب عنه إلا ما لا يشفي غلة المنقب، وقد أهملته المصادر إهمالاً معيباً، وإذا أطلعت على تاريخ الرياضيات (لسمث) وجدت عنه نبذة لا تتجاوز عشرة كلمات، وهي أن النسوي ألف في الحساب الهندي وشرح بعض المؤلفات لأرشميدس؛ وتجد أيضاً في كتاب آخر يبحث في الأرقام الهندية العربية تأليف سمث وكاربنسكي: إن النسوي من الذين استعملوا كلمة الهندي لتدل على الحساب في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وأما كتاب الآثار الباقية فيقول عن النسوي إنه لم يتمكّن من العثور على شيء عن حياته، ومع ذلك فقد استطاع أن يكتب عنه بصورة أوسع من غيره من المؤلفين معتمداً في ذلك مقدمة كتاب المقنع لصاحب الترجمة. ومن هذه الترجمة يفهم إن النسوي ينتسب لمجد الدولة بن فخر الدولة حاكم العراق الفارسي. ويقال إن مجد الدولة هذا طلب من النسوي أن يؤلّف له كتاباً في اللغة الفارسية يبحث في الحساب الهندي على أن يكون موافقاً لديوان محاسبته يمكن الانتفاع منه، قد كان ما أراد الحاكم وخرج الكتاب إلى الناس فانتفع منه وعنه اخذوا الشيء الكثير لمعاملاتهم؛ وقد اطّلع شرف الدولة أمير بغداد على هذا الكتاب، ويظهر أنه رأى فيه فائدة وانتفاعاً فأمر النسوي بأن يؤلّف له كتاباً باللغة العربية يكون على نمط الكتاب المذكور، وقد كان لشرف الدولة ما أراد، فأخرج النسوي كتاباً سمّاه (المقنع) وقد وفّق فيه كثيراً، فيقول عنه صالح ذكي: (إن المقنع هو نموذج حقيقي يدلّنا على المرتبة التي بلغها الحساب الهندي في العراقيين العربي والفارسي في أوائل القرن الحادي عشر للميلاد. .) ولهذا الكتاب مقدمة ينتقد فيها الذين تقدّموه من المؤلّفين الرياضيين وينتقد فيها أيضاً معاصريه من واضعي كتب الحساب، وينحى باللائمة على كل هؤلاء ويقول إنه وجد تشويشاً وتطويلاً في الكتب الحسابية التي وضعها الكندي والانطاكي، كما أنه وجد في مؤلّفات علي بن أبي نصر في الحساب تفصيلاً(103/33)
لا لروم له، وإنه هناك كتباً أخرى (في الحساب) للكلوازي فيها صعوبة وفيها التواء وفيها تعقيداً لا تعود على القارئين بالفائدة المتوخّاة. ويقول أيضاً إنه لا يريد أن يجعل بحوثه في كتابه تدور على موضوع واحد، وإنه لا يريد أيضاً أن يحذو حذو الدينوري الذي ألّف كتاباً عنوانه يدل على إنه كتاب يتناول موضوعات الحساب المختلفة بينما هو في الحقيقة يتناول حساب النجوم فقط وليس فيه تعرّض لأي فرع من فروع علم الحساب، وهذا (على رأيه) ما لا يجيب أن يكون؛ والنسوي لا يريد أيضاً أن يكون في كتابه هذا مثل كوشيار الجبلي الذي وضع كتاباً في الحساب تعب منه الإيجاز وعنوانه لا يدل بحال من الأحوال على ما تضمنه من بحوث حسابية وأعمال رياضية
ولهذا كله (يقول النسوي): فقد رأى الضرورة تدعوه أن يخرج إلى الناس كتاباً يتجنّب فيه الأغلاط التي وقع فيها غيره من إيجاز يجعل المادة صعبة غير واضحة، ومن إطناب يدخل إلى نفوس القارئين السائم والملل. وبالفعل أخرج للناس كتاباً كان فريداً في بابه جمع فيه أحسن ما في كتب المتقدّمين والمعاصرين، وقد أضاف إليه كثيراً نظريّاته ومبتكراته، ووضع كل ذلك في قالب سهل المأخذ لا صعوبة فيه ولا تطويل، يمكن للطالب والتاجر والراصد ولكل من يريد الوقوف على أصول المعاملات المتنوّعة في الأمور الحسابية أن يستفيد منه؛ ولقد جعل النسوي هذا الكتاب في أربع مقالات، تبحث الأولى في الأعمال الصحيحة، والثانية في الكسور، والثالثة في الأعمال الصحيحة مع الكسرية، والرابعة في حساب الدرج والدقائق. فالمقالة الأولى تتناول الموضوعات التالية: أشكال الأرقام وترقيم الأعداد، جمع الأعداد الصحيحة، ميزان جمع الأعداد الصحيحة، تضعيف الأعداد، طرح الأعداد الصحيحة، ميزان طرح الأعداد الصحيحة، تنصيف الأعداد الصحيحة وميزانها، ضرب الأعداد الصحيحة وأنواعه، ميزان ضرب الأعداد الصحيحة، تقسيم الأعداد الصحيحة وأنواعه، ميزان تقسيم الأعداد الصحيحة، استخراج الجذر التربيعي للأعداد الصحيحة، ميزان استخراج الجذر التربيعي للأعداد الصحيحة، استخراج الجذر التكعيبي للأعداد الصحيحة وميزان استخراج الجذر التكعيبي للأعداد الصحيحة. وأما المقالة الثانية فتبحث في الأبواب الآتية: ترقيم الكسور، جمع الكسور، طرح الكسور، ضرب الكسور، تقسيم الكسور، استخراج الجذر التربيعي للكسور واستخراج الجذر التكعيبي للكسور.(103/34)
وتتناول المقالة الثالثة البحوث الآتية: الكسور المركّبة وترقيمها، جمع الكسور المركبة وطرحها وضربها وتقسيمها وكيفية استخراج الجذرين التربيعي والتكعيبي لها. وأما الرابعة فتتضمّن ما يلي: أصول ترقيم الكسور الستينية وكيفية جمعها وطرحها وضربها وتقسيمها، واستخراج الجذرين التربيعي والتكعيبي لها. ومن الإطلاع على محتويات هذا الكتاب يتبيّن للقارئ إن الكتاب قيّم وفيه بحوث تفيد الناس على مختلف طبقاتهم في متنوّع معاملاتهم. ومما يدل على طول باع النسوي في الرياضيات وعلو كعبه فيها اعتراف الطوسي بفضله وعلمه، فقد كان يلقّب النسوي بالأستاذ، ولهذا اللقب أهمّيته عند الطوسي، ولا سيما إنه من الذين يعرفون قيمة العلماء ومن الذين لا يخلعون الألقاب على الناس بدون إستحقاق؛ ولا عجب في أن يكون من المعجبين بالنسوي المقدّرين لنبوغه وعبقريّته، فلقد استفاد كثيراً من كتاب (تفسير كتاب المأخوذات لأرشميدس) في مؤلفه (المتوسّطات) وهذا الكتاب أي (كتاب التفسير) من الكتب التي كان لها أهميتها الكبيرة في تاريخ الرياضيات، وقد ترجمها إلى العربية ثبت بن قرة. قال صاحب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون: (مأخوذات أرشميدس مقالة ترجمة منها ثابت بن قرة خمسة عشر شكلاً وقد أضافها المحدثون إلى جملة المتوسّطات التي يلزم قراءتها فيما بين اقليدس والمجسطي. . .) وكان للنسوي فخر تفسيرها وشرحها شرحاً دلّ على مقدرته وقوّة عقله. . .
نابلس
قدري حافظ طوقان(103/35)
عرائس المولد النبوي في الأدب الفرنسي
للأستاذ م. هداية
أليس غريباً هذا العنوان؟ أو ليس فيه إشارة لطيفة إلى تقصير أدبائنا؟ هنري تويل أديب فرنسي أقام في مصر ردحاً من الزمن حتى جعلها في أشعاره وطنه الثاني. وقد هام بجمال مصر وتقاليدها، وسجّل كثيراً من أعيادها القومية والدينية، ووصف كثيراً من شوارعها وجوامعها الأثرية أبرع وصف. وله ديوان مطبوع باسم (شرق وأدب) حوى الكثير من الأسرار الساحرة في مصر، أحس بها هو ولم نحس بها نحن! ولست هنا في صدد تعريف هذا الشاعر الثائر أو تحليله، وإنما قصدت أن أنقل إلى القرّاء (الرسالة) جزءاً نم قطعة له كتبها سنة 1923 وعلى أثر جولة جالها ليلاً بشارع الموسكي في مولد سيّدنا الحسين - قال:
(. . . وعلى جانبي الجامع كانت الأنوار المنبعثة من دكاكين الحلوى تشع في الليل المتأخر فتجعل منه ظهراً. وكانت هذه الحوانيت متقاربة متلاصقة: اتصل بعضها ببعض اتصالاً لا تقطعه ثغرة، حتى لا ترى من مجموعها سوى نضد واحد ممتد. وقد غطيت كلّها بأنواع شتّى من الحلوى: فمنها (الحمصية) وهي حلاوة رصعت بالحمّص، و (السمسمية) وهي مثلها إلا أنها بالسمسم - وهذه كثيراً ما يتهافت عليها صغار التلاميذ في الأيام العادية، فيقبلون على شرائها من الباعة المتجوّلين كل يوم منجذبين إليها بلذاذة طعمها وبجمال النداءات ذات النغمة الساحرة التي يغنّيها الباعة، مع الملبن الملفوف حول خيوط رفيعة. . . ثم (الجوزية) وهي نوع تتلاشى أمامه (النوجا) الفرنسية وتحسدها عليه مدينة مونتلمار. . . يلي ذلك صفوف طويلة من (العرائس) تكاد تتشابك أذرعتها فتخالها في مجموعها كأنها في موكب!
عرائس جذّابة، عذارى نم الحلوى! أبكار توشك أن تزف إلى عرسها قد صبوها صباً من السكر المذاب! وقد صبغوا لهن. . . خدودهن الصغيرة بشيء من (الأحمر. . .)، وكحّلوا عيونهن بالكحل الشرقي الساحر، ثم ألبسوهن فساتين ساذجة لوّنت بألوان زاهية من أصباغ اليمن. وأما الشعر فقد رصع بأنواع برّاقة من الخرز الفضّي الملوّن، وحجاب رقيق من الشاش المهلهل النسج زيّن أيضاً بفتائل من القصب الوهّاج، وأشرطة من الورق المذهّب،(103/36)
قد أسدل بلباقة وكياسة على رأسها، ثم تدلّى بعضه إلى الأمام ليحجب عنك أيها المحب الشغوف وجهها الحلو الباسم، فلن ترى جمال تقاطيعه إلا حين تكشف عنه بيدك - يوم الزفاف!
(كم حدّثتني نفسي في هذه الساعة أن أحمل واحدة من هذه العرائس المصرية الصغيرة فأضمها إلى قلبي، ثم اذهب بها هنالك، في ركن منعزل، نائياً عن أعين الناس، بعيداً عن كل ضوضاء، وفي هدوء وراحة نفس، أسبل عيني ثم أضع شفتي على شفتيها الحمراوين فأتذوّق منهما شيئاً. .!)
هكذا الشاعر يخلق من كل شيء جمالاً
وبينما أنا أمر ليلة المولد بهذه (العرائس) تذكّرت خيال هذا الشاعر فوقفت سابحاً في أحلامي. . .
ولكن جدة تقتاد حفيدين لها قد دفعتني على غير قصد واقتحمت الزحام. وبعد مساومة ليست بالطويلة خرجت تحمل (سريراً) صغيراً زيّن بأستار هفهافة من القماش الملوّن بالأحمر والمذهّب والمفضض، وأبت الطفلة إلا أن تحمل (عروستها) بنفسها، وأما الطفل فقد حمل حصاناً أحمر عليه فارس. . .
وهذا الثالوث المزاحم قد أخرجني من حلم ليدخلني في حلم آخر:
الجدة فخورة لأنها أنجزت تقليداً تعتبره مقدّساً، وهي مسرورة لأنها عاشت واشتركت في ذكرى الرسول للمرة السبعين
أما الطفلة فأي سرور يملأ قلبها! أنظر إليها وهي تجذب جدّتها من ملاءتها لتسرع الخطى. . . فهي تريد أن تصل البيت أسرع ما يمكن لترى أمّها عروستها الجميلة وسريرها البديع، وهي تريد أن تقابل صويحباتها زكية وتفيدة وإحسان لتقنعهنّ بأن عروستها أكبر. . وإنها تملك سريراً. .
وقد بلغ الثلاثة البيت؛ فالجدّة متذمّرة لأنها لم تجد الدكاكين مزدانة بالثريات والبيارق الحمر والخضر والصفر مثل (زمان). . ومحمود الصغير أقتنع مسافة الطريق بأن حصانه لا يستحق الاحتفاظ به طويلاً. . وانه لا يحقق له أملاً واحداً من آماله: هل أستطيع أن أركبه وأضربه بالسوط؟. . إذن. . . وبقضمة واحدة يطير رأس الفارس بأسنانه! ثم أبتدأ في(103/37)
رأس الجواد. . . أما فاطمة فعروستها سنحيا عندها طول حياتها، لأنها صورة منها، ولأنها تمثّل أحلامها الحلوة، فهي قطعة من نفسها! أنظر إليها الآن قد عادت فرحة بعد أن قابلت صويحيباتها، أنظر إليها قد جلست في انهماك ترتّب السرير (لعروستها) أستمع إليها الآن وهي تغنّي لها بصوتها العذب الحلو غير الفصيح أنشودة من أناشيد الزفاف!
انهض يا شاعري العزيز وتعال مسرعاً، ثم أنصت في جلال. تعال يا شاعري (فهاهنا سحر وجمال!)
م. هداية(103/38)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
صلة حديثه
وأخذت حياة بستور تصير إلى غير ما عهد العلماء من حياة قابعة قاسية. وأصبح يجري تجاربه ليجيب بها على ما قام حول نظريته الجرثومية من اعتراضات كثيرة، فكانت إجابات قوية مفحّمة رنّانة دوت أصداؤها في الجماهير، لأنها أجريت لتنقع غلّة الجماهير أكثر مما تنقع غلّة العلم الهادئ والبحث الرزين. ولكن على الرغم من استدراجه العلم إلى الأسواق وسحبه إلى غمار العامة، كانت تجاربه رائعة الصنع محذوفة الأجراء، وكانت كأقباس من نار مسّت خيالات الناس فألهبتها، وآمالهم فأحييتها وجلب على نفسه خصوماً صخابة أقامه بينه وبين رجلين فرنسيين طبيعيين يدعى أحدهما إتريكل دارت حول الخمائر والطريقة التي بها تحيل عصير العنب خمراً. فأقرّ (إفريمي) بأن الخمائر لا بد منها لهذه الإحالة، ولكنه أدّعى إن هذه الخمائر تنشأ من ذات نفسها في باطن العنب، وأقام في الأكاديمية يناقش هذه الدعاوى في جهالة فسخر أعضاؤها منه وضحكوا جميعاً، إلا بستور فكان من المحنقين
(إفريمي يقول إن هذه الخمائر تنشأ داخل العنب من ذات نفسها! إذن فلأصنع له تجربة تقطع لسانه). وأخذ بستور عدّة قوارير مستديرة، ووضع فيها شيئاً من عصير العنب، ثم مطّ رقابها ولواها كأعناق الإوز، ثم أغلاها دقائق وتركها أياماً ثم أسابيع، فلم تظهر في العصير فقاقيع، ولم يعله رغاء، ولم يختمر أصلاً؛ ثم ذهب إلى كرمه فقطف منها بضع عنبات بلغت النضج ولم تعده، وغسل ظاهرها بماء نقي بقلم من الشعر عقّمه بالتسخين قبلاً، وأخذ قطرات من ماء الغسول ونظرها تحت المجهر فوجد بها قليل من كريات الخمائر المعهودة. وعندئذ أخذ عشراً من تلك القبابات الملتوية الأعناق، وبمهارة فائقة لحم في جانبها أنبوبة مستقيمة طويلة، ومن هذه الأنبوبة أسقط قطرات من ماء الغسول ذي(103/39)
الخمائر. ولما جاء القبابات بعد أيام وجدها جميعاً مرغية إلى عنقها رغوة تضرب إلى الحمرة دليل اختمار طيب مرضي. وتبقى من ماء الغسول بقية، فأغلاها وأسقط قطرات منها في عشر قبابات أخرى فلن يحدث فيها اختمار لأن الإغلاء قتل الخمائر
قال بستور: (الآن وقد أثبت أن الخمائر توجد على ظاهر العنب، سأثبت لهذا الجاهل إفريمي بتجربة رائعة إن هذه الخمائر لا توجد في باطن العنب)، وأخذ أنبوبة جوفاء رفيعة كان قد أسخنها في النار ليقتل ما قد يكون علق بها من أحياء، ثم سدّ طرفها، وكان رفيعاً حاداً، فرفعه برفق إلى داخل عنبة خارقاً جلدها، ثم كسر هذا الطرف داخل العنبة فاندفع بعض عصيرها في الأنبوبة، وبمهارة ولباقة لا تباري نقل هذا العصير إلى قبابة بها عصير عنب كان قد عقّم بالتسخين. ورجع إليها بعد أيّام فما وقع بصره عليها حتى صاح: (لا حياة لإفريمي بعد اليوم، فعصير العنب بالقبابة لم يختمر، وبطن العنب خلو من الخمائر). ثم أستطرد فنطق بقضية جامعة شاملة؛ قال: (إن المكروبات لا تنشأ من ذات نفسها في بطون الأعناب وديدان الخز وأجسام الحيوانات الصحيحة، وهي لا توجد في دم الحيوان ولا في بوله. فإن هي وجدت في شيء من ذلك فإنما دخلت إليه من الخارج) ولكأني بك تسمعه يتحدّث إلى نفسه: (وستعلم الدنيا قريباً ما تؤدّي إليه هذه التجربة البسيطة من إحداث معجزات بليغة)
- 8 -
ولم يمضي وقت طويل على هذا حتى ظهر أن أحلام بستور لم تكن أضغاثاً، وإنما خاله من إمحاء الأمراض على ظهر الأرض لم يكن أملاً جامحاً. فجاءه كتاب من الجرّاح الاسكتلندي (لستر) يذكر فيه إعجابه الشديد به وسروره الكثير بأعماله، ويصف له فيه طريقة جديدة لفتح أجسام المرضى وإجراء العمليات الجراحية في نجوى من ذلك الوباء الخفي الذي أعتاد أن يذهب في المستشفيات بحياة ثمانية من كل عشرة من الرجال والنساء. كتب له لستر يقول: (فأنا أستمحيك في أن أشكرك شكراً خالصاً إذ هديتني بأبحاثك المجيدة إلى الحق في أمر هذه الجراثيم التي تسبب التعفّن والفساد، وأثرت لي السبيل إلى النظرية الوحيدة التي لا ينجح تعقيم إلا بها. وإذا أنت تحملت المشقّة فزرتنا في أدنبرة فسوف لا تأسف على هذه الزيارة إن شاء الله، لأنك سترى بعينك في مستشفياتنا(103/40)
كثيراً من الخلق المساكين قد استفادوا استفادة كبرى من أعمالك)
ففرح بستور بهذا الخطاب فرح الطفل أنجز تركيب قاطرة فدار بها على إخوانه يريهم ما صنعت يداه. ولم يكتف بهذا بل نشر الكتاب بكل مديحه في المجالات العلمية، وزاد فنشره في كتاب له عن البيرة!! ولم يشاء أن ينقضي هذا الحادث دون أن يلكم إفريمي المسكين لكمة أخيرة، وقد يحسب حاسب أن تجارب بستور كان فيها لإفريمي لكمات مشبعات كافيات. ولم ينل من إفريمي نيلته الأخيرة بذمه، وإنما نالها بمدح نفسه وتمجيد تجاربه والثناء على نظرياته. قال: (إن محك النظريات مقدار أثمارها وكمية نفعها). وصمت إفريمي فلم يحر جواباً
وشغل حديث المكروب أوربا كلها، وعلم بستور إنه هو الذي وجه نظار الناس إلى المكروب وإلى خطورته فلم يعودوا ينظرون إليه نظرتهم إلى اللعبة الغريبة المسلّية، بل عرفوا مقدار نفعه لبني الإنسان واستيقنوا من ذلك، وكانوا على وشك أن يعرفوا مقدار ضرره لبني الإنسان كذلك، وكيف إنه على صغره يعيث فيهم تلصصاً واغتيالاً. وأوّلت فرنسا بستور شرفاً كبيراً إذ نصّبته أول رعاياه. وشرّفته الأمم - حتى بلاد الدانمارك أقام خمارها له التماثيل في معاملهم وأثنوا عليه خيراً ومات فجأة (كلود برنار) فقام أصدقاء هذا الرجل الكبير بنشر مؤلف له لم يبلغ تمامه، وكان مؤلفاً في تخمّر عصير العنب، ختمه برنار بدحض نظرية بستور كلها وعزز دعواه بأسباب عدة، وبلغ بستور الخبر فلم يصدّق أذنيه. برنار يفعل هذه الفعلة! برنار العظيم، جليسه في الأكاديمية ومطريه ومطري أعماله دائماً! برنار الذي سارقه الضحكات وبادله الغمزات وناقله الفكاهات في أكاديمية الطب عن أولئك الأطباء ذوي الثياب الزرقاء، والأزرار النحاسية الصفراء، والأنوف الوارمة والرؤوس الجوفاء، أولئك الأطباء الذين قاموا حجر عثرة في سبيل التجربة الصحيحة إلى الطب والتطبيب! وأخذ بستور يتمم لنفسه: (ناقضني هؤلاء الأطباء الأغبياء، وناهضني أولئك الطبيعيون الحمقى، وكان في هذا من السوء ما فيه. ووازرني العلماء، ومجد إعمالي الكبراء، فما بال برنار يأتي اليوم بالذي أتاه. .؟)
ذهل بستور، ولكن لم يطل به الذهول. وقام يطلب أصول المؤلّف والأوراق ذاتها التي خطّها برنار بيده، فأعطوه إيّاها. فقعد يجمع أشتات فكره لدراستها، فوجد إن ما صنعه(103/41)
برنار لم يكن إلا مبادئ تجريبية ومحاولات تقريبية. وسرّه أبهجه أن كشف إن أصدقاء برنار لم ينشروا ما كتبه بنصّه كاملاً، بل زادوا وحذفوا، فأحكموا الحذف وحذقوا الزيادة، كي يستقيم الكتاب ويصح لدى القارئين. وذات يوم قام في الأكاديمية فعرّ أعضاءها، وأساء إلى رجالات فرنسا إذ أنحى باللوم اللاذع القبيح على أصدقاء برنار لتهجّمهم بنشر كتاب يجرؤ على التشكك في نظرياته، وإذ صرخ صرخات عنيفة مرذولة إلى برنار، وبرنار في قبره لا يستطيع دفعاً عن نفسه، وعقّب على هذا بنشر رسالة في نقل أبحاث صديقه القديم، رسالة أعوزها الذوق السليم، رسالة تهتم برنار - وهو رجل عالم من قمّة رأسه إلى أخمصه - باقتباسه الخرافة من كثرة صحبته للأدباء النابهين من أعضاء الأكاديمية، رسالة تحاول أن تثبت أن برنار في آخر أبحاثه كلّ بصره فلم يعد يرى الأشياء، وتهزأ به فتقول احتمالاً إن بصره طال طولاً لم يعد معه يرى الخمائر القريبة. وألحّ بستور في هذا النقد حتى ترك العامة تحسب إن برنار أصابه خرف الشيخوخة في آخر أيامه عندما كتب كتابه هذا. وفقد بستور الحس بالحسن والقبيح، وفقد مقاييس الليباقات، فأخذ في ثروته يدق بقدميه على قبر برنار دقّات ثقيلة كادت تقلق جثّته تحت التراب
وأخيراً ثاب إلى رشده، وسلك في ردّه على برنار السبيل التي يؤثرها كل عاقل على مقالة السوء ولغو الكلام. تلك سبيل التجربة. فأجرى تجارب غاية في الإبداع. وجرى على طريقة الأمريكيين إذ إذا هم أرادوا بناء ناطحة من ناطحات سحابهم في ستة أيام. فهرع إلى مخازن البيع فاشترى قطعاً من الزجاج عظيمة، وهرع إلى النجّارين، وطلب إليهم أن يصنعوا من هذا الزجاج بيوتاً كمرابي النبات يسهل حملها ويستطاع نقلها وتركيبها. وقام على أعوانه يستحثهم في إنجاز قبابات وتجهيز ميكروسكوبات وتعقيم لفّافات من القطن، فنسوا الطعام وعزّهم النوم. وفي وقت بالغ القصر جمع كل هذه الأشياء وسافر بها إلى بيته العتيق في جبال الجورا. ونفض يده في أثناء ذلك من كل عمل، وأشاح بوجهه عن كل اعتبار، واتجه بكل نفسه قدماً إلى إثبات إن نظريته في التخمّر نظرية صحيحة
وما بلغ بلدته أربوا حتى ذهب إلى كرمته، ولم يضع وقتاَ سدى، فقام على بيوت الزجاج التي جاء بها فنصبها على بعض أعنابها فحجبتها عن الهواء الخارج حجباَ محكماً. وأخذ يفكّر: (هذا الصيف قد تنصف، والعنب لا يزال فجّاً، وأنا أعرف إن العنب في هذا الوقت(103/42)
لا يحمل على جلده خمائر أصلاً). وأراد أن يزيد وثوقاً من ذلك، فلفّ بعض العناقيد في بيوت الزجاج بلفَات القطن التي كان سخنّها مساعدوه ليقتلوا ما علق بها من الأحياء. وأسرع في العودة إلى باريس واصطبر بها على أحرّ من الجمر حتى ينضج العنب، ونفذ صبره يوماً فجاء أربوا وكله أمل أن يثبت أن برنار كان خاطئاً، ولكنه وجد العنب لا يزال فجّاً فعاد خائباً. ونضج العنب أخيراً، فأخذ يمتحن جلود العنب ببيوت الزجاج تحت المجهر، فلم يجد عليها خميرة واحدة. وقام من على المجهر ثائراً، فأخذ شيئاً من هذا العنب فعصره في قبابات أجاد تسخينها لتعقيمها، وتركها فلم تظهر في عصيرها فقاعة للتخمر واحدة. وعصر عنباً من كرمة خارج بيت الزجاج، فهذا استحال عصيره إلى خمر سريعاً. وما انتهى من هذا حتى جمع بعض تلك العناقيد الطهور الخالصة من الخمائر، واعتزم ليحملنها إلى الأكاديمية ويهدي كل عضو أحب عنقوداً ثم يتحدّاهم أجمعين أن يخرجوا من هذه العناقيد المصونة خمراً. . . وقد أيقن إن هذا محال إلا إذا هم أدخلوا الخمائر إليها. . . وأمل من وراء كل هذا أن يثبت لهم إن برنار خانه الحظ في الذي قال، وركبوا القطار إلى باريس، وظلّت مدام بستور المسكينة في جلستها الطويلة مستقيمة الظهر تحمل أمامها عناقيد العنب حذر أن تسقط لفائف القطن عنها.
وجاء موعد انعقاد الأكاديمية، فقام بستور يصف لرجالها كيف صان عنبه من الخمائر فلم تنلها. وصاح فيهم: (أليس عجيباً إن أرض كرمتي يوم بدأت تجاربي لم تكن بها حصوة إلا استطاعت أن تخمّر عصير العنب! وما يصدّق على كرمتي يصدق على كروم الدنيا الواسعة. ثم أليس عجيباً بعد هذا إن بيوت الزجاج التي نصبتها خلت أرضها من الخمائر فلم تستطيع لعصير العنب تخميراً! ثم أتدرون لماذا؟ لأنّي في الوقت المناسب حجبت هذه الأرض عن الهواء بتلك البيوت من الزجاج!. . .)
وخرج من هذا إلى نبوءات عجيبة، إلا أنها على غرابتها قد تحققت اليوم. نبوءات كالوحي، وخيالات كالشعر، تجعلك تنسى خصومته القبيحة المرذولة التي أثارها على برنار. قال: (أفلا يجوز لنا بعد هذا أن نؤمن بيوم هو لا بد آت يستطيع فيه الإنسان أن يحمي نفسه من الوباء حماية أرض هذه الكرمة من خمائر الهواء). وكانت الحمّى الصفراء أصابت أرليانزة الجديدة فتركت عامرها خراباً، فقام يصوّر لهم تلك النازلة الفادحة(103/43)
تصوير فنان ماهر، وصوّر لهم كذلك فعل الطاعون الأسود على شواطئ الفلجا، فلما روّعهم وقشعر أجسامهم، ضرب نغمة جديدة سرّت فيهم بالرجاء
وفي هذه الأثناء، في قرية صغيرة في شرق ألمانيا كان طبيب بروسي صغير السن، مدوّر الرأس، حرون، آخذ في ترسم الطريق الذي يؤدي به إلى نفس تلك النبوءات التي تنبأ بها بستور هذا الدكتور الشاب كان يسارق مرضاه الوقت ليفرغ لتجارب يجريها على الفئران، وليستخرج طرائق في معالجة المكروب يتعرف بها شخصية كل نوع فلا تختلط عليه أجناسها، وليأتي بأمر لم يستطع بستور إتيانه على رغم حذقه وعلو كعبه
والآن، فلندع بستور إلى حين، ولنقف عند هذه المرحلة من حياته، ولو إنها مرحلة ستأتي من بعدها تجارب قام بها بستور كانت من أروع ما قام به في حياته، ومناقشات أثارها كانت نم أفكه المناقشات؛ لندع ذلك لنعرج إلى روبرت كوخ لنرى كيف غزا دولة المكروب وقد كانت وقفاً على بستور سنين طوالاً
(يتبع)
أحمد زكي(103/44)
محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- حدّثني إذن ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حيّاً بحلوله فيه؟
فأجاب: هو الروح
- أهذه هي الحال دائماً؟
فقال: نعم، بالطبع
- إذن فمهما يكن ما تملكه الروح، فإنها إذا تأتيه تحمل إليه الحياة؟
- نعم، يقيناً
- وهل ثمة ضد للحياة؟
فقال: نعم هناك
- وما هو ذاك؟
- الموت
إذن فلن تقبل الروح أبداً، كما اعترفنا، ضد ذلك الذي نسوقه. ثم قال: والآن، بماذا سمّينا ذلك العنصر الذي يقاوم الزوجي؟
- الفردي
- والعنصر الذي يقاوم الموسيقيّ أو العادل؟
فقال: غير الموسيقيّ وغير العادل
- وبماذا نسمّي ذلك العنصر الذي لا يقبل الموت
فقال: الخالد
- وهل تقبل الروح الموت
- كلا
- إذن فالروح خالدة؟(103/45)
فقال: نعم
- أيحق لنا القول بأن ذلك قد ثبت بالدليل؟
فأجاب: نعم يا سقراط، لقد ثبت بأدلّة كثيرة
- وإذا فرضنا أن الفرديّ لا يخضع للفناء، أليس يلزم أن ثلاثة غير قابلة للفناء؟
- طبعاً
- وإذا كان الشيء البارد غير قابل للفناء، ثم جاء العنصر الدافئ يهاجم الثلج، أفلا ينبغي أن يتراجع متماسكاً متجمّداً لأنه عندئذ يستحيل عليه أن يفنى كما كان يستحيل عليه أن يبقى مع قبوله للحرارة؟
فقال: حقاً
- وكذلك لو كان العنصر الذي لا يبعث لبرودة، أي الدافئ، مستعصياً على الفناء، لما فنيت النار وما انطفأت حين تغير عليها البرودة، ولكنها تنأى بغير أن تتأثر؟
فقال: يقيناً
- ويمكن أن يقال هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصياً كذلك على الفناء، لاستحال فناء الروح حين يهاجمها الموت، إذ يدخل البرهان السابق على أن الروح لن تكون قط ميتة، فلن تقبل الموت أكثر مما تقبل ثلاثة أو العدد الفردي الزوجي، أو النار، أو الحرارة التي في النار، البرودة، ومع ذلك فرب أحد يقول: (ولكن على الرغم من أن الفردي لن يصير زوجياً حين يقترب الزوجي منه، فلماذا لا يجوز أن يفنى الفردي وأن يحل مكانه الزوجي؟) ونحن لا نستطيع أن نجيب من يتقدم بهذا الاعتراض بأن العنصر الفردي مستعصياً على الفناء لأن ذلك لم يعترف به بعد، فلو قد اعترف بهذا لما أشكل علينا الزعم بأن العنصر الفردي والعدد ثلاثة يهمان بالرحيل حين يقترب الزوجي، وهذا البرهان بعينه كان يصح عن النار وعن الحرارة وعن أي شيء آخر
- جداً صحيح
- ويجوز هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصياً كذلك عن الفناء، إذن لكانت الروح مستعصية على الفناء كالخالد سواء بسواء، فإن لم يكن، وجب أن يقام برهان آخر على استحالة فناءها(103/46)
فقال: ليس بنا من حاجة إلى برهان آخر، إذ لو كان الخالد - وهو سر مدى - عرضة للفناء، للزم ألا يستحيل الفناء على شيء
فأجاب سقراط: نعم، فكل الناس مسلّون بأن الفناء مستحيل على الله وعلى صورة الحياة الروحية وعلى الخالد بصفة عامة
قال: نعم، كل الناس بذلك مسلمون - هذا صحيح، وأكثر من هذا، فهم مجمعون - إن لم أكن مخطئاً - على أن الآلهة كالناس في ذلك
- وإذن فما دمنا قد رأينا أن الخالد لا يناله التخريب، أفلا يلزم أن تكون الروح مستعصية على الفناء كذلك - ما دامت خالدة؟
بكل تأكيد
- إذن فحين يهاجم الموت إنساناً، فقد يتعرض الجزء الفاني منه للموت، أما الخالد فينأى عن طريق الموت حين يحفظ مصوناً سليماً؟
- حقاً
إذن يا سيبيس فالروح خالدة بغير شك، وهي مستعصية على الفناء، وستحيا أرواحنا حقاً في عالم آخر!
فقال سيبيس: إني مقتنع يا سقراط، وليس لدي بعد ذلك ما اعتراض عليه. فإن كان عند صديقي سمياس، أو عند أحد سواء اعتراض آخر، فيجمل به ألا يلتزم الصمت وأن يعلنه. اللهم إن كان لديه شيء يريد أن يدلي به، أو كان يود لو أدلى به، فلست أرى أن يجود عليه الدهر بأنسب من هذه اللحظة، حتى يجوز له أن يرجئ إليه الحديث
فأجاب سمياس: ولكن ليس عندي ما أقوله بعد ذلك، بل لست أرى مجالا للشك، إلا ما ينشا حتماً عن ضخامة الموضوع وضعف الإنسان، فذلك ما لم يسعني إلا أن أشعر به
فأجاب سقراط: نعم يا سمياس فقد أحسنت قولاً: أضف إلى ذلك أن المبادئ الأولى يجب أن تبسط للبحث الدقيق حتى وإن كانت تبدو يقيناً، فإذا ما استوثقنا منها وثوقاً مرضياً، استطعنا بعدئذ، فيما أضن، في شيء من الإيمان المزعزع بالعقل البشري، أن نتتبّع مجرى البرهان، فإن ألقيناه واضحاً لم يكن بنا بعد ذلك حاجة لسؤال
فقال: ذلك صحيح(103/47)
(يتبع)
زكي نجيب محمود(103/48)
أبو العباس أحمد المقّري
1041هـ - 1631م
بقلم عبد الهادي الشرايبي
تتمة
هذا ولا نثني عنان القلم دون أن نشير إلى تلك القصة الشعرية استعراضية لحوادث الدهر وأيام الأول، وهي طويلة نجتزئ منها ببعض فقرات يقول في فاتحها:
سبحانَ مَن قَسّمَ الحظو ... ظ فلا عتابَ ولا ملامه
أعمى وأعشى ثمَّ ذو ... بَصَر، وزرقاءُ اليمامه
ومسدد، أو جائر ... أو حائر يشكو ظلامه
لولا استقامة مِن هدا ... هـ لما تَبَيَّنت العلامه
. . . فالعَيش في الدنيا الدنيّة ... غير مَرجو الإدامه
مَن أرضعَته ثَديَها ... في سرعَة تبدي فطامه
مَن عزَّ جانبِهِ بها ... تنوي على الفورِ اهتضامه
وإذا نظَرت فأين مَن ... منعَته أو منحَت مرامه
أينَ الذين قلوبهم ... كانت بها ذاتَ استهامه
أينَ الذين تفيئوا ... ظلّ السيادَةِ والزعامه
أينَ الملوكِ ذو الريا ... سةِ والسياسةِ والصرامه
أم أينَ عنترة الشجاع ... وذو الجدا كعب بن منامه
والزاعِمونَ بجهلِهِم ... أنّ القبورَ صَدى وهَامه
والمكثِرونَ مِنَ المجو ... نِ إذا شَكا الفِكرُ اغتمامه
أينَ الغَريض ' ومعبد ... أو أشعب وأبو دلامه
أينَ الألى هاموا بسعدي ... أو بثينَة أو أمامه
وبَكوا لفرط جواهم ... والليلُ قَد أرخى ظَلامه
وتَتَبّعوا آثارَ مَن ... عَشَقوا بِنَجدٍ أو تهامه(103/49)
وتَعَلّلوا، والشَوقُ يَغلِبُ ... بالأراكةِ والبِشامَه
وسَقاتها المتَلاعِبونَ بلَب ... مَن أعطوهُ جامه
مِن كلِّ أهيفٍ يزدري ... بالغصنِ إن يَهزز قِوامه
ذي غَرَّةٍ لألاؤها ... يمحو عَنِ النادي ظَلامَه
فالشمسُ في أزرارِه ... والبدرُ في يَدِهِ قَلامَه
يصمي القلوبُ إذا رَمى ... عَن قوسٍ حاجِبَهُ سِهامَه
وَيَروقُ حَسَناً إن رَنا ... وَيَفوقُ آراماً بِرامه
ثم يشكو صروف الدهر وفجائعه بفخر الأدب (ذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب):
راعَت صروفُ الدّهرِ دو ... لته، وما راعَت ذمامه
حتى ثَوى إثرُ التَوى ... في حفرَةٍ نثِرَت عِظامه
مَن زارها في أرض (فا ... س) أذهَبَت شَجوا منامه
إذ نَبهَته لِكلّ شَملٍ ... شَتّتَ الموتُ التئامه
هذا لِسانُ الدينِ أسكَتَهُ ... وأسكَنَهُ رجامه
ومَحا عِبارَتِه فمَن ... حَياهُ لَم يردد سَلامه
فَكَأنّهُ ما أمسَكَ ال ... قَلَم المطاع ولا حسامه
وَكَأنّه لَم يعلُ مَت ... ن مطهم باري النَعامَه
وَكَأنّهُ لَم يرق غا ... رب الاعتزاز ولا سنامه
. . . مذ فارَقَ الدنيا وقَو ... م ض عن مَنازِلَها خِيامه
أمسى بِقَبر مفرَداً ... والتربُ قَد جَمَعَت عِظامه
مِن بَعدِ تَثنِية الوزا ... رة، جاده صَوبُ الغَمامه
لَم يَبقَ إلا ذِكرُهُ ... كالزهرِ مفتَرِ الكمامه
- 4 -
وله في الشعر المنثور رسائل بليغة، ومساجلات أدبية رائقة؛ ويكفي أن نلقي نظرة على كتابه الحافل (نفح الطيب) الذي هو سجل لألوان الأدب الأندلسي، وديوان لأخبارهم وطرائفهم، والذي تدين له العروبة والتاريخ والأدب والفن بأكبر الفضل في جمع أشتاتها،(103/50)
ونظم متناثرها، فخلد بعمله ذاك صوراً حية من الحضارة الأندلسية، ومدنية العرب في أوربا (من مطلع فجرها حتى مغرب شمسها)!. . .
وإليك ما يقول في وصف البحر حين نزوحه عن مسقط رأسه إلى ديار الشرق والحجاز:
(. . . ثم جد بنا السير في البر أياماً، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبالها وهياماً، وكنا عن تفاعيل فضلها نياماً، إلى أن ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحوالها، مالا يعبر عنه، ولا يبلغ له كنة. فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر، قد أزعجتها أكف الرياح من وكرها، كما نبهت اللجج من كسرها، فلم تبق شيئاً من قوتها ومكرها، فسمعنا للجبال صفيراً، وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً، وتيقناً أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيراً، وإذا مسّكم الضر في البحر ضلّ ما تدعون إلا إيّاه، وأيّسنا من الحياة لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه، والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد أو يقترب، وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها، وعنان السحب يخطف في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وأذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها، وساءت الظنون، وتراءت في صورها المنون،. . . . ونحن قعود، كدود على عود، ما بين فرادى وأزواج، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا إنه ليس في الوجود، أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء، وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو، في الرواح والغدو، لاجتيازه على عدة من بلاد العدو. . لاسيما مالطا الملعونة، التي يتحقق من خلص من معرتها أنه أمد بتأييد إلهي ومعونة. فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا. وقل من ركبه فأفلت من كيدها ونجا،. . . وتشتت أفكارنا فرقا، وذبنا أسى وندماً وفرقا، إذ البحر وحده لا كميّ يقارعه، ولا قويّ يصارعه، ولا شكل يضارعه؛ لا يؤمن على كل حال، ولا يفرق بين عاطل وحال، ولا بين أعزل وشاكي، ومتباكي وباكي، فكيف وقد انظمّ إليه خوف العدو الغادر الخائن، إلى أن قضى الله بالنجاة وكل ما أراد فهو الكائن.) إلى أن يقول: (فترى الأنفاس(103/51)
تعثر في زفرة الأشواق، والأجسام قد زرت عليها من التعب الأطواق، وتساوي في السير نهار مشرق، وليل مقمر أو داج. . ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى (مصر) المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيراً من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، بقول ابن ناهض فيها:
شاطئُ مصر جَنّة ... ما مِثلها في بَلَد
لا سيما مذ زخرِفَت ... بِنَيلِها المطرد
وللرِياحِ فَوقِه ... سَوابِغُ من زرد
مَسرودَة ما مَسَّها ... داودَها بِمبرد
سائلة، وَهوَ بها ... يَرعدُ عاري الجسد
والفلكُ كالأفلاكِ بي ... ن حادر ومصعد
- 5 -
وبعد فلعل هذه الكلمة تكون حافزاً لأدباء العرب إلى دراسة هذا الأديب الكبير والاهتمام بآثاره القيمة، وتوفيها حقها من البحث والاستنتاج، ومن هاتيك الخدمة إعادة طبع كتابيه الكبيرين (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) في شكل يلائم قيمتها الأدبية والتاريخية مع مراجعتها على الأصول وتتميم النقص الذي بهما
(فاس)
عبد الهادي الشرايبي(103/52)
أجدّ ' وأمزح
اندفاعات
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
أنا ما بَرِحتُ ولا أراني أبرَح ... بينَ الضلالةِ والهدى أترَجّح
طوراً بإبليسِ المسوّسِ أقتَدي ... طَرِباً وطوراً للإله أُسَبّح
إنّي أرى إن السلامة في التّقى ... لَو كانَ شَيطاني بذلكَ يَسمَح
إبليسُ يغويني فإن لم يهدني ... رَبّي فإنّ به مَصابي يفدح
وإذا استقرت في الحياة عَقيدَة ... يوماً فبالبِرهانِ لا تتزَحزَح
في الشكِّ وَخز واليَقينِ قناعَة ... فانظر لأيّ المَسلَكَينِ ترَجّح
لم أطمَئِنّ إلى الحياة فإنها ... عبء وتحتَ العِبءِ ناس ترزح
تَبكي اليتامى ثمّ إنّي لا أرى ... لِدموعهم مَذروفة مَن يمسَح
سألَ القطيع المالكيه راعياً ... فأجيبُ هاكَ الذئبُ فهو الأصلح
إن كانَ في ذِكرِ الحقيقة جَهرةً ... قبح فكتمان الحقيقةِ أقبَح
مَن لي بصبحِ أهتدي في ضوئِهِ ... فالليلُ داج والكواكبُ جنّح
ما كلُّ أقوالي بَناتُ عقيدَتي ... إني لفي شِعري أجد وأمزح
وإذا ذَمَمتُ فلا أذمّ سوى الذي ... يأتي من الأفعالِ ما استقبح
إنّا بعهدٍ للعروبةِ حاجة ... فيه لإصلاح وأين المصلِح
لم يَكتبُ الله البَقاءُ بأرضهِ ... إلا لمن هو للوغى يتسلّح
أمّا الطبيعةُ فهي خَرساء إذا ... ساءلتها عن أمرها لا تفصح
ما زالَ هذا الكونُسِرّاً غامِضاً ... ولَعَلّ ما هوَ غامِض يتوَضّح
إن الحياةَ رواية قد أحسنوا ... تمثيلها والأرضُ نِعمَ المَسرَح
دهري تربّاني ودهري هَدّني ... أأذمّ دهري أم لدهري أمدَح
ذهبَ الشبابُ مخلّفاً أغلاطهِ ... ووددت لو أن المشيبُ يصَحّح
عمر بمختلف الحوادثِ حافل ... وَليّ فما للنفس فيه مَطمح
قد ذقتُ حلوَ العيشِ فيه ومرّه ... وخلت يدي حينا وكانت تطفح(103/53)
كم بائسٍ يطوي سجلّ حياته ... يأساً كما يتطوّح المتطوّح
وأرى الكآبَة للسرورِ ذريعةً ... من لا يلاقي غَمّةً لا يفرح
قد كنتُ في عهدٍ مضت أيامهُ ... أمسي على ضوءٍ كأني أصبِح
لم امتدحُ عهد الشبابِ وطبيهِ ... حتى علتني كبرة لا تمدح
بقيت بنفسي في الحياةِ لبانة ... أدنو إليها وهيَ عنّي تنزح
في الصبحِ غرّد يا هزار فإنما ... قبل الصباحِ الوردُ لا يتفتّح
وأشممهُ وألثم ثغرهِ قبل الضحى ... فالورد إن جاَء الضحى يتصوّح
صاحَ الغرابُ على كراهة صوتِهِ ... في الروضِ واختارَ الصّموتَ الصيدح
ودّوا لو إني قد جنحت عنِ الهوى ... في كبرتي لكنني لا أجنح
إن كنت ' شيخاً قد كَبرتُ عن الصّبا ... فالقلبُ لم يكبرُ وروحي تمرح
شقّوا فؤادي وانزَعوا منه الهوى ... ولعلّها عملّية لا تنجح
إني بأوطاني التي أحبَبتها ... بالشعرِ للآتي البعيد ألوح
يا حبّذا لو إنّ روحي بعدما ... تلقي المنييّة في المجرةِ تسبح
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(103/54)
فصول ملخصة عن الفلسفة الألمانية
11 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانية
فرديريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
وهنالك علاقته مع المرأة تبدي ناحية من نواحي نفسه، فقد زعم أناس إن نيتشه كان يذهب مع المرأة مذهب معلمه (شوينهاور) كاره المرأة، ويستشهدون على ذلك بقوله: (أيها الذاهب إلى المرأة! لا تنس عصاك وسوطك) ولكن هذا الحكم يسهل نقضه على المدقق في تعاليم نيتشه، فالمرأة التي طعنها نيتشه في الصميم هي المرأة المترجّلة التي تريد أن تزاحم الرجل في علمه وجهاده واقتصاده، أما غير هذه المرأة فهو مقدر لها محترم لفضلها، مقدس لمعنى المرأة فيها؛ ولقد كان له من هنّ صديقات وصاحبات فضليات، وهو - وإن لم يتذوّق من امرأة ذلك الهوى العاصف والحب اللاعج فقد تذوّق عطفها الرقيق وعاطفتها الخالصة. وقد ذكرت شقيقته في مذكراتها (إن أخاها كان يجهل الحب العادي. . . وإنما كان همه الشاغل له التفتيش عن الحقيقة). على إن هذا الفيلسوف السئم (المنطوي على نفسه) الذي لم يستسلم للأهواء المصطخبة والميول الملتهبة، قد تذوّق في أيام نكبته من عطف المرأة ما لم ينعم بمثله إلا قليل. . . فهو صاحب مثل أعلى في الحب كما كان في الصداقة
وهنالك نشأته المدرسية فقد دلّت على طبعه (الأرستقراطي) الذي ينفر من كل شيء مبتذل شائع، ولا يميل إلا إلى كل جميل لامع، وطبعه هذا هو الذي حمله على اعتزال رفاقه الذين يدرسون معه، وذوقه هذا الجانح إلى محبة الأشكال الجميلة هفا به إلى عشق الجمال القديم وحب العبقرية الفرنسية الغابرة والحاضرة. ونفوره هذا من السوقة والعامة جعله ينفر من المسيحية، ويصفها ويصف أصحابها ورسلها وصفاً قاسياً، ويكره كل المبادئ التي تبشّر بها الديمقراطية والإنسانية الاشتراكية. وكل تعاليمه الأخلاقية إنما تؤول إلى هذه الغاية: (هل هذه العاطفة شريفة أو غير شريفة؟) ولعلّ نيتشه كان يمثّل نفسه الجبارة في(103/55)
هذه الكلمة التي يرددها (زرادشت) حين يقول: (تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يسألون حين يعملون لماذا؟) وهذه صفة نفس لا تعتمد إلا على إرادتها، تحتمل الألم وتصدمه ثم تهزمه، وتقابل القدر وتعلن سيادتها عليه
أطوار حياته
كان هوى نيتشه الراسخ في صدره هو العثور على الحقيقة، فلننظر أي طريق ركب إليها، وما هي الدوافع التي هيمنت عليه؟
كان نيتشه يمت بنسب قوي إلى أسرة مغرقة في دينها، متشددة متعصبة، مع ميل إلى الدراسة العلمية، قرن والده العلم إلى الدين؛ وما كان لنيتشه أن يبدل هذا السبيل الذي اختاره له والده واختارته طبيعته، وقد عرفه أصدقاء حداثته مغالياً في دينه وفي تقواه، ولا عجب إذا أطلقوا علي - وهو في السادسة من عمره - أسم العابد الصغير؛ حتى إذا ما أتم دراسته الأولى خرج إلى الحياة وهو لا يزال يفكر في ربّه، ولا يفكر بنعمته، ولا يجحد وجوده. وما هي إلا أعوام كرت حتى أخذ يرتاب في الدين الملاصق للعلم، لأن ما في الدين من إيمان لا يلائم في رأيه ما في العلم من حرية وانطلاق! وهو عندما يعمل على درس الطبيعة والتاريخ متوخياً الحقيقة من وراء دراساته يجد في عمله هذا ما يسمح له بأن يكون طليقاً حراً لا يسترقه شيء. ومنذ ذلك الحين بدأ يطمع في الحقيقة العلمية التي يقتفي أثرها فكره الضائع دون أن يفقد الله الساكن في أحناء صدره. ولكن ناشد الحقيقة العلمية لا يتسنى له أن يوفق زمناً طويلاً بين حقيقته المنشودة وبين إيمانه الموروث. فهما حقيقتان متضادتان، إذا تلائمتا في أول الطريق فنزاعهما حقيق في وسطه، وإذا توافقتا في وسطه فالخلاف ناشب في منتهاه. وهاهو ذا نيتشه يفصل الآن بين هاتين الحقيقتين، ويكتب عام 1862 تجربة فلسفية على القدر والتاريخ، يحدثنا إنه قاس بعقله (أوقيانوس الأفكار الواسع، وهم بأن يجازف بنفسه في بحر الشك، ولكنه وجد إن مجازفة مثل روحه الضعيفة تجاربها ضرب من الجنون وهي لا تملك عدة، ولا تحمل سلاحاً) ومنذ تلك اللحظة ألقى إن الديانة المسيحية مبنية على افتراضات وهمية. إما وجود الله والخلود والوحي فستبقى جميعها مسائل لا حل لها. (إنني جربت أن أكفر بكل هذا، وما أيسر الهدم! ولكن الهدم يستلزم البناء. . . على إن الهدم والتخريب هما أصعب مما تتمثله عقولنا، فنحن في(103/56)
الحقيقة لا نعيش لأنفسنا ولا نملك أنفسنا وقفاً علينا. فهناك أوهام الطفولة وأساطيرها تحتل مكاناً منا، وهناك تعاليم الآباء والمعلمين تؤثر فينا، وكلها عوامل مترابطة متلاحمة لا يسهل على العقل أن يخترق سياجها، ولا يمكن المنطق أن يقوم اعوجاجها.
إن قوة العادة المتوارثة وتسامينا إلى الكمال وانفصالنا عن العالم الحالي، وحل كل عقد المجتمع، والشك في حقائق الوجود، كلها نوازع تتنازعنا وتملك علينا إرادتنا، والنكبات المفجعة، والتجارب المؤلمة، هي التي تسوق قلوبنا إلى الإيمان الذي ولد مع طفولتنا، وصاحب حداثتنا)
وبعد ثلاثة أعوام ألقينا (نيتشة) يخطو خطوته الأخيرة، ويعلن إن الإنسان بين حالتين لا ثالث لهما: فهو إما أن ينتخب الإيمان وما في الإيمان من هدوء ووقار واستقرار، وإما أن يمشي على طريق محفوفة بالأخطار: هي طريق الباحثين عن الحقيقة، الذين لا يتّخذون الهدوء والسكينة مأرباً لهم، وإنما يجدون مأربهم في نجدان الحقيقة. يمشي الباحث منهم وحده مضطرب النفس قلق الضمير، ممزق القلب، نحو ضالّته المقصودة، نحو ما يتجلى له من حق وجمال وخير، وهو إذا غادر طريق الباحثين ورضى لنفسه ذلك الهدوء فقد قتل البطولة في نفسه، وحكم على رجولته بالموت.
انفصل (نيتشه) عن المسيحية التي كان يؤمن بها قبل عهد الانفصال إيمانه بشيء رمزي قائم على قواعد رمزية، شأن الحقائق السامية تكون رموزاً لحقائق أسمى منها وأعلى. وظل يدرك خطر العمل الذي أقدم عليه، ويتكلّم في كل فصوله (عن موت الآلهة) كأن موته - عنده - حادث عظيم في تاريخ البشرية أو عمل نفّذ اليوم أوله والأجيال الآتية ستتممه. ولكن (نيتشه) اعدم هذه الآلهة ليبعث إله الحقيقة. (هذا الإله (الأدبي)، قد مات ليعيش الإله العلمي) وهكذا حمله حنينه الهاجع في أحناء نفسه للدين إلى الإيمان بآلهة الحقيقة. وعندما وجد نفسه يتنازعها إلهان سلطانهما نافذ: الإله الذي ورثه، والإله الذي لقيه، رأى أن يضحي بالأول ويبقى على الثاني. وهذا الإله هو الذي يسيطر وحده على كل تعاليم نيتشه ومبادئه، ولم يعش مع إلهه هذا كما يعيش أولئك مع آلهتهم مستسلمين قانعين بما نزل على قلوبهم من برد اليقين، فهو يهب عاملاً على تحطيم كل عمارة مشيدة على الإيمان بذلك الإله الأول، وهو - الآن - لم يعد يؤمن بنظام الطبيعة ولا بجمالها. ولا يميل إلى(103/57)
محاسنها، ولم يعد يرى في صفحات التاريخ ذلك القضاء الإلهي والنظام السماوي الذين يقودان الإنسانية إلى مرابعها التي خلقت لها، ولم يعد يستسلم لذلك القدر الذي يذهب بحياتنا ما يشاء، ولا لتلك الإرادة الإلهية التي تود أن تهدينا إلى سبيل النجاة والسلام.
بحث (نيتشه) جميع الأديان والشرائع منذ العصور الأولى والمذاهب التي نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبعد أن شكك في هذه المذاهب وارتاب في حقائقها وأغرق في الإنكار عاد إلى هذه الفكرة التي قالها جازماً، وزعم إنه بهذه الفكرة حلّ مسألة الوجود: (إلا أن الآلهة جميعهم قد ماتوا! والآن نريد أن يحيا الإنسان الكامل. . السوبرمان) وهكذا أضاع نيتشه إلهه ووجد نفس.
بحث الناقدون كثيراً في فكرة نيتشه التي كانت تتطور وتتبدل تبعاً لما يحيط بحياته. وهو قبل بلوغه هذا المرفأ خاض بحاراً كثيرة وجاز شواطئ كثيرة. وقد أدرك بذاته تطور ذاته فشبه نفسه بالأفعى التي تنسلخ من جلدها أو النسر الذي ينسل ريشه. والحياة - عنده - ليست بواجب يلقى ولا بعمل يفرض ولا بوهم يحسب، وإنما هي مادة شأنها شأن المواد التي تقع بين يدي الباحث. وكان ينظر نفسه كالمتنقل بدون انتهاء. همّه النضال تهذبه انكساراته تهذبه كما انتصاراته، أو كالقافز بين الصخور يكاد يذهب بنفسه ضحية على رؤوس الصخور الشاهقة. وهو - بلا كلل ولا فتور - يصعد من عال إلى أعلى، ومن قمّة إلى قمّة، مبدّلاً كل لحظة أفقه عازما على ألا يقف أبداً ولا ينثني أبداً. رداؤه الشجاعة والصرامة، لا يروعه البرد ولا تخيفه الهاوية. ولا يجزع من العزلة التي يتنفس فيها ريح الثلج المنهمر. . . هو دائما في صعود وارتقاء. وهكذا يعتقد نيتشه الذي فهم الحياة إنها تفوق بعضها على بعض؛ يعتقد إن التطور لا غنى عنه، ولا بدّ منه لأنه مادة ضرورية في تحول الحياة. يعتقد نيتشه ذلك ويدأب على أن يوفق بين حياته وإرادته مع هذا المثل الذي اعتقد به، وقد كان توفيقاً كاملاً وكان تلائماً كاملاً، وصارت مسألته في الحياة هذه المسألة: (ما عسى يكون عندي معنى الحياة إذ لم يكن إله؟) ويجيب على هذه المسالة بهذه الكلمة: (إن اللاشخصية ليس لها قيمة على الأرض ولا في السماء. إن الحب الأكبر هو جوهر ضروري وجوده في كل مساء الوجود الكبرى. وهذا الحب وحده جدير بالأرواح القوية النشيطة ذات اليقين الراسخ. هنالك فرق كبير بين المفكر الذي يقابل مسائل الوجود(103/58)
بشخصيته، يرى فيها قدره وفاقته كما يرى فيها سعادته، وبين المفكر الذي يتوجه إليها مجرّداً عن شخصيته. لا يعرف أن يلمسها إلا بفكره البارد الغريب. إن هذا المفكر لا يستطيع أن يلمس شيئاً. وهب أن مسائل الوجود قد أمكن لمسها فلن يقدر للضفادع أن تلمسها ولا للدجاج المسترخية أن تحسها. .
ونيتشه وجد في المسألة الكبرى شقاءه وسعادته. وقد ناضلها بدون ضعف ولا هوادة، ونازلها جسداً لجسد دون أن ينفذ إلى قلبه الوهن. حتى إذا أصابه الجنون وقضى على شعوره أعلن نشيد الانتصار. أو ليس هذا بعد ذلك كله قدراً جميلاً بين الأقدار؟
(يتبع)
خليل هنداوي(103/59)
القصص
من أساطير الأغريق
مجازفات هِرَ قل
للأستاذ دريني خشبة
1 - إلى غابة نيميا
كانت الغابة تثير الرعب في قلوب الجن، وكانت الظلمات تضرب في أنحائها فتجعلها تيهاً يعج بالأفاعي، ويضج بالتنانين
وكان ملكها الضرغامة يربض في المغارة المفزعة، المنشقة كالقبر في أول الطريق المؤدي إليها؛ وكان يخرج في أول الليل فيصول في القرى المجاورة ويجول؛ وكان الأهلون التعساء يلقون من بطشه وشدة أذاه الشيء الكثير؛ فلم يكن يبقى على دابة في الأرض، ولا إنسان في الطريق. ينقض كالقضاء على فريسته فيجندلها، ثم يحتملها إلى كهفه فيلتهم منها، وينبذ الباقي لخدمه وعبيده الكثيرين من سائر السباع
ولم يكن كهذه الأسود الضئيلة التي يتحدث عنها السودان هذه الأيام، بل كان أسداً في جرم الفيل وقوته، ورشاقة النمر وخفته، وخباثة الثعلب وحيلته. . . يثور فينقدح الشرر من مقلتيه، وتمور الأرض وتسجد الجبال بين يديه. وكانت له لبدة نسجتها له الآلهة من أشواك الجحيم، وبطنّها بحمّى المنية!
وكان زئيره يقصف كالرعد فيزلزل شعاف الجبل؛ ويهز جوانب السماء، ويهيج الجنون والفزع في رؤوس الوحوش، فترى إلى الغابة كأنها ترقص على فوهة بركان!!
ولقى هرقل أصدقاءه فنصحوا له ألا يلقى هذا الأسد، وأن يضنّ بشبابه. . . على أنيابه؛ وبماء الحياة المتدفق في بردتيه، على جمر الغضى المتأجج في حدقتيه. . .
ولكنه أبى!! وانطلق كالعاصفة إلى حيث يربض أبو أسامة. . . وإنه لعلى خطوات من الكهف، وإنه لينظر إلى السيف الذي كان إلى هذه اللحظة في يمينه فلا يجده!!
(أين؟ أين سيفي؟. . . آه! ها ها. . . لقد سرقته حيرا!! أرادت الخبيثة أن تجردني من السلاح الذي أنازل به خصمي! خاب فألك يا حيرا!! سأنازله بغير ما سلاح. . . سأحطمه.(103/60)
سأشدّ لسانه حتى أنتزعه من غلاصمه. . . إليّ يا سبع نيميا. . . إليّ يا ملك الغابة وسيد وحوشها. . . الساعة ساعتك. . . لا مفر لك يا أبا لبدة!. . . . . . . . .)
وطفق هرقل يرعد كالمجنون؛ وكان سبع نيميا نائماً فاستيقض على هذه الصيحات الداويات، ووثب وثبة هائلة كان بها أمام هرقل، وجهاً لوجه. . .
وبدأت الزوبعة. . .
والتقى الجبل بالجبل، وتصارع الجبّاران ساعة، لا هذا ينال من ذاك، ولا ذاك يصل إلى وطر من هذا. . . وأقبلت وحوش الغابة تشهد المعركة وتتعجب. . . وغضب أبو أسامة، وهالة ألا يقوى على رجل بمفرده يكاد يصرعه. . .
وتعب هرقل. . . ونال منه الجهد، ورأى أن لا بد من آلة، فدار دورة اقترب بها من شجرة باسقة، فانتزعها، وألقى بجذعها في شدقي الأسد، ثم أسرع فقبض على لسانه العظيم فانتزعه، وانقذف الدم يتدفق من هنا وهناك. . . وتسيل به أودية الأرض!!
وكأن نشوة الظفر قد ضاعفت قوة هرقل، فقبض على فكّي الأسد، وشدّ على الرأس الكبير فتحطّمت عظام المخ، وخرّ ملك الغابة يتقلّب في لجة من دمه الغزير!.
وهمهمت الوحوش مشدوهة!
لقد قتل ملكها. . . فلا خوف عليها بعد اليوم! ستكون حرة طليقة، تجيء وتروح، وتقتات لنفسها غير منتظرة ما كان ينبذه لها أبو أسامه!! ونظر هرقل، فرأى سيفه وراء ظهره!!
لقد جاءت به حيرا بعد إذ شهدت من جبروت البطل ما بهرها وتناول السيف باسماً، ثم تقدم إلى الأسد فسلخ جلده الكبير، وأبقى على اللبدة الهائلة، وعاد أدراجه إلى يوريذوس، ملتفعاً دثاره الغريب الذي كان إلى لحظة قريبة يضم جثمان ملك الغابة وسيد وحوشها.
2 - مع الأفعوان الهائل (هيدرا)
ولقي صديقه يولوس، وتحدث عما كان من أمره مع سبع نيميا، فأخذه العجب، ونذر ليصحبن هرقل في جميع مجازفاته.
ثم فصلا، وما كاد يفعلان حتى قابلهما رسول الملك برسالة تأمر هرقل بالتوجه إلى مستنقعات ليرنا حيث الأفعوان الأرقم هيدرا: (. . . فإذا لقيته ثمّة فعليك به، ولا تعودن إلا برأسه. فقد حدثنا من عرفه إنه لا يبقي على دابة ولا بهيمة، ولا يعفي من القتل أحداً. . .(103/61)
ونحن أرفق برعايانا من أن ندعهم فرائس لهذا الأفعوان. . .)
وانطلقا، حتى إذا كانا عند المستنقعات المترامية، شهد هرقل حيواناً ضخم الجثة فضيع المنظر، يتقلب فوق صفحة الماء المغطاة بزهرات اللوتس وأوراقه العريضة النامية. وأيقن إنه هيدرا، فتناول قوسه الكبيرة، وأرسل إلى الوحش سهماً يهيجه به، ليخرج من الماء، وليأخذ معه في نزال وقتال. . . وتم له ما أراد. وخرج هيدرا الفظيع يقلب رؤوسه السبعة.
ويقلب في كل فم لساناً طوله ذراعان، وبرزت أنيابه تنفث سمها الزعاف، وأرسلت العيون الصغيرة البراقة شررها، وشرع الفحيح المرعب يصم أذني هرقل وأذني صاحبه
وبدأت المعركة. . .
وامتشق هرقل سيفه الكبير المرهف، وبضربة قاضية أطاح رأساً من الرؤوس السبعة. . .
ولكن. . . يا للعجب!! لقد نبتت في لحظات قليلة، في مكان الرأس المقطوع، رؤوس سبعة أخرى، أخذت تنمو بسرعة فائقة، حتى أوشكت أن تساوي الرؤوس الكبيرة في حجمها. . .
وريع هرقل، وهتف بصاحبه يولوس قائلاً: (أوقد النار يا صاح، وأجج هذا الجذع فاكو به كل رأس يطيح. . . إنني أخشى أن ينبت لهيدرا ألف رأس!)
ونفخ في النار وأجج الجذع؛ وأخذ كلما طاح رأس كوى مكانه بالنار وحدث ما لم يكن بالحسبان. . . لقد أرسلت حيرا سرطانا بحرياً يعض قدما هرقل وهو يحارب هيدرا، تود بذلك لو تشغله فيستطيع الأفعوان الظفر بخصمها العنيد. . . ولكن هرقل تنبه للسرطان فوطأه، وسحق عظامه سحقاً وانتصر هرقل. . .
وطفق يغمس سهامه في دم الأفعوان ليسممها، حتى إذا أصابت رمية لم تفلتها من الموت. وعاد إلى يوريذوس ثملاً بخمرة النصر
3 - ظبي سيرينيا
وأسقط في يد يوريذوس حين رأى هرقل يختال في بردة السبع ويتيه، وفي قبضته القوية رؤوس هيدرا هامدة خامدة
وكان في مقاطعة سيرينيا ظبي له قرنان من ذهب، وأيطلان من نحاس، وساقان من معدن ليس له فيما نعرف من المعادن من ضريب. وكان الملوك إذ أرادوا إعجاز أحد من الناس ليقتلوه، كلّفوه باقتفاء ظبي سيرينيا وإمساكه؛ فإن لم يفعل، ولن يستطيع أحد أن يفعل، لشدة(103/62)
عدو هذا الظبي، كان جزاءه القتل. وقد أراد ملك أرجوس أن يعجز هرقل هذه المرة، فأمره باقتفاء ظبي سيرينيا: (. . . فإن لم تعد إلينا به، فأنت أعلم بما ينتظرك من الموت الزؤام. . . .)
ولم يستطع هرقل أن يمسك الظبي، لأنه كان يعدو كزوبعة، فما تكاد حوافره تلمس الأرض إلا كما تلمس السماء كف سكران، فلجأ إلى الحيلة؛ واحتفر في طريق الحيوان حفرة عميقة غطّاها بوشائج رقيقة من الثلج، وطارد الظبي حتى ألجأه إلى الحفرة، ووقع فيها، فنزل إليه واحتمله، ومضى به إلى الملك الغاشم
4 - خنزير أرمنثيا
ثم أمره بقتل خنزير بري مخرب، كان يأوي إلى غابات أرمنثيا، ويقطع الطريق على القبائل الرحل، ويقتل كل من تحدثه نفسه بمحاربته أو الوقوف معه في ميدان. وكان ذلك الخنزير لا يبالي شيئاً في الأرض أو في السماء، وكانت بينه وبين قبائل السنتور مودّة في الشر، وتحالف على إيذاء الناس. فلما اشتبك هرقل وإياه في نزال تشيب من هوله الولدان، وشعر الخنزير إنه مقضي عليه لا محال، خار خواراً عالياً يستنجد حلفاؤه السنتور، ولكنهم لم يصلوا إلى مكان المعركة إلا بعد أن أجهز هرقل على خنزيرهم العزيز، فنشب قتال مروع بينهما، وأخذ هرقل البطل يسدد سهامه التي كان قد غمسها في دم هيدرا، إلى صدور أعدائه حتى كادوا يبيدون جميعاً. وأقبل شيرون - وهو كما علمنا مؤدّب هرقل وأستاذه - ليحسم النزاع بين قبيله وبين تلميذه، ولكن وا أسفاه! لقد أصماه هرقل بسهم مسموم فأراده وهو لا يعرفه! فلما أدرك إنه أستاذه، أقبل عليه، وعنى به، وجمع من الأعشاب الطبية ما حسب إنه ينقذ أستاذه من براثن الموت، ولكن بلا جدوى! ومات شيرون، وأهوى عليه هرقل يقبله، وفي عينيه دموع المحبة والاعزاز
وتعاون هرقل ومن بقي من السنتور فدفنوا القتلى، ثم أقاموا قبراً مشيّداً دفنوا في ثراه شيرون، ومضى كل لطّيته. .
5 - زرائب أوجياس ملك اليس
كان ملك أوجياس، ملك إليس، يقتني عدداً عظيماً من الماشية والخيل والغنم، تزدحم في(103/63)
زرائب متجاورة مع آلاف من الخنازير مؤلفة. وكانت النظافة في هذه الزرائب مهملة إهمالاً تاماً، حتى لكانت الروائح الخبيثة تنتشر منها فتصدم أنف عابر السبيل على فرسخ أو فرسخين، وأنتن الروث فأحدث طاعوناً مروعاً أوشك أن يأتي على جميع الأهلين، وقرر الأطباء أن لا سبيل إلى مقاومته إلا إذا عنى بتنظيف زرائب الملك. . .
وعلم يوريذوس بما شغل بال صديقه ملك إليس، فابتسم ابتسامة صفراء، وقال لهرقل وهو يحدثه حديث السينتور:
(إذن فعليك أن تتوجه إلى صديقي أوجياس، ملك إليس، فتنظّف زرائبه مما بها من خبث، وتكون بذلك قد أديت خمساً من المسائل الاثنتي عشرة، التي كتبتها عليك الآلهة)
وامتعض هرقل في أعماقه وعبس عبوسة كادت تنفجر بالسخط على هذا المالك الغبي؛ ولكنه ذكر نصيحة أريتية، فصدع بالأمر، وذهب من فوره إلى إليس، ليرى كيف ينظف زرائب الملك. . .
وثمة، رأى مجرى عظيماً من الماء، يتدفق من الجبل الشاهق إلى يمين الزرائب وينحدر انحداراً شديداً حتى ينتهي إلى البحر؛ فبدا له أن يغير مجرى الماء؛ بحيث ينصب في الزرائب نفسها، فيكتسح الروث، وينجو الناس من هذا الرهق الشديد وأنقذ هرقل مدينة الملك وثروته وحياة الأهلين!
وحاول ملك إليس أن يستبقيه ليجزيه، ولكن هرقل أبى شاكراً، وقصد إلى يوريذوس يتلقى أوامره
6 - عجل مينوس
وكان نيتيون إله البحار قد أهدى عجلاً جسداً لصديقه مينوس ملك كريد، كي يقدمه قربانا للآلهة في العيد الأكبر الذي يحتفل فيه بميلاد نيتيون؛ ولكن العجل راق مينوس الملك فانتقى من عجوله أحسنها، وضحّى به مكان هذا العجل الإلهي السمين، واستبقى لنفسه هدية الإله وغضب نيتيون، وأقسم ليكونن هذا العجل نقمة على مينوس وقومه، فسخّر عليه طائفاً من الجنون، فطفق العجل يخرّب ويدمّر، ويقتّل الناس تقتيلا. . .
وعلم يوريذوس بما كان من مصيبة صديقه ملك كريد في عجله، فلما قدم هرقل أرسله ليقتل العجل، أو على الأقل ليقيده فيرتفع عن الناس أذاه. . .(103/64)
وأبحر هرقل، ولقيه مينوس فرحاً متهللاً، وذهب من فوره لينازل العجل، فكانت معمعة وكانت حرب عوان! لقد كان هرقل يحمل العجل فيرفعه، فيخبط به الأرض فتندك، مع ذاك ما استطاع أن يقتله! وأخيراً اكتفى بأن صفّده بسلاسل وأغلال، وعاد أدراجه إلى أرجوس، وودعته كريد كلها
(لها بقية)
دريني خشية(103/65)
من الأدب الإيطالي
الليالي العشر
ترجمة الأديب أحمد الطاهر
4
قصة زوجة صبور
جريزلدا
(النساء لا يقمن على العهد، ولا يثبتن على الولاء) ذلك ما يقوله الرجال وما يعتقدون. ولكن هذه القصة التي سأذكر تنقض هذا الرأي وتدل على ولاء المرأة مع غلظة الرجل، وثباتها مع جفوته، وما أحسبكم إلا تشتهون سماع هذه القصة:
جالتيري كان أميراً على دوقية سالوزو، وكان من زعماء الرأي الظالم للمرأة، لا يؤمن بوفائها ولا يثق بإخلاصها. وحال هذا الرأي بينه وبين الزواج، فصد عنه، وانصرف إلى صيد الوحش واقتناص الطير، يجد في ذلك ملهاة ولذة وسلوه. ولكن رعية هذا الأمير كانت مشفقة على البلاد أن يموت أميرها وليس ورائه من يجلس على العرش، وذهب مسعاهم في حمله على الزواج أدراج الرياح، واتخذوا له كل وسيلة فلم يزد إلا صداً ونفوراً
قال الملأ من قومه: (إنا لنراك في وحدة وسأم شديد، وهذه أجمل فتياتنا نقدمها إليك راضين، وإنا لأمرك لمنتظرون) قال:
(لو كانت بي إلى الزواج رغبة لاخترت شريكتي في الحياة لنفسي، لا أكلفكم في ذلك عناء ونصبا، وهذه الفتاة التي تقدمون إليّ مهما يكن من شأنها في أصالة الحسب، وعزة النسب - أرفضها مع احترامي لقدرها، وإجلالي لشرفها؛ وإني لأحذركم عاقبة ما يقع بي من حسرة، وما أجد من غضاضة إذا حملتموني كرهاً على أن أتخذ زوجة لي لا أرضاها ولا أبغي السبيل إليها). وانصرف القوم خائبين نادمين
خرج هذا الأمير يوماً يدور حول قصره، فأبصر إحدى راعيات الغنم: فتاة بهية الطلعة،(103/66)
ساحرة الجمال، وكانت تحمل في جرتها ماء إلى منزل أبيها، فسألها: (ما اسمك أيتها الفتاة؟) قالت: (جريزلدا)، قال: (إنني يا فتاتي أبحث عن زوجة تشاطرني النعيم، فهل إذا اتخذتك زوجة لي تعملين على هناءتي ولا تعصين لي أمراً بالغاً ما يبلغ من الشدة دون أن يكون في صدرك حرج مما تؤمرين؟). قالت الفتاة: (نعم يا مولاي) وأرسل الأمير إلى المدينة رسولاً فأحضر للفتاة من الثياب أغلاها ومن الحلل أبهاها؛ وعقد على ناصيتها تاجاً من الزهر، وأركبها جواداً وسار بها إلى قصره، وأقام للزفاف ليلة كانت غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الليالي
وسكن الأمير إلى زوجه الصالحة فوجد في طبعها الهدوء والسكينة، وفي شمائلها العذوبة والطمأنينة، وألفاها رفيعة الحاشية كريمة الأخلاق حتى لقد رأى نفسه في الدنيا أكمل الناس سعادة وأتمهم توفيقاً. ولم يكن الشعب أقل سروراً بهذا الزواج. فقد تجلى حبهم وولاؤهم للأميرة وإكبارهم لأخلاقهم وصفاتها ودانوا لها بالمحبة وعقدوا لها القلوب على الولاء
ومضت الأشهر ثم وضعت الأميرة. ولكن وضعتها أنثى! وعادت إلى الأمير عقيدته العتيقة، ولعبت برأسه الهواجس وركبه الشيطان فصد عن سواء السبيل وقال في نفسه: (ما كان لهذه الفتاة أن تبغي عن سواء السبيل حولاً وهي في نعمة سابغة وهناء مقيم. فلو إنني أسأت إليها وبلوتها بشيء من الشدة والبأساء لبرزت طبيعتها الخبيثة وصدق رأيي في النساء)
واستدعاها إلى مجلسه. فلما مثلت بين يديه قال لها: (إن وضاعت أصلك وخسة منبتك كانتا سبباً لسخط الشعب واستيائه، وزاد هذا السخط إنك وضعت أنثى لا تصلح لأن أستخلفها على العرش)
قالت الأميرة: (مولاي! إني أعلم خسة منبتي وإنني أقل من أحط أوزاع الناس شأناً. وما هذه المنزلة التي رفعتني إليها إلا فضل لا أستحقه ونعمة لم أكن أتسامى إلى التطلع إليها. فاتخذ معي فيما بيني وبينك من شأن ما يزكو بشرفك ويرضى نفسك غير آبه لإحساسي وشعوري، فما أنا من المنزلة بحيث أشغل بال مولاي أو أستحق رعايته) وانصرفت الأميرة المبتئسة وفيما هي مطرقة كاسفة البال إذ دخل عليها أحد وصفاء الأمير قال: (مولاتي: إنني بين أمرين أحدهما مر: إما الموت ينزل بي لا راد له ولا دافع، وإما أن آخذ(103/67)
منك ابنتك) وما كاد يتم رسالته حتى أدركت الأميرة أن الملك قد ساقه البغي إلى الأمر يقتل أبنتها. فنهضت إلى مهد الطفلة البريئة وقبلتها قبلة الوداع، وأسلمتها إلى الرسول في رفق وأسى والتياع، وفي العينين عبرات، وفي النفس حسرات، ولكن الأمير بعث بالطفلة إلى بولونيا أن كان له فيها أقرباء يقومون على تربيتها وتنشئتها
ومضت سنون والأميرة تحمل بين جنبيها فؤاداً كليماً ونفساً تتنزى ألماً، ولكنها لا تظهر الأمير على ما تحمل، ثم أدركت أنها أصبحت جفن سلاح فتعزت بعض العزاء، ثم وضعت غلاماً وحسبت أن الأمير ستهدأ ثورته، وتذهب عنه حدّته، وقد وضعت له ذكراً يرث العرش من بعده
ولكنه استدعاها مرة أخرى، وقال لها في غلظة وجفاء: (لقد أصبحت لا أطيق الصبر على ما ألقى بسببك من مذلة ومهانة يصبهما عليّ الشعب صباً. فلقد أثار سخطهم وألّبهم على أن رأوا هذا العرش الذي أجلس عليه وأحكم بسلطانه سيؤول بعدي إلى غلام ينتسب إلى رعاة الأغنام أهون الناس شأناًً وأقلهم مكاناً. ولقد تدبرت الأمر فلم أجد خيراً من أن أريح نفسي من هذا الغلام كما أرحتها من أخته) واقتطع الغلام من قلب أمه كما اقتطعت أخته من قبله
قالت الأميرة: (مولاي! لك الأمر وعلي الطاعة. ولا أحبّ إليّ من أن تعمل ما يشفي صدرك، ويضع الهمّ عن نفسك، ويحمل إليك السعادة بأوفى كيل، فما أجد سعادتي إلا حيث تجدها ولا تطمئن نفسي إلا حيث ترضى، وانكفأت إلى مقصورتها وقد بضع الهمّ من فؤادها بضعة
وبعث الأمير بالغلام إلى حيث كانت أخته
وشاع في الملأ أن الطفلين قد قتلا، واضطربت النفوس بالحقد على هذا الأمير الطاغي الذي غالى في الضلالة، وتبسط في الأثم، والعدوان، وأفعمت القلوب حباً وعطفاً على هذه الأميرة المنكودة التي صبرت حتى ملها الصبر، وبالغت في الرضا بالمذلة والهوان، ووصل صدى النفوس والقلوب إلى سمع الأميرة فأنكرت على الشعب أن يثور على مولاه، ودافعت عن مسلكه ما وسعها الجهد، على أن هذا كله لم يكن ليحمل الأمير على الثقة بولائها ووفائها وأربت سنو العشرة بين الأمير وزوجته على الستة عشر عاماً وهي تصابر القضاء، وتعاني البلاء. وبقدر ما أقامت على الصبر، كان الأمير يمعن في الغدر(103/68)
ثم أراد أن يبلوها مرة أخرى:
قال لها: (أيتها الأميرة: لقد عزمت على أن أتخذ لي زوجة غيرك، وسأردك إلى أهلك الذين نشأت بينهم، وإلى كوخك الذي درجت فيه، لتعودي إلى ما كنت فيه من بؤس وفاقة. فما يزكو بمن كان في مكاني من الشرف والعظمة أن تتسامى إلى الاقتران به فتاة وضيعة مثلك، وإني لواجد بين بنات الأشراف والنبلاء من تصلح لهذه المكانة العليا.)
قالت الأميرة وهي تكظم الغيظ وتحبس الدمع: (سمعاً وطاعة يا مولاي طبت نفساً ورضيت الطلاق مخرجاً)
ثم جاء الوصفاء وجردوها من فاخر الثياب وسني الحلل وألبسوها من الثياب رديماً قديماً وبعثوا بها إلى كوخ أبيها وأعلن الأمير أنه سيبني بابنة أحد النبلاء
ثم بعث إلى جريزلدا زوجه المشردة من قال لها: (إن الأمير على نجز الزفاف إلى عروسه النبيلة الجديدة، وهو في حاجة إلى فتاة تعد له مقاصير الزفاف والاستقبال، وتقوم على شؤون الوليمة والاحتفال. ولم يجد من هو أبصر منك بهذه الغاية وأقدر على هذا الشأن لسابق خبرتك بالقصر وما فيه، وهو يأمرك أن تعودي إلى القصر كخادم تعمل بضعة أيام تقوم فيها بما يحتاج إليه الزفاف من دعوة المدعوات، فإذا انتهيت من هذا الأمر تعودين إلى كوخ أبيك كما كنت فيه.)
هذه نصال تحز في قلب الفتاة حزاً، وتمزقه تمزيقاً، وهي لا تستطيع للبلاء رداً، ولا للأمر رفضاً. فسمعت وأطاعت وهي تكاد تنشق غيظاً وكمداً. ولم يكن هيناً عليها أن تنزل عن حب زوجها والوفاء له، وقد هان عليها أن تنزل عن النعيم الذي كانت فيه، والترف الذي تقلبت بين أعطافه وحواشيه
مضت إلى القصر في خفة ونشاط وعليها ثيابها البالية، وعملت مع الخدم في تنظيف المقاصير وإعدادها، ثم خلت إلى نفسها وأعدت الدعوات لسيدات البلاد ليشهدن العرس العظيم
وأقبل يوم الزفاف فاستقبلت المدعوات في ثيابها الخشنة، وابتسامتها الناعمة!
ثم مد سماط العشاء وأقبل الأمير وزوجه الجديدة وكانت بارعة الحسن رائعة الجمال. وأقبل عليها الناس رجالاً ونساءً يقدمون إليه وإلى الزوجة ولاؤهم وطاعتهم وإعجابهم، وطوعت(103/69)
لهم الزلفى أن يهنئوه على ما وفق إليه من استبدال زوجه الجديدة بزوجه القديمة
ثم نادى الأمير زوجه القديمة جريزلدا وقال لها في غير خجل ولا رعاية لإحساسها: (ماذا تقولين في زوجي الجديدة؟)
قالت: (مولاي! إني لأشعر لها بالحب من أعماق قلبي. وأرجو أن يكون نصيبها من رجحان العقل وسعة الإدراك بقدر نصيبها من الجمال. إذا تتم السعادة لمولاي الذي أتوسّل إليه بكل عزيز لديه ألا يكسر قلبها، وألا يثلم فؤادها، ولا يقرح كبدها، ولا يجرح عزتها، كما كان يفعل بزوجه القديمة. فهذه يا مولاي فتاة صغيرة نبتت في أعطاف النعمة، ودرجت في حواشي العز والترف، وأما أنا فقد تعودت منذ نشأتي شظف العيش وقسوة الدهر ونكد الحياة.)
قال الأمير وقد خلق الليلة خلقاً جديداً: (عفواً أيتها الفتاة وصفحاً جميلاً، لقد بلوتك في البأساء والضراء فما زادك بلائي إلا صبراً على البلاء، واعتصاماً بالولاء؛ ولقد كنت أحسب النساء لا يقمن على العهد ولا يدن بالصبر. وما صدفت عن هذا الرأي إلا بعد أن خبرتك فسلبتك سعادتك وهناءك: دعيني الليلة أرد عليك في لحظة واحدة هذه السعادة التي حرمتك إياها مدى ستة عشر عاماً: هذه الفتاة التي أحببتها الليلة والتي يحسبها الناس جميعاً زوجي الجديدة هي ابنتك وابنتي التي انتزعتها منك منذ كانت في المهد، وهذا الواقف إلى جوارها هو ابننا الذي حرمتك إياه رضيعاً. أقبلي يا زوجتي على ولديك وقبليهما ما وسعك الحب لهما.)
واستوت على الوجوه دهشة شادهة، ووجوم يشبه البله! ثم تقدم النساء إلى جريزلدا وقدنها إلى مقصورة فاخرة وألبسنها ثياباً لم يطل بينها وبينها العهد، وجلسن يحدثها في إكبار لقدرها وإجلال لنفسها
وأقيمت في القصر ليال غر، وشمل الفرح والسرور كافة الشعب، وطابت نفوس وقرت عيون
وبعث الأمير إلى والد جريزلدا وأتم نعمته عليه، فاقطعه من القصر جناحاً يقيم فيه، وعاش الأمير وزوجه الصبور، ووالدها الطيب، وولداها الطاهران في سعادة ونعيم، حتى فرق بينهم الدهر كما يفرق بين كل الأحياء.(103/70)
(عن الإنجليزية)
يوزباشي أحمد الطاهر(103/71)
البريد الأدبي
كتاب في تاريخ الإسلام: (فرسان الله)
أصدر الكاتبان الفرنسيان الأخوان جيروم وجان ثارو كتاباً بعنوان (فرسان الله) , هو الجزء الأول من كتب ثلاثة يزعمان إصدارها تحت عنوان (ألف يوم ويوم في تاريخ الإسلام)؛ وسيكون عنوان الجزء الثاني (حبوب الرمانة)، والثالث (الشعاع الأخضر). وسيعنى الكاتبان في هذه السلسلة بوصف أولئك الذين يسميانهم (فرسان الله) وهم المسلمون (أتباع محمد)، أولئك الذين حملوا راية الإسلام (إلى بلاد الكفر النائية)، وإلى (بحر الظلمات) (المحيط الأطلانطيقي)
ويحتوي الجزء الأول (فرسان الله) على تاريخ موجز لمكة وقت أن ولد بها (محمد بن عبد الله) (صلعم)، وموجز لتاريخ الدعوة الإسلامية والإسلام حتى قيام ملك الأدارسة بالمغرب الأقصى؛ وقد اظهر الكاتبان على رغم هذا الإيجاز، قوة في الوصف، ولا سيما حين استعرضا الدولة الأموية، ويتخذ هذا العرض صورة القصة. ولم يبرأ الكاتبان من ذلك التحامل الذي نراه مائلاً في كل تاريخ غربي يكتب عن نبي الإسلام
وللمؤلفين عناية خاصة بوصف نفسية الشعوب المغلوبة ولا سيما البربر، وكيف غلب عليهم (ذوق الوثنية) أحقاباً
الأستاذ محمد عبد الله عنان
قرر مجلس الوزراء تعيين صديقنا الكاتب المؤرخ والصحفي البارع الأستاذ محمد عبد الله عنان للعمل في قلم المطبوعات بعد إقراره على النظام الجديد. واختيار الأستاذ لهذا المنصب توفيق من الله يضمن اطراد الإصلاح والنجاح في هذا القلم بعد أن أصبح اختصاصه يتناول الإدارة والسياسة والصحافة والتاريخ. ويكاد الأستاذ عنان يكون بلغاته العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية حركة متصلة للإطلاع والبحث والتأليف والتحرير؛ فقد تخرج في مدرسة الحقوق الملكية سنة 1918، واشتغل بالمحاماة حيناً من الدهر، ثم عالج منذ سنة 1924 التحرير في الصحافة السياسية والأدبية، وتوفر على دراسة التاريخ السياسي والمسائل الدولية، وعكف في أثناء ذلك على فقه التاريخ الإسلامي في مصر وإسبانيا، فألف: ديوان التحقيق والمحاكاة الكبرى؛ ومواقف حاسمة في تاريخ(103/72)
الإسلام، ومصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية، وابن خلدون: حياته وتراثه الفكري، وتاريخ العرب في إسبانيا، وتاريخ الجمعيات السرية، وتاريخ المؤامرات السياسية، ذلك عدا المقالات القيمة والدراسات الممتعة في التاريخ والسياسة والأدب التي نشرها في (الرسالة) وفي غيرها من المجلات؛ وكلها تنم عن صبر شديد، وعقل سديد، وفهم ذكي، وثقافة شاملة. وإنا لنرجو أن يجد الأستاذ في عمله الجديد ما يساعده على المضي في خطته، ومواصلة هذا الجهاد المخلص في نفع أمته
عيد الأكاديمية الفرنسية
في يوم الاثنين 17 يونيه بدأ الاحتفال الرسمي الكبير بعيد الأكاديمية الفرنسية الثلاثمائة، وهو العيد الذي تقرر إحياؤه منذ شهر يناير الماضي، واستعدّت الحكومة الفرنسية، والأكاديمية وجميع الهيئات العلمية والأدبية لإحيائه بما يليق به العظمة والفخامة. وقد افتتح هذا الاحتفال بإقامة قدّاس رسمي في كنيسة نوتردام عن روح الكردينال ريشليو وزير لويس الثالث عشر ومؤسس هذه الهيئة الأدبية الخالدة؛ ثم أقيمت في عصر ذلك اليوم حفلة رسمية شائقة حضرها رئيس الجمهورية ورجال الحكومة، وأعضاء الأكاديمية ومائتا مندوب يمثلون مختلف الهيئات والمجامع العلمية في أنحاء العالم، (ومنهم رئيس مجمع اللغة العربية الملكي ممثلاً له)؛ وألقيت الخطب الرسمية المعتادة؛ وأقيمت في الأيام التالية حفلات رسمية أخرى
وقد سبق أن أتينا على تاريخ تلك الهيئة الأدبية الشهيرة التي تضم دائماً أربعين من (الخالدين) صفوة ما تخرجه عبقرية فرنسا الأدبية؛ وبينا كيف نشأت متواضعة جداً منذ ثلثمائة عام في منزل سيد يدعى فالنتان كونراد كان من أمناء لويس الثالث عشر، وكان أديباً يجمع حوله عدة من الأصدقاء الأدباء والشعراء، وكان ذلك في سنة 1629؛ ولبث أولئك السادة يجتمعون من آن لآخر مدى خمسة أعوام، ويتجاذبون في اجتماعهم شتى المحادثات الأدبية، حتى علم الكردينال ريشيلو بخبرهم؛ ففكر في إخضاع هذه الجماعة الأدبية لنفوذه، وفي أن ينظمها ويجعل منها (أكاديمية)؛ وانتهى الأمر بأن صدرت الأوامر الملكية بإنشائها في يناير سنة 1635، وصودق عليها من البرلمان في يوليو سنة 1635
واستمرت (الأكاديمية) تنمو وتترعرع، وتجمع في سلكها أكابر النثر والشعر حتى كانت(103/73)
الثورة الفرنسية، فألغيت مع باقي الهيئات العلمية الأخرى في سنة 1793، وأنشأ مكانها (المجمع العلمي الوطني)، وفي سنة 1803 قسم هذا المجمع إلى أربعة أقسام منها (الأكاديمية الفرنسية) التي استردت اسمها الأصلي بعد ذلك في عهد لويس الثامن عشر (سنة 1816)، وقامت إلى جانبها (أكاديمية النقوش والآداب) و (أكاديمية العلوم) و (أكاديمية الفنون الجميلة). وفي سنة 1832 أنشأت أكاديمية خامسة هي أكاديمية العلوم الأخلاقية
وهذه هي الفترة الوحيدة التي اعترضت حياة الأكاديمية الفرنسية وما زالت الأكاديمية تقوم خلال هذه القرون الثلاثة بدورها التاريخي في الأشراف على الآداب الفرنسية، وإن كانت مهمتها الأصلية التي حددت في الأوامر الملكية أن تشرف على (تحسين اللغة وتوسيعها)؛ وما زال الظفر بالانخراط في سلكها أسمى ما يطمح إليه كاتب أو شاعر، وما زال الانتماء إليها عنوان (الخلود)
ذكرى شومان أستاذ النقد الموسيقي
احتفلت الدوائر الفنية الألمانية في الثامن من يونيه الجاري بالذكرى الخامسة والعشرين بعد المائة لمولد الموسيقي الألماني الأشهر روبرت شومان، ونظمت لهذه المناسبة حفلات موسيقية عظيمة في أنحاء ألمانية عزفت فيها قطع شومان وأذاعت المحطات اللاسلكية مختارات موسيقية من آثاره في برلين وفينا. ويعرف شومان في عالم الموسيقى بأنه (روح الإبداع الموسيقي). وكان مولد شومان في زفيكاو من أعمال سكسونيا. ودرس الحقوق أولاً، ولكنه رغب عنها إلى دراسة الموسيقى. ودرس العزف على (البيانو) في ليبزج على يد فيكس وهو من أبرع أساتذة العصر؛ ولكنه أصيب بإصابة في يده اضطرته إلى ترك العزف والاشتغال بالتأليف الموسيقي؛ ودرس هذا الفن على دورن أولاً. وفي سنة 1843 عيّن أستاذاً في معهد ليبزج، ثم عين بعد ذلك قائداً موسيقياً في دوسلدورف سنة 1850، واستمر في هذا المنصب نحو أربعة اعوام، وأنفق شومان معظم حياته يطوف المدن الألمانية مع زوجه كلارا
وبدأ شومان حياته كمؤلف موسيقي في سنة 1834 إذ بدأ تحرير (المجلة الموسيقية الجديدة) وكان ينشر فيها فصولاً نقديةً قويةً تلفت الأنظار بحسن أسلوبها وقوة منطقها؛ وقد(103/74)
وصل شومان في هذه الناحية النقدية إلى ذروة البراعة حتى اعتبر أستاذ النقد الموسيقي. وكان شوبين وبراهمس وهما يومئذ من أعلام الموسيقى ينوهان بنبوغه وتفوقه في هذا المضمار؛ وأعظم آثاره في التأليف الموسيقي قطعه الخاصة بالمعزف (البيانو) ومنها رباعيات ومقطوعات بديعة للقيثارة. وألف أيضاً قطعة أوبرا عنوانها (جينوفيزا)، وعدة أوبرات موسيقية
وكان لجهود شومان وطرائقه أثر كبير في تطور الموسيقى الألمانية المعاصرة. وقد كتب ترجمة حياته عدة من الكتاب والفنانين الأكابر، ومنهم باترسون وريزمان. وخصص له فاسليفسكي ترجمة كبيرة وكذلك فولر ميثلاند وغيرهما
تخليد ذكرى شاعرة فرنسية
وضعت بلدية مدينة نانت لوحة تذكارية باسم الشاعرة أليزا ماركير التي توفيت منذ مائة عام في الخامسة والعشرين من عمرها، على المنزل الذي كانت تسكنه هذه الشاعرة الفنية التي بلغت رغم حداثتها في الشعر مرتبة كبيرة حتى كان لامرتين يقول عنها (إني أتوقع أن تمحونا هذه الصغيرة جميعاً)
وفاة فكتور هوجو - صورة خبرية واقعية
ما زالت فرنسا تحتفل بالذكرى الخمسينية لوفاة شاعرها الأكبر فيكتور هوجو حسب ما ذكرنا في فرصة سابقة وقد قرأنا أخيراً في إحدى المجلات الفرنسية الكبرى بقلم مسيو (ارمان برافيل) وصفاً بديعاً للظروف التي أحاطت بوفاة الشاعر الكبير صيغت في قالب رواية خبرية، ونحن ننقله لقراء (الرسالة) في ما يلي: باريس في 22 مايو سنة 1885
اليوم في الساعة الأولى والدقيقة السابعة والعشرين بعد الظهر توفي المسيو فيكتور هوجو عضو الأكاديمية الفرنسية، متأثراً بالالتهاب الرئوي الذي اشتد عليه منذ أيام وكان يثير في نفس أسرته والمحيطين به انزعاجاً وقلقاً. وقد أشار الدكتور زي وزميله الدكتور فولبيان في تقريرهما هذا الصباح إلى أن (الحالة في منتهى الخطورة). وكان الشاعر الكبير في الثالثة والثمانين من عمره وقد أسلم الشاعر الروح يحيط به حفيداه جان وجورج، ومسيو لوكروي ومسيو فيكتوريان ساردو، ومسيو اسكندر ديماس، وبعض شخصيات أخرى.(103/75)
ويروي بعضهم أنه قال حين فاضت روحه: (وداعاً يا جان)، وبعضهم يروي أنه قال: (هاهنا معركة النهار والليل) أو أنه قال: (ليس هذا هو النور، ولكن ليس هو الظل أيضاً).
وعرض المونسنيور جيبر أسقف باريس أن يقوم بالرسوم القدسية الأخيرة للشاعر الأكبر، ولكن أسرته اضطرت إلى الرفض عملاً بوصية فيكتور هوجو نفسه، إذ قال: (إنني أرفض رثاء كل الكنائس، وأطلب صلاة لكل الأرواح).
ومنذ 19 مايو كان قد فقد كل أمل في إعادة الصحة والحياة إليه؛ وقد أصابه بالليل إغماء طويل، وبالأمس بدأ النزع الأخير وما ذاع النبأ المحزن حتى هرع الجمهور إلى منزل شارع إيلاو وما زال في ازدياد مستمر، وبدأت الزيارات الرسمية، وكان أول القادمين مسيو بريسون رئيس الوزراء، ولحق به مسيو فلوكيه رئيس مجلس النواب
وبعد بضع دقائق ألقى مسيو لي رواييه رئيس مجلس الشيوخ في المجلس. كلمة مؤثرة حين أعلن وفاة (شيخ) الميسرة المتطرفة وشاعر الجمهورية والديمقراطية الأكبر؛ ولا ريب أن جميع السلطات الكبرى ستشترك في تكريمه؛ وقد طلب مجلس باريس البلدي أن تنقل رفات الشاعر إلى (البانتيون)؛ ومن المحقق إن الجناز سيكون قومياً تحفه أعظم مظاهر الجلال، وسوف يكون مناقضاً لرغبة الميت الذي أوصى بأن يتقل إلى مقره الأخير في نعش الفقراء؛ وهي الرغبة الوحيدة التي ستحترم.
السبت 23 يوليو
حفلت كل الصحف بفصول مؤثرة تذيلها أعظم الأسماء؛ وقد نشرت (الفيجارو) قصيدة لمسيو الكونت دي ليل عنوانها (التحية الأخيرة)، وقد دهش لقرائتها الذين يعرفون خصومة الشاعرين، وما تبادلا قبل من قارس اللفظ؛ بل يرى أن دي ليل قال حينما وقف على مرض هوجو: (لقد شرب المجد وأكله، فعليه الآن أن يهضمه)، فرثاؤه اليوم لا يمكن أن يعتبر بعد هذه الشماتة إلا بطاقة زيارة تودع عند باب الأكاديمية وقد هرع عدد من الكتاب الشبان إلى سرير الميت ليسهروا إلى جانبه، وبين هؤلاء حفيد الشاعر، وليون دوديه، وكاتيل مانديس، وبول آرين، وجان إيكار، وأميل بليمون. وقدم مسيو ليو بولد هوجو في منتصف الليل ليصور عمه في فراش موته
26 مايو(103/76)
نشرت الجريدة الرسمية ما يأتي: (سيدفن جثمان فيكتور هوجو في البانتيون، والبانتيون ليس بناءً كنسياً ولا يتبع أية دائرة كنسية، وإنما هو من أملاك الدولة؛ وقد رأت الوزارة أن تحقق رغبة البرلمان في هذا الشأن)
وسوف يحدث هذا المرسوم استياء في الدوائر الكنسية التي ما زالت تعتبر البانتيون من توابعها وأنه في حرم كنسية سانت جنفياف. وسيكون جناز شاعر البؤساء بلونه المدني مقوياً لصفة البانتيون المدنية؛ وسوف يثور هذا الجدل حول تابوت الشاعر وما زالت صفوة فرنسا تنحني أمام الميت العظيم؛ وقد حنطت جثته بمنتهى العناية؛ وما زال كل يعجب برأسه الشاحب الجميل الذي يكاد يضارع بياضه بياض لحيته
الجمعة 30 مايو
وضع المسيو فيكتور هوجو في ناووسه ووضعت إلى جانبه باقة من الورد قدمها فلكييه وبعض تذكارات شخصية، وقد قرر برنامج الجناز وخلاصته أن ينقل الجثمان في نعش يوضع تحت قوس النصر، ويترك هناك يوماً وليلة في حراسة الشعراء، والسلطات المدنية والجيش وشعب باريس، ثم يحمل في حفل ظافر إلى البانتيون، وستلقى بعض الخطب عند مبدأ سير الجناز وعند مقدمه
الأحد أول يونيه
منذ صبيحة الأمس بدأ حفل الشاعر النبيل مؤلف (سير الدهور) و (التأملات)، وسار وراء تابوته إلى (الاتوال) عمد باريس العشرون، والصحفيون، والكتاب، وكلهم بالثوب الرسمي والربطة البيضاء، وحولهم من الجانبين جموع حاشدة لبثت تحيط طول الليل بمنزل الميت؛ وكان قوس النصر قد جلل بغطاء أسود رهيب، وحول إلى محراب يحرسه حرس شرف من الجند والفرسان وطلبة المدارس، والشعراء الشبان، ولم ينقطع سيل الناس طوال اليوم، يحملون الباقات والأزهار؛ وهكذا ظهر أن فيكتور هوجو ما زال يغزو جميع الأرواح والقلوب
الاثنين 2 يونيه
خصص يوم الأمس كله لظفر فيكتور هوجو؛ ولم يحتفل قبل قط بجناز شاعر لمثل هذا(103/77)
الجلال. ولعل كاتباً لم يمثل من قبل قط تطور عصره كما تمثل؛ فقد مثلت في شخصه الديمقراطية التي استطاعت أن تصل إلى الحكم بعد طول النضال؛ وهو شاعرها ولسان حماستها الغنائية، وهو يتنفس آمالها ومخاوفها في كتابه (البؤساء)، ويتنفس غضبها وأحقادها في كتابه (العقوبات) وكان الجو بديعاً فاتراً؛ وفي نحو الساعة التاسعة أتى الموظفون وممثلوا مسيو جرافي رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء بكامل هيئته، وأعضاء الأكاديمية الفرنسية، والجنرال سوسييه حاكم باريس وأركان حربه، واجتمعت الوفود في شارع (الجيش الأكبر) وقد احتلوا شارع نيبي بأكمله
وألقيت طائفة من الخطب منذ الساعة العاشرة؛ منها خطاب مسيو لي روييه باسم مجلس الشيوخ، وفلوكيه باسم مجلس النواب، وجوبليه وزير الداخلية باسم الحكومة، وأميل أوجييه باسم الأكاديمية؛ وكان أروع الخطباء جميعاً ولا سيما حينما صاح بصوت قوي: (ليس هذا دفناً، وإنما هو تقديس).
ثم تحرك الموكب بعد نشيد المارسليز، وعزفت موسيقى الجيش لحناً محزناً لشوبان
وإليك ترتيب الموكب: سارت في الطليعة فرقة من الحرس الجمهوري، ثم سرية من الفرسان، ثم حاكم باريس وحاشيته، ثم الموسيقى العسكرية، فطلبة المدارس، فإحدى عشر عربة تحمل أكاليل الزهر، ثم أربعة من عمال الكوميدي فرانسيز، يحملون وسادة عليها أوسمة المتوفي، ثم نعش المتوفى وهو نعش الفقراء، وإلى جانبه أفراد أسرته وخاصة أصدقائه، مثل جورج هوجو، وأوجست فاكيري، وليو بولد هوجو، وبول فويت، وكاميل بيلاتان، والفونس دوديه، واميل زولا وغيرهم، ثم أعضاء المجمع العلمي في أثوابهم الخضر، ثم أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب بشاراتهم المثلثة اللون، ثم أساتذة الجامعة بأثوابهم الرسمية المختلفة، وأعضاء جمعية الكتاب، وسيل لا نهاية له من الوفود المختلفة
وكانت جوانب الطرق تغص بالجماهير الحاشدة، وكانت النوافذ والأشجار والأسطحة حافلة بالنظارة
وبلغ الموكب البانتيون من شارع سوفلو في منتصف الساعة الثالثة، وقد جلله السواد والأعلام القومية، وهنالك ابتدأت الخطب الختامية، فألقى منها إحدى عشرة؛ وكانت بين الخطباء مسيو أوديه باسم مدينة بيزانصون مسقط رأس الشاعر، ومسيو مادييه باسم(103/78)
المنفيين في يوم 2 ديسمبر ومسيو جورد باسم نقابة الصحافة الباريسية، وهنري دي بورنييه باسم كتاب المسرح وبعض الأجانب باسم بعض المعاهد العلمية الأجنبية
ثم عزفت الموسيقى لحن فيكتور هوجو الذي وضعه مسيو سان ساينس، وعلى أنغامه أودع التابوت في مثواه الأخير إلى جانب توابيت فولتير وروسو وغيرهم من العظماء الخالدين
واستمر تعاقب الوفود حتى مغيب الشمس، وانتهى فيكتور هوجو إلى أن يرقد هادئاً في عالم الخلود(103/79)
العدد 104 - بتاريخ: 01 - 07 - 1935(/)
كلكم حواريون
فمن يهوذا؟
لا تسمع من أي إنسان في أي مكان إلا تذمراً على حال المجتمع،
وتضجراً من نظام العيش، وتضوراً من فساد الحكم، وتحسراً على
أخلاق الناس! فما من سياسي تلقاه إلا رأيته لهيف الجوانح، ذاهب
القلب، لا يملك عينه من الدمع، ولا قلبه من الوجد، ولا لسانه من هذه
الشكاة: أضاعوا استقلال البلاد، ووأدوا دستور الأمة، ونشروا بخطلهم
على الشعب سوء النبأ! فقد كان لنا بجانب (الاحتلال) مكان، ومع (دار
الاستشارة) رأي، وقبل نفاذ الأمور كلمة، وفوق كل اعتبار كرامة؛
وكان لهذا كله على ضآلته وهزاله ثمن فادح مرهق، أديناه ضحايا برة
من أرواح الشباب في ساحة الجهاد، وملايين تسعة من أموال الأمة في
(قانون التضمينات)، ثم أصبحنا وإذا المكان خلاء، والإشارة أمر،
والكلمة رجاء، والكرامة ضراعة!!
أجل! يقول كل سياسي هذا الكلام، ويلوم هذا الملام، حتى أولئك الذين قتلوا بأيديهم الدستور أمس، يبكون عليه اليوم بأربعة آماق، لأن الإنجليز أكرموه فدفنوه!!
وما من موظف تراه إلا حدثك والهم يعتلج في صدره، والأسى يتلضى على وجهه، كيف تحكمت المحاباة في دوائر الحكم، وفشا التواكل في دوواين الحكومة! (فالشهادة العالية) في التعيين زور مع التوصية، والكفاية البارعة في الترقية خرق مع الهوى، وحسن العمل في سبيل الحظوة جناية مع سوء الحظ؛ ثم ترى (الأقلام) غاصة بالكتبة، والمكاتب مكتضة بالأضابير، والوزارات مزدحمة بالسائلين، والمستعجلين، والأوراق الحائرة تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من مكتب إلى مكتب، وترحل من بلد إلى بلد، لأن (التواكل) الماهر قضى على كل كاتب أو حاسب أن يزيح همها عن نفسه، ويخرج حكمها من اختصاصه، فتلبث(104/1)
على هذه الحال بين الحال والترحال شهوراً وسنين، وهي مع الجد لا تستغرق تفكير لحظة وعمل ساعة!
يقول كل موظف هذا الكلام، ويتهم هذا الاتهام، حتى أولئك الطفيليون الذين عينوا لقبض المرتب، وظلوا على الشيوع من غير عمل ولا مكتب!!
وما من أديب تخلوا إليه إلا نثر عليك دموع الخنساء، ونظم في مسمعيك تشاؤم أبى العلاء، وسألك وهو متبلد من الحيرة، متلدد من الدهش: متى كان البذاء من الأدب، والهجاء من النقد، والإدعاء من الفن، والتقليد البهيم من العبقرية، والكيد اللئيم من الصحافة؟؟
كان الأدب سبيلاً بين الله والنفس، وسلاماً بين الروح والجسم، ولساناً بين الجمال والحس، ودليلاً بين الهوى والخير، ونسباً بين القرابة والبعد، فأصبح كما ترى سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاً من سبل الفرقة، وبوقاً من أبواق الفتنة، ومظهراً من مظاهر الجهالة!
يقول كل أديب هذا الكلام، ويلقي عليك هذا الاستفهام، حتى أولئك السفهاء الذين يلبسون ظلماً مسوح الأدب، ثم يلتمسون الظهور بالوقيعة في كل من كتب!!
وما من رجل من رجال الدين تجلس إليه إلا قال لك ودموع الحسنين تنهل على ردنه العريض انهلال القطر: لم يبق للدين في هذه الدنيا سلطان، ولا للخلق في هذه الفوضى مكان، ولا للفضيلة في هذه المادية قيمة! ولقد استشرى فساد العصر حتى نال من تقوى العلماء فأصبحوا يأنفون من الورع، وينفرون من البساطة، ويتأبهون عن العامة، ويمدون أعينهم لشهوة الحياة، ويذهبون أنفسهم على فتنة الحكم، ويتخلون عن الدعوة إلى سبيل الله إلى الدعوة إلى أهواء الفرد!!
يقول كل عالم هذا الكلام، ويهتم هذا الاهتمام، حتى أولئك الضعفاء الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وجعلوا من نفوسهم إلى الباطل سبيلا ودليلا!
وما من تاجر تعامله، أو صانع تقاوله، إلا ابتدرك بالزراية على الذين نفقوا على الغش، وآثروا على الخداع، وسلبوا ثقة الشعب باسم الاخوة، وسرقوا مال الجمهور باسم الوطن، حتى جعلوا التجارة والصناعة فيما بينهم وبين الناس معنى من معاني النهب، وحيلة من حيل الشطارة؛ فأنت تدخل المتجر أو المصنع وفي حسك لا محالة انك مغبون في السعر، أو مخدوع في النوع، أو مظلوم في التقدير!(104/2)
يقول ذلك كل تاجر وكل صانع حتى أولئك الذين قضى عليهم موت الضمير أن يصدقوك في البيع ويكذبوك في التسليم، ويعاهدوك على نوع فيغيروه ولا يزيد رجعهم من غشه على مليم!
وهكذا تسمع هذا السخط الحاقد والنقد اللاذع والتعريض الممضّ والزراية الساخرة من كل لسان في أي طبقة، وفي كل حديث في أي مجلس، فتقف موقف المشدوه بين العجب والغضب وتسأل:
إذا كنتم يا قوم جميعاً حواريين، فمن الذي خان الوطن بدوانقه الثلاثين؟؟ كلكم يلوم فمن الملوم؟ وكلكم يتهم فمن المجرم؟ وعظ مالك بن دينار عظةً تقاطرت عليها دموع أصحابه، ثم افتقد مصحفه! فنظر إليهم وكلهم من اثر كلامه لا يملك عينه! وقال ويحكم! كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟؟
أحمد حسن الزيات(104/3)
دموع
من رسائل (الطائشة)
للأستاذ مصطفي صادق الرافعي
ورسائل هذه الطائشة إلى صاحبها، تقرأ في ظاهرها على أنها رسائل حب، قد كتبت في الفنون التي يترسل بها العشاق؛ ولكن وراء كلامها كلاماً آخر، تقرأ به على أنها تاريخ نفس ملتاعة لا تزال شعلة النار فيها تتنمى وترتفع؛ وقد فدحتها الحياة إذ حصرتها في فن واحد لا يتغير، وأوقعتها تحت شرط واحد لا يتحقق، وصرفتها بفكرة واحدة لا تزال تخيب
وأشدّ سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بدأ العذاب
والسعادة في جملتها وتفصيلها أن يكون لك فكر غير مقيد بمعنى تتألم منه، ولا بمعنى تخاف منه، ولا بمعنى تحذر منه. والشقاء في تفصيله وجملته انحباس الفكر في معاني الألم والخوف والاضطراب
وقد اخترنا من رسائل (الطائشة) هذه الرسالة المصورة التي يبرق شعاعها وتكاد تقوم بازاء نفسها كالمرآة بازاء الوجه. وهي فيها عذبة الكلام من أنها مرّة الشعور، متسقة الفكر من أنها مختلة القلب، مسددة النطق من أنها طائشة النفس. وتلك إحدى عجائب الحب؛ كلما كان قفراً ممحلاً اخضرت في البلاغة وتفننت والتفت، وعلى قلة المتعة من لذاته تزيد فيه المتعة من أوصافه. ولكأن هذا الحب طبيعة تروى بالنار فتخصب عليها وتتفتق بمعانيها، كما تروى الأرض بالماء فتخصب وتتغطى بنباتها؛ فإن روى الحب من لذاته وبرد عليها، لم ينبت من البلاغة إلا أخفها وزناً وأقلها معاني، كأول ما يبدو النبات حين يتفطر الثرى عنه؛ تراه فتحسبه على الأرض مسحة لون أخضر؛ أو لم ينبت إلا القليل القليل كالتعاشيب في الأرض السبخة
إن قصة الحب كالرواية التمثيلية، أبلغ ما فيها وأحسنه وأعجبه ما كان قبل (العقدة) فإذا انحلت هذه العقدة فأنت في بقايا مفسرة مشروحة تريد أن تنتهي، ولا تحتمل من الفن إلا ذلك القليل الذي بينها وبين النهاية(104/4)
وهذه هي رسالة الطائشة إلى صاحبها:
. . .
ماذا أكتب لك غير ألفاظ حقيقتي وحقيقتك؟
يخيل إلى أن ألفاظ خضوعي وتضرعي متى انتهت إليك انقلبت إلى ألفاظ شجار ونزاع!
أي عدل أن تلمسك حياتي لمسة الزهرة الناعمة بأطراف البنان، وتقذفني أنت قذف الحجر بملء اليد الصلبة متمطية فيها قوة الجسم؟
جعلتني في الحب كآلة خاضعة تدار فتدور، ثم عبثت بها فصارت متمردة توقف ولا تقف؛ والنهاية - لا ريب فيها - اختلال أو تحطيم!
وجعلت لي عالماً، أما ليله فأنت والظلام والبكاء، وأما نهاره فأنت والضياء والأمل الخائب. هذا هو عالمي: أنت أنت. . .! سمائي كأنها رقعة أطبقت عليها كل غيوم السماء، وأرضى كأنها بقعة اجتمعت فيها كل زلازل الأرض! لأنك غيمة في حياتي، وزلزلة في أيامي
يا بعد ما بين الدنيا التي حولي وبين الدنيا التي في قلبي!
ما يجمل منك أن تلزمني لوم خطأ أنت المخطئ فيه
سلني عن حبي أجبك عن نكبتي، وسلني عن نكبتي أجبك عن حبي
كان ينبغي أن تكون لي الكبرياء في الحب، ولكن ماذا أصنع وأنت منصرف عني؟ ويلاه من هذا الانصراف الذي يجعل كبريائي رضى مني بأن تنسى!
ليس لي من وسيلة تعطفك إلا هذا الحب الشديد الذي هو يصدك، فكأن الأسباب مقلوبة معي منذ انقلبت أنت
ويخيل إلي من طغيان آلامي أن كل ذي حزن فعندي أنا تمام حزنه!
ويخيل إلي أني أفصح من نطق بآه!
عذابي عذاب الصادق الذي لا يعرف الكذب، بالكاذب الذي لا يعرف الصدق
كم يقول الرجال في النساء، وكم يصفونهن بالكيد والغدر والمكر؛ فهل جئت أنت لتعاقب الجنس كله فيّ أنا وحدي. . .
ما لكلامي يتقطع كأنما هو أيضاً مختنق؟
لشد ما أتمنى أن أشتري انتصاري، ولكن انتصاري، عليك هو عندي أن تنتصر أنت إن(104/5)
المرأة تطلب الحرية وتلج في طلبها، ولكن الحياة تنتهي بها إلى يقينٍ لاشك فيه، هو أن ألطف أنواع حريتها في ألطف أنواع استعبادها
حتى في خيالي أرى لك هيئة الآمر الناهي أيها القاسي. لا أحب منك هذا، ولكن لا يعجبني منك إلا هذا. . .!
ويزيدك رفعةً في عيني أنك لم تحاول قط أن تزيد رفعة في عيني
فالمرأة لا تحب الرجل الذي يعمل على أن يلفتها دائماً ليرفع من شأنه عندها
إن الطبيعة قد جعلت الأنوثة في الإنسان هي التي تلفت إلى نفسها بالتصنع والتزيد، وعرض ما فيها وتكلف ما ليس فيها؛ فإن يصنع الرجل صنيعها فما هو في شيء إلا تزيين احتقاره!
التزيد في الأنوثة زيادة في الأنثى عند الرجل، ولكن التزيد في الرجولة نقص في الرجل عند الأنثى!
ارفع صوتك بكلماتي تسمع فيها اثنين: صوتك وقلبي ليست هي كلماتي لديك أكثر مما هي أعمالك لدي وليس هو حبي لك أكبر مما هو ظلمك لي!
ما أشد تعسي إذا كنت أخاطب منك نائماً يسمع أحلامه ولا يسمعني!
ما أتعس من تبكيه الحياة بكائها المفاجئ على ميت لا يرجع، أو بكائها المألوف على حبيب لا ينال!
ولكن فلأصبر ولأصبر على الأيام التي لا طعم لها، لأن فيها الحبيب الذي لا وفاء له!
إن المصاب بالعمى اللوني يرى الأحمر أخضر، والمصاب بعمى الحب يرى الشخص القفر كله أزهار
عمى مركب أن تكون أزهاراً من الأوهام ولها مع ذلك رائحة تعبق
وعمى في الزمن أيضاً أن ينظر إلى الساعة الأولى من ساعة الحب، فيرى الأيام كلها في حكم هذه الساعة
وعمى في الدم، أن يشعر بالحبيب يوماً فلا يزال من بعدها يحي خياله ويغذيه أكثر مما يحي جسم صاحبه
وعمى في العقل، أن يجعل وجه إنسان واحد كوجه النهار على الدنيا، تظهر الأشياء في(104/6)
لونه، وبغير لونه تنطفئ الأشياء وعمى في قلبي أنا، هذا الحب الذي في قلبي!
ليس الظلام إلا فقدان النور، وليس الظلم في الناس إلا فقدان المساواة بينهم
وظلم الرجال للنساء عمل فقدان المساواة لا عمل الرجال
كيف تسخر الدنيا من متعلمةٍ مثلي، فتضعها موضعاً من الهوان والضعف بحيث لو سئلت أن تكتب (وظيفتها) على بطاقة، لما كتبت تحت اسمها إلا هذه الكلمة: (عاشقة فلان). . .؟
وحتى في ضعف المرأة لا مساواة بين النساء في الاجتماع، فكل متزوجة وظيفتها الاجتماعية أنها زوجة؛ ولكن ليس لعاشقة أن تقول إن عشقها وظيفتها. . .
وحتى في الكلام عن الحب لا مساواة، فهذه فتاة تحب فتتكلم عن حبها فيقال: فاجرة وطائشة، ولا ذنب غير أنها تكلمت؛ وأخرى تحب وتكتم فيقال: طاهرة وعفيفة، ولا فضيلة فيها إلا أنها سكتت
أول المساواة بين الرجال والنساء أن يتساوى الكل في حرية الكلمة المخبوءة. . .
لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. . .
إن القلق إذا استمر على النفس انتهى بها آخر الأمر إلى الأخذ بالشاذ من قوانين الحياة
والنساء يقلقن الكون الآن مما استقر في نفوسهن من الاضطراب، وسيخربنه أشنع تخريب
ويل للاجتماع من المرأة العصرية التي أنشأها ضعف الرجل! إن الشيطان لو خير في غير شكله لما اختار إلا أن يكون امرأة حرة متعلمة خيالية كاسدة لا تجد الزوج. . .!
ويل للاجتماع من عذراء بائرة خيالية، تريد أن تفر من أنها عذراء! لقد امتلأت الأرض من هذه القنابل. . . ولكن ما من امرأة تفرط في فضيلتها إلا وهي ذنب رجل قد أهمل في واجبه
هل تملك الفتاة عرضها أو لا تملك؟ هذه هي المسألة. . . إن كانت تملك، فلها أن تتصرف وتعطي، أو لا، فلماذا لا يتقدم المالك. . .؟
هذه المدنية ستنقلب إلى الحيوانية بعينها، فالحيوان الذي لا يعرف النسب لا تعرف أنثاه العرض
وهل كان عبثاً أن يفرض الدين في الزواج شروطاً وحقوقاً للرجل والمرأة والنسل؟ ولكن أين الدين؟ وا أسفاه! لقد مدنوه هو أيضا. . .! طالت رسالتي إليك يا عزيزي، بل طاشت،(104/7)
فأني حين أجدك أفقد اللغة، وحين أفقدك أجدها.
ولقد تكلمت عن الدين لأني أراك أنت بنصف دين. . .
فلو كنت ذا دين كامل لتزوجت اثنتين. . . . . لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. . .
(طنطا)
طبق الأصل
مصطفى صادق الرافعي
إلى (ب) في دمشق
خير ما أرى لك أن تدع للغد حل مشكلة اليوم، وليس بين اليوم والغد إلا أن تصبر، وأنت كالذي رأى نفسه في غبش الفجر ويزعم أنه أمسى. .
(الرافعي)(104/8)
2 - شمس الدين السخاوي
حياته وتراثه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ولنستعرض الآن تراث السخاوي وآثاره، بعد أن أتينا على حوادث حياته وظروف تكوينه؛ وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه؛ ولقد تلقينا منه الكثير، وتلقينا بالأخص أهمه وأقيمه. ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد رسائله ومؤلفاته؛ ويستغرق تعدادها عدة صفحات من ترجمته؛ ويضم هذا الثبت الحافل كتباً ورسائل في عدة فنون مختلفة؛ ولكنا نستطيع بوجه عام أن نقسم آثاره إلى قسمين: قسم الحديث، وقسم التاريخ
وقد كان السخاوي كما رأينا محدثاً كبيراً، انتهى إليه علم الحديث في عصره؛ بيد أنه كان أيضاً مؤرخاً بارعاً، ونقادة لايجاري؛ والجمع بين الحديث والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة، والطبري، والذهبي؛ وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق؛ وهكذا كان السخاوي محدثاً ومؤرخاً؛ وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث؛ وهذه الصبغة النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها
ويحدثنا السخاوي في ترجمته بأنه شرع في التأليف (قبل الخمسين)؛ ولكن هنالك ما يدل على أنه وضع بعض التصانيف قبل سنة 870هـ، أعني وهو في نحو الأربعين من عمره؛ فهو يحدثنا أنه لما حج للمرة الأولى سنة 70، قرأ بعض تصانيفه في مكة، وإذا فهو قد بدأ التأليف في سن متقدمة؛ بيد أنه أنفق شبابه في استيعاب النصوص والمراجع، ونزل ميدان التأليف مزوداً بمادة غزيرة؛ ولبث مدى الثلاثين عاماً التالية يخرج الكتب والرسائل تباعاً، ولم ينقطع عن الكتابة حتى أعوام حياته الأخيرة
وبدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل يعنى بتعدادها في ترجمته، ولكنا لم نتلق منها سوى القليل؛ وأشهرها كتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة)، وهو من كتب الحديث المتداولة، ومنها (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) و (الغاية في شرح الهداية) و (الأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة) و (شرح الشمائل(104/9)
النبوية للترمذي) و (التحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة)، وعدة كتب ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، ولا يتسع هذا المقام لذكرها
وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضاً عدة رسائل عن رحلاته المختلفة؛ منها الرحلة السكندرية وتراجمها؛ الرحلة الحلبية وتراجمها؛ الرحلة المكية؛ والثبت المصري؛ وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك الأنحاء؛ ووضع كتاباً في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه (بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي)
على أن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها ومواهبها؛ وقد انتهت إلينا نخبة من هذا التراث القيم. ومن الصعب أن نتتبع الترتيب الزمني في استعراض هذه الآثار؛ ولكن يلوح لنا أن السخاوي قد استهل مجهوده التاريخي بوضع كتاب (التبر المسبوك في ذيل السلوك) والسلوك الذي وضع هذا الكتاب ذيلاً له هو كتاب (السلوك في دول الملوك) لتلقي الدين المقريزي، وقد تناول فيه تاريخ دول المماليك المصرية حتى سنة844 هـ؛ وتناول السخاوي في كتابه تاريخ مصر الإسلامية من سنة 845 - 857هـ؛ وكتبه كما يقرر في مقدمته نزولاً على رغبة الداوادار يشبك المهدي وزير السلطان الظاهر خشقدم؛ وعني السخاوي بتدوين حوادث هذه الفترة المعاصرة بإسهاب، وذيل كل عام بوفيات أعيانه، واتبع فيه طريقة الترتيب الزمني؛ وكتب السخاوي أيضاً ذيلاً لكتاب شيخه ابن حجر (رفع الأصر عن قضاة مصر) وهو الذي يتناول فيه تراجم القضاة المصريين حتى عصره، وسماه (ذيل رفع الأصر)، وفيه يتناول تراجم القضاة المصريين حيث وقف شيخه ابن حجر وأعظم آثار السخاوي بلا ريب هو كتابه الضخم (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع)، وهو موسوعة حافلة تقع في عدة مجلدات وينم عنوانها عن موضوعها، ويبسط لنا السخاوي موضوع كتابه في ديباجته على النحو الآتي: (فهذا كتاب. . . جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثمانمائة، ختم بالحسنى، من سائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء، والخلفاء والملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء، مصرياً كان أو شامياً، حجازياً أو يمنياً، رومياً أو هندياً، مشرقياً أو مغربياً، بل(104/10)
وذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة. . .) وقد هيأت حياة السخاوي نفسه وتجواله في مصر والشام والحجاز؛ ولقاؤه لمئات العلماء والأدباء في عواصم هذه الأقطار، وما قيده عنهم في مختلف رحلاته، مادة حسنة لكتابة المستقبل. وأنفق السخاوي بلا ريب أعواماً طويلة في إعداد مواده وتنظيمها واستكمالها؛ والظاهر أنه لم يبدأ في كتابة معجمه إلا في أواخر القرن التاسع حوالي 890هـ وأستمر في الكتابة فيه حتى سنة 897هـ أو 898هـ؛ يدل على ذلك أنه يصل في ترجمة نفسه حوادث حياته حتى سنة 897هـ، وأنه يذكر ضمن كتبه (كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وقد كتبه حسبما يقرر في خاتمته بمكة سنة 897هـ؛ هذا فضلاً عن أنه يترجم لكثيرين توفوا سنة 897هـ
ويمتاز (الضوء اللامع) بقوة فائقة في التصوير ليس لها نظير في كتب التراجم الإسلامية، ويمتاز بالأخص بروحه النقدية اللاذعة؛ وهنا يبدو السخاوي في أعظم خواصه وكفاياته الأديبة نقاده لا يجارى؛ بيد أن هذه النزعة النقدية تحمله بعيداً في مواطن كثيرة، فينزع عندئذ إلى التجريح والهدم بقسوة، ويطبع نقده تحامل بين؛ وقد ترجم السخاوي كثيراً من أقطاب العصر، ولكن أحداً منهم - إلا شيخه ابن حجر - لم ينج من تجريحه اللاذع؛ وتراجم المقريزي وأبن خلدون وأبن تغري بردى والسيوطي أمثلة واضحة لهذه النزعة الهدامة، ففيها يبدو شغف السخاوي بالتجريح والانتقاص ظاهراً؛ وهو لا يكاد يطيق عبقرية بارزة من عبقريات هذا القرن إلا هاجمها بشدة؛ وهو يبدو في أحيان كثيرة في حملاته قوياً صارم الوطأة، غير أنه يبدو في أحيان أخرى سقيما تعوزه الحجة فينحدر عندئذ إلى ما يشبه القذف المجرد؛ وقد كان السخاوي أشد الناس شعوراً بقوته ومضاء قلمه، وكان كثير الاعتداد بهذه القوة، يشيد بها في مقدمة الضوء اللامع فيما يأتي: (ولكني لم آل في التحري جهداً، ولا عدلت عن الاعتدال فيما أرجو قصداً، ولذا لم يزل الأكابر يتلقون ما أبديه بالتسليم، ويتوقون الاعتراض عما ألقيه والتأثيم، حتى كان العز الحنبلي والبرهان بن ظهيرة المعتلي يقولان، انك منظور إليك فيما تقول، مسطور كلامك المنعش للعقول، وقال غير واحد ممن يعتد بكلامه وتمتد إليه الأعناق في سفره ومقامه، من زكيته فهو العدل، ومن مرضته فالضعيف المعلل. . . بل كان بعض الفضلاء المعتبرين يتمنى الموت في حياتي لا ترجمه بما لعله يخفي عن كثيرين. . .). ويفرد السخاوي لنفسه في كتابه، كما(104/11)
رأينا، ترجمة ضافية؛ ويذيلها بنبذ عديدة من أقوال شيوخ العصر وأعلامه في مديحه والإشادة بغزير علمه، والتنويه بنبوءة مركز الرياسة والزعامة في علم الحديث، ومنها ما خصه به بعض خصومه كالبقاعي قبل أن تنشب بينهما الخصومة، ثم يتبع ذلك بإيراد بعض القريض الذي قيل في مديحه وتقديره. وقد كان كتاب (الضوء اللامع) حادثاً أدبياً عظيماً؛ تردد في كثير من مواطنه أصداء تلك المعارك الأدبية الشهيرة التي نشبت مدى حين بين السخاوي وبين بعض أقرانه وتلاميذه ولا سيما البقاعي والسيوطي؛ واتخذت صوراً من العنف لم تعرفها الآداب العربية من قبل؛ وأستمر صداها يدوي مدى حين بعد وفاة السخاوي وخصومه، وكانت من أهم وأغرب الحوادث الأدبية في هذا العصر. وكتب السخاوي إلى جانب الضوء اللامع كتباً أخرى في التراجم منها حسبما يذكر كتاب (الشافي من الألم في وفيات الأمم) وهو ثبت لوفيات الأعيان في القرنين الثامن والتاسع مرتب حسب السنين، وعدة تراجم مطولة لبعض الأئمة؛ بيد أنه لم يصلنا من هذه الكتب سوى ترجمة شيخه ابن حجر في مجلد ضخم أسماه (كتاب الجوهر والدرر)، وقد حصلت دار الكتب أخيراً على نسخة فوتوغرافية لهذا الكتاب، وفي خاتمته ما يفيد أن السخاوي كتبه في مكة سنة 871هـ؛ وفيه يتحدث بإفاضة عن نشأة أبن حجر، وتربيته، وصفاته، ومواهبه، وعن حلقاته ودروسه وتصانيفه، ثم يورد مختاراته من كلامه وفتاويه، وما قيل في رثائه من نثر ونظم
وهناك عدة مؤلفات تاريخية أخرى يذكر السخاوي أنه كتبها، ولكنها لم تصل إلينا مثل (التاريخ المحيط) الذي يشغل ثلاثمائة رزمة، وتاريخ المدنيين، وتلخيص تاريخ اليمن، ومنتقى تاريخ مكة، ثم طائفة أخرى منوعة منها: ختم السيرة النبوية لأبن هشام، القول النافع في بيان المساجد والجوامع، القول التام في فضل الرمي بالسهام، عمدة المحتج في حكم الشطرنج، الكنز المدخر في فتأوي شيخه أبن حجر، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع؛ ومن هذا الأخير نسخة بدار الكتب
ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا؛ أولهما كتاب (تحفة الأحباب، وبغية الطلاب، في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) وهو دليل لخطط المشاهد والمزارات والبقاع المقدسة، ولا سيما مصر القاهرة؛(104/12)
وفيه وصف لأحياء مصر القاهرة التي تقع فيها هذه المشاهد في أواخر القرن التاسع؛ وذكر لكثير من المشاهد والمدافن التي لم يمن بها المقريزي في خططه، ولا يزال الكثير منها باقياً إلى اليوم؛ ومن ثم كانت أهمية الكتاب في تاريخ الخطط المصرية، إذ نستطيع بالرجوع إلى معالمه أن نحدد كثيراً من مواقع القاهرة القديمة وأحيائها وشوارعها في القرن التاسع الهجري
وأما الثاني، فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وهو رسالة نقدية قيمة، يعرف السخاوي فيها علم التاريخ ويشيد بفضله؛ ويتناول طائفة كبيرة من المسائل والمباحث النقدية التي تدخل في حيز التاريخ؛ ثم يذيلها ببيانات ضافية لجميع المؤلفات التاريخية الإسلامية التي ظهرت في مختلف أبواب التاريخ وعصوره، مثل كتب السيرة، وكتب التراجم المختلفة، وما ألف في تواريخ الطوائف والجماعات المختلفة، مثل تواريخ القضاة والحفاظ والشعراء واللغويين والأطباء والأشراف والأدباء والعشاق والصوفية وغيرهم؛ فهو بذلك فهرس بديع شامل لأمهات الكتب التي وضعت في هذه النواحي المختلفة، ويتخلل ذلك مواقف نقدية كثيرة تجعل لهذا الأثر قيمة خاصة. هذا هو استعراض موجز لتراث السخاوي وآثاره، ولا ريب أن مجال البحث والقول يتسع لأضعاف هذا العرض الموجز، إذا أردنا أن نفي شخصية السخاوي ونواحيه الأدبية والنقدية المتعددة حقها من التحليل والبحث؛ وقد كان السخاوي بلا ريب من أعظم شخصيات مصر الإسلامية والعالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان(104/13)
2 - فريزر ودراسة الخرافة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
ثبتت الخرافة كذلك دعائم الملكية الشخصية وحفظتها، إذ مما لاشك فيه إن هذه الملكية متأخرة في الوجود عن الملكية العامة، فالناس عرفوا متاع الجمعية ومال القبيلة قبل أن يعرفوا مال زيد وعمرو. والملكية العامة نفسها ظهرت في شكلها الأول على صور الملكية المقدسة، فنشأت في أعمال الخرافة وتربت على حسابها. وقد كان التقديس ولا يزال وسيلة من وسائل احترام الملكية والمحافظة عليها. وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. وإذا تتبعنا عقائد وتقاليد الأمم الهمجية المعاصرة، وجدنا فيها خير برهان على هذه القضايا
ففي البولينيز أحد أقسام الأقيانوسية، لا يجرؤ أحد على الاعتداء على أملاك الشيوخ والرؤساء والمحاربين لما لها من صفة مقدسة تبعاً لأصحابها، فحرام على أي شخص أن يعدو عليها بالسرقة أو النهب أو التبديد؛ ومن اقترف إثما من ذلك استوجب غضب الآلهة ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وجر على قبيلته بوجه خاص السخط والنكال لهذا كان عدوّ الجماعة التي تعمل على محاربته ورد المال المسلوب إلى أهله. يقول براون: (إن كل ما يملكه السيد أو يحيط به مقدس في نظر عبيده من سكان زيلنده الجديدة. لذلك لا يستطيع أحدهم - برغم حبه للتبغ - أن يمس ورقه منه علم أنها من مال السيد. وقد حدث مرة أن أعطى صديق لي حفنة من التبغ إلى عبد لم يكد يمضغها حتى علم أنها أخذت من منزل سيده، فأسقط في يده، وسارع المسكين إلى مولاه يقص عليه القصص، ويسأله المغفرة وإباحة التبغ الذي مضغه، خشية أن يجر عليه صنعه نتائج مهلكة) فبيت السيد إذا حرم آمن لا يستطيع مخلوق أن ينتهك حرمته. وكثيراً ما ترك رؤساء القبائل التي نتحدث عنها أموالهم وأمتعتهم معرضة للجمهور دون أن تصاب بسوء. وإذا أراد فرد عادي أن يحمي ماله، اكتفي بأن يميزه بشارة من الشارات المقدسة. ووسائل التقديس كثيرة: منها أن يقام في الحقل شاخص على هيئة صليب أو سمك نهري خاص أو أن يوضع تحت شجرة الفاكهة صورة فأرة إذا رآها السارق ولى مدبراً، أو أن يربط في عنق الشخص خيط أحمر(104/14)
علق فيه رمز لتمساح أو قطة أو وطواط، تلك الحيوانات التي تثير في نفوس القبائل الهمجية عوامل الخوف والرعب، أو التقديس والاحترام، وقد تحمى قرية بأسرها بواسطة عزيمة أو رقية معلقة في رجل دجاجة، فالخرافة حلت محل القوانين والشرائع المختلفة في حماية الملكية الفردية والعامة لدى بعض الشعوب المتوحشة، وربما كان لها على نفوس معتنقيها سلطان لا يعد له سلطان قوانيننا المنظمة. فكثير من البدو تأنف نفوسهم من الإذعان لأمر، اللهم إلا ما أملته تقاليدهم الخرافية أو قيودهم الجمعية. يقول بعض الرحالة: (أنه ما كان يمكن حكم الزيلنديين بمجموعة من القوانين غير تلك التي جاءت بها خرافتهم. ذلك لأن هؤلاء القوم الحربيين يأبون أن يخضعوا اللوائح ومراسيم لم تصدر عن الآلهة، ولا يترددون لحظة في أن يرفضوا في احتقار أي أمر بشري، وفوق هذا فأنه من الخير أن يقاد شعب قيادة هينة بواسطة خرافة يدين بها بدل أن ترغمه القوة الغاشمة إرغاماً). وقد حاربت الخرافة السرقة بشكل يدعو إلى التقدير والإعجاب، فكان مدغشقر يعتقدون أن من سرق بيضة أصيب بالجرب، ومن سرق قطعة من الحديد حلت به عاهة جسمية أخرى. وكي يحمي أهل صيام حقولهم ينصبون فيها راية خافقة، فإذا ما جرؤ لص واعتدى على هذه الحقول أصيب برعدة وأضطرب اضطراب العلم الخافق ولم يقو على الهرب. ويقال أن صياداً كان يفقد كل يوم جزءاً كبيراً من صيده، فرأى أن يحصن شباكه وفخاخه بتلك الراية الآنفة الذكر، فلم يدن اللص منها في الغد إلا وارتعدت فرائصه، ولم يبرح مكانه حتى قبض عليه. وجرت عادة السومطريين (سكان سومطرة) أن يبتهلوا إلى آلهتهم ويستنزلوا لعنات السماء على من سرق شيئاً من أمتعتهم، فلا يلبث السارق أن يعلن عن نفسه وعما سرق. ويروى أنه سرق مره أرز سومطرية، فأخذت تدعو علناً على السارق، وفي الصباح وجدت الأرز المسروق قد وضع خفية أمام بابها. وهاك نموذجاً من هذه الأدعية الغريبة: (شياطين الماء وملوك الأرض والسماء، أسألكم المعونة والثأر لي ممن اعتدى عليّ. فأن كان السارق رجلاً فيخفق في جميع مشروعاته، وليصب بمرض يعذبه عذاباً أليماً دون أن يقتله، ولتخنه زوجه، وليعصه ولده، وإن ذهب إلى الحرب فليقتل، وإن ركب سفينة فليغرق دون أن يعثر له على أثر، وإن قطع شجرة فلتسقط عليه، ولتصب الآلهة عليه جام غضبها فتهلك زرعه ولا تمن عليه بشيء يأكله حتى يضطر أن يتكفف(104/15)
الناس ولا يجيبون سؤاله فيموت جوعاً. وأن كان السارق امرأة فلتبق عاقراً إلى الأبد، وليسيء زوجها معاملتها، وليهجرها بنوها، ولتصب بأمراض لا شفاء منها.) ويظهر قدماء الإغريق كانوا يلجئون إلى أمثال هذه الأدعية والابتهالات لحفظ أموالهم، فكانوا يكتبونها على ألواح خاصة يضعونها في الأمكنة التي يراد حمايتها، ولا يزال بعض هذه الألواح باقياً إلى اليوم. وقد استخدموا هذه الأدعية كذلك في إرغام السارق على الاعتراف بسرقته، وهذا ضرب من وسائل التحقيق أن عيب بخرافته فهو يمتاز بسهولته. أما الرومان فقد ذهبوا إلى ما هو ابعد من ذلك، واعتقدوا أن هناك آلهاً خاصاً يتولى حراسة الحدود بين الحقول المتجاورة، فكل من اعتدى على جاره كان عرضة لسخط هذا الإله العظيم. ويخيل إلينا أن إله الحدود هذا يفسر ما كان عليه الرومان الأول من عناية بالزراعة وشؤونها. وجملة القول أن الخوف الناشئ عن أسباب خرافية صرف الناس عن السرقة في كثير من الشعوب القديمة ولدى القبائل الهمجية المعاصرة، فنتج عن هذا احترام للملكية الفردية وأمن مكمن المالك من الانتفاع بها. ولا يفوتنا أن نضم إلى الملاحظات السابقة ما نشاهده بيننا من أثر الخرافة في حفظ المال والمتاع. فالعجل إن قيل أنه (للسيد) قضى الليل والنهار في الحقل وخارج الدار دون أن يصاب بأذى، وأن كان من عجول عباد الله الآخرين أضحى عرضة للسرقة والنهب والسم والذبح. وكيف لا (والسيد) الذي جاء بالأسير من بلاده كفيل بأن يحمى ماله غائباً أو شاهداً، حيا أو ميتاً! ولا أضننا نجهل الأحلام المتواترة والقائلة بأن فلاناً رأى (الإمام) مثلاً يطارده طوال الليل، لأنه، فيما يزعمون، لم يوف بنذر نذره له من قبل. وما أشنع هذا الزعم الذي يناقض أصلاً من أصول الدين، ويسمح بالتقرب إلى غير الله، وقد وصل الأمر ببعضهم أن ادعوا أن هذا البلد بلد (الدسوقي)، والآخر ملك (البهنساوي)، والثالث من نصيب (العريان)، ويعنون بذلك أن كل واحد من هذه الأمكنة دخل في حوزة حارس أمين وحام عظيم. فلم يكن بدعاً أن تلجأ طائفة من الناس إلى نقل ملكيتهم - إن صح هذا التعبير - ولو ادعاء إلى بعض الأولياء والمقربين ليحفظ مالهم من الضياع. أما التمائم والرقى فتعمل فيها ما شئت، وحدث عنها ولا حرج: فتارة يقال أن هذه التميمة تحفظ من السرقة والغرق والحرق، وأخرى يظن أن هذه الرقية ما تلبث في دار إلا أمنت كل مكروه، وعل عادة وضع التماسيح على الأبواب تعتمد على خرافة من الخرافات(104/16)
التي ترمي إلى حماية المال والمتاع.
إبراهيم بيومي مدكور دكتوراه في الأدب والفلسفة(104/17)
التربية عند الإنكليز
التعاون في سبيل تربية الطفل بين المدرسة والمنزل
للأستاذ محمد عطية الأبرشي المفتش بوزارة المعارف
من مظاهر التربية الحديثة أن التعاون في المدرسة يجب أن يحل بالتدريج محل المنافسة، وأن المدرسة والمنزل يجب أن يعملا يداً بيد في سبيل تربية يصلح بها للحياة التي تنتظره، تربية اجتماعية كاملة، بحيث يتعود التعاون مع غيره من الصغر، حتى يستطيع أن يقوم بأعمال جليلة في الكبر. قد لا يستطع الآباء في المنزل أن يروا الغرض من الحياة، أو معنى الحياة، وقد يكونون محبين لأنفسهم، يأخذون ولا يعطون. وهنا تبدو الحاجة إلى المدرسة، فأنها تأخذ وتعطي، وتدرك معنى الحياة، وتستطيع القيام بمساعدة المنزل في تربية الطفل تربية عملية علمية صحية، تتفق والبيئة التي ينسب إليها. وأحسن الوسائل التي بها يستطيع المنزل والمدرسة معاً إعداد الطفل للحياة الكاملة هي: (1) العناية بالدور الأول من الحياة وهو دور الطفولة، فأنه هو الأساس الذي يبنى عليه مستقبل الطفل وحياته. وقد بلغت بالإنجليز العناية بالطفل لدرجة أنهم يفكرون فيه حتى قبل أن يولد بخمسين سنة على الأقل، فالطبقة الراقية منهم تفكر في أثر الوراثة، فلا يتزوج أحد من هذه الطبقة بمن به أو بها مرض من الأمراض العقلية أو العصبية أو الرئوية؛ خوفاً من التسبب في إيجاد طفل معتوه أو مجنون أو مستعد للسل مثلاً
(2) أن يعطى الطفل حرية كبيرة لتنمية مواهبه وقواه التي تعد هبة للحياة الاجتماعية، ولا نقصد بذلك أن ندع الطفل يفعل كل ما يشاء، بل نعطيه فرصة في أن يعمل ويجرب، ونراقبه عن بعد حتى يظهر خطؤه، وندعه يحاول إصلاحه بنفسه، ونساعده عند الحاجة، ونعمل على أن يعرف نفسه، ويعتاد ضبط شعوره وعواطفه، والصبر، والتجربة والمثابرة، والتفكير في الجماعة، وفي روح الجماعة، بحيث تضحي في سبيله بكل شيء آخر؛ فلا تفكر إلا في الطفل وفي تقويمه وتهذيبه ليكون المثل الأعلى في الحياة
(3) الاهتمام بالألعاب الرياضية؛ فأنها أحسن وسيلة لتقويم خلق الطفل وتقوية جسمه؛ بها نبث فيه حب العمل والتفكير لا في نفسه بل في الفرقة التي يشترك فيها، وبذلك نميت فيه ذلك المرض النفسي: مرض حب الذات والتفكير في النفس ليس غير(104/18)
(4) الحاجة إلى معرفة أن الطفل يحتاج أحياناً إلى الهدوء والصمت
(5) العمل على الإصلاح دائماً. والتفاهم بالمحادثة الودية خير طريقة للعلاج والإصلاح. وأن المراقبة في دور البلوغ، والمراهقة واجبة، لان هذا الدور أكثر أدوار الحياة خطراً
(6) العناية بالفنون والأعمال اليدوية كوسيلة للنمو العقلي والخلقي وكسب المهارة
(7) يجب أن يتم التعاون بين المدرسة والمنزل، للوصول بالطفل إلى الكمال. فإذا لم يكن هناك تعاون بينهما فمن المحال أن نصل إلى الغرض الأسمى من التربية
وفي الأمم المتدينة، وبخاصة إنجلترا والولايات المتحدة بأمريكا تجد الثقة متبادلة بين المدرسة والمنزل، والرابطة بينهما كبيرة، يتعاون كل منهما على تثقيف الطفل وأفادته، فليست المدرسة في وادٍ والمنزل في آخر نقطة وإني آسف لان أقول أن المدرسة وحدها في مصر هي التي تجاهد منفردة في سبيل تربية الطفل؛ فالمنزل في الغالب منفصل عنها كل الانفصال، وقد يهدم ما تبنيه أحياناً. ولا سبب لذلك إلا انتشار الجهل والأمية وحبذا الأمر لو قامت المدرسة بدعوة المتعلمين من الآباء في وقت معين كل ثلاثة أشهر مثلاً للتفاهم والبحث معهم في الأمور التي تتعلق بشؤون الأطفال، والنظر في أحوال التعليم، ومستقبل التلاميذ، والعمل على رفع مستواهم العلمي والخلقي والصحي والاجتماعي وفي (نيويورك) مثلاً تجد المدرسة تعمل على التقريب بينها وبين المنزل؛ فالآباء في الولايات المتحدة بأمريكا أعضاء عاملون في الحياة المدرسية يذهبون إلى المحاضرات العامة التي تلقى في المدرسة، ويشتركون في مناظراتها، ويساعدون في مقاصفها، ويعاونون في محافلها الاجتماعية وبأمريكا الآن جمعيات للآباء والمدرسين في كل مكان تلقى فيها محاضرات عن: أعمال المدرسة، والغرض من المدرسة، والطفل، ونفسيته، وتربيته، ومعاملته
والكل يفكر في الطفل ثقة بأن طفل اليوم هو رجل الغد، وآثر التربية اليوم يظهر في الغد، وما تزرعه اليوم تجني ثماره غداً. وأن غداً لناظره قريب. والوسيلة الوحيدة لإصلاح الجيل المقبل وترقيته هي العناية بالجيل الحاضر. فإذا عنينا بأطفال اليوم وتربيتهم تربية صالحة في المدرسة والمنزل، والملعب، انتظرنا ثمرة طيبة وشعباً راقياً في المستقبل
وفي مدارس الأطفال في (ونتكا) بأمريكا يشترط لقبول التلاميذ أن يقبل الآباء معاونة(104/19)
المدرسة والاشتراك مع موظفيها في العمل، وبغير ذلك لا تقبل الأطفال. وفي إنجلترا قد بذلت جهود كبيرة في السنوات العشر الماضية للتوحيد بين هذين العاملين: المدرسة والمنزل، وتوثيق عرى الرابطة بينهما. ولقد نجحت هذه المجهودات وأصبح الآباء يعنون بأمور التعليم، يسترشدون برأي المدرسة، ويستعيرون من مكتبتها إذا شاءوا، ويدعون للمجتمعات الموسيقية والتمثيلية والرياضية لكي يروا أبنائهم يغنون أو يمثلون أو يلعبون، ويشاهدوهم كرجال يقومون خير القيام بكثير من الأعمال من إدارة مطعم، وتنظيف فصول، وتنظيم حديقة، ومراقبة ألعاب رياضية، وإدارة مكتبات، وتوزيع الأدوات وجمعها بعد الانتهاء منها، وإصلاح كل ما يحتاج إلى الإصلاح في المدرسة. فالطفل عضو عامل في المدرسة يعوّد من صغره الاعتماد على نفسه، والاستعداد للحياة العملية العالمية باشتراكه مع رفقائه في الفصل والمعمل والمصنع والمحفل والملعب الرياضي
وفي المنزل يجد الطفل الإنجليزي مدرسة أخرى صغيرة؛ فالبيئة علمية، والجو علمي؛ أم تعلمه، وأب يرشده، وخادمه تقرأ له. فالكل يفكر فيه صباحاً ومساءً. في الصباح يأتي الطفل إلى أمه بالصحيفة اليومية فتقرأ له الجزء الخاص به من الصحيفة عن الفيل والنمر مثلاً، فيعرف ما تم من أمرهما. ثم تقطع له هذا الجزء فيضعه بين كتبه الخاصة، في حجرته الخاصة بكتبه ولعبه، وفي الساعة السابعة مساءً يتناول كوباً من اللبن أو فنجاناً من المرق بعد الاستحمام، ثم تأخذه إلى فراشه، وتقرأ له بعض الحكايات السارة، وتنشده شعر الطفولة، وتغني له بعض الأغاني بصوت هاديّ جميل حتى ينام، فتتركه إلى الصباح
وترحب المدرسة الإنجليزية بالآباء، وتريهم الأعمال التي يقوم بها أولادهم فيها، وتعمل على إيجاد روح التعاون بينها وبين المنزل
والمدرس الحازم يستطيع أن يساعد الآباء في معرفة أن الحياة لا تقصد طفلاً واحداً، أو أسرة واحدة، أو مدرسة واحدة ليس غير، بل تقصد المجتمع الذي ينسب إليه الفرد، والذي يجب أن يقوم الكل بواجبه نحوه؛ حتى نزول الأثرة التي تظهر في بعض الآباء الذين لا يفكرون إلا في أبنائهم وبناتهم. فالمدرسة تستطيع بمعاضدة المنزل أن تقوم بجلائل الأعمال نحو الأخلاق والإنسانية وتحسين المستوى الصحي والاجتماعي والعلمي والخلقي. ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن التعاون بين المدرسة والمنزل هو الوسيلة الوحيدة لنجاح(104/20)
التعليم. وبالمنتديات يمكن الجمع بين الآباء والمدرسين لاستماع روايات أو مناظرات مثلاً يقوم بها الطلبة والمدرسون، وبهذه الطريقة تتم الرابطة، ويلم الشعث، ويعمل الجميع لإسعاد الطفل وتربيته تربية حسنة
ولقد أوحت روح (بستالونزي) إلى المدرسين بأن يكسبوا تقدير الآباء، فأن هذا التقدير هو العامل الأول لنجاح الإدارة المدرسية، وان كانت المدرسة في حادة فإنها في حاجة إلى مساعدة المنزل؛ فالمدرسة هي التي تتسلم البضاعة التالفة؛ يأتي الطفل إليها يتكلم لغة غير لغتها، ويتخلق بأخلاق سيئة، وحينئذ نجد عمل المدرسة مضاعفاً؛ فتبتدئّ تعلمه لغة جديدة أو لغتين، وبجانب بث الأخلاق الفاضلة فيه تعمل على تقويم المعوج منها
وإني أعتقد أن الطفل يتمنى أن يأخذ والده في إحدى يديه، وأستاذه في يده الأخرى؛ حتى يعمل الكل وحدة (ثلاثية) متينة الاتصال تعمل لشيّ واحد هو رقي المجتمع، والوصول إلى الحياة الكاملة.
محمد عطية ألابراشي(104/21)
3 - النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
شذرات من كلام محمد إقبال
أقفى على ما كتبته في المقال السابق عن موقف المسلمين من تقليد أوربا بشذرات من الفيلسوف الشاعر الهندي محمد إقبال تؤيد ما قلت. وهي شذرات من كتابه جاويدنامه، وهو رحلة خيالية في الأفلاك والجنة تضمنت آراء إقبال في الإسلام والمسلمين، وسأتكلم عنها في مقالات أخرى، وإن تكن هذه الشذرات طويلة فالحق لا يضره الطول. قال على لسان سعيد باشا حليم حينما لقيه في فلك عطارد مخاطباً المسلم: (قم فصوّر بنفسك عالماً آخر، وامزج العشق بالذكاء الباهر. إن شعلة الإفرنج أصابها الماء فهي خامدة، فالعيون ناظرة والقلوب هامدة؛ أصابت سيوفهم منهم المقاتل، فسقطوا كصيدهم في المجاهل. فلا تطلب الحرقة والنشوة من كرومهم، ولا ترجّ عصراً جديداً في أفلاكهم. في نارك أنت حرقة الحياة ونورها، وعليك أنت بعثها ونشورها قال مصطفى وهو يتغنى بالتجديد: (لابد أن كل قديم عتيد.) إن الكعبة لا تجد فيها الحياة، إذا جاءها من أوربا اللات ومناة. وا أسفا ليس في رباب التركي نغمة جديدة، جديدة قديم أوربا الغالبة. لم يكن غير هذا النفس في صدره، ولم يكن سوى هذا العلم في ضميره. فلا جرم سكن إلى العالم الموجود، وذاب كالشمع في حرقة العلم المشهود. وكم في طباع الكائنات من طريف وجديد، ليس في تقويم الحياة هذا التقليد، إن القلب الحي يخلق العصور، وينفر من التقليد أي نفور
إن يكن لك قلب المسلم الولهان، فأنظر في ضميرك والقرآن، كم عالم جديد في آياته. وحسب العصر الحاضر واحد من عوالمه، إن نفذ قلبك إلى بواطنه، إن المؤمن من آيات الله الوهاب، يابس العوالم لبس الثياب. كلما قدم عليه عالم منحه القرآن عالماً آخر. . . الخ
وهذا حديث من الكتاب نفسه بين نادر شاه ملك إيران وزنده رود (محمد إقبال) حينما التقيا في الجنة:
نادر:
مرحباً بالشاعر المشرقيّ، الذي يجدر به اللسان الفارسيّ، إني محرم للأسرار فأفش أسرارك، ماذا عندك عن إيران الوطن المبارك؟(104/22)
زنده رود:
فتح عينه على نفسه حيناً، ثم وقع في الشرك سريعاً. هو صريع دلال أوربا الفاتنة هام بها فأتبعها، وفتن بزينتها فقلدها، همّه اليوم الملك والنسب، وذكر سابور وتحقير العرب، أوقاته من الواردات خاليه، يطلب الحياة من القبور البالية. تحدث بالوطن مذهل عن نفسه، وترك حيدراً وهام برستمه! الخ
ويقول على لسان إبدالي ملك الأفغان في القرن الثاني عشر حينما لقيه في الجنة
أبدالي:
ذهل الشرق عن نفسه بما قلد الغرب واتبعه، ولابد للشرق أن ينقد الغرب فيفهمه، ليست قوة الغرب من العود والرباب، ولا من رقص الفتيات بغير حجاب، ولا من سحر ورديات الخدود، ولا من الساق العارية والشعر المجدود. وليست هيبة الغرب من نبذ الدين، ولا بهاؤه من حرف اللاتيني. ما قوة الإفرنج إلا العلوم والفنون، وما ضوء مصباحهم إلا من هذه النار. ما الحكمة صورة من الزي واللباس، وما تمنع العلم والفضل عمامة على الرأس؛ إن للعلم والفن أيها الشاب النافر، سراً وراء هذه الظواهر؛ وإنما يغنى في هذه السبيل العين النظارة، لا هذه العمارة أو تلك العمارة؛ حسبك الفكر النفاذ، وناهيك بالطبع الدرّاك. إن ملك المعنى لم يحجره أحد، ولا يناله إلا الجهاد والجلد، لقد غفل التركي عن نفسه، وسكر من الإفرنج رأسه، فشرب من يدهم السم حلو المذاق، وترك عامداً ترياق العراق، ولست أدعو له إلا بالهداية والسداد. إن عبد الإفرنج قد أولع بالظهور، فأخذ عنهم الغناء والفجور، يضني روحه في اللهو والفتون، ويستصعب الجد فيركن إلى المجون. يؤثر السهل إيثاراً لراحته، ويرى في السهل كفاء لفطرته. وإنما طلب السهل في هذه المحن إيذان بأن الروح قد فارق البدن)
ويقول في خاتمة كتابه خطاباً للجيل الجديد:
(آسيا موطن الشمس ومشرقها ترى غيرها وتحتجب عن نفسها، قلبها محروم من الواردات الجديدة، فهي اليوم لاتزن شعيرة؛ وقتها في معترك هذه الدار جامد ساكن لا يلذ التسيار. هي صيد الشيوخ وقنيص الملوك، وغزال فكرها ظالع منهوك. العقل فيها والدين والعلم والشرف والعار من ربقة السادة الإفرنج في إسار. هجمت على عالم أفكارها، ومزقت(104/23)
حجاب أسرارها، وجعلت قلبي في صدري دماً حتى صبغت عالمها لوناً آخر. . . .
شباب عطاش كؤوسهم فارغة، ووجوههم نضرة، ورؤوسهم مضيئة، وأرواحهم مظلمة، ضعاف البصر قد حرموا اليقين والأمل، لم تدرك أعينهم شيئاً في هذا العالم، يكفرون بأنفسهم ويؤمنون بغيرهم؛ إن منكر الحق عند الشيوخ كافر، ومنكر نفسه عندي أكفر)
ثم أعود إلى الكلام فيما فعله الكماليون فيما يسمى (النهضة التركية الأخيرة)، وأقدم قبل الكلام ترجمة البلاغ الذي أذيع على الناس قبل فتح المجلس الكبير بأنقرة ليتبين القارئ أين ابتدأت هذه النهضة وأين انتهت:
نشرت الهيئة التمثيلية التي مهدت لاجتماع مجلس الأمة الكبير بأنقرة هذا البيان قبل فتح المجلس:
1 - بمنة الكريم سيفتح مجلس الأمة الكبير في أنقرة يوم الجمعة الثالث والعشرين من نيسان بعد صلاة الجمعة
2 - اختير يوم الجمعة لفتح مجلس الأمة الكبير الذي سيؤدي الوظائف الحيوية الخطيرة مثل إنقاذ مقام السلطنة، والخلافة، واستقلال الوطن. ويستفاد من بركة هذا اليوم فتؤدى صلاة الجمعة في جامع الحاج بايرام ويحضرها المبعوثون كلهم، للتيمن بأنوار القرآن والصلاة. وبعد الصلاة يسار باللحية المباركة واللواء الشريف إلى الدائرة المخصوصة
وقبل الدخول إلى الدائرة يتلى دعاء وتذبح الذبائح. وفي هذه المراسم تنظم الفرق العسكرية، من الجامع إلى الدائرة المخصوصة.
3 - لأجل تأكيد قدسية اليوم المذكور يبدأ اليوم بتلاوة الختمة الشريفة والبخاري في مركز الولاية بترتيب الوالي، وتؤخر الأجزاء الأخيرة من الختمة الشريفة لتتلى أمام الدائرة يوم الجمعة بعد الصلاة
4 - لأجل تأكيد قدسية اليوم المذكور يشرع منذ اليوم (في كل الجهات) في قراءة الختمات الشريفة والبخاري، وتقرأ الصلوات الشريفة على المنارات يوم الجمعة قبل الآذان؛ وحينما يذكر أثناء الخطبة الاسم الهمايوني العظيم أسم حضرة صاحب الخلافة سلطاننا يدعى بصاحب الشوكة ولممالكه الشاهانية ولرعاياه بالخلاص والسعادة. وبعد أداء الصلاة يكمل الختم وتلقى المواعظ في تبيين خطر وقداسة المساعي الملية التي يراد بها خلاص مقام(104/24)
الخلافة المعلى والسلطنة وأقسام الوطن كلها، وفيما يجب على كل فرد من المؤازرة في تأدية الوظائف الملية التي يقوم بها المجلس الكبير المؤلف من نواب الأمة. ثم يدعى بالخلاص والسلامة والاستقلال لخليفتنا وسلطاننا، وديننا ودولتنا، ووطننا وملتنا، وبعد إيفاء هذه المراسيم الدينية، والخروج من الجامع، يجتمع الناس في مركز الحكومة في كل البلاد العثمانية، للتهنئة بفتح المجلس. ويقرأ المولد الشريف في كل جهة قبل صلاة الجمعة بصورة مناسبة
5 - وتتخذ كل الوسائل لاذعة هذا البيان، ويبلغ سريعاً إلى أبعد القرى، وأصغر الفرق العسكرية، وكل مؤسسات الدولة، ويعمل في لوحات مخصوصة، ويطبع ويوزع مجاناً حيث ما أمكن ذلك
6 - نضرع إلى جناب الحق أن يهبنا التوفيق الكامل
باسم الهيئة التمثيلية
مصطفى كمال
ذلك ما أفتتح به الكماليون عملهم؛ فلما أتيح لهم النصر شرع القادة منهم يتنكرون للإسلام. وكان أشدهم إفراطاً في ذلك الغازي مصطفى كمال باشا الذي كان المسلمون جميعهم يعدونه بطل أبطالهم غير مدافع. ولست أدري أيعود الكماليون فيتوسلون بالدين إذا وقعوا في محنة أخرى. ولست أود لهم المحن بل ادعوا لهم بالعافية والهدى. حدثني من أثق به عن الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله أن الغازي قال له مشيراً إلى القرآن الكريم: (لن تفلحوا ما دام هذا الكتاب البالي أمامكم) وحدثني آخر من كبار الرجال أن الغازي رمى بالمصحف ساخراً؛ وكان يأمر فتترجم له بعض آياته ليتخذها هزواً. ألم يكن للنهضة التركية بدّ من هذا؟ لقد سبقنا الأوربيون في كل سبيل وما سمعنا عن ملك من ملوكهم أو زعيم من زعمائهم أنه فعل هذا بالتورات والإنجيل. ولو فعله بعضهم لكان فعلة شنعاء لا يقتدي بها العقلاء. وقد قرأت في إحدى الجرائد الإنكليزية منذ سنين بعدااأن ملك الإنكليز يواظب على قراءة فصول من التورات منذ أربعين سنة لأن أمه أوصته بهذا
وقد كتب الكماليون في دستورهم أول الأمر أن دين الدولة الإسلام، ثم عادوا فمحوا ذلك(104/25)
منادين بأن الدولة لا دين لها. ثم عمدوا إلى القوانين المدنية، وهي مستنبطة من الشريعة الإسلامية فنبذوها واستبدلوا بها قانون سويسرا. وليسوا أول من يلام على ذلك، فقد سبقهم المصريون فسنوا للمسلمين هذه السنة السيئة، ولكن الكماليين كانوا بدعاً من الأمم في اختيار قانونهم الجديد. فما كان هذا القانون وليد عاداتهم، ولا نتيجة حاجاتهم، ولا منتهى ما رآه أولو الأمر منهم، بل أتوا بالقانون السويسري مجموعاً مطبوعاً مجلداً، وعرض على المجلس هذا المجلد مطبقاً، وأخذت الآراء فأجمع عليه الأعضاء، فأنتقل قانون سويسرا إلى الأناظول في ساعة، وصار الأناظول سويسرا، وصار أهله سويسريين، وأنجاهم الله من القوانين الإسلامية البالية، إذ أنزل عليهم قانوناً جديداً مطبوعاً مجلداً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
ومما ابتدعه الكماليون التأذين باللغة التركية. وقد ترجموا القرآن من قبل إلى لغتهم فعذرناهم وقلنا لابد للمسلم أن يفهم قرآنه، والتركي لا يستطيع أن يفهم القرآن بالعربية فلا مناص من ترجمته إلى لغته؛ والأمر في الأذان غير هذا، فهو تسع كلمات ممدودات صارت شعاراً للمسلمين في أقطار الأرض كلها يفهمونها على اختلاف لغاتهم؛ ليس في الأرض مسلم لا يعرف معنى الله أكبر ومحمد رسول الله، والصلات والفلاح، وأن يكن في الأرض مسلم لا يفهمها وجب عليه أن يفهمها احتفاظاً بهذا الشعار، واستمساكاً بهذه الكلمات الجامعة بين المسلمين. فما بال الكماليين أصروا على التأذين بالتركية؟ ذلك بأنهم لا يبالون بالرابطة الإسلامية، وما أحسبهم إن استمرت لهم هذه السيرة إلا سيلغون الأذان كله فيستريح السادة المترفون من هذه الضوضاء. ذهبت مرة إلى جامعة أكسفورد فتعشيت في إحدى كلياتها مع الطلبة. فلما جلسنا على الموائد أقبل جماعة من الأساتذة إلى مائدة تسمى المائدة العالية، فوقف الطلبة، وتلا أحد الأساتذة دعاء باللاتينية. ولما انتهى الطعام وقف الطلبة خاشعين فاستمعوا إلى دعاء آخر باللاتينية. وهناك شواهد كثيرة على احتفاظ الأمم في بعض أمورها بكلمات من لغات غير لغاتها احتفاظاً بذكرى تاريخية أو إبقاء على سنة دينية. وأذكر هنا أن في أكسفورد تسع عشرة كلية مع كل واحدة منها كنيسة، والطلبة ملزمون بالتناوب على الصلات في أوقات معينة، فهل منع هذه الإمبراطورية البريطانية من أن تسود العالم؟ أو كان هذا بعض الأسباب التي مكنت لها في الأرض؟(104/26)
ولا ننسى هنا أن الجامعة المصرية حينما شيد بناؤها على طراز أوربي لا مصري ولا عربي لم يتم بنائها التقليد ببناء المساجد، ييسر للطالب المصلي تأدية الصلاة، فكأنه أكره على ترك الصلات إكراهاً. وقد تكلمت في هذا فقيل لي أن في تخطيط الجامعة م سجداً. ولست أدري متى يشيّد هذا المسجد المخطط؟ لماذا نؤمن ببعض سنن الأوربيين ونفكر في بعض؟ ولماذا يا قوم نقلدهم في المراقص ولا نقلدهم في بناء المعابد في الجامعات؟ وقد كان لنا مصليات في مدارسنا، وكان لها أئمة يصلون بالطلبة، ولكنا شعرنا بتوغلنا في المدينة وتقدمنا في العلوم والفنون فخجلنا من الإبقاء على هذه السنن القديمة فأهمناها فدرست ونسيت!
ومما فعله الكماليون آخراً تحويل جامع آيا صوفيا كنيسة بمحو ما فيه من آيات قرآنية وأحاديث، والكشف عما ستره المسلمون من صور القديسين والملائكة والصلبان ونحوها من نقوش المسيحية؛ وقد أحتج لهم من يدافع عنهم بالحق وبالباطل بأن بناء المسجد وهي، ولم يبق صالحاً لإقامة الصلوات فجعلوه متحفاً وكشفوا عن هذه الصور الأثرية، فهل معنى هذا أن الكماليون أشفقوا على المصلين أن يخرّ عليهم المسجد فأرادوا أن يفدوهم بروّاد المتاحف لا يبالون أن يسقط عليهم المتحف أو لا يسقط؟ هل بلغ الولع بالآثار القديمة عندهم أن يمحوا الآيات القرآنية ليكشفوا عن الرهبان والصلبان؟ على أن هذه الآيات قد كتبت بخط جميل يجعلها من الفنون الجميلة، ومضت عليها عصور تجعلها من الآثار القديمة
لست أرى في ما صنعه الكماليون بآيا صوفيا إلا إنفاذاً للمنهاج الذي وضعوه. فهذا جامع كان كنيسة معظمة عند النصارى، وقد فتح المسلمون القسطنطينية فجعلوا من آيات الفتح والظفر تحويل الكنيسة إلى جامع فطمسوا نقوش النصرانية فيها، وبنوا لها منارتين، ونصبوا أمامها لوحاَ كتبوا فيه حديثاً مروياً عندهم: (لتفتحن القسطنطينية! ولنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها!) ولا يزال التركي كلما مرّ بهذا الجامع ذكر الفتح والفاتح، وغلبت الإسلام في هذه المدينة ونحو هذا مما لا يلائم (النهضة التركية الأخيرة) ولا يساير المدنية الحديثة، ثم لا يزال هذا الجامع حسرةً في نفوس النصارى، ما نسوه قط، وقد أعربوا عن أملهم في تحويله إلى كنيسة يوم احتل الحلفاء الآستانة في الحرب الكبرى(104/27)
فتجمع الروم حول آيا صوفيا ليستولوا عليه فيعود سيرته الأولى. فكان لزاماً أن يمحوا الكماليون هذه الآية من نفوس الترك وغيرهم من المسلمين، لينسوا الماضي وينظروا إلى الحاضر. وليتقربوا إلى أوربا النصرانية التي التزموا محاكاتها في كل شيء. وما بالكم أيها المسلمون تكرهون هذا التسامح في الدين وأنتم تزعمون إن دينكم دين التسامح؟ ستقولون أن أوربا النصرانية لا تتسامح معنا فنجزيها تسامحاً بتسامح، ولا يزال كثير من مساجدنا في الأندلس والبلقان كنائس في أيدي النصرانية. وفاتكم أيها المسلمون أننا أولى بالتسامح منهم فلماذا لا نبدؤهم به!!!
وقلد بلغني أخيراً أن الحكومة التركية هدمة المسجد الجميل مسجد المدرسة البحرية هيبه لي أطه، هذا المسجد الذي كان يشرف على بحر مرمرة يوحي إلى المسلم أن دينه ينبغي أن يعز في البر والبحر، فأن صدق هذا الخبر، ولست على يقين منه، فهو حلقة من هذه السلسلة
(له بقية)
عبد الوهاب عزام)(104/28)
الديمقراطية والانتخاب
في التربية
للأستاذ فخري أبو السعود
مبدأ التعليم العام حديث العهد وليد الديمقراطية في نظم الحكم الحديثة، إذا اقتضت الديمقراطية المساواة بين جميع أفراد الأمة في الفرصة التي تتاح لهم لتقويم طباعهم واستثمار مواهبهم؛ ففي نصف القرن الأخير جعلت مرحلة التعليم الأولى في دول الغرب الراقية عامة إجبارية مجانية، لينال كل فرد حظاً من التعليم، وعاونت الحكومات ذوي المواهب من أبناء الطبقة الفقيرة على المضي إلى غايات التعليم دون أن يكون فقرهم عائقاً لهم عن ذلك، وبذا انتشر النور وأطلقت المواهب التي كانت من قبل معقولة
على أن التعليم العام لم يخل انتشاره من مساوئ: من ذاك أن معظم أبناء الطبقة السفلى يغادرون المدرسة تواً عقبة إنهاء مرحلة الدراسة الأولى ويعودون إلى مزاولة مهن آبائهم وينسون ما تعلموه في المدارس إلا النزر اليسير الذي لا يساعدهم إلا على قراءة غث الكتب وفارغ القصص؛ ومن ثم انتشر الأدب الرخيص وطغى على الأدب العالي، وتدلت الصحف، وكثر الكتاب المرتزقون الذين لا يتوخون سوى إرضاء تلك العقلية المنحطة، وقد آذى هذا الأدب المنحط الثقافة الرفيعة: إذ اجتذب غير قليل من المتعلمين تعلماً راقياً، لأن من طبيعة الإنسان أن يؤثر الهين من الأبحاث على الصعب منها، إلا أن يكون له وازع من نفسه شديد يقسره على التسامي عن الفضول؛ وما من وسيلة من وسائل التثقيف الحديثة كالراديو والسينما والمحاضرات إلا أسئ استعمالها كما أسئ استعمال الكتابة إرضاءً لفضول أشباه المتعلمين، وكانت النتيجة أن التعليم العام حين رفع مستوى الطبقة السفلى درجة هبط بعقلية الطبقة العليا مثلها
على أننا إذا فرضنا أن التعليم العام كان خيراً كله في بلاد الغرب التي سبقتنا إليه فهل هو كذلك في مصر؟ لقد أخذنا مبدأ التعليم العام فيما أخذنا عن أمم الغرب؟ وقلنا: ما دمنا نطلب الديمقراطية في السياسة والحكم فلابد من اتباعها في التعليم؟ وما دمنا نريد النهوض ببلادنا فلننشر فيها العلم لننقيها من خرافات الجهل وجموده، وأغرقنا وتسرعنا في تطبيق ذلك المبدأ شأننا في كل ما ننقل عن الغربيين: فأنشأنا عشرات المدارس وزججنا الناشئين من(104/29)
كل صوب، وأنفقنا على ذلك الأموال الطائلة، وتخرج من معاهدنا ألوف الشبان، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة فشل لم يكن في الحسبان: فأولئك الشبان يزيدون على حاجة البلاد، وتعليمهم ناقص مشوّه، وأخلاقهم لا تحمد، والتعليم عامة يتقدم في طريق الضعف والانحلال سنة بعد سنة باطراد
ذلك بأننا أخذنا بمبدأ الديمقراطية في التربية مطلقاً غير محدود، وهو مبدأ غير طبيعي ولا يصلح به وحده مجتمع ولا نظام، وإنما المبدأ الساري في الطبيعة هو مبدأ الانتخاب: فالأصلح في الطبيعة هو الذي يرقى ويسود؛ وقد فطن إلى ذلك أول الشعوب أخذاً بالديمقراطية في حياتهم الاجتماعية ونظمهم الحكومية، وهم اليونان: فديمقراطية أثينا لم تكن في الواقع إلا أرستقراطية إذ تذكرنا أنه كانت بها دائماً طبقتان ممتازتان غير متساويتين في الحقوق والواجبات: طبقة الأحرار وطبقة العبيد. ولما بحث فلاسفة اليونان الكبار في النظم الحكومية لم يؤثر واحد منهم الديمقراطية المطلقة، ومالوا إلى الأرستقراطية لأنها هي النظام الطبيعي؛ وحين عالج أفلاطون التربية وضع لها نظاماً أرستقراطيا قائماً على مبدأ انتخاب الأصلح، لا ديمقراطياً على مبدأ المساواة التامة: فجعل التعليم على ثلاثة مراحل يتمتع الجميع بالأولى منها ولا يرتقى إلى الثانية فالثالثة إلا من أظهروا استعداداً طبيعياً لذلك، ومن المرحلة الأولى يتخرج أرباب المهن اليدوية، ومن الثانية يتخرج المقاتلون، ومن الأخيرة الفلاسفة والحكام
فالطبيعة لم تجعل أبناءها متساوين في المواهب، بل هي ترفع بعضهم فوق بعض درجات، ومادام هذا كذلك فسيظل في كل مجتمع في كل عصر طبقات متفاوتة، ولن ترقى أمة إلى أن تعترف ضمناً بالتفاوت بين هذه الطبقات، والغفلة عن هذا التفاوت خطأ قاتل
وأشهر الشعوب بالديمقراطية في العصر الحديث الإنجليز، ولكن من يتأمل في حياتهم يرى أن ديمقراطيتهم أرستقراطية كديمقراطية أثينا: فالفوارق بين طبقات النبلاء والأوساط والسوقة قائمة محددة يشعر بها أفراد كل طبقة، والنبلاء يترفعون على من عداهم ترفعاً شديداً، والآخرون ينظرون إليهم نظرة رهبة وإكبار، حتى لتكاد تكون طبقة النبلاء هذه أمة داخل أمة؛ وهذا الشعور باختلاف الطبقات والتسليم به والاعتراف بالأمر الواقع دليل على نزعة الإنجليز العملية، وهو هو سر صلابة بنيان نظامهم الاجتماعي والحكومي، وخلوّ(104/30)
تاريخهم من زعازع التقلبات
وهو أيضاً أكبر أسرار نجاح نظم التربية عندهم: فالنظام الأرستقراطي يتمثل في المدرسة الإنجليزية كما يتمثل في المجتمع الإنجليزي: فالتعليم عام مباح للجميع، ولكن هناك مدارس للخاصة قاصرة على أبناء من يأبون لأبنائهم مخالطة أبناء السوقة، ومعظم أبناء الطبقة السفلى ينقطعون عن المدرسة بمجرد إنهاء المرحلة الإجبارية وينزلون إلى ميدان الحياة العملية، ونظم المدارس من الشدة والدقة وجوهاً من النقاء بحيث لا يسمح بالاستمرار في مراحل التعليم إلا لمن حسنت أخلاقهم ونضجت مداركهم، والحكومة ومجالس الأقاليم والجماعات الخيرية لا تنفق أموالها إلا على النابغين المتفوقين، وهكذا يبدأ التعليم في أول مراحله ديمقراطياً عاماً ثم تتناوله يد الانتخاب بالتهذيب والتنقية فلا يبلغ القمة إلا الأكفاء خلقاً وموهبةً، ولا يصل إلى مراتب الإدارة والحكم وقيادة مصالح البلاد وتوجيه مصايرها إلا صفوة أبنائها، ويظل الأوشاب في أسفل
أما في مصر فأننا لطول لهفتنا إلى الديمقراطية والعلم - بعد أن عصف بنا الاستبداد والجهل أجيالاً - اندفعنا إلى مبدأ التعليم العام اندفاعاً، وأخذنا بمبدأ الديمقراطية وحده، وهو مبدأ كما تقدم غير طبيعي ما لم يماشه جنباً لجنب مبدأ الانتخاب، وما لم يراع معه قيام الفوارق بين الطبقات، فأدى هذا الاندفاع إلى هبوط مستوى التعليم هبوطاً ذريعاً: فكثر عدد المتعلمين ولكن قلت قيمة الواحد منهم بما يحمله من علم وخلق، والجانب الخلقي هو الذي يعنينا هنا أكثر من غيره، وقصارى ما يقال في أخلاق أبناء مدارسنا وخريجيها أن النفس تمتلئ أسى ويأساً من مستقبل قضية الوطن العزيزة حين تذكر أن هؤلاء هم ذخر البلاد لغدها، وما جنى على أخلاق متعلمينا هذه الجناية إلا حشد التلاميذ في المدارس من جميع الطبقات بلا تمييز
في كل أمة في العالم طبقة سفلى، فلا ضير علينا في الاعتراف بوجود هذه الطبقة بيننا، بل يجب علينا ونحن نلتمس موضع الداء ونحاول إصلاح عيوب التربية أن نذكر أن الطبقة الدنيا في بلادنا كبراً يفوق ما بالبلاد الراقية، وأن أخلاق يلك الطبقة في منتهى الضعة، لأنها ما تزال تحمل بين أطوائها آثار عصور الاستبداد والجهل التي أوهنت الأخلاق وبثت الكذب والنفاق والغش والخيانة والخشونة والوقاحة، وما يزال أبناء الطبقة(104/31)
الوضيعة عندنا متسمين بهذه الصفات، وهم لا يرون بها بأساً ولا يعدونها إلا إمارات مهارة وحنكة ووسائل اختيال للعيش وانتهاز للفرص
ومن سوء حظ التعليم في مصر أن أبناء تلك الطبقة أقبلوا على التعليم في السنين الأخيرة إقبالاً شديداً، لا لقدرهم العلم قدره ومعرفتهم بفضل الخلق الكريم العالي، بل طمعاً من الآباء في أن يروا أبناءهم يرفلون في أزياء الأفندية والبكوات، ويترشحون لعالي المناصب والمرتبات، فوجد أبناء السائقين والإسكافيين والخدم والبوابين ومن إليهم أبواب المدارس مفتحة لهم على مصايعها فجلسوا على أرائكها بجانب أبناء الأسر الطيبة الذين نشئوا في بيوتهم على حسن الذوق ولطف الخطاب وطهارة الطوية، فبثوا في جو المدرسة خشوتة طبائعهم وجلافة خطابهم، وسفالة أفكارهم، وضعة نفوسهم ولم تكن إلى سنون حتى تسمم جو كل مدارسنا، وصارت تطبع كل من أمها من التلاميذ - سوقهم وراقيهم - على غرار واحد لا يتصف بصفة حميدة واحدة
والذي أراه أن مدارسنا لن تقال من كبوتها، وأخلاق ناشئتنا لن ترفع من حطتها، حتى يصد هذا الذي يحق أن نسميه (غارة السوقة على المدارس) ويفصل بين أبناء السوقة وأبناء الأسرات الطيبة في معاهد العلم، ومادام هذا الزج الذي لا تمييز فيه فستظل أخلاق سوقتنا تطغى على أخلاق عليتنا ونحن نمكن لهذا الطغيان بأيدينا في مدارسنا
في الأمة سوقة وفيها أسرات طيبة، ونحن الذين نريد الرقي ببلادنا نبني الخير للجميع بلا نزاع، ولكن هذا المزج بين الفريقين بدعوى الديمقراطية لا يؤدي إلى غرضنا المنشود، هو يهبط بأخلاق العلية ولا يرفع السفلى، كالذي يمزج قليلاً من الماء النقي بكثير من الماء العكر لن يحصل إلا على ماء عكر، والأجدر بنا ألا نتعجل الأمر فنحاول ترقية الأمة جميعاً وتعليمها وتهذيبها دفعةً واحدة
إن الأجدر بنا أن نصرف عنايتنا أول الأمر إلى أبناء الطبقة المهذبة فنمدهم بالتعليم الذي ينشرونه وهم بمنأى عن مخالطة السوقة والتطبع بطباعهم، فهؤلاء صفوة أبناء الأمة، ومتى خلص لنا تعليمهم وتهذيبهم فقد أهدينا إلى البلاد طبقة من أبنائها الأكفاء ذوي الخلق العظيم القادرين على تدبير أمورها وقيادة نواحي النشاط العام في حياتها، ولنا أن نلتفت بعد ذلك - أو مع ذلك - إلى أبناء السوقة فنفسح لهم في مجال التعليم والتربية بما يؤدي(104/32)
إلى ترقية أخلاقهم ورفع مستواهم، ولكن على أن يظلوا بنجوة لا يبثون السموم في بيئة أرفع من بيئتهم، وان رفع مستواهم لأمر يحتاج إلى أجيال، كما أنهم إنما هبطوا إلى دركهم ذاك في أجيال، فجدير بنا أن ننبذ التسرع جانباً
ومن ثم نرى ضرورة إنشاء مدارس منفصلة لأبناء الطبقة المهذبة والأسرات الطيبة كما أشرت إليه في كلمة سابقة، يقبل بها التلاميذ على أساس الانتخاب الخلقي والعقلي لا على أساس الديمقراطية العمياء، فمما لا نزاع فيه أن بالبلاد أسرات طيبة ينشأ أبناؤها في بيوتهم نشأة طيبة، فلننتخب أبناء هذه الطبقات - بخير الطرق المستطاعة - ولنفرد لهم مدارس تمدهم بالثقافة ولا تفسد أخلاقهم بمخالطة الدون
ولا شك أن اليسر المالي من دواعي رقي الأسرة ورقي المجتمع كله. فالأسرة التي تشعر باليسر وترى امتيازها المالي على غيرها تسعى ليكون لها امتياز خلقي أيضاً، فتنزع إلى الحياة المنظمة النظيفة وتتسامى عن الشرور وعن السفساف، وتسود فيها رقة الحاشية وسلامة الذوق، والأخلاق الطيبة تبدأ تطبعاً وتستحيل طبعاً وتبتدئ بالمظهر ثم تأخذ بالجوهر. أما الأسرة السوقية المدقعة فيورثها كفاحها في طلب القوت وضيع الرذائل وقذر العادات، ومن ثم يمكن أن يتخذ اليسر المالي مقياساً لرقي أسرة الطالب وسموها عن أدران السوقية كما تتخذ مهنة والده مقياساً لذلك أيضاً، ويجب بعد أن يقبل الطالب في المدرسة أن تستمر الرقابة المدرسية الصارمة، فمن ثبت عدم استحقاقه للبقاء في بيئتها الراقية فصل على الفور ليظل جو المدرسة دائماً نقياً يسمو بأخلاق أبنائها
كذلك يجب أن تسمو المدارس بالعقول: بأن يرفع مستوى الامتحانات التي يتوقف عليها تقدم الطالب في مراحل العلم - أياً كان نوعها وكيفما أدخلت على أنظمتها الإصلاحات - حتى لا يسمح باجتياز مراحل التعليم المختلفة إلا لمن هيأتهم الطبيعة بالمواهب الصحيحة، فيسمح للجميع بطرق مرحلة التعليم الأولي، ولكن لا ينال الإجازات العلمية إلا من هم جديرون بها
هكذا يطبق مبدأ الانتخاب في التربية بناحيتيها الخلقية والعقلية؛ وبأتباع هذا المبدأ ترقى أخلاق المتعلمين ويرتفع مستوى الحاصلين منهم على الإجازات العلمية ويقل عددهم فلا يزيد على حاجة البلاد ولا يكونون طبقة عاطلة، ومن تخلفت به مواهبه منهم عن أدراك(104/33)
غايات العلم الصحيح يعرج على ما يناسبه من مهن وأعمال
فمبدأ الانتخاب، مبدأ الاعتراف بالتفاوت بين الأفراد والطبقات، مبدأ اختيار الأصلح، الذي هو المبدأ الطبيعي، هو المبدأ الذي به تصلح نظم التربية عندنا وتبرأ من عللها الكثيرة؛ أما مبدأ الديمقراطية المطلقة، مبدأ فرض المساواة التامة بين الجميع في كل شيء، مبدأ إفساح المجال لكل من هب ودب، فهو مبعث آفات التعليم، وهو الذي أدى إلى حشد التلاميذ في المدارس ذلك الحشد الذي عزا إليه تقرير معالي وزير المعارف معظم مساوئ التعليم في مدارسنا
فخري أبو السعود المدرس بالعباسية الثانوية(104/34)
إبليس يتوب. . .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
(ليس أسمج من الرذيلة تكون وجدها في الأرض، إلا الفضيلة
تكون وحدها. . .!)
الرافعي
اطلع إبليس ذات مساء على الأرض؛ يستروح من نسمات الليل والدنيا نائمة - روح الفردوس الذي طردته الكبرياء من رحمته. وانبث زبانيته ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام؛ ففي كل منعطف شيطان صغير يتربص، وبين كل اثنين ثالث لا يريانه. . .
وسمع إبليس في هدأة الليل عابداً يتهجد، ما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا لعن الشيطان. . .!
وأحس إبليس لعنات الشيخ العابد تنصب عليه كما ينهال التراب على نار تتلهب، أو ينصب الماء على جمرة تؤجج
وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب، أن عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة مثل هذا الشيخ الزاهد وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجز الشيطان أن يطرد أباه من الجنة!
أفكان يعصم الشيطان من اللعنات أن يسلط على الناس جميعاً شهواتهم ويغري بهم أنفسهم؟ فكيف وإن عباده من أهل الغواية والمعصية ليذكرونه باللعنة على مقدار ما ييسر لهم شهواتهم ويضاعف لهم من مسراتها؛ وإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته. . .؟
وهبّت نسمة السحر تعطر الدنيا بأنفاس الجنة، فاستروح منها إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه. وتغشه الذكرى وعاد الزمان القهقري أمام عينيه؛ فإذا هو ملك بين الملائكة يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه أبياً مستكبراً أن يسجد لبشر من طين؛ وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يلعنه الفضاء ويسبُّه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فينزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض(104/35)
يصنع منهم حطب جهنم، فما بشر من الناس إلا شيطانه يسعى بين يديه. . .
ثم هو في موقفه ذاك تتناثر من حوله لعنات الناس سواء منهم طائعه وعاصيه. وتصك أذنيه من مكان سحيق زفرات عباده في نار جهنم تكوى جباههم وجنوبهم بما أغواهم الشيطان وأضلهم سواء السبيل!
ولأول مرة استشعر إبليس لذع الندم فدمعت عيناه. . .!
يا لها من سخرية. . . إبليس يتوب. . .! لقد كفاه ما اقترف منذ هبط من السماء انتقاماً لكبريائه التي زعمها ديست يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!
أكانت توبة نصوحاً، أم مبالغة في الانتقام، أم هو يشتهي أن يعيش بشراً بين البشر عمراً من عمره، ليذوق بعض لذّات البشرية، ويرى بعيني حسه كيف يفتتن بها الناس جميعاً منذ كانوا فتسرع بهم شهواتهم إلى طاعة الشيطان. . .؟
وطلع إبليس على الأرض فتى وسيماً يمشي على قدمين مشي الناس. وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاجَ على ندى ساهر له به عهد، لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجراً على حجر، وطالما قضى الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه الناس؛ ينفث الشر، ويبذر بذور الخطيئة، ويفتن في وسائل الإغواء. . .
كانت مصابيح الندى ترمي أضوائها إلى بعيد، وتمد من أشعتها شركاً بصيد الناس ويأخذ عليهم طريقهم؛ وكان كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملاً يغريان من يلتمس إرضاء شهواته. . .
ولكن. . . ولكن ها هو ذا إبليس يصعد الدرج في أناة ورفق، ويدفع الباب في هدوء وخفة، ويخطو إلى البهو في سكون وحذر، فيرى، ولكنه يرى أجساداً لا تكاد تتحرك، ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيوناً محدقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مغيبين، ولكن فكرة واحدة كانت تسيطر عليهم جميعاً، فكرة بين السخط والرضى، وبين الندم والاستغفار!
وجلس الشيطان إلى مائدة وحده وطلب طعاماً، وراح يدير عينيه فيما حوله ومن حوله، ويتسمع نجوى الضمائر الخفية تهمس في أعماق أصحابها
ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها هنا وهاهنا نقد وورق، ورأى كؤوساً فارغة(104/36)
وممتلئة، ورجالاً ونساء قد تحلقوا حول المائدة، ذراعاً إلى ذراع، وامرأة بين كل رجلين. . . ولكن يداً واحدة لا تمتد إلى شيء، وفماً واحداً لا ينبس بكلمة. . .
وأبصر رجلاً يهتز في موضعه هزة خفية وهو يتحدث إلى نفسه: كيف يصنع وقد فقد كل ما كان معه من نقد، إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه، لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، وهو قضاء غير مشروع ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة؛ وقالت له نفسه: ما أنت والقمار؟ شد ما نهيتك فلم تنته! الآن فذُق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك من بعد ألا تستمع إلى إغواء الشيطان. . .
واختلج إبليس حين ذكر أسمه اختلاجه كادت تنم عليه؛ وهمّ أن ينهض، لولا أن أقبل النادل عليه بالطعام
وشُغل إبليس لحظة بالأكل، يزدرد اللقمة بعد اللقمة يكاد لا يحرّك بها فكيه؛ وعرف لأوّل ما ذاق الطعام - لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان. . .!
وعاد ينظر إلى وجوه الناس وضمائرهم، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقاً في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه شتى ألوان الندم والخزي والحياء. . . ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: معذرة يا صحابتي، فإنما هو مالكم ليس لي حق منه في شيء، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما أردت السلوة وإزجاء الفراغ. وعضّ على شفته واحمر وجهه، إذ كان يعلم أنه يكذب في اعتذاره؛ فما كان ليقامر إلا مؤملاً أن يربح، وما كان ليربح مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حين ضمّ يديه على المال أحسّ كأنه يقبض على جمر؛ ورفت به سانحة من الخير، فتعفف أن يأكل مال الناس فخرج عنه لأهله. . .!
ونظر الرجل إلى يمين، فإذا صاحبته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس:
(أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟)
قالت المرأة: (عفواً ليس لي شأن بذاك، ولكن أمراً يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار. . .!)
وهبت واقفة، فقال الرجل: (خير. . . .! أتأذنين لي أن أصحبك؟)
قالت: (شكراً. . .!)(104/37)
وسارت في طريقها فما ألح الرجل ولا تعوقت المرأة، ومالت إلى غرفة في الندى تأخذ زينتها في المرآة فأدركتها صديقة، ونظرت كل منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر ثم أطرقتا. .
منذ بعيد تقارف هاتان المرأتان الإثم في غير حذر ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شاب غوى أغراها حتى نال منها ثم اختفى من وجهها وخلّف بين أحشائها بضعة منه، ففرّت بجريمتها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي قلبها بالانتقام من الرجال
وأما الأخرى فزوج كالأيم، أو هي أيم وإن تك ذات بعل؛ فما شعرت يوماً أن لها حقاً على رجلها، وإنه لذائب التجوال بين البلاد، ولا تستقر به الدار في حضن زوجته أياماً حتى تعرض له الأماني تغريه أن يضرب في الأرض يطلب المجد بالثمن الغالي. . . بشرف زوجته. . .!
لم تحس المرأتان قبل الليلة معنى من معاني الندم؛ فمالها الليلة مطرقتين لا تنبسان؟
أرأيت إلى المجرم إذ يفجَأ وهو يقارف جريمة منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر؟
وعاد نظر المرأتين فالتقيا فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين، وأطفأت دموع الاستغفار وقد النار ولذع الندم، فكأنما حلت في جسد كل منهما روح جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلق إنما ولم تجترح معصية
وتلفت إبليس فإذا الندى مقفر خالٍ ليس فيه إلا الندل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصففون الكراسي والمناضد
وتنفّس الصبح فأبدل إبليس ثياباً بثياب، وانطلق تبانه وبرنسه إلى سيف البحر، يستمتع به ما يستمتع البشر، ويملأ عينيه وقلبه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهد يرتاده زبانيته يعلمون الناس السحر وينصبون شرك الفتنة؛ وهو ذا البحر، فأين فتنته وسحره، وأين مباهجه التي كانت؛ أين الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد؛ وأين العيون التي ترمي فتصمي، وأين لآلي البحر تغوص وتطفو، وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض
لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزاً مقرورة مستلقية على الشاطئ، ما يبدو منها إلا عينان كصدفتين ملقاتين في كومة رمل!(104/38)
وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها، فما تعرت من برنسها إلا ليسترها الماء. وهذا رأس رجل يبدو سابحاً من بعيد، ما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكّب عن الطريق لئلا تتأذى منه الحسناء السبوح
وأحس إبليس أول آلام البشرية في الوحدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد. لقد ودّع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع عنه شيطانيته تائباً ليهب للناس الاستقرار والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم
واطمأنت الحياة بالناس، فاجتمعوا على الرضى والطاعة في حالٍ شر منها السخط والعصيان؛ إذ لم يكن ثمَّت عدوان يدعو إلى المقاومة، أو تربُّص ينبه إلى الحذر، أو كيد يستتبع الحرص واليقظة؛ وعاد كل فرد أمة وحده، يعيش في رضى وقناعة على أكمل ما يكون الإنسان صلاحاً وحباً في الخير، ولكن الجماعة لم تجد ما يشد وحدتها ويربطها آصرة إلى آصرة. ودب النعاس إلى أجفان الحياة: فمات الطموح لأنه باب من التكبر؛ وخمد النشاط، لأنه جهاد في غير عدو؛ واستنام الناس إلى القدر، لأن التمني ضرب من الأثرة؛ وعاش نصف الناس عيالاً على نصف الناس؛ فليس ثمت عمل للشرطة والجيش ورجال الحكم؛ وأنى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان؟
وكسدت سوق القفال والزراد والصيقل والرماح؛ وما حاجة الناس إلى الأقفال والدروع والسيوف والرماح؟
وقال فتى لصاحبه: تعال نلتمس نزهة في غير ساحة (المولد)؛ فما لنا ولهذه المهرجانات التي لا تجتمع إلا على شر ولا تحشد الناس إلا لمعصية؛ حسبي أن أعمر قلبي بذكر الله وأتخذ أولياءه قدوتي وإمامي. . .
وأمن صاحبه على قوله؛ ولكن البدال، والبقال، والبزاز، وبائع الحمص، وصانع الحلوى، ومدير الملهى - لم يعرفوا لماذا هجر الناس المولد؛ فمضى الموسم ما باعوا ولا اشتروا ولا تعوضوا، وقوض كل منهم خيمته ومضى غير مأجور على جهاده!
وقال بعضهم لبعض: (أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمردوا على ما اعتادوا؟)
فأجاب شيخ كبير: (ذلك من عمل الشيطان. . .!)(104/39)
وأراق الخمار أحمره وأصفره وهو يقول: (ليت خمري كانت خلاً. . . .!)
وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي:
(أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو أن تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد. . .؟)
ونظر الشيخ الزاهد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ فليس يضاعف الأجر إلا المقاومة. ولو أن عابداً قضى الدهر كله راكعاً ساجداً، ما عدل أجر عبادته كلها ثواب ساعة لشاب تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية رده عنها الأيمان والتقى، فهو أبداً في مجاهدة لا يهدأ، وهو أبداً مأجور أجراً لا ينتهي!
وإنما يقظة الحياة في الجهاد والمقاومة وتوقع ما يأتي به الند على شتى ألوانه؛ فإذا عدم الجهاد، وفقدت دواعي المقاومة، وعاش الإنسان لساعته التي هو فيها - أعمى أو كالأعمى لا يبصر ما أمام - فقدت الحياة معناها الأسمى، وعاش الناس في هدى أشبه بالضلال، وفي فضيلة شر من الإثم والفسوق والعصيان!
ليتك تدري أيها الزاري على القدر. . .! هل تستوقد النار إلا بالحطب؟ فمن أين لك ما دمت تشفق على الغصن اليابس والهشيم الجاف!
وهل يعلم الفسّاق والعصاة من بني آدم، أنهم قبل أن يكونوا في أخراهم حطب جهنم ـ كانوا في دنياهم سلم البشرية إلى مثلها الأعلى. . .؟
وتثاءب الشيطان وتمطى إذ أدركه النعاس الذي ضرب على عيون البشر؛ وإذا هو وقد خضع لناموس البشرية قد ناله ما ينال الناس من الضيق والملل وتقلب الرأي؛ إذا تقلقلت دنياه طلب الاستقرار، فإذا استقر عاد ينشد الحركة ويتبرم بالسكون. . .!
وقلب وجهه في السماء كاسفاً محزوناً، ثم أسند رأسه إلى راحته وجلس يتفكر. . .
أي خير كان يقدم هو للجماعة البشرية على حين كان لا ينبغي إلا الكيد والانتقام؟ هذه الدنيا تنام بعد يقظة، وتسكن بعد حركة، وتسترخي بعد نشاط، لأنه هو قد بطل سحره، وإذ لم يعد في الدنيا شر، مات في الجماعة روح الانبعاث إلى الخير. .!
أيها الخالق العظيم، ما أعجب تدبيرك وأدق حكمتك! خلقت الشر والخير يصطرعان في(104/40)
هذا العالم لتوجد منهما الخير الأعظم، وأنا - أنا الشيطان المشئوم - حسبتني يوماً أكبر مما أنا، حين ذهبت أهدم ما تبني، وأعصي ما تأمر، وأدعو إلى ما تنهي، فلما آذنت أن تذل كبريائي، أريتني نفسي إلى جانب عظمتك، فإذا أنا، أنا الذي زين له الغرور يوماً أنه أكبر من أمرك، إذا أنا أعصى عصياني في طاعتك، وأفسد إفسادي لإصلاح عبادك على قدر منك وتدبير حكيم. . . .!
وشعر الشيطان بالخيبة تلاحقه في كل مكان، فلا هو هناك - في عالمه الشيطاني - كان موفقاً فيما يحاول الانتقام من بني آدم، ولا هو هنا. . .
وعاودته نزعة شيطانية لم يلبث أن قمعها في صدره وانطلق في سبيله
وانتهى إلى البستان المعشوشب المخضل وقد نال منه الإعياء فارتمى على العشب الرطب يستريح في ظل وارفة لفاء، وطلع له من بين ملتف الحدائق حسناء وضاءة، تمشي كما يهتز الغصن وترنو كما يبتسم الزهر
وأحس إبليس مرة أخرى أن قانون البشرية يعمل في دمه وأعصابه، وأطال النظر إلى الحسناء الفاتنة ثم أطبق عينيه وهو يتنهد، كأنما قد توهم أنه قد احتوتها أجفانه، وشعر بمس الحب في قلبه فأشرق وجهه بابتسامة فيها لمحة من السرور وغير قليل من الألم
وجلست الحسناء جلستها على العشب غير بعيد، وضمت إليها أطراف ثوبها يستر شيئاً ويكشف عن شيء، مستأمنة مطمئنة
وخطا إبليس خطوتين إلى حيث جلست يسألها شيئاً، فاستحيت حواء الصغيرة وأرخت فضل ثوبها على الوجه الفاتن، ووقف إبليس ينشد قصيدة غزل طويلة، وعتها حواء كلمة كلمة ومعنى معنى، ولكنها لم تنبس، ومد إليها يداً يستنهضها فما نهضت وازورت عنه معرضة، وسكت ولكن عينيه ظلتا تتحدثان حديثهما
وأربد وجه المرأة من غضب، فما رأى إبليس غضبتها إلا فناً جديداً من فنون جمالها، فقالت وقد ضاقت به: (إليك عني يا فتى وخل سبيلي. . . .!)
وضاق صدر الشيطان بهذه الإنسانة العنيدة، وثقل عليه أن يعجز عن نيلها وهو هو!
كم فتاة وامرأة قبل صاحبته تلك كانت من عباده وأتباعه ما تأبت واحدة منهم على ما أراد لها؛ على أنه اليوم يريدها لنفسه هو، فليس به اليوم حاجة لأن يسعى لغيره وقد خلع شيطا(104/41)
نيته!
ماذا. . .! أيعيش هذه الآلاف من سنيه الماضية يتحكم في البشرية كلها، وعلى إرادته، ويسعى بين الناس، ويصل بين الأحباب، ويقدم الثمرة لكل من يشتهيها؛ حتى إذا اشتهى هو أن يذوق تلك الثمرة أعجزه أن ينالها. . .؟
وللمرة الثانية منذ خلق شعر أن كبرياءه جريح. . .!
لقد أبى أن يسجد لأبي البشرية كلها وفسق عن أمر ربه، أفتفسق عن إرادته امرأة؟ وما هو إن لم ينلها؟ وما هي حتى تتأبى عليه كل هذا الإباء؟
وعاود احتياله يستجدي الحسناء بعض الرضى، فولّت عنه معرضة مستكبرة، ومضت تدوس بقدميها الصغيرتين قلب إبليس. . .!
وعاد إلى نفسه يستلهمها الحيلة فما أمدته بشيء، وبدا إبليس في بشريته إنساناً ضعيفاً قليل الحول، لا قدرة له على التصرف ولا طاقة له بالاحتمال. . .
ووجدت له شغلاً من فراغ. . . وعدا خلف المرأة يحاول أن يدركها ما يبالي نظرات الناس؛ فإذا زوجها يلقاها على الطريق فيصحبها إلى الدار يداً في يد وجنباً إلى جنب!
وأحس إبليس فوق ألم الحب الذي يجد ألماً جديداً من آلام البشرية، وقذف منظر الزوجين المتحابين في قلبه الحسد. . .!
وآده العجز والشعور بالحرمان، فعاودته شيطانيته ثائرة محنقة. على أنه وقد ذاق بعض لذات البشرية في آلامها لم يكن يريد أن يرتد إلى عالمه، إنما كان حسبه أن يستمد الحيلة من طبيعته الأولى بمن يحب وهو باق في بشريته!
ولكنه - وا أسفاه! - لم يستطع أن يكون شيطاناً ورجلاً في وقت معاً؛ وحين ألهمته طبيعته الأزلية بالرأي فقذف بالفكرة المحرمة في قلب المرأة - كان خلقاً آخر ليس من البشرية ولاحظ له من المرأة. ونظرت الحسناء إلى وراء تفتقد عاشقها المد نف فما رأته، وما كان لها أن تراه وقد عاد شيطاناً لا يخضع لنواميس هذا العالم؛ ورآها هو تنظر متلهفة مشتاقة، فما نالته نظرتها ولا مسّت قلبه؛ لأن إحساس البشرية ونوازعها كانت قد فارقته حين لبس جناحي شيطان. . .!
وكتب في تاريخ الأرض، أن إبليس قد تاب مرة، ولكن ردته إلى شيطا نيته امرأة. . . .!(104/42)
(طنطا)
محمد سعيد العريان(104/43)
6 - شاعرنا العالمي
أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وروى مخارق أن أبا العتاهية جاءه فقال: قد عزمت على أن أتزود منك يوماً تهبه، لي فمتى تنشط؟ فقلت متى شئت! فقال: يكون ذلك في غد؛ فجئته فأدخلني بيتاً له نظيفاً، ودعا بطعام وفاكهة فأكلنا، ودعا بألوان من الأنبذة فقال اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت، ثم صب قدحاً وقال: غنني في قولي:
أحمدٌ قال لي ولم يَدرِ ما بي ... أتحب الغداة عُتبَةَ حقاً
فغنيته، فشرب قدحاً وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:
ليس لمن ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصّبر
فغنيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحاً آخر، ثم قال: غنني فديتك في قولي:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي ... تكون مع الأقدار حتماً من الحتم
فغنيته إياه؛ وما زال يقترح على كل صوت غنى به في شعره، فأغنيه ويشرب ويبكي، حتى صارت العتمة، فقال أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين يدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثياباً بيضاء من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، فانصرفت وما لقيته زماناً
وروى أبو سلمة الغنوي أنه قال لأبي العتاهية: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ فقال: إذن والله أخبرك، إني لما قلت:
الله بيني وبين مولاتي ... أهدتْ لي الصد والْملاَلاَتِ
منحتها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافأتي
هَيَّمني حبها وصَيّرني ... أحدوثة في جميع جاراتي
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى، فانتبهت مذعوراً، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل(104/44)
فإذا كانت هذه الروايات كلها في حادثة واحدة فهي متضاربة متدافعة ينقض بعضها بعضاً؛ وإذا كان الرشيد هو الذي كان يأخذ على أبي نؤاس اندفاعه في اللهو ويحاسبه على ذلك في شعره، ويحبسه عليه مرة بعد مرة ويزج به في سجنه، فكيف يتفق هذا مع ذلك المسلك الذي كان يسلكه مع أبي العتاهية، وهو لم يكن أرق غزلاً من أبي نؤاس ولا غيره من جمهور الشعراء الذين كانوا يلتفون بالرشيد، وكان لهم من رقيق الغزل ما يغنيه عن غزل أبي العتاهية؟ وليس هذا وذاك كل ما يعنينا من هذه الروايات، بل يعنينا منها أيضاً أنها لا تصل بنا إلى غور نفس أبي العتاهية وصلتها بتلك النزعة الصوفية التي صارت أليها، وقد كان في ظاهر أمره أبعد الناس منها، فلا تبين لنا تلك الروايات إلا أنها حالة طرأت عليه في بغداد، ولا تتصل إلى سابق أمره بصلة، وتردها الرواية الأخيرة إلى تلك الرؤيا المنامية السابقة، وهي إذا صحت لا تكفي وحدها في الأخذ به إلى كل ما أخذ به من ذلك الغلو في أمره؛ فإذا أمكننا أن نصل إلى هذه النواحي الغامضة من أمر أبي العتاهية أمكننا أن نفهم من أمره ما لم يفهمه الناس منه إلى الآن. وسنجلو من أمر ذلك ما نحتاج إليه هنا، ونترك ما بقي من ذلك إلى موضعه من هذه الدراسة لأبي العتاهية، ليكون لنا منها دراسة منظمة لا يسبق شيء منها على موضعه ولا يتأخر عنه
وإنه ليهمنا في الأول أن ننفي ما يفيده ظاهر تلك الروايات من أن تلك النزعة الصوفية في أبي العتاهية كانت نزعة طارئة عليه في بغداد، والحقيقة أنها كانت نزعة قديمة عنده، وأن أمرها يرجع إلى مبدأ أمره بالكوفة، وأنه كان يخفي ذلك في نفسه ليظهر به في الفرصة التي يكون له فيها أثره في الناس جميعاً، لا في نفسه وحده. ودليلنا في هذا هذه الرواية التي تنطق بأن القول في الزهد كان أول ما أخذ به في شعره
روى محمد بن عبد الجبار الفزاري أن أبا العتاهية اجتاز في أول أمره وعلى ظهره قفص فيه فخار يدور به في الكوفة ويبيع منه، فمر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشد ونه، فسلم ووضع القفص على ظهره، ثم قال: يا فتيان! أراكم تذاكرون الشعر، فأقول شيئاً منه فتجيزونه، فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم، وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم، فهزئوا به وسخروا منه، وقالوا نعم، قال: لا بد أن يشتري بأحد القمرين رطب يؤكل، فانه قمر حاصل، وجعل رهنه تحت يد أحدهم، ففعلوا، فقال أجيزوا:(104/45)
(ساكني الأجداث أنتم)
وجعل بينه وبينهم وقتاً في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس، ولما لم يجيزوا البيت غرموا الخطر، وجعل يهزأ بهم وتممه:
ساكني الأجداث أنتم ... مثلنا بالأمس كنتم
لين شعري ما صنعتم ... أربحتم أم خسرتم
وهي قصيدة طويلة في شعره
فهذه نزعة أبي العتاهية في الزهد والتصوف ظاهرة فيه تمام الظهور من أول أمره، ولا شك أنه رأى بعد هذا أن يتصل بشعراء الكوفة ليظهر بينهم أمره في الشعر، وأنه في سبيل هذه الغاية أخفى هذه النزعة في نفسه، وأخذ يسلك في اللهو والشعر مسلك هؤلاء الشعراء، ثم تركهم إلى بغداد عاصمة المملكة العباسية لينال من ظهور الشأن بالاتصال ببني العباس ما لا يناله لو بقي بالكوفة، فنال من ذلك بغيته وأكثر من بغيته، وأخذت نفسه تنازعه ميلها إلى الزهد، والى الظهور بمظهره الحقيقي الذي يريد أن يعكر فيه صفو هؤلاء الملوك، ويطلع الرعية على إسرافهم في الحياة، وغفلتهم عن الآخرة، وانصرافهم عن مناهج الخلفاء الراشدين، وسبل الملوك الصالحين، ويخدم في ذلك بمهارة فائقة أغراضاً سياسية له، سنبينها بعد في موضعها أيضا
ولا غرابة بعد هذا في أن يهتم الرشيد بأمر أبي العتاهية في هذه الحال الجديدة، ويعرف سوء أثر شعره في الزهد وما إليه في نفوس الرعية بالنسبة إليهم، وقد كان يشاهد افتتان الناس بأبي العتاهية وشغفهم بشعره الذي قرب إليهم ألفاظه ومعانيه، وفتح لهم من أبوابه ما أغلقه الشعراء السابقون، فصار يلهج به العابد في خلوته، والراهب في صومعته، والملاح في سفينته، والفلاح في حقله، والراعي في غدوه ورواحه، والعامل في شغله وفراغه، حتى صار شاعر الشعب بحق، ولسان الرعية الناطق بالصدق. وأنا نسوق من ذلك ما يدل على مقدار تعلق الناس بشعر أبي العتاهية وافتتانهم به:
قال يحيى بن سعيد الأنصاري: مات شيخ لنا ببغداد، فلما دفناه أقبل الناس على أخيه يعزونه، فجاء أبو العتاهية إليه وبه جزع شديد فعزاه ثم أنشده:
لا تأمن الدهر والبَس ... لكل حين لباساً(104/46)
لَيَدْفِنَنَّا أناس ... كما دفنا أناساً
وانصرف الناس وما حفظوا غير قول أبي العتاهية
وقال محمد بن صالح العلوي أخبرني أبو العتاهية قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الفلاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعراً يغنون فيه، فقيل ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس، قال فوجه إليّ الرشيد: قل شعراً حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك فقلت: والله لأقولن شعراً يحزنه ولا يسره، فعملت شعراً ودفعته إلى من حفظه من الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه وهو:
خانك الطَّرْفُ الطَّموحُ ... أيها القلبُ الجُموحُ
لدواعي الخير والش ... ر دُنُوٌّ ونُرُوح
هل لمطلوب بذنب ... توبة منه نَصُوح
كيف إصلاحُ قلوب ... إنما هُنّ قُرُوح
أحسن الله بنا أ ... ن الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منا ... بين ثوبيه فُضُوح
كم رأينا من عزيز ... طُوِيتْ عنه الكُشوح
صاح منه برحيل ... صائحُ الدهر الصّدُوح
موتُ بعض الناس في الأر ... ض على قوم فُتُوح
سيصير المرء يوماً ... جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حيٍّ ... عَلَمُ الموت يلوح
كلنا في غفلة وال ... موتُ يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن ... يا غبوق وصَبُوح
رُحْنَ في الوشى وأصبح ... ن عليهن المُسُوح
كل نَطَّاحٍ من الده ... ر له يوم نَطوح
نُحْ على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح
لَتَمُوتَنّ وإن عُمَّ ... رْتَ ما عُمَّرَ نُوح(104/47)
فلما سمع الرشيد ذلك جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعاً وقت الموعظة، وأشدهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة؛ فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا
وقد اختار أبو العتاهية عهد الرشيد لإظهار ما كان يخفيه في نفسه من ذلك لأنه كان أقل غلظة من أبيه المهدي، وأخيه الهادي، وأخف منهما عسفاً وبطشاً. وقد ذكر ابن خلكان أنه أراد أن يظهر بذلك في عهد المهدي، فأمر المهدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخله دهش ورأى منظراً هاله، فطلب موضعاً يأوي فيه، فإذا هو بكهل حسن البزة والوجه، عليه سيما الخير، فقصده وجلس من غير سلام عليه، لما هو فيه من الجزع والحيرة والفكر، فمكث كذلك ملياً وإذا بالرجل ينشد:
تعودتُ مسّ الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس واثقاً ... بحسن صنيع الله من حيث لا أدري
فاستحسن أبو العتاهية البيتين وثاب إليه عقله، فقال له: تفضل أعزك الله عليّ بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل ويحك! ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك! دخلت فلم تسلم عليّ تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني الوارد على المقيم! فقال له: اعذرني متفضلاً! فدون ما أنا فيه يدهش! قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسببك إليهم؟ ولا بد أن تقوله فتطلق، وأنا يدعى الساعة بي فأطلب بعيسى بن زيد بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك؛ ثم دعى بهما فطولب الرجل بأن يدل على عيسى بن زيد فأبى، فأمر المهدي بضرب عنقه. ثم قال لأبي العتاهية: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ قال بل أقول، فأمر به فأطلق
وقد كان الرشيد أشفق بكثير مع أبي العتاهية في ذلك من أبيه. والذي أراه أن الرشيد كان يحبسه في ذلك ثم يعفو عنه، وأن ذلك تكرر منهما بقدر ما حدثتنا به تلك الروايات السابقة
عبد المتعال الصعيدي(104/48)
27 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قال: أما إن كانت الروح يا أصدقائي خالدة حقاً، فما أوجب العناية بها، ليس في حدود هذه الفترة من الزمن التي تسمى بالحياة وكفى، بل في حدود الأبدية! وما أهول الخطر الذي ينجم عن إهمالها بناء على هذه الوجهة من النظر. لو كان الموت خاتمة كل شيء، لكانت صفقة الأشقياء في الموت راجحة، لأنهم سيغتبطون بخلاصهم، لا من أجسادهم فحسب، بل من شرهم ومن أرواحهم معاً. أما وقد اتضح في جلاء أن الروح خالدة، فليس من الشر نجاة أو خلاص إلا بالحصول على الفضيلة السامية والحكمة العليا، لأن الروح لا تستصحب معها شيئاً في ارتقائها إلى العالم السفلي، اللهم إلا التهذيب والتثقيف، اللذين يقال عنهما بحق إنهما ينفعان الراحل أكبر النفع أو يؤذيانه أكبر الأذى، إذا ما بدأ حجته إلى العالم الآخر
فبعد الموت، كما يقولون، يقود كل امرئ شيطانه الذي كان تابعاً له في الحياة، إلى مكان معين يتلاقى فيه الموتى جميعاً للحساب، ومن ثم يأخذون سمتهم نحو العالم السفلي، يقودهم دليل نيطت به قيادتهم من هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا ما لقوا هناك جزاءهم ولبثوا أجلهم، رجع بهم ثانية بعد كر الدهور المتعاقبة دليل آخر، وليست هذه الرحلة للعالم الآخر، كما يقول اسكيلوس في (التلفوس) طريقاً واحدة مستقيمة، وإلا لما احتاج الأمر إلى دليل، فلم يكن أحد ليضل في طريق واحدة، ولكن الطريق كثيرة الشعب والحنايا، وإني لأستنتج ذلك مما يقدم إلى آلهة العالم السفلي من الشعائر والقرابين، في أمكنة من الأرض تتلاقى عندها سبل ثلاث. فالروح الحكيمة المنظمة تكون عالمة بموقفها وتسير في سبيلها على هدى، أما الروح الراغبة في الجسد، والتي لبثت أمداً طويلاً - كما سبق لي القول - ترفرف حول الهيكل الذي لا حياة فيه، وحول عالم الرؤية، فيحملها شيطانها الملازم لها في عنف وعسر، وبعد عراك متصل وعناء كثير، حتى تبلغ ذلك المكان الذي تجتمع فيه سائر(104/49)
الأرواح. فإن كانت روحاً دنسة، خبيثة الصنيع بأن انغمست في الفتك المنكر، وفي أخوات الفتك من الجرائم الأخرى، وتلوثت بهذه السلسلة من الآثام - فإن كل إنسان يفر من تلك الروح وينصرف عنها، فلن يكون أحد لها رفيقاً أو دليلاً، بل تظل تخبط وحدها في أرذل الشر، حتى ينقضي أجل معلوم، فإذا ما انقضى ذاك الأجل، حملت خانعة إلى مستقرها الملائم؛ كذلك لكل روح طاهرة مستقيمة، مضت في حياتها مرافقة للآلهة مترسمة خطوهم، مقامها الخاص
هذا وإن في الأرض لربوعاً مختلفة عجيبة، تختلف في حقيقة أمرها - كما اعتقد معتمداً على رأي ثقة لن أذكر اسمه - تمام الاختلاف عن آراء الجغرافيين من حيث طبيعتها ومداها. فقال سمياس: ماذا تعني يا سقراط؟ لقد سمعت للأرض أوصافاً كثيرة ولست أدري مع أيها تذهب، وأحب أن أعلم ذلك
فأجاب سقراط: حسناً يا سمياس، لا أظن أن حكاية تروى تستلزم لروايتها فن جلوكس ولست أرى أن فن جلوكس يستطيع أن يقيم الدليل على صدق حكايتي، التي أنا عاجز تمام العجز عن إثباتها بالدليل، وحتى لو استطعت ذلك، لخشيت يا سمياس أن أختتم حياتي قبل أن يكمل الدليل، ومع ذلك فقد أستطيع أن أصف لك صورة الأرض وربوعها كما أتصورها!
قال سمياس: حسبي منك ذلك
قال: حسناً، إذن فيقيني أن الأرض جسم مستدير، وهو من السماوات في مركزها. لهذا لم يكن بها حاجة إلى الهواء أو ما إلى الهواء من قوة أخرى، ليكون لها عماداً، بل هي قائمة هنالك، تحول موازنة السماء المحيطة بها، وتوازنها هي نفسها، بينها وبين السقوط أو الانحراف في أية ناحية، ذلك لأن الشيء الذي يكون في مركز شيء آخر منتشر انتشاراً متوازناً، ويكون هو نفسه متزناً، لن ينحرف بأية درجة في أي اتجاه، بل سيظل ملازماً لحالة بعينها دون أن يحيد. ذلك هو أول رأي لي
فقال سمياس: وهو بغير شك رأي صحيح
- كذلك أعتقد أن الأرض فسيحة جداً؛ وإننا، نحن الذين نقيم في المنطقة التي تمتد من نهر فاسيس إلى أعمدة هرقليس وبمحاذاة البحر، إنما نشبه النمل أو الضفادع احتشدت حول(104/50)
مستنقع، فلسنا نأهل إلا جزءاً ضئيلاً، وأعتقد أن كثيراً من الناس يقيمون في أمكنة كثيرة كهذه. فلا بد من القول بأن هنالك فجوات في أنحاء الأرض جميعاً، مختلفاً أشكالها وحجومها، يتجمع فيها الماء والضباب والهواء، وأن الأرض الحقيقية أرض نقية تقيم في السماء النقية حيث سائر النجوم - تلك هي السماء التي يجري عنها الحديث عادة بأنها أثير، وليس الأثير منها إلا أر سابا يتجمع في فجواتها، وأما نحن الذين نقيم في هذه الفجوات، فنظن مخدوعين بأننا إنما نقيم على سطح الأرض، كما يخيل للكائن الذي في قاع البحر بأنه على سطح الماء، وبأن البحر هو السماء التي يرى خلالها الشمس وسائر النجوم - فهو لم يطف على سطح الماء قط لوهنه وفتوره، ولم يرفع رأسه ليرى، ولا سمع دهره ممن شهد تلك المنطقة الثانية، وهي أشد نقاء وجمالاً من منطقتنا. والآن، فتلك حالنا تماماً: فنحن مقيمون من الأرض في فجوة، ونخيل لأنفسنا أننا على السطح، ونطلق على الهواء اسم السماء ثم نتوهم أن النجوم سابحة في تلك السماء. ولكن ذلك أيضاً يرجع لما بنا من ضعف وفتور، فهما اللذان يحولان بيننا وبين الصعود إلى سطح الهواء: فلو استطاع إنسان أن يبلغ الحد الخارجي، أو أن يستعير جناحي طائر ليطير بهما صُعُداً، فيكون كالسمكة التي تطل برأسها لتشهد هذا العالم، إذن لرأى عالماً قاصياً، ولاعترف الإنسان، إذا ما شحذت طبيعته من بصره، بأن ذلك هو مكان السماء الحق والضوء الحق والنجوم الحق، لأن هذه التربة وهذه الصخور، بل وكل هذه المنطقة التي تحيط بنا قد فسدت وتآكلت كما يتآكل ما في البحر من أشياء بفعل الأجاج. فيندر في البحر أن ينمو شيء نمواً رفيعاً كاملاً، فكل ما فيه شقوق ورمال وحمأة لا نهاية لها من الطين، لا بل يجوز أن نقرن البر بما في ذلك العالم من مناظر هي أروع في جمالها، فالعالم الآخر أسمى بدرجة عظيمة جداً. والآن أستطيع أن أقص عليك يا سمياس حكاية رائعة عن تلك الأرض العليا التي تحت السماء، وهي جد جديرة بالإنصات
فأجاب سمياس ونحن يا سقراط يسرنا أن نصغي
(يتبع)
زكي نجيب محمود(104/51)
الكاظمي
للأستاذ معروف الرصافي
// ليس من غاية الحياة البقاء ... فإذا خاب في الخلود الرجاء
غير أن الحياة بالعز عند الرَّ ... جُل الحر غاية غراء
أي فخر للناعمين بعيش ... لم تجلله عزة قعساء
حسب من رام في الحياة خلوداً ... أنه بعد موته علواء
وكفى المرء بعد موت حياةً ... أن ذكراه حلوة حسناء
قد قضى الكاظمي وهو جدير ... أن تعزى في موته الشعراء
عاش منسيَّ عارفيه ولما ... مات فاضت بنعيه الأنباء
ذكرته نعاته بنعوت ... قبله حاز مثلها العظماء
فلئن كان ما يقولون حقاً ... إنهم بالذي نسوا لؤماء
كيف ينسون في الحياة أديباً ... عبقرياً عَنَتْ له الأدباء
أَفَيُنْسى حياً ويُذْكر ميتاً ... إن هذا ما تنكر العقلاء
إن هذا أمر يتيه ضلالاً ... في بوادي تفسيره الحكماء
ضحكوا منه في الحياة ومذ ما ... ت تعالى نحيبهم والبكاء
أيها النادبون غيريَ غُروا ... بَرَح اليوم للبيب الخفاء
يُكرم الميت بالثناء وتحيا ... عندكم في المهانة الأحياء
كل من يخبر الأناسِيَّ خُبْرِي ... لا يبالي أأحسنوا أم أساؤا
أنا جربتهم إلى أن تساوى الْ ... يَوم عندي سبابهم والثناء
قد تمادى في القائلين غلوٌّ ... وتوالى في الفاعلين رياء
أيها الكاظمي نم مستريحاً ... حيث لا مبغض ولا إيذاء
عشت في مصر باحترام يؤدي ... هـ إليك الأماثل الفضلاء
إن للنيل من جرائك شكراً ... ستؤديه دجلة اللْسناء
لم تعش عيشة الرفاه ولكن ... لك في العيش عزة وعلاء
أي حرفي الشرق عاش سعيداً ... لم تشب صفو عيشه الأقذاء(104/53)
وهنيئاً إِن لم تعش في العراقيي ... ن مضاعاً تنتابك الأرزاء
من شقاء العراق إن ذوي النعْ ... مة فيه أجانب غرباء
إن جَفَتنا بلادنا فهي حب ... ومن الحب يستلذ الجفاء
لم نحل عن عهودها مذ جفتنا ... بل لها الود عندنا والوفاء
قد بكينا شجواً عليها ومنها ... وعناناً سقامها والشفاء
كم أردنا سخطاً عليها ولكن ... غلب السخطَ في القلوب الرضاء
إنما هذه المواطن أُمٌّ ... مستحق لها علينا الولاء
إن خدمنا فلا نريد جزاءً ... ومن الأم هل يراد جزاء؟
إنما نحن مصلحون وما إنْ ... غاية المصلحين إلا الرفاء
نحن كالشمع حين ذاب اشتعالاً ... فهدى الظالمين منه الضياء
بغداد
معروف الرصافي(104/54)
البقاء
بقلم الياس قنصل
أزهدُ الناسِ في الحياةِ يُمنّي ... نفسه بالبقاءِ رغم شكاتِهْ
والذي أفنت الليالي صباه ... ورماه زمانُه بأذاتِهْ
يطلب الموتَ وهو أمّا أَتاه ... ردَّه عنه ملغياً كلماته
وإذا خاضَ قائدهٌ غمرةً ير ... سبُ فيها بسيفه وقناته
حدّثَ النفسَ بالرجوع سليماً ... وسماتُ النجاح في قسماته
وإذا قامَ رائدٌ يطلبُ المرّ ... يخ حيث الحِمام بعض هداته
ودّعَ الأرضَ آمناً مطمئناً ... واثقاً من معادِه ونجاته
كلّنا يعشقُ الحياةَ ويهوى الم ... عيشَ فوق الثرى على عِلاّته
ربّ ساعٍ إلى الخلود مجدِّ ... يغلبُ الناس والقضا بثباته
ليس يسعى وإن يُرَقْ دمُه إِلاّ ... ليحيا مكرَّماً في حياتِهْ
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل(104/55)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
12 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
حاسته الفنية
لم يكن نيتشه مفكراً فحسب، بل كان فناناً ذا حاسة فنية عميقة، يدل على ذلك ميله خلال طفولته الأولى إلى الموسيقى وعشقه لأربابها. وهل كان إلا غرامه بها الذي جعله ينظر إلى (فاجنر) كمثل أعلى لموسيقى عصره؟ وقد انكب على تلقن أصولها ومبادئها في صباه الأول، ودفعته حاسته إلى نظم بعض المقاطيع الموسيقية. وما هي إلا خطوة واحدة لو خطاها نيتشه لأشرف على عالم غير عالمه، ولأشفى على وجود قد يبدل كل أفكاره وكل آرائه. وهو يقول عن نفسه (لو لم ترجح كفة التفكير عندي لكنت الآن موسيقياً!) على أن ذوقه الموسيقي لبث حياً في طوايا نفسه. يرتاح للموسيقى أينما صدحت، ويغيب في عوالمها حيث تفتحت عوالمها. وهو أكثر ما يطمئن لتلك العوالم الفنية المظلمة التي تذهل فيها النفس وتدرج إلى أعماقها حيث يلتقي الفيلسوف والفنان. وقد يؤاخي هذه الحاسة - عنده - حاسته الشعرية. فهو شاعر بالفطرة، يبدي آراءه الفلسفية بطريق الشعر؛ وله في الشعر جولات صادقة تدل على فن عميق وابتكار رائع. وهو وان صدف عن عالم الشعر فإن حاسته الشعرية لم تخمد، بل ظلت تعاوده في كل ما كتب وسطر. وإنشاؤه يغلب عليه الشعر والعاطفة. لا يرى قارئه في تأملاته عقل نيتشه وحده، وإنما هو واجد كل كيانه يفكر ويكتب، يطلع عليك بوجوده كله لا بفكره وحده
الانعتاق
تكاد تكون تفاصيل حياته الشخصية محدودة. فهو قد ولد عام (1844) في (روكن، حيث كان أبوه قسيساً. وقد تيتم في الخامسة من عمره. فأتم دروسه الثانوية وتوجه إلى الدروس العالية. وبينما كان يتهيأ للموضوع الذي ينال به (الدكتوراه) في (ليبزيج) دُعي ليكون أستاذاً في جامعة (بال) وقد مُنح (الدكتوراه) بدون أن يعرض موضوعه(104/56)
قضى ستة أعوام هادئ النفس في الجامعة يقوم بتدريس اليونانية، وهو خلال هذه الأعوام كالمقيد بصحبة أصدقائه لا يخرج من حلقتهم، وهؤلاء الأصدقاء هم زملاؤه وبعض رفاقه، أضف إلى ذلك بعض زيارات متتالية إلى منزل الفنان (فاجنر). وقد كان يختلس بعض الفرص فيذهب في بعض سياحاته القصيرة إلى البحيرات والجبال، ولم يعكر عليه هذا الهدوء إلا إعلان الحرب السبعينية، فهجر الجامعة وتطوع في الجيش الألماني، ولكن صحته خانته، فاضطر إلى العودة مريضاً، وأعظم ما قام به من الآثار الأدبية خلال هذه الفترة كتابه (نشوء المأساة) ونقده للحضارة الحديثة. في الكتاب الأول يعالج نبوغ اليونان وعبقريتهم المختلفة في الفنون، وفي الكتاب الثاني يعرض (تأملات في غير حينها) وهو ينطوي على أجزاء: في الجزء الأول يحمل على (دافيد ستراوس)، وفي الجزء الثاني يبحث فائدة التاريخ وأخطاره، وفي الجزأين الأخيرين يبسط عبقرية الفيلسوف (شوبنهاور) وعبقرية الفنان (فاجنر) معتقداً أن في إمكان هذين النابغتين أن يقودا الإنسانية إلى مثلها الأعلى
وفي سنة 1876 عرا حياته الداخلية ما عرا حياته الخارجية من تطور وتبدل، وأعظم ما نزل به نزاعه مع صديقه (فاجنر) أضف إلى هذا ما حاق بصحته من سوء واعتلال، حتى منحته الجامعة فرصة يقضيها إذا شاء في إيطاليا أو على هضاب سويسرا. وبعد هذه الراحة عاد إلى بذل الجهود برغم أن صحته كانت تنذر ولا تبشر. فجمع سنة 1878 كتابه (أشياء إنسانية، إنسانية جداً) وكتاباً آخر يضم (آراء مختلفة) و (المسافر وظله) فزادت صحته ضعفاً حال بينه وبين التعليم، فاعتزل الجامعة لكي يجد المجال الفسيح والقوة الكافية لتتميم رسالته الفلسفية
وها هنا بدل القدر صفحة حياته، ومنحه حياة جديدة يغمرها الاعتزال، وحرية التفكير والانفصال، يكمل تحت ظلها هذه الرسالة التي خُلق لها
لم يكن ميل نيتشه إلى دراسة اللغات القديمة مجرد هوى أو هيجان ابن ساعة ثم ينطفئ. فقد مال نيتشه إلى هذه الدراسة بقلبه وعقله، ذلك لأنه يريد أن يظهر أمره في علم ضيق المساحة ليدرك العلم فضله. وهو أكثر الناس علماً بقيمة العلماء الناقصين الذين يعلمون كل شيء ولا يعلمون شيئاً. وها هو ذا الآن لا يريد أن يعرف كل شيء، وإنما يريد أن يعرف(104/57)
شيئاً معرفة متقنة، فبذل ما بذل من صبر وجهد بذل الأمين الراعي لأمانته. مدرعاً بالأناة التي لا غنى عنها للذاهب مذهبه. راضياً بأن يزهق روحه في سبيل العلم وخدمته. ولكنه سالك فيه مسلكاً جديداً لا أثر فيه للتعاليم الدراسة، وللتقاليد التي لا تجدي شيئاً. وهو يمزج هذه الدراسة مع الفلسفة والفن ويجعل من هذا المزج مزجاً جديدا
يعتقد نيتشه بأن المثل (الكلاسيكي) سيبقى خالداً لا يهدده الفناء. فلا العلم ولا الخلق ولا التثقيف بمستطيعة أن تنقذنا من البربرية إذا سلخنا المثل الكلاسيكي، وكفرنا بالبساطة الشريفة التي تتجلى في الفن اليوناني والبراعة اليونانية. وإذا شاء رسل العلم أن يجحدوا هذه البراعة وينكرونها على اليونان، فإنها براعة سائدة خالدة مسيطرة على براعتنا، تدل على أن اليونان كانوا أكثر توفيقاً منا في حل مسائل الوجود
وهكذا تظهر مهنة (دارس علم اللغات) مهنة جميلة سامية هو لا يعنى بإحياء الآثار العافية، والنصوص البالية، ولكنه كادح دائب على إحياء روح اليونان القديمة، يريد أن يتفهم كيف قدر لهذه الروح أن تتسامى وتتعالى في الآثار التي تركتها، والفنون التي أنجبتها، والمؤثرات التي تركت تأثيرهم بادياً في أدبنا وفلسفتنا، فجعلت منهم أساتذة لا يزال الغرب يتلقن عنهم. هذا هو أدب نيتشه يوم دخل جامعة (بال) مدرساً. يقول في إحدى محاضراته (إن دراسة علم اللغات ليست بآلهة شعر ولا بنبية رحمة، لكنها رسولة الآلهة، والآلهة، والآلهة في القديم كانت تهبط على القرويين المحزونين. واليوم تهبط هذه الرسولة على عالمنا القاتم الألوان، المظلم الرسوم، المفعم بالآلام والشقاء الذي لا يشفى، حاملة إلينا بلسم العزاء، عارضة علينا بأحاديثها تلك الوجوه الجميلة المتألقة في قطر خصب أزرق سعيد)
(يتبع)
خليل هنداوي(104/58)
القصص
من أساطير الأغر يق
هرقل في سبيل التفاحات الذهبية
للأستاذ دريني خشبة
7 - خيول ديوميديز
وكان للملك ديوميديز، ملك تراقيه، يقتني مجموعة طيبة من خيول السباق التي لا يشق لها غبار، ولا تباريها خيول في مضمار؛ ولكنها لم تكن كهذه الخيول التي يقتنيها الناس، بل كانت بالوحوش أشبه، والى السباع أقرب، لأنها لم تكن تذوق الحشيش ولا تُسيغ النبات، بل بالعكس، كانت لا تأكل إلا اللحم تنهشه نهشاً. .
وكانت تأبى لحم الحيوان والبهائم، وتستطيب لحم الإنسان وتستلذه، ولم يكن الملك القاسي يبخل عليها به. ولكي يوفر لها هذا الغذاء الغريب، أصدر أمره بالقبض على كل أجنبي تطأ قدماه أرض البلاد بدون إذن من الملك! فلما نمى الخبر إلى يوريدوس، أرسل هرقل لمعاقبة ديوميديز ولتخليص الناس منه ومن خيوله
وشد هرقل رحله إلى أرض تراقيه، ودخلها غير مستأذن ولا مستأنس، فلما سأله ديوميديز في ذلك، انقض عليه كأنه الحتف، واقتلعه من عرشه كأنه نبتة ومضى به إلى خيوله فألقاه إليها. . .
وانقضت الخيول على الملك فمزقته تمزيقاً، واغتذت بلحمه الملكي الفاخر!! وطرب الشعب لتخلصه من حاكمه الظالم، ونثر الورد والريحان تحت قدمي هرقل، ومضى البطل فألجم الخيول كلها، وساقها هدية غير مبرورة إلى يوريذوس!!
8 - منطقة هيبوليت مليكة الأمازون
وكانت ليوريذوس ابنة ذات كبرياء وذات خيلاء، مشغوفة باقتناء الحلي والجواهر النادرة، تضحي في سبيلها بسلام المملكة وأرواح البرايا، إذا اقتضت الحال حرباً من أجل ياقوتة أو زبرجدة!!
وكان أبوها الأفين يلبي رغباتها ولا يكاد يرفض لها أمراً، فلما وصفت لها منطقة هيبوليت،(104/59)
مليكة الأمازون، وما رصّعت به من اللآلئ، ثار في نفسها فضول الذهب، وألم بها مرض الحصول عليه. فانطلقت إلى أبيها تبكي، وتشكو العطل وقلة الحلية، ولو أن خزائنها تحوي نصف ثروة المملكة
وسألها أبوها ما بكاؤها؟ فتاهت قليلاً ودلَّت، ثم ذكرت منطقة هيبوليت!!
وربت الملك على كتفي ابنته، ودعا إليه هرقل، وأمره بالذهاب إلى الأمازون والحصول على منطقة الملكة ولو أدّى دمه ثمناً لها!!
أما الأمازون، فقبيل عظيم من النساء المحاربات، يحيين حياة عسكرية حافلة بضروب من الشجاعة تحيّر الألباب وتذهل العقول. فمنهن فريق يعمل في الحصون ويسهر على قلاع المملكة، وفريق للغزو ومناوشة الأعداء، وثالث يقوم بمهمة الشرطة والعسس، ورابع للعمل في الأسطول الذي يلقي الرعب في الشواطئ. . . . . . لإ
إلخ
ولا يعيش بين شعب الأمازون أحد من الرجال، فإذا جازف رجل، وانسرق بينهن، ترصّده الموت في كل مكان!
وكانت مملكتهن في جزيرة نائية قاصية، ذهب هرقل في البحث عنها كل مذهب، واستعان بأقربائه من الآلهة ليرشدوها إليها
ونصح له أحدهم أن يدع هذه الرحلة القاسية إلى مملكة الأمازون، ولكنه أبى، لأن مجازفاته التي يتعرض بها للهلاك، إن هي إلا ثمن الحرية التي ينشدها ويحلم دائماً بها!
ووصل هرقل إلى المملكة، وتحايل حتى مثل بين يدي الملكة، فلقيته بما هو أهله من التجلة والإكرام، كابن إله عظيم. . وأبدى رغبته في الحصول على المنطقة الغالية التي تزين وسط الملكة، وتحلّي خصرها، ليقدمها ثمناً لحريته الضائعة، للفتاة المزهوة (أدميت) بنت ملك أرجوس. . .
وتبسمت الملكة، ووعدته أن تخلعها عليه، ليصنع بها بعد ذلك ما يشاء. ثم تفضلت فدعته إلى حفلة راقصة، وعشاء فاخر. . .
وهنا تبرز حيرا لتمثل دورها!!
لقد هالها هذا النجاح المطرّد الذي يظفر به خصمها في كل مكان، فتحولت إلى أمازونة(104/60)
جميلة، واندست بين رعايا الملكة، وألقت في روعهن أن هرقل هو ألد أعدائهن، وأنه إنما أقبل لسبي الملكة، وليفر بها إلى ملك أرجوس، وأنه اتخذ المنطقة تعِلَّة لذلك جميعاً، فثارت ثائرة الأمازون، وتجمهرن حول الملكة، وصارحنها بما قالت لهن حيرا. فأمرتهن بالحرب. . . ولكن هرقل، البطل الأعزل، انقض كالمنية على الأمازون ففرّق شملهن، وأظفرته شجاعته بهن، ثم هجم على الملكة فاختطف منطقتها، ونظر فرأى حيرا تشهد المعركة فوق رابية قريبة، فأشار إليها قائلاً: (وهنا أيضاً أنتصر عليك، وسأنتصر عليك دائماً!)
9 -
وطربت ابنة الملك بمنطقة هيبوليت أيما طرب، وكبرت في نفسها منزلة هرقل، فاستوصت به أباها خيراً.
واستجاب يوريذوس لشفاعة ابنته في هرقل، فلم يكلفه هذه المرة شططاً، بل اكتفى أن أمره بالتوجه إلى بحيرة ستيمفالوس ليبيد طيورها ذوات المخالب النحاسية التي تدوم فوق الماء الآسن وتغطس فيه تصيد السمك، ثم تذهب فتأكله قريباً من القرى، فتنتشر بذلك الأمراض والطواعين. ولم يكن أيسر على هرقل من أن يبيد هذه الجوارح ومعه قوسه المرنان، وفي كنانته سهامه التي رويت من دم هيدرا
10 - قطعان الجريونز
وكان يأوي إلى سفوح الجبال في مقاطعة أريثيا مارد مخوف مرهوب الجانب يدعى جريونز. وكانت له قطعان كبيرة من الماشية والغنم عرفت في سائر هيلاس بجودة ألبانها ونعومة أوبارها، حتى لكان يضرب بها المثل كلما فاخر الرعاة بقطعانهم
وطمع يوريذوس في نعم جريونز وشائه، فأمر هرقل أن ينصرف إلى أريثيا فلا يعود إلا بها
وأغذّ هرقل السير؛ وألقى المارد مُمداً في كهفه السحيق يغط في نوم عميق، فانقض عليه كأنه الشهاب الراصد، وقبض بيديه الحديديتين على عنقه الغليظ فلم يفلته إلا جثة لا نامة فيها ولا نفس! وساق القطعان، وتولى إلى ملك أرجوس بالثروة الطائلة، والوفر الكثير
وأرخى الليل سدوله، ولما يبلغ هرقل نصف الطريق، فأناخ في منحدر معشوشب، ولعبت(104/61)
سنة من النوم بعينيه فغفا، وأسكرته نسمات الربيع فاستسلم لأحلامه الخمرية الحلوة. . .
وكان يأوي إلى هذا الجبل، جبل آفنتين، مارد لص قاطع طريق، يدعى كاكوس، وجد هرقل غاراً في سبات ناعم، فذهب بنصف القطيع أو يزيد. . .
واستيقظ البطل على رُغاءٍ يتجاوب في حدود الأفق، فلما تفقد قطعانه انطلق في أثر اللص حتى لحق به، وحطمه تحطيماً!
وقبيل شروق الشمس، كانت مدينة أرجوس كلها عند الأبواب تستقبل الرزق والغنم، وتهتف باسم البطل الحلاحل الذي بهرها بشجاعته، وخلب ألبابها بما أبدى، وما ينفك يبدي، من ضروب القوة والاستبسال
وأحس يوريذوس بما انطوت عليه قلوب الأهالي من المحبة والافتتان بهرقل، فتسخّط وحنق، وبيَّت الشر المستطير
11 - تفاهات هسبريا الذهبية
وأدركت حيرا ما ينقم الملك من هرقل، فوسوست إليه أن يأمره بالحصول على تفاحات هسبريا الذهبية، وهيهات هيهات أن يستطيع أحد الحصول عليها!
ولقد أهديت هذه التفاحات إلى حيرا، ليلة زفافها إلى زيوس، رب الأرباب، فيما أهدى إليها من تقدمات وتحف؛ أهدتها إليها (جي) ربة الأرض، فكانت أثمن الهدايا جميعاً وأغلاها. لأنها فضلاً عن أنها من الذهب الخالص، فقد رصعت بأندر اللآلئ، وزينت بصور الآلهة، ونقشت فيها حدائق الأولمب؛ ثم تستقل بميزة ندر أن تكون لحلية مهما غلت: ذلك أنها إذا غابت الشمس، وأقبل الليل بظلامه، شعَّت أضواءً ولآلاء قل أن تصدر إلا عن كواكب درِّي، أو شمس وضاءة، فتنقشع الغياهب وتنجلي الدياجير!
وحسبك أن تعلم أن حيرا نفسها لم تأمن آلهة الأولمب وحُرّاسها الغلاظ على هذه القُنْية النادرة، فأرسلت بها إلى الهسبريد، بنات هسبروس إله الغرب العظيم، ليحرسنها. ولتكون عندهن في مأمنٍ من كل ساربٍ بليلٍ، أو سارقٍ في نهار، وقد عرف الهسبريد لهذه التفاحات قيمتها، فعلَّقها في دوحة باسقةٍ في حديقة قصرهن المنيف، وأقمن على حراستها التنين الهائل لا دون، الذي قيل في صفته إن له سبعين ألف رأس في كل رأس سبعون ألف عين، وسبعون ألف ناب يتدفق السم منها جميعاً. ثم إنه يبلغ ألف ذراع طولاً وخمسين(104/62)
سُمكاً، وإن له لأظافر كأن كل واحد منها جراز هرمز، وإن له لفحيحاً تضيع فيه زمزمة الجن، ومُكاءُ الشياطين!!
وانقلب هرقل على وجهه في الأرض حيران!
أين هي تفاحات هسبريا هذه؟
(أفي الأرض أم في السماء؟ لأمضِ! فرب إله دلني إليها. . . .)
وشرّق وغرّب، وذرع الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وانسرق إلى الكهوف والغيران، وأوْقل في الجبال، وتحدّر في القيعان، ومر بكل حنيَّة، ووقف عند كل عين، حتى كان لدى نهر أريدانوس، ووقف بشاطئه يتناجى؛ فخرجت من الماء النمير عرائسه، ورُحن يُسرِّين عن هذا اللاجئ الحزين
وإنه ليسائلهن عن تفاحات هسبريا، فيحدثنه ويتلطفن معه، ثم ينصحن له أن يطلق إلى نريوس إله البحر، عسى أن يهديه إلى ما يريد
ويهيم في الأرض محاذياً سيف البحر، حتى يكون آخر الأمر أمام شيخ هرم، وخط الشيب رأسه، وتدلى شعر لحيته الكث فوق صدره العريض ذي النتوء؛ وبرزت أهدابه حتى لكادت تحجب عينين تزدحم فيهما السنون، وتطل من حدقتيهما الأحداث!
وجده جالساً القرفصاء مُقلِّباً ناظريه في مملكة الماء التي تتصل باللانهاية، فألقى عليه تحية هيّنة، رد عليها الشيخ بهذه العبارة:
(أيها الفتى لم قطعت عليّ تأملاتي؟!)
(فقال هرقل: (أستحلفك بسيد الأرباب يا أبتاه إلاّ ما أخبرتني عن حدائق الهسبريد، فتكون لك عليّ يد أذكرها لك أبد الدهر وأشكرها!)
وتجهّم نريوس وقال: (حدائق الهسبريد! أوْه! أنت هرقل إذن!)
فبهت هرقل وأجاب: (أي وحقك أنا هو، فمن ذكرني عندك!؟)
- (ليس هذا من شأنك يا بني، ولكن لعلك تبتغي تفاحاتها الذهبية؟)
- (أي وزيوس يا أبتاه!)
- (بشراك إذن! فلن يحصل عليها إلا أنت، ولكنك لست أنت الذي ستنفذ إلى حدائق الهسبريد! اذهب إذن فالتمس المسكين برومثيوس مكبلاً فوق جبال القوقاز، فأحسن إليه،(104/63)
وسله حاجتك، فهو وحده الذي يستطيع إرشادك إلى ما تريد. .!)
وشكره هرقل، وحياه، وأطلق ساقيه يطوي الفيافي إلى القوقاز. وهناك وجد برومثيوس والرخ ينوشه، بحيث يمزق كبده ويهر أه، ويغتذي به؛ فوتر قوسه، وسدد إلى الطير سهماً أصماه، وخلص إلى الإله البائس فأزال أصفاده، واحتمله إلى السفح، وما زال به حتى أقبل الليل والتأمت جراحه، ثم تحدث إليه عن حدائق الهسبريد وتفاحاتها الذهبية. فحدجه برومثيوس بنظرة فاحصة، وقال له: (لكأنك هرقل إذن؟)
- (أجل أنا هرقل يا أبتاه!)
- (وأنت عدو حيرا يا بني؟)
- (عدوها المبين يا أبتاه!)
- (مسكين!!)
ولم يلبث الفتى أن انهمرت عبراته، وطار لونه وهاجت في فؤاده البلابل والأشجان؛ ثم اتصل الحديث، وقال برومثيوس:
- (انطلق يا بني إلى أخي أطلس؛ هناك. . . هناك في إفريقية المظلمة شمالاً بغرب؛ تجده على قمة جبل شامخ يحمل السماء على منكبيه، ويتشح بوشاح من اللازورد يرفرف بين المشرق والمغرب. فأقرئه سلامي، وزُفّ إليه بشرى خلاصي مما أوقع زيوس بي، ثم حدّثه بحاجتك يقضها لك، فهو وحده يعرف أين حدائق الهسبريد، وهو وحده يستطيع أن ينفذ إليها، وهو وحده يستطيع قتل لا دون التنين الهائل الذي يحرس تفاحات هسبريا الذهبية؛ فإذا أتاك بها، فاحذر أن يأخذك بشيء من مكره، فإني علمت أنه بدأ يتململ من حمله الثقيل، ويود لو ينجيه منه أحد، ولو انتثرت الكواكب، وانتقض نظام الكون!)
هرقل يصارع أنتيوس
وفي طريقه إلى أطلس، لقي من الأهوال والخطوب ما تفتأ تتحدث به الأيام إلى زماننا هذا. من ذلك أنه مرّ يقوم من الأقزام ضئال الأجسام قصارها؛ كانوا يؤجرون مارداً عظيم الجسم مفتول العضل: ليحميهم من جيرانهم الأعزّاء الأقوياء، وليدفع عنهم غائلة الغربان النحاسية التي كانت تتلف أعنابهم وتبيد زروعهم كلما تم نضجها في كل عام. وكان ذلك المارد - أنتيوس - ذا حول وذا طول، حتى لكان يخشاه الوحش، ويتخوفه الجن، وترجف(104/64)
من صولته أفعوانات البحار، فلما شهد هرقل يخبُّ في أفق البلاد كأنه جبل يتدهدى، أخذ أهبته لمنازلته، ولم تساوره ذرة من الشك أنه منتصر عليه
فلما وصل هرقل، حيا أحسن تحية، ولكن أنتيوس لم يجب، بل إنه سارع فأخذ بتلابيب البطل عابر السبيل!!
- (ماذا بك أيها الأخ! دعني فليست لي عندك حاجة!)
- (لا، لا نجوت إن نجوت! لا أرى إلا أن أصرعك!)
- (ولِمه؟!)
- (هذا ما لا أعرف، ولكن لا بد من أن أصرعك على أية حالة!)
وتصارع الخصمان، وأقبلت الأقزام ترى إلى هذين الجبلين يأخذ أحدهما بعناق الآخر فيلببه تلبيباً!
وكان أنتيوس كلما خانته قواه، وأيقن أن هرقل لا بد صارعه، وقف قليلاً على أديم الأرض يستمد منها قوة، ويستلهم الحول من أمه (جي). . .
فهو ابن جي إذن، ولن يسر ربة الأرض أن يصرع ابنها أحد، إذن فلتمده بكل ما في سرها من قوة ليصرع هرقل!
وخارت قوى البطل! وراح يلهث من شدة النصب؛ بيد أنه تنبه إلى السر آخر الأمر، عندما لحظ أن أنتيوس يزداد قوة كلما مست قدماه الأرض؛ فرفعه رفعة هائلة، ولم يمكنه من الوقوف لحظة على قدميه؛ ثم أخذ يضغط عنقه الغليظ العبل، حتى شهق شهقة كانت هي شهقة الموت. .!
فألقى به. . . ومضى لشأنه!!
وتلفت فرأى عرائس ماء يلعبن على الشاطئ، ويترامين بلآلئ مما يعد لديهن من حصباء البحر؛ فوقف غير بعيد وهتف بهن:
(يا عرائس الماء الجميلات! هل لكن أن تهدينني إلى أطلس الذي يحمل السماء، ويمسك كواكبها أن تقع!؟)
وفزع عرائس الماء وهرعن إلى البحر، ولكن فتاة جريئة وقفت ترقص على رأس موجة وقالت: (امض أيها الرجل حتى إذا لقيت السد الذي يفصل البحر المحيط من مائنا هذا(104/65)
(وكان البحر الأبيض)، فإذا استطعت أن تنفذ فانك تكون على فراسخ من أطلس. . .)
وشكرها هرقل، وانطلق. . .
وكان أمام السد؛ ولكنه كان جبلاً شامخاً ذا قُنن وقُلل وأحياد؛ فلما لم يستطع أن يتسلقه؛ ضربه بيمينه ضربة، وبشماله أخرى، ففتح ثغرات كبيرة نفذ منها، وترك الجبل وراءه أعمدة عالية، ما تزال تعرف إلى يومنا هذا بأعمدة هرقل!!
ونظر فما هاله إلا هذا الإله العظيم سامقاً في الأفق، يحمل على كتفيه العريضتين قبة السماء. والنجوم منتشرة حوله كأنها قطرات أمطار في يوم عاصف!
وتقدم هرقل فحيّا الإله الضخم، وحياه الإله الضخم بأحسن مما حيا هرقل، ثم أقرأه هذا تحية برومثيوس، وزف إليه بشرى خلاصه من الصخرة التي ظل مُكبّلاً فوقها أحقاباً وأحقاباً!
وطرب أطلس لهذه البشرى، وأفتر عن ثنايا كأنها قمم الجبال مُغطَّاة بالثلوج، ثم قال:
- (ومن أنقذه من عذابه الطويل يا صاح!)
- (أنا إن كان يسرك ذاك النبأ)
- (أنت؟ أنت من المكرمين إّن! مرحباً بك أيها المخلص الأمين!)
- لقد كدت ألقي بهذا الحمل الذي ترى لأنقذ أخي، ولكني خفت أن يهلك العالم بمن فيه. . . و. . . على ذكر أخي، كيف هؤلاء الناس الذين خلق؟ أبخير هم؟ وهل يخبتون له حقاً؟ إن زيوس مغيظ منهم، وامرأته حيرا محنقة كذلك، أعندك من أخبار هؤلاء شيء؟
- (عندي أشياء يا أبتاه. . أنا ابن زيوس من الكمين، وقد نقمت حيرا على والدتي، فأرادت أن تفجعها فيّ، وقد أغرت رب الأرباب بي، فقضى أن أخدم النذل يوريذوس سنة بتمامها أصدع له خلالها بما يأمر، وقد أرسلني أجوب الآفاق وأذرع الأرض من أجل تفاحات هسبريا الذهبية، وقد ذكر لي أخوك، بعد إذ أطلقته، إنك وحدك تعرف مكان حدائق الهسبريد وإنك وحدك تستطيع الحصول على هذه التفاحات، فهل أسعد بأن تؤدي لي هذه اليد؟ لقد كادت حيرا كيدها هذا، وإلا تنصرفي أكن من الهالكين!)
وشاءت الخيلاء في أعطاف أطلس، وسرت حميّا الزهو في ظهره الشاسع، فقال: (أجل يا صاح، لن يستطيع قتل لا دون غيري، ولن يدخل حدائق الهسبريد سواي، ولكن كيف أترك(104/66)
حملي هذا لآتيك بالتفاحات؟)
ونظر هرقل إلى القبة الهائلة نظرة تفيض كبرياء وقال: (أنا أحمل عنك هذه القبة يا أبتاه، حتى تعود بالتفاحات!!)
وما كاد يتم كلمته، حتى تقدم فركز كتفيه تحت السماء، وانطلق أطلس لأول مرة منذ أحقاب وأدهار، يمتّع نفسه بمشية حرة طليقة في حدائق الأرض الغنّاء!!
وغبرت أيام. . .
ثم ذكر تفاحات هسبريا، فذهب إلى حدائق الهسبريد، واقتحم الأسوار، وانقض على التنين لا دون فزلزلت الأرض تحتهما، ولم يدعه يفلت، برغم مرونته في الوثب وسرعته في الالتفاف، حتى خرّ صريعاً
ومد يده إلى الأيكة الذاهبة في السماء فتناول التفاحات المتلألئة الوضاءة، وعاد يزهو ويختال إلى حيث هرقل المجهود المتعب
وما كاد أطلس يلمح الحمل الثقيل الذي يؤود هرقل، حتى ذكر الأدهار السحيقة التي لبث يتململ طوالها تحت عبئه؛ فارتعدت فرائصه لمجرد فكرة العود إلى حمله الشاق. . . وبدا له أن يدع هرقل ويمضي. . . ولكن هرقل المتعب فطن إلى ما وقر في قلب أطلس؛ فناداه: (أبتاه! لعمري أن حملك لأخف من الهواء؛ ولعمري أنني لأستطيع أن أصمد له إلى نهاية الأبد!)
وبهت أطلس وقال: (إذن لتمض في حملك مادام يسرك!)
فأجاب هرقل: (ليس أيسر من هذا! ولكن هل تسمح فتحمل مكاني برهة حتى أضع حوّية فوق كتفيّ، فإني أشعر بنتوء في أديم السماء!!)
وقبل أطلس المغفّل، فنثر التفاحات من يده على الكلأ الأخضر، وتقدم فحل محل هرقل!!
والتقط صاحبنا التفاحات، وانطلق لا يلوى على شيء!!
وبعد رحلة طويلة مضنية، دخل على يوريذوس بالقُتْية الغالية التي خلبت لب فتاته أدميت؛ وخرت مغشياً عليها حين وقع بصرها عليها
(لها بقية)
دريني خشبة(104/67)
البريد الأدبي
لورد هيدلي عميد المسلمين الإنكليز
نعت إلينا أنباء لندن الأخيرة عظيماً من عظماء الإنكليز يعرفه المسلمون جيداً في مشارق الأرض ومغاربها هو لورد هيدلي زعيم المسلمين في إنكلترا
توفي لورد هيدلي في الثمانين من عمره بعد حياة حافلة متنوعة الأطوار والأوضاع وبعد أن لبث اسمه يرن في العالم الإسلامي أكثر من خمسة وعشرين عاماً، مذ اعتنق الإسلام، وكان أول من اعتنقه من أشراف إنكلترا
ولورد هيدلي من صميم الأرستقراطية الإنكليزية، ولد في سنة 1855؛ وأبوه الشريف النسون ون ابن بارون هيدلي
وتلقى تربية جامعية حسنة في وستمنستر وترنتي وكامبردج؛ وبرع في الرياضة منذ فتوته ولا سيما (البوكس) وألف في هذا الفن رسالة ذاعت في وقتها ذيوعاً كبيراً. ثم اشتغل حيناً بالتدريس، ثم بالصحافة حيث كان يحرر جريدة (سالسبوري)؛ ثم اشتغل بالأعمال الهندسية التي تخصص فيها، وعمل مدى حين سكرتيراً للسير هنت، وسافر بعد ذلك إلى الهند حيث تولى عدة أعمال ومشروعات هندسية هامة، ولا سيما في أعمال المواني، وذاعت شهرته الفنية يومئذ واعتبر من أعلام المهندسين
وفي سنة 1911 غدا ر. ح. النسون لورد هيدلي بعد وفاة عمه البارون هيدلي؛ وفي نفس هذا العام، في مأدبة عقدتها الجمعية الإسلامية بلندن، أعلن هيدلي الجديد أنه اعتنق الإسلام، وأنه لم يقطع علاقته مع ذلك بالكنيسة البروتستانتية التي نشأ في ظلها؛ وكان إسلام اللورد هيدلي حادثاً اجتماعياً عظيماً في إنكلترا، وثار حوله الجدل مدى حين، وحملت بعض الهيئات والصحف على اللورد المسلم حملات شديدة، ولكنه لم يحفل بها واستمر في طريقه يدعو إلى الإسلام ويفاخر باعتناقه
وفي سنة 1921 تزوج لورد هيدلي للمرة الثانية بعد أن توفيت زوجته الأولى في سنة 1919؛ وكانت زوجه في هذه المدة مسز بار بارا بانيتون، وكان قد بلغ السادسة والستين من عمره. وفي سنة 1923 انتخب اللورد هيدلي رئيساً للجمعية الإسلامية بلندن تنويهاً بخدماته للدعوة الإسلامية، وفي هذا العام سافر إلى مكة وأدى فريضة الحج، وأنعم عليه(104/69)
الملك حسين ملك الحجاز يومئذ بوسام النهضة العربية؛ ولُقّب اللورد من ذلك الحين (بالحاج هيدلي) وغلب عليه اللقب الجديد
وفي سنة 1929، تزوج الحاج هيدلي للمرة الثالثة بأرملة الماجور باسفورد وكان يومئذ في الخامسة والسبعين
وكان اللورد هيدلي رجلاً وافر النشاط والذكاء يجمع بين مصالح كثيرة مختلفة، ويدير دفة طائفة متنوعة من الأعمال الهامة، ويسير بها جميعاً في طريق التقدم والنجاح
وقد ترك اللورد المتوفى من زوجه الأولى أربعة أولاد؛ وورثه في لقب اللوردية ولده البكر رولاند باترك النسون ون
ونستطيع أن نذكر بهذه المناسبة أن هناك طائفة من مشاهير الإنكليز اعتنقوا الاسم في مختلف العصور، ومن هؤلاء رجل من اكستر يدعى يوسف بتس أسره القرصان المغاربة سنة 1678 وأرغم على اعتناق الإسلام، وأدى فريضة الحج مع سيده. ثم فر بعد ذلك إلى أزمير ونشر رسالة عن مغامراته؛ ومنهم توماس كابث الشهير الذي اعتنق الإسلام ووصل إلى منصب (الأغا) في بلاط السلطان باستنا بول، ثم انتهى بأن عين حاكماً للمدينة المنورة. ومن مشاهير الإنكليز الذين أسلموا في عصرنا الحاج عبد الله فيلبي (سنت جون فيلبي) مستشار الملك ابن السعود، واللايدي إيفلين كوبولد صاحبة كتاب (الحج إلى مكة) الذي ترجم أخيراً إلى العربية، ومنهم الدكتور نولان الذي كان مديراً للأمن العام، واعتنق الإسلام ثم سافر إلى تركيا، وهاجر بعدئذ إلى أمريكا، ومنهم كثيرون من المستشرقين الذين أسلموا لأغراض علمية وسياسية
ذكريات عن بيير لوئيس
منذ عشرة أعوام، في يونيه سنة 1925 توفي الكاتب والشاعر الفرنسي الكبير بيير لوئيس، في الرابعة والخمسين، بمنزله في شارع بولا نفلييه بباريس؛ وكان يعاني آلام المرض قبل وفاته بأعوام طويلة، والآن يحتفل أصدقاء الكاتب الكبير بذكرى وفاته، وهذه سنة مؤثرة في فرنسا، فقلما يودع هذه الحياة كاتب أو شاعر أو نابغة من نوابغ العلم أو الفن حتى تقوم جمعية من أصدقائه والمعجبين بنبوغه لتعمل على تكريم ذكراه في كل مناسبة، وتذكى في نفوس الخلف حب تراثه، وقد كان لبيير لوئيس مكانة خاصة في نفوس(104/70)
الخاصة وذوي الشاعر الرفيعة؛ ذلك لأنه يثير بروعة بيانه ورقة أسلوبه شجناً لا تملك مغالبته، وقد بدأ بيير لوئيس حياته الأدبية بإنشاء مجلة صغيرة اسمها (لاكونك) في مارس سنة 1891، وكان يطبع منها مائة عدد فقط، ويعاونه في تحريرها كتاب تملأ اليوم أسماؤهم فرنسا، مثل أندريه جيد وبول فاليري وهنري دي رينيه
وكان أول من لفت الأنظار إلى بيير لوئيس ودفعه إلى طريق المجد، القصصي الشاعر الكبير فرانسوا كوبيه؛ ففي مارس سنة 1893 ظهرت قصة لوئيس المسماة (افروديت)، فلم تمض أسابيع قلائل حتى تناولها كوبيه بالنقد في جريدة (الجورنال) وكان مما قاله يومئذ ما يأتي: (انه لم يكتب مثلها في النثر الفرنسي منذ (قصة المومياء) و (سلامبو). ثم قال: إنها قصة خليعة جداً، فهو يوصي بقراءتها للفنانين، وللفنانين وحدهم، وكان ذلك كافياً لأن تلقى (افروديت) ذيوعاً عظيماً، وأن ينحدر بيير لوئيس بسرعة إلى طريق المجد
وما فعله فرانسوا كوبيه مع لوئيس، فعله لوئيس فيما بعد مع كلود فارير؛ فقد أصدر فارير كتابه (المتمدنون) سنة 1905، وتقدم لينال به جائزة جونكور؛ وكان بيير لوئيس أحد العشرة الذين يؤلفون المجلس، فأذاع بعد قراءتها في كل مكان أنها لا تقل في الروعة والإبداع عن قطع (مبرميه)؛ وهكذا نال فارير جائزة جونكور، وأضحى بفضل لوئيس علماً ذائع الصيت، ولم ينس فارير لبيير لوئيس هذا الفضل، فلبث طوال حياته يرعاه بحبه ورفيع تقديره
عناصر الحركة الهتلرية
ألقى المسيو هنري بيجه، وهو من أعضاء مجلس الدولة الفرنسي، في (أكاديمية العلوم الأخلاقية) محاضرة عنوانها (الدولة الألمانية الثالثة والنظريات الاشتراكية الوطنية)، وهي خلاصة بحث دقيق قام به لدرس خواص النظام الهتلري؛ وخلاصة رأي مسيو بيجه أن الحركة الهتلرية إنما هي ظفر حزب وظفر نظرية قاما على (تفاعل عناصر اليأس وعناصر الخرافة)؛ وأما مثل هذه الحركة فتنحصر في ثلاثة أشياء: نظرية الجنس أو الوحدة الشعبية ونظرية الزعيم ونظرية الاشتراك وتقوم الحركة من الوجهة النظامية على المزج بين الدولة والحزب والشعب واعتبارها أسماء ثلاثة لمسمى واحد؛ متعارضة بذلك كل التعارض مع النظام الديموقراطي الحر الذي يقوم على فكرة الفرد والدولة، ويفرق(104/71)
بينهما أتم تفريق. ويرى مسيو بيجه أن الحركة الهتلرية رغم قوتها الحاضرة، تحمل عناصر فنائها، وأن هذا الفناء ليس بعيد الحدوث
كتاب جديد عن الملكة فكتوريا
صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن الملكة فيكتوريا بقلم الكاتب الإنكليزي أ. بنسون. ومع أنه يقع في مجلد واحد، فقد ألم بحياة الملكة العظيمة إلماماً قوياً، ويستند مستر بنسون في معظم آرائه على خطابات الملكة ذاتها، ولا سيما في أعوامها الأخيرة. وهو لا يعنى بتحري الصور الشائقة أو المثيرة، ولكنه يسير في بحثه بهدوء واتزان، يحلل أخلاق الملكة وموقفها من الشخصيات الكبيرة التي كانت تعمل معها، ومما يدلل عليه مستر بنسون أن الملكة فيكتوريا أبدت مواهبها العظيمة في عصر متقدم جداً، فرسائلها وهي في الثالثة عشرة لا تختلف كثيراً عن رسائلها وهي في الخمسين من حيث القوة والاتزان وحسن التدليل، ومما هو جدير بالذكر ما يعرضه مستر بنسون عن معركة الملكة فكتوريا مع وزيرها الشهير جلاد ستون، فقد كانت ثمة بين الشخصيتين العظيمتين معركة ملأت أيام الملكة الأخيرة، وكان الحق فيها في جانب الوزير، ولكن الملكة صمدت فيها إلى النهاية(104/72)
من روائع الشرق والغرب
المنصور
للشاعر الألماني هاينرخ هاينه
نقلها عن الألمانية الدكتور زكي محمد حسن الأمين العلمي
لدار الآثار العربية
هاينرخ هاينه شاعر غنائي وكاتب ألماني ولد من أبوين يهوديين بدسلدورف سنة 1797 ودرس الحقوق ولكنه هجرها إلى الأدب وذاع صيته فيه سنة 1826 وسنة 1827 حين ظهر كتابه (صور رحلة) عن طوافه في ألمانيا، وما لبث أن نشر أحسن شعره في ديوان سماه كتاب الأغاني قابله القراء في ألمانيا بحماسة تفوق الوصف
واعتنق هاينه الدين المسيحي سنة 1825، ولكنه كان في الحقيقة متشككاً في كل شيء، إباحياً جد الإباحة، مستهتراً كل الاستهتار. وفي سنة 1830 هاجر هاينه إلى باريس فاستوطنها واشتهر في أنديتها حتى توفي سنة 1851 بعد أن أقعده الشلل في أواخر حياته
وظل الألمان يعدونه من أكابر كتابهم وشعرائهم حتى كان الانقلاب الأخير، فنعى الهتلريون عليه أصله اليهودي فانقلبوا على ذكراه وهدموا ما أقيم له في ألمانيا من أنصاب وتماثيل
وامتاز هاينه بأسلوبه التهكمي اللاذع ووصفه الدقيق المشرق، بيد أن أهم ما خلّد ذكراه حتى الآن وسوف يخلدها طويلاً إنما هي أغانيه في ديوانه الذي أشرنا إليه؛ وآنا ننقل منه إلى العربية القصيدة الآتية التي يعجب الألمان بها كثيراً على الرغم من تعريضه فيها بالمسيحية قال:
في الكنيسة الكبيرة بقرطبة
تقف أعمدةٌ ثلثمائة وألف،
ثلثمائة وألف من الأعمدة الشاهقة تحمل القبة العظيمة الضخمة
وعلى الأعمدة والقبة والجدران تجري وتنحدر في كل اتجاه
آيات القرآن العربية في حروف مشبكة مزهرة مزخرفة
قديماً بنى الملوك العرب هذا البيت تمجيداً لذكر الله،(104/73)
بيد أن أشياء كثيرة قد تغيرت في هذا الدهر ذي الأحداث المظلمة!
فعلى المنارة حيث كان المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة،
ترسل الآن أجراس المسيحية رنين دقاتها الحزينة
وعلى المنبر حيث كان المؤمنون يرتلون كلام النبي،
يعرض الآن القسس الصغار الصلع أعاجيب قداسهم المضجر!
وهناك دوران والتفاف، حول نساء كالعرائس المنقوشة
بالألوان المختلفة، وهناك ثغاء وتبخر وأصوات نواقيس،
بينما الشموع الغبية ترسل أضواءها
في الكنيسة الكبيرة بقرطبة، يقف المنصور بن عبد الله
يتأمل الأعمدة في سكون، ويغمغم بالكلمات الآتية:
إيه أيتها الأعمدة القوية الجبارة
التي ازَّينتْ ذات يوم تعظيماً لله
هاأنت ذي الآن مضطرة إلى أن تقدمي للمسيحية المشنوءة
فروض الطاعة في ذلة وخنوع
أنت على ممر العصور ترضين وتقنعين،
وأنت تحملين العبء بصبر واستسلام،
فكان جديراً بمن هو أضعف منك أن يكون أسهل انقياداً
وأسرع خضوعاً
ثم يطأطئ المنصور بن عبد الله رأسه ذا الوجه الطلق فوق
حوض المعمودية المزخرف في الكنيسة الكبيرة بقرطبة!
وهرول المنصور من الكنيسة مسرعاً،
فامتطى جواداً عتيقاً جموحاً انطلق به،
حتى صارت خصلات شعره المبللة
وريش قبعته تهتز في الريح
في الطريق إلى القليعة على ضفة الوادي الكبير(104/74)
حيث تزهر شجيرات اللوز وشجيرات البرتقال ذات
الرائحة الزكية
هناك يسير الفارس المرح وهو يصفر ويغني ويضحك
والطيور تشاركه في شدوه
وخرير النهر يتابعه في طربه
وفي قصر القليعة تقطن (كلارا دي الفارس)
وولدها يحارب في نافار،
فهي تتمتع بحرية أوسع وأمَنة أوفر
ويسمع المنصور على بعد أصوات الدفوف والطبول،
ويرى أضواء القصر تتلألأ بين الأشجار والحقول
في قصر القليعة ترقص أثنتا عشرة سيدة بثيابهن المزركشة،
ويرقص اثنا عشر فارساً بحللهم المطرزة
ولكن أجملهم رقصاً وسمتا هو المنصور بن عبد الله!
كأن له جناحين من البهجة والسرور!
فهو يرفرف في القاعة هنا وهناك!
وهو يعرف كيف يقول لكل حسناء،
عبارات الملق والغزل والإطراء
فيدا (إيزابلاّ) الجميلتان يقبلهما بشغف، ثم يقفز مسرعاً
ويجلس إزاء (الفيرا) فيقبل عليها بوجهه الفرح
وهو يسأل (ليونورا) ضاحكاً:
هل كانت تحبه اليوم؟
وهو يريها الصليب الذهبي المطرّز في معطفه!
وهو يؤكد لكل سيدة أن صورتها مرسومة في قلبه
مقسماً ثلاثين مرة في تلك الليلة (ما أنا مسيحي!)
في قصر القليعة انتهى المرح وساد السكون(104/75)
واختفى الرجال والنساء، وانطفأت الأنوار
وبقيت دونا كلارا والمنصور وحيدين في القاعة الكبرى
بينما كان آخر مصباح يبعث بضوئه في عزلة وانفراد
فعلى المقعد الكبير تجلس السيدة،
وعلى الكرسي الخشبي يجلس الفارس
ورأسه الذي أضناه التعب
يستريح على ركبتي حبيبته
وتصب دونا كلارا باحتراس وهي تفكر
عطراً من قنينة ذهبية فوق خصلات شعره الأسمر
وهو يتنهد من أعماق قلبه
وتطبع وهي غارقة في لجة التفكير قبلة حلوة من فم رقيق
على خصلات شعره الأسمر
فتعلو السحب جبهته
عبرات من عيون مضيئة
تسكبها الحسناء وهي تفكر
على خصلات شعره الأسمر
فيقبض سريعاً على شفتيه
ويحلم المنصور كأنه يقف ثانية مطأطئ الرأس والجبين
في كنيسة قرطبة الكبيرة
يسمع كثيراً من الأصوات العميقة
وكل الأعمدة الشاهقة يسمعها تتمتم محتجة متضجرة
فهي لا تريد أن تحتمل أكثر من هذا
وهي تميل وترتعد
وهي تتهدم مزمجرة، ويكفهر الشعب والقسس
وتهوى القبة في صوت عظيم(104/76)
وتولول آلهة المسيحية
زكي محمد حسن(104/77)
الكتب
1 - حياة محمد: للدكتور محمد حسين هيكل
2 - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث
للأستاذ جمال الدين القاسمي
للأستاذ محمد بك كرد علي
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
- 1 -
مؤلف (حياة محمد) أشهر من أن يعرف، برع في تصوير الرجال وآخر ما كتبه سيرة أعظم رجل قام في الأرض، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. وقد وضع الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي مقدمة الكتاب وأبدع؛ وكاد الإجماع يتم على استحسان ما كتب المؤلف الذي قال إنه توخى الأسلوب العلمي الجديد، وما خلا كلامه من خطابيات تكررت معانيها، فخرج السفر عن الرسم الذي وضعه له صانعه أحياناً. ووقع له غير مرة أن مثل لبعض الظواهر في التاريخ المحمدي بحوادث عصرية لا دخل لها في الموضوع، فقد مثل في قصة زينب بنت جحش بمدام ركامبيه (ص291) ولا معنى لهذا الاستطراد
وأحسن المؤلف في تعليل بعض حوادث السيرة مما كان يتخذ منه من لا يقول بالإسلام سلاحاً يحاربه به على غير هدى، على حين اختلف أحبار الأمة في توجيهه، ومن ذلك مسألة تعدد زوجات الرسول. ووقع له (ص166) في الكلام على بيعة العقبة أن وجه صيغة بيعة النساء إلى الرجال، والآية الكريمة صريحة في أن الخطاب للنساء، ولذلك سميت بيعة النساء (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم)، وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى (ولا يعصينك في معروف) قال إنما هو شرط شرطه الله(104/78)
تعالى للنساء، ومعنى لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن أي بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج فإن الأم إذا وضعت الولد سقط بين يديها ورجليها
وقد تابع بعض المؤرخين في دعوى أن الرسول اجتمع ببحيرا الراهب في بُصرى (ص76) وأنه عليه السلام اتصل في رحلته الثانية إلى الشام (بنصرانية الشام وتحدث إلى رهبانها وأحبارها وتحدث إليه الراهب نسطور وسمع منه)، وهذه الرواية في اجتماع الرسول ببحيرا ونسطور لا تستند إلى أصل تاريخي صحيح، ولذلك أوردها ابن كثير في البداية والنهاية بصيغة الشك فقال: (زعموا) ولم يرد ذكر لبحيرا في كتب السريان؛ ومعنى بحيرا بالآرامية (المختار)، والذي يعنينا أن بحيرا اختلف الناس فيه: ومن قائل على ما في الروض الأنف أنه كان حبراً من يهود تيماء، ومن قائل على ما ورد في المسعودي أنه كان من عبد القيس واسمه سرجيس؛ وفي سيرة ابن هشام أن بحيرا كان إليه علم أهل النصرانية؛ ويقول ابن الجوزي في عيون التاريخ والسير إن أبا طالب لما ارتحل بالرسول تاجراً قَبِل الشام نزل تيماء فرآه حبر من اليهود، ويقال إنه بحيرا الراهب، فقال: من هذا الغلام معك؟ قال: هو ابن أخي، قال: أشفيق عليه أنت؟ قال: نعم، قال: فو الله لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود. ويقول ابن كثير إن الذي يظهر من سياق قصة الراهب أنه كان راهباً نصرانياً. ويقول الزهري إنه كان حبراً من أحبار اليهود. واختلفوا في عمر الرسول يومئذ، منهم من قال إنه كان في الرحلة الأولى ابن سبع سنين، ومنهم من ادعى أنه كان لبن اثنتي عشرة سنة لما وافى بصرى في رواية، أو تيماء في أخرى. ويقول ابن سعد في الطبقات إن بحيرا قال لأبي طالب: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسد وإني أخشاهم عليه. وتناقض هذه الروايات في دين الراهب بحيرا أكان نصرانياً أم يهودياً، وتناقض الرواية في محل هذا الاجتماع: هل كان في تيماء أو في بصرى من أرض الشام يوقع الشك في أمرها، وكذلك الحال في الرحلة الثانية واجتماع الرسول بنسطور. والجواب لمن يريدون أن يتخذوا من هذه الرواية سنداً ليقولوا إن الرهبان كانوا يعرفون أنه سيظهر من العرب رسول تختم به الرسل ويدعو الناس إلى التوحيد؛ الجواب إن ذلك لا يتعلق به أمر كبير في إثبات نبوة الرسول؛ والجواب على أعداء دين الرسول من أنه أخذ عن هذه الرهابين أن ابن سبع سنين أو اثنتي عشرة وهو عابر سبيل مع أهله(104/79)
لا يعرف الأخذ عن أحد، والرحلة الثانية إلى الشام لم تتجاوز مدتها الشهرين في أصح الروايات جيئةً وذهاباً، ونسطور هذا مجهول الهوية والمكان
وأهم ما فات المؤلف كونه لم يذكر أن المسلمين قوي أمرهم أول الإسلام بإسلام عمر بن الخطاب، وأنهم أخذوا يدعون إلى دينهم جهرة وكانوا يدعون إليه على تقية، ويصلون في دار الأرقم خائفين يترقبون أعدائهم من قريش، فأصبحوا يطوفون في الكعبة ظاهرين
- 2 -
يقول صاحب كشف الظنون إن التأليف على سبعة أقسام لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها، وهي: إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه. قال: وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه ألا يخلو كتابه من خمس فوائد: استنباط شيء كان معضلاً، أو جمعه إن كان مفرقاً، أو شرحه إن كان غامضاً، أو حسن نظم وتأليف، أو إسقاط حشو وتطويل أهـ
وكتاب قواعد التحديث بأسلوبه في التأليف ينطبق عليه شرط الجمع فقط، جمعه مؤلفه من مظان كثيرة لعلماء ثقات في علوم الحديث ونسقه وجوّد النقل، ولا يكاد يثبت له فكراً ولا يرجح قولاً. فقد نقل في أول كتابه نحو مائة صفحة (الكتاب في أربعمائة صفحة) من أقوال القدماء، ثم أثبت له رأياً واحداً سُبق إليه (ص101) رجح فيه رأي الجلال الدوّاني على رأي الشهاب الخفاجي في عدم التسامح بالأحاديث الضعيفة ولو كانت في شيء من الترغيب والفضائل
قدم الناشر للكتاب أربع مقدمات، ثلاثة لثلاثة من الأساتذة المعاصرين ورابعة للمؤلف، استغرقت كلها أكثر من عشرين صفحة، وما خرج الكلام في بعضها عن الدعابة والتمجيد. قلنا إن المؤلف اقتصر على نقل كلام غيره من أول الكتاب إلى آخره، ينقل عمن يروقه كلامهم من المحدثين وغيرهم، كما أخذ عن بعض المتصوفة ومَجّدَهم، وربما استشهد ببعض أقوال المعاصرين ونقل عن مجلات غاضاً عن ذكر أسمائها ترفعاً على ما يظهر
وكأن هذا السفر كان مجموعة من مفكرات يريد واضعها أن يضع كتاباً في هذا الفن ويقتبس أقوال المؤلفين الذين درجوا ثم بدا لبعضهم نشر هذه المفكرات في صورة مؤلف.(104/80)
وكانت طريقة التأليف في عهود الاتقاء العلمي أن يأتي كلام المؤلف أكثر من شواهده، ولما ضعفت ملكة التأليف بعد عهد السيوطي أصبحت التأليفات عبارة عن نسخ أقوال من سلف، وقل أن تجد فيها جديداً للمؤلف، وربما كان الشيخ القاسمي رحمه الله، وهو من العلماء المنورين المكثرين من التأليف على هذه الطريقة في الجمع والنقل آخر من جرى على تلك الطريقة فاكتفى في أكثر تأليفه ببسط آراء غيره
أما طريقة التأليف اليوم فلإيجاز من دون إخلال بالمعاني، وإدماج آراء المتقدمين خلال تقرير المسائل، وإذا وقع للمؤلف بعض آراء متشابهة أشار إليها جملة واحدة، حتى لا يضيع على القارئ وقته وتملأ صفحات بلا داع. وعلى هذه الطريقة جرى المعاصرون من المصريين وغيرهم ممن كتبوا في موضوعات إسلامية أو عربية، تمثلوا ما وضعوه من المباحث أولاً ثم كتبوه في صحف لتنشر، مقتصرين على لباب ما قرأوا في موضوعهم، عازين ما لابد من عزوه لأصحابه تدعماً لأقوالهم من كتب القدماء أو المحدثين بأسلوب سهل سائغ خالٍ من الخطابيات والسجع، فجاءت مصنفاتهم كالسبيكة الذهبية، لا خلل في تضاعيفها ولا شقوق؛ وهم إذا اقتبسوا اقتصروا على محل الشاهد، وأعرضوا عن باقي ما قال المقتبس منه، لأن الكتاب ليس بكثرة أوراقه، بل بما حوى بين دفتيه؛ وكم من كتب للسلف وفت ورقاتها المعدودة بأكثر مما تفي المجلدات. وقد رأينا الكتب المنقحة عاشت أكثر من الكتب المطولة المنتشرة ولكل عصر ذوقه وطريقته
محمد كرد علي(104/81)
العدد 105 - بتاريخ: 08 - 07 - 1935(/)
الميت الذي لا يموت
الشيخ محمد عبده
بمناسبة ذكراه الثلاثين
(عجب عجيب!! شيخ يلبس حلة مقطوعة الكم، ضيقة الردن، مبنقة الجيب، ويعتم على طربوش كطرابيش الأفندية، وينتعل حذاء كأحذية الفرنجة، ثم يتكلم الفرنسية ويصاحب الخواجات، ويغشي بلاد الكفر، ويترجم كتب أوربا ويأخذ عن جمال الدين، ويدرس المنطق على رغم ابن الصلاح، ويريد أن يدخل في الأزهر علوم المدارس، ويشتغل بالأدب، وينشئ المقالات للصحف؛ ثم يحرم (الدوسة) وينكر الوسيلة ويحلل الموقوذة، ويسوغ لبس القبعة، ويجيز الربا في صناديق التوفير، ويحاول الاجتهاد، ويفسر القران على غير طريق السلف. . .!!
نعوذ بالله من شر هذه المحنة وعواقب هذه الفتنة، ونسأله أن يقبضها على منهج السنة وعقيدة الجماعة. . . .)
هكذا كان يقول جمهور (العلماء) في صحن الأزهر حين انبلج نور الإصلاح من جبين محمد عبده، كما كان يقول مشركو قريش في فناء الكعبة حين انبثق نور الهدى من غرة محمد رسول الله! لأن دعوة الدين فجأت الكعبة على دنيا مقلوبة الأوضاع، في الأخلاق والطباع، فقال الناس حين رأوا رجلاً رأسه في السماء ورءوسهم في الأرض: انظروا كيف يريد أن يبدل نظام الكون ويغير خلق الله؟! ولأن دعوة الإصلاح باغتت الأزهر على سكون كذهول البله، وخمود كغشية الموت، واستغراق كخدر الأفيون، من طول ما تنكرت له الأحداث، وطغت عليه البدع، وعثت فيه الجهالة، فارتد إلى مثل تكايا الصوفية، أو صوامع الرهبان، يقطع أهله عن الناس، ويجري بهم إلى الخلف، ويعيش معهم في الماضي، ويجعل المثل الأعلى لرجل الدين أن يتوفر على مسائل الفقه، ويتقيد بآراء السلف، ويتعبد بألفاظ الموتى؛ فلما نبههم الإمام إلى أن الدين للدنيا، والعلم للعمل، والعلماء إنما يخلفون الأنبياء ليظل أثر الدعوة شديداً، وحبل الدين جديداً، وخلافة الله قائمة، فتحوا أعينهم على رجل يخالف سمته سمت البيئة، وزيه زي القوم، ورأيه رأي الحلقة، فاستوحشوا من ناحيته وأنكروه، ثم قالوا معتزلي مبتدع!(105/1)
قال الأستاذ الإمام وهو ينفض باسماً ما حثوه على عطفيه من الظنون والتهم: لا صلاح للدين إلا بصلاح الأزهر، ولا قيامة للدنيا إلا بقيامة أهله! ثم استعان على خصومه بالإحسان والنصيحة والصبر حتى آمن من آمن، وهادن من هادن، فوضع يمناه في أيديهم، ويسراه في أيدي أولئك الذين فتنهم الغرب فانغضوا رءوسهم إلى مدينة الإسلام، وذووا وجوههم عن ثقافة العرب، يحاول أن يصل بين الثقافتين، ويوفق بين العقليتين، ويجعل من هؤلاء وهؤلاء وحدة متسقة الفكر، متفقة الهوى، متحدة الغرض، تؤلف بين الدين والعلم، وتقرب بين الشرق والغرب، وتصل بين الماضي والحاضر؛ فنجح على قدر ما ينجح الأنبياء والمصلحون في إبان الدعوة، يهيئون الأرض في رجف من الخصومة، ويبذرون البذر في عصف من المعارضة، ثم ينفثون في اتباعهم القليلين المخلصين أرواحهم الخالقة وقواهم الخارقة، ليكونوا من بعدهم أوصياء على الغراس، وشهوداً على الناس، وأدلاء على المحجة
لا ريب أن الإمام محمداً كان من أولئك الأعلام المصطفين الذين يوضح الله بهم طريق الإنسانية من قرن إلى قرن؛ وأخص ما تميزهم به الطبيعة متانة الخلق، وصلابة الرجولة، وشدة الأسر، وقوة الحيوية، وحدة الذهن، وصفاء الملكة. ورث عن أبيه وثاقة التركيب، وشجاعة القلب، فشب نابياً على الضعف، أبياً على السكون؛ يريد أبوه أن يكون تلميذاً كلداته في المكتب، فيأبى هو إلا أن يكون زارعاً كأخوته في الحقل! ويرسله أبوه إلى المعهد الأحمدي يطلب العلم، فيفر منه إلى مدارج السبل يطلب الفلاحة! لان حفظة القران وحملة الفقه كانوا موضع العطف من القلوب لقلة الكسب وضعف الحيلة؛ وحيويته تأنف الخمود، وحريته تأبى القيود، ورجولته تعاف الشفقة
ثم لجأ إلى الشيخ درويش خال أبيه، وهو صوفي عالم من أهل البحيرة، سار في الأرض حتى بلغ طرابلس الغرب، فأخذ الشريعة والطريقة على السيد محمد المدني؛ والتصوف في المغرب يقوم على ذكر الله بالاستحضار، وتلاوة القران بالاستذكار، ورياضة النفس بالتأمل؛ فأخذ يروض جموح طبعه بالصلاة، ويلطف حميا شبابه بالذكر، ويطفئ غليل قلبه بالدرس، حتى فتح السبيل بين نفسه وبين الوجود الأبدي والكمال المطلق
ثم اتصل بالسيد جمال الدين فتولى عقله يثقفه بالمنطق، ويكلمه بالحكمة ويقويه بالملاحظة؛(105/2)
فكان لهؤلاء الثلاثة: أبيه مربي جسمه، وشيخه مربي روحه، وأستاذه مربي عقله، أبلغ الأثر في تكوين صفاته وتوجيه حياته وتبليغ رسالته. . .
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات(105/3)
- 5 - كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أرادوا مرة امتحان السياسيين في بلاغة السياسة، فطرحوا عليهم هذا الموضوع:
سرقت حقوق أمة ضعيفة، فاكتب كيف تشكرها على هديتها. . .
عندما يشرب الضعفاء من السراب الذي تخيله السياسة لأعينهم - يقدمون لهم المناديل النظيفة ليمسحوا أفواههم. . .
لو سئل السياسي العظيم: أي شيء هو أثقل عليك؟ لقال: إنسانيتي
قد يبطل المنطق كل الحجج إلا اثنتين: حجة السياسي القوي حين يغتصب الضعيف، وأختها حجة اللص الفاتك حين يسأل من أين اشترى؟ فيقول: اشترت يميني من شمالي. . . . .
قالوا. نظم الصقر قصيدة من الغزل في عصفور جميل مصبغ الريش، فكان مطلعها: (ما ألذ) ريشك أيها العصفور! هكذا لغة السياسة
مر فيلسوف برجل مصور بين يديه صورة امرأة قد صورها فاكثر عليها الحلي من الذهب والجوهر، فسأله في ذلك، فقال المصور: لم استطع أن اجعلها حسناء فجعلتها غنية. . . . كذلك أحزاننا السياسية لما عجزت عن حقيقة السياسة جعلتنا أغنى الناس بالكلام الفارغ
من تمام فضيلة الرجل السياسي أن يكون له كلامان: أحدهما سكوته
في الحب والسياسة لا يبدأ الإثم إلا كالفلتة المفردة؛ ولكن متى وقع الشاذ في السياسة والحب، صار هو القاعدة. . . .
إذا رأيت شباب أمة يتنبلون بالثياب والزينة، فاعلم أنها أمة كذب ونفاق: يغطون الحقيقة الرخيصة بالثوب الغالي، ويكذبون حتى على الأعين
فضيلة الملائكة عند الناس أنهم لا يكابدون ولا يحزنون؛ أفلا تكون فضيلة الناس عند الملائكة أنهم يكابدون ويحزنون؟
قالت العشرة للألف: أنت سرقت مني صفرين. . . . هكذا رأيت غرور بعض أدبائنا
يكبر بعض الأدباء من صغر المحيطين بهم؛ قالوا بعرت شاة حول قطعة من حجر، فنطقت بعرة فقالت للحجر: يا ما أعظمك أيها الجبل الشامخ. . .(105/4)
يكون في بعض الأدباء في سخافة الحقد ما لا يكون مثله إلا في بعض النساء من دناءة الغيرة: لو ماتت ضرتها لبقى من ذنبها أنها كانت ضرة. . .
من فرض على الناس أن يعرفوه نابغة فقد فرض عليهم أن يعرفوه معتوهاً أو مغروراً
إذا أردت أن تتكلم عن ميت، فضع نفسك في موضعه ثم تكلم
من اكثر الشكوى إلى الناس، علمهم كيف يسمعون كلامه خالياً من الشكوى
إذا صدق الحب كانت بعض اللعنات فيه أحياناً ضرباً من التحايا (غيابياً). . .
كل معشوقة هي أعظم من عاشقها بحاجته إليها، ولو كان ملكاً وكانت خادما؛ فما أحقر العظمة أحيانا ً
علمتني التجربة أنه لا يحسن استعمال البلاغة مع عجائز النساء، فإنهن يحسبنها غزلاً. . . فمن كتب لإحداهن فلا يجعلن كتابه متقدماً في الأدب بل متقدماً في السن. . .
لا تكن صورة المرأة اجمل من الأصل إلا عند اثنين: العاشق، والمصور المكره على التزوير. . .
المرأة التي لا تعرف كيف تجعل كبرياءها وسيلة حب، لا تجعلها إلا وسيلة مقت
إذا أصبت زوجين يتمنى أحدهما موت الآخر، فلن تجد لهذا الآخر عملاً إلا أن يغيض صاحبه كل يوم بأنه لم يمت. .
اعظم الشعراء واعظم الفلاسفة من بلغ درجة الطفل. . . في جعل حكمه على الدنيا من الشعور لا من الفكر
تزول صفة الجمال عن الحبيب إذا لم يره محبه متصفاً بها؛ ولكن المشكلة هي: كيف يستطيع أن يراه غير جميل، وهو كأنما خلق من اجل عينيه خاصة؟
أيهما الذي تحبه المراة؟ الرجل القوي بأنواع القوة يعجبها فتراه سيدها وسيد قلبها، أم الرجل الضعيف أنواع الضعف ترى نفسها سيدته؟
هذا هو جواب طبيعة المرأة على طلب المساواة بين الرجال والنساء
من سخرية الحياة بالنابغة العبقري، أنه حين يؤخر عمله من عجز أو ضعف، يكون هذا هو كلما يستطيعه النابغة العبقري. . . .
لو اجتمع الذين ملأوا الدنيا بشهوتهم لما ملأوا داراً صغيرة؛ كأن منهم ممالك للتاريخ(105/5)
كممالك الأرض فلا يتسع إلا. لعدد محدود
لو كنت قاضياً ورفع إلي شاب تجرأ على امرأة فمسها أو احتك بها أو طاردها أو اسمعها، وتحقق عندي أن المرأة كانت سافرة مدهونة مصقولة متعطرة متبرجة - لعاقبت هذه المرأة عقوبتين: إحداهما بأنها اعتدت على عفة الشاب. . .، والثانية بأنها خرقاء كشفت اللحم للهر. . . .
لن يكون الإلحاد من العلم، فأساس العلم هو هذا: ما عرفته فقد عرفته، وما لم تعرفه فلا اقل من أن تقر بأنك لا تعرفه
إذا كنت قائداً عظيماً في أمة ذليلة فقيرة، استطعت أن تكون نبياً فيها بنصب شناقتين؛ وما أسرع ما يعتقدون أن الذي معه عزرائيل كالذي معه جبرائيل. . . .
ليس المصلح من استطاع أن يفسد عمل التاريخ فهذا سهل ميسر حتى للحمقى؛ ولكن المصلح من لم يستطع التاريخ أن يفسد عمله من بعد
كل أب يضرب أولاده المساكين هو نابليون، ولكنه نابليون داره فقط. . . .
دجاجة القفص امرأة متحجبة في نظر الثعلب؛ وحجابها جهل وحماقة ورجعية وتخلف عن زمن الثعالب. . . .
هنا مسالة اقتصادية: فهذا مسجد واسع مفتوح لا يؤجر بإيجار ينتفع به؛ وهذه كنيسة قائمة لا تستوفي الدولة عليها ضريبة. أفليس الإصلاح أن يحول المسجد دار صناعة مثلاً، وتنقلب الكنيسة مثلاً (خمارة)؟
بلى أيها الحاكم. إن هذا هو إصلاحك الطبيعي ما دام عقلك كيس دراهم، وما دامت بلادك بلاد إفلاس. . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(105/6)
دستور قناة السويس وهل نسخه ميثاق عصبة الأمم؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ يناير الماضي تجوز السفن الإيطالية قناة السويس في كل يوم تقريباً، مشحونة بالجند والسلاح والذخيرة في طريقها إلى الإرترية والسومال؛ ولا تخفي إيطاليا الفاشستية بعد أن حشدت قواتها الزاخرة في شرق أفريقيا إنها مصممة على تنفيذ مشروعها الاستعماري الضخم في المنطقة الحبشية، وأنها لا تقبل ثمناً للعدول عن غزو الحبشة اقل من بسط حمايتها الفعلية عليها؛ إما الحبشة فأنها من جانبها تشهد جلدة متحفزة تلك الأهبة الضخمة التي تنظمها دولة قوية من دول الغرب المتمدين للبطش بها وسحقها من عداد الأمم الحرة، وزجها إلى حظيرة الأمم المستعبدة بعد أن لبثت آماد التاريخ دولة كاملة السيادة والاستقلال
وهذا المنظر الذي نشهده اليوم هو أحد هذه المناظر العديدة التي شهدها كثير من الأمم الشرقية والأفريقية الضعيفة منذ أواخر القرن الماضي، والتي تعرف في لغة الاستعمار الأوربي (بافتتاح أفريقية)؛ منظر الدول الغربية الكبرى تتسابق إلى بسط حمايتها على تلك الأمم، ثم تتقدم استعمارها واستبعادها خطوة فخطوة باسم المدنية والمصالح الاقتصادية والتهذيب الأوربي
ليس من موضوعنا أن نعرض إلى شيء من نواحي ذلك الصراع الذي سينشب في القريب العاجل في شرق أفريقيةوالذي تخوض فيه الحبشة معركة الحياة والموت؛ ولكنا نريد أن نعرض إلى مسالة يثيرها هذا الصراع في الوقت الحاضر، هي مسألة قناة السويس ونظامها الدولي في مثل هذا الظرف، وسنقتصر في بحثنا على الشرح الفقهي والتاريخي المحض
أبدى السير نورمان آنجل الكاتب الإنكليزي الكبير، واحد أقطاب الدعوة إلى السلام، رأيه أخيراً بأنه إذا نشبت الحرب بين إيطاليا والحبشة، فانه لا يجوز أن تبقى قناة السويس مفتوحة في وجه الفريقين المتنازعين، بل يجب أن تغلق دونهما، وإلا تمكن السفن الإيطالية من المرور فيها، كما أنه يجب إلا تمكن الحبشة من استيراد الذخائر عن طريقها؛ ويستند السير آنجل في رأيه إلى أن المعاهدات الدولية التي تكفل حرية الملاحة في القناة أثناء الحرب والسلم معاً قد نسختها نصوص ميثاق عصبة الأمم(105/7)
ولبيان ذلك نقول إن النظام الذي تخضع له قناة السويس اليوم هو نظام الحيدة الدولية المطلقة، وهو النظام الذي كفلته معاهدة 29 أكتوبر سنة 1888 التي وقعت في استانبول بين الباب العالي، وبريطانيا العظمى، والمانيا، والنمسا والمجر، وفرنسا وإيطاليا، وأسبانيا، وهولنده، وروسيا؛ ونص في ديباجتها على أن الغرض من عقدها هو (الاتفاق الحر على نظام نهائي يكفل في كل الأوقات ولكل الدول حرية الملاحة في قناة السويس). وتحتوي المعاهدة على سبع عشرة مادة تنظم شروط الملاحة في القناة في أوقات السلم وفي أوقات الحرب
وهذه الحيدة المطلقة للقناة وقت الحرب تنص عليها المادة الرابعة من المعاهدة فيما يأتي: (تبقى القناة مفتوحة وقت الحرب. وقد اتفق المتعاقدون أعلاه على أنه لا تفرض أية ضريبة حربية أو يعمل أي عمل من شانه أن يخل بحرية الملاحة في القناة ذاتها أو في موانئ الوصول إليها، أو في قطاع من هذه الموانئ طوله ثلاثة أميال بحرية، وهذا حتى لو كانت الدولة العثمانية هي إحدى الدول المتحاربة). وتنص المادة السادسة من المعاهدة على (أن قناة السويس تبقى مفتوحة في وقت الحرب شأنها وقت السلم، لكل سفينة تجارية أو حربية، لجميع الدول بلا تفريق. . . وتتعهد الدول الموقعة بأنها لا تقوم بأي عمل لعرقلة حرية الانتفاع بالقناة وقت الحرب، مثلما يجب ذلك وقت السلم؛ ويجب ألا تعرض القناة مطلقاً لمزاولة حق الحصار)
على أنه يحظر على سفن الدول المتحاربة المارة بالقناة وقت الحرب، بمقتضى نص المادة الرابعة أيضاً، أن تتزود من المؤن في القنال أو موانيه إلا بالقدر الضروري؛ ويجب عليها أن تخترق القناة بسرعة، وإلا تمكث في موانئ القناة اكثر من أربع وعشرين ساعة؛ ولا يسمح لها بان تنزل جنوداً أو ذخائر إلى البر. ويمكن أن يسمح لسفينتين حربيتين، كلتاهما بالبقاء في ميناء الوصول، ولكن لا يسمح لأي سفينة حربية بالبقاء في مياه القناة)
هذه هي خلاصة النصوص التي يقوم عليها نظام المرور في قناة السويس وقت السلم ووقت الحرب؛ وما تزال معاهدة سنة 1888 هي المرجع والحكم في هذا الشأن، وإن كانت بعض نصوصها الأخرى قد ألغيت بفعل الظروف والتطورات الدولية. مثال ذلك أنه قد نص في المعاهدة على أن تقوم الحكومة العثمانية باتخاذ ما يجب لتنفيذ المعاهدة؛ ولكن(105/8)
الدولة العثمانية قد ذهبت واختفت من عالم الوجود، وفقدت تركيا كل حقوقها القديمة على مصر بمقتضى نصوص معاهدة الصلح (معاهدة سيفر) أولاً، ثم بمقتضى نصوص معاهدة لوزان (سنة 1923)؛ وهي حقوق يقضي المنطق والقانون بأن تؤول إلى مصر؛ ولكن مصر لم يعترف لها بهذا الحق؛ وينص تصريح فبراير سنة 1922 الذي تعترف فيه بريطانيا العظمى باستقلال مصر، على أن بريطانيا العظمى تحتفظ ضمن المسائل المعلقة بمقتضى التصريح بمسالة المواصلات الإمبراطورية، أو بعبارة أخرى بمسألة قناة السويس؛ ومن جهة أخرى فقد اختفت بعض الدول الأخرى التي اشتركت في عقد المعاهدة مثل إمبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية؛ وفقدت ألمانيا بمقتضى معاهدة الصلح كل حقوقها في مصر وفي جميع المعاهدات التي عقدتها مع مصر؛ وفيما عدا ذلك فنصوص معاهدة سنة 1888 ما تزال قائمة، وما تزال إلى اليوم دستور قناة السويس
والآن لنرى إلى أي مدى يمكن أن يتأثر هذا الدستور الذي يقضي بحرية الملاحة في القناة وقت الحرب، بنصوص ميثاق عصبة الأمم. وما يشير إليه السير أنجل من أن هذا الميثاق ينسخ دستور القناة نجده في المادة 20 من ميثاق العصبة؛ وهذا نصها؛ (يعترف أعضاء العصبة بان الميثاق الحالي يلغي كل التعهدات أو الاتفاقات الخاصة التي تتعارض مع نصوصه، وتتعهد بأنها لا تعقد في المستقبل أية معاهدة تتعارض مع هذه النصوص)، ولما كان دستور العصبة يقوم على فكرة السلام العام بين الامم، وعلى مبدأ التفاهم والتحكيم في تسوية المنازعات التي تقع بينهما، فان مثل هذا الدستور الذي وضع لقناة السويس منذ نحو نصف قرن، والذي يقضي بأن تسهل حرية المرور في القناة لسفن الدول المتحاربة، لا يتفق مع الغاية التي تعمل لها عصبة الأمم، وهي توثيق أواصر السلام بين الأمم، بل يغدو بالعكس عاملاً في تشجيع الحرب؛ ومثل هذه النصوص التي تتعارض مع روح ميثاق العصبة يجب أن تعتبر منسوخة لاغية
ولكنا نجد من جهة أخرى في ميثاق العصبة نصاً آخر ربما كان يناقض هذا الراي، فالمادة 21 من الميثاق تنص على (أن التعهدات الدولية مثل معاهدات التحكيم والاتفاقات الإقليمية مثل نظرية مونرو، وهي التي يقصد بها توطيد السلم، لا تعتبر متعارضة مع أي نص من نصوص هذا الميثاق). فإذا اعتبرنا معاهدة سنة 1888 داخلة في باب التعهدات الدولية أو(105/9)
في باب الاتفاقات الإقليمية وهو الأرجح، فان ميثاق العصبة لا يمكن أن يؤثر على نصوص معاهدة سنة 1888. ونظرية مونرو كما نعلم هي قاعدة السياسة الأمريكية، وبمقتضاها تعتبر الولايات المتحدة الأمريكتين منطقة نفوذ معنوي خاص، لا يصح أن تمتد إليها يد أية دولة أوربية بالتدخل في شؤونها أو محاولة بسط نفوذها الاستعماري على أي جزء من أجزائها، وألا اعتبرت هذه المحاولة عملاً عدائياً موجهاً إلى الولايات المتحدة ذاتها. وكما أن النص هنا صراحة على استثناء نظرية مونرو الأمريكية قد وضع نزولاً على رغبة السياسة الأمريكية، صاحبة الفكرة الأصلية في إنشاء عصبة الأمم، فكذلك قد يكون النص على استثناء الاتفاقات الإقليمية هنا تحقيقاً لرغبة السياسة البريطانية؛ وهي قد أصرت على اعتبار قناة السويس منطقة إقليمية تعلق عليها أهمية خاصة أولاً في تصريح فبراير سنة 1922 حيث احتفظت بمسالة المواصلات الإمبراطورية، وثانياً في التبليغ الذي اقترن بهذا التصريح إلى الدول، وفيه تعتبر أن التدخل في أمر العلائق المصرية الإنكليزية يعتبر عملاً غير ودي بالنسبة لإنكلترا
على أن المعاهدات والنصوص وحدها لا تكفي، وهنالك الجانب العملي؛ واحترام هذه النصوص يتوقف دائماً على الظروف والاتجاهات السياسية. فمثلاً حينما قامت الحرب الروسية اليابانية سنة 1904، وكانت إنكلترا تميل فيها إلى جانب اليابان، لم تسمح إنكلترا بفتح قناة السويس في وجه الأسطول الروسي المسافر إلى الشرق الاقصى، واضطر هذا الأسطول أن يطوف حول إفريقية، وان يسير إلى الصين من طريق رأس الرجاء الصالح، وكان هذا السفر الطويل من عوامل إنهاكه وهزيمته بعد ذلك في موقعه تسوشيما (سنة 1905) وخسران روسيا للحرب، هذا مع أن روسيا إحدى الدول الموقعة على معاهدة سنة 1888 كما قدمنا. وفي الحرب الكبرى لم تحترم حيدة القناة ولم تحل المعاهدة الدولية دون تحصينها وإغلاقها في وجه الدول المعادية لإنكلترا ودول الحلفاء؛ وقد استأثرت إنكلترا وحلفاءها أثناء الحرب باستعمال القناة؛ ومن جهة أخرى فان ألمانيا وتركيا لم تحترما من جانبهما حيدة القناة؛ ونظمتا سنة 1915 أكثر من هجوم محلي على مصر من جهة القناة، وضربت شواطئها بالقنابل المخربة؛ واستمرت طوال الحرب منطقة حربية محضة تستأثر إنكلترا بالإشراف عليها(105/10)
وكذلك لا نستطيع في الظروف الحاضرة التي يحلق فيها شبح الحرب في شرق أفريقية أن تقف عند المعاهدات والنصوص في تقدير الدور الذي يمكن أن تؤديه قناة السويس في إذكاء هذه الحرب أو وقفها؛ فإيطاليا تستعمل القناة بملء الحرية لإرسال الجند والذخائر إلى شرق أفريقية؛ فإذا نشبت الحرب بينها وبين الحبشة فماذا يكون شأن القناة؟ هل تظل مفتوحة أثناء الحرب لمرور الإمداد الإيطالية، أو تغلق في وجهها؟ إن معاهدة سنة 1888 صريحة كما بينا في وجوب فتح القناة وضمان حرية الملاحة فيها أثناء الحرب بالنسبة للفريقين المتحاربين؛ ولكن النصوص وحدها لا تكفي هنا. وكل شيء يتوقف على ظروف العلائق بين إنكلترا وإيطاليا؛ فإذا كانت هذه العقائد مما يسمح بتأييد السياسة البريطانية لمشروع إيطاليا في غزو الحبشة، فان القناة ستبقى مفتوحة حرة؛ وإذا كان لدى السياسة البريطانية ما يحملها على الوقوف في وجه مشاريع ايطاليا، فقد تغلق القناة بالاستناد إلى ميثاق عصبة الأمم أو غيره من الأسانيد والنصوص.
وعلى أي حال فان المسالة في منتهى التعقيد والدقة، وأمرها مرهون بالظروف والمفآجات التي قد نثيرها الحوادث دون توقع أو تقدير
محمد عبد الله عنان(105/11)
مات الشيخ بدر الدين!
للأستاذ على الطنطاوي
اليوم انقطعت رواية الحديث:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
كان أقل مزايا الشيخ بدر الدين الحسني أنه يحفظ صحيحي البخاري ومسلم بأسانيدهما، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وأبن ماجة، ويروي لك منها ما تشاء كأنه ينظر في كتاب؛ وأنه يحفظ أسماء رجال الحديث وما قيل فيهم، وسني وفاتهم، ويجيبك عما شئته منها، وأنه يحفظ عشرين ألف بيت من متون العلوم المختلفة كالألفية والزبد والشاطبية والطيبة الخ. . . وأنه ألف نحواً من خمسين مؤلفاً قبل أن يتجاوز عمره الثلاثين؛ وأن له إطلاعاً في كافة العلوم حتى الرضيات العالية فقد أقرأها لطلاب شعبة الرياضيات في المدرسة التجهيزية فأدهشهم وأدهش بإطلاعه معلميهم؛ وأنه ما انقطع عن الدرس والتدريس يوماً واحداً منذ سبعين سنة على زهادة عجيبة، وورع نادر، وترفع عن الدنيا ولذاذاتها مع الغنى الواسع والمال الكثير، وهو على الجملة آخر علماء السلف الصالح رضي الله عنهم
مر على دمشق في هذه السنين العشرين، من جليل الحوادث وفادح الخطوب، ما لو مر على الشامخات الرواسي لجعلها دكاً، أو وقع على الجلاميد الصم لصيرها هباء. فأعدت له الإيمان الذي لا يزلزله رزء، والثبات الذي لا تزيله مصيبة، وصبرت عليه (صبر العظيم على العظيم). . . . حتى تعودت مس الضر، وألفت قوارع الدهر
(وصارت أن أصابتها) سهام ... تكسرت النِّصال على النصال
وغدا أبناؤها لطول ما رأوا من البلاء، وما راضوا نفوسهم عليه من الصبر، لا يألمون لمصيبة، ولا يجزعون لنائبة، ويهتفون بالزمان كلما تعب من مساءتهم، فأقلع عن إيذائهم:
إن كان عندك يا زمان مصيبة ... مما تسوء به الكرام فهاتها(105/12)
نكبت دمشق الحرب، فقلت الأقوات، حتى أكل الناس العشب. . . وباد الرجال: من لم يمت منهم برصاص الإنكليز والفرنسيين، ومن لم يمت من الجوع، مات على مشانق جمال باشا، حتى لم يبقى في دمشق إلا شيوخ ركع، ونساء جوع، وأطفال رضع. . .
فشيعت دمشق من مات، وحدبت على من بقى، ما خارت ولا جزعت. . . (وصبرت دمشق)!
ثم كانت (ميسلون) فذبح (العمروط الأفاق) رب البيت، واستباح الحمى، وأراد أن يعدو على سليلة الشرف، وبنت الأكرمين، فصدته أروع صد، فأتى على الديار فجعلها حصيداً، كأن لم تغن بالأمس؛ وعادت دمشق من ميسلون، فإذا كل شيء قد انهار، وإذا الدار قواء، كأنما لم يشد فيها ملك، ولم تقم فيها دولة، ولم يكن لها استقلال. . .
فدفنت دمشق بيدها أبناءها، وأقسمت على قبورهم (القسم الأحمر) وما بكت ولا شكت. . . (وصبرت دمشق)!
ثم كانت الثورة فهبت دمشق تعلن في أبنائها بأن قد جاء (الامتحان الأول) فاروني ماذا حفظتم من الدرس. . .
وكان الامتحان في دق الباب
فدقه الأبطال من أبناء دمشق دقاً ضوضى على جوانب السين، فثار الناس فزعون يقولون: ماذا؟
قيل: بردى يشتعل!. . . قالوا: أطفئوه بالنار!
فكانت المعركة بين الماء والنار. . . بين الدم والحديد. . . فرد الفتية العزل الجيش اللجب، فوقف سنتين دون نهر تورا لا يجتازه، وما عرضه بأكثر من (ستة أمتار)
ثم انتهى الامتحان، فدفنت دمشق أبناءها، وقامت دمشق المفجوعة على أنقاض دمشق المحرقة المهدمة فجددت القسم، وكانت ميسلون فصارتا ميسلون والغوطة. . . . . . (وصبرت دمشق)!
ثم كان يوم (20) كانون، فأعلنت دمشق أن قد جاء الامتحان الثاني، وكان الامتحان في فتح الصندوق
فقالت القوة: لا! وقال الحق: نعم!(105/13)
فكانت المعركة بين القوة والحق، فانتصرت نعم، وكسر الصندوق، ودفنت دمشق أبناءها، وجددت القسم، وصرن ثلاثة: ميسلون والغوطة والمرجة! (وصبرت دمشق)!
صبرت دمشق، ولم تجزع ولم تضطرب، ولم تقلقها هذه الحادثات ولم تبكها؛ ولكن كلمة واحدة سرت أمس في دمشق، فتقلقلت لها دمشق واضطربت، وخفت منها الأحلام، وضل عنها الصبر، فلم تعد تطيق صبراً، فانفجرت تبكي في نكبة اليوم النكبات كلها!
تلك هي الكلمة الرهيبة: مات الشيخ بدر الدين. . . .
كان الشيخ سر قوة دمشق، تلجأ إليه كلما دهمتها الخطوب، فتفئ منه إلى جنة وارفة الظلال، وتفزع إليه كلما حاق بها اليأس، فتجد عنده الأمل الباسم الذي يشق طريقاً للحياة وسط شعاب الموت، والثقة بالله التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها طائراً بجناحين من الشجاعة والثبات
وكانت كلمات الشيخ كأنما هي السحر، ينصب في أعصاب الشاميين إذ يسمعونها، فيقدمون لا يهابون شيئاً، كذلك الذي شرب ماء الحياة فلا يبالي - وهو لن يموت! - أي أودية الموت سلك!
وكان الشيخ رمز العصور الذهبية الأولى، وصفحة حية من تاريخ المجد الإسلامي، وآية من آيات الله قامت في هذه الأيام المظلمة لتنيرها بنور الصدر الأول، كما ينير البدر الليل الداجي بنور الشمس المشرقة، ولكن ذاك بدر الدنيا، وهذا (بدر الدين)!
وكانت غرفة الشيخ في دار الحديث حمى قد حماه الله بهيبة العلم، وحجبه بجلال الإخلاص، فهي من دمشق الأموية أو العباسية، أو دمشق صلاح الدين، لا من دمشق (القرن العشرين)، وقفت عند عتبتها سطوة جمال باشا، وقوة الانتداب فلم يجتزها منهما شيء؛ وكان يجيبئها أبداً العتاة الجبارون الذين يخشاهم البلد، ويجري حكمهم لا يرده أحد، فكانوا جميعاً من بشاوات وموسيوات. . . يخلعون نعالهم بأيديهم، ثم يدخلون مطأطئي رءوسهم حتى يجلسوا على ركبهم بين يدي الشيخ، خاشعة أبصارهم، ترهقهم ذلة، ثم لا يتكلمون إلا أن يسألهم، أو يأذن لهم بالكلام، وربما أعرض عنهم، وربما وعظهم أو علمهم، ولا يقول لهم إلا كلمة الحق، ولا يكلمهم إلا بلسان عالم من دمشق صلاح الدين!
فكان الشاميون حين يرون هذا لا يبالون، وفي دار الحديث هذا الجيش، بما كان في دمشق(105/14)
من جيوش ودبابات وطيارات. . أفليس عجيباً أن هذا الشيخ ألهم أبن التسعين، قد:
سدّ الطريق على الزما ... ن وقام في وجه الخطوب!
والشيخ لا جرم نسيج وحده في هذا العصر، وهو بقية من المحدثين الأولين الذين ألفوا بسيرهم تاريخ المسلمين العلمي، أجل تاريخ علمي كتب أو يكتب إلى يوم القيامة. فقد لبث سبعين سنة، يشتغل بالدرس والتدريس والتقوى والعبادة، على خطة معروفة، وسنة مألوفة، ما تبدلت يوماً ولا تغيرت، إلا لمرض مقعد، أو أمر قاهر، أو سفر لازم؛ وقد بلغ من ثبات الشيخ وحسن ظنه بالله عز وجل أنه كان مرة في قطار الحجاز فوقف القطار في عرض البادية لشيء طرأ عليه، (وقد رأينا هذه البادية فإذا هي رمال ملتهبة، وشمس محرقة، ولا شيء سواهما) فنزل بعض القوم يصلون، ونزل الشيخ، فلما أحرموا بالصلاة وكادوا يركعون، صفر القطار، فانفضوا إليه فتعلقوا به وتركوا الشيخ قائماً. وسار القطار؛ (قال الراوي) فنظرت إليه فلا والله ما ألتفت ولا تحرك، فكدت والله أُجَنَّ، وأقبلت على من بيدهم أمر القطار فرجوتهم أن يقفوه فأبوا، فسقطت على قدمي كبيرهم حتى لان فأمر بالقطار فتقهقر حتى وقف على الشيخ فإذا هو جالس لم يسلم، فلما سلم قام فركب، وما يبالي بانقطاعه في البادية، ولا بالموت الذي يحوم حوله، ما دام قائماً بين يدي رب الأرض والسموات، ومن بيده الموت والحياة.
لبث سبعين سنة يفيق إذا عسعس الليل، فيصلي ما شاء الله أن يصلي، فيشعر بلذة العبادة، ويحس حلاوة الإيمان، ويسمو بنفسه عن الدنيا ولذاذتها حتى يحقرها وتهون عليه، فيصبح وهو يطير بنفسه في سموات الجنان والناس يمشون في حضيض الأرض
ثم يمضي إلى الجامع الأموي فيصلي الصبح مع الجماعة، في مكانه الذي لم ينقطع عنه ثلاثة أرباع القرن، وربما ثبت عليه أكثر من ذلك، فقد جاوز رحمه الله التسعين، فإذا قضيت الصلاة عاد إلى غرفته، فلبث يقرأ ويقرئ إلى ما بعد العتمة، إلا أن يكون يوم الجمعة فيجلس للدرس العام يحدث الناس تحت قبة النسر من الظهر إلى العصر، لا يسكت ولا يتنحنح ولا يقف؛ يبدأ بحديث فيرويه مسنداً، ويستقري طرقه كلها، ويتحدث عن رواته، ثم يذكر شواهده من الكتاب والسنة، فلا يروي حديثاً إلا رفعه، ولا كلمة إلا عزاها، ثم يذكر ما أخذه منه الفقهاء من الأحكام ويوازن بينها، ويبسط الكلام فيما يتصل بذلك من(105/15)
الفلسفة والتصوف والعلوم، وكان الشيخ في الفلسفة الإسلامية منقطع النظير
وطالما حضر هذا الدرس جلة علماء دمشق ومن يزورها من علماء الأقطار، فخرجوا معجبين مُكْبرين؛ وطالما حضره الأطباء والمحامون وأهل الفلسفة والطبيعة، فخرج كل وقد امتلأ وطابه من وسائل الفن الذي يشتغل به، أو العلم الذي انقطع إليه
وكان يمضي الدرسان والثلاثة ولم يتعد الشيخ شرح حديث واحد
ولم يكن يرد سائلاً، أو طالب علم؛ وكان يوليه ما شاء من وقته ووجهه؛ وكان إذا استفتى قال للسائل، أنظر كتاب كذا، وكتاب كذا؛ وربما دله على الصفحة التي يجد فيها المسألة، لا يحب أن يفتيه هو
وكان يصوم الدهر، فإذا كان المساء أكل ما قدم إليه، ولم يعرف عنه في سفر ولا حضر أنه اشتهى طعاماً أو كرهه إلا مرة كان في سفر، فقيل له: ما نطبخ؟ فقال: ما شئتم!
قالوا: عندنا بامياء وفول وعدس. . . .
قال: هل قلتم إن عنكم فولاً؟
ففهموا أنه يشتهيه، ولم يرو عنه في هذا الباب أكثر من هذا. ولم يكن يشتم رجلاً أو يغتابه، ولم يكن يدع أحداً يغتاب في مجلسه وكان غاية تأنيبه إذا غضب أن يقول:
- (يابا - وكانت تلك كلمته - لماذا أنتم هكذا؟)
تواضع لله، فأناله الله رفعة ما أنالها سلطاناً ولا ملكا، وانصرف عن الدنيا فأقبلت عليه الدنيا، ودر عليه المال فما مسه ولا مد إليه يداً، واعتزل الناس ورغب عن الجاه، فأقبل عليه الناس، ورغب فيه الجاه، فما غيره ولا أقام للجاه وزناً، وابتعد عن الحكام، فتزلف إليه الحكام، ووضعوا بين أيديه دنياهم فما حاد عن دينه ولا رزأهم دنيا، ولا كتمهم نصحاً. . .
عاش فكانت حياته أعظم حياة، ومات فكان موته أفخم موت. وكيف لا يكون فخما، وقد كان الشيخ دولة وحده، وقد كان تاريخاً، وقد كان مجموعة كاملة من الفضائل كلها، تأكل وتشرب وتمشي؟
رحمك الله يا أيها الإمام العالم العظيم، ورزق دمشق الصبر على فقدك، وعوض منك المسلمين خيراً. . . .(105/16)
فقد كنت تدراً للديانة مشرقاً ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
علي الطنطاوي(105/17)
الشعر الوطني في الأندلس
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
كثر الشعر الوطني عند العرب في العصر الحديث كثرة عظيمة حتى طغى على غيره من الأغراض الشعرية، فأصبح لا يكاثره غرض آخر منها. وما ذلك إلا لأن البلاد العربية كلها قد مزق الاستعمار شملها، فأصبح أهلها خاضعين للنير الأجنبي يتشوقون ليوم الحرية تشوق الظمآن للماء البارد؛ فهم تارة يتغنون بالنصر الباهر الذي يكسبونه في موقعة ذلك اليوم، وتارة يستعرضون مواقف المجد والبطولة في تاريخهم الأدبي والحربي، فيثيرون بذلك شعور مواطنيهم للسعي إلى تقريب أمد ذلك اليوم الذي تشرق شمس الحرية فيه على ربوعهم فيعود إليها ما فقدته من العز والعظمة، وتارة ينعون على قومهم تخاذلهم وقعودهم عن حرب العدو المغير على أوطانهم، لافتين أنظارهم إلى ما يسومونهم من الخسف والعذاب، وما يبتزونه من أموالهم وخيرات بلادهم
وأخيراً، وعلى هذا المنوال، تكوَّن الشعر الوطني في العربية، وأصبح في المقام الأول من أغراضه الشعرية، فخلف بذلك المديح الذي كان يحتل هذا المقام من قبل
ونحن إذا رجعنا إلى ما قبل العصر الحديث من العصور المختلفة وقلبنا تطورات الشعر العربي في تلك العصور، لم نجد للشعر الوطني ذكراً ولا أثراً بين أقسام الشعر، ولم نعثر على ما يفيد أن هذه الظاهرة التي غلبت على الشعر العربي اليوم أمكنها في عصر من العصور أو طور من الأطوار أن تظهر، بَلْه أن تغلب على شعر شاعر من العرب أو من غير العرب فيمن نظم بالعربية، فتجرف غيرها من الظواهر وتكون هي المسيطرة على كثرة أشعار الشعراء كما هو الحال اليوم. ولذلك لما قال أبن الرومي أبياته المشهورة في هذا المعنى كانت عنقاءَ مُغرِب الشعر الوطني، فتداولتها الألسنة وأصبحت مثلاً يُضرب في طبيعة حب الناس لأوطانهم، وتلك الأبيات هي:
ولي وطن آليت ألا أبيعه ... وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
وحبب أوطانَ الرجال إليهمُ ... مآرب قضَّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهمُ ... عهود الصبا فيها، فجنوا لذالكا
ولا نعني بالشعر الوطني ما كان من قبيل العواطف المجردة عن المعاني المذكورة كهذا(105/18)
الذي يكثر قوله في بلاد الغربة تشوقاً إلى معاهد الأحباب ومواطن الشباب، فإن هذا قد زخرت به العربية قديماً وحديثاً، ولم يخل عصر من أعصارها من لدن الجاهلية إلى الآن عن قوله والمكثرين منه. وما أشعار نجد والحجاز والعقيق ورامة وغيرها إلا بعض من كل، وقُل من جل، مما يتمثل فيه هذا اللون من الشعر العاطفي أحسن مثال. ولكن ما نعني هو الشعر الوطني بمعناه الشائع الذي يصطبغ بالفكرة السياسية التي ألمعنا إليها من قبل؛ وهذا هو الذي يصح القول فيه أنه وليد التجديد الأدبي في العصر الحديث، وأنه لم يكن له وجود في العصور المتقدمة التي ازدهرت فيها الآداب العربية سواء في شبه الجزيرة نفسها، أو فيما اصطنع لغتها من البلدان بعد إشراق نور الإسلام فيها - اللهم إلا هذا القطر الأندلسي الذي عقمت الأيام أن تلد مثله في رقيه وحضارته، فإنه لابد أن يستثنى من العموم
ذلك أن عرب الأندلس الذين تقدموا الزمن بكثير في النضوج العلمي لم يجز أن يتخلفوا عنه في الإحياء الأدبي، فطلعوا على العالم العربي بالتوشيح الذي لم يستطع التجديد العصري حتى الآن أن يأتي بما يشبهه من حيث التأثير البليغ في تحرير الشعر من قيود البحور والقافية الثقيلة، وقد حاول المشارقة أن يأتوا بشيء في هذا الصدد فاستظهروا بالدوبيت، والكان وكان، والقوما وغيرها، ولكنه كان شيئاً غريباً عن الذوق العربي غرابة هذه الكلمات في اللغة العربية، وكذلك قالوا الشعر الوطني وأكثروا منه وتفننوا فيه، فانفردوا به عن سائر الشعوب العربية، وسبقوا إليه الأجيال الحديثة، وكان إحدى مأثراتهم الجليلة في النهوض بالأدب العربي من وجه عام
ولقد كان باعثهم عليه هو نفس ما بعث إخوانهم اليوم من تكالب دول النصرانية عليهم وإذلالها لهم في عقر بلادهم، ولذلك لم يوجد في عهد الفتح وعهد الأمويين إذ أمر العرب مقبلٌ وشملهم جميع، وإنما وُجد بعد أن ضعف لسانهم ودالت دولتهم وصاروا يشهدون سقوط ممالكهم الواحدة بعد الأخرى، وحصون بلادهم في قبضة العدو فلا ترجع إليهم أبداً؛ وعرفوا الغاية التي إليها يسيرون، والمصير الذي منه يقتربون، فاشتد رعبهم وهلعت قلوبهم، فبكوا واشتكوا ونظموا الأشعار الوطنية في تحميس الناس للدفاع عن حقيقتهم والاستماتة في صون كيانهم، معرضين بما يؤول إليه أمرهم هناك من الذل والاستكانة وطمس معالم الحضارة والدين(105/19)
ولقائل أن يقول إن مثل هذه الأحوال قد صار في بلاد المشرق ولا سيما في عهود الحروب الصليبية يوم سلبت من الإمبراطورية العربية أثمن درة في تاجها: مصر وبلاد الشام، ومع ذلك فلم تتفق قرائح الشعراء هناك بالشعر الوطني ولم يظهر منهم من جال في ذلك الميدان، فما السبب في ذلك؟ لعل للعجمة التي كانت قد بدأت تعقل اللسان العربي في ذلك العهد من جراء ظهور سلطان الأعجام في بلاد العرب وضعف الإنتاج الأدبي تبعاً لذلك، تأثيراً مباشراً في عدم ظهور هذا النوع من الشعر في بلاد الشرق وإن وجدت البواعث. على أن هذه الأحوال وإن لم تبعث على قول الشعر الوطني كانت السبب في ظهور فن من فنون الأدب لا يقل خطراً عن الشعر مطلقاً وهو فن القصص، فان من المعلوم أن كثيراً من هذه القصص الحماسية كعنترة وسيف بن ذي يزن وغيرها إنما وضعت في هذا العهد الصليبي، وفي مصر بالخصوص، لتضرب للناس أمثلة من الشجاعة العربية يخلق بهم أن يحتذوها في صد هجمات المغيرين من ذئاب الغرب على بلاد الإسلام، وهي وإن كانت عامية التأليف تدل على أن المشرق لم يقف واجماً بازاء تلك الحوادث الكبرى وإن لم يهتد إلى الشعر الوطني كما اهتدت إليه الأندلس!
ونقفك الآن على نماذج من الشعر الوطني الأندلسي لترى أنه لا يكاد يتميز عن الشعر العصري الوطني في وصف من الأوصاف. ولا ننقل لك شيئاً من قصيدة صالح بن شريف الرندي في رثاء الأندلس، وإنما نشير إليها فأنها شهيرة لا تخفى على تلاميذ المدارس الابتدائية الإسلامية!
فانظر إلى هذه القطعة للأديب أبي عبد الله الفازاني يصف فيها الفوضى الغاشية على بلاد الأندلس وتخاذل أهلها عن الدفاع عنها بل وإعانة الأعيان منهم على خرابها! ويستشف من الغيب المآل الذي تؤول إليه إن دامت على تلك الحال، فيسأل الله تعالى أن يلطف بعباده ويرحمهم:
الرُّوم تضربُ في البلادِ وتغنمُ ... والجورُ يأخذُ ما بقى والمغزمُ
والمالُ يورد كله قشتالةً ... والجند يسقط والرعيةُ تسْلَمُ
وذوو التعيش ليس فيهمُ مسلمٌ ... إلا معين في الفساد مُسَلِّم
أسفي على تلك البلاد وأهلها ... الله يلطفُ بالجميع ويرحم(105/20)
وانظر إلى هذه القطعة أيضاً لأبي المطرف بن عميرة يقف فيها موقف اليائس البائس يمتنع حتى عن الاستسقاء لبلاده، ويتساءل في حزن وحقد كيف يمكن أن يدوم وداده لهذه الديار، التي ألقت بطاعتها للأغيار:
زدنا عن النائبين عن أوطانهم ... وإن اشتركنا في الصبابة والجوى
أَنا وجدناهم قد استسقوا لها ... من بعدما شطَّت بهم عنها النوى
ويصدنا عن ذاك في أوطننا ... مع حبها، الشِّركُ الذي فيها ثوى
حسناء! طاعتها استقامت بعدنا ... لعدونا، أفيستقيم لها الهوى؟
وله أيضاً يشير إلى انتقاله من بلد إلى بلد لاستيلاء العدو على البلاد واحدة فواحدة، من قصيدة طويلة:
كفى حزناً أنَّا كأَهلِ مُحَصَّبٍ ... بكل طريق قد نفرنا وننفر
واستمع إلى هذين البيتين اللذين قيلا في أهل بلنسية، وما أكثر انطباقهما علينا اليوم:
لبس الحديدَ إلى الوغى ولبستمُ ... حلل الحرير عليكمو ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببَصَرْنَهٍ ما كانا!. .
ولابن الأبار من قصيدة طويلة يخاطب بها السلطان أبا زكريا ابن أبي جعفر صاحب أفريقية:
أدرك بِخَيْلك خيلِ الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جَزراً ... للحادثات وأمسى جدّها تعسا
في كل شارقة إلمام بارقة ... يعود مأتمها عند العدا عُرُسا
يا للمساجد عادت للعدا بِيَعاً ... وللنداء غدا أثناءها جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارساً للمثاني أصبحت دُرُسا
وقصائد الاستنجاد بملوك العدوة كثيرة، يستدعي إيرادها أو الإشارة إليها فصولاً، ولكن لا بأس بإيراد شيء من قصيدة في هذا المعنى لإبراهيم بن سهل الإسرائيلي، وهي كافية للدلالة على قوة العاطفة الوطنية عند أهل الأندلس، لأن هذا الجنس من الناس ملموزٌ بضعف هذه العاطفة، فصدور هذه القصيدة عن فرد منه دليل على ما قلنا:(105/21)
وِرْداً فمضونٌ نجاح المصدرِ ... هي عزة الدنيا وفوز المحشر
يا معشر العرب الذين توارثوا ... شيم الحميةِ كابراً عن أكبرَ
إن الإله قد اشترى أروحكم ... بيعوا! ويهنيكم وفاء المشترى
أنتم أحقُّ بنصر دين نبيكم ... وبكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ... ذاك البناء بكل لدن أسمر
لكم عزائم لو ركبتم بعضها ... أغنتكم عن كل طرف مضمر
الكفر ممتد المطامع والهدى ... متمسك بذناب عيش أغبر
والخيل تضجر في المرابط غيرة ... ألاَّ تجوس حريم رهط الأصفر
كم نكروا من معلم، كم دمّروا ... من معشر، كم غيروا من مشعر!
كم أبطلوا سنن النبي وعطلوا ... من حيلة التوحيد صهوة منبر!
أين الحفائظ مالها لم تنبعث؟ ... أين العزائم مالها لا تنبرى؟
أيهز منكم فارس في كفه ... سيفاً ودين محمد لم ينصر؟
ونختم هذه الكلمة بتنبيه قومنا إلى تاريخ هذه الفاجعة العظيمة فان فيها عبرة لمن يعتبر
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني(105/22)
عمل عظيم
للأستاذ محمد بك كرد علي
لو كل بلد إسلامي قام بواجبه قيام المسلمين في مدينة بيروت ثغر الشام، لاضمحلت الأمية علة العلل في هذا المجتمع، ولزاد في بنيه عدد المتعلمين وأرباب الصنائع، وعلى تلك النسبة كانت تزيد الثروة والرخاء، ولنجا المسلمون من مشاكل كثيرة، وبرئوا مما يتهمهم به أعداؤهم من أن دينهم لا يفسح لهم مجالاُ للنور والثقافة
أسس المسلمون في بيروت في سنة 1296هـ جمعية دعوها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وعنيت مدة بتعليم النشء الجديد يومئذ ثم طرأت عليها طوارئ شلت حركتها، ومن أهمها أن الحكومة العثمانية ما كانت تحب استرسال المسلمين في سبل التعليم، على حين كانت تتغافل عن المسيحيين يتعلمون في مدارسهم الطائفية ومدارس المبشرين ما شاءوا وشاءت دول الاستعمار
ولما انتدبت فرنسا على الديار الشامية بعد الحرب العامة، كان أول ما فكر فيه المسلون إعادة جمعية المقاصد الخيرية الملغاة، خصوصاً وقد رأوا كلمة التبشير تقوى، فهبوا إلى التذرع لإحياء جمعيتهم في سنة 1338هـ وأخذوا يجمعون أموالاً، واستوهبوا أرضاً عظيمة من الأوقاف أقاموا عليها مخازن وحوانيت ومقاهي، فكان لهم منها باخرة ريع لا يقل عن عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهباً في السنة يدخرون نحو ثلثها مالاً احتياطياً، ولا يفتأون كل عام يجمعون مبلغاً تنتظم به مالية جمعيتهم
وجعل أولئك العاملون هدفهم الأسمى إنشاء مدارس لتربية البنين والبنات، وتثقيفهم بالثقافة الحديثة التي تنطبق على التعاليم الإسلامية، وإعدادهم ليكونوا عاملين منورين أقوياء في عقيدتهم الدينية والقومية؛ وزادوا في مناهج البنات على مناهج البنين - والعلوم النظرية واحدة في جميع مدارسهم - دروساً عملية في تدبير المنزل، تتناول الطبخ، والخياطة على اختلاف أنواعها، والأشغال اليدوية، والرسم، والموسيقى، وتربية الأطفال
أصبح لهذه الجمعية في مدينة بيروت سبع مدارس للذكور والإناث، منها مدرستان ثانويتان، إحداهما للصبيان والثانية للفتيات، أطلق على كل واحدة منهما اسم (كلية). وقد نجح تلاميذها في السنة الغابرة نجاحاً باهراً، وكان فيهم ثلث من نجحوا في الجمهورية(105/23)
اللبنانية في إحراز شهادة البكلوريا؛ هذا وبيروت مدينة المدارس، ومنها ما يرد عهد تأسسه إلى ستين أو سبعين سنة. وبلغ مجموع ما في مدارس البنين والبنات في بيروت في سنة 1934 - 3130 طالباً وطالبة؛ وللجمعية عناية فائقة بمدارس رياض الأطفال
ساهم المسلمون على اختلاف درجاتهم في الثروة في قيام هذه المدارس، يمدونها بما تصل إليه أيديهم من المال كل سنة، وكانت مدارسهم في هذه الأزمة الخانقة أقل دور العلم تأثراً بالحالة الاقتصادية والمالية، ذلك لأن مدارس الجمعية تدار بأيدٍ رشيدة، لا يسرف في مالها أيام الرخاء، ويراعى في الإنفاق العام الحاضر كما تراعى الأعوام المقبلة
ولما رأت الجمعية أن التبشير يسري بسرعة في القرى الإسلامية من عمل بيروت هبت لجنة من أعضائها وغيرهم بمعاونة الجمعية نفسها، وكونت لها رأس مال وبدأت بإنشاء المدارس في القرى في سنة 1340هـ فكان لها منها الآن ثنتان وأربعون مدرسة فيها ما يربو على الألفي طالب وطالبة يتلقون التعليم الابتدائي الصحيح على منهاج التعليم في الجمعية
ولم تكتف جمعية المقاصد بما أتت، بل عمرت لها في بيروت مستشفى ذا طبقتين يحتوي على اثنتين وثلاثين غرفة، منها ما هو بمساحة مائة وعشرين ذراعاً مربعاً، وجهزته بستة وسبعين سريراً، وبلغ ما أنفق على بنائه 2 , 311 , 159 غرشاً سورياً أو نحو أربعة آلاف ومائتي جنيه عثماني ذهباً، ونشطت المدارس الأهلية الأخرى وعاونتها، وتولت برجالها مراقبتها وإرشادها، ورممت بعض المساجد في الحاضرة والضاحية، ومنحت معاونات لمن يريد التخصص في مدارس الشرق أو مدارس الغرب، وعاونت حفظة القرآن وسهلت سبل إتقان حفظه، كما بسطت يد معونتها للمولعين بالفنون الجميلة إلى غير ذلك
هذه الأعمال الجليلة قامت بقروش قليلة جمعت من أهل البر والخير جمعها الغُيُر على أبناء دينهم، فتألف منها رأس مال لا يستهان به؛ وبهذه الصورة يكافح البيروتيون الأمية، ويرجعون إلى حظيرة الدين من كانوا على وشك أن ينسلخوا منه، وكل ذلك بمعاونة المستنيرين من المسلمين وفضل رئيس الجمعية عميد بيروت وعين أعيانها عمر بك الداعوق الذي كانت طريقته وطريقة أعوانه أن يعملوا ولا يقولون، ويبذلون مالهم ووقتهم ولا يمنون ولا يتبجحون(105/24)
قرت العيون بهذا العمل الخطير الذي كان سداه الإخلاص، ولحمته حب الدين والمدينة، فدفعت جمعية المقاصد الخيرية أبناء أمتها خطوة إلى الأمام، وغدا الأمل بالمستقبل أعظم من الماضي، في محيط تنفق فيه مدارس التبشير للأميركان والفرنسيين وغيرهم عن سعة؛ وقل في الشرق الأدنى بلد ظهر فيه نشاط المبشرين ظهوره في هذه القطعة الصغيرة من الديار الشامية؛ وقل أن كتب لبلد قاوم المبشرين بمثل سلاحهم كمدينة بيروت. ونعود فنؤكد لو أن كل بلدة حذت حذو النابهين من أبناء بيروت لقضى مع الزمن على الأمية في المسلمين. وجوهر كل نهضة في عقول الرجال، ولا نجاح في الأعمال لغير المخلصين المثابرين
دمشق
محمد كرد علي(105/25)
دولة المماليك في حكم التاريخ
للأستاذ ظافر الدجاني
لعل تاريخ الشرق الأدنى في عهد الحكومة الإسلامية أحفل التواريخ بما يملك على النفس جوانب الفكر والخيال، ويوحي إليها أبلغ ضروب الحكمة والموعظة، لأنه كان مسرحاً لظهور بعض الدويلات الإسلامية الغريبة في نشوئها ومظاهر حكمها ومبلغ تأثيرها في مجرى تاريخه العام ولعل أغرب هذه الدويلات، دولة المماليك في مصر، التي اختلست من الدهر ما يزيد على خمسين ومائتي سنة، كان المملوك فيها مالكاً والمغلوب غالباً، فكان يتخللها من المؤامرات والدس وأهوال الاستبداد ما لا نظير له في تاريخ المجتمع البشري. على أنها والحق يقال ليست أول محاولات هذه الطائفة البشرية لاغتصاب الحكم والاستبداد به والانتقام من الجنس الإنساني عامة لما ألحقه بها من ضروب الفظاعة والقساوة، فقد شهد تاريخ رومة الخالد، قبل ظهور النصرانية، كثيراُ من هذه المحاولات الجامحة التي باءت جميعها بالفشل والخذلان بعد أن روعت العالم وضربت له مثلاً صارماً فيما يستطيعه أبناء المماليك، بل أبناء كل طائفة مظلومة، في ميدان التمرد والانتقاض ومقايضة الجور والأذى الصاع منهما بصاعين. ولعل هذه الدولة كانت أكبر انتصار أحرزته هذه الطائفة، بل لعلها أروع مظهر لجموح أخلاقها، وتعدد الخوالج التي كانت تتجاذب نفوسها وتتنازعها إلى مسالك الخير والرجولة وجلائل الأعمال ومفاوز الشر والجريمة والآثام!
ففي الحق أن هذه الدولة لعبت دوراً خطيراً على مرسح الحياة السياسية العمرانية في الشرق الأدنى حتى ليعزى إليها أكبر الفضل في صد هجمة التتر المنبعثة من أعماق المشرق؛ قال ابن خلدون: (حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبست أثواب البلاء والعجز، ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم، والقعود عن المفاخرة، والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولة؛ فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمقه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية يجلبون من دار الحرب(105/26)
إلى دار الإسلام في حقارة الرق) فكانت تنقضي أيام هذه الطائفة في التنقل من ميدان إلى ميدان، ومن حصن إلى حصن، في مختلف أنحاء سوريا وفلسطين، وقد اندحر التتر في أكثر من واقعة واحدة؛ كواقعة (عين الجالوت) التي كان النصر فيها حليف المسلمين، فهلك كتبوغا زعيم التتر، ومزقت جموعه كل ممزق كما هلك خليفته أيضاً وجموعه من بعده، عند ما حاربهم الملك الظاهر بيبرس، وردهم على أعقابهم خاسرين متعثرين في أذيال الهزيمة، وكانت سوريا في خلال ذلك ميداناً لجهاد هؤلاء المماليك العنيف ضد الحملات الصليبية فامتلأت بجيوشهم وزهرة فرسانهم، وما زالوا يذرعون أرضها صعوداً وصدوداً، متكاتفين متكالبين حتى انتزعوا السلطة من أيدي الصليبيين، واستخلصوا منهم القلاع والحصون، فافتتح الملك الظاهر بيبرس حصن صعذ وسيس، وسيس هذه كانت كعبة المجاهدين من أبناء المماليك لأنها مدينة نصرانية، فكان أهلها يظاهرون الأرض على جيوش المسلمين
وكان العلويون والحشاشون، وهم من الباطنية، أصحاب سلطة ونفوذ، وكان قد دوخهم هولاكو في حملته المشهورة، ودمر حصونهم وقلاعهم فاستأصل أبناء المماليك شأفتهم، وحرروا سوريا من ربقة مظالمهم في عهد الملك الظاهر بيبرس المذكور. وكان الملك الظاهر بيبرس هذا قد استقدم ابن الخليفة الظاهر بأمر الله آخر خلفاء الدولة العباسية في بغداد، فأكرمه وقلده الخلافة ولقبه (المستنصر بالله)، فأصبحت القاهرة مركز الخلافة الإسلامية بعد أن كان مركزها بغداد. وبقيت هنالك حتى مقدم العثمانيين. ولكن الواقع أن سلطة هؤلاء الخلفاء كانت مقيدة لا تعدو أمور الدين والزعامة الدينية. وإنما أكد حاجة المماليك إلى هذه الخلافة الوهمية رغبتهم في وسم حكومتهم بطابع ديني شرعي حتى تنهض حجتهم ويستقيم أمرهم بين جماعات المسلمين
وأخيراً لا ينبغي أن ننسى أن هؤلاء المماليك قد خلفوا كثيراً من الآثار والأبنية التي تشهد لهم بالتقدم في فن العمارة وفي الري والعمران، فقد شيدوا المساجد والمدارس والقصور والمستشفيات، وعمروا القناطر والترع، وحفروا الخلجان، ووسعوا الأوقاف من كل ناحية. وكانوا يتبارون في ذلك حتى عمر القطر المصري والبلدان المجاورة التي خضعت لحكم المماليك بجليل الآثار. فعمر الملك الظاهر الحرم النبوي، وقبة الصخرة، وقناطر شبرامنت(105/27)
بالجيزة، وقلعة دمشق، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة، وحفر خليج الإسكندرية، وبنى قرية الظاهرية. وشيد الملك الناصر القصر الكبير الأبلق، وعمر الديوان الكبير والجامع الكبير الذي بالقلعة، وعمر المجراة وأجراها من بحر النيل إلى القلعة، وحفر الخليج الناصري، وعمر قناطر أم دينار
على أنه مهما قيل في حسنات هؤلاء المماليك فثمت ما يقال في سيئاتهم وفيما خلفوه من آثار البطش والجور والإرهاق، لخبث سيرتهم وعظيم جورهم، وغلبة القسوة وشهوة الاستبداد على طبائعهم، أولئك الذين كانوا في الأمس عبيداً أرقاء! فكان السلطان منهم مستبداً في أمره لا وازع يكفه عن عمل الموبقات؛ وكانوا فوق ذلك لا يعرفون (مبدأ الوراثة) في الحكم، فكان القوي منهم ينتهز الفرص للتفرد بالحكم والاستبداد بالضعيف، فكان ذلك الوقت وقت تشاغل وفرص، بل وقت مؤامرات تحاك في الخفاء، فلا يسلم منها الشعب، ويصيبه من جرائها كثير من الجور والإرهاق. وكانت الضرائب غير مقيدة بقانون أو وازع ديني أو إنساني، وإنما كانت تتفاوت في الزيادة والنقصان حسب الظروف والأحوال ومشيئة السلطان
ولم تكن مصر مع ما ذكرنا بأسوأ حالاً من سورية وفلسطين، ولا سيما وأن الأخيرتين كانتا ميداناً للحروب والمناحرات. وهكذا ضج الناس وعم الفقر، وانتشر الجهل والبلاء. وكان المجد العربي والعزة العربية والخلق العربي قد أمحت جميعها من أذهان العامة، فأصبح الناس لا يبالون بمن يولونه قيادهم، ويسلمون له زمام أمورهم، وإنما يطلبون العدل والإنصاف!
وفي وسعنا المضي في هذا السبيل القاتم، ولكننا نخشى ألا يكون في ذاك فائدة بعد أن دللنا بالقليل على الكثير، وهذه كتب التاريخ حفلة بمظاهر الجور بل بمشاهد الفقر والذل التي سادت الشرق العربي في ظل حكم المماليك
يافه
ظافر الدجاني
أ. ع(105/28)
من مشاهير الشرق
1 - طائفة البهرا في الهند ومجالسهم في عدن
بقلم محمد نزيه
منذ عنيت الصحافة المصرية بأنباء الهند، وهي تذكر عن مكاتبيها في تلك البلاد النائية جماعة البهرا وشيخ البهرا بكثير من الإجلال والعناية، ولقد طالما رأيت مذ شهدت الشيخ ومسست حياة جماعته أيام رحلتي في الهند أنهما حقيقان بعدة فصول تجمع إلى طرافتها فائدة التعريف بجماعة من جماعات الإسلام لها خطرها في الهند، على الرغم من أنها قليلة العدد لا يكاد أفرادها يجاوزون الثلثمائة ألف هندي مسلم، إلا أن التماسهم أرقى وسائل التعاون وأجدى أسباب الارتباط قد أغناهم عما يراد بالكثرة من قوة وعتاد
والبهرا طائفة من طوائف الشيعة يطلق عليها في العربية اسم (الشيعة الداوودية) نسبة إلى رئيسها الأول، وقد كان باليمن ثم انتهى به العزم إلى الهند، فحط الرحال في صحبة من أتباعه بمدينة كجرات، على ساعات بالقطار من (بمبي)، منذ نيف ومائة سنة، وبمبي إذ ذاك في عالم الغيب
وإذا كانت جماعات الشيعة قد عرفت بأوضاعها الخاصة وتقاليدها المستقلة في الدين والاجتماع، فإن شيعة البهرا أو شيعة الداوودية قد عرفت في جماعات الشيعة نفسها بعقائد وتقاليد تدير حولها سياجاً يفصلها عن غيرها فصلاً تاماً؛ فهي تعتقد أن المهدي المنتظر سيكون من سلالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وتذهب إلى تخصيص فرع معين من فروع الدوحة النبوية، على أن المهدي سيكون من ثمره، أو على أن نبوة المهدي تكمن فيه، وهي إذ كانت لا تعرف موعد ظهور الرسول الجديد، لا تفتأ تنتظره دون تعجل ولا ملالة، وتتمثله في واحد من الأحياء الذين ينتظمهم هذا الفرع المعين، فإذا حان حينه فقد استخلف على رسالة المهدي وريثاً من أبنائه، وما تزال أمانة النبوة تتنقل في صندوقها المقفل من وريث إلى وريث، ومن عصر إلى عصر، حتى يتهيأ الزمن لاستقبال هذه النبوة الجديدة، وحتى يرى الله أن قد استفحل الضلال فلا مناص من إنقاذ الدنيا، فيأمر فإذا بصاحب الصندوق قد فتحه وأصاب فيه عدة النبوة وخاتمها، وإذ ذاك يظهر المهدي المنتظر. أما هذا الذي تكمن فيه نبوة المهدي، فيظل نكرة لا يعرف سره من الناس إلا الشيخ الأعلى لجماعة(105/30)
البهرا، يجتمع به كل ليلة في خلوة مهيئة بالمسجد الخاص، وما يزال هذا أمره حتى يقبل اليوم الذي يسفر فيه الناس
وشيخ البهرا هو همزة الوصل بين المهدي المنتظر وأتباعه، وهو مستودع سره ومثار نجواه، يستشيره ويستلهمه ويخرج بتعاليمه على الناس؛ وأما الطائفة فتنشر الدعوة إلى المهدي المنتظر، وتنشرها بأن تزين مبادئها للناس، وما تزال ماضية في مهمتها حثيثة السير حيناً ووئيدته حيناُ حتى يدخل المسلمون جميعاً في طائفة البهرا، يقدسون مذهبها، ولا يحيدون عن عقائدها
وشيخ البهرا في العالم هو اليوم مولانا طاهر سيف الدين، وهو الذي يقيم على جماعاتها في كل بلد توجد بها شيخاً من قبله يأتمرون بأمره وينتهون بنواهيه - وقد رأيت أول من رأيت من أولئك الشيوخ، في عدن، بعد أن علمت أنه من أجل أهل الإقليم مقاماً، ومن أرفعهم شأناً، فإذا رجل يحف به الوقار، ويتهلل وجهه الذي استتر نصفه خلف لحيته البيضاء، بالبشاشة والأنس، حديد البصر، أخضر الأحداق، أبيض اللون، نحيل الجسم بعض النحول، يستر رأسه بعمامة بيضاء ويبتسم عن سنين أو ثلاث في فمه، فقد بلغ بالستين مبلغ الشيوخ - ولعل أبرز ما في الشيخ لحيته الطويلة ولسانه لعربي المبين: أما لحيته فكأنها قطن منقى، يتفرق على صدره خصلاً رقيقة منفوشة، إن تكلم اهتزت أطرافها، واتبعت في اهتزازها حركات فمه، كأن بين لسانه ولحيته صلة من فضل ومن وقار. وكأنما عاهد الشيخ نفسه على ألا ينطق بغير العربية الفصحى، فما سمعه الناس متكلماً إلا بها، وقد حاسب نفسه على الضمة والفتحة حساباً عسيراً
ولقد كنت في جملة من دعاهم الشيخ إلى مأدبة عشاء أقامها في دار البهرا بعدن، وهي من أفخم دور المدينة وأكثرها أناقة، تجمع بين منزل الشيخ والمسجد الخاص الذي لا يصلي فيه غير البهرا، ولا تصح صلواتهم في سواه. والشرفة الفسيحة التي يستقبل الشيخ فيها زواره، تحف بها حجرات كثيرة أعدت لشؤون الطائفة، وقد بنيت هذه الدار على نفقة (البهريين) المقيمين في عدن، وعددهم لا يجاوز الألف، كلهم ملتحون
كانت الشرفة الرحيبة التي هيئت ليستقبل الشيخ فيها ضيفه مفروشة بالحصير، وفي صدرها صفت الوسائد إلى الجدار، واتكأ على أوسطها صاحب الدار، ويطلق عليه في(105/31)
أساليب (البهرا) اسم (الداعي) لأنه أحد هؤلاء الدعاة العديدين الذين يكل الشيخ الأكبر إلى نشاطهم البارع، وذكائهم الخلاب أمر الدعوة إلى اعتناق هذا المذهب من مذاهب الشيعة في جهات كثيرة من أنحاء العالم، فكان الرجل لا ينهض من مجلسه إلا ليستقبل المدعوين من غير جماعة (البهرا) بينما يقبل المدعوون من هذه الجماعة وفيهم من يدخلون في وجوه عدن وخير تجارها، فيقدمون على الشيخ وهو مستو في مجلسه، حتى إذا صار كل منهم قيد خطوة منه انحنى كانحناء المصلي، وكاد يلمس الأرض بيمينه، ثم رفعها إلى مفرقه، وتراجع إثر ذلك إلى مجلسه من المكان
وطفق الشيخ يتحدث إلى خاصة مدعويه وأقربهم إلى مجلسه، وهو لا يفتر عن رعاية المدعوين جميعاً، يقسم بينهم بشاشة محياه، ويلقي عليهم من نظرات عينيه أشعة تحمل في حرارتها معاني الشكر والترحيب والرعاية، وإنك لتنظر إلى هاتين العينين فتلمح في إشراقهما عواطف الحدب والرفق والإشفاق
اكتمل المدعوون عداً في أربعة صفوف طوال ثم دار اثنان أو ثلاثة من البهرا بأباريق الماء بين الصفوف يصبون منها على الأيدي، وفي إثرهم حملة المناشف، وفي دقائق معدودة غسلت الأيدي جميعاً، وتهيأ القوم لاستقبال الطعام. وما هي إلا برهة يسيرة حتى مد المتطوعون للعمل من أبناء الطائفة سُمطاً طويلة من قماش أبيض على أديم المكان، ثم صفوا فوقها أطباقاً رحيبة من الليف، وثبتوا على كل طبق قاعدة أسطوانية جوفاء ترفع أخونة الطعام
انتظم المدعوون حول الموائد، وكنت في مائدة الشيخ، فلم نلبث أن توسط خواننا إناء صغير من البلور فيه ملح مجروش يضرب إلى الاحمرار، ولقد ماثلت جميع الأخونة خواننا فيما عليه، ولم يعسر على أن أدرك أن لابد للتقاليد البهرية من يصيب فيما يحتوي عليه هذا الإناء، ولم أتبين أنه الملح، وحرك الفضول يدي فتناولت أصابعي حصوات منه، فلم تكد تبلغ فمي حتى أحسست كأنما مسني عقرب
وقال الشيخ في صوت جهير بعد البدء بسم الله الرحمن الرحيم، وهو يضع سبابة يمناه وإبهامها في الإناء: (ليكن الملح فاتحة طعامنا حتى يكون بيننا) فإذا الجمع كله يذوقه. . . وجيء بجفان الأرز فكانت تقلب في الخوان جفنة تلو جفنة حتى اكتظ على سعته، ثم(105/32)
حملت صحاف الأطعمة إلى الشيخ، فكان يتناولها ويضعها بين يديه تحت المائدة، ثم يتولى سكب ما فيها على الأرز واحدة بعد واحدة، بين برهة وبرهة، وهو لا يفتأ يذكر الله ويذكر باسمه كلما فعل، فأما حرصه على أن يضع الطعام بيديه بين أيدي الطاعمين فلعل سببه أن أبناء طائفته يلتمسون في ذلك خيراً وبركة. . . بل لقد خيل إلي أنني أجد ما يلتمسون كلما رأيت الشيخ يخرج مما بينه وبين المائدة صحافاً من الطعام كان يشغلني ما أنا فيه، وربما شغل غيري عن رؤيته وهو يتناولها من الخدم المتطوعين. . . وكأنما كانت بسملته المرتفعة الرهيبة التي تصاحب يديه كلما ارتفعتا وبينهما لون من ألوان الطعام في طريقه إلى الأرز، توحي إلى الناس أنه يستنبته مما بينه وبين المائدة، وكان الطاعمون جميعاً يتناولون الأرز بأصابعهم إلا من طلب الملعقة من خاصة الضيوف
وما إن فرغنا من الطعام حتى عاد الناس إلى مجالسهم صفوفاً وطيف عليهم بأباريق الماء فغسلوا أيديهم، ثم بالمناشف فجففوها، ومرت دقائق معدودة، ثم أقبل الخدم يمرون بين الصفوف ينثرون عليها ماء الورد، ويبدون بعده زجاجات من عطر عربي فياح، فتمتد الأيدي، وتنال كل كف حظها منه، وفي إثر هذا وذاك يمضي حملة البخور في طريقهم وهم يديرون أوانيها حول الرؤوس ثم يدخلونها تحت الأثواب، فيتصاعد بخار المسك والعود من فتحاتها. . . وثم شيء اسمه (التمْبُل) وهو ورقة شجرة هندية تعرف بهذا الاسم، تطوى على مزيج من توابل مرة المذاق جميلة الرائحة، يقال إن بينها نوعاً مخدراً، يمر بهذا التمْبُل بين الصفوف رجال من البهرا، فيحبون كل مدعو بواحدة إلا من رفض، فما إن يطبق المرء عليها فكيه حتى تروعه منها مرارة بالغة، ولقد روعتني أكثر مما روعتني ملوحة الملح، فتلفت أبحث عن وسيلة للخلاص منها، ولما لم أجد حثثت أسناني على مضغها حتى أستطيع ازدرادها، وإن هي إلا دقيقة أو بعضها حتى خفت وطأتها على لساني، وما فتئت تخف حتى زالت، وهي تزدرد بعد ذلك فتتعطر بها روائح الأفواه، وتطيب أنفاسها. وغادرنا دار الشيخ وفي أثوابنا شذى المسك، والعود، وفي وجوهنا عبير ماء الورد، وفي أكفنا نفح الطيب، بل وفي أفواهنا أريج القرنفل. . . فكأنما لمسنا نسيماً رفيفاً من نسائم الجنة، يمضي في طريقه فيهمس في آذان أهل الأرض بما ينقله عن أهل السماء(105/33)
ولقد كان لي مع الشيخ بعد ذلك في مجالس أخر حوار لعله لم يسغه، ولم يقبل على الاشتراك فيه راضياً؛ فقد كنت أتبين رغبته عنه في صعوبة خلال أدبه الجم. . . ولكن طالب العلم من السفر حريص على أن يطل بعقله على كل ما عسى أن تراه عيناه
القاهرة
محمد نزيه(105/34)
من ذكريات مصر
ساعات مع الكاظمي
للأستاذ كمال إبراهيم
مات الكاظمي! فطويت بموته للعبقرية صفحة زاهرة، كانت سامية المثال، علوية الروح، عراقية النشأة؛ نمت نبتتها متسقة الأصول على دجلة المبارك، وعلت دوحتها مبسوطة الأفانين على ضفاف النيل السعيد؛ وما زالت تصوب إلى السماء صعداً حتى اجتاحها للمنية إعصار شديد، فجالدها أعواماً، وغالبها أياماً، حتى هوى بها من باسق الذرى إلى الأرض، حيث النهاية التي لا تراغم، والقدر غير المدفوع
مات الكاظمي! فسكت لسان عربي مبين، كان فخر لغة الضاد، وحادي الأبناء إلى المجد، وباعث العزائم في الخطوب السود؛ وكان لسان العروبة الناطق بحقها في حياتها، ومخذمها المذرب عند الخصام، فكم ذاد عن الحسب الكريم، ونافح عن الحق الهضيم، وتغنى بالمجد القديم، يوم لم نكن نجد في هذه الأمة إلا الخافر لذمتها، والمنتهك لحرمتها، والكافر بنعمتها، والمظاهر لأعدائها عليها
وا لهفتا على العروبة الهضيمة! لقد أخرس الردى شاعرها الصيداح، فاشتملت بالأسى أباطح الحجاز، وصوحت أزاهير اليمن الخصراء، وحالت ربى حائل والرياض، وجلل السواد سواد العراق، وفاضت عيون النيل، وجرت باكية معولة عيون الشام ومحاجر لبنان، ترجع أنغامها الحزينة بنات الهديل بين لفائف الأغصان. .
كان الشعر العربي قد بلغ من الإسفاف الحضيض، فعدت به عن مجاراة الحياة أثقال تلك الصناعة الممقوتة التي حملها إياه شعراء الفترة المظلمة، وضيقت عليه الخناق تلك القيود المحكمة من زخارف اللفظ وبهارج البديع وأفانين الصناعة، حتى أخرجته عن طبيعته، وزاغت به عن سمته، فجاء متكلفاً نابياُ، وغثاً بالياً وجامداً بغير روح، لولا ذماء ضعيف يشعر ببقية الحياة. كان الشعر كذلك، وكانت البيئة الأدبية في العراق متأثرة كل التأثر بشعر (الأخرس، وصالح التميمي، والشاوي، والحبوبي، وأضرابهم) حتى أتاح القدر للشعر من نفخ فيه من روحه؛ فأطلقه من عقاله، وأنهضه من كبوته، وسما به صعداً إلى السماء يرف بجناحين من نور، بعد أن كاد يحثى عليه التراب في حفير مظلم عميق، وكفى(105/35)
الكاظمي سبقاً أنه بذ المتأخرين ومعظم المتقدمين في ارتجال الشعر من غير كلفة في أي غرض، تستقيد له شوارد القوافي بديهة حاضرة، وذاكرة نادرة، وحافظة وعيت من شعر الأولين عيونه، وما أجدر شاعرنا أن يكون لسان حاله ما قال (ابن هانئ الأندلسي) عن نفسه:
ما ضرني إن لم أجئ متقدماً ... السبق يعرف آخر المضمار
وإذا اغتدى ربع البلاغة بلقعاُ ... فلرب كنز في أساس جدار
وكما كان الكاظمي السابق في حلبة البيان، كان كذلك علو كعب في ميدان الجهاد والإصلاح. عرفت منه هذه النزعة وهو طرير لم يكتهل، وغرير لم يعجم حوادث الزمان، فكان صوته في الإصلاح يرن في مجتمعات بغداد، ولكنه كان قليل العائدة، حتى قدم الزوراء إذ ذاك رجل الإصلاح المشهور (الشيخ جمال الدين الأفغاني) فوجد شاعرنا فيه ضالته، فكان من أشياعه، فضاقت عليه البلاد بما رحبت، وقذفت به نوى شطون، شرق فيها وغرب، حتى احتضنته (مصر)؛ فألقى بها عصاه
وبوادي النيل الجميل حيث القوة تصارع الحق، والظلم يناهض العدل، والحرية تنتحب، يأبى الكاظمي إلا الصدع بالحق، فيقارع الاستعمار، ويتغنى بالحرية، ويشيد بمجد العرب الضائع، حافزاً للأبناء على استرداد ذلك المجد؛ وخلصت له في مصر صفوة ممتازة من أعلام البيان وقادة الفكر وزعماء الأمة، عرفوا له فضله، فصدقوه الولاء، وأحلوه السويداء. واستوثقت الصلات بينه وبين (الوفد المصري) فكانا لساناً من ألسنته مشرعاً لا ضد حزب من الأحزاب، ولكن ضد سياسة الاستعمار فحسب. . .
عرفت الشيخ الكاظمي أول هبوطي مصر (عام 1929) فكنت أسأل عنه من أتعرف إليهم، حتى أرشدني (محرر بالأهرام) إلى داره في (مصر الجديدة) فذهبت إليه في لمة من الإخوان، جئنا إليه من بلده، ومسقط رأسه. فما كان أشد ابتهاجه بنا، وطربه بمقدمنا، لقد استعاد بتلك الزيارة ذكريات ماضيه حلوة في العراق. فكان رحمه الله يحدثنا عن أيامه تلك بشوق وإقبال ليس فوقهما مزيد
وقد كانت داره مصاقبة لدار أستاذنا المرحوم (الشيخ عبد المطلب) وكانت بينهما صلة وثيقة، وصداقة قل أن تعرف بين الأصدقاء، فكنت أقصد (مصر الجديدة) في الغالب لزيارة(105/36)
الشيخين وتجديد العهد بهما؛ فأقضي ساعات هي أمتع ما تكون للنفس، وأشهى ما يلذ للعقل، ويقرأ عليّ شاعرنا ما استجد له من شعر
ما أنس لا أنس تلك الأيام السعيدة التي كنت أخرج فيها مولياً وجهي شطر (هليوبوليس) يحدوني الشوق إلى تلك العبقرية الفياضة، والصفحة النادرة، والشخصية الفذة، فأجلس إلى الشاعر، أتلقف من حكمته، والتقط من درر فوائده وجواهر فرائده، وشاعرنا محدث كما هو شاعر، يهدر كالسيل إن أفاض في الحديث، يصله ببعضه، ويزن مجلسه بطرائف الأخبار، وروائع الحكم، وأوابد الملح والمفاكهات؛ فلا تكاد تسأم له لهجة، ولا تمل منه لغة. وكان - رحمه الله - حريصاً على أن يكشف لنا عن صفحات القضية العربية في عهدها الأخير ويجردها بغير طلاء، ويجلو لنا حقائق التاريخ ناصعة غير مموهة، ويبعث فينا من روحه لمواصلة العمل والجهاد. . .
لقد كان شاعرنا ذخراً لأمته، ولكنه كان مضاعاً تنكر له وطنه الأول كما تنكر له دهره، وظل وفياً لهذا الوطن يلاحي عنه بمهجته، على حين لم يجد منه طوال حياته غير الجفاء ونكران الجميل، ظل وفياً له حتى قضى نحبه. فلما قضى نحبه جئنا بعده نذرف الدمع عليه نادمين. . .
فاذهب كما ذهب الوفاء فإنه ... عصفت به ريحاً صبا ودبور
(بغداد)
كمال إبراهيم
خريج دار العلوم(105/37)
دراسات في الأدب الإنجليزي
المذهب الواقعي وفن الدرامة
بقلم محمد رشاد رشدي
في المسرح الأغريقي:
أول ما يتبادر إلى ذهن الباحث في هذا الموضوع أن ينقب عن الواقعية في عناصر الدرامة الثلاثة: في الموضوع والأشخاص والأسلوب. غير أن نسبة الواقعية في كل من هذه الأجزاء قد تختلف نظرياً - أي فيما يكتبه نقاد العصر عن الفن المسرحي - عما يباشر عملياً فوق مسرح العصر. ولذلك رأينا من الأوفق في معالجة هذا الموضوع أن نلقي نظرة سريعة على النقد المسرحي نتبعها بمطابقة هذا النقد للمسرح نفسه. والناقد الوحيد الذي نستطيع الاعتماد عليه في حديثنا عن المسرح الإغريقي هو أرسطو. .
كتب (أرسطو) في رسالته عن الشعر يتحدث عن الواقعية في الموضوع قال: (يتضح مما سبق أن مهمة الشاعر هي أن يصف - لا الشيء الذي حدث - بل الشيء الذي من المحتمل وقوعه - أي مال قد يكون ممكناً أو ضرورياً). وعلى هذا فوحدة الموضوع إنما تنشأ من مبادئ الواقعية الأساسية؛ فحوادث القصة يجب أن يتصل بعضها ببعض اتصالاً ممكناً أو ضرورياً تحتمه ظروف القصة نفسها وجوها الخاص بها. وكتب هذا الناقد عن أسلوب القصة المسرحية، قال: (يمكننا الآن أن نرى أن على الكاتب أن يخفي نفسه حتى يستطيع أن يتحدث طبيعياً لا صناعياً). ومن الجدير بالذكر هنا أن الأثر الذي يحدثه أسلوب (شكسبير) على المسرح لا يختلف واقعياً عن الأثر الذي يحدثه أسلوب (أوسكار وايلد) - أو (كونجريف) أو (شريدان) أو (برنادشو). أما عن شخصيات الدرامة فقد قال أرسطو: (من البدهي أن أشخاص القصة إما أن يكونوا أشخاصاً صالحين أو طالحين - ويتبع هذا أن بطل القصة إما أن يكون فوق مستوانا الخلقي والاجتماعي، أو تحت هذا المستوى - أو في نفس المستوى ومثلنا تماماً - غير أن من يتأمل الدراسة الإغريقية لا يجد فيها متسعاً لهذا الصنف الثالث من الشخصيات التي هي في مستوانا ومثلنا تماماً - على أن ذلك لا يمنع أن يكون للدرامة الإغريقية الحظ الأوفر من الواقعية، وان تكون بعيدة(105/38)
بعداً شاسعاً عن كل ما هو رمزي أو مثالي. وقد يبدو هذا مخالفاً للمألوف - غريباً - غير أننا سنحاول بسطه وتفصيله
(فالتراجيدية) الإغريقية تعالج في مجموعها ماضي الإغريق واساطيرهم؛ وهي لذلك يمكن أن تعد في القصة التاريخية - ويتضح قولنا هذا أن استطعنا تصور جماعة المتفرجين في مسرح أثينا، عند ازدهار الدرامة وانتشارها. فقد كان هؤلاء القوم على قسط من البداوة يسمح لهم بان يعدوا كل ما نظمه الشعراء من قصص الآلهة وأنصاف الآلهة تاريخاً قومياً لبلدهم وشعبهم؛ وان ما نراه نحن اليوم غريباً خرافياً في شعر أولئك الشعراء مثل ظهور الآلهة على المسرح، أو انبعاث الأشباح من قبورها، لم يكن هكذا غريباً أو خرافياً عند الإغريق الأوائل، بل كانت حقيقة تروى وتاريخاً يقص - نسبة إلى دينهم وحياتهم وقوة خيالهم الطفل - أما أن الدرامة التاريخية هي اقرب أنواع هذا الفن إلى الواقع والحياة فهذا مما لا ريب فيه - وقد كتب الناقد الإنجليزي (كولريدج) يقول (لأجل أن تكون الدراسة حقيقة تاريخية يجب أن يعالج موضوعها تاريخ القوم الذين تمثل لهم وتقص عليهم، - ونحن إذا أنعمنا النظر قليلاً وجدنا أن من الصعب أو من المستحيل أن تنشأ لشعب عاطفة وطنية ما لم يكن هذا الشعب على علم - ولو خاطئاً - بتاريخه وتاريخ بله - ومن هذا ينتج أنه في الدرامة التاريخية تكون العلاقة بين حوادث القصة على المسرح وبين المتفرج على مقعده قوية متصلة أقوى منها في أي نوع آخر من الأدب المسرحي. ومن المشاهد أن الكاتب المسرحي يتوخى ذكر هزائم التاريخ وسقطات الأبطال وفشلهم، فان هو ذكرها فإنما يذكرها معكوسة فلا توحي إلى نفس المتفرج يائساً ولا خيبة، ولكن تشعلها حماسة ووطنية، وإنا لنذكر حظ الشاعر الأثيني البائس الذي بنى قصته على فشل (أثينا) البحري في حربها مع (إسبرطة)، فكانت النتيجة أن الزمه قومه بدفع قسط من المال كبير عقاباً له وتأديباً وظهاراً لاحتجاجهم وسخطهم. فخلال هذا الشعور الذي تتاجج به نفس المشاهد، وخلال إحساسه بوحدة بلده وقوميته واتصال ماضيه بحاضره تقوي حوادث القصة التاريخية على المسرح إحساسه هو بنفسه وكيانه كما يقوي وجوده هو حقيقة القصة وصحتها ولونها الواقعي. ومهما يكن في المسرحية التاريخية من شذوذ أو بعد عن الإمكانية فان لونها الواقعي يظل أقوى الألوان جميعاً مادام التاريخ يكسوها ويظللها بظله(105/39)
غير أن هناك مأخذاً واحداً، هو أن أبطال تلك المسرحية هم دائماً أبداً فوق المستوى الاجتماعي العادي
الدرامة الرومانية:
لم تتقدم (التراجيدية) عند الرومان عما كانت عليه عند أسلافهم الإغريق - إن لم تكن قد انحطت وضعفت؛ أما في (الكوميدية) فقد كتب الناقد اللاتيني (دوناتس) ما يدهش له أقطاب المذهب الواقعي الحديث، قال: (الكوميدى هي مرآة الحياة البشرية) - وهو يذكر في موضع آخر أن (الكوميدية) تصف أشخاصاً معينين تتكون حياتهم من حوادث بسيطة عادية، في حين أن (التراجيدية) تختار لمسرحها قاعات الملوك الذين تتكون حياتهم من حوادث جسام ذات أثر خطير. وقد أصبحت مطابقة (الكوميدية) الرومانية للحياة والواقع أمراً مشهوراً عند كل من قرأها، فأسلوب كاتبيها (ترنس) و (بلوتس) هو أقرب أساليب الآداب القديمة إلى اللغة اليومية، كما أن جل أبطالها هم من الطبقة الوسطى، وحوادثها بسيطة عادية قد تقع كثيراً للقارئ أو للمشاهد في حياته الخاصة
إلى هذا الحد كانت (الكوميدية) الرومانية تطابق الواقع، غير أنا نشاهد فيها اتجاهاً غريباً يتنافى مع صبغتها الواقعية - وأعني به (تصنيف الشخصيات) - وينحو هذا الاتجاه نحو اختيار مثل خاص لكل شخصية من الشخصيات. فللابن مثل خاص معروف به لدى كل كتاب المسرح ورواده - كذلك لكل من العبد والأب والعاهر وكل شخصية يتكون منها المسرح مثل خاص؛ فلكل منهم أحاديث خاصة، وملابس خاصة، وصفات خاصة يعترف بها الجميع، حتى أن لونهم الإنساني وصبغتهم الواقعية تكاد تكون معدومة على المسرح
الدرامة الإنجليزية في عصر شكسبير:
ازدهرت الدرامة في هذا العصر بأنواعها الثلاثة: التاريخية والبيتية والشعرية أو الغرامية. أما النوع الأول فقد سبق أن تحدثنا عنه وسنتحدث الآن عن اللون الواقعي في كل من النوعين الآخرين
يحسب الكثير من الناس أن الشعر يتعارض مع الحياة والواقع، وأن القصة الشعرية يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الحياة، وخالية كل الخلو من اللون الواقعي؛ غير أن هذا الظن(105/40)
- في رأيي - خاطئ كل الخطأ
وإن أوضح تعريف للشعر أن نقول أنه ترتيب تجارب الشاعر في الحياة ترتيباً خيالياً عكس كل ترتيب لآخر فكري أو فلسفي. والشعر على العموم يأخذ شكلاً من تعبيرين: فهو إما أن يأخذ شكل الأسطورة، أو شكل المجاز والصورة، أو شكل الأسطورة والمجاز معاً. فشعر (ملتون) مثلاً يأخذ شكل الأسطورة، وشعر (دن) يأخذ شكل المجاز والصورة. أما في مسرحيات (شكسبير) العظمى فالشعر في القصة نفسها - في الموضوع - قبل أن يكون في الكلام والصورة - ونحن إن قصرنا الشعر على الكلام والألفاظ وجردنا منه موضوع القصة فاخترناه موضوعاً نثرياً مما قد يقع كل ساعة وكل يوم كان الأثر الذي لابد أن تحدثه القصة أثراً ضعيفاً بعيداً عن الواقع والحقيقة؛ وليس معنى الواقعية أن تكون القصة خالية من الشعر، فوجود الشعر لا يمنع وجود هذا اللون، بل هو يقوه ويزيده نضرة ووضوحاً؛ ويكفي أن يفكر المشاهد في نفسه أنه لو حدث له مثل ما يرى في القصة أمامه، ولو كانت له من الصفات مثل ما للبطل نفسه فسيحدث الحادث بنفس الطريقة، ومثلما حدث للبطل تماماً. . .
وقد يعترض البعض بأن اللغة الشعرية تجرد الكلام من لونه الواقعي - ولكن من منا قد دهش لروميو يتحدث شعراً، أو (لهاملت) يناجي نفسه ويحدثها حديثاً؛ لو أن (شكسبير) صاغه صياغة غير الشعر لجاء باهتاً، وضعيفاً، لا يؤدي معنى، ولا يحمل صورة. وإن من يقرأ قصة شكسبير (أنطونيو وكيلوباتره) ثم يقرأ بعدها قصة شو (قيصر وكليوباترة)، والأولى شعر والثانية نثر - ليرى إلى أي حد استطاع شكسبير أن يكسو القصة بشعره لوناً واقعياُ قوياً، في حين أنه لا يتمالك نفسه من الضحك أو ذوقه من النفور عندما يسمع (كليوباتره) تودع قيصر قائلة: ,
فلأجل أن يكون الشاعر واقعياً يجب أن يكون الشعر في عناصر قصته الثلاثة: في موضوعها وأبطالها وأسلوبها؛ وإن من يتأمل (شكسبير) من كل نواحيه يتضح له أن الشاعر الكبير كان إمام الواقعيين وسيدهم، فهو يسمعك شعراً ولكنه شعر يصف الحياة أدق وصف - حياة الجسم وحياة الروح - وأنت تحس وأنت تقرأه أن (ياجو) ما كان ليستطيع أن يقول غير ما قاله، أو يفعل (هملت) غير ما فعله(105/41)
ولقد قرأت قصة (مكبث) مراراً، فكنت في كل مرة أقف مبهوتاً أمام هذه السطور يحادث بها (مكبث) نفسه بعد أن منته الساحرات أمانيهن الخلابة، فأصبح في حيرة من أمره وأضحى خياله ملتهباً، وعقله مشتتاً:
(المخاوف الحاضرة أقل عناء من التخيلات الواسعة البعيدة، وإن عقلي الذي لم يقتل بعد كل القتل - يعصف هكذا بكياني كله - حتى لقد قبر الفكر في الحلم والتخيل، ولم يبق كائناً أمامي غير كل ما هو ليس بكائن). أقول إن شاعراً غير (شكسبير) ما كان يستطيع أن يعطينا وصفاً أدق من هذا، وأكثر مطابقة للواقع والحقيقة، لو استطعنا تأمل حالة (مكبث) الذهنية وهو يلفظ تلك الكلمات - و (شكسبير) دائم الجهد في أن يصبغ قصصه باللون الواقعي، فتراه في أعظم قصصه (التراجيدية) يدخل فصولاً وأشخاصاً مضحكة خفيفة، تقرب ما بين جو القصة وبين جو الحياة العادية - والأثر الواقعي الذي ينشأ من هذا لا ينتج من أن المضحك والمبكي يسيران جنباً إلى جنب في حياتنا، بل لأن اللون الواقعي في الشخصية المضحكة أشد وأظهر منه في شخصيات (التراجيدية)
فالشخصية المضحكة هي في الغالب تحت مستوانا الاجتماعي، ولذلك نميل نحن إلى تصديق صحتها والاعتقاد بوجودها أكثر من ميلنا إلى الاعتقاد بوجود شخصية أو شخصيات فوق مستوانا؛ ومن هذا كان (شكسبير) يستخدم أهل الطبقة الدنيا ليصبغ الكثير من قصصه بلون واقعي؛ خذ مثلاً شخصيتي حافري القبور في (هملت)، والبستاني في (ريبشارد الثاني)، وجماعة الممثلين القرويين في (حلم منتصف ليلة صيف)، وظهور شخصية (فالستاف) الفكهة بعد كل من المعركتين في (هنري الرابع)، وظهور شخصية المهرج (النول) في منظر العاصفة في (الملك لير)؛ والأمثلة غير هذه كثيرة، كما أن (شكسبير) لا ينهي رواية بنهاية حوادث القصة الأساسية، بل يعرض عليك فصلاً، وربما عرض فصولاً لا قيمة لها في القصة، غير أنها تكسبها لوناً واقعياً يدلك على أن الحياة ما زالت كما هي بعد موت بطل الرواية أو بطلتها
محمد رشاد رشدي
بكالوريوس بامتياز في الأدب الإنجليزي(105/42)
محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قال: الحكاية يا صديقي هي كما يأتي: فأولاً إذا نظرت إلى الأرض من أعلى رايتها تشبه إحدى هذه الكور التي تكسوها أغشية من الجلد في اثنتي عشر قطعة، وهي مختلفة الألوان، فليس ما يصوره المصورون في هذه الدنيا من الألوان إلا مثال منها، أما هنالك فالأرض كلها مصبوغة بها، وهي اشد لمعاناً ونصاعة من ألواننا، فثم أرجواني عجيب الرونق، وثم ذهب يتألق، والأبيض في أرضها انصح من كل ثلج أو طباشير. تلك الأرض مصبوغة بهذه الألوان وغيرها، وهي اكثر عدداً وأروع جمالاً مما وقعت عليه عين الإنسان، والفجوات نفسها (التي كنت أتحدث عنها) يغمرها الهواء والماء، فتراها كالضوء الوامض بين سائر الألوان، ولها لون خاص بها يخلع على تباين ما في الأرض نوعا من التآلف، وكل شيء مما ينمو في هذه المنطقة الجميلة - أشجار وأزهار وفاكهة - اجمل - بنفس الدرجة - من إضرابه هنا؛ وثم تلال، صخورها اشد صقلاً، واكثر شفافية، واجمل لوناً - بنفس الدرجة - مما نغلو بقدره عندنا من زمرد وعقيق ويصب وسائر الجواهر التي أن هي إلا نثرات منها ضئيلة، فالأحجار كلها هنالك كأحجارنا الكريمة، بل أروع منها جمالاً؛ وعلة ذلك إنها نقية، وإنها لم تفسدها ولم تبرها العناصر الملحة الفاسدة، كما فعلت بأحجارنا الكريمة، تلك العناصر التي خثرت عندنا فتولد منها الدنس والمرض في التراب وفي الصخور على السواء، كما تولدا في الحيوان والنبات، تلك هي جواهر الأرض العليا، وفيها كذلك يسطع الذهب والفضة وما اليهما، وليست تلك الجواهر بخافية عن العين وهي كبيرة وكثيرة، وتوجد في مناطق الأرض جميعاً، فطوبى لمن يراها. ويعيش فوق الأرض ناس وحيوان، منهم من يستوطن إقليما داخلياً، ومنهم من يسكن حول الهواء، كما نسكن نحن حول البحر، ومنهم من يعيش في بلد يتاخم القارة، ويهب حوله الهواء. وجملة الأقول انهم يستخدمون الهواء كما نستخدم نحن الماء والبحر، وللأثير عندهم ما للهواء عندنا؛ هذا(105/44)
وحرارة فصولهم هي بحيث لا يعرفون معها مرضاً، فيعمرون أطول بكثير مما نعمر نحن، ولهم بصر وسمع وشم، وسائر الحواس كلها، وهي ابعد كمالاً من حواسنا بنفس الدرجة التي بها الهواء أنقى من الماء، أو الأثير أصفى من الهواء. كذلك لهم معابد وأماكن مقدسة فيها يقيم الإلهة حقاً، فهم يسمعون أصواتهم ويتلقون إجاباتهم، وهو يشعرون بهم ويديرون بينهم وبين أنفسهم أطراف الحديث، وهم يرون الشمس والقمر والنجوم كما هي في حقيقة امرها، وعلى هذا النحو كل ما هم فيه من أسباب النعيم
تلك هي طبيعة الأرض كلها، وما حول الأرض من أشياء وفي الفجوات التي على ظهر الأرض أصقاع متباينة، بعضها اعمق وأوسع من فجوتنا التي نقيم فيها، وأخرى اعمق وأضيق فوهة منها، وبعضا أوسع واقل عمقاً، وتربطها جميعاً بعضها ببعض ثقوب عدة وممرات عريضة وضيقة في باطن الأرض. وهنالك يتدفق فيها ومنها - كما يتدفق في الأحواض - تيار عظيم من الماء، وثم مجار ضخمة لانهار تحت الأرض لا ينقطع جريانها، وينابيع حارة وباردة، ونار عظيمة، وانهار كبيرة من النار، ومجار من طين سائل، منها الرفيع والسميك (كأنهار الطين في صقلية وما يتبعها من مجاري الحمم) فتغمر المناطق التي تتدفق حولها. وهنالك في باطن الأرض نوع من الذبذبة يحرك هذا كله إلى أعلى والى اسفل، والحركة الآن في هذا الاتجاه: وبين الفجوات هوة هي أوسعها جميعا، تنفذ خلال الأرض كلها، وهي التي وصفها هوميروس بهذه الكلمات:
(أن أغور تحت الأرض جد سحيق)
وقد أطلق عليها في مواضع أخرى اسم جهنم، وكذلك فعل كثير غيره من الشعراء. وسبب الذبذبة هو تلك الأنهر التي تتدفق في هذه الهوة ومنها، ولكل منها طبيعة التربة التي تجري فيها، وإنما كانت تلك الأنهار دائمة التدفق دخولاً في الهوة وخروجاً منها لان عنصر الماء ليس له قاع ولا مستقر، وهو يعج ويهتز صعوداً وهبوطاً، وهكذا تفعل الريح والهواء المحيطان به، إذ هما يتبعان الماء في صعوده وهبوطه وفي اندفاعاته فوق الأرض هنا وهناك، مثل ذلك مثل الشهيق والزفير لا ينقطعان حين نتنفس الهواء، وباهتزاز الهواء تبعاً للماء دخولاً وخروجاً نشأت عنها العواصف المروعة القاصفة: فإذا ما تراجعت المياه مندفعة إلى الأجزاء السفلى من الأرض - كما تسمى - انسكبت في تلك المناطق خلال(105/45)
الأرض وغمرتها، كما يحدث إذا تحركت مضخة الماء الحركة الثانية، فإذا ما خلفت تلك المناطق وراءها وكرت إلى هنا مندفعة، فأنها تملأ ما هنا من فجوات مرة أخرى، حتى إذا امتلأت هذه، فاضت تحت الأرض في قنوات لتلتمس سبيلها إلى أمكنتها العديدة؛ فتكون بذلك البحار والبحيرات والأنهار والينابيع، ومن ثم تفور في الأرض ثانية، فيدور بعضها دورة طويلة في أراض فسيحة، ويذهب بعضها إلى أمكنة قليلة وإلى المواضع القريبة، ثم تهبط مرة أخرى إلى جهنم، فيبلغ بعضها حداً دون ما كان ارتفع إليه بمقدار كبير، ولا يهبط بعضها الأخر دون ذلك الحد هبوطاً كثيراً، لكنها جميعاً تكون أوطأ من نقطة الانبثاق إلى حد ما، ثم ينهمر بعضها ثانياً في الجانب المقابل، وينهمر بعضها الأخر في الجانب نفسه، ويدور بعضه حول الأرض في ثنية واحدة أو في عدة ثنايا تشبه حنايا الثعبان، وتنزل ما استطاعت النزول، ولكنها دائماً تعود فتصب في البحيرة، إما الأنهار التي على كلا الجانبين فلا تستطيع النزول إلى ابعد من المركز، لان في الجانب المقابل لهذه الأنهار هاوية
(يتبع)
زكي نجيب محمود(105/46)
على دار النيابة
للأستاذ فخري أبو السعود
يا دارُ قد عبثتْ بكِ الأقدارُ ... وبغى عليك المعشرَ الأشرار
عُطِّلْتِ في رَيْع الشباب وصُدَّ عن ... ناديك ظلماً رهطك الأبرار
وخَلَوْتِ حتى صرتِ ربعاً موحشاً ... يُشجي النفوسَ حِيَالة التذكار
لم يبقَ منكِ - وَلمْ يَطُلْ بِكِ عَهْدُنا - ... يا دارُ إلاَّ الرَّسْمُ والإخبار
غاضتْ بشاشَةُ صفحتَيكِ وإن تكُنْ ... حفَّتْ بكِ الأغصانُ والأزهار
وعَلَتْ لِوَاَءكَ ذلةُ وكآبة ... ولغَيْرِهِ التبجيلُ والإكبار
مهجورة في مواطنٍ عَمَرتْ به ... للظالمين الآثمين ديار
وُئِدَتْ بِكِ الآمالُ في إبَّانها ... وخبا ضياءٌ للهُدى ومَنَار
ما كان يبَغيكِ اللئَامُ بِريبةٍ ... لو صَدَّ عنكِ الجحفل الجرَّار
للهِ رهطُ فيكِ أمْسِ تَجَمعَّوا ... تَرْضى الكنانُة سَعْيَهم، أَخْيارُ
من كلِّ عال النفس أرْوَعَ مالَهُ ... في الدَّهر إلاَّ مَجْدَ مِصْرَ شِعَارُ
لا يَطَّبيهِ زَيْفُ جاهٍ كاذبٍ ... كلا ولا يغتَّرُّهُ الدينار
خُلصَاءُ مِصْرَ هُمُ وَصَفْوَةُ آلها ... والأوفياءُ لِعهدِها الأحرار
فَخَرتْ بِهِمْ مصرٌ وعَزَّتْ في الورى ... وبمثلهم تتفاخر الأقطار
رهطٌ من الصِّيِد الكرام إمامهم ... سعدُ الرئيسُ القائِدْ المغوار
كم رَنَّ في ناديكِ عالي صوته ... بالحقِّ يَستخِذى له الفُجَّار
ما كان أفْخَمَ ذاك مظهَر سُؤْدُدٍ ... لَوْ دَامَ منه سُؤْدٌدٌ وفخار
غيظَ العداةُ له وكادوا كيدهم ... حتى عَلاَكِ الوهن والإِقْفَار
سَدُّوا الطريق إليك أو بعثوا بمن ... لا تترضي مصرٌ ولا تختار
يا دارُ أنت رجاءُ مصرَ وفي سوى ... ناديكِ ليستْ تُبْلَغُ الأوْطار
لن يستقيم لآل مصرَ بناؤُهم ... يوماً ورُكنُكِ بينهم مُنْهار
مادام ربعُك موحشاً قفراً فلن ... يَلْتاَمَ شَمْلٌ أو يعَّز ذمار
يَبقى بغيركِ أَمْرُهم فوضى به ... يلهو اللئاَمُ ويعبث الأغرار(105/47)
لو يعلمون سَعَوْا إليكِ ومَّسحُوا ... إما سَعَى للكعبة الزُّوَّار
حتى يعودَ الحقُّ فيكِ لِحِضْنِهِ ... وَيَعِزَّ فيكِ ذمارُهم يا دار
فخري أبو السعود(105/48)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
13 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
ونظرة واحدة إلى المواد التي شاء أن يلم بها ترينا ما بدل صاحبها من قلبه وعقله في التحليل والاستقراء، معالجاً الأدب اليوناني وتاريخ اليونانية القديمة، والفصاحة اليونانية وتاريخ الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون. وبعض نظرات عميقة ينفذ بها إلى بعض فلاسفة أو شعراء. وقد قدر بنفسه أنه منجز خلال سبعة أعوام أو ثمانية درس كل ما يتعلق ببراعة اليونان. واقدم على المفادة بعشر سنوات من عمره ليكمل درس المسألة اليونانية من جميع وجوهها، ولكن - ويا للأسف - ظلت هذه الأفكار صوراً مقتضبة ومقاطيع صغيرة غير كاملة. لان صحته المختلة حالت بينه وبين تقديم ما ينبغي له لمثل هذا الامر، فانثنى عن عمله هذا، ولكن الصور التي تركها تكاد لا تخفى عنا الفكرة العامة التي أراد نيتشه أن يصورها وينشرها
يعتقد نيتشه بما اعتقد به معلمه (شوبنهاور) بان جوهر الوجود هو الإرادة، وهذه الإرادة واحدة عند كل الكائنات، وهي تتجلى بثباتها وقوتها في جثمان الخليفة؛ على أن هذه الإرادة هي شقية تفتقر إلى الرحمة لأنها تثابر على الجهاد والمقاومة في هذا الوجود، وهي موقنة عالمة أن نتيجة المعركة عليها لا لها. (وهل الحياة إلا أن تريد شيئاً بدون سبب، وان تتألم دائماً، ثم لا ينتهي الألم إلا بالموت. . . وهكذا تقابل الحياة الأحياء حتى يتفطر الكون ويعمر فساده). أن الوجود في نظر العقل غير كامل، لان نواقصه كثيرة، وعنصر الألم فيه غالب على السعادة والراحة، وبهذا يقضى على العقل أن يطوي الإرادة على نفسها ويسحقها من وجوده، وإذا أنعدمت الإرادة أنعدم الوجود نفسه، لان الوجود ما هو إلا الإرادة الفعالة، ولكن نيتشه لا يذهب إلى هذه النتيجة التي أدركها (شوبن هاور). فالوجود الذي لا يكمل في نظر العقل - عند (شوبنهاور) - فانه يكمل كأثر فني يحمل إلى صاحبه الغبطة الفنية. وفي مثل هذا الافتراض الذي يفترضه نيتشه يرى من واجب كل إنسان أن يستنفد(105/49)
وسعه ويبذل جهده في امتلاك نصيبه من هذا الجمال، باحتوائه على ما في نفسه من معنى الجمال، وبتأمله للوجود ولنفسه بعين الجمال
أننا في ساعة الإبداع الفني نشعر بغبطة لا تحد ولا تحس إذ هي غبطة المبدع. وإذا كان الإنسان في هذه الحياة فرداً قائماً بذاته، يحيا في عالم المادة، فهو فنان بطبيعة خياله المبدع الوثاب. يستطيع أن يبدع إبداع من يخلق ويصور - أن كان فناناً مبدعاً، ويقدر أن يكون مبدعاً في تفكيره في الأثر الفني الذي يبعث في نفسه خياله الباطني، لأنه يشاطر المبدع فنه ويتحد معه في تحليقه. وهو في كلتا الحالتين متخيل صوراً وألوانا جديدة تبعث فيه الغبطة الفنية، ولا يضر هذه الصور أن تكون أخيلة أو أحلاماً، لان أجزاءها مقتبسة من الوجود، ولا ينبغي لهذه الصور أن تكون صوراً ضاحكة تملأ الجو افراحاً، فقد تكون صوراً تملأ الأفئدة ذعراً والنفوس شقاء، وتكون بعد ذلك كله جميلة. . .
هذه الخاصة العاملة على إبداع الصور والأوهام، وتغليب الناحية الخيالية على الناحية الحقيقية يدعوها نيتشه (الخاصة الأبولونية: نسبة إلى (أبولون)، والفن الأبولوني عنده هو النحت والتصوير والشعر القصصي. أن الرجل الأبولوني يستنقذ نفسه من التشاؤم باستسلامه للجمال. يقول للحياة: أنا أريدك، لأن صورتك جميلة، يجدر بها أن تكون مادة للحلم والخيال. . .
ولكن الإنسان ليس بكائن يمكن تحديده بالذاتية، أو بالانفصال، فهو كائن يشعر بنفسه كإرادة متفوقة، ويحس أنه قطعة من هذه الإرادة المتوزعة في الوجود كله، ويدرك أنه متحد مع كل ما يحيا وما يتألم، تام الاتحاد مع الوجود. والإنسان - في حالة ذهول أو سكر ناشئ عن مادة مخدرة، أو إزاء حوادث طبيعية كعودة الربيع - يشعر بان هذا الحاجز الذاتي الذي يفصله عن الوجود قد وهى وزال، ويجد نفسه متحدة مع الطبيعة كلها، وهذا الطور ما يدعوه نيتشه (الطور الديونيزوسي)، نسبة إلى الإلهة (ديونيزوس) ولغة الرجل الديونيزوسي هي الموسيقى التي يعتبرها شوبنهاور لغة الإرادة الخالدة بل صورة الرغبة الدائمة المستترة في باطن الوجود، والإنسان - في هذا الطور - يحس بالألم الشامل والوهم الباطل وشقاء الفردية، فكاد يجنح إلى التشاؤم، ولكنه يهتز قليلاً ويشعر بخلوده ويدرك أن إرادته المفصولة إنما هي جزء من إرادة الوجود، فتراه حيال كل مظهر من(105/50)
مظاهر الفناء، أو مصرع بطل من الأبطال، تراه يشعر بان حياة الإرادة الباقية لم تطفأ بموت البطل. إن الرجل الديونونيزوسي ينقذ نفسه من التشاؤم لأنه يبصر خلود الإرادة، والحادثات تمر والتقلبات تستمر؛ هو يقول للحياة: أنا أريدك! لأنك أنت الحياة الخالدة
وبهذين المذهبين يرى نيتشه أن اليونان قد قهروا التشاؤم، وجعلوا الحياة جميلة زاهية؛ ويرى أن التفاؤل اليوناني لم يكن وليد الخفة والعبث، أو تجاهل لما يغمر الوجود من شقاء والم، ولكنه تفاؤل تولد من مثل أعلى وغاية أسمى؛ والمؤرخ الذي يستقرأ هذه التأثيرات في مطلع تاريخهم يتبين له أن القوم عرفوا الألم كما عرفناه؛ وتذوقوا الشقاء كما تذوقناه
سأل ملك (ميدا) الفيلسوف (سيلين) ما عساك تجد خير شيء للإنسان؟ فأجاب الفيلسوف: (يا ذرية التعس والألم، وأبناء المصادفات والمتاعب! لماذا تنقمون علي إذا جئتكم بما لا ترتاح له اذانكم؟ إن الخير الذي لا خير بعده هو إلا تكون - أيها الإنسان - مولوداً، وإلا تكون موجوداً، وإلا تصير شيئاً؛ والخير العاجل لك إن تلقى مصرعك الآن!) فهذا الألم المنبعث من أعماق الروح الشاعرة بالأوجاع والشقاء الغامر الأرض، هو الذي أهاب باليونان ودعاهم إلى أن يكملوا معنى الحياة الناقصة بخلقهم آلهة هي آلهة جبال (أولمباوس)، هذه الإلهة هي نتيجة إبداع الروح (الأبولونية) وانتصارها. أرادوا أن يستنقذوا أرواحهم من حقيقة الوجود المروعة فعمدوا إلى خلق شعب من الإلهة وجملة أوهام طبقوها على الحياة التي يرونها صالحة للظهور؛ وهم مؤمنون بأن هذه الإلهة تعمل معهم على مجابهة التشاؤم. وهكذا لبست الحياة عندهم لباساً جديداً، وظهرت ظهوراً جديداً، وغدت جميلة في عيونهم لان إلهة جميلة تتصرف بها وتقبل بأقدارها؛ وهوميروس هو المثل الأعلى للروح الأبوبونية؛ ومقاطيعه وقصائده هي نشيد انتصار الحضارة اليونانية على سيئات الأجيال الغابرة، وهي التي خلقت هذه الروح التي تغلب اليونان بأوهامها وأخيلتها على كآبة الحياة الحقيقية وقبحها. وإزاء هذه البراعة الأبولونية نشأت البراعة (الديونيزوسية) أو براعة المأساة.
(يتبع)
خليل هنداوي(105/51)
القصص
من أساطير الإغريق
نهاية هرقل
للأستاذ دريني خشبة
12 - رحلة هرقل إلى الدار الآخرة
لم تكن محفوفة بالمكاره هذه الرحلة إلى الدار الآخرة؛ فقد سلك هرقل سبلاً من قبل كان الموت يجثم له في كل خطوة فوقها، وكانت المنايا تتربص به، ثم تفر منه أخر الامر، كأنما كان هو موتاً للموت، ومنية للمنية، وفناء للفناء
اسقط في يد حيرا حين عاد هرقل بتفاحات هسبريا، واستولى عليها الجزع حين رأت إلى التنين لادون مضرجاً بدمه، فوسوست في صدر يوريذوس أن يأمر البطل فيحضر له سير بيروس من الدار الآخرة!!
وسير بيرسون هو ذلك الكلب الهائل ذو الرؤوس الثلاثة، الذي رأيناه يعدو في اثر بلوتو - إله الموتى - حينما زار هذه الدار الأولى ليخطف برسوفنيه، وهو أبدا يربض عند قدمي سيده الجالس فوق عرش هيدز، يقلب في غيهب السفل أعينه الستة، كأنها انجم تحترق في فحمه ليل بهيم، وهو أيضاً أداة تعذيب في دار الأبدية، ينشب أظفاره في أرواح المجرمين، ولا يفتأ يكرع من دمائهم حتى يروى!
وكانت الحرية تشيع بالآمال في قلب هرقل، وكان هو قد برم بهذا الرق الأسود الذي كتبته عليه السماء؛ فانطلق يعدو إلى دار الموتى، وبين يديه طائفة من الآلهة تهديه وترشده؛ حتى إذا كان قاب قوسين من السدة القاتمة الدجوجية، ووجد سير بيرسو مقعياً يغط في نوم عميق، وإله الموتى مستلقياً يقلب في حضنه القوي برسفونيه الجميلة، انقض على الكلب فخنقه حتى لا يعوي فتعاويه كلاب الجحيم كلها وتكون هنالك الطامة. . .! وانتفتل من دار الظلمات وفي نفسه من الرحمة لهذه الأرواح الهائمة ما أسال دموع الحنان من عينيه الحزينتين!
وانخلع قلب يوريذوس حين لمح الكلب الهائل!(105/53)
لقد كانت الظلماء تتدجى في أشداقه فتكسف الشمس الوضاءة، وترد نور النهار المتلألئ ديجورا يلج في ديجور!!
وكان الزبد ينتثر من أفواهه كأنه ندف يساقط من علٍ في ليل عاصف!
وكان ذيله الطويل الضخم يتلوى ويتثنى كأنه ذنب هيدرا أو ذيل لادون!
وكان يعوي وينبح فيقلقل الجبال المجاورة، ويزلزل قصور أرجوس!
وانظر إلى الملك الجبان!
لقد قفز من عرشه مما ألم به من الهلع، وانطلق إلى مخزن الغلال المجاور فاختبأ في خابية عظيمة أغلقها على نفسه حتى كاد يختنق، والى لا يخرج حتى يعود هرقل بسير بيروس إلى هيدز!
وهكذا أصبح هرقل حراً، وألقيت عن كاهله هذه الربقة التي أذلته طويلاً، وتلفت حوله فوجد الحياة تتبرج كأنها غانية، ووجد كل شيء بساماً ضاحكاً يدعوه إلى اللهو والمرح، والأخذ بنصيب مما تفيض به هذه العاجلة من مباهج ومغريات
وذهب في رهط من أصدقائه والمعجبين به من الإلهة إلى الأولمب ليلقى أباه وليقدم له طاعته، وليرى هل يتوب عليه من غضب لا يستحق منه كثيراً ولا قليلاً. . .
ولقيه أرباب الأولمب هاشين باشين، واخذوا يتندرون بمجازفاته العجيبة التي انتصر فيها على سبع نيميا والأفعوان هيدرا ومحاربات الأمازون. . . . .
واغرقوا في الضحك حين ذكر أطلس وما كان من أمر الحيوية!!. . . . واقترح هرمز على الإلهة أن يصارعوا هرقل ويلاكموه، ويباروه في العدو والسباحة والعاب القوى، لتتم بذلك بهجة لقائه، وليعبروا عما يكنونه له من حب، ويضمرون من إعجاب. فأقيم ملعب الأولمب الفخم، وشيدت على جوانبه المدرجات العجيبة التي تتسع لألف ألف من الإلهة وأنصاف الإلهة وكبار المدعوين من عباد برومثيوس
وتم مهرجان الألعاب، وحاز هرقل قصب السبق في اكثر المباريات؛ وكان هذا هو الأولمبياد الأول الذي اخذ اليونان يحتفلون بمثله كل خمس سنوات
وتتابعت السنون. . .
ومر هرقل بقوم يبكون؛ وقيل له أن أدميتوس ملك تساليا مرض، فتمنى على الإلهة أن(105/54)
تمنحه الخلود في هذه الدار الدنيا، فأجيب إلى ما تمنى، بشرط أن يحل محله أحد أهل بيته إذا حضره الموت، وهنا تقدمت زوجه المخلصة ألسستيس فضحت بنفسها كي ينجو بعلها من الموت، وليخلد ما شاء له الخلود. وماتت الزوج الوفية فداء للملك. وينظر أرميتوس إلى ملكه الشاسع فيراه بغيضاً لا خير فيه؛ ويكون في حاشيته فيشعر بوحشة وانقباض كأنه يعيش في صحراء؛ ويقدم إليه الطعام فلا يكاد يسيغه؛ وترقص القيان بين يديه فيثرن في نفسه الاشمئزاز كأنهن جنة تدمدم في ظلام غابة. . .
ويبغض الدنيا. . .
ويود لو كانت زوجه الجميلة المخلصة إلى جانبه لحظة واحدة وتتلاشى الحياة بكل من فيها. .!!
لذلك يبكي الملك، ويبكي حوله شعبه الأمين!
ويذكر هرقل أنه وحده يستطيع أن ينفذ إلى هيدز - دار الموتى - فيستنقذ ألسستيس من براثن الفناء، ويردها معززة مكرمة إلى زوجها المسكين فيهدأ قلبه، ويرقأ دمعه، وتستقر نفسه، ويفيء إلى أمر هذا الشعب الذي تكبكب حوله يعول وينتحب. . .
ونفذ البطل إلى ظلمات الدار الآخرة، وسأل الأرواح الهائمة فدلته على منامة ألسستيس؛ فتغفل حارسها الجبار وخنقه، واختطف الفتاة الناعسة وفر بها دون أن تشعر به زبانية بلوتو
وعادت الطمأنينة إلى قلب الملك، ورفرف السلام على المملكة
هرقل وأومفاليه
وذهب هرقل يذرع الأرض، واشترك في حملة الأرجونوت ضد السنتور، وأنضم إلى الإغريق في حصارهم الأول لطروادة
ولقي رجلاً ذا خيلاء وكبر فقتله ظالماً، وكان زيوس ينظر من علياء الأولمب، فعبث وبسر، وقضى أن يظل هرقل في خدمة أومفاليه ملكة ليديا بضع سنين
وتجهم هرقل، ولكنه لم يكد يبدأ خدماته التافهة للملكة، حتى راعه جمالها، واستهوته مفاتنها، وأحس للمرة الأولى في حياته المشحونة بالمخاطر أن قبساً يتأجج في قلبه يوشك أن يجعله ضارماً(105/55)
وحلا في فمه ما مر من الذل، وطاب ما كره من العبودية، وود لو قضى الحياة في ظلال هذا الحب الأول مغموراً برضى الملكة، سعيداً بما أفاء عليه جمالها من هناء ونعيم وبال. ولكن الإلهة لم تقر بهذه السعادة فأرسلت بطلها لمآرب أخرى
زواج هرقل
وطوف هرقل في أقصى الأرض حتى انتهى إلى كاليدون، مملكة أونيوس، ولقي ابنته الناهد الهيفاء تجمع الزهور في خميلة غناء. وكان قلبه قد نهل من خمرة الحب، وكانت عيناه قد ثقفتا نظرات الغزل، وكان لسانه قد انحلت عقدته عن وحي الهوى، فانطلق يلاعب الفتاة ويداعبها، وينمق لها من الورد والرياحين باقات تتكلم بالشذى، وتهتف بالخضرة والحمرة، وتصافح الروح بالعبير الفياح
وأنست ابنته الملك بهرقل واطمأنت إليه، وبثها وبثته، وتشاكيا ما شاء لهما الغرام الروي، والحب الفتي، والدمع المسكوب!
وعلم منها أن أخيلوس، أحد إلهة الأنهار، قد خطبها إلى والدها، وان الملك قد أجابه إلى ما أراد:
(فهل اسعد بان تزيح هذا الكابوس عن قلبي؛)
(وتقف حائلاً بيني وبين الشقاء الذي يتربص بي؛)
(فنكون اهنأ زوجين ينعمان بلذة الحب، ويرفلان)
(في برد السعادة، ويتغنيان مع الطير الحان الهوى)
(والحياة!!. . . . . . . . . . . . . . . . . .)
هكذا بكت ديانيرا إلى هرقل، فهاجت في قلبه نخوة البطولة ونحيزة المغامرة، وأطلقت في كل عظلة من جسمه المكتنز كهرباء الحماسة والاستبسال:
(قري عيناً أيتها الحبيبة، فليس ايسر)
(على هرقل من حرب الإلهة. لقد صرعتهم)
(جميعاً في حفل الأولمب؛ وقد مر بي من المغامرات)
(ما ينخلع من بعضه من قلب أخيلوس. . . . . .)
وستأذن هرقل على الملك، وحيا احسن تحية، ثم طلب يد ديانيرا. . . . وكان أونيوس(105/56)
يعرف من بأسس البطل وعظيم قوته ما يعرف كل ملوك هيلاس وأمرائها؛ وكان قد أجاب أخيلوس إلى خطبته وهو يعلم من سخط ابنته على هذا الزواج ما يعلم؛ فلما تقدم إليه هرقل استبشر وقال: (. . . . . . لقد كنت يا بني وعدت أخيلوس أن يبني على ديانيرا، وهو من تعلم في الحول والطول والجبروت، ولكني مع ذاك لا أفضله عليك، بل نجعل لكما يوماً تلتقيان فيه؛ فمن يصرع صاحبه كان كفؤاً لديانيز)
وقبل هرقل، ورضى أخيلوس؛ واجتمع الناس من كل فج يشهدون الصراع العظيم بين الجبارين العنيدين. . . وكان كل واثقاً بنفسه، لا يخامره أدنى شك في أنه فائز على صاحبه. فلما تقابلا، ثار من حولهما النقع، وكانت أنظار الناس كالمتصلة بسواعدهما بأمراس شداد؛ وبعد قليل أخذت الأرض ترجف من تحتهما، وطفق الملعب يهتز بمن فيه من خلق كثير. . . وكانت ديانيرا تشرف من مقصورتها وتكاد تغص بريقها إشفاقاً على هرقل، وكان هو كذلك، كلما خارت قواه، نظر أليها النظرة تتجد بها روحه وتتضاعف مرنه ويمتلئ قلبه بالآمال. . . . . . وكان أخيلوس قد فطن إلى جبروت هرقل، وكان يستطيع أن يتشكل بأي خلق اراد، فجعل يتقلب من ثعبان ضخم الجثة، إلى تنين عظيم الجرم، إلى أسد بادي النواجذ، إلى. . . ما شاء له سحره وقوة حيلته من أشكال وأوضاع. .: ثم انقلب إلى عجل جسد ذي قرنين كبيرين، وشرع ينطح هرقل، وهرقل يتقيه، حتى استطاع البطل أن يأخذ بقرنيه بكلتا قبضتيه، وجعل يخبط برأسه الأرض في عنف وغل، حتى كسر أحد القرنين وفر أخيلوس من الميدان هارباً. . . لا يلوي على شيء. . . ودوى الملعب بالتصفيق، واندلعت الحناجر بالهتاف، وتدفق الناس نحو هرقل يحملونه على الأعناق. . . وتقدمت ديانيرا فحياها البطل بقبلة فردوسية خالدة، ما يزال صداها يرن على شفاه المحبين. . وتم العرس. . . وانطلق هرقل بزوجه يجوب الآفاق. .
وحدث أن اعترضه نهر عظيم لم يستطع أن يعبره ومعه ديانيرا. فبينما كان يعمل فكرته كيف يقتحمه، إذا سنتور عظيم يعرض عليه أن يحمل زوجه فيعبر بها إلى العدوة الثانية سالمة آمنة، ثم يرتد فيحمله إليها كذلك؛ وقبل هرقل، ونسى ما كان بينه وبين السنتور من عداوة وبغضاء، وحرب قديمة تدمى لها قلوبهم، وتقرح نفوسهم، وأعان هرقل زوجه فاستوت على ظهر السنتور، وخاض بها الماء وهو يطفر من الفرح، ويحلم بالمنى(105/57)
والآمال. فما كاد يبلغ الشاطئ الأخر حتى عدا عدواً شديداً ليكون بمنجاة من سهام هرقل. ولكن ديانيرا صرخت صرخة داوية نبهت ما غفل من سمع زوجها؛ فلما فطن إلى خيانة السنتور، شد قوسه العظيمة، وأرسل إلى دبر السنتور سهماً مراشاً كان قد شرب من دم هيدرا حتى ارتوى!
وأحس السنتور بسم الموت يخترم حشاشته، وبرودة الفناء تشيع في جسمه البدين، فاقسم ليكدن لهرقل، فيذقه من هذا السم الذي سقى به سهامه ما يودي به. فقال لديانيرا: (أيتها الفتاة! لا تثقي أن حب هرقل دائم لك، بل اكبر الظن أنه منصرف عنك إلى فتاة أخرى تكون أسبى وأصبى. وما أحسبك إلا ذاكرة كيف كان يتفانى في حب أومفاليه. فخذي قميصي هذا فاحفظيه لديك، حتى إذا أحسست من زوجك جفوة، أو رأيت فيه ازوراراً، فابعثي به إليه ليلبسه، والقي في روعه أنه يحفظه من أعدائه. فانه أن فعل، عاد إليك بقلب مفعم بالحب، ونفس ملتاعة كلها شوق وتوق. . .) وخر السنتور ميتاً!
وأخذت ديانيرا القميص المضرج بالدماء المسمومة، وفي نفسها من الهم شيء عظيم! (من أومفاليه هذه؟! كان يحب أومفاليه؟ كان يحب فتاة غيري؟ وحق زيوس لأسألنه! هاهو ذا قد سبح إلى الشاطئ!)
ولقيته فسالته، فاعترف لها بكل شيء، وطمأنها على محبته وإخلاصه. . . . ولكن قلب المرأة لا يعرف هذا الاستسلام المعسول للكلمات الناعمة! فقد ظل الوسواس يدب في نفس ديانيرا، حتى كان هرقل في إحدى جولاته، وكانت هي عند أبيها ملك كاليدون؛ فطالت غيبته، وذهبت بها الظنون من اجل ذلك كل مذهب
وذكرت القميص ورددت عبارات السنتور، فنهضت من توها وأرسلته مع إحدى وصيفاتها إلى هرقل في منآه البعيد. وأوصت الوصيفة أن تذكر له من مآثر القميص ما وسوس به السنتور. فلما لبسه هرقل، التصق به التصاقاً، واخذ السم يشيع في جسمه الحديدي فيذيبه ويفتته. . .
وصرخ البطل بلا جدوى! وكلما حاول انتزاع القميص، كان جلده يتمزق، ولحمه يتهرأ، ويتصبب الدم من فوق ومن تحت. . . ثم أخذت نفسه تساقط أنفساً. . . وطفقت روحه تودع هذا الجثمان الهائل في دموع سخينة وآهات حارة. . .(105/58)
ولفظ نفسه الأخيرة وهو يبكي ويقول: (فدى لك نفسي. . . يا. . . ديا. . . نيرا!)
(وهوى إلى الأرض ما كان من الأرض، ورفرفت)
(الروح الكبيرة في جمهرة من أرواح الإلهة التي أقبلت)
(من الأولمب تزف ابن زيوس العظيم. والكل ضاحك)
(مستبشر أن ألقى أخوهم حمله الثقيل، وخرج الأولمب)
(جميعاً يستقبل البطل ويهتف باسمه في عليين!. . .)
وحمل الجثمان الطاهر إلى جبل أوتيا، حيث دفن في إجلال وإعظام، وحيث وقفت ديانيرا ترويه بدمعها العزيز.
دريني خشبة(105/59)
قلب فتاة
للآنسة ابنة الشاطئ
لعلها حنقت على حينما تقدمت إليها في لوعة صامتة ثائرة ورجوتها أن تبكي وان تسرف في البكاء؛ ولعلها أنكرت مني أن أفاجئها في وحدتها وقد استنامت إلى أحزانها وأسلمت أفكارها إلى ذلك الفضاء الرحب الواسع الذي نود لو نفر إليه، وان كنا نجهل أين مكانه منا وأين السبيل إليه! لقد كنت اعلم يقيناً أن هذه الكلمات التي اصطلحنا على تسميتها كلمات المواساة، والتي تعود المرء منا أن يلقيها على مسامع المحزون، لا تحمل عن هذه المسكينة شيئاً مما ترزح تحته من أعباء أثقال، وكنت اعتقد أنني إذا كنت لا املك إلا الوقوف بجانبها افرض عليها سماع كلمات المواساة المحفوظة، واحتم عليها أن تزدردها كلما تزدرد قطع الثلج، فخير لها أن تظل هكذا في ذهولها وأطرافها، لعلها واجدة من خداع الخيال ما ينسيها شيئاً من رهبة الحقيقة الواقعة، ولو إلى فترة قصيرة! لكني كنت احبها، وأتألم لها، وكان هذا الحب من القوة والعنف، بحيث ينكر علي أن أظل واجمة وهي تكاد تحترق أمامي في صمت، وان اقف مكتوفة الايدي، بينما أرى ذرات كيانها المضطرب تكاد تتبخر في الفضاء الأثيري المخلخل بعد العاصفة. . . آه! كم كنت أود أن احترم صمتها، وان اتركها في جلستها المفجعة ومكانها المنفرد؛ ولكني خشيت أن يهدمها الحزن المكتوم. وكان لابد لي أن أقول شيئاً، فلم أجد ما أقوله إلا أن اخذ رأسها بين يدي وألح عليها أن تمعن في البكاء
لم تكن هذه الفتاة من أولئك الفتيات اللائى يحملن قلوبهن في اكفهن ويخرجن بها إلى الأسواق للبيع أو الاستئجار، وكان كل من يعرفها لا يكتم إعجابه بذكائها وجاذبيتها وسمو اخلاقها، ولكنها كانت لا تكترث لشيء من هذا إلا كما يكترث الغني ببضعة مليمات! كانت تعلم يقيناً أن اثمن شيء لديها، هو قلبها الحي الكبير، وكانت تعتز به اعتزاز الإنسان باثمن ما يملكه؛ وكلما أثنى الناس على ذكائها أو حسنها، ابتسمت ابتسامة يتجسم فيها عدم الاكتراث، وتساءلت في نفسها: إذا كان هذا هو مقدار احتفال الناس بتلك الظواهر المادية التافهة، فكم يكون مدى احتفالهم بالكنز الذي في صدرها؟! ذلك القلب المليء بالحياة، الشغوف بالتضحية، النزاع إلى المثل العليا، والذي يود لو تتاح له الفرصة لإسعاد(105/60)
الآخرين!
ولقد أحبت هذه الفتاة! أحبت بكل ما في طبيعتها من إسراف وغلو، وبكل ما في قلبها من قوة وحياة، وما في نفسها الشعرية من ثورة وحرارة! وكان حباً نبيلاً تسامى شيئاً فشيئاً حتى تخلص من أدران الماديات. . . ولعل الشاب الذي أحبته لم يكن بادئ ذي بدء يفهم معنى ذلك النوع من الحب، ولكنه أدرك على ممر الأيام أنها قدمت إليه قلباً من ذهب، وحباً نبيلاً أشبه بالخيال لغرابته وندرته، فهاله ما قدمت، وصمم على الاحتفاظ بحبها حتى يضمهما اللحد، وعلى أن يمهد لها حياة سعيدة ولو كلفه ذلك حياته. واستبد به بعد ذلك حب قوي غلاب جعله يرى الحياة بدونها جحيماً لا يطاق؛ وكان كلما تسامى إليها وتوغل في فمها ودراستها، اتضحت له قيمة ذلك الحب الذي لا يعرف الأثرة ولا الاستهتار، وغمرته لذة روحية تجعله في شبه ذهول. . . ذهول الحالمين السعداء
عرفته في أكتوبر سنة 1929، وكان لا يزال طالباً بالسنة الأولى بإحدى المدارس العليا، وكان تعارفهما طبيعياً ووليد المصادفة البحتة. فقد نزح والداه من الريف إلى القاهرة، ليحميا وحيدهما من بلدة المغامرة واللهو والفساد؛ واتخذت الأسرة مسكناً متواضعاً في بين كانت تسكن به أسرة الفتاة؛ ومرضت الأم مرضاً أقعدها عن مباشرة أعمال أسرتها الصغيرة، فتطوعت الفتاة لمساعدتها، لأنها جبلت على حب الخير؛ ثم كانت ساعة من تلك الساعات التي ينسى المرء فيها نفسه وتقاليده وأرادته، فتقابلت الفتاة المحتجبة الحريصة، بالفتى الشاب المثقف، ولم يكن لأحدهما يد في تلك المقابلة. كان ذلك في مساء ليلة ليلاء من ليالي الشتاء القاسية، وقد آوت الجنوب إلى المضاجع فراراً من ثورة الطبيعة؛ ولاذ الناس بالبيوت ينشدون الدفء في صمت وسكون. وكان هناك شعاع حائل ضئيل، ينبعث من نافذة الأم المريضة، ويفنى بعد قليل في جوف الظلام. وقد رقدت المسكينة حين استبدت بها نوبة قاسية أذهلتها عن كل ما حولها؛ وكان صوت الريح يذهب بأنات الأم العليلة، فلم يكن يسمعها أحد سوى الشبح الأبيض الواقف بجانب سريرها، كأنه ملاك هبط من السماء. كان هذا شبح الفتاة النبيلة الحنون التي قامت بتمريض العليلة. وفتح الباب فجأة، ودخل الابن الشاحب المحزون يصحبه الطبيب، فلم تتمكن الفتاة من الخروج، فقد كان عليها أن تصغي إلى تعليمات الطبيب، وان تشرح له ملاحظاتها عن درجة حرارة(105/61)
العليلة، وبصاقها وطعامها، ولم يتمكن الفتى من الخروج، فقد كان الممرض الليلي لامه، وكان عليه أن يصغي لما يقوله الطبيب، عن سير المرض؛ وهكذا جمعهما الحزن المشترك؛ وأنستها رهبة الموقف، وشدة تفجعها للمريضة وابنها، ما درجت عليه من تحفظ واحتجاب
وكان لابد للفتى بعد أن شفيت أمه أن يشكر تلك الإنسانية النبيلة، وكان لابد لها أن ترد على رسالته، لتؤكد له أن ما قامت إلا بواجبها الانساني، ثم اختفت تلك المراسلات الرسمية، لتفسح المجال للتراسل الأخوي والتفاهم الروحي، بين الشاب المعجب بنبل الفتاة، وبين الفتاة الثائرة الحنون؛ ووجد كلاهما لذة مبهمة في ذلك النوع من الإخاء والصداقة، ولذ لهما أن يفرجا عن أنفسهما بالكتابة، وكلاهما يفهم أخاه ويحيا في بيئة تكاد لا تسمح لهما باستنشاق الهواء
لم يكن مرض الأم الذي أصابها في شتاء عام 1929 والذي كان سبباً لتعارفهما، إلا نوبة من نوبات مرض صدري يرعى في رئتها ويأتي في مهل على ما احتازته المسكينة من جلد واصطبار، وهاقد تمكنت العلة منها وأصبحت شبحاً هزيلاً يدب إلى القبر، ويهدي أخر أنفاسه إلى حياتنا العاجلة
وقرر الأطباء أن تبادر العليلة إلى مصحة حلوان. . . وإلا عجل إليها الموت؛ ولكن كيف؟ أن الوالد الشيخ لا يملك إلا ما يسد به رمق أسرته الصغيرة، كان يملك بضعة فدادين في مديرية الشرقية، وكانت زوجته تملك شيئاً من الحلي، فبذلا كل ذلك عن طيب خاطر في تعليم وحيدهما، ولكنه نال شهادة التعليم ليعلقها على جدران الحجرة الحقيرة التي استأجروها أخيراً يقيموا بها. ثم قبع في كسر داره بجانب أمه العجوز المريضة، وأبيه الشيخ الفاني! وإلا فهل يجمع الصبيان في الطرق ليلقى عليهم الدروس، ويطبق مبادئ روسو وأراء فريدريك هربرت سبنسر مستعملاً (هدايا) فروبل و (جهاز) مدام منتسورى؟ أم يفتح مدرسة أهلية قد تراكمت المدارس في أحياء البلاد، وهو بعد لا يملك ما يشتري به الدواء لامه المصدورة العليلة؟
كان مرهف الحس مهذب الوجدان، وقد عز عليه أن يفقد أبوه ثروتهما في سبيله، حتى إذا ما بلغ مبلغ الرجال كان حميلة عليهما. كان يشعر بأنه مسئول عن كل ما أصاب ويصيب(105/62)
والديه؛ وقد عذبه ذلك الخاطر وأمعن في إيلامه، فاخذ يبحث عن عمل كل يوم، ولكن ما الذي يستطيع حامل دبلوم المعلمين العليا أن يعمله، وهو لا يملك إلا تلك الثروة العلمية المخزونة في دماغه، لا يدري كيف يستغلها! ولقد صبر على الجوع حيناً وتحمل الضيق أحياناً، ولكنه الآن لا يستطيع الصبر، إذ يرى أمه التي غمرته بالعطف والحنان، تجود بحياتها مع أنفاسها الخافتة اللاهثة؛ ويرى أباه يجلس ذاهلاً مطرقاً، ينظر نظرات حزينة جوفاء إلى تلك الإنسانية المخلصة الراقدة، التي قاسمته حلو العيش ومره ثلاثين عاماً، غمرته فيها بكل حب وإيثار؟!
وقف الشاب يوماً بين أبويه وقد نفد صبره وعذبه عجزه فرفع يديه إلى السماء في حركة ضارعة مبتهلة، وتساءل بصوت متهدج حزين:
(أبتاه.! ألا أستطيع أن اصنع شيئاً لها؟ حياتي يا أبي ما قيمتها إذا لم تكن لكما وفي سبيلكما؟ إلا يمكنني فداؤها؟ (فابتسم الشيخ الحزين بعد أن تحجرت الابتسامة في شفتيه أعواما، وقام إلى ولده البار يضمه إلى صدره، ويغمره بقبلاته، ثم اسر إليه أن لا وسيلة لإنقاذ الأم المعذبة إلا بزواجه من ابنة عمه التي ورثت عن أبيها كثيراً من المال والعقار
طعنة أصابت قلب الفتى فأدمته! لقد كان مستعداً للتضحية بحياته لأنها ملك له؛ أما أن يضحي بقلبه وقد وهبه، وبفتاته وقد وثقت به واطمأنت اليه، فهذا ما لا طاقة له به. . يتزوج؟ ولمن إذن يترك الفتاة الصغيرة المثقفة؟ لقد تمكن الحب من قلبيهما ثلاث سنوات، وكانا من الاعتزاز بهذا الحب بحيث لم يلوثاه باباحة منكرة! كانا يخشيان على حبهما وهو الثوب الأبيض الناصع، أن يلوثه القليل من الغبار، ولم تعد لهما حيلة في التخلص من سلطان هذا الحب الذي نما مع الأيام، فكيف يفرض عليه أبوه ذلك الثمن الغالي؟ لا. . أنه لن يحطم قلبها ولن يكفر بالنعمة التي منحته إياها. . أنه بشر ولاحتماله حد معقول؛ وقد احب بكل قواه؛ ولئن كان مسئولاً عن سعادة امه، فهو مسئول كذلك عن سعادة فتاته، فقد منحته الأولى حبها وحنانها لأن عاطفة الأمومة فيها أرادت ذلك، بينما منحته الثانية حبها منة منها وتفضلاً. . .
لقد يستطيع أن يخنق حبه ويحطم قلبه، ليشتري بذلك سعادة أمه، ولكنه لا يستطيع أن يحطم قلب فتاته الصغيرة النبيلة. . .(105/63)
ولكن الفتاة كانت أقوى منه. . لقد أحبته حباً صادقاً، والمرأة إذا أحبت فعلت المستحيل في سبيل سعادة من تحب. . . لقد عجز عن السير في طريق التضحية الشائك، فلتحمله هي على كتفيها غير آبهة بالأشواك تمزق ثياب راحتها، وتسيل دماءها. ولقد أعماه الحب عن الواجب، فلتفتح بأناملها الرشيقة عينيه، وتوقظ شهامته ورجولته، وحسبهما سعادة بعد ذلك إنقاذ الأبوين الكريمين
ولكن كيف تقنعه بوجوب التضحية؟ حدثتها نفسها أن توهمه أنها تحب غيره، ولكنها رجعت عن تلك الفكرة الروائية التي فرضها (إسكندر ديماس) على المحبين، وعز عليها أن تلوث الحب العالي بمثل هذه الأفكار، وهو آخر ما تبقى لها من سعادة! وأشفقت على فتاها أن تنهدم المثل العليا أمامه فيجزع وربما جحد الفضيلة وأنكر الحياة! ثم فكرت في أن توهمه أن أباها يفرض عليها الزواج من غيره، ولكن هذا لن يفيد في إيقاظ نخوته وشهامته، وإذن فلتتقدم إليه في صراحة وحزم، لتعلنه أن حبها وقد تنزه عن الماديات، أضعف من أن يحتمل تبعة موت الأم الحنون، وجنون الأب الشيخ، وأنها تحبه إلى الدرجة التي تخشى عليه فيها من فقد احترامها له إذا قتل أمه بأنانيته. إنها تحبه، ولكنت هذا الحب نفسه هو الذي يفرض عليها أن تتنكر له إذا لم يؤدي واجبه كرجل وكابن، فإذا ما سألها عما ستفعله بنفسها بعده، أجابته في رفق حازم أن لا شأن له بها، وأن عليه أن يتزوج من ابنة عمه. . .
لها الله!! ما كان أنبلها وهي توصي حبيبها الذي انتزعته الأقدار منها بالرفق بابنة عمه وإسعادها وتمهيد الراحة لها؟!
لها الله!! ما كان أنبلها وقد وقفت تهمس في أذنه ألا يحدث أمه عن تضحيته، وألا يقدم إليها الدواء مسموماً بإشعارها أن حياتها أنقذت بهذا الثمن الغالي. . .
ما كان أنبلها وقد وفقت تبعده عنها أشد ما تكون حباً له وشغفاً به!!
من يدري؟! ربما كان هول الموقف قد شغلها عن النظر إلى الأفق البعيد، حيث تتجمع قطع الظلام ويتصل بعضها ببعض! وربما كانت تجهل أن انتزاع الكلمات التي حرضت بها الفتى على الزواج من ابنة عمه، أقسى وأشد إيلاماً من قطع لحمها وهي حية. . . ظنت نفسها سعيدة ساعة خضع الفتى لحكمها، وقامت تودعه وتشد على يده بكلتا يديها وهي(105/64)
تبتسم ابتسامة شاحبة ذاهلة، حتى إذا ما تركته وتزودت منه بالنظرة الأخيرة، أحست بالألم يحز في قلبها، فهرعت إليَّ - وأنا صديقتها الواحدة - كالمجنونة، تشكو وتلتمس التشجيع؛ ثم ركنت إلى الصمت والهدوء، ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة! وكنت أعلم أن وراء مشيتها الميكانيكية المفجعة ما وراءها! وأن تلك البسمة الصفراء الباهتة المتحجرة على شفتيها، تخفي وراءها ناراً ترعى قلب الفتاة المسكينة. كان هدوؤها المصطنع يقتلني، وكنت ألمح عن كثب وميض النار تتأجج بين جوانحها وتختفي تحت رماد الحياء والمداراة، كزبد الأفران العالية، يبدو سطحه للعين ترابياً أدكن، حتى إذا انفرج الزبد نرى حممه! ولم أكن أرجو شيئاً، إلا أن يمن الله عليها بنعمة البكاء!!
كان حبها من نار ونور، فلما حرمت نوره، رأت أن تحترق بناره في صمت! فقد كان عليها أن تظهر للناس بسّامة ضاحكة وإلا ولغت ألسنة السوء في سمعتها، ولوثت حبها الطاهر النبيل، وعبثت بمستقبل الحبيب النائي البعيد!
وكان عليَّ أنا، أن أتغنى بشهامتها، وأن أؤكد لها أنها ظفرت من الحياة بأوفى نصيب، حين اشترت بسعادتها سعادة ثلاثة آخرين! وكانت تنصت لكلماتي أحياناً ثم يغلبها الضعف فتفر إلى حيث تختلي بنفسها لا لتبكي، فليتها كانت تفعل، وإنما لتحترق في صمت!
ولمحت عن بعد شبح العاصفة يقترب في بطء، فلازمت الفتاة وأنا أكاد أختنق من الحزن والألم؛ فلما أعلن أخوها أن فتاها تزوج بابنة عمه، أرسلت نظرات محمومة مبهمة جوفاء! وفي بطء حزين، قامت إلى حجرتها، فركضت وراءها، ولم أجد ما أقوله إلا أن أطلب إليها أن تسرف في البكاء، فقد هالني تحجر الدمع في مقلتيها أشد مما يهولني الصراخ والنواح وانهمار الدموع!!
ابنة الشاطئ(105/65)
البريد الأدبي
الرصافي في دينه
دفع إلي اليوم وأنا مار في سوق الحميدية أخ لنا من الوراقين الأدباء متدين غيور، كتاباً جديداً لأمين الريحاني اسمه: قلب العراق، صدر في هذه الأيام في بيروت، وأقرأني فيه الفقرة الآتية (ص 265)، ولست أعرف من الكتاب أكثر منها، فأحببت أن أنشرها ليقول فيها الرصافي كلمته، فهو المتهم فيها، وإليه تنسب هذه الآراء. . . وليطلع عليها فحولة الكتاب، وحماة الدين، وورثة البيان القرآني: الرافعي والزيات وعزام، ويروا رأيهم في هذه (الأفكار الجديدة)!
وهذه هي الكلمة بنصها وفصها:
قال:
(إن للرصافي رأياً في الوحي الشعري غريباً: هو لا يؤمن بالوحي، أو بالحري الوحي المنزل، إنما يعتقد أن القوة الشعرية في الإبداع تتعلق بقوة ألباه في الجماع، وأن الضعف الذي يعتري القوة الواحدة يتصل بالأخرى، إذن لابد من التوازن بينهما، بل هو ضروري. . . (إلى أن قال):
. . . ثم ذكر النبي محمداً، وهو في نظر معروف شاعر عظيم على أن أجمل قصائد النبي، أي أجمل السور القرآنية، إنما هي التي جاء بها في عهد الاعتدال الجنسي يوم لم يكن له غير خديجة زوجاً، أما بعد وفاة خديجة فقد أصبح محمد مزواجاً، وكانت القصائد - السور - في هذا العهد مثل نسائه (كذا) أي دون ما تقدم منها ومنهن
فقد كتب الرصافي سيرة النبي محمد، وأطلعني عليها مخطوطة بيده، في سبعة دفاتر من الدفاتر المدرسية، فما أدهشني منها ما فيها من العلم والتحقيق لأن مصادر الموضوع متوفرة لمن شاء معالجته، وأحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقيم بغير الإيمان والجرأة والصراحة مع الاتكال على العقل والعلم فيهما
فقد استخدم في (سيرته) المصباح الذي استخدمه العلماء الأوربيون في نقد التوراة، أي مصباح النقد الأعلى الذي ينير العلم بنور العقل والمقارنات التاريخية، ومما يزيدك إعجاباً(105/66)