المعبدة، ولكنهم على أي حال، وإن كانوا قد انصرفوا عن هذا الطريق، إلا أنهم جميعاً كرسوا جهودهم وصرفوا قواهم في إبداع آيات خالدات في الفن، تشهد لهم بالعبقرية، وحسبهم فخراً أن يهتم المتحف البريطاني في إنجلترا بلوحات الفنانين قاسم على والسعدي وغيرهما من أقطاب الفن الفارسي. وعلى العموم يمكننا أن نقول إن الفن الفارسي فن لا يكتفي بالنظرة الواحدة للحكم عليه ففي ذلك شيء كبير من الاستبداد، وهو فن عالمي يشهد للفرس بالدقة والبراعة
تلخيص وترجمة حسن محمد محمود(89/53)
القصص
من الفن القصصي الحديث
زوج آخر ساعة
للقصصي الإنجليزي ريس ديفز
ترجمة علي كامل
(ريس ديفز من أصغر القصصيين الإنجليز سناً. وهو كغيره من الكتاب الإنجليز المعاصرين شديد التأثر بالمذاهب الجديدة في علم النفس، فنراه في قصصه يعتمد إلى التحليل الدقيق لشتى العواطف والنزعات التي تعصف بكل نفس إنسانية. والقصة التي نترجمها له اليوم قد ترجمت إلى عدة لغات حية)
نزلت مارية من غرفة نوم والدها وقالت لعمتها في هدوء وحزن كعادتها دائما:
لقد مات!
فرفعت عمتها (آن) عينيها من فوق الإنجيل الذي كان بين يديها، وفتحت فاها حتى آخره وقد انتابها فزع عظيم، ثم بحثت عن منديلها ومسحت به عينيها العجوزين اللتين لا تتسرب إليهما الدموع، ثم بكت وهي تقول:
إنهم يذهبون جميعاً قبلي!
وفتح مارية الدولاب وتناولت منه (التريكو) وجلست أمام النار كعادتها كل مساء، وأخذت تشتغل باهتمام برغم ضجرها وتعبها من السهر الطويل وعنايتها بالميت
فنظرت إليها عمتها وهي تكاد تصعق من الدهشة، ودب في جسمها النشاط وصرخت في وجهها قائلة:
تحركي يا مارية، ليس هذا وقت (التريكو). اذهبي وابحثي عن الستائر لنغطي بها النوافذ. ويجب أيضاً أن نغير للميت ملابسه ونقوم له بكل ما يلزم
على أن ماريا لم تتحرك، وبرغم أنها كانت منهوكة القوى كان يظهر عليها دلائل فرح مرير، فقد كان يبدو لها أنها تحررت مرة واحدة من قيود عنيدة مؤلمة، كانت تقول بصوت منخفض مخاطبة عمتها (آن):(89/54)
- لقد كان والدي رجلاً قاسياً يا عمتي (آن)، وكان كل يوم عنده يوم أحد. لقد جعل من هذا المنزل (مدرسة يوم الأحد) وكم من مرات حقدت عليه وكرهته، وكانت والدتي تشبهه. وكنت أنا بين الاثنين كأنني في جحيم لا يطاق
في أثناء ذلك كانت عمتها (آن) تصعد تنهدات الحزن والألم. قالت الفتاة:
إنها الحقيقة المرة، والآن وقد مات الاثنان فإني أستطيع أن أحكم عليهما. لقد جعلا مني فتاة عجوزاً لم تر من متع الحياة شيئاً. فكنت لا أعرف غير الإنجيل من الصباح وعند الظهر وفي المساء
وكانت الفتاة تتكلم بصوت ملؤه الحقد والعداوة، وكانت ترتعش حسرة على نفسها. كانت تفكر في تلك الجثة الراقدة في الطابق الأعلى والسخط مستول عليها. كانت تريد البكاء ولكن دمعة واحدة لم تجد بها عيناها. وكان وجهها الغليظ الذي بدا عليه الغضب والكبرياء منكباً على (التريكو) الذي بيدها. قالت:
والآن وقد ضاعت خير أيام حياتي في العمل في سبيلهما، فسأبقى بقية حياتي وحيدة، ولو كانا تركاني أخرج من المنزل لاستطعت أن أجد الفرصة لأتزوج
قالت عمتها:
مهلاً. إنك لا زلت في الثلاثين من عمرك، وفي استطاعتك الآن أن تجتهدي في إيجاد زوج لك. إنك يا مارية فتاة قويمة الأخلاق تحسنين الطهي. إنك لست كفتيات اليوم الطائشات، وهناك كثير من الرجال الذين يبحثون عن فتاة مثلك ليتزوجوها
واستمرت مارية تشتغل في صمت. . . ثلاثة وثلاثين عاماً! قبيحة المنظر غليظة الجسم منكسرة القلب! أي رجل ذلك الذي يريد مثل هذه الفتاة في هذه الأيام؟
وتملكها خوف عظيم وهي تشتغل، كم من الأشياء فقدتها في الحياة! لقد أدركت تماماً أنها كانت تعيش بعيدة عن عالم المسرات واللذات، والآن فات الوقت التمتع. ولكن ألم يعد هناك أمل في شيء؟ قالت الفتاة:
إنني أظن يا عمتي (آن) انه يحسن أن أبيع هذا المنزل وأقيم على ساحل البحر
فأجابت المرأة العجوز على الفور في غضب:
لا تبادري ببعثرة المال الذي تركه لك أبوك. هلا فكرت في؟(89/55)
وأجهشت العمة بالبكاء:
ها هو ذا المال يا مارية قد ابتدأ يجعل منك فتاة منطفئة الآمال قاسية القلب. إنني أعرف نفسيتك الآن
وخرجت العمة لرؤية الميت. وابتدأت عينا ماريا الزرقاوان المنطفئتان تلمعان من جديد؛ إن التفكير في المال الذي ورثته وفيما يمنحه هذا المال من السلطان، قد جعل حرارة السعادة تدب في جسمها الغليظ. غير أنها كانت تود أن تكون أصغر سناً مما هي الآن. وكانت تعرف أيضاً أنها قبيحة المنظر
ودخلت العمة آن قادمة من غرفة النوم وهي تقول: لقد رحل إلى العالم الآخر. إن وجهه جميل وطاهر، والآن يا مارية أي مجنز نعهد إليه بالقيام بحفلة الجنازة؟
فأجابت مارية:
جون جونز. إنه أرخص من توماس إيفانز
ولكن إيفانز ممن ينتسبون إلى الكنيسة القديمة. إن الذين يحترمون أنفسهم لابد يفضلونه، وعرباته أيضاً أكثر جمالا. فقالت مارية بصوت الآمر:
ولكنني أفضل جون جونز. لقد كنت معه في المدرسة وكان دائماً معي رقيقاً
فأجابتها العمة آن وقد أخذها الغضب:
- إنه رجل أعزب طماع
وذهبت مارية وأحضرت الأقمشة البيضاء لتغطي بها النوافذ، وكان ذلك علامة على أن الموت قد عرف طريقه إلى المنزل. ولم تكد تمضي عشر دقائق على ذلك حتى كان سيل الجيران قد ابتدأ يتدفق ليروا الميت. وكانت العمة آن جالسة بجانب جثته. بينما كانت مارية في الطابق الأرضي تصغي بسخرية إلى كلمات المجاملة والعزاء التي يوجهها إليها الزائرون
قالت إحدى النساء:
ولكنك سوف تكونين في سعة من العيش، فلقد ترك أيضاً وراءه مقادير مخبأة من المال لا بأس بها. لقد كان دائماً متبصراً يا مارية. كان يشح من أجلك
فمطت مارية شفتيها بسخرية وابتسمت ابتسامة باردة وقالت:(89/56)
إن كل ما هنا قد عاد إليَّ. ولكنك عديمة الفطنة يا مسز هاولز. إنك تفكرين دائماً في المال
آه! مثلك أنت. إنه يبدو عليك أنك فتاة غير طبيعية من كل الوجوه يا مارية، ألا تذرفين دمعة واحدة على أبيك المسكين؟ ها أنت جالسة ككتلة من الثلج، لا تعرفين الكلام إلا في كل ما لا يتفق مع الموقف الذي أنت الآن فيه!
وكان الجيران خارج الغرفة يتكلمون عن عدم تأثر الفتاة وجمود عينيها اللتين لم تعرف الدموع اليهما سبيلاً؛ ولكن مارية كانت جالسة في هدوء، مفعمة القلب بالاحتقار والعداوة للجميع، متمتعة في أعماق نفسها بأن تكون موضع أحاديث الناس، هانئة بذلك الدخل الذي سوف تناله عما قريب. وعندئذ شعرت أنها أصبحت مستقلة طليقة، وفي نفس تلك الليلة آوت إلى سريرها في فراشها الوثير باستسلام شهواني. وكأنما الموت الذي أقبل إلى المنزل قد فتح في أعماق نفسها منبعاً من السرور العجيب
وفي صباح اليوم التالي أرسلت مارية عمتها (آن) لتبحث عن المجنز، فحرجت آن وهي تتمتم بعبارات السخط والغضب، ولكنها كانت تتعزى كلما فكرت في أنها ستفوز بخمسة شلنات، لتشتري بها ثوباً أسود وقبعة. وكانت تقول لنفسها وهي تبكي:
وإن دفنه بيدي جون جونز سيقلقه في مقره الأخير. فعرباته القديمة فرشها حقير للغاية. إني أخجل منهم
وعاد المجنز معها واستصحبته إلى الدور الأعلى لكي يقيس جثة الميت، ثم نزل إلى الصالون حيث انتظر مارية
وجاءت مارية، فبادرها بقوله:
ما أكثر وقار وجهه يا مس مورجنز
فأجابته مارية في الحال بنظرة خبيثة قائلة:
إن وجهك أنت سيكون أكثر هدوءاً ووقاراً حين يتوفاك الله!
فسألها وهو يهز رأسه الصغير:
وكيف ذلك؟ لقد عشت حتى الآن عاقلاً رزيناً
فقالت بخبث وهي تبحث له عن كرسي:
لقد كنت في المدرسة صبياً ماجناً خداعاً، اجلس الآن ودعنا نتكلم في الموضوع(89/57)
كان جون جونز شابا نشيطاً عصبياً أشبه بعصفور. ألقى جون جونز قبعته بجانبه، وفرك يديه ثم وضعها على ركبتيه النحيلتين كركبتي مراهق، وكان يحاول عبثاً أن يتظاهر بالبرود الحزين الذي يتناسب مع مهنته، فقد كان خفيف الحركة، ويبدو كأنما يثقله العمل الكثير، وكانت لحيته كأنها محلوقة منذ برهة وجيزة، كما أنه لم يكن ناجحاً في عمله كمنافسه
قال جون جونز، وقد بدا على وجهه نوع من الاهتمام:
أي نوع من التوابيت تفضلين؟
وعندما نظرت إليه مارية نظرة باسمة احمرت وجنتاه وتولاه الاضطراب. سألته قائلة:
كم الثمن الذي تريده؟
كانت مارية جالسة أمامه وجهاً لوجه تناقش الأثمان بمكر ودهاء عجيبين، وقد لمعت شفتيها الغليظتين، وبدا عليها التفكير والانتباه، مما جعله يعجب بها برغم سخطه. وبعد حساب طويل، قال:
إن كل شيء سوف لا يتكلف أكثر من عشرين جنيهاً، فهزت مارية رأسها قائلة:
إن توماس إيفانز يأخذ أقل من هذا
فقفز جون جونز من على كرسيه، وقد تملكه الغضب وقال:
إنك يهودية إلى آخر حد يا مارية مورجنز، إنه لا يليق أن تكوني شحيحة هكذا فيما يتعلق بالمآتم
فتوقفت مارية أيضاً، وقد احمرت وجنتاها من الغضب وصرخت:
إنك تريد أن تسرق الأيتام الفقراء، تريد أن تربح من فتاة لم يعد لها أب!
فضحك جون جونز ساخراً:
أيتام فقراء! إنني متأكد أن والدك قد ترك مالاً وفيراً، ولكن ابنته تريد أن يدفن كما يدفن رجل معدم
وفرقع أصابعه بعصبية، ونظرت مارية إليه طويلاً، وقد انخفض جفناها وعاد إليها خبثها من جديد، ثم قالت:
إنني أحب أن أراك غاضباً مهتاجاً، إنك بهذا تكون أكثر رجولة، ولكنك الآن أكثر غضباً(89/58)
مما يجب أن يكون عليه (حانوتي)
كان جون جونز يسائل نفسه: كيف يترك هذا الرجل الموقر وراءه مثل هذه الفتاة الوقحة ذات اللسان البذيء! على أنه تذكر تجارته التي كانت آخذة في التدهور، فقال بهدوء:
دعينا من هذا يا مس مرجنز، كوني أكثر عدلاً، سوف أنظم جنازة فخمة بتسعة عشرة جنيها ونصف جنيه
وطلبت مارية من عمتها أن تحضر الشاي لجون جونز، وأخرجت هي خير ما عندها من الحلوى والفاكهة وأعطته منها كمية كبيرة
وفي يوم الدفن كان المطر يسقط مدراراً، والسماء مكفهرة، والجو رديئاً. وكانت مارية حزينة لأنها أنفقت كثيراً من النقود في شراء فستان أسود جميل وقبعة، كانت تقول لنفسها بعصبية متنقلة بين الحوانيت:
سوف يعرفون أنه حتى مس مورجنز الفقيرة الملبس تستطيع أن تبرهن على أنها سليمة الذوق
على أن المطر ضايقها كثيراً، فقالت لعمتها (آن) وهي ساخطة في صباح يوم الدفن:
سأضطر للذهاب لشراء معطف للمطر وشمسية جديدة، إنني دائماً سيئة الحظ، فسوف يكون هذا النهار رديئاً
كان المطر يسقط والرياح تصفر بقوة شديدة بالقرب من المقبرة، وكانت مارية واقفة بجانب القبر متكئة بجسمها الضخم على ذراع ابن عمتها تفكر في شمسيتها الحريرية الجديدة وتنعم النظر في الزهور التي تداعبها الرياح، وتفكر بحسرة مريرة في شبابها المنطفئ. آه! ولكن كم من الأوقات الطويلة السعيدة ستتمتع بها حين ينتهي كل ذلك! لا، إنها سوف لا تبيع منزلها وتعيش بعيداً، فستكون مجهولة لا يعرفها أحد إذا ذهبت إلى مكان آخر، وسوف تشتري كمية من الفساتين وتنشر (الموضة) في الحي الذي تعيش فيه، وتدهش صديقاتها. وسرعان ما رأت نفسها تنزل إلى الدور الأرضي من الكنيسة في روعة يحسدها عليها الجميع. ولكن عندما أخذ الجميع يرتلون الترتيلة المحزنة الأخيرة فكرت من جديد في ألوان السعادة التي حرمت منها؛ وأخيراً بكت، فخفف بكاؤها كثيراً مما يثقل قلب عمتها (آن)(89/59)
وعندما أخذت مكانها في العربة أقبل (الحانوتي) وفي يده غطاء غطى به ركبتيها وعلى وجهه إمارات التأثر، ثم قال:
إن داخل العربة بارد. إنك قادرة على كتم عواطفك بشجاعة يا عزيزتي مس مورجنز
فأجابته بشموخ:
أشكرك يا جون جونز، أظن أنه لابد لك من شلن من أجل هذا الغطاء!
وعندما دخل الجميع العربة اتجهت إليها عمتها (آن) وقد بدا عليها الغضب، وقالت:
إنك تتصرفين كما لو كنت قطعة من الخشب، لقد أفسدت علي عملية الدفن، وكنت خجلة منك إلى أقصى حد
فقال ابن عمة الفتاة في صوت متأثر:
يا عزيزتي، لقد بكت عندما كنا نرتل الترتيلة الأخيرة، فأجابت العمة:
آه، عندما كان كل شيء قد انتهى تقريباً. سوف يتكلم عنها كل من كانوا بالكنيسة
فقالت مارية بكبرياء:
إن كل ما يقولونه لا يهمني، وأنت يا عمتي (آن) عجوز مرائية، إنني أعرفك جيداً
ثم قالت ساخرة:
إن كل ما في المسألة أنك تحسدينني من أجل ثروتي لا غير!
وعندما وصلوا إلى المنزل صعدت مارية إلى الطابق الأعلى لكي تخلع حذاءها الضيق الذي جرح أصابع قدميها. وكانت جموع الناس قد اجتمعت منتظرة الطعام الذي يعد عادة بعد الجنازة. وكانوا يعلقون بأصوات خافتة من الجوع على كل ما حدث في الجنازة. أما مارية فقد فتحت صندوق مغلقاً بمفتاح، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة. وأخرجت منه علبة المسحوق الأبيض التي اشترتها بعد موت والدها، ودهنت أنفها اللامع وخديها النحاسيين، وهي في غبطة وسرور من هذا الإثم الجديد. وبعد ذلك لبست قرطها بهدوء. ثم اتجهت نحو السلم فرحة منتفخة كأنها ملكة مهيأة من جديد للنزول وعليها إمارات الأبهة والجلال. وفي أثناء نزولها سمعت أصوات بعض النسوة آلائي كن يتكلمن عند المدخل بصوت منخفض، فوقفت تنصت إليهن، فسمعتهن يذكرن اسمها. قالت إحداهن:
لقد كانت دائماً سخيفة غبية. ولكنها اليوم كانت حقاً وضيعة النفسية لا يحمل قلبها ذرة من(89/60)
النبل. لقد كانت معجبة بملابسها السخيفة كأنها في حفلة زواج
وقالت الأخرى:
ألم تكن تفكر أنه كان يجب عليها أن تبكي على الأقل اعترافاً بالجميل من أجل ذلك المال الكثير الذي تركه لها
لقد كانت كشخصية مضحكة في مأساة محزنة. ما هذه القبعة التي كانت تلبسها! أي مرض من الذوق ذلك الذي جعلها تلبس هذه القبعة في جنازة أبيها!
ونزلت مارية بهدوء. وعندما أحست النسوة بقدومها ابتدأن يتكلمن بأسى عن ساعة الدفن، ونظرن إليها بعيون كلها شفقة ورثاء. فنظرت إليهن مارية، وقد كشرت عن أنيابها وصاحت:
أخرجن من منزلي يا ذوات الألسنة البذيئة. أخرجن من هنا!
فجرى النسوة من وجهها الغاضب. ولكن إحداهن صاحت لدى الباب:
امسحي هذا المسحوق الأبيض الذي على وجهك أيتها الفتاة المفتونة!
وبعد أسبوع ذهب جون جونز إلى المنزل ومعه قائمة حسابه فأدخلته مارية إلى الصالون، ووضعت على الطاولة تسع عشرة ورقة من ذات الجنيه، فعد (الحانوتي) النقود بعناية. ثم التفت إليها وقد احمرت وجنتاه. ثم قال رافعاً صوته:
أرجو يا مس مرجنز أن تعطيني النصف جنيه الباقي. فأجابته
إذن قدم لي حساباً عن هذا المبلغ الضخم. لقد كانت الجنازة متواضعة
فصاح وهو يهز قبضته بانفعال شديد:
سوف اذكر ذلك أمام المحكمة. نعم سأقاضيك مطالباً بمبلغي أيتها المرابية الشحيحة!
كانت مارية متشحة برداء من القطيفة السوداء. لابسة عقدها وقرطها. معلقة ساعتها في ردائها الضيق الملتصق بجسمها المفصل على آخر طراز. قامت مارية من على كرسيها وقالت بطريقتها الإنجليزية الرشيقة:
لست ممن يتناقشن مع الحانوتي من أجل نصف جنيه. لقد كنت أظن أنك رجل مهذب ولكن يظهر أنني كنت مخدوعة
ظل جون جونز صامتاً وكأنه تذكر فجأة شيئاً. فنظر إليها بعينيه اللامعتين اللتين تشبهان(89/61)
عيني قرد، وقد بدا عليه الألم والحسرة، ولكن مارية خرجت من الغرفة ببرود وعادت وفي يدها كيس من التيل، وأخرجت منه حزمة منتفخة من أوراق البنكنوت. فنظر جون جونز إلى النقود. وقال بصوت تبلله الدموع
اغفري لي ثورتي يا مس مورجنز. لقد نسيت في فترة غضبي الخسارة المؤلمة التي انتابتك. يا إلهي! كم ستشعرين بالوحدة، إن عمتك ليست الرفيق اللازم لفتاة شابة. هلا وضعت بعد مشروعات تقومين بها في المستقبل؟
لقد كان قلبه الصغير الحساس يخفق حقيقة بحرارة رحمة بمارية التي لا أنيس لها. وابتسمت مارية ابتسامة خفيفة، وهي تعبث بيدها في أوراق البنكنوت، بينما جون جونز ينظر إليها وعليه إمارات التأثر
أجابت مارية:
إنني لست مستعجلة. فسوف أعيش بمالي في بسطة من العيش
فقال جون جونز:
حقاً. ويمكنك أن تحصلي على ثمن جيد لهذا المنزل وللأربعة منازل الأخرى التي تقع في طريق المناجم. إنهم خالون من حق الاتفاق. أليس كذلك؟
فقالت مارية ضاحكة
إنك تريد أن تعرف كل شيء؟
وخرجت ثانية حاملة معها الكيس، ثم عادت ومعها زجاجة من النبيذ الفاخر وطبقاً من البسكويت. صرخت مارية بنشوة وافتخار رافعة الزجاجة إلى أعلى:
إنها الأولى في هذا المنزل
فقال جون جونز ضاحكاً أيضاً
لقد كان والدك مدمناً على شرب الماء!
وبينما كانا يشربان كانت مارية تنظر من النافذة بنشوة كأنها في حلم. ولكنها لاحظت أن الحانوتي يرمقها بنظرات عصبية
قالت مارية:
لا، إني لم أضع بعد مشروعات. كنت أريد أن أنتقل من هذا المنزل. ولكن فتاة غير(89/62)
متزوجة لابد أن ستشعر بالوحدة المضنية في مكان غريب. أما إذا وجدت زوجا. . . ورفعت عينيها الذابلتين نحوه. وكان هو من ناحيته ينظر إليها بتحديق شديد
لقد كان ذلك أكثر مما كان يأمل، فشرب قدحه سريعا، ثم رفع كوبته بيد مرتعشة وانحنى على ركبتيه أمامها، وأمسك بيدها وهو يتكلم بعبارات سريعة مضطربة قائلاً:
خذي يا عزيزتي مس مورجنز. إنني أنا أيضاً أعزب وحيد. لقد أحببتك منذ أن رأيتك أثناء دفن والدك هادئة ووحيدة. حقاً إنني أحبك. إنني أشعر في أعماق نفسي بشيء غريب نحوك
فأخذت مارية تضحك ضحكاً طويلاً لا ينقطع ثم قالت: يا جون جونز إنك بخيل لدرجة أنك لا تستطيع أن تحب. هل تحبني من أجل ذاتي؟
فقال جون جونز بحزن:
إنك قاسية خبيثة
فأجابته في الحال بحدة:
أوه! إنني لا أشعر بالحب نحو أي رجل ما. إنني أريد أن أتزوجك ليكون لي اعتبار في أعين الناس. والآن كم يكون هذا مفاجأة عجيبة بالنسبة لأولئك النسوة جميعاً!
علي كامل(89/63)
من هنا وهناك
ضوء جديد على قضية دريفوس
نعرف ما لقضية دريفوس الشهيرة من أهمية وآثار بالغة في تاريخ فرنسا المعاصر السياسي والاجتماعي. وقد مضى اليوم زهاء ثلاثين عاماً على خاتمة تلك القضية الشهيرة التي حكم فيها على الضابط البريء الفريد دريفوس بالنفي والتجريد، واستمرت أدوارها بين إعادة نظر ونقض وأحكام مختلفة مدى عشرة أعوام، تأثرت خلالها الحياة الفرنسية العامة أيما تأثير؛ ثم حكم نهائياً بتبرئة الضابط المظلوم ورد إليه حقوقه واعتباره. ومع ذلك لم تقل بعد آخر كلمة في هذه القضية الشهيرة. فقد صدر أخيراً كتاب بالفرنسية بقلم هنري مازيل عنوانه (تاريخ قضية دريفوس ونفسيتها) يذهب في المؤلف إلى رأي جديد يرفق فيه بين رأي القائلين ببراءة دريفوس، ورأي خصومهم، وأنه لم يكن في المسألة كلها خائن ولا متهم؛ وأنه إذا كان ثمة متهم، فهو متهم من نوع خاص لأنه لم يكن سوى الكولونل شفارتز كوبن الملحق الحربي للسفارة الألمانية، فهو الذي دبر الدسيسة كلها، وعمل على تغرير أركان الحرب وخديعته
ذلك أن الكولونل لاحظ منذ مدة أن مدام بستيان خادمة السفارة تحمل دائماً قصاصات الورق التي يلقيها في سلة المهملات إلى قلم المخابرات الفرنسي؛ ففكر في أن يخترع حكاية (البردرو) وهي الوثيقة التي كانت أصل القضية كلها، فكتب عندئذ هذه الوثيقة بنفسه، مقلداً فيها خط الضابط استرهازي الذي كان لديه نماذج من خطه لأنه كان يكاتبه؛ ولما كتب الوثيقة مزقها بعد ذلك، وألقاها في سلة المهملات؛ فأخذت مدام بستيان القصاصات كالمعتاد إلى قلم المخابرات
ويؤيد مسيو مازيل رأيه بأدلة منها أن (البردرو) كان مكتوباً بفرنسية ركيكة لا يمكن أن تصدر من ضابط في أركان الحرب مثل دريفوس، ولا يمكن أيضاً أن تكون من كتابة استرهازي لأنه كان يكتب خطاباته دائماً في أسلوب مختار؛ وكل الدلائل تدل على أن (البردرو) إنما كتبه رجل بالفرنسية يفكر بلغة أخرى
وقد أثارت نظرية مسيو مازيل اهتماماً كبيراً في دوائر التاريخ والقضاء؛ ونالت تأييداً كبيراً(89/64)
آثار ملكة سبأ
ما زالت أساطير العصر القديم التي تجري مجرى التواريخ تثير طلعة الباحثين والمكتشفين؛ فهم يحاولون في فلسطين مثلاً أن يعثروا بآثار سليمان وداود، ويحاولون أن يكتشفوا بقايا (ارم ذات العماد) في بلاد العرب. وهنالك من يحاول أن يكتشف آثار ملكة سبأ في بلاد الحبشة، وذلك هو الكونت بيرون دي برورك العلامة الأثري البولوني، وهو ممن يعشقون الأساطير القديمة ويهيمون بتحقيقها، وقد اكتشف من قبل في ذلك المجاهل قبر (تيني هنان) الذي كان يعتبر من قبل خرافة، ومنذ أشهر عاد إلى الحبشة من طريق السودان المصري، ليحاول البحث عن مناجم سليمان الذهبية، وآثار ملكة سبأ الشهيرة؛ وعكف على البحث مدى حين في هضاب بلاد يامو؛ ولكنه لم يظفر بآثار حقيقية تكشف عن حقيقة تلك الأساطير الشهيرة؛ بيد أنه استطاع أن يجمع كثيراً من المعلومات الأثرية الهامة عن تلك المنطقة؛ وربما عاد في فرصة قريبة ليستأنف مباحثه
والواقع أن من الصعب أن نقتنع بصحة أمثال هذه الأساطير من الوجهة التاريخية. وقد يكون لبعضها أساس تاريخي، ولكن الأسطورة تحيط به وتجرده من حقيقته الأولى لتخرجه لنا في ثوب خرافي محض. ومن هذا القبيل أسطورة قبر (الإسكندر) المقدوني، وكونه قد دفن بالإسكندرية، فقد اهتم المستر هوارد كارتر مكتشف قبر توت عنخ آمون بهذه الرواية. وأخذ بالفعل يبحث عن تحقيقها تمهيداً لاكتشاف قبر الإسكندر. على أن لهذه الأسطورة مهاداً أخرى، إذا يروى أن الإسكندر دفن بالشام، أو ببلاد الفرس، وقد ذهبت جهود العلماء لتحقيقها سدى منذ نصف قرن
التنافس بين الفاشستية والهتلرية على استعباد الشعوب
كثر الجد أخيراً بين الصحف الألمانية والصحف الإيطالية، وانفردت الصحف الألمانية إلى جانب الصحف الروسية بالحملة على مشاريع إيطاليا وجهودها الاستعمارية، ولاسيما في بلاد الشرق الأدنى. وتنتهز الصحف الألمانية هذه المناسبة للحملة على (الفاشستية) والمقارنة بينها وبين (الاشتراكية الوطنية) (الهتلرية) الألمانية، وقد نشرت مجلة (فولك أوند رخت) (الشعب والحق) البرلينية أخيراً فصلاً تندد فيه بخطط إيطاليا وبالفاشستية الإيطالية، وتقول إن سلام شعوب الشرق الأدنى لا تحققه الفاشستية التي هي في الواقع(89/66)
عنوان عصر قد ختم؛ أما (الاشتراكية الوطنية) فهي بالعكس نظام جديد، قد خلق أسلوباً جديداً للتفكير يعارض كل ما ذهب إليه النظرية الغربية في شأن الدولة والرأسمالية، ولا سلام للشرق إلا باعتناق مبادئ الاشتراكية الوطنية. وقد ردت جريدة (جورنالي ديتاليا) الإيطالية على هذه الحملة، فقالت إنه يراد أن يخلق تعارض بين الفاشستية والاشتراكية الوطنية، وأن يتخذ من هذا التعارض أساساً لمنافسة سياسية تزمع ألمانيا أن تقوم بها ضد إيطاليا في الشرق الأدنى، وتسلم الصحيفة الإيطالية بوجود فروق جوهرية بين الفاشستية والاشتراكية الوطنية، ولكنها تنوه بما تقوم عليه النظرية الألمانية من التفاضل بين الأجناس، وأنها تطالب بوحدة الأمم من الوجهة الجنسية. والواقع أن أمم الشرق الأدنى تتكون اليوم من مزيج من الأجناس المختلفة، وتتكون كل منها حول الجنس الغالب؛ فإذا فكرت في ألا تطبق المبادئ الهتلرية فعليها أن تمزق نفسها مختارة، وأن تتنازل عن أجزاء من أراضيها تعمرها الأجناس الدخيلة أو المنحطة
وهكذا ينم هذا الجدل عن غايته، فأنصار الاشتراكية الوطنية يزعمون أنهم أحق باستعمار الأمم وبسط نفوذهم عليها؛ ويعارضهم أنصار الفاشستية في هذه الدعوة؛ وأمم الشرق تستهدف في الحالين إلى مطامع الاستعمار ودسائسه؛ ومن المفيد أحياناً أن تتبع الأمم الشرقية مثل هذا الجدل لتقف على ما تبطنه الفاشستية الإيطالية أو الهتلرية أو غيرها من الدعوات والمبادئ الخلابة نحوها من ضروب الغدر والعدوان(89/67)
المسرح والسينما
كتب كاتب في جريدة (الطان) نبذة شائقة عن المسرح والسينما وما يضطرم بينهما من منافسة ينوء بها المسرح. ومنذ حين يثور الجدل حول هذا الموضوع، وتتجه معظم الآراء إلى أن تقدم الفن السينمائي كان ضربة قاضية للمسرح، وأن المسرح يتدهور بل ينحدر إلى الفناء بسرعة، وأن السينما قد انتزعت منه معظم رواده ومحبيه. ويقول لنا كاتب (الطان) إن هذه الجلسات السينمائية الصغيرة، ومناظرها الشعرية الغريبة، قد خلبت حقاً ألباب الناس، غير أنه يذهب إلى رأي جديد فيما يتعلق بتقدم الفن السينمائي؛ فهو يرى أن السينما ليس لها من الوجهة الفنية عدو ألد من نفسه، وأخطر من نجاحه، فهو من جهة عبد القوة المالية يطيعها طاعة عمياء، ومن جهة أخرى عبد المخرجين (مخرجي المناظر). ولما كانت الأشرطة السينمائية لغة عالمية، فإن مخرجيها لا يفكرون إلا في إخراج أشرطة ومناظر تجتذب أعظم مجموعة من الرواد، ويمكن أن تعرض في نفس الوقت في يوكوهاما وبرلين وباريس ولندن ونيويورك وشنغهاي، والنجاح يغدق المال. على أن هذا النجاح نفسه يحمل المخرجين على أن يتحروا دائماً التأثير في العدد، نجاح الكمية لإنجاح النوع، ومن ثم كانت جمهرة (الأفلام) المتماثلة في المناظر والأذواق العامة، وهي مناظر أصبحت معروفة يتوقعها ويتنبأ بها الجمهور بلا مشقة، وهذا الاتجاه المادي المحض الذي يتخذه الفن السينمائي يثير اليوم بين الكثيرين ضجراً وخيبة أمل، وهؤلاء يرون أن الفلم لم يعد يرضي أذواقهم وأمانيهم الفنية، وأن المسرح هو الكفيل بتحقيق هذه الأذواق والأماني
ولهذا يتجه الكثيرون اليوم صوب المسرح، ويعود المسرح فيحرز بعض النجاح والانتعاش، ولكنه انتعاش بطيء يحتاج إلى وقت غير قصير، غير أنها على أي حال ظاهرة تدعو إلى التفاؤل. وفي وسع أنصار المسرح والفن المسرحي أن ينتهزوا هذه الفرصة فيضاعفوا جهودهم لتجديد المسرح من الناحية الفنية ويستطيع الكاتب المسرحي أن يؤدي في ذلك التجديد دوراً خطيراً، إذا استطاع أن يزود المسرح بطائفة من الآراء والمناظر المبتكرة.
البريد الأدبي
في نادي القلم العراقي(89/68)
عقد نادي القلم العراقي في بغداد جلسة في دار أحد الأعضاء، وقد ألقى في هذا الاجتماع رئيس النادي الأستاذ رضا الشبيبي محاضرة عن (المجريطي: فلسفته ومكتشفاته) وهي نتيجة دراسة كتاب من أهم كتب المجريطي، وهو من أنفس الآثار العربية النادر اسمه (غاية الحكيم وأحق النتيجتين بالتقديم)، وبعد أن ألم المحاضر بتاريخ المجريطي قائلاً في هذا الباب إنه صاحب رسائل (إخوان الصفا) الأندلسية التي ألفها على نمط (رسائل إخوان الصفا) العراقية فبذر فيما بذر التفكير العلمي في أذهان الأندلسيين، فلم تلبث الفلسفة أن ازدهرت في العصور التي تلي عصره في الأندلس، وجاء منها أمثال ابن رشد وابن الصائغ وابن طفيل وبني زهر وغيرهم من أعيان الفلاسفة والمفكرين. وذكر أيضاً أن المجريطي عالج عدة موضوعات تاريخية وفلسفية، وهو مؤلف كتاب (تاريخ فلاسفة العرب) ترجم فيه الكندي وغيره، وقد استظرف الكندي رسالة موضوعها (كمية بقاء دولة العرب) (؟)
وبعد ذلك شرع المحاضر يسرد نتيجة دراسته لهذا الأثر من آثار المجريطي وقال: يستفيد من هذا الكتاب، أي كتاب غاية الحكيم، من يعنى بدراسة تاريخ الحضارة البشرية في أقدم عصورها، ومستنبطات الأمم العريقة في القدم من أنباط وأقباط وسريان وهنود وغيرهم، ومكتشفاتهم وجهودهم في تقدم العمران؛ وبعد أن أورد هذا ونحوه قال: لا أستبعد أنا والحالة هذه أن يكون لآراء المجريطي ومكتشفاته أثر في عمران الأندلس وازدهارها خصوصاً فيما يتصل بالهندسة والكيمياء وعلم المواليد الطبيعية، وإن سكت المؤرخون عن ذلك كله. واستنتج من مواضع أخرى من الكتاب أن المجريطي فيلسوف يميل إلى الدراسة الشاملة، ولكنه يرجح العلوم الواقعية التي يؤيدها الحس والتجربة، ولا يذعن إلا لأحكام العدد والأرقام في تفكيره. وأنه مفكر من طراز أعظم مفكري العصر في الرياضيات والطبيعيات. وينحو من بعض الوجوه منحى الرياضيين الأوربيين في محاولة إخضاع قوى الطبيعة واستخدامها لرفاه الإنسان ورفع مستواه في سلم الحضارة، هذا ونحوه
(البلاد البغدادية)
للحق والتاريخ(89/69)
قرأت في الرسالة السابعة والثمانين نبأ (عيد الربيع القومي في سورية) وأن (فريقاً كبيراً من طلبة الجامعة السورية والمدرسة التجارية والمدارس الثانوية العالية عقدوا اجتماعاً بحثوا فيه مشروع إقامة عيد قومي في الربيع وأطلقوا عليه اسم عيد الربيع القومي). فعجبت من نفسي! كيف أكون في صلب دمشق، وأكون أشد الناس صلة بمثل هذه المشروعات، ثم لا أسمع بهذا الخبر إلا من مصر. . . وإني لأصفح (الجزيرة) كل يوم يتفضل منشئها الفاضل فيبعث بها إلى. ولكن من طبعي أني لا آكل الجوز بقشره. . . وأني أتخير اللباب من كل شيء، ولذلك لم أقرأ هذا الخبر في الجزيرة). أما وقد نشر في (الرسالة) والرسالة ديوان العرب، وكتاب الشرق، فلم يبق من قراءته والتعليق عليه بد، كيلا يعلق منه شيء في نفوس القراء، ويبقى مخزاة خالدة لدمشق
والحق أن شيئاً مما قالوا لم يكن، وأن هذا الاجتماع لم يعقد إلا في رأس كاتب هذا الخبر، وأن لطلبة الجامعة السورية لجنة تنطق بلسانهم، وتنوب عنهم، ولم يدع واحد من أفرادها إلى اجتماع، ولم تدع هي أحداً إلى اجتماع لمثل هذا. . . ولها مشاغل وأعمال هي خير لهذه الأمة وأجدى عليها من تأليف مواكب (تمثل أزاهير دمشق). . . ورئيسها الشاب العالم الفاضل الشيخ معروف الدوالي رجل مسلم يكره أن يدخل بإخوانه (جحر الضب)!
(أما المدرسة التجارية (العليا) (؟) التي يقوم أحد طلابها برحلة إلى شمال سورية من أجل هذا المشروع!). فجماع أمرها أنها دار في طريق الصالحية استأجرها قنصل إيطاليا منذ شهور، وكتب على بابها (المدرسة التجارية) واشترى لها مدرساً أديباً كبيراً معروفاً. . . وذهب هذا وذاك ومن والاهما، يخطبون في الناس بلغة (الذهب الإيطالي. . . وفي الناس أناس عقولهم في جيوبهم، وبطون أكفهم، فاستجابوا لهم، وبعثوا بأبنائهم إلى المدرسة، فكان فيها أربعون طالباً، من أصل أربعمائة ألف، هم سكان دمشق وضواحيها!
وأما المدارس الثانوية في دمشق، فإن كبراها المدرسة التجهيزية، وأنا أعلم علم اليقين أنه ليس بين الألف من طلابها، طالب واحد يعلم من أمر هذا المشروع أكثر مما يعلم أي قارئ من قراء الرسالة
ودمشق أعقل بحمد الله من أن تسفل في التقليد إلى هذه الدركة، وإن دمشق لتعلم - إذا لم يكن من التقليد بد - أن في باريس شيئاً غير مواكب الزهر، هو الجيش الذي تستعرض(89/70)
مواكبه يوم 14 يوليه. وأن فيها غير الشباب الذين يحملون الأزهار شباباً يحملون البنادق والسيوف. . .
وحسب دمشق عاراً المؤتمر النسائي! أفلا تمشي المصيبة إلا على ساقين؟
دمشق
علي الطنطاوي
مأدبة تكريمية
كان مطعم (سان جمس) في مساء الثلاثاء الماضي مجمعاً حافلاً بصدور العلماء وأعلام الأدب وأئمة وأعيان الصحافة؛ اجتمعوا لتكريم صديقنا الأستاذ أحمد أمين رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، وصاحب فجر الإسلام وضحى الإسلام، وأستاذ الأدب العربي بكلية الآداب. وكانت هذه المأدبة منذ طويل حاجة ملحة في نفوس أصدقائه وزملائه الذين راقبوا عن كثب جهاده الدائب المضني في خدمة العلم والتأليف عشرين سنة، فلما تهيأت الفرصة بانقضاء عشرين عاماً على رياسته للجنة التأليف والترجمة والنشر، وإخراجه الجزء الثاني من ضحى الإسلام تلاقت رغبات الأعضاء والأصدقاء على إقامة هذه الحفلة، فأقيمت برياسة الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك زعيم النهضة الفكرية الحديثة، وساهم فيها أولياء الثقافة من رجالات وزارة المعارف والجامعة المصرية ومجمع اللغة العربية الملكي ولجنة التأليف والترجمة والنشر، فجلس المحتفلون عشرة عشرة إلى الموائد الفخمة يتبادلون شهى الأحاديث في وقار العلماء واحتشام السادة، حتى إذا فرغوا من الطعام نهض معالي رئيس المأدبة فافتتح الكلام بالثناء على جهود الدكتور طه حسين في تعرف الأديب العربي على ضوء المناهج العلمية، وذكر كيف تعاون (الثالوث الأدبي) طه حسين وأحمد أمين والعبادي على خدمة الثقافة العربية بتأليف فجر الإسلام وضحاه، ثم لمح بسبق الأستاذ صديقه إلى أداء نصيبه، ونوه بأثر كتبه في الحياة الأدبية الحديثة، وتساءل لماذا لا يتوج مجمع اللغة العربية الملكي هذه الكتب القيمة أسوة بالمجامع الأخرى. ثم قام من بعده صاحب الفضيلة الأستاذ المراغي فذكر في منطق عذب وبيان هادئ، أن الدراسة في الأزهر تروض العقل على مصابرة البحث ومتابعة الدرس ورغبة الاستقصاء، فإذا(89/71)
صادفت عقلاً خصيباً وخلقاً قويماً وطبعاً سليماً أنتجت أمثال (الشيخ أحمد أمين)؛ ثم تكلم الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم فبين فضل الأستاذ على لجنة التأليف والترجمة والنشر بقوة إرادته ودقة إداراته وكرم أخلاقه، وجودة تأليفه برياسته لها عشرين سنة متوالية. ثم تلاه الدكتور عبد الوهاب عزام فلخص الصفات الثلاث التي يمتاز بها الأستاذ أحمد أمين حب النظام والدأب والتثبت وجماعها صفة واحدة هي حب الحق
ثم قام على أثره الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني فافاض في وصف الجاذبية الروحية التي يؤثر بها الأستاذ أحمد أمين في مناظريه ومعارضيه فيبلغ بسحرها من نفوسهم ما يريد؛ ثم تكلم الأستاذ محمد كرد علي عن البلاد العربية، والأستاذ نللينو عنالمستشرقين فأجاد التعبير عما تشعر به النفوس الفاضلة من إجلال العلم وأهله. ثم كان خاتمة المتكلمين الدكتور طه حسين فأشاد بفضل الأستاذ الكبير نللينو على دراسة الأدب العربي في مصر، ثم وفى صديقه الأستاذ الأمين ما هو أهله من التقدير والحمد؛ ثم نهض الأستاذ المكرم فشكر الداعين والمدعوين في عبارة أخاذة الأسلوب شديدة الروعة
والرسالة ترجو أن تؤدي واجبها لصديقها الأستاذ في عدد مقبل(89/72)
الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
وقلت للأستاذ النعيمي عقب وصوله إلى لبنان: هل أعددت وراءك غربالاً آخر؟ فأجاب: ذاك غربال انطوى، فتحت به طريقي إلى النور، والآن أراني سائراً إلى المحجة التي فرضتها على الحياة، أو فرضتها عليّ الحياة. . . .
فأعطانا (المراحل) وكتاب (جبران خليل جبران)
(خ. هـ)
- 1 -
وجه جبران خليل جبران
وما إن صدر كتاب (جبران خليل جبران) حتى تناولته الأكف، وتهافت عليه الناس. وما إن تلاه الناس حتى ضجوا به، وتفرقوا في شأنه شيعاً، شان العظيم لا يعرف أحداً معه معتدلاً: فمن ناقم على النعيمي لأنه فضح أسرار صديق كان يجب عليه أن يحفظ حرمته بعد الموت، ومن محبذ لأن الأدب لا يعرف تستراً! والحقيقة لا تعرف مواربة؛ وهكذا ذهب الناس في شأن الكتاب مذاهب مختلفة، وللناس مذاهبهم
أراد البعض أن يدرسه جملة، فخرج من درسه بما لا يرضاه، وشاء البعض أن يذهب في نقده ما يفرضه الناقدون على غيرهم من أساليب جافة، ومقاييس محدودة؛ ومتى كان الأدب - ابن الحياة - بقبل الحدود والقيود؟
الكتاب عظيم بنفسه، متفرد بروحه وبطريقته وبنقده، صارم ما شاءت الصرامة، وعادل ما شاء العدل. ولن نتبين هذه النقطة التي تمازج فيها العدل والصرامة في مواطن كثيرة، إلا إذا اطلعنا على المقياس الذي أعلن عنه نعيمة في مطلع الكتاب، وهو مقياسه الخاص في الأدب والفن والحياة، فإذا فهمنا هذا المقياس فهمنا الكتاب، وإذا أعرضنا عن هذا المقياس(89/73)
ضاع عنا جوهر الكتاب، والغاية التي ألف من أجلها
لا يريد نعيمة أن يعرض في كتابه تاريخاً له تفاصيله وله آفاقه، والبشرية - في اعتقاده - لم تكتب حتى الآن تاريخ إنسان، ولا تاريخ شيء على الإطلاق، وإنما أراد أن يجري في درسة لحياة جبران مع عقيدته الشائعة في نفسه (إن الفن مهما تسامى في نظر صاحبه ونظر الناس ليس من الأهمية على شيء ما لم يترجمه صاحبه والناس إلى قوة تنشط بهم من عقالات المعيشة المحدودة إلى حرية الحياة التي لا تحد - من الإنسان في الله إلى الله في الإنسان - والأدب مهما جمل لا معنى له إلا على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبت من الأرض وأبقى من السماء)
درس النعيمي جبران بهذا المقياس، ويدرس الأدب كله في جبران، والأدب عنده هو مثل أعلى إذا ربط الإنسان به حياته اللحمية والروحية، وهذا مقياس جاد صارم، لا يجعل من الأدب ملهاة، وإنما ينزله منزلة الحياة. . . وأنت واقع في الكتاب على فصول متنوعة، هي بجملتها حياة جبران، وهي بمجموعها تاريخ ذلك الصراع المادي لتذعن له المادة، وذلك الصراع الروحي المستمر لينقي روحه من أدرانها وشهواتها الأرضية. وفسادهما أن صاحبهما يحاول أن يفوز فيهما في وقت واحد
في الكتاب تاريخ جبران الإنسان، وجبران الفنان، وجبران الشاعر؛ تاريخ هؤلاء الأشخاص المفترقين تحت لواء عقل واحد. يمشي كل منهم في طريق؛ ولا يدري أين سلك رفيقه. وعقل جبران يظن أن نفسه هادئة مطمئنة - ونفسه منشقة على نفسها. جبران الإنسان لا يلتقي وجبران الشاعر الفنان إلا بالخيال؛ والخيال وحده لا يكفي إذا لم يقو على الإرادة، ويجنحها بجناحيه ويطير بها إلى حيث شاء
رسم النعيمي في كتابه لجبران وجوهاً كثيرة: منها وجه جبران الفنان، ووجه جبران الإنسان، ووجه جبران الطافح تمرداً، ووجه جبران الهادئ الذي جمدته السنون وارتسمت في غضونه الحكمة. أما جبران الفنان فأنت واجده في كل أدوار حياته التي أثرت فيه وأثر فيها، مهما كان من تباين بين شعره وفنه فالرجل استطاع أن يكون. . . برغم المصاعب التي اعترضته وبفضل المصادفات التي خلقت ذلك وفرضت ذلك. جبران الشاعر كغيره من الناس تسكره الشهرة وتستهويه لمعانها، وهو بعد جهاد عنيف استطاع أن يبلغ بخياله(89/74)
تلك القمة التي دعاها الناقد قمة (المصطفى) حيث أشرف جبران على الوجود، ونظر إليه بخياله الخالص من تأثير (نيتشه) وغيره، ووقف على معنى (الازدواج) فيه. ولكن جبران الإنسان لم يكن برغم سمو خياله - عاليا سامياً كما تصوره لنا ريشته وبراعته، فهو نسر نشيط كبلته قيود الأرض وشهوات المادة. لم يغنه الفن شيئاً، بل زاد عذابه عذاباً، لأنه كان يكشف لعينيه قباب ذلك الوجود الذهبي ويمنع قدميه الملوثتين من الدخول. . جبران الإنسان تغلي في صدره شهوات ابن المادة، وهو أناني ونصير حب يود أن يكون فيه محبوبه عبداً؛ وهو طالب شهرة لم يستطع فنه أن يحرره من شهرة الناس الذين يكرههم: لا يخرج من - صومعته إلا جبران الفنان، أما جبران الإنسان فهو راسٍ على صدره لا يفر منه إلا إليه. . .
هذا الاختلاف بين شخصين مندمجين في شخص واحد هو موضوع الكتاب
يتساهل النعيمي مع جبران الفنان وحق له أن يتساهل أمام فنه المرن ونزعته الشخصية مهما مازج فنه من عوامل غريبة عن فنه، أما جبران الإنسان فلم يرحم ضعفه ولم يستره بستار الرحمة، لأنه يرى أن رحمته تقوض معتقده الأدبي وتهدم نظرته الفلسفية، وإنما يعتقد أن العبقري الحقيقي لا يجعل من نفسه شخصين مختلفين، ويرى أن الفن الصحيح هو ما نقى النفس من أدرانها وأسوائها، فهل نقى جبرانالفنان جبران الإنسان؟
عمل جبران الفنان على تطهير جبران الإنسان، ورفعه من الهوة إلى القمة. ولكن قدمي جبران الإنسان كانتا من قصب، لا يكاد صاحبهما ينهض عليهما ويمشي قليلاً حتى تتحطما ويلبث مكانه. . . أليس في فرار ميشلين ابنة التراب! من وجه جبران الفنان ابن السماء: أكبر خزي لجبران؟ أليس في تألم الفتاة التي جاءت لتحيي (صاحب النبي) اعتقاداً منها أنه سيكون أسمى من النبي الذي خلقه أكبر هزيمة لجبران الفنان؟ وهكذا ظل جبران في نزاع مع نفسه حتى قضى ولم يقض لبانته
قد يكون في هذا التصريح بعض ما يجرح، ولكن الحقيقة. . . الحقيقة الإنسانية لا تعرف المراعاة، ولو كان جبران فناناً عادياً لما قاسه النعيمي بهذا المقياس الدقيق الذي لا ينطبق إلا على العباقرة المختارين والنوابغ الموهوبين.
ألم يكن (فيخت) يغلب فيه الإنسان الأخلاقي على الإنسان الفيلسوف؟ والإنسان الأخلاقي(89/75)
يغلب عليه الإنسان المجرد؛ وهو كلما تجرد ونزع عنه هذه الأقماط بدا أدنى إلى حقيقة السمو والكمال العاري كأنما كان يرتفع فنه معه متناسباً مع ارتفاع نفسه. وهذا هو المثل الأعلى الذي يطلب النعيمي إلى كل فنان يسمو إليه بعقله وجسده، وفنه؛ لا أن يقسم نفسه أقساماً، يضع كل قسم منه حيث يريد
(ولا يكفي الإنسان أن يبصر النور ليكون مستنيراً بل عليه أن يجعل ذلك النور هاديه الأوحد في حياته، وإن في ذلك وحده سراً لانعتاق الأيدي من جحيم المتناقضات، أما السبيل إلى ذلك ففي نبذ كل ما يحجب عنا النور من شهوات أرضية، ونزعات زمنية وشعور بالفردية التي لا تأتلف وروح الكلية الشاملة) وطبقاً لهذا الاعتقاد يبين النعيمي جانباً من حياة جبران - لا كل جوانبه - التي حالت دونه ودون الانعتاق، أو النكران المؤدي إلى الانعتاق.
وهكذا تطلع في هذا القسم على حياة مستقلة بذاتها عن الإنسانية، ومتصلة بذاتها مع الإنسانية؛ عارية كاسية، وإنما هي الحياة كلها بلحمها ودمها وروحها الذي لا يدرك
- 2 -
جبران الثائر وجبران الهادئ
لا يقف الناقد على درسه على جبران الفنان وجبران الإنسان، وإنما هو يعالج - من ناحية ثانية - المؤثرات التي أثرت في جبران، والعوامل المقدرة وغير المقدرة، والمتصلة - كما يقول الناقد - بمكوك الحائك الأكبر وغير المتصلة. فهو يولد مع جبران ويدرج معه من سياحة إلى سياحة، ومن فشل إلى رجاء ومن رجاء إلى فشل. طوراً ينطق جبران بما نطق، وتارة ينطق عن جبران بما لم ينطق. وفي هذه المنطقة يلتقي النعيمي الناقد بجبران الفنان المجرد، لا النعيمي الحامل المثل الأعلى لجبران الضائع وراء نوازعه الأرضية. ولا يمكننا أن نقف على قيمة جبران الأدبية إلا إذا تعمقنا في أحناء حياته. فجبران - في كتاباته - ذو وجوه متعددة، منها وجه المحب المنهزم، وجه المتمرد الثائر، وجه الهادئ الساكن، ووجه المتصوف السامي، وصاحب هذه الوجوه رجل واحد هو جبران. والنعيمي يستعرض هذه الوجوه وجهاً وجهاً دارساً عوالمها محللاً ألوانها(89/76)
(يتبع)
خليل هنداوي(89/77)
العدد 90 - بتاريخ: 25 - 03 - 1935(/)
ورد الربيع!
للدكتور عبد الوهاب عزام
دار الفلك دورته، وعاد سيرته، فسرت في أعصاب الأرض هزة الحياة، وتفجرت عروقها بالمياه، وسالت قمم الجبال جداول وأنهاراً، واشتعلت الأرض أزهاراً وأشجاراً
تبرجت بعد حياء وخفر ... تثنى على الله بآلاء المطر
صرحت الأرض بمكنونها، وأبانت الحياة عن ضميرها، فنبتت معاني الحياة والجمال، في ألفاظ من الأوراق والنوار
باح الربيع البساتين ... وعطر النفس أنفاس الرياحين
ونفخت أنفاس الربيع الحرى الحياة في كل ذرة، فأخرجت قواها أعشاباً وأزهاراً، فرقتها ألوان، وألفَّتها معان
لم يبق للأرض من سر تكاتمه ... إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف شتى من زواهرها ... حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أيُّ مسرح للفكر! وأي مجال للخيال! وأي مراد للطرف!
دنيا معاش للورى حتى إذا ... جاء الربيع فإنما هي منظر!
وفي أرجواني من النور أحمر ... يشاب يا فرند من الروض أخضر
إذا ما الندى وافاه صبحاً تمايلت ... أعليه من در نثير وجوهر
إذا قابلته الشمس رد ضياءها ... عليها صقال الأقحوان المنور
والطير مغردات كأن أصواتها ذوب هذه الألوان، وكأن ألوان الروض جمد هذه الألحان. يهتز الطائر الغريد على الغصن الأملود فيقرأ ما تحته من صفحات الجمال، كأنما الطير إبر الحاكيات تنطق بما تضمنت الصفحات من نغمات - والعصفور مرح تتداوله الأغصان، وتتهاداه الأفنان، تارة في انتزاء، بين الأرض والسماء، وتارة تغيبه الحديقة، كأنه في هذا الجمال فكرة دقيقة. صغير تملأ الهواء نغماته، وضئيل تشغل الجو خفقاته
والفراش قلق بين النوار، هائم بين الأزهار، لا يقر له قرار، كأن كل فراشة زهرة طائرة، أو قبلة بين الأزهار حائرة، أو نغمة في جمال الروض سائرة!
والشعراء ينافسون الطير على الأيك طرباً وتغريداً، وفي المرح تسبيحاً وتحميدا. تنبجس(90/1)
في جوانحهم ينابيع البيان، وتتفتح سرائرهم عن أزهار الشعر. ففي كل قلب ربيع، ومن كل قصيدة روض، وفي كل معنى وردة، وعلى كل قافية نغمة
هكذا تفيض الحياة على الجماد والنبات والحيوان، وينتظم الجمال الخليقة والإنسان، كأنما العالم كله فكرة واحدة، أو قصيدة خالدة!
ذلكم الربيع الذي فتن الناس فافتنوا في وصفه، والإبانة عن محاسنه، والإشادة بذكره، والاحتفال بمقدمه. فاتخذته الأمم على اختلاف المذاهب عيداً، ومجدته بشتى الوسائل تمجيداً، وأولع به الشعراء في كل قبيل، ولم يخل من المفتونين به جيل
والناس في مصر ربيع دائم، من أرضهم وسمائهم، وزرعهم ونيلهم. فهم لا يحسون مقدم الربيع إلا قليلاً. ولو أنهم عرفوا كلب الشتاء، وانجماد الهواء، وقشعريرة الأرض، وقسوة السماء، ورأوا كيف تموت الطبيعة في زمن، وتلتف من الثلج في كفن
وقد غاب في الثلج الربيع وحسنه ... كما اكتن في بيض فراخ الطواوس
ثم شهدوا كيف يأتي الربيع فيكهرب كل ذرة، ويفيض كل عين ثرة، ويخلق كل نضرة، لاحتفوا بالربيع احتفاء غيرهم، وعرفوا فيه النشور بعد الموت.
على أن للربيع في مصر دقائق يسر لها الإنسان، وشيات أبصرها الشعراء في كل زمان
جاء الربيع فليت في كل قلب من صفائه قطرة، وفي كل نفس من جماله زهرة، وفي كل خلق من عبيره نفخة، لتعمر النفوس بمعاني الحياة، وتستنير بأشعة الجمال، ويسكن الناس إلى السعادة حيناً، وينسوا أساليب العداوة والبغضاء زمناً. وليت الناس جروا مع الحياة طلقها، ولم يفسدوا على الطبيعة خلقها، فأنبت الربيع في كل قسوة رحمة، وفي كل يأس أملاً، وفي كل حزن سروراً، وفي كل ظلام نوراً، ليتهم اجتمعوا على ورد الحياة متصافين، كما ترف على جداول الربيع الرياحين
(ولكن الإنسان قد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالماً بذاته، فكان نشوزاً في نغم الكون ونفوراً في نظام العالم! فلو أنه اقتصد في تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لا تحد الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة في جسمه، وإشراق الصفاء في نفسه، وانبثاق الحب في قلبه، وأحسن أنه هو في وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!)(90/2)
(وبعد فان لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة، فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟
قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وإن شئت فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمرها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. والى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!
عبد الوهاب عزام(90/3)
بين خروفين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
اجتمع ليلة الأضحى خروفان من أضاحي العيد، فتكلما؛ فماذا يقولان؟
هذا هو الموضوع الذي استخرجه لي أصغر أولادي (الأستاذ) عبد الرحمن، وسألني أن أكتب فيه للرسالة، وهو أصغر قرائها سنا ترف عليه النسمة الثالثة عشرة من ربيع حياته - بارك الله لها فيها حاضرة ومقبلة
ولأستاذنا هذا كلمة هي شعاره الخاص به في الحياة، يحفظها لتحفظه، فلا يميل عن مدرجتها، ولا يخرج من معناها؛ وهي هذه الكلمة العربية: (كالفرس الكريم في ميعة حضره، كلما ذهب منه شوط جاء شوط).
فهو يعلم من هذا أن كرم الأصل في كرم الفعل، ولا يغني شيء منهما عن شيء؛ وأن الدم الحر الكريم يكون مضاعف القوة بطبيعته، عظيم الأمل بهذه القوة المضاعفة، نزاعاً إلى السبق بمقدار أمله العظيم، مترفعاً عن الضعف والهوينا بهذا النزوع، متميزاً في نبوغ عمله وإبداعه باجتماع هذه الخصال فيه على أتمها وأحسنها. فمن ثم لا يرمي الحر الكريم إلا أن يبلغ الأمد الأبعد في كل ما يحاوله، فلا يألو أن يبذل جهده إلى غاية الطاقة ومبلغ القدرة، مستمداً قوة بعد قوة، محققاً السحر القادر الذي في نفسه، متلقياً منه وسائل الإعجاز في أعماله، مرسلا في نبوغه من توهج دمه أضواء كأضواء النجم، تثبت لكل ذي عينين أنه النجم لا شيء آخر
ولما قدم إلى (الأستاذ) موضوعه في هذا الوزن المدرسي
- وأظنه قد نزعته حاجته مدرسية إليه - قلت: حباً وكرامة. وهاأنذا أكتبه منبعثاً فيه (كالفرس الكريم في ميعة حضره). . . ولعل الأستاذ حين يقرؤه لا يثور فيه علامات كثيرة بقلمه الأحمر. . .!
اجتمع ليلة الأضحى خروفان من الأضاحي في دارنا: أما أحدهما فكبش أقرن، يحمل على رأسه من قرنيه العظيمين شجرة السنين، وقد انتهى سمنه حتى ضاق جلده بلحمه، وسح بدنه بالشحم سحاً، فإذا تحرك خلته سحابة يضطرب بعضها في بعض، ويهتز شيء منها في شيء؛ وله وافرة يجرها خلفه جراً، فإذا رأيتها من بعيد حسبتها حملا يتبع أباه؛ وهو(90/4)
أصوف، قد سبغ صوفه واستكثف وترا كم عليه؛ فإذا مشى تبختر فيه تبختر الغانية في حلتها، كأنما يشعر مثل شعورها أنه يلبس مسرات جسمه لا ثوب جسمه؛ وهو من اجتماع قوته وجبروته أشبه بالقلعة يعلوها من هامته كالبرج الحربي فيه مدفعان بارزان. وتراه أبدا مصعراً خده كأنه أمير من الأبطال، إذا جلس حيث كان شعر أنه جالس في أمره ونهيه، لا يخرج أحد من نهيه ولا أمره
وأما الآخر فهو جذع في رأس الحول الأول من مولده، لم يدرك بعد أن يضحى، ولكن جيء به للقرم إلى لحمه الغض؛ فالأول أضحية وهذا أكولة؛ وذاك يتصدق بلحمه كله على الفقراء، وهذا يتصدق بثلثيه ويبقى الثلث طعاماً لأهل الدار
وكان في لينه وترجرجه وظرف تكوينه ومرح طبعه، كأنما يصور المرأة آنسة رقيقة متوددة. أما ذاك الضخم العاتي المتجبر الشامخ، فهو صورة الرجل الوحشي أخرجته الغابة التي تخرج الأسد والحية وجذوع الدوحة الضخمة، وجعلت فيه من كل شيء منها شيئاً يخاف يتقي
وكان الجذع يثغو لا ينقطع ثغاؤه، فقد أخذ من قطيعه انتزاعاً فأحس الوحشة وتنبهت فيه غريزة الخوف من الذئب، فزادته إلى الوحشة قلقاً واضطراباً؛ وكان لا يستطيع أن ينفلت، فهو كأنما يهرب في الصوت ويعدو فيه عدوا
أما الكبش فيرى مثل هذا مسبة لقرنيه العظيمين، وهو إذا كان في القطيع كان كبشه وحاميه والمقدم فيه، فيكون القطيع معه وفي كنفه ولا يكون هو عند نفسه مع القطيع؛ فإذا فقد جماعته لم يكن في منزلة المنتظر أن يلحق بغيره ليحتمي به فيقلق ويضطرب، ولكنه في منزلة المرتقب أن يلحق به غيره طلباً لحمايته وذماره، فهو ساكن رابط الجأش مغتبط النفس، كأنما يتصدق بالانتظار. . .
فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جيء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحس الكبش أن في الكلأ شيئاً لم يدر ما هو، وانقبضت نفسه لما كانت تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يذبح، وعاف أن يطعم، ورجع كأول فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول(90/5)
وكأنما جثم الظلام على شحمه ولحمه؛ فانه متى ثقل الهم على نفس من الأنفس ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعاً.
فأراد الكبش أن يتفرج مما به؛ وينفس عن صدره شيئاً، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويخضم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارهاً يا ابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علماً لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقة علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد
قال الصغير: أتعني الذئب؟
قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو كالشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرني هذين ترس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتاله، ومن أحرز نفسه من عدوه فذاك قتل عدوه، فان لم يقتله فقد غاظه بالهزيمة، وذاك عند الأبطال فن من القتل.
وهذا القرن الملتف الأعقد المذرب كالسنان، لا يكاد يراه الذئب حتى يعلم أنه حاطمة عظامه، فيحدث له من الفزع ما تنحل به قوته، فما يواثبني إلا متخاذلاً، ولا يقدم على إلا توهم الذئبية للخروفية، فان أساس القوة والضعف كليهما في السوس والطبيعة، غبر أنه لا يعلم أني خرجت من الخروفية إلى الجاموسية. . .!
فما يعلمه ذلك إلا بقر بطنه أو التطويح به من فوق هذا القرن، أقذفه قذفه عالية تلقيه من حالق، فتدق عظامه وتحطم قوائمه!
قال الصغير: فماذا تخشى بعد الذئب؟ إن كانت العصا فهي إنما تضرب منك الصوف لا الظهر
قال الكبش: ويحك! وأي خروف يخشى العصا؟ وهي إنما تكون عصا من يعلفه ويرعاه، فهي تنزل عليه كما تنزل على ابن آدم أقدار ربه، لا حطماً ولكن تأديباً أو إرشاداً أو تهويلاً؛ ومن قبلها النعمة وتكون معها النعمة وتجيء بعدها النعمة؛ أفبلغ الكفر منا ما يبلغ كفر الإنسان بنعمة ربه؛ إذا أنعم عليه أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر انطلق ذا صراخ عريض؟
وكيف تراني (ويحك) أخشى الذئب أو العصا، وأنا من سلالة الكبش الأسدي؟(90/6)
قال الصغير: وما الكبش الأسدي، وكيف علمت أنك من نجله، ولا علم لي أنا إلا هذا الكلأ والعلف والماء، والمراح والمغدى؟
قال الكبش: لقد أدركت أمي وهي نعجة قحمة كبيرة، وأدركت معها جدتي وقد أفرط عليها الكبر حتى ذهب فمها، وأدركت معهما جدي وهو كبش هرم متقدد أعجف كأنه عظام مغطاة، فعن هؤلاء أخذت ورويت وحفظت
حدثتني أمي، عن أبيها، عن أبيه، قالت: إن فخر جنسنا من الغنم يرجع إلى كبش الفداء الذي فدى الله به إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان كبشاً أبيض أقرن أعين، اسمه حرير
(قال). واعلم يا ابن أخي أن مما انفردت أنا به من العلم فلم يدركه غيري، أن جدنا هذا كان مكسواً بالحرير لا بالصوف، فلذلك سمي حريراً. . . (قالت أمي): والمحفوظ عند علمائنا أن ذاك هو الكبش الذي قربه هابيل حين قتل أخاه لتم البلية على هذه الأرض بدم الإنسان والحيوان معاً (قالوا): فتقبل منه وأرسل الكبش إلى الجنة فبقي يرعى فيها حتى كان اليوم الذي هم فيه إبراهيم أن يذبح ابنه تحقيقاً لرؤيا النبوة، وطاعة لما ابتلى به من ذلك الامتحان، وليثبت أن المؤمن بالله إذا قوى إيمانه لم يجزع من أمر الله ولو جر السكين على عنق ابنه، وهو إنما يجرها على ابنه وعلى قلبه!
(قالت) فهذا هو فخر جنسنا كله
أما فخر سلالتي أنا، فذاك ما حدثتني به جدتي، ترويه عن أبيها عن جدها، وذاك حين توسمت في مخايل البطولة، ورجت أن أحفظ التاريخ. قالت: إن أصلنا من دمشق، وإنه كان في هذه المدينة رجل سباع، قد اتخذ شبل أسد فرباه وراضه حتى كبر، وصار يطلب الخيل، وتأذي به الناس، فقيل للأمير: هذا السبع قد آذى الناس، والخيل تنفر منه وتجد من ريحه ريح الموت، وهو ما يزال رابضاً ليله ونهاره على سدة بالقرب من دارك. فأمر فجاء به السباع وأدخله إلى القصر، ثم أمر بخروف مما اتخذ في مطبخه للذبح، وأدخلوه إلى قاعة، وجاء السباع فأطلق الأسد عليه، واجتمعوا يرون كيف يسطو به ويفترسه
قالت جدتي: فحدثني أبي، قال: حدثني جدك: أن السباع أطلق الأسد من ساجوره وأرسله، فكانت المعجزة التي لم يفز بها خروف ولم تؤثر قط إلا عن جدنا، فانه حسب الأسد خروفاً(90/7)
أجم لا قرون له، ورأى دقة خصره، وضمور جنبيه، ورأى له ذيلاً كالألية المفرغة الميتة، فظنه من مهازيل الغنم التي قتلها الجدب، وكان هو شبعان ريان، فما كذب أن حمل على الأسد ونطحه، فانهزم السبع مما أذهله من هذه المفاجأة، وحسب جدنا سبعاً قد زاده الله أسلحة من قرنيه، فاعتراه الخوف وأدبر لا يلوى. وطمع جدنا فيه فاتبعه، وما زال يطارده وينطحه، والأسد يفر من وجهه ويدور حول البركة، والقوم قد غلبهم الضحك، والأمير ما يملك نفسه إعجاباً وفخراً بجدنا فقال: هذا سبع لئيم، خذوه فأخرجوه، ثم اذبحوه، ثم اسلخوه. فأخذ الأسد وذبح، وأعتق جدنا من الذبح، وكان لنا في تاريخ الدنيا إنسانها وحيوانها أثران عظيمان، فجدنا الأول كان فداء لابن نبي، وجدنا الثاني كان الأسد فداءه!
قال الصغير للكبش: قلت: الذبح، والفداء من الذبح؛ فما الذبح؟
قال الكبش: هذه السنة الجارية بعد جدنا الأعظم، وهي الباقية آخر الدهر؛ فينبغي لكل منا أن يكون فداء لابن آدم! قال الصغير: أبن آدم هذا الذي يخدمنا ويحتز لنا الكلأ، ويقدم لنا العلف، ويمشي وراءنا فنسحبه إلى هنا وههنا. . .؟
تالله ما أظن الدنيا إلا قد انقلبت، أو لا، فأنت يا أخا جدي. . .
قد كبرت وخرفت!
قال الكبش: ويحك يا أبله! متى تتحلل هذه العقدة التي في عقلك؟ انك لو علمت ما أعلم لما اطمأنت بك الأرض، ولرجعت من القلق والاضطراب كحجة القمح في غربال يهتز وينتفض!
قال الصغير: أتعني ذلك الغربال وذلك القمح وما كان في القرية، إذ تناولت ربة الدار غربالها تنفض به قمحها، فغافلتها ونطحت الغربال فانقلب عن يدها وانتثر الحب، فأسرعت فيه التقاطاً حتى ملأت فمي قبل أن تزيحني المرأة عنه؟
فهز الكبش رأسه فعل من يريد الابتسام ولا يستطيعه، وقال: أرأيت حانوت القصاب ونحن نمر اليوم في السوق؟
قال: وما حانوت القصاب؟
قال: أرأيت ذلك السليخ من الغنم البيض المعلقة في تلك المعالق لا جلد عليها ولا صوف وليس لها أرؤس ولا قوائم؟(90/8)
قال الصغير وما ذاك السليخ؟ إنه إن صح ما حدثتني به عن أمك، فهذه غنم الجنة، تبيت ترعى هناك ثم تجيء إلى الأرض مع الصبح، وإني لمترقب شمس الغد، لأذهب فأراها وأملأ عيني منها
قال: اسمع أيها الأبله! إن شمس الغد ستشعر بها من تحتك لا من فوقك. . .! لقد رأيت أخي مذ كنت جذعاً مثلك؛ ورأيت صاحبنا الذي كان يعلفه ويسمنه، قد أخذه، فاضطجعه، فجثم على صدره شراً من الذئب، وجاء بشفرة بيضاء لامعة، فجرها على حلقه، فإذا دمه يشخب ويتفجر، وجعل المسكين ينتفض ويدحص برجله، ثم سكن وبرد؛
فقام الرجل ففصل عنقه، ثم نخس في جلده ونفخه حتى تطبل وذرجع كالقربة التي رأيتها في القرية مملوءة ماء فحبستها أمك؛ ثم شق فيه شقاً طويلاً. ثم أدخل يده بين الجلد والصفاق، ثم كشطه وسحف الشحم عن جنبيه، فعاد المسكين أبيض لا جلد له ولا صوف عليه، ثم بقر بطنه وأخرج ما فيها، ثم حطم قوائمه، ثم شده فعلقه فصار سليخاً كغنم الجنة التي زعمت! وهذا - أيها الأبله - هو الذبح والسلخ!
قال الصغير: وما الذي أحدث هذا كله؟
قال: الشفرة البيضاء التي يسمونها السكين!
قال الصغير: فقد كانت الشفرة عن حلقه حيال فمه؛ فلماذا لم ينتزعها فيأكلها؟
قال الكبش: أيها الأبله الذي لا يعلم شيئاً ولا يحفظ شيئاً، لو كانت خضراء لأكلها!
قال: وما خطب أن تجيء الشفرة على العنق، أفلم يكن الحبل في عنقك أنت فجعلت تجاذب فيه الرجل حتى أعييته، ولولا أني مشيت أمامك لما انقدت له؟
قال الكبش: ما أدري كيف أفهمك إن هذا كله سيجري عليك، فسترى أموراً تنكرها، فتعرف ما الذبح والسلخ، ثم تصير أشلاء في القدور تضرم عليها النار، فيأكلك ابن آدم كما تأكل أنت هذا الكلأ. . .!
قال الصغير: وماذا علي أن يأكلني ابن آدم، ألا تراني آكل العشب، فهل سمعت عوداً منه يقول: الرجل والسكين، والذبح والسلخ. . .؟
قال الكبش في نفسه: لعمري إن قوة الشباب في الشباب أقوى من حكمة الشيوخ في الشيوخ، وما نفع الحكمة إذا لم تكن إلا رأياً ليس له ما يمضيه، كرأي الشيخ الفاني؛ يرى(90/9)
بعقله الصواب حين يكون جسمه هو الخطأ مركباً في ضعفه غلطة على غلطة لا عضواً على عضو. .؟ وهل الرأي الصحيح للعالم الذي نعيش فيه إلا بالجسم الذي نعيش به؛ وما جدوى أن يعرف الكبير حكمة الموت، وهو من الضعف بحيث تنكسر نفسه للمرض الهين، فضلاً عن المرض المعضل، فضلاً عن المرض المزمن، فضلاً عن الموت نفسه؛ وما خطر أن يجهل الشباب تلك الحكمة، وهو من قوة النفس بحيث لا يبالي الموت، فضلاً عن المرض؟
لو أذن الشباب من الفتيان بيوم انقطاع أجله، وعلم أنه مصبحه أو ممسيه، لأمدته نفسه بأرواح السنين الطويلة حتى ليرى أن صبح الغد كأنما يأتي من وراء ثلاثين أو أربعين سنة، فما يتبينه إلا كالفكر المنسي مضى عليه ثلاثون سنة أو أربعون. ولو أذن الشيخ بيوم مصرعه، وأيقن أن له مهلة إلى تمام الحول، لطار به الذعر واستفرغهالوجل من ساعته ورأى يومه البعيد أقرب إليه من الصبح. وابتلته طبيعة جسمه المختل بالوساوس الكثيرة، تجتلبها له كما تجتلب الرياح صدوع المنزل الخرب. فذاك بالشباب يقبض على الزمن، فيعيش في اليوم القصير مثل العام رخياً ممدوداً، فهو رابط جلد؛ وهذا بالكبر يقبض الزمن عليه، فيعيش في العام الطويل مثل اليوم متلاحقاً آخره بأوله، فهو قلق طائر. ولا طبيعة للزمن إلا طبيعة الشعور به، ولا حقيقة للأيام إلا ما تضعه النفس في الأيام
ثم إن الكبش نظر فرأى الصغير قد أخذته عينه واستثقل نوماً، فقال هنيئاً لمن كان فيه سر الأيام الممدودة. إن هذا السر هو كسر النبات الأخضر، لا يقطع من ناحية إلا ظهر من غيرها ساخراً هازئاً، قائلاً على المصائب: هاأنذا. .
فهذا الصغير ينام ملء عينيه والشفرة محدودة له، والذبح بعد ساعات قليلة؛ كأنما هو في زمنين أحدهما من نفسه، فبه ينام، وبه يلهو، وبه يسخر من الزمن الآخر وما فيه وما يجلبه
إن الألم هو فهم الألم لا غير. فما أقبح علم العقل إذا لم يكن معه جهل النفس به وإنكارها إياه. حسب العلم والعلماء في السخرية بهم وبه هذه الحقيقة من النفس. أنا لو ناطحت كبشاً من قروم الكباش، ووقفت أفكر وأدبر وأتأمل، وأعتبر شيئاً بشيء - ذهب فكري بقوتي واسترخى عصبي وتحلل غضبي كله وكان العلم وبالاً علي؛ فإن حاجتي حينئذ إلى الروح وقواها وأسبابها أضعاف حاجتي إلى العلم. والروح لا تعرف شيئاً اسمه الموت، ولا شيئاً(90/10)
اسمه الوجع؛ وإنما تعرف حظها من اليقين، وهدوءها بهذا الحظ، واستقرارها مؤمنة ما دامت هادئة مستيقنة
وقد والله صدق هذا الجذع الصغير؛ فما على أحدنا أن يأكله الإنسان. وهل أكلناه نحن هذا العشب، وأكل الإنسان إيانا، وأكل الموت للإنسان - هل كل ذلك إلا وضع للخاتمة في شكل من أشكالها؟
يشبه والله إن أنا احتججت على الذبح واغتممت له أن أكون كخروف أحمق لا عقل له، فظن إطعام الإنسان إياه من باب إطعامه ابنه وابنته وامرأته ومن تجب عليه نفقته! وهل أوجب نفقتي على الإنسان إلا لحمي؟ فإذا استحق له فلعمري ما ينبغي لي أن أزعم أن ظلمني اللحم إلا إذا أقررت على نفسي بدياً أني أنا ظلمته العلف وسرقته منه
كل حي فإنما هو شيء للحياة أعطيها على شرطها، وشرطها أن تنتهي؛ فسعادته في أن يعرف هذا ويقرر نفسه عليه حتى يستيقنه كما يستيقن أن المطر أول فصل الكلأ الأخضر. فإذا فعل وأيقن واطمأن، جاءت النهاية متممة له لا ناقصة إياه، وجرت مع العمر مجرى واحداً وكان قد عرفها وأعد لها. أما إذا حسب الحي أنه شيء في الحياة، وقد أعطيها على شرطه هو، من توهم الطمع في البقاء والنعيم، فكل شقاء الحي في وهمه ذاك وفي عمله على هذا الوهم؛ إذ لا تكون النهاية حينئذ في مجيئها إلا كالعقوبة أنزلت بالعمر كله، وتجيء هادمة منغصة، ويبلغ من تنكيدها أن تسبقها آلامها؛ فتؤلم قبل أن تجيء، شراً مما تؤلم حين تجيء!
لقد كان جدي والله حكيماً يوم قال لي: إن الذي يعيش مترقباً النهاية يعيش معداً لها؛ فإن كان معداً لها عاش راضياً بها، فإن عاش راضياً بها كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه مادام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل. قال لي جدي: والإنسان وحده هو التعس الذي يحاول طرد نهايته، فيشقى شقاء الكبش الأخرق الذي يريد أن يطرد الليل، فيبيت ينطح الظلمة المتدجية على الأرض، وهو لحمقه يظن أنه ينطح الليل بقرنيه ويزحزحه. . .!
وكم قال لي ذلك الجد الحكيم وهو يعظني: إن الحيوان منا إذا جمع على نفسه هماً واحداً(90/11)
صار بهذا الهم إنساناً تعساً شقياً، يعطي الحياة فيقلبها بنفسه على نفسه شيئاً كالموت، أو موتاً بلا شيء. . .!
وتحرك الصغير من نومه، فقال له الكبش: إنه ليقع في قلبي أن الساعة كنت في شأن عظيم، فما بالك منتفخاً وأنت ههنا في المنحر لا في المرعى!
قال الصغير: يا أخا جدي. . . لقد تحققت أنك هرمت وخرفت، وأصبحت تمج اللعاب والرأي. . .!
قال الكبش: فما ذاك ويلك؟
قال: إنك قلت: إن هذا الإنسان غاد علينا بالشفرة البيضاء، ووصفت الذبح والسلخ والأكل؛ وأنا الساعة قد نمت فرأيت فيما أرى، أنني نطحت ذلك الرجل الذي جاء بنا إلى هنا، وهجت به حتى صرعته، ثم إني أخذت الشفرة بأسناني، فثلمته في نحره حتى ذبحته، ثم افتلذت منه مضغة فلكتها في فمي؛ فما عرفت والله فيما عرفت لحناً ولا عفناً في الكلأ هو أقبح مذاقاً منها
إن الإنسان يستطيب لحمنا ويتغذى بنا ويعيش علينا؛ فما أسعدنا أن نكون لغيرنا فائدة وحياة، وإذا كان الفناء سعادة نعطيها من أنفسنا، فهذا الفناء هو سعادة نأخذها لأنفسنا. وما هلاك الحي لقاء منفعة له أو منفعة منه إلا انطلاق الحقيقة التي جعلته حياً، صارت حرة فانطلقت تعمل أفضل أعمالها
قال الكبير: لقد صدقت والله، ونحن بهذا أعقل وأشرف من الإنسان؛ فإنه يقضي العمر آخذاً لنفسه، متكالباً على حظها ولا يعطي منها إلا بالقهر والغلبة والخوف. تعال أيها الذابح، تعال خذ هذا اللحم وهذا الشحم؛ تعال أيها الإنسان لنعطيك، تعال أيها الشحاذ. . . . .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(90/12)
مصر بين ثقافتين
الصراع القديم بين الإنكليزية والفرنسية وموقف مصر من
ذلك الصراع
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يعرف المتصلون بدوائر التعليم والثقافة في مصر أن صراعاً قوياً يجري بين الثقافتين الفرنسية والإنكليزية، تارة في الجهر وتارة في الخفاء. وقد كان تيار الثقافة الفرنسية هو الظافر حتى أواخر القرن الماضي، وكان يغمر المجتمع المصري المثقف، فلما رسمت سياسة الاحتلال الإنكليزية خطط الغزو المعنوي، اهتمت بنظم التعليم والتربية، وأخذت تعمل لتوجيهما بما يوطد نفوذ الثقافة الإنكليزية ويطبع الجيل الجديد بحبها والتعلق بها، فقلبت نظم التعليم، وحلت الإنكليزية مكان الفرنسية في معظم المواد، وتولى الأساتذة الإنكليز مقاليد الإدارة والتعليم في معظم المعاهد، وتحول سيل البعثات الحكومية من فرنسا إلى إنكلترا؛ ولم يمض ربع قرن حتى تم الانقلاب المنشود، وأسبغت على سياسة التربية والتعليم في مصر صبغتها الإنكليزية المحضة، وخرج الجيل الجديد من الشباب المتعلم يحمل تيار الثقافة الإنكليزية، وتضاءل نفوذ الثقافة الفرنسية وانحصر في بعض الجهات والمعاهد الأجنبية التي تعمل على نشرها
كان هذا الصراع بين الثقافتين الأجنبيتين على حساب لغتنا العربية وثقافتنا القومية، فلم تصب العربية خلاله حظاً يذكر من التقدم، وأغفلت كل المثل والاعتبارات القومية من برامج التعليم والتربية، وأوشك هذا الغزو الاستعماري المعنوي أن يقضي على أرواحنا وعقولنا، لولا أن وثبت البلاد وثبتها الوطنية في سنة 1919، وتذرعت للمقاومة بما بقى لها من العناصر الحيوية الكامنة، واستطاعت أن تحول السياسة الاستعمارية عما كانت تعتزمه من خطط الاستئثار الشنيع والقضاء على الحقوق والأماني الوطنية نهائياً، وأن تحرز بعض الغنم في ميادين السيادة القومية. وكان التعليم أحد هذه الميادين، فحررت نظمه وبرامجه من أغلالها القديمة نوعاً، وأنصفت اللغة العربية وأخذت تتبوأ مكانها اللائق كلفة أساسية لتدريس المواد في معظم المعاهد ومراحل التعليم، وكان ذلك ظفراً حقيقياً للغة البلاد(90/13)
ولكن هذا التطور في ميدان التعليم والثقافة لم يحل دون استمرار المعركة القديمة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية؛ فقد بقيت الفرنسية لغة إضافية في التعليم الثانوي، وضعف تيار الإنكليزية بما أتيح للعربية من مجال قوى للعمل والمنافسة؛ وظهر الضعف في الإنكليزية بين الطلبة قوياً، وأخذ نفوذ الثقافة الإنكليزية الذي كان متمكناً منذ عشرة أعوام فقط، يتضاءل بسرعة؛ واهتم الإنكليز لهذه الظاهرة؛ وبحث ولاة الأمر في أسباب ضعف الطلبة في اللغة الأجنبية الأساسية أعني الإنكليزية، وتضاربت فيه الآراء الفنية والعملية؛ أما نحن فلنا فيه رأى لا نرى بأساً من إبدائه. وهو أن هذا الضعف لا يرجع فقط إلى قصور الجيل الجديد من الأساتذة الإنكليز، ولكنه يرجع بالأخص إلى عوامل قومية، خلاصتها أن الخصومة القائمة بين مصر وإنكلترا تحمل الطالب المصري الذي أشربت نفسه بمبادئ الوطنية على نوع من الأسف والغضاضة لتلقي لغة الأمة الخصيمة على يد بعض أبنائها، وأن الأساتذة الإنكليز لا يؤدون مهمتهم في المعاهد المصرية كأساتذة فقط، ولكنهم رسل استعمار وسيادة أجنبية، ينظرون إلى الطلبة نظرة السادة إلى الرعايا والمحكومين، وفي أقوالهم وإشاراتهم دائماً مل يجرح شعور العزة القومية في هذه النفوس الغضة ويزهدها في بضاعة هؤلاء الأساتذة المتكبرين، ولو قام بتدريس الإنكليزية أساتذة مصريون ممن تخصصوا في دراستها، لكان ذلك أجدى وأنفع، ولزال كثير من أسباب هذه الشكوى
ولسنا نقف طويلاً بهذه النقطة، وهي ثانوية في نظرنا؛ ولكنا نريد أن أن نعرض إلى ما هو أهم من أطوار هذه المعركة المستمرة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية؛ فقد طلب ولاة الأمر في وزارة المعارف أخيراً إلى بعض الأساتذة الإنكليز أن يبدوا رأيهم في سبب ضعف الطلبة في اللغة الإنكليزية، فصرحوا في تقريرهم الذي رفعوه إلى وزير المعارف بأن من أهم أسباب هذا الضعف في نظرهم هو اشتغال الطلبة بدراسة لغة أجنبية إضافية هي الفرنسية إلى جانب اللغة الأجنبية الأصلية وهي الإنكليزية، وإنه يجب إلغاء تدريس اللغة الفرنسية من التعليم الثانوي إذا أريد أن يتفرع الطلبة لدراسة الإنكليزية وأن تقوي مادتهم فيها. وقد كان إبداء هذا الرأي مثاراً لكثير من الجدل، ولاسيما من جانب الأساتذة الفرنسيين ومحبي الثقافة الفرنسية وأنصارها، فأخذوا يفندون رأي أساتذة الإنكليز ويدللون(90/14)
على أهمية الثقافة الفرنسية بالنسبة لمصر ووجوب تفضيلها على أية ثقافة أجنبية أخرى
وموقف الأساتذة الإنكليز من اللغة الفرنسية طبيعي معقول، وسواء أكان رأيهم فنياً مجرداً عن كل اعتبار أدبي آخر، أم كان مغرضاً موحى به، فلا ريب أنه يمثل ناحية من نواحي هذه المعركة الخالدة بين الثقافتين الأجنبيتين اللتين تتنازعان النفوذ في مصر منذ نصف قرن. ويلوح لنا أنه من جهة أخرى رأي عملي سليم من الوجهة الفنية إذا جرد عما قد يكون وراءه من الاعتبارات والعوامل؛ فالطالب إذا تفرغ لدرس لغة أجنبية واحدة دون أن تزعجه لغة أجنبية إضافية أخرى، يستطيع أن يحرز في هذه اللغة شيئاً من التقدم. ومادام أن ظروفاً سياسية خاصة تقضي بأن تكون الإنكليزية هي اللغة الأجنبية الأساسية في مصر إلى جانب اللغة العربية، ومادام أن مصر لا تستطيع في الوقت الحاضر أن تقرر اختيارها حراً مطلقاً، فلا مناص من أن نصدع بالأمر الواقع، وأن نبحث المسألة على ضوء هذه الحقيقة
الإنكليزية هي اللغة الأجنبية الأساسية التي تقررت في نظام تعليمنا. ومن المسلم به أن تعليم اللغات الأجنبية الحية عنصر جوهري من عناصر الثقافة الناضجة، وفي جميع الأمم العظيمة التي تتمتع بحضارة رفيعة، تعلم لغة أجنبية أو أكثر إلى جانب اللغة القومية؛ وهذا ما تفعله مصر بتعليم الإنكليزية. ومن المحقق أن الإنكليزية في مقدمة لغات الأرض انتشاراً وأهمية، وأن الثقافة والآداب الإنكليزية في طليعة الثقافات والآداب العالية الرفيعة. ولكن من سوء الطالع، أن تكون الإنكليزية في مصر إلى جانب هذه الاعتبارات العلمية، أداة للنفوذ الاستعماري؛ ومن مصائب مصر أنها مازالت مسرحاً للمنافسات الأجنبية؛ الثقافة الفرنسية أو بعبارة أخرى الثقافة اللاتينية، والثقافة الأنجلوسكسونية، واللغة الألمانية، واللغة الإيطالية، كل تحتل مقامها في هذه البلاد، وكل تحاول أن تدعم نفوذها وأن تزيده بطريق المدارس والبعثات الدينية والمؤسسات الخيرية المقنعة، وكل تدعي لأبنائها بعض الإدارات والمناصب الفنية في الحكومة المصرية قياساً على الماضي كأن الزمن لم يتغير، ولم تحرز مصر تقدماً، ولم تجش بأمنية التحرر من هذه الوصايات الخطرة
ففي هذا المعترك تتخبط مصر؛ وإزاء هذه الجبهة المشتركة من الثقافات واللغات الأجنبية المتنافسة في غزو عقولنا وأرواحنا تقف اللغة العربية وحيدة في الميدان. وقد أنصفت اللغة(90/15)
العربية في العهد الأخير نوعاً كما قدمنا، ولكنها مازالت في حاجة إلى إنصاف أتم وأوفى؛ وهي اليوم بلا ريب أقوى وأشد كفاحاً ومقاومة، وقد أتيح لها أخيراً أن تدلل على حيويتها المدهشة باستعمالها في تدريس كثير من مواد الدراسات العالية التي كانت تغلق قبلاً دونها بحجة قدمها وقصورها. غير أن العربية مازالت في مهادها الرسمية عرضة لمنافسة قوية من اللغتين الإنكليزية والفرنسية، الأولى كلفة أجنبية أساسية، والثانية كلغة أجنبية إضافية. والواقع أن هذه الفرنسية الإضافية لم تبق لها أية قيمة عملية في الدراسة، وقلما ينتفع الطلبة بتعليمها، وإنما هي أثر من آثار الصراع القديم والعهد الماضي، ففيم بقاؤها اليوم عنصراً من عناصر الإرهاق والتعطيل؟ قد يكون في اقتراح الأساتذة الإنكليز ما يبعث على الشك في نزاهته وأنه يرمي قبل كل شيء إلى تخلص اللغة الإنكليزية من منافسة قديمة. فليكن؛ ولكنا نستطيع أيضاً أن نحول هذا الإلغاء لمصلحة اللغة العربية والثقافية القومية، ذلك أن اللغة العربية تتخلص أيضاً بإلغاء هذه الفرنسية الإضافية من منافسة لا مبرر لها وليست لها قيمة علمية تذكر؛ ويكفي أن تضطلع العربية بالدفاع عن نفسها أمام غزو لغة أجنبية رسمية واحدة، وأن تقف مع الإنكليزية وجهاً لوجه، وأن تكسب بذلك قوة جديدة وأن تغزو ميداناً جديداً للعمل والكفاح
في وسع مصر أن تلغي الفرنسية من معاهدها، ولكنها لا تستطيع لظروفها السياسية الخاصة أن تلغي الإنكليزية. وإذن فلا ضير أن تلغى الفرنسية؛ وفي الإنكليزية كلفة ثقافية عالمية ما يكفي لتزويد المتعلم بكل ما يطمح إليه من صنوف العلوم والمعارف الحديثة، وكفى ما تلقاه البلاد من غزو معنوي منظم على يد المعاهد الأجنبية فرنسية وغيرها، وكلها تقوم برسالة غير رسالة العلم الخالص
لسنا نجد موضعاً للمفاضلة بين الفرنسية والإنكليزية فكلتاهما من أعظم اللغات الحية سواء في العلوم أو الآداب أو الفنون، وكلتاهما من أهم اللغات الدولية في المعاملات التجارية. ولسنا من أنصار ثقافة أجنبية بعينها، وإنما نؤيد الأخذ والاقتباس من كل ثقافة رفيعة. ولكن الأساتذة الفرنسيين في وزارة المعارف وأنصار الثقافة الفرنسية في مصر يضجون لفكرة إلغاء اللغة الفرنسية من مواد الدراسة الرسمية، ويشفقون على مستقبل الثقافة الفرنسية في هذه البلاد، فلم هذه الضجة ولم هذا الإشفاق؟ يقولون إن الثقافة الفرنسية هي أصلح الثقافات(90/16)
الغربية لمصر. وإن النهضة المصرية الأخيرة بدأت على أساس الثقافة الفرنسية واستمرت كذلك طوال القرن الماضي، وإن قادة الحركة الفكرية الحديثة في مصر تلقوا العلم جميعاً في فرنسا، وإن الصلات التاريخية والاجتماعية القديمة بين مصر وفرنسا، وكون مصر اقتبست قوانينها الحديثة من القانون المدني الفرنسي، وكون اللغة الفرنسية ما تزال لغة المعاملات المختلفة في مصر، وأخيراً كون مصر أمة من أمم البحر الأبيض التي تغمرها الثقافات اللاتينية: كل هذه العوامل تحتم الإبقاء على اللغة الفرنسية في مصر، والمضي في الاقتباس من الثقافة الفرنسية وتوثيق هذه الروابط المعنوية بين البلدين
ونحن لا نود أن نجادل في هذه الوقائع من الناحية المادية، ولكنا نلاحظ فقط أن مصر الحديثة لم تتجه إلى اختيار الثقافة الفرنسية قصداً بمحض اختيارها؛ وإنما هو مجرى الحوادث القاهر الذي ساقها إلى هذا السبيل، فقد نظم الفرنسيون حينما غزوا مصر في خاتمة القرن الثامن عشر، غزوهم المعنوي إلى جانب الغزو السياسي، وعنوا ببث ثقافتهم في مصر عناية خاصة؛ ولما استخلص محمد على حكم البلاد لنفسه، ألفى أمامه بقية قائمة من هذه الثقافة، وألفى الفرنسيين على أهبة لمعاونته، وقضت ظروف سياسية معينة أن يقبل هذه المعاونة وأن ينتفع بها في تنظيم إدارته وإصلاح جيشه وماليته، وفي ظل هذه الظروف أرسلت البعثات المصرية الأولى إلى فرنسا، وقد كانت يومئذ أوثق الدول الغربية صلة بمصر، واستطاعت فرنسا أن تقوى نفوذها المعنوي والثقافي بمصر، وغدا هذا النفوذ بمرور الزمن ظاهرة قائمة في الحياة المصرية، واستمر ينتج أثره في طبع المجتمع المصري المثقف بالطابع الفرنسي حتى أواخر القرن الماضي. هذه هي قصة الثقافة الفرنسية بمصر، فلم تكن مصر عامدة أو حرة في اختيارها ولم تخترها وتؤثرها لأنها أصلح الثقافات لها، أو لأن ظروفها الجغرافية والاجتماعية كإحدى أمم البحر الأبيض تحتم عليها أن تسير وراء الثقافة اللاتينية، أو لغير ذلك مما ينتحله أنصار الثقافة الفرنسية في مصر؛ ولم يكن الأمر أكثر من حادث تاريخي عرضي زالت البواعث والظروف التي أدت إليه منذ بعيد
لسنا ننتقص من الثقافة الفرنسية أو غيرها من الثقافات الغربية الرفيعة، ولكنا سئمنا هذا التنافس على غزونا من طريق اللغات والثقافات، ولا نريد بعد أن نعتبر منطقة نفوذ لهذه(90/17)
الثقافة أو تلك، ونريد قبل كل شيء أن نوحد جهودنا المعنوية في مقاومة الغزو الذي لا مناص من قيامه في معاهدنا ومدارسنا؛ ذلك هو الغزو الإنكليزي؛ ولن يكون ذلك إلا بالعمل على تعزيز اللغة العربية وتقدمها، وتعزيز عناصر الثقافة القومية في صدور الشباب. ومن حسن الطالع أن هذا الغزو الإنكليزي المنظم لعقولنا لم يصادف كثيراً من النجاح رغم استئثاره في عصر ما بجميع المواد والدراسات؛ ذلك لأننا نشعر دائماً بما وراءه من الظروف والاعتبارات التي لا يرتاح إليها ضميرنا القومي، ولأننا نشعر دائماً أنه غزو مفروض علينا في معنى من المعاني. وليس معنى ذلك أننا لم نجن غنما علمياً من دراسة الإنكليزية، ومن التثقف بثقافتها، فقد جنينا بالعكس منها فوائد جليلة، ولكنا نعتقد أن هذا الغنم يكون مضاعفاً لو أن مصر استطاعت أن تتحرر من كل نفوذ معنوي، وأن تختار لنفسها ما شاءت من ألوان الثقافات المختلفة التي تحقق أمانيها الوثابة دون أن تجني على بنائها وتقاليدها القومية؛ ونحن على يقين من أنه يوم يتاح لنا مثل هذا الاختيار الحر، لا نستطيع أن نرى في الإنكليزية إلا أنها في مقدمة اللغات والثقافات، ولا نجد غضاضة في أن تكون هي اللغة الأجنبية الأساسية، وأن تكون أداة لسد كل نقص نشعر به في دراستنا
والخلاصة لا نجد غضاضة ولا ضرراً في إلغاء الفرنسية من برامجنا الدراسية والقضاء على هذا التنازع في النفوذ العقلي في معاهدنا، وتحرير اللغة العربية بذلك من أحد عناصر المنافسة التي لا مبرر لها، والتي ما زالت تشعر بوطأتها. بل نرى من الخير ومن الواجب معاً أن تقاوم البلاد كل ألوان هذا الغزو الثقافي الأجنبي ما استطاعت خصوصاً ما كان منه ستاراً لبث نفوذ معين يتخذ من آن لآخر وسيلة لتحقيق مختلف الغايات والمصالح؛ ولسنا نفرق في ذلك بين غزو وغزو ونفوذ ونفوذ؛ فالفرنسي والإيطالي والألماني كالإنجليزي يتخذون من بلادنا مسرحاً لهذه المنافسات الخطرة؛ وإنه لمن خير مصر وسلامها أن تقاوم هذا الغزو المعنوي دائماً وأن تعمل على تحطيم عناصره وأسلحته ما استطاعت
محمد عبد الله عنان
المحامي(90/18)
كيف نبعث الأدبوكيف نترواه؟
للأستاذ عبد العزيز البشري
عرض وجلاء تاريخ:
لاشك في أن من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومن أبرزها نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في هذا العصر بقدر عظيم، كما أعليت مكانته، وأبعدت أغراضه، وتلونت فنونه. وبعد أن كان يضطرب في أضيق مضطرب، ويتقلب في أفسل المعاني، ولا يستشرق إلا للضئيل التافه من الغايات من المديح الوضيع الذليل، ومن الغزل المصنوع المتكلف، ومن فخر مكذوب لا يمت إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وصف مفترى على الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يخلع عليه الخيال الصناع صورة الواقع، ومن هجو تتلقط فيه المعايب والمقاذير من هنا ومن هنا لتعفر بها وجوه الناس عفراً. ونحو ذلك مما كان يجول فيه الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتتجرد في طلبه والتشمير له جمرة المتأدبين. على أنه لم يكن له أي حظ من وجدان ولا من جيشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يذك له حس، ولم يخفق به قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعدو في مذهبها تلك الحركة التي تنبعث بها الصناعات اليدوية. إلى أن تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ذلك مما تطلق عليه كلمة المعاني، لقد كانت، في الكثير الغالب، تجلى في صور مترهلة متزايلة، لا يقوى بناءها أو يشد متنها شيء من جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها شيء من حسن الصياغة وإشراف الديباجة وجمال النظام!
ولقد قيدت هذا (بالكثير الغالب) لأن ذلك الجيل الماضي لم يخل من كتاب ومن شعراء أغلوا حظ الأدب، ففسحوا في أغراضه، وأبعدوا في مطالبه، وحلقوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتسق لجلالة المعاني شرف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من المنظوم والمنثور كليهما كلام يترقرق ماؤه، ويتألق سناؤه. ورحم الله إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكتاب، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هدوا إلى حسن البيان السبيل
وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة التي كان(90/19)
يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أفقاً وأبعد مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أفق الكماليات البحث إلى موطن الضرورات في الحياة - إذا كان المتأدبون قيد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب
لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلو عليها من صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره وإلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره، وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يوصل شان
ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جلى عليهم من أدب الغرب وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف فيه من مختلف الفنون. على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع جهدهم دون هذه الغاية فلم يظفروا من الأمر بجليل. ولاشك أن ذلك يرجع إلى أنهم، في غالب الأحيان، إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب!
ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى
وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب، وأنه كان، في الجملة، يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول (في الجملة) لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة العرب قائمة، وظلت حضاراتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه(90/20)
إلى كثير!. ولو قد عنى النشء من متأدبينا بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أثر من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يمتع حقاً وينعم الروح حقاً بما ينفض من عاطفة متعجلة، ويصور من دقيق حس، ويتدسس إلى ما استكن في مطاوي الضمير، إلى ما أصاب من المعاني البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرف فيه من كل دقيق وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس. ما ترك جليلالاً من الأمر ولا دقيقاً إلا مسه وعرض له وعالجه بالتصوير والتلوين، وكل أولئك يصيبه في مصطفى لفظ، ومحكم نسج، وبارع نظم، ودقة أداء، وحلاوة تعبير!
على أن الأدب العربي، مع هذا لقد طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقدر غير يسير، ومهما يكن من شيء فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لمن أغنى الآداب التي قامت في العالم ومن أعلاها مكاناً
والواقع أنه قد انقبض بانقباض الدول العربية وضعف بضعفها، فجعلت تضيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجف ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار ما صار إليه وظل عاكفاً عليه، إلى ما قبيل نصف قرن من الزمان
ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة جديدة جعلت، على الزمن، تنبسط وتتناول وسائل الحياة دراكاً حتى بلغت شأواً بعيداً. ومما ينبغي أن يلتفت إليه أشد الالتفات في هذا المقام، أن هذه الحضارة قد أولت أجل عنايتها للشئون المادية، فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيماً، فاستكشفت أشياء كثيرة، واخترعت أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يتناول شأناً من شئون الحياة إلا بسبب طريف. وبذلك كثرت الآلات المادية كثرة تفوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة في أفحوصها لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى قليل، بل إلى أقل من القليل
ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نهضتها الأخيرة لزمت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسسات المادية، إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد قريب ولا بعيد؟!
وإذا كانت الحاجة تفتق الحيلة كما يقولون، فقد بعثت النهضة العلمية في عهد محمد علي(90/21)
الكبير رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم يجدون بين مفرداتها وما أثر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب. وإذا كان قد اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صدر محمود، فإن ذلك أصبح لا غناء فيه ولا سداد له؛ بعد إذ فترت تلك النهضة وخبت جذوتها بعد ذهاب مذكيها المرحوم محمد علي الكبير، بينا تطرد العلوم والفنون في تبسطها حتى لتخرج على العالم كل يوم بجديد. وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة العرب حتى تستطيع أن تتوافى لمطالب الحضارة الحديثة. على أنه لم يقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام. فلم يبق بد من أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام (المجمع الملكي للغة العربية)، نسأل الله تعالى أن يمده بروحه، ويعينه على مهمة جليلة المشقة جليل الآثار، وأن يهديه إلى أقوم سبيل!
لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وماله لا يفعل واللغة مادته وملاكه. وإذا كان أجل همه إلى المعنويات فليس له عن هذه المادة غناء، بل لقد تكون وسيلته وأداته حتى في التعبير عن أخفى العواطف وأدق خلجات النفوس. على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو حيرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، خيرة بعض من يعانون الأدب في هذا العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدباً غنياً سرياً واتى سلفنا العظيم بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعاً. على أننا نعيش الآن في حضارة غير حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا. ثم إنه مهما تطبعنا الوراثة على طبعهم، وتنضح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، فإن مما لاشك فيه أن لتطاول الزمن، وتغير البيئات، وتلون الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثراً لقد يكون بعيداً في كل أولئك. وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويترجم عما هو واقع. ومن هذا تجد كل أدب حي متحرك في تطور مستمر طوعاً لتطور العوامل والأسباب.
ولست تلتمس دليلاً على أن الأدب العربي إنما كان كذلك في حياته القوية بخير من أن(90/22)
تستعرض شأنه في الجاهلية، وتقلبه في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية. فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تغير على القوم من مظاهر الحياة
ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما يجل قدره وتعظم ثروته لا يمكن أم يغنينا الآن في كثير من مطالب الحياة إذا نحن اتخذناه على حاله، ولم نعد ما كان من صوره وأشكاله. وإلا فقد سألنا الطبيعة شططاً. فهيهات للساكن الجاثم أن يلحق المتحرك السائر
وهناك أدب غربي دارج الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء. ولا يذهب عنك أننا إنما نتأثر الغرب في ثقافته وعلومه وفنونه وسائر وسائله، وهذه سبيلنا إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي الذي نقبل على محاكاته فيما نقبل عليه من آثار القوم، لا يتسق في بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل أنه قد لا يستوي في تصوراتنا، ولا يجدي علينا في كثير، أضف إلى هذا عجز بعض نقلته سواء في شعره أو في نثره، وقلة محصولهم من العربية، واضطرارهم، بحكم ذلك، إلى إخراجه، مترجمين كانوا أم محاكين ومقلدين، في صور بيانية شائهة الخلق، ناشزة على الطبع، لا يحس إلا مليخة باردة في مذاق الكلام!
وبعد، فإن مما لا يتقبل النزاع أنه لابد لنا من أدب قوي سري يواتي جميع حاجاتنا، ويساير ثقافتنا القائمة، ويتوافى لهذه الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعنا، وتستريح إليه أذواقنا، شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب لا يمكن إلا أن يكون عربياً. ولكن كيف الحياة في ذلك؟
ذلك ما نعالجه في مقال آخر إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا الحديث.
عبد العزيز البشري(90/23)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
أسبلنزاني
صلة حديثة
(القس الماكر الذي مالق الكنسية والسلطات وهو يحتقرها جميعاً لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛ الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛ الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء لابد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة، ذلك الأثر الوحيد الذي بقى للناس إلى اليوم من هذا الرجل الكبير الخالد)
ولم يكن (نيدم) في هذه الأثناء غافلاً نائما، بل كان يقظاً بكل ما جرى، محساً بخطره أيما إحساس؛ وكان حاذقاً في الدعاية ماهراً في النشر والإذاعة. فذهب إلى باريس وأخذ يحاضر فيها عن مرق لحمه؛ وفي باريس التقى بالكونت الشهير (بيفون) وكان الكونت ثرياً، وكان جميلاً، وكان يحب أن يكتب في العلم، ويعتقد أنه يستطيع تخريج الحقائق من رأسه أحسن تخريج، إلا أنه والحق يقال كان أنيق الثياب أناقة منعته من دخول المعامل وممارسة التجارب. وكان بحق يعرف شيئاً من الرياضيات، فترجم عن نيوتن إلى الفرنسية. فإذا أنت علمت فضلاً عن هذا أنه كان يستطيع أن يلعب على الورق بالأرقام الكبيرة المعقدة في سهولة لعب السحرة المهرة، وإذا أنت أضفت إلى أنه رجل أرستقراطي نبيل، وأنه فوق كل هذا رجل ذو مال كثير، استطعت أن تدرك في غير عناء كبير أنه رجل من الأفذاذ القلائل الذين يحق لهم أن يقضوا لنا في أمر تلك الأحياء الصغيرة قضاء صادقاً دون الرجوع إلى التجربة، وأن يقولوا لنا أتخرج تلك الأحياء عن آباء وأمهات، أم هي تخرج من ذات نفسها - أو على الأقل هكذا كان يتحدث عنه سخره باريس الكفرة الفجرة(90/24)
وعمل (بيفون) و (نيدم) سوياً بتوافق تام، وفي صفاء لا يشوبه كدر، واقتسما العمل: أما (بيفون) فكان يلبس الثياب البنفسجية البديعة، والأكمام ذات الدانتلة النادرة العزيزة، فلم يكن ينتظر منه أن يوسخها على نضد المعامل القذرة بما عليها من تراب وزجاج منثور، ومرق مراق من وعاء مكسور، لذلك اختص بالتفكير وبالكتابة، وقام (نيدم) بالتجريب. واعتزم الاثنان أن يخترعا نظرية ضخمة يفسران بها كيف تنشأ الحياة، وفلسفة رفيعة عميقة يفهمها مع ذلك كل إنسان، فلسفة يجتمع عليها المؤمنون البررة والملاحدة السخرة على السواء. وأخرجا نظرية أهملت الحقائق التي استخرجها (اسبلنزاني) كل الإهمال، وتعامت عنها كل التعامي! ولكن ما ضرر هذا؟ ألم تخرج هذه النظرية من رأس (بيفون) العظيم؟ أليس في عظم هذا الرأس ما يبرر نقض كل حقيقة مهما كان مكانها من اليقين؟
يقول نيدم للكونت النبيل: (سيدي اللورد الجليل! ما الأسباب التي تنشأ عنها تلك الحيوانات الصغيرة في مرق الضأن برغم غليانها؟)
فيحتدم عقل بيفون، ويدور في الطبقات العليا من الخيال الرفيع دوراناً رشيقاً بديعاً، ثم يهبط إلى الأرض ويجيب: (عزيزي الأب نيدم، لقد كشفت كشفاً خطيراً، لقد وضعت اصبعك على أصل الوجود، لقد رفعت الغطاء في مرق لحمك عن تلك القوة التي تخلق الحياة). نعم لابد أن تكون قوة، كل شيء قوة!
فيقول الأب نيدم: إذن فلنسمها: القوة النباتية، أي لوردي العظيم).
فيجيب بيفون: (اسم مناسب جميل، أيها الأب الجليل)
ثم يلبس الكونت أحسن ثيابه ويذهب إلى مكتبه، وقد تنضح جوه بأطيب العطور، ويبدأ يكتب عن عجائب القدرة النباتية التي تستطيع أن تخلق في مرق اللحم ونقيع الحب حيوانات صغيرة - يكتب هذا لا من ملاحظات دونها عن تجارب في المعمل شهد بها الزجاج والعدس واللهب، بل يكتبها من عقله الخصيب
وما هي إلا أيام معدودات حتى كنت تسمع (بالقوة النباتية) على كل لسان، يتحدث بها كل إنسان، وتتفسر بها كل الأمور، فالزنادقة أحلوها محل الله، ورجال الكنيسة قالوا إنها أمضى أسلحة الله. وشاعت في الناس كما تشيع الأغاني، وانتقلت بينهم انتقال الحكاية المليحة التي لا تتصل بالآداب اتصالاً وثيقاً، أو كما نتحدث اليوم عن النظرية النسبية(90/25)
وأسوأ من هذا وأنكى أن الجمعية الملكية جارت رجل الشارع، بل سارعته حتى كادت تتعثر في خطاها، فانتخبت (نيدم) عضواً بها، ونادت به أكاديمية العلوم بباريس زميلاً. وفي هذه الأثناء كان اسبلنزاني يسير في معمله رائحاً غادياً يتمتم ويدمدم: ذاك خطر على العلم كبير، ذاك تعام عن الحقائق المتجسدة المتجردة الصامتة التي بدونها لا يكون العلم علماً، هذان رجلان يتغاضيان عن تجاربه البديعة وما تتضمنه من حقائق جميلة!
وظل اسبلنزاني لا يدري كيف يصنع. وأنى له ما يصنع، وقد أغرق نيدم وبيفون العالم العلمي بطوفان من الكلم، ولم يجيبا بشيء عن حقائقه، ولم يريا الناس مواضع الخطأ من تجاربه؟ وكان الطلياني مقاتلاً شديد المراس، ولكنه كان يحب القتال بالحقيقة وبالتجربة، وقام خصماه فأثارا حوله غباراً كثيفاً من اللفظ الفارغ، ولفاه من فرعه إلى قدمه بقتام الكلم البائر، فلما امتشق سيفه أن يضرب لم يجد ما يضرب. صاح اسبلنزاني ما صاح، وغضب ما غضب، وسخر سخراً مريراً بتلك الدعابة الهائلة، تلك القوة التي أسموها القوة النباتية، ولكن من دون جدوى. قال نيدم إنها القوة التي أخرجت حواء من ضلع آدم، إنها القوة التي كونت شجرة الصين العجيبة التي تكون في الشتاء دودة، فإذا جاءها الصيف استحالت ويا للعحب إلى شجرة باسقة جميلة - إلى غير هذا من الخرف والكذب، حتى خال اسبلنزاني أن علم الحيوان كاد يضيع، كادت تضيعه القوة النباتية التي ابتدعها نيدم وأخذ يفسر بها كل شيء، فلم يبق له إلا أن يخرج بوساطتها من البقر رجالاً، ومن البراغيث أفيالاً!
ثم جاءت على حين غفلة تلك الفرصة التي أمكنته من القتال.
ذلك أن نيدم كتب إليه ينقد تجربة من تجاربه. كتب إليه يقول: (إن تجربتك يا هذا لا تصمد للنقد طويلاً. إنك سخنت قباباتك ساعة كاملة، فهذه الحرارة الشديدة أضعفت تلك القوة النباتية فأصبحت لا تستطيع خلق تلك الأحياء الصغيرة)
وكان هذا كل الذي طلبه اسبلنزاني واصطبر من أجله طويلاً فنسى لاهوته، ونسى تلاميذه العديدين الذين كانوا يتشوقون إلى دروسه، ونسى العقائل الحسان الائي كن يتراحمن حوله ليطوف بهن في متحفه، وطوى أردانه الواسعة فكشف عن سواعده. وأخذ يعمل، لا بقلمه في مكتبه، ولكن بزجاجه وبذوره ومجهره على نضد معمله
- 4 -(90/26)
(نيدم يقول إن الحرارة تفسد في البذور تلك القوة التي أسماه النباتية. شيء جميل! هل كان جرب قبل أن ينطق؟ وكيف عرف تلك القوة؟ هل أحسها؟ هل رآها؟ هل وزنها؟ هل قاسها؟ لم يفعل شيئاً من هذا، ومع هذا يقول إنها موجودة في البذور! فليكن، وإذن فلنسخن هذه البذور ثم نر)
وأخرج اسبلنزاني قباباته مرة أخرى وأخذ في تنظيفها. ونقعفي الماء النقي أنواعاً عدة من البذور والحمص والفول وغير هذه حتى امتلأت الحجرة بالقبابات، فكنت تراها تشرف عليك من فوق الأرفف العالية، وكنت تراها جالسة على النضد والكراسي الواطئة، وكنت تراها أوطأ من ذلك - قد تربعت على أرض الغرفة حتى يتعذر عليك السير فيها
قال اسبلنزاني: (والآن فلأغل طائفة كبيرة من هذه القبابات أزماناً مختلفة ثم انظر أيها يخرج أكثر عدد من تلك الأحياء الصغيرة). وأخذ يغطس هذه القبابات في الماء الغالي خمس دقائق، ثم يغطس هذه فيه نصف ساعة، ثم هذه ساعة تامة، ثم أخرى ساعتين. وبدل أن يلحمها ويختمها في النار سدها بالفلين. ولم لا؟ ألم يقل نيدم إن هذا يكفي؟ ثم رتبها جميعاً ونحاها؟ وأخذ ينتظر. وذهب يصطاد وينسى أن يشد الخيط عندما تأكل السمكة الطعم، وذهب يجمع المعادن والأحجار لمتحفه وينسى بعد جمعها أن يحملها عند الرواح إلى بيته. وأعمل الحيلة لزيادة مرتبه، وأقام القداسات، ودرس كيف يتناسل الضفدع - ثم اختفى مرة أخرى إلى غرفته المعتمة بما فيها من زجاجات مصفوفة وأدوات غريبة
لو صح قول نيدم، إذن لوجدنا القبابات التي أغليت عشر دقائق تعج بالأحياء، ولم نجد شيئاً في الأخريات التي أغليت ساعة أو ساعتين. ونزع السدادات سدادة سدادة، ونظر في القطرات قطرة قطرة، وأخيراً أخذ يقصف بالضحك، فالزجاجات التي أغليت ساعتين كان بها من تلك الخلائق الحية المرحة أكثر من التي أغليت دقائق
(زعموها قوة نباتية! حديث خرافة وأضغاث أحلام. إنك مادمت تكتفي بسد القبابات فسوف تدخل إليها الأحياء غصباً عنك من الهواء. ولن يغني الغليان عن ذلك شيئاً ولو ظللت تغليها حتى يسود وجهك من سخام النار، فإن تلك الأحياء تدخل إلى المرق من السداد بعد أن يبرد)
انتصر اسبلنزاني بهذا، ثم إذا به يحاول أمراً لا يحاوله إلا العالم القح، العالم الذي أشرب(90/27)
الروح العلمية الحق، ذلك أنه قام يخاصم نظريته، ليرى أيستطيع أن يقهر فكرته، أن يقهر تلك النظرية العزيزة عليه، أن يقهر تلك الفكرة الحبيبة إليه. فرسم خطة الهجوم. وابتدع في أمانة وذكاء تجارب هي محك ما يقول، فأما له وإما عليه. هذا هو العلم، هذه هي روح العلماء التي وهبها الله قليلاً من الرجال أحبوا الحق حباً غلب على شهوات الأنفس وأماني القلوب. وأخذ اسبلنزاني يتمشى في غرفة عمله المظلمة وروحة وجيئة وكفاه خلف ظهره وهو يتفكر: ((. . . . ولكن مهلاً! أليس من الجائز أن نيدم خمن تخمينه وقعت في الصميم من الحقيقة وهو لا يدري؟! أليس من الجائز أن في هذه البذور قوة نباتية حقاً أعدمتها النار الشديدة؟!)
ثم قام فأتى بشيء من البذور، ثم قلاها في مقلاة كما يحمص اللبن، أعني حبه، حتى أرمدت واسودت، ثم وضعها في القوارير وصب عليها الماء، ثم هدر كالبعير يقول: (لو صح أن في هذه البذور قوة نباتية كما يزعمون إذن فقد أعدمها التحميص إعداماً)
وبعد أيام رجع إلى قارورته وما بها من الأحسية المطبوخة من البذور المحروقة، وأخذ ينظر إليها بعدسته فوجدها جميعاً مليئة بتلك الحيوانات الصغيرة يزحم بعضها بعضاً في مراحها ومغداها، تنعم بالحياة وتبتهج بالعيش في مرق الحب المحروق نفس الحياة الناعمة والعيش البهيج الذي كانت تجده في حساء الحب غير المحروق. وعلت وجهه ابتسامة ساخرة، كأنما كان ينظر في هذه الساعة إلى نيدم وإلى بيفون ويتصور ما قد نالهما من جراء ذلك من الحرج والضيق
حاول أن يقهر نفسه ويقهر نظريته، فإذا النتيجة تطلع بقهر نيدم رب التقوى، وبانحدار بيفون رب الظرافة. قالا إن النار تقتل القوة التي ابتدعاها فلا تتكون تلك الخلائق، وها هي ذي البذور تحرق حتى تتفحم وهي لا تزال ترفد تلك الأحياء بالغذاء الطيب المريء - (إذن فتلك القوة خرافة). وبهذا النداء صاح اسبلنزاني في أوربا يسمع دانيها وقاصيها فأخذت تنصت إليه
وأراد أن يستجم من عناء المخلوقات الضئيلة وما يتصل بها من أبحاث مجهدة، فحول إلى المعدة الإنسانية وأخذ يدرس الهضم كيف يحصل فيها، وأجرى في ذلك تجارب على نفسه كانت مؤذية قاسية. ولم يكفه فطلع إلى ذروة بيته، إلى تلك الحجرة الحارة المظلمة التي(90/28)
تلي سقيفة داره، وأخذ يدرس كيف أن الوطواط على عماه يستطيع أن يطير فيها ولا يصطدم بشيء مما بها. وفي ثنايا كل هذا استطاع أن يقتصد من وقته فيعين أولاد أخيه على التعلم، وأن يتكفل بحاجات أخته وأخيه، وما كانوا من ذكائه وعبقريته في شيء، ولكنهم كانوا من لحمه ومن دمه
ولم يلبث أن رجع القسيس يسأل نفسه ذلك السؤال القديم: كيف تنشأ الحياة؟ ذلك السؤال الذي منعه دينه من أن يجد له جواباً، وتلك الحياة العجيبة التي أوصاه دينه بأن يتقبلها بعين مغمضة وإيمان أعمى، وأن يتخذ من غرابتها آية من آيات الله العظيم، وأن يرى في غموضها لسراً من أسرار الحي القيوم. رجع يبحث في الحياة كيف تكون، وأخذ يجرب في الحيوانات الكبيرة بدل تلك الحيوانات المجهرية الصغيرة. وبدأ سلسلة من الأبحاث طويلة في سفاد الضفدع المسمى بأبي ذنيبة ساقته إلى فظائع كبيرة وتمثيل بالحيوان تقشعر منه الأبدان. . .
ولم يكن يأتي الفظاعة حباً لها، ولم يتعد حدود اللياقة ضيقاً بها، بل كان يتشمم حيثما قاده أنفه طلباً للمعرفة وتعشقاً لها. وقسا على نفسه كما قسا على الحيوان. ذلك أنه أراد أن يدرس كيف تهضم المعدة الطعام، فإذا يأتي بقطع صغيرة من الخشب يجعلها جوفاء ثم يملؤها باللحم ثم يبلعها، وبعد ذلك يضع إصبعه في حلقه فيقيئها، ثم يأخذ ينظر ما جرى للحم داخل الخشبات. وثابر كالمخبول على هذا العذاب حتى اعتراه غثيان دائم لم يجد معه إلا الإقرار بالضرر الحاصل فوقف التجارب
يتبع
أحمد زكي(90/29)
من الشعر المنثور
أيها الطفل الغرير!
للآنسة (فتاة الفرات)
- 1 -
رأيتك طفلاً كما يثب العصفور، فوق الأغصان،
وسمعتك تغرد كما يغرد البلبل، على الأفنان،
فاغتبطت بك اغتباطاً، طار بي من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال،
وملأت بمنظرك الجميل عيني،
وشنفت بصوتك العذب سامعتي،
- 2 -
ورأيتك يافعاً عائداً من المدرسة، تحمل أدواتك،
وجالساً إلى منضدتك تؤدي واجباتك،
على ثغرك ابتسامة الظفر، وعلى وجهك طمأنينة الأمل
فقلت: هلال سيكون بدراً تماماً،
وشبل سيكون أسداً ضرغاماً
- 3 -
ثم رأيتك بعد أيام وقد برح بك الداء،
وأقر الطبيب بالعجز عن الدواء!
تنتزع نفسك من صدرك، وتقتلعه من بين أضلاعك،
ففر قلبي جزعاً عليك وطار،
وانهل الدمع في إثرك وسار!
- 4 -
كنت جميلاً فزادك الموت جلالاً،(90/30)
وكنت جليلاً فزادتك المنية جلالا ً،
فأنت على سرير الموت ملء القلب وملء البصر،
نعم إن لك فوقه جمال العريس،
وجلال السيد الرئيس
- 5 -
أيها الطفل الغرير!
أيها الغصن الغض النضير!
هذه قصيدة أنظمها فيك، بكاء لك وحزنا عليك،
كما تنظم يد الربيع لآلئ الأزهار
في أسلاك الأشجار،
- 6 -
ما هي في الحقيقة عبارات،
إنما هي هي عبرات وحسرات،
نثرتها يد الحزن نثراً، فجاءت غير موزونة ولا مقفاة
إنها أنفس ما يملكه القلب الكسير
وأثمن ما يحرزه الطرف الحسير
- 7 -
أنت للنفس سرورها!
وأنت للعين نورها!
لقد ذهب السرور وذهب النور، فلا نفس ولا عين،
كل شيء بعدك يسير،
وكل رزء غير رزئك حقير،
- 8 -
الشمس مشرقة ولكن ليس لها ضياء!(90/31)
والقمر طالع ولكن فارقه البهاء!
والعنادل تغرد على الأغصان فلا تحرك ساكناً، ولا تثير كامناً،
فأنت مصدر كل نور
وأنت مبعث كل سرور
- 9 -
لو استطعنا لغسلنكا بالدموع
ودفناك بين الحشا والضلوع
ضناً بك عن سكن الأجداث، ونزول الأرماس
فالرمائم للقبور
أما اللآلئ فإنها للصدور والنحور
- 10 -
رجعنا عنك وقد شققنا القلوب والأجفان،
لا الجيوب والأردان
ونفضنا أيدينا من أنفسنا، بعد أن نفضناها منك،
فلا كدر بعدك ولا صفاء
ولا سعادة ولا شقاء
- 11 -
كل يوم للزمان فينا جولة
وله على صرح حياتنا صولة
ونحن إليه ساكنون مطمئنون، نرتع ونلعب،
فيا لله للإنسان ما أنساه!
وتباً للزمان ما أقساه!
- 12 -
نسر كاسر فوق حمام(90/32)
وذئب ضار بين أغنام
تسمع النبأة فتجزع وتطير، وتنقطع عنها فتسكن وتلهو،
فهل يلين الزمان بعد قسوته؟
وهل يصحو الإنسان من سكرته؟
- 13 -
سيبقى على قسوته الزمان
وسيظل على غفلته الإنسان
لتتم كلمة القضاء القاهر، في سكان الدور والقبور،
وليبتهج اللاعب بلعبته
وينعم بصولجانه وكرته
- 14 -
نبكي فتتزايل منا الأضالع،
ونضحك فتهل المدامع،
فبريق الابتسامة ينذر بالويل، كما ينذر وميض البرق بالصاعقة،
فمتى نكون إذن مسرورين؟
ومتى نكون هانئين وادعين؟
- 15 -
أيها الملك القاهر!
أيها الصانع الماهر!
صنعت الأقداح وملأتها، ثم عدت إليها فحطمتها وأرقتها!
فقطرات من دموع الفرح
إلى بحار من دموع الحزن والترح
- 16 -
ليتك ما أخذت ولا أعطيت(90/33)
وليتك ما أمت ولا أحييت
وليتنا بقينا بين طيات العدم وتحت أذيال الخفاء
فلم ننعم بنور الحياة
حتى لا نشقى بظلمة الممات
حلب
فتاة الفرات(90/34)
18 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
وما إن انتهى سقراط من هذا الحديث حتى ساد الصمت فترة طويلة، فبدأ هو نفسه، كما بدأ معظمنا، كأنما نفكر فيما قيل، إلا أن سيبيس وسمياس تهامسا بكلمات قليلة، فلما لحظ ذلك سقراط، استنبأهما عما ارتأيا فيما أقيم من دليل، وهل لم يزل يعوزه التدعيم، وقال: إن كثيراً منه لا يزال عرضة للشك والطعن، إذا ما صحت من أحد عزيمته أن يقلب النظر في جوانب الموضوع كلها، وإن كنتما تتحدثان عن شيء آخر، فخير ألا اعترضكما، أما إن كنتما لا تزالان تشكان في الدليل، فلا تترددا في أن تصرحا بكل ما تريانه، ولنأخذ بما قد تقترحانه، إن كان خيراً مما قلنا، واسمحا لي أن أعينكما إن كان يرجى لكما من نفع
قال سمياس: لابد من أن أعترف يا سقراط بأن الشكوك قد ثارت في عقولنا، وكان كل منا يحفز الآخر ويدفعه ليلقي السؤال الذي أراد أن يستجيب عنه والذي لم يرد أحد منا أن يلقيه، خشاة أن يكون إلحاحنا مضنياً لك في حالك الراهنة
فابتسم سقراط وقال: ألا ما أعجب ذلك يا سمياس! ما أحسبني في أرجح الظن مستطيعاً إقناع سائر الناس بأنني لا أجد رزءاً في موقفي هذا، ما دمت عاجزاً عن إقناعكم أنتم، وما دمتم على ظنكم أنني الآن أكثر مشغلة مني في أي وقت آخر. ألا تريان عندي من روح النبوة ما عند طيور التم؟ التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيه ازدادت تغريداً عنها في أي وقت آخر، مع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطاً منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراء أن طيور التم، إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى، وأن كنت لا أومن أن ذلك يصدق عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عن أبولو، فاستطلعت ما(90/35)
في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق. كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل، فأنا أظن أن قد آتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحاً من التم. فلا تحفلا بعد هذا، وتكلما فيما تشاءان، وسلا عما تشاءان، في هذه الفترة التي يسمح فيها حكام أثينا الأحد عشر بالكلام
قال سمياس: حسناً يا سقراط، إذن فسأنفض إليك مسألتي، وسينبئك سيبس بمشكلته، فإني لأقول مجترئاً إنك تحس يا سقراط، كما أحس أنا، كم هو عسير أو يكاد يستحيل أن تبلغ في مثل هذه المسائل يقيناً، مادمت في هذه الحياة الحاضرة، ومع هذا، فإني لأتهم بالجبن كل من لا يدلل عليها ما وسعه الدليل، أو كل من خار به قلبه قبل أن يخبرها من كل جوانبها. فينبغي للمرء أن يثاير حتى ينتهي إلى أحد أمرين: إما أن يستكشف حقيقتها أو يعلمها، فإن استحال ذلك فإني أحب له أن يأخذ بأقوم الآراء البشرية وأبعدها عن التنفيذ، وليكن ذلك طوفه الذي يسبح به في الحياة - وأني مسلم بأنه لن يفعل ذلك دون أن يتعرض للخطر، إذا هو لم يستطع أن يجد من الله كلمة تسير به على هدى وطمأنينة
والآن فسأجسر، كما تريدني، على أن أستجيبك، لأني لا أحب أن آخذ على نفسي فيما بعد أنني لم أدل برأيي في حينه الملائم، فغني إذا ما قلبت النظر في الموضوع يا سقراط، سواء أكنت وحدي أم كنت مع سيبس، بدا لي أن التدليل لم يكن حاسماً
أجاب سقراط - إنني لأعترف يا صديقي أنك قد تكون مصيباً، ولكني أحب أن أعلم في أي ناحية لم يكن التدليل حاسماً
فأجاب سمياس - في هذه الناحية: ألا يجوز أن يستخدم أحد هذا الدليل بذاته في القيثارة والانسجام - ألا يحق له القول إن الانسجام شيء خفي، غير جثماني، لطيف إلهي، موجود في القيثارة المنسجمة، ولكن القيثارة والأوتار، مادة، وهي مادية متألفة من أجزاء أرضية، وتربطها القربى بالفناء؟ وأنه إذا تحطمت القيثارة أو تقطعت أوتارها وتمزقت، فإن من يأخذ بهذا الرأي يدلل كما تدلل أنت، وبالتشابه نفسه، على أن الانسجام يبقى حياً ولا يفنى، لأنك لا تستطيع أن تتصور، كما يجوز القول، أن تبقى القيثارة بغير أوتارها، بل وتبقى الأوتار الممزقة نفسها، على حين أن الانسجام الذي يمت بأسباب القربى إلى الطبيعة(90/36)
السماوية الخالدة يفنى - بل ويفنى قبل الذي هو فان. سيقول إن الانسجام لاشك موجود في مكان ما، وإن الفناء سيصيب الخشب والأوتار قبل أن يصيب ذلك الانسجام، وإني لأشك يا سقراط أنك ستأخذ، أنت أيضاً، في الروح بهذا الرأي الذي نميل جميعاً إلى الأخذ به، وستذهب كذلك إلى أن الجسد إنما أقيم وارتبطت أجزاؤه بفعل عناصر الحر والبرد والرطوبة والجفاف وما إليها، وأن الروح هي ما بين هاتيك العناصر من إنسجام، أو هي مزاجها المتزن المتناسب، فإن صح هذا نتج بداهة أن أوتار الجسد إذا ارتخت أو أجهدت بغير مبرر بسبب الفوضى أو أي فساد آخر فنيت لذلك الروح جملة واحدة، برغم ما بها من ألوهية غالبة، مثل سائر الانسجامات التي تكون في الموسيقى أو آيات الفن، ولو أن بقايا الجسد المادية ربما لبثت طويلاً حتى يدركها الفناء أو الاحتراق. والآن، إن زعم زاعم بأن الروح تفنى أولاً فيما يسمى بالموت، باعتبار أنها ما بين عناصر الجسد من انسجام، فبم نجيبه؟
(يتبع)
زكي نجيب محمود(90/37)
من أدب الهند
2 - الأمير خسرو
الشاعر الهندي الكبير
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني
الهندي
قبل أن نلقي نظرة في شعر خسرو يجدر بنا أن نبين معنى الشعر والغرض منه في صوره المختلفة عند كبار المفكرين حتى يتمكن القارئ من الحكم على شعره بما هو خليق به
قال جانسون: إن الشعر هو توحيد اللذة مع الحق، يدعى فيه الخيال لمساعدة العقل. وعند استيوارت مل: الشعر هو ما يتوقف على الفكر والكلمات التي تجتمع العاطفة فيها من تلقاء نفسها. وقال ميكاليه: إننا نعني بالشعر استعمال الكلمات بطريق أن يوجد الوهم على التخيل، وهو فن يعمل فيه الشاعر بالكلمات ما يعمله الرسام بالألوان. وقال الأستاذ كورتهوب: إنه فن إيجاد اللذة بالتعبير الصحيح عن الفكر الخيالي والعاطفة في كلام موزون. وقال الشاعر نظامي العروضي السمرقندي من المسلمين: إنه فن يرتب به الشاعر القضايا الخيالية ويخلطها بالتشبيهات المثمرة، ليستطيع أن يظهر الصغير كبيراً، والكبير صغيراً، أو يظهر الخير في لباس الشر والشر في لباس الخير
نستنبط من التعاريف المذكورة المختلفة للشعر، أن الشعر هو تعبير عاطفي خيالي عن الحياة كما تصوغ نفسها في فكر المعبر - هو معالجة الحقائق والتجارب والمسائل بطريق يسود فيه العنصر الخيالي. والشعر ينقسم إلى قسمين: داخلي أو شخصي، وخارجي أو غير شخصي. ففي الأول يوجه الشاعر جل عنايته إلى نفسه يستوحي ويستلهم عواطفه الخاصة وتجاربه الذاتية. وفي الثاني يتوجه إلى غيره يعامل العالم الخارج عن نفسه بغير الاستناد إلى ذاته وشخصه. والأول يشمل جميع أقسام الأناشيد والشعر الغنائي مثل الغزل والنسيب وأناشيد الوطنية والروحانية الخ، كما يشمل الشعر الفلسفي والفكري. وأما الثاني فينقسم إلى قسمين: قصصي وتمثيلي. فالشعر المختص بالملاحم والفروسية والأساطير من أهم أصناف الشعر القصصي. والتمثيلي هو ما يقدم لك صوراً واضحة لسجايا الأشخاص المختلفة،(90/38)
وأخلاقهم في حكاية تمثل
في ضوء هذه التعاريف للشعر وأصنافه ونواحيه المترامية الأطراف حين نلقي نظرة على شعر خسرو نجد أن عبقريته الشاملة لم تترك نوعاً من أنواعه ولا ناحية من نواحيه إلا باشرتها بالإجادة والإبداع. فهو قد أتقن جميع أنواع الشعر اتقاناً حقيقياً. وأنتجت قريحته في جميع نواحي الشعر إنتاجاً نال استحسان كبار الشعراء والنوابغ في زمنه وفيما بعد. وهذه مزية لم توجد في غيره. فإن غيره من شعراء اللغة الفارسية لم يقدر أحد منهم لا قبله ولا بعده، ولا في الهند ولا في بلاد فارس، أن يقول الشعر ويحاكي إلهامه الشعري في أكثر من صورة واحدة أو صورتين من أنواع الشعر
فملوك الشعر الفارسي يعدون ستة: فردوسي، وسعدي، وأنوري، وحافظ، وعرفي، ونظيري. ولكن مملكة كل منهم لم تتعد حدود نوع واحد من أنواع الشعر. فالفردوسي لم يقدر أن يتجاوز حدود المثنوي، وتصنيفه فيه هو الملحمة الكبيرة المسماة شاهنامه، وقد نشر ترجمتها بالعربية صديقنا الأستاذ عبد الوهاب عزام. وسعدي كان ملك الغزل، ولكنه لم يقدر أن يجيد القصيدة ولا المثنوي، كما أن براعة أنوري كانت محدودة في القصيدة، ولم تكن قادرة على الغزل المثنوي. كذلك حافظ ونظيري وعرفي كانوا نوابغ في الغزل، وغير قادرين على أنواع الشعر الأخرى. ولكن ذكاء خسروا الجامع المتسع لم يقتصر على واحد منها بل تناول (غزلاً) كما تناول (مثنوياً) وعالج (قصيدة) كما عالج (رباعياً) بغاية الإجادة والإتقان في جميع نواحيها، حتى لم يترك الأصناف الصغيرة الأخرى من الشعر الفارسي مثل (مستزاد) و (صنايع) و (بدايع)
هذا من حيث أنواع الشعر، وأما من حيث كمية الإنتاج، فنجد أنه لا يوجد له ند في ذلك أيضاً. فإن عدد الأبيات للفردوسي لم يزد على ثمانين ألفاً، كما أن عدد الأبيات للشاعر الفارسي صائب لم يزد على ألف، ولكن ما جادت به قريحة خسرو يبلغ بضع مائة ألف بيت. فقد ذكر غير واحد من المؤرخين في كتبهم أن عدد الأبيات الفارسية له يتراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة ألف. وفي بعض الروايات ستمائة ألف
كان خسرو يجيد بضع لغات إجادة تامة. فكان يتقن التركية لأنه كان من أصل تركي. والفارسية لأنها كانت لغة دينه، والاردية لأنها كانت اللغة الشائعة بين الناس. ولم يكن(90/39)
خسرو جاهلاً السنسكريتية لغة جيرانه الوثنيين المقدسة. فقد اعترف في كتابه (نه سبهر) بكل تواضع حيث قال: (عندي إلمام بتلك اللغة أيضاً). وعلى ذلك لم يكن خسرو شاعراً بالفارسية فقط، بل باللغات الأخرى أيضاً. بيد أن أكثر آثاره قد ضاع ولم يبق إلا القليل الذي بالفارسية والاردية
يعد خسرو من مؤتنف شعراء اللغة الاردية، لأنها كانت حينئذ في دور التكوين. فقد غذاها بالأناشيد والنكت والطرائف والكتب الدراسية للأطفال شعراً، ولا تزال شائعة بين الهنود وإن مر عليها أكثر من ستة قرون. وقد ذكر المؤرخ أوحدي في كتابه (تذكره معرفت) أن إنتاج خسرو في اللغة الاردية يساوي إنتاجه في الفارسية. فإن صح ذلك فمن الأسف أن لم يبق من ذلك الأثر العظيم إلا نزر يسير
لم يكن خسرو شاعراً فقط، بل كان ناثراً كذلك وإن قل إنتاجه في النثر بالنظر إلى إنتاجه في الشعر، فله غير واحد من الكتب الضخمة نثراً. اعترف أهل الفن بطول باعه فيه أيضا. وجميع منظوماته باللغة الفارسية التي توجد في الهند هي كما يلي: -
1 - من نوع المثنوي
(1) مطلع الأنوار: نظمه في مدة أسبوعين في سنة 698 هجرية وهو في التصوف، وقد نهج فيه منهج نظامي (الشاعر الفارسي الشهير) في كتابه (مخزن الأسرار) ويحتوي على 3310 أبيات
(2) شيرين وخسرو: نظمه في نفس سنة 698 هجرية وهو يحتوي على حكاية عشق خسرو لشيرين وكلاهما من أبطال الحب في الأدب الفارسي مثل مجنون ليلى في الأدب العربي. وعدد الأبيات فيه 4124 بيتاً
(3) ليلى ومجنون: صنفه في نفس السنة المذكورة وهو يشتمل على 2660 بيتاً
(4) آيثن اسكندري: صنفه في سنة 699 هجرية ونهج فيه منهج (سكندرنامه) للنظامي وعدد أبياته 4450 بيتاً
(5) هشت بهشت: أتمه في أوائل سنة 701 هجرية وقد نهج فيه منهج (هفت بيكر) للنظامي، وعدد الأبيات فيه 3382 بيتاً
وهذه الكتب الخمسة المذكورة يقال لها (بنج كنج) أو (خمسة خسرو) تدل على سرعة إنتاج(90/40)
المؤلف إذ هي تحتوي على 17926 بيتاً وقد صنفها في سنتين ونصف سنة. وللنظامي أيضاً خمسة كتب في نفس الموضوع، ولكن أكثر الشعراء رجحوا (خمسة خسرو) على (خمسة نظامي). ومنهم عبد الرحمن جامي فإنه قد رجحه في كتابه (بهارستان)
(6) قران السعدين: صنفه في سنة 688 هجرية حينما كانت سنه 36 سنة عن طلب السلطان معز الدين كيقباد، وهو يحتوي على حكاية مقابلة كيقباد لأبيه بغراخان مسالماً مع خروجه له محارباً
(7) تاج الفتوح: ملحمة تحتوي على حكاية فتوحات السلطان جلال الدين خلجي صنفها في سنة 90 - 689 هجرية
(8) نه سبهر (أي الأفلاك التسعة) صنفه في سنة 718 للسلطان قطب الدين خلجي، فسر به كثيراً وأنعم عليه بفضة تساوي وزن الفيل كما قيل
(9) دول راني خضرخاني: وهو يحتوي على بيان حب خضر خان بن السلطان علاء الدين لدول راني بنت راجا كجرات وانتهائه بالزواج
2 - من نوع الغزل
(10) تحفة الصغر: يحتوي على شعره الذي قاله بين 16 و19 من سنه، ويشمل الغزل والنسيب
(11) وسط الحياة: يحتوي على شعره الذي قاله بين 20 و33 من سنه
(12) غرة الكمال: يحتوي على شعره الذي قاله بين 34 و44 من سنه، وقد كتب في مقدمته ترجمة حياته بالإيجاز
3 - من نوع القصائد
(13) بقية نقية: يحتوي على شعره إلى سنة 715 هجرية وفيه رثاء السلطان علاء الدين خلجي أيضاً
(14) نهاية الكمال: يحتوي على شعره في آخر سنة، وفيه رثاء السلطان قطب الدين خلجي وقصيدة في مدح ولي عهده
(15) جواهر البحر: لم أره(90/41)
(16) خزائن الفتوح: صنفه للسلطان علاء الدين خلجي
(17) تغلق نامه: صنفه للسلطان محمد تغلق في 725 هجرية، وهو آخر تصانيفه
4 - من أنواع الشعر الأخرى
(19) رسالة نصر: لم أره
(20) مقالة: احتوت على أحوال الخلفاء الراشدين مع رسالة في التصوف
(21) خالق باري: كتاب للتدريس يحتوي على مفردات اللغات المختلفة المنظومة
5 - مصنفاته بالنثر
(22) إعجاز خسرو: في علوم البلاغة في خمسة مجلدات
(23) إنشائي أمير خسرو: في علم الإنشاء(90/42)
عظة البدر
للأستاذ (أبي أحمد)
البدر يرعاني وأرعاه ... قد يمكر الجلاس إلاه
أبثه من زفراتي فما ... لغيره يأمن أواه
يسري علي الليل رفيقَ الخُطا ... يضيء أقصاه وأدناه
تلوح فيه الأرض موشية ... من أقصر النبت وأسماه
لمثل ما أبصر من منظر تغفر للدهر خطاياه
وساحر الأجفان حلو اللمى ... ضعيف كر الطرف تياه
حديثه مثل دبيب المنى ... يبسم والدر ثناياه
حسبي من اللذة أنفاسه ... ومن رضِىَّ العيش لقياه
قد تمت الغبطة في ليلة ... قل لها في الدهر أشباه
ما العيش إلا ما يلد الفتى ... قل لها في الدهر أشباه
سألت هذا البدر كم منظرا ... رأى على الدهر بمسراه
قال ولم تَطْرِف له مقلة ... ولم تحرك منه ذكراه:
(هاتيك مَنْفيس بها ما بها ... من أرحب القصر وأعلاه
يلوح عن بعد بها موكب ... أخراه لا تبدو لأولاه
حتى إذا أبصرت أعلامه ... وخَرَّت الناس لمرآه
عرفت رب الملك في عرشه ... حسبك منه خُبْر سيماه
وذاك في بغداد قصر سما ... يضيء فيه العز والجاه
وربه في مجلس باهر ... مؤتلق تبهر رؤياه
وحوله من كل حورية ... هاروت في الأجفان مثواه
يأخذ عنها الطير ألحانه ... ويأخذ النرجس رياه
واليوم لا ملك ولا موكب ... إلا طلولاً من بقاياه
وهاهو العالم في سيره ... كأنما لم يعف مغناه!)(90/43)
حياة قرجي ونترز
[عن الشاشة البيضاء]
للأستاذ فخري أبو السعود
بآمالها عاشت وفي ذِّكرياتها ... تَخَيَّلُ أحباباً لها خَطَرَاتِها
تُؤانِس أَشتاَ الطُّيُوف وإنَّها ... لآنَسُ ما تُبْفَى لَدَى خَلَوَاتها
تمُوج بجُلَّى الحادثات حياتُها ... على ضيق مثواها ونَزرِ لِدَاتها
على حُبَّ من يَرْعى هواها مقيمة ... وإن لَجَّتِ الأقدارُ في جَهَلاتها
تُصاحبُهُ في حِلَّهِ ورَحيلِهِ ... وما جاوَزِتْ يوماً مَدَى حُجُرَاتها
وتَبْلُغُ وَهْماً ما اشْتَهَتْ مِنْ وصالهِ ... إذا ضنتِ الدُّنيا بِمُشْتهَياتها
وتصبر عاماً كي تفوزَ بوصْلَةٍ ... فيا شَدَّ ماَ تَلقْى وطُولَ أناتِها
وتمْشي خَيَالاً في مَوَاكب نَصْرِهِ ... إذا أقْبَلَتْ تختالُ في خافِقاتِها
وَتَحْسَبُ مَجْداً نالَهُ مِن فَخَارها ... تقاسِمه إياه في نَشَواتها
وما ساَءها وَهْوَ الوَفِيُّ أَنِ أُغْتَدَى ... جميعُ الورى في حبًّه من عُدَاتها
وقالوا فلم تحفلْ بِقَوْلَةِ لائِم ... وَبِنَّ فَلَمْ تطلُب رِضَى هاجراتها
وكان لها الدنيا وكان لها الوَرى ... وكانت له في ليلها وَغَدَاتها
وزاد هواها رِقَةً ذِكْرُ طِفْلَةٍ ... لها منه يزهو الحُسْن في قَسَماتِها
تُسامُ ابتعاداً عن فتاها وَبنْتِها ... وإنها أدْنى لها من لَهاَتِها
وَتَرْصُدُ أَحيْاناً لِفِلْذَةِ قَلْبِها ... لِتَرْوِىَِ منها الطَّرف في غدواتها
فيا طِيبَ ريَّاها وعذب ابتسامها ... ولطف محياها وسحرَ الْتِفاتها
وطُوبى لها لو تستطيع احتضانها ... وإطفاَء حَرَّ القلبِ من قبلاتها
وتقبيلَ كفَّيْها ولثم ثُغَيرها ... ورشْف نَدِىَّ الحُسْنِ في وجناتها
وإذ كان ذاك الشملُ يَلتامُ بعد ما ... تراَءى بياضُ الشَّيب في شَعَرَاتها
وبَشَّرها بالوصلِ صاحبُ وُدَّها ... بِوَصْلٍ به لا تَتقَّي عاذلاتها
أبى الحَيْنُ ما راما وخَرَّ مُضَرَّجاً ... عَلَى قَدَمَيْهاَ لا يَعي دَعَوَاتها
ودَانُوا بِهِ مِن شَيَّعتْ فيه رُوحها ... ومَن لو أَطاقَتْ لافتدَتهُ بذاتها(90/44)
ومرَّ بها في السجن ماضي رُفاَتِهِ ... إلى قبره يُذْكى شَبَا حَسَراتها
تَحِنُّ له في وَحْشَةِ السَّجْنِ لَهْفَةً ... وتُذري عليهوحدها عَبَراتها
وَزَفُّوا إليها العفوَ منْ بَعدِ حِجَّةٍ ... فلم يَلْقَ منها العفوُ غَيْرَ صُماتها
وما هَزَّ قلباً للحياة مُطامِناً ... بأرْزَائِها تَعْتَامُ أو حسناتها
تَسَاوتْ لديها نضرةُ الروض في الضحى ... وأحناءُ ذاك السجن في ظُلُماتها
وهيهات ما مِن صادعٍ لاسارها ... سوى الموت أو من كاشفٍ غمراتها
وراحت تُقَضَّي العمر في فَيْءِ بنتها ... - ولم يَبْقَ منها غيرُ طَيْفِ حياتها
حُطامُ أَمانٍ أَو بقيَّةُ مهجةٍ ... قضت ليس يحيا ثَمَّ غيرُ رفاتها.(90/45)
فخري أبو السعود
الهر المرائي
هِرَّي أراك تَوَدُّني بتملق ... لولا القِرى ما كان مثلك وَدّنى
مالي أراك تخصي بحفاوة ... ويميل ذيلك في الهواء وينثني
إن الرياء لظاهر يا صاحبي ... لولا اشتياقك للطعام هجرتني
فلعلة الطمع الوضيع ألفتني ... ولغاية الشره الحسيس صحبتني
فاخلع رداء الذل والملق الذي ... يقذي العيون بشكله القذر الدَّني
واقنع برزقك فالقناعة نعمة ... إن القنوع مدى الحياة هو الغني(90/46)
محمد عشماوي صقر
ذكوان
للأستاذ زكي المحاسني
(مهداة إلى الصديق النابغة علي الطنطاوي)
ذَكْوَانُ أنشدني أرقَّ النشيدْ ... أنتَ أغانيَّ وأنتَ القصيدَ
ناغِ ولا تَبْكِ فإنَّ البُكا ... منكَ مُذيبٌ لفؤادي الوَدُودْ
عُمُركَ عشرونَ صباحاً وَليِ ... عشرونَ عاماً في هَواكَ العميد
جئتَ إلى الدُّنيا برغْمٍ كما ... جئْتُ أَنَا، لكننا لاَ نُرِيد
غداً ستنمُو وتُحِبُّ الهوَى ... مِثْلي ويُغريك العُلَى والجدُودْ
نَظَرْتُ في شِعْرِ المَعرَّى فما ... أمالني نحوَ الرَّدَى واللُّحُود
يَوَدُّ أَنْ يَهدِمَ هَذي الدُنى ... وأكرَهُ الخَلْقِِ إليهِ الوَلُودْ
سألتُهُ: لو كنتَ ذَا رؤيَةٍ ... وَذُقْتَ تقبيلاً وَلمَسَ النهُّودْ
لطَوَّحَتْ عقلَكَ بَرَّاقَةُ الخم ... رِ وأسقتك الهوَى كلُّ رُودْ
إرْضَعْ أيا طِفْلِيَ منْ دِرَّةٍ ... واهْتَزَّ في مَهدِكَ حُلْوَ الرُّقُود
ماذا ترَى في طولِ هذا الفضاَ ... تَعْي به إن شئت دَرْكَ الحدود
أَملِئ بكفَّيك مدى إصبعي ... وانظُرْ إلى وَجهِي وَخَلَّ الكُمودْ
أُمكَ تفْديكَ بِوَقدِا الحشَا ... فديتُها عَصمَاَء تَرعَى العُهُودْ
أدعو لِذَكوانَ مَديدَ البَقاَ ... وَأرتجِي في قومهِ أنْ يسود
أتى وللعِيد تَباشيرُه ... فكان لي في عُمُري خيْرَ عِيدْ
(دمشق)
زكي المحاسني(90/47)
في الأدب الإنجليزي الحديث
بيرون وشلي وكيتس
للأستاذ بشير الشريقي
بيرون وشلي هؤلاء الأقانيم الثلاثة أعظم شعراء الإنجليز وأشهرهم. عاشوا في القرن التاسع عشر الميلادي وامتازوا بشعرهم الوجداني وطريقتهم الخيالية الابتداعية، لم يتكلموا إلا عن مشاهدة وتصور واعتقاد، ولم يتقيدوا تقيد المدرسين بالصناعة اللفظية ولا بالحقائق العلمية
لقد خصت الآلهة الشعراء الثلاثة بأقل نصيب من العمر، فقد كان سن بيرون يوم ثكلته عرائس الشعر ستة وثلاثين عاماً فقط، وشلي ثلاثين، وكيتس ستة وعشرين؛ ولكنهم وإن لم ينسأ لهم في آجالهم استطاعوا أن يملأوا أرجاء هذا العمر بأوفر نصيب من الشعر القوي والاعتراف الشجي والنسيب الفتي، لقد هتكت عن أنظارهم مسدلات الحجب، فجرى عنهم غير ما في الكتب
اللورد بيرن
1788 - 1824
إذا كان رأي أدباء اليوم، أدباء القرن العشرين، في اللورد بيرون كرأي معاصريه فيه، وجب أن يعد هذا النبيل الجميل أنبغ شعراء الإنجليز من غير نزاع؛ لقد ظفر بشهرة لم يظفر بها أحد سواه، وعلى يديه انتظم الشعر الإنجليزي لأول مرة ساحة الشعر الأوربي
في عام 1820 نظم لامرتين قصيدة غراء كلها إعجاب ببيرون؛ وكذلك تنبأ ماثيو أرنولد أن الأمة البريطانية يوم تحتفل في ختام عام 1900 بذكرى شعرائها الأعلام، شعراء القرن التاسع عشر، سوف تضع اسم بيرون في طليعة عباقرة الشعر
لم يكن بيرون فناناً عظيماً ولا ثاقب النظر، ولم يجد فيه العالم إلا أنموذجاً في صناعة الشعر، ولكنه كان في ذاته صورة مغرية في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ اتحدت شخصيته بشعره لدرجة صعب معها التفريق بينها، وحتى قالوا: حياة بيرون هي أحسن شعر بيرون؛ وقد تحدر من عائلة توورث بين أفرادها على ما يظهر ضعف الأعصاب؛(90/48)
كان والده رجلاً شريراً فظاً، وكانت أمه متقلبة شديدة، وتوفي عمه وهو في سن العاشرة، فانتقل إليه لقب اللوردية، وهكذا لم يكن في ثقافة بيرون ما يعلمه ضبط النفس أو إنكار الذات في سبيل الصالح العام، فثار حين ألقى إلى تيار الزمن على مضايقات المجتمع ومضايقات القانون التي صدمته في رغباته الخاصة
لقد وجد - لا نقول ثقف - في مدرسة (هارو) ومن ثم في (كمبردج)، ثم قام بسياحة استغرقت عامين، واليونان هي التي صيرته شاعراً؛ وحين عاد وطنه، وكان قد نشر وقائع رحلته في الفصلين الأولين من كتابة (تشايلد هارولد) وجد نفسه شاعراً محبوباً مشهوراً
وأصبح بيرون الشاعر الجميل محور الحياة الماجنة في لندن، منغمساً في المعابثة واضعاً نفسه بين يدي هواه من النساء، ثم يتزوج في سنة 1815 بالآنسة ملبانك ولكن تهجره زوجه بعد أن تضع له طفلة وقبل أن يمضي على زواجهما عام واحد، والى الآن لم يقف أحد على السبب الحقيقي لهذا الهجران، غير أن الناس انتصروا يومذاك لللادي بيرون، وفي سنة 1816 ترك زوجها انجلترا إلى غير رجعة، فعاش في سوتيز رلاند (سويسرا) وإيطاليا 1816 - 1824 ينظم أحسن شعره ويتسلى بصداقة شلي، وينعم منذ ذ1819 بأكثر من صداقة الكونتيس كويسيولي
وهنا لا يغرب عن البال أن هذا الشاعر بينما كان يطلب لنفسه لذاتها ولهوها ويرى في الأنانية دستور الحياة، نجده قد تأثر إلى أقصى حد بالروح الوطني العام الذي انبعث في أيامه في بلاد اليونان، إنها الرغبة في مساعدة الغير على نيل الحرية هي التي رمت به سنة 1823 في القضية اليونانية وجعلته يطالب لليونانيين بالاستقلال عن الأتراك
ذهب اللورد بيرون إلى اليونان وساعد على إيقاظ شعور القوم الوطني وفي توحيد كلمتهم حتى جعلهم كرجل واحد في معركة الحرية والاستقلال، وفي (ميسولونيا) أصابته الحمى فهدت جسمه الذي أضنته حياة الفوضى التي غرق فيها هذا اللورد الشاب إن في موته وحيداً في بلاد الغربة ما يحز في القلب، لقد كان أشبه ما يكون يقبس لطيف من نور الشمس الذهبي ألقي وسط العالم في يوم مظلم عاصف
لشعر بيرون تأثير في القلب، وعلوق بالنفس، لأنه استطاع أن يصور به حياته وهي كما رأيت شائقة غاوية، حياة شباب جميل موسر انغمس في اللذات وانكب على الملاهي حتى(90/49)
مل وسئم، حياة لهو ومخاطرة، يتخللها شك مقلق وتبرم من الأقدار التي قضت على كل طيب وجميل بالانحلال البطيء والموت السريع وفي الحق كان كل ما أخرجه الشاعر للناس قوياً عجيباً فاتناً من باكورة شعر (ساعات البطالة إلى (عروس أبيدوس من الفصلين الأولين من (تشايلد هارولد) إلى الفصلين الأخيرين منه، من القصص الشرقية، إلى الأغاني العبرية، من (سجين تشيلون (بونيفار الذي صد هجوم دوق سافوي عن جنوه) إلى القصيدة الروائية (مانفرد إلى نظمها في إيطاليا على نسق رواية (فوست) وذكر فيها السحر والأرواح وخوارق الطبيعة، من (يوم الحساب) وهي من أقوى الهجاء الحديث إلى (الدون جوان) من رثاء تاسو (الذي اعتقل بتهمة الجنون لأنه أحب ليونورا ابنة الدوق) إلى (مارنيو فاليرو المأساة التاريخية - كان يرافق عبقرية بيرون سهولة تامة وقدرة عجيبة في التعبير عما يجيش به صدره
وهنا علينا أن نذكر أن في اللورد بيرون الفنان، عللاً كثيرة، فهو لا يكاد يحسن صناعة الشعر ولا ربط الفكر ولا اختيار العناوين، ذو أسلوب بسيط مضطرب، ولكن على الرغم من كل ذلك فان وليام فورس يقول عنه إنه أعظم ذخيرة أدبية في هذا القرن التاسع عشر
إنه شاعر الحرب، لهذا سوف لا نقدر على وفاء حقه في هذه الأيام التي يسود فيها السلام
برسي شلى
1792 - 1822
ولد شلي عبقرياً مفرداً فلم يكن له مثيل في بارونية من البارونيات الإنجليزية الفنية، لقد قاوم وهو يافع، ما كان يسود في طبقته من آراء وعقائد وتقاليد، وفي مدرسة (إيتون) وفي جامعة (أكسفورد) كان في تصادم دائم مع (المحافظين)
نشر عام 1811 مقالاً بعنوان (حاجتنا إلى الجحود) طلب فيه من جميع مديري الكليات أن ينزلوا إلى مناقشة آرائه وتفنيد هرطقته مما أدى إلى طرده من الجامعة. وفي ذلك العام تزوج بهاريت ويستبرون، وهي فتاة في سن السادسة عشرة؛ ولدت له طفلين ثم هجرها عام 1814 من أجل ماري كودوين ابنة وليام كودوين الكاتب الروائي والسياسي؛ وبعد عامين، حين أغرقت هاريت نفسها في التيار، أصبحت ماري كودوين السيدة شلي ولكن محكمة تشانسري حرمت الشاعر حضانة ولديه(90/50)
وفي عام 1818 ترك شلي إنجلترا إلى إيطاليا حيث قضى بقية عمره وكان دائم الاتصال باللورد بيرون
أحسن شعر شيلي ظهر في السنوات الأربع الأخيرة من عمره، وبعبارة أخرى أن شعره لم ينضح حتى سنة 1818، ومن أقوى وأمتن قصائده الطويلة، الروايتان الغنائيتان (ميتوس الغير محدود) و (هيلاس). وتمثل هيلاس يقظة اليونان وتأييد العالم لهم في ثورتهم على الأتراك
ولكن إذا كانت إجادة شلي تامة في هذه القصائد الطويلة فان إبداعه كان عظيماً كذلك في مقطعاته الغنائية التي نذكر منها قصيدة (القبرة) و (الضباب) و (أدونيس) و (غناء كونستانيا) و (الريح الغربية) و (إلى الحرية) و (إلى المساء)
كان شلي من بين الشعراء أجمعين شاعر المثل الأعلى، استطاع أن يتصور في أخلاق الإنسان وحياته كمالاً هو أسمي بكثير مما عرف حتى الآن
لقد ثار على كل ما يحط من قدر الإنسان ويحول دون تطوره السامي مدفوعاً بحبه العظيم للإنسان وإيمانه بزمن آت هو خير من زمانه
وقد أدرك بواسع علمه وثاقب رأيه أن فكرة الإنسان عن الله تتناقض كثيراً وفكرة الحق والعدل والحقيقة، وهكذا يشوه التلوين الإنسان الصورة الإلهية كما يشوه زجاج نافذة مصبوغ جسماً تراه من خلاله، أو كما يوضح شلي ذلك في قوله: الحياة أشبه ما تكون بقبة من زجاج كثير الألوان
تلطخ أضواء الأبدية البيضاء
إلى أن يحطمها الموت
فان كنت تود أن تلتقي بهذا الذي تفتش عنه فمت إذن! تطلع شلي تطلع مشتاق إلى يوم قريب يتحقق فيه المثل الأعلى، وعلق آمالا كباراً على الثورة الفرنسية، ولكنه حين شاهد ما منيت به النظريات السياسية من فشل أحس بيأس مؤلم
لو طال عمر شلي عتنق مبادئ (وردزوس) الإصلاحية ولقال معه إن تقدم الجنس البشري يتوقف على رقى الفرد وتطوره، ولكنه عاش حياة قصيرة. ولد عام 1792 وغرق عام 1822 بانقلاب قاربه أثناء اجتيازه خليج اسبيزا، ولما أخرجت جثته من البحر أحرقت(90/51)
على الشاطئ بمحضر من اللورد بيرون وبعض الأصدقاء ودفن رمادها في مقبرة البروتستنت في روما وقد كتب على قبره هذه الكلمة (قلب القلوب)
جون كيتس
1795 - 1821
يرقد كيتس حيث يرقد رماد شلي في مقبرة البروتستانت في روما، وقد نقش على قبره تنفيذاً لرغبته هذه الجملة (هنا يرقد من أشبهت ذكراه سفراً ألقى في الماء)
ولد من أبوين غير شاعرين، فكان والده يعمل في إسطبلات الخيل المعدة للإيجار في لندن، ولكن سرعان ما أصبح هذا الشاعر (اللندني) شاعر اليونان الحديث، سرعان ما أصبح هذا الطبيب (تحت التمرين) رسول الجمال، وموجد المدرسة المنسوبة خطا إلى تنسون
اهتم كيتس بدراساته الطبية، ولكنه لم يجد لها طعماً، فهجرها عام 1817 وهو العام الذي ظهرت فيه مجموعته الشعرية الأولى، وفي عام 1818 ظهرت له قصيدة (أنديميون فانتقدتها المجلة (الفصلية) ومجلة (الغابة السوداء) انتقاداً لاذعاً سفيها آلم الشاعر كثيراً، ولكن هذا الظلم الأدبي ليس هو الذي عجل بموت كيتس كما ظن شلي، وإنما داء السل هو الذي كان علة موته الباكر
ظهرت أجود شعره عام 1820، وفي ختام هذا العام رحل إلى (نايلز يرافقه صديقه (سيفرن) الذي وقف على العناية به امرأة طيبة، ظلت مخلصة في خدمته إلى أن توفاه الله في روما في شهر شباط سنة 1821
لقد نضجت عبقرية كيتس بسرعة مدهشة كما نضجت عبقرية شلي، وعلى الأخص ذوقه الفني إذ سرعان ما صلح، وسرعان ما كمل
قد تكون قصيدة (أنديميون غنية في الكلمات وفي الصور، أما فيما عدا ذلك فلم تكن بذات خطر. إنها تظهر رغبة الشاعر في جمال الأسلوب فحسب. ولكن إن نحن انتقلنا إلى مقطوعاته اليونانية الأخيرة التي وصفها بيرون بأنها (سامية سمو ايشيلوس) أدركنا الفارق العظيم بين شعره الأول وشعره الآخر الذي منه (لميا وهي قصة شاب اقترن بأفعى متخذة صورة امرأة جميلة، و (ايزابيلا) التي تكشف لنا عن مقدرة كيتس التامة في تأليف القصص الشعرية، (والأناشيد الستة) الباقية على الزمن(90/52)
وما الذي كان ليعجز عبقرية كيتس لو قدر لها أن تعيش؟ إن موته المبكر كان أعظم نكبة حلت بالشعر الأنجليزي، لقد استطاع أن يتعلم من فنه ومرانه وجده خلال البرهة التي مرت بين نظمة (لأنديميون) ونظمه (الأشيد الستة) ما لم يتعلمه شاعر إنجليزي آخر في مثل هذه الفسحة من الزمن
لكي نتفهم نفسية هذا الشاعر ننقل هنا بعضاً من أقواله: (أنا رجل إحساس أكبر مني رجل تفكير)
(ليس في حس يمكن أن يخضع للجمهور أو لأي شيء في الوجود، إنما يأسرني الكائن الخالد، والجمال الخارق، وذكرى الرجال العظام)
(لم أستطع أن أعيش من غير حب أصدقائي، وإني لأقفز إلى أسفل جهنم من أجل الصالح العام، ولكني أكره الشهرة التي تقزز النفس)
(قد سبب لي نقدي لنفسي من الألم ما لم يسببه نقد المجلة (الفصلية) أو نقد مجلة (الغابة السوداء)
(حين أشعر بأني على حق أحس بنشوة طرب لا أحس بها حين يثنى على الناس)
(أرى أنه لا يوجد مطلب يستأهل الطلب، اللهم فكرة عمل الصالحات) (ليس أمامي سوى طريق واحدة)
(أحسن أنواع الشعر، هو ما أهتم له وما أعيش له) (سوف لا أخلف ورائي حين أموت عملاً خالداً، سوف لا أخلف ما يثير إعجاب الأصحاب عند ذكراى؛ ولكني همت بالجمال كما ينبغي)
الجمال الحقيقة، والحقيقة الجمال، هذا كل ما يجب أن تعرفه في الدنيا وكل ما تحتاج إلى معرفته
(شرق الأردن)
بشير الشريفي(90/53)
القصص
من أساطير الإغريق
بجماليون المثال
أسطورة الفنان الذي عشق أحد تماثيله
للأستاذ دريني خشبة
في مدينة أماذيس، الراقدة كالحمل بين مهاوي الجبال على شاطئ قبرص الجنوبي، كان يعيش المثال بجماليون عيشة كلها عزوف عن العالم، وانزواء عن مشاغل الحياة، وهرب من الناس. كان يأوى إلى ممثله إذا تنفس الصباح، ويكب على عمله حتى تواري الشمس بالحجاب، فيأوي إلى فراشه، سادر النفس، معمود القلب، مكتئباً حزيناً
ولم يكن حزنه من نوع هذه الأحزان التي تتعارفها قلوب أبناء آدم، بل كان حزناً فريداً في نوعه، غريباً في أسبابه، شاذاً في دواعيه، حتى لنحسب أن أحداً من الناس لم يشق بمثله من قبل. . . . ولا من بعد
كان في بجماليون صدود عن الناس شديد، لا يراهم جديرين بتودد، ولا حفيين بمؤاخاة. ومع أنه كان يضفي من عبقرية على تماثيل الآلهة التي طالما تفننت فيها يده الصناع، فكان يخرجها على نسق الفاتنات الحسان، وفي سمات الغيد القيان، فانه لم يصب مرة إلى امرأة، ولم ترتبط أسبابه بفتاة. فكأنه كان يسمو بحبه على النساء، وإن كن في الحقيقة صاحبات وحيه، وفيض نبوغه، والمع الخاطفة التي يتجه شطرها مثله الأعلى
ولم تكن هذه الحياة الصحراوية التي يحياها لترضيه، ولا تلك المعيشة الآلية التي أغطشت أيامه لتقنع خياله الخصب، وقلبه الرحب. لقد كان يقف منقبض الصدر، مغلول الروح، أمام هذه الدمى الصامتة، والتماثيل الخرساء، التي صنعها لأبوللو، ومينرفا، وديانا، وكيوبيد، وفلكان!
ولقد كانت المناحت والأزاميل، والمثاقب والمناشير، والمبارد والمناعم، وكل عدده تثير في نفسه السخط على الحياة، والبرم بالأيام، كلما فكر في حاله فعلم أنه يحيا بلا حب، ويعيش بلا أمل، ويعمل بلا غرض، ويسعى إلى غير مطمح!(90/54)
وبينما هو في يقظته النائمة هذه، إذا بحجارين يحملون رخامة كبيرة، على جرارة ضخمة من هذه الجرارات الثقال، التي ترى كثيراً في محاجر اليونان، يقفون أمام الممثل، ويطرقون باب بجماليون، فينقدهم ثمن الرخامة، وينصرفون كل إلى طيته
وكأنما كانت هذه الرخامة، على ثقلها الهائل، وحياً خفيفاً من السماء، أو آية من آيات الأولب، هبطت على هذا المثال المهموم، فبدلت يأسه أملاً، وقنوطه المظلم رجاء نير الآفاق!
فانه لينظر إليها نظرات تشف عن التمثال الرائع الذي سيولده منها، وإنه لينزع ملابسه، ويضفي عليه ملابس العمل، ثم يتناول إزمليه ومنحته، ويهوى على الرخامة مستلهماً الحول والقوة من: (فينوس!!)
(يا فينوس الجميلة، يا ربة الحسن والحب، يا من تسبح لك القلوب العاشقة، وتلهج باسمك النفوس الوامقة، يا سر الورد الجميل، وبسمة الفنن الضاحك! يا أم كيوبيد الحالم، وبنت ديون الباسمة، يا فينوس الجميلة، العون العونيا فينوس!)
وهكذا لبث هنيهة يصلي، ثم أخذ في عمله، وكأن فكرة علوية تنزلت على فؤاده، وامتزجت بشغاف قلبه، فراح يصورها ويمثلها، في هذه الرخامة النقية كالندف، البيضاء كالثلج. بل كأنما استجابت فينوس ربة الحب لصلاته، فأودعت في يده نفحاتها المباركة. فما دق دقة، أو نقر نقرة، إلا وتمثل فينوس الجميلة أمامه، ناذراً لها هذا التمثال، برغم التماثيل البارعة التي نحتها لها، والتي تملأ معابد اليونان وأقداسهم
وأقبل على عمله بروح جديدة، ويد لا تكل، فلم يكن يحول بينه وبينه إلا الليليرخي سدوله، وإلا سنة من النوم ترقص في جفنيه، فإذا نام تتابعت الرؤى، وتلاحقت الأحلام، كل منها بيدي له ناحية كان يجلهها من جمال فينوس!
ولقد بدا له، كفنان، أن يروح عن نفسه بيوم يقضيه في الأدغال، وبين مسارب المياه، لكي يجدد نشاطه، ويبتعث ما خمل من ذهنه، وخبا من خياله، لطول ما أكب على العمل؛ فانطلق ذات صباح إلى سيف البحر يناجي أبوللو، وهو يوقظ الشمس من خدرها، فتعلو به في مركبتها الذهبية فوق الأثباج! وظل يعلو ويهبط، ويروح من هنا غادياً إلى هناك، حتى شارف اليوم أن ينتهي، وعاوده هواه الملح، فندم على ما قتل من ساعات في هذه الراحة(90/55)
الخاملة، والفسحة الباطلة، فعاد أدراجه إلى الممثل، مستغفراً في طريقه الطويل فينوس!
ووصل ما انقطع من صنعته، فكان يستذكر أحلامه ليضفيها على التمثال، ويستوحي السماء فتلهمه من أديمها الصافي، وتشيع في يديه وقلبه بطهرها ونقائها، لتنتقل من ثمة سحراً وفتنة فوق تلك العضلة، وتحت ذياك الأبط، وبين انفراج هذين الثديين، وبالقرب من العكن، وحول الفخذين، وعند هذا الأنف الإغريقي الأشم، وملء ذاك الذقن الدقيق، والعنق الرقيق، ولفتة الحدقتين، وانفراجة الشفتين، وتبسيم الثغر، وتكويم الشعر، وتمليس الردف، وتدوير الكعبين. . . .
وتباركت يا فينوس!
لكأن بجماليون يحس الحياة تسيل من إزميله الحنون، فوق هذا الجوهر المكنون! وكان يتقدم فينظر، ويتأخر فيرى، ويميل من هنا، وينثني هناك، ثم يهطع إلى عل، وينحني إلى أسفل؛ ليتفقد التمثال من جميع نواحيه؛ فماذا رأى؟ لقد استطير من الفرح، ومادت أعطافه من الخيلاء! ولكنه سكن قليلاً، وانطلق يتحدث إلى نفسه: (ويحي! لم صنعتك أيها التمثال، مادمت قد بلغت هذا الجمال ولا تتكلم؟ أنا بجماليون التعس، الذي يعيش في هذا العالم القفر، وعلى هامش تلك الدنيا المجدبة، لا أنيس لي، ولا قلب ينبض بحبي، فينبض قلبي بحبه؛ ولا نفس تصلي لي، فاصلي من أجلها! تكلم أبها الرخام الصامت، وانفرجا بكلمة واحدة أيتها الشفتان الساحرتان! أنا بجماليون! أنا صانعك أيها الأنثى المتحجرة. . . تكلمي، ردي علي، فوحق فينوس المعبودة لقد أودعتك سر روحي، ولغز حياتي! أوه! ألا تردين على بجماليون المسكين؟ آه فينوس! النجدة يا فينوس! أنا لا أصلي إلا لك يا فينوس. . الغوث الغوث!. . .)
وظل المسكين مكباً على هذه الدمية التي صورها بقلبه كله، وروحه جميعها، يشكو إليها كأنها تسمعه، ويبثها كأنها تصغي إليه؛ ثم انتهى حاله إلى هيام شديد، وحب ودنف، ولوعة وصبابة؛ وانقلب عشقه المبرح إلى لون كاسف من الوجد، وضرب شديد من أمر ضروب الحزن؛ مصدره العقل الحائر والوجدان المضطرب. إذ كيف يعشق هذه الكتلة المجسمة من الرخام، وهي مما صنعت يداه؟ وأي أمل له في هذا العشق الشاذ؟ لا ريب أنه ضرب من الجنون، ما له من ضريب!(90/56)
ولج به هواه، فأحضر عصبة من الحمالين الأقوياء، نقلوا له تمثاله إلى ردهة الآلهة - كما كان يسميها - وهي صالة واسعة في الطابق الثاني من البناء الذي فيه ممثله؛ وقصد إلى أمهر الصاغة وتجار اللآلئ، فاشتري ما وسعه من الحلي البالغة والجواهر النفيسة؛ وعاد فقرط الأذن، وقلد الجيد، وتوج الرأس؛ ثم هام في المروج الخضر، والحدائق الغناء، يجمع الورود والرياحين، كيما ينثرها تحت قدمي التمثال!
وتحولت الردهة إلى معبد من معابد البوذية المقدسة، بما عكف يحرقه من مقتني الند، وفواح الرند، في مباخر المرمر الجميل المصففة حول قاعدة التمثال
وتلف تلفاً شديداً من هذا الغرام العجيب، فلم يكن يكتفي بالعبادة في الحب والخبوت بين يدي ذلك الصنم المنتصب للفتنة، بل كان يشركه في كل أمره، ويعرض عليه جميع شأنه، حتى القراءة! فطالما كان ينشده من دواوين الشعراء ما جادت به القرائح وشدت به الألسن، وتغنت بألحانه قلوب العاشقين!
معذور بجماليون! لقد تعب وراء الحب، ولكنه لم يلق هذه الغيداء الفاتنة، التي تستطيع التسلط على مشاعره، والهيمنة على فؤاده، وكان يتخيل روعة الجمال فلا يجدها مجتمعة إلا في هذا التمثال الذي نحته لهذه الأنثى، فعبده، وراح يتمنى على الآلهة الأماني، أن تنفخ فيه روحها، وأن تهبه الحياة ونعمة العيش
وبينما هو نائم في هدأة فجر اليوم التالي، إذا به يصحو فجأة على لغط شديد، وهرج عال في الشارع الذي يقع فيه بيته. فينهض إلى النافذة، ويرفع الستر، ويفتح أحد المصاريع قليلاً، ثم يحني رأسه ليرى. وإذا موكب زاخر من غوغاء المدينة يحمل تمثالاً كبيراً من تماثيل فينوس التي صنعها بجماليون؛ وإذا الدهماء ينشدون الأناشيد الشعبية، ويرسلون في غبشة الصبح أغانيهم (البرجوازية) الجميلة. . وكان من عادة سكان أماذيس أن يحتفلوا بالربة فينوس ثلاثة احتفالات يفاجئون بها النائمين ثلاث مرات كل سنة؛ فلما عرف بجماليون أن الحفل حفل فينوس، أسرع فارتدى أبهى ملابسه، وجمع بعض باقات الزهور المبعثرة تحت قدمي تمثاله، وهرول على الدرج، ثم انفتل في الشارع، واندمج في صميم الشعب الذي يلهج بالصلوات والأدعية باسم فينوس. ثم ما هي إلا هنيهة، حتى كان بجماليون يهتف كما يهتف الأطفال والسذج، ويرد من الصلوات ما يرددون(90/57)
ولم لا؟ هل لحظة من الزمان هي خير من هداة الفجر ترسل فيها الصلوات على أول آراد الصباح، إلى آلهة السماء، وأرباب الأولمب، فتسمع وتلبى؟
وكان كل همه أن ينتهي هذا الحشد الهائل إلى المعبد، حيث يستطيع أن يرتل دعاءه، ويتمتم بصلاته
وقد تنظر حتى فرغ الكهنة من جميع الطقوس التي اعتادوا أن يقوموا بها في مثل ذلك اليوم؛ وأخذت الجماهير تنصرف هاشة مستبشرة، كأنما غمرتهم نفحات خالدة من فينوس. ولما لم يبق في المعبد إلا كهنته، وأفراد من الأتقياء الصالحين، يصلون صلاتهم، ويغمغمون بأدعيتهم، تقدم بجماليون في روعة التقى وخشوع الورع، ووقف خافتاً أمام المذبح، حيث تصاعدت ألسنة البخور المعطر، حاملة الأرج الشذى من لهب المحرقة إلى سقف. . . والسجف، فتكسب الهيكل جوه القدسي البديع.
ثم ألقى في اللهب بحفنة من فتيت الكافور والمسك، وطفق يرتل هذا الدعاء الطويل: (فينوس الكريمة البارة، يا ربة الحب الطاهر، والهوى البريء، أيتها القديرة على كل شيء، المتصرفة في جدود العاشقين، وحظوظ المدنفين: أصغي إلي، ولا ترفضي دعائي: منذ اهتديت إليك، وأنا عبدك القانت لك، الهاتف باسمك في الغدو، المصلي لك في الأصال؛ لا أني عن ذكرك، ولا يفتر لساني عن التسبيح لك، والنسك من أجلك؛ باسمك أقبل على فني، ومنك استلهم وحي العبقرية فأنت لي كل شيء
ولقد أيقظتني صلوات الشعب لك من أحلامي الجميلة بك، فلم أطغ ولم أستكبر، بل هرعت إليك، أتوسل بك، وألتمس البركات منك، فحنانيك يا فينوس!
حنانيك يا ربة الحب، وجابرة القلوب الكسيرة، والنفوس الحائرة!
أنت، من غير ريب، تعلمين ما ألم بي من برح هذا الهوى الطارئ، وما تام قلبي من حب هذه الدمية التي صنعتها باسمك، ونذرتها لك، فدلهتني وشدهت روحي المبلبلة، وصارت لي أعذب الأماني وأعز الآمال. وهي بعد رخامة لا روح فيها ولا نأمة، أكلمها فما ترد، وأناجيها فما تجيب، وأغني لها فما تبتسم، أنت قديرة يا فينوس! فانفخي فيها من روحك، وانشري الحياة في أركانها، وامنحيها النبضات والأنفاس
حنانيك يا فينوس! وسلام لك من قلوب العاشقين)(90/58)
وما كادت صلاته تنتهي حتى انهمر الدمع من عينيه يروي قدمي التمثال المنتصب في المحراب فانبعث الشرر عالياً من المحرقة حتى أضاء قبة الهيكل، والتمع في جميع أرجائه وأقبل الكهنة والمصلون يباركون بجماليون ويهنئونه. لأن انبعاث الشرر هكذا، عقب الصلاة، وهو في اعتقادهم دليل رضى الربة، وأية تلبيتها واستجابتها.!!
ولكن مثالنا لم يشعر بقلبه يثلج، ولا بنفسه تهدأ، بل بالعكس، أحس كأنما الحياة تتدجى أكثر من قبل، ويحلو لك كل شيء في عينيه، وشعر كذلك بقنوط قاتل ينفذ إلى صميمه، فيطفئ فيه ما رجى من الآمال البيض، والأماني العذاب! فتعثر إلى الباب غير آبه لما حوله من الآس المنضود في أنحاء المعبد، والزهر المبثوث في صحنه الرحيب. وما برح بين وني وبطء، حتى بلغ باب منزله، فولج متساقطاً على نفسه، وانبطح على أول سلاليم الدرج لا يحس ولا يعي!
وغفا إغفاءة مريضة، فبدا له أن يحمل أرزبة هائلة، يهوي بها على رؤوس الدمى، ويحطم بها التماثيل المنتشرة في ردهة الآلهة. . . إلا تمثال فينوس الجديد، المرصع باللآلئ واليواقيت! ففزع فزعة مروعة، ونهض يعدو إلى الصالة، يتفقد التمثايل. . . فما راعه إلا أن يسمع صوتاً رقياقاً يناديه: (بجماليون. . . بجماليون. . . إرق إلى هنا. . . هلم إلى!!)
من؟ صوت من هذا؟ إنه صوت مرمري لا عهد لبجماليون به!!)
وقفز قفزات كان بها في الطابق الثاني؛ ونظر فلم يجد تمثاله الحبيب في المكان الذي غادره فيه. . . (. . . أين؟ ويحي! لصوص!)
ولكن الصوت الرقيق الرنان عاد يطن. . . ويرن (لا. . ولكنها فينوس!) والتفت بجماليون فرأى غادة هيفاء في طبق تمثاله ونسجه، متكئة على الأريكة التي طالما وضعها أمام التمثال وأنشد الأشعار؟!
(من أنت أيتها المعبودة؟)
(لست معبودة، ولكنني هبة فينوس لك! أنا جالاتيا. . تمثالك المكنون!)
(وكيف؟ أنا لا أصدق. هذه خديعة لاشك!)
(وكيف تخدعك السماء يا بجماليون؟ أتريد أن تكفر بآلاء فينوس؟)
(لا. . لا. . لا أريد أن أكفر: وحاشا. . كيف حرت أنسية، ومن وهبك الحياة)(90/59)
(هذا سر فينوس. وهذه قبلاتك وما تزال مطبوعة على قدمي!)
(يا للسعادة!)
(انظر إلى هاتين الشفتين القرمزيتين، وهذين الخدين الموردين، وتينك العينين الزرقاوين. هل استطعت أن تموه تماثيلك بهذه الصباغ الفينوسية؟)
(وانظر إلى الأنفاس الحارة التي تتردد في صدري، هل وسعك مرة أن تبعثها في إحدى دماك؟)
(حاشا. حاشا.)
(إذن فهلم إلي أحدثك حديثي)
(فدنا منها بجماليون المشدوه)
- (بجماليون! لقد استجابت فينوس دعائك، وقبلت صلاتك، وحضرت إلى هنا إذ كنت أنت في الهيكل تبكي وتنتحب، فمنحتني الحياة، وعلمتني من العلم ما لم أكن أعلم
- (ولكن كيف بحق فينوس عليك يا جالاتيا)
- (كنت منتصبة كما وضعتني على تلك القاعدة الناصعة، فاحسست حدقتي تتحركان وإذا بي أرى فينوس الجميلة أمامي، تأمرني أن أدلف نحوها، ففعلت، وكنت أحس كأن ثلجاً ينفذ من كياني، وأن حرارة تشيع في أركاني، وكانت فينوس تقول لي. . . (تعالي. . . تعالي، وكوني ربة هذا البيت، أحميه وأحرسيه، وانشري السعادة فيه!! هلمي إلي ألقنك دروس المحبة والحياة. . .) ثم إنها نفثت في أذني نفثات تعلمت بها هذه الكلمات، وأسبغت علي هذا الثوب الحريري الذي لابد قد رأيته على تمثالها في الهيكل. . . ليشهد لك أنها هي التي منحتني الحياة. . . ومنحتك الحب!)
- (وماذا؟ وماذا يا حبيبتي جالاتيا؟)
- (ثم تقدمت إلى فنولتني قبلة مشتهاة لن أنسى ما حييت أسرها. ودعت لي ولك بالوفاق الأبدي، والإخلاص السرمدي، لنكون أية السماء في هذه الأرجاء وابتسمت ابتسامة أرق من أطباقه أوراق الورد، ولم أعد أراها. . .)
وأتمت جالاتيا حديثها، فاستقر بجماليون في أحضانها!
دريني خشبة(90/60)
على ذكر الربيع
شجرة المشمش
بقلم الأديب حسين شوقي
عندما فتحت صباح اليوم نافذتي التي تطل على الحديقة، تولاني العجب حينما شاهدت شجرة المشمش في ثوب زاه قشيب، وكانت بالأمس عارية يابسة. . . . حقاً! ما أبهى شجرة المشمش في ثوبها الأبيض المزدهر، كأنها فتاة تتأهب لحفلة زفافها! من ذا الذي أتى بهذه المعجزة؟ من؟ هو أنت أيها الربيع، يا ألطف السحرة وأمهرهم؟
ولكن ظهور الربيع فجأة أعاد إلى قلبي ذكريات عزيزة، وإن تكن حزينة مؤلمة. .
إن قدوم هذا الربيع ذكرني بربيع آخر قضيته في باريس، حينما كنت طالباً بها. .
أذكر أنني ذهبت يوماً إلى حديقة (اللكسمبور) الغناء للمذاكرة في الهدوء والسكينة، قبل الامتحان بأسابيع، وبيدي كتاب (القانون المدني) للأستاذ (بلانيول) ولكن لم تكن عندي رغبة في المذاكرة هذا اليوم، لأن الطقس كان بديعاً؛ فالشمس أخذت تلمع في الأفق بعد احتجابها عنا طويلاً، والجو أخذ يعبق برائحة الربيع الزكية. . لشد ما كان جميلاً منظر جند الربيع، وهي تتسلق الأشجار في أثوابها الخضراء، وقد أخذت الطير تهتف وتصفق من فوق أغصانها لذلك الجيش الحليف الصديق، الذي أراجها من الشتاء البغيض. .
كنت أفتح كتابي لأقرأ فيه صفحة ثم أعود فأهمله لأتفرغ للنظر إلى التغييرات العجيبة التي تحدث في الطبيعة حولي. . . وكنت أغمض عيني، ثم استنشق - ملء الرئتين - عبق الربيع في نشوة عظيمة. . حقاً! لقد كانت بغيضة إلى نفسي تلك المذاكرة في هذا اليوم! مالي و (لبلانيول)؟ مالي وللعقود وتسجيلها؟ مالي وللحجز والاسترداد؟ والطبيعة تنجلي أمامي؟ وبينا أنا على هذه الحال، أفتح الكتاب لحظة لأهمله لحظات، إذ يرن من الخلف ضحك فتاة لم أنتبه إلى وجودها من قبل، وإذا هي تقبل فاسمعها تقول: إنك على حق! إنه لعذاب للنفس المذاكرة في مثل هذا الطقس البديع! أنا أيضاً لم أطق الذاكرة. . ثم أشارت إلى كتاب ألقته على الأرض. . وفي دقائق معدودة أصبحنا صديقين حميمين، وكأننا تعارفنا من زمان طويل، وكأن حديثنا هذا تتمة حديث قديم. . حقا! ما أمهرك أيها الحب في إحداث أمثال هذه المعجزات!(90/62)
تركنا مقاعدنا وأخذنا نطوف جوانب الحديقة لنعرف ما إذا كانت جنود الربيع قد احتلت أنحاءها الأخرى
ثم دعوتها إلى تناول العشاء معي، فقبلت الدعوة دون تردد. . والعجيب أني وجدت من الطبيعي أن أدعوها إلى تناول العشاء، كما كان عجيباً أن تجد هي أيضاً من الطبيعي أن تتقبل هذه الدعوة. . ما أعجب تصرفاتك أيها الحب! وفي أثناء العشاء التهمت صديقتي بالنظرات، معجباً كل الإعجاب بعيونها الكستنائية الصافية التي قامت على حراستها أهداب براقة فتية، وأعجبت بقوامها الرشيق، وثوبها البسيط الأنيق. . ثم صرنا تتلافى في كل يوم. . ولم يشأ أن يسأل أحدنا الآخر عن ماضيه. . ما شأن الماضي بنا؟ ما شأن الأشياء التي ماتت وانقرضت؟ لم نعذب أنفسنا بأوهام وأشباح؟ كذلك لم نشأ أن نفكر في المستقبل، لأن المستقبل لن يكون خالياً من الخطر والغموض. . أليس الفراق يراقبنا عن كثب؟ ألست طالباً أجنبياً تنتهي دراسته بعد أسابيع ثم يعود إلى وطنه؟ ما لنا وللمستقبل إذا كنا ننعم بالسعادة والحب في الحاضر؟
قضينا أياماً لذيذة سعيدة مرت كعادتها سراعاً. . . أي صديقتي العزيزة! إني لن أنسى وفاءك ما حييت! كم كنت تحثيني على المذاكرة عند اقتراب الامتحان، ونجاحي معناه الافتراق، معناه عودتي إلى الوطن. . ولو رسبت لطالت إقامتي معك. . ولكنك آثرت نفسي على نفسك، وقدمت مصلحتي على مصلحتك!
أي صديقتي المحبوبة! إن قلبي يتفطر حزناً كلما تذكرت يوم نجاحي، وقد جئت إلى الكلية أعرف النتيجة، فلما عرفت نجاحي طوقتني بذراعيك وقبلتني أمام الجميع بلا مبالاة من شدة الفرح، بينما لمحت دمعة تتحدر من عينك المحبوبة للفراق المرتقب!. .
أي صديقتي العزيزة! إني ما زلت أراك وأنت ترافقينني في مسيري لقضاء بعض حاجاتي قبل الرحيل، وقد تظاهرت بالغبطة والسرور كي لا تدخلي على الغم في الأيام القليلة التي سأقضيها معك في باريس! كنت فرحة وأنت تنتقين لي الهدايا التي سوف أقدمها لدى عودتي إلى أفراد أسرتي في مصر! أي صديقتيالعزيزة! إني ما زلت أراك تكفكفين دموعك خلسة حينما حجزنا تذكرة عودتي لدى إحدى شركات الملاحة! إني ما زلت أذكر عشاءنا منفردين في الفندق عشية الرحيل. . . لقد بدا عليك الحزن في أجلي مظاهره، لأنه لم يعد(90/63)
بعد في طاقة قلبك الرقيق الصغير أن يتحمل تلك (الكوميديا). . (كوميديا الفرح) والسرور التي كان يحياها في أيامنا الأخيرة. . أي صديقتي المحبوبة! كم كان مؤلماً يوم الفراق! لقد رجوتك ألا تذهبي إلى المحطة لأن الوداع في المحطات مؤثر من نفسه، ولكنك أصررت على الحضور زاعمة أنه في طاقتك أن تتجملي. . ثم حضرت. . وكنت فعلاً شجاعة في أول الأمر فقد أخذت تضحكين، كما جعلت توصيني بأن أبعث إليك رسالة من كل مكان أحله في طريقي. . ولكن عندما علا صفير القطر المزعج المؤذن بالرحيل، ضاعت شجاعتك فأخذت تبكين بكاء مراً، ولم يكن في طاقتي أن أخفف عنك لأني كنت في مثل حالك من التأثر. . . ما أطيب قلب تلك السيدة العجوز التي جلست أمامي في العربة، وقد أخذت تبكي لبكائنا وهي تتمتم: يا لله! ما أقسى الحياة!
أي صديقتي المحبوبة! إذا كان حبنا لم يعيش طويلاً فإن عزاءنا فيه أنه انقضى في أوج شبابه وريعانه!
وأنت يا شجرة المشمش! ذكريني في مثل هذا اليوم من كل عام بهذه الذكريات العزيزة، لأن القلب البشري ضعيف قد ينسى أحباءه يوما ما!
كرامة بن هانئ
حسين شوقي(90/64)
البريد الأدبي
هل لامرتين من اصل عربي؟
سيدي الأستاذ. . . . الزيات
كنت قد قرأت في العدد التاسع والسبعين من (الرسالة) الغراء كلمة عن اتصال نسب شاعر الحب والجمال (لامرتين) بالعرب، وحثكم الباحثين على التنقيب عن هذه الصلة، لعلهم يوفقون إلى إضافة هذه العبقرية الخالدة إلى عبقريات العرب.
وإذ كنت أقرأ في (حياة لامرتين الغرامية للكاتب المعروف (لوكادوبريتين - صفحة 128، عثرت على نبذة لها علاقة متينة بذلك الأصل الذي يعترف به (لامرتين) نفسه بصراحة وثقة. وهأنذا أرسلها إلى (الرسالة) لعل فيها شعاعاً يضيء طريق البحث عن ذلك النسب.
قال لوكا:
(لما نفض لامرتين يده من السياسة تسنى له سنة 1832 أن يحقق أمنية طالما فكر فيها: وهي السفر إلى الشرق، لا حاملاً حقيبته وعصاه كما قد سبق له أن تخيل، بل على سفينة شراعية جميلة. . . هنالك نساء الشرق أرينه في عيونهن كما يقول: (أشعة من المخمل الرطب لم يكن قد رآها في عيني امرأة.) ففعلت بلبه تلك العيون ما تفعل الخمر. لذلك كان في قصصه التي عاد بها من سفره تلك اللجة الحادة، وذلك الخيال الذي تجده في قصائد (أريوست من هذا النوع قصيدته التي بارى بها شاعراً من الصحراء في الاشادة بمحاسن الآنسة الرائعة الجمال (مالاجمبا وأصدق هذه القصص على ما يظهر قصة زيارته (لادي استيراستهوب تلك الإنجليزية المحاطة بالأسرار التي كانت تعيش كسلطانة في قصرها القائم على أحد منحدرات لبنان، وقد تنبأت له بمكانة رفيعة وحظ عظيم؛ فسر بنبوءتها وارتاح إلى تصديقها. وأهم ما لفت نظر السلطانة في الشاعر تفاخره الساذج. وإليك حديثها عنه إلى زائر آخر هو الأمير (دي بويكليرموسكو -
قالت:
(بينما كان لامرتين يمد قدمه ليلفت نظري إلى جمال تقوسها، بينت له أن ذلك الشكل ينم عن أصل عربي، يدل عليه أيضاً بريق عينيه ورسم حاجبيه:(90/65)
' ' , , '
فاعجب بفراستي واستنتاجي؛ ثم روى لي كيف أن مائة وخمسين عربياً أسروا في غزة أيام الحرب الصليبية، فقيدوا إلى فرنسا واستوطنوا (ما كونيه) حيث أسسوا قريتين، وشادوا القصر الذي يسكنه لامرتين نفسه:
' ' -
ثم تابع قائلاً: - كان عليك أيضاً أن تلاحظي في خاصة وراثية شوهدت في الاسكندر، وهي ميل الرأس قليلا نحو الكتف. . أليس هذا طابع البلاد الجنوبية؟. . . . فأجبته بالتأكيد:
- ' ' ?. . .
وكأن هذا الانتساب لم يرق للكاتب الفرنسي (لوكا) فقال فيه:
(إن هذا الحديث ينم عن حقد (لادي استير) على الشاعر الذي أدرك ببصيرته الثاقبة (ما وراء تلك المظاهر الخلابة التي كانت لادي تحيط نفسها بها، من دسائس سياسية).
وليس في فراسة (لادي) ما ينم عن حقد أو تشف؛ وإنما هو استنتاج استنتجته من ملامح الشاعر وتكوين بعض أعضائه، وكانت فيه جد موفقة، لأنه صادف ارتياحاً من لامرتين، فقص عليها من نبأ الأسرى ما يؤيد فراستها ويدعم هذا الانتساب الذي يفتخر به، وبرهن لها أن القرية التي يسكنها والقصر القديم الذي توارثته أسرة لامرتين هما من بناء أولئك الأسرى العرب
ويروي أن لامرتين حاول مرة أن يبيع هذا القصر الأثري ليوفي ديونه، فأبت عليه ذلك ابنه أخته (فالنتين: وآثرت بيع معظم أملاكها حتى لا يفرط في هذا التراث الثمين، تراث أجداده العرب
بيروت (دار العلمين)
حسن باشو
ذكرى هاندل عميد الموسيقى الألمانية
احتفلت دوائر الفن والثقافة في ألمانية بمرور مائتين وخمسين عاماً على مولد الموسيقي(90/66)
الألماني الكبير جورج فريد ريش هاندل، عميد الموسيقى والأوبرا الكلاسيكية. وأقيم احتفال رسمي في (هاله) مسقط رأس الموسيقى، شهده مندوبون رسميون من انكلترا التي عاش فيها هاندل أربعين عاماً وأخرج معظم قطعه وأوبراته الخالدة. وقد ولد هاندل سنة 1635، ودرس القانون أولاً، ولكن مواهبه اتجهت إلى الموسيقى فبرع في العزف على القيثارة والأرغن والهارب؛ وتلقى دراسته الموسيقية على العازف الشهير زوخاو؛ وعين عازفاً لكنيسة هاله. ولما ذاعت شهرته سافر إلى همبورج حيث تولي العزف في أشهر فرقها الموسيقية، وأخرج في ذلك الحين أولى أوبراته (الميرا) و (نيرون)؛ ثم سافر إلى إيطاليا وطاف بمدنها الكبيرة ونالت (أوبراته) هنالك نجاحاً عظيماً. وفي سنة 1710 سافر إلى إنكلترا وأخرج (رينالدو)، وذاعت شهرته هنالك؛ وبقي في إنكلترا زهاء أربعين عاماً حتى وفاته؛ وتعرف يومئذ بأقطاب العصر مثل بوب وفيدلنج وهو جارث؛ ولقى رعاية كبيرة من الملكة (آن) ملكة انكلترا؛ ورتبت له معاشاً حسنا. وفي تلك الفترة وضع هاندل سلسلة جديدة من الأوبرات الرائعة مثل (آسى وجلاتيا) و (استر) وهي بالنكليزية و (اتوني) و (تيمورلنك) و (سبيون) وغيرها؛ وأنشأ هاندل يومئذ فرقة أوبرا كبيرة؛ ولكنها فشلت من الوجهة المالية؛ فعاد إلى التأليف ووضع (آريان) و (أثاليا) و (السينا) وغيرها. وأصيب على أثر فشله في مشروعه بضربة من الشلل؛ فسافر إلى إكس لاشابيل يستشفى مدى حين؛ ثم عاد إلى إنكلترا، وترك التصنيف الأوبرا وأخذ يصنف القطع الكنيسة فوضع منها خمس عشرة؛ وأسبغ بمجهوده على الموسيقى الكنيسة بهاء وروعة لم تعرفهما من قبل، وأشهر هذه القطع الدينية (صالح) و (إسرائيل في مصر) وهما من أبدع قطعة. وفي سنة 1742 أخرج أعظم قطعة وهي: (المسيح) ومثلت لأول مرة في دبلن، ويجمع النقدة على أنها أعظم قطعة دينية موسيقية، ثم أخرج بعد ذلك (شمشون) و (يهوذا) و (تيودورا). وتأثر هاندل أعظم تأثر بالمدرسة الإنكليزية وتقاليدها. ورز في فنه على جميع معاصريه ما عدا (باخ) وتطبع مؤلفاته كلها روعة وفصاحة بالغة؛ وموسيقاه عميقة مؤثرة خصبة في الإلهام. وقد أصيب الموسيقى الكبير قبل وفاته بأعوام بفقد بصره؛ فكان ذلك نذيراً بتحطيم حياته؛ وتوفي بإنكلترا سنة 1759
وقد ألقى ممثل الحكومة الألمانية الدكتور روزنبرج في احتفال (هاله) الرسمي بهذه المناسبة(90/67)
خطاباً جامعاً عن هاندل وآثاره؛ ونوه في خطابه بوحدة الثقافتين الجرمانية والأنجلوسكسونية، وقال إن ألمانيا كانت تعتبر شكسبير دائماً واحداً من أبنائها، بينما تعتبر عظماء المؤلفين الإيطاليين والفرنسيين أجانب عنها وعن ثقافتها وإن كانت تقدرهم وتعجب بهم، وكذلك هاندل فانه طبع الموسيقى الإنكليزية بأثره وطابعه مدى قرنين، ثم قال إن (المسيح) وهي أعظم قطع هاندل لا علاقة لها بالمسيح ليهودي؛ وقد نعت المعاصرون هاندل بأنه وثني كبير، ولكن روعة هذه القطعة ونبراتها القوية إنما هي في الواقع نفحة انتصار تفهمها الروح الأوربية دائماً سواء في إنكلترا أو ألمانيا
اثر لشوبين
وضعت بلدية درسدن لوحة تذكارية على منزل في المدينة كان الموسيقي البولوني الأشهر شوبين يقيم فيه منذ قرن، وأقيمت بتلك المناسبة حفلة رسمية حضرتها السلطات السكسونية وسفير بولونيا في برلين. وألقيت بهذه المناسبة خطب من مندوب الحكومة الألمانية الدكتور فونك، والسفير البولوني حول حياة شوبين وذكرياته وأثره في تطور الموسيقى(90/68)
من هنا ومن هناك
خواطر عن الدستور الإنكليزي
ملخص محاضرة للسيد جون سيمون
قرأنا في (الطان) نص المحاضرة الممتعة التي ألقاها السير جون سيمون وزير الخارجية البريطانية، في باريس، وافتتحت بها سلسلة المحاضرات السياسية الكبرى التي نظمتها (الطان) وشهدها رئيس الوزارة الفرنسية وأعضاؤها وأكابر رجال الحكم والسياسة والأدب والفن المال
وكان موضوع محاضرة السيد سيمون طريفاً شائقاً وهو: (بعض خواطر عن النظام الدستوري في بريطانيا العظمى) وقدم السير سيمون إلى الحضور رئيس الوزارة الفرنسية مسيو فلاندان، في كلمة بليغة نوه فيها بالمركز الرفيع الذي يتبوأه المحاضر في عالم السياسة والقانون؛ فهو اليوم عميد السياسة البريطانية، يتناول أقدارها ومصايرها بين يديه، وهو مشترع كبير ومحام بارع يترك وراءه ماضياً حافلاً بأعظم الذكريات
وألقى السير سيمون محاضرته بفرنسية بديعة؛ ولم يلجأ إلى الشروح الفنية أو الفقهية في بسط آرائه، ولكنه عرضها بطريقة واضحة سهلة، محكمة في نفس الوقت؛ واستهلها ببيان حقيقة يجهلها الكثيرون، وهي أنه لا يوجد في الواقع دستور إنكليزي، أو بالحرى لا يوجد دستور إنكليزي مكتوب ومبوب في نصوص ومواد يرجع إليها في تطبيقه؛ ولكن الدستور الإنكليزي عبارة عن مجموعة من القواعد والتقاليد القومية، تكونت مدى القرون وأصبحت مراجع محترمة تتبع بأمانة وإخلاص. ولهذه الخاصة الغريبة مزية قيمة هي المرونة التي تمكن ولاة الأمر من التمشي مع ظروف العصر ومقتضياته بتعديل بعض القواعد والتقاليد بطريقة عملية؛ وضرب السير سيمون مثلا عملياً لتطبيق هذه الخاصة، هو أنك لا تجد مطلقاً في القوانين البريطانية ذكراً للوزارة أو مسئولياتها أو رئيس الوزارة واختصاصه؛ فالوزارة التي تمسك بيدها مصاير الحرب والسلام هي نتيجة تطور دستوري لا يعرف أصله، ومع ذلك فهي تقوم على أصول دستورية معروفة؛ فهي مسئولة أمام البرلمان، ويجب أن يكون أعضاؤها جميعاً من أعضاء البرلمان؛ وأما رئيس الوزارة فليس له ذكر أو مرجع في القوانين الإنكليزية؛ وإقامته لا تستند إلى غير العادة والتقاليد، والمعروف أن(90/69)
والبول هو أول وزير إنكليزي أطلق عليه هذا اللقب واعتبر رئيساً للحكومة؛ أما قبل ذلك فكان الملك يصطفي من بين وزرائه وزيراً أو أكثر يعهد إليهم بمهام الأمور
وللوزارة البريطانية خاصة أخرى هي أن يفرق دائمً بين ديوان الوزارة (كابنت) وبين مجلس الوزارة. فأما ديوان الوزارة فلا يشمل كل الوزراء، ويعقد فقط من الوزراء الذين يمثلون الوزارات الهامة وفي مقدمتهم الرئيس؛ وهؤلاء هم الوزراء اللذين يحملون لقب (سكرتير الدولة) وعددهم سبعة، ومستشار المالية، واللورد تشانسلور، ورئيس البحرية، ورئيس مجلس التجارة وغيرهم؛ وهؤلاء يحضرون دائماً جلسات (الديوان) أما غيرهم من الوزراء الثانويين مثل وزير البريد، فلا يحضرون هذه الجلسات إلا في أحوال معينة
وقد كان العرش فيما مضى يشرف على اجتماعات الوزارة، ويرأس الملك جلساتها عادة؛ وكانت الملكة (آن) هي آخر من رأس مجلس الوزراء؛ ولكن حدث في عهد جورج الأول (أوائل القرن الثامن عشر) أن غيرت هذه العادة، فعدل الملك عن رئاسة المجلس لا لسبب سوى أنه كان ألمانياً لا يعرف الإنكليزية ولكنها غدت من ذلك الحين سنة في الدستور الإنكليزي، فملك إنكلترا لا يرأس مجلس الوزراء منذ قرنين
ولم يكن لمجلس الوزراء سكرتارية، ولا يوضع لجلساته مجلس أعمال حتى الحرب الكبرى، فاستحدث مستر لويد جورج هذه القاعدة، وعين سكرتيراً للمجلس بداعي الحاجة وما تقتضيه الأمور من سرعة الفعل؛ فغدت سنة دستورية؛ وأضحى هذا السكرتير من أهم أعضاء (الديوان) وعليه مسئولية كبيرة، فهو الذي يضع جدول الأعمال بمصادقة الرئيس ويوزعه على الأعضاء مشفوعاً بجميع الوثائق اللازمة، وفي وسع الوزراء البريطانيين متى تركوا خدمة الحكومة أن يكتبوا مذكراتهم كما شاءوا، ولكن قاعدة حكيمة مرعية تحملهم دائماً على احترام أسرار الدولة الخطيرة، فلا يبوحون بها مطلقاً
وهناك خاصة أخرى للوزارات البريطانية هي استقرارها وطول بقائها في الحكم؛ وهذه الخاصة ترجع إلى عوامل ثلاثة: الأول أن الأحزاب السياسية في إنكلترا قليلة العدد، وليست موزعة القوى والفرق كما هو الشأن في بلاد أخرى. والثاني هو أن صدور تصويت ضد الوزارة لا ينتهي بإسقاطها حتما؛ والوزارة الإنكليزية لا تطرح مسألة الثقة؛ ولا تسقط الوزارة إلا إذا هزمت في مسألة خطيرة أو وجه أليها قرار لوم على أثر المناقشة(90/70)
في مسألة هامة. والثالث هو أن أعضاء الأغلبية يترددون غالباً في التصويت ضد الحكومة، لأنه يحتمل جداً أن رئيس الوزارة إذا هزمت الوزارة، يشير على الملك بحل البرلمان، وهو اعتبار له قيمته في اتزان النواب. والمفهوم دائماً أن الرئيس إذا أشار بحل المجلس، فإنما يرجع ذلك إلى أسباب جوهرية تقتضيه؛ ولم يحدث أن رئيساً أشار مرة بالحل ورفض طلبه
ولمجلس النواب البريطاني رئيس له تقاليد خاصة واحترام عميق في نفوس الأعضاء، وهو الذي يطلق عليه (مستر سبيكر) وهو يحمل مسئولية النظام في المجلس، ويؤديها بمقدرة عجيبة؛ وليس له جرس يقرعه، ولكنه إذا احتدم الجدل إلى حد كبير، يقوم من مجلسة فقط، فيضطر الأعضاء احتراماً لعادة قديمة أن يجلسوا جميعاً وبذلك تسود السكينة. ولم يحدث منذ ثلاثين عاماً أن أخرج عضو من المجلس أو اتخذت أي إجراءات غير عادية لتأييد النظام
الموسوعة الإيطالية
كان من مظاهر الأحياء الفاشستي في إيطاليا، أن عنيت إيطاليا الجديدة بالناحية الثقافية والعمل على ترقية العلوم والآداب؛ ومنذ سنة 1925 تعنى جهات الثقافة الرسمية بإصدار موسوعة إيطالية كبرى (دائرة المعارف) لا تقل في حجمها وموادها عن الموسوعة الإنكليزية أو الأمريكية أو الروسية؛ ولم تكن إيطاليا قد عملت بعد لإخراجموسوعة من هذا النوع، وكان أول من فكر في تنفيذ المشروع السناتو تريكاني وهو من أقطاب الصناعة والمال، ورأى أن يستعين على تنفيذه بأقطاب العلم والأدب والفن في إيطاليا وفي خارجها؛ ولما رأت الحكومة خطر المشروع وأهميته تناولته بيدها، وأصدرت به قراراً رسمياً في يناير سنة 1933؛ وتحولت الهيئة التي كانت قائمة به إلى هيئة رسمية، واشتركت معظم البنوك الإيطالية الكبرى في إنشاء الاعتماد اللازم؛ وتولى الإشراف على الناحية العلمية السنيور جنتيلي وزير المعارف السابق وهو علامة وفيلسوف كبير؛ فجمع حوله أقطاب العلم والأدب والفن؛ وقسمت أبواب الموسوعة إلى خمسين باباً وزعت على مختلف العلماء والاخصائيين؛ وروعي فيها أن تكون تامة التماسك والتناسق؛ فالمواد تفحص حين ورودها ويستبعد منها ما كان جدلياً أو مذهبياً أو متناقضاً مع غيره، وتصحح التجارب مراراً(90/71)
عديدة، وقد بدأ ظهور هذه الموسوعة منذ سنة 1929 في ثوب أنيق رائع هو أبدع ما أخرجت المطابع الإيطالية وربما كان أبدع ما أخرجت مطابع العالم؛ ومن ذلك الحين يصدر مجلد واحد كل ثلاثة أشهر بانتظام تام؛ وسوف تظهر الأجزاء الأخيرة في سنة 1937، وتكون الموسوعة في ستة وثلاثين مجلداً. وقد ظهر إلى اليوم المجلد الرابع والعشرون ووصلت المواد إلى حرف ويحتوي كل مجلد على نحو مائتي صورة؛ وهي تطبع في مطبعة أنشئت خصيصاً لها في ميلانو عاصمة الطباعة الإيطالية، وقد اشترك في موادها جميع العلماء على اختلاف نحلهم ومذاهبهم العلمية والسياسية، وبلغ عدد الذين يشتركون في كتابتها 2500 عالم منهم نحو العشرة فقط من الأجانب، وكتب السنيور موسوليني مادة (الفاشزم)، وكتب كثير من أقطاب الحركة الفاشستية عن مناحي الحركة وتطوراتها؛ وسوف تكون هذه الموسوعة بلا ريب من أحدث المجموعات العلمية والأدبية والفنية التي ظهرت حتى اليوم(90/72)
الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
2 - هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
جبران (دمعة وابتسامة) كان رؤوفاً بالناس محباً للناس، راحماً ضعفهم، مشفقاً على بؤسهم، وهو - وإن يكن في نزعاته هذه مقلداً - فقد عبر عن عاطفة صحيحة صادقة لم تدنسها الأرض. فهو مؤمن بالعدل السماوي والرحمة المتغلغلة في كل جزء من أجزاء الكون، ولكن جبران الإنسان أفسد على جبران الهادئ هدوءه، وقلقه الحسي عمل قلقه الروحي. . . فالفقر والهجرة وموت الأعزاء والخيبة، كلها عوامل تألبت على جبران فخنقت فيه جبران الهادئ، ووترت أعصاب جبران القاسي، ومن يطفئ مثل هذه الثورة إلا خمرة (نيتشه) يتناولها بيد (زرادشت)؟
خلقت خمرة (نيتشه) عواصف جبران، وقد أثبت الناقد تأثير نيتشه في (العواصف) وهو تأثير لمن يرى؛ وعندي أن هذا التأثير مهما أحاطت به عوامل هذا الفيلسوف فهو لا يخلو من تأثير روح جبران الباطنية التي تمثلت أن الناس كانوا سبب خيبتها، فكرهتهم، لأن في كراهيتها انتقاماً لها منهم.
قد كان - في طوايا جبران - زرادشت راقداً، فأيقضه زرادشت نيتشه. . . وألهبه بروحه، وهتف به ليكون هداماً مثله، دافناً للأموات الأحياء!
لا يرضى النعيمي عن كل هذا التمرد ولا بعضه، لأنه لا يعرف للتمرد غاية. . . وإنما أظهر رضاه عنه في (غرباله) لأنه كان نفثة صادقة من فتى التفت إلى لباب الحياة، أو طفل صاح صيحة الحياة، برغم القابلة الواقفة على كل طفل يولد لتحول بينه وبين صيحته بالخنق أو بالسحق: هتف جبران برغم ذلك هتاف المرارة والحرقة، فوجد الناقد في هتافه تحرقاً للمجهول، فرضى عن هذا التحرق وإن لم يرض عن هذا التمرد. . . فنظر - كما قال جبران - إلى مستقبله لا إلى ماضيه، وأدرك الناقد أن هذه الثورة النفسية هي ثورة لم يخل منها فنان أو شاعر، وأي حجر ينزل في القاع بدون دوائر وأمواج. وهذه الثورة هي علامة الحياة. . .(90/73)
صدق النعيمي في نبوءته؛ فإن جبران لم يطل تمرده، ولو طال تمرده لما كان شريفاً كالذي قلده في تمرده؛ فإن تمرد نيتشه ناشئ عن المثل الأعلى الذي وجده واتبعه، لا يثنيه ثان عنه إلا رده، ولا يحول بينه وبين مثله حائل إلا صده. أما تمرد جبران فهو تمرد تقليدي - كمن يمد لمصافحة يداً شائكة إذا أنكره أو يداً ملساء إذا عرفه. تمرد نيتشه لا يقبل رحمة من يشتمهم، ولا يرضى بهبة من يدعوهم أمواتاً لأنه هو الحي العظيم! أما جبران فهو يعمل لهم ويقبل صداقتهم ويبني فنه على عطفهم ومعونتهم. ولو أن نيتشه حل محل جبران وعرضت عليه - ماري هاسكل - هذه الخمسة والسبعين دولاراً هبة، فماذا كان فاعلاً؟ لكن جبران علل نفسه بأنه اليوم مستسلماً وغداً يتمرد ثائراً. . وجاءت ساعة التمرد فأعلن العصيان، ثم فاء إلى منطقة السكينة الصامتة، والحياة كلها متوزعة في منطقة الصمت
ما هي العوامل التي دفعت جبران إلى السكينة بعد تلك العاصفة الهوجاء؟
ذلك ما حاول النعيمي أن يسدل عليه ستاراً فيأتي بالعوامل الخارجية التي لا يسكن إليها العقل. فجبران المتمرد قد يكون سبب سكونه أنه لم يكن داعياً بتمرده إلى مثل أعلى تؤمن به روحه كما يذيعهيراعه. ولكن (زرادشت) الثائر في قلب جبران هو ذات (زرادشت) الذي هدأ، والذي أسماه (المصطفى) وفيه لا يزال نتيشه عرقاً حياً ينبض في قلب جبران!
يرى (النعيمي) في المصطفى جبران الاسمي الذي بلغ بخياله ما لم يبلغه بإرادته. . . جبران الذي هو في القاع وهدأ في مكانه. جبران الساكن الذي دفن جبران المتمرد! جبران الذي رضى عن الحياة بكل ما انطوت عليه الحياة؛ وقبل الحياة المتصلة اتصال كل ذرة بذرة وكل قطرة بقطرة؛ الحياة التي لا ينفصل ألمها عن فرحها وجميلها عن قبيحها! هذه هي القمة التي بلغها جبران وأراد النعيمي من جبران أن يبلغها!
يقف النعيمي عند هذه النقطة ولا يتقدم، ويبقى القارئ مشوشاً لأنه لا يستطيع أن يصل بين حلقة التمرد وحلقة الكون؛ وقد تركهما الناقد مقطوعتين. عرف مولد التمرد ولم يعرف مولد السكينة، ولكن المحلل اليقظ يسهل عليه أن يدرك أن في (جبران المصطفى) أثراً من روح (نعيمة الهادئ)
أما جبران الثائر فقد علمنا أنه وليد نتيشه، أما جبران الهادئ فأي (نتيشه آخر) ذهب بروحه إلى هذا الأفق.، وهداه إلى هذه الغاية؟ إن الناقد الحقيقي قد يساعد الشاعر على(90/74)
خلق نفسه وتتميم رسالته، والتغلب على الصدمات التي تعترض سبيله إذا كان فناناً. . . والناقد لا يحيط بمعاني العبقري إلا إذا كان ممن أوتوا من هذه العبقرية شيئاً. . والنعيمي هو صاحب فلسفة ومذهب في الحياة شامل، تراه في كل آثاره. ألم يحمل إلى جبران الثائر من هذا الطعام شيئاً؟ ألم يكيفه بشيء؟
أنا أعتقد بأنه أثر فيه وإن أخفى النعيمي هذه الصفحة تواضعاً منه، فجبران يوم كان يبعث بعواصفه المدمرة كان النعيمي يبشر بهذه الحياة الهادئة الساكنة. .
هذا هو كتاب (المصطفى) الذي يمثل الروح الشاملة المطلقة التي يبشر بها النعيمي؛ هذه الروح التي تضم إلى صدرها كل شيء، وتجعل صاحبها في أمن من الألم، لأن الألم عندها مفقود، وكيف يتألم من يؤمن بأن الحياة في كل حركة من حركاتها وفي كل سكنة من سكناتها ساعية دائبة وراء غايتها التي لا تحد!
(يتبع)
خليل هنداوي(90/75)
العدد 91 - بتاريخ: 01 - 04 - 1935(/)
الفردية علتنا الأصيلة
لا تزال الفردية أبين الصفات المميزة للعرب؛ ولا تزال هذه الصفة
أجلى ما تكون في مصر! فان المرء ليغالي في فرديته حتى ليوشك أن
يكون أمة وحده!
غلبت هذه الشيمة على العرب الأولين لقلة المرافق المشتركة، وأثرة الطبيعة الشحيحة، ووحدة الحياة الرتيبة، واستقلال النفس القوية، فالرجل منهم كان يحصر الدنيا في خيمته، ويجمع العالم في قبيلته، ثم يختصر القبيلة في نفسه فيجعلها قاعدة لتمثاله وإطاراً لصورته! فهو لا يحيا حياة بهائم الأنعام تحمي ضعفها بالاجتماع، وإنما يعيش عيش سباع الطير والوحش لا تشبل على أفراخها وأجرائها إلا ريثما ترتاض وتضرى. فلما اختيروا إلى الدعوة الكبرى استجابوا لقوة القوى، واطمأنوا لألفة الروح، واستجروا لحكم الجماعة، حتى بلغوا رسالة الله، ثم تحرك فيهم الهوى الموروث، وتيقظ الطبع الأثر، فهبت الفردية تحلل العقدة وتشتت الوحدة، حتى قسمت الوطن بلاداً، ومزقت الشعب أفراداً، خضعوا لسلطان المغير وداوا لقوة الغاضب!
لا تزال هذه الفردية القبيحة وتوابعها من شهوة الرياسة وحب الاستئثار ودناءة الحرص، تقطع أوشاج المجتمع في أقطار العرب، فتفد كل موضوع، وتبطل كل مشروع، وتشعث كل ألفة. وفي مصر أحد تلك الأقطار تستطيع أن تعرض جملة أمرها على رأيك فتجد المثال الذي لا يبعد والحال التي لا تختلف.
فالسياسة هنا وهناك لا تكاد أحزابها تقوم على فكرة جامعة ومبدأ متحد، إنما هي فرد ينبه في الخير أو ينبع في الشر، فتأتلف عليه الأفراد المختلفون، فيكون منهم مكان النظام من العقد، يمسكه ما دام حياً قوياً، فإذا ما انقطع ذهب الحب أباديد. والاقتصاد هنا وهناك جهود فردية تخشى المنافسة وتتعجل الربح وترضى بالنصيب الأخس، لأن الفردية قتلت فينا الثقة فلا نساهم في رأس مال، وأضعفت شعورنا بالخير العام فلا نشارك في مشروع، ونشرت بيننا داء الحسد فلا نستقيم على رأي جميع؛ وما النهضة الاقتصادية الحديثة إلا نبوغ فرد أنس الناس بناحيته، واطمأنوا إلى كفايته، فأخلدوا إليه بالثقة، وألقوا في يديه المقاليد. والأدب هنا وهناك لا تزال دوافعه فردية ومراميه خاصة؛ فالقصيدة عواطف(91/1)
الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والمقالة خواطر الكتاب لا تكاد ترمي إلى غرض محدد ولا تجري في مذهب معين، والأغنية لواعج المغنى فلا تعبر عن المعاني العامة، ولا تهتف بالأماني المشتركة. أما الملاحم القومية، والقصص الاجتماعية، والأناشيد الشعبية، فتلك أغراض لا تزال منابعها ناضبة ودوافعها دخيلة
يأخذ المرء حال من الوجد أو الشوق أو الطرب، فيجد من القصائد والأناشيد ما يترجم هذه الحال، فيدندن ويتغنى؛ وتكون الجماعة منا في مجمع من المجامع، أو ملهى من الملاهي، أو موكب من المواكب، فيأخذها انفعال مشترك من ابتهاج أو احتجاج أو افتخار أو تحمس، فتريد أن تعبر عن ذلك بقول واحد وصوت واحد ونغم واحد، فلا تجد إلا خلجات تتوقد، ونظرات تتردد، ثم سكوناً بارداً كعرق المبهوت الخجل! حتى السلام الملكي الرسمي نعرفه نغماً ولا نعرفه كلماً كأنما وضعوه لأمة بكماء!
كذلك الفن هنا وهناك لا يجد من حرج الفردية مكاناً للتنوع ولا مجالاً للتقدم، فالتصوير كالشعر قلما يتعدى صورة الفرد وعاطفته، والرقص حتى الرجال لا يكون إلا من فرد، ولا يظهر من هذا الفرد إلا متعاقباً على أجزاء خاصة من جسمه، كالعجز والبطن والثديين والعنق، فهو حركات متقطعة مستقلة كأبيات القصيدة القديمة لا تربطها علاقة ولا تجمعها وحدة! والغناء والموسيقى يقعان دائماً على أصوات مفردة، وتقاسيم مرددة، وفرديات (مونولوجات) متشابهة، ومعان متكررة! فليس لنا - حتى ولا للقرويين - غناء جماعي ولا رقص جماعي يعبران عن شعور الجماعة ساعة الطرب أو الغضب أو النصر بكلمات موقعة وحركات موزونة؛ ولكل أمة من أمم الأرض أفنان شتى من ذلك حتى الزنوج!
إن الفردية تعلو فتكون الاستبداد، وتسفل فتكون الأنانية؛ وأن الجمعية ترتفع فتكون الإنسانية، وتنخفض فتكون العصبية؛ وإن بين الإنسانية والعصبية شعباً يعز، وأمة ترقي، وذكراً يبقى، وأثراً يخلد، ولكن بين الاستبداد والأنانية تحكم الهوى وشقاء العيش وذل الأبد. فإذا رأيت الأحزاب تتناقض وتنحل، مشروعات الشباب تضعف وتعتل، وإدارة الحكومة تسوء وتختل، فأبحث علل ذلك - غير مخطئ - في هذه الفردية حين تتعلى فتستبد، أو حين تتدلى فتستأثر. فلولا هذا الطبع الأصيل الذي طغى على الشعور، وبغى على الفطرة، لتنبه فينا الضمير الاجتماعي فأخلصنا للأمة كما نخلص للأسرة، وعملنا في(91/2)
الديوان كما نعمل في البيت، وأحببنا لعامة الناس ما نحب لخاصة النفس؛ ولكن الفردية داء دخيل لا يحسمه إلا الدين الذي حسمه عن نفوس العرب حين اتبعوه، فهل إلى رجوع إليه من سبيل؟
أحمد حسن الزيات(91/3)
تاريخ يتكلم. . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أيعرف القراء أن في الأحلام أحلاماً هي قصص عقلية كاملة الأجزاء محكمة الوضع متسقة التركيب بديعة التأليف، تجعل المرء حين ينام كأنه أسلم نفسه إلى (شركة من الملائكة)، تسيح به في عالم عجيب كأنما سحر فتحول إلى قصة؟
إن يكن في القراء من لا يعلم هذا فليعلمه مني؛ فإني كثيراً ما أكتب وأقرأ في النوم، وكثيراً ما يلقى علي من بارع الكلام، وكثيراً ما أرى ما لو دونته لعد من الخوارق والمعجزات
وهذهالقصة التي أرويها اليوم، كانت المعجزة فيها أني مشيت في التاريخ كما أمشي في طريق ممتدة؛ فتقدمت إلى أهل سنة 395 للهجرة وما يليها، فعشت معهم وتخبرت من أخبارهم، ثم رجعت إلى زمني لأقص ما رأيته على أهل سنة 1353. . .
أمسيت البارحة كالمغموم في أحوال ثقيلة على النفس ما تنطلق النفس لها، أولها سوء الهضم، ومتى كان البدء من هنا لم تكن الحركة في النفس إلا دائرة، تذهب ما تذهب ثم لا تنتهي إلا في سوء الهضم عينه. فجلست في الندى الذي أسمر فيه أحياناً، فكان لجوه وزن أحسسته كما يحس الغائص في الماء ثقل الماء عليه؛ ودخنت الكر كرة فلم تكن هواء ودخاناً يتروح، بل كانت من ثقلها كالطعام يدخل على الطعام؛ ونظرت ناحية فأخذت عيني رجلاً فيلي الخلقة، منطاد البطن، كأنما نفخ بطنه بالآلات، يحمل منه مقدار أربعة من بطون البدينات الحوامل، كل منهن في الشهر التاسع من حملها. . .؛ وكان معي إلى كل هذا البلاء خمس صحف يومية أريد قراءتها. . .!
ثم جئت إلى الدار، والمعركة حامية في أعصابي؛ وما كان سوء الهضم منومة فيدعو إلى النوم، فدخلت بيت كتبي وأردت كتاباً أي كتاب تناله يدي، فخرج لي كتاب في خرافات الأولين وأساطيرهم وهذيانهم وسوء هضمهم العقلي. . كالكلام أدونيس وأرطاميس وديونيس وسميراميس وإيسيس وأتوبيس وأثرغتيس. . . فاستعذت بالله وقلت: حتى الكتب لها في هذه الليلة أعصاب قد نالتها الثقلة والألم.؟
وبات الليل يقظان، وبقيت متململاً أتقلب حتى أخذ الصداع في رأسي، فانقلب التعب نوماً، وجاء من النوم تعب آخر، وقذفت إلى عالم الأحلام في قنبلة، تستقر بي حيث تريد لا حيث(91/4)
أريد:
ورأيتني في قوم لا أعرف منهم أحداً، قد اجتمعوا جماهير، وسمعت قائلاً منهم يقول: (الساعة يمر مولانا العالي) فقلت لمن يليني: (من يكون مولانا العالي؟) قال: (أو أنت منهم؟) قلت (ممن؟) فألهاه عن جوابي تشوف الناس وانصرافهم إلى رجل أقبل راكباً حماراً أشهب؟ فصاحوا: (القمر القمر) ورفع الرجل الذي يناكبني صوته يقول: (البركات والعظمات لك يا مولانا العالي!)
قلت: (إنا لله! لقد وقعت في قوم من الزنادقة، يعارضون (التحيات والصلوات والطيبات لله)؛ ثم مر صاحب الحمار بحذائي، وغمزه الرجل علي، فقال: (ما بالك لا تقول مثله؟) قلت: أعوذ باله من كفر بعد إيمان؛ فكأنما أراد أن يلطمني فرفع يده، فصحت فيه: (كما أنت ويلك وإلا قبضت عليك وأسلمتك للبوليس، وشكوتك إلى النيابة، ورفعتك إلى محكمة الجنح!)
قال: (ماذا أسمع؟ الرجل مجنون فخذوه!) وأحاط بي جماعة منهم، ولكنه ترجل عن حماره واخذ بيدي ومشينا، فقلت: (من أنت يا هذا؟) قال: (أراك من غير هذا البلد؛ أما تعرف الحاكم بأمر الله؟ فأنا هو.) قلت: (انظر ويحك ما تقول؛ فما أظنك إلا ممروراً؛ لقد كتبت أمس كتاباً إلى مجلة (الرسالة) أرخته 13 ذي الحجة سنة 1353 و18 من مارس سنة 1935، وأرسلت به مقالة (الخروفين. . .)
قال: ماذا اسمع؟ نحن الآن فيسنة 395؛ فالرجل مجنون، أو لا فأنت أيها الرجل من معجزاتي. لقد جئت بك من التاريخ وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي. . .!)
قلت: (فإني أعرف أعمالك إلى أن قتلت في سنة 411. . .!)
قال: (أو إله أنت، فتخلق ست عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدت من أفنك وغباوتك تفسد على دعوى المعجزة!)
وهاج الصداع في رأسي، وبلغ سوء الهضم حده، واشتبكت سينات إيسيس وأتوبيس الخ بسين إبليس، ومرت بين كل هذا حوادث الطاغية المعتوه المتجبر، فرأيته يبتدع في كل وقت بدعاً، ويخترع أحكاماً يكره الناس على أن يعملوا بها، ويعاقبهم على الخروج منها ثم(91/5)
يعود فينقض أمره، ويعاقب على الأخذ به، كأن الذي نقض غير الذي أبرم، وكأنه حين يتبلد فيعجزه أن يخترع جديداً - يجعل اختراعه إبطال اختراعه!
ورأيته كأنما يعتد نفسه مخ هذه الأمة، فلابد أن يكون عقلاً لعقولها، ثم لابد أن يستعلي الناس ويستبد بهم استبداد الشريعة في أمرها ونهيها، فكانت أعماله في جملتها هي نقض أعمال الشريعة الإسلامية، وظن أنه مستطيع محو ذلك العصر من أذهان الناس وقتل التاريخ الإسلامي بتاريخ قاتل سفاك
وسول له جنونه أن خلق تكذيباً للنبوة؛ ثم افرط عليه الجنون فحصل في نفسه أنه خلق تكذيباً للألوهية. وفي تكذيبه للنبوة والألوهية يحمل الأمة بالقهر والغلبة على ألا تصدق إلا به هو؛ وفي سبيل إثباته لنفسه صنع ما صنع، فجاء تاريخه لا ينفي ألوهية ولا نبوة، بل ينفي العقل عن صاحبه؛ وجاء هذا التاريخ في الإسلام ليتكلم يوماً في تاريخ الإسلام. . .
رأيتني أصبحت كاتباً لهذا الحاكم، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه وأقبلت على ما أفردني به، وقلت في نفسي: (لقد وضعتني الدنيا موضعاً عزيزاً لم يرتفع إليه أحد من كتابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر 968 سنة صاعدة في العلم
ودونت عشرة مجلدات ضخمة انتهيت وأنا أحفظها كلها، فإذا هي جمل صغيرة، جعل الحلم كل نبذة منها سفراً ضخماً كما يخيل للنائم أنه عاش عمراً طويلاً وأحدث أحداثاً ممتدة، على حين لا تكون الرؤيا إلا لحظة
وهذه هي المجلدات التي قلت: إن التاريخ يتكلم بها في التاريخ. . .
المجلد الأول
ابتلى هذا الطاغية بنقيصتين: إحداهما من نفسه والأخرى من غيره؛ فأما التي من نفسه فإني أراه قد خلق وفي مخه لفافة عصبية من يهودية جده رأس هذه الدعوة؛ فهو الحاكم بن العزيز بن المعز بن القاسم بن المهدي عبيد الله، ويقولون إن عبيد الله هذا كان ابن امرأة يهودية من حداد يهودي، فاتفق أن جرى ذكر النساء في مجلس الحسين بن محمد القداح فوصفوا له تلك المرأة اليهودية، وأنها آية في الحسن، وكان لها من الحداد ولد، فتزوجها الرجل وأدب ابنها وعلمه، ثم عرفه أسرار الدعوة العلوية وعهد إليه بها(91/6)
من بعض اللفائف العصبية في المخ ما ينحدر بالوراثة مطبوعاً على خيره أو شره، لا يد للمرء فيه ولا حيلة له في دفعه أو الانتفاء منه، فيكون قدراً يتسلسل في الخلق ليحدث غاياته المقدورة، فمتى وقع في مخ إنسان فالدنيا كالحبلى ولابد أن تتمخض عنه
هذه اللفافة اليهودية في مخ هذا الطاغية ستحقق به قول الله تعالى: (لتَجدَنّ أشَدّ الناس عداوةً للّذين آمنُوا اليهود.) فهو لن يكون العدو للإسلام دون أن يكون الأشد في هذه العداوة، ولن يكون فيها الأشد حتى يفعل بها الأفاعيل المنكرة. وما أرى هذه المآذن القائمة في الجو إلا تخرق بمنظرها عينيه من بغضه للإسلام وانطوائه على عداوته؛ فويل لها منه!
وأما النقيصة الثانية فقد ابتلي بقوم فتنوه بآرائهم ومذهبهم، وهم حمزة بن علي، والأجرم، وفلان، وفلان. . . وقد لفقوا للدنيا مذهباً هو صورة عقولهم الطائشة، لا يجيء إلا للهدم، ثم لا يضع أول معاوله إلا في قبة السماء ليهدمها. . .! ولو أنا جمعت هذا المذهب في كلمة واحدة لقلت: هو حماقة حمقاء تريد إخراج الله من الوجود لإدخال الله في بعض الطغاة!
ويتلقبون في مذهبهم بهذه الألقاب: العقل، الإرادة، الإمام، قائم الزمان، علة العلل. . .! وهذه هي الشيوعية بعينها، تعمل على هدم فكرة الألوهية وإلحاقها بالخرافة؛ كأن القائم بهذا المذهب هو عقل الناس وإرادتهم، كرهوا أم رضوا، فلا إرادة لهم معه ولا عقل، وهو الزمن فيصبغ الزمن بما شاء، ويجعله كيف شاء، لأنه به وعلة العلل في سياسته وتدبيره
شيوعية آثمة، كبرت في حماقتها أن تقوم بجنون واحد، فلا تقوم إلا باثنين معاً: جنون العقل، وجنون السيف!
المجلد الثاني
أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام، ليتألف الجند والشعب ويستميلهم إليه، وكان في ذلك لئيم الكيد دنيء الحيلة يهودي المكر. فأمر المدارس للفقه والتفسير والحديث والفُتْيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، وبالغ في إكرامهم والتوسعة عليهم والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم. . . وأحضر لنفسه فقهين مالكيين (اثنين لا واحد) يعلمانه ويفقهانه، وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعد به ويتيمن؛ أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك. . .!(91/7)
وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية - هي بعينها ربا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة. .! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة رأس المال والربا؛ فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملاً واحداً في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية. . .!
إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته شيئاً واقعاً، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو شاء لاستطاع أن يشنق كل ذي عمامة من سواد المسلمين في عمامته. ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة ولا يعلم أنه لهوانه على الله جعله الله كالذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضرب بالطاعون، فلو فخرت ذبابة أو تبجحت قملة أو استطالت بعوضة لجاز له أن يطن طنينه في العالم. وهل فعل أكثر مما تفعل؟
لقد أودي بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها
إنه والله ما قتل ولا شنق ولا عذب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها. . .!
لقد أحياهم في التاريخ، أما هم ققتلوه في التاريخ، وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين، أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعاً!
المجلد الثالث
يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خرافة وشعوذة على النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاق، وأن الإسلام كان جريئاً حين جاء فاحتل هذه الدنيا؛ فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة الشيطان كالذي توقح على الله حين قال: (فَبعزَّتكَ لأُغْويَنَّهُمْ أجمعين.) ولهذا أمر الناس بسب الصحابة، وأن يكتب ذلك على حيطان المساجد(91/8)
والمقابر والشوارع!
أخزاه الله! أهي رواية تمثيلية يلصق الإعلان عنها في كل مكان؟ لو سمع لسمع المساجد والمقابر والشوارع تقول: أخزاه الله. . .!
المجلد الرابع
هذا الفاسق لا يركب إلا حماراً أشهب يسميه: (القمر)، وقد جعل نفسه محتسباً لغاية خبيثة؛ فهو يدور على حماره هذا في الأسواق ومعه عبد أسود، فمن وجده قد غش أمر الأسود فـ. . .! ووقف ينظر ويقول للناس: انظروا. . .! ومن غلبة الفسوق على نفسه وعلى شيعته أن داعيته (حمزة بن علي) نوه بالحمار في كتابه وأومأ إليه بالثناء، لخصال: منها أن. . .! وكتب حمزة هذا في بعض رسائله: أن ما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يمر بها (الفاسق) من المنكر والفحشاء - إنما يُرتكب في طاعته. . .!
هذه طبيعة كل حاكم فاسق ملحد، يرى في نفسه رذائله عريانة فلا يكون كلامه وعمله وفكره إلا فحشاً يتعرى؛ وإن في هذا الرجل غريزة فسق بهيمية متصلة بطور الحيوان الإنساني الأول؛ فما من ريب أن في جسمه خلية عصبية مهتاجة، ما زالت تسبح بالوراثة في دماء الأحياء، متلففة على خصائصها حتى استقرت في أعصاب هذا الفاسق، فانفجرت بكل تلك الخصائص
ولست أرى أكثر أعماله ترجع في مردها إلا إلى طغيان هذه الغريزة فيه؛ فهو يحاول هدم الإسلام، لأنه دين العفة، ودين صون المرأة، يلزمها حجاب عفها إبائها، ويمنعها الابتذال والخلاعة، ويعينها أن تتخلص ممن يشتهيها ولو كان الحاكم. . . إنه يمقت هذا الدين القوي كما يمقت اللص القانون؛ فهو دين يثقل على غريزته الفاسقة، ولكل غريزة في الإنسان شعور لا مهنأ لها إلا أن يكون حراً حتى في التوهم؛ وهل يعجب السكير شيء أو يرضيه أو يلذه كما يعجبه أن يرى الناس كلهم سكارى، فينتشي هو بالخمر، وتسكر غريزته برؤية السكر
وما زال رأي الفساق في كل زمن أن الحرية هي حرية الاستمتاع، وأن تقييد اللذة إفساد للذة
المجلد الخامس(91/9)
يزعم الطاغية أنه يعز قومه - وما أراه يعزهم - ولكنه يمتحن ذلهم وضعفهم وهوانهم على الأمم؛ فهو يتجزأ شيئاً فشيئاً منتظراً ما يتسهل مترقباً ما يمكن؛ وهو يرى أن أخلاقنا الإسلامية هي أمواتنا دفنوا أنسهم فينا؛ فمن ذلك يهدم الأخلاق ويظن عند نفسه أنه يهدم قبوراً لا أخلاقاً
ولقد سخر منه المصريون بنكتة من ظرفهم البديع، وجاءوه من غريزته فصنعوا امرأة من الورق الذي يشبه الجلد، وألبسوها خفها وإزارها، حتى لا يشك من رآها أنها آدمية، ثم وضعوا في يدها قصة وأقاموها في طريقه؛ فلما رآها عدل إليها وأخذ من يدها القصة وقرأها، فإذا فيها سب له ولآبائه، وسخرية من جنونه ورعونته المضحكة؛ فغضب وأمر بقتل المرأة؛ فكانت هذه سخرية أخرى حين تحقق أنها من الورق، وأخذته النكتة الظريفة بمثل البرق والرعد؛ فاستشاط وأمر عبيده من السودان بتحريق الدور لا ونهب ما فيها وسبي النساء والفجور بهن؛ حتى جاء الأزواج يشترون زوجاتهم من العبيد بعد أن طارت الزوبعة والسوداء في بياض الأعراض
اندلعت ثورة الفجور في المدينة، لا من العبيد، ولكن من الحيوان العتيق المستقر في هذا الطاغية
المجلد السادس
وهذه رعونة من أقبح رعوناته، كأن هذا الحيوان لا يحسب نساء لأمة كلها إلا نساءه، فيأمرهن بأمر امرأته، وكأن النساء في رأيه هن إلا استجابات عصبية تطلق وترد
إن لموجة الفسق في الغريزة الطاغية جزراً ومداً يقعان في تاريخ الفساق؛ فهذا الطاغية قد جزرت فيه الموجة، فأمر أن يمنع النساء من الخروج ليلاً ونهاراً، لا تطأ أرض المدينة قدم امرأة؛ وأمر الخفافين ألا يصنعوا لهن الأخفاف والأحذية؛ ولما علم أن بعض النساء خرجن إلى الحمامات هدم الحمامات عليهن!
ولو مدت الموجة في نفس الفاسق لفرض على النساء الخروج والاتصال بالرجال والتعرض للإباحة
إن الصلاح والفساد كلاهما فساد، ما لم يكن الصلاح نظافة في الروح وسمواً في القلب(91/10)
المجلد السابع
يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم، وإني لأخشى والله أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه؛ أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله لتخلص الأمة من قديمها الإنساني. . .!
كأنه لا يعرف أنه إنما يتسلط على أيام معاصريه لا على التاريخ ويحكم على طاعة قومه وعصيانهم لا على قلوبهم وطباعهم وميراثهم من الأسلاف؛ فما هو إلا أن يهلك حتى ينبعث في الدنيا شيئان: نتن رمته في بطن الأرض؛ ونتن أعماله على ظهر الأرض إن هذا الرجل المسلط كالغبار المستطار، لا يكنس إلا بعد أن يقع. . .
ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيا الخضراء والفقاع، والترمس والجرجير، والزبيب والعنب - هوى قديم في طباع الناس فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط، وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء. . .
أهذا - ويحه - تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة. . .؟
المجلد الثامن
لا يرضى الطاغية إلا أن يمحق روحانية الأمة كلها، فلا يترك شيئاً روحانياً يكون له في أعصاب الناس أثر من الوقار. وبمن يستظهر إذا محقت روحانية الأمة وأشرفت نزعتها الدينية على الانحلال؟ كأنه لا يعلم أن حقيقة الوجود لأمة من الأمم إنما تستمد من إيمانها بالمثل الأعلى الذي يدفعها في سلمها إلى الحياة بقوة، كما يدفعها في حربها إلى الموت بقوة؛ وكأنه لا يعلم أن التاريخ كله تقرره في الأرض بضعة مبادئ دينية
هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي. . . لقد أمر بهدم الكنائس والبيع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفاً ونيفاً
أي مجنون أسخف جنوناً من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير. . .؟
سيعلم إذا نشبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين!(91/11)
المجلد التاسع
هذه الطامة الكبرى؛ فلا أدري كيف أكتب عنها: لقد تطاول المجنون إلى الألوهية فادعاها وصار يكتب عن نفسه: باسم الحاكم الرحمن.!
لو كان أغبى الأغبياء في موضعه لاتقى شيئاً، لا أقول تقوى الدين والضمير، ولكن تقوى النفاق السياسي؛ فكان يحمل الناس أن يقولوا عنه: (أبانا الذي في الأرضين. . .!)
وإلا فأي جهل وخبط وأي حمق وتهور، أن يكون إله على حمار، وإن كان اسم حماره القمر!
المجلد العاشر
سيأخذه الله بامرأة؛ ولكل شيء آفة من جنسه، لقد بلغ من وقاحة غريزته أن ائتفك على أخته الأميرة (ست الملك)، ورماها بالفاحشة وهي من أزكى النساء وأفضلهن، واتهمها بالأمير (سيف الدين بن الدواس) وقد علمت أنها تدبر قتله، وأنها اجتمعت لذلك بسيف الدين. فسأمسك عن الكتابة في هذا المجلد، وأدع سائره بياضاً حتى أذهب إليهما فأعينهما بما عندي من الرأي، ثم أعود لتدوين ما يقع من بعد. . .
ورأيت أني اجتمعت بهما واطمأنا إلي، فأخذنا ندير الرأي: قالت الأميرة لسيف الدين فيما قالته: (والرأي عندي أن تتبعه غلماناً يقتلونه إذا خرج في غد إلى جبل المقطم، فإنه ينفرد بنفسه هناك!)
فقلت أنا: (ليس هذا الرأي ولا بالتدبير)
قالت: (فما الرأي والتدبير عندك؟)
قلت: (إن لنا علماً يسمونه (علم النفس)، لم يقع لعلمائكم، وقد صح عندي من هذا العلم أن الرجل طائش الغريزة مجنونها، وأن الأشعة اللطيفة الساحرة التي تنبعث من جسم المرأة، هي التي تنفجر في مخه مرة بعد مرة؛ فإذا خبت هذه الأشعة، وبطلت الغريزة - بطلت دواعي أعماله الخبيثة كلها وكف عن محاولته أن يجعل الأمة مملوءة من غرائز جسمه وشهواته لا من فضائلها ودينها. فلو أخذتم برأيي وأمضيتموه فإنه سينكر أعماله إذا عرضها على نفسه الجديدة، وبهذا يصلح ما أفسد، وتكون حياته قد نطقت بكلمتها الصحيحة كما(91/12)
نطقت بكلمتها الفاسدة؛ فإذا. . .)
قال الأمير: (فإذا ماذا؟)
قلت: (فإذا خصي. . .)
فضحكت ست الملك ضحكة رنت رنيناً. قلت: (نعم إذا خصي هذا الحاكم. . .) فغلبها الضحك أشد من الأول ورمتني بمنديل لطيف كان في يدها أصاب وجهي فانتبهت وأنا أقوال (نعم إذا خصي هذا الحاكم. . .)
طنطا(91/13)
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
الحاكم بأمر الله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
لبثت مصر منذ الفتح الإسلامي زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، تتوارثها الخلافة أينما حلت؛ الخلافة العامة، فالأموية، فالعباسية. غير أن مصر كانت منذ الفتح تتبوأ بين الولايات الخلافية مركزاً ممتازاً؛ فقد اتخذت قاعدة لفتح إفريقية فالأندلس، وكان ولاتها الأوائل، ولاة لأفريقية؛ وكانت أيضاً، بموقعها الجغرافي، وأهميتها العمرانية مطمع الزعماء المتغلبين يرون فيها ملاذاً منيعاً للحركات الاستقلالية؛ فقد وليها فاتحها عمرو بن العاص ولايته الثانية من قبل معاوية، ولكنه جعل منها وحدة شبه مستقلة، وربما كان في اهتمام عمرو بالبقاء في ولاية مصر وسعيه لدى عثمان في تحقيق غايته، ثم اقتطاعها بعد ذلك من معاوية ثمناً لحلفه ومؤازرته ما يحمل على الاعتقاد بأنه لو ثابت لهذا القائد العظيم والسياسي البارع فرصة ملائمة لأنشأ بمصر لنفسه ولعقبه دولة أو خلافة مستقلة. ولما قام عبد الله بن الزبير بثورته على الخلافة الأموية ألفى في انتزاع مصر طعنة قوية يسددها لصدر الخلافة. ولما تألق نجم بني العباس وسحقت الخلافة الأموية في موقعة الزاب، فر مروان الثاني آخر الخلفاء الأمويين إلى مصر ليتخذها قاعدة للدفاع عن ملكه وتراث أسرته؛ ولعله لم يكن بعيداً عن التفكير في اتخاذ مصر بعد الشام معقلاً للخلافة الأموية وقاعدة لاسترداد تراثها الذاهب لو كتب له الظفر على مطارديه
ولما ضعف سلطان الدولة العباسية وتراخت قبضتها في النواحي، غدت مصر طعمة لطائفة من الحكام الأقوياء، يحكمونها باسم الخلافة، ولكن ينشئون بها دولاً مستقلة، لا تكاد تربطها بالخلافة أية روابط سياسية أو إدارية. وكان ابن طولون أول هذا الثبت من الحكام الأقوياء؛ قدم مصر والياً من قبل الخليفة المعتز سنة 254هـ (868م)، فلم يلبث أن استخلصها بعزمه وقوة نفسه، وأنشأ بها لنفسه ولعقبه دولة باذخة ترامت حدودها إلى شمال الشام؛ واستمرت مدى ربع قرن تنافس دولة الخلافة في السلطان والبهاء؛ فلما آنست(91/14)
الخلافة أن الانحلال قد سرى إلى الدولة الفتية، بعثت جيوشها إلى مصر غازية، فاقتحمت مدينة القطائع عاصمة بني طولون، وقضت على تلك الدولة الزاهرة (292هـ - 904م) واستعادت الخلافة سلطانها على مصر عصراً آخر؛ بيد أن هذا السلطان لبث عرضة للانتقاض بين آونة وأخرى، وحاول ولاة أقوياء مثل تكين وابن كيغلغ أن ينتزعوها لأنفسهم في ظل الخلافة الأسمى؛ حتى كانت ولاية محمد ابن طغج الإخشيد، فاستطاع أن يقوم بمصر بمثل ما قام به ابن طولون، وأن ينشئ بها دولة قوية مستقلة شملت الشام والحرمين، واستمرت مدى ثلاثين عاماً (327 - 358هـ)
كانت مصر تتمتع إذاً بمركزها الممتاز بين ولايات الخلافة؛ وكان هذا المركز الخاص يجعلها قبلة مختارة لأطماع المتغلبين وذوي النزعة الاستقلالية من الولاة والحكام؛ ويرجع هذا المركز الممتاز إلى موقع مصر الجغرافي ونأيها عن مركز الخلافة العباسية، ثم إلى اتساعها وغناها، وكونها تصلح بمواردها الخاصة لأن تكون مركز مملكة مستقلة. ولم تخف على الفاطميين هذه الحقيقة يوم استطاعوا أن ينفذوا بدعوتهم إلى أفريقية، وأن ينشئوا بها دولتهم الأولى على أنقاض ملك الأغالبة، فاتجهوا بأنظارهم إلى مصر؛ وما كاد ملكهم يستقر بأفريقية، حتى بعث أبو عبيد الله المهدي أو خلفائهم جيوشه لافتتاح مصر، فاستولت على برقة والإسكندرية، ولكنها ارتدت أمام جيوش مصر وجيوش الخلافة (302هـ)؛ ثم غزت مصر ثانية، واستولت على الإسكندرية والفيوم، وأشرفت على عاصمة مصر، ولكنها ارتدت إلى المغرب كرة أخرى بعد حروب طاحنة مع جيوش الخلافة (307هـ)
واستطاعت مصر أن تظفر مدى حين، في ظل الدولة الإخشيدية، بقسط من الاستقرار والقوة، ولكن الخلافة الفاطمية الفتية لم تنبذ مشروعها في افتتاح ذلك القطر الشاسع الغنى، وبعث القائم بأمر الله ثاني الخلفاء الفاطميين جنده إلى مصر، فاستولوا على الإسكندرية مرة أخرى (332هـ)؛ وكانت الخلافة الفاطمية تشعر أنها، وهي في مركزها النائي بقفار المغرب تبقى بعيدة عن تحقيق غاياتها السياسية والمذهبية الكبرى، أعني مناوأة خصيمتها الدولة العباسية والعمل على تقويض دعائمها، وانتزاع زعامة الإسلام منها؛ وكانت مصر بتوسطها العالم الإسلامي، وبما اكتمل لها من أسباب الغنى والخصب، هي أصلح مركز لتحقيق هذه الغاية، وفيها دون غيرها تستطيع الخلافة الفاطمية أن تقيم ملكها السياسي على(91/15)
أسس قوية باذخة. فلما سرى الوهن إلى الدولة الإخشيدية، رأى الفاطميون فرصتهم قد سنحت، وجهز المعز لدين الله الفاطمي حملة كبيرة لافتتاح مصر بقيادة مولاه وقائده أبي الحسين جوهر الصقلي، فسار إلى مصر، واستولى عليها بعد معارك يسيرة في شعبان سنة 358 (يوليه سنة 960)، وفي مساء نفس اليوم الذي تم فيه ذلك الفتح العظيم، وضع جوهر بأمر سيده المعز خطط مدينة جديدة هي القاهرة، ثم اختط الجامع الأزهر بعد أشهر قلائل، وأعدت المدينة الجديدة لتكون منزل الخلافة الفاطمية، وقاعدة ملكها السياسي، كما أعد الجامع الجديد (الأزهر) ليكون منبراً للدعوة الفاطمية ورمزاً للإمامة الجديدة
وهكذا تحقق مشروع الخلافة الفاطمية في افتتاح مصر؛ ومنذ السابع من رمضان سنة 362هـ (منتصف يونيه سنة 973) وهو تاريخ مقدم المعز لدين الله إلى مصر، تغدو القاهرة منزل الخلافة الفاطمية، بدلاً من رقادة والمهدية، وتغدو مصر معقل الخلافة الفاطمية وملاذها بدلاً من المغرب. فلم تكن مصر للفاطميين غنماً سياسياً فقط، ولكنها غدت أيضاً معقلاً للدعوة الشيعية التي لبث بنو العباس يطاردونها زهاء قرنين، والتي بدأت ظفرها السياسي بافتتاح المغرب؛ وكانت الدولة الفاطمية منذ قيامها بمصر تحتفظ بنفس الصبغة المذهبية التي اتشحت بها منذ قيامها بالمغرب، وكانت هذه الصبغة المذهبية الخاصة عنصراً من أهم عناصر الخصومة السياسية التي نشبت بين الدولتين العباسية والفاطمية؛ فالفاطميون الذين يرجعون نسبهم إلى فاطمة وعلي يختصون خلافتهم بالصفة الشرعية، ويعتبرون الدولة العباسية وريثة الدولة الأموية غاصبة للإمامة والخلافة اللتين اغتصبهما من قبل بنو أمية من علي وأبنائه، ويتخذون من هذا المبدأ دعامة لملكهم السياسي؛ فهم حسب دعواهم أبناء فاطمة بنت الرسول، وورثة علي وعقبه الشرعيين في إمامة المسلمين وخلافتهم
وهنا تعرض نقطة دقيقة. من هم في الواقع أولئك الفاطميون؟ وهل يرجع أصلهم حقاً إلى فاطمة وعلي؟ هذه مسألة يحيط بها الخفاء والغموض، ولم يقل فيها التاريخ كلمته الحاسمة؛ وقد لبثت مدى عصور موضع الخلاف والجدل في العالم الإسلامي والرواية الإسلامية؛ ففريق من العلماء والمؤرخين يؤيد الفاطميين في دعواهم وفي شرعية إمامتهم؛ ويرجع نسبة إمامهم ومؤسس دولتهم عبيد الله المهدي إلى الحسين بن علي وفاطمة. ولكن فريقاً(91/16)
آخر ينكر عليهم هذه الدعوة ويرى أنهم أدعياء لا يمتون بأية صلة إلى علي، وأنهم إنما استتروا بالتشيع والإمامة ليكسبوا عطف العالم الإسلامي. ويرجع هذا الفريق المنكر نسبة الفاطميين إلى عبد الله بن ميمون القداح بن ديصان البوني، وهو فقيه وافر الذكاء والمعرفة من الأهواز يرجع إلى أصل مجوسي، وداعية من أعظم الدعاة السريين الذين عرفهم التاريخ؛ وقد كان يدعو سراً إلى مذهب فلسفي إلحادي لإنكار الأديان والنبوة ساغه في سبع دعوات سرية ينتهي الداخل فيها إلى إنكار جميع العقائد والشرائع، ومنها استمدت دعوة القرامطة وبعثت ثورتهم الإباحية المروعة؛ وكان يستتر بالتشيع ويدعو لإمام من آل البيت هو محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق من ولد الحسين بن علي؛ فلما توفي قام بدعوته السرية ولده أحمد، ومن بعد أحمد ولده الحسين فأخوه سعيد؛ واستقر سعيد بسلمية من أعمال حمص واستمر في نشر الدعوة وبث الدعاة حتى استفحل أمره وأمر دعوته، وحاول الخليفة المكتفي بالله أن يقبض عليه وأن يخمد دعوته ففر إلى المغرب؛ وبشر له هناك دعاته وقاتلوا من أجله حتى ظفر بملك الأغالبة وتلقب بعبيد الله المهدي، وادعى أنه من آل البيت وانتحل إمامتهم. ويقدم إلينا فريق آخر من المنكرين عن أصل عبيد الله رواية خلاصتها أن الحسين حفيد عبد الله بن ميمون هو الذي استقر بسلمية، وكانت له زوجة يهودية رائعة الحسن تزوجها بعد أن مات عنها زوجها الأول وهو يهودي ولها منه ولد فائق الذكاء والظرف، فتبناه الحسين وعلمه وأدبه ولقنه أسرار الدعوة، وتقدم إلى أصحابه بخدمته وطاعته، وزعمأنه هو الإمام، وهو الوصي؛ وانتحل له نسباً في ولد علي، فكان هو عبيد الله المهدي. وهنالك أيضاً من يقول إن عبيد الله هو ولد الحسين من زوجه اليهودية؛ وهنالك روايات وتفاصيل أخرى لا يتسع لها المقام
وهذا الجدل حول نسب الفاطميين، والطعن فيه وفي شرعية إمامتهم ومبادئهم يشغل فراغاً كبيراً في الكتب المذهبية؛ ونحن ممن يميل إلى الأخذ برواية المنكرين، ولا نجد في تدليل المؤيدين وشروحهم ما يلقي ضياء مقنعاً؛ وكان هذا الطعن سلاحاً في يد الدولة العباسية تشهره للنيل من الفاطميين وتشويه سمعتهم في العالم الإسلامي؛ وقد اتخذ قبل بعيد صبعة سياسية رسمية؛ ففي سنة 402 هـ في عهد الخليفة القادر بالله، أصدر بلاط بغداد محضراً رسمياً موقعاً عليه من كبار الفقهاء والقضاة، وبعض زعماء الشيعة، يتضمن الطعن في(91/17)
نسب الفاطميين خلفاء مصر، وأنهم ليسوا من آل البيت، بل هم ديصانية ينتسبون إلى ميمون ابن ديصان، بل إنهم كفار زنادقة، وفساق ملاحدة، أباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسبوا الأنبياء، وادعوا الربوبية. وفي سنة 444هـ، كتب ببغداد محضر آخر يتضمن نفس المطاعن؛ وزيد فيه أن الفاطميين يرجعون إلى أصل يهودي أو مجوسي. ونلاحظ أن الوثيقة الأولى صدرت من بلاط بغداد، وفي عهد الحاكم بأمر الله، وقد كان في تصرفاته وفي ظروف عصره، ما يصلح مادة غزيرة لهذه المطاعن
- 2 -
كانت مصر غنماً يسيراً للدولة الفاطمية الفتية، ولكنها كانت أسطع جوهرة في تاجها، وأعظم قطر في تلك الإمبراطورية الشاسعة التي أصبحت تسيطر عليها. ولقد كان قيام هذه الدولة القوية الشامخة في مصر مستهل عصرها الذهبي، ومفتتح تلك العظمة وذينك البهاء والبذخ التي نثرتها من حولها وطبعت بها حياة مصر العامة عصراً مديداً؛ وكانت مصر بخصبها ونعمائها وفيض مواردها أعظم دعامة في إقامة هذا الصرح الباذخ الفخم؛ فالعصر الفاطمي من أسطع عصور مصر الإسلامية إن لم يكن أسطعها جميعا؛ غير أن هذا العصر الذهبي الوهاج يبعث إلى كثير من التأمل، فبينا نراه وضاء واضحاً في بعض النواحي، إذ نراه في البعض الآخر مظلماً مغلقاً، وإذا هذه الخلافة القوية الساطعة يكتنفها كثير من الخفاء والغموض والريب، وإذا تتبدى لنا في هذا الصرح البراق ثغرات سود لا نستطيع أن نسبر غورها أو نظفر بقراراتها؛ ويشتد هذا الخفاء والغموض بالأخص كلما حاولنا أن نستعرض من هذا العصر نواحيه الدينية والمعنوية، فهنا تبدو من آن لآخر ظلمات يصعب استجلاؤها. على أننا سنحاول مع ذلك أن نستعرض من العصر الفاطمي فترة ربما كانت أشده خفاء وغموضاً، وربما كانت مع ذلك أدعى إلى الاهتمام والدرس، لما تعرضه لنا من حوادث وظرف وخواص مدهشة، ولما تسفر عنه أحياناً من الحقائق والأسرار الغريبةالتي تلقي شيئاً من الضياء على روح السياسة الفاطمية الدينية والمدنية، وعلى حقيقة وجهاتها وغاياتها
نريد بذلك عصر الحاكم بأمر الله أغرب وأغمض شخصية في تاريخ مصر الإسلامية
قدم المعز لدين الله (تميم أبو معد) إلى مصر بجيوشه وأمواله وعصبته في السابع من(91/18)
رمضان سنة 362هـ (منتصف يونيه سنة 973) بعد أن أنشئت العاصمة الجديدة (القاهرة) وأعدت لنزوله، واستتب النظام، وتوطد الملك الجديد، وتلقى المعز ملك الشام كما تلقى ملك مصر على يد قائده جعفر بن فلاح، ودعا له بنوحمدان في حلب، فكانت مملكته الشاسعة تمتد من أواسط المغرب إلى شمال الشام؛ ولكن فورة القرامطة كانت تهدد ملكه الجديد في مصر والشام، وكان القرامطة قد زحفوا على مصر بالفعل في أوائل سنة 361، ونشبت بينهم وبين جيوش المعز بقيادة جوهر معارك هائلة على مقربة من الخندق (بجوار القاهرة) انتهت بهزيمتهم، ولكنهم ارتدوا عندئذ نحو الشام فافتتحوها من يد ابن فلاح نائب المعز، ثم زحفوا على مصر كرة أخرى، فلقيتهم جيوش المعز على مقربة من بلبيس، وهزمتهم هزيمة ساحقة (أواخر سنة 363هـ). وفي العام التالي خاضت الجيوش الفاطمية في الشام معارك شديدة ضد أفتكين المتغلب على دمشق وحلفائه البيزنطيين؛ وفي الوقت نفسه غلبت الدعوة الفاطمية على الحجاز ودعا للخليفة الفاطمي على منابرها
وتوفى المعز في 14 ربيع الثاني سنة 365هـ (ديسمبر سنة 975م)، فخلفه ولده العزيز بالله (أبو منصور نزار)، ولبث في الخلافة زهاء إحدى وعشرين سنة. وفي أول عهده زحف القرامطة وحليفهم أفتكين على مصر، فلقيهم العزيز في فلسطين وهزمهم بعد حرب شديدة وأسر أفتكين (368هـ) وفي أيامه استردت دمشق، وافتتحت الجيوش الفاطمية حمص وحماه وحلب وخاضت مع البيزنطيين معارك عديدة كان النصر حليفها فيها؛ ودعا للعزيز في الموصل واليمن، واتسع بذلك نطاق الدعوة الفاطمية اتساعاً عظيماً. ثم توفي العزيز في 28 رمضان سنة 386 هـ (سبتمبر سنة 996م) في بلبيس حيث كان يعتزم السير بعساكره إلى الشام؛ فخلفه يوم وفاته ولده وولي عهده أبو علي منصور، ولقب بالحاكم بأمر الله، وكان العزيز قد استدعاه إليه في مرض موته؛ وفي اليوم التالي سار الحاكم إلى القاهرة ومعه جثة أبيه، فدخلها في موكب فخم مؤس معاً
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان
المحامي(91/19)
كيف نبعث الأدب
وكيف نترواه للأستاذ عبد العزيز البشري
تتمة
أين أدبنا الصريح؟
لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقاتها، ويواتيها في جميع أسبابها، ويترجم في صدق ويسر عن عواطفها، وينفض ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعور والإحساس. ولقد تعرف أن الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها. ومهما تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجع إلى اصل واحد، وتندرج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أثر من أثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يتردد عليه النظر من صور الطبيعة، وغير ذلك. كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره البعيد أو القريب في هذا الباب
ومهما يكن من شيء فان لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي يستعار استعارة، ولا بالذي تتناقله الأمم كما تتناقل العلوم وفنون الصناعات مثلا. وكيف له بهذا وقد رأيت أن أبلغ عناصره مما لا يدرك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حكم الطبيعة وما من حكم الطبيعة مناص!
وأحسب أننا، بعد التسليم بهذا، في غير حاجة إلى أن نبعث الأدلة على أن ما يترجم عن عواطف قوم ويصور من حسهم الباطن قد لا يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خلق من الناس لقد ينشز على أذواق معشر آخرين. على أنه قد تشترك العاطفة والذوق كلاهما في معنى من المعاني وحينئذ يصدق البيان
وعلى هذا فانه مهما نسرف في مطالعة أدب الغرب والتروي منه، ومهما نجهد في محاكاته وتقليده، فانه لن يكون لنا أدباً في يوم من الأيام، اللهم إلا أن تنقلب أوضاع الطبيعة، فان الأمم لا تطبع على غرار الآداب، بل إن الآداب لهى التي تطبع على غرار الأمم!(91/21)
لقد نكون في حاجة ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جداً إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن نتخذها آداباً لنا. فذلك، كما علمت، عبث لا يغني ولا يفيد
والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عرباً أو مستعربين نعيش في مصر، مأخوذين بثقافتها القائمة، وموصولين بتاريخها القديم. إننا نلتمس هذا الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخنا المصري من الناحية الأخرى. هذا الأدب الذي تلهمنا إياه أخلاقنا وعاداتنا وثقافتنا، ويسويه لنفوسنا العيش في وادي النيل. إننا نلتمس هذا الأدب الذي يفيض بما تجيش به عواطفنا، ويصدق في الترجمة عما يعتلج في نفوسنا، ويصور دخائل حسنا أكمل تصوير، ويعبر عنها أدق تعبير. وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب أثره إلا قليلاً فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين!
اللهم إن فينا أدباء جروا من العربية على عرق، وأحرزوا صدراً من بديع صيغها، وتفتحت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من روائعها فيما نظم متقدمو شعرائها وما أرسل المجلون من كتابها. على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث العاطفة لم ينفض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يترجم عما كان يجده السلف الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة والتقليد ليخرج شعره عربياً لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على الزمان حتى أشفى فنهم على الزوال
وهناك شباب لم يبلغوا حظاً مذكوراً من العربية، ولعل من بلغ منهم حظاً منها لم يعن ولم يكترث لها، وهؤلاء أقبلوا على أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أخيلة لم تتراء لأحلامهم، ويسوون صوراً لم تتمثل لخواطرهم، ويريقون عواطف لم تترقرق في نفوسهم، ويفصدون أحاسيس لم تجش قط في صدورهم. وتراهم يستكرهون هذه الأمشاج من المعاني على نظام ليس فيه من العربية إلا مفردات الألفاظ، يشد بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد برغم تنافرها وتناكرها بحيث لو أطلقت من إسارها لتطايرت إلى الشرق والغرب ما يلوي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يخف للتعلق به الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم ينتصح به طبع، ولا رهف له حس، ولا تحركت به عاطفة، ولا انبعث إليه من(91/22)
نفسه خيال! فهو أدب مصنوع مكذوب على كل حال بل إن هناك شباباً لم يحذقوا شيئاً من لغات الغرب، ولم يظهروا فيها على شيء من آداب القوم، ولكن لقد تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون يشاكلونها ويحذون جاهدين حذوها ليضافوا هم كذلك إلى جمهرة (المجددين)، وما التجديد في شرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس في نظمه وفي صوره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما يصح أن ينتسب إلى أي أدب من الآداب، فانه مما لا يصلح لنا على أي حال!
وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن يقبل الناشئون من طلبة المدارس على هذا اللغو فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا شمروا للبيان، ولن يجشمهم التجويد والبراعة فيه جليلاً من جهد ولا مشقة، لأن قسر أي معنى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، وليس مما يعي جهد المرء ولا مما يعتريه بالمشاق. ومن هنا يشيع ارخص الآداب، أو أنه ينذر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد ترك في مذهبه هذا لطغى أشد الطغيان ما تغني في صده جهود الأعلام من الأدباء وحينئذ يكتب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكر الشائه الذي لا نسب له مدة طويلة من الزمان!
الأدب القومي
إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي. ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع. وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم السنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان. فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص. أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال
ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جداً إلى مطالعه آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها. ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب. وهذا أمر لا شك فيه ولا غناء لنا عنه، فان ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا(91/23)
العصر. والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن حظهم منه جليلاً. ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!
على أن شيئاً من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا. كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئاً من نبو ولا نشوز. وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات
وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد الزمن أو في قديمه. فقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، ويصيبونه في لغي أجنبية، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه. وان تصرف المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام. وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه (كليلة ودمنة) عن إحدى اللغات الهندية. أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لما يرفع من قدره ويغلى من تصرفه. وكيف لا وهذا القرآن الحكيم لقد حدثنا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا كثيراً من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الاعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!
وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر عليها قسراً ويستكره لها استكراهاً، فينكر صورتها ويشوه من خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم (التجديد) في هذه(91/24)
السنين!
كيف نعلم الأدب:
ولا شك في أن الينبوع الأول الذي يرده النشء لينهلوا من فنون العربية ويترووا آدابها ويستشعروا بلاغتها، وينبعثوا لترسمها إذا هم أقبلوا على البيان، هو معاهد التعليم على وجه عام، فإذا هي جدت في مهمها وأخذت من بين يديها من التلاميذ بما ينبغي أن يؤخذوا به من أساليب التعليم والتمرين، كان لنا في هذا الباب كل ما نريد
وإذا كان الأدب كسائر الفنون إنما يبرع المرء فيه بالاستعداد الفطري مع الكلف به وشدة الاقبال عليه وطول التمرين فيه بأكثر مما يحرز بالتعليم والتلقين، فان مما لا يعتريه الريب أن للأستاذ، وخاصة في ابتداء العهد بالطلب، أثراً بعيداً في تعليم أصول الفن وبيان حدوده، وإعلام طريقه بين يدي الطالب، وتهذيبه بطول التعهد، وتوسيع ملكاته بألوان الملاحظة، وإسلاس الإجادة له بفنون التدريب والتمرين. ولعمري لو قد أخذ الأساتيذ تلاميذهم بهذا الأسلوب في تعليم الأدب العربي لأحبوه وكلفوا به وانبعثوا من تلقاء أنفسهم لمراجعته في أوقات فراغهم، وإمتاع النفس بتسريح النظر في بدائعه. وكذلك تصبح مطالعة الأدب رياضة يطلب بها الترفيه والاستجمام إذا لحق الكد، وأجهدت المطاولة في طلب العلم. وسرعان ما تستقيم الطباع، وتدرك الملكات، ويجري صادق البيان في الأعراق مجرى الدماء
أما إذا حصب التلاميذ بالقواعد جافة لا يترقرق فيها ماء البيان صافياً، وقنع الأساتذة بأن يلقوا إليهم قطعاً من الشعر أو النثر ليحفظوها دون أن يوصل بين نفوسهم وبين ما تحوي من ناصح البلاغة، فقد استثقلوا الدرس وكرهوه وبرموا به، وتجرعوه تجرعاً إشفاقاً من العقوبة أو من التخلف إذا كان الامتحان! وإني لأكره أن أقول إن إقبال كثرة التلاميذ على هذا الأدب الرخيص الذي يخرج في العامية حيناً، وفي تلك العربية المنكرة الشائهة أحياناً، وتهافتهم عليه، وافتتانهم به، وأخذ الأقلام بمحاكاته وترسمه، إنما هو أثر من آثار ذلك البرم والاستثقال لدروس العربية وآدابها في معاهدنا المصرية!
والآن فالرأي في قيام أدبنا القومي وفي لغة الكتاب العزيز إلى أساتيذ المدارس، وإلى وزارة المعارف، فلننظر ما هم فاعلون!(91/25)
عثرة ورجاء:
بقيت هنالك مسألة لا يجمل بنا أن نختم هذا المقال دون أن نعرض لها بشيء من البيان: يقولون إن اللغة العربية فقيرة، أو إنها أصبحت فقيرة بحيث لا تستطيع أن تؤدي بعض مطالب الحياة في هذا العصر إلا في شدة عسر وحرج، ولا تستطيع أن تؤدي بعضها أبداً. وهذا كلام، على أنه لا يخلو من الحق، فانه لا يخلو من الإسراف إلى حد بعيد. إذ الواقع أن اللغة العربية غنية سخية بالكثير مما يواتي مطالب العاطفة، ويصور نوازع الشعور أحسن تصوير. فلقد بلغ المتقدمون من شعراء العربية في هذا الباب ما لا أحسب أن قد برعهم فيه كثير من أصحاب البيان في اللغات الأخرى. ولو قد نفض متكلفو الأدب دواوين أولئك الشعراء وفروا ما أجنت من قصائد ومقطوعات لخرج لهم من ذلك ما يبلغهم جليلاً من تصوير مختلف العواطف والتعبير عن خفيات الحس والشعور. وهذا، لو علمت، أجل مطالب الأدب في جميع اللغات. وحبذا لو أكثر الأساتيذ من عرض هذه الأشعار على تلاميذهم، وتقدموا إليهم الفنية بعد الفنية بالحديث في الموضوعات الإنشائية، عن الحس والعاطفة في مختلف الأسباب، واستدركواعليهم ما عسى أن يكون قد أخطأهم في ذلك من ناصح البيان
على أن هناك عقبة أخرى تحتاج إلى جهد في التذليل، وهي أنه في ركود لغة العرب بانقباض حضارتهم، عقد ما لا يكاد يحصره العدد من الاصطلاحات العلمية والفنية، واستحدثت أشياء كثيرة جداً في جميع وسائل الحياة، سواء منها الضروريات والكماليات. ولا شك في أن إصابة هذه الأشياء في لغاتها إفساد للعربية واستهلاك لها. كما أنه لا معنى للالتفات عنها إلا الإعراض عن هذه الحضارة العريضة، بل الإعراض عن أكثر ما نجده وما نعالجه في هذه الحياة. وهذه العقبة تقوم الآن على تذليلها جهود أفاضل الأدباء من جهة، والمجمع الملكي للغة العربية من جهة أخرى، بالغوص عما يدل على ذلك في مجفو العربية سواء بأصل الوضع أو بالطرق الفنية الأخرى
ولقد يكون من المفيد في هذا المقام أن ننبه حضرات رجال هذا المجمع أن الاكتفاء بإثبات ما يتسق لهم من المصطلحات والألفاظ في معجم جامع أو نشرها في كراسات دورية ليس مما يجدي كثيراً في إصابة الغرض المقسوم، فقد ثبت، بحكم التجربة، أن أبلغ الوسائل في(91/26)
شيوع الألفاظ والصيغ المستحدثة أو المبعوثة من جاثم اللغة، وكثرة دورانها على الألسن والأقلام، هي استعمال كبار الشعراء والكتاب لها، وترديدها فيما تجليه الصحف السائرة لهم من الآثار، فحبذا لو سعى إلى هذا أولياء اللغة، وخاصة فيما يتصل، مما يستظهرون، بالفنون والآداب
نسأل الله تعالى أن يهدي الجميع سواء السبيل
عبد العزيز البشري(91/27)
موسى بن ميمون
وعقدة الاتصال بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية
بمناسبة ذكراه المئوية الثامنة
للدكتور إبراهيم مدكور
موسى بن ميمون، هو فيلسوف الأندلس ومصر في القرن الثاني عشر، وأحد كبار حكماء بني إسرائيل الذين خلدوا أسماءهم بما خلفوا من كتب وآراء. ولد بقرطبة في الثلاثين من شهر مارس سنة 1135؛ وتوفي بالقاهرة سنة1204. تنقل بين مراكش وفلسطين؛ إلا أنه قضى بمصر جزءاً عظيما من حياته، فعاش بها سبعاً وثلاثين سنة يدرس الفلسفة والطب، ويشغل كرسي الحاخام. فكان بذلك وليد الحياة العقلية الإسلامية، وتلميذ المدرسة العربية التي أثرت فيه تأثيراً عظيما. وليس ثمت من مثل أوضح لهذا التأثير من كتابه (دلالة الحائرين)، تلك المرآة الناصعة والصادقة في أغلب الأحيان، التي تعكس علينا في تفصيل ودقة تاريخ شطر كبير من الأفكار الدينية والفلسفية الإسلامية
لا أحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أبين الصلة بين فلسفة ابن ميمون وفلسفة الإسلام، أو إن شئت بين هذه والفلسفة اليهودية عامة في القرون الوسطى، والتي يمثلها رجلنا أصدق تمثيل؛ فقد تصديت لهذا الموضوع في بحث حديث العهد، وأثبت ببراهين لا تدع مجالاً للشك أن ما يصح أن نسميه فلسفة يهودية إنما هو امتداد طبيعي للدراسات الإسلامية. ولقد كتب في هذا من قبل مؤرخين متعددون على رأسهم رينان. وإنما أريد فقط أن أوضح نقطة لم يوفها الباحثون حقها، لم يتنبهوا إلى أهميتها التاريخية: ألا وهي الدور الذي لعبه ابن ميمون في نشر الفلسفة والأفكار الإسلامية في العالم الغربي. لم يكتف مفكرو اليهود باعتناق آراء فلاسفة الإسلام ونظرياتهم، بل عملوا على نقلها إلى المدارس المسيحية؛ فوصلوا الشرق بالغرب، وربطوا حلقات التاريخ بعضها ببعض. وفضلهم في هذا الصدد أوضح من أن ينوه عنه؛ وحسبنا دليلاً ما صنعوا ببعض الكتب الفلسفية التي فقد أصلها العربي، ولم يبق لنا منها إلا المترجمات العبرية واللاتينية. فابن رشد مثلا تتعذر علينا دراسته إن وقفنا عند مؤلفاته العربية التي وصلت إلينا؛ ويكاد يكون أعرف إلى قراء(91/28)
العبرية اللاتينية منه إلى قراء العربية. وعلى الجملة فاليهود الذين تتلمذوا على العالم العربي، وانتشروا في كبار العواصم الأوربية يعدون بحق عقدة الاتصال بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية
لم يكن ابن ميمون بالناقل أو المترجم؛ بيد أن كتابه (دلالة الحائرين) كان من أول ما ترجم إلى اللاتينية في الدائرة الفلسفية والعلوم الدينية. ليس في مقدورنا أن نحدد بالدقة تاريخ ولا صاحب أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وكل ما يمكن تعيينه أن هذه الترجمة سابقة لمنتصف القرن الثالث عشر الميلادي: ذلك لأن و ; يرددان كثيراً اسم موسى بن ميمون؛ كما أن , و ;
يشيران إلى (دلالة الحائرين) كمصدر أخذا عنه واعتمدا عليه. لم يكد هذا الكتاب يترجم إلى اللاتينية حتى أكب على دراسته كبار فلاسفة القرن الثالث عشر الذين ذكرنا بعض أسمائهم. فأفادوا منه كثيراً؛ وكان عمدتهم في تعرف النظريات الإسلامية الهامة. ونستطيع أن نقول إن (دلالة الحائرين) أول وأشمل مؤلف درس فيه اللاتينيون الفلسفة العربية، وأنه قد عمل على نشر هذه الفلسفة بدرجة لا يعادله فيها كتاب آخر. نحن لا ننكر أن بعض مؤلفات الفارابي وابن سينا وحظاً وافراً من مؤلفات ابن رشد قد ترجم إلى اللاتينية، غير أن (دلالة الحائرين) كان أسبق من هذه المترجمات وأعظم شيوعاً. فأما الفارابي فما كان يعرفه إلا آحاد من فلاسفة الغرب، وإذا استثنينا لا نكاد نجد مؤلفاً قد أشار إلى اسمه في كتاب من كتبه. وأما ابن سينا فبرغم نفوذه العظيم لدى طائفة من علماء القرن الثالث عشر لم يكن بالمقرب إليهم قرب ابن ميمون؛ ولعل للفوارق الدينية أثراً في هذه الظاهرة. وأما ابن رشد فقد كانت خرافة إلحاده التي سادت أوربا في القرون الوسطى، والتي درسها (رينان) دراسة مفصلة سبباً في أن ينظر إليه بنظرة خاصة. على العكس من هؤلاء جميعا قد استطاع ابن ميمون بفصل كتابه (دلالة الحائرين) أن يمكن من نفوذ الفلسفة الإسلامية في المدارس الغربية عن طريق غير مباشر لا يشك فيه ولا يخشى خطره
ويجب أن نضيف إلى ما تقدم أن نقد هذا الحبر لبعض نظريات المتكلمين قد حببه، فيما يظهر، إلى الفلاسفة المسيحيين. فهو ينقض نظرية الجوهر الفرد ونظرية تعريف الله ونظرية الصفات الألهية بشكل يقربه من أرسطو بقدر ما يبعده عن علماء التوحيد(91/29)
المسلمين. وقد كان لهذا النقض أثر واضح على كبار فلاسفة القرن الثالث عشر. ونظرة إلى مناقشة الجوهر الفرد تحملنا على أن نجزم بأنه اعتمد اعتماداً كبيراً على كتاب لابن ميمون؛ على أنه هو نفسه يعترف بذلك في صراحة تامة، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الكتاب هو المصدر الوحيد الذي عرف منه الفلاسفة اللاتينيون نظرية الجوهر الفرد الإسلامية؛ فإنا لا نجد أي إشارة هامة متعلقة بهذه النظرية فيما ترجم إلى اللاتينية من كتب عربية أخرى. (فدلالة الحائرين) قد اختص إذاً بنقل بعض المسائل الإسلامية إلى المدارس الغربية في القرن الثالث عشر الميلادي لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة. وذلك أنا نجد لدي واحد كاسيبنوزا أو كلابنتزا آراء كثيرة الشبة بآراء فلاسفة الإسلام. فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبها عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية ' عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين؛ خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى؛ وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بين هذه الفلسفة وفلسفة العصور الحديثة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها، فقد عرف اسبينوزا كتاب (دلالة الحائرين) وعني به عناية خاصة، كما عرفه لايبنتز، وأثنى عليه ثناء كبيراً. فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. يخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية؛ وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة. ونأمل أن يمعن الباحثون في هذه الطريق التي سلكناها كي يلقوا جزءا من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، ويخدموا في آن واحد القرون الوسطى والتاريخ الحديث. نحن لا نقول بأن الفلسفة الإسلامية قد أثرت تأثيرا مباشرا في الفلسفة الحديثة، ولكنا نلاحظ فقط أن هناك مواطن شبه بين الفلسفتين فلنعمل إذا على توضيحها وبيدنا كتاب (دلالة الحائرين) الذي ألف بلغة الإسلام وفوق أرضه وتحت سمائه؛ ثم نقل إلى أوربا فكان موضع تقدير المفكرين منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم
إبراهيم مدكور(91/30)
دكتور في الأدب والفلسفة(91/31)
حول الأوزاعي
للأستاذ أمين الخولي
المدرس بكلية الآداب وكلية أصول الدين
الأوزاعي الكاتب: تفسير النصوص التاريخية والاستنباط منها
اتفق وأنا قريب عهد بكتاب (أحسن المساعي، في مناقب الأمام أبي عمرو الأوزاعي) الذي نشره ونقحه وعلق عليه، وقدم له، الأستاذ الكبير الأمير شكيب أرسلان؛ أن وصلني العدد 89 من الرسالة الصادر في 18 مارس سنة 1935، وفيه مقال عن الأوزاعي لحضرة الأديب عبد القادر علي الجاعوني؛ فلما قرأته تبدت لي نواح من القول عن الأمام الأوزاعي؛ وعن مقال الرسالة فيه، وأحببت أن أحدث بها قراء الرسالة؛ لكنما أحب قبل الخوض في شيء من ذلك أن أرسل وراء البحار، على صفحات الرسالة الغراء، تحية وإجلالاً للأمير العربي الكبير الأمير شكيب أرسلان لصدق غيرته، وجليل خدمته للعروبة وأهلها علمياً وأدبياً واجتماعيا: تحية تقدير لحقه على الشرق والعرب؛ وإجلال لذكريات كريمة للأديب العالم الأمير، على تمادي الأيام، ونأي الديار
الاوزاعي الكاتب
اشتهر عند القدماء والمحدثين، أن الأوزاعي إمام فقيه مجتهد، صاحب مذهب، أو ما يتصل بذلك وينتهي إليه، فحسب، ولم يعرفه الأدباء ومؤرخو الآداب، من أصحاب الأقلام والناثرين المقتدى بهم في القرن الثاني الهجري، من جيل عبد الحميد الكاتب أو يكاد؛ لكن هناك ناحية أدبية، في الأوزاعي، له فيها تفوق خطير، وآثار ذائعة، ومشاركة فعلية في حياة النثر العربي الأولى، وتاريخ الرسائل؛ إذ يذكر مترجموه أنه كان بارعاً في الكتابة والترسل؛ وأنه كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر وينقلون أنه كان من ذلك موضع الإعجاب والإكبار، إذ يروون أن كتبه كانت ترد على المنصور فينظر فيها، ويتأملها، ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها؛ بل كان في موضع الاحتذاء والتقليد، بل كان يقتبس رءوس الكتابة من قوله، ويأخذون عنه، ويتهيبون الإجابة عن رسائله؛ إذ يقول المنصور يوماً لأحظى كتابه عنده، وهو سليمان بن مخلد: ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن(91/32)
كتبه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الأرض على ذلك وقال: لا على مثل كلامه ولا على شيء منه؛ وإنا لنستعين بكلامه نكاتب به إلى الآفاق، إلى من لا يعرف أنه كلام الأوزاعي. لكن فقه الشيخ طغى على أدبه، وأخمل ذكره فيه؛ حتى يقول الذهبي في طبقات الحفاظ بعد أن روى عن أبي زرعة الدمشقي أن الأوزاعي كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر: قلت: هذا ناقلة سوى الفقه؛ وهكذا غلب الفقه الأدب على الرجل، كما غلبه على الشافعي من بعده؛ وكما لا تزال تهيئ تلك الغلبة ظروف الحياة، فتمضي بأدباء متفوقين إلى غير حرفة الأدب. لكنا لا ننصف حين نؤرخ الأدب فنتابع القدماء على اعتبار أدب الأوزاعي نافلة؛ ولا ننصف إذا أعطينا هذا العهد المبكر بنثره لعبد الحميد وابن المقفع وحدهما؛ ولا نتحرى درس الأوزاعي الأديب الناثر الممتاز إذ ذاك، ولا نعني بجمع آثاره في هذا، ولاسيما بعد ما نسمع قول المؤرخين أنهم عرفوا له كلاماً ومواعظ ورسائل كثيرة. فلعل الأدباء يعنون بجمع هذه الآثار وتتبعها؛ ولعل المؤرخين يعنون بدراسة أثر الرجل ومنزلته بين الأدباء الناثرين في هذا العصر. وفي سبيل هذا التعاون أشير إلى مواضع ذلك في الكتاب المنشور عنه؛ ففي الصفحات - 84، 120، 121، 136، كتب للأوزاعي. وفي - 87، 124، 137، مواعظ له؛ وفي - 138 وما بعدها كلمات له وحكم، ولعل الزمن يسعفني على المشاركة في شيء من ذلك الدرس
2 - تفسير النصوص التاريخية والاستنباط منها
تاريخنا الفني والعلمي والاجتماعي لم يكتب بعد، إذ اتجهت عناية القدماء إلى التاريخ السياسي واستيفائه؛ فلم يتركوا إلا أصولا متفرقة عن التاريخ غير السياسي، وإن النهضة لتتقاضانا هذا الحق، سداً لذلك النقص البادي، ونحن في هذا العصر نحاوله في النواحي المختلفة، وننتفع بما كتبة المستشرقون فيه، ولكن المادة الحقيقية إنما هي تلك المتفرقات القديمة التي كتبها أهل ذلك الشأن، عن قرب ومباشرة، وبادراك صحيح لروح ما يؤرخون وحقيقته. وفي الرجوع إلى هذه المتفرقات نحتاج إلى تفسير النصوص التاريخية بعد فهمها على وجهها فهما صحيحا لنستنبط منها أحكامنا على العصور والرجال والأعمال؛ والمتصدون لهذه الدراسة التاريخية الفنية أو العلمية أو الاجتماعية، يجرون من ذلك على أسلوب أشعر أنه لا يزال يحتاج إلى غير قليل من الدقة؛ وإن أحكامهم معه لا تسلم من(91/33)
الدخل والوهن؛ وليس هذا موضع الإفاضة والبيان المسهب في ذلك، فانه مما يستحق القول المفرد في غير هذه الفرصة؛ وإنما أحببت في هذا المقام أن أشير إلى ما يقع كثيراً في تفسير هذه النصوص، من عدم الرجوع إلى مواضعات القدماء أنفسهم في الشؤون الخلقية والعلمية والعملية مما تشرحه كتبهم؛ والاعتماد في الفهم على ظواهر العبارات، أو القياس على مواضعاتنا وعوائدنا دون تقدير لما هناك من اختلاف قد يكون كبيراً، وكذلك عدم التنبه إلى نواميس الحياة النفسية الإنسانية التي يجب توفر الخبرة بها قبل التصدي لتفسير أعمال الأشخاص وأقوالهم أو الأقوال عنهم، ثم وجوب رعاية السنن الاجتماعية وتأثيرها وتأثرها قبل الحكم على الحوادث أو الرجال وتعليل الأعمال وبيان آثارها؛ فكل أولئك وكثير غيره مما يجب أن يقوم عليه فهم النص التاريخي، وتفسيره بله الاستنباط منه؛ وليست تلك المهمة من الهوان بما يتراءى لبعض محاولي تلك الدراسة، وأستميح الأديب الجاعوني عذرا في أن أشير إلى بعض تفسيرات تاريخية وردت في مقالته، تمثيلا لهذه الدقة وما تجب مراعاته في هذه المهمة. فهو مثلا يقول، حين عد شيوخ الأوزاعي وتلامذته: (وروى عنه جماعة من الذين سمعهم كقتادة والزهري وغيرهم) (ص 419 رسالة) وعلق على ذلك في الهامش رقم 7 بقوله: (يظهر أن قتادة والزهري كانا معاصرين للأوزاعي، فسمع عنهم وبذلك نعدهم أساتذته، ومن ثم رووا عنه، ولذلك يصح لنا تجاوزاً أن نعدهم من تلاميذه)
وتنظر أولا إلى قوله إن قتادة والزهري كانا معاصرين للأوزاعي فلا ترى ذلك صواباً على هذا الإطلاق؛ فهؤلاء من التابعين، وليس الأوزاعي منهم - وإن ادعي بعضهم له ذلك - ثم هم على كل حال جيل آخر، بين وفاة الأوزاعي ووفاة آخرهم نيف وثلاثون عاماً - قتادة توفي سنة 117، والزهري سنة 123، والأوزاعي توفي سنة 157 - وتدع هذا فترى تفسير الكاتب لأخذه عنهم وأخذهم عنه واعتبارهم تجوزا تلاميذه، تراه قلقاً مظطربا. وكانت تدفعه ملاحظة عادة القوم في هذا النوع من الروية الذي كانوا يسمونه رواية الأكابر عن الأصاغر، ويفردونه بالبيان الخاص في أصول الروية؛ وكانوا يرمون فيه إلى اعتبار خلقي نبيل من تقدير العلم وأخذه حيث كان، وحطم الكبرياء المغرورة للأستاذية، ليظل المروى عنه أبدا طالب علم، ومرتاد حقيقة يأخذها حتى عن تلميذه، وهذا التفسير نفسه(91/34)
منصوص في كتاب أحسن المساعي الذي أرجح كثيرا أن الكاتب قد رجع إليه، إذ ورد في ص 52 - 53 منه ما نصه (. . . وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس، والثوري، والزهري، وهو من شيوخه، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر فان الزهري من التابعين، وليس الأوزاعي من التابعين) ثم إن الكاتب صاحب المقال عن الأوزاعي يتعرض لقول جولدزيهر بتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني، ويرى أن الأوزاعي أحرى بأن يكون آخر المتأثرين؛ ص 420 (رسالة)؛ ويحتاج لهذا الاستنباط (بأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي، ومن أقربهم إلى اتباع الكتاب والسنة. . . والكتاب والسنة أبعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني). ومع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر، ومع القصد في بيانه، فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية، فان متبع الكتاب والسنة لا بد له من أن يفهمهما، ويتبين مراميهما، وأغراضهما، وعللهما وحكمهما، ولكل شخص في هذا الفهم والتبين عقله الخاص، وشخصيته الخاصة، ومنهجه الخاص، وذلك كله من أشد ما يكون تأثراً بالثقافة والبيئة، فلا غرابة في أن يتأثر فهم الفاهم للكتاب والسنة المتبع لهما، تأثراً جلياً بعوامل تثقيفه، وظروف حياته، كما تأثر بذلك تفسير القرآن في كل الأزمنة، بل كما تأثر بذلك فهم العقائد وأصول الدين ذاتها تأثراً لا يسعنا إنكاره؛ ولا قيمة لحرصنا على هذا الإنكار، لأننا بذلك نقاوم سنن الله في خلقه
تلك مثل صغيرة لما تجب مراعاته في تفسير النصوص وفهمها والاستنباط منها، حتى نوفق لكتابة تاريخنا غير السياسي، بل السياسي كذلك كتابة علمية صحيحة، تنير ماضينا وتمد مستقبلنا بكل قوة وحقيقة
أمين الحولي(91/35)
حول الأوزاعي أيضاً
للأستاذ علي الطنطاوي
أسكر للكاتب الفاضل صاحب ترجمة الأمام الأوزاعي رضي الله عنه المنشورة في الرسالة التاسعة والثمانين عنايته بدراسة تاريخنا الجليل، واستخراج (جواهره) التي شغلتنا عنها (أصداف) غيرنا، وأرجو أن يقبل هذه الملاحظات قبولاً حسناً، وأن يعلم أن الذي حفزني إلى نشرها إنما هو حرمة الحق، وأمانة التاريخ
1 - يقول الكاتب في تحقيق نسبة الأوزاعي: (وقد اختلف في
معنى هذه الكلمة، فمن قائل إنها بطن من ذي الكلاع من
اليمن، وقيل بطن من همذان (بالذال)، وقيل إن الأوزاع قرية
بدمشق خارج باب الفراديس) اهـ
والصحيح أنه ليس بين هذه الأقوال اختلاف، فالأوزاع اسم قبيلة من اليمن، سكنت هذا الموضع فسمي بها - كما ذكر باقوت - ونسبهم في حمير ولكن عدادهم في همدان - كما قال في التاج - وهمدان - كما في اللسان - قبيلة في اليمن، أما همذان التي ذكرها الكاتب فمدينة مشهورة في أرض العجم، وعجيب أن ينسب إليها الأوزاعي، وأعجب منه أنه نقل هذه الرواية عن ابن خلكان، وهي في ابن خلكان في الصفحة التي نقل منها الرواية، همدان بالدال لا همذان بالذال!
وقد وجدت في كتاب - لا يحضرني اسمه - أن الأوزاعي من العقيبة (قرية بظاهر دمشق). والعقيبة اليوم حي كبير من أحياء دمشق، بالقرب من السور خارج باب العمارة، وهذا الباب هو باب الفراديس بعينه، وهولا يزال موجودا، ولا يزال داخله طريق مواز للسور، يسمى طريق (بين السورين)، فعلى هذا تكون العقيبة هي قرية الأوزاع
2 - وقال الكاتب إن الأوزاعي (لم يكن يستعمل الرأي، بل
إنه - كما فعل غيره - عدل إلى الكتاب والسنة) اهـ
والذي يفهم من هذه الجملة أن من يقول بالرأي يعدل عن الكتاب والسنة، وهذا خطاء(91/36)
فاحش، لأن أصحاب الرأي أو القياس، لا يعملون رأيهم، ولا يجرون قياسهم، إلا في المسائل التي لم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، فهم يرجعونها إلى هذين الأصلين، ويطبقونها عليهما؛ وليس لمسلم أن يقول في الدين برأيه، ويتكلم فيه بهواه؛ والحنفية هم الذين يسمون بأصحاب الرأي؛ وجميع الحنفية - كما يقول ابن حزم - مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من الرأي والقياس. وقد قدم أبو حنيفة رحمه الله العمل بالأحاديث المرسلة على العمل بالرأي في مسائل عدة
ولعل الكاتب لم يقصد هذا الذي قد يفهم من كلامه!
3 - وقال الكاتب: (ذهب بعض المؤرخين أمثال كولدزيهر
إلى أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني، وأنا أقول إن
كان هذا صحيحاً فأخر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به
لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي) اهـ
فلم يهتم الكاتب بدحض هذه الفرية التي افتراها كولدزيهر وأمثاله من المؤرخين، ولم يبين أنها في رأي العلم خرافة من الخرافات، وأن المحققين قد تكلموا فيها، وبينوا خطأها، بل كان جل همه أن يبرئ الأوزاعي منها، ولو يسلم ضمنا بأن الفقهاء قد تأثروا بالفقه الروماني!
على حين أنه لا يمكن أن يقوم دليل علمي واحد على أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني، إلا إذا كان القرآن مترجما عن لغة الرومان، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه واله وسلم رومانياً خرج من أبوين عربيين! والذي نقوله إنه إذا كانت هناك علاقة بين الفقهين، فإن الفقه الروماني المعروف اليوم هو المقتبس عن الفقه الإسلامي، ودليلنا على هذا أن الفقه الروماني الحاضر جديد، لفقه طائفة من العلماء، بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم، وهذا الدليل على علاقة أقوى من دليلهم على دعواهم، فليثبتوا إن استطاعوا أن الفقه الروماني الحاضر هو القديم ذاته، وليأتونا بالأسانيد الصحيحة والروايات المضبوطة، كما نأتيهم نحن بأسانيد حديثنا، وروايات سنتنا!
4 - هذا وإن في ترجمة الأوزاعي كتابا قائما برأسه نشره من(91/37)
عهد قريب كاتب الإسلام الأمير شكيب أرسلان فلينظره الكاتب
الفاضل
علي الطنطاوي(91/38)
الحكم في المسابقة الأدبية
يذكر قراؤنا أننا نشرنا في العدد 79 من الرسالة قصيدة من الشعر الفرنسي عنوانها. (ارتياب) للآنسة النابغة (مي) ومعها ترجمتها بقلمها، وقد قدمتها إلى شعرائنا مقترحة أن ينقلوها نظماً إلى العربية جاعلة للسابق الأول جائزة مالية قدرها جنيهان مصريان؛ وقد استبق إلى مقترح الآنسة الفاضلة سبعة وعشرون شاعراً من مصر ومن سائر الأقطار العربية، وفي مساء يوم الجمعة الماضي اجتمعت في دار الشاعرة لجنة التحكيم وهي مؤلفة كما ذكرنا في عدد سابق من حضرات الدكتور طه حسين، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، والدكتور أحمد زكي، ومحرر هذه المجلة، فقرأوا القصائد، ثم غربلوها، ثم نخلوها، حتى علق بالعيون ثلاث قصائد منها، فأعادوا النظر فيها، ثم وازنوا بينها، فكانت الأولى لشاعر لم يذكر اسمه ولم يرمز إليه، والثانية للأستاذ فخري أبو السعود، والثالثة لشاعر دمشقي إمضاؤه أ. ط، فقرروا نشر القصائد الثلاث وحكموا للشاعر الأول بالجائزة. والرسالة ترجو منه أن يرسل إليها عنوانه لترسل إليه حقه. وتلك هي القصائد:
القصيدة الأولى
ارتياب
أصديقتي ذات العيو ... ن النجل! قد ولى النهارُ!
والريح هوجاء تهب (م) ... بنا، وليس لها قرارُ
ولها أنينٌ ثائرُ، ... كالقلب عاوده ادّكارُ
ولها صدى في النفس مك ... بوتُ عَصى مستثار
أصديقتي، ذات العيو ... ن النحل! قد ولى النهار
بين الزهور جلست أح ... لمُ في حنينٍ واكتئابِ
والزعزعُ النكباءُ تع ... صِف كل آونة ببابي
والسحب باكية، فوا ... شجني لهذا الانتحابِ!
فلكم يثير من الشجى ... في مهجتي دمعُ السحاب!
بين الزهور جلست أح ... لم في حنين واكتئاب
هل تذكرين اليومَ رأ ... سَ العام؟ ما أحلاه ذكرى!(91/39)
يومُ به السرّ الخفيّ ... أضاَء في عينيك سحرا
وهلالُ روحي عابدُ ... مِنْ رُوحك المعبود بدرا
يومُ به أوحيت في نف ... سي حديثاً مستسرَّاً
هل تذكرين اليومَ رأ ... س العام؟ ما أحلاه ذكرى!
أسفي لهذا الشهر قد ... ولَّى، وآذن بانَتهاءِ
فيه رأيتك مرتي ... ن، لدي سويعات المساءِ
والآن أقضي الليل في ... غير ابتهاج أو صفاءِ
واحرّ أشواقي لفج ... رِ منك فتان الضياءِ
أسفي لهذا الشهر قد ... ولى وآذَنَ بانتهاءِ
ليلُ مطير حالكُ ... وكأنه ليلُ الوداعِ
والفكر أقتمُ لم يزل ... وسط الهواجس في صراعِ
أمس الفؤاد ممزقاً ... بين ارتياب وارتياعِ
ماذا لو أن فؤادَك المغ ... رورَ أُولعَ بالخِداع
ليلُ مطيرُ حالك، ... وكأنه ليل الوداعِ
القصيدة الثانية
ارتياب
أصديقتي يا رَبّة الحَدَقِ العِذا ... بِ النُّجل روُحي رددتْ نجواك
الريحُ في هذا المساء عنيفة ... هوجاء ذات صدى عصىّ باك
جاّرةُ أمسى عَصيّاً داوياً ... في النفس مكبُوتاً صَدَاها الحاكي
أصديقتي يا ربة الحدق. . .
ما بين هاتين الزهور جلستُ واس ... تسلمتُ للأحلام والأشجان
يغزو جناحُ النَّوْءِ نافذتي وقد ... بكتِ السماءُ بِدَمعِها الهتَّان
واهاً لذاك الدمع يجري ناحباً ... ماذا يُحرَّك في مدى الأعوان؟
ما بين هاتيك الزهور. . .(91/40)
يا هل نراك ذكرت فيما قد مضى ... يوماً لنا قد كان رأس العام؟
يوماً بمغرى السر نوَّرَ مقلة ... خاطبتني منها بغير كلام
ورأت به روحي بروحك أُختها ال ... كبرى ونلتِ عبادتي وهيامي
يا هل تراك ذكرت. . .
قد راح شهر بعد ذاك مولياً ... ها نحن نرقب متهاه الداني
ولى وقد جادت بحُسْنَ لقاك أُم ... سيتان في أثنائه ثنتان
والآن إذ جذلي إلى غده انتهى ... أصبو إلى فجر مضى فتان
قد راح شهر بعد ذاك. . .
هذا مساء ممطر متساقط ... ساجي الدجى، هذا مساء وداع
تعتامني غُبْرُ الهموم وقد مشى ... رَيْب بقلبٍ للجوى مُنْصاع
ريْب خبيث! ما ترى لو لم يكن ... لك غير قلبٍ مُزدْهٍ خدَّاع؟
هذا مساء ممطر متساقط ... ساجي الدجى، هذا مساء وداع
فخري أبو السعود
القصيد الثالثة
صديقتي ذات العيون العذابْ ... روحي تناديك! فهل تسمعينْ
جُنْ جنون الريح هذا المساءْ ... وانفعت صخَّابة كالحُممْ
تروى وذي صيحاتها في الفضاء ... يعيدُ في نفسي صداها الأصم
صديقتي ذات العيون العذابْ ... روحي تناديك! فهل تسمعينْ
هأنذى أجلس بين الزَهَر ... حالمةً مغمورةً بالشٌّجون!
نافذتي تلطُمها العاصفة ... والسحب تُذري عبرات الحنان
لله هذي الأدمع الواكفة ... ماذا ستذكي في صميم الكيان
هأنذى أجلس بين الزّهَرْ ... حالمةَ مغمورةً بالشُّجون
صديقتي بالله هل تذكرين ... أول هذا العام هل تذكرين؟
إذ نم عنك الكلم الصامت ... ونور عينيك نِمى السرَّا (كذا)(91/41)
ويوم نفسي، والفضا ناصت (كذا) ... ألفت لديكِ روحها الكبرى؟
صديقتي باللهِ هل تذكرين ... أول هذا العام، هل تذكرين؟
شهر تولى ومضى مُسرعاً ... وراحَ يغفو في خضمّ القرونْ
لم نحظ في أيامهِ باللقاء ... سوى مساءين، ولم نسعدِ
والآن، إذ في الغَدِ كلُّ الهناءْ ... أذوب أشواقاً لفجر الغد. . .
شهر تولى ومضى مسرعاً ... وراح يغفو في خضم القرون
هذا مساءٌ دامعٌ قاتمٌ ... مثل أماسي الوداع الحزين
خواطري فيه تُحاكي الدُّجى ... والغم في نفسي طغى، والملل
والشك يلهو بيَ: ما تُرى ... لو كان منك القلب جم الحيل؟
هذا مساءٌ دامعٌ قاتمٌ ... مثل أماسي الوداع الحزين
أط
دمشق(91/42)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
اسبلنزاني
صلة حديثه
(القس الماكر الذي مالق الكنيسة والسلطات وهو يحتقرها جميعا لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛ الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛ الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء لا بد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة، ذلك الأثر الوحيد الذي بقي للناس إلى اليوم من هذا الرجل الكبير الخالد)
وجرت مكاتبات كثيرة بين اسبلنزانى وبين الكثير من بحاث أوروبا وشكاكيها. وجرت صداقة بالبريد بينه وبين فلتير ذلك الماكر الخبيث، وشكا له في كتبه أن إيطاليا ليس بها إلاأفذاذ قليلون من الرجال ذوي العقول الراجحة، وشكا له الطقس والرطوبة والضباب. ودار الزمن فإذا اسبلنزانى يتزعم تلك العصابة الرعناء من الفلاسفة والعلماء الذين طلبوا الحق صادقين وأرادوا للناس السعادة والعدل مخلصين، فإذا بهم يمهدون غير قاصدين لفتن هوجاء، تلطخ بها وجه الأرض بأغزر الدماء
واعتقد هؤلاء العلماء أن اسبلنزانى قضى كل القضاء على تلك الفرية التي افتراها الخصماء حيث قالوا إن الحياة قد تنبعث من لا شيء، وأخذ هؤلاء العلماء، وفي طليعتهم (فلتير)، يقهقهون بالنكات النادرة، ويتندرون بالفكاهات المستملحة، على القوة النباتية وعلى (بيفون) الفخم الطنان، وعلى صبي معمله الأدب (نيدم)
وبينا هم على هذا، صاح نيدم: (ولكن هذه القوة النباتية موجودة يا قوم. إنها شيء مستسر خفي. حقاً إنها لا ترى ولا توزن، ولكن بسببها تخرج الحياة من مرق اللحم ونقيع الحب، وقد تخرج بواسطتها من لا شيء. من الجائز أنها احتملت ذلك التحميص الشديد الذي(91/43)
أولاها إياه اسبلنزانى. إنها قوة أكثر ما تحتاج إليه مرونة الهواء، وقد أغلى اسبلنزانى قبابته ساعة فأفسد مرونة الهواء بداخلها، ففسدت القوة النباتية فلم تتكون الأحياء)
سمع الطلياني بهذا فقام تواً للصراع. ونادى نيدم: (هل من تجارب تثبت بها أن الهواء إذا سخن قلت مرونته؟). وانتظر التجارب فلم يجب نيدم بغير ألفاظ. فصاح به الطلياني: (إذن فأنا آتيك بالتجارب). ورجع إلى معمله مرة أخرى فوضع البذر في القوارير، وصفها وأغلاها ساعة. وفي ذات صباح ذهب إليها يقصف رقابها. قصف الأولى وأرهف سمعه فسمع لها صفيراً. (ما هذا؟). واختطف الثانية فأدناها من أذنه وكسرها فسمع لها صفيراً. (هذا هو الصفير يعود! ومعنى هذا أن الهواء يدخل إلى القارورة أو أنه يخرج منها). وأشعل شمعة وأدناها من فم قارورة أخرى وفض قاها فإذا اللهب ينعطف نحوها. فصاح: (معنى هذا أن الهواء يدخل القارورة، ومعنى هذا أن الهواء بالقارورة أقل مرونة من الهواء خارجها، ومعنى هذا أن نيدم قد يكون على حق!)
وعندئذ أحس اسبلنزانى بجيشان في معدته، وأحس بالعرق يتصبب من جبينه، والأرض تدور به. . . أيجوز أن يكون هذا الأبله نيدم قد خبطها خبطةً عشواء فأصابت؟ أيكون قد تظنن فيما تحدث الحرارة في الهواء المخزون بداخل الزجاج المختوم فوقع على الحقيقة وهو لا يدريها؟ أيكون قد قدر لهذا الفيهق الثرثار اللغاط الهراء أن يفسد عليه الجهد الكبير الذي أنفقه في استنباط الحقائق في حرص وحذر كل هذه السنوات الطويلة؟ وقضى اسبلنزانى أياماً وهو سقيم المزاج، مشتت الفكر، ضيق الصدر، واشتد لتلاميذه واخشوشن من بعد رفق ولين. وأراد أن يروح عن نفسه فأخذ ينشد شعر (دانتى) و (هوميروس)، فلم يزده الإنشاد إلا ضيقاً. واستيقظ في نفسه شيطان أخذ يوسوس له: (قم وادرس لم يدخل الهواء داخل القبابة كلما كسرت ختمها، فلعل هذا لا صلة له بمرونة الهواء). وصاحبه هذا الوسواس الخناس وألح عليه حتى استيقظ ذات ليلة على صوته مخبولاً مرتبكاً. . . . وفي برهة كلمحة البصر وقع على تفسير للمعضل الذي هو فيه، فجرى إلى معمله، وكان نضده قد تغطى بقوارير مكسورة وزجاجات مهجورة تبعثرت جميعها عليه فكانت شواهد على ما كان فيه رجلنا من ترك ويأس. ومد يده إلى قمطر فأخرج منه قبابه. لقد كان ضل الطريق واليوم اهتدى اليه، وعما قريب يثبت أن نيدم مخطئ ضال. وتمطى يملأ رئتيه وسمعهما،(91/44)
ثم زفر زفرة طويلة أبدلته من ضيق سعة ومن أزمة فرجا. ومع أنه لم يكن أثبت أن ما بدا له هو التفسير الحق لصفير الهواء، إلا أنه وثق بالذي ارتآه وثوقاً آثر معه أن يستعجل الغبطة والسرور. ونظر إلى القبابات وابتسم وقال: (كل القبابات التي استخدمتها فيما سبق كانت لها رقبة واسعة استلزمت حرارة كثيرة وتسخيناً طويلاً لتسيح ويتم ختمها. وهذه الحرارة الكثيرة تطرد الهواء من القبابة قبل لحامها، فلا عجب إذن أن يندفع الهواء فيها إذا فض اللحام)
وارتأى أن ما قاله نيدم عن إغلاء القبابات الملحومة في الماء وإفساده مرونة ما بداخلها من الهواء كلام هراء. ولكن أنى له بإثبات ذلك؟ أنى له بختم القبابة دون أن يطرد هواءها؟ وجاء شيطانه يوسوس إليه، فأخذ قبابة أخرى فوضع بها بذراً وملأ بعضها بالماء، وأدار رقبتها في اللهب الشديد حتى ساحت وضاقت حتى كادت تلتحم إلا ثقباً صغيراً ضيقاً يصل بينها وبين هواء الجو.
عندئذ برد القبابة؛ حتى إذا تمت برودتها قال: (إن الهواء بداخلها لا بد أن يكون مثله بخارجها. ثم جاء بلهب صغير سلطه على الثقب الباقي وهو كعين الإبرة فسده في لمحة دون أن ينطرد من هواء القبابة شيء. فلما اطمأن إلى ذلك وضع القبابة في الغلاية وأخذ يرقبها ساعة، وبينا هي تتأرجح وترقص في الماء كان هو ينشد الشعر ويترنم بالغناء. ثم نحاها أياماً، وفي ذات صباح جاء ليفتحها وهو واثق مما سيكون، فأشعل شمعة وأدناها من فم القبابة، وفي حذر شديد كسر فاها فسمع صفيراً، إلا أن لهب الشمع لم ينجذب إلى القبابة في هذه المرة بل مال عنها، دليلاً على أن مرونة الهواء داخلها أكثر من مرونته خارجها!
فكل هذا الغلي لم يفسد مرونة الهواء، بل على النقيض قد زاد مرونة، تلك المرونة التي قال نيدم بضرورتها لتلك القوة النباتية العجيبة. وأخرج اسبلنزانى من المرق القطرة فالقطرة، وعبثا حاول أن يجد فيها من الأحياء شيئاً برغم ازدياد مرونة الهواء. وأعاد التجربة فالتجربة بتلك المثابرة التي عرفناها عن (لوفن هوك)، وكسر قبابات وكب المرق على صدر قميصه ووسخ يديه، ولكنه لم يخرج على غير تلك النتيجة التي سلفت
- 5 - انتصر اسبلنزانى فصاح بتجاربه ليسمع أوروبا، فتردد
صداه شرقاً وغرباً، وسمعه نيدم وبيفون فجلسا على أنقاض(91/45)
نظريتهما البالية ينعيان أطلالها في كآبة ظاهرة وحزن باد.
وما كان لهما مندوحة من هذا، وقد أفسدها عليهما هذا
الطلياني بحقيقة واضحة بسيطة. فلما اطمأن على الذي كان،
جلس يكتب. وبمقدار براعته في المعمل كان بارعاً في
المكتب، وعلى حسن جلاده بالقباب والعدس، كان يحسن
الجلاد بالقرطاس والقلم، على شريطة أن يكون قد اطمأن إلى
أن حقائقه العلمية قد سبقت فغلبت في الصراع خصيمه، وهذا
ما كان، فهو في هذا الوقت كان قد اطمأن إلى انصراع نيدم،
وإلى ضياع نظريته الفكهة التي تنشئ الشيء من لا شيء.
وكان اطمأن إلى أن الحيوانات جميعاً - حتى تلك الحيوانات
الصغيرة - لا تأتي إلا من حيوانات مثلها عاشت من قبلها،
وإلى أن هذه المكروبات الصغيرة تظل طيلة حياتها مكروبات
من النوع الذي كانته آباؤها، فإذا هي أنتجت كان نتاجها من
جنسها؛ كذلك الحمار في حياته لا يستحيل جملاً، وهو لا يأتي
إلا عن حمار، فإذا ولد فإنما يلد حماراً
وصاح اسبلنزانى يقول: (واختصاراً قد ثبت أن نيدم مخطئ، وقد أثبت فوق هذا أن في علم الأحياء نظاماً وقانوناً، كما أن في علم الأفلاك قانون ونظاماً) ثم أخذ يصف ما تكون حال هذا العلم لو أن نيدم لم يجد من يراقبه ويحاسبه، إذن لعشنا في اختبال وارتياع من(91/46)
نزق هذه (القوة النباتية) المتقلبة الهوجاء تلك القوة التي إن هي شاءت أخرجت من الشيء ضفدعة، وإن هي شاءت أخرجت منه كلباً؛ أو هي تخرج منه اليوم فيلاً، وغداً عنكبوتاً؛ أو تخرج منه في الصباح حوتاً سابحاً، وفي الظهر بقرة حلوباً، وفي المساء إنساناً ناطقاً
قضى على نيدم، وقضى على قوته النباتية، وأصبح الإنسان يستمرئ العيش، ويستنشق الهواء في أمان وسلام، فلا تروعه تلك القوة الرهيبة اللعينة التي كان يتخيلها مخبوءة في هذا الركن ووراء ذلك الحائط تنتهز الفرصة لتحيله فيلاً أو تخلق منه غولاً وسرى اسماسبلنزانى في جامعات أوروبا يسطع كالماس، ويتألق كالنجم. وأيقنت جماعاتها العلمية بأنه عالم العصر الأوحد وكتبإليه فريدريك الأكبر طويلة، وبيمينه أمضى براءه تعيينه عضواً في أكاديمية برلين. وماريا تريزا النمسا وعدوة فريدريك اللدودة، نافست هذا الملك العظيم في تكريم هذا العالم الكبير، فنفسته، وذلك أنها عرضت عليه أن يكون أستاذاً في جامعة بافيا العتيقة بلمباردي إليه رسلها من عظام مستشاريها فجاءوه في حفل ضخم، وموكب فخم، مثقلين بكتب ملكية، وأختام امبراطورية، يتوسلون إليه في قبول المنصب عسى أن تجد جامعتهم فيه منقذها من السوء الذي هي فيه، ورافعها من الدرك الذي هبطت إليه. وجرت بينه وبينهم مناقشات، وجرت مباحثات ومساومات، في الأجر الذي يتقاضاه اسبلنزانى، فقد كان دائماً يحسن جمع المال كلما أمكنته الفرصة. وانتهت تلك الأحاديث بقبوله أستاذية التاريخ الطبيعي بالجامعة، وبتنصيبه أميناً لمتحف التاريخ الطبيعي في بافيا كذلك وذهب إلى متحف بافيا فوجده خاوياً خالياً. فشمر عن ساعده، وأخذ يحاضر في كل ما هب ودب، ويلقى دروساً في الجمهور يضمنها تجارب كبيرة هائلة يجريها على سمعهم وأبصارهم فهالت الناس وراعتهم، لأن النجاح كان يأتيها دائماً من حذق يديه، وأراد أن يملأ متحفه الخالي فأرسل إلى هنا وإلى هناك في طلب مجموعات من حيوانات عجيبة ونباتات غريبة وطيور لا يعرفها القوم. وذهب هو بنفسه إلى الجبال فتسلقها على خطورة مرتقاها، ورجع منها بركائز كثيرة وخامات غالية. وذهب إلى البحار يصطاد قروشها المفترسة، وإلى الغاب يقتنص من ذوات الريش كل ذات لون بهيج. ذهب كل مذهب ليس من اليسير تحقيقه، وضرب كل مضرب ليس من الهين تصديقه، وكل هذا في سبيل الجمع لمتحفه، وفي سبيل التخفف من ذلك النشاط الجم وتلك الطاقة الصخابة التي امتلأ بها جلده(91/47)
فخرجت به عما وسم العرف به العلماء من طمأنينة وهدوء
وفي الفترات التي تخللت هذا التجميع هذا التدريس، كان ينفلت إلى معمله بأمراقه ومجاهره فيغلقه على نفسه، ويجري فيه التجارب الطويلة ليزيد في إثبات أن الأحياء الصغيرة تنصاع لقوانين الطبيعة انصياع الخيل والفيلة والرجال لها. ووضع قطرات من أحسيته وهي تموج بالمكروب على قطع من الزجاج المنبسط، ونفخ فيها من دخان تبغه، ثم أسرع فنظر إليها بعدسته، ثم ضحك ملء فيه عندما رآها تتهارب لتتقى أثر دخانه، وأطلق عليها شرراً كهربائياً، وعجب لما رآها تطيش وتميد، ثم تتمطى وتموت سريعاً
قال اسبلنزانى: (إن بذور هذه الأخبار الدقيقة أو بيضها قد يختلف عن بيض الدجاج أو بيض الضفدع أو بيض السمك، وهذه الأحياء نفسها قد تصمد للماء الغالي في قباباتي المختومة، ولكن عدا هذا فهي يقيناً لا تختلف عن سائر الحيوانات). ولم يكد أن ينطق بهذا اليقين حتى عاد يسترد ما انفلت به من أنفاسه
فذات يوم وقد انفرد في معمله قال لنفسه: (كل حيوان على ظهر هذه الأرض لا بد له من الهواء ليحيا، وإذن فلأتبين حيوانية هذه الأحياء الصغيرة فأضعها في فراغ خلو من الهواء وأرقبها وهي تموت). وببراعة بينة مط بالنار من أنبوب الزجاج السميك أنبوباً شعرياً رفيعاً كما كان يصنع (لوفن هوك) وغمس أنبوبة منها في مرق يعج بتلك الأحياء، فصعد فيها منه شيء. وأساح أحد طرفيها في النار فسده، ووصل الطرف الآخر المفتوح بمضخة قوية لتفريغ الهواء، وشغلها، ولصق عدسته بجدار أنبوبة الزجاج الرفيع، وأخذ يصوب بصره إلى تلك الأذرع الدقيقة التي منحها الله لتلك الأحياء لتجدف بها في الماء، وضل يرقب من ساعة لأخرى عله يجد في حركتها المنتظمة الهادئة ميدانا وطيشانا، وأخذ يتربص الفناء بتلك الأحياء، ولكن المضخة ظلت في دورانها، وظلت الأحياء في جريانها وروغانها متناسية صاحبنا العالم ومضخته البديعة، متجاهلة هذا الهواء الذي يقول بلزومه لحياة الأحياء. وعاشت أياماً. وعاشت أسابيع. وأعاد اسبلنزانى تجربته المرة بعد المرة. هذا غريب!. هذا محال. لا يعيش حي بلا هواء، كيف تتنفس هذه الأحياء. وكتب إلى صديقه (بونيت) مستغرباً: -
(إن طبيعة هذه الحيوانات مدهشة. فإنها تعيش في الفراغ مثل عيشها في الهواء، وتنشط(91/48)
في هذا نشاطها في ذلك، فهي تعلو في السائل ثم تهبط، وهي تظل تتكاثر فيه أياماً. ألا ترى في هذا عجباً! ألم نقل دائماً أنه ما من حي يستطيع العيش من دون هذا الهواء)
كان اسبلنزانى معجباً بقوة خياله، معجباً بسرعة خاطره، وزاد إعجاباً بنفسه، وزاده غروراً إعجاب طلبته، وملق الأوانس والغواني، وإطراء الأساتذة العلماء، وتقريب الملوك الفاتحين. ولكنه كان إلى جانب خياله يتعشق التجربة، بل هو يقضى حقوق التجربة أولاً ثم يخال بعد ذلك، فان هي عارضت خاطرة بديعة من خياله الخصيب فسرعان ما كان يقر بالحق، وينزع عن خواطره مهما بلغت من الإبداع
وفي هذه الأثناء كان هذا الرجل الأمين، الغالي في أمانته في كل ما يتعلق بتجاربه، هذا الرجل الذي كان لا يخط قلمه إلا الحق الذي يجده بين روائحه الكريهة وأبخرته السامة وأدوات معمله اللامعة، هذا العالم الجليل الأمين، نعم أعيد فأقول الأمين، كان يتدنى إلى الحيلة الخسيسة ليزيد مرتبه في جامعة بافيا. هذا الرجل الشديد، لاعب الكرة، الكشاف، متسلق الجبال، يأتي إلى عاصمة النمسا متخاذلاً متواعكاً متأوهاًمتوجعاً، يشكو إلى رجال الحكم فيها سوء صحته، ويقول إن ضباب بافيا وأبخرتها تكاد تقتله. وأراد الإمبراطور أن يستبقيه فزاد أجره وضاعف إجازاته. وتحدث اسبلنزانى عن هذه الواقعة فضحك وسماها في خبث مداورة سياسية. هذا الرجل كان يصل إلى الغابة التي يريد فلا يقف شيء في سبيله. يريد الحقيقة فينالها بالتجربة البارعة والملاحظة القريبة والصبر المضني، ويريد المال والترقي فيناله بالعمل الشاق وأحياناً بالحيلة والكذب، ويريد أن يتقى ظلم الكنيسة واستبدادها فينال ذلك بدخوله قسيساً فيها
ولما كبر وطالت به السنون تشهى إلى تجارب غير تجارب معلمه، تجارب صخابة عنيفة يطلق فيها القياد لنفسه وحسه، فاعتزم أن يزور موقع طروادة القديمة لأن قصتها كانت تهزه هزاً؛ واعتزم أن يزور الشرق بحريمه وأرقائه وخصيانه، فقد كان يعتبر هذه الأمور جميعاً جزءاً من التاريخ الطبيعي كوطاويطه وضفادعه والحيوانات الصغيرة التي بنقيع بذوره. وشغل الشفاعات، وأعمل المحسوبية، واتصل ورجا، حتى أعطاه الإمبراطور إجازة عام، وأعطاه نفقة السفر إلى القسطنطينية، كل ذلك لاستعادة صحته واسترداد عافيته، وعلم الله ما كان أحسن صحته وأتم عافيته وقام اسبلنزانى فاختزن فباباته، وأغلق معمله، وودع(91/49)
تلاميذه وداعاً حاراً استطاع أن يذري فيه ما تيسر من الدمع. وركب البحر الأبيض فاعتوره دواره وآذاه إيذاء شديداً، وارتطمت سفينته بالصخر وتحطمت، ولكنه استطاع أن ينجو وأن ينجى ما كان قد جمعه من بعض جزائر البحر، وجاء السلطان فأولم له وسقاه وأكرم وفادته، وأذن له أطباء السراي في دراسة عادات السراري الجميلة. . . . . . وبعد كل هذا قال للأتراك، وهو الرجل الأوربي الطيب - رجل القرن الثامن عشر - قال لهم إنه يعجب بكرمهم، ويعجب بعماراتهم، وما تضمنته من الفن الجميل، ولكنه يمقت استرقاقهم للجواري والعبيد، ويمقت استسلامهم للأقدار والأقسام. فكنت تخاله يقول لصديقه الشرقي، والشرقي رجل جامد، تقول حوله الدنيا وهو قاعد، وتجري عليه الأيام وهو مركوم، وتنبو عنه الحوادث وهو ملموم، كنت تخاله يقول له: (نحن الغربيين سنفتح بعلمنا الجديد هذا من الأمور مالا يفتح، ونجتاز به مالا يرجى اجتيازه، وسنمحو عن الإنسان وبني الإنسان هذا العذاب الأبدي والشقاء السرمدي الذي يئست الدهور من محوه). كان اسبلتزانى يؤمن بالله، ويؤمن بقدرته وجبروته، ولكنه كان بحاثا نقاباً طلاباً للحقائق فكانت تغلبه غيرة الباحث وروح المنقب على كل ما يقوله، وتسيطر على كل ما يفكر فيه، حتى ينسى الله، وحتى ليعتذر عنه آنا فيسميه الطبيعة، وآناء أخرى فيسميه المجهول، وحتى دفعته إلى أن ينصب نفسه شبه وكيل أول لله، يفتتح وإياه مجاهل هذه الطبيعة الغامضة ويكشف أسرارها
وبعد أشهر عديدة قضاها في الشرق عاد أدراجه، لا عن طريق البحر هذه المرة، بل عن طريق البلقان، وأنفذت معه الحكومات من الجند أصوبهم رماية، وأولم له أشراف البلغار وأراء الأفلاق. وأخيراً دخل فينا عاصمة الإمبراطورية وذهب إلى الإمبراطور يوسف الثاني، صاحب نعمته وراعيه، ليقضي واجب الشكر ويقدم فرائض الاحترام. وكانت هذه الساعة أفحم ساعات حياته، وأملؤها بالمجد، ذلك المجد الذي يعطيه الملوك والأمراء. وأسكرته خمرة تلك الساعة، وذهب دبيبها إلى رأسه، ومشت سورتها إلى أعماق نفسه، فكنت تسمعه يقول: (ما أحلى تحقيق الأحلام). ولكن. . . .
(يتبع)
أحمد زكي(91/50)
إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
-(91/51)
رؤيا في السماء
بقلم الأديب فليكس فارس
إنك تتناول أدق المباحث الاجتماعية التي شغلت وما زالت تشغل المفكرين في كل عصر وفي كل بلاد، تتناولها وتخوض غمارها معتكفاً على موضع السر في ثقافتك العربية، مستنيراً بأضواء الكتاب الحق وحكمة من اهتدوا قبلك في هذا الشرق النير، فكانت عبادتهم فلسفة، وكانت صلواتهم استغراقاً وتفكيراً كثير من مجددي الإنشاء في هذا الزمان ينحرفون عن ثقافتهم وغرائزهم القومية، فينتحلون مذاهب كتاب الغرب وأساليبهم، أما أنت فمن الفئة القليلة الآخذة بروح الشرق لأحياء الشرق، النافخة في الأحفاد أرواح أجدادهم
قرأت لك في منارة العرب الوهاجة، في (الرسالة)، ما تتحف به العالم العربي من طرائف وبدائع، فأيقنت أنك من الكتاب العالميين الذي يستخدمون آياتهم من الألهام، ويستجلون الحقائق من قلب الحياة الخفاق، وما أقل من ينحنون على أنفسهم في هذه البلاد حين يكتبون! وما أكثر من يستطبعون الرواسم وينقلون مقلدين مشوهين!
بين ما نشرته لك (الرسالة) قطعة (رؤيا في السماء) وقفت عندها مأخوذاً بروعتها، فأردت أن أنقلها إلى اللغة الفرنسية لنشرها في مجلة أدبية في باريس، وقد ترجمتها فجاءت بما أبقيت لها من أسلوبك الفخم دليلاً على استقلال لغة العرب عن كل هذه الأساليب التي ينتحيها أكثر كتابنا مأخوذة عن الأسلوب الغربي، وعلى تفرد بيانها بهذا الإيجاز المعجز وفيه سر سحرها وبهائها
إن في مقالك من الدفاع عن حق الحياة وواجبات الحياة ما يعزز الوحي الذي أنزل على عيسى ومحمد (عليهما السلام) تحت سماء الشرق، فلم ينفذ الغربيون إلى كنهه في مبادئ المسيحية إذ ذهبوا منها في مسألة التبتل مذهباً أتى به الحواري بولس متأثراً بفلسفة الرومان وضائقة أزمنة الاضطهاد، لذلك ترى الأمم الغربية عندما تقف واجفة من تناقص النسل تهب إلى معالجة الأخطار المحدقة بها متوسلة بنظريات الكفاح والتفوق على الأمم المجاورة، فهي ترمي طغمات الأطفال فيالق للجهاد في ساحات الحروب من أجل المال، وكتلاً من لحم تعصرها الآلات عصراً فتتدفق بدمائها رحيقاً تتجرعه المدنية سماً زعافاً
إن الغربيين ليفوتهم أن يحاربوا أعداء الأسرة والنسل بالمبادئ الروحية تتناول ما وراء(91/52)
هذه الحياة. وما أذكر مما قرأت لكتاب الغرب انهم شعروا بالأبوة كما شعرت بها أنت مخترقة حجاب الموت لتتجلى عند هدفها الأسمى في عالم الخلود
إن الأدب الغربي يقف بالأبوة عند نهاية الشطر الفاني من الحياة، فهو يرى الأرحام تدفع بالأجنة للقبور لا للأبد، لذلك أردت ألا يفوته ما أتيت به في مقالك الرائع من دعوة هي أقوى ما يتوسل به داع إلى حق الله في تناسل عبادة. وقد ترجمت هذا المقال لا مباهاة بروح الشرق العربية التي تهب من كل سطر فيه فحسب، بل لأنشر أيضاً في الغرب ما استوحته عبقريتك الشرقية من مبادئ الهداية الخالدة
إن هذا الحديث الذي أنطقت به أبا خالد وشيخه أبا ربيعة، لخير ما ابتكرته الآداب العالمية في هذا المطلب، وهذه الرؤى التي تقبض على الروح وترفعها قسراً إلى عالم الخفاء لتبسط من الحق أمام المتطلعين إلى ما وراء المادة ما يشعرون به في قرارة نفوسهم وينكرها عليهم عقلهم المنتبه المحلل الغارق في لجج الزائلات من قوة ومال ودول وجنود وحروب
غير أنني قبل أن أعلق على مقالك بما لا أرى بداً من إيراده بالفرنسية، أجدني مضطراً لإيضاح وجيز لا أراك تضن به، فان في ختام مقالك ما يفسح للفكر مجالاً للذهاب مذاهب تختلف اختلافاً بيناً عند النتيجة التي ترمي إليها
قلت: إن أبا ربيعة وقف في آخر حلمه تمر به طغمة الخالدين وتلقى إليه بكلمة (المشئوم) حتى مر غلام هو آخرهم فقال له: (كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها، فرفعنا عملك درجة أخرى، ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا)
فهل لك أيها الأستاذ الكبير أن تأتينا بإيضاح عما رآه الحق تخلفاً وجبنا في أبي ربيعة. فهل استحق هذا الشيخ نعته بالمشئوم لأنه، وقد استهوته عظة رفيقه، إلى على نفسه أن (يحول المرأة التي كانت في قلبه إلى صلاة) فأراد قتل تذكارها بالوفاء لله دون الوفاء لها في قبرها. أم كان ذلك لأنه قرر التبتل بعدها فلا يأخذ من بنات حواء من تقوم مقامها
إن من ينظر إلى حديث الشيخين ويأخذ بما ورد في القصة وفي ختامها ليقف مخيراً محتاراً بين السببين، وليس غير الأستاذ الكبير من يزيل هذا الإبهام فيأتي بمقال عن مسألة(91/53)
لها مكانها بين العقد الاجتماعية، فيقول لنا ما إذا كان المثل الأعلى في العلاقة الزوجية محبة الشخصية في الأنوثة أم محبة الأنوثة، في الشخصية
إسكندرية
فليكس فارس
رئيس قسم الترجمة في البلدية(91/54)
الأمير خسرو
الشاعر الهندي الكبير
للسيد أبي النصر أحمد الحسيني الهندي
إن اتصال الشعر دائماً هو بالماضي وبالحال، فان اتصل بالمستقبل فذلك بواسطة الحاضر. فما يقدم لنا الشعر إما من قبل (كان) أو (يكون). ولكنه يجمع ويرتب الحقيقة من جديد. لذلك حينما يسعى لا خراج فكرة من تلبك الأمور الواقعية وتنافرها ونقائصها، يميل بطريق راهن إلى ما لم يجمع ولم يرتب. فالشاعر لا يمثل الواقع كما هو، بل يخلقه من جديد بقوة خياله. لذلك ليس الشعر هو التمثيل البحت للحقيقة، بل الخيال دائماً يكون أعظم جزء في أساسه. هذا ما يشرحه لنا شعر خسرو في البيتين الآتيين قالهما في مدح حاتم خان قال:
قلت للبحر أنت كريم مثل خان
فأجاب بصوت مرتجف لا! لا!
إن أمواجي الشحيحة تلقى عشباً لا قيمة له
ولكن حاتماً يبعثر الجواهر في فخره الكريم
إن الشاعر يجد في سعة الطبيعة مستودعاً كبيراً للأشباح والصور التي تعبر عن أدق المراتب للفكر الإنساني وعواطفه. ففي هذا المستودع تطوف روحه طليقة، وفيه تدبر وتفكر حتى تنتج. فالشاعر يشعر بكل مظهر حوله كأنه رمز لشيء يتعلق بالعالم الآخر، وكأن كل شيء مؤثر في حواسه شبيه بالغائب المحجوب، وكأن الطبيعة بأسرها محبوكة كالأعضاء بالمشابهة والمماثلة بما هو خفي فيها، وكأن كل وجود مستقل متصل في جميع فروعه بغيره بواسطة رمز دقيق. وهذا هو الفرق بين العلم والشعر، فان العالم يقسم ويحلل والشاعر يجمع ويركب. فأنت ترى كيف أن خسرو جمع بين رفع الحجاب عن وجه محبوبه، وطلوع الشمس، وصلاة الصبح، في البيت الآتي وأوجد بينها الاتصال الشعري الدقيق الجميل قال:
برداشت طره أزرخ جون روزرفن كرد ... برمن نماز صبح بوقت نماز شام
كشف (الحبيب) القناع عن وجهه عند ما دفن النهار، (فأوجب) على صلاة الصبح في وقت الليل(91/55)
إن أهم ناحية من نواحي الشعر هي الحب والغرام، وقد قالوا إن من حسن الشعر وجماله أن يكون له اتصال بنفسه الشاعر، وأن يكون عليه مسحة من تجاربه النفسية. وبخاصة في هذه الناحية، فانه إذا تجرد عن ذلك أصبح تصنعاً وخداعاً. والشعر في هذه الناحية يصور تصويراً شعرياً دقيقاً ما بين قلب المحب والمحبوب من الأثر والتأثر، والجذب والانجذاب، والعزم والانثناء، والصبر والجزع، والرضا والسخط، والهجر والوصال. وشاعرنا العاشق قد صوره في غير واحد من الديوان وعبر عن حبه بآلاف من الأبيات. نقتطف بعضها هنا قال:
دلم به ناوك جشمت هزار وزن شد ... زصورت توبهر روزن آفتابى هست
شب من أزجه سبب تيره ترشود هرروز ... جوازرخ توبهر خانه ما هتابى هست
(إن سهم عينيك قد ثقب قلبي آلافا من الثقوب، وفي كل ثقب شمس محياك طالعة.)
(لم تظلم ليلى كل يوم ما دام قمر وجهك طالعا في كل بيت.)
وقال:
عاشق شدم ومحرم ابن كارنه دارم ... فريادكه غم دارم وغمخورانه دارم
يك سينه برار قصه هجراست وليكن ... ازتنكد لي طاقت كفتارنه دارم
(إنني عشقت وليس من يعرف عملي هذا. وا حسرتاه! عندي ألم، وليس لي رفيق في الألم)
(إن صدري مملوء بحكاية هجر (المحبوب)، ولكني من ضيق صدري لا أقدر أن أعبر عنها.)
وقال:
جندمى برسى كه خسرو راكه كشت ... غمزه توجشم توا بروي تو
إلى متى تسألين من قتل خسرو؟ ... ما قتله إلا لحظك وعينك وحاجبك
وقال:
بجان رسيدم وازدل خبر نمي يابم ... وزآنكه برد دلم نيزا ثرنمى يابم
وقال:
بهارآن وكلها شكفت ليك جه سود ... كه نوى توز نسيم سحر نمى يابم(91/56)
(دنوت من الموت وليس لدي خبر عن قلبي، ولا أجد أثر من خطفه.)
(جاء الربيع وتفتحت الأزهار، ولكن لا فائدة لي منه، لأني لا أجد ريحك في نسيم الصبح)
وقال:
مردمان درمن وبهوشى من حيرانند ... من درآ نكس كه ترابيند وحيران نشود
(يعجب الناس منى ومن فقدان صوابي، وأنا أعجب ممن يراك ولا يفقد الصواب)
وصف أرسطو الشعر أنه رمز إلهامه أو محاكاة عمل ذلك الإلهام. وذهب دانتى إلى أن عمله هذا أيضاً رمزي، فالكلام الشعري الذي يقوله الشاعر لا يمثل ذلك العمل في شكل وقوام فني خاص، بل يقدم فيه المعنى الرمزي له. فأنت ترى خسرو كيف رمز إلى شدةنعاناته في الحب في البيت الآتي حين أشار إلى أنه عرف قدر الليل بألم الأرق، ولكنه لم يقدر أن يقيس ليلة الهجر بألم الهجر العظيم حتى بعد معرفة الليل، فان مقياس إدراك الأسباب الآلام هي الآلام قال:
(ازين دو ديده بي خراب شب شناس شدم، ... ولي قياس شب هجر درنمى يابم
(إني عرفت قدر الليل بعيني هذه المؤرقة، ولكني لم أجد قياساً لليلة الهجر)
قال شيلى: إن الشعر ليس له أثر أخلاقي بغير تعيين ناحية خاصة من نواحي الأخلاق. لأن حقيقة الأخلاق عنده هي الحياة الفكرية في أعلى سموها وأبهى جمالها. ومظهر حيوية الفكر الخيال الذي يغذيه الشعر. ففي نعيش في العالم الذي يصدر منه شعورنا بغاية الأشياء وبالخلق العملي فالأبيات الآتية لخسرو تبين لك ما ذهب إليه شيلي قال ما ترجمته:
(ما دامالحبيب معنا فلم نستعجل رؤيته؟ وما دام يوسف في مصر قلبنا، فلم يجري نهر النيل من عيوننا؟)
(طلبت منه قتلى بلحظة القتال فقال، ما دام الصياد في كمين فلماذا يستعجل الصيد؟)
(إن سالكي طريق العشق لا يبالون بالراحة والألم، إن عشاق الكعبة لا يسألون عن الطريق والميل)
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
موكب آذار(91/57)
الربيع
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
عضو المجمع الأدبي
كل شيء هنا يغنى ويحيا ... نغماً ممتعاً وشدواً عجيباً
يا حبِيبي أفِق فقَد ضَحِك الرَّوْ - ضُ وَأَبدَى جَمَالَه الَمحْجُوباَ
واسْتَعادَ الوَادِي الأَنيسُ سَناَهُ ... وَبَنى الّطيْرُ عُشَّهُ الَخْرُوباَ
طَرِبَ الْقَلْبُ فانْتَشى وَتَغنَّى ... وَمِنَ الحبَّ أَنْ أعِيشَ طَرُوبا
وأناَ الشاعِرُ الذي يَغْمرُ الأَرْ ... وَاحَ ضِحْكا وَما يَرِيمُ كئِيَبَا
في فؤاديِ الَّلهيف دَا قدِ اسْتعَ ... صَى وَجُرحُ يِمضني تَعْذِبيَا
يا حبيبي دُنْياكَ تَطْفحُ بالحُسنِ ... فَخُذْ لِلفُؤادِ منها نَصيِبا
هاتِ نِايَ الهوَى وَقمْ نملأ الأك ... وانَ منْ سكْرةِ الغِناَءِ ضُروبا
لا تُرَعْ فالحياةُ يَوْم وَيَمضي ... ليس يُرْجى لِطَيْفِهِ أنْ يَووبَا
رَفْرَفَ الرَّوضُ وَازْدَهَى وَتَجلَّى ... رَائعاً فِتنْةَ العيُون قشِيباً
هو ذَا موكِب لآذَارَ حُلْوٌ ... يَتَمشَّى على السُّهولِ لَعوبا
مَلأ الأرضَ وَالسمَواتِ عطراً ... وَنفى الهَمَّ وَالضنَّى والشّحُوبا
وعلى مِعطفِ المُروجِ تَراَءتْ ... قُبَلٌ لِلرَّبيعِ تَنْفَحُ طِيباً
اليَوَاقِيتُ في النَّواظِرِ ذابت ... وجرى السَّحْرُ بالضَياءِ مشُوبا
جدوَل يُترِعُ القُلُوبَ غِناءً ... ظَلَّ منْ موْجِهِ السَّنى سَكُوبا
ألمسُ النور في تَلاميعِهِ الزه ... رِ وأشْتَمُّ رَوْحَهُ المحْبُوبا
وأرى العِطْرَ وهو هَيمْانُ في الدَّوْ ... حِ يُنَاجي في غُصنِه العَندَليبا
وَأُحسُّ الحياةَ تَرْكُضُ في العُش ... بِ وَتسْرِي بين الحقُول دَبيبا
نَفَس هَامِس وَآخَر شادٍ ... وَرؤَى همَّ سِحرهَا أن يُجيباَ
كلُّ شيءً هُناَ يُغنَّى وَيَحيا ... نغماً ممتعاً وَشدواً عَجِيباً
هَا هُنا تَسمَعُ الأناَشِيد أذْنيِ ... وتَرى العْين في كَراها الغُيوبا
ها هُنا يَرْكَنُ المُحِبُّ إلى الأُن ... سِ وَيُغفِي الفُؤادُ إلا وجيِباَ(91/59)
يا حبيبي أفِقْ فَهاذَاك طَير ال ... حُبَّ قد أسكَرَ الرُّبا تَطْريبا
تتَرَاَءى السموات ألحا ... ظاً وَتَبدُو الأرْض الفضَاء قلُوبا
يا حبيبي هنا الهَوى فاغْتَنِمْهُ ... لستَ عنْ جُرحهِ العَميقِ غَريبا
لَكَ منْ هَذه الدَّغَالِ أليِفٌ ... يَتَصَبَّاكَ فاَتِناً وَحبيباً
ورياضِ فيها العِشاشُ تُغنَّي ... فيذُوبُ الغِناَءُ خمراً صبيباً
إن هذا الجمالَ يا قلب نَهبٌ ... فابْتَدِرْ نَخْطفِ السَّناَ المَنْهوبا
إحىَ لِلنُّورِ، لِلمسرَّةِ، للشّدْ ... وِ، وَخلَّ الأسى وَخلَّ النَّحِيبا
دمشق
أنور العطار(91/60)
زهرة آذار
بقلم أمجد الطرابلسي
(مهداة إلى صديقي أنور العطار)
يا زهدةً بعدَ طويلِ الأسى ... جادتْ بها أفراحُ آذارِ
حُيّيتِ بَلْ قُدسْتِ من زخرةٍ ... رَفَّتْ رَفيفَ الحُلُمِ الساري
حُيَيتِ من مَزْهوَّةٍ كالصبا ... مُحْمَرَّةٍ كالَّلهبِ الواري
طلعتِ فانجابتْ غُيومُ الأسى ... مِن بعدِ أرياحٍ وأمطارِ
بَسَمتِ للرَّوضِ وَحَيَّيتْهِ ... تحيَّةَ الغائبِ للدارِ
فَضَجَّ بشراً واكتسى حُلةً ... بيضاء من نور ونَوّارِ
وانبعثَ الوُرْقُ بأفيائِهِ ... تشدو لآصال وأَسحارِ
ودَغْدَغتْ أفنانَه نَسمةٌ ... تَخْطِرُ بين الآس والغارِ
تالله ما أدري أيا زهرتي ... ما هِجْتِ في قلبي وأشعاري
تركتِ قلبي أيَّ مستعبرٍ ... ينزو، ودمعي أيَّ مدرارٍ
لولا هوىً أجَّجتِ في خافقي ... ما صغتُ يوماً فيه أشعاري
أحييتِ في قَلْبيَ مَيْت المنى ... وهِجْتِ أحلامي وأسراري
. . أأنت من نارِ الحشا جمرة؟ ... أم أنتِ مَلآى بدمي الجاري!
أنَرْتِ هذا الرَّوضَ يا زَهْرتي ... كما أنارَ الحبُّ أغْواري
ألم يكُنْ قَلبي قُبَيْل الهوى ... يا زَهرتي، كالهيكَلِ العاري
كهفاً يَئِنُّ الحُزْنُ في جَوفِهِ ... أنينَ أرْياحٍ وأوتارِ
مستوحِشاً قفراً سوى عاصف ... للشكَّ، يلهو فيهِ، موّارِ
كهفَ مُنى لم يُبْق منها الأسى ... غير خيالاتِ وآثارِ
حتى إذا ما حلَّ فيهِ الهوى ... من بَعدِ أحزانٍ وأكدارِ
تَفَتَّحَتْ أحلامُهُ بَهْجَةً ... تَفَتُّحَ الزهرِ لآذارِ
إيه أماني القلبِ ماذا تُرى ... يُخفى لَكُنَّ الزمنُ الضاري؟
أخشى عليكُنَّ غداً حالكاً ... يجري بأسرار وأقدارِ(91/61)
عَوَّدَني دهريَ خُلْفَ المُنى ... وهدمَ آمالي وأوطاري
هذا صبايَ الغضُّ، والهْفَتا، ... كمْ مَأملِ لي فيهِ مُنهارِ
يا زهرةً بعدَ طويلِ الأسى ... جادتْ بها أفراح آذار
أيَّ المُنى في القلبِ أيقَظتها ... مَعسولةً، بل أيّ تَذْكارٍ؟
دمشق
أمجد الطرابلسي(91/62)
القصص
من أساطير الإغريق
برسيوس وأندروميدا
والجرجون الثلاثة
للأستاذ دريني خشبه
في إحدى مدى الشاطئ الأغريقي، كانت تعيش أميرة جميلة تدعى (داناي)، هي وابنها الوحيد الجميل برسيوس، الذي كتب عليه أن يحرم من صدر والده الحنون، ذلك الوالد الذي طوحت به أسفاره، فشط مزاره، ولم يعد أحد يعرف أين انتهى قراره
ولقد كان هذا الوالد - فيما يظهر - على جانب عظيم من البأس وقوة الجانب، حتى لقد فرح أهل المدينة لبعده فرحاً شديداً؛ ولخوفهم من أن ينشأ طفله برسيوس على وتيرته، تآمروا فيما بينهم على نفيه هو وأمه من جزيرتهم في زورق صغير يدفعون به إلى اليم، والأمواج المتلاطمة كفيلة، ثمة، بإجراء حكمها فيهما. .
يا للوحوش! لقد أنفذ الأشقياء تدبيرهم؛ وتناوحت الأمواج حول الزورق تقذف به ها هنا وهاهنا، والأم المسكينة تغالب أحزانها وتنسى مخاوفها، فتغني لطفلها الراقد في حضنها، وتدلله كي ينام، وكي يكون بنجوة من فزع هذا البحر المصطخب
وبعد أن كان الموت المحقق قاب قوسين من هاتين الفريستين، وبعد أن كانت كل موجة تشق للزروق قبراً في أعماق الماء، شاءت العناية أن تسخر موجة هائلة تدفع به، في هوادة ورفق، إلى ساحل جزيرة نائبة في وسط المحيط. وهناك، نزلت الأم الموهونة متهالكة على نفسها، حاملة وديعتها البريئة، شاكية إلى الآلهة صنع الإنسان بالإنسان، ولمحت في الأفق قرية متطامنة، فيممت شطرها، وما فتئت تتعثر في خطاها حتى بلغتها والشمس تتوارى بالحجاب
ورحب الناس بالضيفين البائسين، لأن دينهم كان يأمرهم بإيواء أبناء السبيل، وإكرام الغرباء واللاجئين؛ فعاشا ناعمين، وشب برسيوس سليما من الآفات، مكتنز العضلات، بادي الفتوة، موفور القوة، عذب اللسان، مشبوب الجنان، وأحبه الناس وأعجبوا به، والتف(91/63)
الجميع حوله يصغون إلى أحاديثه العذاب،
وقصصه الرطاب. . . .
وتسامع الكل به، وترامت إلى ملك الجزيرة اخباره، فشغله انصراف الناس إليه، وافتتانهم به؛ وكان (قاتله الله)، غيوراً رعديداً، فآلى أن يكيد له، ويدبر حيلة يقصيه بها عن طريقه، ليطمئن على نفسه. . . . وعرشه؟
وكان في إحدى الجزر النائية ثلاثة من الجرجون الضارية، وهي أفزع ما جاء في أساطير اليونان، وكل من هذه الجرجون تنين هائل له رأس امرأة، ويدان من النحاس الأصفر الصلب، ذواتا أظافر حادة، تنفذ في أقسى المعادن وأصلبها، وليس لها شعر في رءوسها كما للنساء، بل لها، عوضاً عن الشعر، حيات وأفاع ذات رؤوس مرعبة تنفث السم الزعاف. وقد أوتيت قوة خارقة، لتستطيع إحداها أن تقصم جذع النخلة بضربة ضعيفة من ذنبها الجبار! وليست هذه الجرجون مخيفة بسمها وقوة بنيتها فحسب، بل الأدهى والأمر، هو هذا السر الدفين في عيونها؛ إذ كل من جرؤ على النظر إلى هذه العيون، يتحول في الحال إلى صنم من الحجارة لا يتحرك، ولا يعي!!
وكانت الجرجونة (مديوسا) أفظع أنواع الجرجون جميعاً، ولذا كانت أختاها الأخريان تحترمانها، وتسهران على راحتها ولكن ماذا اعتزم الملك الجبار في كل ذلك؟ لقد دبر أن يغري برسيوس بالذهاب إلى جزيرة الجرجون لقتل (مديوسا) والاياب رأسها كأحسن هدية تقدم إلى ملك. وكان هذا الرجل الخبيث يعلم تمام العلم أن مجرد محاولة الذهاب إلى جزيرة الجرجون هو ضرب من الجنون لا يقدم عليه إلا المأفونون، فان نظرة واحدة من عين مديوسا كفيلة بوضع حد لكل شيء وأرسل الملك إلى برسيوس فمثل بين يديه، وطفق يكيل له المدح جزافاً، ويبالغ في الثناء على ما ترامي إليه من أخباره، وضروب شجاعته التي يتحدث بها الجميع.
وامتلأ برسيوس، الفتى، زهواً، وشاعت في أعطافه الكبرياء، وراح هو بدوره يشكر الملك حلو ثنائه، وجميل إطرائه، فما إن أدرك الملك ما بلغ ثناؤه من قلب برسيوس الغرير، ونفسه الصغيرة، حتى أخبره بما انتدبه له؛ فقبل الفتى المسكين وهو لا يدري ما هي هذه الجرجون، ولا أين الجرجون؟(91/64)
وانطلق من فوره، وأرسل الملك من حاشيته من أبلغوه خارج الأسوار، في مهرجان فخم، وموكب أنيق. ثم غربت الشمس فغلقت الأبواب، وجلس برسيوس على صخرة عظيمة مشرفة على البحر يفكر في هذه الجرجون، وينظر إلى القمر يشرق من الاثباج، فيفضض الموج، ويحور به البحر رجرجاً من لجين! ويذكر فجأة أنه لم يودع أمه، ولم يتزود منها قبلة أو دعاءً لهذا السفر الطويل. فيبكي. . . ويبكي بكاءً مراً!
وتصدع قلبه حينما خيل إليه أنه قد لا يعود إليها، مع أنه عزاؤها الوحيد في هذه الحياة!
وانتصف الليل!
وفيما هو غرق في لجة الفكر، شرق بواكف الدمع، إذا بصوت رقيق يناديه من فوق الصخرة المقابلة: (برسيوس أيها العزيز! فيم بكاؤك؟ ولم تذرف كل هذه الدموع؟ لقد هجت الآلهة، وأحزنت أرباب الأولمب!). ونظر برسيوس ليرى من صاحب هذا الصوت الرخيم الذي يناديه، فعجب عجباً شديداً! لقد رأى مخلوقاً جميلاً مشرق الجبين، يترقرق البشر في ` وجهه، لا يعقل أن يكون بشراً! يلبس فوق هامته قلنسوة ذات أرياش وأجنحة، وفي قدميه نعلان غريبتان يتصل بكل منهما جناح كجناح البازي، وفي يده عصا سحرية تتلوى بطرفها الأعلى ثعابين وحيات!!
على أن برسيوس لم يعلم أن الذي يتحدث إليه، إن هو إلا الإله هرمز رسول الآلهة بين السموات والأر ?، الذي لا يفوقه في سرعته أحد
وبعد، فلقد قص برسيوس قصته على هرمز. وما فرغ منها، حتى قال الإله له: (بني! إنك مقدم على أمر جلل، وشأن بعيد المدى، صعب المنال. ولقد أراد الملك أهلاكك حين اختارك لهذه المهمة، لأن أحدا لا يجسر على الذهاب إلى جزيرة الجرجون إلا إذا كان أحمق أو مجنوناً! ولكن أصغ إلى! انك لا بد فائز إذا علمت بوصاياي، ولم تحد عما أشير عليك به.
وسأذهب عنك لحظة، ثم أعود إليك بآلاء من الآلة، تقرب لك النجح، وتسهل عليك كل شاق من أمرك. فانتظر).
ورقى هرمز، ثم غاب في السماء، وبهت برسيوس حين رآه يطوي الأديم الفضي، ويطرق أبواب أورانوس!
وقص هرمز قصة صاحبه على الآلهة، فرثت للفتى المسكين وتحركت في قلوبها الرحمة(91/65)
العلوية، التي طالما تنهمر من السماء، لتغسل الآم الأرض: وتعاهدت أن تؤازر برسيوس، وتمده بكل ما يسهل عليه أشق أمره. فنزل بلوتو، إله الموتى، عن قلنسوته التي تخفي من يلبسها فلا يراه أحد، وتبرعت مينرفا بترسها الذي يحمي لابسه من حراب الأعداء، وهو درع ثمين من الذهب الخالص، يلمع لمعاناً شديداً، حتى ليعكس المرئيات في صفحته، كأنه السجنجل
وحمل هرمز المنحتين، وعاد بهما إلى حيث يجلس برسيوس فقدمهما إليه، وزوده بجرازه المتلوي القاطع، الذي ليس كمثله سيف ولا حسام. ومنحه نعليه المجنحتين، اللتين تسبقان به الريح، فلبسهما ثم قال له: (تلك يا برسيوس هدايا الآلهة أسبغها عليك. بيد أنه ينبغي قبل كل شيءأن تذهب معي إلى هذه الجزيرة القريبة حيث تقيم ثلاث إناث من السيكلوب ذوات العين الواحدة، فتحتال عليهن حتى تعرف منهن موضع جزيرة الجرجون، لأن أحداً من العالمين لا يدري أين موضعها بالضبط غير هؤلاء السيكلوب. سر إذن على بركة الآلهة في أثري، واحترس لنفسك، والسماء تكلؤك.)
وكم عجب برسيوس حين رآه يطير في إثر هرمز، والبحر من تحتهما تتلاطم أمواجه، ويعج عجيجه، وهما من فوقه كالعصافير المهاجرة، وحطا في الجزيرة المنشودة، بعد أن دوما فوقها طويلا. وكان ذلك بالقرب من كهف حالك، في منحدر صخرة صعبة المرتقى. وقد لمح فيه برسيوس السيكلوب الثلاث، بفضل ترس مينرفا الذي كان يعكس في صفحته كل ما في الجزيرة
إنها مخلوقات غريبة حقاً، ليس كمثلها شيء في الآفاق، شاذة في خلقها، عجيبة في تنسيق جسمها؛ وهي إناث على كل حال، يعيشن في هذه الجزيرة المعشوشبة، بعيدات عن العالم، منزويات في هذا الركن السحيق من أركان الدنيا. وأغرب ما في أجسامهن من شذوذ، أنهن ليس لهن أعين كما للناس، ولكن لهن، لثلاثتهن، عين واحدة! تركبها إحداهن لوقت معلوم، في حفرة غائرة من جبينها، حتى إذا انتهى الوقت وجاءت نوبة السيكلوبة الأخرى، نزعت الأولى تلك العين وأعطتها للثانية، وهذه تعطيها للثالثة بدورها، وهكذا دواليك، وبوساطة تلك العين العجيبة تستطيع السيكلوب رؤية أصغر شيء في أقصى جهات العالم، من دون ما مشقة ولا عناء(91/66)
وبعد أن زود هرمز صاحبه بوصايا غالية، انتحى ناحية قريبة، واختبأ بريسوس خلف شجرة باسقة؛ ولشد ما دهش إذ رأى إحدى السيكلوب تقود أختها، وفي جبينها العين العجيبة ترمق بها أصقاع العالم، وتحدث أختيها عما ترى. وبعد قيل ثار نزاع بين الأخوات على العين، كل تريد أن تأخذ نوبتها، وكل تدعى أن الدور دورها. وفيما كانت الأولى تنزع العين، وتوشك أن تعطيها للثانية، انقض برسيوس فتسلمها من السيكلوبة، دون وعي منها!! لأنها بدون العين لا تستطيع أن ترى شيئاً في العالم. وينشب نزاع شديد بين السيكلوب على العين، كل منهن تتهم أختها بأن العين معها وتدعى الإنكار، حتى وضع برسيوس حداً لتنازعهن، بان هتف بهن: (أيتها الأخوات العزيزات، لا تنازعن على عينكن، فهي في هذه اللحظة معي وبين يدي.) وانقضت السيكلوب هلعات نحو مصدر الصوت، ولكن هيهات أن يقبضن على شخص تحمله نعلا هرمز، فلقد قفز قفزة هائلة، أقصى بها نفسه عنهن، ثم قال: (أيتها الأخوات العزيزات! أنا أعلم أنكن لا تستطعن الحياة بدون العين الغالية، وأنا أعدكن بردها اليكن، ولكن بشرط واحد: ذلك أن تخبرنني عن المكان الذي تأوي إليه (مديوسا) وأخواتها الجرجون، فان لم تفعلن فلا عين لكن عندي.)
وهنا تميزت السيكلوب من الغيظ وكدن لا يجبن بشيء، لأنهن منهيات عن إذاعة أسرار العالم، ولكن إذاعة السر في هذه اللحظة أهون ألف مرة من هذا العمى المطلق، والظلام المبين يغطش حياتهن، فأخبرنه بموضع الجزيرة ومأوى الجرجون فيها، ولكي يثق مما أنبأنه به نظر في العين التي بين يديه فرأى الجزيرة، وأيقن أنهن لم يخنه؛ ثم إنه تحين الفرصة الملائمة ودفع بالعين في جبهة اقرب السيكلوب منه وغاب في الجو ميمماً شطر هرمز، حيث وجده يمرح في غيضة ناضرة فتعانقا عناقاً طويلاً، وشكره برسيوس على جزيل مساعدته، ثم افترقا على أن يبدأ برسيوس رحلته إلى جزيرة الجرجون
وكانت رحلة طويلة شاقة، برغم نعلي هرمز. فكم بحار طوى، وكم وهاد رأى، وكم ريح صرصر كافح، وكم مشقة احتمل، حتى وصل إلى جزيرة الجرجون! ولم ينس ما أوصاه به هرمز من وجوب النظر إلى أعلى دائماً حتى لا تقع عيناه على عيني إحدى الجرجون فيحور حجارة صماء. وكان يتخذ من درع مينرفا مرآة صافية يرى فيها ما تعج به الجزيرة من كهوف وزروع وغابات. ولشد ما سر سروراً لا مزيد عليه حين وجد الجرجون الثلاث(91/67)
مستغرقات في سبات عميق عند مدخل كهفهن السحيق. وفي وسطهن مديوسا العاتية. تغط غطيطاً مروعاً. فاستخار الآلهة، وامتشق جراز هرم ?، وتعوذ ثم تعوذ، ثم انقض كالصاعقة، فأهوى على عنق مديوسا بضربة قاتلة، انفصل بها الرأس عن سائر الجسد. وهنالك، علا فحيح الأفاعي الباسقة في رأس مديوسا، تدمدم في الكيس الجلدي الذي ألفاها برسيوس فيه، حتى لقد استيقظ أختاها، وانطلقتا مرتاعتين في إثر الفتى، تودان لو تمسكان به، فتعتصران عظامه اعتصاراً. . .
ولكن قلنسوة بلوتو تخفيه عنهما، وتحفظه من شرهما وبينما هو يطوي الضحاضح والبحار، وبينما هو منتش بخمرة انتصاره، مفكر في اللحظة التي يلقي فيها الملك ليريه رأس مديوسا، ويحظى لديه بثمرة فوزه، بينما هو كذاك، إذا به يلمح في إحدى الجزر زحاماً شديداً، وجماهير حاشدة، متكبكبة حول صخرة ناتئة، مشرفة على البحر، وقد تدلت منها فتاة بارعة الجمال، بادية الحسن، مغلولة العنق، مربوطة الأطراف بسلاسل وأصفاد من حديد صلب. ونظر فرأى تنيناً بحرياً هائلاً يطفو فوق الماء، ويقترب من الفتاة قليلاً قليلاً، وراعه أفزع الروع تلك الصرخة الهائلة التي صرختها الفتاة فرددت الغيران والكهوف ومشارف الجبال صداها
ماذا؟. . .
الفتاة مذعورة أيما ذعر، والناس من حولها ينظرون ولا يحركون ساكناً. . .
والتنين يقترب ويقترب. . .؛ ولم ينتظر برسيوس حتى يفترس الوحش تلك الفتاة المفزعة، بل استل جراز هرمز وانقض فوق ظهر التنين وأهوى على عنقه بضربات سريعة متلاحقة غاص بها في أحشائه، ولبثا يتصارعان ساعة من الزمان كانت كلها هولا، وكانت كلها فزعا، والناس ينظرون مشدوهين، زائغة أبصارهم، لا يصدقون ما يبصرون.
ثم انجلت المعركة عن جثة التنين الضخمة طافية فوق الماء، الذي تحول بدوره خضما من الدماء. وقفز برسيوس إلى الشاطئ، وذهب إلى الفتاة ففك أصفادها، وهدأ من روعها، وسأل الناس فقادوها إلى والدتها المسكينة المعذبة التي حبست نفسها في حجرة مظلمة، وانتظرت ثمة من ينعى إليها ابنتها
أما هذه الأم، فهي الغادة الأغريقية كاسيوبيا، المشهورة بجمالها، وحسن روائها، والتي كانت(91/68)
أفتن حسان هيلاس في زمانها، ولقد امتلأت زهواً بما أضفت عليها الآلهة من قسامة، وما أسبغت عليها من وسامة، فزعمت، وهي تفاخر أترابها، أنها أجمل من عرائس البحار التي لا يدانيها في جمالها الباقي، جمال هذا البشر الفاني. فغضبت عرائس الماء، لهاذا الادعاء، وأقسمن ليعذبنان أهل الجزيرة التي فيها كاسيوبيا بهذا التنين المروع الذي شرع يغدو كل يوم إلى شواطئ الجزيرة، فيقتل ويلتهم عشرات من سكانها!
وذعر القوم، وحاروا في أمر هذا التنين، وذهبوا إلى الهيكل يقدمون قرابينهم للآلهة، ويستوحون كهنتها نبوءة تبعد عنهم شره، وتكفيهم أمره. ولقد أجيبت أدعيتهم، وتقبلت أضحيتهم؛ وأرهفت الأسماع، وشمل الهيكل هذا السكون المقدس الرهيب، وما هي إلا لحظة حتى انطلق صوت خفي من أعماق المذبح، يقول: (قدموا العذراء أندروميدا، ابنة الغانية كاسيوبيا؛ ضحية حلالاً لتنين البحر، جزاء غرورها وكبريائها
- ذلك إن أردتم أن يكف التنين عنكم شره، ولا يعاودكم أذاه!) وانكفأ القوم محزونين مروعين، لأنهم كانوا يحبون كاسيوبيا وابنتها، حباً هو العبادة. وحاروا كيف يتقدمون للأم بهذا النبأ العظيم؟!
وكان لا بد من النفاذ، لإنقاذ الجزيرة وجميع سكانها. . .
والآن، لقد أنقذ برسيوس أندروميدا الجميلة من براثن التنين، وشعر في سويدائه بعاطفة نورانية تجذبه إلى هذه الفتاة، وأحس كأن مستقبله مرتبط بمستقبلها برباط قدسي تباركه السماء وتحرسه العناية؛ فتقدم إلى والدتها يطلب إليها يد أندروميدا ووافقت الوالدة، وسعدت الفتاة بهذا البطل الشاب الذي أنقذ حياتها مرتين: مرة من هذا الوحش الضاري الذي تركه برسيوس جثة هامدة، ومرة ثانية من ذلك الشيخ الفاني الهرم الذي تقدم إليها يريدها زوجة له، وكادت أمها تقسر على الموافقة لما للشيخ في الجزيرة من صولة وجبروت، لولا المقادير التي تتابعت بعد ذلك
وأقيم مهرجان كبير، وزينات فخمة للاحتفال بالعروسين؛ فمدت الأخونة، وأعدت الأسمطة، وبدأت الموسيقى الإغريقية تعزف أشجى ألحانها، وأخذ الجميع في قصف حلو وسمر برئ وإنهم لفي كل ذلك إذا بالرجل الهرم الذي تقدم لخطبة أندروميدا من قبل، يقتحم الحفل هو وعصبة قوية من رجاله المسلحين، وإذا بالرجل يهتف بيرسيوس قائلاً: (برسيوس! لقد(91/69)
اعتديت على مولى هذه الجزيرة اعتداء صارخاً بانتزاعك أندروميدا من يدي؛ وإنك إن لم تنزل عنها طواعية فسأكرهك على تركها قسراً، بعد أن تروي هذه السيوف من دمائك ودماء من يلوذ بك!. . . .) فحدجه برسيوس بنظرة ساخرة وقال: (من أنت أيها الرجل الذي يجسر على مخاطبتي بهذا الهراء؟ لقد أصبحت أندروميدا زوجي، وإن كانت من قبل خطيبتك؛ أنت من غير ريب تحلم. . . غير أني أسألك: أين وليت وجهك يوم اضطرت أمها المسكينة أن تنزل عنها قرباناً للتنين؟ لقد كان أولى بشجاعتك أنت ورجالك لو توليتم إنقاذها من الأفعوان البحري الذي أذلك وأذلهم. . . .) ومد يده إلى الكيس الذي كان به رأس مديوسا، فأخرجه وقال: (ولكن انظر إلى هذا قبل أن تقتلني.) وما كاد الرجل ينظر إلى عيني مديوسا، حتى تصلبت عضلاته، وتحجر جسمه، وظل مكانه كأنه تمثال! ودهش أصحابه لجموده، وظنوه قد سمر حيث هو، فلما لامسوه استطيرت ألبابهم، ولاذوا من الفزع بالفرار
وأخفى برسيوس رأس مديوسا، واستمر القوم في سمرهم كأن لم يحدث شيء. . . اللهم إلا هذا التمثال المنتصب في أول ردهة، والذي كان يهرف منذ لحظة، فاصبح عبرة الزمان، وضحكة الأيام! وحان يوم الرحيل، فخرج أهل الجزيرة يودعون الزوجين، وظلت كاسيوبيا تعانق برسيوس مرة، وإندروميدا مرة أخرى، والدموع فيما بين هذه وتلك، تنهمر على خديها انهماراً. . .
والناس ينظرون. . . . ويبكون
ثم حمل برسيوس عروسه، ومرق في الهواء كالسهم، والقوم من عجب يتصايحون ويهتفون
وكانت الرحلة هذه المرة، على شدتها وطولها، من أروح الرحلات إلى قلب برسيوس. وتستطيع أن تتصور القبل الحلوة تنطبع على هذين الثغرين الحبيبين، في ملكوت السماء، لتدرك أي سعادة شعرية، وأي هنيهات سحرية، فازا بها في لازورد الفضاء
وبلغ مدينة الملك بعد نأى طويل، وسنين عدة، فذهب أول ما ذهب إلى منزل أمه، وناهيك بما كان من عناق، وما تبودل من تحيات. وبكت داناي المسكينة وهي تهنئ ابنها بأندروميدا، ثم أخذت تقص، ملء أحزانها، وفي فيض أشجانها ما انتابها من سوء، وما لحقها من عسف، لأنها أبت أن تكون خليلة الملك المخاتل الجبار، الذي صب عليها جام(91/70)
نقمته، وأذاقها من الهوان ألواناً! فحزن برسيوس حزناً ممضاً، وهيج حتى خيف عليه، وذهب من فوره إلى قصر الملك بكل عتاده! ودخل إلى البهو الملكي بدون استئذان، وهو يضمر في القلب غصة، وفي النفس لوعة، وفي الكيس رأس مديوسا!!
وقال الملك حين لمح برسيوس: (هلا! برسيوس! لقد عدت أخيراً، وما أحسبك وفيت بما قطعت على نفسك من عهود! لعل شجاعتك التي بالغ الناس في إطرائها والثناء عليها قد واتتك في حربك مع الجرجون؟)
فأجاب برسيوس، دون أن يحيى بالتحية الملكية: (أيها الملك! لم تخاطبني هكذا ولا تتريث حتى تنظر إن كنت قد عدت إليك برأس مديوسا الرهيب؟)
(فقهقه الملك، وملأ التهكم شدقية، وقال: (طبعاً ستدعى أنك قتلت مديوسا ولكن رأسها وقع منك في البحر، فالتقمه الحوت؟. . . يا للشباب المخدوع؟!)
وثارت ثائرة برسيوس، ولم يجد إلى صبر من سبيل، فحسر عن رأس مديوسا وقال: (أيها الملك. . . انظر!)
وبهت الملك مكانه حين وقع بصره على عيني مديوسا؛ ثم تحول في لمحة إلى تمثال من الحجر ما يأتي بحركة؛ ولا ينبس ببنت شفة!!
وحدث عما شمل أهل الجزيرة من الفرح حين ترامت إليهم أخبار الملك؛ وما تم له مع برسيوس. لقد كانوا يؤثرون الموت على أن يحكمهم مثل هذا الظالم العاتي المستهتر، ولقد كانوا يودون له الهلك، حتى خلصهم برسيوس منه، فهرعوا إليه، وهتفوا في كل مكان باسمه، وحملوه على الأعناق إلى حيث الملك التمثال وهناك، صبوا لعناتهم على الطاغية، وانصرفوا، يهنئ بعضهم بعضاً، بعد ان اختار لهم برسيوس ملكا منهم. . . . فاضلاً، عادلاً. . . .
وقد عرضوا عليه الملك فأبى. . . لأن مملكته الكبيرة المكونة منه ومن أمه، ومن أندروميدا كانت آثر لديه من كل ملك عتيد!!
وتوجه إلى حيث لقي هرمز، عند الصخرة المشرفة على البحر، فوجده ينتظره، فتعانقا عناقاً يفيض محبة، ويقطر وداً، ثم رد إليه هدايا الآلهة بالحمد والثناء. . .
أما رأس مديوسا، فقد أهداها إلى منيرفا، ففرحت بها فرحاً شديداً، وهي إلى اليوم مركبة(91/71)
في وسط ترسها ترهب بها أعداءها الألداء. . . .
دريني خشبة(91/72)
البريد الأدبي
إحياء ذكرى الفيلسوف الطبيب موسى بن ميمون
لمرور ثمانمائة عام على ميلاد موسى بن ميمون أحد أقطاب الطب
والعلم في عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي وفيلسوف اليهود الأكبر
في العصور الإسلامية ورئيس الطائفة الإسرائيلية بالقاهرة والفسطاط،
ذلك الرجل الذي ترك أثراً خالداً في الفلسفة الإسرائيلية والطب
العربي، وكان واسطة الاتصال بين الحضارتين الشرقية والغربية
قررت جمعية المباحث الإسرائيلية بمصر إحياء ذكراه في ثلاث حفلات كبرى، أولاها بإشراف الجامعة المصرية وتحت رعاية صاحب المعالي وزير المعارف العمومية، وتقام بدار الأوبرا الملكية يوم الاثنين أول أبريل سنة 1935 (اليوم) يفتتحها معالي الوزير نجيب بك الهلالي ثم حضرة صاحب السعادة علي باشا إبراهيم مدير الجامعة المصرية بالنيابة
ويخطب في هذه الحفلة الدكتور جورجي صبحي أستاذ التاريخ الطبي بكلية الطب عن مصنفات موسى بن ميمون الطبية. والعلامة الدكتور ماكس مايرهوف عن كتاب العقار لموسى ابن ميمون، والأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب عن موسى بن ميمون في نظر مؤرخي فلاسفة المسلمين، والدكتور إسرائيل ولفنسون أستاذ اللغات السامية بدار العلوم العليا عن كتاب (دلالة الحائرين ومذهب موسى بن ميمون في الفلسفة) ويلقى في هذه المناسبة شاعر القطرين خليل بك مطران قصيدة رائعة، ويختتم الحفلة صاحب السعادة يوسف قطاوي باشا رئيس جمعية المباحث الإسرائيلية بمصر وأما الحفلتان الثانية والثالثة فعامتان
وجميع الخطب والقصائد التي تلقى في الحفلات الثلاث تجمع في كتاب واحد ينشر على نفقة الجمعية المذكورة
العيد الألفي للمتنبي(91/73)
اعتزمت رابطة الأدب العربي بالقاهرة، إقامة العيد الألفي لأبي الطيب المتنبي في خلال شهر رمضان المقبل عام 1354 (ديسمبر سنة 1935) تذكاراً لانقضاء ألف عام على وفاته
ويشمل برنامج هذا العيد إقامة مؤتمر أدبي عربي عام يبحث جوانب الأدب العربي قديمه وحديثه، وما يجب أن يحاط به من العناية والإصلاح
ومن النواحي التي يوليها المؤتمر عنايته الخاصة:
أ - توحيد الثقافة الأدبية في البلاد العربية
ب - حدود التجديد في الأدب العربي
جـ - إصلاح مناهج الدراسة الأدبية
د - الأدب النسوي
هـ - أدب الأطفال
وأدب القصص
ز - أدب المسرح
ح - الأغاني والأناشيد
ويسر رابطة الأدب العربي أن يؤازرها الأدباء بحضورهم، أو بإرسال ثمرة بحثهم، عن المتنبي، أو عن أحد أغراض المؤتمر ليلقى في الحفل ويضم إلى كتاب الذكرى
وترجو الرابطة أن يصل الرد إلى لجنة تنظيم المؤتمر قبل آخر ربيع الثاني عام 1354 (يوليو سنة 1935)
ارفيوس ويوريدس
الآنسة أمينة شاكر فهمي - أسيوط
حول إلى أستاذنا الجليل صاحب (الرسالة) كتابك الكريم الذي ذكرني بالقصاص وعنترة والرجال الذي أقسم لا يذوق طعاماً حتى يخرج ابن شداد من سجنه؛ وكان القصاص قد انتهى إلى أسر عنترة، ثم وعد السامعين إلى الليلة المقبلة!
تسألينني يا أختاه هل لقي أرفيوس يوريدس بعد عودته إلى هيدز روحاً بلا جسد؟ فأجيبك(91/74)
أن نعم! لأن الأرواح كلها تلتقي في هيدز، فيما كان يزعم الإغريق القدماء
وتسأليني هل كان الإغريق يؤمنون بالحياة الآخرة، واجتماع الأرواح وتعارفها بعد الموت؟
ولعل من حسن التوفيق أن كنت أكتب فصلاً عن ديانات الشعوب الهيلانية عامة، وعن مذهب الأرفزم خاصة، ذلك المذهب الذي شاع بين اليونانيين فيما قبل القرن السادس (ق. م)، وظلت آثاره قوية جلية في أكثر آداب الأغريق، منذ هسيود شاعر الطبيعة الصداح، حتى يورييدز كبير ملاحدة التاريخ القديم. وإني أعدك بإرسال هذا الفصل إلى (الرسالة)، وإن لم أكتبه للصحف، لأن فيه الرد الوافي الذي تطلبين
على أني أحسبك قد قرأت دانتي اليجيري، فذكرتك أسطورة أرفيوس برحلته في الجحيم والمطهر والفردوس، ليلقى ثمة حبيبته بباتريس
الأسطورة الأغريقية، وكوميدية دانتي متشابهتان يا آنسة؛ فإلى اللقاء، على صفحات الرسالة الغراء
دريني خشبة
بجماليون المثال
سيدي. . . . . صاحب (الرسالة)
قرأت في عدد (الرسالة) الأخير قصة (بجماليون المثال) للأستاذ دريني، فكانت حقاً رائعة. ولكن الأستاذ لم يكمل الأسطورة، بل اكتفى بجزء منها. لأنني قرأت هذه الأسطورة نفسها في كتاب لا أذكره ولا أذكر كاتبه. ويغلب على ظني أنه لجبران خليل جبران
ومجمل القصة الكاملة أن بجماليون عشق تمثاله، وطلب من فينوس أن تنفخ فيه الروح فاستجابت دعاءه، وراعه أن رأى أمامه جسداً بشرياً لغادة بارعة الحسن. . . . . إلى هنا انتهى الأستاذ، وفاته أن يذكر أن هذا التمثال الحي: جالاتيا، قد ألم بها مرض ملح أوشك أن يودي بحياتها، فتملك بجماليون الرعب واليأس، وذهب ليلاً إلى ممثله وأحضر إزميله ومنحته وأعملهما في جسم حبيبته المريضة فارتدت رخاماً كما كانت - خالدة كما أراد لها الخلود، بعد أن أراد لها الحياة فدبت فيها الحياة -
ولعل هذا الجزء الأخير من الأسطورة يكسبها روعة على روعتها فضلاً عن أنه يجعل لها(91/75)
مغزى بارعاً يرفعها إلى مصاف القصص الفلسفي فوق مكانتها في عالم الأساطير
شبرا
زكي شنودة جندي
في الأكاديمية الفرنسية
عينت الأكاديمية الفرنسية يوم 28مارس الماضي لأجراء الانتخاب للكراسي الثلاثة التي خلت بوفاة الأب بريمون، ومسيو لوي بارتو، ومسيو رايمون بونكاريه. وقد خلا أخيراً كرسي جديد بوفاة المؤرخ الكبير لينوثر، فصارت الكراسي الخالية أربعة، وقد شهدت الأكاديمية في الأشهر الأخيرة انقلاباً عظيماً في تكوينها الجديد، فذهبت منها فجأة بالوفاة عدة من الشخصيات البارزة، مثل ليوتي وبارتو وبوانكاريه، واندمجت فيها شخصيات جديدة عظيمة أيضاً، مثل الماريشال فرانسيه دسبري الذي ملأ كرسي ليوتي، والدوق دي بروجلي العلامة الأشهر. وفي مقدمة المرشحين للعضوية، مسيو دومرج رئيس الجمهورية السابق إذ يرشح لكرسي بوانكاريه، ومسيو جورج دوهامل. وبيير ميل، من أعلام الكتاب(91/76)
من هنا ومن هناك
كتاب عن مقاهي باريس
أجل كتاب عن مقاهي باريس صدر أخيرا بقلم مسيو فرانسوا فوسكا، وعنوانه (باريس قريتي) وانه لنوع طريف من الأدب أن يعنى كاتب بهذه الناحية من الحياة مدينة عظيمة؛ فكما أن باريس تزخر بمتاحفها وكنائسها وآثارها العظيمة، فهي أيضا تزهو وتتألق بمقاهيها ومنتدياتها الليلية. وقد تناول مسيو فوسكا في كتابة صور المقاهي الباريزية الشهيرة في العهد المنقضي والعهد الحالي، ووصفها وصف خبير طاف بأرجائها وتسكع في أركانها؛ فمن مقاهي بروكوب دي ديكلو، والريجانس، إلى مقاصف البالية رويال، وسورس دي فرلين، وفاشيت دي موريا، وفبير، وبار دي لابية، وتولية وغيرها إلى منتديات اليوم ومعاهده. وهي صور تثير في نفس الباريزي الحق شجنا وذكريات عزيزة، ولا سيما حين يتصفح أسماء وصورا كانت بالأمس متألقة شهيرة ملء الأبصار والأسماع، وكان يهرع إليها ويتخذ مكانة بها ويقضي فيها ساعات لذيذة، قبل العشاء أو بعد المسرح، ثم اختفت اليوم صورها وأثوابها القديمة المحبوبة لتفسح مكانا لأثوابها الجديدة، وأي باريزى حق لا يتأثر حين يستعرض ذكريات (قهوة الإنكليز) (كافيه ديزانجليه) الشهيرة التي كانت قطعة من حياة كثيرة من أقطاب السياسة والقلم في أواخر القرن الماضي، والتي أضحت أثرا بعد عين، ثم (مقهى نابولتان) الذي غيرت معالمه ومظاهره، وكذلك مقهى فبيروباردىلابيه. لقد ذهبت هذه المعاهد القديمة، واكتسحها تيار التحول الحديث، فأسبغ عليها تخطيطاً خشناً، وأنوارا مؤذية، وترفاً سخيفاً، ورفع عنها ذلك الجو العائلي الذي كان يشعر به الرواد من قبل. بيد أنه ما زالت توجد طائفة من المقاهي القديمة، الفرنسية حقاً، وهذا ما زالت كعبة الباريزيين المحافظين الذين يسحرهم المكان والمجلس بأكثر مما يسحرهم المأكول والمشروب
وينوء مسيو فوسكا في كتابه بما كان لهذا المقاهي الباريزية الشهيرة من أثر في تكوين الأوساط الأدبية والفنية؛ فقد كانت مقصد الكتاب والفنانين والشعراء من كل ضرب، وكانت مجمعهم، وكثيراً ما كانت مركزاً للحلقات الأدبية والفنية الشهيرة، وكثيراً ما كانت مصدر الوحي لكاتب أو شاعر أو فنان. ومن ثم كان كتاب مسيو فوسكا قطعة اجتماعية أدبية فنية(91/77)
فياضة السحر والمتاع
كتاب عن الأبهاء الأدبية
صدر أخيراً بالفرنسية كتاب طريف فريد في نوعه وموضوعه للسيدة ماري شكيفتش عنوانه (ذكريات عصر مضى)، وفيه تتحدث المؤلفة عن حياة المجتمع وأبهاء الأدب والاجتماع قبل الحرب، ولا ريب أن كثيراً من نواحي الحياة الاجتماعية قد تغير تغيراً عظيماً، وأصبحت تلك الحياة الذاهبة نكرة بالنسبة للجيل الحالي، والحياة تتغير دائماً بلا ريب، ولكن المرحلة التي استحالت إليها الحياة الاجتماعية بعد الحرب كانت سريعة عنيفة، وكان الانقلاب ثورياً لم يتخذ أسلوب التطور العادي. فمن يقرأ كتاب السيدة شكيفتش من شباب العصر يكاد يعتقد أنه يقرأ عن مجتمع غاضت كل آثاره وكل ألوانه الأولى. على انه مما يلاحظ أن الحياة الاجتماعية ولا سيما حياة الأبهاء الأدبية تسير أيضاً إلى تطور مستمر؛ ولقد كان أولئك الذين عرفوا هذه الحياة أيام روسو ومدام ديبناي مثلاً، ينكرونها بعد ذلك بنحو نصف قرن، أيام عود الملوكية في أوائل القرن التاسع عشر. وكان أولئك الذين عاصروا مدام ريكامبية وشاتو بريان وتذوقوا الحياة الاجتماعية الأدبية في ذلك العصر يرون في أطوارها وأساليبها التي اتخذتها في عصر الإمبراطورية الأولى حياة جديدة لم يعرفوها؛ على أن هنالك ظاهرة يجب الالتفات إليها، وهي أن صور الحياة العقلية في ذاتها لم تتطور كثيراً من الوجهة الاجتماعية؛ وفي وسعك أن تتصور أن الكتاب والمفكرين في العصور الخالية كانوا يجتمعون في حلقاتهم أو أبهائهم لمثل ما يجتمع له الكتاب والمفكرون في عصرنا؛ غير أن أساليب الاجتماع ذاته قد تغيرت؛ وتبوأت المرأة في العصور الحديثة مقامها اللائق في الأبهاء الأدبية والحلقات الاجتماعية فنفثت فيها من نفوذها وسحرها ألواناً قوية أضحت اليوم من أظهر خواصها الاجتماعية. وحياة الأبهاء الأدبية من أهم عناصر الحياة الفرنسية الاجتماعية في جميع أطوارها الحديثة؛ وإنك لتقرأ في مذكرات سانت سيمون، أو رسائل مدام سفنييه ما تقرأه اليوم في ذكريات مدام شكيفتش من ألوان هذه الحياة الاجتماعية والأدبية الساحرة، وقد لاحظ كاتب كبير بحق أن أهم ظاهرة في الأدب الفرنسي هي أنه اجتماعي، فكل ما فيه كلام عن المجتمع، وكل ما فيه موجه اليه، والحياة الفرنسية في ذاتها تقوم على الاجتماع والروح الاجتماعية قبل كل شيء؛ وسحر مؤلف مدام(91/78)
شكيفتش في أنه يصور هذه الروح أقوى تصوير
جيته وفن الحياة
نعرف أن شاعر ألمانيا الأكبر (جيته) قد ترك فيما ترك محادثاته التي تملأ عشرة مجلدات ومذكراته اليومية ومراسلاته العديدة؛ ومن الصعب اليوم، في عصر السرعة والحياة المثقلة، أن يتفرغ المرء لقراءة هذه المجلدات العديدة وأن يستمرئ كل ما فيها من المعاني والصور، ولكن كاتباً فرنسياً هو المسيو ربوز داركور استطاع أن يدرس هذا التراث دراسة مستفيضة وأن يضع كتاباً بخلاصة دراسته بعنوان (جيته وفن الحياة) ' يحاول المؤلف في كتابه أن يلخص تراث جيته أو يردده، ولكنه يحاول أن يقدم للقارئ مجموعة الحكم والصور والمواعظ التي تتخلل تراث الشاعر الأكبر. وتسمية الكتاب بهذا العنوان ترجع إلى اللقب الذي يطلقه الألمان أنفسهم على جيته، فهم يسمونه (فنان الحياة)
والواقع أنه قلما يوجد بين عظماء الرجال من يضارع جيته في حياته المنظمة المركزة حول غايات معينة؛ فقد عاش جيته تحدوه إرادة راسخة في أن يعرف وأن يشبع حاجات النفس وحاجات الخلق، وأن يباعد بين نفسه وبين ما تتأذى منه، وأن يرتفع بكرامته إلى الذرى؛ وقد فطن جيته إلى ذلك النقص الاجتماعي الذي يبعثه تشبع الناس بفكرة حقوق الإنسان نحو المجتمع، وأدرك أن للإنسان نحو نفسه حقوقاً خاصة، هي أن يرتفع بخلاله وأن يسعى إلى الكمال، وفي عصرنا لا يكاد يفطن المرء إلى هذا الواجب، لأن مشاغل الحياة وحمى الشهوات البشرية تستغرق كل عنايته وتفكيره؛ وقد كان جيته من أشد الناس عملاً وانشغالاً، ولكنه لم ينس أن يعمل لنفسه من الناحية الخلقية والمعنوية، وأن يكونها حسبما توحي به المثل العليا. غير أنك تشعر خلال هذه الصور الممتازة التي يقدمها إليك كفاح جيته في سبيل الكمال بنقص بين، هو ما تأنسه في كل أقواله وأفعاله من ضروب الأثرة؛ فقد كان يحرص على ألا يعكر حياته معكر، وألا يثير عواطفه شيء، حتى لا يضعف أمام النوازل والحوادث؛ وهي فلسفة الجمود والقسوة التي تبعد كثيراً عن مثل الإنسانية الرفيعة. هذه الصور والحقائق يدرسها مسيو داركور دراسة فياضة ممتعة، ويقدم إلينا حياة الشاعر الأكبر على ضوء المبادئ والفلسفة التي تكونت فيها
ذكرى يوهان باخ(91/79)
تتأهب الدوائر الفنية والموسيقية في ألمانيا وفي جميع أنحاء العالم للاحتفال بذكرى الموسيقي الأكبر يوهان سبستيان باخ وذلك لمناسبة مرور مائتين وخمسين عاماً على مولده. وباخ من أعظم أبطال الفن والموسيقى لا في ألمانيا وحدها، ولكن في العالم كله. وقد كان مولده في مدينة إيزناخ سنة 1685، من أسرة عرفت بمواهبها الموسيقية، ونبغ منها أكثر من موسيقي كبير، وقد كان لهذا الظرف أثره في تربية باخ وفي تكوينه، وظهر هيام باخ بالموسيقى مذ كان طفلاً في العاشرة، وكانت أسرته تخشى على مستقبله من هذا الهيام وتخفى عنه المؤلفات الموسيقية ولكن باخ كان يبحث عنها وينقلها لنفسه على ضوء القمر، وكان للغلام صوت بديع لم يلبث أن استرعى الأنظار، فعين مرتلاً في مدرسة لينبرج؛ ولما ساء صوته بعد ذلك عين عازفاً على القيثارة؛ ثم ظهرت مواهبه الموسيقية بسرعة، وكانت رائعة، فاستدعى إلى بلاط فيمار وعين موسيقياً ملكياً، وهنالك استطاع أن يدرس الموسيقى الإيطالية؛ ثم عين بعد ذلك عازفاً على (الأرغن) في كنيسة ارنشتاث، ومن ذلك الحين أعني مذ كان باخ في نحو العشرين فقط، أخذ في وضع القطع الموسيقية؛ وكانت أولى قطعه (رحيل أخي الفجائي) من أبدع ما عرف التأليف الموسيقي، وقد استلهمها من رحيل أخيه عن وطنه ليلتحق بالجيش السويدي، وتزوج باخ بابنة عمه ماريا بربارا، وعاد بعد عامين أو ثلاثة إلى العمل في بلاط فيمار؛ وهنالك أقام نحو تسعة أعوام، ووضع أبدع قطعه الموسيقية، وتأثر في دراسته بالأساتذة الإيطاليين أعظم تأثر. وفي سنة 1720 توفيت زوجته ماريا فتزوج من بعدها (أنا فلكنس)، وكانت ذات مواهب موسيقية بديعة، فعاونته في عمله؛ وفي ذلك الحين ابتدأ باخ يضع قطعه الشهيرة المعروفة (بالتوابع). ثم عين باخ أستاذاً للغناء في مدرسة توماس في ليبزج، وهنالك وضع معظم قطعه وأناشيده الغنائية ومنها أناشيد قصة (الآلام)، وقدم في ذلك الحين بعض قطعه إلى أوجستوس ملك سكسونية فأنعم عليه بلقب (مؤلف البلاط). وفي سنة 1747 زار فردريك الأكبر في بونسدام ونال عطفه ورعايته، ثم أصيب باخ بضعف في بصره انتهى بالعمى، وعقب ذلك أصابه الصرع؛ وكانت وفاته (سنة 1750). وكان باخ فوق نبوغه الباهر في التأليف والموسيقى مخترعاً موسيقياً أيضاً، ومن اختراعاته الوضع الإصبعي الحديث، وتنظيم (البيانو) بحيث يتسع للعزف بجميع الأوضاع والأصوات(91/80)
الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
3 - هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
(ومع ذلك فكيف لي أن أكتب عن جبران من غير أن أذكر نفسي وقد كان بيننا من القرابة ما كان؟) ميخائيل نعيمة
(الناقد الفنان يترك أثراً من نفسه في شخصية من يحلله، لأنه يحلل بنفسه ويفهم بنفسه
(درسوا جبران في غضون الكتاب، ولم يدرسوا (نعيمة) وإنما في الكتاب وجهان متلاصقان في ناحية مفترقان في ناحية، لا يفترقان في ناحية إلا ليجتمعا، ولا يجتمعان إلا ليفترقا. . .)
(خ. هـ)
- 2 -
وجه ميخائيل نعيمة
لنعيمة - في كتاب جبران خليل جبران - وجه بادي الملامح مستقل النزعة، يجب أن نفتش عنه كما نفتش عن وجه جبران؛ ولا يكمل أحدهما إلا بالآخر. ففيه نعيمة الإنساني ونعيمة الشاعر، ونعيمة المصور، ونعيمة الناقد. لأنه ليس من أولئك الناقدين الجافين الذين يعجزون عن تمثيل شخصياتهم فيما يكتبون وفي أي نوع كتبوا؛ ونعيمة صاحب فلسفة يعمل لها وصاحب مذهب اجتماعي يدور حوله ويؤمن به كل الإيمان. قد أخذ جبران مثلاً له، وألف من حياته رواية نفسية لفتى استحوذ عليه القلق، وألم بخيوط تلك الحياة وحاكها بفلسفته الإنسانية، وبلغ به ما شاء أن يبلغه الفن الذي يترجمه صاحبه والناس إلى قوة تنشط بهم من عقالات المعيشة المحدودة إلى المعيشة التي لا تحد. . .
فلسفة نعيمة الإنساني
تكاد تطغى على كل تعاليمه موجة الإنسانية التي لا تقيم بين بني الإنسان حدوداً وفواصل.(91/82)
فهنالك الإنسانية المتصلة الشاملة المشتركة في الألم والهناء، الساخرة من هذه التقاليد التي فصلت بين أبناء الأصل الواحد. وإذا عدت إلى فصله (تمخضت الفأرة فولدت جبلاً) عرفت ذلك العدو الذي فكك بين وشائح الإنسانية الحقيقية، وجاء بوشائح كاذبة مستعارة يبني عليها حضارته الجديدة
ينظر نعيمة إلى الحياة المتآلفة في باطنها، المتنافرة في ظاهرها، حيث يمتزج كل شيء بشيء، ويتصل كل جزء بجزء، ولا جزء يستطيع أن يفنى بالانفصال. يبشر (نعيمة) بهذه الدعوة الإنسانية التي يجد عروقها مغروسة في الشرق، والتي بشر بها الشرق من أزمان. . . والإنسانية - في اعتقاده - لا تفر من نفسها إلا إلى نفسها - ولكن السامعين نداء أنفسهم قليل! وهي لا تقسم طرقها إلا لتجد سبيلها الواحد ومحجتها الواحدة
فلسفة تحب العرى النفسي المجرد والطبيعة السامية، ألم يقل لي في حديث له (هذا الجبل عاريا ما أجمله! أحب كل عار في الحياة لأنه يظهر على الحياة بحقيقته) إن الحياة عارية والإنسانية عارية، فلماذا نستر عريهما بأوهامنا وتقاليدنا؟ والحياة جوهر عار فلماذا نجعل منها مركباً تفرح لتركيبه عقولنا وتضل عنه أرواحنا؟ (الحياة شركة شاملة للواحد فيها ما للكل، وللكل ما للواحد. لأن الكل هو الواحد والواحد هو الكل. لكننا أفسدنا تلك الشركة بما أدخلناه عليها من روح الاستئثار والكسب عندما جعلنا ثمناً لكل هباتها التي لا تثمن. . .)
وهذه الإنسانية المجردة التي يبشر بها (نعيمة) قد لا تروق للبعض لضيق آفاقهم، ولأن عقولهم تزين لهم أن يطعنوا هذه الإنسانية ويردوها منهزمة مجرحة. . . وقد تثبت هذه الإنسانية أمام العقل، لأن (نعيمة) يستمد هذه الإنسانية من قلبه لا من عقله، فهو يريد لها القلوب وعاء لا العقول. وقد جرب (نعيمة) كما جرب غيره أن يقف على غاية الحياة بعقله، جرب كثيراً وتاه كثيراً لأنه كلما بلغ به عقله نقطة، ضاعت عنه الثانية، فليس له إلا ما يبلغه أمامه، وليس له من ورائه شيء، سار به عقله إلى سلسلة متناقضات يصارع بعضها بعضاً وينفي بعضها بعضاً، وأين سبيل النجاة أيها العقل؟
وأخيراً يجد نعيمة سبيل النجاة في واحة الخيال المنعتق من كابوس المقاييس الزمنية والمكانية والتفلت من قيود التقاليد. وجده في الخيال ووجد إنسانيته في الخيال، يخاطبه الناس بعقولهم ويخاطبهم بخياله وومضاته، أما طريق الوصول إليه، فهو الفن الذي يحمل(91/83)
صاحبه على جناحي الخيال إلى تلك المعيشة التي لا تحد - من الإنسان في الله، إلى الله في الإنسان
فهو مع الحياة في سلم أبدي، لأن الحياة طاهرة الجوهر، لا تتمخض بالسوء؛ وهب أنها تمخضت بسوء - كما تراه مداركنا - فهذا السوء سوء عندنا، وليس بسوء عند الحياة، الحياة التي تسعى وراء تحقيق غايتها، وإنما الأجدر بنا أن نؤلف بين غايتنا وغاية الحياة، لأن السعادة التامة الكاملة، إنما تتم في هذه الألفة! وأنى لنا أن ندرك سبل الحياة وغايتها؟
- ستدرك كل ذلك - أيها الإنسان عندما تصبح إلهاً!
(ما أشفق الحياة على بناتها وعلى أبنائها، فلا تضع في حدقتي مخلوق من نورها أكثر مما يحتاجه ذلك المخلوق ليستدل على طريقه. ولا تودع ساقيه من قوتها أكثر مما يلزمه لقطع المسافة التي تخطها له) والإنسان خلال ذلك مزهو بكبريائه، تسول له ذاته أن يكون رب نفسه، والحياة تشفق على هذه الربوبية الضعيفة وتحضنها كالأم التي تحضن ولدها العاق المتألم
- ستعرف غايتي أيها الإنسان عندما تصبح إلها!
(يتبع)
خليل هنداوي(91/84)
العدد 92 - بتاريخ: 08 - 04 - 1935(/)
على ذكر كتاب. . .
في مصر من الباشوات المثقفين فئة كثيرة، تميزوا عن الأشباه لأنهم مهروا في أداء العمل، أو وقعوا في طريق الفرص، أو رقوا في معارج السياسة؛ ثم تهيأت لهم بالدراسة والممارسة أسباب العمل والخبرة، فخبروا أسرار الأمور، وسبروا أغوار المشاكل، وصرفوا شؤون الدولة على نحو من الحكرة المفروضة؛ فهم لا يبرحون ضاربين في الميدان الحكومي فرقه فرقة، يتقاذفون الإدارة، ويتنازعون الوزارة، ويتداولون الأمر، حتى أسرفوا على خير الأمة، وافتاتوا على رأي الجماعة، فقصروا كفايتهم على الخصومة، وحددوا غايتهم بالحكومة؛ فهم إذا وثبوا إلى الحكم استفرغوا الوسع في البقاء فيه، وإذا انقلبوا عنه استنفذوا الوسائل في الرجوع إليه؛ أما تسجيل التجربة بالتأليف، ونشر المعرفة بالصحافة، وتأييد العدالة بالمحاماة، فعمل لا يدخل في حساب الجهد، ولا يخطر في مرام النية! كأن العودة إلى ملابسة الشعب، ومداخلة العامة، ومزاولة الحرفة، أصبحت لا تتفق مع نباهة الاسم ولا تتسق مع جلالة اللقب، ولا تجري على تقاليد المنصب!
في البلاد التي نطيل إليها النظر، ونزعم لها الكمال، ونحصر فيها القدوة، نجد رئيس الحكومة إذا تعطل من الحكم، ورئيس الجمهورية إذا انتهى من الرياسة، عاد كل منها إلى الموضع الذي صعد منه إلى الديوان، أو انتخب فيه إلى القصر، فيستأنف الجهاد اليومي في سبيل الأسرة والأمة الحاكمة بنشاط البادئ، ونفسية التابع، ورجاء الطموح، فهو يدور مع الطبيعة دورة العام: يبدأ لينتهي، وينتهي ليبدأ؛ وفي كل طور من أطواره المتعاقبة تراه يندمج في البيئة، ويتألف مع النظام، ويرمي عن الواجب، فينشر المذكرات، ويحرر المقالات، ويحضر المرافعات، ويكابد في خلال ذلك طمع الناشر وعنت الناقد ومنافسة الحرفة؛ ولكنه على الرغم من رهق الحياة الحافلة، وكلال السن العالية، يؤدي إلى وطنه المنعم زكاة النبوغ وضريبة المجد عملا لا يتأبه، وإحسانا لا يمن، وإخلاصا لا يمين
ذلك هناك والكفاية موفورة، والمحجة واضحة، والأمر متسق. أما هنا ورجالات الرأي قلال، وتبعات العمل ثقال، وميادين الجهاد عزل، ترى النابه منا متى بلغ الوزارة من أي طريق وفي أي سن، ختم حياته العاملة، فاختزل الماضي، واعتزل الشعب، وازدرى العمل، وغفا على رخاء معاشه. فهو وزير ما دامت وزارته، فإذا سقط انقلب إلى مداره العالي يزجي فراغه الملول بالتردد بين أبهاء المستوزرين ونادي الحزب أو نادي (محمد(92/1)
علي) يتشم الريح، ويتسقط الأخبار، ويتربص بالحكومة الدوائر
هو وزير أو منتظر؛ فمالك تكلفه أن يكتب في صحيفة حزبه، أو يساهم بالجد في نهضة شعبه؟ تلك أكلاف العيش لمن لم يدرك الثروة، وأزواد الطريق لمن لم يبلغ الغاية؛ والوزارة غاية الأمل في الثراء والعظمة، فإذا أدركها لا يسعه بعدها كرسي في مكتب، ولا يجزيه سهم في شركة؛ والظفر بها ولو مرة حق مكتسب يسلكه في سلسلة المتعاطين حرفة الحكم، فيضع نفسه ولقبه في صندوق ذهبي، ثم يعلقه في خيوط المنى، ثم يدع النسيم يهدهده بين باب القصر ونافذة المندوب حتى إذا عصفت بالوزارة أزمة، أو شغر في مجلسها محل رفع برأسه الغطاء العسجدي وقال:
أنا أشرئب! إذن أنا موجود!
على أن القاعدة العنيدة أخذت تحمل في طواياها بعض الشواذ، فقد رضى الوزير والسفير حافظ عفيفي باشا أن ينزل إلى صفوف الباحثين والمؤلفين فأصدر كتابه القيم (الإنجليز في بلادهم) عن استقراء دقيق واطلاع شامل، فكان تعريضا أليما بذلك الذكاء العاطل الذي يستفيد ولا يفيد، وذلك النبوغ الفاجر الذي يدخل الحكم ليعسف ويخرج منه ليكيد!
أحمد حسن الزيات(92/2)
اليمامتان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء في تاريخ الواقدي (أن (المقوقس) عظيم القبط في مصر زوج ابنته (أرمانوسة) من (قسطنطين بن هرقل) وجهزها بأموالها وحشمها لتسير إليه، حتى يبنى عليها في مدينة قيسارية (سورية) فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها. . وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارا شديدا وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقى إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع مالها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأجب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إليه ابنته مكرمة في جميع مالها، (مع قيس بن أبي العاص السهمي)؛ فسر بقدومها. . .)
هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن:
كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى (مارية)، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه. ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تهمل شيئا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي، أفرغت فيه سحرها إفراغا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه وبين الطابع المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى
وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليا وبطريريكا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئا من قتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على أثنى عشر ألفا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم ولم تكن المدافع معروفة، ولكن(92/3)
روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مدفع بقنابلها؛ لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يعرف الديناميت!
ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعا شديدا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يرتبطن على خسف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثقلت مطامعهم وخفت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزارا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار وطبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!
وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة وقد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينز إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودا على الدم. . .
ومن ذلك استطير قلب مارية وأفزعتها الوسواس، فجعلت تندب نفسها وصنعت في ذلك شعرا هذه ترجمته:
جاءكِ أربعةُ آلافِ جزارٍ أيَّتُها الشاةُ المسكينة!
ستذوق كل شعرةٍ منكِ ألم الذبح قبل أن تُذبحي!
جاءكِ أربعُ آلافٍ خاطفٍ أيتها العذراءُ المسكينة!
ستموتين أربعةَ آلافِ ميتةٍ قبل الموت!
قَوِّني يا إلهي، لأغمد في صدري سكيناً تردُّ عني الجزّارين!
يا إلهي، قوِّ هذه العذراءَ لتتزوجَّ الموتَ قبل أن يتزوجها العربي. .!
وذهبت تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع؛ فضحكت هذه وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت (أنصنا) فكانت عنده في مملكة بعضها السماء وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين(92/4)
وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسا يعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعا ينبعثون من حدود دينهم لا من حدود أنفسهم؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فأنهم جميعا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم - يكون حاملا سلاحا يضرب به صاحبه إذا هم بمخالفته
وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب الملك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها؛ فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق!
وقال أبي: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الميت ما يشبه طلاء الشجرة الجرداء بلون أخضر. . .! شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لون
فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحو البلد، ولا يكون ما نستضر به؟
قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلبون كالبهائم، ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون
قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسة إن هذا لعجيب؛ فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتب التي كتبوها. . . فلم يخرجوا للدنيا جماعة تامة الإنسانية، فضلا عن أمة كما وصفت أنت من أمر المسلمين؛ فكيف استطاع نبيهم أن يخرج هذه الأمة وهم يقولون إنه كان أميا. أفتسخر الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير فتدعهم يعملون عبثا أو كالعبث،(92/5)
ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟
قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العملية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه
وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها، وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده فكان ذلك أول خطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لهاجرت به، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضا: إحداها للأعضاء، والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذله في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تقهر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما
قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء: كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى. فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلت، منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية - فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسمو ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة
قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنك تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!
فاستضحكتا معا وقالت مارية: إنما ألقيت كلاما جاريتك فيه بحسبه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان(92/6)
قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في (منف)، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار - وهي نحو الشهر - كأنه فكر سكن فكرا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد
ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس - أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: (المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة لا تأخذ شيئا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء.)
وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تعرب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخيذة تتوجه حيث يسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأك؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!
قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قبلي، وسيصحبك الراهب (شطا)، وخذي معك كوكبة من فرساننا
قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديت إليه رسالتك فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. . فقال أبلغيها أن نبينا (صلى الله عليه وسلم) قال: (استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة.) وأعلميها أننا لسنا على غارة نغيرها، بل على نفوس نغيرها
قالت: فصفيه لي يا مارية
قالت: كان آتيا في جماعة من فرسانه على خيولهم العراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر، فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان - وهو (وردان) مولاه - فنظرت، فإذا هو على فرس كميت أحم لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطرة المرأة، ذيال يتبختر بفارسه ويحمحم كأنه يريد أن يتكلم،(92/7)
مطهم. . .
فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جواده
قالت مارية: أما سلاحه. . .
قالت: ولا سلاحه، صفيه كيف رأيته (هو)
قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة، وافر الهامة علامة عقل، أدعج العينين. . .
فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا. . .؟
. . . أبلج يشرق وجهه فيه كأن فيه لآلاء الذهب على الضوء، أيدا اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرا. . . داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه؛ وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرار النظر إليه. . .
وتضرجت وجنتاها، فكان ذلك حديثا بينها وبين عيني أرمانوسة. . . وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها. . .
فغضت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته. . . . .
قالت أرمانوسة: من هيبته أم من عينيه الدعجاوين. . .؟
ورجعت بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة (قيس)، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا: (الله أكبر. . .!) ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب (شطا): ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ أنظري، ألا ترين هذه الكلمة قد سحرتهم سحرا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم
قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون(92/8)
ساعة في سكينة الله عليهم فما أفلحت، وجاءت الكنيسة فهولت على المصلين بالزخارف والصور والتماثيل والألوان لتوحي إلى نفوسهم ضربا من الشعور بسكينة الجمال وتقديس المعنى الديني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوهم إلى جوها؛ فكانت كساقي الخمر؛ إن لم يعطك الخمر عجز عن إعطائك النشوة. ومن ذا الذي يستطيع أن يحمل معه كنيسة على جواد أو حمار؟
قالت أرمانوسة: نعم أن الكنيسة كالحديقة؛ هي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع
قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها - فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ
قالت مارية: وهل تفتح عليهم الدنيا، وهل لهم قواد كثيرون كعمروا؟
قال: كيف لا تفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفس مندفعة إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أمما ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهرب إلى الداخل. . .!
قالت مارية: والله لكأننا ثلاثتنا على دين عمروا. . .
وانفتل قيس من الصلاة، وأقبل يترحل، فلما حاذى مارية كان عندها كأنما سافر ورجع؛ وكانت ما تزال في أحلام قلبها؛ وكانت من الحلم في عالم أخذ يتلاشى إلا من عمروا وما يتصل بعمروا. وفي هذه الحياة أحوال (ثلاثة) يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في الإنسان
وقالت مارية للراهب شطا: سله: ما أربهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكون القائد الذي يفتح بلدا حاكما على هذا البلد؟
قال قيس: حسبك أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلا عاملا في تحقيق كلمة الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا
وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، وأما الحرب فهي عندنا(92/9)
الفكرة المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي الرجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه. ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا، لا نعكس الأمر
قالت مارية: فسله: كيف يصنع عمروا بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق عمروا فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟
قال الرواي: ولكن فرس قيس تمطر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة كأنه يقول: لسنا في هذا. . .
وفتحت مصر صلحا بين عمروا والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمروا من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها، وبدأت تنظر النظرة التائهة، وبان عليها أثر الروح الظمأى، وحاطها اليأس بجوه الذي يحرق الدم، وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، أنها يائسة!
ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضا تتعلق فتى رومانيا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمروا كي تصل إليه، فإذا وصلت بلغت بعينيها رسالة نفسها. . .
واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال: (قد تحرمت في جوارنا، أقروا الفسطاط حتى تطير فراخها) فأقروه!
ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة الشعر الذي أسمته: نشيد اليمامة:
على فسطاط الأمير يمامة حائمة تحضن بيضها.(92/10)
تركها الأمير تصنع الحياة، وذهب هو يصنع الموت!
هي كأسعد امرأة؛ ترى وتلمس أحلامها.
إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي.
هي كأهنأ امرأة، ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر.
هل أكلف الوجود شيئا كثيرا إذا كلفته رجلا واحدا أحبه!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحتضن بيضها
الشمس والقمر والنجوم، كلها أصغر في عينها من هذا البيض.
هي كأرق امرأة؛ عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة
هل أكلف الوجود شيئا كثيرا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها
تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يرى بلونين في عين الأنثى، مرة حبيبا كبيرا في رجلها، ومرة حبيبا صغيرا في أولادها.
كل شيء خاضع لقانونه؛ والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها
أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لك فسطاطه!
هكذا الحظ: عدل مضاعف في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى
إحمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لغات وأديان، عندكم فقط: الحب والطبعة والحياة
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها،
يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان،
نسب الهدهد إلى سليمان، وستنسب اليمامة إلى عمرو.
واها لك يا عمرو! ما ضر لو عرفت اليمامة الأخرى. .!
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(92/11)
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
الحاكم بأمر الله
- 2 -
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 3 -
ولي الحاكم بأمر الله الخلافة حدثا دون الثانية عشرة؛ وكان مولده بالقصر الفاطمي بالقاهرة المعزية في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 375 (13 أغسطس سنة 985)، وأمه نصرانية من الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ كبير في الدولة، حتى أنه عين أخويها بطريقين للملكية، أحدهما بالإسكندرية، والآخر لبيت المقدس، مخالفا بذلك الرسوم الكنسية المقررة؛ وكان من أثر نفوذها أن سياسة التسامح الديني التي اتبعت في عهد المعز، قويت أيام العزيز، وتمتع النصارى واليهود بكثير من الحريات والنفوذ. وقد كان لهذا المنبت أثره بلا ريب في نفس الحاكم، وتكوين عقيلته الدينية كما سنرى. ولم يترك العزيز من البنين سوى الحاكم، ولكنه ترك - من زوجة النصرانية أيضا - ابنة تدعى سيدة الملك، كانت أكبر من أخيها ببضعة أعوام؛ وكانت حازمة عاقلة ذات نفوذ. ومنح العزيز ولاية عهده لابنه الحاكم مذ كان طفلا في الثامنة (شعبان سنة 383) وبويع بالخلافة يوم وفاة أبيه. وقد انتهى إلينا وصف لبعض المناظر التي أحاطت بتولية الخليفة الصبي، وهي مناظر شائقة مؤسية معا، نقلها إلينا المسبحي، وهو مؤرخ معاصر ووزير الحاكم وصديقه، نقلا عن الحاكم ذاته؛ قال: (قال لي الحاكم، وقد جرى ذكر ولده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني إليه وقبلني وضمني إليه، وقال: وا غمي عليك يا حبيب قلبي؛ ودمعت عيناه. ثم قال: امض يا سيدي والعب، فأنا في عافية، قال: فمضيت، والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه. قال: فبادر إلي برجوان، وأنا في أعلى جميزة كانت في الدار، فقال: انزل ويحك، الله الله فينا وفيك؛ قال فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي وقبل لي الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: وأخرجني حينئذ(92/13)
إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة)
وقع هذا المنظر في مدينة بلبيس حيث أدرك العزيز مرض موته كما قدمنا؛ وفي صباح اليوم التالي - وهو يوم الأربعاء 29 رمضان - سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب فخم تظلله أبهة الخلافة، رهيب يظلله جلال الموت؛ وأمامه جثة أبيه، وقد وضعت في عمارية برزت قدماه؛ وعلى رأسه المظلة يحملها ريدان الصقلبي، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف، وبيده رمح. فدخل القاهرة عند مغيب الشمس في هذا الحقل الرهيب الفخم؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه؛ فتولى غسله قاضي القضاة محمد بن النعمان، ودفن عشاء إلى جانب أبيه المعز في حجرة القصر. وفي صباح اليوم التالي، أعني يوم الخميس، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب، عليه مرتبة مذهبة؛ وخرج من القصر إلى الإيوان راكبا وعلى رأسه معممة الجوهر، والناس وقوف في صحن الإيوان فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة وباللقب الذي اختير له وهو: (الحاكم بأمر الله) ونودي في القاهرة والبلدان، أن الأمن موطد والنظام مستتب، فلا مؤونة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال
وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة هم برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه؛ والحسن بن عمار الكتامي زعيم كتامة، أقوى القبائل المغربية وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها؛ ومحمد بن النعمان قاضي القضاة. وعهد بالوصاية الفعلية إلى الأول والثاني. وكان برجوان، ويسمى أبا الفتوح، خصيا صقلبيا، ربي في القصر، واصطفاه العزيز بالله وولاه أمير القصر، وخلع عليه لقب (الأستاذ) وهو من ألقاب الوزارة في الدولة الفاطمية، وعهد إليه بمهام الأمور، وأولاه ثقة عظيمة. وكان ابن عمار رجلا قوي الشكيمة، وافر العصبة؛ ولكن برجوان كان بظروفه وطبيعة منصبه أوثق اتصالا بالخليفة الصبي، وأشد تأثيرا فيه ومقدرة على توجيهه؛ فلم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما، وقام ابن عمار بتدبير الشئون بادئ بدء، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول لقب من نوعه في الدولة الفاطمية؛ واقتسم الكتاميون من صحبة وشيعته السلطات والمناصب، وعاثوا في شئون الدولة ومرافقها؛ وحرضه بعضهم على قتل الحاكم والتخلص(92/14)
منه فأبى استصغارا لشأنه أو رهبة من العواقب؛ ولكن برجوان كان ساهرا يرقبه ويتلمس الفرص لمناوأته وإسقاطه، ويدس له الدسائس، ويؤلب عليه زعماء الجند الناقمين عليه؛ فلم يمض عام حتى تفاقمت الصعاب والأحقاد من حوله؛ ووثب جماعة من الزعماء والجند بتحريض برجوان بالكتامين وأثخنوا فيهم، فتوارى ابن عمار، واضطر أن يترك الميدان حرا لمنافسه، عندئذ قبض برجوان على زمام الأمور، واستأثر بكل سلطة حقيقة داخل البلاط وخارجه، واختار لمعاونته كاتبا نصرانيا يدعى فهد ابن إبراهيم ولقبه بالرئيس، وفوض إليه النظر والتوقيع والمراجعة. ولزم برجوان الحاكم، يقيم معه بالقصر، ويسهر على توجيهه، ويستأثر لديه بكل صلة ونفوذ؛ واستبد بكل أمر في الدولة؛ واستقرت الأمور حينا
واستمر برجوان يتبوأ ذروة القوة والنفوذ زهاء عامين ونصف؛ وفي عهده وقعت عدة ثورات وقلاقل في الشام والمغرب، وحاول بعض الحكام والزعماء المحليين الخروج على حكومة القاهرة؛ فسير برجوان جيشا إلى الشام بقيادة جيش بن الصمصامة، فقاتل الثوار في عدة مواقع، وأخضعهم تباعا، واستعاد دمشق؛ واشتبك مع الروم (البيزنطيين) في عدة معارك في شمال الشام، وكانوا قد انتهزوا فرصة الاضطراب للإغارة على الثغور وتأييد الخوارج؛ فهزمهم وردهم إلى الشمال. وسير برجوان جيشا آخر إلى برقة حيث اضطرمت الثورة، فرد النظام إليها، واستعمل عليها يانسا الصقلبي. وكانت الدولة الفاطمية منذ نشأتها تعتمد على تأييد القبائل المغربية ذات البأس والعصبية؛ ويستأثر زعماؤها بمعظم مناصب القيادة والحكم والأدارة حتى عهد المعز لدين الله؛ ولكن ولده العزيز مال إلى اصطناع الموالي من الترك والصقالبة فقدمهم في القصر وفي الجيش، وبدأت المنافسة من ذلك الحين بينهم وبين الزعماء والمغاربة وكانت سياسة برجوان ترمي إلى تحطيم نفوذ الزعماء المغاربة، ونزعهم عن الولايات والثغور؛ وتوزيع السلطة على نفر من أصدقائه الصقلبيين يستطيع أن يعتمد على ولائهم وأن يسيرهم طبق أهوائه؛ فعين إلى جانب يانس، طائفة منهم لحكم الولايات والثغور، مثل ميسور الخادم والي طرابلس، ويمن الخادم والي غزة وعسقلان، وعين بالقصر عددا كبيرا منهم وجنح الروم بعد هزيمتهم إلى السلم، وعقدت بين بلاط القاهرة والإمبراطور بزيل الثاني قيصر قسطنطينية أواصر الصداقة والمهادنة(92/15)
مدى حين
ماذا كان الموقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من خلافته؟ لقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وبشئونها، ويدفع به ما استطاع إلى مجالي اللهو واللعب؛ وكانت أم الحاكم وهي نصرانية كما قدمنا، تشهد ولدها ينمو ويترعرع في ظل هذه الوصاية الخطرة عاجزة عن التدخل لحمايته أو توجيهه، لأن برجوان لم يفسح لها أي مجال للتدخل في شئون الدولة. غير أن الحاكم كان يشعر رغم حداثته بخطورة المنصب الذي يتبوأه؛ ولم يلبث أن استرعى سير الأمور اهتمامه، ولم يلبث أن فطن إلى موقف برجوان، واستئثاره بالسلطة واستبداده بالشئون. ولما بلغ برجوان ذروة السلطان والنفوذ، كان الحاكم قد أشرف على الخامسة، وأضحى الطفل فتى يافعا شديد اليقظة والطموح. وكان برجوان يذهب في طغيانه وعسفه إلى حدود بعيدة، ويثير حوله ضراما من البغضاء والحقد، ويحفز بذلك خصومه داخل البلاط وخارجه إلى العمل على تقويض سلطانه ومكانته. واعتقد برجوان أن الجو قد خلا له، فانكب على ملاهيه وملاذه، يقضي معظم أوقاته في مجالس الأنس والغناء والطرب، ولم يفطن برجوان من جهة أخرى إلى ما وقع في نفس الأمير الفتى ومشاعره من التبدل والتطور، فاستمر يعامله معاملة الطفل المحجور عليه؛ وذهب في استهتاره إلى مدى شعر الحاكم أنه لا يتفق مع مقامه ومكانته، وربما يذهب برجوان إلى حد الإساءة إلى الحاكم ونقض أوامره، بل إلى حد إهانته والتنكر له، ويقص علينا المقريزي منظرا من هذه المناظر التي اجترأ فيها برجوان على إهانة سيده خلاصته: (أن الحاكم استدعاه ذات يوم وهو راكب معه، فسار إليه وقد ثنى رجله على عنق فرسه، وصار باطن قدمه وفيه الخف قبالة وجه الحاكم)، ونحو ذلك من المناظر والإهانات المثيرة
أحفظت نفس الحاكم لهذا الضغط وهذا الاجتراء، فأضمر التخلص من ذلك الوصي الطاغية، وربما تأثر في هذا العزم بتحريض بعض خصوم برجوان ولا سيما ريدان الصقلبي حامل المظلة وخصمه القوي داخل البلاط؛ ولكن لا ريب أن الحاكم كان قد بدأ يومئذ يثور لسلطته المسلوبة، وأخذت تتفتح في نفسه الوثابة تلك الأهواء العنيفة المضطرمة التي بلغت ذروتها فيما بعد. وعلى أي حال فقد حكم على برجوان بالموت؛(92/16)
وفي ذات مساء بعث إليه الحاكم للركوب معه، وانتظره في إحدى حدائق القصر ومعه ريدان حامل المظلة، فوافاه برجوان هنالك؛ وبعد أن سلم سار الحاكم حتى خرج من باب الحديقة، فوثب ريدان عندئذ على برجوان فطعنه في عنقه بسكين، وانقضت عليه جماعة كانت قد أعدت للفتك به، فأثخنوه طعنا بالخنجر، واحترزوا رأسه، ودفنوه حيث قتل (ربيع الثاني سنة 360 - 1000م) ولما عاد الحاكم إلى القصر كان خبر مقتل برجوان قد ذاع على لسان خادمة عقيق، فاضطربت البطانة، وأشرف الحاكم عليهم ليرى الخبر؛ وصاح فيهم ريدان: (من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويبكر إلى القصر المعمور) فانصرف الناس منزعجين، وفي نفس المساء اتخذ الحاكم عدته لتوطيد الأمور، واستدعى الرئيس فهدا، وهدأ روعه وأقره في منصبه؛ وصودرت أموال برجوان وكانت عظيمة طائلة، واختفى أصدقاؤه من الميدان
وهكذا ظفر الحاكم لنحو أربعة أعوام فقط من ولايته بأن يطوي مرحلة الحداثة، وأن يستخلص السلطة لنفسه، وأن يبدأ عهد الحكم الحقيقي. وكان الحاكم يومئذ في نحو الخامسة عشرة من عمره، مضطرم النفس والأهواء، ولكن وافر الذكاء والجرأة والعزم. فبدأ بتعيين مدبر للدولة مكان برجوان، ووقع اختياره على الحسين بن جوهر الصقلي. وكان العزيز قد ولاه القيادة بعد وفاة أبيه جوهر، واصطفاه وأولاه ثقته وعطفه، فلما توفي العزيز قلد الحسين ديوان البريد والإنشاء؛ ولما قتل برجوان لم يكن بين رجال الدولة من هو أرفع منه مقاما وأجدر بتولي الشئون العامة؛ فاستدعاه الحاكم وخلع عليه، وقلده النظر في أمور الدولة والتوقيعات، ولقبه في سجل التعيين (بقائد القواد) وعكف الحسين على تدبير الشئون بمعاونة خليفته الرئيس فهد، وأمر أن تبلغ إليه المهام والظلامات في مكانه بالقصر وألا يقصد أحد داره، وألا يخاطب بغير لقبه الرسمي (القائد) دون تعظيم أو تفخيم، وألا يمنع أحد من مقابلة الحاكم أو الاتصال به؛ وغدا الحسين بن جوهر وصهره عبد العزيز بن محمد بن النعمان، الذي خلف أباه في منصب القضاء، أعظم رجلين في الدولة؛ واستمر الحسين يدبر الأمور مدى أعوام حتى تغير عليه الحاكم كما سيأتي
وتناول الحاكم إدارة الدولة العليا بيديه؛ ونظم له مجلسا ليليا يحضره أكابر الخاصة ورجال الدولة، وتبحث فيه الشئون العامة؛ وكانت هذه أول ظاهرة لهيام الحاكم بالليل والتجوال في(92/17)
ظلماته. بيد أنه أبطل مجلسه الليلي بعد حين. وتوفي جيش ابن الصمصامة وإلي الشأم، فعين الحاكم مكانه فحل بن تميم، ولما توفي لأشهر من ولايته عين مكانه علي ابن فلاح؛ وكان اتجاه الحاكم يومئذ نحو إقصاء الأتراك والصقالبة وتمكين المغاربة، كما كان الشأن أيام جده المعز، ولعله كان يقصد في ذلك أيضا إلى هدم سياسة برجوان في اصطفاه الصقالبة. ووفد عليه ولد جيش بن الصمصامة يحمل وصية أبيه التي يوصي فيها بجميع أمواله للحاكم، ويحمل إليه الأموال الموصى بها، وكانت تبلغ نحو مائتي ألف دينار بين نقد متاع، فقرأ الحاكم الوصية ورد المال إلى أهله؛ ودلل بذلك على صفة من أخص صفاته، هي العفة عن مال الرعية، والزهد في المال بصفة عامة؛ وسنرى أنه يدلل على هذه الخلة في مواطن كثيرة
للبحث بقية
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان
المحامي(92/18)
صورة في المرآة
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
إن كل شيء ممكن ولا سيما في هذه الأيام. وليس لأحد أن يكذب إمكان حدوث شيء بعد أن شهد هذا العصر ما شهد من صنوف المخترعات والمبتدعات. فمن ذا الذي كان يحلم أن الإنسان قد يكون جالسا إلى مكتبه بالقاهرة، فيسمع موسيقى دار الأوبرا في باريس أو فينا؟ وينصت إلى نجوى النظارة وتصفيقهم، حتى كأنه جالس معهم هناك يسمع ما يسمعون ويشهد ما يشهدون؟ وما هي إلا خطوة واحدة ثم يستطيع الإنسان أن يسمع ويرى في آن واحد. فيتيسر له عند ذلك أن يرى بعينيه أهل باريس أو فينا أو سواهما، وهم يتمايلون للموسيقى ويعجبون بالراقصة أو المغنية، وأن يرى المسرح بما فوقه من الفتن الشهية، ولن يحس الناس عند ذلك بوجود المسافات ولا بحدود الدول والبلدان. وهكذا أرجو إذا أنا وصفت للقراء ما أوصلني إليه الدأب، ومكنني منه الدرس من الاختراع، ألا يكذبني ما كذب، فما غرابة قصتي هذه بمنقصة من قدرها، إذا صارت الحقائق أعجب من صور الخيال، وأصبح إدراك المشاهد أعسر على الذهن من تصور الخيالات، فبينا يرى الإنسان الآلة المحدثة بين يديه حقيقة ماثلة ملموسة إذا به يراها عند غاية الاستعصاء والغموض والتأبي
ولقد وفقني الله لاختراع آلة عجيبة، ولكنها من مثل تلك الآلات المحدثة التي ذكرتها آنفا تراها وتلمسها، وتؤمن بأنها حيالك ماثلة موجودة. ثم تحار في معرفة كنهها والغوص إلى موضع سرها. هي مرآة لا أكثر ولا أعظم، ولا يختلف ظاهرها عن المرآة المعتادة إلا في أنه يحيط بها إطار به لولب مختلفة لتحريكها وتحديد موضعها. ولكنها في حقيقتها فذة فريدة، إذ أنها لا تنقل إلى الرائي صورة وجهه إذا نظر إليها، بل لقد يظهر له فيها إذا وضعها أمام عينيه شكل شخص آخر، أو شكل بعض الحيوان، أو شكل كائن آخر من الكائنات، ولعلها تفزع من لا عهد له بها ولا دراية له بسرها؛ فقد تنظر إليها حسناء لترى هل دهان شفتيها لا يزال هناك لم تخطفه الشمس ولم يمحه بنان النسيم، فترتاع إذ تجد المرآة تبرز لها صورة كريهة كصورة قرد مثلا، أو كصورة عجوز شوهاء. وقد ينظر إليها فتى من الفتيان ليتحقق من أن سحر عينيه لا يزال على عهده به، وأن موضع رباط رقبته(92/19)
لا يزال حيث رآه آخر مرة في آخر مرآة مر بها من تلك الزجاجات المنصوبة على جوانب الحوانيت والدكاكين الكبرى فتظهر له صورة أخرى مثل صورة فتاة لعوب، أو صورة تيس أو حيوان آخر مما تعارف الرجال على كراهة التشبه به والظهور في مظهره. ولكن الإنسان إذا عرف إن هذه المرآة لا تظهر للرائي صورته، لم يلتمس أن يرى فيها صورة نفسه، وبذلك يحفظ نفسه من الألم الذي قد يصيب من يجهل أمرها وسرها. فإن سر تلك المرآة أنها لا تلتقط إلا أشعة الضوء القديمة التي مضى على سيرها آلاف السنين على الأقل. وهذا الأمر يحتاج إلى شيء من التفسير، ولكني سأشرحه شرحا يسيرا حتى لا أخرج بالقارئ طويلا عن صلب القصة
أنت تعلم أن المادة لا تفنى، وأن الطاقة لا تنعدم، فهذا يعرفه كل من درس أوليات العلم. وتعلم أن شعاع النور طاقة، والنور على ذلك لا ينعدم. فإذا سار الشعاع الضوئي في الفضاء فأنه يظل سائرا إلى أبد الدهر إلا إذا تحول إلى طاقة أخرى. وتعلم أن الإنسان يرى الأشياء لأن الضوء يقع عليها ثم ينعكس منها إلى عينه فيحمل صورة الأشياء إلى العين. فإذا سار الشعاع المنعكس إلى أبعد الجهات أمكن أن يحمل صورة الأشياء إلى تلك الجهات البعيدة. والضوء كذلك يسافر بسرعة هائلة، فهو يحمل الصور بتلك السرعة، ولكن المسافة إذا كانت بعيدة جدا لم يستطع الضوء أن يقطعها إلا بعد مدة قد تكون طويلة، فإن شعاع الضوء يأتي إلى الأرض من بعض الكواكب في أعوام وقرون، ومنها ما يصل إلى الأرض من كوكب بعيد في آلاف السنين
هذه كلها مقدمات، وهناك بعد ذلك أمر آخر، وهو أشد استعصاء على الفهم، وذلك أنني قد كشفت أن الضوء لا يسير في خط مستقيم كل الاستقامة، بل إنه منحن قليلا، فإذا سار منحنيا على هذا النمط تكونت من سيره دائرة، لأن الدائرة تتكون من خط منحن انحناء منتظما سائرا على نمط واحد. فإذا سار شعاع فوقع على شيء ثم انعكس إلى الفضاء، فأنه يسير حاملا صورة الشيء الذي وقع عليه، ويستمر في سيره دائرا حول الأرض حتى يعود إلى موضعه، ولا يزال يفعل هكذا أبد الدهر، فإذا استطاع إنسان أن يخترع آلة من خواصها أن تقبض على هذا الشعاع التائه في الفضاء، أمكنها أن تتلقى صورة الشيء الذي انعكس منه ذلك الشعاع(92/20)
وإذن فالأمر هين، إذا اخترعت مرآة من معدن خاص لا يلتقط إلا الأشعة الضعيفة التي قضت في سيرها في الفضاء أو في دورانها حول الأرض آلاف السنين. ومن شأن هذه المرآة أنها لا تلتقط الأشعة القوية الطازجة، فإن تلك الأشعة تقفز عن سطحها قفزا بغير أن تثبت قليلا لتنعكس عليه، فالذي ينظر إلى تلك المرآة لا يرى فيها شيئا إلا إذا اتفق أن سقط عليها شعاع من تلك الأشعة المعتقة التي تنم عن أشياء الماضي وحوادث الماضي، كما أنها قد تلتقط أيضا أشعة النجوم البعيدة إذا كانت لا تبلغ الأرض إلا معتقة أي بعد آلاف السنين من تركها كواكبها
أخذت هذه الآلة يوما كعادتي كلما خرجت إلى نزهة وذهبت إلى جوار الأهرام لأجول حولها جولة، ولما أتعبني ذلك التجوال جلست أستريح على حجر من تلك الأحجار الضخمة التي قد انفرطت من عقدها، ولم يكن معي كتاب أقطع الوقت بالقراءة فيه، فأخرجت الآلة أنظر فيها وأقلبها في يدي، فقد عودتني كلما نظرت فيها أن أجد صورة مسلية من صور الماضي إذ تلتقط شعاعا من تلك الأشعة القديمة التي تقص علي نبأ حديث قد مضت على وقوعه القرون الطويلة. ولكنها لم تحقق أملي عندما نظرت فيها فلم أنزعج من ذلك، وقلت إن الموضع الذي كنت فيه ليس مما تكثر به الأحداث والقصص. وجعلت أتأمل لون مائها وأحدق في نكتة سوداء عند حافتها لا أقصد من وراء ذلك إلا العبث والتلهي. فلاح لي عند ذلك خيال يتحرك فيها وكان خيالا ضئيلا. فعلمت أن المرآة قد التقطت شعاعا، ولكنه شعاع قوي لم تمض عليه المدة الكافية لإضعافه وتعتيقه، فجعلت أحدق في المرآة حتى استطعت أن أتبين الصورة بشيء من الجلاء
رأيت الفضاء الذي حولي هضبة مستوية ليس عليها شيء غير كوم واحد، فعلمت أن ذلك الشعاع يحمل صورة الهضبة قبل أن تبنى فيها الأهرام الصغرى وعندما كان الهرم الأكبر لا يزال يبنى. وكان الهرم لم يبلغ بعد نصف علوه، وكان يدور حوله جسر من التراب كالحلزون يتضايق كلما ارتفع، وكان على ذلك الجسر ألوف من الناس بعضها صاعد وبعضها نازل تلوح في الصورة كما يلوح النمل في قرية من قراه تتماوج في ترددها بين الجيئة والذهاب تارة تتقارب وأخرى تنتشر، وتارة تجتمع وتارة تتفرق. ورأيت سموطا من تلك الألوف قد اجتمع كل سمط منها عند جبل قد أخذ كل فرد بقبضة منه، وكان وراء كل(92/21)
سمط جماعة في أيديهم السياط فلا يكاد أحدهم يرى رجلا قد استرخى في عمل حتى يهوي عليه بالسوط، فإذا به يقفز إلى الأمام وقد تشنجت عضلاته وأقبل على العمل عنيفا، وكان كل سمط من هذه السموط يجر بالحبل الذي اجتمع عليه حجرا ثقيلا من تلك الحجارة الضخمة التي نراها اليوم في بناء الهرم، فلا يزال السمط يجرر الحجر حتى يعلو به الجسر الدائر حول البناء ثم يصعد به جانب ذلك الجسر فيدور حوله صاعدا في دورانه حتى يبلغ أعلى البناء فيقربه إلى حافة البناء ويضعه حيث يطلب البناؤون وضعه. فإذا ما بلغ المساكين الذين يجررون الحجر أعلى البناء ووضعوا الحجر وهم يلهثون من التعب انطرحوا على الأرض إعياء يطلبون بعض الراحة ويستردون النفس المنبت، غير أنهم لا يكادون يلمسون الأرض بجنوبهم حتى تلحق بهم جماعة المراقبين فيهوون عليهم بالسياط يمزقون بها جلودهم. فيهب الأشقياء مرتاعين يتلوون من ألم الضرب يجررون أرجلهم بما استطاعوا من السرعة ويهبطون إلى أسفل البناء لكي يعيدوا الكرة فينقلوا حجرا جديدا لبناء هرم فرعون
والحق لقد آذاني ذلك المنظر وتفظعته من شدة قسوته، فهممت أن أضع المرآة حتى لا أرى بقيته، لولا أنني رأيت شيئا أخذ على انتباهي قسرا فلم أجد حيلة في الانصراف عنه أو الانفلات منه. وذلك أنني بصرت بسمط من هذه السموط البشرية قد علا جانب الجسر سائرا في خطاه الوئيدة يحرك حجرا جديدا نحو أعلى البناء، غير أنه ما توسط الجسر حتى هبط عليه حجر أفلت من سمط فوقه إذ تقطعت الأحبال التي كان أصحابه يجررونه بها فوقع الحجر متدحرجا فأصاب في طريقه ذلك السمط الصاعد فدك جماعة منه دكا وحطم أعضاء جماعة أخرى. فتفرق الناجون مرتاعين أيما ارتياع والموت الفظيع في أعينهم الحائرة المذعورة، وسمع صياحهم بعض إخوانهم فما هي إلا لحظة حتى اجتمع حول المكان ألوف من العمال مضطربين هلعين، وفيما هم في ذلك أقبل الرقباء وفي أيديهم السياط فأهووا عليهم من كل صوب لا يبالون أين يقع السوط منهم، ففر البعض إلى أسفل وتردد البعض قليلا، ثم مضوا إلى أسفل في شيء من التلكؤ، وعادوا إلى حجارتهم يزحزحونها شبرا فشبرا نحو أعلى الهرم فانجلى المنظر عن بقية ضئيلة واقفة حول مكان الكارثة وعن رجل قد ارتمى على أحد الضحايا يبكيه ويطيع فيه قلبا محبا(92/22)
فخيل إلي أنه أخ قعد لرثي أخاه الفقيد، أو صديق برح به الوجع عندما رأى صديقه يختطف من بين الجموع على هذه الحال المؤلمة، فارتمى عليه يبكيه ويؤدي إليه حق القلب الإنساني في رثاء الصديق الحميم؛ غير أن المقام لم يطل به على ذلك، فقد عاد إليه الرقباء وفي أيديهم السياط، فألهبوا ظهور من بقي حول المكان، وأهووا إليه بالسوط فمزقوا ظهره العاري وهو مكب على جثة صاحبه، فقفز الرجل من الألم، وانتفض انتفاضة كأنما هو وحش أستثير، وأقبل على الذي ضربه من الرقباء، فرفع هذا يده بالسوط ليعيده عليه الكرة فلم يمكنه من ذلك، بل أسرع في سطوة الغاضب وانتزع السوط من بين يده ثم علاه به مرتين، ثم دفعه إلى الأرض فتدأدأ عليها، وكان قريبا من حافة البناء فهو في الفضاء فلم يستقر إلا على سطح الهضبة بعد أن تهشم وتحطم. ثم وقف الرجل على حجر من أحجار البناء متحديا سائر الرقباء، فلم يجرؤ منهم أحد على الاقتراب منه، وعاد الاضطراب إلى مثل ما كان عليه، وأسرع ألوف من العمال مرة أخرى نحو المكان ينظرون إلى الحدث الجديد وينتهزون فرصة للراحة من عملهم المضني. غير أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، فإذا الجمع يضطرب في جانب من جوانبه، ثم إذا بالاضطراب يسير خطوة خطوة بين الوقوف، ثم إذا بالجمع ينفرج عن رجل شيخ يسير في تؤدة ووقار، وهو كلما سار في جمع انفرج له وركع من حوله إجلالا وخشوعا، فلقد كان ذلك هو كاهن القوم أتى بأمر الإله (رع)، وأقبل بكلمة الحكمة من (تحوت)، وكان يلبس ثوبا طويلا يظهر من بين الجموع العارية، وقد تدلت على صدره لحية طويلة بيضاء كاللبن، وكان طويل القامة في انحناء يسير بأعلى ظهره، وعلى رأسه منديل يغطي شعره إلى شحمتي أذنيه، وقد لف حوله عصابة تمسك به حول الرأس. فلما صار على قيد ذراع من العامل الثائر وقف وحرك شفتيه ببعض القول ثم رفع يمناه بطيئا نحو الرجل وتكلم كلمات أخرى، غير أن الرجل وقف وقفته الأولى ولم يزل متحديا، وحرك شفتيه ببعض كلمات والغضب باد في عينيه، وجعل ينظر إلى القوم الذين اجتمعوا حوله كأنه يستنصر بهم، فنظر الكاهن الشيخ لحظة نحوه، ثم نظر إلى الألوف الواقفة حوله وتكلم، وجعل يرفع يديه نحوهم في تؤدة ووقار وهو يتكلم. فقضى على ذلك حينا، ثم وقف ونظر إلى الجمع فإذا بحركة تبدأ في الواقفين وتتزايد، ثم ما هي إلا لحظة حتى كان الجمع مضطربا يصيح رافعا أيديه مهدد غاضبا(92/23)
وهو متجه نحو الزميل المجرم المسكين. فرأيت العامل الشقي ينظر نحو من حوله وهم حانقون يتهددونه ويتوعدونه، وعند ذلك لم يقو على المضي في مقاومته، بل داخله اليأس وتخاذل مضطربا، فنظر الكاهن إليه وجعل يتكلم بكلمات ورفع يمناه مرة أخرى نحوه، فرأيت العامل المسكين يمد يده بالسوط فيسلمه وينزل عن الحجر الذي كان واقفا عليه ويتقدم في ذلة وخشوع نحو الشيخ الكاهن
فتكلم الكاهن مرة أخرى، ونظر نحو الجمع الزاخر حوله في تؤدة ووقار، ثم رفع يده نحوه، فألقى الكل ساجدين، ثم وقفوا خاشعين، ونظروا إلى الكاهن وهو يقبض على يد أخيهم الشقي، ثم نظروا إليه وهو يسير به نحو حافة البناء ويعصب عينيه، وكانوا عند ذلك لا تتحرك منهم يد، ولا تطرف لهم عين، وهم ينظرون إلى رسول الحكمة ونجي الإله ينفذ رغبة (رع) في العدل والرحمة، وتريث الكاهن قليلا، وهو يحرك شفتيه خاشعا بشيء يشبه الصلاة، فلما أتمها دفع العامل الشقي فجأة فقذف به على المنحدر الذي هوى عليه من قبل الرقيب القاسي، وتحطم كما تحطم ذلك الرقيب من قبل
ونظر الكاهن إلى الجمع المحدق به وقال لهم كلمات خروا بعدها للأذقان سجدا؛ ثم قاموا فأشار إليهم أخرى فانصرفوا وتبددوا كما يتبدد السحاب في الريح، فما هي إلا لحظة حتى عادت السموط تنتظم، وتجرر الأحجار نحو أعلى المنحدر صاعدة إلى قمة البناء الهائل ليبنوا لفرعون قبرا جديرا بمجده
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وكنت امتلأ قلبي بما رأيت، فقمت عن الصخرة التي كنت جالسا عليها ووضعت المرآة في جيبي، وجعلت أعزي نفسي عن وقع ما رأيت بأن أقول لها: (رويدك يا نفس! فما زال الإنسان هو الإنسان)
محمد فريد أبو حديد(92/24)
الدرر الكامنة
للأستاذ محمد كرد علي
عضو مجمع اللغة العربية الملكي
طبعت عدة كتب في الطبقات والتراجم لأهل القرون الماضية في الإسلام، وإلى الآن لم تطبع تراجم أهل القرن الثامن والتاسع عشر، مع أن تراجمهم عني بها في القرن الثامن ابن حجر العسقلاني المصري المتوفى سنة 852، ووضع تراجم أهل القرن التاسع السخاوي المصري المتوفى سنة 902، وتراجم أهل القرن العاشر قام بتدوينها الغزي الدمشقي المتوفى سنة 1061 وسمى الأول كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، والثاني (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، والثالث (الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة)
ومن لطف المولى أن هذه الكتب الثلاثة بقيت في الأرض وظفر بعدة نسخ منها في خزائن الشرق والغرب، لا كأكثر تركة أسلافنا بعثرت وأحرقت وأغرقت وأصابها كل خطب عظيم
ترجم صاحب الدرر الكامنة لألف وثلثمائة وثلاثة وأربعين رجلا وامرأة، تراجم اعتمد في وضعها على من سبقوه في هذا الشأن من رجال التاريخ، أو كانوا ممن عاصرهم وسمع عنهم وأخذ منهم الحديث، أو أخذ مشايخه عنهم. ويغلب على ابن حجر الحديث والعناية برجاله ونسائه، ولذلك ذكر عشرات من المحدثات ممن كن يروين الأحاديث النبوية ويروينها. وترجم لبعض المشهورين تراجم لا بأس بها. ترجم لابن تيمية، ولسان الدين بن الخطيب، والصلاح الصفدي، وابن فضل الله العمري، وابن كثير، والبرزالي، والذهبي، وشيخ الربوة، وأبي الفداء، وابن المطهر الشيعي، وغازان، وابن دقيق العيد، والبدر البلقيني، وابن الوكيل، وابن سيد الناس، وابن نباتة، وابن الحاج، وابن المكرم، والشمس القونوي، وابن الوردي، وابن جماعة، والتاج السبكي، والتقي السبكي، والأردبيلي، وابن الأكفاني، والخطيب القزويني، وابن الزملكاني، وأبي حيان الأندلسي، والقطب الشيرازي، والبازري، والمزي، وغيرهم
وإلى جانب هؤلاء تجد تراجم أناس من الخاملين كبعض المجاذيب والموظفين والطلبة،(92/25)
كأن لسان حال ابن حجر يقول: يجب ألا يحتقر أحد، وأن يدون كل شيء. ولكن هذه الطبقة شغلت فراغا من الكتاب على غير جدوى ومثلهم كثير في كل عصر ومصر، لو تطلعت نفوسنا إلى التعرض لذكرهم لملأنا منها قماطر ودفاتر، والمقصود تدوين سير العظماء ممن كان لهم أثر محمود في علم وعمل. وفي نظرنا أن من أهم من دون المؤلف حياتهم بعد علماء الدين ورجال الأدب أناسا من أرباب الغناء والموسيقى والهندسة والطب، وبهم في الجملة عرفنا روح ذاك القرن، قرن المماليك في مصر والشأم، بل مبدأ قرون الانحطاط ومنتهى قرون الارتقاء في الإسلام
يقع القارئ في هذا السفر على الروح الذي سرى في ذاك العصر إلى النفوس فلوثها بلوثات التعصب الذميم. وقد ذكرها المؤلف على الأكثر غير متعرض لجرح أو تعديل فيها. بيد أن القارئ لعهدنا، قد وضع المؤلف أمامه هذه الوثيقة أو الوثائق التاريخية الكافية، تهيئ له أسباب الحكم على ذاك المجتمع الذي فاض بالجور السياسي والجور الفكري. فالجور السياسي غزوات الططر (التتر) من الشرق على الديار الشامية، أي الجزء المتمم للملكة المصرية إذ ذاك، وغزوة بعض شعوب الإفرنج بعض السواحل المصرية حتى افترضها أحد الجورة من المماليك فرصة ليصادر النصارى في مصر ويستصفي ما في بعض كنائسهم من الجواهر والمعادن الكريمة أو يخربها حبا في التخريب وإبلاغا في النكاية على زعمه. هذا هو الجور السياسي. أما الجور الفكري فتحامل الموسومين بالدين على من بيت منهم بعض نزعات قيل إنها مخالفة للشريعة فكان جزاؤهم القتل. وما نظن أكثر تلك التهم مما يصح أن يتهم به صاحبه من أنه جنى بما قال على الدين إذا تدبرنا ما لاقاه شيخ الإسلام ابن تيمية من متعصبة العلماء في عصره في مصر والشام، وهو النابغة الذي عقمت القرون عن أن تلد أمثاله بعلمه وعقله وإخلاصه على ما دون ذلك ابن حجر في هذا الكتاب. فكانت ترجمته له أحسن ترجمة فيه لأول عالم نابغ في أول القرن
ثم إن من نظر في كتب المتأخرين وكتب المتقدمين يجد فروقا كثيرة بين الأولى والثانية: فروقا في الأسلوب وفي المكتوب؛ وهل التاريخ إلا مرآة العصر الذي يكتب فيه، وروح صاحبه الذي يمليه؟ وما كان لأبن حجر أن يكتب في التراجم ويجود إجادة ابن خلكان في وفيات الأعيان مثلا، ولا للسيوطي في مؤلفاته التاريخية أن يجود تجويد الكندي صاحب(92/26)
كتاب ولاة مصر وقضاتها؛ وهكذا قل في الزمن الذي بدأت فيه الشروح والحواشي في الكتب الدينية، وصار من يسلخ من كلام غيره أو يمسخه وينسخه يعد مؤلفا فيزيد عدد الأسفار المحفوظة في الخزائن على غير فائدة جليلة
تمنيت في سنة 1328هـ (1910م) في مجلة المقتبس، وقد درست هذا الكتاب في نسخة خطتها أنامل إبراهيم البقاعي أحد أعلام عصره - الذي قال في نسخته: وكان فراغي من هذه في 17 شوال سنة 859 بمنزلي بحارة بهاء الدين في القاهرة - تمنيت لو يقدم رجل منا فيطبع هذا الكتاب، وقلت يومئذ لو لم يكن في هذا الكتاب سوى ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، لكان كافيا في طبعه؛ ولكن قومي شغلتهم الشواغل، وأصيبوا بالإهمال، فتهيأ لطبعه صديقي العلامة كرينكو أحد علماء المشرقيات من الألمان، فطبعه في أربعة مجلدات في أكثر من ألفي صفحة معارضا له على نسخ مهمة، وذلك على يد مجلس يد دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن من ممالك الهند. وقد اعتادت هذه الدار أن تطبع من كتب العرب كل مفيد، فأحيت كتبا في الحديث والفقه والأصول واللغة والأدب والتاريخ والفنون، ونشرت حتى الآن نحو ثمانين كتابا منها ما دخل في بضعة مجلدات ضخمة، ومما طبعت لأبن حجر مؤلفنا الذي نحن بصدد الكلام على كتابه (لسان الميزان) و (تهذيب التهذيب) و (تعجيل المنفعة في رجال الأئمة الأربعة) الخ
هذا ولا يسعنا إلا أن ننوه بالناشر الغيور على العلم، وقد رأيناه جود معارضة النسخ وإثبات الصحيح من النصوص على عادة علماء المشرقيات في تدقيقهم إذا أرادوا طبع كتب العرب؛ وكم لهم من أياد بيضاء علينا لا ينكرها إلا منكر الجميل وغامط العارفة. وحبذا لو شفع الناشر هذا الكتاب الجليل بالفهارس المنوعة التي تسهل على العلماء الأخذ منه، فإن كتابا بلا فهرس تقل فائدته إذا كان من كتب المراجع؛ وعلمت أن الناشر وضع الفهارس والطابع تأخر في طبعها، وما أدري ما اعتذاره
وقد نشر السيد سالم الكرينكوي - كما دعا نفسه - كتاب التيجان لوهب بن منبه، وأخبار اليمن لعبيد بن شزية، وحماسة ابن الشجري، أتكلم عليهما في فرصة أخرى وأكتفي هنا بشكره، وأن أوجه نظره إلى كتاب آخر لأبن حجر لا يقل عن الدرر الكامنة في الفائدة، وهو (إنباء الغمر في أبناء العمر) وفي الخزانة الظاهرية بدمشق مسودة هذا المخطوط بخط(92/27)
مؤلفه، وهو تعليق كما قال فيه جميع حوادث الزمان منذ مولده سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وهلم جرا مفصلا في كل سنة أحوال الدول ووفيات الأعيان، مستوعبا لرواة الحديث خصوصا من لقيه أو أجاز له. وقد امتد هذا الكتاب إلى سنة خمسين وثمنمائة، وجاء من ذيل عليه، كما جاء من اختصر له الدرر مثل ابن المبرد وجلال الدين السيوطي الذي عرف بالولوع باختصار الكتب
القاهرة
محمد كرد علي(92/28)
الفن والطبيعة
بقلم نظمي خليل
. . ونعني بالطبيعة العالم المرئي الذي يقع تحت بصرنا، ولسنا نبغي من وراء تعريفنا للطبيعة تحديدها أو تبسيطها، ولكنا نريد أن نعرف هل هناك تباين بين العالم المرئي وبين الفنان، وهل هناك اختلاف جوهري بين جمال العالم المرئي، وذلك الجمال الذي نراه ونحس به عندما ننظر إلى لوحة مصور أو تمثال مثال؟
إذا أجبنا عن هذا السؤال بالإيجاب، وهو الحق والصواب كما اعتقد - رأينا أنفسنا مضطرين إلى أن نشرح وظيفة الفنان الذي يقف بيننا وبين الطبيعة. . فلو وقف الفن عند سرد مناظر الطبيعة، أو اقتصر على التقاط مناظرها وصرها كما هي، لرأينا آلة التصوير تسرع إلى انتزاع مكانة التصوير. ولكن الحقيقة أن الفن ليس تمثيلا للطبيعة، ولكنه تفسير لها. ولسنا نغالي إذا قلنا إن الفن يبتدئ حيث يترك الفنان صحبته القوية للطبيعة، بعد أن يشيع في جوها أنغاما من عمله الخاص تبعا لشعوره الشخصي وذوقه الموسيقي. فالطبيعة معين لن ينضب للفن، - وهي اليوم - كما كانت، وكما ستبقى أبدا - أكبر موح له بروائع الحسن والجمال. ولكن القوانين التي تتحكم في عمل الفن منفصلة تماما عن قوانين الطبيعة. فإذا كانت النغمة التوافقية في موسيقى الرعاة عملا فنيا جليلا، فذاك لأن بيتهوفن لم يحاك نغمات الطبيعة تبعا لشروط الموسيقى وقوانينها، وأفصح عن تلك العواطف الخاصة التي أثارتها فيه صحبته القوية للطبيعة في أنغام سامية، كانت من وحيه وإلهامه، ثم وجهت في هذا الطريق الموسيقى بواسطة المهارة الفنية التي هي أصيلة في كل عمل فني. . .
يقول بعض الناس عن مهمة الفن في ذا العالم هي أن يكمل ما في الطبيعة من نقص. وقد يفهم البعض منهم أن الفن يأتي بأشياء ليست في الطبيعة، أي أنه يزيد في مواد الطبيعة الأساسية. ولكن هذا الفهم خطأ، وهذا الظن إثم وجور على الطبيعة. فليس لدى الفن ما يجود به على الطبيعة من روائع المناظر وعجائب الآثار. . وليس لدى الفنان شيء جديد. ولكن لديه شيئا واحدا، وهو الذي يخدع هؤلاء البسطاء، فيتوهمونه زيادة أو جديدا، هذا الشيء الذي يبدو جديدا هو الحصر أو التحديد لمناظر الطبيعة ومظاهرها. فقد يرى إنسان(92/29)
نهرا يجري فلا يحس إحساسا كاملا بروعة مياهه وقوة تياره، وما على شاطئيه من رمال ونباتات أو غابات وصخور. قد لا يفطن الناظر إلى هذا النهر للجمال المختبئ في هذه المناظر الطبيعية الفسيحة الضخمة الهائلة. فينصرف عن النظر إليها إلى صورة رسام أو مصور ماهر قد صور هذا النهر وهو يتدفق ويتغلغل في الأحراج والجبال
وليس معنى هذا أن النهر الجاري أقل جمالا وروعة من صورة الرسام، لا، بل إن الناظر نفسه لم يفطن إلى هذا الجمال الأصيل في تلك المناظر الطبيعية العظيمة، لأنه جمال متشعب فسيح. فلما جاء الفنان وحصره في لوحته الصغيرة، أمكنه أن يشعر به، وأن يقف على أسراره الدفينة؛ ولو أمكن الرائي أن يدرك الجمال الطبيعي في مظهره الطبيعي لوجده جمالا خالصا عبقريا. ولكن عين الإنسان لا تستطيع أن تأخذ النهر الجاري من منبعه إلى مصبه، أو أن تلقي نظرة كاملة على الجبل الشامخ من قمته إلى سفحه. فإن حاولت ذلك لحقها الكلل والملال، وفضلت النظر في الصورة على التطلع إلى المرئي ذاته مهما يكن جماله وروعته
هذا هو الشائع بين الناس. ومن أجل هذا قيل إن الفن يكمل ما عجزت عنه الطبيعة، والحقيقة أن الفنان لا يزيد شيئا على ما في الطبيعة من ثروة وغنى، وإن كان يحصر هذه الثروة ويبرزها في صورة جميلة ومنظر بهي. . .
هذا شيء، والشيء الآخر هو أن الفن ليس محاكاة للطبيعة أو للحياة، ولكنه خلاصة ما في الطبيعة والحياة
فالفن قد يحاكي الطبيعة، وقد يحاكي الحياة، ولكنه لن ينسخ من الطبيعة أو الحياة صورا متشابهة متطابقة، فهو محاكاة وليس نسخا. والفرق بين المحاكاة والنسخ هو أن الفنان الذي يحاكي الطبيعة يأخذ منها ما يجده ملائما لفنه، أي ينتقي أروع ما فيها من الآثار، ثم يسلط عليها قوانينه الفنية فيلم أجزاءها ويعطي لها الوضع المناسب الجميل، فتبرز للرائي جديدة ضافية في حلل الجدة والإبداع
أما النسخ، فهو صورة طبق الأصل للطبيعة. ولو كان الفن نسخا للحياة لما أحسسنا بعظمة الفن الأصلية وسحر قوته الدفينة، ولجاء ثقيلا مضطربا مشوها كالحياة ذاتها. ولما وجدنا فيه هذا الشعور الخفي الذي يسكن آلامنا، ويريحنا من آلام الحياة وعنت الأيام. بل لما(92/30)
اعتبرنا الفن مأوى لنا نلجأ إليه كلما أثقلتنا متاعب الحياة وضقنا بمطالبها ذرعا، ولما كانت لنا حاجة ماسة إليه. فلو كان الفنان يقدم لنا جبلا كالجبل الذي نتسلقه، أو نهرا كالنهر الذي نعبره، أو مرعى مخضوضرا قد انتثرت فوقه الأغنام والمواشي، كتلك المراعي التي نراها كل يوم في قرانا، لما اهتززنا لصوره، ولما أدركنا لها سر أو معنى
ولو كان الفن يصور لنا حادثة يومية، أو عملا من أعمالنا العادية التي نلامسها كل يوم دون أن يخلع عليها شيئا من شعوره وشخصيته، لما شعرنا بحاجة الحياة إليه، ولما عملنا على نموه وازدهاره واكتفينا بالتاريخ
ولكن الفن لا يقدم لنا كل ما في الطبيعة ولا كل ما في الحياة، ولكنه يختار أروع ما في الطبيعة، وأجمل ما في الحياة، ثم يقدم لنا هذه في شكل رائع جذاب، وفي صورة فنية جميلة
هذا هو السبب الذي من أجله نلجأ إلى الفن ونهرع إليه كلما أثقلتنا الحياة أو ثقلت علينا الطبيعة. فنحن لا نعمل في هذه الحالة أكثر من أن نتخلص من بعض هذه المنغصات أو الأشياء الثقيلة الجافة التي يتجاهلها الفن، ولا يقف عندها أو يأبه لها
والفن لا يختار في الغالب موضوعه من الحياة الظاهرة، أو من تلك المرئيات التي تلوح للعين في كل يوم، ثم تختفي وكأنها لم تكن، وإنما يختار موضوعه من قلب الطبيعة، ويتخذ مادته من لب الحياة
فالفنان العظيم حقا هو الذي ينفذ إلى الحياة الداخلية، وهو الذي يتغلغل في أعماق الطبيعة، ويقف على كامن أسرارها ويبرزها للعين والحس في صورة فاتنة أخاذة
فهو لا يصور كل ما يحس به أو يقع عليه بصره، وإنما يفكر كثيرا فيما يبدعه للناس. فلا يختار إلا ما كان عميقا في النفس، أصيلا في الطبيعة. وهو في عمله هذا يخالف المدنية كل المخالفة، لأن المدنية تطور الحياة الظاهرية، الحياة الحسية؛ أما الفن فهو تطور لحياتنا الداخلية. فهو يتصل بالقلب الإنساني والفكر الإنساني، أما المدنية فتتصل بأعمال الإنسان وأحداثه في هذه الحياة المائجة الصاخبة. لذلك كان الفن أصيلا في أصوله ثابتا في جوهره، وكانت المدنية سريعة التغير، كثيرة التباين والاختلاف. .
وليس معنى هذا أن الفن جامد محافظ، عدو للتطور، ولكنه في الحقيقة في تغير دائم، وإن(92/31)
خفي عنا مظهر هذا التغير لعمقه وبعده عن إدراكنا الحسي المجرد. . .
نظمي خليل(92/32)
هل تدين الإغريق
للأستاذ دريني خشبة
لا نحسب أن أمة من الأمم شذت عن قانون التدين فلم تتخذ آلهة تعبدها وتعنو لها، وتلتمس منها البركات، أو على الأقل، إلها تفزع إليه كلما مسها ضر، أو حز بها أمر. والإغريق، ككل الأمم، كانت لهم آلهتهم ومعابدهم وقديسوهم. وقد لا نستطيع أن نحصر الأقوال المتضاربة في حقيقة تدينهم، وهل كانوا، كالأمم السامية مثلا، يستغرقهم هذا التدين، ويغمر أفكارهم وأعمالهم؟
فالمشهور عن الأجناس الآرية أنهم قوم آداب رفيعة وفلسفة، وبذلك امتازوا من الساميين المتدينين، ومن المغول وآربي الهنود المتقشفين. على أن الإغريق، من وجهة الدين، ينقسمون إلى فئتين، إن لم يكن أكثر؛ فهذه الطبقة المستنيرة المثقفة، التي ورثتنا تلك الثروة الطيبة من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والفنون، قد كان لها وجهة نظرها الخاصة بالنسبة إلى الدين.
فلم يكن هوميروس مثلا يعتقد في آلهة اليونان مثل ما يعتقد هسيود؛ ولم يكن بندار كذلك، يعتقد ما يعتقده أرفيوس أو تؤمن به الشاعرة سافو. وقد أثبت البحث أن هوميروس كان ينظر إلى هذه الجمهرة من أرباب اليونان، ورباتهم، كما ننظر نحن إلى أشخاص درامية ازدحمت بها المثيولوجيا اليونانية، وقدسها الشعب، فرأى أن يستمد منها هذا الخيال الحلو الساذج، ليكون منه مادة ملاحمه، وليضفي من هذا الخلود السماوي، على فناء تلك البشريات الهالكة؛ ولم يثبت أنه آمن بشيء منها. وذلك عكس ما ثبت من إيمان هسيود، واحترامه الشديد لجميع الأرباب اليونانية. نقرأ ذلك في مواضع كثيرة من قصيدته الخالدة (الأرجا ومن درته العجيبة (الثيوجونية بل إن من الإغريق من أنكر هذا التهريج الميثولوجي، وكفر بكل الثيوجونية اليونانية؛ وهذا يوربيبيديز فخر أدباء اليونان وشيخ شعرائها، قد كان من أشد الملحدين سخرية بمعتقدات الناس الدينية قاطبة
والشاعر الدرامي أسخيلوس قد حاول في إحدى روائعه المدهشة (برومثيوس المصفد) أن ينقد هذا الكمال المطلق الذي يضفيه قومه على كبير الآلهة زيوس؛ بل هو يتهمه بالقسوة والوحشية وعدم الميل إلى ما ينفع العالم؛ ويضرب لذلك أمثالا طريفة مما جاء في(92/33)
الأساطير القديمة، كأسطورة باندورا ويو. ثم هذا صولون العظيم يلحد بزيوس ويجدف فيه تجديفا يشبه السباب، فيقول في الجزء الأول (ص32): (إن الله حقود حسود، وهو مشغوف أيما شغف بإرباك الناس وترويعهم!)
على أننا محاولون هنا أن نثبت المعتقدات الشائعة بين العامة، وهي الفئة الثانية، في هيلاس (اليونان) قبل القرن السادس (ق. م). تلك المعتقدات التي مهما قيل فيها، لم تخرج عن كونها ألوانا من الديانات البدائية الساذجة، التي تشبه كثيرا مما دانت به الأمم الجاهلية
ولقد دلت الأستقراءات التاريخية على أن قدماء اليونان كانوا قوما خابتين، يخشون الآلهة، ويرقبونها في كل أعمالهم، وكانت الظواهر الطبيعية توحي إليهم بأحلام لاهوتية لا يستطيعون الإفلات من ربقتها، فكانوا يقيمون الهياكل الضخمة باسم القوى التي يزخر بها الكون من رياح وشمس وقمر ونجوم وبحار. . . وكانوا يقيمون التماثيل الرائعة لآلهتهم في تلك الهياكل، ويوكلون بها كهنة يؤدون الشعائر الخاصة بكل منها، ويتقبلون القرابين والضحايا لتي يتقدم بها الشعب المتدين البريء في كثير من المناسبات
ومن الأغاني والتراتيل الدينية التي تركها لنا الشاعر الغنائي أرفيوس، نعلم أن عبادة ديونيزوس كانت ذات شان كبير بين الغالبة العظمى من قبائل الإغريق. وديونيزوس هو إله النماء والخضرة، وموسمه حين تنظر الحقول، وتكتسي سندس القمح، وتزدهر البساتين فتتفتح عن أفواف الورد، كان موسم الرخاء والمرح، وعيد الخير عند سائر اليونانيين؛ لذلك تواضع المؤرخون على تسمية هذا اللون من ألوان العبادات (بعبادة القمح)، ولما كان الثابت أن أحدا من الهيلانيين لم يعبد القمح بالذات فنرى أن هذه التسمية مجازية، وأن من الخير للتاريخ أن نعرفها باسمها الحقيقي، الذي هو (عبادة ديونيزوس). وقد نشأت هذه العبادة، أول ما نشأت، في (إليزيس) إحدى قرى (أتيكا)، حيث كانوا يعتقدون أن أم القمح (أي حبة القمح!) وابنها (أي ساق القمح!) يتفضلان على الناس كل شتاء، فيخرجان من بطن الأرض ليعم الرخاء وينتشر الخير. . .
وقد انتقلت عبادة باخوس، إله الخمر، من تراقيا إلى الجنوب، ثم ما برحت تنتشر وتستفيض، حتى تمازجت على مر الأيام بعبادة ديونيزوس. وصارت هذه (التثنية) ذات اعتبار كبير ولا سيما بين العامة. وصار هذا الإله المركب: (ديونيزوس - باخوس!) هو(92/34)
رب القمح. . . والخمر. وإله الحقل. . . والكرم!
ومن دراسة الأدب الإغريقي في الإسكندرية ورومة، نعلم أن ديونيزوس - باخوس كان ذا شهرة مستفيضة في المهاجر اليونانية
أرفيوس ومذهبه: (الأرفزم)
ويسوقنا البحث في ديانة الإغريق إلى الكلام عن أرفيوس الشاعر الديني، الذي تعتبر تراتيله في الشعر اليوناني كمزامير داود في العهد القديم، ولأرفيوس ضريب قديم يدعى موسيوس قد يكون أشعر منه، وأعلى في دولة الآداب كعبا، ولكن - للأسف - لم يصلنا من آثاره ما نستطيع به الكشف عن شخصيته، ولذا نشير إليه، دون أن نعرض له بشيء. وحسبنا أن نذكر أن مؤرخي الأدب اليوناني يختلفون أشد الاختلاف حول أشعار أرفيوس، وأكثرهم يرجح أن طائفة كبيرة من هذه الأشعار هي لموسيوس، ونرجو أن يوفق الكاشفون من رجال الآثار إلى شيء يلقي النور على هذه الناحية المعتمة من تاريخ الأدب اليوناني
ولقد كادت ملاحم هوميروس وهسيود تكسف هذه التراتيل الدينية وتغمرها، بل كادت تفقدها هذه القدسية التي يكنها العابد المتزمت لكل ماله علاقة بأربابه. وزاد الطين بلة، تلك الفلسفة الخبيثة التي حملها الايونيون معهم حين غزوا بلاد الإغريق. فهي قد جرأت الكثيرين على التشكيك في صحة معتقداتهم، وغلا البعض فركن إلى العقل والعلم في النظر إلى الحياة والكون، وما يزدحمان به من ظاهرات
بيد أنه حدث خلال القرن السادس قبل الميلاد، من الأحداث اليونانية داخل البلاد وخارجها، ما شجع الشعور الديني، وقوى الأواصر بين الشعب وآلهته، بعد إذ كادت تنحل وتتفكك على أيدي هؤلاء الملاحدة من شيعة الفلسفة الأيونييه. ذلك أن الحروب المستمرة التي مزقت أوصال البلاد، وسقوط مدينة الترف وبلهنية العيش (سيباريس) أغنى المدن الإغريقية على خليج تارنتوم الإيطالي، وإفلات مدينة نينوى من أيدي اليونانيين. . . كل ذلك حفز الشعور الديني، وابتعث المعتقدات القديمة في صدور الدهماء العامة، فذكروا آلهتهم، وخيل لهم أن ما حل بهم من ضنك، إنما سببه إعراضهم عنها، وانشغالهم بما هو أدنى!؟
ومن ثمة، عمرت الهياكل، وارتفعت فيها الأصوات بتراتيل أرفيوس، ولهج الشعب(92/35)
المهيض بهذه المزامير يلتمس فيها عزاء وتسلية. وسرعان ما أنتشر مذهب جديد أطلق عليه مذهب (الأرفزم) - نسبة إلى أرفيوس - وهو لون طريف من عبادة ديونيزوس يؤمن أتباعه بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، وأس إيمانهم هو الاعتقاد بتجسد التثنية المركبة من الإلهين (ديونيزوس - زجريوس). وزجريوس هذا هو ابن زيوس من البتول (!) كوريه؛ وقد حدث أن التيتان قد حنقوا على زجريوس فقتلوه، فغيض أبوه (زيوس) وسلط عليهم الصواعق حتى أبادهم؛ وعاد فاستولده من إحدى بنات حواء (سيميليه) فعاش كما يعيش الناس؛ وإن يكن قد بلغ مرتبة الإلهة وهو بينهم، ثم رفعه أبوه إلى السماء، حيث صار فيها السيد الصمد، والإله الأوحد
ولقد ظل (ديونيزوس - زجريوس) صاحب الشأن الأعظم في الديانة اليونانية، وتنوسي رب الخمر باخوس، أو على الأقل، تضاءلت أهميته، لما كان يشاع عن عباده في تراقيا من الفضائح المخزية، والموبقات التي كانت تنخر كالسوس في أخلاق الشعب، وتصدع آدابه. ذلك أن كل فرد من عباد باخوس كان لزاما عليه كطقس من الطقوس هذه العبادة الخمرية، أن يستبيح عرض واحدة من عابداته، آلائي كن يطلق عليهن لقب (ميناد) فإذا كان الليل، وبدأت الحفلات الدينية، انطلقت الشهوات المكبوتة، وتدفق دم الدعارة حارا في عروق هؤلاء وهؤلاء، وراحوا يمارسون أحط ألوان البغاء باسم الشعائر الدينية؛ وكثيرا ما كان يعتدى على أعراض الحرائر، فلا يستطيع الزوج أو الأب أو الأخ دفع المنكر عن عرضه، لأن ذلك صميم شريعة باخوس!!
لهذا، اعتبرت شريعة ديونيزوس - زجريوس، منبع الطهر الروحي، والتهذيب الصوفي الجميل، وحافظت على مكانتها، كديانة عامة لليونان، منذ قبيل القرن السادس (ق. م) إلى ما بعد القرن الرابع. وكان لها قديسوها وعلماؤها، بل وأنبياؤها أيضا، إن صح أن نطلق هذه التسمية في تاريخ الديانة اليونانية؛ ولقد كانت الغالبية - حتى من العلماء والأدباء - تتناول أبحاثها في الأرفزم بكل تأدب واحتشام. وشذ أفلاطون وحده، عندما ثار ضد ما كانت تبيحه هذه الشريعة - أو قل هذا المذهب - من الغفران وقبول التوب، لمجرد طقوس تافهة يقوم بها أحد العصاة الآثمين
وكما يطلق العامة في العالم الإسلامي لقب (واصل) أو (صاحب سر) على من زكت نفسه،(92/36)
وطابت سريرته؛ وصفا ما بينه وبين الله، من المسلمين؛ وكما يفعل مثل ذلك أخواتنا النصارى؛ وكما يذهب إلى هذا النحو ربيون من اليهود وأحبار، فكذلك كانت سنة اليونانيين؛ فكل من تعمق في عبادة ديونيزوس، واستبحر في تحصيل شريعته، وكان مع ذلك تام التقى، شامل الورع، ارتفع إلى طبقة باكيس كما يرتفع المخلصون من نساك الهند إلى مرتبة (مهاتما). ويبدو أن هذه تقاليد قديمة تغلغلت في المذاهب الحديثة التي نشأت في هيلاس بعد القرن السادس (ق. م). آية ذلك أن كل من كان يستبحر في عبادة باخوس يصبح باخس وكل من كان يخبت للإله (كيبيب) إله فرجيا، يصير كيبيبس وقد انتقلت هذه السنة إلى أتباع مذهب الأفرزم، فأصبح كل من حوارييه يحمل لقب أرفيوس. . .
وبمثل ما تدر إخلاف الرزق، السهل الميسر، على (واصل) المسلمين، وأحبار اليهود؛ فكذلك كانت القرابين والضحايا والزكوات تقدم بكثرة هائلة، ومن جميع طبقات الشعب، إلى الباكيس والباخس والكيبيبس والأرفيوس من رجال الكهنوت اليوناني. وكانت هذه الأعطيات والمنح، تقدم في مناسبات غربية، لا تختلف عما هو شائع بيننا اليوم. فهذا يريد الاستفسار عن حلم رآه، وذلك يطلب وصف دواء لعلة استعصت على نطس الأطباء، وثالث يطلب نبوءة عما تنتهي إليه شدة حلت به، إلى آخر هذه العلل والأسباب
وإلمامة عجل بأشعار ما قبل التاريخ، في الأدب اليوناني، تشعر بمدى ما كنت متأثرة به من شتى المذاهب الدينية، وصنوف العبادات الساذجة التي تفعم هذا الأدب القديم. وأثارة الأرفزم شديدة الوضوح في هذه الأشعار؛ وأشعار أرفيوس خاصة، تشبه عندنا أشعار عمر بن الفارض، وهي ترتيلات كان يرسلها الناظم إلى أربابه سلاما في سلام، اسمع إليه يتناجى:
(أدعوك يا هيكاتيه يا ربة الطرق
(يا حامية مفترق الشعاب
(يا باعثة الأمن من ديجور الظلام
(أيتها المسيطرة على السموات والأرضين والبحار
(يا مؤنسة الموتى في قبورهم، مياسة في الوشائح المعصفرة
(وأنت يا برسييه، أضرع إليك(92/37)
(يا من تؤثرين الهدوء والسكون
(أيتها المليكة التي تقبض على مفاتيح الدنيا
(ألا هلمي، وكوني معنا، إذ نسبح باسمك
(كيما تطهر نفوسنا، وتنتقي قلوبنا
(باركينا يا برسييه، وأفيضي علينا مما فاض به قلبك الكريم من محبة. . . .
ويشك بعض المؤرخين في انتشار مذهب الأرفزم قبل القرن السادس (ق. م). غير أن الأناشيد القديمة تثبت أنه كان لهذا المذهب أشياع كثيرون ومريدون، بل لقد كانت الآداب تتأثر به غير صقع من أصقاع اليونان. وهذا نشيد (الأليميونيس دليل على ذلك؛ فلقد ظهر فيه اهتمام الشاعر الذي أنشده بطقوس التطهير، وشدة حرصه على إيراد ما كان أهل التقى يؤدونه من مراسم دينية، تستلزمه عملية (تنقية القلب) من الأدران الدنيا، بالضراعة إلى زجريوس، رب الأرباب، المشرف من عليائه على الكون! والتطهير ومراسمه لب لباب الأرفزام
وقد أثبتت دراسات الأساتذة الألمان كارل مللر ونوك وكنكل وغيرهم أن شاعر كورنثه فيما قبل التاريخ (يوميلوس) كان يدين بالأفرفزم؛ وأنه تبتل إلى ديونيزوس في نشيده الجميل (يورويبا) تبتلا؛ وقد أثبتت في هذا النشيد ما كان في الأزل من اعتداء التيتان على زجريوس وقتلهم إياه، وتعرض أيضا للرؤى والأحلام، وخاض في ذكر هيدز (الدار الآخرة)
أما أثر الأرفزم في الألف سنة التي تبدأ بالقرن السادس ق. م فواضح أشد الوضوح، وهو على أتمه في بندار وهيرودوتس وصولون، ولا يخلو شيخ الملحدين يوربيبيديز من أثارة منه، وقد تأثر به كل من سوفوكلس، وإسخيلوس، وتأثرت به الإسكندرية كذلك
أما هذه الكثرة المدهشة من إلهة اليونان، فقد سلسلها لنا الشاعر هسيود في منظومته الرائعة (الثيوجونيه)، وهي بكلمة خاصة أولى
دريني خشبة(92/38)
8 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
اسبلنزاني
ختام حديثه
هدم اسبلنزاني نظرية نيدم التي تقول بأن الأحياء قد تخرج من لا شيء، قد تخرج من غير آباء وأمهات واحتال على السلطات فمنحته إجازة ونفقة ليسوح في الشرق، فكرمه الشرق وأكرمه، وعاد فتلقاه إمبراطوره، إمبراطور النمسا، فبلغ بذلك ذروة مجده، فأسكرته خمرة الساعة وقال: (ما أحلى تحقق الأحلام)
- 6 -
ولكن بينما كان اسبلنزاني في سياحته المجيدة، يتنقل بين البلدان تنقل الفاتح، وتستقبله العواصم استقبالها القائد المنتصر، كانت تتجمع في جامعة بافيا حول اسمه سحابة سوداء. نعم في جامعة بافيا نفسها، تلك الجامعة التي صنع لها ما صنع ليعيد إليها الحياة. فأن أساتذتها الإجلاء ظلوا زمانا ينظرون إلى طلبتهم تعزف عن دروسهم إلى دروسه، وتتفرق عنهم لتتجمع حوله، فنال الحقد منهم، فسنوا سكاكينهم، وشحذوا خناجرهم، واصطبروا يرقبون الفرصة حتى أمكنت.
جاء اسبلنزاني إلى متحف بافيا فوجده خاليا، فقام يجمع له التحف وينتقي له من أحضان الطبيعة كل نادر معجب، فاحتمل المتاعب، ولقي المصاعب، وواجه الأخطار، حتى جعل المتحف حديث أوربا كلها. ولكنه كذلك جمع لنفسه بعض الشيء، وحفظ ما جمع في بيته العتيق باسكنديانو. فذات يوم ذهب القسيس فولتا إلى اسكانديانون وكان من أعدائه وحساده، فاحتال حتى دخل منزله وتسلل منه إلى متحفه الخاص، وأخذ يشمشم في أركانه، وإذا بابتسامة للشر سوداء تعلو شفتيه، فانه وجد بهذا الركن وعاء، وبهذا طائرا، وبذلك(92/39)
سمكة، وقد حملت جميعها البطاقة الحمراء لجامعة بافيا. وخرج فولتا يتخبأ في طيات عباءته السوداء، وفي طريقه إلى داره أخذ يدبر المكيدة لاسبلنزاني، واجتمع بالأستاذين إسكاربا وأسكوبولي وما كاد اسبلنزاني يعود من سياحته فيخطوا عتبة داره، حتى كان هؤلاء الثلاثة الأشراف قد فتحوا كوة من جهنم فاندلعت ألسنتها في أروبا تعلن فضيحة صاحبنا للأمم، فما تركوا رجلا نابها من رجالاتها، ولا جماعة من جماعاتها إلا بعثوا إليها بكتاب يتهمونه فيه بسرقة متحف بافيا، ويقولون إنه خبأ ما سرقه في متحفه الخاص باسكنيانو
وفي لحظة أحس صاحبنا دنياه العظيمة تتقوض حوله، حتى ليسمع تصدع حيطانها وانهيار بنيانها. وفي دقيقة وجد جنته البهيجة تتصوح، حتى ليرى زهرها الجميل يذبل، وريح ريحانها تحول؛ وأخذ يحلم يقظان، فخال أنه يسمع اليوم ضحكات رجال مجدوه بالأمس، وشماتة خصومه قهرهم شر قهرة بحقائقه وتجاربه، حتى خال أن (القوة النباتية) التي قضى عليها قضاء مبرم تنبعث من قبرها وتخرج من كفنها
ولكن لم تمض عليه أيام حتى تماسك، وأحس أن الأرض لا تزال جامدة تحت قدميه. بالطبع كانت الفضيحة لا تزال قائمة، وألسنة الأعداء لا تزال صاخبة، ورحى الحرب لا تزال دائرة، ولكنه تجمع بعد تشتت، وتبوأر بعد تشعع، فألضق ظهره إلى الحائط، وامتشق سيفه، وصاح في القوم بالنزال. ذهب عنه الصبر الذي صحبه في صيد المكروب، وغابت عنه اللطافة والظرافة اللتان زانتا كتبه إلى فلتير، وأصبح كالنمر الغاضب، وأخذ يدفع النار بالنار! وجاءه دهاء الساسة فطلب تعيين لجنة للتحقيق فأجيب طلبه
وعاد إلى بافيا، ولعله وهو في الطريق إليها كان يتهيب دخولها، ويدبر أمره لينسل فيها انسلالا، حتى لا يرى عيون أحبابه الأقدمين تزور عنه، وحتى لا يسمع شفاههم تهمس فيه بالشر، ولكنه ما كاد يصل إلى أبواب بافيا حتى وقعت أعجوبة نعم أعجوبة، فقد تلقاه فعلا على أبوابها جم غفير من تلاميذه مهللين مكبرين فرحين مرحبين بقدومه، وقالوا أنهم له لناصرون، والتفوا حوله في صراخ وزئاط حتى بلغوا به كرسيه القديم الذي كان يحاضر عليه بالجامعة. وقام هذا الرجل القوي، الذي اعتمد دائما على نفسه، واعتز دائما وأعجب بنفسه، قام في هذا الجمع الكبير يخطب شاكرا ويعترف لهم بالجميل، فإذا بصوته يخذله،(92/40)
وإذا به يرفع منديله إلى أنفه، وإذا به يجتزئ بأن يقول لهم في كلمات قليلة وصوت أبح إنه يقدر هذا الإخلاص تقديرا عظيما
وانعقدت لجنة التحقيق، واستدعته هو وخصماؤه إليها. والآن بعد أن عرفت من هو اسبلنزاني تستطيع أن تصور لنفسك العراك الذي تلا هذا اللقاء، بل المذابح والمجازر. وأثبت للقضاة أن الطيور التي زعموا أنها سرقت لم تكن إلا طيورا خسيسة، ساء حشوها واتسخ ريشها، فقذفوا بها في الكناسة قذف النعال البالية. وهي طيور لا تليق بمتحف في مدرسة بقرية فضلا عن جامعة. وأما الثعابين التي زعموا أنها ضاعت من متحف بافيا فلم تضع، وإنما استبدل بها أشياء أخرى من متاحف أخرى، وكانت بافيا الرابحة في هذا الاستبدال. وأما السارق الذي تبحثون عنه فهو فولتا، كبير المتهمين هذا، فانه سرق من المتحف أحجارا كريمة وأهداها أصدقاءه. . . .
وبرأه القضاة من تلك الوصمة، ولو أن تاريخ اليوم لا يستطيع أن يؤكد كل التأكيد أنه لا يستحق ولو قليلا من الملام. وعزلت الجامعة فولتا والمؤتمرين معه شر عزلة. وبعث الإمبراطور أمره إلى المتخاصمين وأشياعهم أن يقلعوا عن خصامهم ويعقدوا ألسنتهم؛ فإن الأمر كان استحال إلى فضيحة عامة شاع خبرها في أوروبا؛ وبلغ جدال الطلاب فيها حد العنف والاستهتار بالنظم فحطموا الأثاث بقاعات الدرس، وجامعات أوروبا أخذت تتسارق الضحك من هذه الجرسة التي لم يسبقها مثيل. وأراد اسبلنزاني أن يطلق آخر طلقة على أعدائه المنهزمين فسب فولتا بأنه مزمار ذو فوهة كبيرة جوفاء لا يملؤها غير الهواء، أما الأستاذان اسكاربا وإسكوبولي فأسماهما أسماء غاية في البذاءة يمنع التجمل من كتابتها. وبعد هذا عاد مطمئنا إلى صيد مكروبه
وعاوده سؤال كان يجيئه مرارا في السنوات الماضية العديدة التي قضاها في التحديق إلى حيواناته الصغيرة، وهو: كيف تتكاثر تلك الحيوانات؟ أنه كثيرا ما رأى الفردين منها متلاصقين، فكتب إلى بونيت يقول: (إنك إذا رأيت فردين من أي نوع متزاوجين، استنتجت بطبعك أنهما يتناسلان). ولكن هل هذا التزاوج الذي أراه بين هذه الحيوانات الضئيلة تناسل؟ لم يحر لسؤال نفسه جوابا، فانه على رعونته في أمور أخرى، كان شديد الأناة في العلم، حذرا في استنتاجاته حذر (لوفن هوك). لهذا اكتفى بأن سجل هذا السؤال(92/41)
على الورق من غير جواب، ورسم صورة هذه الأحياء أزواجا كما رآها
وكان لـ (بونيت) صديق يدعى صوصير وكان رجلا ذكيا أضاع اسمه الزمان. فلما علم بالذي كتبه اسبلنزاني إلى صديقه قام يدرس كيف تتناسل تلك الأحياء. ولم يمض غير قليل حتى نشر بحثا مذكورا إلى اليوم، يقول فيه إنك إذا رأيت اثنين من هذه الحيوانات متلاصقين فلا تظنن أنهما التصقا ليتناسلا. إذ الواقع الغريب أنهما حيوان واحد، انشق انشقاقا فصار حيوانين. وهذه هي الطريقة التي تتكاثر بها هذه الأحياء، أما الزواج فهي لا تعرف للذائذه طعما
قرأ اسبلنزاني هذا البحث فطار إلى مجهره، وهو لا يكاد يصدق ما قرأ، ولكنه نظر، وداوم النظر، فأثبت صدق صوصير. وقام الطلياني إلى دواته يهنئ السويسري تهنئة حارة على ما كشف. كان اسبلنزاني يميل للحرب والخصام، وكان يميل للكيد بعض الميل، وكان أمالا شديد الأمل، وكثيرا ما كان يغار من اشتهار غيره من الرجال، ولكن إعجابه بتلك الملاحظة الدقيقة التي أتاها صوصير، واستغراقه في جمال تلك الحقيقة التي وجد، أنساه أمله، وأنساه غيرته، فكتب يهنئه بالذي كتب فانعقدت بين اسبلنزاني وصوصير والعلماء الطبيعيين في جنيفا روابط مبهمة، ولكنها على إنبهامها متينة، هي نتيجة استشعارهم بأن الجماعة تستطيع أن تتعاون فتكشف من الحقائق الكونية ما لا يكشف عنه الأفراد متفرقين، ونتيجة اقتناعهم بأن صرح اعلم لابد لإقامته من بنائين عديدين متفقين على رسمه ورفع حجره وانسجام أوضاعه. وكره هؤلاء العلماء الحرب أول من كره، فهم أول من صدق الدعوة لائتلاف الأمم لتكون أمة واحدة هم أبر رعاياها
وقام اسبلنزاني بعدئذ ببحث من أمجد الأبحاث التي قام بها في حياته، دفعه إليه حبه لأصدقائه السويسريين وإخلاصه لهم، وكذلك كرهه لشقشقة علمية جديدة شر من تلك الأكذوبة القديمة الشهيرة (بالقوة النباتية). وحديث هذه الشقشقة أن إنجليزيا يدعى (أليس) كتب يقول: إن صوصير كان مخطئا، ويقول إن هذه الحيوانات قد تنقسم أحيانا، ولكن ليس معنى هذا أنه سبيلها في التولد والتكاثر، فإن هذا الانقسام إنما يحدث من أن حيوانا من تلك الحيوانات يسبح في الماء بسرعة كبيرة فيختبط متعامدا في بطن حيوان مثله فيشقه نصفين. وزاد (أليس) على هذا أن هذه الحيوانات تولد من أمهاتها كما يولد الناس، وقال(92/42)
إنه كلما حقق النظر في تلك المخلوقات، في بطون تلك الأمهات، رأى فيها بناتها لم تصب بعد ميلادا، وكلما حقق النظر في بطون البنات رأى فيها أحفادا
فصاح اسبلنزاني لنفسه يقول: (أضغاث حالم، وتخريف معتوه) ولكن كيف يثبت أنها أحلام؟ كيف يثبت أنها تخريف؟ كيف يثبت أن هذه الأحياء تتكاثر بالتناصف؟ لقد كان عالما متشبعا بروح العلم، يعرف الفرق بين السب والشتم واتهام خصيمه (أليس) بعمى البصر وخرف العقل، وبين أن ينقض بالحجة الدامغة ما يقوله من أختباط تلك الأحياء فانقسامها أشطارا
وفكر قليلا فواتته الحجة. قال لنفسه: (كل الذي علي لأثبت خطأ هذا الجاهل الفدم هو أن آتي في ماء بحي واحد من تلك الأحياء لا ثاني له فيختبط بهن ثم أجلس أرقبه في المجهر حتى ينقسم نصفين، وبذلك أقطع لسان الثرثار الغبي). وفي الحق هذه طريقة بسيطة للبت في أحد الرأيين، بل هي الطريقة الوحيدة لأبطال إحدى النظريتين، ولكن الصعوبة الكبرى في استخراج حي واحد من هذه الكثرة من الحيوانات. أنك تستطيع أن تفصل الجرو الواحد من مجموعة الجراء، وتستطيع أن تعزل السمكة الصغيرة من بين أخواتها الكثيرات، ولكن قل بربك كيف تستطيع بيدك أن تمسك بذيل حي من تلك الأحياء المجهرية، وهي أصغر مليون مرة من تلك السمكة الصغيرة
فاعتزل اسبلنزاني دنياه الزائطة بحفلاتها ومحاضراتها وجماهيرها المعجبة به، وأخذ يبحث عن طريقة يفصل بها واحدا من تلك المخلوقات، مخلوقا لا يعدو طوله بضع أجزاء من ألف من المليمتر، ويفصله وحده لا ثاني له
ذهب إلى معمله وأسقط قطرة من ماء تعتلج تلك المخلوقات فيه على قطعة منبسطة من الزجاج الرائق النظيف، وأسقط إلى جانبها بأنبوبة شعرية نظيفة قطرة أخرى من الماء النقي الخالي من تلك الخلائق. ونظر إلى القطرتين من خلال عدسته، وجاء بإبرة رفيعة فغمسها بالقطرة الأولى، ثم خرج بها في خط مستقيم حتى وصلها بالقطرة الثانية النقية، وبغاية السرعة صوب نظره إلى قناة الماء الرفيعة التي وصل بها بين القطرتين، وابتسم اغتباطا لما رأى حيا من هذه الأحياء يدخل القناة في تخطر والتواء. فما كاد يصل القطرة النقية من الماء حتى اختطف اسيلنزاني ريشة نظيفة فقطع بها البرزخ الذي يصل(92/43)
القطرتين. وصاح فرحان جذلا. (إنه حي واحد، واحد فحسب، في هذه القطرة! يا للنجاح، ما أحلاه! نعم مخلوق واحد لا ثاني له يتخبط به على حد قول المأفون المغفل (أليس) فيقسمه نصفين! وإذن فلأرقبه لأرى كيف ينقسم!). وصوب عدسته إلى هذا المخلوق الوحيد الصغير في هذه القطرة العظيمة، (إنه كالسمكة الفريدة تسكن وحدها الأقيانوس الواسع)
وعندئذ رأى عجبا أي عجب. فإن هذا المخلوق، وشكله كالقضيب، أخذ يدق وسطه ثم يدق، ويرهف خصره ثم يرهف، حتى لم يصل مقدمه بمؤخره غير خيط كنسيج العنكبوت، وإذا بالنصفين يضطربان ويختلجان ويتلويان حتى انفصلا، فكانا مخلوقين حيين جديدين انزلقا برشاقة في الماء انزلاق المخلوق الأول الذي عنه نشآ. نعم كانا أقصر منه، ولكن عدا هذا فلم يكن بينهما وبينه ما يميزه عنهما. واستتمت الغبطة واكتمل العجب بعد دقائق، فإن هذين المخلوقين انقسما من جديد على النحو الفائت فكانا أربعة
وأعاد اسبلنزاني هذه الألعوبة البديعة عشرات المرات، وفي كل مرة يجد الذي وجده أولا. وعندئذ سقط على (أليس) المسكين بكل ثقله سقوط طن من الحجر، ففرطحه، وسواه بالأرض حتى خفى، وخفى اسمه من الوجود، وخفيت خزعبلته الجميلة، وخفى ما كان حكاه من وجود أحفاد في بطون بنات في بطون أمهات من تلك المخلوقات. وكان اسبلنزاني لذاع اللسان، فقال له: (أنا يا بني ناصح لك أن تعود إلى المدرسة من جديد فتتعلم ألف باء المكروب) وأشار بعد ذلك إلى (أليس) فقال إنه أخطأ لأنه لم يقرأ بحث صوصير القيم الرائع باعتناء، إذ لو فعل لما قام يخترع نظريات فاسدة لا يكون من ورائها إلا القيام العلماء بتكذيبها، فينفقون الجهد الكثير في استخراج حقائق من طبيعة معروفة ببخلها وكزازة كفها
إن الباحث العلمي، الباحث الحق في الطبيعة، يشبه الكاتب والرسام والموسيقي، بعضه فنان وبعضه نقاب جامد الشعور بارد النفس. لذلك نجد اسبلنزاني يتخيل الخيالات، ويتصور أنه بطل مغوار لعهد من الكشف جديد، ويكتب فيشبه نفسه بـ (كريستوف كولمب)، وينظر إلى عالم المكروب فيخاله عالما جديدا قائما بذاته كبعض العوالم، ويخال نفسه كشافة جريئا مغامرا قام ببعوث لم تكشف من تلك المجاهل إلا حوافيها. ومع كل هذا(92/44)
لا نجده يذكر مرة أن هذه المكروبات قتالة. لم يرد أن يعمل في هذا خياله، ولو أن عبقريته كانت دائما توسوس له أن هذه الحيوانات العجيبة في هذه الدنيا الجديدة الغريبة لابد من علاقة بينها وبين أخواتها الحيوانات الكبيرة من بني الإنسان
وفي أوائل عام 1799، بينما نابليون يقوم لتحطيم الدنيا العتيقة البالية، وبينما بيتهوفن يقرع باب القرن التاسع عشر بأولى سمفونياته الهائلة - روحان كبيران ثائران يصدران عن روح العصر الثائر الذي أولده اسبلنزاني وأقرانه، وينطقان عن هذا الزمان بلسانه، ذاك بمدافعه المتجاوبة، وهذا بموسيقاه الصاخبة - أقول في أوائل عام 1799 أصاب الصرع صاحبنا الكبير صياد المكروب
- 7 -
وفي أوائل عام 1799، بينا نابليون يقوم لتحطيم الدنيا العتيقة البالية، وبينا بيتهوفن يقرع باب القرن التاسع عشر بأولى سنفوناته الهائلة - روحان كبيران ثائران يصدران عن روح العصر الثائر الذي أولده اسبلنزاني وأقرانه، وينطقان عن هذا الزمان بلسانه، ذاك من مدافع المتجاوبة، وهذا بموسيقاه الصاخبة - أقول في أوائل عام 1799 أصاب الصرع صحبنا الكبير صياد المكروب
ولم تمض على أصابته ثلاثة أيام حتى كنت ترى هذا الرجل العجيب الهازئ بالموت يخرج رأسه الذي لا يهدأ من بين أغطية سريره ينشد قصائد (هومير) ويغني بشعر (تاسو) ليضحك أصدقاءه الذين جاءوا ليشهدوا احتضاره. وما كان هذا منه رغم إنكاره إلا صياح الديك الذبيح. وما كانت تلك الأناشيد إلا للموت، وتلك الأغاني إلا للفناء، فأنه مات بعدها بأيام قلائل
مات العظماء من ملوك مصر فحفظوا أسماءهم لذراريهم بما خلفوا من مومياء فخمة حفظها رجال الجنائز بكل نادر غال من الحنوط. وذهب الإغريق والرومان ولكنهم خلدوا سحنهم، وسجلوا أشباههم في الحجر، في تماثيل يحفها المجد، ويلفها الوقار. وقضى كثير من عظماء القرون نحبهم، وبليت أجسامهم، ولكن بقي منها صور مرقومة بالزيت على القماش تكاد تجري فيها الحياة. ومات اسبلنزاني فماذا خلف للناس؟
إن أردت أن تعرف ماذا خلف فاذهب إلى (بافيا)، فستجد له بها تمثالا نصفيا متواضعا.(92/45)
وإن أنت أردت أن ترى المزيد منه فسر قليلا حتى تجيء المتحف، فادخله، وإذن سترى فيه - مثانته. . .
أي إرث يتركه اسبلنزاني للدهور خير من هذا؟ أي أثر أحق من هذا بالتعبير في إيجاز عن حبه المدله للحقيقة، هذا الحب الذي لم يقف به عند شيء، هذا الحب الذي اقتحم التقاليد وضحك للصعاب وهزئ بالأذواق الموضوعة، وبمراسيم اللياقة المصنوعة
علم أن مثانته مريضة، فكنت تسمعه يقول في خفوت لأصحابه وهو يحتضر: (إذن أخرجوها من جسمي عند موتي، فلعلكم تكشفون فيها عن حقيقة جديدة غريبة في أمراض المثانات). هذا روح اسبلنزاني وهذا هو روح قرنه، القرن الثامن عشر. روح استخفاف واستهتار. روح تشوق وتشوف لكل مجهول. روح المنطق البارد القاسي في برودته، قرن لم يفض على الخلائق بكثير من الكشوفات العملية النافعة، ولكنه القرن الذي مهد لفرداي وبستور وأرانيوس وأميل فيشر وأرنست رذرفورد لينجبوا ويمجدوا ويعملوا في جو حر طليق
أحمد زكي(92/46)
19 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
فأجال فينا سقراط النظر، كما هي عادته، وقال باسما: إن دليل العقل ناهض في جانب سمياس، وإن في مهاجمته إياي لقوة، فلماذا لا يتصدى منكم لأجابته من هو أقدر مني؟ ولكن قد يحسن بنا قبل أن نجيبه، أن نصغي كذلك لما يريد سيبيس أن يناهض به الدليل - وسيكون لنا من ذلك للروية متسع، فإذا ما فرغ كلاهما من الحديث، وبدا قولهما مستقيما مع الحقيقة سلمنا لهما، وإلا، فلنا أن نؤيد الجانب الآخر، وأن نناقشهما. قال: تفضل إذن فحدثني يا سيبيس، أي مشكلة صادفتك فأتعبتك؟
قال سيبيس: سأحدثك - إني لأشعر بأن التدليل لم يتزحزح عن موضعه، فأنا مستعد أن أسلم بأن قد قام الدليل القاطع الوافي جدا، إن جاز لي هذا القول، على وجود الروح قبل حلولها في الصورة الجسدية. ولكني أرى أن بقاء الروح بعد الموت لا يزال يعوزه الدليل، ولست أعترض في ذلك بما أعترض به سمياس، لأنني لا أريد أن أنكر أن الروح أقوى من الجسد وأطول بقاء، فعقيدتي أن الروح تسمو على الجسد في كل هذه النواحي سموا بعيدا. وقد يخاطبني الدليل فيقول: حسنا أذن، فلماذا تقيم على ارتيابك؟ إذا رأيت أن الأضعف يظل باقيا بعد موت الإنسان، أفلا تسلم بأنه يتحتم أيضا أن يبقى ما هو أطول بقاء خلال هذه الفترة نفسها؟ ويجمل بي الآن أن أستخدم المجاز، كما فعل سمياس، وسأطلب إليك أن تنظر في استعارتي لترى هل جاءت ملائمة لموضوعها. أما المثل الذي سأسوقه فهو مثل نساج قديم، يموت فيزعم بعض الناس بعد موته أنه لم يمت وأنه لا بد أن يكون حيا، ويستشهد على ذلك بالعطاف الذي نسجه بنفسه وارتداه، والذي لا يزال جيدا متينا، ثم يمضي فيسأل المرتاب من القوم. هل الإنسان أطول بقاء أم العطاف الذي يستخدم ويرتدي؟ فإذا ما أجيب بأن الإنسان أطول جدا في البقاء، ظن أنه قد أثبت بذلك يقينا بقاء الإنسان الذي هو أطول بقاء ما دام الأقصر بقاء لا يزال باقيا. ولكني أرجو أن تلاحظ يا(92/47)
سمياس أن ليست تلك هي الحقيقة، وليس بخاف على الناس أن من يتحدث بهذا إنما ينطق هراء، فحقيقة الأمر أن هذا النساج قد ارتدى ونسج كثيرا من هذه الأعطف، ولئن كان قد أفنى كثيرا منها وعمر بعدها، إلا أن آخرها قد ظل بعد فنائه باقيا، وكن لا ريب في أن هذا أبعد جدا من أن يقوم دليلا على أن الإنسان أقل من العطاف شأنا وأشد ضعفا، غير أنك تستطيع أن تعبر عن علاقة الجسد بالروح باستعارة كهذه، فلك أن تقول بحق إن الروح باقية، وإن الجسد بالقياس إليها ضعيف قصير الأجل، فقد يقال عن كل روح أنها تبلي أجسادا كثيرة، وبخاصة إذا امتد بها أجل الحياة، لأنه إذا كان الجسد يتحلل ويفنى في حياة الإنسان فالروح لا تني تنسج لنفسها لباسا جديدا، وتصلح ما قد أصابه البلى، فطبيعي إذن أن تكون الروح مرتدية آخر أثوابها حينما يدركها الفناء، وذاك الثوب وحده هو الذي سيبقى بعد فنائها، ولكن الجسد بدوره، إذا ماتت الروح، سيكشف آخر الأمر عن ضعف طبيعته، فلا يلبث أن يدركه الفناء، ولهذا لن أركن إلى هذا الدليل برهانا على بقاء الروح بعد الموت، لأنه إذا سلمنا فرضا حتى بأبعد مما تؤكد أنت أنه في حدود الممكن، فارتضينا - فضلا عن اعترافنا بوجود الروح قبل الميلاد - أن أرواح طائفة من الناس لا تزال موجودة بعد الموت، وأنها ستظل موجودة، وأنها ستولد وتموت كرة بعد أخرى، وأن في الروح قوه طبيعية ستقاوم بها حتى تولد مرات عدة - فقد نميل مع هذا كله إلى الظن بأنها ستعاني من آلام الولادات المتعاقبة رهقا قد ينتهي بها آخر الأمر إلى السقوط في إحدى مرات موتها، فتفنى فناء تاما، وربما خفيت عنا جميعا هذه المرة التي يموت بها الجسد ويتحلل، والتي قد تؤدي بالروح إلى الفناء، فليس يمكن لأحد منا أن تكون لديه عن ذلك خبرة فإن صح هذا، زعمت أن من يثق في الموت فإنما يثق وثوقا غاشما، ما لم يكن قادرا على التدليل بأن الروح لا تخضع للموت أو الفناء إطلاقا؛ أما إن كان عاجزا عن إثبات ذلك، فمعقول ممن يقترب من الموت أن يخشى فناء الروح فناء تاما عند انحلال الجسد
- فلما سمعنا منهم هذا القول، أحسسنا جميعا بالكآبة، كما لاحظ بعضنا إلى بعض فيما بعد، وأحسب أنه قد داخلنا الاضطراب والشك، لا فيما سلف من دليل فحسب، بل في كل ما قد يجئ به الدهر من دليل، لأننا، وقد كنا من قبل نؤمن إيمانا راسخا، قد رأينا ذاك الإيمان تتزعزع دعائمه؛ فأما أننا لم نكن قضاة صالحين، وإما أن العقيدة لم تقم على أساس صحيح(92/48)
اشكراتس - إني لأشاطرك إحساسك في هذا - حقا إني لأشاطرك إياه يا فيدون، وقد هممت، وأنت تتحدث، أن أستجيب نفس السؤال. أي دليل يمكن أن أومن به بعد اليوم، فماذا عسى أن يكون أقوى في الإقناع من تدليل سقراط، وهاهو ذا قد هبط إلى الجحود؟ فيا طالما فتنتني فتنة عجيبة هذا المذهب القائل بأن الروح هي الأنسجام، ولم يكد يرد ذكره حتى عاودني بغتة، لأنه عقيدتي الأولى. وجدير بي الآن أن أعود فألتمس دليلا آخر، يؤكد لي بأن الروح لا تموت مع الإنسان عند موته. فأرجو أن تنبئني كيف مضى سقراط في الحديث؟ هل بدا كأنما يشاطركم إحساسكم الكئيب الذي ذكرت؟ أم أنه استقبل الاعتراض هادئا، فأجاب عنه جوابا وافيا؟ أنبئنا بما وقع دقيقا ما استطعت
فيدون - أي اشكراتس، إني ما فتئت معجبا بسقراط، ولكني لم أعجب به قط أكثر مما فعلت وقتئذ، أما أنه استطاع الجواب فيسير، ولكن ما أدهشني أولا هو ما تناول به كلمات الشبان من وداعة وغبطة واستحسان، ثم سرعة إحساسه بما أحدثه الحوار من جرح وما واتته به لباقته من فنون العلاج. مثله في ذلك مثل القائد الذي يستجمع جيشه وقد انهزم واندحر، ويحفز جنده أن يتابعوه فيعودوا إلى ميدان الحوار
اشكراتس - وكيف كان ذلك؟
فيدون: ستعلم مني، فقد كنت قريبا منه، جالسا إلى يمينه على مقعد وطئ، أما هو فقد استوى على سرير يرتفع كثيرا عن مقعدي، وقد أخذ يداعب شعري، ثم مسح رأسي بيديه، وصفف شعري على عنقي وقال: أي فيدون! غدا ستجذ هذه الجدائل الجميلة فيما أظن
أجبت - نعم يا سقراط، إني أظن ذلك
- إنها لن تجذ لو أخذت بنصحي
قلت - وماذا عساي أن أفعل بها؟
أجاب - إني وإياك سنقطع اليوم جدائل شعرنا، فلا نرجئها إلى غد، لو كان هذا الحوار ليموت، واستحال علينا أن نرده إلى الحياة مرة أخرى. وإني لو كنتك، ولم أستطع أن أثبت ضد سمياس وسيبيس، لأقسمت ألا أرسل شعري قط، كما يفعل الأرجيفيون، حتى أثير المعركة من جديد وأدحرها
(يتبع)(92/49)
زكي نجيب محمود(92/50)
الأمير خسرو
الشاعر الهندي الكبير
للسيد أبي نصر أحمد الحسيني الهندي
تتمة
إن الشعر الراقي يشمل طموحا غامضا مائلا إلى اللانهائي؛ ومع هذا يتخذ لذلك من هذا العالم المادي وسيلة، فهو يعطي صوتا لصمت الغرائب التي تبرزها أسرار هذا العالم. وبناء عليه يكون بيت واحد من ذلك الشعر يحتوي على قيادة روحانية وفكرة سامية مؤثرة في النفس إلى قرار سحيق، وهو ما لا تجده في صفحات من النثر، وذلك لأن من لوازم النبوغ الشعري الراقي بصيرة نافذة من ظواهر الأشياء إلى صميمها. فبها يجمع الشاعر الفيلسوف المفلق الكامل حقيقة الأشياء الأصلية في مجموع كامل جديد مؤثر غاية الأثر، وبها يدرك ويرى من مطالع الحق والجمال في هذا العالم ما لا يراه العامي. فإذا عبر عما يدركه ويراه برموز واصطلاحات مادية فهو لا ينويها بالذات، بل ينوي بها تلك الحقيقة العليا الخالدة التي طالما طمحت إليها روحه ونفسه كلما أدرك مظاهر تلك الحقيقة المتنوعة ومناظرها المختلفة في هذا العالم. وهذا الصنف من الشعر هو شعر فلسفي روحاني. ولقريحة خسرو في هذه الناحية إنتاج واسع لأنه كان صوفيا كبيرا. نذكر الأبيات الآتية منه قال:
جان زتن بردى ردرجاني هنوز ... دردرها دادى ودرماني هنوز
آشكارا سينه أم بشكا فتى ... همجنان در سينه ينهاني هنوز
ملك دل كردى خراب ازتيغ ناز ... واندرين ويرانه سلطاني هنوز
هردو عالم خود كفته ... نرخ بالاكن كه ارز انى هنوز
(أخذت روحي من جسمي ولا زلت أنت في روحي، وأعطيتني الآلام ولا زلت أنت الشفاء)
(شققت صدري على الإعلان، ولا زلت أنت مخفيا فيه كما كنت)
(خربت إقليم القلب بسيف الدلال، ولا زلت أنت السلطان في هذا الخراب)(92/51)
(قلت ثمن نفسك العالمان. ارفع الثمن فأنك لا تزال رخيصا)
لم يكن خسرو نابغة في الشعر فقط، بل كان أيضا موسيقيا بارعا، فقد برع في الموسيقى إلى أن نال لقب (نايك) وهو لقب قل أن ناله أحد غيره فيما بعد من المسلمين. فقد نقل عنه المؤرخ دولت شاه في كتابه (تذكرة الشعراء) بيتين قال فيهما:
(أنا سيد الموسيقى كما أنا سيد الشعر. أنا كتبت ثلاثة مجلدات في الشعر
لو كان ممكنا تحويل جميع ما ألفته من الألحان الموسيقية إلى الكتابة لبلغ إلى ثلاثة مجلدات أيضا)
وحقا قال أمير خسرو ولأنه كان صاحب ذكاء حاد فوق المعتاد، يملك ملكة اختراعية في الشعر وفي الموسيقى فبلغ فيهما ما لم يبلغه أحد. واختراعاته وتأليفه في الألحان والنغمات لا تزال رائجة وشائعة بين الهنود إلى اليوم، وهو الذي اخترع (سيتار) الآلة الموسيقية التي تشبه تقريبا القيثارة العربية والتي لا تزال تهز الأفئدة بنغماتها الشجية في محافل الهند وأفراحها إلى اليوم طالبة الشهادة على كمال عبقرية مخترعها
قد ذكر صاحب (مانك سهال) (وهو كتاب في تاريخ الموسيقى صنفه في عهد الإمبراطور محي الدين أورنك زيب عالمكير وقد ترجم إلى الفارسية باسم (راكي دربن)) كثيرا من النغم والألحان التي اختراعها أمير خسرو، وذكر حكاية تدل على براعة خسرو في الموسيقى وهي أن السلطان علاء الدين خلجي دعا مرة (نايك جوبال) الموسيقي الوثني الشهير حينئذ للأطلاع على كماله في الفن، وكان له ألف وستمائة تلميذ إذا أراد الخروج من بيته حملوه على أكتافهم فلبى دعوة السلطان وأسمعه الألحان والنغمات ستة أيام متوالية، وكان خسرو يسمعها مختفيا. وفي اليوم السابع تصدى له خسرو وأدعى أن جميع الألحان والنغم التي سمعها السلطان هو مخترعها وأعادها واحدة واحدة بإتقان وإجادة أكثر من جوبال فتحير الرجل في كمال خسرو وبراعته في الفن
كانت براعة خسرو في الموسيقى أحرزت له شهرة واسعة لدى عامة الناس أيضا وعلى الأخص السيدات والأولاد منهم، إذا كانوا يحفظون نغماته وألحانه وأناشيده، ويغنونها في أفراحهم ومحافلهم ولم يكن يكتب نشيدا إلا كان يخترع له لحنا خاصا. وقد اخترع أصنافا كثيرة من الألحان والأناشيد التي لم يكن لها وجود قبله، وعلى الأخص باللغة الأردية أذكر(92/52)
منها (أنميل) (مكرني) و (دوخسنة) و (دهكوسلا) الخ وكلها شائعة بين العامة إلى اليوم
كان خسرو يرتجل الشعر والأناشيد بداهة. ومن حكايات ارتجاله أنه عطش مرة فذهب إلى بئر كان أربع سيدات يخرجن منه الماء فاستسقاهن. فعرفته واحدة منهن وقالت للأخريات: إن هذا خسرو: فسألته: هل أنت خسرو الذي يغني كل واحد أناشيده وألحانه ويسمع ألغازه وأنميله ومكرنيه؟ فأجاب نعم، فقال واحدة منهن: اعمل لنا نشيدا واستعمل فيه كلمة (كهير) (أي المهلبية) وقالت الثانية: استعمل فيه كلمة (شرخا) (أي المغزل) أيضا، وقالت الثالثة: كلمة (دهول) (أي الطبلة)، وقالت الرابعة: كلمة (كتا) (أي الكلب) أيضا فقال لهن: أعطينني الماء أولا فأني أموت عطشا، فقلن له: لا نعطيك الماء حتى تقول النشيد المشتمل على كلماتنا: فارتجله خسرو؛ وهذه ترجمته ولكن لم يبق فيها جماله الأصلي:
إن المهلبية طبخت بالاعتناء
واستعمل فيها خشب المغزل وقودا
ثم جاء الكلب وأكلها
وشغلكم ضرب الطبلة
وأنا عطشان، أعطينني الماء
كان الأمير خسرو صوفيا كبيرا ورعا صالحا تقيا. قال المؤرخ (ضياء الدين برني) وهو من أصدقائه في كتابه تاريخ فيروز شاهي: (إنه مع حصافته العقلية، وذكائه الشاذ، وعلمه الواسع كان صوفيا من الطبقة الأولى، فكان يصوم تقريبا كل يوم ويصرف أكثر أوقاته في تلاوة القرآن وفي إقامة النوافل والفرائض من الصلاة، وكان خليفة في الطريقة لسيدنا الشيخ الولي الصوفي مولانا (نظام الدين أولياء) قدس الله سره، وإني لم أر خليفة يعتقد اعتقادا قويا في شيخه مثله)
إن من أهم مبادئ الصوفية التحرز التام من جرح عواطف الناس، وقتل أمانيهم وبذل أقصى المجهود في قضاء حاجاتهم. وكان الشيخ نظام الدين قدس الله سره يقول: إنه لا عمل يساوي يوم القيامة إدخال السرور على قلوب الناس، وفي حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله. فكان خسرو من أكبر العاملين بهذا الحديث، لذلك كان محبوبا عند الجميع. وله في ذلك(92/53)
حكايات كثيرة منها: أنه عندما كان يرجع من السراي الملكية كل يوم إلى البيت يرجع راجلا، لأنه كان يحب البساطة والسذاجة في العيش، وهو أيضا من لوازم الحياة الصوفية، فيمر بدكان عجوز تسمى شمو فتقدم له كرسيا ونرجيلة، وتطلب منه تشريفها ولو بدقيقة. فلكي لا يجرح عواطفها كان يقعد عندها ولو دقيقة. ومرة قالت له: يا سيدي خسرو! آلامك وبلاؤك على رأسي إنك تقول آلافا من الغزل وتؤلف النغمات والألحان وتصنف الكتب. أما تؤلف شيئا باسمي حتى يذكر اسمي أيضا بفضلك؟ فقال لها حاضر يا سيدتي شمو وارتجل نشيدا فيه اسمها. فخلد اسمها بذلك النشيد إلى اليوم
كان خسرو لين الجانب رقيق العواطف قطع جميع مدارج التصوف ومنازله، فكان صاحب حرقة قلبية دائمة في حب الله. وقد قال فيه شيخه مولانا نظام الدين أولياء قدس سره: (في يوم القيامة كل واحد يفتخر بشيء، وفخري بحرقة هذا (ترك الله)). ولعل خسرو أشار إلى هذا حين قال البيت الآتي:
خسرو من كوش براي صواب ... تاتو شود (ترك خداى) خطاب
(يا خسرو اجتهد في الحق ليكون لك لقب (ترك الله)
انتهى البحث
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(92/54)
يا شمس
للأستاذ فخري أبو السعود
يا ليتني كالشمس في عليائها ... لم يُرضها إلا المحلُّ الأَرفعُ
لم تمس الدنيا ولا أقذاَءها ... لكن إليها من عَلِ تتطلع
تحوِي جوانبَها بنافِذِ نظرةٍ ... وتُضيء غَيْهبَها بنورٍ يَسطعَ
وتَظَلُّ تَشَهدُ من شؤون أنيِسها ... ما مرَّ من أمرٍ وما يُتوَقَّع
وتَقلُّبَ الأحوالِ فيما بينهم ... في أعصُرٍ تَمضي وأخرى تَتبَع
يا ليتني كالشمس في تَدْآبها ... ليست بمكْثٍ في مكان تَقْنَع
تطوي الفضاَء محلَّةً فمحلَةً ... وتغيب عن أفق السماء وتطلع
موصلةً رحلاتُها فلها هنا ... مستقبل ولها هناك مُوَدًّع
مأْنوسَةَ الأسفار يَصْحَبُها السَّنى ... وطريقها بين العوالمِ مَهيْعُ
عرَضَت جمالَ الكون في غدواتها ... ورواحها مُرْتادةً ما يُمْتِع
إن خلفت حسناً بديعاً لم تزل ... حتى يلوحَ لها أحَبُّ وأبدَع
كم شاَرَفتْ نهرا يفيض ووادياً ... الزَّهر في أفنانهِ يتضوُّع
وطوى عبابُ اليمّ آيةَ ضوْئها ... فرأى محيَّاها اليبابُ البلقع
وأجازَتِ البيدَ القِفار فطالعت ... غاباً ألَفَّ به البلابِلُ تسجع
يا ليتني كالشمس في إخلادِها ... لا الخوف يعروني ولا بيَ مَطمع
لا المادحُ الشادِي يَخِفُّ بمهجتي ... طرَباً ولا لهجاء هاج أجزع
أتدَبرَّ الدنيا وأغنم حُسنها ... وأجوب أطراف الحياة وأذرع
يا شمس إنَّ الشعر يسمو بي إلى ... أوْجٍ لديك هو الأعزُّ الأمنع
يَسْرِي خفيُّ ندائه فيُهيبُ بي ... ويَرِنُّ في أذني صداه فأسمع
أسمو على الدنيا به وأودُّ لو ... أني إلى أقذائها لا أرْجع
فخري أبو السعود(92/55)
من أدب السودان
ما كان أوفقه لو ضمنا أدب
لشاعر السودان الأستاذ عبد الله عبد الرحمن
نبَّهتَ منَّا فؤاداً غير سَهْوَانِ ... وجئتَنا بحديث ممتع دانِ
(محمد بن الجلال) قد نطقتَ بماَ ... نُحِسُّه من أحاسيس ووجدان
دعوتَ للأدب العالي يحرّك من ... بني العروبة من مصر وسودان
وصحت بالقائلين الشعر بينكم ... أليس عندكم السودان ذا شانِ؟
ما للمسارح لم تخرج روايته ... وللرواية من ألف مَيْدان!
وكيف لم يهزز الكتّابَ ما عصفت ... به الحوادث في سرٍّ وإعلان؟
مضى يُثابر لم يفطن له أحدٌ ... كأنما القوم من هيِّ بن بيَّانِ
فقلت لله مصر شَدَّ ما عُنيت ... بكلّ فعلٍ عظيم النفع إنساني
وتلك قولة حق ما أبرَّ وما ... أحقَّها أنْ لها يسعَى الشقيقان
ما كان أَوفقَه لو ضمَّنا أدبٌ ... له الكنانة والسودان ركنانِ
ينمّ عنا وعنكم غير مختلق ... لا كالذي عبَّ من زوٍر وبهتان
يقلُم الظفر من ساعٍ لتفرقة ... ويقصم الظهر من داعٍ لهجران
والناس من بات يشقى من جهالته ... حيَّا - سيشقى بها في العالم الثاني
كم للطّبيعة في السودان من فِتنٍ ... وكم لأطيارها من سحر ألحان
ما أكثر الملهماتِ الشعر فيه وما ... أمدّها للأديب الهادم الباني
الرمل عند ضفاف النيل تحسبه ... لُعس الشّفاَه جلاها بيض أسنانِ
وظلمة الليل في العتمور ملهمة ... خوالد الشعر ترويها الجديدان
والسّرح والسُدر والجميز كارعة ... من صيّب القطر أو من فيض غدران
ما للكهارب سلطان على قمر ... ولا على الشمس سلطان لبنيان
كلٌّ تسيل على الآفاق غرّته ... فتملأ النفس من حسن وإحسان
وللحوادث تَلعابٌ بساحته ... تملى علينا شَروداً ذات ألوان
إذا مررت من أمْ دُرْمان في كررى ... ألقى عليك القوافي الخالد الفاني(92/56)
من كلّ من صدقت في الله همّته ... وراح لم يحتمل ضيماً لإنسان
كم بالجزيرة أو سهل القضارف من ... مزارع حُلوة المرآي وأقطان
وحِلّة ذهبت في جودها مثلاً ... ومنزل فيه تُتلَى آي قرآن
ألله أكبر! تدوي في مساجدها ... فتعمر القلب من دِينٍ وإيمان
والقوم سُمر وجوه يُسرعون إلى ... ما ينبت العزّ من إكرام ضيفان
وفي أبا حيث تلفى الأرض كاسيةً ... والطير خاطبةً من فوق أغصانِ
تهشّ للزائريها كلَّ آونة ... وتملأ القلب من رَوْح وريحانِ
هناك في كردفان أيُّ مُتَّدَعٍ ... للطرف في بارة أو أرض خِيران
حيث البداوة في أجلى مظاهرها ... والإبل طالعة بين كثبان
ما أجمل الريف مصطافا ومرتبعاً ... وغادة الريف في عين وغزلان
الخدّ لم ترْعَ موسى في جوانبه ... والجيد من حسنه عن زينة غانِ
فإن يكن شعب بوّان ازدهى نفراً ... ففي البطانة كم من شعب بوّان
إذ تقبل الأرض أعقاب الخريف بها ... بكل وجهٍ إلى الفنَّانِ فنَّانِ
والصيد نافرة حتى إذا أنِست ... أوفت على نجوة ترنو بفتَّان
والضان والمعز والأنعام تابعة ... مواقع الغيث قطعاناً لقطعان
وللحداة حداء كله كرم ... فيه الإباء وفيه نُصرة العاني
وسامر الحي من غيد وفتيان ... بين البيوت وفي أعطاف وديان
في كل ليل تحاجيهم عجائزهم ... بابن النمير وسوبا وابن سلطان
وتارة يرهف الفتيان سمعهم ... إلى نوادر أجواد وفرسان
(وابن المحلق) لم تبرح حكايته ... في الناس يسردها أشياخ حمران
يا قبر تاجوج حياك الحيا ومشى ... بصفحتيك شَذَى ورد وريحان
إني أميل إلى الأشعار يبعثها ... حسُّ قويّ وأقلى الفاتر الواني
وفي البلاد وفي ماضي أبوتنا ... فخر - وإن لم تكن تُعنى بإعلان
وكم بتاريخها من قصة عجب ... جدّ الحكيم ولهو الودع الهاني
فإن يكن بات فيها الحرّ يصهرنا ... فللحرارة يُعزى فضل شجعان(92/57)
إذا (الرسالة) أدَّت من رسالتها ... ولم تُجرّر علينا ذيل نسيان
رعى لها أدب السودان خدمتها ... ونالت الشكر من قاص ومن دان
(الخرطوم)
عبد الله عبد الرحمن(92/58)
القصص
من أساطير الإغريق
بين أبوللو وكيوبيد
للأستاذ دريني خشبة
عصى الناس، في قديم الزمان، سيد أرباب الأولمب، السند الأعظم، المهيمن على ملكوت السموات والأرض: زيوس. ومع ما اشتهر به من واسع الحلم، وطول الأناة، وجم المغفرة، فانه لم يشأ أن يمد للعالم في حبل الغواية، لدرجة إنكارهم لذاته، وإلحادهم فيه، وكفرهم به؛ فأقسم ليهلكن حرثهم ونسلهم، وليقطعن دابرهم أجمعين! فأطلق الرياح الجنوبية الهوجاء، وأرسل السحب تتدجى كقطع من الليل البهيم، وأذن للأرض فتشققت ينابيع وعيونا، ثم انهمرت الأمواه من فوقهم، وتفجرت من تحت أرجلهم، وطغى الموج يجرف الدور ويعفي الآثار. وفي أيام قلائل، كان الطوفان يغمر وجه الأرض، ولم يكن ثمة إلا بحر خضم عظيم
وهلك الناس جميعا، وشفى زيوس موجدته عليهم، ثم بدا له أن يعيد مياه الحياة إلى مجاريها، فأطلق الرياح من عقالها، فهبت في شدة وعنف، وأخذت ترشف ماء الطوفان، تعاونها في ذلك مركب أبوللو. . . يوح العظيمة. وبدأت الأرض تجف، وشرع بساطها السندسي الجميل يبدو قليلا قليلا، حتى ازدهرت المروج، وأينعت الخمائل، وسمق الدوح، واهتزت الربى، وأخذت السهول زخرفها. وبدا له مرة أخرى أن يخلق أناسي يعمرون الأرض الجديدة؛ فما كاد يفعل حتى ظهرت حيوانات بحرية هائلة، جعلت تزحف من الماء إلى الأرض، فتهلك الخلق الجديد. وكان أشد هذه الحيوانات وطأة، وأكثرها فتكا، ذلك التنين البحري الهائل، الذي كان يصمد للعصبة القوية من الرجال فيفنيها عن آخرها؛ حتى ضج الناس واستغاثوا، وجأروا بالدعاء إلى زيوس الرحيم، فرق لهم وحدب عليهم، وأرسل أعز أبنائه من زوجه لاتونا: أبوللو، فأنقذهم من التنين (بيثون) بسهامه التي سددها إليه حتى أرداه
وانثنى ثملا بخمرة النصر، مزهو بما رفع الناس إليه من صلوات وابتهالات، وبينما هو راق إلى سماء الأولمب، إذا أخوه كيوبيد بن أفروديت يصيد الظباء في غيضة لفاء، ويلهو(92/59)
باجتناء الثمر، ويمرح بين افواف الزهر، كالمستهتر الخالي. فأراد أبوللو أن يناوشه، فقال له: (كيوبيد يا ابن أفروديت! أنت هنا تصيد الظباء الضعيفة، وتريش سهامك إلى أطلائها المفزوعة، ولا تجسر على اقتناص الأفعوانات البحرية المرعبة التي تفتك بعباد أبينا زيوس؛ ومع ذاك لا تفتأ تفاخر الإلهة بسهامك التي لا تطيش، ورمياتك التي لا تخيب. كيوبيد الصغير! يجمل بك أن تنزل لي عن قوسك المرنان، وسهامك الذهبية، أو أن تحد من كبريائك، وتأتي إلي كل يوم أعلمك كيف تكون الرماية، وكيف ينبغي أن تسدد السهام!)
وغيظ كيوبيد من هذا التقريع الذي لا مسوغ له، وذلك التفاخر الأجوف الذي لا فائدة منه، ولا طائل وراءه، فعبس وبسر، وتجهم وزمجر، وقال في عبارة ملتهبة، وأسلوب مشبوب: أبوللو يا ابن لاتونا!! كان الأولى بك أن تذكر كيف عذبت حيرا في سالف الأيام أمك وأذلتها، فتقنى حياء، وتتوارى خجلا، ولا تملأ الهواء يمثل هذا الفخر الكاذب! أبوللو! أنت تتيه بسهامك وتدل؛ وتدعي أنك تقنص بها الأفعوانات البحرية، على حين أصيد الظباء، وأقتل الأطلاء، ألا فلتعلم أنني أمهر منك ألف مرة في تسديد السهام، وأقوى في توتير القوس، وإن كنت بعد حدثا صغيرا. على أنني أنذرك، أنت يا أبوللو يا ابن لاتونا بسهامي التي سأجربها فيك قريبا!!)
فضحك أبوللو ملء شدقيه، وقال: بخ بخ يا كيوبيد بن أفروديت! ليس هكذا يخاطب سيد الشمس أبوللو! ولكن يبدو لي أنك متعب من طول ما أخذت نفسك به من الصيد في هذه الغيضة، وأحسبك قد أعياك ظبي نافر فأخرجك عن طورك، خصوصا وأفردويت تنتظرك لتعد الشواء!. . أنت ستجرب سهامك في. . . . في أنا. . . .!)
فقال كيوبيد: (فيك أنت. . . . فيك أنت يا أبوللو ابن لاتونا. . . . وسترى. . .)
وامتلأت أسارير أبوللو بضحكة ساخرة، وفصل مستهزئا
وشرع كيوبيد يدبر انتقامه، ويرسم له الخطط التي ينال بها من أبوللو، فلا يستطيع أن يفلت، وكان يحمل كنانتين، يحتفظ في الأولى بسهامه الذهبية التي يصمي بها القلوب فتملأها حبا وصبابة؛ وفي الأخرى بسهامه الرصاصية التي يصيب بها القلوب فيفعمها بغضا وكراهية. . . . ونثر كنانتيه وانتقى من كل واحدة سهما حاد الشباة مزدوج السنان، ثم انطلق في الأدغال يفكر ويدبر؛ ويمم شطر غدير قريب منه غلته، فرأى القينة الحسناء(92/60)
(دفنيه) متجردة من ثيابها، جالسة كالقطاة على عدوة الجدول، تداعب الماء بقدميها الحبيبتين، وتظللها صفصافة ممتدة الفيء وارفة، والأطيار من فوقها تغني لها. فقال كيوبيد، متحدثا إلى نفسه: (فرصة نادرة لن أفلتها. . هذه (دفنيه) الجميلة تستنقع من القيظ، وهي وسيمة قسيمة، بارعة الحسن، تامة المفاتن؛ لابد أن أسدد سهما رصاصيا إلى قلبها الصغير فيمتلئ كراهية وبغضاء. . . ويحسن ألا أشعرها بوجودي حتى أصمي قلبها. . . فلأختبئ هنا. . .)
وتوارى خلف دوحة كبيرة، وثبت السهم الرصاصي في مكانه من القوس، ثم أطلقه في قلب دفنيه؛ وما كاد يفعل حتى انخلع قلب الفتاة من الذعر، وأسلمت ساقيها للريح تعدو بين الأيك، صارخة من ذلك الثلج الذي ذهب بحرارة فؤادها
وقصد كيوبيد إلى حيث أبوللو، وكان قريبا من دفنيه، فسدد إلى قلبه السهم الذهبي فأصماه. وتلفت أبوللو ينظر ماذا أصابه، وحدث ان كانت دفنيه منطلقة تعدو إذ ذاك، فلمحها، وسرعان ما جن بها جنونا. لقد ملأه سهم كيوبيد حبا، كما ملأ سهمه الرصاصي دفنيه بغضا. . .
لقد كانت دفنيه أول من وقع عليه نظر أبوللو بعد إذ ملأه سهم كيوبيد حبا، فهام بها، وشعر نحوها بهوى ممض وبرح قديم، كأنه برح آلاف من السنين؛ وكذلك كان أبوللو أول من وقع نظر دفنيه عليه بعد إذ أفعمها سهم كيوبيد كراهية، فأبغضته، وشعرت بسم تنفثه عيناه في قلبها حينما رأته
أفلح كيوبيد إذن في الفتك بأبوللو، حين أوقعه في أحبولة الهوى؛ ورداه في شرك الغرام، بهذه الفتاة الكارهة المحنقة، دفنيه! أفلح كيوبيد، وتبع أبوللو يرى إليه يتذلل ويتضرع. . . ويبكي كما يبكي الآدميون. . وهو سيد الشمس، ورب الموسيقى، وقانص الأفعوانات كما دل على كيوبيد وافتخر!
انتصر كيوبيد إله الحب، صاحب القوس الذهبية، كيوبيد الطفل، ذو الجناحين، على أبوللو سيد الشمس، صاحب القوس والوتر العرد!!
إن الحرب لم تبدأ، حين بدأت، بين أبوللو بن لاتونا، وكيوبيد بن أفروديت، بل هي بدأت بين البغضاء والحب، والقلى. . . والهوى!(92/61)
انطلق أبوللو في إثر دفنيه المذعورة يبكي ويتذلل، ويحاول اللحاق بها. . . ولكن هيهات! لقد كانت تمعن في الهرب، كلما جد هو في الطلب؛ ولقد كانت تنظر إليه كأنه قاتل أبيها. . . وخانق أمها!. .
وصاح أبوللو ضارعا: (دفنيه أيتها العزيزة! قفي أرجوك! تمهلي أتوسل إليك! الشوك يجرح قدميك المعبودتين يا دفنيه! أوه! رويدك يا حبيبة! لا تنطلقي هكذا فقد يؤذيك اندفاعك! فيم أنت مذعورة هكذا؟ قفي؛ فأنا أبوللو. . . قفي!. .)
ولكن دفنيه لا تجيب إلا بنظرة القنص، ولفتة الواجف المراش، وتجد في الهرب. . فيقول ابوللو: (قفي يا دفنيه! قفي ولك نصف ملكي! بل لك الشمس كلها إذا وقفت! أنا رب الموسيقى سأغني وأصدح لك! سأطربك بقيثارتي الذهبية بعد أن أغسل لك قدميك في كل ليلة (!!)، سأطير بك في أرجاء السموات! ستكون لك القصور في جنة الأولمب! سأمنحك الخلود يا دفنيه! أحبك! أستحلفك بزيوس إلا ما وقفت! مالك هيمانة على وجهك هكذا؟ هل أخيفك؟ هل أزعجك إلى هذا الحد؟. . . ويلاه!)
ولا تبالي دفنيه، بل تعدو وتعدو. . .
ويضيق أبوللو بغصته ذرعا، فيلجأ إلى جبروت الإلهة، ويبدى سلطان السماء! ويصيح صيحة هائلة، فيكون سد منيع في طريقه دفنيه!
فيقول أبوللو وقلبه يضطرب من طول الإعياء: (فيم تهربين منى يا دفنيه! ألم تعبديني مرة وتقدمي الضحايا باسمي إلى كهنة الهيكل؟: هأنذا أبوللو المعبود، أرجوك وأتوسل إليك! ماذا تريدين بعد هذا؟ لقد بلغت من أبوللو منزلة لم تبلغها ربة من قبل! لقد فضلتك على كليمين، زوجتي المعبودة، وأجمل عرائس البحر، وأم طفلي المحبوب فيتون!! فيتون أسرع الإلهة بعد أخي هرمز، سآمره يكون خادما لك! إنه يقتني أغلى المركبات، ولديه من الصافنات الجياد أغلاها؛ ستركبين معه فتطوفين العالم في ساعتين، وترين ما بين الشرق والغرب في لمحتين، لو رضيت! دفنيه! أرجوك يا دفنيه! إنني أبدا ما بكيت بمثل ما أبكي لك، وأذرف الدمع بين يديك! حنانيك يا دفنيه فقد سحقت قلبي بكبريائك، وأذللت نفسي بخيلائك!)
وكان فعل السهم الرصاصي في قلب دفنيه قد خف، ووقفت الغادة حائرة مترددة مما تسمع، وكانت عيناها ثرتين بعبرات حبيسة. ولكن كيوبيد المختبئ في عساليج الكروم القريبة كان(92/62)
يرى ويسمع، فلما شاهد من ضعف دفنيه وقرب تسليمها، تناول قوسه، وانتقى سهما مسنونا من كنانة الأسهم الرصاصية وسدده إلى قلبها، فصرخت المسكينة صرخة داوية، وهبت في وجه أبوللو تقول: (إليك عني أيها المسخ! تنح! أبغضك! أكرهك! أغرب عني! أنت أنجس من التيتان، وألأم من شارون، أذهب! لا أطيقك؛ انظر إلى هذا الغدير لترى الشرر ينقدح من مقلتيك، والدخان يصاعد من منخريك! كريه. . كريه. . شائه أنت أيها الوحش. .)
وكذلك كان فعل السهم الذهبي قد شارف أن يبطل في قلب أبوللو. . وكاد الإله العظيم يخلص من هذا السحر العجيب، فيسحق دفنيه، لولا أن تنبه كيوبيد، فأصماه بسهم ذهبي آخر، فجن جنونه، وتجدد حبه، وتألب به هواه. . . فصرخ صرخة راجفة، وأشار إلى السد فزال عن طريق دفنيه، فانطلقت تعدو. . وتعدو. . . وانطلق هو في إثرها يتوسل. . ويذرف أغلى العبرات!!
لقد كانت دفنيه تطوي الطريق كأنها فكرة شاردة في رأس شاعر، ولقد كان أبوللو يقتص آثارها كأنه الكوكب السيار منجذبا إلى نجم كبير! وكان كلما سرق اللمحة من ساقيها الجميلتين التهب قلبه بحبها، واشتعلت نفسه بالرغبة الملحة فيها، وانجذبت روحه إليها. . . . يا لكيوبيد! ويا لسهامه. . . . الذهبية. . . والرصاصية، على حد سواء!!
وتعدو دفنيه حتى تكون عند حفافي النهر العظيم الذي أقام زيوس والدها الكبير إلها عليه، فتصرخ قائلة: أنقذني يا أبي! خلصني من هذا الوحش الذي يدعى أنه أبوللو الكريم! إنه يعدو من ورائي. . . خلصني منه. . . إني أبغضه. . . يا أبي. . . يا أبي. .)
وينشطر الماء، ويخرج أبوها، إله النهر، فيرى أبوللو مقبلا فيعرفه، ولكنه يرق لابنته، ويقسم ليخلصنها من سيد الشمس، فيغرس قدميها في الشاطئ، ويحتفن من الماء بيديه، وينثرها به، بعد أن يتلو عليه من تعاويذه؛ ويقف أبوللو مشدوها، موزع اللب، ينظر ويرى!
لقد تحولت دفنيه، في لمحات، إلى شجرة باسقة من أشجار الغار، وأخذت الخضرة تينع في أغصانها، بين حيرة أبوللو وشدة تعجبه!
ووقف الإله العظيم يبكي ويا ويح العاشق المخبول!
ثم تقدم فبارك الشجرة، وسقاها من دمعه، الذي كان من خلائقه الكبر! وانصرف محطم(92/63)
النفس، معمود القلب، كاسف البال. . . ولقيه كيوبيد، فسأله الخبيث: (أين سهامك التي أرديت بها الأفعوانات يا أبوللو بن لاتونا؟) فقال: (كيوبيد! اشفني مما ألم بي!) فقال كيوبيد: (بهذا السهم الرصاصي أشفيك!)
وتلقى أبوللو السهم في قلبه عن طواعية فبرئ مما به، ولم يعاد كيوبيد بن أفروديت بعدها!
دريني خشبة(92/64)
البريد الأدبي
كلود فارير عضو الأكاديمية الفرنسية
في 28 مارس جرى في الأكاديمية الفرنسية انتخاب طال انتظاره على كراسيها الخالية؛ فانتخب ثلاثة من الأعلام الأحياء مكان ثلاثة من الأعلام الذاهبين؛ هم كلود فارير مكان لوي بارتو، وجاك بانفيل مكان بوانكاريه، وأندره بليسور مكان الأب بريمون. والثلاثة من أقطاب الكتابة والأدب، فإن كلود فارير قصصي كبير، وجاك بانفيل مؤرخ وصحفي بارع، وأندره بليسور مؤرخ ورحالة وصحفي كبير اشتغل حينا سكرتيرا لتحرير مجلة (العالمين) الشهيرة. ولكن أشد الخالدين الجدد اتصالا بالأدب هو بلا ريب كلود فارير
وكلود فارير ضابط بحري سابق؛ وكان مدى أعوام طويلة زميلا لبيير لوثي وصديقه الحميم؛ وقد تأثر بحياة البحر كما تأثر بها لوثي؛ وتأثر بعبقرية صديقه واتجاهه الأدبي. ولما توفى لوثي سنة 1923 استمر فارير يحمل رسالته وينهج نهجه، فيؤثر البحر ورجاله، والمواني وأحياءها ومنتدياتها بكتابته؛ ولبث مثل لوثي يهيم بالمناظر والبيئات والشخصيات الغريبة
وكان أول ظفر أدبي لكلود فارير في سنة 1903 إذ صدر كتابه الشهير (خان الأفيون) وهو مجموعة قصص وصور تمثل حياة المدمنين في الشرق الأقصى؛ وكان فارير يومئذ ضابطا برتبة ملازم في إحدى الدارعات الحربية؛ وفي سنة 1905، أخرج قصته الكبيرة: (المتحضرون)، فنال بها جائزة أكاديمية (جونكور)، وذاع اسمه بين أقطاب الأدب، وبعد ذلك استمر فارير في الكتابة وإخراج القصص الصغيرة والكبيرة، ومن قصصه الكبيرة: (الرجل الذي قتل)، وهي على ما يرى بعض النقدة أعظم قصة لفارير، ومنها: (الحرب) و (منزل الأحياء) و (الآلهة الأخيرة) و (المحكوم عليهم بالإعدام) و (الرجال الجدد) وغيرها؛ وله عدة مجموعات من القصص الصغيرة أشهرها: (سبع عشرة أقصوصة بحرية) و (أحمد باشا جمال الدين) و (قصص الأباعد والأقارب) و (أربع عشرة أقصوصة عسكرية) وغيرها. ولفارير قطع مسرحية أيضا منها (توما لا نليه) و (قبيل الحرب)
وكلود فارير مثل صديقه بيير لوثي من أقطاب المذهب الابتداعي (الرومانتيزم) وقد تأثر مثل لوثي بأميل زولا. وقد كتب فارير مثل لوثي أيضا كثيرا عن تركيا والمجتمع التركي(92/65)
وخلاله متأثرا في ذلك بسحره الشرقي القديم. وقد كان مثل لوثي يدافع عن تركيا القديمة، ويحاول أن يخرج أبدع صورها للغرب، وما زال فارير متعلقا بهذا السحر الشرقي القديم، يأسف لما حل بتركيا القديمة من تبدل وتطور، ويرثي هذا المجتمع القديم الساحر، بقصوره الشاهقة، ونسائه المحجبة، وبذخه وبهائه، ولا يرى في تركيا الحديثة سوى صورة ممسوخة لا هي استبقت القديم، ولا بلغت في الحديث شيئا. ولفارير عدة كتب وقصص عن تركيا في آخر عصور السلاطين
وأما أسلوب فارير فهو ساحر، وهو أقرب إلى البساطة وعدم التكلف، وهو أشبه الأساليب بأسلوب جي دي موباسان، ومع هذه البساطة الجمة تراه ينفث المتاع والسحر في قارئه. ثم هو أسلوب مكشوف في بعض النواحي، بمعنى أن فارير يذهب في التصوير والوصف إلى حدود لا يبلغها الكثيرون، وأشد ما تبدو براعة فارير في وصف حياة المواني الكبيرة، وما يقع في منتدياتها وبؤرها السرية من أنواع الخلاعة والتهتك وصنوف الانحلال الأخلاقي والاجتماعي، فهو يصف لنا مقاهي الأفيون والحشيش في ثغور الشرق، وحياة البؤر والمواخير السرية في أمريكا وفي الهند الغربية، ويصف لنا عادات رجال البحر في السفينة وفي الميناء عند الجد وعند الهزل، ويصف حياة البغايا في الموانئ، ومجتمع السفلة والأوغاد؛ وكل ما يتعلق بهذه الحياة المثيرة التي لا يدرك أغوارها إلا رجل مثل فارير طاف العالم وثغوره، ونفذ إلى أعماق هذه الحياة بصورة عملية
وقد انقطع فاير إلى الأدب منذ أعوام طويلة؛ وهو اليوم يعمل في الصحافة إلى جان كتابة القصص، وينشر في الصحف الفرنسية، ولا سيما جريدة (الجورنال) مقالات طريفة ساحرة في مختلف الموضوعات والصور
ومما يذكر في حياة فارير الفياضة بالسياحة والمخاطر، أنه كان إلى جانب مسيو دومير رئيس الجمهورية الفرنسية السابق حينما اغتاله القاتل جور جولف برصاصة، وحاول فارير إنقاذه، فأصابته في ذراعه رصاصة من القاتل ألزمته فراشه مدى حين
صاحب الجائزة في المسابقة الأدبية
صديق العزيز صاحب الرسالة
تحية وسلاما. أما بعد. فقد زعم علماء النفس - والنفس أمارة بالسوء - أن ارتكب جرما(92/66)
مرة نازعته غريزته إلى ارتكابه مرة أخرى. ومهما حاول الشقي أن يتوب ويرجع، فان جوارحه تتحرك، وأعضاءه تتدافع نحو تلك الجريمة، رغم كل مقاومة
والجريمة التي نحن في حديثها الآن هي ترجمة الشعر بالشعر. جريمة قديمة أليمة. ولها في صفحات الأجرام الأدبي أصول عريقة عميقة. والذين ارتكبوها وأمعنوا في ارتكابها، كان نصيبهم عادة الإعدام الأدبي مدى الحياة
ولقد كنت تبت من تلك الجريمة - أو خيل إلي أني تبت - حتى قرأت - وأنا أقضي عيد الفطر تحت شمس أسوان المشرقة - تلك القصيدة البديعة التي نظمتها كاتبتنا البارعة الآنسة مي، فنازعتني النفس اللجوج، إلى أن أكسر التوبة، وتقوضت صروح المقاومة أمام ذلك الشعر المغري والمعاني الساحرة. وسهلت الشاعرة أمامنا الصعاب بترجمة نثرية قربت البعيد، ومهدت العسير، فما شككت في أن كل أديب في الأقطار العربية سيندفع بالرغم منه إلى ترجمة تلك القصيدة
أما أني لم أرسل مع الترجمة اسما، بل وحاولت إخفاء خطي، فهل ينتظر من مرتكب الجريمة الاعتراف الصريح، وهل يستغرب منه أن يخفي معالمها جهد طاقته؟
والآن وقد نجحت المجازفة، فلا بأس عليك من إرسال الجائزة. فان دراهم الأدباء حلال للأدباء. ولا أشك في أن أصدقائي الأدباء سيلحون في أن تنفق تلك الدرهم، في وليمة أدبية تعد لهم. وهم يزعمون أن خير الطعام ما جاء من طريق مسابقة أدبية. ولقد أحاول إفهام هؤلاء أن الأفضل أن يشتري بالدرهم سفر قيم يكتب في أوله حديث الجائزة، من أجل الذكرى والتاريخ. وما أظنهم ممن يجدي فيهم الإقناع. وإليك التحية الخالصة من أخيك
محمد عوص محمد
الجيزة في 3 أبريل سنة 1935
يجمالبون المثال
الأديب الفاضل زكي شنوده جندي: - شبرا
قرأت ملاحظتك الطيبة على أسطورة يجماليون المثال (الرسالة - العدد 90). والحقيقة أن هذه الأساطير قد تناولتها يد التبديل والتحوير طيلة العصور السحيقة التي مرت بها. وأكبر(92/67)
ظني أن الإغريق لم يكن لهم من أسطورة يجالبون المثال إلا ما لخصته أنا؛ لأني أعتمد فيما أكتب على أوثق المصادر التي لا يمكن أن يعتورها الشك، أما بقية الأسطورة التي أشرت أنت إليها فهي، كما أذكر، من ابتكار الكاتب القصصي الفذ ج برنردشو في قصته الخالدة (يجماليون)، وقد استمد الأديب الأيرلندي الكبير مادة قصته من الأسطورة اليونانية، وزاد عليها هذه الزيادة التي لاحظتها، لأنها بذلك، في نظره، تكتمل ما أحببته أنت لها من الرونق والكمال؛ وأحسبك في غنى عن أن أذكر لك، أن هذه الأساطير الجميلة كانت أبدا، ولا تزال، مصدر الإلهام للشعراء في الغرب الحديث، وهذا جون كيتس في قصيدته أنديميون، قد بدل في الأسطورة الإغريقية وحور، مع ذاك زادها جمالا وكمالا؛ وكذلك فعل شلي في (أدونيس) التي بكى فيها كيتس
ومع ذاك، فأنا و (الرسالة)، إذا منحتني هذا الحق، نشكرك
د. خ
الاحتفال الألفي بذكرى المتنبي
علمنا أن لجنة تألفت في دمشق لوضع برنامج شامل للاحتفال الألفي بذكرى وفاة أبي الطيب المتنبي، وستدعو إلى الاشتراك في هذا الاحتفال جميع البلدان العربية. ويقال إن سلسلة هذه الاحتفالات ستبدأ في رمضان القادم
مصير اياصوفيا
لن يجد الذين يزورون استانبول من المسلمين في (اياصوفيا) مسجدا تؤدى فيه الصلاة كما كان حتى العام الماضي. ولكن (اياصوفيا) أنبل الآثار الرومانية في (قسطنطينية) قد حول الآن إلى متحف قومي تنفيذا للقرار الذي اتخذته الجمهورية في هذا الشأن، يزوره الجمهور مقابل أحد عشر قرشا تركيا (نحو قرش صاغ) وقد رفع من ساحاته الأثاث والرياش وكراسي المصاحف، وأرسلت طنافسه إلى مساجد أخرى في أدرنة. وظهرت في ساحته المنطقة القديمة التي كان يؤمها عباد الصور في القرن الثامن الميلادي؛ ولكن ترك المحراب ومنبر المؤذن والمصابيح البرنزية الكبرى (القناديل) وسلالها البيزنطية؛ وترك أيضا المنبر السلطاني الذي أقامه السلطان أحمد الثالث، واللوحتان اللتان كتبهما الخطاط(92/68)
التركي الشهير تقنج زاده إبراهيم في سنة 1642
وستنقل التحف الرومانية والبيزنطية إلى (اياصوفيا) عما قريب؛ وبذلك ترفع عن المسجد صفته الدينية التي أسبغت عليه منذ فتح قسطنطينية سنة 1453م
جائزة مينيرفا
من أنباء باريس أن جائزة مينيرفا الشهيرة قد منحت إلى مدام كلير سانت سولين؛ من أجل روايتها المسماة (نهار) وقد فازت بها دون عدة من الكتاب المنافسين. ومدام سانت سولين روائية فرنسية شابة، تلقت تربية عالية وتخرجت في جامعة باريس، وهي تكتب منذ أعوام كتابة الهواة لا المحترفين ولم تنشر سوى قليل مما كتبت، ويقال إنها أحرقت من تأليفها عدة قصص لم ترها جديرة بالنشر، وهي من عشاق القرية والغابة والمناظر الريفية، وقد لفت فوزها بهذه الجائزة الأدبية الشهيرة الأنظار إليها، وبدأت الصحف والمجلات تتناول حياتها وجهودها الأدبية بالنقد والتعليق(92/69)
الكتب
ترجمة نفسية تحليلية
4 - هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
الحياة عاقلة تسعى إلى غايتها الأزلية وهي تلهم ما تريد ومن تريد لتحقيق غايتها المحجوبة عنا. أصغر ذرة في الكون وأكبر جزء من أجزاء الكون سيان في خدمة هذه الغاية. . . وكل ما في الكون دائب عامل على تحقيقها، وهل الحياة إلا دوائر بعضها يموج في قلب بعض، لا تنفتح دائرة عبثا ولا يولد شيء عبثا، وفي كل ذلك سر، جهلنا به لا ينفي وجوده! وهذا الاتصال يؤمن به (نعيمه) حتى لا يجد حدودا بين البداية والنهاية. لأن بداية كل شيء مرتبطة بنتيجته. والواقف على متفجر الينبوع يرى فيه المسيل والبحر، والطريق والمحجة، لأن بدايته مرتبطة بنهايته، لا تستطيع أن تقول: من هاهنا ابتدأ وهنالك انتهى! بل يبتدئ وينتهي، ويبتدئ وينتهي من أصغر من لحظة، فهو - من بدايته ونهايته - في نقطة لا يفرق فيها مفرق بين البدء والنهاية
وقد يصل (النعيمي) بين خيوط الحياة الحقيقية وخيوط الحياة الحالمة، فيحاول أن يجعل من الأحلام مؤثرات في اليقظات! وكم حلم أراد تفسيره بالحقيقة، ومشابهة حللها بمشابهة أخرى! كأن الحياة عنده واعية تخلق ما تهوى وتخلق الإنسان كما تهوى ولا يخلق هو من نفسه شيئا، وهذه الوقائع التي تتراكم في حياة الإنسان وندعوها نحن (مصادفات) يراها هو (حقائق) كبرى مرسومة في كتاب الحياة، وإنما دعانا عجزها إلى تسميتها بالمصادفات. وما فيها من معنى المصادفة شيء!
فلسفة هادئة عميقة لم تنبت جذورها إلا في الشرق؛ الشرق البعيد، الذي وجد معنى الألوهية في كل ذرة من ذرات الوجود، هذه الفلسفة لم فيه يبعثها الغرب الذي سكنه طويلا، وإنما حاول الغرب أن يخنقها فيه، فهب بصيحة المخنوق فيه، فأنقذه قبل إسلام الروح
فلسفة شرقية هادئة لا تحارب العالم لأنها هي العالم، ولا تثور على القوة المجهولة بل تدور معها كما تدور الأفلاك والنجوم، ولكل جرم دورته وسبيله. والعوالم كلها تؤلف عالما واحدا(92/70)
كاملا. كلنا دورات في دورات، وكلنا ضمن دائرة الحياة الكبرى. وهي تكره التمرد على الحياة، لأنها لا تدرك معنى هذه الثورة، والتمرد - عندها - نزق شباب وثورة محموم، ورغوة تلهيك عن الصريح، وخير من هذا التمرد على الناس وحياتهم التوجه إلى تفهم أسرار تلك الحياة بصمت وهدوء، وكشف ما فيها من جمال ينضح من معين الجمال الكلي. وهو يأخذ على جبران تمرده الذي يضعه فوق (أبناء الحياة) ويريد من فنه أن يعليه فوق الناس. فيرى نفسه نسرا عظيما، ويرى غيره دجاجا وديدانا،
لا يرضى غير الفضاء ميدانا، ولا يشرف على الحياة إلا من القمم العالية، يأخذ نعيمه على جبران هذا الأدعاء، ويجيبه بلسان (ميشلين) المتواضعة المتهكمة (وأنت يا جبران! لا تأنف من أن تغذي جسمك ببيوض الدجاج ولحومها! جعل (ميشلين) رفيقة تحسن المشي في مسالك الأرض قبل أن تجعلها شاعرة تجوب رحاب الجو. اجعلها دجاجة سعيدة قبل أن تجعلها نسرا قويا، اجعلها إنسانا راضيا قبل أن تجعلها إلها كاملا)
فلسفة متواضعة غايتها أن تبشر بالحياة الشاملة التي تربط بين الأقاليم التي مزقها طمع الناس، قضوا على أسمى رابطة بينها ورضوا بأن يربطوا - ما قطعوه - بالمسخ الذي خلقوه وألهوه - وهو الفلس - وبهذه الفلسفة يجرب أن يؤلف بين البشر ويفني الذات الفردية، ويحل محلها الذات العامة التي لا شريعة إلا شريعتها؛ فلا يبغض إنسانا لأنه كل الناس، ولا يملك شيئا لأن كل شيء له. ولا يهرب من الألم لأنه السبيل إلى النجاة، ولا يدين مجرما لأنه يدين نفسه، ولا يطلب مجدا لأن كل مجد باطل
هذا هو عالم الوحدة الكاملة حيث الحياة ألفة أبدية، كل ما فيها يعانق بعضه بعضا عناق محبة لا حواجز فيها ولا حد لها، يبلغه الإنسان فيدرك بلاغة الصمت وهيبة السكون، وسمو النفس في حضرة ما لا يحد. ومرتبة الصمت - عند نعيمة - هي أسمى مراتب البلاغة، ولكن أي صمت! هو الصمت المبطن بتلك المعرفة، وقد يكون أن ذلك الصمت هو المحجة التي نسير إليها على غير علم منا
بلى: سيصمت الإنسان - الصمت الأكبر - عند القبر، وينفصل الإنسان عن كل شيء ولكنه الانفصال الظاهر! لأن الانفصال لا حقيقة له. . . (وأين هي القدرة التي في وسعها أن تحل حلقة واحدة من سلسلة الزمان وتترك السلسة مفككة مقطعة؟ أليس الإنسان يغيب(92/71)
من ناحية من نواحي الزمان ليبرز في غيرها، كالشمس تغيب عنا في بقعة من الأرض فتشرق في سواها؟ الاتصال! الاتصال! ليس على الأرض ولا في السماء قدرة تستطيع أن تفصم عروة مكنتها الحياة بين إنسان وإنسان، أو بين شيء وشيء وهل في الكون ذرة ليست مربوطة بكل ما في الكون
سيذهب الجدول مترنما إلى البحر، وسيعود دون أن ينقطع المسيل الذي يصل بينه وبين البحر. . . .
خليل هنداوي(92/72)
العدد 93 - بتاريخ: 15 - 04 - 1935(/)
العام الهجري 1354
ها هو ذا العام الجديد يهُل، فأين السجل؟ تعال نقرأ ما خطه التاريخ في صفحتنا التي طواها الدهر أمس! هل انفرجت خوانق الأغلال قليلا عن الرقاب العانية؟ هل انجلت غواشي الغفلة عن العيون السادرة؟ هل إنجاب قتام الذل عن النفوس العزيزة؟ هل ائتلفت على عوادي الخطوب هذه القلوب الشتيتة؟ هل اقتنع المعتدون والمستبدون أننا ماض ينبعث، ومجد يستيقظ، وأمة تريد أن تستأنف بلاءها في جهاد الناس، وتستعيد مكانها من صدر الوجود؟
رويك لا تطل النظر فلن تجد فيه وا أسفاه إلا عبر عينيك!! لقد طويت هذه الصفحة كما طويت قلبها تلك الصفحات على بياض غير ناصع! وإن تاريخنا لا يزال يكتب عرضاً في تاريخ الدول، أو لحقا في تاريخ إنجلترا! فليس له في التقويم العربي حساب جارٍ، ولا في سفر العالم فصل مستقل!
لو كنا نسير إلى الوراء لعثرنا يوماً بمجد المصريين والعرب، ولو كنا
نسير إلى الأمام لظفرنا يوماً بمجد الفرنسيين والانجليز، ولكنا سقطنا
من الونَى والوهن في طريق الإنسانية، يخطو فوقنا الركب، ويدور
علينا الفلك، حتى رن في أسماعنا صوت الأجداد يُهيب صارخاً
بالرقود، فنهضنا نهضة المنبت الحائر نستلهم الأعراق، ونستنبئ
الدلائل، ونتملق الأحداث، ونستحث القادة؛ ثم انقضى على هذه النهضة
المتلكئة قرن، وما نزال شملاً يتجمع، وأملاً يتطلع، وعزماً يشب.
متى السير إذن يا هادي المحجة؟! لقد مللنا قرع الطبول ودق البشائر، وقتلنا الزمن في تأييد رأي وتفنيد رأي، وأضعنا الجهد في عقد لواء وحل لواء، وخجلنا من هذا الموقف السلبي الذي يرصد الأهب في الخيال، ويصور الخطط بالشعر، ويطلب النضر في أحلام المنى!
انطوت صفحة العام المنصرم ولم تسجل في أوطان العروبة غير الأسى والألم: سجلت في مصر كما سجلت من قبل أهواء تتصارع، وأطماعاً تتعارض، وفردية تطغى، وأثرة تسف،(93/1)
وخصومة تكيد، وشعباً يكابد داء الضرائر في زعمائه، ويكاد يستجير بعدوه من أوليائه، وينظر فيرى في يده العتاد وفي طبعه الاستعداد، ثم لا يزال برغم ذلك وضيع الشأن في الحياة، مسلوب الإرادة في الحكم، مبذول المقادة للغاصب.
وفي العراق سجلت أحداثاً ترمض القلوب وتثير دفائن الهم، من دبيب العقارب بين الجيرة، وسعي النمائم بين الاخوة، وتمكين الطائفية للنفوذ الدخيل!
وفي الشام سجلت تفرق الكلمة بالوعود، وتمزيق الجسم بالحيلة، وتسكين الألم بالمرقد؛ كذلك سجلت في المغرب دموعا يمسحها اللاطم بكفه، ووشائج يقطعها الظالم بسيفه، ونفوساً ينزو بها الحفاظ للجنس والدين فتركض في القيد، وتضطرب اضطراب المهيض في القفص.
ثم سجلت في شبه الجزيرة فعل الفقر البئيس في دار الهجرة وملاذ الدعوة، ومطمأن الضريح المقدس.
أما السطور الحمر التي خطتها لفلسطين البائسة، فمن صبيب دمائها كان المداد، ومن نشيج بكائها كان الكَلِم: هي إعلان يبعها القهري في سوق السياسة، يتزايد فيه أهلها العرب بالحق - والحق رأي واجتهاد، وبالقانون - والقانون ورق ومداد؛ ثم يهود العالم كله بالذهب - والذهب إله وشيطان، وبإنجلترا - وإنجلترا أسطول وبرلمان! فالعرب في فلسطين مقضي عليهم بالقتل والتشريد، وإخوانهم في الأوطان الأخرى ينظرون إليهم نظر العواد إلى المريض المشفى، يسعفونه بالدعاء، ويؤاسونه بالبكاء، والدعاء لا يرفع الواقع، والبكاء لا يدفع الموت.
هذه عناوين الصفحة المطوية ليس بينها عنوان جميل، فليت شعري ماذا اتخط أقلام القدر في صفحة العام الجديد؟!
لو كنا ننتفع بالذكريات، ونستفيد من العظات، لما بددنا الجهود في التجارب، وأفسدنا الأمور بالتردد؛ إن لنا تاريخاً إنسانياً حافلاً فيه لكل عظمية ذكرى، ولكل ملمة تجربة؛ وأن لنا دستوراً إلهياً كاملا فيه لكل مضلة هدى، ولكل قضية بينة؛ فاذا التمسنا على الطريقة التي نهجها الرسول، فتوفينا معاً على الغاية، وانتهينا جميعاً عندها إلى الوحدة.
إن الرسالة العربية التي هاجرت مغلوبة من مكة إلى المدنية، سافرت غالبة من الشرق إلى(93/2)
الغرب، بفضل مبدئها الإلهي الذي قامت عليه ودعت إليه وفازت به، وهو توحيد الله، وتوحيد الكلمة، وتوحيد القوى، وتوحيد الغاية.
وقد استوثق الأمر لأهلها ما استمسكوا به؛ فلما تراخت العرى بينهم وبينه تقاذفتهم السبل، وتقاسمتهم الأطماع، وصار بهم التخاذل والتواكل إلى ما هم عليه اليوم.
احمد حسن الزيات(93/3)
مساجلة الرمال
للآنسة النابغة (مي)
أفواج عديدة من الرمل تتململ شيئاً فشيئاً، فوجاً بعد فوج، وتتحدث في أواخر الغلس
- الظلام يولي، هارباً، وعمود الفجر يكاد ينشق، عما قليل تشرق الشمس فلا يلبث قرصها أن ينقلب أتوناً يُصلينا نار السعير.
- سيان لدينا الليل والنهار. كل يوم ننتظر من الظلام عذوبةً تحت أنوار الكواكب الواهية. ولكن حرارة الشمس تظلُ مستودعة في كياننا فنلبث في اتقادٍ واضطرام يوماً بعد يوم، وليلةً بعد ليلة.
- إنما جعلتنا الأقدار متحاذيات متلاصقات لنفرش هذه الأرض ونكون منها الصدأة المحترقة. يتهموننا بأن لمسنا يشوي اليد والقدم شياً، ولكن ألسنا نعاني في كياننا المقدور علينا من عذاب السعير؟ وددتُ لو أن لي دمعاً أذرفهُ من فرط السآمة والحنق والألم!
- طالما شهدنا الخلائق تهبط علينا وقد أضناها التعب والوصب، فنفق الحيوان على صدرنا، ومات الإنسان بين يدينا، ووجد كل منها عندنا ملجأ طبيعياً يتلقاهما ويضمهما إليه. ونحن الجائعات الظامئات المتعبات على الدوام، ليس لنا من يرثي لحالنا ويسعفنا. نحن التائقات إلى التفلت من حالتنا الراهنة، ليس لنا أن نمضي في علو ما ونهبط في مستقر غير هذا. واتعبي من هذا الوجود القاحل في ديمومة السكوت والجمود!
- ليست هذه هي الحركة التي ننشد. إن شوقاً عميقاً فينا يتلهف على حركة من نوع آخر.
- كم من حركةٍ مفاجئة خبرتُ عندما عصفت بي السموم في النهار أو الحرور في الليل! زعازع وأنواء انتزعتني في عنفٍ من مقري إلى مقرٍ آخر، فما كنت منتقلةً إلا من الرمضاء إلى الرمضاء حيث السعيرُ دائمٌ والأوارُ مقيم!
- وأنا تلقفتني العواصف غير مرة. فحطت بي يوماً عند ساحل البحر فامتزجتُ بالماء ورسبتُ في القعر. وأغفلني هناك زمناً الدهرُ الوسنان. ثم قذفت بي الأمواج على الشاطئ، فتناولتني الزوبعة الهوجاء، وردتني إلى مستقري في هذه البطحاء!
- وأنا كم حدت بي الريح إلى حيث الينابيع تتفجر والمياه تجري! إلى حيث الأرض كريمة والأشجار ظليلة، وقد نورت الأزهار هنا وهناك وهنالك على صفحة الروض،(93/4)
وتشابكت الرياحين بمثيلاتها من شذى النباتات فعبق الهواء بأريج العطور!. .
- لا تذكرَن الماء والعطر والظلال لرمال شقية قضى عليها بالمحل والاضطرام والصدى، لا ترهفن فينا أشواقاً تأبى التحقيق!
- أتوق إلى الذوبان في سائلٍ ما، ولو كان ذاياك السائل القاني الذي رأيناه أحياناً على جسد الإنسان أو الحيوان! ولكننا غير قابلات للجرح الذي يغسل قحلنا بنجيع الدماء، ولن نكون يوماً قمينات بابتسامة الحياة وعذوبة الحنان. قضى علينا بأن نكون دوماً في حكم الموتى، وقد حرمنا نعماً يجنيها غيرنا في جنة الأرض.
- أنكون في حكم الموتى ونحن نشتاق ونتعذب؟ ألا ليت كل قافلة عابرةٍ تسير بي إلى حيث ينيخ الركبُ! حيث الخيمة المضيافة والناس يضرمون النار ويأكلون، وينهلون الماء ويرتوون! وا حنيني إلى هناء المضارب! وا حنيني إلى كيانٍ قابل للريّ والارتواء!
- لو كان لي أن أرجو الوصول يوماً إلى تلك الحالة الراغدة لأعانني الرجاء على الاحتمال، وكان لي منه العزاء والسلوى! ولكننا في هذه البطاح الصماء البكماء، إنما وجدنا لنقطع كل صلةٍ بين الحياة والحياة!
- ويك! ماذا تقولين، نحن قاحلات جائعات ظامئآت مشتاقات، ولكننا وجدنا لنكون صلة بين الحياة ولباب الحياة!
- أولا ترين الفجر يتلألأ في الأفق سنياً؟ غبار دقيق من النور يتناثر حولي، كأنه سحيق من الذهب والبلور. هذا يوم عيد.
- لولا هذا اليوم وما ميّزهُ بين الأيام، ما كانت تلك القوافل العديدة، قوافل الحجاج التي نراها منذ قرون وقرون ذاهبةً آئبةً.
- لقد شهدتُ القوافل ذاهبةً آثبةً منذ أن خرجت على الصحراء رملاً، وتعرفت قوافل العرب الرحل وقوافل الغزاة والمحاربين والشعراء والعاشقين. وكم من حداء سمعتُ!
- تلك القوافل تعددت ألوفاً وألوف الألوف منذ أربعة عشر قرناً، وتبدل الغرض من ترحالها منذ أن انبثق من سويداء قلب الصحراء جحفل النصر العظيم. فصارت القوافل قوافل الذكرى والعبادة والسلام، تقبل علينا في عجاجة وردية من قصيّ الابعاد حيث يخيل ان الآفاق تتحرك، وتغادرنا في عجاجةٍ وردية لتتوارى وراء الآفاق التي تحنو على(93/5)
وديعتها الفريدة الغالية.
- أعرف تلك الوديعة، فقد ساقتني إليها الريح مرة! هناك مثوى ذاك الذي عرف الصحراء يلقي في أرواح الشعوب روحاً حيةً خالدة.
- فتى الصحراء! فتى الصحراء الذي اصطفاه ربهُ ليحمل الكتاب. فهجر دياره، وسلاحه كتاب فغزا به العالمين!
- الفاتح الذي لا يشبهه فاتح! إنه لم يغزُ البلدان والأمصار وكفى، بل غزا القلوب بسره، وفتح النفوس بسحره، يوم خروجه من الديار هو بدء تاريخ الهجرة. وها الناس على توالي القرون، وقد هاموا بجاذبيته النورانية، يهجرون ديارهم وخيراتهم ويقتحمون المفاوز والأخطار ليحجوا إلى البقعة الصغيرة العظيمة التي تجمع عندها معنى الديار والأوطان، وتركزت فيها ثقة اليقين وانبعث منها نور الإيمان!
- سيد الغزاة والفاتحين! إنه فتانا، فتى الرمضاء وفتى الرمال! إنه جاء بمعجزة المعجزات فأخرج الخصب الخصيب من ديار القحط والجدب!
- فتى الصحراء العجيب، ذو العينين الدعجاوين حيث أودعت السماء نطفة الضياء! إن ذكراه لممتزجة بذكرانا!
- نحن الرمال لم يكن وجودنا عبثاً كما زعمنا في أجلنا المديد الأليم! نحن الجامدات، كنا مبعث الحركة والحياة! نحن القاحلات، كنا وما زلنا سبيل الهجرة الخصيبة.
أشرقت الشمس - شمس اليوم الأول من العام الهجري. من الرمضاء تتصاعد أشباح أثيرية تدور رشيقةً في نور النهار الجديد. وقد أصبحت أفواج الرمال القريبة والبعيدة كلها جوقة واحدة تنشد:
نحن الرمال القاحلة،
لا خصب يوازي خصبنا!
نحن الرمال الجامدة
هل من حياةٍ كحياتنا؟(93/6)
أُمْنيةٌ
للدكتور محمد عوض محمد
ألا منِ لنفَسي - والأماني عزيزةٌ - ... بأرْضٍ خَلتْ من ظالمٍ ولئيمِ
وصومعةٍ شيدت على رأس رَبْوةٍ ... مهبِّ رياحٍ: زعزعٍ ونسيم.
تُطِلُّ على بحر يعُبّ عُبابه ... كصدرٍ لأسرار الزمان كتُومِ؛
ومن خلْفها يُنبوع ماءٍ مسلسلٍ ... كدُرّ على نحر الصخور نظيمِ
أُطالع منها الكونَ: سِفراً، تزاحمت ... به الآيُ، قد خطَّتْهُ كفّ حكيمِ،
وأقرأُ منها الغيب سراً محجّباً ... بقلبٍ بصير بالخفِيّ عليمِ.
وإن زارني فيها الرَّدَىُ متَخَشِّعاً=فأهلاً به مِن زائرٍ ومقيم
محمد عوض(93/7)
الهجرة
للأستاذ علي عبد الرازق
حينما فكر أولو الأمر من أهل السبق في الإسلام في اختيار مبدأ للتاريخ الإسلامي كانت هنالك حوادث ما يزال ذكرها حياً في أذهانهم، يملؤها روعةً وجلالاً.
هنالك حادث الهجرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم الفتح - فتح مكة - وهنالك اليوم الذي أنزل الله تعالى فيه على عباده المؤمنين: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) وغير ذلك أيضاً. كل أولئك وكثير مما لم نذكره، قد كان ماثلاً أمام أولى الأمر من أهل السبق في الإسلام يوم أرادوا أن يختاروا مبدأ للتاريخ الإسلامي، فاختاروا من بين أولئك كله حادث الهجرة - هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة - وبذلك سجلوها ذكرى بين المسلمين متجددة، وأرسلوها فيهم حديثاً مأثوراً وعبرة دائمة.
ما تحسبهم فعلوا ذلك إلا وقد عرفوا لهذه الحادثة من القدر والخطر ما لم يعرفوا لغيرها من الحادثات التي عرفوا، وإن كانت ذات قدر جليل وخطر عظيم.
لقد يبدو غريباً أن يتفق الصدر الأول من بناة الإسلام وأهل السبق والفضيلة فيه على أن ينظروا إلى الهجرة بذلك النظر، وأن يعتبروها أهم الحوادث في الإسلام وأبرزها وأبلغها في نشأته أثراً.
والذين يقرءون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قد يدركون في غير مشقة أن هذه الهجرة كانت في الحق حدثاً ذا شأن عظيم وخطر، فأما أن يبلغ من خطرها أن تكون هي الحادث يغطي على جميع الحادثات، وتغلب ذكراه ذكراها، ويرتفع اسمه فوق أسمائها، فذلك ما قد يبدو غريباً يحتاج إلى شيء من البحث والنظر. بل لقد يبدو لبعض المتعسفين أمر هذه الهجرة وكأنه مظهر من مظاهر الهزيمة، وكأنه عمل من أعمال اليأس والتسليم. وكذلك يظنه بعض الكفار، وكذلك يسميه بعض كتابهم من الإفرنج بالهرب والفرار.
ولعل أولئك الذين يصفون هذه الهجرة بأشنع الصفات، ويدعونها بشر الأسماء، هم الذين سخرهم الله من حيث لا يشعرون ليكشفوا لنا عما أدرك السلف في هذه الهجرة من روعة تتضاءل دونها كل روعة، ومن عظمة لا تدانيها عظمة، ومن حقائق وأسرار ما كنا لنهتدي(93/8)
إليها لولا أن أتاح الله لنا أولئك الحاسدين ينشرون فضل الهجرة كما تنشر النار طيب عرف العود.
وفي الحق قد كانت هذه الهجرة في ظاهرها نهاية أسيفة لمعركة حامية طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، ولقي المسلمون فيها بأساً عاصفاً وزلزلوا زلزالاً شديداً. ولعل كُتاب السيرة النبوية لم يستوفوا ما في هذه الحرب المرة من تفاصيل ودقائق، ولم يتوسعوا في وصف ما تخللها من بأس وشدة، ولعلنا لو استطعنا أن نحيط إحاطة شاملة بحقيقة هذه المعركة لوجدنا فيها قصة فريدة لمعركة كانت من أشد ما عرف التاريخ صراعاً بين الحق والباطل، واصطداماً بين كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى. لسنا نعرف من أمر هذه الحرب القاسية إلا ذلك الذي يكرره كتاب السيرة ويتناقلونه من أحاديث الصحيفة، وأحاديث التعذيب والإيذاء ونحو ذلك، ولكن الذي يدرس طبيعة هذه الحرب، ويحلل ظروف زمانها ومكانها، ويستقصي ما ورد في سياق الحديث عنها في القرآن وفي السنة، وفي كتب التاريخ لا يسعه إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه المعركة قد كانت عنيفة إلى أقصى درجات العنف، وقاسية إلى أبعد حدود القسوة، وأنها كانت أكبر محنة ابتلى بها المسلمون في صدر الإسلام، وكانت نهايتها أن تشتت المسلمون، وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. وخرج صاحب الدعوة ورفيقه عليهما السلام، كما خرج موسى كليم الله خائفاً يترقب (إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) وهكذا كانت الهجرة نهاية أسيفة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت.
ثم كانت هذه الهجرة نفسها بداية سعيدة ناجحة لمعركة طالت واشتدت بين دعوة الله ودعوة الطاغوت، وفيها عاد الله سبحانه على المسلمين بالنصر مؤزراً (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله العليا والله عزيزٌ حكيم).
ليس يشق علينا أن يقولوا عن الهجرة إنها كانت هزيمة وكانت فراراً. ولئن كانت الهجرة هزيمة فلقد كان في هذه الهزيمة النصر كل النصر والفوز كل الفوز. ولئن كانت الهجرة عملاً من أعمال اليأس والتسليم، فلقد كان مع اليأس والتسليم أمل باسم، قضى الله أن يتحقق، وغلبة شاملة أراد الله أن تتم؛ ولئن كانت الهجرة هروباً وفراراً، فلقد أعقبها رجعة(93/9)
على الكفر ساحقة، وكرة كانت القاضية.
وهل يجد المسلمون في تاريخهم، وهل يجد غير المسلمين في تاريخهم، وهل تجد البشرية كلها في تاريخها حادثة غير هذه الهجرة تستحيل فيها الهزيمة نصراً ويرتد اليأس رجاء، ويصير الفرار سلطاناً وتمكيناً؟ أم كان ذلك فضلاً من الله يختص به من يشاء، وكان فضل الله عليك عظيما!
إذا كان المسلمون قد استيأسوا يوم الهجرة وظنوا بالله الظنون، فان المسلمين قد علموا يوم الهجرة أن يد الله الرحيمة، قد امتدت من السماء فتلقت الإسلام تحفظه وتؤيده، وأحاطت بالمسلمين فهدتهم إلى طرق السعادة، وكتبت لهم أن يكونوا هم الفائزين.
لقد علم المسلمون يوم الهجرة أن الله قد كتب لهذا الدين النصر الخالد، ولن يخلف الله وعده؛ ولقد علم المسلمون يوم الهجرة أن الله وحده هو الذي يحمي هذا الدين ويدافع عنه، وأن الله وحده هو الذي يحفظ هذا الدين وينصره (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكتبهم فينقلبوا خائبين، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم).
علي عبد الرازق(93/10)
آية الهجرة
للأستاذ أمين الخولي المدرس بكلية الآداب
(وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم، وسماكم المسلمين)
(ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة)
من أول خطبة له عليه السلام بعد الهجرة
تخيرت الأمم من عيون أيامها، وأعلام أحداثها، ما جعلته ميقاتاً تؤرخ به؛ فقالت لعام كذا من وفاة الأسكندر، أو غلبة دقيانوس، أو ميلاد المسيح، أو هو من ذاك. فلما تأذن الله أن يتخذ الإسلام ميقاتاً، أبى له أن يكون مولد فلان، أو مهلك فلان، أو تملك مملك، أو مصرع متوج؛ فكل أولئك خفيف عند الله في الميزان؛ وكل أولئك لقد يهون على الزمان.
يرحم الله ابن الخطاب! لقد كره التاريخ بالوفاة؛ نفر منه طبعه، وعافته فيه قوة الحياة، فتجلت بقلبه روح الإسلام مشرقة؛ وسمت له ألمعية لبقة؛ إذ آثر لذلك المبدأ يوم جلاد، واختار له ذكرى جهاد؛ يوم غالب فيه فرد جماعات، وناضلت عزمة عزمات؛ فبينا الباطل في قبائل يتنمر، والموت على يد الأجلاد يرصد ويدبر، تصدى لذلك كله (محمد) وحده يسخر؛ (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون). ما عز عليه أن يخلي الأهل والوطن، ولا راعه أن يغترب لغير مستقر، فغلب الحق وظفر، وانتصر الإيمان وقهر، في قلة وروعة وتجرد.
تلك آية الهجرة، وذلك في اختيارها سر الفكرة، ألقاه إلى الدهر عمر، وخلده حين حمله القمر، فجعله في التاريخ تقديراً؛ وإنما بعثه لرسالة الإسلام تفسيراً، يدور مع الأيام، ويتجدد لكل عام. . . . أفيتساءل المسلمون بعد أين الطريق وكيف النجاة؟ وتلك آية الهجرة أول الحياة في تاريخهم وأول تاريخهم في الحياة!
يا شرق. . . إن لك عند القمر معنى تاريخياً، وإن لك فيه لرمزاً حيوياً؛ فإن يبد في الغرب ناحلاً نضو أسفار، فهو الطلعة يرتاد لك طريق الفخار؛ وإن يتألق في الشرق بدراً كاملاً، فهو تاج مجدك، ومثال جدك.
الآن يرزح القمر سجف الغيب عن عام جديد، فيطالع في الشرق وجوهاً ناضرة، إلى ربها ناظرة، تحييها منه إشراقة باهرة، وطلعة نيرة، تجل فيهم ما فهموا من معاني المجد والنبل(93/11)
في آية الهجرة، ووجوه. . . لا جرى القلم بوصفها، قد غلبت على أمرها. . . لكنها لم تفقد رجاءها، ولم تضعف أملها، فلن تهي ما استمسكت بعروة الإيمان (إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين). . . أولئك لهم من القمر في إشفاقه الوديع نظرة راجية، ولفتة حانية، وإيماءة نافذة، تثير ذكريات حافزة، تلهمهم معاني المجد والنبل من آية الهجرة.
أمين الخولي(93/12)
على هامش السيرة
من معجزات الهجرة
للأستاذ علي الطنطاوي
قال:
- هل لك يا سُراقةُ في مائة من الإبل؟
- قال سُراقةُ: ما أحوجني إلى عشرين! فكيف السبيل إلى مائة؟
- قال: ترد على قريش صاحبها، فقد خرج من مكة حين مكرت به قريش وأجمعت على قتله، مهاجراً إلى المدينة، فبثت قريش عيونها في سبل مكة وشعابها، وبعث رسلها فنفضوا الصحراء نفضاً فما وقعوا له على أثر، فعادوا إلى قريش بالاياس منه، فأذنت قريش في العرب، أن من رد علينا محمداً فله مائة من الإبل، وقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً، وإني لأراهم طلبة قريش. . . فهل لك أن نلحق بهم فنردهم إلى مكة ونأخذ مائة الناقة فنقسمها بيننا؟
فرقص قلب سراقة فرحاً، ولعب به الطمع؛ وكان سراقة ابن مالك الجعشمي رجلاً متعفرتاً متشيطناً، فعقد النية على أن يستأثر وحده بالغنيمة حتى تكون خالصة له، فقال لصاحبه:
- ما هؤلاء من تريد، هؤلاء بنو فلان ينشدون ضالة لهم.
فصدق الرجل وانصرف، وذهب سراقة فجلس في نَدِىّ قومه كما كان يجلس كل عشية فما اطمأن به مجلس، وما وعى من أحاديث القوم شيئاً، وإنما كان يخيلُ إليه أنه يرى قطاراً طويلاً من الإبل يمر أمامه، ويدور من حوله، فيخفق لمرآه قلبه، وتتحلب أشادقه. . . ثم طمي به الطمع، فبرح النادي إلى بيته، يلوص بعينيه آفاق المستقبل، ويقلب أوجه الممكن ويفكر في مائة الناقة.
أيملكها حتى تكون طوع أمره يصرفها كما يشاء فتلد، وتتكاثر فينحر منها، ويطعم الجائع، ويقري الضيف، ويرفد الوافد فيسير ذكره في العرب، وتنتجعه الشعراء، وتمسي بمدائحه الركبان؟ أم هو لا ينالها، ولا يفيد من سفره إلا لذع الشمس، وبرح العطش، وطول التعب؟. . .
وامتد به التفكير حتى ما يكاد يخرج منه، ولا يكاد يستقر على الرأي لحظة حتى ينتقل إلى(93/13)
غيره: لم لا أذهب؟ إني سأجدهم فأردهم على قريش. ولكن ألم تعجز رسل قريش عن أن تهتدي اليهم؟ فكيف أجدهم أنا؟. . . بل سأجدهم، إني سالك كل طريق تؤدي إلى المدينة. . . ولكن يا للسخف! ألم تسلك رسل قريش هذه الطرق كلها؟
ولما أضناه التردد أزمع أن يستفتي الحظ، ويهتدي بالمصادفة - فأخرج أزلامه فاستقسم بها، وحاول أن يشتف الغيب من خلالها: إن خرج الزلم الذي أكره (لا يضره) لم تكن النياق لي. وإن خرج الذي أحب (يضره) كانت لي، إن الحكم للأزلام. . .
وضرب بيده فخرج الزلم الذي يكره، فتألم واشتد ذلك عليه، لأنه إنما عمد إلى الأزلام ليستمد منها العزم على الذهاب لا الرغبة في القعود، ثم قال:
إنها أول مرة، وهي للشيطان! وإني ضارب الثانية، إن الثانية لآلهتنا، وضرب الثانية فخرج الزلم الذي يكره. فقال لنفسه: ما لي؟ وهل يقنع امرؤ بمرتين؟ إن المعول على الثالثة. وضرب الثالثة فخرج الزلم الذي يكره. . . فتصبب على جبينه العرق البارد، فألقى الأزلام حنقاً، وأمر غلامه أن يسرج فرسه ويقوده إلى بطن الوادي!
وتريث سراقة حتى إذا تصرم الليل، أسحر سالكاً طريق المدينة فسار فيه إلى الصباح فلم يقع من القوم على أثر. فعاد أدراجه يتبع طريق الساحل فلا يلقى فيه أحداً، حتى زالت الشمس؛ وحميت الظهيرة، وتسعرت الأرض، وأحرق جوفه العطش، وكان ينهزُه الطمع فيعدو فرسه عدواً شديداً، حتى يرى الآكام هي التي تسير عن يمينه وشماله، يأخذ بعضها بسفوح بعض. . . ثم يدركه القنوط فيدع الفرس يمشي متباطئاً متخاذلاً. . . حتى إذا بلغ منه التعب والعطش والجوع واليأس نظر فإذا عند الغار من جبل ثور محمد وصاحبه. . . فصبت القوة في عضلاته، وعادت إليه الحمية والنشاط، فصاح في الفرس، فانطلق نحو الغار كالسهم المرسل؟
قال أبو بكر رضي الله عنه:
. . . فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت
فقال: ما يبكيك؟
قلت: ما والله على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت فرسه في(93/14)
الأرض إلى بطنها. . .
فلما رأى سراقة ما رأى، وثب عن الفرس، وقد طار الخوف بلبه، وأبرأه الفزع من داء الطمع، وصاح:
- يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنقذه الله. . . وكلمه فكان من قوله له:
- كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟
ورجع سراقة، وقد اجتمعت عليه منذ اليوم المتناقضات من الأفكار والعواطف، وهاج نفسه الطمع والخوف، والأمل واليأس، فجعل يقهقه في هذه البادية، ويصرخ كمن به جنة، ولم لا يجن؟ وقد كان يأمل أن ينال الغنى ففاته ما كان يأمل، وقد فتحت فاها لتبلعه الأرض فنجا، ولم يصدر بعد هذا كله إلا بوعد دونه خرط القتاد، وخرق النار، وخوض البحار. . .
- ماذا؟ أيعدني محمد سواري كسرى، كسرى شاهنشاه ملك الملوك. . . وهو يقطع الصحراء هارباً من قومه، مختفياً في غار.
- ليس معه إلا رجل واحد - أيبتلع هذا الغار ملك كسرى وجبروته وجلاله؟ أتنتصر هذه الصحراء على ملك كسر وجنانه وأنهاره؟ أيغلب هذان المهاجران كسرى على خزائنه وجنوده وبلاده؟ ولو أن العرب اجتمعت كلها، ورمت عن قوس واحدة، ما نالت من كسرى منالاً، على أنها لن تجتمع العرب قط، ومن ذا الذي يجمع مضر بن نزار وقحطان. . . وبكراً وتغلب. . . وعبساً وذبيان. . . وأين يذهب ما بينها من دماء؟
أما إن قريشاً كانت أدرى بصاحبها حين قالت عنه ما قالت فما أراه يعجبه أن ينجو من قريش، ويفلت من أذاها حتى يكون له ملك كسرى. . . إنه والله ما يريد إلا أن يتركنا (نحن أيضاً) مجانين!
وانطلق يقهقه ويصرخ:
ويحٌ لك يا سراقة! ستلبس سواري كسر. . . كسرى شاهنشاه ملك الملوك
والفرس ينفر من صراخه، فيطير على وجهه حتى اختفى وراء الآكام. . .
ومرت السنون(93/15)
وكان يوم صائف متوقد، ففر سراقة من حره إلى حائط له، فما استقر فيه حتى سمع منادياً ينادي:
- يا سراقة بن مالك الجعْشُمي. . . . يا سراقة. . . .
فصاح: أن لبيك، وانطلق يؤم الصوت، فإذا رسول عمر يدعوه أن أجب أمير المؤمنين
وإذا الشمس بين يدي عمر تأخذ الأبصار ببريقها ولمعانها، وإذا بين يديه تاج كسر ومِنْطَقَتع. . .
قال عمر:
هلم يا سراقة، أتذكر خبر الغار، وسواري كسرى شاهنشاه ملك الملوك؟. . .
- قال: نعم
- قال. قد أذهب الله بالإسلام ملك كسرى، فلا كسرى بعد اليوم. . هات يديك
فألبسه السوارين، وقال ارفعهما فقل:
- الله أكبر! الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن مالك، أعرابياً من بني مدلج.
يا سراقة لقد انتصر المهاجرون على كسرى وقيصر، وكان لهما ملك الأرض! يا سراقة! لقد أضاء النور الذي انبثق من بطن مكة الدنيا جميعاً! يا سراقة! لقد ظفر الغار بالعراق والشام، وغلبت الصحراء العالم!
يا سراقة! لقد ملك كسرى وقيصر كبيراً قوياً، ولكن الله مع الذين آمنوا، والله أقوى. . . والله أكبر!
علي الطنطاوي
عضو (المجمع الأدبي) بدمشق(93/16)
مُحرم
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
يبشّر بالعام الجديد محرّمُ ... وينعته كلٌّ بما هو يزعمُ
فيوليه من إطرائه مُتفئّلٌ ... ويكثر من ذٍمّ له متشئمِّ
ولا يعلم الإنسان ماذا به له ... ومَنْ فيه قد يشقى ومن فيه ينعم
ومن ذا الذي فيه المنايا تغوله ... ومن ذا الذي منهن ينجو ويسلم
جديدٌ، أجل، عام جديدٌ تجّد في ... لياليه أحداثٌ بها لست أعلم
فيفرح قلبٌ بالكآبة مثقلٌ ... ويحزن قلب بالمسرَّة مفعم
وربّ سعيدٍ بالشقاء مهدّدٌ ... وربّ شقيٍ بالسعادة يحلم
ونفرح بالأعوام إمَّا تصرَّمت ... على أنَّها من عمرنا تتصرَّم
وددت لو أن العام قال منبّثاً ... وماذا يقول العام والعام أبكم؟
وللغرب أعوامٌ وللشرق مثلها ... ولكنهما الأعوام في الشرق تُسئم
وفي الغرب أفراحٌ وفي الشرق غمّةٌ ... وما الأرض إلاّ جَنّة وجَهنم
شقيقان هذا ليل أبنائه بهم ... مضيءٌ وهذا يوم أهليه مظلم
وتختلف الأخلاق إلاّ أقلّها ... ويختلف التفكير والعرق والدّم
بلى اختلفا فالغرب منصرف القُوَى ... إلى فعله والشرق بالقول مغرم
ونحن تثبّطنا، وهم قد تعجّلوا ... ونحن تأخّرنا، وهم قد تقدموا
وما كان مجدٌ كان يبنيه أهله ... كمجدٍ بأيدي أهله يتهدّم
ومن لي بعام لا يشابه غيره ... أرى فيه أظفار البغاة تقلّم
وأبخل أرضٍ بالرجولة بقعةٌ ... يضام الفتى فيها ولا يتبرّم
إذا أنت لم تألم من الضغط غاضباً ... فمن أي شيء في حياتك تألم؟
أدير عيوني في الوجوه فلا أرى ... سوى الذل مقروءًا ولا أتوسم
ليحزنني أن العنادل آثرت ... صموتاً وأن الزهر لا يتبسّم
لقد صوّح الزهر الذي كان باسما ... ولم يبق للصيداح ذاك الترنم
يريدون ألا يشكو الحزن ثاكل ... وألا يئن المثخن المتألم(93/17)
من الناس آلافٌ يعضّهم الطوى ... وفي كل ألفٍ واحدٌ يتنعّم
إذا عجز المكروب عن شرح ما به ... فعلّ دموع العين عنه تترجم
أمن قام يشكو بثّه فعو مزعجٌ ... ومّن قال يبغي حقه فهو مجرم!
وإني لا أدري وإن كنت دارياً ... أقومي تعاموا أم عن الحق قد عموا
بني وطني لا تسكتوا عن حقوقكم ... أليس لكم منكم فمٌ يتكلم
لكم ثروة في الأرض أتعابها لكم ... وأرباحها للغرب نهبٌ مقسّم
ولا خير في بدء الفتى بجليلةٍ ... إذا كان عن عجز له لا يتمّم
ولا فخر إلا للذي هو ماجدٌ ... ولا مجد إلا للذي يتقحّم
وما الحرّ إلا من إذا ضِيم لم يَلن ... وإن قال حقاً فهو لا يتلعثم
ويا رُبّ فرٍد قد أتى في جهاده ... بما لم يكن يأتي الخميس العرمرم
وما بال أبناء العروبة أصبحت ... على الذل أشتاتاً تشبّ وتهرم
وما بال أبناء العروبة سلمت ... وقد كان عهدي أنها لا تسلّم
لآلام قومي الصَّيد نفسي تألمت ... لكِ الويل يا نفسي التي تتألم
وما خفقان القلب ما أنت سامعٌ ... ولكنه آمال قومٍ تَحَطّم
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(93/18)
الرجولة في الإسلام
للأستاذ أحمد أمين
لعل من أهم الفروق التي تميز المسلمين في أول أمرهم وفجر حياتهم عن المسلمين اليوم، (خلق الرجولة) فقد غنى العصر الأول بمن كانوا هامة الشرف، وغزة المجد، وعنوان الرجولة.
تتجلى هذه الرجولة في (محمد) إذ يقول: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته). كما تتجلى في أعماله في أدوار حياته، فحياته كلها سلسة من مظاهر الرجولة الحقة، والبطولة الفذة، إيمان لا تزعزعه الشدائد، وصبر على المكاره، وعمل دائب في نصرة الحق، وهيام بمعالي الأمور، وترفع عن سفسافها. حتى إذا قبضه الله إليه لم يترك ثروة كما يفعل ذوو السلطان، ولم يخلف أعراضاً زائلة كما يخلف الملوك والأمراء. إنما خلف مبادئ خالدة على الدهر، كما خلف رجالاً يرعونها وينشرونها، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم من أجلها.
وتاريخ الصحابة ومن بعدهم مملوء بأمثلة الرجولة، فأقوى ميزات (عمر) أنه كان (رجلاً) لا يراعي في الحق كبيراً، ولا يمالئ عظيماً أو أميراً. يقول في إحدى خطبه: (أيها الناس إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه).
وينطق بالجمل في وصف الرجولة فتجري مجرى الأمثال كأن يقول: (يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: (لا) بملء فيه) - ويضع البرنامج لتعليم الرجولة فيقول:
(علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما يجمل من الشعر). ويضع الخطط لتمرين الولاة على الرجولة فيكتب إليهم. (اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب)، ويعلمهم كيف يسوسون الناس ويربونهم على الرجولة فيقول: (ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم).
من أجل هذا كله كان هذا العصر مظهراً للرجولة في جميع نواحي الحياة، تقرأ تاريخ(93/19)
المسلمين في صدر حياتهم فيملؤك روعة، وتعجب كيف كان هؤلاء البدو وهم لم يتخرجوا في مدارس علمية، ولم يتلقوا نظريات سياسية، حكاماً وقادة لخريجي العلم ووليدي السياسة - إنما هي الرجولة التي بثها فيهم دينهم وعظماؤهم هي التي سمت بهم وجعلتهم يفتحون فتحاً حربياً يعتمد على القوة البدنية وكفى، إنما يفتحون فتحاً مدنياً إدارياً منظماً، يعلمون به دارسي العدل كيف يكون العدل، ويعلمون علماء الإدارة كيف تكون الإدارة، ويلقون بعلمهم درساً على العالم أن قوة الخلق فوق مظاهر العلم، وقوة الاعتقاد في الحق فوق النظريات الفلسفية والمذاهب العلمية، وأن الأمم لا تقاس بفلاسفتها بمقدار ما تقاس برجولتها.
هل سمعت عدلاً خيراً من أن يضرب ابن لعمرو بن العاص - وهو والي مصر - رجلاً مصرياً فيستحضره عمر بن الخطاب وابنه، ثم يأمر المصري أن يضرب من ضربه وأن يضع السوط على صلعة عمرو، ثم يقول له: (مذ كم تعبدتم الناس وقد ولتهم أمهم أحراراً). أو هل سمعت عطفاً على الرعية، وأخذ الولاة بالحزم كالذي روى أن معاوية قدم من الشام على عمر، فضرب عمر بيده على عضده فتكشف له عن عضد بض ناعم. فقال له عمر: (هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك!)
أو هل سمعت قولاً في العدل يحققه العمل كالذي يقوله عمر (إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز الناس، فو الله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس) - أو هل رأيت حزماً في الإدارة كالذي فعله في مسح سواد العراق وترتيب الخراج، وتدوين الدواوين، وفرض العطاء.
حقاً لقد كان عمر في كل ذلك رجلاً، ولئن كان هناك رجال قد امتصوا رجولة غيرهم، ولم يشاءوا أن يجعلوا رجالاً بجانبهم، فلم يكن عمر من هذا الضرب، إنما كان رجلاً يخلق بجانبه رجالاً، فأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة، وكثير غيرهم كانوا رجالاً نفخ فيهم عمر من روحه كما نفخ فيهم الإسلام من روحه، وأفسح لهم في رجولتهم، كما أفسح لنفسه في رجولته.
وكان أدبهم في ذلك العصر صورة صحيحة لرجولتهم يتغنون فيه بأفعال البطولة ومظاهر الرجولة.
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد(93/20)
يعتد الشاعر بنفسه ويسمو بها عن النعماء والبأساء فيقول:
قد عِشْتُ في الناس أطواراً على طرُقٍ ... شتى وقاسيتُ فيها اللينَ والفَظَعا
كُلاِّ بلوتُ، فلا النعماءُ تُبْطِرُني ... ولا تخّشْعتُ من لأوائها جَزَعا
لا يملأُ الهوْلُ صدْرِي قبلَ موقِعه ... ولا أضيقُ به ذَرْعا إذا وَقَعاَ
ويعتز بشرفه وقوته وإبائه الضيم فيقول:
وكنت إذا قوم رمَوْني رميتهم ... فهل أَنا في ذَايالََ هَمْدَانَ ظاَلِمُ
متى تجِمَع القلبَ الذَّكِيّ وَصارِماً ... وَأنفاً حَمِيَّا تَجْتَنبِكَ الَمظَالِمُ
ويمدح رجل قوماً فيقول (انهم كالحجر الأخشن إن صادمته آذاك وإن تركته تركك)
ويقول أميرهم: (والله ما يسرني أني كُفيتُ أمر الدنيا كله قيل ولم أيها الأمير، قال لأني أكره عادة العجز) إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلى الجملة فأدبهم تام الرجولة، قد شعت فيه الحياة، وامتلأ بالقوة، حتى اللاهي الماجن كأبي محجن الثقفي: كان يغازل، وكان يشرب، ولكن إذا جد الجد وعزم الأمر كان رجلاً يبيع نفسه لدينه، ويبيع كل شيء لشرفه وشرف قومه.
ونستعرض الغزل في الجاهلية وصدر الإسلام، فإذا هو غزل قوي لا مُيُوعة فيه، ولا تخنث، لا يذوب صبابة، ولا يلتاع هياماً، ولا يفقد الرجل فيه رجولته لحبه
وقلتُ لقلبي حين لجَّ به الهَوى ... وكلَّفنِي مَا لاَ أُطِيقُ منَ الْحُبِّ
ألا أيُّها القلبُ الذي قادَهُ الهوَى ... أَفِقْ لاَ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ مِنْ قَلب
وما أنا بالنّكْسِ الدَّنِيِّ وَلاَ الذِي ... إِذا صَدَّ عَنِّي ذُو الَموَدَّةِ أَحْرَبُ
وَلكنّني إِنْ دَامَ دُمتُ وَإِنْ يكُنْ ... لهُ مذْهَبٌ عَنِّي فَلِي عنْهُ مَذْهَبُ
ولم يضن التاريخ على المسلمين من حين لآخر برجال لفتوا وجه الدهر، وغيروا مجرى الحوادث، ودفعوا عن قومهم الخطوب، وأنزلوا منزل العز والمنعة، تضيق عن وصف أعمالهم الرسائل والكتب.
ثم توالت الأحداث وتتابعت النوب، تفل من شوكتهم، وتفت في رجولتهم حتى رأيناهم بذلوا الشرف للمال، وقد كان آباؤهم ينظرون إلى دينهم وأمتهم، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً يذيق بعضهم بأس بعض، فكانوا حرباً على أنفسهم بعد أن كانوا جميعاً حرباً على عدوهم -(93/21)
ورضوا في الفخر أن يقولوا (كان آباؤنا) مع أن شاعرهم يقول:
إذا أنت لم تَحْم القديم بحادث ... من المجد لم يَنْفَعْك ما كانَ مِنْ قبل
وناثرهم يقول: (لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أَدرك به الأول)
ورأينا خير ما في الأمم حاضرها وخير ما فينا ماضينا.
أريد بالرجولة صفة جامعة لكل صفات الشرف من اعتداد بالنفس واحترام لها، وشعور عميق بأداء الواجب، مهما كلفه من مصاعب، وحماية لما في ذمته من أسرة وأمة ودين، وبذل الجهد في ترقيتها، والدفاع عنها، والاعتزاز بها، وإباء الضيم لنفسه ولها.
وهي صفة يمكن تحققها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة فالوزير الرجل من عد كرسيه تلكيفاً لا تشريفاً، ورآه وسيلة للخدمة لا وسيلة للجاه، أول ما يفكر فيه قومه، وآخر ما يفكر فيه نفسه، يظل في كرسيه ما ظل محافظاً على حقوق أمته، وأسهل شيء طلاقه يوم يشعر بتقصير في واجبه، أو يوم يرى أن غيره أقوى منه في حمل العبء، وأداء الواجب، يجيد فهم مركزه من أمته ومركز أمته من العالم، فيضع الأمور موضعها ويرفض في إباء أن يكون يوماً ما عوناً للأجنبي عليها، فاذا أريد على ذلك قال: (لا) بملء فيه، فكانت (لا) منه خيراً من ألف (نعم) وكانت (لا) منه وساماً تدل على رجولته - يقتل المسائل بحثاً ودرساً، ويعرف فيها موضع الصواب والخطأ ومقدار النفع والضرر، ثم يقدم في حزم على عمل ما رأى واعتقد لا يعبأ بتصفيق المصفقين، ولا بذم القادحين، إنما يعبأ بشيء واحد هو صوت ضميره، ونداء شعوره.
والعالم الرجل من أدى رسالته لقومه من طريق علمه، يحتقر العناء يناله في سبيل حقيقة يكتشفها أو نظرية يبتكرها، ثم هو أمين على الحق لا يفرح بالجديد لجدته، ولا يكره القديم لقدمه، له صبر على الشك، وغرام بالتفكير وبطء في الجزم، وصبر على الشدائد، وازدراء بالإعلان عن النفس، وتقديس للحقيقة، صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم، جلبت مالا أو أوقعت في فقر، يفضل قول الحق وإن أهين على قول الباطل وإن كرم.
والصانع الرجل من بذل جهده في صناعته، فلم يشأ إلا أن يصل بصناعته إلى أرقى ما وصلت إليه في العالم، عشقها وهام بها حتى بلغ بها ذروتها، يشعر بأنه وطني في صناعته(93/22)
كوطنية السياسي في سياسته، وأن أمته تخدم من طريق الصناعة كما تخدم من طريق السياسة، وأن الصناعة لا تقل في بناء المجد القومي عن غيرها من شؤون الدولة، فهو لهذا يحسن فنه، وهو لهذا يحسن سلوكه، وهو لهذا يرفض ربحاً كثيراً مع الخداع، ويقنع بربح معتدل مع الصدق، وهو لهذا كله كان رجلاً.
بل الرجولة تكون في المعنويات كما تكون في الماديات، فالرأي العام هو الرأي العام اليقظ، شديد التنبه لما يحيط به من مخاطر، يعرف كيف يدفع عنه الأذى إذا نيل منه، ويصد الشر إذا نزل به، صحيح التقدير لأعمال الرجولة، شديد الاحتقار للنذالة، يظهر إعجابه للمحسن أيا ما كان في أشكال تدعو إلى الإعجاب، ويظهر ازدراءه للمسيء أيا ما كان في أشكال تدعو إلى الإعجاب أيضاً، ولا يكون الرأي العام رجلاً حتى تشيع في أفراد الأمة الرجولة وتكثر فيهم البطولة - وفي الرجولة متسع للجميع، فالزارع في حقله قد يكون رجلاً، والتلميذ في مدرسته قد يكون رجلاً، وكل ذي صناعة في صناعته قد يكون رجلاً، وليس يتطلب ذلك إلا الاعتزاز بالشرف وإباء المذلة.
من لنا ببرنامج دقيق للرجولة كالبرنامج الذي يوضع للتعليم، يبدأ يرعى الطفل في بيته فيعلمه كيف يحافظ على الكلمة تصدر منه كما يحافظ على الصك الذي يوقع عليه، ويعلمه كيف يكون رجلاً في ألعابه، فيعدل بين أقرانه في اللعب كما يحب أن يعدلوا معه، ويلاعبهم بروح الرجولة من حب ومساواة ومرح في صدق وإخلاص.
ويسير مع التلميذ في مدرسته، فيعلمه كيف يحترم نفسه، وكيف لا يفعل الخطأ وإن غفلت عنه أعين الرقباء، ولا يغش في الامتحان ولو تركه المعلم وحده مع كتبه؛ وكيف يعطف على الضعفاء ويبذل لهم ما استطاع من معونة.
ويتمشى مع الطالب في جامعته فيعوده الاعتزاز بنفسه والاعتزاز بجامعته والاعتزاز بأمته. ويبعثه على أن يفكر في غرض شريف له في الحياة يسعى لتحقيقه - حتى إذا ما أتم دراسته كان قاضياً رجلاً أو معلماً رجلاً، أو سياسياً رجلاً، وعلى الجملة إنساناً رجلاً.
ويتابع الأمة فيضع لها الأدب الذي يبعث قوة، والأناشيد والأغاني التي تملأ النفس أملاً. ويراقب في شدة وحزم دور السينما والتمثيل والملاهي، فلا يسمح بما يضعف النفس ويلثم الشرف، ولا يسمح بما يحي الشهوة ويميت العزيمة، ويأخذ على أيدي الساسة والحكام(93/23)
ورجال الشرطة، حتى لا يقسوا على الناس فيميتوهم، ولا يرهبوهم فيذلوهم.
من يبادلني فيأخذ كل برامج التعليم، وكل ميزانية الدولة ويسلمني برنامجاً للرجولة وميزانية لتنفيذه ليس غير.
ولي كبد مقروحة، من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح؟
أحمد أمين(93/24)
حقيقة المسلم
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لا يعرف التاريخ غير محمد (صلى الله عليه وسلم) رجلاً أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها، فتحو لها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو (صلى الله عليه وسلم) وجودٌ سارٍ فيها فما تبرح الإنسانيةُ تنمو به وتتحول.
كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعت الله تاريخ العقل بآدم جديدٍ بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانيةُ دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها. كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان محمدٍ سرُ كمالها.
ولهذا سمي الدينُ (بالإسلام)؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملهافي كمالها ومعاليها؛ فلاحظ له من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ.
وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ: مبدأ إنكار الذات و (إسلامها) طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها؛ وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي. وهو أبداً يروضها على هذه الحركة ما دام حيا؛ فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية: يروضها على ذلك كل يوم وليلةٍ خمس مراتٍ مسماةٍ في اللغة خمس صلوات، لا يكون الإسلام إسلاماً بغيرها؛ فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم): هي عماد الدين.
بين ساعاتٍ وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكارٌ لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظاتٍ في حيز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها. ومعنى ذلك كله طرقاً تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها!(93/25)
وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء الإسلام ليهدي الإنسانية إليها؛ حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا المهلكة حرباً في خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه؛ فلا يكون ذهبه وفضته ما كتبت عليه (صنع في مملكته نفسي)؛ ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ حسب، بل للعطاء أيضاً؛ فان قانون المال هو الجمع؛ أما قانون العمل فهو البذل.
بالانصراف إلى الصلاة وجمع النية عليها، يستشعر المسلم أنه حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده.
وبالقيام في الصلاة، يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده.
وبالتوالي شطر القبلة سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة؛ فيحمل قلبه معنى الاطمئنان والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها.
وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون.
وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالساً فوق الدنيا يحمد الله ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو.
وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالاً جديداً من جهتي السلام والرحمة.
هي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقتٍ وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من وراءه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع. هي خمس صلوات، هي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلبُ مما امتلأ به من الدنيا، فما أدق وأبدع وأصدق قوله صلى الله عليه وسلم: (جُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة).
لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعاً للصيغة العملية التي تنتظم الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها حراساً على القلب المؤمن كأنها ملائكةٌ من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملاً(93/26)
إصلاحياً وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخلق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سمو فوق الحياة بثلاث طبقات، وتدرج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعادٌ عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.
وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمةُ التي أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) دنيا أسلمت طبيعتها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة العجيبة أن إقليماً من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين؛ وكأن الله تعالى ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثه الإلهي لأمره، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غسلت بها الدنيا. . .
لهذا سمع المسلمون الأولون كلام الله تعالى في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يسمعون القول، ولكن كما يتلقون الحكم النافذ المقضي؛ ولم يجدوا فيه البلاغة وحدها، بل روعة أمر السماء في بلاغة؛ واتصلوا بنبيهم، ثم بعضهم ببعض، لا كما يتصل إنسان بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوة المد، ثم كما يمد بعضها بعضاً في قوةٍ واحدة.
وحققوا في كماله (صلى الله عليه وسلم) وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يرى فيه الشيء لا شيء.
ورأوا في إرادته (صلى الله عليه وسلم) النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس، فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتبٍ ولا علمٍ ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده.
وعرفوا به (صلى الله عليه وسلم) تمام الرجولة؛ ومتى تمت هذه الرجولة تمامها في إنسان رجعت له الطفولة في روحه، وامتلك تلك الطبيعة التي لا يملكها إلا أعظم الفلاسفة والحكماء، فأصبح كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخطوات مُسددةٍ لا تزيغ ولا تنحرف فلا شر ولا رذيلة، ودنياه هي الدنيا كلها بشمسها وقمرها، يملكها وإن لم يملك منها شيئاً ما دامت في قلبه طبيعةُ السرور، فلا فقر ولا غنى مما يشعر الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غني كامل، إذ لم تعد القوة في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها، بل القوة في(93/27)
الروح التي تتصرف بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولة النامية المتغلبة، حتى لتجعل من النور والهواء ما يُؤتَدَمُ به مع الخبز القفار، كما يؤتَدَمُ باللحم وأطايبِ الأطعمة.
وبذلك لا تتسلط ضرورةٌ على الجسم - كالجوع والفقر والألم ونحوها - إلا كان تسلطها كأنه أمرٌ من قوةٍ في الوجود إلى قوةٍ في هذا الجسم أن تظهر لتعمل عملها المعجز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على أغصانها الخضر؛ لو قالت: (إن ثروتي في الحياة هي الحياةُ نفسها، فليس لي فقرٌ ولا غنى، بل طبيعةٌ أو لا طبيعة. . .).
ولقد كان المسلم يضرب بالسيف في سبيل الله، فتقع ضربات السيوف على جسمه فتمزقه؛ فما يُحسها إلا كأنها قُبل أصدقاء من الملائكة يلْقونه ويعانقونه!
وكان يبتلى في نفسه وماله، فلا يشعر في ذلك أنه المُرزأُ المبتلى يُعرف فيه الحزنُ والانكسار، بل تظهر فيه الإنسانية المنتصرة كما يظهر التاريخُ الظافرُ في بطله العظيم أصيب في كل موضعٍ من جسمه بجراح، فهي جراحٌ وتشويهٌ وألم، وهي شهادةُ النصر!
ولم تكن أثقالُ المسلم من دنياه أثقالاً على نفسه، بل كانت له أسباب قوةٍ وسمو؛ كالنسر المخلوق لطبقات الجو العليا، يحمل دائماً من أجل هذه الطبقات ثقل جناحيه العظيمين.
وكانت الحقيقةُ التي جعلها النبيُ (صلى الله عليه وسلم) مثلهم الأعلى، وأقرها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله - أن الفضائل كلها واجبةٌ على كل مسلم لنفسه، إذ أنها واجبة بكل مسلم على غيره؛ فلا تكون في الأمة إلا إرادة واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو إلا روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعماله وحدها؛ المسلم إنسانٌ ممتدٌ بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها، لا إنسانٌ ضيقٌ مجتمعٌ حول نفسه بهذه المنافع؛ وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر: تقول الأمانة لكليهما: (لا قيمة لميزانك إلا أن يصدقه ميزان أخيك. .).
ولن يكون الإسلام صحيحاً تاماً حتى يجعل حامله مثلاً من نبيه في أخلاق الله؛ فما هو بشخص يضبط طبيعته، يقهرها مرةً وتقهره مراراً؛ ولكن طبيعةٌ تضبط شخصها فهي قانون وجوده؛ لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟ لا يخاف من(93/28)
شيء، وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟ لا يخشى مخلوقاً، وكيف يخشى ومعه الله؟
أيها الأسد، هل أنت بجملتك إلا في طبيعة مخالبك وأنيابك. . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(93/29)
الدفاع عن الإسلام
للأستاذ توفيق الحكيم
قرأت لتسع سنوات خلت قصة فولتير التمثيلية (محمد)، فخجلت أن يكون كاتبها معدوداً من أصحاب الفكر الحر. فقد سب فيها النبي سباً قبيحاً عجبت له. وما أدركت له علة، لكن عجبي لم يطل، فقد رأيته يهديها إلى بنوا الرابع عشر بهذه العبارات:
(فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. والى من غير وكيل رب السلام، والحقيقة أستطيع أن أتوجه بنقدي قسوة نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه؛ وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة. وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القدسيتين) (فولتير 17 أغسطس 1745).
وعلمت في ذلك الحين أن روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية، فاطلعت على ما قال في قصة (محمد) علني أجد ما يرد الحق إلى نصابه، فلم أر هذا المفكر الحر أيضاً يدفع عن النبي ما أُلصق به كذباً، وكأن الأمر لا يعينه، وكأن ما قيل في النبي لا غبار عليه ولا حرج فيه، ولم يتعرض للقصة إلا من حيث هي أدب وفن. ولقد قرأت بعد ذلك رد البابا بنوا على فولتير، فألفيته رداً رقيقاً كيساً لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب. فعظم عجبي لأمر فولتير، وسألت نفسي طويلاً: أيستطيع عقل مثقف كعقل هذا الكاتب العظيم أن يعتقد ما يقول. دين تبعه آلاف الملايين من البشر على مدى الأجيال، هو في نظره حقاً دين كاذب؟ ومبادئ إنسانية كالتي جاء بها الإسلام، هي عنده حقاً مبادئ بربرية؟ أم إنه التملق والزلفى والنفاق. وإن الزمن والتاريخ يضعان أحياناً أقنعة زائفة على نفوس تزعم أنها خلقت للدفاع عن حرية الفكر. . .
منذ ذلك اليوم وأنا أحس كأني فجعت في شيء عزيز لدي: الإيمان بنزاهة الفكر الحر. ولقد كنت أحياناً ألتمس الأعذار لفولتير، وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملة أو ملق، بل عن عقيدة وحسن طوية استناداً على علم خاطئ بأخبار النبي، ولكن كتابه إلى البابا كان يتهمه اتهاما صارخاً، ويدع مجالاً للشك في دخيلة أمره. إني قرأت لفولتير كتباً أخرى كانت تكشف عن آراء حرة حقاً في مسائل الأديان، وتنم عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب(93/30)
الذميم، فما باله عند عرض لذكر محمد والإسلام كتب شيئاً هو التعصب بعينه، تعصبٌ لدينه، ذهب فيه إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن فولتير كان في ذات يوم من خدامها المخلصين. هي الأطماع التي كانت تدفع فولتير فيما أرى إلى التمسح بأعتاب الملوك والبابوات، ولقد يقدم ثمناً لذلك أفكاره الحرة أحياناً. منذ ذلك الحين وفولتير عندي متهم، ولن أبرئه أبداً، ولن أعده أبداً من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر. وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلماً وزوراً. على أن الذين يدعو إلى الدهش أكثر من كل هذا أن الشرق والإسلام وقفا من الأمر موقف النائم الذي لا يعي ولا يشعر بما يحدث حوله، فلم أر كاتباً من كتاب الإسلام قام في ذلك الوقت يدفع عن دينه هذا الهراء الذي قال فولتير، ويقذف في وجه هذا الكاتب بالحقائق الباهرة القاطعة، أو أن مؤلفاً وضع كتاباً يبرز فيه شخصية النبي الخيرة العظيمة واضحة جلية. لقد كان الشرق في ليل هادئ بهيم لم تثر فيه حركة فولتير يومئذ ساكناً، ولكن اليوم قد تغير الأمر، ولاجت في أفق الشرق خيوط الفجر، وقام في هذا القرن كتاب يمجدون عقيدتهم وهم يعلمون أن في ذلك تمجيداً للحق وللشرق، فان المسألة ليست مسألة دين فقط، إنما هي أيضاً مسألة جنس وقومية؛ وإذ تقول أوربا: (الإسلام) فإنما تعني في غالب الأحيان (الشرق) إن الحروب الصليبية في حقيقتها لم تكن إلا حرب الغرب على الشرق؛ وإن الفتح الإسلامي عندما بلغ فرنسا وهدد أوربا لم يكن في الواقع إلا حرب الشرق على الغرب. هذا المد والجزر بين الغرب والشرق يفهمه مفكرو الأوربيين تمام الفهم، ويحسبون له الحساب، ويعملون دائماً على أن تكون الغلبة لهم آخر الأمر، أو أن يطيلوا على الأقل أمد غلبتهم إن كان لابد من تبدل الحال ومن دوران الفلك طبقاً لناموس أعلى لا قبل لهم به. فالدفاع عن شخصيتنا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا، وإن الكتابات التي توجه لهذا الغرض النبيل ينبغي أن يكون لها علينا حق المؤازرة والتعضيد؛ وإني لست بناقد منقطع للنظر في أعمال المؤلفين وتقدير ما يكتبون، ولكني أريد أن أشير إشارة سريعة إلى ثلاثة أساليب مختلفة من أساليب الكتابة، اتجهت في العصر الحديث إلى هذه الغاية، كل في دائرته.
ففي الكتابة الدينية: (الرد على هانوتو) للأستاذ الإمام محمد عبده، فلقد نشر هانوتو الكاتب(93/31)
والوزير الفرنسي يوماً مقالة جاء فيها:
(لقد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية، اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجاري حاملين في حقائبهم بعض بقايا البيزنطيين (يونان الشرق) ثم تراموا بها على أوربا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا، بل أقرب في الصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبت فيها أقدامهم أحقاباً متعاقبة) ثم قال في موضع آخر: (وقصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي، فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد. قال جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك فيهم فتكاً ذريعاً، بل هي مرض مريع وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء، ويدمن على معاقرة الخمور، ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الأتيان بمظاهر الهستريا (الصراع) العامة والذهول العقلي، وتكرار لفظة الله إلى ما لانهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهية لحم الخنزير، والنبيذ، والموسيقى، والجنون الروحاني، والليمانيا، والماليخوليا، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات) الخ الخ
أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع، كما يقول المسيو كيمون (وأن الواجب إبادة خمسهم) كما يقول أيضاً (والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر) وهذا أيضاً قوله (. . وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري. . أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو 130 مليوناً مسلماً، وأن من الجائز أن يهب هؤلاء (المجانين) للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم. . الخ الخ)
فما ظهر هذا الكلام في صحيفة المؤيد، حتى قام الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لساعته مجرداً قلمه وكتب نحو أربع مقالات هي أقوى ما قرأت دفاعاً عن الإسلام، وإظهاراً لحقيقة مبادئه الخافية على أغلب الأوربيين. وقد ورد على هانوتو فيما أوردنا صائحاً: (ما هذا(93/32)
التمدين الآري الذي كانت عليه أوربا عندما انتقص أطرافها المسلمون؟؟)
هل كانت تلك المدنية هي التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله وبين الاعتراف بالعقل، نعم هذا هو الذي كان معروفاً عند الغربيين وقت ما ظهر الإسلام.
ماذا حمل الإسلام إلى أوربا، وما هي المدنية التي زحف عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل الفرس والمصريين والرومانيين واليونانيين. نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية المتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون.
إني أكيل لمسيو هانوتو إجمالاً بأجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به.
إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوؤها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها مدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم، بعد ما سقت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة).
ثم رد الامام في موضع آخر: (يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره والإسلام إسلام، والمسلمون مسلمون، ولو استشم مسيو (كيمون) الذي استشهد هانوتو بكلامه ريح العلم لما استفرغ ذلك القذر من فيه، ولا حاجة إلى الكلام فيه، فسخافة رأيه وقلة أدبه تكفيه.
من أين أُتى المسلمون وكيف دخل عليهم في عقائدهم بالتشبيه، وفي عوائدهم بالتمويه؟ وممن تعلموا الافتراس، وعمن أخذوا الضراء بالشهوات؟ أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون، والله من ورائهم محيط.
اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوا الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم وما عليهم.(93/33)
حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل وحصدت العقائل، وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه (كيمون).
أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم لسلمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله على لسان نبيه، ومهده لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة ودبت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح شراً عليهما مما يخشونه من دين شوهته البدع.
يرى كيمون أن تخلى وجه الأرض من الإسلام والمسلمين، ويستحسن رأيه هانوتو لولا ما يقف في طريق ذلك كثرة عدد المسلمين؛ وبئسما اختارا لسياسة بلدهما أن يظهرا ضغنهما، ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلهما.
أما فليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة، وقد يقول فيه المنصفون من الانكليز مثل (اسحق طلير) وهو قس شهير ورئيس في كنيسة:
(إنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والاقدام من أنصاره).
بهذا القلم وهذه المعرفة وهذا الذهن، وقف رجل الإسلام الحديث محمد عبده يذود عن بيضته أمام عدوان جهابذة الفكر والقلم من الأوربيين.
أما في الكتابة الأدبية، فأذكر (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين، ففي هذا الكتاب دفاع عن الإسلام كما يستطيع الأدب البحت أن يدافع. فهو لا يسلك الطريق المستقيم في الكلام عن الإسلام، ولا يلجأ إلى التدليل العقلي، إنما يخلق جواً شعرياً يحبب إلى النفس سيرة النبي وبيئته؛ وقد عمد الدكتور طه حسين إلى الأساطير ينسج منها هذا الجو الأدبي الجميل، وتلك وسيلة الأدب والفن، ومن ذا يقرأ هذا الوصف لبلاد النبي ولا تأخذه روعته؟:
(هنالك دعت (آمنة) إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء وأعجبن بكل شيء، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكاراً(93/34)
وإكباراً وإعجاباً - فقد كانت ترى وهي يقظة غير نائمة أن نوراً ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينيها، وكانت تنظر فترى قصور بصري في أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى في أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نوراً كله، لا ظلمة فيه وإنما هو مشرق مضيء، أو هو الإشراق الخالص، وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر، فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليه).
لقد دافع طه حسين عن الإسلام في كتابه (على هامش السيرة) وإن كان لم يقصد إلى ذلك. فان الأدب الصرف والفن الصرف لا يقصدان أحياناً إلى شيء، ولكن في مجرد صوتيهما أبلغ الكلام.
أما في الكتابة العلمية فها هو ذا كتاب (حياة محمد) للدكتور محمد حسين هيكل بك. ولو أني أعتقد أن أسلوب الدكتور هيكل في (حياة محمد) يدخل أيضاً في منطقة الكتابة الأدبية، فان هذا الكتاب يعتبر في نظري من كتب (التراجم والسير) التي يضعها الكتاب الأدباء، لا من البحوث العلمية التي يؤلفها المؤرخون العلماء ويعنون فيها بإضافة شيء جديد إلى العلم المعروف، أو استكشاف وثيقة من الوثائق التحريرية أو الآدمية، أو تحقيق مصدر من المصادر. على أن كتاب هيكل هو بلا نزاع أول سيرة نبوية خليقة أن تمثل تطور العقلية الإسلامية في هذا العصر الحديث.
وما أشق انتظارنا هذه الأجيال الطويلة لهذه السيرة الحديثة نضعها إلى جانب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وطبقات ابن سعد وغيرها من السير القديمة حتى يستطيع عصرنا أن يجهر بأنه فعل شيئاً من أجل الإسلام.
ولو ان الأستاذ الشيخ محمد عبده حي اليوم لاستقبل هذا الكتاب بمثل ما استقبله به الأستاذ الشيخ المراغي، فرحاً بهذا القلم الجديد ينهض لخدمة الحق والإسلام.
ولقد ذكرت هذه الكتاب وهذه الأساليب الثلاثة بالذات لما رأيته فيها من نظرة جديدة إلى محمد والإسلام. نظرة ملؤها الاكبار الصادر عن فكر حر لا عن تعصب أعمى. ان الناس(93/35)
لم تعد تعني بتلك الكتب المفعمة بالثناء الأجوف والألقاب الطويلة يحاط بها اسم النبي، وهو في عظمته أجل من أن يحتاج إليها. إنما تريد الناس اليوم حقيقة مجردة ناصعة هي في تجردها أجمل وأسمى وأبلغ في النفوذ إلى القلوب، وهذا ما صنع هيكل بك في كتابه (حياة محمد) على نحو خليق بالثناء، فلقد أسقط من حياة النبي تلك المعجزات التي لا تغني من الحق شيئاً ما دمنا في مجال التدليل العقلي، وأظهر شخصية النبي عظيمة في بشريتها السامية، وأبان عن غرض النبي والدعوة إلى دين جوهره اقتناع النفس بالحقيقة العليا. ان هذه النظرة الجديدة فيها إجلال للنبوة. وان أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات قد أثموا في حق الفكر البشري قبل أن يأُثموا في حق الدين.
ان المعجزة: أي الإتيان بعمل خارق للمعتاد لا يدل على شيء ولا يثبت نبوة ولا يدحضها. فان من الكهان أو بسطاء الناس من يملكون أحياناً تلك القوى الخارقة في أجسامهم أو عقولهم أو أرواحهم دون أن يكونوا من أجل ذلك أنبياء. إن النبي ليس في حاجة إلى معجزة كي يكون نبياً. إنما النبي من حمل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة بغير ذلك، فقد بلغهم رسالته واعتمد في إثباتها على العقل المجرد.
ولقد جاء في كتاب هيكل بك: (لما جهد المسلمون عطشاً أثناء مسيرة جيش العسرة إلى غزوة تبوك ثم أمطرتهم السماء ذهب بعضهم إليه (إلى النبي) يقول إنها معجزة، فكان جوابه: (إنما هي سحابة مارة)؛ ولما كسفت الشمس يوم اختار الله ابنه إبراهيم إلى جواره قال الناس: (إن هذا الكسوف معجزة) فكان جوابه: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته) هذا جواب محمد الذي قيل إنه نبي كاذب!!! فهل يمكن أن يكون هذا جواب نبي كاذب؟؟
ان في كتاب هيكل صفحات تصلح رداً بليغاً على فولتير. إن محمداً هو أعظم من فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزة في هذا الكون هي انه لا يوجد في الكون معجزات، وأن كل شيء يسير طبقاً لنظام دقيق. وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد أحد تبدو سعته في إدارة الأجسام غير المحدودة في الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها في كل شيء، يد واحدة لا تتغير وقانون واحد لا يتغير. إن محمداً كما يبدو في وصف الدكتور هيكل قد تأمل الطبيعة كثيراً،(93/36)
وفكر ملياً في نظامها العجيب فكشف عن بصيرته وبصره فامتلأقلبه بالله، كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء دينه ديناً كاملاً، صادقا في نظر القلب والعقل معاً. ولئن كان على الأرض نبي أحب العلم، ولم يخش دينه العلم، ولم يضطهد العلماء، فهو (محمد) الذي قال: (فضل العلم خير من فضل العبادة) (اطلب العلم ولو في الصين) وكثيراً من الأحاديث التي تثني على العلم وتحض عليه. ذلك أن مصدر اقتناع العلم ومصدر اقتناع محمد واحد: الكون وملاحظة ما فيه من إبداع ينم عن يد الخلاق العظيم.
في كتاب حديث العالم انشتين فصل ذكر فيه رأيه في الدين، قال إنه يعتنق ما يسميه (الديانة الكونية) تلك الديانة التي تملأ قلب كل عالم انقطع لتأمل (ذلك التناسق العجيب بين قوانين الطبيعة وما يخفي من عقل جبار لو اجتمعت كل أفكار البشر إلى جانبه لما كونت غير شعاع ضئيل أقرب القول فيه انه لا شيء).
لا ريب عندي أن إحساس انشتين نحو الكون والله هو عين إحساس محمد يوم كان يتحنث في غار حراء قبل نزول الوحي. لنما الأنبياء والعلماء قلوب واعية تشعر بجلال الله. ولا يمكن لنبي أن يكون نبياً إلا أن يشعر من تلقاء نفسه بعظمة الخليقة ويتحرق شوقاً إلى معرفة صانعيها، ولا يزال الشوق بقلبه حتى يكشف له الصانع الأعظم عن بعض نوره، ويوحي إليه بنشر هذا النور على الإنسانية. أني كلما تأملت شخصية محمد مجردة ثبت إيماني بأن الخصومة المعروفة بين العلم والدين ليس لها في الحقيقة وجود، وان الدين الحق لا يتعارض والعلم الحق. . . بل إن الدين والعلم شيء واحد، كلاهما يطلب نور الله ويريد وجه، وكلاهما يعي ويؤمن ويلهج بتناسق الوجود ووحدة قوانينه ودلالة وحدة الوجود على وحدة الخالق. ولم يظهر نبي حق ولا عالم حتى شعر بغير ذلك. إنما الفارق بين العلم والدين في السبل التي يسلكها كل في الدنو من الله. ومن قال إن وسائل العلم ينبغي أن تماثل وسائل الفن أو وسائل الدين؟؟؟
إن الطرائق والسبل يجب أن تظل مختلفة مميزة لا يختلط بعضها ببعض، إنما المصدر واحد دائماً والغاية واحدة. فما الدين والعلم والفن إلا خيوط ثلاثة كتب على بشريتنا القاصرة العمياء أن تتمسك بها لتهتدي إلى ذلك النور الذي لا بداية له ولا نهاية: الله
إن الإسلام وهو أحدث الأديان، وهو الذي لم يخاصم العلم، وهو الذي أتسع صدره لكل(93/37)
شيء يصلح فيما يرى الدكتور هيكل لمعالجة أزمات العالم الحاضر، الروحية والاجتماعية والاقتصادية. وهو رأي صادق إذا قيض الله للإسلام رجالاً ذوي نظرة وذهن مستنير واطلاع واسع، يبرزون فضائله بأساليب جديدة، ويتولون إذاعته والدفاع عنه بأقلام ذكية قديرة. ولقد صنع هيكل كثيراً في هذا السبيل بأسلوبه الجديد في (حياة محمد). ولئن كان قد أثم في دنياه فلقد اشترى بكتابه آثامه!!! ولسوف يتقدم يوم الدين وكتابه بيمينه يشفع له في دخول الجنة!!! ولسوف يدخلها بأذن الله متأبطا ذراع طه حسين بما قدمت يمناه هو أيضاً من كتاب أدبي جميل (على هامش السيرة)، كان له ولا ريب الأثر في حمل الناس على استمراء أخبار النبي، ولهما بعد ذلك ولأمثالهما ممن دافعوا ويدافعون عن الإسلام خير التحية: فإني قلتها وأقولها دائماً: ليس الأمر أمر عقيدة وديانة، إنما هو إلى جانب هذا أمر حياة تلك الكتلة التي يسميها الغربيون: الشرق. وما الدفاع عن الإسلام إلا الدفاع عن الشرق.
توفيق الحكيم(93/38)
صفحة من التاريخ - ليسمع العلماء
مشايخ الأزهر والسياسة في القرن الثامن عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
حدث غير مرة في تاريخ العالم أن تصدى رجال الدين أو رجال العلم للسياسة ولم يكونوا في ذلك مختارين، بل كانت الظروف تدفعهم إلى موقف يجدون فيه أنفسهم مسئولين عن التدخل في أمر السياسة. فلا يجدون مفراً من أن يضطلعوا بحملهم، حدث أن بابا (روما) وجد نفسه حيال حكومة غالبة في إيطاليا من قوم أجانب عن أهلها جنساً ولغة، وذلك عندما استولى القوط على إيطاليا ونزعوها من سائر الدولة الرومانية. وكان البابا بغير شك زعيم القوم في أمور الدين، فكان الغالبون من القوط يلجأون إليه فيما يمس قومه لكي يلتمسوا عنده رضا أهل البلاد. وكان أهل البلاد في الوقت عينه يتطلعون إليه لكي يقف على رأسهم ويحفظ عليهم كيانهم وتقاليدهم، ويتوسط عند أهل الدولة فيما يمس مصالحهم وأمور دنياهم. فكان لا غنى للبابا عن النظر في أمور الدولة، ولا مندوحة له عن التدخل في أمور السياسة. وكان هذا هو شأنه عندما ذهبت دولة القوط وحكمت إيطاليا دولة اللمبارديين، فان البابا وقف الموقف عينه، ووجد نفسه بطبيعة الظروف القاهرة ممثل الإيطاليين وزعيمهم والناطق بلسانهم إذا ما احتاج الأمر إلى من ينطق بلسان أهل البلاد في وجه الدولة اللمباردية الحاكمة. وكذلك كان الحال عند ما جاء الروم إلى مصر وفتحوها وأقاموا بها الحكم على المصريين، فان بطريق المصريين كان يحكم مركزه الديني زعيماً في قومه في أمور الدين، فلما جاء الروم صار ذلك الزعيم الديني مضطراً إلى أن يمثل قومه عند الحكام وينطق بلسانهم ويتصدى لأمورهم، حتى لقد أصبح بطريق المصريين في آخر الأمر هو الممثل القومي للمصريين؛ وكم وقف البطارقة على رأس الشعب المصري في وجه الحكم الأجنبي الروماني، ومن هؤلاء البطريق الأكبر بنيامين الذي ناله من التصدي لأمور السياسة أكبر الأذى، وتحمل النفي والخوف، وتحمل أتباعه من رجال الدين ألوان العذاب في سبيل استقلال مصر كما كانوا يفهمونه.
إذن لم يكن لمصر أن تخرج عن هذه السنة الطبيعية، فإنها كانت في القرن الثامن عشر تحكمها حكومة على رأسها الباشا ممثل السلطان التركي، ويعاونه الأمراء المصريون الذين(93/39)
هم من أجناس غير مصرية الأصل. فكان لابد لهذا النظام أن يتجه إلى ممثلي الشعب وزعمائه، وكان لابد له أن يلجأ إليهم في كثير من الأحوال لكي يسترضي ذلك الشعب ويتحبب إليه ويسهل بذلك طريق الحكم. وكان لابد كذلك للشعب من أن يتخذ له ممثلين من صفوفه وأن يجعل له زعماء يهرع إليهم إذا آذاه شيء من جانب الحكومة الأجنبية التي تحكم البلاد.
وكان علماء الأزهر الطبقة المستنيرة من الشعب، وهم الذين يعرفون تقاليد الحكم الإسلامي في الدول الماضية، وهم الذين يعرفون العرف الذي جرت عليه الأجيال الماضية في أيام الحكومات المستقلة الجليلة التي حكمت البلاد من قبل. فكان من الطبيعي أن يتصدر هؤلاء العلماء في الحوادث، وأن يلجأ إليهم أهل مصر عندما تلم بهم ملمة يطلبون إليهم أن ينادوا بالحق الذي يبيحهم إياه القانون، وأن يطالبوا بالحريات التي كفلها لهم العرف والدين في الأجيال المتعاقبة. ولقد تصدر جماعة من هؤلاء العلماء وقاموا بما وجب عليهم في ذلك قياماً محموداً؛ وإنا لذاكرون هنا بعضهم اعترافاً بما كان من فضلهم على البلاد.
ولو شئنا أن نفصل مواقف مشايخ الأزهر في أمور السياسة لما اتسع لذلك مجال القول هنا. ولهذا سنجتزئ بذكر ما كان منهم في موقف واحد في تاريخ مصر في القرن الثامن عشر في الوقت الذي اشتد فيه عبث مراد وابراهيم بالمصريين.
بلغت محاولات مصر نحو الاستقلال قصاراها في عهد علي بك الكبير، ثم قضي عليها إذ كان الوقت لم يحن بعد للاستقلال الدائم، إذ أن الاستقلال لا يمكن أن يدوم إلا إذا قام على دعامة قوية من الشعب، وهذا ما كان ينتظر حدوثه حتماً في يوم من الأيام. غير أن الملك المصري الذي حكم بعد علي بك الكبير لم يكن بأقل منه قدراً، ولا بأهون منه خطراً، ولا بأهدأ منه حماسة للاستقلال. وقد أراد الله ألا تطول أيامه فمات والبلاد في أشد الحاجة إلى وجوده ليقوم على ملكها ويسيطر على زعماتها. فوقعت السلطة في أيد طائشة ليس لها خبرة بالحكم ولا مكانة في القلوب، وأصبح الأمر في يد مراد وإبراهيم وهما من مماليك أبي الذهب، ولكنهما لم يكونا بعد قد صفوا وجربا وظهرا في الحوادث بالمظهر الذي يرشحهما ترشيحاً صادقاً لحكم البلاد، فحكما وكان حكمهما تجربة قاسية.
كان الشعب المصري قد خضع لعلي بك الكبير ولمحمد بك أبي الذهب منذ رأى فيهما(93/40)
ملكين عظيمين قادرين على حمايته وحكمه، ولكنه لم يجد في مراد وإبراهيم غير طاغيتين متجبرين لا ينظران من الحكم إلا إلى النفع، ولا يعرفان من أساليبه إلا الكبرياء والسطوة. ومنذ رأى في الحاكمين الجديدين هذا تحرك واضطرب ووقف على استعداد للدفاع عن مصلحته وكرامته ثابتاً متنبهاً.
وكان مشايخ الأزهر هم الطبقة المستنيرة من أبناء مصر الصميمين، جاءوا جميعاً من قراها وأريافها ومدنها، فكانوا من بين صفوف الشعب وأبناء الأرض يحسون ما يحسه الناس وينظرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم. وقد زادوا على إخوانهم ميزة كبيرة بأنهم حفظوا في صدورهم نصوص الشريعة والآراء المختلفة في أحكامها وحفظوا ما تخلف من تراث القرون من عرف وما يبيحه القانون الإسلامي لأفراده من حقوق وحريات. فكان من الطبيعي أن يقفوا من الشعب المصري موقف الزعامة في كل حادث جليل، وأن ينطقوا باسمه ويعربوا عما في قلبه من الآمال والآلام. فوقفوا على رأس الشعب في كل خلاف قانوني حاول فيه الطغاة أن يخرقوا حرمة القانون، وانتصروا في كل وقفة من وقفاتهم فنصروا فيها القانون والحق، ثم وقفوا يمثلون الشعب في ديوان الحكم فنطقوا باسم مصر وأعربوا عن آمالها وعن شخصيتها، وانتصروا في وقفتهم فأعلوا من اسم الشعب الذي يمثلونه ورفعوا رأسه، ثم وقفوا على زعامة الشعب في نضاله مع الطغاة في سبيل إصلاح الحكم، وانتصروا مرة ثالثة وساروا بشعبهم في سبيل الحصول على ماله من الحقوق والحريات؛ وما كان أجدرهم أن يبلغوا به الغاية والقصد ويقيموا في مصر حكومة وطنية صالحة قائمة على احترام حقوق الأفراد والسعي إلى ما فيه مصلحتهم. وما كان أحراهم لو طال بهم الزمن أن يبلغوا بمصر قصارى ما تصل إليه الأمم الحريصة على حقوقها الساعية إلى الإصلاح.
بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين مراد وإبراهيم ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر خاص، بل كان الأمر نضالاً على مبدأ وقف فيه بعض الأمراء يلوحون بالقوة والطغيان، ووقف فيه بعض أفراد الشعب يعتصمون بالحق والشريعة. والتجأ الجانبان إلى المحكمة فحكمت حكمها في الخلاف. وكان في مصلحة الأفراد على رغم ما يريده الأمير المدل بالقوة، فأبى الأمير الإذعان، وأصبح الأمر معلقاً(93/41)
بين أن ينتصر القانون وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة. فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم بالمحافظة على القانون، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لينصروا الحق لم يتخلف منهم واحد، وكان على رأس الحركة الشيخ الدردير رحمه الله وطيب ثراه. أرعد الأمير وأبرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، غير أن العلماء وقفوا وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا في سبيل الحق والقانون. وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم، وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم انتصاراً للعلماء والشرع، وأوشك الأمر أن يفضي إلى فوضى شاملة. فجزع عقلاء الأمراء المصريين من تلك الحال وأشفقوا أن تسيل الدماء وأن تعطل المصالح. فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فاحتجوا على موقفه وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يتركوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف. وهكذا كان العلماء يكسبون للشعب حقوقه حقاً حقاً ويبنون في دستور مصر حجراً بعد حجر وإن كانوا في ذلك يسيرون في تؤدة وبطء.
وإنا إذا ذكرنا اسم السيخ الدردير فلسنا نذكره إلا لأنه كان علم القوم وزعيمهم. ولقد كان معه عدد كبير من إخوانه يستند إليهم وينتصر بإمدادهم. وفي الحق إن العلماء بمثل هذه الهمة لم ينزلوا ولم يسمحوا لأنفسهم أن ينزلوا إلى موضع المهانة في تلك الأيام التي يصفها البعض بأقسى النعوت. بل لقد كانوا أكفاء لأعلى الرؤوس في الدولة؛ ثارت مرة مناقشة حادة بين بعضهم وبين أمير من كبار الأمراء في مسألة قانونية، فخرج الأمير الغاضب عن حدود الأدب بأن قال للعالم: (والله أكسر رأسك) فكان جواب العالم الغاضب أشد وأقسى، إذ قال له صارخاً: (لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميراً) وتوسط من كان بالمجلس من الأمراء فيما بينهما. ولم يجد الأمير بداً من الإذعان لما يقضي به الشرع حسب ما رآه العلماء.
وكان بيت العالم حرماً لا يعتدي عليه مهما كان الباعث على ذلك، فقد كان بعض الأمراء يهربون خوفاً من انتقام منافسيهم فلا يجدون ملجأ يهربون إليه ويعتصمون به إلا بيت العالم يدخلونه ليأمنوا فيه. وقد طلب من أحد العلماء مرة أن يسلم جاره الأمير الذي دخل بيته(93/42)
ملتجئاً فلم يرض أن يسلم اللاجئ إلى بيته، ولم يجرؤ أحد على دخول منزلة عنوة خوفاً من أن يكون في ذلك جرح لكرامة زعيم الشعب.
وقد زاد نفوذ العلماء في أيام هذا الاضطراب وعلا صوتهم فأصبح مسموعاً دوياً في الحوادث الكبرى، كما أصبح مسموعاً داوياً في الديوان الذي كان ينعقد بالقلعة لحكم البلاد، وكان فيه الأمراء والرؤساء وأكابر العلماء يمثلون الشعب. وأصبح صوت العلماء في ذلك الديوان يمثل المعارضة وينادي بما فيه نفع لمصر وما فيه مصلحة أبناء مصر.
ثم أرسلت تركيا جيشاً بقيادة القبطان حسن باشا لتأديب الطاغيتين مراد وإبراهيم على سوء حكمهما فخرج العلماء على رأس وفد لمقابلة القائد التركي ليذكره بضرورة الاحتراس والاحتياط في حربه الأمراء حتى لا يؤذي مصالح الناس ولا يضحي بأموالهم. قال الجبتي يصف ذلك: (فتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الحريري، ومن الأجاقلية إسماعيل أفندي الخلوتي وإبراهيم أغا الورداني وذهب صحبتهم سليمان بك الشابوري. . . . . . . . . على أنهم يجتمعون به (بالباشا القائد) ويكلمونه ويسألونه عن مراده ومقصده ويذكرون له امتثالهم وطاعتهم. . . ويذكرونه حال الرعية وما توجبه الفتن من الضرر والتلف).
وقد بلغ من ذعر ابراهيم ومراد وخوفهما من حركة الشعب أن جعلوا في ذلك الوقت يتملقون المشايخ خوفاً منهم أن ينتهزوا الفرص فيثيروا على حكمهم ثورة عندما تقبل جنود الدولة العلية من الشمال. قال الجبرتي: (فذهب إبراهيم (في عيد الفطر) إلى الشيخ البكري ثم إلى الشيخ العروسي والشيخ الدردير وصار يحكي لهم وتصاغر في نفسه جداً وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية من أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت فإنه كان يخاف ذلك جداً).
وقد كسب العلماء للمصريين حقاً جليلاً في أثناء هذه الحوادث فإنه بفضل سعيهم أصدر القائد التركي حسن باشا عندما دخل مصر قانوناً كان يقضي بأن أهل مصر لا يمس أحد منهم إلا بمقتضى القانون الشرعي وأن لا سبيل على أحد منهم إلا بمقتضى ذلك القانون وحده. ثم لم يتردد العلماء بعد ذلك في الوقوف إلى جانب القانون ولو كان وقوفهم في وجه الباشا القائد المنتصر نفسه. فانه عقب انتصاره أحب أن ينكل بالمنهزمين من الأمراء(93/43)
المصريين فأراد أن يبيع نساءهم، مع أن القانون الشرعي لا يبيح بيع الجارية المملوكة إذا صارت أما أو أصبحت حرة، فوقفوا في وجه ولم يمكنوه من ذلك لمخالفته المكفولة للأفراد في الشريعة الإسلامية.
أما في جلسات الديون فلم يكن صوت العلماء أضعف جرساً، فكانوا يعارضون في كل شيء يمس مصالح المصريين حتى في الأمور الخاصة بالدولة ذاتها، فقد عرضت مرة مسألة الديوان خاصة بالاستعانة بجنود من بلاد الدولة العثمانية، فوقف الشيخ العروسي فقال: (إن الأمر لا يحتاج إلى ذلك، فان العساكر الرومية (التركية) لا تنفع بين العساكر المصرية، والأولى استجلاب خواطر الجند بالإحسان اليهم، والذي تعطونه للأغراب أعطوه لأهل بلادكم أولى) وقد أخذ الديوان برأيه في ذلك اليوم.
ولكن العلماء اظهر تمثيلاً للشعب المصري، وأكثر جلالاً في وقوفهم على رأس مظاهرات العامة كلما جد أمر يدعوا إلى الاحتجاج، أو حدث حادث فيه تعرض للحقوق والحريات. ولم تكن تلك الحركات قليلة، كما أنها لم تكن مقصورة على القاهرة، فقد ثارت ثورات في القاهرة، وثارت مثلها في رشيد، ومثلها في طنطا وفي بلبيس. وكان العلماء دائماً على رأس تلك الثورات الشعبية، يظلون كذلك حتى ينتهي الأمر بإذعان القوة للحق. قال الجبرتي في وصف ثورة من ثورات الشعب في الحسينية: (وحضروا إلى الأزهر ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة، وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير فونسهم وساعدهم بالكلام، وقال لهم: أنا معكم) واستقر العزم عند ذلك على جهاد الأمراء الظالمين وإيقافهم عند حد القانون بالقوة ما لم ينتهوا بالقول. وحدث مثل ذلك في طنطا وكان الشيخ الدردير كذلك على رأس المتظاهرين ضد الظلم هناك، قال الجبرتي: (فركب بنفسه وتبعه جماعة من العامة حتى التقى بالأمير، فكلمه ووبخه، وهو راكب على بغلته، وقال لهم: انتم ما تخافون الله) وحدث اصطدام أثناء ذلك بين العامة والحاكم وأتباعه، أصيب فيه جماعة من الجانبين، وضُرب الحاكم نفسه ضرباً شديداً.
وحدث مرة أخرى أن اعتدى موظف إداري وهو (الوالي) أحمد أغا على بعض أهالي الحسينية، وأشتد في مطالبة أحمد سالم الجزار، وأراد القبض عليه مخالفاً في ذلك العهد الذي تعهد به الباشا من قبل، ألا يمس أحد إلا بمقتضى الشريعة الإسلامية. فثار أهل(93/44)
الحسينية ثورة هائلة، والتجأوا إلى الشيخ العروسي يلتمسون عنده الحماية من الظلم (وكان الشيخ الدردير قد توفي إلى رحمة الله) فقام الشيخ العروسي بأمر الوساطة في شأنهم، وانتهى الأمر بعد مشادة طويلة بعزل الوالي وتولية والي آخر. قال الجبرتي: ونزل الوالي الجديد من الديوان إلى الأزهر، وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم. ثم ركب إلى بيته وأنفض الجمع، وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكباً حماراً ركب فرساً).
وأشتدت مرة وطأة أحد الأمراء على أهل بلبيس في تحصيل الأموال، فالتجأ الفلاحون إلى الشيخ الشرقاوي ليحميهم، فبدأ الشيخ بمخاطبة مراد وإبراهيم، فلما لم يجد لمسعاه أثراً في إصلاح الحال بالسعي السلمي، دعا إلى الثورة فأجتمع له كثير من أهل القاهرة ومن أهل الأطراف، وأوشك الأمر أن يكون ثورة دموية مدمرة، وقضت القاهرة ثلاثة أيام في اضطراب وخوف، قال الجبرتي: (ثم حضر الباشا إلى منزل إبراهيم بك، وأجتمع الأمراء هناك، وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير. . . . . . . . . ودار الكلام بينهم وطال الحديث، وأنحط الأمر على انهم (الأمراء) ثابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وأنعقد الصلح. . . . . . . . . وان يكفوا اتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس. . . . . . . . . ويسيروا في الناس سيرة حسنة. . . . . . . . . وكان القاضي حاضراً بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفر من عليه الباشا، وختم عليها ابراهيم بك وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها ايضاً، وانجلت الفتنة ورجع المشايخ وحول كل منهم وأمامه وخلفه جملة من العامة، وهم ينادون حسب ما رسم سادتنا العلماء).
وبعد فما الذي بين هذا الحال وبين بناء صرح الحريات المصرية كاملاً متماسكاً؟ لقد كان العلماء يبنون ذلك الصرح حجراً حجراً، وكان الشعب من ورائهم يطالب بحقوقه ولا يتنازل عن شيء منها مطالبة المصر على الحياة الكريمة العازمة على التمتع بإنسانيته تمتعاً تاماً. وما كان لمثل هذا الشعب أن ينتهي به السير إلا عندما يريد من العزة والكرامة.
غير ان الله لم يرد ان يكون هذا في ذلك الوقت، فقد نزلت بمصر كارثة الغزوة الأجنبية، غزوة الحملة الفرنسية التي عاقت ذلك السير المجيد وحفرت هوة عميقة بين ماضي مصر المجيد وحاضرها، وبين سعيها في القرن الثامن عشر وسعيها اليوم.(93/45)
ألا فلتقطع ألسنة الذين يقولون إن دستور مصر كان منحة مهداة، أو أن حريات مصر كانت عطية مسداة. فلقد كان شعب مصر لا يني يسعى إلى تلك الحريات، ويحمي تلك الحقوق، مضحياً في ذلك بكل شيء، حتى بالدماء!
محمد فريد أبو حديد(93/46)
عبرة الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس في تاريخ الإسلام كله صفحة أدعى إلى الشجن والأسى من تاريخ الأندلس، ففي الأندلس وحدها بادت أمة إسلامية عظيمة، ومحيت حضارة إسلامية زاهرة، ولم تبق ثمة من تلك الصفحة الباهرة سوى ذكريات دارسة.
وقد زالت دولة الإسلام في الأندلس ومحيت صفحته وأبيد أبناؤه منذ أربعة قرون، وقام فوق الأرض شعب غير الشعب، ودين غير الدين، وحضارة غير الحضارة، ولكن المأساة ما تزال حية في صدر كل مسلم يستعرض هذه الصفحة، وما زالت تثير في النفس بالغ الحسرات.
عاشت دولة الإسلام في الأندلس زهاء ثمانية قرون، ولم يكن غريباً أن تغيض في هذا القطر النائي المنعزل عن باقي الأقطار الإسلامية، بعد أن لبثت قروناً تمزق بعضها بعضاً، ولكن الغريب هو انها استطاعت رغم جراحها الدامية أن تصمد للعدو الخالد المتربص بها مدى قرون.
على أن تاريخ الأندلس نفسه يقدم إلينا سر هذا الفناء البطيء الذي سرى إلى الدولة الإسلامية منذ قيامها، سنحاول أن نستعرض في هذه اللمحة السريعة بعض العلل الجوهرية التي أصابت المجتمع الإسلامي في الأندلس منذ تكوينه، وغدت بمضي الزمن داء ذريعاً يقضم أسسه ويقوض دعائمه، وما زالت به استنفدت قواها وحملته إلى هاوية الانحلال والعدم.
كان فتح العرب لأسبانيا فاتحة عصر جديد وبدء تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية. ومع أن العرب شغلوا حيناً بتوطيد الفتح الجديد ودفع حدوده، فأنهم استطاعوا في أعوام قلائل أن يقمعوا عناصر الشر والفوضى وأن ينظموا إدارة البلاد المفتوحة، وأن يبثوا في الجزيرة روحاً جديداً من الأمل والحياة.
وقد قضى الفتح على سلطان الطبقات الممتازة، وتنفس الشعب نسيم الحرية، وفرض المسلمون الضرائب بالمساواة والعدل بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم وحرياتهم وأموالهم، وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق أتباع قوانينهم(93/47)
وتقاليدهم، والخضوع لقضائهم. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر فقد كانت السياسة الإسلامية مثلاً أعلى للتسامح، فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين والاعتقاد، وكانت تأدية الجزية هي كل ما يفرض على الذميين من النصارى واليهود لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية شعائرهم، ومن دخل الإسلام سقطت عنه الجزية وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع الحقوق والواجبات. وفي ذلك يقول العلامة دوزي: (لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي مما يدعو إلى الكثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يتصفون بكثير من التسامح، فلم يرهقوا أحد في شئون الدين. . . ولم يغمط النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم وآثروا حكمهم على حكم الجرمان والفرج) ثم يقول دوزي عن آثار الفتح الاجتماعية: (كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعاينها البلاد منذ قرون. . .).
غير أن هذه الدولة الجديدة التي بعثها الإسلام في أسبانيا، كانت تحمل منذ البداية جرثومة الخلاف والخطر، وكان المجتمع الجديد، الذي جمع الإسلام شمله ومزج بين عناصره يضطرم بمختلف الأهواء والنزعات، وتمزقه فوارق الجنس والعصبية. كانت القبائل العربية ما تزال تضطرم بمنافساتها القديمة الخالدة، وكان البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش يبغضون قادتهم ورؤساءهم من العرب، وينقمون عليهم استئثارهم بالسلطة والمغانم الكبيرة، وكثيراً ما رفعوا لواء العصيان والثورة. وكان المسلمون الأسبان، - وهم المولدون أو البلديون - محدثون في الإسلام يشعرون دائماً بأنه، رغم إسلامهم أحط من الوجهة الاجتماعية من سادتهم العرب. ذلك أن العرب، رغم كون الإسلام، يسوي بين جميع المسلمين في الحقوق والواجبات ويمحو كل فوارق الجنس والطبقات، كانوا يشكون في ولاء المسلمين الجدد، ويضنون عليهم بمناصب الثقة والنفوذ، هذا إلى أن العربي في الأقطار القاصية التي افتتحها بالسيف لم يستطع أن يتنازل عن كبرياء الجنس التي كانت دائماً من خواص طبيعته، فكان مثل الإنكليزي السكسوني يعد نفسه أشرف الخليقة. على أن الخلاف بين العرب أنفسهم كان أخطر ما في المجتمع الجديد من عوامل التفكك والانحلال؛ فقد كانت عصبية القبائل والبطون ما تزال حية في الصدور، وكان التنافس بين الزعماء(93/48)
والقادة يمزق الصفوف ويجعلها شيعاً وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار الخلاف والتنافس بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام، منها أن الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتبًع أعظم القبائل اليمنية، وكانت لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدواً خشنين يخضعون لحمير ويؤدون لهم الجزية؛ وكان بينهما خصومات وحروب مستعرة طويلة الأمد؛ ولنا في (أيام) العرب ووقائعها المشهورة أمثلة رائعة من هذا النضال. قال ابن خلدون (واستمرت الرياسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء مصر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة ويثرب، وكذلك في الأوس والخزرج، وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ضواعن بادية، وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية، وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز؛ فاستحالت صبغة الملك اليهم، وعادت الدول لمضر إلى بينهم، واختصت كرامة الملك بالنبوة منهم، فكانت فيهم الدولة الإسلامية كلها إلا بعضاً من دولها، قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً للدعوة). وهكذا أسفر، النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، وانقلبت الآية فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها. وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان الحمير كان أصل اللغة العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن الكريم على النبي القرشي المضري، فكانت اللغة من مفاخر مضر تغار عليها، وتحافظ على سلامتها ونقائها، أضف إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد في الطبائع والخلال مما كان يذكي بينهما أسباب التنافس والتباعد، وقد كان الإسلام مدى حين عاملاً قوياً في جمع الكلمة، ولكن العصر الأول ما كاد ينقضي حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية التي افتتحها الإسلام بالسيف، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة التي تعمل تحت لوائه مجالاً واسعاً للتنافس والتطاحن؛ وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرب الذي قام بأسبانيا.(93/49)
وكان البربر الذين اشتركوا في فتح الأندلس واستعماره عنصراً خالداً في إذكاء هذا الخلاف؛ فكانت هذه المعركة المزدوجة: العرب فيما بين أنفسهم، ثم العرب والبربر، هي قوام المجتمع الأندلسي.
كان هذا الخلاف يقضم أسس المجتمع الأندلسي الفتي، ولم يمضي على قيامه أربعون عاماً حتى تحولت الأندلس إلى بركان مضطرم من الحروب الأهلية؛ واستمرت هذه المعارك الداخلية زهاء قرن ونصف، ولم يقف تيارها قيام دولة أموية جديدة، ولم تتخللها في ظل هذه الدولة سوى فترة يسيرة من السكينة والتوطد، منذ الناصر إلى المنصور. بيد أن خطراً جديداً كان خطر المملكة النصرانية الأسبانية، التي نشأت صغيرة متواضعة ونمت بسرعة مدهشة، وأخذت تنافس المملكة الإسلامية، وتتحين فرص الإيقاع بها، ولم تفطن الأندلس إلى هذا الخطر الداهم؛ وما كاد صرح الدولة الأموية ينهار، حتى وثب المتغلبون على أشلاء الأندلس يقتسمونها، وقامت دويلات الطوائف في المقاطعات والمدن، تنافس بعضها بعضاً، وتحاول كل منها أن تنتزع ما بيد الأخرى، وألفى عدو الأندلس الخالد - أسبانيا النصرانية - فرصته السانحة، فأخذت تؤلب دويلات الطوائف بعضها على بعض؛ وملوك الطوائف يرتمون في أحضان النصارى، ويلتمس كل محالفتهم على خصمه ومنافسه. وكادت الأندلس يومئذ تسير مسرعة إلى قدرها المحتوم، وانتزع النصارى كثيراً من قواعدها وأراضيها، لولا أن ظهر في الميدان عامل جديد، هو قيام الدولة المرابطية فيما وراء البحر، ومقدم أميرها يوسف بن تاشفين إلى الأندلس على رأس جنوده البربر، ملبياً داعي الغوث من جانب ملوك الطوائف؛ فهنا استطاعت الدولة الإسلامية أن تنسى خلافها مدى لحظة، وأن تلقي على النصرانية بمؤازرة المرابطين هزيمة حاسمة في سهول الزلافة؛ ثم افتتح المرابطون الأندلس، وأقاموا بها دولة جديدة، ولكن الصرح القوي الباذخ كان قد أخذ ينهار؛ ولم يدم تماسك الدولة المرباطية طويلاً، فقامت بالأندلس ملوك طوائف بربرية جديدة، وعادت الأندلس تسير إلى فنائها، وجاء الموحدون بعد المرابطين، فوصلوا دولة البربر بالأندلس مدى حين.
ثم كانت دولة بني الأحمر بغرناطة، وكانت أندلس جديدة، ولكن صغيرة لا تعدو القطر الجنوبي المسمى بهذا الاسم؛ وكانت أسبانيا النصرانية قد نمت واتسع نطاقها، واستولت(93/50)
على قواعد الأندلس وثغوره العظيمة: قرطبة مهد الإسلام، وطليطلة، وأشبيلية، ومرسية، وبلنسية، وسرقسطة وغيرها، وسطعت في مملكة غرناطة، مدى حين، لمحة من عظمة الأندلس الذاهبة وحضارتها الزاهرة، واجتمعت أشلاء الدولة الأندلسية العظيمة في هذه المملكة الصغيرة المتواضعة، وشغلت الممالك النصرانية الشمالية مدى حين بخلافها الداخلي. ولكن الأندلس كانت تشعر بمصيرها شعوراً قوياً، واستطاع رجال مثل ابن الخطيب وابن خلدون أن يستشفوا ببصرهم الثاقب ذلك المصير المروع الذي تسير إليه مملكة غرناطة. ذلك أن نفس الخلاف الداخلي الذي قامت عليه الدولة الإسلامية منذ البداية، واستمر يدفع الأندلس إلى مصيرها خلال القرون، كان يعصف أيضاً بهذه المملكة الصغيرة، ولم يمض بعيد حتى أخذت تمزقها المعارك الداخلية، ويثب أمراؤها بعضهم ببعض، ويستعدون خلال هذه المعركة الخطرة، العدو الرابض المتربص بهم جميعاً.
وكان مصرع الأندلس خلال إحدى هذه المعارك الداخلية، وما زالت قصة السلطان أبي الحسن، وأخيه الزغل، وابنه عبد الله أبي محمد، وانشقاق المملكة الصغيرة في أدق ساعات الخطر إلى شطرين، والتجاء أبي عبد الله إلى ملك النصارى لينصره على أبيه وعمه، ثم انتهاز النصارى هذه الفرصة لإيقاع ضربتهم الأخيرة بتلك المملكة التي مهدت لهم سبل الظفر بتمزيق بعضها بعضاً، وتلك الأمة المسلمة التي لم تعرف قط أن تواجه الخطر متحدة الكلمة والقوى - ما زالت هذه كلها عبرة العبر، وكان مصرع الأندلس هذه المرة يسيراً محققاً، فسقطت قواعدها الباقية تباعاً في يد النصارى، وسلمت غرناطة أخيراً، ووقعت النتيجة المحتومة، وطويت صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ولم يمض جيل أو اثنان حتى طويت صفحة الإسلام كله، وكل آثاره وذكرياته من أسبانيا.
وقد كانت مأساة الأندلس وما زالت عبرة بالغة ودروساً خالداً للعالم الإسلامي كله. ولكن العالم الإسلامي لم يعتبر بهذه العبرة، ولم يع هذا الدرس، وما زال التفرق يمزق أوصاله حتى التهم الغرب الجشع معظم أشلائه، وأضحى الإسلام ذليلاً في أرضه تخفق عليها أعلام النصرانية.
فإني يسير الإسلام؟ ومتى يدرك العالم الإسلامي قوة الاتحاد؟
محمد عبد الله عنان المحامي(93/51)
الشهيد الغريب
عثمان بن مظعون
للأستاذ محمد سعيد عريان
بات (عثمان بن مظعون الجمحي) ليلته يقلب الرأي، ويستلهم الفطنة؛ وإن الهم ليصطرع في رأسه، وأن الشك ليتلجلج في صدره، وإن بين عقله وعاطفته لحرباً مشبوبة ومعركة طاحنة أحق ما يقول محمد بن عبد الله؟ فما هذه اللاتُ والعُزَّى، ومَناةُ الثالثة الأخرى؟ وما ديننا الذي أورثنا آباؤنا ومضى عليه أسلافنا؟ أذلك الحق أم دين محمد؟
إني لأعرفه مذ كان - أصدق العرب حديثاً وأعظمها أمانة؛ أفيكذب حين يبدو الشيب في صدغيه، ثم لا يكون كذبه إلا افتراءً على الله. . .؟
أما ورب الكعبة لقد جاء محمد بأمر عظيم، إن يكن الصدق فما يقعد بي أن أكون في السابقين إليه. . .؟
فلما أسفر الصبح غدا عثمان على محمد في مجلسه ليسمه منه؛ فما هو إلا أن تلا عليه آياتٍ من الكتاب حتى اهتزت نفس عثمان، ونفذت السماء إلى قلبه، وغمره النور الإلهي، وشرح الله صدره للإسلام، فتمت به عدة المؤمنين أثنى عشر. . .
وانطلق عثمان إلى أهله يدعوهم إلى الله؛ فما تلبث أخواه (قدامة وعبد الله) أن آمنا بما آمن، وآمن من بعدهم بضع عشرة من بني عمه وولده؛ وإذا المؤمنون يزيدون ويكثرون، وإذا الدين الجديد يتنقل نبؤه في همس من فم إلى أذن، وينفذ في رفق من قلب إلى قلب، ثم يتدافع في قوة حتى ينتظم الأربعين من شباب قريش وكهولها. ثم إذا هو من بعدُ نداءٌ عام، يدعو إليه رسول الله من فوق (الصفا)، فيفشو أمره، ويتحدث به الناس، وتتناقله القبائل، وتتقاذفه فلوات شبه الجزيرة؛ فما ينكر على محمد دعوته إلا الملا من أشراف العرب. . .
أكنت ترى السادة من قريش أهل الرفادة والسقاية - ينزلون عن جاههم وسلطانهم بهذا لهوان لمحمد؛ أم تحسبهم يتركون ما كان يعبد آباؤهم مختارين انقياداً لهذا الداعي؟
إن كبرياء النفس البشرية هو إيمانها بنفسها؛ فما يغلبها على كبرياءها إلا الإيمان الأكبر؛ وما إن تبلغ هذا الإيمان إلا مقهورة عليه، نازلة على سلطانه الأقوى، من قادة له انقياد الرضى والاستسلام؛ فإذا هي بلغت ذاك فقد تبدلت النفس غير النفس؛ فما تتكبر إذ تتكبر(93/53)
بنفسها ولكن بما تدين، وما تفاخر حين تفاخر بخصائصها الذاتية، ولكن بقوة العقيدة التي اعتنقت؛ ويعود تعصبها لنفسها تعصباً للحق الذي آمنت به، وأخلصهم في طاعته، وأشدهم استبسالاً في الدعوة إلى دينه والذياد عنه؛ فكانت هذه المعجزة الإنسانية الكبرى التي انبثق لها هذا الفجر الضاحك فأشرق بالسلام على البشرية كلها، وامتد امتداد القدر يقبض راحته على الدنيا، وانبسط انبساط الأمل بتناول كل ما في الوجود، ورسم للانسانية حدود سعادتها في معاني الإخاء والمساواة والحرية!
تذامر الملاُ من أشراف مكة على محمد وأصحاب محمد ليفتنوهم عن دينهم، فآذوهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وأخذوا بكل نكال، حتى بلغوا من تعذيبهم الغاية ولم يبلغوا من مسلم أربا؛ ورأوا أمر الله أغلب من أمرهم في هذه القلوب، فمضوا يقتنون في الكيد لهم ما يتورعون من شر. وأيقن المستضعفون من المسلمين أن لا مقام لهم على هذا الهوان خوف الفتنة، فجلوا عن أراضيهم وديارهم فراراً إلى الله بدينهم. . .!
وأنطلق عثمان بن مضعون يقدم الفوج الأول مهاجرين إلى الحبشة، تفيض أعينهم من الدمع حزناً، أن تركوا أموالهم وأولادهم وعشيرتهم، منهم الراجل قد ثقلت عليه نفسه، والراكب قد ناء بما يحمل من همه. حتى انتهوا إلى البلد الذي أرادوا.
وأمنوا الفتنة، يروحون ويغدون في ظل ملكٍ كريم. أتراهم على ذلك قد اطمأنت بهم الدار؟ ومن أين للغريب النازح عن أهله وأحبابه أن تستقر به الدار!
وطال بهم الحنين إلى بلدهم والى مشرق النور من وجه النبي الكريم، يستروحون من كل نسمة تهب من أرض الحجاز ذكرى تشوق وحنيناً يستجد. فما كذبوا أن جاءهم بشير بإسلام قريش، فقفلوا آملين مستبشرين، وما منهم إلا مشرق الوجه تحدثه نفسه حديث المبعد يوشك أن تستقر به النوى ويلقى عصاه بين أحبته وأهله وملاعب صباه!
ثم ما هي إلا أن دانوا مكة وبدت لهم أعلامها وهبت عليهم نسماتها، حتى انكشف لهم أن إسلام قريش لم يكن إلا أمنية. . . فألقوا على الوطن المهجور نظرة اللهفان فاتته المنى، ثم لووا عنان الركب عائدين إلى المهاجر، وإن قلوبهم لتتلفت مودعة وما سعدت باللقاء. . .!
وتحدرت دمعتان على وجه عثمان إذ حضرته صورة المصطفى من الله، فهفت نفسه إلى لقائه، وهان عليه مايستهدف له من أذى المشركين ما دام سعيداً بطلعة النبي، يراه في كل(93/54)
غدوة ورواح، ويتمتع به كلما حلا له أن يستمتع.
ودخل مكة في جماعة من المهاجرين مستخفين على حذر ورقبة، حتى لقيه (الوليد بن المغيرة المخزومي) فأستظل بجواره وأمن عثمان عدوان المشركين في حماية أعز قريش وأمنعها، ومن ذا يجرؤ أن يستبيح ذمة الوليد في جاره؟ فأنه ليغدو ويروح لا يناله شر ولا يعرض له أحد بسوء. . .
وخرج عثمان مرة لبعض شأنه، فإذا هو يبصر رجل من أصحاب رسول الله مطروحاً على الرمضاء عارياً في حر مكة وقد حميت الظهيرة وقد وضعت على صدره صخرةُ ينوء بها الفحل، تعذيباً له بما آمنة بمحمد!
واهتزت نفس عثمان مما رأى، وبرح به الألم مما ينال أخاه المسلم فلا يستطيع له دفعاً، فصغرت نفسه في عينه، ومضى والهم يجثم على صدره أثقل من صخرة العذاب على صدر أخيه!
ومشى خطوات، فإذا هو يشاهد شراً مما رأى: هذا أبو بكر، يلقاه سفيهُ من سفهاء مكة فيحثوا عليه التراب، وأولاء جماعةُ من المشركين يشهدون سفاهة صاحبهم فيضحكون ويسخرون.!
وزاد الهم بعثمان، وغشيته غاشية من الحزن والألم! إنه ليحس التراب على رأسه، وإنه ليشعر بمثل حر الرمضاء يشوي جسده هو، وإن قلبه ليفيض غماً. إنه ليرى نفسه في جوار سيد قريش، فما يمنعه ذلك أن يلقي من آلام النفس فوق ما يلقى صحابته من آلام الجسد!
وسار مثقل الرأس، يحمل همه على كفيه، ضيق الخطى كأنما يطأ الشوك. وإذا واحدٌ من المسلمين يلقاه فيحدثه بما لقي (آل ياسر) من أذى بني مخزوم: لقد مات (ياسر) في العذاب وماتت زوجه (سمية) طعيناً بيد أبي جهل، وهذا (عمار بن ياسر) لا طاقة له بدفع ما يلقى من أذى بني مخزوم، وما أراه إلا موشكا أن يلحق بأبويه. . .!
واشتد به الهم إذ سمع ما سمع بعد إذ رأى ما رأى، ومضى يتحدث إلى خواطره، فإذا هو على الأمان والطمأنينة في عذابٍ أشد مما يلقى إخوانه المستضعفون. وقال لنفسه: والله إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء(93/55)
والأذى في الله ما لا يصيبني - لنقصٌ كبير في نفسي! إنه والله الفرارُ من الأجر والمثوبة، وإن لهم عند الله لمنزلة هيهات أن يعزيني عن فقدها أنني في سلامة الأذى. بل إنه الفرار من حمل أثقال حمل الإيمان، وإنه لأرْوَح لقلبي أن ألقي ما يلقى إخواني في الله، فأني لأوشك أن يغلظ قلبي فما آمن على نفسي من أوضار الشرك!
يا نفسي، ما برهانك على أنك مؤمنة إذا لم تحملي أثقال الحياة راضية؟
ما دليلك على أنك قاسيت في سبيل دينك وإنك لتفرين فرار المتمسك بدنياه؟
ماذا قدمت - يا نفس - لله من حظك وراحتك فيكون لك في الآخرة أن تدعي وتستطيلي؟
ألا إن الإيمان هو أن ينالك ما نال المؤمنين، وإن عذاب الناس لهو ثواب الله، وما يصدق الخبر عن بسالة الجندي إلا أن تشهد له جراحه، وما أنا رجلاً إن لم أكن الآن رجلاً. . .!
ومشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: (يا أبا عبد شمس، وَفَتْ ذمتك، وقد رددت إليك جوارك!)
قال الوليد: (يا ابن أخي، لعله آذاك أحد قومي. .؟)
قال عثمان: (لا، ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره. .!)
قال الوليد: (فانطلق بنا إلى المسجد فاردد علي جواري علانيةً كما أجرتك علانية)
فانطلقنا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: (هذا عثمان قد جاء يرد على جواري)
وقال عثمان: (صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببن ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره!)
ثم افترقا. وجلس عثمان يستمع إلى إنشاد (لبيد بين ربيعة) في مجلس من قريش، فقال لبيد: (ألا كل شيءً ما خلا الله باطل)
قال عثمان: (صدقت!)
قال: (وكل نعيم لا محالة زائل!)
قال عثمان: (كذبت. . .!)
وأعاد لبيد، وعاد عثمان يقول: (كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول أبداً)
فغضب لبيد وقال: (يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم؛ فمتى حدث هذا فيكم؟)
قال رجل من القوم: (إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا؛ فلا تجد في نفسك من(93/56)
قوله!)
ورد عليه عثمان حتى شرى الشر بينهما، فقام الرجل فلطم عين عثمان فاخضرت، والوليد بين المغيرة بمجلس قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: (أما والله يا ابن أخي، إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة!)
قال عثمان: (والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر!)
فقال له الوليد: (هلم يا ابن أخي، فعد إن شئت إلى جوارك!)
قال عثمان: (لا. . . . . . . . .)
وسار في سبيله عامر القلب بالإيمان، طيب النفس بما يبذل في سبيل الله، قرير العين بأنه لم يلجأ إلا إليه. . .
ومضى المشركون في عدوانهم لا رفق ولا هوادة؛ وآذى النبي ما يلقى صحابته، فدعاهم إلى اللحاق بمن سبق من المهاجرين إلى الحبشة.
وخرج عثمان فيمن خرج، عائداً إلى المهاجر النائي طاعةً لرسول الله. فأقام هناك ما أقام، ضيق النفس على سعة من العيش، مكروباً من الغربة على الأمان والأذى!
وتصرمت السنون عاماً بعد عام وهو يكافح الشوق والحنين، حتى أذن له أن يفارق الحبشة بعد ست سنين، لا إلى مكة الحبيبة إليه، ولكن إلى المهجر الثاني، إلى المدينة، من مغترب إلى مغترب. فما مضى عام وبعض عام على مقامه حتى مل غربته، فودع دنياه إلى الوطن الباقي بقاء السموات والأرض، إلى جوار الله. ومات أول من مات من المهاجرين بالمدينة!
وقبله النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يبكي وعيناه تذرفان، ووسده الثرى ونفض يديه من ترابه، ولكن ذكراه ظلت حية في قلبه؛ فلما مات ولده (إبراهيم) زوده بالتحية إلى الشهيد الغريب، وودع ولده الواحد وهو يقول: (ألحق بسلفنا الصالح عثمان بن مضعون!).
يا ابن مضعون، فرغت من أمر الدنيا وآلامها، بعد أن قضيت أيامك على الأرض تتقاذفك الفلوات من غربة إلى غربة. ولم تبك، وبكت لك دموع النبوة؛ دموع تقدمك إلى الله يثيبك، وتقدمك إلى التاريخ يترحم عليك. وفي الوقت الذي يسلب الملوك فيه تيجانهم وضع عليك التاج. . .!(93/57)
طنطا
محمد سعيد العريان(93/58)
مجد الإسلام
وقفة على طلل
للأستاذ محمود غنيم
مَالي وللنَّجْم يرعاني وأرعاهُ! ... أمسى كلانا يعافُ الغمضَ جَفْنَاهُ
ليِ فيكَ يا ليلُ آهاتٌ أُردِّدُها ... أَوَّاهُ لو أجْدَت المحزونَ أوّاه
لا تحْسبَنَّي محبِّنا يشتكي وَصَباً ... أَهوِنْ بما في سبيل الحب ألقاه
إِنّي تذكِّرْتُ - والذكرى مُؤَرِّقةٌ - ... مجداً تليداً بأيدينا أضَعْنَاه
أَنَّي اتجهتَ إلى الإسلام في بلدٍ ... تجدْه كالطير مقصوصاً جَناَحاه
وَيح العرُوبة كان الكونُ مسرحَها ... فأصبحت تتوارى في زواياه
كم صرَّفَتْنَا يدٌ كنا نصرِّفُها ... وبات يملكنا شعبٌ مَلَكْناه
كم بالعراق وكم بالهند ذو شَجَنٍ ... شكا فردَّدت الأهرامُ شكواه
بني العمومةِ إنَّ القُرْحَ مَسَّكمو ... ومسَّناَ. نحن في الآلام أشباه
يا أهلَ يثْربَ أدْمتْ مقلتيَّ يدٌ ... بدرِيَّةٌ تسألُ المصريَّ جدواه
الدِّينُ والضادُ من مغناكم انبعثا ... فطبَّقا الشرق أقصاهُ وأدناه
لسنا نمدُّ لكم أَيماننا صِلَةً ... لكنما هو دَينٌ ما قضيناه
هل كان دينُ ابنِ عَدنْانٍ سوى فَلَقٍ ... شقَّ الوجودَ وليلُ الجهلِ يغشاه؟
سَلِ الحضارةَ ماضيها وحاضرَها ... هل كان يتَّصل العهدان لولاَه؟
هي الحنيفةُ عينُ الله تكلؤُها ... فكلَّما حاولوا تشويهَهَا شاهُوا
هل تطلبون من المختار معجزةً ... يكفيه شعبٌ من الأجادثِ أحياه
مَنْ وَحَّدَ العُرْبَ حتى كان واترُهم ... إذا رأى ولدَ الموتور آخاهُ
وكيف كانوا يداً في الحرب واحدةً ... من خاضها باع دنياه بأخراه
وكيف ساس رعاةُ الابل مملكةً ... ما ساسها قيصرٌ من قبلُ أو شاهُ
وكيف كان لهم علمٌ وفلسفةٌ ... وكيف كانت لهم سُفْنٌ وأمواه
سَنُّوا المساواةَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمٌ ... ما لامرئ شرفٌ إلا بتقواه
وقررت مبدأ الشورى حكومتُهم ... فليس للفرد فيها ما تمناه(93/59)
ورَحَّبَ الناس بالإسلام حين رأوْا ... أنَّ السلامَ وأن العدلَ مغزاه
يا من رأى عُمَرًا تكسوه بردتهُ ... والزيت أُدْمٌ له والكوخ مأواه
يهتزُّ كسرى على كرسيّه فَرَقاً ... من بأسه وملوكُ الروم تخشاه
سلِ المعاليَ عنا إِننا عرَبٌ ... شعارُنا المجدُ يهوانا ونهواه
هي العروبةُ لفظ إِن نطقت به ... فالشرقُ والضادُ والإسلام معناه
استرشد الغربُ بالماضي فأرشَدَهُ ... ونحن كان لنا ماضٍ نسِيناه
إِنّا مَشَيناَ وراء الغرب نقبسُ من ... ضيائه فأصابتناَ شظاياه
بالله سل خلفَ بحر الروم عن عزَبٍ ... بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا؟
فان تراءتْ لك الحمراءُ عن كثَبٍ ... فسائل الصَّرْحَ أين المجدُ والجاه
وانزلْ دمشقَ وسائل صخرَ مسجدها ... عمن بناه لعل الصخرَّ يَنعاه
وطُفْ ببغدادَ وابحثْ في مقابرها ... علَّ امرَ أمن بني العباسِ تلقاه
هذى معالم خُرْسٌ كلَُ واحدةٍ ... منهنَّ قامت خطيباً فاغراً فاه
إِني لأشعر إذ أغشى معالمهم ... كأنني راهبٌ يغشى مُصلاه
الله يعلم ما قلَّبتُ سيرتَهم ... يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
أين الرشيد وقد طاف الغمامُ به ... فحين جاوز بغداداً تحدَّاه
مُلْكٌ كملك بني التاميز ما غربت ... شمس عليه ولا برْقٌ تخطَّاه
ماضٍ نعيش على أنقاضه أُمما ... ونستمدُّ القوى من وَحْي ذكراه
لا دَرَّ دَرُّ امرىْ يُطري أوائلَه ... فخراً وَيُطْرِقُ إِن ساءلته ما هو
ما بالُ شمل بني قحطانَ منصدِعاً؟ ... ربَّاهُ أدرك بني قحطان ربَّاه
عهد الخلافة في البسُفُور قد دَرَستْ ... آثارُه طيّب الرحمنُ مثواه
عرشٌ عتيدٌ على الأتراك نعرضُه ... ما بالُنا نجد الأتراكَ تأباه
ألم يرَوْا كيف فدَّاه معاويةٌ ... وكيف راح عليٌّ من ضحاياه
غالَ ابنَ بنتِ رسولِ اللهِ ثم عَدَا ... على ابن بنتِ أبي بكر فأرداه
لما ابتغَى يدَها السفاحُ أمْهَرَها ... نهراً من الدم فوق الأرض أَجراه
ما للخلافة ذنبٌ عند شانِئِها ... قد يظلِمُ السيفَ من خانته كَفّاه(93/60)
الحكْمُ يَسلس باسم الدين جامحُه ... ومن يَرُمْهُ بحدَّ السيفِ أعياه
يا رُبَّ مولًى الأعناقُ خاضعةٌ ... وراهبُ الدَّيْرِ باسم الدِّين مولاه
إني لأعتبرُ الإسلام جامعةً ... للشرق لا محضَ دين سنَّهُ اللهُ
أرواحُنا تتلاقى فيه خافقةً ... كالنحل إِذْ يتلاقى في خلاياه
دستورُه الوحْيُ والمحتارُ عاهِلهُ ... والمسلمونَ - وإن شتُّوا - رعاياه
لاهُمَّ قد أصبحت أهواؤنا شيعاً ... فامنن علينا براعٍ أنتَ ترضاه
راعٍ يُعيدُ إلى الإسلام سيرته ... يَرْعَى بَنيهِ وعينُ اللهِ تَرْعاهُ
(كوم حمادة)
محمود غنيم(93/61)
من الفلسفة الإسلامية
عينية أبن سينا أو قصة الروح
للأستاذ زكي نجيب محمود
ادْنُ مني يا صديقي واستمع إلى هذه القصة الممتعة الرائعة التي يرويها ابن سينا عن الروح. وما أدراك ما الروح؟ هذا السر العجيب الذي سري واستكن بين أحنائك فلا تكاد تدري من أمره شيئاً! وهل يداخلك شيء من الريب في أنك مزيج من مادة وروح؟ فأما المادة فهي هذا اللحم والعظم، وأما الروح فهي تلك الفكر الرائع والخيال البارع وتلك الحركة المتوثبة الدافعة، حتى إذا جاءك يوماً قضاؤك المحتوم، انطلق كل من العنصرين إلى سبيله! فأنى لك هذا السر المكنون، وأيان يذهب بعد الموت؟ ذلك ما يرويه ابن سينا في قصيدته وما أنا محدثك به الآن - قال ابن سينا:
هَبَطَت إليك من المحلِّ الأرفع ... ورقاءُ ذاتُ تَعَزَّزٍ وتمَنُّع
فقد كانت تعيش الروح أول أمرها مطلقة مجردة في الرقيق الأعلى، ثم كتب عليها أن تهبط إلى هذا الدرك الوضيع؛ ولقد آثر فيلسوفنا الشاعر لفظ الهبوط على السقوط لأنها في رأيه لم تسقط إلى هذا الحضيض من علٍ كما يسقط الحجر الجماد سقوطاً لا شعور فيه، أو كمن ينتكس من أوج الجبل إلى سفحه انتكاساً يقربه من الجماد المرغم على السير في طريق بعينها لا يملك لنفسه شيئاً، إنما هبطت إليك الروح؛ وفي لفظ الهبوط معنى الشعور والإدراك، من محلها الأرفع، حيث تسبح العقول المجردة روحانية خالصةً لا تشوبها شائبة من مادة. . . ولكني عهدتك يا صديقي عنيداً ملحاحاً لا ترضى بالقول يرسل إرسالاً، بل تقتضي محدثك الأمثلة يضربها توضيحاً لما يريد. وكأني بك تسائلني أو تسائل الشاعر: وكيف كان ذلك الهبوط؟ فهو يجيب: إن شئت للروح في هبوطها مثلاً مما تعلم من ألوان الحركة، فهي أشبه بالطير سابحةً في أجواز الفضاء، محومةً صاعدة هابطة، وماذا ترى بين الأشياء التي تتحرك بالإرادة أشد شبهاً بالروح من الطير في خفته ولطف جوهره، وفي هبوطه وصعوده؟ لعمري لقد وفق فيلسوفنا، بل لقد وفق أصحاب الفن منذ أقد العصور في تصويرهم للملائكة أو ما يتصل بالملائكة من كائنات روحانية بالجسوم المجنحة إدراكاً منهم بهذه الرابطة القوية الصادقة بين خفة الأرواح ولطفها، وبين رشاقة(93/62)
الطير ورقته. ولكن فيلسوفنا الشاعر لا يرضيه تشبيه الروح في هبوطها بالطير على عمومه، بل أجال بصره في عالم الطير لعله يجد بينها نوعاً خاصاً يكون أقربها صلة بالروح، فما أسرع أن ساقه صدق شعوره وكمال إحساسه إلى الحمائم، وهل تستطيع أن تدلني على طير هو أشد من الورق استئناساً ووداعة، وأطول من الورق حنيناً وأصدق بكاء؟! وإذن فما أشبه الروح بالورقاء، فهي قد نشأت في عالم قدسيٍ رفيع، مجردة عن ملازمة المادة ومواصلتها، فلما كان لها أن تهبط إلى الجسد المادي، طال ترددها واشتد تعززها وتمنعها، وكانت فيما أحست من ألم كمن ينتحب بالبكاء، حنيناً إلى عالمها ذاك، ونفوراً وازوراراً من الأخلاط الجثمانية التي كتب لها أن تهبط إليها فتعيش بينها فترة من زمان محجوبةٌ عن كل مقلة ناظرٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع.
ألا ما أعجب الروح! إنها تلازمك أينما حللت، لا تفارقك إلا يوم تكون أنت لست اياك، فهي قريبة منك، بل هي أنت؛ تسري في دمائك، وتدب في كل عضو من أعضائك، ثم هي مع ذلك تمتنع عن النظر وتستعصي على الادراك! فاذا ما حاولت رؤيتها تحجب وأسدلت حول نفسها قناعاً صفيقاً لا ينفذ منه شعاع من بصر، لماذا؟ لأنها تذكر ماضيها الجليل، يوم كانت في العالم الأقدس الرفيع، فتأخذها العزة والكبرياء، وتتعالى عن إدراك العيون! وكيف تردها على الظهور أمام مقلتيك وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ فأما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر؛ وكل محاولة منك في هذه السبيل صائرة حتماً إلى فشل وإفلاس، ولكن لا تيأس يا صاحبي، فثم سبيل لإدراكها غير هذه المقل، وغير هذه الحواس جميعاً، انظر إليها بعين العقل تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها لا تسدل من دونه البراقع والستور، فهي إن كانت تأبى أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي إنما تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها. إذن فالروح مع كمال خفائها وشدة غموضها عن العين، يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان.
وَصَلَتْ على كرهٍ إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع
لقد علمت أن الروح قد اتصلت بهذا الهيكل الجثماني متأبية مقهورة مكرهة، ولكنها من عجيب أمرها عادت فكرهت أن تفارق هذا الجسد الذي أرغمت على الحلول فيه أول الأمر(93/63)
إرغاماً، أما كونها جاءت مكرهة فلأنها حين هبطت إليك كانت تعلم أنها إنما تتصل بكتلة من المادة. ليس بينها وبينها تآلف وتجانس، إذ ليست هي في تجردها وروحانيتها شبيه بالجسد في ماديته، وهل تستطيع أن تظفر بأنس من رفيقك إذا لم يكن بينك وبينه تجانس في الصفات؟ فإن أرغمت على هذه المرافقة إرغاماً على ما بينكما من تنافر وتناكر، فأنت لاشك غاضب كاره؛ وأما كونها تعود فتكره فراق الجسد فذلك لأنها قد تمكنت منه وسرت في أنحائه سرياناً شديداً، فتشبثت به تشبثاً قوياً متيناً ليس انحلاله أو زواله هنة هينة، وأنت تستطيع أن تلتمس ذلك في نفسك إذا هممت بالانتحار، فلن تجد من نفسك إقبالاً على الموت ورضى به واطمئنانا اليه، ومعنى ذلك أن روحك قد استطابت مقامها الجديد بعد نفور، ولكن حذار أن يذهب بك الظن إلى أنها قد ارتبطت بالجسد ارتباطا بلغ من القوة والمتانة حد الاندماج، بحيث إذا زال الجسد زالت الروح تبعاً له، كلا، إنما ترتبط الروح بالجسد ارتباطاً يقع بين القوة الشديدة والضعف الشديد، فلا هو إلى القوة التي تدمجها فيه ادماجاً، ولا هو الضعف الذي ييسر لها سبيل الفرار. ولكني لم أحدثك بعد عن علة كرهها لفراق الجسد، وقد جاءته مكرهة أول الأمر. أما ذلك فلأنها رأت أنها تستطيع أن تتخذ من هذا الجسد أداة للخير والفضيلة، لقد كانت في حياتها المطلقة الأولى خالية من الصفات الإيجابية جميعاً، وها هي ذي قد رأت في الحواس سبيلاً قومية تحصل بها من الأخلاق والعلم حظا موفوراً، وإذن فاتصالها بالجسد قد جعلها عارفةً بعد سذاجة وجهل، متحركةً بعد خمول وسكون، فهل تدهش بعد هذا إذا رأيت الروح جازعة فازعة حين يدنو منها الأجل المحتوم الذي يفصل بينها وبين زميلها انفصالاً ليس بعده من لقاء؟ وهل تعجب إذا رأيتها حين اتصالها بالجسد تدافع جهدها عنه لتدفع ما يتهدده من علة أو مرض، وتحرص وسعها أن يكون موفور الحظ من السلامة والعافية؟
أنِفَتْ وما أَنِسَتْ فلما واصلت ... ألِفَتْ مجاورةَ الخراب البلقع
إذن لقد هبطت الروح إلى هذا الهيكل معرضةً عنه مزدريةً له صلفاً منها وتيهاً، وحق لها ذلك، فهي خالدة لا تخضع للفناء، وهو وضيع يتعاوره الكون والفساد، لهذا أنفت منه ولم تأنس له بل استكبرت عليه وأبت أن تنزل بنفسها إلى حضيضه الأسفل، وظل النفور بينهما حيناً من الدهر لم يطل، حتى عرفت أنه أداة قويمة صالحة لتحصيل الفضيلة(93/64)
والخير، عندئذ أنست به ورضيت بالإقامة معه في إخاء وائتلاف، وما هي ألا أن وضح أمامها الطريق وقام الدليل قاطعاً على أنها ستحقق بالجسد مرادها من الكمال، فقومت العلاقة واشتدت الملازمة على الرغم من علمها أن هذا الذي ترافقه وتزامله لن يلبث حتى ينقلب خراباً بلقعاً لا غناء فيه، إذ هو صائر إلى الفناء بعد حين يقصر أو يطول. ولعلك تلاحظ أن فيلسوفنا قد عبر هنا عن العلاقة بينهما بلفظ المجاورة قاصداً متعمداً، لأنه أراد أن تعلم أنها ليست من الجسد بمثابة الأبصار من العين مثلاً، يكادان يكونان شيئاً واحداً، ولكنهما منه كالملاح من سفينته يديرها ويدبر أمرها. ثم هو بعد يستطيع أن يستقل بوجوده بعيداً عنها، فهي علاقة تجاور لا علاقة وإدغام.
وأظنها نسيت عهوداً بالحِمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع
نعم: لقد اطمأنت إلى الجسد بعد صدٍ ونفور، وأنست به بعد وحشة، وبلغ بها الاطمئنان والأنس حداً نسيت معه تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليها أيام كانت في عالمها الرفيع السامي، وركنت إلى غير جنسها ركوناً لا تحب معه الفراق، وقد بلغ منها ذلك النسيان لمنازلها الأولى حد الغلو والإسراف، فهي لم تقنع بمجرد فراقها لعالمها الأول، بل زادت عليه عشقها للعالم الجديد، وهنا كأنما تحس من فيلسوفنا إشفاقاً على الروح أن تكون قد رضيت بالأدنى عن الأعلى لتغيرٍ في صفاتها وتحولٍ في إدراكها وفسادٍ في طبيعتها
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاءُ الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخُضَّع
يا ويح النفس! والله لكم أخشى أن تكون الروح قد مازجت المادة حتى فسدت عنصراً، فهي لم تكد تهبط من أبعد الذرى لتمس عالم المادة حتى علقت به وهو بعد لا يأتلف إلا من الخسيس الكثيف الذي يندر أن يكون سبيلاً إلى الكمال (ذات الأجرع هي المادة الأرضية الكثيفة أي البدن)، نعم، لم تكد تهبط الروح، وتدب في مادة الجسد حتى علقت بها هذه المادة الجثمانية وأحلتها بين أجزائها وطي ثناياها، بين معالم الجسد وأطلاله الخربة المتداعية. بين عظامه وغضاريفه ولحمه وشحمه، التي تخضع للفناء وتؤول للبطلان وتنقلب إلى الدثور. ولكن لعلها قد دبت بين أجزاء الجسد الفانية لا لتجري مجراها. ولكن لتستخدمها في تحصيل المعارف والفضائل.(93/65)
تبكي إذا ذكرت عهوداً بالحمى ... بمدامع تهمي ولم تتقطع
لقد حم القضاء ووقعت الواقعة، فقد حان للروح حين فراقها وجاء أجلها، وها هي ذي قد فصلت عن رفيقتها وخلفته وراءها رماداً وتراباً، فهي إذا ما ألقت بنظرها إلى هذه الأوصال المفككة، والى هذا البيت المعمور، وقد دب فيه الخراب والدمار، عظم عليها الوجد وجل في عينها الخطب، وقد تتزاحم أمامها ذكريات الماضي أيام كانت تنعم بزمالة هذا البدن المحطوم في شتى ألوان النعيم، فتتفجع وتتوجع وتحزن وتأسى، فان كانت روحاً خيرة فاضلةً كانت فجيعتها أن افتقدت أداة الخير والفضيلة إذا افتقدت الجسد، وإن كانت روحاً شريرة خبيثة مستهترة كانت حسرتها أن سلبت وسيلة اللذة والمتاع - ألا وهي الجسد كذلك.
وتظل ساجعة على الدِّمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع
ولا تحسبن الروح بعد فراقها للجسد قد غفلت عنه وأنسيته بل أنها تتردد إليه الحين بعد الحين، فتقف بازائه باكية نادبة، وقد أبت قريحة الشاعر الفيلسوف إلا أن تصور الروح، وقد جاءت تنشد أطلال الجسد فتجد منه بقية باقية يهيج منظرها ما كان كامناً فيها من شجون، وإنما تعظم الحسرة إذا بقيت من منازل الأحباب آثارها لما تثيره في النفس من ألم وحنين، أما تلك الرياح الأربع التي ما فتئت تهب على مادة الجسد حتى درستها درساً، فيغلب أن تكون الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي لا تنفك، تعتور الصخور الصلدة حتى تفتتها هشيماً تذروه الرياح هنا وهناك، فتنطمس المعالم الأولى لك يا صديقي أن في هذا البيت تصريحاً من الفيلسوف بخلود الروح بعد الموت، فهي باقية خالدة تروح وتغدو، ويستحيل عليها التحلل والفناء.
إذ عاقها الشّرَكُ وصَدَّها ... قفصٌ عن الأوج الفسيح المِرْبَع
ولكن ليت شعري فيم بقاء الروح بين هذه الأطلال الدارسة باكيةً نادبةً، وماذا يعوقها أن تعلو وتصعد إلى حيث العقول المجردة في الملأ الرفيع؟ أليس في ذلك فكاك لها من شوائب المادة ونقائصها، وتحرير من قيود الحس وأصفاده الثقيلة الباهضة إلى حيث تسبح في تلك الأرجاء الفسيحة تتسرح فيها تسريحاً مطلقاً لا يصدها ضيق ولا تزاحم؟ لعمري إنها الدنيا التي تجتذبها كما يجتذب الشرك سوابح الطير الطليق بما يلقى فيه من حب، فهذه اللذة(93/66)
والشهوة والمتاع كفيلة أن تغري النفس إغراءً يكون لها غلاً ووثاقاً، وليس شرك الدنيا الذي تطوقُ به النفوس تطويقاً من ذلك الضرب الهين الخفيف الذي تحطم قضبانه وسلاسله في سهولة ويسر ولكنه شركٌ عاتٍ قوي كثيفٌ يحوك حول السجين آلافاً من الحبائل والحوائل التي يتعذر منها الخلاص إن لم يستحل وإذن فهذا الجسد للروح بمثابة القفص للطير القنيص، لا تستطيع أن تغادره أو تجاوز حدوده إلا إذا أراد لها ذلك واضعها، ولكنه قفص على ما ضربه حولها من سياج منيعُ مشبكُ القضبان فيه من نوافذ ما يسمح للسجينة أن ترسل خلالها الفكر والبصر إلى أرجاء الكون، وما تلك المنافذ التي تتسلل منها الروح إلى أنحاء الوجود إلا الحواس من بصر وسمع وما إليهما، وإلا العقل تتقصى به أطراف الأرض والسماء.
حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحِميَ ... ودنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسع
وغَدت مُفارقةً لكلِّ مُخلَّفٍ ... عنها حليفَ التُّرْبِ غيرُ مشيَّع
هكذا ارتبطت الروح بالجسد ارتباطاً مكيناً. حتى إذا دنت ساعة الرحيل وحان أجل الفراق لهذا البدن إلى حيث تنطلق في الفضاء الرحب الفسيح، وأخذت تقطع ما بينه وبينها من صلات وعلائق وأسباب، وهو تلك الكتلة المادية المخلفة المعطلة المطروحة بعد المفارقة تحت أطباق الثرى دون أن يلتفت إليه أو يعني بشأنه احتقاراً له وازدراء، بعد أن خلفته الروح وخلعته، نقول إذا دنت ساعة الرحيل وفارقت الروح جسدها. . .
هَجعتْ وقد كُشف الغطاءُ فأبصرتْ ... ما ليس يُدركُ بالعيون الهُجَّع
عندئذ يزول عنها حجاب البدن فينكشف الغطاء فتدرك ما كان يستحيل عليها إدراكه أيام اتصالها به، ذلك لأن الأرواح المتلبسة بالأجساد إنما تكون رقوداً هجعاً أو كالرقود الهجع لأنها إذ تكون عالقة بالأبدان تكون محجوبة عن الإدراك الذي تحصله النفوس المجردة كما يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه اليقظان، إذن فالروح عندما تلقي الجسد وتطرحه تكون كأنما تكشف عن بصيرتها غطاء طالما حال بينها وبين مطالعة الرفيق الأعلى بما يغمسها فيه من عرضٍ مادي زائل باطل مصيره إلى الفناء، أما إذا فارقت البدن فقد خلصت من أغلالها وانحسر عن بصرها الغشاء فأبصرت أسرار الحق صافية خالصة وانكشف لها الغيب وأيقنت أنها كانت أثناء حياتها مع الجسد غافلةً راقدةً وقد تنبهت الآن واستيقظت.(93/67)
وغدت تغرِّد فوق ذِروة شاهق ... والعلمُ يرفع كل من لم يُرفع
فإذا كانت قد نفضت عن نفسها ما كان لحقها من غفلة ورقاد، إذن فقد تجردت من قيود المادة وأصفادها وغدت عنصراً عقلياً صرفاً لا تشوبه شائبة من كدورة أو نقص، مبرأةً عن حاجات البدن التي تجذبها إلى أسفل، واتصلت بالعالم الروحاني المجرد، فأحست بالنشوة والسعادة وغردت سروراً لما ظفرت به بذلك الاتصال؛ ولعلك هنا تحتج على الفيلسوف وتعترض حديثه، فما لهذه الأرواح قد صعدت إلى العالم الأقدس ولم تلبث حول أجسادها محومة باكية راثية إلفها الحبيب، فهو يجيبك إنما ترتفع إلى هذه الذروة الشاهقة السامية، تلكم الأرواح التي كسبت من العلم صدراً محموداً وحظاً موفوراً، وإن العلم لجد كفيل أن يرفع إلى حالق ما من شأنه أن يكون في الحضيض الأخس فضلاً عما يكون له بطبيعته اتصالٌ وقربى بالعالم الأشرف الرفيع.
فلأي شيء أُهبطت من شامخ ... عالٍ إلى قصر الحضيض الأوضع
ولكن قف!! أأنت محدثي يا صاح فيم هذا العناء كله إن كان مصير الروح في نهاية أمرها أن تعود إلى حيث بدأت السير؟ فلقد زعمت لي أنها هبطت من علٍ فحلت بالبدن حيناً من الدهر ثم أخذت سبيلها آخر الشوط إلى مستقرها الذي صدرت عنه وفاضت منه! ما هي الحكمة الباعثة للنفس أن تهبط من ذراها هاوية إلى الدرك الأسفل؟
إن كان أهبطها الآله لحكمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لاشك ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
هكذا تساءل صاحبي في دهشة وعجب، قال: إن كان الله جل وعلا قد أهبطها لحكمة خفيت عن بصائرنا، واستعصت على إدراكنا، بل طويت عمن بلغ منا من الحكمة أروعها وأبعدها غوراً، فلا ريب في أن الله تعالى في هذا العالم الأرضي توفق إلى اكتساب المعرفة، واستيفاء أسباب الكمال، إذ كانت في أول أمرها جاهلة ساذجة غافلة، فأهبطها لتسمع ما لم تكن قد سمعت به من العلوم والأخلاق؛ وسبيلها إلى ذلك هي الحواس والعقل.
وتعود عالمة بكل خفيَّة ... في العالَميْن فخُرقُها لم يُرقَع
فاللهم إن كانت هذه رسالتها التي هبطت من أجلها، أعني أنتعود بعد زيارتها إلى الدنيا عالمة بالأسرار الخفية في العالمين - عالم الغيب والشهادة - فلا سبيل إلى تحقيق ما(93/68)
جاءت من أجله؛ لأنها مهما حصلت من فروع العلم وجوانب الأخلاق؛ ومهما أسرفت في التحصيل فهي قاصرة مقصرة، وكيف سبيلها إلى ذلك والعلوم لا تنتهي عند حد، وحتى إن أمكن تحصيلها فلا تكفي لها مدة الحياة على قصرها؛ ولكن ليكن هذا فليس الفشل فيما نظن مما ينتقص من نبل الغاية المقصودة ويحط من شرف الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية.
قال صاحب: لقد زعمت أو زعم فيلسوفك ابن سينا أن الروح إنما هبطت فسرت في البدن ففارقته وعادت أدراجها، والله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، إذا كان ذلك لم يكن لهواً ولا عبثاً؛ فلأي شيء هبطت فتعلقت بالجثمان لتتخذه وسيلة إلى الكمال على شرط أن تكون من أصحاب الفضيلة والخير. قال: وإن كانت الروح من الملأ الأعلى فكيف تكون ناقصة وقد حدثتني في صدر الحديث أن ذلك الملأ مجردٌ مطلقٌ كاملٌ كمالاً محضاً، وأنه خير خالص، كما حدثتني إلى جانب ذلك أن عالمنا هذا شر - أو على أكثر تقدير مزيج بين الخير والشر فما قولك الآن إن الروح قد هبطت من ملأها الأعلى إلى هذه الأرض تنشد عن طريق الكمال؟! وهل يكون الشر وسيلة إلى الخير والكمال؟ لعمري لو كانت العناصر المجردة لا يتم كمالها إلا إذا اتصلت بالمادة فما أوجب أن يهبط عالم الأرواح كله ليمتزج بالأرض ومادتها؟ قلت: جوابك يا صاحبي في هذا البيت الآتي:
وهي التي قطَعَ الزمانُ طريقَها ... حتى لقد غَرُبَتْ بغير المطلع
فقد كان مراد النفس وأملها أن تبلغ حد الكمال بما يرتسم في صفحتها من الصور العقلية، لكن الزمان لم يمهلها وا أسفاه! فقطع عليها السبيل وصدها عما كانت تسير نحوه، وذلك بإهلاكه للبدن وهو أداتها في تحقيق رغبتها، ولكنها إلا تكن قد ظفرت بكل شيء، فهي لم تفقد كل شيء، لأنها لم تغرب - حين غربت - ساذجةً جاهلة كما أشرقت أول الأمر بل عرفت الكمال وعرفت النعيم الذي يكون لها لو بلغت هذا الكمال، وكفاها بهذه المعرفة حافزاً قد يدفعها إلى متابعة السير يوماً آخر.
فكأنه برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
أنعم برد جواب ما أنا فاحص ... عنه فنار العلم ذات تشعشع
ولكن فيلسوفنا الشاعر يعود فيوافقك يا صديقي إلى حد كبير، إن النفس عند فراقها للبدن تكون في الحقيقة كأنها لم تفد شيئاً وكأنها لم تصحب البدن قط، وما أسرع ما انقضى زمن(93/69)
إقامتها فيه، فقد اختفت سريعاً كالبرق الخاطف، وعادت كأن لم تكن بالأمس شيئاً مذكوراً. وإنه ليختم حديثه معك بحفزك وإثارة الطلعة في نفسك لعلك تمعن في التفكير والنظر لترى جواباً لهذا السؤال المربك: فيم هبوط الروح للوصول إلى كمالها، ثم فصلها قبل أن تصل؟ قال محدثي: اني لأرى شبها قويا بين هذه القصة التي قصصها علي عن ابن سينا وبين ما رويته لي بالأمس عن فلسفة أفلاطون من أن النفس كانت تسبح في عالم المثل صافية سعيدة مفكرة، ثم حلت بالجسم وتعلقت به، فإذا وافت الإنسان منيته عادت من حيث أتت، قلت نعم ولعل لي معك في هذا حديثا آخر.
زكي نجيب محمود(93/70)
مقتل عمر بن الخطاب
نقلها عن جرائد ذلك العهد الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اختلف المؤرخون في مقتل عمر رضي الله عنه، فمنهم من قال إن أبا لؤلؤة حقد عليه لأنه لم يخفف عنه الخراج الذي ضربه عليه سيده المغيرة بن شعبة؛ وقال آخرون بل ائتمر به الهرمزان وهو قائد فارسي أظهر الإسلام وأضمر الغدر، وجفينةُ وهو من نصارى نجران الذين أجلاهم عمر عن جزيرة العرب. وقد فاتني - لسوء حظي - أن أشهد الحادثة الضخمة وتأخرت عنها أكثر من ثلاثة عشر قرناً. ولو حضرتها لعرفت كيف أقول! ولكنه لا يجدي الأسف على شيء فات؛ وما لا يدرك كله لا يترك كله؛ وقد وقعت لي (أعداد) من (صحف) ذلك الزمن، مثل جريدة (يثرب)، وجريدة (دار الهجرة)، وجريدة (العذراء)، وغيرها من الصحف الأولى التي كانت تصدر - صباحاً أو مساءً - في صدر الإسلام. وأكبرها جميعاً (يثرب)، وكانت تظهر في الفجر، فيتخطفها الناس وهم خارجون من صلاتهم بالمسجد، وكان لها مكاتبون في الأمصار قاصيها ودانيها، يوافونها بأخبارها وأحوالها، وسيرة ولاتها وعمالها، وجلهم - أي المكاتبون - ممن دخلوا مع رسول الله مكة، واشتركوا في حروب الردة، وقاتلوا مع سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة، وخالد بن الوليد، في فتوح العراق وفارس والشام، ومن أجل هذا كانت الثقة بأنبائهم عظيمة، والاطمئنان إلى الرواية تاماً؛ ولا عجب بعد ذلك إذا كانت (يثرب) كبرى الصحف في ذلك العهد وأوسعها انتشاراً، وأوثقها حالاً. ومما ينبغي أن يذكر من مفاخر هذه الجريدة أن العرب إلى عهد عمر رضي الله عنه كانت تتعامل بالنقود الفارسية والرومية فدعت (يثرب) إلى ضرب نقود عربية وألحت في ذلك؛ ورأى عمر رضي الله عنه أنها على حق، فأمر فضربت الدراهم على شكل النقود الفارسية، فلم تقنع (يثرب) بهذا، وطلبت أن ينقش اسم الله تعالى واسم رسوله تمييزاً لها عن نقود الفرس، فاستحسن الخليفة رأيها، فأمر فكتب على الدراهم: (الحمد الله) على وجه، و (محمد رسول الله) على الوجه الآخر. وقد زعم حاسدوها وشانئوها - من الفرس المغلوبين على أمرهم - أنها ما دعت إلى ذلك إلا ليسهل بيعها، فينشر أمرها ويعظم ربحها، وقالوا: ألا تراها قد أشارت بضرب الدراهم ولم تذكر الدنانير قط؟ فذاك لأن الدراهم خسيسة، ولأن النسخة من جريدة (يثرب) تباع بدرهم! ولكن هذا(93/71)
طعن الفرس الموتورين فلا يسمع في العرب.
على أن من المحقق أن حاجة (يثرب) إلى سنة تؤرخ بها، هي التي أملت عليها الدعوة إلى وجوب الاتفاق إلى سنة معينة للتاريخ منها، غير عام الفيل وعام الفجار وما أشبه ذلك مما لا آخر له، فكان أن استشار الخليفة أصحابه في ذلك فأشار عليه علي كرم الله وجهه - على رواية (يثرب) - باتخاذ السنة التي هاجر فيها الرسول إلى المدينة مبدأ للتاريخ الإسلامي.
بعد هذا الاستطراد الذي لم نر منه بداً للتعريف (بيثرب) ورفعة مقامها وعلو منزلها، نقول إنا وجدنا فيما عندنا من أعدادها وصفاً مفصلاً لجريمة مولى المغيرة، فرأينا أن ننقله بحروفه حسما للخلاف، وإحقاقاً للحق.
قالت في ملحق أصدرته ضحى الأربعاء 26 ذي الحجة سنة 23 هجرية تحت العنوانات الآتية المكتوبة بالخط الجليل على سبعة أعمدة: (غلج فارسي يطعن أمير المؤمنين وهو يقيم الصلاة - ويصيب 13 رجلا ثم ينتحر - أهي مؤامرة فارسية نصرانية؟ - تحريات مندوبي يثرب الخصوصيين).
ثم قالت الجريدة:
(لم نكد نفرغ من طبع العدد الأخير من (يثرب) وندفع به إلى الباعة، ونذهب إلى المسجد للصلاة، حتى فوجئنا باعتداء أثيم مروع من علوج فارس على حضرة صاحب الجلالة أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفاروق عمر بن الخطاب وهو يسوي الصفوف في المسجد ويهم باقامة الصلاة. وهو اغتيال دنيء وغدر خسيس تنكره الشهامة ولا تعرفه العرب، ولو أن مائة من أمثال هذا العلج الزنيم تصدوا لجلالته، وهو يراهم لخلط عظمهم بلحمهم وأكلهم وتأدم بآبائهم وأجدادهم إلى قابيل، ولكن هذا العلج جاءه من وراء ظهره، وأخذه غدراً وطعنه غلية، وهو رافع يديه يكبر للصلاة.
وقد سبق لنا أن حذرنا الحكومة من هؤلاء الفرس والنصارى الذين يفدون على مدينة الرسول؛ فإنها - على وفرة الماء فيها بالقياس إلى غيرها من بلاد العرب - يابسة الضرع، وغيرها من الأمصار التي فتحها أخصب، والعيش فيها أرغد، فمجيء هؤلاء الأغراب الموتورين إلى المدينة وإقامتهم فيها أمر مريب، فما يعقل أن يطيب لأمثالهم فيها(93/72)
عيش، وهو الذين نشأوا في ظلال الدعة وألفوا حياة اللين والترف، وهذا ما جناه السماح لهم بالإقامة بين ظهرانينا.
ودعوا مراراً إلى اتخاذ الشرطة والحراس، والعسس بالليل، ومراقبة الأجانب، وقلنا إن خروج الخليفة وليس معه حارس، ولا في يده سلاح، ونومه في الأحيان الكثيرة في ظل شجرة أو جدار لا يخلو من الخطر، وأنه تعرض لا تؤمن مغبته، ولو أنه ليس بالمدينة إلا العرب لما أشفقنا، ولكن الأغراب كثروا بيننا، وهو من بلاد داستها جيوشنا، ودوخت أممها، وثلت عروشها، فهم حاقدون مضطغنون، لا يؤمن غدرهم ولا يتقي شرهم إلا بالحيطة والتحرز منهم. وقد صدق ظننا مع الأسف، وليته خاب ألف خيبة، نسأل الله اللطف فيما وقع).
ثم فصلت الجريدة الحادث كما وقع فقالت:
(دخل جلالته المسجد ليصلي بالناس على عادته، وكانت في يده الدرة التي لا تفارقه، فاخترق الصفوف والناس يفسحون له، ويحيونه بأحسن من تحيته، حتى صار إلى الصدر فاستقبل الناس ليقوم صفوفهم، وذاك دأبه، فان جلالته يكره الفوضى ويحب النظام، ثمألقى الدرة من يمينه - وكان يسوي بها الصف ويشير للمتقدم أن يتأخر، وللمتأخر أن يحاذي الذي بجانبه، ثم اتجه إلى القبلة ورفع يديه وكبر، ولم يكد صوته الجهوري يرتفع بالتكبير حتى هجم عليه رجل - ظهر فيما بعد أنه غلام المغيرة - وفي يده خنجر وضربه به في كتفه، فانحنى أمير المؤمنين قليلاً من عنف الصدمة وقوة الضربة على غير توقع منه، فمال معه المجرم وكاد يسقط، غير أنه اعتمد بيسراه على ظهر جلالته ونزع الخنجر الذي أصاب عظمة الكتف، وكان جلالته قد تمالك، وذهبت عنه دهشة المفاجأة فدار ليواجه المعتدي عليه، فعاجله الجاني بطعنة في خاصرته، وأسرع فنزع، وتشدد جلالته فضربه بجمع يده في صدره وهو يقول: (تريد قتلي يا ابن الفاعلة؟) فارتد المجرم خطوات، ثم كر عليه بالخنجر يطعنه طعناً سريعاً فسقط أمير المؤمنين على الأرض.
وكان الناس قد اذهلتهم هذه المباغتة، وأصابتهم منها لأول وهلة كالرعب، فتراجعوا والتوت صفوفهم، ثم أفاقوا، فصاح بعضهم يطلب الشرطي - وأين هو حتى يلبي النداء؟ - وهجم منهم عليه رهط، فأعمل فيهم خنجره يضرب يميناً وشمالاً كالمجنون، فأصاب منهم(93/73)
ثلاثة عشر رجلاً، وألهم الله بعضهم فألقى عليه برنسا - كما تلقى على الجواد الجامح ثوباً - فأعماه وشل حركته، ثم تكاثروا عليه، وأيقن هو أنه هالك لا محالة فطعن نفسه فمات!
وأقبل الناس بعد ذلك على أمير المؤمنين واجمين محزونين - حتى الجرحى منهم - فردهم جلالته عنه باشارة وسأل:
(هل فيكم عبد الرحمن بن عوف؟)
فتلفت الناس ينظرون، فإذا ابن عوف يفرقهم ويقول:
(نعم يا أمير المؤمنين)
فقال جلالته: (تقدم، فصل بالناس)
فكانت دهشة، ولكن عمر هو عمر، لا يشغله خطب عن دينه وواجبه، ولا يجرؤ أحد على خلافه من هيبته، فصلى ابن عوف بالناس صلاة خفيفة، وعيونهم على جلالته، وهو ساكن وادع معتمد على الأرض بمرفقه، يصلى معهم بشفتيه، ثم أقبلوا عليه فحملوه، يريدون أن يذهبوا به إلى داره، فقال:
(مهلاً، ناولتي درتي يا هذا)
فناولوه إياها، فأخذها وهو يقول وعلى فمه ابتسامة:
(أرأيتم ماريشالاً بلا عصاه؟)
فابتسموا لابتسامته، ولكن دموعهم كانت تساقط على لحاهم وأيديهم التي خضبها دمه الزكي، فنظر اليهم يبكون وقال يزجرهم:
(بل الحمد الله الذي لم يجعل منيتي بيد مسلم)
أما الجاني فهو أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة، وأصله فارسي من نهاوند، وقد كتب الينا مندوبنا القضائي يقول:
منذ بضعة أيام جاء فيروز هذا إلى أمير المؤمنين يشكو إليه أن مولاه المغيرة بن شعبة يشتط في الخراج الذي ضربه عليه ويرهقه بما يتقاضاه منه، وسأله التخفيف عنه.
فسأله جلالته: (كم خراجك؟)
فقال: (درهمان في كل يوم)
فسأله: (أو كثير هذا عليك؟)(93/74)
قال: (نعم، وحقك)
قال جلالته: (دع هذا، وقل ما صناعتك؟)
قال الغلام: (نحاس ونقاش وحداد)
فقال جلالته: (ثلاث صناعات في يديك، وتشكو رقة الحال وتستكثر درهمين؟ كلا ليس خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال) وأعرض عنه.
وقد يؤخذ من هذا أن فيروز حقدها على جلالته، وأسرها في نفسه، وأضمر أن ينتقم، ولكنا لا نعرف أن الناس يقتل بعضهم بعضاً من أجل درهمين، فكيف باغتيال خليفة؟ ثم إن تحرياتي تدل على أن الأمر كان مبيتاً بليل، فقد حدثني عبد الرحمن ابن أبي بكر - وهو ثقة - أنه رأى عشية أمس الهرمزان الفارسي وجفينة النصراني وأبا لؤلؤة هذا، وهم يتناجون، فلما رأوه اضطربوا، وسقط من أحدهم خنجر له شعبتان، يقول ابن أبي بكر أنه هو نفس الخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة أمير المؤمنين. فبماذا كانوا يتناجون في غلس الليل، وهذا فارسي أعجمي، وذاك نصراني عربي وثالثهم مملوك للمغيرة؟ وماذا جمع العربي النصراني، والفارس المجوسي وإن تظاهر بالإسلام؟
ومعروف أن الهرمزان هذا كان من قواد الفرس الذين هزمهم سعد بن أبي وقاص، وقد أظهر الإسلام لينجو بجلده، وخان المسلمين مراراً ثم زعم أنه تاب، ومثله خليق أن يبطن العداوة للعرب وألا يغفر لهم أنهم مزقوا عرش الأكاسرة وغلبوهم على بلادهم مجوسيتهم، وسووا بين الناس فلا سيد ولا مسود، ولا شريف ولا وضيع.
أما جفينة فأمره مشهور، وهو نصراني من نجران، أتى به سعد بن أبي وقاص ليعلم الناس الكتابة - فيا سوء ما أتى به سعد من هذا! وقد كان أمير المؤمنين خاف انتقاص النصارى في نجران عليه، وهو في حرب الفرس والروم، فأجلاهم عن جزيرة العرب ثم عوضهم وأوسع لهم من الأرض في الشام والعراق، وأعطاهم خيراً مما تركوا، ثم هزم المسلمون جيوش هرقل وهو حامي النصرانية، فجفينة لا ريب مضطغن لذلك؟ وقد وجد في الهرمزان حليفاً ونصيراً، وفي فيروز وهو فارسي كالهرمزان، أداة لارتكاب الجريمة المدبرة.
وهذا هو الذي عليه الرأي العالم، ولو ترك الناس لرأيهم وخلى بينهم وبين ما يريدون(93/75)
لفتكوا بالفرس والنصارى وشربوا دماءهم، فان النفوس فائرة، والصدور مضطرمة، ولكنهم يكبحون أنفسهم ويحملون عليها ويردونها على مكروهها احتراماً لأمير المؤمنين وانتظاراً لما يفعل، شفاه الله وعافاه.
بل هذا هو رأي أمير المؤمنين نفسه، فقد اجتمع إلى جلالته في داره بعد أن حمل إليها، المهاجرون والأنصار، فقال لابن عباس وكان معه:
(أخرج إليهم فاسألهم أعن ملأ منهم ومشورة كان هذا الذي أصابني؟)
فعاد إليه ابن عباس يقول إن القوم يقولون (لا والله، ولوددنا أن زاد الله في عمرك من أعمارنا).
فقال جلالته: (إذن أبرق إلى العراق وفارس وأنبئ العمال بما كان، وحذرهم أن ينتقض الناس على غرة منهم، فما يدريني ويدريك، لعله تدبير من هناك.)
وقد أرسلت البرقيات اللاسلكية إلى عمال الأمصار بالاستعداد لكل طارئ فلا خوف من هذه الناحية فان قوتنا كافية لقمع ما عسى أن ينجم من الفتن.)
وعند مثول هذا الملحق للطبع أبلغنا مندوبنا ما يأتي تليفونياً:
عرفتم أن المجرم أبا لؤلؤة عليه لعنة الله وملائكته، أصاب ثلاثة عشر من المصلين بخنجره، كانوا يحاولون القبض عليه وانتزع الخنجر منه، فالآن أقول إن سبعة منهم كانت جراحهم خطيرة، فتوفوا من النزف، وسيجهزون للدفن وتشيع جنازتهم بعد صلاة العصر باحتفال كبير يمشي فيه المهاجرون والأنصار والبدريون، وقد أمر جلالة الخليفة بأن ينوب عنه في تشييع الجنازة، صهيب.
أما الستة الآخرون فجراحهم خفيفة، وقد بعث إليهم جلالة الخليفة بابنه عبد الله بن عمر ليعودوهم ويستفسر عن حالهم، فشكروا له هذا العطف السامي ودعوا الله أن يعجل بشفائه
هذا وقد فحص الطبيب الشرعي الخنجر فتبين أنه مسموم فلا حول ولا قوة إلا بالله
وأذيعت نشرة طبية موجزة جاء فيها أن الإصابات ست في الكتف والخاصرة والظهر، وإن النزف منها شديد، وقد سقى جلالته لبناً فخرج من إحدى الطعنات أبيض كما هو، فنصح الطبيب لجلالته بأن يعهد، تولانا الله برحمته.
صدر العدد التالي من (يثرب) مجللاً بالسواد، وفيه نعت أمير المؤمنين إلى العالم(93/76)
الإسلامي، ورثته رثاء طويلاً، ولخصت سيرته في الجاهلية والإسلام، ولا نحتاج أن ننقل من هذا شيئاً فإنه معروف، ووصفت تجهيزه للدفن، وتشييع جنازته والصلاة عليه بالمسجد، وحمله على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنه معه إلى جانب أبي بكر الصديق، وسردت أسماء المشيعين من الأنصار والمهاجرين وغيرهم، وروت فيما روت أن علياً وعثمان تقدما للصلاة عليه فردهما ابنه عبد الرحمن وقال منكراً عليهما ذلك: (لا إله إلا الله! ما أحرصكما على الإمرة! أما علمتما أن أمير المؤمنين قال ليصل بالناس صهيب؟) وأثبتت تصريحاته قبل موته، لابن عباس، ووصيته لمن يخلفه، وقالت إنه دفع بها إلى ابنه عبد الله وقال له: (إذا اجتمع الناس على رجل - أي أمير المؤمنين - فادفع إليه هذا الكتاب وأقرئه مني السلام). وما أمر به في اختيار خليفته، وما أوصى به أبا طلحة الانصاري والمقداد بن الأسود، وكل هذا مشهور فلا داعي لنقله.
ولكن حادثاً وقع بعد ذلك، تعد (يثرب) مسئولة عنه، فقد ذهب إلى أن قتل عمر كان عن تآمر من جفينة النصراني والهرمزان الفارسي، وأنهما هما اللذان أغريا أبا لؤلؤة بقتله، وروت ما شهد به عبد الرحمن بن أبي بكر وغيره في ذلك، وأيدت ذلك بالدليل العقلي، فهاج عبد الله بن عمر، ومضى إلى ابنة أبي لؤلؤة فقتلها، ثم إلى جفينة والهرمزان فألحقهما بها، انتقاماً لأبيه؛ ولم يكن الذين وكل إليهم التشاور في أمر الخلافة قد فرغوا، فبعث صهيب عمرو بن العاص إلى عبد الله، وكان عمرو داهية، فلم يزل يحاوره ويداوره ويمسح منه في الذروة والغارب حتى سكنت نفسه، فأخذ منه سيفه، ثم جاء سعد بن أبي وقاص فقبض عليه وحبسه في داره.
ولما تولى عثمان بن عفان الخلافة، استشار أصحابه في أمر عبد الله بن عمر، فأشار بعضهم بقتله فيمن قتل، ولكن آخرين استنكروا أن يقتل الأب أمس ويقتل الابن اليوم، ووجد عمرو بن العاص مخرجاً من هذه الورطة، فقال لعثمان:
(يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان، ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك).
أي قبل أن تكون خليفة، فمال عثمان إلى الرأفة، ورفض رأي علي بن أبي طالب، وكان يذهب إلى قتل عبد الله بن عمر، وقال عثمان: (أنا وليهم، وقد جعلتها دية واحتملتها في(93/77)
مالي).
وقد أثنت يثرب على مشورة ابن العاص، ومروءة عثمان بن عفان، وقالت إن هذا درس عسى أن ينفع العجم والنصارى فيصرفهم عن التآمر مرة أخرى ولكن فريقاً من الأنصار كتبوا إليها يفندون رأيها، ويقولون إن الواجب كان أن يقتل ابن عمر؛ فكان هذا أول خلاف في عهد عثمان.
ولم ننقل هذا إلا لأن الفريق الذي طالب بقتل ابن عمر كذب ما روته (يثرب) في ملحقها من أن أبا لؤلؤة قاتل عمر انتحر لما كثر عليه الناس وأيقن من الهلاك، وأكد أنه لم ينتحر، وإنما ثار رجل من المصلين فقتله وأخذ منه الخنجر.
وكذب أيضاً أن الخنجر كان مسموماً، ولم يحفل ما قاله الطبيب الشرعي في ذلك، وقال إن ستة ممن طعنهم أبو لؤلؤة بخنجره هذا شفوا ونجوا، ولو كان الخنجر مسموماً لماتوا، وإنما مات من مات لإصابته في مقتل، أو من شدة النزف.
وطال الجوار والأخذ والرد بين (يثرب) ومخالفيها في الرأي حتى لأنكروا عليها أن الحدث كان عن تآمر، واستهجنوا منها أن تحض على اضطهاد العجم والنصارى، وقالوا إن هذا التحريض من سوء الرأي، وإنه خليق أن يفسد أمور الدولة ويخلق لها متاعب هي في غنى عنها في عهد التأسيس، وأنه توجد عصبيات لا يؤمن شرها في المستقبل، وتفاقم الخلاف بين الفريقين حتى لدعا علي كرم الله وجهه، الخليفة إلى إغلاق يثرب، أو على الأقل تعطيلها حتى تقر الفورة وتهدأ النفوس، ولكن الخليفة شق عليه أن يصيب حرية الرأي في عهده أي سوء، فاكتفى بالنصح لجريدة (يثرب) ألا تسرف في دعايتها، وأن تتقي اللجاجة وما قد تجر إليه من الفتنة.
وقد آثرنا التخليص، لأن النقل يطول، والقارئ أدرى بالصحف وكيف تبدئ وتعيد حتى تعكر الجو وتضجر وتغشى. وقد بلغ من تفرق الرأي في ذلك الوقت أن الناس كانوا يجلسون في المسجد حلقات وفي أيديهم أعداد (يثرب)، فهذا يؤيد، وذاك يعارض ويكذب، حتى خيفت الفتنة وحسبنا هذا القدر.
إبراهيم عبد القادر المازني(93/78)
الفلسفة الإسلامية ودراستها
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
قد يكون من عبث القول أن نحاول اليوم إثبات وجود فلسفة إسلامية انفردت بما لها من خصائص ومميزات؛ فقد انقضى الزمن الذي ادعي فيه (رينان) ومن نحا نحوه أن فلاسفة الإسلام اكتفوا بترديد نظريات (أرسطو) دون أن يغيروا فيها شيئاً. هناك فلسفة إسلامية، كما أن هناك فلسفة مسيحية، أو بعبارة أخرى تقابل المدرسة الفلسفية العربية في الشرق، المدرسة اللاتينية في الغرب. ومن هاتين الفلسفتين مضافاً إليهما الدراسات اليهودية يتكون تاريخ البحث النظري في القرون الوسطى. للإسلام فلسفة قد امتازت بموضوعاتها وأبحاثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول وأجوبة. فهي تعني بمشكلة الوجود والتعدد , والصلة بين الله ومخلوقاته التي كانت مثار جدل طويل بين علماء التوحيد المسلمين. وتحاول أن توفق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تبين للناس أن الوحي لا يناقض العقل في شيء، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخي مع الفلسفة أصبح فلسفياً، كما تصبح الفلسفة دينية. وقد وصل الفلاسفة المسلمون في كل هذه النقط إلى نتائج جديرة بالتقدير والإعجاب.
لا يستطيع باحث أن ينكر أن هؤلاء الفلاسفة قد أخذوا عن (أرسطو) معظم آرائه، وتأثروا بأفلاطن + 270) إلى حد كبير. ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه، ولم يقتف أثر من تقدموه؟. . . وها نحن أبناء القرن العشرين لا تزال عالة في كثير من المسائل على أبحاث الأغريق والرومان. غير أن الفلسفة الإسلامية، وإن بنيت على أفكار السابقين، تشتمل على نظريات جديدة؛ فهي فلسفة أنتجتها البيئة والوسط، وأملتها الظروف المحيطة بها؛ وتلك سنة من سنن التاريخ، وأصل من أصول الاجتماع. على أنا إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة الفرد، وجدنا القانون لا يتغير، ولاحظنا أن الفكرة الواحدة إذا تناولها بالبحث أشخاص متعددون، ظهرت في مظاهر متباينة. لفيلسوف أن يقترض من آخر بعض آرائه، ولن يمنعه ذلك من أن يأتي بنظريات خاصة وفلسفة متميزة. (فاسبينوزا + 1677) مثلاً، رغم متابعته الواضحة (لديكارت + 1950)، يعد بحق صاحب مذهب فلسفي مستقل.(93/79)
وكذلك (الفارابي + 950) و (ابن سينا + 1037) و (ابن رشد + 1192)، الذين كانوا تلامذة مخلصين (لأرسطو)، قد اعتنقوا آراء تمتاز كثيراً عما جاء به أستاذهم. وإذاً استطاع العالم الإسلامي أن يكون لنفسه فلسفة تلتئم وظروفه الدينية والاجتماعية.
بيد أن الفلسفة الإسلامية، في تاريخها، في نظرياتها، في رجالها، لم تدرس الدرس اللائق بها، ولا تزال الحلقة المفقودة في تاريخ الفكر الإنساني، فحتى الساعة لم يبين الباحثون بدقة أصل نشأتها، وتاريخ تكوينها، والعوامل التي أدت إلى نهوضها، ولا الأسباب التي انتهت بانحطاطها والقضاء عليها، ولم يناقشوا نظرياتها واحدة واحدة ليوضحوا ما اشتملت عليه من أفكار الأقدمين، وما أنتجت من ثروة جديدة. وأما رجالها فغرباء في أوطانهم، مجهولون لدى أقرب الناس إليهم؛ ولا أدل على ذلك من أن كثيرين منا يعرفون عن (روسو + 1778) أو (سبنسر + 1903) ما لا يعرفون عن (الكندي + 870) أو (الرازي + 932)، ولو لم يقيض الله لفلاسفة الإسلام جماعة من المستشرقين وقفوا عليهم جزءاً من أبحاثهم ودراساتهم، لأصبحنا ونحن لا نعلم من أمر الفلسفة الإسلامية شيئاً.
إلا أن هذه الدراسات وتلك الأبحاث قليلة ومعيبة من وجهين: أولاً إهمالها للجانب الفلسفي واشتمالها على كثير من الأخطاء اللغوية والفنية والتاريخية. ولعل سر ذلك أن أغلب من كتبوا في تاريخ الفلسفة الإسلامية لا يجدون العربية، ولا يحيطون تمام الإحاطة بتاريخ الثقافة الإسلامية؛ أو إن عرفوا ذلك فهم يجهلون تاريخ الفلسفة العامة، ولم يتوفر لديهم التفكير الفلسفي المنتظم؛ ولسنا في حاجة إلى سرد أمثلة، فإن هذا الحكم ينطبق، إذا استثنينا طائفة محدودة، على عامة الكتب المتصلة بتاريخ الفلسفة والفلاسفة المسلمين. وأما العيب الثاني فميل شديد إلى الاختصار يكاد يخل بالغرض المطلوب، ويحول دون القارئ والنفوذ إلى صميم ما يقرؤه. ومن أوضح الأمثلة على ذلك مختصر قيم حقيقة للعالم الهولاندي (دي بور)؛ غير أن عيبه الهام يرجع بالتحديد إلى اختصاره المبالغ فيه؛ وفوق هذا فان هذه الكتب في جملتها قديمة العهد، قد ألفت في زمن ما كان يعرف فيه عن التاريخ الإسلامي إلا الشيء القليل. أما اليوم وقد تقدمت معلوماتنا تقدماً محسوساً في هذه الدائرة، فنحن في حاجة ماسة إلى أبحاث تتناسب مع مصادرنا الجديدة، ومع ما استكشفنا من مخطوطات ومؤلفات للفلاسفة والعلماء المسلمين.(93/80)
لا يقاس انتشار صوت مفكر أو مخترع بمقدار ما أحدث من آراء ومخترعات فقط، بل بدرجة نبوغ الوسط الذي يعيش فيه والشعب الذي ينتمي إليه. فالأمم النبيلة تزيد أبناءها عظمة على عظمتهم، وتعمل على رفعتهم بقدر قد لا يصلون إليه وحدهم. ورب نظرة عادية لاقت مشجعين فنموها، وأخذوا بيدها حتى صعدت إلى عنان السماء؛ ورب فكرة ممتازة صادفت منبت سوء فماتت لساعتها. عرفت ذلك الشعوب الناهضة، فأشادت بذكر علمائها وفلاسفتها، وخدمت في الوقت نفسه العلم والثقافة الإنسانية. فهي تخلد ذكرى رجالها بمختلف الوسائل، وتعمل على نشر آثارهم ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فمن تماثيل مقامة في المدن والقرى، ومن جمعيات نشر وترجمة وتأليف قد أخذت على عاتقها إذاعة ما أنتج السلف من أفكار. فهل آن لنا أن نحتذي بهذه المثل الصالحة، وأن نعرف لتاريخنا حقه كي نعرف وننال منزلتنا تحت الشمس؟ متى يكتب عن (الفارابي) بقدر ما كتبوا عن (موسى بن ميمون + 1204)؟ ومتى تعرف مؤلفات (ابن سينا) كما عرفت كتب (سان توما + 1274)؟ ومتى يدرس (الغزالي + 1111) بقدر ما درس (ديكارت)؟
إن دعوتنا هذه موجهة إلى كل بلاد الشرق، وبوجه خاص إلى مصر التي تستطيع بحكم مركزها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي أن تخدم البحث والتأليف. فإلى أبناء مصر عامة، أفراداً خاصة، نتقدم بكلمتنا هذه آملين أن يعبروا تاريخ الفلسفة والبحث العقلي في الإسلام جانباً كبيراً من الأهمية. إن ميدان العمل فسيح، وإن سبله عديدة، ولسنا الآن بصدد أن نرسم خطة شاملة، أو أن نبين منهجاً مكتمل المواد، وإنما نريد أن يتولى الشرقيون بالدرس فلاسفة الإسلام على النحو الذي درس به الغربيون رجالهم. لنترجم لمفكرينا ترجمة مستفيضة، ولنصف وصفاً دقيقاً نواحي حياتهم المتعددة؛ لنبحث عن أصول نظرياتهم لدى حكماء الإغريق والهند والعراق، ولنقارن هذه النظريات بما جاء به اللاتينيون في القرون الوسطى، ولنبين وجوه النسبة بينهما وبين الأفكار الحديثة. إنا لا ننكر أن هذه الأبحاث مملوءة بالمصاعب، إذ تستلزم معرفة عدة لغات: قديمة وحديثة، شرقية وغربية، وتستدعي الاطلاع على مصادر لا حصر لها، ولكن إن لم يكن في هذه الدراسة إلا أنها عمل جديد من نوعه لكفي مرغباً في مزاولتها والإقبال عليها.
وأخيراً لنعمل على طبع ونشر مؤلفات الفلاسفة المسلمين، فإنّا لا نستطيع أن نفهمهم فهماً(93/81)
حقاً دون أن نقرأهم بلغتهم وفي كتبهم؛ وهنا نتجه بصفة خاصة إلى الجامعة المصرية التي سلكت في هذا الباب مسلكاً تحمد عليه، فقد بدأت منذ زمن، متبعة سنة الجامعات الأوربية، في أحياء المخلفات العربية، وجمع المخطوطات الإسلامية وطبعها. وعلها تخطو في هذه السبيل خطوات أخرى حثيثة ومتتابعة. إنه لمحزن أن يبقى قدر من مؤلفات (الفارابي) مخطوطاً حتى اليوم، وموزعاً بين مكاتب أوربا المختلفة: ليدن، باريس، والاسكريال. على أن ما طبع من كتب هذا الفيلسوف العظيم مملوء بالأخطاء. فهل لنا أن نسعى إلى جمع مؤلفاته في شكل وطبعها كلها طبعاً مناسباً، مصحوباً بوسائل التحقيق والإيضاح الضروري. الفكرة تخامرنا منذ زمن؛ وقد أشرنا إليها في كتابنا على (الفارابي)، ونحن نرحب بكل من ينضم إلينا في تنفيذها. وليس (ابن سينا) بأعظم حظاً من سلفه وأستاذه؛ فان كتابه الأكبر في الفلسفة: (الشفا)، قد طبع طبعة مشوهة في طهران منذ خمسين سنة. وقد أهمل الناشر الجزء الأول منه، الخاص بالمنطق، والذي اهتدينا إليه أخيراً في مخطوطة بالبرتش ميوزيم وأخرى بالأنديا أوفس وإنا لنأمل أن نوفق يوماً لنشر هذه المخطوطة وضمها إلى الجزأين الآخرين في طبعة جديدة مستقيمة.
تلك سلسلة من الأعمال تبين نواحي النقص في دراسة الفلسفة الإسلامية، وهناك ملاحظات كثيرة متعلقة بكبار فلاسفة الإسلام الذين لم نشر إليهم قد أرجأناها إلى فرصة أخرى.
وكلنا رجاء أن تتضافر الأيدي على حرث وزرع هذا الحقل المترامي الأطراف، وأن نتعهده متكاتفين حتى يؤتى أثماره الطيبة.
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة(93/82)
بلالٌ يؤذن
للدكتور عبد الوهاب عزام
كاد الليل ينسلخ عن النهار، وبشرت بالصبح أنفاس الأسحار، والدجى مهود وسنان، سيفزعه عما قليل ذنب السرحان والناس هاجدون وكأنهم أيقاظ ينتظرون صلاة الصبح؛ وكأن آذانهم مصيخة تلقاء المسجد. تتحين دعاء المؤذن، وكأن قلوبهم إبر المغناطيس ترصد قطبها، وتتجه إلى إمامها، والأمام هاجد يرعاه ربه، تنام عيناه ولا ينام قلبه. وملء الأرض والسماء السكينة والسلام.
وسرى في أحشاء الليل كطيف الخيال، اتخذ من الليل جلباباً، وطوى من الصبح قلباً وجاباً، (آدم شديد الأدمة، نحيف طوال أجنأ، له شعر كثير، خفيف العارضين، به شمط كثير) تحمل جمته الشمطاء، تباشير الصباح الوضاء.
ويرتقي جدار المجلس، فيجلس مقلباً وجهه في السماء، ثم ينتفض قائماً، فيضع سبابتيه في أذنيه، فيبعث في حواشي الظلماء، صوتاً يجلجل في الأرجاء: الله أكبر الله أكبر - الله أكبر الله أكبر! أترى فلول الظلام مذءودة تلوذ بالباطل المنهزم، أم ترى الباطل مذعوراً يلتف في تلك الظلم؟ ذلك النور المنبثق من الأفق الشرقي بسمة الفجر الصادق لهذا الصوت الإلهي، بل ذلك النور الوضاء، استجابة النهار لهذا النداء. فما الفجر إلا صوت نوراني، يتلألأ بنغمات ذلك النور الصوتي؛ ليت شعري أيهما الصباح، وأيهما أذان بلال بن رباح؟ ويمضي بلال يصدع قلب الظلام، بشهادتي الإسلام: أشهد أن لا أله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم يحيل بالصلاة والفلاح، ثم يعيد التكبير في تمديد، فيختم بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله!
ويحسب بلال أن صوته لم ينفذ إلى القلوب، فلم تتجاف عن مضاجعها الجنوب، فيثوب بالقوم: الصلاة خير من النوم.
يتهلل وجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لصوت الحق مدوياً في أعقاب الباطل، ويبتسم لصوت الحق عالياً طليقاً يملأ ما بين الأرض والسماء، والمشرق والمغرب. يبسم حين يسمع دعوة الحق في قلب الجزيرة العربية على لسان عبد حبشي. وهل في شرعة الإسلام عبد وحر؟ وهل في سنة محمد عربي وحبشي؟(93/83)
وتنبعث في كل أذن من هذا الصوت نغمة، وفي كل قلب من هذا النور إشراق. فيهب الأصحاب من مراقدهم، تقشعر جلودهم، وتطمئن قلوبهم. فتستيقظ كل دار بأهبة الصلاة من الرجال والنساء والولدان والولائد.
وينزل بلال فيقف بباب الحجرة النبوية قائلاً: (حي على الصلاة، حي على الفلاح. الصلاة يا رسول الله).
ويسفر النهار وتنثال الجموع إلى المسجد فانظر من ترى:
يخرج نفر إلى المسجد من خوخات في دورهم، فهذا الآدم الربعة عظيم العينين ذو البطن سيف الله الغالب علي بن أبي طالب، يخرج من حجرة فاطمة. وهذا الآدم الطويل الجسيم الأصلع عمر الفاورق، وهذا الأسمر الرقيق البشرة ضخم المنكبين كثير شعر الرأس عظيم اللحية عثمان ذو النورين، والصديق كان في السُّخْ هذه الليلة فيقدم مسرعاً فتراه أبيض نحيفاً معروق الوجه غائر العينين خفيف العارضين أجنأ. ويقبل من دور بني زهرة بجانب المسجد ثلاثة: أحدهم قصير دحداح ذو هامة عظيمة، شثن الأصابع، كثير الشعر يخضب بالسواد، هو سعد بن مالك بن أبي وقاص، والثاني آدم نحيف قصير له شعر يبلغ ترقوته، يلبس ثوباً ناصع البياض، تضوع منه ريح الطيب، يمشي في وقار وسمت، هو عبد الله بن مسعود، والثالث ضخم طويل الجسيم خالد بن الوليد، وهذا القصير الأبلج الأدعج عمرو بن العاص، وفي أثرها رجل جميل عظيم الهامة مكتحل يخطر في مشيته هو معاوية بن أبي سفيان، وبجانبه رجل نحيف طوال معروق الوجه خفيف اللحية اجنأ أثرم الثنيتين هو أبو عبيدة ابن الجراح. ويقبل من ناحية الحرة الشرقية رجلان: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج؛ ويأتي رجل طويل نحيف كثير الشعر عليه سيما الحزن هو سليمان الفارسي، ووراءه رجل ربعة أحمر شديد الحمرة كثير شعر الرأس، يخضب بالحناء هو صهيب الرومي؛ وانظر بين الجمع طلحة والزبير وأبا موسى الأشعري وأبا أيوب الأنصاري. ويأتي بنو الصحابة، فهذا الغلام الطويل الأحمر عبد الله بن عمر، وهذا الغلام الطويل الأبيض المشرب بالصفرة الجسيم الوسيم الصبيح الوجه عبد الله ابن العباس، وهذا الصبي الذي يشبه أبا بكر عبد الله بن الزبير.
ويخرج رسول الله صلوات الله عليه، فيقيم بلال الصلاة: الله أكبر الله أكبر الخ، فيسوي(93/84)
الرسول الصفوف، ويسد الفرج فيها ويكبر فيكبرون. ويذهب هذا التكبير نغمة متسقة بين ضوضاء العالم وجلبته في الأرجاء طمأنينة لقلوب، ورعدة لقلوب، ورجاء لقوم، وخوفاً لآخرين، يبشر الضعفاء والمظلومين بملكوت الله في الأرض، وينذر الجبارين والظالمين بالقصاص العادل. إنما مزق شمل الظالمين هذه الصفوف لا صفوف القتال، وإنما زلزل عروش الجبارين ذلك التكبير لا وقع النبال.
ويقرأ الرسول في الركعة الأولى آيات من سورة النور منها: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
ويقرأ في الركعة الثانية آيات من سورة الحج منها:
(إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور. أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا الله، ولولا دفع الله الناسَ بعضَهم ببعض لهدّمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدٌ يذكر فيها اسمُ الله كثيراً. ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوّي عزيز. الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوُا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور).
هذه جماعة يمحصها الله ليورثها أرضه، ويعلمها لتقوم بين الناس بعدله. وهذا الصف من العُبّاد يجمع خلفاء الأرض وأمراءها وولاتها وقضاتها ومعلميها وقوادها وجندها، وتلك الشرذمة من الزهاد هم ورثة العروش والتيجان عما قليل، الذين يقسم الله رزقه بأيديهم، ويصرف حكمه في الأرض بألسنتهم. جماعة تضمهم جُدُر المسجد اليوم ولا يسعهم العالم غداً، جماعة في أرض فقيرة بين لابتين، سينشرون بين المشرقين والمغربين، وستجفُ الأرض بحملاتهم، وتقر بعدلهم، وتضيء بإيمانهم قضيت الصلاة وانتشر المصلون.
لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده. قد فتحت بهذه الجماعة الأقطار، وعمرت بهم الأمصار، هذا عمر في الشام قد أزال عنها سلطان الروم، ثم جاءها ليبرم العهود، ويتفقد الرعية؛ وهذا بلال في جيش المجاهدين غازياً؛ ينظر عمر إلى بلال يود أن يسمع آذانه، ويهاب أن يستمع لمؤذن رسول الله. ويقول الناس لعمر: لو أمرت(93/85)
بلالاً أن يؤذن! ويقترح عمر على بلال الآذان، فينهض الشيخ ابن السبعين تحت أعباء السنين، فيدوّي في الأرجاء: الله أكبر، الله أكبر. . .
لقد كان آذان الشام تصديق آذان المدينة. . . . أجل أجل لقد صدق الله وعده!!
ولكن انظر إلى عمر، ألا تراه ينشج؟ ألا ترى دموعه تبلّ لحيته؟ ألا ترى القوم في بكاء ونحيب؟ ما دهاهم؟ ما أبكاهم؟ لقد نصرهم الله ومكن لهم في الأرض، وأغناهم وأعزهم. فما دهاهم وما أبكاهم؟ يبكون إذ رأوا المؤذن ولم يروا الإمام! يبكون إذ سمعوا مؤذن رسول الله، ثم نظروا فلم يجدوا رسول الله!
عبد الوهاب عزام(93/86)
ألحان الفجر
بقلم أمجد الطرابلسي
(ترفع إلى مجد الهجرة وفجر الإسلام)
في هَدْأَةِ الكونِ وَصَمتِ الورى ... قامَ يُوالي في الظلام اللُّحونْ
يدعو لشكرِ اللهِ صَرعى الكرى ... والناسُ في أحلامِهم مُغرِقون
يا مُنشداً في السَّحَرِ الرائقِ ... رَدَّد عليَّ النَّغماتِ العِذابْ
لعلَّها تَفْثأُ عن خافِقي ... بَرْحَ العوادي وَمُمِضَّ العذاب
مؤذَّنَ الفجرِ عداك الأذى ... أصّمنا عنكَ غرورُ الحياهْ
أسمَعْتَ لو يَسمعُ أهلُ البِلى ... فكَفْكِفِ الدَّمعَ وناجِ الإِله
سبَّ فإن الكونَ تحتَ الحَلَكْ ... سبَّحَ للهِ وأبدَى الخشوعْ
وابعَثْ أغاريدَكَ تشْجي الفَلَكْ ... وإن أثارَت في شؤوني الدموع
وارَحمتاَ للناس وارحَمتاَهْ ... من عَبَثِ الدنيا ومن شرِّها
ضلوا مع اليقَظَةِ كَُنْهَ الحياة ... فساَءلوا الأحلاَم عن سرِّها
تعدو على الفجرِ عوادِي الدُّجونْ ... والفجرُ من بعدِ الدُّجى يسطَعُ
والناسُ في ليْلِ الُمنى مُدْلِجُون ... يَرجونَ فجراً وهو لا يَطلُع
هل نحنُ في الدنيا سِوى قافِلة ... تَعبُرُ في الليلِ صَحارَى الحياةْ
تمضي كهذي الأنجم الآفِلةْ ... من قبلِ أن يبَلغَ فردُ مناه
تَخُطّ في الرَّملِ رسومَ اُْلخطى ... وتملا الجوَّ برَجْعِ الحُداءْ
فتَطمِسُ الرَّيحُ خُطوطَ السُّرى ... ويُطفيُّ الضَّجَّةَ رَحْبُ الفضَاءْ
يا فجرُ إني قد أطَلتُ النَظَرْ ... في الكوكبِ المضطربِ الساهمِ
وقلتُ عَلَّي اسْتَشِفُّ القَدَرْ ... وراَء هذا الأُفقِ الحالمِ
حَدَّقتُ! لكن ما عسى أن أرى ... والبصرُ الظامئُ في الافْقِ تاهْ
كونٌ هَنيءٌ في خِضَمَّ الكَرَى ... يَحلُم مَغموراً بَعطْفِ الإلهْ
لا هُمَّ أغراني وهاجَ الخيالْ ... تثاؤُبُ الأكوانِ بعدَ الرُّقادْ
ربّاه، ربّاه، أفضتَ الجمالْ ... حتى ازدَهى الحيُّ ورَفَّ الجمادْ(93/87)
في كلَّ ما نُبْصِرُه نَفْحَةٌ ... من حُسنِكَ الضافي ومن لُطفِكا
ربَّ وفي كلَّ صدَى نَغْمةٌ ... تَشْدو بآلائِكَ أو عطْفِكا
ربَّ تجلَّيتَ لأرْوَاحِناَ ... في ثَبَجِ الدَوَّ وشُمَّ الجبالْ
وفي مآسينا وأفراحِنا ... وبَسْمَةِ الفجْرِ وَصَمتِ اللّياليْ
وفي اصطِخَابِ الَمْوجِ إذ يَصْطَخِب ... وفي سكونِ اليَّم إذ يسكُنُ
وفي هزيمِ الرّعد إما غضِبْ ... وفي نُوَاحِ الطيرِ إذْ تَحْزَنُ
والقرْيةِ الهادئةِ الحالِمَهْ ... والرَوْضةِ الفَوّاحةِ الناضِرَهْ
والليلةِ المقمِرَةِ الباسِمهْ ... والأنجُمِ البرَّاقةِ الحائرَه
لا هُمَّ إن السكوْنَ ذا مَعْبَدُكْ ... أرْنُو فلا أُبصرُ فيه سِواك
وكلُّه ألْسِنَةٌ تَحْمَدُكْ ... تَشدو بما يَغْمُرُها من نَداكْ
وارَحمنا رَبَّ لمن لا يراكْ ... هَل يَعرِفُ السلوَى تُرَى قلبُه؟
ما حالُه إن طوَّقَتْه الشَّرَاك ... وآدَهُ من دَهرِهِ خَطبُه؟
يا زَوْرَقَ الأكوانِ فِضْ بالمُنى ... واجرِ رُخاءً في خِضَمَّ الأبد
واعزِفْ بِمِجْدَافِكَ لحنَ الهنَا ... بين رُؤَى الأمسِ وآمالِ غَدْ
سِرْ آمِناً في لُجَّهِ حالَمِا ... فإن رُبَّانَكَ جَمُّ الحَنانْ
قد وسِعت رَحمتُ العالَما ... مُذ أبدعَ الكَوْن وأجرى الزمان
يا رَوْعةَ الفجرِ أطَلتِ السكون ... تحتَ الدياجي وأطَلتِ الوُجومْ
فزَحْزحي عن منْكَبَيْكِ الدّجونْ ... فقد نَزَتْ فيَّ خَوابي الهموم
غَشَّت على عينيَّ سُحْب الضَّجَرْ ... حتى كأني أبداً في ظلَمْ
مِنْ أين تأْتينَيَ سُحْب الضَّجرْ ... حتى كأني أبداً في ظلَمْ
مِنْ أين تأْتينيَ سُودُ الفِكرْ؟ ... من أينَ يَنْصَبُّ عليَّ الأَلم؟
ما حيلتي والقلب مُستعبِرُ ... جمُّ الأسى حَفَّ بهِ غَيْهب
أرجو له البِشْرَ فلا يَحْبَرُ ... وأنشُد السلوى فلا يَطْرَبُ
ربَّاه قد أضنى فؤادي الأسى ... وآن للجاهِدِ أم يستريح
أكلما افترَّتْ زُهور المنى ... طاحت بها في حَوْمةِ اليأسِ رِيح(93/88)
ربَّاه كم نُؤْتُ بما أحمِلُ ... وكنت يا ربَّ مَناطَ الرجاءْ
رباه لولا عطفُكَ الُمسبَلُ ... ما ساغَ لي طولَ حياتي عزاء
لا همَّ أفعَمتَ الدُّنا بالضياءْ ... وانجابَ عنها ليلُها الأغبَرُ
فاسكُب على قلبيَ نورَ الرَّجاء ... من قبْلِ أن يَطوِيَه المَقبَرُ
(دمشق)
أمجد الطرابلسي(93/89)
النظرية الموسيقية عند العرب
بقلم حسين سراج
ما هي الحقائق المختصة بنظرية الموسيقى العربية؟
تقول الآنسة إن علم الموسيقى الذي تطور على أيدي العرب تطوراً عظيماً - يعزى اقتباسه من الفرس الذين غلبهم العرب إلى أمر النبي، وإذا أردنا زيادة في التدقيق قلنا إنه أخذ من اليونان.
ولتسمح لي الآنسة أن أقول بصراحة إنه لا مبرر للرأي القائل إن النبي أمر بشيء كهذا. والحقيقة - كما يعرفها المستشرقون - هي أن الغناء في الإسلام كان ولا يزال معدوداً من الملاهي المحرمة، وأن كل فرقة من المذاهب الأربعة قررت حرمة السماع، أو على الأقل جعلته غير لائق ديناً، وقد كتبت مئات من الرسائل في أحاديث النبي عن تحريم الغناء.
لم تنشأ الثقافة العربية ولا الحضارة البدوية مع البدو الرحل أو الإسلام - كما افترضت الآنسة وإنما تجد منذ أوائل العصر الألفي الثاني قبل الميلاد أخباراً من مملكة عرب الجنوب، حيث نتلمس حضارة زاهية تضاهي ثقافة البابليين والآشوريين، وفي الحقيقة أن اليونان مدينون ثقافة للعرب، ويعتقد (همل) وآخرون أن من المرجح أن يكون اليونان قد أخذوا عن عرب الجنوب لا (أبولو (وليتو و (ديونيسوس و (هرمس فحسب، بل (الفاء) و (السين) من حروف الهجاء أيضاً.
وقبل الإسلام بزمان طويل نقرأ في ثنايا الكتب عن الكفاية الموسيقية عند العرب القدماء، ومن الإجحاف أن ندعي أنه لم تكن عندهم نظرية موسيقية إذا واجهنا أو قابلنا بين ما نعرفه من الثقافة العامة عند الكلدان والمعينيين والسبئيين والنبطيين والتدمريين، وبين من جاء بعدهم من اللخميين والغساسنة.
وتتبع الآنسة المدرسة القديمة القائلة - قبل قرن أو أكثر - إن العرب لم تكن عندهم نظرية موسيقية غير ما اقتبسوه من الفرس أو اليونان، وتسترسل في القول أن كلا الشعبين (اليونان والفرس) كانت لهما نظم موسيقية خاصة بهما، ولم يكن عند العرب حتى هذا الوقت نظام يستطيعون أن يجعلوه نظرية. ولدينا عبارة مماثلة لهذا القول في كتابها (رسل أسرة الكمنجة) (ص 397 - 398) إذ تقول: (أفتتح العرب فارس في القرن السادس، ومن(93/90)
سجلاتهم نقرأ أنهم وجدوا نظام الفرس الموسيقى أرقى بكثير من نظامها، فاقتبسوه ودرسوه درساً عميقاً على أساتذة وطنيين).
أما الحقيقة فهي أن العرب حين افتتحوا فارس في القرن السابع، وكان لهم نظام صيروه نظرية قبيل فتح فارس.
ونجد المغنين العرب من حين إلى آخر يفاخرون بالتقاليد الموسيقية التي تحدرت إليهم من عصور الجاهلية مثل المغنية الجاهلية (رائقة) معلمة (عزة الميلاء). وكان العرب في هذه الحقبة التي ظن فيها حدوث هذه العارية الأجنبية حذرين من أي تعد على ذلك الشيء المقدس وهو القومية العربية. وهل يتساهل العرب في دخول الطرق والعادات الأجنبية بهذا القدر وكل كلمة من عمر تدعو إلى الجامعة العربية؟
ولئن قلنا إن العرب لم يكن عندهم نظام موسيقى في هذا الوقت (أي وقت فتح فارس) ليبنوا عليه نظرية لا تتفق مع الحقيقة، فلدينا شواهد كثيرة على وجود موسيقى وغناء في عصور الجاهلية، ويكاد يكون مستحيلاً أن نتصور هؤلاء القوم الذين كانت الموسيقى لهم من الحاجات الضرورية، والذين استطاعوا تهذيب أشعارهم كما نراها في المعلقات والحماسة والمفضليات، غير قادرين على تنظيم غنائهم.
ومن حسن الحظ أن حفظ لنا الفارابي مطولات عن نظام جاهلي في سلم الطنبور البغدادي كان يتوصل إليه بتقسيم طور الوتر إلى أربعين قسما؛ ويرجح أن عرب الجزيرة ورثوا هذا السلم عن الكلدان الذين ورثوه عن الآشوريين والبابليين، وحينما حل محله النغم الفيثاغوري في الشرق الأدنى وفارس كما حل بين عرب سوريا والحيرة، عاش هذا الطنبور في أرجاء الحجاز واليمن القاصية ووجد له عشاقاً حتى القرن العاشر بعد الميلاد.
كانت الحيرة في أيام الجاهلية المركز الأعظم للآداب العربية ومنها انتشر الشعر في أنحاء شبه الجزيرة. وبما أننا نعلم الصلة الشديدة بين الشعر والموسيقى فمن الممكن أن نتصور أن الموسيقى نفقت سوقها كالشعر، وفي الحقيقة يجب أن تكون الحيرة على ثقافة موسيقية عالية متى علمنا أن ملك الفرس العظيم بهرام غور (430 - 438م) أرسل إلى بلاط اللخميين العرب في تلك المدينة ليثقف، وهناك تعلم الموسيقى بين الآداب العربية الأخرى. وكان هذا قبل أن يتغلب العرب على الفرس. ولربما سأل سائل: ما الذي اضطر يزدجرد(93/91)
الأول والفرس إلى إرسال الأمير الصغير إلى شعب ليس له أسلوب خاص فني فيطلعه عليه (كما تقول الآنسة ومن المستغرب أيضا أن فارس وهي النبع المشهور للنظام الموسيقي العربي تفتقر تحت حكم بهرام غور إلى مغنين محترفين يرسلون إليها من الخارج.
ويضع الطبري بين سقطات النعمان الثالث (580 - 602م) آخر ملوك اللخميين ميله للغناء. ومن الحيرة اقتبس العرب حوالي آخر القرن السادس الميلادي ذلك الغناء الذي حل محل (النصب) والعود والمزهر.
أما أن العرب كان لهم نظام موسيقي محلي فيثبت جلياً بحجج عديدة. وأما أن يكون هذا النظام قد تأثر بنظريات الفرس والبيزنطيين وفيما بعد بالأصول اليونانية القديمة فرأي يسهل قبوله؛ كذلك لا ينكر أن الفرس والبيزنطيين تأثروا جميعا بالنظرية الموسيقية العربية (ولو كانت التسمية مرشداً لقلنا إن النظرية الفارسية مبنية بالكلية على الأصول العربية).
كان التأثير الأجنبي على الموسيقى العربية سطحياً ولم يكن له في البدء أثر على النظرية. قرأنا عن المغنين المتقدمين أمثال طويس وسائب خاثر اللذين قلدا أسلوب الفرس في الغناء وفي نفس الوقت وجدنا مغنياً فارسياً كنشيط يدرس أسلوب العرب في الغناء. ليس هنالك تعقيد نظري وجل ما هناك هو اقتباس شعب من آخر شكلاً خاصاً أو أسلوباً غنائياً.
على أن تبعة الظن بوجود صبغة موسيقية أجنبية تلقى على ابن خلدون الذي يقول في مقدمته إن اتصال المغنين من الفرس والروم بالحجاز ولعبهم على العود والطنبور والبربط والمعزف والمزمار قاد العرب إلى اقتباس ألحان الفرس والروم في أشعارهم.
هذا القول لا يتفق مع أقوال المؤرخين الأول كابن عبد ربه والأصفهاني والمسعودي أولاً: لأن هذه الرواية تضلل الناس وتجعلهم يعزون بغير حق الفخر للفرس والبيزنطيين بإدخال هذه الآلات إلى البلاد العربية. وفي الواقع أنها كانت عند العرب من قبل. ثانياً: لم يذكر كتاب الأغاني وهو أعظم مصدر لأخبار الغناء عند العرب مغنياً رومياً واحداً. وإذا استثنينا نشيطاً فمن المرجح أن كل من يدعون بالمغنين الفرس ولدوا بالجزيرة أو تثقفوا فيها
والحقيقة أن المغنين البارزين الذي أتوا من غير الحجاز في هذا الزمن أربعة: نشيط الفارسي، وأبو كامل الغزيل الدمشقي، وابن الطنبورة اليمني. وحنين الخيري؛ ولهذا نرى(93/92)
أن أي تأثير خارجي في الموسيقى العربية حتى بالطريقة العرضية التي ألمعنا إليها أتى على أيد عربية.
لم يقرر المؤرخين نهائياً ولا في موضع ما اقتبس العرب من الفرس والبيزنطيين في قضية النظرية. دعونا قبل كل شيء نحرر أذهاننا من الظن بأن العرب أقروا بأن الفرس كان لهم نظام موسيقى أرقى بكثير من نظامهم. ثم فيما يتعلق بالرسائل فان أقدم كتاب فارسي في الغناء مؤلف في القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن عندنا رسائل في الموسيقى العربية يرجع تاريخها إلى القرن التاسع (الكندي توفي سنة 874م): ولدينا دليل على تآليف مصنفة في القرن الثامن (يونس الكاتب توفي سنة 760م والخليل بن أحمد توفي سنة 791).
وفي الحقيقة أن كل ما نعرفه عن الموسيقى الفارسية الأولى أتى من مصادر عربية، والمرجع الوحيد الذي يعالج هذه القضية بتوسع هو المسعودي (توفي سنة 956م) فهو يقول - مستشهداً بقول ابن خرداذبة (القرن التاسع) وهو كاتب متقدم - (اخترع الفرس النغم والتوقيعات والمقاطع والطرق الملوكية ولكي نقدر تماماً قيمة هذه الفقرة علينا أن نتذكر أن الغناء كان محرماً عند المسلمين وأن المؤرخين لم يكونوا مهتمين بالتماس عذر لمن يتجاوز مصدراً محلياً لشيء (منكر) كالغناء كما يطلق عليه المتشرعون من المسلمين.
ويجب ألا ننسى أن عصر الأمويين عصر ساد فيه الشعور القومي فعظمت فيه المثل الوثنية العربية وهذبت أكثر التأثيرات الأجنبية في الموسيقى العربية، وقد أشار إليها (لاند بقوله: (ما استورده العرب من الفرس والرومان لم يحل محل الموسيقى الوطنية بل طعم على جذر عربي وبقي له شكله الخاص).
ما أخذ العرب من الفرس لا يمكن التأكد منه بالضبط، وجل ما نعرفه أن الفائدة التي نشأت من الاحتكاك الفارسي هي من جهة الآلات الموسيقية. فمثلا كلمة (دستان فارسية استعملها العرب لمواضع الإصبع على لوحة رأس العود الخشبية أو الطنبور. ومن المؤكد أن العرب لم يأخذوا السلم الفارسي. لأننا نجد أنهم انتقدوا لاستعمالهم الأنغام الفارسية التي كانت متمثلة في سلم الطنبور الخراساني، فأدخل (زلزل) أحد المغنين في عصر العباسيين شكلاً جديداً من العود حل محل العود الفارسي وسمي هذا العود بعود (الشبوط(93/93)
وهنالك أسباب تحملنا على الاعتقاد بأن العرب عدلوا دوزان (عودهم) على النمط الفارسي. فقد كان الدوزان العربي القديم كما يظهر - ولكن بدخول النمط الفارسي لحن على - ولعل هذا يوضح لنا الأسماء الفارسية (زير) و (بم) المرموز للوترين الأول والرابع بينما الوتر الثاني والثالث اللذان لم تصبغهما الفارسية ظلا محافظين على أسميهما العربيين وهما: المثنى والمثلث.
أما الخطة التي سار عليها البيزنطيون في قضية النظرية الموسيقية فليس لنا بها علم، فمنذ القرن الرابع حتى القرن الحادي عش الميلادي - وهو يشمل القسم الأكبر من عهد البيزنطيين - لم تصلنا مؤلفات بيزنطية. ومن المرجح أنه لم يكتب شيء بالنظر إلى الحالات الثقافية التي نعرفها، ومن المؤكد أن اللاتينيين (امدوا وو وفي القرنين الخامس والسادس، ولكنهم لم يدونوا نظرية معاصريهم، كلا ولا خبرة اللاتين لأن تأليفهم عبارة عن مجموعات للمشتغلين بالأمور النظرية من اليونان القدماء. أما الشيء القليل الذي نعرفه في هذه الحقبة عن نظرية البيزنطيين ومزاولتهم للموسيقى، فقد أتى إلينا من مصادر عربية وسريانية.
ليس لدينا رسائل بيزنطية أو فارسية تثبت وجود الموسيقى حتى القرنين الحادي عشر تقريباً. ولكن حق للعرب أن يفاخروا بعشرات من الرسائل القديمة. ويجب علينا قبل كل شيء أن نكون حذرين في قبول الروايات المختصة بما اقتبس العرب من الفرس والبيزنطيين. أما أن يتسرب شيء من التأثير من هذين المصدرين فمن الممكن تجويزه.
وأول خبر لدينا عن تأثير فارسي وبيزنطي محدود في الموسيقى العربية، هو ما ذكره الأغاني عند كلامه عن ابن مسجح الذي يعزى إليه إدخال الأنغام الموسيقية الأجنبية على الفن المحلي.
يقول صاحب الأغاني: (وفي سورية تعلم ابن مسجح الألحان الرومية وتلقى إرشادات الباربطية والأسطوخسية. وبعد ذلك انقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيراً وتعلم الضرب ثم رجع إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وحذف منها ما استقبحه من النبرات والنغم والتي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة من غناء العرب.
فما اقتبسه العرب فيما بعد من البيزنطيين والفرس لا يمكننا إثباته بالتحقيق، ومن المحتمل(93/94)
أن النظاميين المعروفين (بالمجربين كانا من أصل بيزنطي أو لعلهما عرفا بين تعاليم الساميين أما الأصول العامة للأسطوخسية البيزنطيين فلم يأخذها العرب، وإذا كان هنالك شيء قليل لأن مخطوطة الكندي التي ألمعنا إليها قبلاً تقول إن مبادئ الأسطوخسية الرومية تختلف عن المبادئ العربية.
أما مسألة الإيقاع والقيم القياسية فنحن نعلم أن العرب كان لهم نظام منذ أوائل القرن السابع الميلادي فقد كتب الخليل ابن أحمد (كتاب الإيقاع) في القرن الثامن. ونجد في القرن التاسع نظاماً يصفه الكندي جيداً بقوله (وهنا لدينا قسم موحد من الموسيقى العربية نظامه - كما يظهر - تطور وفقاً لنظام محلي) وقد اقتبس الفرس توقيعاتهم وقوافيهم من العرب.
ولقد غير إسحاق الموصلي (767 - 850) شكل النظرية العربية القديمة في وقت ترجمت فيه النظريات اليونانية القديمة إلى العربية ولكن هذا التغيير حدث بدون الاستعانة بكتاب اليونان. يقول صاحب الأغاني: (كان إسحاق أول من ضبط الألحان والتوقيعات وقسمها بطريقة لم تعرف من قبل، وكان العالم المتقدم يونس الكاتب المتوفى سنة 760 قد أشار إليها. ويقال إن إسحاق توصل في عمله إلى نتائج أقليدس والأوائل الذين كتبوا عن علم الموسيقى، ولكنه توصل إلى هذه النتائج بتجاربه الخاصة المنفردة بدون معرفة كتاب واحد من كتب الأوائل) أما أن إسحاق لم يعرف شيئا عن المشتغلين بالنظريات من اليونان القدماء فمثبت في فقرة أخرى. وكان نظام إسحاق شائعاً في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الميلادي. وقد وضح هذه العبارة بجلاء تام صاحب الأغاني ويحيى بن علي الذي ميز هذا النظام من نظام اليونان.
فاستندنا إلى ما فصله الكندي وغيره من الكتاب كصاحب الأغاني في تعريفه النظام العربي القديم قبيل زمن الشراح اليونان كاف لأن يثبت لنا أن هذا النظام كان يختلف عن نظام فارس والروم واليونان.
أما في تاريخ الأنغام ففي استطاعتنا معرفة ما اقتبسه العرب من فارس وبيزنطة.
كان لدى الهنود - على رأي (راميانا - سبعة وهي أشبه بالرقص ويقول أمين (كان للفرس سبعة أنغام إلا أنها في أيام خسرو ابرويز (590 - 628) أصبحت أثنى عشر نغماً). ويسجل (بارهبروس السرياني) هذه الإثني عشر لحناً للفرس. ومع أن بعضا منها(93/95)
قلده العرب على أصله أو بتحريف قليل فيما بعد، نتذكر أيضاً أن العرب استعملوا أنغامهم الوطنية زمناً طويلاً قبل هذا التقليد.
ففي القرن الثامن الميلادي ألف يونس الكاتب (توفي سنة 760م) والخليل بن أحمد (توفي 791م) كتاب النغم. ونقرأ في كتاب الأغاني (كتب في القرن العاشر) ثماني نغمات لم توضع لها أسماء خيالية كما هي في الفارسية واليونانية، وإنما هي أسماء بعد أصابع. وكان للسريان أيضا (آحادهم ومثلهم اليهود، ولكنها (أي الأنغام) لم تكن كالأنغام اليونانية، وهي حالة يجب أن ننعم النظر فيها. أما النغمات العربية والفارسية والبيزنطية في القرن التاسع فكانت مختلفة، كما ثبت في الرسالة المنسوبة للكندي التي أشرت إليها قبلاً. ويظهر جلياً أن للنظام الأساسي لكل من هذه الشعوب مزية هامة. يقول أخوان الصفا: (. . . إذا تأملت فلكل أمة من الناس ألحان ونغمات يستلذونها ويفرحون بها ولا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم مثل غناء الديلم والأتراك والعرب والأكراد والأرمن والزنج والفرس والروم وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والعادات).
وقد نجد في تأثير النظام العربي القديم على أوربا الغربية ما يدعم قولي ويزيده إيضاحا. على أني وإن لم أهيئ العدة تماما للإعراب عن هذا التأثير. فإني أجتزئ باليسير من آراء كتاب غربيين عن هذا التأثير:
(مما لا ريب فيه أن أوربا الغربية شعرت على العموم بتيار الثقافة العربية من جراء الاحتكاك السياسي وأرى أن الموسيقى الأوربية تأثرت في هذه الناحية بتجوال المطرب العربي أو المغربي.
كان اكثر ما اقتبسه الغرب من الشرق في هذه الناحية هو الآلات، قال (كارانجل (لما أتى العرب أوربا في ابتداء القرن الثامن كانوا أكثر تقدماً من الشعوب الأوربية في الثقافة الموسيقية، أو على الأقل في تركيب الآلات الموسيقية. وهكذا لا يسعنا إلا تقدير تأثيرهم الموسيقي الرائع).
وهم كما يقول (فارمر أول من أتحفونا بوصف علمي حقيقي للآلات الموسيقية. . . (وما كان لدينا من نظم في تعليم الآلات في العصور الوسطى فمقتبس من العربية.) وتسلم الآنسة أن للعرب فضلاً على أوروبا في العصور الوسطى في مسألة الآلات الموسيقية(93/96)
ولكنها تنكر أن أوروبا - أخذت أي نظرية منهم، وهذا القول يتجاهل تأثير نقطتي الاحتكاك الثقافي العربي وهما:
(1) الاحتكاك السياسي الذي ابتداء في القرن الثامن وانتشر في الخارج خصوصاً على أيدي العازفين.
(2) الاحتكاك الفكري الأدبي الذي ابتدأه العقليون
إذن يمكنني أن أستنتج - استناداً على ما أدليت من الحجج - أن العرب كان لهم نظام موسيقي قديم يختلف عن نظام الفرس والروم واليونان القدماء، وأن القائلين بنسبة هذا النظام الموسيقي العربي إلى فارس وغيرها، جديرون بالعدول عن أقوالهم أمام هذه البراهين.
بيروت
حسين سراج(93/97)
من تراثنا الأدبي
إحياء مخطوطات
للأستاذ محمد كرد علي عضو مجمع اللغة العربية الملكي
وعدت أن أتكلم على الكتب التي نشرها العلامة كرينكو، ومنها هذه الثلاثة الكتب المهمة. أولها كتاب التيجان لوهب بن منبه والثاني أخبار عبيد بن شرية، والثالث كتاب الحماسة لابن الشجري. ويهمنا أن نعرف أولاً من هو وهب بن منبه. كان وهب من علماء التابعين، وهو من الأبناء أبناء فارس المبعوثين مع سيف ابن ذي يزن لقتال الحبشة في اليمن، فهو على الأرجح فارسي الأصل، وكتاب التيجان كما قال فيه ابن خلكان ترجمة بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم. وهو رواية أبي محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس بن سنان عن جده لأمه وهب بن منبه. وتوفي وهب في صنعاء اليمن في سنة عشر وقيل أربع عشرة وقيل ست عشرة ومائة.
ذكر ابن سعد صاحب الطبقات الكبير في ترجمة وهب بن منبه أنه قال: لقد قرأت أثنين وتسعين كتاباً كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل، وجدت في كلها أنه من أضاف إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. قال: وفي مقدمة كتاب التيجان: قرأت ثلاثة وسبعين كتاباً مما أنزل الله على الأنبياء، فوجدت فيها أن الكتب التي أنزلها الله على النبيين مائة كتاب وثلاثة وستون كتاباً: أنزل صحيفتين على آدم بكتابين: صحيفة في الجنة وصحيفة على جبل لبنان، وعلى شيث بن آدم خمسين صحيفة، وعلى أخنون وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى نوح صحيفتين، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وعلى موسى خمسين صحيفة وهي الألواح.
بدأ وهب كتابه بأحوال خلق العالم، ونسب ولد سام وحام ويافت، وملك حمير ووائل والسكسك ويعفر وعامر ذي رياس، والمعافر بن شداد وشداد بن عاد ولقمان بن عاد، والهمال بن عاد والحارث بن الهمال والصعب ذي القرنين، وأبرهة والعبد بن أبرهة وعمرو بن أبرهة، وشرحبيل والد وهب وملك بلقيس وملك رحبعم بن سليمان وغيرهم من المتوجين من ملوك غسان، وغيرهم من ملوك اليمن والتبابعة وقصة النار التي تعبدها حمير إلى آخر من ذكر من الملوك المتوجين.(93/98)
وأهم ما في الكتاب هذا القسم التاريخي. ومن قرأ القصائد الواردة فيه بإمعان يستنتج منها مادة تاريخية، بيد أن كتاباً عرف مؤلفه بإكثاره لا يخلو من مسائل نعدها اليوم ترهات، وربما كانت في عصره وقطره حقائق مسلمة.
أما الكتاب الثاني، فقد نقل عن عبيد بن شرية من المعمرين من أهل اليمن أيضاً. كان وفد على معاوية بن أبي سفيان في الشام، فلما رآه معاوية آية في تاريخ اليمن وملوك العرب والعجم يروي أخبارهم مشفوعة بأشعار، أمر كتابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد بن شرية في كل مجلس سمر فيه مع معاوية، فعبيد هذا كان الراوية والمدونون كتاب معاوية.
وفي هذا الكتاب حديث هلاك عاد وثمود وجرهم وخروجهم من اليمن إلى الحرم، وناشر النعم بن عمرو بن يعفر بن عمر، وشمر يرعش بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش، وتبع الأقرن وهو ذو القرنين، وملكي كرب بن أسعد ابن تبع الأكبر، وأسعد أبو كرب الأوسط. وتتخلل كل ذلك قصائد عليها مسحة السذاجة والبداوة، والغالب أنها أو بعضها من شعر الجاهلية القريب العهد بالإسلام، كان ينقل من الصدور ثم دون في السطور.
ذكر ابن النديم صاحب الفهرست أن معاوية لما أمر بتدوين ما يرويه في مجلسه عبيد بن شرية أمر أن ينسب إليه، وأن لعبيد عدة كتب. وكان معاوية يعجب بحفظ عبيد ويستزيده، وقال له مرة: (خليق يا عبيد أن يكون هكذا، فزادك الله علماً وفهماً، وزادنا بك رغبة وعليك حرصاً فأنا لا نحصي أياديك، فزادك الله فضلاً إلى فضل وهدى إلى هدى).
وفي تدوين معاوية روايات عبيد دليل بأن التدوين حدث منذ القرن الأول، فقد ذكروا أن زيد بن ثابت ألف كتاباً في علم الفرائض، وأن عبد الله بن عمر كان يكتب الحديث وألف كتاب في قضاء علي في عهد ابن عباس، وأن وائلة بن الأسقع من أهل الصفة المتوفى سنة ثلاث وقيل خمس وثمانين، كان يملي على الناس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه. وكل هذا يدل على أن القوم بدأ تدوينهم في عصر الصحابة، وإن لم يدونوا ما أفرد في التأليف إلا في القرن الثاني للهجرة.
أما عبيد بن شرية هذا فهو من الإخباريين، ولناشر كتابه الأستاذ كرينكو رأى فيه. كتب إلي يقول: (إنك تعتقد كما اعتقد قبلك ياقوت الحموي وابن خلكان أن عبيد بن شرية كان رجلاً أخبارياً بالحقيقة، وأنا أخالف رأيك، ورأى من سلف، وأعتقد أن روايته من(93/99)
موضوعات محمد بن إسحاق مؤلف السيرة، ومن الدلائل على هذا أن أكثر المصنفين الذين تكلموا في هذا الكتاب لم يروه، بل نقلوا ما وجدوه في الكتب التي تداولوها، وكثرة الأشعار الركيكة التي لا معنى لها فيه تخالف أسلوب الشعر القديم كما نجدها في دواوين القدماء البدويين والحضريين مثل حسان بن ثابت وأقرانه. ولم يكن لي غير نسختين كلتاهما مكتوبة في صنعاء، وهما من أصل واحد بلا شك، إذ أغلاطهما واحدة، وما كان عندي يوم تصحيح كتاب التيجان سوى نسختين، نسخة مختصرة في خزانة برلين، والنسخ الثلاث الأخرى مكتوبة في اليمن. ولو أنعمت النظر في الكتابين كتاب التيجان ورواية عبيد تجد أن مؤلفهما كتبهما ليزيد مفاخر اليمن على النزارية، وليثبت أن مجد اليمن أقدم وأكبر مما كان مجد النزارية، وهذا تعصب من قريش، ولهذا لم تكن لهما سوق في سائر بلاد العرب؛ وتجد كثيراً من أساطير اليمانيين مختلطة بالآثار الصحيحة. وقد نقل الهمداني كثيراً من الروايات غير المحققة في كتاب الإكليل، ولا سيما في القبوريات؛ ثم جاء عبد الملك بن هشام مع تعصبه لليمانية فشوش الكتاب كما شوش السيرة، ولم ينبه عليه أحد؛ إلا أن المحدثين كلهم يضعفون أبا إسحاق ويسمونه أخبارياً لا محدثاً، وقد أبنت رأيي في ذلك في أطروحة باللغة الإنجليزية نشرتها قبل طبع التيجان في مجلة الثقافة الإسلامية
أما الكتاب الثالث، فهو كتاب الحماسة لهبة الله بن الشجري المتوفى سنة 542، فهو سفر صغير في نحو ثلاثمائة صفحة، أورد فيه أطايب من شعر الجاهليين والمخضرمين والمحدثين على مثال حماسة أبي تمام وحماسة البحتري. وابن الشجري معروف عند الأدباء بأمياله، وأماليه طبعت في مصر، وهي كأمالي المرتضى في اللغة والأدب والنحو والبيان، ولا تشبه أمالي القالي، وهي في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين.
وقد كسر ابن الشجري حماسته على أبواب وفصول، فساق في الأبواب أشعار الحماسة واللوم والعتاب والمرائي والمديح، والهجاء والأدب، والنسيب والحنين إلى الأوطان، والارتياح عند هبوب الرياح، والاشتياق عند لمعان البروق، والنزاع عند نوح الحمام، والشوق عند حنين الإبل، والطيف والخيال؛ وساق مقطعات من غزل جماعة من المحدثين وصفات النساء والتشبيهات؛ وأورد في الفصول (طيب النكهة وعذوبة الريق) و (طيب الريح) و (وصف العين والنظر) و (حسن الحديث وطيبه) و (المضاجعة وشدة الالتزام) و(93/100)
(وصف النار) و (وصف التنائف، والوحش والإبل والركب، وأخبية السفر)، والصفات والتشبيهات في الليل، والنجوم والمجرة والهلال والصبح، والصفات والتشبيهات في الرياض والمياه والنبات، والصفات والتشبيهات في السحاب والبرق والغيث، وصفات آلة الحرب وتشبيهاتها، وصفات الكتب والخط وآلته، وصفات الشعر، وصفات الشيب والباب والخضاب، والتشبيهات الخمرية، والتشبيهات في الغناء وآلته والمغنين، والتشبيهات الغزلية، وتشبيهات المدح، وتشبيهات الهجاء، وتشبيهات وصفات في معان مختلفة. وختم الكتاب بباب الملح وبالأشعار المزيدة على الأصل. ودونك طريقته في الاستشهاد، وقد يحل بعض العويص والغريب من المفردات حلاً مختصراً مقبولاً، قال في صفات آلة الحرب وتشبيهاتها:
(قال امرؤ القيس يصف فرساً)
وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأويد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
له ايطلا ظبي وساقا نعامة ... وارخاء سرحان وتقريب تتفل
وقال البحتري:
أراجعتي يداك بأعوجي ... كقدح النبع في الريش اللؤام
بأدهم كالظلام أغر يجلو ... بغرته دياجير الظلام
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في جون الغمام
ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في جون الغمام
وله وكان وصافاً للخيل
أما الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبراً عن عام
جاري الجياد فطار عن أوهامها ... سبقاً وكاد يطير عن أوهامه
جذلان تلطمه جوانب غرة ... جاءت مجيء البدر عند تمامه
واسودّ ثم صفت لعيني ناظر ... جنباته فأضاء في اظلامه
مالت جوانب عرفه وكأنها ... عذبات أثل مال تحت حمامه
وكأن فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدامه(93/101)
لانت معاطفه فخيل أنه ... للخيزران مناسب بعظامه
في شعلة كالشيب تم بمفرقي ... غزل لها عن شيبه بغرامه
وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد تقعقع في ازدحام غمامه
مثل الغراب مشى يباري صحبه ... بسواد صبغته وحسن قوامه
وله:
وأغر في الزمن البهيم مخجل ... قد رحت منه عن أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن كصورة في هيكل
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينقض عذرة في غرة ... يقق تسيل حجولها في جندل
تتوهم الجوزاء في إرساغه ... والبدر فوق جبينه المتهلهل
فكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان أو قطربُّل
وتخاله كسى الحدود نواعماً ... مهما تواصلها بلحظ تخجل
وتراه يسطع في الغبار لهيبه ... لوناً وسراً كالحريق المشعل
هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك العيون وأن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل
وأهدى البحتري إلى عبد الله بن خاقان فرساً وكتب إليه:
ماذا ترى في مدمج عبل الشوا ... من نسل اعوج كالشهاب اللائح
يختال في شية يموج ضياؤها ... موج القتير ٍعلى الكميّ الرامح
لو يكرع الظمآن فيها لم يمل ... طرفاً إلى عذب الزلال السائح
أهديته ليروح أبيض واضح ... منه على جذلان أبيض واضح
فيكون أول سنة متبوعة ... أن يقبل الممدوح رفد المادح
وقال عبد الله بن المعتز:
وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذّبل
صببنا عليها ظالمين سيوطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
إلى آخر الفصل. . .(93/102)
وروى فيها فصل صفات الكتب والخط وآلته
قال الكندي يصف الدفاتر:
خرس تحدث آخرً عن أول ... بعجائب سلفت ولسن أوائلا
سقيت بأطراف اليراع بطونها ... وظهورها طلا أحم ووابلا
تلقاك في حمر الثياب وسودها ... فتخالهن عرائساً وثواكلا
وتريك ما قد فات من دهر مضى ... حتى تراه بعين فكرك مائلا
وقال آخر:
نعم المحدث والنديم كتاب=تلهو به إن ملّك الأصحاب
لا مفشياً سراً إذا استودعته ... ولديه ما تحيا به الألباب
وقال الهلبي يصف كتاباً:
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والجباه ال ... بيض زينت بالشعور
وكنظم در كالثغو - ر وكالعقود على النحور
أنزلته مني بمن ... زلة القلوب من الصدور
وقال أبو تمام يصف كتابا:
فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الزهر الجني
وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحليّ
ووقال آخر في وصف كتاب:
مداد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحرب
وقرطاس كرقراق السراب ... وألفاظ كأيام الشباب. . . الخ
هذا ما نشره الأستاذ كرنيكو من كتب العرب وهو ينشر اليوم في القاهرة كتاب (المؤتلف والمختلف) للآمدى، و (رسالة ابن الجراح) وما بقى من معجم الشعر للمرزباني، وفي هذا الكتاب أخبار لا توجد في الكتب التي بأيدينا فضلاً عما حوى من الشعر القديم. وبعد هذا ألا نشكر لعلماء المشرقيات غيرتهم على نشر كتب العرب وإظهارها بمظهر التحقيق الدقيق يغبطون عليه.(93/103)
القاهرة
محمد كرد علي(93/104)
أثر الفن الإسلامي في فنون الغرب
للدكتور زكي محمد حسن الأمين العلمي لدار الآثار العربية
ورث الإسلام فنون رومة وبيزنطة وإيران وكلديا وأشور وتأثر المسلمون بالأساليب الفنية في البلاد التي خضعت لهم وانتشر فيها دينهم، فظهر في عالم الوجود فن بل فنون إسلامية أثرت بدورها في فنون الغرب، وتركت فيها ذكريات قل أن تخفى على من لهم دراية بتاريخ الفنون في العالم.
والواقع أن العالم المتمدن في القرون الأولى بعد الميلاد كان قد سئم الفن اليوناني القديم، وتاق إلى نوع التجديد ينقذه من منتجات هذا الفن التي أعوزها التنوع والابتكار، فتطلع إلى تقاليد فنية أعظم أبهة وأكثر حرية في الزخارف والموضوعات لا يعدل فيها من خيال ساحر وجاذبية ومفاجأة عظيمتين إلا ما تمتاز به من أسرار في مزج الألوان تملأ البصر وتبهج الخاطر. تلك الأساليب الفنية المنشودة وجدها العالم المتمدن عند الساسانيين أولا، ثم في الفنون الإسلامية بعد أن امتدت الإمبراطورية العربية واتسعت أرجاؤها. أما حلقتا الاتصال بين الشرق والغرب، والمعبران اللذان اتخذتهما الأساليب الإسلامية للوصول إلى أوربا، فهما الأندلس، والحروب الصليبية.
ففي الأندلس أينعت المدنية الإسلامية، وأدخل العرب صناعة الورق، وأصبحت قرطبة في القرن العاشر أكثر المدن في أوروبا ازدهاراً وأعظمها مدنية؛ وكان عصر ملوك الطوائف باعثاً على تعدد مراكز العلم والأدب والفن في شبه الجزيرة، وجاء ملوك المرابطين والموحدين فكان اضطهادهم للمستعربين من بني الأندلس سببا في هجرتهم إلى الشمال، فزاد بذلك محيط المدنية الإسلامية اتساعا، ونقل هؤلاء المستعربون إلى مهجرهم الجديد كثيرا من عادات المسلمين وأزيائهم وصناعاتهم، وما لبث نجم المسلمين في الأندلس أن أذن بالأفول، فتقدمت فتوحات المسيحيين، وأخذ نفوذ العرب في التقلص، ودخل كثير منهم تحت السلطان المسيحي، فصاروا يعملون للملوك والأمراء الأسبان، وتعلم منهم غيرهم، فانتشرت أساليبهم الفنية؛ وكان سقوط طليطلة سنة 1085، وقرطبة سنة 1236، وأشبيلية سنة 1248، أكبر عامل على امتزاج الصناع العرب أو المستعربين بغيرهم. ثم كان سقوط غرناطة سنة 1492 خاتمة هذا الطور الذي تعلم فيه صناع الغرب عن المسلمين كثيراً من(93/105)
أسرار صناعاتهم في العمارة والفنون الفرعية؛ ولعل أهم مظهر لهذا الطور والطرز الأسباني الذي ينسب إلى المدجنين أو المسلمين الذين دخلوا خدمة المسيحيين بعد زوال دولة العرب؛ وقد نشأ هذا الطرز في طليطلة واشتغل الصناع (المدجنين) بزخرفة الكنائس ودور الخاصة في أنحاء أسبانيا، ونبغوا في الفنون الفرعية كصناعة الخزف والمنسوجات والنقش على الأخشاب، وكانت لهم في ميدان العمارة آثار تذكر، وأهمها قصر أشبيلية ' الذي بنوه سنة 1360 والذي ظل مقرا للأسرة الملكية حتى إعلان الجمهورية منذ سنوات فأصبح متحفاً يعجب الزائرون بعمارته العربية وبما جمعه ملوك أسبانيا من تحف جمهورية منذ سنوات فأصبح متحفا يعجب الزائرون بعمارته العربية وبما جمعه ملوك أسبانيا من تحف إسلامية نادرة.
أما الحروب الصليبية فلا يعنينا من نتائجها إلا أنها كانت كالأندلس وجزيرة صقلية وسيلة إلى نزاع دائم تتبعه علاقات متواصلة بين المسيحية والإسلام، وأوجدت هذه الحروب منفذاً لتجارة الجمهوريات الإيطالية الناشئة كجنوا والبندقية وبيزا، وكان من النتائج العملية لتأسيس المملكة اللاتينية في بيت المقدس نمو تجارة هذه الجمهوريات وإنشاء معاقل لها في الشرق الأدنى.
وإن صح القول بأن الأندلس وجزيرة صقلية لعبتا الدور الأكبر في نشر الثقافة الإسلامية في المغرب، وان فضل الحروب الصليبية في هذا الميدان لم يكن كبيراً نظراً لأنه لم يكن في الشام في عصر الحروب الصليبية مدينة تعادل مدينة الأندلس أو صقلية فضلا عن أن هذه الحروب لم تكن مرتعاً خصيباً للدرس والتحصيل وتبادل الثقافة، نقول إن صح ذلك في ميدان العلوم والآداب فإنا نعتقد أن الدور الذي لعبته الحروب الصليبية في نقل الصناعات والفنون الإسلامية إلى أوربا خطير لا يستهان به. ولعل استعمال الرنوك عند أمراء المسلمين في الحروب الصليبية كان أكبر عامل في تطور علم الرنوك والأشعرة عند الغربيين فأصبحت له اصطلاحاته الدقيقة وقواعده الثابتة؛ وكانت الحروب الصليبية أيضا وما تبعها من انتشار التجارة الغربية السبب فيما فعله البنادقة من صك نقود ذهبية للتعامل مع المسلمين وعليها كتابات عربية وآيات قرآنية فضلاً عن التاريخ الهجري، وظل هذا حتى احتج البابا أنسونت الرابع سنة 1249.(93/106)
وليس خفياً أن العمارة كانت أجل الفنون عند العرب فبلغوا فيها شأواً بعيداً، وأخذوا من الأمم التي اختلطوا بها ما أخذوا، وابتدعوا أساليب جديدة غاية في الجودة والإبداع، ثم أخذت عنهم أوروبا كثيراً من هذه الأساليب. ولكن العلماء ليسوا على اتفاق في هذا الرأي، فبعضهم يرى أن العرب لم تكن لهم عمارة خاصة، وإن صح أن هناك أوجه شبه بين طرزهم المعمارية وبين الطرز الأوربية فإنما ذلك لأن مصدر هذه الطرز كلها واحد. ومهما يكن من شيء فإننا نفضل ألا نعرض للعمارة في هذا المقال مكتفين بالتحدث عن الفنون الفرعية أو المنقولة كما اصطلح بعضهم على تسميتها.
ولسنا نذهب إلى أن المسلمين وصلوا في هذه الفنون الفرعية إلى ما وصل إليه الغربيون. ولكنا لا نشك في أنهم تفوقوا في بعضها تفوقاً خاصاً وبلغوا في صناعة الزخارف مبلغاً يشهد بعبقرية نادرة وخيال واسع.
ولما كان تصوير المخلوقات مكروهاً في الإسلام، فقد أصبح عماد الزخارف الإسلامية الأشكال الهندسية والرسوم النباتية مضافاً إليها عامل جديد هو حروف الكتابة بالخط الكوفي أو بالخط النسخي أو بغيره من الخطوط، ونحن نعلم كيف اهتم المسلمون وخاصة الفرس بتحسين الخطوط وزخرفتها؛ وقد فطن إلى ذلك صناع الغرب، فأخذوا أحياناً يقلدون الكتابة العربية على مصنوعاتهم، ومن أمثلة ذلك صليب أيرلندي من البرونز المذهب يرجع عهده إلى القرن التاسع، وهو محفوظ الآن بالمتحف البريطاني وعليه بالخط الكوفي (بسم الله)، وفي المتحف البريطاني أيضا عملة ذهبية ضربها الملك حكم مرسية من سنة 757 إلى 796، وهذه العملة نقلها الملك المذكور عن دينار عربي ضرب سنة 774 فنقل فيما قلده التاريخ الهجري والعبارة العربية المكتوبة عليه، ولا نشك أنه في الحالتين لم يفقه العمال الغربيون معنى الكتابة العربية، فنقلوها كزخارف فحسب، وقلدهم في ذلك كثيرون من بعدهم.
وقد كان للخزف الإسلامي أثر كبير في تطور صناعة الخزف في أوربا، وقد كان الغربيون ينسبون اللونين الأزرق والأبيض الصيني في هذه الصناعة إلى بلاد الشرق الأقصى، ولكن الحقيقة أن الصينيين كانوا يسمون هذا اللون الأزرق بالأزرق الإسلامي، لأنهم أخذوه عن إيران الإسلامية في القرن الخامس عشر.(93/107)
ومن المعروف أن صناعة الخزف ذي البريق الذهبي قد ارتقت في أسبانيا رقياً عظيماً، فكانت مصانعها تشتغل لحساب كثير من البابوات والكرادلة والأسرات النبيلة في أسبانيا والبرتغال وإيطاليا وفرنسا، ويرون أن الكردينال اكسيمينز قال عن هؤلاء الصناع (الكفرة): (ينقصهم إيماننا وتنقصنا صناعاتهم).
وقد ظلت صناعة الخزف الأسباني العربي - في الأندلس حتى القرن السادس عشر، وتعلمها الإيطاليون في القرن الخامس عشر، فتأثروا في الصناعة والزخارف والأشكال بما كانوا يستوردونه من أسبانيا، وأصبح أنموذجاً للصناع في وو وأطلق على هذه المصنوعات اسم مايولكا نسبة إلى جزيرة مايوركا من جزائر البليار الأسبانية
هذا وقد وصل إلى الفنون الغربية من إيران وتركيا رسوم بعض الزهور التي لم تكن معروفة فيها حينئذ إلا بفضل رسومها على الخزف الإسلامي الوارد من الشرق الأدنى منذ القرن الرابع عشر.
ولم يكن أثر صناعة المعادن الإسلامية في أوروبا بأقل من أثر صناعة الخزف؛ ولن يستغرب ذلك من يعرف ما وصلت إليه هذه الصناعة من التقدم في عصر الفاطميين والمماليك ومن قرأ ما دونه القريزي عن كنوز المستنصر بالله.
ومما أخذ الأوربيون عن الشرق الإسلامي الاسطرلاب، وهو آلة فلكية لقياس بعد الكواكب. اخترعها الإغريق وحسنها بطليموس الجغرافي ثم علماء الفلك من المسلمين، حتى أخذها عنهم علماء الغرب في القرن العاشر. وفي المتحف البريطاني أقدم إسطرلاب عليه تاريخ صنعه أحمد ومحمود ابنا إبراهيم الإسطرلابي الأصفهاني سنة 1260 - وقد ظل البحارة يستخدمون الإسطرلاب في مراقبة الجو وشؤون الملاحة، حتى خلفته اختراعات أخرى في القرن السابع عشر.
وقد كان للأوربيين في القرون الوسطى نوع من أواني المياه كانوا يستعملونه في غسل أيديهم قبل الأكل وبعده، وأطلقوا عليه اسم ولا ريب أن صناعته متأثرة بما كان عند المسلمين من أوان مماثلة على شكل طيور أو حيوانات من البرونز والنحاس، ولعل أحسن مثل مكبر لتلك الأواني - وإن كان عظم حجمه يفرقه عنها - هو ذلك العقاب النحاسي الكبير المحفوظ الآن بالكامبو سانتو بمدينة بيزا في إيطاليا، والذي يظن أنه من عصر(93/108)
الفاطميين بدليل ما عليه من نقوش كوفية وزخارف هندسية، وصور حيوانات، وليس معروفاً من الذي نقله إلى إيطاليا، ولا في أي المناسبات كان ذلك.
وقد صنع المسلمون الثريات والأواني والصناديق والكراسي والتنانير والمباخر من النحاس المكفت بالفضة والمذهب، وكثر الإقبال على هذه التحف في أوروبا، وخاصة بعد أن عظمت تجارة الجمهوريات الإيطالية في الشرق منذ الحروب الصليبية، وبلغت أوج عزها في القرن الخامس عشر.
والواقع أن اضمحلال هذه الصناعة بدأ في الشرق منذ القرن الخامس عشر بعد ظهور المغول وغارة تيمورلنك على دمشق سنة 1401، ولكن المدن الإيطالية وخاصة البندقية ورثتها عن الشرق؛ وظهرت في المدينة الأخيرة مدرسة من رجال الفن عملت على التوفيق بين ذوق الغربيين في عصر النهضة، وبين الصناعة والزخارف الإسلامية. ومن المعروف أن صناعاً من الشرق اشتغلوا بصناعات أجدادهم في البندقية وجنوه وبيزا وفلورنسا. وفي المتاحف والمجموعات الأثرية أمثلة كثيرة من التحف الفنية النفيسة المصنوعة في إيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي تشهد بحسن الذوق وجمال الزخرف ودقة الصناعة. هذا ولا يفوتنا الإشارة إلى ما في اللغة الإيطالية وغيرها من اللغات الأوربية من الألفاظ الاصطلاحية المنسوبة إلى المدن الإسلامية في صناعة المعادن كدمشق وبلاد العجم. وكان لصناعة الزجاج المموه بالمينا شأن كبير عند المسلمين كما يتجلى من مجموعة المشكاوات النفيسة المحفوظة بدار الآثار العربية بالقاهرة، والتي يرجع عهدها إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وقد تقدمت صناعة الزجاج في البندقية منذ القرن الثالث عشر تقدماً كبيراً، وبدأ البنادقة منذ القرن الخامس عشر يقلدون صناعة الزجاج عند المسلمين، فما لبثوا أن برعوا مثلهم في تمويه الزجاج بالمينا، وانتشرت هذه الصناعة من البندقية إلى غيرها من المدن الأوربية، وظهرت زخارف وطرز جديدة دون أن تزول القرابة بينها وبين النماذج الإسلامية الأولى.
أما أساليب المسلمين في نقش الخشب وزخرفته وتطعيمه، فقد ظهر تأثيرها في فنون البلاد الأوربية التي كان لها بالعرب اتصال مباشر كالأندلس وجنوب فرنسا وصقلية، ولكن هذا التأثير لم يكن كبيراً، لأن هذه البلاد لم تكن أحوالها الجوية تستدعي ما اضطر إليه(93/109)
المسلمون من استعمال طريقة المربعات بله أن رسم الخطوط والزخارف الهندسية لم يكن ليلعب فيها الدور الكبير الذي لعبه في بلاد الإسلام.
وكذلك قلد البنادقة صناعة التجليد الإسلامية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ونقلوا بعض أساليبها، ونقلها عنهم غيرهم من صناع الغرب، فلا عجب إن وجدنا حتى الآن في صناعات التجليد الأوربية المختلفة كثيراً من تفاصيل الصناعة الإسلامية وزخارفها. ومعروف أيضاً أن بعض المجلدين المسلمين نزحوا إلى البندقية وعلموا البنادقة اختراعات المسلمين في هذا الميدان. ولا يزال (اللسان) المعروف في صناعة التجليد العربية موجوداً في تجليد بعض الكتب الأوربية، ولا سيما المحاسبين وأصحاب المصارف. ومما أشتهر به المسلمون في الأندلس وصقلية صناعة الصناديق من العاج، وفي المتاحف أمثلة عديدة منها، وبينها وبين أمثالها من صناعة أوربا في القرون الوسطى قرابة تنبئ عن تأثير الصناعة الإسلامية.
بقي أن نتحدث قليلاً عن المنسوجات في البلاد الإسلامية وعن أثرها الكبير في صناعات النسيج الأوربية ولسنا نجهل أن صناعة النسيج كانت زاهرة في فارس ومصر وسورية قبل الفتوح العربية، ولكن تعضيد الخلفاء والأمراء، وتولي الحكومة إدارة المصانع، وعادة الخلع التي كان يمنحها الملوك وأولوا الأمر، كل هذا جعل الصناعة تخطو في سبيل الكمال خطوات واسعة، وكثر الإقبال على المنسوجات الإسلامية وتهافت على شرائها التجار فعمت شهرتها أوربا في العصور الوسطى، وأصبحت أكثر أنواع المنسوجات في ذلك العهد تحمل أسماء شرقية أو تنسب إلى مدن إسلامية. ولما رأى التجار ذلك هب كثير منهم لإنشاء المصانع في أنحاء أوروبا المختلفة لمنافسة مصانع الشرق الأدنى والأندلس، وكان العرب قد أقاموا في صقلية مصانع شهيرة للنسج ظلت عامرة بعد أن تقوض سلطان المسلمين في الجزيرة، فتعلم الإيطاليون في هذه المصانع أسرار النسيج الإسلامي ودقائقه ونقلوه إلى بلدان إيطاليا المختلفة، وحفلت المنسوجات الحريرية الإيطالية في القرن الرابع عشر بالزخارف الشرقية حتى الكتابات العربية منها.
وبدأ النساجون الأتراك والإيطاليون منذ القرن السادس عشر ينافس كل منهما الآخر ويقلده، حتى لقد يصعب أحيانا التفرقة بين مصنوعاتهم؛ وظهرت في الأسواق بعد ذلك أحزمة من(93/110)
القماش من صناعة أوروبا على الطراز الشرقي وأطلق عليها اسم الأحزمة البولونية نسبة إلى بولندة حيث كثرت صناعتها.
وكان السجاد أيضاً مما أخذه الأوربيون عن الشرق منذ القرن الرابع عشر، فتعلم الصناع الغربيون صناعته من المسلمين واحتفظوا مدة طويلة بالأساليب العربية في زخارفه.
وأما أثر المسلمين في النقش والتصوير الأوربي فيكاد لا يستحق الذكر، وما نقله الغرب في هذا الميدان من أساليب في تصوير الحيوان ليس إسلامياً في جوهره؛ وإنما يرجع إلى الفنون القديمة في الشرق الأدنى؛ وليست لدينا أمثلة لمصورين مسلمين اشتغلوا في أوربا في القرون الوسطى، اللهم إلا أولئك الذين عملوا في بلاط روجر الثاني ملك صقلية في أوائل القرن الثاني عشر لنقش بيعة في بالرمو تعرف باسم الكابلا بلاتينا.
هذا وقد أثرت الزخارف الإسلامية على الزخارف في شمال أوربا؛ ولا عجب فقد كان هناك اتصال بين أمم الشمال وبين الشرق الإسلامي، وكان كلاهما يناهض أمم أوربا الوسطى والجنوبية، بيد أن هذه الشعوب الجرمانية الشمالية لم تكن فقدت تماما ذكرى تجوالها في آسيا قبل أن تغزوا أوربا ويسير بعضها حتى يصل إلى شمال أفريقيا.
ولا يسعنا أن نختم هذا المقال قبل الإشارة إلى الأثر التركي الذي نراه في كثير من زخارف أمم البلقان وسكان جزائر بحر الأرخبيل، فقد كان استيلاء تركيا على هذه الأقاليم وحكمها إياها قروناً من الزمان أكبر عامل على طبع فنونها والحياة الاجتماعية فيها بطابع شرقي لم يزل كله بعد.
زكي محمد حسن(93/111)
العلامة المستشرق كراتشكوفسكي
للأستاذ محمود تيمور
في عصر يوم من الأيام نحو عشرة أعوام ذهبت لزيارة المرحوم. والدي - كما كنت أفعل دائماً - بمنزله الخاص بالزمالك حيث كان يسكن وحيداً بين كتبه معتزلاً العالم. دخلت عليه في حجرة عمله فوجدته أمام مكتبه بين أكوام من الكتب والدفاتر - شأنه دائماً - يطالع ويقيد. فلما أحس بوجودي رفع رأسه وأزاح نظارته (الخاصة بالقراءة) ودعاني إلى الجلوس. ووقع نظري على صورة لقبر إسلامي كانت ضمن الأوراق العديدة التي يزدحم بها مكتبة. فسألته، فابتسم وقال: هذه صورة قبر الشيخ طنطاوي المدفون في روسيا. وعجبت لأمر هذا الطنطاوي الذي اختار بلاد الروس مدفناً له. فاستوضحته الأمر. فأخذ يحدثني عن هذا العالم المصري الذي نزح إلى روسيا في العصر الماضي ليدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبرج - كما كان اسمها في ذلك العهد - وكيف أقام فيها حتى وافاه الأجل فدفن بها. ثم كيف قام اليوم من بين الأساتذة المستشرقين من يعنى بهذا العالم المصري فيحقق أمره ويؤلف رسالة عنه تخليداً لذكراه.
واستهواني هذا الحديث، وجعلت أنظر إلى الصورة وأنا معجب فخور بهذا الأستاذ المستشرق الذي انبرى لعالم من علمائنا المنسيين ينشر حياته على الملأ ويشيد بذكراه. فينشر معه صفحة من صفحات تاريخنا المغمور ويشيد بذكرى بلادنا بين أصدقائنا البعيدين. ورفعت رأسي ونظرت إلى والدي مستفهماً. فقرأ في عيني ما يجول بخاطري وقال:
- إن صاحب هذا البحث هو الأستاذ كراتشكوفسكي الروسي
في هذه اللحظة أحببت الأستاذ كراتشكوفسكي وشعرت في صميم قلبي بأنه ليس غريباً عني. وشاهدت صورته فيما بعد فراعني منها مسحة الوقار المنطبعة على محياه، وذلك الإشعاع العجيب الذي يشع من عينيه - إشعاع الطيبة والإخلاص. واتصلت بالأستاذ عن طريق المراسلة، فعرفت فيه رجلاً ذا خلق متين وعزيمة صادقة وأدب جم، فقد وهب حياته منذ نحو ثلاثين عاماً لخدمة اللغة العربية وآدابها. فلم يهن ولم يتراجع بل ثابر وثابر حتى امتلك ناصيتها وتبحر فيها، فأصبح علماً راسخاً من أعلامها؛ وقوة من قواها العتيدة.(93/112)
وإني لا أنسى أول خطاب جاءني من الأستاذ، فقد وقفت أمامه حائرا مبهوتاً: خط عربي جميل ونظيف يماثل في وضوحه وتنسيقه خطوط الآلة الكاتبة. تسوده روح لطيفة من سلامة الذوق في التعبير والبساطة والهدوء. كل ذلك في سلاسة عجيبة وصفاء غريب. وغمرني شعور لطيف فيه شيء من الزهو لوجود مثل هذا الصديق الكبير لنا - معشر العرب - في بلاد نائية قد وقف حياته على خدمة آدابنا وإعلاء كلمتنا.
وازداد اتصالي بالأستاذ فتوالت الرسائل بيني وبينه. وأهدى إلى كثيراً من مؤلفاته بالروسية، ومضت الأعوام ومعرفتي بالأستاذ تزداد اتساعاً. وكلما عرفت عنه شيئاً جديداً قويت محبتي له وعظم تقديري إياه.
بدأ الأستاذ دراسته للعربية وبعض اللغات السامية الأخرى كالحبشية والعبرية في جامعة بطرسبرج عام 1908. ثم رحل إلى الشرق فزار مصر وسورية، وأقام فيهما أكثر من عام انكب أثناءه على دراسة الأدب العربي القديم والحديث. واهتم بالشعر وعلم البيان بنوع خاص. وما إن عاد إلى روسيا حتى أخذ ينشر مقالات عن الأدب العربي. وظهر له بحث مستفيض عن القصة التاريخية في الأدب الحديث وهو بحث نقدي تحليلي عن روايات جورجي زيدان ويعقوب صروف وفرح أنطوان وجميل مدور. (صاحب كتاب حضارة الإسلام في دار السلام) وتوالت بعد ذلك أبحاثه القيمة. ومن أعماله المشهورة إصداره ديوان أبي الفرج الوأواء الدمشقي باللغة العربية مع ترجمة روسية ومقدمة مسهبة عن الشعر في العصر العباسي تعد من أنفس ما كتبه العلماء في ذلك الموضوع؛ كذلك يجب ألا ننسى بحثه التاريخي عن حياة الشيخ طنطاوي، وهو بحث فذ مبتكر حقق فيه بطريقته العلمية المعروفة كثيراً من النقاط الغامضة التي تكتنف حياة هذا العالم المصري (المنسي). ومن أعماله الهامة إصداره كتاب البديع لابن المعتز باللغة العربية مع مقدمة للكتاب بالإنجليزية، وهذا الكتاب يعد من أنفس الكتب التي عالجت علم البديع في الأدب القديم. هذا خلاف رسائله الأخرى التي والى ويوالي إصدارها، وآخر ما صدر له ترجمة بالروسية لكتاب الأيام للدكتور طه حسين، مع مقدمة عن مؤلفات وتعليقات عن الكتاب.
أكتب هذه الكلمة الصغيرة بمناسبة الاحتفال بتكريم الأستاذ في روسيا أحييه فيها أصدق تحية، معبراً له عما يكنه العالم العربي عامة والأمة المصرية خاصة من عواطف الولاء(93/113)
والشكر له. فان رجلاً قصر حياته على نشر ثقافتنا العربية في العالم الغربي، وأوسع لنا الطريق لنتبوأ مكاننا بين آداب الأمم العالمية لجدير بأن يحتل في قلوبنا أكبر مكانة.
محمود تيمور(93/114)
على هامش السيرة
نزيل حمص
للدكتور طه حسين
قال عمير بن عبد الله السلمي لمحمد بن نصر الكلابي: إن الله فيما يأتي من الأمر لحكمة بالغة يفهمها الناس حيناص ويقصرون عن فهمها في كثير من الأحيان. وإن الرجل الرشيد خليق أن يتعظ بما يفهم، وألا يلح في تأويل ما لم يفهم، وأن يطمئن قلبه إلى أن حكمة الله بالغة، وإلى أن قضاءه منته إلى الخير دائماً.
قال محمد بن نصر لصاحبه: هو ذاك، وما أظن أن أحداً منا ينكر ذلك أو يماري فيه فما تحدثك به؟ وما هذا التفكير العميق الذي أرى آثاره بادية في وجهك؟ وكانا هذان الرجلان من فتيان قيس، شديدي البأس، قد ملأ قلبهما إيمان قوي بالله، وحفاظ قوي للعرب، واعتزاز قوي بالنفس، وحب قوي للجهاد. وكانا قد مضيا مع الصائفة غازيين حتى بلغا ثغراً من ثغور الروم، فأمعنا في الغزو ولقيا فيه من الجهد والشدة، واحتملا فيه من المشقة والبلاء شيئاً عظيما، لم يزدهما إلا إيماناً على إيمان، وحفاظاً إلى حفاظ، وحباً للجهاد إلى حبهم القديم للجهاد، وكان الله عز وجل قد قضى لهما أن يعودا من هذه الغزوة موفورين، فلما بلغا مأمنهما مع الجيش في بلاد المسلمين نذرا لئن مد الله في حياتهما حتى ينقضي الشتاء، وتستأنف الصائفة من قبل غارتها على بلاد الروم ليكونن لهما في هذه الغارة بلاء، وليضعن كل واحد منهما نفسه في مقدمة الجيش المغير، وكانا قد أزمعا من أجل ذلك ألا يبعدا في الرجوع إلى موطنهما، وأن ينفقا فصل الشتاء في مدينة من مدن المسلمين هذه المنبثة في الشام، والتي ترابط فيها الجنود، قد قسمت بينها تقسيماً، ووزعت عليها توزيعاً، ولم يكونا من أصحاب الديوان في جند من أجناد الشام، وإنما كانا رجلين قد باعا أنفسهما من الله وتطوعا في الجهاد، وأقبلا يبتغيان المثوبة، فلحقا بالصائفة فيمن يلحق بها من المتطوعين؛ ولم يصرفهما عن حمص أنها لم تكن للمضرية داراً، وما يريدان إلى المضرية أو إلى اليمنية، وهما إنما يمران بهذه المدينة مروراً ينتظران أن ينقضي فصل من فصول العام ويقبل فصل آخر ليستأنفا نشاطهما وليقبلا على ما يبتغيان من ثواب الله مجاهدين؟
فلما استقر بهما المقام في حمص أياماً وأسابيع أخذا يدوران فيها ويتعرفان بعض أمرها،(93/115)
ويسمعان إلى ما كان يجري على ألسنة أهلها من بعض الحديث. وقلما كان أحدهما يخرج منفرداً، إنما كانا أكثر أوقاتهما متلازمين كأن ما دفعها إلى الهجرة من أوطانهما قد جمع بين نفسيهما في الجهد والبأس، كما جمع بين نفسيهما في الرخاء واللين. فقلما كانا يفتقران أثناء الغارة على اختلاف الظرف وتباين الخطوب التي كانت تعرض للجيشين وتلم بالمغيرين. وهما الآن لا يفترقان أو لا يكادان يفتقران، وقد أظلهما الأمن وضمنتهما سلم لا يخافان معها شدة ولا بأساً ولا فراقاً. ولكنهما في هذا اليوم لم يكادا ينفتلان من صلاة الغداة حتى فرقت بينهما حركة الناس وازدحامهم مسرعين كأن هناك أمراً ذا بال يروعهم ويدعوهم إلى الازدحام ويدفعهم إلى أن يشهدوا مشهداً يجب أن يشهده الناس. وقد دفع محمد بن نصر مع المزدحمين وأسرع مع المسرعين، لم يكن له في ذلك رأي أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن حمد ما أدركه من ذلك، فمضى مع الماضين مختاراً لا كارهاً، وحرص على أن ينتهي إلى حيث كانوا يريدون أن ينتهوا. وقد سمع في أثناء ذلك ما سمع، ورأى ما رأى، وامتلأ قلبه بالعظات والعبر، وشغل عقله بالتفكير المتصل العميق، حتى إذا تفرق الناس وكلهم يملأ نفسه العجب عاد إلى صاحبه يحدثه بما سمع ويحدثه بما رأى، ويبدأ حديثه بهذا الكلام الذي أوجزته لك آنفاً فلما سأله صاحبه عما به قال: لقد شهدت اليوم أمرا عظيما: شهدت جنازة رجلا ملأ قلوب الناس حبا وبغضا، ورضى وسخطا، وأثار في نفوسهم كثيرا من الحفيظة، بل حفيظة لا تنتهي، وأثار في نفوس الناس كذلك إعجاباً وإكباراً، وأطلق ألسنة الناس بالذم الشنيع، وأطلق ألسنة الناس بالثناء الكثير، ورسم على وجوه الناس آثار الموجدة المنكرة، ورسم على وجوه الناس كذلك آثار الاعتراف بالجميل، ورسم على وجوههم بين ذلك ابتسامات فيها سخرية وازدراء، وفيها عطف وإشفاق؛ ثم رأيت الناس يعودون من تشييعه إلى قبره، وإن الحيرة لتملأ قلوبهم، وإن الشك ليضطرب في نفوس كثير منهم، وإنهم على هذت كله ليقولون فيما بينهم مثل ما كنت أقوله لك منذ حين، وانهم على هذا كله ليظهرون الثقة بحكمة الله البالغة والاطمئنان إلى عفوه الذي ينال به من يشاء.
قال عمير بن عبد الله: ما رأيت كاليوم رجلا يؤثر التلميح على التصريح، ويقصد إلى الغموض دون الوضوح، فحدثني بحديثك لا أبا لك ولا تطل، فما تعودت منك إطالة ولا(93/116)
إملالاً. قال محمد بن نصر: فالله يعلم ما آثرت تلميحاً، ولا اجتنبت تصريحاً، ولا قصدت إلى غموض، ولا تنكبت وضوحاً، وإنما أصور لك نفسي كما أجدها، وما أدري كيف أتحدث إليك بهذا الحديث، وما أعرف من أين آخذه. آخذه من مبتدئه أم آخذه من منتهاه، أم آخذه مما بين ذلك، فإن كل موضوع منه تملؤه العبرة والعظة، وتظهر فيه هذه الروعة التي تتأثر لها القلوب، وتفكر فيها العقول. إنه رجل لم يعرف الناس من أول أمره إلا أنه كان عبد حبشياً لسيد من سادات قريش في مكة، هو جبير بن مطعم، وكانوا يرونه فتى شديد البأس عظيم الأيد شجاعاً جريئاً، يعمل لسيده فيما يعمل فيه الرقيق، ولو أن الرق لم يعرض له لكان خليقاً أن يسود في بلده وبين قومه هؤلاء السود. ولكن الرق عرض له كما عرض لكثير من أشراف الروم والفرس فألقاه إلى هذا الحي من قريش، وفرض عليه ما يفرض على الأرقاء، من الخنوع، والخضوع، ومن الذلة والهوان، ومن العمل فيما لا يعمل فيه أصحاب النجدة والمروءة من الناس. وكان هذا الفتى ضيقا بحياته أشد الضيق، منكراً لها أعظم الإنكار، جامحاً حين يتاح له الجموح، شامساً حين يتهيأ له الشموس، لا يخفي بغضه للرق وطمعه في الحرية مهما يكلفه ذلك من غضب سادته وزجرهم، ومن إعناتهم له وإلحاحهم عليه بالإعنات. وكانت قريش قد لقيت من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جهدا شديداً يوم بدر، وفقدت جماعة من سادتها وأشرافها، وذاقت الهزيمة المنكرة، وذاقت فقد الأحياء، وذاقت هذا الذل الذي يكره العرب أن يذوقوه، ذل الموتور الذي لم يدرك وتره؛ وكانت قريش تتجهز لإدراك الوتر والأخذ بالثأر، وشفاء حزازات النفوس، وإرضاء قتلاها من أهل الحفير؛ وكان جبير بن مطعم قد فقد عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكان حريصا على أن يثأر به وينتقم له من قاتله. ولم يكن قاتله إلا حمزة ابن عبد المطلب عم النبي، وأسد الله، وشجاع قريش، وحامل لواء المسلمين لأول ما عقد اللواء. قال عمير بن عبد الله: فإنك إنما تتحدث عن وحشي، فما خطبه وما الصلة بينه وبين هذا الرجل الذي شهدت جنازته اليوم؟ قال محمد بن نصر: فان هذا الرجل الذي شهدت جنازته منذ اليوم هو وحشي نفسه. قال عمير: ليتني عرفت مكانه من هذه المدينة حين أقبلت إليها إذن لسعيت إليه، ولسمعت منه، ولسألته عن بلائه ذلك المنكر. قال محمد بن نصر: وكذلك قلت لنفسي أنا منذ حين، ولكني رأيت من رآه، وسمعت ممن سمع منه، ولقد رأى من رآه رجلا(93/117)
كان خليقاً أن يرى، وأن الذين سمعوا ليتحدثون من أمره بالأعاجيب. قال له سيده حين أجمعت قريش أمرها: إني أرى شوقاً إلى الحرية وكلفك بها، وإسرافك في الجموح، وامتناعك عما لا ينبغي لمثلك أن يمتنع عنه من الطاعة والإذعان لمواليه، وإني أعرض عليك هذه الحرية التي تهواها، فان شئت فأد ثمنها، وما أظنك تفعل. قال العبد: فقد شئت أن أؤدي إليك ثمن هذه الحرية لو أني أستطيع أن أبلغه في جو السماء أو أقصى الأرض. قال جبير: فإنه أدنى إليك من ذلك، إنه في يثرب، فاذهب مع قريش في حربها هذه التي تتجهز لها، ثم عد إلي بمقتل حمزة وأنت بعد ذلك طليق.
قال العبد: أما إني ذاهب مع قريش فعائد إليك بمقتل صاحبك أو لاق من دون ذلك الموت فهو أهون على وآثر عندي من حياة الرقيق.
ولقد سمع الناس منه حديثه عن ذلك البلاء المنكر الذي أبلاه يوم أحد، وما أرى أنك تعرف كما أعرفه، فقد أخذ يرقب حمزة، وهو يقوم من المسلمين مقام الأسد يذود عن أشباله، يهز الجيش بسيفه هزاً، والناس يرونه من بعيد كأنه الجمل الأورق، فتمتلئ قلوبهم لمنظره رعباً، وينصرفون عن موقفه انصرافاً، وهو يتحداهم ويدعو فرسانهم ومغاويرهم. والعبد قائم قد استتر عنه بشجرة ينظر إليه ويرتقب غفلته، وحمزة لا يراه ولا يحس بمكانه. فلما أمكنته الفرصة هز حربته حتى رضي عنها، ولم يكن له بغير الحربة من السلاح علم، فلما تهيأت له الرمية رمي، وإذا الحربة تصيب حمزة في مقتل فيخر صريعاً، والعبد قائم مكانه لا يريم، يرقب أسد الله صريعاً بعد أن كان يرقبه جائلاً في الميدان؛ فلما استوثق من أن صريعه قد قضي عليه أقبل يسعى إليه، فانتزع حربته ثم عاد إلى المعسكر فأقام فيه. لم يصنع قبل مقتل حمزة شيئاً، وما يعنيه هذه الحرب بين قريش والأنصار، وإنما أقبل يشتري حريته بمقتل هذا الرجل العظيم، وقد ظفربما أراد، فانتظر قفول قريش إلى مكة، ولم يشهد ما كان تمثيل هند وصاحباتها بعم النبي، ولم يشهد ما كان من حزن النبي حين رأى عمه في منظر لم ير (صلى الله عليه وسلم) قط منظرا أوجع له وأثقل عليه منه. ولم يسمع العبد نذير النبي حين أقسم لأن أظفره الله على قريش ليمثلن منهم بسبعين مثله لم تعرفها العرب قط، ولم يعلم العبد أن النبي قد رد عن ذلك رداً، وأن الله قد أنزل في ذلك قرآنا، وإن النبي قد تلا قول الله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن(93/118)
صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
ولم يعلم العبد أن النبي فد اضطر إلى أن يكفر عن يمينه، ثم لم يعلم العبد أن النبي قد عاد إلى المدينة محزوناً أسفاً، فلما سمع نساء بني الأشهل يبكين قتلاهن قال: ولكن حمزة لا بواكي له! وسمع ذلك منه الأنصار، فأرسلوا نساءهم يبكين حمزة عند بيت النبي، وخرج نساء النبي فبكين معهن حتى ردهن النبي داعياً لهن، ثم أصبح فنهى عن البكاء.
لم يعلم العبد من هذا شيئاً، وماذا يعنيه من هذا، إنما كان يريد حريته وقد بلغها، وماذا صنع البائس بحريته؟ لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها؟ ولم يسد في مكة، وكيف إلى السيادة فيها؟ إنما عاش بين قريش حراً كالعبد، وطليقا كالأسير. نعم لم يعد العبد بشيء من هذا، ولكنه علم ذات يوم أن جيوش المسلمين مقبلة على مكة، ورأى ذات صباح جيوش المسلمين تدخل مكة، واستيقن العبد أنه مقتول إن ظفر به المسلمون، ففر وانطلق في الأرض يلتمس لنفسه مأمناً فلا يجده. هؤلاء المسلمون ينتصرون على العرب يوم حنين، وهذه أرض العرب كلها تذعن للنبي، فأين الملجأ من الله؟ لقد آوى العبد إلى الطائف يتهيأ للسفر إلى المدينة، وما هي إلا أيام حتى تذعن الطائف لما أذعنت له مكة. والآن يفكر العبد في مهاجرة البلاد العربية كلها. ولكن كيف السبيل إلى الهجرة؟ لقد أُخذت عليه سبيل الحبشة، وأُخذت عليه سبيل الروم، وانبسط سلطان النبي على الشمال والجنوب. لقد كانت الهجرة ميسورة قبل الآن. فأما الآن فقد تقطعت من دونها الأسباب.
هنالك يلقي بعض الناس في نفس العبد أن النبي لم يقتل قط رجلاً جاء مسلماً؛ وأن النبي ذات يوم لجالس بين أصحابه، وإذا رجل قائم على رأسه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ وينظر النبي فيرى العبد فيعرفه، ولكن الله قد عصم دمه بالإسلام، وما قتل النبي قط رجلا جاءه مسلماً، وان كان قد قتل عمه حمزة. فيأمر النبي ذلك العبد أن يجلس ويحدثه كيف قتل عمه؛ وهذا العبد قد جلس وهو يعيد على النبي بلاءه المنكر، وحديثه يملأ قلب النبي حزناً ولوعة وأسى؛ والعبد بين يديه، لو أراد لأرضى حزنه ولوعته بمصرعه، ولكن أنّى له ذلك وقد أعتصم العبد بالإسلام؟
وقد آثر النبي أن يعفو، وآثر أن يصبر. أليس قد عفا عن هند وقد مثلت بعمه ولاكت كبده،(93/119)
وجدعت أنفه وأذنيه؟ فما له لا يعفو عن عبد مأمور؟ ولكنه قال للعبد: غيب وجهك عني، فجعل العبد لا يرى رسول الله إلا تنكب طريقه واجتنب لقاءه.
وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد، وطليقا كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقا، يؤرقه إذا دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار.
ولكن العرب يرتدون، ويذهب خالد بن الوليد لقتال مسيلمة، وهذا العبد يذهب معه ليقاتل في سبيل الله بعد أن كان يصد عن سبيل الله.
وهذا العبد يهز حربته ذات يوم كما هزها يوم أُحد، ويتهيأ ليرميها كما تهيأ يوم أُحد، وإذا هي تصيب رجلا فتصرعه، وإذا الحربة التي قتلت حمزة قد شاركت في قتل مسيلمة، وإذا وحشي قد قتل خير الناس، وقتل شر الناس. وقد عفا النبي عن قاتل عمه، وعفا الناس عن قاتل أسد الإسلام، ولكن نفس وحشي لم تعف عن وحشي، ولكن دم مسيلمة لم يغسل من نفسه دم حمزة. وهذا العبد الحر يمضي مع جيوش المسلمين غازياً فيقاتل الروم وينتصر مع المنتصرين، ويستقر مع المستقرين في مدينة حمص هذه. ولكن بلاءه أيام الردة وبلاءه أيام الفتح، وما أحتمل هذا كله من جهد، وما ناضل في هذا كله عن الإسلام، لم تغسل عن نفسه دم حمزة، ولم تبرئ نفسه من الندم لمقتل حمزة؛ ولم يبلغ الإسلام من قلب هذا الرجل ما بلغ من قلوب كثير من الناس فيمحو من قلبه ما قدم في جاهليته، وإذا هو يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو معروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يُضرب في الشراب، وقد ضعف وفني فلا يحتمل الضرب فيموت. ونشهد جنازته اليوم.
أرأيت أني لم أكن ملمحاً ولا مؤثراً للغموض حين كنت أحدثك بما كنت أحدثك به من هذّه(93/120)
العواطف المختلفة التي كانت تثيرها جنازته في نفوس الناس. قال عمير: أشهد أن حكمة الله بالغة، وأن الرجل الرشيد خليق أن يتعظ بما فهم من قضاء الله، وأن يطمئن إلى عدل الله وعفوه إذا أشكلت عليه الأمور. قال محمد بن نصر: فإني لا أعرف شيئا يغسل عن النفس إثمها وينقيها من السيئات كهذا الذي نحن فيه من جهاد عدو الله ما وجدنا إلى هذا الجهاد سبيلاً.
طه حسين(93/121)
حول الهجرة
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تحتفل (الرسالة) اليوم بذكرى حادث كريم لم يكن بعد النبوة أعظم ولا أبعد أثراً منه في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الإنسانية. فلولا الهجرة ما ظهر الإسلام ولا غلب على جزيرة العرب، ثم على أهم مواطن نصف الكرة الشمالي من الأرض. ولولا ظهور الإسلام، وما استلزمه من جهاد في سبيل الله، وما أنزله الله من هدى يهدي به المجاهدين سبله، لحُرم الإنسان ذلك الهدى، ولظل في أموره موكلاً إلى نفسه، لا يكاد في السلم يقف عند حد في طلب اللذة، ولا يكاد في الحرب، كما تشهد الحرب العظمى، يقف عند حد في إتيان ما يظن أنه يكفل له النصر. فالعهد الذي كان في الإسلام قبل الهجرة إنما هيأه الله ليؤدي بقدر منه إلى الهجرة، ثم إلى ما كان في حياة الرسول بعد الهجرة. وهو إلى ذلك كان عهد تشريع من الله على يدي رسوله للناس فيما ينبغي أن يفعلوه إذا كانوا في حالة من الضعف لا يملكون معها من أمورهم إلا القليل: يصابرون في سبيل الله ويصبرون ما استطاعوا، ويهاجرون إن استطاعوا بدينهم في سبيل الله إلى حيث يمكنهم أن يقيموا دينهم آمنين، فإن أمكنتهم بعد ذلك قوة يستطيعون بها الدفاع عن دينهم ولو بالسلاح، فقد وجب الدفاع. إنما عليهم في كل ذلك، مهما يكن الحال، أن يستمسكوا بدينهم كما يتمسك الغريق بحبل النجاة.
والعهد الذي كان في النبوة بعد الهجرة كان، فيما كان، عهد تشريع من الله على يدي رسوله للناس فيما يجب عليهم وما ينبغي لهم في حال القوة، سواء أكانت قوة ناشئة قد حيا لها الأعداء أم كانت قوة غالبة قد مكن الله لأهلها في الأرض، فلم تبق يد أعلى من أيديهم، ولا كلمة تنافس كلمتهم في الرفعة والسلطان. وفيما بين هذين الحالين أحوال تنقلب فيها الأمم الناشئة، لولا الهجرة ما عرف الإنسان سنن الله في مثلها ولا طريق الفلاح فيها.
فالهجرة إذا شئت هي نقطة الانقلاب من الضعف إلى القوة لا في تاريخ شعب فحسب، ولكن في تاريخ دين شاءت رحمة الله بالبشر أن يمن عليهم به ليعرفوا ما لم يكونوا لولاه ليعرفوه من سنن الله في الإنسانية بحذافيرها، ولا فيما يتعلق بالفرد فقط، فقد كان فيما أنزل الله قبل الإسلام من دين ما يكفي لأن ينجو به الفرد مما يتهدد نفس الفرد من أخطار، ولكن فيما يتعلق بالمجموع على الأخص، أي فيما يتعلق بالإنسان من حيث هو أمم وشعوب، ثم(93/122)
من حيث هو جنس واحد، أبدعه إله واحد، وجعل طريق بلوغه أعلى غاياته التي قدرت له في التعاون في الله والاجتماع، لا في العزلة والافتراق.
ولعل هذه الناحية هي الفرق الأكبر بين الإسلام وبين ما قبله من الأديان التي أنزلها الله. بالأديان قبل الإسلام هدى الله الإنسان من حيث هو فرد ومن حيث هو جماعة منعزلة؛ وبالإسلام هدى الله الإنسان من حيث هو فرد ومن حيث هو جماعة منتشرة متصلة، ثم من حيث هو جنس حياته ورقيه في اتباع سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها وفطر الكون. وكان عهد التشريع الإلهي للجماعة العامة هو ما بعد الهجرة، وعهد التشريع للفرد كان فيما قبل الهجرة، ثم فيما بعد الهجرة ضمن دائرة الجماعة. فكأن الله سبحانه أراد أن يكمل للإنسانية دينها في الإسلام، ويجمع لها فيه الدين كله، جعل الإسلام عهدين يكادان يتساويان: عهد الفرد قبيل الهجرة، وعهد الجماعة بعد الهجرة. فقبل الهجرة كان عهد التضحية في سبيل الله من الناحية الفردية البحتة كما كان يحدث في الأديان التي قبل، كالنصرانية. وبعد الهجرة كان عهد تكون الجماعة وتطورها إلى جماعة كاملة تسير في الاجتماعات طبق الفطرة: قانونها كتاب الله، ولا حكم فيها ولا سلطان عليها إلا الله. فتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم يمثل تاريخ الأنبياء قبله في شطره، ويختص ويمتاز في الشطر الآخر، وبالشطر الآخر. فهو مبدئه إلى منتهاه يمثل تاريخ ترقي الله بالإنسان في الدين، كما يقولون إن تاريخ خلق الله الإنسان يتمثل في خلق الجنين.
إن الإنسان خارج دائرة الدين لا يزال يتخبط في الاجتماعيات إلى الآن. قد استطاع في عهده الحديث أن يتوصل إلى كثير من سنن الله فيما ليس بإنسان، أما سنن الله في الإنسان خصوصاً من الناحية الاجتماعية فلا يكاد يعرف منها شيئاً يقينياً، وما يسميه علم الاجتماع، على ضيق مداه، أكثره آراء ولا تزال تنتظر التمحيص. ومن عجب لطف الله بالإنسان أن وكله إلى نفسه فيما لا يتعلق بالروح، ولم يكله إلى نفسه فيما يتعلق بالروح. وكله إلى نفسه في العلوم الطبيعية فلم يرسل رسولاً يعلم الناس حقائق العلم، وإن لهم على طريق التوصل إلى ذلك بأنفسهم في كثير من آيات القرآن في معرض التذكير والتعريف به سبحانه. لكنه لم يكله في أمر الروح إلى نفسه، وإلا لقضي على أجيال كثيرة من الأرواح، إن لم يكن على جميع أجيالها، بالهلاك. ترك الإنسان يتواصل بمجهوده وتجاربه إلى سنن الله في كل(93/123)
محسوس تستطيع أن تتناوله تجارب الإنسان، لكن ما لا تستطيع أن تتناوله التجارب مما يتعلق بنفس إنسانية الإنسان فقد اقتضت حكمة الله سبحانه ورحمته أن يتولاه هو من الإنسان، لا بتعريفه بتلك السنن كما نعرف أمثالها في العلوم، ولكن بتيسيره للإنسان الاستفادة من تلك السنن كما لو كان محيطاً بها، خبيراً بطرق تطبيقها على نفسه وعلى مجتمعه. وما الدين إلا النظام العملي الكامل لحياة الإنسان طبق الفطرة التي فطرها سبحانه عليها. والفرصة بعد فسيحة أمام الإنسان ليعرف قوانين تلك الفطرة بالبحث والنظر إذا شاء وإذا سلك إليها الطريق. ولكن سبيل ذلك التجارب يجريها الفرد في معمله، لأنه إن استطاع أن يخضع المادة والطاقة بل والخلية الحية في معمله للتجربة فلن يستطيع أن يخضع الروح لمثل ذلك. وإن استطاع ذلك إلى حد لا يكاد يذكر في امتحان الفرد، فلن يستطيع ذلك إلى حد ما في الجماعة. لا. ليس طريق الوصول إلى سنن الله في الاجتماعيات التجربة العلمية، إنما سبيل ذلك النظر العلمي في تاريخ الأنبياء، وفي شرع الله بواسطة الأنبياء للناس. حوادث ذلك التاريخ وأحكام الله كما تبينها أفعال أنبيائه، وكما تنطق بها كتبه المنزلة، هي المادة التي يجب أن يستخلص منها سنن الله في الناس، كما إن نتائج التجارب العلمية هي المادة التي يستخلص منها سنن الله في غير الإنسان. وكل الذي يتطلبه العلم في هذا، إذا قدر أن يتجه العلم هذا الاتجاه، هو صدق المادة؛ هو صحة حوادث التاريخ وصحة نسبة الأحكام. ولا أدري إلى أي حد ممكن الاعتماد الآن على ما كان قبل الإسلام من ذلك، إنما الذي أدريه أن ما كان في الإسلام من ذلك ممكن الاعتماد عليه كل الاعتماد. ممكن الاعتماد على ما ضبط وصحح من حوادث النبوة وأفعال الرسول وهو شيء كثير، أما القرآن فهو المعين الذي لا يغيض، والكنز الذي لا يفنى، والكتاب الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
لكن العلم لن يستطيع الانتفاع بذلك أو يؤمن، وأظن العلم يقترب شيئاً فشيئاً من الإيمان.
محمد أحمد الغمراوي(93/124)
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور غزاة المكروب
مات اسبلزاني، وجاء ثلث قرن من بعد وفاته وقف فيه البحث عن المكروب وقوفاً تاماً، ونسى الناس تلك الأحياء واستصغروا أمرها، واتجهوا بهمهم إلى علوم أخرى كانت تخطو في طريق التقدم خطوات سريعة وكانت القطر البخارية قد أخذت تشق طريقها في البلاد، ضخمة دميمة، تسعل كالمصدور فتفرغ الخيل والبقر في أوروبا وأمريكا. والتلغراف كاد يهم بالظهور. واخترعت مكرسكوبات عجيبة، ولكن لم يتقدم رجل للتحديق فيها ليثبت للدنيا أن هذه المكروبات الضئيلة تستطيع أن تقوم من العمل النافع المجدي ما لا تستطيعه تلك القاطرات المعقدة الفظيعة - لم يتقدم أحد ليقول للناس، ولو إيحاء وتلميحاً، إن هذه الخلائق تستطيع قتل الملايين من البشر في خفاء وسكون، وأنها في قتلها أكثر حصاداً من الجيلوتين، وأبعد مدى من مدافع واترلو
في يوم من أيام أكتوبر عام 1831، بقرية من قرى الجبال بشرق فرنسا، تجمهر نفر من أهل القرية على دكان حداد. وكان الفزع يبدو على وجوههم الشاحبة، وكان الهلع يستبين في أحاديثهم الخافتة، وقد حولوا جميعا وجوههم شطر الحداد بداخل المكان. وإذا بطشيش يسمع كطشيش الشواء، وإذا بصراخ يعقبه من تباريح الألم مكظوم، وإذا بطفل في التاسعة يخرج من حافة الزحام هارباً إلى بيت أبويه وقد أخذ منه الرعب ما أخذ. أما الرجل المسكين الذي أنضج الحديد لحمه ففلاح يدعى نقولا لقيه في الطريق ذئب هائج مسعور، نزل على القرية يعوي عواء المجنون، ويزبد فاه برغاء مسموم، فهجم على صاحبنا فمزقه تمزيقاً. وأما الطفل الهارب فكان اسمه لويس بستور ابن دباغ في أربوا وحفيد خادم عبد لكونت أدريسييه
ومضى على هذا المشهد أسابيع سقط فيها ثمانية رجال فريسة لداء الكلب، وعانوا ما عانوا من جفاف الحلق، وضيق الخناق، وجنون النفس، وصرخوا طويلا فترددت أصداؤهم في أذن صاحبنا الطفل، فارتاع فأسماه بعض القوم جباناً، وانطبع في ذاكرته أثر الكي الذي رآه وسمعه في دكان الحداد انطباع الحديد في لحم ذلك الفلاح البائس.(93/125)
وسأل لويس أباه: (ما الذي يصيب الكلاب والذئاب بالجنون؟ ولم يموت الناس بعضة منه؟). وكان أبوه في زمان مضى جاويشاً قديماً في جيش نابليون، فرأى عشرات الألوف من الناس تمون من الرصاص، ولكنه لم يدر لم يموت الناس من الأمراض.
فكنت تسمع هذا الدباغ التقي يجيب ابنه السائل فيقول: (من الجائز يا بني أن شيطاناً من الشياطين دخل جلد الذئب، وإذا قضى الله لك بالموت فلا مرد لقضائه). هذا جواب، لو تأملته لوجدته على بساطته كأحسن ما يجيب به أكثر العلماء حكمة، وأغلى الأطباء أجوراً. ولم يكن أحد يعرف في عام 1831 لم يموت الناس من عضة الكلب المسعور، فأسباب هذا المرض كانت غامضة مجهولة.
أنا لا أحاول أن أدخل في روعك أن هذا الحادث الذي وقع لـ (بستور) في صباه كان السبب الذي حدا به في رجولته إلى كشف سبب هذا الداء وكشف علاجه. إذن لزاد هذا في جمال قصتنا، وكان كذباً وبهتاناً. ولكن الحق أن هذا الحادث راعه طويلاً، ولزمته ذكراه الأليمة طويلاً، وتفكر فيه طويلاً. والحق أنه أحس ريح الشواء تصعد من لحم الفلاح إلى أنفه إحساساً أشد ألف مرة ممن أحسوها، وأنه سمع صراخه فنفذ في نفسه إلى أغوار أبعد من أغوار الآخرين ممن سمعوها، واختصارا أريد أن أقول إن هذا الصبي كان مجبولاً من تلك الطينة التي يجبل منها الفنانون، وان ذلك الفن فيه عاون علمه يداً بيد في إخراج تلك المكروبات إلى الوجود بعد انزوائها مرة أخرى بوفاة (اسبلنزاني). ولا أحجم عن القول إن (بستور) في السنوات العشرين الأولى من حياته لم تظهر عليه شارة تنبئ بمصيره بحاثاً كبيراً، فإنه قضاها طفلاً جلداً 0على الشغل، ذا عناية بما يعمل، ولكن عين الناظر المتفقد لم تكن تقف عنده طويلاً. وكان يقضي فراغه في التصوير، فكان يصور النهر الذي يجري بجوار المدبغة، وكان يصور أختيه فيثبتان له ساعات حتى تتصلب أعناقهما، وتتوجع ظهورهما. وصور أمه صورا قاسية، ليس فيها من الملق شيء، وليس فيها من الجمال شيء، ولكنها أشبهت أمه.
وفي هذه الأثناء أهمل الناس حيوانات (اسبلنزاني) الصغيرة حتى نسوها، وقام العالم السويدي (لينيأس) يقسم الأحياء ويبوب أجناسها، فيجعل لكل جنس جذاذة، ويجعل من الجذاذات فهرساً عظيماً، حتى إذا جاء إلى تلك الأحياء الصغيرة، رفع يديه يأساً منها، قال:(93/126)
(إنها أحياء شديد صغرها، مختلط أمرها، وستظل على إنبهامها، وإذن فلأضعها في باب الأشتات الغامضة). ولم تجد تلك الأحياء من يدفع عنها، ويتحدث بالحسنى عنها، غير ايرنبرج ذلك الألماني الشهير، ذو الوجه البض المليء، فانه في الوقت الذي لم يكن فيه يقطع المحيطات أو يمنح الأوسمة والمكافآت، كان يشتبك في مجادلات عقيمة عن هذه الحيوانات: ألها أمعاء كسائر الحيوان؟ أهي حيوان كامل الأعضاء، أم هي بعض صغير من كل كبير؟ أم هي ليست بحيوان قط، بل نبات؟
ظل (بستور) يكد في الدراسة ويكب على القراءة، وبدأت تظهر عليه وهو في كلية (أربو) سمات، وتتراءى في خلقه صفات، بعضها حسن وبعضها قبيح، ولكنها جميعاً خلقت منه شخصا التقت فيه المتناقضات بقدر لم تلتق على مثله في سواه. فقد كان أصغر التلاميذ في المدرسة، ومع ذلك أراد أن ينصب نفسه عليهم قيماً. كانت به رغبة شديدة في تعليم غيره من الأولاد، وعلى الأخص في حكمهم والسيطرة عليهم. ونال أمنيته فنصبوه قيماً. وقبل بلوغه العشرين ارتقى إلى منصب أشبه بمساعد في كلية بيزانسون وأجهد نفسه في العمل إجهاداً مريعاً. وأراد كل من حوله على أن يعملوا بمقدار ما يعمل. وكتب إلى أختيه المسكنتين كتباً شديدة اللهجة، بارعة الأسلوب، يحضهما فيها على العمل، وقد كانتا - طيب الله ثراهما - تبذلان كل ما في وسعهما من مجهود.
كتب إليهما يقول: (أختي العزيزتين، إن العزيمة شيء عظيم، لأن العزيمة يتبعها العمل، والعمل يتبعه النجاح دائماً، إلا في القليل النادر. وهذه الأمور الثلاثة - الإرادة، والعمل، والنجاح - تملأ الوجود الإنساني. فالعزيمة العزيمة، والعمل العمل، فسيفتحان لكما أبواب السعادة والمجد. إن الطريق الطويل المجهد في آخره خير الجزاء عما صب الإنسان على ترابه من عرق، وأحفى فيه من قدم).
تلك عظاته الأولى في شبابه، وهي من عظاته الأخيرة عند ما بلغ السبعين - عظات بسيطة، ولكنها كانت تخرج من قلبه.
وبعث به أباه إلى باريس، إلى مدرسة النرمال، فاعتزم أن يقوم هناك بأعمال كبيرة، ولكنه أحس حنيناً أليماً إلى وطنه، وإلى روائح المدبغة التي خلف في بلده، فعاد إليها تاركاً في باريس آماله وأحلامه. . . ولكنه لم يغيب عنها طويلاً، فإنه رجع إلى باريس بعد عام، إلى(93/127)
نفس المدرسة، وفي هذه المرة أطاق الإقامة فيها بعيدا عن بلده وأهله. وذات مرة خرج من محاضرة دوماس مغتمر الحس، فائض النفس، مغروق العين، يتمتم لنفسه، (ما أجل الكيمياء علماً! ودوماس، ما أمجده وأوفر حظه من محبة الناس!). عرف (بستور) حينئذ أنه سيكون كيميائياً كذلك عظيماً. ونظر إلى الحي اللاتيني بشوارعه القاتمة، وهوائه الغبيش، وإلى عيشة الخلاعة والتخليط التي يعيشها الناس فيها، فقال لا يرفع هذا الحي من وهدته إلا الكيمياء. كان (بستور) قد ترك الرسم والتصوير، ولكنه حفظ في قلبه روح الفنان الشاعر.
ولم يلبث أن بدأ أبحاثه، بين قوارير من كل رائحة كريهة، وأنابيب من كل سائل ذي لون بهيج، فاشتغل بها وتعثر فيها. وكان يحاضر صديقه الطبيب شبيوس ساعات عن بلورات حامض الدردي، ولم يكن إلا طالب فلسفة، فكان المسكين لا يجد مندوحه عن الإنصات كل تلك الساعات. وكان (بستور) يقول له: (إن من المحزن ألا تكون كيميائياً مثلي). كان يريد كل الناس على أن يكونوا كيميائيين، كما أراد كل الأطباء بعد أربعين عاماً أن ينقلبوا بحاثاً للمكروب.
وبينا كان يكب بأنفه الأفطس، وجبينه العريض، على كومات البلورات يمتحنها، كان رجلان، أحدهما فرنسي، والآخر ألماني، قد أخذ على انفراد يوجهان همهما إلى تلك الحيوانات الصغيرة الحية التي تدعى بالمكروبات، يعتقدان أنها حيوانات على صغرها خطيرة نافعة كالخيول والأفيال. أما الأول فكان اسمه كبنارد دي لا تور وكان رجلا متواضعاً متخاشعاً، إلا أنه كان يعرف كيف يكشف من الحقائق عن إبكارها. فذات يوم كان يدور خلال الجعة المختمرة في أحواضها، فأخرج من حوض قطرتين يعلوهما الرغوة، ونظر إليهما بمجهره فوجد أن حبات الخميرة قد نتأت على جوانبها نتواءت كما تتنبت البذور. فقال لنفسه: (إذن هذه الخمائر حية، لأنها تتكاثر كغيرها من الخلائق). وتابع أبحاثه فعرف أن الشعير لا يستحيل إلى (البيرة) إلا حيثما وجدت فيه هذه الخمائر الحية المتزايدة. (إذن فهذه الخمائر، وهي تمارس العيش، تخلق من هذا الشعير كحولاً). ونشر مقالاً صغيراً عما وجد، ولكن الدنيا رفضت أن تستمع إلى هذا الكشف المجيد. وكان (كنيارد) حيا، ولم يكن دعاء لنفسه، ولم تكن له صلة بالصحافة. ٍ(93/128)
وفي نفس العام نشر دكتور ألماني يدعى إشفان مقالاً قصيراً، في جمله طول، وفيها إبهام، يقص على الناس فيه خبراً عجيباً، خال أنه سيقيمهم ويقعدهم، فإذا بهم يستمعون له بصدور ضيقة وأمزجة فاترة. قال: (أغل اللحم إغلاء طيباً، وضعه في قارورة نظيفة، ثم أدخل إلى القارورة هواء بعد إمراره في أنبوبة حمراء بما حولها من النار، يبق اللحم صالحاً عدة أشهر. ولكنك إذا نزعت القارورة سدادها، فأدخلت إليها الهواء العادي بما فيه من جراثيم، فلن يلبث اللحم أن تخبث ريحه، ويتنغش بأحياء أصغر ألف مرة من رأس الدبوس، هي التي تعيث فيه بالفساد).
لو أن (لوفن هوك) سمع بهذا لفتح عينيه وسعها لما سمع، ولو أن (اسبلنزاني) جاءه هذا الخبر وهو يصلي بالناس في الكنيسة لفض جمعهم وهرع إلى معمله. أما أوربا فلم تحرك ساكناً. وقرأت الخبر في الصحف فكان كبعض الأخبار. وكان (بستور) في تلك الساعة على وشك أن يكتشف أول كشف خطير كشفه في الكيمياء.
كشف بستور كشفه الخطير الأول وهو ابن ست وعشرين فبعد نظرات قريبة عديدة إلى بلورات صغيرة دقيقة، خرج على أن حامض الدردي يوجد على صور أربع لا على صورتين، وخرج على أن المواد الكيمياوية منها مركبات تتساوى جزيئاتها في كل شيء، في عدد ذراتها، وفي الحال التي تترابط عليها هذه الذرات يكاد المركبان يكونان مركبا واحداً، لولا اختلاف بسيط في وضع ذراتهما، وخرج على هذين الوضعين يختلفان كاختلاف الشيء وصورته في المرآة.
تمطى (بستور) فاستقام ما انحنى من ظهره الوجيع، واستبان قدر الكشف الذي أتاه، فخرج مسرعاً من معمله الصغير المظلم القذر، فبلغ البهو الكبير، فالتقى بشاب فيزيائي لم يكنيعرفه إلا لماماً، فإذا به يطوقه بذراعيه، ويقوده خارج المعهد إلى حدائق لكسمبرج وتحت ظلال أشجارها الوريفة، أخذ يصب على صاحبنا الكلم صباً، ويغمره بالشرح والتفسير غمراً. لم يكن له مندوحة من هذا. ملأه الحديث فلم يستطيع كظمه. لابد أن يفيض به إلى أحد. لا بد أن يخبر الدنيا بالذي وجد.
لم يمض شهر حتى أثنى عليه الأشياخ من الكيميائيين، وحتى اصطحبه علماء أعمارهم ثلاثة أضعاف عمره. وتعين أستاذاً بجامعة استراسبورج وفي فترات ما بين أبحاثه وقر(93/129)
في نفسه أن يتزوج من ابنة العميد. ولم يكن موقناً من حبها، ولكنه جلس فكتب لها كتاباً وثق أنها لن تقرأه حتى تحبه. كتب لها. (ليس في ما يجذب فتاة صغيرة مثلك، ولكن ذاكرتي تطمئنني إلى أن الذين عرفوني حق المعرفة، أحبوني أصدق الحب).
وتزوجته، فصارت بذلك أشهر الزوجات في التاريخ، ومن أكثرهن مكابدة ومقاساة، من أكثرهن هناءة وسعادة من بعض الوجوه - وسنذكر في هذه القصة الكثير عنها.
ولما أصبح رب أسرة، زاد بذله من نفسه للعمل، فنسى ما تفرضه الزيجة الحديثة على الزوج من واجبات، وما تنتظره من محاسنات وملاطفات. وغلا فقلب ليله بالعمل نهاراً. كتب في ذلك يقول: (أنا على وشك أن أرفع الحجاب عن خبايا غامضة. وأرى هذا الحجاب يشف كل يوم عنها، ثم يشف، ثم يزداد شفوفاً. وتطول الليالي عليّ في انتظار الصباح. وزوجي كثيراً ما تؤنبني للسهر، فأقول لها: (إنني بذلك إنما آخذ بيمينها إلى حظيرة الخالدين) واستمر ببحث البلورات، ويسلك لاكتنانها طرائق لا تلبث أن تنسد في وجهه فيرتد عنها خائبا، ويدبر التجارب كل سخيف مستحيل، تجارب لا تصدر إلا عن عقل مخبول، ولكنها كانت من ذلك النوع الذي لو صادف نجاحا لصير هذا المخبول عبقريا يدوي اسمه في الآفاق؛ فوضع الأشياء الحية بين مغناطيسيين كبيرين رجاء أن يغير بذلك كيمياء الحياة فيها. واخترع مكنات كمكنات الساعات، وعلق بها النباتات فأخذت تهتز كالبندول روحة وجيئة، وحسب بذلك أنه يهز ذراتها في جزيئاتها، وحسب أنها تحول عن أوضاعها القديمة إلى أوضاع جديدة تنتسب إلى الأولى انتساب الشيء إلى خياله في المرآة، أو كما ينتسب من حامض الدّردي جزئيه الأيمن بجزيئه الأشول. . وأراد أن يقلد الله فحاول أن يغير فصائل الأحياء
وكانت زوجه تسهر الليالي إلى جانبه، وتعجب بما يصنع، وتثق به، وتؤمن بكل الذي يأتيه. كتبت إلى أبيه تقول: (يجب أن تعلم أن التجارب التي هو قائم بها الآن، لو نجحت، فستخلق منه رجلاً يناهض في الذكر (نيوتن)، ويطاول في المجد (جاليلو)). لسنا نستطيع اليوم أن نؤكد أن مدام (بستور) كانت تقول ذلك فهماً لما يقوم به زوجها، أم هو إعجاب المرأة ببعلها، وعلى كل حال فلم تتحقق آمالها هذه المرة فإن تجارب (بستور) هذه كان نصيبها الخيبة.(93/130)
أحمد زكي(93/131)
قصة
ومن يرقيه؟
للآنسة سهير القلماوي
في أيام عاشوراء كان قد اعتاد أن يجوب الطرق صباحاً منذ مطلع الفجر مناديا بصوته العذب العميق: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا محمد من العين. . .) وكان يحمل فوق رأسه مقداراً من مساحيق مختلفة الألوان والأصناف. كان الرجل فوق الأربعين، وسيم الطلعة، قوي البنية،؛ وكان أعذب ما فيه الصوت الحنون العميق المؤثر الذي يرسله كل صباح فيمتزج بنسيم الفجر ونور الشمس الباهت الرفيق، فيوقظ النيام أجمل يقظة وألذها. لم تكن هذه حرفته بالطبع، فقد طول العام يبيع الفواكه، إما في محل لقريب له، وإما سائرا هكذا في شوارع القاهرة؛ ولكنه اعتاد منذ أعوام عديدة أن يطوف هذه العشرة الأيام الأولى من العام الهجري وعلى رأسه هذه المساحيق ليرقي بها من يخاف شر العين والحسد.
كان الرجل يؤمن أشد الإيمان بالحسد وشر الحسد، أليس قد ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم؟ ألم يأمر الله نبيه الكريم أن يقول (أعوذ برب الفلق. . . ومن شر حاسدٍ إذا حسد) ألم يرو لنا كيف رقت حليمة النبي محمداً من (أعين) الحساد؟ أليس في الحياة اليومية ما يثبت لنا شر هذا الحسد؟ كانت لأخته طفلة جميلة، وكانت تتركها دائما قذرة الملابس وسخة الوجه لا يكاد يبين منها إلا أحجية وتمائم وتعاويذ، ولكنها لأمر ما نزعت هذه الأحجية يوماً، فإذا بها تمرض، وإذا المرض يشتد بها يوما بعد يوم، ولم يعد بخور ينفع، ولم تعد تمائم تصد إصابة (العين)، وإذا (العين) أصابت فليس لأصابتها مرد. وبعد أيام جاهدت الطفلة فيها جاهدت الطفلة فيها جهادا لا تحتمله إلا تلك الأجسام التي زودت حديثاً بالحياة، فهي حارة قوية بنيانهم؛ بعد أيام توفيت الطفلة الجميلة فتوفيت معها أفراح الأسرة ومباهجها إلى زمن طويل. أبعد هذا لا يعتقد (بالعين)؟
وفي ثاني يوم هذا العام كان الرجل يسير في الطريق كالمعتاد يرسل صوته الجميل وهو متلذذ بسماعه مرات ومرات بهذا النداء المستحب وتلك النغمة الساذجة البديعة: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا من العين)؛ وأطلت من النافذة فتاة في نحو العشرين، جميلة الصورة نجلاء العينين. وكانت عيناها أول ما يبدؤك منها لسوادهما وجمالهما. كانتا عينين(93/132)
تجذبان النظر إليهما جذبا كما يجذب الحديد الحديد بفعل الجاذبية الطبيعية.
رفع الرجل بصره إلى النافذة فإذا بالعينين النجلاوين تنظران إليه في احتجاب غير خاف. فأرسل صوته العذب الجميل بندائه العذب كأنما يعلن إليها عمله. فابتسمت ثم أسرعت وتركت النافذة عاطلة من أجمل ما يمكن أن يزينها.
واستمر الرجل ينادي نداءه، ويكرر ويطيل النداء، ويتقن الغناء، ولكن الفتاة لم تعد؛ وأخيرا قال لنفسه: غدا تراها، أ، ك ستمر لثمانية أيام أخر. صبرا ففي الغد الفرج.
وفي الغد ما كاد يقترب من باب هذا المنزل حتى سمع صوتا يناديه: (يا عم يا بتاع عاشورا!) فالتفت صوب الصوت، فإذا العينان، عينا أمس تنظران إليه من جديد.
جلست الفتاة على حافة السلم، وقالت له في صوت خافت إن سيدتها نائمة، وإنها تخاف أن تصحو فتراها على تلك الحال فتطردها شر طردة. كل ما تريده منه هو أن يرقيها من عين خادم الجيران لأن هذه تغار منها لجمالها، وتنظر إليها نظرات شريرة. ولقد زاد في شر هذه النظرات أن خدم الجيران جميعاً لا يعبأون ولا يقتربون إلا من فتاتنا هذه، فزاد ذلك في نيران الغيرة، ومتى اشتدت الغيرة، فالحسد وشرور الحسد متوقعة منتظرة.
سمع الرجل هذه الاعترافات الساذجة فوجدها عادية، وأخذ يقوم بعملية الرقية خالطاً بعض المساحيق متمتماً كثيراً، وموصياً وصايا عدة، وكان بوده أن يطيل ويطيل لولا أن نبهته تلك بأن سيدتها قد تصحو، وفي تلك الصحوة عقاب لها أليم.
سار الرجل مبتعداً عن البيت مكرها، يحس في نفسه ألما لا يرى له مبرراً ولا سبباً؛ إنه كان في حلم، كان في سعادة ما بعدها سعادة، كان في سماء ثم هبط إلى الأرض، ثم صحا من الحلم اللذيذ فكانت صحوة أليمة بغيضة.
وأخذ ينادي فإذا صوته كأنما هو صوت إنسان آخر لا عهد له به. تبدل الصوت ولم يعد فيه الجمال الذي كان يلذه ويستمتع به. وعبثا حاول الرجل أن يقنع نفسه بأن هذه خيالات تتراءى له وحده، وعبثا حاول أن يقنع نفسه بأن الناس كلهم لم يشعروا بما طرأ على نفسه من تغير أثر في صوته.
عاد الرجل إلى أهله كئيباً ملولًا برماً بكل شيء، وأمضى ليله والعينان السوداوان النجلاوان تنظران إليه وتطيلان النظر، فيحاول الفرار منهما فلا تلبثان أن تعودا من جديد أقوى(93/133)
تحديقاً وأعمق أثراً في النفس.
وفي الصباح عاد الرجل يجوب الطرقات منادياً كعادته. دار حول البيت المعهود مرة ومرات فلم ير إلا نوافذ مفتوحة كأنها فتحات القبور. لم ير العينين! وأخذ طريقه كالمعتاد، فسار وسار ينادي، ولكن في غير لذة وفي غير نشوة، وإذا به يسمع من بيت قريب: (الله! ما لصوت الرجل تغير؟ يا خسارة! كان صوته جميلاً وحلواً! لا بد أنه مريض!).
لم يعد مجال للشك. لقد فقد هذا الصوت الذي كان له ذخراً وأي ذخر: أصابته العين ولم يصبه إلا هاتان العينان السوداوان الواسعتان، حُسِد وجازت فيه عين الحسود!
عاد إلى أهله ورقى في نفسه ورقاه أهله، ولكن الرقية ضاعت سدى. ولم يكن من يتقن الرقية إى هو، ولا يمكن أن يقوم بها لنفسه كما يقوم بها لغيره. فالرقية فن له حركاته وأعماله ومراسيمه، واليوم أصابته هو العين، فيا ترى من يرقيه؟
سهير القلماوي(93/134)
بين الشرق والغرب
للأستاذ محمود الخفيف
غَنَّ يا شِعرُ فقد طالَ البكاءُ ... وَتَطَلَّعْناَ إلى بعض العَزاءْ
غَنَّ بالشرق وماضي عِزَّه ... حان أن يُطرِبَنَا هذا الغِناءْ
ًصُغْ من اللَّحْنِ نشيدَ الأمَلِ ... وأهازيجَ الضُّحى المُقْتَبَلِ
هات يا شعرُ أَحاديثَ العلىَ ... لا تَقِفْ عند حَدِثِ الأُوَلِ
عَلِّمِ الأَشبالَ في وثبتِهمْ ... كيف يرقون إلى أوج العلاء
أنشِد الألحانَ للِصُّبح الوليدْ ... واملأ الآفاقَ من هذا النشيدْ
أيقِظِ النوَّامَ من غَفْوَتِهمْ ... وتَرنَّمْ بالأماني من جديد
رَفَّ نورُ الصبح في هام الشجَرْ ... وانجلتْ آياتُه ملء البَصَرْ
وسَرَت في الكون من أنفاسه ... نَفْحَةٌ نمَّتْ بأحلام الزَّهَر
عَرَفتْ رُوحي شَذَا فانْتشَتْ ... ورأى قلبي بها معنى الرَّجاءْ
هِيهِ ما أجمل أطياف الشّفَقْ ... تَتَراءى بَعدَ أن طال الغَسقْ
صورٌ ضاحِكةٌ خافِقَةٌ ... ضَحِكَ القَلبُ إليها وخَفَقْ
لُمَعٌ توحي أحاديثَ الخلودْ ... عن جلال الشرق في صُبح الوجودْ
وعن العِزَّةِ إبَّان الضُّحى ... وبنو الغرب على الذُّل قعودْ
شَدَّ ما تبْهجُني تلك الرُّؤى ... وسَناَ أيامِهاَ الغُرِّ الوضاٍء
هِمْتُ بالشَّرقِ نورِهِ ... وَهَفَتْ نَفْسي لخافي سره
كم ملأتُ العينَ من ألوانه ... واجْتَلَى قلبي الرُّؤَى من سِحْرِهِ
ولكم كان لفكري مَسْرَحاَ ... كلما أَوْحى لشعري أفْصَحاَ
أبعَثُ الغابِرَ من أخبارِه ... نَسَماَتٍ كالصَّباَ أو أرْوَحا
نسماتٍ يهمسُ المجدُ بها ... تلهم الأبناء معنى الكبرياء
خُذْ من النيل حديثَ الغابرينْ ... وتأمَّلْ في القرون الأرْبعينْ
واستَزِدْ دِجْلَةَ من أخبارِه ... عن بنيهِ النابهينَ الأوَّلينْ
ورِدِ الهندَ ففي غاباتها ... وُلِدَ الساحرُِ من آياتها(93/135)
واهبط الصينَ وَزُرْ مُستْلَهِماً ... مَهْدَ (كوْ نقُشيوس) في جنَّاتِها
سوف تلقي الشَّرْق إما جئته ... مَنبتَ الحكمةِ أرْض الحكماء
نشأَ الإيمان في أحضانهِ ... حسبُه ما فاض من إيمانهِ
حسبُه النورُ الذي أطْلعَهُ ... فوق ما قدَّمَ من إحسانهِ
أطلعَ الله الشموسَ النيراتْ ... فجلوا فيه ظلامَ الشُّبُهاَتْ
بلغ الإنسان في أرجائه ... بهدى الخالق أعلى الدَّرَجات
شدَّ ما يبعثُ في نفسي الهدى ... مَهْبطُ الوحي ومهد الأنبياء
آنس النارَ بواديهِ الكليم ... قبساً من جانب الطورِ القديم!
فأراه الله من آياتهِ ... وحباه العلم والرأيَ القويمْ
واجتبي عيسى من الشرق نبياَّ ... فروَى الآياتِ في المهد صبيَّا!
بشَّرَ الناسَ فتيَّا برسولٍ ... يحملُ الحق كتاباً عربيَّا
فَطنَ الدَّهْرُ إلى مقْدمِهِ ... يوم هزَّ الكونَ صوتٌ من حِراءْ!
يا بني الغرب لنا العزُّ التليدْ ... والمعاني الغُرُّ والماضي المجيدْ
لا تقولوا أدبَرَتْ أيامُناَ ... وتباهُونا بناَرٍ وحديدْ
كم رَأينا بينكم من أثَرَهْ ... وشهدنا نارَكم مُستعرةْ
ضَربَ الحرصُ على آذانكم ... وأذاع الشرُّ فيكم نُذرَهْ
كل يوم خبرٌ عن فِتْتنَهٍ ... ينذِرُ الأرضَ جميعاً بالفناءْ!
كم تفاخرتم بعلمٍ وذكاءْ ... وسَخِرتُم من خيال الشعراءْ؟
ضاق وجهُ الأرض عن همتكم ... فتلاقيتم على متن الهواءْ!
ليت شعري هل تبادلتم سلاما ... أم ملأتم جانبَ الجوَّ خصاماً؟
هل أفادَ العِلمُ إلا فِتنهً ... وغروراً يبعث الموت الزؤاماَ؟
حسبكم في الفخر ما أجريتمو ... من دُموع وأرقم من دماءْ!
خبِّروني كم لديكم من أجيرْ ... بات يبكي مثلما يبكي الأسيرْ؟
كم فقير بات يشكو ذِلةً ... وهوانا وهْو بالرفق جدير!
لا ترون العيش إلا نهَمَاَ ... هل عفَفتم أو عرفتم ندَماَ؟(93/136)
قد تَمشّى السُّقم في وجدانكم ... فرأيتم كل عطفٍ حُلُماَ
أين هذا البغيُ من حرِّيةً ... طالما غازلتموها وإخاءْ!
كم بلونا من أفانين العذابْ ... ورأينا منكمو فتْكَ الذئابْ
كم فضحْنا من طِلاءِ خادع ... فوق ما تخفون من ظفْرٍ ونابْ!
تلك أعراض البلاءِ القاتلِ ... وعلاماتُ الفناءِ العاجلِ
قد ذَهِلتم من مزايا جنسكم ... واغتررتم بحطامٍ زائلِ
يوبِقُ الرُّوحَ لديكم جَشَعْ ... هل عَرَفتم غير رُوح الكهرُباءْ
مالت الشمس إلى أفق المغيب ... وسيغشي أرضَكم ليل قريبْ
قد تلفتتم إلى الخلف كما ... لو رأيتم شبحَ الليل الكئيب
هل فزعتم من دنوَّ المنحدَرْ ... فخننتُم للصباح المنتظر؟
أم ترى آمنتمو بعد الجحود ... تؤمن النفس إذا الموتُ حضر
مالكم عدتم إلى الروح وما ... شاع عنها من ظهور وخفاء؟
هو ذا الصبح بدا في (يوكهامه) ... هل تبينتم على الأفق ابتسامَهْ؟
عادت الشمس إلى مطلعها ... أبداً لن يُخْلِفَ الكون نظامَه
نهض المشرق من غفوتِه ... واهتدى بالحق في نهضته
جعَلَ الماضِي وحياً وهدى ... ومضى يسعى إلى غايته
انظروا تلقوه في إقدامه ... ظافرَ الأيام خَفَّاقَ اللواء
محمود الخفيف(93/137)
ابن ماجد أسد البحر الهائج
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لا يظنن القارئ أننا نستطيع أن نوفي ابن ماجد حقه بمقالنا هذا، فذلك ما لا ندعيه وما لا يمكن أن نقول به، ولا سيما أن ناحية الملاحة عند العرب لا تزال غامضة لم تعط حقها من البحث. والتنقيب عدا أنها لا تدخل في دائرة اختصاصنا. وجل ما أقصده من هذه العجالة إعطاء فكرة عن ابن ماجد عسى أن يكون في ذلك حفز الهمم للعناية بالمآثر والإسلامية والآثار العربية في شتى النواحي، وعسى أن يكون في ذلك إثارة العزائم للكشف عن آثار أحاطها إهمالنا بالغموض والإبهام. إن حياة ابن ماجد حافلة بالأعمال، وقد تركت آثارا جليلة، وهي صفحة لامعة في التراث الإسلامي، يحق لنا أن نباهي أمم الأرض بها كما يباهي البرتغاليون بصفحة فاسكو دي غاما الذي طاف حول الأرض. وجدير بالمنقبين من أبناء هذه الأمة أن يخرجوها للنشء حتى تثير فيه ما يحي خصائصه الممتازة. نريد بل نطلب من أحد المتخصصين في التاريخ الإسلامي أن يتخصص في ناحية الملاحة عند العرب والمسلمين، وفي تاريخ إنشاء الأساطيل عندهم، ونريد منه أن يبحث ويدقق، حتى يخرج من ذلك بسفر جامع يكون جزءاً من الثقافة الحديثة يمكن للخاص والعام أن يستفيد منه، وإن في تلك الاستفادة ما يخلق في النفوس روح الإقدام وروح الاعتقاد بالقابلية والنبوغ، ولا يخفى ما في هذا كله من قوى تدفع بالأمة إلى المجد والسؤدد.
كان العرب في بدء فتوحهم يخافون البحر ويهابونه، وكيف لا يخافونه ويهابونه، وهم أهل صحراء منقطعون عنه لم يتعودوا رؤيته فكيف بركوبه. . . ولم يكن الخلفاء الراشدون يشجعون على ركوب البحار لخوفهم على أرواح المسلمين؛ وقد جاء أن الخليفة عمر بن الخطاب كان لا يشجع على ركوب البحر، وكثيراً ما عاقب الذين يخوضون عبابه، ويقال إنه عنف عرفجة بن هرثمة الأزدي لركوبه البحر حين غزوه عمان. وقد يكون السبب في منع الخلفاء هو خوفهم على المسلمين لنهم لم يكونوا أهل بحر ولم يتعودوا السير على أعواده. وبقى الأمر على هذه الحال إلى أن اتسعت الفتوح الإسلامية والعربية، وأصبح من العسير بل من المستحيل حماية بعض البلاد، ولا سيما وقد أصبح المسلمون مجاورين الرومان وقد رأوا أن الحاجة ماسة لحماية الشواطئ، ولقد اتخذوا في إنشاء السفن مثال(93/138)
الرومان؛ ومن الغريب أنك تجدهم في مدة وجيزة قد صارت لهم دراية وخبرة بالبحار وبركوبها، وقد طافوا أشهرها وقهروا محيطات العالم، واتصلوا بالبلاد البعيدة وعرفوا عنها الشيء الكثير، مهروا في صناعة السفائن، وأنشئوا لذلك دورا عظيمة، وصار لهم أيضا في مختلف الأنحاء أساطيل أصبحت عرائس البحار وزينة الشواطئ، متقنة الصنع كثيرة العدد تفننوا في عملها، وأدخلوا تحسينات جمة على آلاتها، وضعوا لها الخرائط والمصورات البحرية، كانوا على علم بالأوقات الملائمة لخوض البحار وعلى معرفة تامة بأوقات هبوب الرياح، اتخذوا المنائر في المرافئ وفي المواضع الخطرة لهداية السفن، واستعملوا الإبرة المغناطيسية لتعيين الجهات، ولقد وصل الأسطول الأندلسي في عصر عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب، وكذلك كان أسطول أفريقيا إذ وصلت أساطيل المسلمين في دولة الموحدين من العظمة والفخامة ما لم تصله في أي عصر آخر، وبلغت المراكب في أيام المعز لدين الله بمصر ستمائة قطعة. ولسنا الآن في موقف نستطيع معه تعداد أمجاد العرب والمسلمين في الملاحة، ولسنا أيضا في موقف نتمكن معه من سرد مواقع المسلمين البحرية وبراعتهم في ذلك. فهذا كله لا يزال محاطا بسحب الإبهام، ولم ينفض عنه بعد غبار الإهمال؛ ومما يؤلمنا أننا إلى الآن لم نسمع عن جماعات علمية أو منقبين أقاموا أنفسهم لهذه البحوث وصرفوا أوقاتهم في تهيئتها، وعلى كل حال يمكننا القول من مطالعة كتب التاريخ التي بين أيدينا أن العرب وصلوا في الملاحة إلى درجة لم يصلها غيرهم من قبلهم. إذ جعلتهم سلاطين البحار وغزاة المحيطات، وكان لذلك تأثيرا كبير على فتوحاتهم، فلقد تمكنوا بأساطيلهم من فتح سردينيا وصقلية وقبرص ومالطة وأقريطش، وكذلك فتحوا بها كثيرا من شواطئ البحر الأبيض المتوسط مما يلي أوروبا إلى بريطانيا في الشمال. وقد بقي العرب أسياد العالم في البحار إلى أن قامت عليهم قيامة الغرب بحروبه الصليبية، وإلى أن قامت عليهم أيضا المغول والتتار، وهبت عليهم عواصف الفتن والقلاقل من كل جانب، فضعف شأنهم وأضاعوا عزهم ومجدهم، واستولت عليهم غفلة طويلة وجمود مروع كما كاد يذهب بالكيان والخصائص التي يمتاز بها العرب على غيرهم، وكاد يستحيل كل هذا إلى موت أكيد. . .
قلنا أن الأمة العربية وصلت إلى درجة في البحرية لم يصلها غيرها من الأمم التي سبقتهم،(93/139)
أخضعوا البحار لأساطيلهم، ولم يعبأوا بمدها وجزرها، وساحوا بسفنهم المحيطين الهندي والهادي، وأصبح لهم دراية وخبرة في الملاحة، وإن أمة كان هذا شأنها، وكانت هذه درجتها لمن الطبيعي أن يظهر فيها من مهر في الملاحة وبرع في البحرية واطلع على أسرارهما ووقف على دقائقهما، ومن الطبيعي أيضا أن يظهر فيها من ألف المؤلفات العديدة، ووضع الكتب الكثيرة في علم البحار، ولا عجب إذن إذا كانت هذه المؤلفات وتلك الكتب منهلا نهل منه كثير من ملاحي الغرب، ولا عجب إذن إذا استعانوا بها في تسيير سفائنهم ورسم الخرائط والمصورات البحرية، وفي معرفة المواقع والمرافئ والخلجان. ومن هؤلاء الذين نبغوا في الملاحة ووقفوا على دخائلها وعرفوا أسرارها ابن ماجد الذي ظهر في القرن التاسع للهجرة؛ وهو شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد بن معلق السعدي بن أبي الركائب النجدي، كان يلقب نفسه بشاعر القبلتين، وقد حج إلى الحرمين الشريفين ويعرف بسليل الأسود، وكان أبوه ومن قبله جده من الذين اشتهروا في الملاحة، حتى أن جده كتب رسالة في الملاحة في البحر الأحمر خدمة للسفن التي تقل الحجاج، ولقد زاد ابن ماجد على هذه الرسالة نتيجة اختباراته الشخصية. من هنا يظهر أن ابن ماجد منحدر من عائلة اشتهرت بالشئون البحرية والاعتناء بالملاحة، فلا غرابة إذا نبغ هو في ذلك، ولا عجب أيضا إذا فاق أجداده في هذا كله. وقد اعترف بعض المنصفين من علماء الإفرنج بفضل العرب (وخصوصا ابن ماجد) على الملاحة البرتغالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد. وقد قال الأستاذ فران الفرنسي إن الفضل في تفوق الملاحة البرتغالية يعود إلى العرب والأستاذ فران هذا هو الذي ترجم كثيرا من مؤلفات ابن ماجد وقد علق عليها، وقد صدرها بعنوان (مؤلفات ابن ماجد الملقب بأسد البحر الهائج ربان فاسكو دي غاما الذي طاف حول الأرض.) وثبت لبعض علماء أوربا أن فاسكو دي غاما استعان بابن ماجد في تسيير أسطوله حول الأرض من مالندى على ساحل أفريقيا الشرقية إلى قاليقوت في الهند. ووضع ابن ماجد مؤلفات عديدة ورسائل كثيرو في علم البحار وكيفية تسيير السفن، هي من الأهمية العلمية والتاريخية بمكان عظيم. ومن مؤلفاته القيمة المعروفة كتاب اقتناه المجمع العلمي العربي بدمشق وهو موجود الآن في دار الكتب العربية الظاهرية. واسم هذا الكتاب (كتاب الفوائد في معرفة علم البحر والقواعد)، وقد(93/140)
كتب عنه المرحوم العلامة الشيخ سعيد الكرمي في الجزء الثاني من المجلد الأول من مجلة المجمع مقالا جاء فيه: (والكتاب عبارة عن مائتي صفحة كل صفحة 23 سطرا يتضمن معرفة سير السفن في البحر بمعرفة منازل القمر ومهب الرياح ومعرفة القبلة. . .) ونجد في هذا الكتاب كيفية الاستدلال بمنازل القمر والروج على البلاد التي يقصدها المسافر، ويتبين منه أيضا أن المؤلف اتخذ بنات نعش وسهبلاً والناقة والحمارين والعيوق والعقرب والنسر الواقع والأكليل والسماكين والتير من جملة الأدلة التي تساعد المسافرين في الأسفار، وقال إنه علم ذلك بالاختبار، واعترف بأن ثلاثة من مشاهير الربابين سبقوه إلى ذلك، وأن الفرق بينه وبينهم (أن ما ذكره هو صحيح مجرب، وما ذكره أولئك ليس على التجريب منه شيء. . . .) ويوجد أيضاً في هذا الكتاب عرض بعض الثغور على الأقيانوس الهندي والبحر الصيني وشكل البرور ومراسي ساحل الهند الغربية والجزر العشر الكبرى المشهورة، وفيه وصف تفصيلي للبحر الأحمر بما فيه مراسيه وأعماقه وصخوره الظاهرة والخفية، وفيه أيضا بعض أسعار تتعلق بالملاحة والبحار، ويتبين من قراءة بعضها أنه كان معجبا بنفسه وبما استنبطه في علم الملاحة إذ قال:
يفوتك غفلة نظمي ونثري ... وتزعم أن ليلك ذو نهار
فوالحرمين لم تظفر بعلم ... يسرك في البحار وفي البراري
إذا ما الراميات رمتك فاعلق ... بتصنيفي وحكمي في المجاري
ويجد القارئ في هذا الكتاب بعض أشعار تعلي من شأن العلم وتحببه للناس ويقول ناظمها إن طالبه والساعي إليه يزداد رفعة، وإن الذي لا يسعى إليه ولا يهمه منه شيء يورثه الله الذل والهوان. . .
العلم لا يعرف مقداره ... إلا ذوو الإحسان عند الكمال
من ناله منهم ترقى به ... ما بين أعيان الملا واستطال
ومن تراخى عنه هوناً به ... أحوجه الله لذل السؤال
فذاك بين العلي أخرس ... أقعده الجهل بصف النعال
ولابن ماجد رسائل عديدة أكثرها منظوم رجزا كرسالة (حاوية الاختصار في علم البحار) ففيها بحث عن العلامات التي يجب على الربابين معرفتها استدلالا على قرب البر وعن(93/141)
منازل القمر ومهاب الرياح وعن السنة الهجرية والرومية والقبطية والفارسية وعن طريق السفن على ساحل العربية والحجاز وسيام وشبه جزيرة ملقا وأطراف بلاد الزنوج وعلى سواحل الهند الغربية، وسواحل القرومندل والناط والبنغال وسيام حتى جزيرة بليطون وجاوة والصين وفرموزة، وعن سير السفن على سواحل جزر جاوه وسومطرة والغال ومدغشكر واليمن والحبش والصومال وجنوبي العربية والمقران، وعن المسافات بين الثغور العربية والثغور الهندية، وعن عرض الثغور على البحر الهندي. وله أيضا رسالة (المعرية) وفيها بحث عن الخليج البربري، ورسالة تبحث في معرفة القبلة في جميع الأقطار يقول في أولها: (لما رأيت الناس يميلون عن معرفة القبلة وليس لهم أصل علم يعرفونها به خصوصا في المدن اللواتي بقرب البحر وجزره التي يمر بها المسافر، نظمت هذه الأرجوزة وأقمتها بأوضح الأدلة وأساسها بأربعة وجوه: الوجه الأول بطول مكة المشرفة وعرضها وطول البلد الذي فيه الإنسان وعرضه، الوجه الثاني على الجدي، الوجه الثالث على بيت الإبرة، الوجه الرابع جهات الكعبة الأربع. . . .) وله أيضا أرجوزة بر العرب في خليج فارس، وأرجوزة السير في البحر على بنات نعش، وقصيدة تبحث في علم المجهولات في البحر والنجوم والبروج وأسمائها وأقطابها، وأرجوزة في بيان بر الهند والعرب؛ وله أيضاً قصائد أخرى بعضها يبحث في معرفة الجهات من الشعري والنسري ومن سهيل والسماكين، وله أراجيز غير التي مر ذكرها تتضمن ذكر المراسي على ساحل الهندي الغربية، وعلى ساحل العربية، وتبحث في فائدة بعض النجوم الشمالية في سير السفن، ويذكر فيها أيضا بعض الكواكب المفيدة للملاحة، ومنها ما يبحث في الطرق البحرية من جدة إلى جنوبي بلاد العرب فبعض بلدان وسواحل أخرى، ومنها ما يبحث عن الصخور البحرية والأعماق وعلامات البر وعن الحيوانات التي تعيش في الماء كالضفادع والأسماك والحيتان، وعن علم الفلك والملاحة. . . الخ.
هذه بعض مؤلفات ورسائل ابن ماجد أتينا على ذكرها ليتبن للقارئ الكريم أنه وجد في الأمة العربية من برع في الملاحة ومهر في تسيير السفن ومن ألف في ذلك المؤلفات القيمة والرسائل الطريفة. ومن الغريب أن يجد المرء في هذه المؤلفات وتلك الرسائل ابتكارات ونظريات في علم البحار ما كنت لتخطر على بال المتقدمين، وقد يعجب البعض إذا قيل له(93/142)
إن أكثر هذه المؤلفات ضاع وراح ضحية الإهمال وعدم الاعتناء وأن الموجود منها (وهو القليل) الذي عثر عليه بعض المنقبين والباحثين من الفرنجة بقي سنين عديدة المرجح الوحيد الذي يرجع إليه الملاحون في أوروبا. ولقد بقيت القواعد التي وضعها ابن ماجد من القرن الخامس عشر للميلاد إلى منتصف القرن التاسع عشر منهلا عاما لملاحي الشرق والغرب. وذكر برتن الإنجليزي أن بحارة عدن في سنة 1854 كانوا قبل السفر يتلون الفاتحة إكراما لابن ماجد مخترع الإبرة المغناطيسية. ومما لا ريب فيه أن نسبة اختراع بيت الإبرة إلى ابن ماجد خطأ وليس فيه شيء من صحة، فقد ثبت لدى العلماء والباحثين أن استعمال الإبرة كان معروفا في أواخر القرن التاسع للهجرة أو الخامس عشر للميلاد، فالقول بأنه هو مخترع الإبرة غلط، وقد تكون النسبة آتية من مهارته في تسير السفن وبراعته في فن الملاحة ووقوفه على أصول الإبرة وكيفية استعمالها وفهمه المبادئ المنطوي عليها عملها وتأليفه الرسائل فيها.
ولقد ظهر في الأمة العربية كثيرون أمثال ابن ماجد من الذين أتقنوا الملاحة وتسيير السفن وعرفوا عنها شيئا كثيرا، وظهر فيها أيضا من ألف في ذلكالتأليف القيمة التي بقيت قرونا عديدة منبعا يستقي منه الأوربيون، وقد عرفوا كيف يستفيدون منها ويستغلون محتوياتها لما يعود عليهم بالتقدم والرقي، ولو جئنا نعددهم ونذكر خصائص كل منهم لطال بنا المطال، ولخرجنا عن موضوع هذا المقال، ولكنا نكتفي بسرد بعض الربانين والملاحين الذين قطعوا أشواطا بعيدة في علوم البحار وفي وضع الكتب الممتعة عن ذلك. من هؤلاء محمد بن شاذان وسهيل بن أبان وليث بن كهلان وسليمان المهري وعبد العزيز بن أحمد المغربي وموسى القندراني وميمون بن خليل وغيرهم. . .
. . . . . هذه ترجمة موجزة لملاح عربي مهر في الملاحة ونبغ في التأليف وترك آثارا جليلة كانت خير معين للذين أتوا بعده من رباني الشرق والغرب، إذ كانت لهم حلولا لألغاز علم البحار ومفتاحا للاطلاع على أسراره والوقف على دقائقه. ولا ندعي أننا في هذا المقال قمنا بشيء من الواجب نحو ابن ماجد فقد قام بواجبه غيرنا من الفرنجة وقد عرفوا قدره أكثر منا ولم نكن نحن في هذا المقال إلا عالة على بحثوهم ونتاج قرائحهم، وجل قصدنا من هذه الترجمة أن تثير في بعض الذين يعنون بالتاريخ الإسلامي اهتماما يجعلهم يوجهون(93/143)
بعض عنايتهم لناحية الملاحة عند العرب لينفضوا عنها غبار الإهمال ويظهروها على حقيقتها واضحة جلية لا تشوبها غموض، إذ الوقوف على هذه النواحي والتعرف على مآثر السلف في العلوم والآداب والفنون والاطلاع على سير رجالهم وما أدوه من جليل الخدمات للحضارة يخلق في النشء العربي روح الاقتداء بهم وروح اقتفاء آثارهم، وما يذكي فيهم الشهامة وحب ركوب المخاطر، وإن في هذا كله ما يخلق أيضا روح الإقدام وروح المغامرة، وهذا هو الذي يوصلهم إلى ما يصبون إليه من عز لأمتهم ورفعة لقوميتهم وإعلاء لشأن حضارتهم.
نابلس
قدري حافظ طوقان(93/144)
كتاب حياة محمد
تأليف الدكتور محمد حسين هيكل
بقلم الأستاذ م. ف. ا
حل العام الهجري الجديد، ونرجو أن يكون حلوله مباركاً على العالم أجمع، وأن يشمل العالم من نعمة دين الهجرة في العام الجديد أكثر مما ناله في العام المنصرم. إذا تطلب الإنسان مثلاً على في الحياة تطلع إلى دين محمد، وإذا تطلب الطمأنينة لجأ إلى كنف دين محمد، وإذا اشتدت به الحياة المادية جنح إلى روحانية دين محمد، فأي شيء أشهى إلى النفس من أن تقرأ شيئا عن محمد في مستهل العام الهجري الجديد؟
هكذا قد قرأت كتاب الأستاذ المفضل الدكتور محمد حسين هيكل (حياة محمد) عند ميلاد هلال العام الجديد، فكانت بشرى، وكانت مسرة، وكانت عظة. والدكتور هيكل شاعر النفس، وإن لم يقل الشعر. لم يكن لي عهد بقراءة شعر له، حتى أعرف فيه هذه الصفة. غير أني قرأت له الكتاب، فإذا به في بعض نواحيه شعر يملأ النفس ويثير أشجانها. ولئن كانت كتب السيرة كثيرة، فإن كتاب الدكتور هيكل له ميزة على سائر السير بأنه قد انعكست فيه مشاعر الكاتب وخلجات نفس الإنسان، فإذا قرأه القارئ وجده يصور صورة حية تامة ناطقة في ثنايا ذكر الحوادث ووصف الحالات.
يبلغ الكاتب زيارة الرسول مع أمه آمنة. ثم عودتها منها وموتها في الطريق، فلم يشأ أن يذكر تلك الحادثة وحدها، بل لها صورة ظاهرة الألوان، حية تفيض عطفا وقوة فيقول: (فلما كانوا بالمدينة أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه، والمكان الذي دفن به، فكان ذلك أول معنى لليتيم انطبع في نفس الصبي، ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بين أخواله أجله.
ولما تم مكثهم بيثرب شهراً اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما إلى مكة، فلما كانوا في منتصف الطريق مرضت آمنة بالأبواء وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحباً وحيداً يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحدة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنات الألم لفقد أبيه وهو جنين ما يزال، وهاهو ذاقد رأى بعينيه أمه تذهب كما يذهب أبوه، وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملاً).(93/145)
ولو شئنا أن نضاعف ضرب الأمثلة لضاق مجال الكلمة عن إيرادها، فالحق أن الكاتب قد أبرز في الكتاب عاطفة تكسو ما بين سطور السنين، وتحي جسد الحوادث إحياء
ولقد وفق الكاتب في معالجة السيرة مراعاة التناسب بين أجزائها، فكان يطيل الوقفة عندما يجمل به الوقوف عنده، وكان يمر سريعاً عندما يجمل الإسراع في ذكر الحادثة. ونذكر على سبيل التمثيل وقفتين له أحسن في التريث عليهما من الدلس: أعني مسألة إسماعيل ونسبة العرب إليه، ومسألة الغرانيق العلا. فأنه في الوقفة الأولى كشف عن تلك البدعة المضلة التي يقصد بها إلى التشكيك في أمر يكاد يكون من العقائد، فأبان عن الوهن في حجة المشككين إبانة لا تدع مجالاً للريب؛ وفي الوقفة الثانية عرض لحجج الخائضين فانتظمها جميعا في طعنة قاضية. ولست أستطيع أن أذكر شيئا من تلك الحجة، فإن المجال هنا لا يتسع لها ولا يصلح إيراد قطعة من حجة لا تكون مجزئة.
على أن وقفاته التي من هذا القبيل كثيرة، بل هي تتخلل الكتاب في كل الفصول وفي كل وجوه البحث.
غير أننا مع إعجابنا بالكتاب وأسلوبه، ونقده وطريقته، لا يسعنا إلا أن ننكر منه أشياء إلا تكن في صميمه فهي في حواشيه، نعني بذلك أولا عنايته بقول من قال السوء من أعداء الإسلام، فقد أورد من أقوال بعض الأفاكين من أهل الضلال والتضليل ما يجرح الأذن سماعه، على حين لم يكن ذكره في صميم الموضوع ولا في عرض الحجة. فأي شيء يجديه علينا ذكر سباب شنيع للرسول الكريم ورد على ألسنة بعض أهل الحقد والزيغ؟ ولقد قيل شيء من أمثال ذلك في أيام الجاهلية، فتعفف أهل السير عن إيراده، وخيراً ما فعلوه، فإن المؤمن إنما يتعرض لحجة خصمه، لا لسبابه ولا لفحشه، وما كان أغنانا أن نُسمع الناس بعض ما نز من قلوب هؤلاء الأنجاس.
وأمر آخر نذكره عرضاً وننبه إليه الأستاذ الكبير، وهو بعض ما سها فيه عند ذكر السنين، ولعل ذلك كان خطأ في الطبع أو المراجعة، وذلك مثل قوله في حوادث اليمن؛ وما كان فيها من الحرب في أيام جوستنيان أنها وقعت في القرن الخامس الميلادي والمقصود هو القرن السادس، لأن حكم جستنيان يقع فيما بين سنتي 527، 565 بعد الميلاد؛ وكذلك قوله بعد ذلك هذا النزاع الذي كانت اليمن مسرحه منذ القرن الرابع المسيحي، كما ننبهه إلى(93/146)
قوله عند ذكر الأوس والخزرج إن الخزرج كانت على وشك أن تختار أحد زعمائها ملكاً وهو (عبد الله بن محمد)، يقصد به عبد الله بن أُبي.
ومن هذا القبيل قوله في فارس قبيل الإسلام (على أن فارس رغم انصراف شيرويه إلى مسراته كانت ما تزال في قمة مجدها). والحق لقد كانت إنما تتعلل بماض مجدها، على حين كانت نهب الفتن ومعترك الأطماع وميدان الخطط الحربية التي تدبرها جارتها الدولة الرومانية.
ولا يفوتنا أن ننبه إلى شيء من التجوز في سياق القول قد يؤدي إلى شيء من سوء الفهم، نعني ما جاء في وصف شباب الرسول وما مالت نفسه من لهو الشباب، فقد أورد المؤلف الخبر عن الرسول إذا كان صبياً تحدثه نفسه أن يلهو كما يلهو الشباب، فأفضى إلى زميله ذات مساء أنه يود أن يهبط إلى مكة يلهو ويعبث عبث الشباب في جنح الليل، وطلب لذلك إليه أن يقوم على حراسة أغنامه إلى آخر ما قال:
وذكر القصة على هذا النحو مخالف لما هو وارد في السير، لأنه قد يلقي في ذهن القارئ الخالي الذهن أن الرسول المعصوم قد كان في نفسه في شبابه ذلك الميل المضطرم إلى العبث واللهو. فليس في الأمر أكثر من أن الرسول عليه الصلاة والسلام طلب إلى زميله أن يحرس غنمه حتى ينزل إلى مكة ليسمر فيها كما يسمر الفتيان، فلما بلغ أعلى مكة سمع صوت غناء ومزامير، فسأل عنها فقيل له عرس فلان وفلانة، فعرج على العرس يلتمس السمر، ولكنه لم ينشط إلى ذلك الطرب، بل ضرب الله على أذنه فنام، وبذلك حفظه الله من أن يرد أقل موارد اللهو، إذ لقد كان قلبه منصرفاً منذ نشأ إلى الجليل وإلى الجد. ولا يخفى ما في إيراد القصة على الصورة الثانية من فرق عما في التصوير السالف. فالرسول عليه الصلاة والسلام منذ طفولته عظيم النفس لا يميل إلا إلى الوقار والجد. ولقد كان جده عبد المطلب يراه وهو صبي يجلس على البساط الذي يفرش له بجوار الكعبة، لا يجرؤ أحد على أن يقترب من كبير قريش إلا ذلك الصبي الصغير، فكان عبد المطلب يقول عنه في كثير من الإعجاب: (إنه يأنس ملكاً) ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في وصف حاله العامة: (لست من ددٍ ولا ددٌ مني) أي أنه كان لا يميل بطبعه إلى اللهو فلقد تنزه مقام الرسول عن أن تسول له نفسه الهبوط إلى مكة ليصيب من لهوها ويعبث فيها عبث(93/147)
الشباب في جنح الليل؛ فلكم كان بمكة من فجور ما أبعد الرسول في صباه عن أن تحدثه نفسه بشيء منه، وما أبعد الفرق بين عبث الشباب ولهوه وبين السمر البريء الذي يسمر به الفتيان. ولقد وصف المؤلف في عرض حديثه حياة الجاهلية وعلاقة الرجل بالمرأة فيها، ونرى أنه في حكمه على تلك الحياة كان دائما يميل إلى أن يتخذ من الجزئيات أحكاماً كلية، ولم يكن في هذا مقتصرا على تعميمنوع واحد من الأحكام، بل كان أحيانا يعمم فضيلة لم تكن عامة، وأحياناً يعمم رذيلة لم تكن عامة. فقال مثلاً في موضع: أن العرب كانوا قبل الإسلام تجتمع فيهم (خلال الكرم والشجاعة والنجدة وحماية الجار والعفو عند المقدرة، وما إلى ذلك من خلال تقوى في النفس كلما قاربت حياة البادية الخ).
وهذه الخلال وإن كانت مثلاً عليا عند العرب لا يمكن أن يقال إنها كانت خلالاً عامة للعرب. وقال في موضع أخر: (إن صلات الرجل والمرأة في هذه الجماعة العربية لم تكن تعدو صلات الذكورة والأنوثة) وقال في موضع ثالث (وبلغ من أمر هذه الصلة - أي صلة الإباحة بين المرأة بالرجل - أن لم تأب هند زوج أبي سفيان أن تقول في أشد مواقف الجد والشدة وهي تحث قريشا حين الحرب يوم أحد:
(إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق) الخ
وقال بعد ذلك: (ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف لمولودها أب، لم تأب أن تذر من لامسها من الرجال الخ).
وهذه القطع كلها فيها تعميم لا تبرره الوقائع، يدرك ذلك كل من ألم بتاريخ العرب، ولا يتسع المجال هنا لنقض مثل هذه العبارات العامة، وإنا نجتزئ بذكر كلمة صغيرة قالتها هند عندما جاءت لتسلم عند الفتح إذ قال لها النبي يعلمها قواعد الدين: (وألا تزني) فقالت (وهل تزني الحرة).
على أن المؤلف وهو يصف أحوال الجاهلية قد نسي فزاد التعميم حتى جعله يتناول عهد عمر بن أبي ربيعة، واستدل على ذلك بما يمكن أن نقرأ في شعره من دلائل علاقات المرأة بالرجل
فالحق أننا إذا خرجنا من الوقائع ومنطقها. ومن ذكر السيرة ومواقفها لم نجد في وصف الحالات الاجتماعية ما نستطيع الإعجاب به. فإن الدكتور قد درس السيرة، وأسبل المنطق(93/148)
على مواقفها. ولكن الذي يتناول السيرة لا يكفيه مثل ذلك الدرس بل يجب أن يكون كذلك قد سبق له حظ عظيم من العلم بتاريخ العرب وأيامها وأحوالها كيما يكون في استطاعته أن يحسن الحكم على عاداتها، وأن يحسن تأويل أخبارها. ولعله قد أدرك أن قوله فيه هذه المبالغة فاتهم القارئ وقال (ربما بدا هذا التصوير للقارئ المعجب بالعرب وحضارتهم وللمعجب حتى بعرب الجاهلية، مشوبا بشيء من الغلو، وللقارئ العذر في ذلك) ولقد صدق المؤلف في هذا الاستدراك.
على أننا وإن أخذنا هذه المآخذ على الكتاب نرى أنه فتح جديد في التأليف الحديث، ونشكر للدكتور الفاضل والمؤلف النابه الهدية الثمينة التي أهداها إلى قراء العربية.(93/149)
ضحى الإسلام
تأليف الأستاذ أحمد أمين
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
أخرج أستاذنا العلامة أحمد الأمين كتابه فجر الإسلام، وهو أحد أجزاء ثلاثة بهذا الاسم، تقسمت بينها تاريخ المسلمين الفكري والأدبي والسياسي في الصدر الأول
ثم تقدم أستاذنا ليبلغ بالبحث نهاية العصر العباسي الأول، فأخرج الجزء الأول من كتابه ضحى الإسلام عام أول، وامتد به البحث فأخرج الجزء الثاني هذا العام، ومضى ليخرج الجزء الثالث والجزء الرابع إن شاء الله
وقد تلقى الناس كتب الأستاذ بالقبول، وأفوه حقه من الثناء، ونالت الكتب من الذيوع والانتشار ما هي جديرة به، ولكن هذا الثناء لا يكفينا ولا يجدي علينا كثيرا. فهذه الكتب تتناول تاريخ الحضارة الإسلامية في أعظم نواحيها أثناء القرنين الأولين، وفيهما كان نشوء الحضارة الإسلامية ونمائها، واختلاف الآراء وتنازعها. ولم تدرس هذه الموضوعات على هذا النسق من قبل، فواجب على كتاب المسلمين، وكل من يعنى بتاريخ الحضارة الإسلامية أن يجعلوا من هذه الكتب مدار بحث ونقد، ويشتقوا منها أبحاثا تبلغ بهم الغاية أو تقاربها، وتكمل ما يكون في الكتاب من إيجاز. وفي ذلك معاونة المؤلف في عمله الشاق. فإنا إذا بحثنا فقلنا للمؤلف أصبت أو أخطأت وأدلينا بالحجة فقد أعناه على بلوغ غايته، وسررناه بالاهتمام بما اهتم به. علينا أن نتلقى هذه الكتب بالبحث المتصل وللنقد المخلص لله والحق، ونجعلها قطبا لطائفة من المناقشات حتى ننير، على قدر الطاقة، ما أظلم من جوانب الحضارة الإسلامية
وقد هممت منذ صدر الجزء الأول من ضحى الإسلام بالكتابة عنه ثم حالت حوائل حتى ظهر الجزء الثاني. ثم لم أفرغ للكتابة عنه في هذا العدد الممتاز من الرسالة، فبادرت بدعوة الناس إلى الكتابة واعدا أن أكتب في الأعداد الآتية ما يتيسر لي في ضحى الإسلام
وقد قلت في كلمتي القصيرة التي قلتها في حفلة تكريم أستاذنا العلامة أني وبعض أصحابي عزمنا أن نقرأ الكتاب ونكتب عنه في دار الأستاذ المؤلف ثم عرفت آسفا أن صفحات الرسالة أقرب إلينا من دار الأستاذ وأوسع فموعدنا الأعداد الآتية(93/150)
أحاديث جدتي
تأليف الآنسة سهير القلماوي
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
تناولت هذا الكتاب الظريف، فما وضعته حتى أتممت قراءته، ولكم تمنيت لو طالت تلك الأحاديث الرقيقة وما زخرت به من الصور الطلية، فشغلت من الصحائف أكثر مما ضمه بين دفتيه ذلك الكتاب، فإن إعجابي بها وشدة تأثري بأخيلتها الهادئة الساحرة قد جعلاني أشعر عند انتهائها بما كنت أشعر به ليالي الطفولة العذبة حين كانت تنتهي الحكاية الشيقة بغتة وأنا أكثر ما أكون استمتاعاً بها.
على أن الشيء الجميل إذا علق بالنفس فإنما هو مبعث سرور دائم، ولقد يتزايد ما يبعثه في النفس من الغبطة بعد أوانه. ذلك ما أحسه بعد قراءة هاتيك الأحاديث الجميلة، وهي سلسلة أحاديث دارت بين الكاتبة وجدتها تصف الحياة المنزلية والحياة الاجتماعية للجيل الذي سبق جيلنا؛ أثارتها الذكريات من نفس الجدة فتحدثت عن الحياة المنزلية، ثم أعاد إلى ذهنها استشهاد فتاها في الحرب ذكر الثورة العربية، فوصفتها معلقة عليها ثورة أفكارها وخواطرها، إلى أن عادت في نهاية الكتاب إلى وصف الحياة الزوجية وما كان يتخللها من عواطف في ذلك الجيل
استطاعت الكاتبة النابهة في غير تكلف أن تقدم بين يدي كتابها جوا خياليا لطيفا، يستهويك فيخيل إليك أنك تسمع ولست تقرأ، وكأنك تعيش في هذا المنزل وتراها تستمع إلى جدتها، وترى ما تصف لها من أماكن وأشخاص. نعم كأنك ترى عائشة لا تعرف كيف تلبس البرقع فتضحك صاحباتها، وكأنك ترى الشيطان يقطع عليها صلاتها بطرطوره الأحمر، وكأنك ترى إسماعيل معلقا في العمود، وصباح تهش عنه البعوض متألمة باكية، بل لكأنك أنت الذي تحس لذعات البعوض، ثم كأنك ترى الحمام وتسمع ما ينبعث منه من أصوات، وكأنك ترى غير هذا من المناظر المؤلمة، فترى الجيش المحتل يخترق شوارع القاهرة، وترى الجدة تأخذ سكين المطبخ تدفع بها كيد الضابط الذي يطرق الباب، وكأنك ترى مذبحة الدراويش في أحراج الأبيض، إلى غير ذلك من المواقف القوية المثيرة.
وتحت تأثير ذلك الخيال توحي إليك (سهير) أحاديث الوفاء والوطنية والبطولة، وتعرض(93/152)
عليك طرفا من انتقادها وآرائها الصائبة عن حياتنا الاجتماعية بين الماضي والحاضر. وإن أنس من شيء فلست أنسى أبدا ما كان من نبل أنجاس وزوجها، وما بعثه موقفها في قلبي من غبطة وما أثار من عاطفة، ولكن مالي أذكر فصلا بعينه والكتاب كله حديث لا ينسى؟
وإنك لتجد في لأسلوب الكتاب ناحية من نواحي جماله، إذ لا يسعك حين تتذوق تلك السهولة العذبة إلا أن تعترف بما لهذا الأسلوب الرائق من أثر قوي في تحبيب الكتاب إلى نفسك.
لقد آن لنا أن نتجه إلى الأدب الإنشائي الخالد، وننصرف عما أسرفنا فيه من أدب وصفي لا يمت إلى الحياة بصلة قوية، نعم آن لنا أن نخلص من أدب المقالة، ونتجه إلى القصة، آن لنا أن نرفع المرآة لتنعكس فيها طبائعنا وحياتنا؛ وإني لأقرر هنا مع مزيد من الغبطة أن هذه الأحاديث التي أقدمها إلى القراء من البواكير الطيبة في هذه الناحية التي نتوق إليها، وأدعو فتياننا وفتياتنا إلى الاستئناس بتلك الروح اللطيفة، والاستمتاع بذلك النموذج الصادق، فيما ينشدون من نهوض، أو يتوخون من لذة. هذا وإني أقدم إلى الكاتبة النابهة ثنائي وإعجابي.
الخفيف(93/153)
العدد 94 - بتاريخ: 22 - 04 - 1935(/)
جمعية نهضة القوى
احتفلت هذه الجمعية البرة منذ يومين بانقضاء عامين من جهادها النبيل في إنهاض القرية المصرية. وهذه الجمعية هي أيضا من أعمال الشباب؛ ولعلها أقرب أعمالهم الجليلة إلى الخير المحض! فإن ما ركبوه إلى اليوم من قحم السياسة، وما عالجوه من خطط الاقتصاد، إنما كان مبعثه الغرور القومي، أو الشعور الوطني، أو هما معا؛ أما هذا العمل الخالص عاطفة البر في الإنسان بأخيه الإنسان؛ وهذه العاطفة إنما غرستها في القلوب يد القدرة، وأنمتها قوة الفطرة، وفرضتها طبيعة الحياة، ليحصل بها التئام شمل الناس، وانتظام عقد المجتمع، واتحاد وجهة الإنسانية بالتعاون والتضامن إلى كمال البشري الممكن
راع الشباب - وهم موضع الحس المرهف من الأمة - ما جره تفشي الأمية على القرى المصرية من انقطاع السير، وانخزال الحركة، وانتشار العلل، وانفجار الأحداث، واغبرار العيش، وهي مصدر القوة للشعب، ومورد الثروة للوطن، فحشدوا جنودهم في هذا الميدان، وسددوا جهودهم إلى هذا الغرض، وراحوا يهاجمون الجهل والفقر والمرض في تلك الحظائر أو المقابر التي ضمنت أجوافها السود أربعة أخماس الأمة، ثم دأبوا يقرعون الآذان بالخطابة، ويخزون الضمائر بالكتابة، ويهيبون بالحكومة والقادة أن يأخذوا من تجميل المدينة لتأثيل القرية، ومن ترف الباشا لحاجة الفلاح، ومن فلسفة الخاصة لأمية العامة، حتى ارتفعت حجب الأسماع، وانكشفت أغطية القلوب، فعطف على قضية القرويين رجال البلد من أولي الحكم وأهل العلم وذوي المثالة، وألفوا من قدرة الشبيبة، وخبرة الكهولة، دستور العمل المنتج لإنجاد الفلاح وإسعاد القرية
لعل أنطق الأدلة بخطورة العمل الذي تقوم به هذه الجمعية الجليلة أن
أصف لك قرية أعرف بيوتها كما أعرف بيتي، وآلف أهلها كما آلف
أهلي، وستجد حين توازن بين قريتي وقريتك أنني وصفت على الجملة
قرى مصر جميعا:
كومة من سبانخ الأرض قام عليها أكواخ متلاصقة من اللبن، سقوفها بالخشب والقصب، وحلوها بالعلف والحطب، وجملوها بشرفات من الروث اليابس، ثم جعلوا ظهورها خلاء للحاجة، وبطونها مسرحا عجاجا لشتى الأوالف والدواجن من الكلاب والقطاط والعجول(94/1)
والدجاج والبط، ثم جمعوا بين قاعة الإنسان وزريبة الحيوان في فناء واحد، فالحديث يمتزج بالخوار، والمضغ يشتبه بالاجترار، والرجل والثور، والمرأة والبقر، والطفل والعجل، يعيشون في شيوعية عجز عن تحقيق حلمها (الروس)! لا يؤديك إلى هذه الدويرات العمى مسلك واسع ولا طريق مشروع، إنما هي طوائف وطوائف، تفتحت كل طائفة منها على زقاق ضيق غير نافذ، ولن تستطيع الدخول في هذا الزقاق إلا من الطريق الدائر حول القرية!. . . بلى قد يشق البلدة منفذ صاعد هابط متحدر متعرج وعر، ولكنه بين الفجوات والحفر يكون أشبه بصراط الحق بين مزالق الفتنة
يركبها من الشمال مستنقع ومن الجنوب مستنقع، ثم يحيط بها ويتخللها من السرجين والسماد منها الرطب ومنها اليابس، وفي أحضان هذه التلال، وعلى حوافي هذه المناقع، قامت مجالس القوم، يجلسون فيها تحت الجدران وفوق المصاطب يستجمون حينا من العمل الدائب والعناء المرهق، لا يألمون لسع البعوض، ولا ينكرون ريح الوحل؛ ثم لا يجري بينهم إلا الحديث القابض كتضاعف الدين على الأرض، وتحكم المالك في الريع، وفتك الآفات بالزرع، وإلحاح الكساد إلى القطن، وما تدخله تلك الحال على النفس الجاهلة من وساوس الأطماع وسخائم الحقد وغوائل الحسد!
اصطلحت على دمائهم الفقيرة جراثيم الملاريا والبلهارسيا والانكلستوما، فغدوا كواسف الوجوه، خواسف الجسوم، خوائر القوى، يعالجون المرض بالصبر، ويخففون الألم بالتسليم، ويدافعون الموت بالتعاويذ، ويسيئون الظن بالمستشفيات التي لا تقبلهم إلا بالشفاعة، ولا تعاملهم إلا بالفظاظة، ولا تحسن علاجهم إلا بالمال في العيادات الخاصة. . . وأين المال من رجل كل ما يملكه أجرة يومه لقوت يومه؟ وليت هذا القوت كان من الأقوات التي تصلح الجسم، وتدفع السقم، وترد العافية! إنما هو في الغالب رغفان من الذرة أو الشعير مأدومة ببعض أحرار البقول واللبن المملح. . .
استغل الملاك ضعفهم، والمرابون جهلهم، فوضعوا أيديهم على أختامهم يطبعونها على العقود والصكوك في غير رحمة ولا ذمة، حتى إذا انقضى الحول وآل كدح الأسرة الناصبة، وجهد الماشية الاغبة، وشقاء الفلاح المسكين، إلى الثمرة المرجوة، عدا عليها الدائن اللص، أو المالك الظالم، فجباها لجيبه، أو جناها لمخزنه(94/2)
ذلك على الإجمال وصف القرية، فهل تجد فرقا بينها وبين أخصاص الهمج في نشأة الحياة وطفولة الزمن؟ وتلك هي على التقريب حال الفلاح، فهل تجد فرقا بينه وبين البهيم الذي لا يصطنع العلم، ولا يدعي المدنية، ولا يزعم لنوعه الرقي؟
فإذا استطاعت هذه الجمعية الشابة أن تجعل من هذه الأقذار المركومة مسكنا يجمل في العين ويجدي على الصحة، ومن هذا الكائن المهمل رجلا يشعر بالحياة ويسير مع الأمة، فقدر في نفسك أي واجب تؤدي وأي خير تفيد!!
أحمد حسن الزيات(94/3)
4 - كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لا يفشو الكذب إلا في الأمم؛ فإذا فقدوا سلطة الحكم واستشعروا في الحياة معنى فقدها، سلطوا أنفسهم على ما يسهل الحكم عليه لكل ضعيف: على المعاني في ألفاظها. . ولكن هذا أيضا كذب في الحكم. . .
إذا رأيت قوما عمهم الكذب في باب ما يفتخر به، فاجعل هذا وحده في تاريخهم باب ما سقطوا به
تمتم بعض اللذات في الحرمان من بعض اللذات
ما أسعد العقل الذي يتأثر ببلاهة كالطفل؛ ولكن هل يسمى عقلا. . .؟
الحب في طبيعته حمق عاقل؛ ألا تراه حين يبغض كيف ينقلب إلى الصورة الأخرى فيكون عقلا أحمق؟
أشد العداوة لا تكون إلا من أشد الحب
كرهت رجلا من الدين، وكرهت امرأة في الحب؛ فكان النزاع بيني وبين من كرهت كالنزاع بين دينين لا بين شخصين
من أسخف ما رأيته تنبل الموظفين بثيابهم وظاهر هيأتهم؛ تكون وظيفة أحدهم ستة جنيهات في الشهر، وهو مدين للخياط في أثنى عشر. . يريد أن يقلد الرئيس الكبير في تقرير مكانته بجاه الحكومة؛ فيقررها ولكن بجاه الخياط. . .
لو تاه غني في الصحراء ونفد زاده ثم أصاب رغيفا ملقى هناك - لعرف به لذة الفقر، ولأدرك أن أغنى الغنى يعجز أن يؤتي النفس مثلها. إن إمكان المتعذر وهو وجود تام السعادة بنفسه، وهذا ما حرمه الأغنياء وهو للفقراء كل يوم
قاعدة الحياة أن ما امتنع على الجسم من شهواته جعلته الروح من مسراتها؛ ففي بعض الفقر نوع من الثروة، وفي نوع من الحرمان بعض العطاء. ولكن أين الروح القوية التي تعرف هذا الضرب من المعاملة وتصبر عليه، وأكثر الناس في معاملة الله كالأبله يعطي صكا بألف دينار على (البنك) فيحسبه ورقة كالورق فيمزقه أو يلقيه ويذهب يتوجع من الفقر. . .(94/4)
لا يجمع الطفل على نفسه همين في وقت معا، بل يحصر نفسه في الهم الواحد ليخرج منه أقوى وأسرع ما استطاع. ولكن أين من يقدر على هذا إلا الطفل في همومه الصغيرة؟
رؤية الكبار شجعانا هي وحدها التي تخرج الصغار شجعانا. ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة
يقول أهل السياسة أحيانا في الاعتذار إلى الضعفاء المساكين: أيها العقلاء! إن هذا لا يمكن أن يحدث
والمعنى السياسي: أيها البله! إنه لا يمكن أن يحدث إلا هذا. . .
إذا دام ما أرى من حماقة الشرقيين الناقلين عن أوربا؛ فستنقل أوربا يوما عن الشرقيين متى احتاجت إلى مخازيها في شكل همجي. . .
أبلغ ما في السياسة والحب معا: أن تقال الكلمة وفي معناها الكلمة التي لا تقال. . .
الحرب تصحيح لخطأ وقع في السلم أو لما يزعمه القوي خطأ وقع. فلن تنتفي هذه الحرب من الدنيا إلا يوم تربى الذئاب تربية خروفيه. . .
دارها في الزينة والمرح كأنما هي متزوجة أيضا
طبيعة المرأة بفنها منزلية حجابية. والدليل على ذلك وضع امرأة جميلة تعمل في مصنع فيه رجال. فطبيعتها بفنها لا تجعلها حينئذ إلا بين أثنين: إما تطرد من بينهم، وإما أن تكون بينهم كالزوجة. . .
يمثل النساء الغاليات في المطالبة بحقوق المرأة فصلا من رواية العاطفة في شكل من الحق؛ يردن المطاردة والسلام. . .
كن الرجل في معانيه القوية فلن تجد المرأة معك إلا في أقوى معانيها
وددت والله لو أمكن أن يجتمع المطالبات بحقوق المرأة على زعيمة واحدة يخترنها من نساء العالم كله؛ فلن تكون هذه الواحدة إلا المرأة التي يستحيل أن يتزوجها رجل في العالم. . . . . .
قضت الطبيعة قضاءها: أن سعادة المرأة في أن تكون هي سعادة لغيرها؛ فنساء المعامل والحوانيت هن. . . هن والله الشريدات المتصعلكات
أنا مستيقن أن العلم سينتهي إلى إثبات هذه القضية: إن المرأة مريضة بأنها أنثى(94/5)
الخطأ والمرأة: كلاهما أكبر همه أن يظهر ويغلب. . .
طلب الخليفة المنصور إماما زاهداً عظيما ليوليه القضاء. فلما دخل الإمام قال للمنصور: كيف حالك، وكيف عيالك، وكيف حميرك. . . فقال أخرجوه فإنه مجنون
كذلك يضطر الرجل العظيم أن يخرج أحيانا على عقل سواه ليخرج بعقله هو
الفيلسوف الحق هو الذي ينتهي من نفسه إلى موضع عقلي يكون فيه مع الحياة كما يكون القاضي موضعه العقلي مع الحوادث: تأتيه ليحكم لا تحكم عليه
قلة الرغبات هي قلة الهموم
استطراد
عندما انتهيت إلى هذا الموضع من تصنيف هذه الكلمات، ألقي إلى كتاب ورد من مدينة (حمص) يذكر فيه صاحبه ضيقا وشدة ويسأل: (ما هو علاج الملل النفساني واليأس الدنيوي، عن لم يكن الموت، عن لم يكن الانتحار؟)
ثم يرجو أن يتولاه أول عدد ينتهي إليه من (الرسالة) كيلا يبغي على نفسه؛ وهاأنذا أعجل له كلمات تأتي على أثرها إن شاء الله في العدد التالي مقالة الانتحار
كان عمر بن الخطاب - وفي يده الدنيا - يشتهي الشهوة من الطعام ثمنها درهم، فيؤخرها سنة. يثبت لنفسه بذلك أنها نفس عمر
ليس الذي ينتحر هو صاحب النفس العاملة بإيمانه؛ فإن هذا تنتحر شهواته، ومطامعه، وخسائسه
الانتحار كفر صريح يذهب بالدنيا والآخرة؛ فاليائس وهو يفكر أن ينتحر إنما يقول لله بلغة فكره: إنك عاجز
أنت عجزت أيها الإنسان فأيقنت أنك لا تستطيع أن تغير أطوار الدنيا؛ ولكن كي نسيت الذي يستطيع أن يغيرها وهو يغيرها كل طرفة عين؟
لا يمكن أن ترضيك الدنيا كلما أحببت ولا بكل ما تحب، فلست أنت العاصمة في مملكة الله؛ ولكن الممكن أن ترضى أنت بما يمكن
لقد عجزت أن تنال شيئا به درجة؛ أفعجزت أن تستغني عنه فتنزل درجة؟
في الأرض ناس على أطباق بين الملك إلى الزبال. أفيجتمع الزبالون جميعا فيمجزرٍ(94/6)
لينتحروا إذ لم يكونوا ملوكا؟
ليست الدنيا بما فيها هي التي ترفعك عند نفسك أو تخفضك؛ بل فكرك بما يكون هو يخفضك أو يرفعك. ومن الذي يملأ فكرك غيرك؟
سر سعادة المؤمن على ما يجد من الفقر والشقاء في هذه الحياة؛ أن في ضميره من فكرة الآخرة وجودا إلهيا عظيما فيه الرضى الدائم عن الله، والصبر الدائم على قضاء الله، والأمل الدائم في رحمة الله. فكل حرمان الدنيا يذهب في الرضى فلا حرمان، وكل مصائبها تقع في الصبر فتتحول معانيه، والأمل الدائم في رحمة الله قوة للقوتين
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(94/7)
ربيع الغوطة
للأمير مصطفى الشهابي عضو المجمع العلمي ومدير أملاك الدولة
بدمشق
جلست في الدار في سفح (قاسيون) أجيل الطرف في أرجاء الغوطة الفيحاء، وقد ازينت للربيع وتبرجت وتجلت فتنة للناظرين. وجرت مياه بردى ومشتقاته صخابة جرافة، قد بجسها شتاء هذه السنة الممطار، بعد أن لبثت ثلاث سنين لاصقة من الجفاف بأرض النهر، وهي تتنغص وتتمور كأنها ترتقب من يدفعها إلى جنان الغوطة دفعا؛ ودبت الحياة في الأشجار الغبياء، فأرسلت عساليجها تتنشق أنفاس الربيع العليلة، وأطالت غماليجها تستقبل أشعة الشمس المنعشة، ونشرت أوراقها تهيئ للدوح وسائل الحياة وغضارة العيش
وبشر اللوز بإقبال الربيع فنور. وأعقبه المشمش فاشتعل زهرا وتضوع عطرا، وملأ جو الغوطة بهجة وإشراقا. وغار التفاح والكمثري والخوخ فعمدن إلى الازهرار، وتلألأن بالنوار، وسكر الصفصاف المستحي فدلى أغصانه وتمايل، وانتصب الحور فصعر خده وتثاقل، وعربد الجوز الدواح فنثر هريراته ذات اليمين وذات الشمال، وترزن السرو الجبار المتشائم وصاح قائلا كلنا للزوال. وابتسم الزيتون بأوراقه الخضر الحانئة، وقد نثرت أرومته السنون، وكسر فروعه الدهر الطحون. أما الرمان فلبث عاري الجسد ينتظر الدفء، فما ازدهى بنوره، ولا أشعل الجو بناره
وجن جنون النباتات البرية، فنبتت بين الزروع وعلى ضفاف الجداول وفي كل أرض سبخة أو بائرة، فالخردل هجم على الحنطة فكساها من زهره حللا صفرا، والنرجس نجم في مياه المناقع ونثر فوقها دررا وتبرا، وبدت شقائق النعمان بألوانها الزاهية، وتجلى الخشخاش بحمرته القانية، وتضوع البابونج والأقحوان، واستسرا تحت جنبه الآس والرمان
وشاركت الطير النبات فهبت تغرد بشتى الألحان، وتتراقص في كل مكان. فمن سمانيات تغلغلن بين الزروع خشية الصيادين، وشحارير سود الجلابيب إن طارت هتفت، وإن استقرت صدحت، وسنونوات لا يبرحن في السماء مدومات، أو على البعوض هاويات، وأنواع العصافير، في زقزقة وصفير، كأنها تشكر الباعث الغيث آلاء المطر، وكأنها تدعوا الإنسان إلى الأخضرين، لينعم بهما قرير العين(94/8)
جلست في الدار أدير الطرف بجنان الغوطة وقراها، فبدت عن يميني رياض (النيربين)، فذكرني بأبيات وجيه الدولة ابن حمدان:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلي بجنوب الغوطتين شجون
فما ذكرتها النفس إلا استخفى ... إلى بر ماء الَّنْبرَ بَيَن حنين
وقد كان شكى للفراق يروعني ... فكيف يكون اليوم وهو يقين؟
وبدت جنوبها بساتين داريا فقلت مع الصنوبري:
ونعم الدارُ دارَيَّا ففيها ... صفا لي العيش صار أرَيا
ولي في باب جيرون ظباء ... أعاطيها الهوى ظبياً فظبيا
والتفت إلى دمشق فإذا بها غرقى في خضم أخضر كأنها ياقوتة في نثير من الزمرد، وبرز الجامع الأموي عظيما جبارا بمآذنه الشاهقة العالية التي قال فيها نابغة بني شيبان من قصيدة غراء وصف بها ذلك الجامع الكبير:
وقبة لا تكاد الطير تبلغها ... أعلى محاريبها بالساج مسقوف
لها مصابيح فيها الزيت من ذهب ... يضيء من نورها البنان والسِّيف
قلت رحم الله نابغة بني شيبان! فلو عاش في أيامنا هذه لا في أيام بني أمية لقال:
لها مصابيح فيها الكهربا سطعت ... يضيء من نورها لبنان والسيف
ورق النسيم وراق الجو، فتذكرت قول القائل:
يا نسيما هبَّ مسكاً عبقاً ... هذه أنفاس ريَّا جِلَّفا
لكنني ما كدت أنشق هذه الأنفاس العطرات وأغرق في بحر من التأملات حتى فتح الخادم مذياع مصر فأسمعني ألحانا شجية حملتها أنفاس القاهرة الكهربائية، فذكرت شتاء مدينة المعز وعهدي به قريب، ورددت قصيدة لي ودعت بها تلك المدينة الساحرة، منها الأبيات الآتية في نسمات النيل:
أوَّاه يا نسمات النيل ساجيةً ... كم ضمك الصدرَ شهَّاقاً وزفّاراً
وكم تعطرت بِالريحان وامتزجتْ ... رّياك بالروض أفناناً وأزهاراً
ما إن نشقتك حتى خلتُ منتعشاً ... ماء الحياة جرى في جسم أنهاراً
وخفق القلب لشتاء مصر ولربيع دمشق معا، فكلاهما ساحر جذاب، وكلاهما مجتلي(94/9)
ذكريات عذاب، وفي البلدين رفاق وصحاب، وأهل وأحباب، وفيهما للثقافة العربية أفسح رحاب
دمشق
مصطفى الشهابي(94/10)
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
الحاكم بأمر الله
- 3 -
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان الحاكم بأمر الله صبيا في نحو السادسة عشرة حينما بدأ يضطلع بمهام الدولة على هذا النحو؛ بيد أن هذا الفتى القوي النفس، كان حاكما حقيقيا يقبض على السلطة بيديه القويتين؛ ويشرف بنفسه على مصاير هذه الدولة العظيمة، ويبدي في تدبير شئونها مدهشا، فيباشر الأمور في معظم الأحيان بنفسه، ويتولى النظر والتدبير مع وزرائه؛ وهكذا كان الأمير اليافع يؤثر العمل المضني على مجالي اللهو واللعب التي يغمر تيارها من كان في سنه، وفي مركزه وظروفه؛ وقد لزم الحاكم هذا النشاط المضني طوال حياته. وكان الحاكم ذا بنية قوية متينة؛ وكان منذ حداثته يتمتع بمظهر الجبابرة: مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة كنظرات الأسد لا يستطيع الإنسان صبرا عليها؛ وله صوت قوي مرعب يحمل الروع إلى سامعيه؛ وقد كان في الواقع سليل نسل من الجبابرة الصحراويين الأقوياء، الذين يذهبون في زهرة العمر والقوة؛ وكان أبوه العزيز بالأخص عظيم القامة عريض المنكبين قوي التكوين، فورث عنه ولده هذه الخواص الطبيعية البديعة، ولم يبددها في شهوات النفس التي ينغمس فيها أبناء القصور
وهنا يبدأ عصر الحاكم بأمر الله حقا، وهو أغرب عصر في تاريخ مصر الإسلامية، وربما كان أغرب عصر في تاريخ الإسلام كله؛ عصر يمازجه الخفاء والروع، وتطبعه ألوان من الإغراق والتناقض مدهشة مثيرة معا؛ ولكن هذه الألوان الخفية المغرقة، وهذه النواحي المتباينة هي التي تسبغ على العصر أهميته وطرافته، وهي التي تحيط شخصية الحاكم بحجب كثيفة من الظلمات يعب اختراقها. ويحسن قبل أن نعرض إلى درس هذه الشخصية العجيبة وقبل أن نحاول استجلاء غوامضها، واستقراء حقيقتها، أن نستعرض أولا أعمال الحاكم وتصرفاته، وحوادث العصر وظروفه؛ ثم نحاول على ضوئها أن نتفهم روح(94/11)
العصر، ونفسية تلك الشخصية الفريدة التي أفاضت عليه من خفائها وروعتها، وملأته بنشاطها ونزعاتها وأهوائها، وتبوأت فيه المقام الأسمى
- 5 -
تقدم الرواية الإسلامية إلينا الحاكم في صور مروعة مثيرة؛ فتقدمه إلينا أولا في صورة جبار منتقم، وسفاك لا يخبو ظمؤه إلى الدماء؛ ثم تقدمه إلينا في صورة طاغية مضطرم الأهواء والنزعات، متناقض الرأي والتصرفات، لا تكاد تلمس لأعماله باعثا أو حكمة؛ شرسا جموحان ميالا إلى الشر، خؤونا وافر الغدر، لا يستقر على ثقة أو صداقة؛ وتقدمه إلينا على العموم في ثوب شخصية بغيضة خطرة، فاقدة الرشاد والتعقل، يغلب عليها الجانب الأسود، ولكنها مع ذلك لا تنكر عليه بعض نواحي الخير والخلال الحسنة، فتصفه لنا بالجود والتقشف والزهد في كثير من متاع الحياة الدنيا
(كانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء؛ وكان الغالب عليه الصلاح، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط). (وكان جوادا، سمحا، خبيثا ماكرا، رديء الاعتقاد، سفاكا للدماء، قتل عددا كبيرا من كبراء دولته صبرا؛ وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعية عليها). (وكان حاله مضطربا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبداعة). في هذه الصور وأمثالها تقدم الرواية الإسلامية إلينا الحاكم؛ ولا ريب أن في حياة الحاكم وفي أعماله وتصرفاته ما يبرر كثيرا من هذه الأوصاف المثيرة؛ غير أنها ليست كل شيء في هذه الحياة العجيبة الغامضة؛ ومن الخطأ أن نقف عندها في تصوير الحاكم والحكم عليه، ومن الواجب أن نتقصى في حياة الحاكم جوانب أخرى، وأن نحاول تفهم شخصيته ونفسيته على أضواء أخرى
افتتح الحاكم عهد حكمه بقتل برجوان وصيه ومدبر دولته؛ وكان للجريمة باعث سياسي قوي؛ فلم تك يومئذ دليلا على حبه للسفك أو ظمئه إلى الدم، غير أن الحاكم ما لبث أن أتبع ضربته بضربة دموية أخرى هي مقتل ابن عمار زعيم كتامة وأمين الدولة السابق؛ وكان الحاكم قد حماه من برجوان وأطلق له رسومه وجراياته، وأذن له بالركوب إلى القصر؛ ففي ذات مساء، حين انصرافه من القصرن انقض عليه جماعة من الغلمان الترك كانت قد(94/12)
هيئت للفتك به، فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحاكم (شوال سنة 390) ولم تكن للجريمة بواعث ظاهرة، ولكنا نستطيع أن نعللها برغبة الحاكم في سحق الزعماء ذوي البأس والعصبية، وهي رغبة يدلل عليها كما سنرى في مواطن كثيرة؛ وكانت كتامة أقوى القبائل المغربية كما قدمنا، وكان ابن عمار أقوى زعماء الدولة. ولكن سنرى من جهة أخرى أن الحاكم يسرف في القتل، فيقتل وزراءه وغلمانه تباعا، دون حكمة ظاهرة إلى ما كان من نزعة مؤقتة أو سخط فجائي
وفي سنة 393هـ قتل الحكم وزيره فهد بن إبراهيم بعد أن قضى في منصبه زهاء ستة أعوام، وأقام مكانه علي بن عمر العداس، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى سخط عليه وقتله، وقتل معه الخادم زيدان الصقلي حامل المظلة، ثم قتل عددا كبيرا من الغلمان والخاصة (سنة 394)، ثم تبع ذلك بمقتلة أخرى كان من ضحاياها الحسين بن النعمان الذي شغل منصب القضاء منذ سنة 89، وعدد كبير من الخاصة والعامة، قتلوا أو أحرقوا؛ وقتل جماعة من الأعيان صبرا؛ ولم يك ريب في أن هذه المذابح المتوالية كانت عنوان نزعة خطيرة إلى البطش والفتك واحتقار الحياة البشرية؛ وكان أشد الناس تعرضا لهذه النزعات الخطرة، أقرب الناس إلى الحاكم من الوزراء والكتاب والغلمان والخاصة، ولم يك الكافة أيضا بمنجاة منها، فكثيرا ما عرضوا للقتل الذريع لأقل الريب والذنوب، أو لاتهامهم بمخالفة المراسيم والأحكام الغربية الصارمة التي توالى صدورها في تلك الفترة. وكان رجال الدولة ورجال القصر وسائر العمال والمتصرفين يرتجفون رعبا وروعا أمام هذه الفورات الدموية؛ وكان المجتمع القاهري، ولا سيما التجار وأرباب المصالح والمعاملات يشاطرونهم ذلك الروع؛ ويروي لنا المسبحي صديق الحاكم ومؤرخه فيما بعد، أن الحاكم أمر في سنة 395 بعمل شولة كبيرة مما يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفا، فارتاع الناس وظن كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامهم، وسرت في ذلك إشاعات مخيفة، فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصرفين من المسلمين والنصارى في أحد ميادين القاهرة، ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون، ويسألون العفو عنهم؛ ثم دخلوا القصر، ورفعوا إلى أمير المؤمنين عن يد قائد القواد الحسين بن جوهر رقعة(94/13)
يلتمسون فيها العفو والأمان فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا؛ وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو. واشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم، فضجوا واستغاثوا وطلبوا العفو والأمان فأجيبوا إلى ما طلبوا؛ وتبعهم في الاستغاثة التجار وأرباب المهن والحرف؛ وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطوائف؛ وقد أورد لنا المسبحي صورة أحد هذه الأمانات ونصها: (هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لأهل مسجد عبد الله: إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين، وأمان جدنا محمد خاتم النبيين، وأبينا على خير الوصيين، وآبائنا الذرية النبوية المهديين صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين؛ وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم ولا تمد يد بسوء إليكم، إلا في حد يقام بواجبه، وحق يؤخذ بمستوجبه فيوثق بذلك، وليعول عليه إن شاء الله تعالى؛ وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة. . . الخ)
وهكذا هبت على المجتمع القاهري ريح من الرهبة والخشوع، وأصبح اسم هذا الخليفة الفتى الذي لم يجاوز يومئذ العشرين من عمره، وأصبحت نزعاته وتصرفاته مثار الرعب والروع. ولم يك ثمة ريب في أن القتل كان في نظر الحاكم خطة مقررة، ولم يكن فورة أهواء فقط؛ وقد لزم الحاكم هذه الخطة الدموية طول حياته؛ ووقعت في الأعوام التالية حوادث ومناظر من القتل الذريع لا نهاية لها، وكانت تقترن أحيانا بضروب مروعة من القسوة، وقلما كان يغادر وزير أو كبير من كبراء الدولة إلا مسفوك الدم، وفي الأحوال النادرة التي كان ينجو المعزول فيها بحياته، كانت تلازمه نقمة الحاكم حتى يهلك. ففي شعبان سنة 398هـ عزل قائد القواد الحسين بن جوهر، وعين مكانه صالح بن علي الروذبادي ولقب بثقة ثقات السيف والقلم؛ وبعد أسابيع قلائل أمر الحاكم الحسين وصهره قاضي القضاة عبد العزيز ابن النعمان بلزوم دارهما؛ ثم أمر بالقبض عليهما، ففر الحسين وقبض على عبد العزيز؛ واضطربت القاهرة لمكانة الحسين، ثم عفا عنهما وأعيد عبد العزيز إلى منصبه، ولكنهما لم يطمئنا إلى هذا العفو المريب، ففرا بأسرتيهما، فأمر الحاكم بمصادرة أموالهما، وسير الخيل في طلبهما، وأنفذ إليهما كتب الأمان؛ فعادا إلى القاهرة بعد أن استوثقا من الخليفة بالأمان والعفو، واستمرا يركبان إلى القصر مدى حين؛ وفي ذات(94/14)
يوم استبقيا بالقصر (لأمر تريده الحضرة) ثم قتلا فجأة (12 جمادى الآخرة سنة 401، وصودرت أموالهما، وعاد الحاكم بعد ذلك فأمن أولاد القتيلين وخلع عليهم
وإليك طائفة أخرى من حوادث القتل والسفك التي أمعن فيها الحاكم: في سنة 399، قبض الحاكم على جماعة كبيرة من الغلمان والكتاب والخدم الصقالبة بالقصر، وقطعت أيديهم من وسط الذراع ثم قتلوا، وقتل فضل بن صالح من أعظم قواد الجيش وفي العام التالي وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم، وقتل جماعة من العلماء السنية؛ وقبض على صالح بن علي الروذبادي لأسابيع قلائل من عزله، وقتل؛ وعين مكانه ابن عبدون النصراني، ثم صرف وقتل لأشهر قلائل؛ وخلفه أحمد بن محمد القشوري في الوساطة والسفارة، ثم صرف لأيام قلائل من تعيينه وضربت عنقه (سنة 401). وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه غين وكاتبه أبي القاسم الجرجرائي، وكان غين من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته، فعينه في سنة 402 للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد، وعهد إليه بتنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية، وعهد بالكتابة عنه إلى أبي القاسم الجرجرائي وكان الحاكم قد سخط على غين قبل ذلك ببضعة أعوام وأمر بقطع يده فصار أقطع اليد؛ ثم سخط عليه كرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية وحملت إلى الحاكم في طبق، فبعث إليه الأطباء للعناية به ووصله بمال وتحف كثيرة؛ ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضا، ومات غين من جراحه (جمادى الأولى 404). وأما أبو القاسم الجرجرائي فقد أمر الحاكم بقطع يديه لوشاية صدرت في حقه، ولكنه أبقى على حياته، وعاش أقطع اليدين
وفي سنة 405هـ قتل الحاكم قاضي القضاة مالك بن سعيد الفاروقي، وقتل الوزير الحسين بن طاهر الوزان، وعبد الرحيم ابن أبي السيد الكاتب، وأخاه الحسين متولي الوساطة والسفارة؛ وقلد فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله لأيام قلائل من تعيينه. وهكذا استمر في الفتك بالزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء حتى أباد معظهم؛ هذا عدا من قتل من الكافة، خلال هذه الأعوام الرهيبة، وهم ألوف عديدة.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(94/15)
روح المدرسة الإنجليزي
الحديثة
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
إن الزائر الغريب لمدرسة إنجليزية حديثه لأول مرة يلاحظ على الأطفال شيئين:
أولا: النشاط والاستعداد للعمل
ثانيا: السعادة
فالتلاميذ مملوءون نشاطا، وحياتهم كلها بهجة وهناءة؛ وجوه ضاحكة مستبشرة، تملأ المدرسة بشرا وسرورا؛ والجو المدرسي كله حياة ويقظة وانتباه، وحب للعمل واستعداد لأداء الواجب، يتمثل فيه روح الوفاء والإخلاص والعناية والدقة في العمل، والتعاون بين النظار والمدرسين والتلاميذ. هناك لا تجد تلاميذ يتظاهرون بالعمل وهم لا يعلمون، أو يصغون وهم يتثاءبون، لا ترى من يحل مسائل حسابية بطريقة آلية من غير ما تفكير، أو من ينقل قطعا إنشائية، أو كلمات إملائية لا يدرك لها معنى
هناك ينشغل الطفل بعقله ويده؛ فلا يكتفي بتعلم النظريات، بل يشتغل أيضا بكثير من الأعمال اليدوية، ويعطي مقدارا من الحرية في العمل، يعمل على حساب قواه العقلية، وله رأي خاص به. هناك يعتمد الطفل على نفسه في كل عمل مع الاستعانة بمدرسه وإرشاداته عند الحاجة. قد يحل المسألة خطأ، ولكن المهم أنه حاول أن يعمل، وعمل برغبة، وتركت له الفرصة في التفكير، وفي رسم الخطط وتدبير الوسائل
ولقد حدث، في إحدى المدارس الحديثة للبنات أن معلمة من المعلمات اضطرت إلى الذهاب إلى المستشفى يوما ما، فرأت رصيفة لها أن الواجب يقضي بمصاحبتها؛ وكانت ناظرة المدرسة على فراش المرض، ولسوء الحظ قد حدث لرابعتهن وهي في طريقها إلى المدرسة ما أوجب تأخرها نصف ساعة عن الميعاد؛ وعلى هذا بقيت المدرسة ولا ناظرة فيها ولا مدرسة. فلما دخلت الأخيرة المدرسة وجدت كل البنات في أمكنهن، يعلمن بنظام، فلقد نظر بعضهن في جدول أوقات الدروس، واخترن من التلميذات من يستطعن التعليم في(94/17)
السنين الأولى من المدرسة، وأخذت البقية تعمل بنفسها. فكان كل فصل يسير في عمله بنشاط كالعادة، ولم يحدث من إحداهن ونية أو تقصير في العمل، وكان النظام مستتبا. فمثل هذه الحادثة تبرهن على أن روح المدرسة الحديثة هي: روح التعاون، والاعتماد على النفس، وحب العمل، والفخر بالمدرسة، والإخلاص لها؛ وهذه الروح وتلك المبادئ وحدها تكفل نجاح أي مدرسة من المدارس، وتغني عن استعمال الثواب والعقاب، والمنافسة في المدرسة
فالتلاميذ بالمدرسة الإنجليزية مغتبطون بمدرستهم، يستنفذون جهدهم، ويبذلون كل ما في وسعهم في سبيل تقدمها. محال أن يتمنوا الرفعة على أكتاف غيرهم، يعمل الكل لمصلحة الكل وينسى نفسه. ومن أظهر مقدرة ومهارة في أمر ما فمكافأته أن يسمح له بمعاونة غيره من الضعفاء أحيانا
مثل من المدارس الريفية التي الابتدائية بإنجلترا
من المدارس التي رأيتها مدرسة ريفية ابتدائية داخلية تقبل التلاميذ بعد الانتهاء من قسم الأطفال. فيها يستيقظ التلاميذ مبكرين، فيرتب كل منهم سريره، وينظفون معا حجر النوم.
وبعد ارتداء الملابس يقوم بعضهم بمساعدة الطاهية في إعداد الطعام، أو في إعداد المائدة وتنظيمها. وبعد تناول طعام الإفطار يساعدون في تنظيف الآنية وتنشيفها
ومدة الدراسة النظرية في الصباح أربع ساعات. وبعد الظهر يشتغل التلاميذ بالزراعة في حديقة المدرسة، أو بالنجارة في حجرة النجارة التي يقوم بالتعليم فيها أحد النجارين وفي هذه المدرسة تظهر روح التعاون بأجلى معانيها: فمن التلاميذ من يقوم بإصلاح ما يحدث في بناء المدرسة من خلل، ومنهم من يكوى الملابس، ومنهم من يخيط ما تحتاج إليه من رتق، وهكذا
وتتصل بالمدرسة حديقة كبيرة، تبلغ مساحتها ثلاثة أفدنة، بها قسم لتربية الطيور والحيوانات الداجنة، ويتولى بعض التلاميذ إطعامها والعناية بها. ويقوم التلاميذ أنفسهم بزرع ما أمكن من أنواع الخضر والفواكه والأزهار في تلك الحديقة، وبهذه الوسيلة تستطيع المدرسة أن تستغني عن شراء كثير من المواد الغذائية وغيرها. وتجمع بين التعليم النظري والعملي أو الصناعي فتفتح كثيرا من السبل أمام كل تلميذ حتى تنتفع(94/18)
بميول، وتعرف ما يرغب فيه من الأعمال، فتوجهه حيث يحب، ويختار له من سبل الحياة ومن المهن والصناعات ما يتفق مع ميوله الطبيعية. فالمدرسة تعطيه الفرصة في أن يعرف شيئا عن النجارة، والزراعة، والحياكة، والكي، والبناء، والرسم، والتصوير، والموسيقى، بجانب المواد المدرسية الأخرى. وهذه هي التربية
ولا يسمح لأحد من التلاميذ بأكل شيء فواكه الحديقة في غير مواعيد الأكل. ومن يخالف ذلك يحرم هذه الفاكهة حتى ينتهي فصلها. وهذا عقاب طبيعي؛ لهذا لا يجرؤ أحد أن يقطف شيئا من الحديقة. ولكل تلميذ صوان خاص به، يضع فيه أدواته. وللناظر وحده الحق في الاطلاع على ما به
وبعد تناول الشاي يسمع التلاميذ اللاسلكي، أو يتعلم بعضهم العزف على المعزف (البيانو)، ويلعبون ألعابا رياضية ككرة المضرب
وفي يوم الأحد صباحا يذهبون إلى الكنيسة مع أستاذتهم، ثم يخرجون للرياضة في جهات خاصة. فأوقاتهم منظمة، موزعة بين العمل واللعب؛ يلعبون حيث يجب اللعب، ويعملون حيث يجب العمل. ويجتهد ناظر المدرسة في ألا يترك لأي تلميذ الفرصة في أن يفكر في أعمال شيطانية، فيدعه يشتغل بأي عمل من الأعمال، حتى لا يفكر في أي عثو أو إفساد في المدرسة
إن الشباب والفراغ والجِدَة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
وإن دروس مشاهدات الطبيعية، والجغرافيا، والتاريخ كثيرا ما تكون في الخارج على شاطئ نهر أو في الحديقة، أو زيارة لدار آثار، أو حصن، أو كنيسة قديمة. وفي كل أسبوع يختار بعض تلاميذ المدرسة لزيارة مدرسة أخرى، لتكثر تجاربهم ويروا أشياء ربما لم يروها قبل في مدارسهم. وبذلك تتبادل المدارس الزيارات في يوم من أيام الأسبوع
وكثيرا ما يقف ناظر المدرسة ليباشر التلاميذ وهم يشتغلون في حديقة المدرسة، ولا يعزب عنه شيء في مدرسته؛ فهو خبير بكل تلميذ، وبالظروف المحيطة به، وبنقط الضعف فيه، وبوسائل العلاج. فيمكنه أن يقول إن (جاك) قوى لأن أمه كثيرة العناية به. أما (جان) فضعيف لأنه لا يجد ما يكفيه من الغذاء، وهذا جيد في التاريخ، وذلك يحتاج إلى العناية بالحساب، وهكذا(94/19)
والمدرسون يعتبرون تلاميذهم أبناء يفكرون فيهم كما يفكرون في أبنائهم. ففي تلك المدرسة وفي معظم المدارس الإنجليزية تجد التلميذ محبا الألعاب الرياضية، كثير المعلومات، ناضج الرأي، مرتب الفكر، بعيد النظر، قوي الملاحظة، يستطيع التعبير عما في نفسه، يحب النظام، والدقة في العمل. يعرف معنى الطبيعة، ويقدر ما فيها من حياة وجمال، ويمكنه القيام بكثير من الأعمال؛ وهذه نتائج العناية بالطفل في المنزل والمدرسة والبيئة، نتيجة العناية بالتربية العملية لإعداد كل فرد للحياة الكاملة
محمد عطية الأبراشي(94/20)
محاضرة قيمة:
في الشعر. . .
للمسيو بول فاليري عضو المجمع الفرنسي
عرض وتلخيص للأستاذ محمد روحي فيصل
سيداتي وسادتي:
حديثنا الليلة إليكم في الشعر! والموضوع دائر كما تعلمون الآن في كثير من الصحف والمجالس، ولعل الغرابة أن ينال الشعر الاهتمام وتبذل للفن الجهود في زمن مادي أخذته الواقعية المحسوسة، وطغت عليه الوضعية العلمية، وسادت فيه الفكرة الاقتصادية!
للشعر في الإفهام معنيان: أولهما أنه مجموعة العواطف والانفعالات التي تهيجها في نفوسنا أحداث الزمن، ومجالي الطبيعة، ومعاني الوجود، وألوان الحياة، فنقول منظر شعري، وظرف شعري. وثانيهما أنه فن قائم وصناعة عجيبة، يتناول الأهواء المشبوبة بالتنسيق والتأليف والجلاء، ثم يبرزها لغة جميلة تطرب لها الأذن ويهتز منها القلب! وبين المعنيين صلة شديدة وتباين كتابين الرائحة التي تضوع من الزهر، والرائحة التي تضوع من الكيمياء
ومهما يكن من شيء فالناس لا يزالون في لبئس من المعنيين، وحيرة في الشعر والشعور؛ وكان من أثر هذا أن طائفة من الأحكام والنظريات والمؤلفات قد فسدت وغمضت لإطلاق الكلمة والواحدة على معنيين شتيتين وإن اتصلت أسبابهما اتصالا وثيقا!
فالشمس الغاربة، والغاية الوارفة، والقمر الناعم، والبحر العظيم - هذه وغيرها تبعث في الناس حين يستشرقون لها انفعالات وجدانية تختلف في الشدة والمدة والنقاوة والأثر؛ وقد تكون أزمة الهوى، وفاجعة الموت، ونازلة الفقر، أسبابا مباشرة لاضطراب نفسي عميق أو خفيف يلون الشعور، ويشتت المعاش، ويبدل المثل الأعلى! ولكن هذه العواطف الإنسانية المعروفة تغاير ما نسميه (العاطفة الشعرية) ولعل بيان أوجه التغاير والاختلاف لا يخلو من عنت ومشقة، لأنهما في الواقع متحدان اتحادا شديدا ما ينفصل أحدهما عن الآخر أو يبرز له ويسمو عليه، فالعاطفة الشعرية تتصل أبدا بالحب والألم والخوف والغضب، وما(94/21)
إلى هذا من مشاعر النفس وأهواء القلب
وإنما العاطفة الشعرية عندي إحساس قوي بحياة غربية، وشعور واضح بعالم جديد جرده المبين من نفسه لنفسه، ثم قوم أشياءه وأحداثه وأشخاصه بالميزان الذي له خاصة، وخلع على ما فيه قيما حديثه، قد تتفق وقد لا تتفق مع القيم المألوفة التي تواضع الناس عليها في حياتهم الدراجة! ولئن تشابهت أشياؤه بالأشياء، وتعارفت الأحياء بالأحياء، فلقد يشملها جميعا قانون النفس العام، وتصطبغ كلها بالشعور والإنساني، تتجاذب تلك الأشياء والأحداث والأشخاص وتتنادى وتطرد لغاية عملها في دقة ونظام؛ والأولى أن نقول إن الأشياء والأحداث والأشخاص تؤلف في العالم الجديد لحنا موسيقيا منسجما لا ضجة فيه ولا نشوز، يتملاه الشاعر ويستوحيه ويخضع له! دنيا رحبة هادئة جميلة هي ملك المبين لأنها من خلقه! ولعل هذا العالم الشعري يماثل من وجوه عديدة عالم الرؤى والأحلام
التي تضطرب في خيال المرء، وتطيف في رأسه الغافي. . .
ولقد أحب أن أشير هنا، وقد انحدرت (الأحلام) مع الحديث، إلى أن جماعة الإبتداعين (الرومانتك) وأدباء العصر الحاضر قد خلطوا بين الشعر والرؤيا ووحدوا معناها! نعم، قد تكون الرؤيا والأحلام صورا شعرية خالصة، ولكنها صورة بارزة مؤلفة من عمل المصادفة والإتقان؛ وما دامت كذلك فهي صور شعرية بالمصادفة والاتفاق
إن عالم الرؤى عالم غريب قد ملأ ساحته الشعور المبهم، وانفرط فيه عقد المنطق المحترم، وهب عليه إدراك غير إدراكنا، وتفكير غير تفكيرنا! فهو عالم مغلق تبرز الأشياء فيه على غير حقيقتها ولونها المعهود، وهي إنما بأهوائنا المكظومة ومثلنا المرجوة ورغائبنا الكامنة. والعاطفة الشعرية حالة نفسية كهذه الحال الطليقة تظهر على غير انتظام، وتعمل في غير استقرار، وتضمحل من غير إنذار! لقد تقوم في أنفسنا بالمصادفة وتخفتي عن أعيننا بالمصادفة! وعجيب - يا سادتي - أثر المصادفة العابثة في ظهورها وفنائها! (تصفيق)
- 2 -
يكر الزمان مسرعا ولا يؤوب، وتتجدد الحياة مشرفة ولا تتشابه، وتزول الصور ماضية بدون أثر! والله القادر الحكيم إنما تفرد بالطي والنشر، والمحو والإبداع، ثم أودع في الحياة معنى الموت، وفي الجذوة قوة الركود، وفي الخلق سر الأعجاز!! ولكن الشاعر المبين لن(94/22)
يرضى عن اللحظة الحية التي تطوي إلا إذ، سجلها على القرطاس، وأمد في عمرها، وأثبتها على الدهر، كأنما يعارض انحدار الأشياء إلى صندوق العدم، أو يغالب عبث الليالي وتطور الوجود، فهو يقف بالذاهب الآفل وقفة طويلة ممنعة فيقيد خواطره، ويعلن أحاسيسه، ويحي حبه، ثم ينزع من الحياة قطعا يقذفها في إطار خالد جميل إلى العصور التي تليه، والأجيال التي تضطرب بعده على الأرض! كذلك استطاع أن يستمتع بالعاطفة الشعرية الطليقة وأن يستحضرها في نفسه كلما أراد كما تستحضر الرؤى بالتنويم؛ والفنون كلها تقلب العرض الزائل إلى حال دائم، والعمل الفني إنما هو الآلة الحسية لهذا التوليد العجيب والخلق الموفق؛ فالموسيقى والنحت والأدب والتصوير طرائق مختلفة للتمثيل والتعبير اقتضتها كثرة الحواس الظاهرة، واشتباك النفس الباطنة، وغموض المدينة الحاضرة. . . التمس الشاعر طائفة من السبل الملتوية لاستحضار العاطفة الشعرية، ورياضتها على الفن. ولعل أقدم السبل المشروعة، وأعمقها أثرا، وأشدها تركيبا هي اللغة! ولكن اللغة بطبيعتها المادية وسلطانها الواهي واستخدامها العملي أجهدت الشاعر أيما إجهاد، وهو الذي يقوم ويؤلف منها الجرس!
أرجو أن أظفر - أيها السادة - يعرض ما يكابد الشاعر من آلام، ويبذل من جهود، ويغالب من مصاعب
إن اللغة كما ذكرت أداة قديمة يخلص الناس إلى حاجات العيش ومطالب الجسد، فهي على هذا أداة سمجة خلقتها المصلحة، وشوهتها الظروف، وأخضعتها الشهوات! فقيم الكلمات، ومدلول الألفاظ، وقواعد التركيب، وفن الكتابة، ومخارج النطق إنما هي ألهية من الألاهي الطريفة نبعث بها على ما تقتضيه المآرب وترتضيه الأهواء. ولقد نجل مقررات المجمع الأدبي، ونقدر عمل الطباعة والصحافة في تحديد معنى اللفظ وكف شرة الفرد، ولكن خصائص اللغة من حيث قدرتها على إبداع الجرس الموسيقي وتشقق المعني الواحد فيها عن كثير من المعاني المندرجة لم تجد - وا أسفاه - من يرد عنها عادية النزوات وعرف الأوضاع؛ فقد ننطق بالحرف وترسل الكلمة كما تقوى حناجرنا، وتنفرج شفاهنا، وتتسع ثقافتنا، وتزخر نفوسنا فنحرف الكلم عن موضعه، وندخل الفوضى على المفهوم، وننشر الشك في قيمة اللغة والحق أن اللغة لو أنها لم تصلح لغايات العيش، ولم تشتمل على معنى(94/23)
السعادة لما كانت تكون وسيلة من وسائل الشعر والفن، ومطلبا من مطالب الدقة والتعبير
هكذا، يا سادتي، شاء الحظ العاثر المشؤوم أن يستخدم الشاعر أداة حسية عملية ليحقق بها فنا أبي إلا أن يثور على المعاش، ويشرف على العمل، ويسمو على المادة. .!!
أما الموسيقى السعيد - وا لهفي على حظه - فقد يشرع فيما اختص له توفير عليه، ووسيلته جاهزة سامية مستقلة، لا يشركه فيها أحد من الناس، ولا تتدنى إلى ما لم تخلق له، وهو إنما يعمد إلى مادة قد صهرتها العصور، وهيأتها الطبيعية، وحددتها الغاية! لشد ما يشبه الموسيقى الصناع نحلة ولودا جاءت لتفرخ فوجدت الخلية قائمة على أحسن ما تقوم البيوت، مقسمة على أدق ما تقسم الغرف، فولدت مرتاحة هانئة ثم اهتمت للعسل وحده تجمعه من هنا ومن هناك! كذلك رجل الألحان يؤلف فنه من غير جهد، ويسلك سبيله بهجاً طروباً كأنما الملحن قد انسجم وبرز واكتمل قبل أن تمسه يد الموسيقى الفنان!!
ذلك بأننا نعيش بالسمع في عالم الأصوات؛ ونحيا بالأذن حين تعمى العين ويعيا اللسان؛ وبالأذن تدرك بطبيعتها أن الأصوات المتعالية إنما تتألف من وحدات بسيطة بالغة البساطة، صغيرة بالغة الصغر، حتى كأنها لا تقاس بشيء أو تلمح لوحدها، وهذه الوحدات قد تنسجم لمسافات محدودة، وتطرد بنسب معينة، فتكون الصوت الموسيقى، وقد تضطرب بغير نظام، وتسير على غير منهاج، فتكون الضجة الراجفة. فالأذن تعلم بالغريزة مكان الوحدة من الجرس، وتتذوق بالفطرة نور الجمال في الهمس، وتدرك أن الفرق بين النغم والضجة كالفرق بين النقاوة والكدورة، أو بين النظام والفوضى، ثم جاء العلم الطبيعي فأتم إدراك الغريزة وفطنة الأذن، وهو العلم القديم الدقيق، فقاس النسب، واخترع الآلات وإبداع من الألحان ما لا تستطيعه دنيا الطبيعة بذاتها. . .
وللموسيقى عمل السحر في النفس، تخلق جوا خاصا بها لست أدري ما طبيعته، وإنما أعلم أنه جو هادئ يتخدر فيه الشعور، وتطير العاطفة، ويحلو التخيل، وتبرز الأحلام! ولو أن لحنا شجيا انبعث خافتا من كمان في هذه القاعة الرحبة التي يهزها صوتي المضطرب المتعاظم لرأيتكم فجاءة تميلون الرؤوس وترهفون الآذان إلى مصدر اللحن، تتحسسونه وتتذوقونه، وتمدونه في أنفسكم وأنتم لا تشعرون! أفلا فطنتم إلى الأشعة القوية التي سطعت عليكم من شعاع لطيف، وإلى الدنيا الحالة التي طغت عليكم إثر جرس خفيف؟(94/24)
ولقد يعطس شخص أو يقع كرسي أو يفتح باب فتستيقظ أنفسكم الحالمة وكأنما صار لها ما يصير للزجاج إذا كسر، أو الحبل إذا تصرم
تلكم الألحان الهادئة، والآذان الواعية، تعين الموسيقى على إحياء النفوس من غير تعب؛ أما لغة الشاعر فكما علمتم ألفاظ جامدة مبهمة، وتخاطب الأذان والنفس على السواء، وتدخل إليهما مزيجا مضطربا من الأصوات والصور، وتثير فيهما ألوانا متداخلة من العواطف والميول. وهنا موضع الشذوذ، فلست أعرف أثرا متداولا أفرط في الغموض والاشتباك كاللغة، ولقد تقول كلاما صحيحا يقبله العقل ولكنه لا يهز الأذن ولا يطرب القلب، أو تقول كلاما منسجما جميلا ولكنه خلو من التفكير والمعاني! وليس أدل على اشتباك اللغة من نشأة هذه العلوم المختلفة التي تتظاهر كلها على شرحها وتفسيرها، فثم علم النقد والأدب والبلاغة والمنطق والاشتقاق والنحو تشترك جميعها في الكشف عما يحجب الألفاظ من الإبهام والتعقيد. ولن يستطيع المبين أن يتجاهل هذه العلوم أو يثور على سلطانها أو يكتفي بالتوقيع على الأذن دون النفوذ إلى النفس!
ولكن الكلام كلامان: منثور ومنظوم، والنثر والنظم مظهران قويان للغة، وبينهما حدود على وضوحها متداخلة متشابكة. . . (تصفيق شديد)
- 3 -
أذكر أني كنت أحاضر مرة في هذا المعنى طائفة من الأجانب، فلما بلغت هذا الموضع من الحديث إذا أحد المستمعين يتلو علي رسالة طريفة بعث بها الكاتب (راكان) إلى صديقه (شايلان) يقول فيها: (. . . وأنت تستطيع أن تنعت نثري بما شئت من الظرف والكياسة والبساطة، فلقد اعتزمت على ألا أحيد عن نصائح أستاذي الكبير (مالرب) ولا التزم ما يلتزمه غيري من الوزن والإيقاع والجرس، وحسبي الوضوح من تاج أزين به نسيج ألفاظي ولفتات ذهني! كان مالرب الذكي يشبه النثر بالمشي، ويقرن الشعر بالرقص، ويقول إن ما نفعله مرغمين يستحق التسامح والاعتدال، ثم لا بد فيه من التجاوز والإهمال، وأما ما نعمله باختيارنا ورغبتنا فمن السخرية أن يكون المرء فيه ضعيفا أو وسطا، فالأعرج مضطر إلى المشي اضطرارا، ولكنه متحذلق سخيف لو راح يرقص على الفالس والخطوات الخمس)(94/25)
إن تشبيه النثر بالمشي والشعر بالرقص تشبيه خصب جميل لا أعرف أصح منه ولا أدق ولا أشمل! فالمشي كالنثر يقصد به صاحبه أن ينال غاية مائلة ويحقق فكرة مرسومة، فهو يرجو شيئا، ومن أجله يمشي، ولعله لم يدب برجليه ويضرب في الأرض إلا لأن الباعث قد تحرك فيه وألح عليه؛ وظروف المشي، أعني طبيعة الشيء وحالة البدن والأرض واشتداد الرغبة، هي التي تحدد سرعته وتعين وجهته؛ فالمشي على هذا واسطة قائمة تزول متى برز وجه الغاية، أو هو فعل متجدد سوف ينطوي بعد حين. أما الرقص فهو هو الواسطة والغاية، ليس يغني ولا يسير على غير هدى؛ ولئن قصد به فهو الرياضة على الفن الجميل، والشعور بالحياة السعيدة، والاستماع بالمثل الأعلى! على أن الرقص يستخدم نفس الأرجل والأعضاء ولأعصاب التي يستخدمها المشي، وكذلك الشعر أداته الكلمات والصور والمعاني التي يقوم بها النثر عند البيان
إنما يمتاز الشعر من النثر بأنه يتناول الألفاظ على نحو من التركيب والتوجيه يخالف ما يتناول منها النثر في أغلب الأحيان، فنحن نعجب بالكناية والمجاز في الشعر أشد العجب، بل نحن لا نعجب بالشعر إلا إذا كان كله أجله كناية ومجازا. أما القول بوحدة الشعر والنثر فهو قول لم يقره النقد الصحيح ولم يسغه الذوق والحديث، ولعل ما يجوز في أحدهما لا يجوز في الآخر على أوجز تعبير
والمشي كالنثر يسلك به صاحبه أخصر الطرق وأقومها وأقلها عوجا ومنعطفات ليصل إلى بغيته التي يرجوها دون تريث ولا تذبذبن ولكن الرقص بخلاف ذلك لا يحلو إلا إذا أكثر من الروحات والغدوات، وأفرط في اللف والدوران، وأمعن في الجيئة والذهوب؛ ولو سمح لنا الرياضيون لقلنا إن الخط المستقيم سبيل الماشي والناثر، والخط المنحرف سبيل الراقص والشاعر!
تلك السماء تسح مطرا - هكذا يعبر الناثر في نزول المطر الشديد، وهكذا علمنا منذ الطفولة على الكلام، أما الشاعر فلن يبين كما يبين الناثر ويتكلم الناس وإنما يكسو الحقيقة العارية، ويزين الصورة الواقعة، ويعرض الحس في إطار رائع يبهر البصر ويعجب البصيرة. وما ينبغي للشاعر الفنان أن يقول (تلك السماء تمطر تسح مطرا) حتى نحمل المظلة ونتقي البلل لأن (تلك السماء تسح مطرا) قاعدة الكاتب الناثر، ينشئ فيوجز(94/26)
ويصرح ثم لا يجمل ولا يبالغ
يمشي الرجل متثاقلا أو مسرعا إلى غايته، فما يكاد يبلغها حتى يقف قائما لا يسعى كأنما التثاقل والإسراع كانا من أثر الحاجة والإلحاح، فالرجل يكف عن المشي لأن علة المشي قد زالت ولأن غاية السعي قد برزت! وهذا الأعرج الضعيف الذي ذكره مالرب في حديثه إنما يجلس مستويا على مقعده كما يجلس الراكض العاني بعد طوال اللهث والتعب. كذلك لغة النثر تضطرب وتموت في الذهن متى عرف معناها واستابنت غايتها؛ فهذه محاضرتي غنما ألقيها على مسامعكم لتفهموا عني ما أحب وتعتقدوا بالذي أعتقد، فأنا أقول الآن نثرا، ومتى انتهيت من الكلام وارفض جمعكم الحافل طارت الألفاظ سريعا من ذاكرتكم، وبقي الأثر منطبعا في أذهانكم كأنما أقول من الكلام المنثور لأدفنه بيدي وأذيبه متعمدا، ولقد يتفاعل هذا الأثر الحديث مع غيره من الآثار السابقة كما تتفاعل فيما بينها عناصر الكيمياء؛ ومهما تكن نتيجة التفاعل الفكري فالألفاظ التي أقذفها إنما أقذفها لتتلاشى كما يتلاشى البخار في الفضاء. وكمال محاضرتي أن تفهموا معناها لا أن تحفظوا مبناها، لأن المعنى متى أشرق في الذهن ووضح في الخيال وجد اللفظ سجنا يحد من سعته ويضعف من شأنه؛ فالفهم والدقة والوضوح غاية النثر التي لا غاية له غيرها وأعني أن الكلام المنثور يحيا حياة قصيرة ثم يموت. . .
وما ينبغي أن يحيا النثر إلا حياة قصيرة ثم يموت بعد أن يبلغ رسالته تامة صحيحة واضحة! ولكن الشعر خالد تتجدد ألفاظه في القراءة، وتحلو معانيه عند الإعادة؛ وقيمة الشعر في شكله الظاهر وكلماته المزجاة، قد انتظمت كما ينتظم العقد وانسجمت كما تنسجم الموسيقى؛ فرؤوسنا تحفظ اللفظ تتلوه مترنمة هازجة وتعيده على نحو ما سمعته في الرصف والاتساق. ثم لا تبالي إن ثملت أو حزنت أو ثارت ما دام في إنشادها رنة الفرح أو أنة الألم أو نزوة الهوى. ولقد جهل قوم كثيرون طبيعة الشعر، وهاموا في وضع الحدود وتباين المعالم فما نجحوا ولا استراحوا؛ وعندي أن الشعر لفظ جميل تستمع به الأفهام الراجحة، وتتناشده الشفاه اللاغية، وتهضمه النفوس الواعية. ثم تخرجه كما كان لفظا جميلا تبقي جدته على الزمان كأنما يستعلن في (ميكانيكية) متشابهة قوية رائعة. . .
هاتان نقطتان ثابتتان تقابل إحداهما الأخرى على مسافة صغيرة، يتأرجح بينهما رقاص(94/27)
مضطرب كرقاص الساعة، قد تدلى وتذبذب في جيئة وذهوب. أما النقطتان الثابتتان المتقابلتان فهما اللفظ والمعنى، أو الشكل والفكرة، أو الجرس والعاطفة؛ وأما الرقاص المضطرب فهو النفس المتصفحة الممعنة، تقرأ القصيدة المنظومة أول ما تقرأ، فتجوز اللفظ لتفهم المعنى، وتنسى الشكل لتذكر الفكرة، ثم تخلص من الجرس إلى العاطفة تستطلع مطاويها كما هو الحال في التخاطب والكلام، وهنا في هذه السطور يتساوى النثر والشعر، ولكنه طور خاطف لا يلبث أن يزول. ذلك أن النفس القارئة تكر راجعة بعد هذا إلى اللفظ تعيده وتتملاه. ثم لا ترى خيرا منه صندوقا يضم أشتات المعنى، ويحفظ دقائق الفكرة، ويعلن جمال العاطفة! تعود إلى اللفظ بعد ما عرفت المعنى كما يعود الرقاص من جولته إلى حيث ابتدأ في الجولان! وهكذا تضطرب النفس القارئة بين اللفظ والمعنى كما يضطرب الرقاص بين النقطتين الثابتتين المتقابلتين، وهذا الاضطراب بين الظاهر والباطن هو الذي أسميناه (بالعاطفة الشعرية) في صدر المحاضرة، وهو غاية الشعر التي لا غاية له غيرها، ولعل الشاعر الموهوب من يختار اللفظة الصالحة لأحداث الاضطراب النفسي، وإحياء العاطفة الشعرية
فالشعر كما أراه يفترق عن النثر ولا يلتبس به، وهو أشد ما يكون بعدا وتساميا عن القصة والرواية اللتين تصفان حوادث الواقع وتعرضان مشاهدة الحياة، وهذا التباين نلمحه واضحا في الوضع الطبيعي الذي يأخذه قارئ الرواية وقارئ الشعر، فالأول ينساق مع تيار الحوادث، فيفخر أو يغضب أو يفرح أو يحزن، وقد وضع جبهته بين كفيه، وركب رأسه فيما يقرأ، وتعجل التلاوة ليأمن الذي يلي ويطمئن للخاتمة، فجسده غائب وحواسه فارغة، وعقله منغمس تائه لا يشعر بما حوله ولا يدرك إلا ما هو فيه، ولو انصفنا لقلنا إن قواه الجسمانية قد انحلت، وأن قواه النفسانية قد انقلبت عقلا يمعن ويتلو ويتأثر، أما قارئ الشعر فلا تتقسم طبيعته ولا تتوزع قواه، وإنما يذهب في القراءة بجوارحه كلها ما دق منها وما ظهر، ما رق وما غلظ، ما شرف وما سفل؛ فالقصيدة تهيج نفسه وعصبه، وتوقظ ملكاته الحسية والفكرية. ثم تريده على أن يتصور الأشياء ويتمثل الحقيقة كما هي غير محرفة ولا ملتوية ولا مضطربة!!
ولكني على هذا ألمح بين الشعر والنثر درجات من الصور خافة متوسطة تربط قطبين(94/28)
متقابلين في الأدب، وتصل مظهرين قويين للغة، ثم تنشئ بينهما حدودا على وضوحها متداخلة متشابكة. . .
- 4 -
أينظم الشاعر مضطرا أم ينظم مختارا؟
هذا آخر ما أفكر فيه وأتحدث عنه، والغريب أن الباحثين لم ينتهوا بعد من تقرير شيء في هذا. فالجدال عنيف، والتعقيد ظاهر، والعمل شاق. وقد يئست طائفة من الشعراء وتبرمت بالقريض، ثم قالت: إن مهنتنا تضني النفس وتأكل القوى، وصاحبنا مالرب يزعم مخلصا أن الشاعر ينهي مقطوعته الفنية وجب أن يهدأ مرتاحا بعد ذلك عشر سنوات!!
ينظم الشاعر. . . ولكنكم تدرون متى ينظم الشاعر، وما حاجتي إلى شيء تعرفونه حق المعرفة. ينظم الشاعر حين يفيض قلبه ويمتلئ صدره، فينطلق لسانه ويقول شعرا، ولكم وددت أن يكون هذا الرأي الفطير صحيحا سديدا، إذن لاحتمل الشاعر تكاليف الحياة، ورضى المبين بميسور الشقاء! ولكن القريحة الفنية قد تتبلد وتظلم حتى لا تعي أمرا ولا تنطق حرفا، فمن يقول بهذا الرأي الغرير يخضع الشاعر لسلطان القدر العابث، ويغدو الإنتاج الشعري حينئذ مرهونا بالمصادفة المواتية واللمحة المشرقة، أو متصلا بالوحي العالي والموهبة الخارقة. ولست أعلم افتئاتا على حرية الشاعر وامتهانا لكرامته كهذا الرأي القائل العاثر يجعله منفعلا لا فاعلا، وحاكيا أمينا يقول ما يلقى إليه من الكلام، وهو، يحاسب كما يحاسب مدير الصحيفة المسئول، فما كان خيرا قالوا هذا من عند الله، وما كان شرا قالوا هذا من عنده! والعجيب أن الكثرة الغالبة من الشعراء تؤمن بهذا الرأي وتناضل عنه، أو هي على الأقل لا تجد الفضاضة الذليلة بأن ترضى قانعة بمشيئة المصادفة والوحي
توافرت الأدلة وأثبتت التجربة أن الشعر الذي يعترف بجودته وبلوغه المنزلة الرفيعة التي تملى القارئ أثر الوحي والإحساس النفسي، إنما هو الواقع من عمل الجهد الدائب، والإدارة الصابرة، والتفكير العميق. أفلا نحس بهذا المجهود الكبير يبذله الشاعر حين نقرأ قصيدة من قصائده الطويلة الجميلة؟ فنحن نخطئ كثيرا إن حسبنا أن الشعر وحدة لا تقبل التجزئة؛ وموهبة لا تقوى على المران، وأثرا لا يخضع للزمن(94/29)
لقد يمتاز الشاعر من بين الناس كافة بلحظات مشرقة خاطفة تعصف بذاته وكيانه عصف الريح بفروع الشجر، فتتفتح لديه مغاليق نفسه، ويطل على دنياه الكامنة، ويلمح عجائب الروح. تلك لحظات ثمينة غريزة تضئ ما اختبأ بين اللحم والدم، وتبعث من المعاني والصور ما لا يفهمها أو يقدرها إلا الشاعر وحده، لأنها مختلطة بأوضار المادة وصادرة عن أسرار الظلام؛ وهي معان وصور لا تلبث للمنطق الظاهر ولا تلين للبيان الشعري، وكل ما في الأمر أنها قطع تنتثر من أعماقنا في حالها الطبيعي كما تنتثر الأحجار الكريمة من جوف البركان. ولقد ينبغي أن نطرح الأوشاب، ونحتفظ بالعنصر الصالح النقي لنذيبه في قالب جديد ونقدمه جوهرة خالصة للناس
فالذين يؤمنون بالوحي الشعري يقتلون العمل والإبداع، ويرضون بالشاعر وسيطا تملي عليه القدرة القادرة ما تشاء من ضروب القول وألوان المطالعة، وما لمثل هذا الفن ويخلق الشعراء! لشد ما هزئنا بالذين كانوا يؤمنون بحلول الجن أجساد البشر، ثم يجرون ألسنتهم ما يشتهون من الحجج واللهجات والنزوات! نعم إن شعور الصادق في اللفظ الجميل قوام الشعر الصحيح، ولكن الشعور النفسي لن ينبجس صافيا عذبا مهيئا للبيان، وما أحسبه يصفو ويعذب إلا إذا نهد له الشاعر بنشاطه فجرده من الأدران التي تمازجه، ونفض الغبار عنه ثم أهداه للقارئ أنشودة وأثرا كاملا. . .
بيروت
محمد روحي فيصل(94/30)
رشيد في ضحى عيدها
للأستاذ محمد محمود جلال
كدنا لا نذكر اليوم عن (رشيد) إلا إخراج الأرز طعاما شهيا. وأنها مقر صناعته ولا نعرف لها أكثر من الترويج الذي نلقاه من جمال موقعها حين نبرم بالمصيف المتمدين المملوء بالرسميات على شاطئ الإسكندرية فنفزع إليها نلتمس شيئا من التغيير وقربا من الطبيعة في أهنأ مظاهرها
فأما نصيبها من حياتنا المعنوية فمقصور على ما نتوارثه سماعا عن سرعة النكتة في طبيعة أهلها، فنتنادر بشيء مما حفظنا منه في مناسبات متباعدة، فإذا طلبت في إحدى بيئاتنا مزيدا فلست تجده إلا رواية عن مختصر مخل من كتب الجغرافيا (فهي ميناء على ملتقى النيل بالبحر الأبيض المتوسط وهي مركز من مديرية الغربية كانت محافظة إلى عهد قريب)
وهكذا غمطت (رشيد) حقها، وغمر في قاموسنا أصلها كما ذهب الإهمال بأكثر صحفنا، وعصفت الأنواء بمفاخرنا. كأنها لم تكن طغراء في كتاب الجهاد الحديث، ومسرحا أظهر الله فيه آيات الحكمة والبسالة لشعب وادي النيل. كأنها ليست هي رشيد التي حققت في سنة 1807 ما لا يزال في أحضان التقدم والرقي مجرد أمل لوادي النيل، وأمنية لأكثر أقطار الشرق
أحببت أن أرى رشيد أول مرة في أول أبريل، وكنت بالإسكندرية والمسافة بينهما تقطعها السيارة في ساعتين
تخيرت (سيارة أجرة) أعجبني مظهرها واطمأنت نفسي إلى أدب سائقها، وسارت تقطع الطريق وقد أوصيت قائدها بالتؤدة لعلة الأمعاء التي أشكو
وقف بي السائق في الطريق عند (ادكو) المشرفة على بحيرتها ونزلت أمشي قليلا على قدمي، فلما عدت أستأنف رحلتي وجدت السائق قد أعد فنجان قهوة وكوبة ماء وقدمهما إلي في أدب يندر أن تراه في زملائه. شكرت له صنيعه وألححت في أن يطلب له فنجانا آخر وسرحته ريثما يشربه في قهوة مجاورة بيد أنه لم يقبل إلا بعد مشقة
جلست إلى جوار السائق مستأنفا رحلتي وقد ألهمت أن للرجل قسطا من العلم ولابد من سر(94/31)
مؤثر في حياته وبدأت آنس به
قلت: (لأي غرض تظنني أقصد إلى رشيد؟) قال: (لعل حضرتك محام ولديك اليوم جلسة) قلت: (لقد تركت المهنة منذ ثماني حجج وأنا اليوم فلاح مقيم بالوجه القبلي) قال: (لعلها نزهة، فكثير من الخواجات يأتونها في أوقات مختلفة) قلت: (ولا هذا أيضا وليس معي رفيق ولم أر رشيد من قبل)!! قال: (لعلك تزور صاحبا) قلت: (لا أعرف أحدا وقد ذكرت لك أن هذه أول زيارة لها)
اكتفيت من حدس السائق بما سمعت، وخففت عنه عبء الفكر فقلت: (هذا يوم عيد رشيد - بل عيد لوادي النيل. فقد أشرقت شمس هذا اليوم منذ 128 عاما وللمدينة غنى بشمس النصر، وحرارة الجهد والظفر على المعتدين حتى جلا الإنجليز في ظل معاهدة محمد علي باشا عن البلاد بعد ذلك بشهور)!!
سر السائق بما سمع وبدا لي أنه يريد أن يتكلم فلزمت الصمت قال: (إن بلاءنا منا وبسبابنا. قلت: لم وكيف كان ذلك؟ قال: (ألا تذكر حضرتك كيف التجأ الخديو توفيق باشا لحماية الإنجليز؟ - ألم تسرق من معسكر عرابي خريطة في التل الكبير بواسطة أحد الضباط)؟!
ذكرت على التو أمر الخريطة وأني قرأت شيئا من ذلك في أحد المؤلفات التي كتبت عن المسألة المصرية وإذا لم تخني الذاكرة فهذا الضابط الذي يعنيه يدعى (علي يوسف خنفس)
قلت: ولكن بعد ذلك ألم يكن السبيل لتصحيح الخطأ ودرء الخطر؟)
قال: (ألم يكن رؤساء الحكومة أغرابا بين الترك وأرمني ورومي؟)
تساءلت: ومن هذا الأرمني؟ أو كان لنا رئيس حكومة أرمني؟
قال: نعم. نوبار باشا، ألم يساعد على سلخ السودان؟ استدركت قائلا (بل قل الوجه السوداني كما تقول الوجه البحري والقبلي. أو تعرف للسودان قيمة؟)
قال: (إنه حياتنا، ولقد عشت فيه، وتلك الشهادة الابتدائية من كلية غوردون)
صدق ظني فأنا بأزاء رجل متعلم، وطاب لي أن يستمر في حديثه وكله سمر مفيد متصل بما أعنى به
سألت السائق: (وما الذي دفع بك إلى الوجه السوداني؟)(94/32)
قال: (ولدت هناك؛ وقد كان أبي موظفا بمصلحة السكة الحديد. أرسل إلى السودان ليدرب المبتدئين هناك من عمال التلغراف، ولما عدنا أتممت دراستي إلى شهادة الكفاءة، وشق علي أن أسعى للوظيفة وسط أمواج الساعين وذل الوساطة، فتعلمت قيادة السيارات واشتريت هذه، وأنا بعيشي قانع ولله الشكر)
لم أجد بدا من تحيته تحية تجزئ شيئا من كرامته وحسن تقديره للحياة ولوطنيته. قلت: قف السيارة - وقد ظن أني أريد استئناف السير على قدمي لدقائق أخرى، فهم بفتح الباب قلت: كلا أمد يدك أني أصافحك، وأنت الآن في نظري خير مني، وأنت إذن سائق ورفيق
أشرفنا على المدينة، فسألت السائق هل يعرفها جيدا؟ قال (نعم) فاطمأن خاطري فنزلت وصورت مدخلها
رأيت أعلاما منشورة، وزينات مرفوعة، وبشرا يغمر الوجوه. فقلت: الحمد لله إنهم يعرفون لليوم حقه. والتفت إلى رفيقي خريج (كلية غوردون) وقلت: (ألا ترى مظاهر العيد؟) أجاب الرجل: (إنه اتفاق سعيد، فقد ازينت المنازل والطرقات لعودة الحجاج من أهل رشيد، وقد دعيت أمس ليركب سيارتي أحد أعيانها القادمين، ولكني وعدتك أن أوفيك بفندق وندسور. فاعتذرت مهما علا الأجر، وأنا اليوم أعد نفسي سعيدا) قلت: بل أنا يا بني، فقد وجدت فيك من يحتفل معي بهذا العيد على معرفة!) وقلت: لا يزال في الدنيا من يرخص المادة في سبيل الوفاء، وإذن ما تزال الدنيا بخير
رشيد بلد ظريف جذاب. إذا نظرت إلى التقاء النيل عنده بالبحر الأبيض المتوسط، ذكرت على التو كيف انسابت مدينة وادي النيل القديمة إلى أوربا، وعرفت كيف سارت تعاريج الأمواج الحلوة الهادئة بين الشاطئين الهادئين، فكانت أشبه بالسطور يحملها الأثير بفعل الاختراع - فنقلت في أقدم العصور التشريع المصري إلى (أثينا) فأضفت على تاريخها مفخرة التقنين وسن الشرائع
أمواج النيل الهادئة، بالإضافة إلى أمواج البحر الصاخبة الهائلة، كذلك الخلق الرصين المتين يثابر متئدا فيتغلب على صخب الجبروت، والهيولى الضخمة المخيفة لكتائب الغضب والغزو - وقد شهد وادي النيل مصارع أمم كبيرة فأفنى قواها أو مثلها ففنيت في شعبه(94/33)
ممرنا بالمباني الحديثة فقلت خلوا بيني وبينها، أروني المباني القديمة، أسمعوني الشهود العدول، دعوها تحدثني عما شهدت وتطلعني على ما خفي من تفاصيل المفاخر
رأيت المنازل القديمة، ووقفت بربوعها أسائلها وتجيبني. أصغي إلى (طيقانها) الصغيرة، فأسمع حديث الإباء والشمم، ووقفت بأبوابها أذكر القرى والكرم
التقيت بأحد أبناء رشيد الكرام الأستاذ فؤاد نور المحامي فحمدت الله رفقته وحمدت السري في ظله، زرنا المنازل الأثرية فهذا بيت (الأماصيلي) كان يملكه حاجب المحكمة الأهلية فابتاعته مصلحة الآثار ولكنه مقفل فلا دليل يقف ببابه للمسترشدين، ولا نشرة توزع بما يجب للبناية الأثرية من بيانات، ولا (كارت بوستال) يباع - حاويا صوره الداخلية
والبيت من داخله تحفة فنية وفيه متعة وشغل للبصر والبصيرة، بني في 28 شوال سنة 1223 هجرية وقل أن تجد من يعنى بتاريخ البناء إلا في السنوات الأخيرة
وأعجب ما ترى فيه (مقصورات) شبيهة بالألواح التي نراها اليوم بالمسارح أعدت لجلوس السيدات ليشهدن مجالس الغناء وتسمى (الأغاني) إضافة إلى الغرض منها
وفقت إذن: أن هذا البيت قد شهد موقعة النصر وأنه شاهد أمين عليها، وقفت به طويلا وقلت: ما يؤلمني أن أكون وحيدا ولا يرافقني رهط قليل ما دمنا نقوم بما نعلم من واجب، فغدا يزور رشيد آلاف وغدا يكون الاحتفال عاما، ولا ضير أن نبدأ قلة وقد نعلم أن (واشنتجون) عد في وقت مجنونا، وأنه لم يخل من تآمر حرسه عليه، وهو اليوم، وفكرته اليوم متجه الأنظار للأمريكان جميعا
ليس في رشيد فندق لائق. وقد أعد يوناني مطعما منذ سنوات قليلة فقاطعه أهل البلد حتى لم يجد مناصا من إغلاقه وهجرة البلد
كل دار أحق بالأهل إلا ... في خبيث من المذاهب رجس
ولكن هذا الميدان الذي خلا أليس من أهل البلد من يملؤه؛ أولئك الذين كتب عنهم الجنرال ستيورات إلى القائد فرزيه في 31 مارس سنة 1807 يقول: (أن الأهالي لا يعبأون بالمصائب برغم ما أحدثنا بالمدينة من تخريب حتى بلغ ما أطلقناه من القنابل من المدافع البعيدة المرمى وحدها 300 قذيفة)
على أحفاد أولئك الكرام أن يحتفلوا بذكرى أجدادهم وبمجد بلدهم. وعليهم أن يسدوا كل(94/34)
ثغرة، ولعلنا نقتبس الرشد عما قريب عن رشيد
الشيخ عطا
محمد محمود جلال المحامي(94/35)
فلسفة موسى بن ميمون
ومصنفه دلالة الحائرين)
بقلم إسرائيل ولفنسون
إذا كانت مدونات موسى أبن ميمون التشريعية قد صنفت لأبناء الثقافات اليهودية قبل كل شيء، وإذا كانت البحوث التي وردت فيها لا تتجاوز حدود الدين وأدب الدين والتشريع الإسرائيلي فإن كتاب دلالة الحائرين يشغل ناحية أخرى من التفكير الإنساني، هي الناحية الفلسفية والمنطقية، أو الناحية الإنسانية العامة التي كانت تشغل بال المفكرين ورجال الفلسفة في ذلك العهد
وقد اعتمد بن ميمون في أثناء تأليفه كتابه (دلالة الحائرين) على المصادر العبرية التي كان له بها إلمام يندر أن يكون في شخص آخر من أحبار اليهود في القرون الوسطى، كما كانت له دراية تامة بمؤلفات اليهود باللغة العربية، ومع أنه لم يسرد أسماء المؤلفين إلا في أحوال نادرة فإن نظرياتهم تتكرر في كثير من فصوله في كتابه (دلالة الحائرين) إذ يسرد آراء سعديا الفيومي وبخيا وسليمان بن جبيرول ويهودا هالوي وإبراهيم بن حيا وإبراهيم بن عزرا
وكذلك كانت له دراية بآداب اليهود القرائين
أما الفلسفة اليونانية فكان يعرفها من التراجم العربية شأن غيره من الفلاسفة في البلدان الإسلامية وهو متأثر قبل كل شيء بأرسطاطاليس الذي يراه رئيس الفلاسفة، يجله إجلالا عظيما إذ يقول: (وكل ما قاله أرسطاطاليس في جميع الوجود الذي من لدن فلك القمر إلى مركز الأرض هو صحيح بلا ريب، ولا يعدل عنه إلا من لم يفهمه، أو من تقدمت له آراء يريد الذب عنها، أو تقوده تلك الآراء إنكار أمر مشاهد. . .)
وكان قد درس كتاب الأخلاق لأرسطاطاليس من ترجمة إسحق بن حنين كما علم نظرياته من شروح يونانية مترجمة إلى العربية مثل إسكندر الأفروديسي وتامستيدس ويحيى النحوي
وكذلك وصلت إليه نظريات أرسطاطاليس بوساطة المصنفات العربية مثل الغزالي وابن باجة أبو بكر بن الصائغ وأبن الطفيل والفارابي وآراء المتكلمين، وكذلك أدمج في (دلالة(94/36)
الحائرين) بعض النظريات لبطليموس وجلينوس اليونانيين
وكذلك ورد في دلالة الحائرين بحث في منزلة المعتزلة والأشعرية مما يدل على أنه درس المذاهب الإسلامية دراسة وافية
وكان السبب المباشر في نشر كتابه دلالة الحائرين إلحاح تلميذه يوسف بن عقنين عليه، ويقول موسى بن ميمون في مقدمته إلى تلميذه: أيها التلميذ العزيز، لما مثلت لدي وقصدت إلى عظم شأنك لشدة حرصك على الطلب، ولما رأيت في أشعارك التي وصلتني وأنت مقيم بالإسكندرية من شدة الاشتياق للأمور النظرية، وقبل أن أمتحن تصورك قلت لعل شوقه أقوى من إدراكه، فلما قرأت علي ما قرأته من علم الهيئة وما تقدم لك مما لا بد منه، زدت بك غبطة لجودة ذهنك، وسرعة تصورك، ورأيت شوقك للتعليم عظيما فتركتك للارتياض فيه لعلمي بمآلك ولما قرأت علي ما قرأته من صناعة المنطق تعلقت آمالي بك، ورأيتك أهلا لأن تكشف لك أسرار الكتب النبوية حتى تطلع منها على ما ينبغي أن يطلع عليه الكاملون، فأردت أن ألوح لك تلويحات وأشير لك بإشارات، فرأيتك تطلب مني الازدياد وأن أبين لك أشياء من الأمور الإلهية أن أخبرك بمقاصد المتكلمين وطرائقهم. . . وآمرك أن تأخذ الأشياء على ترتيب قصدا مني أن يصح لك الحق بطرقه لا أن يقع اليقين بالعرض؛ ولم أمتنع طول اجتماعك بي إذا ما ذكر نص من نصوص الحكماء فيه تنبيه على معنى غريب من تبيان ذلك لك، فلما قدر الله بالافتراق، وتوجهت إلى حيث توجهت أثارت مني تلك الاجتماعات عزيمة كانت فترت وحركتني غيبتك لوضع هذه المقالة التي وضعتها لك ولأمثالك، وقليل ما هم، وجعلتها فصولا منثورة وكل ما أكتب لك منها يصلك أولا فأولا ودمت وأنت سالم. . .
ولم يقصد موسى بمصنفه هذا الجمهور أو المبتدئين بالنظر، بل كان نصب أعينه (جماعة الذين أخذوا أنفسهم بالكمال الإنساني وإزالة هذه الأوهام السابقة من سن الطفولة) أو إنه (ما ألف الكتاب إلا لمن تفلسف وعرف ما قد بان من أمر النفس وجميع قواها. . . . .) أو (لمن هو كامل في خلقه ودينه ونظر في علوم الفلسفة وعلم معانيها. . . . .)
أما عن غرض تأليف دلالة الحائرين فيقول المؤلف: ما كان الغرض نقل كتب الفلاسفة. . . وما كان قصدي أن أؤلف شيئا في علم الطبيعة، أو أن ألخص معاني العالم الآلهي على(94/37)
بعض المذاهب، أو أبرهن على ما يبرهن منها، أو أن أقتضب هيئة الأفلاك، ولا أن أخبر بعددها إذ الكتب المؤلفة في جميع ذلك كافية، وإن لم تكن كافية في غرض من الأغراض فليس الذي أقوله أنا في ذلك الغرض أحسن من كل ما قيل، وإنما كان الغرض بهذه المقالة أن أبين مشكلة الشريعة وأظهر حقائق.
ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، يشتمل كل جزء على فصول أو موضوعات، وعلى كبر حجم الكتاب وتنوع موضوعاته فإن ما ورد فيه من النظريات يتدرج تدرجا منطقيا محكما من قضية إلى أخرى، فكأن جميعها سلسلة واحدة مرتبطة ارتباطا وثيقا
والهدف الأسمى الذي يرمي إليه موسى بن ميمون هو أن يلقى أشعة من أنوار الفلسفة والمنطق والعقل على الأيمان والشعور (العقل الفائض علينا هو الصلة بيننا وبين الله تعالى. . .)
وهو يقصد التوفيق بين الدين والفلسفة (الحكمة المقولة بإطلاق في كل موضوع هي إدراكه تعالى)، كما يقصد التوفيق بين موسى كليم الله وأرسطاطاليس شيخ الفلاسفة حتى ينظر العالم إلى الدين عن طريق الفلسفة، وحتى يطلب الحق والعرفان لا في أفق الدين وحده، بل في ميدان العقل والمنطق أيضا، وقد رفع بذلك الفلسفة والفلاسفة إلى مصف واحد مع الدين وكبار مفكري الدين
ويبحث الجزء الأول من دلائل الحائرين في ماهية الله وكيفية إدراكه وتوحيده، كما يدخلنا في الكتاب المقدس عن طريق الفلسفة والمنطق، ويفتح الكتاب بمحاربة عنيفة كل ما يقصد من الأوصاف المادية المنسوبة لله، فيشرح الآية (نصنع إنسانا على صورتنا وشبهنا) إن الناس قد ظنوا أن لفظ صورة في اللسان العبري يدل على شكل الشيء وتخطيطه فيؤدي ذلك إلى التجسيم المحض، ورأوا أنهم أن فارقوا هذا الاعتقاد كذبوا النص. . . وأما صورة فتقع على الصورة الطبيعية، أعني على المعنى الذي يجوهر الشيء بما هو حقيقته من حيث هو ذلك الموجود المعنوي، هو الذي عنه يكون الإدراك الإنساني. . . فيكون المراد من الصورة النوعية التي هي الإدراك العقلي لا الشكل والتخطيط. . .
وإدراك الإله عنده على الطريقة السلبية لا الإيجابية، فإنه يقول: (اعلم أن وصف الله عز وجل بالسوالب هو الوصف الصحيح الذي لا يلحقه شيء من التسامح، ولا فيه نقص من(94/38)
حق الله تعالى جملة ولا على حال، أما وصفه بالإيجابيات ففيه من الشرك والنقص)
ويبحث الجزء الثاني في مشاكل وجود الله وتوحيده وروحانيته وما يرى الفلاسفة في الكون إذا كان قديما أو (محدثا)، ومع أن موسى بن ميمون من أشد أنصار أرسطاطاليس ففي مسألة قدم الكون يحاربه محاربة عنيفة، لأن الأخذ بقدم الكون ينفي ما ورد في التوراة من أن الكون محدث، ويقول موسى بن ميمون بعد بحث طويل في هذه المشكلة إن كل ما ذكره أرسطاطاليس وأتباعه من الاستدلال على قدم الكون ليس له براهين قطعية، بل لها حجج تلحقها الشكوك العظيمة. . .
ثم يبحث في النبوة وماهيتها ودرجاتها وتعريفها عند رجال الدين من الملل المختلفة وعند أصحاب المدارس من الفلاسفة
ويشغل البحث في النبوة أغلب فصول الجزء الثاني وهو من أرقى ما وصل إليه التفكير اليهودي الفلسفي في القرون الوسطى
أما الجزء الثالث فيتم موسى في فصوله السبعة الأولى بحثه عن النبوة بشرحه رؤيا النبي حزقيال الذي ورد في الفصل الأول والثالث من سفره من أسفار العهد القديم، وكل ما ورد فيها من الاصطلاحات العويصة والمعاني الغامضة
ثم ينتقل إلى البحث في الشر، وما يحل من المصائب بالعالم وهل الإنسان هو الذي يكون مسئولا عما يقع من الكوارث على المخلوقين أم الله سبحانه وتعالى، ثم ينتقل إلى مشكلة العناية الآلهية بالكون والمخلوقات، وما يقول الفلاسفة من اليونان والمسلمين واليهود فيها
ثم يتعرض لأمور دينية في الشريعة التي جاءت لصلاح النفس وصلاح البدن، كما يشرح واجبات وعبادات وردت في التوراة على الطريقة الفلسفية
وقد ورد في هذا الجزء معلومات كثيرة عن الأخلاق والعادات عند الصابئة وعبدة الأصنام من الآراميين من أهل حران بجزيرة العراق كما ذكرت بعض كتبهم
وكذلك ورد الذكر لكتاب الفلاحة النبطية لأبن وحشية ولم ينتبه العلماء المستشرقون إلى هذا الكتاب إلا بعد أن قرأوا ما كتبه عنه موسى بن ميمون
وفي الفصول الأربعة الأخيرة يبحث المؤلف في العناية بالعبادات والواجبات الدينية التي هي الغاية المثلى في حياة الإنسان حتى يدرك الحقائق الآلهية، وحتى يتقرب إلى الحق(94/39)
والعدل والحكمة وهي ألفاظ يعرفها موسى تعريفا منطقيا فلسفيا، وهذه الفصول من أدق ما وضع في مصنفه دلالة الحائرين وأكملها
إسرائيل ولفنسون
أستاذ اللغات السامية بدار العلوم(94/40)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثة
وصل الفائت: ترك باستور مدبغة أبيه وذهب إلى باريس. فتلقى على الكيميائي العظيم (دوماس). وبعدئذ أتم أبحاثه في حامض الدردى. وبينما هو كذلك أكتشف (كنيارد دي لاتور) أن الخمائر بالبيرة المختمرة تتكاثر فتحيل الشعير بذلك إلى كحول. وتعين بستور أستاذا بجامعة (ليل) وتزوج ابنة عميدها فسهرت إلى جانبه. وأجرى كثيرا من التجارب الجامحة واخفق فيها.
وتعين (بستور) عميدا لكلية العلوم بجامعة (ليل) فسكن واستقر في (شارع الأزهار. وهنا اتصل عفوا ولأول مرة بالمكروبات. وفي هذه المدينة الأصيلة، مدينة المقطرين للخمور، مدينة زراع البنجر وتجار الآلات الزراعية، قام (بستور) بحملة قوية، بعضها علمي، وبعضها قصصي روائي، وبعضها ديني، وبعضها سياسي، ليضع المكروب في موضعه اللائق من اهتمام الناس ورعايتهم. نعم في هذه المدينة ذات الخطر اليسير والجمال القليل، في هذه المدينة التي لم تشتهر قط بالعلم، أثار بستور زوبعة هائلة نالت سفائن العلم فظلت تؤرجحها ثلاثين عاما. أبان بستور للدنيا خطر المكروب فأوجست منه خيفة، وخلق لنفسه في سبيل ذلك أعداء ألداء، وخلق لها أحبابا خلصاء، وملأ أسمه صفحات الجرائد الأولى. وطلبه خصوم للمبارزة. وضحك الجمهور بادئ بدء من مكروباته الغالية، وقصف بالنكات عليها، بينما كانت كشوفه تنجي حياة العديد من النفساء. واختصارا في هذه المدينة المتواضعة، ومن فوق أرضها شال الشولة الأولى إلى فردوس الخالدين
جاء بستور إلى مدينة (استراسبورج) فحاورته الحقائق فيها واختلطت عليه، ثم جاء إلى مدينة (ليل) فجاءه المجد يسعى، وذلك بإسدائه المعونة إلى. . . خمار!
جاء إلى (ليل) فقال له الرجال ذو المال، وأرباب النفوذ من ذوي الأعمال: (إن العلم جميل(94/41)
في أرستقراطيته، ولكن الذي نريده، والذي تريده المدينة الناهضة، هو التعاون بين علمك وصناعتنا. نريد أ، نعلم هل يزيد العلم في مكاسبنا. زد يا هذا في الحقل مقدار السكر في بنجرنا، وزد في المصنع مقدار الكحول المتقطر من سكرنا، ندر عليك الخيرات، ونتولى معاملك بالرعايات)
سمع بستور ما سمع في أدب واحتشام، ثم أخذ يريهم كيف يستجيب العلم إذا دعاه الداعي. فإنه لم يكن رجل علم فحسب، بل كان رجلا خبيرا بأمور دنياه وسنن العيش فيها. تصور جماعة من أرباب الأعمال يأنون (نيوتن) فيسألونه ماذا تستفيد مصانعهم من قوانين حركته، إذن لرفع يديه إلى السماء واستعاذ منهم بالله، ولذهب من بعد ذلك إلى إنجيله يقرأ كتاب دنيال ويدرس ما فيه من نبوءات. ولو أنهم جاءوا فراداي إذن لآثر صناعته الأولى، وعاد إلى تجليد الكتب وحزم الأوراق. ولكن بستور كان من أبناء القرن التاسع عشر، يعرف حق المعرفة أن العلم لا بد أن يكسب خبز يومه إذا أراد الحياة. لذلك بدأ يحاضر أهل االبلد فيه، ويدبر لهم المحاضرات الشيقة ليخطب ودهم ويكسب عطفهم
وفي ذات مساء كان يخطب في جمع من أرباب المصانع وأزواجهم، فصاح فيهم: (من من أبنائكم لا ينهض للعلم توا، من من أولادكم لا يتحرق للعلم تحرقا، إذا أنا وضعت في يده بطاطة، وقلت له: إنك تستطيع أن تخرج من هذه البطاطة سكرا، وتستطيع أن تخرج من هذا السكر كحولا، وتستطيع أن تخرج من هذا الكحول خلا وأثيرا؟). ومضت على هذا أيام، فجاءه أحد الذين حضروا وخطابه، وكان رجلا يدعى (بيجو)، وكانت صناعته تقطير الكحول من سكر البنجر المختمر؛ جاء يتوسل للأستاذ: (سيدي، أنا في حرج من صناعتي، فاحتمار البنجر لا يتم على وجهه، وخسارتي تبلغ ألوف الفرنكات في اليوم، فبودي لو جئت مصنعي، ونظرت في معونتي، فأنقذتني من خبلتي)
وكان ابن (بيجو) طالبا في قسم العلوم بالكلية، فأسرع (بستور) إلى معونة أبيه. فذهب إلى مصنع التقطير، وأخذ يتشمم في الحواض المريضة، تلك الأحواض التي تأبى أن تخرج من البنجر كحولا؛ وانكب عليها، واغترف منها، فكان شيئا مختلطا أدكن هلاميا، فوضعه في قارورات وحمله إلى معمله. ولم يفته أن يغترف كذلك من لبابة البنجر من الأحواض الصحيحة السليمة المختمرة الراغية بما تنتج من كحول كثير. ولم يكن يدري كيف يختمر(94/42)
السكر فيستحيل كحولا، ولم يكن في الدنيا كلها كيمياوي يعرف عن ذلك شيئا. عاد إلى معمله، وأخذ يحك رأسه وهو يفكر، ثم استقر رأيه على أن يمتحن ما اغترفه من الأحواض السليمة أولا، فوضع قطرة منه تحت مجهره، ولعله كان يحسب أنه سيرى بلورات كتلك التي طال تحديقه أليها زمانا مضى، ولكنه وجد هذه القطرة مليئة بكريات أصغر كثيرا من أية بلورة رآها. وكانت هذه الكريات صفراء، وازدحم جوفها بجسيمات كثيرة ترقص كأنما عن طرب، وتمتم لنفسه: (ليت شعري ما هذه الكريات!)
وأسعفته الذاكرة فصاح ثانية لنفسه: (يا للنسيان! بالطبع هي الخمائر التي تجدها دائما في كل محلول به سكر يختمر ليصير كحولا) وأعاد النظر فأبصر هذه الكريات فرادى، وأبصر طائفة أخرى منها متعنقدة، وأبصر أخرى متقاطرة. ثم حدق فدهش لرؤية بعضها قد تنبتت جوانبه كما تنبت البذور الصغيرة، فقال: (لقد صدق كنيارد، فهذه الخمائر حية. ولا بد أنها هي التي تصير السكر كحولا. ولكن ما فائدة بيجو من هذا! وما الذي أصاب الأحواض المريضة فتعطلت؟) واختطف القارورة التي بها ما كان اغترفه من حوض مريض، وحدق فيه بمنظار مكبر، وشمه، وذاقه، وغمس فيه ورقة زرقاء فاحمرت. . . ثم وضع قطرة منه تحت مكرسكوبه ونظر فيها
(عجبا! أين ذهبت الخمائر، فليس في هذه القطرة منها شيء؟ ما هذا؟ ما معناه؟)
وتناول القارورة مرة أخرى، وأخذ ينظر ويفكر، ولا ترى عينه فيها جديدا. وبينا هو يركب في التعليل الخيال، ويسوم ذهنه طلب المحال، إذا بالسائل في القارورة يتراءى له في صورة جديدة تبعث فيه أملا جديدا. (ماذا أرى؟ بقعا صغيرة دكناء لاصقة بجدار القارورة. وهذه بقع أخرى مثلها تطفو على سطح سائلها المريض - إذن صبرا!. . . لا. إنها لا توجد في القارورة ذات السائل الصحيح حيث الخمائر والكحول) ثم غاص في القارورة المريضة، وبشيء من العناء استطاع أن يخرج شيئا من تلك البقع فوضعها في ماء نقي، ثم علاه بمجهره هذا يوم (بستور) جاء أخيرا!
لم يجد في هذا السائل كريات الخمائر. لا، ولكنه وجد شيئا جديدا، لم يره من قبل، أحياء صغيرة كثيرة شديدة الزحام، شكلها كالعصي، بعضها قائم وحده، وبعضها متقاطر كالأبل، وكلها يرقص في ارتعاد غريب لا هدأة له. كانت الخمائر في عينه صغيرة فجاءت هذه(94/43)
تصاغرها فتصغرها كثيرا، فلم يعد طولها جزءا من ألف من المليمتر
وفي هذه الليلة أرق (بستور) طويلا، وتقلب في مضجعه طويلا. وفي الصباح كنت تراه يجرجر ساقيه الغليظتين القصيرتين إلى مصنع (بيجو)، وبنظارته المنحرفة على بصره القصير، مال على حافة حوض مريض لم يكن أتاه من قبل، وجرف من قاعه بعض الذي فيه. ثم مال على أحواض مريضة غيره. ونسي (بيجو)، ونسي أنه إنما بدأ هذا العمل لمعونة (بيجو). اختفى (بيجو) من فكره، واختفى كل شيء في الوجود إلا نفسه الشمامة البحاثة، وإلا تلك العصي الراقصة الغريبة التي وجد الآلاف المؤلفة منها في تلك البقع الكدماء الصغيرة. . .
ولما جاء الليل أخذت زوجه تنتظره لينام، فلما يأست ذهبت إلى الفراش وحدها، وتركته ينصب الجهاز تلو الجهاز حتى ازدحم معمله بها. ووجد أن جميع السوائل بالأحواض المريضة تحتوي حامضا عرف أنه حامض اللبن، وأنه ليس بها كحول. ولم يلبث أن خطر له خاطر غمر فكره كله، وملأ رأسه أجمع: (إن هذه العصي بالسوائل المرضة حية، وهي هي التي تصنع حامض اللبن؛ وهي ربما تشتجر مع الخمائر في قتال شديد فتقضي عليها فلا تنتج كحولا. إن هذه العصي تصنع حامض اللبن كما تصنع هذه الخمائر الكحول). وهرول إلى السلم، فصعد إلى مدام (بستور) يخبرها بالذي وجد - مدام (بستور) التي لم تعرف من التخمر والخمائر شيئا، مدام (بستور) التي لم تفهم من علمه إلا قليلا، إلا أنها فهمت نفسه المتحمسة وروحه الوثابة، فأعانته بعطفها وحبها كثيرا
بالطبع لم يكن الذي ارتآه إلا ظنا، ولكن قام في نفسه شيء يوسوس له أن هذا الظن حق لامرية فيه. لقد تظنن (بستور) مئات المرات فيما وقع عليه بصره القصير من مئات الظواهر في الطبيعة التي حوله. وكانت ظنونا خاطئة. ولكنه إذ وقع هذه المرة على ظن صادق، إذ خال أنه أصاب تفسيرا لظاهرة التخمر التي أشكلت على القرون من قبله، أخذ يمتحن هذا الظن، ويفحص هذا الخال، ويقلبه، ويداوره، ويتقرى الحقيقة فيه حتى وصل إلى كنهها
وبينما ازدحمت في رأسه الخطط الكثيرة لتقري كنه هذه الحقيقة لم يفته أن يعين أرباب العمل على مصاعبهم، ولا أهل الحكم إذا دهوه إلى نصيحة، ولا المزارعين إذا جاءوه، ولا(94/44)
الطلبة إذا طلبوه. وحول جزءا من معمله لاختبار الأسمدة الكثيرة التي تأتيه. وهرع إلى باريس يدبر لانتخابه عضوا في أكاديمية العلوم فما أفلح. ورحل بتلاميذه إلى معامل الجعة في (فالنسين9 وإلى مسابك الحديد في بلجيكا. وفيما هو في هذا، تراءى له يوما أنه اهتدى إلى الطريقة السوية التي يثبت بها أن هذه العصى القصيرة تحيا حياة الخلائق، وأنها على صغرها، وعلى قصرها، وعلى حقارتها، تفعل فعل العمالقة - تفعل ما لا يستطيعه العمالقة: تحيل السكر إلى حامض اللبن
حدث (بستور9 نفسه قال: (لا يمكنني أن أدرس هذه العصي في عصير البنجر المسكر وفيه ما فيه من أخلاط عدة. لا بد لي من عصير رائق أتتبع فيه ما تصنع هذه العصي. لا بد لي من ابتداع مرق صاف به غذاء طيب خاص لها، أضعها فيه، ثم أرقبها لأرى هل تتكاثر، هل تتوالد، هل أجد في هذا المرق بعد حين مكان العصا الواحدة عصيا راقصة كثيرة؟)
ووضع شيئا من تلك البقع الكدماء التي كانت بالحياض المريضة في محلول من سكر نقي، فوجد أن العصي لا تتكاثر فيها، فقال: (إنها تريد غذاء أمرا من هذا). فجرب بطلب الغذاء المريء فخاب. ثم جرب وخاب. وأخيرا صنع لها مرقا غريبا بأن أخذ شيئا من خميرة جافة، فأغلاه بالماء ثم صفاه، وأخذ مرقه الرائق فأضاف له شيئا من كربونات الكلسيوم ليضيع ما قد يحدث فيه من حموضة. وأتى بإبرة فغمسها بالبقع الدكناء بالحياض المريضة، وحمل ما علق بطرفها الرفيع من العصي الصغيرة إلى مرقه ودافها فيه. ثم وضعه في قارورة وضعها في فرن دافئ للتفريخ ذي درجة حرارة ثابتة، وأخذ ينتظر في قلق واضطراب. أن لعنة هذا البحث، بحث المكروب، يجدها الباحث دائما في هذه الخيبات المتوالية الكثيرة التي تعوق النجاح طويلا
وذهب فأمضى رجعات، وألقى محاضرات، وعاد إلى قارورته ينظر إليها وهي في مدفئها. ومضى مرة أخرى فألفى فلا حين جاءوا يستنصحونه في محاصيلهم وأسمدتهم فنصحهم بالذي ارتآه. وجاءت أوقات الطعام فابتلع منه ابتلاعا ولم يع مما أكل شيئا. وعاد فنظر إلى قارورته واصطبر. وذهب إلى سريره جاهلا بالذي يجري في تلك القارورة، وليس من اليسير النوم في مثل هذه الجهالة. . .(94/45)
وجاء الصباح ولم يظهر على مرق القارورة تغير. وجاء الظهر، ومضى أكثر النهار، فأحس رجليه تثقلان من الخيبة مرة أخرى. وجاء المساء وتمتم لنفسه: (يظهر أن كل تلك المحاليل الرائقة لن تأذن لهذه العصي اللعينة بالتزايد فيها. ومع هذا فلأنظر مرة أخرى. . .!)
وكان في معمله مصباح واحد من الغاز يضيئه، وقع بين الأجهزة الكثيرة فألقى على الحائط خيالات كبيرة مروعة. فإلى هذا المصباح رفع بستور قارورته، ثم همس يقول: (لا شك أن شيئا تغير في هذا المحلول، فإني أرى فقاعات صغيرة من غاز تصعد متقاطرة متحاذية من تلك الجسيمات الدكناء التي لقحت المحلول بها. وقد زاد مقدار هذه الجسيمات عما كان بالأمس، وكلها تخرج منه هذه الفقاعات). وعندئذ أغمض بستور عينيه. وبقى في غيبوبة عند محضنه الصغير. ومضت ساعات تلو ساعات ولعله لم يحس بها. ورفع قارورته برفق وحنان، وحركها في الضوء بلطف وئيد، فصعد من قاعها من شيء كالغمام الاقتم دار صاعدا كاللولب، وخرج منه غاز كثير. والآن فإلى المجهر. . .
قطرة قطرة من السائل تحت مكروسكوبه. يا لشياطين الأرض وملائكة السماء! إنها مليئة تعج بالملايين من تلك العصي الراقصة. وهمس لنفسه في لهفة: (إنها تتكاثر! إنها حية!). ثم صاح يجيب زوجه: (نعم، نعم، سأصعد بعد قليل). وكانت تدعوه من عل إلى لقمة، وكانت تدعوه إلى نومه. ومضت ساعات وهو باق تحت معمله
وفي الأيام التي تلت أعاد بستور التجربة، فوضع قطرة تزخر بتلك العصي في قارورة جديدة بها مرق من مرق الخمير رائق جديد ليس به عصا واحدة، وفي كل مرة امتلأ المرق بالبلايين من تلك العصي، وفي كل مرة تكون حامض اللبن فيه. ثم صرخ (بستور) بأعلى صوته يخبر الدنيا، فلم يكن بالرجل الصبور. وأخبر المسيو (بيجو) أن الذي أمرض أحواضه هي هذه العصي الحية: (يا مسيو بيجو، حل بين هذه العصي وبين حياض بنجرك، تحصل دائما على الكحول الكثير) وأخبر طلبته بكشفه الكبير، بأن هذه الخلائق البالغة الصغر تستطيع تخريج حامض اللبن من السكر، وقال لهم إن هذا الشيء لم يستطعه رجل ولن يستطيعه. وكتب بالخبر إلى أستاذه القديم (دوماس)، وإلى جميع أصدقائه. وحاضر فيه للجمعية العلمية بمدينة (ليل)، وكتب مقالا فيه وبعثه إلى أكاديمية العلوم(94/46)
بباريس
ليس في الإمكان اليوم أن نؤكد أن (بيجو) استطاع أن يمنع دخول هذه العصي إلى سكره المختمر، فهذا ليس بالأمر اليسير، ولكن (بستور لم يحفل بذلك، فكل الذي احتفل له كشف الحقيقة الآتية: (أن التخمر مرجعه الحق إلى أحياء تدق عن النظر)
وبكل سذاجة أخبر كل من لقى أن كشفه هذا كشف عجيب. كان فيه شيء من بساطة الطفولة فلم يحس بالحاجة في هذا إلى التواضع والتخاشع. ومن هذا الوقت ملأت تلك الخمائر الصغيرة دنياه. أكل وشرب ونام وأحتلم وأحب. وأتى كل هذا ولم يستغرق في شيء منه. وأتى كل هذا وخمائره إلى جانبه لا تفارقه. إنها كانت روحه التي ينبض بها
وكان يشتغل وحده، لا معين له إلا نفسه، فلم يكن له حتى خادم واحد يغسل له قواريره. وكأنى بك تتساءل فكيف إذن وجد من يومه الفراغ لاحتواء هذه الأحداث الكثيرة المتزاحمة؟ والجواب أن هذا رجع بعضه إلى نشاطه الجم، ورجعت بقيته إلى مدام (بستور). قال (رو) (إن مدام بستور أحبته حبا كادت به تفقه أبحاثه). كانت الزوجة الطيبة تخلص من خدمة أطفالها ووضعهم في الفراش، وعندئذ قد تسهر وحيدة تنتظر انتهاءه من عمله لتسوقه إلى النوم، أو كانت تجلس بجانب زوجها في اعتدال على كرسي ليس بالمريح إلى نضد صغير تكتب ما يملى من مقالات علمية طويلة، أو كانت تتركه يكب على قواريره ويفكر في أنابيبه وتظل في حجرتها تبيض ما كتب من ملاحظات كنبش الدجاج في خط واضح جميل. كان (بستور) روحها، وكان روح (بستور) عمله، فأخذت هي تذوب في روح بستور - في عمله - حتى أمحت فيه
يتبع
أحمد زكي(94/47)
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
تمهيد:
الشعراء العالميون في شعراء العربية قليلون، وإنهم ليبلغون من القلة بحيث إنك لا تكاد تبلغ بهم عدد أصابع اليد الواحدة، وهذا بينما ترانا الآن نعرف من أسماء شعراء أوربا في هذا العصر أكثر مما نعرف من شعرائنا الأقدمين، وندرس من شعرهم وأدبهم أكثر مما ندرس من الشعر والأدب العربيين، حتى أصبح الشعر والأدب الأوربيان فتنة شبابنا الناشئين، يكلفون بهما أكثر مما يكلفون بشعرنا وأدبنا، ويصرفون جل أوقاتهم في دراستهما، وتعرف طرائقهما حتى أثر هذا في شعرهم، وصرنا نرى بهذا الشعر العربي أساليب كثيرة ما كان يعرفها من قبل، ومعاني جديدة تغزوه كما يغزونا أصحابها برجالهم وأسلحتهم، وأموالهم ومصنوعاتهم
وربما يكون أبو العتاهية أول شاعر عربي بلغ هذه المنزلة الشعرية العالية، وكان له شعر عالمي تتسابق الأمم المختلفة اللغات إلى روايته ودرسه، وترجمته إلى لغاتها وإذاعته في بلادها. قال أبو الفرج: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي إجازة قال: حدثني الرياشي قال: قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد، فسأل عن أبي العتاهية وأنشده شيئا من شعره، وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له، فكتب ملك الروم إليه، ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية، ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك، فاستعفى منه وأباه، وأتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجومُ السماء في الفَلك
إلا لنقل السلطان عن مَلِك ... قد انقضى مُلكَه إلى مَلِك
وهما في الحق بيتان جديران بأن ينالا مثل هذه العناية من ملك الروم، فما أحسنهما عظة بالغة، وما أصدقهما حكمة نافعة، وما أجمل أسلوبهما في سهولته وامتناعه، ولكن علماءنا جازاهم الله لا يقدرون من هذا ما قدره ملك الروم لأبي العتاهية، وقد ينظرون إلى هذين البيتين إذا قرأهما إلى صناعتهما اللفظية، ولا يعنيهم منها هذا المعنى الجليل الذي عنى به(94/48)
ملك الروم، وربما يعيبونهما بما يسمونه التضمين الذي عابا به بيتي النابغة الذبياني:
وهُمْ وردوا الجِفارَ على تَمِيم ... وهم أصحاب يوم عُكاظَ إنِّي
شهدتُ لهم مَوَاطِنَ صادقات ... شَهِدْنَ لهم بحسن الظن مني
والتضمين عندهم هو تعليق قافية بيت بما بعده بحيث لا يتم الكلام إلا به، وهذا بأن يكون جواب شرط أو خبراً أو نحوهما لا نعتا أو نحوه من التوابع والفضلات، فلا يرضيهم إلا أن يكون لكل بيت من القصيدة وحدة مستقلة عن البيت الذي قبله، والبيت الذي بعده، ولا يكفيهم أن تكون القصيدة كلها وحدة يصح أن تتصل أبياتها بمثل هذا التضمين الذي يعدونه من عيوب القافية، ويصح ألا تتصل به إذا اتصلت بأمر آخر غيره، وربما يكون اتصال أبياتها بمثل هذا خيرا من تقاطعها وتباعدها، والاكتفاء في الربط بينهما إذا عني به بمثل قولهم (دع ذا أوعد عن ذا)
وقال أبو الفرج: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، وعمي الحسن بن محمد وحبيب نصر المهلبي، قالوا: حدثنا عمر بن شبة، قال: مر عابد براهب في صومعة فقال له: عظني، فقال: أعظك وعليكم نزل القرآن، ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم قريب العهد بكم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله؟ قلت: نعم، قال: فاتعظ ببيت من شاعركم أبي العتاهية حين يقول:
تجرد من الدنيا فإنك إنما ... وقعت إلى الدنيا وأنت مجرد
وكلا هذا وذاك يثبت لنا من أبي العتاهية شاعرا عالميا نباهي به من يباهينا بشعرائه العالميين في القديم والحديث، على قلة هذا الصنف من الشعراء عندنا، وندرة الشعر العالمي في شعرنا، ويهمنا الآن أن ندرس العوامل التي كان لها أثرها في هذا الأمر إلى ظهور شاعرنا أبي العتاهية، لنعرف كيف ظهر في الشعر العربي بهذا المظهر، ونعرف حال العصر الذي نشأ فيه، وكيف كان أثره في شعره
يجري مؤرخو الآداب العربية على أن الصناعة البديعية لم تظهر في الشعر العربي، ولم يكلف بها شعراء العرب إلا في العصر العباسي، بعد ظهور أبي تمام وأضرابه من الشعراء الذين حذوا في ذلك حذوه، واستنوا فيه سنته، ثم زادوا عليه فيه حتى جعلوا من الشعر صناعة لفظية، لا تنطوي على معنى جليل، أو غرض نبيل، وإنما هي ألفاظ جوفاء لا(94/49)
طائل تحتها، ولا تهم الناس في أمر دينهم أو دنياهم
أما أنا فأرى في هذا ما يخالف رأيهم فيه كل المخالفة، أرى أن الصناعة البديعية كانت موجودة في الشعر قبل الإسلام، وأرى أن الشعراء قبله كانوا يقصدون إليها في شعرهم، ويتكلفونها فيه كما تكلفها أبو تمتم ومن أتى بعده، وإن أربوا في ذلك عليهم، وقصدوا إليه أكثر منهم، وأرى أن أبا تمام لم يفعل إلا أن جدد هذه السنة، ونهج في شعره على منوالها، بعد أن كاد الشعراء العباسيون قبله يسلكون بالشعر مسلكا جديدا يخالف هذا المسلك، ويتلائم مع العصر الذي ظهروا فيه كل الملاءمة
وكان أمرؤ القيس أول من عني بالصناعة البديعية في الشعر العربي، فتكلف منها ما لم يتكلفه أحد من قبل، وتزاحمت في شعره الكنايات والتشبيهات والاستعارات وما إليها، فكل هذا من الصناعة البديعية، وأسم البديع يشمل عند القدماء التشبيه مثلا، كما يشمل المقابلة والجناس ونحوهما
وقد ضاع أكثر شعر القدماء قبل امرؤ القيس، فلا نعرف مقدار ما كان فيه من تلك الصناعة؛ والذي نرجحه أنه كان لا يخلو منها، ولكن الذي كان يغلب عليه العناية بالمعاني الأصيلة، فكانت تظهر فيه على فطرتها في غير تصنع ولا تكلف ولا اجتهاد في تحسين، يأتيها بتصرف الخيال فيها بتشبيه أو كناية أو نحوهما
وغاية ما ذكره علماء الأدب في ذلك أن القدماء قبل امرئ القيس كانوا يقولون في المرأة الحسناء: (أسيلة الخد، تامة القامة أو طويلتها، جيداء أو طويلة العنق،) فقال أمرؤ القيس في هذا: أسيلة مجرى المع، بعيدة مهوى القرط، وكانوا يقولون في الفرس: يلحق الغزال، ويسبق الظليم. فقال أمرؤ القيس فيه: (بمنجرد قيد الأوابد هيكل)، ولا يكادون يجاوزون هذا في بيان الفرق بين حال الشعر العربي قبل امرئ القيس وحاله بعده
وقد شغف الشعراء بد امرئ القيس بصناعة البديع في شعرهم، وكانت حياتهم البدوية تضيق بهم، وتضيق بعقولهم وأفكارهم، فوقفوا بالشعر العربي عند معان محدودة، متأثرة في ضيقها وعدم اتساعها، وقلة أثر العقل المثقف فيها بضيق تلك الحياة، وقلة أثر الثقافة فيها، وأخذوا يدورون حول تلك المعاني كما تدور الرحى حول محورها، لا يتصرفون فيها إلا بتشبيه أو استعارة، أو مجاز أو كناية، أو نحو هذا من تلك الصناعة التي تنافسوا فيها،(94/50)
حتى وصلوا بها في سجع كهانهم إلى آخر حدودها، فكان لهم فيه سجع متكلف مرذول، لا يقل قبحا في تكلفه عن السجع الذي تكلف بعد الإسلام في آخر العصر العباسي، إلى أن ظهرت هذه النهضة الحاضرة
ثم جاء المتأخرون من شعراء هذا العصر، فزادوا الطين بلة، واتخذوا الشعر تجارة، وتكسبوا به في المدح والهجاء، وداروا به في تلك المعاني لا يكادون يتجاوزونها، أو يحسنون شيئا سواها، فساء أثر هذا الشعر في الأمة العربية، وصار شعراؤه معاول هدم في بنائها، وقد جمدوا على ما ألفوه من هذا جمود أمتهم على أوثانها وأصنامها
وفي وسط هذا الجمود الأدبي، وذلك الضيق الفكري، ظهر الإسلام يدعوا العرب إلى دين جديد يأخذ بهم من عزلتهم، في هذا الضيق وذلك الجمود، إلى معترك الحياة التي تتلاقى فيه الشعوب، وتجتمع متنافسة في وسائل الرقي والنهوض، فحاربه أولئك الشعراء وحاربهم، لأنهم رأوا فيه خطرا على ما جمدوا عليه في صناعتهم، ورآهم هو من الجمود وضيق الفكر بحيث لا يصلحون ولا يتفق شعرهم مع دعوة هذا الدين الجديد، ورأى أنه لا يتفق معه إلا أدب مثقف يعنى فيه بالمعاني الأصيلة السامية، أكثر مما يعنى بتلك الصناعة التي تضيع فيها تلك المعاني، ويتلاعب فيها بما يسمونه المعاني الثانوية التي لا يصح أن تؤثر في حال من الأحوال على المعاني الأصيلة، ولا شك أنه كلما أوغل الشعر والأدب في إيثار تلك الصناعة بعدا عن هذه الغاية السامية التي يراد لهما فيها أن يتفقا مع هذا الدين، فيكونا للبشر كافة، لا للعرب خاصة، ولا تقف تلك الصناعة حائلا دون فهم الناس لهما، أو العناية فيهما بما يعنيهم منهما
فإذا أردت أن تعرف نظر الإسلام إلى ما كان عليه الشعر والأدب العربي من هذا كله إبان ظهوره، فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال له بعضهم يتشادق في كلامه تشادقهم: (يا رسول الله، أرأيت من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس مثل ذلك بطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرا لهذا منه: أسجع كسجع الجاهلية؟) وانظر إليه صلى الله عليه وسلم يفتخر بنشأته على بغض هذا الشعر فيقول: (لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ول أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله. الحديث). وانظر إلى قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)، وقوله أيضا(94/51)
في سورة الشعراء: (والشعراء يتبعه الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)
وقد انقضى عهد النبوة وعهد الخلافة في محاولة إصلاح الأدب العربي، والوصول بالشعر إلى تلك الغاية النبيلة. ثم جاء بعد هذين العهدين عهد بني مروان، وهم من بني أمية الذين كانت تغلب عليهم النعرة العربية، لما كان لهم قبل الإسلام من الزعامة في قريش، وهذه النعرة هي التي وقفت بهم على رأس المناوئين للدعوة التي أتى بها الإسلام، حتى أنهم لم يسلموا إلا بعد فتح مكة والسيف مصلت على رؤوسهم، وهي التي تأثروا بها في سياستهم حينما آل أمر المسلمين إليهم، فرجعوا بالشعر إلى نعرته العربية، وحولوه عن وجهته الإنسانية التي أخذ يسير عليها في عهد النبي وخلفائه الراشدين
فوقف لهم بنوا عمهم من بني هاشم، قوم النبي وعشيرته الأقربين، وهم الذين كانوا أول من بادر إلى الإيمان بدعوته، وفهموا حقيقة ما يدعوا إليه، وعرفوا أن هذا الدين للبشر عامة، لا للعرب خاصة، وأنه لا يصح أن يكون فيه فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)
وعلى هذا قامت الدعوة العباسية الهاشمية، فنشأت دولة إسلامية محضة، وكانت للعرب كما كانت للفرس وللقبط وللبربر وللترك ولغيرهم من الشعوب التي دانت للإسلام، وقليل من الناس من يفهم كما نفهم كيف قامت هذه الدعوة، وأنها كانت ثورة دينية سياسية أدبية، قام بها العباسيون ومن ناصرهم من الفرس وغيرهم، وأن غايتها كانت إقامة دولة للمسلمين لا للعرب خاصة، وانتهاج خطة جديدة تأخذ فيها بيد كل الشعوب التي دانت للإسلام، لتشترك في بناء الوحدة الإسلامية، وقد كان لهذا أثره العظيم في الدين والعلم والأدب والشعر، إذ أخذ العلماء من كل الشعوب يشتركون في بناء هذه الوحدة، وأخذ الأدباء والشعراء يقضون في الأدب والشعر على تلك النعرة العربية، ويعملون على تسهيل الشعر للناس، وتقيبه لتلك الشعوب الأعجمية التي رفعت رؤوسها في تلك الدولة، وكان أكثر أولئك الشعراء من أصل غير عربي، فانتهزوا فرصة قيام دولة العباسيين وإنصافها لهم، وقاموا بثورتهم الأدبية في(94/52)
عنف وشدة، حتى صاروا في الشعر أعلام هذه المدة من العصر العباسي، وضعف شأن الشعراء الذين كانوا من أصل عربي، إذ جمدوا في شعرهم على نعرتهم العربية، وعنايتهم بتفخيم لفظ الشعر وتجويد صناته أكثر من عنايتهم بتثقيفه وتهذيبه، والتفنن في معانيه وأغراضه، وقد عاد شأن هؤلاء الشعراء إلى الظهور حينما ظهر أبو تمام والبحتري وأضرابهما من الشعراء الذين تأثروا بأصلهم العربي، وأخذوا يعودون بالشعر إلى سنته القديمة
ولعل هذا الاسم (عصر الثورة العباسية) هو الاسم الذي يجدر أن تسمى به تلك المدة من ذلك العصر، فهو خير مما يسمونها به (صدر الدولة العباسية) وكثير منهم لا يراعي ما يمتاز الأدب به في هذه المدة عما بعدها من هذا العصر، فيجعل العصر العباسي كله عصرا واحدا، ويجري في هذا على ما كانوا يعتادونه من تقسيم عصور الأدب العربي إلى أقسام سياسية محظة، تتبع قيام الدول العربية وسقوطها، ولا تتأثر بغيرهما في بدئها ونهايتها، وقد كان أعلام الشعر في هذه المدة هؤلاء الشعراء الثلاثة - بشار - أبو نواس - أبو العتاهية - فلنوازن بينهم فيها.
عبد المتعال الصعيدي(94/53)
تحية مولود
للأستاذ محمود غنيم
سرَّكَ اليومَ قولُهم أمْ ساَءكْ ... حينَ قالوا: هذا غلامُ جاَءكْ؟
جانبُ اللهو من شبابكَ ولّى ... فَدَع اللهوَ ينتظرْ أبناَءكْ
وتحمَّلْ عبَء الأبَّوة يا وَي ... حَكَ لم يحمل امُرؤُ أعباَءكْ
أيها الطارقُ الجديدُ سلاماً ... أسألُ الصفحَ إن أسأتُ لقاَءكْ
عَلِمَ الله ما كرهتُكَ ضيفاً ... لا ولكني كرهت شقاَءكْ
بتُّ أخشى عليكَ جوْرَ الليالي ... فالليالي ما أنصفتْ آباءكْ
غيرَ أني أمسيتُ رغم شعوري ... أتمنى على الزمان بقاَءكْ
وأراني إذا أصابكَ سوءُ ... أبذلُ النفسَ والنفيسَ فداَءكْ
ساَءني يا بنيّ أنْ كنت نجلاً ... لي فكانت أبوَّتي لك داءِكْ
أيَّ ذنب جنيتَ في المهد حتى ... يُصبحَ الهمُّ في الحياة جزاءكْ
ليت شعري أقانعُ أنت أم لوْ ... تستطيعُ الكلامَ تُبدي استياَءك
أفتدري كم بتُّ أرفو كسائي ... وأوشِّي بكل زاهٍ كساَءكْ
وإذا ضنَّ ثديُ أمِّك يوما ... بالحيا جعتُ والتمستُ غذاءك
ولقد أسمعُ الرعودَ تدوَّي ... في ثباتٍ ولا أطيقُ بكاَءك
كم حملتَ البكاَء سيفاً صقيلاً ... إن تُلَوِّحْ به ينلْك رجاَءك
دمعةُ الطفل من دموع الغواني ... صاحِ صُنْ من كليهما أحشاءْك
أنت في مهدك الصغيرِ أميرُ ... فوق عرش يرجو الجميعُ رضاَءك
فتحكَّمْ تَرَ الذكورَ عبيداً ... لك في البيت والإِناثَ إِماَءكْ
هو عرشُ أساسه الحبُ لابط ... شَك نخشى ولا نرومُ عطاَءك
أتُراها جنايةً أم تثراها ... مِنَّةً تستحقُّ مِنكَ ثناَءكْ
ليتني عشتُ مثلما عشتَ غرَّا ... تُغمض المقلتين عما وراَءكْ
إنني يا بني أسكُنُ أرضاً ... دائماً همُّها فصف لي سماَءكْ
قد توارت طفولتي في ظلام ال ... غيَبْ فانشُرْ على دجاها ضياَءك(94/54)
لكأنِّي نشأتُ خلقاً جديداَ ... يوم ناديتَ فاستمعتُ نداَءكْ
يا دقيقَ البنانِ واليَد جلَّت ... يَدُ مثَّال صوَّرَتْ أعضاَءكْ
نم هنيئاً يرعاكَ من شقَّ عيني ... كَ وأجرى بين العروق دماَءكْ
عَلَّ من وكَّل البِلَى بردائي ... يجعلُ الخزَّ يا بنيَّ رداَءكْ!
كوم حمادة
محمود غنيم(94/55)
تمادوا بشكواهم
للأستاذ فخري أبو السعود
لقد زهَّدَتني في القريض معَاشر ... إذا نَظَموا فالحزنَ والمّ والغَمَّا
كأنْ ليس غيرَ البؤسِ للشعرِ مُلْهِمُ ... ولولاه ما قالوا ولا عرَفوا النظما
قوافيهمُ آهُ فواهُ فعَبْرَةُ ... تَلى زَفرةً من مُهجَةٍ منْ أَسَى تَدْمَى
تمادَوْا بشكوَاهم فَمُلَّتْ وَأصبحوا، ... إذا ما شكَوْاهَمَّا لقارئهم، همَّا
أكلُّ أخي شِعرٍ خدينُ بلابل ... يفوز سواه بالأماني وبالنعمى؟
يَخالون أنَّ الشعر يزداد رقةً ... إذا وصفَ الأشجان والألم الجمّا
فهذا شكا في جنبه ألفَ طعنةٍ ... وذاك طوى في كلِّ جارحةٍ سهما
وذا صدرُهُ وعيناه ديمةُ ... وأضلاعُه حرَّى وأحشاه كَلْمى
وذاك بطئُ ليلهُ متطاولُ ... يُساهر فيه وحده الأفْق والنجما
وذلك أضواه وأَوْهَى اصطبارهُ ... غرامُ مَشَى في جسمه يُنْحِل الجسما
وذلك يبكي كالوليدة ساخطاً ... بلا سبب يُدرى ولا غرض يُسمَى
وذَيَّك يشكو دهره ويذمه ... ويزعم أنَّ الدهر أَوْسَعَهُ ظلماً
يكلِّف باعَ الدهر ما لا يطيقه ... ويُنحى عليهِ - حين يَمْنعُه - لوما
يود لَوَ أنَّ الدهر يأتيه بالمني ... جميعاً ولم يدأَب ولا عَقَد العزما
وقد يَبْلُغُ الساعي إذا جَدَّ سعيُه ... مُناهُ ولم يَلْحَ الزمانَ ولا ذَما
يَخَلُ حياةَ الناسِ قارئُ شعرِهم ... بلاءً فلا نُعمى هناك ولا رُحْمى
وكم في رحيب الكون من نِعَم ومن ... مَحَاسِنَ تُصْبى العين والروح والفهما
وكم عَرَضَتْ فينا الطبيعيةُ حسنَها ... بلا ثمنٍ غُمْاً لِمَنْ بَاَدَرَ الغنما
تَرَى في مجاليها وأَلوان حسنها ... عَزاَء لمن يأسى وَرِيَّا لمن يَظْماَ
ووحياً لشعرٍ ينبذ الشكو َوالبُكا ... ويستلهم الأنوارَ والروضَ واليَماَّ
فخري أبو السعود(94/56)
القصص
من أساطير الإغريق
إيخو ونركيسوس
الفاتنة التي أصابها البكم، والجميل الذي عشق صورته
للأستاذ دريني خشبة
كان زيوس - كبير آلهة اليونان - يتعشق فتاة حلوة الدل، بارعة الحسن، رقيقة الشمائل، تدعى يو. وكان، برغم زوجاته الخمس أو الست، يختلف إلى حبيبته في الخلسة بعد الخلسة، يؤانسها ويسامرها، وتؤانسه وتسامره، ويبل فمه الظامئ من ثغرها الراوي، بقبلة. . . أو رشفة. . . .
وكانت أولى زوجاته (حيرا) هي التي تزعجه بما تبث حوله من الرقباء، وتنشر من الجواسيس، يحملون إليها كل حركة من حركاته. وكان هو يضيق بكل ذلك، ولكنه لا يستطيع إلا أن يداهن ويداهن. . . ويبالغ في المداهنة، لشدة شغفه بحيرا، ولأنه كان يحس في الخضوع لها لذة أولمبية لا تعدلها لذة. . . إلا لذة تدليله لحبيبته يو
وكما كانت حيرا تمكر مكرها في كل حين، كذلك قد مكر الإله مكره. . .!
أراد أن يشغلها عنه بملهاة تذهب من وقتها كل يوم بساعات يقضيها في أحلامه الغرامية بين يدي يو، ملتذا قوامها الخصب، مستمتعا بجمالها الفينان، سابحا في هذه اللجة المترعة بالمفاتن، في كل جارحة من جسمها الممشوق
وقد سنحت له الحيلة. . .
حدثها عن فتاة ناضرة الشباب، ريانة الأهاب، عذبة اللسان، وقادة الجنان، تعرف من قصص الحياة وأنباء الدنيا ما لم يتيسر بعضه للآلهة أنفسهم! وكانت حيرا، ككل الأنثيات، مولعة بالثرثرة، مشغوفة بالمعرفة، تبغض الصمت وتغرم بالكلام الطويل الموشي. وهي مع ذاك طلعة، بقدر ما هي أذن، تتكلم كثيرا، وتثرثر كثيرا، وتسمع كثيرا
وانطلقت إلى الفتاة فشغفت بها لأول لقاء، ووجدتها، كما حدث زوجها فياضة القول غزيرة القصص، تتدفق في حديثها تدفق الخمر في الكأس، حتى إذا استقرت في مكانها من الجسم،(94/57)
شاعت حمياها فيه، فأطربت، وأرقصت، كأنها عصرت من حديث الفتاة!
ثم جعلت تتردد عليها؛ وما تكاد الفتاة تفرغ من إحدى قصصها العجيبة حتى تأخذ في أعجب منها وأغرب، وهي بين الآونة والأخرى ما تنى تنمق حديثها بالنكات البارعة، والملح الرائعة، مرسلة المثل في مقامهن والحكمة في موضعها، في غير كلفة ولا عناء. ثم هي كانت رقيقة دقيقة، لا تمل السامع ولا ترهق الناظر. وكانت تقبل على سمارها وكأنها تختص كلا منهم بقلبها، وكأنما تلقي إلى كل منهم بقرارة نفسها، حتى ليحسبها كل له وحده، بما يحسبه تؤثره به من عطف، وتغمره من ود، وتزجي إليه من محبة. . .
وكانت حيلة صائبة من زيوس، شغل بها حيرا طويلا، ليفرغ هو إلى يو. . . فيا للآلهة!!
ولكنها شعرت من زوجها لفحة الصد، وأحست فيه انقباضا وجفوة، فوقر في نفسها أن لا بد من أمر، وأن هناك سرا إي سر؛ فآلت لتكشفن ما تغفلها فيه
وبثت عيونها، وأرسلت أرصادها، حتى استوثقت مما كان بينه وبين يو، وحتى أدركت أنه قصد إلى إلهائها بهذه القصاصة الخبيثة ليفرغ هو إلى لباناته وأوطاره!
ولا تدري ما ذنب الفتاة التي ملأت أذني حيرا سحرا، ونفثت فيهما موسيقى وألحانا؟ لقد ظلمتها زوجة الإله الأكبر، التي تحمل بالباطل لقب حامية النساء وحافظة الأجنة، حين أقسمت لتسلبنها الطلاقة والذلاقة، ثم لتسلطن على لسانها العي والحصر يشقيانها ويعذبانها!
لقد كان كل ما اتهمت الفتاة به أنها كانت سببا في تمادي زوجها في غي حبه، وإبعاده في ضلالة هواه؛ فنفثت في عقد سحرها، ثم قصدت إلى الفتاة المسكينة فبهرتها، وأرسلت عليها شواظا من غضبها، وقذفتها من رقاها المهلكة، لم تستطع بعدها أن تلجلج لسانها بكلمة واحدة تفرج بها عما في نفسها. . .
وقهقهت حيرا حين حاولت الفتاة أن تتكلم فلم تستطع؛ ثم شاءت الخبيثة أن تظهر آية أخرى من آيات غدرها، فقالت، بعد أن نفثت ثانية: (أنا أسميك إيخو؛ وأمن عليك فأطلق لسانك باللفظة المفردة ترسلينها في ذيل كل كلام تسمعين. . . اللفظة الأخيرة فحسب يا إيخو. . .)
فرددت الفتاة المسكينة: (إيخو!!)
أما يو فقد نفذت إليها حيرا وصبت عليها جام سحرها ما تحولت به إلى بقرة فاقع لونها. .(94/58)
تسوء الناظرين. ولهذا حديث طويل مشج ندعه الآن، لنرى ما كان من أمر إيخو. .
دهشت الفتاة لبيانها أين ذهب، ولصوتها الجميل أين ولى، وللرخامة الفضية التي كانت تترقق فن فمها الشتيت كيف ضاعت، ولهذا السحر الدنيء كيف قضى على أولئك جميعا؟!
لقد بكر كثيرا، وتوسلت الإلهة، ولكن. . . أين الإلهة؟ لقد تصاموا جميعا، لأن حيرا هي القاضية، ولأنهم يشفقو أن تفسد أسباب السماء كما أفسدت الأرض على عرائس البحر!
وأطلقت ساقيها للريح، فيممت شطر غابة ذات ماء وذات أفياء، ثم إنها اتخذت لها مأوى في أصل سنديانة ضخمة الجذع، معروشة الفروع، وارفة الأفنان، وأقامت ثمة تجير أحزانها وتسعر أشجانها، وتقابل بين ماضيها السعيد وحاضرها الشقي، وتسكب فيما بين هذا وذاك دموعا ساخنات وعبرات غاليات!
وبينما هي سادرة في كهفها، مستغرقة فيما آل إليه أمرها، إذا بصحب يافع من الشباب اليانع يمرون ببابها، من دون أن يروها، وهم يتحدثون أحاديث الصبى، ويتسامرون سمر الفتوة، ناعمين بأشهى مناعم الحياة
وظلت ترقبهم، وتستذكر أيامها الخوالي، إذا الشمل مجتمع، والرواد محدقون، مرهفة آذانهم، شاخصة أبصارهم، فاهتزت هزة المحموم بالشجن، المروع بالشجى!
وأطلت من كناسها، فرأت الغلام الإغريقي المشهور، (نركيسوس) الذي دله الإلهة بجماله، وتام عذارى أثينا بنضارته وإشراقه. رأته يتخلف عن أصاحبه، مأخوذ بجمال نرجسة حلوة اقتطفها من غصنها المياس وفنها المياد. ثم وقف يحدق فيها بعينيه المعسولتين، اللتين لونتهما شمس الجنوب بهذه الصبغة الساحرة، وكمنت ملأها يعاسيب الفتنة، تنتثر منهما في دنيا القلوب!
والسبيل إلى الغاب ملتوية متداخلة. . . تيه يضل فيه العابر، ويباب أخضر لا يهتدي فيه السائر؛ هنا منعرج لا يصل منه الإنسان إلى أمن، وهناك منحنى لا ينتهي إلى السلام. ولقد مضى الدليل مع الصحاب، ولبث تركيسوس وحده، يضرب أخماسا لأسداس
ولم تستطع إيخو حين أبصرت به أن تفلت من هذا الشرك المنتشر حوله، تعلق بخيوطه السحرية القلوب والألباب. . . فأحبته بكل قلبها، وأرسلت في نظراتها إليه نفسها تتمرغ تحت قدميه، وتهمهم بين قدميه، كأنها خلقت له. . . لا لها!(94/59)
ولكن كيف السبيل إلى التعبير عن هذا الهوى الملح والحب المخامر، ولسانها في عقال إلا من المقطع الأخير، ينطلق في إثر الحديث، أو اللفظة المفردة تردفها بصياح كل صائح، وهتاف كل هاتف؟!
وراحت تقتفي أثره، من غير أن تشعر هي، ودون أن يشعر هو! وتقص خطاه وهي لا تعي ما تفعل، وهو لا يدري كذلك؛ فكان دبيبها كدبيب القطا، أو كوثب الضفادع. على أن حركة غير مقصودة أتت بها إيخو جعلته يعتقد أن أحدا من سكان الغابة يتبعه، فصاح قائلا:
(من؟. . .)
فرددت المسكينة نداءه: (من؟. . .)
فقال: (هل من أحد هنا. . .؟)
وأسل هذا السؤال في رعب خفيف، فرددت إيخو اللفظة الأخيرة: (هنا. . .)
فبهت نركيسوس، وقال، وقد خال المتكلم امرأة:
(هلمي يا فتاة. . . هلمي. . .)
فرددت إيخو اللفظة الأخيرة. . . (هلمي. . .)
فزادت حيرته، وتضاعف خباله. . وقال:
(لم لا تأتين إلي، وليس هنا أحد يرى؟ ولا إنسان يشهد؟)
فثار كامن الهوى في نفس إيخو، وملأت اللفظة الأخيرة: (يشهد؟) بكل ما تركت لها حيرا في قرارة لسانها من رنين فضي، وجرس جميل. . .)
وعاد نركيسوس يقول: (يا فتاة! ليت شعري ما يحجزك؟ أين أنت إن كنت هكذا تستحين؟ تعالي)
وكأن إيخو أدركت أن الفرصة سانحة للقاء هذا الحبيب الطارئ، فبرزت من مكمنها من غير هيبة ولا وجل، وقصدت إليه، تعرض حبها ولظى جواها عليه؛ ولما لم يكن في مكنتها أن تخاطبه، لتكشف له عما تضمر من هيام به، ومحبة له، بدا لها أن تثب إلى حيث هو فتعانقه، وتضم صدره إلى صدرها، ليبث أحدهما إلى الآخر
ولم تكد تفعل حتى جهد نركيسوس في تخليص نفسه منها، ثم انطلق في الغابة لا يلوي على شيء، كالرئم المروع والظليم المفزع. . .!!(94/60)
وذلك أنه لم يجرب هذه المفاجأة بالحب، ولا وقع مرة في شراك غرام، وقد ربكته إيخو حين غمرته بكل حبها، فشرق به وغص، وقال: الفرار الفرار!
وتسلط الهم على قلبها فشقه، والشجن على جسمها الناحل فأضناه، وكانت صدمة هائلة صدعت جوانب نفسها، وزادتها نكالاً على نكال، ثم تتابعت الأيام وهي ما تزداد إلا سقاما. . .
واضمحلت. . . ثم اضمحلت. . . حتى غدت. . لا شيء!!
ولا شيء هذه ليست مبالغة فيما حل بها، إذ الصحيح إنها غدت لا شيء، إلا هذا الصدى يتردد في كل واد، ويذهب إثر كل نداء
وهي إلى اليوم تأوي إلى الغيران، وتتخلف إلى الشطئان، وتنحدر مع الريح على جنبات الجبال، تنعى همها، وتندب حظها في الناديين!
وشاءت المقادير أن تنتقم لإيخو المعذبة من هذا الشاب الجميل نركيسوس، الذي حطم قلبها الغض، وقضى على نفسها المحزونة. فبينما كان في طراد عظيم، في يوم قائظ، عرج على خميلة ناضرة ملتفة الأغصان، ليشرب من الغدير الصافي الذي يترقق من تحتها. . وما كاد ينحني إلى الماء حتى رأى صورته في صفحته الساكنة، فبهره حسنها، وأخذ يرمقها بقلب مشوق ونفس هائمة، وهو لا يعلم أن الحبيب الذي تامه إن هو إلا ظله، وعروس الماء التي تبلت فؤاده إن هي إلا خياله!!
عينان كبيرتان ذواتا أهاب زانهما وطف، وجبين واسع وضاء مشرق، وخدان أسيلان كخدود دربات الأولمب، وخمل حلو نابت فوق بشرة الوجه يزيده رونقا وجمالا، وثغر حبيب كأقحوانة أوشكت تتفتح، ترف حوله بسمة ساحرة من حين إلى حين، وذقن رقيق مستدق يرتفع على عنق يوناني رائع، ثم فتنة تغمر ذلك جميعا!!
خاطبه نركيسوس، ولكن. . . وا أسفاه! إنه لا يرد إلا تمتمة، ولا يجيب غلا كما تهمم الريح!
ومد يده. . فمد الخيال يده، واستطير صاحبنا من الفرح، ظانا أن حبيبته تواق إلى ما يريد!
واقترب بفمه، يريد قبلة، فاقترب الخيال بفمه كذلك. ولكن. . . يا لخيبة الأمل! ما كاد العاشق الولهان يمس الماء بشفتيه حتى ذهب حلمه أباديد، وتكسرت منى نفسه الحيرانة،(94/61)
وفر الخيال في شظايا الماء. . . وتحطمت الصورة الرائعة بددا!! وخيل لنركيسوس أنها تقول وهي تهتز، قبل أن تلتم: (لا. . . لا. . . لا. . . لا. . .)
ولبث عبثا يحاول قبلة، وتتكرر الآية كلما مست الماء شفتاه. . . فانطلق مغيظا محنقا، وهام في القفار على وجهه، لا يطيب لجفنه المسهد كرى، ولا يحلو لفمه المرير عيش، لجفاء الحبيب، ونفزة آسيه العجيب!؟
نركيسوس! الذي بلبل قلوب العذارى، وسفك دموع الحسان، وضرج كبرياء الغيد بالدم، وأذل البسمات التي طالما حملتها إليه أجنحة الحب من ثغور الفاتنات. . . نركيسوس، الذي ألقى بحب إيخو في التراب، تستبيه صورته، ويتصباه خياله، ويأسره ظله؛. . . فيالنقمة كيوبيد، ويالعدالة فينوس!!
لقد طفق يختلف إلى الغدير لدى كل شروق شمس، يناجي حبيبه المعبود وأمله المنشود، فلا ينثني إلا توارت بالحجاب!
وما انفك يشكو ويتوجع ويستعطف، وما انفك الخيال يتصام ويتباكم. وإذا تحدث تمتم!!
ثم. . .
أجل فلابد من ثم هذه. . .
ثم ذوى عوده، وذبلت نضرته، وتهدم جسمه، وتحطم قلبه، وتأرجحت روحه في حدقته،. . . و. . . دنت ساعته!
ووقفت إيخو في فتن وارف، في أيكة قريبة من الغدير، تشهد الفصل الأخير، من مأساة حياتهما. . .
وسمعته يقول مخاطبا ظله: (أيها الحبيب! أجل! لقد حق لك أن تنتصر على كبريائي، وتسحق مرتي وتهدأ أعضائي. . . هاأنذا أموت أيها الحبيب. . . بقربك. . . يا عروس الماء النافر. . . أموت. . . وأحبك. . . فالوداع. . . الودا. . . ع)
وبكت إيخو. . . . ورددت هذا الصدى الحبيب: (الودا. . . ع!)
وأقبلت عرائس الماء تنوح بدورها على نركيسوس، ثم ذهبت في أرجاء الغابة تجمع الحطب لإحراق الجثة، كما جرت بذلك العادة في ذاك الزمن. . . ولكن؛ يا للعجب! لقد عادت فما وجدت غير زهرة جميلة من أزهار النرجس! انحنت على صفحة الغدير تنظر(94/62)
فيه إلى ظلها. . . وتذرف دمعها. . . قطرة، قطرة. . .
دريني خشبة(94/63)
في ربوع أمريكا الجنوبية
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
عبر الأنديز الرائعة:
لقد كان من أحلامي التي خلتها منذ أمد بعيد خيالا بعيد المنال، أن أعبر جبال الأنديز وأمتع النظر بمشهد (أكونكاجوا) ثانية ذرى العالم علوا، وكانت تعاودني تلك الأمنية سنة بعد أخرى، حتى شاءت المقادير فحققت لي ذاك الأمل في الصيف الماضي، وكم كثرت الأراجيف وأنا على ظهر الباخرة إلى (الأرجنتين) بأن الطريق معطل ولن يمكن عبوره اليوم، وما كدت أصل بونس إيرس حتى قصدت على الفور دار للسياحة مستعلما، فقيل لي إن الطريق معطل على أثر السيول والثلوج التي اجتاحت منه أثنى عشر ميلا بقطرها ومحاطها وقناطرها، ولن يمكن عبوره في ذاك الجزء إلا على متون البغال الممضة وسط الثلوج الرهيبة مدى أسبوع، فأخذتني الدهشة، وكاد يتطرق اليأس إلي، لكني عدت فاعتزمت القيام بتلك التجربة حتى لا أحرم رؤية مجاهل الأنديز الرهيبة، وبعد لأي ما قبلت شركة السياحة أن تبيعني التذكرة، وقد اشترطت ألا تتحمل أية مسئولية إذا حدث لي حادث في الطريق، وكم سرح الخيال في تلك المجاهل بقية يوم السبت وطيلة الأحد، فكان تارة يبدو الأمر قاتما مخيفا، وطورا يضيء الأمل فتبدو الرحلة ناجحة شائقة. قصدت دار الشركة صباح الاثنين لأتسلم التذكرة، وما كاد يراني الرجل حتى صاح باسما أن قد فتح الطريق لأول مرة، وأني سأعبر المنطقة المنهارة على السيارات المريحة بدل البغال الخطرة، وذاك أول يوم يستأنف فيه السفر المأمون بعد أكثر من نصف عام، ومن العجيب أني لم أقابل ذاك النبأ بما يستحقه من الفرح والبهجة إذ كانت النفس تطمح إلى ركوب البغال وسط الثلوج فتكون مخاطرة جديرة بالتجربة. ابتعت التذكرة إلى سانتياجو ودفعت زهاء ستة عسر جنيها مصريا ثمنا لها
قمنا في الساعة السابعة صباحا بالسيارة نبرح مندوزا صوب جبال النديز وما كدنا نغادر جوانب البلدة حتى أوغلنا في سهول شبه صحراوية، يكسوها الحصى وتتخللها أعشاب وشجيرات قصيرة شائكة يابسة، وكانت تقوم جبال الأنديز أمامنا في صفحة قاتمة منفرة عريت من النبت، ولبثنا نسير صعدا على ليات أحد وديانها الغائرة الجافة حتى فاجأنا شبه(94/64)
سهل في وسط الجبال، به بعض الزرع والشجر الأخضر فبدا كأنه الواحة وسط الصحراء وتلك محطة (أسباياتا وهنا بدت الجبال العاتية تكسوها الثلوج المشرقة يسيل ماؤها في واد ضيق، جوانبه مشرفة عاتية مجدبة، ويجري في أسفله ماء شحيح - وهو نهر مندوزاً - وهذا ممر اسباياتا الذي سلكه الإنسان منذ حل أمريكا في العصور البائدة مخترقا به تلك الجبال، ولما جاء الأسبان اتخذوه طريقهم على متون البغال ثلاثة قرون، حتى أقيمت سكة الحديد، وقد شاهدنا قنطرة صغيرة محدبة من عمل الهنود الحمر قديما ولا يزال يسميه القوم أي طريق الأنديز) بعد ذلك أخذن السيارة تصعد في منعطفات وعرة دونها هوى سحيقة وأمامها نجاد شاهقة تجللها الثلوج الناصعة في مشهد يأخذ بالألباب، وكثيرا ما كنا نلمح على بعد جواناكو يسرع بالهروب بمجرد إحساسه بنا وهو كاللاما من فصيلة الجمال، وبعد مسيرة ست ساعات بسياراتنا وصلنا محطة: لاس فاكاس: وكنا نشاهد فلول القضبان والقناطر مهشمة أيما تهشيم
وقفنا نتظر القطار والريح عاصفة والبرد قارس زمهرير، وكنا نرى على بعد قمة بهامتها المدببة البيضاء وهي من أعلى ذرى الأنديز إذ يبلغ علوها 22136 قدما
أقبل القطار مقدمه مغطى بالثلوج كأنه يحمل وسقا من الجليد الناصع، وحللت مكاني من الدرجة الأولى وهي تقارب الدرجة الثانية عندنا، وليس بالقطار سوى درجتين، وكان قد أمضني الجوع إذ كانت الساعة الثانية بعد الظهر فلجأت فورا إلى عربة الطعام وتناولت الغداء الشهي الجيد، وكان ثمنه زهيدا لا يجاوز ثمانية قروش، وذلك من أثر الرخص الذي كنا نسمع عنه في بلاد شيلي. وفي منتصف الطعام فاجأنا منظر غريب: مجموعة من أسنان الصخر بعضها فوق بعض تتوجها صخرة كبيرة حاكت الدير على بعد، والأسنان شابهت الرهبان الصاعدين إليه، ومن ثم أطلق عليها القوم اسم ثم وقف بنا القطار في محطة (بونتادل أنكاس) ومعناها جسر الأنكا، فنزلنا سراعا نحو الجسر العجيب، فإذا به صخرة متصلة بالجوانب، تحتها واد فسيح يجري به ماء، بعضه مستمد من عيون حارة عظيمة النفع في الاستشفاء، والجسر طبيعي عظيم الاتساع، يمكن ثلاث عربات متجاورة من المرور، فعرضه تسعون قدما وعله 65 وسمكه 70 وقد عرف منذ القرن الخامس عشر وأحيط بالخرافات وأنه مقر الأبالسة في عرف الهنود الحمر، وأطلق عليه اسم أحد قواد(94/65)
الأنكا توباك توباكوي وقد وقفنا بعد قيام القطار نترقب قمة (أكونكا جوا) أعلى ذرى الدنيا الجديدة (23300 قدم) وأول ما تسم الإنسان هامتها في 14 يناير سنة 1897 ظهرت تشمخ باسقة في السماء ومن حولها جمهرة من الذرى الأخرى يجللها جميعا بياض الثلج الناصع، وبين فترة وأخرى كان يحلق فوق رءوسنا طائر الهائل ملك المرتفعات وأقدر الحيوانات على احتمال عصف الريح وقر البرد، وكان الثلج يسود الأرجاء كلها، اللهم إلا في بعض الشجيرات القصيرة ونبات الصبار (الكا كتاس) في شكله العجيب وكأنه اسطوانات تقوم متجاورة، ويكسوها زغب من شوك طويل، وكنا كلما تقدمنا زادت كثافة الثلج حتى أن القطار كان يجري بين جدران خانق من الجليد الناصع كاد يغطي العربات إلى نصف ارتفاعها. وفي محطة: (لاس خويفاس) دخل القطار ظلة أقيمت من الحديد المجزع تفاديا من ثقل الثلج، وهنا تعددت الربى، فكانت كأنها الهامات الشم جللها الشيب الناصع، ومن ألسنة جليدها كان يسيل لعابها في زرقة مستملحة يزينها زبد أبيض، وكم تكاثر الثلج على أسلاك غلاظ وصفائح قاسية فقوضها، وأنت ترى بقع الثلج الأبيض كمندوف القطن تملأ التجاويف الواحدة تحت الأخرى فيذيبها، وقد يجمد بعض الماء فيظهر في زوائد وأسنان بلورية، وفي الهوى الغائرة يتجمع الماء ويجري في واد ضيق، وفي كثير من البقاع كان للقطار نفق من حديد مخافة تكاثر الثلج، وفي هذا الجزء كان القطار يسير على ثلاثة قضبان، الأوسط منها مسنن لكي تستبك به تروسه خشية وعورة المنحدر. دخل بنا القطار نفق طوله ميلان تقريبا، ومن غريب المصادفات أن ارتفاعه عن سطح البحر ميلان أيضا، وهو أعلى جهات سكة الحديد، فهي هنا 10512 فوق سطح البحر وفي وسط النفق الحد الفاصل بين الأرجنتين وشيلي، وبمجرد عبور القطار بنا هذا الحد داخل النفق، سمعنا صليل أجراس تدق من تلقاء نفسها عندما يضغط القطار على أسلاكها وذلك إيذانا بتخطي الحدود. ولما أن خرج القطار من النفق إلى ضوء الشمس أشار القوم أن هاهو (الكريستو) إلى يميننا، وهو تمثال هائل للمسيح أقيم في سنة 1904 حينما أحتكم الخصمان في مشكلة الحدود إلى ملك إنجلترا إدوارد السابع، والذي توسط في حسم النزاع وعرضه للتحكيم نساء الفريقين وقساوستهم على أن تنفق نقود الحرب في تحسين الطرق على الأندييز، وبجزء من ذلك المال أقيمت سكة الحديد. ثم اكتتبوا لهذا التمثال، وقضى(94/66)
ملك الإنجليز بجعل الحد عند تقسيم المياه بين الدولتين، وهي هنا على علو 12800 قدم، والتمثال من البرنز القاتم صيغ من بعض المدافع الحربية القديمة التي أخذوها من الأسبان في حرب الاستقلال رمز للسلم وتحطيم أدوات الحرب، ويقوم على قاعدة من جرانيت وعلوه 26 قدما، وقد نقش على قاعدة التمثال، وتحت أقدام المسيح ما معناه:
(لقد أقسم رجال الأمتين بين يدي المسيح ألا ينقض عهد السلام بينهما، حتى ولو دكت تلك الجبال فصارت هباء). على أن التمثال كادت تكسوه الثلوج فتخفيه. أخذنا في الانخفاض من منحدر وعر، ما كان القطار ليستطيعه لولا القضبان المسننة، ومن دوننا وادي أكونكاجوا الغائر، بين محطتي كارا كولس، بورتيليو، فاجأتنا مجاميع الربى في تعقيد رهيب تتوسطها بحيرة الانكا على علو 9000 قدم، ويقولون بأن ماءها ثابت المقدار لا يزيد ولا ينقص طيلة العام وذاك ما زاد قدسيتها عند الهنود! ولن يستطيع قلم مهما أوتي من البيان والإفصاح أن يعرب عما يحسه المسافر من رهبة وجلال تتمثل في عظمتهما القدرة الإلهية التي تزرى بكل شيء، وما الوصف بمجدي شيئا، فلن يأخذ القارئ من قولي ألا قبسا ضئيلا، وعليه إذا أراد الوقوف على شيء منها أن يمتع نظره بمرآها كي يحس بما أحسست. ويقولون أن أجمل ما ترى مناظر الصخور وأروعها في العالم بين تينك المحطتين. أخذنا نمر بالمحاط الشيلية، وكلما هبطنا ندر الثلج وزادت القرى وتعددت المسايل المائية، وقد بدا هذا الجانب من الجبال أغنى بعناصر الحياة بين إنسان وحيوان ونبت وشجر من الجانب الشرقي، لأن رياح الباسفيك تدر عليه من بللها ماءا وفيرا على نقيض الجانب الآخر الشرقي. ومن الأنهار التي استرعت نظرنا (الريو بلانكو) أو النهر الأبيض، وسمي كذلك لكثرة ما يعترض ماءه من صخور يرغي فوقها فيبدو أبيض ناصعا. ثم وقفنا طويلا في محطة وعندها غيرنا القطار الضيق إلى آخر. ثم خيم المساء فحرمنا بقية الاستمتاع بجمال الطبيعة بين هذه وسنتياجو، ولقد غيرنا القطار مرة أخرى وفي محطة (لاي لاي) وهنا يرى أول قبس من مياه المحيط الهادي إلى يمين المسافر
وفي منتصف الثانية عشر مساء دخلنا سانتياجو بعد مسيرة زهاء سبع عشرة ساعة من مندوزا أو سبع وثلاثين ساعة من بونس إيرس، وكان مقدرا لعبور القارة كلها من بنيس إيرس إلى سانتياجو ثلاثون ساعة بالقطار مسافة قدرها 888 ميلا أو تزيد(94/67)
محمد ثابت(94/68)
البريد الأدبي
كتاب عن سنت هيلانه
صدر أخيرا كتاب بالفرنسية في مجلدين عنوانه (سنت هيلانه) بقلم مسيو أوكتاف أوبري. والكتاب مثل بديع للتاريخ القصصي أو القصص التاريخي؛ ومن الواضح أن مسيو أوبري لم يرد أن يقدم لقارئه (سنت هيلانة)، تلك الجزيرة المنسية النائية، وإنما أراد أن يقدم تفاصيل المأساة التاريخية العظيمة التي كانت سنت هيلانه مسرحا لها، ونعني اعتقال الإمبراطور نابليون بها مدى ستة أعوام، ثم وفاته وثواءه الأخير بها. ولقد كانت مأساة سنت هيلانه في حياة نابليون أعظم من أي حرب ومن أي موقعة؛ فقد جعلت من الإمبراطور العظيم مسيحا آخر، وشهيدا؛ وما هي سنت هيلانه؟ هي جزيرة صغيرة طولها ستة عشر كيلو مترا، وعرضها اثنا عشر كيلو مترا، وترتفع عن سطح البحر بمئات الأمتار، وتبعد في أعماق المحيط نحو خمسمائة كيلو متر عن الشاطئ الأفريقي، فهذه البقعة النائية القفراء هي التي اختارتها إنكلترا لاعتقال أعظم جندي وقائد في العصر الحديث
ويستعرض مسيو أوبري في كتابه تاريخ الإمبراطور منذ هزيمته وأفول نجمه في سنة 1815، ثم اعتقاله وإقامته في المنفى حتى وفاته سنة 1821؛ ولم يصدر من قبل كتاب أوفى وأدق عن هذه الفترة من حياة نابليون. وقد كتب من قبل عنها كتاب عدة، بالاعتماد على الوثائق والمذكرات المختلفة التي تركت من زملاء نابليون في المنفى؛ ولكن مسيو أوبري لم يكتف بالوثائق المكتوبة، بل سافر إلى سنت هيلانه، وأقام مدى أسابيع في (لونجوود) وهو المنزل الذي سكنه منذ معتقله حتى وفاته؛ واستعرض هناك الوثائق الإنكليزية ورسائل السير هدسون لو سجان الإمبراطور، ورسائل زملائه في المنفى وأطبائه، وهي وثائق تملأ نحو تسعين مجلدا كبيرا؛ ولم يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الإمبراطور وحياة زملائه في المنفى إلا أستوعبها. وتستطيع أن تتأمل في كتاب مسيو أوبري، لا صورة الإمبراطور وحدها، ولكن صور أولئك الرفاق المخلصين من الرجال والنساء الذين ربطوا حياتهم بحياة سيدهم؛ فهناك أسرة مونثولون، وأسرة برتران، والجنرال كورجو، والسكرتير لاسن كاز، والوصيف مرشان، والطبيبان أوميارا ومنيول؛ هذا عدا حاشية الإمبراطور من الحراس الذين رتبتهم الحكومة الإنكليزية؛ ومما يشوق(94/69)
القارئ حياة المرأتين اللتين تبعتا الإمبراطور مع زوجيهما وهما مدام مونتولون ومدام برتران؛ فقد كانتا على خصام دائم، ولهما قصص ومنافسات ودسائس مشجية
وهناك نقطة تاريخية هامة يصححها مسيو أوبري، وهي تتعلق بموقف السير هدسن لو، حاكم سانت هيلانه وسجان الإمبراطور؛ فقد ملأت التاريخ والسير التي كتبت عن مأساة سنت هيلانه بذم السير لو واتهامه بالقسوة والجمود والنذالة؛ ولكن مسيو أوبري يصحح كثيرا من أخطاء هذا الرأي، ويقد إلينا السير لو في الصورة الآتية: (كان السجين وكبير حراسه في سن واحدة. وكان الأخير رجل صغير القد، نحيفا أحمر الشعر، في وجهه بقع، يخفي وجله تحت ثوب من الخشونة الحربية؛ ومع أنه لم يكن يتمتع بصفات باهرة، فإنه لم يكن مجردا عن الخلال؛ ولقد كان مخلصا لوطنه، وكان إداريا حازما، مستقيما، متقشفا؛ ولم يكن تنقصه الطيبة الطبيعية؛ بيد أنه كان يصدر عن تحكم، وكان مدعيا، متكبرا؛ ولم يكن ذا رقة ولا ظرف)، والحقيقة أن السير لو كان موظفا أمينا يقضا، يسهر على أسيره بعناية، ويخشى إفلاته من سجنه؛ فكان يراقبه ليل نهار، ويضيق عليه سبيل الحرية والحركة؛ ومن هنا نشأت فكرة اتهامه بالقسوة والنذالة
وقد كان لصدور كتاب مسيو أوبري صدى عميق في دوائر التاريخ والأدب. وأجمع النقدة الثقات على أنه خير كتاب صدر في موضوعه
ذكرى سيرفانيتس مؤلف دون كيشوت
ظهرت منذ أعوام حركة في إسبانيا وفرنسا للعمل على تخليد ذكرى الكاتب والشاعر الإسباني الأشهر سيرفانيتس سافدرا مؤلف القصة الخالدة (دون كيشوتي دي لامنكا)؛ واتخذت هذه الحركة مظهرا عميقا بتأليف لجنة في فرنسا تحت رياسة دومرج الفخرية، وقد كان يومئذ رئيسا للجمهورية، ورياسة مسيو بول بورجيه الفعلية؛ وكان ذلك منذ سبعة أعوام، وما زالت اللجنة قائمة، ولها برنامج ضخم يقتضي تنفيذه الملايين. وقد تجدد الحديث عن مهمة هذه اللجنة وعملها أخيرا بمناسبة ظهور طبعة أثرية جديدة بالفرنسية (لدون كيشوتي). وهذه الطبعة الجديدة من أجمل وأفخم ما ظهر من اليوم من طبعات القصة الخالدة، وهي في مجلد واحد ضخم، وقام على إصدارها الكاتب الفرنسي جان كاسو، وهي من أقدم التراجم الفرنسية المعروفة؛ منها قسم من ترجمة جيزار أودان، وهو كاتب(94/70)
وجاسوس فرنسي أوفده هنري الرابع إلى مدريد في مهمة سرية، فقضى هنالك تسعة أعوام، وعاد وفي حقيبته مخطوطة الترجمة؛ والقسم الثاني من ترجمة دي روسيه؛ وقد صدرت لعامين فقط من صدور النص الأصلي في إسبانيا (سنة 1605)؛ وقد عني مسيو كاسو بتصيح النصوص القديمة وتنقيحها وشرحها عناية كبيرة
أما حديث اللجنة التخليدية الفرنسية، فهو أنها وضعت برنامجا ضخما لأحياء ذكرى الكاتب الكبير بالتعاون مع اللجنة الإسبانية، وذلك في مدينة ثوبوزو من مقاطعة لامانكا التي ينسب إليها الفارس المتجول (دون كيشوتي)؛ ومن المقرر أن يقام لسير فانيتس تمثال فخم من صنع ماشادو عميد المثالين الإسبانيين؛ ويقترح البعض أن يقام في ثوبوزو تمثال هائل يمثل دون كيشوتي، يتبعه وصيفه سانكو، وهو يجر حماره؛ ويرى أصحاب هذا الاقتراح أن يكون جواد الفارس من الضخامة بحيث ينشأ في بطنه متحف لسير فانيتس، يصعد إليه من سلم في ساقه؛ وأن ينشأ في رأسه مقصف صغير، وأن يكون في جوف الحمار مطعم! وهو مشروع كالحلم يذكرنا بأعاجيب العالم القديم؛ والمهم أنه يقتضي الملايين أو عشرات الملايين، وليس في يد اللجنة منها شيء
اللغة العربية في تركيا
جاء في صحف الأستانة ما نصه:
اجتمع مجلس بلدية ماردين في 8 الجاري برياسة عزيز أوراس وتذاكر في الاقتراح الذي قدمه بعض الأعضاء احتجاجا على تعميم اللغة العربية في ماردين وضرورة منعها، وبعد المذاكرة تقرر مجازاة كل من يتكلم اللغة العربية بخمسين قرشا تركيا، وفي المرة الثانية بمائة قرش، وفي حالة التكرار يحكم عليه بالسجن!!!
اللغة العربية في أمريكا
جامعة برنستن في الولايات المتحدة من أشهر الجامعات في العالم على الإطلاق، وقد أعلنت أخيرا أنها قررت تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية في فصل الصيف تحت إشراف الدكتور العلامة فيليب حتي اللبناني المعروف. ولأول مرة تفتح هذه الدروس العربية في تلك الجامعة للرجال والنساء على السواء!!(94/71)
الكتب
الإنكليز في بلادهم
تأليف الدكتور حافظ عفيفي باشا
للأستاذ م. ف. ا
لسنا نحاول في هذه الكلمة أن نقدم كتاب الدكتور حافظ عفيفي باشا إلى الجمهور، فقد تقدم به مؤلفه إليه مباشرة، وله من أسمه ومعرفة الجمهور به ما يغنيه عن ذلك التقديم، كم أننا لسنا نحاول في هذه الكلمة أن نجامل الدكتور، فإن احترامنا للمؤلف إنما يبعثنا عل أن لا نحاول مجاملته بغير الحق
إن ذلك الكتاب الذي أخرجه الدكتور من تلك الكتب التي لا يملك القارئ أن يصفها وصفا موضوعيا، فإن كل فصل منه، بل كل فقرة منه، تدعو إلى التفكير وتتداعى لها المعاني في ذهن القارئ تداعيا يجعله في شبه معترك أحيانا، وفي شبه حماسة أحيانا أخرى، بحسب اختلافه مع المؤلف أو اتفاقه معه في الرأي؛ فالذي يقرأ ذلك الكتاب يحس ما يحسه المتحدث إلى جليسه في اجتماع خاص: لا يخيل إليه أنه يتعلم، ولا يخيل إليه أنه يعرف شيئا جديدا، بل يشعر كأنه يجاذب جليسه أطراف حديث في سمر، وهو في أثناء ذلك تارة يناقش، وتارة يوافق، وتارة يخالف، ولكنه في كل الأحوال مستغرق في الحديث ومستمتع به
لا يحاول الدكتور أن يظهر بمظهر المعلم الذي ينقل إلى الناس شيئا جديدا، بل يلقي ما بريد قوله في نغنة هادئة تنسي الإنسان أنه يعالج موضوعا لم يسبق لأحد أن عالجه بمثل استيعابه وطريقته. مع إن الكتاب جديد في موضوعه، جديد في طريقته، جديد في لونه
يتكون الكتاب من مقدمة ومن ستة أبواب، كل منها يعالج ناحية من نواحي الحياة الإنكليزية، فالأول: يتناول الدستور البريطاني، والثاني: يتناول الرأي العام الإنكليزي وتكوينه، والثالث: المسائل المالية، والرابع: التعليم في بريطانيا، والخامس: نظام القضاء، والسادس: الإمبراطورية الإنجليزية. فأنت ترى من هذا الكتاب بحث شامل يكاد لا يفقد فيه القارئ ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في بلاد الإنكليز. على أننا مع ذلك(94/73)
شعرنا بأن مقدار ما يخرج به القارئ من العلم بالحياة العادية في بلاد الإنكليز لا يشفي الغلة، فإن تصوير الكتاب لطبقات الشعب، ونفسية كل طبقة، وعلاقة الطبقات مع بعضها ببعض، يترك محلا كبيرا يشبه التشوق إلى المزيد
والكتاب جدير بأن نعقد له غير فصل واحد في صفحات الأدب والاجتماع. ولكن حسبنا اليوم أن نقول كلمة واحدة عامة عنه، لنبين معنى واحد من المعاني التي رأينا فيها مأخذا على الكتاب، ولكي نقدره تقديرا مجملا بغير تفصيل
لعل من أكبر أسباب الزلل في الحكم على قوم أن يكون الذي يقف نفسه للحكم عليهم متأثرا بميل سابق قبل أن يتصدى للحكم. وقد ظهر ذلك المأخذ واضحا لنا في معالجة الدكتور للحكم على طبقات الشعب الإنكليزي وتحديد ماهيتها. فكما أن الحكم قد يكون منتقدا لتحامل صاحبه على من تصدى للحكم عليهم، كذلك قد يكون منتقدا إذ كان صاحبه مملوء القلب بإجلال من تصدى للحكم عليهم. بل قد يكون زلل الحكم أعظم وأكثر تضليلا إذ كان الذي يحكم متأثرا بالميل والمودة. ويكون ذلك الزلل أشد أثرا إذا صحبته تلك النغمة الهادئة التي تلقي في روع القارئ أن الكاتب غير متحيز في الحكم. فالحق أن الدكتور معجب بالشعب الإنجليزي إعجابا جعله في حكمه لا يكاد يرى بع غاية ذلك الشعب غاية، ولا دون قصاراه قصارى
فنظام إنجلترا في نظره يحوي في نواحيه نزعة ديمقراطية جمهورية بارزة متغلغلة في جميع أسسها ونواحيها، بل إن المؤلف يقول أنه لا يبالغ إذا قال: (إن هذه النزعة أظهر في أنظمة الحكم في بريطانيا منها في أنظمة الحكم في فرنسا التي لما أعلنت الجمهورية استبقت لأسباب تاريخية. . . . . . . جميع أسس الأنظمة التي خلفها الملوك المستبدون)
ويقول: (ومها يكن من بلوغ الديمقراطية البريطانية أعلى غاية ممكنة في هذا الزمان فإن بريطانيا لا تزال محتفظة بجميع مظاهر الأرستقراطية الملكية)
ولن يستطيع أشد الإنجليز تعصبا لقومه، ولا أعظمهم إكبارا لكبريائه القومية، أن يقول أكثر من هذا
وهو يقول بعد ذلك في وصف طبقات الشعب مبتدئا بوصف الأشراف: (فالواقع أن هؤلاء الأشراف في إنجلترة مهما سمت مراكزهم وبلغت ثروتهم هم كغيرهم يعملون ويكدون، لا(94/74)
يأنفون الاشتغال بأي عمل أو مزاولة أية مهنة)
فهو قد نظر إلى تلك الطبقة من خير جهاتها، وتطلع عليها بعين الرضى والعجاب، ولا بعين الناقد المتحكم
ويقول في عرض حديثه عن الحمل الثقيل الذي تشكو منه حكومات الإنجليز المتعاقبة، وهو ما تبذله في ميزانيتها للعمال العاطلين: (ولئن كان هذا العبء الناشئ من تنفيذ هذه القوانين الاجتماعية في إنجلترة لا يزال ثقيلا، إذ يتراوح بين الخمسين والثمانين مليونا من الجنيهات سنويا، فإن إنجلترة في الوقت نفسه قد اشترت راحتها وطمأنينتها السياسية بهذا المبلغ الذي يتضاءل بجانب النتائج العظيمة التي جنتها من تنفيذ هذه القوانين)
وكأننا به قد تجاهل ما كان لأثر هذه التحيات المالية العظيمة في فداحة الضرائب، وإبهاظ كاهل الإنتاج، وعرقلة المصنوعات الإنجليزية، بطريق غير مباشر في ميدان المنافسة التجارية الدولية
وقد يطول بنا القول إذا التمسنا الأمثلة الدالة على هذه النظرة العاطفة في الكتاب حتى لتكاد تجعل القارئ ينسى أنه يقرأ كتاب رجل من أمة أجنبية يصف ما في إنجلترة بعين الناقد المستقل
ولئن كانت نظرة العطف هذه مالت بالمؤلف النابه إلى هذه الناحية الكريمة في التقدير، فإن نظرة رجل السياسي الدبلوماسي قد أثرت من جهة أخرى في تقدير المؤلف، حتى كاد في بعض الأوقات يصل من المقدمات إلى نتائج لا يبررها الاستنتاج. ولا يمكن أن يؤول هذا إلا بمجاملة الرجل الدبلوماسي الذي اعتاد أن يوحي إلى نفسه بما تصوره الظروف السياسية، فإذا هو ناطق عن هذا الإيحاء بغير أن يحس. يريد الرجل الدبلوماسي مثلا أن يقول أحيانا إن عمل من الأعمال يؤدي حتما إلى نشوب حرب بين دولته وبين الدولة التي هو ممثل لدولته فيها، فإذا به يقول إن ذلك العمل قد لا يكون مما يؤدي إلى زيادة حسن التفاهم بين الدولتين، وعلى هذا القياس كان للدكتور الكبير يصل من بعض مقدماته إلى بعض نتائجه. ولأضرب لذلك مثلا من الفصل الأخير الذي عقده على مصير الإمبراطورية الإنجليزية، فإنه ابتدأ بحثه بسؤال فقال: (أهي سائرة نحو التفكك والانحلال أم أنها ستستطيع المحافظة على وحدتها إلى أجل طويل؟) ثم ناقش السؤال مناقشة لا يشك القراء(94/75)
منها أنه واصل إلى نتيجة أن تلك الإمبراطورية محتوم عليها أن تتصدع، أو على الأقل أن ينصدع عنها نصفها عند أول حرب جديدة، ولكن القارئ يعجب إذا هو بلغ النتيجة فإذا بها: (من كل ما تقدم يمكن القول بأن لا محال للتشاؤم نحو مستقبل الإمبراطورية البريطانية). ثم استثنى من ذلك أيرلندة وحدها وقال عنها: (إنها سحابة تعكر هذا الجو)
ولا شك في أن الرجل الدبلوماسي هو المسئول عن مثل تلك المجاملة. لقد يكون من المستحسن أحيانا أن نجامل، ولكن المؤلف إذا تعرض لكلمة عامة كان واجبا عليه أن يسير مع المنطق، ومع المنطق وحده، والكلمة التي يقولها مثل الدكتور الكبير لها من الأهمية والوقع ما لا يكون لرجل دونه في المكانة أو أقل منه علما بما يقول
وفي الكتاب فوق كل ذلك نقد ثالث على وجه عام. فإننا إذا قرأنا عن الإنجليز لا يمكن أننا نقرأ عن قوم بيننا وبينهم مسألة قومية، وإذا كان المعنى في ذهن القارئ فإنه بغير شك يعجب أشد العجب إذا هو قرأ كتاب الدكتور الفاضل. إذا يخيل إليه إنه على تقدير إنما يقرأ كتابا لرجل من بلاد غير مصر عن قوم هو معجب بهم إعجاباً خاصاً
على هذا المأخذ الذي أخذناه على نظرة المؤلف لا ينبغي أن يعد مفسدا للكتاب أو منقصا من قدره نقصا فادحا، فإن البحث الذي ساقه المؤلف من دون هذه النظرة العاطفة المجاملة بحث جدير بكل إكبار. ففيه وصف للحياة الدستورية وأساليب الحكم في بلاد الإنجليز قلما يجد قارئ مثله في كتاب واحد؛ وفيه باب في تكوين الرأي العام يمكن أن يعد بحثا خاصا لصاحب رأي مجتهد مستقل؛ وفيه بحث في المسائل المالية استعرض فيه المؤلف الموقف العملي، ودس فيه نظريات المالية والاقتصاد زبدا وافية مع القصد والجمع للأطراف؛ وكان المؤلف موفقا كل التوفيق في بحثه الخاص بالتعليم في بريطانيا، فقد وصفه وصفا دقيقا يدل على نظره الفاحص وعقله الثاقب. فإذا نحن نقدنا لون التفكير ونغمته، فلا يسعنا إلا شكر المؤلف الكبير على بحثه فيما دون ذلك، وعلى هديته من المعلومات الثمينة التي زفها إلى قراء العربية
م. ف. ا(94/76)
العدد 95 - بتاريخ: 29 - 04 - 1935(/)
أعياد الحياة والحرية
تخرج الرسالة اليوم إلى الناس في (شم النسيم)؛ وشم النسيم في مصر عيد اكتمال الربيع، يخرج الناس من دورهم فيه إلى الطبيعة السافرة المجلوة، في العراء الكاسي بأفنان الزهر، وفي الهواء الناسم بأنفاس الرياحين، يشهدون افتضاح سر الحياة في الأرض، وانفتاح باب الجنة على الروض، وانتشار جمال الله في الكون، وافترار الدهر العابس عن بسمات البشر تفيض في العيون والصدور، وتشرق على الحقول والدور، وتهيؤ القرب بين الله والإنسان والطبيعة
لشد ما تفعل بالنفوس مشاهد الحياة وذكرى الحرية! في هذا اليوم
يحتفل المصريون في (شم النسيم) بعودة الروح إلى الدنيا، وهبة
الطبيعة من مرقد الموت؛ وبالأمس كان عيد الفصح المسيحي، احتفل
فيه نصارى الشرق، كما احتفل في مثله من قبله نصارى الغرب،
برجعة الناسوت وقيامة يسوع؛ ومنذ أيام كان عيد الفصح اليهودي،
احتفل فيه بنو إسرائيل بخروجهم من ظلم الفراعين، وعودة الحرية بهم
إلى أرض فلسطين! فلله هذا الفصل الجميل كيف يعود فيه الخلق،
ويرجع معه الشباب، وتحيا به الحرية، ويسبح منه الوجود في فيض
من الشعور القدسي يوقظ في الإنسان أنه حي، وفي الحي أنه حر، وفي
الحر أنه جميل، وفي الجميل أنه صالح، وفي الصالح أنه خليق
بملكوت الله وخلافة الأرض
تباركت يا مبدع الربيع، ومصور الجمال، ومعيد الخلق! هذا النبل يتنفس بالحياة ماؤه فما لأنفسنا تموت؟ وهذا الوادي يتفجر بالخصب ثراه فما لآمالنا تذوي؟ وهذا الربيع يرف بالحسن نسيمه فما لأخلاقنا تسوء وتقبح؟ ألسنا جزءاً من الطبيعة نتجدد كما تتجدد، وندور على قطب الحياة كما تدور، ونجري على سنن الكون كما تجري؟ إذن فلماذا يعود إبريل في كل عام فيرد إلى الشجر حلاه، والى البلبل أغاريده، وإلى العش زياطه، والى الحيوان(95/1)
نشاطه، وإلى العالم كله بهاءه ورونقه. ونلقاه نحن في كل موعد إبان وروده، فلا نجد عنده وا أسفاه ريشة لجناح، ولا نفحة لأمل، ولا جدة لدارس
هكذا قضى الله أن يكون الربيع مستأنف القوة والفتوة والرجاء لكل حي، ومسترجع الذكر الممصة، والأطياف الحزينة لابن آدم! فهذه الشجرة التي تراها فينانة الأفرع ريا الأماليد طالما ورف ظلها السجسج في هذا الأوان على صبي ناعم وهوى وليد! كانت عشاً لطائرين بسط الشباب لهما في الجناح، وفسح الحب لهما في الجو، فيطيران ما شاء الهوى أن يطيرا، ثم يأويان إليها، ويغردان عليها، حتى تقوض العش ونسل الجناح ويبست الحنجرة! وها هي ذي الشجرة عراها الخريف عشرين مرة، وكساها الربيع عشرين مرة، ولكن ذاوي الشبيبة لن ينضر، وماضي الحبيبة لن يعود!!
وهذا المرج الذي تراه موشي البرود منضور الجنبات، كان في عام من الأعوام مسرحاً لمشهد من مشاهد الصبابة! انتظمت به عقود الحب، وأنثرت فيه حبات القلب، وتبددت عليه خطوات السعادة.
ثم تصوح المرج وعاد فاخضوضر وأزهر، ولكن مضاجع الهوى لن تمهد، وذواهب الخطى لن تؤوب!!
وهذا الجدول الرقراق الذي تسمع هسيسه فوق الحصى وتحت الصفصاف، كان في ربيع من الأربعة مرآة لوجهين حبيبين قرءا سراريهما في صفائه، ومزجا حديثيهما بخرير مائه، ثم جف مجراه وما لبث أن فاض، وانقطع حديثه ثم عاد فاستفاض، ولكن الوجهين لن يعود بينهما لقاء، والحديثين لن يكون لانتهائهما ابتداء!
وهكذا يجد الإنسان وحده في كل منظر من مناظر الأرض، ومظهر من مظاهر الربيع، أثراً بعد عين، ودواراً بعد نشوة، وبلي بعد جدة، وذكرى بعد أمل!!
على أن للربيع يداً على النهضة المصرية لا تكفرها له القلوب ما تجدد على الدهر عيده: تلك هي رجعة الروح فيه إلى حياتنا الاقتصادية، وما هذه الروح الراجعة إلا بنك مصر، بثها الله في نفحات الحلد من أوائل مايو، فنضرت من حياتنا ما ذوى، وأقامت من بنائنا ما هوى، واتحدت بطبيعة الزمن الموزون، وحركة الفلك المنتظم، فهي تتقدم ولا تتأخر، وتجري ولا تتعثر، وتطلب الغاية ولا تحيد(95/2)
لذلك يعود الربيع كل عام فيفتح للناس هوة الماضي، ويفتح لبنك مصر وحده باب المستقبل، فينمو نمو النبات بركة على بركة، ويتضاعف تضاعف الحياة شركة بعد شركة، ويجذب الوجود المصري معه إلى السبيل التي يأمن فيها الفناء ويخرج منها إلى العافية!
بعد ثمانية أيام يحتفل المصريون بمرور خمسة عشر ربيعاً على مولده؛ وسيكون هذا الاحتفال المرتقب حجة لمصر أو حجة عليها! فإذا أجمعت على أن يكون احتفالها بعيده احتفالاً بنهضتها به وحياتها فيه، دلت الناس على جدارتها بفضله، وعرفانها بجميل أهله، واطرادها مع الكفاية والجد في سبيله، وإلا كان احتفالها بهذا العيد العظيم كاحتفالها اليوم بشم النسيم. تحتفل فيه بالفسيخ والعرق والعهر، ثم لا تعبأ بجمال الطبيعة في جنة ولا نهر!
أحمد حسن الزيات(95/3)
الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يوماً في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي، وجماعة - أقبل فتى فجلس قريباً منا، وكان تلقاء وجهي؛ لا أمد نظري إلا انطلق في سمته ووقف عليه؛ وكنا نتحدث، فرأيته يتسمع إلى حديثنا؛ فلما تكلم سعيد، وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه الملة الصخابة - رأيت الفتى يتزحف قليلاً قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا
وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط
قال مجاهد: هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له؛ أخبرني إن رجلاً جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته؛ فقال الرجل: أيكما الشعبي. . .؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه. . .!
قال المسيب: وضحكنا جميعاً، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزناً وهماً، وكأنه لا يتسمع إلينا ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه، بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعاً، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه
فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه. ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلاً علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعاً؟
قال: إليك عني يا هذا. فأين مني الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مليء عيني في كل ما أرى. وكان حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة!
قلت: فأعلمني ما بك يا بني؛ فلقد احتسبت ولداً لي كان في مثل سنك وشبابك ولم ارزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقاً في لداته متوهماً أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعاً وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أرى أحداً منهم(95/4)
إلا كان له ولقلبي حديث! فإن رأيته حزيناً مثلك تقطعت له من إشفاق ورحمة، وطالعني فتاي في مثل همه وحزنه وانكساره؛ فيعود قلبي كالعين التي غشاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسره، فبثني ما تجد يا بني، فلعل لي سبباً إلى كشف ضرك أو إسعافك بحاجتك؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هين المحاولة، لم يجعله عندك كبيراً أنه كبير، ولكن انك أنت صغير
قال الفتى: مهلاً يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه بالموت يأخذنا ويأخذه
قلت: يا بني، هذه كلمة ما احسب أحداً يقولها إلا من أخذ للقتل بجنايته ولم يعف أهل الدم، فهل جنيت أو جنى أبوك على أحد؟
قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركت أبي الساعة مجمعاً على إزهاق نفسه، وقد اغلق عليه الدار واستوثق من الباب!
قال المسيب: فكأنما لدغتني حية بهذه الكلمة، وأكبرت أن يكون رجل مسلم يقتل نفسه؛ فتناهضت، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حياً وسيقتل نفسه متى اظلم الليل وهدأت الرجل
قلت: الحمد لله، إن في النور عقلاً، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت، وكيف تركته لقدره وجئت؟
قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي ليس لك أب بعدي، فإن أردت اللحاق بي فارجع مع الليل لنسلم أنفسنا، وان آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتسلمني إلى غاسلي!
قلت: أما من أنت إلا يكون أبوك قد أخرجك عنه لان عينك تمسك يده وترده عما يهم به، حتى إذا خلا وجهه منك ازهق نفسه؟
قال: لم أدعه حتى اقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمت أن ارجع لأموت معه، فإن لم تمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغت الحياة منا فلم يبق إلا أن نفرغ منها؛ ومن كان فيما كنا فيه ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم ير الناس من نفسه ضعة ولا استكانة؛ وإنما خرجت لأسأل هذا الإمام (الشعبي) وجهاً من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذر القوت، واشتد الضر، وتدلت به المسكنة إلى حضيضها،(95/5)
والجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في الدنيا: هو إنه مكذوب مزور على الدنيا.
قلت: يا بني. فإني أراك أديباً؛ فمن أبوك؟
قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في احلك الليالي واشدها انطماساً، جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل اخذ الموت امرأته فماتت هماً به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها؛ وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على إنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة. .!
قلت: يا بني، فإنك والله لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت؛ فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك؟
قال: لو بقى أبي حياً لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين اخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت؛ فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو ليرحمه؛ أن عجز عن عدوه قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.
قال المسيب ابن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن إليها أن يموت مسلماً إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره؛ فأشفقت أن اكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا؛ وكان أمامنا (الشعبي) حكيما لحناً فطناً سقر بين أمير المؤمنين (عبد الملك) وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يحدث به أمراً. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه. وقلت له: أما تدري انك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرورها أيضاً، وان الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا - ليس باحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟
يا بني، أن الزاهد يحسب أن قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر(95/6)
والإحسان وغيرها، إذا كانت فيما انقطع في صحراء أو على راس جبل؛ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وأيم الله أن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً، لهو الخالي من الفضائل جميعاً!
يا بني، إن من الناس من يختاره الله فيكونون قمح هذه الإنسانية: ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها. وما أدراك أنت وأباك إلا من المختارين كأن في أعراقكما دم نبي يقتل أو يطلب!
قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب وتوالت النكبات وتوارت الأسقام. . . ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفاً حرفاً، ثم قلت: وانه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد (هداه الله إليك) فجاء يسألك: أيموت مسلماً من ألجئ واكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سماً فهلك، أو توجأ بجديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح. . .؟
وأدرك الشيخ معنى قولي: (هداه الله إليك)، ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المترادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه؛ فعلم إني لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا والله رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس، وما أنا الساعة بمعزل عن همه، فنذهب نكلمه والله المستعان
ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما استفز بنفسه فأزهقها، وساتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده
ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، والى الحياة وما به قوة؛ وصغر إليه نفسه إنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق
وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)(95/7)
فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله، فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي!
ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه. فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيخ للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك: أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حياً ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتاً، فبقى لا حياً ولا ميتاً ثلاثين سنة. . . .؟
قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذه الحال ثلاثين سنة؟
قال الشيخ: صحح الكلام واسأل: أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: (جاء ما لا صبر عليه)! وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟
أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنةً على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممددة على سريرها؟ إنه أمامنا (عمران ابن حصين الخزاعي) الذي أرسله عمر ابن الخطاب يفقه أهل البصرة، وتولى قضائها وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلت عليه أنا وأخوه (العلاء) فرأيناه مثبتاً على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه؛ فبكى أخوه، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة! قال لا تبك؛ فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحه قوةً في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر: (إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل!)
ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له: (امتحني) وكيف تراك إذا كنت بطلاً من الأبطال مع قائد الجيش، أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: (امتحني وارم(95/8)
بي حيث شئت!) وإذا رمى بك فرجعت مثخناً بالجراح ونالك البتر والتشويه - أتراها أوصافاً لمصائبك، أم ثناء على شجاعتك؟
ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئناناً في النفس على زلازلها وكوارثها - لم يكن إيماناً، بل هو دعوى بالفكر أو باللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف. . .! ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفراً بالله وتكذيباً لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي احدث في ثيابه!
والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب، ثقة بوعده ورجاة لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان. وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلاً ثانياً مع العقل. فإذا ابتلى المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون - برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول. ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أو غيرهما، فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل
فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناها بجعل البلاء ثواباً وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرةً بكل ما فيها إلى الموت، وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم، وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا وما الإنسان في هذا الكون، وما خيره وشره، وما سخطه ورضاه؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها. . . .!
قال الشيخ: وانظر، أما تبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يبتلى به الإنسان، غير أن لها عقلاً روحانياً مستقراً في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربص حالا غير الحال؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائماً ربيع على قدرها حتى في قر الشتاء
فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفةً في كل غرائزها، تكمل شيئاً وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية؛ وبهذه(95/9)
الغريزة تسمو الروح فتكون اكبر من مصائبها واكبر من لذاتها جميعاً وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضا بالقدر خيره وشره، وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معاني شريفةً تنزع منها شرها وأذاها للنفس، وليست المصيبة شيئاً لولا تأذي النفس بها. وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيرت طبيعتها، فيعود الفقر باباً من الزهد، والمرض نوعاً من الجهاد، والخيبة طريقاً من الصبر، والحزن وجهاً من الرجاء، وهلم جراً
والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وجدا مع الفقر بطلت عزة المال واصبح حجراً من الحجر، والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغنى فيه آلات التطريب كلها. وفي النفس حياة ما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا عفت أذلتها الدنيا!
قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلاً، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد اشرق وجهه وتنضر وانقلب إلى روحه التي كان منصرفاً عنها، فعادت مصائبه تضغط روحاً لينةً كما تضغط اليد على الماء، وأيقن إن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته فينكب أول ما ينكب في صبره ويقينه
ثم قال الشيخ، ولقد رأيت بعيني رأسي معجزة (العقل الروحاني) وكيف يصنع: رأيت عروة ابن الزبير وهو شيخ كبير - عند الوليد بن عبد الملك، وقد وقعت في رجله الأكلة، فأشاروا عليه بقطعها لا تفسد جسده كله، فدعى له من يقطعها، فلما جاء قال له نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً. فقال عروة: لا استعين بحرام الله على ما أرجو من عافية! قال: فنسقيك المرقد. فقال عروة: ما احب أن اسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فاحتسبه
ثم دخل رجال أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر. قال أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي!
قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر، وكيف احتمل. إنه انصرف بحسه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبر ويهلل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغمرت(95/10)
حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطع القاطع كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل. ثم جيء بالزيت مغلياً في مغارف الحديد فحسم به مكان القطع، فغشى على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك: (جاء ما لا صبر عليه؟)
قال المسيب: وارهف بأس الرجل الضعيف وقوى جأشه وانبعثت فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني وعرف إن ما لا يمكن أن يدرك، يمكن أن يترك
وجاء هذا العقل الروحاني فمر بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائماً يقول: الله اكبر من الدنيا، الله اكبر من الدنيا!
ثم أكب على يد الشيخ وهو يقول: صدقت؛ (إن كل ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبر، وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها)
ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرى الصواب ويجتهد في الرجوع إليه ويصبر على ما يناله في ذلك؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطت فيه مسألة. . . . . . . . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(95/11)
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
4 - الحاكم بأمر الله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
والآن ماذا نستطيع أن نقرأ في هذا الثبت الدموي الحافل من خواص الحاكم وصفاته؟ لقد كانت هذه الجرائم المثيرة بلا ريب عنوان اجتراء مروع على الشر، وشغف واضح بالسفك واحتقار بين للحياة البشرية؛ ولكنها لم تكن نزعة دموية فقط، ولم تكن بالأخص دون غاية. كان الإرهاب في نظر الحاكم وسيلة للحكم، وكان القتل المنظم دعامة هذا الإرهاب الشامل؛ فإذا زعيم أو رجل من رجال الدولة وصل إلى مدى خطر من السلطان والنفوذ، فإن القتل انجح وسيلة لسحقه وسحق نفوذه؛ وإذا بدرت من فريق من الناس بادرة تذمر أو تمرد على أمر من الأوامر أو قانون من القوانين، فإن إزهاق عدد منهم يكفل عودهم إلى السكينة والخشوع. وكانت هذه السياسة الدموية تحيط عرش الحاكم بسياج منيع من الرهبة، وتخمد الأطماع المتوثبة في مهدها، وتنذر الزعماء ورجال الدولة بالخضوع المطلق لهذا الفتى الجريء. ولقد كان القتل دائماً وسيلة الطغاة إلى تأييد سلطانهم، وكان الحاكم طاغية قوى النفس والشكيمة. وقد كانت الأهواء والفورات العنيفة التي تجيش بها نفس الحاكم تمد هذه السياسة الدموية بروح من الإسراف والقسوة، ولكنها كانت في نظره قبل كل شيء وسيلة من وسائل الحكم، وكان لها بلا ريب اكبر الأثر في توطيد سلطة الحاكم، وسحق عناصر الخروج والثورة التي تتربص عادة بأمثاله الطغاة المسرفين
هذا ويفسر لنا بعض المؤرخين المسلمين إسراف الحاكم في القتل بأنه كان تقرباً منه (لزحل وطالعه المريخ)، وقد كان الحاكم شغوفاً بالفلك ورصد النجوم كما سنرى، ولكنا لا نستطيع أن نسيغ هذا الرأي من الوجهة التاريخية، فليس في سيرة الحاكم رغم شذوذه، وتباين معتقداته وشغفه بالخفاء، ما يدل على أنه كان يأخذ بمثل هذه الرسوم الوثنية المثيرة
- 6 -
كان شغف الحاكم بالليل من اظهر خواص هذه المرحلة الأولى من حكمه. كان الحاكم يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطراً كبيراً من الليل في جوب الشوارع(95/12)
والأزقة (سنة 391هـ)، وكانت القاهرة تبدو في هذه الفترة بالليل، كأنها شعلة مضيئة؛ وتجري جميع المعاملات بالليل، وتختلط حياة الجد بحياة اللهو والقصف، فتسطع الميادين والمنتديات بالوقود والزينات، وتغص بصنوف اللهو والمرح. فلما خرج الناس في ذلك عن الحد، وبالغوا في اللهو والإسراف والزينة، منع الحاكم النساء من الخروج ليلاً لكي تخف عوامل الفتنة والغواية، ثم أمر بمنع الرجال من ارتياد الحوانيت والمقاهي، وعاد الظلام يخيم على القاهرة بالليل؛ وشغف الحاكم بالليل وظلماته من غريب أطواره ونزعاته، حتى لقد لبث مدى حين يؤثر الجلوس في الظلام بيد أنه ينم في نظرنا عن روح فلسفي يزيد في غموض نفسه
ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى عمد الحاكم إلى إصدار طائفة من الأوامر والقوانين المدهشة التي لم يسمع بمثلها من قبل في أي مجتمع إسلامي، وكانت هذه المراسيم دينية واجتماعية، وكان مما يزيد في غرابتها وغموض بواعثها إنها كانت تصدر ثم تمحى بعد قليل وتستبدل بعكسها، ثم يعاد صدورها وهكذا. وقد اتخذ المؤرخون المسلمون على كر العصور هذه المراسيم حجة للحكم على الحاكم وعصره بأقسى الأحكام، واكتفوا في تعليلها بنظرية بسيطة، هي أن الحاكم كان ذهناً مضطرباً لا يصدر عن روية أو حكمة، ولم تكن هذه الأوامر والإجراءات الشاذة سوى نزعات مخبول لا يستقيم له منطق أو غاية. ويحسن قبل أن نناقش هذا الرأي أن نستعرض المراسيم أولاً، وان نحاول أن نتفهمها، وان نستقصي بواعثها على ضوء الظروف التي كان يجوزها المجتمع يومئذ
ونبدأ بالمراسيم الاجتماعية. في سنة 395هـ، صدرت أول طائفة من هذه القوانين المدهشة، فمنع الناس من أكل الملوخية والترمس والجرجير والتوكلية والدلينس، وحرم ذبح الأبقار السليمة إلا في أيام الأضحية، وحرم بيع الفقاع وعمله البتة وحرم صيد السمك الذي لا قشر له وكذلك بيعه؛ وحرم دخول الحمام بلا مئزر؛ وحرم على النساء أن يكشفن وجوههن في الطريق، أو خلف الجنائز، وحرم عليهن التزين والتبرج؛ وشدد الحاكم في تنفيذ هذه الأوامر، وعوقب كثيرون من المخالفين بالجلد والتشهير والإعدام. ثم حرم على الناس أن يخرجوا من منازلهم إلى الطرقات بعد الغروب، وان يزاولوا البيع والشراء بالليل، فخلت الطرق من المارة، وأقفرت الشوارع والميادين بالليل، وغدت القاهرة كالمدينة(95/13)
المحصورة؛ وحرم شرب الخمر من نبيذ وغيره، وكسرت أواني الخمور وأريقت في كل مكان، وأمر بتتبع الكلاب وقتلها أينما وجدت، فطوردت في كل مكان وأعدمت حتى خلت منها كل الطرق والدور؛ وفي هذا العام أيضاً حرم على كل من يركب مع المكاريين أن يدخل راكباً من باب القاهرة، وحرم ذلك على المكاريين أنفسهم، وحظر على التجار والباعة أن يجلسوا على باب الزهومة (من أبواب القصر)، وألا يمشي أحد بحذاء القصر، ثم أعفى المكارية بعد ذلك من الأمر وصدر لهم أمان خاص
وهكذا اضطربت أوضاع الحياة الاجتماعية المصرية، واستمر تطبيق القوانين والأوامر الجديدة على اشده. وفي سنة 398هـ صدرت عدة مراسيم جديدة؛ فمنع الناس من التظاهر بالغناء، ومن ركوب البحر للتفرج، وذلك لمناسبة نقص النيل في هذا العام؛ وشدد في منع بيع الخمور؛ ثم صدر مرسوم بمنع الناس كافة من الخروج قبل الفجر وبعد العشاء، فزادت المعاملات اضطراباً واشتد الأمر على الكافة، وسرى إليهم الخوف والجزع، واشتد الغلاء، وتفاقمت الحال بظهور الوباء، وعصف المرض والموت، وعز القوت والدواء. وفي سنة أربعمائة صدرت أوامر جديدة بالتشديد في حظر الخمور وبيعها؛ ومنع ركوب المراكب في الخليج، وسدت أبواب القاهرة التي تلي الخليج وأبواب الدور والطاقات المطلة عليه وعوقب الكثيرون من اجل إحراز الفقاع والملوخية والسمك الذي لا قشر له ومن اجل بيع النبيذ وإحرازه، وكانت العقوبة تصل في أحيان كثيرة إلى الإعدام. وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع النساء من زيارة القبور، فلم ير في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة، وحظر الاجتماع على شاطئ النيل للتفرج؛ وحرم لعب الشطرنج وعوقب المخالفون بالجلد؛ وحظر بيع الزبيب واستيراده، واحرق جميع ما كان موجوداً منه، وحظر بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها حتى لا يستعمل في صنع النبيذ، وحظر عصره واتلف كثير منه واغرق في النيل أو ديس في الطرقات، وسير المأمورون إلى الجيزة، وكانت يومئذ عامرة بحدائق الكروم فأتلفوا كرومها، وصودر ما كان في معاصرها ومخازنها من جرار العسل، وكسرت وأريقت في النيل، وحدث مثل ذلك في سائر الجهات
وفي سنة أربعة وأربعمائة صدر مرسوم بتحريم صناعة التنجيم والكلام فيها، وان ينفى المنجمون من سائر المملكة، فاستغاث المنجمون بالقاضي الأكبر مالك بن سعيد الفارقي،(95/14)
فعقد لهم التوبة من هذه الصناعة، واعفوا من قرار النفي؛ وحدث مثل ذلك للمغنين والمطربين، فهجروا الغناء واعفوا من المطاردة؛ وشدد في قتل الكلاب مرة أخرى. وفي شعبان من هذه السنة ذهب الحاكم في معاملة النساء إلى ذروة القسوة والشدة، فاصدر مرسومة الشهير بمنعهن من مغادرة دورهن والخروج إلى الطرقات بالليل والنهار، ومنعهن من دخول الحمامات العامة، ومنع الأساكفة من عمل خفافهن، فاختفى النساء من المجتمع المصري، وساده الانقباض والوحشة، وأغلقت المتاجر التي تبيع السلع النسوية، وساد الذعر بين النساء، ولزمن دورهن في روعة وخشوع، وعوقب كثير من المخالفات بالموت؛ واشتد الأمر بنساء الكافة اللائى ليس لهن من يقوم بأمرهن واستغثن بأولي الأمر، فأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة وكل ما يباع في الأسواق إلى الدروب، ويبيعوه للنساء في منازلهن، وان يحمل الباعة أداة كالمغرفة لها ساعد طويل يمد إلى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه، فتتناوله وتضع مكانه الثمن، ولا يسمح لها مطلقاً أن تبدو من وراء الباب وعانى النساء هذه الشدة زهاء سبعة أعوام حتى وفاة الحاكم بأمر الله، وكان حادثاً منقطع النظير. ولم يحدث قط في أي مجتمع إسلامي، بل لم يحدث في أي عصر من عصور التاريخ أن عانى النساء مثل هذه المحنة القاسية، وسلبن الحرية على هذا النحو الشامل
وكان مما يزيد في صرامة القوانين الاستثنائية، الشدة في تنفيذها، وروعة العقوبات التي سنت لمخالفيها؛ وكان السهر على تطبيقها من أهم واجبات مدبر الدولة أو قائد القواد؛ فنجد مثلاً في السجل الصادر بتعيين (غين) قائداً للقواد ومديراً للشرطة والحسبة، (سنة 402هـ) تنويهاً خاصاً بمراعاة تحريم النبيذ وغيره من الخمور وتتبع ذلك والتشديد فيه، وفي تحريم الفقاع وبيعه، وتحريم أكل الملوخية والسمك الذي لا قشر له، والمنع من الفرجة والملاهي كلها، ومنع النساء من حضور الجنائز، ومنع بيع الزبيب والعنب والعسل الخ، وكانت العقوبات تختلف بين التشهير والجلد، وتصل في أحيان كثيرة إلى الإعدام
هذه خلاصة وافية لما أصدر الحاكم أو أصدر في عهده من المراسيم والأوامر الاجتماعية الاستثنائية، ومعظمها يحمل طابع القسوة والشذوذ؛ ولكن سنرى إنها لم تكن دون غاية، ولم تصدر كما يبدو لأول وهلة، عن نزعة مخبول أو هائم، وان كثيراً منها يحمل بالعكس(95/15)
طابع الطرافة والحكمة، ويرمي إلى غايات بعيدة قد فطن إليها هذا الذهن الجريء، واتخذ منها مثلاً
- 7 -
نعرض بعد ذلك إلى طائفة أخرى من مراسيم الحاكم بأمر الله هي المراسيم الدينية، وقد كانت كالمراسيم الاجتماعية تحمل في كثير من الأحيان طابع الشدة والتناقض
وبدأ الحاكم بهذه المراسيم الدينية لأول عهده بالحكم أيضاً. ففي سنة 395هـ، اصدر أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار وشد الزنار؛ وفي سنة 99 أمر بهدم بعض كنائس القاهرة ونهب ما فيها، ونفذت الأوامر بهدم كنيسة قمامة (القبر المقدس) ببيت المقدس ونهبها، ولكن أكابر الأحبار والنصارى سعوا على ما يظهر حتى عدل عن تنفيذ الهدم؛ وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقلد الزنار. وفي سنة 402 صدر مرسوم شامل ضد النصارى واليهود، يقضي بأن يلبسوا العمائم السود، وان يعلق النصارى في أعناقهم صلباناً ظاهرة من الخشب طول الواحد منها ذراع في ذراع ووزنه خمسة أرطال، وان يعلق اليهود في أعناقهم قرامي من الخشب زنتها خمسة أرطال أيضاً. وحرم على الفريقين معاً ركوب الخيل، وان يكون ركوبهم الحمير والبغال بسرج من الخشب وسيور سود عاطلة من كل حلية، وألا يستخدموا مسلماً أو يقتنوا عبداً مسلماً أو جارية مسلمة، أو يركبوا حماراً لمكاري مسلم، أو سفينة لملاح مسلم، وأن يحمل النصارى الصلبان، واليهود الأجراس في أعناقهم عند دخول الحمام تمييزاً لهم عن المسلمين؛ ثم أفردت لهم بعد ذلك حمامات خاصة، وعلقت الصلبان على حمامات النصارى، وقرامي الخشب على حمامات اليهود، وطبقت هذه الأوامر والقوانين بمنتهى الصرامة فاشتد الأمر على اليهود والنصارى وساد بينهم الروع والرهبة، وأسلم كثيرا منهم تجنباً لهذه المطاردة ونفى الكثير منهم خارج الديار المصرية، وهدم كثير من الكنائس والأديار والبيع ونهبت، وصدر بعد ذلك أمر جديد بهدم كنيسة قمامة (القبر المقدس). وعانى اليهود والنصارى هذه المحنة أعواماً، وكانت من اشد ما عانوا في ظل الدولة الإسلامية بمصر. ثم خفت وطأة المطاردة عنهم، وأطلقوا من بعض قيودهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من الكنائس والبيع، وارتد كثير ممن أسلموا منهم إلى دينه الأول، بيد انهم(95/16)
لبثوا يعانون آثار المحنة حتى وفاة الحاكم بأمر الله
ولقد كانت هذه المطاردة الصارمة للذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله؛ وكانت بلا ريب خطة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض، ونستطيع أن نقول إنها كانت انقلاباً جوهرياً في السياسة الفاطمية إزاء اليهود والنصارى. ذلك إن الدولة الفاطمية، كانت منذ قيامها بمصر تؤثر سياسة التسامح الديني، وتذهب في هذا التسامح إلى ابعد مدى، فتصطفي اليهود والنصارى، وتوليهم الثقة والنفوذ، وكان بين وزرائها كثير من اليهود أو النصارى مثل الوزير يعقوب بن كلس وزير المعز، ثم ولده العزيز، فقد كان يهودياً ثم اسلم، وكان اعظم وزراء الدولة الفاطمية؛ وعيسى بن نسطورس النصراني، ومنشا اليهودي، وزيرا العزيز بالله؛ وتولى الحكم ثلاثة من الوزراء النصارى في الفترة الأولى من عصر الحاكم ذاته، هم الرئيس فهد بن إبراهيم، وابن عبدون، وزرعة بن عيسى بن نسطورس،. وكان النصارى واليهود يتمتعون قبل عصر الحاكم بكثير من الحرية والتسامح، ويؤذن لهم ببناء الكنائس والأديار والبيع. ولم يشذ الحاكم عن هذه السياسة لأول عهده، وكان ذلك راجعاً إلى نفوذ الوزراء النصارى، وربما إلى نفوذ أمه النصرانية وأخته ست الملك، وقد كانت تؤثر سياسة أبيها العزيز في الرفق بالذميين؛ ولكن الحاكم انقلب فجأة إلى سياسة المطاردة الدينية، وأبدى في تطبيقها منتهى الغلو والتطرف، بيد إنا سنرى أن هذه السياسة ترجع أيضاً إلى بواعث لها خطرها وقيمتها.
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي(95/17)
كلمات. . .
للأستاذ محمد روحي فيصل
الشعراء ثلاثة: شاعر موهوب ينفث من صدره معنى الفاظه، ويستخرج من لغته ألفاظ معناه! ينحدر إلى طبعه عند البيان، وينطوي على نفسه لينشرها ويجلو المبهم منها، ويدع العرض العابث، ويفرز المتداخل المتشابك، ثم يسجل الخلجة الجميلة أو الخاطر الأصيل وكأنما يلد من لحمه ودمه جنيناً حياً، يكفله ويحبه ويحرص على أن يكون قوياً نشيطاً صحيحاً، ويأخذه بألوان من التهذيب والرعايا والنضارة حتى يثمر ويؤاتي أكله. ولئن نصب الشاعر في الولادة، وعانى ألم البيان، فلقد يستمتع بمرأى الوليد النضر الجميل يسعى وينطق، ثم يكون له أثره القوي في الوجود، ونصيبه الموفور من الحياة، وفضله العميم على الناس. .!!
وشاعر ميت يتصيد اللفظة الشاردة والكلمة المتأبدة والحرف الناشز من بطون المعاجم، وإنتاج الزملاء، وقديم الشعراء، وكأنما يتصيد الفريسة الدسمة الفارهة السمينة! ويلتزم صنعة البديع وحسن التشبيه ودقة المقابلة ورقة الجناس، وكأنما يلتزم طرائق البيان الخالدة، ويعلن عن ثقافته البالغة وذوقه الصحيح!
وشاعر مفلس لو اجتمع المرثاء، واعتزم التعزية والبكاء، لتصفح المراثي الباكية واحدة واحدة، ومعنى معنى، وبيتاً بيتاً، ثم اختلس هذا، وشوه هذا، وحرف ووجه وزاد. . لقد يقتفى المسكين روائع غيره، ويختبئ وراء نظمه، وينزل عن شخصيته، ويسف بكرامته - حباً للذكر والأحدوثة!
قال التاريخ: (عبثاً ينتج شاعر الصنعة وشاعر السرقة)
الألفاظ! الألفاظ!
أداة المبين، ووكر المعنى، وسر الفن! والشاعر العبقري من عرف كيف يزاوج بينها ثم أحسن التأليف، وأبدع الموسيقى، ونشر الجرس! فإنما الشعر لو تدبرت نغم علوي لطيف يهز الأذن، ويشيع في القلب، ويحيا في النفس، ويخلد في الذاكرة، ويرن في الخيال. كان اللفظ وما يزال الساحر العجيب الذي يلعب بالأهواء والأعصاب كما يلعب المرتاض بكرة القدم، ولعلك تذكر فيما تذكر درامة شكسبير في يوليوس قيصر، وقوة البيان عند انطوان(95/18)
وبروتس، وسلطان اللفظ على العامة والرومانيين
لشد ما يشبه الفنان الإنسان الأول أو الطفل الناشئ! ينظر إلى الدنيا بعين رغيبة، ويشعر بنفس ظمآنة، ويفكر بعقل طلعة. ولكنه يمتاز منهما - إن صح له الامتياز - بأنه يجمع الأسباب وينظم المنثور، ويلمح التناسب، ويتذوق الجمال! ومهمته الكبرى أما هي على التحقيق الانحدار إلى النفس ينفض غبارها، ويكشف اتساقها، وينير زواياها، ثم يخرجها لغة تهز القلب وتفيد العقل
كذلك العالم في استقرائه يدرك المجهول، ويصل العلة بالمعلول، ثم يضع القاعدة ويعمم القانون، فلو خطا أحد أمامه خطوة أو خطوتين لقدّر القوة، وراز الشدّة، وقاس المسافة، ووزن الكتلة، وانتهى من هذا كله إلى تقييد الحركة وإعلان العمل العالم والفنان كلاهما ينظر إلى أبعد من أنفه، ويسبر غور الأشياء. لقد يشتركان في الذات، ويتداخلان في الموضوع، ثم يختلفان بعد هذا في الآلة والطريق. . .!!
أرأيت إلى الحياة في مضطربها كيف تبدلها اللمحة، وتنقلها الملاوة، وتصبغها العاطفة، وتخضعها الظروف؟ ذلك ما يبعث على خلودها وامتدادها وجدَّتها وجمالها، وذلك ما وكل إلى الفن بتصويره. فالحقيقة الفنية تتصل بالمزاج والزمن والموقف، وهذه كلها أبداً في تطور مستمر عجيب، أما الحقيقة العلمية فثابتة على الدهر والأشخاص، ولئن طرأ عليها تحوير أو هدم فإنما يكون لتقريبها من الصحة والدقة والشمول
الدنيا واحدة عند العالم من حيث الجوهر والنظام. ولكنها دنى كثيرة عند الفنان من حيث الشكل والإحساس
ما عجبت لأحد من أبناء الفن عجبي لهؤلاء الأدباء اللذين يزهون بأنفسهم فلا يكتبون إلا لها، ويعنون بعواطفهم فلا يتحدثون إلا عنها، وهم لو سئلوا ما بال الجمهور يقرأ آثاركم وينشد أشعاركم؟ لقالوا: إنه متطفل يحب أن يسمو بقدره إلى منازل الكتاب والشعراء، فيستشعر الذي يستشعرون، ويطوف حيث يطفون. فالجمهور - مهما دقت نظرته وسمت أهواؤه - طفل لدن ما برح في كل العصور والأقوام يلهو ويعبث!!
أدب هؤلاء الأثرين يغشاه في أغلب الأحيان غموض، وتطل عليه فوضى، ثم لا يصح معه مقياس من المقاييس الأدبية المعروفة، وكيف تستطيع أن تقدره وتحكم له أو عليه ما دمت(95/19)
لا تفهمه ولا تتذوقه؟ إنما ينبغي للكتاب والشعراء أن يقطفوا من النفس والحياة ما يشترك في فهمه الناس جميعاً، أو الكثرة الغالبة من الناس، أو الطبقة النيرة منهم. ولئن صادف ألاَّ يكون هذا ولا هذا فهو إلى السخف والهذيان أدنى وأقرب. . .
غاية الفن أن يجلو النفوس ويهز الشعور، النفوس بأسرها والشعور على تلونه، شريطة أن تكون نفسنا وشعورنا في البداءة!
الكلمة الواحدة تدخل في رأسين اثنين، فتحمل إلى هذا النشوة والسلام، وتحمل إلى ذاك الفتنة والآلام!
كل امرئ وإن ثار متصل بالمجتمع، مدني بالطبع. وهذه الوشائج القوية المبهمة التي تربطه بالإنسانية تؤثر فيه ويؤثر فيها، قد لا يلمحها أوساط الناس وطغمتهم، وإنما تلمحها طائفة رفيعة خصها الله بسلامة الفكر، وحسن البصر، وقوة التصور، وهبة التصوير
قد يجيش صدر الأديب بالمعاني حتى ما يستطيع أن يحتملها، وقد ينضب حتى كأنه بلقع قفر. فحياته أبداً في نقلة وتناقض واضطراب، ما أشبه بإسفنجة رخوة لدنة تمتلئ حيناً وتفرغ حيناً! فكل ما خرج على لسانه قد تمثله من قبل ووعاه خياله، قاعدته في البيان: (خذْ وأعط)
قال سنت بوف: نصيحتي إلى أدباء الشباب ألاَّ يقلدوا من يعجبون بهم من أعلام البيان ورجال الفن، فذلك يميت نفوسهم ويشوه شخصيتهم، وإنما يتذوقون آثارهم فحسب، ثم يصورون حياتهم الخاصة كما صورها في صدق وغير تكلف، وليكن لهم مثل أعلى يوجه إنتاجهم ويصحح مقاييسهم ويهذب أهواءهم، ولا غضاضة عليهم - وهم ينشئون في لغتهم الصحيحة متأثرين بالمحيط والبيئة يستمدون منهما الوحي والقوة - أن يتساءلون من حين لآخر، وجباههم مرفوعة إلى السماء، وعيونهم شاخصة إلى الأموات الأحياء: (ترى ماذا يقال فينا!)
تستهل الحياة الأدبية عملها في الفرد والأمة بالشعر، وتدرج على الشعور، ثم تستشرف للتفكير، وتنتهي إلى النثر. ويكاد هذا يكون قانوناً لا يقبل استثناء، فلقد تذكو العاطفة فينطلق الكلام شعراً منظوماً، ويخبو الوجدان فينمو العقل ويستفيض النثر! وهنا السر كل السر في مناعة الشعر الصادق الرفيع، وندرة النابغين فيه من المعاصرين(95/20)
القارئ - هذه قصيدة قديسة قد فرعت من تلاوتها منذ حين. ما أصدقها وما أنور معانيها! إنها الحقيقة بإطارها وإشراقها! لا، إنها قطعة من حياتي! لا لا، إنها مصدر حياتي! ويح نفسي كم أحب أن أعلن هذا الشاعر. . .
المرأة - حذار حين تلقاه أَلاَّ تهمس في مسمعيه ما تريده، وحذار أن يجمد خاطرك ويحتبس لسانك وتنكمش طبيعتك! إنما الشاعر خطيب لسن قد وقف إلى الراديو يرسل معانيه الطلقة كأشعة رفَّافة تنطلق في الفضاء وتتوزع على الأرض، ما يرى جمهوراً صاغياً مشجعاً ولا خيالاً لجمهور، ولكن حياة صامتة هادئة تأخذ السبل وتملأ العيون! أرأيت إلى الحياة الصامتة الهادئة كيف تكون جافة ملولة إذا لم يتخللها الفينة بعد الفينة صراخ النقد أو هتاف الاستحسان! لقد يطل من كوة الفضاء صدى جميل تبرق له أسارير الشاعر، وينطلق بيانه، وتخصب عبقريته، ويسمو إنتاجه، ثم يعلم أن معانيه التي أرسلها شعاعاً قد لامست حياً يسعى، وحسب الفنان هذا من غاية وراحة!!
القارئ - أنا متصل يا عزيزتي اتصالاً وثيقاً بكبار الكتاب وسادة الفن، أما (ع) في الشعراء فقد تلابسينه اليوم واليومين وتجلسين إليه طويلاً، وتتحدثين إليه ما شئت أن تتحدثي، فما يبرح في حضرتك جامداً بكئ اللسان، سخيفاً إذا ارتأى، مضحكا ًإذا أشار، ينشر عليك اضطراباً من رأيه ودمامة من وجهه ووساخة من ملبسه! ولكن ما يكاد يرجع إلى نفسه ويغلق أبواب غرفته، ويستحي شيطان شعره حتى ينقلب مبيناً محدثاً حلواً رائعاً في رأي البصر ورأي البصيرة. لشدّ ما أسكرتني أشعاره وهزتني موسيقاه! فنصيحتي إليك ألا تقربي عظماء الرجال، أو تدخلي بيوتهم وتعيشي في ظلهم، ولكن اعشقيهم إن شئت عن بعد، وكوني معهم على غير اتصال!
المرأة - دع (عيناً) هذا فما أحب أن نتحدث فيمن غبر من الأحياء. إنما الأموات خيوط عريضة قوية تنسج مادة الماضي وتقوّم أحداث التاريخ، وتؤلف وحدة الأمة! هذا ابن أبي ربيعة الكبير كان يدلف إلى الكواعب الحسان في فحمة الليل، وغفوة الناس، وغفلة الحراس، فيقضي لبانته منهن كما شاء الهوى والشباب، ثم يلاقي ناقته في العراء، ويغيب في مطاوي الزمن! ومثله في اجتلاء الجمال جوت وبودلير ولامرتين يسبحون جاهدين في بحر الوجود، لا يستشرفون إلى شاطئ من شطآنه، ولا تريحهم موجة من أمواجه. . .(95/21)
القارئ - هم يسبحون؟ لا، إنهم أوعية يملؤها الزمان ويختبئ فيها
المرأة - ثق أن الفنان يعطي أكثر مما يأخذ، ويعمل أكثر مما يجب، ويهب أكثر مما يدع
القارئ - ماذا تعنين؟
المرأة - أعني أنك مخطئ حين تجل الفن وتجعله تاجاً جميلاً على رأس الإنسانية، فالفنان كالممثل يصور معالم الحقيقة، ومواضعات الناس، واضطراب الحياة فهو كما ترى (ناقل) لا (مخترع). هو نفس في النفوس، ورجل كالرجال
القارئ - هل دريت إن حفيد الشاعر المشهور (ج) قد مات على أسوأ ما يموت البؤساء من الفقر والوحدة والنكران؟ أنا أرى إلا يعقب الفنان ذرية تعيش من بعده، وتسعى خلف نعشه، وإنما يقوم بعمله الفني أعزب وحيداً في ذاكرة التاريخ
المرأة - أنا لست أرى هذا، فالفنان حلقة في سلسلة الإنسانية ما ينبغي أن يكون آخرها وقاطعها، فلينحدر منه الناس كما انحدر هو من الناس، فأما البؤس فكما يصيب الفنان قد يصيب غيره. .!!
بيروت
محمد روحي فيصل(95/22)
المصادر الإغريقية للفلسفة الإسلامية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
لا يستطيع باحث أن يفهم الفلسفة الإسلامية فهماً صحيحاً دون أن يدرسها على ضوء الفكر الإغريقي ومتجاته، ولا نبالغ مطلقاً إذا قلنا إنه تعذر علينا أحياناً فهم مسألة لدى (الفارابي) أو (ابن سينا) قبل أن نقرأ مصدرها في كتب (أرسطو) أو (أفلاطون). وعلّ أحسن ما كتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى اليوم كان من عمل رجال قارنوا القديم بالحديث، وقرّبوا فلاسفة الإسلام من أساتذتهم الإغريق. على العكس من ذلك يكاد يرجع العيب العام لأكثر ما كتب في هذه الناحية إلى أن مؤلفيه نسوا أو تناسوا الصلة بين الفلسفة العربية والفلسفة الإغريقية؛ فنسبوا إلى أشخاص آراء ونظريات ليست نتيجة بحثهم وتفكيرهم المستقل، ومن التجني على الحقيقة والتاريخ أن يعزي إلى عالم أو فيلسوف، ما لم يأت به ابتداء، وما لم يبتكره ابتكاراً، ومنشأ هذا الإسناد الباطل جهل بالتاريخ وإغفال للعلاقات الثابتة بين المراحل المختلفة للتفكير الإنساني، فرب فكرة بدت مبتكرة في حين أن الأقدمين اهتدوا إليها من فبل وأبرزوها في صورتها الحاضرة، أو في صورة أخرى تبعد عن هذه بعض البعد. ومن الغريب أن هناك طائفة من المؤرخين تنزع إلى اعتبار أبطالهم ومن يكتبون عنهم مصدر كل جديد؛ فهم ينسبون إليهم شخصياً كل ما جاء في كتبهم أو روي عنهم. في هذا، بلا شك، اعتداد كبير بمن يترجمون لهم، ومن يدرسون حياتهم؛ غير أن النزاهة والتحقيق العلمي يأبيانه. قد يبدو طريفاً أن يقال إن نظرية كذا من ابتكار فلان وحده، ولكن أليس أطرف من هذا وأعمق بحثاً أن يبين المؤلفون المقدمات التاريخية التي مهدت لهذه النظرية؟ قضى الناس زمناً يرددون فيه أن (ديكارت) مثلاً اخترع نظرية الشك الفلسفي اختراعاً دون أن يتأثر فيه برأي سابق؛ وها هم أولاء اليوم يعلنون أنه سبق إليها في صور أخرى مصغرة، ويبرهنون على ذلك بطرق دقيقة أخّاذة إزاء هذه الظروف كلها نحاول في هذه الكلمة أن نلقي نظرة عامة على المصادر الإغريقية التي كانت ذات أثر بين في تكوين الفلسفة الإسلامية، وفي تعرف هذه المصادر ما يعيننا على أن نحدد بالدقة ما جاء به العرب، وما سبقهم إليه الأقدمون عرف المسلمون الفلاسفة السابقين لسقراط ونصف السقراطيين - والسفسطائية واللاأدرية والرواقيين والأبييقورين فنظرية (الجوهر(95/23)
الفرد) التي قال بها (ديموقريط) و (أبييقور) تتصل إلى حد ما بتلك النظرية التي وردت على السنة علماء التوحيد المسلمين. ومذهب الرواقيين المادي اثر تأثيراً غير قابل للإنكار في جماعة المعتزلة، ونخص بالذكر منهم (النظام) الذي اعتنق نظريات ذات أصل رواقي واضح، وان من يقرأ آراءه في (الكمون) لا يشك مطلقاً في أنه تأثر فيها بما جاء به الرواقيون من قبل. وقد أخذ علماء الكلام بوجه عام عن اللاأدرية الإغريقيين كثيراً من أفكارهم، وخاصة ما اتصل منها بنقد (أرسطو) ونظرياته. ونرى في كتب التراجم العربية ملخصات قصيرة عن حياة (تاليس) و (فيثاغورس) و (أبخزاجور) و (أمييدوقل)، وفي كتاب الملل والنحل (للشهرستاني) أحسن أنموذج لهذه الملخصات. بيد أن هذه المعلومات في جملتها ناقصة وغير صحيحة أحياناً؛ ولا يبدو على مفكري الإسلام أنهم كونوا رأياً ناضجاً عن هذه المذاهب الفلسفية المختلفة. (فالشهرستاني) نفسه يخلط مذهب (فيثاغورس) بمذهب (أفلاطون)، ويعزو إلى أصحاب الرواق بعض نظريات مدرسة الإسكندرية. وإذا استثنينا (أفلاطون) و (أرسطو) نجد أن المسلمين لم يعرفوا فلاسفة الإغريق إلا عن طريق غير مباشر، وفي ثنايا كتب (بلوتارك) و (جالينوس) و (بورفيد) التاريخية
لم يترجم العرب حقيقة من كتب الإغريق الفلسفية إلا مؤلفات (أفلاطون) و (أرسطو) وشراح الأخير وتلاميذه. فأما (أفلاطون) فقد ترجمت محاوراته الهامة، وعلى رأسها: الجمهورية والنواميس وطبماوس والسوفيسط وبوليطيقي وفادن ودفاع سقراط ' فباطل إذن ما يقال من أن العالم العربي لم يعرف (أفلاطون) إلا معرفة ناقصة أو خاطئة. والواقع يثبت، على العكس من ذلك، أن (مؤسس الأكاديمية) استطاع بفضل نظرياته ومذهبه الروحي أن ينفذ إلى قلوب المتصوفة والمتكلمين والفلاسفة من علماء الإسلام، وقد بينا في بحث لنا أن (الفارابي) في محاولته التوفيق بين (أفلاطون) و (أرسطو) اعتمد على أربع محاورات هامة من مؤلفات الأول: فادن، بوليطقي، الجمهورية، وطيماوس، كما بينا إنه اصدر عنها واستشهد ببعض ما جاء فيها بشكل لا يدع جالاً للشك في أنه قرأها قراءة روية وتدبر. وفي هذا ما يؤيد فلاسفة الإسلام درسوا (أفلاطون) دراسة مباشرة وفي كتبه التي نقلت إلى العربية غير أن هؤلاء الفلاسفة لم يعنوا (بمؤسس الأكاديمية) عنايتهم (بأستاذ الليسيه) ولم ينل (أفلاطون) لديهم الخطوة التي نالها تلميذه(95/24)
(أرسطو). وقد أبان (رينان) من قبل مقدار إعجاب فلاسفة الإسلام بالأخير، وإحلالهم إياه محلاً خاصاً وتعلقهم بتعاليمه، واعتبارهم إياه حجة في العلوم النظرية فكان طبيعياً أن يبحث العرب عن مؤلفاته، وأن يترجموها في دقة وأمانة. وقد توفر لهم من ذلك عدد غير قليل في الاقتصاد والأخلاق، والطبيعة، والمنطق، وما وراء الطبيعة
كي يفهم (أرسطو) فهما حقاً ألا يدرس بمعزل عن تلاميذه وشراحه، لهذا اتجه العرب نحو أتباعه الأول وكبار مؤسسي (مدرسة المشائين) فأخذوا عنهم، وترجموا قدراً من كتبهم. وفي مقدمة هؤلاء الأتباع يجدر بنا أن نشير إلى تيوفرست الذي عرف بصلاته الشخصية (بأرسطو) وببعض مؤلفاته المترجمة إلى العربية. وهناك فيلسوف آخر من المشائين نال منزلة ممتازة في العالم العربي لا يفضلها إلا منزلة (أرسطو)، ونعني به الاسكندر الأفروديسي ' وكان (ابن سينا) يسميه (فاضل المتأخرين)، ويعتد بآرائه اعتداداً كبيراً ويروي لنا (يحي ابن عدي) إن شروحه على الميتافزيك والأناليتيك (لأرسطو) عرضت في السوق يوما فتسارع الناس إلى اقتنائها، ودفعوا فيها ثمناً باهظاً. أما شرحه على كتاب النفس فيعد من أقوم مصادر نظرية العقل ' التي لعبت دوراً هاماً في العالم الإسلامي وفي فلسفة القرون الوسطى عامة وإذن يمكننا أن نقول إن العرب عرفوا (مدرسة المشائين) ممثلة في أكبر رجالها ودرسوها مستعينين بأولى المصادر الموثوق بها بين مفكري الإغريق رجل آخر معاصر (للإسكندر الأفروديسي)، وعلم من أعلام الحركة العلمية الإسلامية، لا في الطب فقط بل في الفلسفة وتاريخها، ألا وهو جالينوس فإليه يرجع الفضل، فيما نعتقد، في نشر نظريات الرواقيين واللاأدريين بين العرب. وفي شرحه لمؤلف (أفلاطون) المشهور والمسمى طيماوس ما رفع من شأن هذا الكتاب، وما منحه سمعة عالمية في الفترات الأخيرة من العصور القديمة، وفي القرون الوسطى لدى السريانيين والعرب واللاتينيين ولا يفوتنا أن نشير إلى أن مكاتب (استامبول) تحتفظ بترجمة عربية لهذا الشرح الذي فقد أصله الإغريقي؛ وقد أطلعنا على بعض أجزائها صديقنا المسيو (كرادس) المدرس بمدرسة الدراسات العالية (بالسربون). فعسى أن تنشر هذه الترجمة كي نضم خدمة جديدة إلى خدمات العربية في ربطها بين التاريخ القديم والمتوسط، بل والحديث. و (لجالينوس) أيضاً أثر في العلوم المنطقية، فقد أدخل في منطق(95/25)
(أرسطو) عناصر جديدة تقبلها العرب وأخذوا بها. وعلى الجملة (فأرسطو) و (جالينوس) هما الباحثان الإغريقيان اللذان سادا الحركة العلمية الإسلامية واقتسماها فيما بينهما: (أرسطو) في الفلسفة، و (جالينوس) في الطب. على أن الثاني قد عدا في غير موضع على ميدان الأول واصبح العرب يسمونه بحق: (الطبيب الفيلسوف!)
لو وقف المسلمون عند (أرسطو) وكتبه وكتب تلاميذه المشائين، لكانت فلسفتهم مخالفة تمام المخالفة لتلك الفلسفة التي خلفوها. غير أنه لا يصح أن ننسى أن بينهم وبين (رئيس الليسيه) مدرسة الإسكندرية التي أثرت فيهم تأثيراً كبيراً. وان أثرها ليتناسب مع قربها الزمني من الثقافة الإسلامية، واعتناقها آراء أشربت بروح دينية؛ فنظرياتها تعد أول خطوة صادقة في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين. هذا إلى أن (أرسطو) نفسه وصل إلى العرب في ثنايا كتب علماء الإسكندرية وفلاسفتها؛ ذلك لأن هؤلاء الفلاسفة شرحوا النظريات الأرسطية في مؤلفات عديدة ترجم أكثرها إلى العربية. ويمكننا أن نذكر بين هؤلاء الشراح بورفير وتيمستيوس وأمونيوس وسمبليسوس وداود الأرمني ' وجان فيلوبون أو يحي النحوي، الذين كانوا أكثر اتصالاً بالمسلمين من تلاميذ (أرسطو) القريبين منه. ويتكلم (الشهرستاني) عن (بورفير) و (تيمستيوس) في لغة مملوءة بالاحترام ملاحظاً أنهما من أدق الشراح لنظريات (أرسطو) وإن كانا يخلطانها ببعض مبادئ الأفلاطونية الحديثة.
وينقل (الفارابي) بعض آراء (أمونيوس) مستشهداً بها في مواضع مختلفة. وقد تمكن (يحيى النحوي)، بفضل نظريته في خلق العالم ومناقشته لمذهب (أرسطو)، أن ينال حظوة علماء التوحيد المسلمين. وإذا تتبعنا شروح كتب (أرسطو) في المنطق التي ترجمت إلى العربية، وجدنا أغلبها من عمل فلاسفة الإسكندرية. وقد ترجمت هذه الشروح في آن واحد مع المتون التي تتصل بها، وأصبحت غير قابلة للفصل عنها. وليس هذا قاصراً على العلوم المنطقية، بل يتعداها إلى الدراسات الأخرى؛ ففي كل ناحية من نواحي البحث النظري لجأ العرب إلى علماء الإسكندرية ليستعينوا بهم على فهم (أرسطو) ومؤلفاته. وإن نظرة قصيرة إلى كتاب تاريخ الحكماء للقفطي ترينا أن هذه المؤلفات وشروحها التي ألفها علماء الإسكندرية كانت تكون في نظر المسلمين كلا مرتبط الأجزاء. وجملة القول أن مدرسة الإسكندرية بحكم موقعها الجغرافي والتاريخي كانت مهيأة لأن تنشر علومها وكتبها(95/26)
في العالم الإسلامي؛
من هذه العناصر المختلفة التي أشرنا إليها في اختصار تألفت فلسفة الإسلام، فإذا كان مذهب (أرسطو) عمادها القوي، فإن (أفلاطون) و (أفلاطن) قد أقرضاها مواد غير قابلة للأنكار، وقد لوحظ منذ زمن بعيد ما في الفلسفة الإسلامية من مخلفات الأفلاطونية الحديثة، إلا أنه لم يحدد بعد بالدقة المصادر التي أخذت عنها هذه المخلفات. فتارة يبحث عنها في إنياد (أفلاطن)، وأخرى في كتاب الربوبية وكتاب الخير المحض اللذان ينسبان خطأ إلى (أرسطو). فأما (أفلاطن) أو (الشيخ اليوناني) كما يسميه (الشهرستاني) فلم يترجم قط إلى العربية، وما ينقله (الشهرستاني) من آرائه يرجع إلى ما كتبه فلاسفة الإسكندرية الآخرون. وأما كتاب الربوبية وكتاب الخير المحض فقد نقلا من غير شك نظرية (أفلاطن) إلى المسلمين، غير أنه يجب أن نضيف إلى هذين الكتابين بين مؤلفات شراح (أرسطو) من فلاسفة الإسكندرية الذين أشرنا إليهم آنفاً. فإن هؤلاء الشراح لم يقدموا للعرب المذهب الأرسطي في صورته القديمة، بل مختلطاً ببعض النظريات الأفلاطونية والرواقية وأجزاء من الأفلاطونية الحديثة، ويدهشنا أنه لم يتنبه أحد بعد إلى هذه النقطة برغم مالها من أهمية، وإن من يتأمل قليلاً يدرك أن واحداً (كبورفير) أو (كسميليوس) إن شرح (أرسطو)، فإنه لا يستطيع التخلص تماماً من آرائه الشخصية، أو التخلي بتاتاً عن نظريات مدرسته، لذلك لم تنتج الحركة الفلسفية التي قام بها علماء الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي، والتي بينها (رينان) و (رافيسون) بياناً شافياً، مذهباً أرسطياً خالصاً، بل نظرية مشوية بعناصر مختلفة، فقد كان شراح الإسكندرية معنيين بالتوفيق بين (أرسطو) (وأفلاطون) من جانب، وبين الأول وجماعة الرواقيين من جانب آخر، وهذا التوفيق نفسه هو أوضح خاصة من خصائص الفلسفة الإسلامية. ونعتقد أنا إذا أردنا أن ندلي بحكم دقيق على هذه الفلسفة، فلابد أن يكون بين أيدينا شروح فلاسفة الإسكندرية وشروح كبار أتباع (أرسطو) الأول، وما دامت هذه الشروح لم تدرس دراسة وافية فإن آراء وأحكامنا المتعلقة بتاريخ الأفكار الفلسفية في الديار الإسلامية ستبقى ناقصة ومؤقتة.
إبراهيم بيومي مدكور دكتور في الآداب والفلسفة(95/27)
إلى الشاب المسلم المثقف
الإسلام دين القوة
بقلم أحمد بديع المغربي
أستاذ الاجتماعيات بالمدرسة الثانوية بالموصل
طفا على الجزيرة العربية نور سماوي تسرب إلى القلوب المغلقة فاقتحم أقفالها ونفذ إلى الضمائر الميتة فبعث فيها حياتها، وتغلغل في أحشائها فبدد ظلماتها. وصحب هذا النور صوت عربي ينادى بالإسلام تعالى في أرجائها، فجمع أشتاتها وألف بين قلوبها
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم أنه عزيز حكيم).
قبائل بدوية متنافرة أعمى الجهل أبصارها، وعشائر رحل متناحرة مزق الغزو وحدتها، وهدد السلب والنهب كيانها؛ نفوس أبية رضعت لبان الحرية منذ طفولتها، وتنشقت هواء البادية المشبع بروح الأنفة والكبرياء والشمم والإباء منذ أن شبت عن أطواقها
هذه القبائل المتنافرة، وتلكم العشائر المتناحرة، ما استطاعت أن تجد من نفسها حولاً ففاضت دموعها خشوعاً وإجلالاً، وخرت للأذقان سجداً، وانصاعت لذلك الصوت الدوي الذي اخترق آذانها الصماء، وانقادت قلوبها الغلف طوعاً لذلك النور السماوي الذي غمرها بالضياء. . .
(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا)
(وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)
فتحولت من الضعف إلى القوة، وانتقلت من التفرقة إلى الوحدة، واستبدلت بالتخاذل ائتلافاً، وبالجهل والوحشية علماً ومدنية، وارتفعت من أسفل دركات الشرك والإلحاد، إلى أعلى درجات التوحيد والإيمان
ثم هبت من باديتها الفسيحة الأرجاء الممتدة الأطراف هبوب العاصف الزعزع، متكاتفة متراصفة، متحدة متضامنة، فعصفت الممالك التي اعترضت سبيلها عصفاً ودكت المعتقدات(95/28)
الدينية البالية دكاً، وحطمت العروش المستبدة الجائرة تحطيماً! ولم يمض عليها القرن، إلا قليلاً، حتى قيض الله لها أن ترفع راية الإسلام وتنشر ألوية السلام من أقصى البرنات إلى حملايا، ومن بوادي أواسط آسية حتى صحارى أواسط أفريقية؛ وما كنت تسمع صبحاً وظهراً وعصراً مغرباً وعشاء، إلا صوت المؤذن داعياً بقلب عامر بالإيمان: -
الله أكبر!
أشهد أن لا اله إلا الله!
أشهد أن محمداً رسول الله!
فيتقاطر المؤمنون كالموج الزاخر، متدافعين متسابقين، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إلى بيت الله، بيت الأمة، بيت الديمقراطية الحق؛
فما السر في تهافت العرب والأمم التي دانت للعرب على الإسلام؟!
إنه، وأيم الحق، لسؤال تقف دون تفسيره العقول النيرة حيارى. ولئن حاولنا في رسالتنا إلى الشاب المسلم المثقف أن نجلو هذا السر الغامض ونعلل هذه المعجزة الكبرى فإنما نحاول أن نظهر ناحية واحدة من نواحيها المتشعبة، هي (القوة في الإسلام): -
1 - القوة في المبدأ
2 - القوة في الاتحاد
3 - القوة في الأخلاق
4 - القوة في الشخصية؛
وهي الناحية التي يفتقر إليها المسلمون في تنظيم شئونهم في هذا العصر، عصر القوة، بل عصر تنازع البقاء وبقاء الأنسب، حتى يتسنى لهم أن يعيدوا مجداً كاد يندثر، بما منيت نفوسهم من خور العزيمة، وضعف الهمة، وتذبذب الاهواء، والميول، وميوعة الأخلاق، وانحلال الشخصية، متوسلين إلى الله عز وجل أن يهدينا وإياهم سواء السبيل
1 - القوة في المبدأ
تأمل، رعاك الله، في تلك الوفود القرشية العربية التي هرعت إلى أبى طالب بعد أن ضاقت صدورها من سب الرسول صلى الله عليه وسلم آلهتها وآباءها، وبعد أن عيل صبرها من تسفيه أحلامها مهددة متوعدة ليكفه عنها، أو تنازله وإياه حتى يهلك أحد(95/29)
الفريقين، ثم أرجع البصر فيما جرى بين الرسول الكريم وعمه الجليل حين أنبأ ابن أخيه بما قالت قريش: -
(ابق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر مالا أطيق)
يتجلى لك بصورة لا يداخلها الريب ما انطوت عليه نفس رسولنا الأعظم وزعيمنا الأكبر من قوة الثبات في المبدأ: -
(والله، يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه. . . ما تركته!)
وتبصر ما أصاب المسلمين الأولين من الاضطهاد والعذاب، وما تجشموه من المشاق والصعاب، من تعذيب المشركين لهم بحر الرمضاء وبقر بطونهم بالحراب في سبيل الدفاع عن هذا المبدأ، ثم أخل إلى نفسك وانظر ما أنت عليه اليوم وما كانوا عليه أمس!
2 - القوة في الاتحاد
إذا تدبرت مبدأ الفاشيست علمت أن شعار موسوليني ومشايعيه ذوى القمصان السود: (الفأس وحزمة العصي).
والفأس رمز الدولة، والعصي الأفراد الذين يؤلفونها، والفرد، في نظرهم قوى بجماعته، ضعيف بمفرده؛ مثله في ذلك مثل العصا يسهل كسرها بمفردها، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في كسرها إذا ما ضمت إلى أخواتها. والفاشستيه تنحصر فلسفتها في فناء الأفراد في الدولة وانحلال شخصياتهم فيها. ولماذا نذهب بك إلى الفاشستية ولدينا ديننا الإسلامي، دستور الحضارة والإنسانية، ففيه الأمثلة المتعددة على أن حياة الشعوب في تضامن أفرادها واتحادهم. قال الله في كتابه العزيز: -
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبلْ الله جمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا؛ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إذ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعمتِهِ إِخْوَاناً)
- سورة آل عمران.
(وَأطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيُحكُمْ) - سورة الأنفال
(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اَقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) سورة الحجرات
(إِنما المؤْمنُونَ إِخْوَةٌ فَاَصلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ) - سورة الحجرات(95/30)
وقال منقذنا الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم: -
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)
(لا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا)
لا تختلفوا فإن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)
(المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)
فليتق الله، عباد الله، الذين يعملون على التفرقة ويسعون إلى التجزئة فإن في ذلك الخسران المبين.
3 - القوة في الأخلاق
وإنما الأممُ الأخلاق ما بَقِيَت ... فإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقهُمْ ذَهَبُوا
(إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) - سورة النساء
(ولا تمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تخرقَ الأرْضَ ولَنْ تبلغَ الجبالَ طولاً) - سورة الإسراء
(وَلاَ تُصَعِّرْ خَدّكَ لِلنَّاسِ ولا تمشِ في الأرْضِ مرحاً، إنّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ مُختال فَخورٍ؛ واقصِدْ في مَشْيِكَ واغْضُضْ منْ صوتِكَ؛ إنّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير) - سورة لقمان
وقال رسولنا الأعظم: -
(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
(إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)
يقول الله عز وجل: - (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منها ألقيته في النار)
ألا فليعلم أولئك الضعاف العقول الذين إذا تبوأوا منصباً رفيعاً شمخوا بأنوفهم وصعروا للناس خدودهم، واشتطوا في غرورهم وكبريائهم؛ إنهم مهما ما بلغوا من السلطان والجبروت، لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولاً!
أين انتم يا مساكين من رسول الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم، من شهد الله وأثنى على خلقه العظيم!(95/31)
(هَوّنْ عَلَيْكَ، يَا رَجُل؛ فإنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديدَ في مكة!)
بمثل هذا القول الكريم خاطب نبينا المصطفى ذلك الرجل البائس الذي أصابته رعدة لدن دخوله عليه وبمثل هذا الخلق المتين استعبد الإسلام قلوب الناس!
4 - القوة في الشخصية - الشجاعة والأقدام
إن التواضع لا يناقض الشجاعة والأقدام، فكما أن القرآن الكريم حث المؤمنين على التواضع، واعتبره من الأسس المتينة التي تقوم عليها الأخلاق القويمة، كذلك أمرهم أن يصمدوا لأعدائهم ويدافعوا عن كرامتهم ويذودوا عن أوطانهم، ويصدوا من تسول له النفس الاعتداء عليهم ما استطاعوا من قوة يرهبون بها خصومهم وأعداءهم، حتى هدد الجبناء الذين يفرون من القتال والجهاد بغضبه ونقمته، كما نستدل من الآيات الكريمة التالية: -
(وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يقاتلوكم ولا تعتدُوا إنّ الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثَقِفْتمُوهُمْ وأخْرِجوهم من حيث أخرجوكم) - سورة البقرة
(يا أيها الذين آمنوا إذا لَقِيتم فِئة فاثبتوا) - سورة الأنفال
(وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل. ترهبون به عدو الله وعدوكم) - سورة الأنفال
(يا أيُّها الذين آمنوا إذا لَقِيتم الذين كفروا زحفاً فلا تُوَلّوهُم الأدبارَ. ومن يُولِّهِمْ يَومئذٍ دُبرَه إلاّ مُتحرِّفاً لقتال أو متحيزاً إلى فِئةٍ فقد باءَ بغَضَبٍ من اللهِ وَمأْوَاهُ جهنَمُ وَبِئْسَ المصِير) سورة الأنفال
وجاء في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً سيدنا علياًُ كرم الله وجهه: -
(يا علي! كن شجاعاً فإن الله يحب الشجاع)
كذلك حرض المصطفى المؤمنين على الاتصاف بصفات الرجولة الكاملة، ولعن الشباب المائع المتخنث، كما لعن تلك الفتيات المتشبهات بالرجال
(لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)
والآن وقد انتهينا من محاولتنا إثبات أن الإسلام دين القوة؛ القوة في المبدأ، والقوة في الاتحاد، والقوة في الأخلاق، والقوة في الشخصية؛ لابد لنا قبل أن نختم رسالتنا أن نلفت(95/32)
أنظار شبابنا المسلم المثقف إلى الملاحظات التالي:
1 - كن أيها الشاب المسلم، وكوني أيتها الفتاة المسلمة، مثلاً طيباً في قوة المبدأ. ليضع كل منكما هدفاً واحداً أمام عينيه هو توحيد الأمة الإسلامية، يعمل على تحقيقه بكل ما حباه الله من قوة الشباب غير عابئ بما يعترض سبيله من عقبات كأداء، أو مكترث لما يحاول بعض المغرضين الدساسين من تثبيط همته القعساء
اعمل يا أخي المسلم، اعملي يا أختي المسلمة على نشر مبدأ الاتحاد والوحدة أينما كنتما وحيثما حللتما، وألقما حجراً كل من تسول له النفس أن يثنيكما عن عزمكما
2 - اقتديا برسولنا الأعظم سيد المرسلين، وزعيمنا الأكبر خير العالمين في تقويم ما اعوج من أخلاقكما، فإن أمتكما العربية أحوج ما تكون في تحقيق ما تصبو إليه من الآمال إلى شباب يمتازون بثبات الجنان، ولبن الجانب، وقوة الإرادة، ومضاء العزيمة
3 - ليتعصب كل منكما لمبادئه الدينية، وليتمسك بعقائده الإسلامية، وليحافظ على تقاليده العربية، فإن الأمة التي تتسامح في مبادئها، وتتساهل في عقائدها، وتنكر تقاليدها مقضي عليها بالانحلال والاضمحلال.
الموصل - العراق
أحمد بديع المغربي(95/33)
دار وحبيب. . .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
يا دار، ليتني ضللت إليك الطريق. . .! منذ سنوات وسنوات، كنت مغداي ومراحي، وكنت سعادتي وانسي، وكنت دنياي الصغرى، تلتقي عندك أماني الشباب، تستيقظ فيك أحلام الهوى!
فأين يومك من امسك يا دار؟ أما يومك - وا أسفاه - فهذا الذي أرى: كومة من أحجار، إلا جداراً يريد أن ينقض! وأما أمس. . هل تذكريني يا دار. . .؟
أين، أين ألقى اهلك الذين ابتعدت خطاهم على الأيام، وأيان، أيان تعود لياليك التي طواها الزمان؟
هنا. . . منذ سنوات وسنوات. . . أودعت قلبي إلى ملتقى موعود؛ فأين منك الوديعة يا دار؟
ما أظن الأيام على سلطانها بقادرة على أن تهدم ذكراكِ في نفسي!
ومضيت أتخطى الأنقاض وهي تئن من تحتي أنين الواجد، حتى انتهيت إلى الهيكل المستباح!
يا لله! كل شئ حي في هذا المكان، أني لأسمع همس الذكرى يرجع في مسمعي حديث الماضي؛ وإني لأرى أطياف الحب ترف رفيف الحياة؛ وإني لأشم من حولي عبير اللقاء يتخطى بي الزمان والمكان؛ وإني لأراها هي أمامي كأول عهدنا يوم التقينا، فتعارفنا، فأسرت وأسررت النجوى!
مرحباً بك يا فتاة! يا لعينيك الساحرتين! ما لأهدابك تختلج كأنما تغالبين النعاس؛ ومالك صامتة لا تنسين كائناً غريبان في هذا المكان؟ ماذا؛ مالك معرضة منكرة. . .؟
إنني أنا هو فتاتي كعهدك يوم افترقنا على ميعاد. . .
ردي على ليالي، وصلى يومنا بماضينا. . . لقد ابتعدت عني بلا وداع شد ما تسخر الأماني!
وبدأ لي من خلل الدموع شبح شيخ يقترب بين الأنقاض. . . ذاك شيخ يدب على عكازة لوحتها السنون. . . يعلو حجراً ويهبط عن حجر؛ فدنا مني وقد تقلصت شفتاه عن مثل(95/34)
الابتسامة أي منظر موحش. . .؟
قلت: (من تكون أيها الشيخ ومالي بك عهد؟) قال (أنا. . .؟ ما أشد حماقة الفتيان! أنا الزمان. . .! وإنما لي أن أسألك: ماذا تنشد بين هذه الأنقاض؟)
قلت: (في هذا المكان، أودعت شيئاً عزيزاً على، أنه قلبي؛ أفتدري أيها الشيخ أين ألقاه؟)
هنا في هذا المكان، كان لي أهل وأحبة وكان قلبي لديهم وديعة إن الدار لتشهد؛ فإني لأنشد هنا قلبي وشبابي وحبي. . .!
قال: (ويحك يا مسكين! أتسأل؟ الزمان أن يرد عليك ما فات. . .؟ إنك يا بني تؤمن بالحب فأسأل الحب - إن أجاب - أن يرد عليك ما استودعته. . .! ما الحب يا بني إلا خرافة؛ هل هو إلا ارق يراوح بين جنبيك ودموع تقرح بين جفنيك وانتظار يستلب شبابك من عمرك، وحنين يستغرق يومك من تاريخك وغيرة تسلبك الطمأنينة والقرار وشك ينبت في صدرك الشوك؛ وهل هو من بعد إلا الندم واللهفة والذكرى؟ أفرأيت شيئاً من ذلك يعدل ساعة من ساعات الشباب، أو يرد عليك سعادة من سعادات الماضي. .؟
هيهات يا بني هيهات. . .!)
ومضى الشيخ على وجهه وإن صدره لسراً. . .!
وعدوت في اثر الزمان أجاذبه السر فما بلغت إليه نفسي وغاب في جوف الظلام. ورجعت منكسراً لفان أنهنه أدمعي وأغالب نفسي
وإذا على الطريق شاب يبتسم
قال: (مرحباً بك يا صديقي أراك على حيد الطريق فأين أزمعت السير؟)
قلت: (أتراك تعرفني يا فتى؛ فمن تكون؟)
قال: (أنا. . .؟ ما أعجب أن تنسى! أنا رفيق صباك وأنيس أحلامك؛ أنا الأمل. . .! فما أشد أن ينكرني الشباب!)
قلت: (معذرة إليك يا أملي وإنما صرفني عن ذكرك هذاك الزمان!)
قال: (الزمان. . .؟ ويحك! وأين منك الزمان وما تزال في يديك أيامك؟ ألا إن الشباب ليصنع بيديه أيامه ويخط بيديه تاريخه ويملئ على الزمان مشيئته. . .! ألا إن هذا الشيخ الخرف الذي تسميه الزمان لعاجز أن ينالك ومعك الشباب والأمل!)(95/35)
قلت: (فأنني افتقد شيئاً هنا. . . في هذا المكان. . . كان لي أهل وأحبة، أودعتهم قلبي إلى ملتقى موعود؛ فهذه الدار خلا كما ترى إلا أنقاضاً ركمها الزمان حجراً على حجر؛ أفتدلني أين أجد أحبابي وقلبي؟)
قال: (لك الله ولأحبابك! أفحسبت انك وحدك الوفي الذاكر؟ إن فتاتك ما تزال هناك تنتظر وان الوديعة الغالية ما تزال في الحرز الأمين!)
قلت: (فما هذه التي تراءت لي هنا ثم تولت معرضة لم تنبس؟)
قال: (ويحك! ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها تختلج؟ إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)
قلت: (أفتراها مستطيعة أن ترد علي أيامي وقد تولى الزمان وحال المكان؟)
قال: (إن الحب لا يعرف الزمان ولا يحده المكان أنه لشيء من غير دنيانا لا يخضع لنواميس هذه الحياة؛ إن العاشق ليذكر على البعاد من يحب فإذا الماضي كله بين يديه وإذا الذي يهواه تحت ذراعه؛ وإنهما لاثنان هنا: هو خيال من يحب واثنان هناك: هي وطيف من تهوى. أفرأيت الزمان والمكان ساعتئذ قد استطاعا أن يحولا دون هذا اللقاء؛ أو رأيت شيئاً غير الحب يجعل الاثنين أربعة في زمان ومكان. . .؟
(ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها بها تختلج إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)
ولمحت زهرة ترف رفيفها في ظل جدار قائم وهي تناجي أختها نجوى الحزين إلى الحزين؛ كانتا وحدهما في هذا المكان رمز الحياة بين رموز الموت من تلك الصخور المجدلة. وإن للأحجار والجماد لحياة كحياة الناس وموتا كالذي ماتوا، إن البيت الآهل لحي بسكانه ما عمروه فإذا احتملوا وهجروه فما هو حينئذ بيتا حيا وإن بقيت له معالمه وأبوابه ومفاتحه وأقفاله وان في التراب يغطي أرضه وجدرانه لمعنى من معاني القبر!
ودنوت استمع إلى نجوى الزهرتين:
قالت إحداهما لجارتها: (ويلي - يا أختاه - من المقام بين تلك الأنقاض الميتة ما أكاد أشعر إنني زهرة ذات روح وعبير لماذا نمتني الأرض وزينتني بألوان الربيع إذا كنت لا أرى العين التي تتملى حسنى معجبة شهوى؛ ولماذا أنا زهرة إذا انقضت حياتي على وتيرتها بين هذه الأنقاض لا يشم عبيري أحد ولا تتناولني يد رفيقة. . .؟)
قالت أختها: (فإنك لتبطرين النعمة! وإنك في مقامك هنا لأسعد من أخوات لك هناك في(95/36)
الروض؛ ما تكاد تتفتح عنهن الأكمام حتى تتناولهن الأيدي؛ فيوماً في الحرير على الصدر ويوماً في زهرية على المائدة؛ ثم هي بعد مع الزبالة تطؤها النعال. . .!)
قالت: (وهل أنا زهرة إلا أن أكون عطراً يستنثي وجمالاً يشتهي؛ ويوماً على صدر ويوماً في زهرية؟ إلا إن يوماً واحداً هناك يشعرني جمالي - لخير من أيام هنا على هذا الغصن الشائك ما ينفك يخزني كلما مالت به النسمات! ألا إنما السعادة قلب وابتسامة وإنما الحياة أن أكون شيئاً في الحياة!)
وهبت نسمة عاتية فإذا الزهرة ورقات منثورة على التراب. . .!
يا ويلتا! حتى هذه الأشياء تنشد الحب وتستوحش من الوحدة والخراب. . .!
أيتها الزهرة التي انتثرت غضة عبقة لم تنعم بالحب؛ كم من قلوب بشرية كقلبك؛ انتثرت أحلامها بددا على أنقاض اليأس والحرمان قبل أن تستنشي عطر الحب أو تذوق لذة المنى. . .!
عزاءً لك ولي. . .
طنطاً
محمد سعيد العريان(95/37)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: اثبت بستور إن الذي يحيل السكر إلى كحول في صناعة المشروبات الروحية إنما هو الخمائر. وهي أحياء غاية في الصغر، شكلها كري، تتوالد وتتزايد بالتنبت فالتقسم. واثبت إن عملية التخمر عند ما تفسد فلا تنتج من السكر كحولاً، فإنما يكون ذلك بسبب مكروبات اصغر من الخمائر، شكلها كالعصى، تسطو على محاليل السكر فتذهب بخمائرها، وتقوم بعملية جديدة مفسدة هي تحويل السكر إلى حامض اللبن الزبادي بدلاً من الكحول
وبينا هو في هذا، وبينا هو مستقر بأسرته في (ليل) إذ جاء زوجه يوماً يقول لها: (نحن ذاهبون إلى باريس فقد ولوني في مدرسة النرمال إدارة أبحاثها. وهذه فرصة عظيمة لا بد من انتهازها)
وانتقلوا إلى باريس. ولما جاء بستور مدرسة النرمال لم يجد بها مكاناً يشتغل فيه. وجد قليلاً من معامل للطلبة ووجدها سيئة قذرة. أما الأساتذة فلم يجد لهم شيئاً. وأسوأ من هذا أنه ذهب إلى وزير المعارف يستوضح الحال، فقال له الوزير إن الميزانية ليس بها قرش واحد ينفق على تلك القوارير والأفران والمجاهر التي لا يستطيع الحياة إلا بها. وما رجع حتى اخذ يدور في المكان القديم القذر يبحث في أسافله وأعاليه عن ركن يعمل فيه وهداه البحث أخيراً إلى سلم هداه في مشقة إلى حجرة صغيرة عند سطح البناء كانت ملعباً للفئران فطرد الفئران منها واستولى عليها وصاح: هذا معملي. ولم يلبث أن وجد مالاً لشراء مكرسكوباته وأنابيبه وقواريره - ولكن من أين لا يدري أحد يقيناً. كان لا بد له من(95/38)
المال فأعتزم أن يجده فكان. لا بد أن تعلم الدنيا خطورة خمائره هذه في الحياة. ولم تلبث الدنيا أن علمت بخطورتها
استيقن من تجاربه السابقة إن تلك العصى الصغيرة تحيل الكسر إلى حامض اللبن وعندئذ قام في نفسه إن الدنيا لا بد بها الألوف من أشباه هذه العصى تجري ألوفاً من أشياء هذه التحويلات وتأتي بأمور أكبر وأخطر من هذه منها الضار ومنها النافع. (إن هذه الخمائر التي أرانيها مجهري في أحواض البنجر السليمة، هي هي التي تخرج من السكر كحولاً. وإنها لخمائر كذلك تلك التي تخرج من الشعير جعة. وإنها لا شك خمائر تلك التي تخرج من عصير العنب خمراً. أنا بالطبع لم أثبت هذا بعد ولكني أعلم أنه صواب سيأتي إثباته). ومسخ نظارته في سرعة وصعد إلى معمله في بشر وخفة. فلا بد له من تجارب ليثبت لنفسه صدق الذي يقول لا بد من تجارب ليثبت للدنيا صدق ما يزعم. فالعالم لم يكن أمن بعد بالذي قاله
وكان ممن عارضه الألماني ليبج شيخ الكيمياء وسيدها وأميرها: (. . . ليبج يقول إن الخمائر لا دخل لها في تحويل السكر إلى كحول. ليبج يدعى أنه لا بد من وجود زلال في السائل وان هذا الزلال ينحل ويتهدم فيهدم السكر معه فيتكسر إلى كحول). واعتزم بستور أن يدحض رأي ليبج وفي ساعة برقت في خاطره بارقة، حيلة ماكرة تجربه بسيطة واضحة تقهر ليبج وكل من يشد أزره من هؤلاء الكيميائيين الذي يسخرون من هذه الخلائق المكرسكوبية الصغيرة ويهزؤون بما تقوم به من عظائم الأمور
(يجب علي أن أزرع هذه الخمائر في محلول من السكر لا زلال فيه. فإذا هي أحالت السكر إلى كحول إذن فعلى ليبج وعلى نظرياته العفاء). وامتلأ عناداً وامتلأ تحديا فقد كادت تنقلب هذه الخصومة العلمية إلى خصومة شخصية. جاءته الفكرة الجميلة للرد على خصيمه ولكن الفرق واسع بين الفكرة تخطر في الرأس وبين الفكرة تنفذ في المعمل فأنى له بطعام خلو من الزلال وهذه الخمائر اللعينة شبت على النعمة واعتادت مذاق كل لذيذ مرئ. أخذ بستور يدور في معمله ثم يدور يبحث عن طعام يطيب لهذه الخمائر وقضى على هذا أسابيع حتى فرغ جهده وضاق صدره. وفي ذات صباح وقع له حادث غير منظور فتح له ما استغلق عليه(95/39)
كان قد وضع بالمصادفة شيئا من ملح النشادر في مرق الزلال وضع فيه خمائر لتتزايد وتتكاثر. (ما هذا؟ إن ملح النشادر يتناقص من المرق كلما تزايدت تلك الخمائر فيه! ما معنى هذا؟) وأخذ يفكر. (نعم. نعم. إن الخمائر تعيش على النشادر. إنها تعيش من غير زلال!). ورد الباب رداً عنيفاً فاهتز البناء، فلا بد له الآن من الوحدة وقد أراد العمل، كما كان لابد له من الناس إذا أراد المتعة بالإفاضة بنتائجه الباهرة إلى الجماهير المعجبة المتحمسة. وتناول قبابات نظيفة وصب فيها ماء مقطراً نقياً؛ ووزن في دقة مقداراً من السكر النقي، وزلقه إلى الماء، وأضاف إليه ملح النشادر، وكان نشادر الدردي. ثم غاص في القارورة التي تنغشت بالخمائر الصغيرة المتنبتة، وأخرج منها شيئا وضعه في القبابة مع السكر وملح النشادر. ثم وضع القبابة في محضن دافئ ثم تركها
وفي هذه الليلة أخذ يتقلب في مضجعه، يطلب النوم فلا يؤاتيه. وأسر رجياته ومخاوفه إلى مدام بستور، فهدأت من روعه، ولكنها لم تستطع نصحه. نبض قلبها بنبض قلبه، وضاق صدرها بمثل الذي ضاق به صدره، ولكنها لم تقدر على مطارحته العلم وتأميله في النجاح القريب. كانت خير عون لخير زوج
وما كاد الصباح يهم بالشروق حتى كان إلى جانب قارورته، تلك القارورة التي خبأت له من صروف المقادير ما خبأت. لم يدر كيف صعد السلم إليها. لم يدر ما الذي أكله في إفطاره. كل الذي أحس به أنه واقف إلى قارورته قد احتواها هذا المحضن الترب، حتى لكأنما طار في الهواء إلى حيث كانت. فتح القارورة واخذ منها قطرة عكرة، فوضعها بين قطعتين رقيقتين من الزجاج، وضعهما تحت عدسة مجهره، ثم نظر. وعندئذ علم إن الدنيا أسلمت إليه القياد
(هاهي! هاهي! جميلة في تنبتها، جليلة في صغرها وكثرتها. مئات الألوف في احتشاد بديع. وهاهي وحدات من أمات الخمائر الكبيرة التي بذرتها في القارورة بالأمس). وامتلأ صدره فهم بالخروج ليفيض على الخلائق بالذي ملأه، ولكنه رجع فكبح جماح شهوته، فلا بد له من علم شيء آخر خطيراً جداً. واخذ شيئا من سائل القارورة ووضعه في معوجة، وأخذ يقطره على النار ليرى هل أنتجت تلك الخلائق من السكر كحولاً. (ليبج مخطئ في زعمه، فالزلال لا ضرورة له، فتلك الخلائق النامية هي التي تخلق من السكر كحولاً).(95/40)
وأخذ يرقب قطرات الكحول وهي تسيل من عنق المعوجة. وقضى ماثلا من أسابيع في تكرار تجربته، ثم تكرارها، ليؤكد إن الخمائر لا تني تتكاثر، وأنها لا تني تخرج كحولاً. ونقلها من قبابة إلى قبابة، ومن مرق إلى مرق، فوجدها تتنبت دائماً، وتتزايد دائماً وملا رقاب القبابات دائما برغاء من أكسيد الكربون المتصاعد من التخمر. ووجد الكحول دائما بالقبابات. كان عملاً جد عسير، حدا به إليه زيادة الحرص على صدق نتائجه، وخشية الخدعة فيما يتراءى له أنه الحق
استوثق من خمائره، واصبح أمرها لديه معروفاً مألوفاً، ولكنها لم تزد في عينه على الأيام إلا جدة، ولم تزده الفته إياها إلا إعزازاً لها. كان يرعاها كالأم الرؤوم، يطعمها ويحبها ويعجب بمجهودها الهائل في قلب السكر الكثير إلى كحول. وفوت على نفسه بذلك وجبات الطعام، حتى اعتل مزاجه وفسدت صحته. ذكر أنه جلس إليها ذات مساء في الساعة السابعة - وهي الساعة التي يحرص فيها كل فرنسي محافظ على إجابة دعوة المائدة - وأخذ يتجسس عليها وهي تتقسم فتتزايد، واخذ يحدق فيها، ولزمت عينه المجهر حتى منتصف الساعة العاشرة. وعندئذ، وعندئذ فقط، آمن بأنه رآها تتقسم فعلا، فتتزايد من جراء ذلك. وأجرى تجارب واسعة النطاق، بعيدة الأمد، تجارب امتدت من يونيو إلى سبتمبر، ليرى متى يفرغ صبر هذه الخمائر فتنكص عن تحويل السكر. فلما علم من هذا ما علم صاح يقول: (أعط خمائرك سكراً، تظل تعمل أشهراً ثلاثة أو فوق ذلك عدداً)
وعندئذ انقلب البحاث إلى دعاء. انقلب العالم إلى تاجر بارع يعنى بعرض بضاعته للناس، فيثير إعجابهم ويبعث الحمية فيهم. وذلك في سبيل الدعوة للمكروبات. فالدنيا يجب أن تعلم حقيقة أمرها، والناس يجب أن تنقطع أنفاسهم من الدهشة إذا أتاهم نبؤها - إذا هم أنبئوا أن ملايين الجالونات من خمر فرنسا، وبحار البيرة التي تصنع في ألمانيا، لا يصنعها الرجال كما يحسبون، ولكن جنود مجندة تعمل ليل نهار من المخلوقات لا تبلغ عشرات البلايين منها حجم طفل صغير من بني الإنسان والق عن أبحاثه محاضرات، وألقى في الناس خطابات.
ورمى في وجه ليبج حججاً تدمغ مزاعمه. ولم تلبث دولة العلم على الشاطئ الأيسر لنهر السين في باريس أن تحركت، فشمله أساتذته الأقدمون بالثناء. وأكاديمية العلوم التي(95/41)
رفضته بالأمس عضواً، جاءت اليوم تمنحه جائزة الفسلجة. وكلود برنارد رب الفسلجة ذاتها، قام يصوغ لها المدائح عقوداً. ودوماس، أستاذه القديم، أستاذه الذي أصعد بمحاضراته الدمع إلى عينيه وهو صبي أبله، قام في جمع عام يطرى بستور بحديث رائع، حديث جدير بإخجال رجلنا. ولكن رجلنا لم يخجل، لأنه أستيقن أن دوماس إنما يقول الحق. كتب بستور إلى أبيه: (وقام دوماس يتمدّح استقصاءاتي واستطراداتي، ثم وجه الخطاب إلي فقال: قد إجازتك الأكاديمية يا سيدي منذ أيام على أبحاث بارعة أخرى. واليوم يصفق لك هذا الحشد اعترافاً بأنك أستاذ في أساتذتنا عظيم مجيد. نطق دوماس بهذه الألفاظ ذاتها يا والدي، وتبع هذا تصفيق كان له دوي بعيد)
وبين هذا التصفيق كان من الطبيعي أن تسمع هسيساً من خصوم لا يرضون عما يقول. خصوم من خلق بستور نفسه. خصوم لم تخلقهم كشوفه الجديدة، وتخطيئه لنظريات قديمة وعقائد عتيقة، ولكن خصوم خلقهم سوء تحديه للناس. كان يكتب فتقرأ بين اسطره إعجاباً بنفسه، وتحقيره لكل من يتلكأ فلا يؤمن بالذي يأتيه تواً. كان يحب حوار الكلم، ويغرم كالديك بالمناقرة لأتفه الأمور. كان يغضب ويدمدم لكل نقد، حتى للتعليقة الساذجة يلفظ بها امرؤ عن اجروميته، أو تنقيطه لكلماته. انظر إلى صورته في هذا العهد. عام 1860 على التقريب - تقرأ في كل شعرة من حاجبه اعتداده بنفسه، وتحفزه للحرب دون يقينه. وطالع أبحاثه الشهيرة في هذا الوقت، تجد فيها الشموس والأباء، حتى في مصطلحاته العلمية وفرمولاته الكيمياوية
أثار بستور الخصومات حوله لتحديه الناس وازدرائه إياهم، ولكن كان من بينهم من خاصموه بسبب اختلاف برئ على تجاربه. كانت تجاربه بديعة مدهشة، ولكنها لم تبلغ دائماً الغاية والكمال. كانت عليها مأخذ وبها ثغرات. مثال ذلك أنه كان يبذر في محلول السكر بعض تلك العصى القصيرة التي تحيله إلى حامض اللبن، فكان أحياناً يشم رائحة كريهة تخرج من القارورة هي رائحة الزبد إذا فسد، ثم ينظر بمجهره فلا يرى للعصى أثراً. ويمتحن السائل فلا يجد به من حامض اللبن الذي أراده شيئاً. فهذه الخيبات التي اعتورت تجاربه كان يتخذ منها خصومه قذائف يحاربونه بها. وكانت تقض مضجعه فلا ينام ليله. ولكن لم يدم ارقه طويلاً. كان بستور غريب الأطوار عجيب المسالك، ولم يكن(95/42)
بأقلها مسلكه إذا هو خاب. لم يستطع أصلاً أن يعلل لِمَ تحيط تخميراته أحياناً عن الطريق السوي المعروف، إلى طريق معوج غير مألوف، ومع هذا لم يظهر عليه أنه اهتم لهذا أبداً. كان ماكراً ذا حيلة، فإذا انسد في وجهه الطريق لم يحاول فتحه بنطحه، فقد علم أن هذا لا يجديه إلا تحطيم رأسه، فكان يدور حول المشكل دوراناً، ويزوغ من ورائه زوغاناً، فيلويه ويثنيه حتى يصبح له بعد أن كان عليه
لِمَ هذه الرائحة الكريهة رائجة الزبد الفاسد؟ لِمَ لا ينتج حامض اللبن أحياناً؟! وفي ذات صباح حدق في قطرات السائل، فرأى حياً جديداً يعوم حول تلك العصى المتخاذلة المتناقصة. (ما هذه الأحياء؟ إنها أكبر من العصى كثيراً، وهي تعوم كالسمك عوماً، هي إذن حيوانات صغيرة)، وأخذ يلحظها لحظات الكاره لها، الضائق بها، المتبرم منها، فقد عرف بالسليقة أنها دخيلة، إنها زورة الضيف الثقيل لا أهلاً به ولا سهلاً. وكانت تتقاطر كالإبل، ولكنه إبل كريهة المنظر، شوهاء الوجوه. أو هي كالأفعى تنسل انسلالاً. وأحياناً كانت توجد فرادي، وكان يدور الفرد منها دوراناً رشيقاً، أو يتزن على عقبه ثم ينفلت انفلاتاً بديعاً. وكان منها الرعاد والرقص.
مناظر ممتعة حقاً، ولكن ما دخولها إلى ماء السكر بغير دعوة ولا استئذان! وحاول بستور مائة مرة أن يسدّ عليها السبيل كي لا تدخل إلى القوارير. وسلك لذلك سبلاً لا تروق لنا اليوم. وكان كلما ظن أنه قطع دابرها، إذا بها تنط له في القوارير من جديد. وذات يوم خطر له أن هذه الأحياء ذات صلة بالرائحة الكريهة التي كان يجدها ببعض القوارير
وبهذا أثبت؛ في نوع من التحقيق، إن هذه الأحياء صنف جديد من الخمائر تحيل السكر إلى حامض الزبد الفاسد. أقول في نوع من التحقيق، لأنه لم يكن موقناً يقيناً تاماً بخلو قواريره من أنواع أخرى من الأحياء غير التي رآها. وبينما هو في خبلته، ساهم في حيرته، تراءى له أن يخرج النجاح من خيبته، ويطلب الفرج من أزمته. نظر إلى بعض السائل بأحيائه الجديدة فوجد أن أوسط القطرة يتنغش بها، ويعج بحركاتها. ودار بمنظاره قليلاً قليلاً غير قاصد حتى جاء إلى حرف القطرة، فوجد تلك الأحياء فاقدة الحراك كجثث الأموات تصلباً وهموداً. وعاد فنظر في قطرة أخرى، فوجد بها ما وجد بالقطرة الأولى، فصاح: (إن الهواء يقتل تلك الأحياء). وأكد لنفسه أنه كشف كشفاً خطيراً. وبعد قليل أخبر(95/43)
الأكاديمية أنه وجد خمائر جديدة، خمائر غريبة، تخرج حامض الزبد من السكر، وأنه وجد فوق ذلك أنها تستطيع العيش والحركة واللعب والعمل بدون هواء. بل إن الهواء يقتلها قتلاً. ثم عقب على هذا يقول: (وهذا أول مثل لحي يعيش بلا هواء)
ولسوء طالع بستور لم يكن هذا أول مثل، بل ثالث الأمثال، فإن لوفن هوك كشف هذا قبله بمائتي عام. واسبلنزاني قبله بمائة عام وجد أن الأحياء المكرسكوبية تعيش ولا تتنفس
يترجح عندي أن بستور لم يعلم بهذين المثلين، بل أنا جازم أنه لم يقصد إلى سرقة مجهود غيره، ولكنه في ثورته لكسب مجده، وتحرقه لتكثير كشوفه، تناقص اهتمامه بما جرى قبله وما كان يجري حوله، ومن هذا أنه كشف من جديد أموراً كشفها غيره، كأن كشف أن المكروبات تفسد اللحم، ونسى أن إشفان سبقه إلى ذلك، ونسى أن يؤدي إليه حقاً وجب.
على أنه يحسن بنا ألا نحرج بستور هذا كثيراً، ونعد سيائته في هذا الصدد عداً، ونحاسبه حساب الملائكة الشّداد. ذلك إن خياله، وهو من خيال الشعراء، كان قد بدأ يثبت الوثبة الأولى فيخال إن هذه المكروبات أعداء الإنسانية وقتلة الرجال. ففي مقال هذا كان يتحدث حديث الحالم فيقول: كما أن اللحم يفسد، فكذلك قد تفسد الأجسام، فتعتري الناس الأمراض. وتحدث عما قاساه من اللحم الفاسد وهو يعمل فيه. وتحدث عن كراهته للروائح الكريهة التي ملأت معمله وهو يجري هذه التجارب. (إن تجاربي في التخمر ساقتني بطبيعة الحال إلى هذه الدراسات فتقبلتها على ضرها وخطرها وبرغم الكراهة التي تبعثها في نفسي). ثم حدث الأكاديمية عما سيلقاه في سبيل هذه الأبحاث، وذكر لهم أنه لن يحجم عنها. واقتبس قول لافوازيه: (إن أقذر الأشغال وأكثرها حظاً من كراهة النفوس لتهون على المرء النبيل إذا هو توخاها لخير الإنسانية، وهي لا تزيد الرجل إلا قوة على قطع الصعاب التي يلقاها)
(يتبع)
أحمد زكي(95/44)
موعد
للأديب حسين شوقي
لماذا تسرع هذه الفتاة في السير؟ لماذا؟ إنها خفيفة الخطى كأنها القبرة، وكأنها عما قليل ستطير عن رصيف الشارع. .! لماذا تسرع في السير؟ لو أنها ذاهبة إلى عملها لكان هناك ما يبرر هذه العجلة، ولكن هذا غير مستطاع لأن الساعة الآن السادسة، والمكتب الذي تعمل فيه قد أغلق أبوابه منذ الساعة الخامسة. . لماذا تسرع الفتاة في السير إذن؟ إنه يكفي أن تلمح في وجهها علائم البشر والاغتباط لتدرك لماذا تسرع في خطاها. . إنها على موعد من حبيبها. .
إنها سعيدة، ولما كانت سعيدة أصبحت تعتقد أن الناس كلهم سعداء مثلها. . . ولكن انظر إلى هذه الطفلة الفقيرة النائمة على طوار الشارع بجانب الحائط، لا يمكن أن تكون سعيدة وهي على هذه الحال من البؤس، أحست نحوها الفتاة بحنو شديد حتى فكرت في تبنيها. . . ربما تبنتها لدى عودتها من الموعد. . ها هو أيضاً كلب لا يمكن أن يكون سعيداً، لأنه مجروح، يتألم من جرحه، فقد قذفه أحد الأطفال الأشقياء بحجر فأدماه، تود الفتاة لو أنها تحمله إلى الصيدلية لتضميد جرحه، ولكنها مع السف متعجلة، فهي على موعد من حبيبها، وقد تأخرت عنه، فالموعد في الساعة السادسة، والساعة الآن ست عشرة. . . مسكين حبيبها لابد أنه قلق من طول الانتظار! إنها ترغب في ركوب سيارة لتدركه بسرعة، ولكنها تخشى أن يرفض سائق السيارة توصيلها، لأن المكان الذي ينتظرها فيه الحبيب قريب جداً، فهو على خطوات منها. . تنتقل الفتاة إلى الطوار الآخر، تخترق الطريق وهو غاض بالحركة دون أن تنتظر إشارة الشرطي المؤذنة بالمرور. . حقاً! إن أمر هذه الفتاة عجيب! ألكونها تحب تظن نفسها معصومة من الأخطار؟ تدخل المقهى حيث ضرب لها حبيبها موعداً. . . . . إنها تحس بدوار خفيف عندما وضعت رجلها على عتبة المكان، إن قلبها أيضاً ليس في حال طبيعية، أنه يخفق بسرعة، إذ هو أشد منها رغبة في ملاقاة الحبيب، ولكن لماذا تجهم وجه الفتاة فجأة؟ لماذا؟ لم تجد حبيبها في المقهى، بحثت عنه في كل ركن ولكن بدون فائدة، إنها تحس خوراً في قواها، لذلك جلست هناك إلى مائدة، ثم أخذت تنظر إلى ساعتها اليدوية التي أشار عقربها إلى السادسة والثلث، ثم نظرت إلى(95/45)
ساعة المقهى الكبيرة المعلقة في صدر المكان، كأنها لم تقتنع بساعتها، فإذا هي أيضاً السادسة والثلث. . . تنادي الخادم فتسأله: هل ساعة المقهى مضبوطة؟ فيؤكد لها الخادم ذلك. . علامَ هذا القلق؟ علامَ؟ إن الحبيب سوف يحضر. . . لعل طارئاً قد عاقه. . . إنها تطلب فنجاناً من القهوة لتهدئة أعصابها، ولكن تأتي القهوة وأعصابها ما زالت مضطربة. . . تتناول مجلة لتلهى بها نفسها ولكنها تعيدها بعد برهة إلى مكانها، لأنها لا تفهم ما تقرأه، مع أن المجلة ليست علمية صعبة، بل هي تتحدث عن نجوم (هوليود). .
تعود الفتاة إلى إرهاق ساعتها، تنظر إليها مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم تعيد النظر في ساعة المقهى. . ربّ! كيف مر الوقت بهذه السرعة؟ إن العقرب أشرف على السابعة! هل داخل الساعة شيطان يا ترى يعجل الوقت لإغاظة الفتاة؟ يأتي الخادم وقد رآها قلقة، فيسألها: هل تنتظرين أحداً يا سيدتي؟ فتجيبه متلهفة بالإيجاب، ثم تعطيه علامات الحبيب لعله يكون قد رآه، ولكن الخادم آسف لأنه لم يشاهده. .
تتأهب لمغادرة المقهى إذ يئست من الانتظار، تغادر مكانها وهي أشد حزناً من حمامة هجرها أليفها، ولكنها تعود ثانية إلى المقهى فقد نسيت أن تؤدي قيمة ما شربته. . تقف برهة على الباب، إذ عساه يحضر. . ثم تطأطئ رأسها وتنصرف. .
تعود إلى المنزل، ولكنها تسلك هذه المرة طريقاً أخرى غير الطريق الأول، لأنها لم تعد ترغب بعد في تبني الطفلة الفقيرة، ولا في تضميد جرح الكلب. تدخل حجرتها فترتمي على السرير لأنها تحس بتعب شديد كأنها صعدت جبال (الهملايا) مع أنها في الواقع مشت قليلاً. . ليس ما بها من التعب، بل من الحزن، الحزن العميق. . .
تركت باب الحجرة مفتوحاً لتسمع التليفون إذا دق، فهي تأمل أن يعتذر الحبيب إليها. . . يدق التليفون فتسرع إليه، كما يسرع الغريق إلى قارب النجاة. . . . يالخيبة! ليس هو الحبيب الذي يتكلم، بل هو إنسان آخر قد أخطأ الرقم، يدق التليفون من جديد فتهرع إليه الفتاة، فإذا المتكلم سيدة تسأل عن (س) الجزار. . .! ثم يدق التليفون مرة ثالثة، في هذه المرة هو الحبيب الخاطب المتكلم، لأن الفتاة اغتبطت فجأة اغتباطاً عظيماً كأنها ربحت اليانصيب الايرلندي. . . الخاطب يسألها عن سبب تأخرها لأنه ظل ينظرها ساعتين كاملتين في المقهى، وكان أنظاره في المقهى آخر، إذ اخطأ اسم المكان، الفتاة تسرع في(95/46)
الذهاب إليه، وقد زال عنها تعبها في غمضة عين، إنها تنهب الدرج نهباً أثناء النزول، فتزل قدميها وتسقط سقطة مؤلمة، ولكنها لا تحس ألماً، بل تضحك من أجل هذا ضحكاً متواصلاً. ثم أخذت تفكر مرة أخرى في تبني الطفلة الفقيرة، وفي إسعاف الكلب الجريح!. .
كرمة ابن هاني
حسين شوقي
-(95/47)
20 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قلت - نعم ولكن لم يرو عن هرقليس نفسه أنه نازل اثنين
فقال - ادعني إذن، وسأكون لك أيولاوس حتى تغرب الشمس
قلت - سأدعوك، لا كما يدعو هرقليس أيولاوس، ولكن كما كان يفعل أيولاوس لو كان يدعو هرقليس
قال - لا فرق بين هذا وذاك، ولكن لنأخذ الحذر أولاً لكي نتقي خطراً
قلت - وما ذاك؟
أجاب - خطر أن تتمكن منا كراهة المنطق فذلك من أسوأ ما قد يصيبنا من أحداث، فكما أن ثمة أعداء للإنسانية وهم من يمقتون البشر، كذلك هنالك من يكرهون المنطق وهم من يمقتون المثل، وكلاهما ناشئ من سبب بعينيه، هو الجهل بالعالم، فتجيء كراهة البشر من الغلو في الركون إلى عدم الخبرة، فأنت تثق برجل، وتظنه مخلصاً تمام الإخلاص. وخيراً وأميناً، ثم لا يلبث أن يتكشف لك زائفاً خبيثاً، وهكذا غيره وغيره.
فإذا وقع ذلك الإنسان مرات عدة، وبخاصة من جماعة أصدقائه الذين يظنهم اشد الناس إخلاصاً له، وكثر النزاع بينه وبينهم، فإنه ينتهي آخر الأمر إلى كراهة الناس جميعاً، ويعتقد أن ليس بين الناس على الإطلاق صاحب خير. أحسبك بغير شك قد لاحظت هذا.
قلت - نعم
- أليس ذلك مدعاة للخزي؟ وسببه إن الإنسان في اضطراره إلى معاملة سائر الناس، لا يكون لديه بهم علم، لأنه لو عرفهم لعرف الأمر على حقيقته، وذلك إن ذوي الخير قليلون، وان ذوي الشر قليلون، وان الكثرة الغالبة هي فيما يقع بين هذين
قلت - ماذا تعني؟
أجاب - أعني أنه كما قد نقول عن بالغ الكبر وبالغ الصغر، بأنه ليس أندر من رجل بالغ(95/48)
الكبر، أو رجل بالغ الصغر، فهذا ينطبق بصفة عامة على الهايات، سواء أكانت ذلك عن الكبير والصغير، أم السريع والبطيء، أم الكدر والصافي، أم الأسود والأبيض، وسواء ضربت أمثلة ناساً أو كلاباً أو أي شيء آخر، فقليلون هم النهايات، أما الكثرة فتتوسط بين النهايات، أو لم تلاحظ هذا فقط؟
قلت - نعم لاحظته
قال - ثم ألست ترى أنه لو كان بين الشرور تنافس، لوجد أن قليلاً جداً منها هو اسبقها في الشر؟
قلت - نعم فذاك ارجح الظن
أجاب: نعم ذاك أرجح الظن، ولست أعني إن مثل الأحاديث في هذا مثل الناس - وأراك ها هنا قد حملتني أن أقول أكثر مما اعتزمت أن أقول، ولكن وجه المقارنة هو أنه إذا ما آمن رجل ساذج، لا يحذق علوم الكلام، بصحة دليل، وخيل إليه فيما أنه باطل، سواء أكان باطلاً حقاً أم لم يكن، ثم تكرر هذا في غيره وغيره، فلا تبقى للرجل عقيدة واحدة، وينتهي المر كما تعلم بكبار المجادلين إلى الظن بأنهم قد باتوا احكم بني الإنسان، لأنهم هم وحدهم الذين أدركوا ما في التدليلات كلها من تزعزع وضعف شامل، لا بل أدركوا ذلك في الأشياء جميعاً، وهي تظل هابطة في مد وجزر لا ينقطعان، كما هي الحال في تيار يوربيوس
قلت: هذا جد صحيح
أجاب: نعم يا فيدون، ولشد ما يبعث على الأسى أيضاً أن يصادف إنسان تدليلاً هنا أو هناك، فيبدو له أول الأمر أنه حق، ثم يتكشف له عن باطل، فبدلاً من أن ينحو باللائمة على نفسه وعلى ما يعوزه من ذكاء، تراه لحنقه آخر الأمر يغتبط شديد الغبطة في إزاحة اللوم عن عاتقة ليلقيه على التدليل بصفة عامة، ويظل بعد ذلك إلى الأبد كارهاَ لاعناَ لكل تدليل، فتفلت منه حقيقة الوجود وعرفانه، لو كان ثمة ما يسمى بالحقيقة أو اليقين أو القدرة على المعرفة إطلاقاً
قلت: نعم، إن ذلك ليبعث على الحزن الشديد
قال: فلنحاول إذن بادئ ذي بدء، أن نسلم في نفوسنا بالفكرة القائلة أنه لا حقيقة ولا عافية(95/49)
ولا قوة في أي تدليل على الإطلاق، ولنعلن قبل ذلك أن ليس فينا نحن الآن عافية وانه يجب أن نطلق فينا العنصر الإنساني، ونسعى جهدنا في اكتساب العافية - فتكسبها أنت وسائر الناس جميعاً من أجل حياتكم المقبلة كلها، وأما أنا فمن أجل الموت، فلست أحس الساعة إني متخلق الفيلسوف، وما أنا في الرأي إلا مشايع كأفراد السوقة، وليس يعبأ المتشيع، حينما يلج في المخاصمة، بأوجه الصواب من الموضوع، بل يحرص على إقناع سامعيه بأقواله وكفى، وليس بينه وبين في اللحظة الراهنة من فرق إلا هذا ـ بينا هو يحاول إقناع سامعيه بصحة ما يزعم، تراني أحاول إقناع نفسي قبل كل شيء، فإقناع سامعي أمر ثانوي بالنسبة إليّ. ولتنظرن كم عسى أن أفيد بهذا، فلو كان ما أقوله صحيحاً فما اجمل أن أكون مقتنعاً بالحقيقة، وأما إن كان لا شيء بعد الموت، فسأفو على أصدقائي هذا العويل فيما بقي من حياتي من أجل قصير، هذا وسترتفع عني جهالتي، ولهذا فلن يقع مني ضرر. أي سيماس وسبيس، تلك هي الحالة العقلية التي أتناول بها الحوار، وإني اطلب إليكما أن تفكرا في الحقيقة لا في سقراط؛ فإن رأيتما إني أتكلم حقاً فوافقاني وإلا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعاً كما اخدع نفسي، وحتى لا أكون لكما كالنحلة، فادع فيكما حمتي قبل موتي
قال: والآن دعنا نمضي، ولأتأكد منك قبل كل شيء إن ما في ذهني يطابق ما كنت تقوله، فإن كنت مصيباً فيما أتذكر، فقد كان لدى سيماس مخاوف وشكوك أن تكون الروح أسبق إلى الفناء، ما دامت في عبارة عن انسجام، على الرغم من أنها أشد من الجسد ألوهية وصفاء. وقد بدا سيماس من جهة أخرى أنه يسلم بأن الروح أطول من الجسد بقاء، ولكنه قال: عن أحداً لا يستطيع أن يعلم إن كان يمكن للروح بعد أن تكون قد أبلت أجساداً عدة، أن نفني هي نفسها، مخلفة وراءها آخر أجسادها، وأن هذا الموت الذي يجلب الدمار للروح لا للجسد، لأن فعل التخريب لا يفتأ عاملاً في الجسد أبداً. أليست هذه، ياسيماس وسيبيس، هي النقط التي تستوجب منا النظر؟
فوافق كلاهما على إن ذلك تقرير لرأيهما
فمضى سقراط: وهل تنكران ما في الحوار السابق كله من قوة، أم تنكران ما في بعضه فقط؟(95/50)
فأجابا: بل ما في بعضه فقط
قال: وماذا ارتأيتما في ذلك الجزء من الحوار الذي ذكرنا فيه إن المعرفة عبارة عن تذكر فحسب، واستنتجنا منه إن الروح لا شك كانت موجودة فيما سبق، في مكان آخر، قبل أن تنحصر في الجسد؟ فقال سيبيس أنه قد تأثر بذلك الجزء من الحوار تأثراً عجيباً، وانه لبث فيه راسخ اليقين، ووافقه سمياس، وأضاف أنه عن نفسه لم يكد خياله يجيز أن يجيء يوم يرى فيه حول ذلك رأياً مخالفاً لهذا
فاستأنف سقراط: ولكن يجدر بك، أي صديقي الطيبي، أن ترى رأياً مخالفاً، لأنك إن أصررت على إن الانسجام في إطار الجسد، فلا ريب انك لن تجيز لنفسك القول بأن الانسجام سابق للعناصر التي يتألف منها الانسجام
- كلا يا سقراط فذلك مستحيل
(يتبع)
زكي نجيب محمود(95/51)
في مجمع الرذائل
للأستاذ فخري أبو السعود
عقَدَ الرذائلُ في خلاءٍ مجمعاً ... في مهمةٍ نائى المزار يباب
يَنثُرنَ كلّ حديثِ سوءٍ مْجتَوًى ... بينَ الدِّنانِ ومُتْرَعِ الأكواب
وتتابعت ثَمَّ الرذائلُ كلها ... يَخْطبْنَ في لَسَنٍ وفي إطناب
متفاخراتٍ بالذي رَنَقَنَ من ... نعماَء أو قطٍعن من أسباب
وتدفقَ الحسدُ المفَوّه واصفاً ... مَسْرَاه في الأكباد والألباب
وتلاهُ ثمتَ الاغتيابُ يَقُصُّ ما ... يمشي به من فتنةٍ وتَباب
حتىإذا سكت الجميع وقَرَّ ما ... في الحفل من جدل ومن تَصخاب
ارتدَّ حُبُّ النفْسِ ثمتَ قائماً ... نضرَ الصبا مُتألقَ الجلباب
متبسماً متمكناً من نفسه ... فِعْلَ العريق المجدِ والأحساب
فدعا: ضُيوفي! قد سمعتُ خطابَكم ... فتسمعوا أنتم لفَصْلِ خطابي
أنا ربُّ هذا الخَلْقِ دانوا كلهم ... لِعُلاَيَ قَبْلَ عِبَادَةِ الأرباب
وأنَا قَهَرْتُ عَدُوىَ الإيثارَ إن ... ناداهمُ وَلوْا بغير جواب
وإذا دعوتُهُمُ فَرَهْنُ إشاَرَتي ... وهُمُ على ما رُمْتهُمْ أَحَزابي
أنا مُفسِدُ الوُدِّ الذي زعموه من ... قدَمٍ فكلُّ الود محض كِذاب
إما رأيتُ وثيقَ ود بَينهمْ ... أنفَذْتُ سهمي فيه أو نُشابي
فأنَبتَّ أو وَهَنَتْ عُرَاهُ أو اغتدى ... زَيفاً مِنَ الأقوال والألقاب
مِن ذاك يحسَبُهُمْ جميعاً مَنْ رأى ... وقلوبُهمْ شَتى هَوىً وطِلاَب
ويُرَى الودادُ أَقَلَّ ما احتفلُوا به ... منِ طيبِ ذُخْرٍ أو كريمِ رغاب
لم يأخذوا في العيش أو يُعطُوا سوى ... ما دوَنوا في دَفتَرٍ وحساَبِ
وأنا المغالي في النفوسِ بِقَدْرها ... حتى تُصَغرَ مدحَ كلِّ محابي
وأنا المبررُ للخَطايا عِندَها ... فَتَرَى صواباً كلَّ غيرِ صواب
وأنا مشوهُ كل فضلٍ ظاهرٍ ... للغير وهو أحقُّ بالإعجاب
وأنا محرضُ من تجاوزَ حقه ... وبغَى على القُرَناءِ والأصحاب(95/52)
وكذاكَ أضرِمُها عوَاناً بينهم ... يَصلوْنها حِمَماً وبرحَ عذاب
وإذا أشاء أبُثُّ فيهمْ منكمُ ... رسلي وأنشر بينهم أذنابي
امشي بحقدٍ بينهم وضغينةٍ ... وأُوَكلُ المغتاب بالمغتاب
ويكون لي الكذبُ المموه برقعاً ... ويكون من زَيْفِ النفاق خضابي
وأهيج بالحسد الجوانحَ والحشاَ ... فتعجُّ بالأوضارِ والأوصاب
انتم جنودي لا عَدِمْتُ ولاَءكم ... أبداً على الأجيال والأحقاب
فأحُسوا الشرابَ لقد رضيتُ بَلاَءكم ... لكمُ ثنائي كله وثوابي
فخري أبو السعود(95/53)
أمراض الحضارة
// ليت الذي بجليل الفكر حققها ... يشاهد الآن (فقد العز في الحضر)
(جيل الحضارة) هذا فانظرن معي ... أللبطولة عند القوم من أثر؟
أم للمودة والإخلاص منزلة ... أم للمروَءة والإخلاص من خطر؟
تقدم العلم فانحطت به قيمَ ... كانت هي العرف بين الله والبشر
مالوا عن الدين لما شك عالمهم ... والشك أدعى لأخذ الأمر بالحذر
فأصبحوا هملاً لا يفقهون لما ... في الدين من وازع والعلم من بصر
وأولعوا بسخيف من عوائدهم ... عجزاً عن الجد في الإبداع والظفر
ظواهر الأمر تكفيهم وتشغلهم ... عن النفوذ وراء السطح والصور
فضيلة لم تُذع ليست لصاحبها ... فاحرص على النشر دون الصدق في الخبر
يا من يريد بجهد صامت شرفاً ... أقصرْ ودع عنك هذا الوهم واعتذر!
(أجاعل أنت بيقوراً مسلعة ... وسيلة لك بين الله والمطر؟)
ويح البرية من علم يضيء لها ... جوانب الكون دون النفس والفكر
(. . . .)(95/54)
نعيم الحب
بقلم حلمي اللحام
عضو المجمع الأدبي
هاجَتْ بِيَ الذكْرى شُجُونَ الهوَى ... وأضرَمَتْ في الصدر نارَ الْجَوَى
تلفتَ القلبُ إلى أَمِسهِ ... لَهْفَانَ مِما جَشمَتْهُ النوَى
أيْنَ عُهودٌ كالرؤَى لذة ... وظلُّ عَيش كَرَفِيفِ الْحُلَى
وأيْنَ حُلْمٌ سائغٌ وِرْدُهُ ... كَسَلْسلِ الْخُلْدِ إذا ما جَرَى
يا نِعْمَةَ النسْيَانِ جُودِي عَلَى ... قلْبٍ رماهُ اليَأسُ حتى ذَوَى
وَهَدْهِدِي بالسحْرِ أحزانَهُ ... وَأَرْقِدِى فيه طُيُوفَ الأَذَى
أَواهُ كم يَهفُو إلى رَقْدَةٍ ... في ظِلكِ الوَارِفِ هَفْوَ الصبا
إنْ سَاوَرَتْنيِ سِنَةٌ حُلْوَةٌ ... نَعْمتُ باللثْمِ وطِيبِ اللقاَ
وإِنْ تَغِبْ أَشْقَ، فياليْتَنيِ ... اقضِي حياتي في ظِلال الكَرَى
يا طَيْفَهَا كم زُرْتَنيِ مُنْعِماً ... في هَدْأَةِ الليلِ وسَجْوِ الدُجى
وَطِرْتَ بالروحِ إلى عالَمٍ ... مُزدَهِرِ الأَرْجاءِ، ضَاحي الذرَى
يُرَفْرِفُ الحُبُّ على أُفْقِهِ ... ويَنْعَشُ المحزُونَ فيه الرضاَ
مُضْنَاكِ يا رَيْحانَتيِ يائسٌ ... طاحَتْ أغانيهِ وغابَ الصدَى
إِنْ هَاجَهُ الشوْقُ بكَى حَظهُ ... وعَادَهُ الماضِي فأَغضى أَسَى
آضتْ منَ الهِجْرَان جَناتُهُ ... صَحْرَاَء لا يَضْحَكُ فيها الْجَنَى
فَنَضرِيها تَأتَلِقْ بَهْجَةً ... وتكْتَنِفْها نُعْيَمَاتُ الدنا
أنْتِ سَناَ الروْضِ ورَيْحانْهُ ... وفتْنَةُ الزهْرِ وعِطْرُ الشذَا
منْكِ اسْتَمَدَّ القلبُ أَلْحَانَهُ ... واسْتَلْهَمَ الشعْرَ وذاقَ الهوَى
يَا حُسْنَ ذِكْرَاكِ وَيَا طِيبهَا ... قُوتاً لِرُوحي إِنْ عَرَاها الوَنَى
لم يَبْقَ في الكأسِ سِوَى جُرْعَةٍ ... والنفْسُ ظَمْأَى! أَفتُرْوِى الصدَى؟
مَنيْتِني بالوَعْدِ، لكِننيِ ... مِثْلُ فَرَاشٍ حامَ حَوْلَ السنَا
تَرَكتِني في لوْعَةٍ مُرةٍ ... مُستَعبرَ العَينيْنِ، جَمّ الضُى(95/55)
لا الطيْرُ يُصبِينيَ ترْجِيعُهُ ... في السحَرِ الندْيَانِ إِما شَدَا
ولا الأغارِيدُ تَذُودُ الأَسَى ... عن مُهجَتي الحَرى وتَنْفى الشجاَ
هذا الصبا المِمرَاحُ أيامُه ... رَفافةٌ، حاليَةٌ بالمُنى
والمُجتنَي دانٍ فهيا نَهِمْ ... مثلَ طيورِ الفْجرِ بينَ الربا
ونَحْىَ كالزهرِ ألِيفيْ هَوى ... في رَوْضةٍ وَشى رُباها الحَيا
ونَقطفِ اللذاتِ مَنضورةً ... من قبلِ أنْ يَذْوىَ عُودُ الصبا
عينَاكِ سِرُّ الوَحْيِ في خاطرِي ... وثَغْرُكِ المَعْسولُ كأسُ الطلى
فأرْشِفيني نَهلةً عذْبةً ... تَغْمُرْ جَنَاني بِسَنىِّ الرؤى
وألهمِيني نَغماً فاتناً ... أنْسَ بهِ بَرْحَ الأسَى والبُكا
إذا انتَشَى قلبيَ من حبهِ ... فلا صَحاَ منْ سُكرِهِ لاَ صَحاَ
الحبُّ رُوحُ اللهِ في خلقهِ ... ونَفْخَةُ الوَحىِ، ونورُ الهُدَى
جادتْ قِفارَ الكوْنِ أنداؤُهُ ... فبَشتِ الدنيا، وغضَّ الثرَى
لولاهُ ما غردَ في أيكةٍ ... طيرٌ ولا غَنى حَمَامُ الضحَى
ولا أراقَ الورِدُ أنفَاسَه ... في الجوِّ رَيا مِرُضَابِ الندَى
آمنْتُ بالحبِّ وآلامهِ ... كلُّ نعيمٍ ما عداهُ سُدَى
(دمشق)
حلمي اللحام(95/56)
القبلة
بقلم الياس فيصل
أنتِ سِلك مكهرَبٌ بشعاعِ ال ... حبِّ ينبث منه همسُ الفؤادِ
فيكِ من نكهةِ الشعور حميا ... سحرُها المستطابُ خافٍ وبادِ
أنت معنى، بيانه الفذ يبرى ... من جمال المراحِ أفقاً جديدا
أنتِ أنشودةٌ تزفُّ ثنايا ... ها رجاَء مذهباً منشودا
وسواء ألممت مسرعةَ ذا ... ت نفورٍ أو ذبتِ بين الشفاه
ففتونُ الفتونِ كالنور يغشا ... كِ بلونٍ من التمتع زاهي
نزوة الشوق تسكبين عليها ... ما يوارى لهيبها المنثورا
والحنين الملحّ في القلب يغدو ... حين تهفين لذةَ وحبورا
ليس ينسى النبوغ مالك من فض ... ل ولن تغفل العلى عن جميلكْ
كم فتى سجل الخلود اسمه ما ... كان لولا جهوده في سبيلكْ
يا خيالا من اللذاذة فيه ... قبس الذكرى دائم الإيماض
ليتَ محبوبتي تروى غليلي ... مرة من معينكِ الفياضِ
عاصمة الجمهورية الفضية
الياس قنصل(95/57)
القصص
من أساطير الإغريق
يو أو منشأ إيزيس
للأستاذ دريني خشبة
كان لأحد أرباب الأنهار التي تنحدر من شواهق الأولمب ابنة بارعة الجمال فتانة، حلوة كأنها قبلة على فم حبيب، رقيقة كأنها زنبقة على غصن رطيب
وكانت تخطر كما تخطر نسمة معطرة أفلتت من الجنة لتملأ القلوب حباً، ولتشيع في الحب سعادة، ولترف في قيظ الحياة فتروح على المكدورين المحزونين
وكانت هذه الفتاة (يو)، مفتتنة بجمال الطبيعة، مشغوفة بسحرها الأخاذ، تود لو تستطيع فتعيش ملء السهل والجبل، أو تقدر فتنسجم والحياة الدائبة في الغابة، أو تكون روحاً شفافاً يرف في زرقة السماء، ويمتزج بالظلال والأفياء
ولم تكن عاشقة، ولكنها كانت حين تجلس على الصخرة المشرفة على البحر تعبد القمر في هدأة من الليل، يتهيج حب الطبيعة في نفسها، فتبكى وتبكى، ولا يقطع عليها بكاءها إلا خرير الغدران المترقرقة التي تنسرب في الأدغال. . . وكانت عبادة الطبيعة تقطعها عن أترابها من عرائس الماء، وصاحباتها من بنات الغاب، فكن إذا تفقدنها، توزعن في مهاوي الجبل، وتفرقن في منبسط السفح، وتنادين بها ههنا وههنا، حتى يجدنها آخر الأمر مستغرقة بين يدي قمرها المعبود، تناجى البحر المصطخب، وتلكم النجم المضطرب
ونزل زيوس يوماً من ذروة الأولمب التي هي أول مراقي السماء، يرتاد جنات الأرض في مملكة جدته (جي)، وما كاد يوغل في إحدى جنبات الجبل حتى لقي يو، تلك الفتاة الأولمبية الساحرة، واقفة على الصخرة تستمتع جمال الشروق في صبيحة من أوليات الربيع. . . وكانت السماء ما تزال موشاة بسحائب خفيفة من بقايا الشتاء، وأراد، ذكاء تنتشر خللها فتفضض أذيالها، وتذهب أوساطها، وتكسب الأفق رونقاً زاهياً خلاباً
وسحر زيوس، وهو كبير الآلهة، بجمال العروس التي هي من خلقه، وابنة أحد اتباعه وأحس بعطف يغمر قلبه العظيم من أجلها، وشعر كأنه ظمئ إلى هذا الجمال الفتان(95/58)
المشرق، الذي كف في عينيه جمال زوجاته، وفيهن حيرا وديون ولا تونا.
ووقف الإله المشدوه يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وسمر مكانه، وهو سيد الآله، يعبد عبدته الصغيرة التي أبدعتها يداه. . وهو لا يدري!
وعول على اغتنام الفرصة، وأقسم ليملأن وطابه استمتاعاً لا يضيره ألا يكون بريئاً، ولذاذة ليس به أن تكون نقية خالصة. . . (أنا سيد أرباب الأولمب، وكل ما بين لابتيك أيتها الأرض لي؟، وقد اشتهيت هذه الجميلة الخبيثة فمن الذي يجرؤ أن يحجزها عني أو يمنعها مني!. . . .؟)
ثم بد له ألا يزعجها بالظهور لها في سيماه الحقيقية فينخلع قلبها وتطير نفسها، لأنها ستكون منه تلقاء إله فتحول في لمحة إلى فتى يافع ينهل الشباب في برديهن ويترقرق الصبي في أعطافه، وتشع عيناه صبوة وفتوناً. وتقدم إليها فحياها تحية كلها صفاء وكلها دعة، فحيت بأحسن منها، ولقيته أرضى لقاء. . .
وجلس يحدثها وتحدثه، وكان الإله المحتال يمزج أحاديثه بالسحر، ويزخرف صوته بالموسيقى، ويعسل ابتساماته بالمحبة، ويطلق في نظراته كل ما وسعه من شياطين الهوى، وكان ما ينفك يقترب منها ويقترب، حتى لامس ذراعه ذراعها، فأخذ يدها الصغيرة البضة بين كفيه الحارتين، وطفق يضغط قليلاً قليلاً. . .
وصمتا هنيهة. . . ثم فرغ طور اللسان، وبدأت نوبة العين، وأخذا في رشفات وقبل. . .
وعاد أدراجه إلى الأولمب، ولما يزر من أطراف الأرض غير هذه الناحية الحبيبة التي سعد فيها لحظة بيو، وظل منذ ذلك اليوم يتردد إليها فيلقاها على أنها كأسه الروية التي تبترد بها غلته، وتلقاه على أنه حبيب أسعدتها فينوس به، وما درت قط أنه كبير الآلهة ورب الأرباب. . .
وكان يتحرق إلى لقائها، وكانت تتسلى عنه بقمرها الفضي، فإذا سعدت منه بزورة، اندغمت عبادتها للطبيعة في عبادتها له، وأذهلتها نشوة الحب عن الدنيا وما فيها!
وأحست حيرا ببعض ما يشغله، ولحظت أنه صادف عنها، فأيقنت أن لابد من أمر، وأن في الأمر أنثى، وأن في الأنثى صبابة وغراماً، فبثت العيون ورصدت الرقباء، حتى وقفت من شأنه على كل شئ!(95/59)
ولشد ما دارت الدنيا لحيرا! لقد ودت أن تقلب جبلاً على رأس يو!! وأقسمت أن تبغتهما إذ يتراشقان كؤوس الهوى دهاقا، لكيلاً يكون لبعلها على خيانته حجة، ولكيلا يكون له من بعدها برهان
وذر قرن الشمس في صبيحة ضاحكة، فذهب زيوس يشفى ما في قلبه من برحٍ عند يو، وكانت حيرا قد أوهمته إنها ستقضى سحابة يومها هذا عند واحدةٍ بعينها من صديقاتها، وزاد ذلك في ابتهاج الآله، وضاعف انشراحه، واعتزم أن يستمتع طيلة يومه هو الآخر لدى يو
وانه لفي لهو النشوة وأبان السكرة وعنفوان المرح، إذا به يلمح حيرا مقبلة!. . .
وكانت ما تزال في أول الأفق، فأيقن أنها مكيدة دبرته لتفجأه مع يو، وإنها قد كشفت من سره ما بالغ في كتمانه.
فتناول إذن صاحبته فنفث فيها نفثة سحرتها في أقل من لمحة بقرة بيضاء ناعمة، ثم شرع يلاطفها ويمسح عنقها. . .
ووصلت حيرا، ولم تنطل عليها حيلة الآله، وما شكت قط إن البقرة الواقفة تبحث بأنفها في الحشيش الأخضر كأنها تنشد الكلأ، إن هي إلا يو. .! عدوتها اللدود!!
فبسمت لزوجها بسمة كلها دل وكلها فتون، وسألته، وهو يحاول منها قبلة، أن يمنحها هذه البقرة الخصبة التي. .:
(لم أر في حياتي أشق منها ولا أجمل. . لقد أحببتها ن وهي من غير ريب، حين تكبر، ستعطينا أجود اللبن وأسلمه، وسيكون لبنها خير غذاء لوادينا الحبيبين ايرس وهيفيستوس ولطفلتنا الجميلة هيب. . .)
وارتبك زيوس، ولم ير بدا من إجابة زوجه إلى ما تريد. . .
ومضت حيرا بالبقرة فرصدت لها أحد اتباعها الأقوياء:
آرجس الهائل، ذا مائة العين التي لا تنام! ناطته بها، وأمرته ألا يغفل عنها. . . (وإلا فالويل لك يا آرجس إذا هربت منك، أو احتال عليك فألهاك عنها. . . إذن يحل عليك غضبي وأسحقك سحقاً. . .)
وظل الحارس الساهر يرعى يو، ويرقب كل حركة من حركاتها، حتى فزعت المسكينة من(95/60)
سوء منقلبها، وصبت اللعنات على هذا الحبيب الشيطان الذي ردها بعد جمالها إلى ذا الخلق الشائه، وصيرها إلى ذاك المصير المؤلم. لقد كانت تتحين الفرصة لتستطيع أن تفلت من رقابته الثقيلة، ولكن كي؟ إن الخبيث كان إذا أضناه السهد وأعياه السهر، ينام بخمسين عيناً، ويقدح الشرر بخمسين أخرى!! فإذا استيقظت هذه نامت تلك، وهكذا دواليك، حتى تشرق الشمس فتصحو المائة كلها! وكانت تقابل صواحبها عرائس البحر كلما مررن بها، فتود لو تستطيع مخاطبة إحداهن، ولكن. . . هيهات! لقد كانت. . مو. . مو. . تنطلق من فمها الكبير مالته أشداقها، فتنزعج أيما انزعاج!
ومضت أيام. . . وأيام. . .
ثم لقيت أباها مرة، فنظرت إليه وهو ينكرها، ونظرت، ولكنه لم يستطع أن يفسر نظراتها، فذرفت أحر الدموع وأدمى العبرات! وحاولت أن تلفته إلى أنها ابنته، فلم يأبه لها!
وبدا لها أن تخط على ثرى الشاطئ حكايتها، وما كادت تفعل حتى فطن أبوها لما تريد، فلما قرأ ما رقشته في أديم الرمل، أجهش المسكين وسكب دموع الحنان، ثم عانقها عناقا طويلا! ولكنها أسقط في يديه! إذ ماذا يستطيع رب نهر صغير أن يصنع في سحر الإله الأكبر!؟
ولما شهد أرجس ما كان من بكاء البقرة، ثم بكاء رب النهر وعناقه إياها، تأثرا باديا. . ولو لم يفقه من كل ما كان شيئا. ثم ذكر وعيد حيرا، فنطلق بالمسكينة إلى مكان سحيق، وثمة، تخير بقاعاً عاليا أقام ليشرف منه على كل شيء، فلا يخشى على بقرته رهقاً، ولا تستطيع هي مهربا
وذكر زيوس فتاته المسكينة التي كان حبه إياها سبب تعسها وشقائها، وذكر تلك الأويقات الحلوة التي يسرت له فيها أصفى لحظات السعادة، التي لم يتيسر له مثلها في مملكة الأولمب على ما جمعت من صنوف الرفاهة والنعيم، فثارت في قلبه عوامل الرحمة، وتحركت في صميمه تلك الشفقة الآلهية التي اتصف بها في قديم الآباد
وفكر وفكر. . . ثم استدعى من فوره ابنه من زوجته مايا، البطل الطيار المشهور، هرمز، وأمره بالتوجه إلى حيث أرجس فيحتال عليه ويقتله
ومرق هرمز كالسهم إلى حيث الأكمة التي جلس فوقها أرجس، فألفاه يحرس البقرة حراسة(95/61)
شديدة منكرة، وكانت القمراء تغمر السهل والغاب والجبل، وكان البدر يتنقل في دارات السماء، والرياح تهب سجسجاً، والبلابل تغرد فوق أغصان التفاح فتطرب وتشجي؛ وكأن سنة من النوم خفيفة رقصت في خمسين من عيون أرجس فأطبقت قليلاً، ولكن ما برحت الخمسون الأخرى تنافس الثريا ببريقها؛ وكانت البقرة ملقاة على الثرى المندى من الإعياء، فلما شهدت هرمز لم تحفل به
ولكن ما هذه الموسيقى الحنون!!
ومن العازف في هدأة الليل!
وما للنجوم تضطرب هكذا من الطرب؟
آه. . لقد تحول هرمز الصناع إلى شاب ذي قوة وذي فتوة وذي جمال، وبدأ في شكل راع من رعاة الضأن، وجلس القرفصاء على صخرة مقابلة لآرجس، ثم انبرى يعزف على يراعه المثقب الذي اتخذه من قصب البرية الفسيحة التي اقبل منها، وانبطحت في السفح شاؤه ونعمه. تغط في شبه نوم عميق. . . .
واستيقظت الخمسون الأخرى من عيون الأرجس، ودب النشاط في هيكله الضخم مما سمع من حسن التوقيع وروعة اللحن فانتفض انتفاضة كان بها عند هرمز - الراعي الفتي - فسلم عليه وصافحه وجلس بين يديه كالعنز يسمع ويطرب وينتشي، ثم اخذ معه في حديث طويل عن موسيقاه العذبة وألحانه الرقيقة، ثم استطرد فسأله عن نايه، مم صنعه، أو من ذا الذي وهبه له؟. . .
فقال هرمز: (في إحدى الغابات ذات الأيك البالغ عنان السماء، والدوح المنتشر في الأرجاء، كانت تعيش سيرينكس عروس الماء المرحة، ذات السيقان الناعمة، والجسم الأبيض الخصب الجميل. وكانت تهوى الرياضة وتقبل عليها، وتؤثر منها الجري والوثب والقفز، والتعلق بأطراف الشجر، ثم السباحة. وكانت تجري فتسبق الريح وتعدو فيتعثر الظليم في آثارها، ولا تدرك الصافنات غبارها. وطالما طلبت إليها آلهة الغاب مسابقتها، فكانت تأذن لهم فيجرون قبلها مرحلة، ثم تنطلق فتحلق بهم، وتسبقهم بمراحل!. . .)
وتثاءب هرمز الخبيث وقال: (ومن طريف ما حدث لها، إن بان العظيم، رب الرعاة واله المروج وسيد الغاب، ومعبود الناس في اركاديا، لمحها يوماً تعدو وكأنها زوبعة، فتبعها؛(95/62)
ولكنها شأته. وأجهدته! مع ما هو معروف عنه من السبق والتفوق في الجري وحاول أن يلحق بها فضاعف سرعته وأطال خطواته ولكن هيهات!. . . والتفتت سيرينكس فرأته يطوي أديم الأرض من خلفها. ففزعت أيما فزع، وهالها منظره الشائه الغريب. . . فسيقانه العنزية الأربعة، وأذناه البهيميه الشاخصة، وجسمه المفتول ذو العظل ووجه الواسع العريض. . . كل ذلك بعث في قلبها الذعر وهاج في نفسها الرعب حتى كادت تذهب شعاعاً.)
وتثاءب هرمز ثانية وثالثة، ثم قال: (. . واعترضها نهر عظيم فصرخت في أخواتها عرائس الماء تستغيث بهن، وتطلب إليهن النجدة، فما أذهل بان عن نفسه إلا أن رأى طائفة من هذه العرائس تبرز من الماء فجأة فتجذب سيرينكس حتى تغيبنها في اليم، ثم ما أذهله أيضاً إلا أن يرى قصبات رقيقة، ذوات أرياش صفيقة، تنمو في الموضع من الماء غيبت فيه سيرينكس!!
ووقف بان مشدوه اللب، ذاهل الفكر، يحملق في النهر الذي طوى منية القلب، وهوية النفس، ثم انثنى فنزع القصبات النامية، وراح يصنع منها نايا حلو النغم رقيق اللحن، حنون الجرس
ولقيته مرة في روضة مونقة، منضورة منسقة، وكان بان يجلس على رابية بها معشوشبة، عازفاً على يراعه، فطربت لموسيقاه طرباً شديداً؛ ودلفت إليه، فرجوته أن يهب الناي لي، فتبسم قائلاً. (إليك يا بني أكرم القنى وأعز الذكريات. . .)
وشهدت عبرات تنطلق من مقلتيه، حاول أن يخفيها عني. . .
وكان هرمز وهو يبقي هذه الأقصوصة التي اخترعها اختراعاً، يحاول أن يمطها مطا، ويزيد في ثناياها حواشي مملة، ويزخرفها بتعليقات لا غناء فيها. وكان يتثاءب ويتثاءب، وكانت الكلمات تساقط من فمه كأنها مشدودة بسلسلة من حديد، حتى تثاءب آرجس هو الآخر، وغلبه نعاس شديد أغلق عيونه كلها. وابتهج هرمز الخبيث لذلك، وجعل يروح على وجه آرجس، حتى انطلق الشخير من أنفه الكبير تجاوب أصداءه الضفادع. . .!
وهنا. . . امتشق هرمز جرازه المرهف وأهوى به على عنقه الطويل، فانفصل الرأس عن البدن، وغادرهما معفرين بالتراب، وعاد أدراجه إلى الأولمب يحمل إلى والده نبأ المعركة.(95/63)
وحزنت حيرا على خادمها أمض الحزن وأشده، وذهبت بنفسها فحملت رأسه إلى مخدعها في قصر الأولمب الكبير، وطعقت تسمل العيون عيناً عيناً وتركبها في ريش طاووسها الجميل لتظل إلى الأبد رمز حبها له، ووفائها لذكراه. . . ثم آلت لتسلطن على يو - البقرة المسكينة - ذبابة صفراء من ذباب الأبالسة، تقرصها وتجعل من حياتها نكالاً، حتى ضجت المخلوقة التعسة ورفعت أكف الضراعة تستمطر الرحمة من زيونس. . . كبير الآلهة، ورب الأرباب: (يا الهي العظيم الرحيم، يا أبا الآلهة، وابن الآلهة! أتوسل إليك بأبنائك الكرام الرحماء!
أدركني يا أبا جريوس! اغفر لي زلتي حين أحببت هذا الفتى الجميل وأحبني! إن كنت قد صنعت في ما صنعت انتقاماً، فحسبك ما حل بي من عذاب الهون! لن أزل يا الهي إذا غفرت لي ورفعت عني وزر غضبك! اقبل يا رب الأولمب صلاتي واجعلها شفيعي إليك! أنا. . . يو المسكينة. كنت أعبد ابنتك أرتميس ربة القمر، فكنت أنزوى عن العالم، وألبث وحدي بين يدي قمري الحبيب، أصلى لك ولا بنتك المعبودة، في هدأة الليل، وسكون السحر، فما هو إلا أن قطع عل هذا الفتى صلاتي، وهو من خلقك، وجماله الفتان آية من آياتك، فإذا سحرني وأذهلني عن عبادتي، فإني أستأهل كل هذا الذي أنافيه!. . . . يا إلهي اغفر لي، فقد وسع غفرانك كل شئ. . . .!)
ويستجيب الإله لهذه الصلاة الحارة الخالصة، فينطلق إلى حيرا، حيث يجدها مكبة على رأس آرجس تسمل عيونه، فيواسيها ويسيلها، ثم يرجوها أن ترحم يو، وأن تخفف عنها العذاب، وهو لقاء هذا يعطيها كل المواثيق إلا يصل أسبابه بأسبابها مرة أخرى. فترق حيرا، وتتفجر الرحمة لأول عهدها بها، في قلبها، وترسل من يرفع الذبابة عن البقرة ونأذن لزيوس فيعيدها إلى صورتها الأولى. . الصورة القديمة المحبوبة. . .!
ولكنها تشترط عليه أن يرسل من يذهب بها إلى أقصى أطراف الأرض، حتى تطمئن عليه. . . وعلى قلبه المتصابي!. . . من حبها ويأمر زيوس بعض اتباعه فيحتمل يو إلى. . . . . ضفاف النيل!! وتخرج من الصحراء فيلقاها المصريون، فتبهرهم بجمالها الرائع، وحسنها الوضاء، ومفاتنها البارعة، ثم يجتمعون على عبادتها، ويقيمونها مليكة عليهم،(95/64)
ويسمونها: (إيزيس)
وتمر الأيام. . .
فيتزوجها كبير آلهة مصر، آزوريس، وتلد له ابنه حوريس!
دريني خشبة(95/65)
البريد الأدبي
ملك الصحافة
توفي أخيراً قطب من أقطاب الصحافة هو أدولف اوكس صاحب جريدة (نيويورك تيمس) هي أعظم الصحف الأمريكية، وكانت حياة أوكس كقصة روائية، فقد بدأ الحياة بائع صحف متجول، ثم غدا بعزمه وذكائه ومثابرته اعظم صحفي في العالم الجديد وصاحب اعظم صحيفة فيه. وقد ولد أوكس في سنسناثي من أعمال أوهيو في سنة 1858؛ وبدأ حياته العملية في نوكسفيل يبيع الصحف ويدرس أعمالاً مطبعية وصحفية صغيرة، واستمر يعمل كصبي بائع في الطريق، وصبي في المطبعة حتى سنة 1877 وفي ذلك العام عمل صفافاً في مطبعة صحفية. ثم سمت به همته بسرعة، فاصدر في العام التالي جريدة اسمها (شاثانوجا تيمس) استمرت ملكه طول حياته، وتقدم أوكس بسرعة في الصحافة وتقدمت جريدته حتى غدت صحيفة إقليمية هامة تتمتع بقسط لا بأس به من النفوذ والتقدير. وفي سنة 1896، أثار أوكس دهشة العالم الصحفي بإقدامه على شراء جريدة (نيويورك تيمس) وكانت الصحيفة الكبرى قد توالت عليها الأزمات والصعاب حتى كادت تتوقف عن الصدور؛ واضطر أصحابها إلى عرضها للبيع، فتقدم أوكس لشرائها، ودفع جزءاً فقط من الثمن. وكانت الدوائر الصحفية تتوقع الفشل لأوكس، لأنه لم يعمل من قبل إلا في صحيفة محلية؛ ولكن أوكس أبدى في إحياء صحيفته الكبرى همة وكفايات مدهشة، فلم يمضي سوى قليل حتى عادت الصحيفة إلى سابق قوتها، واختار أوكس لها اللون المحافظ مع اعتدال في اللهجة، ومع التزام الجد والوقار، والرصانة، ومجانبة الصيغ والحملات المثيرة، وكان شعاره الذي يطبع إلى جانب العنوان في كل عدد (كل الأخبار صالحة للنشر)، وهو شعار مازالت تحمله الصحيفة، حتى اليوم، واستطاع أوكس من خلال أعوام قلائل أن يسدد جميع الثمن وأن يستأثر بامتلاك الصحيفة الكبرى. ومازال أوكس يعمل حتى غدت (النيويورك تيمس) أعظم صحيفة في العالم الجديد، سواء في حجمها، أو تحريرها ومادتها، أو تصويرها وطباعتها، وأصدر أوكس لصحيفته ملحقاً أسبوعياً (ملحق الأحد) غدا أعجوبة في الصحافة العالمية، حيث يصدر مصوراً في 180 صفحة كبيرة، وملحقاً به قسم خاص بالنقد الأدبي، والنيويورك تيمس أيضاً من اقدم الصحف الأمريكية؛(95/66)
فقد بدأ صدورها سنة 1851 في مدينة نيويورك وكادت اكثر من مرة تختفي من الميدان، ولكن أوكس أسبغ عليها حياة جديدة، وهي الآن من أعظم صحف العالم، ولها اكبر مجموعة من المراسلين الخارجيين في سائر العواصم، وقلما تجاريها اية صحيفة كبرى في أنبائها أو موادها. ومع إن انتشارها لا يعدو نصف مليون نسخة في اليوم، فإنها تتمتع بأكبر نفوذ في عالم السياسة والفكر والمال
العلامة المكتشف سفين هيدين
عاد أخيراً من مجاهل الصين الوسطى والغربية الرحالة المكتشف والعلامة الباحث السويدي سفين هيدين إلى ستوكهلم مسقط رأسه، فاحتفلت به الهيئات العلمية احتفالاً شائقاً، وقدمت إليه الحكومة النمساوية على يد سفيرها في ستوكهلم وسام الشرف العلمي والفني، وهو أرفع وسام تمنحه النمسا الجديدة لرجال العلوم والفنون، ولا تمنح منه إلا لممثلي أربع وعشرين دولة فقط؛ وقد عاد سفين هيدين وهو يتحدث إلى الهيئات العلمية والصحف الكبرى عن رحلاته واكتشافاته الجغرافية والعلمية في المناطق والوهاد السحيقة التي تجول فيها مدى أعوام؛ وأذاع سفين هيدين أيضاً عن حوادث التركستان الصينية، وما وقع في عاصمتها كشغر من الثورات والانقلابات معلومات نفيسة، وقد كان هنالك وقت اضطرام المعارك الأهلية في تلك الأنحاء
وقد ولد سفين هيدين في ستوكهلم سنة 1865، ودرس فيها وفي برلين وأوبسالا، وشغف منذ حداثته بالأسفار، وتتلمذ للرحالة الألماني الشهير البارون فون رختهوهن، وقد بدأ رحلاته مذ كان طالباً بالسفر إلى العراق وفارس في سنة 1885، وفي سنة 1890 أرسلته الحكومة السويدية عضواً في السفارة التي أرسلها الملك أوسكار إلى شاه الفرس، وفي سنة 1891، اخترق خراسان والتركستان حتى كشغر، ويبدأ عمله كمكتشف أسيوي في سنة 1893، حيث بدأ في اختراق آسيا الصغرى من أورنبورج إلى بكين، وقد سافر عن طريق لوبنور وهضاب التبت، وأنفق في رحلته أربعة أعوام واكتشف خلال هذه الفترة آكام مستجاستا الثلجية، والجبال الواقعة حول منابع يرقند داريا، واكتشف أطلال مدينة بوذية قديمة في صحراء ثكلا ماكن، وفي سنة 1859 قام برحلته الأسيوية الثانية، وفيها سار في نهر تاريم حتى بحيرة لوبنور، واكتشف حول البحيرة آثار حضارة صينية قديمة، ثم(95/67)
اخترق التبت وحاول عبثاً أن يدخل مدينة لاسا، وهي مدينة (اللاما) المقدسة، وفي سنة 1926 قام برحلة ثالثة في آسيا، وقام برحلات أخرى في الهند والهملايا، وغيرها، وله مؤلفات كثيرة شائقة منها: رحلة إلى خرسان وتركستان - خلال آسيا - مخاطرات في التبت - نتائج علمية لرحلة في أواسط آسيا - من القطب إلى القطب - مع الجيوش الألمانية في الغرب - بغداد وبابيليون - التبت الجنوبية - حياتي كمكتشف، وغيرها
الرياضة والثقافة
كان من الآثار الاجتماعية التي أحدثتها الحرب انتشار الروح الرياضي بين الشباب بسرعة مدهشة، وكان الروح قبل الحرب محدود المدى، وكان كثير من الآباء يخشون على أبنائهم من أن يحملهم تيار الرياضة فيهملوا دروسهم ومدارسهم، وكان الاعتقاد الغالب هو أن الشباب الذين يشغفون بالرياضة هم أقل ذكاء واجتهاداً من أقرانهم؛ وفي غداة الحرب تطورت هذه الأفكار القديمة واكتسح الروح الرياضي مجتمع الشباب ذكوراً وإناثاً، وغمر شغف الرياضة فصول المدرسة والجامعة، وذاعت النظريات الرياضية الجديدة عندئذ، فقيل إن الجنس الأبيض مدين بتفوقه إلى الحركة والرياضة، وأنه ينشط متى تحرك؛ وأصفى ما تكون العقول عقب الركض أو الكرة أو الصعود أو السباحة أو غيرها من صنوف الرياضة. ولكن ناحية واحدة لم يوفق دعاة المدرسة الجديدة إلى تحقيقها، هي خلق الأدب الرياضي الثقافة الرياضية، فقط لوحظ إن أولئك الذين يشغفون بالرياضة قلما يقرأون، ولا يقرأون حتى كتب الرياضة ذاتها، فعقولهم وأذهانهم دائماً في معزل عن اجتناء متعة القراءة والرياضة العقلية، ولهذا لم يجد الأدب الرياضي سبيله حتى اليوم إلى دور النشر، وما زالت دور النشر تأباه وتعترض عليه، وتحرص ألا تتورط فيه، وهذه أول ظاهرة سيئة تلازم الحركة الرياضية
بيد أن هنالك ظاهرة أهم واخطر، هي اليوم موضع الجدل في فرنسا، وذلك أن الأساتذة والمفكرين قد اخذوا يتوجسون خفية من عواقب هذا التيار الرياضي الجارف، ويقول كثير منهم اليوم إن الانهماك في الألعاب الرياضية إلى هذه الحدود يخشى أن يسفر عن عواقب سيئة في تكوين النشئ، وأن يخرج للأمة شباباً من الذكور والاناث، يتمتعون بأجسام وهيئات حسنة؛ ولكن بعقول وأذهان ضيقة؛ لا يسهل فهمهم ولا يحتمل التفاهم معهم؛(95/68)
يضيقون ذرعاً بالإيضاح والتروي؛ ويجنحون إلى الإيجاز والتحكم، وهذا ما يلاحظ اليوم على معظم الشباب الرياضي؛ وفي رأي هؤلاء إن الشباب الرياضي إنما هو عنصر منحط من الوجهة العقلية والثقافية؛ وإذا كانت الرياضة تبعث النشاط إلى العقل؛ فإن الانهماك فيها من جهة أخرى يحول دون ثقافة الذهن ومرونته؛ ولاسيما في هذا العصر الذي ضاقت فيه الأوقات؛ وحملت السرعة كل مجتمع؛ ولم تبقى أمام النشئ فرصة للارتواء من تلك المناهل الثقافية التي أتيحت لآبائهم. فهل تكون هذه الدعوة بدء انحلال في الحمى الرياضية التي تغمر المجتمع؟ هذا ما سيبدو لنا في المستقبل القريب
هبة فنية
من أنباء فينا إن أكاديمية الفنون الحية قد تلقت وصية من سيدة كبيرة، توصي فيها إليها بمجموعتها الفنية النفيسة. والسيدة المذكورة هي زوج المستشار السابق البرخت شميت، وكانت من أكابر الهواة، وقد جمعت في حياتها كثيراً من التحف الفنية النادرة، وفيها صورة أصلية من صنع تنتيرتو وهو من أعظم مصوري إيطاليا في القرن السادس عشر، ومنها آنية بديعة من المرمر تقدر بمئات الألوف، وتحف ثمينة أخرى.
الشاعر الفرنسي لوي مارساللو
لم يكن لوي مارساللو الشاعر الفرنسي الذي توفي أخيراً، شاعراً كبيراً فقط، ولكنه كان أيضاً صحفياً ذا أسلوب ساحر، وكان مؤلفاً مسرحياً تنال قطعه المسرحية في الكوميدي فرانسيز اعظم تقدير واستحسان. بيدا أن مارساللو اشتهر كشاعر قبل كل شيء. وقد ظهر له أول ديوان شعري، سنة 1886 وهو في الثانية والعشرين فقط بعنوان (القبلات الضائعة)؛ وهو بريتاني الأصل ولد في بريست سنة 1864، وقدم إلى باريس فتى، وانخرط في سلك جماعة أدبية كان فيها شارل كروس وماري كرسنسكا وجورج لوران؛ ولم يبقى منها حياً إلى اليوم سوى جان اجالبر. وقد ظهر في ديوانه الأول (القبلات الضائعة) مبلغ تأثره بمناظر وطنه الأصلي، وتقاليده وكبريائه الطبيعية. ثم كتب مارساللو بعد ذلك للمسرح فصادف فيه نجاحاً عظيماً. ومن قطعه المشهورة، (الملك المغرم) (شريط بسيشيه) وقد مثلتا مع غيرهما من قطعه في الكوميدي فرانسيز، و (قلبه الصغير) و(95/69)
(ملاهي باريس) التي كتبها مع جورج كورتلين أمير الفكاهة، و (شخص يعكر الحفلة) وغيرها وقد مثلت في مسارح باريس الكبرى، وكان مارساللو صحفياً ونقاداً بارعاً يعمل في بعض الصحف الباريسية، ولكن النزعة الشعرية كانت تغلب عليه دائماً.
معهد للدراسات السياسية
أنشئ في باريس معهد للدراسات السياسية الخارجية، واشترك في إنشائه جامعة باريس ومدرسة العلوم السياسية، ومكتبة الوثائق الدولية المعاصرة، وجماعة الدراسات الدبلوماسية، وقد زود هذا المعهد بمكتبة سياسية عظيمة تشمل نحو مائة وأربعين ألف مجلد في مختلف المسائل والشؤون الدبلوماسية، والوثائق والمعاهدات والمذكرات السياسية، وسينقسم المعهد إلى أقسام يلتحق بها الأخصائيون في كل ناحية من النواحي التي يعني بها سواءً كانوا من أساتذة الجامعات ام رجال السياسة، ام رجال الأعمال، أو الصحفيين السياسيين. واهم أعماله الثقافية تنحصر في تنظيم محاضرات ودراسات سياسية عالية: وقد افتتح المعهد دورته الحالية بإلقاء محاضرة موضوعها (نهوض العالم العربي وأثره في أفريقية الشمالية) ألقاها الكابتن مونتاني مدير المعهد الفرنسي بدمشق، تحت رياسة الأستاذ شارليتي مدير جامعة باريس، واشترك في مناقشة الموضوع جمع من أعلام الأساتذة والساسة
والظاهر إن غاية هذا المعهد ترمي قبل كل شيء إلى خدمة السياسة الفرنسية وتوجيهها إلى ما يحقق مصالح فرنسا الخارجية والاستعمارية، وذلك بدرسها على ضوء التطورات السياسية الدولية(95/70)
الكتب
المختار من شعر بشار
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
بشار بن برد شاعر مطبوع خلاق، نقل الشعر العربي من جفوة البداوة إلى رقة الحضارة، فنهج به في الأداء منهجاً مطرد القياس، سهل المخرج، وحمله من المعاني كل بديع مخترع، فسمي لذلك أبا المحدثين وشيخهم. ولقد كان فوق ذلك ثرّ القريحة، فياض الشاعرية، واسع المجال، حدث عن نفسه قال: لي اثنا عشر ألف بيت عين، فقيل له هذا ما لم يكن يدعيه أحد سواك!! فقال: لي اثنا عشر ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت فرد
ولكن هذه الثروة الشعرية الضخمة ضاعت في أجواء العصور الخالية، وذهبت بين سمع الأرض وبصرها، ولم يصلنا منها إلا نتف قصيرة جاءت في الأغاني وفي غيره من كتب الأدب والتراجم. ولقد اخبر العلامة المرحوم أحمد تيمور باشا منذ سنين بأن نسخة خطية من ديوان بشار موجودة في تونس لدى الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب عضو المجمع العلمي بدمشق وانه شارع في طبعه واخراجه، فتلهفت نفوس الأدباء على تحقيق هذه الأمنية العزيزة، وكتب بعضهم في مجلة المجمع العلمي يستحث همة الأستاذ حسن حسني على الإنجاز، وتقدم السيد بدر الدين العلوي بكلمة قال فيها أنه وجد نسخة عنوانها: المختار من شعر بشار في حيدر آباد بالهند، وهي من اختيار الخالديين أبي بكر وأبي سعيد شاعري سيف الدولة وخازني دار كتبه، وعليها شرح من عمل أبي الطاهر إسماعيل بن احمد بن زيادة من أدباء القرن الرابع، ثم ذكر أنه يستعد لطبع هذا المختار وإخراجه في اقرب نهزة بمساعدة الأستاذ عبد العزيز الميمني المدرس بجامعة عليكرة، ثم ناشد الأستاذ حسني عبد الوهاب أن يعينه وان يخبره عن النسخة الموجودة لديه فلعلها تكون نسخة أخرى من المختار، ولكن الأستاذ حسني ضجع في الأمر ولم يسعف، وبقى الأستاذ بدر الدين عند وعده ومازال حتى أدى الأمانة ووفي دين العربية فدفع بالمختار منذ حين إلى (لجنة التأليف والترجمة والنشر) فجلته للناس في ثوب قشيب، صقيل الورق، جيد الطبع، دقيق التصحيح، مستوفي البيانات والتعاليق، مذيلاً بالفهارس الكاملة، والفوائد المتممة. .(95/71)
ولقد قرأت الكتاب فرأيته لا يشتمل على مقدار كبير من شعر بشار، ولكن اكثر ما به من القصائد والمقطوعات لا يوجد في غيره من كتب الأدب المعروفة. ويبدو لي أن الكتاب لا يشتمل على كل ما اختاره الخالديان بدليل قول الشارح: (ورأيت بعد نظري في اختيار الخالديين وما اخترته منه. . ص8)، وقوله في النهاية (انتهى اختيارنا فيما وجدناه من المختار من شعر بشار. .)، فكأنه قد اختار بعض ما اختاره الخالديان، بل إن كلمة (وجدناه) تدل على أن ما اختاره الخالديان لم يقع جميعه بالشارح
أما الكتاب من حيث هو فروض أدب حافل، يأتي عليه القارئ بلذة وشغف؟ فقد نهج الشارح في شرحه منهج الاستطراد، يذكر أبيات بشار ثم يشرحها شرحاً لغوياً وافياً إن كان بها من الألفاظ ما يستغلق على القارئ، ثم يذكر ما لها من الأشباه والنظائر لفظاً ومعنى في شعر المتقدمين الذين اخذ منهم بشار، أو المتأخرين الذين اخذوا عن بشار؛ والرجل يطيل كثيراً في سرد الأشباه والنظائر كأنه يباهي بكثرة محفوظة، وقد يذكر ما يتصل بذلك من أخبار الشعراء ونوادرهم مما جعل الكتاب حافلاً ممتعاً، تظن وأنت تقرأ فيه انك تقرأ في (البيان والتبيين) أو في (زهر الآداب) أو في غير ذلك من الكتب التي تشتمل على أمشاج من الأدب، وصنوف من المعارف. .
وقد يكون من الإنصاف أن نذكر بالثناء المجهود الكبير الذي بذله الأديب الناشر في إخراج الكتاب وضبطه وتصحيحه وتعليق الفوائد عليه وتخريج أبياته، كما لا يفوتنا أن ننبه إلى بعض هفوات قد ندت عن خاطره اليقظ، فمن ذلك أنه نظر في قول الشارح: (ولكنه لتراخي الحالب وتضجيعه ص112) فلم يطمئن لكلمة تضجيعه وقال لعلها تضييعه، وكلمة التضجيع اصح وأدق وهي التي أرادها الشارح، فإنه يقال ضجع فلان في الأمر إذا تراخى فيه وأهمله
ومن ذلك أنه قيد كلمة (الحبوة) بالضم في قول الشارح (فما حل حبوته ولا كلمهم حتى قضى سبحته ص193) وإنما هي بالكسر، أما بالضم فمعناها العطاء ولا يصح هذا المعنى في هذا التركيب
ومن ذلك أنه علق على قول عدي بن الرقاع (ص216) فكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر (عاسم) فقال يروي عاسم وجاسم، وذكر أن عاسماً اسم موضع، قلنا وقد(95/72)
جاءت الكلمة في الشعر والشعراء بالغين المعجمة، وحقيقتها جاسم بالجيم اسم قرية بالشام قريبة من دمشق وقريبة من موطن الشاعر وقد وردت في قول حسان:
فالمرج مرج الصفرين (فجاسم) فديار سلمى درساً لم تحلل
ومن ذلك أنه أورد قول ابن الرومي (ص235) وما تعتريها آفة بشرية من النوم إلا (إنه تتحير) فأثبت (أنه) بالهاء كما في الأصل، ورأى أن كلمة تتحير تصحيف تتخثر، وهذا تخريج يفسد معنى البيت ويتجه به إلى الهجاء وما أراد ابن الرومي إلا وصف محبوبته بالحسن، وإنما صحة القول (إلا أنه تتحير)
ومن ذلك أنه حسب كلمة الحضر محرفة عن الخفر في قول الشارح: (فهذه القبنة من أهل الكفايا والترفة والحضر ص257)، وعندنا أن كلمة الحضر هي المتعينة في هذا المقام فقد عقب عليها الشارح بما يعينها فقال (وليست ممن يمتهن ويبتذل في رعي الغنم والإبل أي إنها من أهل الحضارة لا من أهل البداوة) وهذا ما يريده بشار في البيت الذي يتولى الشارح تفسيره بهذه الكلمات
على أن هذه هنات طفيفة خفيفة لا تغض من قيمة كتاب قل أن تخرج المطابع مثله دقة في التصحيح والتنقيح، فالشكر الجزيل للأستاذ الناشر على جهده واهتمامه، وللجنة التأليف والترجمة والنشر على عنايتها بإخراج هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه أديب. . .
محمد فهمي عبد اللطيف(95/73)
العدد 96 - بتاريخ: 06 - 05 - 1935(/)
بنك مصر
غداَ في الساعة الخامسة يبدأ الاحتفال القومي بمرور خمسة عشر عاما على مولد بنك مصر. والاحتفال بعيد هذا البنك النامي الخصيب احتفال بالنصر المؤزر في جهاد الأمة لاستقلالها الحق؛ فإن مصر منذ انحسر عن الأرض ذلك الطوفان الدموي الذي غمرها أربع سنين، هبت تقرر في الدول وجودها الطبيعي الحر، فما صغت لها إذن، ولا نهضت بحجتها عدالة. ذلك لأن أوربا الجائعة المجهودة تريد أن تسد فجوات القنابل وحفائر الخنادق وأخاديد القبور بما بقي على الأحداث من أقوات الشرق؛ والشرقي - كما تعلم - يستطيل بالكرم ويستعز بالجاه، فما دمت تحله الصدر، وتبوئه الوظيفة، فلا عليه بعد ذلك أن يكون كرسيه بالاستعارة، ومأكله بالدين، ومسكنه بالأجرة!
حمل المنتجون العجاف من أهل أوربا ثمر نشاطهم الصناعي إلى أسواقنا القاصرة المستهلكة، وقاموا على أرزاقنا مقام القيم يبِضُّون لنا بما لا يكاد يستر الجسم ويمسك الرمق، ثم يحولونها عمرانا في خرائب باريس، وسلطاناً في حكومة لندن، ويسمعوننا نثور في المحابر ونصيح على المنابر، فيقولون اكتبوا ما واتى المداد القلم، وأخطبوا ما أسعف الريق اللسان، فلن ينزع العلق خراطيمه الماصة من الجلد مادامت الجنود مقبورة في الثكنات، والأموال مطمورة في الخزائن! حينئذ قال رجل الساعة محمد طلعت حرب باشا: رويدكم! سنرسلها شعواء بالذهب لا بالحديد!
كانت مصر في العهد الذي أسس فيه بنك مصر في مأزق من مآزق الحياة المشتبهة الخادعة: تنعم في رخاء كاذب وأمن مريب، ووراءها أوزار حرب ضروس، وأمامها لوائح أزمة طاحنة، وشباب البلاد تعصف في رءوسهم نخوة الوطنية والحرية والكرامة، فلا يفكرون إلا في الإحتلال، ولا يعملون إلا للسياسة؛ وأغنياء الأمة جاثمون على أموالهم المكدسة جثوم الدجاجة المرخم على بيضها العقيم، لا يُثمِّرونه بأنفسهم لنقص الكفاية، ولا يكلون استثماره لغيرهم لفقد الثقة؛ ورجال الدولة مشغولون بجباية الخراج، وتحضير الميزانية، واستئناف المفاوضات، وتحرير مشروعات المعاهدة، فلا يملكون حماية التجارة لقيود الجمرك، ولا يستطيعون إنشاء الصناعة لمناوأة المحتل؛ والأجانب عاكفون على منابع الوادي يستنزفونها بالربا، ويكدرونها بالسفه، ثم لا يسمحون للظمآن أن يألم، ولا للمهان أن يغضب(96/1)
وكانت عناية الله التي ألهمت سعد زغلول أن يخرج شعبه من رق الاحتلال السياسي، هي التي ألهمت في الوقت نفسه طلعت حرب أن يخرج قومه من رق الاحتلال الاقتصادي؛ وكلا الرجلين منذ نشأ ميسر لما قام له: فسعد باشا بطبعه رجل كفاح وخصومه وزعيم برلمان وحكومة، ورسول من رسول الوطنية الروحية، له عصمته وجاذبيته وإيمانه؛ وطلعت باشا بطبعه رجل إنشاء وعمل، وصاحب تدبير وخطة، ورسول من رسل الوطنية المادية، يهذب النفس برفاهة الجسم، ويرفع العمران بوفرة الإنتاج، ويضمن الاستقلال بقوة الثروة، وله كذلك عبقريته ونزاهته وإخلاصه
وثق الناس بالزعيمين الخطيرين فجادوا للأول بالأنفس فشاد بيت الأمة، وكون الرأي العام، وألف الوفد؛ وجادوا للثاني بالأموال، فشاد بنك مصر، وأنشأت شركات مصر، وكوّن ثروة مصر؛ وربى سعد باشا لوطنه شباب جهاد وتضحية، كانوا منه مكان القلب الشاعر، والحس المدرك، والروح الملهم؛ وربى طلعت باشا لشعبه شباب اقتصاد وروية، كانوا منه مكان البصيرة الحازمة، واليد العاملة، والعقل المنظم؛ ثم كان من هؤلاء وهؤلاء دليل ناهض على يقظة هذه الأمة وشعورها بإرادتها لما تفعل، وسيادتها على ما تملك، وحريتها فيما تريد
لا أستطيع بهذا القلم الموجز في هذا المكان المحدود أن اجمل ما أضفاه بنك مصر وشركاته ومنشآته من النعمة على الأمة؛ وإن في تقرير مجلس الإدارة الذي نشر منذ أيام عن السنة الخامسة عشرة من حياة البنك، والخطبة الخطيرة الذي سيلقيها المدير الجليل في احتفال الغد عن حياة البنك، لبلاغاً لمن لم يسمع إلى اليوم ذلك اللحن القومي القدسي الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في البنك، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في المحلة!
إن نجاح بنك مصر وشركاته هو وحده الحجة الدامغة على نضوج هذا الشعب، لأنه نسق من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئا وراء الزعامة الرخوة؛ فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، نجد هذا البنك ينمو نمو النبات بَرَكة على(96/2)
بَرَكة، ويتضاعف تضاعف الحياة شركة بعد شركة، ويجذب الوجود المصري معه إلى السبيل التي يأمن فيها الفناء، ويخرج منها إلى العافية!
أحمد حسن الزيات(96/3)
الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيب بن رافع: وقام الشعبي إلى رجل فأعتنقه فرحا بما آل أمره إليه، بعد إذ رأى النور يجري على لونه ويترقرق في ديباجته؛ كأنما وقع الصلح بين وجهه وبين الحياة. ثم قال له: نِعمَ أخو الإسلام أنت، فاستعذ بالله من خذلانه، فإنه ما خذ لك إلا وضعك نفسك بازاء الله تعارضه أو تجاريه في قدرته، فيكلك إلى هذه النفس، فتنتهي بك إلى العجز، وينتهي العجز بك إلى السخط؛ ومتى كنت عاجزا ساخطا، محصورا في نفسك، موكولا إلى قدرتك - كنت كالأسد الجائع في القفر، إذا ظن أن قوّته تتناول خلقَ الفريسة؛ فيدعو ذلك إلى نفسك اليأس والانزعاج والكآبة، وأمثالها من هذه المهلكات تقدح في قلبك الشك في الله، وتثبت في روعك شرَّ الحياة، وتهدي إلى خاطرك حماقات العقل، وتقرر عندك عجز الإرادة؛ فتنتهي من كل ذلك ميِّتا قد أزهقتك نفسك قبل أن تزهقها!
ولو كنت بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان - لسلطك الله على نفسك ولم يسلطها عليك؛ فإذا رمتك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه؛ وإذا جاءتك الشهوات من ناحية الرغبة المقبلة، جئتها من ناحية الزهد المنصرف؛ وإذا ساورتك كبرياء الدنيا أذللتها بكبرياء الآخرة.
وبهذا تنقلب الأحزان والآلام ضروباً من فرح الفوز والانتصار على النفس وشهواتها، وكانت فنوناً من الخذلان والهمّ؛ وتعود موضع فخر ومباهاة، وكانت أسباب خزي وانكسار. وعزيمة الإيمان إذا هي قويت حصرت البلاء في مقداره، فإذا حصرته لم تزل تنقص من معانيه شيئاً شيئاً؛ فإذا ضعفت هذه العزيمة جاء البلاء غامراً متغشياً يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع، فلا تزال معانيه تزيد شيئاً شيئاً بما فيه وبما ليس فيه.
وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها - فتراه على حقيقته الفانية وشيكا أن يزول؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة: كما يرى الأعمى يوهمه؛ لاعينه مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.
قال المسيب: وكانت الشمس قد طفلت للمغيب؛ فقال الأمام للرجل: قم فتوضأ وأسبغ(96/4)
الوضوء، وسأعلمك أمرا تنتفع به في دينك ودنياك: فإذا قمت إلى وضوئك فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على إن في هذا الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة، وأنه رمز للسماء عندك، وانك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على اطرافك؛ ثم سمِّ الله تعالى مفيضاً أسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معاً، ثم تمثل انك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك أخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضاءك؛ وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئاً ألا مسحةً سماوية تسبغها على كل اطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك؛ وانك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماوياً لا أرضيا.
فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادةً لك، فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتنمت أو تكرهت أو تسخطت، أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس؛ فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة وترى الماء تحسبه هدوءاً ليناً لين الرضا وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا.
قال المسيب: وقمت أنا فجددت وضوئي على هذه الصفة في تلك النية؛ فإذا أنا عند نفسي مستضيئ بروحٍ نجميةٍ لها إشراق وسناء، وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما علمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرت ساعات وابتداؤه للروح كالنبات الأخضر ناضراً مطلولاً مترطباً بالماء.
ثم صلى بنا الشيخ وأمرني بالمبيت مع الرجل، كأنما خشي البدوات أن تبدو له فتنقض عزمه، أو كأن الشيخ لم يأمن على الرجل أن يكون إنسانه الروحي قد تنبه بأكمله فوضعني كالتنبيه له.
وجاءنا العشاء من دار الشيخ فطعمنا، ثم قام الرجل فتوضأ وصلينا العتمة وجلسنا نتحدث، فاستنبأته نبأه، فقال: مهلاً، ثم نهض فتوضأ الثالثة وقال: تالله ما أعرف الوضوء بعد اليوم إلا ملامسةً بين السماء والنفس. وما أعرف وقته من الروح إلا كساعة الفجر على النبات الأخضر.
قال المسيب: أتصبحنا فغدونا على الامام؛ ثم لزمني الرجل في بعض أموري، ثم وافينا(96/5)
المسجد صلاة العصر لحضور درس الشيخ؛ وكان الناس كالحب المتراصف على العنقود لا أدري من ساقهم وجمعهم؛ كأنما علمت الكوفة أن رجلاً مسلماً كفر بالله كفرة صلعاء، وأنه سيحضر درس الشيخ وسيحضر الشيخ من أجله، فهبت الرياح الأربع تسوق أهلاها إلى المسجد من أقطارها.
وجلس الشيخ مجلس الحديث فقال:
روينا أن رجلاً كانت به جرأحة، فأتى قرناً له فأخذ مشقصاً فذبح به نفسه؛ فلم يصل عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وترك جنازته مطرودةً تقتحم متلفة الآخرة كما اقتحمت متلفة الدنيا!
روينا في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار!.
روينا عنه (صلى الله عليه وسلم): (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة!)
روينا عنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (كان رجلا به جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة!).
قال الشعبي: يقول الله: (بدرني عبدي بنفسه) أي بدرني وتأله في أخر أنفاسه لحظة ينقلب الي، فكان مع ظلمه مغرورا أحمق!.
بدرني وتأله حين ضاق، فهور نفسه في الموت من عجزه أن يمسكها في الحياة، فكان عاجزا مع ظلمه وغروره وحمقه!
بدرني وتأله على جهله بسر الحياة وحكمتها، فلم يستح هذا المخلوق الظالم المغرور في حمقه وعجزه وجهله - لم يستح أن يجيئني في صورة إله!
بدرني وتأله، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غي وتمرد وسفاهة، وأرسلها إلى مقتولة يردها علي
بدرني وتأله، كأنما يقول: أن له نصف الأمر ولي النصف، أنا أحييت وهو أمات. . .!
بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة!
قال الشعبي: وإنما تحرم الجنة على من يقتل نفسه، إذ ينقلب إلى الله وعلى روحه جناية يده ما تفارقها إلى الأبد؛ فهو هناك جيفة من الجيف مسمومة أبدا، أو مخنوقة أبدا، أو(96/6)
مذبوحة أبدا، أو مهشمة أبدا، يقول الله له: أنت بدرتني بنفسك، وجريت معي في القدر مجرى واحدا، فستخلد نفسك في الصورة التي هي من عملك، وما قتلت ألا حسناتك.
قال الشعبي: ولو عرف قاتل نفسه أنه سيصنع من نفسه جيفة أبدية، فمن ذا الذي يعرف أنه إذا فعل كذا وكذا تحول حمارا وبقي حمارا فيرضى أن يتحول ويسرع ليتحول؟
من ذلك نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى جنازة ذلك الرجل الذي قتل نفسه كما ينظر إلى ذبابة توجهت بالسب إلى الشمس والكواكب والأفلاك كلها، ثم جاءته تقول له: اشهد لي.
قال الشيخ: ومم يقتل الإنسان نفسه؟ أما إن الموت آتٍ لا ريب فيه ولا مقصر لحي عنه، وهو الخيبة الكبرى تلقى على هذه الحياة، فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الدنيا؟
أن المرء لا يقتل نفسه من نجاح بل من خيبة؛ فإن كانت الخيبة من مال فهي الفقر أو الحاجة، وان كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال؛ وإن كانت من عزة فهي الذل أو البؤس، وان كانت مما سوى ذلك - كالنساء وغيرهن - فهي العجز عن الشهوة أو التخيل الفاسد
وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو ارادة، والا فالفقر والحاجة، والمرض والاختلال، والذل والبؤس، والعجز عن الشهوة وفساد التخيل - كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها، ويا عجبا أن العميان هم بالطبيعة اكثر الناس ضحكا وابتساما وعبثا وسخرية؛ أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك؟
ليست الخيبة هي الشر، بل الشر كله في العقل إذا تبلد فجمد على حالة واحدة من الطمع الخائب، أو في الإرادة إذا وهنت فبقيت متعلقة بما لم يوجد. أفلا ترون أنه حين لا يبالي العقل ولا الإرادة لا يبقى للخيبة معنى ولا أثر في النفس، ولا يخيب الإنسان حينئذ بل تخيب الخيبة نفسها؟
لهذا يأبى الإسلام على أهله الترف العقلي والتخيل الفاسد، ويشتد كل الشدة في أمر الإرادة؛ فلا يترخص في شيء يتعلق بها، ولا يزال ينميها بأعمال يومية تشد منها لتكون رقيبة على(96/7)
العقل حارسة له، فإن للعقل أمراضا كثيرة يطيش فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحياناً؛ فكانت الإرادة عقلا للعقل؛ هل لينة إذا تصلب، وهي حركته إذا تبلد، وهي حلمه إذا طاش، وهي رضاه إذا سخط
الإرادة شيء بين الروح والعقل، فهي بين وجودين؛ ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضا، فيستطيع إن يعيش هو في الدنيا كالمنفصل عنها، إذ يكون في وجوده الأقوى، وجود روحه، وأكبر همه نجاحه في هذا الوجود
وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحققه العافية، ولا تيسره الشهوات، ولا ينسيه التخيل الفاسد؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عمره خمسون سنة أو مائة سنة، بل يأتي مما عمره الخلود، ومما هو باق أبدا في معانيه من الخير والحق والصلاح. فههنا يعين المرض بالصبر عليه مالا تعين الصحة، ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة؛ وهنا يكون العقل الإنساني عاملا اكثر مما هو متخيل، وقانعا اكثر مما هو طامع، وههنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات؛ وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة، وبدونها يكون الإنسان هانئا حتى في أحوال الشقاء
بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها، وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان
وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلا مرنا مطواعا، واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يقرًّها؛ فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجر وانحصر في غرض وأحدٍ قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده
ولو أن أمرا أتم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا اياما، لانفسخ عزمه أو رك، إذ يلين العقل في هذه المدة نوعا ما، ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة ما، فتتغير حالة النفس هونا ما. فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى وأحد مقفل من جوانبه. ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفاً وسد عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛ فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة في الزمن لا حالة الزمن؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم(96/8)
وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر أخر غير شقائها
قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها، إذ وضع لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والأخر المثال الروحي للجماعة الكاملة
أما الآية الأولى فهي قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر.)
واما الثانية فهي قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.)
ففي رجاء الله واليوم الأخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه، إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأن لا سلطان لها عليه؛ وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تسحق ضعفا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة، والأسوة وحدها هي علم الحياة
وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية
وفي رجاء الله واليوم الأخر يبطل أكبر أسباب الشرَّ في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث ألا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخير والصلاح والإيمان والحق والفضيلة، وهذه بطبيعتها لا تبعث ألا السرور والغبطة، ومن جعلها في تفكيره ابطل اكثر الدنيا من تفكيره؛ وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم؛ كالرحل الفقير العالم إذا قدم على الغني العالم؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه
وفي رجاء الله واليوم الأخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه عاديا على الحشر والحساب؛ فهو متصل بالخلود غير معنى إلا بأسبابه؛ وبهذا تكون أمراضه وآلامه ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها؛ ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا
وفي رجاء الله واليوم الأخر يسود الإنسان على نفسه؛ ومن كان سيد نفسه كان سيد ما(96/9)
حولها يصرفه بحكمه، ومن كان عبد نفسه صرفه بحكمه كل ما حوله
قال الشعبي: وأما المثال الروحي للجماعة الكاملة، فهو في وصف المؤمنين بأنهم (رحماء بينهم) فهذا هذا، ما أحسبه يحتاج إلى بسط وبيان
إن اكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قبل من حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم لا من قبل نفسه، فإذا قام اجتماع أمة على أنهم (رحماء بينهم) تقررت العظمة النفسية للجميع على السواء؛ ومن كانوا كذلك لم يحقروا الفقير بفقره ولم يعظموا الغني لغناه، وإنما يحقرون ويعظمون لصفات سامية أو حقيرة. وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرا من الغني الشاكر، وأعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئا ذا قيمة في الإنسانية
ومتى تصححت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل المها واستحالت معانيها، وصار لا يبلي معنى من معاني الحياة في إنسان ألا وضع إيمانه معنى جديدا في مكانه، وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع؛ وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده ولكن بجميع القوى التي حوله. أفلا ترون إن إعجاب الناس بالشجاعة وتعظيمهم صاحبها يضع في ألم السلاح لذة يحسها لحم الشجاع البطل؟
قال المسيب بن رافع: فقام رجل من المجلس. فقال: أيها الشيخ، وإذا فسد الناس وغلظت قلوبهم، وتقطعت بينهم الأسباب، ولم يعودوا (رحماء بينهم)، وشمتوا بالفقير، وتهزءوا بالمبتلى وطرحوه في ألسنتهم كما يطرح الشاعر في لسانه رجلا يهجوه لا يكف عنه - فما عسى أن يصنع المسكين حينئذ وكل شيء يدفعه إلى قتل نفسه؟
وقال الشعبي: ها هنا الرجاء في الله واليوم الأخر، وهو شعور لا يشترى بمال، ولا يلتمس من أحد، ولا يعسر على من أراده؛ والفقير المبتلى وغيرهما إنما يصنع كل منهم مثاله السامي؛ فالصبر على هذا العنت هو صبر على إتمام المثال، وإذا وقع ما يسوؤك أو يحزنك فابحث فيه عن فكرته السامية، فقلما يخلو منها، بل قلما يجيء إلا بها
قال المسيب: فقام أخر فقال: وكيف يصنع أمرؤ آلت به أحوال الدنيا إلى ما يخيفه، أو بلغ الهم مبلغه من قلبه فهم أن يقتل نفسه؟
قال الشعبي: فليجعل الخوف خوفين: أحدهما خوفه عذاب الله خالدا مخلدا فيه أبدا؛ فيذهب(96/10)
الأقوى بالأضعف.
وإذا ابتلى فليضم إلى نفسه من هو اشد بلاء منه؛ ليكون همه أحد همين، فيذهب الأثقل بالأخف
إن الإنسان ونفسه في هذه الحياة كالذي أعطى طفلا نزقاً طياشاً عارماً متمرداً، ليؤدَّبه ويحكم تربيته وتقويمه، فيثبت بذلك أنه أستاذ، فيعطي اجر صبره وعمله، ثم يضيق الأستاذ بالطفل ساعة فيقتله. أكذلك التأديب والتربية؟
(لهذا المجلس بقية)
مصطفى صادق الرافعي(96/11)
عصر الخلفاء في مصر الإسلامية
5 - الحاكم بأمر الله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ولم تقتصر سياسة الحاكم الدينية على هذه الناحية من اضطهاد النصارى واليهود، ولكنها كانت تتناول الناحية الإسلامية أيضا، بكثير من الأحكام والأوامر الشاذة. وقد كانت الخلافة الفاطمية تحكم في مصر شعبا لا يتبعها من الوجهة المذهبية، وكان العمل على تدعيم هذه الصبغة المذهبية أهم عناصر سياستها الدينية؛ وقد حذا الحاكم في ذلك حذو أبيه العزيز وجده المعز، وعمل لبث الدعوة الفاطمية في قوة وجرأة ولكن في نوع من التناقض أيضا؛ ففي سنة 395هـ، أمر بسب السلف (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية. . . الخ)، وكتب ذلك على أبواب الجوامع والمساجد والمقابر والحوانيت، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن. وفي نفس العام انشأ الحاكم دار الحكمة لتنظيم الدعوة وبثها بطريقة منظمة؛ وسنعود للكلام عنها في فصل خاص. وكان سب السلف مظاهرة شيعية عملية، ولكن سخيفة مبتذلة؛ فلم يلبث أن ضج الشعب لهذا الاجتراء المثير، وألغى المرسوم (سنة 97) وشدد في هذا المنع فيما بعد، وعوقب المخالفون بالضرب والتشهير. وفي سنة 398هـ صدر مرسوم يقرر بعض الأحكام الدينية ويفسرها، على أثر ما وقع بين الشيعة وأهل السنة من خلاف وشغب على فهم بعض الأحكام وتطبيقها؛ وهو مرسوم يشف عن روح العصر، ويحمل طابع التوفيق بين المذهبين، وإليك نصه بعد الديباجة:
(أما بعد فإن أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إكراه في الدين. . . مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه؛ معاشر المسلمين نحن الائمة، وأنتم الأمة. . . من شهد الشهادتين. . . ولا يحل عروة بين اثنين، تجمعهما هذه الأخوة، عصم الله بها من عصم، وحرم عليها ما حرم، من كل محرم من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح؛ والفساد والإفساد من العباد يستقبح؛ يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يذكر؛ ولا يقبل على ما مر وأدبر من أجزاء الأمور على ما كانت في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين، سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم بالله، وقائمهم بأمر الله، ومنصورهم بالله ومعزهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهدية والمنصورية؛(96/12)
وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفية، ليست بمستورة عنهم ولا مطوية؛ يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون؛ ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون؛ صلاة الخميس للدين بها جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون؛ يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون؛ يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون؛ لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف؛ لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه ميعاده عنده كتابه، وعليه حسابه؛ ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم؛ لا يستعلي مسلم على مسلم بما أعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما أعتمده، من جميع ما نصه أمير المؤمنين في سجله هذا، وبعده قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم تعملون). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة)
ومن الصعب أن نحدد موقف الحاكم إزاء الشؤون الدينية تحديداً واضحاً؛ فقد نسبت إليه في هذا الشأن تصرفات كثيرة متناقضة؛ وقيل أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الدينية الجوهرية كالصلاة والزكاة والصوم، بل قيل أنه شرع في إلغائها، غير أنه ليس ثمة ما يدل على أنه ذهب إلى هذا الحد، على الأقل في الفترة التي نتحدث عنها، وان لم يكن ثمة شك في أنه عدل بعض الأحكام والرسوم تعديلا يجعلها اقرب إلى الصبغة الذهبية. وأما عن عقيدة الحاكم الدينية فمن المجازفة أن يقطع فيها رأي حاسم، ومن المحقق أنها لم تثبت على وتيرة واحدة، وأنها حسبما تدل تصرفاته وأوامره الدينية، كانت تختلف باختلاف فترات حكمه؛ ونستطيع أن نصف الحاكم طورا بعد أخر، بالتعصب الديني والإغراق المذهبي، واليقين والتشكك، والإيمان والإلحاد؛ وسنرى عند الكلام عن الدعوة الفاطمية السرية أن الحاكم، كان في أواخر عصره يذهب إلى ابعد مدى من الغلو والإغراق، فيؤيد الدعوة السرية إلى نسخ أحكام الإسلام، وإلى الدعوة بألوهيته وقيامه. ويعترض ابن خلدون بشدة على القول بكفر الحاكم وإلحاده وإلغائه للصلاة، ويقول أنه زعم لا يقبله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم شيء منه لقتل لوقته. بيد أن هذا المنطق لا يتفق مع الأدلة والوثائق التي(96/13)
انتهت إلينا عن الفترة الأخيرة عن عصر الحاكم وعن تصرفاته الدينية ومؤازرته للدعاة السريين كما سنبين بعد
- 8 -
ولننتقل إلى ناحية أخرى من تصرفات الحاكم هي تصرفاته المالية. كان الحاكم بإجماع الرواية، جواداً وافر البذل، وكان كثير الزهد بالمال؛ وكانت الخلافة الفاطمية قد حققت في عهدها القصير من الأموال والثروات الطائلة من الجواهر والتحف الباذخة ما يفيض في وصفه المؤرخون المعاصرون بما يدهش ويبهر، وتكدس لدى الحاكم من الأموال والتحف ما يجل قدره ووصفه. ولكن الحاكم لم يغرق في تلك المظاهر الفخمة التي كانت تنثرها الخلافة الفاطمية من حولها؛ وكان يؤثر بطبيعته مظاهر الانكماش والبساطة، وكان خلافا للطغاة يعف عن مال الرعية، فإذا بدا له أن يصادر مال كبير مغضوب عليه فإنه يضيفه إلى الأموال العامة، وقد انشأ لذلك ديونا خاصا يسمى بالديوان (المفرد) تضاف إليه أموال من يقضى عليهم بالمصادرة؛ وقد ترد هذه الأموال إلى أصحابها متى زالت أسباب السخط عليهم؛ وقد تبقى نهائيا وتستعمل في الشؤون العامة
واشتهر الحاكم طوال عهده بالسخاء والبذل، وكان يسرف في العطاء أحياناً إلى حدود تهدد مالية الخزينة، وتثير اعتراض الوزراء ورجال الدولة؛ ومما يؤثر في ذلك أن أمين الأمناء الحسين ابن طاهر الوزان اعترض ذات مرة على إسراف الحاكم في الصلات والعطايا، وبلغ الحاكم اعتراضه وتوقفه في تنفيذ الأوامر، فبعث إليه بخطه في الثامن والعشرين من رمضان سنة 403 بهذه الرقعة المؤثرة:
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله كما هو أهله ومستحقه:
أصبحت لا أرجو ولا اتقي ... إلا إلهي وله الفضل
جدي نبيِّ، وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل
ما عندكم ينفذ، وما عند الله باق، والمال مال الله عزوجل، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام) وكان ذوو الحاجات يقصدون الحاكم أثناء طوافه، سواء بالنهار أو الليل، ويرفعون إليه حاجاتهم وظلاماتهم، فيقضي فيها بنفسه، ويقضي حاجات الكثيرين، ويثير العطايا على المحتاجين. بيد أنه لم يكن يخلو في ذلك من(96/14)
الشذوذ أيضا فيبخل أحياناً بأقل الصلات
وكان الحاكم يميل إلى التخفيف عن الشعب في أمر الضرائب فكان يرفع عنه أحياناً بعض المكوس حين الأزمات العامة؛ وقد يعيدها طبقا للظروف والأحوال؛ ولما فتحت دار الحكمة كان من رسومها أن يؤدي (المؤمنون) مال النجوى، وهو رسم اختياري ينفق من دخله على النقباء، وكانت تحصل أحياناً وتبطل أحياناً
- 9 -
إلى جانب هذا الجود الشامل، وهذا التعفف عن أموال الرعية، كان الحاكم يتمتع بخلة أخرى اجمع المؤرخون على الإشادة بها، تلك هي زهده وتقشفه في مظاهره العامة وفي حياته الخاصة، ثم تواضعه المؤثر واحتقاره للرسوم والألقاب الفخمة التي كان يحيطه بها ملك قوي وخلافة باذخة. وكان لأول حكمه قد أمر بمنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلا أمير المؤمنين وحده؛ ثم عاد فاصدر أوامره، بألا يقبل أحد له الأرض، ولا يقبل أحد ركابه ولا يده عند السلام عليه، إذ لا يجوز الانحناء إلى الأرض لمخلوق، وإنما هي بدعة من صنيع الروم لا يجمل أن يجيزها أمير المؤمنين؛ ويكفي في السلام الخلافي أن يقال: (السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته)، كذلك يجب ألا يصلى عليه أحد في مكاتبة ولا مخاطبة، بل يقتصر في ذلك على (سلام الله وتحياته ونوامي بركاته على أمير المؤمنين) ويدعي له بما تيسر من الدعاء فقط، وقد كانت الصلاة على أمير المؤمنين من أخص رسوم الخلافة الفاطمية، وكانت الإمامة عنوانها، وكان يصلى على الخليفة كما يصلى على النبي في الخطبة، وفي المكاتبات والمحادثات الرسمية. ولكن الحاكم ابطل هذه الرسوم ولم يقل الخطباء يوم الجمعة سوى: (اللهم صلي على محمد المصطفى، وسلم على أمير المؤمنين على المرتضى، اللهم وسلم على أمراء المؤمنين، آباء أمير المؤمنين، اللهم اجعل افضل سلامك على عبدك وخليفتك. . . الخ)، ومنع الحاكم أيضا ضرب الطبول والأبواق حول القصر، فصار الحرس يطوفون بلا طبل ولا أبواق. وركب الحاكم يوم عيد الفطر (403هـ) إلى المصلى بلا زينة ولا جنائب ولا موكب فخم، واكتفى بأفراس عليها سرج ولجم محلاة بفضة خفيفة، وبنود ساذجة، ومظلة خلافية بيضاء بلا ذهب، يرتدي البياض بلا حلية ولا ذهب، وعمامة دون جوهر، ولم يفرش المنبر، ولم(96/15)
تتخذ بالمسجد أهبات غير عادية، وركب إلى الصلاة في عيد الأضحى على هذا المنوال البسيط
وكانت هذه النزعة إلى البساطة تسود معظم المواكب والاستقبالات الرسمية. وكان الحاكم يركب في المدينة في ابسط المظاهر الديمقراطية التي تذكرنا بديمقراطية المسلمين الأوائل؛ فيرتدي ثيابا بسيطة، أو يرتدي دارعة صوف بيضاء ويتعمم بفوطة وفي رجله حذاء عربي ساذج، وقد يركب فرسا بلا زينة أو حمارا، وفي أحيان قليلة يركب محفة يحملها الرجال، وعشارية تشق به النيل؛ وكان اغلب طوافه بالقاهرة على الحمير دون موكب ولا ضجة، لا يصحبه من الحشم سوى بضعة من الركابية؛ وكان كثير الاتصال بالشعب فكان القصر مفتح الأبواب للمتظلمين وذوي الحاجات؛ وكان يستمع إليهم أثناء طوافه وينظر في مطالبهم كما قدمنا
وأما عن حياة الحاكم الخاصة فلم تصلنا سوى لمحات ضئيلة؛ ولكن لا ريب أنه كان يعيش بنفس البساطة التي كان يبدو بها في مظاهره الرسمية؛ وقد رأينا كيف اضطلع الحاكم بأعباء الحكم صبيا دون السادسة عشرة، وكيف أن انهماكه بالشؤون العامة منذ حداثته لم يترك له فرصة للانغماس في مجال اللهو والعبث التي يغرق فيها من كان في سنه وفي ظروفه؛ وقد كان الحاكم تحمله بلا ريب نزعة صوفية فلسفية؛ ذلك أنه كان يرى في التقشف مثله، ويحتقر متاع هذه الدنيا الدنيئة؛ ويرتفع عن مفاسد هذا المجتمع وعن غرائزه وشهواته النفسية الوضيعة. ولم يقل لنا أحد ممن كتبوا عن الحاكم، معاصرين أو متأخرين أنه كان يتصف بشيء من الرذائل الاجتماعية، بل تدل أقوالهم جميعا على أن هذا الطاغية الفيلسوف، كان نقيا في حياته الخاصة، بعيدا عن هذا الترف الناعم الذي يفت في الأجسام والأرواح القوية، متقشفا في مأكله وملبسه، حتى قيل أنه لبث أعواما يرتدي الصوف، وأنه امتنع عن دخول الحمام. والخلاصة إن هذه الشخصية العجيبة التي تقدم إلينا من نواحيها العامة في صورة مثيرة مروعة، تحملنا من نواحيها الخاصة على الإعجاب والاحترام بما تشف عنه من سمو ونقاه واحتقار للشهوات الإنسانية
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي(96/16)
المكتبات المدرسية والمتنقلة بإنجلترا
بقلم الأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
ليس في المدرسة الإنجليزية مكتبة واحدة فحسب، بل في كل فصل من فصول المدرسة مكتبة صغيرة للتلميذ، بها كتب مدرسية وأدبية تناسب المستوى العلمي للفصل، وبها مصورات جغرافية، وروايات تمثيلية، وكتب للمراجعة. ويقوم كل فصل بانتخاب أحد تلاميذه للعناية بالمكتبة، وهو مسؤول عن ترتيبها ونظامها، فيحضر الكتب منها وقت الحاجة إلى استعمالها، ويعيدها إلى مكانها بمساعدة بعض إخوانه بعد الانتهاء من الدرس
ولكل تلميذ الحق في أن يستعير من الكتب ما شاء لمدة معينة؛ بأن يذهب إلى دفتر الإعارة فيكتب فيه أسم الكتاب الذي استعاره، وأسم المؤلف، ورقم الكتاب، وتاريخ الاستعارة ثم يمضي. والأمانة سائدة بين التلاميذ، فحينما ينتهي التلميذ من قراءة الكتاب في المدة المعينة يعيده إلى موضعه في المكتبة، فلا يضع رقم (10) مثلا موضع رقم (105). وبهذه الوسيلة يتعود التلاميذ النظام، ويبث فيهم روح التعاون. وإذا لم يستعر أحد التلاميذ شيئا سأله مدرسه عن السبب، وكلفه بالاستعارة، ثم أختبره بعد الانتهاء من قراءة الكتاب في موضوعه، وسأله عن أحسن قطعة قرأها فيه، وأحسن رجل اعجب به؛ وبهذه الطريقة يضطر كل تلميذ إلى أن يستعير ويقرأ، ويشجع التلاميذ على البحث والاطلاع. وإذا اعتاد الفتى أن يقرأ كتابا في الخارج كل أسبوعين مثلا قرأ ما ينيف على العشرين كتابا في السنة، فتكثر معلوماته، ويشعر بحب الكتب من الصغر
وحبذا الأمر لو فكر كل مدرس لدينا في أخذ طلبته إلى مكتبة المدرسة، وشوقهم إلى القراءة والاطلاع، وفهمهم طريقة البحث في الكتب، وحثهم على الاستعارة والمطالعة في أوقات الفراغ
وزيادة على المكتبات المدرسية تجد في كل مدينة إنجليزية مكتبة عامة أو اكثر في المدن الكبيرة. وفي كل منزل إنجليزي مكتبة بها الكثير من الكتب الأدبية والعلمية والصحية، ويهدي لكل طفل إنجليزي كثير من الكتب التي تناسب سنه في يوم ميلاده وفي عيد الميلاد كذلك(96/18)
وقد تكون للطفل مكتبة خاصة به، وحجرة خاصة بلعبه أو مربى إذا كان من أسرة متوسطة أو غنية. ولا أبالغ إذا قلت إن الطفل في إنجلترا رجل صغير، قوي الملاحظة، كثير الآراء والأفكار الصائبة، فقد يقول لك قبل إن يرى المدرسة: إن هذا الفيل من الهند، ولو فقد هذا الجزء من السيارة لحدث كذا، وهذا الجزء من الطائرة أسمه كذا، ووظيفته (العلمية) كذا، ولقد حدث (لعلي بابا) في ألف ليلة وليلة كيت وكيت
المكتبات المتنقلة بإنجلترا
وهناك أيضا مكتبات متنقلة تنتقل من المدينة إلى القرية مثلا بوساطة سيارة معدة لان تكون مكتبة، تنقسم أربعة أقسام وهي: قسمان للروايات، وقسم للكتب العلمية المختلفة، والقسم الرابع خاص بكتب الأطفال. وتقوم هذه المكتبات بعمل جليل في نشر العلم، وإعطاء الفرصة لسكان القرى النائية الأطراف في أن يستعيروا ما يريدونه من الكتب للقراءة والاستفادة. وهي منتشرة الآن في جميع أنحاء إنجلترا
وتعد المكتبة المتنقلة فرعا من المكتبة العامة التي تمدها بما تحتاج إليه من الكتب. ويقوم بإدارتها موظف تابع لمدير المكتبة العامة. وفي (كنت) مثلا - وهي إحدى الضواحي التابعة للندن - مكتبة متنقلة أنشئت في نوفمبر سنة 1921 وبها نحو 150 ألف كتاب للأستعارة، يستعيرها القراء بالتناوب، ويتداولونها بينهم وأحدا بعد الأخر؛ في سنة 1930 قد بلغ المستعيرون من هذه المكتبة 1223000 وهذا العدد يدل على كثرة الإقبال على القراءة، وعلى أن إنجلترا من اكثر الأمم حباً للقراءة، فلا تركب قطارا أو سيارة عامة إلا وتجد في أيدي كل فرد صحيفة، أو مجلة أو كتابا. فالمكتبة المتنقلة قد سدت فراغا كان الناس يشعرون بالحاجة إلى ملئه منذ زمن ليس بالقصير. وفي (كنت) سيارتان تملأن من المكتبة الرئيسية العامة بها، ثم تزوران كل قرية في تلك الجهة مرتين أو ثلاث مرات في السنة، وقبل قيام المكتبة من (كنت) وهي المركز الرئيسي في تلك الجهة يخبر القائم بأمور المكتبة في القرية بوقت وصول السيارتين إليها حتى يستطيع استدعاء عدد كبير من المستعيرين للمساعدة في اختيار المجموعة الجديدة من الكتب، ورد ما يمكن رده من المجموعة القديمة التي كانوا قد استعاروها من قبل. وينتهي الأمر وهو رد الكتب القديمة، وأخذ كتب أخرى بدلها في نحو ساعة من الزمن(96/19)
وكتب الأطفال في المكتبات المتنقلة اقل من كتب غيرهم من القراء. وحب القراءة مشاهد لدى كل طفل، وبخاصة قراءة القصص والحوادث. ومن الصعب أن تشبع رغبات الأطفال في الحكايات وقراءتها. وليس في هذه المكتبات من الكتب ما يكفي كل الأطفال، ففي (كنت) مثلا 75666 طفلا في المدارس الأولية، وليس في قسم الأطفال بالمكتبات إلا نحو 32 ألف كتاب، ولذا يضطر رؤساء المكتبات إلى جعل الاستعارة خاصة بمن تبلغ سنه 12 سنة. ويقص الرؤساء أحياناً بعض الحكايات المحزنة لرفض مطالب كثيرين من صغار الأطفال، ثمة بأنه كلما كان الكتاب جميل المنظر، جيد الطبع، كثرت عنايتهم به. ولا يزال الكتاب لدى الطفل القروي شيئا ثمينا. فالمكتبات المتنقلة والمدرسية والعامة تقوم بخدمة جليلة للتلاميذ وغيرهم ممن يحبون القراءة، ويجدون مسرة فيها
ودور الكتب العامة مملوءة بالقراء. وهناك نوع من المكتبات التجارية التي تخصص قسما منها للإعارة نظير دفع اشتراك سنوي يسير. فلدى كل فرد صغير أو كبير، غني أو فقير، الفرصة في أن يجد ما يريده من الكتب، من أي نوع من الأنواع
وفي وصف الكتاب وفوائد الكتب، قال نابغة العرب، وأديب العلماء، والعالم بين الأدباء (أبو عثمان عمرو الجاحظ) (الكتاب وعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظرفا، وبستان يحمل في ردن، وروضة تقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء.) وقال: (. . . . . . ولا اعلم نتاجا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع بين التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب)
ودخل الرشيد على المأمون وهو ينظر في كتاب، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب يشحذ الفكرة ويحسن العشرة، فقال: الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه اكثر مما يرى بعين جسمه
وقيل لبعض العلماء: ما بلغ من سرورك بأدبك وكتبك؟ فقال: هي إن خلوتي لذتي، وان اهتممت سلوتي، وإن قلت أن زهر البستان ونور الجنان يجلوان البصر، ويمتعان بحسنهما الألحاظ، فإن بستان الكتب يجلو العقل، ويشحذ الذهن، ويحيي القلوب، ويقوي القريحة، ويعين الطبيعة، ويبعث نتائج العقول، ويستثير دفائن القلوب، ويمتع في الخلوة، ويؤنس في الوحشة، ويضحك بنوادره، ويسر بغرائبه، ويفيد ولا يستفيد، ويعطي ولا يأخذ، ونصل لذته(96/20)
إلى القلب، من غير سامة تدركك، ولا مشقة تعرض لك
وفي الكتب العربية آيات بينات عن الكتب وفوائدها، شعرا ونثرا فليرجع إليها من أراد الزيادة
محمد عطية الأبراشي(96/21)
قصيدة شوقي
في جلالة الملك فيصل
بقلم الأستاذ حسين الظريفي
لما اعتزم مغني مصر الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب السفر إلى العراق عام 1932، رأى المغفور له شاعر الضاد وأمير الشعراء أحمد شوقي بك، ألا يدع الفرصة تفوت دون أن يملأها بما يريد، فألف قصيدته الخالدة التي أثنى فيها الثناء الجم على أمة العراق وملكه ساكن الجنان فيصل الأول
وقد انشد الأستاذ القصيدة على مسرح المعرض الذي أقيم في بغداد في السنة المذكورة، وانشدها أمام الملك في قصره في حضور رجال الدولة وكبار الساسة وأعيان البلد وجمهور المستمعين من شتى الطبقات. ثم رأينا مكروفون المذياع وأبواق الحاكي تعيد لنا ما أبدع به محمد عبد الوهاب على مسرح المعرض حتى شاعت القصيدة وذاعت على الأفواه. والذي نريد إثباته في هذه الفرصة هو أن مطلع القصيدة وبيتا أخر قد كثر حولهما كلام الناس في بغداد. وأنتقدهما غير واحد من الشعراء، وكان اكثر هؤلاء المنتقدين - على ما اعتقد - يجهلون معنى البيت جهلا تاما، وبهذا الجهل انحدروا إلى التهجم على شاعرية شوقي، وهو الشاعر الفرد الذي أضاف إلى لغة الضاد مادة جديدة من معانيه المبتكرة. وأنتقل بالشعر في بعض مواقفه من عالم الطبيعة إلى ما وراءها، حيث تجتمع الفلسفة والشعر الرفيع في نقطة واحدة
ولذلك أحببت أن اعرض رأيي الخاص فيما يجب أن يحمل عليه البيتان. وأولهما هو مطلع القصيدة:
يا شراعاً وراء دجلة يجري ... في دموعي، تجنبتك العوادي
وقد رأى كثير من الشعراء والأدباء، أن المخاطب بهذا البيت هو جلالة الملك فيصل، والحقيقة أن الخطاب إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب، لعدم امكان حمله على غيره، ولدلالة الأبيات التي تلي هذا البيت، وهي:
سر على الماء كالمسيح رويداً ... واجر في اليم كالشعاع الهادي
وائت قاعا كرفرف الخلد طيبا ... أو كفردوسه بشاشة وادي(96/22)
وقد شبه الشاعر - محمداً - بالشراع لما شاع وذاع من أمر غنائه في البلاد، وهو تشبيه يمت بصلة قوية إلى التشبيه بالعلم بمعنى الجبل كقول الخنساء في أخيها صخر - كأنه علم في رأسه نار - وأراد بقوله وراء دجلة - بقصد دجلة. وذلك عند اعتزام المغني السفر إلى العراق
ولما كان محمد عبد الوهاب دائم التغريد بما يؤلف له شوقي بك من قطع الشعر والقصائد، وكانت أكثرية هذه القصائد تعج بلواعج الهوى بحيث تحمل دموع الشاعر الغزيرة من أثر الحب فيه، جعل الشراع جاريا في هذه الدموع، بإنشاد المغني قصائد الشاعر. فكأن شوقي يقول: يا من اعتزم السفر إلى العراق وهو كأنه الشراع في الشهرة، مرتلا قصائدي التي هي كالدموع في الهوى، وهو يجري فيها كالشراع - تجنبتك العوادي - وحفظك الله من كل مكروه
وهذا البيت ولا ريب من انبغ الشعر، وهو ابن العبقرية التي اصبح فيها لشوقي الخلود، وللغة الضاد التيه والفخر
وأما البيت الثاني فقوله:
قف تمهل، وخذ أماناً لقلبي ... من عيون المها وراء السواد
والمخاطب فيه محمد عبد الوهاب أيضا، والسواد هو العراق من قولهم - أرض السواد - ولا يمكن أن يحمل المعنى على أن الظباء كائنة وراء العراق، إذ لا يمكن أن يكون هذا قصد الشاعر، وإلا فسد عليه المعنى، ولأن سائر أبيات القصيدة إنما تبحث عن العراق وملكه وساكنيه، وقد ذهب إلى هذا التفسير الباطل كثير من الشعراء والأدباء، اغترارا بظاهر اللفظ مع أن الواقع خلاف ما يدعون. وزعم قوم أن المراد بالسواد هنا - سواد العيون - وبهذا التفسير يختل معنى البيت ويبقى مهملا لا يشير إلى شيء
وادعى آخرون أن معنى البيت فاسد من اصله، وقالوا في تعليل الفساد أن لفظ البيت يؤدي إلى وصف الظباء خارج العراق، وذكر ذلك لا مكان له في القصيدة، مع أن هذا غير مقصود من الشاعر كما سبق ذكره، وبالنظر لروحية القصيدة ولظروف وضعها ولخواطرها المتسلسلة
وذهب غيرهم إلى حمل البيت على إرادة الحجاب بالسواد، كأن أعين الحساد تستطيع(96/23)
التأثير على قلوب الناس، وهي متحجبات من وراء النقاب. وهذه مبالغة لم نر لها مثيلا في شعر شوقي، وقد يتجاوز هذا المفهوم حدود المبالغة إلى تكذيب الواقع له والذي أراه في هذا البيت، هو أن القادم إلى العراق إنما يرى منه السواد قبل كل شيء فيه، بالنظر لكثرة ما فيه من خمائل ومزارع ونخيل حتى عرف في التاريخ بهذا الاسم، وبذلك تكون الظباء وراء السواد بالنظر إلى القادم إليه، وهي في أثنائه في حقيقة الأمر الواقع. وهذا البيت ولاشك من وحي العبقرية أيضا، وفيه ابلغ ما تصل إليه رقة الشاعر في شعره
وإننا نجد المبرز في الشعر قد يرتفع في كل قصيدة من قصائده بالبيت أو البيتين أو الثلاثة أو ببضعة أبيات. ولكنه مع ارتفاعه هذا لا يغيب بشعره عن أعين القراء. غير أن شوقي قد شب في الشعر عن الطوق، وبذ زملائه الشعراء في كل بيت يرتفع فيه عن مستوى الشعر حتى يتواري فيه عن الأبصار. فلا تكاد تقع عليه إلا بعد الجهد الجهيد، ولا تنظر إليه إلا من بعيد كما ظهر لقراء الضاد في هذين البيتين، ونحن لا نشك في إن فهمهما يحتاج إلى مجهود عقلي كبير، وتلك ميزة النابغ من الشعر، تفرد بها شوقي عن شعراء جيله، وبها فضل الجميع
وهنا أود أن اذكر ملاحظة العالم النفسي الدكتور ناجي بك الأصيل حول شاعرية أحمد شوقي بك، قال الدكتور: على الجيل الحاضر أن يحدد شاعرية شوقي بك في المدى الذي بلغت إليه، وإلا فإن الأجيال القادمة سوف تخطئ في تقديره. وعلل هذه الفكرة بأن هناك من الشعر لشوقي ما قاله وهو فيما وراء الشعور، ومع ما في هذه الفكرة من العلو والنضوج فإنها لا تأتلف والحقيقة. لان مثل هذه الأبيات التي يشير إليها الدكتور هي من وحي الإلهام، وقد قالها شوقي وهو في غيبوبة العبقرية وبها أستحق كل هذا التقدير من أبناء الضاد واصبح له فيها الخلود، ولا يمكن أن تحمل على أن شوقي قال ما لم يدر، أو أن شاعريته اقل من شعره، لان في ذلك المنطق المغلوط. ولعل الدكتور ينحرف في فكرته قليلا إلى القول بوجوب تحليل أبيات شوقي التي قالها في غيبوبة العبقرية، لئلا تفوت الأجيال القادمة بعض الدقائق النفسية التي يعرفها الجيل
هذا ما عنّ لي ذكره في هذين البيتين اللذين كثر حولهما القيل والقال ومن كان له فيهما شيء يقال فليأت بما عنده، إذ الحقيقة بنت البحث(96/24)
بغداد
حسين الظريفي
المحامي(96/25)
بين الدعاية والجد
القديس (تبريها)!!
قد يبدو غريبا أن نترجم لشخص لما يمض شهران على مولده، وأنه لغريب حقا، ولكن الذي دعانا إلى أن نكتب عنه وان نترجم له، هو أنه ولد ولم يلبث أن شب واكتهل وحصل على درجة القديسين، وغشى دور كثير من العظماء والأدباء والعلماء، وان لم يعرفه بعض أولئك الذين دخل عليهم دورهم
ولد القديس تبريها في شهر مارس سنة 1935م. وولد في مصر وفي بيئة عظيمة جدا إلى أقصى حدود العظمة. وهنا نستمهل القارئ برهة وجيزة نخرج فيها إلى موضوع أخر عرض لنا. ثم نعود إلى قديسنا العظيم
قرأت كتاب الدكتور هيكل (حياة محمد) من عنوانه إلى إمضاء الدكتور في أخر صفحة منه، وكنت أجد من السرور لقراءته ما ينسيني نفسي وما يتعلق بها من شؤون الحياة
وكانت تأخذني في كثير من مواقفه تلك الروعة العظيمة التي سورها المؤلف عند وفاة الرسول إذ يقول: (أستعيد الساعة صورة هذا المشهد الرهيب، فأراني شاخصاً له مأخوذاً به ممتلئ القلب من جلال هيبته أكاد لا أجد إلى الانصراف عنه سبيلاً)
فرغت من قراءة الكتاب وفي نفسي من الآثار لكثير من حوادثه ما في نفس الدكتور هيكل لوفاة الرسول
طفقت أقلب الصفحات الأخيرة من الكتاب عن غير قصد حتى وصلت من فهرس الأعلام إلى حرف التاء في صفحة 512 فوقف نظري عند أسم القديس (تبريها) فجعلت أستعيد في ذاكرتي ما قرأت فوجدتني لا اذكر هذا الاسم، ولا لأي شيء ورد ذكره، فأسفت على أن لم أع مما قرأت شيئاً
ثم رأيت أمام اسم القديس في الفهرس أن أسمه ورد في صفحة 43 من الكتاب، فرجعت إليها لأعرف ذلك الذي شرد عن ذهني، فإذا بي أجد في تلك الصفحة هذه العبارة:
(وإن الذين زاروا كنيسة القديس بطرس في رومية ورأوا قدم تمثال القديس تبريها قبلات عبادة المؤمنين، حتى لتضطر الكنيسة إلى تغييرها كلما انبرت ليعذرون أولئك الذين. . . . الخ)(96/26)
عندئذ فقد عرفت ما شرد عن ذهني، وعرفت ذلك القديس العظيم الذي ولد في مصر وفي مطبعة مصر
وعرفت أنه ولد على يد واضع فهرس الأعلام، وعرفت إن ذلك الواضع هو أبو ذلك القديس العظيم!!
أبو حجاج(96/27)
دين البادية
عن لامرتين
للأستاذ التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره
وأولئك الملاحون السابحون إلى الأبد على بحار من الرمال، قد أكسبهم الاعتياد أخلاقاً متشابهة، بمشاهدة مناظر متشابهة، وسكنى منازل متشابهة، وبنقلهم المستمر لخطوات متشابهة، في طرق ومسالك متشابهة، فسجاياهم على ذلك مشابهة لسجية البادية. أنهم لمتمسكون بدينهم تمسك اللانهاية بهم، وأحرار كحرية الفضاء المكشوف لهم؛ وجوالون تجوال الجواد الذي يقلهم، والناقة التي تحملهم، والقطيع الذي يتبعهم؛ وهم أجاويد مثل الخيمة المفتوحة أبداً لأخي الأسفار، أضلته مجاهل القفار؛ ومغاوير لهم جرأة المدين بحياته لقوة عضلاته، والمضطر للذود عن حريمه ومأواه، والدفاع عن مائة ومرعاه، من غزوات القبائل والغارات المداهمة؛ وهم بحكم العادة ميالون كالوحدة إلى الصمت، ومولعون بالحديث أحياناً شأن الإنسان الذي يلاقى بعد طوال الوحشة أخاه الإنسان فيحدثه عن كل شيء، ويستخبره عن كل شيء؛ وهم مفطورون على الشعر وعلى التأمل فطرة الليل والنهار، والكواكب والآفاق التي يقع عليها أبصارهم أبداً؛ وهم قصاص بارعون لاضطرارهم إلى قضاء ساعات الفراغ الطويلة في سرد الحكايات والأخبار والعجائب إما تحت الخيام أو حول الآبار تسلية للقلب من البلبال، وتزجية لساعات الفراغ والملال
إن من لم يكتحل بمشاهدة غروب الشمس في ضبابة حمراء من الجحيم يعكس نورها ذلك الرمل المنتشر ما بين النهرين، أو بلاد الكلدان، ومن لم يراقب طلوع الكواكب متهادية، ثم هبوطها في ليالي الشتاء على بحر محيط من الأثير الأزرق، اعمق من الفكرة التي تغوص فيه، وأصفى من ماء البحر في رأس الأرض المنتصب الذي يحول دون لآلائه والتجمد، ومن لم يسمع همس تلك النسمات المتوالية من ريح لم يتم في البادية سكونها، وكيف تهينم بصوت رخمه في المسامع مروره على تلك الروابي والهضاب، وعلى عذبات أوراق الاعشاب، ومن لم يطرح طرفه كل مطرحٍ في ذلك الفضاء الذي لا وراء بعده، والذي(96/28)
يغيب في الله افقه الرحيب، ومن لم يبصر في تلك الظلال الجانبية من الجمال الباركة كيف ترتسم صورها في أجواز السماء، وهي جامدة جمود تلك الصور الجانبية من ظلال تماثيل أبي الهول الصخرية على سود تلك الرمال المصرية، من كان هذا شأنه لا يحق له أن يحكم على ذلك العربي المنتجع لمواطن الماء والكلأ، ولا على ذلك السحر الذي يستهويه، وبقضاء الله الذي يرضيه
اجل إن تلك الارتسامات والحساسات، وما يعرو الإنسان في البادية من وساوس وهواجس لبعيدة المصدر بعدا يخيل معه للمرء أنها صادرة عن اللا نهاية نفسها، وان تلك الأنوار المنهمرة أمطاراً من النار على الروابي والبوادي، لم تنهمر قط على سطوح المدن والقرى، ولا تلوثت بالدخان المتصاعد من مداخن المساكن، وفي أناء الليل والنهار لا يحول بين الروح وصانعها حائل، فيشعر الإنسان لذلك بيد خفية لكنها ملموسة، هي يد الخالق على خلقه، ويبصر في كل لمحة تجلي الصانع خلال ذلك البحر من الضياء الذي يغمره، وفي حدود ذلك الأفق الذي يكتنفه من الغموض ما يخيل للمرء أن لا وراء بعده إلا المجهول، وفي ظلال الليالي تجوس الأبصار خلال الكواكب فتلحقها أو تسبقها إلى منازلها، فهي تشهد بدون حجاب ذلك النظام المحكم، بل ذلك الإتقان الناطق بكلمة الإيمان!
إن الدين وهذا الإيمان المستقر في الأرض منشؤه علم النجوم في بوادي كلدة، وإن الحروف التي يتألف منها الاسم الإلهي تقرأ بأبهر مبني واعمق معنى، وهي منقوشة على ألواح السماوات، وان المخيلة لتغتذي برؤى السماء ورقى الأضواء؛ وإن التجليات الخارقة الغيبية مع تجسيم الحقيقة بالأوهام، لا تزال منذ بدء العالم على حالها، والرجل المدثر برداء التقوى والإيمان لا يتأثر إلا بالانفعال الذي هو به جدير: اعني به انفعال اللانهاية والخلود
إن جميع العقائد لمنبعثة من تلك الخلوات منذ عهد الإله (الكوكب) مركز عوالم زرادشت، حتى (الله) رب محمد، ومنذ الإله المشرع (يهوه) موسى، حتى الإله (الكلمة) التي يبحث عنها متى سجا الليل رعاة بيت لحم
فالعربي (وهو السر المكنون كالسكون، والمتأمل كالليل، والمستوحش كالوحدة، والمصدق بالمعجزات كرقية السحر الخالدة يستنزل بها الوحي، ويسترق بها السمع)، له من قوة(96/29)
الحواس ما يدرك بها الله في الصحراء اكثر منا: إن حياته لعبادة أبدية، فهو لا يلهيه عن الخالق شيء، ورحابة البادية التي لا حد لها هي معبده والمحراب، فما كان لهذه الطبيعة أن تلتقي والإلحاد أبدا
أمع مثل هذه الطبيعة يتاح لبدوي أن يلحد يوما؟ خذوا أي زنديق من زنادقة الغرب، واقذفوا به بضع سنين إلى المشرق تجدوه لا يخرج منه إلا معافى من تلك العاهة الروحية: إن الإلحاد لا ينشأ إلا في الظلال، وفي مواطن الحرمان من التأمل والخيال، ومدن الغرب التي يصاب فيها المرء بدوار الرأس والخبال؛ إن الشمس لتستأصل شافة الكفر والإلحاد والشبهات، لان تلك السموم الباردة لا تنمو إلا في الظلمات؛ وإن ذلك الفضاء الرحب، وهو ملك البصر، ليمنح العربي من الشعور بكرامته ما هو اشد من البادية عنجهية، واكثر منها حرية، ذلك إن الجماعة تسحق الأفراد والوحدة تسمو بهم، والمنفرد يشعر بعظمته في كل حين، لأنه إنما يقيس نفسه بالنظر إلى عظمة الطبيعة وسعة سلطانها، لا إلى تلك القيمة العددية الخفية التي يمثلها بكيانه بين ظهراني جمهور لا يحصى من مدينة غاصة بأحيائها، وأمة كبيرة بوفرة أبنائها. إن هذا الشعور بالعظمة الذاتية ليجعل من الإنسان مخلوقا غير خليق بالصغار، وليحمله على آباء الضيم والعبودية؛ اجل إن العربي ليخضع لدينه ولرياسة الأسرة الإلهية، ولعادات السادات شريعة العرف المقدسة؛ ولكنه لا يخضع للقوة الغاشمة أبداً!
التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره(96/30)
فتح العرب للأندلس
بقلم فريد مصطفى عز الدين
في مدة قصيرة لا تتجاوز عقدين من السنين، ولا تساوي في حياة الأمم فترة من حياة الأفراد تمكن العرب من تدويخ إمبراطوريتين كانتا أعظم دول ذلك العهد. فاكتسحوا الإمبراطورية الفارسية وثلوا عرش أكاسرتها، وسودوا دينهم ولغتهم على سكانها، وكانوا في الوقت ذاته ينتزعون من الإمبراطورية البيزنطية ولاياتها الشرقية الواحدة تلو الأخرى. فدخلت سورية الكبرى ومصر، وطرابلس الغرب، وتونس والجزائر والمغرب الأقصى في دولتهم الفتية، وانضوى سكانها تحت راية القرآن والدين الحنيف
وكأني بالفاتحين وقد جثموا على الشاطئ الأفريقي، ورأوا قبالتهم الشاطئ الأوربي لا تفصلهم عنه إلا شقة ضيقة من الماء أخذتهم نشوة النصر والظفر، ووطنوا العزم الأكيد على تدويخه وان يمثلوا مع الأسبان الدور الذي مثلوه قبلا مع الفرس والرومان
كانت إسبانيا قبل الفتح العربي في حالة اضطراب وفوضى، تتنازعها الثورات والفتن. والعامل الأكبر في هذا التقلقل والاضطراب راجع إلى النظام الاجتماعي الفاسد الذي كان سائدا عندئذ في البلاد. فقد كان سكانها يقسمون إلى أربع طبقات هي:
1) الأشراف - 2) سكان المدن - 3) الفلاحون - 4) العبيد
أما الأشراف فكانوا أصحاب النفوذ والسيادة، غير أنهم انصرفوا في أخر عهدهم عن أمور الدولة إلى اللهو والبذخ والمجون.
وكان سكان المدن - ومعظمهم يهود - يتحملون معظم الضرائب التي كانت عبئا ثقيلا على عاتقهم جعلتهم تواقين للخلاص من حالتهم الحاضرة. أما الفلاحون فكانوا وسطا بين الأحرار والعبيد، إذ أن التملك كان محرما عليهم إلا بإذن الشريف الذي يقعون في دائرة نفوذه، ولذا كان القليل النادر منهم ملاكا
وكان العبيد وهم اكثر السكان عددا يباعون كالسلع ويسامون من العذاب أشكالا وألواناً. فليس غريبا إذا أن يهربوا في بعض الأحايين من نير أسيادهم إلى الجبال والقفار، فيعتصموا بها وينعموا بالحرية المفقودة، ويعيشوا في البلاد فسادا انتقاما لحريتهم المسلوبة. وكانت هذه الحالة السيئة كافية لإزاحة الحكم الروماني عن هذه البلاد والتمهيد للقبائل(96/31)
البربرية الغازية.
كانت القبائل التي اكتسحت إسبانيا عديدة، منها (الفندال) و (الزواف) و (القوط). ولم يمض وقت طويل على تدفق البرابرة في إسبانيا، حتى ترك القوط القبائل الأخرى من البلاد، واستأثروا بالسلطة المطلقة. ثم بدأوا يأخذون بأساليب الحضارة المسيحية، وتمكنت الكنيسة الكاثوليكية من ضمهم إلى حظيرتها سنة 587، فاكتسب الكهنة مكانا ساميا في الدولة لا يقل خطرا عن مكان الأشراف، غير أنهم استثمروه لمنفعتهم الذاتية، فاقتنوا الضياع وبنوا القصور العظيمة ولم يلتفتوا إلى الطبقات الأخرى التي كانت تعاني أمر العيش وأبشعه مذاقا فيصلحوا أحوالها، بل اندفعوا في سبيل مآربهم الدنيوية، فاصبحوا عاملا أخر في زيادة الفساد والاضطراب
وقد خلق أيضا وجود اليهود في البلاد فسادا في الحكم، لأنهم كانوا في إسبانيا كما كانوا في غيرها طبقة مضطهدة مهيضة الجناح تنوء تحت عبء الذل والاحتقار، فكانوا صابرين في مضض على حالتهم السيئة، منتظرين بذاهب الصبر تغير الحال وزوال حكم القوط عن كواهلهم
حدث الفتح أثناء ولاية موسى بين نصير على أفريقية. وكان العرب يعنون بأفريقية تونس الخضراء والجزائر ومراكش، وتمكن موسى من فتح طنجة وهي من أعظم فرض المغرب وولي عليها طارق بن زياد ثم قفل راجعا إلى مدينة القيروان - التي بناها الفاتح العربي الكبير عقبة بن نافع في عهد معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول - تاركاً سبتة وهي المدينة الوحيدة التي لم تخضع لسلطان المسلمين في أفريقية
وكانت الفوضى - كالعادة - ضاربة إطنابها في إسبانيا. فإن أحد الأشراف ويدعي لذريق اغتصب الملك وطرد أبناء الملك غيطشة المتوفى من البلاد، فعبر هؤلاء البوغاز إلى الشاطئ الأفريقي وحاولوا الاستعانة بالعرب عن طريق يوليان حاكم سبتة، الذي كان على وداد مع العرب. فأجابهم يوليان إلى طلبهم وأخذ يحبب إلى العرب حرب لذريق. أما السبب الذي حدا يوليان إلى استنفار العرب على لذريق فشخصي محض، وذلك أنه أرسل ابنته - وكانت آية في الجمال - جريا على عادة أشراف القوط إلى القصر الملكي في إسبانيا لتتأدب، فرآها لذريق واستهواه جمالها الفتان، وما زال بها حتى أوقعها في حبائله(96/32)
وعبث بها. فلما علم والدها بالأمر استشاط غيظا وغضبا، وعز عليه أن ينتهك عرضه وشرفه على هذه الصورة القذرة، فاقسم على الانتقام من هاتك عرضه وملصق العار بجبينه، وأخذ يشوق العرب إلى فتح الأندلس
ولكن بعض المؤرخين يشكون في صحة هذه الرواية ويقولون إن السبب في قيام يوليان علي لذريق أن غيطشة ملك القوط المتوفى ساعده مرة على العرب فحفظ له يوليان هذا الجميل، ورأى من الواجب أن يساعده أبناء ولي نعمته على مغتصب ملك أبيهم، فطلب مساعدة العرب ظانا أنهم بعد أن يفتحوا البلاد ويوطدوا ملك أبناء غيطشة فيها يرجعون إلى أفريقية
كانت الغزوة الأولى غزوة استكشافية محضة غرضها درس حالة البلاد عن كثب، وذلك لان موسى بن نصير كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك - الخليفة الأموي السادس - يستشيره في أمر هذا الفتح، فأرسل إليه الخليفة العظيم أن يتريث ويستكشف الأحوال قبل الإقدام على أية مغامرة. فأمر موسى طارقا بإرسال قوة صغيرة إلى الأندلس لمعرفة أحوالها الحقيقية، فأنفذ طارق فصيلة مؤلفة من 400 مقاتل بقيادة مولاه طريف فنزلت في جنوبي الأندلس - الجزيرة - فكتب الله لها النجاح في مسعاها الدنيوي الديني، فشجع هذا النجاح موسى ابن نصير وعول على فتح الأندلس وسرعان ما حقق غايته
فأرسل قوة كبيرة بقيادة البطل الفاتح طارق بن زياد مؤلفة من البربر والموالي وقليل من العرب، فعبروا مضيق جبل طارق وفتحوا الجزيرة ثم زحفوا شمالا نحو قرطبة، وكان لذريق عندئذ في الشمال يقاوم حملة من الإفرنج غزت حدود بلاده الشمالية ولكنه أسرع - حالما علم بقدوم المسلمين - وعاد إلى الجنوب على رأس جيش لجب عدده مائة الف مقاتل لصد تيار الفاتحين
فطلب طارق من موسى إمداده بالنجدات فأمده بخمسة آلاف مقاتل. وهناك في مكان جنوبي إشبيلية على نهر غواديلاثا التقى الجيشان فكان النصر حليف العرب، وذلك إن فرقة من الجيش القوطي موالية لأبناء غيطشة انسحبت من ميدان القتال فتضعضعت معنويات جيش القوط وتراخت عزائمهم فظفر بهم العرب وكان نصرهم نصرا مبينا. وتقول بعض الروايات العربية إن لذريق غرق في النهر، غير إن روايات أخرى تقول أنه بقي حيا إلى(96/33)
أن جاء موسى بن نصير الأندلس فهزمه في معركة فاصلة أودت بحياته
ثم قسم طارق جيشه إلى أربعة أقسام: قسم سار بقيادته إلى طليطلة، وقسم سار إلى قرطبة، وأخر سار إلى غرناطة، ورابع زحف إلى مالقا؛ وكان النصر حليفهم فاستولى كل قسم منهم على البلد الذي زحف عليه، وكانت الطبقات المضطهدة تساعد الجيش الزاحف وتمده بمعلومات قيمة عن جيوش العدو وترشده إلى أسهل الطرق وأقربها، وكان طارق يكافئ أعيان البلاد بتعيينهم حكاما على المناطق المفتوحة، ورأى الإسبانيون عندئذ أن غزوة العرب لم تكن مؤقتة يرجع العرب بعدها إلى أفريقية بل كانت دائمة لأنهم ذهبوا إلى إسبانيا ليبقوا فيها
وكان كثير من الأشراف قد فزعوا إلى الجبال بعد الانتصارات التي أحرزها العرب، فخاف طارق العاقبة وأرسل إلى موسى يستنجده. فعبأ موسى قوة عظيمة وعبر إلى الأندلس سنة 712 بعد ذهاب طارق إليها بسنة، واتبع خطة منظمة في الاستيلاء على البلاد. فكان ينظم كل مدينة يحتلها ويعدها لحكم عربي دائم. فاستولى على قرمونا وإشبيلية وسار توا إلى طليطلة فالتقى بطارق - وكان لقاؤهما جافا - ووحدا جبهتهما وانتصرا على جيش أسباني لجب، يقال إن لذريق كان يقوده، انتصارا حاسما، وافتتحا طليطلة مرة ثانية. وكانت آخرة لذريق في بطون أسماك نهر التاج
وفي سنة 713 سك موسى نقودا عربية في الأندلس، وظل يتوغل في هذه البلاد وينتقل من نصر إلى نصر إلى أن جاءه رسول الوليد يستدعيه إلى دمشق - عاصمة الإمبراطورية العربية - فغادر موسى الأندلس أسيفاً لأنه كان قد عزم على التوغل في بلاد الفرنجة حتى يصل إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية فيفتتحها ويسير منها إلى دمشق بعد أن يكون قد دوخ أوربا وأخضعها للخلافة الإسلامية وسطر أسمه في سجل الخالدين
ثم أستخلف موسى على الأندلس ابنه العزيز وعلى سبتة ابنه الثاني عبد الملك، وعلى أفريقية ثالث أبنائه عبد الله، وسار إلى العاصمة الأموية يصحبه طارق مثقلا بالغنائم، فوصلها بعد وفاة الوليد بن عبد الملك وقيام سليمان. وبالرغم مما قدمه لسليمان ابن عبد الملك من الغنائم لم يلق في عيني الخليفة حظوة، لان أخبار الأندلس وصلت إلى دار(96/34)
الخلافة مغالى فيها. فوجد سليمان إن ما جاء به موسى قليل رغم كثرته فاضطهده وسجنه. ولم يكن حظ طارق بأسعد من حظ زميله فناله بعض سخط أمير المؤمنين
وبقي موسى بن نصير في محبسه مدة قصيرة. ثم أطلق سراحه بعد أن شفع له القائد الكبير يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فسار إلى مكة المكرمة يحج البيت، غير أن المنية عاجلته وهو في طريقه إلى الديار المقدسة
أما ابنه الأكبر عبد العزيز فقد عمل على توطيد الحكم العربي في الأندلس بتزوجه من أرملة لذريق واستمالة القوط، ولكن مؤامرة دبرت لاغتياله بعد سنتين من ولايته؛ ويتهم بعض المؤرخين سليمان بتدبير المؤامرة، وتحريض أصحابها على الفتك بابن مدوخ الأندلسي. وهكذا كانت نهاية فاتحي الأندلس قتلاً وسجناً وتشريداً
فريد مصطفى عز الدين(96/35)
12 - قصة المكروب
كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: أثبت بستور أن الذي يخمر السكر فيحيله إلى كحول إنما هو خمائر كرية صغيرة تتزايد بالانشقاق. وان الذي يحيله إلى حامض اللبن هو مكروبات كالعصى. وأخترع بستور حساء من السكر وملح النشادر تتكاثر فيه هذه الأحياء بدل مرق اللحم ونقيع الحب. وقال للناس أن اللحم يفسد لان المكروب يناله، فتخرج منه بالتحلل روائح كريهة تحمل المرض والموت في طياتها. وأنه سيخوض في سبيل البحث غمار هذه الأوبئة لخير الإنسانية
- 4 -
وبذلك هيأ بستور المسرح لإجراء تجاربه الخطيرة. هيأه قبل إجرائها بزمن طويل. فوضع فيه المناظر ووزع فيه الستائر، ومازج وآلف بين الألوان، وأخفت الأنوار حيث وجب خفوتها، وأسطعها حيث يجمل سطوعها، فأثار بذلك طبيعة العلماء الباردة، فاستمعوا له بآذان مرهفة، وقلوب واجفة، انتظارا لدور البطولة الذي سيقوم به في القريب على أعينهم، حتى لكائني بهؤلاء الأساتذة الموقرين يسيرون في شوارع الحي اللاتيني العتيق، بين ربوعه الغبراء، رائحين في الإمساء إلى منازلهم، وقد ثارت ثائرتهم، والتهب خيالهم، فتمثلوا بستور يودعهم في حرقة وداع الفراق الذي لا أوبة له، ثم يوليهم ظهره، ويسير بقدم ثابتة، وصدر مفتوح، ورأس مرفوع، وانف وسيع، نحو تلك الروائح الكريهة قد حملت في طياتها جراثيم الموت وأسباب الهلاك. . .
في هذا فاق بستور صاحبنا لوفن هوك، وفي هذا آفاق أسبلنزاني كذلك. كان بستور يجيد(96/36)
التجربة، ولكنه كان كذلك يجيد عرضها على الناس والدعاية لها فيهم. أما العلماء فاضطربوا واشرأبو للمزيد من أنبائه، وأما البسطاء فاغتبطوا بصورة الخمائر التي أحلها واضحة في أذهانهم، تلك الخمائر التي تصنع لهم الخمر الذي هو شرابهم الأول في فرنسا، ولكنهم كذلك ارتاعوا لما تصوروا تلك المكروبات المعفنة ترفرف بها أجنحة الهواء من فوق رؤوسهم في سكون الليل، فتبذر فيهم أسباب الموت، وتفتح لهم أفواه القبور
وأجرى بستور تجارب غريبة طالت سنوات. تناول قوارير ووضع في بعضها شيئا من اللبن، ووضع في البعض الأخر شيئا من البول، ثم غطسها مدة في الماء الغالي، ثم ختم رقابها الدقيقة في النار، ثم أختزنها عدة سنين. وأخيرا فتحها ليثبت إن اللبن لم يتخثر، وأن البول لم يتغير، وان الهواء الذي علاهما في القبابات أحتفظ بكل أكسجنه أو كاد، فلا مكروب ولا فساد.
ثم أعاد التجربة على اللبن والبول مرة أخرى، ولم يغل القبابات، بل أذن للمكروبات أن تنمو وتتزايد فيهما. فلما فتح القوارير لم يجد اكسجينها، فإن المكروبات استخدمته فاستنفذته لتحرق به مادة البول واللبن وتحللهما لتتغذى بها. وعندئذ بسط بستور جناحين عظيمين وطار في سماء الخيال، فتمثل هذه الأرض العظيمة ليس بها مكروب واحد، وتمثل حيوانها يموت، في جو مليء بالأكسجين، ولكنه أكسجين عاجز في غيبة المكروب عن أكسدة هذه الحيوانات والنباتات، عاجز عن حرقها وتحليلها وتطهير الأرض منها. سمع السامعون من بستور ذلك فراعهم ما سمعوا، وجاء الليل، فتمثلت لهم مدينتهم في الأحلام، وقد خلت شوارعها من وقعة قدم أو قرعة حافر، من كل مظهر من مظاهر الحياة، إلا جثث اموات، ورمما سدت الطرقات لما أعوزتها المكروبات. قال بستور: إن عجلة الحياة لا تدور بغير مكروب
ولم يلبث بستور أن جاءه السؤال الذي جاء البحاث قبله، جاءه وجها لوجه يتطلب الجواب بلا مراوغة أو تسويف. ولم يكن بد من مجيئه أما اليوم واما غدا. وهو نفس السؤال الذي جاء أسبلنزاني من قبله فأثار من الفكاهة بينه وبين خصمائه ما أثار.
هذا هو السؤال البسيط، المفرط في بساطته، هذا السؤال المحير المفرط في تحييره: من أين تأتي المكروبات؟(96/37)
سأل بستور خصومه: (من أين تأتي هذه الخمائر؟ أنها تظهر في عصير العنب فتصيره خمرا أين كان من الأرض، وفي أية ساعة كان من الزمان. وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى التي تحمض اللبن، وتفسد الزبد في كل قدر أين وجد من مشارق الأرض ومغاربها، تلك الأحياء كيف مأتاها؟)
اعتقد بستور كما اعتقد أسبلنزاني، أن هذه المكروبات لا يمكن أن تأتي من مادة اللبن أو مادة الزبد، وهي ميتة لا روح فيها. واعتقد أنه لأبد لها من آباء. فترى من هذا أنه كان كاثوليكيا صميما. نعم لقد عاش بين الشكاكين ذوي العقول الراجحة على ضفة (السين) اليسرى في باريس، حيث لم يكن يذكر أسم الله إلا كما يذكر أسم (لينين) في بورصة نيويورك. ولكن هذا الشك لم ينل شيئا من عقيدة بستور. وكانت نظرية النشوء قد بدأت تشيع بين هؤلاء الشكاكين على أنها طراز للتفكير مستحب جديد. كانت أنشودة الكون العظمى تحكي لنا كيف بدأت الحياة مادة لا شكل لها ولا قوام، تخرج من حمأ وبخار، ثم تظل تتحول على ملايين السنين، فتتشكل في عدد عديد من الصور، وتمر في موكب حافل طويل من الاطوار، حتى تصل إلى طور القردة، وعندئذ تتمطى القردة فتصير رجالا تمشى على رأس هذه الخلائق. وقال الفلاسفة في شيء من يقين العلم ووثوق العلماء: أن هذا الاستعراض الهائل ليس بحاجة إلى إله يبدؤه، ولا إله يديره
وأجابهم بستور يقول: (أما فلسفتي أنا ففلسفة قلبي لا فلسفة عقولكم. فلسفتي تأتي من مثل هذا الشعور الذي يأتي بالسليقة إلى قلب المرء وقد جلس إلى سرير ولد عزيز عليه أخذ يجود في عسر بالبقية الباقية من أنفاسه. من مثل هذا الشعور أتعلم فلسفتي عن الوجود. وفي مثل هذه الدقائق الرهيبة أسمع أصداء تأتي من أعماق روحي تقول لي: (من يدريك، فلعل هذه الدنيا أكثر مما يزعمون، لعلها أكثر من مجموعة أحداث تأتي من توازن آلي يخرج من عماء العناصر بفعل قوى المادة وحدها).
لقد كان بستور رجلا تقياً نقياً
ولى بستور للفلسفة ظهره، وتوجه للعمل. واعتقد أن الخمائر، وأن العصى الحية، وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى إنما تأتي من الهواء. وتخيل الهواء مليئاً بتلك الخلائق التي لا ترى. بالطبع كان غيره من بحاث المكروب قد أثبتوا أن هذه الأحياء مأتاها من الهواء،(96/38)
ولكن بستور اصطنع أجهزة مركبة ضخمة لإثبات ما أثبتوه مرة أخرى. حشا أنبوبة من الزجاج بشيء من القطن، ثم أخرج أحد طرفيها من الشباك، ووصل الطرف الآخر داخل الغرفة بمضخة تجر الهواء، وشغلها حتى امتص نصف هواء الجنينة، ثم أنتزع القطن، وحاول أن يعد الأحياء التي احتبست عليه. واصطنع أجهزة أخرى غير أنيقة المنظر ليحمل سدادات القطن هذه بما عليها من المكروب إلى مثل هذا الحساء الذي كان نما فيه الخمائر ليعلم أيتكاثر هذا المكروب فيه. وأعاد تجربة أسبلنزاني القديمة، فأتى بقارورة مكورة، ووضع فيها بعض هذا الحساء وختم على رقابها بإساحتها في اللهب، ثم أغلاها دقائق، وامتحن حساءها من بعد ذلك فلم يجد فيه مكروباً أصلاً.
صاح به من كانوا لا يزالون يعتقدون في انبعاث الحياة من ذات نفسها، من غير آباء وأمهات. صاحوا به يقولون: (ولكنك يا هذا أغليت الحساء فأسخنت معه الهواء، وهذه الأحياء الصغيرة إنما تحيا في الهواء وهو على طبيعته من غير تسخين. وشركهم في صياحهم النشوئيون، والنباتيون المرتابون، والفلاسفة الملحدون، صاحوا من بين المداد والكتاب، لا من بين اللهب والقباب)
فاختلط الأمر على بستور حيناً، وحاول عدة طرائق ليجمع بين حساء مغلي، وبين هواء لم تنله النار بالتسخين، ومع هذا خلو من تلك الأحياء. وجاهد في أثناء ذلك ما استطاع أن يلبس وجهاً مطمئناً للأمراء والأساتذة وأرباب الصحف الذين أحاطوه عندئذ يترقبون المعجزات التي أوشكت أن تقع على يديه.
وكان أولو الأمر قد نقلوه من معمله الضيق ذي الفئران بسطح المكان، إلى بناء صغير يقع على أربع دقائق أو خمس من باب مدرسة النرمال، بناء يضيق بالخنازير الجينية التي تحتاجها معاهد البحث في الأيام الحاضرة. وفي هذا البناء الصغير قام بستور بجهاده الشهير ليثبت أنه لابد لكل حي مهما قل وحقر من آباء. وكان جهاداً بالتجربة الحاذقة، ولكنه كاد يتسفل أحياناً إلى نزاع كالذي ينشأ بين الغوغاء، فلا ينفض إلا بصفع الأقفية ولكم الوجوه. ودار بستور بادئ بدء يحتال للتجارب العديدة وينصب الأجهزة الكثيرة، فأبدل من تجاربه البسيطة الأولى تجارب مركبة، ومن أجهزته اليسيرة الأولى أجهزة صعبة معقدة، فكثر حجاجه وكثر كلمه، وقلت حجته وقل إقناعه. والحق أنه وقع في مأزق(96/39)
لم يجد منه مخلصاً
وذات يوم دخل عليه الأستاذ (بلارد) وهو في معمله، وكان (بلارد) في مبدأ حياته صيدلانياً، ثم اكتشف عنصر البروم على ذلك النضد البسيط الذي يركب عليه عقاقيره في تلك الحجرة الصغيرة بظاهر صيدليته، فذاع اسمه وكسب مدح العلماء، وتعين من اجل ذلك أستاذاً للكيمياء بباريس. ولم يكن أمالاً طموحاً، فلم يطمع في كشوف الدنيا كلها، فقنع بهذا الكشف الواحد، وهو لعمري نعم النتاج في حياة الفرد الواحد. ولكنه كان يحب أن يتشمم حوله ويتعرف كل ما يجري بجواره من بحوث
دخل (بلارد) الكسول على (بستور) وهو في ربكته فتحدث إليه، وكأني بك تسمعه يقول له: (تقول يا عزيزي إنك مرتبك، وإنك لا تستطيع الجمع بين الحساء المغلي وبين الهواء دون أن تظهر تلك الأحياء في الحساء. إذن فأستمع لي يا صديقي. نحن سوياً نعتقد أن هذه الأحياء لا تنبعث من ذات نفسها في الحساء، بل هي تقع فيه مع ما في الهواء من هباء، أليس كذلك؟)
فيقول بستور: (هذا حق، ولكن. . . .)
فيقاطعه بلارد: (صبراً، صبراً! أترى لو وضعت شيئاً من الحساء في قارورة، ثم أغليته، ثم صيرت فتحة القارورة بحيث تأذن للهواء بالدخول إلى الحساء، ولا تأذن لما فيه من تراب وهباء بالسقوط فيه. . .)
فيقول بستور: (وكيف ذلك)
فيجيب بلارد: (الأمر هين. خذ قارورة من قواريرك المستديرة، وضع الحساء فيها، ثم سيح رقبتها في اللهب ثم مطها حتى تستدق، ثم لين هذه الأنبوبة الدقيقة وأستدر بها متسفلاً، ثم لين طرفها وأستدر به متصاعداً حتى تصبح رقبة القارورة كرقبة الإوزة العراقية وقد غاصت بمنقرها في الماء لتلتقط منه شيئاً - حتى تصبح هكذا). ورسم بلارد شكلها. بلارد الذي نسي اليوم أمره
فيمعن بستور في الفكرة ثم يقول لما يرى حسن الحيلة في هذه التجربة الصغيرة: (بالطبع. بالطبع. الأمر واضح. فذرات التراب التي تحمل المكروب لا تسقط إلى أعلى. هذا ما تقصد إليه؟)(96/40)
فيبتسم بلارد ويقول له: (بالضبط. جربها وأخبرني بالذي يكون. وإلى اللقاء!) وتركه وذهب إلى معامله الكيميائية ليتمم فيها دورة يومه
وكان لبستور الآن صبية تغسل له القوارير وكان له أعوان، فأمرهم أن يسرعوا في تجهيز القبابات. وبعد زمن قليل كنت تسمع نفاخات اللهب تصم الأذان. وأقبل بستور على العمل في غير رفق ولا هوادة. فتناول القوارير ووضع بها الأحسية، ثم سحب رقابها ولواها كرقاب الإوز، ثم أغلاها فطرد بخار الماء كل هوائها، فلما بردها رجع هواء الجو فدخل فيها بارداً نقياً
فلما تجهزت القبابات حملها قبابة قبابة إلى محضنه الدافئ وكان تحت حنية السلم الضيقة فلم يصل إليه إلا مكفوءاً على يديه وركبتيه، على صورة يزيدك ضحكاً منها محاولته أن يحتفظ بوقاره فيها. وفي الصباح بكر إلى معمله. وفي لحظة اختفى تحت السلم إلى محضنه. وبعد نصف ساعة كنت تراه خارجاً من هذا الجحر يدب على أربع، وقد برقت عيناه بالسرور من وراء نظارته الندية. وقد حق له السرور، فإن القبابات ظلت جميعها رائقة، ولم يكن بها مكروب وأحد، وظلت على روقائها غداً وبعد غد. لقد نفعت حيلة (بلارد). وقد بطلت نظرية انبعاث الخلائق من ذات نفسها. (تجربتي هذه تجربة في الحق بديعة. وهي تثبت أنك تستطيع أن تترك في الهواء ما شئت من مرق أو حساء، على شريطة أن تغليه، وعلى شريطة أن يدخل الهواء إليه بعد الإغلاء من أنبوبة طويلة ضيقة ملتوية هذا الالتواء)
وعاد (بلادر) وابتسم لما أخذ بستور يصب على رأسه خبر التجربة صبا. قال بلارد: (لقد حسبت أنها تنجح، فإن القبابة عندما تأخذ في البرودة بعد الغلي، يأخذ الهواء يدخل إليها بترابه وهبائه ومكروبه، فتتصيدها جميعاً تلك الأنبوبة الطويلة الرفيعة بما عليها من البلل)
قال بستور: (ولكن كيف تثبت هذا؟)
قال بلارد: (الأمر هين. هات قبابة من هذه القبابات التي بقي حساؤها طاهراً رغم تدفئتها في المحضن أياماً، وأملها حتى يسيل حساؤها إلى الرقبة العوجاء، ثم رد الحساء إلى بطن القبابة حيث كان، ثم أرجعها إلى المحضن، فلن تلبث طويلاً حتى تتعكر بالملايين من المكروبات، هي نسل تلك التي احتبست في عنق القبابة البليل)(96/41)
فأجرى بستور هذه التجربة، فكانت كما قال صاحبه. وكان بعد هذا اجتماع، تزاحمت إليه بالمناكب علماء باريس وكتابها ومزاحها وفنانوها. وفي هذا الجمع شرح بستور تجاربه، وذكر ما كان لأعناق الإوز من الخطر، وذكر نظرية الانبعاث التلقائي.
ثم صاح: (والآن فلن تستطيع هذه النظرية قياماً بعد هذه الضربة القاتلة)
لو أن بلارد كان في هذا الجمع، إذن والله لصفق تصفيقاً شديداً مع المصفقين. كان بلارد من تلك الأنفس الطيبة السخية النادرة
(يتبع)
أحمد زكي(96/42)
21 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- ولكن ألست ترى أنك إنما تقرر هذا فعلاً حينما تقول إن الروح كانت موجودة قبل أن تأخذ صورة الإنسان وجسده، وأنها تألفت من عناصر لم يكن لها وجود بعد؟ فليس الانسجام شيئاً يشبه الروح كما تظن، وإنما القيثارة والأوتار والأصوات توجد أولاً في حالة من التنافر، فيجئ الانسجام بعد هذه جميعاً، ثم هو يسبقها جميعاً في الفناء. فكيف يمكن أن نلائم بين هذا الرأي في الروح وبين الرأي الآخر؟
أجاب سمياس: لا يمكن قطعاً
قال: ومع ذلك فينبغي بلا ريب أن يكون ثم انسجام، ما دام الانسجام هو موضوع الحديث
أجاب سمياس: ينبغي أن يكون
قال: ولكن ليس ثم انسجام بين هاتين القضيتين. إن المعرفة عبارة عن تذكر، وان الروح انسجام، فأيهما إذن تستبقي لنفسك؟
أجاب: إني لأحسبني يا سقراط أشد يقينا بأولاهما التي أقيم لي عليها الدليل الوافي، مني بالثانية التي لم ينهض عليها دليل قط، فليست ترتكز إلا على أسس من الظن والأستحسان، وأنا عليم علم اليقين أن هذه الأدلة التي تعتمد على الظنون مضللة، وهي خداعة ما لم يؤخذ عند استخدامها حذر شديد - هي خداعة في علم الهندسة وفي سائر الأشياء أيضا. أما نظرية المعرفة والتذكر فقد أقيم برهانها على أسس من اليقين، والبرهان هو أن الروح لابد كانت موجودة قبل أن تحل في الجسد، لأن الجوهر متعلق بها، ومجرد أسم الجوهر يقتضي الوجود، وما دمت قد ارتضيت هذه النتيجة بحق وعلى أسس وافية، كما أعتقد، فينبغي، فيما أظن، ألا أستطرد في الجدل، وألا أسمح لسواي أن يزعم بأن الروح هي عبارة عن انسجام
قال: دعني يا سمياس أبسط الموضوع من وجهة نظر أخرى: هل يمكن فيما تتصور أن(96/43)
يكون الانسجام أو أي مركب آخر، في حالة تختلف عن حالة العناصر التي تألف منها؟
- لا ولا ريب
- أم هل هو يفعل أو يعاني شيئاً غير الذي تفعله هي أو تعانيه؟
فوافق سمياس
- لأنه يستحيل على الانسجام أن يكون على شيء من الحركة أو الصوت أو أية صفة أخرى تكون مضادة للأجزاء.
فأجاب: يستحيل أن يكون ذلك
- أو ليس كل انسجام يتوقف على الحالة التي تنسجم فيها العناصر؟
قال: لست أفهم ما تقول
- أريد أن أقول أن الانسجام يقبل التدرج، فهو أكثر انسجاماً، وهو أقرب إلى الانسجام التام، حينما تدنو الأجزاء في تناسقها إلى التمام، إن أمكن لها ذلك. وهو أقل انسجاماً، وأبعد عن الانسجام التام، حينما تكون الأجزاء اقل تناسقاً.
- حقاً
ولكن هل تقبل الروح التدرج؟ أعني هل تكون الروح، ولو إلى أقل حد ممكن، أكثر أو أقل روحانية من غيرها، أو أبعد عن تمام الروحانية، أو أدنى إليه من روح أخرى؟
- لا يكون ذلك قطعاً
- ومع ذلك فقد يقال بحق إن روحاً تتصف بالذكاء والفضيلة وأنها خيرة؛ وأن روحا أخرى تتصف بالغباوة والرذيلة، وأنها شريرة: وحق هذا الذي يقال؟
- نعم هو حق
- ولكن ماذا يقول أولئك الذين يصرون على أن الروح انسجام، فيما رأيت من وجود الفضيلة والرذيلة في الروح؟ - أيقولون إن ثم انسجاماً آخر وتنافراً آخر، وإن الروح الفاضلة تكون منسجمةً، وما دامت هي نفسها انسجاما، ففي باطنا انسجام آخر، وان الروح الرذلة ليست منسجمة ولا يكون في باطنها انسجام؟
- أجاب سمياس: إني لا أحير جوابا، ولكني أحسب أن سيزعم أولئك الذين يأخذون بهذا الرأي شيئاً كهذا(96/44)
ونحن قد اتفقنا فيما سبق أن ليست روح أكثر روحانيةً من غيرها، وهذا الاتفاق يساوي الموافقة على أن الانسجام لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص، أي لا يكون أكمل ولا أنقص انسجاما
- جد صحيح
- وما لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص لا يكون أكثر ولا أقل تناسقاً!
- صحيح
- وما لا يكون أكثر ولا أقل تناسقاً لا يكون فيه من الانسجام أكثر ولا أقل، ولكنه دائماً مقدار متساو من الانسجام
- نعم هو الانسجام متساو
- فإذا لم تزد روح ولم تنقص في روحانيتها المجردة عن غيرها، فهي ليست أكثر ولا أقل انسجاما منها؟
- تماماً
- وعلى ذلك فليس فيها من الانسجام أو التنافر مقدار أكثر أو أقل؟
- ليس فيها ذلك
- ولما كان ما فيها من الانسجام أو التنافر ليس أقل ولا أكثر فلا يكون لروح من الرذيلة أو الفضيلة اكثر مما يكون لغيرها، على فرض أن الرذيلة تنافر، وان الفضيلة انسجام؟
- أنها لا تكون أكثر من غيرها أبداً
- وان توخينا يا سمياس في حديثنا دقة أكثر فلن يكون لروح أية رذيلة، إن كانت الروح انسجاما، لأنه ما دام الانسجام مطلقاً فهو لا يساهم في غير المنسجم؟
- لا
- وعلى ذلك فلا تقع رذيلة من روح هي روح مطلقة؟
- كيف يمكن، وفاقاً لما سبق من حديث، أن تقع منها الرذيلة؟
- وبناء على هذا إذن تكون أرواح الحيوانات جميعاً سواء في الخير ما دامت كلها متساوية ومطلقة في روحانيتها؟
فقال: إني موافقك يا سقراط(96/45)
فقال: وهل يمكن في ظنك أن يصدق كل هذا؟ أنسلم بهذه النتائج كلها - وهي مع ذلك ناتجة فيما ظهر من الزعم بأن الروح انسجام؟
فقال: كلا ولا ريب
قال: وأيضاً، أي عنصر بين الأشياء البشرية تراه مسيطراً، سوى الروح، والروح الحكيمة بنوع خاص؟ أترى بينها مثل ذلك العنصر؟
- حقاً أني لا أرى
وهل الروح على اتفاق مع رغبات الجسد، أم هي وإياها في خلاف؟ فمثلا عندما يكون الجسد ظمآن ساخناً، أفلا تصدف الروح بنا عن الشرب؟ وعندما يحس الجسد جوعاً، أفلا تصدفنا عن الأكل! وذلك وأحد فقط من عشرة آلاف من أمثلة التضاد بين الروح وبين أشياء الجسد
- جد صحيح
ولكن سبق منا اعتراف بأن الروح ما دامت انسجاماً، فلا يمكنها أن تنطق بإشارة لا تتفق مع الأوتار التي تألفت هي منها، من حيث حالات التوتر والاسترخاء والتموج وسائر المؤثرات، أنها تتبعها فقط، ولا تستطيع أن تقودها؟
فقال: نعم؛ إنا اعترفنا بذلك يقيناً
- ومع ذلك فلسنا نرى الآن أن الروح تفعل الضد تماماً - فهي تقود العناصر التي يظن أنها تتألف منها، وهي في معظم الأحوال تعارضها وتقهرها طيلة الحياة بكل ما أمكنها من سبل
وقد تكون معها أحياناً أشد عنفاً بأن ترغمها على آلام الأدوية والألعاب، ثم قد تعود فتكون وإياها أرق وداعة، وهي في ذلك تتهدد بل وتزجر الشهوات والعواطف والمخاوف، كأنما هي بذلك تتحدث إلى شئ غير نفسها، كما يصور لنا هوميروس أو ذيسيوس في الأوذيسة بهذه الكلمات:
لقد ضرب على صدره لكي يؤنب قلبه:
يا قلب صبراً، فيا طالما احتملت أسوأ من ذلك شراً)
أفتظن هوميروس قد تأثر حين سطر هذا بالفكرة القائلة إن الروح انسجام، وأن رغبات(96/46)
الجسد قمينة أن تسوقها، وإنه لم يكن يرى أنها هي التي بطبيعتها تسيطر على تلك الرغبات وتقودها، وأنها أمعن في الألوهية من أي انسجام؟
نعم يا سقراط، إني موافق جدا على ذلك
إذن فلن نصيب يا صاح في قولنا أن الروح انسجام، لان في ذلك تناقضا ظاهرا مع هوميروس الإلهي، كما أنه متناقض وإيانا
- فقال: حقا
(يتبع)
زكي نجيب محمود(96/47)
2 - شاعرنا العالمي
أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
أبو العتاهية وبشار وأبو نواس:
هؤلاء هم الشعراء الثلاثة الذين كانوا أعلام هذه الثورة في الشعر، قضوا فيها على طريقته القديمة التي مضت في عصر بني مروان على جاهليتها العربية، لا تفكر في تجديد، ولا تنظر إلى ما حدث في العرب من أحداث دينية وسياسية واجتماعية، خلقت منهم أمة جديدة، وشعباً يتألف من أجناس مختلفة، وله نظر جديد في الأدب يخالف نظر أولئك العرب الخلص، وذوق أرقى من ذوقهم في الشعر والنثر. وقد بدأت هذه الثورة لينة هادئة في بشار بن برد، شديدة لا تبلغ درجة العنف في الحسن بن هانئ (أبي نواس)، شديدة عنيفة في إسماعيل بن القاسم (أبي العتاهية)
وكان مظهر هذه الثورة في أربع نواح من الشعر:
(1) ألفاظ الشعر التي انتهت ثورتهم فيها إلى نقل الشعر إلى ألفاظ العربية الحضرية، وهجر ألفاظها البدوية الخشنة؛ وإذا قلنا ألفاظ الشعر فإنا نعني بذلك ما يشمل معانيه، لأن التجديد في الألفاظ يستدعي التجديد في المعاني حتما حتى يتلاءم أمرهما، وتتناسب رقة المعاني وجمالها مع رقة الألفاظ وصقلها
(2) طريقة الشعر ومذهبهم في ترتيب القصائد من مطالعها إلى مقاطعها
(3) أغراض الشعر ومقاصده
(4) أوزانه وقوافيه
فأما ألفاظ الشعر فقد اشترك الشعراء الثلاثة في تلك الحركة التي انتهت بنقلها من البداوة إلى الحضارة، وكان بشار أول من بدأ بذلك وفعله عن قصد إليه يحقق فيه معنى تلك الثورة، فإنها لا تكون إلا عن قصد، ولا تثبت بالاعتباط والمصادفة، ولكنه لم يصل في ذلك إلى غاية هذه الحركة، لأنه نشأ متقدماً على أبي العتاهية وأبي نواس، وقضى شطراً كبيراً من عمره يأخذه بطريقته الجديدة وحده، وشعراء العصر المرواني يحيطون به من هنا(96/48)
وهناك، ويعيبون عليه تلك الطريقة التي يأخذ بها، ويرمونه بالقصور والعجز عن اللحاق بالفحول، فيؤثر هذا فيه بعض التأثير ويمسكه عن الغلو في طريقته والاندفاع فيها، ويجعله يأخذ أحياناً في تقليد أولئك الفحول، والأخذ بطريقتهم في الغريب، والتشادق بالألفاظ
وقد مدح رُؤبَةُ بن العَجّاج عُقبَةَ بن مسلم بأرجوزة من أراجيزه وبشار حاضر، فاستحسن ذلك من رؤبة. فقال له رؤبة: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ. وكان رجزهم في ذلك الوقت غاية ما وصلت إليه طريقتهم البدوية في إيثار الغريب والتشدد في اللفظ، فكان هذا سبباً في إنشاء بشار أرجوزته في مدح عقبة بن مسلم:
يا طَلَلَ الحي بذات الصّمْد ... بالله خبّرْ كيف كنت بعدي
أحسنت من رعد وتِرْبِ رعد ... سقيا لأسماء ابنة الأشد
قامت تُرَائيِ إذا رأتني وحدي ... كالشمس تحت الزِّبرِجِ المنقد
إلى أن قال في مدح عقبة:
أسلم وحييت أبا الْمِلَدّ ... مفتاح باب الحدث المنسد
مشترك النَّيْل ورِيّ الزند ... أغر لَبّاس ثياب الحمد
لله أيامك في مَعَدّ ... وفي بني قحطان غير عد
كل أمرىء رهن بما يُؤَدّي ... ورب ذي تاج كريم الجد
كآل كِسرىَ وكآل بُردٍ ... أنكبُ جاف عن سبيل القصد
فصلته عن ماله والولد
وروى الأصمعي أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان بشاراً فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يوماً فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قُتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما، قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه مالا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ، فأنشدهما:
بَكِّرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان (إن ذاك النجاح) (بَكِّرا فالنجاح)(96/49)
كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: (إن ذاك النجاح) كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت (بَكِّرا فالنجاح) كان هذا من كلام المُوَلَّدين ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فَقَبَّل بين عينيه. وهذه القصة تعطينا أن طريقة بشار الجديدة (طريقة المولدين) كانت قد تقررت في ذلك الوقت، وصارت واضحة النهج، معروفة الأسلوب واللفظ، وتعطينا أن بشاراً كان لا يعدل عنها إلا لدواع نادرة تجعله يتكلف طريقة الأقدمين، ليثبت لهم قدرته عليها، وأنه يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد بعدم صلاحيتها، بعد انتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة، ومن خشونة العيش إلى لينه، ومن ظلمة الأمية إلى نور العلم، ولكنه كما قلنا لم يصل في تلك الطريقة إلى غايتها، ولم يبلغ بها إلى الدرجة التي وصلت إليها في شعر أبي نواس وأبي العتاهية، من تلك السهولة الممتنعة التي تقرب الشعر إلى الناس وتبعده عنهم، وتعتمد في ذلك على القدرة الشعرية الحق، لا على التشدق الذي يخفي وراءه من الضعف الشعري ما يخفي، ويوهم الناس أنهم لا يقدرون عليه، وهم لا يعجزهم منه إلا هذا التشدق وحده
وأما طريقة الشعر فلم يحدث فيها بشار حدثاً، بل مضى على ابتداء القصيد بالنسيب كما مضى عليه من قبله؛ وقد ثار أبو نواس على هذه الطريقة، وأخذ على الشعراء ابتداءهم القصيد بذكر الأطلال في عصر الحضارة والعيش المستقر، وبذكر هندا ودعدا بعد أن امتلأت القصور في عصرهم بمن لا يصح أن يجري معه ذكر لهند ودعد؛ وقد ذكروا لأبي نواس في تنديده بذلك قوله:
صفةُ الطلول بلاغة القِدْمِ ... فاجعل صفاتك لابنة الكرْمِ
وقوله:
لا تَبكِ ليلى ولا تَطرَبْ إلى هِندِ ... واشرب على الوردْ من حمراء كالوَرْدِ
وقوله:
سقياً لغير العلياء فالسّنَدِ ... وغير أطلال مَيّ بالجرَد
وقوله:
يا رَبْعُ شُغلَكَ إني عنك في شُغل ... لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي
وقوله:(96/50)
تبكي على طلل الماضين من أسَد ... لا دَرّ دَرُّكَ قل لي من بنو أسد
لا جَفّ دمع الذي يبكي على حجر ... ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
وهذه ثورة على القديم حقاً، ثورة تفتن بعض دعاة التجديد في عصرنا، ولكنها عندي ليست هي الثورة الصحيحة التي يجدر بها أسم الثورة، وتستحق أن تدعى تجديداً في الأدب، وإنما هي ثورة شعوبية عابثة، ولا فرق بين ابتداء القصيد بالنسيب وابتدائها بوصف ابنة العنب، بل ربما يكون ابتدائها بالنسيب أروح عند النفس، وأخف في السمع؛ وإنما التجديد في ذلك ما سبق به شاعر بني مروان العظيم: الكميت ابن زيد الأسدي، وهذا في هاشمياته التي أنشأها في مدح بني هاشم والدعاية لهم في ذلك العصر، وكانت أول شعر قاله فسترها ثم جاء الفرزدق فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، فقال له: صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك؟ قال له: نُفِثَ على لساني فقلت شعراً أحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ، فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك فأنشد ماقلت، فأنشده:
طرِبُت وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ
قال: فيم تطرب يا ابن أخي؟ قال:
ولا لعباً مني وذو الشوق يلعب
قال: بلى يا ابن أخي - قال:
ولم يُلهني دار ولا رسم منزل ... ولم يتطربني بَنانٌ مُخضَّب
قال: وما يطربك يا ابن أخي؟ قال:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حَوّاَء والخير يطلب
قال: ويحك من هؤلاء؟ قال:
إلى النفر البيض الذي بحبهم ... إلى الله فيما نابني أتقرب
قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:
بني هاشم رهط النبي فإنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مَوَدّةً ... إلى كنفٍ عِطافهُ أهل ومرحب(96/51)
وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مِجَنَّا على أني أُذَمُّ وأُقصب
وأُرْمَى وأرْمِي بالعداوة أهلها ... وإني لأْوذَى فيهمُ وأُؤنب
فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقى؛ وفي رواية أخرى أنه قال له: قد طربت إلى شئ ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه
فهذا هو التجديد الصحيح في مطلع القصيد، لا ابتداؤه بوصف الخمر بدل النسيب كما أراد ذلك أبو نواس، فكل منهما غرض مستقل من أغراض الشعر، والتمهيد به لغيره من الأغراض الشعرية تصنع قبيح، وتكلف مسترذل.
وقد سلم أبو العتاهية من هذا العبث في مطلع قصيده بعد أن أقلع فيما يأتي عن سنة شعراء عصره، وأخذ نفسه بالجد في الشعر وترك العبث واللهو فيه.
وأما أغراض الشعر فإن أبا العتاهية هو حامل راية التجديد فيها، وصاحب القدح المعلى في تذليل ذلك الشعر العربي الجامح للآداب الإسلامية العالية، والأخلاق الكريمة السامية، والمواعظ الحسنة النافعة، وما إلى ذلك مما يدخل في نشر الثقافة الإسلامية، واستخدام الشعر في الدعاية إليها، وأخذ الناس جميعاً بها، حتى تعلو كلمة الشعر عليهم أجمعين، ويكون الشعراء الحكام على الملوك والعظماء، ولا يكون الملوك والعظماء الحكام على الشعراء، ولقد نجح أبو العتاهية في ذلك أيما نجاح، وذاع شعره في الشرق والغرب، وطار به صيته عند الأدباء والعلماء والعظماء في سائر الأمم واللغات، وأدى بهذا كله رسالة الشعر في عصره أحسن تأدية. ولم يكن لبشار ولا لأبي نواس في ذلك أثر يصح أن نذكره، اللهم إلا بعض أبيات نادرة تأتي في أثناء القصيد على عادة غيرهما من الشعراء، وإلا قصيدة بشار في الدعاية لابراهيم بن عبد الله بن حسن حينما خرج على المنصور، وكان بشار من أشياعه، وهي قصيدة جليلة نعى فيه على المنصور قيام حكمه على الاستبداد بالرعية، ونصح إبراهيم أن يقيم حكمه على الشورى بأبياته المشهورة فيها:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم
على الملك الجبار يقتحم الردى ... ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوج ... عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم(96/52)
تقسم كسرى رهطه بسيوفهم ... وأمسى أبو العباس أحلام نائم
ومروان قد دارت على رأسه الرحى ... وكان لما أجرمت نزر الجرائم
فأصبحت تجرى سادراً في طريقهم ... ولا تتقي أشباه تلك النقائم
تجردت للإسلام تعفو سبيله ... وتعرى مطاه لليوث الضراغم
فما زلت حتى أستنصر الدين أهله ... فعاذوا عليك بالسيوف الصوارم
أقول لبسام عليه جلاله ... غدا أرحياً عاشقاً للمكارم
إذا بلغ الرأي المشورة فأستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف امسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وخل الهوينا للضعيف ولاتكن ... نؤوما فإن الحر ليس بنائم
وقد صرف بشار وأبو نواس شعرهما في العبث والمجون، وهتك الأعراض، والخروج على الدين والآداب، حتى ضج منهما الناس في عصرهما، وساءت في الناس سيرتهما. وأما أوزان الشعر وقوافيه فلم يكن لبشار ولا لأبي نواس أثر يذكر فيها، وأبو العتاهية هو الذي جدد في تلك الناحية أوزاناً ظريفة، واخترع فيها قوافي جديدة، ومضى فيها على نحو لم يسبقه إليه أحد من الأوائل، ولم يكن يدخل في العروض الذي عرف لعهده؛ وقد سئل من بعضهم هل تعرف العروض؟ فقال: أنا أكبر من العروض. وهذا جزاب له قيمته في بيان اعتداد هذا الشاعر بنفسه، وفي الدلالة على أنه كان يذهب في الثورة على القديم مذهباً لم يصل إليه بشار ولا أبو نواس ولا غيرهما من شعراء عصره.
وإنا نسوق له قولًا آخر له دلالته في ذلك أيضاً: روى أنه اجتمع مع سلم الخاسر فأنشده بعض أشعاره ثم قال له: كيف رأيتها؟ قال سلم: لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية، فقال له أبو العتاهية: والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها.
فإذا قسنا أبا العتاهية إلى بشار وأبي نواس فيما أحدثوه من التجديد في هذه النواحي التي هي أهم نواحي الشعر، وجدناه يربى فيها عليهما، ووجدنا أنه كان موفقاً فيما أحدثه من التجديد فيها كلها، ووجدنا أن بشار وأبا نواس لم يكن لهما تجديد يذكر إلا في الناحية الأولى وحدها، وخرجنا من ذلك كله بأن أبا العتاهية أولى منهما باسم الشاعر المجدد في(96/53)
هذا العصر.
عبد المتعال الصعيدي(96/54)
الرَّبيعْ
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
كل شيء هنا يغني ويحيا ... نغما ممتعا وشدواً عجيباً
يا حبيبي أفِقْ فقد ضحك الرَّو ... ضُ وأبدى جمالَهُ المحجوبَا
واستعادَ الوادِي الأنيسُ سَنَاهُ ... وبَنى الطيرُ عُشَّهُ المخروبَا
طربَ القلبُ فانتشى وَتغنّى ... وَمن الحبِّ أن أعيش طروبَا
وأنا الشاعرُ الذي يَغْمُرُ الأرْ ... واحَ ضحكا وما يريم كئيبا
في فُؤَادي اللهيف دَاءٌ قد اسْتَعْ ... صى وَجُرْحٌ يُمِضُّني تعذيبا
يا حبيبي دُنياكَ تَطْفَحُ بالحسْ ... نِ فَخُذْ للفُؤَادِ منها نصيبا
هاتِ نايَ الهوى وَقُمْ نَملأ الأك ... وانَ من سَكْرَةِ الغِنَاءِ ضُروبا
لا تُرَعْ فالحياةُ يومٌ وَيمضي ... لَيْسَ يُرْجى لطَيِفْهِ أن يَؤُوبَا
نَحن شَدْوُ الطُّيورِ يُصْغِي لنا الدَّهْ ... ر فَيُغرى باللحنِ حَتى يطيبا
يَذَرُ الهائمينَ في فرحةِ الحبِّ ... وَيصْفِيهمُ الوِدَادَ الخصِيبا
يحتَسونَ الحياةَ خمرةَ وَجْدٍ ... وَيَرَوْنَ الدُّنا من السُّكْرِ كوبَا
لهمُ الليلُ في حواشيهِ يحيَوْ ... نَ وَيَطْوُونَ جنحَهُ تشبيبا
نَهَبوا العُمْرَ واستباحوهُ لَهْواً ... واستطابوا الأسى وَلَذوا اللُّغوبَا
ضحِكُوا والحياةُ بِنْتُ التَّلَهِّي ... مَنَعَتْ مُحْجِماً وأعطَتْ طَلُوبا
يَسأمُ العَيشَ مَنْ يَبيت خَليَّا ... والشَّجِىُّ العميد ينسى الكُرُوبا
رُبَّ صَحْرَاَء طَوَّفَ الحبُّ فيها ... أزْهَرَتْ رَبْوَةً وَرَوْضاً عشيبا
نَضِرَ الغابُ ساحةً وتَجَلَّى ... رائعاً فِتنةَ العُيُونِ قَشيبا
هُوَذَا موكبٌ لآذارَ حُلوٌ ... يَتمشى على السُّهولِ لَعوبا
ملأ الأرضَ والسمَوات عِطراً ... وَنَفى الهمّ والضَّنى والشُّحُوبا
وعلى معطَفِ المُروجِ تراءتْ ... قُبَلٌ للرّبيعِ تَنْفَحُ طِيبا
تَجِدُ النفسُ في شذاها الأماني ... صُوَراً تُتْرِعُ الجَنانَ لَهيبا
تَغْمُرُ الرُّوحَ بالهَناَءةِ والصَّف ... وِ كما يَغمرُ الحبيبُ الحبيبا(96/55)
اليَواقيتُ في النَّواظرِ ذابت ... وَجَرى السِّحرُ بالضِّيَاءِ مَشوبا
جدولٌ يُلهِب القلوبَ غِناءً ... ظلَّ من موجهِ السنيِّ سكوبا
ألْمُسُ النُّورَ في تلاميعهِ الزُّهْ ... رِ وأشْتَفُّ روحُه المحبوبا
وأرَى العِطْرَ وهو هَيمْانُ في الدوْ ... حِ يُناجي في غصنهِ العندليبا
وأُحسُّ الحياةَ تَرْكُضُ في العُش ... بِ وتسرِي بينَ الحقولِ دبيبا
نَفَسٌ هامِسٌ وآخرُ شادٍ ... وَرُؤىً هَمَّ سحرُها أن يُجيبا
كلُّ شيءٍ هُنَا يُغَنِّي وَيحيا ... نَغماً ممتعاً وشدْوا عجيبا
هَاهُنا تَسْمَعُ الأناشيد أُذْني ... وترى العينُ في كَراها الغُيُوبا
ها هنا يَرْكنُ المحِبُّ إلى الأُن ... سِ وَيُغفى الفُؤَادُ إلا وجيبا
يا حبيبي أَفِقْ فَهَاذَاكَ طَيْرُ الْ ... حُبِّ قد أسْكَرَ الرُّبا تَطرِيبَا
تَترَاَءى له السمواتُ ألْحا ... ظاً وتبدُو الأرضُ الفضاءُ قلوبا
يا حبيبي طابَ الهوَى فاغْتَنِمْهُ ... لستَ عن جُرْحِهِ النَّدِيِّ غرِيبَا
لكَ من هذه الدِّغالِ ألِيفٌ ... يَتَصَبَّاكَ مُؤْنِساً وَرَقيبَا
غَنِّ في مِسْمَعي نشيداً رقيقاً ... وَاسْرِ في مُهجتي شُعاعاً رَطيبَا
وَدَعِ الحبَّ يَأْتَلِقْ في خيالي ... أُفُقاً ساحراً وَكَوْناً رَحيبَا
اطْعَنِ القلبَ يَنْفَجِرْ بالأغارِ ... يدِ ويملأُ هذا الفضاَء طُيُوبَا
لا تُضَمِّدْهُ يَذْكُ شوقاً وشَجواً ... وَاتَّرِكْ نارَه تشبُّ شُبُوبا
أوْقِدِ الحبَّ بالمدامعِ تَنْهَلُّ ... وبالوجدِ صارِخاً وَمُهيبا
لا تَخَفْ أنْ يَضِجَّ بالحبِّ مَأْوًى ... وَاخْشَ إمَّا أحْسَستَ منه نُضُوبا
صاغَهُ اللهُ للعَذابِ وللحبّ ... وأحياهُ بالدِّماءِ خَضِيبا
وَرياضٍ فيها العِشَاشُ تُغَنِّى ... فيذُوبُ الغِنَاءُ خمراً صَبِيبا
إن هذا الجمالَ يا قَلبُ نَهبٌ ... فابْتَدِرْ نخطَفِ السَّنا المنهوبا
إحْىَ لِلنُّورِ، للمسَرَّةِ، لِلشَّد ... وِ، وَخَلِّ الأسى وَخَلِّ النَّحِيبا
أنور العطار(96/56)
وحي عصفورة
أسطورة الخلود
بقلم أمجد الطرابلسي
مِلتُ إلى روضتي صَباحا ... مُضْطَرمَ الفِكرِ والشجُونِ
ألتمِسُ البِشْرَ والمِراحا ... في مَعرِضِ الحُسنِ والْفُتون
جلَستُ في ظِلِّها ونفْسي ... يَلهو بها جامِحُ الخَيالِ
أُسطِّرُ الحزْنَ فوْقَ طِرْسي ... مُستَوْحِياً رَوْعَةَ الجمالِ
سمِعتُ إذ ذاك صَوْتَ هَمْس ... أتْرَع نَفْسي أسًى وَشَكَّا
عُصفُورةٌ تلكَ فوْقَ رَأْسي ... تمعِنُ بينَ الْغصونِ ضِحكا
تقولُ: هيّا اغْنم الزَّمانا ... فما مَضى منْه لا يَعودُ
قُلتُ: أرَى عَيشَنا هَوانا ... وإنما هَمِّيَ الخلودُ
قالت: بلِ امْرَحِ وَعِشْ طَروبا ... ترجو خلوداً؟ وَما الخلودُ؟
قَصِيدةٌ تَسحَرُ القُلوبا ... أبدَعها شَاعِرٌ مَرِيد
كفَاكَ يا شَاعِري بُكاءً ... لا النَّوْحُ يُغْني ولا الغِنَاءُ
كيْفَ تُرَى تَفْهَمُ البَقاَء ... في عَالَمٍ رَمزهُ الفَناءُ؟
واعجباً! كلهمْ سكارى ... سعَوا إلى الخُلدِ في الفَيافي
وَطَوّفوا فَوْقَها حيَارَى ... وقبْرُهُم غايَةُ المطافِ
رأَوْا ظلاماً أزَالَ صبْحاً ... والدَّهر عفَّى على الجديدِ
والموتْ منْ خلْفهمْ مُلِحّا ... فأبدعوا فِتْنةَ الخُلودِ
أبعدَ أن تأْلفَ الرُّغاما ... وَتَبْتَلي وَحشَةَ اللحُودِ
وتَغْتدي في الثَّرَى رِمَامَا ... تَنعمُ يا صَاحِ بالخُلودِ؟
تَهْزَأُ بالموْتِ والفَناءِ؟ ... وهكذا الجدوَلُ الصغِيرُ
يَحلُمُ بالخُلدِ وَالبْقَاءِ ... وإنما طَبعُه المسِيرُ
يُرَتِّل اللَّحْنَ والنَّشيدا ... في مَوْلدِ اللَّيْلِ أو رَدَاهُ
يَرْجو لألْحَانِهِ خُلودا ... لا الَّلحْنُ يَبْقَى وَلا صَداه(96/57)
أَمعَنَ في سجْنِهِ أَنينَا ... وَوَدَّ لوْ يَغْمرُ الهضابا
وَضَجَّ في قَيْدهِ جنُونا ... يرِيدُ أنْ يُغْرِقَ السَّحابا!
سلْ زَهْرَةَ الأمسِ يا صَديقُ ... كيفَ خبا عِطْرُها الذَّكِيُّ؟
وأيْنَ منْ خدِّها بَرِيقُ ... مثل بَرِيقِ المَنى، بَهِيٌّ؟
أيْنَ أغانِيَّ في الغُصونِ ... أُرْسلُها في الفَضَاءِ وَهْنا؟
هَل حفِظَ الرَّوْضُ منْ لُحوني ... يا شَاعري مذْ هَتَفْتَ لَحْنا؟
أَيُّ بقَاءٍ وَأَيُّ خُلدٍ ... في عالَمٍ كنْهُهُ الزَّوَالُ؟
سَيمَّحِي الكَوْن بعدَ عَهدِ ... كما أمَّحَى واختَفَى خَيالُ. . . .
وَانْطَلَقت في الفَضَا المديدِ ... مُمعِنةً بالخُلودِ سُخْرا
تُنْشدُ أُسطورَةَ الخلودِ ... تُسمِعها العالَمينَ طُرّا
رَجعتُ من رَوْضتِي مهَاناً ... مضْطَرِمَ الفِكْرِ والشُّجُونِ
عُصفُورَةٌ تَفْهمُ الزَّمَانَا ... وَنحْنُ في غَمْرَةِ الظنُونِ
أمجد الطرابلسي(96/58)
من أدب السودان
فجرٌ في صحراء
بقلم التيجاني يوسف بشير
إملأِ الرُّوح من سناً قُدُسيِّ ... مبهَمٍ كالرُّؤى وَديعٍ رَضِيِّ
قمريّ كأنما سَكَبَ البَدْ ... رُ عليه من فيضهِ القَمرِيِّ
وَاغْمِرِ القَلْبَ في مُفاضٍ من الفْج ... ر وضيءٍ جَمِّ النَّدَى عبقرِيِّ
يَثِبُ الحُلْمُ حَوْلَ مَشْرَعِهِ السَّا ... جي وَيجري مع الضُّحى في أتيِّ
كم تَظَلُّ الرؤى به شارِعاتٍ ... في يَنابيعَ من جلالٍ ندِيِّ
يتلفَّفْنَ في جوانحَ بَيضا ... َء وَيَسحبْنَ من رِداء وضِيِّ
ويحومن سوما باسمات ... يتخففن من هموم العشي
ساحبَاتٍ على الكَنهوَرِ أصباَ ... غاً رقاقاً من واضحٍ وخفيِّ
ناسجاتٍ شَفَائفَ الأفُقِ الزَّا ... هِي بُروداً على الصباحِ السَّنيِّ
ذاب في الأفْقِ رافقاً فوق هامِ ال ... بيدِ يَهْمي على تُرى بدويِّ
يغسل النوْمَ من مضاجعٍ رُعيا ... نِ الصَّحاري ومضربِ القَرَوِيِّ
عجباً للجلالِ والحُسنِ ماجا ... في إطارَينِ فاتِرِ وقويِّ
ينسُجانِ الهوى من الفجر بُرْداً ... عُلُويَّا لشاعرٍ علويِّ
صَاحَ منْ رُوحهِ وكبَّرَ في أع ... مَاقِ دُنيَاهُ صَارِخاً كالصبيِّ
أفَهذَا الجَمَالُ يا رَبّ، هذَا الس ... حرُ، منْ أجلِ ذَلكَ الآدَميِّ؟
أم درمان - السودان
التيجاني يوسف بشير(96/59)
في الأدب الفرنسي المعاصر
رومان رولان
بقلم كامل
يطلع علينا رومان رولان بين وقت وآخر من أعماق عزلته في سويسرا بعيداً عن وطنه فرنسا بكتاب أو مقال جديد فيشعر من قرأ هذا الأديب العظيم بحنين زائد إلى قراءة هذا الكتاب أو هذا المقال. ذلك أن رومان رولان كاتب عالمي الفكر والعاطفة لا يكتب لأمة معينة ولا لشعب خاص، بل يكتب للعالم أجمع ناظراً إليه كأسرة إنسانية واحدة لا تمزقها حدود، ولا تفرقها لهجات، ولا تبذر بذور الحقد والضغينة في قلوب أعضائها فكرة الأجناس. لذا كان رومان رولان من أحب الكتاب المعاصرين إلى كل قلب رحيم ونفس واسعة الآفاق. وكتابه عن (مهاتما غاندي) يقربه إلى قلوبنا نحن الشرقيين لأنه وقف فيه موقف المدافع القوي عن الحركة الهندية وشعبها المجيد المهضوم، كاشفاً القناع عن فضائح الغرب وآثامه في قتل أمة عظيمة بلغت مئات الملايين والوقوف في وجهها بالالتجاء إلى البطش الخسيس حين تنهض مطالبة بحقها في الحياة
ولا عجب أن يبدو ذلك من رجل مثل رومان رولان لم تكد تعلن الحرب الكبرى - وكان وقتذاك في جنيف بسويسرا - حتى أخذ يكتب سلسلة مقالات ملتهبة بالعاطفة الإنسانية، مطالباً فيها بالمبادرة بحقن الدماء وعودة السلام وإنقاذ أرواح الشباب البريء الذي يلعب بعقله خطباء الشوارع مستغلين حرارة قلبه وسمو نفسه في سبيل جشع أصحاب مصانع السلاح ودجل رجال الحكومات. ولقد آثر رومان رولان عداء الرجعيين من أبناء وطنه والصحافة المادية المغرضة التي أثارت عليه الرأي العام الساذج في كل أمة مهما بلغ رقيها، آثر ذلك عن أن يتنازل عن حريته في الفكر والقول، عن إنسانيته التي هي ثروته الكبرى
ولد رومان رولان في بلدة كلاميسي في اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير عام 1866 من أسرة ريفية برجوازية عريقة القدم. وتعلم أولاً في البلدة التي ولد بها. ثم أنتقل إلى(96/60)
باريس عام 1886 حيث التحق بمدرسة النرمال العليا وفي عام 1889 نجح في امتحان (الأجريجاسيون) في التاريخ والفلسفة، وفي عام 1895 حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب برسالة قدمها عن (أصول المسرح الغنائي الحديث) وعين بعد ذلك أستاذاً لتاريخ الفن في مدرسة النرمال العليا، ثم عين أستاذاً في السربون حيث أدخل مادة (تاريخ الموسيقى) وبقي فيها حتى عام 1911.
ابتدأ رومان رولان حياته الأدبية بكتابة عدد كبير من القصص المسرحية، ولم يكن ذلك منه عفواً بل كان تنفيذاً لفكرة مختمرة في نفسه عن وجوب تجديد الفن المسرحي بالطريقة التي شرحها في سلسلة مقالاته التي كتبها بعنوان (مسرح الشعب) (1900).
كتب رومان رولان من هذه القصص المسرحية (1897) - (1898) - (1898) - (1899) - (1900) - 14 (1902) - (1902) - (1904) (1905) (1917) - (1919).
وفي مقالاته عن (مسرح الشعب) نادى رومان رولان بان يكون المسرح متحرراً من برجوازيته أي من اقتصاره على رسم ألوان الحياة الدائرة بين الطبقات الوسطى والغنية، لأن هذه الطبقات لا تكون إلا جزءاً ضئيلاً من الأمة. فاقتصار موضوعات الكتاب المسرحيين عليها يحرم المسرح من أن يكون معبراً عن روح الشعب الحقيقية وآماله التي لا نلمسها إلا في الطبقات الفقيرة وهي الكثرة في كل شعب. كذلك هاجم رومان رولان المسرح الكلاسيكي والمسرح الرومانتيكي داعياً إلى أن يكون الفن المسرحي صدى لتفكير العصر الذي نعيش فيه، وأن يكون ممهداً الطريق لمجتمع جديد. وبرغم أن رومان رولان بقي حتى الحرب الكبرى لا يعلن فكرته السياسية المحددة، فإن كل كتبه كانت تفيض بتمجيد الحرية والأحرار وبنزعة إنسانية عظمى. ولقد كان هذا المجتمع الجديد الذي يرمي إلى التمهيد له هو ذلك الذي تحيا فيه الطبقات الفقيرة المهضومة حياة حرة كريمة، ونجد بين أحضانه أكبر قدر من الحنان والتقدير.
على أننا ونحن في انتظار ذلك اليوم المطوي في ثنايا الغيب يرى رومان رولان وجوب أن نعد الشعب لنقبل ذلك المجتمع الجديد، وما ذلك إلا بأن نهيء الفرد لبلوغ أعظم درجة مستطاعة من الكمال الإنساني حتى يقابل كل تطور جديد بقلب مفتوح وصبر جميل. ولذا(96/61)
نرى رومان رولان (أخلاقيا) يطالب الفرد بأن يكون قوي الخلق عظيم النفس، حنون القلب محبا لكل الناس، راغباً في معرفة كل شيء، مستعذباً التضحية في سبيل الفكرة السامية. فبهذا وحده نستطيع أن نقبل راضين مجتمعاً جديداً مترفعاً عن الدنايا كارهاً لضروب الرياء الذليل، بعيداً كل البعد عن الأنانية الحيوانية. ولهذا أيضاً كان رومان رولان يهيم بحياة الأبطال الذين يرى فيهم مثلا أعلى لما يجب أن يكون عليه الفرد من الفضائل. فنراه يكتب - كما ذكرنا - قصتيه المسرحيتين (سان لويس) و (دانتون). ثم نراه بعد ذلك يكتب ثلاث تراجم بعنوان (حياة الرجال المشهورين) أولاهما عن (حياة بيتهوفن) (1903) والثانية عن (حياة ميشيل آنج) (1906) والثالثة عن (حياة تولستوي) (1913)، ثم أخيراً يصدر كتابه الشهير عن (مهاتما غاندي) (1926).
ويرى رومان رولان أننا في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى دراسة أولئك الأبطال (لأن أوربا الآن يغشاها جو خانق مفعم بالرذيلة. إذ طغت المادية الوضعية على الفكر. . . . إن العالم يختنق. فلنفتح النوافذ حتى يدخل الهواء الطلق العليل. فلنستنشق نفثات الأبطال) وما هؤلاء الأبطال إلا أولئك الذين نرى فيهم - كما يقول رومان رولان - (روح البطولة. ورجاحة العقل والابتسامة الدائمة، وشهوة النور والمعرفة. تلك الصفات التي نراها في فرنسا في رابليه وموليير وديدرو، وبين الموسيقيين نستطيع أن نقول بيرليوز وبيزيه لأنه لا يوجد خير منهما).
على أن رومان رولان يرى في بيتهوفن وفي ميشيل آنج وتولستوي عبقريةً لم يجدها في أبناء وطنه. فيرى في بيتهوفن الشخص (الذي منه تنتقل عدوى الشجاعة الخارقة. والإحساس بالسعادة في الكفاح، وتغلب الضمير الذي يشعر في نفسه بأنه إله). ويرى في تولستوي (ذلك النور الذي انطفأ، والذي كان لأبناء جيلين أطهر نور أضاء شبابهم) وهو يجد فيه أيضاً (الصديق الحقيقي الوحيد بين كل رجال الفن المعاصر). ولسنا في حاجة إلى تأكيد الصلة الوثيقة بين تولستوي ورومان رولان، إذ أن تولستوي هو الكاتب الوحيد بين الكتاب الحديثين الذي طالب بأن تكون رسالة الفنان أخلاقية ودينية. وهذا هو اظهر ما يميز فن رومان رولان ودعوته.
ونحن إذا نظرنا الآن إلى هؤلاء الثلاثة الذين يمجدهم رومان رولان رأينا أن أولهم ألماني،(96/62)
والثاني إيطالي والثالث روسي. فكأنه لم يجد بين أبناء وطنه مثله الإنساني الأعلى. لذا كان ذلك داعيا إلى أن يجد رومان رولان عددا ليس بالقليل من النقاد الفرنسيين يتهمونه بانتقاص العبقرية الفرنسية والطعن فيها. والواقع أن رومان رولان كان دائم اللوم لأبناء وطنه على (شدة تأثرهم بالأوهام الخداعة التي تصوغها الخطب الرنانة) وكان يصرح دائما (بكرهه لذلك النوع الجبان من المثل الأعلى الذي يدير العيون عن بؤس الحياة وضعف النفس. إن البطولة الكاذبة جبن ونذالة. فليس هناك إلا نوع واحد من البطولة. تلك هي التي ترى الحياة كما هي وتحبها).
والعجيب أن رومان رولان عندما أراد أن يرسم صورة خيالية تتجمع فيها فضائل أبطاله السابقين لم يجعل بطلها فرنسياً بل ألمانيا. فكتب قصة (جان كرستوف) (1904 - 1912) وبطلها جان كرستوف - موسيقي ألماني (تغلغلت فيه نفس بتهوفن العظيمة. فصلبت أعضاءه ونفسه وبدت كأنما جعلت حجمها ضخما هائلاً. لقد كان يتجه نحو العالم. كان كجبل شامخ تدوي بين أرجائه العواصف، عواصف الحرارة والحماسة، عواصف الهم الدفين، آه! ياله من هم! على أن ذلك لم يؤثر بشيء! كان يحس بنفسه وافر القوة!. . . العذاب! العذاب أيضاً!. . . آه! ما أجمل أن يكون المرء قوياً ما أجمل أن يتعذب المرء عندما يكون قوياً!. . .).
وقصة (جان كرستوف) تقع في عشرة أجزاء، وهي في نظر الناقد أندريه بي أقرب إلى أن تكون ترجمة لشخصية خيالية من أن تكون قصة؛ وهي - كسائر أعمال رومان رولان - تفيض بالضمير الحر والحب النبيل والموسيقى الرائعة
وليس إعجاب رومان رولان ببتهوفن قاصراً على كونه نموذجاً للبطل الذي ينشده مما دفعه لأن يرسم شخصية (جان كرستوف) ماثلة له، بل أيضاً لأنه (إمام الموسيقيين)، و (الموسيقى الآلهية) عند رولان كأبطاله بمثابة (الضوء الذي ينير حياته) ولقد رأينا كيف كان له الفضل في إدخال مادة (تاريخ الموسيقى) في السوربون حين عين أستاذاً فيها. كما أنه كتب فضلا عن دراسته الخالدة عن بتهوفن عدة دراسات أخرى في الموسيقى. منها ` (1908) و ` ` (1908) و (1915) ذلك أن رومان رولان يرى - ككاتب أخلاقي - أن الموسيقى خير مهذب للنفوس المريضة، وأعظم حافز للعواطف الخامدة، كما أن(96/63)
الموسيقيّ العبقري يستطيع أن يجعل موسيقاه خير تعبير عن روح العصر وآماله وظروفه الملموسة.
(البقية في العدد القادم)
علي كامل(96/64)
القصص
من أساطير الإغريق
أجنحة ديدالوس
أول محاولة للطيران عرفها التاريخ
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن في أثينا القديمة على ما اشتهرت به من روعة الفن وكثرة الفنانين، من هو أمهر من ديدالوس العظيم في نحت الدمى وصناعة التماثيل، وهندسة المباني الضخمة. ولقد كان يتنقل بين المعاهد اليونانية، وخاصة بين إقريطش وقبرص وأثينا، لكثرة الدعوات التي كانت تصله من ملوكها، ليقوم على بنايتهم وليتعهد تماثيلهم، وليشرف بنفسه على هياكلهم، ليقال في مواضع الفخر، إن هذا التمثال، أو تلك الدمية، أو هذه الزخرفة من عمل ديدالوس
واستفاضت شهرته، وذاع صيته، وملأ الخافقين أسمه، ولاسيما بعد إذ شاد اللابيرنث (التيه) لمينوس ملك إقريطش، واللابيرنث عمل من أجل الأعمال الهندسية القديمة، إن لم يكن أجلها جميعاً. ذلك أنه كان لمينوس وحش هائل مخرب يسمى (المينوطور)، نصفه الأسفل نصف عجل جسد، ونصفه الأعلى نصف رجل له أنياب الأسد، وغدرة الذئب، وقوة التنين العظيم
وكان لا ينفك يقتل كل من اقترب منه، ولو كان من خاصة الملك. فلما استطار شره، وعظمت بليته دعا مينوس الملك، ديدالوس المهندس، ليشيد هذا البناء الرائع، ذا المنعرجات والحنيات، والشعاب المتداخلة، التي لا يستطيع أحد أن يفلت منها، إذا انفتل فيها. وقد بناه ديدالوس على شكل دائرة عظيمة محيطها هذه الشعاب والمنعرجات، وفي وسطها فضاء فسيح يربض فيه المينوطور أو يركض
ولندع الآن ذاك المينوطور الرهيب جاثما في اللابيرنث، لنرى ما كان من أمر ديدالوس بعد ذلك
ظل الناس يتحدثون عما وهب ديدالوس من عبقرية، وما أوتي من حذق ونبوغ، وظلوا يتهافتون على آياته الفنية التي كساها إلهامه ظلالا كظلال السحر، وموهها بأمواه القداسة(96/65)
والخلود، حتى كبر الفتى بردكس، ابن أخي ديدالوس؛ وكان شاباً ممتلئ الجسم، مفتول العضل، قوي الملاحظة، دقيق الفهم، سريع التصور؛ ما كاد يتتلمذ لعمه حتى بلغ شأوه، بل هو قد فاقه بمزج الشعر والموسيقى بفن الحفر والمثالة، ولاءم بين روحها جميعاً، فكان يبرز تحفه في مظهر دقيق وطراز أنيق؛ ثم هو يضفي عليها من شبابه الغض، وروحه العطرية الشاعرة، ظلال الحب، وسمات الفتنة، ويحرك فيها عواطف الآلهة!
ولهج الاثينيون باسم هذا الفنان الشاب، وتناسوا عمه الذي هو أستاذه وملهمه. وضاق ديدالوس بابن أخيه ذرعاً، وساءه أن تكسف شمسه الوضاءة المتلألئة، نجمه الذي لبث زماناً يسلسل نور الفن في أرجاء هيلاس
وما فتئ العم يحنق ويحنق، وما فتئ بردكس يسمو بفنه إلى الذروة، حتى لسعت عقارب الغيرة قلب الشيخ الفنان، ونفثت فيه سمها، فلم يعد يطيق هذا الخصم الذي صنعه لنفسه بيديه، ولم يعد يحتمل أن يرى نفسه كماً مهملا بجانب الفتى العبقري، فأقسم ليزيحنه من طريقه، ولو بتجريعه كأس المنون، وزين له أن يحتال عليه، فيذهب وإياه إلى شعاف جبل شاهق، ذي مهاو تنتهي إلى اللج الجياش في اليم، حتى إذا كانا فوق القنة المشرفة على البحر المصطخب، نهز منه غرةً ودفع به إلى الأعماق، حيث ينشق له قبر من الموت. . . والنسيان!
وأنفذها ديدالوس المسكين!
ولكن الآلهة كلها كانت تنظر، وتستعد للمعجزة! وكيف؟!
لقد أستجمع الشيخ كل قوته، ووضع في يديه كل منته، ودفع بابن أخيه من فوق القنة، فتردى الفتى على حدور الجبل، حتى إذا كان بينه وبين الموت قاب قوسين، هبطت منيرفا سيدة الأولمب، وصاحبة أثينا، من عليائها، فأنقذت بردكس من قتلة محققة، ثم نفثت في إذنه نفثتين، كان بهما فرخاً حزيناً من أفراخ القطا، راح يرف في السماء مدوماً فوق عمه، حتى كاد يصعقه من حيرة وعجب!!
وانقلب ديدالوس إلى بيته أسوان أسفاً، ووقر في نفسه أن الآلهة التي سحرت بردكس لتنقذه من تدبيره السيء، لأبد أنها تترصده، ولابد أنها ستأخذه بأوزاره في القريب، غير متجنية ولا ظالمة؟(96/66)
ثم مضت سنون وولد لديدالوس طفل جميل الصورة، طلق المحيا، مشرق الغرة، سماه إيكاروس. ولكن الطفل لم يستطع أن يخفف من الروع الذي كان ينتاب أباه، أو يذهب بسورة الهم التي كانت تجثم على قلبه، وتثقل على نفسه، كلما تصور الهامة المفزعة التي يضطرب بها نومه، فتقض مضجعه وتزلزل كيانه
لقد كانت القطاة تتمثل له كلما أغمض طرفه، كأنها روح ميت ترنق على خصمها تكاد تصعقه. وازداد الشيخ خبالاً حينما ألحف عليه الأثينيون يسألونه عن بردكس أين قضى وأيان ولى! وأخذ الغوغاء يلغطون، وشرع الخاصة يتسقطون أخبار الفتى الفنان، ودأبوا على عمه يسألونه عنه، وهو يضلل بهم ويخترع لهم، حتى أوجس أن ينكشف سره، فينكل الناس به. فآثر الهجرة عن أثينا المحبوبة، إلى صديقه مينوس ملك إقريطش، مصطحباً معه ابنه الطفل إيكاروس
وتطامن الدهر، وشب إيكاروس وترعرع، وأخذ عن والده من الفن ما أخذ بردكس من قبل، وحسب ديدالوس أن الزمان قد غفل عنه، وأن أعين الآلهة قد غفت واستنامت، وأن الأيام قد ابتلعت إثمه الكبير في تضاعيفها القاتمة المظلمة، فأستيقظ الغرور في قلب الفنان الشيخ، ولم يتقبل ما غمره به مينوس الملك من النعم بالشكر الواجب على لاجئ طريد مثله، بل بطر وأستكبر، وكفر بأنعم مولاه وآلائه، ومد له هواه فولغ في إناء الملك، بعد أن أختلط بأهل بيته اختلاطاً شائناً أدى إلى كثير من القيل والقال
وعلم الملك بما كان من خيانة ديدالوس فأمر بالقبض عليه، واعتقاله في إحدى غرف القصر حتى يقضى في شأنه؛ فأُلقي به في حجرة منفردة في طرف القصر، مشرفة على الماء، متصلة بالسماء
وطالت عزلت الفنان الشيخ في معتقله هذا، وضاق ابنه بالحيز الضيق الذي يحبس أنفاس روحه، ويحسر مرامي مقلتيه، ويشيع الهم في حنايا ضلوعه، فقال لوالده وهو يحاوره: (أهكذا قضى علينا أن نموت هنا صبراً يا أبتاه!) وكانت كلمات إيكاروس المبللة بالدموع تذهب كالصدى في أذان الشيخ، وكان الغلام يجتذب اللفظة المفردة من فم أبيه، فما كاد يفوز إلا بلا. . . أو بنعم. . .
وكانت للغرفة التي اعتقلا فيها شرفة صغيرة تطل على البحر الأبيض المتوسط، وكان(96/67)
منظر السفائن الماخرة كالأعلام، والطير صافات من فوقها كأنها تسبح بدورها في لج من زرقة السماء، يثير في نفس الفتى أحلاما وأخيلة وأمنيات. وأنه لفي أصيل جميل يناجي الطبيعة من شرفة سجنه الصغيرة، إذا به يذهب إلى والده مستبشرا متهللا، ويقول: (أبي! أعجزنا أن نصنع لنا أجنحة كهذه الطير. فنفلت بها من هذا المكان الرهيب؟.)
وكان الشيخ جالسا في زاوية مظلمة من زوايا الغرفة يجتر أحزانه، ويتغنى آلامه، فلما سمع ما خاطبه ابنه به، افتر فمه العجوز عن ابتسامة منقبضة مغضنة، وشاعت في أساريره بوارق أمل جديد!
وقال لابنه: (أجنحة وأنى لنا بالريش يا إيكاروس؟)
فقال الولد: (لا عليك يا أبي، أن غرفة الدجاج قريبة من هنا!)
وعبس الفنان الشيخ، وقال: (والحارس الفظ؟. . .)
فتضاحك إيكاروس قائلا: (الحارس!؟ أمره أهون مما ترى. . . سنرشوه يا ابتاه، فيحضر لنا ما نشاء من الريش، وسنخدعه أننا صانعان له لباسا لا تحلم الملوك بمثله!)
ولكن العبوسة التي رفت على جبين الشيخ أنشبت فيه جميع مخالبها، وقال: (دعني أفكر يابني، دعني أفكر يا إيكاروس. . .)
وهكذا كانت العبقرية البكر، الكامنة في هذا الفتى الصغير، لقاحا بعيد الأثر في عبقرية الشيخ الفاني المتهدم، وهكذا بدأ الفنان الأكبر، باني اللابيرنث، ومشيد هياكل الآلهة، يفكر في هذا المقترح الشارد الذي اقترحه عليه الفنان الصغير!
(أجنحة. . . دجاج. . . ريش. . . الحارس الفظ. . . مينوس. . . بردكس. . . فرخ القطا. . . الطير. . . إيكاروس ابني. . .!) وهكذا انبطح الشيخ على وثيرته تتداعى هذه الخلجات في رأسه الساخن المتأجج، تذكى فيه الذكريات والماسي!
وأحتال الفتى على الحارس حتى حصل على مقادير هائلة من ريش البط والإوز والديكة؛ وفكر الشيخ كيف يثبت الريش في مكانه من عضد الجناح، فادخر الشموع التي كانت تترك له يضيئها في الليل، ليتضاعف بلهيبها الخافت حزنه؛ حتى إذا كان لديه قدر كبير منها، عمد إليها فصهرها، وثبت بها ما شاء من الريش، وبذلك صنع زوجين من الأجنحة الكبيرة، يكفي أحدهما لحمل فيل!(96/68)
وجلس يمحض ابنه النصح فقال:
(أي بني! أي إيكاروس العزيز! سنطير من هنا يا ولدي! إلى أين؟ لست ادري! ولكننا سنفلت من هذا السجن على كل حال! وهاأنذا قد صنعت الأجنحة التي تخيلها املك الصغير الذي هو أكبر من جميع آمالي! ولقد رأيت إلى كيف كنت أذيب الشمع قريبا من النار يا ولدي، فأوصيك إذا طرنا ألاَّ تترك سمتي، وأن تكون دائما قريبا مني، فإني أخشى إذا علوت علوا شاهقا أن تصهر الشمس شمع جناحيك، فتهوى في البحر، فتتردى في أعماق الموت! وكما أخشى عليك من العلو الشاهق، فكذلك لا أرى لك أن تدنو من الماء، فإنه إن وصل إلى الشمع أيبسه، ولم يعد يصلح لمهمة الطيران، إذ يساقط قطعة فقطعة، ويتناثر الريش، وتسقط، إما في البحر فتغرق، وإما في الأرض فيندق عنقك. فلا تنس يا بني أن تتبعني أبداً، وأحذر أن تعلو فتدنو من الشمس، أو أن تسفل فيصيبك رذاذ الماء ورشاشه. إليَّ يا ولدي اثبت لك جناحيك، ولنمض على بركة ز. . . ز. . . زيوس!!)
وتلجلج لسانه حين أراد أن ينطق باسم الإله الأكبر، لأنه يثق أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو محيط بعباده، لا ينسى أن ينتقم من الظالمين للمظلومين!
وانطلقا من الشرفة، والقيا على القصر، وما أحاط به من حرس وعسس، نظرات كلها نقمة وتغيظ. . .
ومرا بشطوط كثيرة ومروج كبيرة، وكان الصيادون والزراع والبحارون وأهل القرى كلما رأوا هذين الطائرين الكبيرين، ذوي الهيئة الآدمية، خروا للأذقان سجدا، يحسبون أنهما إلهان من آلهة السماء، هبطا يباركان الناس والخلق، فيهللون ويكبرون!!
فهذا شيخ يطلب إليهما أن يباركا في عقبه ويمدا في اجله، وهذه شمطاء تدعو أن يردا عليها جمالها الضائع وشبابها الذاهب، وتيك رؤوم تناجي ابنها في قبره فتطلب إليهما أن ينفضاه من الثرى! وهؤلاء فلاحون يصرخون أن يمنا عليهم فيخلصاهم من الفقر والمتربة. . .
وشاع الزهو في أعطاف إيكاروس، فكان يرتفع قليلا، أو يهبط قليلا عن سمت أبيه؛ ثم تشجع وتشجع، وبهرته زرقة السماء وأديمها الصافي، فجازف وارتفع ارتفاعا شاهقا، ونسي وصية أبيه، فعلا وذهب في السماء صعدا، وكان يغريه أن يصغر العالم الأرضي(96/69)
في عينيه، فيعلو ويعلو
وا أسفاه!! لقد دنت ساعة الانتقام لك يا بردكس! فلقد صهرت الشمس شمع الجناحين، وهوى إيكاروس إلى الأعماق! ولما دنا من والده صرخ صرخة هائلة دوت في إذن أبيه، فتلفت الشيخ ليرى ولده يغوص في اليم، يبتلعه مرة ويلفظه أخرى!
فأسرع الوالد المسكين إلى البحر، وأنتشل ولده من الماء جثة هامدة! وكان هو بدوره قد أذاب الماء شمع جناحيه، فعالج الموج معالجة، وسبح بفلذة كبده إلى جزيرة قريبة، بلغها بعد جهد وعناء!
وجلس يبكي ولده. . .
ثم شق له قبرا صغيرا في رمل الشاطئ، وما كاد يسره فيه، حتى رأى قطاة حزينة تدوم في السماء، ثم تهبط قليلا قليلا، حتى تكون بمقربة من القبر، فتقف كاسفة مشجونة وتنظر إلى الجثة والدموع تنهمل من عينيها. . عبرة، فعبرة. .
ويفرغ الشيخ من مواراة ولده في التراب! وينته! فيرى القطاة! فينشج نشيجا مؤلما، ويقول: (بردكس!! أتيت تبكي إيكاروس!! سامحني يا بردكس!)
فتزقو القطاة كأنها تنتحب! ثم تدنو من القبر حتى تكون فوقه، فتذرف عبرتين غاليتين، وترف في الهواء حتى تغيب عن عيني ديدالوس!!
دريني خشبة(96/70)
البريد الأدبي
سان ماركو
قامت إيطاليا في ظل الفاشستية بكثير من الأعمال العلمية والفنية العظيمة؛ ومن ذلك اكتشافات أثرية عظيمة في ضواحي رومة وفي جنوب إيطاليا، وإصلاح لكثير من الآثار الشهيرة، وإصدار موسوعة إيطالية كبيرة، ووصل ثغر البندقية بالأرض بجسر عظيم يبلغ طوله نحو كيلومترين. وأخر الأعمال الفنية العظيمة التي أتمتها الحكومة الإيطالية، هو إصلاح كنيسة سان ماركو (القديس مرقس) الشهيرة في البندقية؛ وتعتبر هذه الكنيسة التي يرجع بناؤها إلى نحو ألف عام من أعظم التحف الفنية في إيطاليا، وتعتبر الثانية من حيث عظمتها الفنية بعد كنيسة القديس بطرس في رومة. وتمتاز بالصور والنقوش الرائعة التي صنعت كلها من الفسيفساء الملون، في جدرانها السفلية وأروقتها العليا. وهي تجاور قصر الدوجات وتقع على يساره، وأمامها ميدان سان ماركو الشاسع الذي كان خلال العصور ميدان الاحتفالات والاجتماعات العامة أيام الجمهورية؛ وقد بدأت أعمال الإصلاح فيها منذ ثمانية وعشرين عاما، وذلك بعد أن قرر الخبراء أنها في خطر، وأن أسسها قد اضطربت وتشققت جدرانها؛ وذلك على أثر سقوط برج (الكامبنيلي) الشهير في سنة 1902؛ وهو يقع أمام قصر الدوجات على مقربة من الكنيسة، وقد جدد، وهو يرتفع إلى علو شاهق، ويشرف على ثغر البندقية وجميع الجزر (اللاجون) التي تقوم عليها. وبدئ الإصلاح بتقوية أسس الكنيسة وأعمدتها، وعهد إلى المهندس والفنان الكبير الأستاذ لويجي مارانجوني بالأشراف على أعمال الإصلاح الفنية. وقد بذل هذا الفنان مجهودات فادحة لإنقاذ زخارف الفسيفساء التي كاد بعضها يتلاشى، واستطاع بمعجزة حقيقية أن يعيدها إلى بهائها الأول. ولم تمضي أسابيع قلائل حتى ترفع الأعمدة والحواجز الخشبية التي حجبت بعض واجهات الكنيسة عن النظارة زهاء ثلاثين عاما، ويستطيع الزائر أن يمتع الطرف بمشاهد الصور والنقوش البديعة التي صنعت كلها من فسيفساء ملون، وبينها صور القديسين ومناظر من الكتاب المقدس
ويعتبر إصلاح هذه الكنيسة من أعظم الأعمال الفنية التي قامت بها إيطاليا في هذا العصر؛ ويرجع إلى عزم الحكومة الفاشيستية وسخائها في تعزيز الأعمال الفنية والأثرية، الفضل(96/71)
في سرعة إنجاز هذا العمل العظيم
حول أزمة السياحة
تتحدث الصحف الفرنسية منذ حين عن (أزمة السياحة)، لان السياحة مورد من موارد فرنسا العظيمة، وقد لوحظ أن الإقبال على زيارة فرنسا قد أخذ يتناقص في الأعوام الأخيرة، وتأثرت جميع الجهات والمصالح التي تتصل بموسم السياحة، وأخذت تفكر في ابتكار الوسائل لمكافحة هذه الأزمة وترغيب الأجانب في زيارة فرنسا. وقد درس كثير من الخبراء والباحثين أسباب هذه الأزمة في الصحف، ونسبها بعضهم إلى ارتفاع الفرنك وغلاء الأسعار في فرنسا لدرجة فاحشة؛ ونسبها البعض إلى الأزمة العالمية التي أصابت كل الموارد؛ ولكن كاتبا مطلعا وعضوا في مجلس الشيوخ، أدلي برأي جديد في أسباب أزمة السياحة، فقال أنها ترجع قبل كل شيء إلى تغير النفسية الفرنسية، وتحول الفرنسي من مضيف رقيق الطبع كريم الوفادة، إلى تاجر جاف الخلال، تغلب لديه فكرة الكسب على كل فكرة أخرى، فجميع الجهات والأفراد الذين يشتغلون بموسم السياحة كوكالات السفر والفنادق، والسكك الحديدية، وأصحاب المطاعم والملاهي وغيرها، يعمل كل لصالحه فقط، ولا تجمع بينهم رابطة مشتركة وكل يحاول أن يقتضي من السائح أوفر غنم؛ واليوم يلقى السائح في الجمارك الفرنسية موظفين جامدين، وتستقبله في فرنسا قوانين وإجراءات شديدة، ولا يكاد يلقى الابتسامة على ثغر أحد؛ ومن رأي الكاتب أن الاستقبال الحسن هو أهم عنصر لتشجيع السياحة، ويجب أن يشعر الزائر بهذه الخاصة، منذ دخوله البلد حتى خروجه منها، ويجب أن يحسن استقباله أين سار: في الجمارك وفي الفندق، وفي المتاجر والمصالح، وكل ماله مساس بتجواله أو درسه أو متعته. وعلى هذا الأثر الحسن يتوقف مستقبل السياحة اليوم؛ وقد فرنسا في الأعوام الخيرة كثيرا من هذا الأثر الحسن الذي كانت تشتهر به فيما مضى
حول الراغب الأصبهاني
. . . طالعت في العدد السابع والثمانين من مجلة الرسالة الغراء كلمة الأستاذ الباحثة علي الطنطاوي في الراغب الأصبهاني، فأستغربت كثيرا عدم عثوره على غير المصادر التي(96/72)
أشار إليها، ولهذا أرى أن من حق الأدب عليّ وخدمة للتاريخ أن ادله على المصادر التالية التي أفردت للكلام عنه بحثا ضافيا، وهي:
(1) كتاب هدية الأحباب للشيخ عباس القمي المطبوع في النجف
(2) كتاب روضات الجنات للشيخ محمد باقر الخونساري المطبوع في إيران
وسأتقدم بمقال ضاف عما قريب إلى (الرسالة) الزهراء عن المشار إليه، والأمل أن يتفضل صاحب الرسالة بنشره
النجف - العراق
محمد كاظم كمونة
جامعة مشيغن الأمريكية وشباب الشرق
على أثر عودة الدكتور أغا أوغلو أستاذ الفنون والصنايع الإسلامية في جامعة مشيغن إلى أمريكا، بعد زيارته إيران وحضوره حفلات الفردوسي، رفع إلى إدارة الجامعة تقريرا مفصلا بلزوم تعهد الجامعة بنفقات عشرة طلاب من طلاب الممالك الإسلامية ليدرسوا فيها فروع الصناعات الإسلامية والفنون الجميلة الشرقية. وبعد مداولات كثيرة بين الأستاذ اغا أوغلو وبين أعضاء إدارة الجامعة، وافقت الجامعة على طلبه، أما الطلاب العشرة فقد وزعتهم الجامعة على الوجه التالي:
طالبان من العراق، طالبان من ايران، طالبان من تركيا، طالبان من مصر، طالبان من سوريا وفلسطين.
تأليف مجمع للغة الإيرانية
بالنظر إلى اتجاه الأوساط الأدبية والصحفية نحو إحلال اللغة الإيرانية محل الفارسية وتطهيرها من الكلمات والتعبيرات الأجنبية التي قد دخلت عليها واعتبارها أن مثل هذه الحركة إذا تركت بلا توجيه يخشى أن تضر بجمال اللغة - قررت الحكومة أن تنشئ قريباً مجمعاً للغة الإيرانية. وسيضم هذا المجمع نخبة الكتاب وعلماء اللغة الوطنيين، وستكون مهمتهم أن يضعوا معجماً لاستبدال الكلمات الأجنبية الكثيرة، ولاسيما الكلمات المشتقة من العربية والتركية في اللغة الإيرانية الحالية بكلمات إيرانية بحتة(96/73)
وقد أرسلت وزارة المعرف تنفيذا لهذا القرار وتجنبا لأي اضطراب في أعمال المجمع منشورا إلى جميع الوزارات والمصالح يحرم استعمال الكلمات الجديدة التي تذيعها الأوساط الأدبية التي ليست لها السلطة ولا الخبرة التامة المطلوبة لهذا العمل؛ والكلمات المستعملة سيستمر استعمالها إلى أن تستبدل تدريجياً كلما انتهى مجمع اللغة الإيرانية الملكي إلى اتخاذ قرارات في بعض البحوث
مؤتمر القلم الدولي
يجتمع المؤتمر الدولي الثالث عشر لنوادي القلم في ثغر برشلونة عاصمة قطلونية (أسبانيا) في العشرين من شهر مايو الجاري، ويستمر انعقاده إلى يوم 25 منه. وقد وضع البرنامج النهائي لأعماله واجتماعاته. ففي الساعة العاشرة من يوم الاثنين 20 الجاري تفتح مكاتب المؤتمر في (كازال ولايتجي) وفي الظهر يطوف الأعضاء ثغر برشلونة، ويزورون متاحفها ومشاهدها، وفي اليوم التالي يفتح المؤتمر بصورة رسمية، وتلقى خطب الافتتاح وتصرف بقية اليوم في حفلات نظمتها لجنة المؤتمر؛ وفي اليوم الثالث يستقبل الفنانون في برشلونة أعضاء المؤتمر في معرض للصور والتماثيل أقيم تكريما لهم. وفي الأيام الثلاثة الباقية يعقد المؤتمر جلساته في صباح كل يوم، ويشهد المؤتمرون بقية اليوم بعض الحفلات والاستقبالات التي نظمت لهم، ويختتم المؤتمر بمأدبة غذاء رسمية في فندق (رتز) أعظم فنادق برشلونة؛ وقد نظمت رحلات أثرية للمؤتمرين في بعض أنحاء قطلونية ورحلة إلى جزائر البليار؛ وستعنى لجنة المؤتمر بأن تعرض على المؤتمرين جميع النواحي الفنية والثقافية الأسبانية والقطلانية بنوع خاص
في الجامعة المصرية
وأخيرا صدر المرسوم الملكي بتعيين زعيم النهضة الفكرية الحديثة الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك مديرا للجامعة المصرية. والتعيين هنا معناه إعادة الأستاذ إلى منصبه بعد أن ظل باستقالته منه شاغرا أربع سنين كابدت فيها الجامعة من الأحداث الجسام ما كابدته الأمة كلها في سيادتها ومرافقها وأخلاقها من عبث الطغيان المسرحي الأحمق. استقال الأستاذ استقالته المثلية النبيلة حين رأى عبث العهد البائل ينال حرم الجامعة فيعدو على(96/74)
استقلالها، ويعتدي على حقوق رجالها، وينقل عميد كلية الآداب فيها إلى منصب أخر من غير رأيه ولا علمه. ثم هيمنت على إدارة الجامعة وإرادتها سلطة متجنية كانت تدفع الحق دفعاً عن أهله، حتى انجلت عن السياسة المصرية غشاوة الزيغ وسحابة الباطل، فوجد المظلوم العدل، وابصر التائه الطريق
ولم يكن من السهل حتى في ذلك العهد الذي أنكر الكفاية، وجانب المنطق، أن تظفر الجامعة بخلف للطفي بك، فإن ثقافته الشاملة، وعقليته المنطقية، ونزعته الحرة، وطبيعته المعلمة، وخلقه الفيلسوف، جعلته اصلح الناس لهذا المنصب، وأحزم العلماء بهذا العمل
في الجامعة الأزهرية
كذلك صدر مرسوم ملكي أخر بتعيين صاحب الفضيلة العالم الجليل الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخا للجامع الأزهر. ومسألة الأزهر كانت كمسألة الجامعة عقدة من عقد العهد البائد، فقد رضى فيه شيخ الأزهر المستقيل أن يكون مطية ذلولا من مطاياه تخب في الزور، وتخبط في الباطل، حتى غضب الناس للدين، وضح العلماء للعلم، وثار الطلاب للكرامة، ووفق الله الوزارة القائمة فعالجت هذه الحال بإقصاء الشيخ الظواهري وتعيين الأستاذ المراغي. والأستاذ المراغي من العباقرة الآحاد الذين يفهمون القرآن بالأدب، ويطبقون الدين على الخلق، ويوفقون بين المدنية والفقه، وينهجون في الإصلاح منهج الإمام محمد عبده
وفاة الشيخ عبد المحسن الكاظمي
في يوم الخميس الماضي استعز الله بالشاعر العربي العراقي الكبير الأستاذ عبد المحسن الكاظمي عن سنة عالية وشهرة مستفيضة؛ وهو من الذين ساهموا في نهضة الشعر الحديثة بقسط وافر من السليقة الخالصة، والقريحة الطيعة، والبديهة التي ترتجل القصيدة المطولة عفو الساعة. هبط الأستاذ مصر منذ خمس وثلاثين عاما، فطابت له فيها الإقامة، ولاذ بكنف الإمام محمد عبده، وهو يومئذ موئل العلم والأدب، فظاهر نعمه عليه كما ظاهرها على الشنقيطي وحافظ والمنفلوطي، حتى اتصل سببه وأثمر أدبه في حماه وتحت عينه. ولم يبتغ الكاظمي الوسيلة إلى الحياة إلا بالشعر - والشعر في هذا الزمن رحم قطعاء وأداة(96/75)
عاجزة - لذلك نكد عيشه قليلا بعد الإمام، فرضى بميسور الكفاف من الرزق، وبالإنتاج القليل من القريض، وأقعده ضعف القلب وكلال البصر وتقدم السن عن غشيان المجالس والأندية، حتى أختاره الله إلى جواره. وسنعود إلى تفصيل أمره وتحليل شعره في عدد مقبل(96/76)
الكتب
كتاب المواقف والمخاطبات للنفري
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
الأستاذ نيكلسون أستاذ الأدب العربي بجامعة كمبردج، أحد العلماء الأوربيين الذين عنوا بدراسة التصوف الإسلامي، وبلغوا في درسه والعلم بتاريخه درجة عالية
وللأستاذ نيكلسون أياد مشكورة في ترجمة كتب التصوف الفارسية والعربية إلى الإنكليزية، ونشر نصوصها، والكتابة في كثير من مباحث التصوف. وأعظم مآثره في ذلك ترجمته الكتاب الخالد، كتاب المثنوي إلى الانكليزية، ونشره الاصل الفارسي في طبعة مرتبة مصححة، لا تقاس بها طبعة أخرى؛ ولا ريب أن الأستاذ بعد اليوم من أئمة هذا الشأن في المشرق والمغرب
- 2 -
وللأستاذ نيكلسون تلاميذ نهجوا نهجه واقتفوا أثره في العناية بالتصوف الإسلامي، والاهتمام بأحياء كتبه ونشرها
ومنهم صديقنا النابغة العلامة اربري الذي سعدنا بصحبته حينا في كلية الآداب، ثم شقينا بفراقه هذا العام، إذ ولى منصب في المكتبة الهندية بلندن
وكان صديقنا اربري، زمان إقامته بالقاهرة، دائب البحث عن المخطوطات الصوفية، يواصل الجهد في تصحيحها ومقابلة بعضها ببعض، ونسخها بخطه العربي الجميل، وقد يسر له أن يجمع جملة نادرة من رسائل التصوف وكتبه، منها: رسائل المحاسبي والسلمي من متقدمي الصوفية
ثم بدأ ينشر ما جمعه وصححه، فطبع في القاهرة كتابي المواقف والمخاطبات اللذين نكتب عنهما اليوم، وترجمهما إلى الإنكليزية، ثم نشر الأصل والترجمة في كتاب واحد، وكتب له مقدمة نفيسة
- 3 -(96/77)
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، أحد صوفية القرن الرابع الهجري، توفي سنة 354 أو بعدها بقليل. وينسب إلى قرية نفر إحدى قرى العراق، وهي مدينة نبور البابلية القديمة
ويقال إن أبا الشيخ كان جوالا في البراري لا يستقر في مكان، ولا يسكن إلى إنسان، وأنه توفي بإحدى قرى مصر
ولم ينبه ذكر الشيخ بين رجال الصوفية، ولم تذع كتبه بين الناس. وقد ذكره محي الدين بن العربي في كتاب الفتوحات، والشعراني في الطبقات الكبرى، ولكن المأثور من أخباره قليل
وللشيخ النفري كلمات في التصوف، طائفة منها تبدأ بقوله: أوقفني على كذا، والأخرى تبدأ بقوله: خاطبني. وقد جمع ابن بنته كلماته في كتابي المواقف والمخاطبات اللذين نشرهما صديقنا العلامة اربري
وخير تعريف للكتابين أن اعرض على القارئ بعض كلماتهما، فهذه شذرات من المواقف، وفي العدد الآتي ننقل شذرات من المخاطبات
وسيرى القارئ إن هذا الكتاب بدع من كتب التصوف، وأنه من الأدب الصوفي الذي لا يعرف نظيره:
موقف العز
أوقفني في العز وقال لي:: لا يتسقل به من دوني شيء، ولا صلح من دوني لشيء، وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته. أظهرت الظاهر وأنا اظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إلى وجوده. وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه، فما يقوم عليّ دليله، ولا يصبح إليّ سبيله
وقال لي: أنا اقرب إلى كل شيء من معرفته بنفسه، فما تجاوزه إليّ معرفة، ولا يعرفني أين تعرفت إليه نفسه
وقال لي: لولاي ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها.
وقال لي: لو أبديت لغة العز لخطفت الإفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الرمال عصفت عليها الرياح العواصف(96/78)
وقال لي: لو نطق ناطق العز لصمتت نواطق كل وصف، ورجعت إلى العدم مبالغ كل حرف
وقال لي: إن من اعد معارفه للقائي لو أبديت له لسان الجبروت، لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور مورا
. . . وقال لي: طائفة أهل السماوات وأهل الأرض في ذل الحصر. ولي عبيد لا تسعهم طبقات السماء، وتقل أفئدتهم جوانب الأرض. أشهدت مناظر قلوبهم أنوار عزتي فما أتت على شيء إلا أحرقته. فلا لها منظر في السماء فتثبته، ولا مرجع إلى الأرض فتقر فيه. الخ
موقف البحر
أوقفني في البحر، فرأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح
وقال لي: لا يسلم من ركب
وقال لي: خاطر من ألقى بنفسه ولم يركب
وقال لي: هلك من ركب وما خاطر
وقال لي: في المخاطرة جزء من النجاة
وجاء الموج فرفع ما تحته وساح على الساحل
وقال لي: ظاهر البحر ضوء لا يبلغ؛ وقعره ظلمة لاتمكن، وبينهما حيتان لا تستأمن
وقال لي: لا تركب البحر فأحجبك بالالة، ولاتلق نفسك فيه فأحجبك فيه
. . . وقال لي: الدنيا لمن صرفته عنها، وصرفها عنه، والآخرة لمن أقبلت بها عليه وأقبلت به علي
موقف المطلع
أوقفني في المطلع وقال لي: أين اطلعت رأيت الحد جهرة، ورأيتني بظهر الغيب
وقال لي: إذا كنت عندي رأيت الضدين والذي أشهدتهما فلم يأخذك الباطل ولم يفتك الحق
وقال لي: الباطل يستعير الالسنة، ولا يوردها موردها. كالسهم تستعيره ولا تصيب به
وقال لي: الحق لا يستعير لسانا من غيره(96/79)
وقال لي: إذا بدت أعلام الغيرة ظهرت أعلام التحقيق
. . . وقال لي: يا عالم اجعل بينك وبين الجاهل فرقا من العمل وإلا غلبك. واجعل بينك وبين العلم فرقا من المعرفة وإلا اجتذبك
وقال لي: اليقين طريقي الذي لا يصل سالك إلا منه
وقال لي: من علامات اليقين الثبات. ومن علامات الثبات الأمن في الروع
وقال لي: إن أردت لي كل شيء علمتك علماً لا يستطيعه الكون، وتعرفت إليك معرفة لا يستطيعها الكون
وقال لي: يا عارف أرى عندك قوتي، ولا أرى عندك نصرتي. أفتتخذ إلهاً غيري؟
وقال لي: يا عارف أرى عندك حكمتي، ولا أرى عندك خشيتي. أفهزئت بي؟
وقال لي: يا عارف أرى عندك دلالي ولا أراك في محجتي
وقال لي: من لم يفر إلى لم يصل إلى. ومن لم أتعرف إليه لم يفر إلي
وقال لي: إن ذهب قلبك عني لم أنظر إلى عملك
وقال لي: إن لم أنظر إلى عملك طالبتك بعلمك. وإن طالبتك بعلمك لم توفي بعملك
وقال لي: من عبدني وهو يريد وجهي دام، ومن عبدني من أجل خوفي فتر، ومن عبدني من أجل رغبته أنقطع
وقال لي: العلماء ثلاثة، فعالم هداه في قلبه، وعالم هداه في سمعته، وعالم هداه في تعلمه
وقال لي: القراء ثلاثة فقارئ عرف الكل، وقارئ عرف النصف، وقارئ عرف الدرس
وقال لي: الكل الظاهر والباطن، والنصف الظاهر، والدرس التلاوة
وقال لي: إذا تكلم العارف والجاهل بحكمة واحدة، فاتبع إشارة العارف؛ وليس لك من الجاهل إلا لفظه
موقف الموت
أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات. ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء، ورأيت الغني قد صار نارا ولحق بالنار. ورأيت الفقر خصما يحتج، ورأيت كل شئ لا يقدر على شئ. ورأيت الملك غروراً. ورأيت الملكوت خداعا. وناديت يا علم فلم يجبني. وناديت يا معرفة فلم تجبني. ورأيت كل شيء قد أسلمني، ورأيت كل خليقة قد هربت مني. وبقيت(96/80)
وحدي. وجاءني العمل فرأيت فيه الوهم الخفي والخفي الغابر. فما نفعني إلا رحمة ربي. وقال لي أين عملك؟ فرأيت النار
وقال لي: أين عملك؟ فرأيت النار
وقال لي: أين معرفتك؟ فرأيت النار، وكشف لي عن معارفه الفردانية فخمدت النار
وقال لي: أنا وليك فثبت
وقال لي: أنا معرفتك فنطقت
وقال لي: أنا طالبك فخرجت
عبد الوهاب عزام(96/81)
العدد 97 - بتاريخ: 13 - 05 - 1935(/)
بنك مصر أيضاً
2
نعود إلى الحديث عن بنك مصر مغتبطين كما يعود المطرب إلى تكرير لحنه، والمؤمن إلى ترديد صلاته! وهل كان بنك مصر وعيده في الأسبوع المنصرم إلا لحناً شدا على كل لسان، ودعاء صعد منك كل قلب؟ لقد جاء هذا العيد القومي كما توقعناه دليلاً على رشد هذه الأمة الكريمة: رَحَض عن سمعتها الأذى، ودَحضَ عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدّد عن مستقبلها السحب، وأعلن - في شاي الحديقة، وعشاء الكونتننتال، ومهرجان القاهرة، وحفلات الأقاليم، بلسان طلعت حرب باشا مدير البنك، وأحمد عبد الوهاب باشا وزير المالية والسِّر إدوارد كوك عميد سياسة الاقتصاد الإنجليزية، والمسيو هنري نوس ممثل رءوس الأموال الأجنبية - أن مصر التي غَلَّها العجز الاجتماعي حيناً من الدهر عن استعمال حقها واستغلال خيرها واستثمار غناها، قد أتاح لها بنك مصر وشركاته أن تشعر بالقوة التي كمنت فيها، وتفطن إلى القدرة التي ذهلت عنها؛ وتخرج من ذلة اليُتم والعُدم والقصور إلى عزة الرشد الوُجْد والأهلية
نعم كانت الأيام الثلاثة التي حفِلت بعيد بنك مصر مظاهرة قومية موفقة، شارك فيها قصر الملك، ودار المندوب، وجميع الأحزاب، وكافة الطبقات، وعامة الشعب، في الساعة التي رجعت فيها السياسة المصرية إلى ذبذبتها الأولى: تتحرك ولا تسير، وتتردد ولا تستقر، وتتصرف ولا تملك. وكان ابتهاج الأمة بها ابتهاجاً بحقها الذي يتخلص من الباطل، وفوزها الذي يتميز من الفشل، ونصرها الذي يتبرأ من الهزيمة!!
تستطيع أن تناقش وتعارض وتستريب إن زعم لك زاعم أن يقظتنا للعلم والأدب، والحرية والسياسة، بلغت الحس العالي المرهف، ولكنك أمام الأرقام التي قدمها إليك بالقول طلعت حرب، والمنتجات التي وضعها في يديك بالفعل طلعت حرب والمؤسسات التي عرضها عليك بالسينما طلعت حرب، تعتقد اعتقاداً رياضياً أن نهضتنا الاقتصادية يقين لا يخامره شك، وواقع لا تزخرفه مبالغة. وإن في تسميتنا هذه النهضة التي نهضها بنك مصر فحلَّت عن الأمة حبوة العجز، بالنهضة الاقتصادية، تسمية لها بالوصف الأشهر والأثر الأغلب. أما الواقع فإنها انتظمت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجدْت(97/1)
على العلم ففتحت له أبواب العمل؛ وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بتسهيل الطباعة؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة، وقوَّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقَت الأمة شر العطلة المجرمة، والأزمة المستحكمة، باستخدامها الألوف المؤلفة من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخلقت الروح الجماعية بإنشائها الأعمال التي تقوم على رءوس المال، وتوزع العمل، وتساند القوى، وتضامن الجماعة؛ وعلى السياسة فكفكفت عنها شِرَّةَ النفوذ المالي الأجنبي بمنازلته الجريئة في ميادينه القوية الحصينة؛ وعلى الإسلام، فساعدت على إقامة ركن من أركانه، وكشف الضر عن بيت الله ومنزل قرآنه؛ وعلى وحدة العرب فوصلتها بأسباب التعاون، وثقَّتها بسلاسل الذهب؛ والاقتصاد اليوم وقبل اليوم كان دستور الحياة، وعلة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، فلا بدع إذا أثر في كل شيء، وعمل في كل حركة، وهاج في كل ثورة، وصاح في كل نهضة
شهدت كثيراً من المؤتمرات والمظاهرات والاحتفالات في أغراض شتى، فكان شعوري الذي أجده فيها شعور الحالم الذي يتوهم الحقيقة، والفاقد الذي ينشد الوجدان، والأمل الذي يرجو الظفر؛ ولكني شهدت هذه المرة احتفالات قومي بعيد بنك مصر، فكان الشعور الذي ملكني وملك الناس شعور العالم الذي اطمأن إلى التجربة، والواجد الذي اغتبط بالحصول، والظافر الذي انتشى بالنصر، والحي الذي استعز بالكرامة
وكنا نلحظ البشر الذي يجول في المحيا الذي لا ينبسط، والابتسام الذي يجري على الشفة التي لا تَفْتَرُّ، فنتخيل في وجه طلعت حرب وهو يَشِعُّ بالإخلاص الساذج مستقبل بلادنا الذي يتهلل، وأمل شبابنا الذي يبتسم
نضّر الله بالرضى والغبطة وجوه أولئك الأبرار المخلصين الذين شغفهم حب الخير ففكروا وأمِلوا، ثم آمنوا وعملوا، ثم استمسكوا بِرَوح الله وقوة الشعب على عصف الخطوب وإلحاح المكايد، حتى استقر بهم الإيمان على الفوز، واستقام بهم الإخلاص على الطريقة، فكانوا مثلاً لجهاد الصابر المثابر الذي يتلمس القوة من جوانب الضعف، ويتطلب الكثرة من أشتات القلة، ويخلق النجاح اليقين من أحاديث المني، ويرفع في مُعترك الشُّبَه والظنون هذا الصرح الباذخ فيكون قاعدة للمصلح الباني، ومنارة للمتخلف الواني، ومثابة للمتنكب(97/2)
الشريد!
أحمد حسَن الزيات(97/3)
3 - الانتحار
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال المسيْبُ بنُ رافع: وكان الإمام قد شَغَل خاطرَه بهذه القصة فأخذت تمدُّ مدّها في نفسه، ومكَّنت له من معانيها بمقدار ما مكن لها من هَمه، وتفتَّق بها ذهنُه عن أساليبَ عجيبةٍ يتهيأ بعضُها من بعضٍ كما يلدُ المعنى المعنى. فلما قال الرجُلان مَقالها آنفاً وأجابهما بتلك الحكمة والموعظةِ الحسنة، انْقدَح له من كلامهما وكلامِه رأي فقال:
يأهلَ الكوفة: أنشُدكم اللهَ والإسلام، أيُّما رجلٍ منكم ضاق بروحه يوماً فأراد إزهاقَها إلا كشف لأهل المجلس نفسه وصَدَقَنا عن أمره؛ ولا يَجِدَنَّ في ذلك ثَلباً ولا عاباً، فإنما النكبةُ مذهبٌ من مذاهب القَدَر في التعليم؛ وقد يكونُ ابتداء المصيبة في رجلِ هو ابتداءَ الحكمة فيه لنفسه أو لغيره؛ وما من حزينٍ إلا وهو يشعر في بعض ساعات حزنه أنه قد غُيِّبت فيه أسرارٌ لم تكن فيهن وهذا من إبانة الحقيقة عن نفسها وموضعها كما لألأ في سيفٍ بَريقُه
وعقلُ الهمِّ عقلٌ عظيم، فلو قد أُريدَ استخراجُ علمٍ يَعلمُهُ الناسُ - من اللذات والنِّعم، لكان من شرح هذا العلم في الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قرابة في العقلاء، ولا تَبلغهً القُوى الآدميةُ في أهلها؛ بَيد أنه لو أُريد علمٌ من البؤس والألم والحاجة لما وُجد شرحُهُ إلا في الناس ثم لا يكون الخاصُّ منه إلا في الخاصة منهم
وما بَانَ أهلُ النعمةِ ولا غَمَروا المساكينَ في تَطاولهم بأعناقهم إلا من أنهم يَعُلون أكتافَ الشياطين؛ فالشيطانُ دابّة الغنيّ الذي يجهلُ الحقِّ عليه في غناه ويحسبُ نفسه مُخَلى لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابةُ العالِم الذي يجهل الحق عليه في غناه ويحسب نفسه مخلي لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابة العالم الذي يجهل الحق عليه في علمه، ويزعمُ نفسه مخلى لعقله أو رأيه، وما طال الطويل بذلك ولا عن ذلك قصُر القصير، وهل يصحُّ في الرأي أن يقال هذا أطولُ من هذا لان الأول فوق السُّلم والآخر فوق رجليه. . . .
قال المسيَّب: فقام شيخٌ من أقصى المجلس وأقبل يتخطَّى الرقابَ والناسُ يَنفرجون له حتى وقف بازاء الإمام؛ وتَفرّستُه وجعلتْ عيني تَعجمُهُ، فإذا شيخ تبدو طَلاقَةُ وجهه شباباً على وجهه، أبلجُ الغُرًّة مُتهَللٌ عليه بشاشة الإيمان، وفي أساريره أثرٌ من تقطيب قديم، ينطق هذا وذاك أن الرجلَ فيما أتى عليه من الدهر قد كان أطفأ المصباحَ الذي في قلبه مرةً ثم(97/4)
أضاءه. وعجبتُ أن يكون مثلُ هذا الشيخ قد همَّ بقتل نفسه يوماً وأنا أرى بعينيَّ نفسه هذه منبثقةً في الحياة انبثاق النخلةِ السحوق
وتكلم هذا الرجل فقال:
أمَا إذ ناشدتنا الله والإسلام وميثاقَ العلم ووحيَ الأقدار في حكمتها، فإني محدِّثك بخبري على وصفه ورَصْفه: أملقْتُ منذ ثلاثين سنة ووقف بي من الدهر ما كان يجري، وأصبحتُ في مزاولة الدنيا كعاصرِ الحَجَر يريد أن يشرب منه، وعجزتْ يدي حتى لَظُفْرُ دجاجة في نبشها الترابَ عن الحبة والحشرة أقدرُ مني، وَطرَقَتني النوائبُ كأنما هي تُساكنُني في داري، وأكلني الدهر لحماً ورماني عظاماً فما كان يقف عليّ إلا كلاب الطريق؛ ولي يومئذ امرأةٌ أعقبت منها طفلاً ويَلزمني حقٌّهما ولا أستطيعه، وكان بيننا حبٌّ فوق المعاشرة والألفة قد تركني من امرأتي هذه كالشاعر الغزِلِ من صاحبته، غير أن الشعر في دمي لا في لساني
فلما نكتني المصائبُ وتناولتني من قريب ومن بعيد؛ قلت للمرأة ذات يوم وقد شَحِبَتْ وانكسر وجهها وتَقبضَ من هُزاله: وأيمُ الله يا فلانة لو جاز أن يُؤكل لحمُ الآدميْ لذبحت نفسي لتأكلي وتدِرِّي على الصبي. ولقد هممتُ أن أركبَ رأسي وأذهب على وجهي لتفقداني فتفقدا شُؤمي عليكما؛ ولكن ردّني قلبي، وهو حبسني في هذه الدنيا الصغيرة التي بينكما، فليس لي من الأرض مَشرقٌ ولا مغربٌ إلا أنت وهذا الصبي. ولستُ أدري والله ما نصنع بالحياة وقد كنا من نباتها الأخضر فرَجعنا من حطبها اليابس، وعادت الشمس لا تغذوها بل تمتصُّ منها ما بقى، ولا تستضيء لها، ولكن تَستوقد عليها!
إن من فَقَد الخيرَ ووقع في الشر، حَريٌّ أن يكون قد أصاب خيراً عظيماً إذا قتل نفسَه فخلُص من الشر والخير جميعاً، لا يُكدي ولا ينجح، ولا يألم ولا يَلذْ؛ وكما أنكرته الدنيا فلينكرها. أما إنه إن كان القبرُ فالقبرُ ولكن في بطن الأرض لا على ظهرها كحالنا؛ وإن كان الموتُ فالموتُ ولكن بمرًّة واحدة وفي شيء واحد لا كهذا الذي نحن فيه أنواعاً أنواعاً. قد ماتت أيامنا وتركتنا نعيش كالموتى لا أيام لهم، وزاد علينا الموتى في النعمة والراحة أنهم لا يتطفَّلون على أيان غيرهم فيطُردوا عن يوم هذا ويوم ذاك
قال: فاستعبرَت المرأةُ باكية، ولما فرغتْ من كلام دموعها قالت: كأنك تريد أن تفجعنا(97/5)
فيك؟ قلتُ: ما عَدَوْتِ ما في نفسي؛ ولكن هل بقي فيّ من تُفجعين فيه؟ أما ذهب مني ذاك الذي كان لك زوجاً وكاسباً، وجاء الذي هو هُّمك وهُّم هذا الصبيّ من رجلٍ كالحفرة لا تنتقل من مكانها وتأخذ ولا تعطي؟
أم واللهِ لكأني خُلقتُ إنساناً خطأ، حتى إذا تبين الغلط أُريد إرجاعي إلى الحيوان فلم يأتِ لا هذا ولا ذاك، وبقيت بينهما؛ يمر الناس بي فيقولون إنسان مسكين؛ وأحسبُ لو نطقت الكلابُ لقالت عني كلبٌ مسكين. يا عجباً عجباً! لا ينتهي، أصبحت الدنيا في يدنا من العجز واليأس كأنما هي بَعرةٌ نجهدُ في تحويلها ياقوتةً أو لؤلؤة. . . .
فقالت المرأة: والله لئن حَييت على هذا إن هذا لكفرٌ قبيح، ولئن متّ عليه إنه لأقبحِ وأشد
فقلت لها: ويحكِ وماذا تَنظر العينُ المبصرةُ في الظلام الحالكِ إلا تنظًر العمياء؟
قالت: ولِمَ لا تنظر كما ينظر المؤمن بنور الله؟
قلت: فأنظري أنت وخّبريني ماذا ترَيْن أترَين رغيفاً؟ أترين إداماً؟ أتريْن ديناراً؟
قالت: والله إني لأرى كل ذلك وأكثر من ذلك. أرى قمراً سيكشف هذه السُّدفَةَ المظلمة إن لم يطلع فكأن قَدْ
قال: فغاظتني المرأة ورايتها حينئذ أشدّ علي بقلة ذاتِ عقلها من قلت ذات يدي؛ ولا حبي إياها ورحمتي لها لأوقعت بها. واستحكم في ضميري أن أُزهِق نفسي وأدَعًها لما كُتب لها
وقلت: إن جُبن المرأة هو نصف إيمانها حين لا يكون نصف عقلها، وللقَدَر يدٌ ضعيفة على النساء تَصفعهنً وتمسح دموعَهن، وله يدُ أخرى على الرجال ثقيلة تصفع الرجلَ وتأخذُ بحقله فتعصرُه
قال: وكنتُ قد سمعتُ قولً الجاهلية في هذه الخليقة: أرحامٌ تَدفع، وأرض تَبْلع. فحضرني هذا القولً تلك الساعةَ وشُبِّه لي، واعتقدتُ أن هذا الإنسان شيء حقيرٌ في الغاية من الهوان والضَّعة: حملتْه أمُّه كُرْهاً، وأثْقَلتْ به كُرهاً، ووضعته كُرهاً؛ وهو من شؤمِه عليها إذا دَنَا لها أن تَضعَ لم يخرج منها حتى يضربًها المخًاضُ فتتقلًّب وتصيح وتتمزَّق وتًنْصَدع؛ وربما نَشِبَ فيها فقتلها، وربما التوى فيُبْقرُ بطنُها عنه. وإذا هي ولدته على أيِّ حالِهْا من عُسرٍ وتطريق بمثل المطارق المحطِّمة، أو سَرَاحٍ ورَواحٍ كما يتيّسر - فإنما تلده في مَشِيمَةٍ ودماءٍ وقذَرٍ من الأخلاط كأنما هو خارج من جُرْح. ثم تتناوله الدنيا فتضعُه من معانيها في(97/6)
أَقبحَ وأَقذرَ من ذلك كله. ثم يستوفي مُدَّته فيأخذه القبر فيكون شراً عليه في تمزيقه وتعفينه وإحالته
قال: وحضرني مع كلمة الجاهلية قَولُ ذلك الجاهل الزنديق الذي يُعرفُ (بالبَقلْيّ) إذ كان يزعم أن الإنسان كالبَقْلة - فإذا مات لم يَرجع. وقلت لنفسي؛ إنما أنتِ بقلةٌ حمقاءُ ذاوية في أرض نشَّاشَةٍ فقتلها مِلْحُ أرضها أكثرَ مما أحياها
قال: وثُرتُ إلى المُدْية أريد أَن أتوَجَّأ بها، فتبادِرُني المرأةُ وتحولُ بيني وبينها؛ وأكاد أبطُشُ بها من الغيظ، وكانت روحُ الجحيم تَزْفِرُ من حولي، لو سًمِعوا سمعوا لها شهيقاً وهي تفور؛ فما أدرى أَيُّ مَلكٍ هبط بوحي الجنة في لسان امرأتي
قلت لها: إنها عَزْمةٌ مني أن أقتلَ نفسي
قالت: وما أريد أن أنقُضها ولستُ أرُدَّك عنها وستُمضيها
قلت: فخلى بين نفسي وبين المُدية
قالت: كلنا نفسٌ واحدةٌ أنا وأنت والصبيّ فلنقْضِ معاً؛ وما بنفسي عن نفسك رغبةٌ، ولا ندعُ الصبيّ يتيماً يصفعُه من يُطعمه، ويضرُ به ابنُ هذا وابنُ ذاك إذ لا يستطيعُ أن يقول فيأولاً د الناسِ أنا ابن ذلك ولا ابنُ هذا
قلت: هذا هو الرأي
قالت: فتعالَ اذبح الطفل. . . .
قال المسيَّب بن رافع: وما بلغ الرجل فبي قصته إلى ذبح ابنه حتى ضجَّ الناسُ ضجةً منكَرة؛ وتوهم كل أبٍ منهم أن طفله الصغير مُمدَّدٌ للذبح وهو ينادي أباه ويشُقُّ حَلْقَه بالصراخ: يا أبي؛ أدركني يا أبي
أما الإمام فدَمًعتْ عيناه وكنتُ بين يديه فسمعتُه يقول: إنا لله، كيف تصنعُ جهنمُ حطَبها؟
وأنا فما قَطُّ نسيتُ هذه الكلمة، وما قطُّ رأيتُ من بعدها كافراً ولا فاسقاً فاعتبرتُ أعمالَه إلا كان كلُّ ذلك شيئاً واحداً هو طرقة صنعته حطباً. . . كأن الشيطان لعنه الله يقول لأتباعه: جَفِّفُوه. . . .
وكانت هُنيهاتٌ، ثم فاءَ الناسُ ورجعوا إلى أنفسهم وصاحبوا بالمتكلم: ثم ماذا؟
قال الرجل: ففتحتُ عيني وقلبي معاً ورمقْتُ الطفلَ المسكين الذي لا يملك إلا يديه(97/7)
الضعيفتين ونظرتُ إلى مَجرى السكِّين من حلقه وإلى مَحزِّها في رقبته اللينة؛ ورايتُه كأنما تَفرَّقَ بصرُه من الفزَع على كل جهة، ورأيته يتضرّع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحَه، ورأيته يتوسل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه منى أمام قاتله؛ ثم خُيِّل إلى أنه يتلوّى وينتفضُ ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه
يا ويلتاه! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدّمت السماء على الأرض، وحسبت الكونَ كلَّه قد انفجر صُراخاً من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربُّه أمام القاتل
فَهرُولْت مسرعاً وتركت الدارَ والمرأةَ والصبيْ وأنا أقول: يا أرحمَ الراحمين. يا من خلق الطفل عالَمُهُ أمُّه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباءٌ عنده. يا من دبّر الرضيعَ فوهبه مُلكاً ومملكة وغنى وسروراً وفرحاً، كلًّ ذلك في ثَدْي أمِّه وصدرِها لا غير. يا إلهي: أنسني مثلَ هذا النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير فإني منقطعُ إلا من رحمتك انقطاعَ الرضيع إلا من أمِّه
قال الرجل: ولقد كنتُ مغروراً كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتُها. ولقد كنت أحقرَ من الذباب الذي لا يجد حقائقه ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر
وما كدت أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعت صوتاً ندِياً مطلولاً يُرجِّع ترجيع الورقاءِ في تحنانها وهو يُرتل هذه الآيةِ:
(واصبرْ نفسك مع الذيِن يدْعون ربّهم بالغداةِ والعشيِّ يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناكَ عنهم تريد زينةَ الحياة الدنيا، ولا تُطعْ من أغفلنا قلبَه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا.)
قال: فوقفت أسمع وماذا كنت أسمع؟ هذه شُعَلٌ لا كلمات، أحرقت كلّ ما كان حولي ولستْ مصباحَ روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعتْ نفسي عن الجدبْ الذي كنت فيه وكأنما لفّتني سحابةٌ من السحب ففي روحي نسيم الماء البارد ورائحةُ الماء العذب
لعن الله هذا الاضطرابَ الذي يُبتلى الخائفُ به. إننا نحسبه اضطراباً وما هو إلا اختلاطُ الحقائق على النفس وذّهابُ بعضها في بعض، وتَضُّبُ الشرّ في الخير والخيرِ في الشر حتى لا يَبينَ جنسٌ من جنس، ولا يُعرف حَدُّ من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة. وبهذا يكون الزمنُ على المبتَلى كالماء الذي جَمدَ لا يتحركُ ولا يَتَسايَرُ، فيلوحُ الشرُّ وكأنه دائماً(97/8)
لا يزال في أوله يُنذرُ بالأهوال، وقد يكون هَوْلهُ انتهى أو يُوشك
قال الرجل: وكنت أرى يأسي قد اعْتَرى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن؛ فلما سكن ما بي إذا هو قد كان باسَ يوم أو أيام في مكان من الأمكنة؛ أما ما وراء هذه الأيام وما خلف هذا المكان فذلك حكمُهُ حكمُ الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها؛ وحكم الماء الذي تَهْمي السماءُ به ليسقي الأرض وما عليها، وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مَدَارِها لا تُمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها
أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك؟ وهل الحياةُ إلا بكل ذلك؟
وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيَسُوغَ له أن يقول في حادثةٍ من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي؟
تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحوَ من نفسه الخِسَّة والدناءة، واكسر الشرَّ والكبرياء، وتَفثَأ الحدَّةَ والطيش؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشاً وحدة، وكبرياءَ وشراً، ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك
المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة
قال: وردًّدتُ الآية الكريمةَ في نفسي لا أشبع منها، وجعلتُ أرتلها أحسنَ ترتيلٍ وأَطرَ به وأشجاه فكانت نفسي تهتزُّ وترّبحُّ كأنما هي تبدأُ تنظيمَ ما فيها لا قرار كل حقيقة في موضعها بعد ذلك الاختلاط والاضطراب
صبرُ النفس مع الذين يمثلون روحانيتها تمثيلاً دائماً بالغَداة والعشيّ، وعلى نور الحياة وظلامها، يريدون وَجهَ الله الذي سبيلُه الحبُّ لا غيرُه من مال أو متاع. وتقييدُ العينين بهذا المثل الأعلى كما يكون الأمر في الجمال والحب؛ والربطُ على الإرادة كيلا تَتَفَلَّت فتُسفًّ إلى حقائر الدنيا المسمى هُزُءاً وتهكما زينةَ الدنيا، تلك التي تشبه حقائق الذباب العالية. . . فتكون قذرةً نجسةً، ولكنها مع ذلك زينة الحياة لهذا الخلق. . . .
تلك والله هي أسباب السعادة والقوة. أما المصائب كلها، فهي في إغفال القلب الإنساني عن ذكر الله
قال: ولما صحَّت توبتي، وقوىَ اليقينُ في نفسي، كَبُرَت روحي واتسعت، وانبعثت لها بواعث من غيره حقائق الذباب، وأشرق فيها الجمال الإلهي ساطعاً من كل شيء، وكان(97/9)
الصبح يطلع علىًَ كأنه ولادة جديدة، فأنا دائماً في عمر طفل. وجاءني الخير من حيث أحتسبُ ولا أحتسب، وكأنما نمتُ فانتبهتُ غنيّاً، وعَمِلَ القلبُ الحيُّ في الزمن الحيّ
ولقد أَفدْتُ من الآية طبيعةَ لم تكن فيَّ، ولا يثبتُ معها الشر أبداً؛ فاصبح من خِصالي أن أرى الحاضرَ كلَّه متحركا يمرُّ بما فيه من خيره وشره جميعاً، وأستَشْعِرَ من حركته مثلما ترى عيناي من قِطَار الإبل يهتزُّ تحت رِحاله وهو يُغِدُّ السَّير
لم أُبْعِدْ قليلاً وأنا أمشي مطمئناً تائباً متوكلاً حتى دعاني رجلٌ ذو نعمة ومروءة وجاء، وكأنما كلَّمه قلبه أو كلمه وجهي في قلبه فاستَنْبأني، وبثَثْتُه حالي واقتصصتُ قصتي. فقال: سيُحييك الله بالطفل الذي كدتَ تقتله فارجع إلى دارك. ثم وجَّه إلى دنانير وقال: اتَّجِر بهذه على اسم الله وبركته فسينمو فيها طفلٌ من المال حتى يبلغ أُشدَّه. وقد صدق إيمانه وإيماني فبارك لي الله ونما طفلُ المال وبلَغَ وجاوز إلى شبابه
قال المسيَّب: وجلس الرجل وكان كالخطيب على المنبر، فقال الإمام: وما أشبه النكبَة بالبيَضةُ تحسَب سجناً لما فيها وهي تحوطُه وتربِّيه وتُعينُه على تمامه، وليس عليه إلا الصبرُ إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تَنْقُفُ البيضةُ فيخرجُ خلقاً آخر
وما المؤمنُ في دنياه إلا كالفَرخ في بيضته، عملُه أن يتكوَّن فيها، وتمامُه أن ينبثقَ شخصُه الكامل فيخرج إلى عالَمِه الكامل
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي(97/10)
السكون في الظلام
للأستاذ أحمد أمين
ما ألذه، وما أهنئه، وما أحلاه!
يذهب بالأوصاب، ويرد العافية إلى الأعصاب
فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم - وإذا كان كل الناس في حاجة إليها فرجال الفكر إليها أحوج، هي راحة من عناه مجهودهم، واسترداد لما فقدوا من رءوسهم، واسترجاع لما قطروا من عصارة عقولهم
وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن، وصحة التفكير، وجودة الإنتاج - فالبذرة لا تنبت في جلبة وضوضاء وضياء، إنما تنبت في جوف الأرض، حيث لا تراها عين، ولا تؤذيها حركة، وحيث تستمتع بكل ما في السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى النور والهواء والحركة بساقها وفروعها، لا بنفسها -
لا وردة تفتن بجمالها ومنظرها وعبيرها قبل أن تدفن بذرتها، يجب أن تمر بها أيام وأيام، تشعر بنفسها ولا يشعر الناس بها، وحتى إذا أعجبت الناس ونفحتهم بنعيمها يجب أن يبقى اصلها منعماً بظلامه وسكونه، فإذا أقلقًتَ مضجعها، وسلبتها هدوءها سلبتك محاسنها
وكذلك كل حي لابد أن يموت ليحيا، وهل النوم إلا ضرب من الموت، ونوع من الفناء. دع الحي يحيا أياماً من غير نوم تره وقد تهدلت أعصابه، وتهدمت قواه، وقرب من الفناء الأبدي
وليس يكفي النوم للمفكر، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبهاً نائماً، وشاعراً حالماً، يلذ فيها لذة النوم، كما يلذ لذة الصحو، يتعرض فيها لنفحات الله، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، وتأتيه الفكرة الناضجة، أو الخَطْرة الكاشفة، أو اللمحة الدالة؛ فتكون خيراً من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، والصحف والكتب
قرأت مرة أن متعلماً كان يقص على معلمه أنه يصبح مبكراً فيقضي ساعات في استذكار دروسه، وساعات في تعلم لغات أجنبية، وساعات في أخذ دروس جديدة في علوم مختلفة،(97/11)
حتى يمضي جزء كبير من الليل فيذهب إلى فراشه وقد أنهكه التعب، وأخذ منه كل مأخذ، فقال له أستاذه: ومتى تفكر، وأين تجد نفسك؟
وهو سؤال له دلالته ومغزاه، فاكثر الناس لا يفكرون، وإن ظنوا أنهم فيما يقرءون ويكتبون ويفكرون، وأكثر الناس يفقدون أنفسهم في ثنايا صحفهم وكتبهم
ولأمر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم (يخلوا بغار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء)
في غار حراء حيث السكون والظلام. بعيداً عن الخلق قريباً إلى الحق، قد انقطع عن العالم وضوضائه، والدنيا وألاعيبها، قد صفت نفسه من صفاء محيطه، ووجد نفسه فوجد ربه، وتعرض للإلهام فجاءه الإلهام، وتهيا للوحي فنزل عليه الوحي
لكَمْ تمنيت أن يكون للمسلمين تكايا أو خانقات في أمكنه نزهة منقطعة، ليست من هذا النوع الذي يأوي إليه العاجزون والعاطلون، والذين يأكلون ولا يعملون، ولكنها من طراز حديث يهرع إليها من أراد أن يَسْتجِم نفسه، ويريح قلبه، ويسترد هدوءه، بعد أن أتلفتها ضوضاء المدينة، وجلبة الحياة العصرية - تكون مستشفى للنفوس بجانب مستشفيات الأبدان، ويترهب فيها من أضناه العمل، وأعياه الجهد، رهبانية مؤقتة يجدد فيها نفسه، ويغذي بهدوئها وسكونها عقله وحسه، ويُبعْث إلى العالم خلقاً جديداً كما يبعث النوم الحياة - إذَنْ لقلّت أخطاء الناس ومظالمهم، فأكثرها مبعثه فساد الأعصاب - وإذن لقلّ إلحادهم فأكثره منشؤه الانغماس في المادة وشؤونها، فإذا تجرد المرء منها زمناً وخلا بنفسه وأتيحت له فرصة التفكير في هدوء وسكون وظلام تحرك قلبه للعبادة، ونزع إلى الإيمان، فاستجاب لفطرته، واستمع لطبيعته - وإذن لقلة مطامع الناس، وتكالبهم على الحياة، فحياة الهدوء والسكينة توحي بأن الحياة ظل زائل، ومرحلة مسافر
لقد اعتاد الناس أن يفروا من متاعبهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم ولا تفيد - كثيراً - الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها - عادة - كل مظاهر المدينة وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناء صحيحاً في العلاج النفسي والروحي - إنما يغني هنا الغناء أنواع من المعاهد والمؤسسات قد بني على أساسٍ(97/12)
نفسي وروحي لا يعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، يربح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، ويسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات. فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة. وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها
في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء، على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بإذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويتذوق موسيقاه، ويدرك معاني المياه في تحريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها - فكأنه منح من الحواس ضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته - وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله ويثلم ذوقه، فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت، ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا اقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون، ولئن كانت عيننا البصيرة لا تبصر إلا في ضياء، وأذننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما نستعين بالضوء والهواء
إني لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين يقضون نارهم في وظائفهم وأعمالهم. ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضاً لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم. ثم لهو قليل ونوم، واعتقد أن هناك عنصرا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل، ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما اعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقوله: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق على الغرب قديما، ومن ثم كان مبعث الأديان، ومصدر الإلهام
في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس(97/13)
ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم
وأظن أن في الاستطاعة أن يوضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بيائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يأجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، وإنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس - وليست تحتاج إلا إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك
أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام. ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها؛ واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك؛ وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟
وتدرج من هذا إلى التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم
وارق إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك، ما غايتك وما مبادئك في الحياة، وهل وضعت لها خططاً؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟
سيسلمك ذلك - من غير شك - إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بينت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى
في الحديث: (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا) ولعل هذا الضرب من التأمل ينبههم في حياتهم، من غير أن ينتظروا أن ينتبهوا بموتهم
ربما كان هذا ضرباً من التصوف يتفق وروح العصر، وإن شئت فقل إنه نوع من التصوف على أحدث طراز وأبدع نمط، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم، ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدينة الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت، ولعلنا نستروح من هذا(97/14)
البرنامج نسيم الراحة فيراجعنا نشاطنا، وتثوب إلينا قوتنا، وتعود إلينا نفوسنا
أحمد أمين(97/15)
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
6 - الحاكم بأمر الله
ختام البحث
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 10 -
إلى ذلك الحين سلخ الحاكم زهاء خمسة عشر عاماً في الحكم؛ وكانت فترة تحمل طابع الاضطراب والعنف والمفاجأة بما تخللها من غريب الأحكام والتطورات التي أتينا على ذكرها. . ولكن الحوادث تدخل من ذلك الحين في طور آخر، ويميل العهد إلى نوع من الهدوء، ويتجه الحاكم وجهة أخرى. كان ذلك الذهن المضطرم الهائم معاً لا يسكن إلى ركود الحياة العادية، وكان دائماً يؤثر التوغل في عوالم الحياة الروحية. وكانت أعوام العصر الأخيرة مليئة بهذه التيارات الخفية التي تحجب عنا أغوارها ريب وظلمات كثيفة. كانت مصر في هذه الأعوام مهداً خصباً لعصبة من الدعاة المغامرين الذين هبطوا إليها يبشرون بأديان وعقائد جديدة؛ وكان الحاكم من وراء هذه الدعوات يرعاها ويرقب تطوراتها حتى استحالت في أواخر عهده إلى دعوة جريئة إلى (ألوهيته)، ونعت الحاكم عندئذ بقائم الزمان وناطق النطقاء. وقد سبق أن فصلنا عناصر هذه الحوادث والدعوات في (الرسالة) في بحثنا (الدعوة الفاطمية السرية) فلا نعود إليها هنا
وكانت خاتمة الحاكم، كحياته، خفية مدهشة؛ فقد أغاض من هذا العالم وزهق في ظروف غامضة مازالت على التاريخ سراً عسير الجلاء
وهنا نحاول، بعد استعرضنا أعمال الحاكم بأمر الله وغريب أحكامه وتصرفاته، أن نعرض إلى أدق وأصعب نقطة في دراسة هذه الشخصية العجيبة
ماذا كانت حقيقة هذه الشخصية التي جمعت بين خلال وصفات يحمل أكثرها طابع العنف والشذوذ والتناقض؟ وبأي عين يجب أن ننظر إليها، وبأي معيار نستطيع أن نقدر صفاتها وأعمالها؟ وأي أحكام يسوغ لنا أن نصدرها لها أو عليها؟
لدينا في ذلك مادة منوعة: أقوال الرواية الإسلامية المعاصرة والمتأخرة، وحوادث العصر،(97/16)
وأعمال الحاكم وتصرفاته ذاتها. فأما الرواية الإسلامية، فلا ترى في أمر الحاكم لغزاً يصعب استجلاؤه؛ ولنلاحظأولاًأن ما انتهى إلينا من أقوال الرواية الإسلامية، إنما هو في الغالب أقوال المؤرخين السنيين، خصوم الشيعة وخصوم الدولة الفاطمية، وإننا لم نلتق من تراث الشيعة الذي بددته الحوادث والدول الخصيمة ما يلقي ضياء كافياً على ذلك الخفاء الذي يحيط بشخصية الحاكم وأعماله. والحقيقة أن الرواية الإسلامية تأخذ بظواهر الحوادث المادية، وتكتفي بأن تقدم إلينا الحاكم في تلك الصور المروعة المثيرة التي أشرنا إليها؛ وقلما تحاول أن نلتمس في ما وراء ذلك شيئا من البواعث والأسباب التي يمكن أن نعلل بها بعض نزعات الحاكم وتصرفاته العجيبة. وقد أوردنا بعض أقوال الرواية الإسلامية في وصف الحاكم؛ فهي لا ترى فيه أكثر من أمير مضطرب العقل والتفكير، عنيف الأهواء والنزعات، كثير العبث والسفك، شديد التناقض، لا يصدر عن رؤية أو منطق متزن، ولا يتحرى غاية أو مثلاً معقولة. هذه هي الصورة العامة التي يقدمها إلينا المؤرخون المسلمون عن الحاكم؛ وهي صورة بسيطة ساذجة مستمدة من ظاهر الحوادث المادية؛ فقد كان الحاكم طاغية شديد البطش والسفك، ولكنه كان يتخذ السفك وسيلة لا غاية، وكان القتل في نظره خطة سياسية؛ وكان عنيف الأهواء والنزعات، ولكنها لم تكن نزعات شهوة نفسية، وإنما نزعات ذهن يرتفع عن الوسائل العادية لتوجيه مجتمع يراه جديراً بالتغيير والتطور؛ وكان متناقضاً في كثير من تصرفاته، ولكن تناقض الذهن الذي يحاول مختلف الوسائل والتجارب لتحقيق غايات معينة. ومع ذلك فإنه لم يفت بعض المؤرخين أن يلاحظ أن عقلية الحاكم لم تكن بتلك البساطة التي تصور بها، فقد وصفه الذهبي بأنه كان (خبيثاً، ماكراً، ورديء الاعتقاد)، وهي صفات ليست من خواص الذهن المضطرب السقيم الذي يفكر دون تدبر ويعمل دون غاية
والواقع أن الحاكم بأمر الله كان عقلية مدهشة، وكان لغزا عسير الفهم؛ وإذا كان قد أشكل على المؤرخين المسلمين من معاصرين ومتأخرين فلم يحاولوا فهمه، فإنه مازال أيضاً في بعض نواحيه لغزا على عصرنا، وإن كنا نستطيع أن نحاول فهمه من بعض النواحي، وتعليل كثير من أعماله وأحكامه. ويصفه العلامة الألماني ميللر بأنه (من أعجب وأغمض الشخصيات التي عرفها التاريخ)؛ ويقول: (إن من يقرأ ما أورده المؤرخون المتأخرون من(97/17)
مختلف الأساطير والقصص يخرج بأنهم لم يفهموه، وأنهم اعتبروه مجنونا فقط؛ وقد جرى رأيهم فيه مجرى الحقيقة، ولكن توجد ثمة شواهد واضحة على أن هذا الأمير الذي هو أعجب من أنجبت أسرته، كان أشدهم إثارة للأساطير من حوله، وأن حجابا كثيفا قد أسبغ على صورته فلا نستطيع أن نظفر منها إلا بلمحات)
والآن ماذا نستطيع أن نقول في قوانين الحاكم وتصرفاته؟ وكيف ننظر إليها؟ هل كان في مجموعها فورات مجنون ونزعات مخبول كما تصورها معظم الروايات الإسلامية؟ إن كثيراً من هذه القوانين والأحكام يحمل طابع القسوة والإغراق، ولكن من التحامل والظلم إن نصفها بالسخف المطبق، وان ننعت صاحبها بالجنون ولقد ظلم التاريخ الحاكم كما ظلم كثيراً من الطغاة المصلحين؛ وقد كان الحاكم طاغيا، ولكن مصلحا على طريقته، وكان يرمي بما يصدر من القوانين والأحكام إلى تحقيق غايات معينة، دينية وسياسية واجتماعية، ربما خفيت على الكافة، لأنها تتعلق بسياسة الدولة العليا؛ ومن ثم كان الريب في حكمتها والسخط عليها؛ وكانت القسوة في تطبيقها
فأما معاملة الذميين: أعنى اليهود والنصارى، وما صدر في شأنها من الأوامر والأحكام المشدودة، فلم تكن بدعة في ذاتها ولم تكن حدثاً جديدا في الخلافة الإسلامية؛ ولم يكن فيها من الجديد سوى روحها ووسائلها الشديدة التي جعلت منها نوعا من الاضطهاد المنظم. ولقد كانت الخلافة الإسلامية تأخذ بسياسة التسامح الديني وتطلق لرعاياها الذميين الذين يؤدون الجزية حرية الاعتقاد والشعائر؛ ولكن الذميين كانوا يلقون من الوجهة الاجتماعية دائما نوعا من المعاملة الخاصة؛ ومنذ خلافة عمر فرضت عليهم بعض الأحكام والقيود التي تجعلهم من الوجهة الاجتماعية أدنى من المسلمين، وكان منها قيود تتعلق بالأزياء وركوب الخيل، وحمل السلاح واقتناء العبيد؛ وكانت هذه الأحكام تتخذ في عصور الحماسة الدينية لوناً من الشدة يختلف باختلاف الظروف والأحوال. قد رأينا إن الخلافة الفاطمية كانت تتبع سياسة التسامح الديني نحو اليهود والنصارى، وإنهم في ظلها ازدهروا وتبوءوا أرفع مناصب الثقة والنفوذ وإن موقف الحاكم نحوهم، واشتداده في معاملتهم على هذا النحو، كان انقلابا في السياسة الفاطمية. وقد نستطيع أن نفسر هذا التطرف من جانب الحاكم، بأنه نوع من الغلو الديني له بواعثه السياسية؛ ففي هذه المرحلة التي أشتد فيها الأمر على اليهود(97/18)
والنصارى، كان الحاكم يبدي كثيرا من التعصب والغلو سواء من الناحية الدينية العامة أو الناحية المذهبية الخاصة ولكن هذه الشدة استحالت في أواخر عصره إلى نوع من اللين والرفق بالنصارى واليهود؛ ذلك لان هذا الذهن المضطرم يستحيل عندئذ إلى ذهن فلسفي حر التفكير، ينظر إلى الأديان كلها نظرة واحدة؛ وإن كانت السياسة العليا تحتم عليه أن يؤيد دين الدولة ومذهبها الرسمي؛ وقد كان الحاكم ولد أم نصرانية كما قدمنا أفلا نستطيع، أثر هذه الأرومة أيضاً في هذا التكوين الديني المضطرب، وفي هذا التردد بين الشدة واللين؟ ومما يلاحظ في هذا الصدد إن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة، وإنه لن يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره حينما ظهر الدعاة السريون الذين يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة وقوانين الحكم الاجتماعية؟ هل كان تشريعاً جنونياً خاليا من كل باعث وحكمة؟ إن الحكم على هذه القوانين يقتضي أن نفهم روح العصر وخواص المجتمع المصري يومئذٍ؛ كان الحاكم بأمر الله على رأس خلافة مذهبية يقوم سلطانها السياسي على صفة الإمامة الدينية؛ وكانت هذه الخلافة تريد أن تحيط ملكها في مصر بسياج قوي من الخلال القوية التي أحاطت ملكها في المغرب؛ ولكنها الفت في مصر مجتمعا متحضراً يميل إلى الترف والحياة الناعمة، ولم ترد أن تضيق على هذا المجتمع بادئ بدء، لأنها كانت تخطب وده وتسعى إلى تأليفه؛ ولهذا كانت تسايره، وتغيره ببذخها وبهائها، وتطلق له أعنة البهجة والمرح، وتغمره بالمواسم الفخمة والحفلات والمواكب الشائقة؛ فكانت تذكر بذلك مرحه وخفته واستهتاره بدلا من أن تذكر فيه الخلال القوية التي تنشدها. وكانت عوامل الانحلال تجثم في قرارة هذا المجتمع الذي يخفى انحلاله تحث أثواب من الفخامة والبهجة؛ وكانت الرذائل الاجتماعية على اشدها حينما تولى الحاكم بأمر الله، وظهر ذلك الانحلال الاجتماعي في اشد مظاهره حينما نظمت حياة الليل، وشهد الأمير مواكبه الليلية مظاهر هذا الفساد الشامل. عندئذ عمد الحاكم إلى وضع هذه الخطة التي يمكن أن توصف بحق بأنها برنامج للإصلاح الاجتماعي، ولجأ إلى تلك القوانين والإجراءات الصارمة كوسيلة لمكافحة هذا الفساد الاجتماعي الشامل؛ وفيم تحريم الخمر ومطاردة المدمنين، وتحريم الغناء واللهو الخليع إلا أن يكون لتقويم أخلاق الشعب، وحماية أمواله وصحته من الإسراف(97/19)
والعبث، وحماية المجتمع من ضروب الفساد التي يغرق فيها؟ إن الأمم العظيمة في عصرنا تلجأ في أحيان كثيرة إلى إصدار مثل هذه القوانين لبث الإصلاح الاجتماعي؛ وما عهد التحريم الأمريكي ببعيد، فقد حرمت الخمر في أمريكا مدى أعوام، وكانت تجربة اجتماعية هائلة لا تزال ذاكراها ماثلة في الأذهان؛ وما تزال بعض الدول تحرم بعض الملاهي التي تراها خطرا على الأخلاق العامة؛ وما تزال بعض الحكومات تحد من حريات الشعب في التجوال بالليل في ظروف معينة حرصاً على الأخلاق والأمن العام
ومطاردة المرأة والحجر عليها؟ لا ريب أن الحاكم كان يذهب في ذلك إلى ذروة الغلو والإغراق، ولكن المرأة من أشد عوامل الفتنة والغواية، ولاسيما في عصور الفساد والانحلال، وقد رأى الحاكم، في الحجر على المرأة، والمباعدة بينها وبين الرجل في حياة المدينة، وسيلة لمكافحة الرذيلة وحماية الأخلاق الفاضلة. أما الإغراق في تطبيق التجربة، فهو بلا ريب أثر من إغراق هذا الذهن الهائم في كل ما يعتقد ويبتكر؛ وإذ كنا نستطيع أن نعلل فكرة الحجر على المرأة وإبعادها عن مجتمعات المدينة، فمن الصعب علينا ذلك الإغراق في تطبيقها إلى حدود من القسوة الذريعة. بيد أنه ليس من الإنصاف أن ننكر على الإجراء كل حكمة، فإن من المحقق أنه كان ذا اثر كبير في درء الفساد الشامل وتنقية حياة المدينة، وإنا لنشهد في عصرنا في بعض الأمم العظيمة فكرة مماثلة في الحد من حريات المرأة الاجتماعية وردها إلى حظيرة الأسرة مع فرق في العصر والظروف. ففي إيطاليا الفاشستية، وألمانيا الهتلرية تفقد المرأة كثيرا من حريتها، ويحضر عليها التبذل والتهتك في الأزياء؛ وفي إيطاليا تلزم بان لا يقل ثوبها عن طول معين؛ وفي ألمانيا وإيطاليا يحضر اليوم كثير من ضروب اللهو الخليع، وتمنع الحانات الليلية والملاهي العارية. ولا ريب أن الفكرة التي أملت على الحاكم خطته، وتملى اليوم على ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشستية خطتها نحو المرأة، ترجع في جوهرها إلى اصل واحد، هو مكافحة عوامل الغواية والفساد التي يبثها تهتك المجتمع النسوي وإمعانه في صنوف الاستهتار والخلاعة
وأما تحريم بعض أنواع الأطعمة فقد يرجع إلى أسباب صحية لها قيمتها في ذلك العصر، وإما تحريم ذبح الأبقار السليمة فهو إجراء ظاهر الحكمة وهو المحافظة على النسل. وأما قتل الكلاب فهو تحوط صحي لا يزال يتبع في عصرنا في جميع الأمم المتمدنة(97/20)
ولسنا ندعي أننا نستطيع أن نعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ننفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك الكثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله؛ ولكن الذي نود أن نقوله هو إن هذه القوانين والإجراءات، كانت عكس ما تصورها الرواية الإسلامية بأنها نزعات طاغية مضطرب الذهن، تكون في مجموعها برنامجاً إصلاحياً شاملا، وترمي في مجموعها على تحقيق غايات لا ريب في حكمتها وسموها
يقول العلامة دوزي: (لم تكن قوانين الحاكم سخيفة كما يحب أن يصورها الرواد السنيون الذين اعتادوا ان يقدموا إلينا من هذا الأمير شخصية مضحكة لا صورة حقه) ثم يقول: (ولقد أراد الحاكم أن يكافح الانحلال الشامل الذي سرى إلى مجتمع عصره بقوانين بوليسية صارمة، وأحيانا غريبة شاذة) ثم يشرح رأيه بعد ذلك على ضوء هذه القوانين والأحكام المختلفة، ويحدثنا بعطف عن تواضع الحاكم وتقشفه، ويقول ميلر بعد أن يلخص قوانين الحاكم الاجتماعية (إن هذه التصرفات ليست كلها تنم عن الحماقة؛ وإذ كنا لا نستطيع أن نعلل كل أعماله، فليس ذلك مما يحملنا على أن نعتبر تصرفاته فورة أهواء مستبد ولا سيما ونحن نراها في نواحٍ أخرى سليمة معقولة. وكل ما وصلنا من الروايات إنما هو وقائع مجردة، مشوهة ومبالغ فيها بلا ريب؛ وإنه ليكون من المدهش اليوم أن نستطيع أن نحل رموز هذه المعضلة الشاملة) ثم يقول: (وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه أما باطني متعصب، توهم في نفسه الإغراق والألوهية، وأما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذبها، وأعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته. وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك وربما لا يستطيع أن يظفر بالحقيقة هنا سوى خيال شاعر)
والخلاصة أن الحاكم بأمر الله لم يكن تلك الشخصية الوضيعة الساذجة، ولا تلك العقلية المخرفة التي تقدمها إلينا الرواية؛ ولم تكن أعماله وأحكامه، كما صورت على كل العصور مزيجا من النزعات والأهواء الجنونية؛ وإنما كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهنا بعيد الغور وافر الابتكار وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل. وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق.
تم البحث(97/21)
محمد عبد الله عنان
المحامي(97/22)
سقراط والعالم الإسلامي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد لهجت السنة الأثينيين باسم حكيم لا كالحكماء، وفيلسوف لا كالفلاسفة. لا يتفق شكله وزيه مع جلال الحكمة، ولا يتلاءم أصله ونسبه مع عظمة الفلسفة. فقد كان أفطس الأنف، مرسل الشعر في غير انتظام، حافي القدمين، حاسر الرأس مرتديا كساء غليظا. أبوه نقاش وأمه قابلة: مهنتان ليس لهما من الشرف نصيب كبير وهو مع هذا يناقض أهل أثينا ويبين خطأهم، ويسفه أحلامهم دون أن يدعي الإتيان بجديد، أو تعليم الناس ما لم يعرفوه. أجل لم يك هذا الفيلسوف رئيس مدرسة يجتمع فيها الطلاب ولا صاحب نظرية محدودة يتدارسها الأتباع والتلاميذ. بل كان يبعث حكمته في الأسواق والطرقات ويلقى درسه أمام الحوانيت وفي ملعب الشبان. وما كان هذا الدرس وتلك الحكمة إلا إعلانه دائماً إنه لا يعرف شيئاً وترديده لهذه الجملة المأثورة: (أعرف نفسك بنفسك). ذلكم الحكيم الغريب شكله، القبيح منظره، الشاذة تعاليمه وطريقته هو سقراط الذي نهج بالفلسفة نهجاً جديداً، وكان على رأس طوائف فلسفية متعددة ومتباينة
بين فلاسفة الأغريق ثلاث أسماء لا يكاد الإنسان يذكر واحدا منها إلا وحضر بذهنه الآخرون. ومن ذا الذي يلفظ أسم أفلاطون دون أن يخطر بباله أنه كان تلميذا لسقراط وأستاذا لأرسطو؟ أو من ذا الذي يتكلم عن سقراط ولا يلحظ تلميذه أفلاطون وتلميذ تلميذه أرسطو؟ وفي الحق أن هؤلاء الحكماء الثلاثة يكمل بعضهم بعضا: تضافروا على تكوين نظرية مشتركة نشأت بين يدي الأول، وترعرعت لدى الثاني، وأخذت شكلها الكامل عند الأخير. فكلهم أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وعني بالإنسان في تفكيره وسلوكه أكثر من عنايته بالشؤون الطبيعية في نظامها وتقلبها. وكلهم بحث عن الفكرة ' في طريق تكونها وأصل نشأتها ودرجة وجودها وبذا كانوا جميعاً أساتذة (الفلسفة الفكرية) التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ الدراسات النظرية والتي لا تزال عماد البحث العقلي إلى اليوم
لم يقف نفوذ سقراط عند الشعبة الأفلاطونية والأرسطوية، بل تعداهما إلى مدارس أخرى كانت من أشد الناس عداءاً لأفلاطون وأرسطو. فالميجاريك تلاميذ أقليد الميجاري والسينيك أتباع أنطستين يصعدون إلى سقراط وان كانوا من أول من خرج عن المنطق،(97/23)
وشكك الناس في الحقيقة وكيفية الوصول إليها. فهم بهذا من أكبر الخصوم (الفلسفة الفكرية) التي تحدثنا عنها. والأخلاق لدى أصحاب الرواق تعتمد على أساس سقراطي واضح؛ فالرواقيون يرون - كما يرى سقراط - أن الحسن ما أملته الإرادة، وما أتفق مع العاطفة الشخصية. وعلى هذا يجب أن تؤسس الأخلاق لديهم جميعا على دعامة من العزيمة والشعور الفردي. وطريقة اللاإداريين في الحوار والمناقشة متأثرة قطعاً بطريقة سقراط ومن قبله من السوفسطائيين
ذلكم هو سقراط في العالم الإغريقي؛ وبودنا أن نعرف على أي صورة وصل إلى العالم العربي هل وجد بين العرب أنصارا وأتباعا مثلما وجد بين الأغريق، وهل عنى المسلمون بشأنه عنايتهم بأفلاطون وأرسطو؟ مما لا شك فيه أن هذين الأخيرين ملكا على العرب الجانب الأعظم من تفكيرهم الفلسفي، وكان موضع شغل الباحثين منهم ولعل ذلك راجع إلى أن قدرا كبيرا من كتبهما ترجم إلى العربية، فساعدا على دراستهما دراسة مستفيضة. أما سقراط فلم ينفذ إلى الفكر الإسلامي إلا بواسطة ما رواه على لسانه أفلاطون وأرسطو وبعض المؤرخين أمثال بلوتارك. بيد أن شيخ أثينا هذا، ورسول (أبولون) وترجمان وحي (دلف) قد أثر في نواحي عربية هامة غامضة؛ وسنحاول الكشف عنها اليوم
في سقراط ظاهرتان هامتان: حياته أن شئت شخصيته الغريبة، وطريقته وتعاليمه؛ وقد يكون ذيوع صوته راجعاً إلى الأولى اكثر من رجوعه إلى الثانية فكثير من الناس يعرف سقراط الزاهد المتقشف الذي أعرض عن ملاذ الدنيا فلم يشرب نبيذا قطاً ولم يتناول طعاماً شهياً؛ وكثير منهم يعرف سقراط القوى العزيمة الذي لا يخضع لإرادة غير إرادة الحق مهما عظم شأنها؛ وكثير منهم يعرف سقراط البطل الذي ضحى بنفسه آمنا مطمئنا في سبيل رايته وعقيدته. كل هؤلاء يعرفون ذلك من سقراط، وان خفيت عليهم آراءه ونظرياته. هذه الظاهرة الهامة في الفيلسوف الأثيني هي التي بهرت المسلمين بوجه خاص، فرعاهم منه شخصه أكثر مما راعهم علمه ودرسه. وإن إذا رجعنا إلى كتب التراجم العربية وجدنا أنها لا تكاد تدرس إلا حياته وقصة موته. فابن النديم الذي ترجم له في اختصار بلغ حد الإخلال اكتفى بأن قال أنه (كان زاهدا خطيبا حكيما قتله اليونانيون لأنه خالفهم)، والقفطي الذي وقف عليه نحو تسع صفحات من القطع الكبيرة بين في(97/24)