بنزعة قوية إلى الثورة وإلى إلغاء الملوكية، وإعادة النظام الجمهوري بعيداً عن الوصاية الأجنبية، وقد أسفرت هذه الحركة منذ نحو عام عن محاولة اتهم فيها عدة كبيرة من الشباب المتعلم بالتآمر على سلامة الدولة.
ومن جهة أخرى فقد رأت إيطاليا أنها لم تحقق كل ما أرادت من تدخلها في الشئون الألبانية وقررت أن تقطع الإعانة المالية السنوية عن الملك زوغو حتى تجاب إلى مطالبها في السيطرة على التجارة الألبانية، وافتتاح المدارس الإيطالية المغلقة، وتعيين مستشارين إيطاليين في الإدارات الألبانية، وتعيين ضباط إيطاليين لتدريب الجيس الألباني وغيرها؛ وهذه مطالب لم يقبلها أحمد زوغو وحكومته. وقد أحدث قطع الإعانة المالية ارتباكاً خطيراً في الحكومة الألبانية، واضطربت المرافق والمشاريع العامة، ونضبت موارد القصر والإدارات الحكومية، وساد روح من القلق والتذمر حول الملك زوغو وحكومته، وتحركت المعارضة لتحاول فرصتها؛ والظاهر أن الحركة الأخيرة كانت أثراً من آثار هذا الارتباك العام، وأنها ليست إلا بداية قد تعقبها محاولات أخرى إذا لم تتح للملك زوغو وعصبته فرصة لتوطيد مركزهم بالتفاهم مع إيطاليا وتلقي معونتها أو آية معونة خارجية أخرى
والحقيقة أن تلك الدولة الصغيرة المسلمة تجد نفسها في مركز محزن؛ فهي لا تستطيع أن تعيش مستقلة بنفسها، ولا تستطيع رغم بسالتها أن تذود عن هذا الاستقلال الذي تجاهد في سبيله، وهي مطمح أنظار دولتين قويتين خصيمتين، وليس في مقدورها أن تفلت من نتائج هذا التجاذب السياسي الذي تتعرض له بموقعها الجغرافي وظروفها العسكرية، وإذا فلا بد لها أن تختار الخضوع لأحد النفوذين: النفوذ الإيطالي، أو النفوذ اليوجوسلافي، وقد استظل أحمد زوغو بنفوذ يوجوسلافيا حتى تمكن من إنشاء ألبانيا الجديدة ومن التربع على عرشها؛ ثم استظل بعد ذلك بالنفوذ الإيطالي ليوطد دولته الجديدة، وهاهو اليوم يتبرم بذل النفوذ ويحاول خلاصاً منه. فهل يكون ذلك نذير العود إلى سياسة التفاهم مع يوجوسلافيا؟ إن إيطاليا ترى في ألبانيا غنماً تحرص عليه كل الحرص وتعما بكل الوسائل لكي تستأثر به، وترى فيها مجازاً للتوسع في المشرق، والسياسة الفاشستية تنشط اليوم إلى التوسع والاستعمار حيثما استطاعت؛ ومن المحقق أنها ستنازع يوجوسلافيا أية محاولة تقوم بها في ألبانيا، لأنها ترى في مثل تلك المحاولة اعتداء على سلامتها(81/12)
وعلى أي حال فان مصير ألبانيا غامض كل الغموض. وخير ما يمكن أن تفوز به هذه الأمة الصغيرة الباسلة هو أن تعيش كدولة (فاصلة) في ظل نوع من الاستقلال، وأن تعمل للانتفاع بهذا التجاذب السياسي الذي تترواح بين شقيه بذكاء واعتدال. وشر ما يمكن أن يصيب ألبانيا هو أن تتفق الدولتان المتنافستان على اقتسامها بين سمع أوربا المتمدنة وبصرها، وتحقق كل بذلك أطماعها، وتذهب الأمة الباسلة، كما ذهبت كثيرات غيرها، ضحية الاستعمار الغربي
محمد عبد الله عنان المحامي(81/13)
السيارة الملعونة!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان لي - في وقت من الأوقات - سيارة من طراز لا أعينه (تًسع السبعة الأقاليم طراً) ولم تكن بي حاجة إلى كل هذه السعة، فإني كما يقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق، فما يُثقل ... أرضاً، ولا يسدّ فضاَء
وكنتُ إذا اتخذتُ مجلسي فيها لا أملأ إلا إصبعين منها، وكانت زنتها نحو طنين، أو بضعة قناطير، وأدع للقارئ حساب ذلك، فمالي قبلٌ بالحساب أو صبرٌ عليه؛ وما حاجة مثلي إلى الحساب والبراعة فيه وكل أشيائي تعد بالآحاد، فان كثرت جداً فبالعشرات؟؟ فأنا أكسب المال قرشاً قرشاً، وأنفق ما أكسب حتى قبل أن يصير في كفي، فما يستقر منه في جيبي شيء، فكأني ساعي بريد، لغيره لا له ما يتعب في حمله ويحفي قدميه وهو يدور به على البيوت! وما رأيت في حياتي ورقة بمائة جنيه! وللبنك الأهلي غرف منحدرة في الأرض، ولها نوافذ عليها شُباكة من السلك المنسوج، وحديد متعارض، فهي تؤدي الضوء ولا تنفذ منها اليدُ مع الأسف! وفي هذه الغرف تجلس فتيات إلى مكاتب صغيرة عليها حزم مكدسة من أوراق النقد المختلفة يختمنها بختم المدير أو لا أدري ماذا يطبعن عليها، وكثيراً ما أقف بهذه النوافذ وأنظر إلى الفتيات، أو على الأصح إلى الأوراق - اعني إلى الثروات - التي في أيديهن، فأتنهد أتحسر! وماذا تخسر الدنيا - أو البنك فانه هو الدنيا في تلك الساعات - إذا انتقلت إلى يدي بقدرة ربك - أو بعطف إحدى الفتيات - حزمة واحدة من هذه الأوراق الكبيرة؟
أيفلس البنك؟ كلا! أيقل الورق المتداول؟ كلا أيضاً! فإني بارع في إتلاف المال، فإذا صار في يدي كثر التداول ولم ينقص، ولقد فتنني منظر الورق مرة فطال وقوفي ونفد صبري، وخرج الرشد من أصابع كفي، فصحت بالفتاة الجميلة (هش. . . هش. . . .!)
فرفعت رأسها إلى النافذة ونظرت ثم ابتسمت وعادت إلى ما بين يديها
فعدت أصيح بها: (هش. . . . . هش. . . .!)
فصعدت عينها مرة أخرى فأسرعت أقول: (يا بنت الحلال! إن مُنى النفس جميعاً في حزمة من هذه الحزم الكثيرة - وفيك أيضاً لو تجودين! - فهلا أعطيتني مما أعطاك الله؟)(81/14)
ولا ادري ماذا كان جوابها، فقد شعرت بيد غليظة على كتفي، فالتفت، فإذا شرطي ضخم، فقلت لأطمئنه: (منظر جميل جداً، إن البنات يعملن بسرعة عجيبة. وأقول لك الحق، إنهن جميلات! من أين يا ترى يجمعنهم؟ ألا تعرف؟ لشد ما أتمنى أن يكون عندي ولو عشرين حزمة - أعني بنتاً - من أمثالهن!)
فضحك، وسرني ضحكه جداً، فحييته بأدب جم ولطف كثير، وتواضع جميل، وقلت وأنا أودعه:
(اجعل بالك إلي. . . إليهن، لا تدعهم يغبن عن عينك! فإن لي فيهن والله لمآرب! إيه ما أحلى أيديهن الرخصة البضة! ليتني أستطيع أن أضع كفي على كف واحدة منهن! ألا تتمنى ذلك يا صاحبي؟ متع عينك بالنظر يا أخي! متعها، منعها! وهل أقل من النظر؟
ولكن سيارتي، تلك على جمالها وضخامتها وسعتها، أرتني النجوم في الظهر الأحمر، ذلك أنها كانت تستنفذ من البنزين والزيت كل ما هو معروض في دكاكينهما على طريقها، ثم لا تشبع، حتى لقد فكرت في أن أصل خزانها بآبار الموصل! وكثيراً ما هممت بأن أغالطها وأدور من وراء خديعتها، وأملأ لها خزانها ماء بدلاً من البنزين، وأنا أقول لنفسي: (ومن أدراها ان هذا ماء لا بنزين؟) ثم إن خزان الماء كان يغلي كالمرجل بعد دقائق قليلة من السير، فتبدو لي علامة الخطر الحمراء، فأقف وأغير لها الماء، ثم أستأنف السير، وهكذا في الشتاء فكيف بها في الصيف؟ ولهذا صرت أشتري الثلج وافتته، وأحشو به خزانها بدلاً من الماء، ولا أركبها إلا ومعي ذخيرة كافية من ألواح الثلج على المقاعد الخلفية
ولو اقتصر الأمر على هذا لهان الخطب، ولأمكن احتمال المصاب، ولكن محاور العجلتين الخلفيتين كانت مبرية المساليط والأسنان التي تنشب في العجلة وتعلق بها فلا تدعها تفلت، ولم أكن أعلم هذا؟ وأنى لي أن أعرفه وهو شيء محجوب لا يبدو لعين الناظر؟ وكان فساد هذه الأسنان لا يُحدث أثره إلا وأنا في أرض خلاء، ولا أنيس فيها ولا ديار بها، فأكون سائراً مغتبطاً راضي النفس، منشرح الصدر، وفي يميني سيجارة أنعم بتدخينها، وفي عيني ابتسامة عذبة، وعلى لساني - أو شفتي، لا أدري - ألحان أغنية جميلة، وأكون قد خرجتُ من العمران، وأطلقت لها العنان لتهب فضاء الصحراء - حيث كنت أسكن - وإذا بصوت يقول (كركركركركركر. . .) وإذا بإحدى العجلتين الخلفيتين قد خرجت من محورها(81/15)
وذهبت تجري وحدها في الطريق وإذا أنا مائل على جنبي! فلولا حضور ذهني، وسرعة خاطري، وثبات جناني، لانقلبت بي السيارة، ولانتقل المازني - بعد أن يجدوه - إلى رحمة الله، أو على الأقل إلى المستشفى!
وأفتح ألباب، وأترجل، وأدور بها لأنظر ماذا حدث، ثم أقول:
(شيء جميل! ولكن هل كان من الضروري جداً أن تصنعي هذا هنا على الخصوص؟ ألم يكن من الممكن أن يحدث هذا في شارع محمد علي، أو القلعة، أو غيرهما، حيث الناس يروحون ويجيئون بلا انقطاع؟ أو أمام البيت على الأقل؟ سبحان الله العظيم! ما هذه الطباع الصبيانية؟!)
وأذهب أبحث عن العجلة الطائرة، ثم أدحرجها عائداً بها، وأخلع المعطف والسترة، وأرفع الأكمام، والبس ثوب (العمل) الأزرق، فقد احتجت إليه فحرصت عليه، وأخرج الآلة الرافعة، وعلبة الرزات، وأحمد الله على أن المحور سليم لم ينكسر، وأرد العجلة إلى مكانها، ثم أتوكل على الله وأستأنف السير.
ولكن ما كل مرة تسلم الجرة، فكنت كلما ازددتُ احتياطاً لهذه المفاجآت، زادتني هي افتتاناً في الحيل والمكر السيئ، وقد اضطررت أن أتخذ لي خادماً يصحبني في السيارة ليعينني على بلائها، فحدث مرة وأنا عائد إلى البيت، وكان الوقت منتصف الليل، أن كركرت العجلة - على عادتها - وطارت في ميدان الأوبرا. فوقفت في وسط الميدان، وأمرت الخادم أن يصلح ما فسد، ورحت أنا أتمشى على الإفريز وأدخن سيجارة حتى يفرغ من هذا الأمر، فجاءني يقول ان المحور قد انكسر!
قلت: (هممم! شيء جميل! خبر سار جداً. الثلج حملناه، والبنزين هذه ذخيرته وراءنا كأنا على سفر إلى القطب الشمالي. فلم يبق إلا أن نحمل معنا دكاناً كاملاً من أدوات السيارات والقطع اللازمة لها! لا بأس! غداً إن شاء الله نفعل ذلك. أما الليلة فعليك يا صاحبي أن تدخل في السيارة وتغلقها عليك - أبوابها ونوافذها فان البرد شديد - وتحضن العجلة المتمردة وتنام إلى الصباح، وإنه ليؤسفني أن لا أنيس لك في هذا الميدان الموحش سوى تمثال إبراهيم باشا، ولكنه كان بطلاً، فاحلم بوقائعه إلى الصباح. . . عم مساء والى الملتقى!)(81/16)
وأقسمت لأبيعنها، فما بقي لي على ألا عيبها صبر، ومضيتً بها - بعد إصلاح محورها - إلى الدكان الذي اشتريتها من صاحبه، وقلت له (بعها بأي ثمن! فما يعنيني إلا أن أتخلص منها)
وكان بيني وبيته ود، فسألني (هل تبيعها بنصف ثمنها؟)
قلت: (وبثلثه - بل بربعه!)
قال: لا لا. حرام. إنها سيارة فخمة! ولو عرضتها بهذا الثمن الزهيد لظن الناس الظنون، ولتوهموا أن فيها عيباً لا يداوى! وأخلق بهم حينئذ أن ينصرفوا عنها ويزهدوا فيها) فسألته
(بكم تنوي إذن أن تعرضها؟)
قال: (بمائة جنيه -)
فصحت (يا خبر اسود! بمائة؟ إن هذه سرقة!)
قال: (لا تكن أبله. . . مالك أنت؟)
وبقيت عنده أسابيع، لا يشتريها أحد، فمررتُ به يوماً فألفيته خارجاً، فرجا مني أن أنتظره حتى يعود. . . دقائق لا أكثر. . . وأخبرني أن سيدة ستحضرـ فإذا جاءت قبله، فعلي أن أستقبلها وأحييها حتى يرجع
وذهب. وجاءت السيدة، فلم يسعني إلا أن أنهض لاستقبالها، لا لأن صاحب الدكان كلفني ذلك، بل لأنها كانت أجمل من أن يستطع امرؤ أن يجرؤ على إهمالها، فقالت:
(هل أنت المسيو. . . . .؟)
قلت: (ليتني كنته! إذن لربحت في العام ثلاثة آلاف من الجنيهات! كلا! لقد خرج وسيعود بعد قليل جداً. . . . تفضلي!)
فأجالت عينها حتى وقعت على سيارتي فقالت
(هل هذه معروضة للبيع؟)
قلت (أظن ذلك! أعني نعم!)
قالت (إنها جميلة. . . ضخمة. . . فخمة. . . (وفتحت بابها) وثيرة المقاعد. . . بديعة. . . كم ثمنها؟)
فتنحنحت وقلت (إ. . . أ. . . ثمنها!!. . . . مائة جنيه!)(81/17)
قالت (ثمن معقول. . . ليست بغالية)
قلت (ولكنها لا تصلح لك. . أعني أن عيوبها فظيعة!)
قالت (عيوبها؟ إنه لا عيب فيها!)
قلت (الماء يغلي بعد دقائق)
قالت (طبيعي)
قلت (تحرق وقوداً كثيراً. . . تحتاج إلى جالون من البنزين كل أربعة أمتار)
قالت (لا تبالغ. . . إنها كبيرة ضخمة، فمن المعقول أن تحتاج إلى وقود كثير)
قلت (والعجل يطير أثناء السير)
قالت (أوه! ما هذا الإسراف في الطعن؟ هل أستطيع أن أجربها؟)
فخرجت بها، ودرنا بها دورات، ولم أرحمها - أعني السيارة - لأبرز لها - أعني للسيدة - عيوبها - أعني السيارة هذه المرة - فما كان في السيدة هنة، ولكنها كانت كأنها مسحورة، فلا البنزين القليل الذي وضعته فيها نفذ، ولا الماء غلا، ولا العجلة طارت
وقالت السيدة (أترى كيف كنت تبالغ؟ إن ماءها بارد كالثلج! ولا يزال أكثر البنزين باقياً، والعجلة في مكانها ثابتة. لو كان تاجر يصد الزبائن كما تفعل، لخرب!)
فلم تبق لي حيلة، وجاء صاحب المحل فتمت الصفقة، وحسب لي نصيبي من الثمن، مقدمة لثمن سيارة أخرى. . . . .
ولا أدري ماذا كان من أمر السيارة مع هذه السيدة المسكينة ولكنه لا ذنب لي، فقد حذرتها وأنذرتها، وأبرأت ذمتي
إبراهيم عبد القادر المازني(81/18)
حجر بهشتون مفتاح الكتابة المسمارية
بقلم الأستاذ كوركيس حنا عواد
1 - تمهيد
لئن كان حجر رشيد وثيقة تاريخية خطيرة الشأن أدت إلى فك رموز الكتابة الهيرغليفية، وفتحت ما استغلق من المدنية المصرية القديمة وأوضحت ما أشكل فيها، فان حجر بهشتون يعتبر ولا مراء وثيقة هامة جداً موازية لرفيقتها في المكانة، لكونها أدت إلى فك رموز الكتابة المسمارية، وأنارت السبيل أمام العلماء والباحثين للتطلع إلى الماضي البعيد والتعرف بالمدنيات الآشورية والبابلية. . . . .
على الطريق الرئيسية الموصلة بين بغداد وطهران، يقع هذا الأثر المدهش الذي هو من أعظم الآثار التاريخية في آسيا. ويبعد عن همدان بمسافة 65 ميلاً، وعن كرمنشاه باثنين وعشرين ميلاً
وعُرف هذا الصخر قديماً باسم جبل باغستان البالغ ارتفاعه 3800 قدم. وقد اطلقت هذه التسمية على هذا الأثر نظراً لوجود تلك القرية الصغيرة المسماة بهشتون عند أسفل الصخر، وأصبحت هذه التسمية هي المتعارفة بين علماء الآثار والتاريخ من الأجانب.
وكان السر هنري رولنصن قد استعار هذه التسمية من ياقوت الحموي الذي أتى في معجمه الجغرافي على ذكر هذه القرية وينبوعها فقال: (. . . . قرية بين همذان وحُلوان. . . وجبل بهستون عال مرتفع ممتنع لا يرتقى إلى ذُروته. . . ووجهه من أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت، ومقدار قامات كثيرة من الأرض قد نحت وجهه ومُلس، فزعم بعض الناس أن بعض الأكاسرة أراد أن يتخذ حول هذا الجبل موضع سوقٍ ليدل به على عزته وسلطانه، وعلى ظهر الجبل بقرب الطريق مكان يشبه الغار وفيه عين ماء جارٍ. . .)
ولم يكن ياقوت أول من استعمل هذه التسمية في معجمه، بل سبقه إلى ذلك ديودورس الصقلي المؤرخ كما سيجيء ذكره
2 - وصف الصخر والينبوع المقدس:
إن لواجهة هذا الصخر وضعاً عجيباً من حيث البروز والانتصاب، فكان ليد الإنسان(81/19)
نصيب وافر في تهذيبها وصقلها وجعلها واقفة الانحدار كالجدار القائم، فبات النحت والكتابة عليها أمراً ميسوراً. وفي أسفل هذه الواجهة ينبوع ذو ماءٍ نقي جداً. فهنا كانت القوافل منذ الأزمان الغابرة تلقي عصا الترحال لتستريح من وعثاء السفر، وتروي غلتها من هذا المنهل العذب؛ كما أن معظم الجيوش التي سارت من أرض الفرس إلى شمالي بابل قد شربت من هذا الينبوع الشهير. ولقد أكتسب هذا الموقع مسحة تقديسية، كما يقول ديودوروس، لوجوده عند هذا النبع المتفجر
إن لهذا الصخر مزايا، منها اعتباره موقعاً مقدساً، فضلاً غن شموخه وانتصابه، ووقوعه على طريق رئيسية من طرق العالم القديم، ووجود المياه عند سفحه. فكل هذه أسباب وجيهة دواعٍ مهمة أهابت بداريوش الكبير (521 - 485 ق. م) إلى أن يختار هذه الواجهة الجبلية القائمة ليجعل منها سجلاً خالداً على كر العصور، فنحت عليها الصور والكتابات الكثيرة التي كان يرمي من وراء صُنعها إذاعة فتوحاته وانتصاراته على جميع الشعوب المعروفة وقتئذٍ
3 - المنحوتات:
تمثلُ هذه المنحوتات الملكَ داريوش، وبمعيته اثنان من قواده يحمل أحدهما قوساً والآخر رمحاً. والملك هنا واقف يتقبل شعائر الخضوع والإذعان من قادة العصاة ورؤسائهم المتمردين الذين ثاروا في وجهه خلال السنين الأولى من حكمه، وعصوا أوامره في أنحاء شتى من إمبراطوريته المترامية الأطراف. وقد داس الملك برجله اليسرى جسم رجل مطروح على ظهره، رافعٍ كلتا يديه مستعطفاً ومستغفراً. وأمسك داريوش بيده اليسرى قوساً، أما يده اليمنى فقد رفعها متجهاً بها نحو الإله (أورامزدا) الذي يظهر في وسط أشعة من الأنوار والبروق؛ وانتصب أمام الملك تسعة من هؤلاء القواد والرؤساء الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وقد شُدوا من أعناقهم بعضهم إلى بعض بحبل واحد، وشد وثاق أيديهم وراء ظهورهم
ويبلغ طول واجهة المنحوتات نحو 10 أقدام وعرضها 18 قدماً؛ أما ارتفاع شكل داريوش فخمس أقدام وثماني عقد، وارتفاع كل سجين ثلاث أقدام وعشر عقد، أما ارتفاع أورامزدا من أعلى رأسه إلى منتهى أشعته فثلاث أقدام وتسع عقد، وارتفاع كل من تابعيه أربع أقدام(81/20)
وعشر عقد، ومنتهى عرضه أربع أقدام وعقدتان
4 - النصوص:
وتحت لوحة المنحوتات كتابة عظيمة تتشكل من خمسة أعمدة (حقول) متجاورة، يبلغ ارتفاع كل منها نحو 12 قدماً بعرض 6 أقدام، أما عدد أسطرها فتشتمل على الترتيب 96 + 98 + 92 + 92 + 36 والمجوع 414 سطراً. وهي باللغة الفارسية القديمة، لكنها مكتوبة بالأحرف المسمارية الجديدة المتألفة من 39 حرفاً، والتي ابتكرها الفرس. وقد دُون على هذه الأعمدة نسب داريوش وغزواته وانتصاراته على جميع أعدائه وإخماده الثورات المتعددة التي أعقبت تتويجه، واقتحامه شعوباً متعددة، وغيرها من الأعمال التي قام بها خلال حكمه
وعن يسار الكتابة الفارسية ثلاثة أعمدة أخرى وضعت باللغة السوسيانية وكُتبت بالأحرف المسمارية السوسيانية (العيلامية)، وهي تشتمل على ترجمة الأعمدة الأربعة الأولى من النص الفارسي. وعدد أسطرها هو على الترتيب 81 + 85 + 94 + 3 (ملحق) والمجموع 263 سطراً. وتتراوح أبعادها ما بين 10 - 11 قدماً طولاً و 7 أقدام عرضاً
وهناك عن يسار المنحوتات واجهتان أخريان من الصخر عليهما كتابة باللغة البابلية، وكُتبت بالأحرف المسمارية البابلية المتألفة من بضع مئات. . . . . . . . . وتبلغ أسطرهما معاً نحو 112، ويتراوح ارتفاعهما بين 10 - 14 قدماً؛ أما عرضهما معاً فبين 11 - 15 قدماً
ويوجد عن يمين المنحوتات أربعة أعمدة تكميلية بالخط المسماري، وربما تتعلق هذه الأعمدة التكميلية بالحوادث المسرودة على العمود الخامس من النص الفارسي. إلا أن العوامل الجوية قد أثرت في هذه التكملة تأثيراً سيئاً، فأصابها الوان من الخدش والمحو، حتى أن أمر قراءتها أصبح متعذراً في الوقت الحاضر، إلا بعض كلمات من العمود الأول المكتوب باللغة السوسيانية.
أما عدد أسطر هذا القسم فقد ضاعت معالمه ولم يعد في وسعنا معرفتها بالضبط. فجموع الكتابات المقروءة إذا تبلغ 800 سطر تقريباً
وقد كُتب على لوحة المنحوتات فقرات صغيرة تبين أسماء أولئك المتمردين التسعة، ويبلغ(81/21)
مجموع هذه الفقرات 32 فقرة، منها 11 بالفارسية و12 بالسوسيانية و9 بالبابلية
5 - بهشتون في نظر الأقدمين:
إن أقدم مصدر تاريخي نقع فيه على ذكر حجر بهشتون هو تاريخ ديودورس الصقلي، الذي نشأ في القرن الأول الميلادي فذهب إلى أن هذه المنحوتات قد أحدثتها (الملكة سميراميس) لتكون على طريقها ما بين بابل وأكبتانا. وحسبما يرتأي هذا المؤرخ، أن هذه الملكة العظيمة قد ضربت معسكرها عند الينبوع الواقع في أسفل الصخر، وقد غرست بستاناً هناك. . . أما وصفه للمنحوتات فليس بمضبوط، إذ زعم أن الشكل الذي لداريوش إنما هو لسميراميس، وذهب إلى أن الاثني عشر رجلاً المحيطين بالملك إنما هم مائة من حَمَلة الرماح، شخصوا حول ملكتهم!!. . . .
أما الكتابة فيقول إنها (بالأحرف السريانية). ثم قال بأن سميراميس قد تمكنت ان تصعد إلى أعلى الصخر بتكديس احمال وسروج حيواناتها شيئاً فوق شيء. إلا أن هذه الآراء بعيدة كل البعد عن الحقيقة وعارية عن الصحة ككل ما يُنسب إلى هذه الملكة الوهمية. وذكر ديودورس في موضع آخر من كتابه أن الاسكندر الكبير زار هذا الصخر لي سيره من سوسا إلى أكبتانا
ولقد عرف كثير من جغرافيي العرب كابن حوقل والأصطخري (في القرن العاشر الميلادي) وياقوت (في القرن الثالث عشر) هذه المنحوتات والكتابات في بهشتون، ولكن أحداً منهم لم يهتم بأمر الكتابات اهتمامه بالمنحوتات، كما يظهر لنا مما أوردوه عنها، هذا فضلاً عن أنهم لم يذكروا نوع الحروف التي كتبت بها
6 - بهشتون في نظر السياح الأوربيين القدماء:
من أقدم السياح الأوربيين الذين زاروا بهشتون في العصور المتأخرة أمبرجيو بمبو (1652 - 1705) وهو تاجر إيطالي من أهالي البندقية رحل إلى بلاد الفرس خلال الربع الأخير من القرن السابع عشر، وأعطانا - بالنسبة إلى حالة زمنه - وصفاً دقيقاً لهذه المنحوتات
وبعد ستين سنة تابعه في هذا المضمار المستشرق السويدي أوتر (1707 - 1748)(81/22)
الذي ساح في بلاد الفرس وفحص المنحوتات، ولكن ملاحظاته عنها قليلة الخطر، وقد اعتبر شكل الإله أورامزدا (نذيراً للخير)
وبعد انقضاء ستين سنة أخرى زار أولفيير (1756 - 1814) العالم الطبيعي الفرنسي بلاد الفرس، وفحص المنحوتات في بهشتون، ورسم لها صورة طبعها بعد ذلك في كتاب رحلته. أما هذه الصورة فخاطئة جداً، لأنها تمثل داريوش جالساً على عرش، ورجلاه مستندتان على كرسي صغير؛ كما ان استنساخه لبقية أشكال المنحوتات ليس بمضبوط ألبتة
ومن الغريب أننا نجد هوك في كتابه: 1818) يطرح جانباً أحاديث (بمبو) وآراءه التي يُركن إليها ويوثق بصحتها إلى درجة غير قليلة، ويعول بالدرجة الرئيسية على ما أتي به أو لفيير من المعلومات التي لا تتفق مع الحقيقة دائماً
7 - إيضاحات وتعليلات وهمية للمنحوتات:
وكان الصخر قد وصف ثانية جاردان (1765 - 1822) الذي افترض أن اورامزدا وأشعته النورية إنما هو صليب، وزعم أن الأشكال التي تحته تمثل الاثني عشر رسولاً!. . . . .
وبعد مضي سنين قلائل، قام كينير (1782 - 1830) بعدة رحلات في بلاد الفرس، وكان أول من ذهب إلى أن المحنحوتات في بهشتون تعود إلى نفس العصر الذي نشأت فيه آثار برسبوليس
وقد شاركه في هذا الرأي كبل (1799 - 1891) الذي أسهب في وصف هذه المنحوتات في كتاب رحلته
وفي عام 1822 طبع بورتر أبحاثاً قيمة عن رحلاته التي قام بها في جورجيا وفارس وأرمينيا وبابل خلال 1817 - 1820، واليه نحن مدينون بوصف مسهب لمنحوتات بهشتون. وفي هذا الكتاب رسم للمنحوتات يصح أن يُعتبر أحسن ما رُسم لهذا الأثر حتى صدور الكتاب. وقد لاحظ عموماً قدم هذه المنحوتات الغابرة، ولكنه لم يفهم مآلها، فقد ذهب إلى أن هذه المنحوتات البارزة الشهيرة إنما عملها شلمناصر (ملك أشور وميديا) ليخلد بها اكتساحه لبني إسرائيل. وزعم أن الأسرى الواقفين أمام دواريوش إنما هم من الأسباط العشرة، واعتبر أن شكل داريوش لشلمناصر، إلى غير ذلك من التعليلات التي نستغربها(81/23)
الآن. . . . ومع هذا فإنها تطلعنا على وضع علم الآثار في ذلك العصر وتدلنا صريحاً على فهم الناس لبقايا السلف
8 - صعوبة الوصول إلى الكتابة لدراستها
ومع أن منحوتات بهشتون كانت قد لوحظت ودرست من قِبَل عدد غير قليل من السياح خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فان أمر نقل الكتابات التي هنالك ظل نسياً منسياً. . . . ولهذا لم تقع تلك النصوص في حوزة من يريد فحصها أو تدقيقها ودرسها من طبقة المتعلمين. ولاشك أن لهذا التقصير سبباً: فالقيام باستنساخ النصوص أمر في منتهى الصعوبة، لأن الكتابة - كما قلنا سابقاً - نحتت على واجهة صخرية قائمة الانحدار، يبلغ ارتفاعها 500 قدم فوق مستوى السهل. على أن من الممكن الوصول إلى ما علوه مائتا قدم فقط بتسلق كتل الصخر وجلاميده المتفككة والقلاع التي في سفح الجبل؛ أما بعد هذه الصخور المبعثرة، فالأمر يصبح عسيراً جداً، إذ ينتصب الصخر فجأة، فيكون التسلق عليه محفوفاُ بالمخاطر الجسيمة من كل جانب
9 - السر هنري رولنصن يعمل في بهشتون:
وكان أول من تغلب على هذه الصعاب هو السر هنري رولنصن (1810 - 1895) الذي أصبح حل الكتابة المسمارية مديناً لمجهوداته ومساعيه ومغامراته
ففي عام 1833، عندما كان ضابطاً في الجيش الهندي اختير مع بضعة ضباط ليتوجهوا إلى إيران ليساعدوا الشاه على تدريب جيشه. وفي عام 1835 كان قد أرسل إلى كرمنشاه باعتباره مستشاراً للحربية ومساعداً لحاكم تلك المقاطعة. وفي طريقه إلى هناك مر بهمدان (اكبتانا) وانتهز الفرصة فاستنسخ الكتابات المسمارية المنحوتة على واجهة الصخر في وادٍ بجبل الوند قريباً من تلك المدينة. وقد نجح في دراسته لهذه الكتابات ووفق الحصول على (مفتاح) لمعرفة العلامات المستعملة في الكتابات المسمارية الفارسية القديمة. ولابد أن نذكر هنا أنه لولا دراسته اللغة الزندية القديمة والفهلوية لما تمكن من قراءة الكتابة البابلية، لأن هاتين اللغتين كانت مشابهتين لكتابة اللغة المسمارية الفارسية، وتمكن أخيراً أن يكون (هيكلاً) للقواعد الصرفية والنحوية وأن يتحقق من معاني كلمات متعددة(81/24)
وكان خلال الفترة التي أقامها بكرمنشاه (أي من سنة 1835 إلى 1837) قد خصص أوقات فراغه لفحص الكتابات التي على حجر بهشتون. وفي ختام سنة 1837 كان قد حصل على نسخ لما يقارب نصف الأعمدة للنص الفارسي. وفي نقله لهذه النصوص أثبت أنه قطع شوطاً بعيداً في التقدم على كل باحث في هذا الموضوع. ولاشك أن نجاحه في هذا العمل المضني شهادة صادقة على سعة ذكائه وعلو همته
إلا أن مهمته العسكرية اعترضت سبيل عمله وأقعدته عن إتمامه، فرأى المصلحة تقضي بأن يدع أعماله في بهشتون جانباً، ريثما يُعيد الكرة عليها عام 1844
وفي صيف تلك السنة عاد إلى هنا مع المستر هستر والكابتن جونس فأمكنه بمساعدتهما أن ينتهي من استنساخه للنص الفارسي، وأن يعمل نسخة كاملة للترجمة السوسيانية. وعندما عمل في مبدأ الأمر نسخة للنص الفارسي، قارَنَ الفقرتين الأوليين مع الكتابات التي استنسخها سابقاً في (الوند) فزودته هذه المقارنة بمعرفة الإماء المحلية لكثير من الأعلام، فضلاً عن التوصل إلى معرفة عدد لا يستهان به من الكلمات الأخرى
وفي عام 1847 طبع رولنصن ترجمة كاملة للنص الفارسي من كتابات بهشتون، مع ذيل صرفي نحوي واسع وأبجدية
أما الترجمة البابلية فقد نجح رولنصن هذا الوقت في عمل نسخ للكتابات التسع الصغيرة التي على لوحة المنحوتات، غير أن القسم الأساسي من النص البابلي قد ظل الوصول إليه أمنع من عقاب الجو؛ وما برحت الوضعية على هذه الصورة حتى كان خريف 1847، حينما عاد رولنصن مرة أخرى إلى بهشتون، فباشر عمل التدابير السديدة للحصول على نسخة من الترجمة البابلية. واستعداداً لإنجاز هذه المهمة الشاقة زودَ نفسه بحبال وألواح خشبية وسلالم إلى غير ذلك من وسائل الصعود والتسلق، واصطحب معه بعض الأكراد الجبليين ليكونوا عوناً له في مهمته هذه.
وكانت خاتمة هذه الرواية أن توصل رولنصن إلى الغاية المبتغاة، بعد أن كان إدراك تلك الغاية ممتنعاً والتماسها وعراً.
فاستنسخ الكتابة البابلية بأجمعها، وبهذا أزاح ستاراً آخر طالما كان مسدولاً أمام العلماء والباحثين. . .(81/25)
ولا تزال بعض أوراق رولنصن ومنسوخاته معروضة إلى اليوم في القاعة البابلية في المتحف البريطاني، برغم ما أصابها من التلف أثناء عرضها قبلاً في قاعة المحاضرات لمختلف الجمعيات العلمية بلندن
ولابد من الإشارة هنا، إلى أن حل رموز الكتابة المسمارية كان قد اشتغل به نفر من العلماء البارزين، نخص بالذكر منهم: جروتفند وأوبرت ونوريس وهنكس وغيرهم، إلا أن رولنصن فاقهم جميعاً، وحاز قصب السبق عليهم، فلا غرو إذا دُعِيَ بحق (أبا علم الآشوريات)
10 - مساعي العلماء بعد رولنص:
وكان بين السياح الذين رحلوا إلى بلاد الفرس منذ زمن رولنصن، وقاموا بمساع لإعادة فحص هذه الكتابة هو جاكسن الذي وفق عام 1903 إلى الوصول إلى الحافة التي تحت النص الفارسي، والى عمل مقارنة ومقابلة بين العبارات المشكوك في صحة استنساخها سابقاً
ثم لما كان عام 1904 أوفد المتحف البريطاني المستركنج (الذي كان وقتئذ قائماً بأعمال الحفر والتنقيب في بقايا نينوى) إلى بهشتون، ليقابل بين النصوص وليقيس الأبعاد وليأخذ الصور الفوتوغرافية. وقد رافقه المستر طومبسن ليساعده على أداء هذا العمل. وقد قام كنج وطومبسن بهذه المهمة خير قيام، وتمكنا من معرفة مقاسات الأشكال والكتابات التي أتينا على ذكرها في محلها من هذا البحث. وقد وجدا بوجه الاجمال أن عرض الساحة المغطاة بالمنحوتات والكتابات معاً يبلغ 60 قدماً، وارتفاعها 23 قدماً
وفي سنة 1907 تمكن هذان الباحثان أن ينشرا النصوص الكاملة للكتابات الفارسية والسوسيانية والبابلية في بهشتون، المبنية على مقارنات حديثة مع الأصول التي على الصخر. مع ترجمتها بأجمعها إلى الانكليزية، ومقدمة وتصدير وصور فوتوغرافية الخ بعنوان:
+ 223
ولا يزال هذا المؤلف أحسن كتاب للآن يمكن الرجوع إليه في التوسع في هذا البحث
11 - صيانة مدوناته داريوش:(81/26)
ويمكننا أن نعزو بقاء كتابات داريوش هنا، إلى أنها حفرت على واجهة صخرية قائمة الانحدار، بحيث أن التسلق إليها يُعد من الأمور المتعذرة. ولكيما يجعل مدونات بعيدة بقدر الإمكان عن أن تسطو عليها أيدي الأعداء وتنال منها مأرباً، فقد انتزع الزوائد الصخرية الكائنة تحت الكتابة، فتكون من جراء ذلك جدار صخري أملس، تعلوه الكتابات والصور. وهناك دلائل على أن الملك قد كون بعضاً من الطرق للصعود إلى هذا الصخر بحيث يُتاح للمارة أن يصعدوا ويتفرجوا على كتاباته ونقوشه. ولكن جميع تلك الطرق التي كانت مؤدية إلى الصخر قد انطمست معالمها الآن
وقد كان لتحفظ الملك وبُعد نظره التأثير الحسن في الابقاء على المنحوتات والمدونات، فنجت من التشويه والتلف الناجمين عن عبث يد الإنسان. ويمكننا القول بأن معظم التلف الذي أصابها إنما كان من تأثير العوامل الجوية، ومن رشح الماء خلال طبقات الصخور المكونة للجبل
ولم يقف عمل داريوش في إذاعة جبروته وعظمته في العالم عند هذه المنحوتات والمدونات، بل أراد أن يعمل غيرها من النسخ، لتصدر وتُذاع بين الشعوب البعيدة عن هذا الموقع، والداخلة في إمبراطوريته
فقد كشف الدكتور كولدواي في بابل عن قطعة من الترجمة البابلية. وإنا لنأمل في أن ما تم وما سيتم من الحفريات الأثرية في العراق وفارس يؤديان إلى اكتشاف نسخ أخرى تميط اللثام عن بعض المعميات التي تعتور النصوص الحالية
والخلاصة، أن هذا الملك العظيم، قد دون انتصاراته في اللغات الثلاث، التي كان لها أعظم الأهمية في العالم الشرقي وقتئذ، ولم يكتفِ بهذا بل جعله مطلاً على طريق رئيسية، وعلى قطعة ترتفع خمسمائة قدم فوق مستوى سطح تلك الطريق وبالقرب من الماء أيضاً، فلابد للمسافر من أن يستريح قليلاً هنا، فيتاح له عندئذٍ مشاهدة هذا الأثر ملياً والتساؤل عن ماهيته
(الموصل)
كوركيس حنا عواد(81/27)
الصورة
قصة تمثيلية في فصل واحد بمنظرين
بقلم حسين شوقي
الأشخاص
الزوج. الزوجة. الحماة (أم الزوجة)
المكان: حجرة نوم الزوجة
المنظر الأول
الزوجة منهمكة في وضع حوائجها في الحقيبة، بينما أمها تجلس أمامها على كرسي (فوتوي) تروح على نفسها بمروحة
الأم - أصغي إلى يا ابنتي، بالله لا تهجري زوجك. إنك لن تجدي أفضل منه. صحيح أن فيه عيوباً مثل مغالاته في الشرب، أو تأخره في السهر، ولكن أين الزوج الكامل؟
الزوجة - هذه ليست عيوباً في نظري يا أماه، بالعكس إني أبغض الزوج الذي يقضي كل وقته في المنزل متعلقاً بأهداب زوجه. لا يعرف ما يحدث في الحياة خارج محيط البيت
الأم - إني لا أفهمك يا ابنتي. إذا هجرك زوجك غضبت، وإن بقي بجانبك غضبت أيضاً، فماذا تريدين في النهاية؟ لماذا تهجرينه إذن؟
الزوجة - لأنه يكذب، والكذب أبغض الأمور لدي، فهو مرآة النفس الجبانة
الأم - ابنتي، تريثي. فكري ملياً في الأمر
الزوجة - أسف يا أماه. لا أستطيع البقاء. . . آه من النذل! يخدعني أنا؟ ومع مَنْ؟ مع أعز صديقة لي!
الأم - ليس الذنب ذنبي يا ابنتي. . . المسئولة هي صديقتك العزيزة. أليست هي التي غازلته؟
الزوجة - أه منها الماكرة! كم تظاهرت لي بالوفاء! إنها كانت تشاركني دموعي في أوقات أحزاني! (بعد لحظة) ولكن ما الذي حببها إليه يا ترى، وهي خلو من كل جمال؟ أعلق بأنفها المقوس مثل أنف الحاخام؟ أم اشتهى شفتيها الغليظتين كشفتي الزنجية؟(81/29)
الأم - الآن فقط تجدينها دميمة!. . . وكنت إذا ذكرت لك هذه العيوب نفسها عارضتني قائلة: إن هذه العيوب تكسب صديقتك ما تسمونه أنتم يا شباب اليوم: الجاذبية الجنسية. . . . حقاً! ما أبعدكم عن إدراكُ مثل الجمال الحقيقية!. . .
الزوجة (في ضحك) - يا أماه. . أمثالكن نساء قبل الحرب، يرون الجمال عبارة عن غرائر من الشمم رُسمت لها حواجب وعيون وأفواه. . . . .
الأم (في غضب) - وما أوقحكن أيضاً يا بنات اليوم! (بعد لحظة) والآن لنعد إلى موضوعنا. . بالله سامحي زوجك يا ابنتي. . . . أنت تعرفين أنني لا أميل إليه كثيراً. . . . . ولن أنسى له هديته التافهة حينما عاد في الخريف الماضي من روما. . . ولكن هذا لا يمنعني بصفتي أمك التي تحب لك الخير أن أشير عليك بالبقاء معه. . . سامحيه، إن التسامح أفضل معاني الكرم. . .
الزوجة (في تهكم) - آسف يا أماه. . . لستُ قديسة لأتسامح. ولستُ أعيش في زمن المسيح، حتى إذا لطمني شخص على خذي الأيمن أدرت له الخد الأيسر. .
الأم - سامحيه يا ابنتي. . . إنها هفوة واحدة منه. . . (في حسرة) رب! كم سامحتُ أنا والدك عن هفوات لا هفوة!
الزوجة - لأنك كنت بلهاء يا أماه. . .
الأم - (في غضب) - حقاً! إنك وقحة! (بعد لحظة) كلا! يا ابنتي لم أكن بلهاء حينما سامحت والدك، غفر الله له! بل كنت على ثقة أنه سوف يمل حياة المغامرات التي كان يحياها، وانه سوف يدرك في النهاية أن السعادة الحقيقية للزوج هي داخل منزله. . . طبعاً تألمت كثيراً من أجل هذا، ولكنب ظفرت في النهاية. . . (بعد لحظة) ولو كنتُ هجرتُ والدك إذ ذاك، أكانت ترى الوجود هذه الفتاة الرشيقة الحسناء الماثلة أمامي اليوم؟. . .
الزوجة - (تترك جمع حوائجها فجأة وترتمي في أحضان أمها باكية) آه يا أماه، إنني أتألم. . .
الأم - إنك ما زلت تحبينه يا ابنتي. . . هذا هو الحب، هذا هو قلبك يحتج بدوره على هذا الخصام. .
الزوجة - أجل إني أحبه. . . ولكن كرامتي يا أماه، ماذا أصنع لها؟(81/30)
الأم - ماذا تقولين؟ الكرامة؟ الحب يا ابنتي قبل كل شيء. . . الحب هو الحياة. . صدقي أمك العجوز المجربة. .
الزوجة (وكأنها عادت إلى نفسها) - كلا! لن أصفح عنه! لقد صممتُ على هجره. . . إن الضعف الذي أظهره الآن ليس خليقاً بفتاة مثلي شاهدت الحرب الكبرى
الأم (في غضب) - ها قد عدت إلى جنونك! (تنهض) افعلي ما شئت. . ولكن اعلمي جيداً أنك ستندمين على عملك هذا. . . أما أنا فقد سئمتُ من إسداء النصح إليك. . .
(تخرج، فيدخل الزوج من باب آخر وبيده بعض الأوراق
المنظر الثاني
الزوج - آسف لو كنتُ أزعجتك، ولكني أتيتُ لأرد لك بعض مستندات لك كانت محفوظة في الخزانة الحديدية. . .
الزوجة - (دون أن تلتفت إليه) حسن. . أشكرك. . . ضعها هناك. . . (تشير إلى مائدة بجوار السرير)
الزوج (في تردد) - هل صممتِ على الرحيل؟
الزوجة - أجلْ. . .
الزوج - هل نسيت كل شيء!: عهد خطوبتنا السعيد. . . نزهاتنا الطويلة في الخلاء. . . الورد الأحمر العجيب الذي كنتُ أقطفه لك خلسةً من حديقة الجار البخيل. . . ثم شهر العسل في ربوع إيطاليا الجميلة. . ثم مقامنا في نابولي تحت أقدام بركان (الفيزوف) المخيف. . . ثم نبيذ إكيا الذهبي. ثم موسيقاها الشجية. . ثم ليالي البندقية الشعرية فوق مياهها الساكنة. . . . . . هل نسيت كل ذلك الماضي البعيد القريب؟. . . . .
الزوجة (متململة) - ثم خيانتك. . . ثم كذبك. . . ثم. . . أرجوك دعني الآن أجمع حوائجي
الزوج - أنت تعلمين أني أسفتُ كثيراً على فعلتي الشنيعة. . . . عزيزتي. . . هلا صفحت عني؟
الزوجة - آسف لا أستطيع. . (في هذه الأثناء تضع خلسة صورة زوجها في الحقيبة فيراها)(81/31)
الزوج - عزيزتي. . . هل تأذنين لي بأن أدخن سيجارة في هذه الحجرة الظريفة ونحن مجتمعان لآخر مرة؟ (ويجلس على معقد)
الزوجة (في تردد) - فليكن. . .
الزوج - عزيزتي. . . هل تأذنين لي في سؤال واحد؟
الزوجة - لست مستعدة الآن للإجابة على أسئلة، فإني أجمع حوائجي على عجل حتى لا يفوتني قطار المساء. . .
الزوج (ملحاً) - سؤال واحد فقط
الزوجة (متململة (- إذن قل ولكن اقتصد!
الزوج - هل أنت واثقة أنك لم تعودي تحبيني؟
الزوجة - أجل أنا واثقة من ذلك كل الثقة. .
الزوج - ألم يبق في قلبك شيء من العطف؟
الزوجة (مقاطعة) - لا لزوم لهذا الكلام. . . .
الزوج - هو سؤال واحد أريد الإجابة عليه. . . ألم يبق لك شيء من العطف. . . . لا علي. . . . بل على ذكرى الماضي؟. . .
الزوجة - لا
الزوج - لنستبدل إذن كلمة العطف ونعود لى الحب
الزوجة - أبداً. .
الزوج - بل أنا أقرر أنك تشعرين نحوي بالحب!
الزوجة - لا، بل أمقتك!
الزوج - إن المقت والحب قريبان جداً، بل هما متصلان، فهما طرفان، والطرفان لابد أن يتماسا. . .
الزوجة - دع هذا الكلام. . . ألم تنته من سيجارتك؟
الزوج (مستمراً) - إن لدي شاهداً على صحة هذا القول. . . على صحة الحب. . وعبثاُ تحاولين إنكاره. .
الزوجة - دعك من هذا الهراء!. . .(81/32)
الزوج - (ضاحكاً) إن شاهدي هو في تلك الحقيبة. . هي الصورة التي خبئتها الآن خلسة. . لماذا تحملين صورتي معك إذا كنت لا تحبين صاحب الصورة؟
الزوجة (تخرج الصورة من الحقيبة فتلقى بها على المائدة) - إليكما خذها. . احتفظ بها. .
الزوج (يخف إلى زوجه فيطوقها بذراعيه) - عزيزتي، هذا إقرار منك بأنك ما زلت تحبينني. . . .
الزوجة (في ضعف) - ابتعد عني!. . .
الزوج - هل صفحت الآن!
الزوجة - (مستسلمة) - لا، أبداً، ربما أصفح أنا، ولكن هذا (تشير إلى ناحية القلب) هل يصفح؟
الزوج (ضاحكاً) - هذا؟ لقد سامحني منذ هنيهة حينما حرضك على اغتصاب الصورة!
(ستار)
كرمة ابن هاني
حسين شوقي(81/33)
التصوف الإسلامي
بقلم سليمان فارس النابلسي
تتمة
ماهية الصوفية وبعض عقائدها
إذا ما رجعنا إلى المصادر الصوفية لنتفهم حقيقة هذه الطريقة استخلصنا من بين ثنايا السطور بعد إجهاد وكد أنها إنما تتم بعلم وعمل، وذلك بقطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها ورغباتها ومطامعها المادية حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب من غير الله وتحليقه بذكره سبحانه
وأخص خواص هذه الطريقة لا يتوصل إليه بالتعليم والاستقراء والدرس بل يلتمس بالذوق العالي وتبدل الصفات، إذ أنهم يرون أن الفرق شاسع بين معرفة حد الشيء وبين معرفة الشيء نفسه، كأن يعرف المرء حد السكر مثلاً بأنه حانة يجلس فيها فيأخذ من الشراب إلى أن يصبح ثملاً فنشوان فسكران، وبين أن يكون سكراناً. وكذلك القياس في معرفة حقيقة التصوف من أنه عزوف النفس الكامل عن المادة، وبين أن يكون متصوفاً زاهداً
يعتقد الصوفيون أن معرفة الله لا تأتي بالمجادلات العقلية ولا بالمناظرات الفلسفية، ذلك لأن العقل الإنساني عاجز عن إدراك كُنْه الحق وتفهم صفاته وخواصه بمثل هذه الأشياء، وإنما تتكون المعرفة في الشعور بطريقة خاصة وعمل مستمر يمكن من رؤية الله تعالى بالقلب لا بالعقل
يسلك الناسك (طريقاً) خاصاً للوصول إلى هذه الغاية يكون فيها تهذيبه وتنقية روحه من عوارض الدنيا وزخارفها المادية، ثم يتدرج في هذه السبيل ويقطع (مقامات) معينة يصل في نهايتها إلى الفناء في الحق، وهذه المقامات سبعة وهي: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والتوكل والرضا، يكسبها لنفسه بنفسه بعد طول الجهد والتهذيب المنظم
وقد اختلف العارفون في فهم كنه هذه المقامات وتباينت آراؤهم في تفسيرها على معانيها الظاهرة أو الباطنة، فالفقر مثلاً حسب ظاهر المعنى هو ألا يملك المتصوف الزاهد شيئاً مادياً، على حين أن البعض الآخر ذهب إلى أبعد من ذلك فاعتقد بأن على المتصوف الذي(81/34)
بلغ (مقام) الفقر أن يجرد نفسه من الشعور بالحاجة إلى المادة ويقتلع من جوانحه التفكير في ضرورتها، وعندئذ فقط يصبح في مقام الفقير المتصوف
وهناك اختلاف آخر، فالقير الذي يتمسك بالفقر ويعتقد اعتقاداً جازماً بتفوق الفقر وماله من فضل على ضروب الغنى طمعاً في مكافأة ربانية ليس متصوفاً حقاً، ذلك لأنه يحمل مشقة الفاقة ويصدف عن المشاعر بالمسرات الدنيوية خشية خسران المبرة الربانية وأجر الصبر، وهذا لا يغني فتيلاً، بينا أن التصوف الحقيقي لا يترك ما في هذه الحياة من ملاذ ومُتَع لقاء ثوابفي الحياة الأخرى، بل هو يبتعد عنها لما يجده في سلوكه هذا وفي حالته من الجزاء الأوفى. وهكذا نرى أن الاختلاف بين واضح، الواحد يتخذ الفقر وسيلة للثواب والأجر، بينا أن الثاني يبتغي الفقر غاية وأملاً
1 - عقيدتهم في التوحيد: إن شيوخ هذه الطريقة بنوا قواعد
أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد. فمن تصفح كلامهم
وتأمل في ألفاظهم ألغى في مجموعه ما يؤكد له أن هؤلاء
القوم عرفوا صفة الخالق فوجدوه، وشهدوا بقدمه فنزهوه عن
الحدث
والتوحيد هو الحكم بأن الله واحد، وفي ذلك نفي التقسيم لذاته ونفي التشبيه عن حقه وصفاته ونفي الشريك معه في أفعاله ومخلوقاته. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الحق للحق، وهو علمه بأنه واحد وخبره عنه بأنه واحد، والثاني توحيد الله سبحانه للخلق وهو حكمه بأن العبد موحد، وخلقه هو توحيد العبد في قرارة نفسه، والثالث توحيد الخلق لله وهو علم العبد أن الله تعالى واحد وإخباره عنه بأنه واحد
2 - في المحبة: المحبة عُرفاً هي ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم
إيثارك إياه على نفسك ومالك وموافقتك له سراً وجهراً. وجاء
في كتبهم على لسان المولى عز وجل أنه قال: ما تقرب إلى(81/35)
عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببتُه كنت له
سمعاً وبصراً ومؤيداً ويداً
والمحبة على لسان العلماء هي (الإرادة) ولكن ليس مراد القوم بالمحبة الإرادة، فان هذه لا تتعلق بالقديم. فالمحبة الإلهية للعبد هي تخصيصه بإنعام خاص كما أن رحمته له هي إرادة الإنعام
3 - التوكل: نجد الصوفيين أكثر ما كانوا تضارباً في الآراء
واختلافاً في الفكر في هذه العقيدة وأشباهها مما يتعلق بالمادة،
فبينا نقرأ للروذبادي قوله لرجل صوفي مد يده إلى قشرة بطيخ
ليأكل: (الزم السوق فهو أولى لك وأخيراً)، وقول آخر منهم
(إذا قال الفقير بعد خمسة أيام أنا جائع، فألزموه السوق ومروه
بالكسب والعمل) نقرأ لغيره قوله (أقمت في الحرم مرة عشرة
أيام، فأحسست بضعف، فخرجت إلى الوادي لعلي أجد شيئاً
يسكن ضعفي، فلم أجد شيئاً، فرجعت وقعدت. وبينما أنا جالس
وإذا برجل أعجمي جلس بين يدي ووضع مائدة وقال هي
لك.)
هذا التغالي في التوكل انتظاراً للرزق يأتي عن طريق الرفد والإحسان هو ما يضع من شأن هذه العقيدة في نفوس الناس، إذ أن مثل هذا يورد موارد الفاقات، فلا تسمو النفس، ولا يعظم الشأن(81/36)
4 - ومن معتقداتهم الفناء والبقاء. فالفناء سقوط الأوصاف
المذمومة، والبقاء قيام الصفات المحمودة. يقال فني عن
شهواته إذا بقي بنيته وأخلص في عبوديته، ومن فني عن
رغبته بقي بزهادته
وهم يعتقدون كذلك في الغيبة والحضور، فالغيبة هي للقلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق الاشتغال لحس بما ورد عليه من النفحات القدسية. أما الحضور فقد يكون حاضراً بالحق، لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق، بمعنى أنه يكون كأنه حاضر، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه
ولو أردت أن أعدد هذه المعتقدات لطال بي المطال وكلت مني الأيدي
تطور الصوفية وطرقها الحديثة
كانت الصوفية في أول عهدها ومبتدأ حياتها صبغة من الدين بسيطة، خاصة بجماعة من الرجال المتدينيين نشروها في حلقات صغيرة من الأصدقاء ثم أخذت تدرج وتتعاظم، فكونت طبقة خاصة ذات مدرسة خاصة، بقواعد وأنظمة مقررة يتلقاها المبتدئون ممن سبقوهم في الأيمان بها. ثم ما لبثت أن قويت شوكة الرؤساء وكبار الشيوخ، فأخذوا يسيرون تلامذتهم وأتباعهم حسب مشيئتهم وأهوائهم دون أن يكون لهؤلاء رأي، وما عليهم إلا الطاعة والانقياد. حتى إذا تطاول الزمن ومرت السنون، لم يعد الصوفي الكبير في معزل عن العالم الاجتماعي حوله يعيش عيشة التقشف والزهد، يطلب الوحدة نفوراً من مرأى الناس وظلمهم وتكالبهم على الملذات والصغائر، بل أضحى شيخاً وجيهاً ذا عمة منتظمة وجبة فضفاضة، يظهر في المجتمعات العامة محاطاً بطائفة من مختلف الطبقات من بطانته وأتباعه والمعجبين به
ففي أوائل القرن الثالث عشر ظهرت فرق الدراويش العدوية والقادرية الجيلانية، اللتين أسسهما عدي الحكري وعبد القادر الجيلي، ثم تبع هاتين ظهور الشاذلية والرفاعية والمولوية، فالرفاعية تنسب إلى مؤسسها أبي العباس أحمد الرفاعي المولود في أم عبيدة(81/37)
إحدى قرى الفرات، وهي تحيا اليوم بفرقتين كبيرتين هما العلوانية والجيباوية، المشهورتين بحفلة (الدوسة) هاتان أشد فرق الدراويش تعصباً وأكثرهم جهلاً وخبالاً
والقادرية الجيلانية يدعون أن عبد القادر الجيلاني هو مؤسس طريقهم، وهم في أورادهم وأذكارهم لا يفعلون كما يفعل الجيباويون من تقطع الأجساد وغرزها بالإبر والأمواس، بل يذكرون الله بتؤدة وهدوء ووضوح
وأما المولوية أو (الدراويش الراقصون) فقد أسسها في العجم الشاعر الفارسي المتصوف الشهير جلال الدين الرومي مؤلف (المثنوي)
على أن المركز اللائق الذي اكتسبته الصوفية في الدين والعطف الذي تفيأت ظلاله، إنما ظهر بتأثير الغزالي الذي مال ميلاً كلياً إلى هذه العقيدة بعد أن درس الآراء والمعتقدات الأخرى. فقد أدخل الغزالي على الشريعة عنصراً جديداً بعث فيها النشاط بعد أن ظلت زمناً طويلاً في ركود من جراء الحروب الكلامية المستعرة بين الفلاسفة والدهريين والمتكلمين. ولم يقف أبو حامد عند هذا بل أدخل في الصوفية الفكرة الأساسية لما (وراء الطبيعة)، وأخذ المسميات والمصطلحات التي عمد إليها ابن سينا والفارابي من تعاليم الأفلاطونية الجديدة وأحلها مكاناً مقيداً في الدين الإسلامي. على أنه وان لم يسلك هذا الطريق إلى النهاية ولم يتقيد بسبل هذا المذهب إلا أنه اتبع التصوف العملي. فهو وإن يكن بحث في الموضوعات والآراء الخيالية النظرية إلا أن علمه وإدراكه قد اضطراه إلى أن ينحو منحى آخر، ذلك أنه جعل العبادة قسماً من الحياة اليومية يمارسها العامة والخاصة على السواء
الصوفية وتقاة المسلمين
إن محور التصوف هو التجرد عن النفس وما ترتبط به من مادة، والانصراف الكلي للحب الإلهي. وغاية ذلك أن يمتزج العنصر الإلهي الروحي في الإنسان مع (العقل الأول) الذي منه نشأ وإليه يرتقي. هذه الفكرة وإن كانت بعيدة عن تقاة المسلمين الأولين الذين أنطبع في نفوسهم خوف الله والرهبة منه لكنها ليست غريبةً بتمامها عن العقل الإسلامي
ولقد لاقت الصوفية كما لاقى غيرها من المذاهب والآراء الجديدة مقاومة كبيرة فيها عنف وفيها شدة من بعض تقاة المسلمين. وغالى بعضهم في نقمته فنعت الصوفيين بأنهم قوم(81/38)
جهلة يتخبطون في مهاوي الغي والفساد، لا يركنون إلى الكتاب والسنة في كل ما يفعلون، ثم أوغلوا في تهجمهم عليهم فقالوا ما التصوف إلا إسقاط الجاه وسواد الوجه في الدنيا والآخرة، وما المتصوفون إلا قوم مراؤون بئسوا من العمل ومالوا إلى الخمول والكسل فكأن شأنهم شأن من ينتظر أن تمطره السماء ذهباً وفضة
كانت هذه الحركة العدائية ترتكز على ثلاثة أسس:
أولاً: أن الصوفيين بشروا بصلاة ساكنة، وبهذا مالوا إلى إنقاص شأن الصلوات الخمس الجبرية المفروضة التي هي من أركان الإسلام الخمسة زاعمين أنها من خصائص العامة الذين لم يتعمقوا في المعرفة الروحية. أما هؤلاء الذين ارتقوا إلى أعلى درجات العلم والفلسفة فهم في غنىً عنها
ثانياً: أنهم أدخلوا (الذكر) في الدين، وهو إعادة دائمة لأسم الله تعالى بأوضاع وأشكال منوعة على نمط لم يعرفه المسلمون المتقدمون، فهو إذن بدعة (وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)
ثالثاً: أن كثيراً منهم اعتنقوا مبدأ التوكل مهملين جميع أنواع العمل وألوان التجارة وفي هذا ما فيه من إضعاف شأن الأمة اقتصادياً واجتماعياُ. ثم أنهم كانوا يرفضون المساعدات الطبية عند الحاجة ويعيشون على الصدقات يتطلبونها من المؤمنين. أنهم ليحدثون في عقول الناس معنىً خاصاً لله وللدين
لم يقف الصوفيون أمام تهجمات خصومهم مكتوفي الأيدي ولم يفقدوا رشدهم أمام هذه الحملات الشعواء المبعوثة من كافة النواحي والجماعات، بل دافعوا عن كيانهم بحجج قوية وأدلة مبعثها الكتاب والسنة وأثبتوا فضلهم وعلمهم، وقالوا إنهم قوم آثروا الله على كل شيء فاصطفاهم من دون الناس كافة لأيقاظ الناس وإطفاء شعلة التشكك والألحاد، قال الشبلي: (الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق، بدليل قوله تعالى واصطفيتك لنفسي. قطعه عن كل (غير) ثم قال لن تراني.) ومما استشهدوا به على أنهم وصُفوا في الذكر الحكيم بالصدق والخشوع والصبر والتوكل والقنوت والزهد: وهم على اعتقاد أنهم المعنيون بهذه الأوصاف.
ومن كلام النبي (ص) فيهم قوله. (رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره)(81/39)
كلمة ختامية
إن تعاليم الصوفية قد لاءمت العقلية الفارسية أكثر مما لاءمت العقلية العربية. ولم يكن تأثيرها في الحياة العربية والأدب العربي خاصة مضارعاً ما كان لها من أثر بين في الأدب الفارسي منذ أوائل القرن الحادي عشر حتى يومنا هذا
والواقع أن الكثرة المطلقة من شعراء الفرس المجيدين قد انصهروا في بودقة هذه التعاليم فامتزجت بتفكيرهم وخيالهم، وظهر هذا جلياً واضحاً في الاستعارات والمسميات الصوفية التي كانوا يطرزون بها أشعارهم. على حين لم يكن بين شعراء العرب المجلين من وقف وقفة ولو بسيطة عند هذه التعاليم إذا استثنينا الشاعر المبدع شرف الدين عمر بن الفارض العربي المولد والشعر مادة وروحاً. وللعرب في تاريخ الصوفية الأدبي فارس آخر هو محي الدين بن العربي الأندلسي المولد في القرن الثاني عشر الذي ألقى عصا الترحال في دمشق الفيحاء، بعد أن زار في رحلته مصر والحجاز وبغداد والموصل وآسيا الصغرى، وله مؤلفات تربو على المئتين والخمسين عدا، وأشهرها الفتوحات المكية وفصوص الحكم وبهما يعتبره البعض أعظم صوفي الإسلام
هذه صفحة موجزة في تاريخ الصوفية ونشأتها أود أن اختمها بالثناء العاطر على الأستاذ العلامة نكلسون لما بذل من مجهود في تنقيبه على أسس هذه الطريقة ومعالمها، فأضاء لنا صفحة مشرقة في تاريخ هذا المبحث الخطير الشأن. وعسى أن يقوم من بين علماء العربية من يتطوع للكتابة في هذا الأمر الجليل، فالمجال ما زال واسعاً والفائدة جزيلة عامة إن شاء الله
السلط - شرق الأردن
سليمان فارس النابلسي(81/40)
محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أشخاص الحوار
فيدون (وهو راوي الحوار إلى اشكراتس من أهالي فليوس)
سقراط. أبولودورس. سمياس. سيبيس. كريتون. حارس السجن
مكان الحوار: سجن سقراط
مكان الرواية: مدينة فليوس
اشكراتس - أي فيدون! هل كنت بنفسك في السجن مع سقراط يوم تجرع السم؟
فيدون - نعم كنت يا اشكراتس
اشكراتس - أود لو حدثتني عن موته، ماذا قال في ساعاته الأخيرة؟ لقد أنبئنا أنه مات باجتراعه السم، ثم لم يعلم أحد منا فوق ذلك شيئاً، فليس ثمة اليوم بين بني فليوس من يذهب إلى أثينا، كما أن أحداً من الأثينيين لم يجد سبيله إلى فليوس منذ عهد بعيد، ولذا لم يأتنا عنه نبأ صريح
فيدون - هل أتاك حديث المحاكمة وكيف سارت؟
اشكراتس - بلى، لقد حدثنا بعض الناس عن المحاكمة، فلم ندر لماذا نفذ فيه الإعدام بعد الإدانة بزمن طويل، كما رأينا، ولم ينفذ في حينه؟ فما علة ذلك؟
فيدون - علته حادث وقع في اليوم السابق لمحاكمته يا اشكراتس، وهو تكليل مؤخرة السفينة التي يبعثها الأثينيون إلى دلفي.
اشكراتس - وما تلك السفينة؟
فيدون - يروي الاثينيون أنها السفينة التي كان قد أبحر عليها تسيوس وصحبه الشبان الأربعة عشر إلى اقريطش، حيث نجا وإياهم، وكان قد قيل وقتئذ إنهم نذروا لأبولو أن لو سلموا ليحجن إلى دلفي مرة كل عام، وما تزال العادة متصلة إلى اليوم. فهذه الفترة كلها،(81/41)
التي تنفقها السفينة في رحلتها إلى دلفي، ذهاباً وإياباً، منذ الساعة التي يكلل فيها كاهن أبولو مؤخرة السفينة، فترة حرام، لا يجوز للمدينة خلالها أن تدنس أرضها بقتل أحد من الناس؛ وكثيراً ما اعترضت السفينة ريحٌ أخرتها، فأرجئ الإعدام أياماً طوالاً. فهذه السفينة كما سبق لي القول قد كللت في اليوم السابق لمحاكمة سقرط. فدعاه ذلك إلى أن يلبث في السجن ولم يعدم إلا بعد الإدانة بزمن طويل
اشكراتس - كيف كان موته يا فيدون؟ ماذا عُمل وماذا قيل؟ ومن ذا جاوره من أصدقائه؟ أم لم يأذن لهم ذوو السلطان بالحضور فمات وحيداً؟
فيدون - لا، بل رافقته من أصدقائه طائفة كبيرة
اشكراتس - إن لم يكن لديك ما يشغلك، فأرجو أن تقص على ما حدث، دقيقاً ما استطعت إلى الدقة سبيلاً
فيدون - لا شاغل عندي، وسأحاول أن أجيبك إلى ما رجوت، فليس كذلك أحب إلي من أن أكون ذاكراً لسقراط، سواء أكنت أنا محدثاً، أم كنت مستمعاً إلى من يتحدث عنه
اشكراتس - لن تجد من سامعيك إلا نفوساً ترغب فيما رغبتَ فيه وإني لآمل أن تكون دقيقاً ما وسعتك الدقة.
فيدون: - وإني لأذكر ما اعتراني من إحساس عجيب، إذ كنت إلى جانبه، لقد كنت بازائه غليظ القلب، يا اشكراتس، لأني لم أكد أصدق أني إنما أشهد صديقاً يلفظ الروح. إن كلماته وقسماته ساعة الموت، كانت من النبل والجلد، بحيث بدا في ناظري كأنه رافل في نعيم، فأيقنت أنه لابد أن يكون بارتحاله إلى العالم الآخر ملبياً لدعوة من ربه، وأنه سيصيب السعادة إذا ما بلغ ذلك العالم، إن كان لأحد أن يعيش ثمت سعيداً، فكان طبيعياً، وتلك حاله، إلا تأخذني عليه الرحمة، ولكني مع ذلك لم أجد في الحوار الفلسفي (إذ كانت الفلسفة موضوع حديثنا) ما تعودت أن أجده فيه من متاع؛ لقد كنت مغتبطاً، ولكني أحسست إلى جانب الغبطة ألماً، أنْ علمت أنه لن يلبث طويلاً حتى يموت. لقد ساهمنا جميعاً في هذا المزيج العجيب من المشاعر، فكان يتناوبنا الضحك والبكاء، ولاسيما أبولودروس لأنه سريع التأثر - هل تعرف هذا الضرب من الرجال؟
اشكراتس - نعم(81/42)
فيدون - لقد غُلب على أمره وتخاذلت قواه. وأنا نفسي، بل وكلنا جميعاً، قد بلغ منا التأثر مبلغاً عظيماً
اشكراتس - من كان الحضور؟
فيدون - حضر سوى أبولودورس من بني أثينا، كريتوبويس، وأبوه كريتون، وهرموجينس وأبيجينس، وايشينس، وانتسين. كذلك أكتيسبس من أهل بيانيا، ومينكسينوس وغيرهم كثيرون. أما أفلاطون فقد كان مريضاً فيما أظن
اشكراتس - أكان ثمت أحد من الغرباء؟
فيدون - نعم، كان هناك سمياس الطيبي، وسيبيس، وفيدونديس، واقليدس، وتربيزون الذين جاءوا من ميفارا
اشكراتس - وهل كان أرسطبس وكليومبروتس حاضرين؟
فيدون - لا. فقد قيل إنهما كانا في أيجينا
اشكراتس - ومن غير هؤلاء؟
فيدون - هم فيما أحسب كل الحاضرين على وجه التقريب
اشكراتس - وأي حديث تناولتم بالحوار؟
فيدون - سأسوق الحديث من أوله، محاولاً أن تكون الرواية شاملة
ولعلك تعلم أنا قد كنا من قبل نجتمع مع الصباح الباكر في المحكمة التي جرت فيها المحاكمة، وهي على مقربة من السجن، فنظل نتجاذب أطراف الحديث حتى تفتح أبواب السجن (وقد كانوا لا يبادرون بفتحها) فندخله لننفق معظم النهار مع سقراط، فلما كان الصبح الأخير، بكرنا باللقاء عن الموعد المعهود إذ علمنا في الليلة السالفة أن السفينة المقدسة قد عادت من دلفي فتواعدنا على اللقاء في المكان المضروب جد مبكرين، فما كدنا نبلغ السجن حتى طلع السجان المسئول عن حراسة السجن، ولم يأذن لنا بالدخول، بل أمرنا أن ننتظر حتى يدعونا، (لأن الأحد عشر مع سقراط الآن، يرفعون عنه الأغلال، ويأمرون بأن يكون اليوم قضاؤه المحتوم) كما قال. ولم يلبث أن عاد يجيز لنا الدخول، وإذ فعلنا ألفينا سقراط قد خلص لتوه من الأصفاد، واكزانثيب، التي تعرفها جالسة إلى جانبه تحمل وليده بين ذراعيها، فلم تكد تبصرنا حتى صاحت قائلة ما ينتظر أن تقوله النساء:(81/43)
(أواه يا سقراط! لتلك آخر مرة يتاح لك فيها أن تتحدث إلى أصدقائك أو يتحدثون إليك) فنظر سقراط إلىكريتون، وقال: (مُرْ أحداً يا كريتون أن يذهب بها إلى الدار) فساقها بعض حاشيته صارخة لادمة، وما كادت تغيب عن النظر حتى انثنى سقراط، وكان جالساً على سريره، وأخذ يربت على ساقه قائلاً: (ما أعجب هذا الشيء الذي يسمونه اللذة، وما أغرب صلته بالألم، الذي قد يظن أنه واللذة نقيضان، لأنهما لا يجتمعان معاً في إنسان، مع أنه لابد لمن يلتمس أحدهم أن يحمل معه الآخر؛ إنهما اثنان، ولكنهما ينبتان معاً من أصل واحد، أو يتفرعان من أرومة واحدة، ولست أجد سبيلاً إلى الشك في أنه لو رآهما أيزوب لأنشأ عنهما قصة، يُصور فيها الله وهو يحاول أن يوفق بينهما في الخصومة القائمة، فان لم بوفق، سد رأسيهما إلى بعض في وثاق واحد، وذلك عله أن يجيء الواحد في أعقاب أخيه، كما شاهدت في نفسي، إذ أحسست لذة في ساقي جاءت في أثر الألم الذي أحدثه القيد فيها
وهنا قال سيبيس: كم يسرني حقاً يا سقراط أن تذكر ايزوب، فقد ذكرني ذلك بمسألة طرحها بعض الناس واستجابني عنها افينوس الشاعر أمس الأول، ولا ريب في انه سيعود ثانية إلى السؤال، فحدثني بماذا أجيبه، إن كنت تحب أن يظفر بالجواب. أنه أراد أن يعرف لماذا، وأنت رهين السجن، ولم تكتب من قبل بيتاً واحداً من الشعر، تنظم قصص أيزوب وتنشئ تلك الأنشودة إجلالاً لابولو
فأجاب أن حدثه يا سيبيس بأنني لم أفكر في منافسته ومنافسة أشعاره، وحق ما أقول، لأنني كنت أعلم أن لا قبل لي بذلك، إنما أردت أن أرى هل أستطيع أن أمحو وهماً أحسسته عن بعض الرؤى، فلكم أشارت إلي هواتف الأحلام في أيام الحياة (بأنني سأنشئ الموسيقى) وقد كان يطوف بي هذا الحلم في صور متباينة، ولكنه لازم عبارة يعنيها ينطق بها أو بما يقرب منها دائماً: أنشئ الموسيقى وتعهدها بالنماء - هكذا كانت تهتف الرؤيا، وقد خيل إلى منذ ذلك الحين أنها لم تُرد بذلك إلا أن تحفزني وتبعثني على دراسة الفلسفة التي كانت دوما قصد الرمي من حياتي، والتي هي أسمى جوانب الموسيقى وأرفعها شأناً، فكما ترى النظارة في حلبة السباق يهيبون بالمتسابق المتحمس أن يجري مع أنه يجري فعلاً، كذلك كانت رؤياي تأمرني أن أؤدي ما كنت بالفعل قائماً بأداءه، ولكني لم أكن على يقين من(81/44)
هذا، فربما قصدت الرؤيا بالموسيقى معنى الكلمة المعروف، فرأيت أني أكون آمن، لو أرضيت هذا الشك، وأطعت الرؤيا فيما تأمر به، فأنشأت قبل رحيلي قليلاً من الشعر، فهذا قضاء الموت يرقبني، وقد أمهلني العيد قيلاً. فكتبت بادئ ذي بدء نشيداً في تمجيد آله هذا العيد، ثم لما رأيت أن الشاعر الذي يراد له أن يكون شاعراً مبدعاً حقاً، لا ينبغي أن يحشد ألفاظاً وكفى، بل لابد له أن ينشي قصصاً، ولما لم تكن لدي قوة الإنشاء؛ أخذت طائفة من قصص ايزوب، ونظمتها شعراً، فقد كانت ميسرة سهلة التناول، وإني بها لعليم. أنبئ أفينوس بهذا ولا تجعله يبتئس، قل له إني أود أن يتبعني، وإلا يتلكأ إن كان رجلاً حكيماً، فأغلب الظن أنب مرتحل عنكم اليوم، إذ قال الأثينيون أن ليس لي من ذلك بد
قال سمياس - يا له من نبأ يحمل لذلك الرجل! أني أقرر لكم وقد كنت رفيقاً له ملازماً، أنه - كما عهدته - لن يأخذ بنصحك إلا مجبراً
قال سقراط - ولماذ؟ أليس أفينوس فيلسوفاً؟
قال سمياس - أحسبه كذلك
إذن فسيكون راغباً في الموت، شأن كل رجل عنده روح الفلسفة، ولو أنه لن ينتزع روحه بيده، فقد أجمع الرأي على أن ليس ذلك صواباً
وهنا بدل في وضعه، فأنزل ساقيه من السرير إلى الأرض ولبث جالساً حتى ختم الحوار
يتبع
زكي نجيب محمود(81/45)
في تاريخ الأدب المصري
2 - ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
اتصل شاعرنا كما ذكرت بطائفة كبيرة من عظماء عصره، فمدح الخليفة الناصر، أحمد أمير المؤمنين، واتصل بالملك العادل أخي صلاح الدين، واتصل كذلك بالقاضي الفاضل والوزير صفي الدين بن شكر وغيرهم، ولكنه لم يتصل بصلاح الدين، ولعل ذلك كان ناشئاً عن حداثته في ذلك الحين، واستصغار نفسه أن يتصل به، مع أن صلاح الدين كان ممدوحاً للقاضي الفاضل وغيره من كبار رجال العصر. غير أن أوثق الاتصال كان بينه وبين الملك الأشرف الذي أصبح به مختصاً معروفاً، كما عرف المتنبي بسيف الدولة، يسجل له مفاخره، ويحصى ما يناله من الخير والنصر، ويهنئه بالعيد إذا حل العيد، ويصف له القصور إذا بنى قصراً جديداً، وإذا أعان الحجاج سجل له يده، ويظهر أنه قد نال الخير والسعادة على يد الملك الأشرف، وإن كنا نراه في بعض الأحيان يشكو إليه، ويذكر ما قد يصيب علاقتهما أحياناً من الفتور، وذلك ما لابد منه، ولا سبيل إلى التخلي عنه، فهو يقول له:
كم اصطنعت وكم أوليتني حسنا ... فليس يبلغ أقصى الشكر أدناه
دامت علينا به النعمى وأمتنا ... مما نخاف أدام الله نعماه
أرجو لقاك لآمال ومنزلة ... فأنت لي سبب، والرازق الله
فأغنني يا ابن ذي المجد العلي وكن ... لي مسعداً في الذي أرجو وأخشاه
وأحياناً كان ابن النبيه يرسل إليه يطلب حاجة يجعل شفيعها غلاماً جميلاً يستقضي تلك الحاجة، ويحفظ له التاريخ من ذلك أنه أرسل هذا الغلام وكتب معه هذا الدوبيت:
أيقنت بأن حاجتي ليس تضيع ... مذ قدمها مهفهف القد بديع
في خضرة حده ليعينيك ربيع ... ما أقبح رده وذا الحسن شفيع
وكثيراً ما كان وهو لدي ولي نعمته الملك الأشرف يشتاق مصر ويرسل إلى أهلها السلام،(81/46)
ثم ينتقل إلى المدح، وكأنه يذكر الممدوح بغربته وفراقه وأنه إنما تحمل ذلك من أجله هو، وفي ذل ما فيه من تكثير لمورد رزقه وإغداق النعمى والهدايا عليه، واستمع إليه يخاطب أهل مصر:
إن عينا منكمو قد ظميت ... قد سقاها الدمع حتى رويت
آه من وجد جديد لم يزل ... وعظام يا حلات بليت؛
ساكني الفسطاط لو أبصرتكم ... جليت مرآة عين صديت
إن أعاد الله شملي بكمو ... سعدت آمال نفس شقيت
إن أرضا أنتمو سكانها ... غنيت عن أن تقولوا: سعيت
فوجوه كرياض أزهرت ... ورياض كوجوه جليت
بأبي منكم غزال، مهجتي ... بظبا ألحاظه قد غزيت
بلغيه يا نسيم الريح عن ... مهجة المشتاق ماذا لقيت
ثم يقول:
إنما مدحة عيسى جنة ... عندها أوطاننا قد نسيت
فكأنه يقول له اذكر أني مفارق لوطني فكيف أنساه إلا إذا لقيت منك ما يغنيني عن ذكره، ونحن لا نشك في أنه لاقى من الأشرف كل إعزاز وإكبار. وكان الأشرف يعتقد في شاعريته ويثق بها، فكثيراً ما كلفه نظم الشعر على البديهة في أي موضوع يراه، وكثيراً ما قام مقامه في تدبيج الرسائل بالشعر على لسانه، ولقد كانت تلك المنزلة الرفيعة التي نالها مدعاة إلى أن يقول:
أنت قربتني فأغليت قدري ... أنت خولتني فأغنيت فقري
فيجد من يشا ويبخل من شا ... فحرام عليه ذمي وشكري
بل كان جمع ديوانه قياماً منه بواجب الشكران وتسجيلاً لليد التي أسداها إليه - كما حدثك هو في صدر الديوان
- 4 -
نستطيع أن نقول إن شعر ابن النبيه يعطينا صورة واضحة لعصره، يحدثك عن طابعه وعن أهم ما ضمه من الأحداث، وإذا أنت ذهبت تنقب عن ذلك رأيت أن أهم ما يميز(81/47)
العصر الروح الحربية التي سرت فيه، وروح القتال الذي كان على قدم وساق
كان العصر عصر حرب مشبوبة بين الصليبين من الأوربيين وبين المسلمين وملوك المسلمين، كما كان عصر نزاع بين بني أيوب على الانفراد بالسيادة والسلطان بعد أن مات كبيرهم صلاح الدين، ومن أحل هذا كان أظهر صفة بارزة يمدح بها شاعرنا ممدوحيه شجاعتهم في الحرب واستبسالهم في المواقع، فهو يقول لمن يمدحه:
مليك إذا سار بين السيو ... ف ترى البدر بين اشتباك الكواكب
وتزأر من تحت ذاك الركا ... ب أسودها من ظباها مخالب
فتلك اللهاذم زهر النجو ... م ومعتكر النقع جنح الغياهب
ويصف جيش ممدوحه بقوله:
وأسد على جرد لها مثل فعلهم ... إذا ما تجلى الموت في الحلل الحمر
دماء أعاديهم شراب رماحهم ... وأجسامهم هذي إلى الذئب والنسر
فإذا شئت أن ترى صورة من صور النزاع بين الإفرنج الذين كانوا يبغون الاستيلاء على مصر قلب الدولة الإسلامية وبدأوا غارتهم بالاستيلاء على دمياط فاستمع إليه يقول:
وتحت غيل القنا آساد معركة ... لها ثبات وفي الهيجاء وثبات
مستشرفات بآذان موكله ... لها إلى الثغر من دمياط حاجات
الويل للروم والإفرنج من ملك ... له من النصر والتأييد عادات
أين المفر لسرب الروم من أسد ... ضار له من رماح الخط غابات
دمياط طور ونار الحرب موقدة ... وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
ألق العصا تتلقف كلما صنعوا ... ولا تخف من حبال القوم حيات
طأهم بجيشك لا تحفل بكثرتهم ... فانهم لبغاث الطير أقوات
أصبتهم بسهام الرأي من حلب ... وللمكائد من بعد إصابات
فطهر الله ذاك الثغر من قلح ... أصابه، وانجلت تلك الثنيات
لله من ثغر دمياط وبرزخها ... فتح له تفتح السبع السموات
شرحت صدر رسول الله وانحسرت ... بنصرة الدين والدنيا غمامات
فللرماح كلاهم أو صدورهم ... وللصوارم أعناق وهامات(81/48)
تخلق البحر ذاك اليوم من دمهم ... والموج ترقصه تلك المسرات
عكا وصور إلى رؤياك عاطشة ... فانهض فقد أمكنت منهن خلوات
الله اكبر أن تمسي مزامرهم ... تتلى، وتنسى من القرآن آيات
وكثيراً ما كان يؤكد لسيده أنه سوف يهزم عدوه وينتصر عليه ويملك بلاده، بل وسوف يؤاتيه النصر حتى يملك القسطنطينية عاصمة بلادهم، ولقد كرر ذلك مراراً، حتى أنك لتستطيع أن تفهم من هذا التكرار والتأكيدات الكثيرة بأنه سوف يفتح تلك البلاد أن هذا كان في صدر ممدوحه أملاً قوياً يتمنى أن يناله وأن يتم على يديه، حتى قال له ابن النبيه:
ستفتح قسطينة عنوة ... وما كان للروم منها بغارب
كأني بأبراجها قد هوت ... وصخر المجانيق فيها ضوارب
وقد زحف البرج زحف العرو ... س إليها يجر ذيول الكتائب
وليس الكهانة من شيمتي ... ولكن حزبك بالله غالب
وكثيراً ما مناه بهذا الأمل وأكد له أنه سيناله، كذلك في شعره صورية للنزاع كان بين بني أيوب، ولقد كان ابن النبيه يؤمن ويوقن بأن الخير كل الخير إنما هو في اجتماعهم ووحدتهم، لأن الأوربيين في ذلك الحين كانوا يهاجمون الشرق، فمن الخير أن يتحد ملوكه لدرء هذا الخطر عنه، ولقد كان المغيرون ينتهزون كل فرصة خلاف بينهم ليشبوا نار الحرب عليهم، ولذلك كان ابن النبيه صادقاً يوم قال متحدثاً عن بني أيوب أولاد شاوي:
آل شاوي شهر الصيام جلالاً ... وأبو الفتح منه ليلة قدر
معشر في وفاقهم كل خير ... مثلما في خلافهم كل شر
وكان يوقن بأن صلحهم واجتماعه يبعث القوة في نفوس الشرقيين، ويبعث الضعف والخوف في نفوس الأوربيين كما قال بعد صلحهم:
اليوم تصلى صفحات العدا ... نيران حرب حرها لافح
اليوم دار الشرك مبذولة ... يأوي لها الصائح والنائح
موسى جزاك اله عن دينه ... خيراً فما أنصفك المادح
سعيت في جمع شتات العلا ... لله هذا العمل الصالح
وشعره بعد ذلك يحدثك عما أصابه الملك الأشرف من فتوح ونصر في بلاد الشرق، هذا(81/49)
وإذا ذهبت تلتمس العلاقة التي كانت بين الاشرف والخليفة رأيت أن الخليفة العباسي كان يتمتع بسلطة روحية كبيرة، وإن لم يكن له من الأمر شيء في السلطة السياسية، فان الأشرف يحرص على أن تظل العلاقات بينهما قوية متينة، ويعد مراسلة الخليفة له منة وفضلا كبيرين
ولقد ورد له خطاب مرة من الخليفة، فطلب من ابن النبيه أن يجيبه فكتب إليه الرد شعراً لأن الخليفة كان أديباً شاعراً:
سيدي سيدي كتابك أحلى ... من زلال على فؤادي الصادي
خلت فيه قميص يوسف لما ... الصقته أناملي بفؤادي
كرر اللثم يا فمي، وترشف ... منه آثار فضل تلك الأيادي
نعمة سميت كتاباً مجازاً ... أنا نبت وهي السحاب الغوادي
كثرت حاسدي حتى تخيل ... ت جفوني من جملة الحساد
قالت العين وهي تخرج دراً ... فاخراً من بحار ذاك المداد
أنا افدي بياضه ببياضي ... أنا أفدي سواده بسوادي
أنا عبد الأمام أحمد خير ... لي من نسبتي إلى أجدادي
فعليه السلام ما غرد الطي ... ر وغنى شاد، ورجع حاد
وفي الحق أن الأمراء من الأتراك مهما استبدوا كانوا يقرون للخليفة بالسلطة الروحية ولا ينازعونه فيها
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(81/50)
جيرة محمودة
للأستاذ فخري أبو السود
حتَّام أنت مجرجرٌ متلاطم ... يطوى عبابُك أعصراً وقرونا؟
ماذا يعي يا بحرُ صدرُك لو حَكَى؟ ... لكن أراه بما وعاه ضنينا
متدافع التيار ليلَ نهارَ لا ... بالصمت لُذْتَ ولا أَراك مُبينا
أبداً تجيء الشطَّ منك كتائبٌ ... دَآبَةُ التَّرْدَادِ لَسنَ يَنيِنَا
تغزو غواربُها الرمالَ وتنثنى ... تغزو من الصخر الأَصمِّ مُتُونا
مُبْيَضَّة الأثباج في تهدارها ... يَبْرُزْنَ حيناً في البياض فحينا
لاعَنْ مَشيب أو سنينَ تصرمت ... فَلَكَمْ أّذابتْ في الأجُاج سنينا
ولقد يكاد أُجاجُها من حُسنه ... يبدو فراتاً للظِّماء مَعينا
البحر فتَّان وإِن هو لم يُنِلْ ... رِياً ولم يُطْلِعْ جَوَاريَ عِينا
إِن لم يكن رِيَّ الظِّماءِ فإِنه ... بالحسن يروي أنفساً وعيونا
بروائع الألوان فيه تآلَفَتْ ... ونوافح النسمات إذ يسرينا
وَيُرَى مَسَارِحَ للعيون ومَبْعَثاً ... للذكريات كموجه يأتينا
كم طَالَعتْهُ الشمس ثمَّ أَجَنَّها ... سرِّاً وراء عبابه مكنونا
إِني شهدتُ الشمسَ عند شروقها ... من خلف لُجَّتِهِ تشعّ جبينا
ورأيتُ مًغرِبها به وضياؤُها ... ملءُ الجوانح لهفة وحنينا
يهوي خضيبُ شعاعها من أفقها ... ويذوب في لُجَجٍ به يَزْهُونا
والشمسُ أكرم رُاحل ودَّعْتُهُ ... أَطوى عليه حسرةً وشجونا
وَأَحَبُّ مُرْتَقَبٍ لِعًوْدٍ لم يذُذْ ... عن وجهه الوضَّاءِ مُرْتَقِبينَا
تَأْتِي وتَذْهَبُ في لطاف غلائل ... متجدداتٍ بهجةً ورُقُونا
هاتيك آياتُ الجَمَال تَخِذْتُها ... صَحْبي ونعم مدى الزمان خدينا
وتخذتُ هذا البحر جاراً لي إذا ... ما عفتُ جاراً أو مللتُ قرينا
وحمدتُ جيرته وثرثرةً له ... دَوْماً تَدَاوَلُ مَسْمَعَيَّ رَنينا
يَحْبو شواطئه صفاء طباعه ... ويفيض بشراً دونها وَيَمِينا(81/51)
أَضْفَى على الثغر الجميل رُواَء ... وكسا حياةً القاطنيهِ فُتُونا
وجَرَتْ به خلجانهُ رقراقةً ... وصَفَا جداولَ حوله وعيونا
فتشابهتْ أوقاته فشتاؤُه ... كَرَبِيِعهِ لطفاً يَرُوق ولَيناَ
متجدِّدٌ لم يَطْوِ يوماً بادياً ... من حُسنه إلا أبانَ كمينا
حًسْنُ الطبيعة فيه زاه كيفما ... أجْرَى الزمانُ لساَكِنِيه شؤونا
إنْ سَرِّهم بصروفه أو ساَءهم ... فالحُسْنُ ثَمَّ مَنَاهلاً وفُنُونا
والحُسْنُ ثَمَّ لِمَنْ بَغَى مُتَعَزَّلاً ... عَن طالبي الدنيا وما يَبْغُونا
الإسكندرية
فخري أبو السعود(81/52)
وهم الحياة
للأستاذ خليل هنداوي
إنني أَعبدُها - فيك - أيها الوهم!
(الناظم)
موِّه علينا بالرُؤَى ... إن الحقيقةَ تُؤلمُ
ما ذقتُ طيبَ العيشِ إلا عند ما أتوهمُ
ضُري حياةُ أو انفعي ... أنا منك لا أََتبرمٌ!
فَهمَ الحياة فتىً يجو ... زُكأَنهُ لا يفهم
عبثاً تحاولُ فهمَ لغزٍ فيه لغزٌ مُبَهمُ
ما أَنتَ أَولُ صخرةٍ ... يَطغَى عليها العَيْلَمُ. . .
أنتَ الغنيُّإذا قنع ... تَ وأَنتَ أَنتَ المعدمُ
ما أَظلمت ديناك، لكنَّ اعتقادَكَ مَظلِمُ
خليل هنداوي(81/53)
زهرتي
بقلم محمود حسن إسماعيل
ولي زهرةٌ طيبْتُ من عطرها دَمِي ... وضمخْتُ روحي من شذاها وأنفاسِي
على شاطئ من فَيْضِ روحي تفتَّحَتْ ... وراحَتْ تَعُبُّ الرِّىَّ من نَبْع إِحْساسي
مكللةً بالنُّورِ تَحْسِبُ وَشْيَها ... وَميضاً من الصَّهبْاء يُشرقُ في كاسِ
تميسُ على قلبي إذا هزَّها الهوى ... فتَفْضَحُ بالإدلال ريَّانَةَ الآسِ
غذَاها السَّنا من زاخِر اللمْحِ فاغتدَتْ ... تَبلّجُ في هالاتِها. . فتنَةَ النّاس
كأني بها نَفْحٌ من الخُلد رَوَّحَتْ ... أفاويحهُ عني ضنَى عُمْرِيَ الآسِي
بروحيَ من أنفاسها عطرُ جَنَّةٍ ... تراَءتْ بحُلْمٍ رائعِ الطيْف ميَّاسِ
وأنداءُ فجْرٍ أسْكر الروح نَسْمُهُ ... وطهرَ بالأعطار إثمى وأرْجاسي!
بروحي حَنانٌ شَعَ من جنَباتها ... كما فاض في جُنْح الدُّجَى ضوءُ نبراسِ
رشْفتُ نعيمي نَشقةً من عبيره ... وشرَّدتُ آلامي على نَفْحِه الآسي!!(81/54)
7 - بين القاهرة وطوس
نيسابور إلى طوس
للدكتور عبد الوهاب عزام
رجعت من مزار العطار إلى قبر الخيام وأنا أنشد قول حافظ الشيرازي:
(جاء مرشدنا البارحة من المسجد إلى الحانة. .)
ولما رجعنا إلى قبر الخيام قال بعض الحاضرين من الشرقيين كيف تركتم الخيام إلى العطار؟ قلت لكل رجل وجهته، وإن لم يكن من القياس بد فصاحبنا أعظم من صاحبكم، وأكرم حياة، وأجل أثراً. فانصرف ثم عاد إلى وهو يقول: ليس أحد من المتأدبين في الشرق والغرب يجهل الخيام، وهذا أحد الوافدين من الأوربيين يسأل من العطار؟ فهذه حجة لي، قلت دعني فأني لا أقيس عظماءنا بمعرفة الأوربيين وجهلهم، ومدحهم وذمهم الخ
دُعينا إلى الموائد فطعمنا، وتكلم الشاعر الإنجليزي درنكووتر عن الشعراء ومذاهبهم في الحياة وقال: إنه لا ينبغي أن يفضل شاعر على غيره بصواب رأيه، وسداد طريقته، بل بمقدار إبانته عما أحسه في هذه الحياة، وأدركه في هذا المعترك؛ نحن لا نستطيع أن نقتدي بالخيام فنمضي أوقاتنا بين امرأة جميلة وكأس، وعود، فان علينا في هذه الحياة واجبات تأبى ذلك، ولكنا لا نغض من قدر الخيام لأنه أبان عن رأيه بهذا الأسلوب الشعري الجميل الخ
ثم أنشد قطعاً من رباعيات الخيام كما ترجمها فيتز جرالد؛ وأنشد أحمد الصراف مندوب العراق بالفارسية بعض الرباعيات، وتكلمتُ فقلت بالفارسية؛ إننا مغتبطون بقدومنا مدينة نيسابور العظيمة، ذات الأثر العظيم في الحضارة الإسلامية، وها نحن أولاء بجانب الخيام الفلكي الشاعر الكبير، فالى روحه الطاهرة منا تحية ودعاء. ولا ننسى أن نرسل تحيتنا إلى الشاعر العظيم، والصوفي الجليل فريد الدين العطار، ذي المآثر الخالدة في الشعر والتصوف
وإنا لنرجو أن تعود هذه البلاد سيرتها الأولى في العلم والأدب، وأن ييسر الله لها السير في سبيل الرشاد في ظل صاحب الجلالة الشاه المعظم. .
فقام الأديب سيف آزاد صاحب مجلة إيران القديمة (إيران باستان) فتكلم وحيا صاحب(81/55)
الجلالة ملك مصر، وقال إنه قد ساءه أن علم اليوم أن جلالته مريض، وطلب من الحاضرين أن يدعو له بالشفاء والعافية. وألقي الأديب رشيد الياسمي قصيدة من الضرب الذي يسمى في عرف أدباء الفرس غزلاً. وهي مردوفة القافية. والرديف في الشعر الفارسي أن تكرر كلمة بعينها آخر كل بيت، ويبني الروي على الكلمة التي قبله. والرديف في قصيدة الياسمي كلمة (رو) بمعنى الوجه. وهذه ترجمة القصيدة عفو الساعة:
قد استسر وجهك في كمال الظهور، وصار من التجلي في حجابٍ من ذلك النور
لا يرى أحد في العالم وجهك، إن كان العالم مرآتك
إني أدعوك حبيب الروح، إذ لا يتجلى وجهك إلا في عالم الأرواح
ولّ وجهك شطرنا، نحول عن الكون والمكان وجوهنا
أيها الربيع لا تستر من العندليب خدك فقد جعل وجهه كورق
الخريف هجرك
فلا حرارة في هذا القلب المتوقد، ولا بسمة في ذلك الوجه المورد
لقد أمضيت العمر في انتظار وحسرة، , آمل أن يلوح وجهك لي مرة
أيتها الشمس إني من الشوق إلى شعاعك الوضاء، أقلب كالهلال وجهي في السماء
أبتغي أثراً من هذا الوجه، ولا أثر، كما ابتغى إسكندر ماء الحياة فلم يظفر
إن تبشرني بوجهك يوماً واحداً، وضعت وجهي على عتبتك أبداً
ان تطلب يا رشيد الكنز فانصب، فان السعادة لا تبدي وجهها لمن لم ينصب
قدمنا الساعة خمساً وعشرين دقيقة، وهي فرق ما بين وقت طهران ونيسابور، وركبنا والساعة ثلاث وربع بعد الظهر متوجهين تلقاء مشهد وبينها وبين نيسابور 116 كيلاً، فسرنا صوب الشرق والجنوب في سهل كثير القرى والشجر، فبلغنا قرية اسمها قدمكاه أي موضع القدم، وسأذكرها في الأوبة من مشهد. ثم اجتزنا بشريف آباد وعندها انعطفت الجادة صوب الشمال فارتقينا جبالاً ضربنا فيها أربعين دقيقة ثم هبطنا إلى المشهد المقدس، فدخلناه بعد مغرب الشمس
افترق الركب فنزل جماعة بفندق هناك، ونزل آخرون في دار أحد الكبراء، جليل بك(81/56)
نصير زاده، وكنت وزميلي الأستاذ العبادي ممن شرفوا بالنزول في هذه الدار المعمورة، فلقينا من الحفاوة والرعاية ما لا يُنسى
المشهد المقدس
في عام اثنين وتسعين ومائة سار هارون الرشيد إلى خراسان لحرب رافع بن الليث بن نصر بن سيار، وكان قد ثار بخرسان واعيا الولاة
وفي صفر من سنة ثلاث وتسعين اشتد به المرض وهو بجرجان فسار عنها إلى طوس، ونزل بضيعة اسمها سناباذ في دار الجنيد بن عبد الرحمن. فلما أحس أجله أمر فحفروا له قبراً في بستان الدار، وأمر جماعة فنزلوا فيه وقرأوا القرآن. وتوفي نصف الليل، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادي الآخرة، ودفن في القبر الذي أعده
وفي سنة ثلاث ومائتين كان الخليفة المأمون بن هارون قافلا من خراسان يريد العراق، وقد ثار عليه عمه إبراهيم بن المهدي، فلما بلغ سناباذ نزل عند قبر أبيه أياماً، وكان معه علي الرضا بن موسى الكاظم ولي عهده، فمات الرضا في ذلك المكان في شهر صفر فدفن إلى جانب الرشيد. وفي هذا يقول دعبل بن علي الخزاعي فيما يزعم الرواة:
قبران في طوس: خير الناس كلهم ... وقبر شرهم، هذا من العجب
اشتهرت قرية سناباذ وسميت سناباذ المشهد، ثم أطلق (المشهد) على القرية، وبهذا الاسم ذكرها المقدسي وسماها ابن بطوطة مدينة مشهد الرضا، ونسيت على مر الزمن مدينة (نوقان) وصار اسمها اسم محلة في المدينة الجديدة، ونافست مدينة المشهد مدينة طوس في إقليم خراسان حتى أخملتها. ثم اختفت طوس حين حاصرها ميرانشاه بن تيمور وفتحها فأخربها عام 791
وقد لقيت المدينة من غير الزمان سعادة وشقاوة، وتقلبت بها أحوال مختلفة، ولكن شأنها كان يزداد نباهة على مر العصور.
عنى عظماء المسلمين منذ القرن الرابع الهجري بمشهد الرضا والمدينة التي نشأت حوله. قال ابن الأثير في أخبار السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي: (وجود عمارة المشهد بطوس، وكان أبوه سبكتكين أخربه. وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم من ذلك. وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام وهو(81/57)
يقول له: إلى متى هذا؟ فعلم أنه أمر المشهد فأمر بعمارته) ثم بنى ابنه السلطان مسعود سوراً حول المشهد ليقيه غارات القبائل المجاورة. وفي القرن السادس الهجري استولى الغز على المدينة ونهبوها ولكنهم أبقوا على مشهد الرضا. وكذلك نهبت في القرن الثامن في عهد السلطان محمود غازان من الملوك الايلخانيين
وأعظم الملوك عناية بالمشهد قبل عهد الصفويين السلطان شاهرُخ بن تيمورلنك (809 - 850) وزرجه جوهر شاد؛ وسنذكرها حين الكلام على مسجدها العظيم
وكان عهد الصفويين عهد نماء وازدهار للمدينة، فقد تنافس الملوك الصفويين في تعمير المشهد وتجميله، وتعمير المدينة كلها، ولاسيما الشاه طهماسب الأول (930 - 948) والشاه عباس الكبير (995 - 1307)، ولكن عناية الصفوين لم تكفها الغارات والنهب، فقد غصبها أمراء الأزبك والشيبانية ثلاث مرات على رغم الصفويين وسيطروا عليها أزمنة مختلفة
وكذلك استولى عليها الأفغان حينما استولوا على إيران. ثم جاء البطل الكبير نادر شاه، فأكثر الإقامة فيها واختط قبره بها، وبنى في المشهد الرضوي أبنية رائعة. ثم عادت إلى الأفغان حينما زلزلت دولة نادر شاه بتنازع خلفائه على العرش. وتداولتها حوادث أخرى حتى استولى عليها آقا محمد خان القاجاري، وقتل سلطانها شاهرخ الأفشاري سنة 1210. وفي العصر الأخير ثار بها على القاجاريين بعض الثائرين فتذرع الروس بهذا إلى الاستيلاء عليها، فأطلقوا مدافعهم على المدينة في 29 مارس سنة 1912، وهي الآن تنال نصيبها من العمران والطمأنينة السائدين في إيران اليوم
والمدينة على ارتفاع 930 متراً وطولها 59 وعرضها 36، في وادي كشف رود (نهر كشف) الذي ينبع على عشرين كيلاً إلى الشمال الغربي من طوس ويسمى أحياناً آب مشهد (نهر مشهد) ويصب في نهر هراة (هري رود) على 150 كيلاً إلى الجنوب الشرقي من مشهد، وتبعد المدينة عن شاطئه سبعة كيلات إلى الجنوب. ويبلغ ارتفاع الجبال عندها ثلاثة آلاف متر. فهي باردة الشتاء، جيدة الهواء.
ونهر كشف لا يسقي المدينة، بل يأتيها الماء من عين اسمها جشمه كلاس عند منبع نهر كشف في قنوات طولها 74 كيلاً جرها إليها الوزير الكبير والأديب العظيم والشاعر المفلق(81/58)
شير علي نوائي وزير السلطان حسين بن منصور بن بايقرا من أحفاد تيمورلنك - (المتوفى سنة 912هـ)
وهي أكبر مدن خراسان اليوم، وتسمى أحياناً خراسان وسكانها زهاء سبعين ألفاً وتجارتها رائجة، ولكنها ليست كعهدها الأول، فقد كانت ملتقى طرق القوافل قبل أن يستولي الروس على التركستان وينشئوا سكة الحديد القزوينية. وبالمدينة شارعان عظيمان مشجران يخترقانها. وكان بها في عهد نادر شاه 60 ألف دار. وسكانها الآن زهاء 80 ألفاً
وهي كثيرة المساجد، والمدارس بها زهاء عشرين مدرسة للعلوم الدينية، أقدمها المدرسة التي أسسها شاهرخ في سنة 823، ويقصدها الطلاب من أرجاء إيران ومن أفغانستان والهند، فيحصلون العلوم الدينية بها تسع سنين، ومن شاء أن يزداد علماً توجه إلى النجف الأشرف
ويحج إلى المشهد كل عام آلاف كثيرة يختلف التقدير فيها من 30 ألفاً إلى مائة ألف. وبها مقابر كثيرة يحرص الشيعة على أن يدفنوا بها، فتنقل جثثهم إليها من الأقطار البعيدة، وتختلف قيمة القبور بها على قدر قربها من الحرم وبعدها
وهي عند علماء الشيعة في المنزلة السابعة بين الأماكن
المقدسة مكة فالمدينة فالنجف فكربلاء فسامراء فالكاظمية
فالمشهد. وفي رواية أخرى أن الترتيب بعد كربلاء هكذا:
الكاظيمة فالمشهد فسامراء فهي السادسة، ولكنها من حيث
كثرة الزائرين واتساع المسجد وضخامته تكون بعد مكة
والمدينة، وقبل المزارات الأخرى فيما أظن
والكلام عن الحرم الرضوي في المقال الأتي إن شاء الله
(عبد الوهاب عزام)(81/59)
القصص
من الأدب السويدي
الدوار المسحور
للقصصية السويدية سِلما لاجرليف
ولدت السيدة سلما لاجرليف في 30 نوفمبر سنة 1858 بمدينة مارياك من أعمال فرملاند، واشتهرت بأقاصيصها القيمة، ونالت جائزة نوبل في الآداب لسنة 1909 ولا تزال حية
كلما تحدثت عن (بلاد الفير) والناس الذين يعيشون فيها، مر بخاطري حكاية قديمة لقروية خرجت صباح يوم إلى المرعى لتحلب أبقارها. ولما لم تجد الأنعام في المكان الذي اعتادت الوقوف فيه منتظرة إياها، اضطرت إلى أن تتوغل في الغابة باحثة عنها. غير أنها ضلت الطريق
وكانت القروية قبيل أن تخرج من دارها قد ضاق صدرها فلما لم تجد الأبقار ساءت حالها. وبينا هي تشق طريقها بين الأعشاب والحشائش والنمام باحثة عن بقرها، كانت تفكر في حياة السأم التي تحياها، وأنه لا أمل مطلقاً في تبديلها. نعم، أنها تميل كل الميل إلى زوجها، ولكنه أبصرت أن زوجها لم يبق له صبر على العمل إذ تقدم سنه، كما تقدمت هي أيضاً في السن. وهي بطبيعة الحال تميل إلى مزرعتها، فقد ولدت في كنفها وشبت
ولكن ليس لها ان تغض عينيها على صغرها وقيمتها التي لا تشرف. ولا يمكن مقارنتها بالمزارع الواسعة الفخمة الواقعة هنالك حول الكنيسة. ويزيد على ذلك ان مزرعتها تقع في قلب الغابة حتى أن الإنسان لا يرى طوال الأسبوع ادمياً غير من بالدار. أما هؤلاء الخدم فهي لا تريد أن تنسب إليهم ما لا يشرفهم، ولكن الله يعلم أنهم كانوا كسالى مهملين إلى حد فيه الكفاية
وعندما استيقظت في ذلك النهار قالت لزوجها إنه لابد لهما من بيع هذه المزرعة التي تقع وسط الأحراج، وأن يستبدلا بها أخرى توفر لهما معاشهما دون كبير مشقة ولكنه لم يرغب في الاستماع إلى شيء من هذا. وذلك ما أغضبها إذ الحق كلن دون شك في جانبها(81/60)
وفجأة تبينت أن ذلك ما كانت تخشاه دائماً منذ أيام صباها. وكذلك كانت تخشى وقوع هذا الأمر. ولما كانت هذه الأفكار المحزنة هي رفيقتها الوحيدة في تسيارها، فقد نسيت بتاتاً اتباع علائم الطريق أو تتبع الأثر، حتى أصبحت لا تعرف المكان الذي وجدت به، ورأت أمامها شجرة من البلوط خيل إليها أن لها بها سابق معرفة، ولكن شجرة البلوط تلك كانت في أعماق الغابة، ولا يمكن أن تكون قد قطعت في تجوالها كل هذه المسافة. وأنصتت إلى أصوات البقر أو صوت نداء راعيها. ولكنها لم تسمع إلا سقسقة العصافير
وجلست على صخرة ووضعت يدها فوق عينيها. ولكن ذلك لم يفدها شيئاً، إذ أن قلبها كان ينبض بشدة، وانتابتها أفكار شاردة أفزعتها. فقد سمعت من قبل عن أناس ذاقوا الأمرين في هذه الغابة، وضلوا الطريق فيها أياماً وأسابيع، وقد وجد أحدهم ميتاً
ولم تطق القروية صبراً على الجلوس هادئة حتى تتبين معالم الطريق، فقامت لساعتها تضرب في الغابة من جديد دون أن تفكر بعد هذا في البحث عن الأبقار بل أتجه تفكيرها إلى البحث عن الطريق المؤدية إلى دارها
وبعد أن سارت طويلاً دون أن تدرك أين هي، انبثق النور فجأة وتفتقت أمامها الأشياء وتجلت، إذ أخذت الغابة نهايتها، وبينت قبالتها (دواراً) فخماً لأحد الريفيين
وما كادت تلمحه حتى وقفت مبهوتة. إذ هي تعرف عن يقين أنه لا يوجد في هذه المنطقة دوار آخر غير الذي تملكه. وما رأته ألان لن يكون إلا سراباً وصورة كاذبة.
هذا أسوأ شيء رأته، فقد سحر عفريت الجبل أعينها. ولم تبحث عن دوار الجن ولم تجسر على النظر إليه، ولكن أعينها امتدت دون أرادتها إلى ذلك البناء الذي لم تر قط أبدع منه. لقد كانت الدار حقاً قديمة ولكنها مدعمة متينة. وكانت المخازن والأهراء عديدة فسيحة إلى حد أنها تكفي قرية بأملها
قالت لنفسها: (أنه مع ذلك لا شيء هنالك يخالف ما عندي، اللهم إلا أن هذا أجمل وأعظم أضعافاُ مضاعفة. نعم، إن عفريت الجبل لا يهمه الثمن. وقد يخيل إلي أن هذه الدار مشيدة من أشجار البلوط. إذا لم أكن قد سحرت وكانت عيناي تتبينان الأشياء على حقيقتها، فلن يبقى من كل هذه العظمة غير كومة من النمل)
ثم رجعت ثانية إلى الغابة، وكانت تتسلق هضاباً صعبة المرتقى وتنزل غيرها وعرة(81/61)
المنحدر، ومع ذلك لم تجد طريقاً، أو علامة الأميال، أو كوخاً ينشر فيه الخشب، حتى ولا منحدر ماء يصح أن يكون نجماً تهتدي به في طريقها. وكانت تسير وكأنها في قاع بحر خضم اخضر لونه. قالت في نفسها: (هنا وجب علي المسير حتى تعمني موجة خضراء وتطويني ضمنها)
وفيما هي سائرة إذا بها قد وصلت إلى طرف الغابة مرة أخرى. ورأت ثانية نفس الدار الفخمة
وهنالك تلك الدار. وعلى نوافذها ستائر بيضاء، ويتقدمها بضع أشجار من التفاح منبثقة. وكانت مدهونة بدهان أحمر جعلها تتألق في الزينة، حتى لكأنها مشتعلة وسط البقعة الخضراء كحشرة السعادة في ليلة صيف على طريق أخضر يفصل حقلين
وكانت في هذه المرة قريبة منها لدرجة مكنتها من رؤية كل شيء فيها. وكانت آلات الحرث والزرع والعربات موضوعة في مخازنها، كما كانت الأخشاب مصفوفة صفاً. وكانت العربات تسير دون التواء بين الحقول. وكانت الخيول القصيرة الجميلة القوية البناء الممتلئة كالتي تتمناها، ترعى في المراعي التي تأثرت بالصقيع
وكلما أنعمت النظر في كل شيء فيها أثار ذلك إعجابها، وقالت في نفسها: (أي، لو أن هذا الدوار الريفي لي، للذ لي المقام فيه؛ نعم إني أراه منعزلاً بعض العزلة غير أنه جميل للغاية، ومن أمامه البحيرة ومن خلفه الجبل)
وقالت في نفسها (ذلك الرجل الذي يسير الآن بين مباني ذلك الدوار الريفي ليخرج الخيل، لاشك أنه صاحب المزرعة، ولم أر في يوم من من أيام حياتي رجلاً سمهرياً قوياً مثله)
ولكن فرحها الأعظم كان بقطيع البقر الذي خرج تواُ من الغابة ووقف عند طرفها
وقالت في نفسها: (هذه الأبقار مسحورة، لا يشك في ذلك كل من يراها. ضرع طويل وحوالب متوازية. وجميعها ذات لون أحمر كالجمر، أن حلب مثل هذه الأبقار لهو الفرح بعينه. . . . كم لتراً من الألبان تدر هذه الأبقار يا ترى؟)
وشعرت بأن ذلك الأغراء يتزايد عندها ويدفعها إلى التقدم نحو البقر المسحور لتحلبه، ولترى ذلك الدوار الريف الفخم، الذي نسق كل شيء فيه أحسن تنسيق. وتشككت في ضعف طبيعتها. وأخيراً تقدمت نحو الدوار المسحور(81/62)
ولما وصلت إلى حيث وجدت البقر مستلقياً على الأرض استقبلها بخوار من الفرح. ووقفت لتراه، فتقدمت قائدة البقر ووضعت خيشومها في يدها كأنها اعتادت أن تجد شيئاً من لذيذ الطعام في هذه اليد
فأدركت أن هذه الأبقار لا يمكن أن تكون إلا أبقارها. لقد ميزتها من جديد وهي تعرف اسم كل منها
ولكن كيف يتفق هذا وذاك؟ كيف يصح لأبقارها أن تنام عند طرف الدوار الريفي المسحور؟
وفي نفس اللحظة انفتح باب الدار. وخرجت منه بنت صغيرة ذات شعر ذهبي مسترسل، وكانت مرتدية جلباباً أزرق مفوفاً حافية القدمين. هذه كانت ابنتها. ففتحت باب الحاجز. وأخذت الطفلة بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها، وقالت لها: (إنك طبعاً ابنتي، ولكن لَم أنت هنا؟)
وقالت الطفلة: (إنني طبعاً هنا حيث يجب أن أكون.)
ووقفت القروية حيرى لا تعي شيئاً. وفي تلك الأثناء بدأت الطفلة التي لا زالت بين ذراعيها تمسح بيدها شعر أمها وتصففه. وبدأت ترفع قناع الرأس الذي أنحدر إلى العنق. ورأت أن أمها ليست كما كانت عليه من تألق وانشراح. ولكن العقدة انحلت وأصبح قناع الرأس في يديها
وقالت الأم (انتظري قليلاً، أديري هذا الرباط على وجهه الآخر قبل أن تعقديه ثانية.)
وظنت أنها بهذه الوسيلة قضت على كل الخيالات التي انتابتها، كما كانت هذه وسيلتها من قبل. وفجأت رأت الضالة أين هي
فهي في دوارها الذي تملكه. هنا حيث ولدت وشبت، ولكن الشيطان قد مسها قبلاً ' لى حد لم تعرف معه دوراها
ووقفت والطفلة على ذراعيها ترمي بنظرها إلى ما حولها، لا، إن هذا الدوار الريفي جميل وعظيم جداً إذا ما نظر إليه المرء باعتباره أجنبياً عنه. الآن عرفت أن لا مثيل له في تلك المنطقة، وكانت تريد تركه. إن كل ما عداه أصبح بغيضاً لها!
وارتأت أن لابد من الذهاب إلى زوجها، وأن تحدثه بكل ما جرى، ولم تقبل ابنتها مفارقتها،(81/63)
وكانت كأن الزوج والطفلة قد التقيا بها بعد فراق طويل
وقال الزوج: (على الأقل ليس هذا السحر الذي مسك بالسحر البغيض. وقد يستفيد الغير فائدة محققة لو أنه وقع لهم مثل هذه الحوادث. أنظري الآن، إنك لم تدركي من قبل ما في دارك هذه. عليك أولاً أن تجوبي العالم وتضلي الطريق مرات عدة حتى تنظري بمثل هذه العين وتدركي قيم الأشياء على حقيقتها
فقالت القروية: (نعم، الحق معك، ومن الحسن أيضاً ألا يضل المرء كثيراً لدرجة يتعسر عليه معها الاهتداء إلى داره.)
عربها عن الألمانية:
ا. ا. ي.(81/64)
من روائع الشرق والغرب
الوحدة
'
لشاعر الحب والجمال لامرتين
استسلم لامرتين بعد فجيعته في حبيبته (جواليا) إلى الهم، وأستأنس بالوحدة، واستكان للعبرة، وخلا إلى الحزن في خلوات (ميلي) ومن هناك بعث إلى صديقه (فريو) بهذه القصيدة في 24 أغسطس سنة 1818 وهي:
جلست محزون القلب، مستطار اللب،
على قلة الجبل، وتحت ظُلة السنديانة
العتيقة، أشيع شمسي النهار وهي تغرب،
وأسرح بصري في وجوه السهل وهي تتغير
فهنا النهر صخاب الموج، جياش
الزبد، ينساب في جوف الوادي، ثم يضل
في ظلام البعد! وهنا البحيرة راكدة
السطح، راقدة الماء، تتراءى في جوانبها
نجوم الليل!
والطفل لا يزال يلقي على رءوس
الجبال الشجراء ومضا من شعاعه، وملك
الليل قد أخذ يصعد إلى عرش السماء في
محفته الندية، فأشرقت جوانب الأرض،
وازدهرت حواشي الأفق
وناقوس الكنيسة الغوطى قد أخذ
يقرع الهواء برنينه الديني، فكف الفلاح
عن العمل، ووقف السائر عن المسير،
واختلطت هذه الأرانين المقدسة بما بقي(81/65)
من ضوضاء النهار وصخبه!
ولكن نفسي كانت من كل هذا
خلية، فما تبعث فيها هذه المناظر الجليلة،
ولا تلك الصور الجميلة، نشوة ولا بهجة!
لقد كنت أتأمل الأرض وكأنها ظل
منتقل أو خيال طائف!
إن شمس الأحياء لا تدفئ الموتى!
فكنت أنقل عيني من الربى إلى
الجبال، ومن الجنوب إلى الشمال، ومن
ظلمة الغسق إلى حمرة الشفق، وأنفض
السهل والوعر، والمأهول والقفر، عسى
أن أجد لنفسي سعادة في مكان، أو أتوسم
لقلبي راحة في إنسان، فلا أعود بطائل!
وما تصنع لي هذه الوديان والأكواخ
والقصور، ما دمت لا أجد لجمالها في عيني
روعة، ولا لسحرها في قلبي فتنة؟؟
أيها الأنهار والأحجار والغابات
والخلوات العزيزة علي!! إن غيبة مخلوق
واحد من ربوعكن جعل عامركن خرابا،
ورد أنسكن وحشة!!
سواء علي أتطلع الشمس أم تغرب،
وتصحو السماء أم تغيم، ويظلم الليل أم
ينير الصبح، فليس لي بغية في اليوم ولا
رجية في الغد
وحينما أرسل عيني تتبعان الشمس في(81/66)
مدارها الرحب القصي، لا أبصر في كل
مكان غير الفراغ والخلو! لا حاجة لي إلى من
تظله السماء، ولا رغبة فيما تنيره الشمس!
ولكن من وراء هذا الفلك الدائر
وهذه الشمس الساطعة أمكنة أخرى
تسطع فيها الشمس الحقيقية! فلو أتيح
لنفسي أن تخلص من قفصها لرأت في تلك
السموات حبيبها الذي طالما بكت عليه،
وحنت إليه!
هنالك انتشى من رحيق الغبطة،
وأظفر بالأمل والمحبة، وأنعم بما تاقت إليه
نفسي من مُتَع لا تمر على سمع ولا تدور بخلد
ما أعجزني أن أطير إليك وأنا مثقل
بقيود المادة، خاضع لجاذبية الأرض!!
وليت شعري لماذا قضى الله أن أبقي إلى
الآن في أرض المنفى وما تربطني بها رابطة،
ولا تصلني بأهلها صلة!!
إذا ما ذوت الأوراق في المرج،
وأسقطها قر الخريف في الوادي، هبت
عليها الشمال فذهبت بها أباديد! وأنا بهذه
الأوراق الذابلة أشبه! فاحمليني أيتها الريح
كما حملتها، وانثريني في وجوه الفضاء كما
نثرتها، فما بعد الصباح إلا المساء، وما بعد
اليأس والوحدة إلا الفناء!
الزيات(81/67)
من الأدب الهندي
للشاعر الهندي خسرو الدهلوي
ارتفع العُقاب من الصخر إلى اللوح، ينفض للصيد جناحه ويصيح، واعجب ببسطه جناحه وقال: وجه الأرض اليوم تحت جناحي الطوال، أين في العالم ندي في هذا الفضاء؟ ما النسر وما السيُمرْغُ والعنقاء؟ هاأنذا أطير في الأوج وينفذ بصري الحديد، إلى الشعرة في قاع البحر البعيد، ولا تتحرك ذبابة على اليبس إلا بصرت باضطراب جناحها. وتمادى به العُجب ولم يخش القضاء، فانظر ماذا فعل به فلك السماء: صوب إليه قوساً من الكمين، فأنفذت فيه سهم القضاء المتين، أصاب السهم القاتل جناح العُقاب، فهو من الأوج إلى التراب، وقع على الأرض يضطرب، اضطراب السمكة وينتحب، ثم أدار عينه ذات اليمين وذات الشمال، فبلغ منه التعجب وقال: أني لقطعة من الخشب والحديد، هذه الحدةُ والسرعة والطيران البعيد؟ فلما أنعم النظر في سهم العذاب، رأي عليه ريش عقاب، فقال: من نبكي ولمن نشكو آلامنا، ومن أنفسنا هذا الذي أصابنا؟
وله أيضاً
طلبت أذني اسمك في كل مكان، ونحرت عيني وجهك في كل ناحية، ضربت برأسيكريح الصبا في كل باب وجدار، إذ ذهب وردي الضاحك وبقيت رائحته
الشاعر الهندي بيدل
إنما يأسرنا إحسان المنزهين عن الأغراض، فان شئت أن تصطادنا فانثر حبك بعيداً من الشباك(81/69)
من الأدب الفارسي
للشيخ سعدي الشيرازي
الملك حارس الرعبة وإن تكن له الدولة والصولة، فليس القطيع من أجل الراعي، ولكن الراعي لخدمة القطيع
وله أيضاً
يا طائر السحر تعلم العشق من الفراشة. قد احترقت وماتت ولم يُحس لها صوت. هؤلاء المدعون لا خبر عندهم في طلبه، أما الذين عرفوا الخبر، فلم يعرف لهم أثر
لمولانا جلال الدين الرومي
كان رجل يُسر إلى داره كل حين أن لا تسقطي قبل أن تنذريني. فانقضت الدار ليلة عليه بغته. فقال: كَثُر ما أوصيتك، وشد ما حذرتك! ألم أقل لك أنذريني قبل أن تنقضي لأفر عنك بعيالي! ما أخبرتني أيتها الدار الغادرة! فأين حق الصحبة الطويلة؟ لقد سقطت وأصبتنا بشر المصائب!
أجابت الدار مفصحة: كم كم أنذرتك ليلاً ونهاراً! كنت كلما فسحت من الصدوع فما، أن قد نفدت طاقتي وجاء الوقت فخذ حِذرك، دعاك الحرص إلى أن تسد فمي بالطين، فلم تدع لي صدعاً يبين، كلما فتحت فما في جدار، أخرسته علي بدار، فلم تدعني أنيس، فماذا أقول أيها المهندس؟
للفخر الرازي
ما حرًم قلبي العلم ساعة، ولم يبق سر إلا كسفت قناعه، فكرت اثنتين وسبعين سنة نهاراً وليلاً، ثم علمت أني ما علمت شيئاً
لابن سينا
تداولت مشكلات العالم بالحل، من تحت التراب إلى أوج زًحل، ولم تأسرني القيود والحيل، فحللت كل عقدة إلا الأجل!
عبد الوهاب عزام(81/70)
من هنا ومن هناك
الشعر الغنائي عند العرب وعند الايسلنديين
نشر الدكتور ج. أيستروب المستشرق الكبير بحثاً ممتعاً في الموازنة بين الأدب العربي قبل الإسلام وبين الأدب الأيسلندي في جاهليته، أي قبل الغزوات الشمالية. ولخص الدكتور نتيجة هذا البحث في مقال نشره في مجلة (جاتس دانسك مجزين الدانمركية) وهاك خلاصة رأيه:
يرى الدكتور أن هناك مشابهة قوية بين الأدبين: في الإلهام والعواطف وطرق الأداء. ومن الواضح أنه لم يقع اختلاط بين الشعبين في تلك العهود، إلا أن الدكتور يعزو ذلك التشابه إلى الأحوال الجغرافية التي فرضتها الطبيعة على الشعبين، وإلى الحياة الاجتماعية المماثلة التي نشأت عن تلك الأحوال: فايسلندا كانت عزلة عن العالم بالمحيط الأطلسي، وبلاد العرب كانت كذلك معزولة بالبحار والصحاري، ومن ثم كان الشعبان يحييان حياة محصورة، ويعيشان عيشة قبلية مستقلة، كل فرد فيها مستقل في حياته الاقتصادية عن الآخر
والطبيعة في كلا البلدين وعرة قاحلة تجعل جهاد العيش شاقاً مرهقاً؛ وأشد المشابهات وأعجبها بين الأدبين يرجعها الدكتور إلى الفخر والزهو اللذين يتميز بهما أفراد الشعبين، ويرى أن هذا الاعتداد بالنفس أثر من آثار الانعزال والاستقلال؛ وانعدام الحوادث الاجتماعية الكبيرةمن بيئتهم جعل الأعمال الفردية الضئيلة في نظر أصحابها أساسية جليلة
والهجاء عند قدماء الأيسلنديين والعرب فاحش مقذع، ولكنه شكل ثانوي لأدب شخصي بطبعه أخص صفاته أنه شخصي لأنه صدر عن قوم شخصيين انطووا على أنفسهم واستمدوا من عواطفهم. والشعر الغنائي على عكس الشعر القصصي يعبر عن آلام النفس وسرورها، وهذا الألم وذلك السرور لهما أثر كبير في تلك الحياة الأولية الساذجة. وبين هذا النوع من الأشعار التي نجد أكثرها مؤثراً واقلها عظيماً فروق جوهرية
وإذا كان العرب والأيسلنديون قد انصرفوا جميعاً عن الحياة اليومية الواقعية، وكانت لغتاهما تنمان على الصناعة اللفظية والأناقة الأرستقراطية، فان من خصائص العرب أنهم وجههوا همهم إلى الصور البيانية، ومن خصائص الأيسلنديين أنهم لا يعنون إلا بالنعمة(81/71)
الموسيقية(81/72)
بين المسرح والسينما
كتب الأستاذ لويس جوفيه في مجلة (لموا) عن الصراع القائم بين المسرح والسينما قال:
تنبأ بعضهم منذ طويل بموت المسرح، ولكن لينور ماند في روايته الأخيرة (شفق المسرح) قد أرسل في الناس نداء مؤثراً دعا فيه إلى إحيار الفن التمثيلي. ونحن كذلك جماعة صحت عزيمتهم على ألا يدعو أنفسهم فريسة لذلك الجبار كنج كنج - وهو السينما
وهذا الموسم التمثيلي قد جاء حجة لنا على ذلك. فأنا لم نشهد موسماً مثله قد فتح بمثل هذه القطع الرائعة، ولا قطعاً كهذه القطع استمر تمثيلها مدة طويلة. لا أريد أن أقدم أرقاماً مخافة أن أخطيء، ولكن أحداً من الناس لا يستطيع أن يمادي في نجاح (كما تحب) و (مس با) و (العهد الجديد) و (أمل) وروايات أخرى لا تقل عنها
إن هناك غير هذا الجمهور الضخم الذي يذهب إلى السينما، ولا يذهب إلى غيرها، جمهوراً يحب المسرح. وهو جمهور محصور من غير شك، ولكنه ارهف ذوقاً، وأصفى قلباً إلى المظاهرات الفنية مهما تكن. ولماذا نعارض المسرح بالسينما وكل منهما فن قائم بذاته؟ فللسينما طرق للتعبير والبيان غير محدودة، وهو في اعتباري طريقة ناجعة لتبسيط الأمور إلى أذهان الجمهور.
أما طرق التعبير في المسرح فضيقة قليلة، ولكنك ترى رجالاً أحياء، وذلك ما لا تستطيع السينما أن تعوضك عنه. فالإخراج وحده هو الشيء المتماثل في السينما والمسرح، وفن إدارة الممثلين فيهما واحد، ولكن النظام الآلي أضيف إلى ذلك في الاستديو، وأصبح شديد الخطورة والأهمية حتى صار الميكيانيكي هو المخرج.
قدم إلى المسرح روايات جيدة يأتك الفوز من تلقاء نفسه. لقد سئم الجمهور هذه الحكايات الصغيرة الداعرة التي ظلت أثناء زمن طويل موضوعاً لروايات المسرح. لإن هذه القصص المبتذلة الكالحة أصبحت لا تهم أحداً، ولا تزيد في الميزانية فرنكاً واحداً
إن شباب اليوم الجديد العملي يريد شيئاً آخر، فما هو ذلك الشيء. هو شيء يسيغ لهم الحياة اليومية، ويهون عليهم متاعبها، ويخفف عنهم مصاعبها. والمسرح لمن يحبونه هو النسيان والسلوان والترفيه من عناء الأعمال العادية. نحن ظماء إلى العجائب والروائع. نتمنى أن يوحي المسرح إلينا الأحلام، ويفجر لنا ينابيع جديدة للشعر. نريد من المسرح أن(81/73)
يكون مثابة للعجائب والسحر لا صورة سمجة للحياة اليومية
احملوا إلى مديري المسارح الروايات الجميلة، فقد مضى الزمن الذي كانوا يعتذرون فيه بضيق الوقت عن قراءة المخطوطات. . . لم يعد منها شيء. والشبان قد انصرفوا إلى القصة وأحجموا عن الرواية، كأن هؤلاء الشبان الذين نتكئ عليهم ونركن إليهم ونعتقد أن مساعدتهم ضرورية للمسرح، يخشون أن يتقدموا إليه
فليتقدم المخلصون للمسرح في هذه الساعة التي نشبت المعركة بينه وبين السينما فيضمنون فوزه ويؤمنون نجاحه بالإقبال عليه والكتابة له(81/74)
الشعر والعصور الأولى
نشرت (المصور) التي تصدر في فينا دراية ممتعة في مؤرخ الأدب وناقده الألماني والترمشج جاء فيها عن الشعر باعتباره إرثاً للتقاليد ما يأتي:
(الفن هو تقاليد ورثناها منذ عهد لا يدخل في حدود الذاكرة، إذ لا شيء في الوجود يعرض أمامنا إلا وهو يعود بأصله إلى تلك الصور والنقوش التي رسمها ونقشها إنسان أفريقيا الوحشي صوراً لأجداده وصيده، ومن ثم اتخذها آلهة يؤدي إليها فريضة العبادة
وبرغم ما بين الماضي والحاضر من التباين البعيد، فان من المستحسن البحث في حقيقة ارتقاء الفنان بقدر ما نعنى تتبع الخطوات الأولى التي مرت على الإنسان في حداثته. والأمر كذلك في الشاعر، إذ هو صورة للعالم تعبر عنه في عصر ما، وتلك صفة هامة تسبق أهميتها الاصطلاحات التي يستعملها ليخرج في إطارها تلك الصورة
وعلى قاعدة هذه الحقيقة الهامة، سهلت اليوم دراسة تاريخ الأدب والفن. فالخالق الذي يرتبط بعملية الخلق ويفيد العالم على أساس هذه العملية يختلف عن حضري مثقف بأعماله العقلية التي يقدمها إلينا. إذ لا نستطيع أن نتفهمها حتى نعود به إلى ماضيه الذي لا يزال مستقراً في قرارته
هذا وقد رسم لنا فرويد ذلك الجسر الذي يصلنا بذلك العالم المشبع بتلك التقاليد والفكر، وهذا الجسر هو الأحلام الخيال موحى الشاعر
وما من شعر رصين إلا ان له صلة بذلك العالم الأول، صلة بذلك الخيال البعيد المغمور بالأحلام
والشعر لا يثير إعجابنا ودهشتنا إلا لأنه مبعث الفكر عميقة، لم يأت بعد إدراك حقيقة طبيعتها. وعودة الشعر إلى ذلك العالم المغمور هي السبب في أن الشاعر يُرى بين أهل وطنه غريباً، كما أن موقفه يختلف عن موقف رجل يمتهن حرفة التجارة، كذلك ليس في وسعه أن يختلط بأهل عصره ويسايرهم في أفكارهم، لأن ذلك يعد حياداً عن طريقه الذي يجب أن يسلكه بين أناس يحيطون به ولا يعرفون قدره حتى يبلغ رسالته(81/75)
البريد الأدبي
كتاب عن لوتر
صدر أخيراً في فرنسا كتاب عن مارتن لوتر زعيم ألمانيا الروحي، وقد صدرت عن لوتر كتب عديدة بمختلف اللغات، ولكن هذا الكتاب الأخير يمتاز بطرافة تصويره للرجل الذي صدع من وحدة الكنيسة الرومانية واستطاع بثورته عليها أن ينشئ إلى جانبها مذهباً نصرانياً جديداً هو (البروتستانتية) الذي تتبعه عدة من الأمم العظيمة مثل ألمانيا وإنكلترا ومعظم الشعب الأمريكي. وهو من وضع العلامة المؤرخ فرنز فونك برنتانو عضو المجمع العلمي الفرنسي. وفونك برنتانو مؤرخ وافر البراعة والقوة، وافر الطرافة قبل كل شيء، وهو اليوم في نحو الثمانين من عمره ولكنه ما زال دائب البحث والإنتاج، وكتبه وبحوثه تثير دائماً في الدوائر العلمية كثيراً من الاهتمام والتقدير. وله في بعض الشخصيات والمسائل التاريخية نظريات جديدة؛ مثال ذلك أنه في كتابه عن (لوكريزيا بورجيا) ابنة البابا اسكندر السادس يذهب في شأنها إلى رأي جديد، ويصور هذه المرأة التي صورتها التواريخ والقصص، عاهراً من أشنع وأخطر نوع، سيدة عفيفة وزوجا أمينة مخلصة، وقديسة محسنة، ويدعم رأيه بالوثائق والوقائع التاريخية؛ ومن رأيه أيضاً أن لويس الخامس عشر ملك فرنسا الفاجر المتهتك، قد ظلمه التاريخ، وأنه لم يكن كما صور من إغراق في التبذل والغواية، وأن سجن الباستيل لم يكن دائماً كما تصوره التواريخ معتقلاً مروعاً تخمد فيه الرغبات والأنفاس، ولكنه في أحيان كثيرة كان يغدو من الداخل قصراً أنيقاً تقام فيه المآدب والحفلات الشائقة، بل وتهب فيه ريح الغرام والحب؛ وهكذا
أما لوتر فمن هو وما هو؟ هو نوع من البركان أو اللهب تنفست عنه ألمانيا في القرن السادس عشر، وهو ليس بقس فقط يحاول ثورة على الكنيسة، ولكنه رجل عظيم يضطرم بالمثل الإنسانية العامة؛ ومتصوف لا تضيره العزلة، ولكنه لا يرى الكمال في إخضاع النفس والشهوات؛ وهو من الوجهة الاجتماعية (محافظ)، وقد بذه من الوجهة الأخلاقية أحبار مثل البابا اسكندر بورجيا، فلم يخرج على الأخلاق والحشمة خروجهم، وما هو الزواج وشرب النبيذ؟ وقد أثارت نزعة (الأحياء) كل مسألة في كل مكان، ولكن لوتر لم يثر سوى مسألة واحدة هي (تنظيم الجمهورية النصرانية) ثم هو يمثل في ثورته روح(81/76)
الوطنية الألمانية الصميمة، فهو يبث الرعب والروع من حوله، ولكن من ورائه، بعيداً عن الفكرة الدينية، شعوب ألمانيا كلها؛ أحباراً وأمراء وشعباً
ومن هو لوتر من الوجهة الشخصية؟ هو رجل قوي البنية جاف الملماح، شاعر متواضع، وخطيب مفوه، ومجادل قوي الحجة، ومتصوف مكتئب، وموسيقي، وشجاع حين تجب الشجاعة، وديع ذلول إذا خلا بنفسه، مضطرم الذهن، يفيض رأسه دائماً بالتصورات المروعة؛ عدو الطبقات الرفيعة، دون أن يعرف كيف أو أني يسير
أما الثورة على رومة فليس من المحقق انه كان يرمي إلى الانشقاق عليها، ولعله كان يؤمل منها الإذعان والتسليم؛ ولعله كان يعتبر نفسه مصلحاً فقط للكنيسة، وهو ما يخلق بقس ذكي، وهناك ريب في أنه كان يعمل لانهيار هذا الصرح الشامخ الذي شادته الكنيسة خلال القرون، وأقامته فوق التوازن بين قوتين: زعامة الكنيسة الروحية، وسلطة أوربا الدنيوية. وأن أوربا في القرن العشرين، أوربا المضطربة، لا تستطيع إدراكاً لتلك الوسائل التي لجأ إليها هذا القس البارع - زعيم ألمانيا وزعيم الفردية - في تحقيق هذا الانقلاب العظيم
هذا هو ملخص الصور المختلفة التي يقدمها العلامة فونك برنتانو عن بطل ألمانيا القومي وبطل البروتستانتية في كتابه الجديد
البحث عن أصل الإنسان
ما زال البحث عن أصَل الأجناس البشرية من أهم المسائل التي يعني بها العلم الحديث؛ وفي كل عام توفد البعوث العلمية المختلفة إلى الأقطار المجهولة لتجري فيها ما تستطيع من التحقيقات والمباحث التي تلقي الضياء على أصل الإنسان والأجناس البشرية، وقد أعدت أخيراً في فرنسا بعثة جديدة لمعالجة هذه المباحث في مجاهل أفريقية؛ وذلك تحت رعاية وزارة المعارف الفرنسية، ومعهد علم الأجناس، ومؤسسة روكفلر العلمية، وانتخب لرآسة البعثة علامة ومكتشف شاب هو المسيو مارسل جريول الذي برهن على مقدرة خاصة في القيام بمثل هذه المباحث. وقد قاد المسبو جريول قبل ذلك بعثة في قلب أفريقية قطعت ما بين دكار عاصمة السنغال في الغرب وجيبوتي على البحر الأحمر في أقصى الشرق، ما بين سنتي 1931، 1933؛ وقام قبلها أيضاً برحلة علمية في الحبشة، ونشر عنها كتاباً كان له وقع عظيم عنوانه (حملة المشاعل للإنسان). والبعثة الجديدة مكونة من(81/77)
تسعة أعضاء، منهم مصور سينمائي وثلاث سيدات، وتنوي البعثة أن تبدأ بالسيارات من غرب أفريقية متجهة نحو الشرق بطريق بلاد الدوجون والهابيس ومرتفعات باندياجرا ومنحنى نهر النيجر؛ وهي أنحاء اخترقها جريول من قبل ووضع عن خواصها وأحوال سكانها بحوثاً قيمة. وكان أهم ما لفت الأنظار ما كتب عن هؤلاء السكان السود من الحقائق الغريبة؛ وهي أنهم يعيشون في كهوف من الصخر رتبت مخادع صغيرة وكل مجموعة من الربى تكون قرية خاصة؛ وهم يعيشون في جو من التقديس يفيض بذكر الآلهة والخرافات الغريبة، ويعنون بصنع الأقنعة المقدسة والوشم المقدس؛ ولهم رسوم دينية مدهشة؛ والسحر ذائع بينم، وتكثر بينهم الرموز الخفية؛ وعلى الجملة فهم أكثر الشعوب تمثيلاً للإنسان الأول وعصر ما قبل التاريخ.
وستعني البعثة باستيفاء هذه البحوث والحقائق ويعنى السيدات المرافقات للبعثة بدرس أحوال النساء ونظام الأسرة في هذه الأنحاء
أزمة الفنون
كان للأزمة الاقتصادية أثرها في المسرح الفرنسي؛ فأغلق كثير من المسارح ودور اللهو المعروفة، وخفضت مرتبات مشاهير الممثلين والفنانين، وظهر هذا الأثر قوياً في مسرح الحكومة الرسمي (الكوميدي فرانسيز) أشهر مسارح فرنسا، وعجز دخله عن أن يفي بنفقاته، وأحدثت هذه الحالة في نظام المسرح العظيم اضطراباً لم يسبق أن عاناه؛ واهتمت وزارة المعارف الفرنسية بالأمر وأخذته بين يديها؛ وتباحث وفد من أقطاب الكوميدي فرانسيز مع وزير المعارف في الحلول الممكنة، وطلب أن ينظر بالأخص في معاشات أعضاء المسرح المحالين على المعاش لأن كثيراً منهم غدا في حالة يرثى لها. وكان من الحلول المقترحة لمعالجة الأزمة أن تقوم فرقة الكوميدي فرانسيز برحلات في الخارج، في إيطاليا وأمريكا الجنوبية وغيرها، وفي القاهرة الآن فريق من مثلي هذا المسرح الشهير يعملون في دار الأوبرا الملكية
شتيفان جروسمان
من الأبناء فينا أن الكاتب النقادة شتيفان جروسمان قد توفي في سن الحادية والستين، وكان(81/78)
جروسمان كاتباً وصحفياً كبيراً، ولد بمدينة فينا، ونشأ بها؛ وظهر في الصحافة بكتاباته النقدية القوية، وعني جروسمان بالمسرح وشئونه عناية خاصة، وكان له رأي في المسرح ينادي به ويعمل له، وهو أن يكون المسرح شعبياً محضاً، ينشأ للشعب ولثقافة الشعب؛ وقد ذاعت فكرته مدى حين في مدينة الفنون والمسارح (فينا) وغدت حركة حقيقية، ولكنها لم تفض إلى نتائج عملية. وكان جروسمان يرسل صيحاته النقدية والإصلاحية على صفحات في الصحف النمسوية الكبرى مثل (النوية فرايه يريسيه) و (التاجبلاط) وغيرهما، ومنذ أعوام غادر جروسمان فينا إلى برلين، واشتغل هنالك بالصحافة والشئون المسرحية أيضاً. ثم عاد إلى فينا بعد ردح من الزمن، وفيها توفي منذ أسبوعين
في جامعة السوربون
توفي العلامة المؤرخ رايمون جيو أستاذ التاريخ بجامعة السوربون في السابعة ة والخمسين من عمره. وكان مولده بباريس سنة 1877، وتخرج من مدرسة المعلمين العليا (النورمال) ونال الأستاذية في التاريخ. وتولى التدريس زمناً قبل أن يجلس على (الكرسي). ولما توفي المسيو أميل بورجوا الذي كان يشغل كرسي التاريخ في كلية الآداب ومدرسة العلوم السياسية، عين مكانه فيه الأستاذ جيو. وللعلامة المتوفى كتب ورسائل كثيرة في موضوعات تاريخية مختلفة ولاسيما مسائل أوربا الحديثة(81/79)
الكتب
كتاب تتمة اليتيمة للثعالبي
نشره وقدم له الأديب عباس إقبال
مررت بباريس قبل سبع سنين، فزرت الأديب العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني لأفيد من علمه الغزير، لقيت عنده الشاب الأديب عباس اقبال، وكنت قرأت في كتاب للعلامة القزويني أن الثعالبي أكمل اليتيمة في كتاب سماه تتمة اليتيمة، وأن نسخة منه في مكتبة باريس؛ فتكلمنا يومئذ عن الكتاب، وعزمت أن أشير على لجنة التأليف والترجمة بطبعه. ثم ضرب الزمان ضرباته حتى ذهبت إلى طهران هذا العام فإذا صديقنا الأديب عباس إقبال قد طبع التتمة في جزءين صغيرين طبعاً متقناً وجاء يهديها الي، فسررت كل السرور بطبع هذا الكتاب القيم، وأثنيتعلى جهد الأديب إقبال وهمته
وإني لراج أن يذيع الكتاب بين الأدباء ليكمل به نقص اليتيمة
وفيما يلي ترجمة المقدمة الفارسية التي كتبها الأديب النابغة عباس إقبال لهذا الكتاب:
الأمام أبو منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري (350 - 429هـ9) أديب من أدباء إيران النابغين، أمضى معظم عمره، أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس، في تأليف كتب كثيرة في فنون شتى من الأدب واللغة والتاريخ وكتب مؤلفاته كلها باللغة العربية اتباعاً لسنة ذلك العصر، إذ راجت سوق هذه اللغة واستأثرت بالعلوم واتسعت وعمت. ونحمد الله على أن أكثر مؤلفات الثعالبي، وبعضها رسائل صغيرة ذات أوراق قليلة، لم تذهب بها الحادثات
من كتب الثعالبي كتاب يعد من أجل كتبه، واليه يرجع أكثر صيته، وهو كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. كتب الثعالبي نسخته الأولى سنة 384، ونسخته الآخرة بين سنتي 402 و407. وأودعه من آثار الشعراء المعاصرين والذين تقدموا زمانه بوقت قصير، وضمنه بعض أخبارهم
قسم الثعالبي كتاب اليتيمة أربعة أقسام: القسم الأول في محاسن أهل الشام والجزيرة، القسم الثاني في محاسن أشعار أهل العراق، القسم الثالث في محاسن أهل الري وهمذان واصفهان والجبل وما يتصل بها، القسم الرابع في محاسن أهل خراسان(81/80)
والكتاب لا يعني كثيراً بأخبار الشعراء الذين ترجم لهم الثعالبي في الأقسام الأربعة كما يعني بذكر أشعارهم، ونبذ من منثورهم أحياناً، ولكنه مع هذا يشتمل على كثير من الفوائد التاريخية المهمة، ولاسيما في القسمين الثالث والرابع اللذين يتضمنان تراجم الشعراء الذين عاشوا في إيران وما يتصل بها. وهو من هذه الجهة يحوي فوائد قيمة، وبعض الشعراء الذين ترجم لهم الثعالبي في هذين القسمين ممن عرفوا في عُرف ذلك العصر بالشعراء ذوي اللسانين: أي الذين نظموا بالعربية والفارسية. وقد أثبت في مواضع ترجمة بعض شعرهم الفارسي، وفي موضع أو اثنين نماذج من شعرهم الفارسي أيضاً. وهذه النبذ على قلتها ذات خطر يجعل اليتيمة من المنابع المهمة، لتحقيق تاريخ إيران وتاريخ الأدب الفارسي في القرنين الرابع والخامس
وقد ذيل اليتيمة كتاب آخرون، ساق كل منهم الكلام من حيث انتهى الثعالبي إلى زمانه هو. وأكثر هذه الذيول انتشاراً كتاب دمية القصر لعلي بن الحسن الباخرزي تلميذ الثعالبي. ويُعتبر ثاني اليتيمة في القيمة والفوائد التي ذكرنا.
ويؤسفنا أن الدمية على مكانتها الأدبية لم تطبع حتى اليوم: والطبعة الناقصة المشوهة التي طبعت في حلب قبل بضع سنين لا تعدل فلساً. وأول من ذيل اليتيمة فأكمل نقصها بذكر الشعراء الذين نسبهم المؤلف أو لم يظفر بشيء من أشعارهم وأخبارهم حين التأليف، أو نبَهُوا بعد انتشار الكتاب، هو الثعالبي مؤلف اليتيمة نفسه. ويؤخذ من مقدمة النسخة النهائية للمجلد الأول من اليتيمة أنه جد منذ نشر النسخة الأولى سنة 384 في تكميل اليتيمة والزيادة عليها. حتى تسنى له أن ينشر النسخة الأخيرة بين سنتي 402 و 407، وأهداها إلى الأمير أبي العباس مأمون أبن مأمون خوارزمشاه المتوفى سنة 407 في سن 32
وبعد ما يقرب من عشرين سنة من انتشار النسخة الأخيرة من اليتيمة ألف الثعالبي كما يقول هو في مقدمة النسخة التي بأيدينا كتاباً لطيفاً على نسق اليتيمة وترتيبها سماه تتمة اليتيمة، أراد أن يرفع نقص اليتيمة ويجبر كسرها وان يكون ضميمة للكتاب الأصلي تبلغ به اليتيمة الحد الذي بلغه جهد الثعالبي.
ومعنى هذا أن كتاب اليتيمة ناقص بدون هذه التتمة؛ وقد عرف ذلك الثعالبي نفسه. ذلكم بأن الذيل الحاضر، يحتوي على أسماء كثير من الشعراء الذين أغفلتهم اليتيمة أو نبه شأنهم(81/81)
بعد انتشارها. فضلاً عن أنه يعين على إكمال تراجم عدة من الشعراء الفضلاء الذين ذكروا في اليتيمة. فالتتمة ذات خطر كبير ولاسيما قسمها الرابع الذي يتضمن أخبار أركان الدولة وأعيان الحضرة أي المنشئين والمستوفين والأدباء والشعراء الذين التفوا حول الملوك الغزنويين. هذا القسم يعد أعظم أقسام هذا الكتاب من حيث إنارَتُه مواضع مظلمة من تاريخ إيران وآدابها، واشتماله على أنباء كثير من الوزراء والمنشئين والشعراء والأدباء النابهين
ألف الثعالبي كتاب التتمة في أيام السلطان مسعود الغزنوي ما بين سنتي 424 و 428 وثَبَتُ هذا أن سنة 424 وردت مرتين في هذا الكتاب (ص114 و 145)، وأن شمس الكفاة خواجه أبا القاسم أحمد بن حسن الميمندي وزير السلطان مسعود كان قد توفي حين تأليف الكتاب، ووفاته كانت سنة 424. (ارجع إلى صفحة 146 و155) فلا يمكن أن يكون تاريخ التتمة مقدماً على هذه السنة، والمؤلف مات سنة 429؛ فتأليف الكتاب محصور بين سنتي 424 و429. وتتمة اليتيمة، كاليتيمة، اشتهرت منذ عهد المؤلف وصارت مرجع الأدباء. وقد اطلع عليها ياقوت الحموي ونقل عنها فقرات في كتابه معجم الأدباء. وحاجي خليفة يقول تحت عنوان اليتيمة إن للكتاب ذيلاً ألفه الثعالبي، ويذر اسمه صريحاً، ولكن هذا الاسم (تتمة اليتيمة) حرف إلى (يتيمة اليتيمة) في كشف الظنون المطبوع. وابن خلكان كذلك اطلع على هذا الكتاب وذكره في ترجمة أبي محمد عبد المحسن بن محمد الصوري (ج1 ص428 - 429 من طبعة باريس)، وقد نقل قطعة من الشعر نسبها الثعالبي في التتمة إلى أبي الفرج بن أبي حصين القاضي الحلبي (راجع ص68 من هذا المتن) ثم اعترض على مؤلف التتمة وقال هذه الأبيات لعبد المحسن الصوري، رأيتها في ديوانه، وأخطأ الثعالبي في نسبة أشياء إلى غير أهلها فيحتمل أن تكون هذه الفقرة منها
قلنا إن كتاب التتمة كان في يد ياقوت الحموي. وقد نقل منه ياقوت فقرات بعينها، ومن ذلك نبذة في ترجمة أبي العلاء المعري (ج1 ص172)، وأبي علي بن مسكويه (ج2 ص9) والسيد المرتضى (ج5 ص175)، وأبي جعفر محمد بن إسحاق البجاثي (ج6 ص412) وغير ذلك. وليس خروجاً عن الموضوع أن أنبه هنا إلى مسالة: ينقل ياقوت في معجم الأدباء (ج1 ص172) أبياتاً رواها الثعالبي لأبي العلاء المعري، ثم يقول: قال(81/82)
وأنشدني لنفسه: (لست أدري ولا المنجم يدري) إلى أخر القطعة
وهذه القطعة، كما يتبين من هذا الكتاب (ص10) لأبي القاسم المحسن بن عمرو بن المعلى الذي يذكره الثعالبي في التتمة بعد أبي العلاء المعري بلا فاصل لا لأبي العلاء المعري. وراوي القطعة المذكورة أبو يعلى البصري لا أبو المحسن الدلفي المصيصي الذي يروي عنه الثعالبي ويتبعه ياقوت، أخبار المعري وأشعاره. فيفهم من هذا أن نسخة التتمة التي كانت في يد ياقوت فيها نقص، أسقط كاتبها بعد أخبار أبي العلاء المعري اسم أبي القاسم المحسن بن عمرو بن المعلى. وقد رأيت هذه الإشارة جديرة بالذكر هنا لتصحيح هذا الموضع من معجم الأدباء المطبوع
النسخة بأيدينا صورة من نسخة مخطوطة وحيدة في مكتبة باريس مكتوبة بخط نسخ جميل. وهي ملحقة بأجزاء التتمة كلها في جلد واحد يحوي 591 ورقة أي 1182 صفحة ورقمه (3308 وتشمل أقسام التتمة الأربعة من صفحة 498 إلى 591. وقد طبعناها في جزءين لأسباب نذكرها بعد
نسخة باريس مؤرخة 17 صفر سنة 989؛ وإذا استثنينا أغلاطا كتابية وسقطاً قليلاً، فالنسخة في نهاية الجودة والصحة
ثم ختم كلامة بقوله: والمرجو أن تقع هذه الخدمة الصغيرة موقع القبول عند الأدباء وينظروا إليها بعين الرضا والأنصاف
عبد الوهاب عزام.(81/83)
العدد 82 - بتاريخ: 28 - 01 - 1935(/)
الثقافة المذبذبة
كتب إلي صديقي الأستاذ م. ف. ا. يقول:
(أنا معلم كما تعلم؛ ولكني معلم لا أعتقد فيما يعتقده فيه الكثرة من المعلمين سواي! وذلك أنني لا أومن كثيراً بأوربا، ولا بما جاء من أوربا، إلا أن يكون ذلك شيئاً نجنيه من نفع مادي أو كشف علمي. أما فيما يتعلق بالآراء والنفس، وفيما يتصل بالعقل والقلب، فأنا شرقي ولا أحب إلا الشرق، ومصري ولا أحب إلا مصر. ولقد كان مما يؤلمني دائماً أن أرى الابن الناشئ قد عاد من إنجلترا أو من فرنسا، فلا يكاد يظهر للأعين إلا في هيئة نابية يزعم أنها دليل المدنية التي اكتسبها من الغرب، فيمتدح فرنسا أو إنجلترا وما فيها من مناهج ومناظر ومعاهد، وهو في الحق إنما يريد أن يقول إنه أثر من آثار تلك المدنية السامية التي يمتدحها، فهو يصل إلى الزهو من طريق غير مباشر، ولا يقصد إلا إلى الفخر والإعجاب بالنفس. دع ذلك، فلو كان هذا وحده هو الأثر لهان الأمر، أما أن يتعدى الأمر ما وراء ذلك فهو البلية والنكبة، ذلك بأن هؤلاء الأبناء قد وصلوا بتلك النعرة الجوفاء إلى أن يخدعوا بعض الشيوخ، أو بعض الجُوف من الشيوخ، بأنهم دعاة العلم والمدنية، فألقيت إليهم مقاليد الأمور في بعض النواحي، وكان من سوء حظ مصر أن بلغ هذا الخداع حده في مسائل التعليم. وإليك مثلاً من ذلك: إن برامج التعليم الأدبية - وهي أداة الثقافة والقومية - لا نرى فيها أثراً للشخصية المصرية: فواضع برامج التاريخ هو بعض الجُوف ممن تعلموا تاريخ أوربا، فنقلوا من هذا ما ظنوه خيراً وجعلوه منهاجاً لتلاميذ المدارس الثانوية المصرية، فكانت النتيجة أنك إذا في برامج القسم الأدبي في التاريخ خيل إليك أنك تنظر في بعض برامج فرنسا أو إنجلترا. أو خليطاً من هذا وذاك، وأما مصر فلا شأن لها في ذلك وا حسرتاه! وكذلك الحال في سائر المواد الأدبية، حتى لقد حسبت وأنا معلم أننا إنما نسعى لأعداد أبنائنا ليكونوا أجانب في عواطفهم وعقليتهم وثقافتهم
أليس هذا من العبث يا سيدي الأستاذ؟ أرجو أن تتناول هذا المعنى بقلمك القوي، ولك من أبناء البلاد الثناء الجميل)
وصديقي الأستاذ بخبرته الطويلة وعقيدته النبيلة أولى بمعالجة هذا الموضوع، ولكنه اختار له هذا الأسلوب الصحافي لتتناوله الأقلام المختلفة بالبحث والجدل، فيكون الرأي أجمع، والحكم أقطع، والبلاغ أعم(82/1)
شكاة الأستاذ شكاة الشرق الإسلامي كله، فانه منذ غفا غفوته الثقيلة الطويلة فانقطع عن صدر الزمن لم يرد أن يبصر بعينه، ويسير على قدميه، ويعلم أن له تاريخاً ممتازاً، ووجوداً مستقلاً، وطابعاً خاصاً، ووحدة كاملة، ومدنية أصيلة؛ وإنما ذهب يتحسس من طريقه على نداء الصائد، ويتوكأ في سيره على عمود الشَّرَك، ويطمس على شخصه بالفناء في الغرب، كأن أهله لم يكفهم أن يكونوا عبيداً لأوربا بالجسم عن قوةٍ وقهر، فرضوا أن يكونوا عبيداً لها بالروح عن رضا وطواعية، فهم يتكلمون بلغتها، ويتأدبون بأدبها، ويتسمون بسمتها، ويتخلقون بخلقها، ويطبعون أذواقهم بالكره على غرار ذوقها، ويغالطون طباعهم في أصل الفطرة فيزعمون لعقولهم أن النفس المتمدنة لا يلائمها إلا ما يلائم الأوربي من أدبه ورقصه وغنائه وموسيقاه، كأن المسافة بين الشرق والغرب لا تحدث فرقاً، ولا تغير خَلْقاً، ولا تبدل طبيعة!
إن الاستعباد المادي دهمنا أمس على يد الآباء، والاستعباد الأدبي يدهمنا اليوم على يد الأبناء، وشتان بين استعباد كان عن إجبر وجهل، واستعباد يكون عن اختيار وعلم؛ والعبودية العقلية أشد خطراً وأسوأ أثراً من العبودية الجسمية، لأن هذه لا تعدى الأجسام والحطام والعَرض، ومثلها مثل الجسم يرجى شفاؤه متى عرف داؤه؛ أما تلك فحكها حكم العقل إذا ذهب، والروح إذا زهق، وهل يرجى لمخبول شفاء، أو ينتظر لمقتول رجعة؟
إن أكثر نَشْئِناَ الذين وردوا مناهل الثقافة العالية في أوربا إنما ذهبوا إليها وشخصياتهم هلاهل من تمزق الأسرة وتفكك البيئة وفساد التعليم وضعف التربية، فكونوا عقولهم على منطق الاعجاب، وميولهم على هوى التبعية، ثم عادوا وفي حوافظهم تاريخ غير تاريخ مصر، وعلى ألسنتهم أدب غير أدب العرب، وفوق غرائزهم خلق غير خلق الشرق، فتصرفوا تصرف المقلد، وتعسفوا تعسف الحائر، فلم يستطيعوا أن يكونوا غربيين لعصيان الطبيعة، وإباء الفطرة، ولم يريدوا أن يعودوا شرقيين لقوة الفتنة وضعف الإرادة
إن العلم لا وطن له، لأنه يتعلق باستخدام القوى واستثمار المادة في العالم كله لخير الناس كله؛ أما الآداب والفنون والأذواق والأخلاق والتقاليد فهي قِوَام الأمم، ولا تنزل أمة عنها ألا إذا نزلت عن ذاتها وزلت عن مستواها؛ فخضوع الثقافة القومية للإنجليزية في مصر وفلسطين، وللفرنسية في سورية والمغرب، وللأمريكية في العراق والمهجر، بلاء على هذه(82/2)
الأمم لا تسلم عليه وحدة، ولا يستقل معه وطن
أما عبث هذه الثقافة المذبذبة بالبرامج فَعِلته أن التعليم عندنا ليست له سياسة مرسومة ولا غاية معينة. قل لواضع البرنامج مهما يكن: أريد أن أصل بالتعليم إلى هذه الغاية، تجد الغاية نفسها هي التي تعيِّن السبيل وتحدد الوجهة؛ أما إذا كانت سياستنا في التعليم أن ننشئ المدارس ونهيئ المدرسين ونقيم الامتحانات، فان جماع الأمر في المعارف إذن أن تكون حقولاً للتجارب فيها لكل سياسة أثر، وكل ثقافة ثمر، ولكل أمة غير أمتها نصيب
أحمد حسن الزيات(82/3)
بنتُه الصغيرة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
فرغ أبو يحيى مالكُ بنُ دينار، زاهدُ البَصْرة وعالمها، من كتابة المُصْحَف؛ وكان يكتبُ المصاحف للناس ويعيشُ مما يأخذ من أجرة كتابته، تعففاً أن يَطْعَم إلا كَسْب يده، ثم خرج داره وَجْهُهُ المسجدُ، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائماً، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافِلَتَه، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى اسطوانته التي يستند إليها، وتحلق الناسُ حوله جموعاً خلْف جموعٍ، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجدُ على رحبة. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقهً طويلة، والناسُ كأن عليهم الطير مَما سكنوا لهيبته، ومما عَجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطلع على أرواحهم فجرٌ رطْبٌ من سِحْر ذلك الندى
وبَدَرَ شابٌ حدَثٌ فسأله: ما بكاءُ الشيخ؟ وكان قريباً يجلس من الإمام في سَمْتِ بصره، فتأمله الشيخ طويلاً يقلب فيه الطرْفَ كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِدَ لسانهُ أو أخذته عن نفسه حالٌ، فما يثبتُ شيئاً مما يرى
وازداد الناس عجباً؛ فما جَرّبوا على الشيخ من قبلها حصراً ولا عِيا، ولا قطعه سؤالٌ قَط، ولا تخلف قطُّ عن جواب؛ وقالوا إن له لشأنا وما بُدٌ أن تكون من وراء حُبْسَته شعابٌ في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج، فما أسرع ما يلتقي السيلُ، فيجتمعُ، فيصوبُ إلى مجراه، فيتقاذف
وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيتُ رؤيا فتبسمتُ لها؛ أما الذكرى، فهل تعملون أن هذا المسجد الذي يفهق بهذا الحشْد العظيم، وتقع فيه الدينية المدينة لكل أّذَانٍ وتطير - هل تعلمون أنه خلا قط من الناس وقد وَجَبَت الفريضة؟ قالوا: ما نَعْلمه. قال: فقد كان ذلك لعشرين سنةً خَلَتْ، في مَوْت الحسن، فقد مات عَشيةَ الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهلُ البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقم صلاةُ العصر بهذا المسجد، وما تُركتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعةُ موته من عُمرْ من شَهدَها، فذلك يومٌ عجيب قد لف(82/4)
نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيتْ في نفس رجلٍ ولا امرأة شهوةٌ إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطلة كما يفرغ من أيقن أنْ ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموتُ في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناءُ في موت آبائهم وامهاتهم، ولا الآباء والأمهاتُ في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيزُ على أهل بيت فيكون الموتُ واحداً وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موتُ الحسن موتاً بعَدَدِ أهل البصرة!
ذاك يومٌ اشتد فيه الموتُ وكبر، وانكمشت فيه الحياةُ وصغرتْ، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يُلقى فيها الملوكُ والصعاليكُ، والأخلاطُ بين هؤلاء وأولئك، لا يَصغر عنها الصغير، ولا يكبرُ عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك حتى رجعت الدنيا على قدر جيفة حيوانِ بالعراء، تنكشف للأبصار عن شوهاء نجسةٍ قد ارمت لا تُطاقُ على النظر ولا الشم ولا على اللمس؛ وما تتفجر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض
تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى فأبصرتني حين كنتُ مثله يافعاُ مترعرعاً داخلاً في عصر شبابي، فكأنما انتبهتْ عيني من هذه النفس على فاتكٍ خبيثٍ كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلاً ثم بُعث!
إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فارْعُوه أسماعم، واحضروه إفهامكم، واستجمعوا له، فانه كان غيب شيخكم، وأنا محدثكم به كيلا ييأسَ الضعيف ولا يقنط يائس، فإن رحمة الله قريبٌ من المحسنين
لقد كنتُ في صدر أيامي شرطياً، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتى وأنشطر، وكنت قوياً معصوباً في مثل جبلة الجبل من غلط وشدة، وكنت قاسياً كأن في أضلاعي جندلةً لا قلباً، فلا أتذمم ولا أتأثم؛ وكنتُ مُدمِناً على الخمر، لأنها روحانية من عجز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهيةُ يزورها الشيطانُ - لعنهُ الله - فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويُثيبها ثواب ساعةٍ ليست في الزمن بل في خيال شاربها. وكأن جَهْلَ العقلِ نَفْسَه في بعض ساعات الحياة هو - في علم الشيطان وتعليمه - معرفةُ العقل نفسه في الحياة!
فبينا أنا ذاتَ يوم أجول في السوق، والناسُ يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أرقب السارق وأُعد للجاني، وأتهيأ للنزاع - إذ رأيت اثنين يتلاحيان وقد لبّب أحدهما الآخر؛ فأخذت(82/5)
إليهما، فسمعت المظلوم يقول للظالم: لقد سلبتني فرح بنياتي، فسيدعون الله عليك فلا تصيب من بعدها خيراً، فأني ما خرجت إلا اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج إلى سوق من أسواق المسلمين، فاشترى شيئاً، فحمله إلى بيته، فخص به الإناث دون الذكور - نظر الله إليه.)
قال الشيخ: وكنت عزباً لا زوجة لي، ولكن الآدمية انتبهت في، وطمعت في دعوة صالحة من البنيات المسكينات، إذا أنا فرحتهن، ودخلتني لهن رقة شديدة، فأخذت للرجل من غريمة حتى رضي، وأضعفت له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته، وقلت له وهو ينصرف: عهدٌ يحاسبك الله عليه ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيت فرحهن بما تحمل إليهم، وقل لهن: مالك بن دينار
وبت ليلتي أتقلب مفكراً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعانيه الكثيرة، وحثه على إكرام البنات، وأن من أكرم بناته كَرُمَ على الله، وحرصه أن ينشأن كريمات فرحات؛ وحدثني هذا الحديثُ ليلتي تلك إلى الصبح؛ وفكرت حينئذ في الزواج، وعلمت أن الناس لا يزوجونني من طيباتهم ما دمت من الخبيثين؛ فلما أصبحت غدوت إلى سوق الجواري، فاشتريتُ جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، وولدت لي بنتاً فشغفتُ بها، وظهرتْ لي فيها الإنسانيةُ الكبيرة التي ليست في، فرأيت بعدما ما بيني وبين صورتي الأولى؛ ورأيتها سماوية لا تملك شيئاً وتملك أباها وأمها، وليس لها من الدنيا إلا شبع بطنها وما أيسره، ثم لها بعد ذلك سرور نفسها كاملاً تشب عليه أكثر مما تشب على الرضاع؛ فعلمت من ذلك أن الذي تكتنفه رحمة الله، يملك بها دنيا نفسه، فما عليه بعد ذلك أن تفوته دنيا غيره، وأن الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه، وتكون نفسه دائماً جديدة على الدنيا؛ وأن الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة؛ والذي لا يبالي الهم لا يبالي الهم به؛ وأن زينة الدنيا ومتاعها وغرورها وما تجلب من الهم - كل ذلك من صغر العقل في الأيمان حين يكبر العقل في العلم!
كانت البنيةُ بدء حياةٍ في بيتي وبدء حياة في نفسي، فلما دبت على الأرض ازددت لها حباً، وألفتني وألفتها، فرزقت روحي منها أطهر صداقة في صديق، تتجدد للقلب كل يوم، بل كل ساعة، ولا تكون إلا لمحض سرور القلب دون مطامعه، فتمده بالحياة نفسها لا بأشياء الحياة، فلا تزيد الأشياء في المحبة ولا تقص منها، على خلاف ما يكون في الأصدقاء(82/6)
بعضهم من بعض واختلافهم على المضرة والمنفعة
قال الشيخ: وجهدتُ أن أترك الخمر، فلم يأت لي ولم أستطعه؛ إذ كنت منهمكاً على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته فيها الشريعة، فكرهتها كرهاً شديداً، وأصبحت كالمكره عليها، ولم تعد فيها نشوتها ولا ريها؛ وكانت الصغيرةُ في تمزيق أخيلتها أبرعَ من الشيطان في حَوِْك هذه الأخيلة، وكأنما جرتني يدها جراً حتى أبعدتني عن المنزلة الخمرية التي كان الشيطان وضعني فيها، فانتقت من الاستهتار والمكابرة وعدم المبالاة، إلى الندم والتحوب والتأثم، وكنت من بعدها كلما وضعت المسكرِ وهمت به، دبت ابنتي إلى مجلسي؛ فأنظر إليها وتنتشر عليها نفسي من رقة ورحمة، فأرقب ما تصنع، فتجيء فتجاذبني الكأس حتى تُهْرِقها على ثوبي، وأراني لا أغضب، إذ كان هذا يسرها ويضحكها، فأسر لها وأضحك
ودام هذا مني ومنها، فأصبحت في المنزلة بين المنزلتين؛ أشرب مرةً واترك مراراً، وجعلتُ أستقيم على ذلك، إذ كانت النشوة بابنتي أكبر من النشوة بالزجاجة، وإذ كنتُ كلما رجعتُ إلى نفسي وتدبرت أمري، أستعيذ بالله أن تَعقِل ابنتي معنى الخمر يوماً فأكون قد نجستُ أيامها، ثم أتقدم إلى الله وعليَّ ذنوبها فوق ذنوبي، ويترحم الناسُ على آبائهم وتلعنني إذ لم أكن لها كالآباء، فأكون قد وُجدتُ في الدنيا مرةً واحدة وهلكتُ مرتين
ومضيتُ على ذلك وأنا أصْلُح بها شيئاً فشيئاً وكلما كبرت كبرت فضيلتي، فلما تمَّ لها سنتان ماتت!
قال الراوي: وسكت الشيخ فعَلِقَتْ به الأبصار، ووقفت أنفاسُ الناس على شفاههم، وكأنما ماتت لحظاتٌ من الزمن لذكر موت الطفلة، وخامر المجلسَ مثلُ السكْر بهذه الكأس المُذهلة، ولكن الطفلة دبت من عالم الغيب كما كانت تصنع، وجذبت الكأس واهرقتها، فانتبه الناس وصاحوا: ماتت فكان ماذا. قال الشيخ: فأكمدني الحزن عليها، ووهن جأشي، ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسى به، فضاعفَ الجهلُ أحزاني، وجعلَ مصيبتي مصائب. والإيمانُ وحده هو أكبر علوم الحياة، يُبصرُك إن عميتَ في الحادثة، ويهديك إن ضَلِلت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكونُ وإياها على المصيبة، لا عدوها تكون المصيبة وإياها عليك؛ وإذا أخرجتِ الليالي من الأحزان والهموم عسكرَ ظلامِها لقتال نفسٍ(82/7)
أو محاصرتها فما يدفع المالُ ولا تردُّ القوةُ ولا يمنع السلطان، ولا يكون شيء حينئذ أضعف من قوة القوي، ولا أضيعَ من حيلةِ المحتال، ولا أفقرَ من غِنى الغنيَّ، ولا أجهلَ من علم العالم، ويبقى الجهدُ والحيلةُ والقوة والعلمُ والغِنى والسلطانُ - للإيمان وحده، فهو يكسر الحادث ويقلل من شأنه، ويؤيد النفس ويضاعفُ من قوتها، ويَرُدُّ قَدرَ الله إلى حكمةِ الله، فلا يلبثُ ما جاء أن يرجع، وتعود النفس من الرضى بالقَدرَ والإيمان به؛ كأنما تشهد ما يقع أمامها لا ما يقع فيها
قال الشيخ: ورجعتُ بجهلي إلى شرٍ مما كنتُ فيه، وكانت أحزاني أفراحَ الشيطان؛ وأراد - أخزاه الله - أن يَفْتَن في أساليب فرحه، فلما كانت ليلةُ النصف من شعبان، وكانت ليلة جمعة، وكانت كأول نور الفجر من أنوار رمضان - سوّل لي الشيطان أن أسكر سكْرةً ما مثلُها؛ فبتُّ كالميت مما ثملت، وقذفتني أحلامٌ إلى أحلام، ثم رأيت القيامة والحشر، وقد وَلدت القبورُ من فيها، وسيق الناسُ وأنا معهم وليس وراء ما بي من الكرب غاية؛ وسمعت خلفي زفيراً كفحيح الأفعى، فالتفت فإذا بتنينٍ عظيم ما يكون أعظم منه؛ طويلً كالنخلة السحوق، أسود أزرق، يُرسل الموت من عينيه الحمراوين كالدم، وفي فمه مثلُ الرماح من أنيابه، ولَجوْفهِ حرٌّ شديدٌ لو زِفَر به على الأرض ما نبتتْ في الأرض خضراء، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعاً يريد أن يلتقمني، فمررتُ بين يديه هارباً فزعاً، فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفاً، فَعُذْتُ به وقلت أجرني أغثني. فقال: أن ضعيفٌ كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن مر واسرع، فلعل الله أن يسبب لك أسباباً للنجاة. فوليتُ هارباً وأشرفتُ على النار وهي الهول الأكبر، فرجعتُ اشتد هرباً والتنين على أثري، ولقيتُ ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرتُ به فبكى من الرحمة لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يحدث أمراً. فنظرتُ فإذا جبل كالدار العظيمة، له كوى عليها ستور، وهو يَبْرُقُ كشعاع الجوهر؛ فأسرعت إليه والتنين من ورائي، فلما شارفت الجبل فتحت الكوى ورفعت الستور، وأشرفتْ على وجوهُ أطفال كالأقمار، وقرب التنينُ مني، وصرتُ في هواء جوْفه وهو يتضرّم علي، ولم يبق إلا أن يأخذني، فتصايح الأطفال جميعاً: يا فاطمة! يا فاطمة!
قال الشيخ: فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت عليّ، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكتْ، ثم(82/8)
وثبتْ كَرَمْية السهم، فجاءت بين يديّ، ومدت إلي شِمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هارباً. وأجلستْني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدَتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبت (أَلَمْ يَأنِ للذينَ آمنوا أن تَخْشَعَ قٌلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟)
فبكيتُ وقلتُ: يابُنيّة، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي. قالت ذاك عملُك السوء الخبيث، أنت موتيه حتى بلغ هذاالهول الهائل والأعمال ترجعُ هنا أجساماً كما رأيت. قلت: فذاك الشيخُ الضعيف الذي استجرْتً به ولم يُجرْني؟
قالت: يا أبتِ، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفْتَه فضَعُفَ حتى لم يكن له طاقة أن يغيثَك من عملك السيئ، ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن أتبعت قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فَرّحَ بناته المسكينات الضعيفات - لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها، ويمينٌ تَطْرد عنك
قال الشيخ: وانتبهتُ من نومي فزِعاً ألعن ما أنا فيه، ولا أراني أستقر، كأني طريدةُ عملي السيئ كلما هَرَبتُ منه هَرَبت به؛ وأين المَهْرَبُ من الندم الذي كان نائماً في القلب واستيقظ للقلب؟
وأملتُ في رحمة الله أن أربح من رأس مالٍ خاسر، وقلت في نفسي: إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عُمْرٌ ما ينبغي أن يستهان به؛ وصححت النية على التوبة، لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمنَ عظامه، حتى إذا استجرْتُ به أجارني ولم يقل (أنا ضعيف كما ترى!)
وسألتُ فدُللْتُ على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيدِ البقية من التابعين؛ وقيل لي: أنه جمع كل عِلم وفن إلى الزهد والورع والعبادة، وإن لسانه السحر، وإن شخصه المغناطيس، وإنه ينطق بالحكمة كان في صدره إنجيلاً لم ينَزل، وأن أمه كانت مولاة لأم سَلمَة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت ربما غابت أمه في حاجة فيبكي، فترضعه أم سلمةُ تعلله بثديها فيدِرّ عليه، فكانت بينه وبين بَركة النبوة صلة
وعدوتُ إلى المسجد والحسَن في حلْقته يقص ويتكلم، فجلست حيث انتهى بي المجلس، وما كان غيرَ بعيد حتى عَرتني نَفْضةٌ كنفضة الحمى، إذ قرأ الشيخ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ للذين(82/9)
آمنوا أن تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذكْر الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)
فلو لفظتني الأرضُ من بطنها، وانشقّ عني القبرُ بعد الموْت - ما رأيت الدنيا أعجب مما طالعتني في تلك الساعة؛ وأخذ الشيخ يفسرُ الآية، فصنع بي كلامه ما لو بُعث نبيٌّ من أجلي خاصةً لما صَنَع أكثر منه
وكلامُ الحسن غيرُ كلام الناس وغيرُ كلام العلماء؛ فانه يتكلم من قلبه ومن روحه، ومن وجهه ولسانه؛ وناهيكم من رجل خاشعُ متصدعٍ من خشية الله لم يكن يُرَى مْقبلاً إلا وكأنه أقبل من دفن حميم قد أنزله في قبره بيده، ولا يُرى جالساً إلا وكأنه أسيرٌ أمروا بضرب عنقه، وإذا ذُكِرَتْ النار فكأنها لم تخلق إلا له وحده؛ رجلٌ كان في الحياة لتتكلم الحياةُ بلسانه أصدق كلماتها
فصاح صائح: يا أبا يحيى، التفسيرَ التفسير! وصاح المؤذنُ: الله أكبر. فقطع الشيخ وقال: التفسير إن شاء الله في المجلس الآتي
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(82/10)
1 - الغزو الياباني الاقتصادي لأسواق العالم
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يشعر العالم المتمدن اليوم بأن قوة جديدة خطيرة قد نزلت إلى الميدان الصناعي والتجاري، وهذه القوة تندفع إلى الإمام بسرعة مدهشة، وتجرف أمامها كل حاجز وكل مقاومة، وتضطرب لها جميع أسواق العالم شرقية وغربية: تلك هي قوة الغزو التجاري الياباني الذي تهتز أمامه اليوم معظم الأمم الصناعية والتجارية، وترقب تفاقمه في خوف وهلع. ولقد كان هذا الغزو منذ عامين أو ثلاثة شديد الوطأة على بعض الأسواق الكبرى، ولا سيما أسواق الإمبراطورية البريطانية، ولكنه اليوم يغدو مشكلة عالمية. فمن آسيا إلى أفريقية وأوربا وأمريكا الجنوبية يجتاح هذا الغزو المدهش جميع الأسواق القديمة، ويلقي الذعر في دوائر الصناعة والتجارة العليا، ويثير أينما حل كثيراً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ولقد حاولت الدول الصناعية والتجارية الكبرى أن تحد من أخطار هذا الغزو بجميع الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها الحماية الجمركية، ولكنها لم توفق حتى اليوم إلى صده بطريقة ناجعة، لأنه يعتمد في قوته واندفاعه على أسس اقتصادية محكمة، ويتفوق بمزاياه المدهشة على كل منافسة ومقاومة، ويتحدى كل إجراء لرده لا يستمد من نفس الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها
وقد ظهرت طوالع هذا الغزو الياباني في المشرق بقوة: في الصين والهند وأفغانستان وفارس والبلاد العربية ومصر؛ واجتاح الأسواق القديمة في الحبشة، وفي شمال أفريقية وفي جنوبها؛ ثم اجتاح أسواق أمريكا الجنوبية؛ كل ذلك بسرعة مدهشة لم تترك مجالاً للقيام بأية مقاومة منظمة؛ ولم يكتف بمنافسة الصناعة الأوربية المؤثلة في أسواقها القديمة فيما وراء البحار، ولمنه نفذ إليها في نفس مواطنها ومر معظم الأمم الأوربية ذاتها، وأصبحت البضائع والمنتجات اليابانية تتدفق عليها كالسيل، وتنافس البضائع والمنتجات المحلية منافسة الحياة والموت. ولما كانت قوة الأمم الغربية ورفاهتها وسلطانها السياسي والاقتصادي في أفريقية وآسيا تقوم على صناعتها وتجارتها قبل كل شيء فأنا نستطيع أن نتصور ما يثيره هذا الغزو الياباني الخطر في معظم الأمم والحكومات الأوربية من عوامل الخوف والجزع(82/11)
ونحن في مصر نشعر منذ حين بآثار هذا الغزو تنمو وتتسع بسرعة، وتبدو واضحة فيما ينهمر على سوقنا المصرية من صنوف البضائع والسلع اليابانية الرخيصة المغرية مع ذلك. وتشمل هذه المنتجات اليابانية معظم الحاجات الشخصية والمنزلية؛ من ثياب وأقمشة وحرائر وأحذية وخردوات وساعات وأدوات وآلات كهربائية وآلات حديدية وقاطعة، وأنواع الآنية، والأدوات الكتابية واللعب وغيرها مما لا يقع تحت حصر؛ وقد ظهر أثر هذه المنافسة في بعض صناعاتنا الفتية مثل صناعة الغزل إذ أخذت الأقمشة اليابانية القطنية والحريرية الرخيصة في منافسة منتجاتنا منافسة قوية، وكذلك صناعة الأحذية فقد أخذت الأحذية اليابانية تتدفق على السوق المصرية بأثمان غير معقولة. على أن أثر الغزو الياباني لا يقف في مصر عند هذا الحد؛ وإذا كانت مصر لا تتمتع بصناعة واسعة يخشى عليها مباشرة من هذا الغزو، فأنها يجب أن تخشى منه بحق على مستقبل محصولها الرئيسي وهو القطن الذي تستهلكه الصناعة الأجنبية وتحتاج إليه أشد الحاجة؛ ومن الواضح أن مستقبل القطن المصري يتوقف على رخاء الصناعات التي تقوم عليه وتستمد حاجتها منه؛ ولما كان الغزو الصناعي الياباني قد أخذ يهدد صناعة القطن في لانكشير، وهي أعظم عميل للقطن المصري، ويهدد الأسواق التي تعتمد عليها لانكشير في تصريف منتجاتها، فانه يحق لنا في مصر أن نرقب سير هذا الغزو الياباني بمنتهى الاهتمام، وأن نفكر فيما عسى أن يترتب على هذا الصراع الاقتصادي الخطير بين الصناعات الأوربية القديمة وبين اليابان في حياتنا الاقتصادية من الآثار
وسنحاول في هذا المقال عرض الموضوع من الناحية العامة، ودرس العوامل والأسباب التي مكنت اليابان من تنظيم غزوتها الاقتصادية المدهشة، ومن النجاح في مغالبة الصناعات الأوربية الراسخة، على حداثة عهدها بالنهضة الصناعية الحديثة
إن وثبة اليابان الحديثة ترجع إلى فاتحة هذا القرن فقط، أعني إلى انتصارها الباهر في الحرب التي خاضت غمارها مع روسيا سنة 1905؛ فقد كان أول نصر حاسم أحرزته في العصر الحديث دولة أسيوية على دولة أوربية عظمى؛ وكانت أوربا القديمة تعتقد قبل ذلك في مناعتها، وتوقن أن العصر الذي تستطيع فيه دولة شرقية أن تهزم دولة غربية قد انتهى إلى الأبد، فجاء انتصار اليابان على روسيا مبدداً لهذا الحلم؛ وشعرت اليابان بقوتها(82/12)
ومنعتها، وازدادت ثقة بمستقبلها وحقها في تبوأ مكانتها الحقة بين الدول العظمى؛ ومن ذلك الحين تسير اليابان في ميدان التقدم الحديث بخطى مدهشة، وقد كان هذا التقدم في المبدأ محصوراً في أسيا، أو بعبارة أخرى في الشرق الأقصى؛ ولكن اليابان أخذت منذ نهاية الحرب الكبرى تتجه نحو الغرب بخطى سريعة؛ وكان الصراع بين اليابان والغرب يدور أولاً حول الغزو السياسي والاقتصادي للصين؛ فلما شعرت الأمم الغربية بأن نفوذها الاستعماري القديم في الصين أخذ يهتز ويضطرب أمام التقدم الياباني أرسلت صيحتها ونذيرها بالخطر الأصفر، وحاولت أن تصبغ المعركة الاستعمارية الاقتصادية بصبغة جنسية؛ ولكن هذه المعركة التي تضطرم حول اقتسام الصين واستعمارها انتهت أخيراً بانتصار اليابان على الدول الغربية؛ واستطاعت اليابان إلى جانب كوريا التي تملكها منذ بعيد، ن تغزو منشوريا وأن تستولي عليها، وبذا أصبحت تملك في الصين إمبراطورية استعمارية شاسعة غنية بمواردها. ولم تقف اليابان عند هذا الحد، بل أعلنت رداً على صيحة الخطر الأصفر، ما يشبه مبدأ مونرو الأمريكي، وهو أنها تعتبر نفسها صاحبة الحق الأول في استعمار الصين، وأنها ستقاوم منذ الآن فصاعداً أية محاولة من جانب الدول الغربية لتوسيع نفوذها السياسي والاستعماري في الصين
ولما حققت اليابان برنامجها الأول في الشرق الأقصى، ضاعفت جهودها في الاتجاه نحو الغرب ومنافسته في ميادينه الصناعية والتجارية، واستطاعت أن تنظم هذا الغزو الاقتصادي الجارف. ونستطيع أن نجمل أهم العوامل التي تعتمد عليها اليابان في تنظيمه في أمرين: الأول وفرة اليد العاملة، والثاني رخص العمل والأجور بنسب مدهشة. وقد نما الشعب الياباني في العصر الأخير نمواً سريعاً، وأضحى يبلغ اليوم خمسة وستين مليوناً في جزائر اليابان وحدها، هذا عدا كوريا وسكانها عشرة ملايين.
ويزيد الشعب الياباني في العام مليوناً، وهي نسبة مدهشة، ويرجع احتشاد الشعب الياباني في جزائره على هذا النحو إلى كثرة النسل التي لم تتأثر بنظريات المدنية الحديثة ووسائلها في ضبط النسل، وعدم إقبال اليابانيين على الهجرة، ووضع الأمم الغربية الحواجز في سبيل هجرتهم. وتدل الإحصاءات الأخيرة على أن عدد اليابانيين المهاجرين لا يزيد عددهم على أكثر من سبعمائة ألف في جميع أنحاء العالم. والياباني ميال بالطبيعة إلى البقاء في(82/13)
وطنه؛ ومما يذكي هذه الرغبة في نفسه نظام الملكية الصغيرة التي تسمّره في أرضه. وقد كان هذا الاحتشاد الهائل في تلك الجزر الصغيرة وتعذر سبل الهجرة من أكبر العوامل في دفع اليابان إلى اعتناق الفكرة الصناعية، والعمل على تحويل اليابان إلى بسيط شاسع من الصناعات الكبيرة التي تستطيع أن تستغرق هذه الملايين العديدة وان تمدها بالقوت. وقد نجحت هذه السياسة نجاحاً عظيما، حتى كان عدد المصانع يزداد في العصر الأخير بمعدل مائة إلى ثلاثمائة في العام الواحد. وكان عدد هذه المصانع سنة 1917 يزيد قليلاً عن ألفين، فوصل في سنة 1929 إلى 59887 مصنعاً! ثم زاد في الأعوام الأخيرة زيادة كبيرة
ومن الغريب أن اليابان استطاعت أن تقوم بهذه المعجزة الصناعية رغم كونها ليست غنية في الموارد والمواد الأولية؛ فهي في الواقع تستورد كثيراً من المواد الأولية من الخارج. ولكن اليابان غنية في بعض المواد الحيوية كالفحم، فهي تملك منه مقادير وافرة، وتصدر منه أحياناً؛ وتملك أيضاً مقادير وافرة من البترول والحديد، ولكنها لا تفي بحاجتها. أما في المواد الأولية الزراعية فاليابان فقيرة جداً، وهي تستورد معظم ما تحتاج إليه من القطن والصوف والجلد وغيرها، على أن هذا النقص لا يمنع صناعتها من التقدم بخطى جبارة؛ فقد استطاعت كما سنفصل بعد أن تأخذ المحل الثالث في الصناعات القطنية بعد إنكلترا والولايات المتحدة رغم كونها تستورد القطن من الخارج
ومن الطبيعي أن يؤدي احتشاد السكان ووفرة الأيدي العاملة إلى رخص الأجور. ومسألة الأجور هذه إحدى معجزات الصناعة اليابانية ونعمها السابغة، وهي معقدة متنوعة النواحي؛ وتنخفض الأجور في اليابان إلى حدود غير معقولة؛ وللعامل الياباني (معيار للمعيشة) في منتهى التواضع، وليست له طلبات خاصة، فهو قنوع جد القناعة لا يطمح إلى أكثر مما يحقق ضرورات العيش، ولا يفكر في شيء من ألوان المتعة والترف التي يطمح إليها العامل الأوربي. وهو صبور لا يحسب في العمل حساباً للقوت، وليس له تشريع عملي يحميه، ولم يعرف بعد شيئاً من تلك النزعة العدائية التي تجعل العمل ورأس المال في الغرب خصمين دائمين، والتي تحفز الكتلة العاملة إلى الجهاد المستمر في سبيل حقوقها المادية والمعنوية. ومن الصعب أن نقدم بياناً رقمياً عن الأجور في اليابان يمثل حقيقة ما يكسبه العامل، لأن الأجور النقدية تدعم أحياناً بأنواع من المعاونات الخاصة، كالتعويض(82/14)
عن العمل الزائد، والمكافآت، ثم الأجور النوعية كتقديم الطعام أو المسكن أو الثياب. ولكن يستدل من المباحث التي أجراها مكتب العمل الدولي أن متوسط أجرة العامل الياباني تبلغ في اليوم: (1) في الصناعات الفنية 2. 20 ين (11 فرنا - أو نحو 15 قرشاً) (2) وفي المناجم 1. 80 ين (9 فرنكات أو نحو 11 قرشاً) ويبلغ متوسط ما تأخذ المرأة 1. 03 ين (نحو خمسة فرنكات أو سبعة قروش). وهذه النسبة تعتبر مرتفعة بالنسبة لبعض الصناعات الخفيفة مثل صناعة الغزل حيث يبلغ معدل الأجور أقل من ين أو نحو أربعة أو خمسة قروش. وفي كثير من الصناعات لا يزيد مستوى الأجور على مستوى الأجور الزراعية العادية
وفي الصناعات الصغيرة يوجد نظام مشترك في العمل والحياة يشبه نظام الأسرة، ومما تجدر ملاحظته إن كثيراً من أصحاب المصانع في اليابان لم يتأثروا بعد بنظريات الرأسمالية الغربية في استغلال الفرد، وما زالت تسود لديهم الفكرة العائلية القديمة في اعتبار صاحب العمل والعمال الذين معه، أسرة واحدة ترتبط برباط الأخوة والمصلحة المشتركة، وفي كثير من المعامل الصغيرة يتناول العمال طعامهم في المصنع ويقيمون في مساكن يعدها لهم صاحب العمل؛ ويقوم صاحب العمل بقسطه من العمل كباقي العمال، ويتناول طعامه معهم، ويعيش مثلهم في نفس المسكن، ولا يشعر العمال في هذا الجو إلا أنهم مع سيدهم زملاء وأخوة؛ وهذا النظام العائلي يعاون على الإنتاج في ظروف وتكاليف يسيرة لا تمكن منافستها على الإطلاق
ويرتبط بالعمل والأجور مسألة ساعات العمل، وهي من العناصر الهامة في تكاليف الإنتاج. ومن المعروف أن الكتلة العاملة في الأمم الغربية استطاعت أن تصل في تخفيض ساعات العمل وفي تقرير أيام العطلة والإجازات الدورية إلى نتائج مرضية جداً؛ فالأسبوع الصناعي في معظم الدول الغربية لا يتجاوز اليوم 42 ساعة، ولا يتجاوز اليوم الصناعي ست ساعات أو سبعاً، وللعامل يوم عطلة أسبوعي مقرر هو يوم الأحد، وله فوق ذلك حق في إجازة سنوية أو دورية معينة تختلف باختلاف الظروف؛ وهذه الحقوق كلها مقررة بالتشريع؛ أما في اليابان فلا توجد فكرة التحديد في الزمن، وتدل المباحث الأخيرة على أن معدل اليوم الصناعي في معظم الصناعات اليابانية لا يقل عن عشر ساعات، على أنه لا(82/15)
توجد لذلك حدود أو قيود قانونية إلا فيما يتعلق بالنساء والأحداث، فاليوم العملي لهؤلاء يجب ألا يزيد على إحدى عشرة ساعة، والقانون يقضي بأن يمنحوا راحة مقدارها ساعة إذا زاد يوم العمل على عشر ساعات، ولا توجد في اليابان راحة أسبوعية للعمال كما في أوربا، لأن يوم الأحد هو عطلة نصرانية لا تقرها التقاليد اليابانية؛ ولا تعرف هذه التقاليد من جهة أخرى يوماً معيناً تخصصه للعطلة الأسبوعية، وقد كان في مشروع اتفاق واشنطون، في المادة الخاصة باليابان أن يمنح جميع العمال على اختلاف طوائفهم عطلة أسبوعية قدرها أربع وعشرون ساعة، ولكن اليابان لم تقر هذا الاتفاق. على أن المعامل الكبيرة اعتادت أن تمنح عمالها عطلة مقدارها يومان في الشهر، يوم في منتصف الشهر ويوم في نهايته؛ على أنه لا توجد لذلك كما قدمنا قواعد ثابتة، والعمال اليابانيون أنفسهم ينفرون من فكرة الراحة الدورية خوفاً من أن تنقص أجورهم تبعاً لتقريرها
ومما تقدم نرى أن الصناعة اليابانية تعمل في ظروف مدهشة تستطيع معها غزو كل سوق وسحق كل منافسة، وقد لخص كاتب اقتصادي وثبة اليابان الصناعية في هذه الكلمات: (إن الأجور الصناعية في اليابان سويت بالأجور الزراعية، وغدت ثلث ما كانت عليه سنة 1929؛ وأسبوع العمل ستون ساعة؛ وقد يبلغ طبقاً لبعض الإحصاءات في صناعة القطن مائة وعشرين ساعة، وفي اليابان شعب يزيد في العام مليوناً، والعنصر البشري يعني به أكثر مما يعني بالآلات. . . وتلك في الواقع مدنية صناعية جديدة بين النظم الفنية الأمريكية ورخص العمل الشرقي، فمدير المصنع الياباني يتناول مرتباً قدره (1700 ليرة) (نحو 30 جنيهاً) وهو خمس ما يتناوله زميله الأمريكي. وأثمان المنتجات اليابانية أقل بنحو خمسة وثلاثين في المائة من أثمان منتجات أي سوق أوربية أو أمريكية). وأشار السنيور موسوليني في إحدى خطبه أمام مجلس النقابات الصناعي إلى نهضة اليابان الصناعية بقوله: (هنالك فيما وراء الاطلانطيق تفتحت مشاريع صناعية ورأسمالية هائلة؛ ولكن ثمة في الشرق الأقصى توجد اليابان وهي منذ أن اتصلت بأوربا في حرب سنة 1905، تتقدم نحو الغرب بخطى شاسعة)
ويجب أن نذكر ما لنشاط اليابان البحري من أثر في تنظيم هذا الغزو، فلليابان أسطول تجاري ضخم يربطها بأوربا وأمريكا وجميع أنحاء العالم؛ ويعمل هذا الأسطول لحمل(82/16)
التجارة اليابانية إلى ما وراء البحار في ظروف مشجعة جداً، ويصطبغ عمله بلون التعاون القومي لأنه يعتبر أداة قوية لنشر التجارة اليابانية تسخر كل قواها ونشاطها لتحقيق هذه الغاية
وسنحاول أن نبحث في فصل آخر ما لهذا الغزو الاقتصادي الياباني من أثر في السوق المصرية وفي الاقتصادي المصري
محمد عبد الله عنان المحامي(82/17)
التاريخ الإسلامي
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه حياة فخمة. . . . ليست حياة واحد، ولكنها حياة أمة، أمة حملت مصباح النور، حين عمّ الكون الظلام، وأرشدت العالم التائه في عُباب الجهل، إلى شاطئ العلم، وكانت حضارتها المدرسة الثانوية التي خرجت العقل البشري وثقفته، كما خرجته المدرسة الابتدائية اليونانية من قبلُ وثقفته. . . فكان لها الفضل على كل إنسان!
حياة أبي بكر هي الصفحة الأولى من التاريخ الإسلامي، الذي بهر كل تاريخ وبذّه، والذي لم تحو تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف، والمجد والإخلاص.
ذلك لأنه تاريخ الكمال الإنساني على وجه الأرض. . . . تاريخ المعجزة التي ظهرت في بطن مكة على يد رجل واحد؛ فلم تلبث حتى عمَّت مكة، ثم امتدت حتى شملت الجزيرة، ثم امتدت حتى بلغت أقصى الأرض. . . فكانت أكبر من الأرض، فامتدت في الزمان. . . . وستبلى الأرض، ويفني الزمان، والمعجزة باقية:
(كلُّ مِنْ عَلَيْهاَ فَانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاِلِ وَألإِكْرَامِ) - (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذكْرَ وإِنِّأ لَهُ لَحَافِظُونَ)
ذلك لأنه تاريخ الإسلام، الذي بدا سره في هذه الأمة البادية الجاهلة المتفرقة، فجعل منها أمة لم يكن ولن يكون لها نظير. . . . امتزجت روح الإسلام بأرواح المسلمين وغلبت عليها، ثم استأصلت منها حب الدنيا، وانتزعت منها الطمع والحسد، والغش والكذب، وأنشأت من أصحابها قوماً هم خلاصة البشر، وغاية ما يبلغه السمو الإنساني. . .
أنشأت من أصحابها قوماً يغضبون لله، ويرضون لله، ويصمتون لله، وينطقون لله، قد ماتت في نفوسهم الأهواء، وبادت منها الشهوات، ولم يبق إلا دين يهدي، وعقل يستهدي قوم كان دليلهم الدين، وقانونهم هدى سيد المرسلين، وشعارهم شعار المساكين، وعيشهم عيش الزاهدين، ثم كانت فتوحهم فتوح الملوك الجبارين، وكانوا سادة العالمين؛ لم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا أبطال الحروب وسادة الدنيا، ولم يفتنهم ما نالوا من مجد، وما بلغوا من جاه، عن دينهم وتقواهم
قوم ينصب لهم أميرهم قاضياً، فيلبث سنة لا يختصم إليه اثنان! ولم يكونوا ليختصموا(82/18)
وبين أيديهم القرآن، وكل واحد منهم يعرف ما يحق له، فلا يطلب أكثر منه، ويعرف ما يجب عليه فلا يقصر في القيام به، ويحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويسعى ليسلم الناس من لسانه ويده: إذا مرض المسلم عاده المسلمون، وإذا افتقر أعانوه، وإذا أحسن شكروه، وإذا ظُلُم نصروه، وإذا ظَلَم ردعوه، دينهم نصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟
أما إنهم لا يختصمون إلا على مكرمة وإحسان، ولقد كان عمر يتعاهد عجوزاً عمياء، في بعض حواشي المدينة، فكان يجيئها سحراً، فيجد امرأً قد سبقه إليها فبرها وأحسن اليها، واستسقى لها وأصلح من أمرها، فيعجب منه ويزيد في البكور، فلا يسبقهُ فرصده مرة من أول الليل، حتى جاء فإذا هو. . . . . أبو بكر الصديق، وهو يومئذ خليفة
أو بكر وعمر يستبقان إلى بر عجوز عمياء، في بعض حواشي المدينة. . . الله أكبرّ عقمت أم التاريخ أن تلد مثل هذا التاريخ الذي يأتي بسيد الأمة، في ثوب خادم الأمة، حتى يفتش في الليل عن عجوز عمياء، أو رجل مقعد، أو أسرة محتاجة، أو مظلوم ضعيف، أو ظالم عاتٍ - ليخدم العجوز، ويحمل المقعد، ويساعد المحتاج، وينصر المظلوم، ويأخذ على يد الظالم، لا يبتغي على ذلك جزاء ولا شكوراً، لأنه يعمل لله، ولا يرجو الثوب من غير الله. . .
الله أكبرّ ضل قوم زعموا أن الإسلام إنما أنتشر بالسيف، لا والله! إنما انتشر بمثل هذه الأخلاق السماوية، إنما فتح المسلمون ثلاثة أرباع العالم المتمدن، بهذا الإيمان الذي ملأ قلوبهم، وهذا النور الذي اشرق على نفوسهم، وهذه القوة التي عادت بها عليهم عقيدة التوحيد.
علموا أن الله هو الفعال لما يريد، وانه المتصرف في جميع الأكوان، وأن كل شيء بقضاء منه وقدر، وأنهم إن غُيِّب عنهم القدر، وخفي عليهم علمه، فقد أنزل عليهم القرآن، ووضح لهم سبيله فاتبعوه القرآن، ووقفوا عن أمره ونهيه، فكتبوا في سجل القدر من السعداء
والمؤمن الذي يعلم أن الله هو الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه لا يجير عليه من نبي ولا رسول، ولا يشفع عنده ألا بأذنه، وليس بينه وبين العبد واسطة ولا نسب، ويعلم أن الله ينصر من ينصره، وأنه لا يضع أجر من أحسن(82/19)
عملاً، لا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يبالي بشيء إذا كان مع الله، ولا يطمع في جوار أحد إذا كان جاراً الله، ولا يحفل بالدنيا وما فيها إذا باع نفيه من الله راضياً مختاراً، بأن له الجنة. . . .
كانت هذه العقيدة أصل كل خير ناله المسلمون الأولون، وكان وهنها في النفوس اصل كل شر نال المسلمين المتأخرين الذين أفسدوا عقيدة التوحيد بما شرعوا لأنفسهم من البدع والعقائد، فتفرقوا أيدي سبا، وذلوا في أرضهم، وهوجموا في عقر دارهم، وحفظ المسلمون الأولون على هذه العقيدة صفاءها وجمالها. ففتحوا ما فتحوا، وكان فتحهم أعجوبة التاريخ، يقف أمامها العقل خاشعاً للعظمة والجلال، حائراً للغموض والخفاء.
أمة بدوية على غاية ما تكون عليه الأمم البادية من الخلاف والجهل، لا دين يوحد قبائلها ويهذب من نفوسها، ولا جامعة تجمعها، ولا حكومة تدير أمورها، اللهم إلا حكومة في العراق تخضع لملوك العجم، وحكومة في الشام تطيع ملوك الروم وتلبث على ذلك عصوراً. . . . ثم تنهض نهضة الأسد، تحمل في يمناها نور القرآن، تضيء به للشعوب طريق المجد في الدنيا، والسعادة في الآخرة. وفي يسراها السيف تردُّ به الضالين المعاندين، المصرّين على الضلال، إلى سبيل الحق والهدى
ويبدو فيها سر الإسلام بيّناً جلياً، فإذا هذا التفرق وهذه الجاهلية، أخوة في الإسلام، وتمسك بالفضائل، وإذا هذا الضعف قوة لا تعدلها قوة، وإذا هذه الحمية الجاهلية تواضع لله، ورضا بأحكامه، ونزول عند أوامره ونواهيه، وإذا بدوي من بني وهيب يكون بسر الإسلام - قائداً من أعظم قواد الدنيا - يهدُّ أقوى صرح للظلم، ويدك أكبر بنيان للجور على وجه الأرض، ويغرس في (القادسية) مكان الجبروت الفارسي بذور الحضارة الإسلامية التي نمت وازدهرت حتى أظلت الدنيا
وإذا بدوي قاسٍ غليظ من بني عدي يكون بسر الإسلام عظيماً من عظماء التاريخ، يبرز في العلم والسياسية والبلاغة، ويكون له القدح المعلى، في فنون الفكر، وفنون الحرب، وفنون القول، ويسوس وحده الجزيرة وسورية والعراق ومصر وإفريقية فلا يعرف التاريخ أعدلَ ولا أقوم ولا أفضل منه - حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار
وإذا تاجر من تجار مكة يكون بسر الإسلام، أعظم العظماء، بعد الأنبياء(82/20)
هذه أعجوبة التاريخ، وهذا هو الفتح الأعظم!
أجل! إن الفتح الإسلامي لهو الفتح الأعظم، الذي لم يعرف التاريخ فتحاً مثله. وكثيرٌ هم الفاتحون، الذين فتحوا بلاداً واسعة بسيوفهم، وأخضعوها بجندهم، وحكموها بقوتهم وسطوتهم، ولكن ليس فيهم مثل المسلمين، الذي فتحوا البلاد بإيمانهم، وفتحوا القلوب بعد لهم، وفتحوا العقول بعلمهم، فكانوا أصحاب السلطان، وكانوا دعاة الإيمان، وكانوا بُناة المجد والحضارة والعمران
طبقوا في القرن السابع قواعد الحرب الإنسانية - التي علمت بها أوربة في القرن التاسع عشر وسعت إلى تطبيقها في القرن العشرين، فلما لم تفلح وغلبت طباعها الذئبية على إنسانيتها المصطنعة، اكتفت منها بتسطيرها في كتب الحقوق الدولية واخذ المجددون من الشرقيين. . . . . ببريقها ولمعانها!
لقد فتحنا ثلاثة أرباع العالم المتمدن، ولكنا كنا نحمل العلم والهدى، والعدل والغنى، إلى البلاد التي نفتحها، وكنا لا نعمد إلى الحرب إلا إذا اختار أعداؤنا الحرب، وأبوا أن يلبوا داعي الله - ثم لا نخون ولا نغدر، ولا نغل ولا نمثل، ولا نقتل رسولاً ولا نهدم منزلاً، ولا ننازل عُزلاً، ولا نهيج معتزلاً، ولا نمس عابداً متبتلاً.
ثم إذا صالحنا أعداؤنا، ودخلوا في ذمتنا، حميناهم مما نحمي منه أولادنا وأهلينا، وإذا أسلموا كانوا إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لا يفرق بين المسلمين عرق ولا لغة، ولا جاه ولا نسب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى
فأين هذه الفتوح من فتوح الاستعمار التي أثارتها أوربا؟ فتحنا البلاد فتركنا أهلها أحراراً في دينهم ومعابدهم، أحراراً في قضائهم ونظمهم، أحراراً في أموالهم وأولادهم، فملكنا بالعدل قلوب الناس وأسعدناهم بالعلم، وبسطنا عليهم ظلال الأمن، ونشرنا فوقهم لواء الحضارة، حتى لقد صار أهل البلاد يستصرخون المسلمين على حكوماتهم، ويبذلون لهم عونهم على ملوكهم لا بغضاً لملوكهم ولا عداء لأوطانهم، ولكن حباً في العدل، ورغبة في السلام، وشوقاً إلى العلم والحضارة والعمران
فتحنا الحيرة فأهدى أهلها طائعين مختارين هدية إلى أبي بكر فقلبها وعدها من الجزية عدلاً منه وتعففاً، وخشية أن يظلم أهل ذمته، أو أن يكلفهم شططاً، وتفتحون البلاد فَتَبْتزون(82/21)
أموالها ابتزازاً، وتمتصون دماءها امتصاصاً، وتمدون أيديكم إلى كل خير فيها
هكذا كانت فتوحنا وهذه فتوحكم:
مَلكْناَ فكانَ العْدَلُ مِنَّا سَجِيَّةً ... فلمَّا مَلَكْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أَبْطَحُ
وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الأسُارى وَطالَما ... غَدَوْنَا عَلَى الأَسْرى نَمُنُّ وَنَصفَح
فَحَسْبُكُم هذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا ... فَكُلُّ إِنَاءٍ بالَّذِيِ فِيهِ يَنْضَحُ
ولم يظهر سر الإسلام في الفتوح، وفي الخلفاء والأمراء فقط، بل لقد ظهر في المسلمين جميعاً، فجعل من نفوس النساء والعجائز والأطفال مناراً يهتدي به الناس، ومثلاً أعلى للنفوس الكبيرة، حتى أن أبا بكر ليقسم مالاً بين النساء، ويبعث إلى عجوز من بني النجار بقسمها من هذا المال، مع زيد بن ثابت فتقول:
- ما هذا؟ - فيقول: مال قسمه أبو بكر بين النساء
- فتقول: أترشونني عن ديني - فيقول: لا
- فتقول: أتخافون أن أدع ما أنا عليه؟ - فيقول: لا
- فتقول: والله لا آخذ منه شيئاً
لا تأخذ منه شيئاً، لأنها لم تسلم رغبة ولا رهبة، ولكنها أسلمت لله، فهي تبتغي ما عند الله
لا تأخذ منه شيئاً، لأنها لا تحب أن يدخل بينها وبين ربها فيشغلها عن الإخلاص لدينها، ويطمعها المال في المال، فتزيد في العبادة، وتبالغ في التدين، فتكون كأنما تعبدت للمال، وعقيدة التوحيد، التي استقرت في نفس هذه العجوز، كما استقرت في كبار الصحابة وعلمائهم، تدفعها إلى أن تعمل لله وحده، وتسأل الله وحده، وتؤمن بالله وحده
وتجتمع فئة من المسلين معارضة تريد أن تستأثر بالحكم، لأنها ترى لها فيه حقاً، ولا تقبل في ذلك هوادة، ثم يأتيها ثلاثة رجال من الفئة التي تعارضها، وتجتمع لتناوئها، فترجع عما اعتزمته بكلمة واحدة تبصر فيها ضياء الحق
قال عمر للأنصار يوم السقيفة:
- ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟
- قالوا بلى
- قال: فآيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟(82/22)
- قالوا: لا أحد!
- ثم قاموا يبتدرون البيعة
فأين هذا من منازعات الأحزاب على الحكم في الدولة الراقية في القرن العشرين؟ وأين ديمقراطية أوربة ودعواها الخلاص من الحكم الفردي من ديمقراطية المسلمين الأولين؟
أما إن استبداد لويس الرابع عشر، هو استبداد روبسبير، وهو هو استبداد هلتر، لم تنج أوربة من الاستبداد في الحكم يوماً واحداً، ولم يحقق النظام البرلماني شيئاً من أمانيها الديمقراطية ومبادئها البراقة التي تخدع بها الأطفال الكبار من الشرقيين
أما نظام الحكم في الإسلام، فهو النظام الديمقراطي الصحيح، الذي لا يجعل من أمير المؤمنين أكثر من منفذ للقانون الإلهي الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو أبعد شيء عن النظام الملكي الوراثي. وكان المسلمون الأولون يفهمون هذا النظام أصح فهم وأجودّه، وكأن العامل من عمالهم يعلم أنه إنما يسأل عن عمله بين يدي الله، وإنما يقوم به لمصلحة المسلمين لا لرضاء أمير المؤمنين، وقد يبالغون في ذلك حتى أن مُعاذ بن أيمن يقدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له أبو بكر: ارفع حسابك. فيقول: أحسابان: حساب من الله وحساب منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً
ويطلب أمير المؤمنين عثمان من خازنه مالاً، فيأباه عليه.
فيقول: (إنما أنت خازن لنا، إذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت)
فيقول الخازن لأمير المؤمنين: (ما أنا لك بخازن، ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين: ثم يجيء يوم الجمعة وأمير المؤمنين يخطب فيقول (أيها الناس: زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم) ويرمي بها. . .
هذا هو تاريخ المعجزة التي جاء بها سيد العالمين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تاريخ الإنسانية الكاملة، تاريخ المسلمين الأولين، خلاصة البشرية. فطالعوه يا شبان المسلمين، وتدارسوه، واسعوا لتكتبوا هذا التاريخ مرة ثانية على صفحة الحياة. . . وتقولوا للعالم بأفعالكم لا بأقوالكم: نحن أبناء أولئك الآباء. . . .
على طنطاوي(82/23)
كيف صرف الله عني السوء؟
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اشتهيتُ أن أقول الشعر في الأسبوع الماضي، بعد أن فطمتُ قلبي سنوات وسنوات، فدخلت مكتبتي - أعني غرفتها لا رفوف الكتب فيها - وأغلقت الباب، وقلت لنفسي (الآن، أمنت أن يزعجني هؤلاء الأطفال الملاعين ويُطيروا عقلي - أو ما بقي لي منه، وهو قليل - بضجاتهم وكراتهم وزماراتهم وأسئلتهم التي لاتنتهي، ومشاكلهم العويصة التي لا تحل، واستبدادهم الذي لا يطاق. إنهم أطفال جديدون وأنا رجل قد شيخت، وهم حركة دائمة، وأنا فتور يزداد على الأيام، وسينتهي - عاجلاً أو آجلاً، بل آجلا إن شاء الله - إلى الركود. وهم استعداد مطلق، وأنا نطاق محدود. وكيف بالله أطيق أن أظل ألاعبهم الكرة، أو أجاريهم في الزمر والوثب والصياح؟؟
وما صبري على هذه الأسئلة التي ليس لها عندي جواب؟؟
سألني أحدهم - أصغرهم - (بابا)
قلت: (نعم)
قال: (هل أنت بابا؟)
قلت: (نعم، وأمري إلى الله يا بني)
قال: (صحيح؟)
قلت: (أو يخامرك شك يا ملعون؟؟ أم لا يعجبك أبوك؟؟)
فجعل يردد كلمة (بابا) مستغرباً ثم سأل (يعني آيه؟)
فلم أجد عندي جواباً حاضراً لسؤاله، وعالجته، وحاورته داورته حتى انصرف عن هذا الموضوع، ولكنه لم ينسه، فهو يكر علي به كل بضعة أيام. فمن كان يعرف لسؤاله هذا جواباً مقبولاً فليسعفني به، وله الثواب من الله
وسألني مرة، ونحن على السفينة الذاهبة بنا إلى بيروت:
(هذا هو البحر؟)
قلت: (هو بعينه - أعني بموجه)
قال: (هل للبحر حنفية؟)(82/24)
قلت: (لا)
قال: (لماذا؟)
فهربت من الجواب لأنه طويل، وكان بي كسل في تلك الساعة، فعاد يسأل:
(ماذا يحدث إذا وقعتُ فيه؟)
قلت: (تغرق فتموت)
قال: (يعني أكون كالسمك الذي فيه؟)
قلن: (كلا. إن السم الذي فيه حي، أما أنت وأنا فأنا نموت إذا وقعنا فيه، لأنا لا نعرف السباحة، ولم نخلق لنعيش في الماء كالسمك)
قال: (نموت كيف؟)
قلت: (نموت ي أخي! سبحان الله العظيم!)
قال: (ولكني أريد أن أعرف)
قلت: (أنا لم أمت، فكيف أعرف؟)
قال: (بابا)
قلت: (يا ساتر استر. نعم يا سيدي!)
قال: (أريد منك شيئاً)
قلت: (على العين والرأس يا حبيبي، قل يا سيدي. تفضل يا روحي!)
قال: (لماذا تتكلم هكذا؟)
قلت: (لأني أعرف أنك ملعون خبيث)
قال: (لا. . . .) وضحك (إنما أريد أن أراك)
قلت: (وهل عميتَ؟ ألستً تراني أمامك؟)
قال بسرعة: (لا لا لا. . . . إنما أريد أن أراك، في. . . . . في الماء!)
قلت: (تعال إلى الحمام، فان فيه حوضاً عظيماً)
قال: (لا) ممطوطة، بازدراء، (في البحر. . .)
قلت: (يعني تريد أن أغرق، وأموت؟)
قال: (آه! لأجل خاطري. ألست تحبني؟)(82/25)
فلولا أدركتني أمه، لوجب علي أن أغرق تحت عينه.
وهكذا إلى أخر ذلك إن كان لما يتقاضاني آخر يعرف
فقالت لي نفسي: (اسمع يا مازني. انك قليل العقل، ما في هذا شك)
قلت: (أشكرك. فهل تسمحين أن تبيني السبب؟)
قالت: (نعم. هذا أنت تخلو بي، لتنظم شعراً، فبدلاً من أن تتناول القلم وتكتب، تذهب تتمثل ما يدور بينك وبين أولادك، فتضيع الوقت في غير طائل ولا تصنع شيئاً. فإذا لم تكن هذه قلة عقل فانه يسرني أن أعرف ماذا هي؟)
قلت وأنا مغيظ: (استدراك! إني لا أخلو بك لأقول الشعر، أعني أنك - ولا مؤاخذة - ليت الباعث على قول الشعر)
قالت: (لا تكن قليل الذوق أيضاَ!)
قلت: (إنها الصراحة والحق، لا قلة الذوق. ثم إنك مخطئة. فأني لم أدخل هذه الغرفة لأنظم شعراً، بل إني اشتهيت هذا، فأنا أريد أن اهتدي إلى الوسيلة التي تعينني عليه)
قالت: (الوسيلة؟ أية وسيلة؟ تناول القلم واكتب!)
قلت: (يا سلام؟ ما اذكاك! لو كان هذا كل ما يتطلبه قول الشعر لما عجز أحد عنه)
قلت: (أذن ماذا تبتغي؟)
قلت: (اسمعي أقل لك. . . إني اصفيتُ، أو على الأصح انقطعت عن النظم لأنك خلية، فأنا أريد الآن أن أشجوك، أعني أن أملأك)
قالت: (كيف؟ فإني غير فاهمة؟)
قلت: (لك العذر، فقد صرت كالصحراء، التي نسيت الماء من طول ما انحبس عنها)
قالت: (ألا تقول وتوجز؟)
قلت: (إذن أقول إني أريد أن يعمر قلبي الخرب، وبعبارة أخرى أقرب إلى فهمك الكليل، أريد أن أحب)
قالت: (تريد؟ هه؟)
قلت: (أه أريد! وأي غرابة في ذلك؟)
قالت: (لا فائدة من الخلاف فانك مكابر، وماذا تنوي أن تصنع؟)(82/26)
قلت: (أنوي؟ ليس أسهل من ذلكّ أدور بعيني حتى تقع على واحدة تستحق أن أحبها - هذا ما أنوي أن أصنع) فمطّت شفتها - مجازاً - وأشاحت عني بوجهها، فقلت في سري، والله لأغيظها! وخرجت ألتمس الحب، وأدور بقلبي على النساء، وأفتحه لمن شاءت أن تقع منهن فيه، وكنتُ مستعداً - لأكيد لنفسي - أن أحب عشرين امرأة دفعة واحدة، ولم لا؟ إن كل ما يعينني، وما أبغيه، هو الحب، لا المرأة، وأثره لا وسيلته وأداته، فكلما كانت النار أقوى، واللهب أعلى كان ذلك خيراً لي، ثم إني أريد أن أجرب كل حب، أعني الحب من كل صنف، ولون، حتى الذي يعقب الخبل ويورث الجنون، والذي يحرق الثياب، ويترك القلب عارياً
وصرت كلما رأيت سرباً من الفتيات، أقول لهن
(ادخلن يا فتيات!)
فيقلن: (أين؟)
فأقول: هنا في قلبي. . إنه عظيم! شيء مهول جداً. يسعكن جميعاً ويسع مائة من أمثالكن. البدار البدار، فانها فرصة لا تعوض فيتضاحكن ويمضين عني - لا أدري لماذا. كأنما لهن طلبة في الحياة غير الحب، أو سبيل إلى طلبتهن غيره؟
ألاقي غيرهن. فأدق الناقوس، وأستوقفهن وأسألهن: (ما قولكن؟)
فيقلن: (في أي شيء؟)
فأقول: (في أن أحبكن جملة؟)
فيقلن: (مجنون؟)
فأقول: (أطعنني، فأني أعرف ما لا تعرفن! هذا قلبي قد فتحته لكُنَّ، على آخره، فادخلن فيه، أنتن ومن تخترن غيركن من صواحباتكن، فلن يضيق بكن، فانه أعمق وأرحب من البحر الأعظم. . أزخرنه لي، وغصن في أعماقه، وأمددن لي أيديكن بالدر المكنون الذي لا تبلغه يداي)
فيمضين عني ولا يعبأن بي، فيهبط قلبي، وتفتر دقاته، وتهي نبضاته، وألمح النفس تبتسم ابتسامة الشماتة، فيستفزني ذلك، فأكر إلى البحث
ولا أطيل. . . . . لقيتُ أخر الأمر فتاة قالت لي:(82/27)
(هل تريد أن أحبك؟)
قلت: (لا. . . إنما أريد أن أحبك أنا)
قالت: (وماذا يمنعك؟)
قلت: (صحيح! أما والله إني لمغفلّ وماذا منعني أن أحب نساء الدنيا كلهن؟؟ أم تراني كنت أحسب أن الأمر يحتاج إلى استئذانهن؟)
فقالت وهي تضحك: (أنت تحبني - هذا حسن. . .)
فقاطعتها قائلاً: (لا تغلطي يا فتاتي، إني (أريد أن أحبك)
قالت: (لا بأس. أنت تريد أن تحبني، هذا حسن، وأنا ماذا أصنع بنفسي؟)
قلت: (لا شيء. أو إذا شئت، فان في وسعك أنت أيضاً أن تحبينني)
فضحكت وقالت: (أهو شيء بالإرادة؟)
قلت: (إنك سخيفة كنفسي، ولا مؤاخذة!)
فقالت: (ولماذا تريد أن تحب؟)
قلت: (لأني أريد أن أقول شعراً، وعلى أن هذا شيء لا يعنيك، فدعيني وما أريد، والباقي عليّ، فلن يكلفك شيئاً)
فتركتني لرأيي، وجعلت وكدي بعد ذلك أن أحبها، وذهبت أقنع قلبي بأنه قد اصبح عامراً ولكن نفسي - قبحها الله، أو زادها قبحاً - كانت تخرج لي لسانها هازئة، فيهيجني هذا منها، يسخطني عليها، فأغافلها أحياناً وأتحسس قلبي بيدي لأستوثق، وأضع راحتي على بطني لعلي أشعر بالنار التي يجب أن تكون مضطرمة فيها، فلا أحس أن النبض أسرع أو أقوى، ولا ترتد راحتي إلا باردة كما كانت. فأقول لفتاتي:
(أسمعي. هاتي أذنك، فأني أخشى أن تسمعني نفسي فتشمت بي)
وأسر إليها أني لا أحس شيئاً من مظاهر الحب، وعلاماته، فأنا آكل كالمنهوم، وأنام كأني حقنت بالمورفين، ولا أراني أفكر في شيء غير ما يتفق أن أكون فيه،. . . لا خفقان في القلب، ولا اضطراب في الصدر، ولا شوق، ولا شيء ما يصفه المحبون غيري، بل أنا أنسى اسمك، واسميك كل يوم، كما تعرفين، اسماً جديداً، فأي حب هذا؟ خبريني!
فقالت: (لا أدري - هو حبك، على طريقتك إذا كان صحيحاً أنك تحب)(82/28)
فأسألها: (ولكن هل تظنين أني أحب؟)
فتقول: (وكيف أعرف أنا؟)
فأسألها مستغرباً: (ألم يقولوا إن بين القلب والقلب رسولاً، فكيف ضل الرسول يا ترى؟)
فتول: (لم يأن أن تحب يا صاحبي. ولست بفتاتك على ما أرى؟)
فأقول: (ولكنك الفتاة الوحيدة التي وافقتني على ما اقترحت؟)
فقالت: - وأدهشتني - (نعم. وافقت ورضيت، بأن تحبني إذا شئتَ، فبقيت أنت لا تحب، ووقعتُ أنا)
فصحت بها: (ايه؟ ماذا تقولين؟)
قالت - بهدوء -: (لقد سمعت. . . .)
قلت: (أعيديه على مسمعي. . .)
قالت: (كلا. . . هكذا أحلى!)
فكاد الفرح يذهب بلبي، فما عرفت أن أحداً أحبني في هذه الدنيا مذ جئت إليها، ولا ذق في حياتي هذه اللذة، ولم يكن ذنبي أني حرمتها، ولا ذنب النساء أيضاً، وأحسب أن عيونهن تتخطاني - لقصري - فلا يرينني، ولو رأينني لأحبني بلا شك - كما فعلت هذه الفتاة الكريمة، بعد أن جلست!
وعدت إلى بيتي، وخلوت بنفسي في المكتبة، وقلت لها وأنا أكاد أرقص (والآن يا نفسي، يمكنك أن تطقي من الغيظ وتنفلقي من الكمد) وأحسست بالشعر يجيش في صدري، وشعرت كأنه ليس علي إلا أن أدهور لساني في شدقي، أو أن أرفع سن القلم على الورقة، فإذا به يجري وحده بالكلام المونق المعجب
وجئت بورقة، وبريت القلم، ووضعت تلك على رجلي، وهذا ما بين أصابعي، وتوكلت على الله، وأقمت القلم على الورقة، وإذا بنقر على الباب، فكدت أجن، ونهضت ففتحته بكرهي فدخل صاحب لي فلما رأي تجهم وجهي قال:
(هل أنت مشغول؟)
قلت: (تسأل البحر هل فيه ماء؟)
قال: (معذرة. على كل حال لن آخذ من وقتك إلا دقائق، إنك تعرف. . .)(82/29)
وذكر اسم الفتاة - فتاتي التي تحبني بارك الله فيها - فصحت به (آيه؟)
فقال: (إني أتكلم بلغة عربية فيما أظن؟)
قلت: (ألا توجز؟ ما لها؟)
قال: (حسن. سأوجز. إني سعيد)
قلت: (وأنا مالي!)
قال: (هنئني!)
قلت: (بماذا؟)
قال: (لقد قابلتها - للمرة الثالثة - ولم أخبرك لأنه لم يكن هناك ما يستحق أن يقال. ولكنها اليوم قابلتني - أعني استقبلتني بعد أن خرجت أنت من عندها، فكان مما قالته لي (إنك شاب، وأنا شابة، وأنا أصبو إليك كما تصبو إليّ، صحيح أني أقول لبعض معارفي من الكهول إني أحبهم، ولكني مضطرة إلى هذا لأحتفظ بودهم، أما أنت فشيء آخر - أنت شاب مثلي!)
فما قولك في هذا؟
قلت: (قولي؟ أنا؟)
قال: (نعم؟ ما رأيك؟)
قلت: (صدقها!)
فسألني: (هل كذبت عليك يا ترى كما كذبت على غيرك؟)
قلت: (علي أنا؟ لا! وهل يستطيع أن يخدعني أحد؟ والآن أذهب. . . . . .)
قال: (بسرعة؟ هكذا!)
قلت: (نعم فأني أريد أن أمزق دواوين الشعراء التي عندي)
قال: ألا يكفيك أن تكف أنت عن الشعر؟)
قلت: (كلا. . . . وسأحرقها أيضاً بعد تمزيقها؟ الشعر! يا للسخافة!. . . . .)
قال: (أعطنيها ولا تمزقها)
قلت: (كلا. . . إنك شاب. وحرام علي أن أسيء إليك وأن أضلك. . . . اخرج. . . اخرج. . . مع السلامة. . .)(82/30)
إبراهيم عبد القادر المازني(82/31)
بيت الإبرة
للأستاذ قدري حافظ طوقان
هي آلة عجيبة ذات مبدأ ثابت لا تحيد عنه، ولا تعرف غير الاتجاه نحوه، فهي دائماً وأبداً تتجه نحو الشمال والجنوب. هذه الآلة العجيبة المغناطيسية تستعمل في السفن البحرية لإدارة سيرها ولها تاريخ عجيب أوقع العلماء في حيرة وارتباك، إذ لم يستطع أحد منهم البت في نسبة اختراعها، بل لم يستطع الوصول إلى جواب شافٍ مرضٍ عن السؤالين الآتين: ممنْ اخترع هذه الآلة؟ لمن الفضل في إيجادها واستعمالها والاستفادة منها؟ يدعى الصينيون أنهم أول من اخترعها، ويدعى ذلك أيضاً العرب واليونان والاترسكيين والفنلنديين والطليان. تدعى كل هذه الشعوب السبق في اختراعها وفي استعمالها، وكل منها يقول إنه هو السابق في الانتفاع من هذا الاختراع، وكل منها يقول إن الآخرين كانوا عالة عليه في استعمال بيت الإبرة وفي الاستفادة منها، وكل منها يقول أيضاً إن الفضل في تقدم صناعة البوصلات البحرية رجع إلى علمائه ومشاهير بحارته
بحث الباحثون في أصل الإبرة واختراعها، وأخذ البحث معهم وقتاً طويلاً وسبب لهم عناء عظيماً، وبرغم كل ذلك لم يقفوا على الحقية، ولم يتمكن عالم من معرفة تاريخ تطور صناعة البوصلات البحرية معرفة تؤدي إلى نتائج جلية واضحة، معرفة تزيل سحب الشك والغموض المحاط بها أصل اختراع الآلة المذكورة، فهي حقاً آلة عجيبة ولها تاريخ أعجب، واختلاف الأمم على ذلك مما يثير الدهشة والاستغراب
لقد اطلعنا على أكثر ما قيل في هذا الصدد وعلى بعض ما كتبه العلماء في المجلات ودوائر المعارف في هذا الموضوع، واستطعنا من كل ذلك تكوين فكرة عن أصل الإبرة وتاريخ اختراعها واستعمالها وكيفية الانتفاع منها في الأسفار البحرية، وسنعطي رأياً في ذلك على ضوء معلومات وبحوث الذين سبقونا في ولوج هذا الباب
وقبل الخوض في البحث يجدر بنا أن نذكر شيئاً عن المغناطيس وعن رأي الأقدمين فيه فهذا مما يسهل علينا الدخول في موضوع المقال
عرف اليونان شيئاً عن المغناطيس، وكلمة مغناطيس مأخوذة من لغتهم، وقالوا بان فيه خاصية الجذب قبل غيرهم، قال أرسوط (حجر المغناطيس. . أنه حجريجتذب الحديد،(82/32)
وأجود أصنافه ما كان أسود مشوباً بالحمرة ومعدنه ساحل بحر الهند، وهو قريب من بلادها. . .) هذه الخاصية أثارت استغراب كثير من الأمم، فكانت مثار دهشتهم. وقد كثرت الأقوال الغريبة فيه (في المغناطيس)، ومن هذه الأقوال. أنه إذا أصاب المغناطيس رائحة الثوم أو البصل بطل تأثيره وذهبت خاصية الجذب، وإذا غسل بالخل عاد التأثير ورجعت إليه الخاصية المذكورة. وقال بعض الأقدمين بأن له خواص علاجية وصحية منها: أنه إذا علق إنسان المغناطيس على إنسان آخر نفع الأخير من وجع المفاصل، وإن لمسته المرأة التي تعسرت ولادتها وضعت في الحال، وأن الذي يعلقه في عنقه فقد استفاد كثيراً، إذ يكبر عقله وتقوى فيه ملكة الحافظة، وأن له سلطاناً على أمراض الطحال، واستعمله ابقراط علاجاً للعقم، وقال بليناس بأنه نافع ومفيد في أمراض العين، وقال ابن سينا إن درهماً منه يضاد التسمم بالحديد الذي كان يظن أنه سام. وجاء في بعض الكتب بأن المغناطيس كثيراً ما استعمله الأقدمون للجروح، وقال علماء العرب إنه ينفع في النقرس والحصا. ولقد علق الفرنجة على هذه الأقوال وفندوها، ولا يتسع المجال لذكر شيء من ذلك لا سيما والبحث فيها يخرجنا من موضوع مقالنا
وللمغناطيس عدا خاصية الجذب، خاصية أخرى هي من الأهمية بمكان عظيم، وهذه هي خاصية الاتجاه، وقد عرفها الصينيون وكانوا أول من قال بذلك. قال الكلمة التي يستعملها الصينيون لتدل على بيت الإبرة هي - ومعناه الإبرة التي تتجه نحو الجنوب، ويقول أيضاً: ويظهر أنهم استعملوا هذه الخاصية في الأسفار البحرية، وقد عملوا الآت لذلك ليس فيها شيء من الصنعة أو الإتقان. وقال ديفس إن الطرق التي كان يستعملها البحارة الصينيون في عمل الإبرة تدل على أنهم لم يستعينوا بغيرهم من بحارة الأمم، إذ لو استعانوا واطلعوا على الآت غيرهم لاستطاعوا أن يحسنوا صنعها ولما عملوها بالشكل الذي وجدت فيه عندهم، ويقول أيضاً: إن العرب بطريقة غير معروفة اقتبسوا آلة بيت الإبرة عن البحارة الصينيين وأنه عن طريق المسلمين دخل هذا الاختراع أوربا. وجاء في بعض الكتب أن البحارة الصينيين عرفوا خاصية الاتجاه في المغناطيس قبل الميلاد بمئات من السنين، وأنهم ذكروا ذلك في قاموسهم الذي وضع بعد الميلاد بمائة سنة، وقد استعملوه للإرشاد إلى الجهات الأربع في سفر البحر سنة 300م(82/33)
وأما عن تسمية هذه الآلة فيقول روبرتُسنْ إنه لم يكن في لغات العرب والعجم والترك كلمة تعني وأنهم كانوا يستعملون ذلك كلمة بوصلة، وهي كلمة مأخوذة عن اللغة الإيطالية، ولكن بادجر لا يوافقه على هذا تماماً حيث يقول: (رغم كون البحارة لعرب الموجودين حول البحر الأبيض المتوسط استعملوا كلمة بوصلة لتدل على كلمة إلا أننا نجد أن كلمة (بيت الإبرة) هي الأثر شيوعاً واستعمالاً في الأقطار الموجودة حول البحار الشرقية، والاصطلاح (بيت الإبرة) مستعمل في أكثر الكتب، وهذا ما جعلنا نفضل استعماله على غيره في هذا المقال. قلنا إن اليونان أول من عرف في المغناطيس خاصية الجذب، وأن الصينيين أول من عرف فيه خاصية الاتجاه، ولقد أخذ العرب والمسلمون هاتين الخاصيتين واستعملوهما في أسفارهم البحرية). جاء في كنز التجار: - (ومن خواص المغناطيس أن رؤساء البحر الشامي إذا أظلم عليهم الجو ليلاً ولم يروا من النجوم ما يهتدون به إلى تحديد الجهات الأربع يأخذون إناءً مملوءاً ويحترزون عليه من الريح بأن ينزلوه إلى بطن السفينة. ثم يأخذون إبرة وينفذونها في سمرة أو قشة حتى لتبقى معارضة فيها كالصليب ويلقونها في الماء الذي في الإناء فتطفو على وجهه ثم يأخذون حجراً من المغناطيس كبيراً ملء الكف ويدنونه من وجه الماء ويحركون أيديهم دورة اليمين فعندها تدور الإبرة على صفحة الماء ثم يرفعون أيديهم على غفلة وسرعة فان الإبرة تستقبل بجهتيها جهة الجنوب والشمال. رأيت هذا الفعل منهم عياناً في ركوبنا البحر من طرابلس الشام إلى إسكندرية في سنة أربعين وستمائة. وقيل إن رؤساء مسافري بحر الهند يتعوضون عن الإبرة والسمرة شكل سمكة من حديد رقيق مجوف مستعد عندهم يمكن أنه إذا ألقي في ماء الإناء عام وسامت برأسه وذنبه الجهتين من الجنوب والشمال. .)
وإذا اطلعت على كتاب سارطون القيم في (مقدمته لتاريخ العلوم) تجد أنه يرجح كون اختراع بيت الإبرة هو من نتاج قرائح المسلمين إذ يقول: (إن البحارة المسلمين على الأرجح هم أول من استعمل خاصية الاتجاه في المغناطيس في عمل الإبر في الأسفار البحرية، وكان ذلك في أوار القرن الحادي عشر للميلاد. . .) وبنفي سارطون القول بأن البحارة الصينيين استعملوا خواص المغناطيس وطبقوها في آلات للأسفار البحرية وغيرها. ولدى قراءة تاريخ العرب للعلامة سيديو نجد أنه ينفي كون البحارة الصينيين(82/34)
استعملوا الإبرة المغناطيسية في الأسفار البحرية ويدعم قوله هذا بما يلي: (. . . . وكيف يظن أنهم (أي أهل الصين) استعملوا بيت الإبرة مع أنهم لم يزالوا إلى سنة 1850م يعتقدون أن القطب الجنوبي من الكرة الأرضية سعير تتلظى. . .) وهو القائل أيضاً بأن العرب استعملوا بيت الإبرة في القرن الحادي عشر للميلاد في الأسفار البحرية والبرية وفي ضبط المحاريب
يظهر مما مر أنه ما من أحد بحث في هذه الآلة وتاريخ استعمالها واستطاع أن يصل إلى نتائج حازمة شافية تزيل شكاً اكتنف هذا الموضوع، وغموضاً استولى عليه. وعلى كل حال يمكننا القول بأن العرب عرفوا شيئاً عن المغناطيس، وأنهم عرفوا فيه خاصتي الجذب والاتجاه، وأنهم على الأرجح أول من استعملها في عمل الإبرة في الأسفار البحرية وأن آلة (بيت الإبرة) واستعمالها في الملاحة دخلاً أوروبا عن طريق البحارة المسلمين
وبينما أنا أهيئ هذا المقال قرأت مصادفة في أحد أعداد مجلة الهلال (مجلد 30 ج7) مقالاً عنوانه (العرب والبحار) بقلم الأستاذ المحقق عبد الله مخلص، وقد وجدت فيه شيئاً عن اختراع بيت الإبرة المغناطيسية فلم أشأ أن أمر على ذلك دون تعليق. جاء في مقال (العرب والبحار) بأن أبن ماجد هو الذي اخترع (الإبرة المغناطيسية) أو أنه هو (مخترع الإبرة المغناطيسية) وهذا النص هو الذي حفزني إلى التعليق. ما لا ريب فيه أن نسبة اختراع بيت الإبرة إلى ابن ماجد (أحد نوابغ المسلمين في الملاحة) خطأ وليس فيها شيء من الصحة. فقد ثبت لدى العلماء والباحثين أن استعمال الإبرة المغناطيسية كان معروفاً في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد بينما ابن ماجد وجُد في القرن التاسع للهجرة أو القرن الخامس عشر للميلاد، فالقول بأنه هو مخترع الإبرة المغناطيسية غلط، ولا يرتكز على منطق عدا كونه خلاف الواقع. وقد تكون هذه النسبة آتية عن مهارته في تسيير السفن وعن براعته في فن الملاحة، وعن وقوفه على أصول الإبرة المغناطيسية، وكيفية استعمالها وفهمه المبادئ المنطوي عليها عملها. وعلى ذكر ابن ماجد أقول: قليلون جداً الذين يعرفون أن ابن ماجد من نوابغ المسلمين في الملاحة وأنه كان يلقب بأسد البحر الهائج، وأنه (هو الربان العربي الذي سير الأسطول البرتغالي بقيادة فاسكودي غاما في طوافه حول الأرض من مالندي وهي جزر في المحيط الهندي على ساحل أفريقيا الشمالية(82/35)
إلى كلكتا في الهند. . .) ويقال إن أباه ومن قبله جده كانا من رجال الملاحة المشهود لهم بالمهارة والبراعة وقد وضعا نظريات جديدة ومفيدة في علم البحر، ثم جاء من بعدها ولدهما ابن ماجد فألف كتباً قيمة في علم الملاحة وقد بناها على المشاهدة والتجربة منها: كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، وكتاب علم الملاحة ويشتمل على تاريخ الملاحة وعلاقتها بالنجوم في خليج العجم والبحر والهندي وشواطئ جزيرة العرب وسومطرة وسيلان وزنجبار وغيرها، وكتاب حاوية الاختصار في أصول البحار، وله أيضاً أرجوزة في علم الملاحة، وله قصائد أخرى في وصف شواطئ جزيرة العرب. وكان ابن ماجد يلقب نفس بشاعر القبلتين ويعرف بسليل الأسود. ولقد بقيت القواعد التي وضعها ابن ماجد معتمد البحارة المسلمين في مالندي إلى أواسط القرن التاسع عشر للميلاد. وقال برتن الإنكليزي إن بحارة عدن في سنة 1271هـ (1854م) كانوا قبل السفر يقرءون الفاتحة لروح الشيخ ماجد. ولا ريب إن المقصود بالشيخ ماجد هو ابن ماجد
نابلس
قدري حافظ طوقان(82/36)
10 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
تساءل سيبيس: فيم قولك إن الإنسان لا ينبغي أن يستل حياته، وأنه يجب على الفيلسوف أن يُعدَّ نفسه ليلحق بالموتى؟
فأجاب سقراط: إنكما يا سيبيس وسمياس، تعرفان فيلولاوس فهلا سمعتماه قط يتحدث عن هذا؟
إني يا سقراط لم أفهم قوله أبداً
ليست كلماتي كذلك إلا صدى، ولكني شديد الرغبة في أن اروي ما سمعته، فالحق أني مادمت مرتحلاً إلى غير هذا المكان فيجب ألا يُشْغَلَ الفكرُ ويدور الحديث إلا حول هذا الرجل الذي أوشك أن أقوم به، وماذا عساي أن أفعل خيراً من هذا منذ الآن إلى أن تغرب الشمس؟
إذن فحدثني يا سقراط، لماذا استقر الرأي على ألا يكون الانتحار حقاً مشروعاً؟ لقد سمعت فيلولاوس يقيناً يؤكد ذلك عندما كان يمكث بيننا في طيبة؛ وثم أناس آخرون يقولون مثل هذا القول، ولو أن أحداً منهم لم يستطع قط أن يفهمني ما يقول
فأجاب سقراط. ولكنك يجب أن تحاول الفهم ما استطعت، ولابد أن يأتي اليوم الذي تفهم فيه، أحسبك تعجب لماذا تشذ هذه الحالة وحدها، ومعظم الشرور قد تجيء بالخير عرضاً (لأنه أليس من الجائز أن يكون الموت كذلك أفضل من الحياة في بعض الظروف؟) وإذا كان خيراً للإنسان أن يموت، فما الذي يمنع أن يقدم لنفسه الخير بنفسه؛ ألزامٌ عليه أن ينتظر من غيره يد الإحسان؟
فقال سيبيس ضاحكاً في لغته الدُّورية القومية: أي وحق جوبتر!
فأجاب سقراط - إني أُسلّم بأن في هذا تناقضاً ظاهراً، ولكن قد لا يكون هذا التناقض حقيقياً، هناك مذهب جرت به الألسنة في الخفاء بأن الإنسان سجين، وليس له الحق في أن(82/37)
يفتح باب سجنه ليفر هارباً، إن ذلك إشكال عظيم لست أفهمه فهماً دقيقاً، ولكني أعتقد مع ذلك أن الآلهة هم أولياؤنا وأننا مِلْكٌ لهم، أفلست ترى ذلك؟
قال سيبيس - نعم، إني أوافق على ذلك
فلو أن ثوراً مثلاً مما تملك أنت أو حماراً، شاءت له إرادته أن يحيد بنفسه عن الطريق، على حين أنك لم تُشِرْ له برغبتك في وجوب موته، أفلا تسخط عليه، ثم ألا تعاقبه إن استطعت؟
فأجاب سيبيس - يقينا
وإذن فقد يكون في القول بأن الإنسان يجب أن ينتظر، وألا يُهلك حياته بنفسه، حتى يقضي الله فيه أمراً، كما فعل بي الآن، سندٌ من العقل
قال سيبيس - نعم يا سقراط، إن في ذلك ولا ريب سنداً من العقل، ولكن كيف بعد هذا تستطيع أن توائم بين هذه العقيدة الصحيحة في ظاهرها وهي أن الله مولانا ونحن له عبيد، وبين ما كنا نضيفه إلى الفيلسوف من رغبة في الموت؟ أما أن يرغب من هم أبلغ الناس حكمة، في ترك هذا العمل الذي تحكمهم فيه الآلهة، وهو خير الحاكمين، فلا يسلم به العقل، لأنه يستحيل على صاحب الحكمة أن يظن بنفسه المقدرة، لو أطلقت له حرية العمل على أن يعني بنفسه أكثر مما تُعنى به الآلهة، ربما توهم ذلك المأفون، وقد يحتج بأن خيراً له أن يفر من سيده دون أن يضع في اعتباره بأن واجبه هو أن يثبت حتى النهاية، لا أن يفر من الخير فراراً لا حكمة فيه. أما الرجل الحكيم فلا أخاله إلا راغباً في أن يكون أبداً مع من هو خير منه. أنظر يا سقراط. فهذا يناقض ما قد قيل الساعة تواً، إذ يترتب على هذا الأساس أن يأسف ذو الحكمة لفراق الحياة، وأن يغتبط له الجهول
فصادفت حماسة سيبيس فيما يظهر غبطة من سقراط، فالتفت إلينا وقال: هاكم رجلاً لا يبرح متسائلاً، ولا تكفي لإقناعه الفترة القصيرة، وليست كل حجة ترضيه
فأضاف سمياس - ولكن اعتراضه الآن يبدو لي على شيء من القوة، فأي غناء عسى أن يكون في ذي الحكمة الحق، إذا هو ابتغى أن يلوذ بالفرار، وأن يستخف بترك سيده الذي هو أفضل منه؟ وليت أخال سيبيس إلا مشيراً إليك، فهو يظن أن أنك لا تتردد في تركنا، بل لا تتردد في ترك الآلهة الذين هم كما اعترفت أولى أمرنا الصالحون(82/38)
فأجاب سقراط - نعم ذاك قول يستقيم مع العقل، ولكن أهو في ظنك دعوى ينبغي أن أجيب عنها كما لو كنت أمام القضاء؟
قال سمياس - ذلك ما كنا نبتغي
إذن فلأحاول أن ألقي في نفوسكم أثراً خيراً ما تركت حين كنت أدافع عن نفسي أمام القضاة، فلست أتردد يا سيبيس وسمياس في الاعتراف بوجوب الأسى من الموت، إذا لم أكن راسخ العقيدة بأني ذاهب إلى طائفة أخرى من الآلهة ذوي الخير والحكمة (وإني لأوقن بهذا يقيني بأي شيء آخر من هذا القبيل) وإلى الراحلين من الرجال (وإن كنت لا أقطع بهذا قطعي بالأولى) وهم يَفْضُلون هؤلاء الذين أخلفُهم ورائي، فلست لهذا أبتئس، كما كان يُنتظر أن أفعل، لأني آمل خيراً، بأن ثمت شيئاً لا يزال مدخراً للموت، وهو كما قد قيل منذ القدم أدنى جداً إلى الخير منه إلى الشر
قال سمياس - ولكن هل تريد أن تستصحب أراءك معك يا سقراط فلا تنقلها إلينا! إنا قد نرجو أيضاً أن نساهم في ذلك النفع، وأنت إذا وفقت بعد ذلك لإقناعنا، كل ذلك منك رداً على ما اتُّهمتَ به
فأجاب سقراط - سأبذل وسعي، ولكن دعوني أستمع أولاً لما يريده كريتون. إنه كان قد هم أن يقول لي شيئاً
فأجاب كريتون - أردت أن أقول يا سقراط أن الخادم الذي أمر بإعطائك السم قد أنبأني، لأبلغك، بأنه يحسن بك ألا تكثر الكلام لأنه يزيد من الحرارة، وهذه تؤثر في فعل السم؛ لقد اضطر أحياناً أولئك الذي أثاروا نفوسهم أن يجرعوا السم مرتين أو ثلاثاً
قال سقراط - إذن فليؤد واجبه، وليتأهب لإعطاء السم مرتين أو ثلاثاُ، إذا لزم الأمر، وحسبنا هذا
فأجاب كريتون - لقد كدت أوقن بأنك ستقول ذلك، ولكني لم أجد محيصاً عن إرضائه
قال سقراط - لا تأبه له
وهانذا الآن أجيبكم - أنتم يا قضاتي - فأبين لكم أن من عاش فيلسوفاً حقاً، معه الحجة في أن ينعم بالاً إذا ما اقترب من الموت، وأنه قد يرجو أن يصيب في العالم الآخر بعد الموت أعظم الخير. سأشرح لكما أي سيبيس وسيماس كيف يمكن أن يكون هذا، فيغلب فيما أرى(82/39)
أن يسيء الناس الظن بطالب الفلسفة الصحيح، لأنهم لا يدركون أنه أبداً دائب السعي وراء الموت والموتى. وإن صح أنه ما برح راغباً في الموت طوال حياته، ففيم الجزع إذا ما تهيأت له غايته التي كان لا يفتأ ساعياً إليها راغباً فيها
فضحك سمياس وقال - إني وإن كنت لا أسوق القول متندراً هازلاً، لأقسم بأنه لا يسعني إلا أن اضحك إذا ما فكرت فيما سيقوله هذا العالم اللعين، حين يخبَّر بهذا - سيقولون بأن هذا بالغ الحق - ومَنْ في دُورِنا من أهل، سيؤيدونهم، في قولهم بأن الحياة التي يتمناها الفلاسفة هي لا شيء غير الموت، وإنهم قد تبينوهم فإذا هم حقيقيون بالموت الذي يتمنون
وهم على حق يا سمياس في قولهم هذا، إذا استثنيت منه هذه العبارة: (إنهم تبينوهم) لأنهم لم يتبينوا طبيعة هذا الموت الذي يتمناه الفيلسوف الحق، ولا كيف هو حقيق بالموت أو راغب فيه، فلندعهم وليتحدث بعضنا إلى بعض قليلاً: أنحن معتقدون في وجود ما يسمى بالموت؟
فأجاب سمياس - كن من ذلك على يقين
وهل يكون الموت إلا انفصال الروح عن الجسد؟ والإنسان إنما يبلغ هذا الانفصال إذا ما قامت الروح بذاتها مفصولة عن الجسد، وقام الجسد مفصولاً عن الروح - أليس ذلك هو الموت؟
فأجاب - هو كذلك. وليس شيئاً غير هذا
وما قولك يا صديقي في مسألة أخرى، أحب أن تدلي إلي برأيك فيها، وقد تلقى إجابتك عنها ضوءاً على موضوع بحثنا، هل ترى جديراً بالفيلسوف أن يعني بلذائذ الأكل والشرب - إن صح أن تدعى هذه لذائذ؟
فأجاب سيماس - لا، ولا شك
وماذا تقول في لذة الحب، أينبغي له أن يُعنى بها؟
لا ينبغي بحال من الأحوال
وهل يجوز له أن يطيل الفكر في غير ذلك من ألوان لذة الجسد - كحيازة اللباس الفاخر، والنعال، مثلاً، أو غيرهما من زينات البدن؟ ألا يجدر به بدلاً من أن يعني بهذا أن يزدري كل شيء مما يزيد على حاجة الطبيعة؟ فماذا تقول؟(82/40)
يجب أن أقرر بأن الفيلسوف الحق ينبغي أن يزدريها
ألست ترى أن ينصرف بكليته إلى الروح لا إلى البدن؟
إنه يود أن يتخلص من البدن وأن يعود إلى الروح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
ذلك حق
وترى الفلاسفة يلتمسون في مثل هذا الأمر كل سبيل لفصل الروح عن الجسد أكثر مما يفعل سائر الناس جميعاً
ذلك صحيح
بينا يعتقد سائر الناس يا سمياس ان حياة تخلو من لذائذ البدن ولا تأخذ منها بقسط، ليست حقيقة بالبقاء، بل يرون أن إنساناً لا يفكر في مسرات الجسد، يكاد يكون كالأموات
ذلك جد صحيح
وبعد فماذا عسانا أن نقول عن السبل الحقيقية التي تقتضيها المعرفة؟ إن كان ثمت ما يدعو الجسم للمساهمة في تحصيلها، فهل يكون عائقاً لها أم معيناً عليها؟ أعني هل يأتينا البصر والسمع بحقيقة ما؟ أليس هما دليلين خاطئين كما لا يفتأ ينبئنا الشعراء؟
فان كان خاطئين ومبهمين، فماذا عسى أن يقال عن سائر الحواس؟
ولا أحسبكم معارضين في أنهما أضبط الحواس
فأجاب سمياس - يقيناً
وإذن فمتى تدرك الروح الحقيقة؟ - لأنها إن أشركت معها الجسم فيما تحاول أن تبحثه، فهي مخدوعة لا محالة
- نعم، هذا صحيح
- أفلا يجب إذن أن ينكشف لها الوجود بوساطة الفكر، إن كان له أن ينكشف
- نعم
- وأحسن ما يكون الفكر حينما ينحصر في حدود نفسه، حتى لا يشغله شيء من هذه - فلا أصوات ولا مناظر ولا ألم ولا لذة مطلقاً - وذلك إنما يكون عندما يصبح الفكر أقل اتصالاً بالجسد، فلا يصله منه حس ولا شعور، بل يتصرف بتطلعه إلى الكون
- هذا صحيح(82/41)
(يتبع)
زكي نجيب محمود(82/42)
8 - بين القاهرة وطوس
المشهد وطوس
للدكتور عبد الوهاب عزام
يرى الوافد على مدينة المشهد قبة عالية مغشاة بالذهب ومنارتين مذهبتين رفيعتين. فهذا أول ما يسر البصر من مسجد الإمام علي الرضا. فإذا ذهب إلى المسجد الذي يسمى الحرم الرضوي أو العتبة المقدسة (آستانة مقدس) رأى أبنية جميلة شامخة واسعة رائعة لا يستطيع المشاهد أن يعرف خططها ويدرك أقسامها إلا بعد تأمل طويل وزيارات كثيرة
إذا دخل القادم المدينة من غربيها فسار في الشارع الكبير تلقاء الشرق انتهى إلى أبواب ضخام رائعات وراءها طريق مبلط ينتهي إلى مدخل الحرم الرضوي فيلجه إلى الصحن القديم (صحن كهنه) وهو فناء واسع تجري في وسطه قناة ماء ويحيط به مساكن لطلاب العلم وغيرهم. وإني أشفق على القارئ من تفصيل الكلام في وصف هذا الحرم العظيم الذي توالت عليه الأيدي بالتشييد والتزيين قروناً كثيرة. فحسبي أن أقول إن في وسط الحرم قبة الإمام الرضا وأروقة متصلة بها ويمتد الصحن القديم شمالي هذه الأبنية، والصحن الجديد شرقيها، ومسجد جوهر شاد جنوبيها. ويحار الطرف في جمال القبة الشريفة وزينتها وفيما في المسجد كله من الكاشاني والبلور والذهب الخالص، والقبة تقوم على قبر الإمام الرضا. وهو في جانب منها، ويُظن أن قبر هرون الرشيد في وسط القبة ولكن لا يرى الزائر منه أثراً
أقدم ما في هذه البناية يرجع إلى سنة 512 وهو بناء السلطان سنجر السلجوقي. وقد توالى الملوك والكبراء من بعده على البناء والتنافس فيه، ومن هؤلاء السلطان ألجايتو، من الملوك الأيلخانية، وشاه رخ بن تيمورلنك وزوُجه جوهر شاد، ومشير علي نوائي وزير السلطان حسين بايقرا، ثم الملوك الصفويون ولا سيما طهماسب وعباس الكبير؛ ومن القاجاريين فتح علي شاه وناصر الدين شاه. كل هؤلاء بذلوا جهدهم في أن يؤثروا في المشهد الرضوي أثراً خالداً يكسف آثار من سبقهم فتركوا هذا البناء الجليل الذي يعجز القلم عن تصويره للقارئ
وقد وعدت في المقال السابق أن أصف مسجد جوهر شاد هذه الأميرة التقية الخيرة، فهو(82/43)
مسجد يمتد جنوبي لمشهد الرضوي من الشمال إلى الجنوب (95 84 متراً) وأعظم أواوينه الإيوان الجنوبي، وهو عقد هائل ارتفاعه 25 متراً غشى كله بالكاشاني الجميل، وعلى دائرته آيات من القرآن بأحرف كبيرة جميلة كتبها بخطه الأمير بايسنقر بن شاه رخ بن تيمورلنك، وذلك إلى آثار أخرى دليل على عناية أمراء المسلمين بالفنون الجميلة ولاسيما الخط. وفي هذا الإيوان كرسي من الخشب يقال إن المهدي سيجلس عليه أول ما يظهر للناس؛ وفي وسط المسجد مصلى يسمى مسجد ييرزن (مسجد المرأة العجوز) وفيما يلي المشهد الرضوي بنية اسمها دار الحفاظ. وتصل المسجد بالمشهد الرضوي أبواب صغيرة
زرنا المسجد الرضوي صبيحة الجمعة ثالث رجب سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف فرأينا أفواجاُ من الزائرين والزائرات متزاحمين بين مصل ومسبح وداع وباكٍ ومقبل للأعتاب ومطيف بالضريح المقدس، ولهذا الحشر دوي يملأ القلب خشوعاً ورهبة، وسار بنا الدليل إلى بناء في ناحية من الحرم أسمه حجرة التشريفات، فصعدنا إلى حجرة كبيرة بها جماعة من القوام على الحرم فأحسنوا لقاءنا وقدموا إلينا الشاي، وتحدثوا معنا بالعربية والفارسية معلنين سرورهم واغتباطهم، ومتحدثين بالاخوة الإسلامية التي تجمعنا وإياهم؛ ثم انصرفنا شاكرين أملين أن نعود إلى شرف الزيارة مرات حتى تقضي النفس لبانتها من مشاهدة هذا الجمال والجلال
ويوم الأحد التالي زرت المكتبة الرضوية وهي في الصحن الجديد في الطبقة الثانية، وقد اطلعت فيها على مصاحف يحار الإنسان في مرآها ويعجز عن وصفها، وحدثني قيم المكتبة أن بها آلافاً عدة من المصاحف المخطوطة: رأيت قطعة من مصحف بخط كوفي في آخرها: (كتبه علي بن أبي طالب)، ومصحفاً كاملاً بخط كوفي في أخرها: (كتبه الحسن بن علي بن أبي طالب) ورأيت مصحفاً وقفه إبراهيم قطب شاه سنة 970 فيه 339 ورقة، وفي كل صفحة 12 سطراً محلاة بالذهب والمينا، وطول الصفحة 56 قيراطاً وعرضها 37، وفيه من بدائع الصناعة ما يجل عن الوصف، فما يزال الناظر فيه حائر القلب والطرف؛ ومصحف آخر وقفه السيد محمد جعفر خان سنة 1148 فيه 606 ورقات كل ورقة لها نقش خاص يخالف نقش الورقات الأخرى. وفي هذه المصاحف من عجائب النقش والوراقة والتجليد ما لا يدركه إلا ابرائي. وقد قيل لي إن بعض الأوربيين بذل في(82/44)
جلد مصحف منها مئات الجنيهات فلم يظفر به. ورأبت ورقة واحدة من مصحف في طول قامة الرجل الطوال. وبها سبعة أسطر بخط الأمير بايسُنقر
وقد شهدنا في مدينة المشهد افتتاح مستشفى الشاه رضا وهو مستشفى كبير بأجهزة حديثة، ومعرض صناعات خراسان، ورأينا ألعاباً رياضية كالتي رأيناها في ميدان سلطنت آباد بطهران وقد وصفها آنفاً. وكانت حفلات للغداء والعشاء دعا إليها رئيس الوزراء ومتولي الحرم الرضوي، ألقيت فيها خطب كثيرة. وزرنا مدفن نادر شاه، وهو البطل الكبير الذي رفعته همته من رعي الغنم إلى رعاية الأمم، والذي أخرج الأفغانيين من إيران، ودبر الأمور باسم الصفويين حيناً، ثم استبد بالأمر وتسمى نادر شاه، ثم فتح أفغانستان والبنجاب وغنم كنوزاً لا تحصى من دهلي، واضطر الدولة العثمانية إلى مصالحته على ما أراد لدولته، وتوفي سنة 1160 بعد أن سيطر على إيران عشرين سنة - دخلنا حديقة واسعة في وسطها بناء مرتفع قليلاً يشتمل على حجرات عدة، دخلنا واحدة منه فقيل هنا دفن نادر شاه وسيشاد له قبر هنا
طوس:
على خمسة وعشرين كيلاً إلى الشمال من مشهد، آثار المدينة الكبيرة التي كانت من أعظم مدن خراسان، والتي نشأت جماعة من كبار العلماء والأدباء: مدينة طوس: وطوس اسم إقليم في خراسان كان فيه مدينتان كبيرتان: طابران ونوقان. فأما طابران فقد اتسعت ونبهت حتى سميت طوساً باسم الإقليم كله، وبقي اسم طابران على إحدى محلاتها. وأما نوقان فكان على مقربة منها قرية سناباذ التي دفن فيها الرشيد العباسي والرضا العلوي فنمت حتى صارت مدينة المشهد الحاضرة واتصلت أبنيتها بنوقان ونسخت اسمها
وقد اشتبه أمر طوس ونوقان على بعض الجغرافيين فقالوا إن مدينة طوس مدينتان: طابران ونوقان. قال ياقوت، عن طوس: (وهي مدينة بخراسان بينهما وبين نيسابور عشرة فراسخ تشتمل على بلدتين يقال لإحداهما (طابران)، وللأخرى (نوقان)) والحق أن لإقليم طوس مدينتين كبيرتين هما طابران التي سميت طوس ونوقان التي اندمجت في مشهد كما قدمت. وكان لطوس شأن في التاريخ الإسلامي، وتقلبت بها الغير حتى خربها ميرانشاه ابن تيمورلنك سنة 791هـ(82/45)
وينسب إلى مدينة طوس الإمام الغزالي، ونصير الدين الطوسي وغيرهما من العلماء. وقد مات الغزالي بها ودفن بالطابران إحدى محلاتها، رابع عشر جمادي الآخرة سنة 505 ورثاه الابيوردي فقال:
بكى على حجة الإسلام حين ثوى ... من كل حي عظيم القدر أشرفُه
وما لمن يمتري في الله عبرته ... على أبي حامد لاح يعنفُه
تلك الرزيّة تستهوى قُوى جَلَدِي ... والطرف تسهره والدمع تنزفه
فماله خلّة في الزهد منكرة ... ولا له شبه في الخلق نعرفه
مضى، وأعظم مفقود فجعت به ... من لا نظير له في الخلق يخلفه
وينسب إلى طوس كذلك الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسي صاحب الشاهنامة المتوفى سنة 411. وبها مات ودفن على مقربة من باب رزان أحد أبواب المدينة. في سورها الشمالي الشرقي
وقد زار نظامي العروض قبر الفردوسي سنة 510 وقال: (وكان داخل الباب بستان للفردوسي فدفُن فيه وهو اليوم هناك) وقال هو لتشاه السمرقندي سنة 893 (وقبره في طوس بجانب مزار العباسبة، ومرقده الشريف معروف اليوم، يزوره الناس) ويقول القاضي نور الله في أواخر القرن العاشر الهجري إنه زار قبر الفردوسي
وقد رآه بعض سياحي أوربا، أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وقال خانيكوف سنة 1858 إن البناء الصغير الذي كان يميز قبر القردوسي قد اندثر
وقد اجتهد أدباء إيران حتى عرفوا بالقرائن مكان القبر فشادت الدولة عليه بناء فخماً يرى القارئ صورته تحت هذا:
سرنا إلى طوس عشية يوم الجمعة ثالث شهر رجب (12 أكتوبر سنة 1935 - 20 مهرماه سنة 1313) فبلغناها بعد نصف ساعة فملنا إلى الشرق، واجتزنا نهر كشف في جادة واسعة تفضي إلى حديقة الفردوسي، فرأينا بستاناً كبيراً يتوسطه حوض واسع، وراءه بنية جميلة رائعة. وهي مصطبة واسعة مربعة يتوسطها بناء مربع القاعدة يرتفع زهاء أربعة أمتار، كتب على أربعة أوجهه أبيات من الشاهنامة. وزيد على الوجه الأول كتابة تبين عن عناية جلالة الشاه رضا بهلوي بالفردوسي، وأمره بتشييد البناء في التاريخ المبين(82/46)
به
وللبناء باب صغير على جانبيه نقوش تمثل حوادث في الشاهنامة. ويفضي الباب إلى حجرة وسطها قبر عليه صفيحة مربعة من المرمر نحت فيها كلمات معناها أن أدلة كثيرة تثبت أن هنا قبر الفردوسي وتاريخ مولد الشاعر ووفاته، وفي الجدار المقابل للباب كوّة. والبناء في جملته جميل رائع
جلسنا في سرادق ضرب هنالك، فلما اقترب مقدم جلالة الشاه، سرنا إلى النصب فوقفنا على سجاجيد فرشت بين الحوض والبناء، وقف الوفود وحدهم، وأعيان الإيرانيين وحدهم. ثم أقبل جلالة الشاه، فسلم على الوافدين واحداً واحداً، يعرفه بهم رئيس الوزراء ووزير المعارف. ثم ارتقى جلالة الشاه النصب، ووقف يقرأ كلمة افتتاح تذكار الفردوسي. ثم قطع بمقراض الشريط المحيط بالنصب ودخل فرأى قبر الشاعر، ثم دُعي الوفود فدخلوا. ثم وقف جلالة الشاه في ناحية من الحديقة يتحدث مع وزراءه، ثم ركب سيارته. وبقينا زمناً نمتع العين بما نرى، ونأخذ بأطراف الحديث
ورأيت على يسار الجادة المفضية إلى حديقة الفردوسي بناء له قبة وقد تهدمت أعاليه، فقال من كان معنا من أهل مشهد إنه قصر بناه الرشيد، وقال بعض المستشرقين إنه قبر الغزالي. وإنه بني على نسق مرقد السلطان سنجر في مرو، وعلى نسقه بني مرقد السلطان الجاينو في السلطانية. وإنما العلم عند الله
رجعنا إلى مشهد فبقينا إلى صبيحة الاثنين. ثم أخذنا طريقنا عوداً إلى طهران
عبد الوهاب عزام(82/47)
أحمد المتنبي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
1
أحمدٌ كان مثل بحرٍ رحيب ... موجه فوق لُجِّه كالكثيبِ
شغلَ الناسَ منذ كانَ بشعرٍ ... قاله معجِزاً لكل أديبِ
إنْ يكن أحمدٌ تنبّأَ في القو ... م فما إن عليه من تثريبِ
فلقد كان الشعرُ يُوحى إليه ... سُوَرَاً للاصلاحِ والتهذيبِ
إنما معجزاته في معاني ... هـ وفي لفظه وفي الأسلوبِ
كم له من معنىً تراه قريباً ... وهو في نفسِ الأمرِ غير قريبِ
ومن اللفظ ما يكاد من الرق ... ة يجري إلى صميمِ القلوبِ
2
أحمدٌ كان شاعراً وحكيما ... وبأسرار النفس كان عليما
أحمدٌ لا يفنى وإن كان في قب ... رٍ عَفَتْه الأيام عَظْماً رميما
أحمدٌ كان في الزعامة للشع ... ر وفي العلمِ بالحياةِ عظيما
قد أراد الحُسَّادُ للحُرِّ هضما ... فأبى الحُرُّ أن يكون هضيما
جعل الشعر كالنهار مضيئاً ... بعد ان كان الشعرُ ليلاً بهيما
وكأن الديوان في جمعه ما ... قاله كان للنجوم سديماً
قتلوا الشاعرَ العظيم اغتيالا ... وفشا قتله فكان أليماً
3
أيها الشاعر الحفىّ القدير ... باسمك اليوم يهتف الجمهور
أكبر الفضل ما تقّدره الأجيا ... ل من بعد أهله والدهور
إنما قد أصاب شاكلةَ الأمـ ... ة لما أصابك المقدور
ذُمَّ دنيا غرّارة ليس تخلو ... من رزايا يسوء فيها المصير
أفجعُ الحادثات في الغرب والشر ... ق على النابه الأديب تدور(82/48)
قاءل الشعر قد يبور مصاباً ... بُلِمٍّ وشعره لا يبور
حبذا الشعر آتياً من شعور ... إنما يلمس الشعورَ الشعور
4
يا قتيل الآداب إنك باق ... وستحيا في أنفسِ العشّاق
كل بيتٍ قد قلته فيك ارثى ... آهةٌ لي جاءت من الأعماقِ
حَرَم القاتلوك أمتهم من ... كِلمٍ ملء الدهر والآفاق
ولقد صارعتَ الخطوبَ إلى أن ... أطفأتْ منك كوكباً ذا ائتلاق
شاعر العقل، شاعر المجد والفخ ... ر الأثيلين، شاعر الأخلاق
والذي آمنتْ ببعثته النا ... س على خِلفةٍ من الأذواق
جاءت الخيل وهي تنحط إعيا ... ء وراء المحجَّل السبّاق
5
إنما أنت للقريب الجديد ... مثلما أنت للقديم البعيد
لستُ ممن يَقْلُون كل قديم ... غير أني أحبَ كل جديد
أنت في الدولتين كنتَ رسولا ... ذا كتاب تدعو إلى التوحيد
ولقد صاغوا الشعرَ قبلك من لف ... ظٍ ووزنٍ وصُغته من حديد
واحدٌ أنت من عباقرةٍ ما ... توا على الأرض غيلةً للخلود
أنت من جني القريض عليهم ... قَتِلَ الشعرُ كم له شهيد!
كنتَ حيناً كالليث يزأر للبط ... ش وحيناً كالبلبل الغِرِّيد
6
أنت بالشعر إذ هززتَ الشعوبا ... كنت تُرضي النُهى وتُرضي القلوبا
حِكَمٌ للذي أراد صوابا ... ونسيبٌ لمن أراد النسيبا
تلك نارٌ إذا خَبَت فهي تُبقي ... من جديد للمصطلين لهيبا
يتعب الدهرُ في التخِّيرِ حتى ... يهبُ الناسَ شاعراً أو أديبا
قد دعاك العُلا فسرتَ إليه ... ودعوتَ العُلا فكان مجيبا(82/49)
إنه وحده الحبيب الذي قد ... كنتَ منه وكان منك قريبا
ولئن كنتَ للغبيّ بغيضا ... فلقد كنتَ للذكيّ حبيبا
7
أنت فردٌ يا أحمدُ المتنبي ... في قريضٍ نظمته، إي وربّي!
ما دعوتَ القوافي الغُرّ إلا ... وهي عند الدعاء جاءت تلبّي
كثر الناقدو قريضك بالبا ... طل ستراً لصدقه بالِكْذبِ
رُبَّ بنت للشعر قد وأدوها ... في ربيع الصبا على غيرِ ذنبِ
غير أن الأيام قد ضربتهم ... بعد حرب تأججت أيّ ضربِ
شاعرُ أنت للعروبة جمعا_ء ... برغم الحُسّاد في كل حقبِ
ولقد قالوا ما لأحمدّ قبرٌ ... كذبوا، إن قبر أحمد قلبي
8
لك في الشعر عزّةٌ قعساء ... عَجَزَتْ عن بلوغها الشعراء
إنهم ضلوا في ظلام الليالي ... وهدتك المجرّة البيضاء
إنما قالة القريض كثير ... وقليلٌ من بينها النبغاء
بين من راضوا الشعر أو قرضوه ... ليس إلا لاسم الزعيم البقاء
القريض الشريف ممن أهانو ... هـ بما أسندوا إليه بَراء
ليس من حظ العبقريّ إذا بَرْ ... رَزَ إلا العِداء والبغضاء
ليس بالشعر ما خلا من شعورٍ ... وإن احلولى لفظه والبناء
9
فاق شعرٌ به نطقتَ مبينا ... غُررَ الأولين والآخرينا
كان يحكي اليراعُ منك حساماَ ... كلما احتل من يديك اليمينا
كنت تسطو فيه فَيُبدي زئيراً ... ثم تشكو به فيُبدي أنينا
ضحكوا غِرَّةً فأسبلَت دمعا ... كنتَ تبكي به على الضاحكينا
ضمّ ديوانك الذي هو فِرَدو ... سٌ من الشعر البِكر حوراً عينا(82/50)
إنني كلما له جئت أتلو ... أقرأ الحُسْنَ والهدى واليقينا
ولقد أبصرُ الكماةَ أمامي ... وأرى قسطلاً فأُغضي العيونا
10
كان ليلٌ يدجو كان صباحُ ... تتغذّى بضوئه الأرواح
أنت في بحر كنتَ تسبح والبا ... قون في حوض ماؤه ضحضاح
بك ليلُ القريض بعد ظلام ... لاح للعين صبحه الوضّاح
ثم زاد المقصرون صناعا ... تٍ إليها الأديب لا يرتاح
ثم كان الغواة فيه فريقي ... ن لكلٍّ عتادُه والسلاح
ففريقٌ مٌقلدٌ لسواه ... وفريقٌ أباح ما لا يُباح
ثم شّبتْ بين الفريقين حربُ ... كثرت في الغِمار منها الجِراح
11
واحدٌ أنت من ملوك المعاني ... ما له في سلطانه من ثان
شاعر العقل والعواطف في النف ... س وما في قرارها من أماني
لا يدانيك ناقدُ قد تحدّى ... إنه هادمٌ وأنت الباني
ما لهم في البلاغة اليوم أرضٌ ... ولك المشرقان والمغربان
أنت ما كنت ترسل الشعرَ إلا ... بعد نضج في العقل أو في الجنان
بعد ألفٍ من السنين تقضّى ... أكبرتْكَ الأقوامُ في مهرجان
تعتري السامعي قريضك منهم ... هزةٌ في الأرواح والأبدان
12
إنما جاءت الوفودُ ترامى ... لتحييك ركُعاً وقياما
إنهم يُكبِرونَ منك زعيما ... اقعد الناسَ شعرُه وأقاما
أنهم لبّوا دعوةَ الشَعبِ لما ... قدموا أفواجاً فكانوا كراما
لك يا أحمدٌ الإمامة في المو ... ت كما كنتَ في الحياة إماما
حبذا أبياتٌ بها كنت تشدو ... فَجَرَت أمثالاً تزين الكلاما(82/51)
سكت البلبلُ الذي كان يشدو ... كلَ صبحٍ فيوقظ النواما
محسنُ للتجديد أحمدُ في البد ... ء فَمَنْ ذا سيحسن الأتماما؟
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي(82/52)
فانك مصري
للأستاذ فخري أبو السعود
لمناسبة ما أبداه بعض الإفرنج من إمارات الاستهجان أثناء عرض مناظر المؤتمر الوطني بدور السينما
أَقِمْ صَاغِراً وَأرْغَمْ حياتَكَ وَأشْقَهَا ... فإِنَّكَ مِصْرِيٌّ وإنكَ مُسْلِمُ!
وإنك شرِقيٌ وَنَسْلُ أَعَارِبٍ ... يَدِرينُكَ غَرْبِيٌّ وَيَعْلوُكَ أَعْجَمُ
وإنك بين البِيضِ أسمرُ كالِحٌ ... وحَظكَ في الدنيا كجِلْدِك أَسْحَمُ
وإنك ذيلُ العصرِ والغَيْرُ رأسُهُ ... تَقَاعَسْتَ عنه محجما حيثُ يُقْدِمُ
ولسْتَ بِفَعَّالٍ ولست بصانعٍ ... وغيرُك مشهودُ الصناعة مُحْكَم
يجيءُ بآيات الحضارة مُبْدعاً ... وتَعْجَبُ مما بات يأْتِي وَتَسْهَمُ
وأنتَ إذا قال المُفَاخِرُ عاجزٌ ... وأنْ نَطَقَتْ بِيضُ الصَّوَاِرِم مُفْحَم
ورأْيُكَ منْبُوذٌ وقولُك ضائعٌ ... وسيَّانِ منه صارخٌ وَمُكَتَّمُ
وأرضُكَ مَلهى للدخيل وملعبٌ ... وجِدُّكَ مَلهاةٌ لمن يَتَهَكَّمُ
وحقُّك مبذولٌ وسعيك طائِشٌ ... وإِرْثُكَ بين الطامعين مُقَسَّمُ
وأنِتَ أَجيرٌ في بلادك خادم ... وغيرُك يُسْتَجْدي رضاه ويُخْدَم
تَوَلَّى بِأصْفَى دَرِّها ونتاجها ... ويُرضيك ما يَبْقَي ويكفيك درهم
ولاَ تَعْتَبِنْ يوماً عليه إذا انبرى ... يسبُّك مُفتاتاً علي ويشتم
فمِثْلُكَ مَنْ دَرَاى إذا احْتَدَّ غاضبٌ ... ومثلُكَ مَنْ يُغضي ويعفو ويَحْلُمُ
وغيرُك مَنْ إِنْ مَسَّهُ الحيفُ عافَهُ ... وثاَرَ على مُستكبرٍ يَتَهضَّمُ
ولا تَمْدُدَنْ كَفَّا إليه مصافحاً ... فَتُرْفَضَ وَاصْمُتْ إِنَّ صَمْتَكَ مَغْنَمُ
بذا قضت الأَقدار: شَعبٌ مكاثِرٌ ... عزيزٌ، وشعبٌ يُسْتَذَلُّ ويُظْلَمُ
ولا تَذْكُرَنْ مجداً لمصرَ وأعْصُراً ... تَسَامى بها المُلكُ الرفيعُ المعظَّم
ولا تَذْكُرَنْ عهداً به السُّمْرُ وَطَّدُوا ... بناءً لهم في العالمين ودعَّموا
وعهداً إذا رَجَّى به الناسُ مُنْتَمىً ... إلى العِزِّ قال العزُّ للعَرَبِ انْتَمُوا!
وعهداً به أمْسَى الزمانُ مسِّبحاً ... بحمد الالى لله صَلَّوْا وسَلَّموا(82/53)
ولا تَرْثِيَنْ تلك العهودَ ولا تَنُحْ ... عليها فما يَثْنِي المشَيَّع مأْتَمُ
وتلك عهودٌ قد تَوَلّتْ وقد تَلَتْ ... شُعُوبٌ ومَنْ لم يْحكُموا الناسَ ُيحكَموا
فَعِشْ رَاغماً أو فاسْمُ للعز ضارِباً ... بِعَزْمٍ إذا ما أَحْجَم الجنُّ يَقْحَمُ
وحزمٍ يُصمُّ السَّمْعَ عن هَجْوِ كاشحٍ ... وجِدٍّ يُجِبُّ الصَّمْتَ لا يَتكلمُ
فخري أبو السعود(82/54)
من الأدب الفرنسي المعاصر
أندريه جيد
بقلم علي كامل
كثيراً ما تقع أعيينا على صورة نقشها يراع رّسام بارع ليعبر بها عن فكرة من الأفكار فإذا هذه الصورة توافق هوى في نفوسنا لأول نظرة بحث نرى فيها خير ما يمكن التعبير به عن هذه الفكرة. كذلك قد نقرأ جملة قصيرة خطها قصصي أو ناقد يصف بها شخصاً من الأشخاص فإذا هذا الوصف بالنسبة لنا كأنه كان ضالة منشودة وصلنا أليها بعد طول عناء. . . كأن كلا منا كانت تتردد أمام عينه هذه الشخصية يريد وصفها وتحديدها ولكن عبثاُ، حتى جاءت الجملة التي قرأها فنزلت على قلبه وأعصابه المتلهفة القلقة برداً وسلاماً!
كان يجب أن يمر بنفسي هذا الخاطر وأنا أقرأ الدراسة القيمة التي كتبها في الشهر الماضي الناقد الفرنسي بنجامان كْرمُيو عن أندريه جيد. ذلك الكاتب الفذ الذي جاوز الخامسة والستين وهو مع ذلك لا يزال شاب القلب والنفس يتزعم مدرسة (التحرر الأخلاقي) في الأدب الفرنسي الحديث، ويعالج مشاكل الشباب النفسية وخصوصاً الجنسية والنزعات الطائشة المتغلبة التي تلازم الكثير منهم بصراحة جريئة وحرية لا حد لها حتى نفر الشيوخ من ذلك الكاتب الشيخ. واحتفظ الشباب بالولاء له وتمجيده والتهام أدبه
لم أكد أقرأ قول بنجامان كرميو: (لأن أول نظرة إلى أندريه جيد تبين لنا أنه مخلوق مضطرب قلق، معقد، يتركب من عدة شخصيات. ولكنه يمت إلى نوع نادر من البشر) ثم قوله. (وعندئذ لا نلبث أن نعرف أن فنه صورة منه). ولم أكد أقرأ ذلك حتى مرت أمام عيني كشريط سينمائي كل الصور التي رأيتها لأندريه جيد. وتذكرت عدداً من مجلة كان قد نشر - لمناسبة لا أذكرها الآن - بضع صور له في فترات حياته المختلفة: في الشباب والرجولة والكهولة. وتذكرت معه هاتين العينين الحائرتين، والوقفة المضطربة، والشارب المحلوق النادر بين الفرنسيين. الذي ينزل به من سن الستين إلى الثلاثين. فعرفت عندئذ مقدار ما في بنجامان كرميو من الصدق ودقة الملاحظة
نعم إن فن أندريه جيد وفلسفته هما قبل كل شيء صدى لمشكلة نفسه ومأساة حياته. فقد نشأ جيد في أسرة دينية متقشفة من أب بروتستنتي وأم كاثوليكية. وكان أثر بروتستانتية والده(82/55)
أعمق من أثر كاثوليكية والدته. وربى جيد تربية دينية خالصة، فكانت هذه التربية وتناقضها مع طبيعة جيد أولا ومع الظروف التي صادفت شبابه ثانياً سبباً قاسياً في أن تجعل من حياته مأساة إنسانية كبرى، وأن تجعل شخصيته فريسة لحرب شعراء بين جيد المتدين بولادته وأسرته وتربيته، وجيد المتحرر تحرراً كلياً من سيطرة الدين بعقله وإرادته
عندما بلغ جيد سن الشباب استيقظت نفسه على أشعار الجيل الأول من المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي تحت زعامة فرلين ورامبو وملارمي. وكان عهد ازدهار هذا الجيل قد آذن بالمغيب وخلفه الجيل الثاني الذي من أعضائه فرنسيس جيمز وبول كالوريل، وبول فور. فانضم إليهم أندريه جيد إذ وجد في الشعر الرمزي الحالم السابح في أجواء الخيال، المتحرر حتى من القيود الشعرية نفسها، سبيلاً إلى الانطلاق من عالمه الديني الضيق المخنوق. ولم يكن تأثر جيد بالشعراء الرمزيين قاصراً على فنهم فحسب، بل وجد في حياة الكثير منهم مثل فرلين ورامبو مثلاً أعلى لحياة الفنان الحر الطليق الذي يريد أن يصل إلى فهم الحياة الحق مهما كلفه ذلك من الثورة على كل تقليد، والخروج على كل عرف أخلاقي؛ على أن رمزيه أندريه جيد لم تبلغ في تحكم العاطفة بها ما بلغته رمزية الجيل الأول. فهو أقل حدة في العاطفة وجموحاً في الخيال. وهو أمر سخرية وأعمق تفكيراً واشد رغبة في إدراك حقيقة نفسه، وأعظم انطلاقا وتعلقاً بالحياة المرحة. وفي أول كتبه ' (دفاتر أندريه ولتر) (1891) تراه يعبر عن ذلك بقوله (يجب النظر إلى الحياة بعين شاملة وطبيعة طلقة مع الاحتفاظ بالنفس المتيقظة)
وفي ذلك الوقت أيضاً - وقت شباب جيد - غزت فرنسا أفكارُ الفيلسوف الألماني (نيتشه)، والكاتب الأيرلندي (أوسكار وايلد) فتأثر بهما اندريه جيد تأثراً عظيماً. أخذ عن الأول فكرته عن (السبرمان)، وعن الثاني فكرته عن سيادة الفن وحق الفنان في أن يحيا على هامش العادات الأخلاقية المرعية، والاثنان - جيد ووايلد - يتفقان في إيمانهما بفكرة الجمال عند الأثينيين القدماء
ذلك تأثر جيد بفكرة الكاتب الفرنسي موريس باريس عن (عبادة النفس) وأخذ عنه سخريته العالية
وأخيراً يجيء دور الكاتب الروسي دستوفسكي فكما أن نيتشه وأوسكار وايلد كانا أعظم من(82/56)
أثر في جيد الشباب، كان دستوفسكي أعظم من أثر في جيد الرجل
من ذلك نرى أن جيد قد تأثر بكل الآراء المتطرفة المعاصرة له، أليس هو القائل: (إن كل ما هو متطرف يؤثر في؟) لقد تأثر بالشعراء الرمزيين الفرنسيين، وبأوسكار وايلد الايرلندي، ونيتشه الألماني، ودستوفسكي الروسي. لذا كان أدبه كلاسيكي النزعة على أن جيد على رغم كلاسيكيته بعيد كل البعد عن العبودية لمن تأثر بهم. فشخصيته القوية المستقلة تنبض بها أعماله كلها بشكل قوي مؤثر، وإن طبيعته الثائرة القلقة وجهده الصارخ في التحرير تجعلانه يجري وراء الثقافة الواسعة التي لا تعرف التمييز بين كاتب وآخر (فأنا - كما يقول - أنتظر دائماً شيئاً أجهله: أنتظر ضروباً جديدة من الفن وأفكاراً جديدة) ولقد بلغت به رغبته الحادة في المعرفة الشاملة إلى دراسة اللغات الأجنبية كي يقرأ أعمال من يعجب بهم بلغاتهم الأصلية
كانت أعمال جيد الأولى (دفاتر أندريه ولتر) (1891) و (1892) و ' (1893) عبارة عن اعترافات تتضمن نزعات جيد الفكرية التي أراد بها التحرر مرة واحدة من حياته الطاهرة المتقشفة. ففي أول أعماله يقول (الحياة الطلقة، تلك هي أسمى حياة، سوف لا أستبدل بها غيرها مطلقاً. لقد ذقت من هذه الحياة الطلقة ضروباً كثيرة. على أن الحياة الحقيقة كانت أقصرها)
وفي هذه الأعمال الثلاثة الأولى يلمح القارئ بين سطورها ميولاً جامحة خفية يحاول جيد أن يحجم عن التصريح بها
على أن هذه الحرية التي يبيحها جيد لنفسه دون قيد لا تلبث أن يطغى عليها أحياناً إحساسه الديني فيقول في نفس الكتاب: (إنني أتمنى وأنا الآن في الحادية والعشرين من عمري، وهي السن التي تنطلق فيها من عقالها الشهوات، أن اقمعها بالعمل المضني اللذيذ. إنني أود في الوقت الذي يجري فيه الآخرون وراء ملذاتهم أن أذوق اللذات الخشنة التي تلازم حياة الصومعة)
وفي (1897) نرى جيد يبلغ انطلاقه الكلي من حيث الدعوة إلى أن المعرفة لا تأتي عن طريق الفكر بل عن طريق الحس. من ذلك قوله: (إنك لا تستطيع أن تقدر المجهود الذي كان لزاماً علينا بذله لكي نحس إحساساً صادقاً بالحياة، والآن وقد تحقق ذلك فهو(82/57)
كالحال مع كل شيء آخر عن طريق الحس والشهوة) وكقوله أيضاً (لقد تسكعت هنا وهناك كي أستطيع أن ألمس كل من يتسكع - إن قلبي يفيض بالحنان والحنين إلى كل من لا يعرف أين مكان دفته. وأحب حباً مفرطاً كل من يهيم بالتجوال والتصعلك)
ثم انظر كيف لا يستطيع الفرار في هذا الكتاب أيضاً من إحساسه الديني حين يقول:
كنت أقرأ (عقيدة العلم) لفيخت فشعرت بأنني سأعود متديناً من جديد
وفي قصة ' (1902) نرى عبقرية جيد، وتأثره العميق بالفيلسوف نيتشه، قد تعاونا على إظهار فكرة (التحرر الأخلاقي) حيث نرى بطل القصة (ميشيل) - وهو رجل مريض - يتقدم نحو الشفاء كلما حرر نفسه من الأوضاع الأخلاقية
وفي (1909) و (1911) و (1919) نرى جيد - وخصوصاً في القصة الأولى - يعالج شخصيات تخالف تماماً في تفكيرها ونزعتها ما نراه من الأفكار والنزعات في الأعمال الأولى، لأن الأولى استسلام مطلق لنداء الحياة، والثانية استسلام مطلق لنداء العاطفة الدينية.
فبينما نرى (ميشيل) في قصة ' ذلك الثائر على نظام الأسرة، الهاجر لماله وزوجته، المتمرد على الراحة والأستقرار، الراغب في الرحيل إلى أبعد مكان، الواجد في الحرية الجسدية والانطلاق الحسي شفاءه العاجل. نرى أيضاً (أليسا) في قصة تلك الفتاة الوادعة المتقشفة التي تغمرها العاطفة الدينية حتى تدفعها إلى رفض الزواج من أبن عمها (جيروم) الذي تحبه لكي تقصر نفسها على الاستسلام لاحساساتها الدينية، وتقترب من الله الذي تسميه (الأحسن)
ولاشك أن القصي العبقري هو الذي يرسم لنا بين حين وآخر صوراً إنسانية متباينة تختلف كل الاختلاف عن شخصية راسمها الذي تسمو عبقريته كلما استطاع التجرد من كل مؤثر ذاتي. وهذا هو ما نراه في قصتي , للقصصي العظيم بلزاك، والقصتان تقتربان من حيث تناقض نفسية الشخصيات من قصتي جيد وعلى أن الفرق بين بلزاك وجيد - من هذه الناحية - أن بلزاك في قصتيه يرسم لنا شخصيات خارجة عن نفسه. أما جيد فكل شخصية من شخصيات قصصه عبارة عن فكرة متحركة من أفكاره. ففي قصتيه السابقتين تراه يختفي وراء شخصيتي (ميشيل) و (أليسا)، فشخصة (أليسا) هي صدى حياة جيد(82/58)
الطفل الذي نشا بين أعطاف الدين فطبع حياته كلها بطابع لم يجد جيد وهو رجل سبيلاً إلى التخلص منه؛ وشخصية (ميشيل) هي شخصية جيد الشاب المفكر الذي نظر حوله فوجد أن حياة الزهد الماضية قد حرمته كل متع الحياة فلم يجد وسيلة إلى التحرر من تراث ماضيه وتعويض ما فقده من العمر في أحضان الزهد والحرمان إلا بإنكار كل قاعدة أخلاقية واستغلال كل دقيقة للتمتع بكل لذة مستطاعة
وقد يلام أندريه جيد ويتهم فنه القصصي بالنقص لأنه اختفى وراء كل شخصياته ولم يرسم لنا صوراً إنسانية خارجة عن نفسه شأن القصصيين العباقرة. والواقع أن جيد ليس له من النبوغ القصصي نصيب عظيم، وإنما عبقريته الحق هي في تلك الدعوة الحارة إلى (سيادة الحياة) وفي ذلك البحث المتواصل قي سبيل فهم نفسه والنفس الإنسانية. وقي ذلك الاحتمال الباسل لهذا الكفاح العنيف داخل نفسه بين تربيته وبين تفكيره بين العاطفة الدينية وبين الإباحية الأخلاقية. ثم أخيراً في محاولته الجريئة للتوفيق بينهما كما سنرى. ذلك كله هو الذي يعطي فن أندريه جيد لوناً تجديدياً وضاء، ويعطي كتبه ذيوعاً قل أن نصادفه في كتب أعاظم الكتاب المعاصرين. أليس هذا الفن - كما يقول الناقد أندريه بير - هو خير تعبير عن اضطراب العصر الذي نعيش فيه؟ إن في كل صفحة من صفحاته تجد النفوس القلقة الجامحة مجالاً لا مثيل له لراحتها لنفسية، فهو يكتب ما يقول (حتى يجد كل مراهق يصبح فيما بعد مماثلاً لي وأنا في السادسة عشرة من عمري - ولكنه يكون اكثر مني حرية وشجاعة وأعظم كمالا - جواباً لسؤاله المرتجف) فما هو هذا الجواب؟ ذلك ما سوف نراه
(البقية في العدد القادم)
علي كامل(82/59)
القصص
ضحية الوهم
بقلم القصصي الإيطالي المعروف ماسيمو بونتمبلي
عهد إلي (رينيه كلامار) أن أقتل الوقت مع (ميني)، لأنه يريد أن يقضي أمراً يقصيه عنها نحو نصف الساعة. فأخذنا نسير في طريق اللوفر. وعلى حين غرة تركتني ميني مسرعة إلى الناحية الأخرى من الشارع لترى صندوقاً زجاجياً مستطيل الشكل وضع أمام حانوت لبيع أدوات صيد السمك.
وكانت الأسماك الذهبية تسبح في الماء الصافي الذي امتلأ به الإناء. وكأنها من شدة فرحها لا تعرف بحراً خضماً أعظم من هذا الصندوق الزجاجي
وقالت ميني بعد أن صفقت بيديها:
(يا إلهي، ما أجملها!)
ودنوت أنا منها. ووافقتها على ذلك، وفي صوتي نبرات الجد، قائلاً:
(نعم، إنها جديرة بأن تحوز إعجاب الناس.)
فنظرت إلي ميني نظرة ناقد وقالت:
(ما هذا التعبير: جديرة بأن تحوز إعجاب الناس؟ أنه لا يقال إلا لما يصنعه الإنسان بيده سواء أكان هذا صوراً أم شعراً كالذي يتكلم عنه أصدقاؤك. وكذلك يمكن أن يقال هذا عن الثياب. . . .)
ولكني قاطعتها بقوة من يريد الفصل في الموضوع: (لابد لي أن ألفت نظرت إلى أن رينيه كلامار وأنا وغيرنا - وهنا أخذت تنظر إلي كمن يتفرس في معرفة الأشياء - ذكروا أكثر من مرة أنك جديرة بأن تحوزي إعجاب الناس، ومع ذلك فأنت لست من صنع إنسان)
(وابتسمت ميني شاكرة، ولكنها أجابت في منطق معكوس: (ولكني على أي حال لست سمكة)
فتشبثت برأيي وقلت:
(على أني قلت إن هذه السمكات جديرة بأن تحوز إعجاب الناس، لأنها سمكات غير حقيقية، هي سمكات تقليدية.)(82/60)
فحدقت ميني فيّ أولاً، ثم في السمك ثانياً، ثم عادت تحدق في، ثم صفقت بيديها وقالت:
(أصحيح هذا؟)
وكانت ميني من أولئك الذين يعيشون وينمون ولا يتعدون دور الطفولة. ومثل هؤلاء يسهل إغراؤهم وقيادتهم، وليس عندهم من الأشياء ما لا يمكن تصديقه والإيمان به إذا ما قيل لهم ذلك. قالت ميني:
- ولكن كف تتحرك هذه الأسماك؟
فقلت لها: (إن الكهرباء مسلط عليها.)
فالتفتت بسرعة إلى الأسماك وانحنت على الصندوق تدقق النظر إليه. وكانت يداها المرتجفتان مثبتتين على موضع قلبها. وقالت
ولكن كيف تيسر لها كل ذلك؟ إنها تفتح فاها. والصغيرة هذه تتحاشى الكبيرة في سيرها نحو سطح الماء. وهناك في الركن الآخر اثنان يتقارضان القبل، كأنهما شقيقان. . . . أي. أي. . . وفي القاع السمكة الكبيرة وقد اهتزت المياه من فوقها كفرس البحر الذي رأيناه في حديقة الحيوان، وكان رينيه معنا)
- (نعم إنه لشيء عجاب. . . ولكن أناشدك الله ألا تمسي هذه المياه فان الكهرباء سارية فيها.)
فاسترجعت ميني إصبعها من فوق سطح الماء وقالت: (وهذه السمكة وجارتها ألم ينظرا إلي الآن بنظرات حادة؟)
وأبصرت صديقي وقلت:
(ها هو ذا رينيه.)
فقالت هي:
(أي رينيه، يجب أن تنظر إلى هذه الأسماك!)
وقلت مخاطباً رينيه:
إن ميني تعتقد أن هذه الأسماك حقيقية.)
وكان رينيه يعرف طبعي جيداً، ومعرفته بميني تكاد تكون نوعاً من اختصاصه. فاندفه يشاطرني هذري(82/61)
ولم تجد ميني طيلة ذلك اليوم شيئاً آخر تفكر فيه. ثم قالت فجأة:
- (وكيف تكون هذه؟ أصلبه هي أم لينة؟)
- (ماذا تعنين؟)
- (الأسماك الصناعية)
- (هي لينة كالحقيقية)
- (وماذا تصير لو أنها أُخرجت من الماء؟)
- تصير كالأسماك الحقيقية بالضبط، إذ تبغي استنشاق الهواء وترتجف بضع مرات ثم تجمد ولا تتحرك كأنها ميتة.)
- (ثم بعد ذلك؟)
- (ثم بعد ذلك. . . تنتن وتفسد)
- (وإذا ما دفعها إنسان إلى هر؟)
- (يلتهمها كأنها سمكة حقيقية)
وفي المساء التالي جلست وإياي في البهو تنتظر رينيه، فقد ذهب لشراء بعض لفافات من التبغ
- (ميني، ما دامت هذه الأشياء تشغل بلك فسأفصح لك عن سر عظيم. بعد أن اخترعت الأسماك الصغيرة، حاول العلماء خلق أحياء أخرى فاخترعوا العصافير مثلاً. عصافير صغيرة تحفظ الغناء)
- حقاً، إنني شاهدتها وهي من صنع (نورمبرج) من أعمال ألمانيا، ويجب أن تملأ الزنبرك إذا ما أردنا سماع غنائها. وبرغم أنها تحرك المنقار والرأس فأنها لا تطير، وهي صلبة كالمعادن.)
- كل ذلك صحيح يا ميني. ولكن العصافير الأولى كانت كالعصافير الحقيقية تماماً. كانت كالأسماك التي شاهدناه في طريق اللوفر. والآن أفضي إليك السر العظيم، ولقد أردت أن أدلي به إليك من قبل ولكن الفرصة لم تسنح لي. قلت لك خلق العلماء أحياء أخرى ثم. . . ولكن يجب أن تقسمي ألا تذكري ذلك لأحد)
- (حسن، أقسم على ذلك)(82/62)
- (ثم. . . ثم خلقوا آدميين)
- (يا إله السماء. . . .!)
- (خلقوا اثني عشر شخصاً: ست رجال وست نساء)
- (يا إلهي. . . وكيف كان هؤلاء؟)
- (هم كتلك الأسماك. هم مثلي ومثلك)
- (ولكن أين هم الآن؟)
- (هذا ما لا يعرفه أحد. وبهذا حفظ السر. فبعد أن خلقوا خرجوا من المعامل. وأخذ الناس يبحثون عنهم دون جدوى. ولا يعرف غير الله موضعهم)
- (ولكنهم تدثروا بالملابس؟)
- (طبعاً!)
- (ومتى كان ذلك؟)
- (منذ أكثر من سنة)
- (وأين ساروا؟)
- (هنا، هنا في باريس. وكانوا كاملين في كل شيء، ولا يمكن تمييزهم من الآدميين الحقيقيين. تصوري يا ميني أننا قد نكون تقابلنا مع أحدهم دون أن نعلم)
- (لا، لا. إنني أشعر بالشيب يدب في رأسي، لقد اعتزمت إلا أخرج من المنزل، ويجب على الناس أن يبحثوا عنهم. ولماذا لا يعثرون عليهم؟ وواجب هؤلاء أن يقولوا بأنهم ليسوا آدميين حقيقيين
- (ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن ذلك كله. إنهم يعتقدون أنهم من لحم ودم كبقية خلق الله)
واختل تفكير ميني، ولم أفلح أنا ورينيه في تشتيت تلك الأفكار الخبيثة عنها. وقد أقسمنا لها بكل عظيم (أننا لم نبغ إلا الهذر من كل تلك الأمور)
- (هذا تذكرانه لي الآن حتى أهدأ بعض الهدوء، ولكني أعرف وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن كل ما ذكر لي قد وقع، ومن يدري؟ ربما كان ذلك الرجل القادم. . . . . لا، لا. . . لنرجع ثانية إلى المنزل
وكانت كلما مرت برجل في طريقنا ظنته صناعياً. وفجأة تأوهت، وأحجمت عن السير.(82/63)
ورأت في بيتها ملجأها الوحيد، ولتبق هي في غرفة منه نابية، أو في ركن منه مظلم. ولم تتزحزح هذه الأفكار عن مخيلتها، وقد تراكمت فكانت أثقل من جبل، وفي الليل كانت تنزعج وتصرخ في منامها. فكنت أنا ورينيه نوقظها. وكنا نقسم لها أغلظ الأيمان من جديد. غير أنها كانت تعتبر كلامنا غير أهل للإجابة عليه، وبدأ الشك والسوداء يستوليان عليها. وأخيراً قال لها رينيه:
- (ماذا يحزنك يا ميني؟)
- ماذا يحزنني. . .؟ لا يعرف أحد إذا كان الذي ينظر إلي أو الذي يكلمني هذا من لحم ودم. لا، لا، أولى لي أن أموت! ثم أدارت رأسها في حركة ميكانيكية وقال:
- (وأنتما لا تعرفان. . .)
ولم يكن في مقدرة أحد أن يغريها بترك باريس. ولماذا؟ قد يكونون متفرقين في بقية العالم
وكانت لا تود رؤية أحد حتى خادمتها الصغيرة لم تطق رؤيتها في المنزل. ثم لزمت الفراش لا تفارقه
وكنا أنا ورينيه نتناوب السهر عليها، ونقدم لها الطعام فلا تأكل منه إلا يسيراً. وكانت حياة ملؤها وخز الضمير. وعند ما كانت تغفو كنا نستدعي الأطباء سراً، ليشيروا بعلاج يرجع لها رشدها. ولكن تلك الفكرة التي لازمتها كانت توغل في الصميم، فتركزت أفكارها حول نقطة واحدة. . .
(ربما كان أحدهم من رأيته أو حادثته. . .)
وكانت حياة كلها نكد، يزيد في ظلماتها الذنب المشترك. وكنت أنا ورينيه نمضي الساعات دون أن ننبس بكلمة أو ينظر أحدنا إلى صاحبهُ
وفي ذات يوم تولانا الرعب من فكرة طارئة. ماذا يكون الحال يا ترى لو خيل إلى ميني أن أحدنا أو كلينا من أولئك الرجال المصنوعين، الذين يفزع منهم الشياطين لمجرد ذكرهم أو تخيلهم. ألم نكن نحن أول من قال لها عن هذا الاختراع السخيف؟.
ولكن هذه الفكرة لم تستول عليها، بل اكتسحت مخيلتها فكرة أشد خطراً وأبعد غوراً
كانت ليلة من ليالي الربيع. وقد غرقت ميني في النوم الهادئ ففرحنا. وفتحنا النافذة، وأطللت أنا ورينيه على الطريق نتسلى برؤية النجوم مرة وبإمعان النظر في الظلام المخيم(82/64)
على جوانب الشارع مرة، وتارة كانت تستلفت أنظارنا الأنوار الحمراء التي تضيء أسماء الحوانيت، وتارة أخرى تسترعي أبصارنا الإعلانات الوضاءة. . .
وعلى حين سمعنا صوتاً جهورياً مرتجفاً. ولما نظرنا خلفنا وجدنا ميني واقفة فوق سريرها باسطة ذراعيها، وتكاد تنخلع من الرعدة. فأسرعنا إليها ولكنها فزعت منا. وقذفت بنفسها من السرير فارتطمت بالمرآة. وحدقت أولاً في قميص نومها ثم في قبضة يدها. ثم دفعت وجهها ليلتصق بالمرآة. ونظرت إلى صورتها وحدقت فيها كأنما تريد اكتشاف كنه ما بها
- (أي نعم، إن الأمر لهو كذلك. إنني أراه جلياً واضحاً. نعم، إنني أنا هو. إنني لست من لحم ودم. كلا، كلا. إنني أنا ذلك الإنسان الصناعي وما كنت أدري ذلك من قبل)
فصاح كل منا:
- (ميني!)
- (لا إنني أفهم الآن كل شيء. إنني متأكدة إنكما لن تعرفا ذلك. . . ولكن ماذا، أنا فاعلة الآن؟ وماذا في وسعي أن أعمله؟ سامحني يا رينيه! الذنب ليس ذنبي)
حاولنا أن نمسك بذراعيها، وهي تحدق في الفضاء. . ولكنها رفعت يدها وأشارت نحو الباب وقالت:
- (ماذا هنالك؟)
- لاشيء، لا أحد يا ميني، هدئي روعك!
- ولكن هنالك. . . . .، هنالك، من هنالك. . .؟ انظروا انظروا من هو؟
وشع ضوء مخيف من عينها كسا وجهها ضياء جافاً، وانطلت علينا الحيلة، وذهبنا إلى الباب لنهدئ من حدتها. وما كدنا نصله حتى التفتنا إلى الخلف دون سبب، ولكن بعد أن فات الأوان، إذ وقفت ميني كعفريت من الجن على حافة النافذة. فلم نتمالك من الصراخ وهرعنا إليها. ولكنها كانت قد قذفت بنفسها إلى الشارع. ولم يبق منها إلا قطعة من قميص نومها معلقة في يد رينيه. وساد السكون ثواني حسبناها ساعات وإذا بجسدها يرتطم بالإسفلت فيقضي على أنفاسها وعلى هواجسها
عربها عن الألمانية: ا. ا. ي(82/65)
من أقاصيص الجاهلية
حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
- (ما عهدتك تمضي ليلتك في السامر ياجساس، أكان حديث القوم عذباً فألقيت إليه السمع، أم كان لسانك ذرباً فدفعت عن بكر؟).
- (نعم يا خالتاه. لقد دفعت عن بكر بلسان صدق في السامرين، ودفعت هذه القرية التي يسددها كليب لنا في كل مجمع وناد، ولم أنس يا خالتي أن أدفع عنك مقالة السوء التي نالك بها كليب، فقلت للقوم: إنكم تعلمون موضع البسوس من أهلها وتعلمون موضع أهلها من العرب. ومن كانت في هذا الشرف من القوم فما أبعدها عن السعاية والوقيعة. وما نقموا من البسوس يا قوم إلا ما اشتهرت به حماية الجار، وحفظ الذمار؛ وهي بعد ليست ثرة ولا نمة. واندفعت يا خالتاه أقرع حجج كليب حجة بعد حجة: وأورد فرياته فرية بعد فرية، فإذا القوم على كليب ساخطون، وعلى بكر وبني شيبان عاطفون.)
هشت البسوس بنت المنقذ لمقالة جساس ابن أختها، وضمته إلى صدرها وقبلته في مفرقه. واستوت تقص عليه ما سمعت من نساء الحي. ولم يكن للحي من حديث في سامرهم وناديهم ومجمعهم إلا ما بين بكر وتغلب من إحن وحفائظ أخذت البسوس على نفسها عهداً بإذاعتها في القوم وإفشائها في غير قصد ولا أناة. قالت: (هذا كليب بن ربيعة التغلبي قد أخذته العزة بالإثم وبغى على قومه لما دانوا به من الطاعة له والانقياد لسلطانه، حتى بلغ من بغية أن يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تحفز ذمته، ويحمي الوحش في مسارحه فلا يهاج، ولا تورد إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. ولقد أخذت الناس رعدة من قوته وسلطانه. وضربوا الأمثال بعزته وطغيانه، وما مبعث هذا البغي وهذا الطغيان إلا النصر الذي أحرزه يوم خَزَازَى حين قاد معداً ففض جموع اليمن. وما النصر يحرزه القائد إلا الفضل الذي أفاضه عليه الجنود، بالتفافهم حول لوائه واندفاعهم على العدو. فما كان القائد ليحرز نصراً لو تخلى عنه الجنود. ولكن قد يحرز الجند نصراً وقد ولى عنهم القائد. على أنه يا ابن أخت، لو كان فيه ذمامة من حياء، أو بقية من وفاء، لما تعاظم على قوم رفعه، ولا تكاثر على شعب رفده. ولو كان ممن يرعون(82/66)
العهد ويحفظون الذمار لرعى عهد النسب وحرمة القربى، ولرعي الصلة الوشيجة، والخاصة الوليجة. أليست زوجه جليلة وهي أختك؟ إن أعجب يا جساس فما أعجب إلا لصبر هذه اللكاع عليه، وسكوتها على بغيه، وهي زوجه أولى الناس بتقويمه إذا اعوج، وتليينه إذا صلب، وسياسته إذا شط؛ وهي أولى الناس بالمدافعة عن أخيها وعن خالتها، وما ادخر كليب وسعاً في النيل من أخيها ومن خالتها. لا أبغي يا جساس من قولي أن أنغل بينك وبين أختك ولا بينك وبين كليب. كلا. ولا أن أبذر شقاقاً بين جليلة وزوجها، ولكني أرى من كليب بغياً واستهانة، وأرى منك ضعفاً واستكانة، وأرى من جليلة صمتاً للمذلة وصبراً على الهوان. وكأني بك تقرها على صمتها وترضي عن صبرها. وأنت لا تقل عن كليب في طول النجاد، ورفعة العماد، على يفاعك وحدث سنك.)
قام جساس وقد استحصد، وغلى الدم في رأسه وركبه الشيطان، وأقسم ليقصمن ظهر كليب، ولينصرن عشيرته، ولينضحن عن بني شيبان. ثم احتواه الليل فبات يرعى النجوم، ويستعرض الهموم، حتى انبلج الصبح فإذا هو يسعى إلى البسوس يقص عليها ما جاش به صدره، وما استقر عليه عزمه. قال: (يا خالتاه. لقد قدحت الذهن حتى استعر، وعببت الرأي حتى اختمر، وشاورت النفس فطاب لها الحمام، وغمزت العزم فألفيته شديد العُرام، وأنا اليوم علي أن ألتمس كليباً في غرة فأنتقم لبكر وبني شيبان، وأرفع عنهم المذلة والهوان.)
قالت: (وهل شاورت الحي فيما اعتزمت؟)
قال: (الرأي الخطير كالجمرة المستعرة كلما تادولتها الأيدي فترت حرتها وانطفأت جذوتها. وما يركن ذوو الرأي إلى المشورة إلا حين تعجز هممهم عن النفاذ، وتقعد عن النجاز، فيلتمسون لدى الناس رأياً يتخذونه لقعودهم سبباً، ولعجزهم تعلّة، وأنا إن أصحرت بالتدبير فما آمن أن ينتهي إلى كليب فيعتصم ويتقي.)
وكانت البسوس قد استودعت سراً. . .
وكان ما أفضى به جساس إلى البسوس حديث القوم في سامرهم وناديهم تتناقله يشكر وشيبان، وذهل وقيس، ووائل وبكر، وغير أولئك من القبائل والبطون والأفخاذ
وفي ضحوة من النهار اجتمع عند البسوس: همام بن مرة أخو جسّاس، والفِنْد الزماني سيد(82/67)
بكر وفارسها وشاعرها، وبسطام بن قيس فارس بني شيبان، وأبو فَيْد عمرو بن الحرث السدوسي، والحرث بن عباد فارس النعامة وفارس ربيعة وشاعرها. وجلس جساس مطرقاً ينكت الأرض يعود في يده والقوم ينظرون إليه وينظر إليهم في حيرة ووجوم
قال بسطام: (ما بالك يا جساس تحبس النفس على الأذى، وأنت فينا تنظر يمنة فلا تجد إلا فارساً مغواراً، أو أسداً كراراً، وتنظر يسرة فلا تجد إلا بصيراً في الرأي، أو نصيراً في الشدة؟)
قال جساس: (أعلم ذلك. وأعلم أنه لا يدفع الهون ولا يرد البلاء إلا سفك الدماء) قال همام بن مرة. (إنه كذلك. .)
قال أبو فيد: (أما الهون فقد لحق بكراً حتى أذلها، وأما البلاء فقد وقع ماله من دافع. وأما الصبر عليه فأمر يرجع إليكم ويعود عليكم، ولست أدري إن كنتم لكليب وتغلب أكفاء في القتال، ولكني أعلم أنكم لا تقلون عنهم في الشرف، ولستم دونهم في المنزلة، فان كنتم على هذا تصبرون، فقد رضيتم من العيش بالدون، وإن أحمسكم الذل وقام رجالكم للحرب يؤرجون فإني بريء مما تفعلون)
فنهض الحرث بن عباد، والفند الزماني مغضبين وقد هم أحدهما بأبي فيد يعصر عنقه وقالا أو قال أحدهما: (ثكلتك أمك يا رسول الوقيعة، تحمس الرجل وتستثيره، وتنغل بينه وبين القوم ثم تقول إني بريء مما تفعلون؟ لشد ما أمعنت في الوقيعة والسعاية، ولعمري ما مؤرج الحرب إن قامت إلا أنت. قم لادر ضرعك)
وفر ابو فيد لا يلوي على شيء
(وأنت يا جساس أصلح من شأنك، وهون عليك بأسك، واستشعر الحكمة، واستلهم الصواب، ولا تبرم الرأي إلا بعد التدبير، ولا تعقد العزم إلا بعد التفكير؛ ولك من رعاية الله خير معين ونصير)
وانفض مجلس القوم، ودخل جساس إلى فناء البسوس واجماً مطرقاً
قالت البسوس: (هون عليك فالخطب أيسر مما ترى، ولعل الخير في الأناة، قم فلقد رثأت لك لبناً يفثأ غضبك)
قال: (ما بي حاجة إلى الشراب) قالت: (هو لبن احتلبته من سراب ناقة سعد وقد(82/68)
استودعنيها وأحل لي حلبتها.) قال: (لا)، ومضت البسوس إلى شانها، ولبث جساس مطرقاً
وما هي إلا فينة حتى عادت سراب تشخب دماً. واستبانت البسوس ما بها فإذا كليب قد اشتد عليها بسهم فخرم ضرعها؛ فنفرت وهي ترغو وعادت إلى حظيرتها. وما نقم كليب منها إلا أنها تبعت آيلاً له ودخلت وترعى في حماه
صاحب البسوس: وأذلاه! واجاراه!
وقام جساس يتبين الخبر، فلما وقف على ما كان قال: (اسكتي يا خالة فلأقتلن غدا جمل هو أعظم عقرا من ناقة جارك)
واعتقل رمحه وخرج إلى الفلاة يتوقع غرة كليب. وتبعه عمرو ابن الحرث بن ذهل على فرسه ومعه رمحه حتى لقيا كليباً في حماه فقال له جساس (يا ابن الماجدة عمدت إلى ناقة جارتي فعقرتها)
قال كليب (أتراك ما نعي أن أذب عن حماي؟) ولم يجبه جساس إلا بطنعة قصم بها صلبه، وثنى عمرو بطعنة من خلفه قطعت بطنه. ووقع كليب وهو يفحص برجله وقال لجساس (أغثني بشربة ماء) قال (تجاوزت شبيثاً والاحصْ)
قال الراوي: وكانت الحرب بين بكر وتغلب، وسميت حرب البسوس، وقيل في ناقتها (أشأم من سراب) ولبثت الحرب أربعين عاماً. وسأقص عليك من أنبائها عجبا
أخرجها: اليوزباشي أحمد الطاهر(82/69)
البريد الأدبي
عيد (التيمس) المائة والخمسون
احتفلت جريدة (التيمس) أخيراً بمرور مائة وخمسين عاماً على إنشائها وأصدرت بهذه المناسبة عدداً خاصاً هو آية من آيات الصحافة الحديثة في تحريره وفي طبعه؛ وفيه تقص تاريخها منذ إنشائها، وتستعرض المراحل والعصور المختلفة التي مرت بها، والحوادث والأعمال العظيمة التي ساهمت فيها واستطاعت أن تؤثر في مجراها، وعلاقاتها ومواقفها المختلفة إزاء الإمبراطورية البريطانية. وقد تلقت (التيمس) بهذه المناسبة سيلاً من التهاني، من معظم حكومات العالم وملوكه، ومن سفراء الدول المختلفة في لندن ومن أقطاب العلم والأدب في سائر أنحاء العالم
والتيمس فخر الصحافة الإنكليزية، وتاريخها ليس تاريخ صحيفة عظيمة فقط، ولكنه تاريخ لصفحات باهرة من الجهاد السياسي والعلمي والأدبي، ومعرض بديع لتقدم الصحافة الكبرى خلال القرن الماضي. وقد أنشئت (التيمس) في سنة 1785، أنشأها جون والتر (الأول) باسم (السجل اليومي العام) ثم غير الاسم في يناير سنة 1788 إلى اسمها الحالي وهو (التيمس). وكان جون والتر صحفياً بالفطرة، وافر المقدرة والبراعة؛ وكان شعاره أن يخرج صحيفة معتدلة الثمن سباقه إلى الأخبار متنوعة المواد قوية بمواردها وإعلاناتها، وفي سنة 1803 خلفه ولده جون والتر (الثاني) في تحرير الصحيفة وإدارتها؛ وفي عهده دخلت التيمس في عهد جديد من القوة والتقدم، وقامت بدور هام في إذاعة حوادث الحروب النابوليونية وفي الدعاية ضد نابليون، وكثيراً ما كانت تسبق إلى نشر الأخبار قبل أن تعلم بها الحكومة. وفي سنة 1817 تولى تحريرها السياسي كاتب قوي هو توماس بارنس، فسار بها سريعاً في طريق الزعامة السياسية؛ وكان يستخدم لمعاونة أقطاب الأحزاب والحكومة مثل دزرائبلي ولورد بروجهام وسترلنج في الدعوة إلى سياسة مستقلة تميل إلى (المحافظة) وبلغ من نفوذ بارنس أن وصف بأنه (أقوى رجل في إنكلترا) وفي ذلك العهد بلغت (التيمس) في تنظيم الأخبار الداخلية والخارجية والأبواب الصحفية ذروة القوة والطرافة، واشتراك في تحرير أقسامها الأدبية والفنية أعلام العصر وفي مقدمتهم ماكولي وفاكري وتوماس مور؛ وتقدم استعدادها الفني والطباعي تقدماً مدهشاً(82/70)
ولما توفي بارنس سنة 1841 خلفه في تحرير القسم السياسي تاديوس دلاين. وفي أيام حرب القرم (سنة 1853) بعثت التيمس إلى ميدان القتال بمراسل حربي شهير هو وليم رسل، وذاعت شهرة التيمس يومئذ بما كانت تنشره من الملاحظات الفنية والأخبار الطريفة. واستمر دلاين في إدارة التيمس السياسية أعواماً طويلة، وجعل منها أداة سياسية مستقلة، وكان من معاونيه في تحرير القسم السياسي أعظم ساسة العصر وكتابه. ولما توفي جون والتر الثاني سنة 1847، خلفه ولده جون والتر الثالث في ملكية الجريدة؛ وفي عهده تقدمت من الوجهة الفنية تقدماً عظيماً، وزودت بأحدث الآت العصر، وخلف دلاين توماس شنري فاستمر في توجيه سياسة التيمس حتى وفاته سنة 1884، ثم خلفه (بكل)؛ واشتهرت التيمس في هذا العهد بحملاتها على جلادستون ومعارضته في سياسة (الهوم رول) في أيرلندة، وحملاتها على الزعماء الايرلنديين وما وجهته إليهم من تهم اقتضت تأليف لجنة حكومية للتحقيق، وغرمت التيمس في هذا السبيل مبالغ طائلة، ووقعت على رغم انتشارها وازدهارها في مصاعب مالية. ولما توفي صاحبها جون والتر الثالث في سنة 1894، وضع نظام للفصل بين ملكية الجريدة وآلات الطباعة، وبذلت محاولات عديدة لإنقاذ الصحيفة من متاعبها المالية ولكنها برغم ذلك أشرفت على الإفلاس ووصل أمر الشركة إلى القضاء، فقرر بيعها. وفي سنة 1907 عرضت التيمس بعد مائة واثنين وعشرين عاماً من تأسيسها للبيع، فاشتراها اللورد نور ثكليف وتولى إدارتها موبرلي بل؛ وجددت آلاتها وعُددها الفنية؛ وفي عهده أنشأت التيمس ملحقها الأدبي، وملحقاً للتربية، وملاحق أخرى. ولما توفي سنة 1911 خلفه جوفري داوزون مديرها الحالي. واستمرت التيمس تخفض من ثمنها حتى بيعت ببنس واحد (سنة 1914) وترتب على ذلك مضاعفة انتشارها حتى بلغ ما تبيعه 150 ألفاً. ودخلت الحرب الكبرى بهذا الرقم، وأدت أثناء الحرب خدمات جليلة للجيش والصليب الأحمر، واستطاعت أن تجمع للصليب الأحمر وحده ستة عشر مليوناً. وأصدرت أثناء الحرب تاريخها الشهير عن الحرب ودائرة المعارف للحرب وغيرهما
وفي سنة 1922 توفي لورد نور ثكليف فاشترى ملكية الصحيفة جون والتر (الرابع) وعادت التيمس بذلك إلى ملكية الأسرة التي أنشأتها، واشترك معه الماجور آستور
هذا هو ملخص تاريخ (التيمس) ولا تزال الصحيفة الكبرى إلى اليوم محتفظة بنزعتها(82/71)
المستقلة مع ميل إلى المحافظة. ومع أنها تقل في الانتشار عن كثير من الصحف الإنكليزية الأخرى، فأنها لا تزال في طليعتها من حيث النفوذ السياسي والمقام الأدبي
مباحث علامة اجتماعي
يقوم العلامة الاجتماعي الروماني الأستاذ جوستي بأبحاث وتجارب طريفة لإثبات نظرياته الاجتماعية وتطبيقها. والأستاذ جوستي من أقطاب علم الاجتماع المعاصرين، وقد ذاع صيته ونظرياته في جميع الأوساط العلمية الغربية؛ وكان الأستاذ مدى حين وزيراً للمعارف الرومانية، وهو الآن أستاذ الاجتماع في جامعة بوخارست ورئيس المعهد الاجتماعي. وقد دعته جامعة باريس أخيراً ليقوم بعرض بحوثه ونظرياته؛ وتلقت جريدة (الجورنال) منه شرحاً لطريقته خلاصته، أنه يقوم بأبحاث جغرافية وجنسية واقتصادية. وفولكورية (ما يتعلق بالأمثال والعادات الشعبية) في القرية ويدرسها كوحدة اجتماعية، وأنه هو وتلاميذه قد اختاروا بعض قرى ترانسلفانيا، وقسموا السكان أصنافاً بحسب السن والحالة والأسرة؛ واختاروا بعض الأسر ووضعوا لها شجرة أنسابها، ووضعوا تاريخاً لملكياتها وتقلب أحوالها، وكذلك وضعوا قوائم خاصة بأحوالها المعيشية وتربيتها وميزانياتها إلى غير ذلك. ويعتمد الأستاذ جوستي على هذا المباحث الدقيقة في وضع نظريات بخصوص الوحدة الاجتماعية الحديثة، وهي القرية، وهو في طريقته هذه يشبه ابن خلدون في اعتبار القبيلة وحدة اجتماعية للبادية وبناء نظرياته على أساس أحوالها وتطوراتها
الثقافة النسوية النازية
تقوم اليوم في ألمانيا ثقافة نسوية خاصة هي إحدى ذيول الحركة الفكرية النازية؛ وقد تناولت إحدى الزعيمات النازيات شرح هذه الثقافة في جريدة (بيرزن تسيتونج) وتحدثت عن مسألة الأزياء وأثرها في تطور نفسية المرأة؛ فقالت إن الثقافة النسوية الجنوبية لا تناسب الشعوب الشمالية؛ ذلك أن الجنوب يجد مثله الأعلى في المرأة في الشباب والجمال الغض، ولكن الشمال يراه في الأمومة، وتتطور الأزياء تبعاً لهذه المثل. وقد كان لاقتباس الأزياء وأسباب التجميل الجنوبية أثر سيئ في المرأة الشمالية، في جسمها وفي أذواقها وفي روحها. ولهذا يدعو النازي إلى الرجوع إلى المثل الشمالية القديمة في رد المرأة إلى(82/72)
حظيرة الأسرة والأمومة
الذكرى الألفية للمتنبي
استفاض الحديث في جميع الأقطار العربية عن عزم الحكومة العراقية على إقامة مهرجان فخم للشاعر العبقري أبي الطيب أحمد المتنبي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته. وقد تريثنا في نشر هذا الخبر لأنه لم يَعْدُ أن يكون حديثاً من أحاديث المنى لم تَعِد به حكومة ولم تتعهد به جماعة. على أننا ما شككنا قط في أن العراق سيهتبل هذه الفرصة ليجعل من هذا العيد الأدبي مظاهرة عربية تحتشد لها قلوب العرب وأصدقاء العرب ليهتفوا على ضفاف الرافدين لهذا الشاعر الخالد. وكان اليقين أن العراق منبت هذا النبوغ لا يدع السبق إلى هذا العيد لقاهرة كافور أو لحلب سيف الدولة، ولكنا تلقينا من صديقنا الشاعر الجليل الأستاذ الزهاوي كتاباً يذكر فيه أنه كان قد أعد لمهرجان المتنبي قصيدتين صغيرة وكبيرة، فلما رأى قومه انصرفوا عن هذه الفكرة فلم يعودوا يحفلون بها ولا يعملون لها، بعث بهما إلى الرسالة، فنشرنا الصغرى في عدد سابق، ونشرنا الكبرى في هذا العدد. وبقينا نقلب الخبر بين ثقتنا في المخبر، وعلمنا بعصبية العراق، فلا نجد له مساغاً في وجه من الوجوه
وفاة فيلسوف وزعيم صيني
من أنباء الهند الصينية أن الزعيم الفيلسوف (بام بوي شان) قد توفي في مقامه المنعزل على مقربة من (هوي) (الهند الصينية) في نحو السبعين من عمره؛ وكان (بام بوي شان) من تلاميذ المدرسة الصينية القديمة، ومن أقطاب مفكريها؛ بدا حياته بتعليم اللغة الصينية والفلسفة في معاهد سيحون وهتوى، ولكنه جنح إلى السياسة، وأنضم إلى زعماء الحركة التحريرية، واستطاع بنفوذه الفكري والثقافي أن يثير على الحماية الفرنسية دعاية قوية، وانتهت هذه الدعاية بثورة عنيفة انتهت بمقتل الملك (تاي بين دي توان فو). وفي سنة 1913 ألقيت القنابل على حاكم الهند الصينية مسيو البيير سارو في شرفة أحد الفنادق، ولكنه نجا وقتل بعض حاشيته. واتهم (بام بوي شان) في هذه الجناية، وقضي عليه غيابياً بالإعدام؛ ولكنه فر إلى الصين. وغدا (بام بوي شان) عندئذ بطلاً وطنياً وزعيماً روحياً وفكرياً للحركة الوطنية على مثل صن يات صن في الصين وغاندي في الهند.(82/73)
ولكن قبض عليه في شنغهاي سنة 1925، وقدم للمحاكمة مرة أخرى فحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. وعلى أثر الحكم عليه أضربت الهند الصينية بقلاقل عنيفة فاضطرت السلطات أن تصدر العفو عنه بعد شهرين. وعلى أثر ذلك أذاع الفيلسوف بياناً على مواطنيه قال فيه إنه يعتزل القيادة العنيفة ويدعو منذ الآن إلى سياسة الوفاق. وكان هذا التحول أكبر عامل في ضياع نفوذه السياسي، فعاش منذ ذلك الحين في عزلة، ينقطع إلى تأملاته ونظرياته الفلسفية والروحية التي كانت قبساً جديداً من فلسفة الصين القديمة(82/74)
من روائع الشرق والغرب
المساء
لشاعر الحب والجمال لامرتين
قال لامرتين: (كنت منذ شهور قد فقدت موضوع الحماسة والحب، فذهبت أقبر نفسي في ظلام العزلة عند أحد أعمامي في قصر (دورسي) لدى تلكالجبال الموحشة الشجراء من أعالي بورجونيا، وهناك نظمت هذه الأبيات في تلكالغاباتالتي تحيط بذلك القصر)
أقبل المساء وهمدت الأصوات، وأنا أجالس على الصخور الجرد أتابع بنظري مركبة
الليل وهي تتقدم في معامي الفضاء
ثم لاحت الزهرة في حاشية الأفق، وأرسل الكوكب العاشق على الأرض ضوءه المخفي،
فشعشع تحت قدمي خضرة الروض
ومن دوحة الزان ذات الورق الفينان واللون الأحوى، أسمع اختلاج الأغصان، كما تسمع
خفقان الأشباح بين أجداث الموتى
وعلى حين فجأة انفصل من كوكب الليل شعاع تسلل إلى جبهتي الساهمة، ومس في لينٍ
عيني الحالمة
أيهذا الانعكاس اللطيف للكرة الملتهبة! أيها الشعاع الباهر ماذا تبتغي مني؟ أجئتتحمل إلى
أحشائي المضطربة قبس النور إلى نفسي وعيني؟
أهبطت من السماء لتفضي إليَّ بسر العالم، وتلقي عليَّ دفائن هذا الكوكب الذي يعيدك
النهار إليه؟
هل أرسلتك عناية خفية إلى البؤساء، لتضيء قلوبهم بنور الرجاء؟
هل هبطت لتبدد الظلام عن وجه الغد لتلك القلوب الكسيرة التي تضرع إليه؟
أيها الشعاع الإلهي أأنت فجر ذلك اليوم الذي لا انقضاء له؟
إن قلبي يشتعل في ضوئك، وشعوري يتملكه مرح مجهول، وفكري منصرف إلى أولئك
الذين ضحا ظلهم في الحياة؛ فهل أنت أيها الضوء اللألاء، أرواح أولئك الأحباء؟
أنا أشعر بأني أقرب ما أكون إليهم! فلعل أرواحهم السعيدة قد لبست صورهم البعيدة، ثم
عادتتطوف بهذه الربوع، وتجوس خلال هذه الغيضة(82/75)
فإذا كنت أيتها الأشعة أشباح الأحبة، فعودي إليَّ في كل مساء بعيدة عن الغوغاء
والضوضاء، لتمتزجي بأفكاري وأحلامي، وتنيري ظلام لياليَّ وأيامي
أعيدي السلام إلى صدري المضطرب، والحب إلى قلبي الملتهب، واسقطي على كبدي
كما تسقط أنداء الليل على قيظ النهار ولفح الهاجرة
تعالي إليَّ وأقبلي عليَّ. . . ولكن أبخرة محزنة تصاعدت من جنبات الأفق فحجبت ذلك
الشعاع اللطيف، ثم عابت هي وهو في ظلام كثيف!
الزيات(82/76)
دجلة
للأديب التركي شهاب الدين
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
قطعة منثورة كتبها أديب كبير من أدباء الترك المعاصرين - جناب شهاب الدين الذي أحزن الأدباء نعيه العام الفائت
ولست أرى القطعة تمثل حياة البادية عامة، ولن حياة جماعة على شاطئ دجلة، ومهما يكن فقد أحسن الكاتب تصوير ما رأى حقيقة أو خيالاً، وهي نموذج من الأدب التركي الجديد جديرة بإطلاع قراء الرسالة
تجري دجلة واسعة كذكاء العرب، قوية كروح العرب، تلوح مرة لجة ترابية مائجة، ومرة شريطاً من الحرير سماوي اللون، وحيناً تتمعج كأزقة بغداد، وآخر تسير أقوم من شوارع باريس، وهنا تتحوى مضطربة، وهناك تمتد مطمئنة. . .
هذا النهر المبارك الذي يحمل في أحضانه ربيعاً من البركات يتقصى من الأبنية البشرية عند القُرنة، فينفذ في غابات النخيل فكأنه بلغ بيئته المحبوبة، فموجه أكثر حرية وأشد زخوراً وأعظم وقاراً وجرأة
يعيش النبات في البلاد المعتدلة والشمالية بمساعي الإنسان، وهنا في المناطق الحارة على العكس، يعيش الإنسان في حمي الأشجار والأعشاب، ولا سيما غابات النخيل
يزيدني النظر والتأمل إيماناً بأن سكان هذا الإقليم هي هذه الأشجار المهيبة، وما أبناء نوعنا إلا ضيوف ظلالها. ترى عيناي الآن نخلة فخوراً متفردة، فلله كيف سمقت مزهوة، وكيف نمت وانتشرت عُسُبها وخوصها في أبهة وجلال. هذه النخلة تنادي في كبرياء وعظمة أن هذه التربة لها، وأن غيرها لا يستطيع أن يكون مالكاً طبيعياً لهذه الأرض
إذا ما انتهت غابات النخل بعماراتها الخضراء انطفأت الحياة على شاطئ النهر. فلا شيء يبدل قسوة الصحراء هناك إلا كثبان الرمال الشاحبة التي تبدو في الأفق صغيرة كأنها القبور؛ وإلى الجانبين بحر من الرمل ليس له ساحل. وها نحن أولاء نشق سكوت الصحراء وسكونها. لا حجر ولا شجر، ولا حيوان ولاظل، ولكن ضياء - ضياء مطرد يزيغ البصر من كل جانب. لا حركة ولا شية من حركة إلا ملاعب الضياء. وعلى(82/77)
الكائنات التي حولنا ركود وصمت، وضياء محيط مسيطر، دائم لا يحول. يحسب الإنسان أن هذين الشاطئين لم يهتزا بالحياة قط، ولا دَّوى عليهما صوت قط، ولا وقع عليهما ظل قط، ولدا من الأزل بغير حياة، وذلك يذهبان إلى الأبد
انبسطت هذه الصحراء الذهبية الخالية من الأنس، والغُفل من الصناعة. ثم انبسطت حتى صارت جمالاً نائماً غير محدود
سأكتفي بتسجيل المشاهد صادقاً كالسينما محرراً من قيود البلاغة. هنا قرية فقيرة تؤلفها عدة من أكداس اللبن جاثمة على الرمل المقفر، مغبرة كالتراب، ميتة كالصحراء، أشد إقفاراً من الخرابة المهجورة، كأنما الرمال اختمرت ثم رّبت فكنت القرية. ولو لم أر نفراً من البُداة جالسين القرفصاء لظننت أن كلاب البحر أنشأت هذه القرية الحزينة. كذلك كانت في فقرها وحقارتها. . . ما أهل البادية إلا نبات بشري غريب، سيئ الجد، لا سعي دائب في الدماغ، ولا عمل عظيم في العضلات، كل قُوى حياتهم مصروفة إلى القعود والنوم والهضم والتناسل، ينمو وأحدهم كجذع نخلة فيكبر فيثمر فيجف. كذلك ترجمة كل أطفال البادية
إنما يشكو البدو أربعة أشياء: الذباب والحر والجوع والجُباة. فأما الذباب فيذبه، وأما الحر فيروحه بسعف النخيل، وأما الجوع فيدفعه بما يلتهم من الأرز الكثير، وأما الجباة فكلما ذكرهم حرق الأرم من تحت شاربيه
تتجلى روح الطفولة في بني الصحراء جميعاً، صغيرهم وكبيرهم؛ فمن كل شيء سرور وضحك، ومن أتفه الحادثات وسيلة إلى القيل والقال، والظل بل العدم ينطقهم ويضحكهم ساعات. وهم ما داموا أيقاظاً يتحدثون ويضحكون، ويضحكون ويتحدثون، والعالم عندهم لعبة كبيرة، وحادثات العالم لعب ولهو. البدوي يعمل قليلاً , يعمل في غير جد، يعمل لتكرار ما أورثه آباؤه.
لا يحب التغيير، وهو غريب عن دخائل الاشياء، قد نسى الماضي، وتوهم الغد جنيناً لما تحمله أمه. وحساب ربحه وخسارته محدود بأربعة وعشرين ساعة. يسكره السرور ويتيمه اللون والرُّواء؛ مولع بالعطر والسكر، الصباح الذي يأكل فيه العسل سعيد، والمساء الذي يقاسي فيه البصل شقي، فبالعسل والبصل يتحرك ميزان سعادته. وإذا نالت يده رائحة(82/78)
زكية، ولقمة حلوة، وامرأة مؤنسة، حسب نفسه أسعد ملوك العالم. فراشه الرمل، ولحافه السماء؛ وأجمل أحلامه غصن من الياسمين، وقدح من الجُلاب، وليلى لها عين غزال. قلتُ إنه طفل، طفل طيب. .
كل قرية لها توابع حيوانية جديرة بالتأمل فهذه إبلٌ راغية، هادرة، رازمة، تهزأ رقابها الطويلة بما حولها من الجُدُر والحظائر. وهذا قطيع من المعز ينتف جلد الأرض الهزيل، هذه الأشواك المغبرة. وهنا كلب ينبح السفينة من الساحل، وهناك دجاجات تطير من قمامة إلى أخرى. وفي الهواء عدد من الحمائم. وهذه جاموسة مدت رأسها إلى النهر ترى قرينها المزينين في جبهتها العاطلة من الفكر، وبين الحين والحين تطأطيئ إلى الماء لتشرب جرعة كبيرة من صورة السماء
وفي الفينة بعد الفينة يبرز رأس امرأة من كوة كوخ. ينشق فمها الحائر الأبكم عن ابتسامة ميتة، وجهها كله برقع من جلد متكنع. وكل زينتها وحليتها ولباسها ثوب في لون الطين. تحسب كل واحدة منهم جسداً بغير روح قد التف في كفن أسود. كذلك حُرمنَ الحياة. وينظرن إلينا نظرات مترددات - نظر الظبي إلى صياده. وكل رجل عندهن حاكم ظالم
أطفال البداة يثيرون في القلب أبلغ رحمة: أيديهم عصى ضامرة، وعيونهم يملؤها ابتسام مضطرب. وأبدانهم الراجفة في القُمُص الزرقاء نحيلةٌ شاحبة ضعيفة هامدة؛ يطيرون وراء السفينة ساعات من أجل ثمرة واحدة. أو لقمة من الخبز. صائحين ضاحكين. ينقطون الساحل بأشباحهم السوداء
وا رحمتاه لأطفال البادية البائسين!
مهما يكن العلمَ الخافق فوق الصحراء فان لها حاكماً طبيعياً هو الشمس
الشمس توقد هنا كل موجود، وتُلهب كل شيء: كل الأشياء التي حولنا تسبح من الشروق إلى الغروب في ملاعب نورية مختلفة الألوان. وستتقلب السماء والتلال والأرض والأفق حتى ماء النهر كل يوم من الفجر إلى الشفق، في دقائق من ألوان الورد والبنفسج، والذهب والزمرد، والياقوت والفيروزج. وهنا يولد الضياء كل يوم ويتلون ويتلألأ، ويتحلل ويتجمع، ويذوب ويغيب.
ثم يستأنف الليل حياته في مطر من النجوم يتجلى في قاع النهر(82/79)
نشهد الآن اجمل الساعات - ساعة أفول الشمس، والنهر والآفاق مغشاة بأشعة العقيق والكهرمان. وينبعث على ظهر السفينة صوت مؤذن ينادي للصلاة - هذا النداء المرتعد في سكون العشى، هذا النداء البلوري، الذي يملؤه الوجد، وتتقسمه السكتات القصيرة، يطير فيعلو، فيصعد إلى العيون، كأنما يبلغ سدة الخالق العظيم. الله أكبر. الله أكبر. . . .(82/80)
العدد 83 - بتاريخ: 04 - 02 - 1935(/)
مجلس نادر. . . .
نعم مجلس نادر! وندرته في طبيعة الغرض منه، وشخصية الداعي إليه، وقيمة الجالسين فيه؛ كان الغرض منه إصلاح ما بين أخي طه وبيني، وإصلاح ما فسد من ذات البين بين صديقين شيء في طبع هذا الأدب المعاصر نادر؛ وكانت الشخصية الداعية إليه هي الآنسة الجليلة (مي)، وشخصية (مي) في عصور الشرق الأخيرة نادرة؛ وكان الجالسون فيه الدكتور طه، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، والدكتور أحمد زكي، والأستاذ محمد عبد الله عنان، وتهافُتُ هذه العبقريات المختلفة على شعاع لطيف من ذكاء المرأة الشرقية المثقفة نادر؛ وكان البهو المترف الذي سَمرنا فيه قد انسجم بأثاثه ونظامه وألوانه وألوان وضوئه مع ذوق الآنسة الشاعرة، فكان نمطاً من الحديث الصامت أذى المشاعر وألهم الأذهان في الحديث الناطق!
قالت الكاتبة النابهة وقد انتظمنا حولها عقداً كانت هي واسطته: (ارجو أن تكونوا شخصاً واحداً. . . . .) فقال لها الدكتور طه: (نعم وتكونين أنت روحه) وعلى ظَرف هذا الخطاب، وبراعة هذا الجواب جرى سقاط الحديث. وكانت الآنسة تُصَرف الكلام وتساجل هؤلاء الأعلام ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، فمثلتْ لي صورة من صور أولئك الأدبيات اللاتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولاة ابنة المكتفي بالله، ومدامُ دِرَمْبُوييه، ومدام جوفرين، وأضرابهن ممن وقفن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو، ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض، وجمال الأداء، وحسن المبادهة، فقدرت في نفسي مبلغ ما تفيده المرأة المثقفة في مناهج الأدب ومظاهر الفكر وقواعد السلوك وأوضاع العُرف، وقلت: مساكين نحن! إذا ظفر أدبنا بهذه المجالس، فأَنَّي تظفر مجالسنا بهذه المرأة؟
لست بطبيعتي وتربيتي رجل صالون ولا حديث مجلس، لأن المجامع
المختلطة التي تدفع الحياء عن الذهن، وتُذهب الخوف عن اللسان،
وتجعل أطراف الحديث في متناول كل جالس، أبَتْها علينا التقاليد، فأنا
أردك حتى في هذه الجهة أثر هذه المجالس في علاج هذا النقص
الاجتماعي الموروث(83/1)
تشقق الحديث عن صور شتى من لَفتات الذهن النشيط، ثم مسحت (مي) بيدها الساحرة على ما كان بين الصديقين فاذا الماضي يعود كله، وإذا الحاضر يذهب كله. وعلاقة هذين الصديقين علاقة نشأت مع الصبي واستحارت مع الشباب وتوثقت على الزمن، فلما نال منها العهد المجرم الذي نال من كل شيء جزعت الآنسة الريمة فيمن جزع، وظلت تتحين المناسبة لسفارة الوفاق والمودة حتى تم لها ذلك ليلة الأمس!!
وللانسان ماضٍ من الأمكنة والأزمنة والأشخاص لا يستطيع مهما جدا أن يسقطه من حياته: فمسقط الرأس، وملاعب الطفولة، ومسارح الهوى، ومغاني الأحبة، وغفلات العيش، ورفقة الحداثة، لا ينسخها في ذاكرتك ما يمر على عينك من ضخامة العمران وبسطة السلطان، وسورة المنصب، وزحمة المنافسة، وصور الوجوه، وتنوع العلائق
ألْهُ عنها بالحاضر إذا شئت، وأثبت نظرك في وجه الغد إن استطعت، فانك صائر ولابد إلى الذكرى بعد الأمل، ولائذ بأمن الماضي من خوف المستقبل؛ وحينئذ تجد هذه المراحل السعيدة واضحة في خيالك، مشرقة في نفسك، تجدد عمرك المفقودة، وتحدد زمانك المبهم، وتفيض على جفاف قلبك شعوراً هادئاً لذيذاً باستحضار ما غيبت من لذة، واستذكار ما نسيت من سعادة
كان حسب صديقي حسبي لحظة من الذكرى تعيد عازب الحلم وتكسر عادية الجدل، ولكننا كنا وكانت مصر يومئذ تكابد محنة من الطغيان العاسف أوهنت الأعصاب، وحللت الروابط، ومدت بين الناس أسباب العلل
أخي طه!
لقد تعانقنا عند اللقاء كان لم تكن جفوة، وتناقلنا الحديث في المجلس كأن لم تكن خصومة، وتمنت ربة الدار أن يكون بيننا عتاب فلم نجد مائلاً في النفس إلا أن كلينا صورة من شباب الآخر وقطعة من وجوده!
تلك كانت جناية العهد البغيض كما قلت: أفرطفيه الجور حتى نسينا العدالة، وتنكرت المعرفة حتى اتهمنا الصداقة، وران الشك على القلوب حتى حال بيننا وبين الحقيقة. فالحمد لله الذي أظهرك على الكيد، وأظفرك بالكائد، اعادك، وأعادك موفور الكرامة إلى موضعك عزيزتي الآنسة مي!(83/2)
جزعت أول الناس لهذا الخلاف الواغل عن باعث من طبعك، وتبت في كف هذا الجدل القاسي بوحي من شعورك، وسعيت للصالح هذا السعي النبيل بدافع من نفسك، وكل ذلك وليس بيننا غير العلاقة التي يبرمها الأدب بين أهله على بُعد! فأنا أسجل لك في الرسالة هذا الحب الغرزي للخير، والاخلاص الطبيعي للعلم، والايمان الصادق بالأدب، والجهاد المتصل في تأليف القلوب بالمودة، وتثقيف العقول بالمعرفة، وتغذية النهضة الفكرية بالانتاج الخصيب، واسمحي لي أن أبشر أصدقاء الرسالة وقراءها بأن قبلت أن تدخلي في اسرتها، وأن تحملي نصيبك من دعوتها، وذل فضل آخر من يضاعف الشكر لك، وفوز جديد للرسالة يجدد الشكر لله
أحمد حسن الزيات(83/3)
بنته الصغيرة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
تتمة
. . . وجاء من الغد أبو يحيى مالُ بنُ دينار الى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول الى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا الى بقية خَبَره في لهفةٍ كأن لها عُمراً طويلاً في قلوبهم، لا ظَمَأ ليلةٍ واحدة
وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جُعِلْتُ فِداك، ما كان تأويلُ الحَسَنِ لتل الآية من كلام الله تعالى، وكيف رجَعَ الكلام في نفس مًرْجِعَ الفكر تتبعُه، وأصبح الفكر عندك عملاً تحذو عليه، واتصل هذا العملُ فكان ما أنت في وَرَعك ,. . . .؟
فقطع الامام عليه وقال: هَوِّنْ علي يا هذا؛ إن شيخك لأهوَنُ من أن تذهب في وصفه يميناً أو شِمالاً، وقد روي لنا الحَسَن يوماً ذلك الخبرَ الوارد فيمن يُعذِّب في النار ألف عم من أعوام القيامة، ثم يدركه عفوُ الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال: (يا ليتني كنت ذلك الرجل!) وهو الحسنُ يا بني، هو الحس
فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى، قتلتنا بأساً. وقال الأول. إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس وقنوط، فلا ينفعنا عملٌ ول تأتي عملاً ينفع
قال الشيخ: هونوا عليكم، فان للمؤمن ظنَّين: ظناً بنفسه، وظناً بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزلَ بها دون جَمحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فاذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئاً وجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائماً يدفعها، وكلما أكثرتْ من الخير قال لها: أكْثِرِي. كلما أقلتْ من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبُهُ ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلوَ به فوق الفَتَرات والعِلل والآثام ولا يزال يعلو؛ فان الله عند ظن عبده به، إنْ خيراً فله وإنْ شرا فله. ولقد روينا هذا الخبر: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ تسعاً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فاتاه، فقال: إنه تسعاً وتسعين نفساً، فهل من توبة؟ قال: لا! فقَتَله فكمل بن مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له توبة؟ قال: نعم؛ ومَن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فان بها أُناساً يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم ولا ترجعْ الى أرضك، فانها(83/4)
أرضُ سَوْء
فانطلق، حتى إذا نصفَ الطريق أتاه ملكُ الموت، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مٌقبلاً بقلبه الى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قَ. فاتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرْضَين، فالى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى الى الارض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة!
قال الشيخ: فهذا رُجل لما مشى بقلبه الى الله حُسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظم المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحدٌ لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حُفْرة
والانسان عند الناس بهيئة وجهه وحِلْيتِه التي تبدو عليهن ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة مما تحتها. فيا لها سخريةً أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن تُبعدُ في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني. . . . . .؟
إن هذه الأخلاق الفاضلةَ في هذا الانسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة: (أَلَمْ يَأنِ للذين آمَنُوا أن تَخشَعَ قُلوبُهمْ لِذِكْرِ الله وما نَزَلَ مِنَ الحق.)
فالأخلاقُ الفاضلةُ محدودةٌ بالله والحق معاً، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فان من القلب مخارجَ الحياة النفسية كلها
قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويلَ هذه لآية، واستَنَنْتٌ بها، مضيتُ أعيشُ من الدنيا في تاريخ قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركتُ من يومئذٍ أنْ ليس حفظُ القرآن حِفْظَه في العقل، بل حفظُه في العمل به؛ فان أنت أثبت الآية منه وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها فهذا - ويحك - نسيانُها لا حفظُها. وقد كان قومُنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها وَرَقُها الأخضر وزهرهُا وثمرها، وعلى ظاهرها حياةُ باطنها، فلما ثبتَ الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلبَ وأحوالَه أصبحوا كالشجرة(83/5)
اليابسة؛ عليها ورقُها الجاف ليس في بقائه ولا سقوطه طائل
ما أصبحتُ ولا أمسيت منذ حفظتُ تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي دلَّتْني بمعانيها أن ليس الحياةُ الأرضيةُ شيئاً إلا ثورةَ الحي على ظُلْمِ نفسه، يَستكفُّ عنها أكثر مما يَسْتَجرُّ لها؛ والناسُ من شقائهم على العكس يستجرون أكثر ما يستكفون، وإنما السعيدُ مَن وجد كلمات روحانية إلهية يعيشُ قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسنَ ما يعمل؛ ومِن ثم لا يكون جهادُه مُرَاغمةً أو خضوعاً في سبيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياةَ كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويَدَعُها
إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الانسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارَفَتِه الشهوات وباحساسه غرورَ القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان ليجلبها على نفسه في صورٍ أخرى!
قال الشيخ: وكان مما حفته من تفسير الحسن قوله: إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمةُ في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنىً وتومئ إلى معنىً وتستنبعُ معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه (كِتَابٌ أُحِكَمتُ آياتهُ ثم فُصِّلَتْ)
يقول الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبُهم لذكر الله وما نزل من الحق)
(ألم يأن) هذه الكلمة حثٌ، وإطماعٌ، وجدالٌ، وحُجة؛ وهي في الآية تُصرخ أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال الدين للايمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمالُ العمر وكيف يعرف المؤمنُ أنه (سيأنى) له أن يعيش ساعة او ما دونها؟
إذَنْ فالكلمةُ صارخةٌ تقول: الآنَ الآنَ قبل ألا يكون آن.
أيْ: البدَارَ البدَارَ ما دمتَ في نَفَسٍ من العمر؛ فان لحظة بعد (الآن) لا يضمنها الحي. وإذا فني وقتُ الانسان انتهى زمنُ عمله فبقى الأبد كله على ما هو؛ ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، إنْ هو إلا اللحظةُ الراهنة من عمره التي هي (الآن). لأنظر - ريحك - وقد جُعِلَ الأبد في يدك؛ انظر كيف تصنع به؟(83/6)
تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى (الآن) دون غيره على كثرة المعاني
ثم قال: (للذين آمنوا) وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقومٌ بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعلِمُهم وجاهلُهم سوء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسانُ ترابي، لا يزال يضطربُ على مَْر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عَيشِه وموته؛ وما تقسو الحياةُ قسوتها على الناس الا بهم، وما ترقُّ رقتها إلا بالمؤمنين
وجَعل الخشوعَ لقلوب خاصةً، إذ كان خشوعُ القلب غير خشوع الجسم؛ فهذا الأخير لا يكون خشوعاُ، بل ذلاً، أو ضَعَةً، أو رياءً، أو نفاقاً، أو ما كان. أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصاً مُخلصاً مَحْضَ الإرادة
واشترطَ (القلبَ) كأنه يقول: إنما القلب أساسُ المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعاً لله وللحق. فان لم يكن قلبه على تلك الحال، نَبَعَ منه الفاسقُ والظالم والطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلبَ تنفرعُ منه معاني الخُلُق، بالحبة تَنسَرِحُ منها الشجرة؛ فخُذْ نفسَك من قلبك كما شئت؛ حُلواً من لوٍ ومُراً من مُر
وخشوعُ القلب لله وللحق، معناه السمو فوق حب الذات وفوق الأثرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدةَ الحياة الصحيحة، ويجعلُها في قانونين لا قانونٍ واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق عَظُمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرةً كبيرةً وإن عَمِىَ الناسُ عنها، ويراها وهي بعيدةٌ منه بمثل عين العُقاب، يكون في لُوحِ الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرَى
وقد تخشع القلوبُ لبعض الأهواء خشوعاً هو شرٌ من الطغيان والقسوة؛ فتقييدُ خشوعِ القلب (بذكر الله) هو في نفسه نَفْيٌ لعبادة الهوى وعبادة الذاتِ الإنسانية في شهواتها.
وما الشهوةُ عند المخلوق الضعيف إلا إلهُ ساعتها. فيا ما أحكمَ وأعجبَ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَشربٌ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن). جَعَلَ نزعَ الايمان موقوتاً (بالحين) الذي تُقْتَفُ فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك (الحين)
والخشوعُ لِمَا (نزَلَ من الحق) هو في مناه نَفْيٌ آخرٌ للكبرياء الإنسانية الي تُفسِد على المرء(83/7)
كل حقيقة، وتَخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودةً بالانسان وشهواته، لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل
ويخرج من هذا وذلك تقريرُ الإرادة الإنسانية، وإلزامُها الخيرَ والحق دون غيرهما، وقهرُها للذات وشهواتِها، وجعلُها الكبرياءَ الإنسانية كبرياءَ على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل. إذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرارا السكينة في النفس، ومحوِ الفوضى منها، وجَعْلِ نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلبُ في المؤمن حياةَ المعنى السامي، ويكون نبْضُه علامةَ الحياة في ذاتها، وخشوعُه لله وللحق علامة الحياة في كمالها
وقال: (ما نزَلَ من الحق) كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فاذا هو ارتفع من الأرض، وقرره الناسً بعضُهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأسَ الإنسان، وأفسدتْه العقول؛ إذ كان الإنسان ظالماً متمرداً بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخه إلا اسماءُ ومعانيها وما كان شبيهاً بذلك ما يجيئه من أعلى؛ أيْ بالسلطان والقوة؛ فيكون حقاً (نازلاً) مُتدَفِّعاً كما يَتصَوبَّ الثُّقْلُ من عالٍ، ليس بينه وبين أن ينفذ شيء
والخشوعُ لما نزل من الحق ينفي خشوعاً آخر هو الذي أفسد ذاتَ البينِ من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصرافُ القلب اليها بايمان الطمع لا الحق
وبجملة الآية على ذلك الوجه يتحقق العدلُ والنصفَةُ بين الناس؛ فيكون العدل في ل مؤمنٍ شعوراً قلبياً، جارياً في الطبيعة لا مُتكلفاً من العقل؛ وبهذا وحده يكون للانسان إرادةٌ ثابتة على الحق في كل طريق، لا إرادةٌ لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة مُتسقةً في نظامها مع إرادة الله، لا نافرةً منها ولا متمردة علها؛ وهذا وذاك وذلك يُثبت القلبَ مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سُموه وقوتهُ وثباتهً، وينزل العمرُ عنده منزلةَ اللحظة الواحدة، وما أيسرَ الصبرَ على لحظة! ما أهونَ شر (الآن) إن كان الخيرُ فيما بعده
ألم يأنِ؛ ألمْ يأن؛ ألم يأن. . . .
قال الشيخ: وكان الحَسنُ في معانيه الفاضلةِ هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا اسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره ابداً: (الآن قبل ألا يكون آن.) وغمامه: (خُذْ نفْسك من قلبك.)
وطريقتهُ (شَرفُ الحياة لا الحياةُ نفسها)(83/8)
وكان يرى هذه الحياة كوقعة الطائر؛ هي عملُ جناحين مُسْتوفِزين أبداً لعملٍ آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيٍ إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبداً إلا هَفَافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض، وآلةُ الوقوع والطيران بالانسان شهواته ورغباته؛ فان حطته شهوةٌ لا ترفعه فقد او بقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ.
لقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد ام يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس) وهذا ضربٌ من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له، يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فها او أتاها، لقوى على أن يدع ما فيه بأس، فان الذي يترك ماله يكون أقوى على ترك ما ليس له.
والنفسُ لابدّ راجعةٌ يوماً إلى الآخرة، وتاركة اداتها؛ فقوام نظامها في الحياة الصحيحة ان تكون كل يمٍ كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعةُ الاسلامية من عبادةٍ راتبة تكون جزءاً من عمل الحياة في يومها وليلتها. فاذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائماً يذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله، يحاول أن يرد السيف بكلمة. . .! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته ويشتد في صولته، ويتصرف المرء دينه، وتقذف به يميناً وشمالاً، على قصدٍ وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مدرجةٍ مدرجةٍ من الشر؛ ومثلُ هذا المسرفِ على نفيه لا يكون تمييزه في الدين ولا إحساسه بالخير إلا كذلك السكير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جرتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه وأراد ان يطيع الله ويتوب - نظر الى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه. . .!
قال الشيخ: ثم إني تُبتُ على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي برياء النفس على شرها وظلمها وشهواته، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم هي في النفس أختُ الشجاعة القاتلة للعدو الباغي، يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك، وأن خشوع القلب هو معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.(83/9)
وحدثتُ الحسنَ يوماً رؤياي وما شبه لي من عملي السيئ وعملي الصالح، فاستدْمَعَتْ عيناه:
وقال: إن البنتَ الطاهرةَ هي جهادُ أبيها وأمها في هذه الدنيا، كالجهاد في سبيل الله؛ وإنها فوزُ لهما في معركةٍ من الحياة، يكونان هما والصبر والايمان في ناحية منها قبيلاً، ويكون الشيطاُن والهمُّ والحزن في الجهة المُناوِحَةِ قبيلاً آخر
إن البنتَ هي أم ودار، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها - كأنما يحملان الأحجارْ على ظهرَيهما حجراً حجراً، ليَبْتَنيا تلك الدار في يومٍ الى عشرين سنة أو أثر، ما صحبته وما بقيتْ في بيته.
فليس ينبغي أن ينظر الأبُ الى بنته إلا على أنها بنته، ثم أمٌ اولادها، ثم أمُ احفاده؛ فهي أكبرُ من نفسها، وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حُمتها وحرمة الانسانية معاً؛ والأب في ذلك يُقرِض الله إحساناً وحناناً ورحمة، فحقٌ على الله أن يُوفيه من مثلها، وأن يُضعف له
والبت ترى نفسها في بيت أهلها - ضعيفةً كالمنقطعة وكالعالة، وليس لها إلا الله ورحمةُ أبويها؛ فان رحماها، واكرماها فوق الرحمة، وسراها فوق الكرامة، وقاما بحق تأديبها وتعليمها وتفقيهها في الدين، وحَفِظا نفسها طاهرة كريمةً مسرورةً مؤدَّبة - فقد وضعا بين يدي الله عملاً كاملاً من أعمالها الصالحة، كما وضعاه بين يدي الانسانية. فاذا صارا الى الله كان حقاً لهما أن يجدا في الآخرة يميناً وشمالاً يذهبان بينهما إلى عفو الله وكرمه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ابنةُ فأدبها فأحسن تأديبها، وغَذَاها فأحسن غَذاءَها، وأسبغَ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه - كانت له مَيْمَنَةً ومَيَسرةً من النار إلى اجنة.)
فهذه ثلاثُ لابد منها معاً، ولا تُجْزِيءُ واحدةٌ عن واحدة في ثواب البنت: تربيةُ عقلها تربية احسان، وتربيةُ جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربيةُ روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان
قال الشيخ: والله أرحمُ ان تضيعَ عنده الرحمة؛ والله أكرم أن يضيع الإحسان عنده، والله أكبر. . .
وهنا صاح المؤذن: الله أكبر
فتبسم الشيخ وقام إلى الصلاة.(83/10)
طنطا
مصطفى صاداق الرافعي(83/11)
صور من التاريخ الاسلامي
1 - الفردوسي
للأستاذ عبد الحميد العبادي
احتفلت الأمة الإيرانية في أكتوبر الماضي بذرى مرور ألف سنة على ميلاد شاعرها الأكبر ابي القاسم الفردوسي، وقد دام احتفالها نحو شهر من الزمان كانت إيران كلها فيه متصلة الأعياد بادية البشر والسرور. ولم تكن الحفاوة بتل الذكرى مقصورة على الايرانيين وحدهم، فقد شاركهم فيها العالم المتحضر شرقه وغربه، فأوفدت ثماني عشرة دولةكبيرة إلى إيران من يمثلها في الاحتفال بذكرى الفردوسي، وزاد بعضها من قبيل المجاملة للإيرانيين والمبالغة في تقدير شاعرهم فاحتفى بتلك الذكرى احتفاء خاصاً في عواصمه. فعل ذلك الألمان في برلين، والانجليز في لندن، والفرنسيون في باريس، والايطاليون في رومية. وعما قريب تحذو مصر حذوهم فتهب ذكرى الفردوسي أسبوعاً من الزمن يتحدث فيه بالقاهرة نفر من فضلائها عن حياة الفردوسي وشعره، وعن أثر قومه في عالم الفن والأدب
وأريد بهذه المناسبة أن أعرض في هذا المقال وفي مقال آخر آت ببيان وجيز لسبب حفاوة الفرس وغير الفرس بذكرى الفردوسي. وسنرى أن البحث سيكشف لنا عن شخصية فذة عجيبة حقاً. شخصية استطاعت من جهة أن تستنفذ قومية ولغة كان يتنازعهما البقاء والعدم، ومن جهة أخرى ساهمت بنصيب موفود في ميراث العالم الأدبي الباقي على وجه الزمان
هو أبو القاسم الحسن بن علي الفردوسي، وكلمة (الفرودسي) لقبه الشعري، فقد جرت عادة الفرس من قديم أن يخلعوا على شعرائهم ألقاباً خاصة كالدقيقي، وملك الشعراء، ومحكم الشعراء وهكذا. ولد على رأى بعض الثقات حوالي عام 325هـ بقرية من قرى مدينة طوس بخراسان يقال لها (باز)، وورث عن أبيه ضياعاً كانت تغل عليه في صدر حياته كفايته من المال. وتعلم في حداثته ما كان يتعلمه أمثاله من ابناء الدهاقين في ذلك الزمان، فحذق الفهلوية والعربية، وشغف في صباه بقرض الشعر الفارسي والتوفر على مطالعة القصص الفارسي القديم. فأنشأ كل ذلك فيه اعتداداً بقومه واعتناقاً لمذهبهم الشيعي. وشدا(83/12)
شيئاً من آراء المتكلمين من المعتزلة، فنشأ فارسي الهوى، شيعي المذهب، معتزلي الرآي
كان أمر خراسان في ذلك الوقت إلى الدولة السامانية، وهي دولة فارسية من الدول التي تقسمت سلطان الدولة العباسية بضعف السلطة المركزية في بغداد ابتداء من القرن الثالث الهجري. وقد جهد السامانيون في بعث الروح القومي الفارسي مستعينين على ذلك بما للتاريخ والأدب من القوة في إذكاء الروح القومي عامة. فنقل وزيرهم البلعمي برسم الأمير منصور الساماني تاريخ الطبري إلى الفارسية، وتقدم عاملهم على طوس أو منصور ابن عبد الرزاق إلى رجل يقال له أبو منصور المعمري في جمع أخبار الفرس القدماء في شكل تاريخ شعبي لفارس من أقدم عصورها إلى الفتح الأسلامي، فعهد بالأمر إلى أربعة من الفرس الزرداشتيين فجمعوا ذلك التاريخ من الكتب المحفوظة في قلاع فارس، وفي خزائن الموابذة والدهاقين. ثم كتبوا ذلك التاريخ بالفارسية الحديثة وسموه (الشاهنامة) أي (كتاب الملوك)، وكان ذلك حوالي عام 347هـ؛ وأراد السامانيون أن يسهل على الفرس تناول هذا التاريخ وتداوله فعهد الأمير نوح ابن منصور الساماني ينظمه شعراً إلى فتى فارسي شاعر يعرف بالدقيقي. فأخذ الدقيقي في ذلك فنظم منه ألف بيت ثم هلك غيلة حوالة عام 366هـ.
اطلع الفردوسي على الشاهنامة المنثورة وعلى ما نظم الدقيقي منها من نسخة أعاره إياها صديق له يقال له (محمد لشكري). وأشار عليه ذلك الصديق أن يتم ما شرع فيه الدقيقي، وصادف ذلك هوى في نفسه، فامتثل الاشارة وعكف على نظم الشاهنامة من حيث انتهى صاحبه، فقضى في ذلك ثلاثاً وعشرين سنة أتم فيها نسخة الشاهنامة الأولى (389هـ) ثم أهدى تلك النسخة إلى كبير من كبراء الفرس الظاهرين بأرض أسبهان يقال له أحمد الخالنجاني، فأجازه عليها بجائزة يسيرة
في تلك السنين الطوال كانت خراسان قد تبدلت بها الحال، لاضطراب أمر الدولة السامانية القومية المستنيرة، وعراها ما يعرو البلاد عادة عند التأذن بذهاب دولة وقيام أخرى. فأهملت المرافق العامة وخاصة مرافق الري، والبلاد يعدُ بلاد زراعية، فشح الماء، وجف الزرع، وأجدبت الحقول، ونالت ملاك الأراضي شدة تعذر علبهم معها أداء الخراج الموضوع على أراضيهم. وكان الفردوسي بطبيعة الحال من ضحايا تلك الشدة الاقتصادية،(83/13)
وزاده ضنكا وسوء حال انصرافه إلى حية الأدب المحصن، واضطراره إلى أن يستكفي غيره النظر في شئون ارضه. ويظهر أثر تلك الحال واضحاً قي ترديده في شعره الشكوى من الفاقة وتنكر الزمان.
وقد اضطر آخر الأمر إلى مسألة أصدقائه، فأعانه منهم نفر كرام النفوس أوفياء القلوب، كافأهم عن صنيعهم بأن نوه بذكرهم في الشاهنامة. والحق أن الفردوسي، وقد فقد الانتفاع بأرضه أصبح يرى أن من حقه على الناس أن يكافئوه على جهوده الأدبية بمال يزوج منه ابنته الوحيدة، ويفق منه على نفسه في شيخوخته.
وطفق لذلك يبحث عن أمير نبيل او ملك جليل يهدي إليه الشاهنامة فيجيزه عنها بجائزة تحقق أمنيته، وسرعان ما وجد ذلك الملك الجليل في شخص السلطان محمود الغزنوي.
والسلطان محمود الغزنوي أوحد ملوك الاسلام لذلك العهد، واحد أبطال التاريخ الاسلامي على الإطلاق. قد شاد بعزمه وهمته ملكاً عريضاً وسع الهندستان، وخراسان وتركستان، وطبرستان، وفارس. وأصبحت قاعدته (غزته) بمساجدها ومدارسها وخزائن كتبها وعلمائها الأعلام من أمهات المدن الاسلامية. ويقال إنه يجتمع قط في مدينة أسيوية في وقت واحد من أعيان الأدب وأقطاب العلم والفلسفة مثل من اجتمع بغزته على عهد السلطان محمود. ذلك بأن السلطان كان شغوفاً بالعلم والأدب، حريصاً على اجتذاب العلماء من مختلف البلدان الاسلامية ليقيمهم بحضرته، فيزدان بهم بلاطه، وتكون له من قربهم شهرة أدبية تضاف إلى شهرته الحربية التي طبقت الآفاق. ومن العلماء الذين حفلت بهم غزته على عهد، البيروني والعتبي المؤرخان، والفارابي الفيلسوف، وأبو الفتح البستي الشاعر العربي، والمسجدي والعنصري والفرخي، وكلهم من سباق شعراء الفرس في الاسلام. وكان الرئيس أبو علي بن سينا قد قصد حضرة السلطان ثم بداله فعدل عنها إلى جهة أخرى.
وكان السلطان كلما فرغ من حرب وأقام بعاصمته متودعاً، جلس إلى أولئك العلماء يحدثهم أو يستمع إلى حديثهم، وهو في تصيده العلماء ومباهاته بهم يذكرنا بسيف الدولة الحمداني، والحكم المستنصر الأندلسي، وبفردريك الأكبر ملك بروسيا، ولويس الرابع عشر ملك فرنسا
ذلك هو الملك الجليل الذي رآه الفردوسي مهوى فؤاده ومحط آماله. فأخذ يعد العدة لانتجاع(83/14)
حضرته والاعتراف من فبض جوده. فجعل يراجع الشاهنامة، مطامنا بين أجزائها، مكملاً ما نقص منها، مستدركاً ما فاته في نسختها الأولى ومحلياً فصولها بَمدَح سنية بطوق بها جيد ذلك الملك العظيم. وقد قضى في ذلك إحدى عشرة سنة، فقد فرغ من إعداد النسخة الثانية للشاهنامة عام 400 هـ وبلغت عدة أبياتها ستين ألفاً
توجه الفردوسي إلى غزنة ومعه راوية ونسخة الشاهنامة، فلقى وزير السلطان الرئيس الكبير أبا العباس الفضل بن أحمد، وكان معيناً بشر الفارسية، ولا ريب أنه أدرك أنها ثمرة مجهود عقل جبار، ولكنه مع ذلك لم يتقبلها بقبول حسن. والروايات القديمة مجمعة على أن الوشاية والكيد قد عملا عملهما في إفساد قلب السلطان على الوزير والشاعر معاً. ولكن الأمر أجل من ذلك وأعظم. فليس من شك في أن ذلك السلطان التركي المسلم، الذي أنفق من الجهد في إعلاء كلمة الأسلام في الهند ما أنفق، والذي كان نصيراً للسنة، وخصماً ألد للباطنية والمعتزلة، هذا السلطان لم يعجبه أن يشيد الفردوسي بمجد حازه الفرس أيام مجوسيتهم، كما لم يعجبه أن ينفخ في بوق العصبية الفارسية، وأن يدير كتابه على الحروب التي وقعت في القديم بين إيران وطوران، كما لم يعجبه تشيعه وجهره بآرائه الدالة على اعتزاله. كل ذلك قعد بالسلطان أن يجيز الشاعر بالجائزة التي كان يتوقعها، والتي كان يعلق عليها آمالاً كباراً. فيقال إنه بعث إليه بعشرين ألف درهم فقط مكافأة على مجهود خمس وثلاثين سنة
لكن الفردوسي لم يكن الرجل الذي يحتمل هذا التقصير في حقه. فقد جزى السلطان شر جزاء. فيقال إنه دخل حماماً فلما خرج منه شرب فقاعاً، ثم قسم عطية السلطان بين الحمامي والفقاعي. وبلغ ذلك السلطان فهاج غضبه، وهم بأن يبطش بالشاعر، فلاذ الفردوسي بالفرار من غزنة، وظل مختبأ بمدينة هراة ستة أشهر نظم فيها مائة بيت من الشعر هجا فيها السلطان هجاء لاذعاً موجعاً. فلما سكن عنه الطلب خرج إلى طرستان ونزل على صاحبها الأصبهبد بأن الأمر لم يعرض عليه كما ينبغي، واشترى منه هجو السلطان بأن الأمر لم يعرض عليه كما ينبغي، واشترى منه هجو السلطان بمائة ألف درهم، ثم محا ذلك الهجو من الشاهنامة محواً. بيد أن الفردوسي رأى أنه غير آمن على نفسه في طبرستان لأنها داخلة في حكم السلطان محمود، فخرج عنها إلى العراق العربي،(83/15)
ونزل على أميره سلطان الدولة البويهي. ونظم له قصة (يوسف وزليخا) وهي من قصص القرآن الكريم.
والفردوسي يصرح في صدر هذه القصة بأنه نظمها تكفيراً عن إضاعته عمره في نظم الشاهنامة، التي حشوها أساطير الفرس الأولين، ولكن يظهر أن الفردوسي أراد بنظم تلك القصة أن يلائم بين نفسه وبين البيئة العربية التي أدى به تطوافه إليها
ومهما يكن من شيء، فلا شك أن الفردوسي رأى نفسه غريباً بالعراق، وأن سراج حياته يوشك أن ينطفئ، وأحب ان يوافيه أجله في مسقط رأسه، قريباً من ابنته ووسط أهله ومعشره، وهون الخطب عليه أن السلطان كان قد ذهب عنه غضبه عليه، وأن أمره كان قد نسى أو تنوسي ببلاط غزنه. فخرج من العراق شاخصاً نحو طوس، فبلغها شيخاً فانياً مهدود القوى قد جاوز الثمانين
وتذكره السلطان محمود في ذلك الوقت، وذلك أنه كان راجعاً من الهند الى عاصمة ملكه، فعرض له ثائر في قلعة حصينة، فأرسل السلطان الى الثائر رسولاُ أن (إيت غدا، وقدم الطاعة واخدم حضرتنا، والبس التشريف، وارجع) فلما كان الغد ركب السلطان والى جانبه وزيره أحمد بن الحسن الميمندي. فلما بصر السلطان بالرسول مقبلاً قال للوزير (ترى ماذا يجعل من الجواب؟) فتمثل الوزير ببيت من الشاهنامة معناه (إذا لم يكن الجواب كما أريد، فأنا والجرز والميدان وافراسياب) فقال السلطان (لمن هذا البيت الذي تنبعث الشجاعة منه؟) قال (للمسكين أبي القاسم الفردوسي الذي أحتمل العناء خمساً وعشرين سنة وما جني أية ثمرة) قال السلطان (أحسنت بما ذكرتني، إني ليحزنني أن يحرم عطائي هذا الرجل الحر، ذكرني في غزنة لأرسل اليه شيئاً) فلما قدم الوزير غزنة ذكر السلطان، فقال السلطان (مر لأبي القاسم بستين ألف دينار بعطايا نيلجا، ويجحمل على الإبل السلطانية، ويعتذر اليه)
غير أن القدر الساخر شاء ألا تنفذ مشيئة السلطان، فيقال إنه عندما وصلت الابل التي تحمل الهدية إلى طوس، كان الفردوسي قد أسلم الروح (411هـ)، وإنه بينما الابل داخلة من بعض أبواب المدينة، كانت جنازة الشاعر خارجة من باب آخر
وأراد رسل السلطان أن يدفعوا الهدايا الى ابنة الفردوسي، ولكنها اعتذرت من عدم قبولها.(83/16)
عند ذلك أمر السلطان أن ينفق المال في بعض وجوه البر، فعموا به رباطاً للمجاهدين على حدود أقليم طوس. وكذلك نفي السلطان عن نفسه آخرة الأمر تهمة لتقصير في حق الشاعر الكبير. فان ادعى مدح أنه ظلمه في الأولى فقد أنصفه في الثانية، ودل بذلك على نفس كبيرة وحلم عظيم
تلك بالاختصار سيرة الحكيم أبي القاسم الفردوسي. وهي سيرة تفصح عما أوتيه ذلك الشاعر من قوة تتمثل في صدق عزيمته، وبهد همته، وعظم غايته، وثبات مقصده، كما أنها تفصح عن ضعفه الذي يبدو في حدة مزاجه، وكثرة شكواه من الفاقة وتبرمه بالناس والزمن، ثم في ندمه في ملع قصته الثانية على ما أنفق من جهده واضاع من عمره في نظم ملحمته الأولى. على أن ذلك كله ليس مناط تعظيم قومه لذكراه، إنما مناط ذلك هو الصنيع الجليل الذي أسداه الى القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة.
ولبيان ذلك ينبغي أن نرجع مع الزمن الى أوائل القرن الأول الهجري، فقد حمل العرب إذ ذاك على الدولة الفارسية، وما هي إلا سنوات معدودات، حتى كانوا قد قضوا على ملك آل ساسان، وصيروا فارس أقليماً من أقاليم الخلافة العربية، وانتشر الاسلام بعقب ذلك في فارس حتى كاد يقضي على الدين الزرادشتي، كما انتشرت العربية بين الفرس حتى أخملت الفهلوية وكادت تمحوها
قبل الفرس الاسلام عن طواعية نفس وطيب خاطر. أما القومية فقد جاهدوا من أجل الاحتفاظ بها جهاداً عظيماً. وقد تطور هذا الجهاد من مجرد مطالبة بالحقوق العامة قام بها الموالي زمن الدولة الأموية، الى مؤازرة للثائرين عليها من الخوارج والشيعة، الى ثورة عامة انجلت عن سقوط الدولة الأموية العربية، وقيام الدولة العباسية التي كانت فارسية في أكثر أوضاعها العامة، الى استقلال سياسي يسره ضعف السلطة المركزية ببغداد، الى سعي حثيث في أن يكون للفرس وجود قومي صحيح
الى هذا المجهود الضخم الموجه الى الاحتفاظ بالقومي، قام الفرس بمجهود آخر رائع من أجل إنهاض لغتهم وتعميم استعمالها في بلادهم
لقد طغت العربية على الفهلوية في العصر العربي الأول طغياناً كان من أثره أن انحصر استعمال هذه اللغة في حدود إقليمية ضيقة: في فارس وخراسان وطبرستان، ولم تسلم(83/17)
الفهلوية في معاقلها هذه من التأثر بالعربية، فقد أصبحت تكتب بالحرف العربي ودخلتها ألفاظ وتعابير عربية أحالتها الى طور جديد من تاريخا عرفت فيه بالفارسية الحديثة. وبتنبه الشعور القومي عم استعمال اللغة المذكورة في تلك الأقاليم الثلاثة، حتى كادت العربية تنمحي من بعضها، كما يؤخذ من قول المتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغني ... بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان بترجمان
وقد عول ساسة الدول الثلاث: الطاهرية والقارية والسامانية، على ان يجعلوا الفارسية الحديثة لغة أدب وتدوين، فشجعوا الشعراء على النظم بالفارسية، وأمر السامانيون بتدوين تاريخ قومي للفرس، ونظمه بهذه اللغة كما تقدم القول
وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه الفرس في أمر قوميتهم ولغتهم فانهم في أواخر القرن الرابع بحاجة الى مدد أدبي ممتاز يبعث في القومية الفارسية روحاً قوياً، ويثب دعائم الفارسية الحديثة وينهضها على أساس ثابت، وقد أمد الفردوسي قومه بهذا المدد. فالشهنامة تعي بأبسط عبارة وأبلغ تصوير تاريخ الفرس القدماء ومفاخرهم وآدابهم وأساطيرهم. لذلك اضحت في حياة ناظمها - وهذا أمر منقطع النظير - ملحمة قومية، ولم يمض طويل زمن حتى غدت (قرآن القوم) على حد تعبير صاخب المثل السائر
لقد أدى الفردوسي (رسالته الخاصة) أحسن الأداء، وأصبح فضله على قومه ولغته باقياً من بقي قومه ولغته وقد عرف له قومه هذا الفضل فذكروه في هذه الأيام فأحسنوا ذكراه، وشادوا فوق رفاقه بناء عالياً، وهذا جهد مثوبة الحي للميت. وان الانسان ليذكر في هذا المقام دانتي الإيطالي، وكورياس اليوناني، فكلاهما أذكى الروح القومي في بلهد، وجدد بمجهوده الخاص دارس لغته، هذا بنثره، وذاك بشعره.
البقية في العدد القادم
عبد الحميد العبادي(83/18)
في الأدب المصري
مجالس الأدب في القرن الثامن عشر
بدار رضوان بك
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
مما اعتاد الناس سماعه أن يقول قائل: لا حيا الله أيام القرن الثامن عشر في مصر! وقد لا يتورع القائل أن يرمي ذلك العهد بأقبح التهم وأشنع الآراء: فيصفه تارة بالظلم، وتارة بالظلمة؛ وما اكثر ما تسمع الآذان ذكراه مصحوبة بتسمية لاذعة، فلا يقال إلا أنه كان عهد المماليك، أو عهد ظلم العثمانيين. وليس في ذلك عجب، فالناس كانوا قديماُ لا يرون الماضي على حقيقته، فهم إما أن يروه عصراً أعظم من عصرهم لا يستطيع حاضرهم أن يجاريه في شئ، وإما أن يروه عهداً دون عهدهم لا يرضون أن تقاس حال أيامهم به. والأيام كالناس تختلف في الخطوط وتتباين، فكما أن بعض الناس يكتسب من الحمد فوق ما يستحق، وينسب اليه من كريم الخلال ما ليس من طبعه، فذلك الأيام، قد ينعت الناس بعض عصورها بما ليس من طبعه، وينسبون اليه من الفضائل أكثر مما يجدر به، وكما أن بعض الناس قد يسلب جزاه، وتجحد حسنته، وينكر فضله، فكذلك قد يظلم التاريخ عهداً من العهود، فلا يقر له بفضل، ولا يحجم في وصفه عن تهمة، ولا يتعرض له بالأذى: ولقد كان عصر أمراء المصرين من هذه العصور المظلومة التي جحد التاريخ فضلها، وأذاع مثالبها، واخفى مناقبها، وصورها صورة مشوهة بغيضة. ولسنا بسبيل بيان الأسباب التي حملت التاريخ على ذلك الظلم، ولكنا نكتفي بأن نقول إن الأحياء قد يكون لهم نفع من اتهام الاموات، وقد يعود بعض الخير من الافتراء على الجدود. ولا حاجة بنا إلى التطويل في دفع هذا الاتهام ولا في دفع هذا الافتراء، فما في هذه الإطالة تحقيق للقصد. وحسبنا أن نصف مجلساً أدبياً في بعض هذه الأيام الماضية، وللقارئ أن يحكم من هذا الوصف إذا كانت تلك الأيام الغابرة جديرة بما يصفها به المتهمون المفترون:
كانت أمور مصر في منتصف القرن الثامن عشر قد خلصت إلى اثنين من الزعماء: أحدهما الأمير ابراهيم، والآخر الأمير رضوان. وقد أصبحا صاحبي الأمر في البلاد لا(83/19)
ينازعهما إلا المنافسون في دخائل صدورهم؛ وأما ظاهر الأمر فلم يكن لهما فيه شريك. حتى أن الباشا العثماني الذي كان يمثل السلطان لم يكن له إلى جانبهما أمر ولا نهي.
ولقد كان لكل من هذين الأميرين متجه يتجه اليه في رياسته، فكان ابراهيم صاحب السلطان، قائد الجيوش، ومدبر السياسة؛ على حين كان رضوان مؤلف القلوب، وقبلة القصاد؛ وان الأميران على اختلاف اتجاهيهما متفقين متآلفين، فقضيا في رياستهما سبع سنين ونيفاً
وكان بيت رضوان يتألق بالأنوار الساطعة، ويخلع عليه الفن المصري رواءه وبهاءه، وتجتمع في أبهائه هامات العنصر من الأدباء والعلماء، وقد كان بمصر حينئذ في الحق أداء وعلماء، على رغم من يتهم هذا العصر بالظلمة والانحطاط.
هناك على ضفة الخليج المصري اشترى رضوان داراً من أحد أكابر التجار، كانت واقعة على بركة الأزبكية، وموضعها اليوم ما يلي حديقة الأزبكية وميدان الأوبرا. وكانت تلك البركة إذ ذاك متنزهاً من منتزهات القاهرة المحبوبة، تحيط بها بيوت أعيان التجارة والأمراء. وكان للمير رضوان فوق ذلك في الناحية الشمالية الغرية من هذه البركة منظرة بديعة تطل من الغرب على الخليج الناصري، ومن الجنوب على بركة الأزبكية، ومن الشمال على بركة أخرى استحدثها الأمير بتوسيع مجرى الماء في الخليج القاهري مما يلي قنطرة الدكة. وقد نسق الأمير قصريه أبدع تنسيق، وجعل لهما حدائق فسيحة نقل البها بديع الزهر والشجر، وأقام في أركانها الجواسق الجميلة. وجعل في جوانب الحدائق مما يلي البركة قناطر لتجري المياه من تحتها، واتخذ فوق تلك القناطر مجالس للنزهة والاسترواح. وأما داخل القصور فكانت القباب العالية المحلاة بذوب المسجد، واللازورد، والزجاج الملون، وقد نقشت اعاليها وأسافلها بأروع النقوش وأدقها. وكانت الأنوار تسطع في هذه القباب في أثناء الليل فتكاد تخطف الأبصار من بهائها ودوائها
وفي هذه الأبهاء التي تأخذ بمجامع القلوب كان يجتمع أدباء العصر وأعيان العلماء يتسامرون في حضرة الأمير المحبوب، ويتجاذبون أطراف الملح والنوادر في حشمة ووقار لا يخرج عنهما أحد. وكان من هؤلاء اديب العصر الاعظم قاسم بن عطاء الله المصري، وصديقه مصطفى أسعد الدمياطي، وإلى جانبهما مجمع باهر من شيوخ وشبان، بعضهم(83/20)
للجد والوقار كالشيخين الشبراوي والحفني، وبعضهم للفكاهة كالشيخ عامر الانبوطي الهجاء
واجتمع مجلس الأدباء يوماً في القصر، وإذا بالأمير يسأل عن أحدهم فلا يجده. قال: (اين ابن الصلاحي؟) ولم يكد ينتهي من سؤاله حتى رد في جانب البهو صوت جهوري ينشد:
شاق طرف السرور وظرف الربيع ... فتملى بحسن تلك الربوع
ما ترى الزهر ضاحكاً لبكاءِ ال ... طل من در قطره بالدموع
وغصون الرياض تخلع أثوا ... ب التداني على الندى الخليع
فأنسنا بجمع إخوان صدق ... زان طبع الوفاء قدر الجميع
يا صلاحي أرح فؤادك والبس ... من بشير اللقا قميص الرجوع
فالتفت الجلوس كلهم نحو القادم فاذا هو الذي كان يسأل الأمير عنه؛ وصاح الشيخ عامر قائلاً: (لقد ذكرنا القط. . . .) فضحك الجمع ولم يمتنع عن الضحك الأمير، وجاس الأدباء بعضهم إلى بعض في أنحاء البهو الأعظم من قصر رضوان، وجلس الأمير على سرير عال من آيات الفن المصري، جوانبه من الخشب المخروط، تكتنفه وتتخلله رسوم من العاج والآبنوس والصدف، وقد كُسيت جوانب السرير بالحر الملون البديع، تتغير ألوانه في ضوء المصابيح المتألقة كما تتغير الألوان إذا وقع الضوء على رقاب الحمام القرمزي الداكن.
وأتجه الأمير إلى الأديب الأكبر ابن عطاء وأقبل عليه باسماً وقال له: (ماذا جئت به اليوم يا ابا عطاء؟ لقد رأيتك بالأمس تسير بين أشجار البستان، فقلت في نفسي لابد أن متحفنا اليوم بشيء جديد).
فأبتسم الأديب وقال: (الحق ما تقول أيها الأمير، دامت نعمتك، وأقر الله أعيننا ببقائك وعلو دولتك)
فقال له الأمير: (إذن فهات، وقد أحضرت لك الشيخ عامر الأنبوطي عمداً)
فصاح الأديب ابن عطاء وهو باسم وقال: (أعوذ بجاهك منه أيها الأمير!)
فصاح عند ذلك الشيخ متدخلا في الحديث (وماذا تخشى يا ابن عطاء؟ أليس لكل منه فنه؟)
فنظر إليه بن عطاء وهو باسط يديه بسطة الرجاء وقال: (لقد عذت بكنف الأمير من لسانك، فدون سوى إذا شئت)(83/21)
فقال الأمير ضاحكاً: (إذن أنا مجبرة منك يا شيخ عامر) وضحك الشيخ عامر وقال: (إذا شئت أيها الأمير، فلقد والله قضيت الليلة الماضية أشحذ لساني وذهني لنزاله. وقد والله فوت على فريستي)
فضح الندى وأنصت بعد لأي لمدحة الأديب ابن عطاء: فأنشأ يقول:
بكت بدمع الطل عين النرجس ... فأضحكت ثغر الأقاح الألعس
واستمر في مزدوجته يصف البستان حيناً والماء حيناً.
فيقول منها:
حديقة بها السرولا محدق ... جدولها مسلسل منطلق
في جوه نجم الزهور مشرق ... والبان ظله غدا يسترق
من وجنة الماء احمرار الورد
ثم تخلص إلى ذكر الحب على سنة الأقدمين من الشعراء، وتخلص من ذلك إلى مدح رضوان فقال:
دع علة التعليل بالأماني ... واقصد حمى الموصوف بالأمان
وانف لباس البؤس والأحزان ... واسأل عن النعيم من رضوان
سَلْ ما تريد، لا تخف من رد
ملينا جلت لنا أوصافه ... لم بيد في غير العطا إسرافه
ضياؤه قرت به أضيافه ... تفعل في جيش العدى أسيافه
ما يفعل الصرصر يوم الحصد
إلى أن أكمل مدحته بين اهتزاز الأمير واعجاب السامعين، لولا ابتسامة عابثة من الشيخ عامر وهو ينظر إلى الأمير.
فقال له الأمير: (وما تستطيع أن تقول في هذا يا شيخ الهجائين؟)
فقال الشيخ: (لا أقوال في هذا شيئاً مادام فيه ذكرك ومديحك أيها الأمير: ولكنه لو لم يستعذ بك وجدني قائلاً)
فتحرك الأديب ابن عطاء حركة غضب وأنفة وقال:
(أيسمح لي الأمير أن أرد عليه جواره إلى حين، لا حرمني الله جوارك، فان هذا الشيخ قد(83/22)
ظن أنني اتوارى منه ضعفاً)؛ فتبسم الأمير وقال: (نازله بقصيدة اخرى جديدة إذا شئت)
فصاح الشيخ عامر وظنها فرصة في ابن عطاء فقال: (أصبت القصد لازلت موفقاً أيها الأمير)
فاهتز ابن عطاء وقال: (نعم إذا شئت أيها الأمير، إن عفوي خير من إعدادي، وإذا شئت قلت)
فأذن له الأمير وتطلع الحاضرون إلى الأديب يظنون أنه سيسف ويتعرض لطعنات منازلة الهجاء. فقال ابن عطاء:
ترك الهجر ووافى كرم ... بعد ما كان لعهدي قد نسى
أهيف القد كغصن عَلبِما ... من نسيم الروض فن الميس
فاهتز الأمير وقال: (هيه يا ابن عطاء!)
فسرت في الشاعر هزة جديدة واستمر يقول:
مفرد في الحسن ثني معجباً ... ألف القد بشكل حَسَن
غصن بان هزه ريح الصبا ... خده يزهو على الورد الجني
ساحر الجفن أرانا عجباً ... أسره للأسد حال الوسن
وما زال بالسمط وراء السمط، والعقد من بعد العقد، حتى تخلص إلى مدح الأمير على عادته إلى أن ختم موشحه قائلاً:
كفه الغيث على الناس همي ... فأعاد الخصب بعد اليَبَس
أصبح الدهر به مبتسماً ... وهو فيه محل اللعَس
فنزل اليه الأمير من سريره وعانقه وقال له: (بمثلك تزدان مجالس الملوك يا ابن عطاء، والله لو لم أجد من المال إلا قوت يومي لما وجدت له محلاً أحب من إهدائه اليك)
ثم التفت الى الشيخ عامر وقال:
(لقد أنطقه الولاء أيها الشيخ فماذا تستطيع أن تقول؟
فقام اليه الشيخ وقبل رأسه وقال:
(يا أمير الشعر قددِنا اليك)
فصاح الشيخ مصطفى اللقيمي الدمياطي من جانب المجلس وقال:(83/23)
(أما الأمارة فلا نراها في الشعر. إن هي إلا في تلك السياسة، وهذه الدولة والرياسة. فدع عنك التعرض لهذا، فما أظنك مصيباً من الجائزة شيئاً)
فضحك الحاضرون شماتة في الهجاء الذي لم يترك من أهل الشعر ولا من اهل العلم أحداً إلا وتره وحرك حقده
وكان الشيخ الهجاء قد انكسر عند ذلك، غير انه لم يرض أن يترك من الوخز فقال ناظراً الى الشاعر الآخر:
(وما لك أنت؟ لأني بك قد تحركت غيرتك. غير أن لست بمستطيع اليوم أن تقول شيئاً. فقد ملك اليوم ابن عطاء) فقال الأمير مدفعاً عن الدمياطي:
(ومالك أنت به يا شيخ عامر؟ أنسيت مدحته العظمى؟ أنسيت مدامته الارجوانية في المقامة الرضوانية؟ لقد ينقطع عمر الكثيرين دون مثلها)
فقال الشيخ عامر ولم يثنه دفاع الأمير:
(إن هي إلا بيضة الديك) وأشار الى الشاعر، ثم صاح وجه الشاعر الدمياطي، وقال غاضباً:
(لو شئت الهجاء لهجوتك، ولكنك أقل من أن أهجوك، فاسمع إذن مدحتي في زين الملوك وأقر بعجزك وصغارك)
ثم اندفع يقول:
بشرى الربيع لقد وافت بشائره ... وفاح دونك في الآفاق عاطره
ومالت القضب بالأطيار مطربة ... وقد تبسم من عجب أزاهره
فسر مقدمه الحالي أخا شجن ... يهجه من معاني الدوح ناضره
ثم أوغل في وصف الربيع وزهره ونسيمه وعطره، فأبدع وأطرب إلى أن تخلص من وصفه الممتع إلى مدح الأمير فقال:
والزهر من فرح أهدى النثاريها ... لما سما الورد واستعملت مظاهره
حكى بمنظره الحالي ومخبره ... صفات رضواننا السامي زواهره
أمير مجد لنا تتلى مدائحه ... مدة الزمان كما تروى مآثره
تخاله الليث والمريخ في يده ... إذا بدا جائلاً والسيف شاهره(83/24)
روض نضير ولكن مثمر أبداً ... غيث ولكن ندى عمت مواطره
وما زال ينتقل في ذلك المدح من معنى إلى معنى إلى أن قال:
خذ من زمانك ما أغناك مغتنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
ودم بروض العلا والعز منبسطاً ... بمطربات الهنا يشدوك طائره
فصفق الأمير طرباً عندما بلغ الشعر ذلك، وصاح بالشيخ عامر يقول:
(عزمت علي يا شيخ إلا ما قمت إليه وقبلت رأسه كمل فعلت بالأديب ابن عطاء، فما هو بدونه مرتبة في الشعر ولا في الولاء. ولكم جميعاً مني أسنى جائزة)
فقام الشيخ إلى الشاعر وقبل رأسه وهو يقول:
(وما لكم لا تشكرون لي وخزاتي. أيها الأمير أكنا نظفر منهما بهاتين الدرتين بغير وخزات لساني؟)
فضحك الأمير والحاضرون منه وقال رضوان:
(أتذر البيت القديم يا شيخ عامر؟ لقد قلته لي منذ أيام فلولا أن النار تحرق ما حولها ما شم أحد رائحة ال. .)
فقال الشيخ منشداً البيت:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يُعرف طَيبَ عرف العود
فقال الأمير (هو هذا. هو هذا. لقد حفظت معناه ولكني لا أقوى على حفظ لفظه.)، ثم نظر إلى مملوك واقف إلى يمينه، وقد وضع يديه على صدره تأدباً وقال له:
(يا محمود، اذهب إلى خازنداري، وبلغه أمري باحضار ما اعتدت بذله في مثل هذا اليوم)
ولم يخرج أحد من الحاضرين في ذلك المجلس بغير ما يرضيه، غير ان الشيخ الحفني أبى أن يأخذ شيئاً من الأمير، بل قبل الأمير يده وسأله الدعاء، وخرج الشيخ الوقور وهو يدعو للأمير بالتوفيق والهداية)
وكان الشاعر ابن الصلاحي في كل ذلك متواضعاً ساكناً لم يثر لغيره، ولم يتقدم لمنافسة، بل كان يرب كما يطرب الحضور ويعجب كما يعجبون، ولما أوشك عقد الجمع أن ينفرط رفع عقيرته فأنشد مرتجلاً:
يا مساء السرور كيف اختلسنا ... فيك أنسا كأنما هو شك(83/25)
قد أنسنا في فتحه بالتداني ... ودهانا ختامه وهو مسك
ثم سار وهو يقول مرتجلاً:
إلى القبة الفيحاء سرنا فسرنا ... ربيع المنى في ثغر طلعتها الغرا
أنسنا بها من كل بدر ولا نرى ... عجيباً طلوع البدر في القبة الخضرا
فنظر إليه الأمير رضوان مبتسماً وقال: (هيه يا ابن الصلاحي لقد فوت علينا الليلة إنشاد منك) فقال الشاعر باسماً وهو ناظر إلى الأرض (دمت للملك يا مليك الزمان فالعود أحمد)، ثم حيا الأمير وسار في أثر صحبه خارجاً
محمد فريد أبو حديد(83/26)
الغزو الاقتصادي الياباني لاسواق العالم واثره في
الاقتصاد المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمه
استطاع الغزو الاقتصادي الياباني أن يحدث أثره في معظم الأسواق القديمة بسرعة مدهشة. وقد قال مسيو هيرونا وزير الخارجية اليابانية في إحدى تصريحاته الأخيرة إن هذه النهضة الصناعية والتجارية التي تضطلع بها اليابان إنما هي ثمرة العمل والمثابرة، ولا تعتمد على وسائل غير شريفة، وليس وراءها أية نزعة عدائية. وقد بينا في مقالنا السابق ظرفاً من الظروف والأحوال الاقتصادية المشجعة التي تعمل فيها الصناعة اليابانية، ولكن اليابان لا تستطيع بمثل هذه التأكيدات أن تهدئ ما يبثه غزوها الاقتصادي في معظم الدول الصناعية والتجارية من عوامل الخوف على مستقبلها الاقتصادي. ويجب أن نذكر أن النفوذ الاقتصادي إحدى الوسائل القوية التي يعتمد عليها الاستعمار الغربي في توطيد نفوذه وسلطانه في أفريقية وآسيا، وأنه يكون غالياً طليعة الفتح السياسي وذريعته، فاذا اضطربت دعائم هذا النفوذ الاقتصادي، اضطربت دعائم السيادة الاستعمارية التي تقوم عليه؛ والتحرير الاقتصادي دعامة قويه للعمل في سبيل التحرير السياسي. فالدول الاستعمارية التي يزعجها الغزو الياباني لا تقف في مقاومته عند تقدير الاحتمالات الاقتصادية وحدها، ولكنها تنظر الى آثار من وجهة أشد خطراً وأبعد مدى وهي وجهة مستقبلها الاستعماري
ولا ريب أن بريطانيا العظمى في مقدمة هذه الدول، بل هي أولها واسبقها الى التأثر بهذه المنافسة الخطرة التي تهدد نفوذها الاقتصادي والاستعماري في معظم أرجاء امبراطوريتها الشاسعة، وتخلق لها مشكلة امبراطورية في منتهى الخطورة. ذلك أن بريطانية العظمى تسمد كثيراً من أسباب غناها وقوته وعظمتها من نفوذها الاقتصادي وتفوقها الصناعي والتجاري؛ وهذا النفوذ الاقتصادي اقوى دعامة في صرح سلطانها الاستعماري؛ فاذا تقوضت دعائم هذا النفوذ اضطرب بناء الامبراطورية كله. وبريطانيا تشعر اليوم بأن تقدم(83/27)
الغزو الاقتصادي الياباني بهذه القوة المدهشة يعرضها لمثل هذا المأزق الدقيق؛ وتشعر باقي الدول الاستعمارية مثل فرنسا وهولنده وإيطاليا، بأنها تواجه نفس الخطر؛ وترى الولايات المتحدة أسواقها القديمة في أمريكا الجنوبية تفلت من يدها لتذهب الى قبضة منافستها الأسيوية؛ وتعمل الدول الغربية جميعاً لرد هذا الغزو كل بواسائها الخاصة، وقد نراها غير بعيد تحاول رده بوسائل مشتركة إذا عجزت من مقاومته منفردة كما حاولت أيام غزو اليابان لمنشوريا وتقدم الاستعمار الياباني في الصين
وقد يكون الغزو الاقتصادي الياباني من هذه الناحية أعنى من ناحية العمل على تقويض نفوذ الدول الغربية الاقتصادي في أفريقيا وآسي وإضعاف سلطانها الاستعماري بذلك، خليقاً بعطف الأمم الشرقية وتأييدها، خصوصاً وأنه لا يبيت وراءه مطامع استعمارية، - واليابان تقف بأطماعها الاستعمارية عند الصين وسيادة الباسفيك -، وهو خليق بعطف الأمم المغلوبة بقدر ما يحدث للأمم الغربية الغالبة من صعاب ومتعب تفت في بنائها الاقتصادي وسيادتها الاستعمارية؛ ولكن العطف على جهود اليابان من هذه الناحية العامة، يجب ألا يحول بيننا وبين تقدير العوامل والآثار الاقتصادية الضارة التي تترتب عليها من الوجهة المحلية؛ وما يعنينا قبل كل شيء هو بحث هذه الآثار في اقتصادنا المصري، فقد أخذت طلائع الغزو الياباني تحدث أثرها في السوق المصرية بسرعة، وتثير من العوامل والاحتمالات ما قد يعرض مستقبلنا الاقتصادي الى أخطر النتائج إذا لم تتخذ الوسائل اللازمة لتوطيده وحمايته
ذلك ان محصول مصر الرئيسي ونعنى القطن يرتبط أشد الارتباط في انتاجه وفي تصريفه بصناعة القطن البريطانية؛ هذا ومن جهة أخرى فان في مصر الآن صناعات قطنية هامة يجب حمايتها وتشجيعها على التوسع والنمو؛ والصناعة القطنية اليابانية تتقدم بسرعة ويحدث هذا التقدم أثر السيئ في الصناعات القطنية البريطانية التي تستهلك أعظم كمية من القطن المصري؛ ومن الغريب أن اليابان مع كونها لا تنتج سوى قليل من القطن الرديء، استطاعت أن تتقدم في الصناعة القطنية حتى أصبحت في انتاجها ثالثة دول العالم بعد الولايات المتحدة وانكلترا؛ ويبلغ ما تصدره اليابان من البضائع القطنية نحو 20 % من مجموع صادراتها، واليابان تستورد كميات عظيمة من القطن الرديء من الهند والولايات(83/28)
المتحدة ولا تستورد سوى كمية ضئيلة من القطن المصري. وقد بلغت قيمة ما استوردته في سنة 1930 من القطن فقط 362 مليون ين (نحو 24 مليون جنيه)
ولكي يستطيع القارئ أن يقدر مدى تقدم التجارة اليابانية في مصر نضع أمامه الأرقام الآتية عن قيمها في الأعوام الأربعة الأخيرة:
سنة 1930193119321933
ج. م 1. 732 , 077 1 , 535 , 282 2. 152 , 140 2. 873. 131
ففي أقل من عامين زادت الصادرات اليابانية إلى مصر نحو 40 %، وأصبحت التجارة اليابانية في مصر سنة 1933 تعدل نحو 12 % من مجموع تجارة مصر الخارجية (وقد بلغ في هذا العام 26 , 766 , 991)
وتمثل البضائع القطنية والحريرية أكبر نسبة في الصادرات اليابانية إلى مصر؛ وقد نمت نسبة الصادرات القطنية بسرعة مدهشة في الأعوام الثلاثة الأخيرة كما يتضح من البيان الآتي:
مقدار ما ورد إلى مصر من البضائع القطنية والحريرية اليابانية مقدراً بالجنيه
سنة
1931
1932
1933
بضائع قطنية مختلفة
761 , 234 ج. م
1. 104. 673
1. 834. 877
بضائع حريرية مختلفة
. . . . . . . . . . .
626. 874
501. 920(83/29)
ومن ذلك يتضح أن الصادرات القطنية اليابانية إلى مصر بلغت نحو ثلاثة أمثالها في ظرف عامين؛ ومن المحقق أن هذه النسبة قد ارتفعت في العام الحالي (الذي لم ينته بعد) وسوف ترتفع باطراد إذا استمرت الامور على حالها.
وقد كانت منتوجات لانكشير (انكلترا) القطنية حتى أعوام قلائل تحتل المكان الاول في مصر، كما ان لانكشير اكبر عميل لمصر في شراء قطنها؛ ولكن المنافسة اليابانية كانت شديدة الوطأة على الصناعة القطنية البريطانية في مصر والهند وفي معظم الاسواق الامبراطورية؛ وقد اصابت هذه المنافسة تجارة لانكشير في الهند بخسائر فادحة؛ ورفعت حكومة الهند الرسوم الجمركية على البضائع القطنية اليابانية مراراً حتى بلغت 75 %، ومع ذلك فان ذلك لم يحقق للتجارة البريطانية ما كانت تتمتع به في الهند من التفوق؛ واضطرت بريطانيا أن تجري في ذلك السبيل مع اليابان مفاوضات خاصة وان تعقد معها اتفاقاً تجارياً خاصاً تحصل به على بعض المزايا خاصاً تحصل به على بعض المزايا نظير تحديد المنسوجات القطنية اليابانية الصادرة الى الهند باربعمائة مليون ياردة تحصل عنها رسوم جمركية قدرها 50 % من قيمتها. أما في مصر فما زالت تجارة لانكشير في انحطاط مستمر، وقد هبطت تباعاً في الأعوام الثلاثة الاخيرة بسرعة يوضحها البيان الآتي:
مقدار ما تستورده مصر من المنسوجات والبضائع القطنية من انكلترا
سنة
1931
1932
1933
ج. م
1. 742. 000
1. 56. 466
1. 232. 811
ويتضح من ذلك ان ما استوردته مصر سنة 1933 من البضائع اليابانية يزيد عما(83/30)
استوردته منها من انكلترا بنحو ستمائة ألف جنيه؛ وأن اليابان أصبحت تحتل المكان الأول في الصادرات القطنية إلى مصر بعد أن كانت انكلترا تحتله باستمرار
ومن ذلك نفهم مدى جزع لانكشير من تدهور مركزها في السوق المصري؛ وهو جزع يبدو فيم تعلق به الصحف الانكليزية على هذا الموقف، وفيما ينذر به أقطاب الصناعة البريطانية من وقوع رد الفعل على مص ذاتها حيث تضطر المصانع البريطانية أن تقلل من شراء القطن المصري إذا استمرت الحال على ذلك. وهذه هي أخطر نقطة في الموضوع بالنسبة لمصر. ذلك أن ما تستورده مصر من مصنوعات انكلترا القطنية لا يتناسب مع ما تشتريه انكلترا من القطن المصري؛ وإليك مقدار ما اشترته انكلترا من قطننا في الأعوام الاخيرة:
193119321933
ما قيمته6. 469. 204 5. 527. 393 8. 767. 280ج. م
ويقابل ذلك ما تشتريه اليابان وهو:
ما قيمته1. 213. 162 1. 078. 681 1. 168. 528 ج. م
فانكلترا تشتري من قطننا في العام نحو 40 % منه بينما لا تشتري اليابان اكثر من 6 او 7 %، ومع ذل فان اليابان تصدر إلى مصر من البضائع القطنية أكثر مما تصدره انكلترا
والنتيجة المحتومة لذلك، إذا استمر هذا الوضع الشاذ، هي ان لانكشير ستضطر غلى أن تقلل شيئاً فشيئاً من استهلاكها للقطن المصري مادامت لا تجد اسواقاً لتصريف منتوجاته؛ وعندئذ يقع الضرر المحقق على المنتج المصري
هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان في مصر صناعة قطنية ناشئة تضطلع بها شركة مصر، وتوظف فيها ملايين عديدة من الاموال المصرية؛ وقد قطعت شركة مصر لغزل القطن ونسجه خطوات كبيرة في أعوامها القلائل واصبحت اعظم منشأة صناعية في مصر؛ وهي تستهلك كل عام مقداراً كبيراً من القطن المصري وتمد السوق المحلية بكميات عظيمة من المنتوجات القطنية المتقنة الصنع المعتدلة الثمن مع ذلك. وكان ما يستهلكه سنة 1931 من القطن المصري 22. 308 قناطير فزاد في العام الثاني إلى 50. 775 قنطاراً وفي الذي يليه الى 97. 143 قنطاراً، ثم زاد في العام الماضي (1934) الى 152 ألف(83/31)
قنطار. وزادت منتوجاتها من الغزل والنسيج تبعاً لذلك زيادة كبيرة حتى وصلت (سنة 1934) الى 13 مليون رطل من الغزل، والى 35 مليون ياردة من النسيج.
وهي تسير بسرعة في سبيل التقدم وتتخذ الأهبة لمضاعفة أعمالها ومشاريعها، بحيث يتضاعف ما تستهلكه من القطن المصري عاماً بعد عام ويتضاعف ما تنتجه من الغزل والنسيج
ولكن هذا الصرح الاقتصادي العظيم يجد نفسه اليوم أمام غزو البضائع القطنية اليابانية الرخيصة للسوق المصري، وهو غزو يشتد أثره يوماً بعد يوم، وتجد هذه البضائع الرخيصة في السوق إقبالاً سريعاً تشجعه وتذكيه الازمة الاقتصادية؛ وقد بينا كيف تعمل الصناعة اليابانية في ظروف مدهشة تمكنها من هذا الغزو، والصناعة القطنية اليابانية تستعمل القطن الرديء الرخيص، الهندي او الامريكي، في حين أن شركة الغزل المصرية لا تستعمل سوى القطن المصري، لكي تعاون بذلك على استهلاكه، وتحقق الاغراض الاقتصادية القومية التي قامت من اجلها، فاذا استمر هذا الغزو الياباني دون اتخاذ ما يجب لرده، واستمر إقبال المصريين على البضائع القطنية الرخيص، عرضت الصناعة القطنية المصرية لمصاعب تحد من نموها وتقدمها، وعرضت الملايين المصرية التي توظف فيها، والايدي المصرية العاملة التي تقوم بها، الى عواقب لا تحمد ولا يرضاها اي مصري
وما نريد ان ننوه به بنوع خاص، هو أن الأمر هنا لا يتعلق بالناحية القومية والواجب القومي في تشجيع الصناعات القومية، ولكنه يتعلق باعتبارات اقتصادية خطيرة. ذلك أن هذه المنسوجات الرخيصة تستهلك لرداءتها بسرعة، في حين أن المنسوجات الجيدة التي تنتجها الصناعة المصرية من القطن المصري تمتاز بالمتانة وبطول استعمالها، فهي بذلك أجدى وأفر على المستهلك الذي يقدر مصلحته الحقيقية. هذا ومن جهة أخرى فان الصناعة المحلية تستهلك قطناً مصرياً، وتعاون المنتج المصري بذلك على تصريف اقطانه، فاذا لم يعاونها المصريون من جهة أخرى باستهلاك منتوجاتها، فانها تعجز عن المضي في تحقيق هذه المعاونة الاقتصادية الجليلة.
ولهذا كله يجب على مصر أن تقطن لما يهدد مستقبلها الاقتصادي من جراء هذا الغزو المفاجيء، وان تبحث في وسائل الحماية السريعة لصناعاتها الفتية. وعبء هذه الحماية(83/32)
يقع على عاتق الحكومة والامة معاً. فاما الحكومة فمن واجبها وفي مقدورها ان تلجأ الى مضاعفة الحماية الجمركية لتحمي المنتوجات المحلية من هذا السيل الداهم؛ على أن هذه الحماية وحدها لا تكفي كما أثبتت التجارب الاخيرة في مصر وغير مصر؛ وإنما يجب ان تقرن في الوقت نفسه بمعاونة الأمة وتفضيلها للمنتوجات القومية على سواها؛ وهي بهذه المعاونة لا تحقق واجباً ونياً فقط، وإنما تخدم في الوقت نفسه مصالحها الاقتصادية
محمد عبد الله عنان المحامي(83/33)
حول 19 يناير
للأستاذ محمد محمود جلال
اليوم تبحر من السويس إحدى الجواري المنشئات في البحر علماً على تقدم وتسخير القوى، تقل الرهط الكريم من رجال الزراعة والاقتصاد غلى بور سودان. وكنت اعد لتلك الرحلة عدتي، حتى حالت فجأة ظروف قاهرة دون ما تعلقت به الأمنية. فاليوم ندعو الله ان يقرن التوفيق بخطاهم، ونسجل لهم هذه اليد سابقين الى الاعتراف سبقهم الى خير العمل
ولعل هذه الرحلة الموفقة باذن الله اولى الخطى، ولعلها بداية حزم ترقبه البلاد من قديم، فتلها خطوات في مختلف ميادين السعي المجدي؛ ولعلها بادرة التنبه، ولعل الله جل شانه حين قدرها شهر يناير موعداً قد اراد ان يسدل على التقصير من ستره، وان يكون في المستقبل ما ينفض عن الماضي الغبار
فلقد مر (19 يناير) وكأن لم يلحظه احد، فلم نر لذكراه الا سطوراً نشرت بالأهرام من هيئة واحدة، هي هيئة الحزب الوطني؛ حتى لكأنه يوم يمر كسواه، وكأنه ليس ذلك اليوم الذي امسى على غصب صارخ، وتفريق مروع، وعبث من القوة بالحق عبثاً لم يرو التاريخ له مثيلاً
وبين (بور سودان) على البحر الأحمر و (بور سعيد) على البحر الأبيض صحيفة من المجد كاد يطويها الزمان لولا كفالة التاريخ، وكوامن من الذكريات والعبر من حق الجيل الجديد علينا أن نبسها وننشرها، ومن واجب الأدب المصري أن يبذل لها أثمن بضاعته وأغلى جهوده. فلم يزل الأديب منذ القدم قواماً على الواجب والفضيلة، يتحسس مواضيعها، ويخرجها في خير الثياب واصدقها غذاء للأمم في حياتها، وإيقاظاً لهمم فيما تحاول من تصحيح وتهذيب
واذا كان الشطر الأول من الاسمين أعجمياً دخيلاً، ففي الشق الثاني من كليهما شفاء ورحمة للمؤمنين
فالمرحوم (سعيد باشا) عزيز مصر أصبح في التاريخ - وبعد أن خلقت سياسة الانجليز (حادثة وادي حلفا وتفتيش الجنود) فاضطرت الخديو عباس الثاني إلى العودة الى القاهرة - آخر من زار (الوجه السوداني) من ملوك مصر(83/34)
وقد زخر التاريخ الحديث بفيض من خير الأنباء غن زيارته، فأينما حل ان الاستقبال حافلاً، صادراً من القلوب لا اثر فيه لرياء ولا مصانعة، وحسبك من قرة عين لمليك أن يرى أبنية شاهقة وطرقاً ممهدة وادارة مستقرة حازمة، تعاونت على تأسيسها وتمهيدها وإقرارها أباد من اقاليم الوجه البحري، وأخرى من الوجه السوداني، وثالثة من الوجه القبلي
ولعله رحمه الله أراد أن يختبر ذلك البناء المعنوي المدعم، ويشهد العالمين - وفي مقدمتهم قناصل الدول - حين أشاع عزمه على إخلاء السودان من بني الوجهين البحري والقبلي، فهب أبناء الوجه السوداني في ألم وحيرة يرجون ويلحون في أن يعدل عن فكرة تنافي طبيعة الوجود. فآمن بأساس ملكه وحصل على ما أراد من التجربة
وإني لأذكر في ألم ومرارة كيف أصبح مجلس النواب بالقاهرة خلواً من أبناء السودان وقد كانوا زينة المجالس الأولى؛ فقد كان الوجه السوداني ممثلاً بعدد يوازي نواب الوجه القبلي
وفي عام 1911 أبان المرحوم (أبانا باشا) رئيس الجمعية الجغرافية في بحث له بالمؤتمر المصر أن مقارنة العظام التي عثر عليها في المقابر تثبت أن الذين يقطنون وادي النيل من عنصر واحد
ثم انظر بعد ذل تلق الوحدة في اللغة وتلقها في الدين وتجدها في العرف كما تجدها في العادات
ولكنك حين نبحث في القاهرة وهي قلب البلاد تأخذ قلبك حسرة لاذعة. فلست تجد فيها بين مظاهرها المختلفة مظهراً واحداً يدل على تل الوحدة الطبيعية ويشير إلى هذه الروابط الوثيقة
بين ظهرانينا نخبة من الشعراء، سجلوا كثيراً من الحوادث ذات البال، حتى امتد فضلهم إلى شؤون تبعد عن مصر، وقد خلت دواوينهم من ذكر السودان وشؤونه، بل لم تنوه قصيدة بتلك التجربة التي قام بها المرحوم سعيد باشا، وفي عرفي انها وحيدة في التاريخ الحديث
أعرف أن المنظر والمعاشرة أكثر العوامل إيحاء. ولكن التاريخ ما يزال للكثير من الكتاب والشعراء مصدر وحي من أغزر المصادر بتناول الفريقان من كأسه دهاقاً من روعة(83/35)
وفيضاً من غذاء
بل إن الروعة المعنوية لحادث كبير او تصرف حصيف، او خلق كريم، لتكون في كثير من الاحيان اوفر مادة واكرم اثارة من مظهر مادي
وإذا كانت الجزيرة ببساتينها وقصورها، والروضة بحافل تاريخها، والأزهر الشريف بماضيه، تأخذ باللب وتلهم القائل، ففي جزيرة السودان، وفي غاباته، وفي منابع النيل السعيد الكريم، وفي مجاري مياهه الأولى وروافده سمة للفكر والقول، وأي سعة؟
لقيت في إحدى سفراتي ضابطاً شهماً اقام بالسودان، اخذ يحدثني عن رحلات قام بها في ربوعه، والضابط اقرب الناس إلى اختصار القول وأبعدهم عن زخرفه؛ ومع ما بيني وبين ما يصف من شقة بعيدة، فقد ظلت طوال الرفقة أخيذ القلب بالصور الرائعة يعرضها واحدة تلو اخر حتى دونت منها كثيراً، وحتى تمنيت لو كنت شاعراً فأصوغها نظمياً أقوم به ببعض الواجب نحو بلادي
وكم يكون من خالص التوفيق أن تدعو (الرسالة) إلى رحلة فريق من الأدباء في العام القادم، يصلون ما انقطع في عالم الأدب
ثم انظر بعد لك الى المسارح!! فلن تجد رواية حدثت وقائعها بالسودان. بل إنك واجدها حافلة بالمناظر الأوربية، وبكثير من مناظر القاهرة وبعض القرى، دون أن يحظى بصرك بمنظر واحد يمثل لك الخرطوم قائمة شاهقة على الأيدي الثلاث، ولا منابع النيل إليك حقيقة الأواصر في الوحدة المباركة، ولا بمثال الشجاعة وكرم الخلق الذي تسير على نوره الركبان
إنا حين نقول في أدبنا القومي عن اهل الوجه البحري، إنهم أولو ذوق سليم، وعن الوجه القبلي إنه موطن الكرامة والكرم وجب أن نقول عن أهل السودان إنهم أهل الوفاء والشجاعة
كان الأمير (علي بن دينار) ممتعاً بكثير من مظاهر الحكم، وليس أغنى من الانجليز ولا أسخى منهم يداً وقت الحرب، وهم المسيطرون حواليه، ولكن ذلك لم يكن مغرياً له، فهو لم يفتأ يذكر أنهم نكبة وادي النيل وهو منه، فما ثار إلا عليهم وفاءً لحق النيل وواديه، وظناً منه بسنوح الفرصة(83/36)
وفي السودان علماء، وذكاء أهله غير منكور، ولا نعرف في العاصمة عنهم إلا قليلاً، حين تذكر الصحف قدوم بعضهم للاستشفاء أو لتبديل الهواء، ومن واجبنا أن نبحث عن مؤلفاتهم وأن نتناولها بتعليق يجعل من الأمتين في العالم الأدبي كتاباً واحداً؛ ولاشك أن في السودان شعراء، فما زلنا نحس باقوال (سر الختم) و (علي عبد اللطيف) في محاكمتهم سنة 24، روح الشاعرية ممزوجة بالوفاء والشهامة. ومن واجب صحفنا وجماعاتنا الأدبية أن تبحث بما أوتيت من وسائل الصحافة عن تلك الكنوز
ليقم الأدب وجماعاته وصحفه بهذا الواجب، وليس العيب أن يكشف الزمان عن نقص ولا أن نعترف بالنقص، ولكن العيب أن نقعد عن تلافيه
ولنقل من اليوم: الوجه البحري، والوجه القبلي، والوجه السوداني. وليس عند اله جهد ضائع، ولكن في الدنيا كسل مضيع
محمد محمود جلال(83/37)
النزعة العملية في الأدبين العربي والانجليزي
للأستاذ فخري ابو السعود
من الطريف والمفيد معاً ألا نزال نوازن بين الأدب لاختلاف ظروفهما يختلفان كثيراً وقلما يتفقان؛ والموازنة بين وجوه اختلافهما العديدة - ووجوه اتفاقهما إن كانت - تلقي ضوءاً على مختلف الظواهر في كليهما، وتبرز شتى الأسباب والمسببات في تاريخهما، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء
وأعني بالنزعة العملية في الأدبين اتصالهما بالحياة اليومية والاجتماعية والسياسية والوطنية ومساهمة أقطابهما في تلك الشؤون، والأدبان هنا أيضاً على طرفي نقيض: فالنزعة العملية تسود الأدب الانجليزي من أقدم أيامه، وهي باطراد عصراً بعد عصر، بينما هي تكاد تنعدم في الأدب العربي؛ وما كان منها في صدر تاريخه قد تضاءل بكر العصور
فالانجليز بطبيعتهم العملية لم يترددوا في زج الأدب في غمار الحياة الملية والاستعانة به في شؤونها، وأدباؤهم لم يحجموا عن الاخذ بحظهم من أشغال الدنيا ومخاطراتها، أما العرب فعلى عظيم منزلة الأدب لديهم وشدة احتفائهم به، كان أدبهم دائماً بواد والحياة العملية بواد؛ وكان فناً نظرياً محصناً من توفر عليه انقطع عن غيره وعاش في عالم من الحفظ والرواية والتاريخ والتصنيف
فكان من أدباء الانجليز من ضربوا بسهم الفن والعلم والدين والحرب والشف الجغرافي وكبار وظائف الدولة، وهم مع ذلك مؤلفاتهم الشعرية والنثرية المعبرة عن خوالجهم النفسية ونظراتهم في شؤون الحياة مستقلة تمام الاستقلال عن وظائفهم في الحياة العملية او متأثرة بها، ومن أولئك سبنسر وبيكون ورالي وبنيان وسدني سميث ودزرائيلي
ومنهم من شاركوا في التقلبات السياسية فكانوا دائماً في صف الحرية وفي جانب الشعب، ولم يستظل منهم إلا القليل بلواء الملكية ابتغاء السلامة والغنيمة. وممن ضربوا بسهم في هذا الباب توماس مو مؤلف (اليوتوبيا) الذي قطعت اليزابث يده لدفاعه عن حرية الشعب الدينية؛ ويقال إنه بعد قطع يده رفعها هاتفاً بحياة الملكة لأنه كان يحب ملكته الباسلة، ولكنه كان أكثر حباً للحرية والشعب. ومنهم ملتون الذي أيد الجمهورية في ظل كرومويل وعمى(83/38)
بصره في الدفاع عنها أمام أنصار الملكية
ومنهم من اضطلعوا بعبء الاصلاح الاجتماعي الاخلاقي عقب الفساد الذي تركته الملكية العائدة من فرنسا بعد موت كرومويل، وإديسون، وستيل بطلا هذا الإصلاح الناجع الفريد في بابه.
ومنهم من كرس أعماله لإصلاح حال العمال عقب التطور الصناعي وزعيمهم دكنز، او لإصلاح القانون الجنائي ومعاملة المسجونين تمشياً مع عصر النور والحرية، ومن اولئك جالزورذي. ومن الأدباء الفكتوريين من صرف همه الى ترفيه الجمهور والذوق العام بالمحاضرة عن الفن والأدب، وكبير هؤلاء رسكن. وزادت هذه النزعة الاجتماعية الاصلاحية بتشعب نواحي الحياة حتى طمت في عصرنا الحاضر
بل كان من أولئك الفكتوريين جماعة خاضوا ميدان الصناعة والتجارة، فانشأوا شركة لصنع الأثاث، وكانوا يرسمون تطريز الأثاث بأنفسهم، إذ ساءتهم الطرازات الشائعة في عهدهم؛ وأنشأ أحدهم وهو الشاعر المصور وليم موريس مطبعة ومعملاً للحبر لكي يطبع كتبه على النمط الذي يختاره وبالحبر الذي يفضله
بل كان من أدباء الانجليز من عاف الاجتماع الانساني قاطبة ونقم على أنظمة الملكية والكنيسة، وحاول إنشاء مجتمع جديد تسود فيه البساطة والمساواة والأخاء، ومن هؤلاء الشعراء شعراء عهد الثورة الفرنسية؛ فالكتاب الفرنسيون الذين مهدوا لتلك الثورة أمثال روسو وفولتير اكتفوا بالعمل النظري وتركوا لتنفيذ لغيرهم، أما معاصروهم ومن جاء بعدهم من الأدباء الانجليز فحاول كثيرون منهم تنفيذ العمل بأنفسهم. وقد انتقل شيلي إلى إيرلندة ثم إلى أوربا لإنشاء مدينته الفاضلة، وإن يكن قد منى بالفشل في الحالتين؛ وعاضد وردزورث الثورة الفرنسية بقوة لمناداتها بمبادئها المعروفة حتى نقم على دولته إعلانها الحرب على فرنسا الثائرة، وكاد ينتظم في أحد أحزاب الثورة، ويركب تيارها الخطر
أولئك بعض رجال العمل من أعلام الأدب الانجليزي المساهمين في الحياة الاجتماعية بفكرهم ومجهودهم، وما نخالنا واجدين مماثليهم بين أعلام أدبنا: فقد كان من يتوفر على الأدب من أبناء العربية ينصرف كما تقدم عما عدا الأدب، ويقصر أدبه على التعبير عن خوالجه الفردية وذكر مآربه وحبه وشرابه وغضبه ورضاه ونعيمه وشقائه، ويكاد لتوفره(83/39)
على الأدب لا يجد قوت يومه إن لم يكن له مورد سهل، ويضطر إلى التقرب إلى مَوْليَ يمتدحه ويفوز بأعطيته؛ وقد كان هذا من دواعي استطالة هذه الظاهرة في الأدب العربي: ظاهرة المدح التي سرعان ما تلاشت من الأدب الإنجليزي
والقليلون من أعلام الأدب العربي الذين شاركوا في الحياة العملية إنما صنعوا ذلك جرياً وراء مطامعهم الشخصية لا دفاعاً عن مصالح أقوامهم؛ ولذا كان أقصى همهم أن يستوزروا للحكام، ولم يدر بخلدهم مناقشة سياسة أولئك الحكام، وإنما ظلوا أبواقاً لهم وكتبه مجيدين؛ ومن ثم كان ما يتصل بالسياسة من ذخائر الأدب العربي هو الرسالة الديوانية التي دبجها أولئك المنشئون على لسان أمرائهم
والمجيدون من أعلام الأدب العربي الذين ساهموا في حياة العمل بمناهضة السلطة القائمة كقطري بن الفجاءة مثلاً قلائل، وكان جلهم في صدر الاسلام، ومن لم يفعل ذلك منهم طلباً لغاية شخصية فعلة لعقيدته الدينية حين كانت العقائد الدينية مضطرمة في الصدور
لقد كان الشعر والخطابة في الجاهلية أداتين من أدوات الحياة العملية والسياسية في ذلك المجتمع البدوي، فلما جاء الاسلام كان في أصوله شورياً يخول الرعية مشاورة راعيها، ولكن دولته قامت على بقايا الملكيات المستبدة القديمة، فقامت الخلافة العربية على غرار تلك الملكيات التي تجمع الأمر كله بيدها، ولم يعد الخليفة يشاور إذا هو شاور رعياً لحق عليه بل التماساً للرأي إن أعوزه، ولا هو كان ملزماً باتباع مشورة غيره؛ وصار من المسلم به أن الحكم لأمير لا دخل للرعية فيه. ويدهى أن الأدب الذي ينمو في مثل هذه الظروف يظل مكفوفاً عن شؤون السياسة كما كانت بقية الرعية مكفوفة، فهذا سبب انعزال الأدب العربي عن السياسة
فالأدباء ممثلو أممهم: ففي انجلترا حيث كان الدستور والحياة النيابية هما العقيدة التي يدين بهال الشعب شارك الأدباء كما شارك غيرهم من أفراد الشعب في الحياة السياسية وتوطيد أركان الحرية، وفي الأقطار العربية حيث كانت الملكية المطلقة هي القاعدة أحجم الأدباء عن غمار السياسة كما كان بقية الشعب محجماً
ولقد خفق من وطأة الحكومة المطلقة على الأدب أن أكثر الخلفاء والأمراء كانوا أدباء او عشاقاً للأدب، وانوا جميعاً يقربون رجال الأدب ويغدقون عليهم؛ على أن هذه الحالة كانت(83/40)
لها مساوئها بجانب مزاياها: إذ زخر أدبنا دون غيره من الآداب العالية بأشعار المديح والتهنئة والاستجداء، وشتان بين أدب ينمو في ظلال الحرية والاستقلال، وآخر بين قيود الرعاية والحماية والمنحة
كان الدستور محور السياسة في انجلترا، وكان الدين محورها في الأقطار العربية، فعليه انقسمت الأمة أحزاباً في أول الأمر، ومنه انبعثت الفتن والثورات وقامت الأسر الحاكمة وتقسمت الإمبراطورية العربية دولاً ودويلات، وبحافز منه جاهد المسلمون الروم ثم الفرنجة. كان الدين في كل هذه الأطوار مبعث النشاط السياسي وزناد الروح الوطنية والقومية، ولا ترى الشعر العربي يحفل بالحماسة وروح القومية إلا في عصور الجهاد تلك
فالحياة الديمقراطية في انجلترا كانت العامل الأول في اتسام الأدب الانجليزي بالنزعة العملية ومساهمته في الحركات السياسية والاجتماعية، واختراع الطباعة كان عاملاً آخر ساعد اتصال الأدباء بلحياة الاجتماعية واعتمادهم على جمهور القراء بدل الاعتماد على منح الأمراء، ونتج من توثق هذا الاتصال نشوء الصحف الدورية فكانت عاملاً جديداً في هذا الميدان أعقبه تعميم التعليم
فعاملا امتلاء الأدب الانجليزي بالنزعة العملية هما الحياة الديمقراطية أولاً وانتشار المطبوعات ثانياً، وقد كان كلا العاملين يعوزان الأدب العربي، ومن ثم يزخر الأدب الانجليزي بالشؤون الاجتماعية والسياسية والوطنية بينما يقتصر الأدب العربي على وصف المشاعر الانسانية العامة وتصوير حالات النفس وأطوار الفرد
فخري أبو السعود(83/41)
11 - محاولات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- وفي هذا يزدري الفيلسوف البدن، فتفر منه روحه وتود أن تنعزل بنفسها
- هذا صحيح
- حسناً، ولكن بقي شيء آخر يا سمياس، أثمت عدل مطلق أم ليس له وجود؟
- لا ريب في أنه موجود
- وجمال مطلق وخير مطلق؟
- بالطبع
- ولكن هل حدث لك أن رأيت واحداً منها بعينيك؟
- يقيناً لم أره
- ألم تدركها قط بأية حاسة جثمانية أخرى؟ (ولست أتحدث عن هذه وحدها، بل كذلك عن العظمة المطلقة وعن الصحة وعن القوة وعن كُنْه كل شيء، أي حقيقة طبيعته) ألم يأتك علمها قط خلال أعضاء الجسد؟ أليس الذي يريد عقله على أن يتصور كنه الشيء الذي هو بصدد بحثه أضبط تصورٌ، إنما يسلك أخصرَ السبل التي تؤدي الى معرفة طبائعها الكثيرة؟
- يقيناً
- أما من يظفر بمعرفتها أسمى ما تكون نقاء، فهو ذلك الذي يسعى اليها واحدة واحدة، فيتناولها بالعقل وحده، دون أن يأذن للبصر او لغيره من الحواس الأخرى بالتطفل او التدخل في مشاركة العقل وهو منصرف الى التفكير، بل ينفذ بأشعة العقل ذاته، بكل صفاتها، الى ضوء ما فيها من حقائق، بعد أن يكون قد تخلص من عينيه وأذنيه، بل ومن كل جسده، الذي لا يرى فيه إلا عنصر تهويش، يعوق الروح عن إدراك المعرفة ما دام متصلاً بها - ليس أرجح الظن أن يظفر مثل هذا الرجل بمعرفة الوجود، إن كانت معرفته في مقدور البشر على الإطلاق؟(83/42)
فأجاب سمياس - إن في ذلك يا سقراط لحقاً رائعاً
- أو ليس لزاماً على الفلاسفة الحق إذا هم اعتبروا ذلك كله أن يغوصوا في أفكارهم، فاذا ما التقوا تحدث بعضهم الى بعض عن تفكيرهم بمثل هذه العبارة: إنا اهتدينا الى سبيل من التأمل قمينة ان تنتهي بنا وبالجدل الى هذه النتيجة: وهي أنه مادمنا في أجسادنا وما دامت الروح ممتزجة بهذه الكتلة من الشر، فلن تبلغ شهوتنا حد الرضى، إنها لشهوة الحقيقة، ذلك لأن الجسد مصدرٌ لعناء متصل، علته هذه الحاجة الى الطعام، وهو كذلك عرضة للمرض الذي ينتابنا فيحول بيننا وبين البحث عن الحقيقة، وهو كما يقول الناس، أبداً لا يدع لنا السبيل الى تحصيل فكرة واحدة، لما يملأنا به من صنوف الحب والشهوات والمخاوف والأوهام والأهواء، وكل ضرب من ضروب الجهالة، وإلا فمن أين تأتي الحروب والمعارك والأحزاب إن لم تكن آتية من الجسد وشهوات الجسد؟ فالحروب يثيرها حب المال، والمال إنما يُجمع من أجل الجسد وخدمته، ومن جراء هذا كله يضيع الوقت الذي كان ينبغي أ، ينفق في الفلسفة، هذا ولو تهيأ للفلسفة الميل والفراغ لنفث الجسد في مجرى التأمل الشغب والاضطراب والخوف ليحول بيننا وبين رؤية الحقيقة، وقد دلت التجارب جميعاً على أنه لو كان لنا أن نظفر عن شيء ما بمعرفة خالصة لوجب أن نتخلص من الجسد، ولزم على الروح أن تشهد بجوهرها جواهر الاشياء جميعاً؛ ولست أحسبنا إلا ظافرين بما نبتغي، وهو ما نزعم أننا محبوه، وأعني به الحكمة، لا اثناء حياتنا بل بعد الموت كما تبين من الحديث. فان كانت الروح عاجزة عن تحصيل المعرفة وهي في رفقة الجسد، فالنتيجة كما يظهر أحد أمرين: إما أن تكون المعرفة ليست على الاطلاق حقيقة بالتحصيل، وإما أن تحصيلها يكون بعد الموت إن كانت جديرة به؛ فعندئذ، وعندئذ فقط، تنعزل الروح في نفسها مستقلة عن الجسد، وأحسب أننا في هذه الحياة الحاضرة نسلك أخصر السبل إلى المعرفة، لو كنا نبذل نحو الجسد أقل ما يمكن بذله من عناية وشغف، فلا نصطبغ بصيغة الجسد، بل نظل أصفياء إلى الساعة التي يشاء فيها الله نفسه ان يحل وثاقنا، فاذا ما ظهرنا من ادروان الجسد، وكنا اتقياء، وتجاذبنا مع سائر الأرواح النقية أطراف الحدث، تعرفنا أنفسنا في الأشعة الصافية التي تضيء في كل مكان، فلا ريب أن ذلك هو ضوء الحقيقة، فلن يُؤذن لشيء دنس أن يدنو مما هو طاهر، إنه لن يسع محبي(83/43)
الفلسفة الحقيقية، يا سمياس، إلا أن يفكروا في هذه الالفاظ وأشباهها، وأن يقولها بعض لبعض، أفأنت موافقي على ذلك؟
- يقناً يا سقراط
- ولكن أن صح هذا يا صديقي، فما أعظم الأمل إذن في أنني إذا ما بلغت غاية رحلتي، فلن يقلقني هذا الهم الشاغل الذي صادفني وإياكم في حياتنا الأولى؛ أما وقد تحددت ساعة رحيلي، فذلك ما أرْحلُ به من رجاء، ولست في ذلك فريداً، بل هكذا كل رجل يعتقد أن عقله قد تطهر
فأجاب سمياس - يقينا
- وماذا يكون التطهير غير انفصال الروح عن الجسد كما سبق لي القول، واعتياد الروح أن تجمع نفسها وتحصرها في نفسها بعدياً عن مطارح الجسد جميعاً، وانعزالها في مكانها الخاص، في هذه الحياة كما في الحياة الأخرى، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وفكاكها من أغلال البدن؟
فقال - هذا جد صحيح
- وماذا يكون ذلك الذي يُدعى الموت سوى هذا الانفصال نفسه، وتحل الروح من الجسد؟
فقال - لا شك في ذلك
والفلاسفة الحق وحدهم دون غيرهم يبحثون في انطلاق الروح ويتمنون ان يكون. اليس انفصال الروح وفكاكها من الجسد هو موضوع بحثهم الخاص؟
- هذا صحيح
- إنه لتناقض مضحك كما قلت في بادئ الأمر، أن ترى أناساً يحاولون بالدراسة أن تكون حياتهم قريبة من حالة الموت ما استطاعوا، فاذا ما ادركهم الموت أشفقوا منه
- يقيناً
- إذن يا سمياس. فما دام الفلاسفة الحق لا ينفكون يبحثون في الموت، فالموت عندهم، دون الناس جميعاً، أهون الخطوب. أنظر الى الأمر على هذا النحو: كم يبلغ منهم التناقض أن يناصبوا الجسد عداوة متصلة، وأن يتمنوا لو خلصت لهم الروح وحدها، فاذا ما أجيبوا الى ذلك، كن منهم السخط والجزع، في مكان اغتباطهم بالرحيل الى ذلك المكان، حيث(83/44)
يؤملون إذا ما بلغوه أن يظفروا بما قد أحبوا في الحياة (ألا وهي الحكمة)، وأن يتخلصوا في الوقت نفسه من مرافقة عدوهم. وكأين من رجل تمنى أن يذهب الى العالم الأسفل، آملاً أن يصادف هناك معشوقة دنيوية، او زوجاً، أو ولداً، ليتحدث إليهم. أبعد ذلك يشفق من الموت مضنْ هو للحكمة محب صحيح، ويعتقد كذلك أن لن تتاح له بحق إلا في العالم الاسفل؟ أليس يقابل لرحيل بالبشر؟
إنه يا صديقي لابد فاعل إن كان فيلسوفاً حقاً، لأنه سيوقن يقيناً ثابتاً أنه لا يستطيع أن يلتمس الحكمة في نقائها إلا هناك فقط، دون أي مكان آخر. وإن صح هذا، فأبلغ به من أحمق - كما سبق لي القول - إن كان يَفْرَقُ من الموت
فأجاب سمياس - لا ريب في أنه فاعل
وأنت إذا رأيت رجلاً يجزع من اقتراب الموت، كان جزعه دليلاً قاطعاً على أنه ليس محباً للحكمة، ولكنه محب للجسد، وربما كان في الوقت نفسه محباً للمال، أو القوة، أو كليهما
فأجاب - هذا جد صحيح
- إن ثمت يا سمياس لفضيلة تدعى الشجاعة. أليست هذه صفة خاصة بالفلسفة؟
- بقينا
- وكذلك الاعتدال. أليس الهدوء، وضبط النفس، وازدراء العواطف، التي يسميها الدهماء أنفيهم بالاعتدال، صفة مقصورة على أولئك الذين يحتقرون الجسد ويعيشون في الفلسفة؟
- ليس في ذلك خلاف
- وأنت إذا نظرت إلى الاعتدال والشجاعة عند سائر الناس، ألفيت بينهما، في حقيقة الأمر، تناقضاً
- وكيف ذلك يا سقراط؟
فقال - إنك عليم بأن الناس بصفة عامة ينظرون عامة إلى الموت شراً وبيلاً
فقال - هذا صحيح
(يتبع)
زكي نجيب محمود(83/45)
9 - بين القاهرة وطوس من طوس إلى طهران
للدكتور عبد الوهاب عزام
برحنا المشهد عائدين إلى طهران والساعة عشر إلا ربعا من صباح يوم الاثنين سادس رجب (15 أكتوبر) فمررنا بقرية اسمها قدمكاه (موضع القدم) وقد ذكرتها في سيرنا من نيسابور إلى مشهد وأرجأت الكلام عنها إلى الاياب إذ لم نعرج عليها في الذهاب. وقفت السيارة فنزلنا وملنا ذات اليسار فدخلنا ساحة بين جدارين فيها طاقات لا ابواب لها بناها بعض السلاطين ليأوى إليها المسافرون. ثم صعدنا إلى مستوى ينحدر منه مجرى ماء. فانتهينا إلى شجرات عادية بجانبها حجرة كبيرة. ولقينا قيم المكان فقال أنا كشيش قدمكاه. قلنا يا صاح أن الكشيش رجل الكنيسة وانت رجل مسلم، فقال أنا خادم القدم المبارك.
ولجنا الباب فرأينا على يسارنا بنية فيها حجر بركاني اسود فيه اثر قدم. قال دليلنا هذا قدم الامام على الرضا، ثم خرج بنا إلى حجرة أخرى في وسطها بركة صغيرة مستديرة بها ماء صاف يشف عن سمكات صغيرات يجلن بين سطحه والقاع. قال هذه عين الامام الرضا فاشربوا. فغسلنا أيدينا داعين منشدين:
(وعين الرضا عن كل عيب كليلة)
نزلنا سائرين غلى الجادة فشربن الشاري وقوفاً واستأنفنا المسير إلى نيسابور. ونزلنا في الخيام التي ضربت لنا من قبل عند قبر الخيام فاسترحنا وطعمنا.
خرجنا من نيسابور والساعة ثلاث بعد الظهر، فوردنا سبزاور ستا إلا ثلثا، فأوينا إلى النزل الذي وصفته من قبل، وبعد العشاء اجتمع بعضنا في حجرة الأستاذ العلامة كوبر علي زاده محمد فؤاد مندوب الحكومة التركية، وجاء مغنون من أهل القرية فغنوا من رباعيات الخيام وغيرها ضاربين على التار (آلة تشبه العود) فطربنا لهذا الغناء وهذا المجلس الذي جلس فيه علماء من أمر شتى دون ترتيب ولا تكلف، بعضهم على السررُ والآخرون على الأرض، فأخذنا نوقع بأيدينا على نغمات التار.
ولا أنسى الأستاذ كريستنسون الدانمركي وقد مد رجليه وأمسك عود الدخان (البيبة) بفمه ونشط للصفق على أنغام الموسيقى.
برحنا سبزاور والساعة تسع ونصف، فبلغنا داوَر زَن بعد ساعة ونصف ونزلنا بها منزلنا(83/47)
الأول فاسترحنا وتغدينا. ثم فارقناها والساعة واحدة ونصف نؤم شاهرود، وكان بردها لا يزال عالقا بي، فقلت لأصحابي: سأترك في شاهرود الغلة التي أخذتها منها. قال الأديب رشيد الياسمي: إن الله يأمركم أن تؤدون الأمانات الى أهلها. وبعد ساعة وقفنا على قرية اسمها عباس أباد فجاء شبان يعرضون علينا من صنعة القرية مسابح وأزراراً وأشياء أخرى مصنوعة من حجر ازرق ضارب إلى السواد فاشترينا منها للذكرى.
ثم سرنا فمررنا بزيدر فنزلنا به ربع ساعة فشربنا الشاي عند شجيرات وقناة هناك، وأسرعنا المسير ليتسنى لنا أن نعرج إلى بسطام فنزور أبا يزيد قبل الغروب، فعطبت سيارتنا على مقربة شاهرود، وذهبت فضلة الوقت في إصلاحها فاضطررنا أن نعدل عن بسطام إلى شاهرود فوردناها بعد المغرب ونزلنا في دارين داخل البلد استُبدلتا بالدار التي بظاهر البلد بعد الذي أصابنا من بردها في الطريق إلى المشهد. وبكرت أنا والأستاذ عبد الحميد العبادي والأديب أحمد الصراف آملين أن نزور بسطام ونرجع قبل أن يتأهب أصحابنا للسفر، فما زلنا ننتظر سيارتنا حتى فقدنا الرجاء في زيادة أبي يزيد فسرنا مع الركب آسفين مرسلين للشيخ الصوفي تحيتنا على البعد
سرنا عن شاهرود والساعة سبع ونصف من صباح الأربعاء مزمعين أن نبلغ طهران عشية اليوم. وبين شاهرود وطهران أربعمائة كيل وثلاثة. وردنا دامغان بعد ساعة، فرأينا أن نتلبث بها لنرى بعض مشاهدها ولم تكن وقفنا بها في ذهابنا إلى المشهد،
كانت دامفان مدينة فومس، وهي اليوم من ولاية طبرستان وتبعد 64 كيلاً من استراباد، جنوبي جبال ألبرز. على حدود العراق العجمي وخراسان. ويقال إنها في موضع مدينة هِكتمبيليس إحدى المدن العظيمة في مملكة الأشكانيين القديمة، وأن إسكندر المقدوني أدرك دار الثالث قتيلاً على مقربة منها.
قال ياقوت راوياً عن مسعر بن مهلهل: (الدامغان مدينة كثيرة الفواكه. وفاكهتها نهاية. والرياح لا تنقطع بها ليلاً ونهاراً. وبها مقسم للماء كسروى عجيب يخرج ماؤه من مغارة في الجبل ثم ينقسم إذا انحدر عنه على مائة وعشرين قسماً لمائة وعشرين رستاقاً لا يزيد قسم على صاحبه، ولا يمكن تأليفه على غير هذه القسمة.
وهو مستطرف جداً ما رأيت في سائر البلدان مثله ولا شاهدت أحسن منه)(83/48)
قال ياقوت: (قلت أنا جئت إلى هذه المدينة في سنة 613 مجتازاً بها إلى خراسان، ولم ار فيها شيئاً مما ذكره لأني لم أقم بها)
وأنا اقول قول ياقوت، وأزيد أن مقسم هذه المياه تهدم إبان الغارة الافغانية فيما يقال
وإلى الشمال الشرقي من المدينة، ينبوع عظيم يسمى جشمئه على (ينبوع علي) يزوره الناس، ويزعمون أنه يفيض على حجر به أثر من حافر فرس الرسول صلوات الله عليه. وقد بني حوله فتح علي شاه 1217
وقال ياقوت: (وبينها وبين كرد كوه قلعة الملاحدة يوم واحد، والواقف بالدامغان يراها في وسط الجبال)
سألنا عن الآثار الساسانية التي بدامغان فقيل لنا إنها بعيدة عن البلد، وطرقها غير معبدة، وهي ليست ذات خطر. ثم هُدينا إلى بناء اسلامي قديم، فدخلنا إلى فناء فيه قبور لاطئة بالارض، ينتهي غلى حجرة كبيرة وسطها قبر كبير سياج من الخشب، وعليه كتابة قديمة كثيرة، وإلى يسار الداخل قبر صغير لا سياج له، فأما الضريح فقيل إنه لأحد أبناء الأئمة العلويين، وأما الذي إلى يسار الداخل، فقيل إنه لشاهرخ، ورأينا حجرة أخرى مغلقة كتب عليها: أمر بعمارة هذا البناء شاهرخ. وقد ظننت أنه شاهرخ بن تيورلنك، وعجبت كيف دفن هنا وقد مات في الري. ثم تذكرت شاهرخ حفيد الملك نادرشاه، الذي أسره آقا محمد القاجاري في دامغان، وما زال يعذبه ليسلم إليه حزائن جده نادرشاه حتى مات سنة 1211، فقلت هذا قبر الأمير الضرير المنكود الطالع
بلغنا سمنان والساعة إحدى عشرة وربع فنزلنا منزلنا الأول في المصنع الذي بظاهر البلد. وقلت للأستاذ العبادي لا يفوتنا اليوم أن نرى مسجد الجمعة في سمنان. فقلنا للأديب سيف آزاد صاحب مجلة (إيران باستان) فرفقنا وصحنا في الطريق أحد ضباط الشرطة، ودخلنا من باب كبير تزينه نقوش وتمثيل وكتابة فيها اسم ناصر الدين شاه الى طريق على جانبيها أبنية للجند وخرجنا من باب آخر فسرنا في شارع مشجر وأزقة ضيقة، ثم ترجلنا وتركنا السيارة وتخللن الطرق حتى انتهينا الى مسجد صغير جميل، قرأنا فيما عليه من كتابة اسم الشاه طهماسب الصفوي
ثم ذهبنا الى مسجد الجمعة وهو قديم عظيم، وأقدم ما فيه منارته، وهي فيما يظهر بقية(83/49)
مسجد كبير بناه السلاجقة ثم هدمه التتار فأقيم المسجد الحاضر على جانب من عرصته. ثم زاد فيه إيواناً كبيراً أحد وزراء السلطان شاهرخ بن تيمور سنة 828
وخرجنا من مسجد الجمعة فمشينا في سوق طويلة مسقوفة تنبئ بعظم المدينة في الماضي، وقد أنشدني الأديب سيف آزاد في مسجد سمنان بيتاً معناه
(وا أسفا على المسجد الذي في سنمنان، إنه يوسف في السجن)
اجتمعنا على الغداء في سمنان، ونحن نعلم أن الركب سيتفرق في طهران فلا يجتمع، فتكلم بعض الوافدين شاكراً حكومة إيران، والموظفين الذين رافقونا في مسيرنا إلى طوس وإيابنا، وأجاب السيد ابتهاج والأديب رشيد الياسمي معربين عن سرورهم وافتخارهم بمصاحبة الضيوف الخ، وأرسلنا برقية إلى وزير المعارف نبلغه والحكومة الايرانية شكرنا. وكان الوزير قد تخلف في المشهد هو والوزراء الآخرون، ليصحبوا جلالة الشاه في سفره إلى جرجان. . .
ركبنا السيارات والساعة اثنان وربع بعد الظهر، فجد بنا المسير حتى نزلنا في فيروز كوه فاسترحنا وشربنا الشاي في مطعم هناك. ثم ركبنا فما زلنا في فيروز كوه (جبل فيروز) قممه وشعابه ووديانه حتى عيل الصبر، وأظلم الليل ورهقنا الاعياء. ثم دخلنا طهران والساعة ثمانية من المساء فأوينا إلى الفندق بشق الأنفس
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(83/50)
الراعي
للأستاذ محمود الخفيف
راعني في الحقل إنشادٌ بديع ... والندى يغسل أجفان الصباحْ
فتطلعت الى راعي القطيع ... قد شجاه حسنُ اقبال الربيع
وتبدت روعة الكون له
فتغنى في هيام ومراح
باسم كالصبح في طلعته ... حالم العينين لماح الجبين
حمرة الاصباح في وجنته ... وصفاء الكون في مقلته
مرهفٌ كالغصن نشوان الصبا
غردٌ كالطير فياض الحنين
ثمل اللفتة في إقباله ... تتراءى فوق عطفيه عصاه
مرح يختال في سرباله ... معجل يعثر في أذياله
أو حليم قربُ المرعي له
فتهادى وتأني في خطاه
ذاكرٌ ليلاه في تحنانه ... رائع الانشاد في الارض الفضاء
تحمل الريحُ صدى ألحانه ... فتهزُ الحقلَ من أركانه
تذهل النوامَ عن أحلامهم
قبل أن تغرق في سيل الضياء
يصفُ الحب كما يعرفه ... قلبه الخالص من سوء الطباع
هاتفٌ، يسألُ (من ينصفه ... من غزال صد، لا يعطفه
دمعه المفسوح أو يرفه
عن دلال لج فيه وخداع)
أخت نفسي منه روعةٌ ... واستخفى معانيه العذاب
ملكتني إذ تعني نشوةٌ ... وتنزت في فؤداي صبوة
تركتني غارقاُ في حلم(83/51)
ضاحك الاطياف رفاف الجناب
تضحك الارض مع الشمس له ... ويشيع السحرُ في أركانها
يتبدى ل شيء حوله ... طافحَ البشر طروباً مثله
وترى الورق شجاها لحنه
فتغنت في ذرى افنانها
يصبحُ الراعي طروباً شادياً ... مطمئناً ليس يدري ما الشجن
وتراه حين يمس راضيا ... في ظلام الكوخ يغفو ثاويا
ناعمَ البال قريراً آمنا
هادي الضجعة ريان البدن
لم يكد صفوة حرصٌ ولا ... سَهَّدَتْ جفنيه أطماع الحياة
لن تراه نائحاً يوماً على ... أمل فات ولا يصبو إلى
ما طواه الغيب في أحشاءه
حسبه الله فلا يرجو سواه
ملهمٌ رُكبَ في فطرته ... حب ما في الكون من آي الجمال
تسمع التسبيح في لهجته ... وترى لاعجابَ في نظرته
ساذجُ الأحلام إلا أنه
صادق الوجدان مشبوب الخيال
كم رأى الفجر وما في أفقه ... من جمال واجتلى نور السحر
وتماى الصبح في إشراقه ... يفتن النظار من عشاقه
بصفاء تعلق الروحُ به
عبقري الحسن موموق الصور
ولكم أنس من حالي الضحى ... ومن الآصال مزدان الحُللْ
يجدُ الكونَ جميعاً مسرحاً - يجتليه غادياً او رائحاً
هائم يضرب في آفاقه
دائم الترحال موصول الجذل(83/52)
ولكم شاهد إقبال الدجى ... حين ذابت فيه ألوان الشفق
ورأى الليلَ إذا الليلُ سجا ... وانجلى البدرُ وضيئاً أبلجا
تقبس الألحاظ من رونقه
قبل أن يدركه موج الغسق
كم رأى الحقول النضره ... حفلت بالحسن في عيد الربيع
ورأى الصيف يعفى أثره ... بيد عاتيةٍ مقتدرة
تركت جنته خلويةً
جف فيها الزهر والروض المريع
ولكم أبهجه صفو الخريف ... ورآى سحر مجاليه الوضاء
واغتدى يرتع في ظل وريف ... قد سرى في جوه نفح لطيف
يملأ الصدر به مستروحا
قبل أن تعصف انواء الشتاء
يا قنوعا مثلت عيشته ... عيشة الانسان في فجر الوجود
يا خليا انسه وحدته ... إيه يا من برئت فطرته
من غرور العيش في زخرفة
يا طليقاً ما دري معنى القيود
يا قرير العين في خلوته ... لم يجرب مزة غدرَ الصديق
يا نقي القلب في غزلته لم ير العالم في زحمته
هات من لحنك ما يطربني
يا غريراً انت بالبشر خليق
يا رضي النفس في إيمانه ... نعمت نفسك في ظل رضاها
إيه يا من قر في وجدانه ... من هدى الله ومن رضوانه
ما ترنمت به في غبطة
فطن القلب إليها فوعاها
هات من لحنك يا راعي القطيع ... قد نفي لحنك عن قلبي الحزن(83/53)
هيه إني ما تغنيت سميع ... وسأمضي شاكراً هذا الصنيع
ذاكراً لحنك مفتوناً به
إن في ذكراه روحاً وسكن
محمود الخفيف(83/54)
من الأدب الفرنسي المعاصر
أندريه
بقلم علي كامل
تتمه
يرى أندريه جيد - ويتفق معه في ذلك مارسل بروست والكاتب الايطالي بيراندللو - أن الشخصية ما هي إلا وهم زائف، وان الانسان صنيعة الظروف والاحتمالات
ومهما كن مقدار ما في هذه الآراء من الحق أو الباطل فقد كان لها الفضل الأول في تجديد القصة الأوربية لما تضمنته من تحطيم فكرة (الأخلاق الثابتة) و (النماذج الانسانية) التي كانت أساس القصة التحليلية في الأدب الغرب لتقيم على انقاضها أسس فكرة (اللاشعور) قبل العالم (فرويد) نفسه. كما أن هذه الآراء قد أبانت الأثر العظيم للغرائز الجنسية وعدم توازن العواطف في حياة الاشخاص متأثرة في ذلك بقصص الكاتب الروسي دستويفسكي
على ان ما يمتاز به اندريه جيد من كل من مارسل بروست وبيراندللو انه لا يكتفي بالنظر الى الامور نظرة العالم النفسي، بل إنه يخرج من دراسته (بقاعدة) يرى من الواجب السير عليها في الحياة: تلك القاعدة هي وجوب ان يسعى الانسان الى فهم طبيعته وإدراك حقيقة نفسه بنفسه، وما ذلك إلا بالخضوع لكل الدوافع المتنوعة مهما كانت، والتذرع بالشجاعة لتحقيق كل ما يجيش فيه من الرغبات دون اختيار، اي دون ان يقول الانسان لنفسه: هذا متفق ومع الآداب العامة، وهذا مغاير لها؛ هذا يمس الدين وهذا لا يمسه. . . الخ يجب ان يكون كل منا (كطفل ضال، وُجد دون أن تُعرف حالته المدنية، دون اوراق. . . قذفه المجهول، لا يَعرِف له ماضياً ولا قاعدة يسير عليها ولا سند يعينه، ولا ون له ولا أجداد)
أن هذه هي الوسيلة الوحيدة عند جيد لانكشاف حقيقة نفوسنا أمام أعيينا، وعندئذ نسير على هدى طبيعتنا
وفي قصته مزيفو النقود - (1925) نرى الفتى (برنار) يخاطب القصصي (ادوار) ويسأله النصح كيف يضع قاعدة لحياته، فيجيبه ادوار قائلاً: (إن هذه القاعدة تجدها في نفسك على أن يكون قصدك السير الى التقدم. ليس عندي ما اقوله لك. إنك لا تستطيع أن(83/55)
تستمد هذه النصيحة إلا من نفسك. فلا تحاول أن تتعلم كيف تعيش إلا بأن تعيش)
ولكي نعيش (في نظر جيد - عيشة لا يقيدها قيد يجب ألت نتردد عند الحاجة في الثورة على نظام الاسرة والجري وراء إحساساتنا تقودنا الى حيث الحقيقة العظمى. فالاستقرار هو ألد أعداء جيد، لأن رائده هو أن نكون متأهبين دائماً لتغيير جديد في حالتنا
وفي كتابه الأغذية الأرضية نسمع جيد يخاطب (ناتانابيل: إياك أن تستقر في مكان، فبمجرد أن تغيرت ظروف هذا المكان واصبحت موافقة لطبيعتك، او جعلت انت نفسك موافقاً لظروف المكان، عندئذ لا تبقى لك فائدة تُرجى من وجودك، فيجب ان تهجره، ليس هناك أخطر عليك من أسرتك، من غرفتك، من ماضيك)
وفي قصة ' نسمع (مينالك) يقول: (إنني لا اريد ان اتذكر. فاعتقادي ان هذا منع لوصول المستقبل. واعتداء على الماضي الذي لم يعد لي فيه حق، إنني بنسياني الكامل للأمس أجدد كل ساعة من حياتي. إن كوني كنت سعيدا لا يكفيني، لأنني لا أومن بالأشياء الميتة. وما كنت عليه وزال عني الآن هو عندي كأنه لم يكن)
على أن فكرة جيد عن التحرر المطلق كما رأينا لم تقض على عاطفته الدينية. بل لقد أحدث عنده هذا الايمان القوى بالتحرر وبالاستسلام لكل إحساس يغمرنا، نتيجة عكسية، إذ جعل جيد يترك العنان لإحساسه الديني يطغي عليه بين وقت وآخر دون أن يحاول كتبه، فنراه يتكلم عن الله والحياة الخالدة بأسلوب متصوفٍ زاهد، ففي كتابه الاغذية الارضية وهو كتاب الذي ينفجر فيه بالدعوة إلى التمتع بالحياة الحسية يقولك (إنك حيثما تذهب لا تستطيع أن تقابل إلا الله) وأيضاً (ناتانابيل: لا تأمل أن تجد الله إلا في كل مكان) وفي كتابه الأغذية الأرضية الجديدة يقول: (يجب أن نفكر في الله بأقصى ما يمكن من الانتباه واليقظة. . . إنني عندما أهجر التفكير في الخالق إلى التفكير في المخلوق تنقطع صلة نفسي بالحياة الخالدة وتفقد حيازتها لمملكة الله)
والآن، أليس من التناقض مع فكرة (التحرر الأخلاقي) والدعوة إلى التمتع بالحياة أن يغمر جيد إحساس أشد المتدينين إيماناً فيفكر في اله كل يوم - كما يقول - ولا يستطيع له فراقاً؟
إن جيد يبرر موقفه بفلسفة هي أهم نواحي التجديد في تفكيره. إنه يفصل بين اللذة والحب أو بعبارة أخرى بين الجسد والنفس لذا نراه يبيح من جهة تحقيق كل مقتضيات الجسد،(83/56)
ومن جهة أخرى تحقيق كل مقتضيات النفس في الالتجاء إلى قوة عُليا.
ولا شك أن رأي جيد هذا لا يتفق مع عقيدة دينية، ولكنه في صميمه وَحْي طابعه الديني الذي لم يستطع التخلص منه فأراد التوفيق بين إحساسه الديني ومذهبه الفكري في التحرر الأخلاقي
وفي العبارة الآتية يعترف لنا جيد ان هذه الناحية من تفيره كانت خلاصاً وتبريراً لما اوقعته فيه مشكلته النفسية. يقول: (أما فيما يتعلق بي فقد قلت مراراً كيف أن الظروف وما تتجه إليه طبيتي كانت تدعوني إلى التفرقة بين الحب واللذة لدرجة أنه كانت تؤلمني فكرة المزج بينهما) ثم يقول لقد فصلت أنا أيضاً بين اللذة والحب، بل إن هذا الفصل بين الأثنين قد ظهر لي أنه كان لازماً. فاللذة أكثر نقاء والحب أعظم كمالاً
يرى جيد أن انطلاقنا وخضوعنا لمطالب أجسادنا إنما هو نوع من السذاجة والبراءة وأن اجابة الانسان لنداء طبيعته وغرائزه التي ولدت معه إنما هو خضوع لارادة الله.
وما الفرق عنده بين من يجري ميوله وشهواته لها وبين من يكبح بعضها إلا كالفرق بين (من يأكل كل شيء ومن لا يأكل غير الخضراوات)
ويقول جيد أيضاً: (ليس الانسان شيء غير طاهر) ' لذا كان ما تفيض به بيعة الانسان من ميول وشهوات لا يجب في نظره أن يحمل غير معنى الطهر والنقاء والاخلاص لأنفسنا فيجب أن نطيعها دون اختيار (لأن كل اختيار إنما هو تحديد لحريتنا)
على أن جيد يشترط لكل عاطفة تحركنا أن تكون مخلة لكي نطيعها ونجيب نداءها. ففي نسمعه يقول: (إن لذاتي لا تحجب وراءها فكرة خفية. لذا لا ينبغي أن يتبع هذه اللذات أي شعور بالندم) فهو يقصد بل أن يقول إن فكرة الحرية والانطلاق إذا استترت وراءها نية او غرض معين خرجت عن دائرة البراءة والاخلاص
وفي ضوء ما ذكرنا نرى أن فكرة أندريه جيد فكرة مزدوجة مضمونها:
أولاً: الناحية الجسدية الحيوانية في الانسان وهي الناحية البريئة الساذجة
ثانياً - الناحية المعنوية، وهي إما الناحية الخاصة بالاحساس الديني، وإما الناحية الشيطانية في الانسان
ففكرة جيد هي الفصل بين هاتين الناحيتين اللتين هما في الواقع حقيقتان من حقائق(83/57)
الطبيعة الانسانية - الناحية الجسدية والناحية المعنوية - ثم السمو بهما الى أقصى ما يمكن من الطهر والنقاء. وما السبيل الى ذلك إلا بنبذ كل ما لا أساس له من الحق والصدق، وفي مقدمة ذل بالطبع كل ما يرغمنا عليه المجتمع.
ولقد استخدم جيد في البداية عبقريته كناقد فذ في تبرير حقه في الانطلق والتمتع بالحياة وفي (الحب الذي لا يجرؤ أن يقول اسمه) على أنه فيما بعد صرف همه الى العناية الشاملة بكل تقاليد المجتمع وحقائقه الفارغة وأوهامه لكي يعمد بعد ذلك الى تنقيحها في نظم التربية ويفصح مظاهر الرياء بين الطبقات والوسطى الى غير ذلك مما يراه من المفاسد الاجتماعية التي تقف حائلاً بين الانسان وبين حريته التامة.
ولقد كانت (فردية) اندريه جيد سبباً في ان يبقى حتى الثامنة والخمسين من عمره بعيداً كل البعد عن الاهتمام بالمصلحة العامة او الايمان بعقيدة سياسية او اجتماعية على اعتبار ان الاصغاء لافكار الغير يحد او يغير من افكار الانسان الخاصة التي يجب ان تكون بعيدة عن كل تأثير خارجي. واندريه جيد في عزلته السياسية والاجتماعية كان يخالف تماماً كثيراً من أعاظم الكتاب الفرنسيين المعاصرين مثل اناتول فرانس وشارل موراس وموريس باريس وشارل بيجوي ورومان رولان وغيرهم.
على ان جيد بعد رحلته الى الكونغو واواسط افريقيا خرج مرة واحدة من دائرته الخاصة الى دائرة المجتمع الانساني بأجمعه. يفكر في ظروف الحياة فيه بعين نقيض بالرحمة الواسعة والحنان العظيم حتى ان المرء ليحس بأنه قد نسى نفسه ولم يعد يفكر الا في الآخرين!
وفي كتابيه ونرى جيد يدافع عن الأمم المستعمرة لا بمهاجمة فكة الاستعمار نفسها ولكن بالمطالبة بحق إيثار هذه الأمم في التقدم المطرد في جميع شؤون حياتهم وبتسفيه كل استعمار ينتهك حرمة هذه الحقوق المقدسة
ولكن هل بقي جيد عند هذا الحد من الاعتدال في تفكيره السياسي وهو الذي من دأبه السير إلى أقصى حدود التطرف؟ لا. إذ لم يكد ينقضي وقت يسير حتى رأينا جيد يرتمي في أحضان الشيوعية التي اعترف بأنه عند اعتناقها كان يجهل صميم نظرياتها، ولاش أن اعتناق جيد للشيوعية مخالفة تامة لأسس تفكيره السابق، لان جيد (الفردي) قد أصبح يؤمن(83/58)
بنظام يقيد مصلحة الفرد في سبيل مصلحة المجموع. وجيد الثائر على أي نظام من نظم التربية على اعتبار أن التربية تقييد وتحديد قد أصبح يؤمن بالمثل العليا الشيوعية. وجيد الذي كان ألد عدو للعقيدة الثابتة قد أصبح إيمانه بالشيوعية تسليم منه بالنظريات الماركسية كنظرية (التفسير الاقتصادي للتاريخ) مثلاً. . . . وغيرها. على أن في الشيوعية أيضاً تتحقق معظم أفكار جيد وىماله، ففيها شرود نهائي من ماضيه الديني الذي أثقله زماناً طويلاً، وفيها التخلص من عبودية نظام الأسرة الذي طالما حاربه وناضل في سبيل القضاء عليه، وفيها أمل جديد في الوصول الى ما يسميه جيد (مملكة الله) أي قتل الجوانب الخبيثة في الانسان بالتخلص من كل أنانية والتحرر من كل تفكير ذاتي، وهو يرى فيها أيضاً الشفقة الزائدة والتفكير الجدي في محو الشقاء الانساني
ولعل من العجيب أن أندريه جيد منذ أعلن إيمانه بالشيوعية لم يعمل أي عمل أدبي جديد، مقتصراً على نشر المقالات المختلفة التي تدور كلها تقريباً حول تبرير انقلابه الجديد، ولا نقول الاخير، فهل منا من يضمن أن جيد يستقر على حال؟!
لعل مظاهر التقلب والقلق الدائم وعدم الاستقرار الي صاحبت جيد عشرات السنين هي أعظم ما يرفعه (كانسان) لانها نتيجة تغلغل عاطفة الحرية في دمه الى حد قل أن يكون له نظير، فظل طول حياته (حديقة من التردد) - كما يسميه أكبر أتباعه الكاتب الفرنسي جاك ريفيير - لا يهدأ له بال. يدرس الحياة بنواحيها الفكرية والحسية، يسافر الى أقصى البلاد. كل ذلك لكي يصل الى الحقيقة المنشودة التي يسعى وراءها. وبرغم عبء ماضيه الديني الثقيل فقد استطاع ان يحطم أغلاله لينطلق باحثاً منقباً
إننا حين نحكم على اندريه جيد يجب أن ننظر الى مجموع شخصيته، متغاضين عن تلك السبل الشاردة التي اختطفها في حياته الخاصة ودعوته العامة، وتعتبر في نظر ناقديه - مبالغة قصوى في تفسير معنى الحرية - لقد علمنا جيد كيف ننتصر على الخجل المقيت والرهبة البغيضة التي لا معنى لها، علمنا كيف نكشف دخائل نفوسنا ولا تتركها في الظلام الدامس لا نعرف كنهها كأن ليس لنا بها صلة، علمنا كيف نسلط عليها ضوءاً وهاجا نستمده من صميم إرادتنا وشجاعتنا، علمنا يف نصرح بكل ما يجيش في خفايا قلوبنا من النزعات الصارخة - علمنا كيف ومتى تماماً حقيقة نفوسنا. . . ليس بالاستسلام لغرائزنا(83/59)
الحيوانية كما يتهمه اعداؤه ظلماً، بل بأن تساير طبيعتنا مهما كانت بسذاجة عظيمة، سواء ما كان منها خاصاً بالناحية الحيوية او بالناحية الروحية، وان نكون دائماً على أتم أهبة لمواجهة الحياة المتغير وجاراتها على الدوام في قالب جديد
علي كامل(83/60)
بيان للناس
بقلم صاحب السعادة محمد طلعت باشا حرب
لمناسبة حلول موسم الحج الشريف لبيت الله الحرام - يسرني أن أذيع على مواطنينا الأعزاء بعض ما قلمت به (شركة مصر للملاحة البحرية) لراحة الراغبين في تأدية هذه الفريضة المقدسة:
اولاً - قامت الشركة بتجهيز باخرة ثانية (الكوثر) لمشاطرة شقيقتها (زمزم) شرف نقل الحجاج، وهي باخرة غاية في الفخامة ولا تقل عن زمزم أناقة ونظاماً ونظافة
وستوجه الدعوة لزيارتها قبل مبارحتها الاسكندرية كما فعلنا في العام الماضي بالنسبة لزمزم وسيدعي ايضاً لفيف من رجال الصحافة والأصدقاء للسفر عليها من الاسكندرية لبور سعيد في طريقها إلى السويس. وبفضل اشتراك الباخرتين في النقل أصبحت محلات الدرجة الممتازة (اللوكس) والدرجتين الاولى والثانية متوفرة تماماً، وأصبحت الشركة مستعدة باذن الله تعالى لنقل أي عدد من ركاب هذه الدرجات في الذهاب والاياب
ثانياً - لزيادة راحة الحجاج في نزولهم من الباخرتين وطلوعهم اليهما بجدة قد أعدت الشركة مراكب كبيرة (قليلة الغاطس) وجعلتها شبه صنادل تقف على جانبي الباخرة عند رسوها وجهزتها بالسلالم والكبارى اللازمة لنزول الحجاج منها وصعودها إليها بكل راحة وبدون أدنى خطر مهما كانت الرياح شديدة ومهما كان البحر هائجاً
وهذه الصنادل التي يسع الواحد منها نحو الخمسمائة حاج مجهزة (بالدكك والكراسي والخيام) (تندات) للوقاية من الشمس والمطر ويجرها رفاص لداخل الميناء
وفضلاً عن ذلك فالسنابك الأصلية موجودة أيضاً للنقل منها للميناء إذا تعذر لسب ما وصول الصنادل إليها: وهذه تضحية جديدة من الشركة تكلفها مبالغ لا يستهان بها، ولكنها تبذلها عن طيب خاطر حسبه لله تعالى دون أن يحرم أصحاب السنابك والمشتغلون عليها من اهل الحجاز أجورهم المقررة بالتعريفة الرسمية التي تدفعها الشركة اليهم كاملة من مالها
والشركة تنتظر منهم أن يقابلوا ذلك بالشكر الجزيل وزيادة العناية في خدمة الحجاج
ثالثاً - لتشويق من يرغب من أهل اليسار من الطبقتين العليا والمتوسطة في أداء الحج(83/61)
فكرت الشركة - فيما فكرت فيه - في ايجاد محلات لائقة لهم بجدة ومكة المكرمة - فاستأجرت منزلين بهما زودتهما بكل وسائل الراحة، وبالادوات الصحية العصرية، والأثاث الوثير الفاخر، والأطعمة النظيفة، وجهزتها بالثلاجات والمراوح الكهربائية وبالنور الكهربائي، فأصبح لا عذر من هذه الوجهة - حتى لمن تعودوا الترف والرفاهية - في عدم القيام بفريضة الحج. وكل ذلك بأجور غاية في الاعتدال لا تتجاوز جنيهاً مصرياً عن كل يوم بما في ذلك الأكل والنوم عن الشخص الواحد للسرير الواحد
نعم إن عدد الأسرة محدود في الوقت الحالي، ولكن مع زيادة الاقبال ستفكر الشركة في زيادة الأماكن
ويمكن حجز الأسرة من مكتب الشركة او بالباخرة او بذات المنازل بجدة ومكة
وزيادة في راحة الحجاج قبلت الشركة اقتراح (قومسيون نقل الحجاج) الخاص بالقيام بتقديم الغداء لهم بالبواخر في جميع الدرجات - فقامت بذلك في العام الماضي وستقوم في هذا العام بتقديم الغداء النظيف الصحي لهم جميعاً مغتبطة بعملها الذي تقصد به وجه الله قبل أن تنظر إلى الربح
فهي تقدم الى ركاب الدرجة الثالثة الخبر الكافي والأطعمة الصحية من الخضار واللحم والأرز والحلوى والجبن والزيتون للفطور والغداء والعشاء بمكيات وفيرة - وهي التي تشرف على شراء القمح وطحنه وعجنه وخبزه لتستوثق من أنها تقدم خبزاً جيداً نظيفاً غير مخلوط - كما تشرف على شراء الزيدة وتسييحها، وعلى شراء العجول والخراف الجيدة السليمة، وعلى ذبحها وطبخها لتقدم غداء شهياً صحياً كما قدمنا
وكان هذا بثمن زهيد قدره 40 قرشاً عن كل حاج الدرجة الثالثة طول مدة السفر بحراً ذهاباً وإياباً
ورابعاً - الاتفاق تام بين الشركة والحكومة الحجازية على بذل قصارى الجهد من جانبها لتمهيد الطرق وتوفير الوسائل الصحية والاجتماعية لراحة الحجاج
وقد تبرعت الشركة والبنك وبعض أهل الخير بمبالغ لاتمام المستشفيات في مكة المكرمة، وتجهيزها بأحدث الآلات الجراحية واشعة رنجتن ليمكنها القيام بأجل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام على اختلاف اوطانهم ولأهل البلاد انفسهم(83/62)
وهذا فوق أنه عمل إنساني جليل يزيد في اطمئنان الحاج، وتشجيع الاقبال على استكمال هذا الركن من الدين
وبما ان الحرب العالمية أثرت أكبر تأثير في رخاء المدينة المنورة ويسر أهلها حتى هاجر معظمهم وأصبح الباقون - من حضر وبادية - في ضنك عظيم يفتت الأكباد، كانت العناية بشؤونهم واجبة، وفي مقدمة ما يعني به دراسة حالة تلك الربوع، وأهل باديتها لعل الله يوفق لمشروع يشغل بعض الأيدي العاطلة ويشحذها لعمل فيه خير ورزق لهم، ويرد للمدينة بعض روائها القديم
خامساً - اتفقت الشركة مع الحكومة الحجازية على دراسة مشروع تعبيد محل السمعي بين الصفا والمروة ليكون أكثر انطباقاً لما يقتضيه من الاجلال والاحترام. وعلى منع أنهيال الاتربة عليه، وتدفق السيول التي تغشاه في أكثر الأوقات بل وتتعداه الى المسجد الحرام
وقد ارسلنا بعض الخبراء لدرس المشروع ووضع التصميمات والتقارير اللازمة لعرضها على الحكومة الحجازية والتفاهم على تنفيذها
سادساً - البحث جار فيما إذا كان من المتيسر إيجاد خط جوي بين جدة والمدينة لتيسير الزيارة لكثيرين ممن يستصعبونها الآن، وإذا نجح المسعى نتمكن من تنظيم خط جوي بين جدة والمدينة مرتين او ثلاث مرات في اليوم
فيتمكن الحاج من تأدية الزيارة والعودة في يوم واحد أو يومين لمن أراد البيت. وفي هذا كسب الزيادة لمن لا يجد في وقته متسعاً لها، او لمن تمنعه المتاعب من القيام بها، ولا ربح لأهل المدينة بسبب زيادة عدد الزائرين
سابعاً - أوجدت الشركة (كوثر) كما أوجدت في العام الماضي على (زمزم) مسجداً للصلاة ومكتبة بها كثير من كتب الدين والأدب وغيرها، كما أن بهما علماء يحاضرون الحجاج في أمور دينهم
ثامناً - أوجدت الشركة بالسويس لراحة الحجاج او عائلاتهم الذين يحضرون قبل ميعاد السفر او يرغبون في الاستراحة قبل مغادرتهم السويس في العودة (فندقاً) مستوفياً شروط النظافة والراحة، نسأل الله عز وجل أن يجعله نواة شركة للفنادق المصرية
تقوم بأيدي المصريين وأموالهم، وقد سميناه من باب التيمن (لوكاندة مصر)(83/63)
تاسعاً - سيجد حجاج بيت الله الحرام على الباخرتين مكتبين لبنك مصر لتبديل العملة المصرية بالذهب او بالريالات السعودية ولتبديل هذه بالعملة المصرية - حين العودة - ولقد رأى من حج منهم في العام الماضي أي تسهيل عملنا. ولعلهم يذكرون أننا صرفنا لهم العملات الذهب والسعودية بأسعار أرجح مما كانت تصرف به في جدة أو مكة
واذا صح ما أذاعته الجرائد من أن الحكومة المصرية السينية تريد أن تكلفنا بصرف جنيهات ذهبية لحسابها الى الحجاج فنحن مستعدون للقيام بهذه العملية بالسعر الذي تحدده الوزارة، فيمتنع ما أذاعه في العام الماضي بعض المغرضين الذين لم يقفوا على حقائق الأمور - إذ ظنوا أننا أخذنا الذهب من الحكومة بالسعر الذي تشتريه هي به من السوق المصرية وبعناه بالأسعار العالية؛ على أن الحكومة قد باعت لنا الذهب في العام الماضي بسعره في (لوندرة) يوم البيع حتى دون استبعاد نفقات نقل الذهب براً وبحراً والتأمين والمحافظة عليه والقيام بمهمة المصارفة
ومع كل ذلك فقد بعنا الذهب للحجاج بأقل من الأسعار التي وجدوها في جدة ومكة ببضعة قروش في الجنيه. وقد بعنا للحجاج الريالات السعودية بثمن يرجح السعر الذي وجدوه بجدة بنحو نصف ريال سعودي في الجنيه، ومن صرفنا لهم بمصر بسعر أقل قبل معرفة حقيقة السوق رددنا لهم الفرق إما بالباخرة أو بالقيد لحسابهم الجاري لدينا بمصر، أو بصرفه لهم نقداً بعد عودتهم، ولم نسمع في تاريخ البنوك بمثل هذا
وقد عملنا الترتيب اللازم بحيث يرد لنا يوم قيام الباخرة من السويس تلغرافات بالسعر الحالي لكل العملات بجدة لنصرف للحجاج ما يلزمهم بأسعار أوفق لمصلحتهم
وفي حال تكيفنا من الحكومة بصرف الذهب لحسابها يكون ل بالسعر المتفق عليه ويعلن للحجاج
ولتسهيل قبض تحاويل بنك مصر على الحجاز ولراحة الحجاج قد جعلنا الصرف بجدة من محل وكلائنا بها (الحاج عبد الله رضا وشركاه) وقد عينا مندوباً للبنك بمكة بمنزل شركة مصر للملاحة البحرية لخدمة الحجاج وتأدية طلباتهم المالية وصرف التحاويل بها
وانفقنا في المدينة المنورة مع (حضرات الشيخ عبد العزيز الخريجي وشركاه) على أن يكونوا وكلاء في ذلك وهم من أشهر تجارها(83/64)
وأمامنا مشروع بخصوص العملة سنعرضه على حكومتنا السنية عسى أن تقره للمواسم المقبلة، ففيه تحقيق مصلحة الحجاج وعدم غبنهم على قدر الاماكن. وإذا نجح هذا المشروع - ولا ندري لماذا لا ينجح - اتيح للحاج أن يحج ويعود دون أن يكون مضطراً لحمل نقود معه
فبنك مصر يتولى حينئذ شئونه المالية من البيت للبيت - على حد تعبير مصلحة السكة الحديد - فيدفع عنه بالحجاز كل الرسوم والضرائب وأجور للمطوفين والأتومبيلات والجمال مما هو مقرر في التعريفة بحساب الذهب - ويقدم له هناك ما يحتاجه من عملة سعودية لنفقاته المحلية المقررة بهذه العملة
وقد وافقت حكومة الحجاز على هذا المشروع الذي يضع حداً لفوضى تبديل العملة والتلاعب فيه، ولا يبقى إلا أن يعرض على حكومتنا السنية حتى إذا ما بدت لها مزايا فيه من عدم غبن الحجاج اقرته، وعملت على تنفيذه محاطاً بكل ما يضمن مصلحتهم
عاشراً - افردنا محلا في كل من الباخرتين لبيع الاحرامات (من بفتة وبشاكير) لمن يرغب فيها من الحجاج، وهي من صناعة شركة مصر للغزل والنسيج وأثمانها معتدلة
وحتى لا يطيل الحجاج في عودتهم المكث في جدة - رأت الشركة ان يكون نقلهم من جدة للطور على (زمزم) ومن الطور الى السويس على (كوثر) وهذا تسهيل كبير لهم ووفر في الوقت
مما تقدم ترون الجهد الجهيد الذي تبذله شركة مصر للملاحة البحرية، ويبذله بنك مصر لتوفير اسباب الراحة والطمأنينة لحجاج بيت الله الحرام كتب الله لهم السلامة في الذهاب والاياب ووقفنا لخدمتهم وتوفير اسباب الراحة والامان لهم أينما كانوا وحيثما حلوا
وكل ما نطلبه من حجاج بين الله الحرام هو أن يعاونونا على حفظ النظام والمواعيد وألا يكونوا سبباً في إثارة الخواطر بين تلك الربوع المقدسة، وليعلموا أننا لا نريد إلا راحتهم، فان رقع تقصير فعن غير قصد، ولنا من حسن نيتنا خير شفيع.
(وما هجرتنا إلا الى الله ورسوله)
ولما كانت العصمة لله، وما نحن إلا بشر نخطئ ونصيب، فانا على أتم استعداد لسماع أية ملاحظة بريئة، أو أية شوى نزيهة، أو أية نصيحة خالصة، أو إرشاد نافع، الى ما يكون(83/65)
من ورائه تحقيق أمانينا جميعاً التي تنحصر في وجوب العناية بحجاج بيت الله الحرام والسهر على راحتهم ابتغاء مرضاة الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا
فبراير 1935
محمد طلعت حرب(83/66)
القصص
كانديلورا
بقلم لويجي بيراندللو
صاحب جائزة نوبل لعام 1934
(لم يعرف للقصصي الايطالي لويجي بيراندللو، الذي فاز بجائزة نوبل الأدبية عام 1934، قصة كلاسيكية تجلت فيها مقدرته الفنية الرائعة، وتبينت فيها نظرته الفلسفية: (هذا او ذاك. . .) مثل ما تجلت في هذه القصة.)
انزل المصور الفنان (نين بابا) حافة قبعته بيديه الغليظتين ساعة ان قال لزوجته (كانديلورا): (لا فائدة ترجى. صدقيني يا عزيزتي أن لا فائدة ترجي.)
وصرخت كانديلورا مهتاجة: (وأي فائدة ترجى إذاً؟ افي معاشرتك ليقضي علي من الغضب والمعاندة؟)
ورد عليها نين بابا في هدوء: (نعم يا حبيتي. ولن دون أن يُقضي عليك. بقليل من الصبر. أنظري، سأذكر لك شيئاً. (شيكو). . . . . . .)
- إنني أمنعك من تسميته بهذا الاسم.)
- (ألا تسمينه كذلك؟)
- (نعم، ولأني أنا أسميه هكذا)
- (هه. . . . حسن. لقد ظننت أني أرضيك بهذا. أيجب أن أسميه البارون؟ البارون. أريد أن أقول إن البارون يحبك يا حبيبتي كانديلورا، ويبذل المال في سبيلك. . . .)
- (في سبيلي أنا يبذل المال؟ يا سافل! ألم يبذل من أجلك مالاً أكثر؟)
- (لو أنك تركت لي الكلام. . . . . هو يبذل المال من أجلي ومن أجلك. ولكن انظري، ما معنى أنه يبذل من أجلي مالاً أكثر؟ كوني منطقية مع نفسك. إن معنى ذلك أنه لا يقدرك إلا لأنك في ظلي الذي أخلعه عليه. هذا ما لا يمكن إنكاره.)
وتميزت كانديلورا من الغضب وقالت: (ظل؟ من شعاع لمثل هذا. . .) ورفعت قدمها(83/67)
مشيرة إلى حذائها، ثم استطردت قائلة: (لم يلحقني منك إلا العار ولا شيء إلا العار!)
وتبسم نين بابا , اجب بهدوء أكثر من ذي قبل: (كلا، أستميحك المعذرة: إن العار يلحقني أنا، فيما إذا ما تكلمنا عن العار. إنني الزوج. وهذا أهم شيء، صدقيني يا لوريتا. ولو لم أكن زوجك، ولم تعيشي في ضيافتي تحت هذا السقف، لفقدت كل جاذبية، أتفهمين؟ هنا يمكن للجميع أن يدللوك دون ان يخشوا عقاباً. والجميع يتمتعون متاعاً عظيماً بقدر ما تلحقين بي من عار وشنار. وبدوني يا لوريتا تصبحين شيئاً تافهاً شديد الخطورة، وما كان شيكو. . . البارون ليبذل. . . ماذا أنت فاعله؟ أتبكين؟ لا، انظري. . . إنني لا أقوال إلا هذراً.)
واقترب نين من كانديلورا. وأراد أن يسمك بذقنها، ولكن لوريتا قبضت على ذراعه، وفتحت فاها كحيوان مفترس وعضته، وطالت عضتها دون أن تتهاون. وكانت أسنانها تغور باستمرار في الذراع، بينما كان هياجها يزداد. وانحنى نين حتى يمكنها من ذراه، وأطبق على أسنانه وابتسم هادئاً للألم المروع الذي سببته له. وازدادت عيناه ضياء واتساعاً. ولما أن انفكت أسنان كانديلورا عن ذراعه - وكأن حملاً قد أزيح عنه - أحس بأن موضع ما أكلت جرح من النار، ولم ينبس بكلمة. وأخرج في هدوء ذراعه من ردائه، ولكن القميص لم يطاوعه، إذ كان قد غرز في اللحم الحي. وانطبعت على كم القميص بقعة من الدم، دائرة دموية، هي دائرة أسنان كانديلورا القوية. وكان أثر الواحدة بجانب الأخرى ظاهراً، وأخيراً تمكن نين من إخراج كم قميصه، والابتسامة لم تفارق وجهه الشاحب. وكانت رؤية الذراع وحدها تشيب. فموضع أثر كل سن في الدائرة جرح. وكان اللحم المحيط بالدائرة قد ايود لونه. قال نين مظهراً لما ذراعه: (ألا ترين؟) وصرخت كانديلورا، وهي ملقاة على المقعد تتمشدق: (هكذا أريد أن أعض قلبك!) وأجاب نين: (هذا ما اعرفه. وهذه الرغبة تقنعك بأنه أولى لك ألا تتركيني.
أذهبي بالقبعة، وأتني بصبغة اليود والشاش المعقم والرباط. جميعها في الخانة العليا من مكتبي يا لوريتا. هي الثانية من اليمين. إنني اعرف أنك حيوان صغير مفترس يحب العض، ولهذا أحرص دائماً على الضمادات اللازمة)
وأمسكت كانديلورا بذراعه ونظرت في عينيه وشفعتها بنظرة قصيرة إلى ذراعه، واعجب(83/68)
نين بها ساعة هذه النظرة
لكانديلورا سحر في اللون والحركة، وهي تشحذه للعمل. فعينا الفنان تكتشفان في هذه المرأة اشياء ابداً جديدة ومتعددة. ففي هذه الظهيرة تبدو وهي في حديقة المنزل، وتحت شمس شهر اغسطس المحرقة، التي تنشر ظلالاً حادة في كل مكان، ولها أثر مخيف. وكانت في نفس الصباح، حينما آبت من حمام البحر حيث قضت بضعة أسابيع محترقة الجلد سمراء اللون من فعل الشمس وملح البحر، لون شعرها منطفئ، وضاءة العينين أشبه ما تكون بعنز تشتهي النوم. وكانت بذراعيها العاريتين المفتولتين وبكفلها النامي تظهر في كل حركة بسيطة أن رداءها الأزرق الحريري الذي يناقض لون جسدها ويلتصق به يكاد يتقطع. وكان هذا الرداء مدعاة للسخرية. لقد كانت كانديلورا تقضي نصف يومها عارية تمرح على شاطئ البحر المنعزل، وترقد بجسمها الصامد على الرمال المتقدمة من حرارة الشمس الملتهبة، بينما كانت تشعر بنسيم البحر البارد يهب على قدميها. فكيف لهذا الرداء الازرق ان يخفي عراها؟ لقد ارتدته مجاملة للعرف، ولكنه في الواقع اظهرها في حالة غير محتشمة اكثر مما لو كانت عارية
ومع كل ما كانت عليه من غضب لحظت في عينيه إعجابه بها. وسرت إلى شفتيها بفعل الغريزة ابتسامة الرضا. واستاءت لساعتها من فعلتها هذه. وانقلبت ابتسامتها ضحكة استهزاء. وصارت ضحكة الاستهزاء فجأة نحيباً وشهيقاً وهربت إلى المنزل
وأخرج نين بابا لسانه لها دون وعي وهو يرقب مسيرها. ثم نظر إلى ذراعه المجروحة التي تشع ألماً محرقاً من فعل حرارة الشمس. ثم شعر فجأة أن عينيه أغرورقتا بالدموع. ومن يعرف السبب؟ وتحت تلك الشمس المحرقة في وسط الحديقة حيث الظلال الحادة مترامية شعر بين بابا بأنه كاد ينزعج من وجود اشياء عدة لا حراك بها من حوله: الأشجار، وجذوع أشجار البلوط، والاحواض المركزة على جوانبها صخور صناعية، وسطح الماء الاخضر، والمقاعد ماذا تنتظر كل هذه الاشياء؟
إنه يمكنه أن يتحرك وأن يسير. ولكن يا للغاربة! كأن كل هذه الاشياء التي من حوله ولا حراك بها تنظر إليه؟ ثم هي لا تنظر إليه مجرد النظر بل ترسل إليه سخريتها في سحر يشع من جمودها العجيب، وصورت له أن قدرته على المسير ليس من ورائها طائل، إلا(83/69)
أن تظهره بمظهر الغباوة الداعية للسخرية
وهذه الحقيقة تمثل ثراء البارون شيكو. وهنا سكن نين بابا منذ ستة شهور، إلا أنه لم يشعر بالاشمئزاز من نفيه ومن كانديلورا إلا في صبيحة أمس، وحين آبت الساعة من البحر تجسم وزره ووزر عراها أمام عينيه. غير أنه اضطر إلى الضحك ساعة أن قالت له تهرب الآن من هذا العار. وقد أفصحت له أنها تبغي ذلك
حقاً إن صور نين بابا ستلقي رواجاً بعد الآن. وان قيمة فنه الجديد الخاص به قد بلغت اخيراً أعلى مرتبة. وليس ذلك لأن الناس حقاً فهموه، ولكن أمزجة الأغنياء من زوار معرضه وعقلياتهم تنقاد لحكم النقد الفني فيقفون إزاء لوحاته معجبين
النقد؟ وأيضاً كلمة النقد لا وجود لها في غير سراويل النقدة.
والناقد الذي قصدته كانديلورا وجلة يوماً ما، لكي ترجمة في وجهه بأنه غير عادل حين يؤدي بفنان مثل نين بابا الى التهلكة جوعاً - ذلك الناقد الكلمة دون غيره، كتب مقالاً عظيماً يلفت به انظار المترددين الى فن نين بابا الجديد والطابع الشخصي فيه.
ولكنه طلب أجراً مقابل اعترافه بالفنان. على ألا يُدفع هذا الاجر نقداً، بل شكراً حيوياً تقدمه كانديلورا له. ولم يكن من كانديلورا إلا أن قدمت دون تريث هذا الشر جزيلاً. غير قاصرة على ذل الناقد، بل عممت هذا الشكر للذين أعجبوا بفن زوجها، ذلك الفن الجديد. فقد ملكتها نشوة فرح لانتصار زوجها. وشكرت الجميع وبخاصة البارون شيكو، الذي جرى في ذلك إلى حد أن ترك للزوجين منزله، حتى يكون له شرف إيواء فنان معذب. . . .
مسكينة كانديلورا! لقد خافت الفقر وقالت ان الفقر ليس هو الحاجة ولا الذل. وانه ليس لما حق فيما يكسبه زوجها. ودفعتها عدم اهليتها هذه للانتقام. وعلى اي صورة؟ منزل. سيارة. قارب بخاري، حلى. جواهر ثمينة، تنزهات خلوية. أدوات زينة. مآدب. . . ولم تشعر هي بغضب منه، إذ بقي دون أن يتغير في شيء. . . فلا هو حزين ولا هو فرح، ولا زال مهملاً في هندامه كما كان. . . . . . . وليست له بهجة في غير الوانه. لا يعرف مطلباً سوى التفرغ لفنه، حتى يصل إلى القرار، القرار المكين، كي لا يرى شيئاً من صور الحياة الوضيعة التي تحيط به(83/70)
من المحتمل، كلا، بل بكل تأكيد ان تلك الحياة الوضيعة - حلى لوريتا والترف والدعوات والمآدب - تدل على شهرته. شهرته وعاره - ولم لا؟ وماذا يهمه من أمر ذلك؟
إنه يقدم روحه وكل ما فيه للمتعة بورقة يدخل عليها الحياة برسمه، بينما يصير هو لحماً ودماً وشرايين لتلك الورقة. أو للمتعة بحجر صلب لا حس فيه ليجعله فوق لوحته حجراً حياً حساساً، هذا ما يعنيه
عاره؟ حياته؟ حياة الآخرين؟ سباب الأجانب الذي لا فائدة من الانصات اليه؟ إنه لا يحيا إلا لفنه، وهو العمل الذي يتمخض عنه النور والألم ويتمثل في روحه
وقال هذا الصباح للوريتا وكأنه في عام آخر إنها تعجبه - دون أن يعير الأمر اهتماماً خاصاً - حقاً إنها أعجبته، لأنها ارتضت أن تكون شريكة مطيعة في الحياة، غير عابثة بالفقر، شركة قنوعاً راضية، له أن يطمئن الى صدرها، وطبيعي أن تهاجمه لوريتا كنمرة. ولكن ماذا نفعل بعد ذلك؟ ألا تعود بصبغة اليود والشاش المعقم والضماد؟ لقد صعدت المسكينة باكية
الآن يجب أن يحب لوريتا. ولربما كان ذلك رد فعل لعدم مبالاته. أليس ذلك جنوناً؟ ولو أنه كان يحبها حقاً لحق عليه قتلها. عدم المبالاة هذا ضروري، هو المقدمة التي لا مفر منها، وليتحمل العار الذي تمثله الى جانبه. أيهرب من هذا العار؟ كيف يمكن ذلك. وكل منهما قد رأى هذا العار ليس بعيداً عنه ولا محيطاً به بل رآه في نفسه أيضاً. والسبيل الوحيد هو ألا يهتم كلاهما بذلك. فهو يتابع تصويره وهي توالي تمتعها بشيكو مؤقتاً ثم بغيره أو به مع غيره في وقت واحد، فرحة غير حاملة هماً. إن الحياة. . . . لا شيء. . . وهي تسير على هذه الوتيرة أو تلك، دون أن تترك أثراً. ويجب على الانسان أن يضحك من الأشياء التي ولدت خبيثة، والتي ليس لها من الكيان ما يغري، أو لها كيان، ولكنه قبيح يجعلها تتألم الى أن تصبح رماداً مع الزمن. وكل شيء يحمل طيه آلام تكوينه، آلام مصيره الذي لا قدرة له على تغييره. وهذا هو الجديد في فنه، إذ يجعل أشخاصه يشعرون بذلك الألم. . . وهو يعرف جيداً أن كل أحدب عليه أن يعرف كيف يحمل حدبته معه. وينطبق ذلك على الوقائع كما ينطبق على الأشخاص. فاذا ما كانت الواقعة واقعة فستبقى كذلك دائماً أبداً، ولن تغير. فكانديلورا مثلاً لو أنها بذلت أقصى جهدها لتصير خلواً من(83/71)
العار ما كانت أصلاً عندما كانت فقيرة لما استطاعت. ولعل كانديلورا لم تك قط خلواً من العار حتى في أيام طفولتها. وإلا لما أمكنها فعل ما فعلت، ثم هي تفرح لعملها هذا
وتحت حرارة الشمس انقبض الدم في موضع العضة من ذراعه، وتجعد سطحه وازداد نبضه وانفتحت يده وتوترت شرايينه
واستفاق نين بابا من تأملاته وخطا نحو المنزل ونادى مرتين عند مدخل السلم وفي الممشى:
(كانديلورا! كانديلورا!)
ورن صدى صوته في الغرف الخالية ولم يجبه أحد. دخل في الغرفة المجاورة لمحل عمله ومكتبه، ولكنه تراجع من هول ما رأى. كانت كانديلورا منبطحة على أرض الغرفة البيضاء المفعمة بالنور. ورداؤها في غير انتظام. وكأنها دارت حول نفسها فانكشف فخذها. أسرع أليها ورفع رأسها، يا ألهى ماذا فعلت. الفم والذقن والرقبة والصدر يضرب لونها بين السواد والصفرة: لقد شربت صبغة اليود
ثم ناداها قائلاً: (إنه لا شيء! لا شيء ما هذه الفعلة الحمقاء يا حبيبتي كانديلورا. يا طفلتي. . . إنه حقاً لا شيء. . . إنه يؤذي المعدة طبعاً قفي)
وحاول أن يوقفها على قميها؛ ولكنه فشل، إذ أن المسكينة قد تصلب جسمها من شدة الألم. ومع ذلك لم يقل لها مسكينة، بل قال: (طفلتي. . .! طفلتي. . . .!) ذلك لأنه ظن ان تجرعها اليود أمر تافه مزر. (طفلتي!) رددها ثانية، وقال لها (يا صغيرتي الحمقاء). وحاول أن يستر فخذها بالرداء الأزرق فقد أصاب منه نظراً، وأدار عينه الى الناحية الأخرى حتى لا يرى فمها الأسود
هو وحده في ذلك المنزل. لقد وصلت لوريتا اليوم من حمام البحر. وكانت قبل ذهابها قد طردت الخادمة، فلا أحد يساعده على رفعها من الأرض، ولا أحد يأتي بعربة تحملها الى أقرب مستشفى حتى يؤدوا لها الاسعافات السريعة. ولحسن الحظ سمع بوق سيارة البارون شيكو وهي قادمة في الطريق، وسرعان ما ظهر البارون بهندامه الأنيق ووجهه الأصفر الذي ينم عن شيخ ضعيف العقلية مديد القامة متصاب
وثبت البارون شيكو (المونوكل) على إحدى عينيه وقال: (ماذا جرى؟)(83/72)
وصرخ نين في وجهه قائلاً: يا إلهي، ساعدني على إنهاضها)
ولم يكادا يحملانها حتى رأيا أن يدها التي كانت منطوية تحت فخذها قابضة على المسدس، كما رأيا تغرة من الدم
وتنهد نين: (آه. . . آه. . .) وهو ينقلها هو وشيكو إلى غرفة النوم
إن لوريتا لم يتصلب جثمانها من شدة الأم، ولكن من الموت. ولما وضعت الجثة على السرير صرخ نين بابا وجه شيكو قائلاً:
(من كان معكما في حمام البحر؟ قل لي من كان هذا الصيف معكما في الحمام؟)
وفقد شيكو صوابه وتمتم ببعض الأسماء
وزأر (نين) كالوحش وهجم عليه وأمسكه من قميصه وهزه هزات عنيفة وقال له: ([اإلهي! كيف يكون كل غني متمول أبله قصير النظر؟)
وتساءل شيكو وقد خاف على نفسه، وكان من شدة الخوف يتراجع باستمرار: (انحن حقاً بلهاء؟)
واشتد تأنيب نين بابا إياه، وقال له: (أنتم، نعم أنتم بلهاء لدرجة أنكم تذكون الأمل في المساكين بأنهم سيكونون محبوبين مني! أتفهم ذلك؟ منى! منى! منى - محبوبين!)
ثم وقع على جثمان لوريتا وانفجر يبكي بكاءاً مراً
عربها عن الألمانية:
ا. ا. ي(83/73)
من روائع الشرق والغرب
الوادي
لشاعر الطبيعة والجمال لامرتين
تعب قلبي كل شيء حتى من الأمل،
فلن يثقل بعد اليوم بأمانيه على القدر،
فأعرني يا وادي صباي وأحلامي،
ملجأ يومٍ انتظر فيه موافاة حمامي
ذلك هو الشعب يضرب في حشايا الوادي،
والغابات الكثيفة تقوم على سفوح الربي،
وأدواحها الحانية تقلى الظلال على جبيني
فتملأ شعاب نفسي بالسكون والغبطة
وهناك جدولان اختفيا تحت أعراش الخضرة،
يرسمان في انسيابهما منعطفات الوادي،
ثم يمتزح منهما الموج والخرير بالخرير،
ويفنيان وهما من المنبع على مدى قصير
كذلك جرى نبع أيامي جريان هذين الجدولين،
ثم ذهب من غير هدير ولا سمة ولا رجعة!
ولكن ماءها كان صافياً شديد الصفاء؛
اما نفسي فلم يتراءَ في كدرها صفو ولا هناء!
إن طراءة الجدولين وبرودة الظلال،
تعقلانني طيلة النهار على ضفافهما الخطيبة،
أهدهد نفسي على خرير مائها السلسال،
كما يُهدهَدُ الفل على المناغاة الرتيبة(83/74)
آه، حبذا المقام هنا بعيداً عن الناس وحيداً مع الطبيعة!
يحيط بي سور أخضر من رياض الأرض،
ويقوم حوالي أفق محدود فيه مجال للبصر،
فلا أسمع غير همس الموج ولا أبصر غير وجه السماء
لقد رأيت كثيراً واحسست كثيراً واحببت كثيراً
ثم جئت هنا حياً لأبحث عن هدوء (ليتيه)!
فيا أيها الوادي الجميل! كن لي ذلك
النهر الذي يُذهب بالنسيان هموم القلب؛
ففي النسيان وحده منذ اليوم سعادتي ونعيمي
إن قلبي في رخاء ونفسي في سكون،
وإن ضوضاء العالم لتفنى قبل أن تصل إلي
كالنغم البعيد يخفت على طول المدى
ثم لا يقع منه في الآذان إلا صدى
من هذا المقام ومن خلال ذاك الغمام
أرى الحياة حولي تغوص في غيابة الماضي،
فلم يبق مائلاً غير الحب بقوى ويتجدد،
كالصورة الكبيرة تبقى على اليقظة من حلم تبدد
استروحي يا نفس في هذا الملجأ الأخير،
كالمسافر اللاغب يجلس على باب المدينة،
وقلبه ذاخر بالأمل والطمأنينة،
فيستثنى قبل أن يدخل نسيم المساء العبث
فلننفض عن اقدامنا الغبار كما نفض هذا الرجل المجهود،
فانا لن نسلك هذه الطريق مرة اخرى؛
ولنْنْشق مثله في آخر المدى المحدود،
نفحات الهدوء المبشر بالسلام الدائم(83/75)
إن أيامك الكئيبة القصيرة كأيام الخريف،
تنقبض انقباض الظلال عن حوادر الهضاب؛
فالصداقة تغدر بك، والرحمة تتخلى عنك،
وتقطع وحدك الدرب الى عالم القبور
ولكن الطبيعة هناك تهيب بك وتحنو عليك!
فألق نفس في أحضانها التي لا تتجافى عنك،
فان كل شيء يتنكر لك وينزوي عنك إلا الطبيعة،
فجوها هو الذي ينضح على آلامك،
وشمسها هي التي تشرق على أيامك
بالأشعة والظلال لا تزال تحيطنا الطبيعة.
فطهر قلبك من الغرور الباطل والمتاع الزائل،
واعبد هنا الصدى الذي يعبده فيثاغورس،
وأرهف أذنك مثله لموسيقى السماء.
ثم اتبع الشمس في السماء والظل في الأرض،
وطِرْ في السهول مع ريح الشمال،
وحُس مع شعاع هذا الكوكب الهادي
خلال الغابات في ظلال هذا الوادي.
إن الله خلق العقول لتدركه،
فاكتشف في الطبيعة خالق الطبيعية؛
فان صوتاً لا يني يُحدث المرء عن ربه،
ومن ذا الذي لم يُصخْ إلى هذا الصوت في قلبه؟
الزيات(83/76)
صائب التبريزي
أبيات شتى
1 - نحن كالقسي: نصيبنا من صدينا انحناء طهورنا، وكل ما نحوز لغيرنا
2 - ليدي جرأة غير ما عهد الناس؛ لا تحبني غصناً غفل عنه الحراس
3 - ليس الظالم بنجوة من سهام آهات المظلوم، إن أنين القوس قبل أنين الهدف المكلوم
4 - يا رب من دعا علينا أن نكون كقافلة الأمواج: ليس في سفرنا للاستراحة منزل
5 - ليس اطمئناناً سكون القلب في مصابه، ولكن ضاقت الدنيا عن اضطرابه. إن خفقان النجم يصيح في لوعة: ليس هذا البناء المعوج مكاناً للدعة
6 - خُتم المجلس ليلاً بحديث طرتك المسلسلة، فتنهض كل من نهض وفي رجليه سلسلة. إن الأعصار الذي هب في هذه الصحراء، روحه المجنونة الحائرة يلفها الغبار في الفضاء
7 - إن الجذبة التي سلبت كف الجنون العنان، بدأت فقطعت من محمل ليلي الزمام
8 - ليست أوجه الاثنتين والسبعين ملة إلا إلى هذه السدة؛
ترى عاملاً حيران، ولم يضل أحد طريقه
9 - إن قطرة من الدموع تكفي لخراب العالم، كما تبدد قطرات الماء نوم النائم
10 - ولّ وجهك شطر الحانة ثم انظر طمأنينة القلب - انظر عالماً فارغاً من فكر الغد، إنك تطبق كالحباب عينك فترى نفسك، ولو فتحت عينك للضياء، لأبصرت فناءك في هذه الدأماء
11 - إن عيني لتطير كالشرار الى نوم الفناء، كما بعدت عن وجهك الناري الوضاء
12 - أضاء في كل ظفر هلال للعيد، ليلة تناولت كأساً من ذكر السعيد
عبد الوهاب عزام(83/77)
الكتب
ضحايانا الأطفال
تأليف أجنس دي ليما
ترجمة الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر وثمنه 10 قروش
تعتبر تربية النشىء وإعدادهم للحياة من أهم المسائل وأجدرها بعناية أولى الأمر وسواهم من المربين والكتاب؛ وتشعر مصر في نهضتها الحالية بشديد الحاجة إلى تقرير سياسة عامة تأخذ بها في تربية أبنائها، ذلك أنها قضت زمناً طويلاً تحت تأثير عوامل مختلفة امتد خطرها فشمل جميع نواحي الحياة، وفي مقدمتها أمور التربية والتعليم، فقد احكمت الأغلال وأقيمت العراقيل في تلك الناحية الجوهرية من نواحي التقدم، وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت سياسة التعليم عندا مهلهلة، وصارت ثقافتنا مذبذبة، وظلت مصر في لبس من الأمر تسير إلى غير قصد، ولا تستند في سيرها إلى مبدأ
لذلك يحق لنا أن نغبط بكل بحث في التربية يضطلع به من تأخذه الغيرة من أبناء مصر، ولقد اعتزمت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أن تضم إلى مجهوداتها المتنوعة في نشر الثقافة إصدار سلسلة من كتب التربية بين معرب ومؤلف، تحت إشراف الأستاذ اسماعيل القباني تحاول فيها كما جاء في مقدمة الأستاذ في هذا الجزء الأول من السلسة، (أن تبسط على التتابع النظريات والاتجاهات السائدة في عالم التربية في الوقت الحاضر، والأسس الاجتماعية والسيكولوجية التي تقوم عليها، وأساليب تطبيقها في نختلف الظروف والبيئات، ونتائج التجارب التي أجريت عليها) وغاية القائمين بهذا العمل الجليل أن يمهدوا السبيل لأن (تكون لنا فلسفة للتربية توفق بين أحدث الآراء في العالم من جهة، وأغراض النهضة القومية التي لاح فجرها في مصر من الجهة الأخرى)
وهذا الكتاب، الذي أحدثك عنه هو الحلقة الأولى من تلك السلسلة المباركة اضطلع بترجمته الأستاذ الجليل محمد عبد الواحد خلاف مدير إدارة الجمعية الخيرية الاسلامية، فأخرجه على الرغم من شواغله الجمة على خير ما يرجى من جمال سبك وحسن نظام(83/78)
ولهذا الكتاب في موضوعه، وفيما انتهج من طريقة أهمية فريدة، ذلك أنه ليس من تلك الكتب التي تتناول موضوع التربية من ناحيته الجافة، ناحية النظريات العلمية المجردة التي تهتم بالقضايا دون الوقائع، أو بعبارة اخرى تهتم بمبادئ العلم دون من تنطبق عليهم تلك المبادئ من الاطفال، فان تلك الكتب النظرية في منحاها محصورة الفائدة ثقيلة في الغالب تتطلب من القارئ صبراً طويلاً، وجهداً كثيراً، لي يستخلص منها ما يرجو من فائدة، وإن كان ما يصيبه منها في النهاية معاقاً بقواعد العلم أكثر منه بغايته
وإنك لتستبين روح الكتاب من عنوانه، فمؤلفته تنكر النظم المدرسية التقليدية، وتعتقد أننا نضحي بأولادنا ونعاملهم كما لو كانوا أعداءنا بالقائهم في تل الأبنية التي هي أشبه بثكنات الجند، حيث يكتنفهم جو خانق بغيض من قوانين ونظم، يؤخذون بها أخذاً في كل صغيرة او كبيرة من حركاتهم، وحيث يجرعون من مواد الدراسة مالاً غنية فيه من معلومات يسأمونها وفنون من القول والعمل يساقون اليها في طرق عسكرية، توبق أرواحهم، وتطمس على قلوبهم وتغل نشاطهم، وتحول بينهم وبين الاستقلال الشخصي والنبوغ الذاتي
ولن تقف المؤلفة في كتابها موقف الهادم، بل إنها تسلك طريقة إيجابية، فتعرض على القارئ كثيراً من التجارب العملية في بعض المدارس الحديثة بأمريكا ومبلغ نجاحها، وما أنتجه من أثر في تغيير وجهة التربية تغييراً يمهد السبيل لناء هذا العلم من جديد على أسس عملية، تحل مشاكله وتضمن للطفل ما يرجى له من سعادة، وما يرجى منه للمجتمع
وتلك الروح العملية هي الميزة الفذة لهذا الكتاب التي سبق أن أسرت اليها، فهو خلاصة تجارب مربية متحمسة لمبدئها عاملة على إسعاد الطفل وإعداده لحياته خير إعداد. وهذه الميزة فضلاً عن عظيم فوائدها قد خلصت الكتاب من روح السأم وأنجته من الثقل، فأنت تطالعه في تشوق واستمتاع، وتقف منه على أمور كثيرة شيقة، كاستخدام مقاييس الذكاء واستكشاف الفرد، والسير وراء الطفل، وحالة بعض المدارس التجريبية، ومدارس العمل مع الدراسة واللعب، وتجارب بعض أساطين التربية في مختلف مراحل التعليم وسواها من المسائل العملية
والأستاذ المترجم بطويل خبرته، ونافذ بصيرته، وضلاعته في الانجليزية، كفيل بان يحفظ للكتاب روحه في لباسه العربي، وأنا وإن أقرأ الأصل، أحس من دقة الأداء ومن سهولة(83/79)
الفهم واستواء التراكيب العربية، على بعد ما بين اللغتين من الاختلاف في البناء والأسلوب، أن التعريب قد تم على خير ما يرجى اتباعه في تناول مثل هاتي الكتب الدقيقة، فاذا أضفت الى هذا أن الاستاذ خلافا متحمس لهذه النظرية، كثير الترديد لها في أحاديثه كلما تطرق الحديث الى نقد التربية في مصر، أيقنت معى أنه خير من يضطلع بنقل هذا الكتاب الى لغتنا
وإني لعظيم الغبطة، إذ أقدم هذه الحلقة الأولى، أو هذه الباكورة الطيبة من سلسلة التربية، الى جمهور المربين والمدرسين وعامة القراء، شاكراً للأستاذ خلاف حسن اختياره وحميد مجهود
الخفيف
الاسلام والحضارة العربية
تأليف لجنة التأليف والترجمة والنشر وثمنه 15 قرشاً
أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر الجزء الأول من كتاب الاسلام والحضارة العربية، وقد طبع في دار الكتب ويقع في نحو ثلثمائة وستين صفحة
أوحت فكرة هذا الكتاب إلى مؤلفه الجليل الأستاذ كرد علي، أريحية عربية نبيلة، تتبينها في مثل قوله (وسبيل هذا الموجز الآن تصحيح هفوات من أساءوا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مني به الاسلام، لما غير أهله ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء، نالوا من روحه وجسمه فالتاثت أحواله وتنكرت معالمه والألماع إلى ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة، يلبون على استعارة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطاً، حتى لم يبق أمامهم غير مراحل لبلوغ الغاية)
وما أحسب تسمية هذا الكتاب بالموجز إلا تواضعاً من صاحبه، فهو من الكتب الحافلة بشتى المسائل والبحوث. ثلثه الأول يدور حول الرد على مخالفي الاسلام وتفنيد مزاعمهم وبيان منازعهم في الخلاف، فتقرأ فيه كثيراً من التهم التي ألصقها المتعبون بالاسلام والرد عليها في قوة حجة وسلامة منطق، يصحبهما الهدوء والرزانة، كما يدعمهما سعة الاطلاع(83/80)
ونفاذ البصيرة، ومن أمثلة المسائل التي يتوق كل مسلم بل كل منصف إلى الوقوف على حقيقتها، والتي شرحها الأستاذ أحس شرح وفندها خير تفنيد، ما نسب إلى الاسلام من مذابح دينية وما اتهم به المسلمون من إحراق مكتبة الاسندرية، ومن بغضهم حرية الفكر وتعصبهم ضد العلم، وما يردده الشعوبيون من أباطيل وتهم كمسألة صدق الرسول في دعوته، والقضاء والقدر وتعدد الزوجات والطلاق والحجاب والاسترقاق والربا والتصوير والنقش. . . الخ.
ولم يقتصر الأستاذ المؤلف على ما ساق من براهين، بل لقد مكنته سعة اطلاعه من عرض أقوال المبطلين، مشيراً إلى ما ينهض منها حجة على أصحابها وما ينسخ منها بعضه بعضاً، كما أنه كان موفقاً غاية التوفيق في بيان العوامل التي أدت الى جفاء الغربيين في موقفهم من الاسلام، وفي بيان ما يقعون فيه من أخطاء وأسباب تلك الأخطاء، التاريخي منها والديني والثقافي، مما يعد بحق من أجل الخدمات التي يؤديها رجل نحو دينه ويضطلع بها عالم ابتغاء الحقيقة
وفي ثلثي الكتاب الباقيين، يستعرض الأستاذ كرد علي أحوال العرب منذ جاهليتهم، فيتكلم عن العرب قبل الاسلام وديانتهم وأثر المدنيتين اليهودية والنصرانية فيهم، ثم عن العرب في الاسلام، مبتدئاً بشرح عاداتهم وأخلاقهم وأثر الاسلام فيهم مورداً رأى لبون ودوزى في الفتوح العربية، ولقد عني ببيان ما عرفه العرب من علوم ومبلغ عناية خلفائهم بالعلم وتشجيع العلماء، وبين مواطن اللغة العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية
وكان طبيعياً بعد ذل أن يتعرض لوصف حال الغرب في شباب الاسلام، فيقابل بين ما كان يتمتع به العرب من نور ونظام، وما كان يتخبط فيه الأفرنج من فوضى وظلام، وأشهد لقد كان معتدلاً منصفاً في هذا الباب، فلم يجر على سنن غيره من متعصبي الغرب، ولن تحس له حقداُ او تتبين في نقده سخيمة او ضغناً بل كان رائده الدليل والحجج التاريخية
ولقد قدم هذا الباب توطئة لبيان أثر العرب ومدينتهم في الغرب، فن له من هذا الوضع الطبيعي وهذا الترتيب المنطقي خير مساعد، وراح يعرض لنا ما كشفه العرب وما ابتكروه وما نقلته عنهم أوربا عن طريق اسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا، ثم عقد في خاتمة هذا الجزء أربعة فصول هامة، قارن في أحدها بين موقف المسلمين وأعدائهم في الحروب(83/81)
الصليبية، وبين في فصلين منها غارات المغول والأتراك والمستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم، وشرح في الفصل الأخير اثر المدينة الغربية في البلاد العربية وما تخللها من خير وشر
وإني لأتقدم بجزيل الثناء إى الأستاذ كرد علي، موقناً أن من يطالعون هذا الكتاب من أبناء العربية سيشكرون له شدة إخلاصه وحسن بلائه
الخفيف(83/82)
العدد 84 - بتاريخ: 11 - 02 - 1935(/)
كلمات في الصداقة
للآنسة النابهة (مي)
مهداة إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات، وإلى الدكتور طه حسين، وإلى أصحابهما جميعاً
قد تبدو هذه الكلمات غريرةً للذين لا يرون في الصداقة إلا وسيلة نفعية تعود على كلٍ من المرتبطين بها بفائدةٍ محسوسة: كالظهور بمظهر العظمة، أو التمكن من دحر منافس، أو التعاون على الإساءة إلى شخص أو أشخاص، أو جني ثمرةٍ ملموسة وتحقيق غرض مالي أو اجتماعي
ونخطئ إن نحن نسبنا إلى أهل هذا العصر وحدهم الصداقة المغرضة، لأن تلك كانت شيمة الكثيرين في جميع العصور وعند جميع الأقوام. قد تكون في هذا العصر أكثر لنور وإلى الهواء - إذا أنت طلبت هذا من الصداقة وعند الصديق، فما أنت في نظر تلك الفصيلة من الناس إلا من أهل الشذوذ والغباوة. . . على الأقل!
وعلى رغم كل ذلك فموضوع الصداقة من الموضوعات التي نُقبلُ عليها في اهتمام ولهفة ولو جاز لي أن أشير إلى خلق خاص في، قلتُ إني أشعر بشيء غير قليل من الأسف كلما انتهى إلى أن صديقين كريمين تجافيا بعد التصافي. وقد يكون ذلك أن انفصام عرى الصداقة بين الآخرين كأنما ينال من إيماني بالصداقة ويزعزع من رجائي فيها
أولى ذكرياتي في هذا الموضوع ترجع الى قصة فرنسية، هي (أبرص بلدة آووستا) بقلم كزافييه دي ميستر، واظنني قرأتها لأول مرة وأنا في سن العاشرة تقريباً. فيها وصف ذلك الجندي الكاتب اجتماعه برجلٍ ابتلى بداء البرص المروع، فنبده الناس من مجالسهم، وحايدوا الدنو من الدار التي عاش فيها وحده حبيساً طوال الأعوام
تُطوح السبيل بالكاتب الغريب إلى تلك البلدة وتسوقه الى الدار المخيفة، ويلجُ باب الحديقة فيبصر الرجل الموبوء وهو لا يدري بحالته. وعندما يحذره الأبرص ويفضي إليه بمحنته لا يلوذ الكاتب بالفرار، وإنما يقترب منه ويجلس إليه مستفسراً عن معيشته وأحواله، وعما يحسه في الابتعاد عن أولئك البشر الذين هم منهم، فيعترف الأبرص بأن آلامه الأدبية تفوق أوجاعه الجسدية، يعترف بعذابه في حزن هادئ يشبه الامتثال والرضى، يعترفُ بحاجته الى الشعور بأن قلباً يعطف عليه ويحن إليه، بأن يداً تصافح يده، بأن صدراً يتلقاه(84/1)
ويحتضنه، حتى أنه لشدة حاجته تلك يحتضن أحياناً جذوع الشجر ويضمنها إليه ما استطاع، كأنها كائنات انسانية. يعترف بشوقه الى سماع صوت بشري، الى تبادل السلام والحديث مع من يفكر تفكيره ويحس إحساسه، الى جميع تلك الأمور التي عرف قيمتها لأنه حُرِمَ منها، والتي يتمتع بها الجميع جاهلين أنها منحة ومتعةٌ لأنها عاديةٌ بينهم. ويقولُ فيما يقول وكأنه يلخص جميع صنوف عذابه في هذه الكلمة:
- لم يكن لي يوماً صديق
والكاتب الذي عرف كيف يُصغي الى شكايته في هدوء ورباطة جأش، تهتاج تلك الكلمة شجونه وتحز الشفقة في قلبه فلا يتمالك من الهتاف:
- يا لك من تَعس!
تلك الكلمة من الأبرص، ورد الجندي الكاتب عليها، استقرت في موضع عميق من روحي عند قراءة القصة، بل القصة كلها تجمعت عندي في تلك الكلمة وفي التعقيب عليها؛ وقد يكون لها الأثر الكبير في تكوين إيماني العنيد بأن لابد من وجود الصداقة - مع اعتقادي بأن نفاسة الصداقة نفسها تحتم فيها الندرة
لسنا في حاجة إلى دهور نعيشها لندرك كم في هذه الحياة البشرية من خبث ومراوغة ونفاق. اختباراتٌ قليلة تكفي لتدلنا على أن بعض المُثُل العليا تخذلنا وتصرعنا بلا رحمة، ثم تنقلب مسوخاً ساخرة مزرية، لا تلبثُ أن تكثر عن أنيابها، مهددة متوعدة - وهي التي تجلببت في نفوسنا من قبل جلباب القدسية والعبادة!
اختباراتٌ قليلة في أحوال معينة، وأحوال مفاجئة، تكفي لتظهر لنا أن من الناس من يتاجر بكل عاطفة صالحة لتنفيذ أغراض غير صالحة، ومن يستغل كل استعداد كريم لنتيجةٍ غير كريمة، ومن لا يكتفي بالظلم والاجحاف، بل لا يتورع عن إيذاء الذين أخلصوا النية في معاملته، ولم ينله منهم إلا الخير.
وكم مِن مذيعٍ أنباء الصداقة لا لسبب آخر سوى التوغل في الإيذاء باسم الصداقة، في أساليب سلبية أو إيجابية لا يعلم إلا هو كم هي خبيثة وكم هي فعالة
وكيف تعامل أولئك الناس عندما تكشف عما يضمرون؟ أتحاسنهم. إنهم يحسبون المحاسنة ضعفاً ومداراة، فيمعنون في الأذى؟ أتخاشنهم؟ إنهم يزعمون المخاشنة جحوداً ومكابرةً،(84/2)
فيمعنون في الأذى. ولعل الشاعر العربي كان في حالةٍ كتلك عند ما أرسل هذه الزفرة المنغومة التي هي من أبلغ ما أعرف في معناها:
عذيري من الإنسان، ما إن جفوتهُ ... صفالي، ولا إن صرتُ طوعَ يديه
وإني لمشتاقٌ إلى ظل صاحب ... يروقُ ويصفو إن كدرتُ عليه
يأس هذا الشاعر يدل على حاجته الضميمة إلى صداقة نقية غير مغرضة. فنحن مهما تنر لنا معنى الصداقة الصافي، ومهما غدر بنا الغادرون فعلمونا الحذر - فإننا لا نستطيع إنكار احتياجنا العميق إلى الصديق. لأن لدينا مرغمين كمية في المودة والوفاء والتسامح والغفران والتضحية لابد من تصريفها وإنفاقها لنزيد بالعطاء غنى. وعند من نصرفها وعلى من ننفقها إلا على الأشخاص الذين نراهم قمينين بأنبل ما عندنا من فكر، وأصدق ما لدينا من عاطفة؟
أيها الذين ربطت الحياةُ بينهم بروابط المودة والأخاء والتآلف الفكري والنبل الخلقي، حافظوا على صداقتكم تلك واقدروها قدرهاّ فالصداقة معينٌ على الآلام ومثارٌ للمسرات، وهي نور الحياة وخمرتها، وكم تكن من خير ثقافي وعلمي للنابهين!
لا تخافوا أن تكونوا من أهل الشذوذ والسذاجة في نظر المغرضين! ألا يئست نفسا فقدت كل سذاجة، وسارت على وتيرة واحدة، لا تعيش إلا للغرض وبالغرض! ما أفقرها وإن كانت ثرية! وما ألصقها بالثرى وإن كانت علية! وحسبكم أنتم أنكم بإيمانكم بالصداقة توجدون الصداقة، وبممارستكم أساليب الصداقة إنما تكونون خميرة الصفاء والصلاح والوفاء!
(مي)(84/3)
3 - كلمة وكُليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
إذا أَسندت الأمةُ مناصبها الكبيرة إلى صِغَار النفوس، كبرت بها رذائلهم لا نفوسُهم. . .
شَرّ المًصْلحين رجلُ مُسلطٌ على أُمةٍ يحكمُها بعقل كبيرٍ فيه موضعُ فكرةٍ مجنونة. . . .
إذا فَسَقَ الحاكم، فقد حَكمَ الفسق
تُبْتلى الأممُ أحياناً ببعض المجددين، فلا يكون أولُ جديدهم إلا عيوبَ أنفسهم
يقول لك الكذابُ إنه سكره الكَذِب، ولكنه في هذا أيضاً كذاب. .
قيمةُ كل شيء هي قيمةُ الحاجة إليه؛ فترابُ شبرٍ من الساحل هو في نظر الغريق أثمن من كل ذهب الأرض
حقيقة الذل ألا يعرفَ الذليل حقيقةَ نفسهِ
المعلمُ ثالثُ الأبوينْ؛ فلينظرُ كيفَ يأبو حين ينظر كيف يُعلم
إنما كَثُرت الآراء في المرأة، لأن المرأة هي ما يفهمهه كل رجلٍ منها بنفسه
لا تبلغُ الفلسفةُ ولا العلمُ ولا النهضة النسائية. . في تعريف المرأة، أكثر من أنها ليست رَجلا. . .
لو عًقًلَ نساءُ هذا الزمن؛ لطالَبْنَ بحقوقهن في الرجال، لا بحقوقهم على الرجال
يبالغٌ بعضُ الكتاب في مُظاَهَرة النساء على تمردهن، إذ كانت هذه هي اللغة الفصيحةَ التي يُنادى بها جمالُ المرأة. . . . .
أبلغُ الرد على هؤلاء المغالياتِ في المطالبة بحقوق المرأة، أنهن أو أكثرهم، بين واحدةٍ فَقَدَت الرجُل، وأخرى سُلِبت الرجُل، وثالثةٍ لم تَنَل الرجُل؛ فهي أحلامُ إفلاسٍ كما ترى. . .
إسْتِرجَال المرأة، وسوءُ خُلُقِ المرأة، وقَذَارةُ المرأة، أحَدُ الثلاثة هو في قُبحِهِ - كالثلاثة جميعاً
العشقُ الدنئ دنيءُ مرتين؛ حتى إن المرأةَ الساقطةَ لو أخْلَصت الحب لرجل من عشاقها، لسقطت مرة ثانية في رأي الباقين
في الأممِ المنحطة، تجد نفاق الكبار للكبار، هو الذي أضاع الكبارَ والصغار
في مثل هذا العصر، يكادُ يكون التعريفُ الصحيح للأفضلِ من الناس أنه الأقل سفالة(84/4)
كثيراً ما جَنًتِ المروءة على أهلها؛ ولكن احتمال هذه الجناية هو أيضا من المروءة
إذا عاملت لئيماً فأنت بين اثنين: أما أن تبيعه ذمتك بلا شيء، أو تشتري ذمته بشيء. . .
أقنع اللئيم بالكرم الذي في نفسك؛ فبهذه الطريقةِ وحدها يفهم اللؤم الذي في نفسه
الخطرُ الذي تكونُ فيه العنايةُ الإلهية، هو نجاحٌ اسمه الخطر.
علمُ الجاهل في شيئين: في سكوته، وفي السكوت عنه
أشد ما في الكسل أنه يجعلُ العملَ الواحدَ كأنه أعمالٌ كثيرة
الرجلُ العظيم في فنه، قالبٌ إنسانيُ لا إنسان؛ فلا يُقاسَ إلا ليُقاسَ عليه غيرهُ
من هوان الدنيا على الله أن رذيلة المًلحد في رأي المؤمن هي أخت غفلة المؤمن في رأي الملحد
ليس في بغضاء اللئيم أبغضُ من طريقة إظهارها، إنه لا يعلن بُغضه بل لؤمه المبغضُ
الرأسُ الفارغُ من الحكمة لا يُوازنه في صاحبه إلا فمٌ ممتلئ من الثرثرة
ما أضيع النصح في الحب وفي الخمر؛ لأن العاشق والمُدمنَ كلاهما أشدُ افتقاراً لسروره منه إلى عقله
أفلا ترى المرأة أن طبيعته تجعلُ نظرها إلى الرجل في بعض الأوقات مهيأ لبعض العمى. . .
قال لي عاشقٌ حزين: ما أقدس الحزن الذي فيه روحانيةُ الفرح؛ إنه حزنٌ وسرورٌ وشهوةُ نفس
إذا لم يكن في الدنيا إلا قاضٍ واحدٌ ينفذُ قضاؤه، ثم احتجتَ أن ترفع قضية غصبٍ أو (نصبٍ) على هذا القاضي. . . فهذه صورةُ كل عاشقٍ ومعشوقة في الدنيا
رأيتْ في نومي ذات مرة أني دعوتُ طبيباً لمريض عندي؛ ثم قلت له وقد وصف الداء: هل نُسخنُ الماء؟ فقال: لا تسخن الماء؛ ولكن ضَعْه على النار حتى يَسْخُن. . . هذا بعينه أسلوبُ كبرياء المرأة العاشقة حيت تقول: لا على وزن (لا تسخن الماء ولكن. .)
إذا طال هجرُك لمن تحبها، كان أثرُ مرور الزمن عليها كأثره في الحرير المصبوغ؛ إن لم يبدُ في العين ذليلَ النسيج، بدا فيها ذليلَ اللون. . .
الرجلان العاشقان لامرأة واحدة لا يتحابان، والملكان الطامعان في مملكة واحدة لا يتسالمان،(84/5)
والطفلان الشريكان في لعبة واحدة لا يتصافيان. فاللعبة إمرأة الطفلين، والملك إمرأة الملكين؛ أما المرأة فهي إمرأة ومُلكٌ ولعبة، وأتم النساء من تجمعهن
يقول لك الزاهد العابد: أخرج من الدنيا وأدخل في نفسك، ويقول لك الماجن الخليع: أخرج من نفسك وادخل إلى الدنيا، ويقول لك الحكيم العاقل: كن في الإنسانية تكنْ في نفسك وفي الدنيا
تُرى ماذا يحتاجُ الحيوانُ في أوربا من قوام عيشه ولذاته، غير ما يحتاج إليه حيوانٌ مثله في قرية من قرى الزنج؟ فليس فقرُ المدينة فقر الطبيعة، ولكنه فن العقل والخيال والوهم. وهذه الطبيعةُ تكفي كل أهل الأرض شمساً وهواءً وطعاماً وشراباً وجمالاً. ولكنها لا تنبتُ خيالات للعيش ولا قواعدَ للعيش.
فأصبحت لا تكفي ما دام غنيُ واحد ينفق في لذة يومٍ قوت مدينة. لا يأكل الحمار الأرض كلها ليجيع الحمير. ولكن الغني يفعل ذلك
رأيتُ القوانين كملاجئ اللقطاء. هذه تربى صغار الأطفال وتلك تربى صغار الجرائم. .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(84/6)
في الأدب المصري
مجالس الأدب في القرن الثامن عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لقد هممت اليوم أن أكتب إلى الرسالة الغراء مقالاً ثانياً أستأنف فيه وصف مجالس الأدب في مصر في القرن الثامن عشر في أيام رضوان بك أمير مصر وأحد مليكيها في ذلك العصر، ولكني رأيت الأمر قد استعصى علي إذ جعلت انقل من قول أحد شعراء العصر بعض ما راقني، وذلك الشاعر هو ابن الصلاحي، فرأيت ذلك البعض الذي اخترته قد زاد على المقدار الذي يجمل بي أن أجعله لمقال واحد. فعدلت عن رأيي الأول وقلت حسبي أن أخص بهذا المقال ذلك الشاعر وحده. ولعل الاختصار على حديث شاعر واحد أبلغ في قصدي وأقوى لحجتي التي أرمي من ورائها إلى بيان حقيقة في تاريخ مصر. فان غزارة قول شاعر واحد من شعراء هذا العصر لدليل على أن ثقافة ذلك العصر لم تكن ثقافة ضحلة، بل كانت ثقافة أعمق وأقوى مما يتوهمه الكثيرون
كان ابن الصلاحي ناظماً وناثراً وعالماً من علماء العصر. نال من العلم الموروث أقصى ما يناله المتطلع إلى الحياة العقلية. وقد كان تلميذاُ للشيخ محمد الحفني المشهور وأجازه ذلك الشيخ إجازة علمية قد يكون من الطريف أن ننقلها هنا. قال الشيخ:
(نحمدك يا عليم يا فتاح، يا ذا المن بالعلم والصلاح، ونصلي ونسلم على أقوى مسند، وعلى آله وصحبه معادن الفضل والمدد. أما بعد فان المولى العلامة الفهامة الحاذق الأديب، واللوذعي الأريب، مولانا الشيخ محمد الصلاحي السيوطي قد حاز من التحلي بفرائد المسائل العلية أوفي نصيب، بفهم ثاقب وإدراك مصيب، فكان أهلاً للانتظام في سلك الأعلام، بإجازته كما هو سنن أئمة الاسلام، فأجزته بما تضمنته هذه الوريقات، من العلوم العقلية والنقلية المتلقاة عن الاثبات، وبسائر ما تجوز لي روايته أو ثبتت لدي درايته، موصياً له بتقوى الله التي هي أقوى سبيل للنجاة، وألا ينساني من صالح دعواته في أوقات توجهاته، نفعه الله ونفع به، ونظمه في عقد أهل قربه، وأفضل الصلاة والسلام على أكمل رسل السلام وعلى أئمة الهدى، وصحبة نجوم الاقتدا. كتبه محمد بن سالم الحفناوي الشافعي ثامن جمادي الثانية سنة ثمان وسبعين ومائة وألف)(84/7)
وقد كان ابن الصلاحي فوق ذلك كاتباً حسن الخط كتب نسخة من القاموس بخط يده، وقد كان للخط الحسن نهضة في ذلك العصر مثل سائر أحوال البلاد، فقد نبغ من معلميه جماعة من أفاضل الكتاب مثل الضيائي والشاكري والحزانري والحمامي
ولكن أكبر ما امتاز به ابن الصلاحي ميله الى فن الأدب، فقد أخذ منه بالحظ الأوفر، وقد اتصل بحلقة الأدب في بلاط الأمير رضوان ونال من خيره الشيء الكير. على أنه كان غير منقطع إليه، بل كانت له مجالس خاصة مع جماعة من أدباء عصره ومشيخة العلم فيه. ولعل خير ما قاله من قصائد ما جاش في نفسه في تلك المجالس الخاصة
قال يصف خطرات نفسه
بُثا عن النائي الغريب ... جملاً من الخبر العجيبِ
واستوقفا الركبان ما ... بين الاراكة والكثيب
واستنشدا القلب الذي ... قد ضاع من بين القلوب
سلبته يوم الدوحتي ... ن طليعة الرشأ الربيب
وسرت به نحو الخيا ... م يد الصبا ويد الجنوب
ترنو الهوادج عن صفا ... شمس تميل إلى الغروب
والبدر يذهب من خلا ... ل السحب في مرأى عجيب
والرق يخفق والمزا ... هر مثل قلبي في وجيب
يا حادي العيس التي ... سارت على قلبي الجنيب
علل عليل هوى فعه ... دك ما تقادم بالطبيب
إني وإن شط النوى ... وقف على حب الحبيب
كابدت ما كابدت من ... شق المرائر والجيوب
وعلمت كيف تقوم أس ... واق المعارك والحروب
ولقيت دون البيض وقع ... السمر بالصدر الرحيب
من كل ريم جائل ... في برد جردته النشيب
يحكى الغزالة في الترف ... ع والغزالة في الوثوب
ألحاظه ترويك ديوا ... ن الحماسة عن حبيب(84/8)
وقعات أسمهه ترك ... ن جميع حسمي في ندوب
كم ليلة عانقت في ... ها قامة الغصن الرطيب
في معهد ما فض عن ... هـ الأنس إلا ختم طيب
والزهر يضحك من بكا ... ء الطل بالثغر الشنيب
والريح تكتب في الغدي ... ر حديث أسرار الغيوب
والطير تقرأ والغصو ... ن تهز أعطاف الطروب
والورق تصدح في الغصو ... ن بصوت محزون كئيب
في رنة الشادي وهي ... نمة القطا والعندليب
عجماء تعرب في السؤا ... ل وتستجيب بلا مجيب
والليل أرسل ذيله ... رصداً على أعلى القضيب
يحكي الشعور كأنه ... يروي الفروع عن الخطيب
أرنو وأحشائي من ال ... حدثان في شك مريب
لولا الرقيب ظفرت من ... لقياه بالفرج القريب
وكشفت من وصلي به ... ما قد ألم من الكروب
ولئن حل بنفس القارئ من هذه النفثة مثل ما حل بقلبي، لأيقن أن ابن الصلاحي إنما كان يترجم عن قلب نابض بحياة حقيقية لا تكلف فيها، وأنه كان يصدح بأنغام تبين عن حرارة ووجدان طبيعي. وها هي ذي نفثة أخرى أختار منها البعض لا أنه أحسن ما بها، ولكنه مثل مما تحويه من آيات. وهي في مدح شيخه الحفني:
مِلْ بي فقد وقد الهجير ... إني بظلك مستجير
وأرح مطيك يا سمي ... ر فقد أضر بها المسير
هذا الحمى فارصد إذا ... ما استأنس الظبي النفور
واطرق كناس الغيد حي ... ث ينام راعيه الغيور
وأمط ستائره فذ ... لك حين تنفتح الخدور
واسأل من الظبيات عن ... عهد تضن به الصدور
واحفظ فؤادك أن تصي ... ب عيونهن فهن حور(84/9)
من كل غانية يل ... ح بوجهها القمر المنير
تختال في مرح الشبا ... ب فيخجل الغصن النضير
تسعي فتعقدها روا ... دفها وينهضها الحضور
سكرى رأت كسر القلو ... ب فصار ناظرها الكسير
فعلت بسحر جفونها ... ما ليس تفعله الخمور
حنثت معاطف خدها ... لكن لواحظها ذكور
لم أنس إذ وافى البشي ... ر يلوح في فمه السرور
إذ أقبلت ريح القبو ... ل بها وأدبرت الدبور
فضممتها وبمهجتي ... من حر أشواقي سعير
فتعوذت بالروض من ... شر بأنفاسي يطير
روض تعلق بالمجر (م) ... ة من جوانبه نهور
تبدو به زهر الزهو ... ر لأنه فلك يدور
ضحكت ثغور زهوره ... فبكى لها النوء المطير
وحنت نواعره وحن ... ت وهي من غيظ تفور
ذكرت قديم عهودها ... فأنهل مدمعها النمير
يا طيب أنفاس الربي ... ع ففي تنفسها عبير
والجو مجمرة علي ... ها من ضبابتها بخور
والورق ساجعة لها ... في كل ناحية سمير
عجماء تعرب عن ضما ... ئرنا وليس لها ضمير
والريح تعتنق الغصو ... ن بها فتعتبق الزهور
وبدت شموس الراح تح ... ملها الكواكب والبدور
وبكت عيون السحب حي ... ن تساقط الدمع الغزير
نحنا معاً فتحلت ألم ... أغصان منا والنحور
رعيا لذياك الحمى ... والطرف متهيج قرير
ومرور أيام الصبا ... من دونها العيش المرير(84/10)
ثم انتقل إلى مدح شيخه ومضى فيه مثل قوله:
ملأ النواظر منه إج ... لالا وليس له نظير
وحماه ينفك الأسي ... ر به ويستغنى الفقير
منن تذل لها الرقا ... ب ولا يقوم بها الشكور
وجرت لنحو حماك آ ... مالي وأنت بها جدير
خذها على شرط الصيا ... رف إن ناقدها بصير
أليس هذا قولاً يترجم عن ... قلب جياش وخيال وثاب؟
وقال في بعض مجالسه:
هات لي قهوة الشفا من شفاهك ... وإسقنيها على فخامة جاهك
عاطينها يا أوحد العصر لطفا ... وبديع المثال في أشباهك
يا غزالاً لو صور البدر شخصا ... ليضاهيك في البها لم يضاهك
عاطنيها جهراً شفاها ولا تخ ... ش ملاما فلذتي في شفاهك
وأرسل إلى صديق له:
ذكرتك لا أني نطقت وإنما ... ذكرتك في نفسي فكنت سميرها
ذكرتك في روض تبسم عن شذا ... وقد فتحت كف النسيم زهورها
ذكرتك والأطيار تنطق عن هوى ... كأنك قد آويت منها ضميرها
فلا خير في أرض إذا لم تكن بها ... سميراً ولا في روضة لن تزورها
ذلك مثل من أدب حي حياة تنبض قوية، يتفتح عن زهر نظير غض، وهو في الوقت عينه أدب عميق قوي، تسمع منه نغمة حلوة بليغة تدل على روح شعب محس بنفسه آخذ في سبيل الحياة والشباب
فالحق أن شعب مصر في القرن الثامن عشر، كان آخذاً في سبيل نهضة حقيقية في كل جوانبه، نهضة وطنية صرف لا تشوبها رطانة أجنبية ولا لوثة أعجمية ولا سيطرة غربية. نهضة لو سارت في سبيلها وبلغت قصاراها لكانت مصر بها اليوم في مستوى اليابان أو إيطاليا أو فيما هو فوق ذلك. غير أن القرن الثامن عشر، وا حسرتاه، انتهى بنكبة شاملة وداهية فادحة بإغارة الفرنسيين على مصر، واكتساحهم كل آثار تلك النهضة الشابة فقضى(84/11)
عليها ولما يتم نموها، وحفرت بين ماضي مصر وحاضرها هوة عميقة تقطع تيار الرقي الوطني، وتقف في سبيل وصل الطارف بالتالد
فمجد مصر السياسي في القرن الثامن عشر أصبح نسياً، ومجد مصر الاجتماعي في ذلك القرن ذلك قد أصبح أثراً دارساً، وجهاد مصر الدستوري قد صار دفيناً تحت أنقاض تلك الكارثة، فلم تبق منه معالم ولا آثار. غير أنا إن فاتنا أن نبني على أثر هذا التراث المنهوب، أو ضاع علينا أن نصل حاضرنا بذلك الماضي المضيع، فليس أقل من أن نعرف أن لنا في ذلك الماضي أنفاساً يليق بنا أن نحرض عليها، وأنغاماً يجمل بنا أن نسجلها
محمد فريد أبو حديد(84/12)
كيف حفرت بئراً. . . . . . لنفسي؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء؟ ومن بنات الفقراء، ولكن لها دلاً وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأت في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهَزَجٌ، وفي مشيتها تبختر لا يقل، وميسْ ليس من الاختيال. وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذنٍ، وتستر أذناً. ولا تثبته بالأمشاط أو الدبايبس، ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بإصبعها أو نحتها عن أذنها، وكنتُ لا أراها تبتسم إلا خيل إلى أنها ترى حلماً يسرها فيثب قلبي إلى حلقي، واجد حر النار في كفى
وكان بيتي في ذلك الوقت على (تخوم العالمين) وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني. وكان الماء كثيراً وثمنه زهيداً، لا يتجاوز خمسة عشر قرشاً في الشهر بالغاً ما بلغ ما أجريت منه، فكنتُ آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرةً أو اثنتين أو عشراً - كما تشاء. فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها. ولم تكن هي الوحيدة التي تستسقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلاً وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحياناً، أو تتولى عني عزق الأرض أو بذر الحب أو سقي الزرع، وإجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله واخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلاً:
(ألا تحش هذه الملوخية؟ لقد كادت تكتهل)
فأقول: (ملوخية؟ لقد طرحتُ هنا حب فجل فكيف تخرج الأرض ملوخية؟)
فتقول: (كلا، هذه ملوخية وقد بلغ نبتها المدى، فاختضرها وإلا فسدت)
فأقطع ورقة وأمضغها فأجد طعم الملوخية ولا أجد طعم الفجل، وكنت أهمل أن أكتب أسماء البذور على الورق الذي أحفظه فيها، واعتمد على ذاكرتي والذكاء فيختلط علي الأمر، وأروح أظنني زرعت جزراً فإذا هو خيار، وكنت لجهلي ألقي البزر ولا أعني بإعداد(84/13)
الأرض وإخلائها من الحجارة، وكانت أرض هذه الحديقة جَلْدَةً في مواضع كثيرة وفي بطنها حجارة غليظة مختلطة بطينها، فلا يخرج شيء مما يقع على هذه الجلاميد.
فكانت الشقراء تنبهني إلى ذلك وتعرفنيه. وكنت ربما تركت في الشتاء ما لا يبقى عليه أصله، وقلعت ما يُبيد الشتاء فرعه ويُبقي أرومته، فتصلح لي من خطئي ما يتيسر إصلاحه، ولم أكن أعرف الفرق بين ما يسمو من النبات صُعداً ويستغنى بنفسه، وما يحتاج، وهو يسمو، إلى ما يتعلق به ويرقي فيه، وما يتسطح على وجه الأرض، فأغرس الأعواد لما ينبت مفترشاً، وأدع ما يحتاج إلى التعلق بلا عصب، فكانت هي تعلمني وتقوم المعوج وتعالج ما أفسدت
ثم حدث ان شركة الماء وضعت لنا في البيت (عداداً) يحاسبنا على القطرات بعد أن كنا نأخذ بلا حساب، ولا ننقدها في الشهر إلا خمسة عشر قرشاً، فأرهقني هذا (العداد) وكلفني فوق ما أطيق، وصرت بين أمرين: إذا أبقيت على الحديقة جعت وتضورت، فان أرضها كثيرة الرمل يذهب فيها الماء ولا يبقي منه للنبات ما يكفيه، فحاجتها إلى السقي لا تنقضي. وإذا أنا ضننتُ بالماء ذهبت الحديقة. فشق على ذلك واشتد همي، وطال وجومي من جرائه. ورأت هي اغتمامي وسهومي فسألتني فأمضيت بشجني فقالت:
(احفر بئراً)
قلت: (ايه؟ أحفر بئراً؟)
قالت: (نعم. ماذا يمنع أن تفعل؟)
قلت: (يمنع أن هذه أرض مضرسة، حشوها حجارة ولا يمكن أن يكون في جوفها ماء)
قالت: (من أدراك؟ إني أعتقد أن في أرضك ماء غزيراً)
قلت: (أما الحرث والزرع فشيء عرفنا أن تعرفينه، وإن كنت لا أدري من أين جاءك هذا العلم، وأما الآبار وحفرها. .)
فقاطعتني وقالت: (أظنني أستطيع أن أدلك على موضع العين في هذه الأرض - غداً في النهار اختبر الأرض وأجسها)
وفي عصر اليوم التالي جاءت وفي يدها عود على هيئة اللام ألف، ولكن في ساقه، قبل موضع التشعب، طولاً وقالت:(84/14)
(أنظر. سأجس الأرض بهذا) ورفعته لعيني
فقلت: (وكيف تصنعين؟ إنه غصن لا أكثر)
قالت: (هو حسبي. وما أعرفه خذلني أو كذبني قط، ولكن عهدي بهذا الجس بعيد وأخشى أن أكون فقد فقدت القدرة على استنبائه)
قلت: (استنباؤه؟ أو يقول لك هذا الغصن أين منبع الماء في جوف الأرض؟)
قالت: (نعم، وسترى بعينك إذا وفقني الله)
وأقبلت على الأرض تجسها شبراً شبراً، وكانت تضع العود على الأرض كأنها تغرسه فيها بأصابعها وتنظر إلى شعبيته برهة، ثم ترفعه وتقدمه خطوة أو خطوتين، وهكذا يميناً وشمالاً، حتى رأيت إحدى الشعبتين تميل قليلاً فعجبت
فقالت: (هنا ماء ولكنه قليل)
ومضت تنقل العود من مكان إلى مكان حتى بلغت الجدار الآخر فقالت:
(يخيل إلي أني سأخفق)
فلم أقل شيئاً، وماذا عسى أن أقول؟ لقد تركتها تختبر الأرض وأنا كافر بها - أعني بالفتاة وقدرتها على الاهتداء إلى منابع الماء في بطن الأرض، ولكني قلت إنه لا بأس علي من ذلك، وحسبي أني أقضي معها ساعة أنعم فيها بحديثها وبالنظر إليها، ولكن انثناء العود إلى الأرض، من تلقاء نفسه، ومن غير أن يمسه شيء حيرني، وصرفني عن الفتاة وجمالها، إلى هذه الظاهرة الغريبة
وجعلت أقول لنفسي: (إذا كان كل ما يتطلبه الأمر أن يجيء الإنسان بمثل هذا العود ذي الشعبتين، وأن يركزه أو يغرسه في الأرض، فإذا كان هناك ماء انثنى وحده، فما أسهل ذلك!! وكيف غاب هذا عن الناس وفاتهم هذا العلم اليسير؟)
ولم أكتم هذا الذي دار بنفسي، فقالت بابتسام: (لا. إن المعول على اليد لا على العود)
ولم افهم شيئاً، ولكني سكت، فقد تجهمتْ، وطال سكوتها وتقطيبها، وثبت حملاقها، وبدت لي كأنها تعصر نفسها عصراً، ثم قالت:
(افتح هذا الباب)
وكان باب حجرة مهجورة في فناء البيت، نحبس فيها الدجاج، ففتحته فدخلت وقالت: (انزع(84/15)
هذا البلاط)
فأطعت، وتجشمت عناء شديداً، ولكني أمضيت لها مشيئتها، فحنت على الأرض، وأقامت العود في ترابها، وإذا بالشعبتين جميعاً - بعد هنيهة - تنثنيان على الأرض - عمودياً - حتى لخيل إلي أنهما ستقصفان
ونهضت، ومسحت العرق المتصبب، وقالت:
(هنا يجب أن تحفر. الماء غزير، ولكنه بعيد. وماذا يهم؟ ستجد فوق الكفاية من الماء)
ولم يخالجني شك في صدقها، فجئنا بعد أيام بالرجال، فحفروا ووسعوا، واحتجنا أن نهدم الجدار الذي فيه الباب فأتينا عليه، وانحدر الرجال الى أكثر من ستة أمتار، وقضوا في ذلك أياماً طويلة، حتى بلغ أحدهم حجراً فزحزحه بالمعول فأنبط الماء من تحته واستغنيت عن شركة الماء
وقلت للفتاة: (لماذا جشمت نفسك هذا العناء)
قالت: (هو جزاء المعروف)
قلت: (ليس إلا؟)
قالت: (وعز علي أن تضطر الى تضييع الحديقة)
قلت: (وماذا أيضاً؟)
قالت: (لا أدري ماذا أيضاً؟ غلبني شعوري)
قلت: (ليس في وسعي أن أجزيك. . .)
قالت تقاطعني: (لا تحاول!. . . حسبي أني أعدت الى وجهك الابتسام)
قلت: (اسمعي. إن الحديقة مدينة لك بحياتها، وأنا مدين لك بمعنى هذه الحياة، ولست أظنها تقوي على فراقك، ولا أنا يا فتاتي. . . . . .)
قالت: (لم أصنع شيئاً)
قلت: (أزخرت حياة كادت تجف وتذوي، فماذا يستطيع إنسان أكثر من هذا؟)
قالت: (كلا. كل ما صنعت أني وجدت ماء، وقد وجدته مائة مرة قبل اليوم، فلم أسمع مثل كلامك. . . . إنك تمزح ولاشك!)
قلت: (بل أنا جاد. لا غنى بي ولا بالحديقة عنك. . . فما قولك؟)(84/16)
قالت: (كلا. للحديقة صاحبها. ولك الدنيا، أما أنا فذاهبة)
قلت: (ذاهبة؟ أين؟)
قالت: غدا - أو بعد غد - يرحل أبي، وأنا معه، فما بقي ما يستوجب مقامنا)
فدنوت منها ووضعت يدي على كتفها وسألتها:
(أنت أو عزت إليه؟)
قالت، وهي مطرقة: (نعم. والآن أستودعك الله!)
فتعلقت بها فلم يجدني ذلك وقالت:
(أنا بنت الصحراء، وأنت ابن المدينة. . . لست لي، ولست لك. . . . وقد تركت لك الحديقة. . . لتذكرني بها)
وكان هذا آخر عهدي بها. . .
ولكني لم أطق هذه الذكرى، ولم أعد أحتمل أن أرى الحديقة أو البئر التي حفرتها، فتركت ذلك كله وانتقلت الى بيت آخر. . . بعيد. . . . بعيد جداً، ولا حديقة له
إبراهيم عبد القادر المازني(84/17)
الغرض من التربية في المدرسة الإنجليزية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
الغرض من التربية الإنجليزية تهذيب الخلق وتربية الروح والعقل والجسم، مع المحافظة على الاستقلال الشخصي لكل فرد من الأفراد. ولا يُقاس النجاح في التعليم بإنجلترا بمقدار ما يعرف التلميذ من المواد الدراسية فحسب، ولكنه يقاس كذلك بما يستطيع أن يفعله وبمقدار استعداده للعمل. فعلى هذه الأسس الثلاثة وهي: العلم، والقدرة على العمل، والاستعداد للعمل - يقاس النجاح في التعليم بإنجلترا. ومع أن عدد المتعطلين هناك قد بلغ نحو ثلاثة آلاف ألف عامل، وعدد المتخرجين في المدارس كل سنة يبلغ نحو 250 ألف شاب لا تجد فرداً واحداً يقول: أغلقوا المدارس، ولكنك تجد من يقولك أطيلوا مدة الدراسة، وافتحوا موارد العلم لطلابه، فبغير نور العلم لا تزدهر نهضة، وبغير المدارس لا تعتز أمة. والحياة العملية مفتوحة أمام الجميع.
وإذا ترك الطالب المدرسة وكان عالماً قادراً على العمل، مستعداً لأن يعمل، فلا خوف عليه في هذه الحياة. وما المدرسة إلا عالم مصغر، فالحياة المدرسية الإنجليزية صورة من الحياة العالمية الخارجية، تُعد التلميذ للحياة الاجتماعية التي تنتظره، فيخرج من المدرسة عالماً بشؤن الحياة، يحاول أن يعرف نفسه، ويعرف العالم الذي يعيش فيه، عاملاُ بما علم، مستعداً لأن يعمل أي عمل تصل إلى ذروة العلا. يعيش الشاب في عالم الحقيقة لا عالم الخيال، ولا يضيره أن يظهر صغيراً في عمله في بدء الأمر، بل يعمل ويثابر، ويخطئ ويصيب، ويجتهد حتى يصل إلى الكمال أو ما يقرب منه
وإذا تمثلت الروح العسكرية في التربية الألمانية، وظهرت الروح التعاونية في التربية الأمريكية، فتربية الشخصية المستقلة تتمثل في التربية الإنجليزية
وإن روح التعليم في إنجلترا مؤسسة على دراسة الطفل والتفكير فيه، وفي شخصيته ومستواه، وتقديمه على سواه؛ أي مؤسسة على التضحية بكل شيء في سبيل النهوض به فالطفل هو مركز التعليم، وهو النقطة الرئيسية التي يعني الجميع بها، وهو الذي يضحي من أجله بكل شيء. ولئن عني الأسبرطيون قديماً بالقوة الجسمية والتربية العسكرية، واهتم(84/18)
الاثينيون من اليونان القدماء بالفلسفة وتربية الذوق وحب الجمال، وأولع الرومان في غابر الأزمان بالخطابة والقوة الكلامية فلقد عني الإنجليز اليوم بأعداد الطفل للحياة، للقيام بواجبات الحياة
وقد رأى أحد الإنجليز، ورأى فلاسفة اليونان من قبل، أن العقل السليم في الجسم السليم، ولكن المربين من الإنجليز يرون الآن أن يضيفوا إلى العقل السليم والجسم السليم: الخلق القويم، والشعور بالواجب. فالمدرسة الإنجليزية لا تفكر في تعليم المواد فحسب، بل تعمل على تربية العقل، والجسم، والخلق، وتهذيب الادارة، وتقوية الملاحظة لدى كل فرد، وتعطيه الفرصة في أن يستفيد من قوانين الطبيعة، ويقدر ما فيها من فن أو جمال، وتفهمه الحياة كما هي، وتشعره بواجبه نحو غيره وواجبه نحو الله ونفسه وأمتهن وتعده للحياة الكاملة. فللمدرسة أثر كبير في تكوين الطفل لا ينقص عن اثر المنزل والأصدقاء وتجارب الحياة
وإن المدرسة الإنجليزية تشعر بالواجب الملقي على عاتقها نحو التعليم، ونحو تحسين الأحوال الاجتماعية والصحية والخلقية، وتقوم به خير قيام. والمدرس الإنجليزي في إنجلترا يستطع بما له من نفوذ، وباجتهاد في أن يكون المثل الأعلى الذي يصح الاقتداء به - أن يثبت في نفوس التلاميذ أحسن العادات من الجد والمثابرة على العمل وأداء الواجب، وكتمان الشعور، وإجلال كل نبيل، والاستعداد لتضحية النفس، والعمل على الوصول إلى الحقيقة والشعور بالواجب والاستقامة. فالمدرس يعمل على تكوين أعضاء عاملين ينفعون المجتمع الذي يعيشون فيه بحيث تفخر بهم الأمة التي ينسبون إليها
محمد عطية الأبراشي(84/19)
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
سياحة في نهر (الجنون)
هل هناك اقتباس. . . .؟!
بقلم جورج وغريس
ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في (نهر الجنون) ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من (مجلتي) الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف شهر يناير الماضي. والحق إنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهل جرعة من مائه، فليس أحب الى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب (أهل الكهف) و (شهرزاد) و (عودة الروح). . . .
ونهر الجنون الذي خطر لي أن أكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الآلهة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تهبط من السماء ثم تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به: (حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون. . . .) فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، ويكتفيان بنبيذ الكروم فإذا بهما في تمام قواهما العقلية. أما الملكة وسائر أفراد الشعب فانهم يتهافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون.
فإذا كان أول هذا الفصل يظهر الملك منفرداً مع وزيره في القصر، ويتحادث معه في تل الرؤيا الهائلة التي رآها، ويبدي جزعه الشديد أن تشرب الملكة مع الشاربين من النهر برغم تحذيره إياها فيصيبها الجنون كما أصاب جمع الناس الذي شربوا معها، ثم يُظهر حزنه لعظيم على عقلها الراجح وذهنها اللامع في سماء تلك المملكة، ويتمنى لو أن وزيره أمكنه أن يجد لها الدواء الناجع، أو لو أنه استطاع أن يحضر لها رأس الأطباء، فيخبره وزيره أن رأس الأطباء أيضاً قد أصابه الجنون، فيسأله أن يأتي لها بكبير الكهان فيعلمه(84/20)
أنه أيضاً مجنون لأنه شرب مع الشاربين، ولا يوجد في المملكة من لم يشرب من ماء النهر سواهما، فيحزن الملك لذلك أشد الحزن، ويذهب، ويذهب مع وزيره الى معبد القصر يسألان السماء الغوث والرحمة. . . .
يخرج الملك والوزير من باب فتدخل من باب آخر الملكة ورأس الأطباء وكبير الكهان، ويبدو الجزع على وجوههم، ويتحدثون عن الملك ووزيره اللذين أصيبا بالجنون لامتناعهم عن الشرب من النهر دون جميع الناس، وتسأل الملكة رأس الأطباء وكبير الكهان أن يستخدما الطب ويستنزلا المعجزات لإنقاذ الملك من هذا الجنون المفرط فلما يُظهر كل منهما عجزه عن رده الى صوابه تحزن الملكة لذلك أشد الحزن وتشير عليهما ألا يذيعا الخبر لأن المصيبة سوف تكون فادحة لو علم الناس أن الملك والوزير قد جنا. وتبكي المكلة زوجها الذي أصبح معتوهاً لا يذكر النهر إلا في فزع، ويزعم ن ماءه مسموم ولا يشرب إلا نبيذ الكروم، وبينما هي تدير الرأي معهما تلمح الملك آتيا عن بعدن فتطلب منهما أن يتركاها منفردة معه، لعلها تستطيع أن تقنعه بأن يشرب من ماء النهر، ثم يقبل عليها الملك، فيتفرس كل منهما في صاحبه وفي قلب كل منهما إشفاق على الآخر لما أصابه من الجنون، فتسأله الملكة عن السر في هذه النظرات العميقة، فيجيبها أنه يسأل السماء أن تستجيب دعاءه، فتفرح الملكة لهذه الرغبة في الشفاء وتخبره أنها عثرت على الدواء المطلوب، وأن هذا الدواء هو أن يشرب من ماء النهر، فيغتم الملك ويعود الى حزنه ويأسه، لأنه كان قد ظن أن الملكة قد اهتدت الى دواء لشفاء جنونها، ويخرج صارخاً بوزيره ينجده.
أما الوزير الذي كان في خارج القصر فيدخل على الملك في تلك اللحظة وهو يرتجف من الخوف ويخبره أن جميع الناس أصبحوا يعتقدون أن الملك ووزيره قد أصيبا بجنون، أما هم فعقلاء؛ فيدهش املك لذلك أشد الدهش ويدور بينه وبين وزيره الحوار الآتي:
الملك: صه! من قال هذا الهراء. . . . . .؟
الوزير: تلك عقيدتهم الآن
الملك: (في تهكم حزين) نحن المصابان وهم العقلاء. . . .!
أيتها السماء رحماك! إنهم لا يشعرون أنهم قد جنوا(84/21)
الوزير: صدقت
الملك: يخيل إلي أن المجنون لا يشعر أنه مجنون
الوزير: هذا ما أرى
الملك: إن الملكة وا حسرتاه كانت تحادثني الآن وكأنها تعقل ما تقول، بل لقد كانت تبدي لي الحزن وتسدي إلي النصح
الوزير: نعم نعم. . كذلك صنع بي كل من قابلت من رجال القصر وأهل المدينة
الملك: أيتها السماء رفقاً بهم!
الوزير: (في ترد) وبنا. . . .؟!
الملك: (متسائلاً في دهش) وبنا. . . . .؟!
الوزير: مولاي. . . إني. . . . أريد أن أقول شيئاً
الملك: (في خوف) تقول ماذا؟
الوزير: إني كدت أرى
الملك: (في خوف) ترى ماذا.
الوزير: انهم. . . كل شيء
الملك: من هم؟
الوزير: الناس المجانين. إنهم يرموننا بالجنون ويتهامسون علينا ويتآمرون بنا، ومهما يكن من أمرهم وأمر عقلهم فان الغلبة لهم، بل انهم هم وحدهم الذين يملكون الفصل بين العقل والجنون. لأنهم هم البحر وما نحن الاثنان إلا حبتان من رمل. . أتسمع مني نصحاً يا مولاي. . .؟
الملك: أعرف ما تريد أن تقول
الوزير: نعم هلم نضع مثلهم ونشرب من ماء النهر!
الملك: (ينظر إلى وجه الوزير ملياً) أيها المسكين! إنك قد شربت. أرى شعاعاً من الجنون يلمع في عينك
الوزير: كلا لم أفعل بعد
الملك: أصدقني القول(84/22)
الوزير: (في قوة) أصدقك القول أني سأشرب. وقد أزمعت أن أصير مجنواً مثل بقية الناس: إني أضيق ذرعاً بهذا العقل بينهم
الملك: تطفئ من رأسك نور العقل بيدك!
الوزير: نور العقل! ما قيمة نور العقل في وسط مملكة من المجانين؟ ثق أنا لو أصررنا على ما نحن فيه لا نأمن أن يثب علينا هؤلاء القوم. إني لأرى في عيونهم فتنة تضطرم، وأرى أنهم لن يلبثوا حتى يصيحوا في الطرقات (الملك والزير) قد جنا. فلنخلع المجنونين)
الملك: ولكن لسنا بمجنونين
الوزير: كيف نعلم؟
الملك: ويحك. . . أتقول حقاً؟
الوزير: إنك قد قلتها الساعة يا مولاي: إن المجنون لا يشعر أنه مجنون
الملك: (صائحاً) ولكني عاقل وهؤلاء الناس مجانين!
الوزير: هم أيضاً يزعمون هذا الزعم
الملك: وأنت ألا تعتقد في صحة عقلي؟
الوزير: عقيدتي فيك وحدها ما نفعها؟ إن شهادة مجنون لمجنون لا تغنى شيئاً
الملك: ولكنك تعرف أني لم أشرب قط من ماء النهر
الوزير: أعرف
الملك: وأن الناس كلهم قد شربوا منه
الوزير: أعرف
الملك: وإني قد سلمت من الجنون لأني لم أشرب وأصيب الناس لأنهم شربوا
الوزير: هم يقولون إنهم إنما سلموا من الجنون لأنهم شربوا وأن الملك إنما جن لأنه لم يشرب
الملك: عجباً! إنها لصفاقة وجه
الوزير: هذا قولهم وهم المصدقون. أما أنت فلن تجد واحداً يصدقك
الملك: أهكذا يستطيعون أيضاً أن يجترئوا على الحق؟
الوزير: الحق؟ (يخفي ضحكه)(84/23)
الملك: أتضحك؟
الوزير: إن هذه الكلمة منا في هذا الموقف غريبة
الملك: (في رجفة) لماذا؟
الوزير: الحق والعقل والفضيلة كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً. هم وحدهم أصحابها الآن
الملك: وأنا. . .؟
الوزير: أنت بمفردك لا تملك منها شيئاً (الملك يطرق في تفكيره وصمت)
الملك: (يرفع رأسه أخيراً) صدقت إني أرى حياتي لا يمكن أن تدوم على هذا النحو
الوزير: أجل يا مولاي. وإنه لمن الخير لم أن تعيش مع الملكة والناس في تفاهم وصفاء ولو منحت عقلك من أجل هذا ثمناً
الملك: (في تفكير) نعم إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة كما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني. . .؟
الوزير: لا شيء. . . أنه يجعلك منبوذاً من الجميع مجنوناً في نظر الجميع
الملك: إذن فمن الجنون إلا أختار الجنون
الوزير: هذا عين ما أقول
الملك: بل إنه لمن العقل أن أوثر الجنون
الوزير: هذا لا ريب بين العقل والجنون
الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون
الوزير: (وقد بوغت) انتظر. . . . (يفكر لحظة) لسن أتبين فرقاً
الملك: (في عجلة) على بكأس من ماء النهر
هذا مجمل القصة والجزء المهم من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره، وانتهيا منه بأن العقل لا يغنيهما شيئاً في ملكة من المجانين، لذلك آثر أن يكونا منهم. وموضوع القصة - كما ترى - لطيف طريف، وليس في هذا مجال لشك أو موضع لغرابة، ولكن مما استرعى نظري إنني كنت أقرأ بدايتها قراءة الشاعر بما سيحدث في نهايتها، فما أتيت على آخرها حتى ظللت أفكر فيمن سمعت أو قرأت عنه تل القصة حتى هداني التفكير الى كتاب(84/24)
(المجنون) للمرحوم جبران خليل جبران فعثرت فيه على قصة قصيرة تحت عنوان (الملك الحكيم) وقبل أن أقول عنها شيئاً أورد نصها فيما يلي:
(كان في إحدى المدن النائية ملك جبار حكيم، وكان مخوفا لجبروته محبوباً لحكمته - وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب يشرب منه جميع سكان المدينة من الملك وأعوانه فما دون، لأنه لم يكن في المدينة سواه. وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقط من سائل غريب، وقالت: (كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنوناً)
وفي الصباح التالي شرب كل سكان المدينة ماء البئر وجنوا على نحو ما قالت الساحرة، ولكن الملك والوزير لم يشربا من ذلك الماء
وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكانها من حي الى حي، ومن زقاق الى زقاق، وهم يتسارّون قائلين (قد جن ملكنا ووزيره. . إن ملكنا ووزيره أضاعا رشدهما. إننا نأبى أن يملك عليك مليك مجنون. هيا بنا نخلعه من عرشه!)
وفي ذلك المساء سمع الملك بما جرى، فأمر على الفور بأن يملأ حق ذهبي (كان قد ورثه عن أجداده) من مياه البئر. فملأوه في الحال وأحضروه إليه. فأخذ الملك بيده وأداره إلى فمه.
وبعد أن ارتوى من مائه دفعه إلى وزيره فأتي الوزير على ثمالته
فعرف سكان المدينة بذلك وفرحوا فرحاً عظيماً جداً، لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما)
فما رأي القارئ اللبيب في هذا. . . . . .؟ وما رأي الأستاذ الفاضل فيما كتب. . .؟ أليس هناك تشابه تام بين القصتين في الفكرة والمعنى والأشخاص بل وفي بعض الألفاظ. . . . . . . . . .؟
إني مع احترامي الشديد وتقديري العظيم للكاتب الفنان، أرى في ذلك أحد أمرين: إما أن تكون الفكرة مأخوذة مما كتبه المرحوم جبران خليل جبران، وليس في هذا حرج، ولكن كان الأجدر بالكاتب في هذه الحالة أن يذكر اسم المؤلف الذي اخذ عنه تلك الفكرة، وله بعد ذلك الفضل في تقربها إلى الأذهان بصوغها في قالبه الخاص الرائع، وفي تحويرها من حكاية قصصية إلى قصة تمثيلية(84/25)
وإما أن يكون ذلك من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأفكار بين كاتبين مختلقين في زمنين متقاربين، وليس في هذا أيضاً من حرج. . . ولكن دعني ألا أعتقد به هنا قبل أن تأتيني بجرعة من ماء ذلك النهر في حق من ذهب أو إناء من خزف
إسكندرية
جورج وغديس
(الرسالة) هناك فرض ثالث وهو ان يكون مصدر الكاتبين
واحداً(84/26)
الشيخ الخالدي
مجلس أخر من مجالسه
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت في عدد من الرسالة ما سمعته من الشيخ الخالدي في أحد مجالسه بحلوان. واليوم أنشر حديثاً آخر حدث به في مجلس بالروضة:
جمعني والشيخ الجليل مجلس في دار الأستاذ عبد الحميد العبادي ليلة الاثنين الثالث والعشرين من رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف، فلما اطمأن بنا المجلس قلت: قد سمعنا حديث شيخنا العلامة عن المدراس في المشرق إبان مجد المسلمين، فهل له أن يتم الحديث بذكر مدارس مصر والمغرب
قال: بقي من دارس المشرق مدارس الأناضول، ومنها مدرسة آلتون باي التي بناها السلاجقة في قونية، وبقيت معمورة الى زمن الحرب الكبرى. وقد طلب العلم بها السيد الشريف الجرجاني والفناري (وها من ذرية سيدنا عمر. وسيف الدين الآمدي عربي من بني ثعلية إخوة بني يربوع). وفيها مدرسة قره طاي كبير في قونية، ولا تزال آثاره قائمة وهي من بناء السلاجقة أيضاً، وقد درس فيها جلال الدين الرومي، وفي بروسة مدرسة السلطان مراد الأول ومدرسة السلطان محمد حلبي. ومن علمائها الخيالي وخواجه زاده الذي كتب (تهافت الفلاسفة) يتوسط فيه بين الغزالي وابن رشد؛ ومن علمائها كذلك ملاخسرو وحسن جلبي. وله حاشية على كتاب المطول في البلاغة
ومن مدارس حلب المدرسة الحلوية وكان يقرأ فيها الكاشاني صاحب كتاب البدائع في الفقه، وكان يفتي هو وامرأته، لا يخرج الفتوى حتى تعرض عليها. ثم المدرسة المستنصرية في بغداد في غنى عن التعريف
ومن مدارس مصر المدرسة الكاملية التي بناها الملك الكامل الأيوبي ومدرسة صلاح الدين، بناها للأمام نجم الدين الخبوشاني قرب مسجد الإمام الشافعي. والخبوشاني منسوب إلى خبوشان إحدى قرى نيسابور. وقد دفن بجانب الإمام الشافعي واندثر قبره، والمدرسة الصالحية التي أسسها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت لمذاهب الفقه الأربعة، والمدرسة الشيخونية , وكل هذه المدارس كانت صغيرة القدر بالقياس إلى جامع عمرو(84/27)
الذي كان مباءة العلوم الإسلامية منذ الفتح الإسلامي إلى القرن التاسع. وقد رأيت بالآستانة كتباً قديمة قرئت بجامع عمرو وعليها سماعات العلماء إلى سنة 700 وسنة 800 والشاطبي إمام القراء درس بهذا الجامع. ومن دور العلم في القاهرة خانقاه سعيد السعداء بالجمالية، وكان ينزل بها كبار العلماء، وممن نزل بها القطب الشيرازي والشريف الجرجاني، ومبارك شاه المنطقي، وقطب الدين الرازي. ويؤسفني ان وزارة الأوقاف لا تعني بها عناية تكافئ مكانتها في التاريخ الإسلامي: ومن مدارس القاهرة مدرسة المؤيد
وأما الأزهر فقد صار من دور العلم الكبير بعد سنة تسعمائة، وعلماؤه الذين ذكرهم الجبرتي متأخرون وأقدمهم الشيخ خالد الأزهري. وأما ابن هشام وابن عقيل فلم يتعلما فيه
وكان في الإسكندرية دار الحديث، ومدرسة الحافظ السلفي، وكان ينزل بها العلماء الوافدون من المغرب، ومدرسة الأمام الطرطوشي مؤلف سراج الملوك
ودور العلم في المغرب كانت جامع القيروان؛ قرأ فيه أصحاب الإمام مالك وأئمة مذهبه ومنهم سحنون، وابن عكر، وابن الحداد، وسحنون الصغير، وابن اللباد، والإمام اللخمي أحد محرري مذهب مالك، وعبد الحميد الملقب بمالك الصغير، وهو شيخ المازري، وغير هؤلاء ممن ذكروا في كتاب معالم الإيمان في تاريخ القيروان لابن ناجية، وهو شارح الرسالة التي ألفها عبد الله ابن أبي زيد صاحب كتاب النوادر، وهذا الكتاب واحد وعشرون مجلداً في مكتبة أياصوفيا، وبعض مجلداته في مكتبة القرويين بفاس
وجامع الزيتونة بتونس، وهو قديم عمره بند الأغلب سنة 145. ومن علمائه المازري شارح صحيح مسلم، وشارح التلقين للقاضي عبد الوهاب وهو عشر مجلدات كبار. ولا تزال اسطوانته معروفة في الجامع، وابن عبد السلام، وابن عرفة، وابن خلدون، وابن راشد القفصي وهو أعلمهم، والوانشريسي صاحب كتاب المعيار، والأبي شارح صحيح مسلم (وشرح المازري الذي ذكرته آنفاً اسمه المعلم في شرح صحيح مسلم، وكتاب الأبي اسمه متمم المعلم، وللقاضي عياض شرح اسمه إكمال المعلم)، ويحيى بن خلدون أخو عبد الرحمن بن خلدون المعروف، وأبو الحسن الشاذلي، وله أسطوانة في الجامع معروفة. ومن دور العلم بجاية وتلمسان، وكان بها مدرسة السلطان أبي الحسن المريتي، ومدينة سبتة، وقد ألف فيها القاضي عياض كتاب العيون الستة في أخبار سبتة. وهو كتاب يشهد بكثرة(84/28)
العلماء الذين نبغوا فيها.
ومن دور العلم العظيمة جامع القرويين بفاس أسسه مولاي إدريس الأصغر. وهو يضاهي جامع القيروان بفاس أسسه مولاي إدريس الأصغر. وهو يضاهي جامع القيروان في سعته، وواجهته مركبة على 200 اسطوانة بين كل اثنتين خمس خطوات
وقد ألف في تاريخ علماء فاس كتابان: الأول جذوة الاقتباس فيمن حل من العلماء بفاس، وهو لابن القاضي الفشتالي (نسبة إلى فشتالة على نهر ورغة)، والثاني جذوة الأنفاس فيمن اقبر من العلماء بفاس، وهو للشريف الكتاني من المعاصرين ومن مدارس المغرب مدرسة يوسف بن تاشفين في مراكش
وكانت مدن العلم في الأندلس، قرطبة، واشبيلية، وطليطلة، ومرسية، وبلنسية، وشاطبة، وسرقسطة، وغرناطة، في الزمن الأخير
وكان أهل الأندلس يحفظون دواوين شعراء الجاهلية بالرواية والاسناد كالحديث النبوي، وقد جاء في تاريخ قرطبة (كانت قرطبة في الدولة الإسلامية قبة الإسلام، ومجتمع علماء الأنام والأعلام. بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية. وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء)
وقد بلغ من تشددهم في الرواية أن أبا علي القالي جاء الى الأندلس ومعه كتاب سماع في اللغة، فاستعاره الخليفة (لا أدري أكان الخليفة الناصر أم ابنه المستنصر؟) وأبقاه عنده زماناً فلما أرجعه أبطل القالي العمل به في الرواية. لأن الكتاب خرج من يده زمناً طويلاً قرأت هذه الحكاية في كتاب (الألماع في أصول السماع) للقاضي عياض. رأيت نسخة من هذا الكتاب في الأستانة (أيا صوفيا) وأخرى في الشام، وللقاضي عياض (الشارحة) في الحديث. أعجب به ابن الصلاح فقال:
مشارق أنوار تجلت بسبته ... وذا عجب كون المشارق بالغرب
مشارق أنوار طلعن بمغرب ... أنرن جميع الشرق بالطالع الغربي
فلله ما ابدي عياض فأشرقت ... مشارقه في كل قطر بلا غرب
ومن اجل عناية آهل الأندلس برواية الشعر نبغوا في اللغة.
وحسبك ابن سيده صاحب المخصص والمحكم، وقد رأيت الجلد الأول من المحكم بخط(84/29)
الجواليقي
هذا ما اقتبسته من حديث شيخنا الخالدي في هذا المجلس، أفاض فيه دون أن يرجع الى كتاب أو ورقة. وكم من مجالس للشيخ العلامة لم تدون. ولو كتبت أحاديثه ونشرت معها كتبه ونتفه في تاريخ العلم والعلماء لاستفاد المسلمون علماً واسعاً، وظفروا بما فقدوه من تاريخ أسلافهم. ولعلنا نسعد بكتابة بعض مجالسه. والله ولي التيسر
عبد الوهاب عزام(84/30)
من تراثنا العلمي
تعبير الرؤيا لأبن قُتيبة
وصف وتلخيص لنسخة مم كتاب مفقود
للأستاذ علي الطنطاوي
يزاول ابن قتيبة في هذا الكتاب بأسلوبه المتين، وطريقته السوية، بحثاً هو اليوم جيد في اللغات الأوربية، لم يكد يعرفه أصحابها قبل فرويد النمساوي وأصحابه: يونج السويسري، وادلر الألماني، وبودوان الفرنسي، ورفرز الانجليزي، وهو ينفق وهؤلاء الباحثين في كثير من مسائل هذا البحث، وإنما يختلف عنهم في أنه استمد من معين النبوة، فأصاب كبد الحقيقة، وتمكن من سواء الثغرة. اتكلوا على ظنونهم، فحاموا حول الورد، وصدروا من غير ري!
والكتاب كما سترى في وصفه من الكتب الجليلة التي نرجو أن يتيح الله لها ناشراً، وهذه النسخة التي تصفها من مخطوطات (المكتبة العربية) العامرة (بدمشق)
أما تعبير الرؤيا فقد ثبت في الدين، ونطقت به السنة، وتواترت به الأخبار: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة واربعين جزءاً من النبوة)
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن سَمُرةَ بن جُندب، انه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون، وبينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فطارا. فأولتهما الكذابين بين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء (أي الأسود) وصاحب اليمامة (أي مسيلمة)
والأخبار في ذلك مستفيضة
وأما ابن قتيبة، فهو الإمام العَلَم. صاحب التصانيف الجليلة: أدب الكاتب، وعيون الأخبار، وطبقات الشعراء، والميسر والقداح والمعرف وغيرها. . .(84/31)
قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص (هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة) وقال الحافظ السيوطي في البغية: (كان أبن قتيبة رأساً في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة ديناً فاضلاً) وقال القاضي ابن خلكان: (وان فاضلاً ثقة وتصانيفه كلها مفيدة) وقال الخطيب البغدادي: (كان ثقة ديناً فاضلاً) وقال الحافظ الذهبي: (ما علمت أحداً اتهمه في نقله) وقال ابن النديم: (كان صادقاً فيما يرويه، عالماً باللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه، والشعر والفقه، كثير التصنيف والتأليف، توفي ابن قتيبة سنة (276) وله (63) سنة
أما كتابه تعبير الرؤيا فقد ذكره ابن النديم في الفهرست في باب الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا، وسماه تعبير الرؤيا. وذكره أبو الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) كما نقل الأستاذ محب الدين الخطيب في مقدمة (الميسر والقداح)
وذكره في كتاب (فهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف الشيخ أبو بكر بن خير ابن عمر بن خليفة الأموي الأشبيلي (طبع سرقسطة سنة 1893) باسم (عبارة الرؤيا) قال:
كتاب عبارة الرؤيا لابن قتيبة؛ حدثني به أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر رحمه الله، عن أبي علي الغساني، قال: حدثني به أبو العاصي حكم بن محمد الجذامي، عن أبي بكر أحمد بن محمد ابن إسماعيل المهندس. عن أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة
ثم ذكر لروايته طريقاً أخرى، والنسخة التي نصفها مروية من طريق أقصر وتلتقي برواية أبي بكر هذا عند أحمد بن مروان المالكي، وهذا مما يثبت صحة نسبة هذه النسخة لأبن قتيبة رحمه الله
وقال الزمخشري في (الفائق) في مادة (جنه) وهو يفسر بيت الفرزدق
في كفه جنهى ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
قال القتبي (يعني ابن قتيبة) الجنهى، الخيزران. ومعرفتي بهذه الكلمة عجيبة، ذلك أن رجلاً من أصحاب الغريب سألني عنه (الجنهى) فلم أعرفه. فلما أخذت من الليل مضجعي أتاني آت في المنام، فقال لي: ألا اخبرته عن الجنهي؟ قلت: لم أعرفه قال: هو الخيزران! فسألته شاهداً، فقال: (هدية طرفنه، في طبق مجنه) فهببت وأنا أكثر التعجب، فلم ألبث إلا(84/32)
يسيراً، حتى سمعت من ينشد: في كفه جنهي. . . . . . . وكنت أعرفه: في كفه خيزران.
قال في (تاج العروس) في تفسير الجنهي:
هو الخيزران رواه الجوهري، عن القتيي قال (يعني ابن قتيبة) وسمعت من ينشد: في كفه جنهي. .
والقصة التي رواها الزمخشري مروية في الورقة الخامسة عشرة من المخطوط الذي نصفه، وهذا مما يثبت صحة نسبته إلى ابن قتيبة، ومما يثبت هذه النسبة أسلوب الكتاب، فأنه لا يكاد يختلف عن الأسلوب الذي نعرفه لابن قتيبة، في تحقيقه اللغوي وتفسيره الغريب، وإكثاره من الشواهد
أما هذه النسخة فتقع في (134) صفحة من القطع الصغير في كل صفحة (15) سطراً، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، على ورق صقيل، ويزيد عمرها على (500) سنة
في الصفحة الأولى منها، اسم الكتاب:
كتاب عبارة الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري رضي الله عنه
وفيها كتابات أخرى، أكثرها ممحو:
من مواهب ذي الكرم على عبده رجب الأعلم اشتريته من سي يحيى الذهبي وقيل في المعاني:
ونكس الرأس أهل الكيميا خجلاً ... وقطروا أدمعاً من بعد ما سهروا
إن طالعوا كتبه بالدرس بينهم ... صاروا ملوكاً وان هم جربوا افتقروا
تعلقوا بجبال الشمس من طمع ... فتى منهم قد غره القمر
ونو - الشمسي خادم - الفقير - لسنة 1209=من شهر ذي الحجة من تركة الشيخ عمر بن عبد الهادي رحمه الله
وفي الصفحة الأخيرة، هذه العبارة مكتوبة بخط الناسخ:
(آخر كتاب تعبير الرؤيا لأبن قتيبة رضي الله عنه، قابلناها على نسخة الأصل بقدر الإمكان:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد وقع الفراغ من كتابة هذه النسخة الشريفة الموسومة بكتاب عبارة الرؤيا على يد العبد الضعيف(84/33)
النحيف الراجي إلى رحمة الله الباري يحيى بن محمد البخاري في عشرين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثمانمائة بدمشق المحروسة صانها الله تعالى عن الآفات والنكبات، اللهم اغفر لكاتبه ولمن نظر فيه آمين يا رب العالمين)
وفيها أسماء بعض المالكين:
دخل هذا الكتاب في نوبة العبد الفقير رجب الأعلم المجاور بمدرسة العمرية عفى عنه آمين
الحمد لله مالكه من فضل ربه الهادي، الشيخ عبد الرزاق الهادي غفر الله له آمين، كتبه الفقير ابنه محمد
ساقها الرب الهادي، إلى محمد الهادي
والنسخة مشكولة ولكنه شكل لا يعتد به، وليس في هوامشها تعليقات تذكر
رواية الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
كتاب تعبير الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن محمد بن مسلم ابن قتيبة
قرأت على الشيخ الصالح أبي الحسن عبد الباقي بن فارس بن أحمد المقري المعروف بابن أبي الفتح المصري، أخبركم أبو حفص عمر بن محمد بن عراك الحضرمي قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن مسلم بن قتيبة الدينوري، قال:
مقدمة الكتاب:
الحمد لله الذي رفع منار الحق، وأوضح سبيل الهدى، وقطع عذر الجاحدين، بما أشهدنا من صنعته الظاهرة، وآياته الباهرة وأعلامه الدالة عليه، وآثاره المؤدية إليه. في كل ماثل للعيون. من فلك دائر، وكوكب سائر، وجبال راسيات، وبحار طاميات ورياح جاريات، وفُلك في البحر مسخرات بأمره الخ. .
(قال) حدثني محمد بن عبيد، عن. . . . عن. . عن أم كرز الكعبية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وحدثني محمد بن زياد عن. . .(84/34)
عن. . . . عن عروة أنه قال في قوله الله عز وجل: (لَهُم البُشرى في الحياة والدنيا وفي الآخرة) قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له
(قال أبو محمد) وليس فيما يتعاطى الناس من فنون العلم، ويتمارسون من صنوف الحكم، شيء هو اغمض والطف، واجل واشرف، وأصعب مراداً وأشكالاً، من الرؤيا، لأنها جنس من الوحي، وضرب من النبوة الخ. . . ولأن كل علم يطلب فأصوله لا تختلف، ومقاييسه لا تتغير، والطريق إليه قاصد، والسبب الدال عليه واحد، خلا التأويل: فان الرؤيا تتغير عن أصولها باختلاف أحوال الناس في هيئاتهم، وصناعاتهم وأقدارهم، وأديانهم، وهممهم، وإراداتهم. وباختلاف الأوقات والأزمان فهي مرة مثل مضروب يُعبر بالمثل والنظير، ومرة تنصرف عن الرائي لها إلى الشقيق أو النظير أو الرئيس، ومرة تكون أضغاثاً
ولأن كل عالم بفن من العلوم، يستغني بآلة ذلك العلم لعلمه، خلا عابر الرؤيا: فانه يحتاج إلى أن يكون عالماً بكتاب الله عز وجل وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ليتعبرهما في التأويل.
وبأمثال العرب، والأبيات النادرة، واشتقاق اللغة، والألفاظ المبتذلة عند العوام، وأن يكون مع ذلك أديباً لطيفاً ذكياً، عارفاُ بهيئات الناس وشمائلهم وأقدارهم وأحوالهم، عالماً بالقياس حافظاً، ولن تغنى عنه معرفة الأصول، إلا أن يمده الله بتوفيق، يسدد حكمه للحق، ولسانه للثواب، وأن يحضره الله تعالى تسديده، حتى يكون طيب الطعمة، نقياً من الفواحش، طاهراً من الذنوب، فإذا كان كذلك، أفرغ الله عليه من التوفيق ذَنوباً، فجعل له من مواريث الأنبياء نصيباً
وسأخبرك عن كيفية الرؤيا، بالاستدلال على ذلك من كتاب الله والحديث، إذ كنت لم أجد فيه مقالاً كافياً لإمامٍ متبع، وأقدم قبل ذلك ذكر النفس والروح، إذ كنت لا تصل إلى علم كيفيتها إلا بمعرفتهما، وفرق ما بينهما. وعلى الله أتوكل فيما أحاول واستعين
(الى أن قال) وفد اختلف الناس في النفس والروح، فقال بعضهم، هما شيء واحد يسمى باسمين، كما يقال، إنسان ورجل، وهما الدم أو متصلان بالدم، يبطلان بذهابه، والدليل على ذلك، أن الميت لا يٌفقد من جسمه إلا دمه، واحتجوا لذلك أيضاً من اللغة: بقول العربي: نُفِست المرأة (إذا حاضت) ونَفِست (من النفاس) وبقولهم للمرأة، عند ولادتها: نٌفَساء،(84/35)
لسيلان النفس وهو الدم. ويقول ابراهيم النخعي: كل شيء ليست له نفس سائلة لا ينجس الماء - الخ. . .
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي(84/36)
12 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- أو ليس البواسل من الرجال يحملون الموت، لأنهم يخشون ما هو أعظم من الموت شراً؟
- هذا صحيح
- إذن فكل الناس ما خلا الفلاسفة شجعان، إلا إنها شجاعة من الخوف والوجل. وإنه لعجيب ولا شك أن يكون الرجل شجاعاً لأنه مذعور جبان!
- صحيح جداً
- أو ليس هذا بعينه شأن المعتدلين؟ إنهم معتدلون لأنهم مفرطون - قد يبدو ذلك متناقضاً، ولكنه مع ذلك هو ما يحدث في هذا الاعتدال الأحمق - فهناك من اللذائذ ما يحرصون على تحصيلها ويخشون ضياعها، فهم لذلك يتعففون عن نوع من الملذات لأن نوعاً آخر قد استولى عليهم، وإذا عرِّف التفريط بأنه: (الخضوع لسلطان اللذة) فانهم لا يقهرون لذة، ألا لأن لذة تقهرهم، وذلك ما أعنيه بقولي إنهم معتدلون لأنهم مفرطون
- يظهر أن ذلك حق
- ومع ذلك، فليس من الفضيلة استبدال خوف أو لذة أو ألم بخوف آخر أو لذة أو ألم، وهي متساوية كلها، أكبرها بأصغرها، تساوي النقد بالنقد. أي عزيزي سمياس، أليس في النقد قطعة واحدة صحيحة هي التي ينبغي أن تستبدل بالأشياء جميعاً؟ - وتلك هي الحكمة، ولن يشرى شيء بحق أو يباع، شجاعة كان أم عفة أم عدلُ، غلا إن كان للحكمة ملازماً، وإلا إن كانت هذه الحكمة له بديلاً. ثم أليست الفضيلة الحق بأسرها رفيقة الحكمة، بغض النظر عما قد يكتنفها من المخاوف واللذائذ أو ما إليهما من لخيرات أو الشرور؟ إلا أن الفضيلة التي يكون قوامها هذه الخيرات التي تأخذ في استبدال بعضها ببعض بعد أن تكون قد انفصلت عن الحكمة، ليست من الفضيلة إلا ظلها، ولا يكون فيها من الحرية أو العافية أو(84/37)
الحقيقة شيء، أما التبادل الحق فيقضي أن تمحي هذه الأشياء محواً، وما ظهورها إلا العدل والشجاعة والحكمة نفسها. وإني لأتصور أن أولئك الذين أنشأوا الاسرار، لم يكونوا مجرد عابثين، بل قصدوا إلى الجد حينما عمدوا إلى شكل فرمزوا به إلى أن من يمضي إلى العالم الأسفل دنساً جاهلاً سيعيش في حمأة من الوحل، أما ذلك الذي يصل إلى العالم الآخر بعد التعليم والتطهير فسيقيم مع الآلهة. وكما يقولون في الأسرار: (كثيرون هم من يحملون عصا السحر، أما العالمون بالسحر فقليل) وهم يريدون بهذه العبارة فيما أرى، الفلاسفة الحق، الذين أنفقتُ حياتي كلها أبحث بينهم لعلي أجد مكاناً، ولست أشك في أني عندما أبلغ العالم الآخر، بعد حين قصير، سيأتيني إن شاء الله علم يقين، عما إذا كنت قد التمست في البحث سبيلاً قويمة أم لا، وإن كنت قد أصبت التوفيق أم لم أصبه. أي سمياس وسيبس، لقد أجبت بهذا على أولئك الذين يؤاخذونني بعدم الحزن أو الجوع لفراقكم وفراق سادتي في هذا العالم، فقد أصبت بعدم الخوف لأنني اعتقد أنني سأجد في العالم الأسفل أصدقاء وسادة آخرين، يعدلونكم خيراً، ولكن الناس جميعاُ لا يسيغون هذا، وإنه ليسرني أن تصادف كلماتي عندكم قبولاً أكثر مما صادفت عند قضاة الأثينيين
- أجاب سيبيس - إني موافقك يا سقراط على معظم ما تقول، ولكن الناس أميل الى عدم التصديق فيما يتصل بالروح. إنهم، يخشون ألا يكون لها مستقرٌ إذا ما فصلت عن الجسد، وإنها قد تذوى وتزول في يوم الموت ذاته - فلا تكاد تتحلل من الجسد حتى تنطلق كالدخان أو الهواء، ثم تتلاشى في العدم. فلو قد تستطيع أن تتماسك أجزاؤها، وأن تظل كما هي بعد أن تكون قد خلصت من شرور الجسد، لرجونا يا سقراط، محقين فيما نرجو، أن ما تقوله حق، ولكنا بحاجة الى كثير من الإقناع ووفير من الحجج، لإثبات انه إذا مات الإنسان فروحه تظل مع ذلك موجودة، وتكون على شيء من قوة الذكاء
- فقال سقراط - هذا حق يا سيبيس، فهل لي أن أقترح حديثاً قصيراً عما يحتمل لهذه الأشياء من وجوه؟
- قال سيبيس - لست أشك في أني شديد الرغبة في معرفة رأيك عنها
- فقال سقراط - لا أحسب أن لأحد ممن سمعني الآن، حتى ولو كان أحد أعدائي القدماء من الشعراء الهازلين، أن يتهمني بالخبط في الحديث عن موضوعات لا شأن لي فيها.(84/38)
فأذنوا إن شئتم بأن نمضي في البحث
إن مشكلة أرواح الناس بعد الموت: أهي موجودة في العالم الأسفل أم غير موجودة، يمكن مناقشتها على هذا النحو: يُؤكد المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه، إنها تذهب من هذا العالم الى العالم الآخر، ثم تعود إلى هنا حيث تولد من الميت، فان صح هذا وكان الحي يخرج من الميت، للزم أن تكون أرواحنا في العالم الآخر، لأنها إن لم تكن، فكيف يمكن لها أن تولد ثانياً. إن هذا القول حاسم، لو كان ثمت شاهد حقيقي على أن الحي لا يولد إلا من الميت، أما إذا لم ينهض على هذا دليل، فلا بد من سوق أدلة أخرى
فأجاب سيبيس - هذا جد صحيح
- إذن فدعنا نبحث هذه المسألة، لا بالنسبة إلى الإنسان وحده، بل بالنسبة إلى الحيوان عامة، وإلى النبات، وكل شيء يكون فيه التوالد، وبذلك تسهل إقامة الدليل. أليست كل الأشياء التي لها أضداد تتولد من أضدادها؟ أعني الأشياء التي كالخيِّر والشرير، والعادل والجائر - وهناك من الأضداد الأخرى التي تتولد من أضدادها، عدد ليس إلى حصره من سبيل، وإنما أريد أن أبرهن على أن صحة هذا القول شاملة لما في الكون من أضداد، أعني مثلاً أن أي شيء يكبر، لابد أنه قد كان أصغر قبل أن أصبح أكبر
- صحيح
- وأن أي شيء يصغر، لابد أنه قد كان يوماً أكبر ثم صار أصغر
- نعم
- وأن الضعف يتولد من الأقوى والأسرع من الأبطأ
- جد صحيح
- والأسوأ من الأحسن، والأعدل من الأظلم؟
- بالطبع
- وهل هذا صحيح عن الأضداد كلها؟ وهل نحن مقتنعون بأن جميع الأضداد ناشئة من أضداد؟
- نعم
- ثم أليس ثمت كذلك في هذا التضاد الشامل بين الأشياء جميعاً، فعلان أوسطان، لا ينفكان(84/39)
يسيران من ضد الى الضد الآخر جيئة وذهاباً؛ فحيث يوجد أكبر وأصغر، يوجد كذلك فعل متوسط بينهما، يعمل للزيادة والنقصان، ويقال للشيء الذي ينمو إنه يزيد، وللشيء الذي يتناقص إنه يذوي
فقال - نعم
- وهناك غير ذلك عمليات كثيرة أخرى، كالتجزئة والتكوين والتبريد والتسخين، التي تضمن تساوياً بين ما يخرج من شيء وما يضاف الى شيء آخر. أليس ذلك صحيحاً بالنسبة الى الأضداد كلها، حتى ولو لم يعبر عنها باللفظ دائماً - فهي تتولد الواحد من الآخر، وثمت انتقال، أو فعل، بين بعضها وبعض
- فأجاب - هذا جد صحيح
- جميل، أفليس هناك ضد للحياة، كما أن النوم ضد اليقظة؟
- فقال - بل هذا حق
- وما هو ذاك؟
- فأجاب - هو الموت
- فان كان هذان ضدين، فهما متولدان إذن. أحدهما من الآخر، وبينهما كذلك فعلان أوسطان.
- بالطبع
(يتبع)
زكي نجيب محمود(84/40)
من صور التاريخ السلامي
الفردوسي
للأستاذ عبد الحميد العبادي
تتمة
بينت في مقالي السابق السبب الذي من أجله يكبر الفرس الفردوسي ويعدونه شاعرهم القومي فقلت إن الفردوسي بنظمه (كتاب الملوك) الذي يضم بين دفتيه تاريخ الفرس الأقدمين وأساطيرهم وآدابهم، قد أمد القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة، بمد قوى، رسم للأولى حدوداً واضحة، وشرع للثانية منهجاً ظلت تسير فيه حتى يومنا هذا؟ والفردوسي بهذا الصنيع الجليل قد هيأ السبيل لظهور فارس الحديثة ذات الشخصية البارزة في تاريخ الشرق الحديث
ولكن ما السبب في أن شعوباً أخرى غير الفرس تحفل بالفردوسي وتجله، ولم تتحاش أن تعلن ذلك الاحتفال بذكراه الألفية؟ وجواب هذا السؤال موضوع هذا المقال
يعد الفردوسي عند علماء الأدب ونقاده شاعراً قصصياً من شعراء الطبقة الأولى، فهو في مرتبة هوميروس ودانتي وملتن. والشاعر القصصي العظيم هو الذي ينشئ ملحمة أي منظومة قصصية طويلة بليغة يعتبرها قومه غرة أدبهم. وحفظ هذه المنظومة من الذيوع والانتشار يتوقف على نوع موضوعها. فإذا كان الشاعر قد اخترع الموضوع اختراعاً وتخيله تخيلاً ثم أفرغ عليه بعد ذلك ثوب بلاغته وقوة تصويره فهي ملحمة محدودة الذيوع، يقبل على قراءتها خاصة الأدباء والمثقفين وأساتذة الأدب في الجامعات. ومن هذا الصنف (المهزلة) لدانتي و (الجنة المفقودة) لملتن. أما إذا ألف الشاعر موضوعه من الحكايات الشائعة في قومه، وأساطيرهم التي يعتقدونها، وأغانيهم التي يتغنون فيها بذكر ما اختلف عليهم من الأحداث، ثم عرض ذلك كله عرضاً شعرياً قوياً بليغاً، وكان في ذلك فيلسوف النظرة يتناول العالم من ثنايا الخاص فيصور العالم وهو يصور قطعة منه محدودة، ويصف الطبيعة البشرية وهو يصف قبيله ومعشره، ويتناول الزمن وهو يتناول برهة منه، إذا فعل الشاعر ذلك فقد كتب لملحمته الذيوع والخلود. وسرعان ما يحل الحديث الموفق(84/41)
المحكم محل القديم المبعثر المتفرق، فتنسخ الملحمة الجديدة الحكايات القديمة، وتأخذ مكانها من قلوب الأمة التي تصور فعالها، وعلى مر الزمن تنفذ الملحمة من حدود المحلية والإقليمية وتشيع في أنحاء العالم المتمدين وتستحيل أثراً أدبياً عالمياً. وأشهر ملاحم هذا النوع، الألياذة والشاهنامة التي نحن بصدد الكلام عليها
والشاهنامة تسترعي اهتمام غير واحد من خاصة المتأدبين فاللغوي يطالع فيها صفحة واضحة من تاريخ اللغة الفارسية الحديثة، والاجتماعي يجد فيها عوناً على تصور المجتمع الفارسي القديم، ومعرفة أخلاق القوم وعادتهم ومواضعاتهم، والمعنى بالأساطير القديمة ينتفع بها انتفاعاً جماً في دراسة الميثولوجيا الإيرانية والمقارنة، ومؤرخ الأديان يستخلص منها صورة مجملة لعقائد الإيرانيين القدماء، والمؤرخ السياسي يرجع إليها في دراسة النظم الفارسية القديمة ويجد فيها صدى قوياً لعلاقة الفرس بمن جاورهم من الأمم وخاصة الهند والترك والعرب. والفنان الذي تستهويه بلاغة العبارة ودقة المعاني وقوة التصوير يرى في الشاهنامة مُثلاً عُليا لكل ذلك.
فالفردوسي يعرج في سماء البلاغة حتى يسامي النجم، وهو في الوقت نفسه يخاطب الناس بمألوف حديثهم ومتعارف معانيهم، ثم هو وصاف مبدع، إذا تصدى لوصف واقعة حربية أراك ميدان القتال، وجلا على عينك ما يجري فيه من كر وفر، وهجوم وتحيز، وأراك السيوف تلمع، والحراب تشرع، وأسمعك تصايح الكماة، وصهيل الخيل، وأنين الجرحى، وصور لك ظفر الغالب وهزيمة المغلوب. فإذا انتقل إلى وصف مجلس من مجالس الدعة والأنس مثل لعينك أسباب السرور ودواعيه وأدواته، ونقل إليك ما يشيع في المجلس من صفاء النفوس، واختلاط القلوب، فإذا أراد تصوير العاطفة البشرية أراك حنو الأم، وعطف الأب، وله العاشق، ووفاء الزوجة وإخلاص الصديق. لقد أدرك الفردوسي قوام الفن وملاكه، أدرك معنى الجميل ومعنى الجليل، وعرف كيف يعبر عنهما
على أن الناحية الأخلاقية من الشاهنامة هي عندي أهم نواحيها وأبعثها على التقدير العام بها. فالفردوسي لم يقصد إلى أن يكون مؤرخاً، ولا إلى إظهار بلاغته بمقدار ما قصد إلى أن يكون كتابه كتاب أدب وحكمة وتهذيب، نلحظ ذلك في الجانب التعليمي من كتابه، فالفردوسي لا يبرح واعظاً ومرشداً وهادياً، سالكاً حينا طريق الحقيقة وحينا طريق المجاز،(84/42)
ونلحظ ذلك القصد أيضاً في خلو الشاهنامة خلواً مطلقاً من الألفاظ والمعاني التي ينبو عنها الأدب والذوق السليم. . . بهذه المزية يصح القول بأن (كتاب الملوك) كتاب يتأدب بمطالعته الناس في كل زمان وكل مكان، وإذا كانت (الألياذة) تنمي فينا عاطفة الحياء والغضب للحق، وفضيلة الإيثار والانتصار للضعيف، وإذا كانت (مهزلة) دانتي تعرفنا بطريقتها الرمزية أي أساليب الحياة يؤدي في الآخرة إلى الثواب وأيها يؤدي الى العقاب، وإذا كانت (الجنة المفقودة) تقوي الروح الديني في نفس القارئ، فإن الشاهنامة ترمي إلى تهذيب النفس وتكميلها
وفلسفة الشاهنامة الأخلاقية تقوم على أربعة أمور عظام: الأيمان، والواجب، وطهارة القلب، والزهد
والأيمان عند الفردوسي ليس ذلك الشعور الذي يخالط ضعفاء النفوس وخورة الطباع، ولكنه إيمان الأبطال والملوك.
فالفردوسي يتعمد أن يظهر أبطاله وملوكه عند استكمالهم أسباب العزة والجبروت في مظهر النقص والافتقار إلى عون الله ومدده مبالغة منه في توكيد ضرورة الإيمان في الحياة، ورغبة منه في كبح جماح النفوس الطاغية، وكسر شرة القلوب العاتية. ولنمثل لذلك من الشاهنامة نفسها: فعندما خرج الملك (كيخسرو) إلى قتال (أفراسياب) انتقاماً لمقتل ابنه (سيا وخسر) جعل يدعو الله أن ينصره على عدوه. تقول الشاهنامة (وبعد ذلك اغتسل الملك كيخسرو ودخل متعبداً لهم، وجعل طول ليلته يتضرع إلى الله تعالى ويبتهل ويعفر خده بالتراب ويستنصره على أفراسياب، ويستعين به عليه، فقطع ليلته تلك بالسجود لله تعالى والدعاء، فلما انتصر على خصمه وفر خصمه من وجهة وأعياه طلابه رجع إلى الله يستعينه ويستهديه). تقول الشاهنامة (فاغتسل ذات ليلة وأخذ كتاب الزند وخلا بنفسه في مكان خال ولم يزل طول ليلته ساجداً لله تعالى يبكي ويتضرع إليه سبحانه ويقول (إن هذا العبد الضعيف الموجع الجسم والروح طاف الدنيا، فسلك رمالها وقفارها، وقطع جبالها وبحارها، طالباً لأفراسياب الذي أنت تعلم أنه سالك غير طرق السداد، وسافك بغير الحق دماء العباد، وأنت تعلم أني لا أقدر عليه إلا بحولك وقوتك، فمكني منه. وإن كنت عنه راضياً، وأنت تعلم ولا أعلم، فاصرفني عنه، وأطفئ من قلبي ثائرة عداوته وقف بي على(84/43)
سواء الطريق والنهج القويم) وعندما غمر الثلج أسفنديار وأصحابه في طريق (هفنجوار) الوعر الشاق ووجد ذلك البطل المغوار نفسه أمام قوة لا قبل له بها لم يسعه إلا أن يسلم أمره إلى الله تعالى فتقول الشاهنامة (فبينا هم كذلك إذ أظلم الجو واشتدت الريح، ونشأت سحابة أبرقت وأرعدت وأطبقت عليهم ثلاثة أيام بلياليها، تهيل عليهم الثلج هيلاً، حتى امتلأت الأودية، فصاح اسفنديار. . وقال: قد اشتد علينا الأمر وليس ينفعنا الآن رجولة ولا قوة. والرأي أن نلجأ إلى من لا ملجأ منه إلا إليه، فانه الكاشف للضر والقادر عليه. فاجتمعوا ورفعوا أيديهم وتضرعوا إلى الله تعالى مبتهلين، ودعوه دعوة الصادقين، فسكت الهواء وانجلت السماء)
والأصل الثاني من أصول الفلسفة الأدبية (لكتاب الملوك) القيام بالواجب: الشاهنامة تعني بهذا الأصل الذي هو قوام الحياة اليومية أتم عناية. فأعظم ملوك الشاهنامة أقومهم بواجبه، وواجب الملك في رعيته العدل، والحلم، والسخاء، وترك الاستبداد فإذا ما حاد الملك عن هذا السنن (جفت الألبان في الضروع، ولم يأرج المسك في النوافج، وشاع الزنا والربا في الخلق، وصارت القلوب قاسية كالحجر الصلد، وعاثت الذئاب وضريت بالأنس، وتخوف ذوو العقول من ذوي الغواية والجهل،) وعهد كسرى أنوشروان لابنه هرمز حافل بتلك الآداب السلطانية التي تنص صراحة على ما يجب على الملك نحو نفسه ونحو رعيته
وبطولة أبطال الشاهنامة تستند إلى شعورهم القوي بالواجب. أنظر كيف لبي رستم طلب (جًيْو) إنقاذ ابنه (بيثرن) وكان مقيداً مغلولاً في مطمورة مظلمة بأرض طوران. وقوله له (لا تهتم فإني لا أحط السرج عن الرخس حتى آخذ بيج بيثرن وأضعها في يدك) وانظر خطاب جيو للملك كيخسرو (أيها الملك! إن أمي ما ولدتني إلا لطاعتك، وتحمل المكاره فيما هو سبب راحتك. وهأنذا أشد وسطي في امتثال أمرك، ولا أسألك إلا سبيل خدمتك ولو أمطر الهواء على ناراً، وتحولت الأشفار في عيني شفاراً) وقول (اكشهم) لبيثرن وهو يجود بروحه (أيها الحبيب النافج لا تحمل على نفسك كل هذا، فانه أشد علي مما أنا فيه. واستر جراح رأسي بالترك، واجتهد في حملي الى حضرة الملك، فان قصارى بغيتي، وغاية أمنيتي، أن أتزود منه بنظرة، وأقر عيني بطلعته ولو لحظة، وإذا مت بعد ذلك مت وليس في قلبي حسرة، فإني لم ألد إلا للموت، ومن أدرك أمله فكأنه لم يمت، وأيضاً تجتهد(84/44)
فلعلك تستطيع أن تحمل هذين العدوين للذين أهلكهما الله على يدي إلى المعسكر، وأن لم تقدر فاحمل رءوسهما وعدتهما حتى تعرضها على الملك، ليعلم أني ما هلكت في غير شيء)
وروعة شخصية المرأة في الشاهنامة تقوم على وفور حضها من الأنوثة والوفاء لزوجها، يدل على ذلك نواح (ثهمينة) على ابنها (سهراب) ووفاء (منيزة) لزوجها (بيتزن) في محنته مع إن أباها كان المسلط على عذابه
وكما تفرض الشاهنامة القيام بالواجب من حيث هو فضيلة أساسية للحياة الفاضلة فإنها تدل بالأمثلة المحسوسة والوقائع المادية كيف يؤدي الواجب. فينبغي أن نؤدي الواجب محلى بأحسن آداب السلوك من جد ورفق، وسهولة خلق، وضبط نفس، ورقة شمائل، ولا أدل على ذلك من الحوار الذي دار بين بطلي الشاهنامة (رستم) و (اسفنديار) عندما لج بهما اللجاج وحمى الخصام، فهو حوار ينم عن نبل خلق وسراوة نفس. وقد بلغ من دقة حس الفردوسي ورقة قلبه أن أوجب علينا الوفاء لمن أحسن إلينا ولو كان حيواناً أعجم. أنظر بأي قلب وأية شمائل يخاطب رستم الغزالة التي كان طرده لها سبباً في وقوعه على عين ماء روي منها بعد أن كاد يهلك عطشاً، فهو يخاطبها بقوله: (لا زلت يا غزالة الريف، تفيئين الى الظل الوريف، وتكرعين في الزلال المعين، وتتقلبين بين الورد والياسمين، وأيما قوس راعك أنباضه: فلا زالت متقطعة أوتاره، فانك سددت رمقي وشفيت غلتي)
والأصل الثالث من أصول فلسفة الشاهنامة الأدبية طهارة القلب؛ والفردوسي يحثنا في غير موضع من كتابه على أن ننفي عن قلوبنا أدواء الحقد والحسد والضغينة. يقول رستم لاسفنديار: (. . . . . . . وطهر قلبك بفضيلة الرجولة من دنس الداء الدفين) والفردوسي لا يكتفي بأن يندب قارئه الى تطهير قلبه، بل لقد يتولى هو بنفسه ذلك مستخدماً في ذلك طريقه العرض الدرامي التي نلحظها في أكبر الملاحم والقصص. نلحظها في آثار هوميروس، وسفوكليس، واسخيلوس، وشكسبير، وملتن، ودستويفسكي. وذلك أن يعمد الشاعر الى حادث رائع مفظع، فيعرضه عرضاً فنياً قوياً، فيهز قلب القارئ ويمخضه، فيكون ذلك منه بمنزلة الدواء المر يتجرعه المريض على مضض، ولكنه تكون فيه سلامته من علته؛ وقد بلغ الفردوسي بسلوك هذه الطريقة أسمى غايات الفن، وأتى من رائع(84/45)
القصص ما يشغف القلب حسنه، ويسحر اللب بيانه. انظر كيف يعرض قصة قتل رستم ابنه سهراب على غير علم منه بأنه ابنه! تقول الشاهنامة: (. . . . ثم تناوشا الحرب، وتطاعنا حتى انتثرت كعوب رماحهما، فاستل كل واحد منهما سيفه، وتضاربا، وكأن النار تمطر من سيوفهما، ولم يزالا حتى تكسرت سيوفهما، فمدا أيديهما الى عموديهما، ورفعاهما، وجعلا يتضاربان ويتقارعان حتى تمزقت الأدراع الموضونة على أكتافهما، وتقطعت التجافيف على خيلهما، فضعفا، ووقف دوابهما، وبقيا من العرق غريقين، ومن العطش محترقين، فوقف الأب من جانب، والابن من جانب آخر، ينظر أحدهما الى الآخر. فيا عجبا! كيف انسدت دونهما أبواب التعارف، ولم تتحرك بينهما عروق التناسب؟ والأبل من غلظ أكبادها، تعطف على أولادها، والطيور في جو السماء، والحيتان في قعر الماء، لا تنكر أولادها وأفراخها! والإنسان من فرط حرصه تخفى عليه فلذة كبده ويستنكر قرة عينه ولا ينزع الى ولده!)
ثم يقول رستم: (لم أر قط قتالاً بهذه الصفة، ولقد انقطع رجائي من رجولتي) فإذا ما استأنفا القتال، قال سهراب لرستم وهو يجهل أنه أبوه: (إني أرى أن نخلع الجوشن، ونطرح السيف، ونكف عن القتال، فإن قلبي يميل كل الميل إليك، وإن وجهي ليغمره الحياء منك) ولكن يخيب رجاه، ويعود الأب وابنه الى المبارزة، فيتغلب الأب ويصرع ابنه، ويجثم على صدره، ثم يذبحه ذبحاً، ثم يتبين له، وقد سبق السيف العزل، أنه إنما ذبح ابنه، فيشق جيبه، ويضرب صدره، وينتف شعره، ويندب ولده، ويحاول استنقاذه من براثن الموت فيعجزه ذلك؛ ويموت سهراب، فتتقد لوعة الحزن في صدر رستم، ويصيح من فرط العذاب: (من الذي أصيب بمثل ما به أصبت؟ ومن الذي فجع بمثل ما به فجعت؟ قتلت ولدي حين شاب رأسي وانقضى عمري!)
إن القارئ ليتابع مشاهد هذه القصة وقلبه يتوثب في صدره فرقاً وذعراً. فإذا بلغ الى الكارثة الأخيرة فقد لا يملك دمعه أسى وحزناً، وهذا الذي قصد إليه الشاعر رغبة منه في أن يمكن فيه لعاطفتي الحنو والرحمة
ولا يقف الفردوسي عند هذا الحد من تطهير قلب قارئه، بل يجتهد في أن يروض من نفسه ويكبح من جماحها بأن يجلو لها تقلب هذه الدنيا، وتصرف أحوالها بالناس تصرفاً قد يسوء(84/46)
ضعاف النفوس، ولكنه لا ينال من ذوي النفوس القوية منالاً وهو على عادته يعمد الى أقوى شخصياته فيجعلها مناط فلسفته رامياً بذلك الى أن نأخذ الدنيا كما هي فنفرح بها إذا أقبلت في غير اغترار بها؛ ولا نأسى عليها إذا هي أدبرت. وإن فلسفته من هذه الناحية لترجع فلسفة الرواقيين الذين يريدوننا على أن نتجرد من العاطفة جملة، فلا نفرح ولا نحزن، ولا نغضب ولا نعتب. انظر كيف يصف الشاعر مصير الملك أفراسياب عندما قلب الزمان له ظهر المجن، وتجهم له وجه القدر، فآل أمره الى أن وقع أسيراً في يد رجل عابد فشد وثاقه واضطره الى أن يخاطبه بقوله (أيها العابد! ما تريد من رجل اختفى في مغارة ضيقة) فلما عنفه العابد على ما احتقب من أوزار قال (بهذا جرت على أقلام قضاة الله في الأزل، ومن المعصوم في هذه الدنيا الغدارة من الزلل؟) وإن مصير الملك دارا واغتيال عبديه له تقرباً بدمه الى الاسكندر ليجري مجرى حديث أفراسياب من حيث الدلالة على تقلب الدنيا، وهي تربنا الفردوسي جبرياً يرى أن الإنسان لا يملك لنفسه مع القدر نفعاً ولا ضراً
وإذا كان ذلك دأب الدنيا، فحليق بالعاقل أن يرفضها ويزهد فيها. والزهد في الدنيا هو الأصل الرابع من أصول فلسفة الشاهنامة الأخلاقي، والفردوسي لا يألو جهداً في صرف قلوبنا عن أن تفتن بالدنيا ولكن في غير اخلال بالواجب الذي يفرضه علينا وجودنا فيها. انظر إلى تصويره الحال المعنوية على الملك كيخسرو عندما انقبضت نفسه، وأزمع التخلي عن الملك، والذهاب في الأرض، فقد عهد إلى ابنه، وودع أكابر الدولة (ثم سار. . . وصحبه رءوس الإيرانيين. . . إلى أن صعد إلى جبل، فأقاموا عليه أسبوعاً، وخرج في أثره نساء الإيرانيين ورجالها زهاء مائة ألف نفس، يبكون ويضجون حتى طن بصياحهم وعويلهم السهل والجبل. ثم بعد أسبوع أشار الملك على الأكابر والسادات بالانصراف من ذلك المكان وقال: إن أمامنا طريقاُ صعباً لا ماء فيه ولا عشب، فانصرف دستان، ورستم وجوذرد، ولم ينصرف عنه الباقون، فسار الملك، وساروا معه حتى وصلوا إلى ماء، فنزلوا هناك، وقال لهم الملك: إذا طلعت الشمس غداً حان وقت المفارقة، فباتوا ليلتهم عند العين. ولما كان الثلث الأخير من الليل، قام الملك ودخل العين، واغتسل ثم ودعهم إلى إيران، ولما طلعت الشمس ركب الملك، وغاب عن أعينهم)(84/47)
وحديث الاسكندر الملك الشاب الفاتح الطموح مع أهل مدينة البراهمة المنقطعين عن الدنيا، والراضين منها بأيسر أمرها يرى إلى أي حد يذهب الفردوسي في تقرير فلسفته القائمة على العزوف عن الدنيا وعدم الركون إليها
وبعد، فأرجو أن أكون قد بينت للقارئ السبب في تقدير غير الفرس للفردوسي وللشاهنامة، وأختم هذا البحث بأن أنبه على أن مظهر هذا التقدير قديم، فقد ترجم الفتح بن علي البنداري الشاهنامة إلى العربية الفصحى في أوائل القرن السابع الهجري، وأن الشاهنامة قد نقلت إلى أشهر اللغات الأوربية الحديثة، وأن بعض هذه التراجم في غاية الدقة والعناية والإتقان
عبد الحميد العبادي(84/48)
10 - بين القاهرة وطوس
طهران الى قم واصبهان
للدكتور عبد الوهاب عزام
أوى الركب الى الفندق متعباً، وجمعتُ التعب والمرض، وكان وزير المعارف والعلامة بديع الزمان قد كلماني والأستاذ العبادي في إلقاء محاضرة في مدرسة سبهسلار بعد الإياب من مشهد، فعدنا الى طهران وإذا رقاع الدعوة قد أرسلت، وإذا الجرائد تخبر بأني سألقي محاضرة في مدرسة سبسهلار والساعة ست من يوم الخميس. فأصبحت في شغل من هذا الأمر أجهد للوفاء بالوعد، فإذا جسم علل وصوت مبحوح، فكلمت الأستاذ بديع الزمان معتذراً، فجاء الى الفندق هو ورئيس المدرسة وطلبا من الأستاذ العبادي أن يقول كلمة، فوعدهما، ووعدتهما أن أكون طوع أمرهما إن رزقت العافية، وإلا أرسلت كلمة تقرأ على الحاضرين فلما دنا الموعد أجاب الأستاذ العبادي الدعوة، وأرسلت كلمتي مع السيد صالح الشهرستاني مكاتب البلاغ في طهران، فقرأها على الجمع، وكان موضوعها موقف المسلمين من مدينة أوربا، وما يلزمهم من الاستمساك بسنتهم، وأخذ الحذر أن يفتتنوا فيقلدوا فيضلوا. وتكلم الأستاذ العبادي في العلائق التاريخية بين مصر وإيران، وقد قرأت في الجرائد الإيرانية بعد العودة الى مصر وصف الاحتفال وترجمة الكلمتين، وخطبة الأستاذ بديع الزمان في مكانة اللغة العربية بين الفرس. وقد نشرت جريدة البلاغ الخطب الثلاث، كما نشرت بياناً وافياً عن حفلات الفردوسي كلها
وكان في خطة وفود الفردوسي الذهاب الى أطلال مدينة الري وهي على مقربة من طهران، فتخلفت مكرها أسفاً، ويوم الجمعةُ جلنا في المدينة، فاشترينا من الكتب والاسطوانات (والإيرانيون يسمونها الصفحات. وهي تسمية أقرب الى الحقيقة واللغة) وزرنا المفوضية المصرية مودعين ثم خرجنا الى دار على أصغر خان المعروف في طهران باسم المصري، وهو أخو حسن بك اليزدي التاجر الكبير بالقاهرة، وكان يحتفل بختان أنجاله، فجلسنا في جماعة من الفضلاء، واستمعنا للمرة الثانية الى غناء المطربة ملوك خانم، واقترحت أن تسمعنا الأغنية المطربة: (مرغ سحر ناله سركن) لنودع طهران على هذه النغمات الحزينة، ثم تحدثت المغنية، فإذا هي تعرف أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب(84/49)
وتدلي برأيها بينهما، فقلنا هذا كلام ملوك. قالت نعم. وكلام الملوك ملوك الكلام. فانظر كيف يعني الإيرانيون نساء ورجالاً باللغة العربية عناية آبائهم من قبل. ثم استأذنا في القيام لنأخذ أهبتنا للسفر الباكر صباح الغد
برحنا طهران والساعة عشر من صباح السبت حادي عشر رجب (20 أكتوبر) أنا والأستاذ العبادي في سيارة مفردة، وهو أول سفر لنا في إيران منفصلين عن وفود الفردوسي؛ سافر جماعة من طريق الشمال، وآخرون طريق بغداد أدراجهم، وجماعة آثروا المقام في طهران يوماً أو يومين، وكانت نيتنا اصبهان، وبينها وبين طهران تسع ساعات بالسيارة، وقد تقدمنا بمدة يسيرة الشاعر الإنكليزي درينك ووتر
وقفنا بعد أربعين دقيقة على قرية، فرُئيت جوازات السفر، وكذلك طُلبت الجوازات في كل مدينة مررنا بها، حين ندخلها وحين نخرج منها حتى رجعنا إلى همذان على طريقنا الأولى من بغداد إلى طهران. وذلك أن هذه الطريق كانت طريق الوفود في ذهابهم وإيابهم فيُسر لهم السير وأعفوا من مراسم السفر في إيران
وبعد الظهر بقليل نزلنا في محطة على الطريق اسمها منظرية فدخلنا بستاناً فيه أشجار رمان فأكلنا واسترحنا ساعة، ثم سرنا حتى بلغنا مدينة قم والساعة اثنتان وثلث. فدخلنا ونحن نذكر قصة الصاحب بن عباد وقاضي قم. كتب إليه الصاحب
أيها القاضي بقم ... قد عزلناك فقم
فكان القاضي يقول إذا سئل عن سبب عزله: أنا معزول السجع من غير جُرم ولا سبب
قم مدينة في العراق العجمي على الجادة بين طهرن واصبهان وعلى 120 كيلاً إلى الجنوب الغربي من طهران. يشقها نهر يأتي من جُرباذقان قرب همذان. وفاكهتها كثيرة منها الرمان والتين والبطيخ والفستق
قال يا قوت: (وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم بها، وأول من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري) وذلك في عهد الحجاج بن يوسف. والظاهر أنها قديمة كانت قبل الإسلام، ثم عمرت في الإسلام ومصرت
وقد قال دعبل بن علي فيها
تلاشى أهل قم واضمحلوا ... تحل المخزيات بحيث حلوا(84/50)
وكانوا شيدوا في الفقر مجداً ... فلما جاءت الأموال ملوا
ظلت بقم مطيتي يعتادها ... همان: غربتها وبعد المدلجَ
ما بين علج قد تعرب فانتمى ... أو بين آخر معرب مستعلج
وأهلها عرفوا بالتشدد في التشيع قبل أن يعم التشيع إيران؛ وقد روى ياقوت في ذلك حكاية ظريفة قال:
(ومن ظريف ما يحكى أنه ولّيَ عليهم وال، وكان سنياً متشدداً، فبلغه عنهم أنهم لبغضهم الصحابة الكرام لا يوجد فيهم من اسمه أبو بكر قط ولا عمر. فجمعهم يوماً وقال لرؤسائهم: بلغني أنكم تبغضون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكم لبغضكم إياهم لا تسمون أولادكم بأسمائهم. وأنا أقسم بالله العظيم لئن لم تجيئوني برجل منكم اسمه أبو بكر أو عمر، ويثبت عندي أنه اسمه لافعلن بكم ولأصنعن. فاستمهلوه ثلاثة أيام، وفتشوا مدينتهم واجتهدوا فلم يروا إلا رجلاً صعلوكاً حافياً عارياً أحول، أقبح خلق الله منظراً، اسمه أبو بكر لأن أباه كان غريباً استوطنها فسماه بذلك، فجاءوا به فشتمهم وقال: جئتموني بأقبح خلق الله تتنادرون علي وأمر بصفعهم: فقال له بعض ظرفائهم: أيها الأمير اصنع ما شئت فان هواء قم لا يجيء منه من اسمه أبو بكر أحسن صورة من هذا. فغلبه الضحك وعفا عنهم.)
وقم تلي المشهد الرضوي بين مزارات الشيعة في إيران، بها حرم السيدة فاطمة بنت موسى الكاظم وأخت علي الرضا، ولذلك دفن فيها كثير من العلماء والصالحين والملوك. وقد روي الشيعة فيها عن جعفر الصادق: ألا إن الله حرماً وهو مكة. ألا إن لرسول الله حرماً وهو المدينة. ألا إن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم ولدي من بعدي قم. ألا إن قم الكوفة الصغيرة. ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم (تقضي فيها امرأة هي من ولدي واسمها فاطمة بنت موسى. ويدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم) اهـ
لما اقتربنا من المدينة رأينا قبة المعصومة أخت الرضا تبص في الهواء في حلتها الذهبية. ولما دخلنا المدينة على مخفر الشرطة فرأوا جوازات السفر. وقال سائق السيارة لشرطي، هذان من المستشرقين يريدان زيارة الحرم فاصحبهما. فسار الشرطي أمامنا في رحبة(84/51)
تملؤها أنقاض دور مهدمة، وبصرنا بنهر صغير سريع الجرية. قال الشرطي: طغا الماء على المدينة منذ أشهر فخرب مئات من دورها. ثم عبرنا الماء على خشبات ممدودة عليه فرأينا ماء ضحضاحاً يخوض فيه الناس والدواب. وسرنا في شارع به دكاكين وفنادق صغيرة، فانتهينا إلى باب المسجد.
رأينا صحناً رحباً ينتهي إلى بناء عال مقبب. ولقينا شيخ فتقدمنا فدخلنا إلى مرقد السيدة فاطمة، وهو ضريح كبير عليه سياج من الفضة كثير الحلي. فوقف الشيخ يدعو بالعربية دعاء طويلاً ذكر فيه الأئمة العلويين. ثم ملنا ذات اليسار إلى حجرة بها قبر كبير مربع لا سياج له ولا زينة، قال هذا قبر الشاه عباس، ثم ولجنا باباً إلى حجرة أخرى بها قبران أحدهما للشاه حسن آخر الصفويين، والآخر للشاه طهماسب، فيما أذكر، فهؤلاء ثلاثة من الملوك الصفويين دفنوا في جوار المعصومة. ثم خرجنا إلى الصحن فرأينا حجرات فيها قبور لملوك القاجاريين وبنيهم. رأينا فيها قبر محمد قارجار وفتحعلي شاه وعليهما صفيحتان من المرمر الشفاف عليهما صور ملائكة ذات أجنحة، وعلى قبر فتحعلي صورته منحوتة في المرمر. وقد رأينا من قبل في النجف الأشرف في مسجد الإمام على قبرا آخر للقاجاريين على هذه الشاكلة.
ولست أعرف في القبور الإسلامية قبوراً عليها صور غير هذه القبور. وسرنا الى يسار الداخل إلى الصحن فإذا باب يفضي الى صحن آخر فسيح: وهذا المسجد معهد للدراسة الدينية يقيم به الطلاب.
قال الشرطي وهو يحدثنا: في قم أربعة وأربعون وأربعمائة وأربعة آلاف من بني الأئمة الطاهرين قتلهم الظالمون
ركبنا السيارة والساعة ثلاث وعشر نسير صوب الجنوب نؤم أصبهان
وفي المقال الآتي حديث اصفهان الرائعة الجميلة
(يتبع) عبد الوهاب عزام
استدراك
1 - نسيت أن أذكر في حديثي عن مدينة المشهد أني زرت فيها الشيخ الكبير بهاء الدين(84/52)
العاملي الهمداني أحد أعلام المسلمين في القرن الحادي عشر وصاحب المؤلفات الكثيرة في التفسير وألف بها كتاب الكشكول وقال فيها:
يا مصر سقيالك من جنة ... قطوفها يانعة دانية
ترابها كالتبر في لطفه ... وماؤها كالفضة الصافية الخ
توفي بأصفهان سنة إحدى وثلاثين وألف، ونقل إلى المشهد فدفن بها في داره. وقبره اليوم في حجرة في السوق قريبة من أحد أبواب مسجد الإمام الرضا
2 - كان طبيب قافلتنا في الذهاب من طهران إلى المشهد والأياب، الطبيب الحاذق نجم آبادي، وقد عني بي وبغيري ممن توعكوا في السفر. فكان حقاً على أن أذكره بالثناء، وقد جاء إلي ونحن بنيسابور عند قبر الخيام فقال أكتب لي في دفتري تذكاراً. فكتبت:
قد عراني على الطريق سقام ... ولنعم الطبيب نجم آبادي
قد نعمنا بخلقه ودواء ... وشكرنا له جميل الأيادي
عزام(84/53)
صورة شتوية
إلى بائعة شوك. . .
للأستاذ أنور شاؤل
ألْبرْدُ يَلْذَعُ وَجْنَتَيْكِ وَسَاعِدَيْكِ الْعَارَيَيْنْ
وَالْحَقْلُ أَقْفَرُ لاَ رَفِيقَ يُزيلُ عَنْكِ الْغُمتيْنْ
إلا الطُّيُورُ مُرَفْرِفَاتٍ حًوماً في الْجانَبَيْنْ
لَوْ تَسْتَطيِعُ بمنِقْرٍ دَفَعتْ أذَاكِ وَمخْلبينْ
وَحَمَتْ حِمَاكِ بُمْقلَتَيْنْ
الزَّمْهَرِيرُ هُوَ اْلأليفُ يَهُبُّ لاَ رِيحُ الصَّبَا
وَخَزَاتُهُ فَوْق السُّهُوِل وَفَوْقَ هَامَاتِ الرُّبى
تَنْسَابُ في بُرْدِ الضُّحى أَفْعَى وَتَلْسَعُ عَقْرَبَا
رِفْقاً بِحُسْنِكِ يَا صَبيَّةُ وَاحْذَري أَنْ يَنْضَبَا
رِفَقاً مُخَضَّبَة الْيَدَيْنْ
إنْ كَانَ ظَهْرُكِ خَاضِعاً لِعَناَءِ مَا حَمَّلْتِهِ
أوْ كَانَ عُنْقُكِ طَائِعاً رَهْناً بِمَا كَبلْتِهِ
فَاْلَقلْبُ أنِّى يَسْتَريحُ لِما بهِ عَللتِهِ
وَالْفِكرُ عَنْ آماله وَرُؤاهُ أني يلتهي
يًا مَنْ تَطيلً النظرتينْ؟
أَلُّشوكُ يًدْمى رَاحَتَيْكِ فَلاَ يرِقُّ وَلاَ يَلِينْ
وَغَداً يَزُفُّ النَّارَ تَحْمى في الليَالي إلآخرينْ
هُمْ يَدْفَؤُونَ وَأَنْتِ مِنْ قُرِّ الشِّتاَ تَتَضوَّرينْ
تَشْقَيْنَ أَنْتِ لكَيْ تَزيدِي في رَفاَهِ الْمُسْعَديِنْ
فَتَقرُّ مِنْ بَلْوَاكِ عَيْنْ
قَطْرُ النَّدَى هَذَا عَلى الأْشْوَاكِ أَمْ دَمْعُ المُقَلْ
نَارُ الأَسى هَذِى التي تَخْفِينَ أمْ نَورُ الأمَلْ(84/54)
إني أَرَاكِ إلى المْدَيِنَةِ تَقْصدِينَ عَلَى عَجَلْ
فَحَذَارِ تَخْدَعُكِ الَبهَارِجُ في مَقاَلِ أوْ عَمَلْ
أوْ تُؤْمنينَ بِماَ تَرَيْنْ
بغداد
أنور شاؤل المحامي(84/55)
إلى الريف. . . . .
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
إلى الريف سِرْ بي يا قطارُ فان لي ... فؤاداً للقيا الريف لهفان صاديا
إلى الريف طِرْبي، فالليالي بغيضة ... بمصر إلى مَنْ بات حيرانَ شاكيا
إلى موطني الغالي، ومَهْد طفولتي ... ومَبْعث آمالي، ومأوى رجائيا
إلى مَشْرعٍ، أرْوَى فوادي نميرُه ... وأُسقيت من رقراقه الماء صافيا
إلى مَرْتعٍ، فيه صحابي ومِعْشري ... وأهلي وجيراني، ومجلى شبابيا
إلى (قريتي) حيث المروج شذية ... تفيض جمالاً باهرَ النور باهيَا
بريك عَجِّل، كي أُعيدَ نضارتي ... لديها، وأَقضي العيدَ جذلانَ لاهِيا
هنالك نُعمى الله فَيضٌ، فلا ترى ... فقيراً تشكي البؤسَ أو بات طاويا
ولا الشمسَ فيها بالضياء ضَنينةً ... ولا الماَء مَقْطوعاً، ولا النُّورَ خابيا
ولا الدفَء ممنوعاً، ولا البردَ قَاتِلاً، ... ولا الأفقَ مَحدوداً، ولا الطرفَ نابيَا
هناك الثرى المحبوبُ يَذكو عبيرهُ ... كأن الثرى المحبوبَ مَسَّ الغواليا
حقول زهاها الحُسْنُ طُرَّا فأسْفَرتْ ... تتيهُ به وَهْداً، وتزهَي روابيا
تَضم بِساطاً سندسَّيا، وجَنَّةً، ... ومطبوعَ حُسْنٍ فاتِن اللُّب سابِيَا
أيا (قريتي) هذا وفائي أصوغه ... لديك ثناءً خالد القول باقيا
إذا امتدح الناس المدائن وارتضَوْا ... حضارتَها، واستعذبوها مغانيا
فهأنذا أُعْلى مكانك في القُرى ... وأدْرَأُ بالأشعار عنك العواديَا
وأفْصح عن حُسْنِ بِوَادْيك كامنٍ ... ليُبْصر قَوْمي منه ما كان خافيَا
حياتُكِ أقصى ما تمنَّاه مُْتَرفٌ ... بمصر إذا ما راح عن مصر ضاحيا
هدوء، وإشراق، وزرع، وجَدْول ... وأنسٌ إذا أمسى بك الذئب عاويا!
ألَيْسَتْ ذئابُ الوَحْش خَيْرً امَغبَّةً ... من الذئبِ إنْساناً لئيماً مُرائيا؟
أيا (قريتي) كم أشتهي أن أعيش في ... ظلالِك دَهْري هادئ البال راضيا!
ويا رُفقتي فيها، إذا شَطتِ النوى ... وأصبحتمُ تَسْتَبعْدُون التلاقيا
فهأنذا أدنو بقلبي وخاطري ... وهاهي ذي روحي تؤدِّي الجوازيا(84/56)
إن أرتحلْ عنكم إلى دار غُربتي ... فما زالَ قلبي حافظ العهد راعِيَا
محمد يوسف المحجوب
مدرس بالأوقاف الملكية(84/57)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
6 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
لهنري هاين صفحة قيمة يقارن فيها بين مذاهب هؤلاء الثلاثة، ويذكر ما لهم من تأثير في الحركة الفكرية، وكأنه يجد أن الرسالات التي بشروا بها لم تكن تنطق إلا عن رسالة واحدة هي رسالة الكمال والمثل الأعلى. يقول:
(لا نجد - عند كانت - إلا كتاباً مسطوراً. أما عند - فيخت - فنحن نتجرد من الكتاب ونرى أنفسنا إزاء رجل جبار قد اتحدت إرادته وفكرته حتى صارتا قطعة واحدة، كنت أقارن بين نابوليون وفيخت، وهما متفقان مزاجاً، وظهورهما في قومهما متشابه من جميع الوجوه، كلاهما يمثل سلطته (الذاتية) حيث لا نرى الفكرة إلا مقرونة بالعمل. ولكن هذه المبالغة في الإرادة والاعتماد على الذات جعلت عملها سريع الانهيار، فمذهب - فيخت - العملي يشبه إمبراطورية ذلك العظيم، تلك الإمبراطورية التي لم تكد تظهر حتى تصدى لها الزوال فأصبحت كأن لم تغنَ بالأمس. ولكن ثورة (نابليون) لا تزال تسري في عروق أوربا، وهكذا كان شأن فلسفة (فيخت) فإن مذهبه قد انهار. ولكن النفوس والأفكار لا تزال - من بعده - مضطربة حائرة
جاء (مذهبه في المثل الأعلى) خطيئة كبيرة في مجموع فلسفته. ترى في كل جزء من أجزائها استقلالاً سائداً وإرادة واسعة وحرية بعيدة، وتحس بشيء يسيطر على عقول الفتيان.
ومذهب (فيخت) في (الذاتية) كان يلائم خلقه الحديدي، ومثل هذا المذهب القوي لا يلائم غير صاحب هذا الخلق الجبار. ولا ننسى نصيب (شيلنج) فقد كان علماً من أعلام الفلسفة الألمانية. نظر إلى الطبيعة نظرة سلم وأحب أن يعلن الهدنة بينها وبين النفس، وأراد أن يجمع بينهما، فأحيا الفلسفة القديمة التي جاء بها اليونان الأقدمون قبل سقراط. ولكنه استسلم كثيراً لسلطان الخيال، ولم يخاطب العقل كثيراً فتضعضعت فلسفته تحت مطرقة العقل، فجاء (هيجل) وتبوأ مقعد الفلسفة، فاعتزل (شيلنج) ونزل في (مونيخ) وهناك رأيته يعيش هائماً كالشبح، بعينين غشيتهما صفرة، ووجه ذليل كأنه صورة شقية لمدينة خربة مهجورة)(84/58)
1770 - 1831
حياته
ولد (هيجل) في (استتجار) وأكب في بدء نشأته على اللاهوت كزميله من قبل، فقضى خمسة أعوام في جامعة (توبنج) حيث تعرف فيها الى (شيلنج) ونشأت بينهما صداقة متينة. . . وبينا أعوام يركب مركب الحيرة من دنياه مات أخوه؛ فأحيا ما ورثه منه في نفسه شيئاً من الأمل الذي كاد ينطفئ بعد إيماض. فعاد الى (ابنا) حيث التقى للمرة الثانية (بشيلنج) وأخرج معه المجلة الفلسفية. ولم يكن هيجل حتى ذلك الحين ليطمع في أكثر مما بلغ أو يمد عنقه الى أكثر مما نال، ولكن عبقرية هيجل أخذت تميط اللثام عن وجهها وتدرج بدون استحياء، وظهرت براعته وحرية تفكيره في المقالات التي حبرها للذود عن أراء زميليه، وكأن الحظ أراد أن يواتيه مرة أخرى، فترك (شيلنج) منبر الجامعة، فاتسع المجال لهيجل لإبداء قوته وإظهار مقدرته؛ فعجل ذلك في تعيينه أستاذاً. وفي عام 1806 حين كان المدفع يلعلع في (ابنا) أنجز الفيلسوف كتابه
' الذي يحتوي على جميع نظراته الفلسفية. وازاء هذه الضربات التي نزلت ببلاده، وقف وقفة المتأمل ونظر إليها والى عللها نظر الفيلسوف. وقد كتب الى أحد أصدقائه هذه الرسالة. . (قد سر نفسي ما علمته عنك بأنك عازم على قضاء الشتاء مستسلماً الى العزلة والفلسفة، وقد تحب الفلسفة العزلة الهادئة؛ ولكنها مع ذلك لا تحتاج الى أن تكره المجتمع أو أن تفر من أعمال الناس. . وأنت، أنت معير انتباهك لتاريخ اليوم، وفي الحق لن تجد أبلغ منه ولا أوعى، هو يريك أن الحضارة لا بد غالبة على البربرية، وأن العقل الذي يفر سوف يقهر الفطنة المسكينة التي لا تفكر، العلم هو حصننا المنيع. . . يعلمنا ألا نبقى فاتحين أفواهنا كالمتثائبين أمام الحوادث، لا نجعلها وليدة مصادقة غريبة أو ابنة براعة رجل واحد، ولا أن نقيد حظ نصر مملكة بربوة كان يجب عليها امتلاكها، أو بأخرى أهملت نسياناً، ولا أن نرسل الأنين حزناً وراء انتصارات قضى عليها جور الحظ. إن ثورة فرنسا الدامية قد أنقذت الشعب الفرنسي من أوضاع شوهت النفس الإنسانية وخنقت أراوح الشعوب كما خنقت روح هذا الشعب، كل فرنسي ألف أن يتمثل مصرعه أمامه،(84/59)
وهذه الأوضاع والتقاليد التي يحمل عليها الناس حملاً قد لقيت مصرعها في فرنسا، وهذا ما يكتب روح العظمة لهذا الشعب. . . . .)
وليس التحليل النفسي موضوع هذا الكتاب، وإنما هو يصف مراحل النفس في أصل نشأتها وحياتها حتى اليوم الذي يتيقظ فيها كل شعورها ووعيها، إذ تشعر بذاتها أنها قادرة على تحقيق (العلم المطلق) وبهذا يمكننا أن ندعوه درس أطوار النفس البشرية، وهذا الدرس يعمل بواسطة نظرياته المنطقية على إنماء الحركة البشرية وعلى إعداد حركة العلم المطلق الذي تبدو بوادره
وأخيراً يعد محاولات وتجارب أخفقت في ميدان الحياة أهاب به الحظ فدعي الى (برلين) الى المنبر الذي كان يشغله (فيخت) فلبث فيه حتى نزل به الوباء الذي اجتاحه فيمن اجتاح عام 1831. وهو خلال تدريسه قد قام بأسفار ورحلات صغيرة تدل عليها رسائله الخاصة إلى امرأته اللطيفة ذات الروح الرقيقة التي كانت تعبد زوجها وتعجب به وتحترق، ولكنها لا تفهمه. زار المناطق المنخفضة، ونزل في (فينا) وهبط (باريس) ضيفاً على الفيلسوف الفرنسي (فيكتور كوزان) وقد كان منزله في برلين محط النازلين من فلاسفة ولاهوتيين وأدباء على اختلاف نحلهم ومللهم، ورجال لدولة الذين يهرعون إلى سماع حكمه ودرره، وكتب في هذه الفترة كتابه (المنطق) و (معلمة فلسفية) وبعض المحاضرات التي كان يؤثر بها طلابه في الجامعة
أسلوبه
على أن أسلوب هيجل قد جاء مثلاً قاسياً في التعقيد والإبهام اللذين اتصف بهما، فهو صعب صعب لا يقدر على إدراك أحاجيه ومراميه إلا النبيه المفكر، وهو - برغم هذا كان أعظم مفكر ألماني يجهر بآرائه، وينزل بها صريحة إلى قرائه؛ تتلمسه فتجده مظلماً، وتستوضحه فتراه مبهما، أما هيجل الأديب فانك ملاقيه واضحاً في تضاعيف رسالاته، أما هيجل الفيلسوف فهو ذو أسلوب وحشي، تسنح له فكرة فيزجيها إلى الناس كما يريد بأسلوبه. ولقد تلمح في ثنايا سطوره كلمة أو عبارة لامعة فتعجب من هذا وتود لو يدوم! وهو أشد استرسالاً - من كانت - إلى المبهمات، لأن - كانت - تكاد تكون عباراته محدودة في مواطن معدودة، أما أسلوب هيجل فهو يحالفه - أني أشرفت عليه - , اشرف(84/60)
عليك، هذا الإبهام وهذا التعقيد. . .
فلسفته
إن المتعمق في فلسفة (هيجل) يجد أن جوهرها لا يخلو من أجزاء مقتبسة من (شيلنج) و (سبينوزا)، وهيجل هو القائل عن (سبينواز) (لا ينقص هذا الرجل إلا أن يعتبر الجوهر الإلهي روحاً طاهراً , أن يوحد هذا الروح مع الروح الإنساني بدلاً من أن يرى أن الروح الإنساني هو عنصر جاء على شكل الجوهر الإلهي ولكنه مجرد من الحرية والشخصية) ونظر (هيجل) إلى الواحد المطلق الذي افترضه (شيلنج) فراعه هذا الواحد الذي امتزج فيه ضدان لا يجتمعان بوساطة قانون بارد!. فمر (هيجل) بمادة سبينوزا والواحد المطلق؛ وأناب مناب هاتين المادتين (الفكر) , الماضي في حركته التفكيرية. . وقد تبدو هذه الحركة في ظاهرها حرة اسمية، ولكنها - في الحقيقة - حركة جديدة تعمل على بناء الكون بناء جديداً. ولم يكن السكون المطلق عاملاً من عوامل هذه الحياة، ولكن هي الفعالية، قانون الحياة الأسمى. وهكذا يحل التبدل المستمر محل الثبات المستقر
وحركة الفكر تتمشى على نمط واحد، وكل خطوة يخطوها الفكر إلى الأمام تتألف من ثلاث حالات متتالية. كل ما هو موجود يكتنفه حد من ذاته، والوجود يحتوي على العدم. وجواز الوجود إلى العدم والعدم إلى الوجود إنما هو التحول. فالوجود والعدم والتحول إنما هي قانون الأشياء بدون استثناء، فلا يحدث شيء ولا يترقى إلا تبعاً لهذه الأطوار. وقد شبهوا مذهب (هيجل) بكنيسة مشيدة على الطراز القوطي، يرى الناظر في كل جزء منها رسم البناء مصغراً؛ يريدون أن الفروع المشتقة من فلسفته صور مصغرة عن الأصول
ها هو ذا الفكر الماضي في حركته التفكيرية يظهر خطره ويبدو أثره في الكون من مهد الحياة الناقصة الى عهد الحياة الكاملة، الى عصر الإنسان، وهو خلال ذلك يمر بأدوار الكمال، وفي كل دور يتبدل شأنه ويقوى سلطانه وينفسح مداه. كل طور يصعد إليه هو أسمى من الطور الذي تخطاه، ولكن السمو كل السمو لا يتجلى إلا في المفكر المبدع. وكل خلق - جماداً كان أو ذا روح - مخلوق لذاته، لا يتزحزح عما هو عليه، ولا يجوز من طوره الى طور غيره. وفي بعض مواطن ترى (هيجل) يرذل مذهب القائلين بالاستحالة. وكل كائن - عنده - يمثل صورة متفاوتة الكمال ملائمة لفكرة الكائن. أو قل (هدفاً) يرقى(84/61)
إليه في سيره نحو الهيئة الإنسانية، حيث يتم له لأول مرة أن يكمل ويتم. والطبيعة عنده ليست بصورة كاملة، أن هي إلا (مسودة) في كتاب الخليقة، لأن هيجل لا يرى فيها إلا مجموعة متناقضات لا تتوافق ولا تلتئم، تدل على عجز ظاهر وعلى اضطراب في المنطق. وقد أعطانا صورة جديدة عن الكون كما يود أن يكون. فهو في نظراته الفلكية مثلاً لا يبحث كثيراً في هذا الفضاء اللامتناهي. وإنما هو يرى الأرض - نظرياً - قلب الوجود، ويرى النجوم العالقة بالسماء كالبثور الطافحة على جلد الإنسان
(يتبع)
خليل هنداوي(84/62)
القصص
إبليس يعشق
للأديب حسين شوقي
كان إبليس يقيم في مصيف (دوفيل)، ولم تمض أيام معدودة على قدومه إليها حتى كان من أثر وجوده بها عدة حودث انتحار، وقعت بين رواد قاعتي (الروليت) و (البكارا). .
ولكن هبطت عليه ذات يوم برقية من مجلس الشياطين الأعلى المنعقد في (بروكن) تعدوه الى الذهاب من فروه إلى قرية س. . . في جبال الألب ليقضي هناك على أسرة صغيرة تعيش في سرور وهناء لا حد لهما، لأن الشياطين كما تعلم لا يطيقون رؤية بني البشر سعداء. . بلغ إبليس القرية، ولم يكد يصل إليها حتى قصد الدار التي تسكنها هذه الأسرة السعيدة لينتهي من أمرها في سرعة، ثم يعود على عجل إلى مصيفه في (دوفيل) حيث كان يتلذذ من إلحاق الأذى بلاعبي الورق. .
كانت هذه الأسرة السعيدة مؤلفة من ثلاثة: الزوج، وهو شاب جميل في الخامسة والعشرين والزوجة، وهي فتاة جميلة أيضاً في سن العشرين، والولد، وهو طفل لطيف في الأشهر الأولى من عمره. .
وكانت هذه الأسرة تسكن منزلاً صغيراً جميلاً شيد على رابية تشرف عليها جبال الألب الشاهقة وكأنها أسوار رفعتها يد العناية لحماية القرى المجاورة وسكانها الهادئين، من حوادث الطبيعة العظيمة. .
ذهب إبليس يزو الأسرة السعيدة في زي بائع أم متجول، كي يتعرف موضع عمله، فلم يجد الزوج إذ كان في عمله بالحقل، ولكنه وجد الزوجة في الحديقة تدلل طفلها، وقد ضمته إلى صدرها. حقاً! إن السعادة كانت بادية بأجلى مظاهرها على وجه الزوجة، ولكنها اعتذرت في لطف عن عدم الشراء، قم قدمت إليه قدحاً من النبيذ ليرفه به عن نفسه من عناء المسير، فشربه إبليس ثم شكر الزوجة وانصرف وهو حانق على مجلس الشياطين الأعلى الذي أزعجه في مصيفه (بدوفيل) لأمر تافه مثل هذا، لأن القضاء على سعادة هذه الأسرة بسيط جداً، فقد يكفي إعطاء الطفل جرعة من جراثيم الدفتريا، ليقضي عليه فوراً، فتصبح الأسرة في يأس ونكد(84/63)
كم واجه إبليس حوادث أدق في (دوفيل)! إنه ما يزال يذكر مع الغبطة حادث البارونة س. . التي وسوس إليها أن تبيع حليها لتعطي ثمنها إلى عشيقها كي يخسر هذه النقود على المائدة الخضراء أولاً فأولاً، ولما نفذت الحلي وهدد العشيق البارونة بالهجر، لجأت إلى تزوير إمضاء وجها على شيك، ولكن اكتشف التزوير فاضطرت البارونة أن تنتحر اتقاء للفضيحة والعار
في مساء يوم زيارته لمنزل تلك الأسرة، اقتنص إبليس بضعة جراثيم دفتريا فوضعها في قنينة ثم حفظها في جيبه. . ثم ذهب إبليس في اليوم التالي يزور الزوجة، وقد تزيا في هذه المرة بزي بائع حرائر، ولن لم يكد يقترب من المنزل حتى سمع صوتاً جميلاً ينبعث من الحديقة لم يسمع أعذب منه منذ خروجه من الفردوس، فوقف يصغي إليه. . ثم تقدم خطوات. . . فشاهد الزوجة الجميلة مكبة على طفلها وهو راقد في مهده تناغيه. تأثر إبليس بجمال هذا النظر تأثراً شديداً، فألقى القنينة بعيداً وانسحب كي لا يعكر صفاء هذه الأم الجميلة. .
أحس إبليس في طريق عودته الى الفندق بسعادة عميقة تغمر نفسه، فخبأ وجهه بين يديه حتى لا يراه شيطان آخر على هذه الحالة، فيحاول أن يقضي على سعادته!
يا للعجب! إن إبليس عاشق! إنها حقاً نهاية النهايات!
أخذ إبليس طوال الليل يفكر في حاله، لا يدري ما يفعل. . فكرأولاً في قتل الزوج ليتقدم بعد ذلك الى المحبوبة في صورة شاب جميل سري، ولكن تراءى له عندئذ المحبوبة سابحاً في الدموع على فقدها زوجها، فأقصى عنه تلك الصورة القاسية المنطوية على الحقد والأنانية، لأن إبليس لم يعد شريراً وقد طهر الحب قلبه. .
وللمرة الأولى، أحس إبليس انه بائس، أشد بؤساً من متسولي الهند. . .
وللمرة الأولى أيضاً، بكى إبليس، وكانت دموعه هذه المرة دموعاُ بشرية بيضاء على غير العادة، إذ كانت عيونه قبل ذلك تفرز سائلاً أسود مثل نفسه السوداء. . .
ولما لم يجد إبليس وسيلة للاستيلاء على المحبوبة دون تكدير صفوها، قرر أن ينتحر. .
غادر إبليس الفندق وسط الظلام، ثم ذهب فتسلق أعلى قمة في الجبل وقفز منها الى السماء، فاحترق جسمه من السرعة التي انطلق بها في الجو. . .(84/64)
وهكذا قضى إبليس نحبه حاملاً معه أول وآخر حب له!
ولكن هذا لم يمنع المراصد الفلكية أن تذكر في تقريرها، في اليوم التالي، أن شهاباً هوى بجهة قرية س. . . في جبال الألب، وهو شهاب يجهله عالم الفلك للآن فاحدث سقوطه نوراً ساطعاً
كرمة ابن هانىء
حسين شوقي(84/65)
من أقاصيص الجاهلية
2 - حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
(عود علي بدء)
قتل كليب فعمت الملأ فتنة عمياء، وهبت عليهم عاصفة هوجاء، ونزع الشيطان بين العشيرتين
هنا قلوب تقطر حزناً، وحزناً يدفع إلى اليأس وإلى الموت، وهنا نفوس تتواثب إلى الانتقام، وتستعذب في سبيله الحمام. وهناك قلوب تجب من هول ما أقدمت عليه، وتستشعر الندم لمقتل كليب، تهمس به في غسق الليل، وتخفيه نهاراً، ضنا بالكرامة وأنفة واستكباراً، وهناك فتية يحترقون للقتال، ولكن لا يثقون بنصرة الرجال، ويخشون أن يتخاذل النصراء عند نزول الخطب ويستخذي الرجال عند اشتداد الكرب، وبين هؤلاء وهؤلاء كهول وشيوخ يسيرون في الليلة الظلماء على قبس الحكمة ونور الأناة، ويتابعون السير في مدلهم الحوادث، يبتغون مخرجاً من الكوارث. فعقدوا عن الحرب في صمت ووجوم، ولم يعينوا ظالماً على مظلوم، ومن هاماتهم الفند الزماني، والحرث بن عباد فارس النعامة
ولكن طغت على القوم ثورة الغضب. وانساقوا إلى الحرب ورداً يؤزهم الشيطان أزّا
ولم يطلب لبني شيبان المقام بأرض فيها مذلة، ولهم فيها ذلة، فارتحلوا ونزلوا (بماء النهى) ولحقت جليلة بأبيها مرة ابن ذهل. وعلى رأس بني شيبان الحرث بن مرة أخو جساس وعلى رأس بني ثعلب المهلهل بن ربيعة أخو كليب واستحر القتال بينهم بماء النهى ودارت الدائرة على بني شيبان، وكانت الغلبة لتغلب؛
ولما أصبح القوم على مدرجة من سيل الحوادث، قال قائل منهم:
(هلموا إلى الكهنة نستلهمهم الصواب، علهم يكشفون الكرب أو يحجبون البلاء) وقال آخر: (ما للكهنة وهذه الكروب؟ إنما يلوون ألسنتهم بالقول كأنما نزل عليهم من السماء، فان تدبرت في قولهم لم تفهم منه شيئاً محدوداً، ولا رأياً مقصوداً، وإن فهمت فقد تفهم من القول معنيين لا تدري أيهما تأخذ وأيهما تدع.)(84/66)
واستقروا على أن يستشيروا الكهنة والكهنة فان عجزوا عن هديهم اعتصموا بعجزهم عن لوموبعثوا إلى الكهنة رسولاً منهم
وعاد الرسول يتلو عليهم قول الكهنة (يا للمحنة ويا للشقاء! ريح نكباء، وكرب وبلاء، وحرب ضروس، وسيوف تطيح بالرءوس، والقوم أحرص على الموت من حرص الموت على النفوس. قتل كليب ولابد مما كان، والرأي عند الفوارس لا عند الكهان)
- (أفهمتم من قولهم شيئاُ يا قوم؟)
- (أنهم يأمرون بالقتال!)
- (أنهم لا يأمرون بالقتال!)
ومضى القوم في صخب ولجب، وقاموا إلى المهلهل بن ربيعة أخي كليب يعجمون عوده، ويغمزون قناته. فإذا هو في فريق من أهله منهم عتاب بن سعيد بن زهير، وكعب بن زهير. والقوم بين ثائر يدعو إلى القتال وينفخ في ناره، وعاقل يجنح إلى السلام ويدعو الى داره، وفيهم من دسه بنو بكر، ليتنسم الأخبار، ويكشف عن النوايا الستار
وقام المهلهل على شرف واتكأ على رمحه وقال:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إن أنت خليتها فيمن يخليها
كليب أي فتى عز ومكرمة ... تحت السفاسف إذ يعلوك ساقيها
نعى النعاة كليباً لي فقلت لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردى في أعنتها ... زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلقى أسنتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
نروي الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
وكأن المهلهل لم يغب عنه أن في الجمع الذي انتظم عنده أفراداً من بكر يتجسسون، فقذفهم بقوله:
لا أصلح الله منا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
فألقموا حجراُ وقاموا إلى أهلهم يتميزون. وبقي التغلبيون، فقال لهم المهلهل: (يا قوم! أما(84/67)
الحرب فانه لا يقف في سبيلي إليها خوف أو جزع، ولا يتكاءدني في طريقي إليها خور أو فزع، والقوم قد لجوا في عتو ونفور، وسأخسف بهم الأرض فإذا هي تمور. فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً، قال كبيرهم (إن المهلهل لا ينثني. والرأي عندي أن نبعث نفراً منا إلى بكر يعرضون عليهم. الفداء مشتطين فيه حتى لا يكون لبكر قبل بأدائه، ولا يجدوا سبيلاً إلى وفاءه، فان عجزوا - وسيعجزون - كان لنا في حربهم سبب ومعذرة) وابتلوا من بينهم ثلاثة بالسفارة إلى مرة بن ذهل ابن شيبان وهو أبو الحرث وأبو هام وأبو جساس وأبو جليلة.
قالوا له (إنكم أتيتم عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الأبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الاعذار اليكم، ونحن نعرض خلالاً أربعاً لكم فيها مخرج ولنا مقنع)
فقال مرة (وما هي؟) قالوا: (تحيى لنا كليباً! أو تدفع إلينا جساساً قاتله فنقتله. أو هماماً أخاه فانه كفء له، أو تمكنا من نفسك فان فيك وفاء من دمه) قال: (أما إحيائي كليباً فهذا ما لا يكون، وأما جاس فانه غلام طعن على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد احتوى عليه، وأما همام فانه لن يسلمه الى أبناؤه العشرة، ولا أخوته العشرة، ولا أبناء أخوته العشرة أولئك جميعاً لا يدفعون به إليّ ولا إليكم، وهم فرسان قومهم لتقتلوه بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غداً فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت ولكن لكم عدني خصلتان: أما إحداهما فهؤلاء بني الباقون فعلقوا في عنق أيهم شئتم نِسْعَةً فانطلقوا به الى رجالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلاً من بني وائل)
قالوا: (لاّ) بملء أفواههم , وأصروا واستكبروا استكباراً
وارحمتاه لهذا الشيخ المنكود مرة بن ذهل، هذه ابنته جليلة قد قتل زوجها فعادت إليه مكلومة الفؤاد مهيضة الجناح، وهذا ابنه جساس قد قتل زوج أخته وفر لا يعلم له مستقر، وهذا ابنه الحرث بن مرة فر من الموت في وقعة النهي فأدركه الموت في وقعة الذنائب إثر طعنة من كعب بن زهير، وهذا ابنه همام طلب للموت يوم عرض الفدية فضن به أبوه، وطلبه الموت يوم (واردات) فما استطاع أبوه للموت رداً(84/68)
وعزيز علي القوم أن يموت همام أبو العشرة وأخو العشرة وعم العشرة. ولقد أصاب موته الوتر الأرن من قلب المهلهل، والمهلهل قد علمت غليظ القلب مصدور، شديد البأس موتور، وقف عند همام وهو طريح تسيل دماؤه على الأرض وتصعد روحه الى السماء تشكو الى بارئها ظلم الإنسان للإنسان وقال: (والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز على فقداً منك)
وتحدث القوم عن موت همام، وعن نكبة أبي همام وقد ابيضت عيناه من الحزن، وقال الملأ: (أما لهذه الويلات من آخر؟ هذا المهلهل يقطر قلبه حزناً لقتل همام ولكنه يمضي في بغية واستئساده كأنما رءوس بكر زرع قد وكل بحصاده)
ولم تكن الحرب سجالاً بين الفريقين حتى اليوم، بل كانت الغلبة لتغلب، أما غداً فسيكون لها شأن آخر
أخرجها: احمد الطاهر(84/69)
البريد الأدبي
ضوء جديد على حياة موياسان
منذ بضعة أعوام احتفل في فرنسا بتخليد ذكرى الكاتب القصصي الأشهر جي دي موباسان، وأقيم له نصب تذكاري في بلدة مسقط رأسه ميرومزنل؛ ونوه وزير المعارف في خطابه الذي ألقاه يومئذ بما لقيه موباسان أثناء حياته وبعد وفاته من النكران، وبما يجب لفنه وتراثه الرائع على الجيل الفتي من تقدير وعرفان، واليوم تصدر طبعة جديدة مصورة لتراث موباسان له يشترك في تصويرها بول فولكي وشاس لابورد وبونفليس من أعظم مصوري فرنسا. وقد صدرت منها الأجزاء الثلاثة الأولى بعناية الكاتب رينه ودمزنل مترجم موباسان مصورة بدراسة جديدة ضافية للنواحي البارزة في حياة القصصي الأكبر وفنه، وفيه يهدم دومزنل نظرية قديمة عن الأثر الذي تركه مرض موباسان العقلي في أعوامه الأخيرة في بعض قصصه، ولا سيما قصة (لاهورل) التي قيل عنها إنها دائماً تمثل مرحلة الاضطراب العقلي لموباسان؛ فيقول لنا دومزنل إن المرض شيء والقصة شيء آخر وإن موضوعها قد أعطى لموباسان من صديقه ليون هنك، وإن ما قيل بعد ذلك من أنها كتبت بقلم مجنون أو مخبول العقل إنما هو افتراء محض، ويستدل دومزنل بذلك على ما رواه الكاتب الإنكليزي فرنك هاريس في كتابه (حياتي وحوداث غرامي) وقد كان صديقاً حميماً لموباسان منذ سنة 1880، ويتفق هاريس مع بعض أولئك الذين لقوا موباسان في أن مظهره لم يكن يدل على عبقرية أو مواهب ممتازة، وأنه كان في مجالسه الأدبية متحفظاً، ولما كتب (لاهورل) أرسل إلى فرنك هاريس يقول: (سيقول معظم النقدة إنني قد جننت، ولكن إياك أن تخدع بأقوالهم، فأنني متمتع بكامل صحتي وعقلي) فرد عليه هاريس في محادثة جرت بينهما بأن الروع الذي أثارته هذه القصة في نفسه (اي موباسان) لابد أن يكون قد أثر في أعصابه، فأكد له موباسان أنه مخطئ. ولكن هاريس يقص إلى جانب ذلك أن موباسان كان مفرطاً في مطارداته الغرامية، وأنه كان دائماً أبداً صريع الغانيات لا يكاد يفارقهن. والواقع أن موباسان كان عملاقاً جباراً يفر في كل شيء في العمل وفي اللهو؛ وما يكتبه عنه هاريس في كتابه يكشف عن حقائق وسوآت كثيرة في حياته وخلاله الشخصية لم يتناولها مترجموه وأصدقاؤه الذين كتبوا عنه(84/70)
وقد أثار ظهور هذه الطبعة الجديدة لتراث القصصي الأشهر اهتماماً عظيماً في دوائر الأدب والفن
ملك النور
سبق أن ذكرنا أن بعثة علمية سافرت الى الهند لتبحث عن أصل النور (الفجر)، لما هو ذائع من أن أصل النور يرجع الى بعض القبائل والأجناس الهندية التي تعيش على ضفاف نهر الكنج، ولما هو مقرر من أن معظم اللهجات التي يتكلمها النور تحتوي على كثير من الألفاظ الهندية. ونضيف هنا أن ملك النور - لأن للنور ملكا غير متوج - قرر أخيراً أن يسير الى ضفاف الكنج في موكبه الملوكي ليقف على المباحث التي ستجرى عن أصول النور وأحوالهم. وهذا الملك أو الزعيم هو نوري رومان يدعى ميشيل كفيك، ومقره على مقربة من مدينة شرنوفتر. وقد نظم ميشيل كفيك موكبه الملوكي في ظاهر شرنوفتر، ونصب خيمته المحلاة بالذهب، وأخرج جميع عرباته وخيوله، وحوله أقطاب النور يرفلون في ثيابهم المزركشة، ويعتبر ميشيل كفيك ملكاً على جميع النور في العالم، وعددهم يبلغ زهاء أربعة عشر مليوناً، وقد انتخب للعرش هذا العام في مؤتمر عقد في بعض غابات بولونيا؛ وهو ينوي أن يسير بركبه الى ضفاف الكنج، وينشيء هناك (دولة نورية)، ومن الطريف أن نعرف أنه توجد بالفعل مجلة نورية في روسيا لها صفة رسمية وتسمى (بيروبدجان)، وأن لها علائق رسمية بحكومة السوفيت. وقد حادث مكاتب جريدة الجورنال في بوخارست ملك النور، وسأله في شيء من التهم عما إذا كان يزمع بعد تأسيس دولته الجديدة أن تلتحق المملكة النورية بعصبة الأمم، فأجابه أنه سيعني منذ البداية بتحقيق هذه الغاية
كتب عن كليوباطرة
أصدرت الكاتبة الفرنسية المعروفة (مريام هاري) كتاباً عن (كليوباطرة) ملكة مصر التي عاصرت عصر هيرود الأكبر وعصر المسيح. ومن المعروف أن مريام هاري كتبت من قبل عدة فصول تقول فيها إن جثة ملكة مصر الحسناء توجد في الواقع في فرنسا، وإنها دفنت في باريس، في ناحية من متحف اللوفر؛ ذلك أنها اخذت ضمن ما أخذ الفرنسيون من(84/71)
الموميات والآثار المصرية، ووضعت هنالك في ناووس، واستمرت كذلك نحو ستين أو سبعين عاماً؛ ثم تغيرت رائحة الموميا ودب إليها العطب، فقررت إدارة المتحف أن تدفنها في ناحية من المتحف ونفذ هذا القرار بالفعل، ولكن مكان دفنها الحقيقي لم يعين ولم يعرف بعد. على أن رواية مريام هاري تفتقر إلى كثير من عناصر الإثبات، ولو أنها أثارت وقت اذاعتها كثيراً من الاهتمام. وتحاول مريام هاري في كتابها الجديد أن تعرض حياة كليوباترة الملكة المستبدة، والمرأة الحسناء الرائعة، التي ما زالت قصص غرامها، ولياليها الغرامية الخيالية ونزهاتها الشهيرة في النيل، مستقى لكثير من الفنانين والكتاب المحدثين
احتجاج غريب للناشرين الفرنسيين
ذكرنا في فرصة سابقة أن لجنة خاصة ألفت تحت إشراف وزارة المعارف الفرنسية للعمل على إصدار الطبعة الثانية من دائرة المعارف الفرنسة التي صدرت منذ نحو نصف قرن واضحت قديمة ناقصة. والمعروف أن هذه الطبعة الجديدة التي سيبدأ صدورها منذ هذا العام (سنة 1935) ستعرض للبيع بثمن معتدل يفي بتكاليف إخراجها فقط. وقد كان في ذلك ما يدعو للمديح والرضى ولكنه كان بالعكس مثار الاحتجاج والنقد. ذلك أن مسيو ارستيد كييه رئيس نقابة الناشرين ومديري الصحف والمجلات قد رفع إلى رئيس الوزارة الفرنسية مذكرة يحتج فيها باسم نقابته على ما قررته الحكومة من بيع دائرة المعارف للجمهور بثمن استثنائي باعتبار أنها مشروع علمي لم يثقل بنفقات أو ضرائب إضافية؛ ويقول مسيو كييه في مذكراته إن مثل هذا المشروع يعرض الناشرين الفرنسيين إلى منافسة غير عادية؛ ويطلب إلى رئيس الوزراء أن تصدر دائرة المعارف طبقاً للعرف العام وأن تباع طبقاً للظروف التجارية العامة، حتى لا يسيء ظهورها بهذه الصفة إلى مصالح الناشرين الفرنسيين
وفاة فنان شهير
توفي أخيراً لوسيان فوجير الفنان والمغني الشهير في عامه الثامن والثمانين. وقد لبث فوجير مدى نصف قرن في طليعة أساتذة الغناء في فرنسا، وبدأ حياته في مسرح (باثافلان) منذ سنة 1870، ثم تنقل في عدة مسارح حتى انتهى الى (الأوبرا كوميك) وذاعت شهرته(84/72)
عنئذ، وبرز بفنه وابتكاره؛ ووضع أناشيد وأغاني كثيرة كانت تلقي نجاحاً عظيماً. ومن غريب أمره أنه ظل حافظاً لقواه الفتية، ومواهبه الغنائية حتى آخر سني حياته؛ وكان في العام الماضي ما يزال يجذب الجماهير حيثما يغني
ذكرى علامة طبيعي
يتأهب أصدقاء الكاتب الطبيعي لوي ديبري للاحتفال هذا (العام سنة 1935) بمرور خمسين سنة على وفاته، وستقام بهذه المناسبة لوحة تذكارية في قريته (روفر). وقد توفي ديبري في عنفوان شبابه، في الثانية والعشرين، وفي ظروف مؤثرة، إذ توفي في سجنه حيث كان يقضي شهراً حكم به عليه من أجل كتابه الذي ألفه مع هنري فيفر وعنوانه (حول بزج الأجراس).
وقد كان لهذه القضية يومئذ ضجة كبيرة واحتج عليها أقطاب العصر مثل راول وجونكور ودوديه وكليمنصو وغيرهم
عنكبوت عجيب
بينما كان بعض العمال ينقبون في أحد البيوت القديمة في بلدة شومنيان هفان بالقرب من شنغاي في الصين، رأوا عنكبوتاً غريباً في شكله، عجيباً في تركيب جسمه، له وجه يشبه وجه الإنسان، رأسه عريض كبير، ووجهه يميل الى البياض، وله فوق عينيه حاجبات أسودان وأنف أسود وشفة بيضاء
وقد أرسل هذا العنكبوت الغريب الى معهد تعليم الشعب في شنغاي لعرضه على العلماء ليقولوا رأيهم فيه(84/73)
من روائع الشرق والغرب
مغرب الشمس في البحر
لأمير النثر الفرنسي (شاتو بريان)
من كتابه (عبقرية المسيحية)
بقلم أحمد حسن الزيات
كانت السفينة التي كنا نعبر بها المحيط إلى أمريكا فوق سوية الأرض اليبس؛ فلم يعد أمامنا مد الفضاء، غير طبقين من زرقة البحر وزرقة المساء! فكأنما كان نسيجاً أعده مصور فنان ليتلقى عليه آية إلهامه وإبداع فنه. وكان لون الماء قد ارتد إلى لون الزجاج المذوب؛ وقد سرت في الموج رعدة قوية جاءته من ناحية المغرب، مع أن الريح كانت تهب حينئذ من جهة المشرق، ثم ثارت من الشمال إلى الجنوب أمواج عالية، كانت تفتح في ثنايا أوديتها فُرجاً طويلة يقع النظر منها على صحاري المحيط. كانت هذه المناظر المنتقلة تختلف وجوها في كل لحظة: فتارة تكون سلاسل من الربى المخضرة، كأنها أخاديد الأحداث في مقبرة واسعة، وتارة تكون إرسالا من الموج تتراغى أعإليه فتحكى قطعاناً من الغنم البيض قد انتشرت في حقول الخَلنْج؛ وغالباً ما ينطبق الفضاء فلا ينطبق عليه تشبيه، فإذا ارتفعت موجة على متن المحيط، وانخفضت لجة فصارت كالساحل البعيد، ومر رَعيل من كلاب البحر في خط الأفق، انفتح الفضاء أمامنا فجأة. إنما كنا نتصور اتساع المدى وانفساح الطرف إذا ما تسحب على وجه البحر ضباب خفيف، فكأنما كان يزيد في سعة الافق، ويدفع في امتداد الجو!
آه! لشد ما كانت صور الأقيانوس في تلك الساعة مظهر عظمة ومثار حزن! ولله تلك الأحلام التي يلقيك فيها ويغمرك بها! سواء بايغال الخيال في بحار الشمال بين الصقيع والزوابع، أو بإرسائه في بحار الجنوب على جزر الرخاء والغبطة؟
كان غالباً ما يحدث أن نهب من النوم بعد وهن من الليل فنجلس على ظهره السفينة حيث لا نجد إلا ضابط النوبة وبعض البحارة يدخنون غلايينهم في سكون وصمت، وكان كل ما يقع في الأذن إذ ذاك إنما هو صوت السفينة تشق بحيزومها عباب المحيط، على حين كان(84/74)
شرار من النار يجري مع الزبد الأبيض على جانبي المركب. سبحانك اللهم!! لقد نقشت في كل شيء آي قدرتك، ولا سيما في أطباق اللجج وأعماق السموات: ملايين من النجوم تشع في القبة الزرقاء، وبدر ثم يتألق في كبد السماء، وبحر لًجى من غير ساحل ولا حد، ولا نهايةٌ في السماء وعلى الماء! أبداً ما هزت قلبي عظمتك بمثل ما هزته في هذه الليالي، وأنا معلق بين الكواكب والأقيانوس، فوق رأسي سعة لا تحد، وتحت قدمي سعة لا تقاس
أنا لست شيئاً، إنما أنا ناسك ساذج. ولطالما سمعت العلماء يجادلون في (الكائن الأول) فلم أفهم عنهم. ولكني لاحظت أن هذا الكائن المجهول يستعلن وجوده في قلب الإنسان كلما نظر في المشاهد العظمى للطبيعة
ففي ذات ليلة ساجية الجو هفافة الريح، وجدنا أنفسنا في تلك البحار الجميلة التي تنضح شواطئ (فرجينينا)، وكانت الشرُع كلها مطوية؛ وكنت أنا مشغولاً داخل السفينة حين سمعت الناقوس يدعو البحارة الى الصلاة، فأسرعت مع رفقاء السفر أمزج دعواتي بدعواتهم، وأضم صلاتي إلى صلواتهم. وكان الضباط والركاب قد أخذوا مواقفهم على كوثل السفينة، والقسيس في يده كتابه قد وقف من دونهم قليلاَ، والملاحون قد انتشروا على ظهر المركب. وكنا جميعاً واقفين ووجوهنا شطر قيدوم السفينة وهي ناظرة إلى المغرب. وكان قرص الشمس وهو على أهبة المغيب في الماء، يتراءى من خلال الجبال في وسط الفضاء، فكان يخيل إلي من نوسان كوثل السفينة أن الكوكب المضيء يغير أفقه في كل لحظة! وكانت قطع من السحاب قد انتثرت على غير نظام في المشرق، والبدر البازغ قد أخذ يرتفع بطيئاً في الأفق، وكانت بقية السماء صافية الأديم سافرة الوجه؛ وفي جهة الشمال انبعث من البحر إعصار يتألق بألوان المنشور الزجاجي كأنه عمود من البلور قامت عليه قبة السماء، فتألف منه ومن كوكب النهار وكوكب الليل مثلث باهر الجلالة!
إن الرجل الذي لا يدرك جمال الله في هذا المشهد ليستحق الرثاء والرحمة! أسبلت أوراق عيني على الرغم مني حين حسر الرفاق قبعاتهم المقطرنة عن رءوسهم وأنشدوا بصوت أصحل أبح نشيدهم البسيط: (سيدتنا صاحبة المعونة وحامية البحارة)
لشد ما أثر في نفسي صلاة هؤلاء الرجال وقد وقفوا وسط المحيط على لوح هَشٍ من الخشب يتأملون الشمس وهي تغرب في اللجة: فالشعور بحقارتنا أمام عظمة اللانهاية،(84/75)
وأناشيدنا المرسلة على الأمواج، ودنو الليل بويلاته ومكائده، وسفينتنا العجيبة في بحر مسجور بالعجائب، وفريق من البحارة استولى على قلوبهم الإعجاب والخوف، وقسيس جليل عاكف على الصلاة، والله الذي تجلى للبحر فأمسك بإحدى يديه الشمس على حجاب المغرب، ورفع بالأخرى القمر من مهاد المشرق، وهو يسمع من خلال الفضاء المطلق أصوات خلقه، كل أولئك لا يستطيع قلم أن يصوره، ولا قلب مهما دق شعوره أن يتصوره!
الزيات(84/76)
دعاء
لشاعر الحب والجمال لامرتين
أشار لامرتين في كتابه (رفائيل) الى الأشعار الأولى التي (انجست من قلبه) والتي قرأها (دون أن يجرؤ على رفع بصره الى رفعها إليها)
ومن المحتمل أن تكون هذه الابيات:
أنت يا من ظهرت لي في صحراء هذه الدنيا! يا ساكنة السماء وعابرة هذه الأرض! يا من أضأت لي بشعاع من الحب هذا الليل الغاشي! اظهري بشخصك كله لعيني المشدوهة، وقولي لي ما اسمك، وما وطنك، وما حظك؟ أأنت من سلالة أرضية، أم أنت من نفحة قدسية؟
أتذهبين غداً إلى شهود الضياء الخالد؟ أم لا يزال أمامك في دار البعاد ودنيا الحداد وموطن البؤس خُطى تقطعينها في طريقك الشاق المتعب؟ مهما يكن اسمك وحظك ووطنك يا ابنة الأرض أو يا ابنة السماء، فدعيني ما دام ينبض بالحياة قلبي، أقدم إليك عبادتي أو حبي
إذا وجب عليك مثلنا، أن تستوفي أجلك وتبلغي مداك، فكوني سندي ودليلي، واسمحي لي أن أقبل في كل مكان غبار خطواتك المحبوبة. أما إذا طرت يا أخت الملائكة عن دنيا الشقاء والجحود، لتعيشي بجوارهم في دار النعيم والخلود، فاذكريني في ملكوت السماء، بعد أن أحببتني أياماً على هذه الغبراء!
الزيات(84/77)
الكتب
على عتبة الأمومة
تأليف الدكتور مصطفى الخالدي
ليس هذا الكتاب كما يتبادر الى الذهن كتاب طب وضع للأطباء، بل
هو كتاب من كتب الثقافة العامة، وضع لكل شابة وشاب، ألفه الدكتور
الخالدي، الأستاذ في فن التوليد والأمراض النسائية في جماعة بيروت
الأمريكية، ويقع في مائتي صفحة كبيرة، متقن الطبع، جميل السبك،
متين الورق
وقبل أن أحدث القارئ عن مباحث هذا الكتاب النافع، أشير الى ناحية فيه قد عظم إعجابي بها: ذلك أن الدكتور المؤلف قد بلغ حداً فائقاً من المهارة في تقديم المسائل العلمية والفنية الى عامة القراء، مما جعل كتابه في متناول كل قاريء، يفهمه في غير عسر، بل يقبل عليه في شغف ولذة، هذا الى ما احتوى عليه من صور دقيقة واضحة، تبين أجزاء البحث، ومنها عدد يتعلق بناحية الجمال والعاطفة دون أن يبعد عن المقصد الذي يسعى إليه المؤلف، إذ كان محوره بيان الأمومة السعيدة والطفولة السعيدة
وينبغي أيضاً أن أشير الى الأسلوب الذي نهجه الدكتور، فهو أسلوب من حدد موضوعه ورسم جزيئاته في نفسه، وتبين غايته منه، فاستطاع أن يكون سهل الأداء قريب المأخذ، بعيد المرمى، مما يتفق مع طبيعة هذا الكتاب وموضوعه الدقيق
والكتاب بعد ذلك مزيج من العلم والعاطفة، فموضوعه الإرشاد في ضوء القواعد والأصول، وغايته إسعاد الأم والأبناء، مع الشعور دائماً (بأن المحيط الذي سيخدمه هذا الكتاب هو محيطنا الشرقي الذي يقدس الشرق والحياء الجنسي، فلا تخجل من قراءته العذراء، ولا يجد القارئ طي صفحاته إلا كل ما يخص على اتخاذ المثل العليا في الحياة غاية لسعادة الأمومة والحياة)
افتتح المؤلف كتابه، بتلك الأسطورة الهندية الشهيرة في خلق المرأة، ثم قدم لبحثه في كلمة(84/78)
أشار فيها الى تسلط الأوهام والخرافات على كثير من العقول فيما يتعلق بأمر الحمل والولادة بسبب الجهل، مؤدياً قوله ببعض الحوادث التي صادفته وبعض الإحصاءات التي اطلع عليها
بعد ذلك أورد كلمة في الانقسام الخلوي وتكوين الجنين، ثم شرح في دقة وسهولة الأعضاء التناسلية في المرأة، وما يطرأ عليها في سن البلوغ، وتكلم عن الاشتراكات إبان الحمل، وعن الولادة والنفاس والطفل الوليد، وما يجب اتخاذه من وسائل العناية أثناء الحمل والولادة وعقب ذلك، وأختتم موضوعه الخطير بفصل ممتع في الغريزة الجنسية، وبيان بعض الأمراض، وبعض المسائل التي تشغل بال الإنسان في شبابه، ثم بكلمة رقيقة حصيفة الى المتزوجين ومن هم على أهبة الزواج
وإني لأشكر الدكتور المؤلف، معترفاً له بجميله هذا، فلقد استمتعت بقراءة هذا الكتاب واحببته حباً عظيماً، يدعوني الى أن أتقدم الى القراء بخالص النصح عسى ألا تفوتهم قراءة هذا الأثر النافع الجميل
مرآة النساء
تأليف الأستاذ محمد كمال الدين الأدهمي
يطلب من مكتبة صبيح بميدان الأزهر ثمنه ثمانية قروش عدا أجرة البريد
يقع هذا الكتاب في مائتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، ألفه الأستاذ الشيخ محمد كمال الدين الأدهمي بقلم المحفوظات التاريخية بديوان جلالة الملك، وقد جمع فيه كثيراً مما ذكر قديماً وحديثاً عن المرأة في جميع نواحي حياتها، فأورد بعض ما قيل في مدح النساء والدعوة إلى الرفق بهن، وبعض ما ذكر فيهن على لسان الشعراء والأدباء واوصاف المرأة الصالحة ومسلكها كربة بيتها، ومقاييس الجمال النسوي ومباريات الجمال وأدب المرأة ومبلغ علمها، وعناية الإسلام بشؤونها، وما جاء في الشريعة عنها من الأوصاف، مع ذكر تراجم الكثيرات من شهيرات النساء كالسيدة عائشة رضي الله عنها وكأم هارون الرشيد وقطر الندى وشجرة الدر، وعائشة التيمورية
كذلكتعرض الأستاذ لمسألة الحجاب والسفور وما قيل في هذا الباب في الشرع وما ثار فيه(84/79)
من جدال بين المفكرين والكتاب
فأنت ترى أن الكتاب أشبه بالجمع منه بالتأليف على أن لكل عمل ثوابه إذا كانت وجهته لخير الصالح العام، وإنك لن تعدم في مطالعة هذا الكتاب الاستمتاع بما ورد في شتى الكتب عن النساء من طرف أدبية ومن بحوث مفيدة، وقد انتظم الكثير منها بين دفتيه، ولعل القارئ حين يطالعه ينفتح له كثير من الموضوعات الجديرة بالبحث فيما يتعلق بالمرأة الشرقية في نهضتها الحالية، وبعين له من أوجه البحث ما نحن في أشد الحاجة إليه.
وإني لأشكر للأستاذ الأدهمي ما بذل من مجهود وما توخى من خير
الخفيف
القصص المدرسية
قال الأساتذة: سعيد العريان، وأميندويدار، ومحمود زهران مؤلفو هذه القصص المدرسية:
(ليس من شك في أن الطفل بطبعه ولوع بالقصة؛ وأن الأدب العربي على سعته وغناه يكاد يخلو من القصة السهلة التي يستطيع الطفل أن يقرأها في رغبة وشوق. فبينما نرى الآداب الأجنبية حافلة بكل ما يجذب الطفل ويحبب إليه القراءة والمطالعة، نجد الأدب العربي يكاد يخلو جملة من (أدب الطفل)؛ وبينما الطفل الأجنبي يتلقى أكثر معلوماته عن الحياة في أسلوب (القصة) الجذاب - نرى الطفل العربي يتلقى أكثر مسائل العلم في أسلوب جاف، وطريقة لا تلائم طبيعته المرحة
ولاشك أن المدرسين أكثر إحساساً بهذه الحقيقة، واشد شعوراً بحاجة الطفل العربي إلى أدب سهل يشوقه ويجذبه، ويوافق نزعته وميله. هذا الشعور الذي دفعنا إلى أن نحاول سد هذا الفراغ، بوضع قصص سهلة تلائم طبع الطفل وتتمشى مع روحه، فبدأنا بوضع سلسلة من القصص، سميناها: (القصص المدرسية)
ورمينا فيها إلى الأغراض الآتية:
(1) - أن تكون وسيلة إلى تعليم الانشاء؛ فجعلنا أسلوبها سائغاًُمفهوماً، لا يبعد من الفصحى، ولا يتدنى إلى لغو العامية؛ وحاولنا بسبيل ذلك أن نقرب بين اللغة التي يتكلمها التلميذ، والعربية التي يتعلمها؛ فأبقينا على كلمة عامية لها في العربية أصل يؤيدها، غير(84/80)
وانين في التنقيب والبحث في كتب اللغة عن كل كلمة في مظانها ووضعنا تحت عين التلميذ نماذج من جيد الانشاء، مبثوثة في تضاعيف القصة، مفرقة في حواشي الكلام ليسهل على التلميذ تناولها من غير أن يشعر بسأم المتعلم؛ فلا يكاد يأني على القصة حتى يكون قد اجتمع له من فصيح الكلام قدر يعنيه على تجويد المحادثة والإنشاء
(2) - وأن تكون وسيلة الى تهذيب الطفل؛ لذلك عنينا بأن يكون موضوع قصصنا غير بعيد من جو التلميذ، بحيث يسهل عليه تصوره ومتابعته بخياله، وبحيث يتهيأ له أن يعرف الطريق الى الرجولة الفاضلة من غير أن يلتوي عليه السبيل
(3) - وأن تكون وسيلة الى تسليته؛ ولهذا حاولنا ما استطعنا أن نجعلها جذابة في كل شيء؛ صغيرة الحجم، يستطيع الطفل أن يضعها في جيبه ليقرأ فيها متى وأنى شاء، مشكولة، ليمكن التلاميذ قراءتها بغير معاناة؛ جميلة مصورة، زاهية اللون، لتدعو الطفل إليها بمنظرها الجميل، كما جعلناها رخيصة الثمن، ليكون في طاقة كل تلميذ أن يحصل عليها، طيبين نفساً بما نبذل من وقت ومال وراحة في سبيل الغرض الذي ننشده؛ فان أفلحنا في الوصول إليه فذاك حسبنا، وإلا فإننا ماضون في طريقنا دائبون على تكميل كل نقص نراه أو يلفتنا إليه الناصحون)
وقد نشر الأساتذة الفضلاء قصتهم الطفلية الأولى وهي (مُدمس أكسفورد) تقع في 54 صحيفة، مشكولة كلها بالشكل الكامل. وموضوعها جذاب طلي. يصل بنفسه الى أعماق نفس التلميذ، ويجمع له بين القراءة والتفصح والتهذيب ويرمي بهمته الى بعيد، ويسمو بعواطفه الى أعلى
وقد ختمت هذه القصة باستخراج سبعة موضوعات إنشائية منها، مبينة في آخرها، ليكتب فيها التلميذ الصغير؛ فكانت القصة بذلك جامعة بين القراءة والكتابة، محققة لأغراض الأساتذة المعلمين
وثمن كل قصة خمسة مليمات، وتطلب من إدارتها بطنطا(84/81)
العدد 85 - بتاريخ: 18 - 02 - 1935(/)
الملك علي. . . .
تلقيت نعي الملك النبيل علي بن الحسين كما أتلقى نعي قريب؛ فقد كان رضوان اله عليه مثال الفطرة العربية النقية: يقبل على زائره بأنسه، ويمكن لجليسه من نفسه، ويزيل الفوارق بين محدثه وبين شهصه، حتى يصدر عنه الوارد عليه وفي ذهنه صورة من جلاله لا تحول، وفي قلبه عاطفة من حبه لا تزول، وفي نفسه أثر عن ذاته لا يعفو. لا يُلقى في روعك حين تلقاه طوح الزعيم، ولا جفاء القائد، ولا دهاء السياسي، ولا سورة المَلِك، وإنما تجد في خلائقه فوحة المجد، وتقرأ في ملامحه عنوان الطيبة، وتعرف في حديثه لهجة السيادة، وتذكر في نبرات صوته ولحظات عينه ولفتات ذهنه ذلك الروح القوي الذي انبث في موات الوجود من بني هاشم!
نعي الناعي فيصلاً فقال الناس بطلٌ من أبطال العالم قضى، ونعى الناعي علياً فقال العرب سيد من سادات العروبة خلا؛ لأن فيصلاً حكم في شروق مُلك عائد، فكان عزمه لا تسعها قدرة، وفكرة لا يحصرها أفق، وطموحاً لا يحده غاية؛ ولأن علياً حكم في غروب مُلك بائد، فكان أمراً لا يمضيه سلاح، وأملا لا ينهضه جناح، وصلاحاً لا تؤاتيه فرصة؛ ثم كان مصير الرجلين مصير خلقين مختلفين: خلق اتسع لخُدَع السياسة، وشُبه الحكم، وأهواء النفوس، وخلق انحصر بين حدود الشرف الموروث، وسنن الدين المتبع، وتقاليد العرب المحتومة
كان الملك علي وهو أمير المدينة أو ولي العهد أو خليفة الحسين، مثل السيد الكريم والأمير السمح والملك المؤمل، ولكن موجة (الاخوان) كانت قد دفعت بحطام الحين إلى شواطئ جدة، فلم يستطع الملك الجديد أن يستمسك به في مهب الرياح الهوج ومضطرب الموج الثائر، فانتزع من تاجه المقدس مفاتيح الحرمين ثم وضعهما في يد الفاتح ونجا علي (الرقمتين) في ضباب من اليأس لا يشع في جنباته أمل
نزل الملك الغريب سواد العراق نزول الكريم على الكريم فتلقاه بوده، وصفق له من ورده، وبوأه من زعامته المكان الأول بعد فيصل. فكان في السياسة العراقية برهان الله في يقظة الشهوة، وصوت العدل في طغيان الهوى، وهدى المشورة في ضلال الرأي، ورسول الخير في أزمة الحاجة. وكان قصره القائم بالكرادة على الشاطئ الأيمن من دجلة بلاطاً للجلالة الحائرة بين الحجاز والعراق وسورية، تُقضى بين أبهائه الأمور الجسام، وترف على بفنائه(85/1)
الآمال الباسمة. ولكن حياة بغداد الدافقة بالنعيم الغارقة في اللذة، لم تستطع أن تُنسى الملك الحزين عرشه الصخري في الوادي الجديب؛ فكان لا يفتأ يحن إلى مُلكه المغضوب حنيناً شعرياً صامتاً يذيب الكلي ويستوقد الجوان، إلا أن أثره لا يبين تحت سمة الملك إلا لمن دخل في أمره ووقف على سره
كنت كثيراً ما أقضي أصيل اليوم في حضرته، وكان (مفتي بغداد) لا ينقطع عن مجلسه في هذه الساعة؛ وكان للملك رحمه الله عطف على منشؤه فيما أظن للأدب، وميله إلى مصر، وأنسه بالغريب. فهو يجب أن يناقلني الحديث، ولكن (المفتي) سامحه الله رجل يرى من حق العالم أن يقول في كل شيء وأن يجيب عن كل شيء، وهو لا ينطق إلا ببيت من الشعر أو أثر من الحديث أو آية من القرآ،؛ أما ارتباط ما يقول بما يسمع فذلك ما كنا نعجز دائماً عن فهمه. كان الملك يبدأ الكلام فلا يكاد يمضي فيه حتى يقطعه عليه بحكاية عرضية أو مسألة فقهية! فأرفع طرفي اليه لعل عزة الملك تشع في عينه أو تثور في وجهه، فلا أجده إلا باسماً للمتكلم، مصغياً كالمتعلم، هادئاً كالشعاع الشاحب في شفق الخريف! على أنه كان يصحح للشيخ ما يَقْمشُ من الشعر وينتف من الأمثال، ويتخذ ذلك مادة للحديث وموضوعاً للمشاركة، فيسفر قوله عن ذوق صاف وبصيرة نافذة.
ولا أنسى ما حييت استشهاده في بعض الكلام على قلب الميم باء في قول بعض العرب بكة في مكة، بالمثل المعروف: (تمخض الجبل فولد فأراً) مرجحاً أن الجبل هو الجمل في لحن هذه القبيلة
لذلك كان إذا شاء الحديث صفواً من المقاطعة واللغو أمرني فمثلت بين يديه في ساعة بعينها، فيقضي إلي بطرَف من ماضي حياته، أو يملي على بعضاً من مذكراته. وقد لا يكون من المناسب اليوم - وأنا في موقف الرثاء والعزاء والأسى - أن أثبت في هذا المقام شيئاً من ذلك
ولكنه كان يلهج دائماً بمصر، ويرصد كوكب آماله في مصر. . . وحاول أن يقنع المصريين الذين خاصموه في سبيل الترك أن ثورتهم على الخلافة كانت بالحق وللحق، وأن أباه لم يال الترك نصحاً ألا يطأطئوا إشراف العرب، وألا يغمزوا نحوه العرب، وان يعدلوا عن سياسة الجهل، ويكفوا عن جرائم القتل، فاستغشوا الناصح وذهبوا بأنفسهم(85/2)
مُمعنين في الضلالة وللفقيد العظيم آراء حصيفة في رجال الثورة وساسة العراق ووحدة العرب، أرجو أن تتاح لتسجيلها المناسبة إنصافاً لهذا الرجل الذي أخرج من دياره عنوة، وكابد أكلاف المُلك من غير ثروة، حتى عاد كالطائر المهيض أو الملك الهابط، يختنق في مجثمه وبصره في الفضاء، ويلتصق بالأرض وروحه في السماء!
أحمد حسن الزيات(85/3)
زوجة إمام
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلس جماعةُ أصحاب الحديث في مسجد الكوفة، ينتظرون قُدومَ شيخهم الأمام (أبي محمد سليمان الأعمش) ليسمعوا منه الحديث، فأبطأ عليهم؛ فقال منهم قائل: هلموا نتحدثْ عن الشيخ فنكون معه وليس معنا. فقال أبو معاوية الضرير: إلى أن يكونَ معنا ولسنا معه! فخطرت ابتسامةٌ ضعيفةٌ تهتزُ على افواه الجماعة لم تبلغ الضحك، ومرت لم تُسمع وكأنها لم تُرَ، وانطلقتْ من المباح المعْفُو عنه. ولكن أكْبرَها أبو عَتاب منصور بن المُعْتَمِر فقال: ويلك يا أبا معاوية! أتتندرُ بالشيخ وهو منذ الستين سنة لم تَفُتْه التكبيرةُ الاولى في هذا المسجد، وعلى أنه مُحدث الكوفة وعالِمُها، وأقرأ الناسِ لكتاب الله، وأعلمهم بالفرائض، وما عَرَفت الكوفة أعبدَ منه ولا أفقه في العبادة؟
فقال محمد بن جُحَادة: أنت يا أبا عتاب، رجلٌ وحدك، تُواصِلُ الصومَ منذ أربعين سنة، فقد يَبسْتَ على الدهر وأصبح الدهر جائعاً منك، وما بَرحتَ تبكي من خشية الله، كأنما اطلعت على سواء الجحيم، ورأيت الناسَ يتواقعون فيها وهي لهبٌ أحمرُ يلتفُ على لَهب أحمر، تحت دخان أسود يتضربُ في دخان أسود، يَتَغامسُ الإنسان فيها وهي مِلءُ السموات، فما يكون إلا كالذبابة أو قدوا لها جبلاً ممتداً من النار، ينطاد بين الأرض والسماء، وقد ملأ ما بينهما جمراً وشُعلاً وحمماً ودخاناً، حتى لتهاربُ السحب في أعلى السماء من حره، وهو على هوْلِه وجسامته لِحرْق ذبابةٍ لا غيرها، بَيْدَ أنها ذبابةٌ تُحْرَقُ أبداً ولا تموت أبداً، فلا تزالُ ولا يزال الجبل!
فصاح أبو معاوية الضرير: ويحك يا محمد! دَعِ الرجل وشأنه؛ إن لله عباداً متاعهم مما لا نعرف، كأنهم يأكلون ويشربون في النوم، فحياتُهم من وراء حياتنا، وأبو عتاب في دنيانا هذه ليس هو الرجلَ الذي اسمهُ (منصور) ولكنه العملُ الذي يهمله (منصور). هل أتاكم خبر قارئ المدينة (أبي جعفر الزاهد)؟ قال الجماعة: ما خبره يا أبا معاوية؟ قال: لقد تُوفي من قريب، فرئي بعد موته على ظهر الكعبة؛ وسترون أبا عتاب - إذا مات - على منارة هذا المسجد! فصاح أبو عتاب: تخلل يا أبا معاوية؛ أنا حفظت خبر ابن مسعود: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم: (تخللْ) قال: مم اتخللُ؟ ما أكلتُ لحماً؟ قال: (إنك أكلتَ لحم(85/4)
أخيك!)
فتقلقل الضرير في مجلسه، وتنحنح، وهَمهم أصواتاً بينه وبين نفسه، وأحس الجماعةُ شأنه وقد عرفوا أن له شراً مبصرا كالذي فيه من المزْح والدعابة، وشراً عمى هذه بوادرُه، فاستلب ابنُ جحادةَ الحديثَ مما بينهما وقال: يا أبا معاوية، أنت شيخنا وبركتنا وحافظنا، وأقرُبنا إلى الإمام وأمسنا به؛ فحدثنا حديثَ الشيخ كيف صنع في رده على هشام بن عبد الملك، وما كان بينك وبين الشيخ في ذلك؛ فان هذا مما انفردتَ أنت به دون الناس جميعاً، إذ لم يسمعه غير أذنيك، فلم يحفظه غيرك وغير الملائكة
فأسفر وجهُ أبي معاوية وسُري عنه واهتز عطفاه وأقبل عليهم بعفو القادر. . . وأنشأ يحدثهم قال:
إن هِشاماً - قاتله الله - بعث إلى الشيخ: أن أكتبْ لي مناقبَ عثمانَ ومساوئ علي. فلما قرأ كتابه كانت داجِنةٌ إلى جانبه، فأخذ القرطاس وألقمه الشاة فلا كته حتى ذهب في جوفها، ثم قال لرسول الخليفة: قل له: هذا جوابك! فخشي الرسول أن يرجع خائباً فيقتله هشام، فما زال يتحملُ بنا، فقلنا: يا أبا محمد، نجه من القتل. فلما ألححنا عليه كتب: (بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان رضي الله عنه مناقبُ أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي رضي الله عنه مساوئ أهل الأرض ما ضرتك؛ فعليك بخويصة نفسك، والسلام.)
فلما فصل الرسول قال لي الشيخ: إنه في خُرَاَسانَ مُحدث أسمه (الضحاكُ بن مُزاحم الهلالي) وكان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي يتعلمون؛ فكان هذا الرجلُ إذا تعب ركب حماراً ودار به المكتب عليهم، فيكون إقبالُ الحمار على الصبي هماً وإدبارهُ عنه سروراً. وما أرى الشيطان إلا قد تعب في مكتبه وأعيا، فركب أميرَ المؤمنين. . . . . . ليدور علينا نحن يسألنا: ماذا حفظنا من مساوئ علي؟
قلت: فلماذا ألقمتَ كتابه الشاة؟ ولو غسلته أو أحرقته كان أفهم له وكان هذا أشبه بك. فقال: ويحك يا أبله! لقد شابت البلاهةُ في عارضَيك. أن هشاماً سيتقطع منها غيظاً، فما يُخفى عنه رسوله أني أطعمتُ كتابه الشاة، وما يُخفى عنه دهاؤه ان الشاة ستعتبره من بَعْد. . . . .!(85/5)
قلت: افلا تخشى أمير المؤمنين؟
قال: ويحك! هذا الأحولُ عندك أمير المؤمنين؟ أَبما ولدته أمه من عبد الملك؟ فَهَبها ولدته من حائكٍ أو حجام! إن إمارةَ المؤمنين يا أبا معاوية، هي ارتفاعُ نفس من النفوس العظيمة إلى أثَرِ النبوة، كأن القرآن عَرَضَ المؤمنين جميعاً ثم رضي منهم رجلاً للزمن من الذي هو فيه، ومتى أصيب هذا الرجلُ القرآني فذاك وارثُ النبي في أمته وخليفتُه عليها، وهو يومئذ أمير المؤمنين، لا من إمارة الملك والترف، بل من إمارة الشرع والتدبير والعمل والسياسة
هذا الأحول الذي التف كدودة الحرير في الحرير، وأقبل على الخيل لا للجهاد والحرب، ولكن للهو والحلبة، حتى اجتمع له من جياد الخيل أربعة آلاف فرس لم يجتمع مُلها لأحد في جاهليةٍ ولا إسلام، وعَمِلَ الخز وقُطُفَ الخز، واستجاد الفرش والكسوة، وبالغَ في ذلك وأنفقَ فيه النفقات الواسعة، وأفسد الرجولة بالنعيم والترف حتى سلك الناسُ في ذلك سُنته فأقبلوا بأنفسهم على لهو أنفسهم، وصنعوا الخير صنعةً جديدة يصرفه إلى حظوظهم، وتركوا الشر على ما هو في الناس، فزادوا الشر وأفسدوا الخير، ولم يَعُد الفقراءُ والمساكينُ عندهم هم الفقراءَ والمساكين من الناس، بل بطونهم وشهواتهم. . . . .!
ولقد كان الرجلُ من أغنياء المسلمين يقتصدُ في حظ نفسه ليسعً ببره مائةً أو مائتين أو أكثر من اخوانه وذوي حاجته، فعاد هذا الغني يتسعٌ لنفيه ثم يتسع، حتى لا يكفيه أن يأكلَ رزقه مائة أو مائتين أو أكثر!
إن هذا الإسلام يجعل أحسن المسرات أحسنها في بذلها للمحتاجين، لا في أخذها والاستئثار بها، فهي لا تضيع على صاحبها إلا لتكون له عند الله، وكان الفقر والحاجة والمسكنةَ والانفاقَ في سبيل الله - كأن الفقر والحاجة والمسكنة والانفاقَ في سبيل الله - كأن هذه أرضونُ يُغرس فيها الذهبُ والفضة غرساً لا يُؤتي ثمره إلا في اليوم الذي ينقلب فيه أغنى الأغنياء على الأرض وإنه لأفقر الناس إلى درهمٍ من رحمة الله وإلى ما دون الدرهم؛ فيقال له حينئذ: خُذْ من ثمار عملك، وخُذْ ملءَ يديك!
والسلطانُ في الإسلام هو الشرع مَرْئياً يتابعهُ الناس، متكلماً يفهمه الناس، آمراً ناهياً يطيعه الناس. ولقد رأى المسلمون هذا الأحوال، وتابعوه وسمعوا له واطاعوا؛ فمنعوا ما في(85/6)
أيديهم، فانقطع الرفد، وقل الخير، وشحت الأنفس، وأصبح خيرهم خيرهم لبطنه وشهواته، وصار الزمانُ أشبه بناسه، والناسُ أشبه بملكهم، وملكُهم في شهواته (فقيرُ المؤمنين) لا أميرُ المؤمنين!
إن هذه الامارةَ يا أبا معاوية، إنما تكون في قرب الشبه بين النبي ومن يختاره المؤمنون للبَيْعة. وللنبي جهتان: إحداهما إلى ربه، وهذه لا يطمع أحدٌ أن يبلغ مبلغه فيها؛ والأخرى إلى الناس، وهذه هي التي يُقاس عليها. وهي كلها رْفقُ ورحمةٌ وعملُ وتدبير وحياطة وقوة، إلى غيرها مما يقوم به أمرُ الناس؛ وهي حقوقٌ وتبعاتٌ ثقيلة تتصرف بصاحبها عن حظ نفسه، وبهذا الانصراف تجذب الناس إلى صاحبها.
فأمارة المؤمنين هي بقاء مادة النور النبوي في المصباح الذي يضيء للاسلام بامداده بالقدر بعد القدر من هذه النفوس المضيئة.
فان صَلُحَ الترابُ أو الماء مكان الزيت في الاستضاءة صَلُح هشامٌ وأمثاله لأمارة المؤمنين!
ويلُ للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطانَ عليهم بينه وبين النبي مثلُ ما بين دِينين مختلفين. ويلٌ يومئذ للمسلمين! ويلً يومئذ للمسلمين!
فلما أتم الضريرُ حديثه قال ابن جُحادة: إن شيخنا علي هذا الجِد ليمزح، وسأحدثكم غير حديث أبي معاوية فقد رأيتُ الدنيا كأنما عرفت الشيخ ووقفت على حقيقته السماوية فقالت له: اضحك مني ومن أهلي. ولكن وقاره ودينه ارتفعا به أن يضحك بفمه ضَحِكَ الجهلاء والفارغين، فضحك بالكلمة بعد الكلمة من نوادره
لقد كنت عنده في مَرْضَتَه، فعاده (أبو حنيفة) صاحبُ الرأي، وهو جبلُ عِلْم شامخ، فطولَ العقودَ مما يُحبه ويأنس به، إذ كانت الارواحُ لا تعرف مع أحبابها زمناً بطول أو بقصر. فلما أراد القيام قال له: ما كأني إلا ثَقُلْتُ عليك. فقال الشيخ: إنك لثقيلٌ علي وانتَ في بيتك. . . .! وضحك أبو حنيفة كأنه طفلُ يلاغِيه أبوه بكلمة ليس فيها معناها، أو أبٌ دَاعَبَه طفُله بكلمة فيها غيرُ معناها
وجاءه في الغَداة قومٌ يعودونه، فلما أطالوا الجلوسَ عنده أخذ الشيخ وسادته وقام متصرفاً، وفل لهم: قد شَفَى الله مريَضكم. . . .!
فقال الضرير: تلك رَوْحَةٌ من هواء دُنْبا وَنْد قان أبا الشيخ كان من تلك الجبال، وقدم إلى(85/7)
الكوفة وأمه حاملٌ، فوُلِدَ هنا؛ فكأن في دمه النسيم تهبُ منه النفحة بعد النفحة في مثل هذه الكلمات المُتَنسمة؛ ثم هي روحه الظريفة الطيبة تُلْمَسُ بعضَ كلامه أحياناً، كما تلمسُ روحُ الشاعر بعض كلام الشاعر؛ وما رأيت أدق النوادر الساخرة وأبلغها وأعجبها يجيء إلا من ذوي الأرواح الشاعرة الكبيرة البعيدة الغور، كأنما تأتي النادرة من رؤية النفس حقيقتين في الشيء الواحد. والامامُ في ذلك لا يسخر من أحد، إلا إذا كانت الأرض حين تُخرج الثمرةَ الحلوة تسخر بها من الثمرة المرة
والعجيب أن النادرة البارعة التي لا تتفق إلا لأقوى الأرواح، ينفق مثلها لأضعف الأرواح؛ كأنها تسخر من الناس كما يسخرون بها. فهذا (أبو حَسَن) مُعلم الكُتاب، جاءه غلامان من صبيته قد تعلق أحدهما بالآخر؛ فقال: يا مُعلم، هذا عَض أذني. فقال الآخر: ما عضضتها، وإنما هو عض أذن نفيه. . .! فقال المعلم: وتمكُرُ بي أيضاً يا ابن الخبيثة، أهو جملٌ طويلُ العنق حتى ينالَ أذنَ نفسه فيعضها. . .!
وطلع الشيخ عليهم وكأنما قرأ نفس أبي معاوية في وجهه المتفتح. ومن عجائب الحكمة أن الذي يُلمحُ في عيني المبصر من خوالج نفسه يُلمحُ على وجه الضرير مُكبراً مجسماً. وكان الشيخ لا يأنس بأحد أنسه بأبي معاوية، لذكائه وحفظه وضبطه، ولمشاكلة الظرف الروحي بينهما؛ فقال له:
(فِيمَ كان أبو معاوية؟)
- (كان أبو معاوية في الذي كان فيه!)
- (وما الذي كان فيه؟)
- (هو ما تسأل عنه!)
- (فأجبني عما أسأل عنه)
- (قد أجبتُك!)
- (بماذا أجبتَ)
- (بما سمعت!)
فتقبض وجهُ الشيخ وقال: (أههنا وهناك معاً؟ لو أن هذا من امرأةٍ غضبي على زوجها لكان له معنى، بل لا معنى له ولا من امرأةٍ غضبي على زوجها. أحسبُ لولا أن في منزلي من(85/8)
هو أبغضُ إلى منكم ما خرجت؟) فقال الضرير: (يا أبا محمد، أننا زوجاتُ العلم؛ فأتينا التي حظيت وبظيتْ. . .)
فغطى الجماعة أفواههم يضحكون، وتبسم الشيخ، ثم شرع يحدث فأفضى من خبر إلى خبر، وتسرح في الرواية حتى مر به هذا الحديث:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هلاكَ الرجال طاعتُهم لنسائهم.)
قال الشيخ: كان الحديث بهذا اللفظ، ولم يقل النبس صلى الله عليه وسلم: (هلاُك الرجل طاعته لامرأته)؛ فان هذا لا يستقيم؛ إذ يكون بعضُ النساء أحياناً أكمل من بعض الرجال، وأوفر عقلاً وأسد رأياً، وقد تكون المرأةُ هي الرجلَ في الحقيقة عزماً وتدبيراً وقوى نفس، ويتلينُ الرجل معها كأنه امرأة. وكثير من النساء يكُن نساءً بالحلية والشكل دون ما وراءهما، كأنما هيئنَ رجالاً في الأصل ثم خًلقن نساءً بعد، لأحداث ما يريد الله أن يحدث بهن، مما يكون في مثل هذه العجيبة عملاً ذا حقيقتين في الخير والشر
وإنما عم الحديث لًيدل على أن الاصل في هذه الدنيا أن تستقيم أمور التدبير بالرجال؛ فان البأس والعقل يكونان فيهم خلقةً وطبيعةً أكثر مما يكونان في النساء؛ كما أن الرقة والرحمة في خلقة النساء وطبيعتهن أكثرُ مما هما في الرجال، فاذا غلبتْ طاعةُ النساء في أمة من الأمم، فتلك حياة معناها هلاك الرجال، وليس المراد هلاكً أنفيهم بل هلاك ما هم رجالٌ به. والحديدُ حديدٌ بقوته وصلابته، والحجرُ حجر بشدته واجتماعه؛ فان ذاب الأولُ أو تفلل، وتناثر الآخر أو تفتت - فذا هلاكهما في الحقيقة، وهما بعدُ لا يزالان من الحجر والحديد
والمرأة ضعيفة بفطرتها وتركيبها، وهي على ذلك تأبى أن تكون ضعيفة أو تُقر بالضعف، إلا إذا وجدت رجلها الكامل ورُجلها الذي يكون معها بقوته وعلقه وفتنته لها وحبها إياه، كما يكون مثالٌُ مع مثال. ضَعْ مائة دينار بجانب عشرة دنانير، ثم اتر للعشرة أن تتكلم وتدعي وتستطيل؛ قد تقول: إنها أكثر إشراقاً، أو أظرفُ شكلاً، أو احسن وضعاً وتصفيفاً؛ ولكن الكلمة المحرمة هنا أن تزعم أنها أكبر قيمةً في السوق. . . . .!
قال الشيخ: ومن من النساء تصيبُ رجلَها الكاملَ أو القريب من كماله عندها، أي كمالَ طبيعته بالقياس إلى طبيعتها، كمالَ جسم مُفصلٍ لجسم تفصيلَ الثوب الذي يلبسه ويختال فيه؟ أما إن هذا من عمل الله وحده؛ كما يبسط الرزقُ الرزقَ لمن يشاء من عباده ويقدر،(85/9)
يبسط مثل ذلك للنساء في رجالهن ويقدر
فاذا لم تًصيب المرأة رجالها القوي - وهو الأهم الأغلب - لم تستطيع أن تكون معه في حقيقة ضعفها الجميل، وعملت على أن يكون الرجل هو الضعيف، لتكون معه في تزوير القوة عليه وعلى حياته. وبهذا تخرج من حيزها، وما أول خروج النساء إلى الطرقات إلا هذا المعنى؛ فان كًثُر خروجهن في الطريق وتسكعن ههنا وههنا فانما تلك صورة من فساد الطبيعة فيهن ومن إملاقها ايضاً. . .
قال الشيخ: وكأن في الحديث الشريف إيماء إلى أن من بعض الحق على النساء ينزلن عن بعض الحق الذي لهن إبقاءً على نظام الأمة، وتيسيراً للحياة في مجراها؛ كما ينزل الرجل عن حقه في حياته كلها إذا حارب في سبيل أمته، إبقاءً عليها وتيسيراً لحياتها في مجراها. فصبرُ المرأة على مثل هذه الحالة هو نفسه جهادها وحربها في سبيل الأمة، ولها عليه من ثواب الله مثلُ ما للرجل يُقتلُ أو يُخرج في جهاده
ألا وإن حياة بعض النساء مع بعض الرجال تكون أحياناً مثل القتل، او مثل الجرح، وقد تكون مثل الموت صبراً على العذاب! ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمُروجةٍ يسألها عن حالها وطاعتها وصبرها مع رجلها: (فأين أنت منه؟)
قال ما آلوه ما عَجَزْتُ عنه! قال: (فكيف أنتِ له؟ فانه جنَّتُكِ ونارُك)
آه! آه! حتى زواجُ المرأة بالرجل هو في معناهُ مرورَ المرأة المسكينة في دنيا أخرى إلى موتٍ آخر، ستُحاسب عنده بالجنة والنار، فحسابها عند الله نوعان: ماذا صنعت بدنياكِ ونعيمها وبؤسها عليكِ؛ ثم ماذا صنعتِ بزوج ونعيمه وبؤسه فيك؟
وقد روينا أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني وافدةُ اليك؛ ثم ذكرتْ. ما للرجل في الجهاد من الأجر والغنيمة؛ ثم قالت: فما لنا من ذلك؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (أبِلغي من لقيتِ من النساء أن طاعة للزوج، واعترافاً بحقه - يعدلُ ذلك؛ وقليلٌ منكن من يفعله!)
قال الشيخ: تأملوا واعجبوا من حكمة النبوة ودقتها وبلاغتها؛ أيقالُ في المرأة المحبة لزوجها المفتنة به المعجبة بكماله: إنها أطاعته أو اعترفت بحقه، أو ليس ذلك طبيعةَ الحب إذا كان حباً؟ فلم يبق إذن إلا المعنى الآخر، حين لا تصيب المرأةُ رجُلها المفصل لها، بل(85/10)
رجلاً يُسمى زوجاً، وهنا يظهر رمُ المرأة الكريمة، وها هنا جهادُ المرأة وصبرها، وها هنا بَذْلُها لا أخذُها؛ ومن كل ذلك ها هنا عملها لجنتها أو نارها
فاذا لم يكن الرجل كاملاً بما فيه للمرأة، فلتُبْقِه هي رجلاً بنزولها عن يعض حقها له، وتركها الحياة تجري في مجراها، وإيثارها الآخرةَ على الدنيا، وقيامها بفريضة كمالها ورحمتها، فيبقى الرجل رجلاً في عمله للدنيا، ولا يُمسخُ طبعه ولا ينتكس بها ولا يَذل، فان هي بذأت وتسلطت وغلبت وصرفت الرجل في يدها، فأثر ما يظهر حينئذٍ في أعمال الرجال من طاعتهم لنسائهم - إنما هو طيشُ ذلك العقل الصغير وجُرْأته، وأحياناً وقاحته؛ وفي كل ذلك هلاك الرجولة، وفي هلاك معاني الرجولة هلاكُ الأمة!
قال الشيح: والقلوبُ في الرجال ليست حقيقةً أبدا، بطبيعة أعمالهم في الحياة وأمكنتهم منها، ولكن القلب الحقيقي هو في المرأة، ولذا ينبغي أن يكون فيه السُمو فوق كل شيء إلا واجب الرحمة، ذلك الواجب الذي يتجه إلى القوى فيكون حباً ويتجه إلى الضعيف فيكون حناناً ورقة، ذلك الواجبُ هو اللطف، ذلك اللطفُ هو الذي يُثبت أنها امرأة
قال أبو معاوية: وانفض المجلس، ومنعني الشيخ أن أقوم مع الناس، وصرف قائدي، فلما خلا وجهه قال: يا أبا معاوية، قُم معي إلى الدار، قلتُ ما شأنٌ في الدار يا أبا محمد؟ قال: إن (تلك) غاضبة علي، وقد ضاقت الحال بيني وبينها، وأخشى أن تتباعد، فأريدُ أن تصلح بيننا صلحا
قلت: فمم غضبها؟ قال: لا تسأل المرأة م تغضب، فكثيراً ما يكون هذا الغضب حركة في طباعها، كما تكون جالسة وتريد أن تقوم فتقوم، وتريد أن تمشي فتمشي!
قلت: يا أبا محمد، هذا آخر أربع مرات تغضب عليك غضب الطلاق، فما يحبِسُك عليها والنساء غيرها كثير
قال: ويحك يا رجل! أبائعُ نساءٍ أنا، أما علمتَ أن الذي يطلق امرأة لغبر ضرورة ملْجئةٍ، هو الذب يبيعها لمن لا يدري كيف يكون معها وكيف تكون معه، إن عمْرَ الزوجة لو كان رقبةً وضربت بسيف قاطع لكان هذا السيف هو الطلاق!
وهل تعيشُ المطلقةُ إلا في أيام مينة، وهل قاتل ايامها إلا مطلقُها؟
قال أبو معاوية. وقمنا إلى الدار، واستأذنت ودخلت على (تلك). . . . . .(85/11)
(لها بقية)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(85/12)
حكايتي مع بوبي
للأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني
وقعت عيني عليها، فلم أعد أرى سواها. وكنتُ أركب (الامنيبوس) ففتحت الباب وإذا بها أمامي! وفي حجرها كلب أبيض صغير غزير الشعر، وإلى جانبها صاحب لي - جالس كالدمية! فغضضتُ الطرف - أعني أني حولتُ عيني عنها إلى التمثال، وكانت نظرتي واشية بالاعجاب والسرور، فانقلبت نظرة حسد وغيظ - ومقت أيضاً! ولكني كتمتُ ذلك، وأمسكت على ما بنفسي منه، ولم أسمح له أن يطل من عيني، لظني كان تمثالاً مبنياً أو منحوتاً من الحجر، لا إنساناً حياً من لحم ودم، فمضت عنه إلى آخر معقد، وقد زاد حقدي عليه وحسدي له. وجعلت أقول لنفسي - وأنا قاعد، وبيتي وبينهما صفان - إنها لا يمكن أن تكون زوجاً أو قرية، فما خلق مثلها ليشقى بزواج مثله أو يُبتلى بقرابته، وأنه لاحق له في زحامها على مقعدها، وأن من سوء الأدب ألا يفسح لها
ورثيتُ لها، وأشفقتُ عليها من برد هذا التمثال الجامد الذي لا ينبض فيه عرقٌ ولا يطرف له جفن، وهممتُ مرات أن أدعوه إلي، ولكني رددت نفسي عن ذلك، مخافة أن تكون معه، فان النساء - كل شيء - حظوظ وأرزاق، وقد سمعتُ وحفظتُ من أمثال عامتنا أن الله يشاء أحياناً أن يعطي الحلق لمن ليس له اذنٌ!
وبلغتُ (محطتي) فنزلت، ومنحتُ السيارة ظهري، فقد شق علي أن أراها تمضي بهذه الفتاة. فلما آذنني صوتها - أعني صوت السيارة - أنها بعدت عني، درت، فاذا بالفتاة إلى جانبي وأطراف أصابعها على فمها، وفي وجهها كل آيات الحيرة والاضطراب، ولم أر الكلب، فتلفتُ فبصرت به يعدو ويسابق ظله الصغير، ولم أبصر صاحبي في مكان قريب أو بعيد، فلم يبق محل للتردد، فخلعتُ معطفي ورميته بلا تفكير، وذهبت أعدو وراء الكلب، فأدركته بلا عناء، فقد كان صغيراً وخطوه متقارباً، ورفعته عن الأرض ووقفت أمسح له شعره الناعم - لأستريح!
وسمعت صوتاً رخيما يقول لي: (أشكرك! إن هذا منك غاية المروءة)
فدرت وقلت بسرعة: (العفو - استغفر الله!)
قالت الفتاة: (منتهى اللطف ولاشك!)(85/13)
فلم أدر ماذا أقول، وكنت أنا أحمل الكلب، وهي تحمل معطفي - كما تبينتُ فيما بعد - ولكني لم أكن أرى أو أدرك شيئاً، سوى أن لساني قد انعقد، وأني فقدت القدرة على الكلام وعادت الفتاة تقول: (صحيح، أنا متشكرة جداً)
فكان كل ما فتح الله به علي: (إني أحب الكلاب)
ولم أكن صادقاً في ذلك، فما أحب الكلاب ولا أطيقها، وما رأيت قط كلباً - ولو كان ميتاً - إلا ذهبت أفكر بسرعة في أقرب مستشفى للكلب!
وسمعتها تقول: (لا شك أنك تحبها! وإلا لما جريت وراءه هكذا!)
فقلت: (نعم، إني أحب. . . . أحبها. . . هل تحبينها؟)
قالت: (نعم، حباً جماً)
قالت: (بعض الناس لا يحبونها)
قلت: (صحيح - أنا. . . مثلاً. . . أحبها. . . أحبها كثيراً)
ثم كأنما انحلت عقدة لساني، ونزلت عليه الفصاحة والبيان فقلت من غير أن أتلعثم أو أتأتيء أو أفأفيء:
(أحب الكلاب بأنواعها - القَلَطي والسلوقي والمالطي والأرمنتي والبول دوج والثعلبي، وأحب هريرها ونباحها وهوهوتها، وأحب لعبها وعبثها وعضها)
وخانني بياني فأمسكت. فقالت:
(يظهر أنك تحب الكلاب!)
فقلت: (نعم، أحب الكلاب. . . جداً)
قالت: (إن لها مزاياها)
قلت: (صحيح - إن للكلاب مزاياها -) وفتح الله علي فأضفت (وكذلك للقطط مزاياها)
فقالت: (صحيح - القطط أيضاً لها مزاياها)
قلت: (لاشك - ولكن القطط تختلف عن الكلاب)
قالت: (نعم تختلف - لقد لاحظتُ ذلك)
وكان ينبغي أن أجيب بشيء، فقد اتسع الموضوع ولم يعد مقصوراً على الكلاب، ولكنه لم يخطر لي كلام أقوله، فعضضت لساني من الغيظ، وسكت، وسكتت هي أيضاً، ووقفتُ(85/14)
أمسح لكلب شعره، وبودي لو أخنقه، فقد كبر في ظني أنه هو الذي جر على هذه الحبسة التي أصابت لساني، ثم رفعت عيني إلى الفتاة فرأيتها تنقل معطفي من ذراع إلى ذراع، فأسرعت أقول:
(معذرة - لقد كنت ذاهلاً)
وتناولت المعطف، فحملت عني كلبها وهي تقول:
(هو الذي أذهلك - إنك تحبه، أليس كذلك؟)
فقلت: وأنا أتشهد - في سري - (أحبه؟ آه! نعم، أحبها - أعني الكلاب!)
قالت: (إنك. . . .؟؟)
قلت: (إني؟)
قالت: (نعم! إنك. . . اعني. . . إني لست أعرف لمن أنا مدينة بهذا الجميل؟)
قلت: (آه! صحيح! أعني. . . . كلا. . . لا فضل ولا جميل. . . لا لا لا. . . لاشيء!. . وسخطتً على نفسي جداً، فقد كان واضحاً أنها تسألني عن اسمي وما إلى ذلك. فجاء جوابي كأني لا أرتاح إلى تعريفها شيئاً منه، وأحر بهذا أن يصدمها ويفتر ما بيننا)
ثم قالت: (ألا تتفضل معي قليلاً؟)
وأشارت إلى بيت، فقلت:
(هذا مسكنك؟)
قالت: (نعم. تفضل، فان أمي يسره أن تشكر لك صنيعك، وأظنها تحب بوبي أكثر مما تحبني)
وضحكت، فقلت: (في وقت آخر. . . لا موجب للشكر. . . ما فعلت إلا ما يفعله أي إنسان)
وصافحتها وانصرفت مسرعاً، وبودي أن أجرد من نفسي شخصاً أظل ألعنه وألكمه حتى أشفى غيظي، فما أذكر أني كنت قط أسخف مني في ذلك اليوم، وإني لثرثار، وإني لثرثار في العادة، ولست أتهيب المرأة أو أجهل طبيعتها، فمن أين جاءني هذا البكم؟ وماذا عسى أن تقول عني هذه الفتاة؟ وكيف لم يخطر لي كلام إلا (إني أحب الكلاب؟؟)
وآليت - من فرط سخطي على نفسي وخجلي من عي وفهاهتي - أن أجنب السير في هذا(85/15)
الطريق، وحرصت على ذلك أشد الحرص، ومضت أيام لا أذكر عددها، ونسيت الحكاية، وصرفتني عن الحياة مطالب الدنيا ومشاغل الحياة، ثم اتفق لي أن ركبت (الامنيبوس) مرة أخرى في هذا الطريق عينه، مع صديق لي، وكان قد دعاني إلى العشاء، فلما بلغت المكان هجمت علي الذكرى، فانتفضت قائماً، وقلت لصديقي:
(سألحق بك، فامض أنت)
قال: (الى أين؟)
قال: (زيارة وجيزة)
قال: (من؟)
قلت: (زيارة. . .! ما سؤالك هذا؟)
قال: (أفي الأمر سر؟)
قلت: (لا يا سيدي. لا سر ولا شبهه، سأزور كلباً)
قال: (كلب؟)
قلت: (نعم، كلب! وأي غرابة في ذلك؟)
قال: (ولكنك تكره الكلاب!؟)
قلت: (أكرهها؟ من قال إني أكرهها؟ إنما أكره ما يستحق الكراهة من كل شيء)
فصاح بي وأنا أنزل: (ولكنك لا تعرف البيت)
فقلت: (بل أعرفه. . . لا تخف علي!)
فصاح بي - من النافذة: (بل لا تعرفه. . . أنا واثق، فأصعد)
فقلت بحماقة. (يا أخي أعرفه. . . هي دلتني عليه!
فقال: (هي؟)
فعضضت لساني من الغيظ، ومضيت عنه!
ودققت الجرس، فخرجت لي خادمة وقالت: (نعم!)
فحرت ماذا أقول؟ وذكرت أني لا أعرف اسم الفتاة، ولا أسم أمها، ووقفت متردداً ثم قلت:
(اسمعي يا شاطرة! إن عندكم كلباً صغيراً جميلاً، أبيض الشعر، أليس كذلك؟)
فقالت بدهشة: (كلب؟ تسأل عن كلب؟)(85/16)
قلت: (نعم. . . أسمه. . . اسمه. . . آه! تذكرت. . . اسمه بوبي. . . نعم بوبي)
قالت: (آه. . . بوبي. . . . ماله؟)
قلت: (أ. . . إ. . . كيف صحته؟ إن شاء الله يكون بخير؟)
فدارت اللعينة، وقات تخاطب من لا أرى:
(إنه رجل غريب يسأل عن صحة بوبي!)
فبرزت لي سيدة ضخمة - ضخمة جداً - أضخم شيء رأيته في حياتي، حتى لقد احتجت أن أدور بعيني في أنحاء جسمها المتباعدة، لأحيط بها علماً، وأقبلت على تسد الفضاء في وجهي وقالت:
(من هذا؟)
قالت الخادمة: (لا أعلم. . لم أره من قبل)
فسألت خادمتها، كأنها لا تراني - وهل أنا إلا ذرة أو هباءة؟ -: (ماذا يريد)
قالت الخادمة: (يريد أن يعرف كسف صحة بوبي؟)
فقالت: (ما شأنه به! هل يعرفه؟)
فتدخلت في الحوار وقلت: (نعم يا سيدتي، لقد تشرفت بمعرفته يوم فر من سيدته وكاد يضيع أو يختفي)
فقالت: (آه!) ولم تزد
قلت: (نعم، وقد خطر لي أن أسأل عنه كيف حاله؟)
قالت: (بخير. . أشكرك بالنيابة عنه)
قلت: (ألا يمكن أن أراه؟ وأطمئن عليه)
قالت: (لا. . . لا يمكن)
قلت: 0أهو لا قدر الله. . . . .؟)
قالت: (خرج. . .)
قلت: (خرج؟ يا سيدتي كيف تتركينه يخرج وحده؟)
قالت: (لا. . خرج مع إيلين. . . لا خوف عليه. . متشكرة. .)
فلم أدر (إيلين) هذه من تكون؟ الفتاة أم خادمة أخرى، ولكني قلت أجازف وأمري إلى الله،(85/17)
وسألتها:
(وكيف حالها؟ بخير إن شاء الله!)
قالت: (حالها؟ من؟)
قلت: (المدموازيل إيلين؟)
قالت: (المدموازيل. . .؟)
قلت: (آه. . . بنتك. . . أليست بنتك؟)
فقالت: (بنتي؟ عن أي شيء تتكلم؟)
فتشجعت وسألت: (أليس هذا بيت المدموازيل إيلين؟ معذرة إذا كنت مخطئاً!)
قالت: (بيت المدموزيل ايلين؟ ماذا جرى لعقلك؟ من أنت؟ أنها خادمة هنا!)
فأحسست أنه لم تبق لي قدرة على المضي في هذا الحوار، فاعتذرت لها مرة اخرى، وفررت
وصرت في الطريق، فأخرجت المنديل، وأقبلت على وجهي أمسح العرق المتصبب عنه في الشتاء، وإذا بالفتاة تقول بأرخم من صوتها الأول:
(سعيدة. . . هذا بوبي)
ومدت لي يديها به، فلم أتناوله، وتركته على كفيها وسألتها:
(هل أنت إيلين؟ قولي بسرعة!)
فقالت وهي متعجبة: (إيلين؟ كلا. . . إني. . . .)
فقاطعتها: (لا تقولي شيئاً. . . . هذا حسبي. . يكفي. . . . انك لست إيلين.)
قالت: (ولكني لا أفهم. . . .)
قلت: (ستفهمين كل شيء. . . بعد أن أتنفس وأشكر الله)
ثم قصصت عليها الحكاية، فضحكت، ولما سكنت الضجة، واستطاعت أن تتكلم أخبرني أني غلطت، وأن هذا مسكن جيران، وأن كلبهم كان قد ضاع، فرده عليهم بعضهم، وأن هذه السيدة الضخمة لابد أن تكون قد استرابت بي، وشكت في أمري، لأنها تعرف الذي أعاد الكلب، ففهمتُ السبب فيما بدا مها من الجفوة، ولماذا تركتني واقفاً على عتبة الباب وأبت أن تدعوني إلى الدخول(85/18)
فقلت: (إذن ناوليني بوبي. . . . .)
وحملته عنها وصدعت معها إلى أمها. . .
وضحكنا كثيراً في ذلك المساء، ولا أحتاج أن أقول إني نسيت صديقي وعشاءه. . .
ابراهيم عبد القادر المازني(85/19)
النزاع بين إيران والعراق
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان مما عرض على عصبة الأمم في دورتها الأخيرة الخلاف بين إيران والعراق على مسألة الحدود؛ ولكن مجلس العصبة لم يشأ كعادته أن يبادر إلى درس خلاف يخشى أن يحول تعقيده وخطورة العوامل والاتجاهات المتصلة به إلى فشل العصبة في بحثه باستقلال ونزاهة؛ ولهذا آثر بعد بحث المسائل الشكلية أن يرجئه إلى دورة أخرى عسى أن يوفق الفريقان المتنازعان إلى تسويته بمفاوضات مباشرة، فينجو المجلس بذلك من الحرج والتعرض إلى فشل يزيد في ضعف العصبة وانحلال هيبتها
ومما يبعث إلى أشد السف أن ينشب مثل هذا الخلاف بين دولتين شرقيتين كإيران والعراق تربطهما صلات تاريخية قديمة ترجع إلى عصور وآماد بعيدة، وتجمع بينهم مصالح مشتركة اقتصادية وسياسية وعسكرية، ويضاعف هذا الأسف ألا تستطيع الدولتان الشقيقتان حسم هذا الخلاف بالتفاهم المباشر، وأن تضطرا إلى عرضه على هيئة دولية دلت سوابقها وأعمالها في بحث المسائل الشرقية على أنها لا تملك بحثها دائماً بحرية ونزاهة، وأنها تتأثر غالباً بالنفوذ الأقوى. وفي هذا الخلاف، على رغم قيامه بين دولتين شرقيتين، ما يهم بعض الدول الغربية ذات لمصالح والنفوذ
والخلاف الايراني العراقي قديم يتناول علائق الدولتين منذ ظهور العراق في الوجود كوحدة سياسية خاصة، أعني منذ خاتمة الحرب الكبرى؛ وقد كان من نتائجه أن لبثت إيران مدة أعوام طويلة تصر على عدم الاعتراف بالعراق الجديدة، ولم تعترف بها إلا في سنة 1929 نزولاً على سعي لسياسة البريطانية. وإذا قلنا باضطراب العلائق بين إيران والعراق في تلك الفترة، فمعناه اضطراب العلائق بين إيران وبريطانيا العظمى التي كانت يومئذ تسيطر على أقدار العراق وتتولى توجيه علائقه الخارجية، وقد كان يرجع أحياناً إلى أسباب خارجة عن العراق ذاته، كالخلاف بين إيران وانكلترا على مسألة البحرين، وأحياناً إلى أسباب تتعلق بالعراق مباشرة كالخلاف على الحدود، واقتحامها بين حين وآخر من بعض رعايا هذا الفريق أو ذاك، أو على بعض المسائل التجارية وغيرها. ولما حصل العراق على استقلاله بعقد المعاهدة العراقية الانكليزية في صيف سنة 1930 سعي إلى(85/20)
التفاهم مع جارته، وانتهت جهود الفريقين في ذلك السبيل إلى شيء من النجاح، وقام المغفور له الملك فيصل بزيادة رسمية إلى طهران، وكان من نتائجها أن زاد التقرب بين الدولتين وسويت بينهما مسائل كثيرة، ولكن الخلاف على الحدود بقي على حاله، والظاهر أن إيران كانت تنظر لاثارته فرصة ملائمة
ويقع الخلاف الحاضر بين الدولتين على الحدود الايرانية العراقية مما يلي شط العرب في الجهة الجنوبية الغربية بالنسبة لأيران، والجنوبية الشرقية بالنسبة للعراق. ومعروف أن شط العرب هو الاسم الذي يطلق على المجرى المشترك الذي يندمج فيه دجلة والفرات قبل صبهما في الخليج الفارسي بنحو مائة ميل، وعليه تقع مدينة البصرة. وتبدأ الحدود الايرانية العراقية من الخليج الفارسي شرق شط العرب (بالنسبة لإيران) متجهة نحو الشمال بحذاء شط العرب وعلى قيد بضعة أميال منه، ولا تتسع هذه الشقة الضيقة بين شط العرب والحدود الايرانية إلا عندما تحاذي البصرة تقريباً، وتستمر الحدود شمالاً محاذية لنهر دجلة وتتسع تدريجياً حتى يصير بينها وبين بغداد نحو سبعين ميلاً. وموضع الخلاف الحالي من الحدود هو الجزء الذي يحاذي شط العرب شرقاً ويفصل بين إيران وشط العرب، فان حكومة إيران تطالب به وتقول إن الحدود الطبيعية لايران يجب أن تكون هي شط العرب، ويجب أن تضع إيران يدها على الضفة الأخرى من النهر لتستطيع أن تعمل على تأمين حقوقها في حرية الملاحة فيه، ولكن العراق تعارض هذه الدعوى لأن الحدود الحالية بينها وبين إيران والتي تضع بمقتضاها يدها على شط العرب والشقة الواقعة بينه وبين الحدود الإيرانية، إنما قررت باتفاق جزءاً من تركيا، وقد تلقت العراق حدودها الحالية بمقتضى هذا الاتفاق، فهي لا تستطيع أن تتخلى عن شيء من أرضها والواقع أن هذه الشقة اتي تطالب بها إيران ذات اهمية عسكرية واقتصادية خطيرة، واستيلاء إيران عليها يجعلها إلى جان العراق سيدة الملاحة في شط العرب، ويهدد مركز البصرة ثغر العراق ومعقله الجنوبي؛ وللبصرة أهمية عسكرية خاصة بالنسبة للدفاع عن العراق
أما حجة إيران في المطالبة بهذه البقعة فهي أن الانفاق الذي عقدنه في شأن الحدود مع الدولة العثمانية سنة 1913 باطل لأنه لم يعقد في جو من الحرية، ولأنه لم يبرم لا في تركيا ولا في ايران، وأن دلالة بطلانه هو أن القيم الشمالي من الحدود الإيرانية التركية(85/21)
القديمة، وهو الذي يفصل اليوم بين إيران والجمهورية التركية قد رسم وعدل باتفاق جديد بين الدولتين باعتبار أن التخطيط القديم باطل لا يعول عليه؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان مقتضيات عملية ودولية توجب أن يكون شط العرب هو الحد الفاصل بين الدولتين؛ وتلقي إيران تبعه الخلاف على العراق، وتقول إنها لم يسعها حين التجأ العراق إلى عصبة الأمم إلا أن تقابلها أمام مجلس العصبة راجية أن تتمكن العصبة من بحث المسألة بما يحسم الخلاف ويضع الأمور في نصابها؛ وهو ما يدل على أن إيران لم تكن راغبة في طرح الموضوع على عصبة الأمم
ويلوح لنا أن الأسباب التي تستند إليها وجهة النظر الايرانية مما يصعب قبوله، لأن القول ببطلان معاهدة قائمة عقدت على أساس اتفاقات سابقة وقد نفذت نصوصها بالفعل، لا يسوغ من الوجهة القانونية؛ ولو جاز أن تفسخ المعاهدات برأي فريق واحد من المتعاقدين على نحو ما تقدم إيران، لما بقي للمعاهدات الدولية أية قيمة؛ وأما كون الحدود الشمالية عدلت مع تركيا الجمهورية، فذلك يرجع إلى اتفاق الفريقين؛ وليس هنالك ما يمنع أن يعقد مثل هذا الاتفاق بين إيران والعراق إذا ارتضت كل منهما عقده. ومشاكل الحدود تقوم في الأغلب على اعتبارات قومية، كأن يكون سكان البقعة المطالب بضمها من نفس جنسية الأمة المطالبة، وأن يعربوا عن رغبتهم في الانضمام إليها بصورة عملية، فهل تستطيع إيران مثلاً. أن تقول إن سكان الشقة التي تطالب بها وأن أغلبهم ينتمون إلى الجنسية الإيرانية؟ وهل يطالب هؤلاء السكان بالانفصال عن العراق والانضمام إلى إيران؟ هذا ما لم تستطع أن تعرضه إيران، ولو استطاعت لكان لها سنداً قوياً معقولاً
وأما عن طرح النزاع على عصبة الأمم، فان العراق هي التي لجأت هذه الخطوة، وهو ما لم تكن ترغبه إيران؛ والفريقان المتنازعان من أعضاء الخطوة، وهو ما لم تكن ترغبه إيران؛ والفريقان المتنازعان من أعضاء العصبة، وإيران بنوع خاص من أقدم أعضائها؛ وليس في الواقع ما يؤخذ على العراق في مسلكها، لأنها تصرفت طبقاً لما ينص عليه ميثاق العصبة صراحة في مادتيه الثانية عشرة والثالثة عشرة؛ إذ تنص الأولى على (أنه إذا ثار بين أعضاء العصبة خلاف قد يجر إلى قطع العلائق، فانهم يطرحونه إلى إجراءات التحكيم أو أمام مجلس العصبة) وتنص الثانية على انه (إذا ثار بين أعضاء العصبة خلاف(85/22)
يمكن تسويقه بالتحكيم؛ فانه إذا لم يمكن تسويقه بطريق المفاوضات السياسية، فانه يطرح برمته إلى التحكيم الاختلاف على تفسير معاهدة، أو على أي نقطة تتعلق بالقانون الدولي. . . . الخ)؛ ولكن الذي نعرفه من موقف إيران أمام العصبة هو أنها تأبى قبول التحكيم أو بعبارة أخرى الاختصام إلى محكمة العدل الدولية، بحجة أن دستورها الأساسي لا يسمح بذلك، وأنها تصر على بطلان المعاهدة المعقودة، فالمسألة بالنسبة إليها ليست خلافاً على تفسيرها، ولكنها لا تأبى المثول لدى مجلس العصبة، لي يبحث المجلس هذا الخلاف ويحاول أن يضع حداً له؛ ومتى أتمت العصبة بحث الخلاف، فان إيران تقوم عندئذ بمفاوضات مباشرة مع العراق لتسوية النزاع وحسمه بصورة عملية
ومع أنا نرجو أن توفق الدولتان إلى حسم هذا الخلاف الخطير سواء على يد مجلس العصبة، أو بطريق المفاوضات المباشرة، فانا لسنا نعلق كبير أمل على مجهود العصبة في هذا الشأن؛ بل يلوح لنا أن تدخل العصبة لم يكن مرغوباً فيه، لأن سوابق العصبة في نظرها وبحثها للمسائل لشرقية لا تشجع على حسن الظن بها خصوصاً إذا كان الامر ما يتصل بنفوذ إحدى الدول الكبرى، وقد أبدت عصبة الأمم أنها في بحث المسائل الشرقية تتأثر دائماً بما يحيط بها من مطامع ومصالح غريبة، وأقرب شاهد على ذلك، مسألة اعتداء إيطاليا على الحبشة وإغارتها على أراضيها بنية ظاهرة في الغزو والاستعمار؛ ومع ذلك فقد أبدت عصبة الأمم حين أرادت أن تلتجئ الحبشة إليها فتوراً ورغبة ظاهرة في التنحي عن بحث هذا النزاع، لأن إيطاليا لم ترغب في بحثه على يد عصبة الأمم. ولن يتغير اعتقادنا في العصبة بالنسبة لموقفها من النزاع الايراني العراقي، بغض النظر عن ظروفه الخاصة، فاعتقادنا دائماً أنها لا تستطيع معالجة هذه المسائل بروح من النزاهة والاستقلال
نرجو إذن أن يحسم الخلاف بين الدولتين الشقيقتين بالحسنى والاتفاق المباشر، خصوصاً وأن انكلترا من جهة أخرى تعلق أهمية خاصة على سلامة هذه البقعة من الأراضي العراقية. ذلك أن البصرة استثنيت من نصوص المعاهدة العراقية الانكليزية فيما يتعلق بالجلاء وبها قاعدة جوية عسكرية بريطانية هي إحدى قواعد الطريق الامبراطوري، وإيران من جانبها تتوجس من السياسة البريطانية في شبه جزيرة العرب، وتخشى أن يكون لها بما تنشئه من المطارات الحربية فيما وراء الفرات (تنفيذاً للمعاهدة العراقية(85/23)
الانكليزية) غايات أخرى غير تأمين المواصلات الامبراطورية. والعلائق بين إيران وانكلترا ليست على ما يرام، وهنالك عدة مسائل معلقة بين البلدان. ومنذ سنة 1922 ترتبط إيران بلا ريب، فاذا استطاعت إيران بالضغط على العراق أن تدفع حدودها إلى شط العرب، فإنها تكسب بهذا التعديل مزايا عسكرية خطيرة. وعلى هذا فمن صالح إيران والعراق أن تعمل كل منهما لحسم الخلاف تواً حتى لا تدع سبيلاً إلى التدخل الأجنبي، وعسى أن يكون في استئناف المفاوضات أخيراً في رومة بين مندوبي العراق وإيران مما يؤذن بقرب التفاهم والوئام بين الجارتين الشقيقتين
محمد عبد الله عنان المحامي(85/24)
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
هذه مقالات متفرقات شاعت في كثير من الأمم وقرأها الألوف الكثيرة من الناس، يربطها موضوع واحد، ويجري بها تسلس تاريخي واحد، كتبها العالم (بول دي كرويف) وقصد بها أن يكشف للجمهور بطريقة سهلة وفي لغة مؤاتية عن ذلك الصراع الذي بدأ منذ ثلاثة قرون بين الإنسان وبين المكروب، ويصف تلك الحرب الضروس التي قامت منذ حين قريب بيننا وبين هذه الاعداء الصغيرة التي عاشت من الأزل في رحابنا عيشة الاحلاف، وأقمت بين أظهرنا منذ كانت الحياة إقامة الأضياف، وفتكت بنا فتكا دونه فتك النار والحديد، تلك الجنود المجندة المروعة التي وجدنا أعظم خطرها في صغرها، وأشيد مراسها في دقتها، وأنكى دهائها في خفائها، سننشر قصتها تباعاً في الرسالة، وسيجدها القارئ المتتبع قصة على خطرها وعلى قرب مساسها بحياتنا، فيها ما في اقاصيص الادب من فرح ومن ألم، ومن فكاهة ومن مأساة، ومن غذاء للعاطفة الطبية لا يقصر عن غذاء يجسده في أقاصيص الحب وحكايات الغرام. فحكاية الصبر على المكاره ابتغاء تقع الإنسانية ومرضاة لوجه الله، حكايات لمن تخفق في تحريك القلوب الكريمة في الرجال الأكارم
المترجم
لوفن هو
أول غزاة المكروب
منذ قرنين ونصف نظر رجل خامل الذكر نكرة الاسم أول نظرة في عالم جديد غريب يسكنه ألوف الأجناس من أحياء صغيرة بالغة الصغر، يصفها وحشي ذو غداءٍ قتالٌ، وبعضها رفيق صديق نفاع، فكان هذا إيذاناً يفتح مبين أكبر خطر واجدى على الإنسان من قارة يكتشفها وجر يستعمرها(85/25)
وكان أسم هذا الرجل (لوفن هوك اسم عفى عليه النسيان أو كاد، ورجل لم يشد بذكره أحد، يجهله الناس اليوم كما كانوا يجهلون حيواناته ونباتاته الضئيلة يوم أن رفع الغطاء عنها. هذه قصته، قصة أول كاشف للمكروب، تتلوها قصص من تبعوه من كشاف المكروب ومقاتلة الموت، وهي قصص ساذجة بسيطة لقوم جريئتين لحاجين متشوفين مثابرين، أطلوا على هذه الدنيا الجديدة العجيبة، دنيا المكروبات، وأطالوا النظر فيها وتابعوه في غير ملل أو كلل، وأرادوا فوق ذلك أن يشبروها ويمسحوها ويجعلوا لمجاهلها ومعاميها خرائط واضحة مبينة، فأخذوا يتحسسون في الظلام، ويمدون أكفهم متلمسين غير لامسين، فيستقيمون حيناً ويخطبون أحياناً، ويصيبون مرة ويخطئون مراراً، لحلوكة المكان ووعورة المسير.
ومهم جماعة غلوا في الجرأة فقتلتهم تلك الخلائق الصغيرة التي كانوا يدرسونها فلم يصيبوا جزاء ما عملوا إلا مجداً صغيراً مستوراً
في أيامنا هذه لا يؤخذ على المرء أن يكون رجل علم، ورجال العلم اليوم عنصر خطير من العناصر التي تتألف منها سكان البلاد المتحضرة؛ معاملهم في كل مدينة، وأعمالهم على الصفحات الأولى من الجرائد، تذاع في الكثير الغالب ولما يتم نضاجها، وكل متخرج شاب في جامعة يستطيع أن يبحث في العلوم جهاراً، وفي منته رويداً رويداً أن يصير أستاذاً يدرس بمرتي فيه غناء، وأن يستمتع بالسكن الهادئ في بيت صغير مريح. ولكن احمل نفسك إلى عصر (لوفن هوك)، إلى خمسين ومائتي سنة إلى الوراء، وتصور نفسك قد رجعت إلى داراك من آخر درس في آخر سنة من مدرستك الثانوية، وبدأت تفكر فيما تتعلم من بعد ذلك لتخلق لنفسك مستقبلاً، وتهيأت تطلب المزيد من العرفان العالي، من العلم الجر، من البحث الطليق. . . هيهات
او تصور ان التكلف، ما كنهه، ما سببه: تسال والدك ليقول لك: لعنة من روح خبيثة دخلتك. هذا جواب قد لا يقنعك، ولكن مع هذا تصدقه، أو على الأقل تتظاهر بتصديقه، ثم لا تعود تفكر في الكاف ولا في كنهه ولا في سببه، ثم تنساه نسياً ابدياً، لأنك لا تستطيع ان تجهر بمناقضة ابيك ولو قال نكراً، ولأنك إن فعلت اذاقك مس العصا او طرد البيت. فابوك ذو سيادة مطلقة لا تُنازع ولو جائرة(85/26)
هكذا كانت الدنيا منذ ثلاثة قرون، يوم ولُد (لوفن هوك). كانت دينا مليئة بالخرافات، مغلولة بالأباطيل. دنيا أحرقت سؤفيتوس لانه تجرأ على تشريح جثة ميت ليختبرها ليعلم ما فيها. دنيا قضت على جاليليو بالسجن المؤبد لأنه تجاسر فحاول أن يثبت أن الأرض تدور حول الشمس. دنيا كانت على وشك أن تستيقظ لليقين ولكنها لم تكد، وأن تفك عن عنقها غل الجهل ولكنها لم تكن فعلت، وأن تحمر خجلاً من عار ما هي فيه فلم يبد في وجهها إلا مسحة تُخال من حُمرة. دنيا كان العلم فيها يدرج دَرَجان الطفل على ساقين ضعيفين مرتعدتين في بطء وخشية، وما كان العلم إلا استطاع الحق بالنظر الدقيق والتفكير الواضح البريء
ولد (لوفن هوك) عام 1632 بين طاحونات الهواء الزرقاء والطرقات الواطئة والقنوات العالية بمدينة (دلفت بهولاندة. وكانت أسرته ذات حُرمة كبيرة. أقول كبيرة لأنهم كانوا سلالين وكانوا خمارين، والخمارون قوم محترمون مشرفون في هولاندة. ومات أبوه فأرسلته أمه إلى المدرسة ليصير موظفاً في الحكومة، ولكنه ترك المدرسة في سن السادسة عشرة، وتتلمذ لقماش بمدينة أمستردام فكان حانوت هذا القماش جامعته. تصور رجلاً علمياً من عصرنا هذا يجري اختباراته وتجاربيه بين أثواب الشيت وقرع أجراس الصيارفة، وبين الحديث إلى ربات المنازل تتوالى عليه في دورة لا تنقطع وكلهن حريصات يساومن للقرش والمليم! تلك كانت جامعة (لوفن هوك) ستة أعوام
وفي سن الحادية والعشرين ترك لحانوت ورجع إلى (دلفت) وهناك تزوج وفتح حانوتاً لبيع المنسوجات واختص به. ولا ندري عنه في السنوات العشرين التي تلت ذلك إلا أنه تزوج مرة اخرى وكان له بضعة أطفال مات أكثرهم. ولكن ما لا شك فيه أنه تعين حاجباً في دار بلدية المدينة في هذه الاثناء، وأنه شُغف بنحت من الزجاج الرائق عدسات صغيرة فيتقن النحت ثم ينظر إلى الأشياء من خلالها يجدها أكبر كثيراً مما تراها العين
إن المعروف عنه بين سن العشرين وسن الأربعين قليل، ولكن لا ريب في أنه عاش بين الناس كبعض الجهال فلم يُعرف عنه علم ولم تظهر له بينهم قيمة، واللغة الوحيدة التي عرفها هي اللغة الهولاندية، وهي لغة خافية خاملة كان ينعتها أهل العصر بأنها لغة السماكين وأصحاب الدكاكاين والصعاليك من الفعلة. أما المثقفون في تلك الأيام فكانوا(85/27)
يتكلمون اللاتينية. ولم يكن (لوفن هوك) يقرأها بَلْهَ الكلام بها. وكان كل ما يعرف من كتب الأدب الانجيل الهولاندي. ولكن مع هذا، وبالرغم من كل هذا، ستجد أم جهله أعانه كثيراً؛ فجهالته قطعت ما بينه وبين العلم الفارغ الزائف الذي كان شائعاً يومئذ، فاضطر إلى الرجوع إلى عينه، والاعتماد عل فكره، والاعتداد بحكم نفسه، وكان في خلقه حرونة البغال فساعده ركوب رأسه على اقتحام الطريق الذي سلك
لا مراء في أن رؤية الشيء من خلال عدسة، ووجدانه أكبر مما ترى العين، أمر فيه متعة وفيه سرور وفيه غبطة. ولكن من أين للوفن هذه العدسات! يشتريها؟ هيهات ولو قطعوا رأسه. وكان كثير الشك كثير الاتهام، فلم يجد بداً من صنعها بنفسه. وفي العشرين سنة التي لم نسمع فيها عنه ذهب إلى صناع النظارات وتعلم مباديء نحت الزجاج، وخالط الكيميائيين والصيادلة وتدخل في أعمالهم ونفذ إلى أسرارهم، فعلم كيف يستخرجون المعادن من خاماتها، وأخذ عنهم بُجهد النفس صياغة الذهب والفضة. وكان لا يعجبه العَجَب، فلم تُرضه العدسات ينحتها كأحسن ما ينحت نحاتو هولانده، فكان يعيد عليها الكرة بعد الكرة ساعات طويلة، ثم يركبها بعد ذلك في مستطيلات صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب مما استخرجه هو بنفسه من الخام على جمرات الفحم المتقدة بين الروائح الغريبة والابخرة الخانقة. إن الباحث اليوم يدفع الخمسة عشر جنيهاً أو نحوها فيقبض بديلاً منها مكرسكوباً جميلاً بارقاً يدير لوالبه وينظر فيه فيكشف ما يكشف وهو لا يعرف كيف صُنع مكرسكوبه ولا كيف تركب. أما (لوفن هوك) فلم يكن يأخذ بشيء أخذ تسليم
بالطبع كان جيرانه يظنون به بعض الخيل، ولكن (لوفن) لم يأبه لهم، ومضى في عمله تتنفط يده وتحترق اصابعه ويشتغل ساعات الليالي الطويلة الهادئة وحيداً منكباً على أعمال صعبة دقيقة، ناسياً أهله أصدقاءه. وكان جيرانه الاخيار الطيبون يتسارقون الضحك منه بينما كان يشق لنفسه طريقاً عسيراً إلى صناعة عدسات صغيرة جداً قطرها دون ثُمن البوصة، غايةٍ في التماثل، غايةٍ في الكمال، بلغ منها أن أرته دقائق الأشياء كبيرةً ضخمة في صفاء وروعة. نعم إنه لم يكن كبير الثقافة، ولكنه كان من بين رجال هولانده الرجلَ الفذ الذي استطاع أن يخلق هذه العدسات. وكان إذا ذكر جيرانه يقول: لقد حق علينا أن نغفر لهم فهم قوم لا يعلمون(85/28)
ثم بدأ هذا القماش يصوب عدسته إلى كل شيء وجد، فنظر بها ألياف عضلات الحيتان، ونظر بها ما كشط من جلد نفيه. وذهب إلى القصاب يستجديه أو يشترمى منه عين ثور، وأخذها وامتحنها ونظر إلى عدستها البلورية الجميلة فراعه منها تركيبها البارع. وجاء بشعرات من صوف خروف فأخذ يحدق فيها ثم يحدق، وبأخرى من فرو كلاب الماء، وبثالثة من بعض الأوعال، وأخذ يحدق فيها ثم يحدق، فتراءت له هذه الخيوط الدقيقة الملساء تحت قطع زجاجه الصغيرة كفروع الشجر كبراً وخشونة. وشرح رأس ذبابة، فحاذر وحاسب حتى أخرج منه مخها، وجمله على إبرة رفيعة، ونظر إليه بمكرسكوبه فأعجب بتفصيلات هذا المخ الكبير. واختبر قطاعات خشبية ليضع من أشجار مختلفة، وامتحن بذور النباتات، ونظر النظرة الأولى إلى فم البرغوث وإلى أرجل القملة فوجدها جميعاً كبيرة غاية في الكبر، مفصلة غاية في التفصيل، كاملة غاية في الكمال، فاتهم عينه أو كاد. كان (لوفن هوك) كالجرو يتشمم كل ما حوله فلا يميز الطيب من الخبيث، ولا يعوقه عائق من عرف أو أدب
- 2 -
وكان (لوفن هوك) رجلاً شكاكاً ملحا في شكه، ينظر إلى زباني النحلة أو إلى رجل القملة، ثم ينظر، ثم يكرر النظر حيناً بعد حين. ثم يترك كل هذا عالقاً إلى طرف منظاره ليصنع منظارات اخرى ليرى أشياء أخرى. ثم يعود إلى أشيائه الأولى ليتحقق مما كان رأى أولاً. فتجمع بذلك لديه مئات المكرسكوبات. ولم يكن يكتب عما يرى حرفاً، أو يرسم له رسماً، حتى يؤكد بعد مئات النظرات أنه في الظروف الواحدة والملابسات الواحدة يبصر دائماً أموراً واحدة. وبعد كل هذا كانت لا تفوت الريبةُ قلبه: قال فيما قال عن هذا: (ينظر الناظر في المكروسكوب أول مرة فيقول رأى كذا، خداعٌ لا ينجو منه حتى النظار الحاذق. لقد انفقت على مشاهداتي زمناً طويلاً لا يتسع له تصديق الكثيرين، ولكني انفقه في سرور ولذة، ووضعت إصبعي في أذني كلما سمعت الناس يقولون: ولم كل هذا التعب؟ وما العائدة من هذا النصب؟ فان هؤلاء قوم لا يفقهون، وأنا إنما أكتب لطلاب الفلسفة ورواد الحكمة. .)
وظل هكذا بعمل من غير راءٍ ولا سامع، من غير مادح مصفق أو مهلل مكبر، مدة بلغت(85/29)
العشرين عاماً
ولكن في هذا الوقت، في منتصف القرن السابع عشر، اخذت الاعوام تتمخض في العالم عن احداث عظيمة، ففي انجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي كل ركن وبين كل ملأ، أخذ رجال ينظرون من جديد في كل شيء يقال له علم، وفي كل أمر تُنتحل له لفظة الحقيقة، قالوا: لن يغنينا بعد الآن ما تحدث به أرسطو ولا ما أرتاه البابا. لن يغنينا بعد الآن إلا ما تراه أعيننا باطالة النظر وإدامة الملاحظة، وإلا ما تجده موازيننا وتكشف عنه تجاريبنا)
وكان في انجلترا من بين هؤلاء الثائرين نفر قليلون ألفوا فيما بينهم جماعة أسموها (المدرسة المتسترة). وكان لابد لهم من التستر خشية على رقابهم من حبال المشانق (فكرومويل) كان رب هذا العصر والحاكم بأمره فيه، فلو أنه علم بهم، وعلم بالأقضية الغريبة التي يبحثون، لقضي على أهل البدعة المؤتمرين بالموت. . . . وكان من بين هذا النفر المتستر (ربوبرت بوبيل) واسحق نيوتن وارتقى شارل الثاني عريش ملكه فخرجت تلك الجماعة من الظلام إلى النور، ومن غيهب الجب الستار الذي كانت تعمل فيه إلى نهار وضاح مذياع ينشر اسمها الجديد إلى الرياح الأربع. وتسمت بالجمعية الملكية الانجليزية وكانت هذه الجمعية الوقور الجليلة أول مستمع إلى (لوفن هوك)، وذلك أنه كان في مدينة (دلفت) رجل يسمى (رجنيير دي جراف) كان قد كشف في مبيض الأنثى من البشر عن أمور ذات قيمة وخطر، فكتب بها إلى الجمعية الملكية فكافأته فاختارته عضواً مراسلاً. وكان (دي جراف) الرجل الوحيد من بين رجال (دلفت) الذي لم يضحك من (لوفن هوك)، وكان (لوفن) قد تجهم للناس وتنكر لهم مما هزءوا منه وأساءوا اليه، ومع ذلك أذن لـ (دي جراف) أن ينظر بعيون بابل التي صنعها: أن ينظر بتلك العدسات الصغيرة التي لم يكن يوجد مثلها في أوربا ولا في انجلترا بل ولا في العالم كله. نظر (دي جراف) في تلك العدسات فأكبر ارأى، وتصاغر في عينه مجد كسبه، وأسرع فكتب إلى رجال الجمعية الملكية يقول اكتبوا إلى لوفن هوك واسألوه أن يكتب اليكم بالذي اكتشف
وأجاب (لوفن) رجاء الجمعية فكتب إليها بلغة الواثق الجاهل قدر الفلاسفة العظام الذين يكتب اليهم. وكان كتاباً طويلاً ثرثاراً مضحكاً لا أثر للصناعة فيه، تناول من الموضوعات كل ما دارت عليه الشمس. وان مكتوباً بلغة التخاطب الهولاندية وهي اللغة الوحيدة التي(85/30)
عرفها. وعنون كتابه: عينة من ملاحظات مكرسكوبية ابتدعها المستر لوفن هوك تتعلق بالفطر على الجلد وفي اللحم وهلم جرا، وكذلك تعلق بُحمَة النحلة ونحوها.
وجاء الكتاب الجمعية فأدهشها ما فيه، وقرأه السفسطائيون فيهم والعلماء فتبسموا منه وتفاكهوا عليه، ولكن على الجملة راعهم ما قال (لوفن) إنه رآه بعدساته الجديدة، وكتب اليه كاتب الجمعية يشكره ويرجوه أن يُتبع كتابه كتباً أخرى، وقد كان، فقد اتبعه (لوفن) بمئات من الكتب طيلة خمسين عاماً. وكانت كتباً ثرثارة مليئة بقوارص الكلم عن جيرانه الجهال، فضح فيها أدعياء، وكشف فيها عن خرافات وأضاليل كشف خبير قدير، وتحدث فيها عن نفسه وعن صحته، وأتي فيها بأشتات من كل ما هب ودبَ، ولكنها أحاديث برغم تبسطها، وبرغم شتاتها، كانت تتحشى هنا وهناك، وفي كل كتاب تقريباً، بأوصاف دقيقة مجيدة خالدة لما كشفته عين هذا التاجر. وطالعها لوردات الجمعية وسادتها فكانت لهم متعة وفخراُ
(يتبع)
أحمد زكي(85/31)
أصول التحقيق الجنائي في التشريعين الأوربي
والاسلامي
للأستاذ بشير الشريقي
إن موضوع (أصول التحقيق الجنائي) أعني الأساليب المتبعة لأثبات الأفعال الجُرمية هو من أهم موضوعات (العلم الجنائي)، هذا العلم الذي ينظم إيقاع العقاب على من يخالف أمر القانون أو نهيه
إن أهمية هذا العلم وخطره يظهران واضحين في نتيجته الضرورية، وهي الحكم بالعقوبة على من ثبتت جريمته، عقوبة تحرم المتهم المقرر تجريمه أقدس حقوقه، من ماله وحريته بل من حياته أيضاً
لقد تعاقب على أصول التحقيق الجنائي في أوربا أسلوبان أصليان يعرف أولهما بالأسلوب (الادعائي) وثانيهما بالأسلوب (التحقيقي). ظل الأسلوب الادعائي سائداً في أوربا حتى القرن الخامس عشر، ومن مقتضاه أن يرجع القاضي عند عدم اقناعه بالشهادات المسرودة أمامه واصرار المتهم على إنكار الجرم إلى ما يسمونه (حكم الله) ليفصل بين المتداعيين. أما حكم الله فقد كان يتجلى للقاضي بالمصارعة، والماء الغلي، والكي بالنار!
ثم أحلوا الأسلوب (التحقيقي) محل الأسلوب الادعائي حوالي القرن الخامس عشر للميلاد، فكان التحقيق يجري فيه بين جدران خرساء وفي خلوات متتابعة، بين حاكم مجرب يميل بحكم العادة المسلكية إلى أن يرى في الظنين مجرماً، وظنين عاجز عن الدفاع مضطهد في السجن ومستعد للإدلاء بإفادات ضارة فاضحة، وكان قضاة هذا الأسلوب، حينما لا يظفرون - بعد صفحات التحقيق المختلفة - بأدلة كافية لأخذ المتهم، وبكلمة أصح، حينما لا يظفرون بشيء ضده؛ يأمرون بسوق المسكين إلى حجرة التعذيب للحصول على اعترافه، وعلى ما في هذا الاسلوب الاستنطاقي من قسوة ووحشية، فقد كان يظهر للاوربيين طبعياً جداً وضرورياً، حتى انهم كانوا يطلقون عليه اسم (المسألة القضائية)!. ويذكر الاستاذ (جارو) هذه الأصول في موجزه (الأصول الجنائية) جزء 1 فقرة 23) فيقول: (. . . مع أن استعمال التعذيب كان عاماً، فان طرق استعماله كانت مختلفة، باختلاف البلاد والبرلانات، وبينمت كان التعذيب بالماء والآلات المخصصة لتعذيب المتهم في أعضائه(85/32)
السفلى، جارياً ومقبولاً في اجتهاد منطقة برلمان (باريز) فقد كانوا في منطقة (بريطانيا) يستعملون التعذيب بالنار!. .)
ويصور الكاتب الفرنسي الكبير (ميشيل زيفاكو) كيف كان يجري التحقيق الجنائي في عهد فرانسوا الأول (1494 - 1547) فيقول (. . . فاذا عرض إبهام وغموض في إحدى القضايا، أمر القاضيان بأن يساق المتهم إلى حجرة التعذيب، وإذ ذاك لا تنقضي عشر دقائق حتى يقول احد القاضيين: لقد برح الخفاء وظهر المستور، فيقول رفيقه: آمين!! وذلك أن المتهم المسكين إذا ألقي إلى معاناة التعذيب والتنكيل يقر بكل ما يريدون الاقرار به، وقد يعترف بعضهم بذنوب لا يصورها إلا الخيال أو هي فوق الامكان كاقرار المتهمين بأنهم يراسلون الشياطين أو يحمون مردة الجن، أو يطيرون في الهواء!)
ظل هذا التشريع في أصول التحقيق يظلم الأوربيين ويعذبهم أعواماً وقروناً طويلة لم يفكروا خلالها في تغييره أو مقاومته، وكيف يفكرون في ذلك وهم يعتبرون ان قسوته واجحافه من الشدة الضرورية؟!. إلى أن جاءت الثورة الفرنسية 1789 واعلنت حقوق الإنسان، عندها فقط عمد رجال العقل والفكر في الجمعية التأسيسية إلى إصلاح مفاسد الحقوق المرعية بوجه عام، والحقوق الجنائية بوجه خاص، فنجحوا في ذلك نجاحاً عظيماً
تلك هي أصول التحقيق الجنائي في أوربا بقيت حتى الثورة الفرنسية وفيها ما فيها من بشاعة وظلم يوقع في انواع من الفوضى والفساد، واساليب فظة غليظة لا تلائم سياسة الامم بالعدل ولا توافق حال العمران، وانما تكشف عن مبلغ ما كان يسود اوربا حتى سنة 1789 من جهل وغباوة وظلم وفساد
وبعد فلنر كيف كان قضاة العرب المسلمين منذ ثلاثة عشر قرناً يحكمون بين الناس، واي الاساليب كانوا يتبعون لا ثبات الافعال الجرمية!: جاء في كتاب (الخراج) للأمام ابي يوسف المتوفي سنة 182هـ ص107 ما يأتي:
(. . . ومن ظن أو توهم عليه سرقة أو غير ذلك فلا ينبغي أن يعزر بالضرب والتوعد والتخويف فان من أقر بسرعة أو بحد أو بقتل، قد فعل ذلك به، فليس إقراره بشيء ولا يحل قطعه ولا أخذه بما أقر به)
انه لقضاء عادل ونظر قويم ورأي سديد، يتفق واحدث قواعد العلم الجنائي، ويبرهن أعظم(85/33)
برهان على أن العرب المسلمين كانوا من أعرف الناس بحق المجتمع وحق العدل، ومن أكثرهم فطنة وعراقة في أصول القضاء العادل
يقول الأستاذ (جارو) في موجزه (الأصول الجنائية جزء 2 فقرة 408): (إن التجديد الأعظم في أصول التحقيق كان في قانون 1897 الذي يوجب على المستنطق أن ينذر الظنين ويخبره بأنه يقدر ألا يدلي بشيء من البيانات والإفادات)
ونقول أيضاً إن هذا (التجديد الأعظم) هو عين ما كان يفعله قضاة العرب عند مثول المتهم أمامهم، فقد جاء في كتاب الخراج الذي نبحث عنه ص107 ما يأتي: (وقد كان يبلغ من توفي أصحاب رسول الله (ص) الحدود في غير مواضعها، وما كانوا يرون من الفضل في درئها بالشبهات أن يقولوا لمن أتى به سارقاً: (أسرقت؟ قل لا)
إن هذا لعمر الحق منتهى الدقة والعلم، منتهى الاحتياط في حفظ الحقوق
وإليك ما جاء في كتاب (الطرق الحكيمة) ص4 لمحمد ابن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 هجرية في موضوع (الأقرار) وهو مما يتصل ببحث التحقيق (. . . إن الاقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت اليه أبداً) (لبينة والاقرار خبران يتطرق اليهما الصدق والكذب) و (الحكام إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية كجزيئات وكليات الأحكام أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم بطلانه، ولا يشكونه فيه اعتماداً منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وسائر أحواله)
هذا ما يقوله ابن القيم في موضوع (الإقرار) ومنه يستدل على ان قضاة العرب لم يكونوا في قضائهم يقفون عند مجرد ظواهر البينات، وإنما يحكمون بقناعتهم ووجدانهم وفراستهم أيضاً، وإن في ذلك لفطنة وذكاء وصدقاً، خصوصاً ومسألة (القناعة الوجدانية) مسألة كبيرة تعتبر من أمهات المسائل في العلم الجنائي الحديث، يلاحظ في إهمالها إضاعة حق كبير وإقامة باطل كثير؛ وقد ذكر الاستاذ (جارو) ذلك في موجزه (الأصول الجنائية) جزء 2 فقرة 377 فقال: (لا ينبغي الحكم بمجرد وجود الاقرار إذ أن موضوع المحاكمة ليس الفصل في منافع خاصة، وإنما هو إظهار الحقيقة وكشفها، ولذاك يجب التدقيق عما إذا كانت ظروف القضية الاقرار صحيحاً)(85/34)
واستمع أيضاً إلى ابن القيم يشرح في طرقه الحكيمة ص174 - 180 اوفى واوضح شرح؛ موضوع علم القاضي الشخصي: (ما علمه القاضي في زمن ولا يته ومكانها وما علمه في غيرها) هذا الموضوع الدقيق جداً في علم الحقوق. قال رحمه الله:
(ومن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (. . . فأقضي له على نحو ما أسمع) واما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فصح عن ابي بكر الصديق انه قال: (لو رأيت رجلاً على حد من حدود الله تعالى لم آخذه حتى يكون معي غيري). وعن عمر بن الخطاب انه قال لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلاً قتل أو شرب أو زنى، قال شهادتك شهادة رجل واحد. فقال له عمر صدقت) وعن طريق الضحاك ان عمر اختصم اليه فيمن يعرفه فقال للطالب: (إن شئت شهدت ولم أقض وان شئت قضيت ولم أشهد) وعن علي نحوه، وأما الآثار عن التابعين فصح عن الشعبي أنه قال: (لا أكون قاضياً وشاهداً)
وهم يدللون على صواب هذه المسألة بقولهم: (إن القاضي في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حكام، وشهادة الفرد لا تقبل، قالوا وأما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها لانه خصم فيها، لأنه حق الله تعالى وهو نائبه). . . وهل يسوغ للحاكم ان ياتي إلى رجل من الناس غير مشهور بفاحشة وليس عليه شاهد واحد فيرجمه ويقول رأيته يزنى، أو يقتله ويقول سمعته يسب، او يفرق بين الزوجين ويقول سمعته يطلق، وهل هذا غلا محض التهمة، ولو فتح هذا الباب ولاسيما لقضاة هذا الزمان لوجد كل قاض له عدو، السبيل إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه والتفريق بينه وبين امرأته، لاسيما إذا كانت العداوة خفية لا يمكن لعدوه اثباتها)
وقد يحسن بنا بعد هذه المقارنة بين اصول التحقيق الجنائي في التشريعين الاسلامي والاوربي، ان نختم موضوعنا بكلمة جامعة للعلامة جلال الدين السيوطي تدل على سمو الغاية، وكمال المسمى الاسلامي في التشريع القائم على تحقيق العدل وضمان المصالح الإنسانية، وفي هذه الجملة تتجلى حيطة لقاضي النزيه، وخشيته ان يأخذ البريء بعقوبة المذنب. قال رحمه الله: (اعلم انك ان تخطيء في العفو في الف قضية، خير من ان تخطيء في العقوبة في قضية واحدة)
شرق الاردن(85/35)
بشير الشريقي المحامي(85/36)
جمال النكتة في الشعر
بقلم الأستاذ الحوماني
صاحب مجلة العروبة بيروت
النكتة في أصل اللغة هي النقطة البيضاء في الشيء الأسود، أو السوداء في الشيء الأبيض، اخذها البيانيون لكل معنى يترك في النفس لدى كشفه أثراً تظهر معه بمظهر الروعة والاعجاب. ولا يخفى الشبه بين الحقيقتين اللغوية والاصطلاحية، فكما أن النفس ترتاع لمنظر السواد في البياض كالحور في العين. ولمنظر البياض في السواد كالقمر في الليل، فكذاك تأخذها الروعة لسماع قطعة من النثر قد ضمنها الشاعر معنى أخرجه بين دقة نظر وإمعان فكر، فهي في عرض الحديث أو القصيدة بارزة الجمال بروزها في سواد الليل قمرا، وفي بياض العين حَوَرا
والنكتة البيانية كما تكون في العلم نتيجة إعمال الفكر، تكون في الفن وليدة إبداع الخيال، وتكون وليدة الطبع أو التطبع، وإذا جاءت هزليةً دعيت فكاهة، وما أثقل على السمع أن يهزل بها متكلف، وإذا كانت جدية كانت وليدة الحذق وحدة القلب، أما الهزلية فتكاد تكون قاصرة على الطبع
قد يرى البعض أن النكتة في الشعر محض فن لأرواح معه، والذي يوهمهم ذلك هو ظنهم أن الشاعر إنما ينظم النكتة وهو غير متأثر، فهم يحصرون التأثر النفسي في جانب العواطف الثائرة لحزن أو سرور، والنكتة عندهم مجرد التفات الفكر إلى غريب معنى يكتشفه وهو يتحقق أو يتخيل، بينما تكون العاطفة هادئة مطمئنة؛ ولو لفتهم العقل إلى ما تتأثر به نفوسهم لدى سماعهم هذه النكتة من روعة وجمال ثم التفتوا ثانياً إلى أن تأثر السامع إنما هو نتيجة تأثر القائل لاستراحوا من هذا التأويل، ولعلموا أن النظم إذا صدق عليه أنه شعر، كانت روح الشاعر متغلغلة فيه، ولكن هذه الروح تبدو جلية في حين وتخفي على الفهم البسيط في حين آخر، وليس تأثر النفس الشاعرة قاصراً على ما يبعث الحزن أو السرور فيها، وإنما يتعدى ذلك إلى كثير من أفعال الوجدان، كالدهشة، والغضب، والذعر ونحوها
يلتفتون إلى أن النكتة في الشعر إنما تنشأ عن تنبه الفكر إلى غريب معنى يكتشفه وهو(85/37)
يتخيل أو يتبين الحقائق، ويغفلون عن روعة النفس وتأثرها بما تشعر من وراء هذا الاكتشاف، فاشمع نفح الطيب يروي لك جمال النكتة في الشعر عن شعراء الأندلس:
أعوذ بالله من أناس ... تشيخوا قبل أن يشيخوا
احدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخرخ
مناط تأثر الشاعر في هذين البيتين ما يشعر به من تدليس المرائين، ولعلهم المنافقون الذين يسرون الكفر ويظهرون الايمان، وجمال النكتة منهما في البيت الاخير، وهي فيهما قاصرة على الفن، وليست من الفن مجرد حمل الفخاخ على ظهورهم بجامع التقويس كما تشبه الناقة الهزيلة بالقوس، والهلال بالعرجون القديم، إذ ليس غرض الشاعر بيان أن ظهورهم محنية كالأقواس أو الفخاخ، ولكن غرضه أن يلفت العامة إلى أن وراء تقويس ظهورهم المكذوب ما وراء تقويس الفخوخ من رياء وتضليل وغشٍ وخداع، فلم يتقوسوا لكبرٍ أو عجز، بل ليخدعوا الرأي فيطمئن إليهم في إصلاح نفسه، ويجعلهم محل الثقة من دينه ودنياه فيمدوا إذ ذاك أيديهم إلى ذات يده ويمعنون فيها بزاً واختلاساً
ولكن ما يجب أن ينتبه له هنا هو أن القنص علة للغش والخدعة، وهما علة للتقويس، وأما في الفخاخ فالقنص له معلولان لا يترتب أحدهما على الآخر: هما التقويس والخدعة. فالتقويس يلحق الآلة التي تقبض على الطريدة، والخداع يكون بواسطة طعم يناط بالآلة الموارد خلفه
فالخداع في المشبه على التقويس، والقنص يترتب على الخداع، فالرجل المرائي يتقوس ليخدع، ويخدع ليقنص، وأما الفخ فيتقوس ليقبض وبناط به الطعم ليخدع، هكذا يتبين الفرق جلياً بين المشبه والمشبه به
وجميل في النكتة قول الآخر من شعراء نفح الطيب أيضاً:
يا بدر يا شمس يا نهار ... أنت لها جنة ونار
تجنبُ الثم فيك اثمُ ... وخشية العار فيك عار
النكتة تتحقق هنا في ادعاء الشاعر لمحبوبه جمالاً يبلغ بالهائم فيه حداً يرى معه الحسن في المجتمع قبيحاً والقبيح حسناً، وادعائه أن من رأى حبيبه حمله جماله على أن لم يعذره في اقتراف الاثم معه فحسب، بل جعل تجنبه للاثم فيه من الاثم، وخشية العار فيه من العار؛(85/38)
ولا يخفى ما يعضد جمال المعنى من تلاعب في اللفظ، وكثيراً ما يكون التلاعب من الجمال
ومن جمال النكتة قول سبط بن التعاويذي:
قل لمن أصلي هواها ... كبدي ناراً تلظى
يا قضيب البان قدا ... وغزال الرمل لحظا
أنت أحلى من لذيذ ... النوم في عيني وأحظى
قد بذلت الوصل في الطيف فلم أعرضت يقظي؟
لا أرى لي، والمودات ... حظوظ، منك حظاً
آه من رقة خدٍ ... صيرت قلب فظاً
جمال الشعر من هذه الأبيات يتجلى في الأربعة الأخيرة، أما النكتة ففي الأخير، ولعل الفتنة فيما قبله، ولعل مبعثها اعتراض الجملة الوسطى، والاعتراض في الشعر جمال يأخذ اللب بسحره، ولعلنا نأتي على طرف منه في آخر هذه الكلمة
كني برقة الخد عن جمال الوجه، وإنما حض الرقة باطلاق الخاص على العام، وهي أحد جزيئات الجمال، ليقابل بها الفظاظة في الروي، فهو من جمال الفن
لما أثبت له الجمال كان من لوازمه الاعجاب والزهو في الجميل وهما مبعث الدلال والتجني، وهذان يحملان على القسوة وعدم الرأفة بالهائم في ذيهما لكثرة العشاق حوله، فكان اذن من لوازم الجمال قسوة القلب، وليست النكتة فيما تسمع، ولكنها في ايهام جعل الرقة علة للفظاظة وهما نقيضان، بتصرف تظهر النفس معه بمظهر الروعة والدهشة
فالشاعر في الحقيقة لم يجعل الرقة علة للقسوة، وانما جعل الفظاظة مسببة عن تجني الحبيب مزهواً بجماله، ثم كنى عن الجمال بالرقة التي هي إحدى جزئياته، فصح له إذ ذاك تعليل الشيء بجزئي سببه
يقول شمس الدين العاملي يمدح كامل بك الأسعد نجل خليل بك الأسعد وهما من زعماء بلاد (عاملة):
وإكسير علم ركبته قريحتي ... غنيت به عن قصد كل بخيل
إذا شئت أن أثرى صنعت سبيكة ... وأهديتها للكامل بن خليل(85/39)
ويوق أيضاً في معرض اللوم على ابن عمه الشاعر على شمس الدين وقد تعرض لخلاف وقع زعيمين اقطاعيين:
إذا ما التقى الليثان في حومة الوغى ... وكل على كلٍ جريء مشيع
فمن سفهٍ ان ينبح الكلب ضيغما ... وينطح ذا روق لدى الروع أقرع
فانك تستطيع أن تهتدي إلى النكتة في آخر الشعر حتى تعلم الخبر الذي تقدم البيتين ثم لا ترتاع نفسك للشعر تماماً حتى نعلم أن عم الشاعر أقرع. وهكذا كثيراً ما تكون النكتة، لتسمى نكتة، متوقفة على بيان ما هي في سياقه
وقد تبنى النكتة على مثل خاص أو حديث خاص واصطلاح قوم خاص، فتكون نكتة خاصة لا يرتاع لها إلا من شرك قوماً نظمت لهم في الجهة التي بنيت عليها،، فالشاعر حيث يقول:
عزلوك لما قلت: ما ... اعطي، وولوا من بذل
أو ما علمت بأن (ما) ... حرف يكف عن العمل؟؟
فانما بني النكتة في شعره على القاعدة اللغوية القائلة: إن (ما) في قولك: (إنما زيد قائم ونحوه) كافة عن العمل، فلم تكن لتهتدي إلى النكتة وأنت غير نحوي، ثم لم تكن لتتفهم التمهيد لها في البيت الأول حتى تعلم أن الشاعر قال ذلك في زمن لا يولي امرؤ عملاً حتى يرشي أولى الامر كالزمن الذي نحن فيه ومثله قوله الهلالي:
وغزالٍ قلت ما الاس ... مُ حبيبي؟؟ قال مالك
قلت: صف لي وجهك الز ... اهي وصف حسم اعتدالك
قال: كالبدر وكالغض ... ن وما أشبه ذلك
فالنكتة في العجز الاخير، وإنما بنيت على كثرة استعمال النحويين لهذه الجملة حتى أصبح ذكرها في غير المسائل النحوية يعد اقتباساً
ومن جمال النكتة في الشعر الهزلي قول أحد المعاصرين يداعب صديقاً له:
يا صابغ اللحية ما تستحي ... تشارك الرحمن في صنعه
أقبح شيء شاع بين الورى ... أن امرأ يكذب في لحيته
وليس لجمال النكتة في الشعر حد يوقف عنده، فتلمسه في شعر الظرفاء تجد منه الكثير(85/40)
الحوماني(85/41)
من تراثنا العلمي
تَعْبير الرُّؤيا لأبنِ قُتَيْبَة
وصف وتلخيص لنسخة ثمينة من كتاب مفقود
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
والعرب تضع النفس موضع الروح، والروح موضع النفس، فيقولون: خرجت نفسه وفاضت، وخرجت روحه منه، إما لأنهما شيء واحد، أو لأنهما شيئان متصلان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، وكذلك يسمون الجسد نفساً، لأنه محل النفس، قال ذو الرمة حين احتُضر:
يا قابض الروح من نفسي إذا احتُضِرت ... وغافر الذنب زحزحني عن النار
ويسمون الدم جسداً لأن الجسد محله. قال النابغة الذبياني:
فلا لَعَمْرُ الذي قد زُرته حَججاً ... وما أريق على الأنْصاب من جسدِ
والمهجة عندهم الدم. قال الأصمعي: سمعت أعرابية الخ. . .
وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في خواصل طير خضر الخ. . . وأرواح أهل النار الخ. . .
(قال أبو محمد): ولما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من اختلاف مذاهبها، وانصرافها عن أصولها، بالزيادة الداخلة، والكلمة المعترضة، وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشر باختلاف الهيئات واختلاف الأزمان والأوقات، وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ الاسم ومرة من معناه، ومرة من ضده، ومرة من كتاب الله، ومرة من الحديث، ومرة من البيت السائر والمثل المشهور، احتجت إلى أن أذكر قبل ذكر الأصول أمثلة في التأويل، لأرشدك بها إلى السبيل
فأما التأويل بالأسماء فتحمله على ظاهر اللفظ الخ. قال: وأخبرنا محمد بن عبد العزيز عن. . . عن. . . . . عن. . . . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني في دار عقبة بن رافع وأتيت برطب من رطب ابن طاب (نوع من تمر(85/42)
المدينة)، فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا، العاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب
أخبرنا أبو حاتم الخ. . . (قال أبو محمد): وربما اعتبر من الاسم إذا كثرت حروفه البعض الخ. قال الشاعر:
أهدت اليه سفر جلاً فتطيرا ... منه وظل نهاره متفكراً
خاف الفراق لأن أول ذكره ... سفر وحق له بأن يتطيرا
وكذلك السوسن الخ. قال الشاعر:
سوسنة أعطيتنيها فما ... كنتِ باعطائها محسنة
أولها سوء فان جئت بالآ ... خر منها فهو سوء سنه
وأما التأويل بالقرآن فكالبيض يعبر بالنساء لقول الله عز وجل (كأنهن بيض مكنون) الخ. . . وكالحبل يعبر بالعقد لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) ولقوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) أي بأمان وعهد. والعرب تسمى العهد حبلاً، قال الشاعر:
وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى اليك خيالها
وكاللباس يعبر بالنساء لقوله جل وعز: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). قال النابغة الجعدي، وذكر امرأة الخ. . .
وأما التأويل بالحديث فالغراب هو الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، والفأرة الخ. . .
وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبذول كقولهم في الصائغ: إنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم: فلان يصوغ الأحاديث أكان يضعها الخ. . . وكقولهم في الماسح: إنه ذو أسفار، لقولهم لمن كثرت أسفاره هو يمسح الأرض. قال الشاعر في هذا المعنى:
قبح الله آل برمك إني ... صرت من أجلهم أخا أسفار
إن يكن ذو القرين قد مسح الأر ... ض فاني مول بالغبار
ويرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن الدجال إنما سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض إذا خرج أي يسير فيها، ولا يستقر بمكان، وأن عيسى عليه السلام إنما سمي بذلك لأنه كان(85/43)
سائحاً في البلاد لا يقيم بشيء منها ولا يوطنه، ومن ذهب إلى هذا جعله فعيلاً في معنى فاعل مثل قدير ورحيم؛ ويرى قوم أن الدجال سمي مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينن. وهذا وإن كان وجهاً فالاشتقاق الأول أعجب، لأن تسميتهم إياه الدجال تشهد له، والدجالة هي الرفقة في السفر والقافلة، قال خداش بن زهير:
فان يك ركب الحضرمي غرامة ... فن كِلا ركبيكُم أنا غارم
سأغرم من قد نالت الحجر منهم ... ودجالة الشام التي نال حاتم
يعني قافلة أصابها حاتم الخ. .
وكقولهم فيمن غسل يديه بأشنان، إنه اليأس من الشيء يطلبه، لقول الناس لمن يئسوا منه: قد غسلت يدي منك بأشنان، قال الشاعر:
فاغسل يديك باشنان وأنقهما=غسل الجنابة من معروف عثمان
وكقولهم في الكبش الخ. . .
وأما التأويل بالضد والمقلوب فكقولهم في البكاء إنه فرح ما لم يكن معه رنة ولا صوت، وفي الفرح والضحك إنه حزن الخ. . .
وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقص فكقولهم الخ. . .
وقد تتغير الرؤيا عن أصلها باختلاف هيئات الناس وصناعاتهم واقدارهم وأديانهم، فتكون لواحد رحمة، وعلى الآخر عذاباً الخ. . حدثنا محمد الخ. . . قال: آخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي بكر، فرأى سلمان لأبي بكر رؤيا فجانبه وأعرض عنه، فقال له أبو بكر: أي أخي! مالك قد أعرضت عني وجانبتني؟ قال: رأيت كأن يدي جمعتا إلى عنقك، فقال أبو بكر: الله أكبر! جمعت يداي عن الشر إلى يوم القيامة
حدثني محمد عن. . . عن. . . . عن عطاء، قال: كان محمد ابن سيرين يقول في الرجل يرى له أنه يخطب على منبر: إن كان ممن ينبغي له السلطان اصاب سلطاناً. وإلا فانه يصلب. شبه الجذع بالمنبر. وقال الرشيد ليزيد: ما أثر الخلفاء في ربيعة! قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع الخ. . .
ومن عجب الرؤيا أن الرجل يكون مفحماً لا يقدر على أن يقول بيت شعر، أو بكيا يتعذر عليه القليل منه إلا في المدة الطويلة، مع إعمال الفكر، وإنعام الروية، فينشد في المنام(85/44)
الشعر الجيد لم يسمع به قط فيحفظه أو يحفظ منه البيت أو البيتين، ويكون عيباً أو أعجمياً، فيتكلم بالكلمة من الحكمة البليغة ويوعظ الحسنة، ويخاطب بالكلام البليغ الوجيز الذي لا يستطيع أن يتكلف مثله في اليقظة بعرق الجبين، وهذا من أدل الدلائل على اللطيف الخبير
روي الرازي الخ. . وروي واصل الخ. . وأما الشعر فان أبا اليقظان قال: تزوج رجل امرأة، فعاهد كل واحد منهما صاحبه ألا يتزوج الأخر بعده، ومات الرجل، فلما انقضت عدة المرأة اتاها النساء فلم يزلن بها حتى تزوجت، فلما كانت ليلة هدائها أغفت بعد ما هُيئت فاذا هي بالرجل آخذا بعضادتي الباب يقول: ما أسرع ما نسيت العهد يا رباب! ثم قال:
حييت ساكن هذا البيت كلهم ... إلا الرباب فاني لا أحييها
أمست عروساً وأمسى منزلي جدثا ... إن القبور تواري من ثوى فيها
فانتبهت فزعة، فقالت: والله لا يجمع رأسي ورأسه بيت ابدا، ثم تخالعا. وروي ابن الكلبي عن جبلة بن مالك الغساني قال: سمع رجل من الحي قائلاً يقول في المنام على سور دمشق
ألا يا لقومي للسفاهة والوهن ... وللعاجز الموهون والرأي ذي الافن
ولابن سعيد بينما هو قائم ... على قدميه خر للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجأ ... اليه فزارته المنية في الحصن
فأتي عبد الملك بن مروان فأخبره، فقال: ويحك، هل سمعها منك أحد؟ قال: لا. قال: فضعها تحت قدميك
ثم قال، عبد الملك عمرو بن سعيد، عن عقيل. . . عن. . أن رجلاً الخ. . .
ورأيت أيضاً في المنام وأنا حديث السن كتباً فيها حكم كثيرة بألفاظ غريبة - كنت أحفظ منها شيئاً ثم أنسيت ذلك إلا حرفا وهو: ولفت اليه صلة الهواء، وما كنت أعرف في ذلك الوقت ما الصلة، ثم عرفتها بعد، والصلة اليبس
ومن عجائب الرؤيا أن الرجل يرى الشيء لنفسه أو يُرى له فيكون ذلك لشقيقه أو ابنه أو شبيهه أو سمية الخ. . . .
(قال أبو محمد) وحكي أبو اليقظان الخ. . . (قال أبو محمد) وما أشبه هذا الحديث بحديث(85/45)
رجل رأى في المنام - أيام الطاعون أن جنائز تخرج من داره على عدد من فيها، فطعن أهل الدار جميعاً غيره، فبقي ينتظر الموت ولا يشك في أنه لا حق بهم، فدخل الدار لص، فطعن فيها فمات في الدار، فأخرجت جنازته منها وسلم الرجل
(حدثنا أبو محمد) قال حدثني بعض الكتاب الخ. . .
وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فارجيتها، وإن اشتبه عليك الأمر، سألت الرجل عن ضميره في سفره إن كان رأى السفر، وفي صلاته إن كان رأى الصلاة، وفي صيده إن كان رأى الصيد، ثم قضيت بالضمير، وإن لم يكن هناك ضمير أخذت بالأسماء على ما بينت لك. وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا، ويجرون على عادة فيها، يعرفونها من أنفيهم، فيكون ذلك أقوى من الأصل، فتسأل عن طبع الرجل، وما جرت عليه عادته الخ. . . وإن كان الأصل طائراً الخ، وإن كان غراباً الخ. . وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد اليك: غراب نوح، وإن كان عقعقاً كان رجلاُ لا عهد له ولا حفاظ ولا دين قال الشاعر:
إلا إنما حلمتم الأمر عقعقا
وإن كان عقاباً الخ. . .
هذه فقر من المقدمة القيمة التي قدم بها الكتاب وهي تقع في أكثر من أربعين صفحة، وتأتي من بعدها أبواب الكتاب وهي ستة وأربعون باباً، فيها من نوادر الشعر وطرائف اللغة ودرر الأدب مثل ما في المقدمة، ولولا أن هذا الفصل قد طال، لاخترنا منها فقراً رويناها في (الرسالة)، والكتاب على الجملة من نقاش تراثنا العلمي، ومكانه من الخزانة العربية لا يزال خالياً لم يشغله كتاب. وإنا لنأمل له من رجال الأدب ومن الناشرين الاهتمام اللائق به
(دمشق)
علي الطنطاوي(85/46)
13 - محاورات افلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
فقال سقراط - سأعمد الآن إلى أحد زوجي الأضداد اللذين ذكرتهما لك فأحلله، وأحلل كذلك فعليه الأوسطين، وعليك أن تحلل لي الآخر. فحالة النوم تضاد حالة اليقظة، ومن النوم تتولد اليقظة، ومن اليقظة يتولد النوم، وعملية التولد هي في إحدى الحالتين ادراك النعاس، وهي الاستيقاظ في الأخرى. أفأنت متفق معي على هذا؟
- إني جد متفق
إذن فهب أنك أخذن بهذه الطريقة نفسها تحلل لي الحياة والموت. أليس الموت يضاد الحياة؟
- نعم
- وهما متولدان: أحدهما من الآخر؟
- نعم
- ما الذي تولد من الحياة؟
- إنه الموت
- وما الذي تولد من الموت؟
- لا يسعني أن أقول في الجواب إلا أنها الحياة
- إذن يا سيبيس فالحي من الأشياء والأشخاص متولد من الميت؟
- ونتيجة ذلك إذن هي أن أرواحنا كائنة في العالم الأسفل؟
- هذا حق
- وأحد الفعلين أو التولدين ملحوظين بالعين - فلا شك أن عملية الموت ظاهرة؟
فقال - لا ريب
- أفلا يجوز أن يستنتج التولد الآخر، على أنه متمم للطبيعة التي لا يفترض بأنها تسير(85/47)
على ساق واحدة فحسب؟ فان كان الأمر كذلك، فلابد أيضاً ان يضاف إلى الطبيعة عملية تولد من الموت مقابل التولد من الحياة
فأجاب - يقيناً
- وماذا تكون تلك العملية؟
- هي عودة الحياة
- وعودة الحياة، أن صح وجودها، هي ولادة الميت في عالم الأحياء؟
- هذا جد صحيح
- إذن فهاك سبيلاً جديدة تؤدي بنا إلى النتيجة بأن الحي يخرج من الميت كما يخرج الميت من الحي سواء بسواء، فان صح هذا فلابد أن تكون أرواح الموتى مستقرة في مكان ما، ستعود منه مرة أخرى، وقد أقمنا على ذلك فيما أظن دليلاً مقنعاً
قال - نعم يا سقراط، فيظهر أن هذا كله يتبع بالضرورة ما سلمنا به من قبل
فقال - ولم يكن ذلك الذي سلمنا به يا سيبيس معوجاً، وتستطيع أن تتبين ذلك، فيما أظن على هذا النحو: لو كان التولد يسير في خط مستقيم فقط، فلم تكن في الطبيعة دورة أو تعويض، فلا تبادل بين الأشياء أخذاً ورداً، لاتخذت الأشياء - كما تعلم - في نهاية الأمر صورة بعينها، ولتحولت إلى حالة بعينها، ولما تولد منها بعد ذلك شيء
فقال - ماذا تعني بهذا؟
فأجاب - اعني شيئاً بسيطاً جداً سأوضحه بحالة النوم. فأنت تعلم أنه لو لم يكن ثمت توازن بين النوم واليقظة لأضحت قصة أنديميون النائم بلا معنى؛ فقد كان النعاس سيدرك كذلك كل شيء آخر، فلا يعود أنديميون موضعاً لتفكير أحد؛ أو لو كانت المادة ينتابها تكوين بغير انقسام، إذن لعاد هيولي انكسجوراس مرة ثانية. وهكذا، أي عزيزي سيبيس، لو كان كل شيء تناوله الحياة صائراً إلى الموت، ثم لا يعود إلى الحياة ثانياً لانتهى تناوله الحياة صائراً إلى الموت، فلا يبقى ثمت شيء حي - وإلا فكيف يمكن ذلك أن يكون؟ إذا لو كانت الأحياءصادرة من شيء غير الأموات، وكان الأحياء يدركهم الموت، أليس حتما أن يبتلع الموت آخر الأمر كل شيء؟
فقال سيبيس - ليس عن ذلك منصرف يا سقراط، وإني لأحسب أن ما تقوله أنت حق(85/48)
خالص
فقال - نعم يا سيبيس، إني كذلك أحسبه حقاً خالصاً، ولسنا بذلك سابحين في خيال فارغ، ولكني ثابت الايمان بحقيقة العودة إلى الحياة، وبأن الأحياء يخرجون من الموتى، وبأن أرواح الموتى ما برحت في الوجود، وبأن الأرواح الخيرة أوفى من الأرواح الشريرة جزاء.
فأضاف سيبيس - كذلك لو صح مذهبك العزيز يا سقراط، بأن المعرفة ليست إلا تذكراُ، لاقتضى ذلك بالضرورة زمناً سالفاً تعلمنا فيه ما نحن الآن ذاكره. وقد كان هذا التذكر يستحيل لو لم تكن أرواحنا قبل حلولها في الصورة البشرية، كائنة في مكان ما، وإذن فهذه حجة أخرى تؤيد خلود الروح
فاعترضه سمياس قائلاً: ولكن حدثني يا سيبيس، ما البراهين التي تساق لمذهب التذكر هذا؟ فلست جازم اليقين بأنها الآن تحضرني
قال سيبيس - منها برهان ساطع تقيمه الاسئلة، فاذا أنت ألقيت على شخص سؤالاً بطريقة صحيحة، أجابك من تلقاء نفسه جواباً صحيحاً. فكيف استطاع أن يفعل ذلك، ما لم تكن لديه من قبل معرفة ومنطق مصيب؟ وأكثر ما يكون ذلك وضوحاً، حينما يعرض عليه شكل هندسي، أو أي شيء من هذا القبيل
قال سقراط - إن كنت لا تزال شاكاُ يا سيمياس ساءلتك، افلا يجوز أن توافقني إذا ما نظرت إلى الموضوع على نحو آخر؟ أعني اذا كنت لا تزال متردداً في التسليم بأن المعرفة عبارة عن تذكر؟
فقال سمياس - لست شاكاً، ولكني أردت أن تعاد إلى ذاكرتي نظرية التذكر هذه، ولقد بدأت أذكرها وأقتنع بها مما قاله سيبيس، غير أنني مازلت أتمنى لو أدليتم بما لديكم فوق ما أعلم
فأجاب - هذا ما سوف ألي به، ولعلنا، إن لم أكن مخطئاً، متفقون على أن ما يتذكره الإنسان لابد أن يكون قد علمه في زمن سالف
- جد صحيح
- فما طبيعة هذا التذكر؟ إنما أريد بهذا السؤال أن أتساءل: ألا يحق لنا القول بأنه إذا لم يقتصر علم إنسان على ما قد رآه أو سمعه أو سلك إلى إدراكه أية سبيل أخرى، بل عرف(85/49)
شيئاً آخر معرفة تباين تلك، أفليس هو بذلك إنما يتذكر شيئاً يختلج في عقله؟ ألسنا على ذك متفقين؟
- ماذا تعني؟
- أعني ما قد اوضحه بهذا المثال الآتي: لست معرفتك القيثارة كمعرفتك الإنسان سواء بسواء؟
- هذا صحيح
- ولكن ما شعور المحبين إذا ما رأوا قيثارة أو لباساً أو أي شيء آخر مما كان المحبوب يستخدمه عادة؟ أليسوا من رؤية القيثارة يكونون في عين العقل صورة للفتي صاحب القيثارة؟ وهذا تذكر، وكل من يرى سمياس قد يتذكر بنفس الطريقة سيبيس، وهناك من هذا الضرب أشياء لا يحدها الحصر
فاجاب سمياس - نعم إنها موجودة حقاً ولا حصر لعددها
فال - وهذا الشيء وما اليه هو التذكر، وهو في الأعم الأغلب عملية لكشف ما قد طواه النسيان بفعل الزمن والأهمال
فقال - هذا صحيح
- ثم ألا يجوز كذلك أن تتذكر أنساناً من رؤية قيثارة أو صورة لجواد؟ أو قد تبعثك صورة سمياس على تذكر سيبيس؟
- هذا حق
(يتبع)
زكي نجيب محمود(85/50)
لحظات على متن الباخرة كوثر
للأستاذ عبد الحميد العبادي
تفضلت (شركة مصر للملاحة البحرية) فدعتني إلى شهود احتفالها بسفر الباخرة (كوثر) من مرفأ الإسكندرية إلى السواحل الحجازية مقلة حجاج بيت الله الحرام. فقبلت الدعوة مبتهجاً مسروراً، وأجمعت أن ألبيها شاكراً ممتناً، وقلت في نفسي إن فاتني أن أحج بيت الله على متن هذه الباخرة ففاتني بذلك ثواب تلك الفريضة الكبرى، فلا أقل من أن أحج السفينة نفسها فأفوز برؤية الحلقة الثالثة من سلسلة ستكتمل حلقاتها بأذن الله، ويون لهذا البلد منها أسطول مبارك الغدوات ميمون الروحات
وحانت الساعة الرابعة من عصر يوم الخميس الماضي، فأخذت طريقي إلى المرفأ فيمن أخذ، وصعدت تلك الباخرة الجاثمة فوق متن الماء كالطود العظيم فيمن صعد، وقد صعدها خلق كثير من علية القوم وأوساطهم يعدون بالمئين. وجعلت أطوف أنحاء السفينة مع المطوفين، صاعداً وهابطاً، متنقلاً من طابق إلى طابق، ومن مقصورة إلى مقصورة، ومن مرفق إلى مرفق، وأشهد لقد تملكتني الحيرة من روعة ما شهدت، وفخامة ما رأيت. وأشكل على الأمر هنيهة من الزمن، فكأنني في حلم من تلك الاحلام اللذيذة التي يخشى معها الحالم أن تنفتح عيناه على الحقيقة المرة المؤلمة! أهذه سفينة مصرية حقاً؟ وهذا العلم الخفاق فوق حيزومها، أهو العلم المصري؟ وهذا الاسم العربي المرقوم عند جؤجؤها، أمكتوب هو بالحرف العربي؟ وهؤلاء الشبان الرائحون الغادون في طرابيشهم القانية وملابسهم البحرية الجميلة، يطلعون الزوار على ما دق من مرافق السفينة وما جل، أهم مصريون حقاً؟ وزاد بي اللبس فجعلت أتقرى الأشياء بيدي أتثبتها على نحو ما صنع البحتري عندما قلم في إيوان كسرى، وعراه ما عراني من الدهش والالتباس!
يغتلى فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
ولكن لم يطل أمد تلك الحال، فكل شيء حولي قد احتشد لنصرة اليقين على الشك في المعرة التي قامت بينهما في نفسي، وسرعان ما محا نور اليقين ظلمة الشك، وأطمأنت النفس إلى أني قائم في قطعة من مصر طافية على وجه الماء
الله أكبر! لقد أخذ الزمان يستدير، وشرعت مصر تسترد مكانة كانت لها في القديم ثم نحيت(85/51)
عنها قوة واقتداراُ، أليست مصر صاحبة أول بعثة تجارية بحرية في التاريخ هي بعثة الملك (اسنفرو) إلى الشام؟ أليست مصر صاحبة أول بعثة استكشافية يعرفها التاريخ هي بعثة الملك (نخاو) حول أفريقية؟ ألم تكن مصر سيدة البحار على عهد البطالسة، ومنارتها بالاسكندرية من عجائب العالم القديم؟ أليس أسطول مصر الاسلامي هو الذي دحر الأسطول البيزنطي في واقعة (ذات الصواري) المشهورة وانتهت اليه زعامة شرقي بحر الروم زمناً طويلاً؟ ثم ماذا كانت واقعة (نوارين) التي تحامل فيها الغرب على الشرق فدمر فيها الأسطول المصري تدميراً، وكان ذلك آخر عهد مصر بالملاحة الصحيحة
إن تعجب فعجب أن تكون لمصر سواحل مترامية مطلة على بحرين من أهم بحار الأرض، وأن يكون لها هذا الماضي الجليل، ثم تظل طوال القرن التاسع عشر وصدر اقرن العشرين عالة على سفن غيرها في نقل عروضها ومتاجرها ومسافريها، ولكن هذا الذي قدر فكان. فليذكر ذلك الذاكرون في هذه الأيام السعيدة التي تأذن الله فيها بانبعاث البحرية المصرية على أيدي رجال (شركة مصر للملاحة البحرية)
لقد كنت أمضي في تأملاتي هذه، لولا أن يسرت أقدار لأقدار، فلمحت عن كثب زعيم مصر الاقتصادي، وحامل لواء نهضتها المالية الحرة، ومن عساه أن يكون سوى (محمد طلعت حرب باشا)؟ فأسرعت إليه أبثه إعجابي بما أرى، وأهنئه وأهنئ في شخصه رجال هذه الشركة المباركة على ما أوتوا من عناية الله وتوفيقه. وجلست اليه سويعة تحدثت إليه فيها فيما خص من الأمر وما عم، ثم قمت من حضرته وأنا أهدي ما كنت، وأفهم مما كنت، وخيراً مما كنت. وكذاك الشباب إذا ظفر بلقاء الرجل العظيم والتحدث اليه
وكانت الشمس قد أوت إلى الأفق الغربي مؤذنة بالمغيب، وجعلت ترسل أشعتها على أعالي البواخر والسفن فتصبغها بمثل الورس الأحرم، وتسكبها على ماء البحر فتحيله تبراً مذاباً. وشمل المنظر خشوع وجمال وجلال، زاد القلب طرباً ونشوة ووجداً. فانصرفت وأنا أدعو (لكوثر) وأخواتها ببحر ذلول، وريح رخاء، وأهتف من اعماق قلبي لأولئك الذين بعثوا العزة القومية بعد وأدها، وأحيوا في نفوس هذه الأمة دارس الأمل وميت الرجاء
عبد الحميد العبادي(85/52)
11 - بين القاهرة وطوس
اصفهان
(نصف جهان)
للدكتور عبد الوهاب عزام
خرجنا من قم والساعة ثلاث بعد الظهر، سائرين إلى الجنوب تلقاء أصفهان، وبين قم وأصفهان 282 كيلا، فما زلنا نضرب في سهوب مترامية تعمرها قرى قليلة، حتى قطعنا 92 كيلا في ساعتين، فبلغنا قرية دليجان، وهي قرية كبيرة على الجادة يبدو عليها الفقر، وبيوتها كغيرها من قرى إيران، مسنمة السقوف، مطينة الجدر، فاذا رأيتها على بعد حسبتها قبوراً عالية. وقفنا في القرية على بناء كتب عليه بالانكليزية، أنه مطعم ومشرب شاي، وهو طبقتان في كل واحدة حجرتان، وللطبقة العالية سلم من اللِبن يهبط إلى الطريق
دخلنا فقدم لنا الشاي والبطيخ، واسترحنا قليلاً، ثم ركبنا سيارتنا وقد كادت الشمس تغرب. قلنا: كم بيننا وبين أصفهان؟ قيل أربع ساعات، وبين دليجان وأصفهان 190 كيلاً. وقال سائق لصاحب المطعم سنمر بك بعد غد، فهيء لنا دجاجة وحساء، قال نعم، ذلك وكل ما تشتهون
ضربنا في أرض بلقع يتخللها عمران قليل، حتى بلغنا بلدا اسمه شاه عباس، بينه وبين أصفهان خمس وعشر دقيقة، فتغير مرأى الأرض، وبدت لنا الأشجار والزروع والمياه، وما زلنا في أرض مخصبة مخضرة حتى دخلنا المدينة والساعة تسع وخمس دقائق من مساء السبت حادي عشر رجب (20 أكتوبر)
أصبهان: مدينة العراق العجمي، عي 431 كيلاً إلى الجنوب من طهران، وعرضها 32 درجة وطولها 49، وارتفاعها 1344. وهي في سهل واسع خصب، حسن الهواء كثير الماء والشجر؛ قال ياقوت: (وكانت مساحة أصبهان (أي الأقليم) ثمانين فرسخاً في مثلها، وهي ستة عشر رستاقاً كل رستاق ستون وثلاثمائة قرية قديمة سوى المحدثة). ولا ريب أن في رواية ياقوت غلواً تابع فيه القوال الشائعة. وقد قال هو عن اصبهان: (مدينة عظيمة مشهورة، من أعلام المدن وأعيانها. ويسرفون في وصفها حتى يتجاوزوا حد الاقتصاد)(85/53)
وقد أدى إلى إغراق الناس في وصف أصفهان وأقليمها استجار العمران هناك، وكثرة القرى، والمياه والزروع. وقد حدثني مهندس ألماني في مدينة أصفهان أن من بقاع اصفهان بقعة يسير فيها السائر خمسة عشر كيلاً بين الأشجار. وبُنيت الأقاليم القطن والتبغ والبطيخ وكثيراً من الفاكهة
والمدينة على نهر زنده رود (النهر الحي)، ويسمى اليوم زايَنده رود (النهر الوَلود). حدثني رجل أنه سمي بهذا لانبجاس مياهه من الأرض في مواضع كثيرة. قال ياقوت: (زند روذ نهر مشهور عند أصبهان، علمه قرى ومزارع؛ وهو نهر عظيم أطيب مياه الأرض وأعذبها). وقال في موضع آخر: (وقد وصفه الشعراء فقال بعضهم:
لست آسي من اصبهان على شي ... ء سوى مائها الرحيق الزلال
ونسيم الصبا ومنخرق الري ... ح وجو صاف على كل حال
ولها الزعفران والعسل الما ... ذي والصافنات تحت الجلال)
وكذلك قال الحجاج لبعض من ولاه اصبهان: قد وليتك بلدة حجرها الكحل، وذبابها النحل، وحشيشها الزعفران.
وقال آخر:
لست آسي من اصبهان على شي_ء أنا أبكي عليه عند رحيلي
غير ماء يكون بالمسجد الجا ... مع صاف مزوق مبذول
ولعل قول كل من هذين الشاعرين (لست آسي) لما تحدث به القدماء من وصف أهل اصبهان بالبخل. وقد حكي عن الصاحب ابن عباد أنه كان إذا أراد الدخول إلى اصبهان قال: من له حاجة فليسألنيها قبل دخولي إلى اصبهان، فانني إذا دخلتها وجدت بها في نفسي شحاً لا اجده في غيرها. وقد روي ياقوت بيتين كتبا في بعض الخانات التي في طريق اصبهان:
قبح السالكون في طلب الرز_ق على أيذج إلى اصبهان
ليت من زارها فعاد اليها ... قد رماه الآلة بالخذلان
وعلى نهر اصبهان اليوم ثلاث قناطر من عجائب الآثار، أكبرها قنطرة (الله ويردي خان) أحد قواد الشاه عباس، وتسمى اليوم (بلِ سي وسه جشمه)، أي القنطرة ذات الثلاث(85/54)
والثلاثين عيناً. وهي مبنية بالحجارة الضخمة، تسير فوقها طريق واسعة لها جدران عاليان. والنصف الأسفل من عيونها يسد بالخشب إذا أريد حبس الماء، وعلى جانبي العون في قاع النهر سنادان من الحجر يسير عليهما الناس حين انخفاض الماء
ومدينة اصبهان قديمة ذكرها بطليموس. وكانت ذات مكانة عظيمة قبل الأسلام؛ ولم تزل في الإسلام معدودة من أمهات المدن الفارسية
وقد تقبلت بها غيرٌ كثيرة واهتمت بالسيطرة عليها ل الدول الإسلامية الشرقية، فتولى أمرها السامانيون والبويهيون والغزنويون والسلاجقة، وكان السلطان ملكشاه السلجوقي يحب المُقام بها. ولما سالت على المسلمين كوارث التتار، ساروا اليها سنة 625 فدفعهم عنها البطل العظيم جلال الدين خوارزمشاه، ولما كانت الدولة التيمورية ثار أهل أصفهان على الجبار تيمورلنك سنة 790 فقتلهم حتى قيل إنه جمع سبعين ألف رأس فبنى بها أهراماً
وامجد عهود أصبهان عهد الدولة الصفوية، ولا تزال آثارها ناطقة بما كان لما من جلال وجمال في ظل هذه الدولة
وقد بلغ سكانها في ذلك العهد ستمائة ألف، وكان بها ثمانية وثلاثون ألف دار، واثنان وستون ومائة جامع، وثمان وأربعون مدرسة، وثلاث وسبعون ومائتا حمام، وثمانمائة وألف خان، (كاروانسراي) وكان محيطها فيما يقال أربعة وعشرين ميلا
ولما أغار الأفغانيون على إيران وقضوا على الدولة الصفوية، ثم صارت طهران دار الملك تناقص عمران المدينة، ودالت دولتها، وسكانها اليوم ثمانون ألفاً، ومحيطها ميلان، ولكن لها شأناً عظيماً في التجارة والصناعة
دخلنا المدينة ليلاً، فأوينا إلى فندق اسمه (فندق الفردوس). وكان يسمى الفندق الأمريكي، وهو في شارع واسع مشجر قديم يقال إن أشجار من عهد الشاه عباس الكبير، وهو أعظم شوارع المدينة. وجاءنا بعد قليل رئيس البلدية فحيانا وقال إنه يود أن ننزل داراً خاصة في ضيافة الحكومة، فشكرنا له وللحكومة هذه الحفاوة، وآثرنا أن نبقى في الفندق، فأبلغنا دعوة الحاكم إيانا إلى العشاء في داره غداً
لم يمكنا الأعياء من التجول في المدينة تلك الليلة، ولكن نعمنا بمرأى أشجار الحور الباسقة(85/55)
تنثر على الأرض ضوء القمر، كما تتناثر في خيالنا ذكرى الماضي المجيد من هذه البلدة الخالدة، التي نشأت من علماء الإسلام الأعلام أمثال أبي الفرج الأصفهاني وداود بن علي صاحب المذهب الظاهري، وأبي نعيم صاحب الحلية، وحمزة المؤرخ
وكنا نسمع في الحين بعد الحين جلجلة الأجراس في أعناق الابل أو الثيران السائرة في المدينة. وهذا صوت مطرب في جوف الليل، ولكنه يذهب بالنوم. وغدونا إلى دار الحكومة فقابلنا حاكم أصفهان وهو أحد الوزراء السابقين، ورجال الصحافة القدماء، وكان له جريدة تسمى صور أسرا فيل فغلب اسمها عليه فهو اليوم يسمى قاسم صور اسرافيل، ويتسمى هو بهذا الاسم ويكتبه على بطاقته، وكذلك جاء إلى دار الحكومة نفر من الألمان، منهم الدكتور شميت الصحافي الذي ينشر جريدة في أنقرة الآن، وكان مندوباً إلى مؤتمر الفردوسي ولكنه تأخر
خرجنا لرؤية آثار اصفهان الرائعة. وإني أشفق على القارئ أن أصف المساجد والقصور التي رأيناها وصفاً مفصلاً، فمن شاء أن يرى صور هذه الآثار فليذهب إلى الجمعية الجغرافية ليرى قاعة المحاضرات مزدانة بصور كثيرة من الآثار الفارسية، أعظمها وأجملها آثار اصفهان
في المدينة ميدان كبير قال لنا مهندس ألماني إنه أكبر من ميدان الكنوكورد في باريس ومن كل ميدان في مدينة
وان هذا الميدان للعب الكرة والصولجان على ظهور الخيل (الجوكان)، ولا تزال فيه العمد الخشبية التي تُعلم غاية الملعب. وفي وسطه حوض كبير تنبجس منه نافورات قوية؛ وهي من ثار الصفويين، وقد أصلحت أخيراً
ويحيط بالميدان آثار الصفويين: مسجد الشاه ومسجد الشاه لطف الله والباب العالي والسوق
مسجد الشاه من أجمل مساجد المسلمين، بل من أعظم آثار العالم قاطبة، بناء ضخم وهندسة محكمة، وصنعة الكاشاني والكتابة والنقش لم تدع مزيداً لصانع أو ناظر. ولا يرى مقدار شبر في جدر المسجد أو إيواناته أو قبابه خالياً من هذه الصنعة، فقد أفرغ الجمال على هذا المسجد كتابة ونقشاً وتلويناً
وفوق إيوان القبلة قبة شاهقة تعلوها قبة أخرى، وبينهما ستة عشر متراً، فاذا توقف(85/56)
الإنسان في مركز القبة وصفق بيديه صفقه خفيفة، أو تكلم بصوت خافت، أو حك الارض برجله انبعث الصدى عالياً مدوياً مردداً في القبة أكثر من عشر مرات
ومسجد الشاه لطف الله أصغر من هذا، ولكن فيه من الفنون دقائق عجيبة، وفيه طبقة تحت الأرض للصلاة في الشتاء
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(85/57)
الله قد عَبَدُوا
للأستاذ فخري أبو السعود
وَيلي على أمم الإسلام خاضعة ... للمستبدين لا يرني لها أحدُ
من قال لي: من يقر الضيم؟ قلت له: ... ألمسلمون وعير الحي والوتدُ!
في مشرق الأرض قد دانوا ومغربها ... ما كاد ينجو لهم من غاصب بلدُ
في ربقة الظلم هم جاءوا وهم ذهبوا ... وفي المذلة قد ماتوا وقد ولدوا
صلوا وصاموا لباريهم تظللهم ... أعلام من ظلموا أو سيف من عندوا
يا ليت شعري للديان ما قنتوا؟ ... أم للمغالب ما قالوا وما سجدوا؟
يا قوم من شرعة الإسلام دينكم ... أن ليس يعبد إلا الواحد الصمد!
أترضون سوى الرحمن محتكما؟ ... ما إن لقومٍ إذا ما استعبد وارشد
الله ليس يحب الدين من أمم ... لغيره طأطأوا أو غيره عبدوا
لعل أدنى إليه في مراتبه ... عدوكم وهو ماضي العزم مجتهد
أختي عليكم بجند من عزائمه ... ومن جهالتكم جند له حشد
لولا تفاقم هذا الجهل بينكم ... لم يغنه عدد فيكم ولا عدد
لا يبالغ العز قومٌ عن جهالتهم ... لا ينزعون وعن مسعاتهم قعدوا
إنا نؤومو الضحى ليست تزايلنا ... أحلامنا وهو في جنح الدجى سهد
ما دام ذا الجهل يمشي بين أظهركم ... ففي قضيتكم - لا ينقضي - فند
قد ذمكم بالذي فيكم فلا كذب ... فإن غلا فله من جهلكم سندُ
كم تقنعون بدون العيش مرتبة ... في العالمين؟ وكم ذا الذل مطرد؟
من لي بعهد به آباؤنا ملكوا ... بكفهم كل ما حلوا وما عقدوا؟
لا يقبلون وصاة الأوصياء ولا ... أحكام من اسرفوا في الحكم أو قصدوا
الله قد عبدوا دون الورى وله ... بذاك في الصلوات الخمس قد شهدوا
فخري أبو سعود(85/58)
إلى ممثلة نابغة
من أي وحي تنهلين رشاقة ... لمحت ظلال الخلد منها الأنفس؟
وبأي سحر تمسحين موافقاً ... يزهو بروعتها الجمال الأقدس؟
روح الطبيعة في اختلاف فنونها ... وروائها لم محو ما في نغمتك
وشت مواهبك الكياسة فانثنت ... آياتها مختالة في بسمتك
أدركت سر الفن وهو ممنع ... فعنا لك الإبداع، إذا أدركته
ما الواقع الملموس يعجب باحث ... فيه، سوى تمثيل ما مثلته
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل(85/59)
ثورة الذكرى
بقلم فريد عين شوكه
ذكرياتٌ مشبوبة الثوران ... وحبيب يلج في الهجران
وفؤادٌ طغى الحنين عليه ... فوهى عزمه من الخفقان
حائر في الضلوع تفضحه العي ... نُ بمرآة دمعها الحيران
شد ما روع الفؤاد من الذك ... رى وما ذاق في الهوى من هوان!
ذكريات الغرام تغمر فكري ... فتثير الغفى من أشجاني
كلما صورت لي الماضي الضا ... حي وريف الظلال عذب المجاني
أردفته بحاضري مقفر الدو ... حة مر الجنى حزين المغاني!
فتثور الهمومُ، يا رحمة الله ... إذا لج في الهموم جناني
ثورة تلهب الفؤاد فيغدو ... في ضلوعي كحمة البركان
يتنزى حتى تضيق به النف ... سُ فتلقاه بالعتاب الحاني
فيم هذا الحنين يأيها القلْ ... بُ إلى من غفا على نسياني
وإلام الوفاء والطاعة المث ... لى لمن لا يثوب عن عصياني
فيم تلك الأشعار تضفي عليه ... كل ما رق في الهوى من معان
يسكب الغير فوقها دمعة العط ... ف ويرثى لما بها من تفان
وهو إن لاحها يمر عليها ... دون ما رحمةٍ بها أو حنان
قد سئمت الهوى عذاباً أليما ... وحياة كئيبة الألوان
وإذا القلبُ بينها واهن الخف ... ق غريق في لجة الأحزان
يسأل النفس للحبيب المعاذي ... ر ويأبى الجنوح للسلوان
يا لهذا الفؤاد ألوى به الحب م وما زال دائب التحنان
أيها القلبُ قد سباك حبيب ... ليس يحنو على الأسير العاني
يتجنى على رغم فنأئي ... فيه، يا للجحود والنكران!
كم تمنيت عطفه فتأبى ... وتشهيت وصله فجفاني
وكأني إذا مرضت وكانت ... صحوتي في مزاره ما أتاني(85/60)
وكاني لو مت في ميعة العم ... ر وغيبت في الثرى ما بكاني
فاتئد في هواك يأيها القل ... ب وخفف من سوؤه الهيمان
أو كما شئت يا عصي ولكن ... سوف تصلي لواعج الكتمان
لن تراني أشكو إليه خفايا ... ك ولو ذبت شكوة في لساني
لهف نفسي عليك يأيها الما ... ضي ويا شوق خاطري الولهان
كم عهود كانت لديك غوال ... وليال غز الجبين حسان
جمعتنا كما اشتهينا وحيدي ... ن فكانت بليغة الإحسان
وحبتنا شراعها فامتطينا ... هـ إل دوحة الهوى الفينان
فنعمنا بما به من بواكي ... ر وما فيه من قطوف دوان
ورشفنا بورده الطاهر العذ ... ب كئوساً من الرضى والحنان
وسمرنا في ربوة عطر الجو ... م بأنفاس زهرها الوسنان
نتناجى والعين أمتع في النج ... وى واوفى من عبقري البيان
ونغنى فيستفيق لنا الرو ... ض كأنا في دوحة غردان
مصغياً للغناء حتى نؤدي ... هـ فيهفو كالطائر النشوان
كم تغنيت للحبيب بما شا ... ء ورتلت ما اشتهى من أغان
فاذا هاجه الحنين فغنى ... في حياء ورقة وافتنان
وسرى الصوت بين أحشائي الظم ... أى وأحناء صدري اللهفان
رف قلبي له رفيف الأقاحي ... ناعمات بالمنهل الريان
ذاك ماضي الهوى فكيف تناسي ... هـ وقد صار بضعة من كياني
جف روض الهوى من الثمر الحل ... ووأضحى مهلهل لأفنان
وضحا ظله الظليل وفرت ... عن أفانينه طيور الأماني
فقضيت الحياة ارويه دمعي ... واعاني في ريه ما اعاني
وإذا الروض هامد ما أفادت ... هـ شآبيب دمعي الهتان
أيها الروض إن ما بك أوهى ... عزماتي وهد من بنياني
دواؤك الهجر والحبيب عصى ... والليالي تغريه بالحرمان(85/61)
فاذا ما جهدت في بعث ماضي ... ك رماني الزمان بالخذلان
والزمان العنيد إن سدد الرم ... ية ألوى بحيلة الإنسان
يا إله السماء إني تحطم ... تُ وما زلتُ في ربيع زماني
وذوت مهجتي من النغم البا ... كي فمن لي بأعذب الألحان؟
فريد عين شوكه(85/62)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
7 - تطور الحركة الفلسفية في ألماني
للأستاذ خليل هنداوي
أما الإنسان فهو عند هيجل الكائن الفرد الذي يتوسط بين الكائنات كيف يشاء، ويدرك نفسه بنفسه. الإنسان هو روح: روح ذاتية لا تحس إلا بحريتها الخاصة، ولا تعمل إلا على ما يضمن لها النصر على ما حولها. وروح اجتماعية تحترم حريات الناس وتراعى حقوقهم. وروح مطلقة تسمو على التقاليد المادية، يفني إزاءها كل شيء من كل شيء تواضع عليه الناس. روح تعود إلى نفسها لتجد في نفسها (المثال الإلهي) فلا تجده غرضاً تسمى اليه ولكن تجده حقيقة شاملة أدركتها فيما أدركت. . .
وقد وجد هيجل ثلاث شعب في العلوم: العلوم النفسية، والعلوم الأدبية، والعلوم الدينية. . . وقد شطر العلوم الدينية ثلاثة فروع: الفن، والدين، والفلسفة؛ أما الفن فهو أول تجربة قامر بها الروح ليتشبه بالوجود، فالفنان يذهل عن نفسه حين يتأمل في عمله. والفن - في الحقيقة - هو يقظة من يقظات الوحي ولمعة من لمعات العبقرية. والدين يفسر معاني الألوهية برموز وألغاز. وفي النهاية وجد الإنسان ربه في نفسه، وها هنا تسامى الدين إلى الفلسفة، وولد الآلةفي روح النسان، وتألف العلم المطلق، وبسط به الإنسان سلطته على الكون، وأدرك به غرضه. هذا هو الفيلسوف الذي يستطيع أن يغلق كتاب الوجود دام انتصار مدرسة (هيجل) خمسة عشر عاماً، لا تسمع فيها إلا صوت هذه المدرسة التي ملكت على القوم، وفرت من وجهها كل مدرسة؛ ثم أخذت تهوى عن عرشها لأن العقل المخدر آن أن يصحو، فبدا له ما هو في هذه الآراء - برغم اشتهار صاحبها بقوة عارضته وقوة منطقة - من تناقص واضطراب. ففي عالمه السياسي والإلهي قد ظهر الاختلاف على أشده، وجد (هيجل) في صاحب الديانة المسيحية شخصية سامية يمازجها روح الإله. ولكنه في فصل آخر يقر بأنه لا يجد في الدين إلا تعاليم آخذه طريقها إلى الفلسفة، حيث تفني في الفلسفة كل عناصر الايمان. وأما آراء (هيجل) في التاريخ فهي آراء عقلية، يتحدث بها عن عقل الفرد وعقلية الأمم، ويرى تاريخ الحرية هو تاريخ العالم. أما العصر الشرقي فهو عصر الحكم المطلق، والعصر اليوناني الروماني هو عصر الحرية الجزئية(85/63)
وعصر الأحزاب والاسر والعبودية، والعصر الجرماني هو عصر النهضة والبعث والثورة، ويقبل هيجل على العصر الحديث ويذكر أن الدولة هي هيئة من هيئات الفكر، ولا بد لهذه الهيئة أن تتمثل في صاحب السلطة والسلطان. وهو لا ينصر مذهب توزيع السلطة خشية أن يثير ذلك الضغائن ويخلق الفتن ويوقع العراك في الأهواء. وهو يقدملنا - بعدها الحوار الطويل - حكومته البروسية بعد معاهدة (1815) مثلاً سامياً للدولة. وهكذا لا يمكن للفيلسوف أن يتجرد من نعرته القومية حتى المباحث التي ينبغي لصاحبها أن يكون مجرداً بعيداً عن الهوى
مذهب المثال الكمالي
وأخيراً ماذا ظل راسياً من مدرسة (هيجل) في الصرح الفلسفي؟ أم ماذا بقي من ذلك الاتجاه العنيف نحو فلسفة (الواحد المطلق) الذي جرى وراءه فيخت وشيلنج وهيجل؟
إن (كانت) في كتابه نقد العقل المجرد أجاب بأن معارفنا لا تضع لنا جواباً شافياً عن حقائق الأشياء، ولكنها تقرب لنا صورها بطريق الحواس، وهذا الوجود لا نراه على حقيقته التي هو عليها، وإنما نراه على الحقيقة التي تبدو لنا منه. وجاء فيخت بعده فجعل من (الذات) ملجأ للحقيقة كلها. والأشياء الخارجة عن كياننا لا يُكتب لها الظهور إلا في اللحظة التي تعالجها الذات وتمعن فيها تفكيراً. , والإنسان بما أوتي من عزم وقوة لم يكن يوماً بكائن بسيط يدفع القوى المحدقة به، ولكنه يريد أن يُسيطر على العالم حتى يتمكن من شعوره بنفسه. ولكن ماذا آلت اليه الطبيعة - في مذهب فيخت - ومعانيها المتدفقة الحساسة؟ أنها قد صُرعت وتجردت من كل المعاني، فجاء شيلنج فعمل على مزج الفلسفة بالفن، وجرب أن يوحد بين العالم والكائن المفكر. الإنسان والطبيعة يجب أن يتحدا ويكون واسطة اتحادهما العقل المفكر والإحساس بالجمال. . . . وهكذا عاد مذهب سيينوزا القائل بأن الله إنما هو كل الكائنات، عاد هذا المذهب بصورة أوسع أفقاً من صورته الأولى، يتوسع في الحرية الإنسانية، وينطوي على فكرة فنية
بلى، إن مذهب المثال الكمالي الذي دان به الفكر الألماني مصدره المذهب القائل (بأن الآلة الواحد إنما هو كل الكائنات) وهذا (هيجل) هو الذي ثبت هذا المذهب بدستوره الذي جاء وليد جهود رفيعة تريد أن تشيد العلم الإنساني، ثم تبلغ بهذا العلم نفسه منزل الحقيقة(85/64)
السامية. فتطور الحياة العُضوية في الطبيعة، وتعاقب الأصول البشرية، وتتابع المدنيات في التاريخ إن هي إلا وجوه متقلبة لأصل واحد. وهذه هي الدائرة التي يجوزها الفكر المطلق عاملاً على تحقيق قوته المبدعة، وراجياً في النهاية أن يتم تعارفه مع الروح الإنسانية. . . الآلة لم يكن. . ولكنه عاد. . . ووُلد في الإنسان. إن معنى الوجود هو أضعف معنى؛ وهل معناه إلا أن تبدو لحظة من الزمن على مسرح هذا العالم المتبدل ثم تعود إلى أصلك؟ كل شيء يزول يدل على أن فكرة بزواله تمت، أما حركة الحياة فانها تمهد في معنى مجرد لا تدركها الأنظار
إن فلسفة هيجل حين جعلت من الروح الإنسانية ملجأ كل معرفة ووعاء كل حقيقة، أصبح المتدين بها يعرف الروح الإنسانية، ولا يعرف مما حولها شيئاً؛ هو يزعم أنه يحلل الكون ويعلل حوادثه ويشيد دعائمه بفكره، ولكنه في الحقيقة لا يتخطى - في ذلك - حدود العالم الصغير الذي يضم الإنسان عليه جوانح صدره
لابد لمن أراد أن يلم بتطور الأدب الالماني في منتصف القرن التاسع عشر أن يقع على أسباب تلك السآمة التي تمشت في عروق ذلك الأدب، ففي غرة هذا القرن اقتحم (نابليون) ألمانيا، وعليها على أمرها؛ فأذعنت أو همدت قليلاً والنار تسطع خلل الرماد، وهي في الحقيقة لم تنفض عنها أملاً ولم تدفع مأملاً، والحركة الفكرية التي ولدها اولئك الفلاسفة تدل على ان مرناها لم تزغ عنه الابصار، وان آثارها لم يطمس عليها طامس؛ وبعد حبوط تلك الآمال النازعة إلى حرية الشعب الألماني ولم شعثه بعد التفريق، خيم على الجهة الألمانية شبه سكون لا يتمخض بحياة! ولكن الأدب لا يموت، ولكنه يثور ويتحرك في الأقطار المذللة حيث ترى أصحابها مدفوعين دفعاً إلى الحياة، والتاريخ وحده ظل دائباً ساعياً وراء الغاية دون أن يقف سيره شيء، أما صوت الشعر فقد خفت، والمخيلة نامت إلى حين
في هذا العصر وجدت فلسفة (هيجل) مزاحماً جديداً عنيفاً، هو تشاؤم (شوينهاور) ومما ساعد على انتشاره قوة بيان صاحبه، وهيجل كان أسلوبه غير بياني، فتهافت الناس بعقولهم وقلوبهم على المذهب الجديد
ما قامت فلسفة أذيع وأسير من فلسفة (هيجل)، فقد كانت تياراً قوياً تقذف بالنفوس إلى مسكن (المثل الأعلى) ولكن تأثيرها سرعان ما وهي، وكان لهجيل. أنصار كثيرون أخذوا(85/65)
عنه وحملوا مبادئه إلى أقطار أخرى؛ حتى إذا وافاه أجله ذهب البعض إلى مقارنته بالاسكندر الذي غزا أقاليم مجهولة، وبعضهم ذهب إلى تمثيله بصاحب الرسالة المسيحية، وفكرة (هيجل) هي مذهب التحول المستمر، والعالم - عنده - هو كالنبتة تنجم دائماً من أصلها، وتحمل في بعض الأحيان براعيم وأزاهير وثمرات. . . . .
وبعد موت (هيجل) انشقت مدرسته وقام منها ثلاث فرق: فريق عكف على تحليل مذهبه وتطبيق فروعه على بعض فروع علمية وأدبية، وقد هذب هذا الفريق من أسلوب معلمهم حتى أخرجوا من حلقة الخاصة إلى متناول العامة؛ وفريق سابق، وأن يرد كل أصولها إلى الدين؛ والفريق الثالث نظر إلى (هيجل) نظرة مستقلة، ووجد أن الدين المسيحي قد انتهى به، كما انتهى العصر الوثني اليوناني بأرسطو، والكلمة التي رددها أحد تلاميذه: (لتكمل إرادة الرجل) تعتبر أول قاعدة في بناء شريعة المستقبل
يتبع
خليل هنداوي(85/66)
القصص
من الادب التركي
باقة زهر
بقلم الآنسة (فتاة الفرات)
إن لبعض المناظر تأثيراً عميقاً خاصاً في نفس الإنسان لا يشاركه فيه غيره من المناظر، لو أنني شهدتها في زمان غير هذا الزمان، أو في مكان غير هذا المكان
لقد سحقتني المدينة بجلبتها وضوضائها، ففررت بفكري المجهود وعقلي المكدود إلى قرية قائمة في وسط صحراء هادئة نائمة لأداوي بسكوتها فكري الثائر. وكنت في كل يوم ألقي بنفسي في أطهر ضواحي القرية من أنفاس الناس، فأستنشق فيها رائحة الطبيعة الجميلة تحت أشعة شمس الربيع التي كانت تسيل بغزلرة من بين قطع السحاب، فتحرك النفوس الجامدة ونثير القلوب الخامدة
كان يمر بتلك القرية نهير براق ينصب فيه الماء من بين أحضان تلك الجبال الشماء، فاذا انحدر منها إلى السهول بصوت جذاب يشبه الصوت الذي ينبعث من مجلس مجالس السرور جرى متغلغلاً بين الأحراج والغابات، متوارياً عن أشعة الشمس التي ملأت الأرجاء وطغت على الأنحاء، فاتراً هادئاً حابساً أنفاسه في صدره، كأنه فتاة عاشقة تسير نحو غايتها في لطف حتى لا يسمح خشخشة ثوبها سامع، ثم يجتمع شيئاً فشيئاً ويزج بنفسه في مقبرة تظللها أشجار السرو العاتية، وتنبعث منها روائح الموت القاسية، فتبعث في النفس ذكرى الدار الآخرة، وتوقظ في القلب عظمة الموت ورهبته، فاذا تجاوز هذه المقبرة سار في جريان بطيء فاتر مدفوعاً بقوة لا يمكن مقاومتها ولا يستطاع دفعها، مبتعداً عن الجبال والأحراج والصحارى حتى يغرق بحرقة الخسران وألم الفقدان في بحر لجيٍ لا يسبر غوره ولا يدرك قراره
وكثيراً ما كنت أتبع في سياحتي مجرى ذلك النهير، فأسير على ضفته مأخوذ اللب، موزع الفكر في أمواجه الضحاكة التي تنيرها أشعة الشمس اللماعة، وضفاته الحزينة التي تظللها الأشجار الملتفة، فتنشر عليها بساطاً من الكدر والحزن، وكم حبست سمعي على زمزمة(85/67)
مياهه اللطيفة تداعب الأحجار القائمة في طريقها بلطف، وتلامسها في غير عنف، وعلى نقيق ضفادعه تستقبل بواكير الربيع الضاحك، وكم غرقت في هذا وذاك غرقاً لا أخرج منه إلا بعد سفر طويل. هناك في ذلك المكان رأيتها، وكان ذلك في يوم ملول فاتر، والضباب المعطر النفحات الرطب الذرات يتطاير رويداً رويداً فوق ذري الجبال. ثم ينتشر في السهول والقيعان والآكام والوديان فرحاً بالربيع الغض النضير، باعث الحياة في الأموات
أما المناظر البديعة التي كانت تمتد بامتداد البصر، وتسترسل على قدر ما يبلغه النظر، فقد كانت تؤلف بصورها المتنوعة سلسلة من البدائع، تتجلى في طيف الخيال كأنها عالم من العوالم الشعرية المبهمة، وتظهر في صورة خيالية لو مرت بها نسمة من النسمات الفاترة لذهبت بها أباديد
إن في سكون الصحراء العميق نفساً عميقاً لا يكون إلا في سكون الصحراء، إنه سكون حي قوي الحياة، لو نظرت اليه بدقة وإمعان لخيل اليك بقوته أن الطبيعة تتنفس كما يتنفس كل ذي روح
لقد طفت كثيراً في النواحي أمتع النفس بالنظر إلى الضباب القائم يطير بين تلك الجبال كأنه الدخان، والى الزهرات الناضرة سقطت عليها حبات الندى فارتجفت تحتها ومالت أعناقها لثقلها، وأصغى إلى الأطيار على الأشجار تتغنى في هدوء بأصوات مملوءة بنشوة الطرب وسكرة النشاط، وبلغت من لك كله ما أريد
لقد أحيت في نفسي تلك الحال الجذابة، وتلك المناظر الخلابة، وتلك النزهة الواسعة الأطراف، المترامية الأكناف، روحاً جديداً، وأثارت رغبة كامنة، فكنت أقف أثناءها وقفات تسكن فيها الحواس، ويذهب الفكر إلى أبعد مداه، لقد كنت مأخوذاً أمام تلك الطبيعة التي تغرق الفكر، وتشتت اللب، حتى يكون التفكير ذهولاً، لقد كنت مأخوذاً بسبب ذلك الشعور الأخاذ الذي يفوق كل شعور حتى يجعل من الإنسان الحساس جماداً لا يتحرك ولا يحس
لست أدرى لماذا أبحث عن هذه الأشياء ولماذا أتكلم عنها؟ وليس لها من صلة بالحادثة التي أثارت أحزاني وحركن كوامن أشجاني وحرمتني حتى من نفسي أياماً طوالاً، أجل لا أدري، ولكني أريد أن أقول إني رأيت فصول تلك الرواية المحزنة وأنا أشد ما أكون تأثراً(85/68)
بهذه المناظرة وخضوعاً لها، فزادت رؤيتها تأثري حتى وصلت آثارها إلأى أعمق نقطة في نفسي
سمعت ذات يوم من تل الأيام التي قضيتها في تلك القرية وقع أقدام يكاد يخفي على الأذن لضعفه، فالتفت فعلقت عيني بفتى وفتاة قلما علقت عين بمثلهما جمال خَلْقٍ ولطف خُلقٍ، لا يتجاوز أكبرهما وهو الفتى الثانية عشرة من عمره، ولا تقل الفتاة عنه إلا عاماً أو عامين، كانت الفتاة وهي تبكي بلا عبرات وتئن بلا حسرات، أما الفتى فكان على عكس حالها يطفح نشاطاً ويفيض سروراً، مع أن على وجهه سحابة. . . لا أردي ماذا أسميها؟
ولا أدري كيف أعبر عنها؟ هي كالتي ترى على بعض الوجوه التي رشقها الموت بسهم من سهامه في بعض من يعز عليها، فطبعها بطابع أغبر قاتم يدل على ما في الجنان من هموم وأحزان، فلما رأيتها على ما وصفت، شعرت بألم في أعماق نفسي ذهب بكل ما فيها من نشوة وطرب
كانا يمشيان رويداً رويداً؛ فالفتاة مستغرقة في أفكارها، مسترسلة إلى أحزانها، وأما الفتى فقد كان يبتسم ابتسامة عذبة كأنه ثمل من حمرة الربيع الجديدة
علقت عيني بهما حتى ما كنت استطع أن أحولها عنهما، كأن دافعاً خفياً يدفعني إلى ذلك ويفرضه على فرضاً. حاذباني، وتجاوزازني، ولعلهما لم يشعر بمكاني، أحدهما مشغول عني بافراحه، والآخر مأخوذ باتراحه
وبينا أنا في ذهولي العميق إذا بقاتل يقول:
- فيماذا تفكر؟
كان المتكلم طبيباً من أصدقائي يتبع الطفلين، لا أذكر ماذا أجبته على سؤاله، ولكني أدركت بعد أن مر الطفلان من أمامي أن ضحية ثمينة قد مرت بي
صادفت الطبيب في اليوم الثاني منفرداً فقلت له:
- من هذان الطفلان اللذان كنت تتبعهما أمس؟
فأجابني وهو يلوي شفته:
- هما شقيقان
قلت:(85/69)
- ومريضان؟
فقال:
- (أحدهما فق والثاني لا حق بع عما قريب ولابد، لأن مرض الثاني لا يظهر إلا بعد أن يتلاشى المريض الأول، إن الفتى لن يحتمل هذا المرض أكثر من شهر آخر، وإذ ذاك فلا بد من معاينة الفتاة)
ثم استمر قائلاً:
- (لعلك قد لاحظت أن الفتاة تعلو وجهها سحابة حزن كثيفة وان طورها طور مكتئب شديد الكآبة، فهل عرفت منشأ ذلك؟ منشؤه الخوف، إن الفتة لا تفقه ذلك من أمر هذا المرض الذي نزل بأخيها شيئاً، وأني لها أن تفقه ذلك وهي لا تزال طفلة؟ ولكنها مع هذا تعلم يقيناً أن أخاها معرض لخطر شديد محدق له، أنها تسمع كل يوم من أفواه الناس هذه الكلمات فترسخ في قلبها الصغير وتترك فيه أثراً من الخوف:
كيف حاله اليوم؟ هل عاودته النوبة؟ كم درجة حرارته اليوم؟
وهي في كل يوم أيضاً تسمع من أمها هذه النصيحة مئات من المرات:
اجلسي يا فتاتي بجانب أخيك، لا طفيه، لا عيبه، لا تؤلميه، إن أخاك لا يحتمل ذلك
إن هذه الجمل والعبارات تطرق مسمعها كل يوم مرات عديدة فتترك في قلبها الحساس أثراً عميقاً كله خوف ووجل، ومع ذلك فكثيراً ما رأت والديها وهما يمسحان دموعهما خفية، وكثيراً ما رأتهما بعد أن يخرجا من غرفة أخيها المريض يحتضنانها ويقبلانها قبلات حارة، ثم تضمها امها اليها بحرارة كأنها تود المحافظة عليها من عدو يريد اختطافها بعد أن نفضت يدها من أخيها، فهي لذلك تشعر من سويداء قلبها الصغير بخوف ووجل لا تفقه منشؤهما ولا تعرف مأناهما، وهي لذلك حزينة كئيبة. وأما المريض الحقيقي فانه طروب فرح مملوء نشاطاً ومرحاً، لقد كان حتى الآن محبوساً في البيت، محروماً من التمتع بالطبيعة، فلما أطلق سراحه عاد دمه إلى الغليان بأشعة شمس الربيع المزدهر، وهذه دورة من دورات السل مخيفة، لأن المريض فيها يظن نفسه قد شفي من المرض، مع أن ذلك النشاط هو القوة الباهرة التي تعتري الذين يقفون على أبواب الموت، وهو آخر مظهر تظهره الحياة وتنفق فيه أقصى ما عندها من جهد، وإذ ذاك نقول لأهل المريض خذوه إلى(85/70)
النزه. . . دعوه يلعب في الشمس ويرتع في الهواء الطلق. . . فهذه الكلمات تعلن للأهل بلطف أنه لم يبق من حاجة إلى الدواء بعد أن وقع اليأس من الشفاء، فهاهم الآن يرسلونه ليلعب في الهواء الطلق كل يوم، وليأخذ قسطه من مرح الطبيعة، ولينال حظه من حرارة الشمس الساطعة ليمتع نفسه بما قضي عليه أن يحرم منه قريباً)
جلست الوم كعادتي عند النهر أفكر، فكانت أفكاري كلها متجهة نحو هذين الطفلين! لقد كانا محور تخيلاتي وتأملاتي في هذا اليوم، فلا أرى سواهما، ولا يمر ببالي شيء غيرهما
أصبحت أرى الطفلين كل يوم، وكنت إذا وقع نظري عليهما علق بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً داخلياً يهتف بس قائلاً:
- تأمل هذين الوجهين المحاطين بالشعر الأشقر إحاطة الهالة بالقمر، إنك سترى تلك الطفولة الغضة قد جمدت ويبست فيهما كما جفت الزهرة قبل أن تتفتح عنها أكمامها، وسترى على شفاههما الذابلة ذبول الزهرة لفحتها السائم، رعشة تشبه رعشة المحتضر
أما تلك العيون الحزينة فقد كانت في ذلك الربيع الضاحك مدفناً لجميع الآلام، أسفاً على ربيع حياة عصفت به يد الخريف وتودع كل آمالها في الحياة مع شدة حرصها عليها، تودعها بشعر حزين باكٍ تنظمه نظراتهما الحائرة، وترجمة أنفاسها الفاترة. المرض بعد، والفتى الذي برح به الداء، يمشيان جنباً إلى جنب، وقد أخذ كل منهما بيد الآخر، مشية الحزين الذاهل
رأيت الفتاة في أحد الأيام وهي مكبة باهتمام على أخيها تزرر معطفه خوفاً عليه من البرد، فقلت في نفسي ما أشقاكما أيها الطفلان. . .
كان الفتى في آخر مرة رأيته فيها مصبوغ الوجنتين بحمرة هي حمرة السقم لا حمرة العافية، وفي تل المرة سمعت أخته تقول له بصوت حزين:
- لقد أسرفت في الركض يا أخي فأخذك العرق وها هو السعال يعاودك ويأخذ بخناقك
ويجيبها الفتى وهو يبتسم لها ابتسامة عذبة ويحاول أن يحبس سعاله:
- نعم لقد أسرفت في الركض كثيراً، ولن أعود
خرجت إلى النزهة بعد أيام وأخذت أجمع ما راق عيني وأحبته نفسي من الأزهار الجميلة(85/71)
التي أتحفتنا بها الطبيعة لتجلبنا اليها، فجمعت باقة جميلة فيها من كل لون حسن، ومن كل رائحة لطيفة، ثم رأيت زهرة زرقاء اللون، قد نبتت على حائط المقبرة بين الأحجار، فمددت يدي لأقطفها، فاذا بيد قد وضعت على كتفي، فالتفت فاذا صديقي الطبيب، فقلت له:
- أهذا أنت؟
- نعم فالى أين تريد؟
- لست أريد مكاناً معيناً، إنما أنا في نزهة أداوي بها نفسي ولا أدري متى يكون الشفاه؟
ثم ذكرت الطفل المريض، فقلت له:
- ما شأن مريضك اليوم؟
فأخذ الطبيب بيدي وسار أمامي حتى وقف على باب المقبرة وأشار بيده قائلاًك
- ها هو ذا. . .
نظرت بحيرة، فاذا الطبيب يريني قبراً جديداً ث أضاف قائلا:
- ما كنت مخطئاً في ظني. إن الفتى قد قضى بحبه منذ يومين، وقد دعت الآن لمعالجة الفتاة، وها أنا ذاهب اليها
ابتعد الطبيب عني، ووقفت في مكاني كالصم لا أتحركن إن هذا القبر الجديد تحت سماء الربيع الصافية المملوءة بالحياة والنشاط يدل على معنى مؤلم، فنظرت طويلاً واستعبرت كثيراً، فكأن صوتاً من داخل القبر يقول:
- انظروا متأملين إلى هذه الأنوار التي تفيض من السماء فيضاً! والى الحياة تسح من أجواف الربيع المزدهر سحاً، ولكني محروم من هذا وذاك. . . آه افتحوا قبري! افتحوه. . . لأشاهد أنوار السماء واضواءها، ولأبصر فوران الحياة وغليانها
بحركة لم أتعمدها، ولم أقصد اليها، ألقيت من يدي تلك الباقة من الزهر، على ذلك القبر، الذي كانت تشرق عليه شمس مايو الحارة، وفررت من ذلك المكان لا ألوي على شيء، وبقيت بعد ذلك الموقف سنين عدة مشتت الفكر، مشرد اللب، أنشد نفسي فلا أعثر عليها، ولا يرشدني مرشد اليها
حلب
فتاة الفرات(85/72)
من روائع الشرق والغرب
محمد إقبال
من كتاب (رموز بيخودي)
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
ختم شاعر الإسلام الأكبر محمد إقبال كتابه (رموز بيخودي) بتفسير سورة الإخلاص، وجعل كل آية من السور عنوان فصل من الشعر، فنظم ثمانية عشر ومائة بيت تبين عما تمكن في نفسه من المعاني الإسلامية الجليلة
وفيا يلي ترجمة منثورة للأبيات التي كتبها تحت عنوان:
ولم يكن لـ كفواً أحد
ما المسلم الذي تحقر الدنيا عيناه؟ ما هذا القلب الذي وضع في الحقُ مناه؟ زهرة من الشقائق، في ذروة جبل شاهق، ضحكت للشمس والقمر، ولم ترجاني الزهر. ونفحت في حمرتها النار، أنفاسُ الأسحار. تظل أشعة الشمس الأولى، ويغسل غبار النوم من عينها الندى
اشدد (بلم يكن) عقداً، لتكون بين الأقوام فرداً. إن الواحد الذي تنزه على الشريك، يأبى عبده أن يكون ذا شريك. وإن المؤمن وهو في الذروة العُليا، تأبى غيرتٌه أن يسامى، (لا تحزنوا) وشاح على صدره، (وأنتم الأعلون) تارج على رأسه يحمل عبء العالمين لا يضجر، ويطوي صدرهُ البحر والبر، قد ألقى أذنه إلى قصف الرعود، فان يخر البرق تلقاه بمنكب مشدود، سيف على الباطل، وللحق مجن لا يكسر، وأمره ونهيه معيار الخير والشر، مائةُ شعلة مقمرة في عقدة من شرره، وتنال الحياة كمالها من جوهره. ليس في هذا العالم ذي الضوضاء نغمة إلا تكبيره في الأرجاء. عظيم العدل والعفو والجود والاحسان، كريم السجايا على نوب الزمان، هو في المجامع برد وسلام، وفي الهيجاء نار تذيب الحسام. وهو في البستان نجي العنادل، وفي الصحراء باز صاءل. لم يرض قلبه تحت السماء قراراً، فاتخذ على الأفلاك داراً. طائر ينقر نجوم السماء، ويحلق وراء القبة الزرقاء
إنك لم تمد جناحا للطيران، فلبثت دودة في الرغام، قد أذلك هجرك القرآن، فأغرقت في(85/74)
شكوى الزمان، أيها الساقط كالندى على التراب، وفي يده من الحياة كتاب، حتام تتخذ في الثرى مجالك، هلم فألق على الثريا رحالك
عبد الوهاب عزام(85/75)
وداع
للورد بيرون
ترجمة الأستاذ محمود الخفيف
شد ما يبهجني أنك سعيدة، ولذا أحس أنه ينبغي أن أكون سعيداً مثلك، فان قلبي ما يزال يرجو لك الهناءة في حماسة كما تعود من قبل
وهذا زوجك! متعه الله بما يحب، وحفظك قرة عين له، لشد ما يعتريني الحزن ويباغتني الهم حينما أفكر فيما وفق اليه من حظ عظيم. . . ولكن لأفرغ من هذا ولأنسه. آه كم كنت أمقته لو لم يكن يهبك مثل هذا الحب!
عندما لقيت أخيراً طفلك الحبيب. أحسست كان قلبي وقد ملأته الغيرة يريد أن يتحطم، ولكنني حينما ابتسم هذا الطفل الغرير، طبعت قبلة على جبينه، وفعلت ذلك من أجل أمه
قبلت طفلك وأنا أكتم تنهداتي وأحبس زفراتي، إذ رأيت في وجهه وجه أبيه، ولكنني لم ألبث أن لمحت في مقلتيه عيني أمه. . . وكانتا من قبل مأوى للحب وملكاً لي
وداعاً يا حبيبتي العزيزة! لابد لي من الرحيل، وما دمت أنت سعيدة فليس هناك ما يكربني، أما أن أبقي إلى جوارك فذلك ما لا أستطيعه، إذ سرعان ما يعود قلبي طوع يديك
لقد طالما ظننت أن الزمن في دورانه، وأن ما فطرت عليه نفسي من فخار وكبرياء، كفيل أن يخمد في قلبي تلك الشعلة الثائرة، شعلة الحب أو شعلة الطفولة، ولكنني لم أتبين حتى جلست إلى جانبك. . . أن قلبي لم يزل في كل شيء هو هو. . . إلا من جهة واحدة. . . . . هي الأمل!
غير أنني على الرغم من ذلك جليت هادئاً بين يديك، نعم إني لم أنس تلك اللحظات التي كان يثبت فيها قلبي بين ضلوعي عند لمحة من عينك! أما الآن فالرعدة جريمة، ولذلك التقينا فلم ينبض فينا عرق
لقد رأيتك تحدقين في وجهي، ولكنك لم تجدي فيه رأي اضطراب، نعم لم تتبيني في ملامحي سوى معنى واحد، هو ذلك السكون العنيد، سكون اليأس. . . إليك عني. . . إليك عني يا أحلام الطفولة. آه! من لي بجرعة من ذلك النهر الذي جاءت به الأساطير، من لي بجرعة من (الليثية)! وأنت أيها القلب الأحمق، إما أن تقر وتهدأ، وإلا فلتتصدع جزاء بما(85/76)
جنيت
الخفيف(85/77)
القمر في الخريف
للشاعر كولردج
أناجيك في علياء سمائك أيها القمر الوضيء، يا من يشع منك هذا الزهو الوديع فيملأ جوانب الليلة المدثرة بشتيت الرقيع. إيه يا من تلد الأطياف الساحرة التي تملأ القلب، ولا تفتأ توحي اليه في نشاط وقوة
إني لأرقب في غبطة سيرك الهادئ، خلال ذلك النور المترقرق كأنه الماء في لونه وأراك حينما تختلج عينك الفاترة وراء ذلك القناع الذي يشبه الفراء العظيم، وحينما يتوارى وجهك الشاب خلف ما تجمع من سواد في هذا الفضاء العلوي، وحينما تطل من السحب مزقتها الرياح، فينبعث ضوؤك الزاهر في السماء الصاحية
آه. مثلك أيها القمر يكون الأمل! نعم صنوك في جماله وفي اضطرابه. فتارة يلوح غامضاً مبهماً في تيار الفكر، وطوراً يختفي وراء ذلك الطيف المزعج ذي الأجنحة الشبيهة بأجنحة التنين، طيف اليأس البغيض، ثم لا يلبث أن يظهر في وهجه وقوته، فيبدد بنوره الساطع تلك السحب المركومة التي عقدها الهم، ويسبح كما يسبح الشهاب الثاقب، تزيده السرعة وهجاً واشتعالاً
محمود الخفيف(85/78)
نزهات بين الصخور
لفيكتور هوجو
النزهة الأولى
فوارةٌ من الزبد وسط الخليج تميد
تكونها أقماعٌ خفيةٌ وعمقها بعيد
تتأرجحُ بوادعةٍ بين الأمواج الباسمة
كمركز ثلجىٍ لذائرةٍ قائمة. . .
إلهي ماذا تفعل بقارورة الثلج هذه؟
تدخل فيها الفجر فيخرج الليل بظلامه،
وعبثاً يخمدها البحر بموجه المحيط به،
والزوابع بزئيرها، والسحابُ بضبابه،
يمر الإعصارُ وهزيمة والأمواجُ وأكدارها
ولكن هل تُضعف الفوارة ثقة الصياد بها؟
كلا. فما تلبثُ أن تظهر وسط ذاك الجحيم
حيث يتغير كل شيءٍ بمكانها وثلجها القديم
يقولُ الصيادُ: هنا توجدُ موجةٌ مقدسة،
يأتي لها كل طفلٍ يموتُ ليلةً العيد
ينظفُ بثلجها جناحهُ من أهواء الحياة المدنسة
قبلَ الذهاب إلى السماء ملاكٌ في مكانه البعيد
وأقولُ: أدامَ اللهُ للسيف بياضه الناصع
برغم َ ما حوله من بحرٍ وصخرٍ قاتم
ليصور بصدر الطبيعة ثبات الحق القائم
وسط الدنس والخيانة بنقائه الرائعْ(85/79)
محمد وصفي(85/80)
البريد الأدبي
الأكاديمية الفرنسية لمناسبة عيدها الثلثمائة
في شهر يناير الماضي بلغت الأكاديمية الفرنسية ثلثمائة عام من عمرها، وهي تتأهب للاحتفاء بهذه الذكرى؛ وهي ذكرى نادرة في تاريخ الجمعيات العلمية، إذ قلما تبلغ الجمعيات العلمية مثل هذا العمر المديد، قوية مزدهرة، تغالب دائماً أعاصير السياسة والأهواء المختلفة، وقد بدأت الأكاديمية الفرنسية حياتها متواضعة جداً؛ ويمكن أن نرجع فكرة قيامها إلى سنة 1629 في عهد لويس الثالث عشر، ففي ذلك العام اتفق السيد فالنتان كونراد سكرتير الملك مع بضعة من أصدقائه الشعراء والأدباء على الاجتماع معاً في جلسات دورية منتظمة يتجاذبون فيها الأحاديث الأدبية، ويتحدثون عن الشئون والأخبار والكتب، وكانت هذه الاجتماعات سرية خاصة في المبدأ، واستمرت كذلك زهاء خمسة أعوام؛ وفي أوائل سنة 1634 وقف الكردينال ريشيليو وزير لويس الثالث عشر على خبر هذه الجماعة الأدبية من أحد أعضائها فجالت في الحال في ذهنه فكرة (الأكاديمية) الرسمية. ولم يكن أحد من الجماعة المتواضعة يفكر يومئذ في مثل هذا المشروع؛ وكانت فكرة ريشيليو أن ينظم الجماعة وأن يخضعها لأشراف السلطات الرسمية؛ فدعاها إلى أن تؤلف هيئة منظمة وأن تجتمع بانتظام تحت رعاية سلطة رسمية، وذلك مقابل تعهدها بالحماية وإعطائها سلطة محترمة. فترددت الجماعة في القبول باديء بدء خشية على استقلالها، واستمر هذا التردد طوال سنة 1634، ثم انتهت بالقبول؛ وفي 29 يناير سنة 1635 صدرت الأوامر الرسمية بتشكيل الأكاديمية الفرنسية، وبذلك تكون في 29 يناير الماضي قد قطعت ثلاثة قرون كالمة من حياتها الرسمية
وعلى أثر ذلك وضعت الأكاديمية لنفسها لائحة خاصة تتألف من خمسين مادة؛ وقبل الكردينال أن بعضها تحت رعايته، وصادق على هذه اللائحة في 22 فبراير؛ من نفس العام؛ ثم اتخذت بعد ذلك الاجراءات لمصادقة البرلمان على وجودها، وصدرت هذه المصادقة في يوليه سنة 1637، وتمت بذلك جميع الاجراءات الرسمية والدستورية التي تجعلها هيئة رسمية عامة؛ وعني البرلمان عناية خاصة بأن يحدد مهمة هذه الهيئة الوليدة خشية أن تنافسه في شيء من مهامه أو سلطانه في المستقبل، فعرف مهمتها بأنها تعمل(85/81)
على: (تنميق اللغة وتحسينها وتوسيعها)، وأنها لا تشغل بأمور أخرى.
ومنذ ثلاثة قرون تضطلع الأكاديمية بأعظم دور في الحياة الأدبية الفرنسية، وينمو نفوذها وأهميتها، حتى غدا الظفر بعضويتها أسمى ما يتشرف به كاتب أو شاعر؛ وقد استمرت الأكاديمية تقاوم ل ما يضطرم حولها من أعاصير الثورات السياسية والاجتماعية؛ ولم تنلها الثورة الفرنسية الكبرى التي اجتاحت كل النظم والهيئات القديمة بأذى؛ وأعضاء الأكاديمية الفرنسية أربعون لا يزيدون، ويطلق عليهم اسم (الخالدين)؛ وإذا توفي أحدهم، رشح لكرسيه من أعلام الكتاب والمفكرين من يجدر ترشيحه؛ ويقع اختيار العضوية بالانتخاب. ونستطيع أن نذكر من بين أعضاء الأكاديمية الحاليين بول بورجيه، وهو أقدمهم جميعاً إذ دخل الأكاديمية منذ سنة 1896، والشاعر بول فاليري، ولوي مادلان، وإبيل ديرمان، وهنري رنييه، ومارسل بريفو، وجورج جوايو، ولوي برتران، وبيير بنوا وهو أصغر الأعضاء سناً، وموريس دوناي، والمؤرخ دي نولهاك، والمؤرخ لي نوتر، والدوق دي بروجلي وهو أحدث الأعضاء إذ دخل الأكاديمية في الشهر الماضي فقط
وتشتغل الأكاديمية منذ أعوام بوضع قاموس رسمي للغة الفرنسية، وذلك تحقيقاً لمهمتها التاريخية وهي العمل على تحسين اللغة الفرنسية وتجميلها، وسيكون هذا القاموس متى تم وضعه مرجعاً رسمياً لألفاظ اللغة ومعانيها؛ وسيكون له في تطور اللغة الفرنسية أعظم الآثار
حول رواية نهر الجنون
صديقي العزيز الأستاذ الزيات:
قرأت في العدد الأخير من جلة (الرسالة) الغراء كلمة لأديب فاضل عن فكرة (نهر الجنون) وتماثلها مع فكرة قطعة نثرية لجبران خليل جبران. وقد حار الأديب في علة هذا التشابه، وافترض بعض الفروض، وعقبت (الرسالة) كذلك بفرض قريب من الحقيقة. ورداً على كل ذلك أقول إني سمعت هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسنة كغيرها من الأساطير. ولا ريب عندي أن جبران خليل جبران لم يخترع هذه القصة اختراعاً، وإنما دونها كما سمعها من الناس. ومثل هذه الأساطير ما ابتدعها كاتب، وإنما نبتت من قديم الزمان بين الشعوب والأجناس كأكثر النوادر والحكم والأمثال. وإني لم(85/82)
أكن أعلم قط قبل اطلاعي على عدد الرسالة الأخير أن أحداً من الكتاب أو الشعراء قد تناول من قبل هذه الأسطورة، ولم يصل إلى خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس
وتقبل أطيب تحيات
المخلص
توفيق الحكيم
الترشيح لجائزة نوبل للسلام
تحدثت بعض الصحف الألمانية أخيراً عن الترشيح لجائزة نوبل عن السلام، ومعروف أن هذه الجائزة يمنحها معهد نويل في كل عام للرجل الذي قام بأعظم الخدمات في سبيل السلام العالمي سواء كان من رجال السياسة أو القلم؛ وقد أعطيت هذه الجائزة في العام الماضي لاثنين من الانكليز هما السير نورمان أنجل الكاتب والصحفي الذي اشتهر بكتبه ومقالاته ضد الحرب وفي سبيل السلام، ومستر ارثر هندرسون رئيس مؤتمر نزع السلاح. والآن تتساءل بعض الصحف الألمانية لماذا لا يرشح معهد نوبل الهير هتلر رئيس الدولة الألمانية لنيل جائزة السلام؟ وتقول إن أحداً من رجال الحرب أو السياسة أو القلم لم يخدم قضية السلام في العامين الأخيرين قدر ما خدمها هتلر، فهو يتجه بجميع جهوده الداخلية والخارجية إلى توطيد دعائم السلم، وحديث الصحف الألمانية في ذلك طريف في غرابته وتناقضه؛ فلم ينس إنسان بعد كيف قام النظام الهتلري في ألمانيا، ولا كيف يستند في بقائه إلى أشنع وسائل الضغط والنعنف، ولم ينس إنسان بعد تلك الدماء التي سالت في ألمانيا غزيرة في 30 يونية الماضي دون أي وازع أو محاكمة بحجة التآمر على هتلر، ولا يستطيع أخذ أن ينسى أن النظام الهتلري يقوم من أساسه على صيحة الحرب وعلى المبادئ العسكرية والأحفاد الجنسية المغرقة، ولكن الصحافة الألمانية التي أصبحت أداة مستعبدة في يد وزارة الدعوة لا تتحرج عن اتحدث عن السلام ودعائه على هذا النحو الغريب
كتاب طريف عن نابليون(85/83)
صدر بالفرنسية كتاب جديد عن نابليون بورنابارت، ولكنه كتاب من نوع خاص وعنوانه: (بؤس نابليون) ومؤلفه لورنزي دي برادي؛ وهو كاتب ورسيكي الأصل، يهدي كتابه إلى جميع الكورسيكيين حتى لا ينسوا أن نابليون يمت اليهم بصلة الجنس، وطرافة هذا المؤلف ترجع إلى أنه يصور لنا أي بؤس كان يعانيه ذلك الإمبراطور العظيم منذ نشأته حتى وفاته؛ فهو قد بدأ الحياة ضابطاً بائساً يعاني أمر ضورب الفقر بعد أن طرد من وطنه الأصلي، ولما وصل إلى قمة المجد وبسط سيادته على أوربا، كان يبدو في ثوب من السعادة والهناء، ولكنه كان أبعد الناس عن التمتع بوفاة أصاحبه، وكان صحبه أشد الناس خيانة له وتوثباً إلى الغدر به. ويقول لنا دي برادي إنه أراد أن يصور كل ضروب الشقاء التي عاناه نابليون، وأن يوضحها بأقوال ذلك الذي عاناها؛ وأنه متى شرحت هذه الآلام استطاع القارئ أن يفهم الروح النابوليونية حق الفهم، وأن يتتبعها خلال تلك الحياة الشقية التي ارتضاها الإمبراطور في فلسفة واستكانة وتسليم
وفاة علامة نمسوي
من أنباء فينا أن العلامة الرياضي الشهير الأستاذ الدكتور جوستاف ايشريخ قد توفي في السادسة والثمانين من عمره، وقد بدأ الأستاذ ايشريخ حياته العامة مدرساً للرياضة في جامعة جراتز منذ سنة 1874؛ ولم يلبث أن ظهر ببراعته ومباحثه المبتكرة؛ وفي سنة 1884 عين أستاذاً للرياضيات بجامعة فينا، وهو الكرسي الذي شغله مدى خمسين عاماً حتى وفاته، وقد نشر عدة مؤلفات رياضية هامة أشهرها مباحثه عن (التبلور) وتوجت مباحثه غير مرة من أكاديمية العلوم؛ وبوفاته يخسر العلم النمسوي أحد أقطابه وأركانه من العهد القديم(85/84)
العدد 86 - بتاريخ: 25 - 02 - 1935(/)
الأزهر بين الماضي والحاضر
ويل للأزهر من أهله! كان منيعاً بالدين فابتذلوه بالدنيا، وعزيزاً بالعلم فأذلوه بالمال، ومستقلاً في حمى الله فأخضعوه لهوى الحكم! وكان سُنة واضحة لِهَدْى الشريعة استقام الناس بها منذ ألف عام على عمود واحد، فشبهوا وجوهها بالأنظمة الفجة، ولبسوا صورها بالأعلام المستعارة، ثم وقفوا لدى المفترق المبهم الذي أحدثوه يديرون أعينهم في الفضاء، ويردونها من الأمام إلى الوراء، فلا يرون أقدامهم على أثر، ولا يجدون وجوههم على سبيل!
كان للأزهر، على عهدنا القريب، جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، لأنه المعقل الوحيد الذي ثبت لحملات الغيرَ فانتهت إليه أمانة الرسول، واستقرت به وديعة السلف، واستعصمت في لغة القرآن، واستأمنت إليه آداب العرب، فأرضه حَرم لا يُنتهك، وأهله حمى لا يستباح، وأمره قَدرٌ لا يُرد؛ وكان لعلمائه مكانة في القلوب، ومهابة في النفوس، لأنهم دعاة الله، ووراث النبي، وهداة المحجة؛ ينطق على ألسنتهم، وتتمثل في أفعالهم السنة؛ فمحبتهم السنة؛ فمحبتهم عقيدة، وطاعتهم فريضة، وإشارتهم نافذة
وكان لطلابه كلف به لا يُهتم، وثقة برجاله لا تحد، وانقطاع إلى جواره لا يبغون من ورائه غير فقه الدين وتحصيل المعرفة وتجديد حبل الدعة، فهم عاكفون على معاناة الدرس، قانعون بميسور العيش، لا ينصرفون عن حلقات التعلم بالقاهرة، إلا إلى حلقات التعليم في الريف
كانت صلة العلماء بالحكومة صلة دينية، تقوم على حسم المشاكل بالقضاء، وحل المسائل بالفتوى؛ وكانت صلتهم بالأمة صلة روحية، يجلون صدأ القلوب بالذر، ويكفكفون سفه الجوارح بالموعظة، ويشفون على الجوانح بالمؤاخاة، فكانوا لذلك موضع الاجلال أني حلوا. كنا نرى العالم اذا نزل مدينة أو قرية كان يوم نزوله تاريخاً لا يُنسى: يأخذ الناس فيها حال من الشعور الصوفي يدفعهم إلى رؤيته، فيهرعون إليه كما يهرعون اليوم إلى زعيم الأمة أو إلى رئيس الحكومة، فيتوسمون في أساريره نور الرسالة، ويتنسمون من أعطافه ريح النبوة، ويتخففون على يديه من أوزار العيش وتبعات الجهالة. وطلاب الأزهر القديم لا يزالون يذكرون ما كان في نفوسهم لشيوخهم من الحب والتجلة. كانوا يتحلقون حول كرسي الشيخ من غير نظام ولا ضابط، فيكون لهم على السبق إلى الأمام عراك دامٍ(86/1)
وصخب مُضم، حتى اذا ما أقبل خشعت الأصوات وسكنت الحركات كأن شيئاً علق الأنفاس فلا تنسم، وعقد الشفاه فلا تنبس! وربما نزا اللجاج على لسان أحدهم أثناء المناقشة فيغضب الشيخ فلا يكون أنكى في عقابه من الاشارة إليه بالخروج من الدرس، أو الدعاء عليه بالقطيعة من الأزهر! والقطيعة عن الأزهر كانت أقصى ما يتصوره الأزهري من شقاء الحياة! فإذا انقضى الدرس وقال الشيخ: (والله أعلم) تضامت أطراف الحلقة عليه، وأنحى الطلاب بالقبل على يديه وردنيه، فما يشق بينهم إلا بعد لأي
تدبر ذلك في نفسك على إجماله وعمومه، ثم اقرنه إلى ما تسمع اليوم أو تقرأ من خير الأزهر وحال علمائه وأبنائه، فهل تجد المعهد هو المعهد والناس هم الناس؟ إن الأزهر البائد على فوضاه المنظمة كل أجدى على الدين وأعْوَد على الثقافة من هذا الخَلْق المسيخ الذي وقف بين الماضي والحاضر، وبين الدين والسياسة، موقفاً يُندى الجبين الصُّلب، ويوجع الفؤاد المُصْمت!
تقلب بعض زعمائه على فرش الديباج، وخبوا في أفواف الشاهي، وتأنقوا في ألوان الطعام، وتنبلوا بالمظاهر الفخمة، وسردوا أعداد الدنانير على المسابح العِطرة. وكان أسلافهم طيب الله ثراهم كما طيب ذِكراهم يتسترون بمرقعات القطن، ويتبلغون بقشور البطيخ، ويستروحون النسيم على شرفات المآذن
ثم شايعوا أهواء الناس، وصانعوا أهل النفوذ، وجَرَوا في تمكين أمورهم وترفيه نفوسهم على الضراعة والملق؛ من أجل ذلك فقدوا خطرهم في الخاصة، وأثرهم في العامة، وجروا معهم كرامة الدين إلى هذا المنحدر
ان في بقية السلف من أعلام الأزهر مَفْزعاً من هذه الحال الأليمة. فليعملوا لرد هذا المعهد الكريم إلى نظامه، فان شديداً على النفس أن يضطرب فيه الأمر ويشرى به الفساد حتى تطرد طلابه، وتغلق أبوابه
لقد قرأت بالأمس فصلا عن الإسلام في مجلة شهرية فرنسية يقول كاتبه فيه: (لقد انحسر الإسلام عن بلاده أو كاد، فلم يبق داوياً متوثباً إلا في الزهر) فماذا عسى أن يقول هذا المأفون إذا قيل له غداً إن هذا الدوي قد سكن، وهذا التوثب قد قر؟
لا جرم أن المخلصين من علماء الأزهر وأبنائه أقدر على درء هذه الكارثة متى أنضجوا(86/2)
الرأي وأجمعا الكلمة؛ والحكومة القائمة أربأ بعهدها عن هذا الحدث، وأضنُّ بتاريخها على هذه الصفحة؛ وليس في مصر ولا في غير مصر ضمير نزه يرضيه أن تعبث الشهوات الرعن بهذا المعقل الديني الذي عصم القرآن ولغته وعلومه من طغيان الأحداث والفتن عشرة قرون
أحمد حسن الزيات(86/3)
زوجة إمام
بقية الخبر
للأستاذ مصفى صادقي الرافعي
قال أبو مُعاوية الضرير: وكنتُ في الطريق إلى دار الشيخ أرَوِّىء في الأمر وأمتحنُ مذاهبَ الرأي وأقلبها على وجوهها، وأنظرُ كيف أحتالُ في تأليف ما تنافرَ من الشيخ وزوجته؛ فان الذي يَسفرُ بين رجلٍ وامرأته إنما يمشي بفكره بين قلبين، فهو مُطْفيء نائرةٍ أو مُسْعرُها، إذ لا يضع بين القلبين إلا حُمقَه أو كياسته وهو لن يرد المرأة إلى الرأي إلا إذا طاف على وجهها بالضحك، وعلى قلبها بالخجل، وعلى نفسها بالرقة، وكان حكيماً في كل ذلك؛ فان عقلَ المرأة مع الرجل عقلٌ بعيدٌ، يجيء من وراء نفسها، من وراء قلبها، وجعلتُ أنظرُ ما الذي يُفسدُ محل الشيخ من زوجته، ومثلتُ بينه وبينها، فما أخرج لي التفكيرُ إلا أن حسن خلُقه معها دائما هو الذي يستدعي منها سوء الخُلقِ أحياناً؛ فان الشيخ كما ورد في وصف المؤمن: (هينٌ لينٌ كالجمل الأنف، إن قِيدَ انقادَ، وإن أنيخ على صخرة استناخ) والمرأةُ لا تكون امرأةً حتى تطلبَ في الرجل أشياءَ: منها أن تحبه بأسباب كثيرة من أسباب الحب؛ ومنها أن تخافه بأسباب يسيرة من أسباب الخوف. فإذا هي أحبته الحب كله ولم تخف منه شيئاً وطال سكونه وسكونها، نفرت طبيعتها نفرةً كأنها تُنخيه وتذمره ليكون معها رجلاً فيخفيها الخوف الذي تستكملُ به لذةَ حبها، إذ كان ضعفها يحب فيما يحبه من الرجل أن يَقسو عليه الرجلُ في الوقت بعد الوقت، لا ليؤذيه ولكن ليُخضِعَه، والآمرُ الذي لا يُخف إذا عُصى أمره هو الذي لا يعبأ به إذا أطيع أمره
وكأن المرأةَ تحتاج طبيعتها أحياناً إلى مصائبَ خفيفةٍ تؤذي برقة أو تمر بالأذى من غير أن تلمسها به لتتحركَ في طبيعتها معاني دموعها من غير دموعها؛ فان طال ركودُ هذه الطبيعة أوجدت هي لنفسها مصائبها الخفيفةَ فكان الزوج أحدها. . . .
وهذا كله غير الجُرْأة والبَذَاءِ فيمن يُبغضن أزواجَهن، فان المرأة إذا فركت زوجها لمنافرة الطبيعة بينها وبينه، مات ضعفها الأنثَوِيُّ الذي يتم به جمالها واستمتاعها والاستمتاع بها، وتعقد بذلك لينُها أو تصلب أو استخجر، فتكون مع الرجل بخلاف طبيعتها فيتقلب سكرها النسائي بأنوثتها الجميلة عربدة وخلافاً وشراً وصخباً، ويخرج كلامها للرجل وهو من(86/4)
البغض كأنه في صوتين لا في في صوت واحد. ولعل هذا هو الذي أحسه الشاعر العربي بفطرته - من تلك المرأة الصاخبة الشديدة الصوت البادية الغيظ، فضاعف لها في تركيب اللفظ حين وصفها بقوله:
صُلًبّة الصيحة صَهصَلِيقها
قال أبو معاوية: واستأذنت على (تلك) ودخلت بعد أن استوثقت أن عندها بعض مَحارمِها؛ فقلت: أنعم الله مساءَكِ يا أم محمد. قالت: وأنت فأنعم الله مساءك. فأصغيتُ للصوت فإذا هو كالنائم قد انتبه يَتَمَطى ولا هو خالص للرضى
فقلت: يا أم محمد إني جائع لم ألِم اليومَ بمنزلي. فقامت فقربت ما حضر؛ وقالت معذرة يا أبا معاوية، فانما هو جُهدُ المُقل وليس يعدو إمساك الرمق. فقلت إن الجوْعان غيرُ الشهوان؛ والمؤمن يأكل في معي واحد ولم يخلق الله قمحاً للملوك وقمحاً غيره للفقراء
ثم سميتُ ومددتُ يدي أتحسسُ ما على الطبق، فإذا كِسَرٌ من الخبر معها شيء من الجزر المسلوق فيه قليلٌ من الخل والزيت؛ فقلت في نفسي هذا بعض أسباب الشر. وما كان بي الجوعُ ولا سدُّه. غير أني أردتُ أن أعرف حاضِرَ الزرق في دار الشيخ فان مثل هذه القبلة في طعام الرجل هي عند المرأة قلةٌ من الرجل نفسه؛ وكل ما تفقده من حاجاتها وشهوات نفسها فهو عندها فقرٌ بمعنيين: احدُهما من الأشياء والآخرون من الرجل. كلما أكثر الرجل من إتحافها كُثر عندها وإن أقل قَل. وإنما خلقت المرأة بطناً يلدُ، فبطنها هو أكبر حقيقتها، وهذه غايُتها وغايةُ الحكمة فيها. لا جَرَم كان لها في عقلها مَعِدةٌ معنوية؛ وليس حبها للحلي والثياب والزينة والمال، وطِماحُها إليها واستهلاكُها في الحرص عليها والاستشراف لها - إلا مظهراً من حكم البطن وسُلطانه؛ فذلك كله إذا حققته في الرجل لم تجده عنده إلا مِن أسباب القوة والسلطة، وكان فقدُه من ذرائع الضعف والقِلة.
فاذا حققته في المرأة ألفيتَه عندها من معاني الشبع والبطر، وكان فقدُه عندها كأنه فنٌ من الجوع، وكانت شهوتُها له كالقَرمِ إلى اللحم عند من حُرِم اللحم. وهذا بعضُ الفرق بين الرجال والنساء؛ فلن يكون عقلُ المرأة كعقل الرجل لمكان الزيادة في معانيها (البطنية) فحسبتْ لها الزيادةُ ههنا بالنقصُ العقل فهذه علته؛ وأما الدينُ فلغلَبة تلك المعاني على طبيعتها ما تغلب على عقلها. فليس نقصُ الدين في المرأى نقصاً في اليقين أو الأيمان فانها(86/5)
في هذين أقوى من الرجل؛ وإنما ذاك هو النقصُ في المعاني الشديدة التي لا يكمل الدينُ إلا بها؛ معاني الجوع من نعيم الدنيا وزينتها، وامتداد العين إليها واستشرافِ النفس لها؛ فان المرأة في هذا اقل من الرجل. وهي لهذه العلة ما برحت تُؤْثِرُ دائماً جمالَ الظاهر وزينته في الرجال والأشياء دون النظر إلى ما وراء ذلك من حقيقة المنفعة
قال أبو معاوية: وأريتها أني جائع فهشمتُ نهشَ الأعرابي كيلا تفطنَ إلى ما أردتُ من زَعْم الجوع، ثم أحببتُ أن أستدعيَ كلامَها وأستميلها لأن تضحك وتسر، فأغير بذلك ما في نفسها فيجد كلامي إلى نفسي مذهباً. فقلت يا أم محمد: قد تحرمتُ بطعامك ووجب حقي عليك، فأشيري علي برأيك فيما أستصلحُ به زوجتي فانها غاضبة علي وهي تقول لي: والله ما يقيم الفأر في بيتك ' لا لحب الوطن. . . وإلا فهو يسترزقُ من بيوت الجيران
قالت: وقد أعْدَمتْ حتى من كِسَر الخبز والجزر المسلوق؟ الله منك! لقد أستأصلها من جذورها؛ إن في أمراض النساء الحمُى التي أسمُها الحمى التي اسمها الزوج. . . .
فقلت: الله الله يا أم محمد؛ لقد أيسَرتِ بعدنا حتى كأن الخبز والجزر المسلوق شيءٌ قليل عندك من فَرْط ما يتيسر؛ أو ما علمت أن رزق الصالحين كالصالحين أنفسهم، يصومُ عن أصحابه اليومَ واليومين. . . . . . وكأنك ما سمعتِ شيئاً من أخبار أمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساءِ أصحابه رضوان الله عليهم، فما امرأة مسلمةٍ لا تكون بأدبها وخُلقها الإسلامي كأنها بنتُ إحدى أمهات المؤمنين؟
أفرأيتِ لو كنتِ فاطمةَ بنت محمد صلى الله عليه وسلم؛ أفكان ينقلك هذا إلى أحسن مما أنتِ فيه من العيش؛ وهل كانت فاطمةُ بنتَ ملكٍ تعيشُ في أحلام نفسها أو بنت بني تعيش في حقائق نفسها العظيمة؟
تقولين إنني استأصلتُ أم معاوية من جذورها؛ غما أم معاوية وما جذورُها؟ أهي خيرٌ من أسماء بنت أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قالت عن زوجها البطل العظيم: فُرَسِه وناضجة فكنت أعْلفُ فرسَه وأكفيه مؤنتَه وأسُوسُه، وأدقُّ النوى لناضحه وأعلفُه، وأستقي الماء وأخرزُ غَرَبه وأعجن؛ وكنت أنقلُ النوى على رأسي من ثُلُثي فرسخ حتى أرسل إلى أبو بكر بجارية فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني
هكذا ينبغي لنساء المسلمين في الصبر والأباء والقوة والكبرياء بالنفس على الحياة كائنةً ما(86/6)
كانت، والرضى والقناعة ومؤازرة الزوج وطاعته واعتبار مالَهن هند الله لا مالَهن عند الرجل، وبذلك يرتفعْنَ على نساء الملوك في أنفسهن، وتكون المرأة منهن وما في دارها شيء، وعندها أن في دارها الجنة. وهل الإسلام إلا هذه الروحُ السماويةُ التي لا تهزمها الأرض أبداً ولا تُذلها أبداً ما دام يأسها وطعمها معلقين بأعمال النفس في الدنيا لا بشهوات الجحيم من الدنيا؟
هل الرجلُ المسلم الصحيحُ الإسلام إلا مثلُ الرب يثورُ حولها غبارها ويكون معها الشظفُ والبأسُ والقوةُ والاحتمالُ والصبر، إذ كان مفروضاً على المسلم أن يكون القوة الانسانية لا الضعف، وأن يكون اليقينَ الانساني لا الشك، وأن يكون الحق في هذه الحياة لا الباطل؟
وهل امرأةُ المسلم إلا تلك المفروض عليها أن تمد هذه الحرب بأبطالها وعَتَادِ أبطالها وأخلاقِ أبطالها ثم ألا تكون دائماً إلا من وراء أبطالها؟ وكيف تلد البطل إذا كان في أخلاقها الضعةُ والمطامعُ الذليلةُ والضجرُ والكسلُ والبلادة؟ ألا إن المرأة كالدار المبنية لا يَسهُلُ تغييرُ حدودها إلا إذا كانت خَرابا
فاعترضته امرأة الشيخ وقالت: وهل بأسٌ بالدار إذا وسعتْ حدودها من ضيق، أتكون الدار في هذا إلى نقصها او تمامها؟
قال أبو معاوية: فكدُت أنقطعُ في يدها، وأحببتُ أن أمضي في استمالتها فتركتُها هنيهةً ظافرةً بي وأريتها أنها شدتني وثاقاً، وأطرقت كالمفكر. ثم قلت لها: إنما أحدثك عن أم معاوية لأبي معاوية؛ وتلك دارٌ لا تمل غير أحجارها وارضها فبأي شيء تتسع؟
زعموا أنه كان رجل عامل يملك دُوَيرةً قد التصقت بها مساكنُ جيرانه وكانت له زوجةٌ حمقاء ما تزال ضيقةَ النفس بالدار وصغرها كأن في البناء بناء حول قلبها؛ وكانا فقيرين كأم معاوية وأبي معاوية؛ فقالت له يوماً: أيها الرجل ألا توسع دارك هذه ليعلم الناس أنك أيسرت وذهب عنك الضر والفقر؟ قال: فبماذا أوسعها وما أملك شيئاً، أأُمسك بيميني حائطاً وبشمالي حائطاً فأمدهما أُباعِدُ بينهما. . . . . وهبيني ملكتُ التوسعةَ ونفقتها فكيف لي بدور الجيران وهي ملاصقةٌ لنا بَيْتَ بَيت؟
قالت الحمقاء: فاننا لا نريد إلا أن يَتَعالم الناسُ أننا أيسرنا؛ فاهدم أنت الدار فانهم سيقولون لولا أنهم وجدوا واتسعوا وأصبح المال في يدهم لما هدموا. . . . . .(86/7)
قال أبو معاوية: وغاظتني زوجةُ الشيخ فلم أسمع لها هَمسةً من الضحك لمثل الحمقاء وما اخترعُته إلا من أجلها، كأنها تريد أن تذهب عملي بالاً. فقلت: وهل تتسع أم معاوية من فقرها إلا كما اتسع ذل الأعرابي في صلاحه؟
قالت: وما خير الأعرابي؟
قلت: دخل علينا المسجد يوماً أعرابي جاء من البادية وقام يصلي فأطال القيام والناس يرمقونه، ثم جعلوا يتعجبون منه، ثم رفعوا أصواتهم يمدحونه ويصفونه بالصلاح. فقطع الأعرابي صلاته وقال لهم: مع إني صائم. . .
قال أبو معاوية: فما تمالكت أن ضحكت وسمعتُ صوت نفسها وميزت فيه الرضى مقبلاً على الصلح الذي أتسبب له. ثم قلت:
وإذا ضاقت الدار فِلمَ لا تتسع النفسُ التي فيها؟ المرأة وحدها الجو الانساني لدار زوجها، فواحدةٌ تدخلُ الدار فتجعل فيها الروضة ناضرةُ متروحة باسمةً، وإن كانت الدارُ قَحِطةً مسحوتةً ليس فيها كبيرُ شيء، وامرأة تدخلُ الدارَ فتجعل فيها مثلَ الصحراء برمالها وقيظها وعواطفها، وإن كانت الدار في رياشها ومتاعها كالجنة السندُسية، وواحدة تجعل الدار هي القبر. والمرأة حق المرأة هي التي تترك قلبها في جميع أحواله على طبيعته الأنسانية، فلا تجعل هذا القلبَ لزوجها من جنس ما هي فيه من عيشة: مرة ذهباً، ومرة فضة، ومرة نحاساً أو خشباً أو تراباً، فانما تكون المرأة مع رجلها من أجله ومن أجل الامة معاً، فعليها حقان لا حق واحدٌ أصغرُهما كبير. ومن ثم فقد وجب عليها إذا تزوجت أن تستشعر الذات البيرة مع ذاتها، فان أغضبها الرجلُ بهفوة منه تجافتْ له عنها وصفحتْ من أجل نظام الجماعة الكبرى، وعليها أن تحكم حينئذ بطبيعة الأمة لا بطبيعة نفسها، وهي بيعة تأبى التفرق والأنفراد، وتقوم على الواجب، وتضاعف هذا الواجب على المرأة بخاصة
والإسلام يضعُ الأمةَ ممثلةً في النسل بين كل رجل وامرأته، وبوجب هذا المعنى إيجاباً ليكون في الرجل وامرأته شيء غير الذكورة والأنوثة يجمعهما ويقيد أحدهما بالآخر، ويضعُ في بهيميتهما التي من طبيعتها أن تتفق وتختلف، إنسانية من طبيعتها أن تتفق ولا تختلف(86/8)
ومتى كان الدينُ بين ل زوج وزوجته مهما اختلفا وتَدَابرا وتعقدت نفساهما، فان كل عقدة لا تجيء إلا ومعها طريقةُ حلها، ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه، وهو اليُسر والمُساهَلةُ والرحمةُ والمغفرةُ ولينُ القلب وخشية الله، وهو العهدُ والوفاء والكرمُ والمؤاخاةُ والإنسانية، وهو اتساعُ الذات وارتفاعها فوق كل ما تكون به منحطةً أو ضيقة
قال أبو معاوية: فحق الرجل المسلم على امرأته المسلمة هو حق من الله ثم من الأمة ثم من الرجل نفسه ثم من لطف المرأة وكرمها ثم مما بينهما معاً. وليس عجيباً بعد هذا ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرتُ النساء أن يسجدْن لأزوجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق)
وهذه عائشة أم المؤمنين قالت: يا معشر النساء لو تَعلمْن بحق أزواجكن عليكن، لجعلت المرأةٌ منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بِحُر وجهها
قال أبو معاوية: وكأن الشيخ قد استبطأني وقد تركته في فناء الدار، وكنت زورتُ في نفسي كلاماً طويلاً عن فروته الحقيرة التي يلبسها، فيكون فيها من بذاذة الهيأة كالأجير الذي لم يجد من يستأجره فظهر الجوع حتى على ثيابه. . . . وقد مر بالشيخ رجل من المُسودة وكان الشيخ في فروته هذه جالساً في موضع فيه خليج من المطر، فجاءه المسود فقال قم فاعُبر بي هذه الخليج، وجذبه بيده فأقامه وركبه والشيخ يضحك
وكنت أريد أن أقول لأم محمد: إن الصحو في السماء لا يكون فقراً في السماء، وإن فروة الشيخ تعرف الشيخ أكثر من زوجته، وإن المؤمن في لذات الدنيا كالرجل الذي يضع قدميه في الطين ليمشي، أكبر همه ألا يجاوز الطينُ قدميه
ولكن صوت الشيخ ارتفع: هل عليكم إذْن؟
قال معاوية: فَبدرْتُ وقلت: بسم الله ادخل؛ كأني أنا الزوجة. . . وسمعت همساً من الضحك؛ ودخل أبو محمد إن شيخك في ورعة وزهدة ليشبعه ما يشبع الهدهد، ويرويه ما يروي العصفور، ولئن كان متهدماً فانه جبل علم، (ولا تنظري إلى عمش عينيه، وحموشة ساقيه، فانه إمام وله قدْرٌ)
فصاح الشيخ: قم أخزاك الله، ما أردت إلا أن تعرفها عيوبي! قال أبو معاوية: ولكني لم أقم، بل قامت زوجة الشيخ فقبلت يده.(86/9)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(86/10)
الدعوة الفاطمية السرية
ضوء على موضوعها وغايتها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لما قامت الدعوة الفاطمية بمصر، وامتد سلطان الشيعة السياسي بين الغرب وأقاصي الشام، عني الفاطميون أشد العناية بالمسائل المذهبية، وعملوا على بث العقائد والمبادئ الشيعية بكل الوسائل، واتخذت هذه الدعاية صفة رسمية في مجالس الحكمة الشهيرة التي كانت تنظم بادئ بدء القصر الفاطمي وفي الجامع الأزهر تحت رعاية الخليفة نفسه، ويقوم بتنظيمها قاضي القضاة أو داعي الدعاة؛ ثم أنشئت لها بعد ذل جامعة رسمية خاصة هي دار الحكمة الشهيرة التي أنشأها الحاكم بأمر الله سنة 395هـ (1005م)، ولبثت عصراً تقوم ببث الدعوة الفاطمية السرية في صور وأساليب ما زال يحيط بها الخفاء والغموض. ولقد تقلبت دعوة الشيعة قبل ظفرها السياسي الحاسم على يد الخلفاء الفاطميين في أدوار ومراحل مختلفة، وتشعبت مذاهبها وإمامتها، فظهرت الدعوة الإسماعيلية أولاً في ثوب دعوة دينية سرية؛ ثم كانت فورة القرامطة التي قامت عليها وانتسبت إليها؛ ثم كان ظفر الفاطميين، وقيام الخلافة الفاطمية، فاتخذت الدعوة الشيعية بذلك لونها السياسي الواضح إلى جانب لونها الديني، وأدرك الفاطميون ما للدعاية الدينية من أثر في توطيد الملك السياسي، فعملوا على بث مبادئهم وتعاليمهم بقوة وذكاء، ووضعوا لذلك نظماً ومراتب سرية، كانت دار الحكمة القاهرية مجمعها ومبعث وحيها
وقد اتخذت هذه الدعوة في عصر الحاكم بأمر الله لوناً من الخفاء والعنف، لم تتخذه في أي عصر آخر، يسبغه عليها خفاء الحاكم وعنفه، وغريب تصرفاته وأهوائه. وكان الحاكم بأمر الله شخصية جريئة مدهشة برغم اضطرابها وتناقضها، ترتفع أحياناً في سماء التفكير حتى لتزعم السمو فوق البشر وتهيم في دعوى الألوهية؛ وتنحط في تصرفاتها إلى درك الجنون. وكان ذلك الذهن الهائم يشغف بنظريات الخفاء والعالم الآخر، ويهيم في غمر المباحث الروحية والفلسفية، ويفيض من خفائه وشذوذه على جماعة من الدعاة الأذكياء الذين يحشدهم الحاكم حوله لينظموا معه وسائل الدعوة المذهبية السرية، وليحملوا دونه تبعة ما تعرض من الأقوال والنظريات الجريئة الممعنة في الإلحاد والهدم. ومن الحقائق(86/11)
المعروفة أن معظم الكتب والوثائق المذهبية التي وضعت في هذا العصر قد دثرت ومحت معالمها يد الدول الخصيمة، ولم نتلق عن هذه الدعوات السرية سوى قليل من الرسائل والشذور التي نقلها إلينا بعض المؤرخين المتأخرين. على أن هذه الوثائق لقليلة التي انتهت إلينا تلقي مع ذلك شيئاً من الضياء على طبيعة هذه المبادئ والأقوال الخفية التي عمل الدعاة الفاطميون كثيراً لبثها، والتي بعثت في عصرها إلى أصول الإسلام الحقيقية كثيراً من سحب الزيغ والريب
ومن هذه الوثائق غريبة من الرسائل الفلسفية الكلامية تحتفظ بها دار الكتب المصرية، وهي متنوعة في موضوعها، ولكنها متحدة في أسلوبها وتدليلها وغايتها؛ ويبدو من تلاوتها لأول وهلة أن موضوعها إنما هو جزء من الدعوى السرية الفاطمية، وأنها كتبت في أواخر عصر الحاكم بأمر الله، وأنها حسبما يدعي كاتبها قد وضعت بوحيه وإرشاده، وأحياناً بالتلقي عنه. أما كاتبها فمن هو؟ في معظم هذه الرسائل يقدم لنا هذا الداعية الغريب نفسه، ويذكر لنا اسمه وهو (حمزة بن علي ابن احمد) وهو اسم قلما تذكره سير العصر، ولا تقدم لنا أي تعريف شاف عن صاحبه، وكل ما نعرفه أنه فارسي من مقاطعة زوزان، وكان عاملاً يشتغل بصنع اللباد، وفد على القاهرة حوالي سنة 405هـ وانتظم بي الدعاة، وخاض غمار الجدل الديني الذي كانت تضطرم به مصر يومئذ. ومما تجدر ملاحظته أن معظم الدعاة والملاحدة الذين خرجوا على الإسلام وحاربوه باسمه ينتمون إلى أصل فارسي؛ بيد أنا نستطيع أن نعرف من هذه الرسائل كثيراً عن شخصيته وعن مهمته؛ فهو بلا ريب من أكابر الدعاة السريين الذين اتصلوا بالحاكم بأوثق الصلات، وتلقوا وحيه، وبثوا دعوته، وكان لهم أكبر النفوذ في التوجيه الخفي لكثير من مسائل العصر؛ وسنرى حين نعرض إلى مهمته الحقيقية والى رسائله الغربية أنه يقدم لنا نفسه أيضاً في صفة النبوة، ويصف لنا بعض أعماله بالمعجزات
ولدينا من هذه الرسائل مجموعتان: إحداهما فتوغرافية نقلت عن مخطوط محفوط بالعراق، والثانية خطية، وقد اقتنتها دار الكتب أخيراً، والمجموعة الأولى أكبر وأعم من الثانية، وبها كثير من الرسائل التي وردت فيها؛ غير أن الثانية (الخطية) تحتوي أيضاً على بعض رسائل لم ترد في الأولى. وتسمى المجموعة الأولى في صفحة العنوان (بالرسالة الدامغة)(86/12)
وتنعت بأنها رد على النصيري (الفاسق) وهو ما يقوله لنا كاتبها أيضاً في الديباجة؛ وفي معظم هذه الرسائل يذكر لنا الكاتب اسمه وهو حمزة بن علي. ولكن هناك مجموعة ثالثة تختلف في موضوعها عن المجموعتين السابقتين، وليس لها عنوان، ولم يذكر فيها اسم الكاتب، ولكنا لا نشك في أنها من تأليف حمزة بن علي على نفسه لما بينها وبين الرسائل الأخرى من التشابه الواضح في الروح واللهجة والأسلوب. . . وسنرجئ الكلام عليها الآن؛ ونبدأ ببحث رسائل هذا الداعية الغريب، حمزة بن علي، ونحاول أن نستخرج منها بعض الحقائق التاريخية التي ما زالت تقدم إلينا في أثواب من الريب والغموض والتناقض، والتي كانت أعظم ظاهرة في عصر الحاكم بأمر الله، وكانت مستقى لكثير من النزعات والأهواء المدهشة التي أحاطت تلك الشخصية الغريبة بسياج كثيف من الخفاء والروع
من الحقائق التاريخية المعروفة أن بعض الدعاة الملاحدة قد دعا إلى ألوهية الحاكم بأمر الله، وأن الحكام كان يغذي هذه الدعوة ويمدها بتأييده. وقد ذكر لنا ذلك أكثر من مؤرخ، في مقدمتهم ابن الصابي، وهو كاتب معاصر، وشمس الدين سبط ابن الجوزي، والهبي؛ وكان في مقدمة هؤلاء الدعاة شخص يدعى بالأخرم، زعم ألوهية الحاكم ودعا إليها جهراً في جامع عمرو مع نفر من أصحابه، فثار الناس بهم ومزقوهم وفر الأخرم؛ ثم قام بهذه الدعوة داعية آخر هو محمد بن إسماعيل الدرزي، وكان أوفر ذكاء وبراعة، فصاغ دعوته في مذهب منظم ذي قواعد وأصول خاصة، وألف كتاباً في ذلك؛ فقربه الحاكم وتمكن نفوذه لديه حتى غدا أقوى رجل في الدولة؛ ولكنه لما حاول إذاعة مذهبه والدعوة إليه بجامع القاهرة (الأزهر) ثار الناس عليه، فالتجأ إلى القصر، فحاصرته الجموع، وأنكره الحاكم خوفاً من الثورة، وعاونه على الفرار؛ فسار إلى الشام، ونزل ببعض قرى بانياس، ونشر دعوته، فكانت أصل مذهب الدروز الشهير؛ وقوامه القول بالتناسخ وحلول الروح؛ وأن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب، ثم انتقلت روح علي إلى الحاكم بأمر الله
ثم ظهرت الدعوة كرة أخرى على يد حمزة بن علي، والظاهر أن حمزة عمل مدى حين مع الدرزي ثم اختلف معه وخاصمه؛ كما يبدو ذلك في إحدى رسائله. وفي هذه الرسائل العجيبة يشرح لنا حمزة مذهبه في (ألوهية) الحاكم بأمر الله، ويقدم إلينا شروحه وأسانيده،(86/13)
ويحاول أن يعلل لنا كل ما ارتكبه الحاكم من الأعمال والاجراءات الشاذة ويتخذ منها سنداً لنظريته. وقد نسقت هذه الرسائل، وهي ثمانية، على حدة في المجموعة المخطوطة الصغرى التي اقتنتها دار الكتب أخيراً، وأشرنا إليها فيما تقدم؛ ويلوح لنا أن هذه المجمعة تكون وحدة متصلة منتظمة، وأن ما أدرج منها في المجموعة الأخرى قد أدرج على سبيل الاختيار العام من مؤلفات الكاتب؛ ولهذا نؤثر الاعتماد عليها في عرض قواعد هذه العدوة الغربية التي كادت تحدث في هذا العصر ثغرة خطيرة في صرح الإسلام ومبادئه الحقيقية كتلك التي احدثتها فورة القرامطة قبل ذلك بنحو قرن
يفتتح الداعي كتابه بما يسميه (ميثاق الزمان)، وفيه صورة الشهادة بالتبرؤ من جميع الأديان الأولى والدعوة إلى الدين الجديد، أي عبادة الحاكم؛ يحدثنا عن اصل العالمين وبدء الخليقة في عبارة غامضة ويقول إن أصل العالم هو البرودة والحرارة؛ ويقدم إلينا بعد ذلك خلاصة موجزة عن معركة علي ومعاوية وبدء الحركة الشيعية؛ ثم يصف الحاكم بأنه (مولانا القائم بذاته، المنفرد عن مبتدعاته، جل ذكره، أورا العالم قدرة لاهوتية ما لم يقدر عليه ناطق في عصره ولا أساس في دهره. . .) ويطلق عليه لقب (قائم الزمان)، في جميع مراحل الدعوة رمزاً إلى القول بالحلول والتناسخ، وأنه هو الرمز الحي القائم. ويعرض الداعي بعد ذك في جرأة إلى قواعد الإسلام، وإلى ما يلقي في شأنها في مجالس الحكمة الباطنية؛ وهنا نستطيع أن نظفر بلمحة من الضياء على موضوعات تلك المجالس السرية الشهيرة التي لبثت عصراً تعقد بالقصر ثم انتظمت بعد ذلك في جامعة خاصة هي دار الحكمة؛ وأول ما نعرف هو أن السرية كانت قاعدة أساسية لهذه المجالس، وأن من يجرؤ على إفشاء مناقشاتها يعتبر منافقاً وخارجاً يستحق اللعنة والعقاب. وقد نقل إلينا المقريزي بياناً ضافياً عن المبادئ الكلامية العامة التي كانت تدور عليها الدعوة الفاطمية السرية في مراتبها التسع؛ ولكن الداعي يتناول هنا بعض الشروح الخاصة؛ فيحدثنا عن الزكاة مثلاً بأنها في الحقيقة ليست كما تلقي إلى الناس؛ بل هي الاعتراف بولاية علي بن طالب والأئمة من ذريته والتبري من أعدائه أبي بكر وعثمان، وأن معناها الباطن هو في الحقيقة (توحيد مولانا جل ذكره، وتزكية قلوبكم وتطهيرها من الحالتين جميعاً، وترك ما كنتم عليه قديماً). وعن الصوم بأنه من الناحية الباطنة صيانة القلوب بتوحيد مولانا جل(86/14)
ذكره. أما الحج ورسومه فيحمل عليها الداعي بشدة، ويصفها بأنها (من ضروب الجنون) وليس أدل على ذلك من أن قائم الزمان (الحاكم) قد قطع الحج والكسوة لنبوية، أعواماً طويلة؛ ومعنى الحج في الحقيقة والباطن (هو توحيد مولانا). وأما ترك الحاكم للصلاة والنحر (في عيد الأضحى) فهو تحليل ذلك للعباد، وقد أبطل الحاكم صلاة العيد وصلاة الجمعة بالجامع الأزهر، واسقط الزكاة، ومعنى ذلك أنه يحل للعباد (عباده) أن يقتدوا به في ذلك (إذ كان إليه المنتهى، ومنه الابتداء في جميع الأمور)
ويؤرخ الداعي هذا القسم الأول، وهو القسم التمهيدي من كتابه بشهر صفر ثمان وأربعمائة من الهجرة (408هـ)؛ ويقول لنا إن هذه السنة (هي أول سنين ظهور عبد مولانا ومملوكه، هادي المستجيبين، المنتقم بسيف مولانا جل ذكره. . . . الخ)، ومعنى ذلك أن حمزة بن علي كان ينتحلها بعد ذلك صراحة. وهو يرجع بدء رسالته إلى هذا التاريخ؛ ثم يقول لنا في خاتمة رسالته الأولى المسماة (بدء التوحيد لدعوة الحق)، إن سنة 408هـ أيضاً (أول سنين قائم الزمان) أعني بدء الزعم (بألوهية) الحاكم بأمر الله، على يد هذا الداعي. وقد كان من قبل ثمة دعاة آخرون روجوا لهذا الزعم كما قدمنا؛ والظاهر أن حمزة هو آخر من ظهر من حشد أولئك الملاحدة في عصر الحاكم، لأن الحاكم لم يطل أمد حكمه بعد ذلك سوى ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، وكان مصرعه في شوال سنة 411هـ في ظروف غامضة، اتخذها الدعاة مستقي جديداً للزعم والإرجاف
ثم تأتي بعد ذلك الرسائل الثمان؛ والأولى هي (بدء التوحيد لدعوة الحق) وفيها يدعو حمزة إلى (ألوهية) الحاكم، ويحاول أن يبرر إبطاله لأحكام الشريعة بأن محمداً (ص) قد نسخ كل الشرائع السابقة، فكذلك ينسخ الحاكم شريعة محمد وينشئ له شريعة خاصة. وفي الرسالة الثانية وهي (ميثاق النساء) يتحدث الداعي عن واجبات النساء في الطاعة والتوحيد والبعد عن الفساد والدنس، وألا يشغلن قلوبهن بغير توحيد (مولانا) وأن يكن صادقات وفيات في طاعته، وأن يتركن ما كن عليه من قبل، وفي الرسالة الثالثة وهي (رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد) يوصي الداعي بعبادة الحاكم، والإقرار بوحدته، ويقول إنه رفعها بنفسه إلى (الحضرة اللاهوتية)، في شهر المحرم الثاني من سنيه المباركة (المحرم سنة 409)، وأنها نسخت عن خط قائم الزمان بغير تخريف ولا تبديل؛ وفي هذه العبارة ما يستوقف النظر؛(86/15)
ذلك أنها تعني أن الحاكم بأمر الله قد اشترك في تأليف بعض هذه الرسائل سواء بالكتابة أو الأشراف على كتابتها، وأنه كان يرعى هذه الدعوة ويشجعها بنفسه؛ وهنا أيضاً يعرض الداعي جوهر دعوته ولباب مذهبه، أعني فكرة الحلول، فيزعم أنه من الخطأ أن يعتبر الحاكم ابناً للعزيز أو ينعت بأنه أبو علي؛ ذلك لأنه من زعمه (المولى سبحانه هو هو في كل عصر وزمان) يظهر في صورة بشرية (كيف يشاء وحيث يشاء). وفي الرسالة الرابعة وعنوانها (الغاية النصيحة) يحاول الداعي أن يقيم المفاضلة بين الإسلام أو دين محمد والدين الجديد. وفي الخامسة وهي (كتاب فيه حقائق ما يظهر) يحاول أن يبرر بعض تصرفات الحاكم. وفي السادسة وهي (السيرة المستقيمة) يحدثنا عن آدم وأصل الخليقة ويزعم أن القرامطة هم الموحدون؛ ثم يحدثنا عن تعاقب الشرائع ويزعم أن الإسلام قام بالعنف والسيف، وان الشريعة الإسلامية اختتمت بمحمد بن إسماعيل، وأن آخر خلفاء إسماعيل هو عبد الله المهدي (مؤسس الدولة الفاطمية)، وأن القائم هو الحاكم وفي السابعة الموسومة (بكشف الحقائق) يلجأ الداعي إلى العبارات الرمزية ويقول: (والآن فقد دارت الأدوار، وظهر ما كان مخفياً من مذهب الأبرار، وبان للعالمين ما جعلوه تحت الجدار، وعادت الدائرة إلى نفطة البيكار، فألفت هذا الكتاب، بتأييد مولانا البار، الحاكم القهار، العلي الجبار، سبحانه وتعالى عن مقالات الكفار، وسميته كشف الحقائق. . . . . .)
ولعله يريد بهذا الاسم - كشف الحقائق - عنوان الكتاب كله، لا الرسالة الموسومة بهذا الاسم فقط، فإذا صح ذلك فنكون أيضاً قد عرفنا اسم كتاب حمزة. وفي هذه الرسالة يزعم الداعي أن الإله بشر يأكل ويشرب، وليس كما زعموا من التجرد عن الصفات البشرية، ويقدم لنا شرحاً فلسفياً للعقل والنفس. وفي الرسالة الثامنة والأخيرة، وعنوانها (سبب الأسباب) يتخذ الداعي صفة الهادي والمعلم الأكبر يتفويض مولاه
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(86/16)
نظام التربية والتعليم بإنجلترا والعناية بالنظر في
أخلاق الشعب وتقاليده
للأستاذ محمد عطيه الأبراشي المفتش بوزارة المعارف
يجب أن يعني نظام التربية بالنظر في أخلاق الشعب وتقاليده، وفي الصفات السائدة بين الأمة، وألا يكون ضد العادات القومية. كل هذه الأمور قد لوحظت في التعليم بإنجلترا؛ فان الصفات والأخلاق التي تعرف بها بين الأجناس البشرية معروفة منذ أجيال، متأصلة فيها كل التأصل. يقول (بيتر ساند يفرد): (الرجل الإنكليزي مولع بالمنافسة، يحب من صميم فؤاده الرحلات والسياحات. ولا يستطيع أحد الاستقرار في إنجلترا إلا من كان يميل إلى المنافسة، وإن هذا الميل إلى حب التنافس لا يظهر للناظر العادي، لأنه مغطى بطبقة كثيفة من المندوء العقلي.) والرجل الإنجليزي يمقت النظريات والتفكير في النظريات، ويجب أن يقبض على الأمور العملية في الحياة، ويحلها وهو سائر في عمله. ويقول (بيتر ساند يفرد) أيضاً: (إن الرجل الإنكليزي يُرى هادئاً، وهو في حاجة إلى قوة الخيال، ومن الصعب أن تؤثر فيه، فهو كالفحم الحجري الصلب يتقد ببطء، ولكن حينما يتقد يحترق إلى النهاية.) ولدى الرجل الإنجليزي قوة كبيرة على كتمان شعور، ويمكنه أن يمتلك نفسه، وهو شديد المحافظة على القديم، يحب الحرية الشخصية فوق كل شيء، ولقد قاتل في سبيل تلك الحرية أكثر من ألف سنة؛ ويقول (ساند يفرد) في موضع آخر: (الرجل الإنجليزي هادئ من الجهة العقلية، ولديه حب عميق للحرية، ولقد كانت هاتان الصفتان سبباً في اتخاذه سياسة البطء، لا في السياسة فحسب، بل في التعليم كذلك.) وهو منعزل بطبيعته، يحب العزلة والوحدة، لا يحادثك إلا إذا تعارف بك. وقد يكون هذا الانعزال ناشئاً عن الحياء والخجل، وإذا حادثك فلا تخرج محادثته في الغالب عن الجو، والجو لحسن الحظ كثير التغير والانقلاب بإنجلترا، فمن اعتدل في الطقس إلى ضباب أو مطر، أو برودة، أو عاصفة أو رعد وبرق. وإذا زالت الكلفة وذهب الخجل تحادث معك في أي موضوع كالخيالة والتمثيل، والألعاب الرياضية، والموضوعات الأدبية والاجتماعية. . . يتجنب الأمور الشخصية؛ فلا يسألك عن مقدار ما يمنحك أوبوك في الشهر، ولا عن مقدار ما تنفقع أو تدفعه للسني أسبوعياً - كما يسأل الفضوليون حينما يرونك أو يعرفوك أول مرة.(86/17)
ويميل الإنجليزي دائماً إلى التحفظ في الجواب، فلا يجيب إجابة الجازم المتحقق، ولكنه يجعل للشك دخلاً في كل ما يقوله، ويجيب دائماً بكلمة: (أظن، أو ربما)، بعكس الرجل الفرنسي فانه يميل كثيراً إلى الجزم واليقين
والإنجليز معروفون بحبهم للمحافظة على القديم. وفي إنجلترا تندر المجلة في تنفيذ نظرية من النظريات، أو مشروع عن المشروعات في التربية والتعليم؛ فبينما تحاول الولايات المتحدة بأمريكا تجربة طائفة كبيرة من طرق التعليم والنظريات الحديثة - وقد لا توافق على شيء منها بعد التجربة وعدم الاستحسان - تجد إنجلترا في هذه الحال مثلاً في دور المناقشة والمناظرة في طريقة واحدة من هذه الطرق؛ لأن إنجلترا تخاف الخسارة وضياع الوقت، أما الولايات المتحدة فلا تبالي بما تفقده في سبيل البحث والتجربة، ولذا تجدها اليوم تقود اليوم العالم في العلم والاختراع والصناعة، ولقد ساعدها غناها على هذا التقدم والأقدام، فالمحافظة على القديم في إنجلترا لها فوائد، ولكن يجب ألا ننسى أن لها أيضاً كثيراً من المضار، فإنجلترا تميل إلى الوقوف عند حدما، وهي بطيئة في الإصلاح؛ لأنها لا تستفيد في الحال ما يقدمه لها المفكرون، وما يظهره المصلحون من أبنائها، ولا تشجع الباحثين والمخترعين تشجيع الولايات المتحدة لهم. وإن ولع إنجلترا بالمحافظة على ما لديها يظهر جلياً في القوانين المختلفة للتربية التي وافق عليها مجلس النواب الإنجليزي؛ فلا تجد مطلقاً حذف قانون من القوانين برمته واستبداله بقانون آخر، بل تجد أن كل قانون هو تعديل للقانون السابق، للتوفيق بينه وبين الرأي الجديد الذي يراد إدخاله، ولا يشك أحد في أن التعليم بإنجلترا يستفيد من أن قوانينها في التربية ثابتة
ومع ذلك قد حدق تغيير في التعليم بإنجلترا، فمنذ سنة 1900 نرى المحافظة على القديم أقل منها في الزمن السابق، وفي الحق إن التغيرات الحديثة بإنجلترا كثيرة وظاهرة لمن عرفها من قبل ورآها اليوم. ولا يشعر من الإنجليز بالفائدة الكبيرة من هذا التغيير إلا القليل منهم، وكل ما تعرفه الأكثرية هو أن هناك شيئاً يجري في عالم التربية، وأن الأمور تتغير بسرعة. وهم يشعرون بالحيرة في الابتداء وهم سكوت لا يتكلمون. ولا ننكر أن النزاع بين المحافظين والمجددين دائم لا ينقطع، ولو أنه نزاع صامت
ويظهر الميل الفطري لحرية الفكر، واستقلال الرأي في أحوال كثيرة في التعليم بإنجلترا.(86/18)
وإن قوانين التربية مفتوحة للتغير البطيء، فحينما تظهر التجارب صواب الفكرة الجديدة، ويرى معظم الناس فائدتها، يتغلب الإنجليز على كراهتهم لها؛ فالحرية الشخصية تخضع دائما للمجتمع، حباً في المصلحة العامة، فمثلاً كان الذهاب إلى المدرسة اختيارياً يذهب إليها من يشاء من التلاميذ، لكن لما تبين أن من المحال تعميم التعليم إذا ظل اختيارياً، غير هذا النظام وجعل إجبارياً. وكان التفتيش الطبي على المدارس والتلاميذ اختيارياً، ثم غير وجعل إلزامياً، وكان إعداد المدرسين اختيارياً أيضاً، ثم ظهر أن المدرس لا يستطيع أن يقوم بمهنته كما ينبغي إلا إذا نال قسطاً من التربية وعرف طرق تدريس المواد، فجعل عشرات الأمثلة لأمور كانت اختيارية بإنجلترا، ثم أصبحت إجبارية يطالب بها القانون
وإن إنجلترا - وإن كانت أمة عملية لا تدين بالنظريات - لا تمتنع من أن تعمل بما يمكن تنفيذه منها. ولا ينكر أحد أن النظرية التي لا يمكن تنفيذها لا فائدة منها، ولا خير في العلم إذا لم يصحبه العمل. لذ كانت طريقة التعليم في إنجلترا طريقة عملية، تتفق هي والأمور العملية التي تحتاج اليها، تنفق مع حاجات الشعب وحياته. ولا يمكن أن تفهم هذه الطريقة منفردة عن التاريخ القومي لهذه الأمة، لأنها نتيجة الخلق القومي والحالة الشعبية.
والمهم لدى الإنجليز الوصول إلى العمل بأي طريقة كانت من غير عناء كبير أو بحث طويل في النظريات، وتاريخ التعليم الإنجليزي مملوء بالأمثلة الدالة على حب العمل، وعدم الاكتراث للنظريات. فمدارس إنجلترا إذن مدارس عملية ذات قوة كبيرة، وتأثير عظيم في تهذيب الأخلاق وتقويمها، وإعداد رجال مخلصين عمليين يثقون بأنفسهم، ويشعرون بما يجب عليهم لغيرهم، ولا يفرقون من تحمل مسؤولية أي عمل يقومون به. هي مدارس تربى في كل طفل الثقة بالنفس، فيقول لك دائماً: (سأحاول) إذا سألته: هل يستطيع أن يقوم بعمل من الأعمال؟
محمد عطية الابراشي(86/19)
أين كانوا يوم كنا؟. . . . . .
للأستاذ كرم ملحم كرم
صاحب مجلة (العاصفة) البيرونية
لا نجد حولنا غير المعجبين بالأدب الإفرنجي. ومن حق هؤلاء أن يعجبوا بهذا الأدب الكثير الألوان، الجديد، الطري، السائر والحضارة في طريق واحد لا تبتعد عنه ولا يبتعد عنها. من حقهم أن يعجبوا بأدب يوفر لهم ما يحتاجون إليه من غذاء روحي أعده لهم طهاة عرفوا ميولهم فسايروها، ونفحوها بما تستطيب من علم، وبما ترتاح له من ابتكار مستساغ تهضمه المعد والعقول. فالأدب الإفرنجي في القرن العشرين ينضح بعصير يجد فيه كل طالب ما تشتهيه نفسه. فليس له إلا أن يختار. فان أمامه من مختلف الأطعمة، بل أمامه الأطعمة على إطلاقها. فإذا حن إلى التاريخ وجد التاريخ، وإذا حن إلى الشعر لمس من هذه البضاعة ما يروم، وإذا شغف بالرواية وقع منها على ألوان وألوان كبيض العيد، من أحمر وأخضر وأصفر وبنفسجي وبرتقالي
فما عليه ليدرك مبتغاه إلا أن يحرك شفتيه. وهذا الخصب في الأدب الإفرنجي يعود إلى أمرين: الأول أن الغرب اليوم في عز ومنعة، فهو المسيطر الحاكم المستبد. والآخر أن فيه شعباً يقرأ ويقدر مؤلفيه. فإذا أجهد الكاتب ذهنه وكد قريحته فلن يضيع وقته في العبث، فلابد له أن يستفيد، وأن يضمن لنفسه الغذاء والقوت
وسر نجاح الأدب في نجاح الدولة التي تحميه، فمن المحال أن ينشط أدب ويُفك عن عقاله ويزدهر وينمو إن لم تكن هناك دولة يعتمد عليها ويستند إليها. فالأدب العاطل من سلطة تعضده وتؤيده أشبه بالرجل التائه الشريد، بل أشبه باليتيم، يقضي العمر وحيداً ينبذه الكون، وينفر منه الناس، فيعيش في اكمداد واضطراب حتى تدق ساعته الأخيرة فيلفظ الروح
ثم إن هذا الأدب بحاجة إلى من يغذيه بالمال ليعيش، فالأديب ككل ذي صناعة إن لم تمده بما يوفر له طعامه، يعجز من أن يمدك ببنات صدره وعقله. فهو يحتاج إلى الغذاء: إما بأن يرفده الملوك وأصحاب الغنى والجاه والمراتب السنية، وإما أن يقبل الشعب على مؤلفاته يؤدى عنها ما تساوى. وهو إن لم يوفر غذاءه المادي، فكيف يتوفر على صوغ جواهره في(86/20)
عقد نضيد نظيم تقرّ به العيون وتبتهج القلوب؟
فالأدب الإفرنجي إذاً مدين في خصبه إلى الحظ، فالحظ يخدمه في دول تحميه وتدفعه في طريق الحياة، ويخدمه في شعب يقبل عليه ويشتريه. وأي أدب لا يثمر ما دام الاهتمام به متوالياً بلا انقطاع؟ فالصخر إذا عكف عليه من يفتته أنبت أروع الأزهار، وأينعت فيه أطيب الثمار!
وهذا هو الأدب الفرنسي كم انقضت عليه أزمان فما جاد بالسمين؟. . . لقد ظل عصوراً طويلة ضائعاً، غامض اللون والوجه، لا يستقر على حال ولا يقوم له كيان، مع أن فرنسا عرفت أياماً نضرة في عهد (كلوفيس) و (شالمان).
وانتقلت إليها روائع اللغة اللاتيتية، وعكف الرهبان في أديارها على تدريس الأدب اللاتيني لنشر تعاليم الدين المسيحي. إلا أن هذه الهمة الشماء لم تنهض بالأدب الفرنسي المضطرب اللهجة واللسان. فظل ضائعاً نغلاً لا أب له ولا أم، لا جامعة تربطه ولا قوة يعول عليها فتوحده وتجمع شتيته. حتى جاءه (ماليرب) فاجتهد في تكوينه وفي بناء قواعده. ولاح في الظلماء بصيص نور فخطر للكردينال (ريشيلو) أن يحي هذا الوليد. فأنشأ المجمع العلمي الفرنسي، وقامت بإنشاء هذا المجمع الدعامة الكبرى في بنيان أدب فرنسا
ومن هو (ريشيليو)؟. . . .
هذا كاهن عالي الرتبة ساد فرنسا ثمانية عشر عاماً
فهو أدهى من قام في البلد الفرنسي من رجال السياسة على إطلاقهم، ولا نستثنى حتى (تاليران) وزير نابليون الأول. فان فرنسا مدينة بعظمتها لهذا الكاهن الذي لم يكن في سياسته كاهناً. فتلاعب بتلك الدولة الكبرى كما يتلاعب بسبحته. فهدم وبنى، وأمات وأحيا وظلم. وشعر بنفور الشعب منه. وأدرك أنه بحاجة إلى ما يرفع من شأنه، فالتفت إلى الأدباء يصلح من شأنهم ويعطف عليهم. فما جهل أن للأدباء ألسنة طوالاً يقتلون بها من يشاؤون، ويقوضون أي ركن راموا تقويضه. ما جهل أن الأدب خالد في بطن التاريخ خلود الممالك، وأن الأدباء أخدان الملوك في البقاء على ممر الأعوام والدهور. وقد يموت الملك ويطوي، ويمحي اسمه حتى من صدور الكتب ولا يموت الأديب(86/21)
ما جهل كل هذا ريشليو صاحب اليد الحديدية، وقاتل الملكة (ماري دي ميدسيس) هماً ونكداً، والمسيطر على الملك لويس الثالث عشر. فدعا إلى إنشاء ذلك المجمع الأدبي، ولا يزال المجمع حتى اليوم ينتسب إليه أربعون أديباً ومؤلفاً وعظيماً، وإنه لساهر على اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي سهر الأم على بنيها، فلا يغفل عنهما لحظة لئلا يسلطا طريقاً غير قويم
وبعد (ريشليو) أطل (الملك الشمس) لويس الرابع عشر، فزاد في توطيد دعائم الأدب الفرنسي. وكان حيال أدباء بني قومه أشبه بملوك العرب حيال أدباء العرب، فجاء بكبار الأدباء يفسح لهم صدر بلاطه، ويخصص لهم المرتبات، ويجزل لهم العطاء، ويدعوهم إلى التأليف. وهو نفسه كان يحاول نظم الشعر، فلمعت في عهده أدمغة أدبية لا تزال حتى اليوم تفيض إشراقاً.
وستظل في هذا الفيضان حتى الأبد. فان ما جاء به أدباء فرنسا في القرن السابع عشر يكاد يكون خير ما أنتجته قرائحهم من سام رفيع وطيد نفيس، فجاروا الأدب اليوناني والأدب اللاتيني في أروع ما عندهما من آثار. واقتبسوا منهما الفن التمثيلي والأمثال الحكيمة في روايات وجيزة على ألسنة الحيوانات. واقتبسوا منهما الفلسفة. ولم يكن للأدب الفرنسي أي ميزة يبهر بها العيون، فأمسى في القرن السابع عشر منارة تهتدي بها أوربا جمعاء، بل يهتدي بها المعالم
فالروح الأدبية استيقظت من ذلك الحين في فرنسا، ومشت في طريق آمنة مرفوعة الرأس متوجة بأكاليل الغار، ولما تزل مسرعة في سيرها الوثاب. أجل، لقد كان لها ومضات في القرن السادس عشر، إلا أنها أشبه بانتفاض الجنين في بطن أمه، يختلج اختلاجاً يدل على أن الحياة أخذت تدب فيه
وليس من حق الفرنسيين أن يزعموا أن أدبهم يرتقي إلى أبعد من القرن السادس عشر. فان يكن لهم بعض فلتات أدبية ترجع إلى ما قبل ذلك العهد فانها لا تستحق العناية. ثم هي موضوعة في لغات متباينة خاضعة للهجات العامية المتداولة يومذاك في شمال فرنسا وفي صميمها، وليس هذا الأدب بالأدب المكتوبة له الحياة. فهو من النفايات التي تطرح جانباً ويضطر التاريخ الأدبي إلى إثباتها لإشارة إلى روح الأدب في عصرها ليس غير(86/22)
وما هي روح الأدب في فرنسا قبل القرن السادس عشر؟. . . . روح فروسية وبطولة تفيض بالحماسة وتنسج الملاحم على طراز ملحمة عنترة في اللغة العربية. إلا أنها ملاحم من شعر لا روعة فيه ولا وحدة ولا قافية، فيكفي أن يكون موزوناً
والعصور التي سبقت العصر السادس عشر في فرنسا لم تكن بالعصور اللامعة في حضاراتها. فما هناك غير حروب وغزوات. فالقوم كانوا يعيشون على صهوات الخيل، يبايعون يوماً هذا الأمير وينتصرون يوماً لذاك، والحروب كانت أبداً عندهم على لظى واضطرام. فما التفتوا إلى الأدب مثلهم إلى السيف.
وهم إذا صاغوا بعض آثار أدبية فقد صاغوها لخدمة السيف ورجال السيف
على أنهم ما تذوقوا طعم الأدب الصحيح حتى باتوا يجدون فيه ضرورة من الضرورات لا غنى لهم عنها في حياتهم العامة والخاصة. فأصبح الأدب لديهم أشبه بالقوت. وتكاثر رجال الأدب فيهم. وبرز القرن الثامن عشر حافلاً برجال الفكر من أمثال (فولتير) و (جان جاك روسو) وطغى الأدب على السيف واستولى على الأفكار والعقول. ولفت الأنظار إلى مظالم الملوك. فخرج الشعب من غفلته واعد الطريق إلى ثورة 1789، وهي الثورة الفرنسية الكبرى. وهذه الثورة مع اخمادها روح الأدب زمناً، أحيت في الصدور أدبا جديداً شق طريقه (شاتوبريان) ولحقه فيه (لامرتين) و (ألفرد ده موسه) و (فيكتور هوجو)
فالشعر في فرنسا لم يعرف مجده الأسمى في عهد غير ذلك العهد، وتوالت الأيام فما ظهر بين الفرنسيين شاعر يستوي ومن سطع في القرن التاسع عشر من شعراء. نعم، إن القرن العشرين لا يزال في مرحلته الأولى. وليس من العجيب أن يتلألأ فيه نجم يكسف ما أشرق في سماء الأدب الفرنسي من كواكب ونجوم. على أن هذا النجم لا يزال في برجه تسد دونه النوافذ والأبواب
ووقوف الأرحام عن إتحاف فرنسا بهذا الشاعر المتفوق لا يدل على أن الأدب الفرنسي في جمود. فالأدب الفرنسي اليوم كثير الرواج، فائق الإنتاج، يهدي إلى العالم الغث والسمين، المتين والركيك، العالي والسخيف، كل أدب في غليان، ككل بضاعة تجد أسواقاً تقبل عليها وتلتهما. ولا ريب في أن هذه البضاعة تنفد وتذوب. ولا يبقى منها على توالي الأيام غير الجيد الجيد. والجيد دون القليل. فليس كل ما يأتينا به أي أدب من الآداب بالخالد الباقي(86/23)
الرفيع
والفضل في رواج الأدب الفرنسي أن له دولة تحميه. فهو لم ينهض إلا يوم قامت في فرنسا دولة موحدة. وسيظل حياً ما بقيت هذه الدولة تنشر حضارتها في العالمين، فالأدب لا تقوم له قائمة إذا لم يكن إلى جانبه سلطان يذود عنه ويدفعه في طريق النهوض، شأن الأدب الهندي، والأدب الصيني، والأدب الفارسي، والأدب العبراني، والأدب اليوناني، والأدب اللاتيني، والأدب العربي
وأين كان الأدب الفرنسي يوم كان الأدب العربي في الوجود؟
وكان نكرة من النكرات
كان لا شيء
فالأيام لم تكد تلقي بذوره في الأرض
وكم استفاد الأدب الفرنسي من الأدب العربي!
فان مؤرخيه أنفسهم يعترفون بفضل الأدب العربي عليه فلولا الأدب العربي لطال جهل الفرنسيين فلسفة أرسطو. فقد نقلوا فلسفة الحكيم اليوناني إلى لغتهم باعتمادهم اللغة العربية، وكانوا يهتمون بهذه اللغة ويطلعون على دقائقها ويدرسونها يوم كان العرب يحتلون الأندلس. وكم استغلوا من روائعها وكم اقتبسوا منها! فان شعرهم لم يعرف الألوان قبل وقوفهم على الشعر العربي. وبعض المؤرخين يقول إن ذلك الشعر اعتمد القوافي يوم درس الفرنسيون الآداب العربية واطلعوا على منظوم شعراء العرب
فالأدب الفرنسي لم يكن له وجود يوم كان الأدب العربي ريانَ وضاءً، ينشر لواءه من قلب فرنسا وإيطاليا إلى خليج العجم وإلى ما هو أبعد من خليج العجم. أما احتل العرب بلاد الهند؟ أما نشروا فيها حضارتهم؟. . . أما حملوا إليها القرآن ولغة القرآن؟. . . أما جاء زمن سادت فيه لغة القرآن العالم فاحتلت ثلاث قارات: هي أسيا وأفريقيا وأوربا؟. . . .
وأين كان شعراء فرنسا يوم عرفت الجاهلية أصحاب المعلقات؟.
وأين كان فيكتور هوجو يوم نشأ المتنبي؟
وأين كان (فولتير) يوم عرفت الآداب العربية أبا العلاء المعري؟. . .
لقد سبقناهم بألف ومئة سنة. هذا إذا خضعنا لقول القائلين أن الأدب العربي عرف الحياة(86/24)
في القرن الخامس للميلاد. مع أن الأدب العربي انبثق قبل هذا الزمن بمئات السنين. فمن المحال أن يبلغ أي أدب من الآداب الكمال الفني في وثبة واحدة. فلا بد له من عصور ريثما ينضج. أن هو إلا أشبه بالطبخة. وهذه الطبخة لا تكفيها سنة ولا عشر سنوات. فهي بحاجة إلى مئة سنة على الأقل لتصلح للمضغ والازدراد. ونحن عرفنا أول شعر عربي أتصل بنا مستوفي الشروط كامل العدة. إذاً فلابد أن تكون الأجيال التي بدأت قرض هذا الشعر قد تولت عجنه قبل اختماره بمئات السنين
ومن المؤسف ألا يكون للأدب العربي تاريخ صحيح نرجع إليه. فالكتابة كانت مجهولة لدى عرب الجاهلية وهم أبناء البادية والقفار. وهم البعيدون عن كل حضارة. فما وصلت إلينا أشعارهم التي قرضوها في بدء عهدهم بالشعر. فالحفاظ والرواة جاؤونا عنهم بكل غريب. فحدثونا عن العرب البائدة أحاديث لا يقرها عقل ولا صواب. ونحلوا الشعر العربي حتى جدنا آدم، وقالوا إن سفر أيوب كتب باللغة الغربية. وإن موسى تقله منه إلى العبرانية. وتفننوا فيما اختلفوا من روايات عن عاد وثمود وطسم وجديس. فإذا آمنا وصدقنا هذه الروايات كان لنا أن نقول إن اللغة العربية حفلت بالأدب الراقي قبل العصر المسيحي، وإنها من اللغات الأولى التي تخاطب بها الناس. على أننا نكتفي منها بأن تكون آدابها ارتقت إلى المستوى العالي في القرن الخامس للميلاد، يوم قامت فيها الممالك تحالف الفرس من جانب والروم من جانب آخر. فالآداب العربية أثمرت في ذلك الحين ثماراً طيبة لا يزال العطر منها يفوح، ولا تزال مثالاً يحتذى
وإننا لنرى في امرئ القيس على ما في شعره من الكلام الخشن - مما تكن تنبو عنه الآذان في ذلك العصر - سيداً من سادات الأدب لم يعرف أمثاله الأدب الفرنسي في غير القرن السابع عشر. وامرؤ ألقيس عرفه الأدب العربي في القرن السادس. وهذا أصدق دليل على أننا سبقنا القوم بألف ومائة عام
وكانت الآداب العربية وافرة الجني في عهدها الأول. وظهر الإسلام فزادها ثروة على ثروة. وخصوصاً في كتابه القرآن. فالقرآن أفضل ما تحفل به اللغة العربية، وإذا اكتفينا بأن ننظر إليه ككتاب يحفظ للغة العربية متانتها وبلاغتها، ويعدو الخاضعين لتعاليمه إلى قراءته وترديد آياته. فهم وحده يقي اللغة الموت، ويرد عنها البلاء، ويصونها من الضياع.(86/25)
ولولاه لاضمحلت اللغة العربية في عصر الانحطاط وتلاشي كل أثر منها
ومال الخلفاء في صدر الإسلام إلى الشعراء فزادوا في إحياء لغة العرب، وهم كانوا في حاجة إلى الشعراء. لقد كانوا في حاجة إلى شعرهم ينالون به من خصومهم ويهدمون من أمجادهم، تشبهاً بالرسول في موقفه من شاعره حسان. ولم يكن للصحف وجود في ذلك الحين. فبحث الخلفاء - وفي طليعتهم معاوية - عمن يقوم بالطعن على خصومه في كلام يردده الحداة ويتناقله الركبان، فلم يجد أمامه غير الشعراء وسادة القريض. ومما زاد في حاجته إليهم اضطراره إلى الكفاح والنضال بعد انتزاعه الخلافة من علي بن أبي طالب. فأصبح للشعر ولقائليه شأن. خصوصاً وقد تعددت في ذلك الحين الأحزاب السياسية والدينية، وأمسى كل سيد قوم بحاجة إلى من يطنب في الثناء عليه ويغالي. ولم يكن ثمة غير الشعراء يصوغون من المديح عقوداً ويتقاضون عنها نقوداً.
فكثر الإقبال عليهم وأكثروا هم من التقلب في مدح هذا يوماً وذاك يوماً آخر استداراً لرفده وعطائه. وراجت بضاعة الشعر فتكاثر الشعراء، وأورقت رياض الأدب، ومعظم الذين حفلت بهم من المكتسبين. غير أن هؤلاء المتكسبين جادوا بأحسن ما عندهم رغبة منهم في غنم أوفر مبلغ مستطاع
وأكثر عصور الأدب ازدهاراً في اللغة العربية هو العصر العباسي، بل الأعصر العباسية على إطلاقها. فقد بلغ الأدب العربي في ذلك الحين القمة، وما اكتفى رجالة بالشعر يصوغونه على الفطرة والسليقة، بل تعمقوا في الأدب يدرسونه وينتقدونه ويؤلفون فيه الكتب والأسفار، فولجوا الأبواب كلها: من نظم ونثر، من نقد ورواية، من علم وتاريخ، وامتزجوا بمن حولهم من الأمم، فوقفوا على الأدب الفارسي والأدب اليوناني، وأضافوا إلى كنوز الأدب العربي كنزاً آخر، وهو كنز لا يقل في شيء عما تفاخر به اللغة الفرنسية من نفائس وروائع، فما نفحها به أدباؤها في عصر (الملك الشمس) والقرن الثامن عشر والتاسع عشر لا يزيد قدره الفني ما طفحت به اللغة العربية في الأعصر العباسية، وكل ما للأدب الفرنسي من ميزة أنه أكثر تنظيماً وتبويباً، وأحكم وحدة وارتباطاً، فالأدب العربي يكاد يكون خالياً من الوحدة والارتباط، فلا صلة بين أجزائه وموضوعاته، ولا لحمة في مؤلفاته. فهي متناثرة كحجارة البناء المطروحة على الطريق تحتاج إلى البنائين ليرصفوا(86/26)
بعضها فوق بعض ويقيموا منها داراً عامرة
أما الإنتاج فلا نبالغ إذا قلنا إنه يوشك أن يكون والإنتاج الفرنسي في مستوى واحد، وما على من يرتاب فيما نقول إلا أن يطلع على ما أبقاه العهد العباسي من جليل نفيس. فالخزائن تكاد تضيق بروائع تلك الأعصر الزاهرة
والفضل فضل الدولة القائمة، بل الدول التي قامت في تلك الأعصر. ولو ظلت في مناعتها لكان الأدب العربي اليوم في رقي الأدب الغربي إن لم يكن أرقى منه. ولكن سقوط بغداد في أيدي أعداء العرب طعن الأدب العربي في صميمه. وكان عهد الانحطاط. واستمر هذا الانحطاط طويلاً. استمر ستمائة عام. وفي هذه الأعوام الستمائة جمدت اللغة العربية جموداً قاتلاً. وكادت أركانها تنهار لولا القرآن وبعض الهائمين بها. وفيما هي ترقد رقادها الفاجع تحركت الآداب الأخرى وبنت لها قصوراً منيعة ننظر إليها اليوم معجبين، ونكاد نتناسى في ظلالها أن لنا أدباً حياً لا يقل شأناً عن سائر الآداب الحية، ولكننا وقفنا بينما مشى سوانا، وبينما نرى أننا عاجزون عن اللحاق به. وهذا اليأس زاد في ضعفنا وخمولنا
وقد نظل ضعفاء خاملين لا تقوم لنا قائمة إلا يوم تقوم دولة عربية حرة يتقيأ أديبنا ظلال قبابها العالية. فإذا كتب أو أنشأ علم أن الأيدي تمتد من كل جانب للوقوف على ما كتب أو أنشأ، وما دامت هذه الدولة غير موجودة أو واهية القوى، فلأدب العربي يعيش على سواعد عشاقه. وسواعد عشاقه لا تكفي للنهوض به. فكل ما تفعل أنها ترد عنه عوادي الزمن، وتنقذه من الفناء ريثما يأتيه يوم يرفع فيه رأسه، ويغزو من يغزوه، ويبطش بمن يكتسحه
فالأدب يلمع عندما تلمع الدولة التي يحمل لواءها
وليس الأدب العربي بالشاذ عن القاعدة مع كل ما في القواعد من شواذ!. . . .
(بيروت)
كرم ملحم كرم(86/27)
ورطة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
خرجت من بيتي في صباح يوم، ومعي - في جيبي - ثلاثون قريشاً ليس إلا. . . وقالت لي نفسي، وأنا أضع الطربوش على رأسي بيد، وأفتح الباب بيد:
(إنك يا هذا ذاهب إلى عملك فعائد منه إلى البيت لتتغذى، فما حاجتك إلى أكثر من هذا القدر؟ اقنع به، فان امتلاء اليد يغري بالأنفاق، وكفك كالغربال - كثيرة الخروق، وواسعتها جدا - ولو رزقت مال قارون لأتيت عليه كله في بعض يوم، فأنت والله أحق الناس بالحجر!)
فوقفت مغيظاً، فما يليق أن تصبحني نفسي بمثل هذا الكلام القبيح. وكيف بالله أؤدي عملي إذا كنت أسمع مثل هذا التأنيب على الريق؟ وقلت لأزجرها عن هذا السلوك المعيب:
(بدأنا؟ يا فتاح يا عليم! ألم أنهك عن هذا ألف مرة!)
فراحت تكابر وتقول: (وهل قلت إلا إنك مسرف؟)
فصحت بها من الضجر: (مسرف كيف، يل ستي؟ وهل ما أكسب يكفيني حتى أعد مسرفاً؟)
قالت: (إنه لا يكفيك لأنك مسرف. . . . مخروق الكف، وفي دون ما تكسب فوق الكفاية)
قلت: (كلام فارغ. . . ولعب بالألفاظ. . . . هذه يدي ليس فيها خرق واحد، وإني لأحب المال حباً جماً، وأحاول أن أخزنه وأكنزه، ولكن ماذا أصنع؟ كلما دخلت البيت قالوا هات. . . هات. . ولست أسمع وانا في البيت إلا قولهم (هات. . هات!) لا أحد يقول (خذ!) كلا. . هات صابوناً. . . هات بناً. . . هات أحذية وطرابيش. . . كأني مصلحة تموين. . . حتى وأنا نائم أسمع هاتفاً يقول لي: (هات) فاستيقظ مذعوراً. . . وإذا لم أذهب إلى البيت - أعني إذا فرت منه - فلا مفر من الانفاق في حيثما أكون. . . . لا أحد يقبل أن يعطيني شيئاً بالصلاة على النبي. . . كلا. . . لم تبق في الدنيا مروءة ولا كرم ولا تقوى ولا. . . . .)
وأمسكت، فقد رأيت أحد الجيران يرقي في السلم، فخفت إذا سمعني أتكلم أن يحسبني مجنوناً، ولم أر أحداً غيري يحادث نفسه، فيظهر أنهم لا نفوس لهم. . . أعني أن نفوسهم(86/28)
لا تتعبهم ولا يسرها التنغيص عليهم
وجاء الظهر، وزارني صديق عزيز طال غيابه عني، فقلت له وأنا أنهض معه:
(تعالى نتغذى)
قال: (أين؟)
قلت: (أين؟ في البيت عندنا!)
قال: (بيت؟ لا لا لا. . . تعال إلى المطعم)
قلت: (مطعم؟ يا خبر أسود! لا يا سيدي! لا آكل في مطعم ولو شنقوني)
قال: (كيف تقول؟ لماذا تتكلم بهذه اللهجة؟)
قلت: (يا أخي بالله عليك دع المطاعم فان آكالها لا هنيئة ولا مريئة، وتعالى معي إلى البيت)
وكنت وأنا أدعوه إلى ذلك أرجو أن يرضى، وأخاف أن يأبي، ويف لا أخشى وكل ما معي ثلاثون قرشاً لا تكفيني وحدى، فكيف به معي وهو ضيفي؟ وخطر لي أن أصارحه؛ ولكني استحيت، وقلت خير من ذلك أن أحتال حتى اقنعه وأجره معي، والتفت إلى نفسي وقلت لها همساً:
(أرأيت؟ هل يعجبك هذا؟ هذه الفضيحة تسرك؟ مسرف أنا؟ هيه؟ أنا أبعثر المال باليمين والشمال؟ أنفقه بلا داع. . . . أرميه في التراب! بالله ماذا كان يضيرني أو يضيرك لو أني خرجت بجنيه مثلاً بدلاً من هذه القروش القليلة التي لا تنفع؟)
وبدا لي أن خير ما أصنع في هذا الموقف هو أن أكون رجل عمل لا رجل كلام، فشددت ذراعه وقلت: (تعال!)
قال: (لماذا تجرني هكذا؟ إلى أين؟)
قلت: (إلى البيت. . . . لا فائدة من الكلام تعال)
وشاء سوء الحظ أن تمر في هذه اللحظة مركبة قديمة يجرها جوادان هزيلان معروقان، وأبى السائق اللعين إلا أن يتلكأ ويومئ إلينا بالسوط الذي في يمينه أن نرب، ويقول:
(أجي يا بك؟)
فصحت: (لا لا لا لا. . .) وأشرت إليه أن يذهب عنا، وأن يبعد جداً، وأن يسرع في ذلك(86/29)
فقال صاحبي: (لا، يعني ماذا؟ انتظر يا رجل. . . تعال نركب فإني متعب)
قلت: (نركب؟)
قال: (نعم. . . إلى مطعم الـ. . . . تعال. . .)
وشدني، وكان أقوى مني وأضخم، فتعثرت وراءه وأنا أقول: (يا أخي، الترام أسرع من هذه الخيل المحنطة. .)
قال: (لا، هذا أحسن)
وركبنا، وضرب الرجل جواديه بالسوط، فصحت به: (يا رجل، حرام عليك، انزل وجرهما!)
فابتسم الرجل، وأقبل على اللجم يشدها ويرخيها، ويخرج وهو يفعل ذلك أصواتاً ليس في الحروف المعروفة ما يترجمها، فلست أدري أهي جء جء، أم تء تء؟ أم ماذا غير ذلك؟ وأدرت وجهي إلى صاحبي وقلت له:
(وكيف تكتب هذا؟)
وقلدت صوت السائق، فقال: (لا تكتب)
قلت: (ما أشد قصور اللغة إذن، وأقل وفاءها بمطالب التعبير!)
قال: (أي تعبير يا أخي؟ مالك اليوم؟)
قلت: (ألست ترى الخيل تفهم عنه؟ فهي لغة تفهمها، ويجب أن نعرف كيف نكتبها ونرسم الرموز لنطقها، وإلا كان هذا منا قصوراً)
قال: (طيب. . . . . . طيب. . . .)
فقلت محتداً: (كيف تقول طيب؟ أيجوز أن تسع اللغة كل هذا الذي تسعه وتعجز عن أداء هذه الأصوات القليلة؟)
قال: (نعم يجوز. .)
قلت: (كيف تقول؟)
قال (نعم، لأنها لغة مجعولة لأبناء آدم، لا للخيل والحمير)
قلت (ولكن الخيل ليست هي التي تنطق بها، بل هذا السائق الآدمي)
قال: (أسلكه مع الخيل والحمير، وأرح نفسك وأرحني) فسكت، فما بقي لي بعد هذا كلام،(86/30)
وبلغنا المطعم الذي اختاره فترجلنا، وأنقدت السائق خمسة قروش - قطعة واحدة، خرجت من عيني، لا يخلا، فما بي بخل، وإني وحقكم لكريم مضياف، وقد سمعتم نفسي تنكر على إسرافي وتبذيري، وتزعمني لذلك من إخوان الشياطين، ومن كان لا يصدق فليجئني بمال، ولير كيف أنفقه له، ولا أبقي لنفسي منه دانقاً!
وجلسنا إلى مائدة نظيفة، وجاء الخادم بورقة كبيرة مطوية فيها ألوان الطعام - أغني أسماءها - فنحيتها عني بإصبعي، وقلت له: (اقرأ واختر لنفسك)
قال: (وأنت؟)
قلت: (ابدأ بنفسك يا سيدي، واتركني لاختياري بعد ذلك) فرفع الورقة أمام عينيه، واضطجعتُ أنا، وجعلت أنظر إليه، وأجيل عيني في جسمه الضخم الهائل الأنحاء، وأسأل ماذا ترى يكفي هذه المعدة الكبيرة ويملأ هذه الكرش العظيمة؟ وماذا يكون العمل إذا جاوز الأمر ما معي؟
ورمي إلى الورقة وقال:
(الاختيار صعب، فاطلب لي أنت ما تشاء!)
فتناولت الورقة، وأنا فرح مسرور، وقلت في سري: (يا مفرج الكروب يا رب) وصرت أنظر في الأثمان، فأهمل ما ثمنه غالياً، وأقصر الاختيار على كل معتدل الثمن أو ضئيله وقلت له:
(في المطاعم يحسن اتقاء الدجاج والسمك، مخافة أن تكون تلك مخنوقة وهذه قديمة، ولست أرى هنا ما يصلح للأكل إلا المرق والأرز والخضر والفاكهة، والجو اليوم حار جداً، فيحسن الاجتزاء بالخفيف من الطعام، والذي لا خوف من الغش فيه)
فخطف مني الورقة وهو يقول: (يا أخي مالك أنت؟ أهي بطني أم بطنك؟ وصحتي أنا أم صحتك؟ ومن قال لك إني مترف يؤذيه الحر ويثقل فيه على معدته اللحم والطير والسمك؟)
قلت: (إنما أخاف عليك الموت، فما زلت شاباً، وقد مات منذ أيام شباب من إخواننا من أكلة. .)
فقاطعني قائلاً: (لا فائدة. . . لا فائدة. . سآكل ما أريد على رغم أنفك)
فهززت رأسي وقلت: (شأنك، إن همي كله ألا يصيبك ما أصاب ذلك الموظف الذي أكل(86/31)
سمكة متعفنة. .)
فصاح بي: (يا أخي اسكت، أي حديث هذا على الطعام؟)
قلت: (سكت يا سيدي، ولكن لا أقل من أن تشاورني لأنصح لك)
قال: (كلا. . . ولا هذه. . . وهل أنا مسئول منك؟)
قلت: (إنك ضيفي وأنا مسئول عنك)
قال: (متنازل. . . اسكت بقى)
فلولا أن كرمي طبع لا تطبع، لسرني هذا القول، ولكني أبيت أن أقبل (تنازله) ودعوت الخادم وقلت لصاحبي:
(مره بما تشاء. . واطلب مه كل الألوان التي يقع عليها اختيارك دفعة واحدة، ليعدها لك، من الآن، ولا يعود يعتذر بأن هذا فرغ، وهذا لم يبق منه شيء)
فوافق، وكانت غايتي من هذا الاقتراح أن أعرف على وجه الدقة كم يكلفني إطعام ضيفي، وهل يبقى في جيبي بعد ذلك شيء آكل به، أم ينبغي أن أصوم إكراما له وإيثاراً، فوجدت أن جملة الثمن بلغت تسعة عشر قرشاً، فقلت في سري (أما والله إنه لشره نهم! أما كان يستطيع أن يكتفي بلونين؟ إنه لا يبقي لي بعد ذلك إلا ستة قروش تذهب منها اثنان تجزية للخادم، وقرش لابد منه لركوب الترام إلى البيت، فالباقي ثلاثة قروش، وما يدريني أنه لا يستمرئ نعمتي فيطلب قهوة أيضاً، إذن هما قرشان اثنان لا أملك لنفسي غيرهما. . . حسن. . فليكن كل طعامي تفاحة)
واستغرب صاحبي زهدي في صنوف الأطعمة، واكتفائي بتفاحة، فقلت له (يا أخي ألم أقل لك أني أكره أن آكل في معطم؟ ولقد نصحت لك فهل كنت تظنني عابثاً، أم حسبتني من جماعة (يا أيها الرجل المعلم غيره)؟ لا يا صاحبي. وقد تركتك لرأيك، فاتركني لرأيي!)
وكان يأكل وانا أدخن وأتكلم، ثم صفق فذعرت وسألته ماذا تريد؟)
قال (أليس عند هؤلاء القوم نبيذ جيد؟)
فقلت بسرعة (لا لا لا. . . إنه خل - إحذر)
قال (خل. . . عسل. . . لابد لي من النبيذ)
فضربت كفاً بكف، ولولا المكان غاص بالناس للطمت وجهي، فنظر إلي مستغرباً(86/32)
وسألني: (مالك، لم أرك قط على مثل هذا الحال؟)
قلت: (يا أخي أتريد أن تفضحني)
قال: (أفضحك؟ لماذا؟)
قلن: (تشرب النبيذ وأنت معي؟ ماذا يقول الناس عني إذا رأوك ورأوني)
قال: (إيه؟ أنت تخجل أن يراك الناس مع صاحب يشرب خمراً؟ متى تغيرت عن عهدي يا صاحبي؟)
قلت: (اليوم. .)
قال: (على كل حال، هذا لا يعنيك. . اطلب ما شئت إلا الخمر. . . فلن أدفع ثمن قطرة)
فأطال التحديق في وجهي، ثم قال:
(ليس هذا مربط الفرس. . . ما هي الحكاية؟ قل بصراحة!)
فلم أعد أطيق الكتمان، فقد كنت أمعائي تنقطع من الجوع، وعيني تكاد تخرج من الغيظ، وشق علي أن أراه يلتهم الطعام وأنا جالس أنظر وأتضور واتحسر، فانفجرت قائلاً:
(الحكاية يا أحمق يا غبي أن كل ما معي في هذه الساعة المنحوسة التي تجلس فيها أمامي خمسة وعشرون قرشاً. . . وأنت تأكل كأنك ما ذقت طعاماُ منذ قرن كامل، وتريد فوق ذلك أن تشرب نبيذاً! شيء لطيف جداً؟ ومن أين أجيء بثمن النبيذ الذي تفرغه في جوفك؟ أرهن ثيابي؟؟ أم أطعمك وأسقيك، نسيئة؟ او كان في رأسك هذا ذرة من العقل والفهم، أو في عينك تنظر لفطنت إلى الحقيقة ولم تحرجني إلى الكلام، ولكن كل جارحة فيك مَعِدة. . .)
فقال بعد طول الإصغاء: (أهو ذاك؟)
قلت بغيظ: (نعم هو ذاك يا أيها الكرش؟)
فلم يجب بشيء وصفق فجاء الخادم فقال له:
(اطعم هذا الجوعان المسكين)
فقلت له: (قبحك الله! ألا بد أن تفضحني؟)
قال: (ألا تستحق ذاك؟)
قلت: (ليس هذا وقت الجدل. . هات دجاجة سمينة)(86/33)
قال: (فان الدجاج مخنوق. . . .!)
قلت: (لا تكن كزاً لئيماً. . اذهب يا هذا وهات الدجاجة السمينة. . . والله لا بدأتُ إلا بها)
قال: (بدأت؟)
قلت: (نعم، ثم بسمك)
قال: (إنه قديم، متعفن)
قلت: (فليكن من عهد الفراعنة، فأن الجوع لا يرحم)
قال: (قاتلك الله. لقد كنتُ أشتهي الدجاج والسمك فصرفتني عنهما بتهويلك وخوفتني منهما)
قلت: (ما في بطني في بطنك!)
ولما عدت إلى البيت قلت وأنا أبدل ثيابي لأستريح
(أظن أنه لا يسعك أن تتهميني بالإسراف في يومي هذا، فقد عدت بأربعة وعشرين قرشاً من ثلاثين خرجت بها)
فابتسمت، وهزت رأسها راضية، فقلت:
(ولكنه موقف لا يحتمل إذا تكرر، ولن أطاوعك بعد اليوم)
إبراهيم عبد القادر المازني(86/34)
2 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
لوفن هوك
أول غزاة المكروب
(بائع القماش الهولاندي الساذج الذي ضحك منه أهل بلده فكاتب الجمعية الملكية البريطانية وبها روبرت بويل. وإسحاق نيوتن فاستمعت له وصفقت خمسين عاماً)
إن كثيراً من مكتشفات العلم الأساسية قد تظهر لرائيها اليوم بسيطة بالغة البساطة حتى ليعجب المتأمل في العصر الحاضر من رجال العصور الغابرة كيف أنهم تحسسوا وتلمسوا آلاف السنين عن أشياء كانت منهم قاب قوسين أو أدنى من ذلك قرباً. خذ المكروبات مثلاً. فعامة الشعوب تراها اليوم تتبختر على الشاشة البيضاء، والكثير من ذوي العلم القليل رأوها تسبح وتمرح تحت عدسة المكرسكوب، وطالب الطب البادئ يستطيع أن يري جراثيم كثير من الأمراض - وإذن فما هذه العقبة الكأداء التي قامت دون رؤية المكروب لأول مرة!
أذكر أن (لوفن هوك) عندما ولد لم يكن في الدنيا مكرسكوبات، ولكن عدسات يد صغيرة خشناء لا تكاد تكبر الشيء ضعفين، لو نظر بها هذا الهولاندي ثم نظر لعلاء الشيب ولما يكتشف من الأحياء إلا دود الجبن فما حجماً. وإنما الذي غير وجه الأمر نحت هذا الرجل عدساتٍ جديدة، ومثابرته على ذلك وإلحاحه فيه إلحاح معتوه، ثم شغفه بعد ذلك بنظر كل شيء، والتجهير إلى كل شيء، خص أو عم، علا أو حقُر، شرف أو سفل، دخل في حدود الأدب أو خرج عنها، فنال من ذلك خبرة وكسب مراناً هيأه لاستقبال ذلك اليوم الباغت الفاجيء الخالد، يوم نظر من خلال عدسته، تلك اللعبة الزجاجية فإطارها الذهبي، إلى. . . قطرة ماء!(86/35)
تلك النظرة. . . إلى تلك القطرة. . . . بدأت تاريخاً مجيداً. كان (لوفن هوك) بحاثاً مخبولاً غريب الأطوار، وإلا فما الذي حدا به إلى أن ينظر من بين ألوف الأشياء إلى قطرة ماء نزلت من السماء؟! وما الذي عساه أن يرى فيها! كانت مريم ابنته في التاسعة عشرة من عمرها. وكانت كثيرة الحَدَب على أبيها المأفون ترعاه وتدفع عنه. والويل للجار السافل الغبي الذي يغريه سوء طالعه بالهزء من والدها على مسمع منها وكانت مريم ترقب خُطى أبيها؛ ففي هذا اليوم المعهود رأته يتناول أنبوبة من الزجاج أحماها في لهب حتى صارت حمراء، ثم مطها حتى كانت كالشعرة، ثم كسرها قطعاً صغيرة. ونظرت إليه وهو واسع العينين ذاهل اللب فإذا به يخرج إلى الجنينة فُيكب على إناء كان وضعه هناك ليقيس به مقدار المطر العاطل، ثم يغمس تلك الشعرات الزجاجية فيه، ثم يعود بها إلى مكتبه فيضعها تحت عدسته. ليت شعري ما وراء هذا الأب المأفون العزيز الآن. إنه ينظر في العدسة ويُجهد النظر حتى حًوِلتْ عينه. إنه يتمتم بكلمات تتردد في حلقه ولا تخرج إلى شفتيه. ها هو ذا قد زاد اضطرابه وعلا بغتة صوته، وأخذ يصيح لابنته في اهتياج ظاهر: (تعالي. تعالي أسرعي! أسرعي! أرى أحياء في الماء، أحياء صغيرة. إنها تسبح. إنها تدور وتلعب. إنها أصغر ألف مرة من الحيوانات التي تراها أعيننا المجردة. أنظريها وانظري ماذا اكتشفت)
هذا يوم (لوفن) جاء أخيراً، وهو يوم في الأيام مُعلَم مشهور. ساح الاسكندر ما ساح حتى جاء إلى الهند فاكتشف فيها ما لم تره عين إغريقي من قبله: فيلةً عظاماً ضخاماً تملأ العينَ والقلب، هذه الفيلة كانت عند الهندوس كالخيل عند الإغريق، أشياء مألوفة لا تبعث فيهم دَهَشاً ولا تثير عجباً. وضرب قيصر في الأرض ما ضرب حتى طلع به المطاف على الجزر البريطانية فراعه ما وجد فيها من أقوام بادين مستوحشين، ولكن هؤلاء البريطانيين كانوا فيما بينهم معروفين مألوفين كألفة قيصر جنوده. أما (لوفن هوك) التاجر الصغير فقد سبق العالم فأطل على عالم عجيب لا يبلغه البصر، عالم من مخلوقاتٍ صغيرة عاشت وعاودت العيش، ونمت وعاودت النماء، وتقاتلت وعاودت التقاتل، وماتت وعاودت الموت، وكل ذلك تحت عين الإنسان وسمعه، ومنذ بدأ الزمان، والإنسان لا يسمعها، والإنسان لا يبصرها. مخلوقاتٍ على صغرها أهلكت شعوباً وأذلت أمماً من رجال يكبرونها(86/36)
عشرات الملايين من الأضعاف. مخلوقاتٍ شرٍ على البشر مما خالوا من أفاعٍ تنفث النار وتنشر الفزع والدمار. مخلوقاتٍ قتالة، تقتل في صمت، تقتل الطفل وهو في دفء مهده، وتقتل الملك بين أعوانه وجنده. تلك المخلوقات الخفية الحقيرة العدوة اللدود - والتي قد تسالم أحياناً وتصادق - هي التي نظر إليها (لوفن هوك) أول رجل على ظهر البسيطة
- 3 -
سبق أن حدثتكم عن (لوفن هوك) بأنه رجل كثير الشك كثير الريبة، لذلك لما وقعت عيناه على تلك الحيوانات رآها بالغة الصغر بالغة العجب حتى لا يكاد يؤمن الرائي بها. ومن أجل هذا أعاد النظر ثم أعاده حتى انجمدت يده من مسك المكرسكوب ودَمَعت عيناه من إطالة التحديق، فوجد أن نظرته الأولى لم تكن خُدعةً، فها هي الحيوانات نفسها تعود فتتراءى له، وليست هي من جنس واحد هذه المرة، فها هو جنس ثان أكبر من الأول سريع الحركة رشيق الدوران لأن له بضعة أرجل بالغة في الدقة، وها هو جنس ثالث، ورابع ولكنه صغير جداً فلا يبين شكله، ولكنه حي يدور بسرعة خاطفة فيقطع الأميال في دنياه الصغيرة - في تلك القطرة من الماء
وكان (لوفن) قياساً ماهراً، ولن أنى له بمقياس تُقاس به هذه الحيوانات الصغيرة. جمع لوفن ما بين حاجبيه، وجمع بتجميعه أشتات فكره، واخذ يبحث في زوايا رأسه وفي الأركان المهجورة من ذاكرته بين آلاف الأشياء التي تعلمها وأتقن تعلمها عله يهتدي بها إلى قياس تلك الأحياء، وعدّد ما عدّد، وحسب ما حسب، وخرج من حسابه على أن (الحيوان الأخير الذي رآه أصغر ألف ألف مرة من عين قملة كبيرة). وكان هذا تقديراً صائباً من رجل مدقق محاذر، فنحن نعلم اليوم أن عين القملة التامة النماء لا تزيد حجماً عن عشرة آلاف من تلك الحيوانات
ولكن من أين أتت وكيف سكنت قطرة الماء؟ أجاءت من السماء؟ أم زحفت من الأرض على جدار الإناء حتى بلغت الماء؟ أم قال لها الله كوني فكانت من لا شيء؟
إن (لوفن) يؤمن بالله بمقدار ما آمن به أي هولاندي من أهل القرن السابع عشر، وكان يصفه بأنه خالق هذا الكل العظيم، وكان فوق إيمانه يُعجب به أي أعجاب، وكيف لا يعجب من خالق حاذق عرف كيف يصنع أجنحة النحلة بهذا الجمال المطرب. ولكن (لوفن) كان(86/37)
إلى جانب هذا يعتقد في المادة وفي وساطتها، وهداه وحي نفسه الصادق إلى أن الحياة لا تنتج إلا من حياة، وأن الله لم يخلق هذه الحيوانات في وعاء الماء من لا شيء. . ولكن صبراً. . ولم لا يخلق ما شاء كيف شاء؟ لا سبيل إلى معرفة مأتي هذه الحيوانات إلا التجربة. فقال لوفن لنفسه (فلأجرب)
فغسل كاس خمر غسلاً طيباً وجففه، ورفعه إلى حيث يقطر ماء المطر من سقيفة داره، فلما تجمع فيها بعضه أخذ منه قطرة وسلط عليها عدسته. . . نعم! لا يزال بها قليل من تلك الحيوانات غادياتٍ رائحات. إذن فهي توجد في ماء المطر غب نزوله. ولكن مهلاً، فهذا استنتاج فطير، من أدرانا؟ لعلها كانت على السقف فنزل المطر فاكتسحها في الكأس
فدخل لوفت بيته وخرج بصحن من الصيني داخله أزرق صقيل فغسله ورفعه إلى السماء والمطر يهطل، ورمي بما تجمع فيه من الماء ليتأكد من نظافته، ثم رفعه مرة أخرى، ثم غمس في مائه شعرة من شعراته الزجاجية وبكثير من الحذر حملها بقطرتها إلى مكتبه لينظر فيها. (لقد واتاني الدليل! هذا الماء ليس فيه مخلوق واحد من تلك المخلوقات الصغيرة، فهن لن يأتين من السماء)
ولكنه احتفظ بهذا الماء الساعةَ بعد الساعة، وهو يحدق فيه، واليومَ بعد اليوم وهو يحدق فيه، وفي اليوم الرابع أخذت تلك المخلوقات تتراءى فيه مع ذرات من التراب وخيوط القطن ونسائل التيل
اكتشف (لوفن) هذه الدنيا الجديدة التي لم تخطر على بال أحد، فهل كتب إلى الجمعية الملكية ينبئها خبر هذا الاكتشاف الضخم؟ لا، لم يكن بعدُ أخبرهم، فقد كان رجلاً بطيئاً، وإنما سلط عدساته على كل أصناف الماء، على الماء الذي في مكتبه وهواؤه محبوس، على الماء بالقدر الذي وضعه في الهواء الطلق على سطح بيته، على الماء الذي بقنوات بلدته وهو غير شديد النقاء، وعلى ماء البئر البارد الذي بجنينة داره، وفي كل هذه الأمواه وجد هذه الحيوانات. وراعه صغرها الهائل، فكثير منها لم يبلغ الألفُ منه حجمً الحبة من الرمل، وقارن بعضها بدودة الجبن، تلك الحشرة القذرة الصغيرة، فوقعت منها وقوع النحلة من الفرس
كان لوفن بحاثاً يبحث عن كل شيء وفي كل شيء، ومن غير علم سابق عن تلك الأشياء.(86/38)
وكان من شأن هذا الضارب في أشتات الأمور أن يعثر في طريقه على كثير مما لم يقصد إليه. وكان هذا حاله مع الفُلفُل. الفلفل حريف لاذع فلماذا؟ سؤال خطر له يوماً فقال لنفسه: (قد يكون هذا بسبب نتوءات في الفلفل حادة تشك اللسان عند الأكل فتلذعه) ولم يكد يستقر هذا الخاطر في رأسه حتى قام يبحث عن هذه النتوءات
بدأ بالفلفل الجاف فطحنه ثم طحنه، وعَطس وعَرق، ولكن لم يبلغ به الطحن الصغرَ الكافي لرؤيته بالعدسة. فخال أن يلينه بالتبليل فنقعه في الماء بضعة أسابيع ثم جاء بإبرة حادة فمزق بها ذرات الفلفل فزادها صغراً، ثم مصها مع قطرة ماء في إحدى شعرياته الزجاجية، وأخذ ينظر فيها، ولم يكد بفعل حتى نسي النتوءات التي كان يبحث عنها، وامتلأت نفسه واغتمر حسه بما وجد من جديد. ففي المواه الأخرى التي رآها كان يرى الحيوانات الصغيرة التي اكتشفها بقدر معتدل يقل حيناً ويزيد حيناً. أما في ماء الفلفل هذا فقد وجد هذه المخلوقات على تنوعها كثيرة العدد كثرة لا تصدق، وهي لا تزال في ازدحامها تهيم وتسبح في رشاقة وجمال
خرج (لوفن هوك) يبحث في الفلفل عن نتوءات، فوقع على طريقة يربى بها حيواناته وينميها ويكثرها
وعندئذ، وعندئذ فقط، شاء أن يكتب إلى لندن يخبرها بالذي كان. وملأ الصفحة بعد الصفحة بخط جميل ولغة بسيطة يشرح ما صنع، ويقول لهم إن حبة القمح تسع مليوناً من هذه الحيوانات، وأن ماء الفلفل يربيها ويكثرها حتى تحوي القطرة منه 2700000 منها. وتُرجم الكتاب إلى الإنجليزية وتلى على الجمعية فترك عاليها سافلاً. هؤلاء العلماء كانوا قد اطرحوا الخرافات، وكفروا بالذي كان في زمانهم من أباطيل وترهات، ثم يأتي هذا الهولاندي يحدثهم عن حيوان تسع قطرة الماء منه بقدر ما تسع هولندا من السكان! تلك خرافة من خرافات الأولين، ولا والله ما خلق اله حياً أصغر من دودة الجبن
على أن نفراً من هؤلاء العلماء لم يضفق بما سمع. فهذا الرجل كان محققاً مدققاً مفرطاً في تحقيقه وتدقيقه. وقد وجدوا صدقه في كل ما كتب لهم عنه. وعلى ذلك جاءه كتاب من لندن يرجونه فيه أن يشرح لهم بالتفصيل الطريقة التي صنع بها مكرسكوبه وأن يصف لهم كيف يستخدمها لرؤية ما يرى(86/39)
وجاءه الكتاب يحمل الشك في ثناياه فغضب. ما كان يُهمه أن يضحك منه حمقى بلدته، ولكن لم يكن يخطر في باله أن ترتاب الجمعية الملكية في قوله. لقد كان يحسب أنهم فلاسفة. أيكتب اليهم بالشرح الذي طلبوا، أم يوليهم من الآن ظهره ويحتفظ بما يعمل لنفسه. وذكر المجهود الذي أنفقه فعز عليه ما احتمل منه، وكأني بك تسمعه يتمتم في نفسه: رحماك اللهم فأنت تعلم كم عملت وعَرِفت، وكم سهرت لكشف تلك الخبايا، وكم احتملت من ضحك الناس وسخرية حماقهم في صناعة مكرسكوباتي وتجويدها واستنباط طرق الرؤية بها. . .
ولكن كما أنه لابد لكل ممثل ممن يسمع وينظر، فكذلك لابد لكل مبتكر من نظارة سماعة. لقد علم (لوفن) أن هؤلاء الشكاكين من أعضاء الجمعية لابد باذلون جهداً لا يقل عن جهده لإنكار دعواه. لقد جرجوه في كرامته، ولكن لابد للمكتشف من نظارة! فكان أن كتب لهم كتاباً طويلاً يؤكد لهم أنه لم يَغلُ فيما وصف، وشرح لهم الحساب الذي عمل، وكتب لهم الحسبة بعد الحسبة من قسمة فضرب فجمع حتى صار كتابه ككراسة صبي في مدرسة وخرج بنتائج قريبة جداً من النتائج التي يخرج بها علماء المكروب اليوم بواسطة ما استجد لهم من عُدة وجهاز. وختم (لوفن) كتابه بقوله إن كثيراً من أهل (دلفت) رأوا تلك الحيوانات الصغيرة العجيبة بعدساته فأكبروها! وأنه يستطيع أن يأتيهم باقرارات شرعية مبصومة مختومة، اثنين منها من رجلين من رجال الله، وواحد من مسجلي العقود، وثمانية أخرى من شهودُ عدول. أما أن يصف لهم كيف صنع مكرسكوباته فهذا ما لا سبيل إليه
كان (لوفن هوك) كثير الريبة في الناس. كان يسمح للناس بنظر الأشياء من عدساته، ويرفعها إلى أعينهم ليحسنوا الرؤية بها دون أن يمسوها، فان هم رفعوا يداً إليها ليتولوا بأنفسهم إحكامها أو لزيادة المتعة بها لم يكبر على (لوفن) أن يطردهم من بيته طرداً. . كان كالطفل بيده تفاحة كبيرة حمراء يعجب بها ويسر برؤية أصحابه لها، ولكنه يصرخ في وجوههم إذا نالوها بأصابعهم خشية أن ينالوها بعد ذلك بأسنانهم
وبناء على هذا وجهت الجمعية وجهها ناحية أخرى، فانتدبت (روبرت هوك) ونهيمياه جرو ليقوما بصناعة أحسن المكرسكوبات المستطاعة، وبتجهيز نقيع مائي من أجود أصناف الفلفل الأسود. وفي الخامس عشر من نوفمبر عام 1677 اجتمعت الجمعية وجاءها(86/40)
(روبرت هوك) يحمل إلى المجتمع مكرسكوبه والنقيع، وفي خطاه سرعة، وفي قلبه لهفة، لأنه وجد أن (أنطوان لوفن هوك) لم يَكْذب، فها هي تسبح وتلعب، تلك الحيوانات التي حدث عنها (لوفن). قام الأعضاء عن مقاعدهم وتزاحموا حول المكرسكوب، وحملقوا فيها، ثم صاحوا: لا يكشف عن مثل هذا إلا رجل من عبقر. وكان هذا يوم فخار كبير (للوفن هوك). ولم يمض غير قليل حتى انتخبت الجمعية هذا القمّاش عضوا بها. وبعثت إليه براءة العضوية في إطار من الفضة وعلى غلافها شارة الجمعية
فأجابهم (لوفن) يشكرهم ويقول: (. . . . . وسأخدمكم بإخلاص إلى الرمق الأخير من حياتي). وهكذا فعل. فانه أخذ يكتب إليهم تلك الكتب التي خلط فيها بين العلم ولغو الحديث حتى مات وسنه تسعون عاماً. وعلى كثرة ما بعث لهم من الكتب لم يبعث إليهم بعدسة واحدة. كل شيء إلا هذه ما دق قلبه بالحياة. وفعلت الجمعية كل ما استطاعت في سبيل ذلك دون جدوى، وأنفذت الدكتور مولينو إليه ليكتب تقريراً عنه فعرض عليه مولينو ثمناً طيباً مغرياً لأحد مكرسكوباته فأبى. (يا رجل! لديك مئات المكرسكوبات قد ترصصت في القمطرات بحوائط مكتبك، أفلا تستغني ولو عن واحدة فقط؟). ولكن هيهات. (هل أستطيع أن أرى السيد رسول الجمعية الملكية شيئاً آخر؟ هذا محار في زجاجة لم يولد بعد. وهذا حيوان غطاس سريع رشيق). ويرفع الهولاندي عدساته إلى عين الإنجليزي ليرى بها، وهو يلحظه بركن عينه خشية أن يمس جهازاً أو ينشل شيئاً، وهو الرسول الأمين الذي لا يشك أحد في ذمته أو يرتاب في أمنته. (مولاي رسول الجمعية!. كم أتمنى لو كان في استطاعتي أن أريك عدسة بعينها هي أحسن عدساتي، وأن أريك كيف تنظر فها، ولكني اختصصت بها نفسي فلا أطلع عليها أحداً حتى ولا أهل بيتي)
(يتبع)
أحمد زكي(86/41)
14 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- أو قد تنساق كذلك إلى تذكر سمياس نفسه؟
فقال - هذا حق
- وقد يكون التذكر في هذه الحالات جميعاً منبعثاً من أشباه الشيء أو مما يباينه؟
- وهناك سؤال لابد ان ينشأ، حينما يكون التذكر قد انبعث من شبيه الشيء، وهو: هل يكون شبيه الشيء المتذكر ناقصاً في أي ناحية من نواحيه، أم لا يكون؟
فقال: هذا جد صحيح
- وهل نتقدم خطوة أخرى، فنؤكد بأن التساوي موجود فعلاً، لا تساوي الخشب بالخشب أو الحجر بالحجر، بل هو ما أسمى من ذلك وأرفع. أنؤكد بأن التساوي موجود في عالم التجريد؟
فأجاب سمياس: بلى: أؤكد ذلك وأقسم على صحته بكل ما وسعت الحياة من يقين
- وهل نحن نعلم هذا الكنه المجرد؟
فقال: لا شك في ذلك
- ومن أين جاءنا هذا العلم؟ ألم نَرَ متساويات من الأشياء المادية، كقطع الحجر والخشب، فاستنتجنا منها مثالاً لمساواة تخلفها؟ أفأنت موافق على هذا؟ أو فانظر مرة أخرى إلى الموضوع على هذا النحو: أليست قطع الحجر والخشب بعينها تبدو متساوية حيناً متفاوتة حيناً آخر؟
- لا ريب في هذا
- ولكن هل تتفاوت المتساويات الحقيقية أبداً؟ أم هل يكون مثال التساوي يوماً عدم مساواة؟
- لاشك في أن ذلك شيء لم يُعرف بعد(86/42)
- إذن فهذه المتساويات (كما يسمونها) ليست تطابق مثال التساوي ووصلت إليه، على الرغم من أنها مخالفة لذلك المثال؟
- فقال: هذا جد صحيح
- وقد يكون مثال التساوي شبيها بها. وقد يكون مبايناً لها؟
- نعم
ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئاً، فما دمت قد تصورت شيئاً من رؤية شيء آخر، سواء أكانا شبيهين أم متباينين، فقد حدثت بذلك من غير شك عملية تذكر؟
- جد صحيح
- ولكن ماذا عساك أن تقول في قطع متساوية من الخشب والحجر، أو في غيرها من المتساويات المادية؟ وأي أثر هي تاركة في نفسك؟ أهي متساويات بكل ما في التساوي المطلق من معنى؟ أم أنها تقع في القياس دونه بشيء يسير؟
فقال: نعم، بل دونه بمسافة بعيدة جداً
- ثم ألا يلزم أن نسلم بأنني، أو أي أحد آخر، حين ينظر إلى شيء فيدرك أنه إنما ينشد أن يكون شيئاً آخر، ولكنه مقصر من دونه، عاجز عن بلوغه - فلابد أن قد كانت لدى من يلاحظ هذا معرفةٌ سابقةٌ بذلك الشيء الذي كان هذا الأخير أحط منه، كما يقول، وإن كانا متشابهين؟
- يقيناً
- ثم أليست هذه حالنا في موضوع المتساويات والتساوي المطلق؟
- تماماً
- إذن فلا ريب في أننا كنا نعرف التساوي المطلق قبل أن نرى المتساويات المادية لأول مرة، وفكرنا بأن كل هذه المتساويات الظاهرة، إنما تنشد ذلك التساوي المطلق، ولكنها تقصر من دونه؟
- هذا صحيح
- ونحن نعلم كذلك أن التساوي المطلق لم يُعرف إلا بواسطة اللمس، او البصر، أو غيرهما من الحواس التي لا تمكن معرفته بغيرها وإني لأؤكد هذا عن كل إدراك كلي من(86/43)
هذا القبيل
- نعم يا سقراط، فكل واحد من هذه المدركات لا يختلف عن الآخر في شيء مما يدور حوله الحديث
- وإذن فمن الحواس تنبعث المعرفة، بأن كل الأشياء المُحسة تنشد مثال التساوي، ولكنها تقصر من دونه - أليس ذلك صحيحاً؟
- نعم
- إذن فقبل أن بدأنا في النظر، أو السمع، أو الإدراك بأية صورة أخرى لابد أن قد كانت لدينا معرفة بالتساوي المطلق، وإلا لما استطعنا أن ننسب إليه المتساويات التي نشقها من الحواس؟ - فهذه كلها تسعى نحو ذلك التساوي المطلق فتقصر من دونه؟
- تلك يا سقراط نتيجة مؤكدة للعبارات التي سلف ذكرها
- ثم ألم نأخذ في النظر والسمع واكتساب حواسنا الأخرى بمجرد أن ولدنا؟
- يقيناً
- إذن فلابد أنا قد حصلنا معرفة المتساوي المثالي في زمن سابق لهذا؟
- نعم
- أي قبل أن نولد فيما أظن؟
- صحيح
- وإذا كنا قد حصلنا هذه المعرفة قبل أن نولد، وكانت لدينا عند الميلاد، إذن فقد كنا قبل الميلاد، وفي ساعة الميلاد نفسها نعرف كذلك، فضلاً عن المتساوي، والأكبر والأصغر، سائر المُثل جميعاً، فنحن لا نُقصر الحديث على المتساوي المطلق، ولكنه يتناول الجمال، والخير، والعدل، والقداسة، وكل ما نطبعه بطابع الجوهر في مجرى الحوار، حينما نلقي أسئلة ونجيب عن أسئلة، أفنستطيع أن نؤكد، أننا قد كسبنا معرفة هذه كلها قبل الميلاد؟
- هذا صحيح
- ولكن، إذا نحن بعد كسب المعرفة، لم ننس ما كنا قد كسبنا، فلابد أنا قد ولدنا ومعنا المعرفة دائماً، وسنظل أبداً على علم بها، ما دامت الحياة - لأن العلم هو كسب المعرفة وحفظها، لا نسيانها. أليس النسيان يا سمياس هو فقدان المعرفة لا أكثر ولا أقل؟(86/44)
- جد صحيح يا سقراط
- أما إذا افتقدنا عند الميلاد تلك المعرفة التي حصلناها قبل أن نولد، ثم كشفنا فيما بعد، بواسطة الحواس، ما قد كنا نعلم من قبل، أفلا يكون ذلك، وهو ما نسميه تعلما، عملية لكشف معرفتنا، ثم ألا يجوز لنا بحق أن نسمي هذا تذكراً؟
- جد صحيح
لأنه من الواضح، أننا إذ ندرك شيئاً بواسطة البصر، أو السمع، أو أية حاسة أخرى، لا نصادف صعوبة في أن ينشأ لدينا من هذا الشيء، تصور لشيء آخر، يشبه أو يباينه، كنا قد أنسيناه، وكان قد ارتبط الشيء، وعلى ذلك، فكما سبق لي القول، يقع أحد الأمرين: إما أن هذه المعرفة كانت لدينا عند الميلاد، وظللنا نعلمها طول الحياة، وإما أن يكون أولئك الذين يقال عنهم إنهم يحصلون العلم، بعد ميلادهم، لا يفعلون أكثر من أن يتذكروا، فما العلم إلا تذكر وكفى
- نعم يا سقراط، هذا جد صحيح
- فأي الأمرين تُؤثر يا سمياس؟ أكانت المعرفة لدينا عند الميلاد، أم أنا قد تذكرنا فيما بعد الأشياء التي كنا نعلمها قبل ميلادنا؟
- لا أستطيع الحكم الآن
(يتبع)
زكي نجيب محمود(86/45)
دار الحديث الأشرفية والمتحف العربي بدمشق
بعنوان (الخالدي) نشر الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام في العدد الثامن والسبعين من (الرسالة) الغراء مجلساً من مجالس الأستاذ الكبير الشيخ خليل الخالدي، وحسناً فعل، فان أمثال الشيخ الخالدي بيننا قليل، ويجب أن ينتفع بمعارفهم وثمرات بحوثهم. وحبذا لو عمد كل من يلقاهم أو يسمع منهم شيئاً إلى تسجيله ونشره ما داموا هم لم يدونوا مذكرات منظمة على أبحاثهم، فليس من السهل أن نجد شخصية مثل الشيخ الخالدي غزارة علم وسعة اطلاع، وإن الإنسان ليعجب عندما يستمع إليه وهو يتحدث عن كتاب نادر، فيصفه وصف الدارس المطلع، بل يتجاوز ذلك في كثير من الأحيان فيذكر عبارات الكتاب سرداً عن بديهة. ثم ينتقل من وصف الكتاب إلى ترجمة مؤلفه، فيذكر الكثير من شأنه، مما لا نجده في كثير من البحث والدرس، ثم ينتقل من ذلك إلى عصر المؤلف، وحال الحركة العلمية فيه وما إلى ذلك، فمجالس الشيخ الخالدي شائقة ممتعة نرجو الذين يجالسونه ويستمعون له تدوين مجالسه ونشرها على الناس كما فعل الدكتور عزام
عرفت الشيخ الخالدي في دمشق أواخر سنة 1929، أيام ترددي على دار الكتب العربية، لذلك لفت نظري مقال الدكتور عزام وقرأته بشغف شديد حتى أتيت على ذكر المدارس في دمشق فاستوقفني قوله: (ومن مدارس دمشق دار الحديث الأشرفية وهي دار المتحف العربي الآن) استوقفني هذا كثيراً لأني أعرف دار الحديث الأشرفية كما أعرف دار المتحف العربي وأن كلا من الدارين غير الأخرى، فدار الحديث الأشرفية التي بناها الملك الأشرف موسى بن العادل، ونجز بناؤها سنة 630هـ والتي درس بها جلة من العلماء مثل ابن الصلاح وابن الحرستاني وأبي شامة والنواوي والشريشي والفارق وابن الوكيل وابن الزملكاني والحافظ المزني والسبكي وابن كثير وغيرهم - هذه الدار لا تزال تؤدي رسالتها في نشر العلم - وعلم الحديث بنوع خاص - إلى يوم الناس هذا، وقد اعتراها شيء من الفتور في أواخر القرن الماضي حتى أرسل الله لها الفقيه الشيخ يوسف البياني المغربي، فأعاد إليها حياتها ونشاطها، ثم تولى شأنها من بعده المحدث الكبير الشيخ بدر الدين الحسني، ولا يزال يلقي دروسه في دار الحديث الأشرفية ويحضرها الكثير من كبار العلماء. وأما المتحف العربي في دمشق فهو دار المدرسة العادلية الكبرى التي تقع في مواجهة المدرسة الظاهرية(86/46)
والمدرسة العادلية التي بناها نور الدين محمود بن زنكي ولم يتمها، ثم الملك العادل سيف الدين ولم يتمها أيضاً، حتى أتمها من بعده ولده الملك المعظم ونسبها إلى والده الذي دفن فيها فسميت العادلية
كانت هذه المدرسة من أمهات المدارس الخاصة بالشافعية في دمشق كما كانت مقر القضاة فيها
سكنها الكثير من كبار العلماء أمثال ابن خلكان والعلاء القونوي. وأبناء السبكي وابن مالك النحوي وابن جماعة
وفيها ألف ابن خلكان تاريخه المشهور وعلى بابها كان يقف ابن مالك يدعو الناس لحضور دروسه، ينادى هل من متعلم هل من مستفيد؟ وحول بركة العادلية كان قاضي شمس الدين ابن خلكان يدور الليل كله حتى الصباح ويقول في دورانه:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
ولما أسس المجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1919م جعلت مقر المجمع، وهي الآن تضم المجمع العلمي والمتحف العربي وقاعة المحاضرات التابعة للمجمع. وعلى ذكر العادلية وشغل المجمع العلمي لها أقول: إن المجمع وضع يده أيضاً على المدرسة الظاهرية التي أنشأها الملك الظاهر بيبرس ودفن بها هو وابنه الملك السعيد
والظاهرية كانت مدرسة ودار حديث معاً، درس بها الأذرعي والأخنائي والسويدي والأسدي والرعيني والواسطي
فتسلمها المجمع العلمي العربي وجعلها مقر دار الكتب العربية في دمشق، وخص القبة الظاهرية المزينة بالفسيفساء البديعة بالمخطوطات المحفوظة في الدار
برهان الدين محمد الداغستاني(86/47)
12 - بين القاهرة وطوس
اصفهان إلى سلطان آباد
للدكتور عبد الوهاب عزام
والباب العالي بناء ضخم قسمه الأمامي إيوان عال يمسك سقفه الرفيع ثمانية عموداً، مشرف على الميدان، ووراء الإيوان بناء ذُو طبقات ست وسلاليم ضيقة، وفي كل طبقة حجرات قليلة صغيرة، وهذا البناء كله كان لجلوس السلاطين مشرفين على اللعب في الميدان، ولاستقبال الوفود أحياناً، وكان بابه العظيم مفتوحاً ليل نهار يأوي إليه أصحاب المظالم فترفع إلى الشاه ظلاماتهم
ومن الآثار التي رأيناها، المسجد الجامع، وهو من أكبر المساجد سعة رقعة وضخامة بناء، وقد كمل بناؤه الحاضر في عهود مختلفة، وهو أقدم مساجد أصفهان. إيوان القبلة له قبة عالية ضخمة مبنية بالآجر، والى الغرب إيوان صغير جميل أظنه من آثار الصفويين، ووراءه مصلي كبير يؤخذ مما كتب على قبلته أنه بني سنة عشر وسبعمائة، ووراء هذا مصلي كبير لا نوافذ له، وفي سقفه كُوى ينفذ ضوؤها من أحجار من المرمر شفافة
وفي المسجد إيوانات أخرى ومصلي له قبة صغيرة زعم بعض الإدلاء أنه كان بيت نار، وأن القبة الكبرى كانت كذلك؛ وذلك زعم لا يصدقه التاريخ وفن البناء. وقصارى القول أن المسجد الجامع بأصفهان من عجائب الأبنية، وأن فيه للتاريخ وفن العمارة درساً طويلاً. وفي الجمعية الجغرافية الآن عشرات الصور تبين عن أقسام هذا الجامع العظيم ودقائقه
وأكبر الظن أن هذا هو الجامع الذي وصفه مفضل بن سعد ابن الحسين المافر وخي في كتابه (محاسن أصفهان) حيث يقول: (والجامعان: الكبير العتيق البديع الأنيق. بني أصله القديم عرب قرية طبران وهم التيم. . . ثم أعيد في أيام المعتصم سنة ست وعشرين ومائتين، ثم زاد فيه علي بن رستم في خلافة المقتدر، فصار أربع أدور يماس كل حد من جماعتها رواقا، يلاصق كل رواق منه أسواقا. . . . . وهو منذ اتخذ يطن بالتهليل والتحميد، ويحن بالتسبيح والتمجيد. لا ينظم لإحدى الصلوات الخمس أقل من خمسة آلاف رجل. وتحت كل اسطوانة منه شيخ مستند ينتابه جماعة من أهلها بوظيفة درس أو رياضة نفس. تزين بمناظره الفقهاء، ومطارحة العلماء، ومجادلة المتكلمين ومناصحة الواعظين،(86/48)
ومحاورات المتصوفين، وإشارات العارفين، وملازمة المعتكفين. إلى ما يتصل به من خانكاهات قوراء مرتفعة وخانان عامرة متسعة، وقد وقفت لأبناء السبيل من الغرباء والمساكين والفقراء. وبحذائه دار الكتب وحجرها وخزائنها الخ الخ
والباب العالي الذي ذكرته آنفاً كان يؤدي إلى حدائق واسعة فيها قصور كبيرة رائعة، رأينا منها قصر (جهل ستون) أي قصر الأربعين عموداً الذي بناه الشاه عباس واحترق فعمره الشاه ومقدم البناء رواق رفيع واسع يقوم بسقفه عشرون عموداً رفيعاً كل عمود قطعة واحدة من خشب الدلب، وكان مكسواً بالمرمر تعلوه قطع المرايا على الأسلوب المألوف في البلاد الفارسية، وللبناء على الجانبين رواقان آخران صغيران، ووراء الرواق الأكبر مدخل يفضي إلى قاعة كبيرة، ووراءها حجرات
وفي رواق الجانب الأيمن نقوش كثيرة، بعضها يصور نفراً من الموسيقيين والمغنين، وبعضها يمثل جماعة من سفراء دول أوربا الذين وفدوا على الملوك الصفويين، وفي القاعة الكبرى صور زيتية كثيرة تمثل الملوك الصفويين مستقبلين ضيوفهم أو محاربين أعداءهم، وهي صور تذكر بصور قصر فرسايل في فرنسا
وأمام البناء كله حوض كبير على حافته نافورات، ينعكس فيه مرآى الرواق الأمامي. قال محدثنا: للرواق عشرون عموداً وهذه مثلها في الماء، فمن أجل هذا سمي قصر الأربعين عموداً
والحق أن آثار الصفويين في أصبهان على ما نالها من عوادي الزمان تشهد بما كان لهم من الغنى والأبهة، وبما كان في الدولة من العمران والصناعات، والنبوغ في العمارة والنقش
ورأينا آثاراً أخر يضيق المقام بوصفها، ثم أوينا إلى الفندق وفي حيالنا جلال الماضي وجماله، وأمام أعيننا ما كان من تبدل وتحول
عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذلك الدهر جال بعد حال
خرجنا العشية، فجلنا في أطراف المدينة، ورأينا القناطر المشيدة على نهر زنده رود، ورأينا مصنعاً كبيراً لآل اليزدي ينسج فيه الصوف، ثم ذهبنا إلى السوق، وسوق أصفهان من أعظم الأسواق في الشرق، فرأينا بدائع صناعة اصفهان، واشترينا منها ثم رجعنا إلى(86/49)
الفندق
ولما حان موعد العشاء خرجنا إلى دار الحكومة إجابة لدعوة الحاكم. فنعمنا هناك زمناً بحديث السيد الهمام قاسم صور أسرا فيل ورئيس البلدية، والشاعر الإنكليزي درنيكووتر والدكتور شميت الألماني. ثم عدنا إلى الفندق نمشي في القمراء وقد هود الليل، فقلنا حبذا لو امتد بنا المقام
بكرنا إلى الرحيل ونحن نذكر قول أبي عبد الله الحسين النظري:
حوت أصفهان خصالاً عجاباً ... بها كل ما تشتهيه استجاباً
هواء منيراً وماء نميراً ... وخيراً كثيراً ودُوراً رحاباً
وترباً ذكياً ونبتاً روياً ... وروضاً رضياً يناغي السحايا
وفاكهة لا ترى مثلها ... نسيماً وطعماً ولوناً عجاباً
تفيد الأعلاَء برءاً كما ... يفيد الربيع الرياض الشبابا
وزاد محاسنها زنروذ ... مياهاً كطعم الحياةِ عِذاباً ألخ
فارقنا أصبهان والساعة ثمان وربع من صباح الاثنين ثالث عشر رجب (22 أكتوبر) عائدين أدراجنا تلقاء قم - ومن أصفهان إلى كرمانشاهان طريق تسير شطر الغرب لا تمر بقم، وهناك طريق أخرى إلى سلطان أباد في العراق العجمي، ولكن سائق سيارتنا، وهو خبير بالطرق، أبى إلا أن يسلك طريق قم إلى سلطان أباد فهمذان فكرمانشاهان لأنها طريق معبدة مطروقة معروفة، ومررنا والساعة تسع ونصف بقرية صغيرة اسمها مورجه خورد (النملة أكلت) قال السائق هذه قرية دعا رسول الله صلوات الله عليه أهلها إلى إطعام بعض الفقراء فأخفوا ما عندهم من طعام فدعا الرسول عليهم فأكلت النملة ما ادخروه من قوت: ووردنا دليجان والساعة اثنتا عشرة فوقفنا موقفنا الأول على المطعم الذي وصفه آنفاً، فجاء صاحبه وقال قد هيأت لكم الطعام، قلنا أعددت دجاجة؟ قال نعم وغيرها، فصعدنا إلى الطبقة العليا فاسترحنا ثم جاءنا الطعام فأكلنا مسرورين فكهين
واستأنفنا المسير والساعة واحدة وأربعون دقيقة، فلقينا على الطريق زميلنا في المؤتمر الدكتور نظام الدين الهندي، فوقفنا نجدد العهد به. ثم سرنا قليلاً فإذا ثلاثة من أعضاء المؤتمر: ألماني وأمريكي وتركي مقيم في أمريكا، فتحدثنا قليلاً ثم افترقنا وكان هؤلاء(86/50)
يؤمون أصفهان فشيراز
بلغنا قم والساعة أربع فلم ندخلها، بل ملنا عنها شطر الغرب نريد سلطان آباد. ونزلنا بعد نصف ساعة ببناء عند أشجار على مقربة من نهر قم. قلت للسائق أي موضع هذا؟ قال تخت شير (تخت الأسد) شربنا الشاي، وطلبنا شمامة (خربوزه) فجاء رجل بشمامة وبطيخة قلنا هذه البطيخة قديمة، فما رأيك في الشمامة؟ قال حلوة جداً. قلنا شققها. فإذا شمامة غير ناضجة فقمنا نندب أملا ضاع بين قِدم البطيخ وحداثة الشمام. ولم أنس من بعدُ تخت شير وشمامته. وان مسيرنا في أرض عامرة تبدو فيها القرى والزروع والأشجار، والبيادر ليست كالطريق بين طهران وأصفهان. ومررنا بقرية صغيرة وقف عليها السائق قائلاً لا يفوتنا أن نأكل من عسل هذه البلدة فهو حديث الركبان. ثم دخل بناء إلى جانب الطريق، وعاد بقليل من العسل والزبد والخبز. وقد صدق الخُبر خبر صاحبنا فقد وجدنا عسلاً صافياً بارداً فقلنا قد أبدلنا الله بشمامى تخت شير عسل راهجرد. وتمادى بنا السير حتى اجتزنا بقرية اسمها إبراهيم آباد فعلمنا أننا على مقربة من غايتنا، وبعد نصف ساعة وقفنا في مدخل سلطان آباد والساعة ست وخمس وأربعون مساء بعد أن فصلنا أصبهان بعشر ساعات ونصف. فرآى الشرطة جواز السفر ودخلنا المدينة:
عبد الوهاب عزام(86/51)
في تاريخ الأدب المصري
3 - ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 5 -
أهم أغراض شعر ابن النبيه المدح والغزل والرثاء والوصف، ولقد كان مدح شاعرنا رقيقاً بارع الأسلوب، يستهوي السامع ويأسره، ويستطيع أن يملك قلب الممدوح فيهبه جزيل الهبات، وهو يبدؤه بالغزل غالباً وأحياناً كثيرة يبدؤه بذكر الخمر ومجالسها والساقي وجماله وحينما مدح الخليفة الناصر أحمد بدأ مدحه بذكر الناقة التي حملته إلى الممدوح، وقريته من مقر حكمه، كما كان في بعض الأحيان يبدأ مدحه بدون تقدمة، غير أنه كان حينما يأتي بمقدمة قبل مدحه يجيد غالباً التخلص منها إلى المدح بلباقة وبراعة فهو حين يبدأ بالغزل يتخلص إلى المدح بمهارة كقوله:
عسى قلبه يعديه قلبي برقة ... كما طرفه الفتان بالسقم أعداني
لئن كان ينسى عقد عهد مودتي ... فلي ملك من فصله ليس ينساني
وحين يبدأ بالخمر يحسن التخلص منه كذلك مثل قوله بعد أن وصف الخمر:
حمراء تفعل بالألباب ما فعلت ... سيوف شاه أرمن من في عسِكر لجب
ولقد كان في النادر يطيل المقدمة إطالة كبيرة حتى تغير على المدح المقصود من القصيدة، ولقد كانت المقدمة مرة سبعة عشر بيتاً في حين أن المدح لم يستغرق أكثر من أحد عشر بيتاً، غير أن هنا ملحوظة أحب أن أوجه النظر إليها، تلك هي صيحة التجديد التي رفع الصوت بها، مندداً بأولئك الذين جعلوا كل همهم تقليد الأقدمين في بدء الشعر بالحديث إلى الأطلال وسؤال الديار، وهو في تلك النزعة يشبه - إلى حد كبير - أبا نواس الذي صاح قبله تلك الصيحة، واستمع إلى ابن النبيه يقول:
شكر المدام وشكر موسى مذهبي ... فلقد محون بطاعتي عصياني
شغلي مدائحه وغيري لم يزل ... كالبوم يندب دارس الجدران
للبيد والقفر الدوارس معشر ... عدل الزمان بشانهم عن شاني(86/52)
فأنت تراه يشبه أولئك الذين يتحدثون إلى الديار بالبوم تندب دارس الجدران، ثم يؤكد لك أن مذهبه لا يشبه مذهبهم، وطريقته لا تتفق مع طريقتهم ويقول:
حسبك لا يغني سؤال الديار ... قم، فاصرف الهم بكأس العقار
واستنطق العيدان إن كنت ذا ... لب فما ينطق صم الحجار
البم والزير وكأس الطلا ... أولى بمثلي من سؤال الديار
وهو يشبه في ذلك أبا نواس الذي سفه أولئك الباكين على الأطلال والآثار، وصرح بأن الأولى والأفضل أن يبدأ الشعر بذكر الخمر وما إلى الخمر
ولقد سار ابن النبيه على تلك الطريقة فلم يبدأ شعره يوماً بسؤال حجر ولا استنطاق أثر، وهناك نقطة ثانية تراها في بعض مدحه تلك هي نقطة الاستطراد والدخول في موضوع جديد بمناسبة ذكره، ولنمثل لذلك بمدحه للخليفة الناصر فهو مدحه وأثنى عليه، وما هو إلا أن ذكر انتسابه للنبي حتى مضي يمدح النبي، ويذكر خصاله ومعجزاته. ولعل ذلك نشأ من أن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن له من السلطان والقوة شيء، وإنما كان يعتز بالسلطة الروحية التي تستمد من النبي، فلا جرم كان مدح النبي مصدر تلك السلطة مدحاً للخليفة، وترقية من شأنه، هذا وقصائد مدحه متوسطة بين الطول والقصر غير أنه كان يقصرها أحياناً، ولكن لا يفوته أن يعتذر عن هذا القصر، ولنختم الحديث عن مدحه بذكر قطعة صغيرة تعطيك صورة عن هذا المدح: قال يمدح الملك الأشرف، ويذكر دخوله مدينة خلاط:
أبيٌ، سخيٌّ تحت سطوته الغني ... فحف وتيقن أن في عسره يسرا
هو البحر بل أستغفر الله إن في ... بنان يديه للندى أبحرا عشرا
لحي الله حربا لم يكن قلب جيشها ... ومجلس عدل لا يكون به صدرا
أطل على أخلاط يوم قدومه ... بلجة جيش يملأ السهل والوعرا
تلقاه من بُعد المسافة أهلها ... فذا رافع كفا وذا ساجد شكرا
فشككت أن الناس قد حشروا ضحا ... أم الناس يستسقون ربهم القطرا
أما غزل شاعرنا فنوعان: غزل هو مقدمة لمدح، وغزل قصد إليه قصداً وعناه من أول الأمر، وهو في كلا الغزلين عذب جميل تحس فيه رقة الهوى وشكواه، وقد تحدثنا عن(86/53)
تعزله بالغلمان: السقاة منهم والجنود؛ ومن الرقيق هنا أنه كان يستخدم ألفاظاً للتورية كقوله في غلام يهودي:
من آل إسرائيل علقته ... عذبني بالصد والتيه
أنزلت السلوى على قلبه ... وأنزل المن على فيه
على أن غزله لم يقتصر على الذكر، بل كان يتغزل كذلك بالمؤنث وإن كان قليلاً. ومن أرقه قوله:
إلي كم أكتم البلوى ودمعي ... يبوح بمضمر السر الخفي
وكم أشكو للاهية غارمي ... فويل للشجي من الخلي
ممنعة لها طرف سقيم ... شديد الأخذ للقلب البري
وشاحاها على خصر عديم ... ومئزرها على ردف ملي
وقد صدرنا مقالنا بشيء من هذا الغزل الرقيق الذي شهر به شاعرنا حتى أصبح يقال في حقه: هو صاحب الغزل البديع، فهو جميل حين يصف لك الحب وإن كان وصفاً حسياً، وجميل حين يذكر أيام الوصل أو حين يعيد إلى نفسه ذكرى الأيام العذبة ويقول:
أترى لأيامي بوصلك عودة ... ولو أنها في بعض أحلام الكرى
زمن شربت زلال وصلك صافيا ... وجنيت ورد رضاك أخضر مثمرا
ملكتك فيه يدي فحين فتحتها ... لم ألق إلا حسرة وتفكرا
لننصت إليه حين يقول ارتجالا:
أماناً أيها القمر المطل ... فمن جفنيك أسياف تسل
يزيد جمال وجهك كل يوم ... ولي جسد يذوب ويضمحل
وما عرف السقام طريق جسمي ... ولكن دلُّ من أهوى يدل
إذا نشرت ذوائبه عليه ... ترى ماء يرف عليه ظل
أيا ملك القلوب فتكت فيها ... وفتكك في الرعية لا يحل
قليل الوصل ينفعها فان لم ... يصبها وابل منه فطل
أدر كأس المدام على الندامى ... فمن خديك لي راح ونقل
فنيراني بغيرك ليس تطفي ... وأحزاني بغيرك لا تبل(86/54)
فهو مع استخدامه الصناعة اللفظية لم يزل جمال الشعر رائعاً خلاباً كما ترى
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(86/55)
القُبلة الممنوعة
تحفة من الشعر الرائع
للعالم الشاعر الأستاذ أحمد الزين
ياغُة الصدر من حر الجوى زيدي ... أبتْ شفاءكِ حتى بالمواعيد
سحريةُ الفم لو مَست بقُبلتها ... فَم العَي لحلت كل معقود
تكاد من رقةٍ تُغرِي مقبّلها ... أن يحتسيها رحيقاً غير مورود
قد صاغها الله لما أشركتْ أممٌ ... به وقال اشهدوا برهان توحيدي
قل للبخيلة جودي لالقيت جوي ... إن كان يشفع لي قولي لها جُودي
وساعةٍ تحت أفياء الهوى سلفت ... يا ساعة تحت أفياء الهوى عودي
ما ضر لو أنها في قُبلةٍ سنحتْ ... منْت بوعدٍ وإن ضنت بموعود
هل حاذرتْ حر شوقي حين ألثِمُها ... أن تُذبِل الوَردَ أنفاسي بتصعيد
رُحماك لليائِس الممطول يُقنعِه ... من الوجود خيالٌ غيرُ موجود
ظمآن لا رَشفاتُ الماء صافيةً ... تروي صَداه ولا بنتُ العناقيد
شفاؤه قبلةٌ لو أن محتضراً ... داوَى بها الموتَ رَدت غير مَردود
فكم أقبل ثغرَ الزهر من شبه ... بثغرك العَذْب في حُسن وتوريد
عينٌ مِن الخُلد من يَنهل بكوثرها ... وِردَ الحياة يَفُزْ منه بتخليد
صوتٌ من القلب أمليه على فِمها ... وعهدُ حًبٍ على الأيام ممدود
ولٍلقلوب لغاتٌ ليس يدركها ... سوى فؤادٍ بنار الوجد معمود
حديثُ شوقٍ بلا حرفٍ ولا كلمٍ ... تُفضى به شفتي للخد والجيد
معنىً من الحب يسمو أن أؤديةُ ... بكل لفظٍ من الألفاظ محدود
اللفظ يَثقُل بالترديد مَوقعه ... وتلك تحلو معانيها بترديد
دع الرسائل فيما لا تحيط به ... تلك اللغاتُ ودَع صَوْغَ الأناشيد
فللشفاهِ على أمثالها لغةٌ ... أحلى على السّمع من مزمار داود
أدتْ عن القلب ما يعيا اللسانُ به ... كمنطق الطير غِريدٌ لِغريد
كم قُبلةٍ لا أرَى الدنيا لها ثمناً ... فلا تبعْ معدودٍ بمعدود(86/56)
أحمد الزين(86/57)
على مذهب روسو
ثورة على الحضارة
للأستاذ محمود غنيم
ذَرَعْتم الجو أشبارا وأميالاَ ... وجُبتم البحر أعماقا وأطوالاَ
فهل نَقَصْتم همومَ العيش خردلةً ... أو زدتمو في نعيم العيش مثقالا؟
صرعى الهواء وغرقى الماء قد كثروا ... وراكب الحيل جر الذيل مختالا
العيسُ ألْين ظهرا من مراكبَ إن ... جنَّبن هولا فقد قرّبن أهوالا
تسنّم القوم غربَ الجو وانطلقوا ... كأن للقوم في الأفلاك آمالا
أقسمت لو دنت الأفلاك طائعة ... فنالها المرء لم يقنع بما نالا
إني أرى الناس ما زادوا رفاهيةً ... في العيش زاده تعقيدا وإشكالا
كم هان أمر فقلدناه طائفةً ... من الحواشي وحملناه أثقالا
تجاوز العرفُ والعاداتُ حدها ... فأصبحا في رقاب الناس أغلالا
يا طالما حدثتني النفس قائلةً ... أنحن أنعم أم أسلافنا بالا؟
كانت حياتهمو تَضفي بساطتُها ... عليهمو من هدوء البال سر بالا
كم للمحاكم أحكام يقوم بها ... في البدو فيْصَلهُ - والقولُ ما قالا
لا الحق ضاع إذا ما عيَّ مدرهُهُ ... ولا ترقُّبُ يوم الفصل قد طالا
قد رتم الوقت تقدير الشحيح به ... فكدتمو تملؤون الليل أعمالا
أتختمُ الوقت بالأعمال ويحكمو ... هلا أضفتم إلى الآجال آجالا!
تحضر الناسُ حتى ما لمكرمة ... قُدْسٌ لديهم ولكن قدسوا المالا
في كل مملكة حربٌ منظمةٌ ... تضم جيشين: مُلاكا وعمالا
يد السياسة بالأخلاق قد عبثت ... وقرض العلم صرح الدين فانهالا
البدو أكرمُ أخلاقا وأحسبهم ... لله أكثرَ تقديسا وإجلالا
قالوا: تألق نور العلم، قلت لهم: ... بل ناره أصبحت تزداد إشعالا
عهد الحسام بفضل العلم قد درست ... آثاره وزمان الرمح قد دالا
يا رُب حربٍ بغير العلم ما اتقدت ... ورب جيشٍ بغير العلم ما صالا(86/58)
مدمرات وغازات مسممة ... تصور الموتَ ألوانا وأشكالا
لنا جرائمُ لم يسبق بها زمنٌ ... باتت تزلزل ركن الأمن زلزالا
كم وضّح العلم منهاجاً لمختلس ... وبات يحمي من القانون مغتالا
ابْنُ الحضارة جسم دون عاطفة ... يكاد يحسبه رائيه تمثالا
وبرقها خلب يغريك بارقةُ ... جتى إذا شِمتَه ألفيتَه آلا
رسالة الغرب لا كانت رسالته ... كم سامنا باسمها خسفا وإذلالا
وصوّرتْه لعين الشرق أمثلة ... عُليا وصوّرنا الرحمن أمثالا
تغزو الحضارة أقواما لتسعدهم ... والزنج أسعد من أربابها حالا
هي الطبيعة ما بر الأنامُ ... أما وبرت بهم من قبلُ أنجالا
هل تشهرون عليها الحرب ويحكمو ... وكم طوت قبل هذا الجيل أجيالا
عودوا إلى حجرها إن شئتمور غدا ... كما نشأتم بهذا الحجر أطفالا
صوت الهزار وصوت العود أيُّهما ... أفواهما أثراً في النفس فعالا؟
أقسمت ما نظرت عيني بحاضره ... كالرمل أصفَر أو كالماء سلسالا
إذا نظرتُ إليكم من ذُرا جبلٍ ... لاحت قصورُكم الشماء أطلالا
يا رُب قصر له شمسُ الضحى طنفٌ ... بين العيون وبين الشمس قد حالا
يود ساكنهُ لو كان منطلقا ... كالذئب يسكن أحراجا وأدغالا
قودُ والبخارَ وسوقوا الكَهرباء فما ... زلتم بأسرار هذا الكون جهالا
لكم حياةٌ وموتٌ كان سرُّهما ... من عهد آدم مستوراً وما زالا
كوم حمادة
محمود غنيم(86/59)
وداع. . . . .
بقلم وصفي البني
يا عهوداً من حياتي شطرت ... كيف أصبحت وراء العدم؟
أنت من قلبي شظايا ألمٍ ... كيف أرصى عن بقايا الألم؟
يا عهوداً قد تولى ذكرها ... أنت من ليلي منار الأنجم
سوف أمشي فوق آلامي وما ... في فؤادي من بقايا الأسهم
مسرعاً في الليل أعدو كي أرى ... نور أيامٍ تغذت من دمي
هل يطول الليل دهراً كاملاً؟ ... بل سيمضي رغم أنف النوم
يا عيوني ما بكائي والأسى ... غير أصوات بواد مظلم
قد سكبت الدمع في أمسي ولم ... أستمع غير التشكي من فمي!
خلني أحيا ضحوكا فالبكاء ... سوف يكويني بنار الندم
قد شربت الكأس مراً علقماً ... واحتسيت الصبر فوق العلقم
فلنقف يا دهر، ذا وادي الشقا ... من يرى الوادي وفيه يرتمي؟. . .
هذه دنيايَ ما عيشي بها ... باكياً إلا كليلٍ أقتم!
قد تراءى الفجر يزجي نوره ... في حنايا الليل يجري كالدم
فلنودع يا رفاقي أمسنا ... إن نجم الصبح أغرى مبسمى!
دمشق
وصفي البني(86/60)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
8 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
شوبنهاور
1788 - 1860
هذا هو شوبنهاور الذي طبع الفلسفة الألمانية بطابع التشاؤم، فتركها مظلمة قاتمة، يخال الجانح إليها أنه نازل في أنفاق بعضها أقتم من بعض. نشأ نشأته الأولى بهدوء وسكينة، لا يكاد الناظر إلى وجهه النحاسي يتبين أن وراء هذا الوجه خيوطاً سوداء متصلة بقلبه الأسود؛ وقد خانه الجد في أول عهده كما يخون العظماء، فكبا فاستثقل أن ينهض من كبوته، فما زاده ذلك إلا حقداً على الناس ومبالغة في الانتقام منهم. اتخذ رسله إلى الناس الكتب؛ فكان أول كتبه (الجذور الأربعة لمبدأ السبب الأتم)، فخاض كتابه في صفوف الناس فلم يلق إلا فشلاً، لأنه لا يزال خامل الاسم، ولما تزل سحابة الحزن مخيمة على ألمانيا المغزوة المجرحة، فالناس في شغل عن الفلسفة والفلسفة في شغل عنهم، ولكن شوبنهاور المتشائم لم يثنه ما أصاب كتابه عن مواصلة السعي، فأعد عدته لحدث عظيم يترك وراءه دوياً، فقذف بكتابه (العالم إرادة وتمثيل) وهو خير كتبه، وأكثرها تمثيلاً لشخصيته فيه من فلسفته الشيء الكثير، ومن الشعر الشيء الكثير. . . ولكن ذلك لم يقعد ببعض حاسديه عن أن يحملوا على الكاتب وينالوا منه. فاستهل مطلع الجزء الثاني من كتابه بهذه الأبيات (وهي لغوتي)
(لماذا تنفر منا؟
وترمي بآرائنا. . . .
وترمي بآرائنا. . . .
أنا لا أكتب لأسرك وأبهجك
ولكني أكتب لأعلمك شيئاً)(86/61)
وقد أسلم كتابه إلى المطابع وولي وجهه شطر إيطاليا موطن الفن، دون أن يرتقب ما يتركه كتابه من تأثير، فقضي فيها زهاء عامين يحيا حياة بسيطة، هادئة. ويرود مواطن الآثار متأملا في تلك العظمة الغائرة في تلافيف التراب. وقد كانت له ميول غزيرة للفن؛ وكم متع النفس - في حداثته - بمباهج الحياة! حتى إذا آب إلى برلين افتتح شعبة خاصة في الجامعة، ولبث شوينهاور يرتقب عبثاً من يسمع له، أو يأخذ عنه، حتى يئس من نجاحه، وتبرم بمذهب (هيجل) الذي يحتل ذهن الجامعة، وهو - عنده - مذهب الجنون والمحال، فما أشد مقته لأتباع هذا المذهب، ولليهود ذوي الأثرة، والنساء اللواتي يخرجن الكون من قلق إلى قلق. عاد إلى إيطاليا ليتم دراسته الفنية، ثم أقام في (فرانكفورت) وبعد جهاد خمسة عشر عاماً مشت إليه الشهرة ذليلة بعد صدود، منقادة بعد جموح، ولقي حتفه عام 160، وهكذا قدر لشوبنهاور أن يصرع مذهبه الجديد مذهب (هيجل) الذي تقطعت أسبابه، وتفككت روابطه، وشغرت الأفكار من بعده وأصبحت تتقبل أي مذهب كان يبعثه مجدد!
يعتقد شوينهاور بأنه هو الوارث الحقيقي لتراث (كانت) وأن (فيخت وشيلنغ وهيجل ما هم إلا أطفال فاسدون)، يرى أن كانت نحا بالفلسفة منحى جديداً، وسار بها في منهاج واضح، أما أتباع كانت فقد ذهبوا بالفلسفة مذهباً وعراً لا مأمن فيه لسالكه، وأقحموها في بقاع هي فوق (المحسوس) تتعانق أجزاءها، وتتلاقى أشلاؤها في نقط مظلمة مبهمة. والآن قد آن للفلسفة أن تدرس حقائق الأشياء الموجودة. (وان الطريقة المثلى في تأمل الوجود، والوقوف على أطواره ما يصل بنا إلى بواطن الأشياء، وحقيقة أكناهها الخفية، ويطلعنا على سر ما يكمن وراء كل حادث، لا تسأل الكون من أين أتي؟ وإلى أين يمضي، ولماذا وجد؟ ولكنها في كل لحظة وفي كل خطرة تود أن تعرف ما هو؟) وهكذا تحول مجرى العلم النظري الذي كان يجري وراء الخيال، وعاد ينقل من التجارب ما سلم بها الاختبار، ويشرح لنا ناموس الوجود حسب وضعه
يقول شوبنهاور: العالم هو أين تمثيلي وتصويري، وأين الحقيقة التي تصورها احساساتي التي يحولها الفكر إلى معارف.
وشوبنهاور لا يتخطى بهذه الفكرة ما افترضه معلمه (كانت) من قبل. ولكن العالم عنده هو إرادة، هو ميول عمياء أو غريرة قاهرة عند الكائنات، وفاعلية حساسية عند الانسان،(86/62)
ولكنها إرادة متمثلة في كل شيء، هي جهاد عنيف في سبيل الحياة، تسعى لبسط سلطتها وقوتها على ما هو خارج عنها، الإرادة هي الشيء القائم بنفسه الذي لا ينفذ إليه فناء. الحياة هي العمل
وقد يُخيل للبالغ هذه النقطة من فلسفة شوينهور أن صاحبها يريد أن يبشر بالفعالية المستمرة والجهاد المتواصل الذي لابد منه لحي، ولكن شوينهاور لا يبلغ بك هذه النقطة إلا ليحمل إلى نفسك فكرته المسمومة التي تجعل من الدنيا كهفاً مظلماً، ومعتركاً تتطاحن فيه الإرادات. يصرع بعضها بعضاَ: ألم يصرع أملاً، وأمل مغسول بالدمع يصارع أملً مخضباً بالدم
الحياة جهاد عنيف. والجهاد العنيف سبب باعث للألم والشقاء. والكائن كلما زاد سمواً ورقياً زاد تألمه وشقاؤه. وذو النظام المتسق أكثر شعوراً بالألم من ذي النظام الناقص المضطرب. أما الشجرة فلا تتألم، فهي غير حساسة. أما رجل العقل ورجل العبقرية فهما أكثر شقاء وألماً ممن خُلقوا محدودي المدارك، ضيقي الآفاق. والحياة - مهما تجردت - لنا منها حاجات نريد إدراكها، ونريد أن ندركها كاملة، والكمال ظل طارئ لا يثبت، وقد تجر الحاجات حاجات مثلها مما يجعل الحياة - حسب هذا المقياس - لا تنطوي إلا على شقاء، فلا ندرك كل ما نتمنى، ولا نعقد عن التمني:
وشوينهاور إزاء هذه الحالات الغامضة، وجد كماله وراحته في المذهب البوذي الذي يجرد عن النفس الألم لأنه يقصيه عن الاشتغال في الحياة، ويدعوه إلى الفناء المطلق في الوجود، والتأمل في آياته تأملاً ساكناً، خالياً من الرغبة والشعور
هذا هو شاطئ النجاة القائم التي أوت إليه سفينة شوبنهاور بعد أن طافت في أكناف المحيط أعواماً، وهو مذهب كأن، صاحبه قد استمده من تلك الساحبة السوداء التي غشيت ألمانيا في عقلها وشعرها وفلسفتها. ومن خيبة طويلة رافقته أكثر أيامه وقد وجد الناقدون القائلون بتأثير الوارثة أن شوبنهاور قد اقتبس من أمه الأيم نظراتها السوداء، وعن أبيه أخذ الإرادة. ومهما كان تأثير هذه الوارثة المتنقلة بعيداً في نفس شوينهاور، فهو تأثير ضعيف إزاء تلك الموجة التي اكتسحت القطر الألماني جميعاً بما فيه من أدب ومذاهب وشعر وفلسفة(86/63)
وبرغم ما بذله شوينهاور في إعلاء شأن مذهبه، وإظهار خطره، فقد قسما عليه النقد ووجد في مذهبه خطراً يهدد أماني الأنسانية، ويقتل كل ما حملته معها منذ فجر الخليقة حتى الآن، وأرادوا من شوينهاور أن تهديه النتيجة التي بلغها في أول مراحله (الحياة هي جهاد عنيف) لا إلى مناصرة الألم القوي، وتثبيت جذروه السامة في قلوب البشرية، بل إلى تخفيف أثقاله الرازحة على الكواهل والغوارب. فيعمل بذلك على إنماء الحياة وتكثيرها، وجعل رسالته رسالة رضاً وابتسام، لا رسالة سخط وامتعاض
ولكن هب أن شوينهاور كان فاقداً لروح التفاؤل، فما هو سر انتشار مذهبه الأسود بين الناس، وقد علموا أن الحياة لا تغدو بمذهبه إلا متجهمة قاطبة. فهل كان شوينهاور معبراً عما يجول في صدور قومه ويخفق في قلوبهم، كما كان معبراً عما يختلج في صدره وفي قلبه؟ قد يكون احتمال الاثنتين معاً من أكبر العوامل التي جعلت من شوبنهاور نبياً للتشاؤم محترماً في قومه، وإن كان صاحب التشاؤم قريناً لا يقبل صحبته غراب
لقد كان شوينهاور وكمن تظلمه غمامة سوداء، كثيراً هزؤه، نسيج وحده في خلقه. جاءت فلسفته ابنة طبعه، يحاول أن يقنع بها نفسه، لا الناس، لأنه يشعر أن الناس واجد أكثرهم في الحياة نوراً وسعادة، ولكن نفسه لا تبصر من هذا النور شيئاً
على أن أسلوبه الفلسفي هو الذي أحياه، برغم أن اعتقاده - بالبوذية - لم يقم أمره كمذهب. لأن العقول لا تتقبله وإذا تقبلته فلن تفهمه. أما أسلوبه فهو حي يغري ويملأ النفس جلالاً.
فتفكيره فيه جد وصرامة، يغلب المنطق على أقواله حتى في الأشياء البعيدة، يدل استشهاده الكثير على سعة اطلاع، وقد بلغت منه قوة الملاحظة مبلغاً عظيماً، حتى لتأتي الفكرة منه مبنية على خطأ، وتأني أجزاؤها صحيحة سليمة، كأنها البشاعة مبطنة بالجمال؛ وهو فياض الخيال الذي يندمج مع الفكر دون ما نفور. ولعل أعظم ما جاء منه (فكرة الإرادة) التي بان تأثيرها في الأجيال التي عقبت جيل شوينهاور؛ فما زالت هذه الإرادة تتطور وتنمو حتى أوجدت لنفسها كياناً في العالم الفلسفي والعالم المادي، ولعل (نيتشه) هو أكبر مولود وضعته الإرادة الجبارة بين يدي الحياة.
(يتبع)
خليل هنداوي(86/64)
القصص
من أقاصيص الجاهلية
3 - حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
تتمة
كان للناس عجباً أن اعتزل الحرب الحرثُ بن عباد والفند الزماني، وامتزج العجب بالحسرة حين انحازت إليهما عشائرهما. ولكنهما والعشائر قوم جنحوا للسام، وأرادوا أن يأخذوا الأمور بالرفق والحلم، وعز عليهم أن تطير بالقوم عنقاء، وأن تراق هذه الدماء، في مقتل ناقة عجفاء
جلس الحرث بن عباد يوماً على شرف من الأرض واجتمع الناس حوله يقصون عليه من أنباء القتال ما أمضه وزاد في حسرته. واندفع الحرث في اللوم والتثريب: يعيب على بكر ما فهل فتاها من قتل كليب يناب من الإبل وما جرت فعلته النكراء من كرب وبلاء. قال له الفند الزماني: (إنك يا حرث قد أسرفت في اللوم والتثريب، أما ترثى لهذا الشيخ مرة بن ذهل وقد توالت عليه المصائب وتزاحمت عليه النوائب، وكانت أخراها قتلى ابنه همام الذي ضن به يوم عرض الفدية. وأنت تعلم مكان همام من قومه وعشيرته! لشد ما يحزنني قتل هذا الفتى. لشد ما يحزنني قعودنا على نصرة بكر وقد أسرف المهلهل في النكال. وهالني ما يتندر به القوم علينا في مجالسهم ومجامعهم: قال قوم: إننا جبناء، وقال آخرون: إننا ضعفاء الرأي قليلو الحيلة، وقال آخرون إننا أذلاء نتملق تغلب ونصطنع عندهم يداً بعقودنا عن مناجزتهم. وحسبنا بها فرية تحط من كرامتنا وتضع من عزتنا. فهل أنت على رأيك مقيم؟)
قال الحرث: (أما مرة بن ذهل فلقد والله عز على مصابه في ولده ما يحز قلبي إلا مرآه مضرجاً بدمه وموقف المهلهل منه بظهر الأسى ويخفي الشماتة. ولكنك تعلم أن من دخل الحرب لم يأمن عواديها، وأن من نصب نفسه للقتال فقد استهدف للموت. وإن في ضن الرجل بفتاه يوم الفداء وبذله يقتل بسيف الأعداء شرفاً لا يطاوله شرف وفخاراً لا يتسامى(86/66)
إليه فخار، ولا أحب إلي من أن يقتل بُجير ولدي إن كان في قتله صلاح بين أبني وائل وفي دمه وفاء لدم كليب. وأما مقالة السوء التي تتناولها بها ألسنة بذيئة فما أحفل بها ولا أقيم لها وزناً. . . . .)
وفيما هو يتحدث إذ قدم رجل قد أطلق ساقيه للريح يلهث من فرط التعب ولا يكاد يبين: قال الملأ (ما بال هذا الرسول يعدو كأنما يسابق الريح؟) (والله ما نحسبه إلا أتى ينعي لنا المهلهل!) وانكب النذير على الحرث بن عباد واحتضنه بين ذراعيه وقال:
- (عزاء يا أبا بجير! عزاء!)
قالوا: 0يا لهول المصاب! وما وراءك يا غراب البين!)
- (عزاء يا حرث! لقد والله كان أشجع من شهدته الحرب:
أفتقعد عن حربهم بعد هذا؟)
- (قل يا رجل من الذي مات؟)
- (بجير ولدك!)
- (وكيف مات!)
- (بل قتل. قتله المهلهل بن ربيعة. أفتقعد عن حربهم بهد هذا؟
- (مالك والمسألة عن هذا! أما بجير فنعم القتيل أصلح بين بكر وتغلب
وما أحسب المهلهل إلا قد أدرك به ثأر كليب وجعله كفؤاً له)
قال الناعي: (لا. لقد غابت عنك أشياء. أما علمت أن المهلهل عندما طعن بجيراً قال له: (بؤبشسع نعل كليب)؟)
قال الحرث: (أقالها والله؟)
- (نعم ولقد تجاوبها الحي من أقصاه إلى أقصاه)
قال الفند الزماني: (يا للمذلة! ويا للعار!)
قال الناعي: (وارحمتاه لهمام زين الشباب!)
قال الحرث: (دعا هماماً وقتل زين الشباب. لقد أسرف المهلهل وجاوز الحد. وما عرف لها الفتى الذي لم يخط العشرين حرمته وهو ابن اخته. ولم يعرف لي سابقتي وقد كففت عن حربه:(86/67)
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن خبالي
لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرها اليوم صالي
فأحضر له غلامه النعامة وهي فرس له، فركبها وخرج يدعو العشائر للقتال فلبته يشكر، وعجل، وبنو حنيفة، وبنو قيس بن ثعلبة، وسادتهم، وسار في القوم الفند الزماني وكان يقوم بألف رجل، وترأس القوم الحرث بن همام البكري
ولما اجتمع القوم وقف الحرث بن عباد خطيباً فاعتذر لهم عن نفسه وعن الفند الزماني فيما كان منهما من إحجام عن خوض هذه اللجة التي طغت على القوم فأصبحوا فيها مغرقين وقال أنه والفند قد استمسكا بالصبر والأناة حتى لم يعد في قوس الصبر منزع، والمهلهل قد أسرف في سفك الدماء جاوز حد الفداء، ولم يحتسب لنا قعودنا عن حربه وقد ناصبه قومنا العداء، وها هوذا قد قتل بجيراً ولدي وإني لأشهدكم - علم الله - على أنني حين بلغت مقتل بجير طابت نفسي واطمأنت ظناً بأن المهلهل سيجد في قتله غناء عن الحرب وكفاء للفدية، ولكنني أسرفت في الظن الجميل، وأسرف المهلهل في التنكيل، فالسكوت بعد اليوم لا يزكو بالحر، ولا يبرره عذر، يا قوم! لا أدعوكم للقتال انتقاماً لعزة ديثت بالصفار، ودماء جرت كالأنهار، ودفعاً للمذلة والعار. . . . . . .)
ثم نظر إلى الحرث بن همام البكري وقال له (وأنت يا ابن همام هل أنت مطيعي فيما آمرك به؟ قال: (ما أنا بتارك رأيك إلى ما هو شر منه) قال: (أعلم أن القوم مستقلون لقومك في السلم وازدادوا جرأة في الحرب فلنقاتلهم بالنساء فضلاً عن الرجال)
قال: (وكيف قتال النساء؟) قال: (تعمدون إلى كل امرأة لها جلد ونفس، فتعطى كل واحد منهن اداوة وهراوة، فإذا صفقت أصحابك فصفهن خلفهم فان ذلك مما يزيد الرجال جلداً وشدة ونشاطاً، ثم تعلموا بعلامة تعرفها نساؤكم فإذا خرج منكم إنسان في القتال أمرن بسقيه، وإذا مررن من عدوكم بإنسان ضربته بالهراوة فقتلنه) وفعل الحرث بن همام ما أمر به الحرث بن عباد.
وكان هو أول من أشار بحشد النساء مع الرجال. وحلقوا رؤسهم علامة بينهم وبين النساء. وسمي هذا اليوم يوم (تحلاق اللمم)
وخرج النساء من دورهن أسراباً محتشدات، وفي يد كل واحدة اداوة وهراوة، ووقفت(86/68)
تلقاءهن إحدى بنات الفند الزماني وصاحت: (يا معشر القوم! أحب إلينا أن نموت مع الرجال في ساحة الوغى أحراراً، من أن نقبع في دورنا ذلة وانكساراً. فأما عدوا مع رجالنا منتصرين، أو هلاكا مع الهالين، وسيرى القوم أن المرأة البكرية لا تقل عن الرجل تحمساً للشرف وحفظاً للكرامة، وحرصاً على الثار. يا نساء الحي! حي على القتال! حي على القتال!)
ثم برزت أختها وقفت إلى جوارها وتغنت الفتاتان بأبيات ترهف الشعور، وتوغر الصدور
وتدافع القوم رجالاً ونساء للقتال: فما كنت ترى إلا أعناقاً تمتد إلى الموت، وأجساماً تتزاحم على الردى، وصدوراً تهبط وتعلو من فرط الجوى. ثم حمي وطيس الحرب، واشتد البلاء.
واشتبكت الأسنة، وسالت الدماء، وظهرت تغلب حمرة تستمر استعاراً، وناراً تضطرم اضطراماً، وانقضت على بكر تحصد أعناق رجالها، وتطيح رقاب أبطالها، حتى تراجع البكريون وأيقنوا بالفناء، وظنوا أن لا كاشف لهذا البلاء، وفيما هم يتعثرون في انكسارهم أقبلت كرمة بين صلع أم مالك بن زيد فارس بكر وغنت
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشي القَطى البارق ... المسك في المفارق
والدر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق
عرس المولى طالق ... والعار منه لا حق
وما أشد ما يفعل الغناء والنسا في نفوس الأبطال. كان لهذه الأنشودة نغم كأنه خيوط انتظمت عليها الصفوف واتحدت في سلكها القلوب، بل كان النغم قبساً من نور سماوي نفذ إلى القلوب فأضاءها، وإلى النفوس فأنارها، وإلى العزائم فقواها، والى الهمم فدعاها. وسار القوم على هداه إلى نصر مبين. تدافعوا على العدو واقتحموا الصفوف واستباحوا المعاقل، وانكشف الهول فإذا المهاجم يرتد، وإذا المهزوم يشتد، وإذا تغلب بين قتيل وأسير وشريد
وانكشفت الغاشية، ونظر البكريون فيما بينهم فإذا بالحرث ابن عباد قد خلت منه الصفوف. فجزعوا وفزعوا. وذهبت بهم الظنون كل مذهب. وفيما هم في حيرتهم إذ أقبل فارس ينهب الأرض نهباً. قالوا لعل عنده الخبر اليقين. قال: (كأني بكم تبحثون عن الحرث من أبطال تغلب وانقض الحرث عليه كما ينقض النسر على الفرخ، وإذا بطل تغلب بين يديه(86/69)
كالعصفور قد هيض جناحه وقال له الحرث: أتدلني على عدي بن ربيعة المهلهل وأخلى عنك؟ قال الأسير: أدلك عليه إن وثقت من وعدك. قال الحرث: قد وعدتك. قال الأسير: أنا المهلهل! فما وسع الحرث إلا أن يفي بوعده ويخلي الرجل)
صاح القوم صيحة نكراء وهاجوا وماجوا. قالوا: (لقد أسرفت الحرث)، (يخلي المهلهل بعد أسره؟)، (أليس المهلهل قاتل ولده؟)
(قلنا إن الحرث ضعيف الرأي). (بل الحرث جبان!)
(كانت فرصة ولن تعود). (ولكن هو الوفاء). . .
- ولكن اسمعوا يا قوم. سماع! سماع! سماع: لقد بالغ الحرث في مذلة المهلهل ومهانته. فما تركه إلا وقد جز ناصيته كما يجز صوف النعاج)
وفيما هم يتندرون على المهلهل وجز ناصيته، ويختلفون في تأويل مسلك الحرث، إذ أقبل الحرث على وجهه آثار مختلفة فيها الإعياء وفيها الزهو وفيها الأسف وفيها الرضى. فأقبل عليه القوم بعضهم يسد يده مهنئاً، وبعضهم ينحي عليه باللائمة، وبعضهم يقره على وفائه بالعهد
قال الحرث بن عباد: (وما تركته حتى جززت ناصيته عبرة ونكالاً، أما تخليته فما كنت لأعدل عنها، وقد وعدت الرجل وأنا أجهله، ولو قد نكثت بعهدي للحقت بي سبة لا يمحوها الدهر ولا يغفرها الأهل
لهف نفسي على عدي، ولم أع ... رف عدياً إذ أمكنتني اليدان!
قال الراوي: ومنذ ذلك اليوم فارق المهلهل قومه ونزل في مذحج ولم تقم له قائمة، وظل البكريون من رحيق النصر ينهلون
اليوزباشي أحمد الطاهر(86/70)
البريد الأدبي
تعليق وتعقيب
لامرتين
قرأت في (الرسالة) الغراء في باب (من هنا ومن هناك) من العدد التاسع والسبعين، كلمة عن نسب لامرتين الشاعر الفرنسي الملهم واحتمال أن يكون متسلسلاً من أصل عربي كما كان يقول هو عن نفسه. وللتعاون مع الباحث في هذه المسألة أقول:
إنني وجماعة من الأدباء، منذ مدة قريبة كنا تذاكرنا في هذا الموضوع، وبعد استعراض ما قيل فيه ما جلبه الأستاذ صاحب المجلة، جوزنا على تقدير عربية الشاعر أن يكون بين اسمه واسم أسرة العمارتي صلة ما، ولا سيما أن أصل الاسم هو ألا مرتين أي العمارتي كما نكتبها بالحروف الإفرنجية. وأسرة العمارتي هي من الأسر المنتشرة في هذه الجبال الريفية، والتي يغلب أن يكون أهلها من عرب الأندلس المهاجرين إلى المغرب. فهذا مما يزيد قوة الاعتقاد بعربية لامرتين. نعم هذه النون التي في الطرف ليست في اسم الأسرة المذكورة، ولكن لا مانع أن تكون من تصرف الألسنة الفرنجية في الاسم كما هو معهود منها اليوم مع هذا الاختلاط العظيم، فكيف به قبل؟ وعلى كل حال فهذا التعليق القصير ربما يلقي بصيصاً من النور على هذا البحث الطويل
بشر بن عوانة
كذلك قرأت في الباب نفسه من نفس عدد المجلة بحثاً صغيراً مضمونه الشك في حقيقة حياة هذا الشاعر وترجيح أن يكون شخصية خرافية من شخصيات المقامات كأبي الفتح الإسكندري والحرث بن همام؛ ذلك لأن الكاتب لم يقف على اسم بشر هذا في سفر من أسفار التاريخ ولا في كتاب من كتب الأدب التي قرأها إلا في مقامات بديع الزمان وكتاب تاريخ أدب اللغة العربية لجرجي زيدان وكتب المحفوظات للمدارس المصرية فرجح عنده إنكار وجوده. وبما أنني كنت وقعت على اسم بشر المذكور في غير هذه الكتب، رجعت إلى المظان التي أذكر أنني رأيته فيها فوجدت من أقربها كتاب (المثل السائر). وقد جاء ذكر بشرفيه في الصفحة 64 (طبع مصر بالمطبعة البهية) حيث قال: (وكذلك وردت لفظة(86/71)
مشمخر فان بشراً استعملها في أبياته التي يصف فيها لقاءه للأسد فقال:
وأطلقت المهند من يميني ... فقد له من الأضلاع عشرا
فخر مضرجاً بدم كأني ... هدمت به بناء مشخمرا
وخدمة للأدب فقط كتبت هذا التعقيب، وإلا فحياة بشر لا تثبت بمثل هذا الذكر استطراداً، على أن قصته التي حكاها البديع تسف حتى تلتحق بالخرافات لما فيها من المتناقضات
طنجة
عبد الله كنون الحسني
حول رواية نهر الجنون
. . . . قرأت في العدد (84) من الرسالة الغراء مقالاً للأستاذ (جورج وغريس) تحت عنوان (سياحة في نهر الجنون). . .
ذكر فيه خلاصة موجزة للقصة التمثيلية (نهر الجنون) للأستاذ توفق الحكيم، وذكر كيف أن المرحوم جبران خليل جبران نشر شبيه هذه القصة في كتابه الجنون. وتساءل الأستاذ (جورج وغريس): هل هناك اقتباس؟ وأشارت الرسالة في نهاية المقال إلى أن مصدر الكاتبين قد يكون واحداً. . .
وقد نشر نفس القصة لكاتب التركي المرحوم (عمر سيف الدين) سنة (1326) رومية أي منذ خمس وعشرين سنة تقريباً في كتابه المعبد الخفي (كيزلي معبد) تحت عنوان (الماء الذي شربه الجميع، أسطورة صينية) صفحة (127) والقصة تتلخص فيما يلي:
كان (لينغ - يو) ملكاً عادلاً حكيماً، توفر في أيامه الهناء للرعية، فجاءه في أحد الأيام ساحر وأعلمه أن أمطار غزيرة ستهطل مدى أيام، وكل من يشرب ماء خالطته قطرة من هذه الأمطار يصبح مجنوناً لا محالة. فأمر الملك بملء صهاريج القصر وكل ما فيه من أوان ماء نقياً عذباً لينجو من شرب الماء المسبب للجنون. . . وبعد أيام بدأت الأمطار بالتهطال ودام انهمارها أياماً وأسابيع. . فخالط ماؤها ماء الينابيع والآبار فجن السكان كلهم، وانتشروا في الأزقة والساحات يصيحون ويصرخون. وتجمع قسم كبير منهم حول قصر الملك وأخذوا يسخرون منه ومن صحبه الذين ظلموا عقلاء حتى تلك الساعة بفضل(86/72)
الماء المخزون في صهاريج القصر. فكان إذا بدا واحد من سكان القصر في إحدى الشرفات صاحوا بصوت واحد قائلين: (مجنون! انظروا المجنون!) وأصبحت الحالة لا تطاق، فلم ير الملك بداً من أن يشرب هو أيضاً من ماء الجنون، فتناول منه قدحاً وهو يقول: (لا لزوم لبضعة عقول صحيحة بين هؤلاء المجانين. . . .!)
ومرت الأيام والسنون. . وتأصل هذا النظام الجنوني وأطلقوا عليه (نظاماً اجتماعياً)، وزُج كل من عاوده عقله من هؤلاء المجانين في أمكنة أطلق عليها (مستشفيات المجاذيب). . ومنذ ذلك الحين لا ينفك العلماء من ترديد هذا القول: (الصين منبع الحكمة والعقل. . .)
فللقصة التي نشرها المرحوم جبران والأستاذ الحكيم ليست سوى أسطورة صينية تنقلتها أكثر اللغات
الدكتور محمد سالم
رسائل جديدة لبلزاك
لأدباء الغرب شغف خاص باستقصاء الآثار والرسائل الخاصة لأعلام الكتاب والمفكرين، وكثيراً ما يؤدي هذا الشغف إلى نتائج أدبية باهرة، فيظفر البحث بآثار ورسائل جديدة لها قيمتها في درس شخصية صاحبها. ومنذ بضعة أعوام ظفر الكاتب الفرنسي مارسل بوثرون بطائفة من رسائل بلزاك الخاصة إلى صديقته مدام (زولما كارو). واونوريه دي بلزاك هو القصصي الفيلسوف الفرنسي الذي تعد آثاره من أقيم ما أنتج الأدب الرفيع في القرن التاسع عشر. ونشر مسيو بوثرون بعض هذه الرسائل في مجلة (العالمين) سنة 1923؛ ثم ظفر بطائفة جديدة منها، وجمع الجميع في كتاب واحد صدر أخيراً، وعنوانه (مراسلة لم تنشر لبلزاك)
وليست هذه الرسائل غرام كما يتبادر إلى الذهن، ولكنها رسائل صداقة خالصة؛ وهذا النوع من المراسلة نادر في حياة أكابر الكتاب إذا كتبوا لامرأة يشغفهم سحرها، ولكن بلزاك كان فيلسوفاً. وقد جمعت بينه وبين مدام زولما كارو ظروف عرضية، فقد كانت تقيم مع زوجها الضابط كارو حوالي سنة 1820 بجوار أخت لها تدعى لور وهي زوجة مهندس يدعي سير فيل، وكان بلزاك يزور صديقه المهندس سير فيل وزوجه، فتعرف بالطبع بأختها مدام(86/73)
زولما، ونشأت بينهما صداقة حميمة، وكان بلزاك يشعر نحو مدام زولما بعاطفة حنان خاصة ليست هي الحب، وكانت مدام زولما تبادله عطفه وصداقته، لما نقل زوجها إلى بعض مدن الأقاليم، سافر بلزاك لزيارتها، وأقام حيناً إلى جانبها، وكان أثناء بعده عنها في باريس، وحينما تحتجزه صاحبته المركيزة دي كاستري، ينفس عن نفسه بالكتابة إلى مدام زولما، وتكتب هي اليه، وكان بلزاك يودع هذه الرسائل كثيراً من أسرار روحه وقلبه وآماله وشجونه، ويصوغها في قالب رفيع من البلاغة، وذهب في إكباره وصداقته لمدام زولما إلى حد أن أهدي إليها قصته (منزل نوسنجان)
ثم وقع بلزاك في حب الكونتس هانسكا، وأثار هذا الغزو الجديد قلبه شجناً واضطراباً، فكان كلما غلبه الشجن، أو ضاقت به السبل وأرهقه الدائنون يفر إلى مدام زولما فيقيم مع هذه الأسرة المحبوبة أياماً يروح فيها عن نفسه خلال الإيناس والزهر
وبعد فترة طويلة من الزمن قضاها الكاتب الكبير في متاعب وأزمات مختلفة اقترن بصاحبته الكونتة الأجنبية سنة 1850؛ ولكنه لم يعش بعد زواجه سوى ثلاثة أشهر، ولكن مدام زولما عاشت بعده أعواما طويلة؛ ولها اليوم حفيدة على قيد الحياة تدعى مدام جورج بابيل؛ واليها يهدي مسيو بوثرون رسائل بلزاك الجديدة
خمسون عاماً لوفاة فكتور هوجو
تستعد دوائر فرنسا الأدبية للاحتفال بالعيد الخمسيني لوفاة شاعر فرنسا الأشهر فكتور هوجو الذي توفي في يونيه سنة 1885 وسيجري الاحتفال بهذه الذكرى في جميع أرجاء فرنسا، ويوضع تحت رعاية الحكومة الرسمية، ويلقي وزير المعارف بهذه المناسبة خطاباً رسمياً على قبر الشاعر اتباعاً للتقاليد المعروفة، وقد رأت إدارة مسرح الكوميدي فرانسيز، وهو مسرح الدولة ان تشترك في الاحتفال بهذه الذكرى، وان يكون اشتراكها عملياً، وذلك بان تخصص موسماً خاصاً لتمثيل بعض روايات هوجو الشهيرة يبتدئ في مارس وينتهي في أول يونيه، وهو تاريخ وفاة الشاعر، وان يمثل خلال هذا الموسم من رواياته القطع الآتية: (روي بلاس)، (هزناني)، (ماريون دي لورم)، (لوكريس بورجيا) وغيرها(86/74)
الكتب
أدولف
للكاتب الفرنسي بنجامان كونستان
ترجمة الدكتور حسن صادق
لا يزال فن القصص عندنا في بدء مرحلته الأولى، ولا زال أدباؤنا يتلمسون طريقهم إلى القصة ويتوقون إلى رؤية هذا الفن من فنون الأدب، وقد انقاد لهم ووصل في أدبهم إلى مثل تلك الدرجة التي وصل إليها في الآداب الغربية، ذلك لأن القصة في منحاها وطبيعة تركيبها، من أهم وسائل التثقيف وأيسرها، كما أنها من ألذ ضروب الاستمتاع وأقربها إلى القلب والذهن، والقصة الجيدة بلا شك هي الحياة في ناحية من نواحيها، ففيها ما في الحياة من معان، وفيها الحياة من اضطراب
وهذا الافتقار في أدبنا إلى القصة، يجعلنا نرحب بكل تعريب جيد لشهيرات القصص في الأدب الغربي، إذ بذلك تتوفر لدينا النماذج وتتنوع المثل، فضلاً عما يكون لمثل تلك القصص من عظيم الأثر في تهذيب الذوق وصقله، وإيقاظ العواطف وحسن توجيهها
نعم إن لكل أمة ذوقاً، ولكل أمة شرعة ومهاجاً، ولكل أمة وجهة تتجه إليها حسب ما ركب في طبيعتها من ميول، وفن القصص ملكة لا تكتسب، ولكن الأديب المصري الموهوب مع ذلك لابد له من نماذج، وهو كفيل أن يشكل قصته على هدى تلك النماذج حسبما يتفق مع بيئته
ولقد اختار الدكتور حسن صادق قصة أدولف، فنقلها إلى العربية، وهي من القصص الفرنسية التي حازت عظيم الشهرة في أوربا كلها، وهي واحدة من تلك القصص التي تلائم كل بيئة وكل عصر، فليست من ذلك النوع المحصور الذي يتقيد في وضعه بغاية محدودة كالدعوة إلى إصلاح اجتماعي في ناحية من نواحي الحياة، أو من ذلك النوع الذي تصور فيه أمال ومثل عصر من العصور، حتى إذا انقضى ومنها أصبحت لأغنية فيها، بل هي من تلك الآثار الخالدة التي تساير الحياة وتغالب الفناء، وحسبك أنها قطعة فنية تقرأ فيها خطرات نفس كبيرة أملتها تلك العاطفة المشبوبة، عاطفة الحب في شرخ الشباب(86/75)
ولما كانت هذه ميزتها، فأنا أعتقد أن المترجم الفاضل قد أحسن الاختيار فقدم إلى قراء العربية أثراً أدبياً جميلاً ستلذهم قراءته وسيعجبهم ما جاء فيه من روعة التعبير عن خلجات النفس ومنازع القلب، ولقد أحسن أيضاً حين قدم لكتابه بفصل طويل دقيق، شرح فيه حياة المؤلف وحياة العصر الذي عاش فيه، مما جعل كتابه يجمع إلى اللذة الفنية، لذة ذلك البحث التاريخي القيم
أما أسلوب الترجمة فمتين مشرق، تحس به في أول الكتاب عسيراً بعض العسر، ولكنه لا يلبث أن يلين ويعذب ثم يطرد، وقد تتراءى في بعض مواطنه بعض الصور والتراكيب الفرنسية نشأت من محافظة المترجم على دقة الترجمة، ولكن الأسلوب على الجملة صحيح التركيب، فصيح الأداء، يشهد للمترجم بما بذله من الجهد وما تحراه من الإجادة
أما عن القصة في ذاتها فإني مع شديد إعجابي بها وتأثري بقراءتها تأثراً عميقاً، قد أحسست فيها ظاهرة أحسب القراء جميعاً سيحسونها مثلى، ذلك أن خواطر المؤلف كلها تدور حول نفسه وحول حبيبته، مما ضيق مجالها وتركها خالية من ذلك الجو الشعري الذي يوجد في مثل تلك الآثار الأدبية العظيمة، ومن تلك الأفكار الفلسفية الباهرة التي يعلق بها أصحاب تلك الآثار على ما سيصادفهم من ظروف ومواقف، فيزيدونها روعة وقوة، كما أن القصة تكاد تكون خالية من الأوصاف الطبيعية ومن أوصاف الرجال والبيئات. فهي من ناحية التعبير عما في داخل النفس، أو بعبارة أخرى من الناحية المعنوية البحت التي تدور حول عاطفة الحب قد بلغت غاية الجودة، ولكنها بالاقتصار على ذلك فقدت كثيراً من الصور والأطياف التي تشعر المرء لدى قراءة القصة بصدى الحياة
هذا وإني لأشكر للدكتور حسن صادق ما بذل من مجهود وأرجوه أن يتحف قراء العربية بين حين وآخر بمثل هذه النفحة الساحرة من أدب الغرب
الخفيف
أغاني الكوخ
نظم الأديب محمود حسن إسماعيل
أنتقل بالقارئ إلى هذا الديوان المسمى أغاني الكوخ، لناظمه محمود حسن إسماعيل، ويقع(86/76)
في نحو مائة وخمسين صفحة، وقد أخرجه صاحبه في صورة أنيقة جذابة تشهد له بحسن الذوق ولعلك ترى في هذا الاسم (أغاني الكوخ) ما ترتاح إليه نفسك وخيالك، فإذا مضيت تقرؤه حمدت لناظمه هذه الروح المصرية، بل هذا الإعجاب الشديد بجمال الريف وبهائه، مما يعد خطوة محمودة نحو ما نتمنى بلوغه في نهضتنا الأدبية من صبغ أدبنا بالصيغة المحلية الطبيعية، وتصوير بيئتنا تصويراً يحفظ لثقافتنا لونها، ويبعد عن أدبنا ما يوشك أن يعلق به من بهرج زائف وتكلف مملول
وأذكر أني قدمت للقارئ على صفحات (الرسالة) من أمد قريب (ظلال القمر) للأديب أحمد مخيمر وقد أعجبتني منه هذه الروح المصرية التي أراها أكثر ظهوراً وأتم نضوجاً في ديوان الأديب محمود حسن إسماعيل، فان معظم قصائده تدور حول المناظر الريفية المحبوبة في صعيد مصر مع دقة في الوصف وصدق في الإحساس أعتبرهما باكورة طيبة لابد أن ستتدرج في سبيل الرقي إلى الكمال.
يبد أني وقد أعجبني صدق إحساس شاعرنا، أراه يأتي في شعره ببعض الأخيلة التي لم أستطع أن أصالح ذوقي عليها كما جاء في قصيدة الكوخ وفي قصيدة (تبسمي) و (القيثارة الحزينة) و (النعش) و (سنبلة تغني) و (عند زهرة الفول)، فقد ورد في تلك القصائد بعض المعاني الجزئية التي لا تتواءم وطبعه
هذا إلى استعماله بعض المجازات والاستعارات كتصفيق الألحان في القلب، وأجفان القلاع، وقوله إنه رشف قصائده من يغر عشيقته وغير ذلك مما لا يتسع له المجال
ولست أغضب الأديب محمود حسن إسماعيل فيما أعتقد، إن نبهته في إخلاص إلى الاهتمام بتجويد فنه والاهتمام بمعانيه، فديباجته في الجملة مشرقة، ولغته سليمة وألفاظه جيدة، كذلك يجدر به أن يولي قوافيه من العناية أكثر مما يفعل، ولئن اهتم بذلك فسوف نرى منه في المستقبل القريب شاعراً مصرياً رقيقاً.
الخفيف
شعراؤنا الضباط
للأديب محمد عبد الفتاح إبراهيم(86/77)
يجد القارئ هذا الكتاب كما يتضح له من عنوانه، تراجم لشعراء مصر من الضباط، وضعها الضابط الأديب محمد عبد الفتاح إبراهيم، ولعل القارئ يشاركني شعور الغبطة حين يتجلى له هذا الإخلاص من المؤلف لطائفة من أهل مهنته، كاد ينسى معظمهم المشتغلون بالأدب، على الرغم مما قدموه في ميدان الأدب من خدمة اللغة عامة: وفن القريض خاصة
ترجم هذا الأديب الفاضل للبارودي، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم حلمي المصري، ومحمد فاضل، ومحمد توفيق علي
وقد سار في دراسته فيما يتعلق بهؤلاء جميعاً على وتيرة واحدة تقريباً، فكان يأتي بلمحة عن تاريخ كل شاعر، مبيناً البيئة التي نشأ فيها، ثم يذكر المناسبات التي حركته إلى نظم القصيد، مورداً بعض الشواهد من مأثور نظمه ومن مشهور قصائده
وإني وان حمدت للضابط الأديب وفاءه واجتهاده، أحس أنه كان في كتابته يقصد إلى الوفاء أكثر مما يقصد إلى الدرس، ولن أظلمه إذا قلت أنه في بحثه كان يميل إلى سرد المعلومات متهماً باستيعابها دون تمحيصها، فلم تكن له طريقة محدودة، أو بعبارة أخرى لم يكن قوام عمله التحليل الأدبي الذي يستند إلى الفن وإلى الخبرة بالحياة، ولست أنكر هذه الخبرة عليه، ولكنني لم أتبين صداها في بحثه، وكان يخيل إلى أثناء كلامه عن البارودي، ثم عن حافظ - على الخصوص - أنني أستمع إلى محدث في مجلس الأدب، لا يتقيد فيه من يتعرض لحياة شاعر بأوضاع فنية أو يراعى وحدة الموضوع وسبيل التدرج فيه. هذا إلى أنه كان يترك الامر أحياناً لغيره، فيعرض أقوال من كتبوا عن حافظ دون أن يتناولها بتعليق
على أن كتابه على الرغم من هذه المآخذ، جدير أن يثير اهتمام أدبائنا بهؤلاء الشعراء، وهو وفاء يثاب عليه المؤلف، واجتهاد يستحق من أجله الثناء
الخفيف(86/78)
العدد 87 - بتاريخ: 04 - 03 - 1935(/)
مصر وأخواتها
كأنما السؤال عن الناس كسؤال الناس لا يتفق مع الرخاء ولا يكون مع الغنى! فإن مصر والعراق يكادان من سعة العيش لا يذكران من وراء الحدود؛ والوحدة العربية في البلدلين على الرأي الأغلب حديث خُرافة أو حديث مجاملة! فلولا الأدب الذي يجمع الفؤاد بالفؤاد، ويربط البلاد بالبلاد، ويصل الأحفاد بالأجداد، لظلت منابت العروبة ومواطن الإسلام إغفالاً لا تُعرف، وإرحاءاً لا تُبلُ.
يزور المصري قطراً من أقطار العرب، فيكون أول ما يرد على سمعه عتب المحبين على الهجر، ولوم الأقربين على القطيعة، وعذل الجيرة على التخاذل؛ فيلقي معاذيره الملوم المحُرج في منطق عي ودفاع غير ناهض؛ ثم يزداد حرجه وتتخاذل حججه كلما رأى قلوبهم، تزخر بعواطفه، وصدورهم تجيش بأمانيه، وألسنتهم تضطرب بأخباره، ونهضتهم تسترشد بنهضته، ووجتههم تسير مع وجهته؛ فصحفه تُقرأ، وكتبه تدرس، وسياسته تحتذي وزعامته تتبع؛ ثم خصومته هي لهم خصومة، وحكومته هي عليهم حكومة، وقومه لقومهم أهل، وبلده لبلادهم قبلة حينئذ يقول لنفسه والخجل والعجب يتعاقبان على وجهه: إن وطني مترامي الحدود فلماذا أحده على الضيق؟ وقومي ضخام العديد فلماذاأحصرهم على القلة؟ وجيراني كرامُ يصفون المودة، ويصدقون العطف، ويولون المعونة، فلماذا أجعل بيني وبينهم سداً من الإهمال والغفلة؟ ن الأمم القوية الناضجة لَتُرخص الأموال والأنفس في التمكين لأدبها ونفوذها وعُروضها في الشرق، فكيف نعرض نحن عن ذلك وهو يأتينا عفواً عن طريق القرابة في البلد والنسب، والوحدة في اللغة والأدب، والمشابهة في الحظ والحالة؟
دع ما ترشد إليه الغريزة من تعاطف الأهل، وتناصر الضعاف، وتعاون الجيرة، وانظر في الأمر من جهة الفائدة: أليست سورية منفذ العراق إلى البحر المتمدن، والسودان طريق مصر إلى النهر المحيي؟؟ ومع ذلك فالعراق مصروف الهم عن سورية، ومصر قليلة العلم بالسودان، فلا تعرف عنه إلا أنه جزء من سياستها! أما أنه قطعة من جسمها، وكلمة من اسمها، فذلك ما لم تعلمه إلا بالسماع، ولم تفهمه إلا في المدرسة
يزور الرسالة الحين بعد الحين أخ من السودان أديب أو طالب، فلا نسمعه يقول أول ما يقول إلا هذا المعنى الواحد في صيغه المتعددة: لأننا لنعلم عنكم كل شيء، وإنكم لتجهلون(87/1)
عنا كل شيء! فسياستكم لا تعرف السودان إلا في المفاوضات، وأدبكم يقف بالوادي عند (الشلالات). وصحافتكم لا تدري أفي الأرض نحن أم في السموات! فهل عُني سياسي بتعرف بلادنا، أم تفرغ أديب لتصوير حياتنا، أم توفر صحافي على درس أحوالنا؟ ولعمري إذا فرقتنا السياسة ولم يجمع شملنا الأدب، فعلى أي صورة نلتقي، وعلى أي حال نتحد؟
ذلك ما يشكوه السوداني المخلص، ويأسى على حدوثه المصري المخلص، وبين الأسى والشكوى ناشئة من الأمل المسفر، وعزيمة من العمل المثمر، تتجليان في العاملين الصادقين من شباب الوادي وكهوله. فالعمل الجليل الذي هُديَتْ إليه ووُفقتْ فيه (البعثة الاقتصادية المصرية) من الرحلة إلى السوادن، والاختلاط بأهله، والاتصال برجاله، والاطلاع على أحواله، والتحدث إلى حكامه، فاتحةُ فصل جديد من تاريخ النيل الحديث، سيسجل فيه رجال الأعمال والأموال تصافُقَ البلدين الشقيقين على المودة وتواصلهما على المنفعة، وتآلفهما على التعاون
فتحت هذه البعثة الميمونة أبواب السوادن الحصينة للنشاط الاقتصادي المصري، وهيأت الأسباب إلى اجتماع الأيدي التي يسقيها النيل ويطعمها النيل على استغلال خصبه في عمران أرضه، واستثمار خيره لسكان حوضه
فإذا أضفنا إلى ذلك عناية الأدب والصحافة بتوحيد الهوى والثقافة، ألفنا من أغاريد الوادي، أعاليه واسافله، نشيداً واحداً تردده الشفاه البيض والسمر، وتتجاوبه سلاسل الجبال الخالدة.
إن الاقتصاد والأدب يكونان الجسم والروح، فلا بد منهما أولا لإنشاء الأمة وإذكاء النهضة وإحكام الصلة؛ وما غزا الغربيون ممالك الشرق إلا بالتعليم والتجارة؛ أما السياسة فلا تأتي إلا آخر الأمر، فتؤيد الواقع، وتثبت الحالة، وتنظم العلاقة، وتحمي المنفعة.
من أجل ذلك كان احتفال المصريين بوداع (البعثة) المصرية ولقاءها، واحتفاء السودانيين بفكرتها وأعضائها. هزاتٍ من العواطف الصادقة والحماسة الدافقة والشعور الواثق المطمئن بأسفار المستقبل عن وجوه الفوز، فيتصل الحبل وينتظم الشمل وتقوم الوحدة بين الشعبين الأخوين على أساس صحيح.
إن من وراء حدودنا اليابسة يا قوم آداباً لا تقل عن آدابنا يحسن أن تُعرف، وشعوباً تتصل(87/2)
بأنسابنا يجب أن تُؤلف، وأسواقاً تفتقر إلى إنتاجنا ينبغي أن تُكشف.
أما حَصْر النظر في حدود البحر فإدمان يفرق البصر، ويجمع الخطر، ويهجم بقوميتنا وأمانينا على الغرق!
أحمد حسن الزيات(87/3)
الطفولتان
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
عصمت ابنُ فلان باشا طفلُ مُترف يكاد ينعصرُ ليناً، وتراه يرف رفيفاً مما نشأ في ظلال العز، كأن لروحه من الرقة مثل ظل الشجرة حول الشجرة. وهو بين لِداته من الصبيان كالشوكة الخضراء في أملودها الريان، لها منظر الشوكة على مجسة لينة ناعمة تُكذب أنها شوكةٌ إلا أن تيبس وتتوقح.
وأبوه (فلان باشا) مديرٌ لمديرية كذا، إذا سُئل عنه ابنه قال: إنه مدير المديرية. لا يكاد يعدو هذا الترتيب، كأنه من غُرور النعمة يأبى إلا أن يجعل أباه مديراً مرتين. . . . وكثيراً ما تكون النعمة بذيئة وقاحاً سيئة الأدب في أولاد الأغنياء، وكثيراً ما يكون الغني في أهله غنىً من السيئات لا غير!
وفي رأي عصمت أن أباه من علو المنزلة كأنه على جناح النسر الطائر في مسبحه إلى النجم، أما آباه الأطفال من الناس فهم عنده من سقوط المنزلة على أجنحة للذباب والبعوض!
ولا يغدو ابنُ المدير إلى مدرسته ولا يتروحُ منها إلا وراءه جندي يمشي على أثره في الغدوة والروحة إذا كان ابن المدير، أي ابنَ القوة الحاكمة، فيكون هذا الجندي وراء هذا الطفل كالمنبهة له عند الناس، تُفْصحُ شارته العسكرية بلغات السافلة جمعاء أن هذا هو ابن المدير. فإذا رآه العربي أو اليواني، أو الطلياني أو الفرنسي، أو الإنجليزي أو كائن من كان من أهل الألسنة المتنافرة التي لا يفهم لسانٌ منها عن لسان - فهموا جميعاً من لغة هذه الشارة إن هذا هو ابن المدير؛ وانه من الجند الذي يتبعه كالمادة من القانون وراءها الشرح. . . .!
ولقد كان يجب لابن المدير هذا الشرفُ الصبياني. لو أنه يوم وِلُد لم يولد ابن ساعته كأطفال الناس، بل ولد ابن عشر سنين كاملة لتشهد له الطبيعة أنه كبيرٌ قد انصدعت به معجزة! وإلا فكيف يمشي الجندي من جنود الدولة وراء طفل فيتبعه ويخدمه وينصاع لأمره؛ وهذا الجندي لو كان طَريدَ هزيمةٍ قد فر في معركة من معارك الوطن، وأريد تخليده في هزيمته وتخليدها عليه بالتصوير - لما صور إلا جندياً في شارته العسكرية منقاداً لمثل(87/4)
هذا الطفل الصغير كالخادم؛ في صورة يُكتب تحتها: (نُفًايَة عسكرية!)
ليس لهذا النظر الكثير حدوثه في مصر إلا تأويلٌ واحد: هو أن مكان الشخصيات فوق المعاني وان صغرت تلك وجلت هذه؛ ومن هنا يكذبُ الرجل ذو المنصب، فيرفع شخصه فوق الفضائل كلها؛ فيكبر عن أن يكذب، فيكون كذبه هو الصدق، فلا ينكر عليه كذبة أي صدقة. . . . .! ويخرج من ذلك أن يتقرر في الأمة أن كذب القوة صدق بالقوة!
وعلى هذه القاعدة يقاس غيرها من كل ما يخذل فيه الحق. ومتى كانت الشخصيات فوق المعاني السامية طفقت هذه المعاني تموجُ مَوجها محاولةً أن تعلو، مكرهة على أن تنزل؛ فلا تستقيم على جهةٍ ولا تنتظمُ على طريقة؛ وتقبل بالشيء على موضعه، ثم تكرُّ كرها فتدبرُ به إلى غير موضعه، فتضُّل كل طبقةٍ من الأمة بكبرائها، ولا تكون الأمة على هذه الحالة في كل طبقاتها إلا صغاراً فوقهم كبارهم؛ وتلك هي تهيئةُ الأمة للاستعباد متى ابتليت بالذي هو أكبر من كبارها؛ ومن تلك تنشأ في الأمة طبيعةُ النفاق يحتمي به الصغر من الكبر، وتنظم به ألفةُ الحياة بين الذلة والصولة!
وتخلف الجندي ذات يوم عن موعد الرواح من المدرسة، فخرج عصمت فلم يجده، فبدا له أن يتسكع في بعض طرق المدينة لينطلق فيه ابن آدم لا ابن المدير، وحن حنينه إلى المغامرة في الطبيعة، ولبست الطرق في خياله الصغير زينتها الشعرية بأطفال الأزقة يلعبون ويتهوشون ويتعابثون ويتشاحنون، وهم شتى وكأنهم أبناء بيتٍ واحد مست بكل من كل رحمٌ، إذ لا ينتسبون في اللهو إلا إلى الطفولة وحدها
وانساق عصمت وراء خياله، وهرب على وجهه من تلك الصورة التي يمشي فيها الجندي وراء ابن المدير، وتغلغل في الأزقة لا يبالي ما يعرفه وما لا يعرفه، إذ كان يسير في طرقٍ جديدة على عينه كأنما يحلم بها في مدينةٍ من مدن النوم
وانتهى إلى كبكبةٍ من الأطفال قد استجمعوا لشأنهم الصبياني، فانتبذ ناحية ووقف يصغي إليهم متهيباً أن يقدم، فاتصل بسمعه ونظره كالجبان، وتسمع فإذا خبيث منهم يعلم الآخر كيف يضرب إذا اعتدى أو أعتُدي عليه، فيقول له: اضرب أينما ضربت، من رأهس، من وجهه، من الحُلقوم، من مراق البطن؛ قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: وإذا مات فلا تقُل إني أنا علمتُك. . .!(87/5)
وسمع طفلاً بقول لصاحبه: أما قلت لك إنه تعلم السرقة من رؤيته اللصوص في السيما؟ فأجابه صاحبه: وهل قال له أولئك اللصوص الذين في السيما كن لصاُ واعمل مثلنا؟
وقام منهم شيطان فقال: يا أولاد البلد، أنا المدير! تعالوا وقولوا لي (يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات. .)
فقال الأولاد في صوت واحد: (يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات) فرد عليهم (سعادته): اشتروا لأولادكم أحذية وطرابيش وثياباً نظيفة، وأنا أدفع لهم المصروفات
فنظر إليه خبيث منهم وقال: يا سعادة المدير، وأنت فلماذا لم يشتر لك أبوك حذاء. .؟
وقال طفل صغير: أنا ابنك يا سعادة المدير، فأرسلني إلى المدرسة وقت الظهر فقط. . . .!
وكان عصمت يسمع ونفسه تهتز وترف بإحساسها كالورقة الخضراء عليها طل الندى، وأخذ قلبه يتفتح في شعاع الكلام كالزهرة في الشمس؛ وسكر بما يكسر به الأطفال حين تقدم لهم الطبيعة مكان اللهو معداً مُهيأ كالحانة ليس فيها إلا أسباب السكر والنشوة، وتمام لذاتها أن الزمن فيها منسي، وأن العقل فيها مُهمل. . .
وأحسن ابن المدير أن هذه الطبيعة حين ينطلق فيها جماعة الأطفال على سجيتهم وسجيتها - إنما هي المدرسة التي لا جُدران لها، وهي تربيةُ الوجود للطفل تربية تتناوله من أدق أعصابه فتبدد قواه ثم تجمعها له أقوى ما كانت، وتفرغه منها ثم تملؤه بما هو أتم وأزيد. وبذلك تكسبه نمونشاطه، وتعلمه كيف ينبعث لتحقيق هذا النشاط، فتهديه إلى أن يبدع بنفسه ولا ينتظر من يبدع له، وتجعلُ خطاه دائماً وراء أشياء جديدة فتسدده من هذا كله إلى سر الإبداع والابتكار، وتلقيه العلم الأعظم في هذه الحياة، علم نضرة نفسه وسرورها ومرحها، وتطبعه على المزاج المتطلق المتهلهل المتفائل، وتتدفق به على دنياه كالفيضان في النهر، تفور الحياة فيه وتفور به، لا كأطفال المدارس الخامدين، تعرف للواحد منهم شكل الطفل وليس له وجوده ولا عالمه، فيكون المسكين في الحياة ولا يجدها، ثم تراه طفلاً صغيراً وقد جمعوا له همومَ رجل كامل!
ودبت روحً الأرض دبيبها في عصمت، وأوحت إلى قلبه بأسرارها، فأدرك من شعوره أن هؤلاء الأغمار الأغبياءَ من أولاد الفقراء والمساكين، هم السعداءُ بطفولتهم. وأنه هو(87/6)
وأمثاله هم الفقراءُ والمساكين في الطفولة، وأن ذلك الجندي الذي يمشي وراءه لتعظيمه إنما هو سجن، وأن الألعاب خير من العلوم، إذ كانت هي طفلية الطفل في وقتها، أما العلوم فرُجولةٌ مُلزقةٌ به قبل وقتها توقره وتحوله عن طباعه، فتقتل فيه الطفولة وتهدم أساسَ الرجولةَ، فينشأ بين ذلك لا إلى هذه ولا إلى هذه، ويكون في الأول طفلاً رجلاً، ثم يكون في الآخر رجلاً طفلاً.
وأحس مما رأى وسمع أن مدرسة الطفل يجب أن تكون هي بيته الواسعَ الذي لا يتحرجُ أن يصرخ فيه صراخه الطبيعي، ويتحرك حركته الطبيعة، ولا يكون فيه مدرسون ولا طلبة، ولا حاملو العُصي من الضباط؛ بل حق البيت الواسع أن تكون فيه الأبوة الواسعة، والأخوة التي تنفسح للمئات؛ فيمر الطفل المتعلم في نشأته من منزل إلى منزل إلى منزل، على تدريج في التوسع شيئاً فشيئاً، من البيت إلى المدرسة إلى العالم
وكان عصمت يحلم بهذه الأحلام الفلسفية، وطفولته تشب وتسترجل، ورخاوته تشتد وتتماسك؛ وكانت حركاتُ الأطفال كأنها تحركه من داخله، فهو منهم كالطفل في السيما حين يشهد المتلاكمين والمتصارعين، يَستطيرُه الفرحُ، ويتوثب فيه الطفل الطبيعي بمرحه وعنفوانه، وتتقلص عضلاته، ويتكشف جلده، وتجتمع قوته؛ حتى كأنه سيُظاهر أحدَ الخصمين ويلكم الآخر فيكوره ويصرعه، ويفض معركة الضرب الحديدي بضربته اللينة الحريرية. . .!
فما لبث صاحبنا الغريرُ الناعمُ أن تخشن، وما كذب أن اقتحم، وكأنما أقبل على روحه الشارعُ والأطفال ولهوهم وعبثهم، إقبال الجو على الطير الحبيس المعلق في مسمار، إذا انفرج عنه القفص، وإقبال الغابة على الوحش القنيص إذا وثب وثبة الحياة فطار بها وإقبال الفلاة على الظبي الأسير إذا ناوصَ فأفلتَ من الحبالة
وتقدم فادغم في الجماعة وقال لهم: أنا ابن المدير. فنظروا إليه جميعاً ثم نظر بعضهم إلى بعض، وسفرت أفكارهم الصغيرة بين أعينهم، وقال منهم قائل: إن حذاءه وثيابه وطربوشه كلها تقول أن أباه المدير
فقال آخر: ووجهه يقول إن أمه امرأة المدير!
فقال الثالث: ليست كأمك يا بعطيطي ولا كأم جُعْلُص!(87/7)
قال الرابع: يا ويلك لو سمعُ جعلص، فان لكماته حينئذ لا تترك أمك تعرف وجهك من القفا!
قال الخامس: ومن جعلص هذا؟ فليأت لأريكم كيف أصارعه، فاجتذبه، فاعصره بين يدي، فأعتقل رجله برجي، فأدفعه، فيتخاذل، فأعركه، فيخرُّ على وجهه؛ فأسمره في الأرض بمسمار!
فقال السادس: ها ها! إنك تصف بأدق الوصف ما يفعله جعلص لو تناولك في يده. . .!
فصاح السابع: ويلكم! هاهو ذا. جعلص، جعلص، جعلص!
فتطاير الباقون يميناً وشمالاً كالورق الجاف تحت الشجر إذا ضربته الريح العاصف. وقهقه الصبي من ورائهم فثابوا إلى أنفسهم وتراجعوا. وقال المستطيل منهم: أما إني كنت أريد أن يعدو جعلص ورائي، فأستطردُ إليه قليلاً أطمعه في نفسي، ثم أرتد عليه فآخذه كم فعل (ماشيست الجبار) في ذلك المنظر الذي شاهدناه
وقهقه الصبيان جميعاً. . . .! ثم أحاطوا بعصمت إحاطة العشاق بمعشوقة جميلة، يحاول كل منهم أن يكون المقرب المخصوص بالحظوة، لا من أجل أنه ابن المدير فحسب، ولكن من أجل أن ابن المدير تكون معه القروش. . . فلو وُجدت هذه القروش مع ابن زبال لما منعه نسبه أن يكون أمير الساعة بينهم إلى أن تنفذ قروشه فيعود ابن زبال. . .!
وتنافسوا في عصمت وملاعبته والاختصاص به، فلو جاء المدير نفسه يلعب مع آبائهم ويركبهم ويركبونه، وهم بين نجار وحداد، وبناء وحمال، وحوذي وطباخ، وأمثالهم من ذوي المهنة والمكسبة الضيئلة - لكانت مطامع هؤلاء الأطفال في ابن المدير، أكبر من مطامع الآباء في المدير.
وجرت المنافسة بينهم مجراها، فانقلبت إلى مُلاحاة، ورجعت هذه الملاحاة إلى مشاحنة، وعاد ابن المدير هدفاً للجميع يدافعون عنه وكأنما يعتدون عليه، إذ لا يقصد أحدٌ منهم أحدا بالغيظ إلا تعمدَ غيظ حبيبه ليكون أنكأ له وأشد عليه!
وتظاهروا بعضهم على بعض، ونشأت بينهم الطوائل، وأفسدهم هذا الغني المتمثل بينهم، ويا ما أعجب إدراك الطفولة وإلهامها! فقد اجتمعت نفوسهم على رأي واحد. فتحولوا جميعاً إلى سفاهة واحدة أحاطت بابن المدير، فخاطره أحدهم في اللعب فقمره، فأبى إلا أن يعلوَ(87/8)
ظهره ويركبه؛ وأبى عليه ابن المدير ودافعه، يرى ذلك ثلماً في شرفه ونسبه وسطوة أبيه؛ فلم يكد يعتلُ بهذه العلة ويذكر أباه ليعرفهم آباءهم. . . . حتى هاجت كبرياؤهم، وثارت دفائنهم، ورقصت شياطين رءوسهم؛ وبذلك وضع الغبي حقد الفقر بازاءُ سخرية الغني؛ فألقى بينهم مسئلة المسائل الكبرى في هذا العالم، وطرحها للحل. . . . . .!
وتنفشوا للصولة عليه، فسخر منه أحدهم، ثم هزأ به الآخر، وأخرج الثالثُ لسانه؛ وصدمه الرابع بمنكبه؛ وأفحش عليه الخامس؛ ولكزه السادس؛ وحثا السابع في وجهه التراب!
وجهد المسكين أن يفر من بينهم فكأنما أحاطوه بسبعة جدران فبطل إقدامه وإحجامه، ووقف بينهم كما كتب الله. . .! ثم أخذته أيديهم فانجدل على الأرض، فتجاذبوه يمرغونه في التراب!
وهم كذلك إذا انقلب كبيرهم على وجهه، وانكفأ الذي يليه، وأزيح الثالث، ولُطمَ الرابع، فنظروا، فصاحوا جميعاً: (جُعْلُص، جعلص!) وتواثبوا يشتدون هرباً. وقام عصمت ينتخلُ الترابُ من ثيابه وهو يبكي بدمعه وثيابه تبكي بترابها. . .!
ووقف ينظر هذا الذي كشفهم عنه وشردتهم صولته، فإذا جعلص وعليه رجفانٌ من الغضب، وقد تبرطمت شفته وتقبض وجهُه كما يكون (ماشيست) في معاركه حين يدفع عن الضعفاء.
وهو طفل في العاشرة من لِدات عصمت، غير أنه مُحتنكٌ في سن رجل صغير؛ غليظٌ عَبلٌ شديدُ الجبلة متراكبٌ بعضه على بعض، كأنه جني متقاصر يهم أن يطولَ منه المارد. فأنس به عصمت، واطمأن إلى قوته، وأقبل يشكو له ويبكي!
قال جعلص: ما اسمك؟
قال: أنا ابن المدير. . . .!
قال جعلص: لا تبك يا ابن المدير. تعلم أن تكون جلداً، فإن الضرب ليس بذلٍ ولا عار، ولكن الدموع هي تجعله ذلاً وعاراً؛ إن الدموع لتجعل الرجل أنثى. نحن يا ابن المدير نعيش طول حياتنا إما في ضرب الفقر أو ضرب الناس، هذا من هذا؛ ولكنك غنيٌ يا ابن المدير، فأنت كالرغيف (الفينو) ضخمٌ مُنتفخٌ ولكنه ينكسر بلمسه، وحشوهُ مثل القطن!
ماذا نتعلم في المدرسة يا ابن المدير إذا لم تعلمك المدرسة أن تكون رجلاً يأكل من يريدُ(87/9)
أكله؛ وماذا تعرف إذا لم تكن تعرف كيف تصبر على الشر يوم الشر، وكيف تصبر للخير يوم الخير، فتكون دائماً على الحالتين في خير؟
قال عصمت: آه لو كان معي العسكري!
قال جعلص: ويحك؛ لو ضربوا عنزاً لما قالت: آه لو كان معي العسكري!
قال عصمت: فمن أين لك هذه القوة؟
قال جعلص: من أني أعتملُ بيدي فأنا أشتد، وإذا جعتُ أكلت طعامي؛ أما أنت فتسترخي، فإذا جعت أكلك طعامك، ثم من أني ليس لي عسكري. . .!
قال عصمت: بل القوةٌ من أنك لستَ مثلنا في المدرسة؟ قال جعلص: نعم، فأنت يا ابن المدرسة كأنك طفلٌ من ورق وكراسات لا من لحم، وكأن عظامك من طباشيرّ أنت يا ابن المدرسة هو أنتَ الذي سيكون بعد عشرين سنة، ولا يعلم إلا الله كيف يكون؛ وأما أنا ابن الحياة، فأنا من الآن، وعلي أن أكون (أنا) من الآن!
أنتَ. . .
وهنا أدركهما العسكري المسخر لابن المدير، وكان كالمجنون يطير على وجهه في الطرق يبحث عن عصمت، لا حباً فيه ولكن خوفاً من أبيه. فما كاد يرى هذا العفر على أثوابه حتى رنت صفعته على وجه المسكين جعلص
فصعر هذا خده، ورشق عصمت بنظره، وانطلق يعدو عدو الظليم!
يا للعدالة! كانت الصفعةُ على وجه ابن الفقير، وكان الباكي منها ابن الغني. . .!
وأنتم أيها الفقراء، حسبكم البطولة؛ فليس غَنى بطل الحرب في المال والنعيم، ولكن بالجراح والمشقات في جسمه وتاريخه؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(87/10)
السر الموزع
للآنسة النابغة (مي)
وسط الهرج الذي يحدثُ عادةً عند انفضاض مجلسٍ من المجالس تناثر الزائرون في الردهة يهمون بالانصراف مودعين أهل الدار وشاكرين لهم حفاوتهم، متبادلين مع هؤلاء وأولئك التحية والمصافحة، متواعدين فيما بينهم على الاجتماع في فرصةٍ قريبة
أما ذلك الفتى فمضي يتسلل خلسةً، هرباً من كل شخصٍ خطر وللتملص منهم جميعاً: (والشخص الخطر) في تلك الحال هو أي شخص قد يشتبك معهُ في حديث ويصحبهُ إلى الخارج، إنه يحتاج إلى الوحدة لا يعكر عليه صفاءها أحد، لأنه في تلك الحالة النفسية التي تبدو فيها الحياةُ طريفةً وتبدوا فيها الخليقةُ وكأنها خرجت الساعة من يدِ الباري غضةً جديدة
خرج إلى الرصيف وجال نظرهُ يبحثُ بين الناس والسيارات فاستقرت عيناه على خمس فتيات من اللائي حضرن الاجتماع، وقد أحطن بسيارة كبيرة أخذن يتوارين في داخلها الواحدة بعد الأخرى، فكانت الأخيرة في التواري صاحبة الثوب ذي الزرقة (الكهربائية). فجهد الفتى ليرى منها جميع حركاتها فرأى فيما رأى أنها التفتت إلى الوراء، شأن من يبحث عن شيءٍ أو شخص. وسرعان ما لمحتْ رأسه والتفت عيناها بعينه عن بعد. فأدركت أن نظره يتبعها ويرقبها، وأدرك هو أنها تأخرت والتفتت لتبحث عنه. فما إن تلاقي نظراهما وفاجأهما ذلك الإدراك حتى أعرض كلٌ منهما على عجل كأنما هو يخجل بانكشاف أمره. وعندما تحركت السيارة مندفعة إلى الأمام أرسل الفتى نظره يشيعها في حرية واطمئنان
- هأنذا! انتظرني أم تبحث عني؟
لقد وقع ما كان يخشاه، ولحق به زميل لم يكن ليتحاشى مصاحبته أو ينفر من حديثه عادة. ولكن الآن. . .
- هيا بنا إلى جروبي!
فتلكأ الشاب قليلاً وقال: - إني على موعد
- أي موعد؟ ألم نتفق عندما جئنا هذه الدار على موافاة أصحابنا عند جروبي بعد الخروج(87/11)
من هنا؟
- آه. . . نسيت!
- أنسيت الموعد أم نسيت اتفاقنا؟
- نسيت الموعد. . .
- نسيت الموعد فلم تذكره إلا على الرصيف. . . إذا أوصلك بسيارتي إلى المكان الذي تقصد إليه، ثم أسبقك إلى جروبي حيث توافينا بعدئذٍ
رأى الفتى أن لا مفر من المقدور , ولو نجح في التفلت من صاحبه هذا فليس مضموناً أن يتفلت من غيره في مكان آخر.
فتراخت عزيمته واستسلم:
- الواقع أن الموعد اختياري يمكن تأجيله. هيا إلى جروبي
أما الفتيات الخمس فقد سارت بهن السيارة إلى ناحية الجزيرة وهن يتحدثن جميعاً في آن واحد وليس بينهن من تصغي. وعلامَ الإصغاء؟ المهم هو الكلام. وقد سرت الفتيات بتلاقيهن في هذا الاجتماع، وسررن باتفاق والدتهن بعده على الهاب معاً لتأدية فروض التعزية في بعض البيوت، فاتفقن فيما بينهن على ركوب سيارة إحداهن التي تعهدت بأن (توزع) صاحباتها على بيوتهن مجاناً لوجه الله الكريم وبدون (أكسيدان). وثم فرصة مواتية لتبادل الآراء وإبداء الملاحظات على حفلة الاستقبال وعلى الذين حضروها، إذا تيسر شيء من ذلك عند ما يأبين جميعاً احتمال فريضة السكوت. . . بيد أنهن سكتن فجأة عندما أنشأت إحداهن تنتقد هندام السيدات وتبرجهن وذوقهن وجمالهن. هذا حديث لذيذ حقاً، يوافقن عليه ويؤيدنه وإن كن في قلوبهن مقتنعات بعكس ما يقال. وإذ توغل النقد فأمسى لاذعاً، طربن طرباً ورنت ضحكاتهن بريئة، في نظرهن على الأقل. ونادت إحداهن صاحبة الثوب الأزرق قائلة: ألا تشاركينا في الضحك؟ ألا تسمعين؟
- أنا اتخذت لي محلاً مختاراً قرب (الشوفير) ولذلك أصبحتُ مسؤولة عن سلامتكن، وعلى أن أظل هادئة لئلا يحدث لنا (أكسيدان)
- بعد الشر! إذا تحتم (الأكسيدان) فليكن بعد وصولي إلى البيت سالمة. وها قد وصلنا والحمد لله! فتستطيعين الآن أن تستبدلي بمكانك مكاني داخل السيارة(87/12)
وبعد وقوف السيرة ونزول الفتاة التي كانت تتكلم، حدثت مناقشةٌ لإقناع جارة السواق بتغيير مكانها ,. فأبت مؤكدة أنها هنا على ما يرام، وأنها تريد حراستهن إلى النهاية. واستأنفت السيارةُ السير والفتيات يضحكن من جارة السواق لأنها (كونسرفاتريس) وينصحن لها بأن تلبس العمامة للاندماج في هيئة كبار العلماء في الأزهر
كانت صاحبة الثوب الأزرق تسمع لغوهن ولا تعي معناه. إنها بعيدة عنهن وعن العالم بما فيه ومن فيه، بعيدة عن النيل الذي يجري تحتها، عن سحر الجزيرة المنتشر حواليها، عن جمال الغروب وقد تمازج فيه انهزام النور واقتحام الظلام. لقد حدث في ذلك الاجتماع شيء مدهش قلب الدنيا رأساً على عقب. وهو بعدُ شيء بسيط يكاد يكون عادياً، وكأنها تنتظره على غير معرفة منها
اتفق أن فتى كان على مقربةٍ منها في ذلك الصالون، فصنع لها مثل ما صنع لغيرها، ومثل ما يصنع كل رجل له ولو بعض الإلمام بآداب الاجتماع. كانت فتاةُ الدار تبذلُ جهدها مع معاونيها ومعاوناتها لإرضاء الضيوف وقد تعبت كثيراً في القيام بمهمتها. فسارع ذلك الفتى إلى مساعدتها فجر أمام صاحبة الثوب الأزرق طاولة صغيرة وضع عليها قدح الشاي وجال يقدم ما يصحب الشاي من قطع الحلوى الصغيرة الجافة. فتناولت صاحبةُ الثوب الأزرق قطعةً ورفعت ببصرها إليه في ابتسام، وقالت: (مرسي). وكان عليها أن ترد بنظرها في الحال إلى جارتها التي كانت تتحدث حديثاً طويلاً. ولكنها لم ترد نظرها ولم تخفضه. لأن نظره سار رسولاً إلى أعماق عينها، إلى أعماق جوانحها، إلى أعماق كيانها، فاهتدى هناك إلى شيء كان يلبه، ولم تدر هي ماهيته. وكان وجهه جاداً ونظره جاداً، شأن الرجل عندما ينبه إلى أمرٍ هام
فجمدت الابتسامة على شفتيها، وكأن السر الذي وجده فيها يسأل السر الذي بعث به نظره: (ماذا؟) فخيل إليها أن سره يجيب: (أردت أن أنبهك فقط. . . لأنك نبهتني وأنتِ لا تعلمين)
لحظة لا غير، لحظة لم ينتبه إليها أحدُ من المحيطين بها، ولكنها كانت طويلةً مليئة كالدهور. وتكررت تلك اللحظة عندما التفتت في الشارع فلمحته يشيعها، وشعرت بالسر مقبلاً من نظره البعيد، يتوغل في كيانها من جيد. وفي هذا المساء الجميل المتهادي في(87/13)
رفقٍ على هذه الشواطئ الفتانة، هي لا تعي شيئاً ولا ترى أحداً. الوجود كله تلخص في ذلك النظر وفي السر الذي يحتويه. على صفحة الماء المائجة نظرٌ مليء بالسر. في الفضاء حولها نظر مليء بالسر. في الغصون المتشابكة نظرُ مليء بالسر. في الأبعاد المترامية، في ألوان الشفق، في هبوب النسيم، وبخاصة في صميم كيانها نظرٌ مليء بالسر يهمس: أردت أن أنبهك. . . .
- ألهُ مثل هذا النظر مع سائر النساء؟
هرولت السيارةُ في شارع الجيزة ولوت متحولة إلى ناحية الروضة لتعود إلى المدينة من شارع القصر العيني. وطول الطريق على صفحة الماء، في امتداد السبل، في رؤوس الأشجار، في المركبات والسيارات، في أشباح السابلة، في واجهات المخازن، في مصابيح الشوراع، في كل مكان لم يكن هناك إلا ذلك النظر الواحد وسره المكنون
- أهذه طريقته في النظر إلى النساء؟
ووقفت السيارة فنزلت صاحبة الثوب الأزرق مودعة صويحباتها، وكأنها تتكلم وتتحرك مرغمةً. ودخلت مخدعها، فإذا بالنظر ينتظرها هناك، مع أنها لم تتخيل وجوده عندما غادرت هذا المكان قبل ثلاث ساعات
دنت من مرآتها تتعرف فيها هيئتها فرسمت لمها المرآةُ وجههُ لا وجهها، وأقبل النظر يتسرب إلى كيانها مع سره. فتأملتهً ملياً وسألت:
- ألك مثل هذه النظرة مع غيري؟
فلم تسمع لا من النظر ولا من نفسها الجواب
أطالت التحديق في المرآة، وقالت تخاطبهُ: - أين أنت الآن؟ كيف تجري حياتك؟ كيف تجري حياتك كل يوم؟ ماذا أنت صانع بنظرك في هذه الدقيقة؟
في تلك الدقيقة كان الفتى بين أصحابه عند جروبي، وقد رفع كأس الوسكي إلى شفتيه ناظراً بعينين ناعستين إلى الغادة الجالسة قربهُ في ثوب عاجي، وقائلاً ببطء:
- أشربُ (سركِ)
(مي)(87/14)
الدعوة الفاطمية السرية
ضوء على موضوعها وغاياتها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
هذه خلاصة موجزة لتلك الدعوة الإلحادية الغربية التي اضطلع بها لحساب الحاكم بأمر الله ذلك الداعية المغامر حمزة بن علي، ومما يلفت النظر بنوع خاص أن حمزة بن علي لم يفته خلال شرح مذهبه أن يدافع عن شذوذ الحاكم بأمر الله وتصرفاته المتناقضة، وأن يحاول أن يفسرها بما يلائم دعوته ويدعمها، أجل، لقد كان في تصرفات هذا الذهن الهائم المضطرب ما يبعث على التأمل، وما يجب أن يحمل لا على الشذوذ والتخريف، ولكن على الحكمة والسمو إلى ما لا يرتفع الذهن العادي إلى فهمه وتعليل بواطنه، هكذا يقدم إلينا حمزة تصرفات مولاه الحاكم؛ فإذا كان الحاكم قد ترك الصلاة والنحر، وإذا كان قد أبطل صلاة العيد وصلاة الجمعة بالأزهر، واسقط الزكاة عن الناس، فمعناه تحليل ذلك للكافة، وإذا كان الحكام يتبع أحياناً سياسة الاضطهاد بالنسبة للنصارى واليهود، فذلك لأنه يريد أن يهلك المرتدين والمارقين، ومن بقي منهم يؤدون الجزية، وهم اليهود، ويجب عليهم وعلى النصارى المرتدين من التوحيد، وهم المنافقون أن يلبسوا أزياء خاصة، وأن يعلقوا في صدورهم وآذانهم أثقالاً خاصة من الرصاص؛ وإذا كان الحاكم يؤثر التقشف في مأكله وملبسه وركوبه، فيركب الحمير مجردة عن الديباج والحلي الذهبية، فذلك لحكمة باطنة يؤولها الداعي بآيات من القرآن، ويفسرها بدلائل رمزية غريبة، وإذا كان الحاكم يخرج من سرداب القصر إلى البستان، وإذا كان يرتاد بستان المقس وغيره من بساتين القاهرة ويطوف أحياناً في المدينة، فذا أيضاً لحكم باطنة لا تدركها الكافة؛ وما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يرتادها من المنكر والفحشاء، إنما يرتكب في طاعته، وما يرتكبه الحاكم من ضروب البطش والسفك إنه مظهر لسطوة الحاكم (الإلهية) فهو يفتك بأكابر الدولة دون خوف ولا حرج كما فعل مع حاجبه برجوان وزيره ابن عمار ومع غيرهما من الأكابر والزعماء؛ ثم هو يخرج بالليل دون ركب ودون سلاح، لا يخشى نقمة أو أعتداء،(87/15)
ويخمد كل ثورة تشهر عليه، وكثيراً ما ينفرد بنفسه في جب الصحراء دون خوف من أحد من عسكره أو بطانته، وتلك أعمال وصفات ليست للبشر!
هكذا يفسر الداعي لنا أعمال الحاكم وتصرفاته المثيرة المدهشة؛ وما اعتبره المعاصرون شذوذاً وإسرافاً وجنوناً، وما يسمه التاريخ بميسم التناقض والتخريف والاغراق، إنما هو في زعم الداعي السمو فوق مدارك البشر، والتحلي بصفات ليست للبشر؛ ومهما يكن في ذلك التفسير من غلو وتحريف، فهو محاولة ذكية جريئة لتبرير ما لم تبرره الشرائع والمجتمع، وما لم يبرره التاريخ
ولا يقف حمزة بن علي عند الدعوة لسيده ومولاه، بل يدعو لنفسه أيضاً؛ فإذا كان الحاكم هو (الإله)، فان الداعي هو رسوله ونبيه؛ وعلى هذا فان حمزة الذي يصف نفسه في معظم رسائله بهادي المستجيبين، ينتحل النبوة لنفسه صراحة، ويزعم أن هذه النبوة قد تأيدت بالمعجزات التي أسبغها مولاه الحاكم عليه؛ ألم يشتبك عشرون من رجاله مع مائتين من عسكر خصومه، فلا يقتل من أصحابه سوى ثلاثة وينهزم الخصوم؟ ألم تنشب موقعه أخرى في المسجد بين قلة من أنصاره وكثرة من خصومه فينتصر الصحب دائماً؟ فهذه أعمال تخرج عن قدرة البشر، وهي من معجزات الداعي!
ويبدو من التواريخ التي يذيل بها الداعي رسائله أنها كتبت بين صفر سنة 408هـ، وأواخر سنة 409هـ. وكما أن الداعي يصف لنا سنة 408هـ بأنها هي أول سني قائم الزمان (الحاكم)، فهو يصفها أيضاً بأنها أول سني (ظهور عيد مولانا ومملوكه هادي المستجيبين) ومعنى ذلك أن حمزة بن علي بدأ القيام بدعوته في أوائل سنة 408هـ؛ ونستدل أيضاً من تعاقب التواريخ في هذه الرسائل الثمانية أنها تكون وحدة متصلة قائمة بذاتها؛ وهذه الرسالة هي متن الدعوة وهي ذروتها؛ وقد أستمر حمزة في تنظيم دعوته وبثها تحت رعاية الحاكم وإشرافه حسبما ينوه في بعض رسائله؛ ولكن الحاكم زهق غيلة في شوال سنة 411هـ فماذا حدث لتلك الدعوة بعد ذهابه؟ لقد كان اختفاء الحاكم بتلك الصورة الفجائية الغامضة مستقى جديداً للدعاة، فزغم بعضهم أنه اختفى ليظهر في عصر آخر، أو أنه رفع إلى السماء، وأن في هذا الاختفاء ذاته ما يؤيد الزعم بألوهيته وقد استمرت هذه الدعوة الإلحادية بعد مصرع الحاكم عصراً آخر، وإن كانت قد اتخذت سبلاً(87/16)
ومواطن أخرى، وأمامنا مجموعة أخرى من تلك الرسائل الإلحادية هي التي أشرنا إليها فيما تقدم؛ ويبدو من موضوعها وأسلوبها وألفاظها أنها من تأليف حمزة بن علي ذاته؛ وقد ذيلت بتواريخ وضعها - في جمادى الآخرة من سني ولي الحق العاشرة، وفي صفر سنة إحدى عشرة من سني قائم الزمان، وفي السنة الرابعة عشرة من سني قائم الزمان. . . . الخ؛ وعهد قائم الزمان يبتدئ كما تقدم في سنة 408هـ، وعلى ذلك تكون هذه الرسائل قد كتبت بين سنة 418 وسنة 422هـ، ويكون حمزة بن علي قد استمر قائماً بدعوته الإلحادية إلى هذا التاريخ أو بعده بقليل؛ ولم تنته الدعوة بمصرع الحاكم بأمر الله، ولكنها استمرت تغذيها قوى وعناصر أخرى
ولقد كانت هذه الدعوة الإلحادية بلا ريب جزءاً من الدعوة الفاطمية السرية، ولكنها اتخذت في عصر الحاكم بأمر الله صورة خاصة، وانحرفت عن غايتها العامة لتعمل على تحقيق غاية خاصة. وقد نقل إلينا المقريزي بياناً شافياً عن هذه الدعوة السرية الشهيرة ومراتبها التسع، وهي في مجموعها فكرة إلحادية فلسفية نظمت في مراتب متعاقبة للعمل على هدم العقيدة الإسلامية بصفة خاصة والعقيدة الدينية بصفة عامة، واستبدالها بفكرة فلسفية ترتفع فوق إفهام الكافة. بيد أن هذه الدعوة الإلحادية العامة تنحرف في عصر الحاكم لتعمل على تحقيق فكرة خاصة هي (ألوهية) قائم الزمان أعني الحاكم بأمر الله، وهي مع ذلك تجري مجراها العام في مجالس الحكمة بالقصر ودار الحكمة. وإنها لصفحة من أغرب صحف الثورة على الإسلام؛ بيد أنها كانت ثورة سرية تقصد إلى غزو العقول والأفهام، ولم تكن فورة عنيفة تسحق كل شيء في طريقها بالقوة المادية كما كانت قوة القرامطة، وهذه الرسائل الكلامية الغريبة التي يتركها لنا الداعي تلقي ضياء على كثير من التفاصيل الخاصة التي كانت ترتبط بالدعوة السرية الفاطمية، وبفتن الدعاة في سكبها وتنظيمها.
ولقد نظمت الدعوة الفاطمية قبل عصر الحاكم بأمر اله بكثير؛ ومنذ عصر المعز لدين الله وولده العزيز تعقد مجالس الحكمة؛ ولكنها كانت عندئذ علنية، وكانت فقهية تجري المحاضرة فيها في فقه آل البيت ومبادئ الشيعة؛ وكانت الخلافة الفاطمية يومئذ تتشح بشعار الإمامة الإسلامية على أنها من حق الفاطميين وتراثهم الخالص، وعلى أنها عنوان الزعامة الشرعية من الوجهتين السياسية والدينية، ولكن هذه الدعوة الدينية السياسية ما(87/17)
لبثت أن تطورت بسرعة، واتخذت صبغتها الإلحادية المغرقة في عصر الحاكم بأمر الله. ومن الغريب أن يكون الحاكم، ذلك الذهن الهائم المضطرب، هو القائم بأعظم دور في تغذية هذه الحركة وبثها، وهو المنشئ لدار الحكمة التي لبثت مبعثها وملاذها عصراً، بيد أن هذا الإغراق ذاته كان ضربة شديدة للدعوة الفاطمية، لأنه جعلها وقفاً على رهط من الدعاة المغامرين الخبثاء، وباعد بينها وبين الكافة، وأسبل عليها ألواناً خطرة من الزيغ والإلحاد، ولهذا فقدت الدعوة الفاطمية غير بعيد قوتها وأهميتها وإن كانت مجالس الحكمة قد استمرت بعد ذلك حتى أوائل القرن السادس
ونلاحظ من جهة أخرى أن معظم أولئك الدعاة الذين اضطلعوا ببث هذه المباديء والتعاليم الإلحادية في مصر لم يكونوا من المصرين، وإنما كانوا من الأجانب الذين اجتذبتهم الخلافة الفاطمية ببهائها ومشاريعها السرية؛ وقد ذكر لنا حمزة بن علي أسماء بعض أقطاب الدعاة مثل علي بن عبد الله اللوائي، ومبارك ابن علي، وأبو منصور البردعي، وأبو جعفر الحبال، هذا عدا الأخرم ومحمد بن إسماعيل الدرزي السابق ذكرهما؛ ولم يحسن المصريون استقبال هؤلاء الدعاة الخطرين، بل قاوموهم، وفتكوا بهم في أحيان كثيرة، أو اضطروهم إلى الفرار؛ ولم يستطع واحد منهم أن ينشئ له بمصر فرقة حقيقية من الأنصار والمؤمنين، وإن كان الدرزي قد استطاع أن ينشئ له بالشام فرقة جديدة هي طائفة الدروز التي ما زالت قائمة حتى اليوم
وهنا تعرض نقطة ما تزال موضع الجدل، وهي من هو مؤسس مذهب الدروز الحقيقي؟ وماذا كان نصيب حمزة بن علي في إنشائه؟ والمعروف أن بعض المستشرقين، ومنهم دي ساسي، يعتبرون أن حمزة هو مؤسس المذهب الحقيقي، لأن كثيراً من تعاليمه ورسائله تمثل في كتب الدروز المقدسة، وقد أشكل على بعضهم فهم مزاعم حمزة، فأعتقد أنه هو الذي يحمل لقب (قائم الزمن) الذي يتردد في رسائله ودعواته، في حين أنه صريح في إسناد هذا الوصف للحكام بأمر الله. والواقع أن فرقة الدروز تنسب قبل كل شيء إلى الدرزي، وهو الداعي محمد بن إسماعيل الذي تقدم ذكره، وفي بعض رسائلحمزة ما يلقي شيئاً من الضياء على نصيبه الحقيقي من الدعوة؛ ومن المرجح أن الدرزي سبق حمزة في القدوم إلى مصر، وفي الدعوة إلى (ألوهية) الحاكم بأمر الله كما قدمنا؛ ولكن الظاهر أيضاً(87/18)
أن حمزة ما لبث أن تفوق عليه وفاز دونه بالزعامة والقيادة، وأن خصومه نشبت بينهما كان الظافر فيها هو حمزة. ويشير حمزة إلى ذلك في رسالته الرابعة الموسومة بالغاية والنصيحة حيث يحمل علي الدرزي الذي هو (نشتكين) (وهو لقب تركي يطلق على الدرزي ويعرف به)
ويقول إنه (تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين، وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الامام، ويدعى منزلته. . . وكان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب، والثوب هو الداعي والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره) ثم يقول إن الدرزي أنكر التعاليم وتمرد وأثار للجدل بينهما، وغره ما كان يضربه من زغل الدنانير والدراهم، ويبدو من ذلك جلياً أن حمزة كان يقف من الدرزي موقف الإمام والأستاذ، وأن الدرزي خرج على تعاليمه ومبادئه، واستقل بعد ذلك بإنشاء فرقة - الدروز - في الشام، فهو المؤسس إذن لمذهب الدروز، وقوامه مزيج من نظرياته وتعاليمه، ونظريات حمزة وتعاليمه، ومن الصعب أن نحدد ما لكل من الداعيين في إنشاء هذا المذهب الغريب من المباديء والنظريات، بل من الصعب أن نعين منهما الأصل والناقل؛ بيد أن بعض النظريات الأساسية التي يعرضها حمزة في رسائله ما زالت قواماً لمذهب الدروز مثل القول بحلول الروح القدس في شخص الحاكم، واعتباره (قائم الزمان)؛ ثم إن التاريخ الذي يتخذه حمزة لمبدأ هذه الدعوة هو سنة 408هـ (1017م) وهي نفس السنة التي اتخذها الدروز بدأ لتاريخهم المقدس؛ وعلى ذلك فإذا كان الدرزي هو الذي أسس فرقة الدروز، فان لتعاليم حمزة أثراً كبيراً في صوغ هذا المذهب
ولا ريب أن حمزة بن علي كان نموذجاً قوياً لأولئك الدعاة؛ ففي تفكيره وآرائه وشروحه ما يشهد بكثير من الذكاء والبراعة؛ ولكن إنشاء دين جديد وعقيدة جديدة والدعوة إلى (ألوهية) بشر، محاولة تقصر عنها جهوداً أذكى الدعاة وأقواهم؛ ومن ثم فأنا نلمس في آرائه وتدليله كثيراً من ضروب التناقض والضعف، ونراه يلجأ إلى الرموز والخفاء كلما أعيته الحجة، ولا يحمل هذا المزيج الذي يقدمه إلينا من الشروح والأساطير اليهودية والنصرانية والإسلامية كثيراً من طابع الابتكار والطرافة، ثم هو فرق ذلك يقدم إلينا رسالته في أسلوب ركيك ينم عن ضعف بيانه العربي؛ ومع ذلك فان هذا التراث الذي انتهى إلينا من جهود(87/19)
الدعاة يلقي كثيراً من الضياء على أسرار الدعوة الفاطمية وغاياتها، وهو بذلك يعتبر من الوجهة التاريخية وثيقة لها قيمتها وخطورتها
محمد عبد الله عنان
المحامي(87/20)
الليث بن سعد
محدث مصر وفقيها ورئيسها
للأستاذ علي الطنطاوي
قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به
وقال الأمام أحمد: ليس في أهل مصر أصح حديثاً من الليث
عَلَم شامخ من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة الدين، وأحد أفراد الدنيا علماً وذكاء، ونُبلاً ورفعة، وسخاء وكرماً؛ أجمعوا على أنه عَدْل مالك في الفقه، ونظيره في الاجتهاد، وانه لمصر مثل مالك للمدينة لا يفتي ومالك في المدينة، ولا يفتي والليث في مصر وهو بعد أعظم جاهاً من مالك، وأكثر مالاً وأسخى يداً، وأجزل عطاء. . . بَيْد أن الله قيض لمالك من دون علمه، وكتب مساءله، وحرر مذهبه، فعاش ونما واتسع، وكثر أتباعه ومقلدوه، واندثر مذهب الليث ونُسي اسمه فلا يذكره إلا المشتغلون بالرواية الإسلامية، المنقطعون لدراستها، العاكفون على كتبها. . . .
وما مثل الليث بالذي يُنسى، وان كان الليث أنكرة في الرجال، ولئن أنكره اليوم بعض الشباب أو جهلوا قدره، أو شغلهم عنه وعن أمثاله (أندره جيد) وهذا الآخر. . . (بول فاليري) فلقد عرف له الأولون فضله وعلمه، وسموه ورفعته. فعاش رئيساً في العلماء، مقدماً عند الخلفاء، مطاعاً عند الولاة، مبجلاً عند الخاصة، موقراً عند العامة، وازدحمت عليه النعم، وأقبلت عليه الخيرات، ودنت منه الأماني، فأوتي العلم والعقل والصحة والمال والسيادة والجاه، وأوتي مع هذا كله نفساً أكبر من هذا كله، فما التفتت إليه، ولا تمسكت به، ولا شغلها عن دينها وتقواها. مالت إليه الدنيا فمال عنها، ومنح من كل نعمة أوفاها فما قصر في شكر، ولا زهد في أجر؛ وكان سيد مصر، أمرُه قبل أمر الولاة، وحكمه فوق حكم القضاة، فما اقتنص بذلك دنيا، ولا غُمض عليه في بطن ولا فرج؛ وكان دخله بين عشرين وثمانين ألف دينار في العام، فما كنز بيضاء ولا صفراء، ولا منعها فقيراً، ولا أمسكها عن ذي حاجة، فأطبق العلماء على إجلاله، واتفق المصنفون على الثناء عليه، وعقدت القلوب على حبه، وأجمع الناس على احترامه
اسمه وأصله ومولده:(87/21)
هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهمي. كان أبوه من موالي قريش، ثم افترض في بني فهم (وهم بطن من قيس عيلان خرج منهم جماعة من العلماء) وتبعه الليث بعده، فكان اسمه في ديوان مصر، في موالي بن كنانة فهم؛ وقيل كان مولى خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي
وكنسته أبو الحارث
ولد غي قرقشندة (قرية بأسفل مصر على أربعة فراسخ من الفسطاط) فهو مصري المولد والمنشأ، وأصل أسرته من أصبهان. قال الليث نحن من أهل أصبهان، فاستوصوا بهم خيراً، وقيل إنهم من الفرس، ولم يصح ذلك
وكان مولده يوم الجمعة 14 شعبان سنة 94، قال الليث: قال لي بعض أهلي: إني ولدت سنة اثنتين وتسعين، والذي أوقن به أني ولدت سنة أربع وتسعين
شيوخه:
قال أبو نعيم الأصبهاني (في حلية الأولياء): أدرك الليث نيفاً وخمسين من التابعين
سمع الليث بمصر من زيد بن أبي حبيب وجعفر بن ربيعة والحارث بن يعقوب وعبيد الله بن أبي جعفر وخالد بن يزيد وخير بن نعيم وسعيد بن يزيد
وحج الليث سنة 133 وكان عمره تسعة عشر أو عشرين، فسمع في حجته تلك من عطاء بن أبي رباح وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد الانصاري وأبي الزبير المكي وعبد الله ابن أبي مليكة وعمرو بن شعيب وقتادة وعمرو بن دينار ونافع
قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة فرأيت نافعاً مولى ابن عمر فدخلت معه إلى دكان علاف، فقال: من أين؟ قلت: من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين!
وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال من هذا؟ قلت: مولىمن قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين! وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال من هذا؟ قلت: مولي لنا فلما رجعنا إلى مصر، جعلت أحدث عن نافع فأنكر ذلك ابن لهيعة وقال: أين لقيته؟ قلت: أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك!(87/22)
وخرج الليث إلى العراق سنة 161
قال أبو صالح: خرجنا معه من مصر في شوال وشهدنا الأضحى في بغداد، وقال لي الليث ونحن في بغداد: سَلْ عن قطيعة بني جدار، فإذا أرشدت إليها فاسأل عن منزل هُشيم الواسطي
فقل له: أخوك ليث المصري يقرئك السلام، ويسألك أن تبعث إليه بشيء من كتبك
فلقيت هُشيما فدفع إلى شيئاً، فكتبنا منه وسمعته مع الليث، وكان الليث قد كتب من علم الزهري كثيراً، قال: فأردت أن أركب البريد إليه إلى الرصافة فخفت ألا يكون ذلك لله فتركته
أي أنه آثر أن يروي عنه بالواسطة خشية أن يكون في ذهابه إليه وسماعه منه حظ نفسي، فلا يكون ذلك خالصاً لله وحده
وسمع من سعيد المقبري ويونس بن يزيد وغيرهم وسمع منه خلق كثير
منزلة عند العلماء
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث، لا عمرو بن الحارث ولا أحد. ثم قال: الليث بن سعد؟ ما أصح حديثه! وجعل يثني عليه
فقال رجل لأبي عبد الله (يعني أحمد). إنسان ضعفه فقال: لا يدري
وقال مرة: ليس فيهم (أي أهل مصر) أصح حديثاً من الليث وعمرو بن الحارث يقاربه
وقال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، أي لم يدونوا علمه، ولم يحرروا مذهبه فضاع واندثر
وقال: ما فاتني أحد فأسفت علي ما أسفت على الليث وابن أبي ذئب
وقال ابن حبان (في الثقات): كان من سادات أهل زمانه فقهاً وورعاً وعلماً وفضلاً وسخاء
وقال ابن أبي مريم: ما رأيت أحداً من خلق الله أفضل من ليث، وما كانت خصلة يتقرب بها إلى الله عز وجل إلا كانت تلك الخصلة في الليث
وقال أبو يعلى الخليلي: كان إمام وقته بلا مدافعه
وقال يحيى بن بكر: ما رأيت فيمن رأيت مثل الليث، وما رأيت أكمل منه؛ كان فقيه البلد، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو والحديث والشعر والمذاكرة (إلى أن عد خمسة عشرة(87/23)
خصلة) ما رأيت مثله
وقال: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الخطوة لمالك وقال سعيد بن أبي أيوب: لو أن مالكاً والليث اجتمعا كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد
وسئل أبو زرعة: الليث يحتج بحديثه؟ قال: أي لعمري وقال يحيى بن معين: ثبت
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة وقال مثل ذلك محمد بن سعد
وقال النووي (في تهذيبه): أجمعوا على جلالته وأمانته وعلو مرتبته في الفقه والحديث
قالوا: وكل ما في كتب مالك من قوله (وأخبرني من أرضى من أهل العلم) فإنما يعني به الليث بن سعد
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي(87/24)
قصيدة تاريخية خطيرة
أهل غرناطة يستغيثون السلطان با يزيد
في أوائل القرن السابع الهجري ذهبت ريح الموحدين من الأندلس، ونشأت دولة بني نصر أو بني الأحمر في بقية الأحداث من الدولة الإسلامية العظيمة - الجنوب الغربي من الجزيرة الكبيرة جزيرة الأندلس. وثبت بنو الأحمر على قراع الخطوب، ونزال الكوارث خمساً وستين ومائتي سنة. ثم ذهبت الصولة ودالت الدولة، وأناخت الوحشة على المعقل الأخير للحضارة الإسلامية
هذا فجر اليوم الرابع من ربيع الأول سنة 987، وهذا أبو عبد الله الشقي يسير في خمسين فارساً ليسلم مفاتيح الحمراء إلى فرديناند وايزابلا
وكان المسلمون قد استوثقوا لدينهم وأنفسهم وأموالهم، وأخذوا على الأسبان من الشروط ما شاءوا. وبذل لهم الأسبان من العهود والأيمان ما جعلوه حبالة إلى السيطرة والقتل والسلب والإكراه على التنصر
اشترط المسلمون زهاء ستين شرطاً يكفل لهم الوفاء بها سلامة شاملة، وطمأنينة عامة. واشترطوا أن يقبل شروطهم زعيم النصرانية بابا رومية
وما هو إلا أن ظفر الأسبان بعدوهم حتى استباحوا نقض العهود، والإغراق في العدوان والظلم والنهب والقتل والإكراه على التنصر. فلما استيأس المسلمون ثاروا بعدوهم المرة بعد المرة يؤثرون الموت الوحي على الموت البطيء، وما زال بهم القتل والاستعباد والتشريد والنفي حتى جلا آخرهم عن البلاد عام 1017 من الهجرة
وقد استصرخ مسلمو الأندلس ملوك المسلمين، فلم يصرخهم أحد إلا خير الدين باشا قائد الأساطيل العثمانية في عهد السلطان سليمان، فقد أمدهم في إحدى ثوراتهم بجند نصروهم على عدوهم ومكنوا لهم الرحيل، فحملت السفن منهم سبعين ألفاً إلى أفريقية
وكان المسلمون أرسلوا وفداً يستغيث السلطان با يزيد الثاني العثماني، وبعثوا بقصيدة بثوا بها شكواهم، وعددوا ما أصابهم في أنفسهم ودينهم. وهي قصيدة طويلة ننشرها اليوم على صفحات الرسالة، معترفين بالفضل للشيخ الجليل العلامة الشيخ خليل الخالدي الذي كتبت في الرسالة عنه مرتين. جمعنا بالشيخ الكريم أحد المجالس في حلوان شهر رمضان(87/25)
الماضي. فسأله بعض الحاضرين، وهو يفيض في حديثه، عن كتاب عن المدافع كتبه أحد الأندلسيين فحدث عنه وقال: وكانوا يسمون المدافع الأنفاض، وقد قال قائلهم:
وجاءوا بأنفاض عظام كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة
وهذا البيت من قصيدة بعث بها أهل غرناطة إلى السلطان با يزيد. فاستنشدناه ما يحفظ ثلاثة وثلاثين بيتاً وقال: إن القصيدة طويلة تجاوز مائة بيت، وإنها عنده، قد نسخها في مدينة فاس. فسألناه أن يرسلها إلينا حين يعود إلى القدس
وقد أنجز الشيخ حفظه الله وعده، فأرسل القصيدة لتنشر في مجلة (الرسالة). ويتبين من القصيدة أنهم استغاثوا السلطان من قبل فكتب إلى الأسبان فلم يأبهوا لما كتب وأن ملوك مصر أرسلوا رسلاً فادعى الأسبان أن المسلمين تنصروا مختارين، وسلكوا في الزور ما نعهده اليوم في السياسة الأوربية
ولسنا ندري ما كان جواب السلطان با يزيد على هذه الدعوة الملهوفة والقصيدة الباكية. فمن عرف شيئاً في هذا فليخربنا مشكوراً
عبد الوهاب عزام
القصيدة ومقدمتها
ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على جميعها للسلطان أبي يزيد خان العثماني رحمه الله ما نصه بعد سطر الافتتاح
(الحضرة العلية، وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهد أقطارها، وأعز أنصارها، وأذل عداتها. حضرة مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، والسلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام، وناصر دين نبينا محمد عليه السلام، محي العدل، ومنصف المظلوم ممن ظلم، ملك العرب والعجم، والترك والديلم، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين، وسلطان البحرين، حامي الذمار، وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا، وكهفنا وغياثنا، مولانا أبو زيد، لا زال ملكه موفور الأنصار، مقروناً بالانتصار، مخلد المآثر والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف الله به الأجر الجزيل في الدار الآخرة، والثناء الجميل والنصر في(87/26)
هذه الدار، ولا برحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد، مجردة على أعداء الدين من باسها ما يروي صدور السمر والصفاح، وألسنة السلاح، سالكة سبيل السابقين، الفائزين برضي الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد
سلام كريم دائم متجدد ... أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا ... ومن البس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه ... وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه ... قسنطينةٌ أكرمْ بها من مدينة
سلام على من زين الله ملكه ... بجند وأتراك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم ... وزادكم ملكاً على كل ملة
سلام على القاضي ومن كان مثله ... من العلماء الأكرمين الأجلة
سلام على أهل الديانة والتقي ... ومن كان ذا رأي من أهل المشورة
سلام عليكم من عبيد تخلفو ... باندلس بالغرب في أرض غربة
أحاط بهم بحر من الروم زاخر ... وبحر عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليكم من عبيد أصابهم ... مصاب عظيم يا لها من مصيبة
سلام عليكم من شيوخ تمزقت ... شيوبهم بالنتف من بعد عزة
سلام عليكم من وجوه تكشفت ... على جملة الاعلاج من بعد سترة
سلام عليكم من بنات عواتق ... يسوقهم الألباط قهراً لخلوة
سلام عليكم من عجائز أكرهت ... على أكل خنزير ولحم لجيفة
نقبل نحن الكل أرض بساطكم ... وندعو لكم بالخير في كل ساعة
أدام الإله ملككم وحياتكم ... وعافاكم من كل سوء ومحنة
وأيدكم بالنصر والظفر بالعدا ... وأسكنكم دار الرضى والكرامة
شكونا لكم مولاي ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وعظم الرزية
غُدرنا ونُصرنا وبُدل ديننا ... ظُلمنا وعوملنا بكل قبيحة
وكنا على دين النبي محمد ... نقاتل عباد الصليب بنية
ونلقي أموراً في الجهاد عظيمة ... بقتل وأسر ثم جوع وقلة(87/27)
فجاءت علينا القوط من كل جانب ... بسيل عظيم جملة بعد جملة
ومالوا علينا كالجراد بجمعهم ... بجد وعزم من خيول وعدة
فكنا بطول الدهر نلقي جموعهم ... فنقتل فيها فرقة بعد فرقة
وفرسانهم تزداد في كل ساعة ... وفرساننا في حال نقص وقلة
فلما ضعفنا خيموا في بلادنا ... ومالوا علينا بلدة بعد بلدة
وجاءوا بأنقاض عظام كثيرة ... تهدم أسوار البلاد المنيعة
وشدو عليها في الحصار بقوة ... شهوراً وأياماً بجد وعزمة
فلما تفانت خيلنا ورجالنا ... ولم نر من إخواننا من إغاثة
وقلت لنا الأقوات واشتد حالنا ... أطعناهم بالكره خوف الفضيحة
وخوفاً على أبنائنا وبناتنا ... من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة
على أن نكون مثل من كان قبلنا ... من الدجن من أهل البلاد القديمة
ونبقي على آذاننا وصلاتنا ... ولا نتركن شيئاً من أمر الشريعة
ومن شاء منا البحر جاز مؤمناً ... بما شاء من مال إلى أرض عدوة
إلى غير ذاك من شروط كثيرة ... تزيد على الخمسين شرطاً بخمسة
فقال لنا سلطانهم وكبيرهم ... لكم ما شرطتم كاملاً بالزيادة
وأبدى لنا كتباً بعهد وموثق ... وقال لنا هذا أماني وذمتي
فكونوا على أموالكم ودياركم ... كما كنتمُ من قبل دون أذية
فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة
وخان عهوداً كان قد غرنا بها ... ونصرنا كرهاً بعنف وسطوة
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف ... وحلطها بالزبل أو بالنجاسة
وكل كتاب كان في أمر ديننا ... ففي النار ألقوه بهزؤ وحقدة
ولم يتركوا فينا كتاباً لمسلم ... ولا مصحفاً نخلو به للقراءة
ومن صام أو صلى ويعلم حاله ... ففي النار يلقوه على كل حالة
ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم ... يعاقبه الألباط شر العقوبة
ويلطم خديه ويأخذ ماله ... ويجعله في السجن في سوء حالة(87/28)
وفي رمضان يفسدون صيامنا ... بأكل وشرب مرة بعد مرة
وقد أمرونا أن نسب نبينا ... ولا نذكرنه في رخاء وشدة
وقد سمعوا قوماً يغنون باسمه ... فأدركهم منهم أليم المضرة
وعاقبهم حكامهم وولاتهم ... بضرب وتغريم وسجن وذلة
ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي ... يذكرهم لم يدفنوه بحيلة
ويترك في الزبل طريحاً مجندلاً ... كمثل حمار ميت أو بهيمة
إلى غير هذا من أمور كثيرة ... قباح وأفعال عرار ردية
وقد بدلت أسماؤنا وتغيرت ... بغير رضى منا وغير إرادة
فآهاً على تبديل دين محمد ... بدين كلاب القوط شر البرية
وآهاً على أسماء حين تبدلت ... بأسماء أعلاج من أهل الغباوة
وآها على أبنائنا وبناتنا ... يروحون للألباط في كل غدوة
يعلمهم كفراً وزوراً وفرية ... ولم يقدروا أن يمنعوهم بحيلة
وآهاً على تلك المساجد حولت ... كنائس للكفار بعد الطهارة
وآهاً على تلك البلاد وحسنها ... لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة
وصارت لعباد الصليب معاقلاً ... وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة
وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدى ... ولا مسلمين نطقهم بالشهادة
فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا ... إليه لجادت بالدموع الغزيرة
ويا ويلنا يا بؤس ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وثوب المذلة
سألنك يا مولاي بالله ربنا ... وبالمصطفى المختار خير البرية
وبالسادة الأخيار آل محمد ... وأصحابه أكرم بهم من صحابة
وبالسيد العباس عم نبينا ... وشيبته البيضاء أفضل شيبة
وبالصالحين العارفين بربهم ... وكل ولي فاضل ذي كرامة
عسى تنظر فينا وفيما أصابنا ... لعل إله العرش يأتي برحمة
فقولك مسموع وأمرك نافذ ... وما قلت من شيء يكون بسرعة
ودين النصارى أصله تحت حكمكم ... ومن ثم يأتيه إلى كل كورة(87/29)
فبالله يا مولاي منوا بفضلكم ... علينا برأي أو كلام بحجة
فانتم أولات الفضل والمجد والعلا ... وغوث عباد الله في كل آفة
فسل بابهم أعني المقيم برومةٍ ... بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة
ومالهم مالوا علينا بغدرهم ... بغير أذى منا وغير جريمة
وحبسهم المغلوب في حفظ ديننا ... وأمن ملوك ذي وفاء وجلة
ولم يخرجوا من دينهم وديارهم ... ولا نالهم غدر ولا هتك حرمة
ومن يعط عهداً ثم يغدر بعده ... فذاك حرام الفعل في كل ملة
ولا سيما عند الملوك فإنه ... قبيح شنيع لا يجوز بوجهه
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعلموا منه جميعاً بكلمة
وما زادهم إلا اعتداء وجرأة ... علينا وإقداماً بكل مساءة
وقد بلغت إرسال مصر إليهم ... وما نالهم غدر ولا هتك حرمة
وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا ... رضينا بدين الكفر من غير قهرة
وساقوا شهود الزور ممن أطاعهم ... والله ما نرضي بتلك الشهادة
لقد كذبوا في قولهم وكلامهم ... علينا بهذا القول أعظم فرية
ولكن خوف القتل والحرق ردنا ... نقول كما قالوه من غير نية
ودين رسول الله ما زال عندنا ... وتوحيدنا لله في كل لحظة
ووالله ما نرضي بتبديل ديننا ... ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثة
وإن زعموا إنا رضينا بدينهم ... بغير أذى منهم لنا ومساءة
فسل انجرا عن أهلها كيف أصبحوا ... أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة
وسل بلفيقا عن قضية أمرها ... لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة
ومنيافة بالسيف مزق أهلها ... كذا فعلوا أيضاً بأهل البُشُرة
واندَرَش بالنار أحرق أهلها ... بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة
فها نحن يا مولاي نشكو إليكم ... بهذا الذي نلقاه من شر فرقة
عسى ديننا يبقي لنا وصلاتنا ... كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
وإلا فيجلونا جميعاً من أرضهم ... بأموالنا للغرب دار الأحبة(87/30)
فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا ... على الكفر في عز على غير ملة
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم ... ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجو زوال كروبنا ... ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجوا زوال كروبنا - وما نالنا من سوء حال وذلة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنا ... وعزتكم تعلو على كل عزة
فنسأل مولانا دوام حياتكم ... بملك وعز في سرور ونعمة
وتمدين أوطان ونصر على العدا ... وكثرة أجناد ومال وثروة
وثم سلام الله تتلوه رحمة ... عليكم مدى الأيام في كل ساعة
انتهت الرسالة من نسختين بقلم مغربي رأيتهما بعاصمة فاس صانها الله من كل باس
خليل الخالدي(87/31)
3 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي
لوفن هوك
أول غزاة المكروب
(بائع القماش الهولاندي الساذج الذي ضحك منه أهل بلده فكاتب الجمعية الملكية البريطانية وبها روبرت بويل واسحاق نيوتن فاستمعت له وصفقت خمسين عاماً)
- 4 -
وكانت تلك الحيوانات الصغيرة في كل مكان، حتى في فم (لوفن هوك). كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية يقول: (لقد بلغت العام الخمسين من عمري ومع هذا لي أسنان سليمة سلامة لا تتفق مع هذه السن، وسبب هذا أني أدلك أسناني بالملح كل صباح دلكاً شديداً، وثم أنظف أضراسي بريشة وأدلكها بثوب دلكاً عنيفاً). ومع ذلك كانت تتبقى بقية من جسم أبيض فيما بين تلك الأسنان. فتراءى للوفن أن يتعرف كنهها فقشط منها بعضها ودافه في ماء مطر تقي وأخذ منه في شعرية من الزجاج ونصبها تحت عدسته، ثم أغلق الباب. وأخذ ينظر فرأى عند بؤرة العدسة مخلوقات جديدة، فنوع يثب قدماً في الماء (ككراكي الأسماك)، ونوع ثان لا يلبث أن يستقيم في عومه قليلاً حتى يدور بغتة فينتكس على رأسه انتكاسات رشيقة، ونوع ثالث حتى يدور بغتة فينتكس على رأسه انتكاسات رشيقة، ونوع ثالث كالعصي الملتوية يتحرك في بطء شديد تكاد تخطئه العين، إلا عين لوفن، فأخذ يحملق فيها حتى احمرت عيناه، وحتى رآها تتحرك يقيناً، وتنبض بالحياة يقيناً. كان فم (لوفن) مليئاً بالمتحركات من شتى الأجناس. وكان به جنس آخر كقضبان الخيزران سهلة التثني، تجيء وتروح في تؤدة الأسقف ووقاره، وهو على رأس موكبه بين قسيسيه وأخباره، وجنس خامس حلزوناتٌ كالبريمات نوازع الفلين، نفخ الله فيها من روحه فجاءت أشد ما تكون سعياً ونشاطاً
لم يقع هذا الرجل الغريب على شيء إلا اتخذه موضوعاً لتجربته، ولم يعتق نفسه، فاتخذ(87/32)
ذاته موضوعاً للتجربة أيضاً. وأتعبه العمل وأجهده طول التحديق إلى تلك الحيوانات التي بأسنانه فطلب الراحة في التريض تحت الأشجار العالية، وقد أخذت بقدوم الخريف تتناثر عنها ورقاتها المريضة الصفراء فتقع من تحتها على سطوح الترع وهي في سكونها وملاستها كالمرايا الغيراء، ولكنه ما لبث أن لًقي في طريقه شيخاً هرماً، فحدثه فكان هذا إيذاناً بذهاب راحته وانتهاء رياضته. كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية عن هذا يقول: (وتحدثت إلى هذا الشيخ فألفيته عاش ما خلا من أيامه عيشة قصدٍ واستقامة، فالوسكي لم يذقه قط، والتبغ لم يمس فمه، والنبيذ ندر شربه إياه. ووقعت عيني على أسنانه مغطاة بالرواسب، فسألته متى نظفها آخر مرة، فأجاب إنه لم ينظفها مرة واحدة في حياته
فما قرع هذا الجواب سمع (وفن) حتى طار التعب عن عينيه. فقد وقع في نفسه أن فم هذا الرجل لابد أن يكون جنينة مليئة بالحيوانات من كل صنف بهيج وغير بهيج، وما لبث أن جر الشيخ القذر التقي إلى مكتبه. وبالطبع وجد الألوف من تلك الحيوانات الصغيرة في فمه، ولن كان همه أن يخبر الجمعية الملكية أنه وجد في فمه مخلوقاً جديداً ينساب في التواءاته كالأفعى بين شتى الحيوانات الأخرى، وأن الماء بأنبوبة الزجاج الشعرية كان يعج به تحت عدسته
ومن الغريب في (لوفن هوك) أنك مهما تصفحت كتبه، وهي مئات، فلن تجده يذكر مرة واحدة أن هذه الأحياء الصغيرة تضر بالإنسان. إنه رآها في ماء الشرب، ووقع عليها في فم الإنسان، ومضت الأعوام فتكشفت له نفس تلك الأحياء في أمعاء الضفدع وأمعاء الخيل وفي أمعائه هو، كان يجدها أسراباً أسراباً على حد قوله (كلما اعتراه إسهال). ومع هذا لم يقل إنها كانت سبباً في هذا الذي اعتراه. لقد كان محاذراً في أحكامه، ولم يكن له ذلك الخيال الذي اعتاد الناس أن يطيروا به إلى استنتاجات فطيرة غير ناضجة كالتي يثب إليها أهل هذا العصر الحاضر من دُراس المكروب. ولكم وَدِدْنا لو درس هؤلاء ما كتب (لوفن)، إذن لتعلموا من حذره الشيء الكثير. ففي الحق لقد وصف الواضعون في نصف القرن السالف آلافاً من المكروبات، ونسبوا إليها مئات من الأمراض، فكشف النقد في الكثرة الكبرى من تلك الحالات أن اجتماع المرض والمكروب في الجسم إنما كان ارتفاعاً عارضاً. كان (لوفن هوك) يخشى دائماً أن يشير إلى الشيء فالشيء ويقول هذا سبب هذا.(87/33)
كان به إيمان فطري بتعقد الأمور واختلاط الأسباب التي تنتج الحياة وظواهرها، فكان دائماً محجاما لا يقدم على ربط سبب بظاهره
ومرت السنون وهو يشتغل بالبزازة في دكانه الصغير، أو يقوم بكنس دار البلدية (بدلفت). وزاد حذراً وزاد شراسة، وازدادت كذلك الساعات الطويلة التي كان يقضيها في التحديق في المئات من مكرسكوباته، وزاد اكتشافه لكل عجيب غريب. وذات يوم نظر إلى سمكة صغيرة في أنبوبة من الزجاج وقد علا ذيلها فلمح فيه لأول مرة أوعية الدم الشعرية التي تصل ما بين الأوردة والشرايين فاستكمل بذلك الدورة الدموية التي اكتشفها (هارفي) من قبله
وكان (لوفن) لا يمتنع عن امتحان الشيء لقداسة أو عاطفة، أو خشية أن يُسيء إلى الأدب والحرمات، فاكتشف الخلية المنوية للذكر من الإنسان - اكتشاف فيه تورط وفيه احراج، وفيه جمود وبرود في سبيل العلم تقشعر منه النفوس، ولكن (لوفن) كان رجلاً بسيطاً ساذجاً
ودارت الأيام فشاع ذكره في أوربا، وجاءه بطرس الأكبر قيصر الروس يقدم له احترامه، وسعت إليه ملكة الانجليز في بلدته لترى الأعاجيب من خلال عدساته. وأبطل للجمعية الملكية كثيراً من الخزعبلات السائدة، وكان أشيع أعضائها ذكراً ما خلا (اسحق نيوتن) و (روبرت بويل). ولم يغير كل ذلك شيئاً من نفسه؛ ذلك أنه كان من أول الأمر كبير التقدير لها كثير الإعجاب بها. وكانت كبرياؤه لا حد لها، ولا يضارعها إلا اتضاعه كلما فكر في هذا الكون وخفاياه، في السر الهائل المجهول الذي يَلفه ويلف سائر الناس معه. كان يعبد الله، وكان عباداً للحقيقة. قال: (في اعتزامي إلا أحتفظ بآرائي عناداً وتعصباً، فأنا أنبذها إلى ما يعرضه على غيري من الآراء، مادام هذا الغير لا يطلب من عرضها إلا إظهار الحقيقة لعيني، وأنا أعتنق هذا المعروض الجديد بمقدار ما أستطيع تحقيقه فيه من صواب. كذلك في اعتزامي أن استخدم ما حباني به الله من مواهب قليلة للحيلولة بين الناس وبين خرافات وثنية جاءتهم من الزمن القديم. وفي اعتزامي أن أنهض إلى الحق وأن أثبت عليه)
وكان صحيح الجسم صحة خارقة، ففي الثمانين كان يرفع بيده المكرسكوب، وهي ترتعد، إلى زواره لينظروا بها إلى الحيوانات الصغيرة، أو إلى صنوف الأجنة من المحار. وكان(87/34)
مُغرماً بالشراب في الأمساء، وأي هولاندي ليس به هذا؟ وكأنما كان المرض لا يمسه إلا في الإصباح التي تلي تلك الإمساء، وما كان مرضاُ بل ضيقاً في النفس واعتلالاً في المزاح. وكان يبغض الأطباء فلا يستنصح منهم أحداً. وأنى لهم معرفة بأدواء الجسد وعلمهم بتركيبه عشر معشار علمه؟ ومن أجل هذا كانت له نظريته الخاصة في تعليل سوء مزاجه - وأية نظرية تلك! كان يعلم أن بالدم كرات صغيرة مستديرة هو الذي اكتشفها وارتآها أول راء. وهو الذي اكتشف في ذيل السمكة تلك الشعريات الصغيرة التي تصل ما بين الأوردة والشران. فالليالي التي كان بعمرها بالكأس والطاس كانت على زعمه تؤثر في دمه فتجعله ثخيناً، فإذا هو جاء يمر بالشعريات تعذر عليه ذلك. فمن هذا كان اختلال مزاجه في الصباح. وإذن فدواء هذه الثخانة تخفيفها. وإليك ما كتب إلى الجمعية الملكية:
(فأنا إذا أكلت ذات مساء فأثقلت شربت في الصباح عدداً كبيراً من فناجيل القهوة، وهي على أسخن ما أحتمل حتى أتصبب عرقاً، فإذا لم يشفني ذلك فكل ما بدكان الصيدلاني لا يشفي. وهذا دوائي من أعوام كلما حُممْت)
وهداه شرب القهوة إلى حقيقة جديدة عن حيواناته الصغيرة. يا له من رجل! ما كان يفعل شيئاً حتى يهديه هذا الشيء إلى جديد في الطبيعة. فقد كان يعيش بسمعه وبصره وحسه وفكره في دُنى تلك الحيوانات التي كان يسترق منها النظرات من خلال تلك العدسات. لقد كان كالطفل إذا يستمع لحكاية البط والغراب وهو مستغرق عما هو حوله، لا ترى منه إلا شفتين منفرجتين وعينين واسعتين من شدة الدهشة والإعجاب. وكان كالطفل كذلك في إعادة ما قرأ من أقاصيص الطبيعة المرة بعد المرة، حتى لتجد على صفحاتها من إبهامه بصمات، وفي أركانها من فعله ثنيات تهديه إذا هو استراح فعاد ليبدأ من حيث انتهى. من ذلك أنه بعد سنوات من اكتشافه المكروب في فمه جلس ذات صباح إلى شراب القهوة يستشفي به، فبينا هو في عرقه الصبيب خطر له أن يعود فينظر إلى مكروب أسنانه من جديد. . ما هذا! أين ذهبت حيوانات أسناني فإني لا أرى واحدة تتحرك بالحياة! أو كأني أرى الألوف منها ولكنها أجساد هامةد، وإلا واحدة أو اثنتين تدبان على ضعف كأنما مسهما المرض! ثم صاح يستنجد بالأحبار والقديسين ألا يجيئه في تلك الساعة لورد من لوردات الجمعية الملكية يطلب إليه رؤية تلك المركوبات في فمه فلا يجدها فيكذبه فيما كتب عنها(87/35)
ولكن صبراً إنه كان يشرب القهوة. كانت ساخنة جداً حتى كادت تتنفسط منها شفتاه. وهو إنما نظر إلى المكروبات في الرواسب التي بين أسنانه الأمامية بعد شربه هذه القهوة الساخنة مباشرة
وما لبث أن استعان بمرآة مكبرة واخذ يقشط ما بين أسنانه الخلفية، ثم ينظر. . . . ما كَذَب المنظارُ وما أخطأ لوفن. قال: وما لبثت أن دهشتُ للكثرة التي وجدتها من تلك الحيوانات الحية في القليل التافه من تلك القِشاطة، كثرةٍ لا يؤمن بها إلا من رأى). وبعد هذا أخذ يجري تجارب صغيرة في أنابيب الزجاج، فسخن فيها الماء بما يًأهُله من تلك الأحياء إلى درجةُ فويق التي يحتملها المرء في حمامه، وفي لحظة فقدت الحيوانات روحاتها وجيئتها. وبرد الماء ومع هذا لم تعد إليها الحياة. إذن فالقهوة الساخنة هي التي قتلت تلك الحيوانات في أسنانه الأمامية
وأعاد النظر إلى هذه الحيوانات في غبطة وسرور، ولكن أساءه وأهمه أنه لم يتبين لهذا الحيوانات رأساً ولا ذيلاً، فإنها كانت تسير في تلويها مسرعة في اتجاه، ثم لا تلبث أن تكر راجعةً بنفس السرعة في عكس الاتجاه دون أن تنعطف أو يدور لها رأس على عقب، ولكن لابد أن يكون لها ذيل: لا بد أن يكون لها رأس! ولابد أن تكون لها أكباد وأمخاخ وأوعية دموية كذلك! وعاد بذاكرته إلى الوراء أربعين عاماً، إلى البراغيث وديدان الجبن كيف كانت تراها عينه مخلوقات بسيطة الصنع مجملة التركيب، فإذا بها تتراءى تحت عدسته معقدة التركيب مفصلة الصنع تامة كخلق الأنسان نفيه. فطمع أن ينشف له من هذه المكروبات ما تكشف من هذه الديدان. ولكن عبثاً حدق في أقوى عدساته، فقد ظلت هذه المكروبات تظهر في بصره عصياً أو كرات أو حلزونات بسيطة لا تفصيل فيها ولا تعقيد. وأخيراً اكتفى بأن حسب للجمعية الملكية قطر الوعاء الدموي بتلك المكروبات لو أنه كان، ولم يقل قط إنه رأى تلك الأوعية، وإنما أراد أن يتسلى بتخيله أولياءه من أعضاء الجمعية يتراجعون دهشةً من صغر الأرقام التي أسفرت عنها حسبته
وإذا كان (لوفن هوك) قد فاته أن يرى الجراثيم التي عنها تنشأ أمراض الإنسان، وإذا كان خياله قد قصر عن إدراك ما تأتيه حيواناته اللعينة من قتل وأجرام، فلم يفته أن يدرك أن هذه الحيوانات التي تُفلت العينَ قد تَقتل وقد تأكل حيوانات تجل عنها أضعافاً كثيرة. فذات(87/36)
يوم كان يتلهى ببعض حيوانات الماء الصدفية كبلح البحر وأم الخلولَ جرفها من قيعان الترع، فوجد بداخل الأم الواحدة آلافاً من الأجنة، فهالته كثرتها وتساءل كيف لا تشرق مجاري الماء بهذا العدد العديد من الأحياء. وخال أن يُربى تلك الأجنة في زجاجة بها ماء أخذه من تلك الترع، وأخذ كل يوم يعبث بالماء وقد تلزج كالمخاط بما فيه من أجنة، وكان أن نظر إليها بعدسته يحسب أنها كبرتْ، فأفزعه أن وجد اللحم الطري يتلاشى بين أصدافه، ذلك لأن آلافاً من المكروبات الدقيقة استطعمته فالتهمته بشراهة أي شراهة
(تعالى الله! حي يعيش على حي، وحياة تستمد البقاء من فناء حياة! تلك لا محالة قسوة كبيرة، ولكنها مشيئة الله. ولا شك أن الخير كل الخير فيها، فلولا أن أكل المكروب صغار هذا المحار، وكل أم تلد ألفاً في المرة الواحدة، لانسدت به القنوات). هكذا فكر لوفن، وبهذا القنوات أسلم لقضاء ربه. كان يتقبل كل شيء ويرضى عن كل ما يجد، فلم يكن يعد قد جاء العصر الذي تهجم فيه البحاث على المقام الاسمي ورفعوا أيديهم إلى السماء يتسخطون ويتهددون على ما بالطيعة من قسوة لا معنى لها على ابنها الإنسان
وبلغت سنه الثمانين وفاتتها، وتخلخلت أسنانه بالرغم من قوة جسمه، وكل سن للتخلخل ولو أمهلتها السنون حيناً. وجاء شتاء أيامه وخيم بظله وقره فلم يشك شيئاً، بل انتزع سناً عتيقة من فمه وصوب إليها العدسة يمتحن تلك المخلوقات الضئيلة في الجذر الخاوي من السن مرة أخرى. ولم لا يفعل؟ فلعله يجد تفصيلاً جديداً فاته في سائر تلك المرات العديدة. وجاءته رفقة من صحابه وقد بلغ الخامسة والثمانين تسأله أن يترفق بنفسه ويدع البحث والدرس، فقارب ما بين حاجبيه وأوسع ما بين جفنيه، ولم يكن فارق البريق عينيه، وقال لهم: (إن الثمرة التي تنضج في الخريف تطول سائر الثمر عمراً). سمي الخامسة والثمانين خريفاً!
وكان كأرباب المعارض يحب أن يسمع إعجاب الناس بما يعرض إن حضروا، أو يقرأ لغيابهم إذا هو كتب لهم تلك الكتب الثرثارة المتفككة الطويلة. ولا تنس انه لم يكن يعرض بضاعته إلا على الفلاسفة والمتفلسفين وأحباب العلم. وكان لا يحسن التدريس إذا هو حاوله. كتب إلى الفيلسوف الشهير ليبنتز يقول: (أنا لم أعلم أحداً، لأني لو علمت واحداً وجب على تعليم آخرين، وإذن أعبد نفسي عبودية لا تنقضي، وأنا أحب أن أكون سيداً(87/37)
حراً)
فأجابه ليبنتز يقول: (. . . ولكنك يا رجل إذا لم تعلم الشباب صناعة العدس وطرق البحث والنظر زال كل هذا عن وجه الأرض بزوالك). فكتب صاحبنا الهولاندي باستقلاله المعهود يقول: (لقد أعجب أساتذة (ليدن) وطلبتها باكتشافاتي مرة في أيام سالفة بعيدة فاستأجروا من نحاتي العدسات وصاقليها ثلاثة جاءوا يعلمونهم صناعتها، فعلى أي نتيجة خرجوا؟ لا شيء بقدر ما أرى، لأن جل الدروس أو كلها كانت تعطى لاكتساب المال ببيع العلم أو إظهاراً للعلم بغية احترام الناس وإعجاب الدنيا، وتلك نوازع لا تمت بسبب إلى اكتشاف خبايا الطبيعة المحجوبة عن أبصارنا، فهذه دراسات قد لا يصلح لها من الألف واحد، لأن الزمن الكثير يضيع فيها، ولأن المال الكثير يضيع فيها، ولأنها تستغرق من صاحبها فكره كله وحسه أجمع لكي يخرج منها على شيء. . .)
هذا أول رجال المكروب وكاشفيه. وفي عام 1723، وقد بلغ الحادية والتسعين استدعى صديقه (هوجفليت) وهو على سرير الفناء. فلم يستطع رفع يده. وملأ الدمع جفنيه وتقاربا ليلتحما بلحام الموت. فغمغم إليه: (صديقي هوجفليت، رجائي إليك أن تترجم الكتابين اللذين على المنضدة إلى اللاتينية. . . . . ابعث بهما إلى لندن. . . إلى الجمعية الملكية. . . . . . . . . . . . . .)
وبذلك بر بوعده للجمعية الذي أبرمه من خمسين سنة خلت أنْ يكتب لها إلى آخر رمق. وبعث (هوجفليت) الكتابين وكتب معهما يقول: (أسيادي العلماء، أبعث لكم آخر هدية من صديقي المحتضر، راجياً أن تحظى آخر كلمة له بالرضاء منكم)
وهكذا ذهب أول البحاث في عالم الجرثوم. وستقرأون عن اسبالتراني وهو أنبه منه، وعن بستور وله أضعاف ما لصاحبنا من خيال، وهم روبرت كوخ وقد قام بأعمال أسرع ثمرة من أعماله في تخفيف ويلات المكروب عن الإنسان، وعن آخرين لهم اليوم كما لهؤلاء صيت أبعد وذكر أشيع ولكن صدقوني لم يكن بين هؤلاء وهؤلاء من كان يطاول في الأمانة، ولا في الدقة، ولا في الحكم على الأمور، هذا القماش الهولاندي البسيط.
أحمد زكي(87/38)
15 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- مهما يكن، فأنت تستطيع أن تحكم فيما إذا كان ينبغي أو لا ينبغي لمن لديه المعرفة أن يكون قادراً على تعليل معرفته
- لا شك أن ذلك حتم عليه
ولكن هل تظن أن كل إنسان قادر على تعليل هذه الموضوعات نفسها التي تتحدث عنها الآن؟
ليتهم يستطيعون يا سقراط! ولكم أخشى ألا يكون ثمت من يستطيع في مثل هذه الساعة من الغد أن يقدم تعليلاً جديراً بأن يؤخذ عنه
إذن فليس من رأيك يا سيمياس أن كل الناس يعملون هذه الأشياء؟
- يقيناً أنهم لا يعلمون
- إذن فهم آخذون في تذكر ما قد كانوا يعلمونه من قبل
- يقيناً
ولكن متى كسبت أرواحنا هذه المعرفة؟ - لم يكن ذلك بعد أن ولدنا بشراً؟
- لا، ولا ريب
- وإذن فقبل ذلك؟
- نعم
- إذن يا سيمياس، لا بد أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن تُصور في هيئة البشر، ولا بد أن قد كان لديها ذكاء لما كانت بغير أبدان؟
- حقاً يا سقراط، ما لم تفرض أن هذه الآراء قد أوتيتنا في ساعة الميلاد، لأنه لم يبق إلا تلك اللحظة وحدها
- نعم يا صديقي، ولكن متى افتقدناها؟ فهي لا تكون لدينا عندما نولد - وقد سلمنا بهذا.(87/40)
هل افتقدناها في اللحظة التي فيها أخذناها، أم في وقت آخر غير هذا؟
- لا يا سقراط، لقد أدركت أني إنما كنت أنطق هراء لا أعيه
- إذن، أفلا يجوز لنا يا سمياس أن نقول ما نردده دائماً، وهو إذا كان ثمت جمال مطلق، وخير مطلق، وسائر الجواهر التي اكتشفنا الآن أنها سبقتنا في الوجود، وكنا نقيس إليها كل أحاسيسنا ونقارنها بها - زاعمين أن قد أن لها وجود سابق، فان لم يكن، ذهبت كل قوة في قولنا. فليس من سبيل إلى الشك بأنه إذا كان لهذه المُثُل المطلقة وجود قبل أن نولد، فلا بد أن أرواحنا كانت كذلك موجودة قبل ميلادنا، فان لم تكن المُثُل موجودة، لم تكن الأرواح موجودة كذلك
- نعم يا سقراط، إني مقتنع بأن مقتنع بأن لوجود الروح قبل الميلاد هذه الضرورة نفسها، وأنت إنما تتحدث من الروح عن كنهها: فقد انتهى بنا التدليل إلى نتيجة يسرني أنها تتفق مع ما أرتئيه. فلست أرى شيئاً يبلغ في بداهته مبلغ قولنا إن الجمال، والخير، وسائر الأفكار التي كنت تتحدث عنها الآن تواً، لها وجود غاية في الحق والتجريد، وإني لمقتنع بالدليل
- حسناً، ولكن هل اقتنع سيبيس اقتناعك هذا؟ لأنني لا بد أن أقنعه كذلك
قال سمياس - أظن سيبيس مقتنعاً؟ فإني أحسبه قد آمن بوجود الروح قبل الميلاد، على الرغم من أنه أبعد الكائنات عن التصديق. ولكن دليلاً لم يقم بعد على استمرار وجود الروح بعد الموت، بحيث يقنعني أنا، فلا أستطيع أن أتخلص من شعور الدهماء الذي كان يشير إليه سيبيس - ذلك أن الشعور بأنه إذا مات الانسان، فقد تتبعثر الروح، وقد يكون ذلك نهايتها، فلو سلمنا بأنها قد تتولد وتنشأ في مكان غير هذا، وقد تكون موجودة قبل حلولها في الجسم البشري، فماذا يمنع أن تبلي وتفنى بعد أن حلت فيه ثم خرجت منه ثانياً؟
فقال سيبيس - هذا جد صحيح يا سمياس، أما أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن نولد، فهو الشطر الأول من الحديث، ويظهر أن قد قام الدليل عليه، وأما أن الروح ستبقى بعد الموت، كما كانت قبل الميلاد، فهو الشر الآخر، الذي لا يزال يعوزه الدليل، ولابد له من التأييد
قال سقراط - أي سمياس وسيبيس! لو أنكما أضفتما التدليلين أحدهما إلى الآخر - أعني(87/41)
هذا وما سبقه، الذي سلمنا فيه بأن كل شيء حي قد ولد من الميت، لرأيتما أنا قد فرغنا من إقامة هذا الدليل، لأنه لو كانت الروح موجودة قبل الميلاد، وأنها إذ تجيء إلى الحياة وإذ تولد، لا تكون ولادتها إلا من الموت ومن يعالج الموت، أفلا يجب عليها بعد الولادة أن تستمر في وجودها ما دام لابد لها أن تولد مرة أخرى؟ لا ريب في أنا قد فرغنا من إقامة البرهان الذي ترجوان، ولكني مع ذلك، أحسبك أنت وسمياس، لا ترغبان في أن تُخبرا هذا الدليل أكثر من ذلك، فقد استولى عليكما ما يستولي على الأطفال من فزع، خشية أن يذرو الهواء الروح حقيقة، ويبعثرها عند فراقها الجسد، وبخاصة إذا كتب لإنسان أن يموت في جو عاصف، ولم يقدر له الموت حيث السماء ساكنة
فأجاب سيبيس باسماً - إذن يا سقراط، فواجبك أن تنفض عنا خوفنا بالدليل - ومع ذلك فليست هي مخاوفنا، إن توخيت الدقة في القول، ولكن هنالك في طويتنا، طفل ينظر إلى الموت، كأنه ضرب من الغول، فلا بد أن نحمله كذلك على ألا يفزع إذا ما انفرد وإياه في الظلام
قال سقراط - ردد في ل يوم صوت الساحر، إلى أن تطرد بالسحر ذلك الغول
- وأين عسانا أن نجد ساحراً حاذقاً يقينا مخاوفنا بعد ذهابك يا سقراط
فأجاب - إن هِلاس، لمكان فسيح يا سيبيس، وفيه كثير من طيبي الرجال، وهناك غير قليل من القبائل المتبربرة، فابحث عنه في طول البلاد وعرضها، بين هؤلاء جميعاً، ولا تدخر في البحث جهداً ولا مالاً، فليس من سبيل أفضل من استخدامك المال، ولا يفتك أن تبحث عنه كذلك بين أنفسكم فوجوده هاهنا أرجح منه ف أي مكان آخر
فأجاب سيبيس - لن نتردد في القيام في القيام بهذا البحث، ولنعد الآن، إذا شئت، في الحوار إلى النقطة التي استطردنا منها
فأجاب سقراط - طبعاً، وماذا أريد غير هذا؟ فقال: حسناً جداً
قال سقراط - أفلا ينبغي أن نسائل أنفسنا سؤالاً كهذا: - ما هو الشيء الذي تظنه عرضة للبعثرة، ونحن عليه حريصون؟ ثم ما هو الشيء الذي لا نحرص عليه؟ وبعدئذ نستطيع أن نمضي في البحث عما إذا كان ذلك الذي تمتد إليه يد البعثرة، من بيعة الروح أم لا - فعلى ذلك سنقيم ما نكن لأرواحنا من آمال ومخاوف(87/42)
فقال - هذا صحيح
- قد نفرض أن الشيء المركب، أو الذي يتكون من أجزاء، أنه بطبيعته يمكن أن يتحلل، كما أمكن له أن يتركب، أما ذلك الذي لم يتركب من أجزاء، فيلزم أن يكون وحده غير قابل للتحلل، إذا كان ثمة شيء كهذا
فقال سيبيس - نعم فهذا ما قد أتصوره
- وقد يزعم أحد أن غير المركب، يظل كما هو، ولا يخضع للتغير، بينما يكون المركب دائم التغير، فلا يظل أبداً كما هو؟ فقال - إني أظن ذلك أيضاً
(يتبع)
زكي نجيب محمود(87/43)
13 - بين القاهرة وطوس
من سلطان آباد إلى بغداد
للدكتور عبد الوهاب عزام
سلطان آباد حاضرة ولاية في إيران تسمى العراق، وهي في الجنوب الغربي من سهل فراهان، بناها منذ مائة وثلاثين سنة يوسف خان الكرجي وجعلها مربعة الشكل، وسورها وحصنها. وولاية العراق هذه خصبة كثيرة الزرع، فيها زهاء 680 قرية، وسجاجيدها مشهورة
وعلى مقربة من هذه المدينة كانت مدينة الكرج، في الإقليم الذي كان يعرف باسم كرج أبي دلف، وقد ذكره الشعراء في مدائحهم
دخلنا المدينة ليلاً فسرنا قليلاً فانتهينا إلى ميدان فسيح فيه حديقة تمتد منه أربعة شوارع واسعة. وهذا نظام جديد أتخذ لإصلاح المدن الإيرانية في السنوات الأخيرة
وقف بنا السائق على فندق (مهما نخانه) في هذا الميدان فدخلنا إلى فناء واسع للسيارات وصعدنا في سلم إلى حجرات على مقربة منها منتدى (قهوة) فلم نرض هذه المجاورة، فنزلنا إلى فندق آخر بجانبه، ليس في المدينة سواهما. فاتخذنا حجرة لا بأس بها في مثل هذه المدينة، واسترحنا وطعمنا قليلاً ثم خرجنا نجول في البلد فلم نر شيئاً أكثر مما أحاطت به النظرة الأولى، ورأينا المدينة على صغرها وسذاجتها نظيفة جميلة
وبرحنا البلدة والساعة ثمان وأربعون دقيقة من صباح الثلاثاء رابع عشر رجب (23 أكتوبر) مسرعين صوب همذان نود أن نبلغ بأية وسيلة بغداد يوم الأربعاء لندرك قافلة السيارات التي تبرحها إلى دمشق صباح الخميس. بلغنا فخر آباد والساعة تسع. وقد استلفتتنا كثرة العمران والزروع على الطريق كما قلت من قبل، ووقفنا والساعة عشر على ضيعة اسمها زنكنة معروفة بجودة عسلها فأكلنا ونحن نقول إن لله دواء من العسل (مستعيذين من المثل القديم: إن لله جنوداً منها العسل). ثم وقفنا على ملايير (دولت آباد) والساعة إحدى عشرة فطلبت جوازات السفر للإطلاع عليها. والمسافة بين سلطان آباد ودولت آباد 100 كيلو
وواصلنا السير تلقاء الغرب والشمال حتى بلغنا همذان والساعة واحدة بعد الظهر، فسرنا(87/44)
في شارعها الكبير وجددنا العهد بمرقد الفيلسوف ابن سينا، ثم أوبنا إلى فندق يقوم عليه جماعة من الأرمن، والأرمن في إيران قومة الفنادق، تلقاهم في كل مدينة وقرية، وما نزلنا فندقاً أو مطعماً على طريقنا من طهران إلى حدود العراق إلا عرفنا صاحبه أرمنياً
وأعجلنا السفر عن الإقامة في همذان يوماً، فبرحناها بعد ساعتين سائرين شطر الجنوب للمبيت في كرمانشاهان، ونحن الآن على طريقنا التي سلكناها من قبل إلى طهران فلا أعيد وصفها هنا. لما شرعنا نفرع الجبال جنوبي همذان أصاب مصدم السيارة خلل، فسقطت لوحة صغيرة كتب عليها جشن فردوسي (عيد الفردوسي) وقد علق مثلها على كل سيارة أعدت للسفر في حفلات الفردوسي، فوقفنا وبحث السائق فوجدها وفك المصدم فربطه خلف السيارة. وقد أدت هذه الحادثة الصغيرة إلى أن تأخرنا عن بلوغ بغداد يوم الأربعاء ففاتتنا قافلة الخميس كما يأتي. واجتزنا جبال أسد آباد وبلغنا كنكادر والساعة خمس وربع من المساء، وقد ذكرت هذه البلدة في طريقي إلى طهران. أزيد هنا أنا نزلنا فاسترحنا وشربنا الشاي وأكلنا البطيخ، وهو في إيران كثير لا يعدمه السائر حيثما سار، وخرجنا نمشي على الطريق ننتظر أن يعد السائق سيارته فإذا جماعة جالسون في عريش على جانب الجادة، فتقدم كبرهم فحيانا وقال إن في البلد آثاراً قديمة. أتريدون أن تروها؟. وعرفنا حينئذ انه حاكم البلد فسرنا لنرى الآثار وصحبنا الحاكم وجماعة من الموظفين فرأينا بلداً صغيراً فقيراً في وسطه أحجار ضخام وقطع من أعمدة كبيرة اختلطت بالدور، فقيل هذا أثر معبد قديم. واخترقنا بعض الدور وسرنا بضع دقائق فرأينا أحجاراً أخرى قيل لنا إنها من آثار المعبد نفسه. وكان معبداً للإلهة (أناهيتا) من آلهة الفرس القدماء بناه لها الاشكانيون، وكان أيام الفتح العربي مأوى اللصوص وقطاع الطريق فمن أجل هذا سموه قصر اللصوص
قال ياقوت في المعجم: (قال صاحب الفتوح لما فتحت نهاوند سار جيش من جيوش المسلمين إلى همذان فنزلوا كنكور فسرقت دواب من دواب المسلمين فسمي يومئذ قصر اللصوص وبقي اسمه إلى الآن. . .) وقال مسعر بن مهلهل: (قصر اللصوص بناؤه عجيب جداً. وذلك أنه دكة من حجر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعاً فيه إيوانات وجواسق وخزائن تتحير في بنائه وحسن نقوشه الأبصار. وكان هذا القصر معقل إيرويز ومسكنه ومنتزهه لكثرة صيده وعذوبة مائة، وحسن مروجه وصحاريه)(87/45)
تركنا كناكور والساعة ست. فما فارقنا ضوء النهار حتى نشر على الأرجاء بدر التمام أشعته، فسرنا في جبال وسهول حتى أشرف على الجادة جبل بيستون الشاهق وقد ذكرته من قبل وذكرت قصة فرهاد وشيرين التي لا يزال صداها طائراً في أرجائه
ولما لاحت ذروة الجبل في ضوء القمر قلت: بيستون! ثم أنشدت:
لعل شيرين نصيب خسر وشد ... سنك بيهوده مي كند فرهاد
(صار لعل شيرين نصيب خسرو، وعبثاً يقطع فرهاد الحجر) فأنشد السائق:
به بيستون كه رسيدم كرفت بارانم ... أكر غلط نكنم آب جشم فرهادست
(لما بلغتُ بيستون تساقط علي المطر، فان صدق ظني فتلك دموع فرهاد.) ثم قال السائق أتعرف قصة شيرين وفرهاد؟ فأحببت أن أسمعها منه، فقلت ما القصة؟ قال: (كان فرهاد راعياً لبرويز فرأى يوماً شيرين امرأة برويز فهام بها حباً وكان يظنها إحدى برويز فهام بها حباً وكان يظنها إحدى إماء الملك. ومرضت شيرين يوماً فقال الملك لفرهاد إن شئت أن أمنحك شيرين فانحت في الجبل قناة يسيل فيها اللبن من المرعى إلى القصر، فشق في الحجر قناة طولها فراسخ. فلما أبلت شيرين قال الملك لفرهاد بقي أن تبنى لها قصراً عظيماً. فنحت الأحجار وبني القصر. فلما خشي الملك أن يستنجره فرهاد وعده قال لمشيريه كيف الخلاص من فرهاد؟ فتطوعت امرأة عجوز بالحيلة وذهبت إلى فرهاد نائحة لاطمة. قال: ما خطبك؟ قالت: ماتت شيرين. فغشي عليه ومات لساعته، وخلصت شيرين لبرويز)
والقصة ذائعة في الأدب الفارسي، وقد نظمت مراراً وبلغ بها الشعراء آلاف الأبيات. فلما فرغ السائق من قصصه قلت: أنستطيع أن نرى أثر فرهاد في هذا الجبل؟ قال إنه عال، ولا يرى بالليل
بلغنا كرمانشاهان والساعة ثمان بعد أن قطعنا إليها من همذان 190 كيلاً. وأوينا إلى فندق اسمه (مهما نخانه بزرك) أي الفندق الكبير وهو فندق نظيف حسن النظام. واستأذن منا سائق السيارة أن يتأخر قليلاً غداً ريثما يصلح سيارته. ثم انصرف
وأصبحنا ننتظر السائق فطال بنا الانتظار فذهبنا نمشي في المدينة، ثم ذهبنا إلى دار البريد فأبرقنا إلى وزير المعارف لنشكر له ما لقينا من حفاوة قبل أن نجتاز حدود إيران. ورجعنا(87/46)
إلى الفندق فلم نجد السائق، وذهبنا نفتش عنه في الخانات حتى عثنا علياً مًكباً هو وبعض الصناع على إصلاح السيارة. ولم نستطع مغادرة كرمانشاهان إلا وقت الظهر. فأيقنا أن سفرنا غداً إلى دمشق عسير أو محال. وجد بنا السير زهاء ساعتين فبلغنا شاه آباد، وقد ذكرتها من قبل، فنزلنا في فندق صغير فاسترحنا وطعمنا، ونشط أصحاب الفندق من الأرمن في خدمتنا فاستأنفنا السير بعد ساعة ومررنا بكرند وكده باطاق، وسربل ذهاب حتى بلغنا قصر شيرين والساعة خمس فتوقفنا هناك عشر دقائق. ثم تركناها نؤم حدود العراق
دخلنا حدود العراق والساعة ست، وقد غربت الشمس فلقينا الموظفون مرحبين ويسروا لنا السفر العاجل فسرنا إلى خانقين فعرجنا على دار السيد عبد القادر صالح معاون الجمارك لنسلم ونشكر له ضيافته حين مررنا بخانقين المرة الأولى
توجهنا إلى بغداد والساعة سبع من المساء، وأمامنا صحراء مشتبهة الأعلام، طامسة المناهج، ولكن مهارة السائق، وعلامات الطريق يسرت لنا بلوغ بعقوبة والساعة تسع، حين بلغ منا التعب مبلغه. وقفنا على منتدى في الطريق، ونزلنا فإذا صورة أم لثوم في صدر المكان. ولما عرف صاحب المنتدى أننا مصريون أسرع فأسمعنا غناءها. فشعرنا ونحن في العراق أن مصر قريب
ثم سرنا من بعقوبة فأدركنا شاب ينادي أن الطريق غير بينة فاحملوني لأدلكم. قلنا لا حاجة إليك. وأدركنا فارسان من العسس فقالا أمامكم صحراء لا تهتدون فيها إلى طريقكم. فخير لكم أن تبيتوا هنا، وهنا فندق نظيف. وإن شئتم فكلموا رئيس الشرطة ليرسل معكم دليلاً. وهذا الشاب إن حملتموه معكم لا يستطيع أن يهديكم الطريق. فأقسم الشاب أنه بها جد خبير، وأنه هدى من قبل كثيراً من المسافرين. فارتكبنا أهون الشرين وحملنا هذا الدليل معنا. ولم يكن له مكان في السيارة فركب على الرفرف
وسرنا فإذا الطريق واسعة لا حبة لا تحتاج إلى دليل. قلنا للدليل أكذلك طريقنا إلى بغداد؟ قال لا. فسرنا لا نستهديه ولا نبالي، إلا سؤالاً في الحين بعد الحين (هل نمت؟) فيقول لا، فنقول احذر أن تنام أو تقع فنضل في هذه الصحراء. فنعم الدليل أنت. لولا أن من الله بك علينا لهلكنا. ولسنا ننكر على دليلنا أنه كان حديثاً ممتعاً في الصحراء سميناه الدليل النائم،(87/47)
واهتدينا به إلى الفكاهة وإن لم نهتد به إلى غاية؟
بلغنا مدينة السلام منتصف الليل فأوينا إلى الفندق وانصرف دليلنا ثم جاء صبحاً يطلب أجره فضحكنا وقلنا لخادم الفندق أبلغه أنا وهبنا له أجرة الركوب بما له من أجر الهداية فليذهب مأجوراً
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(87/48)
ضرورة الوحدة الأدبية بين مصر والسودان
بقلم التيجاني يوسف بشير
لن يكون مثل الأدب يصوغ الأمم على أسلوب واحد، ويصنع منها عقلية واحدة، ويقيم أساس وحدتها على الروح، وبناء مجتمعها على العاطفة، ودعامة ألفتها على الجمال، وقاعدة إخائها على الصدق، وصرح كيانها على يقظة الشعور، فلا يتزلزل ولا يضطرب
ولن يكون مثل الأدب يوحد بين مشاعر الأمم، ويعين على توحيد المنافع، ويحقق من حلم الوحدة بما فيه من صور الفكر وجمال الفنون. ولا يمكن لها من ذلك إلا أن تعنى به فتوحد من الأساليب، وتوافق بين الإنتاج، وتقارب بين الأفكار ووجهة النظر إلى الكون والحياة، فمركز الأدب في وحدة الأمم مركز الفكرة في خلق الأدب، تؤسسه على القوة، وتبعثه على الجمال، وتنهضه على العاطفة، فيكسب من دقائقها في الصياغة والتعبير ما يأخذ على قاعدته الأمم فيهبها من دقائقه هو ما نأخذ به أفرادها على وحدة الشعور وجماعاتها على توحيد المصلحة. ولا أنفع لمصر ولا أجدى للسودان في سبيل وحدتهما الكبرى من أن يعني كلاهما بتقريب الفكر من بعضه، وتوجيهه بعد ذلك إلى منحى واحد، فتحقق الوحدة في كل شيء، ويستقيم لهما التواشج ويتم الامتزاج
فالأدب كان وما يزال أصدق ما يحمل إلى الفرد خصائص الفرد، وأقوى ما يعكس على الأمة مميزات الأمة، فيجمع بينهما في المشابه، ويوفق بينهما في الميول. وهو بما يدفع من جمال ويصور من لذة، وينقل من مثلٍ للاجتماع، وفروضٍ للإنسانية، وقوالب للحياة، إنما يقتضي بما فيه من قوة الإيحاء أن يوحد من نظام الحياة في الشكل كما وحد بينه في الدخائل. وما فرضت أمة أدبها على أخرى إلا كان معنى ذلك أنها تفرض عليها النظام الذي تسير عليه، وتعين لها الحياة التي تؤمن بها، والغرض الذي ترمي إليه. فإذا جاءت مقاييس الأدب عندهما بمقدار واحد جاءت على وفق ذلك مصاير السياسة وأقيسة الحكم. وإن أوربا الآن لتبلغ بأدبها في الشرق ما جعل كثيراً من خصائص الحياة الغربية موزعة عليه بأوفى قسط وأوفره. وما كانت لتبلغ هذا المبلغ إلا بما يقوم به أدبها من بث صور الحياة العقلية في العالم. وعلى قدر ما فرضت أدبها على الشرق فرصت سيادتها عليه، وعلى قدر ما سنت له من أقيسة أدبها ومعايير الجمال فيه، كانت سياسة الحكم تنصب على(87/49)
مقاييس بقدرها كثرة وتعداداً
وإن مصر لتتمتع منذ قرون بعيدة بأدب فيه من خصائص (المصري) وملازمات حياته ما يكفل لها أن تنتظم الشرق في وحدة أدبية تامة متى كان لها أن تعنى بذلك عناية خاصة، وأن تعمل في سبيله، فتقيم له المؤتمرات وتدعو إليها، وتنظم له المجامع وتبعث له البعثات، وتكون له في كل بلد (رابطة)، وتنشئ من أجله في كل قطر سوقاً، لتضمن لها في كل شعب حقوقاً. ولكن مصر لم تعمل لذلك حتى في ألزم شعب لها وألصقها به. وذلك هو السودان. . .
كلما فكرت في تعليل ذلك لم أجد ما يشفع لمصر في إفلات ما كان وما لا يزال يتهيأ لها أن تحقق فيه أن السودان قطعة من مصر يصح فيها ما يصح في مصر، ويجري على هذه ما يجري على تلك. ولا ينبغي أن نخادع أنفسنا في تقرير الحقائق، فان كل ما حصل لم يكن إلا نتيجة طبيعية لجهل مصر بالسودان وإغفالها بدأة بدء توثيق العلائق الأدبية والروحية بينهما، حتى لقد استغل سادتنا الإنجليز جهل مصر الفاضح بنا فوطدوا مصالحهم في السودان وانتزعوا منه كل ما يدل على مصر، إلا علماً ما تكاد تحس له بوجود. ولو قد كان لمصر أن تصرف عنايتها بعد عام 1924 إلى العلائق الأدبية وتنميتها لما اتسعت الهوة الفاصلة بين القطرين إلى هذا المدى، ولما قامت الموانع حتى دون أبسط شيء لا يغير من مجرى الحوادث بقليل. ولكن مصر لم يكن يهمها بعد ذلك أن تعود للتفكير فيما يجعل الوشيجة بينهما قوية على الحوادث، جديدة مع الأيام حتى ضرب الإنجليز ضربتهم القاضية، ووقفوا دون المصري والسوداني حتى عن معرفة ما ليس بد أن يعرفه كل عن أخيه، لأنهم - وقد استغلوا هذا الجهل - كانوا يعلمون أن ما ضربوا عليه من العلائق كان شيئاً لابد منه، فلا ينفيه الإنكار ولا يطمس عليه النسيان أو التغافل. ولهذا فهم أشد خشية أن يطلع أحد، وخاصة إن كان سودانياً على الحقيقة التي عبثوا بها. على وجود الصلات التي دفنت حيةً بعد أن جهدوا في خنقها، ولكنها كانت أطول نفساً وأكثر حيوية أن تموت، على روابط صنعها الله وأحكم في توثيقها، ولا حل لما عقد؛ وكانوا موفقين فيما أرادوا من تفرقة، حتى لقد حاولوا بما يبثون ويذيعون من ضروب الإرهاب وألوان النكال أن يجعلوا اسم مصر بعد عام 24 شيئاً لا تسوغ القوانين النطق به، وكلما شددوا في النكير وأمعنوا(87/50)
في المنع، كان اسمها أشد إغراء وأكثر جاذبية وأقوى على لفت النظر، وحمل عامة الناس أن يبحثوا عن السر الغامض الذي يأبى عليهم الإنجليز الاتصال به. ومصر - ألا سامح الله مصر - مع هذا كله لم يكن يهمها أن تعرف عن السودان شيئاً وهي تطالب بكل ما فيه. . .!
والآن. . . . لقد بلغ الإنجليز ما أرادوا. وضربت يد الغدر والمطامع على كل شيء، حتى لتوشك أن تضرب على النيل فيتزلزل فينفلق فلا يعود يعرف أين تكون مصر. ولقد طالما عبثت الأطماع بما بين مصر والسودان من ألفة وتعاطف، وأفسد الاستعمار هنا - في السودان - والحماية هناك ما بين هذين القطرين من روابط وصلات كلها بر وكلها رحمة. . . الآن لقد تم لهم ما أرادوا، ففرقوا وباعدوا، وأغربوا في التفرقة، وأفلحوا في مغالطة الحقائق الطبيعية، وتنكروا لخرائط الجغرافيين، وكابروا وخادعوا أن يكون شيء من هذا جديراً أن يحملهم على الاعتراف بخطئهم فيما حاولوا أن يطمسوا عليه من صلات كانت مصر هي في الحق أول من أغفل العمل في توثيقها والعناية بها، فماذا تفعل الآن. . . .؟
نحن نطل اليوم على عهد جديد تأخذ العلائق فيه صوراً جديدة فيها من صحة المعرفة وحسن التفاهم ما يملؤنا ثقة بالمستقبل وإيماناً به، وشعوراً بالوحدة والعمل لها في جميع ما تقضي به مصالح القطرين، وفي كل ما لا ينبغي إلا أن يكونا متحدين في بطيعة (الجوار) إذا لم يكن إلا هذا ما يملي بوجوب هذه الوحدة في اتجاه الحس والشعور، وفي تبادل المنافع والمصالح. وأما وقد كان هناك من مستلزمات الوحدة ما يجعل الجوار في آخر قائمة العلائق من لغة ودين وأدب وعروبة ونيلٍ زاخرٍ هادرٍ متدفق يصور الرباط المقدس بين بلدين أشد ما يكونان تلازماً وارتباطاً. أما وقد كان كل ذلك فقد توفرت بواعث توحيد الأمتين كما يتوحد النيل قطرةً إلى قطرةٍ وموجةً إلى أخرى وفياً إلى فيض. ولكن على أي أساس يقوم؟ إن شيئاً من سيرة مصر الأولى في السودان لن يعود إليها والحالة كما هي من تفكك في علائق الأدب وتباينٍ في وجهة التفكير - هذا كلام صريح لا مكان فيه للتأويل - وإنا لنرى قبل ل شيء أن تقوم الصلات على الأدب في بعض ما تقوم عليه، ولن يمر على ذلك عهد إلا ويجيء من بعده ما يكفل للقطرين الشقيقين أن يدفقا على مجرى واحد كما يفعل النيل. لا أن تظل نقرأ ونسمع بإلحاح مصر في سبيل السودان، فنعجب لها وهي(87/51)
لا تعرف عنا شيئاً صحيحاً. فان من الخير لنا ولا أن نلتقي الآن على الفكر ونتصل على الأدب من أن نظل هكذا لا صلتُنا بصلة ولا تعارفنا بتعارف، ولا انفصالنا بانفصال. ففي مصر (روابط) للأدب وفيها مجامع للعلم، وعندها شباب مثقف، وفيها صحف كثيرة، فكم هو أنفع لها وأجدى للسودان أن تعنى صحفها بشئونه فتأخذها بالمعالجة، وتكب عليها بالدرس، وتتناول أدبه بالنقد والتحليل فتقارب بين الأدبين وتلائم بين الذوقين. وكم هو خير لنا ولها وأكفل للوحدة، وأبقى على المعرفة أن تبعث البعوث العلمية والأدبية - والاقتصادية كما فعلت الآن - فتحقق من حلم الوحدة بالعمل، وتخرج بأقوالها إلى التنفيذ
ام درمان - سودان
التيجاني يوسف بشير(87/52)
الأنتكيرة هي أنكلتيرة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
نعود إلى الكتابة في هذا الموضوع مقتنعين بعد مراجعات طويلة بصحة رأينا أن الأنتكيرة في النص الذي نقلناه عن لسان الدين بن الخطيب في كتابة (الإحاطة) هب انكلتيرة وهي بالقاف بدل الكاف (انتقيرة) اسم مدينة ذكرها ياقوت في معجمه، فقال إنها حصن بين مالقة وغرناطة. ومنها أبو بكر يحيى بن محمد بن يحي الأنصاري الحكيم الانتقيري من أصحاب غانم، روي عنه إبراهيم بن عبد القادر بن شنيع إنشادات قال: كنا مع العجوز الشاعرة المعروفة بابنة ابن السكان المالقية، فمر علينا غراب طائر فسألناها أن تصفه فقالت على البديهة:
ملا غراب بنا ... يمسح وجه الربى
قلتُ له مرحباً ... يا لون شعر الصبا
وقد ذكر القلقشندي في صبح الأعشى (ص 269 ج5) الحادثة التي ذكرها لسان الدين بن الخطيب، فقال إنه لما هلك الهُنْشة بن بطرة سنة 751هـ في الطاعون الجارف ولي ابنه بطرة، وفر ابنه القمط إلى بَرْشَلونة، فاستجاش صاحبها على أخيه بطرة فأجابه، وزحف إليه بطرة فاستولى على كثير من بلاده، ثم كان الغلب لقمط سنة 768هـ، واستولى على بلاد قشتالة، وزحفت إليهم أمم النصرانية، ولحق بطرة بأمم الفرنج الذين وراء قشتالة في الجوف بجهة الليمانية وبرطانية إلى ساحل البحر الأخضر وجزائره، فزوج بنته من أبن ملكهم الأعظم المعروف بالبنس غالس وأمده بأمم لا تحصى، فملك قشتالة والقرنتيرة، واتصلت الحرب بعد ذلك بين بطرة وأخيه القمط، إلى أن غلبة القمط وقتله سنة 772هـ واستولى القمط على ملك بني أدفونس أجمع، واستقام له أمر قشتالة، ونازعه البنس غالس مالك الإفرنجة بابنه الذي هو من بنت بطرة، وطلب له الملك على عادتهم في تمليك ابن البت، واتصلت الحرب بينهما، وشغله ذلك عن المسلمين، فامتنعوا عن أداء الإتاوة التي كانوا يؤدونها إلى من كان قبله، وهلك القمط سنة 781هـ
وهذا النص الذي ذكره القلقشندي فيه ما يمكن به الاهتداء في أمر أمة الأنتكيرة التي وصفها لسان الدين بن الخطيب، ولكن فيه غموضاً في سرد تلك الحوادث لبعدها عن(87/53)
القلقشندي، وقد كانت حوادث جديدة في عصره لم يتقرر أمرها ولم تدون في كتاب من كتب القوم الذين كانت في بلادهم وقائعها
وإنا نسوق من تاريخ هؤلاء القوم الحوادث التي اكتنفت هذه الحوادث التي وردت في ذينك الكتابين (الإحاطة) ز (صبح الأعشى) معتمدين في ذلك على كتاب تاريخ ملوك فرنسا لمونيغورس الفرنسي من مؤرخي القرن التاسع عشر الميلادي، وعلى كتاب تاريخ إنجلترا الجورجي زيدان
كان أدورد الثاني ملك إنجلترا زوجاً لايزابيلة أخت كرلوس ملك فرنسا (1322 - 1328م) فأرسل إليه أدورد الثاني ابنه برنس غالس ليهدي إلى فرنسة دوقية غيانة، فسافر إلى فرنسا وأدى ما كلفه به والده
ثم انقضى عهد أدورد الثاني على إنجلترا، وقام بعده ابنه أدورد الثالث وهو ابن إيزابيلة أخت كرلوس ملك فرنسة، وكان كرلوس قد توفي وقام بعده على ملك فرنسة ابن عمه فيلبس دوولواس، فنازعه أدورد الثالث هذا الملك، ورأى أنه أحق به منه لأنه ابن أخت كرلوس، وأما فيلبس فليس هو إلا ابن عمه، وقد أعان أدورد الفلمند على فليبس وحملهم على مبايعته بملك فرنسة سنة 1340م، ويقال إنه في ذلك الحين تقلب ملوك إنجلترا بملوك فرنسة وحملوا أسلحتهم
ثم اتصلت الحروب بين أدورد الثالث وملوك فرنسة، وقد أرسل إليها ابنه أدورد برنس غالس (أوف ويلس) وكان يعرف بالأمير الأسود لسواد دروعه وأسلحته فاستولى على بعض أقاليمها، وأسر ملكها يوحنا لوبون سنة 1355م ثم أقام فيها حاكماً عليها، وقد بعث في مدة إقامته بها حملة إلى أسبانيا لمساعدة بيدرو الظالم فتحمل بسببها ديوناً كثيرة أدت إلى اعتلال صحته، ثم حارب محاربة أخرى فاز بها، ولكنه لم ينل جزاء عليها، ثم حدث ما ألجأه إلى السفر إلى إنجلترا، فمات بها عن ولد اسمه ريكاردوس فضعفت شوكة إنجلترا في فرنسو، ولم يبق إلا قليل منها في طاعة أدورد الثالث، وقد أثر فيه موت ابنه حتى مات حزناً عليه سنة 1376م بعد وفاة ابنه بسنة وخلفه ورتشرد الثاني (ريكاردوس) ابن الأمير الأسود وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قد قام في فرنسة كرلوس الخامس (1364 - 1380م) واستعان في أمره بالفارس المعروف (براتراندد غسقلين) وما زال يترقى هذا(87/54)
الفارس حتى صار أمير الجيوش الفرنسية، وجرت له حروب مع الإنجليز أسروه فيها ثم ردوه إلى بلاده، فأرسله كرلوس إلى إسبانيا سنة 1366م ليعاقب بطرس لوكريل (الجبار) ملك قسطيلة (قشتالة)، وكانت رعيته قد كرهته، وثقل ظلمه عليها، فخلعه وولى بدله أخاه هنري داتر نستمارة، وقد اصطحب دغلسقين معه في تلك الغزوة عصابات من الجنود التي كانت قائمة بحفظ البلاد الفرنسية التي تركت للإنكليز، فلما انقضت مهمتهم تجمعوا أحزاباً، وصاروا يعيثون في أرض فرنسة، فأنقذها دغسقلين منهم بأخذهم معه إلى إسبانيا وإلحاقهم بجند هنري الذي أقامه ملكاً عليها
وكان يعاصر ملوك فرنسة وإنكلترا المذكورين من ملوك قشتالة الفونس الحادي عشر (1312 - 1350م) وبيدرو (135 - 1368م) وهنري الثاني (1368 - 1379م) ولا شك أن الفونس الحادي عشر هو الهنشة ابن بطرة الذي ذكر القلقشندي أنه مات في الطاعون الجارف سنة 751هـ وهي توافق سنة 135م، وأن بيدرو هو بطرة بن الهنشة الذي ملك بعد أبيه في هذه السنة إلى أن قتل سنة 772هـ على ما ذكره القلقشندي وهي توافق سنة 1370ن، ولعل قتله كان سنة 770هـ لأنها هي السنة التي توافق سنة 1368م، وأن هنري الثاني هو أخوه القمط الذي ذكر القلقشندي أنه مات سنة 781هـ وهي توافق سنة 1379م
وقد كانت المنافسة قائمة في ذلك العصر بين فرنسة وإنجلترا، ولكل من الدولتين أنصار من الدول الأوربية، وكانت أحوال السياسة ف هذا العصر قائمة على هذه المنافسة، فلما قان النزاع على ملك أسبانيا بين ابني الفونس الحادي عشر (بيدرو وهنري) أنضم بيدرو إلى إنجلترا، وانضم هنري إلى فرنسة، ولا شك أن تلك الحملة الفرنسية التي أرسلها كرلوس الخامس فرنسة كانت من المساعدات التي لقيها هنري (القمط) حينما التجأ إلى ملك برشلونة، فأمده بجيش من عنده وزحف على أخيه بأمم من النصرانية كان منها تلك الحملة الفرنسية لأن تاريخها الميلادي (1366م) يوافق السنة الهجرية التي ذكر القلقشندي أن القمط تغلب فيها على أخيه بطرة (سنة 768هـ)
أما الإنكليزية التي وجهها لبرنس غالس (أوف ويلس) إلى أسبانيا حينما التجأ إليه بطرة بن الهنشة فكانت بعد الحملة الفرنسية السابقة وبها تمكن بطرة من خلع أخيه القمط والاستيلاء(87/55)
على ملك أسبانيا إلى أن قتله أخوه القمط سنة 772هـ أو سنة 1368م والفرق بينهما سنتان على ما قدمنا، وجنوده هذه الحملة هي جنود الانتكيرة التي أعجب ابن الخطيب في كتاب (الإحاطة) بقتالها، ولا يصح بعد هذا شك في أن الأنتكيرة هي أنكلتيرة كما هو رأينا
عبد المتعال الصعيدي(87/56)
في تاريخ الأدب المصري
4 - ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
تتمة
المدح والغزل أهم ما طرقه من الأغراض، أما الوصف فانه يأتي عرضاً غير مقصود، وقد وصف لنا ما تبتهج به نفسه من مُتع كما ذكرنا، وأما الرثاء فهو جيد وإن كان قليلاً، وهو يجيد الرثاء والعزاء، استمع إليه حين يرثي ويعزي قائلاً:
الناس للموت كخيل الطراد ... فالسابق السابق منها الجواد
والموت نقاد، على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
مصيبة أذكت قلوب الورى ... كأنما في كل قلب زناد
يا ثالث السبطين خلفتني ... أهيم من همي في كل واد
ويا ضجيع الترب أقلقتني ... كأنما فرشي شوك القتاد
دفنت في الترب ولو أنصفوا ... ما كنت إلا في صميم الفؤاد
خليفة الله اصطبر واحتسب ... فما وهى البيت وأنت العماد
في العلم والحلم بكم يقتدي ... إذا دجا الخطب وضل الرشاد
ولعل الظروف التي أحاطت به لم تلجئه إلى الهجاء، ولذ لا نعثر عليه فيما بين أيدينا من شعر
- 6 -
يمتاز شعر ابن النبيه بالسهولة والرقة والعذوبة، سهولة تذكرنا بديباجة البحتري العذبة في نقاء والسلسة في امتناع، وهو مع سهولته يرتفع عن الأسلوب العامي إلا في النادر جداً، حين يجد التعبير العامي هو التعبير الذي يؤدي المعنى الكامن في نفسه تماماً، ولكنه مع ذلك يهذبه ويشذب أطرافه حتى يعلو ويرتفع. وهناك ظاهرتان أخريان فيه: أولاهما استخدامه كثيراً من الكلمات الفارسية في شعره، ولعل لمعيشته بالجزيرة وقربه من بلاد الفرس، ولحبه التجديد والتظرف أثراً في ذلك كبيراً، فأنت تسمع في شعره كلمة الملاذ(87/57)
معرب اللاد وهو قماش حرير لطيف جداً، وتسمع كلمة الكلهبند وهي مركبة من كله وهو اسم لما يلبس فوق الرأس وبند وهي بمعنى رابط، ومجموعهما اسم لما يشد به ما على الرأس إلى الذقن لئلا يقع، ويستعمل كلمة جوكانه بمعنى صولجانة وغير ذلك. وأخراهما ما تراه في شعره كما تراه في شعر غيره من المصريين من حب للبديع وافتتان بأنواعه وفنونه؛ ولقد أغرم شاعرنا بتلك الأنواع البديعية، ولاسيما الطباق والاقتباس وحسن التعليل واللف والنشر ومراعاة النظير والجناس والتلميح، كقوله:
تبسم عن منظوم در، فان ... تكلمت جاءت بمنثور
وقوله:
إن جنحوا للسلم فاجنح لها ... ما خدع الحرب بتقصير
وقوله يصف الخمر:
بكر إذا ابن سماء مسها لبست ... ثوب الحباب حياء منه واتشحت
وقوله:
فالناس بين بنانه وبيانه ... في نعمتين رغائب وغرائب
وقوله:
عزيز يوسفي الحس ... ن لم يُشر ولم يسجن
قد ابيضت به عيني ... وللمهجور أن يحزن
ولقد كان حينما يمدح القاضي الفاضل يتأنق ويجتهد الاجتهاد كله في الصناعة اللفظية شأنه في ذلك شأن غيره ممن اتصل بالقاضي ومدحه، ولقد نظم فيه قصيدة استخدم الاقتباس في كل أبياتها واقتبس من سورة المزمل إذ قال:
قمت ليل الصدود إلا قليلا ... ثم رتلت ذكرهم ترتيلا
ووصلت السهاد أقبح وصل ... وهجرت الرقاد هجراً جميلا
مسمعي كل عن كلام عذولي ... حين ألقي إليه قولاً ثقيلا
وفؤاد قد كان بين ضلوعي ... أخذته الأحباب أخذاً وبيلا
قل لراقي الجفون إن لعيني ... في بحار الدموع سبحاً طويلا الخ
وعلى هذا المنوال نسج قصيدته، وذلك غير مستغرب على رجل يخاطب القاضي الفاضل(87/58)
الذي كان زعيم الطريقة التي تعني بالصناعة والبديع. غير أنه لا ينبغي أن نظن أن استخدامه البديع أضاع من جمال الشعر أو حط من قيمته، فشاعرنا لبق يجيد استخدام البديع من غير أن يؤثر في جمال الشعر وروعته. هذا ولشاعرنا بعض موشحات ليست بقوية ولا رائعة، وهي أضعف من شعره العادي، وأحدها ينطق بدون إعراب، ولعل محاولته في الموشحات لم تنجح فانصرف عنها ولم يكثر من الموشحات، كما أنه خرج على أوزان الشعر العربي القديم قليلاً حينما كان يقول شعراً من الدوبيت، وهو وزن لم يستعمله العرب القدماء وغنما اخترعه المولدون
- 7 -
فاتني أن أذكر لك اسم شاعرنا، وأنه أبو الحسن علي بن الحسن بن يوسف بن يحيى، ويلقب بكمال الدين، ويكنى بابن النبيه، وفاتني أن أقول لك: إنه كان حاضر البديهة حسن التعليل، ويذكرون من ذلك أنه رأى الأشرف يوماً يرتعش بالحمى، فنظم على البديهة وأنشده:
تباً لَحماك التي ... كست فؤادي ولها!
هل سألتك حاجة ... فأنت تهتز لها؟
ومرة انكسر يراع الأشرف وهو يكتب فالتمس غيره فلم يجد فقاله له: أقلامك يا كمال قليلة، فنظم ارتجالاً قوله:
قال الملك الأشرف قولاً رشداً=أقلامك يا كمال قلت عددا
ناديت لطول كتب ما تطلقه ... تحفى وتقط فهي تفنى أبدا
ومرة غُنى بين يدي الملك العزيز دوبيت بالعجمية معناه أنه جعل الليل برد دارا للحبيب ليحجب الشمس، فاستحسن المعنى وأرسل إلى وزيره أن يأمر الشعراء بالعمل في ذلك، فأنشد كل منهم ما ورد عليه، ودخل ابن النبيه على الوزير، فطلب منه أن يعمل في ذلك، فاستمهله فأبى فقال:
قلت لليل إذ حباني حبيباً ... وغناء يسبي النهى وعقارا
أنت ياليل حاجبي فامنع الصب_ح وكن أنت يا دجى برد دارا
وبرد دارا فارسي معرب معناه الحاجب، والغناء بالفارسية قد يفسر لنا وجهاً من الوجوه(87/59)
التي أدخلت الكلمات الفارسية في شعر ابن النبيه، ولسرعة بديهته تلك كان الملك الأشرف كثيراً ما يطلب منه قول الشعر ارتجالاً في أي موضوع يعن له
سكن ابن النبيه نصيبين، وهي مدينة في شال الجزيرة بعد أن غادر مصر، وبعد نحو ستين عاماً من مولده (إذ أنا نعلم تاريخ ميلاده على وجه التعين) مات ابن النبيه في اليوم الحادي والعشرين من جمادي الأولى سنة تسع عشرة وستمائة
(تم البحث)
أحمد أحمد بدوي(87/60)
صور من أدب السودان
قصيدة نقدية
للأستاذ عبد الله عبد الرحمن
العروبة
تنكر من وادي العروبة مورد ... فلا الزهر مُفتر ولا الغضن أملدُ
ولا ماؤه ينساب بين رياضة ... ولا الطير في أفنانهن تغرد
وقفتُ على الوادي مليا فهزني ... وبدد شملي شمله المتبدد
مضى متنبيه وحسان دوحه ... وغاب معريه الحكيم المجدد
أسائله: أين الذين تحدثوا ... اليك وفي هذا المكان ترددوا
على ظلك الضافي جلوس وكلما ... أهاب بهم داعي السماحة أنشدوا
أحمد زكي باشا
كأن لم يكن شيخ العروبة نازلاً ... به ولهاً من علمه متزود
زكي! نصير العرب في كل موطن ... بهول، وماضيها الذي تتقلد
عليك سلام الله أحمدُ، هامداً، ... وأستغفر المولى، فما الفضل يهمد
وكان الرجال العبقريون إن قضوا ... بما لهمُ من شامل النفع خلدوا
لقد كنت برا بالعروبة كلها ... وفي نصرها قد كنت لا تتردد
إذ طلع الغرب الحديث بآية ... من العلم كبرى وازدهاه التفرد
عمدت التاريخ تسأله حكمه ... وأثبت أن العرب من قبل مهدوا
فساحوا وطاروا في السماء ويممت ... سفينهم الكونَ الجديد وأصعدوا
الفوضى
وفوضى على الأكوان جرت ذيولها ... وبات يعانيها مَسود وسيد
مظاهرها في كل نادٍ، وإنما ... عواقبها موت الشعور المؤكد
فشت في زمان فاض غدراً بأهله ... ودب إلى آدابهم فيه مٌرقد
لنا لغة أما بنوها فأنكروا ... فضائلها والمنكر الحق ملحد(87/61)
همو جهلوا منها علوماً كثيرة ... وفاتهمو منها المعين المجدد
وما قدروها في اللغى حق قدرها ... وكانوا أناساً للأباعد أخلدوا
وآياتها في كل يوم وليلة ... تثنى، ولكن بالمحامد تفرد
أرادوا، وظلم ما أرادوه بين، ... بما لم يكونوا فاعلين ليحمدوا
إذا نظروا للأقدمين مقالة ... ولم يفهموا، قالوا: كلام معقد
وإن لمتهم يوماً أشاحوا بوجههم ... وأرغوا كما يرغى البعير وأزبدوا
همو زعموا أن الزمان مؤخرٌ - وما لزمان في تأخرنا يد
ولكنه لما وهى حبل خُلقنا ... مشينا كما يمشي الأسير المقيد
لقد مُنيت أم اللغات بفتيةٍ ... طعام على أعلامها تتمرد
وقد أشربوا حب الأعاجم فانبروا ... إلى هذه الفصحى سهاماً تسدد
تواصوا بسرٍ وهو كتمان فضلها ... وقالوا بأنا معشر لا تقلد
وقالوا لقد ضاقت عن العصر حاجها ... وفي وجهها باب الثقافة يوصد
وقالوا بأنا أنجبتنا معاهد ... وأوحت إلينا يا بني العصر جددوا
وما هو تجديد فنكبر أمره ... ولن دعاوى منهمو وتزيد
وهل ينبغي التجديد إلا لعالم ... له في فنون الضاد رأي مسدد؟
قضى زمناً في البحث والدرس جاهداً ... فقرت له الفصحى بما هو مًورد
حوى قصبات السبق في جيله وهل ... حوى قصبات السبق كسلان قٌعْدُد
أقول لمن قالوا شهدت لها وقد ... تغاليتَ فيها. لكن الله يشهد
وهل كان إلا الله داع لرفعها ... وبنائها إلا النبي محمد
أرى الخرق يزداد أتساعاً بثوبها ... وعارٌ علينا ثوبها يتقدد
تمسك قوم بالجديد فاتهموا ... وعُلق بالعادي قوم فأنجدوا
وبين الفريقين استحرت كما ترى ... حروب. وخوفي أنها ليس تخمد
فما لبني الضاد الكريم تفرقت ... بهم سبل والحق لا يتعدد
ومرشدهم ضل الطريق فما عسى ... يكون سوى الخسران إن ضل مرشد؟
الشعر(87/62)
لعمرك إن الشعر أضحى مخنثاً ... قوافيه من تحنانها تتأود
وأصبح غثاً في الركاكة ضارباً ... بسهم، وعما سنت العُرب يبعد
وأمعن في لين وبخس مطالبٍ ... وكاد على أيدي التشاعر يجمد
لقد خمدت بالقوم نار حميةٍ ... تلظى، وخوفي أنها ليس توقد
فحتى متى تغفى الجفون على القذى ... وحتى متى نُعنى بما ليس يحمد
إذا ما أسود الغاب خلت ذئابها ... تعيث فان الحرث والنسل يفسد
لقد هاجني أني أرى الروض باسما ... ولست أرى فيه بلابل تغرد
وقد هاجني أني أرى الربع مقفراً ... وليست له أنفاسنا تتصعد
إذا الشعر لم يترك بقلبك روعة ... فلا هو سيار ولا هو جيد
وإن هو لم ينهض بأعباء أمةٍ ... فذاك هراء ميت قبل ينشد
وإن أنت لم تذعن لآيات سحره ... فقل إنني بين الخلائق جلمد؟
إذا ما شياطين النفاق تمردت ... بأرض فباسم الشعر في الأرض تطرد
كتاب العصر
ولا أكذب الرحمن، في العصر أنجم ... حماة لها، من غيرة تتوقد
وصيابة أدت أمانة قومها ... وقامت على ضوء (الرسالة) ترشد
يطالعنا (الزيات) فيها بنافعٍ ... من القول لا يطغى ولا يتقيد
(وهيكل) في أثوابه أي كاتبٍ ... خصيب إلى خير الأساليب يعمد
ولله طه بن الحسين فانه ... على نثره الفذ الخناصر تعقد
وان تذكر الكتاب فاذكر غريبهم ... (شكيباً) ففي آثاره ما يخلد
حمى حوزة الدين الحنيف وغادرت ... جواثبه الدنيا تقوم وتقعد
شعراء العصر
(ومطران) يسمو للخيال مصعيداً ... فيألفه وحشية المتأبد
ويعجبني شعر (الهراوي) فإنه ... رصين قويم ليس فيه تجعد
جميل الزهاوي والرصافي كلاهما ... هو اليم في آذيه يتزبد(87/63)
أقاما بأرض الرافدين ليرفدا ... وودا لو أن الناس طرا تبغددوا
السودان
وكانت لنا في غابر الأمس نهضة ... مباركة لا اللهو منها ولا الدد
فعبد الرءوف و (الخطيب) كلاهما ... له بيننا الفضل الذي ليس يجُحد
هما حركا منا النفوس وأنشرا ... علوماً على أضوائها اليوم نصعد
وقد طالما هزا النفوس بطيب ... من القول يرضاه الوليد وأحمد
ولاحا على الخرطوم نجمي مغارفٍ ... به وعوادي الدهر إذ ذاك تولد
وفي اليوم قد شابت وشب وليدها ... ومارسها منا كبير وأمرد
وذلك عهد قد سعدنا بظله ... لو أن الكريم الحرفي الدهر يسعد
فآليت لا أنسى له فضل نعمة ... علي، وللإحسان مني ممجد
أولئكم الكتاب آساس نهضة ... وكنز ثمين للثقافة يرفد
هم العائشون في نفوس كثيرةٍ ... وفي كل قطر من صنائعهم يد
تخيرتهم بين الأنام لفضلهم ... وأكبرتهم إن كنت للناس أنقد
إلى العرب
بني العرب في السودان والشرق كله ... بكم ولكم يوري زنادي ويصلد
أفيقوا فان الوقت سيق مجرد ... عليكم ووقت الناس في الغرب عسجد
إذا لم نشخص داءنا فدواؤنا عسير وفي إغفاله ما يهدد
يهدد نهضات بدت في شبابنا ... جديداً وخوفي أنها سوف ترقد
علوم اللسان لو علمتم كثيرة ... وفي جهلها ترك لما هو أوكد
وأولها أن تروي الشعر ناصعاً ... عن العرب لا يسمو إليه المولد
وأن تقتل الألفاظ فهماً وتنتقي ... أحاسنها يوم الكتابة تقصد
فيا ليت شعري هل ملأتم وطابكم ... من العلم حتى تكرموا وتمجدوا؟
هلموا نوادي العلم في كل بلدة ... تقول لكم إن الطريق معبد
إلى حاملي الأقلام من كل ملة ... إلى العرب في أي الأماكن توجد(87/64)
نظمت لكم مما أحس قوافيا ... لعل أماني اليوم يأتي بها الغد
وهيهات يسمو للكرامة في الورى ... أديب عن الإنتاج في الفن يقعد
فان تنصروا العرب الأكارم تنصروا ... وإن تخذلوها فالبقية تفقد
أناس متى ما تطلب مشبهاً لهم ... طلبت من الأشياء ما ليس يوجد
الخرطوم - سودان
عبد الله عبد الرحمن(87/65)
قصة أميرة مصرية
للأديب حسين شوقي
جلس الإله أوزيريس قاضي قضاة (الأمنتي) وهو الذي يحاسب الموتى في أعمالهم في الحياة الدنيا، إلى مكتبه يراجع ملفات بعض الموتى، وكانت نافذة المكتب تشرف على حدائق (الأورو) الغناء حيث حجم الزهور أضعاف حجم زهورنا الأرضية، ولكن أوزيريس لم يبال المنظر الجميل الذي أمامه، لأنه كان مشغولاً بمراجعة قضايا الموتى، وقد استلفت نظره على وجه خاص الملف الآتي، وهو لخادم شاب من أهالي منفيس. يقول صاحب الملف:
أنا (سبدو) بن (واخ) كنتُ خادماً في قصر الأميرة العظيمة تتا بمنفيس. . .
أي أوزيريس! سيد (الأمنتي) إني أنشر قصتي بين يديك: أنا (سبدو) بن (واخ) هربتُ من المدينة وذهبت إلى الصحراء، حيث قتلت نفسي بيدي لتأكل جسدي الوحوش حتى لا أبعث، لأني لا أرغب في هذا البعث، بل لا أستحقه. .
وكتبتُ هذه الوثيقة خشية أن أبعث على الرغم مني، وذلك بأن يعثر البدو على جسدي قبل أن تفترسه الوحوش فيحنطوه شفقة منهم. . . فإذا بُعثتُ أي أوزيريس! فعاقبني أشد العقاب. . .
إن أقاربي يستطيعون أن يقدموا إليك القرابين ابتغاء مرضاتك والتماس عفوك، ولكن لا تسمع إلى توسلاتهم، لأني مذنب شديد الذنب لا أستحق الشفقة. . .
كنتُ بستانياً لدى الأميرة تتا، وهي سيدة عظيمة تعيش بقصرها في عزلة عن العالم منذ أن فقدت زوجها في إحدى الحروب النوبية، ولم تكن لها تسلية غير ابنتها (شفيت)، وهي فتاة جذابة خلابة نضيرة، أشبه بزهرة اللوتس عندما تتفتح في الفجر. . . . .
لقد أحببتها لأول وهلة. . إن قلبي كاد يثب من صدري حينما دنوت منها يوماً في الحديقة، وقد نزلت الأميرة تقطف بعض الزهور التي تحبها، وليس غريباً أن تحب الأميرة الزهور، فهي شبيهة بها في نضارتها. . . ساعدتها في القطف حتى لا يدمي الشوك أناملها الطفلة. . . شكرتني الأميرة الصغيرة في ذلك اليوم بابتسامة ساحرة دون أن تنظر إلي، لأني حقير ممعن في الحقارة بالنسبة إليها، وكنتُ فوق ذلك دميماً بل دميماً جداً. . .(87/66)
أي أوزيريس! كم عذبني الحب! إن شياطينك القادرة لم يكن في استطاعتها أن تفعل بي مثل ما فعل الحب. . .
كنت أقضي الليل مؤرقاً، بل مختبئاً وراء الأشجار عند نافذة الأميرة، أتلمس رؤيتها. .
كم ليال لذعني فيها البرد القارس وأنا في مخبئي أشتهي ضم ذلك الإنسان الجميل، ولكن بلا أمل، كما يشتهي الهر ضوء القمر وهو منعكس على المستنقع، وقد حسبه لبناً في طبق. . .!
ولقد أصبت بغيرة شديدة من جراء هذا الحب. . بلغ من غيرتي على الأميرة أني كنت أغضب حينما تنظر هي من نافذتها إلى القمر، لأني تخيلت أن القمر يبتسم لها ويغازلها. . صعقت يوماً بنبأ خِطبة الأميرة إلى أحد أقارب فرعون. . . فكرت في أول الأمر أن أقتل نفسي، ولكن الغيرة التي أنشبت مخاليها في قلبي، أمرتني بقتل الأميرة قبل أن أقتل نفسي، حتى لا ينعم بها أحد. . .
وإليك أوزيريس كيف نفذت جريمتي:
نزلت الأميرة يوماً إلى الحديقة تقطف زهراً، فدنوت منها أساعدها وقلت:
اميرتي، إن عندي سراً عظيماً، هل تأذنين لي أن أفضي به إلي؟
قالت في شيء من الاهتمام: وما هذا السر؟
قلت: عثرت على كنز عظيم يحوي أساور من الذهب، وأقراطاً من الفضة، وخواتم من اللازورد. . . فقاطعتني قائلة في اهتمام شديد هذه المرة، لأن للنساء ضعفاً أمام الحلي كما تعلم
- وأين الكنز؟ إلي به!
قلت: إذا شئت يا أميرتي ذهبت بك إليه.
قالت: وهل مكانه بعيد؟
- قلت: كلا! إنه على مسافة قليلة من القصر
قالت: أين هو؟
قلت: في الصحراء
قالت: لنذهب على الفور، اذهب فناد وصيفتي لتصطحبنا. .(87/67)
قلت: أرجو أن تأتي وحدك يا سيدتي، إذ يجب أن يبقي أمر الكنز مكتوباً، لأن فرعون لو علم به استولى عليه؟؟
قالت: إذن هيا بنا. .
سرنا في الطريق، وكنت أثناء المسير أود أن أضمنها إلي، ولكن كان لجمالها روعة نهتني عن ذلك. .
ولما بلغنا مكاناً خالياً في الصحراء، أدخلت الأميرة في نفق حفرته بالأمس على سعة مقبرة في جانب الجبل، ثم قلت: إليك الكنز! ولما دخلت الأميرة متشوقة إلى رؤيته، أغلقت عليها النفق بحجر ضخم كنت أعددته بالأمس أيضاً لهذا الغرض، ثم غادرت المكان تواً حتى لا تضعف نفسي في آخر لحظة فأعود عليها. . هاهو ذا جرمي أي أوزيريس! ولكني تمكنت من أن أحرم أي إنسان مساسها والتمتع بها، حتى أنتم معشر الآلهة حلت بينكم وبين الوصول إليها، فقد حرمت الأميرة من التحنيط بهذه الطريقة التي ماتت عليها، فهي لن تبعث في العالم الآخر! وبينما كان أوزيريس منهمكاً في قراءة هذه الوثيقة الغريبة، إذا ولده هوروس الشاب يقبل عليه يطلب منه شيئاً فالتفت إليه أوزيريس وناوله الوثيقة وقال:
اقرأ: أي عقاب يستحقه هذا الرجل؟
فتناول هوروس الوثيقة في امتعاض لأنه لم يأت لهذا الغرض، ولنه ما كاد يبدأ في تلاوتها حتى أهتم اهتماماً عظيماً، وما كاد يتمها حتى ألقى بها جانباً على المكتب وخرج يعدو، ناسياً مطلبه من أبيه:
فتبعه أوزيريس وهو يصيح:
إلى أين؟ إلى أين؟
فقال هوروس: إلى النفق الذي فيه الفتاة فلعلعي أبعثها!
كرمة ابن هانئ
حسين شوقي(87/68)
البريد الأدبي
وصية بارتو الأدبية
نذكر أن مسيو لوي بارتو السياسي الفرنسي الكبير الذي قتل في أكتوبر الماضي في مرسيليا إلى جانب الملك اسكندر الربي، قد أوصى بمعظم تركته إلى الأكاديمية الفرنسية التي كان من أعضائها. وفي الأنباء الأخيرة أن الأكاديمية قد قررت بصفتها منفذة لوصية مسيو بارتو، أن تخصص من ريع التركة ثلاث جوائز أدبية كبرى الأولى باسم الفقيد نفسه، وتمنح لأعظم كاتب في العام، والثانية باسم مدام بارتو وتمنح لأعظم كاتبة، والثالثة باسم مكس بارتو ولد الفقيد الذي قتل في الحرب دون الثلاثين، وتمنح لأعظم كاتب من الشبان دون الثلاثين
هذا ومن جهة أخرى فقد تقرر أن تعرض المجموعات الأدبية والفنية التي تركها بارتو للبيع بالمزاد. وتحتوي هذه المجموعات التي أنفق بارتو في جمعها طول حياته على تحف نادرة من مخطوطة ومطبوعة وصور وتماثيل وغيرها
بين الخالدين
توفي أخيراً أحد (الخالدين) أعني عضواً من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وهو المؤرخ الكبير لينوتر توفي في التاسعة والسبعين من عمره بعد حياة حالفة بالبحث والتأليف والكتابة؛ وكان حتى آخر لحظة يقوم بتحرير فصله التاريخي الممتع في جريدة (الطان) تحت عنوان (التاريخ الصغير). وظهر فصله الأسبوعي كالعادة بعد يوم وفاته. ولينوتر اسم مستعار للمؤرخ، واسمه الأصلي هو لوزان تيودور جوسلان. وكان لينوتر من أعلام تلك المدرسة التاريخية الحديثة التي عنيت بالتحقيق والاستقصاء في الدقائق والتفاصيل الشخصية والاجتماعية لأنها ترى فيها أهم ما يلقي الضياء على طبيعة الحوادث والأشخاص، ومن زملائه في تلم المدرسة فونك برنتانو عضو المجمع العلمي، وبيير دي نولهاك عضو الأكاديمية. واشتهر لينوتر بالأخص بكتاباته عن الثورة الفرنسية وعن الشعب الفرنسي والحياة الفرنسية في ذاك العصر، وله في ذلك عدة مؤلفات ورسائل قيمة. منها (أسر ماري انتوانيت وموتها) (المقصلة ومنفذو الأحكام أيام الثورة) (الملك وثورة لافندي) (دي شاربت) وله مجموعة عنوانها (القصور القديمة والوثائق القديمة). وكان(87/69)
لينوتر أيضاً صحفياً بارعاً جم الإنتاج يكتب في اشهر الصحف والمجلات. ولبث أعواماً طويلة يكتب مباحثه في (الطان) بعنوان (التاريخ الصغير) وقد انتخب عضواً بالأكاديمية في ديسمبر سنة 1932. واستقبلت الأكاديمية نبأ وفاته بالمراسيم المعتادة، وألقي مديرها العامل المسيو هنري بوردو خطاب التأبين للمؤرخ الرال؛ ومما قاله: (إن لينوتر قد تبوأ في عالم المباحث التاريخية مركزاً خاصاً، فهو يتعلق بالأشخاص، والنوادر، والحياة الخاصة، والتفاصيل المغرية أكثر ما يعني بالحوادث وملحقاتها؛ ولقد كان يتمتع بموهبة يحسده عليها كثير من القصصيين: هي موهبة الحياة)
جائزة جر نجوار
لمجلة جر نجوار الفرنسية جائزة سنوية قدرها خمسة آلاف فرنك تمنح كل عام لأحسن أثر (إخباري) (ريبورتاج) يصدر في العام. وقد منحت هذه الجائزة خلال مأدبة عشاء أقيمت جرياً على العادة السنوية لمسيو مارسل جريول عن كتابه الذي ظهر أخيراً عن الحبشة وعنوانه (حارقو الإنسان). ومسيو جريول من العلماء الشبان، تلقى دراسة علمية عالية، وتخصص في مباحث الأجناس البشرية، وساهم في عدة بعثات علمية رسمية أرسلت إلى السنغال والحبشة وغيرهما؛ وله أسلوب علمي جذاب بما يسبغه عليه من البساطة والطابع الصحفي
عيد الربيع القومي في سورية
عقد فريق كبير من طلبة الجامعة السورية والمدرسة التجارية والمدارس الثانوية العالية اجتماعاً بحثوا فيه مشروع إقامة عيد قومي في الربيع، وقد أطلقوا عليه اسم (عيد الربيع القومي)
وسيكون هذا اليوم من الأيام التاريخية، إذ يسير الشباب بشكل مواكب تمثل أزاهير دمشق، وبعض مواكب تمثل مجد العرب الغابر على شاكلة أعياد الربيع في فرنسا
وسيقوم الشاب الأديب السيد أحمد القباني الطالب في مدرسة التجارة العليا برحلة إلى المنطقة الشمالية للاجتماع بإخوانه الشباب والطلبة في الشهباء والبحث معهم في هذا الصدد لجعل هذا العيد عيداً قومياً شاملاً تشترك فيه سائر المناطق السورية في ربيع كل عام(87/70)
(عن الجزيرة)
بلاطة أثرية تكشفها السيول في نابلس
كان من جراء السيول التي اجتاحت نابلس أن شف التراب عن بلاطة تاريخية عظيمة الشأن
وقد اهتمت دائرة الآثار في فلسطين بها وأوفدت لجنة فنية فعاينتها وقررت نقلها إلى المتحف وتكليف رجال الفن بترجمة ما نقش عليها
وقد ظهر حتى الآن أن هذه البلاطة نقلت من مكانها الأصلي المجهول حتى الساعة لتبني في السور حيث وجدت، وقد صرح أحد السامريين أن الكتابة المنقوشة عليها هي الوصايا العشر، وقد كتبت بالغة الآرامية التي كتبت بها توراة السامريين
ولا يزال علماء الآثار يفدون المشاهدة هذه البلاطة التاريخية
التي ربما كشفت عن مدينة يهودية قديمة في شرقي نابلس
(عن الأرز)
هل للراغب الأصبهاني ترجمة وافية؟
احتجت إلى ترجمة الراغب الاصبهاني صاحب المفردات (وللمفردات شهرة ومكانة تداني شهرة القاموس ومكانته) و (الذريعة) و (تفصيل النشأتين) و (محاضرات الأدباء) وغيرها من المصنفات الجليلة، ففتشت فيما بين يدي من كتب التراجم، فلم أقف إلا على هذه النتف الصغيرة التي لا تروي غليلاً:
قال الزركلي في الأعلام:
هو أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل، أديب كبير من العلماء من أهل أصفهان (وتسمى أصبهان) مات سنة 502. من كتبه محاضرات الأدباء الخ. .
وقال بغية الوعاة:
(هو المفضل بن محمد الأصبهاني الراغب المصنفات؛ كان في أوائل المائة الخامسة، له مفردات القرآن، وأفانين البلاغة، والمحاضرات وقد وقفت على الثلاثة، وقد كان في ظني(87/71)
أن الراغب معتزلي حتى رأيت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي الخ ما نصه: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تأسيس التقديس في الأصول، أن أبا القاسم الراغب من أئمة السنة وقرنه بالغزالي، قال: وهي فائدة حسنة فان كثيراً من الناس يظنون أنه معتزلي)
وأثبت مثل هذا في آخر الطبعة الميمنية للمفردات نقلاً عن كشف الظنون وغيره، وروي مثله السلطان محمد صديق خان في البلغة
ولم أجد أكثر من ذلك، فأرجو ممن وقف له على ترجمة وافية، أن يتفضل فيبعث بها إلى (الرسالة) أو يرشدنا اليها، ولست أظن أن مثل الراغب تنسى ترجمته أو تضيع!
دمشق
علي الطنطاوي
حول محطة الاذاعة اللاسلكية
. . . مدير مجلة (الرسالة) الغراء
. . . . . . . . . . . وبعد، لقد نشرتم تحت عنوان الإذاعة
اللاسلكية العربية بعدد 75 من مجلتكم فقرة تهم عالم الراديو،
فإنني أشكركم على اعتناكئم هذا، حيث نهتم الرأي العام
المصري لمسألة جديرة بالاهتمام. حقيقة أن المحطة المصرية
لا تفي بالمقصود لأنها على ما أظن محطة إسلامية قبل كل
شيء. وبما أن مصر هي اليوم حاملة لواء الأدب العربي فان
أنظار المسلمين قاطبة متجهة نحو ذلك الوطن المحبوب.
ليست القاهرة قاعدة لمصر فحسب، بل هي عاصمة العالم
الشرقي الباسط جناحيه على أفريقية وآسيا(87/72)
إذن ليست المحطة المصرية محطة محلية، بل هي محطة واسعة النطاق، وجدير بمصر أن تكون لها محطة إذاعة تباهي بها أرقى الأمم. وبها تتغلب موجاتها الفائضة بالفصحى على الموجات الأعجمية كي تنال الحظ الوافر من الأثير. إلا يكفي العالم الغربي استعماره الأرض حتى يبغي الاستحواذ على الأثير؟
لهذا كله أرغب من ولاة الأمور بتلك الديار الشاسعة تحسين محطتنا العربية كي يعم نفعها، فاقترح عليهم واحداً من اثنين
1 - تغيير طول موجة المحطة المصرية لأنها تشاركها في طول الموجة محطة بروكسيل ول من المحطتين لها 630 كيلو سيكلا، ويجب أن يكون بينهما تسعة ك. س على الأقل كيلا تمتزج الأصوات، فليختاروا لها مقياس محطة تكون أبعد من المحطة البلجيكية وأضعف منها قوة كمحطات النرويج مثلاً التي يوجد بينها من لا تزيد قوتها عن نصف كيلو وات كمحطة بودوي التي يبلغ طول موجتها 235. 1
2 - أو على المحطة المصرية إن أبت إلا طول موجتها أن تجاري محطة هويزه الهولندية التي تجعل قوتها 7 كيلووات نهاراً و50 كيلو وات ليلاً
هذا رأيي أبديته لعله يقع موقع استحسان لدى مصر الفتية وحكومتها النبيلة
بو سعادة - الجزائر
بسكر عيسى(87/73)
من روائع الشرق والغرب
محمد إقبال
من رباعياته المسماة (شقائق الطور)
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عَزام
1 - يا قلبي إلام تجهل جهل الفراسة الرعناء؟ إلام تحيد عن سنن العظماء؟ احرق نفسك مرة بنارك. إلام تطوف بنار غيرك؟
3 - يا رب أية لذة في الوجود؟ كل ذرة هائمة بهذا الشهود. تشق الوردة الفنن النضير، فتبسم فرحاً بهذا الظهور
3 - سمعتُ الفراشةَ في العدمً تقول: هب لي من الحياة حرقة واضطرابا؛ أذرُ رمادي في السحر، ولكن متعني بالحياة ليلة
4 - فتحت في ضمير النجوم سبيلاً، وظلت بنفسك جاهلاً، كن كالنواة وأبصر نفسك، لتخرج نخلة باسقة من تُربتك
5 - ترنم الطائر الغرد على الأفنان، يقول في مطرب الألحان؛ أخرج كل ما في صدركُ صراخاً: آهة أو صرخة أو غناء أو نواحاً
6 - يضيرك النظر في بستاني العجب، إن لم يكن روحك شهيد الطلب، إني أبينُ عما في ضمائر الأغصان، وليس ربيعي طلسماً من الروائح والألوان
7 - أنا بين طير المروج غريب أظل وحدي على غصن العش في نحيب. إن تكن رقيق القلب فقف مني بعيداً، فإنما يرشح دمي في أنفاسي تغريداً
8 - تصب الحياة ألواناً جديدة كل حين، ما الحياة صورة واحدة على مر السنين. فان يكن صورة الأمس يومك فقد حُرمت شرارة الحياة طينتك
9 - ما علق قلبي بهذا البستان، فمضيت طليقاً من قيود الزمان والمكان. ولكن كريح الصبا سريت، فمنحت الورد اللون والنضرة ومضيت
10 - إن خمره جعلت خزفي كأس جم، واستسرت في قطرتي فصارت ليم. وضع العقل في رأسي صنماً، وجعل (خليل) العشق ديري حرما(87/74)
11 - قل عني للشاعر المفلق، ما جدوى حرقتك إن احترقت كالشقائق؟ لا تصهر نفسك هذه النار، ولا تنير للبائسين الديار
12 - أنا لا أعرف حسنك وقبحك. فقد جعلت عيارهما خسارتك وربحك. ليس مثلي وحيداً بين بني آدم، إني أرى بعين أخرى هذا العالم
عبد الوهاب عزام
رثاء
للشاعر الإنجليزي اللورد بيرون
ترجمة الأستاذ محمود الخفيف
وهكذا تعدو عليك المنية، فتذهبين في غضارة إهابك وروعة جمالك، كما يذهب كل شيء كتب له الفناء؛ ويعود هذا الهيكل الرشيق وتلك المحاسن النادرة وشيكا إلى التراب!
لئن غيب اللحدُ هذا الجمال، وحللت من الأرض في بقعة يمر عليها الناس لاهين أو ضاحكين، فان هناك عيناً لا تطيق النظر لحظة إلى ذلك القبر الذي يحتويك
سوف لا أسأل بعد اليوم أين موضعك من جوف الأرض، لا ولن أمد عيني إلى تلك البقعة فوق ظهرها. ولْتَنْمُ هنالك الأزهار أو الأعشاب كيفما شاءت، فبذلك لن تقع عليها عيناي
حسبي ما لاقيت دليلاً على أن من أحببت، ومن سأحرص أبد الدهر على حبها، قد تطرق إليها البلى كما يتطرق إلى كل شيء خرج من الأرض؛ وما حاجتي بعد إلى حجر يقام أو علامة تنصب، وكل ما حولي ناطق بأن ما كان بالأمس موضع آمالي، قد أصبح اليوم. . . . لا شيء؟!
ومع ذلك قد أحببتك حتى النهاية في حماسة وقوة، كما أحببتني أنت، يا من ظللت على عهدك طوال تل الأيام السوالف ولا سبيل اليوم إلى تغيرك
إن الحب الذي طبعه الموت بطابعه لن يلحقه الفناء أبداً. فما تطاوُل الزمن بمذهبٍ من حرارته شيئاً، ولا المنافسة بقادرة على استلابه، ولا المين بواجد طريقاً إلى إفساده. وفضلاً عن ذلك فسوف لا ترين ما قد أرتكبه بعد اليوم من هفوة أو تحول أو خطأ
لقد تذوقنا معاً من أيام الحياة أحلاها، أما أمرها فسأتجرعه وحدي، إذن لن ترى عينك بعد(87/75)
الموت الشمس التي تبعث البهجة في الكون، ولا العاصفة التي تنذر بالظلام والهم
إنني لأحسدك على تلك الضجعة الهادئة، حيث لا تزعجك الأحلام، ولذلك يخيل إلي أن أترك البكاء على موتك. كذلك لن آسف على انقضاء تلك المحاسن الغر، فلم يكن مفر من أن أراها تذوي يوماً بعد يوم أمام ناظري!
إن أسرع الزهور إلى الذبول وأسبقها إلى الفناء، أعظمها تفتحاً وأشدها بهاء، وإن تلك الزهرة التي بذلت صويحباتها تفتقاً ونماء، لتسقط وريقاتها واحدة تلو الأخرى، وإن لم تمتد إليها الأيدي فتقطفها قبل أوانها
وإن رؤية تلك الزهرة وهي تموت ورقة فورقة، لأوجع للقلب، وآلم للنفس، وأدعى إلى الحسرة، من رؤيتها وهي تقتطف دفعة واحدة؛ ذلك لأن أعيننا، نحن بني الأرض، لا تستطيع أن تراقب خطى التحول من الجمال إلى القبح، دون أن يمضها ذلك ويحزنها
وليت شعي هل كنت أستطيع أن أرى جمالك وما حزت من معاني الحسن، يخبو ثم ينطفئ؛ ألا إن الليلة التي تتلو مثل هذا الصباح لأشد ما تكون الليالي حلكة وكدرة
لقد انقضى نهارُك ضاحياً لم تشب صفاءه غمامة، وبقيت حتى النهاية جميلة ناعمة، وكأني بك في موتك العاجل الشعلة تخمد في وهجها دون أن تخبو؛ كذلك الشهب التي تلفظها القبة الزرقاء، أعظم ما تكون التماعاً حين تسق من أعلى السماء
أه! لو أستطيع البكاء ما كنت أبكي من قبل. . . إذا لجرت دموعي غزيرة، على أني لم أكن قريباً منك يوم مت لأقوم إلى جانب سريرك ساعة احتضار، شاخصاً في وجهك في هيام وأي هيام!
هنالك كنت أتناول جسدك بين ذراعي فأضمك ضمة خفيفة رافعاً بيدي رأس المائل المحتضر، كي أشهدك ولو بغير جدوى، على ذلك الحب الذي لن يحسه كلانا بعد!
لقد تركتني اليوم حراً طليقاً، ومع ذلك لن يعدا كل ما يمكن أن تصل إليه يدي مما بقي في الوجود من حسن ذكرى إياك كما أفعل الآن
إن ذكراك وهي لي منك ذلك التراث الوحيد، الذي لن تصل إليه يد الفناء، تعاودني في هذا الوجود المظلم المخيف فتزيدني إعزازاً لذلك الحب الذي ضمه القبر، والذي لا أعدل به شيئاً في الحياة، ولن يفضله في نظري سوى أيامه التي قضيناها معاً قبل أن يعدو عليك(87/76)
الموت
الخفيف(87/77)
الكتب
الأطلال
رواية قصصية مصرية - تأليف الأستاذ محمود تيمور
عرض ونقد بقلم محمد أمين حسونه
ليست (الأطلال) التي أخرجها الأستاذ محمود تيمور أخيراً سوى ثغرة بين مرحلتين في حياة المؤلف القصصية، وأقصد بالمرحلة الأولى فنه الذي يمت إلى الواقعية، وبالمرحلة الثانية نزعته الجديدة إلى التحليلية (السيكولوجية)، هذا فضلاً عن خلوها من سيطرة أية نزعة أوربية
والناقد الحصيف يلمس بين سطور (الأطلال) من عصير الفكر ووضوح الوصف وخصوبة الخيال ما يكفل لها حياة نابضة. وقد عرف الأستاذ تيمور كيف يرتفع بموضوع روايته إلى أسمى من ذلك الفن الرخيص الذي يبدو في قصص غيره، واستطاع أن يضيف إلى جانب مهارته في رسم بيئته، تصويره لشعوره الخاص تحت نقاب شفاف من التورية الفنية، متخذاً شخصية (سامي) مرآة تحجب وراء زجاجها الصقيل الثورة الكامنة المتأججة في فجر حياة كل شاب، حتى تدفعه إلى الخروج من حالة القلق والحيرة إلى عالم الجسم وجحيم الشهوة
بسط المؤلف على لوحته أولاً رسم سامي، وهو من أبناء الذوات الذين يعيشون في القصور المحاطة بالأسوار العالية، تضم جدرانها العدد الوفير من الخدم والخصيان والأتباع، ويأوي إليهم بين يوم وآخر ضيوف تستغرق إقامتهم الأسابيع بل الشهور
وعندما يستطرد المؤلف في وصف نشأة الصبي سامي تتنبه فيه ملكة التصوير، فلا يفوته أن يسجل إعجاب ضابط المدرسة عندما يدعوه إلى داره ليلعب مع ابنته فتحية، وكيف يغرم الصبي بالفتاة وتستهويه رائحة الأنوثة المنبعثة من صورتها، حتى إذا ما شب كان عنفوان اليقظة الغامضة يدب في أوصاله، وتراه في ذات ليلة (أم خضير) - وهي خادمة حنكتها التجارب يستذكر دروسه وفتحية أمامه تخيط ملابسها فتسر إليه (لو كنت مكانك لما جلست هكذا أمام كتبي، بل كنت أجلس إلى جانبها أداعبها واختلس قبلة)(87/78)
كان في استطاعة سامي بحكم تربيته وبيئته أن ينهر الخادم، أو يزجرها، ولكن المؤلف يضعه في هذا الموقف على أبواب لغز، وكأن كلمات (أم خضير) جاءت إليه من عالم بعيد مجهول، فأيقظت العواطف الراكدة في أعماق نفسه، ودفعتها في طريق محفوفة بالآثام والمخازي
خطوات سامي في هذا الطريق الوعر قلقة مضطربة، فهو موزع الإحساس الجسدي بين فتحية وبين الغانيات وزوجة أخيه تهاني، وشخصيته في الرواية كخطواته غير مستقرة، يبدو أحياناً في هدوء عجيب، وأحياناً أخرى في عنف وشراسة. أما فتحية فيحوطها المؤلف بحالة غموض وإبهام وتجلد أمام الآلام، بحيث لا تتفق شخصيتها مع الواقع، وحالة تحفظ في التعبير بحيث يدفعها في الخفاء إلى كبت عواطفها كبتاً لا يمكنها معه أن تبوح بحب أو ترفع صوتها بشكوى برغم شعورها بالألم وإحساسها بأنها ليست مذنبة في نظر المجتمع. ولو أدرك المؤلف أن العواطف المكبوتة قد لا تخلو من الإحساس لاستكمل النضوج الفني للصورة
وعلى العكس يبدو فن المؤلف واضحاً وأفكاره مستوية وهو يعرض علينا عقب ذلك خيال فتحية غير المحدود، عندما يتراءى لسامي بين ظلال الوعي وساعة هدوء الروح وابتعادها عن إثم الجسد، فهي تتمثل له طهارة كل فكرة وصفاء كل هاجسة، حتى إن المؤلف ليكسو خيالها بإشعاع من روح العطف والحدب على مصيرها. أما تهاني - زوجة أخيه - فهي مثال الفتاة العابثة النزقة لتي لا تبالي بالتقاليد ولا بالأوضاع حتى إن صورتها كانت في عقله الباطن صورة امرأة غاوية قبل أن يفكر في ارتكاب الخطيئة معها، فهي تتمثل له في وجه كل غانية يلقاها، ونفس شخصيتها تتلاشى تماماً في الشهوة النجسة. ولما مات أخوه وأحس أمام جثمانه بالندم يفر وفر يطلب العزلة بعد ضجيج المأتم وانكفأ يستعرض حاله، فقاده حاضره إلى التفكير في فتحية فخرج من صمته هائماً لا يلوي على شيء، بعد أن أحس أن جدران القصر تنهار (كالأطلال)، وأن شبح تهاني يطارده حتى أدرك القرية، وهناك سأل عن فتحية فإذا بها قد ماتت، وإذا طفل يجري أمامه عليه ميسم اليتم ومسحة من جمال فتحية فيحتضنه بعد أن يعرف أنه ابنه ثم يبكي. . . . .
والأستاذ تيمور الذي يجسم يعيني الفنان كل صورة في عالم الأنوار والظلال ينجح نجاحاً(87/79)
باهراً في وضع شخصية مودة هانم بحيث تتراءى أمامنا بين السطور مثالاً للمرأة التي استسلمت للقدر، فهي لا تشكو ولا تحتج وإنما تترقب أن يلعب القدر دوره في الخفاء فينزع زوجها من أحضان (ضرتها) وأن يعيده إليها سالماً. وحبذا لو أتى المؤلف إلى جانب هذا على طرق (مودة هانم) في اجتذاب زوجها بوساطة السحر أو التنجيم ما دام ينزع في فنه الجديد إلى التحليلية
بين الشخصيات التي رسمها المؤلف شخصية تظهر ثم لا تلبث أن تختفي، هي (أم خضير)، والمؤلف إنما يحركها فقط في المواقف التي تدفع فيها سامي إلى مواطن الإثم، وتشابهها من هذه الناحية شخصية العيوطي - مساعد البستاني - فهي قوية برغم عدم وضوحها، خصوصاً عندما يلتقي به سامي ويطلعه على رغبته في الوصول إلى زوجة أخيه فيجهز له على عادة العشاق في الجيل الماضي زياً نسائياً يتمكن به الوصول إلى خدر الزوجة
ومما يجدر بنا تسجيله للمؤلف أن النزعة الإرشادية يختفي ظهورها تماماً في فنه
ولعل أبرز طابع فيها هو (الصراحة) التي تطبعها من أولها إلى آخرها، وفي الصراحة منجاة من الأدب الأناني الذي تغشاه دائماً سحابة مبهمة من نفس صاحبه فتدفعه إلى إخفاء المعنى جزيئاً، ولكن الصراحة في الأطلال شيء آخر، فهي تسهب في التحدث عن العلاقة الجسدية بحيث تصورنا ضعافاً تحكمنا غريزة الجنس وتطغى على ميولنا وعواطفنا
وتمتاز (الأطلال) بارتباط شخصية سامي بأبطالها ارتباطاً يجعلهم يعيشون في قراره الموضوع لا فوق سطحه(87/80)
العدد 88 - بتاريخ: 11 - 03 - 1935(/)
إلى أين يُساق الأتراك؟
مَنِ السائرون في شحوب الأصيل على حدود المغرب، يسرعون الخطى كأنهم هاربون من النهار، ولا يلتفتون إلى الخلف كأنهم ناجون من سَدُوم؟! مَنِ السائرون بين النور والظلام على الدرب الخادع المبهم، يخفقون كأطياف المساء على حواشي الطفل، ويمسون الطريق من الوراء حتى لا يرجعوا إلى الأهل؟! إنها أمة من صميم الشرق نشأت في نوره، وطبعت على شهوره، وتنفست في عطوره، ألقت زمامها الأقدار الغالبة في يد عصبة من أبنائها، رُبُّوا في غير أحضانها، فنشأوا على غير منشئها، وجروا على خلاف مبدئها، فقطعوها بالكره عن مشرق الشمس ومبعث الروح ومنبت العاطفة ومنشأ الدين، وخرجوا بها متعسفين إلى طريق مشتبهة، وغاية مريبة، ودنيا مجهولة؛ ثم قالوا لأنفسها انسلخي عن شرقيتك بأمر القانون، ولقلوبها اعتقدي غير عقيدتك بحكم القوة، ولألسنتها أنطقي غير لهجتك بإرادة الحاكم، ولحاضرها انقطع عن الماضي بسطوة الجمهورية، ولأرضها وبيئتها وطبيعتها انفصلن عن آسيا بإذن الحكومة! كأنما الأمم تصاغ بالقوانين، والطبائع تغير بـ (الأوامر!!)
مهلاً ساقةَ الظعن وهُداة القافلة!! سترحلون عن وطن إلى غربة، وعن ولاء إلى عداوة، وعن إخوة إلى سادة. ماذا نقمتم من الشرق مهد الإنسان ومهبط الأديان ومنبع الإلهام ومسرح الأحلام ومبدأ النشأة؟ ألم يخلق اليابان اليوم كما خلق الصين والهند وبابل والفرس والعبران والعرب بالأمس؟
إن شمس المدينة أرسلت علينا أول أشعتها في صبح الوجود، ثم متَعَ ضحاها فغمرتنا بالنور والشعور والقوة، ثم انحدر إلى المغيب في بلاد المغرب حتى بلغت خيوطها أطراف الشفق! إنها ستغرب لا محالة، وإنها ستشرق لا محالة، وإن غروبها لا يكون إلا هناك، وإن شروقها لا يكون إلا هنا. فلم لا تنتظرون معنا يا بني العم طلوعها الجيد القريب على موطنها الأول؟
لقد ذر منها كما ترون على اليابان أشعة، وبص منها الساعة على مهاد العروبة وبلاد الإسلام شعاع! وعما قليل يسطع في أقصى الشرق وفي أدناه وهجُها وسناها، فتهتز الأرض من جديد وتربو، ثم تتشقق عن العبقريات التي ارتجلت الحكمة، وإكتشفت المعرفة، وسنت الأخلاق، ودفعت مدينة الإنسان إلى مداها البعيد(88/1)
قالوا لتركي الأناضول: مالك وللشرق، ومالك وللعرب، ومالك وللإسلام؟ تعال نبحث عن أجدادك في الأولمب، وعن قومك في الفورم، وعن مدنيتك في اللوفر؛ ثم ألزموه أن يلبس القبعة، وأرغموه أن يكتب من الشمال، وفصلوا الدين عن الحكومة، وانتزعوا العربية من التركية، وحرموا الشعب المتدين تقاليد الإسلام، وحرموا عليه أخلاق الشرق، ثم ألغوا العيدين، واستبدلوا بعيد الجمعة عيد الأحد، ثم نقلوا الأمة المروعة المشدوهة على المدرعات إلى الشاطئ الأوربي، ثم أحرقوا من ورائها سفائن طارق!
على أن التركي الأصيل الذي استضاء بهدى الإسلام، وتثقف بعلم العرب، وساهم في مجد الفتوح، لم يَصْغَ قلبه لهذا التغير المفروض، فظل فؤاده حيث طبعه محمد الرسول، وجسمه حيث وضعه محمد الفاتح!
أما موضع الخطر فأولئك النشء الذين قست عليهم الحرب، وبغت عليهم السلم، فحصروا علل أخطائهم وأسباب أرزائهم في معنى الخلافة فنفوها من الأرض، ثم أفرط عليهم العداء فتحيفوا ما يلابسها من شرقية وعروبة ودين؛ أولئك سيزهقون في حاضرهم روح الماضي، ويقطعون عن ضمائرهم صوت التاريخ، ويبنون قوميتهم على أسس مستعارة، ويجددون شخصيتهم على تقليد طائش، ويخضعون عقليتهم لعبودية قاتلة، ثم يتنفخون بالصوت الرفيع المدل: أن تركية للترك! فيقول لهم الدهر الساخر: نعم، وإن الترك لأوربا!
فخامة الغازي العظيم أتاتُورك! لقد جبرت الجناح المهيض، وأحييت (الرجل المريض)، وأنقذت من براثن العوادي السود تركية الفتاة، ما في ذلك شك، فاسمك العزيز عنوان تاريخها الحديث، وعزمك الجبار قوام دستورها القائم، وروحك الوثاب سناد مستقبلها الطارف، ولكنك ظلمت تاريخك الخاص بمخالفة الطبيعة في التجديد، ومجانبة المنطق في الاصلاح. أخشى أن يسجل الرقيب الذي لا يغفل أنك أحييت دولة وأمت أمة، وبنيت دستوراُ وهدمت عقيدة، وبعثت لغة ودفنت ثقافة!
ما جريرة العرب على الترك وقد استخلفوهم على الدين واستأمنوهم على الرسالة؟ وما جريمة الإسلام على الترك وقد نعشهم من الخمول وأخرجهم من الجهالة؟ وماذا يبقى من الترك ولغة الترك وثقافة الترك إذا محوت أثر العروبة ودينها من كل ذلك؟
إن العرب ليسوا أقل شأناً من الطليان والجرمان، والإسلام ليس بأضعف في رفع الشعوب(88/2)
من وثنية اليابان، ولكنها موجة من المادية الطاغية غشت على الأبصار وطغت على البصائر، ستنحسر غمرتها عن مجالي الفضيلة والحق ولو بعد حين!
أحمد حسن الزيات(88/3)
الشيطان. . . .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الشيخُ أبو الحسن بن الدقاق: كان شيخي أبو عبد الله محمد (الأزهري العجمي - رضي الله عنه - رجلاً صاحب آياتٍ وخوارق مما فوق العقل، كأنما هو سرُ من الأسرار الجارية في هذا الكون، قد بلغ بنفسه رتبة النجم في أفقه البعيد؛ ففيه أهواءُ الإنسان وشهواته وطباعُه، إلا أنها كنوز النجم في تألقه ولألائه من إشراق روحه وصفاتها؟ وقد ارتفع بآدميته فوق نفسها؛ فأصبح في الناس ومعه سماؤه، يجعلها بين قلبه وبين الدنيا
والرجل إذا بلغ هذا المبلغ كان حياً كالميت ساعة احتضاره؛ ينظرُ إلى كل ما في الحياة نظرة من يترك لا من يأخذ، ومن يعتبرُ لا من يغتر، ومن يلفظ لا من يتذوق، ومن يُدرك السر لا من يتعلق بالظاهر. ويرى الشهوات كأنها من لغة لا يعرفها، فهي ألفاظ فيها معاني أهلها لا معانيه، وإنما تلبسُ كلماتُنا معانيها من أنفسنا. وفي النفوس مثلُ الهشيم؛ إذا وقعت فيه المعاني المشتعلةُ استطار حريقاً وتضرم، وفيها على المجاهدة مثل الماء؛ إذا خالطته تل المعاني انطفأت فيه وخمدت
وقد سألتُ الشيخ مرة: كيف تحدثُ الكراماتُ والخوارق للإنسان؟ فقال: يا ولدي، إن الإنسان من الناس المحجوبين يتصرف في جسمه ولا يكاد يملكُ لروحانيته شيئاً، فإذا أبلى في المجاهدة ووقع في قلبه النور، تصرف في روحانيته ولا يكاد يملكُ لجسمه شيئاً، فمن أطاق أن ينسلخ من بشريته، واتسعت ذاته في معاني السماء بمقدار ما ضاقت من معاني الأرض، وكان مُعداً لأن يتحقق في روحانيته، مُعاناً على ذلك بطيعيةٍ فوق الاعتدال - فقد شاع في الكون وأصاب له وجهاً ومذهباً إلى تلك القوة التي تهدم في العالم وتبنى، وتفرق وتجمع، تنقل الصور بعضها إلى بعض؛ فان الكون كله جوهرٌ واحد هو النور. حتى الجبلُ هو نورٌ صخري، وحتى البحر هو نور مائي، حتى الحديدُ والذهبُ والتراب، كل ذلك نور صرفته القدرة الآلهية تصريفها المعجز، فكان على ما نرى: ظاهرٌ مخيلٌ يلائم نقصنا وعجزنا، وحقيقةٌ قارةٌ على غير ما نرى. ومن ذا يعقل أن الصخر نورٌ متجمدٌ إذا لم يكن له إلا عقلُ عينه وحواسِّه، ومن ذا يُطيق أن يفهم بحواسه وعينه قولَ الله تعالى: (وترى الجبالَ تحسبها جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السحاب صُنْعَ الله الذي أتْقَنَ كلَّ شيء)؟ فالجبال جامدةٌ(88/4)
ثابتة، غير أنها تمر بأرضها وتموج في نفسها؛ ومتى تأذَّنَ الله أن ينكشف نورُ كلامه لعقل الإنساني، فستكون هذه الآية علماً جديداً في الأرض يُثبت أن السحاب والجبلَ مادةٌ واحدة وصُنعٌ واحد
ويا لها سُخرية بالإنسان وجهله! فانه إذا كانت الحقيقةُ غير ما نرى، فكل شيء في الدنيا هو ردُ على النظر الإنساني، ويكاد الجبلُ العظيم يكون كلمةً عظيمةً تقول للإنسان: (كذبت!)
فالشأنُ في الخوارق والكرامات راجعٌ إلى القدرة أن يسلط الإنسان الروحاني ما فيه من سر النور على ما في بعض الأشياء من هذا السر، وتلك هي طاعةُ بعض الكون لمن ينصرف عن المادة ويتصل بخالقها
فإذا بقي في الرجل الروحاني شيءٌ من أمر جسمه يقول: (أنا. . .) لم يكن في الرجل من تلك القدرة ذرة؛ فان هو حاول أن يخرق العادة أبى الكون أن يعرفه إلا كما يعرف حجراً مُلقى يحاول أن يتصرف بالجبل الذي هو منه فينقله أو يزحزحه أو يزلزله
ولا خير على الأرض مطلقاً إلا وهو أخذٌ من حقوق هذه الـ (أنا. .) في إنسانها، ولا شر على الأرض مطلقاً إلا وهو إضافة حقوق اليها؛ فحين لا يبقى له حقٌ في شيء عند نفسها، يجب لها الحق على كل شيء. وهذه هي الكرامة؛ تُكرِمُ الخليقة من أكرمه الخالق
فمن أراد أن تتصل نفسه بالله فلا يكنْ في نفسه شيءٌ من حظ نفسه، ولا يؤمن إيمان هؤلاء العامة: يكون إيمانهم بالله فكرة تذكر وتُنسى، أما عملهم فهو إيمانهم الراسخُ بالجسم وشهواته يُذكر ولا يُنسى.
وأنت ترى رجالَ الروح يأكلون ويشربون ويلبسون، ولكن هذا كله ليس فيه ذرة من أرواحهم، على خلاف غيرهم من الناس؛ فهؤلاء كل أرواحهم في مطاعمهم ومناعمهم؛ ومن ثم لا يجري الشيطان من الأولين إلا في بحارٍ ضيقة أشد الضيق لا يكاد ينفذ منها إلى فكرة أو شهوة أو حُلُم من أحلام الدنيا، أما الآخرون فالشيطان فيهم هو تيار الدم يَعب عبابه في الأسفل والأعلى
قال أبو الحسن: وكنا يومئذ في دمشق، فنبهني كلامُ الشيخ عن الشيطان إلى ما قرأته عن كثيرين ممن رأوا الشيطان أو حاوروه أو صارعوه؛ فقلت للشيخ: إن من حقك عليَّ أن(88/5)
أسألك حقي عليك، وما في نفسي أحب إلي ولا أعجب من أن أرى الشيطان وأكلمه وأسمعه، وأنت قادرٌ أن تنقلني إليه كما نقلتني إلى ما دخلت بي عليه من عوالم الغيب
قال الشيخ: وماذا يردُ عليك أن ترى الشيطان وتكلمه؟
قلت: سبحان الله! لا يُجدي على شيئاً إلا أن أسخر منه
قال الشيخ: فإني أخشى - يا ولدي - أن يكون الشيطان هو الذي يريد أن تراه وتسمعه. . .!
قلت: فإني أريد أن أساله عن سره، فيكون علماً لا سخرية
قال: لو كشف لك عن سره لما كان شيطاناً، فإنما هو شيطان بسره لا بغيره
قلت: فأريد أن أرى الشيطان لأكون قد رأيت الشيطان!
قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! لو كنت يا أبا الحسن بأربع أرجلٍ لهربت من الشيطان بثلاثٍ منها وتركته يجرك من واحدة!
قلت: يا سيدي، فلو كنت حماراً لبطل عملُ الشيطان في أرجلي الأربع كلها، إذ لا حاجة به إلى إغواء حمار!
فتبسم الشيخ وقال: ولابد أن ترى الشيطان وتكلمه؟
قلت: لابد
قال: إنه هو يقولها، فقم!
قال أبو الحسن: وكان الشيخ إذا مشى إلى أمرٍ خارق بقيتُ معه غائباً عن الحس، كأنه يبطل مني ما أنا به أنا، فأصبحُ ظلاً آدمياً معلقاً به. ولا تقع الخوارق إلا لمن وجد القوة المُكملة لروحه، وهذه القوة تُستمد من الشيخ الواصل، فلا بد من إمام يأخذ عن إمام، كأنها سلسلة نفسيةُ متميزةٌ في الأرض، فتغير الواحدةُ منها بالواحدة إذ تقع في جوها فتورق وتثمر؛ كالشجرة جوٌ يكسوها وجوٌ يذبلها وجوٌ يسلبها سلباً، وكذلك تفعل النفس إذا كان لها جو
وخرجنا من دمشق وأنا خلف الشيخ كالمحمول، فرأيتُنا وقد أشرفنا على بناء عظيم، ورأيت أقواماً يتلقون الشيخ ويسلمون علي ويتبركون بمقدمه؟ فأنكرتهم نفسي وجدت منهم وحشة، فالتفت إلى الشيخ وقال: هؤلاء قوم من الجن، وما إليهم قصدنا فلا تشتغل بما ترى واشتغل(88/6)
بي
ثم ننتهي إلى البناء العظيم، فتستقبلُنا طائفةٌ أخرى، ويُدخلون الشيخ وأنا خلفهن ويمرون بنا على دنيا مخبوءةٍ تعجز الوصف مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت؛ فيقولون: هذه كنوزُ سليمان وذخائره، ويطوفون بالشيخ يعرضونها عليه كنزاُ كنزاً؛ فرأينا ثم نعيما ومُلكا كبيراً، ثم انتهينا أخيراً إلى مغارة خسيفة كأنها عرقٌ من عروق جسم الأرض، يتفجر منها دويٌ كالرعد القاصف إلا أنه في السمع كخوار الثور، إلا أنه ثورٌ خُيلَ إلى أن رأسه في قدر جبل عظيم، يتعلق به غبغب في قد جبلٍ آخر، على جسم يسدُ الخافقين، فخواره كأنه صراخ الأرض، وإذا أنا بأقبح مكان منظراً، وأنتنه ريحاً، كأنه سجنٌ بناؤه من الجِيَف
فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا سجنُ إبليس، وهو هنا في هذه المغارة منذ زمن سليمان عليه السلام
قلت: أفمسجونٌ هو؟
قالوا: وإنه مع ذلك مُوقرٌ بأمثال الجبال حديداً يربُضُ به في محبسه، فلا يتزحزح ولا يتحلحل
قلت: وإنه مع ذلك قد ملأ الدنيا فساداً، فكيف به لو كان طليقاً؟
قالوا: فلو أنه كان طليقاً لاستحوذ على الناس كافة فيجتمع أهلً الأرض على شهوةٍ واحدة لا شيء غيرُها، فيبطلُ مع هذه الشهوة الواحدة كلّ تدبير بينهم، فلا تقومُ لهم سياسة ولا يكون بينهم وازع، فيرجعون كالكلاب أصابها الكَلَبُ وهاج بها، فأنيابها في لحمها، لا يزالَ يَعضُّ بعُضها بعضاً، فليس لجميعها إلا عملُ واحدٌ يسلمها إلى الهلاك، ويصبح ظهرُ الأرض أعْرى من سَراة أديم
وإنما يَلُحُ الناسُ باختلاف شهواتهم وتنافرها وتنازعها؛ فبعضها يحكم بعضاً، وشيء منها يَزَعُ شيئاً، ومن تخلص من نَزوَةٍ قمع بها نزوة أخرى، كالمتزوج المحْصَنِ، يحكم بالجلد والرجم على من ليست له امرأةٌ فزنا؛ وكالغني الواجد، يحكم على اللص الذي لم يجد فسرق، وهلم جراً. وما ينشأ الناسُ في ثلاثة أعمار فيشبون ويكتهلون ويهرمون، إلا لتختلف شهواتهم وتختلف مقادير الرغبة فيها، فتتحقق من ثم تلك الحكمة الإلهية في التدبير، ويجد الشرعُ محله بينهم، كما يجدُ العصيان بينهم محله(88/7)
ولو أن أمةً كلها أطفالٌ أو كهول أو شيوخ لبادت في جيل واحد، وإنه ليس أسمجَ من الرذيلة تكون وحدها في الأرض إلا الفضيلةُ تكون وحدها، فلا بد من شيء يظهرُ به شيء غيره، كالضد والضد. والمعركة إذا انتصر كل من فيها كانت هزلاً وكانت شيئاً غير المعركة
قال أبو الحسن: وقلت لهم: فإذا كان الشيطان سجيناً قد ربَضت به أثقاله حتى لهو في سجنٍ من سجنٍ مبالغةً في كفه والتضييق عليه - فكيف يَفتنُ الناسَ في أرجاء الأرض ويوسوسُ في قلوبهم، حتى لهو يد بينُ كل يدين، وحتى لَهو العين الثالثة لعيني كل إنسان؟
قالوا: إن في روحه النارية قوةً تَفْصِل منها وتنتشر في الأرض، كشعاع الشمس من الشمس، هذه كُرَةٌ ناريةٌ ميتة مطلقة على الأجسام مُرصدة لها، وتلك كرة نارية حية معلقة على النفوس مرصدة لها، وبهذه وتلك عَمارُ الدنيا وأهلِ الدنيا
قلت: لعلكم أردتم أن تقولوا: (خراب الدنيا وأهلِ الدنيا) فغلطتم فكان ينبغي أن يجيء بدل الغلط. . . .
فقال أحدهم: يا أبا الحسن، خَرَق الثوبُ المسمار. جاز هنا لأمن اللبْس أن يكون المفعول به وهو الثوب مرفوعاً وفاعله وهو المسمار منصوباً، هل جئت - ويحك - تطلبُ النحو وتطلب الشيطان. . . .؟
قال أبو الحسن: فقطعني الجني (والله) وأخجلني، ونظرت خلسة إلى الشيخ أراه كيف يسخر مني، فإذا الشيخ قد أملسَ فلا أراه، وإذا أنا وحدي بين الجن وبازاء هذا الساخر الذي وُضِعَت عينه في جبهته وشُق فمه في قفاه. . . . .! فَسُرِّيَ عني وزال ما أجده، وقلت في نفسي: الآن أبلغ أرَبي من الشيطان ويكون الأمر على ما أريد فلا أجد من أحتشم ولا تَقْطَعُني هيبة الشيخ. . . .!
وقع هذا الخاطر في نفسي، فاستعذت بالله ولعنت الشيطان وقلت هذا أول عبثه بي وجعله إياي من أهل الرياء، كأن لي شأناً في حضور الشيخ وشأناً في غيابه، وكأني منافق أعلن غير ما أسِر، وقلت: إنا لله! كدت يا أبا الحسن تتشيطن!
ثم هممتُ أن أنكص على عقبي، فقد أيقنتُ أن الشيخ إنما تخلى عني لأكون هنا بنفسي لا به، وما أنا هنا إلا به لا بنفسي، فيوشك إذا بقيتُ في موضعي أن أهلِك! بَيْد أن المغارة(88/8)
انكشفتْ لي فجأة، فما ملكتُ أن أنظر؛ ونظرتُ فما ملكت أن أقف، ووقفتُ أرى، فإذا دخانٌ قد هاج فارتفع يثور ثورانه حتى تملأ المكان به، ثم رق ولطُفَ
واستضرَمت منه نارُ عظيمة، لها وهَجانٌ شديدٌ يضطرم بعُضها في بعض، ويُسمَع من صوتها مَعمَعة قوية ثم خَمدَت وانفجرَ في موضعها كالسد المنبثق من ماءٍ كثيف أبيضَ أصفرَ أحمرَ، كأنه صديدٌ يَتَقيح في دمٍ ثم غاض
وتنبعتْ في مكانه حماةٌ منتنةٌ جعلتْ تربو وتعظمُ حتى خِفتُ أن تبتلعني وأذهبَ فيها، فسميتُ الله تعالى فغارت في الأرض
ثم نظرتُ فإذا كلبٌ أسودٌ محمر الحماليق هائلُ الخلقة مَستأسد؛ قد وقف على جيفةٍ قذرة غاب فيها خَطمهُ يعُبُّ مما تسيل به
فقلت: أيها الكلب، أأنت الشيطان؟
وأنظرُ فإذا هو مَسخٌ شائه كأنه إنسانُ في بهيمةٍ قد امتزجا وطغى منهما شيءٌ على شيء، أما وجهه، فأقبحُ شيءٍ منظراً، تحسبُه قد لَبِس صورةَ أعماله. . . ونطق فقال: أنا الشيطان!
قلت: فما تلك الجيفة؟
قال: تلك دنياكم في شهواتها، وأنا ألتقم قلب الفاسق أو الآثم منكم، كما ألتقم دودة من هذه الجيفة
قلت عليك لعنةُ الله وعلى الفاسقين والآثمين، فكيف كنتَ دخاناً، ثم انقلبت نارا، ثم رجعتَ قِيحاً، ثم صرتَ حمأة، ثم كنت كلباً على جيفة؟
قال: لا تلعن الفاسقين والآثمين؛ فانهم العباد الصالحون بأحد المعنيين، وأنت وأمثالك عباد صالحون بالمعنى الآخر، أليس في الدنيا حياءٌ ووقاحة؟ فأولئك - يا أبا الحسن - هم وقاحتي أنا على الله! أنا معكم في زهدكم حِرمانُ الحرْمان، وفقرُ الفقر، ولقد أهلكتموني بُؤساً؛ غير أني معهم لذة اللذة، وشهوةُ الشهوة، وغِنىَ الغنيَ، لا تتم لذة في الأرض ولا تحلو لذائقها وإن كانت حلالاً، إلا إذا وضعتُ أنا فيها معنى من معاني أو وقاحةً من وقاحتي! حتى لأجعل الزوجة لزوجها مثل الشعر البليغ إذا استعار لها معنى مني، وكل ما فسدت به المرأة فهو مجازي واستعارتي لها أجعلها به بليغة. . . .
وأنتم يا أبا الحسن تقطعون حياتكم كلها تجاهدون إثمَ ساعةٍ واحدة من حياة عبادي، فانظر(88/9)
- رحمك الله - لئن كانت ساعةٌ من حياتهم هي جهنمكم أنتم، فكيف تكون جهنم هؤلاء المساكين؟
إنك رأيتني دخاناً لأني كذلك انبعثُ في القلب الإنساني فمتى تحركتُ فيه حركة الشر كنت كالاحتيال لإضرام النار بالنفخ عليها. فمن ثم أكون دخاناً، فإذا غَفَل عني صاحبُ القلب تضرمتُ في قلبه ناراً تطلب ما يطفئها؛ ثم يُواقِع الإثم والمعصية نَهْمَته فأبَردُ عن قلبه، فيكون في قلبه مثل الحرق الذي بَردَ فتأكل موضعه فتقيح، ثم يختلط قيحُ أعماله بمادته الترابية الأرضية، فينقلب هذا المسكين حمأة إنسانية لا تزال تربو وتنتفخ كما رأيت
قلت: أعوذ بالله منك! أفلا تعرف شيئاً يردك عن القلب وأنت دخانٌ بَعْد؟
فقهقه اللعين وقال: ما أشد غفلتك يا أبا الحسن، إذ تسأل الشيطان أن يخترع التوبة! أما لو أن شيئاً يخترع التوبة في الأرض لاخترعها القبرُ الذي يدفن فه بعضُكم بعضا كل طرفة عين من الزمن فتُنزلون فيه الميتَ المسكين قد انقطع من كل شيء، وتتركونه لآثامه، وحساب آثامه، والهلاك الأبدي في آثامه؛ ثم تعودون أنتم لاقتراف هذه الآثام بعينها!
قلت: عليك وعليك أيها اللعين؛ ولكن ألا يتبدد هذا الدخان إذا ضربته الريح أو انطفأ ما تحته؟
قال: أوه! لقد أوجعتني كأنما ضربتني بجبل من نار، إن نبيكم عَرفها، ولكنكم أغبياء، تأخذون كلامَ نبيكم كأنما هو كلاٌم لا عًمل، وكأنه كلام إنسان في وقته لا كلامٌ النبوة للدهر كله وللحياة كلها. ولهذا غلبتُ أنا الأنبياء على الناس، فإني أضع المعاني التي تعمل، لا الحكمة المتروكة لمن يعمل بها ومن لا يعمل
أتدري يا أبا الحسن، لماذا أعجزني أسلافكم الأولون مثل: عُمر وأبي بكر؟ حتى كان إسلامهم من أكبر مصائبي، فتركوني زمناً - وأنا الشيطان - أرتابُ في أني أنا الشيطان. . . . . .؟
قلت: لماذا؟
قال: أراك الآن لم تَلعن، فلستُ قائلها إلا إذا تَرحمتَ علي
قلت: عليك وعليك من لًعنات الله! قل لماذا؟
قال: أسائلُ ويأمر؟ وطَفَيْلي ويَقْترح؟ لا بد أن تترحم!(88/10)
قلت: يرحمنا الله منك! قل لماذا؟
قال: وهذه لعنةٌ في لفظة رحمة. لا، إلا أن تترحم علي أنا إبليس الرجيم!
قلت: فيُغني الله عن علمك؟ لقد ألهمتنيها روحُ النبي صلى الله عليه وسلم. إن النبوة كانت هي بأعمالها وصفاتها تفسير الألفاظ على أسمى الوجوه وأكملها، فكان روحُ النبي صلى عليه وسلم لتلك الأرواح كالأم لأبنائها. وقد رأوه لا يغضب لنفسه ولا لحظ لنفسه، وذلك لا يستقيم إلا بالقصد في أمر النفس، وجعلٍ ناحية الإسراف فيها إسرافاً في العمل لسعادة الناس. وكلما ارتد الإنسان لنفسه وحظوظها ارتد إليك - أيها اللعين - وأقبل على شقاء نفسه، وكلما عمل لسعادة غيره ابتعد عنك - أيها الرجيم - وأقبل على سعادة نفسه، وتركُ الغضب وحظوظِ النفس هو الصبر؛ وصبرُ الأنبياء والصديقين ليس صبراً على شيء بعينه في الحياة، بل هو الصبرُ على حوادث العمر كله؛ كصبر المسافر؛ إن كان عزيمةً مدةَ الطريق كلها، وإلا كان فساداً في القوة ووقع به الخذلان
فهذا الصبر المُعْتزٍمُ المصمم، الذي يُوطن به الرجلُ نفسه أن يكون رجلاً إلى الآخر - هو تعبُ الدنيا، ولكنه هو رَوْحُ الجنة مع الإنسان في الدنيا. والمؤمنُ الصابر رجل مَقْفَلٌ عليه بأقفال الملائكة التي لا يقتحمها الشيطانُ ولا تفتحها مصائب الدنيا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمنَ يُنْضِي شيطانه كما يًنضي أحدُكم بعيره في سفره.) كأنه يقول: لو لم يصبر المسافر دائماً معتزماً مدة سفرهِ كلها لما أنضى بعيره، ولو لم يصبر المؤمنُ دائباً معتزماً مدة حياته كلها لما أنضى شيطانه
فصاح الشيطان: أوه، أوه! ولكن قل لي يا أبا الحسن، ما صَبْرُ رجلٍ مؤمنٍ قوي الايمان، قد استطاع بقوة إيمانه أن يُفيقَ من سًكْر الغِني، فتخلص من نزوات الشياطين الذهبيةِ الصغيرة التي تسمونها الدنانير؛ وقد أردتُه على أن يكذب، فرأى الإيمان أن يَصدق، وجًهَدْتُ به أن يغضب، فرأى الحكمة أن يهدا؛ وحاولتُ منه أن يطمع، فرأى الراحةَ أن يرضي؛ وسَولتُ له أن يحسد، فرأى الفضيلة إلا يبالي. وأخذ لنفسه من كل شيء في الحياة بما يثق أنه الإيمان والصبرُ والهدوء والرضى والقناعة؛ وأحاط نفسه من هذه الأخلاق بالسعادة القلبية واجتزأ بها، وقصر نظره على الحقيقة، ووجد الجمالَ في نفسه الطيبة الصافية، وأجرى ما يؤلمه وما يسره مجرىً واحداً، ونظر إلى العمر كله كأنه يومٌ واحد(88/11)
يرقبُ مغرب شمسه، وأخذ من إرادته قوة أنسته ما لم تعطهِ الدنيا، فلم يَجفل بما أعطت الدنيا وما منعت؛ وعاش على فقره بكل ذلك كما يعيش المؤمن في الجنة: هذا في قصر من لؤلؤةٍ أو ياقوتةِ أو زبرجدة، وذاك في قصر من الحكمة أو من الإيمان أو من العقل
قال الشيطان: فلما أعجزني صلاحاً ورضى وصبراً وقناعةً وإيماناً واحتساباً، وكان رجلا عالماً فقيها - سولت له أن يخرج إلى المسجد ليعظ الناسَ فينتفعوا به، ويًبصرهم بدينهم، ويتكلم في نص كلام الله؛ فعقد المجلس ووعظ، وانصرفوا وبقي وحده؛ فجاءت امرأة تسأله عن بعض ما يحتاج إليه النساء في الدين من أمر طبيعتهم؛ وكانت امرأة جزلة غضة، يهتز أعلاها وأسفلها، وتمشي قصيرة الخط مثاقلة كالمتضايقة من حمل أسرار جمالها وأسرار بدنها الجميل، فبعض مشيتها يقظةٌ وبعضها نومٌ فاترٌ تخالطه اليقظة؛ ولا يراها الرجل الفحل التام الفحولة إلا رأى الهواءَ نفسه قد أصبح من حولها أنثى مما تعصف به ريحها العطرة عطر زينتها وجسمها. وكان الواعظ قد ترمل من أشهر، وكانت المرأة قد تأيمت من سنوات؛ فلما رآها غض طرفه عنها، ولكنها سألته بألفاظها العذبة عن أمور هي من أسرار طبيعتها، وسألته عن طبيعتها بألفاظها؛ فسمع منها مثل صوت البلور يتكسر بعضه على بعض وتحدثت له وكأنها تتحدث فيه؛ فسمع بأذنه ودمه؛ ثم كان غض عينه أقوى لرؤية قلبه وجمع خواطره ورأى صوتها يشتهي؛ وعانقته رائحتها العطرية النفاذة؛ وأحاطته بجو كجو الفِراش؛ وعادت أنفاسها كأنها وسوسة قُبل، وصارت زفراتها كالقدر إذا استجمعت غلياناً، وطلعت في خياله عريانة كما تطلع للسكران من كأس الخمر حورية عريانة، لها جسمٌ يبدو من اللين والبضاضة والنعمة كأنه من َزبَد البحر؟
قال أبو الحسن: وكنتُ كالنائم فما شعرتُ إلا بصوتٍ كصك الحجر بالحجر، لا كتكسر البلور بعضه على بعض، وسمعت شيخي يقول:
أفَسَقْتَ. . . . . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(88/12)
صفحات من الدبلوماسية الأسلامية
السفارات الخلافية والسلطانية وعلائق الإسلام والنصرانية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ نحو عام عرضت في الرسالة إلى موضوع السفارات النبوية؛ وتبادل السفارات بين الشرق والغرب في العثور الوسطى، سواء من الإسلام إلى الأمم النصرانية، أو من هذه إلى الدول الإسلامية، من الموضوعات الهامة التي تشوق بتفاصيلها وما تلقيه من ضوء على علائق الشرق والغرب في عصور لم يكن الإسلام فيها سيد المشرق فقط، بل كان يساهم أيضاً بنصيب قوي في سيادة الغرب ذاته. وقد كان لهذه السفارات رسوم وقواعد تتفق مع صولة الإسلام وتلائم روح العصر، وكان لها في بعض الأحيان أثر كبير في توجيه سياسة الإسلام نحو النصرانية، أو سياسة النصرانية نحو الإسلام. وقد كانت ريح هذه السفارات تتجه بالأخص من الغرب إلى الشرق في عصور القوة والمجد. ذلك لأنها كانت في الغالب ترمي إلى التماس السلام والمهادنة أو تحقيق بعض المنح والمغانم من الإسلام القوي الظافر، ولكنها كانت في عصور الضعف والاضمحلال تتجه بالأخص من أمم المشرق إلى أمم المغرب التي تتبوأ مقام الزعامة والنفوذ، وتعمل لتوطيد سيادتها بالضرب والتفريق بين الدول الإسلامية المتنازعة، كما كانت تفعل الدولة البيزنطية منذ انحلال الخلافة العباسية وتمزق سيادتها بين مختلف الدول والامارت التي قامت على أنقاضها، وكما كانت تفعل إسبانيا النصرانية منذ انهارت الخلافة الأموية القوية، وانقسمت الأندلس إلى إمارات الطوائف، على أن هذه القاعدة لم تكن عامة، وإنما كانت ظاهرة ملحوظة فقط، فكثيراً ما كانت تعقد المعاهدات وتتبادل السفارات بين الدول الإسلامية القوية والدول النصرانية القوية تنظيما للعلائق والمصالح المشتركة بينهما
وسنحاول أن نعرض في هذا الفصل إلى طائفة من هذه السفارات الشهيرة التي ترد أخبارها أشتاتاً في تواريخ الشرق والغرب، وسنرى فيها من أوجه التماثل أحياناً، ومن أوجه التباين أحياناً أخرى، ما يفسر لنا بعض العوامل التي كانت في تلك العصور محور العلائق الدبلوماسية بين أمم الإسلام وأمم النصرانية، ومبعث التجاذب السياسي بينهما
كانت الدولة الأموية دولة الفتح والانشاء، فلم يتسع وقتها لتنظيم العلائق الدبلوماسية(88/13)
السلمية؛ وكانت تقف طوال عهدها من جارتها الكبرى - الدولة الرومانية الشرقية - موقف الخصومة والتربص، فلا نقف في هذا العصر على كثير من أخبار السفارات المتبادلة بين الدولتين؛ ولكنا نجد بعد حوادث حصار قسطنطينية الأول وإخفاق الخلافة الأموية في مشروعها لاقتحام الدولة الشرقية (58هـ - 678م) سفراء الإمبراطور قسطنطين الرابع يستقبلون في دمشق بحفاوة ليعقدوا مع الخليفة الأموي (معاوية) معاهدة الصلح التي ارتضى بها معاوية أن يؤدي إلى الدولة الشرقية جزية سنوية متنوعة كانت على ضآلتها عنوان المهادنة والمسالمة من جانب الخلافة. وفي خلافة سليمان بن عبد الملك تردد على دمشق رسل الدولة الشرقية ليقفوا على أمر الأهبة الهائلة التي تتخذها الخلافة للسير إلى قسطنطينية ومحاولة اقتحامها كرة أخرى، وعاد سفير الدولة الشرقية إلى بلاك قسطنطينية يحمل عن أهبة الخلافة أروع الأخبار والروايات
ولما قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، وقامت في نفس الوقت دولة أموية جديدة في الأندلس، كانت بغداد في المشرق، وقرطبة في المغرب، كلتاهما قطباً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية. وكانت مملكة الفرنج القوية قد قامت يومئذ في الطرف الآخر من أوربا لتتزعم أمم الغرب إلى جانب الدولة الرومانية الشرقية؛ فكان ذلك عاملاً جديداً في إذكاء التجاذب السياسي بين الشرق والغرب؛ ومنذ خلافة المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية نرى مملكة الفرنج تحاول أن تأخذ بنصيبها في عقد الصلات السياسية مع زعيمة الإسلام في المشرق، وفي إقامة التوازن السياسي في العالم الجديد، ونرى ملك الفرنج ببين يبعث رسله إلى عاصمة الإسلام الجديدة (بغداد) في سفارة إلى المنصور. ويضع مؤرخو الفرنج تاريخ هذه السفارة في سنة 765م (148هـ)، وتقول لنا الرواية إن السفراء الفرنجيين لبثوا مدى حين في بغداد وعادوا بعد ثلاثة أعوام إلى فرنسا يصحبهم رسل أو سفراء من قبل الخليفة إلى ملك الفرنج، ونزلوا بثغر مرسيليا؛ فاستقبل ملك الفرنج سفراء الخليفة أحسن استقبال، ودعاهم إلى تمضية الشتاء في مدينة متز التي كانت يومئذ منزل البلاط الفرنجي، ثم دعاهم للتنزه والإقامة مدى حين في قصر (سلس) على ضفاف اللوار؛ ثم عادوا بعد ذلك إلى بغداد بطريق مرسيليا أيضاً مثقلين بالتحف والهدايا. واستمرت هذه الصلاة السياسية بين الخلافة العباسية ومملكة الفرنج عصراً؛ وزادت أواصرها في عصر(88/14)
الرشيد قوة وتوثقاً. وهنا نعطف بإيجاز على ذكر تلك السفارات الشهيرة التي تبادلها الرشيد، وكارل الأكبر أو شارلمان إمبراطور الفرنج ولد ببين، والتي تنفرد بذكرها الروايات الفرنجية أيضاً؛ فإن هذه الروايات تقول لنا إن شارلمان جرياً على سياسة أبيه، أرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها يهودي يدعى إسحاق ليؤكد بينهما الصلات الودية، وليسعى لدى الخليفة في نيل بعض الامتيازات الخاصة بالنصارى والأماكن النصرانية المقدسة، فأكرم الرشيد وفادة السفراء الفرنج وردهم إلى شارلمان بهدية فخمة منها فيل وخيمة عربية وساعة مائية وحرائر وعطور شرقية وغيرها، وبعث إلى ملك الفرنج سفراءه بتحياته وتأكيد صداقته. وقد سر شارلمان بنتائج سفارته الاولى، فأوفد إلى الرشيد سفارة أخرى على رأسها مبعوثه إسحاق أيضاً؛ وتبالغ الرواية الفرنجية في نتائج هذه المراسلات بين الرشيد وشارلمان، فتقول إن الرشيد أرسل إلى ملك الفرنج مفاتيح الأماكن النصرانية المقدسة، ومنحه حق رعايتها وحمايتها. وقد وقعت هذه السفارات على ما يظهر في أوائل عهد الرشيد بين سنتي 786 و790 (171 - 176هـ)؛ ولكن الرواية الفرنجية تؤرخ سفارة الخليفة إلى شارلمان بسنة 800هـ، ولعلها رد الرشيد على السفارة الفرنجية الثانية. ويختلف البحث الحديث في أمر هذه السفارات والمكاتبات بين الرشيد وشارلمان، فيؤيد البعض صحتها وينكرها البعض الآخر، أما نحن فنرجح صحتها
وتستطرد الرواية الفرنجية؛ فتذكر أن هذه العلاقات الودية بين بغداد ومملكة الفرنج، استمرت بعد وفاة الرشيد وشارلمان؛ وأن المأمون ولد الرشيد بعث إلى (لويس) ولد شارلمان وملك الفرنج من بعده سفارة أخرى لتأكيد المودة والصداقة بينهم؛ وتشير الرواية الفرنجية في ذلك الصدد إلى ما كان لنفوذ الرشيد قبل وفاته من التأثير في سياسة خوارج البحر المسلمين وإحجامهم عن مهاجمة الشواطئ الفرنجية والرومانية، وإلى ما كتبه الباباليون الثالث إلى شارلمان بعد وفاة الرشيد من أنه إذا كان خوارج البحر المسلمين لا يحترمون بعد شواطئ الإمبراطورية الفرنجية، فذلك لأن نفوذ الخليفة في نفوسهم قد ذهب بعد وفاته
ونستطيع أن نرجع هذا التقرب بين بغداد ومملكة الفرنج إلى بواعث سياسية لها قيمتها؛ ذلك أن الدولة العباسية الفتية ما كادت تقوم على أنقاض الدولة الأموية في المشرق، حتى(88/15)
بعثت الدولة الأموية في الأندلس من جديد على يد عبد الرحمن الأموي (الداخل)، وأخذت في الاستقرار والتوطد؛ وكان قيام هذه الدولة الجديدة في إسبانيا يثير في الخلافة العباسية ومملكة الفرنج معاً جزءاً ومخاوف جيدة؛ أما الخلافة العباسية فلأنها كانت تعتقد أنها قد سحقت الدولة الأموية نهائياً واجتثت أصولها وفروعها فلن تقوم لها قائمة بعد في المشرق أو المغرب؛ فلما استولى عبد الرحمن الأموي على الأندلس وأقام به ملك أسرته من جديد، أخذت الدولة العباسية تخشى بحق أن تنازعها هذه الدولة الخصيمة زعامة الإسلام، أو أن تبلغ من القوة مبلغاً يحملها على التفكير في مقارعتها ومناوأتها والإغارة على أملاكها الأفريقية؛ وأما مملكة الفرنج فقد كانت تخشى اجتماع كلمة الأندلس بعد تفرقها مدى حين، وهو تفرق مهد للفرنج استعادة الأراضي الإسلامية في غاليس وافتتاح ثغر أربونة آخر معقل للإسلام في فرنسا؛ وقيام الدولة الإسلامية الجديدة في الأندلس موحدة الكلمة موطدة الدعائم يعرض مملكة الفرنج إلى خطر الغزوات الإسلامية كرة أخرى؛ فكانت مملكة الفرنج ترقب قيام هذه الدولة يجزع، وتلتمس الوسائل لسحقها قبل أن تستفحل وتغدو خطراً داهماً عليها؛ ومن ثم كانت سياسة الفرنج في تشجيع جميع الزعماء الخوارج على عبد الرحمن الأموي، والعمل على إضرام نار الحرب الأهلية في الأندلس؛ وكان اقتحام شارلمان للبرنيه بتحريض الزعماء الخوارج ليحاول افتتاح شمال الأندلس؛ ومن ثم كانت هذه العلائق والمراسلات الدبلوماسية التي تبادلتها الخلافة العباسية مع مملكة الفرنج، ولم تكن بلا ريب بعيدة عن الفكرة المشتركة في التعاون على سحق الدولة الأموية الجديدة في الأندلس
وكانت ثمة فكرة مماثلة تحمل الدولة الأموية في الأندلس والدولة البيزنطية خصيمة الدولة العباسية ومناوأتها في المشرق على عقد التفاهم والصلات الودية؛ فكانت بين أمراء بني أمية وقياصرة قسطنطينية مراسلات وسفارات سياسية هامة. ففي سنة 836م (225هـ) بعث الإمبراطور تيوفيلوس إلى عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس سفراءه بهدية فخمة ورسالة يدعوه فيها إلى التحالف، ويرغبه في ملك أجداده بالمشرق؛ وكانت هذه المحاولة الدبلوماسية من جانب قيصر قسطنطينية على أثر اضطرام الخصومة والحرب بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية وبميث المأمون ثم المعتصم في أراضيها. فرد عبد الرحمن ابن(88/16)
الحكم على القيصر بهدية فخمة وبعث إليه سفيره يحيى بن الغزال، وهو من كبار الدولة وفحول الشعراء فاحكم بينهما الصلة والتحالف. على أن علاقة الإمبراطور بصاحب الأندلس لم تتعد المراسلة والمجاملة، لأن خلفاء عبد الرحمن الداخل حافظوا على سياسته التي رسمها من الامتناع بالجزيرة والاقتصار على توطيد ملك بني أمية فيها، حتى عمد الناصر إلى تغيير هذه السياسة والتدخل في شئون المغرب لظروف وحوادث عرضت يومئذ
ونعود إلى علائق الدولتين العباسية والبيزنطية، تاج العلائق بين الإسلام والنصرانية في تلك العصور؛ ففي أواخر القرن الثامن كان على عرش قسطنطينية امرأة وافرة الذكاء والعزم هي الإمبراطورة إيريني زوج الإمبراطور ليون الرابع، وكانت وصية على ولدها قسطنطين أثناء طفولته؛ ولكنه لما كبر وحاول أن يقبض على زمام السلطة، ناوأته وقاومته حتى ظفرت به، وزجته إلى ظلام السجن بعد أن سملت عيناه بأمرها؛ فانتهز المسلمون فرصة هذه الاضطرابات وغزوا آسيا الصغرى مراراً حتى اقتربوا من البوسفور، وقاد هارون (الرشيد) وهو يومئذ ولي عهد أبيه المهدي بنفسه معظم هذه الحملات، فاضطرت إيريني إلى التماس الصلح، وبعثت رسلها إلى هارون، وهو يعسكر بجيشه على مقربة من البوسفور، تطلب الصلح والهدنة؛ فاجابها الرشيد إلى ما طلبت وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت إيريني بمقتضاها أن تدفع إلى الخلافة جزية سنوية مقدارها سبعون ألف دينار، وتبادل الرشيد والإمبراطورة بهذه المناسبة بعض الهدايا والتحف الملوكية (782م - 166هـ)، ولما تولى الرشيد الخلافة بعد أبيه، كانت إيرني قد خلعت وجلس على عرش قسطنطنطية نيكيفروس (ويسميه العرب نيقفور) كبير الخزائن؛ فما كاد يجلس على العرش حتى بادر بإعلان الخصومة على الخلافة وبطلان معاهدة الصلح، ورفض أداء الجزية والمطالبة بما أدى منها؛ وتنقل إليناالرواية الغربية صورة الإنذار الذي وجهه نيكيفروس على يد سفرائه إلى الرشيد وفيه يخاطب الرشيد بما يأتي: (من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فان الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقياً بحمل أضعافه اليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتد نفسك بما تقع به(88/17)
المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا)؛ وألقى سفراء الروم أمام عرش الرشيد حزمة من السيوف إشارة بإعلان الحرب، فغضب الرشيد لهذه الجرأة أيما غضب؛ وكتب بنفسه على ظهر كتاب ملك الروم؛ أما بعد فقد فهمت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام)، وبادر الرشيد إلى غزوا آسيا الصغرى على رأس جيش ضخم، فاجتاحها حتى هرقلية (806م) فاضطرب نيكيفروس إلى طلب الصلح، وأرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها أسقف سينادا، وعقدت بين الفريقين معاهدة جديدة، يتعهد فيها القيصر باصطلاح الحصون المخربة، وبأن يدفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دينار، وأن يدفع عن نفسه ثلاث قطع ذهبية من نوع خاص وثلاث أخرى عن ولده عنواناً لخضوعهما لأمير المؤمنين
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي(88/18)
منازل الفضل
1 - قصر الوالدة
للأستاذ محمد محمود جلال
يوم أراد الله أن أفرغ من الدراسة الابتدائية، وقد أتممتها في كنف الجمعية الخيرية الإسلامية في معهدها ببني مزار، اتجهت أنظارنا إلى القاهرة عاصمة البلاد تطلعاً لإكمال الدرس في معاهدها الثانوية
لم يكن من ذلك بد، وقد قضت سياسة دنلوب، بتركيز الدراسة الثانوية بالعاصمة، وحرمان مديريات القطر من الخطوة الثانية للتعليم فضلاً عما أفسد من برامجه وشوه من خططه
كثر التردد على القاهرة، بين تقديم الطلب، والاستعداد للكشف الطبي، والحرص على الظفر بمكان، إذ كان نطاق المدارس ضيقاً ومحاطاً بكثير من القيود تمشياً مع تلك السياسة
كان ذلك في أواخر سنة 1911 أي من نحو ربع قرن
فإذا كان يوم الجمعة، ذهبنا إلى ملعب الكرة بالحلمية الجديدة مررنا بشارع البرموني. هناك يستوقف النظر تجمع كثير من النسوة والصغار يختلفن إلى دار في مواجهة (زقاق) صغير ينتهي بها فتغيره وتحيله ميداناً فسيحاً للرحمة والإحسان. . . . .
كانت تلك الدار (مبرة محمد علي) تجد فيها فقيرات الأمهات وفقراء الأولاد رعاية عالية، وعطفاً كريماً: يلقين فيها يد الطب تأسو، ويد البر تواسي، تستنفذ اليدان بفضل الله أناسي من خلقه من براثن الأمراض وآلام الحياة
فإذا سألت لمن هذا الَعلم؟ ومن يقوم على هذا البر؟ ومن يغذى تلك الشجرة المباركة! أجابك المغاثون الداعون هي: (الوالدة) أطال الله بقاءها
(الوالدة)!! وأي اسم في الوجود أولى بهذه المعاني من هذا الاسم الكريم؟ وهل في الدنيا أكثر عطفاً من الوالدة!!
أليس بين الاسم والفعل خير تناسق وأوثق صلة؟
إنا نرى اليوم في مصر كثيراً من مظاهر البر، وأماكن للعلاج وافية الأعداد، ولكنا حين نذكر ما كان، وحين أكتب اليوم، إنما ننظر واكتب عما كان منذ ربع قرن. كانت (مبرة محمد علي) لا تقل في عين الفقير عما يرى اليوم في عجيبة (الراديو) والطيران(88/19)
ولما أعلنت الحرب بين إيطاليا والدولة العلية، ونزلت جيوش الأولى شاطئ طرابلس، تحمس المصريون ذاكرين ما هم فيه وما بهم من ويلات الاحتلال الإنجليزي، يأسون جراح المجاهدين بفضل من المال وشيء من العون، رأينا (الوالدة) تتقدم الصفوف وخلفها الفضليات من نساء مصر يقمن بواجب الاغاثة، ويجمعن التبرعات، يوفين ما علبهن لله، وما في ذمتهن للحق والأخلاق
هذه (سوق الإحسان) نافقة ترأسها (الوالدة)، وتلك دعوة للتشاور بين سيدات مصر في (قصر الوالدة)، وفي الصباح تتحلى صحف مصر بفاتحة التبرعات مصدرة باسم (الوالدة)
وفي الحلمية الجديدة بناء جميل، تسمع به حركة ولا تسمع فيه لغواُ، يجمع كثيرين من أبناء البلاد، يتعلمون الصناعة، ينقل إليك الأثير نغمات آلاتهم توقع الأنشودة في تدعيم صناعة البلاد
فإذا خطوت إلى شارع سليمان باشا، راعك مخزن فاخو، فخاره وروعته قطع الأثاث المتقن برعت فيه أيدي المصريين والعبقرية الفنية الموروثة، فبينا نرى المخازن والمحال تطلى وتنسق إعلاناً عما بها إذا بذلك المعرض يحلي المكان ويعلن عنه
والعهد بذلك الحي أنه (إفرنجي) في مساكنه ومقاهيه ومخازنه، وإنك لمفترض إذن أن هذا المكان (لكريجر) أو (لجانسان)، أو غيرهما من تجار الأثاث الثمين. ولكنه قطعة من مدرسة الحلمية وقفت كالراووق لا تبقى للعرض إلا ماله قيمة حقيقية، تعلن في صدق عن حقيقة البلاد وأبناء البلاد ولإنتاج البلاد، في الحي الذي لا يقطنه إلا الأوربيون
وكذلك كانت (الوالدة) شغل السمع والبصر
التحقت بالمدرسة السعيدية، أجتاز من أجلها جسر قصر النيل في اليوم مرتين، فأمر بقصر (الوالدة) مرتين، ومن العجب أن يزداد المرء في كل نظرة شغفاُ بالقصر، وألا يكون لتكرار رؤيته إلا استزادة الإعجاب وامتلاء العين من محاسنه، على نقيض ما يعرو الإنسان عادة من ملل إذا تكرر المنظر، ولو في نزهة
كان (قصر الدوبارة) أحب أحياء القاهرة إلي. فإذا أردت ترويحاً عن نفسي سرت على شاطئالنيل حذاءه، وإذا شعرت بضيق طلبت تفريجه في سويعات المساء بين مغانيه، وإذا جلت بالجزيرة وقفت على النيل من الشاطئالغربي أنظر إليه، وكثيراً ما طالعت العسير من(88/20)
دروسي في تلك الناحية فساغ فهمها وانجلى الكرب
بلى إني تمنيت أن يكون لي فيه مسكن، وأن أصبح من قاطنيه، فلما استقر بنا المقام بشارع (الحوياتي) حمدت الله وقلت هذه خطوة في القرب منه، وقد أوشكت على الخروج من سلك الطلبة
أدركنا من الحياة أكثر، وفهمنا بتقدم السن وتحول الأيام ما لم نكن ندرك من قبل، فإذا بي أبدأ اليوم متنزهاً في البكور بقصر الدوبارة، وأختم المساء بجولة في ربوعه، إذا أحسست القذى من قصر (العميد) لقيت الفرجة من (قصر الوالدة) كما يذهب عنك معرض الصنائع بشارع سليمان باشا، غصة التسلط الأجنبي في ميداني الصناعة والتجارة
وفي سنة 1932 أراد الله أن أظفر بشيء من الأماني، فسكنا داراً بالحي ذاته، وبلغ من عرفاني لجميل الله، وفيض السرور على قلبي أن قيدت في جريدتي الخاصة هذا الانتقال بما يستحقه
فلما أن كان يوم جمعة، ومررت بالقصر في طريقي إلى مسجد (الشيخ بركات) هالني إعلانات تلصق على الجدار الأنيقة، يضعها صبيان دون إكتراث، فأخذت ووقفت أقرأ، الله أكبر، هذه إعلانات عن بيع أثاث القصر!!!
لك الله يا دار! كنت مهبط رحمة، فرفعت بك (الوالدة) علم البر، وكنت منزل الفضل فدعوت للعلم، وقمت بإنشاء معاهدة وتمويلها، كنت آية الفن من الطلاء الخارجي والباب الكبير الجميل إلى الأثاث الداخلي الفاخر، وها أنت اليوم يعبث بجدرك صبية وقد كان يهاب المرور بها كبار! ويباع الأثاث، فتستباح من الشارين الدار. ولم ذلك؟ وفيم السخرية والتفريط فيك ووارثوك في نعمة وبسطة من العيش؟! وكيف هنت وأنت مصدر العزة لبيوتات طاهرة، وكنت الغوث والابقاء لدور وقصور
وكذلك أصبح يوم الجمعة عندي - وهو يوم الجمع والرحمة - يوم العظة والاعتبار، يوم كشف لي فيه عن (مبرة محمد علي) سنة 1911، ثم رأيت فيه ختام الآية، وكيف عبثت أطماع الدنيا بالتراث المجيد
ومنذ حل الأجل، وبدأ المكلف بالبيع من الخبراء ينفذ إعلانه أقصرت عن الطريق وتخليت عن عادتي، وكرهت أن أرى كعبة العافين ومنار الفضل مزدحمة المسالك بالمتفرجين(88/21)
والعابثين
علم أبي - عليه رحمة الله - بالبيع فطلب إليَّ أن أزور القصر واشترى أثاثاً ينقصنا لغرفة المائدة، وبقي بالقاهرة يومين ثم سافر إلى الريف لبعض شأنه
وحين عودته سألني هل نفذت رغبته؟ وهل اقتنيت شيئاً؟ لقد كنت أهابه على رعايته لي، وما أظنني خالفت له مدى حياته رأياً، فلما سئلت لم أعدل بالحق شيئاً، قلت: لقد بر علي يا أبي - وقد أعجبت بالقصر فتى، وقدرت أثر صاحبته وأثره في عالم الخير والعلم لهذه البلاد شاباً - كبر علي أن تشترك قدماي في امتهانه فلئن لم يأبه منا ريحه ذوو الشأن، ولئن تدفقت الجموع تظفر بما يقتني، فإني سعيد بأن أقتني تذكاره، وأن أفي له بشيء من احترام الذكرى، ثم والأثاث موفور في مخازنه، وجيده اليوم معتدل الثمن
سر أبي بنظرتي، وقال على الفور: (إنك أشبه بجدك، فقد ذهب مرة مع فريق من صحبه لزيارة الخديوي إسماعيل بالآستانة، وكانوا في جملة من كبراء البلاد يطالبون بتدخل الباب العالي لجلاء الاحتلال - والدولة في ذاك الوقت صاحبة السيادة - فلما جلسوا قدمت إليهم السجاير، وطاف الخدم يشعلونها للضيوف الكرام، أبى جدك أن يشعل سيجارته، وكان الخديوي إسماعيل قد كف بصره
فلما سئل من بعض رفاقه بعد الانصراف من الزيارة، قال: (إني نقدت ظلمه، ومدحت إصلاحه - وهو خديوي - ولم أدخن أمامه بصيراً، وإني لأكره أن أدخن - وهو مكفوف البصر - احتراماً لعبرة مآله، وصوناً لذكرى عزته الأولى.
قلت: الحمد لله، لقد أفدت وفاء وعلماً أين منه اقتناء حطام سريع البلى مهما دام، وقمت بما يرضي ضميري ولو في أضيق مجال
واليوم أغلقت أبواب القصر؛ فلا حاجب ولا قاصد، واليوم تمر بقاعة (يورث) الأمريكي على قرب منه فترى رتل السيارات يزحم الطريق، جاءت بأصحابها يستمعون إلى ما يلقي في العلم والفن والأدب، بينا القصر العظيم، المقر السابق للسابقة بين المحسنين وأركان العلم يكاد يطمس سنا طلائه نسيج العناكب لا يرتفع فيه صوت بحديث ولا علم ولا فن
أليس (قصر الوالدة) أولى مكان بنور العلم والأدب والفن؟ إنه أولاها، وإنه أرحب الأمكنة للفضل منذ نشأته(88/22)
فهل نرى في ورثته من الأمراء في القريب ما يعيده إلى مكانته ويعيد إليه روح الأنس بخير ما خلق الله للإنسان فيكون ذلك استمراراً لروحه، وأنساً لروح سكنت الخلد - هي روح (الوالدة). . . . .
محمد محمود جلال المحامي(88/23)
(روز)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان الظلام قد خيم بعد غيوب الشمس، وذهبت معارف الأرض، وانتقل كل مجسد إلى عالم الأشباح الغامضة، وتسربت الألوان المختلفة في السواد الذي غمرها، وتحول الجو من طلاقة الاعتدال وطيبه إلى البرد، كعادته في هذه المناطق الصحراوية، فتحول أهل البيت إلى الحجرات طلباً للدفء، أو اتقاء لما يجر إليه التعرض للقر، وكان البواب النوبي يتمشى في الحديقة بعد أن خلت من المتنزهين وفي يده مسبحته الطويلة التي لا تفارقه، فهي على عنقه كالعقد إذا لم تكن حباتها بين أصابعه، وكان قد وصل إلى آخر الممر، ودار ليعود، فقال له حوضُ الأذريون
- أو هكذا خيل إليه -:
(هشش!)
فنظر مبهوتاً إلى هذا الزهر الأصفر ذي الخمل الأسود، وتعجب من نطقه، فلولا فرط الدهشة للاذ بالفرار، فقد كان من المؤمنين بالعفاريت وركوبها الناس واتخاذها أشكالاً وصوراً شتى، وتقمصها أجسام الحيوان، ولم يكن بعيداً في التصور عنده أن تطلع من أحواض الزهر
ومنعته الدهشة أن يجيب بشي. وأي جواب لمثل هذا النداء سوى الالتفات إلى مصدر الصوت؟ ولا مصدر له يعلمه سوى هذا الحوض
وعاد الصوت الخفي يقول:
(هشش!)
ولكنه لم يصدر في هذه المرة عن الحوض، بل انتقل إلى ما وراء الزرع المفرش على السور الحديدي، وكفى بهذا التحول سبباً للرعب، فما يمكن أن يجيء الصوت من الإمام مرة، ومن الخلف مرة إلا إذا كان صاحبه عفريتاً من الجن، فانطلق البواب يعدو كالنعامة إلى حيث يرجو أن يجد أنيساً يذهب عنه الخوف
وسخط العفريت لما رأى فريسته تفلت من يده، وتخلص من ألفاف الشجر المتشجنة تخلصاً لا يعود بحسن السمعة وطيب الأحدوثة على الجن قومه، ولا يشهد لهم بالبراعة والحذق،(88/24)
فلما صار في الممر أخذ ينفخ من الجهد وينقض التراب عن ثيابه، ويلعن البرابرة وجبنهم. ولما أوسعهم لعناً، وشفى قلبه مما يجد عليهم تحول إلى نفسه، ولم يبخل عليها بحظ وافٍ من التعنيف والتقريع على ما كلفته سخافته من الزحف وراء الشجر الأشب من تلويث الثياب والتعرض للحشرات، وأحس - حين ذكر الحشرات - كأن بعضها - جيشاً كاملاً منها - يسير على ظهره تحت ثيابه
وفي هذه اللحظة، وقبل أن يتم ما بدأه من إبداء الرأي في نفسه ويصارحها به على أكمل وجه، سمع من الشرفة صوتاً يناديه باسمه، فكان من أثر المفاجأة أن رد: (نعم) بصوت عال، ولم يكد ينطق بهذه الكلمة المفردة حتى أدركته. الندامة وعاد سخطه فعظم على نفسه، فلو استطاع أن يجردها أمامه شخصاً لقتله بلا تحرج، ولم يسعه بعد أن وشى بنفسه إلا أن يمشي إلى حيث دعُي فأجاب، وكان الله في عونه حين يدعو الفضول إلى السؤال!
وفي هذه اللحظة كانت (روز) - كلبة البيت - قد شبعت من تفتيشه والإحاطة بمداخله وخارجه، واختبار الكراسي والبحث عما عسى أن يكون تحتها، وما لعلعه مخبأ وراء الستائر، وحدثتها نفسها بالخروج إلى الحديقة لعل فيها قطعة، أو عظمة تتسلى بها، فقد كانت (روز) طالبة لهو بريء، وسيان عندها أن يكون الملهو به حيواناً مثلها أو جماداً، ولكن الباب كان مغلقاً اتقاء لتيارات الهواء، ولو لم يكن في وسع (روز) أن تفتحه بغير معونةٍ من الإنسان، فوقفت أمامه - أو لصقه - وجعلت تحك أنفها فيه منتظرة أن يدخل داخل أو يخرج خارج
وسرعان ما استجاب الله دعاءها وحقق رجاءها، فقد دفع صاحبنا الباب ودخل وهو ينفخ، ولم يكن يدري أن (روز) وراءه وأن أنفها أصابته منه ضربة قوية، أدرات رأسها وآلمتها وأخرجتها عن طورها. وكانت (روز) كلبة رقيقة الإحساس لينة العريكة، وقد ألفت أن يداعبها الناس - رجالاً ونساء وأطفالاً - واعتادت إذا مسها أذى غير مقصود، أن يسرع المسيء إلى ملاطفتها والاعتذار إليها، ولذلك أدهشها أن ترى صاحبنا يضربها بالباب ويكاد يبطط لها أنفها الجميل، ويمضي كأنما لم يحدث شيء على الرغم من الصرخة العالية التي أطلقتها من الألم، وهاجها هذا السلوك فانطلقت تجري حتى صارت أمامه ونبحته نبحتين كأنما تقول له:(88/25)
(لحظة من فضلك! لحظة واحدة، إذا سمحت!)
فقال صاحبنا بجفوة: (اذهبي عني - فلست أحب الكلاب!)
فقالت (روز):
(صحيح؟ أهو ذاك؟ ومن تظن نفسك أيها الحلوف القذر حتى تضرب فتاة مثلي على أنفها؟)
فبشور صاحبنا بيديه مرة أخرى ليصرفها، لكنها ألحت عليه بالنباح قائلة:
(إن أمثالك في الدنيا هم الذين يحدثون الثورات والفتن والهزاهز. وما أظن بك إلا أنك من الملاّك الجشعين الذين يظلمون الفلاحين العاملين في أرضهم، ويلقون بهم في أحضان المهيجين والبلاشفة. . . .)
فضاق صدر صاحبنا، ورفسها برجله، ولم يرفسها في الحقيقة وإنما حرك ساقه حركة الرفس، فلم تصبها رجله، فقد كان يريد المعنى لا الفعل؛ ولكن (روز) كانت كلبة حرة تكفيها الإشارة، فغضبت جداً لكرامتها، ووثبت وثبةً مكنت أسنانها الحادة من طرف السترة فغرزتها فيها وجذبتها بكل ما فيها من قوة، فانهارت الظهارة، وتكشفت عن البطانة، وكانت لا تزال فائرة النفس، فهمت بوثبة أخرى، ولكن فتاة من أهل البيت دخلت في هذه اللحظة، فصاحت بها:
(روز. . . روز. . . .!)
فالتفتت (روز) على الصوت، وأدركت بذكائها الكلبي أن لا رجاء بها بعد ذلك في مواصلة الكر والفر، فدست ذيلها بين فخذيها واختفت
وقال الفتاة لصاحبنا:
(آسفة جداً. . . . .)
فنظر صاحبنا إليها مقطبا، ثم صوب عينه إلى سترته، وتناول الطرف المهلهل بيمينه، فغلا دمه، وشعر برغبة جامحة في أن ينقص تعداد القطر المصري واحدة، غير أنه استطاع بجهد أن يكبح نفسه، فما يليق أن يكون كالكلبة حماقة، ولا سيما في حضرة سيدة وقال:
(لا بأس! لا بأس! أعني لا شيء. . . هي غلطتي، وإن كنت لا أعرف كيف أسأت إليها. . . هل اسمها روز؟)(88/26)
قالت الفتاة: (نعم. . . روز. . . . اسم جميل، أليس كذلك؟)
قال: (ولكن الفعل غير جميل. . . والبذلة جديدة قبحها الله. . . أعني الكلبة لا البذلة. . . معذرة. . .! على كل حال يجب أن أرحل الآن، فما أستطيع البقاء بهذه الثياب الممزقة. . . استودعك الله. . .)
وهكذا مزقت (روز) ثيابي. . . ومن أجل هذا صرتُ أكره الكلاب بأنواعها، من مجازية وحقيقية، ولا أطمئن إليها، ولا آمن من غدرها، ولي الحق. أليس كذلك؟
إبراهيم عبد القادر المازني(88/27)
- قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم
اسبلنزاني ثاني غزاة المكروب
(مات لوفن هوك وآ أسفاه! فمن بعده لدراسة تلك الحيوانات الصغيرة؟). هكذا تساءل رجال الجمعية الملكية بإنجلترا، وهكذا تساءل روُمور، ورجال الأكاديمية الفرنسية الألمعية في باريس. سؤال أجابته الأيام سريعاً، فان قماش (دلُفت)، لم يكد يُغمض عينته في عام 1723 ليستريح تلك الراحة الطويلة الأبدية التي استحقها بعد طول جهد وعناء، حتى ولد في عام 1729 صيادٌ للمكروب جديد، وذلك في بلدة (إسكانديانو) في شمال إيطاليا على بعد ألف ميل من مضجع (لوفن هوك). وكان اسم هذا المولود الجديد (لازارو اسبلنزاني) نشأ وترعرع فإذا به ولد يلثغ بالشعر بينا هو يلعب بالطين يصنع منه الكعك والفطير، ثم يعزُف عن طينه ويذهب في فطيره ليلهو بالخنافس والبق والذباب وأشتات الديدان يُجري عليها تجارب قاسية، هي عبث الصبي الذي لا يَحذق التجربة ولا يدر مبلغ الألم الذي تأتيه يداه. كان يُغرم بالطبيعة ويهوي الأشياء الحية، وبدلاً من أن يُبرم والديه بكثرة السؤال عنها، كان يمتحنها بنفسه، فينزع عن هذه رجليها، وعن هذه جناحيها، ثم يحاول أن يُثبتهما حيت كانا. كان يجب أن يعرف كيف تعمل الأشياء، ولم يكن يأبه كثيراً بأشكالها وظواهرها
وخاصم أهله كما فعل (لوفن) في تقرير ما يدرس من العلوم، وجاهدهم كثيراً من أجل دراسة المكروب. وكان أبوه محامياً، فبذل مجهوداً كبيراً في أن يُحبب إلى ابنه وثائق من القانون طويلة، وصحائف من حجج الدفاع عريضة، ولكن الصبي كان يهرب من هذا وذاك، فيذهب إلى بعض الجداول فيقذف سطحها برقيق الحجر، ويعجب من أن الحجر يقشط الماء ولا يغطس فيه
وكان يُغصب في الامساء على الجلوس إلى دروس لا لذة له فيها، فلا يكاد أبوه يوليه ظهر، حتى يقوم إلى الشباك ينظر إلى سماء إيطاليا وهي ناعمةٌ كالقطيفة السوداء قد تبعثرت عليها النجوم البيضاء، ثم يُصبح الصباح فيأتي رِفاقَه في اللعب يُلقى عليهم دروساً فيها حتى أسموه المنجم
وتأتي الإجازات فيضرب بجسمه العظيم في الغابات؛ فذات مرة وقعت عينه فيها على(88/28)
نافورات طبيعية يخرج منها الماء راغياً مزبداً، فحملق فيها من الدهشة، وذهب عنه لعب الطفولة وعبثها، وعاد أدراجَه يفكر تفكير الرجال. ما سبب هذه العيون وكيف كانت؟ لم يُحر جواباً إلا حكاية حكاها له ذووه والقسيس: أن فتيات جميلات ذهبن في الغاب فَضلِلْنَ الطريق بين أحراجه، فأحَسن الوحشة، فبكين، فانقلبت دموعهن عيوناً تتفجر ما شاء الله
وكان (لازارو) ابناً طيعاً، وان فيه خُلق الساسة، فلم يجادل أباه ولا القسيس، وإنما سخر من تعليلهم وأخفى سخريته في نفسه، واعتزم أن يكشف عن سر هذه النوافير يوماً
وكان (اسبلنزاني) في صباه شغوفاً بالكشف عن أسرار الطبيعة شغف (لوفن هوك)، ولكنه خالفه في السبيل التي سلك ليكون عالماً باحثاُ. قال لنفسه: (والدي يصر على تعليمي القانون، وأنا أصر على غير القانون، إذن فسيعلمن مشيئة من تكون). وتظاهر أمام والده بحب القانون والإقبال على الوثائق الشرعية، ولكنه أقبل في كل أوقات فراغه إقبالاً مريعاً على دراسة الرياضة والمنطق واللغة الإغريقية والفرنسية، وفي عطلاته كان ينظر إلى الأحجار تطير فتكشط جلد الأنهار، وإلى الماء الفوار يتدفع من النبع الثرثار، ويحلم بالبراكين تقذف بالنيران مختلفة الألوان، ويحلم باليوم الذي يفقه فيه منشأها ومنتهاها
واستيقظت في نفسه الحيلة، فذهب إلى العالم الطبيعي الشهير (فالسنيري) وأفضى إليه بمكنون علمه فأكبره الرجل العظيم وصاح به: (إنك يا بني خلقت للعلوم فما إضاعة وقتك في كتب القانون؟). فقال الماكر: (ولكن، سيدي، إن أبي يصر، وما للابن غير الطاعة!)
فذهب فالسنيري إلى أبيه غاضباً حانقاً، فلما لقيه وبخه على العبث بمواهب إبنه وإضاعته في تعلم صناعة لا يعود عليه منها غير النفع والمال. (إن ولدك يا هذا يبشر أن يكون بحاثة كبيراً. إنه يشبه جاليليو. وسيشرف اسكانديانو ويرفع ذكرها في الوجود)
ورضي الوالد وذهب الإبن إلى جامعة ريجيو ليحترف دراسة العلوم
وكان الزمان قد استدار قليلاً، فأصبح طالب العلوم الطبيعية ذا حظ أوفر من احترام الناس، ونصيب أكبر من الأمن على نفسه وحياته عما كان الحال يوم بدأ (لوفن هوك) ينحت عدساته. فان محكمة التفتيش كانت قد بدأت تتخاذل قليلاً، وتستر أنياباً كشفت عنها طويلا، فأخذت تطلب الزندقة، لا عند المعروفين النابهين أمثال سرفيتوس وجاليلو، بل عند النكرات الخاملين، فعلى هؤلاء المستضعفين تجنت، وألسنتهم قطعت، وأبدانهم حرقت ولم(88/29)
تعد (المدرسة المتسترة) تتستر، فقد كانت خرجت عن أقبيتها السوداء وقيعانها الظلماء، إلى ظهر الأرض حيث الهواء والضياء. ونالت الجمعيات العلمية في كل مكان رعاية الملوك وحماية البرلمانات. وأصبح من المأذون به أن يتشكك الناس في الخرافات، وأن يتحدث الناس حديث الترهات الشاسعة، حتى لبدأ أن يكون ذلك سمة العصر، والطراز الجديد المختار لذلك الزمان. وأخذ الناس يطلبون الحقيقة وقاموا يبحثون عنها في الطبيعة. ولم يلبث البحث العلمي، بما يتضمنه من لذة وما بلغه من وقار، أن شق لنفسه طريقاً إلى حظائر الفلاسفة، فقطع عليهم عزلتهم وحركهم عن سكونهم. فقام فولتير إلى ريف فرنسا وأوحاشها، وقضى فيها السنين الطوال يتفقه فيما اكتشفه نيوتن، لينشره في قومه من بعد ذلك ويؤلفهم عليه. ودخل العلم حتى في دور الندوة، والصالونات الفخمة، فاختلط فيها بالسمر النادر، واختلط فيها أحياناً بالعهر الفاخر. وأكب ذوات العصر، وذوات المجتمع أمثال مدام بمبادور على دائرة المعارف المحرمة يطلبون عندها فن توريد الخدود وتزجيج الحواجب، وصناعة الجوارب، وإلى جانب ما أثاره العصر المجيد الذي عاش فيه اسبالنزاني من الاهتمام بكل شيء كبير وصغير، من ميكانيكا النجوم إلى رقصات الأحياء الصغيرة في الماء، أخذ يشيع في الناس احتقارا مسموعا للدين، ولكل رأي حمته سلطة من أي نوع كانت، حتى تلك الآراء التي بلغت من القدم والقداسة مبلغاً كبيراً. ففي القرن الأسبق كان الرجل يعرض نفسه للأذى وحياته للخطر إذا هو قرأ كتب أرسطو في الحيوان، وضحك على ما فيها من حيوانات معكوسة مقلوبة لا تمت إلى الممكنات بسبب قريب أو بعيد. أما في هذا القرن فالرجل كان يستطيع أن يكشف عن سنه في نور النهار باسماً ساخراً وأن يقول ولو في شيء من الخفوت: لأنه أرسطو لا بد من تصديقه ولو كذب. على أن الدنيا كان لا يزال بها جهل كثير، وعلم كاذب كثير، حتى في الجمعيات الملكية والأكاديميات. وما كاد (اسبالنزاني) أن يتخلص من دراسة القانون، ومما يتبعه من مستقبل مليء بالمحاكمات التي لا حصر لها، والمخاصمات التي لا نهاية لها، حتى قام يحصل بكل ما فيه من قوة كل ما يستطيع من معرفة، من أي نوع كانت، ويمتحن شتى النظريات من أي مصدر جاءت، وأن ينفض عن نفسه احترام المحجّات الثّقات مهما علا صيتهم وشاع ذكرهم، واختلط بكل الناس من الأساقفة السمان، إلى موظفي الحكومة، إلى(88/30)
أساتذة العلم، إلى ممثلي المسارح، إلى العازفين بالأشعار على القيثار
كان في خلقه نقيضَ (لوفن هوك) أبعد النقض عاش (لوفن) عزوفاُ جلداً صبوراً، ونحت العدَس وحدق في الأشياء زُهاء عشرين عاماً قبل أن يسمع به أحد، أو يُحس وجوده العلماء. أما (أسبالنزاني) ففي سن الخامسة والعشرين ترجم عن القدماء من الشعراء، وانتقد الترجمة الإيطالية لهوميروس، وكانت لها في قلوب الناس منزلة مستقرة وتقدير مكين، ودرس الرياضيات مع ابنة خاله (لورا باسي) الأستاذة الشهيرة بجامعة ريجيو فبرع فيها، وعندئذ أخذ يكشط سطح المياه بالحجارة، لا اللهو واللعب كما كان يفعل صبياً، بل للجد والدراسة؛ وكتب بحثاً في الحجارة، وكشطها لسطح الماء، وترسم قسيساً في الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يرتزق بما يقيم من القداديس
قلنا إنه يحتقر في الخفاء كل سلطة، ومع ذلك نجده تملق هذه السلطات نفسها وكسب عطفها، وعاش هادئاً في أكنافها يعمل في مأمن من كل تهويش وإزعاج، وترسم قساً حامياً للدين، مدافعاً دفاع الأعمى عن حوزة اليقين؛ فإذا به يطلق لنفسه العنان إطلاقاً يسومها على التشكك في كل شيء، وعلى رفض التسليم بأي شيء، إلا وجود الله، لا إله الكنيسة التي صورته، ولكن إله عظيم فخم يهيمن على تلك الخلائق أجمعين. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره تعين أستاذاً بجامعة (ريجيو) فأنصت لدروسه الطلبة في حماس ظاهر وإعجاب ثائر. وهنا في تلك الجامعة بدأ تجاربيه على تلك الحيوانات الصغيرة الضئيلة العجيبة التي أغراها (لوفن هوك) بالصبر الطويل والحيلة الواسعة على البروز من ذلك الخضّم الشاسع المظلم الذي احتجبت فيه منذ الخليقة عن عين الإنسان، والتي أوشكت من بعد وفاته أن تنسل راجعة إلى ظلمة ذلك المجهول بالترك والإهمال والنسيان
لقد كان من الجائز المقدور أن تُنسى تلك الخلائق الصغيرة، وإن عطف عليها القدر، فقد كان من الجائز الميسر أن تحظى بين الناس بنصيب من الذكر بقدر ما تحظى به الأعاجيب يتلاهى الناس بها ويتفاكهون عليها، ولكن نقاشاً قام بين أرباب الفكر بسببها ضمن لها الحياة كاملة، لأنه كان نقاشاً عنيفاً خاصم فيه الأصدقاء الأصدقاء، وود فيه العلماء الأساتذة أن يفلقوا جماجم الأحبار القساوسة. أما موضوع الخصام فهو ذاك:
أيمكن من العدم أن تُخلق الأحياء، أم لا بد لها من آباء؟ أخلق الله الخلائق في ستة أيام، ثم(88/31)
نفض يديه من الخليقة واستوى على العرش يُهيمن ويَسوس، أو هو لا يزال يتسلى من آن لآن بخلق جديد؟
أما الرأي الشائع في ذلك الزمان، فكان أن الشيء قد يخرج من لا شيء، وأنه لا ضرورة للآباء في كل حالة لتكون الأبناء، وإن في الأقذار المركومة والأوساخ المهيلة تتولد المواليد من غير والد. وإليك وصفة من تلك الوصفات يضمن لك ذلك العصر أنك تحصل بها على ثول عظيم من النحل: خذ ثوراً صغيراً واقتله بضربة على رأسه، وادفنه واقفاً في الأرض حتى لا يظهر منه إلا قرناه، واتركه شهراً، ثم عد إليه فانشر قرنيه يخرج مهما النحل طائراً في كثرة وزحام
أحمد زكي(88/32)
الليث بن سعد محدث مصر وفقيها ورئيسها
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به
وقال الإمام أحمد: ليس في أهل مصر أصح حديثاً من الليث
وقال الإمام الشافعي: الليث أتبع للأثر من مالك
وان ابن وهب يقرأ على الشافعي مسائل الليث فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكاً يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب لرجل: بل كأن مالكاً كان يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا آله إلا هو ما رأينا أفقه من الليث
وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس
وقال الدراوردي: رأيت الليث عند يحيى بن سعيد وربيعة وانهما ليرجرجان له رجرجة ويعظمانه
وقال الذهبي: وكان من بحور العلم له حشم وافر، وكان نظير مالك
قال ابن عساكر: كان كبار العلماء يعرفون فضله ويشيرون إليه وهو شاب، وقيل له: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك؟
قال: أو كل ما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب!
منزلته عند الخلفاء والولاة
قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟
قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي
فقال: ما بك ضعف معي إلا ضعف بدنك، أتريد قوة أقوى مني؟ ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك، فأما إذ أبيت فدلني على رجل
فقلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح وعشيرة فبلغ ذلك عثمان فحلف ألاّ يكلمني
فلما أردت أن أودعه قال لي: قد رأيت ما سرني من سداد عقلك فاتق الله في الرعية أمثالك(88/33)
وقال يعقوب بن داود وزير المهدي: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بن سعد بغداد: إلزم هذا الشيخ، فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه
وقال لؤلؤ خادم الرشيد: جرى بين هرون الرشيد وبين بنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام، فقال هرون: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة. ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا. ثم كتب إلى البلدان، فاستحضر علماءها إليه، فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم فاختلفوا، وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس وهو الليث بن سعد. فسأله فقال: إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته، فصرفهم. فقال: يدنيني أمير المؤمنين. فأدناه. فقال: أتكلم على الأمان؟ قال: نعم. فأمر بإحضار مصحف، فأحضر، فقال: تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها، ففعل، فلما انتهى إلى قوله تعالى (وَلَمِنْ خافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنتانِ)
قال: أمسكْ يا أمير المؤمنين، قل: والله. . .
فاشتد ذلك على هرون. فقال: يا أمير المؤمنين الشرط أملك
فقال: والله (حتى فرغ اليمين). قال: قل، إني أخاف مقام ربي. فقال ذلك
فقال: يا أمير المؤمنين، فهما جنتان، وليست بجنة واحدة! (قال) فسمعنا التصفيق والفرح من وراء الستر، فقال الرشيد: أحسنت. وأمر له بالجوائز والخلع، أمر له بأقطاع الجيزة، ولا يتصرف أحد بمصر إلا بأمره، وصرفه مكرماً
قال الليث: وسألني هرون الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا إجراء النيل وصلاح أميرها. وإنه من رأس العين يأتي الكدر فإذا صفا رأس العين صفت العين
قال: صدقت يا أبا الحارث
وقال السيوطي: كان نائب مصر وقاضيها من تحت أوامر الليث، وكان إذا رابه من أحد شيء كاتب فيه فيعزله
قال ابن أبي مريم: كان إسماعيل بن اليسع الكندي من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب مذهب أبي حنيفة في إبطال الحبس فأبغضوه، فجاء الليث فجلس بين يديه، فرفع إسماعيل مجلسه، فقال: إنما جئت إليك مخاصما، قال: في ماذا؟
قال: في أحباس المسلمين، قد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر(88/34)
وعثمان وعلي وطلحة والزبير فمن بقي بعد هؤلاء؟
وقام فكتب إلى المهدي، فورد الكتاب بعزله. فأتاه الليث فجلس إلى جنبه، وقال للقارئ: اقرأ كتاب أمير المؤمنين، فقال له إسماعيل: يا أبا الحارث، وما كنت تصنع بهذا؟ والله لو أمرتني بالخروج لخرجت؟
فقال له الليث: والله إنك لعفيف عن أموال الناس
وكان في كتاب الليث إلى المهدي: أنا لم ننكر عليه شيئاً غير أنه أحدث أحكاماً لا نعرفها
ولما أذن موسى بن عيسى للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها علي بن سليمان، بنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة
منزلته عند الناس
كان له أربعة مجالس يجلس فيها كل يوم، فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه. وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول نحو أصحاب الحوانيت فان قلوبهم متعلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس فلا يسأله أحد من الناس حاجة فيرده، كبرت حاجته أم صغرت. . .
وقال منصور بن عمار: كان الليث إذا تكلم رجل في المسجد الجامع أخرجه، فلما دخلت مصر تكلمت في جامع، فإذا رجلان قد دخلا فأخذاني، فقالا: أجب أبا الحارث، فذهبن وأنا أقول: واسوأتاه أخرج من البلد هكذا. . .
فلما دخلت على الليث سلمت، فقال: أنت المتكلم في المسجد؟
قلت: نعم. قال: أعد علي ما قلت، فإعدته، فرق الشيخ وبكى، وقال: ما اسمك؟ قلت: منصور بن عمار. قال: أبو السري؟ قلت: نعم. فدفع إلى كيساً وقال: صُنْ هذا الكلام عن أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين، بعد مدحك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها
وكتب إليه مالك في رسالة: (. . . وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك وحاجة من قبلك إليه. . . الخ)
وقال له يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد رآه يفعل شيئاً من المباحات: لا تفعل، فانك إمامُ(88/35)
منظور إليك
سعة وكرمه
قال شعيب بن الليث: كان أبي يستغل في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفاً، فتأتي عليه السنة وعليه خمسة آلاف دينار ديناً
وقال محمد بن رمح: كان دخله ثمانين ألف دينار في العام وما أوجب الله عليه زكاة قط
وخرج يوماً فقوموا ثيابه ودابته بثمانية عشر الف درهم إلى عشرين ألفاً، وخرج شعبة فقوموا حماره وسرجه ولجامه بثمانية عشر إلى عشرين درهما
وقال أبو رجاء: قفلنا مع الليث من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه
قال عبد الله بن صالح (كاتبه): صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض، وكان لا يتردد إليه أحد إلا أدخله من جملة عياله مادام يتردد عليه ويسمع منه، فإذا أراد الخروج زوده بالبلغة إلى وطنه
وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير، ليحصل لمن أكل كثيراً أكثر من صاحبه!
وكان يطعم الناس الهرايس بعسل النحل وسمن البقر في الشتاء، وفي الصيف باللوز والسكر
وكان يصل مالكاً كل سنة بمائة دينار، فكتب إليه مرة أن عليّ ديناً، فبعث اليه بخمسمائة دينار. وكتب إليه مالك مرة إني أريد أن أُدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر
قال ابن وهب: فبعث إليه بثلاثين جملاً محملة عصفراً فصبغ منه لابنته، وباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة
قال أبو صالح (كاتبه): كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا (أي احتجب) فقلنا: ليس يشبه هذا صاحبنا، فسمع مالك كلامنا فأمر بإدخالنا عليه، فقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد
قال: تشبهوني برجل كتبت إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينامنه ما(88/36)
صبغنا به ثياب صبياننا وثياب جيراننا، وبعنا الفضل بألف دينار؟
ولما حج الليث أهدى إليه مالك طبقاً فيه رطب، فرد إليه على الطبق ألف دينار
ولما احترقت دار ابن لهيعة وصله بألف دينار، وصل منصور بن عمار القاضي بألف دينار
وكان يجيء إلى المسجد كل يوم على فرس، فيتصدق كل صلاة على ثلثمائة مسكين، ولم يكن يرد سائلاً:
أتاه مرة سائل فأمر له بدينار، فأبطأ الغلام به فجاء سائل آخر فجعل يلح، فقال له الأول: اسكت. فسمعه الليث فقال: مالك وله؟ دعه يرزقه الله، وأمر له بدينارين
قال منصور بن عمار: كنت عند الليث جالساً فأتته امرأة ومعها قدح، فقالت: يا أبا الحارث إن زوجي يشتكي وقد نُعت لنا العسل. فقال: اذهبي إلى الوكيل فقولي له يعطيك. فجاء الوكيل يسارّه بشيء. فقال له الليث: اذهب فأعطها مطراً، إنها سألت بقدرها فأعطيناها بقدرنا (قال: والمطر عشرون ومائة رطل)
واشترى قوم من الليث ثمره بمال، ثم إنهم ندموا فاستقالوه فأقالهم، ثم استدعاهم فأعطاهم خمسين ديناراً وقال:
إنهم كانوا أملوا أملاً فأحببت أن أعوضهم
وقال أسد بن موسى: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية فيقتلهم، فرحلت إلى مصر فدخلتها في هيئة رثة، فزرت الليث، فلما خرجت من منزله تبعني خادم له في دهليزه، وقال: اجلس حتى أخرج اليك، فجلست، فلما خرج وأنا وحدي، دفع إليّ صرة فيها مائة دينار، وقال: يقول لك مولاي أصلح بهذه النفقة أمرك، ولم شعثك، وكان معي في حُجزتي ألف دينار، فقلت للخادم: أدخلني على الشيخ فإني في غنى عن هذه المائة، فاستأذن لي عليه، فأخبرته بنسبي، واعتذرت إليه عن رد المائة، أخبرته بما معي، فقال: هذه صلة وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي هذه العادة، وأنا في غنى، قال: أدفعها إلى بع أصحاب الحديث ممن تراه مستحقا
فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها في جماعة
وفاته(88/37)
توفي الليث يوم الجمعة 14 شعبان سنة 175
قال خالد بن عبد السلام الصدفي: جالست الليث بن سعد، وشهدت جنازته مع أبي، فما رأيت جنازة قط بعدها أعظم منها، ولا أكثر من أهلها، ورأيت الناس كلهم في جنازتهم عليهم الحزن، يعزى بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت: يا أبت كأن كل واحد من هؤلاء صاحب الجنازة!
فقال: يا بني، كان عالماً كريماً، حسن العقل، كثير الأفضال، يا بني لا ترى مثله أبداً. . . .
قال بعض أصحابه: ولما دفناه سمعنا صوتاً وهو يقول:
ذهب الليث فلا ليث لكم ... ومضى العلم قريباً وقُبر
فالتفتنا فلم نر أحداً
وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن في القرافة الصغرى، رضى الله تعالى عنه وبوأه من الجنة غرفاً
هذا ما بقي من هذه السيرة الجليلة، متفرقاً في شتى الكتب، ومختلف الأجزاء، وقد ضاع سائرها، كما ضاع هذا التراث العلمي الضخم، فرحمة الله على أولئك الأجداد الذين بنوا وشادوا، وألفوا وجمعوا، وعلموا وعملوا، ورزقنا التأسي بأعمالهم، والسير على سننهم. . . وألهمنا إحياء تاريخنا، ونشر ماضينا
علي الطنطاوي(88/38)
16 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- وإذن فلنعد الآن إلى حوارنا السابق - هل يتعرض ذلك المثال، أو الجوهر، الذي نعرفه في سياق الكلام، بأنه كنه الوجود الحقيقي - سواء في ذلك كنه المساواة، أو الجمال، أو أي شيءٍ آخر - أقول هل تتعرض هذه الجواهر، على مر الزمن، إلى شيء من التغير؟ أم كلاً منها يبقي هو ما هو دائماً، له نفس ما له من صور توجد بنفسها، لا تتغبر، ولا تقبل التحول بتاتاً، كيفما كان، أو في أي وقت كان؟
فأجاب سيبيس - إنها لابد أن تكون دائماً كما هي يا سقراط،
- وماذا أنت قائل في تعدد الجميل - سواء أكان أناساً، أم لباساً، أم جياداً، أم أي شيء آخر يمكن أن يسمى متساوياً أو جميلاً - أهي كلها لا تخضع للتغير، وتبقى كما هي دائماً، أم أنها نقيض ذلك تماماً؟ أليس الأولى أن توصف بأنها متغيرة في الأغلب، وأنها لا تكاد تبقى أبداً كما هي، سواء مع أنفسها، أو بعضها مع بعض؟
فأجاب سيبيس: إنها الأخيرة. إنها دائماً في حالة من التغير
- وأنت تستطيع أن تلمسها، وأن تراها، وان تدركها بالحواس، فأما الأشياء الثابتة، فلا يمكنك إدراكها إلا بالعقل - إنها تخفي على الأبصار فلا تُرى
فقال هذا جد صحيح
فأضاف - حسناً، لنفرض إذن أن ثمت ضربين من الوجود: وجوداً مرئياً، ووجوداً خفياً
- لنفرضهما
والمرئي هو المتغير، والخفي هو الثابت
- يمكن فرض ذلك أيضاً
- أليس الجسد، فضلاً عن ذلك، جزءاً منا، وما يبقى هو الروح؟
- ليس في ذلك شك(88/39)
- تُرى إلى أي نوع من هذين يكون الجسد والجلد أشبه؟
- ظاهر أنهما أشبه بالمرئي: إن أحداً لا يشك في ذلك
- وهل الروح مرئية أم خفية؟
- لم يرها إنسان يا سقراط
- وهل نقصد (بالمرئي) و (الخفي) ما تراه عين الإنسان وما لا تراه؟
- نعم، بالنسبة إلى عين الإنسان
- وماذا تقول عن الروح؟ أهي مرئية أم خفية؟
- إنها لا تُرى
- هي خفية إذن؟
- نعم
وإذن فالروح أشبه بالخفي، والجسد أشبه بالمرئي؟
- إن ذلك مؤكد جداً يا سقراط
- ألم نكن نزعم منذ عهد بعيد، أن الروح حين تتخذ من الجسد أداة للإدراك، أعني حين تستخدم حاسة الأبصار، وحاسة السمع، أو غيرهما من الحواس (لأن معنى الإدراك خلال الجسد، هو الإدراك بواسطة الحواس) - ألم نكن نزعم أن الجسد بذلك يجر الروح أيضا إلى منطقة المتغير، وأنها تضل وترتبك؟ فان الدنيا عندئذ تضرب حولها نسيجاً، فتكون الروح عند خضوعها لتأثير الحواس كمن أئملته الخمر؟
- جد صحيح
- ولكنها إذا ما ثابت إلى نفسها، فأنها تفكر، وبعدئذ تدخل عالم النقاء، والأبدية، والخلود، والثبات. فهؤلاء عشيرتها وهي تعيش معها أبداً، إذا ما خلت إلى نفسها دون أن يعطلها معطل، أو يحول دونها حائل، وعندئذ لا تعود تسلك سبلها الخاطئة؛ فأنها إذا خالطت ما هو ثابت، كانت هي كذلك ثابتة، وتسمى هذه الحالة التي تكون فيها الروح بالحكمة
أجاب: هذا صحيح، فحق ما قلت يا سقراط
- وبأي نوع ترى الروح أشد شبهاً وقربى؟ آستنتاجاً من هذا التدليل ومن سابقه؟
- أني أظن يا سقراط أن كل من يتتبع هذا التدليل، يعتقد أن الروح ستكون قريبة الشبه(88/40)
بالثابت قرباً لا نهاية له - ولن ينكر هذا حتى أشد الناس غباء
- والجسم أقرب شبهاً بالمتغير؟
- نعم
- انظر بعد ذلك إلى الأمر مرة أخرى مستضيئاً بهذا: حينما تتحد الروح مع الجسد، تأمر الطبيعةُ الروح أن تحكم وأن تسيطر، والجسدَ أن يطيع وأن يعمل، فأي هذين العملين أدنى إلى الإلهي؟ وأيهما أقرب إلى الفاني؟ أليس يبدو لك الإلهي أنه ما يأمر وما يحكم بطبيعته، وأن الفاني هو الخادم الخاضع؟
- حقاً
- وأيهما تشبه الروح؟
إن الروح تشبه الإلهي، أما الجسد فيشبه الفاني - ليس إلى الشك في ذلك سبيل يا سقراط
- إذن فانظر يا سيبيس أليست هذه هي خلاصة الأمر كله؟ إن الروح على أشد ما يكون الشبه بالإلهي، وبالخالد، وبالمعقول، وبذي الصورة الواحدة، وبغير المتحلل، وبغير المتحول، وإن الجسد على أشد ما يكون الشبه بالإنساني، وبالفاني وبغير المعقول، وبذي الصور المتعددة، وبالمتحلل، وبالمتحول؟ هل من سبيل إلى إنكار ذلك، أي عزيزي سيبيس؟
لا ولا ريب
- ولكن إن صح هذا، أفلا يكون الجسد عرضة للتحلل السريع؟ ألا تكون الروح غير قابلة للتحلل، في أغلب الحالات، بل فيها جميعاً؟
- يقيناً
- وهل تلاحظ فوق هذا، أن الجسد بعد موت الأنسان، لا يتحلل أو يتفكك دفعة واحدة، بل قد يبقى أمداً طويلاً إذا كان قوى البنية عند الموت، ووقع الموت في فصل ملائم من فصول السنة، مع أن الجسد هو الجزء المرئي من الإنسان، وله مادة تراها العين، تسمى جثة، ستنتهي بطبيعتها إلى التحلل، فتتفرق أجزاؤها وتتبدد؟ لأن تقلص الجسد وتحنيطه، كما جرت بذلك العادة في مصر، يعملان في أغلب الأحيان على حفظه أبداً لا يبيد، وحتى إذا أصابه الفساد، فان بعض أجزائه تظل باقية، كالعظام وبعض الأعصاب التي تستعصي(88/41)
على التحلل بطبيعتها. هل تسلم بهذا؟
- نعم
- وهل يجوز لنا أن نفرض أن الروح الخفية، عند انتقالها إلى عالم الأموات الحقيقي، وهو مثلها في خفائها، ونقائها، ونبلها وأنها إذ تكون في طريقها إلى الإله الخير الحكيم، الذي توشك روحي أن تنتقل إليه، إن شاء الله، بعد حين - أقول: هل يصح الفرض أن الروح، إن كانت هذه طبيعتها وذاك أصلها، تتبدد وتفنى عند فراق الجسد، كما تقول جمهرة الناس؟ يستحيل أن يكون ذلك، أي عزيزي سمياس وسيبيس وأولى أن تكون الحقيقة أن الروح، وهي نقية، لا تجر في ذيلها عند انتقالها أية صبغة جسدية، ما دامت لم تتصل قط بالجسد اختياراً، بل إنها لتتجنبه دائماً، وما دامت قد انحصرت في نفسها (فقد كان مثل هذا التجريد موضوع دراستها في الحياة). وماذا يعني هذا إلا أن الروح قد كانت تابعة مخلصة للفلسفة، وأنها قد مرنت على كيف تموت بغير عناء؟ أفليست الفلسفة هي مرانا على الموت؟
- يقيناً
أقول إن تلك الروح في خفائها، تنتقل إلى العالم الخفي - إلى الإلهي، والخالد، والعاقل، فإذا ما بلغته، رفلت في نعيم، وتخلصت من أوزار الناس، وحمقهم، ومن مخاوفهم وعواطفهم الحوشية، ومن النقائص البشرية جميعاً، ورافقت الآلهة إلى الأبد، كما يروي عن العالمين بالسر. أليس ذلك صحيحاً يا سيبيس؟
- فقال سيبيس: نعم، وليس إلى الشك فيه من سبيل
(يتبع)
زكي نجيب محمود(88/42)
14 - بين القاهرة وطوس من بغداد إلى الإسكندرية
للدكتور عبد الوهاب عزام
أقمنا ببغداد أربعة أيام، فأحدثنا العهد ببعض مشاهدها، وزرنا مرقد الملك الشهيد فيصل. رأينا في العراء على مقربة من دار البرلمان مقصورة من الخشب ترتفع عن الأرض درجات، وعلى بابها جندي شاهر السلاح. ففتح لنا الباب إلى ضريح مغطى بالورد والزهر: هذا بقية الجهاد من النفس الطماحة، هذا ميراث الخلود من العزائم المريرة، هنا صفحة من مجد الإسلام والعرب، هنا حلقة يصلها النسب والمجد والتاريخ بسيد المرسلين وخاتم النبيين. غاية تتقطع دونها الأعناق، ويعيا بمرامها كل سباق. أترى هذا المصحف على حافة الضريح؟ هذا كتاب الله يشهد للسلف بما قدم، ويدعو الخلف إلى أن يمضي قدماً على سنة الآباء وسنن المجد وهدى الإسلام. فيا بني العرب والإسلام إحذروا غضب الله، وسخط الآباء، ولعنة التاريخ، وسيروا بالراية إلى الغاية، وتبوأوا مكانكم في جبهة الخطوب وصدر الأجيال
فإنا أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر قرأنا صحائف المجد والعبر. ثم قرأنا الفاتحة وخرجنا نقول: رحم الله فيصلاً!
وفي اليوم الثاني شرُفنا بين يدي جلالة الملك الشاب غازي بن فيصل! اقتربنا من الحجرة الملكية فرأينا جلالته وافقاً، فلما ولجنا الباب تقدم إلينافحيانا تحية العربي الكريم ضيفانه، وتلقانا كما يتلقى الأخ العظيم إخوانه. وجلسنا فسألنا كيف صحة جلالة مصر، وسألنا عما رأينا في سفرنا وما لقينا في حلنا وترحالنا، وكيف رأينا تقدم العراق بعد زورتنا الأولى، ثم تحدث أحاديث ملؤها الأمل والطموح في مستقبل العراق والعرب والإسلام. قلنا وإنا لندعو الله أن ييسر للملك الهاشمي العظيم السير على سنن آبائه، ويرعاه قرة عين للعرب والمسلمين. ثم خرجنا فرحين مغتبطين، فقلنا قد رأبنا في فيصل صفحات من مجد الأمس! وهذه صفحات من مجد الغد
نبنى كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فصدق اللهم آمالنا، ومهد لنا طريقنا، ويسر لنا غايتنا. وزرنا مسجد الإمام أبي حنيفة والمدرسة الأعظمية ودار الكتب. وزرنا في الفندق كثير من إخواننا البغداديين، وتنافسوا(88/43)
في دعوتنا إلى ضيافتهم، ولكن ضاق الوقت عن إجابة الدعوات، إلا دعوتين سبقتا قبل سفرنا إلى طهران من الأستاذ الفاضل أبي خلدون ساطع بك الحصري مدير كلية الحقوق، والأديب الهمام رفائيل بطي مدير جريدة البلاد، فذهبنا إلى حفلتين نعمنا فيهما بلقاء جمع من زعماء العراق وعلمائه وأدبائه، وسعدنا بأحاديث في الأخوة والمودة، والسياسة والعلم والأدب
وفي اليوم الأخير كانت حفلة الوداع في دار المفوضية المصرية، إذ دعا الأستاذ حافظ بك عامر القائم بأعمال المفوضية جمعاً من أعيان بغداد، ومن المستشرقين الذين رافقونا في حفلات الفردوسي، وسفير إيران ببغداد وغيرهم إلى مأدبة شاي، ولم تكن هذه أول حفاوة حافظ بك والأخ حسين أفندي منصور سكرتير المفوضية
وبرحنا بغداد بكرة يوم الاثنين في سيارة جديدة من سيارات شركة (نيرن) ذات عشر عجلات طولها 25 متراً، وهي نمط جديد مركب من جزأين: القاطرة والعربة. وقد أريد بفصل المقدم من سائر العربة إضعاف الارتجاج، فالسيارة تسير رهواُ في الطريق غير المعبدة. وقفنا قليلاً في الرمادي، فرأينا سيارة كبيرة تقل نفراً من الإنكليز، فيهم أطفال ونساء، وقد كتب عليها ما يدل على أنها سائرة من الهند إلى لندرة، سألت بعضهم متى فصلتم من الهند؟ قال: منذ شهر. قلت: ومتى تبلغون لندرة؟ قال: بعد شهر ونصف، لأننا سنلبث في القسطنطينية وبعض البلاد. فهانت علينا الشقة بين طوس والقاهرة، وأكبرنا هذه العزائم السيارة
بعيد مناط الهم فالغرب مشرق ... إذا ما رمى عينيه والشرق مغرب
وبلغنا الرطبة بعد الغروب فلبثنا ساعتين، جلسنا في فندق هناك نستمع إلي الغناء المصري، ونأكل ما تيسر من الزاد. ثم مشينا في أطراف الصحراء، فرأينا مجرى وادي حوران الذي يسيل من حوارن إلى وادي الفرات، ولم يكن به يومئذ ماء، ورأينا هناك آبارا يستقى منها الأعراب الضاربون في تلك النواحي وقد جاء إليناأطفال الأعراب، فسألهم أحد الرفاق عن أسمائهم فلم يجيبوا، فقلت إن ابن البادية يتحرز من ذكر اسمه واسم قبيلته حتى يأنس، فلما استأنسناهم بالحديث والعطاء صرحوا بالأسماء
طلعت الشمس ونحن في أرباض دمشق، فدخلناها في نضرة الصباح، وأشعة الشمس تموج(88/44)
على ذوائب الغوطة الفيحاء، وما دخلت دمشق قط إلا خفق قلبي لها سروراً وحباً
أوينا إلى فندق أمية يحببه إليناهذا الاسم العربي، ولبثنا به يومين، ووجدنا خدام المائدة هناك من النوبيين فرحبوا بنا وبالغوا في إكرامنا
وهنا لطيفة أضن بها على الترك: جلست أنا ورفيقي الأستاذ العبادي للإفطار، فلما قدمت إليناألوان الطعام طاف بنا طائف من الشعر، فقال الأستاذ:
وقوم في أمية نازلينا ... من العسل المصفى يشربونا
فقلت:
ولو علموا مكانتهم لكانوا ... بصحن بني أمية ينزلونا
قال ما صحن بني امية؟ قلت صحن الجامع الأموي. قال إن النزول به شرف. قلت هذا أردت. والله أعلم بذات الصدور
بادرنا بعد أن استرحنا إلى زيارة أستاذنا العلامة محمد كرد علي بك كما فعلنا حينما وردنا المدينة في طريقنا إلى طهران، ومن فاته مجلس الأستاذ كرد علي في داره المعمورة فقد فاته خير كثير. وكنا نعمنا المرة الأولى بليلة غوطية قمراء سمرنا بها مع الأستاذ والأمير مصطفى الشهابي والأستاذ خليل مردوم وهم كما قال الحريري
(في رفقة غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النسيان، ما فيهم إلا من يحفظ عنه ولا يتحفظ منه، ويميل الرفيق إليه ولا يميل عنه)
ويوم الأربعاء زرنا الجامعة السورية، فإذا كلية الآداب قد ألغيت. ولقينا الأستاذ مدير الجامعة، فطاف بنا في حجرات الكيمياء والطب، ثم دعانا إلى غرفته فتحدثنا في الاصطلاحات العلمية وتوحيدها في البلاد العربية، ثم خرجنا شاكرين. وذهبنا إلى المتحف العربي لنرى الأمير جعفر الجزائري فإذا المتحف مغلق، وإذا المكتبة التي أمامه مغلقة
وهنا أقول إن دار المتحف العربي هي دار المدرسة العادلية لا دار الحديث الأشرفية، كما ذكرت خطأ في حديثي عن الشيخ الخالدي، وأنا أعترف بأن الغلط كان مني لا من الشيخ، وأنه نبهني إليه حينما قرأ المقال وهو بمصر. (وهذا لا يٌقل من شكري للأديب برهان الدين محمد الداغستاني الذي نبه إلى هذا الغلط في مقال بمجلة الرسالة)
وفي المساء ذهبنا إلى الصالحية فزرنا قبر الشيخ عبد الغني النابلسي ولم نكن زرناه،(88/45)
فوقفت بنا السيارة على حارة هناك فترجلنا ومشينا بجانب بناء قديم مهجور فقيل: هذه المدرسة العمرية التي بناها أبو عمر بن قدامة. وفي هذا الحي مدارس كثيرة كانت مباءة العلم والعلماء في العصور الخالية. وتقدمنا قليلاً ثم ملنا ذات اليسار، فهبطنا مسجداً صغيراً مشرفاً على دمشق. ثم ولجنا باباً إلى اليمين فإذا مصلى واسع، فلما اتجهنا شطر القبلة رأينا في الجدار الذي إلى اليسار مقصورتين عليهما شبابي الحديد إحداهما مرقد الشيخ الصوفي العالم المتفنن عبد الغني النابلسي، والأخرى قبر أحد أبنائه فيما أذكر
وقد رأيت على باب المصلى الذي فيه الضريح هذين البيتين:
زان سورية الوزير نظيف ... بنظام يفوق عقداً نظيما
لمقام الولي عبد الغني مذ ... شاد أرخت (نال أجراً عظيما)
ومعنى ذلك أن والي سورية نظيف باشا عمر هذا المكان سنة 1306 ثم ذهبنا إلى دار العالم الفاضل الأمير مصطفى الشهابي إجابة لدعوته، وهي في أعلى الصالحية تشرف على دمشق كلها.
فتعشينا وسمرنا مع جماعة من الفضلاء، ثم هبطنا بعد هدأة من الليل فمشينا إلى الفندق، وسار معنا الأخوان مودعين فختمت إقامتنا بدمشق على أحسن ذكرى
وأصبحنا نتأهب للمسير إلى بيروت فبلغناها ظهراً. وذهبنا إلى دار القنصلية المصرية فلقينا حضرة القنصل صادق بك أبو خضرة فأبى إلا أن يدعونا للغداء، ثم ودعناه بعد الغداء شاكرين فسرنا في أرجاء المدينة، فلما أرست الباخرة الرومانية (شارل الأول) وضعنا أمتعتنا بها ثم نزلنا فجلنا جولة في المدينة ورجعنا إليها والساعة إحدى عشرة، وفي منتصف الليل سارت الباخرة، فلما أصبحنا بها رأينا أسباط بني إسرائيل مزدحمين في أرجائها، وقد راجت سوق الملابس بينهم، هذا يعرض وهذا يساوم، وهذا يشتري وهذا يأبى. فقلنا لله در القوم!
وقفت الباخرة على حيفا صبحاً، وقد صارت حيفا ميناء كبيراً منذ العام الماضي، فنزلنا إلى المدينة صعدنا في جبل الكرمل وهو جبل عال مزدان بالدور والأشجار مشرف على البحر. ومررنا بقبر الباب صاحب الدعوة البابية، وقبر عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين السابق. وهما في بناء جميل تحيط به حديقة منضدة ينحدر الجبل عنها طبقة بعد(88/46)
أخرى حتى يفضي إلى شارع واسع يستقيم من سفح الجبل إلى البحر
وسارت السفينة بالعشي فما زالت في بحر وهو حتى أقبلت على الإسكندرية المحبوبة قبيل الظهر يوم السبت ثالث نوفمبر. خفقت قلوبنا فرحاً بالأوبة إلى الوطن، وقذيت عيوننا بالمرائي الأجنبية المتزاحمة في الثغر، وزادها قذى منظر زورق الشرطة تعلوه راية كتب عليها من الجانبين كأن البلد لا يعرف اللغة العربية! وبينما تكفهر حولنا هذه المناظر المخزية وقع بصري على كلمة (زمزم) الكلمة العربية الوحيدة في مثلت الأسماء المحيطة بنا، وهذه زمزم إحدى بواخر بنك مصر! هذا كوكب يلوح في هذا الظلام الدامس! هذا برق من الرجاء يشق هذا الليل اليائس! هذه فاتحة المستقبل الوضاء! فاصبري أيتها النفس فان مع العسر يسرا
خاتمة
لم يتيسر لنا المقام في إيران حتى نعرف من أحوالها ودخائلها وسير العلم والأدب بها، وحتى نستقصي آثارها ومشاهدها، وإنما هو السفر العجلان الذي لا يقف ببلد إلا ليسير عنه. فهذه المقالات جهد النظرة العاجلة، ومبلغ الأيام القليلة التي قضيناها طائرين من مدينة إلى أخرى، ومقدار ما وعت الذاكرة دون الاستعانة بالمذكرات، وهو كما رأى القارئ كلام قريب الغور، قليل الجدوى، ولكنه لا يخلو من فائدة
وبعد، فقد سرا من القاهرة إلى طوس فما أحسسنا إنا اغتربنا، بل رأينا أنفسنا بين وجوه معروفة، سنن مألوفة، وتاريخ معلوم، وفي مشاهد حدثتنا عنها كتبنا، وعهدها تاريخنا ونشأ فيها علماؤنا، فالعالم الاسلامي، على اختلاف الأمم، أمة واحدة ألفتها مئات السنين على معنى واحد، وأسلوب واحد، وأورثها التاريخ حضارة واحدة، وآداباً متقاربة، وهذا ذخر لعمر الحق جدير أن يصان على رغم الزمان، وائتلاف ينبغي أن يجنب الاختلاف، وتقارب هو أسعد ما تحظى به الأمم في هذه العصور القلقة المضطربة. فقل للذين يريدون أن يقطعوا الأوصال بما يثيرون من الجدال، وقل للذين يحقرون ماضينا، ويزدرون تاريخنا، ويحاولون أن يهدموا كل قديم ليشيدوا كل حديث، وقل للذين يصدون عن المشرق ليولوا وجوههم شطر المغرب: ألا ساء ما تعملون! لقد أعماكم التقليد عن الحق، وذهب بكم الضلال أبعد مذهب. فان تماديتم في الغواية فستندمون حين لا ينفع الندم والسلام(88/47)
عبد الوهاب عزام(88/48)
الله
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
أنا في كوني الصغير صلاة ... وسعت كونك العظيم المجود
يا إلهي قلبي الرفيقُ تنهدْ ... مُذْ صَداكَ الحبيبُ فيه ترددْ
يا إلهي طيفُ العفاءِ يُناجي ... كَ، ونجواه أنةٌ تتصعدْ
غاب لما دعاك عن وَهْدةِ الإث ... م وعن طينةٍ مِنَ الإثم أوْهَدْ
يا إلهي أنا الفَنَاء أنادي ... ك، وأنت البقاء تُرجي وتُقصد
ضِعتُ عني لما دعوتكَ في الس ... ر وظلتْ رُوحي المشوقة تُرعد
أي ألطافِكَ العِذَابِ تجلى ... أي آلائكَ العظام تعددْ
حفل القلب بالتُقي فتصفى ... وجلاه الهدَى فصلى وَوَحدْ
وَلهِي بهجةٌ وحبي لحنٌ ... وابتهالي الغالي نشيدٌ مُقصَّدْ
فنيتْ مُهجتي بحبك يارب (م) ... وغلغلت في الفناء لأشهدْ
أجد الفرحة العظيمة في الذ ... ل لربي، وفي انكساري سؤددْ
شفني الحبُ فاستحلت نداءً ... ومن الحب أن تذوب وتسْهدْ
وأنا العبدُ هام وجداً بموْلا ... هُ، وإن أفْنَ في المحبة أوجَدْ
يا إلهي روحي تولَّهُ حيري ... لا تعي أمهرها وثَغريَ يحَمد
طَيْ جفني عالمٌ لك حُلوٌ ... وبنفسي قصيدةٌ لكَ تُنشدْ
أترعَتْها ملائكُ الحبِّ بالسح ... ر فغنَّى بها الوجودُ وغرَّد
ما جفت مُقلتاي هذا الكرى الها ... نيء كفراً إلا ووجُهك أسْعد
أنا في هيكلي اللَّهيف دعاءُ - فاض من سرِّك اللطيف المُمجَّد
ساهد الجفن خاشع القلب باكٍ ... ذاهل الروح مستهامُ مشرد
أرقبُ الفجرَ في غلائله البِيت ... ضِ وقد شف عن غُبار مُبدد
جدولٌ رائعٌ يرفُ من النُّو ... ر وأمواهُةٌ تكاد توَرَّد
غرقٌ يغمر القلوبَ ابتهالاً ... وسناً يملأ النواظرَ عَسْجَد
وأطلتْ ذُكاءُ في الموكب السَّا ... حر دُنيا من الرُّؤى تتوقَّدْ(88/49)
أنا آمنت يا إلهي بنُعما ... ك يقيناً وما خُلقتُ لأجْحَدْ
رُبَّ طاوٍ على الضَّغينةِ صدراً ... عاش في زحمةِ البِلى يَتَمرَّد
نسى الخالقَ اللطيف وجدْوا ... هُ وعافَ التُقى وتاهَ وعرْبَد
لا يُبالي أنامَ في حُفر الدي ... دان أم بالدُّجى الرهيب توسَّد
يَوْمُهُ آثمٌ وأمسِ مُجونٌ ... والغدُ المُحتملُ حلمٌ منضَّد
لا يحسُ الحياةَ إلا ضلالاً ... من يجدها هدىً يُذمُّ ويُنقَد
والإلهُ الرحيمُ يُوسعهُ الخي ... رَ فلا يَرعِوى ولا هو يَرْشد
يا إلهي جَداك غمرٌ وإحسا ... نُكَ فيضٌ على المدى ليس يَنَفذ
تنطوي الأرض في غياهِبها السُّح ... م وينهار كلُّ برجٍ مشّيد
ويُدوِّي الوجودُ بالعاب والُهو ... نِ وينسى أخُو الهَوى من تودَّدْ
يمَّحي الرِّفقُ من قلوب المحبيِّ ... ن ولا يرحُم السعيد المُنكَّد
وتموجُ الأكوان بالبُغضِ والشَّ ... رِّ وتغلى فيها نفوسُ توَعَّد
وًندَاكَ العميمُ ينهلْ سكَّا ... باً وآلاؤهُ تظلُّ تجدَّدْ
عزَّت البيدُ، إنَّها موطنُ البأْ ... س ومجْلى عيشِ النَّعيمِ المُمَّهدْ
تتثنَّى بكلِّ أروعَ سباَّ - قٍ وتُزهى بكلِّ أبلجَ أصْيَدْ
وُلدَ الحُبُّ في رُباها نقياً ... وعلى ساحِها العلاءُ توَطَّدْ
يا إلهي حلَّيتَ بالنُّور مَغْنا ... ها وأطلعْت من حِماها مُحمد
أعشَب القفرُ حينَ لاحَ مُحيّا - هُ وسالَ النُّضارُ منْ كل فدْفدْ
واستنارَتْ بهِ القوافلُ في اللَّيل وغنَّى الدليلُ أنساً وزغردْ
وسرَت نفحةُ النبيِّ من الصَّح ... راءِ أندى من الرَّبيع وأجوَدْ
طفح القَفْرُ بالشَّذا وانتشى الكوْنُ ... فلم يبقَ خافقٌ لم يُهدهدْ
يا نبيِّ الهدَى سبيلُك رشدٌ ... بيِّنٌ نهجهُ وشَرْعُكَ سَرْمدْ
عمَّتِ الأرضَ والسمواتِ نُعما ... كَ فيافوْزَ من جني وتزَوَّدْ
لستُ أنسى صحابةً لك غرَّا (م) ... نا زهاَ الحقُّ بإسْمهمْ وتأيَّدْ
علّموا الناسَ كيف تُفْتَتَحُ الأر ... ضُ وينقادُ للكريمِ المُسوَّدْ(88/50)
ملأُوا الكوْنَ رحمةً وسلاماً ... وسماحاً صفا وحُبًّا تجرَّد
فإذا العيشُ من شذا الزَّهر أزْكي ... نفساً عابقاً وأحلى وأرْغدْ
ومشى ديِنُكَ الحنيفُ على الغب ... راءِ حتى أغارَ فيها وأنجَدْ
فرَمى بالكتائبِ الغُرِّ كِسرى ... وهرقلاً وكلَّ ملكِ مُقلّد
وجرى الفتحُ زاهرَ اليُمنِ وَضَّا ... ءً كما رفَّ في السمواتِ فرْقدْ
قبسٌ من هدايةِ الحقِّ ضافٍ ... ويدُ من رعايةِ اللهِ تمتدْ
وازدهي الكونُ فرحةً وحبُوراً ... حين طافتْ به رسالةُ أحمدْ
يا إلهي عَنا لوَجهِكَ وَجهي ... وفؤادي منْ طول حمدِكَ معبَدْ
أنا في كوْني الصغيِرِ صلاةُ ... وسِعتْ كونكَ العظيم المُجوَّدْ
دمشق
أنور العطار(88/51)
عصبة الأمم بين الحبشة وإيطاليا
للأستاذ محمود غنيم
ويحي على محكمة السلامِ ... محكمة لكن بلا أحكام
للهو لا للنقض والإبرام ... سابحة في عالم الأحلام
والسيف يبري الهام كالأقلام ... ألم تر العصبة في المنام
تحرش الذئاب بالأغنام؟ ... (روما) تهز صفحة الحسام
وشفتا (جنيف) في ابتسام! ... إن رضى القاضي عن الإجرام
فإنه أولى بالاتهام ... ويل لحامٍ من أخيه سام!
يا سودُ ما أنتم من الأنام
يا جيرة الهضاب والآكام ... وساكني الذِّروة من شمام
لا فَصْل إلا بالحديد الدامي ... فالحق في أسنَّة السهام
لستم تنالون بالاحتكام ... ما ناله (منليك) بالصمصام
هم يخدعون الناس بالأوهام ... متى استطاعوا الفصل في خصام
أيوم فتك الترك بالأروام ... أم يوم رُوُعت بلاد الشام
أم يوم ديس الصين بالأقدام ... وهددت (طوكيو) بالانقسام
فآثروا الصمت على الكلام! ... ما للضعيف في الورى من حام
لولا نُيوب الأسد الضرغام ... لكان من فصيلة النعام
ولاستبيحت حرمة الآجام
كوم حماده
محمود غنيم(88/52)
الضحية
للأستاذ محمد خورشيد
يا زمان الأسى طرحتُ سلاحي ... لم تعدْ بي بقيةٌ للكفاح
صرعتني الهمومُ حتى كأني ... لم أدع في دنانها إثرَ راحِ
كلما رُضتها انبرت لي همومٌ ... صلبةُ العود غاية في الجماح
أخدعً الناس بالبشاشة والخفاق ... في الجنب ممعنٌ في النواح
حُلكةُ النفس لم ترِمْني ولما ... يطلق الحظُ من حماها سراحي
فمسائي هذي الحياةُ وما في ... ظُلمةِ الرمسِ غيرُ نور صباحي
سئمت روحي الإسارَ فودتْ ... لو غدتْ حرةً مع الأرواح
ما أراها غداة يدركني الأض ... حى سوى مستريحةٍ كالأضاحي
فيطيب النسيم منها أريجاً ... مثلما طاب بالشذا الفوّاح
وتُطيفُ ابتسامتي بثغور الزَّ ... هر الغضِّ وردِه والأقاحي
ويُغنى الهزارَ شعري شجياً ... فاسمعوا في الربيع منه صُداحي
لم يَعدْ لي غير الشَّغاف ضمادٌ ... منذ أعيا الأُساةَ لَمُّ جراحي
ما عسى يصنع الطبيبُ إذا ما ... عاد صبًّا مثلي مَهيض الجناح
هالهُ أن رأى شبابي يذوي ... فتولَّى متمتما غير صاح
في غدٍ تُغمضُ الذُّبالةُ جفني ... ها ويسري الظلامُ في المصباح
القدس
محمد خورشيد(88/53)
منظر لا متاع
للأستاذ فخري أبو السعود
لا تبتغِ الدنيا متاعاً يُشترى ... بل فاْبغها ما عِشتَ فيها منظرا
وابغِ الجمالَ بها إذا ما رُمته ... شكلاً بها للناظرين مصوَّرا
لا تُلفينَّك إن عَدَتْك لبانةٌ ... منها على آثارها متحسرا
أنت المصيبُ لُبابها وخِيارها ... ما دمتَ فيها المبصِر المتبصِّرا
والمجد كلُّ المجد فيما نلته ... متفكراً لا جامعاُ متكثِّرا
إني أرى حُسنَ الطبيعة دائماً ... في كل يومٍ زائداً متكررا
ورأيت ما ملكتْ يمينٌ عالةً ... للمالك العاني وعبثاً موقرا
الكون مسرىً للعيون ومسرحٌ ... لفؤاد مَن راد الحياة مفكرا
أطلقْ به ما عشت فكرك رائداً ... تملكْه طُرًّا زاهداً متطهِّرا
واكْفُف يمينك عن أُمور تُقتَنى ... فيه وأرْسِل فيه باصرةً تَرى
وأقِمْ به حُرًّا وأطلِقْ ما به ... يجري على سَنن الحياةِ مُحرَّرا
واقنع بتبرٍ من ذُكاَء إذا جَرى ... متحدِّراً في مائه متكسِّرا
عن كل تبرٍ مالكٍ أربابهُ ... لما غدَا في حرزِهم متحجِّرا
حُسنُ الطبيعة خيرُ ما مُتِّعْتُه ... في عالمٍ لمْ أته متخيِّرا
وأجلُّ أجر في الخلودِ لمؤمنٍ ... يَبني بتقواهُ النعيم الأنضرا
الإسكندرية
فخري أبو السعود(88/54)
فصول ملخصة من الفلسفة الألمانية
8 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
آثرنا ترجمة بعض مقاطع لشوبنهاور ونيتشه، لأن أسلوبهما الفلسفي تغلب عليه الصبغة الأدبية والشعرية في كثير من خطراتهما ونظراتهما
(خ. هـ)
صفحة من آثار شوبنهاور
(كيف تنعكس صورة العالم الخارجي في عقولنا)
مقطوعة صغيرة وضعها الفيلسوف على لسان جني يميط لنا اللثام عن سر الأشياء
أمامي شيئان، شيئان ثقيلان منتظمان، ما أجمل النظر إليهما! أحدهما إناء من حجر ثمين مُحلى بعروتين من ذهب، والآخر جسد تام الخلق والمفاصل، هو جسد إنسان، فبعد أن تأملت ظاهرهما كثيراً استأذنت من الجني أن يسمح لي بتأمل باطنهما، فأذن لي فدخلت في الإناء، فلا أدري أية ميول قائمة تتمشى في أجزائه تحت اسم الالتحام والالتئام
أما الشيء الثاني ويا للغرابة! أني لي أن أحدث بما رأيت، فأساطير الجن يمسي كل ما فيها أخاً للحقيقة، ففي ذروته العليا ألفيتُ ما يُدعى (رأساً) مظهره الخارجي كمثل كل مظهر، وهو كغيره من الأشياء يسبح في الفضاء ثقيلاً. ماذا وجدت؟ وجدت الكون نفسه مع سعة الفضاء. وجدته يحتوي على كل شيء، فيه سعة الزمان، وفيه يتحرك كل شيء، وخلتُني مع هذا التحول العجيب للأشياء في الزمان والفضاء، إنني في ذهاب وإياب!. . .
- 2 -
مقطوعة من كتابه (العالم هو إرادة وتمثيل)
قد لا يدخل في دائرة الصدق قولنا: إن الحياة ظاهرها وباطنها صماء مظلمة، هكذا تجري حياة أكثر الناس، طافحة بالقلق والميول النافرة، تمشى في صدر الإنسان حائرة مترجرجة، وصاحبها مستسلم للأحلام بين جدرانها الأربعة حتى يقضي نحبه، ما أشبه الناس بالساعات التي رُبطت آلاتها فمشت لا تعلم سبب مشيتها وغابة دورتها، وفي كل مرة يولد إنسان(88/55)
تدور الساعة لتعيد - كرة ثانية وثالثة - دورها القديم، مرددة نفس الجملة وذات المقطع بتبدل قليل لا يكاد يُحس
كل وجه بشري، وكل حياة بشرية حلم فانٍ مستمد من روح الطبيعة التي لا نهاية لها، ومن إرادة الحياة العتيدة الثابتة , هي كالثورة أو الخيالة تمر سريعاً، لا ترسمها الحياة على الشاطئاللانهائي للزمان والفضاء، ولكن تتركها لحظة أو لحظتين تنعم بهذه الإقامة القصيرة، ثم تمحو رسومها، وتذهب بألوانها، مفسحة لغيرها مكانها؛ هذا هو الجانب الذي يبعث على التفكر والتأمل. . . يجب على إرداة الحياة القاسية أن تكافئ كل صورة من هذه الصور الصافية وكل أمنية من هذه الأماني الذاوية، جزاء ما تحملته من آلام عميقة وأوجاع مضنية، وذعر متكرر من الموت الذي تفر النفوس منه إليه
إن ما يجعل النساء اكثر صبراً من الرجال على الاعتناء بشؤون أطفالنا، هو أنهن يظللن أطفالاً ضيقات العقول، ويلبثن - طيلة حياتهن - أطفالاً كباراً، لا هن إلى الأطفال، ولا هن إلى الرجال
لنلاحظ فتاة غانية تلعب وتمرح - سحابة نهارها - مع طفل صغير، ترقص أمامه وتغني معه، ولنتمثل أي رجل شديد القسوة على إرادته يستطيع أن يضع صنعها، ويقوم بدورها
في عصرنا هذا تقع عيوننا على كتاب يتخذون الكتابة مهنة، أما قبل هذا العصر فقد كان الكتاب من ذوي الالهام، ولم يكونوا تجاراً، فلبثوا خالدين، ولبثت مقالاتهم ومواعظهم خالدة كالدهر
ادوارد هرتمان
وجد (شوبنهاور) في (هارتمان) تلميذاً أميناً لتعاليمه، وإن اختلف مزاجهما بعض الاختلاف، فوجه (شوبنهاور) جامد عابس، نافر التقاطيع، تكاد تبرز من وجهه كل علائم التشاؤم متكلمة منتقمة، ووجه (هارتمان) هادئ تطفو عليه من التشاؤم سحابة رقيقة لا غليظة، فهو متشائم مقبول لا يضيق به الناس، ولا يضيق بالناس، ولعل تعريجه الكثير على نوادي النساء مما رقق حسه، ولطف شعوره، ومثل له الحياة العابسة تبسم له من وراء هذه الوجوه الناعمة، والثغور الباسمة
مال في بدء نشأته إلى العلوم الطبيعية، وبعد تقلب طويل دخل في مدرسة (السلاح) في(88/56)
برلين، ثم وجد أن هذه الصناعة لم تكن لتلائم مزاجه ولا صحته فهجرها، وهو في إحدى رسالاته يقص علينا أن سبب تشاؤمه لا يرجع إلى ضعف في صحته أو اعتلال في مزاجه، بل يرى أن روحه في الحقيقة روح تفاؤل ورضا، ولكن زوجه كانت تطفو عليها سحابة من التشاؤم والكآبة الخرساء، والعناد في الرأي الذي تذهب إليه
كان (هارتمان) في الثانية والعشرين من عمره حين أخذ يكتب كتابه (فلسفة اللاشعور)
' ولبث في تصنيفه خمس سنين. ما هو هذا اللاشعور؟ إنه الإرادة عند شوبنهاور تظهر كمادة شاملة عامة، أو هي ذات فكرة (هيجل) بعد خروجها من - مصنع شوبنهاور - مُهمة مغمضة لا تُدرك. ولا يرى القارئ في هذا الكتاب مذهباً جديداً لأنه تغير للمذاهب المتقدمة، ولا بحثاً ناضجاً لأنه عصارة شباب متوقد روحاً وعاطفة. وإنما هو شعلة أضرمتها فتوة تنطوي على علم غزير، فتهوى نفسك أن تتبع آثار المؤلف في ما يعطيك ويلهمك، ولا سيما في تحدثه عن (اللاشعور) في مقامات العقل الإنساني وحالاته النفسية، وفي غرائز الحيوان، في اللغات ومسائل الدين، وفي كل حنايا التاريخ وما احتواه، حتى يأتيك بالصورة الأخيرة التي يرى فيها الإنسانية وقد بلغت نهايتها متبعة من إرادتها، ومن تفكيرها، ومن حياتها، وهي تواقة مشتاقة إلى العدم؛ حيث كانت ثم انتشلت منه بغير إرادتها. وهذه صورة فيها شيء من السمو الشعري بشرط أن يتلقاها الناظر كحلم خالص قذفت به مخيلة خالية. . .
وقد أحدث كتابه هذا دوياً بعيداً في العالم الفلسفي والعالم الأدبي، لا لأنه زاد - في ألمانيا - أنصار الفكرة التشاؤمية، بل لأن هارتمان وشوينهاور كانا أول من صرفا الذهن الألماني إلى مواجهة المسائل الفكرة بالفكر، وأعادا وصل الحلقتين اللتين قطع بينهما مذهب المثل الأعلى الذي سيطر على العقل الألماني طيلة عصر طويل
إن في كل ألماني مثقف نزعة خاصة به تتمشى في ثنايا روحه، تريد أن تتحرك وأن تنمو بذاتها؛ ترى الفرنسي يجنح إلى الفلسفة لتساعده على تفهم الحياة، وبعبارة أجلى لتعلمه كيف يعيش! الألماني - على الأغلب يرى فلسفته حلماً، ولكنه يعتقد أن يفتح عينه. . . وكل ألماني يتردد في حلمه أو يقظته - الى المدينة الكاملة - التي تحدث عنها شوبنهاور، المدينة المشيدة على ذرى الغمام، لأن الألماني واسع الحلم خصب الخيال، وهناك يُغادر(88/57)
تصوفه الغريزي المبهم، ويؤوب من تلك المدينة إلى الحياة الحقيقية، وهو أشد حماسة وأكثر تأهباً للمعركة التي يشنها في سبيل الحياة
على أن هذا المذهب، (مذهب التشاؤم) قد لقي خصوماً ألداء ممن قارعوه الحجة بالحجة، ونازلوه نزالاً عنيفاً؛ وحق للفلسفة كلها أن تجمع أحزابها وشيعها على محاربة (مبدأ خطر) إذا فشا هدم كل أمل في البشرية، وقضي على كل جهادها الطويل. وقد انضوى (الماديون) تحت لواء المعارضة، وكان أشهرهم (أوجين دوهريك) الذي وصل إلى هذه الفكرة السامية: (بأن الحياة بمجموعها جميلة، في أفراحها وفي أتراحها، على أن نتناولها كما هي بعُجرها وبجرها، لا نحاول تغيير سنتها، ولا تبديل طبيعتها، ولا نطلب إليها أن تمنحنا مالا تقدر على منحه، لأنها سائرة إلى غايتها التي لا تبالي بغايتنا، وأن في تمردنا على نُظمها شقاءنا، وفي رضانا عن مذهبها نعيمنا
(يتبع)
خليل هنداوي(88/58)
القصص
من أساطير الأغريق
أرفيوس الموسيقى أو رحلة إلى الدار الآخرة
بقلم الأستاذ ديني خشبة
أرفيوس! لسان الطبيعة، ونجيُّ الآلهة، ووحي السماء إلى جي، وصاحب القيثارة ذات الرنين. . . . والأنين
كان يعزف، فتشيع الحياة في الصخر، ويقف أبوللو العظيم في مركبته الذهبية، مًطلا برأسه من عليين، يسمع ويطرب وكذلك كانت تصنع ديانا، فلطالما كانت تنزل من مركبتها الفضية في أعلى أجواز السماء، لتلبث هنيهة بباب أرفيوس، تتزود لرحلتها الليلية المرهقة، من مشرق الدنيا إلى مغربها
والأشجار! إن لها لجذوراً متغلغلة في أطباق الأرض، ومع ذلك فقد كانت حين تسمع أرفيوس، تنزع اليه، وتسير وراءه خبباً! وكم شهد الناس حول بيته غاية من الدوح العظيم، والأيك الذاهب، سعت إليه تلتذ من موسيقاه، ثم هي تنصرف في المساء فتنغرس في أصولها، وقد ازدادت نضارة وازدهاراً!
ومع ذاك، فقد كان ذا غُرَّة مشرقة، وابتسامة حلوة ما تكاد تفارق ثغره الصغير الجميل. وكان جم الحياء؛ لم ينهر مرة أحد رواده، أو المترددين عليه؛ بل كان يلقي الجميع ببشاشة الأخوة، وهشاشة الود
وكانت له زوجة أجمل من روعة الفجر، وأفتن من وشي الأصيل، وأندى على قلبه من أنفاس الصباح
اسمها يوريديس. . . مصدر إلهامه، ومعين عبقريته، وجمال لحنه، وأغنية حبه، وأنشودة هواه. سئل مرة: ماذا تملك من الدنيا يا أرفيوس؟
فأجاب: (قيثارتي. . ويوريديس!)
وكانت يوريديس تجمع الأزهار البرية في ربرب من أترابها، لتصنع منها باقة مفوّفة تقدمها لأرفيوس، وكانت كلما راقتها سوسنة أو وقعت في نفسها زنبقة، طبعت عليها قبلة(88/59)
ندية وضمتها إلى الباقة، وهي تقول: وأنت أيضاً لحبيبي أرفيوس. . .
وبينا هي كذلك إذا أفعى هائلة تنسل من بين الأشجار، فتلدغ قدمها الصغيرة المعبودة المطمئنة في الحشيش الأخضر؛ فتصرخ المسكينة صرخة داوية، ثم تنطرح إلى الأرض، وتتناثر الورود والرياحين التي جمعته حولها، كأنها تنضد سرير موتها
وتجتمع صديقاتها مذعورات، فتعولن وتبكين، وتحملنها إلى أرفيوس الذي يستطار من هول الكارثة، وينخلع فؤاده من فداحة المصاب، ويحاول المستحيل لإنقاذ أعز الناس عليه؛ ولكن. . هيهات! لقد ماتت، واحتلكت الدنيا في عيني أرفيوس التعس، وأجدبت قيثارته من ألحان المرح، واستروحت إلى البكاء والأنين. فيا رحمتا لمن ينصت إليها ويصغي لها! زفرات حارة تصعدها أوتارها، وأنات مؤلمة ينبثق منها الدم تنبعث من أنغامها!
وأرفيوس، مع ذلك منزوٍ عن العالم، عزوف عن الناس، مستغرق في وحدته القاسية، يفكر في يوريديس
وصم ألا يفقدها كما يفقد الناس أحباءهم. بل لابد من رحلة طويلة إلى الدار الآخرة. . إلى هيدز. . حيث إله الموتى بلوتو، فيضرع إليه أن برد عليه زوجته التي لا حياة له إلا بها
فكرة غريبة، وتصميم عجيب؛ رجل من دار الفناء، له جسم، وفيه نفس تتردد من أخمصيه إلى ذؤابة رأسه، كيف ينفذ إلى دار الموتى وعالم الأرواح، ومملكة الظلال والأشباح؟!
لكنه أمل ملأ قلبه على كل حال، وهاهو ذا يحمل قيثارته، ويبدأ رحلته ولا يدري إلى أين؟
ضرب في الآفاق على غير هدى، وذرع الأرجاء في ضلال وحيرة، حتى رثت له الآلهة، فرشدته، وأنارت له سبيله؛ فاهتدى إلى ضفاف ستيكس ذي الزبد، حيث وقف شارون النوتي الجبار، الذي يحمل أرواح الموتى في زورقة، يعبر بها أنهار الجحيم للقاء بلوتو العظيم
وصاح شارون صيحة راجفة حينما لمح أرفيوس، وزمجر قائلاً: (يا ابن العدم، يا سليل الفناء، يا من لم تفض روحه بعد، ما جاء بك إلى هنا، وما تزال تتعثر في برد حياتك الرث، وتتكفأ في قيد دنياك الوبيلة؟ عد من حيث أتيت، وإلا فوحق بلوتو المتعال لأسحقن عظامك، ولأقذفن بك إلى ستيكس، فيطويك اليم وتشويك الحمم. . . عد. . . عد. . . عد أقول لك. . . ويْ. . ويكأنك لا تسمع!!)(88/60)
ولكن أرفيوس يثبت غير هياب، ويتناول قيثارته غير وجل، ثم يعزف لحناُ من ألحانه الباكية فيزلزل به أركان شارون!
شارون! هذا الفظ، غليظ القلب، أقسى حراس جهنم، يذوب رقة ويمتلئ حناناً ورحمة لما رأى وسمع، فيهرول إلى أرفيوس مستميحاً معتذراً عما بدر منه من سوء اللقاء، وعبارات البذاء، ويسأله في لين ورفق عن حاجته فيجيب: (لا شيء إلا لقاء بلوتو!)
فيسأله شارون: (وكيف، وهذا بدنك لا يحتمل زفير الجحيم؟)
فيجيب أرفيوس: (لا عليك، ما دامت هذه - ويشير إلى القيثارة - بيميني)
فيقول شارون: (يا صاحبي أنت لا تعرف هول ما تريد أن تقتحم، وإني مخلص لك أمين؛ إنك غض الأهاب، موفور الشباب، وإن جهنم لا تبقى ولا تذر، وإنها أبداً ترمي بشرر كالقصر، وإني أمحضك نصحاً علمتني موسيقاك كيف أمحضك إياه، وأستنقذك به من عذاب مقيم. . . ألا فلتفكر فيما أقدمت عليه، فان من دونه مهالك، وإن من دونه نكالاً وأهوالاً. . .)
وتبسم أرفيوس بسمة حزينة، كانت رداً صامتاً على ما حذر شارون، ثم أعد قيثارته وانطلق يتغنى:
حملتُ جهنماً في بعضِ قلبي ... وفي بعضٍ جراحاتٍ فنونا
فان حذرتني نارا، فإني ... أحذر نارك الدمع الهتونا
سأطفئها به حتى تراها ... تُذرف مثله صبباً سخيناً
تخوفني لظاك وفي فؤادي ... لظي من جُننت بها جنونا
إذاً ما الحب إن لم يكتنفه ... غرام لا يؤود العاشقينا؟
لقد ذُقْتُ البِلى في دار عيشي ... أفي دار البِلى أخشى المنونا؟
وما يكاد يفرغ من هذه الزفرة الحارة، حتى تتحدر الدموع من عيني شارون، ويتقدم إليه معتذراً، فيحمله في الزورق، ويخوض به عباب تيكس، وما يكاد يفعل حتى يرى أرفيوس إلى تغيظ الموج وتلاطمه، فيسأل شارون عما يهيج النهر برغم سكون الريح، فيقول: (إنك، وأنت من أنت، من فوقه، سبب هياجه واصطخابه؛ ولو خُلي بينك وبينه لما أنجاك منه شيء حتى تكون في أعماقه!!) ولكن أرفيوس يبتسم ابتسامته الحزينة، ويتناول قيثارته(88/61)
فيوقع إحدى أناته المشجية، فيهدأ ستيكس الصاخب، وتصفو صفحته بين دهشة شارون وشدة تعجبه!
وتطول الرحلة، ويعبران (أشيرون) نهر العدم؛ و (لِيث) نهر النسيان، و (كوكيتوس) نهر الآلام، و (فليجتون) نهر الحمم واللهب، ويصلان آخر الأمر إلى (هيدز) - دار الموتى - ومملكة بلوتو، بعد عقبات وأهوال تغلبت عليها جميعاً قيثارة أرفيوس، بألحانها الرقيقة، وأنغامها الباكية
وتبدأ من هذا الشاطئالأخير رحلة شاقة في ظلام دامس وحلك شديد، في مسالك ملتوية، وشعاب متداخلة، لا تجدي معها موسيقى أرفيوس فتيلا؛ وهنا يبدو له أن يقصر هذا السفر الطويل بالسؤال عن يوريديس، كيف حملها شيرون في زورقه، وكيف عبر بها في هذه الفجاج إلى المقر الأخير، وهل كانت تبكي؟ أم كانت راضية بالقضاء الذي فصلها من أحب القلوب وأقصاها عن أعز الناس؟ وهل حدثته عن الشاب أرفيوس؟ أم كانت في شغل عن كل شيء بما هي فيه؟ وهل كل روح من أرواح الموتى تستغرق كل هذا الزمن في عبور أنهار هيدز وفيافيها؟ وهل تألمت يوريديس حين كانت تعبرها؟. . .
وكان شارون يجيب عن هذه الأسئلة المتتابعة إجابة مستفيضة حتى وصلا إلى بوابة كبيرة الحجم، تصل إلى قصر بلوتو!
ولكن كلباً ضارباً بادي النواجذ بارز الأنياب كان رابضاً عندها؛ فلما لمح أرفيوس، وهو من غير الأموات، هاج وماج، وتوثب يريد البطش بهذا اللاجئ الممنوع!
وتنبه أرفيوس، فحرك أوتار القيثارة، وتغنى على أوتارها ألحانه وآلامه؛ فثاب الكلب وهدأ، وبعد أن أقعى قليلاً، تقدم إلى الضيف الحبيب يلحس قدميه، ويتمسح به. . . ويا للموسيقى!
ثم هذا عرش بلوتو؛ وإلى جانبه زوجته الربيع، برسيفون كسيرة القلب مهيضة الجناح، تعلو أساريرها عبوسة قاتمة، وتجثم على قلبها لوعة دائمة. يا لبرسيفون! ويا لهذا المنفى السحيق!
ولشد ما دهش بلوتو حين بصر بهذا المخلوق الذي استطاع أن ينفذ إلى هيدز، وفيه رمق من حياة؛ بقضه وقضيضه، وعجزه وبجره!!(88/62)
وقبل أن ينبس بلوتو، جثا أرفيوس لدى قاعدة العرش، وطبع على الأرض قبلة كلها احترام ووقار، ثم تناول قيثارته، وطفق يتغنى بقصته المشجية، يرسلها خلال أنغامه الحزينة، وملء ألحانه اليتيمة. . . حتى أتمها
وكانت الموسيقى ممتزجة بالغناء الحلو والشعر السامي، قد تغلغلت في السويداء من قلبي الزوجين؛ وكانت الرنات، ممتزجة بالأنات؛ والهديل، ليس مثله هديل، قد أحدث أثره في نفسيهما، حتى أن دمعة مترقرقة شوهدت تنسكب على خد برسيفون!
وفي الحق، لقد هاجت قصة يوريديس شجون برسيفون، لما لحظت فيها من الوشائج بينها وبين قصة حياتها التعسة، في هذا الملك البغيض!
وانزعج بلوتو لمجرد وسواس لج في صدره، لما شاهد من تأثر زوجته، وانسكاب هذه العبرة الحزينة على خدها الشاحب؛ حتى لقد خيل إليه أن شياطين الحب قد قفزت من فم أرفيوس الخبيث، ومن موسيقاه الشاجنة، إلى قلبها الغض الصغير!
وقال بلوتو: (إنهض أيها الشاب، فوحق أورينوس لقد كدت تكون من الهالكين، لولا قصتك الباكية، وموسيقاك المبللة بالدموع. والآن، ماذا جاء بك هنا؟ وما الذي تطلب أن ينتهي إليك من إحسان بلوتو؟)
فركع أرفيوس ركعة التذلل والضراعة، ثم قال: (مولاي! يوريديس يا مولاي؟ تأمر فتعود أدراجها معي إلى الحياة الدنيا!)
فأجاب بلوتو: (طلبت المحال أيها العبد؛ ولكن بلوتو الكريم، لن يرد رجية بائس مثلك. لك ما سألت، وستعود يوريديس معك، ولكن على شريطة واحدة! ألا تراها حتى تخرج من هيدز. إنها ستتبعك، فلا تلتفت وراءك أو تغادر دار الموتى!)
وركع أرفيوس ركعة الشكر، ثم قال: (سأنفذ مشيئة مولاي.)
وأمر بلوتو فأحضرت روح يوريديس، وبدأت الرحلة إلى الدار الأولى، في ظلمات بعضها فوق بعض، والحبيبان يدلجان خبباً
وكان قلب أرفيوس يدق. . . . يدق
وإنهما ليكادان يبلغان العُدوة الأخيرة من نهر ستيكس، حتى يوجس أرفيوس خفية، ويظن - وباشر ما يظن - أن يوريديس قد ضلت سبيلها من ورائه، فينسي شرط بلوتو، ويلتفت(88/63)
فجأة خلفه، ليرى أنها ما تنفك تتبعه. ولكن يا للهول!
لقد رأى يوريديس باسطة ذراعيها إليه، كم يتلمس طريقه في الظلام؛ وحين تراه يلتفت إليها، فيخل بالشرط الذي عاهد ربها على تنفيذه، تنثني من لدنه راجعة أدراجها إلى هيدز. . . .
متمتمة في صوت ضعيف خافت: (وداعاً يا أرفيوس)! يا حبيبي أرفيوس. . . وداعاً. . .) فيصرخ المسكين صرخة يكون معها في هذه الحياة الدنيا، حياة الشقاء والآلام!!
ويظل على شاطئستيكس سبعة أيام مفجعاً محزوناً. . .
يحاول عبثاً أن يعود إلى هيدز. . ولكن. . . هيهات!
ويدخل الدنيا محطم القلب، خفق الأحشاء، موهون القوى. . لا يطيب له عيش، ولا يسيغ لذة من لذائذها. ويتخذ مأواه في شعاف جبل تزمزم الرياح في جنباته، وتزمجر الوحوش في غيرانه، وتدوي البواشق في قننه، ويكون كل أولئك خير صحابه، ويا ما أعز الرفاق!
وتلقاه نسوة من اعتدن التخلف إليه في أيامه المواضي؛ فيحتلن عليه ليعزف لهن من ألحانه؛ ولكنه يعزف عنهم ويشيح؛ ثم يفر منهن، فيقتفين أثره؛ فيمعن في الفرار، فيتضايقن، ويصمينه بسهامهن؛ ثم يرجمنه بالحصى المسوّم؛ والحجارة الثقال؛ حتى يموت!
ويسمعنه إذ هو يجود بروحه يقول: (يوريديس. . . يوريديس!)
فتردد الأصداء نداءه الحزين: (يوريديس. . يوريديس!)
وما تزال الأشجار والأطيار تهتف إلى اليوم هتاف موسيقارها المغبون: (يوريديس. . . يوريديس!)
وانطلقت روحه البريئة تعبر بدورها ستيكس، وأشيرون، وليث، وكوكيتوس، وفليجتون. . . فيتلقاه شارون الجبار باسما هاشاً محيياً. . . ويجلسان معاً في الزروق، يقصان ذكريات الماضي. . . القريب! ويتلقاه الكلب عند البوابة، فيهرول إليه، ويتمسح به، وفاء وذكرى! ويتلقاه بلوتو كذلك، فيهنئه بالعود. . . إذا كان العود أحمد!!
أما يوريديس. . . . .!
دريني خشبة(88/64)
البريد الأدبي
رسائل سفت بيف
صدرت أخيراً مجموعة من رسائل سنت بيف العامة، وهي قسم من رسائله التي لم تنشر، والتي تملأ نحو عشرة مجلدات، وتولى إصدارها مسيو جان بونرو مقرونة بمختلف الشروح والبيانات. ومسيو بونرو هو اليوم أعرف الناس بسانت بيف وتراثه الأدبي. ويكفي أن نعرف سانت بيف بكلمة، هي أنه أستاذ النقد في الأدب الفرنسي، ويعتبره بعضهم إمام النقد في جميع الآداب والعصور وتشمل هذه المجموعة الأولى رسائله العامة بين سنتي 1818 و 1835، وهو بالنسبة لسنت بيف عهد التكوين الأول منذ مقدمه إلى باريس صبياً في الخامسة عشرة حتى التحاقه بتحرير مجلة (العالمين) وتوليه باب النقد فيها. وفي هذه الفترة الحافلة درس سنت بيف الطب، وبرز في الصحافة، ونشر كتابه عن الشعر الفرنسي في القرن السادس عشر، وأنجز قسماً عظيماً من رسائله النقدية، وأخرج كتابه عن شعر يوسف ديلورم وروايته (الهيام)، ثم تطورت حياته الأدبية واستقرت حول النقد الأدبي. وفي هذا العهد أيضاً تعرف سنت بيف بأقطاب الأدب في عصره مثل دي فيني ولامرتين وهوجو وبيرانجيه وشاتو بريان، ولكن العلائق الودية لم تطل كثيراً بينه وبين أحد منهم، لأن مهمته كناقد أدبي، وتوغله في ذلك الميدان وصرامته وحدة قلمه، لم تفسح مجالاً لمثل هذه الصداقة الخاصة، وهنا تلقى رسائل سنت بيف أكبر ضوء على هذه العلائق والصداقات، وتبين لنا إلى أي حد كان النقادة الأشهر حريصاً على رأيه واستقلاله؛ بيد أنها تكشف عن ناحية أخرى من صفات سنت بيف، فهو لم يكن رقيق الطبع، ولم تكن روحه ترتفع إلى مستوى ذهنه من السمو والصقل؛ والواقع أن هذه الرسائل الخاصة ليست مما يؤيد عظمة سنت بيف، وإن كانت تفسر لنا كثيراً من خواص روحه المعقدة، ففيها يبدو لنا قليل اكرم، قليل الصراحة، مسرفاً في الحقد؛ ولعله لم يكن لينفذ إلى فكر الغير ومواهبه وأسراره إلا لأنه كان كثير الحقد والبغض ولئن كان سنت بيف بديعاً لا يجار في تصويره وتحليله للقدماء، فان أحكامه على معظم معاصريه كانت تتأثر في الغالب بعواطفه الشخصية، وليس أدل على ذلك من قسوته في الحكم على الفرد دي فيني، وبلزاك، وشاتوبريان، ولامرتين(88/65)
ذلك أن سنت بيف كان نكد الروح، وقد كان قبيح الهيئة، وكان في حاجة لأن يحب، وكان رقيق الحاسة، معقد العواطف، ولم يلق نجاحاً في الحب ولا في المكتبة كشاعر وكاتب وقصصي، هذا بينما كانت تحيط به عبقريات سعيدة، محققة الأماني والرغبات، تغنم كتبها تأييد الجمهور. ويروي أنه قال ذات يوم إذ يشاد أمامه بعبقرية دوموسيه: (لست أقل شعرية منه). ولم يكن سنت بيف يجهل معايبه، بل كان يفطن إليها ويشقي بها، بيد أنه يجب أن نعترف بأنه كان يسمو دائماً بمثله الأعلى كناقد ومؤرخ للآداب، وأنه لم يكن يدخر وسعاً في خدمة هذا المثل بإخلاص، وهذا هو السر في عظمة تراثه الخالد
ولعل أهم ما تفصح عنه هذه الرسائل الجديدة لسنت بيف هو علاقته مع فكتور هوجو؛ وقد اتخذت تلك العلائق صورة مأساة حقيقية. والمأساة معروفة؛ ولكن الرسائل تلقي عليها ضوءاً جديداً. وخلاصته أن سنت بيف وهوجو جمعتهما منذ سنة 1827 مدى ثلاثة أعوام صداقة خالصة لم تشبها شائبة، ولكن سنت بيف تغير فجأة. ذلك أنه شعر أنه يهوى امرأة صديقه؛ وهنالك رسالة عجيبة تفصح عن حالة سنت بيف النفسية في أوائل سنة 1830، وهي رسالة عنيفة صارمة ينذر فيها سنت بيف بأنه لن يكتب عن رواية (هرناني) التي ستمثل يومئذ، (وهرناني من تأليف هوجو)، وأنه لم يعد يحتمل جو الصداقة والشاعرية الذي يعيش فيه مع أصدقائه مذ تظاهر هوجو بأنه زعيم مدرسة، وغص منزله بالمعجبين والأنصار حتى أصبح مكاناً عاماً، والظاهر أنه قد وقعت بين الصديقين على أثر ذلك محادثة اعترف فيها سنت بيف لصديقه بأنه يحب زوجه. وقد كان هوجو في تلك المسألة جواداً كريم النفس، فاستقبل هجر صديقه بأدب، مؤكداً له أنه سيلقي فيه دائماً أخاً وصديقاً. واعتكف سنت بيف مستسلماً إلى الحقد والأسف والغيرة، مصوباً سهمه لكل من لقيه في طريقه؛ وعكف هوجو على مكاتبته، يعزيه وبروح عنه؛ ومضت ثلاثة أعوام، وسنت بيف ماض في طريقه، وكلما التقى الرجلان آنسا تلك المرارة التي غشيت صداقتهما؛ وأخيراً ألقى سنت بيف قناعه، وأعلن الخصومة على صديقه، فإستسلم هوجو للقدر. ولكن الذي لم يكن يعلمه هو أن زوجته كانت تثابر خفية على رؤية سنت بيف في الأماكن المهجورة، كالكنائس وغيرها، وكانت تتنزه معه في عربة. وما يزال التاريخ يتساءل: هل كانت أديل هوجو زوجاً خائنة؟ والرأي المرجح هو أن أديل كانت تبادل سنت بيف حبه، ولا سيما منذ(88/66)
سنة 1832، أي مذ غدا زوجها عاشقاً لجولييت درديه. وقد ضاعت رسائل أديل لسنت بيف، ولكن سنت بيف كان يحتفظ بصور بعضها؛ وفيها تتحدث أديل عن حبهما. ولقد أيد لوي بارتو في كتابه (غرام شاعر) زلة أديل ودلل عليها
وإن في رسائل هوجو مع ذلك ما يدعو حقاً إلى التأثر، فقد لبث يجهل كل شيء مدى أعوام، وتطبع رسائله إلى سنت بيف بساطة وثقة ومودة مؤثرة، فلما ظهرت الحقيقة ووقعت الفضيحة كانت شديدة على نفسه، ومع ذلك فان أديل هوجو لبثت حيناً بعد ذلك ترى سنت بيف وتحاول أن توفق بين الصديقين القديمين، وذلك شاهد في رأى البعض على براءة أديل وطهرها. أكانت تسعى إلى مثل هذا الوفاق لو كانت امرأة خؤوناً؟
(ملخصة عن أميل هريو في الطان)
للحقيقة والتاريخ
قرأت في العدد 84 من مجلة الرسالة الغراء مقالاً للكاتب العبقري الدكتور عبد الوهاب عزام سجل فيه مجلساً من مجالس العلامة الواعية الشيخ الخالدي يذكرنا بالأماني القيمة التي كان يلقيها فطاحل علماء الإسلام في عصور مدنيته الزاهرة
وقد لاحظنا في هذا المقال ملاحظتين بسيطتين أجببنا ألا يفوت قراء الرسالة التنبه إليهما
(1) لما عدد الشيخ دور العلم العظيمة بالمغرب وذكر جامع القرويين بفاس قال: (إن الذي أسسه هو مولاي إدريس الأصغر) والحقيقة أن بناء القرويين كان بعد وفاة المولى إدريس باثنين وثلاثين سنة إذ شرع في بنائه يوم السبت من شهر رمضان عام خمسة وأربعين ومائتين، والمولى إدريس الأصغر توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين وكان ذلك في عهد يحيى بن محمد بن إدريس والقائمة بتأسيسه هي السيدة (أم البنين) فاطمة بنت محمد بن أبي بكر الفهري قدم والدها من القيروان لفاس وتوفي بها وخلف ابنتين فاطمة هذه وأختها مريم، وأورثهما مالاً كثيراً صرفت فاطمة حظها منه في بناء القرويين، وفعلت مريم مثل ذلك فأسست مسجد الأندلس الذي يعتبر من المساجد العتيقة بفاس
(2) ذكر الشيخ حين نسب كتاب (جذوة الاقتباس) لأبن القاضي أنه فشتالي (من فشتالة على نهر ورغة) والمعروف أن مؤلف الجذوة (ابن القاضي) من أولاد ابن أبي العافية(88/67)
المكناسيين، نسبه لذلك جميع من ترجم له ممن وقفنا عليه، بل هو نفسه انتسب إليهم في كتابه لما ترجم لموسى بن أبي العافية أمير مكناسة بعد أن تبرأ من أفعاله مع الأشراف ونص الغرض من كلامه: (ونسبتنا نحن هي إلى هذا الرجل أعني موسى بن أبي العافية والله أعلم، لكن فعله الذي كان منه لأهل البيت لا أرضاه. . . . . الخ)
أما كتاب الشريف الكتاني فلا يسمى بالجذوة بل هو (سلولة الأنفاس فيمن أقبر بفاس) وهو للسيد محمد بن جعفر الكتاني الشهير برحلته إلى الشام وإقامته بها والمتوفى بالمغرب منذ بضع سنين
فاس
محمد علال الفاسي
مجلة الثقافة الإسلامية في إسبانيا
قالت جريدة (المانشستر غارديان) أن المستر مارماديوك بكثول اعتزل خدمة نظام حيدر أباد وفي نيته أن يعيش في إسبانيا حيث يواصل تحرير مجلة تصدر كل ثلاثة أشهر تسمى (الثقافة الإسلامية) صدرت منذ عشر سنوات
والمستر بكثول شاعر له مؤلفات كثيرة عن الشرق وكان يعمل في وزارة المعارف في حيدر أباد. وقد درس أخلاق الشعوب الشرقية فأقام عاماً في جبل الدروز وتعلم العربية. ومال إلى أفكار بعض الشرقيين ودرس عيشة الوطنيين في مصر وله فيها أعمال قام بها في مستهل هذا القرن لا تزال سراً من الأسرار
مؤتمر نادي القلم الدولي
من أنباء إسبانيا أن الاستعداد يجري في مدينة برشلونة عاصمة قطلونيا لعقد المؤتمر الثالث عشر لنادي القلم العالمي. وسيعقد هذا المؤتمر لمدة ستة أيام بين 20 و25 مايو القادم. وسيشهده مندوبون من مراكز القلم في أنحاء العالم. وقد أعد برنامج حافل للأعمال الداخلية، ومختلف الحفلات والاستقبالات والرحلات(88/68)
من هنا ومن هناك
العلم والسياسة
كثر حديث الصحف البلجيكية والفرنسية أخيراً عن نظريات العلامة الاقتصادي البلجيكي هنري دي مان؛ ويعتبر هذا العلامة من أقطاب الاقتصاد السياسي في العالم، وكان إلى ما قبل عامين يتولى تدريس الاقتصاد السياسي في بعض الجامعات الألمانية، ولكنه عزل منذ قيام الحكومة الهتلرية؛ فعاد إلى وطنه يبشر بنظرية جديدة في السياسة؛ خلاصة رأي دي مان أن السياسة الدولية الحاضرة تقوم على الاقتصاد، وأن الأزمة الاقتصادية هي في الواقع أساس كل الانقلابات السياسية العنيفة التي وقعت في العهد الأخير؛ ولم يكن قيام الفاشستية في إيطاليا، وقيام الهتلرية في ألمانيا إلا من أثر الأزمة الاقتصادية؛ وليس هناك وسيلة لحماية النظم الديموقراطية ومقاومة الطغيان أفضل من ترقية الاقتصاد القومي ومقاومة الأزمات الاقتصادية. ولنظريات هنري مان أثر كبير في بلجيكا، وله نفوذ عظيم في الأوساط الاشتراكية والديموقراطية
جوكي يصبح شاعراً
أزيح الستار في وستمنستر مؤخراً بحضور الدوق أوف يورك عن النصب التذكاري الذي أقيم تخليداً لذكرى لندساي جوردن شاعر استراليا القومي
وقد أسهبت الصحف والمجلات بهذه المناسبة في الكلام عن حياة هذا الشاعر، الذي أسندت إليه أمارة الشعر في أوستراليا بعد موته وبعد حياة عجيبة حافلة بالمغامرات
ولد لندساي في سنة 1833 والتحق في شبابه بالمدرسة الحربية في (ودلريتش) وهناك عرف شارلوس غوردون الذي عرف فيما بعد باسم غوردون باشا
وأغرم لندساي بالألعاب الرياضية، وامتاز في مباريات الملاكمة والسباق وركوب الخيل، وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره ركب أحد جياد السباق واشترك به في إحدى المباريات على الرغم من أنف صاحب الجواد، وفاز بالجائزة الأولى، ولكن صاحب الجواد كان قد أبلغ الشرطة فألقى البوليس القبض عليه وكانت المدرسة الحربية قد ردته، وضاق أبوه به ذراعاً، فرحل إلى أوستراليا؛ ومع أنه كان مزوداً بخطاب توصية إلى حاكم أوستراليا الجنوبية إلا أنه لم يستغل هذا الخطاب، وانضم إلى فرقة البوليس الراكب؛ ولكن(88/69)
حدث في أحد الأيام أن طلب إليه ضابطه أن ينظف حذاءه، فغضب لندساي واعتقد أنه أهين فترك خدمة البوليس واشتغل (جوكياً) واشترك في كثير من المباريات، وسقط عن ظهر جواده مراراً وأصيب برضوض أقعدته عن العمل مدة
وفي سنة 1864 توفي أبوه، فورث عنه بضعة آلاف من الجنيهات. وتزوج بابنة فندقي كانت قد عنيت به في مرضه
وفي هذه الأثناء اشتغل لندساي بقرض الشعر، ونشر ديوانه في سنة 1867، ولكن الديوان لم يلق رواجاً، ولم يبع منه أكثر من مائة نسخة، فغضب لندساي على الشعر كما غضب قبلاً على خدمة البوليس
وفي سنة 1870 كان لندساي يعاني أزمة شديدة، لأن المرض أقعده عن ركوب الجياد، وماتت ابنته الوحيدة وضاقت الدنيا في وجهه. فقصد إلى غاب قريب، وهناك أطلق الرصاص على نفسه فمات منتحراً وهو لا يزال في السابعة والثلاثين من عمره. ولم يشترك في تشيع جنازته غير بضعة أفراد
ولم تكد جثته توارى في التراب حتى شرع بعض الأدباء في استعراض قصائده. وما لبثت أوستراليا أن وجدت فيه شاعرها القومي. ولا يوجد الآن تلميذ في مدارس أوستراليا لا يحفظ عن ظهر قلبه قصيدته المشهورة (الفارس المريض)
(الجريدة السورية اللبنانية)
ذكرى علامة ألماني
احتفل المعهد العلمي الألماني أخيراً بذكرى العلامة المخترع فرتز هابر الذي توفي منذ نحو عام في برلين، ودفن في صمت مطبق. ولهذا الاحتفال الذي يقيمه اعظم معهد علمي في ألمانيا، يجمع أقطاب العلم الألماني كله، مغزى مدهش. ذلك أن فرتز هابر يهودي تنكره ألمانيا الهتلريه، وتنكر كل جنسه، ولكن فرتز هابر هو أيضا اعظم كيماوي ومخترع ألماني ظهر في العصر الأخير، وهو الذي اخترع (غاز) الحرب الخانق، أمد ألمانيا خلال الحرب بأعظم سلاح استطاعت أن تصمد به لخصومها أعواماً، وقد لبث هابر عميد المباحث الكيماوية الألمانية حتى قام الطغيان الهتلري في ألمانيا، ونظمت مطاردة اليهود المعروفة،(88/70)
فاعتكف العلامة الشيخ في شبه اعتقال، وتوفي بعيداً عن كل تكريم وضجة، ولكن ألمانيا الهتلرية تحاول اليوم أن تعيد صرح العسكرية البروسية القديمة، وهي لا ترى اليوم بأساً من أن تكرم ذكرى قطب من أقطاب الاختراعات الحربية، ولا بأس أن يجمتع أكابر العلماء الألمان برغم النظريات الجنسية لتكريم زميلهم وعميدهم الراحل الذي استطاع أن يستخرج (الآزوت) من الهواء، وأن يخترع (غاز) الحرب، وكذلك أقنعة النجاة الواقية من الغاز؛ وخطب عدة من أكابر العلماء بينهم بعض الرجال الرسميين في تمجيد ذكرى العلامة الراحل وذكرى وطنيته ونبوغه؛ وأكد العلامة بلانك والكولونل كيرث أن فرتز هابر يستحق لقب (العالم المجهول) وأنه لولا اختراعاته لما استطاعت ألمانيا أن تتابع الحرب منذ سنة 1915، وذكر الخطباء كيف وفق هابر إلى اختراع (الغاز) في أبريل سنة 1915 وأشرف بنفسه على أول هجوم استعمل فيه الغاز في منطقة (ايبر)؛ وأنه لو تقتصد ألمانيا في حرب (الغاز) لكان ظفرها في الحرب مرجحاً
ومع أن السلطات الرسمية صرحت بإقامة هذا الاحتفال، فإنها حظرت على الصحف أن تنشر عنه شيئاً؛ ولم يعرف إلا مما نشرته الصحف الأجنبية لمراسليها
وهكذا تعيش ألمانيا النازية في غمر من المتناقضات!
بعثة أثرية في الهند تعثر على اكتشاف غريب
عثرت بعثة أثرية إنجليزية في الهند على آثار قديمة يرجع عهدها إلى خمسة آلاف سنة. وقد تضاربت الآراء في هذه الاكتشافات الغربية التي وجدها هؤلاء إذ أنها تتألف من تماثيل متباينة الأشكال والأوصاف
فقد وجد رجال البعثة فيما وجوده قاعتين كبيرتين تحت سطح الأرض امتلأت الأولى بهياكل شبان طوال القامة، والثانية بهياكل متلاصقة الأجسام من رجال ونساء. فحار المكتشفون في هذه الهياكل وظلوا ينقبون ويعلمون حتى عثروا على لوحات كتبها المؤرخون القدماء أماطت اللثام عن سر الغرفتين الذي يعد في التاريخ أبرز حادث للتبذل والقساوة
وهذه اللوحات تشير إلى كاهنة شابة تدعى (لبيسوبامو) كانت تتمتع بنفوذ الملوك والملكات. وهذه الكاهنة كانت محبوبة من الشعب ومقدسة منه(88/71)
ولكن حدث لسوء الحظ أنها أحبت شاباً من عامة الشعب فحنق أخوها على هذا الشاب وقتله. وغضبت الكاهنة وتبدلت أخلاقها واستحالت من فتاة محتشمة إلى امرأة متبذلة؛ وصارحت أخاها الذي قتل عشيقها الأول دفاعاً عن عرضها بأنها ستقدم نفسها إلى كل عابر، وأنها ستحب الرجال جميعاً وتنتقم منهم جميعاً
ومضت الكاهنة في حياة التبذل حتى أصبحت فضائحها حديث الناس. وعندئذ خطر لها أن تلتمس الحصانة بإيهام الناس أنها ارتفعت إلى مصاف الآلهة. ونجحت في ذلك، ولم تذكر لنا اللوحات كيف نجحت
ضمت الكاهنة إليها عدداً كبيراً من أجمل البنات أطلقت عليهن اسم (حاشية العذارى) واشترطت عليهن أن يحذين حذوها في التغرير بالرجال والتنكيل بهم، وتوعدت بالموت كل فتاة تحب رجلاً وتخلص له
وهكذا كانت الفتيات يرتدين الغلائل الرقيقة التي تكشف عن تقاطيعهن الجميلة وينطلقن في شوارع المدينة ليلاً لاصطياد الفتيان، ثم يعدن بهم إلى القصر حيث يقضي الجميع الليل كله في التبذل واحتساء الخمر وتعاطي الأفيون حتى إذا أقبل الفجر وضعت كل فتاة في كاس فتاها قطرة من سم عجيب لا تذكر بجانبه سموم يورجيا ودي مدسيس، وبعدئذ يأتي العبيد فيحملون الرجال إلى غرفة خاصة يقضون فيها نحبهم قبل أن يفيقوا من نشوة الخمر
وكان يتفق في بعض الأحيان أن تحب الفتاة أحد أولئك الرجال فتؤثر أن تموت معه، وتضع السم في كأسها وكأسه، فيحمل العبيد الاثنين إلى الغرفة الثانية الخاصة بالعاشقين
ولم تذكر اللوحات التي عثر عليها رجال البعثة كيف كانت خاتمة تلك الكاهنة المتألمة المبتذلة
(الأرز)(88/72)
من روائع الشرق والغرب
من (شقائق الطور)
لشاعر الهند محمد إقبال
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
أيها الفاضل لا تخيم على الساحل. فهناك نغم الحياة واهنة. اقذف بنفسك في اليم وتقلب مع أمواجه، فالحياة الخالدة في هذا الجِلاد
لا تحدث بالحياة وحقائقها، فليست بصيرا بطرائقها. لقد انتشيتُ من لذة الأسفار، حتى لا أرى المنزل على الطريق إلا كالمنار
إن عالمنا الذي لا يُحد غريق في بحر الأيام، فانظر إلى القلب لترى الأيام غرقي في هذا الجام
أنا نجى طير المروج الخضراء، وأنا لسان البراعيم الخرساء، فإذا مت فاذرُ ترابي في الصبا، فلستُ أعرف إلا الطواف حول الورد
أُيظهر وادي الأزهار هذا كل كائن؟ فما الذي في ضمائر الشقائق المحترقة؟ نحن نرى المرج موجة من اللون والريح، فليت شعري ما المرج في نظر البلابل؟
أيها الغِر أنت ابن الإسلام، فاهجر الأنساب والألوان. إذا فخر العربي باللون والدم، والعصب والجلد، فليس منا ولسنا منه
لسنا من الأفغان ولا الترك والتتار؛ نحن بنو هذا المرج، نمتنا دوحة واحدة. إن فُرقة اللون والريح علينا حرام فقد أنبتنا ربيع واحد
لماذا تسألني ما أنا ومن أين أتيت؟ أنا ابن نفسي منذ حييت. أنا في هذا اليم موج لا يستقر، فإذا لم أتقلب على نفسي فنيت أنا في هذا اليم موج لا يستقر، فإذا لم أتقلب على نفسي فنيت
إن عالمنا صورة ناقصة، يتقلب بها الصباح والمساء. أعني أن مبرد القضاء يسوي هذه الدمية التي لم تتم
شق طريقك بفأسك، فالعذاب أن تسلك سبيل غيرك، إن أبدعت يدك عملا، فهو ثواب وإن(88/73)
كان إثما
إن دليل القلب لا يطمئن إلى المنازل، ولا تأسره العناصر. لا تحسبنه مستريحاً في البدن، فهذا البحر لا يألف السواحل
أخذت خلوتي بين الماء والطين، وفررت من الفارابي وأفلاطون. ما اجتديت من أحد عينا، وما رأيت العالم إلا بعيني
أيها القلب خذ رمز الحياة عن البراعم، فالحقيقة في مجازها متجلية! إنها تنبت من التراب المظلم، ولكن نظراتها أشعة الشمس
عبد الوهاب عزام(88/74)
الوحدة '
لشاعر الحب والجمال لامرتين
مهداة إلى الأستاذ. . . أحمد حسن الزيات
لدى سرْحة من فوق قلة شاهق ... جلست شريد الفكر منشعب القلب
يشيِّع طرفي الشمس عند دلوكها ... ويرقب من تلك المشاهد ما يصبي
إذِ النهر صخابٌ تلاطم موجه! ... قد انساب في الوادي فأمعن في الشِّعب
وإذْ طرفُ أمواج البحيرة راقدٌ ... تراءى نجوم الليل في غمرها الرحب
وما زال ذوبُ التبر بعد غروبها ... يُنير أعالي الدوْح فوق ذرى الهضْبِ
وراح مليك الليل يختال صاعداً ... إلى عرشه العلوي في رفرفٍ رطب
وفي جنبات الأرض تبر مشعشع ... به ازدهر الأفق الجميل من السكب
وقد رنَّ في الأجواء ناقوس معبدٍ ... رنيناً يهز القلب في البعد والقرب
فكف عن الأعمال فلاح قريةٍ. . .! ... وقد وقف الغادون من خشية الرب
قد اختلطت تلك الأرانين بالذي ... تبقى من الضوضاء في يومنا المُصبي
ولكن نفسي من مباهج ما رأتْ ... من المنظر الفتان خلو من الحب!!
أجل! كانت الدنيا بعيني كأنها ... خيالٌ مطيفٌ لا يقر على هُدْب
وهل تدفئ الموتى من الشمس شعلة ... تشع على الأحياء في السهل والكُثب؟
اقلب طرفي في الجبال وفي الربى ... وفي الشفق الباكي من الشرق للغرب!!
وفي القفر، والمأهول، في غسق الدجا ... لأنفض ما فيها؛ فابلغ من إربى
عسى أن أرى لي في محلٍ سعادةً ... ولست بلاق أو أغيب في الترب
وما تصنع الوديان لي، وجواسق ... على السفح بل تلك القصور التي تصبي
إذا هي لا تبدو لعيني جميلة. . . . ... ولا سحرها ينفي بفتنته كربى!!!
ألا يا مغاني الأنس أنت عزيزة ... على، ولكن قد خلوتن من حِبي
لغيبة مخلوق مدى الدهر واحد ... أراكن قفراً في عيوني، وفي قلبي
سواء أتبدو الشمس أم هي تختفي ... وتصحو سماء. . أم تلَفَّعٌ بالسحب
ويظلم ليل. . أم ينير صباحه ... ويسعد أو يشقي أنيس مع السرب(88/75)
فليس لنفسي في نهاري بغية ... ولا في غدي مادمت أحيا بلالب
ولست أرى إذا أتبع الشمس ناظري ... تدور على الأكوان في أفقها الرحب
أجل لا أرى إلا فراغاً وخلوةً ... لنأى حبيب ليس يلفي لدى الترب
وما حاجتي فيمن تظلله السما ... ومن تحت نور الشمس يهتز كالقضْب
وخلف مدار الشمس مدارها ... على عالم أسمي تمنع بالحجب. .!
فلو أن نفسي أطلقت من قيودها ... لألفت حبيب القلب يحيا مع الشهب
فأسعد باللقيا، وأنعم بالمنى ... وأحسو رحيق الخلد من ريقها العذب
لدى مُتع لم تهف يوماً بمسمع ... ولا خطرت في فكر ذي شغف صب
وأنّى لنفسي أن تطير فنلتقي. . . ... وقد قُيدت من حمأة الطين بالجذب
فياليت شعري لِمْ قضى الله أن أرى ... شريداً، وخلى ليس ينعشه قربي
إذا ما ذوت أوراق دوح بمرجها ... وأسلمها قر الخريف إلى السَّلب
وهبَّت من القطب الرياح زعازعاً ... عليها فألقتها أباديد في الترب
وحالي شبيه في حياتي بحالها ... فياويح نفسي من زعازعها النكب
إلا فانثريني يا أعاصير مثلما ... نثرت من الأوراق في جوك الرحب
فما بعد هذا الصبح إلا دجنَّة ... وما بعد يأسي وانفرادي سوى خطبي
دير الزور
عبد الجبار الرجبي(88/76)
الكتب
علم الدولة: تأليف الأستاذ احمد وفيق
أبو تمام: تأليف عمر فروخ
للأستاذ محمود الخفيف
أما أولهما وهو علم الدولة، فهو الجزء الثاني من تلك الموسوعة الكبيرة التي اضطلع بتأليفها وإهدائها إلى لغة الضاد الأستاذ أحمد وفيق؛ ولعل القراء يذكرون أني حين قدمت إليهم الجزء الأول منها أشرت إلى خطر هذا المؤلف الجليل لمصر والعالم الشرقي، ولا سيما في هذا العصر الذي تشغل السياسة فيه عقول بني الشرق في توثبهم وتطلعهم إلى الحرية
ومما نغتبط له بحق، وقد طال افتقارنا في نهضتنا العلمية إلى هذه الناحية من نواحي المعرفة، أن الأستاذ قد جرى في هذا المؤلف على طريقة البسط والعرض تعقبهما المناقشة والتحليل؛ فهو يستوعب هذا العلم ويلم بأطرافه، لا يغادر شيئاً مما قيل فيه، فضلاً عن أنه يسير في سرده مع التاريخ فينقلك من عصر إلى عصر ويريك مبلغ ما طرأ على نظريات هذا العلم من تطور حسبما مرت فيه من عصور. وهو إلى جانب هذا يقف عند كل نظرية مبنياً لك ما دار حولها من المناقشات ومقدار ما لاقت من تأييد أو تفنيد
أقول إن هذه الطريقة التي سار عليها الأستاذ المؤلف هي ميزة الكتاب الأساسية، وإن كان في القراء سواي من قد يعيبها، إذ يستحضر في ذهنه تلك الكتب التي وضعت في هذا العلم في غير لغتنا وكان قوامها التخصص والاستقصاء والتعمق، فالعالم هناك يتناول ناحية خاصة من جزيئات العلم ويعرضها في تحليل ودقة وتقصّ، مما يفتق الذهن ويرهفه ويلذه، ولكننا الآن أو على الأقل كثرتنا، لم تتعد بعد مرحلة الإلمام والاستيعاب. وخير ما يعمله المؤلف في هذه الحالة أن يعرفك إلى العلم، حتى إذا تم لك ذلك أمكنك أن تتابع فيه من يتفلسف ويتقصى
وقف الجزء الأول من هذا الكتاب عن عهد الإصلاح، فابتدأ به الجزء الثاني الذي أحدثك عنه، واختتم بالثورة الفرنسية، وهي فترة لذيذة ممتعة بما تخللها من مواقف وحوادث كان(88/77)
لها أعظم الأثر في تطور فكرة الدولة؛ وحسبك من تلك الحوادث الثورة الفرنسية الكبرى، وما مهد لها به كبار الفلاسفة من آراء في هذا الموضوع الخطير
هذا ولقد ارتحت كثيراً إلى أسلوب الأستاذ وفيق لملاءمته لطريقته، فهو يتدفق من غير التواء ولا تعقيد، ويتبسط في غير حشو ولا إسفاف
والكتاب الثاني عبارة عن رسالة صغيرة موضوعها أبو تمام، شاعر الخليفة محمد المعتصم بالله، ويقع في مائة صفحة من القطع الصغير، صدره مؤلفه الأديب عمر فروخ بصورة خيالية للشاعر بريشته، وهو على صغر حجمه، قد جمع كثيراً مما يهم كل أديب معرفته عن أبي تمام، ولقد كان صاحبه موفقاً في تقسيم موضوعه، فابتدأ بالترجمة مبيناً حياة الشاعر عهداً عهدا، ولا يخفى على القارئ أثر ذلك في المساعدة على تفهم شعره. بعد ذلك أخذ يشرح خصائص أبي تمام وما امتاز به من غيره، وعرض أقوال المخالفين له والمعجبين به، ثم ختم بحثه بنقد فنون الشاعر، جاريا في ذلك وفق ما اصطلح عليه النقاد، دون أن يحول ذلك بين إدلائه برأيه في دقة وإنصاف جديرين بالثناء، فأفاض في نقد مدح أبي تمام وموقفه من ممدوحيه، ثم بسط طريقته في الرثاء ومكانته في هذا الباب، وتعرض لمقدرته في الوصف مستشهدا في ذلك كله بأبياته المشهورة محللاً لها مبينا رأيه فيها مما يشهد للمؤلف بحسن الذوق، ويكسب رسالته على الرغم من صغرها كثيرا من الثناء والتقدير
الخفيف(88/78)
العدد 89 - بتاريخ: 18 - 03 - 1935(/)
بلاد الشكوى!
للأستاذ عبد العزيز البشري
لقد تحدثك نفسك يوماً بأن تتعرف الصفة التي تميّز مصر من بين بلاد العالم، والتي إذا أُطلقت انطلقت من فورها إليها دون أقطار الأرض جميعا. وإن مما لا يعتريه الشك أنه ما من أمة إلا ولها خاصية تستقل بها عن كل ما عداها من الأمم، لا يشركها فيها غيرها ولا يتصف بها سواها، وهذه الخاصية لقد تتصل بالأخلاق والعادات والتقاليد، ولقد تتصل بالتأريخ، ولقد تتعلق بالتصرف في سبب من أسباب الحياة، أو بالاستئثار والتبريز في فن من الفنون، أو بغير ذلك من وجوه الفروق المختلفة بين أصناف الناس فإذا قدر المستحيل، أو قدر النادر الذي يجاور المستحيل، ولم تتفرد إحدى الأمم بما يشخصها من تلك الأسباب الكثيرة، فلا أقل من أن تختص في طبيعة أرضها وسمائها، وجوهها ومناخها، بما يحقق لها هذا المعنى حتى يتسق لها هذا الوجود الخاص فلا تختلط بغيرها من العالمين. وتلك من سنن الكون التي لا ينشز عليها خلق من الكائنات أبدا!
ونعود فنفرض أنه لقد تحدثك نفسك بتعرف هده الخاصية التي تتفرد بها مصر دون سائر أمم الأرض. ولعل أول ما ينحط عليه ظنك أنها بلاد زراعية طوعاً لسخاء أرضها بألوان الغلات، ومهارة سواد سكانها في فنون الزراعة وفلح الأرض وحسن تعهدها، واستنباتها على خير الوجوه. إلى أن أهلها، في الجملة، لا يتكئون على سبب من أسباب العيش التي يتكئ عليها كثير غيرهم، كالتجارة، والصناعة، وصيد البحر أو البر، فإذا هي عالجت شيئاً من هذا فإنما تعالجه بالقدر الذي ينتظمها في مؤخرات الصفوف! إذا ميزتها بأنها أمة زراعية، فالأمم الزراعية في العالم كثير!
ثم إنها ليس لها حظ مذكور من علم، ولا من فن، ولا من قوة بدنية، ولا من امتياز في كفاية حربية، ولعل هذا يرجع إلى ظروفها التي لا خيار لها فيها لا إلى طبيعة أبنائها، فالمصريّ معروف بالشجاعة في الحرب، وطول الصبر فيها، وشدة الجلد عليها من قديم الزمان. ومهما يكن من شئ فليس لمصر الآن حظ مذكور في شيء من تلك الأشياء، فضلاً عن أن يكون لها به تفرّد واستئثار، بحيث إذا أطلقت صفته عرف الناس أن مصر هي المقصود به دون سائر البلاد.(89/1)
ولقد تطلب هذه المزية في تاريخ مصر القديم، وحضارتها التالدة، وما سلف لها من مجد ما برح يثقل مناكب التاريخ. ألا فاعلم أن مصر لا تستأثر بهذا ولا تستقل به، فهذه الصين لها حضارة لعلها اقدم من حضارة مصر، وهذه أمة اليونان وما أدراك ما حضارة اليونان، وعلومها، وفلسفتها، وفنونها، وعظمتها الحربية. ومجدها الذي طاول السماء. فانظر إلى ما صارت عليه الآن، وكيف تغّير لها وجه الزمان!
وهذه أمم قد كانت لها حضارات فخمة، وكانت لها قوة لا تعد لها قوة، وسطوة في أمم الأرض دونها كل سطوة، فدارت عليها رحى الزمان حتى طحنتها طحناً، وأحالتها في الخلق عِهنا، ثم ذرتها في الهواء، ولم يصبح لها من الآثار، إلاّ ما قيدت الصحف من مأثور الأخبار. وأين منا الآن فينيقيا وأشور وبابل وغيرها من دول لم يدرك شأنها شان، ولم يدان سلطانها في الأرض سلطان!. ومهما يكن من شيء فالوصف بعظمة الماضي، وجلالة التاريخ، وفخامة المجد التليد، ليس مما يجدي المصريين في هذا الباب ولا يفيد!
أرجوك يا سيدي الطلعة إلا تجهد بطول البحث والتحري، وشدة الفحص والتقري، فانك، في الغاية، لن تخرج بشيء من هذه المظان التي ترجو أن توافقك فيها طلبتك، ولن تصيب لمصر في هذه الأيام من الصفات ما يقع عليها على جهة التعيين، ولو فتشت نجوم السماء، ونقضت كل ما على ظهر الأرض من الحصباء!
على أنني متبرع، لوجه الفضول وشهوة التطلع، بان أهديك إلى الخلة التي تختص بها مصر في هذا الزمان وتستأثر، بحيث لا يشاركها فيها مشارك، ولا ينازعها عليها منازع. وبحيث لو حشُرت الخلائق كلها في صعيد واحد؛ وبعث معهم كل من لحقهم الدثور، وجميع من غيبتهم القبور، ومن نهشتهم وحوش البر، وسباع الطير، والتقمتهم الحيتان في جوف البحر، من مهلك عاد وثمود؛ ومقتل أصحاب الخدود، وصحت فيهم أي الأمم ألان صفتها كيت؟ لأجابوك في نفس واحد: هي مصر!
وهذه الخلة التي تمتاز بها مصر اليوم وتنفرد دون سائر أمم
الأرض جميعا هي الشكوى! نعم هي الشكوى!. وإنني أتحدى
من شاء، وأخاطر من شاء على ما شاء، إذا زعم أن هناك أمة(89/2)
أشكى من مصر، أو أن هناك خلقاً من خلق الله يشكون بنسبة
18000000 مما يشكو المصريون!
كل هيأة في مصر تشكو، وكل طائفة فيها تشكو، وكل جماعة تشكو، وكل فرد يشكو. ما تنقطع لأحد من هؤلاء شكوى ما عاقب الليل النهار، حتى لو قيض لعالم مخترع مثل السنيور مركوني أن يحيل جميع المصريين إلى معنى من المعاني، لاستحالوا إلى شكوى يطن في الآفاق طنينها، ويئن في الأجواء أنينها، حتى لو كان ملائكة السماء خلفاً مثلنا، يجري عليهم ما يجري علينا من الضجر والقلق، ويدركهم ما يدركنا من السهر والأرق، لقضوا من شدة هتاف شكوانا آلاف الأعوام لا تذوق جفونهم الغمض ولا يزور عيونهم المنام!. ولكنهم، لحسن حظهم، أيقاظ على الدهر، ما يهفو بهم التعب إلى ضجعة، ولا يضطرهم النصب إلى هجعة! لا ترى أحداً في مصر إلا يشكو، ولا تنقطع له شكوى على الزمان: هؤلاء الموظفون! أرأيتهم قد انقطعوا يوماً واحداً عن شكواهم، وبث مظلمتهم وعظيم بلواهم؟. الدرجات الدرجات!. العلاوات العلاوات!. الترقيات الترقيات!. ارفعي يا حكومة ما حل بنا من حيف، فقد حبست عنا علاوات الشتاء! وأبطأت علينا في علاوات الصيف!
وهؤلاء الحجاب والسعاة، لا تراهم يدعون كل يوم إلا بالويل والثبور، وعظائم الأمور، لأنهم أكثر خدام الحكومة تعباً، وأحقرهم مرتباً، وهيهات أن تفي بضعة الجنيهات، بما يزحمهم من وجوه المطالب في وجوه الحاجات، وقد أثقلتهم النفقة على الأهل والولد، بعد ما عم الغلاء هذا البلد، ولو كانت الحكومة على شيء من الإنصاف، لزادت مرتباتهم أضعافاً على أضعاف!
وهؤلاء رجال البوليس لا يفتأون يشكون الظلم اللاحق، والجور الحائق، فأعمالهم ثقيلة، ومهماتهم جليلة، ومع هذا فمرتباتهم قليلة، وعلاواتهم ضئيلة، ودرجاتهم هزيلة. والترقية إلى الدرجات مما يحتاج إلى طي الأحقاب، ودون ذلك مشيب الرجل بل مشيب الغراب! وهذا والله ما لا ينبغي أن يعامل به حفظة النظام، ومن يضحون برحتهم وأرواحهم في إقرار الأمن والسلام:(89/3)
أما معاونو الإدارة، فلا تسكن لهم شكوى. تارة بتقديم (العرائض) وعلى ألسنة الصحف تارة!
ورجال القضاء أهليه وشرعيه، لا يفترون عن المطالبة بتعديل (كادر) الدرجات، وتحسين نظام العلاوات، حتى يتسق ما يتقاضون من الرواتب، لما يتقلدون من رفيع المناصب، ولا شك أن من أشد الإجحاف، أن تسوم الظلم من تقتضيه القيام على العدل والإنصاف
وهؤلاء حملة الشهادات ممن لم تستخدمهم الحكومة في مناصبها، هيهات أن تبطل لهم شكاية، أو تفتر لهم دعاية؛ فإذا استخدموا استأنفوا الشكوى من قلة الراتب، وسألوا الحكومة أن تمنحهم من الدرجات، ما يكافئ ما أحرزوا من عليا الشهادات!
أما المعلمون في التعليم الأولي بجميع ضروبه وأشكاله وألوانه، فهؤلاء لا ينقطع لشكاياتهم مدد، ولا يحصيه عدد، فهم كل يوم يمطرون المعارف (بالعرائض) إمطاراً، ويرسلون منها على الصحف وابلاً مدراراً. حتى أضحى المرء لا يشق صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية، أو شهرية، إلا رأي الشكايات تنفذ إليها من أقطارها، وتجري في جميع أنهارها، وحتى اصبح خلو صحيفة واحدة من ذلك مما يثير الريب ويدعو إلى اعجب العجب!
هذا بعض ما يكون من الموظفين، أما التلاميذ وأولياء التلاميذ، ففي كل يوم شكوى من ضيق المدارس بالوافدين، ومن المصروفات المدرسية، ومن رسوم الامتحانات العامة، ومن صعوبة أسئلة الامتحان، ومن الدرجات التي تشترط للدخول في امتحانات الملاحق، وهكذا مما لا يبرح يطن في الآذان ما تعاقب المَلَوان، وطويت صحائف الزمان!
والأهلون الأهلون! لا ترى بلد في بلاد القطر كله إلا يشكو بعض أهله على الأقل، من عمدته، ويسرف في اتهامه بالظلم والجور، وإيثاره الهوى في معاملة الناس، وغفلته عن صيانة الأمن، ومصانعته لسراق الليل. وهكذا. فإذا لم تنفذ التهم إليه من أي باب، طلبوا إزالته لأنه (فقد النصاب)! وحسبك أن تزور يوماً وزارة الداخلية لترى من هذه العجب العجاب!
وهذا النيل إذا أقبل، فهل تسمع من أي بلد إلا موجع الشكوى. من احتباس الماء عن الأرض حتى عم الشرق، أو أن الماء طغى على الزرع حتى غمر الساق والورق!
وهؤلاء الأزواج يشكون الزوجات، وهؤلياء الزوجات لا ينين عن شكاية الأزواج، وهؤلاء(89/4)
أباء يقاضون الأبناء، وأبناء يستعدون للقضاء على الأباء!. وحسبك أن تطوف يوماً في بعض محاكم الشرع لتستيقن أن الحياة العائلية في هذه البلاد قد تصدعت أركانها، وتداعى بنيانها، وأنها عما قليل ستحور أطلالاً بالية، وأنقاضا من بنايات الأمم الخالية!. ولا تنس الأحزاب واتهامها حكومات بسوء الحكم وخلف الوعود، وشكوى الحكومات مما يقابل به ما تبذل من الجهود من نكران وشدة الجحود! ولو قد ذهبت أسرد لك جملة الشاكين والشاكيات، والباكين على سوء حالهم والباكيات، لما اتسعت صحائف (الرسالة)، لاستيعاب هذه المقالة.
ومهما يكن من أمر، فلعلك قد اقتنعت الآن بأن اصدق وصف لمصر في هذا العصر، وان أدق تعريف ينطبق عليها دون سائر الأمم هي أنها بلاد الشكوى!
ولعلنا نوفق قريباً إلى إتمام المقال، بالبحث عن علة هذه الحال.(89/5)
عروس تزف إلى قبرها
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
- 1 -
كان عمرها طاقة أزهار تسمى أياماً
كان عمرها طاقة أزهار ينتسق فيه اليوم بعد اليوم كما تنبت الورقة الناعمة في الزهرة إلى ورقة ناعمة مثلها
أيام الصبى المرحة حتى في أحزانها وهمومها؛ إذ كان مجيئها من الزمن الذي خص بشباب القلب، تبدو الأشياء في مجاري أحكامها كالمسحورة؛ فان كانت مفرحةً جاءت حاملةً فرحين، وإن كانت محزنةً جاءت بنصف الحزن.
تلك الأيام التي تعمل فيها الطبيعة لشباب الجسم بقوىً مختلفة، منها الشمس والهواء والحركة، ومنها الفرح والنسيان والأحلام!
وشبت العذراء وأفرغت في قالب الأنوثة الشمسي القمري، واكتسى وجهها ديباجةً من الزهر الغض، أودعتها الطبيعة سرها النسائي الذي يجعل العذراء فن جمالٍ لأنها فن حياةٍ وجعلتها تمثالاً للظرف؛ وما اعجب سحر الطبيعة عندما تجمل العذراء بظرف كظرف الأطفال الذين ستلدهم من بعد! وأسبغت عليها معاني الرقة والحنان وجمال النفس؛ وما أكرم يد الطبيعة عندما تمهر العذراء من هذه الصفات مهرها الإنساني!
وخطبت العذراء لزوجها، وعقد له عليها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر، وماتت عذراء بعد ثلاث سنين، وأنزلت إلى قبرها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر! وكانت السنوات الثلاث عمر قلبٍ يقطعه المرض، وينتظرون به العرس، وينتظر بنفسه الرمس! يا عجائب القدر! أذاك لحن موسيقي لأنينٍ استمر ثلاث سنواتٍ، فجاء آخره موزوناً بأوله في ضبطٍ ودقة؟
أكانت تلك العذراء تحمل سراً عظيماً سيغير الدنيا، فردت الدنيا عليها يوم التهنئة والابتسام والزينة - وهو يوم الولولة والدموع والكفن؟
- 2 -(89/6)
واهاً لك أيها الزمن! من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟ واليوم الواحد على الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميعاً، وبهذا يعود لكل مخلوقٍ سر يومه، كما أن لكل مخلوقٍ سر روحه، وليس إليه لا هذا ولا هذا
وفي اليوم الزمني الواحد أربعمائة مليون يوم إنساني على الأرض! ومع ذلك يحصيه عقل الإنسان أربعا وعشرين ساعة؛ يا للغباوة. . .!
وكل إنسان لا يتعلق من الحياة إلا بالشعاع الذي يضيء المكان المظلم في قلبه. والشمس بما طلعت عليه لا تستطيع أن تنير القلب الذي لا يضيئه إلا وجه محبوب
وفي الحياة أشياء مكذوبة تكبر الدنيا وتصغر النفس، وفي الحياة أشياء حقيقية تعظم بالنفس وتصغر بالدنيا؛ وذهب الأرض كله فقر مدقع حين تكون المعاملة مع القلب
أيتها الدنيا؛ هذا تحقيرك الإلهي إذا أكبرك الإنسان!
ويا عجبا لأهل السوء المغترين بحياة لابد أن تنتهي! فماذا يرتقبون إلا أن تنتهي؟ حياة عجيبة غامضة؛ وهل اعجب واغمض من أن يكون انتهاء الإنسان إلى آخرها هو أول فكره في حقيقتها؟
فعندما تحين الدقائق المعدودة التي لا ترقمها الساعة ولكن يرقمها صدر المحتضر. . . عندما يكون ملك الملوك جميعاً كالتراب لا يشترى شيئاً البتة. . .
. . . ماذا يكون أيها المجرم بعد ما تقترف الجناية، ويقوم عليك الدليل، وترى حولك الجند والقضاة، وأمامك الشريعة والعدل؟
أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة، لا أعمارنا ولا حظوظنا. ولا قيمة المال، أو الجاه، أو العافية، أو هي معاً - إذا سلب صاحبها الأمن والقرار! والآمن في الدنيا من لم تكن وراءه جريمة لا تزال تجري وراءه. والسعيد في الآخرة من لم تكن له جريمة تطارده وهو في السموات
كيف يمكن أن تخدع الآلة صاحبها وفيها (العداد)، ما تتحرك من حركة إلا أشعرته فعدها؟ وكيف يمكن أن يكذب الإنسان ربه وفيه القلب؛ ما يعمل من عمل إلا أشعره فعده؟
- 3 -(89/7)
ورأيت العروس قبل موتها بأيام
أفرأيت أنت الغنى عندما يدبر عن إنسان ليترك له الحسرة والذكرى الأليمة! أرأيت الحقائق الجميلة تذهب عن أهلها فلا تترك لهم إلا الأحلام بها؟ ما اتعب الإنسان حين تتحول الحياة عن جسمه إلى الإقامة في فكره!
وما هي الهموم والأمراض؟ هي القبر يستبطئ صاحبه أحياناً فينفض في بعض أيامه شيئاً من ترابه. . .!
رأيت العروس قبل موتها بأيام، فيالله من أسرار الموت ورهبتها! فرغ جسمها كما فرغت عندها الأشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح، تظهر لأهلها وتقف بينهم وقفة الوداع!
وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل، بل في فكرٍ مضيء أو فكر مظلم!
يا إلهي، ما هذا الجسم المهدم المقبل على الآخرة؛ أو تمثال بطل تعبيره، أم تمثال بدأ تعبيره؟
لقد وثقت أنه الموت، فكان فكرها الإلهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه العابد؛ عليه طيف الصلاة ونورها. والروح الإنسانية متى عبرت لا تعبر إلا بالوجه
ولها ابتسامة غريبة الجمال، إذ هي ابتسامة آلامٍ أيقنت أنها موشكة أن تنتهي! ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى سجانه واقفاً في يده الساعة، يرقب الدقيقة والثانية ليقول له: (انطلق!)
ودخلت أعودها فرأت كأنني آتٍ من الدنيا. . .! وتنسمت مني هواء الحياة، كأنني حديقة لا شخص!
ومن غير المريض المدنف، يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أبداً إلا العافية؟ من غير المريض المشفى على الموت، يعيش بقلوب الناس الذين حوله لا بقلبه؟
تلك الحالة لا تنفع فيها الشمس ولا الهواء ولا الطبيعة الجميلة، ويقوم مقام جميعها للمريض أهله وأحباؤه!
وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حربٍ اجلسوا تحت جدارٍ يريد أن ينقض!(89/8)
وكانت قلوبهم من فزعهاتنبض نبضاً مثل ضربات المعاول.
وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهولٍ آخر فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب! وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمرٍ كاملٍ، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت!
وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفت العروس لأبيها تقول: (لا تحزن يا أبي. . .) ولأمها تقول: (لا تحزني يا أمي. . .!)
وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضاً؛ تقول لها: (لا تبكي. . .!) وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حياً من أجلهم بضع دقائق! وقالت: (سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكاري بينكم تذكار عروس!. . .)
ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت: (أشهد أن لا إله إلا الله) وكررتها عشراً! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السموات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها
ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات! وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها، وأسلمت الروح!
- 4 -
يا لعجائب القدر! مشينا في جنازة العروس التي تزف إلى قبرها طاهرةً كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إلا قليلاً حتى أبصرت على حائطٍ في الطريق، إعلاناً قديماً بالخط الكبير الذي يصيح للأعين؛ إعلاناً قديماً عن رواية هذا هو اسمها: (مبروك. . .!)
واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى، فلم أر هذا الإعلان مرة أخرى! واخترقنا المدينة كلها، فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة، إذا آخر حائط عليه الإعلان: (مبروك. . .!)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(89/9)
صفحات من الدبلماسية الإسلامية
السفارات الخلافية والسلطانية وعلائق الإسلام والنصرانية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة
لما تولى المعتصم الخلافة عقب وفاة أخيه المأمون، حاول قيصر قسطنطينية الإمبراطور تيوفيلوس (توفيل) أن يعقد الهدنة والصلح مع المسلمين، فأوفد إلى المعتصم سفارة على رأسها يوحنا النحوي. وكان يوحنا من أعظم علماء عصره، يجيد العربية، فقصد إلى بغداد يحمل أنفس الهدايا والتحف، وأنزل بأحد قصور الخلافة؛ وأدهش البلاط برائع بذخه، وما نثر حوله من مظاهر الفخامة والترف. وتعرض لنا الرواية البيزنطية قصصاً عجيبة عن بذخ يوحنا وفخامته. وكان لهذه السفارة غاية مزدوجة: الأولى أن تعقد بين الخليفة والقيصر معاهدة سلام دائم؛ والثانية أن يعمل السفير على إقناع منويل، وهو قائد بيزنطي يلوذ ببلاط الخليفة، بالعودة إلى قسطنطينية. فأفلح السفير في تحقيق الثانية، ولم يفلح في تحقيق الأولى؛ ولكن المعتصم رأى أن يجامل القيصر بالإفراج عن مائة من الأسرى النصارى. وعلى أثر هذا الفشل في عقد الصلح، زحف الإمبراطور على أراضى المسلمين، وغزا زبطرة من معاقل الحدود الإسلامية، وكان الروم يزعمون أنها مسقط رأس المعتصم؛ فاستولى عليها واستباحها وأنزل بسكانها المسلمين رائع الإثم والسفك؛ وتروي التواريخ البيزنطية أن المعتصم لما علم بزحف الروم على زبطرة، أرسل إلى الإمبراطور سفارة يرجوه فيها أن يفر المدينة العيث والسفك فأبى تيوفيلوس وارتكب فيها ما ارتكب، وهدمها حتى صارت قاعا صفصفاً
عندئذ قرر المعتصم الحرب وأقسم بالانتقام وسار إلى أراضي الروم في جيش ضخم، وقصد إلى عمورية (أموريوم) أجل وأمنع مدن الروم في آسيا الصغرى؛ فهاجمها مراراً، ولكن الروم دافعوا عنها دفاعاً شديداً، فضرب حولها الحصار، واعتزم ألا يغادرها حتى تسقط في يده. عندئذ اضطر الإمبراطور أن يسعى إلى طلب الصلح، وأرسل بدوره سفارة إلى المعتصم، على يد أسقف عمورية وكبرائها، فأعلن المعتصم أنه لن يعقد الصلح، ولن(89/11)
يمنح شروطاً للتسليم، وأن الانتقام هو غايته واعتقل السفراء، فاستمر الحصار خمسة وخمسين يوماً، ثم سقطت المدينة في يد المسلمين، وأبدى المعتصم، كما أبدى تيوفيلوس من قبل منتهى الشدة والقسوة ففتك بالنصارى فتكاً ذريعاً، واسترق الناجون من الموت، وأحرقت عمورية حتى غدت أطلالاً، وهدمت حصونها وأسوارها؛ ثم أطلق المعتصم سفراء الإمبراطور بعد أن احتجزهم ليشهدوا ظفره، وردهم إليه بهذا الجواب! (نبئوا سيدكم بأني أديت دين زبطرة) وكان ذلك سنة 223 هـ (838م)
واستمر الصراع وتبادل الغزو بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية مدى قرن آخر. وفي عهد الإمبراطور قسطنطين السابع الذي حكم طفلاً تحت وصاية أمه الإمبراطورة زوي كاربوبسينا، أرسل بلاط قسطنطينية إلى الخليفة المقتدر بالله سفارة في طلب المهادنة وتنظيم الفداء. وتصف لنا الرواية الإسلامية حوادث هذه السفارة، فتقول لنا إن سفيري ملك الروم وصلا إلى بغداد في المحرم سنة 305هـ (917م)، فاستقبلا بترحاب وإكرام، ودخلا على الوزير في أفخم حفل ونظام، وقد اصطف حوله الجند في أتم سلاح وزينة، وأديا رسالة قيصر، ثم أخذا إلى الخليفة المقتدر فاستقبلهما ومن حوله الوزراء والقادة والجند في أروع زينة وأبهة وأديا رسالتهما، فأجابهما الخليفة إلى ما طلب قيصر من تنظيم الفداء، وسير خادمه مؤنساً ليحضر الفداء وعينه أميراً على كل بلد يدخله فيتصرف فيه على ما يريد حتى يغادره، وسير معه قوة من الجند، وزوده بمائة ألف وعشرين ألف دينار لافتداء الأسرى المسلمين، فقام مؤنس بالمهمة وافتدى آلافاً من الأسرى وكانت مسألة الفداء مبعث طائفة من السفرات التي تبودلت بين الدولتين خلال القرن الثالث الهجري، وطائفة من المعاهدات السلمية التي عقدت بينهما
وفي عهد الإمبراطورة زوى أيضاً بعث حاكم كلابريا (قلوريه) البيزنطي رسله إلى خليفة أفريقية الفاطمي (عبيد الله الشيعي)؛ وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت بها الحكومة البيزنطية أن تؤدي إلى الخليفة الفاطمي جزية سنوية كبيرة، نظير تعهده بحمل أمراء صقلية المسلمين على وقف الحرب والغزوات المستمرة في قلورية، واستمرت هذه المعاهدة مدى حين. وان كانت الجزية قد أنقصت خلال ذلك
ولنترك الآن علائق الدولتين العباسية والبيزنطية لنتحدث عن نواح أخرى من علائق(89/12)
الإسلام والنصرانية، والسفارات التي تبودلت بينهما
لما قامت الخلافة الفاطمية بمصر، غدت مصر منذ أواخر القرن الرابع، قوة إسلامية جديدة تشترك في قيادة الإسلام وتوجيهه في المشرق. ولم تكن مصر قبل ذلك مركزاً هاماً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية، لأنها لم تكن أكثر من ولاية خلافية أو دولة ثانوية تظللها الخلافة العباسية بسلطانها الروحي. على أنه كانت ثمة علائق مستقلة في هذا العصر بينها وبين الدولة البيزنطية زعيمة النصرانية في المشرق. وأشهر ما انتهى إلينا من أخبار الحوادث الدبلوماسية بين الدولتين في تلك الفترة سفارة الإمبراطور رومانوس الأول (ارمانوس) قيصر قسطنطينية إلى محمد بن طغج الإخشيد صاحب مصر (323 - 334هـ)، ورد الإخشيد على هذه السفارة. وحمل كتاب الإمبراطور إلى الإخشيد رسولاه نقولا وإسحاق، وفيه يطلب الإمبراطور تنظيم مسألة الفداء، وتسهيل المعاملات التجارية لرسله في البيع والشراء، وعقد الصداقة المتبادلة بين الدولتين، غير أن الإمبراطور يمن في نفس الوقت على الإخشيد بأن تنازل لمكاتبته مباشرة، لأن مقامه كقيصر الدولة الشرقية يحتم عليه ألا يكاتب من هو دون الخليفة، ولكنه مع ذلك قد خص الإخشيد بالمكاتبة لما نمى إليه من رفيع مكانته وحميد سيرته وفيض عدالته ورحمته. وقد رد الإخشيد على رسالة الإمبراطور بكتاب شهير من إنشاء إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، وانتهت إلينا صورته بأكملها. وفيه يرد الإخشيد على رومانوس بالشكر على ما أسبغ عليه من حمد ومديح، ويقول: إنه مهما تكن منزلة ملك الروم فانه لا يرى بأساً أن يكتب إليه، وقد كتب من قبل إلى أقرانه ممن لا يرتفع إلى منزلته، فقد كتب القياصرة من قبل إلى خمارويه أحمد بن طولون، والى تكين مولى الخليفة وحاكم مصر وحدها؛ وينوه الإخشيد بأهمية مكانته وضخامة ملكه وما لمصر من غابر الزمن من ملك باذخ، وأنه يحكم الشام وفلسطين إلى جانب مصر، ويشرف على مكة منبع الإسلام، ومدينة الرسول؛ وأنه لم يكن يحب أن يثير في ذلك جدلاً أو ملاحظة لولا ما تقدم به الإمبراطور. ثم يعبر الإخشيد عن حمده وثنائه للإمبراطور لما يبديه نحو الأسرى المسلمين من الرفق والرعاية، ويصرح بإجابته إلى ما طلبه من تنظيم الفداء ومبادلة الأسرى، ومن عقد الصداقة المتبادلة، ومن تسهيل المعاملات التجارية لرسله التجاريين، وقد صيغت هذه الرسالة الشهيرة في أسلوب سياسي(89/13)
بديع يجمع بين حزم المخاطبة، ورقة المجاملة. وفي صيغتها ومحتوياتها ما يلقي ضياء كبيراً على طبيعة العلائق بين مصر الإسلامية والدولة البيزنطية في أوائل القرن الرابع الهجري (أوائل القرن العاشر الميلادي)
وكانت الدولة الفاطمية خصيمة الدولة العباسية تنازعها زعامة الإسلام في المشرق؛ وكانت السياسة البيزنطية تتجه يومئذ إلى الضرب بين الدول الإسلامية المختلفة والاستفادة من تنازعها وتنافسها؛ فلما تضاءل سلطان الدولة العباسية، وبرز سلطان السلاجقة في المشرق، اهتمت الدولة البيزنطية بمقاومة هذا الخطر الجديد ومصانعته، وعملت على أن تكون محوراً للتجاذب السياسي بين هذه القوى الإسلامية المختلفة. وقد وقع بين مصر وقسطنطينية في منتصف القرن الخامس، حادث سياسي شهير يوضح لنا طبيعة هذا التجاذب، هو سفارة المستنصر بالله الفاطمي لبلاط قسطنطينية وما كان من أدوارها ونتائجها. ففي سنة 446هـ (1053م) أيام الخليفة المستنصر بالله نكبت مصر بوباء ذريع استطال مدى أعوام؛ واقترن الوباء بغلاء وقحط شديدين، وأصيبت مصر بصنوف مروعة من الدمار والفوضى. وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر (بالشدة العظمى). فأرسل المستنصر بالله (سنة 446هـ) إلى قسطنطين إمبراطور قسطنطينية يطلب منه العون، وأن يمده بالغلال والأقوات، ورأت السياسة البيزنطية في ذلك فرصة سائحة لتحسين مركزها وعلائقها مع مصر، التي كانت تهددها من البر والبحر، فلبى الإمبراطور الدعوى، وتم الاتفاق على بذل العون المطلوب؛ ولكن قسطنطين توفي قبل تنفيذه، وخلفته على العرش الإمبرطورة تيودورا، واشترطت لمعونة مصر شروطاً أباها المستنصر، واشتبك الفريقان في معارك شديدة في البر والبحر. وفي سنة 447هـ، أرسل المستنصر سفيراً إلى تيودورا هو القاضي أبو عبد الله القضاعي ليحاول تسوية الخلاف، فذهب إلى قسطنطينية ليحاول عقد الصلح مع بلاطها، ولكنه لم ينجح في مهمته، لأن السياسة البيزنطية آثرت عندئذ جانب السلاجقة الذين كثرت غزواتهم لأراضي الدولة، ورأت أن تصانعهم وأن تسعى إلى مهادنتهم، وسمح لرسول طغرل بك عاهل السلاجقة أن يخطب في جامع قسطنطينية باسم الخليفة العباسي القائم بأمر الله ولما وقف المستنصر بالله على ذلك رأى أن ينتقم بالقبض على أحبار القمامة (كنيسة قبر المسيح) في بيت المقدس ومصادرة(89/14)
تحفها وذخائرها؛ واستمرت الخصومة بعد ذلك عصراً بين مصر والدولة البيزنطية
وفي أيام الحروب الصليبية كثر تردد السفارات والمفاوضات بين مصر باعتبارها زعيمة الجبهة الإسلامية يومئذ، وبين قادة الحملات الصليبية، وكثر عقد العهود والهدن والمعاهدات. ولا يتسع المقام لاستعراض هذه المبادلات الدبلوماسية التي وصلت يومئذ إلى ذرى التشعب والاتساع، والتي تملأ فراغاً كبيراً في أخبار ذلك العصر؛ ولكنّا نمثل لها بحادثين: الأول سفارة لويس التاسع (القديس لويس) ملك فرنسا إلى سلطان مصر الملك الصالح حينما جاء إلى مصر على رأس حملته الصليبية (1249م) وكتب إلى الملك الصالح باسم الأمم النصرانية يطالبه بتسليم مصر وينذره بالويل إذا أبى؛ وكان الملك الصالح يومئذ مريضاً في القاهرة، فتولى كاتبة بهاء الدين زهير الشاعر الأشهر كتابة الرد، وفيه يرد على الصلبيين وعيدهم وينذرهم بالانتقام؛ والثاني سفارة من ملك فرنسا أيضاً إلى سلطان مصر يطالبه بإعادة بيت المقدس إلى الفرنج، وان يفتح لهم ثغرا في الساحل وتكون البلاد وولايتها ة وإدارتها مناصفة بين المسلمين والنصارى على أن يؤدي الفرنج لمصر نظير ذلك جزية سنوية ضخمة. والظاهر أن مرسل هذه السفارة هو فيليب الجميل ملك فرنسا، وأن المرسل إليه هو السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وأنها وردت إلى مصر في أواخر القرن السابع الهجري أو أوائل القرن الثامن. وقد نقلت إلينا الرواية الإسلامية تفاصيل الحادث دون أن تعين تاريخه، وذكرت أن السلطان غضب لجرأة الفرنج حين أبلغ السفراء رسالتهم، وذكرهم بنكبة دمياط، وأنذرهم بالويل والثبور وردهم أقبح رد
وقد كانت مصر منذ الحروب الصليبية محور الدبلوماسية الإسلامية ومجمعا للعلائق بين الشرق والغرب؛ وكانت علائقها مع الأمم النصرانية متشعبة النواحي والأطراف، فمن بلاط قسطنطينية إلى الدول الإيطالية - البندقية وبيزا وجنوه ونابولي - إلى مملكة فرنسا، وإلى إسبانيا النصرانية؛ وتاريخ مصر في القرنين الثامن والتاسع الهجريين (الرابع عشر والخامس عشر) حافل بأخبار هذه العلائق الدبلوماسية. وقد أورد لنا القلقشندي في (صبح الأعشى) عشرات بل مئات من الوثائق والمكاتبات الدبلوماسية التي تلقي أعظم ضياء على طبيعة هذا العلائق ومداها ونكتفي في هذا المقام أيضا بالتمثيل ببعض السفارات النصرانية إلى بلاط القاهرة؛ فقد أرسل قيصر قسطنطينية مانويل باليولوج سنة 814هـ (1411م)(89/15)
كتاباً إلى الملك الناصر فرج، على يد تاجر يوناني يدعى سورمش يؤكد ما كان بين والده (أي والد قيصر) وبين والد السلطان (الظاهر برقوق) من أواصر المودة والصداقة، وبعث معهم عدة من البزاة هدية للسلطان؛ ورجا السلطان في كتابه أن يعامل الأحبار النصارى بالرفق والرعاية.
ووردت على بلاط مصر سفارة أخرى في نفس هذا العام (سنة 814هـ) من (دوج) البندقية ميميكائيل، وقدم السفير (نقولا البندقي) إلى السلطان ناصر فرج كتاباً من الدوج يبلغه فيه تحياته وثناءه على ما كان يلقاه التجار البنادقة من الرعاية وكرم الوفادة، ولكنه يحتاج على حبس بعضهم في ثغر دمياط، ويحتج بالأخص على ما وقع بالإسكندرية من القبض على (قنصل) البنادقة وأكابر التجار البنادقة، وأخذهم إلى القاهرة مصفدين بالأغلال، وينوه بأن هذه الإهانة إنما هي إهانة له بالذات (أي للدوج) ويرجو السلطان أن يعدل عن هذه السياسة إلى الرفق بالقنصل والرعايا البنادقة، لتحصل الطمأنينة للتجار ويكثرون من التردد على مصر. وهذه الوقائع التي يشرحها الدوج في رسالته إنما هي حادث دبلوماسي محض؛ وقد صيغت في أسلوب رقيق ينم عما كان لمصر يومئذ من عظيم الهيبة في نفوس الدول النصرانية؛ وفيها يستعمل قلم الترجمة السلطاني كلمة (قنصل) ترجمة للكلمة الإفرنجية المماثلة، وهي كلمة ما نزال نطلقها اليوم في اصطلاحنا الحديث على ممثلي الدول الذين يختصون بأعمال هذا المنصب
تلك طائفة متناثرة من السفارات الخلافية والسلطانية، والموضوع مشعب الأطراف واسع المدى. بيد أن ما أوردناه من أحاديث هذه السفارات والرسالات المتبادلة يكفي لشرح كثير من خواص العلاقات الدبلوماسية في تلك العصور. وهناك بالأخص ناحية أخرى من علائق الشرق والغرب والإسلام والنصرانية لم يتسع المقام للتحدث عنها: تلك هي علائقإسبانيا المسلمة (الأندلس) بأسبانيا النصرانية وبالأمم الإفرنجية الأخرى؛ فهذا العلائق وحدها تملأ صحفاً فياضة من تاريخ الدبلوماسية الإسلامية؛ وقد كان عهد الخلافة الأموية بالأندلس عهداً زاهراً في تنظيم هذه العلائق ففي عصر الناصر دين الله، ثم ولده الحكم المستنصر، انهالت وفود الأمم النصرانية وسفاراتها على بلاط قرطبة؛ فكانت تستقبل في قرطبة في أيام مشهورة ومراسيم شائقة بهرت أمم العصر وقصوره؛ وكان تقاطرها على(89/16)
قرطبة في ذلك العصر الذي بلغت فيه الأندلس ذروة العظمة والسلطان، شاهدا بتطبيق هذه الخاصة التي أشرنا إليها في فاتحة هذا البحث، وهو أن اتجاه السفارات السياسية من الغرب إلى الشرق ومن الأمم النصرانية إلى الأمم الإسلامية كان في معظم الأحيان شاهدا بتفوق الشرق والإسلام في القوة والعظمة والسلطان
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان المحامي(89/17)
الانتحار
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(نعم، لابد مما ليس منه بد. وستنتهي الحياة على كل حال، طال العمر أم قصر، فلم لا أختمها بيدي وأستريح من هذا العذاب؟)
كذلك كان يحدث نفسه وهو جالس إلى مكتبه، وأمامه عدة رسائل كتبها ووضعها في ظروفها، وعنونها، ونشفها، والصق عليها طوابع البريد، ولو أنك في هذه الساعة سألته عن الباعث أو البواعث له على هذا العزم، لقال لك إنها ليست مسألة بواعث، وإنما هي مسألة آلام في معدته لم يبق له صبر عليها، وعجز طب الأطباء عن تخفيفها، وما بقي في البلد طبيب إلا استشاره، وما قرأ إعلاناً في صحيفة عن دواء يلطف هذه الأوجاع إلا اشتراه وجربه، فذهب كل ذلك مع الريح، وكانت معدته توسعه إيلامًكلما أوسعها تطبيباً، فكأنه لا يضع فيها أشفية، وإنما يضع فيها إبراً أو أظافر ومخالب وأنياباً! وما أكل شيئاً إلا نفخه وتخمر في جوفه وفارت منه غازات ترتقي إلى الصدر والقلب وتثقل عليهما وتخزه هنا وهناك فيروح يبلع الفحم قرصاً وراء قرص، والغازات كما هي، لا يمتصها أو يطلقها أو يخفف ضغطها وشكها شيء، فتلفت أعصابه ويئس من الشفاء، وعزم آخر الأمر على الانتحار
وكانت له زوجة وبنون، وبيت طويل عريض فيه خدم وحشم، ولكن آلامه سودت عيشه ونغصت حياته، وحرمته ما كان خليقاً أن يفوز به من المتع، فالموت لا يفقده لذة موجودة، ولعله يريح آله مما يحملهم معه من المتاعب والغصص، ويتيح لهم أن ينعموا بماله، وأن يخلو صفو حياتهم من كدر حياته
أما الرسائل التي أسلفنا الإشارة إليها فكتبها إلى الصحف ينعى نفسه فيها، ويحذر قراءها من الإعلانات المغرية وما تزعمه من قدرة الأدوية على الشفاء السريع، وأخرى كتبها إلى (النيابة) حتى لا تزعج أهل بيته بالسؤال والتحقيق، فان (للنيابة) ولعاً بتقصي أسباب الانتحار كأنما حياة المرء هبة من هذه (النيابة) أو عارية، فهو مسئول عنها قبلها! ولما صح عزمه على الانتحار قعد يفكر في وسائله، وأدواته، ولكنه استقبحها جميعاً، ولم يرض عن واحدة منها، وبدا له أن من السخافة وقلة العقل أن يلقي بنفسه من فوق السطح مثلاً،(89/18)
فقد يتحطم جسمه ولا يموت! أو أن يغرق نفسه في النيل، فقد يراه أحمق فيدركه وينقذه، أو قد تعلق جثته بشيء فتظل راسبة ولا يهتدي إليها أحد! ولم ير أنه يطيق أن يسدد إلى رأسه مسدساً، أو إلى قلبه، ولا أن يغمد في صدره سكيناً أو يبقر به بطنه، كلا! هذه الميتات جميعا قبيحة، وفي صورها هوان وحماقة؛ إنما الميتة الحسنة أن يستلقي على سريره، ويضع إلى جانبه طشتا على كرسي، ثم يقطع شريانا فيلح عليه النزف حتى يموت، في سكون وبلا ألم
واستغرب لما انتهى إلى هذا الرأي، أن يرى نفسه منشرح الصدر، وأنه لم يعد يشعر حتى بتلك الآلام التي أغرته بالتماس الموت وحرضته على نشدانه! فهز رأسه متعجباً وقال: إذا كانت هذه هي البداية فلا شك أن الخاتمة أحسن. وتمنى لو تيسر له أن يرى نفسه مسجى في أكفانه والناس حوله يبكون ويندبون، ويثنون عليه بالذي (كان) أهله! وتصور نفسه محمولاً على الأعناق وخلفه حشد عظيم من الأصدقاء والكبراء، وكبر الأمر في وهمه حتى لخيل إليه أنه الآن راقد في النعش، فتحرك حركة من يريد أن يطل على مشيعيه! ثم أفاق من هذا الحلم وابتسم! ولم تكن هذه ابتسامة السرور، وإنما كانت ابتسامة الأسف على أنه سيحرم لذة هذا المنظر
ودق الجرس فجاءت الخادمة، وكانت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ولم تكن جميلة ولكنها لم تكن دميمة، وكان يحنو عليها لأنها يتيمة لا أب لها ولا أم، ولا أهل فيما يعرف، فلما أقبلت عليه رق لها قلبه من العطف، وقال لها:
(اسمعي! خذي هذه الرسائل وضعيها في صندوق البريد. فاهمة؟ وخذي هذا لك.)
ونهض وهو يناولها ورقة بجنيه، فدهشت المسكينة، فما لها عهد بمثل هذا الجود، وما وهبها أحد أكثر من قرش وقالت: (لي أنا؟)
فوضع راحته على كتفها وقال: (نعم لك أنت. ولم لا؟ إنك فتاة طيبة، وأنا راض عنك)
فقالت المسكينة: (ولكن ماذا تقول ستي؟ إنها إذا رأته معي ستظنني سرقته)
فقال: (كلا. لا تخافي. اطمئني!)
وأدناها منه وقبلها على خد، ثم أدار وجهها ليقبل خدها الآخر، فلمحت الفتاة أوسط أبنائه، وخشيت أن يثرثر لأمه بما رأى، فارتدت عن سيدها محتجة وقالت بصوت عال:(89/19)
(عيب يا سيدي، عيب! أنا بنت يتيمة، وأنت رجل كبير. . . تؤ. . . تؤ. . . عيب!)
فبهت الرجل، فقد كانت قبلته من عطف أبوي، ومن كرم النفس ومروءة القلب، وساءه جحودها وسوء ظنها، وأغضبه هذا التأويل، فقال:
(ولكن يا ابنتي ماذا حصل؟ أي عيب؟)
فقالت بصوت أعلى (أقول لك عيب يا سيدي، لا لا لا. . . أنا في أمانتك. . حرام عليك يا سيدي! وأنت رجل كبير)
ولم يكن يرى ابنه فلم يفطن إلى الباعث لها على هذا الاستهجان؛ أما ابنه فرأى وسمع، وأسرع إلى أمه ينبئها ويقص عليها الحكاية فنهضت الأم كالمجنونة إلى هذا الزوج الذي يتغفلها ويزعم نفسه مريضاً مدنفاًٍ ويروح يقبل الخادمات! ومن يدري ماذا يصنع غير ذلك؟ ومن الذي يمكن أن يثق به أو يصدقه بعد هذا؟
وكان الرجل قد طرد الخادمة من حضرته. لما رآها تلج في الاستنكار وتأبى إلا أن تسيء تأويل الحادثة، فخرجت، ولم تكد تفعل حتى دخلت الزوجة كاللبوة الهائجة:
(معلوم! معلوم! تدعي المرض، وتقول أبعدوا عني وخلوني استريح، لتخلو بالخادمة فتقبلها وتحضنها! ما شاء الله! هل المريض يعانق الخادمة؟)
فطار عقل الرجل، وله العذر، وخطر له أن الخادمة هي التي ذهبت تشكو إلى زوجته، وتذكر في هذه اللحظة أنه أعطاها الرسائل، وأن فيها نعيه إلى الصحف والنيابة، ولكن الغضب صرفه عن الموت، وفتر الرغبة فيه، وأحس أنه لا يريد أن يموت، بل أن يميت - يقتل هذه الخادمة اللعينة التي يحسن إليها فتسيء إليه، وتشنع عليه، وتحيل البيت قطعة من جهنم، فترك زوجته تتكلم وخرج يقول:
(أين هي؟ أين هي؟)
وعرف أنها خرجت فانطلق وارءها، ليسترد الرسائل منها، ويرى له بعد ذلك رأياً فيها - نعني في الفتاة. وبصرت به الخادمة مقبلاً، ورأسه عار، ووجهه مضطرم، وكانت تحس في قرارة نفسها أنها ظلمته وتجنت عليه، فأيقنت أنه خرج وراءها هائجاً، وأنه يطلبها ليضربها، فراحت تعدو، فلم يسعه إلا أن يجري وراءها، ولكنها في الثامنة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والأربعين، فما عسى قدرة مثله على إدراك مثلها؟ فأخذ يصيح(89/20)
ويدعوها أن تقف ويناشد الناس أن يمنعوها، وهي كلما حاول أحد أن يصدها تتفلت منه، وتزعم له أن سيدها يهم بقتلها وتستحلفهم أن يردوه عنها. وتبعهما أطفال الحارة وأهل الفضول من الرجال والنساء، وأخيراً لحق بها الرجل، لأن الناس استوقفوها، فقبض على يدها وانتزع منها الرسائل وهو يلهث
وكان من السهل بعد ذلك أن يطلع زوجته على الرسائل، وأن يقنعها بان من يروم الانتحار لا يتبع الخادمة عينه
ونام صاحبنا في ليلته تلك نوماً عميقاً هادئاً لا حلم فيه، ولم يشعر بمعدته حتى ولا في الصباح، فتعجب وهو يتمطى ويتثاءب فما نام قط هذا النوم المريح في السنوات الأخيرة، وأقبل على الطعام فالتهم منه شيئاً غير قليل، ولم يكن يفطر قبل اليوم، وكان يدخن على ريق النفس، ويستغني بالقهوة عن الطعام، فقال لزوجته:
يظهر أن الجري نفعني أمس. . والغضب أيضاً! لقد حرك دمي في عروقي فزايلني الفتور، ونشطت. . . نعم إن حاجتي هي إلى ما ينشط جسمي، فليت لي كل يوم خادمة أقبلها فيسوء بي ظنك، فتثور نفسي!)
فضحكت الزوجة وقالت: (لقد كنت مجنوناً! وهل ينتحر إلا مجنون؟)
فقال: (نعم، ولكن الأطباء هم الذين أجنوني. والغريب أني لم أجد واحداً من بينهم يشير علي بالرياضة - ليس عندهم إلا وصفاتهم التي لا تنفع. . . أقول لك! سأطتب هذا إلى الصحف، وأفضح طب الأطباء)
ولكنه لم يكتب، لأنه شغل بالرياضة في ناد قريب من بيته، فتولينا نحن عنه ذلك، فهل بلغنا؟
إبراهيم عبد القادر المازني(89/21)
5 - قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
اسبلنزاني
صلة حديثه
حتى العلماء كانوا في جانب انبعاث الأحياء من لا شيء. أعلن الطبيعي الإنجليزي (رس) بأسلوب توكيد تحس فيه يقين العالم وثقة العارف، قال: (إن من يتشكك في أن الخنافس والزنابير تكونت من روث البقر فإنما يتهم العقل والحس والتجربة). حتى الحيوانات التي هي أعقد من هذه وأكثر أعضاء كالفئران لا حاجة بها إلى الأمهات والآباء. ومن قال غير هذا فعليه أن يذهب إلى مصر ليعرف كيف تعج الحقول بالفئران التي تكونت من غرين النيل فآذت السكان إيذاء كبيراً
سمع اسبلنزاني كل هذه الأقاصيص التي اعتقد صدقها أناس كثيرون ذوو خطر وعلم، وقرأ قصصا أكثر من هذه عدداً وأبعد في الأغراب، ورأى الطلبة تتنافس فتتخاصم وتتلاكم لتثبت أن الفأر لا حاجة به إلى أب أو أم. ومع كل هذا لم يعتقد في شيء مما رأى أو سمع. كان في رأسه تحزب، وفي قلبه تغرض وتعصب، وكثيراً ما نجد العلم يتقدم بمثل هذا التعصب والتحزب، بفكرة ليست من العلم، وليست مما يقال عادة في العلم، ولكن فكرة تخلق في رأس الرجل العلمي خلقاً، مبناها كره لخز عبلة شائعة وخرافة سائدة. رأى اسبلنزاني أن الإنسان تكفيه النظرة الظاهرة إلى الأمور ليقتنع بان الحياة لا توجد من عدم، وبأن الأحياء لا تخلق اتفاقاً من الأوساخ والأقدار، وإنما هي تولد عن سبب، وحسب نظام وقانون. ولكن كيف السبيل إلى إثبات ذلك؟
وفي خلوة في ذات ليلة وقع على كتاب صغير بسيط ساذج قرأه فأفاد منه طريقة جديدة لو اتبعها لعرف بها كيف تنشأ الحياة. كتاب لم يحاجج بالكلام، ولم يتمنطق بالألفاظ، بل اكتفى بالتجربة. وأي تجربة؟ وأي حقائق تتضح منها وتبين في سهولة ويسر، وذهب عن صاحبنا النعاس، ونسى أن الفجر يقترب، وظل يقرأ ثم يقرأ. . .
قرأ في الكتاب أن تخلق الدود والذباب من اللحم الفاسد خرافة أي خرافة، وإن كثيراً من(89/22)
العقلاء الأذكياء يؤمنون بهذا الزعم على سخافته وبطلانه. وبينا هو يقرأ أتى على فقرات من الكتاب كادت تخرج لها عيناه من رأسه استغراباً لها وإعجاباً بها، على وصف تجربة بسيطة ذهبت بالخرافة من نفسه دفعة واحدة ولغير رجعة
وقال لنفسه وهو يتخفف من بعض ملابسه ويميل بعنقه الغليظ إلى ضوء الشمعة: (إن (ريدى) هذا الذي كتب الكتاب رجل لا شك عظيم. انظر كيف هو يحل المشاكل حلاً غاية في البساطة. أخذ قدرين ووضع بكل منهما قطعة لم، ثم غطى أحدهما بغطاء خفيف، وترك الآخر مكشوفاً. ثم أخذ ينظر، فوجد الذباب يدخل إلى اللحم في القدر المكشوفة، وبعد زمن قليل وجد بها الدود، وبعد زمن آخر وجد بها ذباباً جديداً، ثم نظر إلى القدر المغطاة فلم يجد بها دوداً ولا ذباباً. فالأمر بسيط جداً. فالمسألة مسألة الغطاء الذي يحول بين اللحم والذباب وتجربة بسيطة جداً، ولكنها تدل على ذكاء كبير، فان الناس تناقشوا وتجادلوا وبحت أصواتهم آلاف السنين، ولكنهم لم يهتدوا إلى هذه التجربة البسيطة)
وفي الصباح لم يستطع (لازارو) صبراً، فأسرع إلى العمل يطلب حل الأشكال، لا فيما يختص بالذباب ودوده، ولكن فيما يختص بالأحياء المكرسكوبية الصغيرة. فان الأساتذة العلماء كانوا قد بدأوا يقولون إنه قد يجوز أن الذباب يخرج من بيض، ولكن الأحياء التي تدق عن البصر تأتي من ذات نفسها
وأخذ اسبلنزاني يتعلم في عثار كثير كيف يربي تلك الأحياء، وكيف يستخدم المجهر. فجرح يديه وكسر قبابات كبيرة ثمينة؛ وكان ينسى أحياناً أن يمسح عدساته وينظفها، ثم ينظر من خلالها إلى تلك الحيوانات الصغيرة، فلا يراها إلا بمقدار ما يرى السمك الصغير في الماء بساحل البحر وقد عكره بتحريك قاعه؛ ولم يكن يبالي أن يتحدث عن أخطائه ويقصف بالضحك منها، فلم يكن في خلقه ذلك الجمود وتلك الشراسة التي اتصف بها (لوفن هوك). وكان مندفعاً متهوراً، ولكنه برغم اندفاعه وتهوره كان لحوحاً لجاجاً، لا ينعطف لخيبة ولا يثنيه يأس؛ قام ليفضح تلك الأكاذيب التي يحكونها عن تلك الحيوانات الصغيرة فلن يقعد حتى يبلغ ما أراد، ولكن مهلاً. (إذا أنا نصبت نفسي بغية الوصول إلى غاية معينة فلست والله بعالم، إن العالم يجب عليه أول شيء أن ينزع من قلبه التعصب والتغرض، وأن يتعلم أن ينقاد للحقائق التي تتكشف له إلى حيث تسوق. . .) وأخذ يدرس(89/23)
تلك الحيوانات بصبر طويل، وأخذ يسوم نفسه قصد السبيل، وينفي عنها الهوى بقدر الطاقة حتى علمها أن تنصاع للحق ولو كان مراً
واتفق في هذا الوقت أن قسيساً آخر اسمه (نيدم كان يسره أن يرى نفسه تحذق فن التجربة، وكان كاثوليكياً تقياً. وكان اسمه أخذ يذيع في إنجلترا وأيرلندا بأنه الرجل الذي يعرف كيف ينشئ تلك الأحياء الصغيرة في مرق الضأن من لاشيء. وأرسل إلى علماء الجمعية الملكية البريطانية يصف لهم تجاريبه، فتفضلوا بالإعجاب بها
قال لهم إنه أخذ من قدر وهي تغلي بمرق الضأن مقداراً ثخينا من هذا المرق، ووضعه في زجاجة سدها بفلينة فأحكم سدها فأصبحت بمعزل عن الهواء، فلا تدخلها تلك الأحياء أو ما يمكن أن يكون لها من بيض. ولم يكتف بذلك، بل ذهب فوضع الزجاجة في رماد ساخن زيادة في الحرص والتوكيد. قال الرجل الطيب: (وبهذا لاشك قد قتلت كل ما قد يكون بقي في الزجاجة من كائن حي أو بيض). واحتفظ بهذا المرق في الزجاجة أياماً، ثم نزع سدادها، وأتى بالعدسة فرأى - وما أخطر ما رأى - رأى المرق يعج بالأحياء عجيجاً
وصاح (نيدم) يقول للجمعية: (إن هذا كشف خطير أي خطير. إن هذه الأحياء لا يمكن أن يكون مأتاها إلا من المرق، فدونكم إذن تجربة تثبت أن الشيء الحي قد يخرج من الشيء الميت). وقال لهم فيما قال: إن الحساء يصنع من الحب أو اللوز يقوم مقام المرق سواء بسواء
وثارت الجمعية الملكية والعالم المثقف لما علموا بكشف (نيدم) كشف صدق لا أقصوصة كاذبة، وحقيقة تجريبية لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها، واجتمع أعضاء الجمعية يفكرون في جزاء (نيدم) بتنصيبه عضواً فيها، وهي الجمعية الوقور المترفعة التي تمثل أرستقراطية العلم وتتضمن صفوة العلماء. ولكن في هذه الأثناء كان اسبلنزاني بعيداً في إيطاليا يقرأ خبر هذا الكشف المدهش، وبينما هو يقرأ تقارب ما بين حاجبيه، وضاق حدق عينيه، وأخيراً أبرق وأرعد وقال: (إن هذا الحيوانات لا تنشأ من لا شيء، لا في المرق، ولا في حساء اللوز، ولا في شيء كائناً ما كان؛ إن في هذا التجربة تدليسة أو خدعة، من الجائر أن (نيدم) لا يعرف ذلك، ولكن لابد أن هناك ثغرة أنا كاشفها لا محالة)
وبدأ شيطان التعرض يستيقظ في نفسه، وقام القسيس يشحذ سكينه لأخيه القسيس. وكان(89/24)
الإيطالي رجلاً شريراً سفاحاً يغرم بنحر الآراء التي يخاصمها، فمن أجل هذا قام يسن سلاحه للإنجليزي. وفي ذات ليلة، وهو قائم وحده في معمله، بعيداً عن جلبة الإعجاب التي تتحشى بها دروسه، بعيداً عن زئاط الصالونات البهيجة حيث تتظرف له السيدات وتتلطف معجبة بذكائه وسعة علمه، في تلك الليلة خال أنه وجد الثغرة التي طلبها في تجارب (نيدم). فمضع ريشته، وأمر أصابعه خلال شعره المشعث، ثم قال: (لماذا ظهرت تلك الأحياء في مرق اللحم وفي نقيع الحب؟ لأن (نيدم) بلا شك لم يسخن زجاجته تسخيناً كافيا، لأن (نيدم) لم يحكم سد زجاجته إحكاماً كافياً)
وبدأ شيطان البحث الصادق يستيقظ في نفسه. فلم يذهب إلى مكتبه ليكتب لنيدم بالذي ارتأى، وإنما فزع إلى معمله الترب قد تناثر في أرجائه الزجاج من كل صنف، فأخذ من هذا الركن قبابة، ومن هذا الدرج بذوراً، ونفض التراب عن مجهره، وبدأ يمتحن موقع ظنه من الحقيقة، فأما أن ينصره، وإما أن يقهره. إن (نيدم) لم يسخن حساءه تسخيناً كافياً - وقد يكون من بعض تلك الأحياء أو من بيضها ما يحتمل المقدار الكبير من الحرارة. من يدري؟ وتناول اسبلنزاني قبابات من الزجاج كبيرة، عظيمة البطن، مستدقة العنق، وأخذ يغسلها ويدلكها ويدعكها، ثم جففها وصففها فبرقت على النضد فكانت كالجند لبس السلاح في ضحوة الصباح. ثم جاء بأصناف مختلفة من البذور ووضع شيئاً من كل صنف في قبابه، ثم جاء بشيء من البسلة وشي من اللوز ووضع كلا في قبابه، ثم صب ماء في القبابات جميعا، ثم صاح: (ولآن لن أقع في الخطأ الذي وقع فيه (نيدم). فلن أغلي هذه الأحسية دقائق بل ساعة كاملة)، وأوقد ناره، فلما تجهزت تساءل: (ولكن ماذا أصنع لسد هذه القبابات؟ أسدها بالفلين؟ ولكن هذه مهما أحمت فلعلها لا تمنع أصغر الأحياء أن يتسرب إلى الإناء). وأخذ يفكر: (لا. لا. بل أسيح عنق القبابة في النار فألحمه لحماً، وأختم على الزجاجة ختماً، فلا تعود هنالك حاجة إلى الفلين، والزجاج لن يأذن لأصغر المكروب أن يتسرب خلاله).
وهكذا تناول قباباته البارقة قبابة قبابة، وأدار عنقها الدقيق في اللهب حتى ساح والحتم؛ وكانت تسخن بعض هذه القبابات سخونة شديدة وهي في يده فتحرقها، فتسقط القبابة فتنكسر فيسخط ويلعن، ثم يبدلها بغيرها. فلما أتم لحامها جميعاً صاح: (والآن فإلى نار(89/25)
شديدة). وظل ساعات يرقب القبابات ترقص في ماء الغلايات ولم يغلها كلها مدة واحدة، فمن القبابات ما أغلاه دقائق. ومنها ما أغلاه ساعة كاملة
فلما بلغ منه الجهد، وضاقت عيناه من التعب، قام إلى أخيرة القبابات يخرجها من الماء والبخار يرتفع منها كأنها قطع اللحم المسلوق. وجمع القبابات كلها واختزنها، واصطبر أياماً على أخر من الجمر يداور في رأسه ما عساه أن يحدث فيها، وقام بشيء آخر كدت أنساه، شيء بسيط جداً: قام يكرر ما صنع من جديد، فجهز عدداً من القبابات كالتي سلف ذكرها، ولكن بدل أن يلحم رقابها سدها بالفلين، ثم غلاها ساعة كاملة، ثم اختزنها
ثم غاب عنها أياماً أمضاها في قضاء ألف مشغلة من مشاعل الحياة التي لم تكن تكفي لاستنفاد نشاطه الجم الكثير. وكتب إلى العالم الطبيعي (بونت في سويسرا ينبئه بتجاربه، وقام إلى كرة القدم وأخذ نصيباً من اللعب، وضرب في الريف يطلب صيده، وذهب إلى البحر يتلهى بسمكة، وألقى دروساً في العلم، وحاضر طلبته في كل ما هب ودب، في كل ما ثقل من العلم وجف، وفي كل ما خف منه وطاب، ثم اختفى فجأة. وتساءل الطلبة والأساتذة: (أين الأب اسبلنزاني؟) وتساءلت الهوانم أيضاً: (أين الأب اسبلنزاني؟)
الأب اسبلنزاني ذهب إلى قباباته
- 3 -
ذهب أول شيء إلى قباباته الملحومة، وكسر رقابها واحدة بعد أخرى، وغاص في مرقها بأنبوبة طويلة رفيعة لينال منه شيئاً، ثم لينظر هل تكونت فيه تلك الأحياء الضئيلة على الرغم من تسخينه إياه طويلاً، وعلى الرغم من عزله إياه هذا العزل المحكم عن الهواء وما قد يعلق بترابه من الأحياء. لم يكن اسبلنزاني في تلك الساعة اسبلنزاني المرح البشوش الضحوك. كان في حركته بطء وفي وجهه وجوم. كان يتحرك كرجل آلي صنعوه من الخشب، وأخذ ينقط من المرق القطرة بعد القطرة تحت عدسته
وكانت تلك القطرات من القبابات الملحومة التي أغلاها ساعة كاملة، وكان جزاؤه على كل متاعبه أنه رأى - لا شيء! وبسرعة البرق توجه إلى القبابات التي لم يكن أغلاها غير دقائق، وإذا به يكسر رقابها، وإذا بقطرات منها تحت عدساته، وإذا به يصيح: (ماذا أرى!) رأى في مجال البصر الأدكن حييوينات صغيرة منثورة هنا وهنا تسبح وتلعب شرقاً(89/26)
وغرباً. حقاً إنها لم تكن مكروبات كبيرة، ولكنها كانت مخلوقات صغيرة تجري فيها الحياة على كل حال. وتمتم اسبلنزاني لنفسه: (إنها تسبح كالسمك! إنها صغيرة كالنمل!). وغاب في التفكر ثم قال: (إن هذه القبابات الحمت الحاماً فما كان لشيء أن يستطيع دخولها من الهواء. ومع هذا أجد تلك المخلوقات الصغيرة فيها. لا شك أنها مخلوقات كانت موجودة في المرق، فلم يكف لقتلها اغلاء الماء دقائق قليل)
وذهب بأيدٍ راجفة إلى صف القبابات التي سدها بالفلين - كما فعل خصيمه (نيدم) - ونزع سدادها واحدة بعد أخرى. وما هي إلا ثوان حتى غاص بأنبوبته في مرقها، وما هي إلا ثوان أخرى حتى حدق بعدسته في قطرات منها. وإذا به يثور ويصخب ويقوم عن كرسيه فيمسك بكراسة قديمة، فيكتب فيها على عجل ملاحظات مختصرة بخط كنبش الدجاج، لو استطعت قراءته لوجدت معناه أن إحدى هذه القبابات ذات السداد كانت تتنغش وتموج بالأحياء! حتى القبابات التي أغليت ساعة كاملة كانت (كالبحيرة تعج بالسمك الصغير والحوت الكبير). وصاح يقول: (معنى كل هذا أن هذا (نيدم) جاء بتلك الأحياء التي طنطن بها من الهواء. وهذه نتيجة خطيرة في ذاتها ولكن أخطر منها هذه الأحياء يصمد بعضها للماء المغلي زمناً. فلا بد لقتله من إغلائه ساعة أو نحوها)
كان هذا اليوم لاسبلنزاني من الأيام الضخمة العظيمة، وللدنيا من الأيام المذكورة المشهورة، ولو اسبلنزاني لم يكن يدرك كبره وخطره حق الإدراك. إنه أثبت إثباتاً قاطعاً أن نظرية (نيدم) نظرية باطلة، وأن الحيوانات لا تنشأ في هذه الدنيا الجارية من العدم. وأثبت ذلك بنفس اليقين الذي أثبت به (ريدي) العظيم أن الزعم بأن الذباب ينشأ من ذات نفسه في اللحم زعم فاسد وحسبان خاطئ. وفعل اسبلنزاني فوق هذا، فقد خلص علم المكروب من ضياع محقق، وانتشله من خرافة كادت تؤدي به إلى النسيان فالعدم، فان العلميين كانوا قد بدأوا يعتبرون علم المكروب صنفاً من العرفان المدلس الذي لا يتقبل قواعد العلم الصحيحة وطرائقه المستقيمة
واستدعى اسبلنزاني في هياجه أخاه نقولا وأخته كذاك، ليخبرهما بتجربته الرائعة. وذهب بعيون واسعة إلى تلاميذه يخبرهما بأن الحياة لا تنتج إلا عن حياة، وأن كل حي لا بد له من أب، حتى تلك الأحياء الصغيرة الحقيرة! إلحم قبابتك بما فيها من المرق فلن يدخل إليها(89/27)
شيء. وسخنها تسخيناً طويلا تقتل ما بها من الأحياء، حتى تلك التي تستعصي على التسخين الهين القصير! افعل ذلك وأنا ضمين لك ألا تجد بها حياً واحداً، واختزنها وأنا ضمين لك أن تبقى خلواً من الأحياء إلى يوم يبعثون. ثم ترك تلاميذه وذهب فكتب مقالاً بارعاً لاذعاً توجه فيه إلى (نيدم) بالتقريع والسخرية. فمال عالم العلم واضطرب، وثار واصطخب. وتجمع المفكرون في الجمعيات العلمية بلندن وكوبنهاجن وباريس وبرلين، وتجمهروا في دورهم تحت أضواء المصابيح العالية وعلى أنوار الشموع الرفيعة، وأخذوا يتساءلون في لهفة: أيجوز حقاً أن يكون (نيدم) خاطئاً؟
ولم يقتصر الجدل الذي قام بين اسبلنزاني ونيدم على الأرستقراطية من العلماء، ولم يحتبس في قيعان الجمعيات العلمية النابهة، بل تسرب من خلال أبوابها الغليظة إلى الشوارع، وتحسس طريقه إلى الصالونات الفخمة، وودت الدنيا لو أن نيدم صادق، ومالت بقلبها إلى مؤازرته. ذلك لأن الناس في القرن الثامن عشر كانوا يميلون إلى اللهو والدعابة، والى التحرر من كل شيء، والتشكك في كل شيء، والضحك من كل فكرة تنتسب للدين، ورفض أي سلطان يهيمن على الكون. فلما جاءهم نيدم بأن الحياة تخرج اعتباطاً، وأن الشيء ينشأ من لا شيء. صادفت الفكرة هوى في قلوبهم، فسروا منها، وضحكوا وسخروا من هذا الإله المزعوم الذي لا يستطيع حتى تنظيم كونه، والسيطرة على خليقته. وساءهم أن تكون تجارب اسبلنزاني واضحة هذا الوضوح، ومقنعة هذا الإقناع، فلم يستطع دحضها حذاق الكلام، والبارعون في اللعب بالألفاظ
(يتبع)
أحمد زكي(89/28)
من صور الحياة في دمشق
في صحن الجامع الأموي. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
في أمسية طلقة (من صيف سنة 489هـ) خرج الناس - على عادتهم - إلى صحن المسجد الأموي، فبسطوا فيه البسط، وأسرجوا السرج، حتى (كاد المسجد يقطر ذهباً، ويشتعل لهباً)، وأقبلوا عليه زرافات ووحداناً، يقضون بالصلاة حق الله عليهم، وبالاجتماع والتعاون حق بعضهم على بعض، ويعودون بثواب الله، واطمئنان النفس، وراحة البال
وليس أشهى إلى النفس، ولا أحلى في العين، من صحن الأموي في ليالي الصيف؛ وإن المرء ليطوف ما يطوف، وينشق عبير الأزهار، ويسمع تغريد الأطيار، ويصعد الجبال تتفجر منها العيون، ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار، ثم يعود إلى الأموي فيراه أجمل من ذلك كله، ويجد في نفسه حين يجلس فيه هزة طرب، ونفحة أنس، لا يجدهما في شيء من ذاك. . .
وكانت عشية ريحة، تنسم نسماناً منعشاً، فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضئ يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم، ويسرع إلى قبة الماء، وهي (في وسط الصحن) وهي صغيرة مثمنة، من رخام عجيب، محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوار من الرخام الناصع. وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاسي، يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب (لجين) وقد زينت جوانبها بالمصابيح ومصلٍ يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها فيقوم في الصف خاشعاً، يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه، عن الدنيا التي خلفها وراء ظهره. . .
وجالس إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ، أو ينصت لقارئ، أو يذكر الله مع الذاكرين، أو مستند إلى اسطوانة من الأساطين، أو محتب تحت رواق من الأروقة، يقرأ في مصحف، أو ينظر في كتاب، أو يسبح على أصابعه، أو يتفكر في شأن من الشئون، أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد، ورقة النسيم، ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة. . .
وكان حيال قبة زين العابدين (قبة الساعات) في شرقي المسجد، رجل رث الثياب، ما عليه(89/29)
إلا مزق مردمه، وخلقان بالية. يرنو بعينه إلى الناس تارة، وينظر إلى المسجد أخرى، فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً، يقرؤه في هذه القبة الباذخة، قبة النسر، وهي (من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر، ذاهبة في الهواء، منيفة على جميع مباني البلد) (وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظراً منها)
وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس (منارة عيسى) لما جاء في الحديث أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويعجب من سموقها وارتفاعها. وهذه المنارة العربية التي بناها المسلمون، فأجادوا بنيانها، ووضعوا فيها العجائب من براعة الزخرف، ودقة النحت، والضبط والأحكام. والمنارة الشمالية (منارة العروس) وقد ازينت وأوقدت فيها المصابيح، وقام في شرفتها المطلة على الصحن (المؤقت) ليعلن دخول العشاء ودخل المسجد قروي له مسألة. فسأل عن مجلس المفتين حتى دل عليه عند قبة عائشة فجاء فعرض عليهم مسألته، فلم يجد عند واحد منهم جوابها. فذهب يدور على الفقهاء والمحدثين يسألهم، فلم يفز منهم بطائل، فيئس منهم وهم بالخروج من المسجد. . . والفقير ينظر إليه، ويعجب من حاله وحالهم. وعز عليه أن ينصرف آيساً، فأشار إليه. فلما جاءه قال: اعرض علي مسألتك. . .
فضحك القروي، وصاح: انظروا يا قوم إلى هذا المجنون! أنه يجيبني عن مسألتي، وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث! فأقبل الناس على الصوت، وطفقوا يتكلمون، فقال قائل: دعه فانه مجنون. . وقائل: لا عليك أن تسأله فلعل عنده علماً. . . وقائل: سله واحمل جوابه إلى المفتين، فانظر ما هم قائلون؟
ثم سكتوا، وسكت كل من في المسجد، وانقطعت أصوات القراء والمدرسين والذاكرين، ولم يبق فيهم متكلم، لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة، وسمعوا: (الله أكبر. .) تدوي في نواحي المسجد، تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء، فيها روعة الوحي، وجلال الدين، وجمال الإيمان. . . فتقوضت المجالس، ورصت الصفوف، وتحاذت المناكب، وقال الإمام: الله أكبر. . . فماتت الدنيا في نفوسهم وامحت منها الشهوات، وطمست فيها الميول؛ لأنه مهما يكن من كبير فـ. . . الله أكبر! ولا إله إلا الله! فلما قضيت الصلاة، عادوا إلى القروي، فقالوا له: اذهب فسل صاحبك. فذهب إليه، فقال:(89/30)
ياهذا، زعمت أنك قادر على الجواب، فهل أنت على قولك؟ قال: أستعين بالله قال: وقد أعجزت المفتين وحيرتهم، أفأنت تستطيع أن تجيب عليها؟
قال: أستعين بالله
قال: هي كذا وكذا. . . قال الجواب كيت وكيت. . .
وابتدر الفقير الباب!
وحف الناس بالقروي، فقالوا: هل أجابك؟ بم أجابك؟ قل لنا بماذا أجابك؟
فقال: وما أنا بقائل لكم حرفا حتى ألقى المفتين، وأسرع وأسرع معه الناس إلى المفتين، وقد عادوا إلى مجلسهم: فقال: أرأيتم ذلك الفقير؟ قالوا: نعم. قال: قد أجابني عن مسألتي فضحكوا من جفائه وجهالته، وقالوا: بم أجابك؟ قال: بكذا وكذا فلما سمعوه أخذ منهم الجد مأخذه، ونظر بعضهم إلى بعض وكلهم مشدوه حائر لا يدري مم يعجب: أمن كثرة علم الرجل مع رثاثة هيئته. أم من رثاثة هيئته مع كثرة علمه، ثم انتهوا، فقالوا: ويحكم، أدركوا الرجل، فان له لشاناً، وما نظنه إلا آية من آيات الله جاءت ترينا حقيقة العلم، وسمو الفقر، وجلال التواضع. . . أدركوا الرجل!
فقالوا: قد خرج
قالوا: أوليس فيكم من يعرفه؟
فقال رجل من القوم: والله ما رأيناه إلا في السميصاتية وقد نزلها منذ أيام، فكان ينظف كنفها ومراحيضها، ويتخذ مجلسه على الباب. حتى أذنوا له بالدخول. وما رأيناه إلا عاكفاً على صلاة أو مشتغلا بتسبيح، ولم يكلم أحداً!
قال المفتون: ويحكم، قوموا بنا إليه. . .
فلما دخلوا عليه، قالوا له: من أنت؟
قال: رجل من الناس
قالوا: قد سمعنا جوابك، وإنا نسألك بالله الذي لا إله إلا هو إلا ما أخبرتنا من أنت
قال: إنا لله وأنا إليه راجعون. . . أما وقد أقسمتم، فأنا أبو حامد الغزالي
فصاحوا: حجة الإسلام! وانكبوا على يديه يقبلونهما، ويسألونه أن يعقد لهم مجلساً في الغد. ثم انصرفوا(89/31)
فلما كان الغد نظروا فإذا. . الشيخ قد فارق دمشق!
دمشق
علي الطنطاوي(89/32)
الأوزاعي88هـ - 157هـ أحد أصحاب المذاهب
المندرسة
بقلم عبد القادر علي الجاعوني
يؤخذ من المصادر التي بين أيدينا أن اسمه عبد الرحمن ابن عمرو بن يحمد وكنيته أبو عمرو، ولقبه الأوزاعي نسبة إلى أوزاع، ولقد اختلف في معنى هذه الكلمة، فمن قائل إنها بطن من ذي الكلاع من اليمن (وقيل بطن من همذان، وقيل إن الأوزاع قرية بدمشق خارج باب الفراديس. ومهما يكن من أمر، فان لقبه نسبة إلى هذه الكلمة، إذ أن جميع المصادر تتفق على هذا اللقب ولكنها تختلف في حقيقة أصله
ومن الثابت تاريخياً أن مهبط رأسه مدينة بعلبك، وتكاد المصادر تتفق على أنه ولد سنة 88 هـ
أما نشأته وحياته فلا نعرف عنهما شيئاً، لأن المصادر التي بين أيدينا تكاد تكون صامتة كل الصمت، فهي تتخطى هذا الدور بسرعة هائلة وتبرزه لنا (إمام أهل الشام) في عصره، اللهم إلا ما ذكره ابن خلكان من أنه نشأ في البقاع
قلنا إن الأوزاعي ولد في بعلبك، ونشأ في البقاع، إلا أنه لم يقض حياته في مهبط رأسه، وسرعان ما انتقل إلى دمشق خارج باب الفراديس، ثم ارتحل إلى بيروت تلك المدينة التي قضى بها حياته حتى أدركته الوفاة
ولقد كان رحمة الله فوق الربعة، مائلاً إلى السمرة، خفيف اللحية، ويظهر أنه كان يميل إلى التزين، فقد (كان يخضب بالحناء)
ولقد أخذ العلم عن عطاء وابن سيرين ومكحول والثوري. ولقد زاد عليهم أبوز كريا النووي صاحب كتاب تهذيب الأسماء رجالاً من التابعين أهمهم قتادة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، ومحمد بن المنكدر. وأهم تلاميذه: عبد الله ابن المبارك، وهقل وهذا الأخير أصدق الرواة وأثبتهم عن الأوزاعي، وروى عنه جماعة من الذين سمعهم كقتادة والزهري وغيرهم
كان الأوزاعي من تابعي التابعين، وقد قال الذهبي فيه: (هو إمام أهل الشام) وفي موضع آخر يقول: (كان ثقة مأموناً صدوقاً، فاضلاً حبراً، كثير الحديث والعلم والفقه)(89/33)
ويقول ابن خلكان: (هو إمام أهل الشام لم يكن بالشام أعلم منه). ويقول النووي: (كان إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة). ومما يدلك على عظم مركزه في الفقه أنه أجاب في سبعين ألف مسألة فقهية، وقيل ثمانين ألفاً ومما يدلك على علو مقامه وتقدير العلماء له ما ذكره ابن خلكان من أن (سفيان الثوري بلغه مقدم الاوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس بعيره من القطار ووضعه على رقبته فكان إذا مر بجماعة قال الطريق للشيخ)، وناهيك بمنزلة سفيان الثوري ورفيع مقامه في العالم الإسلامي. ولا يغيبن عن البال أنه كان فضلاً عن اشتهاره بالفقه إماماً في الحديث. ويقول كولد زهير: روى عبد الرحمن بن المهدي أن الأوزاعي ليس ثقة في الحديث، ولكنه يعلم كيف يطبق هذه الأحاديث للحصول على حلول المسائل الفقهية
ولم يكن الأوزاعي يتمتع بمركز ديني كفقيه ومحدث فحسب، بل يظهر أنه كان يتمتع بمركز دنيوي رفيع، فقد ذكروا أنه كان عظيم الشأن بالشام (وكان فيهم أعز من السلطان) ولعل القصة الآتية تلقى نوراً على ما ذهبت إليه: قال عبد الحميد ابن حبيب بن أبي العشرين: سمعت أميراً كان بالساحل، وقد دفنا الأوزاعي ونحن عند القبر يقول: رحمك الله أباعمرو! فقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني). وبعد، فقد تبين لك من هذه الروايات الكثيرة المحفوظة في الأصول الأدبية والتاريخية ما كان عليه الأوزاعي من الشهرة، ولا نعرف، لاندثار مذهبه، واندفاع المؤرخين في منح المديح والألقاب، صحة هذه الأقوال، ولكنها على أية حال تحمل بين طياتها الشيء الكثير عن عظم الأوزاعي وشهرته
والروايات مجمعة على أن الأوزاعي كان إمام أهل الشام في عصره، وأنه كان على جانب عظيم من المقدرة في الحديث والفقه، وتطبيق الأول على الثاني للحصول على حلول للمسائل الفقهية المختلفة
مذهبالأوزاعي:
انتشر مذهب الأوزاعي، المسمى باسمه، مدة من الزمن في سورية، وبلاد المغرب؛ وذكر صالح بن يحيى أن مذهب الأوزاعي دام في الشام نحو مائتي سنة، وأن آخر من عمل بمذهبه قاضي الشام أحمد بن سليمان بن جند لم، وقد ظلت المغرب متبعة مذهبه مدة لا تقل عن أربعين سنة(89/34)
وسرعان ما انهزم مذهب الأوزاعي أمام غيره من المذاهب، والسبب في ذلك - كما يظهر - أن الأمراء وأصحاب السلطة ساعدوا غيره من المذاهب نصراً لسياسة أو تحقيقاً لغرض، كما كانت الحالة مع المذهب الحنفي، ويقول صالح بن يحيى (ثم تناقص بمذهب الأمام مالك على يد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموي
ومن المعلوم، أن مذهب الأوزاعي هو أحد المذاهب المندرسة، ويا ليت التاريخ أبقى على هيكله في طواياه، فانه لم يسجل إلا نزراً يسيراً من فقهه لا يمكننا من الحكم عليه. إلا أن هذا النزر يلق نوراً على ماهيته، وقد دلتني قراءته إلى أن اهتمام الأوزاعي بالمسائل الفقهية كان من الوجهة العملية، ولم يكن كصنوه أبي حنيفة مشتغلاً بالفقه من وجهته النظرية. كذلك دلتني قراءة هذا النزر اليسير إلى أن الأوزاعي لم يكن يستعمل الرأي، بل إنه - كما فعل غيره - عدل إلى الكتاب والسنة ففي كلام الأوزاعي عن (سهم الفارس والراجل وتفضيل الخيل)
وعن (المرأة تسبى ثم يسبى زوجها) وعن (ما عجز الجيش عن حمله من الغنائم) وعن (قطع أشجار العدو) ففي كلامه عن أحكام هذه، وعن جميع ما ورد في كتاب (سير الأوزاعي) يستعمل الحديث والكتاب
وقد يطول بنا المقام إن ما شينا فهرس الفصل في سرده، فلا داعي للتكرار، ومن أراد التثبت فليرجع إلى هذه الأقوال في مظانها
ولقد ذهب بعض المؤرخين، أمثال كولد زهير، إلى أن الفقيه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني. وأنا أقول، إن كان هذا صحيحاً، فأحر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي، ومن أقربهم إلى أتباع الكتاب والسنة. وبذلك قال أبو حاتم: (الأوزاعي إمام متبع لما سمع) والكتاب والسنة أبعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني
وفاته:
كانت وفاة هذا الفقيه الكبير في سنة 157هـ، وقد ذكرها أبو الفداء في حوادث تلك السنة، وتوفي وهو في الحمام في بيروت، وقبره على ما ذكره أبو الفداء في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح. والسبب في وفاته على ما جاء في ابن خلكان، أنه دخل الحمام، واتفق أن صاحب الحمام كان(89/35)
مشغولاً فأقفل عليه الباب ومضى، فلما عاد فتح الباب فوجده قد فارق الحياة. رحمه الله رحمةً واسعة، فقد كان إمام أهل الشام غير مدافع. هذا وإن ما ذهبت إليه في هذه الكلمة ليس إلا محاولة بسيطة أرجو إن لم أوفق في نتائجها، أن أكون قد وفقت في الطريق الذي سلكته. فالبحث في اعتقادي ناقص مبستر، لأني لم أطلع على كل ما كتب عن الأوزاعي فقد تكون هناك كتب كثيرة، لم تنشر أو لم أوفق إلى العثور عليها. وعسى أن تحفز هذه الكلمة بعض الباحثين من الفضلاء فيوفي هذه الترجمة ويحلل هذا المذهب إحياء لتراثنا العلمي الذي ذهبت به الأحداث والقرون.
القدس
عبد القادر علي الجاعوني بكلوريوس في العلوم(89/36)
17 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
ولكن الروح التي قد أصابها الدنس، والتي تكون كدرة عند انتقالها، والتي ترافق الجسد دائما، وتكون خادمته، والتي تغرم وتهيم بالجسد ورغبات الجسد ولذائذه حتى ينتهي بها الأمر إلى العقيدة بأن الحقيقة لا تكون إلا في صورة جسدية، يمكن الإنسان أن يلمسها، وأن يراها، وأن يذوقها، وأن يستخدمها لأغراض شهواته - أعني الروح التي اعتادت أن تنفر من المبدأ العقلي، وأن تخافه وتتحاشاه، ذلك المبدأ الذي هو للعين الجسمانية معتم تستحيل رؤيته، والذي لا يدرك إلا بالفلسفة وحدها - أفتحسب أن روحاً كهذه سترحل نقية طاهرة؟
فأجاب: يستحيل أن يكون هذا
- إنها قد استغرقت في الجسدي، وقد أصبح ذلك طبيعياً بالنسبة لها، لاتصالها المستمر بالجسد، وعنايتها الدائمة به
- جد صحيح
- ويحق لنا يا صديقي أن نتصور أن هذه هي تلك المادة الأرضية الثقيلة الكثيفة، التي يدركها البصر، والتي بفعلها تغشي الكآبة مثل هذه الروح، فتنجذب هبوطاً إلى العالم المرئي مرة أخرى، لأنها تخاف مما هو خفي، وتخاف من العالم السفلي فتظل محومة حول المقابر واللحود، إذ ترى بجوارها - كما يحدثوننا - أشباح طيفية بعينها، لأرواح لم تكن قد رحلت قية، ولكنها ارتحلت مليئة بالمادة المنظورة فأمكن رؤيتها
- يغلب جداً أن يكون ذلك يا سقراط
- نعم يا سيبيس، فأغلب الظن أن يكون ذلك، ولا بد أن تكون هاتيك أرواح الفجار لا أرواح الأبرار، هؤلاء الفجار الذين كتب عليهم أن يجوبوا في تلك المواضع جزاء وفاقا بما اقترفت سبيلهم في الحياة من إثم، فلا ينقطع تجوابهم، حتى تشبع الرغبة التي تملؤهم، ثم يسجنون في بدن آخر، وقد يظن أن تلازمهم نفس الطبائع التي كانت لهم في حياتهم الأولى(89/37)
- أي الطبائع تريد يا سقراط؟
- أريد أن أقول إن من اندفعوا وراء الشره والفجور والسكر، ولم تدر في خلدهم فكرة اجتنابها، سينقلبون حميراً وما إليها من صنوف الحيوان. فماذا ترى أنت؟
أرى أن ذلك جد محتمل
وهؤلاء الذين اختاروا جانب الظلم، والاستبداد والعنف، سينقلبون ذئاباً أو صقوراً أو حداً، وإلا فإلى أين تحسبهم ذاهبين؟ فقال سيبيس: نعم، إن ذلك، ولا ريب، هو مستقر تلك الطبائع التي تشبه طبائعهم
فقال: وليس من العسير أن نهيئ لهم جميعاً أمكنة تلأئم طبائعهم وميولهم المتعددة
فقال: ليس في ذلك عسر
- وحتى بين هؤلاء ترى فريقاً أسعد من فريق، فأولئك الذين اصطنعوا الفضائل المدنية والاجتماعية التي تسمى بالاعتدال والعدل، والتي تحصل بالعادة والانتباه، دون الفلسفة والعقل، أولئك هم أسعد نفسا ومقاماً. ولم كان أولئك هم الأسعد؟ لأنه قد يرجى لهم أن يتحولوا إلى طبيعة اجتماعية رقيقة تشبه طبيعتهم، مثل طبيعة النحل أو النمل، بل قد يعودون مرة ثانية إلى صورة البشر، وقد يخرج منهم أناس ذوو عدل واعتدال
- ليس ذلك محالاً
- أما الفيلسوف، أو محب التعلم، الذي يبلغ حد النقاء عند ارتحاله، فهو وحده الذي يؤذن له أن يصل إلى الآلهة، وهذا هو السبب، أي سمياس وسيبيس، في امتناع رسل الفلسفة الحق عن شهوات الجسد جميعاً، فهم يصبرون ويأبون أن يخضعوا أنفسهم لها - لا لأنهم يخشون إملاقاً، أو يخافون لأسرهم دماراً، كمحبي المال، ومحبي الدنيا بصفة عامة، ولا لأنهم يخشون العار والشين اللذين تجلبهما أعمال الشر كمحبي القوة والشرف. قال سيبيس: لا يا سقراط، إن ذلك لا يلائمهم فأجاب: حقاً إنه لا يلائمهم. وعلى ذلك فأولئك الذين يعنون بأرواحهم، ولا يقصرون حياتهم على أساليب الجسد، ينبذون كل هذا، فهم لن يسلكوا ما يسلك العمي من سبل، وعندما تعمل الفلسفة على تطهيرهم وفكاكهم من الشر، ويشعرون أنه لا ينبغي لهم أن يقاوموا فعلها، بل يميلوا نحوها، ويتبعوها إلى حيث تسوقهم
- ماذا تعني يا سقراط؟(89/38)
قال: سأحدثك. إن محي المعرفة ليدركون عندما تستقبلهم الفلسفة أن أرواحهم إنما شدت إلى أجسادهم وألصقت بها، ولا تستطيع الروح أن ترى الوجود إلا خلال قضبان سجنها، فلا تنظر إليه وهي في طبيعتها الخاصة، إنها تتمرغ في حماة الجهالة كلها، فإذا ما رأت الفلسفة ما قد ضرب حول الروح من قيد مخيف، وأن الأسيرة تنساق مدفوعة بالرغبة إلى المساهمة في أسر نفسها (لأن محبي المعرفة يعلمون أن هذه كانت الحالة البدائية للروح، وأنها حين كانت في تلك الحال، تسلمتها المعرفة، ونصحتها في رفق، وأرادت أن تحررها، مشيرة لها بأن العين مليئة بالخداع، وكذلك الأذن وسائر الحواس، لتحملها على التخلص منها تخلصاً تاماً، إلا حين تدعو الضرورة إلى استخدامها، وأن تتجمع وتتفرغ إلى نفسها، وألا تثق إلا بنفسها وما توحي به إليها بصيرتها عن الوجود المطلق، وأن تشك في ما يأتيها عن طريق سواها، ويكون خاضعاً للتغير)، فالفلسفة تبين لها أن هذا مرئي ملموس، أما ذلك الذي تراه بطبيعتها الخاصة فعقلي وخفي، وروح الفيلسوف الحق تظن أنه لا ينبغي لها أن تقاوم هذا الخلاص، ولذا فهي تمتنع عن اللذائذ والرغبات، ولآلام والمخاوف، جهد استطاعتها، مرتئية أن الإنسان حينما يجوز قدراً عظيما من المسرات أو الأحزان أو المخاوف أو الرغبات، فهو لا يعاني منها هذا الشر الذي تقره الظنون - كأن يفقد مثلاً صحته أو متاعه، مضحياً بها في سبيل شهواته - ولكن يعاني شراً أعظم من ذلك، هو أعظم الشرور جميعاً وأسوأها، هو شر لا يدور في خلده أبداً
قال سيبيس: وما هو ذلك يا سقراط؟
- هو هذا: حينما تحس الروح شعوراً شديد العنف، بالسرور أو بالألم، ظننا جميعا، بالطبع، أن ما يتعلق به هذا الشعور العنيف يكون عندئذ أوضح وأصدق ما يكون، ولكن الأمر ليس كذلك
- جد صحيح
وتلك هي الحال التي يكون فيها الجسد أشد ما يكون استعباداً للروح
- وكيف ذلك؟
- لأن كل سرور وكل ألم يكون كالمسمار الذي يسمر الروح في الجسد، ويربطها به، ويستغرقها، ويحملها على الإيمان بأن ما يؤكد عنه الجسد أنه حق فهو حق، ومن اتفاقها مع(89/39)
الجسد، وسرورها بمسراته ذاتها، تراها مجبرة على أن تتخذ عادات الجسد وطرائقه نفسها، ولا ينتظر ألبتة أن تكون الروح نقية عند رحيلها إلى العالم السفلي، فهي مشبعة بالجسد في كل آن، حتى أنها سرعانما تنصب في جسد آخر، حيث تنبت وتنمو، ولذا فهي لا تساهم بقسط في الإلهي، والنقي، والبسيط. فأجاب سيبيس: ذلك جد صحيح يا سقراط؟
وهذا يا سيبيس هو ما دفع محبي المعرفة الحق أن يكونوا ذوي اعتدال وشجاعة، فهم لم يكونوا كذلك، لما تقدمه الحياة الدنيا من أسباب
- لا، ولا ريب
- لا، ولا ريب! فليست تفكر روح الفيلسوف على هذا النحو، إنها لن تطلب إلى الفلسفة أن تحررها، لكي تستطيع، إذا ما تحررت، أن تلقي بنفسها مرة أخرى، في معترك اللذائذ والآلام، فتكون بذلك كأنها تعمل ما تعمل، لا لشيء إلا لكي تعود فتنقضه، وكأنها تنسج خيوطها - كما فعلت بنلوب. بدل أن تعمد إلى حلها، ولكنها ستتخذ من نفسها عاطفة راكدة ستتأثر خطو العقل، فتلازمه لتشاهد الحقيقي والإلهي (وهو ليس موضوعاً للرأي) ومن ثم تستمد غذاءها، وهي تحاول بذلك أن تحيا ما دامت في الحياة، وتأمل أن تلتمس ذوي قرباها بعد الموت، وأن تتحرر من النقائص البشرية، أي سمياس وسيبيس، أن تتبدد روح كان ذلك غذاءها، وكانت تلك آمالها المنشودة، عند انفصالها عن الجسد فتذروها الرياح، وتصبح عدما ليس له وجود
(يتبع)
زكي نجيب محمود(89/40)
أنشودة عبقر
لشاعر الشباب السوري أنور العطار
يا مزهري نغم أغاني الهوى ... القلب يعطي والهوى يسأل
أَأَنتِ مِنْ عَبْقَر أُنْشُودَةٌ ... أرْسَلَها منْ رُوحِهِ مُرْسَلُ
أمْ أنتِ دُنْيا حَفَلَتْ بالهوَى ... ياَ طِيبَ ما جاَءتْ بهِ تَحْفِلُ
أَهمُ في حُسِنكِ لا أرْعَوِي ... أنْقُلُ مِنْ نُعْمَاهُ ما أنقُلُ
أَغِيبُ في جَنَّاتِهِ ساَدِراً ... كغَيبْةِ النَّحْلِ إذا يَنْهَلُ
أنتِ نِدَائي في سُجُونِ الدُّجى ... ومَفْزَعِي في الرُّعْبِ وَالمَوْئِلُ
وَجْهُكِ هذا أمْ رُؤى حُلوَةٌ ... وثَغْركِ اللمَّاحُ أمْ سَلسَل
يَفْتِنُني منكِ صِبىً ناضِرٌ ... آذَارُ في أعطاَفِهِ يَرْفُلُ
مُزَوَّقُ الأَفْياءِ يَنْدَى مُنى ... كأنَّهُ منْ ضِحكهِ جَدوَلُ
تَضيعُ في أَمْوَاهِهِ حَسْرَتي ... وما يُعاني القَلْبُ أوْ يَحَمِلُ
تُلْهِمُني عَينَاكِ أنَّ الهوَى ... إذا طغَتْ أوْهَامُهُ يَقْتُلُ
إذاَ احْتَوَاكِ القلْبُ في حُلْمِهِ ... قُلْتُ أَقَلبي أَنْتَ أَمْ جُلْجُلُ
يَظَلُّ منْ لوْعَتِهِ رَاجِفاً ... كما انثَنى واضطربَ السُّنْبُلُ
لوْلاَكِ لم يُسْكِرْ فُؤَادي الأَسى ... ولم يُهَدْهِدْني الهوَى الأولُ
دُنْيايَ إِمَّا غِبْتِ عَنْ نَاظِرِي ... فَوْضى فلاَ سُؤالٌ ولا مَأْملُ
أُحِسُّها صحْرَاء عُرْياَنَةً ... مُوحشةً تُجْوَى وَتُستثقَلُ
لا الانْسُ ضَحَّاكٌ بِساَحاَتِهاَ ... وَليسَ فيها منْ حِمىً يَأهُلُ
أَرُدُّ عنها الطَّرْفَ مُغْرَوْرِقاً ... غَيَّانَ في حَيْرَتِهِ يوُغِل
عِيشي بِقَلبي فرَحاً شاَمِلاً ... وَأَلهِميني منْكِ ماَ يَجْمُلُ
وفَسَّرِي للرُّوحِ لغْزَ الهوَى ... تَكَشِفْ فجَاجاً سُبلُها تُجْهَل
ماَ ضَرَّني إنْ كُنتِ لي أنني ... يَكثُرُ حسَّادي والعُذَّلُ
إنْ جدَّ في شكوْىَ الهوىَ شاعرٌ ... ظَنُّوهُ منْ ضَلَّتِهمْ يَهْزِلُ
يَهُدُّني شَجوِي لكنما ... أظلُّ في غمرتهِ أجذلُ(89/41)
على فَمي قيثَارة تشتكي ... وفي ضُلوعي زَهرةٌ تذْبُلُ
اقتَات بالأوهاَمِ في وَحدةٍ ... الرُّعْبُ فيها شَبَحٌ يمثُلُ
تَطفَحُ بالأهوالِ أرجاؤها ... والفكرُ تيَّاهٌ بها مُجفِلُ
إن خَلَصَت رُوحي مِنْ مَجْهَلٍ ... هَبَّ يُعمَّي قصدَها مَجْهَلُ
تعْمُرُ بالجنَّةِ دَارَتُهُ ... والرَّيْبُ يطغى والسَّنا يأفِلُ
أسيرُ فيه لا الهُدى رائِدي ... وليس لي عنْ خوضِهِ مَزْحَل
أخبطُ في يَهْماَء منْ حَيرَتي ... والليلُ مَرْهُوبُ السُرى ألْيَل
أسمعُ منهُ نغماً مُحزناً ... تصرُّه في أذني الشّمْألُ
اَمامَ عيْنَيَّ دُجىً راعِب ... يَلفّني مِطرَفُهُ المُسَبَل
وَمَنزِلي ناءٍ وَبي مِحنةٌ ... فآه لوْ يَقترِبُ المَنزِلُ
ضججْتُ من مَحْبِسِ هذا الدُّجى ... فَهل يَبينُ النُّور أو يُقبل
أوَّاهُ من مُضطَرَبٍ جاهدٍ ... الغْيْبُ محجوبٌ بهِ مُقفَل
وَوَحشةٍ في القَلْبِ ماَ تمَّحي ... وَظُلمةٍ في النفَّسِ ما تنْصُل
هذي حياتي مِلْؤهاَ حسرةٌ ... وكاهِلي من عِبئها مُثقَل
كأنني في حقلها غَرْسَةٌ ... ذاويةٌ أخطأها المنجلُ
أفردها المقدارُ في عالمٍ ... نعيمهُ الخالِص مُستوْبَل
الرُّوحُ منَّي فقَدتْ تِرْبَها ... فاندَفَعت من همَّها تعْولُ
آناً تَرَاها سَكَنت لا تَعي ... كأنها في صَمتِهاَ الهْيكل
وتارةً كالنارِ جَياشةً ... كأنما يَغلي بها مِرْجَل
كذاكَ أَحيا مُوجعاً ساهِماً ... والموتُ من هذا الضَّنى أمثَل
ياَ طيفْها يرْهِقُ قلبي الأسى ... وأنتَ عني ذاهِلٌ تَغفَل
أحببتها مُغريةً كالدّنا ... لا سحرها يَفْنَى ولا يَبْطُل
تتركُ في النفْسِ أحاديثها ... أعذب مما يترُكُ البُلبُل
أشمُّ منها عالماً عاطراً ... يكادُ من فرْطِ الشَّذا يَثمَل
يا مِزْهَري نَغَّمْ أغاني الهوَى ... القلْبُ يُعطِي والهوى يسَألُ(89/42)
وأنْسِني الدُنيا وأشْجانها ... فمن عَناء العَيشْ ما يُذهِل
وأنت يا مَشْعَلي المُرتَجى ... أضئ لي الآفاق يا مشعَلُ
هذا السّنا الرفّافُ من خاطِري ... واللحْنُ من رُوحي مُسترسَل
دمشق
أنور العطار(89/43)
من أدب الهند
الأمير خسرو الشاعر الهندي الكبير
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
ترجم صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام بعض الأبيات الفارسية للشاعر الهندي العلامة الصوفي الكبير الأمير خسرو في (الرسالة)، فأثارت الترجمة في نفسي ذكرى ذلك العبقري العظيم أياما كنت أطالع بعض دواوينه وأحاول أن أقيس عظمة عبقريته في الصغر بفهم غير ناضج وإدراك غير كامل فكانت تفيض عن سعتهما، فكنت أستعين بمسامرات الإخوان ومحادثات الأقران. واليوم بعد نضوج الفهم حين أحاول قياسها أرى أن استقصاء جميع نواحيها لا يزال من غير المستطاع لي، وإن كانت لذلك أسباب إخرى، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. أحب أن أبلغ اليوم بقدر الإمكان رسالته إلى (الرسالة)، إذ حياة العظماء والأدباء رسالة وقدوة للأجيال في كل مكان وزمان، وأنثر أزهار الحديث عنه على مرقده الخالد الحي وهو ذكراه في القلوب
ولد الأمير خسرو في الهند في مدينة بطيالي بقرب دهلي في سنة 652 هجرية من سلالة عريقة في الشرف من الأتراك المهاجرين إلى الهند من مظالم جنكيز خان في وسط آسيا. فكانت قبيلته المسماة (لاتشين) تسكن في بلدة تكش في ولاية ما وراء النهر، قد هاجرت إلى الهند عند هجوم جنكيز خان؛ وكان أبوه سيف الدين محمود رئيس تلك القبيلة. وكان في الهند حينئذ شمس الدين التمش ملكاً من ملوك المماليك، فرحب بجميع المهاجرين وأكرم وفادتهم. وأما أم خسرو فكانت بنت عماد الملك وزير الحربية للسلطان بلبن. وقد روى أمير خوند في كتابه سير الأولياء عن والده أن في جوار والدي الأمير خسرو كان يسكن صوفي كبير مسمى (أمير لا تشين) فلما ولد خسرو حمله والده ملفوفاً في القماش إليه، فقال الصوفي: (أنتم جئتم إلى بمن سيسبق خاقاني (الشاعر الفارسي الشهير) بدرجتين؟
مات أبو خسرو وهو في السابعة من سنة، ولكن أسرته كانت مثرية فلم تهمل تربيته وتعليمه، فتربى خسرو في دهلي، وكانت دهلي إذ ذاك حاضرة الحكومة منذ ثلاثة أرباع قرن، فكانت مركز العلوم والفنون، ومحور الحضارة والمدنية، ومأوى الفضلاء والعلماء، ومطمح أنظار أهل الفن والصناعة مما يجعلها ثانية في الأهمية لبغداد. في هذا الوسط(89/44)
الراقي تربى خسرو فنبغ في العلوم والفنون المختلفة، غير أن ميله الغريزي كان إلى ثلاثة: الشعر والموسيقى والتصوف، فأجادها في أقل وقت، وبلغ فيها درجة الإمامة
بداء خسرو يقول الشعر وهو في صباه حتى أصبح الشعر له مهنة معترفا بها من الجميع في نهاية العقد الثاني. ولكن تقاليد ذلك الزمان والظروف العائلية كانت تقتضي أن يكسب العيش بواسطة مهنته هذه، فلم يكن له بد من أن يتصل بأمراء وسلاطين ذلك الزمن من مقدري مهنته. فاتصل خسرو في سنة 676 أول مرة بعلاء الدين كوشيل خان المعروف بين الناس باسم (ملك شجو)، وملك شجو كان ابن أخت الإمبراطور غياث الدين بلبن و (أمير حاجب) (أي رئيس الحجاب) في بلاطه. ولكنه كان فاضلاً يقدر العلم والفن، واسع الصدر كريماً. فقد قال المؤرخ الشهير ضياء الدين برنى، وهو من معاصري خسرو وأصدقائه في كتابة تاريخ فيزور شاهي: (أنا سمعت كثيراً ممن أعتمد عليهم، ومن الأمير خسرو أنه لم يوجد مثيل الملك علاء الدين كوشيل خان في سعة الصدر والكرم، وفي إطلاق الرصاص والصيد ولعب الكرة، وكان الملك علاء الدين قد نال شهرة واسعة وإن لم تدم، حتى أن هلا كوخان الشهير أرسل إليه خنجراً وعرض عليه أن يكون حاكما على نصف العراق لو أراد الذهاب هناك. ولكن خاله الإمبراطور بلبن استنكر حريته الخارجة عن العادة. ويذكر المؤرخ برني في محل آخر أن شجو كان أغزرهم جوداً وأعظمهم منحاً، وزع جميع أملاكه على الناس ولم يبق لنفسه إلا المعطف الذي ستر جسمه. ومن أمثال جوده وتقديره للشعر أنه أعطى جميع الخيل في اصطبله للشاعر خواجه شمس معين ووزع عشرة آلاف تنكه على المغنين عند تقديم قصيدته وإنشادها إياه. ولم يكن خسرو أقل حظاً من هؤلاء الشعراء لتفوقه عليهم وذكائه الخارق. فقد قال قصائد غير واحدة في مدح شجو، ونحن ننقل إلى العربية بعض أبيات من قصيدته البديعة التي تعد مثالاً للغلو الشرقي في المديح قال
(إن الأشعة البهيجة لنور الصبح الملون بلون العنبر قد بددت ظلام الليل، والهلال الأصفر كالمريوق بقرنيه المقوسين كاد أن يغيب عن النظر، فسألت الصبح: أين شمسك الموعود بها؟ فأراني وجه شجو المشرق بنوره البازغ! ثم توجهت إلى السماء المرصعة بالنجوم، فسألتها: من يساعد نجومك في سيرها؟ فضحكت من سؤالي العبث، وأرتني أيدي الملك(89/45)
التي جعلتها مستقيمة)
لم يدم اتصال خسرو مع ملك شجو أكثر من سنتين، فان قلب شجو تغير على الشاعر خسرو لحادثة حدثت، وهي أن نصير الدين بغراخان النجل الثاني الإمبراطور غياث الدين بلبن كان مرة على مأدبة شجو والشاعر كذلك، فلما سمع منه شعره استحسنه وسر كثيراً وقدم له طستاً مملوءاً بالنقود الفضية، فغضب شجو على خسرو لقبوله هذا الانعام وتغير؛ وعبثا حاول خسرو بعد ذلك إرضاءه
اتصل خسرو بعد ذلك بنصير الدين بغراخان حاكم سمانا لمدة قصيرة، ثم انقطع عنه واتصل بعده بسلطان محمد الشهير بخان شهيد، النجل الأكبر للإمبراطور غياث الدين بلبن؛ وكان خان شهيد حاكماً على إقليمي البنجاب والسند، وعندما حضر العاصمة دهلي مع ريع الإقليمين في سنة 782 هجرية قابل الشاعر خسرو وأخذه إلى البنجاب. بقي خسرو مع خان شهيد خمس سنين، وكان دائماً موضع العطف الخاص والإجلال والتكريم، لأن خان شهيد كان أمثل الأمراء على حسب تقاليد الزمن في الأخلاق والشجاعة والعلم والأدب، ومن أكبر مقدري الفنون والشعر، فقد وجد في بياضه ثلاثون ألف بيت يعترف بها نقاد الفن على كمال الذوق وحسن الاختيار والعلم الواسع، وكان بيته ملجأ العلماء ومأوى الفضلاء، وكان يبذل قصارى جهده في جمع كبار العلماء والفضلاء والشعراء في مجلسه، فقد دعا الشيخ سعدي الشيرازي الشاعر الفارسي الشهير مرتين، وأرسل إليه نفقات السفر ووعد ببناء صومعة له في بلدة ملتان والأنعام الكثير، ولكن الشيخ اعتذر لكبر سنه، وبعث إليه بعض غزلياته مكتوبة بيده، ولفت نظره للشاعر الأمير خسرو مبالغاً في مدح ذكائه وفضله
في سنة 787 هجرية هجم المغول على الهند؛ فقام خان شهيد للدفاع عن بلاده وقتل؛ ولم يكن الأمير خسرو جليس الأمراء فقط، بل كان قائداً عسكرياً أيضا، فقد اشترك في محاربة المغول مع سيده ووقع أسيراً في يدهم بعد أن قتل سيده فكابد ما كابد على أيديهم من الألم والأذى. ذكر ذلك بكلمات مؤثرة في رثائه الشهير لسيده ننقل بعض أبياته إلى العربية؛ قال: (ثم فاجأتنا نازلة من السماء الزرقاء، وقامت القيامة على الأرض، إذ فرقت جماعة أصدقائنا مثل تفريق أوراق زهرة الورد بريح الخريف المخربة للحديقة)(89/46)
ثم وصف آلام أسره فقال:
(إن شهداء المسلمين لونوا الصحراء بلون دمهم، بينما كانت أعناق الأسارى منظومة نظم الأزهار في الإكليل. وأنا أيضا كنت أسيراً خوفاً من أنهم يريقون دمي، لم تبق في عروقي قطرة من الدم. وكنت أجري كالماء هنا وهناك مع نفطات لا تعد على قدمي مثل الفقاقيع على سطح النهر. وكان لساني قد جف من العطش الشديد، ومعدتي التصقت (بظهري) من الجوع. وهم (أخذوا ثيابي) وتركوني عريان مثل الشجرة المجردة من الأوراق في زمن الشتاء، أو الزهرة المخموشة بالأشواك. والمغولي الذي أسرني كان جالساً على الحصان مثل الأسد، وكانت الرائحة الكريهة تسطع من فمه وإبطه، وكان على ذقنه خصلة من الشعر الوسخ مثل النبات. فان توانيت وراءه من الضعف كان يهددني تارة بمقلاته وتارة برمحه، فكنت أتنهد على تلك الحالة وأرى أن النجاة منها مستحيلة. ولكني أشكر الله على أني استعدت حريتي بغير أن يطعن صدري برمح، أو يقطع جسمي بسيف)
وحكاية استعادة حريته هي أن المغولي وحاشيته وخيله كلهم نزلوا في النهر عند غسق الليل لشرب الماء فانتهز خسرو الفرصة وهرب وبعد وصوله إلى دهلي كتب هذا الرثاء المؤثر الذي شاع وذاع حيث أصبح به خسرو معروفاً عند عامة الناس أيضاً بقي خسرو بعده في مسقط رأسه في خدمة أمه حتى تولى الأمر معز الدين كيقباد، وهو آخر ملوك المماليك، فاتصل به وصنف له كتابه الشهير (قِران السعدين) على طلبه، ولم تمض مدة قليلة حتى انتقل الحكم من المماليك إلى الأسرة الخلجية. فتولى الأمر أول ملوكهم السلطان جلال الدين خلجي الذي كان يعرف خسرو ويعترف بشعره وذكائه قبل اعتلائه العرش. فمنح خسرو لقب (الأمير)، وعينه في منصب أبيه بمرتب ألف ومائتي تنكة في السنة. ثم رفعه إلى منصب محافظ القرآن الملكي. فأصبح من أعضاء بلاط الملك ومن ندمائه. فكتب له خسرو كتابه (مفتاح الفتوح)، وهو تاريخ غزوات جلال الدين خلجي بالشعر. نشبت حرب أهلية بين العائلة الملكية فقتل فيها جلال الدين وتولى الأمر ركن الدين خلجي لمدة أقل من سنة، ثم تولى علاء الدين خلجي، فاتصل به الشاعر خسرو، وهو أطول اتصالاته بالأمراء، لأن حكومة علاء الدين دامت عشرين سنة، وهي أيضا مدة أكثر إنتاجا في حياة خسرو. فقد صنف في أقل من ثلاث السنين الأولى من تلك المدة خمس روايات قصصية(89/47)
منظومة وهي: (1) مطلع الأنوار، (2) شيرين وخسرو، (3) ليلى والمجنون، (4) آئين سكندري (أي القانون الإسكندري)، (5) هشت بهشت (أي الجنات الثمان)، وتسمى كلها أيضا (بنج كنج) أي (الخزائن الخمس). ودشنها لشيخه في الطريقة الصوفي الولي الكبير مولانا (نظام الدين أولياء) وأهداها إلى السلطان علاء الدين. وبينما كان مشغولاً بتصنيف ليلى والمجنون منها فقد أمه وأخاه في سنة 697 فحزن، ورثاهما بكلمات تسيل الدموع في مصنفه، ننقل رثاءه لأمه إلى العربية قال: (وفي هذه السنة فقدت نورين من نجمتي وهما أمي وأخي، أسبوع واحد من سوء حظي فقدت فيه قمرين! إن حظي كبسني من جهتين، والفلك بددني بلطمتين، فأصبح نوحي مزدوجاً وغمي مضاعفاً، وا حسرتاه! أنوح على الاثنين وا أسفاه! ألمان لمثلى! إن شعلة واحدة كانت تكفي لزرعي إن صدرا واحدالا يتحمل ثقلين، ولا رأساً واحداً وجعين، إن أمي تحت التراب، فلا غرو أن ألوث رأسي بالتراب يا أمي! أين أنت؟ لم لا ترينني محياك)؟
اطلعي ضاحكة من قلب الأرض، وارحمي بكائي المر! إن في كل أثر من قدمك لي تذكاراً من الجنة، إن وجودك كان حافظاً لنفسي ومعيناً ومتكأ لي، يوم كنت تتكلمين بشفتيك كان نصحك صلاح أمري، واليوم ختم على (لساني) وسكوتك لا يزال ناصحاً
صنف خسرو في عهد علاء الدين ما عدا بنج كنج (أي الخزائن الخمس) ثلاثة أو أربعة كتب أخرى سنبينها عند كلامنا عن مصنفاته، وفي سنة 715 هجرية توفي علاء الدين فتولى الأمر قطب الدين خلجي فاتصل به خسرو وصنف في عهده (نه سبهر) أي (الأفلاك التسعة) وقدمه إليه فسر السلطان منه جداً وأنعم عليه بفضة تساوي وزن الفيل، وبعد وفاة قطب الدين تولى الأمر نصير الدين خلجي لمدة أقل من سنة، ثم انتقل الأمر من الأسرة الخلجية إلى الأسرة التغلقية، وكان أول ملوكها غياث الدين تغلق فاتصل به خسروا وصنف له (تغلق نامه) أي كتاب تغلق في سنة 725 هجرية وهو آخر تصانيف خسرو لأنه مات في تلك السنة
عاش خسرو 73 سنة وصنف 99 كتاباً أكثرها في الشعر باللغة الفارسية والهندية ضاع جلها إلا القليل، وعاشر ملوك، وإن لم تجاوز مدة بعض منهم سنة، بينهم ملوك الأسرة الخلجية الكاملة؛ وكان خسرو عالماً فاضلاً وشاعراً مفلقاً، وموسيقياً بارعاً، وصوفياً كبيراً.(89/48)
وسنتكلم عن نبوغه في الشعر والموسيقى والتصوف في المقال الآتي إن شاء الله.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي(89/49)
ملخص محاضرة
الفن الفارسي
للشاعر الإنكليزي
(وفد على مصر في هذه الأيام الشاعر الإنكليزي المشهور مستر لورنس بنيون أمين القسم الشرقي بالمتحف البريطاني، وألقى أربع محاضرات تناول فيها أغراضاً مختلفة في الفن والأدب، وهذه أولى محاضراته عن الفن الفارسي)
إن الكلام عن الفن الفارسي يستوجب من المحاضر أن يلم في بادئ الأمر بالموقع الجغرافي الذي كان له أثر لا ينكر في توجيه الرسم الفارسي ناحية خاصة، يلاحظها كل من له اهتمام به وتعلق بدراسته، وإن وقوع فارس بالقرب من بلاد العرب وتوسطها بينها وبين بلدان الشرق الأقصى صبغ الفن الفارسي بصبغة خاصة وإن ظل مع ذلك محتفظاً بروحه القوية، وشخصيته البارزة التي تميزه تميزاً واضحاً جلياً من فنون الأمم الأخرى سواء أكانت غربية أم شرقية، فلهذا الفن مميزاته الخاصة وروحه المستمدة من صميم الواقع
وكما أن للظروف الجغرافية تأثيراً، كذلك للظروف السياسية أثراً لا يمكن للباحث أن يتجاهله أو ينكره، فقد تغلبت على هذه البلاد عدة دول حاكمة كالإغريق في القديم والساسان والمسلمين، وكانت الدولة الساسانية آخر الدول الفارسية التي حكمت إيران، والتي توطد لها العرش زهاء أربعة قرون منذ القرن الثالث حتى السابع الميلادي، إذ ظهر قبل ذلك بقليل دولة الإسلام الفتية، فاكتسحت ما في طريقها، وخفق علم الإسلام على كثير من ربوع العالم، ولما كانت فارس قريبة من بلاد العرب فقد اتجهت إليها أنظارهم بطبيعة الحال والموقع، ولم يلبث العرب أن خضدوا شوكة دولة بني ساسانواستتبت أقدامهم فيها، كما أخذ الدين ينتشر في ربوعها، ومن ثم أخذ الفن الفارسي من رسم إلى تصوير إلى شعر يتأثر بعض الشيء بهذه الظروف الجديدة التي أحاطت به، وربما كان ذلك أوضح في الشعر منه في الرسم والتصوير
وهنا نرى لزاماً علينا أن نشير إلى أن العرب حين غزوا هذه البلاد كانت هناك نهضة فنية، تدلنا على ذلك الآثار التي أماطت اللثام عنها بعثة ألمانية، إذ عثرت على كثير من(89/50)
هذه الرسوم في بلاد الأفغان، وأقدم هذه اللوحات بوذية، ولكنها على درجة عالية من الإتقان
وقد قامت في ذلك الحين مدرسة فنية في بغداد التي كانت مركزاً ثقافياً إسلامياً مهما، وإذ كان العرب قد نشروا سلطانهم على هذه الربوع، فقد أدوا للفن خدمة كبرى بأن كانوا وسيطاً قوياً في نقل الروح الغربية إلى الشرق، وتطعيم الفن الفارسي بالفن العربي، وذلك بأن العرب اتصلوا اتصالاً مباشراً بالأمم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعاملوا معها في جميع مرافق الحياة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلابد لنا من أن نشير إلى أن أثر الفن الصيني كان أقوى من تأثير الفن الأوربي في التصوير الفارسي، وإن المقارنة بين الفنين الصيني والفارسي لتظهر لنا هذا أجلى من المقارنة بين الثاني والغربي؛ وكان الاختلاط في أول الأمر قليلاً، ولكن الظروف المحيطة غيرت الأمر الواقع، وزادت الصلات توثقاً، إذ ظهرت دولة المغول، وهم من الجنس الأصفر تحت زعامة القائد المعروف تيمورلنك، فاتصلت البلاد الصينية بربوع الشرق الأدنى، وأصبحت هذه البلاد جميعاً أكثر ارتباطاً من ذي قبل. وهنا كان عصر ازدهار وقوة للفن الفارسي!
ذلك بان الفنانين الفارسيين حين شاهدوا آثار المصورين الصينين أعجبهم هذه البراعة الفائقة والدقة المتناهية في إبراز العواطف والمناظر المختلفة في صور محسوسة تسترعي الانتباه، وتشهد لهم بالعبقرية والفن، إذ كانت هذه الرسوم تستلزم التفكير الدقيق في كيفية تهيئتها وإبرازها على هذا النحو العجيب، ومن ثم بدأوا يجارونهم وينهجون سبلهم، ويترسمون آثارهم وقواعدهم، ورأوا أن إبراز الإحساس بالواقع عند الصفر أكثر مما عندهم، كما شاهدوا الدقة العظيمة والقدرة الرائعة في تجسيم كل ما تقع عليه العين في صورة جذابة، كما أنهم لم ينسوا أن يستلهموا الطبيعة صوراً ويستمدوا منها فنا جعلنا نقف موقف الإجلال إزاء هذا الفن العالي المجسم، حتى إنهم صوروا تسلسل المياه مما لا ينقصه إلا الخرير حتى تكون طبيعة ثانية من عمل المرء بجانب الطبيعة التي أوجدها الله
وقد يظهر لنا من هذا الكلمة السالفة أن الفن الفارسي كان صورة ثانية للفن الصيني، أو هو فن صيني رسمته ريشة فارسية، ولكن الحقيقة هي أنه بالرغم من تأثره إلى حد ما بالرسم الصيني فقد ظل محتفظاً بشخصيته وروحه وطبيعته الفارسية، ولا يشين الفن الإيراني أن يكون قد أجل الفن الصيني؛ ومهما يكن الأمر فهناك فروق تظهر جلية للباحث المدقق، حين(89/51)
تعرض عليه صورتان لمنظر واحد أولاهما لمصور صيني والأخرى لفارسي؛ ونحن حين نستعرض صورتين لمنظر من مناظر الطبيعة مثلاً، تبارت في إحداهما ريشة صينية وفي الأخرى فارسية، فإننا نلاحظ في الأولى التحرر من القيود الطبيعية وعدم التزام وحدة معينة، بل نرى كيف يخضع الفنان الطبيعة لريشته، بينما نلمس تناسق الأجزاء وترتيب بعضها بالنسبة للبعض الآخر في صورة الفنان الفارسي، وربما سأل السامع نفسه إزاء هذا عن العلة أو العلل الحقيقية والمباشرة أو غير المباشرة التي أدت إلى افتراقهما بعضهما عن بعض بعد أن اتحدا في الفكرة، أهي الخيال؟ أم الإحساس؟ أم طبيعة كل منهما؟ وقد يكون ذلك أحد هذه الأسئلة، وقد تكون جميعاً متحدة، ولكن هناك أمراً لا بد منه، ولا بد أن نذكره إذا أردنا إجابة شافية توصلنا أو تقربنا إلى بغيتنا، ذلك أن استيعاب الفنان الإيراني للمسافات لم يكن كاستيعاب الصيني لها واهتمامه بها، فبينا نجد عند الأخير الطلاقة الفنية، والإحساس بالحرية، إذا بنا نجد الفنان الفارسي يحدد قبل البدء، ويرسم لريشته محيطاً لا تتعداه، ومجالا لا تخرج عنه بحال من الأحوال
وصفة ثانية كان يمتاز بها الفنان الفارسي على وجه العموم، تلك هي أنه لم يكن ليشرد بريشته كثيراً، وربما عد هذا في نظر بعض نقاد العصر الحاضر جموداً، وقد يخالفهم في نظرتهم هذه كثيرون، ولكل من الفريقين وجهة ورأي يباين رأي الفريق الآخر، وقد يتعصبون لهذه الأفكار والآراء، ولكنهم يتفقون في أنه عمل رائع جدير بالإعجاب، وسواء أكان الحق في جانب هذا أم ذاك، فذلك أمر مرجعه إلى الذوق الفني والشعور الرهف الذي يستشف الحقيقة خلال الطلاسم، ويتلمس الشعلة من بين أسداف الظلام، ويتعرف الصواب والحق مهما تكالبت أسباب الباطل، ويستخرجه كما يستخرج التبر من الثرى نقياً ولعل أقرب الأمثلة على هذه الصفة التي أشرنا إليها آنفاً: أعمال (بهزاد) وهو أكبر فنان فارسي تبوأ ذروة المجد من رسومه الفنية، وكان ممتازاً في إخراجها، قوي الإفصاح عن مقصوده، ولكنه بالرغم من هذا المجد التالد والفن الخالد، فإننا لا نجده قد قام بأية ثورة على هذه القيود - كما يسميها البعض - ولم يحاول أن ينتزع نفسه من ربقة التقاليد وترسم الآثار، ولم نشهد له محاولة ولو ساذجة تجعلنا نقول إن هناك تباشير تطور أو حركة تجديدية ضد ما تآلفوا عليه، بل رأيناه وخلفه يسيرون على منهج واحد، كأنما استسهلوا هذه الطريق(89/52)