للميلاد، في بعض أنواع الخلل في حركة القمر دليل على أنه كان يعرف شيئاً عن الجاذبية وخواص الجذب؟ من هنا يظهر أن علماء العرب (وقد يكون من قبلهم اليونان) سبقوا نيوتن في البحث عن الجاذبية. قد يعترض على هذا القول كثير ولكن لدى إنعام النظر يتبين أن الاعتراض في غير محله فنحن لا ندعي بأن العرب أو (غيرهم) وضعوا الجاذبية وقوانينها وما إليها في الشكل الرياضي الطبيعي الذي أتى به نيوتن، إنما جل ما في الأمر أن العرب أخذوا فكرة الجذب عن اليونان وزادوا عليها ووضعوا بعض القوانين لسقوط الأجسام. ثم أتى بعد ذلك نيوتن وأخذ ما عمله غيره في هذا المضمار وزاد عليه، وبفضل ما وهبه الله من العبقرية وما اتصف به من المثابرة والثبات واستطاع أن يضع الجاذبية بالشكل الذي نعرفه مما لم يسبق إليه، ولا شك أن له في ذلك فضلاً كبيراً جداً، ولكن هذا لا يعني تجريد العرب ومن قبلهم اليونان من الفضل، فلواضع الأساس في علم من الفضل ما للمكتشف أو للمخترع فيه.
مرض الانكلستوما:
إذا قلنا الدكتور محمد خليل عبد الخالق ومعنى ذلك أنه من الأطباء النادرين الذين يعنون بما جاء في الكتب الطبية القديمة ومن القليلين الذين يهمهم تطور الاكتشاف في الأمراض والعوارض التي تصيب الإنسان. وزيادة على ذلك فهو من المجددين في علم الطب، ومن الذين يعرفون كيف يقومون بواجبهم الإنساني على وجه كامل، ولسنا فيما نقوله مبالغين، بل قائلين الحقيقة ومقررين الواقع. لقد علق الدكتور حرسه الله على مقال لي نشرته في مجلة الرسالة عنابن سينا بما يلي: (. . . وأود أن ألفت النظر إلى أنابن سينا أول من اكتشف الطفيلية الموجودة في الإنسان المسماة الآن بالرهقان أو مرض الانكلستوما. وقد كان هذا الاكتشاف (القانون في الطب) في الفصل الخاص بالديدان المعوية، وهذه العدوى تصيب الآن نصف سكان العالم تقريباً.
وقد بلغ ما كتب عن هذا المرض من المقالات والكتب إلى سنة 1922، (50000) مرجع عنيت بجمعها مؤسسة ركفلر بأمريكا. وقد سمىابن سينا هذه الطفيلية باسم (الدودة المستديرة) وقد كان لي الشرف في سنة 1922 أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب عن الديدان المعوية، وأمكنني أن أقوم بتشخيصها بدقة، وتبين من هذا أن الدودة(72/53)
المستديرة التي ذكرهاابن سينا هي ما نسميه الآن بالانكلستوما، وقد أعاد اكتشافها ذوبيني في إيطاليا سنة 1838 أي بعد اكتشاف ابن يسنا عنها بتسع مائة سنة تقريباً. وقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، وكذلك مؤسسة ركفلر كما يرى من المراجع المذكورة بعد. وكذلك كتبت هذا ليطلع عليه الأدباء ويضيفون إلى اكتشافاتابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو من الأمراض الكثيرة الانتشار في العالم الآن).
فإذا كان الدكتور محمد خليل بك كتب هذه القطعة ليطلع عليها الأدباء فقط فأنا أعيد كتابة ما كتبه ليطلع عليه العلماء والأدباء والباحثون وتلاميذ المدارس العليا وغيرهم. ومن مقال الدكتور يتبين أن العرب لم يمهدوا فقط لمرض منتشر، بل قد سبقوا غيرهم في اكتشافه وفي معرفة الشيء الكثير عنه.
ولا يسعني قبل الختام إلا أن أشكر الدكتور على اهتمامه بالتراث العربي والإسلامي في كشفه ناحية كانت غامضة ومحاطة بسحب من الإبهام، وفي فتحه باباً ظل مغلقاً قروناً عديدة، جزاه الله خيراً وأبقاه ذخراً.
نابلس
قدوري حافظ طوقان(72/54)
من ذكريات الصبى
أول حب
للأديب حسين شوقي
كان أول حب سنة 1918 أثناء المنفى في إسبانيا. . كنا نقضي صيف ذلك العام بغرناطة في الغابة الجميلة التي تحيط بقصر الحمراء الشاهق، حيث كانت ثريا حظية الملك أبن الأحمر المنعمة المد لله تمرح بين النرجس والياسنت. وكنا نقيم في فندق شيد في الغابة نفسها حيث يستطيع الزائر أن ينعم بالراحة والسكونمع بقاءه بالقرب من ذلك القصر العربي المجيد، وكانت هذه الغابة التي غرست فوق رابية، تطل على مدينة غرناطة بمنظرها الرائع وضواحيها الفاتنة. . وكنا في أوائل فصل الصيف، فلم يحضر إلا قليل من السياح، فلم يكن بالفندق غير أسرة أحد كبار الضباط الأسبان وأسرتنا؛ فما لبثت الأسرتان أن تعارفتا بعد زمن قليل. . كان أهلي يقضون أوقات طويلة مع الضابط وزوجته يتحدثون عن جمال الطبيعة في هذا المكان: سكون الغابة، صفاء المياه التي تترقرق في الجداول الآتية من جبل (الشيرا) الذي يشرف كذلك على الحمراء وقد جلل الثلج رأسه صيف شتاء. .
أما أبي فقد وجد في الضابط سميراً أنيساً، لأن الرجل كان برغم تربينه الحربية واسع الاطلاع على الأدب والتاريخ. . كما كان يشارك والدي في توجعه على تلك المدينة العربية الأندلسية العظيمة التي أضاءت العالم الغربي حقبة من الزمن، حين كانيتخبط في دياجير الجهل والهمجية، ثم ما لبثت أن اختفت فجأة في فوضى الوجود. .
وكان هذا الضابط أسمر البشرة إلى حد يلفت النظر، وقد قال له أبي مرة إنه لابد أن يكون من أصل عربي، فأمن الضابط على قوله ذاكراً في شيء من الزهو أنه عربي من بني أمية الأمجاد كما تثبت ذلك شجرة نسب أسرته، إذ كان من النبلاء. .
أما أنا، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة عشر عاماً، فما كنت أحفل ببني أمية ولا بغيرهم، بل كنت أقضي الوقت في الغابة أبحث عن فراشة جميلة أضمها إلى مجموعتي.
كانت تعاوني في مهمتي هذه بنت الضابط الصغرى، إذ كان له بنتان: إحداهما في العاشرة وكانت مع الأسف دميمة، ومع ذلك كنت أصطحبها في جولاتي خلال الغابة لافتقاري إلى(72/55)
رفيق. . أما أختها الكبرى فكانت في مقتبل العمر، وهي آية في الحسن، ببضاضتها ولونها الخمري، وعينيها السوداوين الصغيرتين الحادتين، ووجهها الذي يبسم دائماً كأنه أيام الربيع. . .
وكانت هذه الفتاة الرشيقة التي تسمى خوانا، وكان أهلها يدعونها خوانيتا (تصغير خوانا) - تدليلاً ومحبة - تتكرم أحياناً بمصاحبتنا في رحلاتنا. . عندئذ كنت أحس بسعادة عظيمة تغمر قلبي وجداني، لابد أني كنت أحب خوانيتا حباً جماً إذ ذاك، فقد فقدت يوماً شالها الحريري الصغير الذي كانت تلف به عنقها في إحدى هذه الرحلات، فأخذنا نبحث عنه - نحن الثلاثة - حتى عثرت عليه أنا معلقاً على جذع شجرة، ولكني بدلاً من أن أرده إليها ألفيت نفسي أقبله، ثم وضعته خلسة في جيبي لأحتفظ به. كم كان طيباً عبيق هذا الشال! وكيف لا يكون وقد أحاط بجيد محبوبتي خوانيتا، وتنسم عبيق غدائرها الساحرة؟ وكنت في الليل حينما أرجع إلى مخدعي وتتراءى لي صورة خوانيتا فتطرد عني النوم أضم إلى صدري هذا الشال فيهدئ وجوده أعصابي ويجلب لي النوم والراحة.
أردت مرة أن أقدم إليها هدية مدفوعاً في ذلك بحب الصبا الجنوني، ولكن ما الذي كنت أستطيع أن أقدمه إليها ونفقة جيبي ضئيلة لا تزيد في الشهر على ثلاثين فرنكاً إسبانياً؟ عندئذ قمت بهذه التضحية: أعطيتها مجموعة الفراش التي عانيت المشاق في جمعها!
أما خوانيتا فلم تكن مع الأسف تشاركني هذا الحب. . . كم كنت أحمق حين ظننت أن فتاة كخوانيتا في العشرين من عمرها تبادل صبياً في مثل سني الحب؟ على أن خوانيتا كانت تجد تسلية كبيرة في التظاهر بحبي، فتلعب معي أدواراً مؤلمة. . فمن ذلك أنها كانت تحتفظ بيدي في يدها - أثناء الرحلات - فكنت إذا ما عدت إلى الفندق لا أغسل تلك اليد طول النهار، حتى أحتفظ براحة خوانيتا فيها، كما كنت أشمها وأقبلها خلسة من وقت إلى آخر. . .
وكانت خوانيتا ترسل إلي أحياناً بعض تلك النظرات التي لا يقوى على مواجهتها قديسو إسبانيا جميعاً! وصار أهلها الذين علموا هذه الخدعية منها ينظرون إليّ بعين ملؤها العطف، بل كانوا يضطرونها أحياناً إلى مرافقتي في الغابة مع أختها. . وا أسفاه! لم أعرف الكوميديا التي كانت تلعبها خوانيتا إلا قبل رحيلنا من غرناطة بأيام قليلة! أيها القدر(72/56)
القاسي لماذا لم تترك لصبي مثلي لذته الموهومة وسعادته المزعومة؟ لماذا لم نرحل قبل إطلاعي على هذه الحقيقة المرة؟ وإليك كيف عرفت الخدعية:
كان أحد باعت الحلوى المتجولين يمر أمام الفندق من حين إلى حين. . فنزلت ذات يوم أشتري منه شيئاً من الشكولاته لخوانيتا وأختها، كما كنت أفعل مراراً، فلما عدت إلى الفندق وصعدت إلى الحجرة التي كانت تجلس فيها الشقيقتان، وجدت بابها مفتوحاً وسمعت خوانيتا تضحك مع شاب غريب (هو ابن عمها كما علمت ذلك فيما بعد) وإذا بها تخبره بقصتي بصوت جهير ولهجة ساخرة، وتذكر له كيف كانت تلعب بعواطفي. . عندئذ سقطت الشكولاته من يدي المضطربة، وأحسست نفسي تذوب كما يذوب تمثال من الثلج تحت أشعة الشمس الحادة!
كرمة ابن هاني
حسين شوقي(72/57)
من شعر الشباب
عيد الجهاد
للأستاذ محمود الخفيف
تزيد صباحه الذكرى جلالا ... وقد لبست به الدنيا جمالا
ترى في أفقهشفقاً خضيباً ... ترقرق في جوانبه وسالا
دم الأحرار ألبسه وشاحا ... يتيه به على الزمناختيالا
تخذناه من الأيام عيدا ... هو النيروز والأضحىمثالا
عقدنا حول مفرقه صليبا ... وفرق مسيل غرته هلالا
صباح تسفر الآمال فيه ... فتجتاح التردد والملالا
يزيدالسلمُ ساحته وقارا ... ويبسط في جوانبها الظلالا
ترفرف فيه أرواح الضحايا ... وتقرؤنا التحية والسؤالا
تطل من الغمائم سابحات ... خوافق تسبق الريح انتقالا
تطوف بكعبة الوادي خفافا ... ولا تبغي عن الركن ارتحالا
تقبل حائط الحق ابتهاجا ... وتملأ ساحة البيت ابتهالا
وتمسح منبراً ولدت عليه ... عقيدتنا وكان لها مجالا
ترى نور القضية في ذراه ... وتسمع صوتها سحراً حلالا
وتلمح من جلال الغار ظلا ... ومن طهر الحطيم له خِلالا
تطالع وجه حسَّان لديه ... وتسمع في مشارفه بِلالا
سيطوي الدهرَ حائطه المفدى ... ويُفنى رأسُه العالي الجبالا
رعى الموْلى على الأجيال يوما ... بدأنا فيه للحق النظالا
سيوف الظافرين به نشاوى ... ونار البطشتشتعل اشتعالا
دعا داعي الجهاد به فسرنا ... ولم نخش الأسنة والنصالا
سل الحرية الحمراء عنا ... ألم نوسع أعادينا قتالا؟
ألم نرخص به المهج الغوالي ... ونملأ جانب الدنيا صيالا؟
ألم نبذل غداة الروع أمنا ... وأبناء وأقواتاً ومالا؟(72/58)
ولم نرهب من المحتل بطشا ... وإعداماً ونفياً واعتقالا
تطوف الشائعات بنا فنمضي ... إلى الميدان لا نألو نزالا
يقاسي شيخنا في الأسر ظلماً ... ولكن لا يحس له كلالا
يريهم في صلابته مثالا ... من الإيمان ظنوه محالا
وقد ألفوا من الشرق انقياداً ... لسيفهمو وذلا وامتثالا
وكان أعز بالأعزال جندا ... وأرهف من أسنتهم مقالا
لقد ترك الأماثل من بنيه ... وحمل راية الحق الشبالا
فما وهنوا بمصر وما استكانوا ... وخاضوا الموت أياماً طوالا
يُتوج هامهم شرف وفخر ... وإن جال الردى فيهم وصالا
وأعظم ما تكون الحرب هولا ... إذا الأحرار شنوها سجالا
سأذكر ما حييت صباح يومٍ ... كسته شمس آذار جمالا
سلخت من السنين لديه تسعاً ... نعمت حيالها باللهو بالا
ولكني صحوت على هتاف ... وألحان وأسماء توالى
رأت عيني الغريرة مهرجاناً ... قد انتظم الأوانس والرجالا
مشى الشبان إثرهم جموعا ... خفافاً في مواكبهم عجالا
يجيبون النداء ولم يحسوا ... لما هتفوا به إلا خيالا
وأعذب ما يكون الحق صوتا ... إذا هتف الشباب به ارتجالا
ولن أنسى وجوهاً سافرات ... وكانت قبل غضبتها وجالا
وصوتاً رن في الوادي جنونا ... وقبل اليوم لم يعدُ الحجالا
يزيد حنانه الأبطال عزما ... ويمسح وقعه دمع الثكالي
كسا الدم باطن الأيدي خضابا ... وصاغ العزم في الوجنات خالا
فلا يدري العدو إذا التقينا ... أيخشى الليث أم يخشى الغزالا
بني مصر تعالوا حدثوني ... أنرضى اليوم ما نلقي منالا؟
وهل نلنا سوى الدستور مما ... أردناه لنهضتنا مآلا
أخذناه جهاداً واجتهاداً ... ولم نأخذه نوماً واتكالا(72/59)
ولكنا فقدناه رضيعا ... وكان الفقد غدراً واغتيالا
وما أدري غداة بدا سناه ... أكان حقيقة أم كان آلا
أعيدوه إلى مصر غلاما ... فقد لج الحنين بها وطالا
سيبلغ في حضناتها صباه ... ويضمن في رعايتها الكمالا
تواصوا بالوفاء له وسيروا ... كفانا في قضيته مطالا
رأيتم كيف عاقبة التلاحي ... وكيف قضيتمو العهد اقتتالا
تنابذتم ودب الخلف فيكم ... فنمتم عن عدوكُم اشتغالا
ولولا يقظة الأبطال منكم ... جنينا من ترامينا الوبالا
ولم أر كالخلاف بمصر عيبا ... ولم أر مثله داء عضالا
ترجي مصر فينا اليوم خيراً ... وترتقب الصنيعة والفعالا
شهدتم أظلم الأحكام عهداً ... وذقتم أسوء الأيام حالا
شربتم ماءه بالأمس صابا ... خذوه اليوم معسولاً زلالا(72/60)
المعجزة
أو السهم الأخير
للأستاذ سيد قطب
مَنَحْتني اليومَ ما الأقدارُ قد عجزتْ ... عن منحِهِ، وَتَنَاهى دونَه أَملي!
منحتِني الحبَّ للدنيا التي جَهِدتْ ... في أن تُميلَ لها قلبي فلمْ يَمِلِ!
وكلما قرَّبتني قلت: خادعةٌ! ... وكلما طمأنْتني، قلتُ: وا وجلي!
ويغمُر الشكُّ نفسي كلما كَشَفتْ ... عن فَاتِنٍ مِن حُلاَها، غير مبتذَلِ
حتى خسرتُ من الأيَّامِ ما غَبرت ... به السنونُ، وحتَّى عقَّني أجلي
واستَلْهَمَتْ هذه الدنيا طبيعتَها ... في مُعْجِزٍ من قواها، قاهر، حان
فأبدعتْكِ جمالاً كلُّه ثِقةٌ ... يؤلف الحبَّ من وحيٍ وإيمان
وأودعتْكِ رحيقاً من خلاصتِها ... ومنبعِ السحرِ فيها جدّ فتّان
وأرسلتْكِ يقيناً في طلائِعِها ... منيرةً في دُجى عقلي ووجداني
فكنتِ آخرَ سهمٍٍ في كِنَانَتِهِا ... وكُنتِ مُعجزةً من خَلْقِ فنانِ
والآن أخلصُ للدنيا وأمنحُهَا ... حبِّي، وأدركُ ما فيها من الفتن
والآن أنظرُ للدنيا وأنتِ بها ... كعاشقٍ، بهواها جدَّ مُفْتَتِنِ
والآن أعمل للدنيا على ثقةٍ ... بأنني قلبها الخفَّاق في الزمن!
والآن أنصتُ للدنيا فيطربني ... من صوتِها العذبِ لَحْنٌ ساحِرُ الَّلحنِ
لكِ الحياةُ إذنْ ما دمتِ مانحةً ... لِيَ الحياةَ بلا أجرٍ ولا ثمن!(72/61)
صرخة الألم
بقلم فريد عين شوكه
تعالَ نجددْ عهود الغرامِ ... ونُحْي لياليَهُ الماضيه
لياليَه الطيباتِ العذابَ ... وساعاته الحلوة الغاليه
وحيدَيْن فوق ضفاف الغدير ... وتحت خمائله الضافيه
يرفُّ علينا مَلاَك الهوى ... كما رفَّت الزهرة الناديه
ويسمِعُنا من سماء الخلود ... أناشيده العذبة الحاليه
تُهدْهِدُ أشواقنا الصارخات ... وتسكن أوجاعنا النازيه
وتسري مع الدم بين العروق ... فتروي جوانحنا الصاديه
تعال فقد عصفت بي النوى ... كما تعصف الريح بالجاريه
وراحت تمرِّغ في مهجتي ... مخالبها الصلبة القاسيه
فخلَّت فؤاديَ جمَّ الجراح ... وألقت به جثة داميه
تعال ودَع كل لاح مهين ... يرى الحب أسطورة باليه
فلو عرف المرء معنى الهوى ... وشاهد فيه النوى ماهيه
وذاق لديه نعيم الجِنَان ... وكُبْكِبَ في ناره الحاميه
وهبت عليه رياح الظنون ... وثارت به الغيرة الطاغيه
لما عاش يعبث بالمغرمين ... ويزري بشكواهم الباكيه
هو الحب لولا يداه اللتان ... تفيضان بالرحمة الهاميه
لما عرف الناس معنى السلام ... ولا قدَّسُوا روحه الساميه
كتاب بعثت به للحبيب ... قلائد من مهجتي الحانيه
فألقاه منتثراً في الطريق ... كما تُنْثَر الزهرة الذاويه
كأني به تحت عِبءِ القُمامة (م) ... يشكو إلى ربِّه راميَه. .!!
فريد عين شوكه(72/62)
العلوم
خلق النظام الشمسي
نظرية جينز في أصل السدم والنجوم وتكون نظامنا الشمسي
بقلم فرح رفيدي
قبل 300 سنة، ولمدة ألفي سنة تقريباً، كانت الأرض تدعى سلطانة هذا الكون العجيب، وسيدة العالم كله، ومحور دوران شموسه الكثيرة. وقد جعلت ملكة الكون من أبنائها، لا لأنها كانت أهلاً لهذا اللقب، أو لأنها حقيقة كانت في ذلك المحل الرفيع من الكون، بل لأن أبناءها اغتروا بأنفسهم كثيراً، وحسبوا لوجودهم حساباً كبيراً، فاعتبروا مسكنهم مسكناً عظيماً يليق به أن يكون مركز الكون وأهم موضع فيه. والصواب أنهم لم يرعوا عن غيهم، ولم يضعوا أنفسهم في المقام الجدير بهم إلا منذ 30 أو 40 سنة فقط، لما عرفوا أن أرضهم هذه هي أقل من جزء من المليون من الذرة الصغيرة، بالنسبة إلى الكون كله، وأن الشمس هي بمقدار هذه الذرة فقط، وأن الإنسان نفسه هو أيضاً بمقدار يكاد لا يذكر.
لنفرض أولاً ثلاثة أشياء نسلم بصحتها، ودون أن نكلف أنفسنا مشقة الخوض في برهانها وإثبات حقيقتها.
أولاً: المادة مركبة من ذرات مكهربةتكهرباً إيجابياً وسلبياً، بروتونات وإلكترونات , وفي حركة دائمة، وبما أن الكهربائية تيار من الإلكترونات وحالة من أحوال الطاقة كذلك المادة هي مظهر طاقة، يمكن تحويلها لحرارة أو ضوء، كتحويل الشهب لحرارة أثناء احتكاكها السريع بدقائق الهواء.
ثانياً: كل ذرة في الكون تجذب كل ذرة أخرى بقوة تختلف عكسياً بحسب مربع المسافة بينهما، وطردياً بحسب حاصل كتلتيهما فكل ذرة في الشمس تجذب كل ذرة في الأرض، وكل شيء على الأرض له تأثير على كل نجم في السماء، وهكذا لا يمكنني أن أضرب بيدي على المنضدة دون هز النجوم من مواضعها؛ ولكنه هزٌ ضعيف جداً، لا يدرك ولا بأدق الملاحظات، وهو ضعيف بمقدار صغر كتلة يدي بالنسبة إلى كتل الكواكب كلها.
ثالثاً: المواد المتركبة منها الكواكب والشمس كالمواد المتركبة منها الأرض، ولكنها في(72/63)
الأولى تحت ظروف تختلف فيها تبعاً للحرارة والضغط.
في البدء قبل أن تكون شمس أو نجوم أو أي ضوء آخر، وكانت الظلمة تخيم على سكون عميق في كل أنحاء الكون، كانت دقائق المادة الصغيرة مبعثرة ومنتشرة انتشاراً متساوياً على أجزاء الفضاء كله، وكانت البروتونات والإلكترونات تجئ وتذهب هنا وهناك في كون لا نظام فيه ولا قانون يضبطه، وكل شيء كان في ظلام دامس من فوضى الطبيعة وفي حالة غير مستقرة وعلى وشك الانقلاب لأقل حركة تبدو فيه. كان الكون حينئذٍ عديم التوازن، كقلم أوقف على رأسه، أقل اهتزاز بغير وضعه إلى وضع ثابت أكثر اتزاناً أو كآلة تحتاج إلى من يحركها، أو كدولاب على وشك الانزلاق، يحتاج لدافع يدفعه لينطلق بدورانه انطلاقاً، كان بحاجة إلى يد الله تسري فيه تياراً من ذلك الغاز المنتشر، حتى يندفع بأجمعه لأن يخلق نفسه بنفسه، وتكون حاله إلى ما هي عليه الآن.
لا نعرف كيف أو أين ابتدأ التيار، ولكن أسباب ما جرى تشويش في نظام الطبيعة، حينئذٍ جعل ذلك الغاز يتجمع ويتضام ويكون من نفسه كتلاً , كبيرة وصغيرة وفي أماكن مختلفة من الفضاء، والكتل الكبيرة بعظم ما تجمع لها من المادة صار لها قوة جذب كبيرة قدرت بها أن تجمع أكثر من الغاز الذي حولها، وتتغلب بها على سرعة الذرات من أن تهرب. وحجم الكتلة يتوقف على شيئين: ثخانة الغاز وسرعة ذراته. ففي الغاز الخفيف تكون سرعة التيار ومدى توسعه أكثر من سرعته ومداه في الغاز الثقيل ولذلك تكون كمية المادة المتجمعة أكبر. وإذا كانت سريعة فإنها لا تنقاد لكتلة صغيرة لضعف جاذبيتها، كخروج ذرات الهواء عن طاعة القمر لقلة جاذبيته بالنسبة لسرعة الذرات. ففي غاز معلوم الكثافة وسرعة ذراته يكون فقط كتلاً لا ينقص الوزن فيها عن حد معين. وإن كان بعض الكتل صغيراً إلى حدٍ أن يمنعها من ادخار جاذبية كافية تقاوم بها سرعة الذرات الهاربة، فإنها لا تلبث أن تتلاشى وتنتشر في الفضاء كما كانت. والكبيرة بعكس ذلك، فان كبرها يزيد في قوة جاذبيتها التي تزيد في مادتها وحجمها، فكلما كبرت الكتلة كان طبيعياً فيها أن تتجمع وتكبر وتزداد مادة وقوة، وكلما صغرت ساعدت الأحوال على عكس ذلك.
حسب هبل أحد الفلكيين أنه إذا انتشر كل غاز النجوم في
الفضاء انتشاراً متساوياً في جميع جهاته، فإن كثافة ذلك الغاز(72/64)
حينئذ تكون قدر كثافة الماء بـ (10) 300 مرة ووجد أيضاً
أن سرعة الذرات في حالتها تلك تكون حول 500 ياردة في
الثانية، فوجد من ذلك أن وزن كل كتلة من الكتل المتكونة
بواسطة التيار أكبر من وزن الشمس بمقدار يتراوح من 21
62 مليوناً إلى 400 مليون مرة، وعندا اكتشاف الفلكيين اليوم
لوجود آلاف من الأجسام التي لها هذا الثقل تحقق جيداً: أن
هذه السدم التي نراها اليوم هي ذات كتل التي تكونت بتأثير
ذلك التيار الابتدائي الذي حدث بين دقائق الغاز الأول.
وكانت هذه السدم التي تكونت مختلفة الحجم والشكل، وكان شكل الواحدة مترتباً على متجه التيار الذي أحدثها. فان اتجه التيار إلى المركز كان الشكل كروياً وبدون حركة. وإن زاغ الاتجاه عن المركز، وهو الأكثر حدوثاً، بدأت الكتلة بحركة دوران حول محور في وسطها. وللجسم الدائر صفة حفظ قوة الاندفاع الدوري وهي إن تقلص حجم الجسم يقصر طول قطره، فتزيد سرعة دورانه. وهكذا كان في أمر الكتل المتكونة حديثاً: زاد انكماشها بسبب جاذبيتها في سرعة دورانها أكثر فأكثر. وكان أثر ذلك الدوران أن حور شكل الكتلة من الكروي إلى شكل عدسي. وكما أن دورة الأرض سببت انبعاجها عند خط الاستواء وتفرطحها عند القطرين، كذلك ازدياد سرعة دوران تلك الكتل كان يزيد في تنظيمها إلى حدٍ بعيد. وكانت إذا زادت سرعتها أكثر من ذلك لا تزيد في تسطحها فحسب، بل تبدأ بقذف غاز من مادتها ينتشر حولها في المسطح الاستوائي انتشاراً متساوياً.
وهكذا حول كل كتلة تكون غاز خفيف. وله كالغاز الذي كون السدم نفسها صفة التجمع والتجزء إلى كتل تختلف قليلاً عن بعضها في الحجم والشكل، ولكنها أصغر من الكتل الأولى. وكما قدر العلماء رياضياً يتقارب وزن الواحدة منها من وزن الشمس ومعظم(72/65)
النجوم اللوامع. وإذا أدرنا بصرنا بالتلسكوب إلى السماء شاهدنا السدم اللولبية الشكل تبتدي بوسط غازي وتنتهي أطرافها بمجموعة من النجوم، وذلك يدل على أن أصل تكون النجوم والشمس هو من السدم.
هذه النجوم الجديدة المنفصلة عن السدم الدائرة، بقيت دائرة مثلها لتحفظ قوة الاندفاع الدوري. وقد كانت ولا تزال للآن تشع في الفضاء بلا انقطاع كميات كبيرة من الضوء والحرارة تنبعث منها نتيجة لاحتراق مادتها في داخلها. فالشمس التي نستضيء ونستدفئ بها تخسر من مادتها في كل دقيقة تمر حوالي 250 مليون طن وهذه كلها تحترق وتتحول نوراً وحرارة، فجزء قليل جداً نستمده، والباقي يذهب هباء في الفضاء. ذلك يدل على أن حجم الشمس والنجوم يقل تدريجياً، وقلة الحجم هذه تقابلها سرعة في الدوران، وتبقى السرعة في ازدياد مستمر ما دام الإشعاع في النجم مستمراً، وإذا ازدادت السرعة في بعض النجوم الكبيرة فقد نقسمها إلى قسمين متعادلين أو غير متعادلين تماماً. وبهذه الطريقة نشأت النجوم المزدوجة
وقد نظن هنا أن منشأ الكواكب في المجموعة الشمسية حصل من دوران شديد في الشمس جعلها تفصل عنها هذه الأجرام حولها. ولكن الأمر غير ذلك، إذ لو قابلنا أوزان بعض النجوم المزدوجة بأوزان الكواكب السيارة، لوجدنا الفرق بعيداً، فأوزان الأولى تقرب من وزن الشمس، ووزن أحد الكواكب كالأرض أقل من جزء من المليون من وزن الشمس. وعلى ذلك فمن غير المحتمل أن يكون منشأ نظامنا الشمسي على هذه الطريقة.
لتعليل منشأ نظامنا الشمسي يأتي السر جينز بطريقته المعروفة بنظرية المد وهي أن يقترب نجمان مختلفا الوزن من بعض ويكون تأثير جاذبية الكبير على الصغير شديداً بأن يرفع على سطحه مداً من مادته الغازية كرفع القمر مياه الأرض بقوة جاذبيته. ولكن اقتراب النجمين ليس بالأمر الهين أو بالشيء الذي يقع مرة ويتكرر مرات، إذ أن عظم المسافات الشاسعة التي تباعد بين نجم ونجم، تجعل أمر الاقتراب شيئاً صعباً وبعيد المدى، وقد لا يحدث لملايين من السنين تمضي، ولكنه محتمل الحدوث ولو مرة في هذا الزمن الطويل.
دعنا نفرض مرور الملايين من السنين على شمسنا وهي سابحة في الفضاء وحدها بدون(72/66)
رفيق أو رقيب، ودعنا نفرض أن هذه المصادفة، مصادفة الاقتراب بين نجمين حدثت، وحصل هذا الشيء البعيد الوقوع والنادر الحدوث بين شمسنا ونجم أخر، ومر هذا النجم بالقرب من الشمس دون تصادم أو احتكاك، وكان كبيراً بحيث كان تأثيره قوياُ عليها، فتأثير ذلك النجم، على رأي جينز، كان أن عمل على سطح شمسنا مداً ارتفعت فيه كمية كبيرة من الغاز، وتمددت طويلاً متتبعة جهة أبعاد النجم عن الشمس، فانفصلت عنها وتكونت بشكل سيكار ثخين في الوسط ودقيق عند الطرفين، وصار هذا الغاز المنفصل وسطاً لتجمع كتل صغيرة وكبيرة ومتوسطة بقدر ما يستوعب وتستجمع من المادة التي حولها. ولصغر هذه الكتل ضعفت فيها قوة انبعاث النور والحرارة، وانطفأت شعلتها النارية، فبردت وانخفضت حرارتها تدريجياً، وتحولت الغازات أمطاراً من سوائل المعادن على سطوحها، وتقلص حجمها الغازي إلى حجم سائلي، وعند انخفاض الحرارة أكثر تجمدت السوائل. وتحول بعضها إلى مواد صلبة قاسية وانكمشت السطوح كثيراً، وتجمدت، وتكونت أجساماً معتمة، لا مصدر للحرارة أو النور فيها غير ما تستمده من الشمس أو من بعض المواد المشعة في داخلها. وجعلت حفظاً للاندفاع الدوري تدور حول الشمس دورات مختلفة في البعد والوقت. وهكذا كانت الكواكب السيارة، منها عطارد وبلوتو في طرفي السيكار، والمشتري وزحل في وسطه.
وفي بدء خلق هذه الكواكب، وقبل اعتدال دوائرها وثباتها حول الشمس كما هي الآن كانت تدور بغير انتظام يربطها، أو قانون يوحدها. فكانت تارة تقترب، وتارةً تبتعد عن الشمس؛ فحدث في أثناء ذلك أنه بينما كانت الأجسام غازات ملتهبة، اقترب بعضها من الشمس إلى حد مكن الشمس أن تسحب من غازاتها كتلاً أخرى انفصلت عنها وكونت أقمارها ومن جملتها قمرنا.
وهكذا من فوضى الطبيعة الأولى تكونت السدم، والسدم من جراء دورتها حول نفسها تشتت غازها وانقسمت إلى أنجم، كل نجم منها قائم بذاته، وسائر في الكون بقوة حركته واندفاعه. ومن سرعة سير هذه الكواكب ابتعدت عن بعضها أبعاد شاسعة. تكاد تعدمها حقيقة وجودها، بالنسبة لسعة الفضاء وعظمته، وصار مجرد اقتراب الواحد من الأخر من قبيل المصادفة فقط. ولكن حدث أن اقترب نجم من شمسنا، وسحب منها غازات توحدت(72/67)
وتجمعت كتلاً صغيرة وكبيرة. وتصلبت أجسامها وتحولت إلى كواكبنا السيارة هذه، ومن جملتها الأرض، وبمجرد اقتراب الأرض من الشمس انفصل جزء منها وكون القمر.
رام الله
فرح رفيدي(72/68)
البريد الأدبي
الأدب المجري الحديث:
خواصه ومميزاته
نشرت (مجلة المجر الجديدة) مقالاً عن دور الشباب في تطور الأدب المجري المعاصر، فوصفت الخواص التي يتميز بها أدب الشباب سواء في الشعر أوالنثر؛ وقالت إن الأدب المجري الحديث يرجع إلى أواخر القرن الماضي، ويمتاز قبل كل شيء بالخروج عن النزعة (الغربية) التي بلغت ذروتها بالشاعر الكبير (آدي) أعظم شعراء المجر في القرن الماضي؛ كما أنه يمتاز بالإغراق في المظاهر الشعبية، والتعلق بالأصول الشقية للروح المجرية، والتأثر بالحياة الريفية.
ومع ذلك فإن أساس التطور الحديث في الأدب المجري، هو شعر (آدي)؛ ومن محقق الأدب المجري المعاصر، إذا راعينا أكابر الشعراء مثل يوسف أرديلي، ويوليا الياس، وآتيلا يوزيف، ولوران زابو وأكابر القصصيين مثل آرون تمازي ويوسف نييرو، يجوز مرحلة عود على البدء. وإنها لظاهرة جديدة فقط أن تتجه الأفكار إلى استكمال الأساطير القوية الجديدة، وإلى اعتبارات الجنس والأرض والتاريخ في نوع من المظاهر الشعبية الجديدة؛ والجيل الحاضر ينظر إلى التطور القديم بهذه الروح بينما يعمل على إحياء النزعة التي أشرنا إليها، ومن ثم كانت أعظم مصادر وحيه، السياسة والمجتمع؛ وكثير من شعراء العصر يرددون قول الشاعر يوتوتوس: (إن الشاعر الذي لا تهزه عواطف عصره، يمزق أعصاب غنائه)
وفي مقدمة شعراء هذه الطبقة يوسف أرديلي ويوليا إلياس. ومن يقرأ أرديلي في قصيدته الشهيرة (بلا صلاح) أو قصيدته (النجم الفريد) يشعر بأثر الرسالة التي يقول الجيل الشاب إنه يقوم بها. وليوليا إلياس قصة شعرية ظهرت أخيراً عنوانها (شباب)، وهي تفيض بالجمال الابتداعي والنزعة الغنائية، ومن نظمه أيضاً (ثلاثة شيوخ). وهو أشد من يمثل نزعة الجيل الجديد من حيث النزعة الغنائية والفردية، والطموح إلى استكمال التقاليد والتعلق بالتراث الشعبي.
ومعظم هؤلاء الشبان لا يعني بالشكل، وينكرون في نوع من التحدي أناقة اللفظ أو(72/69)
ضخامته؛ وكثير منهم يجنح إلى القديم الساذج، وإلى الروى الشعبي، وشعرهم ينضح على العموم عن لون قومي قوي، وهم في الواقع (أبناء الشعب) ينشئون في مهاد (الفقر العذب)، وينزعون إلى بساطة اللفظ، وإلى التقاليد وإلى الأساطير وإلى كنوز الخيال الشعبي.
وأما النثر، فمن أقطابه يوسف نييرو القصصي الكبير؛ وهو كاتب ذو نزعة دينية إنسانية ترجع إلى تربيته الكنسية، فقد نشأ قساً، ثم حمله تيار الأدب. وهو ريفي النزعة من حيث المادة والوصف يصور لك الوطن المجري، ولا سيما وطنه (ترانسلفانيا) في صور قوية مؤثرة، ومن أشهر قصصه (تحت نير الله) وهي في الواقع قصة حياته الكهنوتية عرضت في قالب قصصي مؤثر؛ وله مجموعة أقاصيص شهيرة من أبدع ما أخرج الأدب المجري المعاصر.
ومن أقطابه آرون تمازي، وهو قصصي بارع ينزع إلى المأساة، ويلزم الطابع القومي العميق، وله مجموعة قصص تفيض سحراً وإنسانية عنوانها (كواكب ترسلفلنيا)، ومجموعة أخرى عنوانها (عصفور الصباح) يدعو فيها إلى المثل الأعلى. ومنهم جان كودولاني، وهو مصور بارع لمناظر القرية ومجتمعها. وكذلك زولتان ستنيا، فهو يصف في قصصه نجتمع الأعيان المنحل؛ وبول زابو، وهو كاتب ريفي محض وافر الطرافة والقوة.
والفرق قوي واضح بين ذلك الجيل وبين الجيل المنصرم الذي كانت تغلبه النزعة (الغربية). وليس الفرق متعلقاُ بالشكل فقط، بل هنالك ثمة صورتان مختلفتان، تمثل كل منهما ناحية من الروح المجرية؛ وإلى الأولى ينتمي أبناء الأعيان والموظفين الذين متى اضطروا إلى نبذ ترف هذه الحياة، لجئوا إلى عالم الكتب ليتخذوا منه سداً بينهم وبين حياتهم المسكينة، وينتمي إلى الثانية أبناء الفلاحين وطبقة الأعيان الريفية التي تقرب منهم والساخطون على هذا المجتمع، وهم الذين يزعمون أنهم رسل الإصلاح الاجتماعي، وعلى العموم فان البون شاسع بين الكتاب الجدد وبين الجيل القديم سواء من حيث النظر إلى العالم وإلى الحياة.
بسمات العدالة
عني كثير من المؤرخين والكتاب بالكتابة عن المآسي القضائية، والمحاكمات الجنائية الكبرى. ولكن أحداً منهم لم يعن بالكتابة عن (الكوميديات القضائية) والوقائع والمواقف(72/70)
المضحكة التي تعرض أمام القضاء. وهذا ما فعله الكاتب الفرنسي (جيو لندن) الكاتب القضائي لجريدة الجورنال. وقد تخصص جيو لندن في كتابة الصور والأخبار القضائية منذ أعوام بعيدة، واشتهر بسحر أسلوبه ودقة ملاحظاته. وهو الذي يلخص أخبارالمحاكمات والقضايا الكبرى في جريدة (الجورنال). وفي كل عام يجمع أشهر المحاكمات والمآسي القضائية في مجلد خاص، ولكنه اختار هذا العام أن يترك المآسي والجنايات المثيرة، وأن بجمع المواقف القضائية الفكاهية في مجلد عنوانه (العدالة وبسماتها) وقد استقبل هذا السفر الظريف في دوائر النقد والأدب أحسن استقبال، ونوهت بما يضمه من الصور الساحرة والمواقف الشائقة، وبما يسود من قوة الملاحظة وخفة روح في العرض؛ فهناك أغرب القضايا المضحكة حقاً، وأغرب الشخصيات الساذجة التي تنسيك بسذاجاتها أحياناً خبث المجرم الخطر، وهنالك حيل النساء الماكرات تبدو واضحة أمام بساطة الرجل المتيم. وقد علق أحد النقدة على ظهور هذا الكتاب بقوله: (إنه يحمل على التفكير بأن التردد على جلسات القضاء يخلق منافسة قوية للمسرح الفكه؛ بل ربما كان ثمة عاملاً من عوامل الأزمة المسرحية؛ إن كانت ثمة أزمة).
جائزة نوبل الأدبية
ذكرنا في العدد الماضي أن جائزة نوبل للطب قد منحت لثلاثة من العلماء الأمريكيين. هم الأساتذة جورج نيوث، ووليم مورفي، وهوبل. ونذكر الآن أن جائزة نوبل الأدبية لسنة 1934 قد منحت إلى الكاتب والفنان الإيطالي السنيور لويجي بيراندللو وهو كاتب مسرحي تخصص في وضع القطع التمثيلية، وتنظيم المسرح؛ وأشهر رواياته قطعة عنوانها: (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف)، اشتهرت في جميع المسارح الأوربية. والسنيور بيرادنللو في نحو السابعة والستين من عمره؛ وهذه هي المرة الثانية التي تمنح فيها جائزة نوبل للكتاب الإيطاليين.
أستاذ شرقي يعثر على مخطوطات عربية نادرة
نقل إلى الجامعة العربية من أمريكا أن الدكتور فيليب حتى من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت وأستاذ الآداب السامية في جامعة برنستن بأمريكا الآن عثر في أثناء بحثه(72/71)
وتنقيبه في المخطوطات الموجودة في مكتبات أمريكا المشهورة على ترجمة عربية ضافية لبحوث كلوديوس جالينوس في التشريح والطب بين خمسة آلاف مجلد من المخطوطات العربية في مكتبة جامعة برنستن. ومما قاله الدكتور حتى في وصف هذه الترجمة (إنها من أندر وأنفس المخطوطات التي سجلت في الفهارس حتى الآن) والترجمة العربية مؤرخة في سنة 1174م وقد وضعها حنين بن أسحق المسيحي النسطوري وكان يعد إمام المترجمين من اللغة اليونانية في عصره.
وعثر الدكتور حتى كذلك على مخطوطة في علم التنجيم يستدل من الشارة المذهبة المرسومة على الصفحة الأولى منها أنها وضعت في الأصل للسلطان صلاح الدين الأيوبي وكانت في مكتبته، ويقول الدكتور حتى أن صلاح الدين نفسه كان يسترشد بهذه المخطوطة قبل إقدامه على منازلة الصليبيين في المعارك.
وعثر أيضاً على مخطوطة في الموسيقى قد تميط اللثام عن النغمات الموسيقية التي كان يستعملها العرب قديماً. وهذه المخطوطة مزينة برسوم، وقد وضعها الفارابي الموسيقي والفيلسوف المشهور في القرن العاشر.
وهناك مخطوطة عربية رابعة وجدها الدكتور حتى في جامعة برنستن وهي شرح ابن رشد فيلسوف الأندلس وأرجوزةابن سينا الطبية المشهورة لمؤلف طبي وصفه ابن جزله البغدادي في القرن الثاني عشر.(72/72)
الكتب
الثورة العربية الكبرى
تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن
تأليف الأستاذ أمين سعيد
هذا كتاب كبير يقع في ثلاثة مجلدات تبلغ في مجموعها ما يقرب من ألف وأربعمائة صفحة من القطع الكبير، وهو في وضعه الحالي يعتبر مرجعاً عظيماً للثورة العربية القومية منذ قيامها عقب الانقلاب العثماني 1908 إلى الوقت الحاضر. خشي المؤلف الفاضل الأستاذ أمين سعيد كما ذكر في مقدمة كتابه النفيس أن تنسى الثورة العربية وما تخللها من حركات وما أكتنفها من ملابسات (فتضيع معالمها وتطمس آثارها ويتعذر التأليف فيها فلا يجد الكاتبون العرب في المستقبل سوى رسائل مبعثرة أو مقالات منثورة أو كتب ألفت باللغات الأجنبية وقد وضعها واضعوها لخدمة غاية معينة).
لذلك تراه يضطلع بهذا العمل على ما فيه من صعوبات؛ فلابد له أن يدعم آراءه بالحجج والبراهين، وأن يسند براهينه بالوثائق والمستندات، وهذا كله مما لا يسهل جمعه وترتيبه. ولكن القارئ حين يتناول هذا السفر الجليل يحس بالدهشة لكثرة ما احتوى عليه من الوثائق والبيانات، هذا إلى ما حواه من الصور المتنوعة للأشخاص والحوادث.
ولقد قسم الأستاذ المؤلف كتابه تقسيماً جيداً فجعل المجلد الأول للنضال بين العرب والترك، يضم حوادث الفترة الممتدة من إعلان الدستور العثماني عام 1908 حتى قيام الحكومة الفيصلية في دمشق عام 1918، وجعل المجلد الثاني لتاريخ الحكومة الفيصلية من قيامها حتى سقوطها؛ ولقد أفرد به جزءاً كبيراً للثورة العراقية الكبرى وأدوارها مبيناً عوامل الثورة ومقدماتها وحروب الإنكليز في العراق والتصادم بينهم وبين الترك وما ترتب على هذا كله مع جلاء الحوادث والاهتمام بالتفاصيل كمن رآها رأي العين. أما المجلد الثالث فقد جعله لتاريخ القضية في الفترة الممتدة من عام 1921 إلى عام 1934، أورد فيه وصفاً وافياً لتاريخ إمارة شرق الأردن مع شرح القضية الفلسطينية والوطن القومي اليهودي وبيان أخبار الثورة السورية في اتصالها السياسي الداخلي بين السوريين والفرنسيين.(72/73)
بذلك ترى هذا الكتاب الكبير قد اشتمل على عدة حركات قومية يتوق أبناء الشرق العربي إلى الوقوف عليها. ولعل من أعظم فوائد هذا الكتاب، أنه في طريقته المفصلة التي سار عليها، يعطي القارئ العربي فرصة نادرة ليقارن بين ما يسمعه من أحد أبناء الثورة وبين ما يشيعه عنها خصومها. هذا إلى أنه يكشف عن ناحية من نواحي نهوض الشرق عقب الحرب العظمى مبيناً إلى حد كبير وجهته وآماله.
ولقد راعى المؤلف الفاضل في كتابه التسلسل التاريخي للحوادث، وختم كل حلقة بملخص حلل فيه الحوادث تحليلاً مبيناً ما طرأ على القضية من تقدم أو تأخر.
وإني وإن كنت أرى اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة وسرده الحوادث الكثيرة المتنوعة أكثر من اهتمامه بالتعليق عليها وبيان مقدمتها ونتائجها، أقرر أن لطريقته هذه في موضوع كهذا متشعب النواحي محاسنها إلى جانب معايبها، فلقد هيأت للقارئ كما قدمت الفرصة ليكون لنفسه حكماً، وذلك خير مما لو اقتصر المؤلف على طائفة من الحوادث واهتم بإيراد رأيه والدفاع عنه، فان القارئ في هذه الحالة وخصوصاً من يجهل تفاصيل المسألة العربية يكون مقيداً برأيه أو على الأقل في شك منه.
وسيرى القارئ العربي في كتاب الأستاذ أمين سعيد كثيراً من مواقف التضحية والبطولة، وكثيراً من مواطن الهول والصراع العنيف مما يجعل للكتاب إلى جانب ناحيته التاريخية، ناحيته الجذابة القوية، فيقبل الأدباء على مطالعته في شغف واهتمام ولذة. وإني لأنتهز هذه الفرصة فأتقدم إلى الأستاذ أمين سعيد بأجمل الثناء على ما تجلى في مؤلفه الجليل من أريحية ووطنية وهو يمثل ذلك من شباب الأمة العربية الخليق.
الخفيف
الخط الديواني الملكي
للأستاذ مصطفى بك غزلان
رئيس التوقيع بديوان جلالة الملك
ازدهر الخط العربي في صدر القرن الماضي، وظهر في عالم الفن جمهرة من القادرين على إجادته وإتقانه، وكانت الأستانة يومئذ كعبة الآمال، ومرجع أفذاذ الرجال في الفنون(72/74)
العربية الجميلة. بلغ من ولوعهم بهذه الصناعة أن تخذها الخلفاء والسلاطين مفخرة يفخرون بإجادتها وإحسانها، وزينة يدلون بها على أساتذتها وأساطينها، فكان السلطان (محمود) يجيد خط (الثلث) (وجلي الثلث) ولا تزال (لوحته) القيمة التي خطها بقلمه الجميل تحتل الصدر من (المسجد الحسيني). وصار على أثره السلطان عبد المجيد، فكان خطاطاً وسطاً لم يبلغ شأو أبيه. . . وله قطعة كبيرة تتصدر (القبلة) في ذلك المسجد.
تطاول الخط على سائر الفنون الجميلة منذ أحبه الخلفاء والسلاطين وعلت مكانته يوم أن فتحت قصور العواهل على رحباتها لكبار الخطاطين، يعلمون الخلفاء ذلك الفن الجميل.
ودام للخط العربي هذا الحظ الميمون، والآستانة تصدر إلى العالم العربي من سحره الفاتن وجماله الرائع، ما خلب اللب، واستولى على النفس، حتى وفد على القاهرة المرحوم عبد الله بك زهدي بدعوة من خديو مصر إسماعيل.
جاء ليكتب (الكسوة) بعد أن كتب الحرم النبوي الشريف، فلقي من لدن ولي الأمر التعضيد والتأييد.
وكان يومئذ في مصر نهضة مباركة، نشأت في شخص المرحوم محمد أفندي مؤنس، ولكنها كانت في حاجة إلى إذكائها وتنميتها، فطلع (زهدي) على الناس، بخط الكسوة وسبيل أم عباس، وتداولت الأيدي بعض نماذجه في الثلث والنسخ. فكانت بادرة سعيدة، صعدت بالمرحوم مؤنس إلى الذروة العليا من ذلك الفن البديع.
وكان الرجل خيراً بفطرته، فأخذ يذيع فنه على الناس ويعلمهم إياه، لا ينتظر أجراً ولا شكراً، فكانت داره يومئذ أشبه بمدرسة داخلية، يتعلم فيها الطلاب وينعمون بحديقتها الرحبة، بل يأكلون ويشرون.
ومن يومئذ بدأ الخط يتحول إلى القاهرة، وكانت العناية شديدة بإتقانه وأجادته، وكان له شأو رفيع وشأن جليل في المدارس الابتدائية والثانوية بله العالية.
تلك خلاصة موجزة بسطتها بين يدي القارئ، لأستطيع التحدث إليه عن فتح جديد في الخط العربي، طلع به علينا الفنان النابغة الأستاذ مصطفى بك غزلان رئيس التوقيع بديوان جلالة الملك.
فقد يعرف المتتبعون لتاريخ هذا الفن أن الخط الديواني نقل فيما نقل من الآستانة إلى(72/75)
مصر، وكان خطاً خاصاً لا يعرفه عامة الشعب ولا يقرأه دهماء الناس، بل كان قاصراً على (الفرمانات الشاهانية) (والإرادات السنية)، التي تصدر عن السلاطين، إلى الولاة، ثم على براءات الرتب والنشانات.
ولما كانت مصر يومئذ تابعة للدولة العلية، وكانت تلك الدولة هي صاحبة الحق في منح هذه الرتب، وتلك النشانات فالبراءات إذن تأتي من دار الخلافة مكتوبة ممهورة بخاتم الدولة إلى أن رخص للولاة والخديوين بمنح الرتب المحدودة القيمة، يومئذ اختير لكتابتها بعض الأتراك الذين يعرفون هذا النوع، وهم قليل حتى في الآستانة؛ فقديماً كان كتاب آل عثمان يستأثرون بهذا النوع من الخط لأنه كان الخط الرسمي للباب العالي كما قدمنا؛ ومن ثم كانوا يعدونه من الأسرار الفنية التي لا تزاع لجمهور الخطاطين، ليكون مرجعها إليهم ومفتاحها بأيديهم، أما بقية الخطوط فلها نماذج مختلفة بأقلام أساطين الفن على اختلاف مراتبهم.
واليوم بفضل الرعاية الملكية، نستقبل نماذج الخط الديواني التي عكف على كتابتها وتنسيقها وتنميقها خطاط مصر الأكبر الأستاذ مصطفى غزلان بك، وأدخل عليها حسناً جديداً وذوقاً مصرياً خالصاً لا تلحظه فيما كتب بهذا الخط من الفرامانات القديمة.
وقد طبعها ديوان الأوقاف الملكية، على نفقة صاحب الجلالة الملك في مطبعة المساحة طبعاً دقيقاً أنيقاً جعل هذه النماذج في موضوعها وشكلها مظهراً رائعاً من مظاهر الفن الخالد الخالص.
في المصايف
بقلم إبراهيم عبده
للأديب إبراهيم عبده أسلوب رقيق وخواطر لطيفة يطالع بها القراء من حين إلى حين. وهذا الكتاب الذي أحدثك عنه قد انتظم الكثير من ملاحظاته وخواطره الطريفة في المصايف، وطبيعي أن تكون المصايف موضع حديث إبراهيم، فهي متلقى الناس من كل صنف ومن كل طبقة، وهي مجال واسع تقع فيه عين الأديب الناقد وخصوصاً من يهتم بالناحية الاجتماعية كالأديب المؤلف على كثير مما يثير خواطره ويرسل قلمه. افتتح(72/76)
المؤلف كتابه في رأس البر ثم انتقل بنا إلى السويس فبور سعيد فالإسماعيلية فالإسكندرية، وختم الكتاب بفصل رقيق هو حديث العودة. أجمل ما يحسه القارئ في هذا الكتاب تلك الروح الهادئة التي تتجلى في سطوره أشبه بالنسمة الهادئة تهب عليك في ليالي الصيف وأنت في معزل على الشاطئ. وأنك لتحس من هذا الشاب بميل شديد إلى القصص. ولقد أحسن صنعاً بإيراده خواطره في المصايف على تلك الصورة التي تجدها في كتابه، فلقد كان يأتي بها مرة على طريقة الحوار بينه وبين فتاة كان قد عرفها في الخرطوم ودار على ذكرها كتابه الأول (الحياة الثانية)، ومرة كان يتبع طريقة المراسلة، مما أبعد كتابه عن الملال وأكسبه كثيراً من الجاذبية والظرف.
ولئن كان لي أن آخذ على إبراهيم شيئاً وهو في صدر حياته الأدبية فهو أنه يجتهد في تقليد أحد كبار الكتاب عندنا تقليداً يظهر في أسلوبه وفي طريقة الدخول على موضوعه وتوجيهه ويخشى منه على أصالته وشخصيته، وهو في غنى عن هذا فله كما ذكرت استعداد قوي. نعم لا جناح عليه أن يحذو حذو من تأثر به في تجويد فنه والعناية بآثاره، ولكن على أن يحتفظ مع ذلك بشخصيته وروحه.
الخفيف(72/77)
تعليق على نقد
الألحان الضائعة
بقلم حسن كامل الصيرفي
تناول الأستاذ الخفيف في العدد الماضي من (الرسالة) ديواني (الألحان الضائعة) فبدأ كلمته بأن أخذ على تلك الكآبة التي لزمتني في عهد من حياتي، وراح يتلمس سرها فلم يهتدإلى شيء مع أن هذا السر واضح كل الوضوح في كثير من قصائد الديوان بل من أول قصيدة إلى أخر مقطوعة فيه. ففي قصيدة (الضحية) تفسير قوي لناحية من تلك الكآبة، يؤكده قولي في القصيدة التي تليها بعنوان (الواحة المنسية):
في ذمة الفن ما ردّدتُه أمداً ... فضاع لحني سدَى في جوّ نكرانِ
طغى عليه ضجيج القوم فانطمست ... أصداؤه، وفؤادي طيّ ألحاني
وفي قولي في قصيدة (اللحن الضائع):
يا أغاني الربيع ما أنا إلاّ ... مقطعٌ من قصيدة ضاع لحنُهْ
لم تلد لي الأيامُ من يتولى ... بعث لحني، وكيف يبزغ شأنه؟
أوَ بين الصخور يكتمل الصو ... ت؟ محال هذا. . وكنت أظنه
وفي قصيدة اللغز تظهر نواح كثيرة من سر هذه الكآبة، وتظهر فيها قوة الشباب الغلاب لا اليأس المستسلم.
وأظن أن تصوير الشاعر لآلامه ليس من العيوب التي تؤخذ عليه وإلا فليس من الواجب أن تطالبه بالصدق في التعبير، وألا نؤاخذه على تزوير شعوره.
ولو أطلع الناقد الفاضل على (الصورة السريعة) التي كتبتها عن حياتي في الديوان لعرف شيئاً عن سر الكآبة التي لازمت شعري في الأربع السنوات الماضية، وزادها سواداً ذلك الجحود الذي لقيته في الأدب وعبرت عنه في معظم قصائدي.
ثم يرى الناقد الفاضل أن (الأديب الصيرفي قليل العناية بقوافيه وبلغته على وجه العموم). . هذا حكم يصدره ناقد فاضل لأنه عثر على بعض هنات يعثر عليها في كثير من أشعار المتقدمين والمعاصرين، ولأنه وجد محاولات عروضية مخالفة للسنة القديمة، وهي لم تضر الأدب في شيء، إن كان قد أصابه ضرر من محاولات شعراء الأندلس. . هذه الهنات التي(72/78)
لم يذكرها والتي يمكن لكل ناقد أن يعدها على أصابعه تجعل من صاحب الديوان رجلاً لا يهتم بلغته وقوافيه (على العموم)!
إني لأهتم إذ أحاول التكلم عن أصول النقد وواجباته، ومن هذه الأصول عدم الحيدة عن الحقيقة والإنصاف، وأدعو الله أن يهدينا جميعاً أقوم السبيل. هذا وأختم تعليقي بالشكر للأستاذ الخفيف على تنويهه ببعض ما وجدني قد أحسنت فيه مما كان يرفعني - أو يرجى منه ذلك - لو أني سرت على نهجه في جميع قصائدي كما يقول. وأنا عند حسن ظنه بي يوم يتقدم بي العمر حتى يتكافأ وأدبي.
حسن كامل الصيرفي(72/79)
العدد 73 - بتاريخ: 26 - 11 - 1934(/)
عهدٌ وأي عهد!!
كان كرِعْدة الحمًّى، أو كرجفْة الزلزال، أخذ هذا البلد المسكين زهاء أربع سنين، فكدًّر من طبعه، وغيَّر من وضعه، وبدد من نظامه!
هل تخيلت الجنة وقد اتسق في ظلالها الخفض، واطَّرد في مياهها النعيم، وانبلج في أجوائها الأنس، وانبسط على أرجائها السلام، يقتحمها شياطين الجحيم عَنوة، فيجعلون ظلها حروراً، وماءها مُهْلاً، وأنسها وحشة، وسلامها فتنة؟ ذلك مثل النيل وواديه قبل هذا العهد الذميم وبعده!
كانت البلاد تسير مع الزمن إلى الأمام، وتتدرج مع الطبيعة في النمو، وتتوثب مع الحق على العدو، فنجم فيها ناجم من الشر اعترض طريقها اعتراض اللص، ثم أثار في وجوهها الرعب فانكفأت إلى الخلف، وامتحن قلوبها بالبطش ففزعت إلى الصبر، وسلط على مُترفيها المُنى فقروا على الرِّيب؛ وراح الذئب المقَنَّع أو الطاغية الكاذب يعيث في كل ديوان، ويفتك في كل مكان، ويخْتِل في كل جماعة، حتى عطَّل سلطة الأمة، وأبطل سطوة القانون، وقوض ركن الفضيلة.
تناصرت أبالسة الظلم والظلام على مشاعر هذه الأمة فتركوها من الدسائس والهواجس والأوهام في مثل الدجى الحالك، تقتل نفوسها ويقولون إنها تجاهد، وتركب رءوسها ويعلنون أنها تسير، وتضطرب في شقائها اضطراب الذبيح ويوهمون أنها تحيا؛ ثم رصدوا خزانة الدولة وجنودها وشُرَطَها وموظفيها لإقرار الشعب على الضيم، ورياضته على الاستكانة، فنسى الجندي أنه حشد لمدافعة العداة، والشُّرْطي أنه رُصد لمراقبة الجناة، والموظف أنه أُعِدَّ لتصريف الأمور، ووقفوا جهودهم على قطع هذا الشارع فلا يعبره عابر، وحصر هذا البيت فلا يزوره زائر، وتعهُّدِ هذا المحالف فلا يُخْلفُه بِر، وتَعقّب ذلك المخالف فلا يفُلته أذى!!
ثم انتشر الوعيد والوعد في جنبات النفوس يستنزلانها عن الخُلق، ويفتنانها عن العقيدة، ويغريانها بالعدالة، ويحرضانها على الصداقة، حتى اشتبه الوفاء، واتُّهم القضاء، ومرضت الأهواء، وانقطعت الأسباب بين المرء وصاحبه، وانفرجت الحال بين الرجل وواجبه؛ وكل ذلك لتُثْرى جماعة ويتسلط فرْد!!
لا للهِ ولا للوطن كانت هذه المِحنة! إنما كانت نزوة رَعْناء من بغي الإنسان على الإنسان!(73/1)
والناس لا يزالون كما كانوا في الدهر الأول يسرقون ليأكلوا، ويقتلون ليعيشوا، ويستعبدون ليسودوا، ويستبدون ليحكموا، لا يحمي الفردَ من الفرد قانون، ولا يعصم الأمةَ من الأمة معاهدة! أما الدين والمدنية والعلم والأدب والفن والأنظمة فغطاء ذهبي على الناب، وطلاء وردي على المخلب!
على أن ضعف الشعوب خَدَّاع، لأنه قُوىً متفرقة في نفوس متفرقة، فإذا ما تجمَّعت ذات مرة حول القوة الزعيمة الملهِمة، كانت هي الرجفة التي تهز الأرض من حين إلى حين، وتنقل التاريخ من فصل إلى فصل!
ولكن ابن آدم سَهْوان: يُذهله نجب السلطان عن صوت العبَر، كما يذهله غرور الحياة عن يقين الموت! فلا يفيق من سكرة الدنيا إلا بوكزة الداء، ولا من سَوْرة الحكم إلا بسقطة الوزارة!
سيتحرَّج التاريخ من تسجيل هذا العهد وإن سجل كثيراً من أمثاله! لأن المظنون أن العالم يتقدم ولا يتأخر، ويترقى ولا ينحط؛ فكيف يجد المعاذير لقطعة من الأرض يعزلها سارقوها عن الوجود الحاضر، ثم يحاولون أن يضربوا الأسداد بينها وبين الحرية والديمقراطية، فلا ترى سيادة هذه ولا تسمع أناشيد تلك! ولكن التاريخ لا ينسى - وإن نسى الناس - أن للنظام العالمي جاذبية تجذب المتخلف، وللعدل الإلهي صيحة تُسمع الأصم، وللشعب الوديع حيوية يَقْظى تعود بالمبطل صاغراً إلى الحق، وتُفئ بالحق السليب موفوراً إلى أهله!
حنانيك يا رب! لقد تألمنا حتى أشفق الألم، وصبرنا حتى جزع الصبر، وضحينا حتى أصبحنا كلنا ضحايا!! فعسى أن يشاء عدلك وتريد رحمتك ألاَّ نقاسيَ مثل هذا العهد، وألا نعانيَ مثل هذه التجربة، وألا نكابد مثل هذا البلاء!
الآن أصبح الليل، وانجلت الغمة، وتهتكت سدول الظلام عن السماء الواعدة، والضياء الهادي، والأفق الممتد، والطريق القاصد! فهل ترتد الشياطين إلى قماقم سليمان، وترجع الخفافيش إلى حَوالك الغِيران، ويستقيم القوم على عمود رأيهم حتى يلحقوا الناس ويدركوا الغاية!
أحمد حسن الزيات(73/2)
الأجنبيَّة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أحبَّها وأحبَّتْه، حتى ذهب بها في الحب مَذْهباً قالت له فيه: (لو جاءني قلبي في صورةٍ بشريَّةٍ لأراه كما أُحِسُّه، لما اختار غير صورتك أنتَ في رقِّك وعطفك وحنانك.) وحتى ذهبتْ به في الحب مذهباًقال لها فيه: (إن الجنة لا تكون أبدعَ فناً، ولا أحسنَ جمالاً، ولا أكثرَ إمتاعاً لو خُلِقَت امرأةً يهواها رجل؛ إلا أن تكون هي أنتِ.) فقالت له: (ويكونَ هو أنتَ. . .).
وتَدَلَّهتْ فيه، حتى كأنما خَلَبها عقلَها ووضع لها عقلاَ من هواه؛ فكانت تقول له فيما تَبُثُّه من ذاتِ نفسها: (إن حبَّ المرأة هو ظهورُ إرادتها مُتَبرِّئةً من أنها إرادة، مُقِرَّةً أنها مع الحبيب طاعةٌ مع أمر، مُذْعِنَةً أنها قد سلّمت كبريائها لهذا الحبيب، لتراه في قوّته ذا كبريائين.)
وافتتن بها حتى أخذتْ منه كلَّ مأخَذ، فملأتْ نفسَه بأشياء، وملأت عينَه من أشياء؛ فكان يقول لها في نجْواه: (إني أرى الزَمن قد انْتَسَخَ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نَفْسينا العاشقتين لا يُسمَّى الوقتَ ولكن يسمَّى السرور، وإنما نعيشُ في أيام قلبيّةٍ لا تدلُّ على أوقاتها الساعةُ بدقائقها وثوانيها، ولكنِ السعادة بحقائقها ولذَّاتِها.)
وتحابَّا ذلك الحبّ الفنّيَ العجيب الذي يكون ممتلئاً من الروحين يكادُ يفيض وينسكب، وهو مع ذلك لا يبرَحُ يطلب الزيادة، ليتخيّل من لذتها ما يتخيل السكِّيرُ في نشوتهِ إذا طفحت الكأس، فيرى بعينيه أنها ستتَّسع لأكثَرَ مما امتلأت به، فيكونُ له بالكأس وزيادتها، سُكْرُ الخمرِ وسكرُ الوهم.
تحابَّا ذلك الحبّ الفَوّار في الدم، كأن فيه من دَوْرته طبيعة الفراق والتلاقي، بغير تلاقٍ ولا فراق؛ فيكونان معاً في مجلِسهما الغَزَليّ، جَنْبُهُ إلى جنبها وفَاهَا إلى فيه وكأنما هرَبَتْ ثم أدرْكَها، وكأنما فَرّتْ ثم أمسَكَها. وبين القُبْلةِ والقُبْلة هِجرانٌ وصلح، وبين اللَّفتَةِ واللّفتة غَضَبٌ ورضى.
وهذا ضَرْبٌ من الحب يكون في بعض الطبائع الشاذّة المُسْرِفة التي أفرطتْ عليها الحياةُ إفراطها فَيَلِفُّ الحيوانيّةَ بالإنسانية، ويجعلُ الرجلَ والمرأةَ كبعض الأحماض الكيماوية مع(73/3)
بعضها؛ لا تلتقي إلا لتتمازج، ولا تتمازجُ إلا لتَتّحد، ولا تتحدُ إلا ليبتلعَ وجودُ هذا وجودَ ذاك.
وضَرَب الدهرُ من ضَرباتِه، فأبغضتْه وأبغضها، وفَسَدتْ ذاتُ بينِهما، وأدبر منها ما كان مُقْبِلاً؛ فَوَثَبَ كلاهما من وجود الآخر وَثْبة فَزَعٍ هارباً على وجهه. أما هو فَسَخِطَها لعيوب نفسها، وأما هي. . . وأما هي فَتَكرَّهَتْه لمحاسن غيره، وانسَرَبَتْ أيام ذلك الحب في مسَارِبها تحت الزمن العميق الذي طَوَى ولا يزالُ يطْوي ولا يبرحُ بعد ذلك يطوي؛ كما يغورُ الماءُ في طِباق الأرض. فأصبح الرجل المسكين وقد نزلتْ تلك الأيام من نفسه منزلةَ أقاربَ وأصدقاء وأحِبّاء ماتوا بعضُهم وراءَ بعض، وتركوه ولكنهم لم يبرحوا فِكْرَه، فكانوا له مادّةَ حسرة ولَهْفة. أما هي. . . أما هي فانشقّ الزمن في فكرها بِرَجّةِ زلزلة، وابتلع تلك الأيامَ ثم التأم. . .!
فحدّثنا (الدكتور محمد) رئيس جماعة الطلبة المصريين في مدينة. . . بفرنسا، قال: وانتهى إليّ أن صاحبنا هذا جاء إلى المدينة، وأنه قادمٌ من مصر، فَتَخالَجني الشوقُ إليه، ونزعتْ إلى لقائه نفسي، وما بيننا إلا معرفتي أنه مصريٌّ قَدِمَ من مصر؛ وخُيّل إليّفي تلك الساعة مما اهْتَاجني من الحنين إلى بلادي العزيزة، أن ليس بيني وبين مصرَ إلا شارعان أقطعهُما في دقائق؛ فخففتُ إليه من أقرب الطرق إلى مثواه، كما يصنع الطير إذا ترامى إلى عُشّهِ فابْتدَرَهُ من قُطْرِ الجوّ.
قال: وأصبْتُه واجماً يعلوه الحزن، فتعرّفتُ إليه فما أسرَعَ ما مَلأَ من نفسي وما ملأتُ من نفسه، وكما يمَّحِي الزمانُ بين الحبيبين إذا التقيا بعد فُرْقة - يتلاشى المكانُ بين أهل الوطن الواحد إذا تلاقوا في الغرْبة. فذابت المدينةُ الكبيرة التي نحن فيها، كأنْ لم تكن شيئاً، وتجلّى سحرُ مصر في أقوى سَطوتِه وأشدها، فأخذَنا كلينا فما استشعرنْا ساعتئذٍ، إلا أن أوربا العظيمة، كأنما كانت مرسومةً على ورقة، فطويناها وأحللْنا مصرَ في محلها.
وطغى علينا نازِعُ الطرَب طغياناً شديداً، فأرسلْتُ من يجمع الإخوان المصريين، واخترتُ لذلك صديقاً شاعرَ الفطرة، فَنَزا به الطربُ، فكان يدعوهم وكأنهُ يُؤذّن فيهم لإقامة الصلاة. وجاءوا يهرولون هَرْولةَ الحجيج، فلو نَطَقتِ الأرض الفرنسية التي مَشَوا عليها تلك المِشْيةَ لقالت: هذه وطْأةُ أٌسودٍ تتَخيّل خُيلاءهَا من بَغي النشاط والقوة.(73/4)
ألا ما أعظمَكِ يا مصر، وما أعظمَ تعنُّتَكِ في هذا السحر الفاتن! أينبغي أن يغتربَ كلُّ أهلك حتى يدركوا معنى ذلك الحديث النبويّ العظيم (مصرُ كِنانةُ الله في أرضه.) فيعرفوا أنك من عزّتك معلَّقةٌ في هذا الكون تعليقِ الكنانة في دار البطل الأرْوع؟
قال (الدكتور محمد): واجتمعنا في الدار التي أنزلُ فيها، فراع ذلك صاحبةَ مثْواي، فقلت لها: إنَّ ههنا ليلةً مصرية ستحتلُّ ليلتكم هذه في مدينتكم هذه، فلا تجزعوا. ثم دعوتها إلى مجلسنا لتشهد كيف تَسْتَعْلِنُ الروح المصرية الاجتماعية برقّتها وظرفها وحماستها، وكيف تُفسّر هذه الروحُ المصريةُ كلّ جميل من الأشياء الجميلة بشوقٍ من أشواقها الحنَّانة، وكيف تكون هذه الروحُ في جوّ موسيقيتها الطبيعية حين تُناجي أحبابها، فيجئ حديثُها بطبيعته كأنه ديباجة شاعر في صفائها وحلاوتها ورنين ألفاظها؟
وقالت السيدة الظريفة: يالها سعادة! سأتخذُ زينتي، وأصلح من شأني، وأكون بعد خمس دقائق في مصر!
قال الدكتور: وأخذنا في شأننا، وكان معنا طالبٌ حسن الصوت فقام إلى البيانة وغَنى مقطوعة (طقطوقة) مصرية من هذه المقاطيع التي تُطقْطِقُ فيها النفس، فجعل يَمطُلُ صوتَهُ بآهٍ، وآه، ودار اللحنُ دورةً تأوهت فيها الكلماتُ كلُّها. ثم اعْتَوَرَ البيانة طالبٌ آخر فما شذَّ عن هذه السنَّة، وكان بعد الأول كالنائحة تُجاوب النائحة. فمالت عليّ السيدة الفرنسية وأسَرّت إليّ: أهاتان امرأتان أم رجلان. . .؟ فقلت لها: إن هذا لخنٌ تاريخي ذو مقطوعتين كانت تَتَطارحُهكليوباترة وأنطونيو، وأنطونيو وكليوباترة. فأعجبت المرأة أشد الإعجاب، وأكبرتْ منا هذا الذوقَ المصريّ أن نكرمها لوجودها في مجلسنا بألحان الملكة المصرية الجميلة، وطرِبتْ لذلك أشدَّ الطرب، ومَلَكها غرور المرأة، فجعلت تستعيد (يا لوعتي، يا شقاي، يا ضَنىَ حالي. . .) وتقول: ما كان أرقّ كليوباترة! ما كان أرقّ أنطونيو! يا لَفِتنةِالحب الملَكي!. .
قال (الدكتور محمد): ثم خجلتُ والله من هذا الكلام المخنَّث، ومن تلفيقي الذي لفقته للمرأة المخدوعة؛ فانتفضْتُ انتفاضةَ من يملؤه الغضب، وقد حَمِيَ دمُه، وفي يده السيفُ الباتر، وأمامه العدو الوقْح؛ وثُرْتُ إلى البيانة فأجريتُ عليها أصابعي، وكأنّ في يدي عشرة شياطين لا عشرة أصابع، ودوّى في المكان لحنُ (اسلمي يا مصر) وجَلْجَلَ كالرعد في قبة(73/5)
الدنيا، تحت طِباق الغيم، بين شرار البرق. فكأنما تَزَلْزلَ المكان على السيدة الفرنسية وعلينا جميعاً، وصَرَخَ أجدادُنا يزأرونَ من أعماق التاريخ: (اسلمي يا مصر). ولما قَطَعتُ التفتُّ إليها في كبرياء تلك الموسيقى وعظمتها، وقلتُ لها: هذا هو غناؤنا نحن الشبان المصريين.
ثم راجعنْا صاحبَنا الضيف، وأحفَيْناه بالمسألة، فقال بعد أن دافَعَنا طويلاً: إنه يحسن شيئاً من الموسيقى، وإن له لحناً سيُطارحنا به لنأخذه عنه. فطرِنا بلَحنه قبل أن نسمعه، وقلنا له: افعلْ متفضلاً مشكوراً، وما زلنا حتى نهض متَثاقلاً فجلس إلى البيانة وأطرق شيئاً، كأنه يُسوِّي أوتاراً في قلبه، ثم دَقَّ يتشاجَى بهذا الصوت:
أضَاعَ غَدي من كان في يَدِهِ غدي ... وحَطّمني من كان يَجْهَدُ في سَبْكِي
فإن كنتُ لا آسى لنفسي فَمَنْ إذن؟ ... وإن كنتُ لا أبكي لنفسي فمن يَبكي
قال (الدكتور محمد): فكان الغناء يَعْتلجُ في قلبه اعتلاجاً، وكانت نفسه تبكي فيه بكاءها وتَغصُّ من غصتها، وكأن في الصوت فكراً حزيناً يَستعلن في همٍّ موسيقى؛ وخيل إلينا بين ذلك أن البيانة انقلبت امرأة مغنية تُطارح هذا الرجل عواطفها وأحزانها، فاجتمع من صوتهما أكملُ صوت إنساني وأجملُه وأشجاه وأرقّه.
فأطَفْنا به وقلنا له: لقد كتمْتَنا نفسك حتى نَمَّ عليها ما سمعنا، وما هذا بغناء، ولكنه هموم مُلَحَّنةٌ تلحيناً، فلن ندعَك أو تُخَبِّرَنا ما كان شأنك وشأنها.
فاعْتلَّ علينا ودافَعَنا جهدَه، فقلنا له: هيهات؛ والله لن نُفْلِتَكَ وقد صِرتَ في أيدينا. وإنك ما تزيدُ على أن تَعظنا بهذه القصة؛ فإن أمسكت عنها فقد أمسكتَ عن موعظتنا، وإن بخلت فما بخلتَ بقصتك بل بعلمٍ من علم الحياة نُفيدُه منك؛ وأنت ترانا نعيش هاهنا في اجتماع فاسد كلُّه قصص قلبيّة، بين نساء لا يَلْبَسنَ إلا ما يُعرّي جمالَهن، وفي رجال أفرطتْ عليهم الحرية، حتى دخل فيها مَخدعُ الزوجة. . .!
قال الدكتور: ونظرت فإذا الرجل كاسِفٌ قد تَغيّر لونُه، وتبين الانكسار في وجهه، فألممت بما في نفسه، وعلمت أنه قد دهي في زوجة من هؤلاء الأوربيات اللواتي يتزوجن على أن يكون مخدع المرأة منهن حراً أن يأخذ ويدع، ويغير ويبدل، ويقسم كلمة (زوج) قسمين وثلاثة وأربعة وما شاء. . .(73/6)
وكأنما مسست البارود بتلك الشرارة، فانفجرت نفس الرجل عن قصة ما أفظعها!
قال: يا إخواني المصريين، قبل أن أنفض لكم ذلك الخبر، أسديكم هذه النصيحة التي لم يضعها مؤلف تاريخي لسوء الحظ، إلا في الفصل الأخير من رواية شقائي:
(إياكم إياكم أن تغتروا بمعاني المرأة، تحسبونها معاني الزوجة. وفرقوا بين الزوجة بخصائصها، وبين المرأة بمعانيها؛ فإن في كل زوجة امرأة، ولكن ليس في كل امرأة زوجة).
واعلموا أن المرأة في أنوثتها وفنونها النسائية الفردية، كهذا السحاب الملون في الشفق حين يبدو؛ له وقت محدود ثم يمسخ مسخاً؛ ولكن الزوجة في نسائيتها الاجتماعية كالشمس؛ قد يحجبها ذلك السحاب، بيد أن البقاء لها وحدها، والاعتبار لها وحدها، ولها وحدها الوقت كله.
لا تتزوجوا يا إخواني المصريين بأجنبية؛ إن أجنبيةً يتزوج بها مصري هي مسدس جرائم فيه ست قذائف:
الأولى: بوار امرأة مصرية وضياعها بضياع حقها في هذا الزوج. وتلك جريمة وطنية؛ فهذه واحدة.
والثانية: إقحام الأخلاق الأجنبية عن طباعنا وفضائلنا - في هذا الاجتماع الشرقي، وتوهينه بها وصدعه؛ وهي جريمة أخلاقية.
والثالثة: دس العروق الزائغة في دمائنا ونسلنا، وهي جريمة اجتماعية.
والرابعة: التمكين للأجنبي في بيت من بيوتنا، يملكه ويحكمه ويصرفه على ما شاء؛ وهي جريمة سياسية.
والخامسة: للمسلم منا إيثاره غير أخته المسلمة، ثم تحكيمه الهوى في الدين، ما يعجبه وما لا يعجبه، ثم إلقاؤه السم الديني في نبع ذريته المقبلة، ثم صيرورته خزياً لأجداده الفاتحين الذين كانوا يأخذونهن سبايا، ويجعلونهن في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد الزوجة؛ فأخذته هي رقيقاً لها، وصار معها في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد. . . وهذه جريمة دينية.
والسادسة: بعد ذلك كله، إن هذا المسكين يؤثر أسفله على أعلاه. . ولا يبالي في ذلك خمس جرائم فظيعة.(73/7)
وهذه السادسة جريمة إنسانية!
ما كنت أحسب يا إخواني وقد رجعت بزوجتي الأوربية إلى مصر - أني أحضرت معي من أوربا آلة تصنع أحزاني ومصائبي! ولم يكن وعظني أحد بما أعظكم به الآن، ولا تنبهت بذكائي إلى أن الزوجة الأجنبية تثبت لي غربتي في بلادي! وتثبت على أني غير وطني أو غير تام الوطنية، ثم تكون مني حماقة تثبت للناس أني أحمق فيما اخترت؛ ثم تعود مشكلة دولية في بيتي، يزورها أبناء جنسها ويستزيرونها رغم أنفي وفمي ووجهي كله! ويستطيلون بالحماية، ويستترون بالامتيازات، ويرفعون ستاراً عن فصل، ويرخون ستاراً عن فصل. . وأنا وحدي أشهد الرواية. .!
إن الشيطان في أوربا شيطان عالم مخترع، فقد زين لي من تلك الزوجة ثلاث نساء معاً: زوجة عقلية، وزوجة قلبية، وزوجة نفسية، ثم نفث اللعين في روعي أن المرأة الشرقية ليست فيها إلا واحدة، وهي مع ذلك ليست من هؤلاء الثلاث ولا واحدة. قال الخبيث: لأنها زوجة الجسم وحده، فلا تسمو إلى العقل، ولا تتصل بالقلب، ولا تمتزج بالنفس؛ وأنها بذلك جاهلة، غليظة الحس، خشنة الطبع، لا تكون مع المصري إلا كما تكون الأرض المصرية مع فلاحها.
لعنة الله على ذلك الشيطان الرجيم العالم المخترع! ما علمت من بعد أن هذه الشرقية الجاهلة الخشنة الجافية هي كالمنجم التي تبره في ترابه، وماسه في فحمه، وجوهره في معدنه؛ وأن صعوبتها من صعوبة العفة الممتنعة، وأن خشونتها من خشونة الحب المعتز بنفسه، وأن جفاءها من جفاء الدين المتسامي على المادة؛ وأنها بجموع ذلك كان لها الصبر الذي لا يدخله العجز، وكان لها الوفاء الذي لا تلحقه الشبهة، وكان لها الإيثار الذي لا يفسده الطمع. هي جاهلة، ولها عقل الحياة في دارها؛ وغليظة الحس؛ ولها أرق ما في الزوجة لزوجها وحده؛ وخشنة الطبع، لأنها تتنزه أن تكون ملمساً ناعماً لهذا وذاك وهؤلاء وأولئك. . لا كامرأة الحب الأوربية، التي تجعل نفسها أنثى الفن، وتريد أن تعيش دائماً مع زوجها الشرقي من التفضيل والإيثار والإجلال والإباحة - في كلمة (أنا) قبل كلمة (أنت). . امرأة أنشأتها الحرب العظمى بأخلاق مخربة مدمرة تنفجر بين الوقت والوقت.
عندنا يا إخواني تعدد الزوجات، يتهموننا به من عمىً وجهل وسخافة. انظروا، هل هو إلا(73/8)
إعلان لشرعية الرجولة والأنوثة، ودينية الحياة الزوجية في أي أشكالها؛ وهل هو إلا إعلان بطولة الرجل الشرقي الأنوف الغيور أن الزوجة تتعدد عند الرجل ولكن. . . ولكن ليس كما يقع في أوربا من أن الزوج يتعدد عند المرأة. . .!
يتهموننا بتعدد المرأة على أن تكون زوجةً لها حقوقها وواجباتها، بقوة الشرع والقانون، نافذةً مؤداة، ثم لا يتهمون أنفسهم بتعدد المرأة خليلة مخادنةً ليس لها حق على أحد، ولا واجب من أحد، بل هي تتقاذفها الحياة من رجل إلى رجل، كالسكير يتقاذفه الشارع من جدار إلى جدار.
لعنة الله على شيطان المدنية العالم المخترع المخنث، الذي يجعل للمرأة الأوربية بعد أن يتزوجها الرجل الشرقي أصابع (أوتوماتيكية)، ما أسرع ما تمتد في نزوة من حماقاتها إلى رجلها بالمسدس، فإذا الرصاص والقتل؛ وما أسرع ما تمتد في نزوة من عواطفها إلى عاشقها بمفتاح الدار، فإذا الخيانة والعهر!
ماذا تتوقعون يا إخواني من تلك الرقيقة الناعمة، المتأنثة بكل ما فيها أنوثة تكفي رجالاً لا رجلاً واحداً، وقد ضعفت روحية الأسرة في رأيها، وابتذلت الروحية في مجتمعها ابتذالاً، فأصبح عندها الزواج للزواج على إطلاقه، لا لتكون امرأة واحدة لرجل واحد مقصورة عليه؛ وبذلك عاد الزواج حقاً في جسم المرأة دون قلبها وروحها؛ فإن كان الزوج مشئوماً منكوباً لم يستطع أن يكون رجل قلبها - فعليه أن يدع لها الحرية لتختار زوج قلبها. .! ومعنى ذلك أن تكون هذه المرأة مع الزوج الشرعي بمنزلة المرأة مع فاسق؛ ومع الفاسق بمنزلة المرأة مع الزوج الشرعي. .! وإن كان الرجل منحوساً مخيباً، وكان قد بلغ إلى قلبها زمناً ثم مله قلبها - فعليه أن يدع لها الحرية لتتنقل وتلذ بلذات الهوى، ويقول لها: شأنك بمن أحببت، فإن هذا المنحوس المخيب ليس عندها إنساناً، لكنه رواية إنسانية انتهى الفصل الجميل منها بمناظره الجميلة، وبدأ فصل آخر بحوادث غير تلك. فلمن يشهد الرواية أن يتبرم ما شاء، ويستثقل كما يشاء، ومتى شاء انصرف من الباب. .!
امرأة هذه المدنية هي امرأة العاطفة؛ تتعلق باللفظ حين تلبسه العاطفة من زينتها، وإن ضاع فيه المعنى الكبير من معاني العقل، وإن فاتت به النعمة الكبيرة من نعم الحياة.
تقوى العاطفة فتجئ بها إلى رجل، ثم تقوى الثانية فتذهب بها مع رجل آخر. . .! وتقيد(73/9)
نفسها إن شاءت، وتسرح نفسها إن شاءت؛ وما بد من أن تبلو الحياة كما يبلوها الرجل، وأن تخوض في مشاكلها؛ وإذا شاءت جعلت نفسها إحدى مشاكلها. .! ولا مندوحة من أن تتولى شأن نفسها بنفسها، فإذا خاست أو غدرت فكل ذلك عندها من أحكام نفسها، وكل ذلك رأي وحق، إذا كان محورها الذي تدور عليه هو عاطفتها وحرية هذه العاطفة، فمن هذا يقرر لها خطتها، ويملي عليها واجباتها، ويزور لها الأسماء على إرادته دون إرادتها، فيسمي لها نكد قلبها باسم فضيلة المرأة، وحرمان عاطفتها باسم واجب الزوجة الشريفة؟
ومنذا خوَّلَه الحق أن يقرر وأن يملي؟
وهذا الشرقي العتيق المأفون الذي قبلها سافرة لا تعرف روحها ولا جسمها الحجاب؛ ما باله يريد أن يضرب الحجاب على عاطفتها، ويتركها محبوسة في شرفه وحقوقه وواجباته، وإن لم تكن محجوبة في الدار؟
ما علمت يا إخواني إلا من بعد، أن الزوجة الغربية قد تكون مع زوجها الشرقي كالسائحة مع دليلها. هيهات هيهات، إنه لن يمسكها عليه، ولن يكرهها على الوفاء له، إلا أن تكون حثالة يزهد فيها حتى ذباب الناس؛ فيأسها هو يجعل هذا المسكين مطمعها، وهي مع ذلك لو خلطته بنفسها لبقيت منها ناحية لا تختلط، إذ ترى أمته دون أمتها، وجنسه دون جنسها؛ فما تسب أمة زوجها وبلاده بأقبح من هذا!
أما والله إن الرجل الشرقي حين يأتي بالأجنبية لتلوين حياته بألوان الأنثى. . لا يكون اختار أزهى الألوان إلا لتلوين مصائب حياته! وقد يكون هناك ما يشذ، ولكن هذه هي القاعدة.
أما قصتي يا إخواني. . . . . . . . .
قال الدكتور محمد: قد حكيتها (يرحمك الله)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(73/10)
2 - محمد بك المويلحي
للأستاذ عبد العزيز البشري
لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان (مصباح الشرق) عندي هو المثل الأعلى للبيان العربي. وبهذا كنت شديد الاكباب على قراءته، وتقليب الذهن واللسان في روائع صيغه وطرائف عباراته. حتى لقد كنت أشعر أنني أترشفها ترشفاً لتدور في أعراقي وتخالط دمي، وتطبع ملكتي على هذا اللون من البيان الجزل السهل الناقد الطريف. ولكن (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)!
ولقد كنت فتى مولعاً بالصناعة، شأن أكثر نابتة المتأدبين في ذلك العهد. فلما أرسل محمد المويلحي في المصباح (أحاديث عيسى بن هشام) زادني وزاد لداتي به فتوناً.
كيف تمثل لي محمد المويلحي؟:
لم تكن عيني إلى هذا العهد قد وقعت قط على محمد المويلحي ولا خيار المرء في تمثل صورة من لم ير من الأناسي، وما لم يشهد من البقاع. فكانت الصورة التي جلاها علي الخيال لهذا الرجل، صورة شاب معتدل القد، وضئ الطلعة، وسيم الوجه قسيمه. وما كان ذلك البيان الجوهري ليجلو علي من الرجل غير ذلك. على أنني كنت أرى أباه إبراهيم بك الحين بعد الحين في زياراته لوالدنا، عليهما رحمة الله، وفي زيارات والدنا له (بعمارة البابلي) يوم كنت أصحبه. وكان هذا المويلحي تحفة من تحف العصر التي قل أن يجود بمثلها الزمان: قوة لسن، واشتعال ذهن، وحضور بديهة، وسطوة نكتة، وسعة علم بالزمان وأحوال الناس. أما سرعته وتوفيقه في إيراد الشاهد من عبر التاريخ، ومأثور الآداب من منثور الكلام ومنظومه، فهذا ما لم يتعلق بغباره فيه أحد. فكان مجلسه متاعاً من أعظم المتاع
على أنني لم أوفق إلى رؤية المويلحي الابن مرة واحدة!
وتتابعت السنون، وخلص تحرير (المصباح) إلى محمد. ثم امتحنه القدر بحادثة اعتداء يسير عليه من بعض الطيش من أبناء (الذوات) في إحدى القهوات. وانتهى الخبر إلى المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان في صدره موجدة شديدة على محمد وعلى أبيه لما كان بينه وبينهما من كيد وصراع، فانتهز الفرصة وروى الحادثة في صورة مهولة، واستدرج(73/11)
الكتاب والشعراء للقول فيها، وفسح لهذا في المؤيد مكاناً عريضاً. ومن ذا الذي لم يكن موتوراً من المويلحي؟ ومن ذا الذي لم يقدر الوتر منه في مستقبل الأيام؟ وإذا كان الرجل عاجزاً على أن يخرج للمويلحي وحده، فهذه جموع الأدباء والشعراء والعلماء أيضاً قد تداكت لقتاله بكل ما في أيديها من سلاح! ألا فليتقدم لطعن المويلحي من شاء أن يتقدم، فليس على أحد في قتاله اليوم من بأس!
وتثور العاصفة، ويشتد البأس، وتحمر الحدق، وأذّن النفير العام، فوثب القاعد وتحرك الساكن، وانبعث الجاثم وهب النائم. وأهاب القعديون بالمتخلف، واستحمسوا المتخاذل. وشد الجميع على قلب رجل واحد. وهل كان من المستطاع أن يصمد لهذا الجيش اللجب رجل واحد؟. لم يستطع المويلحي أن يثبت في الميدان، فأطفأ (المصباح) وأنسل إلى داره وقد ألقى يد السلام، واحتجب ولكن في انتظار الثأر وري الغلة بالانتقام!.
ولقد تم للمويلحي من هذا بعض ما أراد أو كل ما أراد. فلقد كان ممن أثاروا الثائرة على الشيخ علي يوسف أيام حادث الزوجية المشهور، وفتح له في جريدة (الظاهر) باباً مثل ذلك الباب، واستدرج له أقلام الشعراء والكتاب. وواحدة لواحدةٍ كفاء.
متى رأيت المويلحي، وكيف اتصلت به؟:
بين سنتي 1907، 908، لا أذكر على التحديد، سألت صديقاً حديث العهد بصداقتي، ولكن وده للمويلحي قديم - سألته وتمنيته أن يجمع بيني وبينه، وما كان أبلغ دهشتي واغتباطي حين قال لي: إن المويلحي قد طالعه أنه يحب أن يراني، ولعله عرف بي من أيام كنت أرسل القول في الشيخ في فتنة الزوجية شعراً ونثراً. (وأسأل الله أن يغفر لي هذا). وتواعدنا أن نذهب إليه في الأصيل.
وكان، رحمه الله، قد اتخذ مسكنه داراً من دور سعيد باشا نصر، تقع في أطراف العباسية يومئذ. وهذه الدار لا يعطي العين ظاهرها أكثر من منظر (حوش) في قرافة الأمام، فإذا جزت مداخلها انفرجت للعين حديقة واسعة قد عبِّدت طرقها تعبيداً، ونضدت أشجارها تنضيداً، وتأنقت يد البستاني في تسويتها وتنميقها، كما تأنقت يد الطبيعة في تشجيرها وتزويقها: فهذا الفل الوضيء الآلق، وهذا الورد المشرق الضاحك، وهذا النرجس تنبعث من عيونه الأسحار، وهذا الياسمين لقد استحال تنفساً في ساع الأسحار.(73/12)
ولقد أفرد زاوية من زوايا الحديقة للغزلان والطواويس وجماعات الطير من كل غرد صداح.
ويستقبلني، رحمة الله عليه، بالبشر والتأهيل والترحيب، وإذا بي إزاء رجل حنطي اللون، بين الطويل والقصير، والسمين والهزيل؛ مستطيل الوجه، عريض الجبهة، حاد العينين، مستوي الأنف، له فم قريب إلى الفَوَهِ في غير قبح ولا استكراه. إذا تمثل واقفاً لمحت في ساقيه تقوساً خفيفاً لعله دخل عليه من أنه عالج المشي قبل أن تصلب عظامه. وله إذا تحدث صوت لا أقول خشن بل أقول جزل. فإذا أقبل على القراءة زر عينه اليسرى فبان التكرش الشديد ما بين أعلى العارض وأسفل الجبين، وهذا التكرش لا شك كان من أثر السنين، وإن كان يخفيها في المويلحي شدة عنايته بصحته، وتكلفه ألواناً من علاج البدن بمأثور الوصفات، والتزام الحمية في كثير من الأوقات، وأخذ النفس بالراحة التامة ما تستثيره أزمة من الأزمات، ولا يستدرجه مجلس لهو ولا تقنصه داعية لذة من اللذات؛ وبهذا تهيأ له أن يحيا في مثل نظرة الشباب إلى الممات.
وقد تلقّاني في غرفة الاستقبال، وهي غرفة أنيقة حقاً. لقد أثثت بأفخر الأثاث وأغلاه، وأفخر من كل شئ فيها الأناقة في تصفيف الفراش والذوق التام. وقد زُينت أجبُنُها بصور كبيرة له ولأبيه، وللأميرة نازلي فاضل، وللسيد جمال الدين الأفغاني. وبلوحات خطية جميلة جرت بروائع الحكم، وأكثرها من شعر المعري.
وخضنا في أحاديث من أحاديث الأدب، ولونا الكلام تلويناً حتى تجاوزنا نصف الليل، وتفارقنا وكأن حبل المودة بيننا ممدود من عشرين سنة. وتواعدنا اللقاء ما تهيأ لنا. وكذلك استمكن الإلف واستوثقت حبال الود، فما نتفارق على موعد من لقاء قريب. ولقد أعيش معه اليومين والثلاثة نقرأ عامة نهارنا وصدراً من ليلنا كتباً، أو نتذاكر أدباً.
وكان ممن يختلفون إلى داره مغرب الشمس عادة بعض أقطاب العلم وأصحاب الرأي والبيان والبدائة المواتية، وأذكر منهم المرحومين عمه السيد عبد السلام باشا المويلحي (سر تجار مصر)، والسيد محمد توفيق البكري، والشيخ علي يوسف، بعد أن تصافت القلوب مما كان علق بها من الأضغان، والسيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، وحافظ بك إبراهيم، وعبد الرحيم بك أحمد، وحافظ بك عوض، والسيد عبد الحميد البنان. أحياهما الله أطيب(73/13)
الحياة. وخذ ما شئت في أثناء هذه المجالس من أدب رائع، ومن نادرة طريفة، ومن حاضر نكتة قل أن تسخو بمثلها الأذهان.
ولقد كنا نقضي معاً عامة الصيف في مدينة الإسكندرية. ولعل من أسعد هذه الأصياف ذلك الذي قضيناه معاً في فندق في ضاحية المكس خالصين للرياضة ومراجعة الكتب في مختلف الآداب، لا ننحدر إلى صلب المدينة إلا لقضاء سهرة مونقة مع آثر الصحاب. كما عشنا معاً في شتاء سنة 911، 912، بضعة أشهر في دار استأجرناها في حلوان.
وفي سنة 1910 قلد في ديوان (عموم) الأوقاف منصب رئيس قسم الإدارة والسكرتارية، وفي يناير من سنة 1911 عينت في (قلم السكرتارية). وللمويلحي في هذا التعيين سعي غير منكور. وبهذا أصبح لي رئيساً، كما كان لي أستاذاً وصديقاً.
ولقد ظل الود بيننا موصولاً حتى قبض إلى رحمة الله.
نشأته ودراسته:
هو السيد محمد المويلحي بن إبراهيم بك بن السيد عبد الخالق المويلحي. أصلهم من مرفأ المويلح ببلاد العرب، هبط جدودهم مصر من زمن غير قصير، وكانوا يتجرون في صناعة الحرير، وهم أهل نعمة وثراء. ولقد أتلف أبوه إبراهيم كل ما كان في يده من الأموال فلم ينزلق عنه لبينه إلا نطافٌ من الاستحقاق في بعض الأوقاف.
وما أحسب محمداً تجاوز في الدراسة المنظمة التعليم الابتدائي. ثم جعل يتعلم على أبيه، ويكب على قراءة الكتب في العلوم والآداب، ثم اتصل بأئمة العلماء وأقطاب أصحاب الأدب من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ حسين المرصفي، ومحمود باشا سامي البارودي، وغيرهم من أعلام عصره فحذق العربية وبرع فيها، وجود البيان أيما تجويد، وهيأ له جِدُّه واضطرابه في أسفاره بين الشرق والغرب تجويد اللغات الفرنسية، والتركية، والإيطالية، كما أصاب حظاً من الإنكليزية واللاتينية. وكان كثير القراءة إلى غاية الممات، فلا تكاد تقتحم عليه إلا رأيته يعالج بالتنسيق حديقته، أو يقرأ في كتاب عربي أو في كتاب يجري في إحدى هذه اللغات.
ولقد سألته ذات يوم عن أحسن الفرص التي هيأت له أعظم حظ من العلم فقال: كنت في الأستانة في ضيافة رجل فاضل يدعى سليمان أفندي، وكان عنده مكتبة تعد من أفخر(73/14)
المكاتب الأهلية، فلبست ثيابي ذات عشية تأهباً للخروج كعادتي لأسهر في بعض ملاهي المدينة، وتفقدت كيسي فإذا هو صفر من الدرهم والدينار، فنضوت ثيابي ثانية وقلت باسم الله، ولبثت عاكفاً على قراءة الكتب لا أبرح هذه المكتبة إلا للنوم أو لغيره من حاجات الحياة. وظللت على هذه الحال ستة أشهر وبعض الشهر حتى أذن الله بالفرج، وجاءني من المال ما هيأ لي استئناف الحياة مع الناس!
ومن يعرف صبر المويلحي، وشدة حمله على نفسه، لا يستطيع أن ينكر منه هذا المقال، وسألم إن شاء الله بهذه الخلة العجيبة فيه عند الكلام في عاداته وأخلاقه. وحسبي هذا الآن فقد أطلت الحديث، والى الملتقى القريب.
عبد العزيز البشري(73/15)
صحف مطوية من التاريخ الإسلامي
2 - العرب في غاليس وسويسره
للأستاذ محمد عبد الله عنان
انتشرت المستعمرات والمعاقل العربية خلال القرن العاشر في بروفانس وسافوا وبييمون وسويسره كما بينا، وبسط العرب سيادتهم على ممرات جبال الألب وعلى الحدود بين غاليس وبلاد اللونبارد (شمال إيطاليا) وبينها وبين سويسره، وبلغوا في تقدمهم في غاليس مدينة جرينوبل، واحتلوا في سويسرا ولاية فاليه ومفاوز جورا المتاخمة لبرجونية، واحتلوا في إيطاليا الشمالية ولاية ليجوريا. وكانت معاقلهم في بروفانس ولا سيما حصن (فركسنيه) قواعد غزواتهم وملاذ قوتهم وسيادتهم. والظاهر أنهم اتبعوا نفس هذه الخطة في سهول بيمون فأنشأوا فيهاسلسلة من الحصون والقلاع القوية لتكون مركز غزواتهم في بلاد اللونبارد وفي سويسره؛ فإن الرواية الكنسية التي كتبها حبر معاصر من دير نوفاليس تذكر لنا اسم حصن عربي في تلك الأنحاء وتسميه (فراشنديلوم) والمظنون أنه هو المكان الذي تعرفه الجغرافية الحديثة باسم (فراسنيتو) وهو الواقع في لومبارديا على مقربة من نهر (بو). وتقص علينا نفس هذه الرواية الكنسية أيضاً أن سيداً نصرانياً من سادة تلك الأنحاء يدعى أيمون دفعه شغف المغامرة والكسب إلى محالفة العرب، فانضم إليهم واشترك في غاراتهم الناهبة، وفي ذات يوم وقعت بين السبايا امرأة رائعة الحسن، فاستبقاها أيمون لنفسه، ولكن زعيماً عربياً استحسنها وانتزعها منه قسراً، فغضب إيمون، والتجأ إلى كونت روتبالدوس حاكم بروفانس العليا، وفاوضه سراً في محاربة العرب وإنقاذ البلاد منهم، فرحب الكونت بهذا المشروع، ودعا السادة إلى معاونته، واستطاع أن يحشد قوات كبيرة وهوجم العرب في بييمون من كل صوب ومزقوا، وسقطت قلاعهم في يد النصارى، وذهب سلطانهم في تلك الأنحاء.
وتقص الرواية الكنسية أيضاً قصة مؤامرة دبرها كونراد ملك برجونية لإهلاك العرب النازلين في أملاكه، في جورا وعلى حدود برجونية، والمجر الذين كانوا يشاطرونهم يومئذ الإغارة والعيث في تلك الأنحاء. وذلك أنه كتب إلى العرب يستحثهم لقتال منافسيهم المجر، وانتزاع ما بيدهم من الأراضي والضياع والخصبة؛ وكتب مثل ذلك إلى العرب يستحثهم(73/16)
لقتال المجر والمعاونة على إجلائهم، وعين مكاناً للقاء الفريقين؛ فالتقت الجموع المتنافسة من العرب والمجر ونشب بينهما قتال هلك فيه كثير من الفريقين، ثم اشرف كونراد بجموعه ومزق البقية الباقية من الفريقين قتلاً وأسراً، وتضع الرواية تاريخ هذه الواقعة في سنة 952م؛ ولكنها لا تعين مكان حدوثها.
ومنذ منتصف القرن العاشر يأخذ نجم أولئك العرب المستعمرين المغامرين في الأفول، وتضمحل سيادتهم في تلك الأنحاء؛ بيد أنهم لبثوا مدى حين بعد ذلك يحتلون كثيراً من مواقع سافوا؛ ويجوبون أنحاء سويسرا كلها في طلب الغنيمة والسبي. وقد اعتادوا على حرب الجبال وحذقوا أساليبها؛ وبلغوا في توغلهم في سويسره مدينة سان جال على مقربة من بحيرة كونستاس، وانشأوا ثمة كثيراً من القلاع والأبراج التي ما زالت تقوم منها إلى اليوم بعض الأطلال والبقايا، ولبثوا حيناً في سان جال، حتى حشد رئيس ديرها حوله جمعاً من المقاتلين الأشداء، وفاجأوا العرب في جوف الليل ومزقوهم قتلاً وأسراً، وبذلك خفت وطأة الغزوات العربية في شمال سويسرا.
واستمرت المستعمرات والمعاقل العربية في دوفينه وبروفانس وبعض جهات الألب؛ وكان قربها من (فركسنيه) أمنع المعاقل العربية يمدها بأسباب الجرأة والعون، ويمدها قربها من البحر دائماً بإمداد جديد من المتطوعين والمغامرين من ثغور الأندلس وأفريقية.
في ذلك الحين كان أعظم أمراء النصرانية أوتو الكبير (أوتون) ملك ألمانيا، وكان أعظم أمراء الإسلام عبد الرحمن الناصر خليفة الأندلس؛ وكان للناصر مع معظم أمراء النصرانية، من إمبراطور بيزنطة إلى ملوك الشمال والغرب، علائق سياسية منظمة؛ وكانت له مع أوتو الكبير علائق ومراسلات. فلما رأى أمراء غاليس أنهم لا يستطيعون رد العرب عن أملاكهم وأراضيهم، سعوا إلى الإمبراطور أوتو زعيم النصرانية أن يعاونهم بمفاوضته الناصر زعيم الإسلام في إنقاذهم من هذا النير المزعج؛ وكان المفهوم دائماً أن حكومة قرطبة تحمي هذه المستعمرات العربية النائية وتمدها بعونها الأدبي على الأقل. فعول الإمبراطور أوتو على السعي لدى الناصر في تحقيق هذه الغاية؛ وأوفد إليه في سنة 956 سفارة على رأسها حبر يدعى (جان) فقصد إلى أسبانيا عن طريق فرنسا، ووفد على قرطبة يحمل بعض التحف والهدايا طبقاً لرسوم العصر، واستقبل بحفاوة بالغة وأنزل في(73/17)
منزل خاص ريثما يستقبله الخليفة. وتتفق الروايات العربية والنصرانية في وصف مظاهر العظمة والبهاء التي كانت تبدو بها قرطبة، ويبدو بها البلاط الأموي يومئذ. وتقص علينا الرواية الكنسية المعاصرة تفاصيل هذه الرواية، فتقول: إن الناصر لم يستقبل سفير أوتو في الحال، وإنه كان يحقد على أوتو لأنه تعرض في بض مراسلاته للإسلام، ولأنه كان قد اعتقل مدى حين سفيراً نصرانياً أرسله إليه الناصر، ولذلك أمر الناصر باعتقال السفير (جان) حتى يرسل سفيراً إلى أوتو يستوثق من عواطفه ونياته نحوه؛ واختير لهذه السفارة كالعادة قس من رعايا الخليفة، وكان أوتو يومئذ يشتغل ببعض الحروب الداخلية، فأبدى تساهلاً في قبول وجهات نظر الخليفة. ولما عاد السفير، ارتاح الناصر لنتائج سفارته، وأذن برؤية سفير الإمبراطور، فاستقبل استقبالاً فخماً ظهرت فيه عظمة البلاط الأموي؛ وتحدث إلى الناصر عن الغرض من سفارته. ولا نعرف ماذا كانت نتيجة السفارة، لأن الرواية الكنسية لا تحدثنا عن ذلك؛ ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة هي أنها ليست لها علاقة بالمستعمرات العربية في غاليس، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل لديها. وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة الأندلس لم تكن تعنى كثيراً بشأنها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها وتوغلها في الأراضي النصرانية بعين العطف. على أن لويتبراند، وهو مؤرخ كنسي معاصر يؤكد أن الخليفة كان يحمي هذه المستعمرات ويمدها بالتشجيع والعون.
وبعد ذلك بقليل (في نحو سنة 960) أخرج العرب من معاقلهم في آكام سان برنار؛ ولسنا نعرف تفاصيل ذلك الحادث؛ ولكن المحقق أن العرب أبدوا كعادتهم منتهى البسالة في الدفاع عن مواقعهم؛ والظاهر أيضاً أن القديس برنار (سان برنار) الذي سميت هذه الآكام باسمه كان من أبطال الموقعة التي نشبت وانتهت بجلاء العرب.
واستمر العرب في دوفينه وبروفانس، وكثيراً ما دعوا إلى التدخل بين سادة هذه الأنحاء. ولما غزا الإمبراطور أوتو بلاد اللونبارد، وأخرج منها ملكها بيرانجيه، التجأ ولده أدالبرت إلى عرب (فراكسنيه) ليعاونوه في استعادة ملكه. وكان هذا التحالف بين السادة والعرب يقوي سيادة الغزاة ويدعمها كلما آذنت بالانهيار. بيد أن هذه السيادة قد أخذت في(73/18)
الاضمحلال منذ فقد العرب معاقلهم في بلاد الألب. وفي سنة 965هـ أخرج العرب من مدينة جرينوبل ومن واديها الخصب (جريزبفودان) وطوردوا في تلك النواحي وساءت أحوالهم؛ وأعلن الإمبراطور أوتو بعد ذلك بعامين أو ثلاثة، وهو يومئذ في إيطاليا أنه سيتولى طرد العرب من الأراضي النصرانية، ولكنه توفي دون القيام بمشروعه.
ثم دنت بوادر المعركة الحاسمة، وحدث في ذلك الحين أن حبراً كبيراً ذائع الصيت هو سان ماييل، وهو أسقف دير كلوني من أعمال برجونيه، حج إلى رومه، ولما عاد من طريق دوفينه أسره العرب المرابطون في الجبال مع جماعة كبيرة من الحاج، واشترطوا عليهم فدى فادحة؛ فدفعت بعد عناء، وأطلق سراح سان ماييل وزملاؤه. ولما عاد سان ماييل إلى مقامه دعا مواطنيه إلى إنقاذ البلاد من عيث الغزاة، وأذكى حماستهم وسخطهم، وذاعت قصة أسره وما يعانيه الحاج من شر العرب وعدوانهم، فنهض سيد من سادة تلك الأنحاء ويدعى بوبون (أو بيفون) وانتهز فرصة الحماسة العامة، وجمع حوله كثيراً من المقاتلة، وبنى حصناً في سترون على مقربة من حصن كان يملكه العرب، ولبث يتحين الفرص لمفاجأة العرب والاستيلاء على حصنهم، حتى استطاع ذات يوم أن يحمل بعض الحراس على فتح الأبواب، فتمت الخيانة، وباغت النصارى العرب في حصنهم، وقضوا عليهم قتلاً وأسراً (سنة 972م).
وفي الوقت نفسه التف النصارى في دوفينه حول زعيم يدعى جيوم، وهاجموا العرب في جميع مراكزهم وقلاعهم ومزوقهم في كل ناحية، وبذا انهارت سيادتهم في دوفينه ولم تبق إلا في بروفانس. ولما قوى جيوم وكثر جمعه، وبسط نفوذه على بورفانس وتلقب بألقاب الإمارة، واعتزم أن يخرج العرب نهائياً من تلك الأرض؛ فدعا السادة لمعاونته ومنهم كونت نيس، ورأى العرب أن العاصفة تنذر بإجتياحهم من كل ناحية، فاستجمعوا كل أهبتهم وقواهم، ونزلوا من الآكام إلى البسيط في صفوف متراصة ووقعت بينهم وبين النصارى معركة هائلة في (تورتور)؛ فهزم العرب، وارتدوا إلى قلاعهم، ولاسيما (فركسنيه) التي غدت ملاذهم الأخير؛ فطاردهم النصارى أشد مطاردة، وضيقوا الحصار عليهم؛ فحاولوا الفرار تحت جنح الليل إلى الغابات المجاورة، ولكن النصارى لحقوا بهم، وأمعنوا فيهم قتلاً وأسراً وأبقي على من استسلم منهم، وعلى المسالمين الذين كانوا(73/19)
يحترفون الزرع في الضياع المجاورة، وفر كثيرون من طريق البحر، وتنصر كثير منهم، وبقي نسلهم في تلك الأرض طويلاً.
وهكذا سقط حصن (فراكسنتم) أو فراكسنيه سنة 975م بعد أن لبث زهاء ثمانين سنة مركزاً قوياً للغزوات العربية في غاليس؛ وقسمت أسلاب العرب وأراضيهم بين السادة والجند الذين اشتركوا في هذه الحرب الصليبية، وانهارت سلطة العرب في تلك الأنحاء.
أما المستعمرات العربية التي كانت مبعثرة في آكام الألب، فيقال أنها طوردت ومزقت في نفس الوقت، واعتنق الذين أسروا النصرانية؛ ولكن توجد رواية أخرى خلاصتها أن هذه المستعمرات لبثت في معاقلها نحو جيل آخر، حتى تولى مطاردتها وسحقها زعيم يدعى جيرولدوس. وعلى أي حال فلم تأت أواخر القرن العاشر حتى ذهبت سيادة العرب في غاليس وسويسرا؛ ولم يجب أحد في أفريقية والأندلس صريخ الغوث الذي وجهه أولئك المستعمرون البواسل إلى إخوانهم، لأن الحوادث الداخلية لم تكن تسمح يومئذ ببذل هذا العون.
على أن ذلك لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية في تلك المياه؛ ففي سنة 1003م، سارت حملة بحرية من مسلمي الأندلس، ونزلت بجوار أنتيب في جنوب فرنسا، واجتاحت الأراضي المجاورة. وفي سنة 1019م، نزلت حملة مسلمة أخرى في ظاهر أربونة، وحاولت أن تستولي عليها، ولكنها هزمت ومزقت. وفي سنة 1047، هاجمت حملة أخرى جزيرة ليران الواقعة بالقرب من مرسيليا وأسرت عدداً من الرهبان. وظهر في ذلك الحين زعيم أندلسي جرئ هو مجاهد العامري أحد أمراء الطوائف، وصاحب دانية وجزائر البليار، واهتم بأمر الغزوات البحرية، فسار في أسطوله إلى مياه كورسيكا وسردانية؛ وغزا سردانية واحتل بعض أنحائها، (سنة 405هـ - 1014م)، ولكن النصارى استردوها على الأثر؛ ولبث مجاهد العامري الذي تسميه الرواية النصرانية (موجيه) أو موسكتوس، مدى حين سيد هذه المياه يبث فيها بحملاته الرعب والروع.
هذه هي قصة العرب والغزوات العربية في غاليس وبلاد اللونبارد وسويسرا، وهي قصة تغفل الرواية الإسلامية كثيراً من أدوارها ووقائعها؛ ولكنها تشغل فراغاً كبيراً في الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة، وهذه الروايات هي عمدتنا فيما ننقل من سير هذه الغزوات(73/20)
الشهيرة. ومن المحقق أنها مشبعة بروح التحامل والخصومة في كثير من المواطن؛ ولكنا نستطيع مع ذلك أن نتبين منها أهمية الدور الذي قام به أولئك المجاهدون والمغامرون المسلمون في تلك الوهاد والآكام النائية، وما كان لهم بين هاتيك الأمم من السيادة والنفوذ مدى عصور.
(للبحث بقية).
محمد عبد الله عنان
المحامي(73/21)
بين فن التاريخ وفن الحرب
9 - خالد بن الوليد
في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
ولا يخلو من الفائدة أن نقتبس هنا وصف المستر فلبي الذي تجول في هذه المنطقة في صيف سنة 1918، فدون مشاهداته في كتابه (البلاد العربية الوهابية) وقد وصف قرية الجبيلة الواقعة بالقرب من قرية (عقرباء) التي دارت رحى المعركة فيها بما يلي:
(والقرية الآن آهلة بعدد يسير من السكان البؤساء، ومعظمها أطلال دارسة، ومقابر الصحابة على ضفة الترعة المقابلة للقرية (أي الضفة اليسرى للوادي) وعلى مسافة نحو ربع الميل منها. وقد يشاهد المسافر بقاعاً متفرقة مغروسة بأشجار الأثل (الطرفاء) تُسَري عن المرء الانقباض الذي يعتريه من إدامة النظر إلى اللون الأغبر الذي لا يتغير، وهو اللون الدائم لتلك السهول الرسوبية المترامية التي سدت الوادي. وبقرب الحي آبار كثيرة بعضها مطوي بالحجارة يستقي منه أهل الحي دائماً. أما بيوت أهل الحي فمعظمها أطلال من اللبن بلا خشب، وقد عبثت بها يد البلى ودرست آثارها الأيام. أما ما بقي منها فلا بأس بحاله، ويستدل منه على أن أهل البيوت عنوا بصيانتها فدعموها بأعمدة حجرية مشيدة بالجص لتحمل على متونها روافد السقوف. وقد شاهدت في دار منها وعاء مزدوجاً كبيراً من الملاط المغطى بطبقة من رقيقة من الصاروج (الجص) الأسمر لخزن التمور، ولا تزال جدرانه ملونة بعصارة التمر) إلى أن يقول: (ومعظم الجدران المبنية من الطين مؤزر إلى ما يقارب نصفه بأيادات من الحجر الصلد مبنية على وجه الجدار بناء منحرفاً توخوا فيها بساطة التزويق لا غير). . . ويقول في وصف جبل طويق والهضاب التي يشرف(73/22)
عليها: (أما ما استدار من الأرض حول تلك المنطقة فلم أجد في حياتي أرضاً مثله، فلم أعثر في أرباضه على شئ تنقبض له النفس، فتجد أمامك طريقاً معرضاً لمهاب الرياح، خالياً من الظاهرات الطبيعية، ضارباً في كافة الجهات على نمط واحد لا نهاية له، ولا يعترضه في ذلك التكوين الغريب سوى الحرف المطمئن المسمى جبل صلبوخ الواقع إلى الشمال الشرقي).
وعندما يبحث في أطراف عينة عاصمة آل ابن معمر القدماء - وهي القرية الواقعة إلى غربي عقرباء، في واد ضيق - يقول: (أما ربوع عينة التي اشتهرت في قديم الزمان بجمالها وخصبها فمنبسطة على جانبي المسيل شرقاً وغرباً نحو ميلين، وقد أمست الآن قاعاً صفصفاً وأثراً بعد عين، ونبتت أدغال الأثل في البقاع التي وطئت أراضيها ومهد ثراها لغرس فسائل النخيل فيها. أما البلد الأصلي أو الحلة التي كانت يوماً موطناً لآل ابن معمر فلا تختلف عما كان حولها من الربوع الضاربة في صدر تلك المحلة الرحبة، إلا إن أطلالها الشاخصة قد شغلت بقعة وسيعة، ويمر عابر السبيل في تلك البيداء بين آونة وأخرى بأطلال البنيان القديم كالعمد المزوقة رؤوسها. وفي كل ناحية من نواحي تلك المحلة الوسيعة آبار نضب عنها الماء وهي مطوية بالحجارة والآجر وعليها أحواض مبنية بالصاروج، أما ضفاف المسيل فمدعمة بأيادات كالمسنيات على أشد ما تكون من متانة البنيان، عقدها أصحابها في وجه السيل من زمن بعيد لحبس المياه في بطن المسيل. فرحلوا عنها وتركوها وشأنها فعبثت بها يد الدهر فتداعت جدرانها وتقوض بنيانها المحكم ثم غدت تراباً فوق أنقاض بالية. وشاهدت في بعض تلك الجدران حجارة كبيرة من الصخر الصلد طول الحجر الواحد قدمان وعرضه نصف قدم) إلى أن يقول: (جزنا الأطلال وخرجنا من عينة الخربة وسلكنا طريقاً تخترق أشجار الأثل في عنفوان نموها. والمنتشرة في طول الأرض وعرضها إلى تنتهي في طرف المحلة القائمة في الناحية الغربية فولينا وجوهنا شطر المغرب صاعدين الوادي. فسار بنا الظعن يطوي صوحه صعوداً. وعرض الوادي في أسفله (أي في عقيقه) نحو الميل، وكلما ارتقى الإنسان صوح الوادي وارتفع عن عقيقه ازداد انفراج الوادي إلى أن بلغ عرضه ميلين أو ثلاثة أميال. ولما أرسلت رائد الطرف في ميمنة الوادي بدا لي شعيب في منخفض الوادي، وقد قيل لي(73/23)
إن هذا الوادي يأخذ في الصعود مرة أخرى إلى حوض عظيم كسيت جدرانه بالصاروج، يقع على سفح التل لحبس مياه الأمطار والمتاعب المنحدرة على جوانبه، ولم يزل حتى الآن خزاناً لري حقول القمح المزروعة في وسط الخرائب. وهناك شعيب آخر إلى يمين طريقنا يقال له شعيب عينة ينحدر من الطبقة الضيقة التي تفصل وادي حنيفة عن وادي سدوس).
قوات الفريقين
برغم كثرة الروايات التي تتناول حركات اليمامة والقتال في عقرباء نجد الغموض ظاهراً في معرفة قوة الفريقين.
فالطبري يذكر نقلاً عن سيف بن عمر أن القوة المحاربة لدى قبائل بني حنيفة بلغت أربعين ألفاً. ولما ذكر أخبار السنة الحادية عشرة الهجرية نقل عن ذلك الراوي نفسه، وزعم أن القوة المحاربة بلغت عشرة آلاف. أما ابن حبيش فيذكر في رواية نقلها عن الواقدي مفادها أن قوة المسلمين بلغت أربعة آلاف، وقوة بني حنيفة أيضاً بلغت هذا المقدار ذاته. وفي رواية تسند إلى سيف بن عمر يزعم الراوي أن عدد القتلى من بني حنيفة بلغ عشرين ألفاً.
أما المؤرخ الفارسي ميرخوندي فيزعم أن عدد القتلى في تلك الموقعة بلع سبعين ألفاً، والذين قتلوا في حديقة الموت بعد المعركة بلغ عددهم سبعين ألفاً. ولعلك أدركت أنه يصعب الوصول إلى عدد يقرب من الحقيقة بين الروايات التي تقدر قوة الحنفيين بين أربعة آلاف وأربعين ألفاً، وعدد القتلى منهم بين عشرين ألفاً إلى مائة وأربعين ألفاً.
ولكن الثابت أن مسيلمة جمع أعظم قوة لمقابلة جيش المسلمين ووضعها على الحد الفاصل بين بلاد حنيفة وبلاد بني تميم، وترك القرى العامرة وراءه. وكان من مصلحة الحنفيين أن يجتمعوا تحت لواء رئيسهم للدفاع عن حيهم الذي تركوه وراء ظهورهم، ويظهر من مجرى المعركة أن عدد القتلى في قوة الحنفيين كان كبيراً.
لقد قدرنا جيش بني حنيفة عند البحث في قوات الفريقين بخمسة عشر ألف مقاتل - بمعنى أن الحد الأقصى للقوة التي يستطيع الحنفيون سوقها لا يجاوز العدد المذكور. والذي يلوح لنا أن القوة التي جمعها مسيلمة في عقرباء تبلغ عشرة آلاف مقاتل.(73/24)
قوة المسلمين
يروي الواقدي أن جيش خالد بلغ أربعة آلاف مقاتل في معركة عقرباء. وفي رواية أخرى تسند إلى عيسى بن سهل أن الجيش الذي تولى قيادته خالد لما خرج من المدينة كان بقوة أربعة آلاف مقاتل، وهذا الجيش حارب في اليمامة. والذي لا ريب فيه أن قوة جيش المسلمين بلغت أربعة آلاف مقاتل لما تركت الربذة وتقدمت نحو بزاخة وانضمت إليها قوات من بني طيء قبل المعركة. ثم زاد هذا الجيش بعد إسلام قبائل بني أسد وغطفان. ولعل قوته بلغت أكثر من خمسة آلاف لما نزل في البطاح. ومن الثابت أن جماعات من بني تميم انضمت إليه قبل أن يتوجه نحو اليمامة. وتروي لنا الأخبار أن الخليفة أبا بكر أمد الجيش بقوات من المدينة لما كان محتشداً في البطاح، وأن خالداً سبق هذا الإمداد من المدينة وانتظر وروده من البطاح. فجميع هذه الأخبار تدل على أن جيش المسلمين تضاعفت قوته بانضمام القبائل ووصول النجدة إليه قبل أن يتحرك من البطاح نحو اليمامة.
وكان من البديهي أن تلتحق به القبائل متى اتصل بها خبر خيرات اليمامة ووفرة المغنم فيها.
ويلوح لي أن قوة الجيش بلغت أكثر من ستة آلاف قبل حركته من البطاح.
الموقف قبل الحركة
لبى خالد أمر الخليفة فذهب إلى المدينة ليدافع عن عمله في قضية مالك بن نويرة، وفي رواية لسيف بن عمر أن أبا بكر أرسل عكرمة بن أبي جهل الى اليمامة لما كان خالد يحارب المرتدين في بزاخة وأمده بقوات أخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة. والرواية تزعم أن عكرمة بدأ القتال قبل وصول شرحبيل فنكب. فأقام شرحبيل في الطريق حيث أدركه الخبر. وهذه الرواية تؤيد زعم سيف في أن الخليفة قسم جيش المسلمين في ذي القصة إلى إحدى عشرة فرقة، وعين قائداً لكل منها فوجهها إلى مناطق المرتدين. وقد سبق أن بينا فساد هذا الزعم. وفي رواية أخرى أن شرحبيل ابن حسنة الذي تلقى أمراً من الخليفة بأن ينتظر ورود خالد ولا يتحرك بادر إلى قتال مسيلمة قبل قدوم خالد فنكب وانسحب. وإذا(73/25)
صحت هذه الروايات يلوح لنا أن عكرمة بن أبي جهل كان يراقب اليمامة بقوة ساترة من المسلمين لما وقف خالد في البطاح، فوقعت مناوشات بينه وبين الحنفين حبطت مساعيه فيها فانسحب. أما شرحبيل بن حسنة فإنه تولى قيادة جيش المسلمين عند ذهاب خالد إلى المدينة. فبدلاً من أن ينتظر ورود خالد أسرع إلى مقاتلة الحنفيين فانكسر.
ولما قدم خالد البطاح كان جيش المسلمين مرابطاً فيها، وكانت قبائل بني تميم عرضت الولاء إلا البعض منها فالتجأ إلى اليمامة. وكان بنو طيء وبنو أسد وبنو غطفان وبعض بني تميم أمدوا جيش المسلمين بالمقاتلين.
أما مسيلمة فإنه جهز عدداً كبيراً من بني حنيفة وتقدم شمالاً يريد مقابلة جيش خالد. وتدل الأخبار إلى أن بعض الحنفيين كان يخابر المسلمين سراً ويطلع خالد على موقف مسيلمة. ومن الروايات ما يؤيد أن الحنفيين الذين حافظوا على إسلامهم تحفزوا للشغب على مسيلمة.
الطريق الذي سلكه خالد
هناك طريقان للتقدم من البطاح نحو اليمامة: طريق شرقي وطريق غربي. أما الطريق الشرقي فيتجه شرقاً أولاً ثم يمتد إلى سفح جبل طويق الغربي متوجهاً إلى الجنوب الشرقي ماراً بالأرض الجبلية، وهو الطريق الذي يصل بريدة بالزلفى ثم يمتد إلى المجمعة ومنها إلى الحوطة فثادق فسدوس؛ أما الطريق الغربي فيتوجه نحو الجنوب الشرقي فيمر بين نفود السر ونفود الشقيقة إلى أن يصل إلى الشقرة عاصمة الوشم ومنها يمتد موازياً لسفوح جبل طويق الغربية فينعطف نحو الشرق ويتسلق الجبال ويمر بثنية اليمامة حيث ينبع وادي حنيفة في غربي عينة فينتهي في عقرباء ويدخل اليمامة.
والذي يلوح لنا أن خالداً سلك الطريق الغربي لاجتيازه أرضاً سهلة تجعل المدينة في ظهره. أما الطريق الشرقي فيخترق أرضاً جبلية وعرة. وقد تعرقل عليه المسير إذا أراد أهلها المقاومة فضلاً عن أنه طويل.
ومن الأخبار ما ينبئ بأن طليعة جيش المسلمين باغتت بعض رجال مسيلمة في ثنية اليمامة - أي في عقبة الحيسية وهو المضيق الواقع إلى شرقي الحيسيان بين خشم الحيسية وخشم الخرشة وفيه تنقسم مياه الأمطار، فمنها ما يصب إلى الشرف ويجري في وادي(73/26)
حنيفة ومنها ما يصب إلى الغرب ويجري في بطن الحور.
ومن جملة الأسباب التي تجعل خالداً يميل إلى سلوك الطريق الغربي قربه من قاعدة الحركات أي المدينة. فإذا ما نكب الجيش يصل إليه المدد من خلفه، وإذا ما تضايق يستطيع الإنسحاب إلى المدينة أو إلى مكة من بلاد أسد وغطفان، أو من بلاد بني عامر وهوازن. لذلك نجزم بأن جيش المسلمين سلك ذلك الطريق في مسيره نحو اليمامة.
معركة عقرباء
يقيناً أن معركة عقرباء من المعارك الفاصلة التي ختمت دوراً وفتحت دوراً آخر. فالمسلمون جمعوا أقصى قوتهم بقيادة أمهر قوادهم. والمرتدون حشدوا أعظم قوة في استطاعتهم جمعها في أوعر منطقة. فمجرى المعركة يدل على الغاية التي كان يستهدفها كل من الفريقين.
فلو انكسر المسلمون، لا سمح الله، في هذه المعركة، لبقي العرب منزوين في جزيرتهم، واحتفظ الأكاسرة بملكهم في العراق، ولم يبك هرقل ضياع سورية. فالنبي الكاذب أسود العنسي الذي سيطر على اليمن مدة من الزمن قتل غيلة، فلم يضطر المسلمون إلى حشد قوة كبيرة للتغلب عليه. أما بنو أسد فلم يكن الصعب التغلب عليهم لتفرقة كلمة القبائل. بيد أن في عقرباء احتشدت أعظم قوة من أمنع قبيلة في أرض مستحكمة، وكان الناس يقاتلون عن حيهم، ويتفانون في سبيل نبيهم.
ولما انتهت المعركة بانتصار المسلمين انكسرت مقاومة المرتدين في الأقطار الأخرى، ولم يلاق المسلمون صعوبات في تمكين الإسلام من قلوب أهلها، فخضعت البحرين، ودانت عمان ومهرة بدين الإسلام، وجددت حضرموت إسلامها، وعادت اليمن إلى حضيرة الإسلام. وكان من أثر ذلك أن اجتمعت كلمة العرب فشعروا بقوتهم فبادروا إلى الفتوح بقيادة رؤسائهم، فاندفعوا كالسيل الجارف يثلون العروش ويقضون على إمبراطورية الأكاسرة ودولة القياصرة، فلم تمر بضع سنوات على ذلك حتى كان العرب يصولون بخيولهم في بلاد خراسان شرقاً وبلاد المغرب غرباً.
يتبع(73/27)
طه الهاشمي(73/28)
في الأدب الدرامي
15 - الرواية المسرحية
في التاريخ والفن
بقلم: أحمد حسن الزيات
تتمة
الغنائية (الأوبرا '
الغنائية
الغنائية هي درامة شعرية جدية أو هزلية تؤلف من الغناء والإنشاد وتأبى الحوار الكلامي، وتقبل الخوارق كالأشباح والأرواح والهواتف، وتوقع على أنغام الموسيقى، وتختلط أحياناً بالرقص، وتعنى كل العناية بالزينة والرياش. وهي غاية ما وصل إليه الجمال الفني والذوق الإنساني، لأنها مجمع الفنون الجميلة ومظهر الآداب الجليلة ومتعة النفوس ولذة الحواس بما تفيضه على العيون والآذان والأذهان من جميل الصور وحلو النغم ورائع الشعر، بله ما تقتضيه من كمال الفن الآلي لإحداث الخوارق وتغيير المناظر. فهي ولا ريب أفصح الألسنة إبانة عما بلغته القرائح من النبوغ وأدركته الفنون من النضوج في عصرها الذي مثلت فيه.
على أن قوام الغنائية وفروعها هو الموسيقى والمناظر، فهي تنزل الكلام والحادث والتعقيد في المحل الثاني منها. لذلك لا تجد كلامنا عنها إلا إجمالاً يكاد يقفك عند التعريف والتقسيم. وقبل أن نأخذ في تقسيم الغنائية يحسن بي أن أنقل إليك ما قاله في هذا الصدد الفيلسوف ابن رشد في تلخيصه كتاب الشعر لآرسططاليس. وما قاله لا يدخل في موضوعنا إلا من الباب التاريخي. وهذا الملخص قد طبعه الأستاذ المستشرق (لاريجو) بمدينة فلورنسا سنة 1873 قال: (المحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفق، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذا قد يوجد كل واحد منها منفرداً عن صاحبه مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ، أعني(73/29)
الأقاويل المخيلة الغير موزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة أي الأندلس).
ولا مرية في أن أعاريض الموشحات والأزجال أنسب لنظم الغنائيات من سائر بحور الشعر لحلاوة نغمتها وسهولة توقيعها وتنوع قوافيها.
فالغنائية تنقسم باعتبار تلحينها إلى أجزاء نسردها لك دون أن نعرض لها، لأنها ليست من شأننا ولا مما يدخل في علمنا. وهي الافتتاح، والمقدمة، والإنشاد، والألحان، والمثاني، والمثالث، والمرابع، والمخامس، والخورس، والختام في نهاية كل فصل. فالافتتاح ما يسبق رفع الستار، والمقدمة ما يهيئ للعمل؛ والإنشاد نوع من الغناء يحل محل الحوار الكلامي دون أن يتقيد بوزن، والمثاني والمثالث والمرابع والمخامس قطع يزدوج فيها الصوت أو يثلث أو يربع أو يخمس، والخورس ما فوق ذلك. على أن اجتماع هذه الأجزاء ليس ضرورياً ولا جوهرياً. فالملحن يستطيع أن يغفل منها ما لا يتفق مع الرواية.
ثم تنقسم الغنائية باعتبار تأليفها إلى غنائية جدية، وهي ما كان موضوعها سامياً وعملها رائعاً وأداؤها غنائياً كله. فلا تجيز الحوار النثري وإنما تستبدل به الإنشاد، وغنائية هزلية وهي ما تجيز الحوار النثري في خلال القطع الغنائية.
الغنائية الجدية '
ليس من اليسير أن تجد لهذه الغنائية تعريفاً جامعاً لتنوعها وتفرعها، واختلاف الرأي فيها بين الفرنسيين والإيطاليين؛ فإن لكلا الشعبين نظرية فيها سار عليها ودعا إليها. ولعلنا إذا ذكرنا النظريتين تستطيع أن تقف منهما على موضوع الغنائية ومداها.
فالنظرية الفرنسية زعيمها (كينو) وهي منبنية على تقليد الملحمة في استعمال الخوارق والأعاجيب وتنوع المناظر وتعدد الصور، ونقل كل ذلك إلى عين الناظر كما تنقله الملحمة إلى ذهن القارئ. فقد يكون التأليف كله مختلقاً غريباً، ولكن في هذا الاختلاق إتفاقاً واتساقاً تنتج منهما الحقيقة، كما أن الموسيقى تظهر جمال الخوارق، والخوارق تبين إمكان الموسيقى. فأنت في جو جديد يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ويضيف إلى جمال الخيال سحر الطبيعة، وذلك كله يسير في انسجام والتئام ودقة. أما العمل الروائي فواضح(73/30)
يسهل عقده وحله، والحوادث يتوالد بعضها من بعض، والأهواء رقيقة تشتد حيناً ثم ترق، والأخلاق ساذجة، والمناظر متنوعة، والجاذبية قوية مؤثرة، ولكنها تتراخى أحياناً فتخفف عن الأعصاب وترفه عن النفوس.
تلك هي غنائية (كينو) ونظريته: يجمع كل ما يستطيع من الوسائل ليخلب السمع ويبهر البصر؛ وهو لذلك يستمد موضوعاته من الأساطير والسحر، فيملأ المسرح بالأعاجيب والصور، ويهيئ لنفسه الانتقال من الأرض إلى السماء ومن الجنة إلى النار مهيمناً على الطبيعة مستولياً على الوهم فاتحاً للمأساة طريق الملحمة، ليجمع بين فضائل النوعين، ويوفق بين مرمى القصيدتين.
ومزية هذه الطريفة الخرافية أن تكفي الشاعر مؤونة التفصيلات الدقيقة التي تطلبها الحقيقة، فإن الموضوعات التاريخية تقتضي جلاء الغامض وتعليل الحوادث وتقريب البعيد وإمكان المستحيل.
أما النظرية الإيطالية فزعيمها (ميتا ستاز) وهي مبنية على محاكاة الطبيعة وتوخي التأثير والبلوغ بالمحزنات الفواجع إلى حد لم تبلغه المأساة. فهو يكسو الأفق بالسواد، ويصبغ المسرح بالدم، ويسرع بحركة العمل وهو مغرق في الإشارة والإثارة بروعة الأداء وحدة الهوى. وفضل هذه النظرية على الأولى ظاهر في قوة الأثر ودقة المواقف وجمال الحقيقة وسهولة الإمكانية. لذلك عني الشعراء والموسيقيون بالتوفيق بين النظريتين والجمع بين الطريقتين ليدركوا مزايا هذه وتلك. فهم يمزجون الصور العجيبة بالرهيبة، والمواقف الطريفة بالعنيفة، والمناظر التي تسحر العين بالتي تخلب اللب.
على أن الغنائية ليست مقصورة على الخوارق والمحزنات، وإنما تتناول الأناقة الحضرية والحياة الريفية والخلق الفكه والهزل المضحك، على شرط أن يتسق كل ذلك في طبيعة حية وحركة قوية وتنوع جاذب.
الغنائية الهزلية '
أما الغنائية الهزلية فاسم يطلق اليوم على درامة جدية الموضوع فكهة الأسلوب، تخلط الغناء الشعري بالحوار النثري، وتعنى بتعقيد العمل الروائي. ومنشأ هذا النوع كان في مستهل القرن السابع عشر، ظهر أولاً في شكل ملهاة غنائية كانت تمثل في سوقين(73/31)
شهيرتين: (سان جرمان) و (سان لوزان). ثم أخذ مع الزمن يقترب من الغنائية الجدية بتغليب جانب الموسيقى والغناء حتى لم يبق بينهما اليوم إلا فروق سطحية شكلية أهمها الأسلوب الفكاهي. فإطلاق هذا الاسم على الغنائية التي لا نصيب للهزل فيها إطلاق غير صحيح، لأن الغنائية إنما وضعت في الأصل للدلالة على كل عمل موسيقي، ولا سيما العظيم الجدي منه. فإضافتهم صفة الهزل إليها دليل على أنهم يريدون بها عملاً أقل في العظمة، وأقرب من الهزل، وأقبل للحوار النثري. ويؤيد هذا الرأي أن الغنائية الهزلية أو الابراكوميك سليلة المهزلة (الفودفيل) ولا يفرق بينهما إلا أن ألحان المهزلة كلها معروفة مألوفة من قبل ثم تقتبس لأوزان جديدة تؤلف للرواية. أما ألحان الغنائية الهزلية فهي مصنوعة لأوزانها خاصة، ولذلك كان شعرها محكم الرصف بديع الوصف، يقوم عليه الشطر الأكبر في نجاح الرواية.
وغبرت الغنائية الهزلية حقبة من الدهر وهي خاضعة لسلطان المهزلة فلا تستطيع أن تتجاوز مداها، ولا أن ترتفع عن مستواها، وإنما كانت تستعير أساليبها الحية، وأناشيدها الطلية حتى جرؤ الملحنون على أن يطلبوا إلى المؤلفين أن يوسعوا الدائرة القديمة، وأقدموا هم أيضاً على ابتكار ألحان جديدة، واقتباس بعض المثاني والمثالث والأشكال من الغنائية الجدية ما دامت تتصل بها وتتعلق بسببها، فلما صارت الغنائية الهزلية فناً أدبياً وعملاً روائياً حقيقياً أصبح الكاتب يضع روايته حراً من كل قيد، ثم يدفعها إلى الملحن فيختار لها فكرة موسيقية تقوي التعبير عن الغرض. وهم اليوم يميلون إلى تقليل الحوار وتكثير الغناء، ورد هذا النوع إلى شكل لا يكون معه إلا درامة غنائية وملهاة غنائية لا يدخل فيها ما ليس منها حتى لا يقول فيه القائلون اليوم أنه نوع مزيف، وحتى لا يصفه (تيوفيل جوتييه) (بأنه سفيح قبيح، قد خلط بين وسيلتين متباينتين من وسائل التعبير، فجعل الممثلين يسيئون الغناء بحجة أنهم ممثلون، والمغنين يسيئون التمثيل بحجة أنهم مغنون).
على أنه بالرغم من هذا النقد الوجيه يستحق العناية والتأييد، لأنه سبب واصل بين ذوق العامة وذوق الخاصة، ودرج صاعد بالجمهور إلى الفن الموسيقي فيرفعه من حضيض (الفودفيل) إلى أوج (الأبرا).
وهنا نقف القلم معتقدين أن فيما بسطناه من قواعد الفن الدرامي بلاغاً للكاتب الشأن وسداً(73/32)
لنقص البيان العربي في هذا الباب.
الزيات(73/33)
1 - محاورات أفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
تمهيد
كان أفلاطون فيلسوفاً فناناً على بعد ما بين الفن والفلسفة، فقد دون أراءه كلها في أسلوب الحوار الذي بلغ من الدقة والجمال حداً وضعه في أسمى مراتب الفن. ونحن إذ نتقدم إلى القراء بهذه الترجمة لمحاوراته، إنما نلتمس العفو عما قد تصاب به تلك الآيات البينات من تشويه. على أن القارئ إذا فقد جمال الأسلوب فلن تضيع منه بإذن الله دقة المعنى وأمانة النقل.
وهذا الحوار الذي نترجمه لك اليوم، كتبه أفلاطون ليصور به دفاع سقراط عن نفسه يوم محاكمته بتهمة الإلحاد وإفساد الشباب. ولسنا ندري إلى أي حد تطابق هذه الصورة الأفلاطونية الحقيقة الواقعة. هل احتفظ أفلاطون بألفاظ سقراط نفسها أم ما يقرب منها؟ أم أنشأها إنشاء ليعبر بها عما كان يجب أن يكون من سقراط في دفاعه؟ أم هي قصة جمعت بين الطرفين، فأثبتت ما قيل وأضافت إليه ما كان يجب أن يقال؟ وسواء أكانت هذه أم هذه أم تلك، فهي على كل حال تصور روح سقراط في الحديث تصويراً دقيقاً، وتحلل نزعته تحليلاً بارعاً، فلا يسع القارئ وهو يقرأ هذا الحوار الذي دبجته براعة أفلاطون إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه إنما يتلو عبارة تحركت بها نفس سقراط وجرى بها لسانه؛ فشخصيته بارزة في كل سطر من سطوره بروزاً لا يخطئه النظر، فأنت ترى لمحات من التهكم اللاذع الذي امتاز به سقراط في حديثه، وأنت تلاحظ روح التحدي جلية واضحة، والتحدي طابع معروف في شخصية سقراط. وسنرى كذلك في هذا الحوار تفككاً فلا تتصل أجزاؤه بصلة من منطق قوي، فكأنما أراد أفلاطون بهذا أن يكون أميناً في الصورة التي يقدمها عن سقراط؛ فسقراط لم يكن في حياته يعنى بمنطق الحديث. فهو إذا بدأ حواراً مع آخر لا يلبث أن يشعبه باستطراده من ناحية، وبالأسئلة العرضية التي يطرحها مناقشوه أثناء الحديث من ناحية أخرى، فيخرج الكلام آخر الأمر، وليس فيه وحدة تربطه أوله(73/34)
بآخره.
وقد تعمد أفلاطون في هذا الحوار أن يسوق إلى القارئ أبرز ما حدث لسقراط في حياته ليكون عنه فكرة متصلة، وقد كان أفلاطون في ذلك قديراً ماهراً، حتى لا يكاد يشعر القارئ أن تلك الحوادث أضيفت إضافة مدبرة، بل جاءت عفواً كما اقتضى منطق الحديث.
يبدأ سقراط في هذا الدفاع، أو إن شئت تعبيراً دقيقاً فقل يبدأ أفلاطون في دفاعه عن سقراط، بأن قسم المتهمين إلى قسمين: الرأي العام من ناحية، وطائفة من الأشخاص النابهين من جهة أخرى؛ ثم لخص للقضاة نقط الاتهام، وأخذ يفندها واحدة فواحدة. وعلى الرغم من هذا فقد حكم عليه بالموت. ولما طلب إليه أن يقترح حكماً - كما جرت بذلك عادة القضاء الأثيني - لتقف المحكمة موقفاً وسطاً بين الحكمين، أجاب في تهكم لاذع وحكمة نادرة. وانتهى الأمر وقضي عليه بالموت.
نص الحوار
لست أدري أيها الأثنيون كيف وقعت من نفوسكم خطب متهمي، أما أنا فقد أحسست لكلماتكم الخلابة أثراً قوياً أنسيت معه نفسي وإنهم لم يقولوا من الحق شيئاً. ولشد ما دهشت إذ ساقوا في غمر باطلهم نذيراً لكم أن تكونوا على حذر فلا تخدعكم قوة فصاحتي. يا خجلتهم مما يزعمون! فإذا نبست ببنت شفة نهضت لكم دليلاً على عي لساني وافتضح أمرهم، وإنهم بذلك عالمون، ولكنهم يمارون ولا يخجلون. أم تراهم يطلقون الفصاحة على قوة الحق؟ إذن لأشهدت أني مصقع بليغ. . ألا ما أبعد الفرق بيني وبينهم! فهم كما أنبأتكم لم ينطقوا كلمة صدق ولم يقولوا إلا كذباً، أما أني فخذوا الحق مني صراحاً، ولن أصوغها عبارة منمقة كما فعلوا، ولكني سأسوق الحديث إليكم عفو ساعته، ولست أشك في أنه الحق. فلن أقف يوماً بينكم أيها الأثنيون موقف الخطيب ما دمت حياً، فلا يرجن الآن أحد مني خطاباً، وعلي أظفر منكم بهذا الفضل: إن جاءت في دفاعي كلمات قلتها من قبل، وسمعها بعضكم في الطريق أو عند موائد الصيارفة أو في أي مكان آخر، فلا تدهشوا ولا تقاطعوا الحديث، لأنني أقف - وقد نيفت على السبعين عاماً - للمرة الأولى في ساحة القانون، فلم آلف هذا المكان، ولم أتعود تقاليده وطرائقه، فانظروا إلي نظركم إلى الغريب تلتمس له المعذرة لو جرى لسانه بلغة قومه ولهجة وطنه. وما احسبني بذلك أطلب شططاً، فدعكم من(73/35)
عباراتي وقبحها، وانظروا في عدالة القضية وحدها، وإذا حكم منكم قاض فليحكم بالعدل، وإذا نطق متكلم فلينطق بالحق.
ولأبدأ أولاً برد اتهام الطائفة الأولى من المدعين، ثم أستطرد إلى دعوى الفريق الثاني؛ فلقد اتهمني من قبل نفر كثير ولبثت دعاواهم الباطلة تتردد أعواماً طوالاً، وإني لأخشاهم أكثر من هذا الرجل (أنيتس) وعصبته، وإن كيدهم لعظيم، ولكن أولئك الذين نهضوا إذ كنتم أطفالاً فملكوا ألبابكم بأباطيلهم لأشد من هؤلاء خطراً، فهم يحدثونكم عن من يسمى سقراط أنه حكيم يسبح بفكره في السماء، ثم يهوي به إلى الغبراء، وأنه يخلع على الباطل رداء الحق. أولئك هم من أخشى من الأعداء، فقد أذاعوا في الناس هذا الحديث، وما أسرع ما يظن الدهماء أن هذا الضرب من المفكرين كافر بالآلهة. كثيرون هم أولئك المدعون، ودعواهم قديمة العهد، نشروها حين كنتم في سن الطفولة أو الشباب ألين انطباعاً. ولم يكادوا ينطقون بالدعوى حتى انطلقت تحمل عني في ذيلها السوء دون أن تجد لها مفنداً. وأهول من ذلك كله أن لبثت أسماؤهم مجهولة لا أعلمها لولا ذلك الشاعر الهازل الذي ساقته الظروف. وإنه لمن العسير أن أتحدث إلىأشخاص هؤلاء الهجائين الذين نفذوا إلى نفوسكم بما يحملون من ضغينة وحقد، صدر فيها بعضهم عن عقيدة، ثم ألقوا بذورها في قلوب الآخرين؛ فلا أستطيع أن أدعوهم إلى هذا المكان لأستجيبهم، فأنا إن دافعت الآن فإنما أدافع أشباحاً، وأستجيب حيث لا مجيب. وإني لأرجو أن تقبلوا ما فرضته لكم من قبل بأن الأعداء صنفان: فطائفة حديثة العهد وأخرى قديمته، وأحسبكم ترون صواب رأيي في أن أبدأ بالرد على هذه الطائفة الأخيرة، فدعواها أكثر عهداً وأكثر تردداً.
وبعد، فهاكم دفاعي، ولعلي أستطيع في هذه البرهة القصيرة التي تفضلتم بها أن أمحو شائعة السوء التي قرت عني في أذهانكم طوال هذا الزمن، وعسى أن أصيب توفيقاً إن كان في التوفيق خير لي ولكم، ولعل كلماتي تصادف منكم قبولاً حسناً. فأنا عليم أني مقدم على أمر عسير، وإني لأقدر مهمتي حق قدرها، فليقض الله بما يريد. وها أنذا أبدأ دفاعي طوعاً للقانون.
واستهل الحديث بهذا السؤال: أي ذنب جنيت حتى حامت حولي الشبهات فاجترأ مليتس أن يرفع أمري للقضاء؟ ماذا يقول على دعاة السوء؟ هاكم خلاصة ما يدعون: (قد أساء سقراط(73/36)
صنعاً، وهو طلعة يصعد البصر إلى السماء وما تحوي، ثم ينفذ به تحت أطباق الثرى، وهو يلبس الباطل ثوب الحق، ثم أنه يبث تعاليمه في الناس) تلك هي جريرتي، وقد شهدتم بأنفسكم في ملهاة أرستوفان كيف اصطنع شخصاً سماه سقراط جعله يجول قائلاً إنه يستطيع أن يسير في الهواء، وأخذ يلغو في موضوعات لا ازعم أني أعرف عنها كثيراً ولا قليلاً - لست أقصد بهذا أن أسئ إلى أحد من طلاب الفلسفة الطبيعية - ولكن شد ما يسوؤني أن يتهمني بها ملتيس. أيها الأثنيون! الحق الصراح أني لا أتصل بتلك الدراسة بسبب من الأسباب، ويشهد بصدق قولي كثير من الحضور، فإليهم أحتكم. انطقوا إذن يا من سمعتم حديثي وأنبثوا عني جيرانكم، هل تحدثت في مثل هذه الأبحاث كثيراً أو قليلاً؟ أنصتوا إلى جوابهم لتقطعوا بصدقي مما يقررون.
أما القول بأني معلم أتقاضى عن التعليم أجراً فباطل ليس فيه من الحق أكثر مما في سابقه، على أنني أمجد المعلم المأجور إن كان معلماً قديراً. فهؤلاء جورجياس الليونتي وبروديكوس الكيوسي وهبياس الأليزي يطوفون بالمدن يحملون الشباب على ترك بني وطنهم الذين يعلمونهم ابتغاء وجه الله ليسعوا إليهم، فلا يؤجرونهم وكفى، بل يحمدون لهم ذلك الفضل العظيم. ولقد أتاني نبأ فيلسوف من بارا يقيم في أثينا، حدثني عنه رجل صادفته، قد بذل للسوفسطائيين مالاً طائلاً، هو كالياس بن هبونيكوس. ولما أنبأني أن له ابنين سألته: لو كان ابناك يا كالياس حمارين أو بقرتين لما شق عليك أن تجد لهما مدرباً، فما أهون أن تستخدم مدرب الخيول أو فلاحاً يقومهما ويبلغ بهما حد الكمال في حدود فضيلتهما، ولكنهما إنسانان من البشر، فمن ذافكرت أن يكون لهما مؤدباً؟ أثمت من يدرك فضيلة الإنسان وسياسة البشر؟ حدثني فلا بد أن تكون قد تدبرت الأمر ما دمت والداً. فاجاب: (نعم وجدت. فسألته: من هو ذا وأين موطنه وكم يؤجر؟ فأجاب هو أفينس الباري وأجره خمسة دراهم) فقلت في نفسي: (أنعم بك يا أفينس إن كنت تملك هذه الحكمة حقاً، وتعلمها بمثل هذا الأجر الضئيل، فلو كانت لدي لزهيت وأخذني الغرور، ولكني بحق أيها الأثنيون - لا أعلم من تلك الحكمة شيئاً).
رب سائل منكم يقول: (وكيف شاعت عنك تلك التهمة يا سقراط إن لم تكن قد أتيت أمراً إداً؟ فلو كنت فرداً كسائر الناس لما ذاع لك صوت ولا دار عنك حديث. أنبئنا إذن بعلة هذا(73/37)
إذ يؤلمنا أن نحكم في غير صالحك) وإني لأحسب هذا تحدياً رقيقاً، وسأحاول أن أوضح لكم لم دعيت بالحكيم، ومن أين جاءتني الأحدوثة السيئة، فأرجوا أن تنصتوا لقولي، ولو أن بعضكم سيظن بي الهزل، ولكني اعترف أنني لن أقول إلا الحق خالصاً. أيها الأثنيون! إن لدي ضرباً معيناً من ضروب الحكمة، كان مصدر ما شاع من أمري، فإن سألتموني عن هذه الحكمة ما هي؟ أجبت أنها في مقدور البشر، والى هذا الحد فأنا حكيم. أما أولئك الذين كنت أتحدث عنهم فحكمتهم معجزة فوق مستوى البشر، لا أستطيع أن أصفها لأنني لا أملكها، ومن ظن أنها لدي فقد ظن باطلاً، وكان أشد ما يكون بعداً عن حقيقتي. أيها الأثنيون! أرجو أن لا تقاطعوني ولو بالغت في القول، فلست قائل هذا الذي أرويه لكم، ولكني سأنيب عني شاهداً جديراً بالثقة، ليحدثكم عن حكمتي - فسينبئكم هل أملك من الحكمة شيئاً؟ وإن كنت أملك، فما نوعها؟ - وأعني بذلك الشاهد إله دلفي. إنكم ولا ريب تعرفون (شريفون)، فهو صديقي منذ عهد الصبا، وهو صديقكم مذ ظاهركم على نفي من نفيتم ثم أعاد أدراجه معكم. كان شريفون كما تعلمون صادق الشعور في كل ما يعمل، فقد ذهب إلى معبد دلفي وسأل الراعية في جرأة لتنبئه - وأعود فأرجو أن لا تقاطعوني - سأل الراعية لتنبئه إن كان هناك من هو أحكم مني، فأجابت النبية أن ليس بين الرجال من يفضلني بحكمته. لقد مات شريفون، ولكن أخاه وهو في المحكمة بيننا، يؤيد صدق ما أروي.
وفيم أسوق إليكم هذا الخبر؟ ذلك لأنني أريد أن أتقصى لكم علة ما ذاع عني من سوء الذكر. لما أتاني جواب الراعية، قلت في نفسي: ماذا يعني الإله بهذا؟ إنه لغز لم أفهم له معنى! أنا عليم أن ليس لدي من الحكمة كثير ولا قليل، فماذا عساه يقصد بقولي أنني أحكم الناس؟ ومع ذلك فهو إله يستحيل عليه الكذب، لأن الكذب لا يستقيم مع طبيعته. ففكرت وأمعنت في التفكير، حتى انتهيت آخر الأمر إلى طريقة أحقق بها القول. اعتزمت أن أبحث عمن يكون أحكم مني، فإن صادفته أخذت سمتي نحو الإله لأرد عليه ما زعم، فأقول له: (هاك رجلاً أكثر مني حكمة، وقد زعمت أني أحكم الناس). لهذا قصدت إلى رجل من الساسة - ولا حاجة بي إلى ذكر اسمه - فقد عرف بحكمته، وامتحنته فانتهيت إلى النتيجة الآتية: لم أكد أبدأ معه الحديث حتى قرت في نفسي عقيدة لا تمحى بأنه لم يكن حكيماً حقاً،(73/38)
على الرغم من شهادة الكثيرين له بالحكمة، وعلى الرغم مما ظنه هو نفسه في حكمته، وقد جاوز به الغرور شهادة الشاهدين، فحاولت أن أقنعه بأن وإن يكن قد ظن في نفسه الحكمة، إلا أنه لم يكن بالحكيم الحق، فأدى به ذلك إلى الغضب مني، وشاطره في غضبه كثيرون ممن شهدوا الحوار وسمعوا الحديث، فغادرته قائلاً في نفسي: إني وإن كنت أسلم أن كلينا لا يدري شيئاً عن الخير والجمال. فإنني أفضل منه حالاً، لأنه يدعي العلم وهو لا يعلم شيئاً، وأما أنا فلا أدري ولا أزعم أنني أدري - ولعلي بهذا أفضله قليلاً. ثم قصدت إلى آخر، وكان أعرض من سابقه دعوى في الفلسفة، فانتهيت معه إلى النتيجة نفسها، وعاداني هو الآخر، وأيده في موقفه عدد كبير.
يتبع
زكي نجيب محمود(73/39)
كتاب الأوراق
وخطره في كتابة التاريخ
بقلم: محمد طه الحاجري
في ذمة الأدباء من أهل هذه اللغة الكريمة للأدب العربي من ناحية، وللروح العلمية السائدة من ناحية أخرى، دين لا معدل لهم عن أدائه، ولا مترخص لهم في الوفاء به، إذ كان مرجع الأمر فيه شخصيتهم المعنوية التي يظهرون بها، والى كيانهم الأدبي الذي لا حياة لهم من دونه، والى شعورهم بالروح العلمية المتغلغلة في كل عناصر الحياة ومظاهر الوجود. ثم هو متصل فوق هذا بالقومية التي نفاخر بها ونحرص على توثيق عراها وتقوية أسبابها. ذلك هو العناية بتاريخ هذا الأدب الذي تمده خمسة عشر قرناً عناية تظهر، فيما أحسب، في كتابة هذا التاريخ، وإقامته على أسس قوية من أساليب البحث العلمي، ومناهج النقد الأدبي، والتبسط في ذلك بما يطوعه الجهد الواسع، والنفس الممتد، والعزيمة القوية، والروح العلمية المتبصرة، والرغبة المتوثبة في إقامة كياننا المصري على أقوى ما تفاخر به الشعوب وتعتمد عليه الأمم، فما أحسب أن أدب أمة من الأمم بلغ من سعة المادة، وامتداد العمر، ومجاراة الحية، ومساوقة الزمن ما بلغه الأدب العربي، ثم لا أحسب أن أدب أمة من الأمم مني بما مني به هذا الأدب من إغفال أهله أن يقيموه على أسس هذا العصر.
فتاريخ الأدب عندنا علم حديث النشأة، غض التكوين، لا يكاد يرجع ميلاده إلى ما وراء الجامعة الأولى، ولا يكاد يثبت في طريقه لما يحتوشه من أسباب الضعف، وما يعوزه من عناصر الحياة، وما يحيط به من شتى العوامل التي تثبطه وتصده وتحمل عليه بما لا يحتمله الجلد القوي بله الضعيف الواهن، وإنما هي القوى الذاتية التي تمسكه، فمن أقدس الواجبات علينا لقاءه أن نمكن له الحياة، وأن نوفر له العناصر التي يقوم بها كيانه الصحيح، وهي تتلخص في أمرين لابد منهما: تقرير الأسلوب العلمي، واستجماع المادة التي يتكون منها تاريخ الأدب العربي.
أما أول الأمرين فقد كفانا مؤونته الأستاذة الأجلاء الذين شقوا لنا ذلك الطريق، ووضعوا أمامنا معالم البحث العلمي، وبصرونا بمناهج النقد والتمحيص والموازنة وما إلى ذلك.
أما المادة التاريخية فهي العنصر الأول في كتابة التاريخ، وكلما توفرت لدى الباحث،(73/40)
واتسعت نواحيها، وتنوعت أبوابها، وتعددت مذاهبها، وكثرت الأيدي التي تقدمها، وأخذت تضرب في شتى جهات الحياة، وتتناول الأطراف المختلفة، كان المؤرخ أكثر توفراً على بحثه، واستضاء أمامه العصر الذي يؤرخه، فأخذ يصفه وصفاً أشبه باليقين، ويقرر التيارات الأدبية فيه تقريراً أقرب إلى الحقيقة، بعد أن يكون قد نظر في أجزاء هذه المادة نظر الناقد البصير، فجعل يوازن بينها، ويقارن بين مختلف أجزائها، وليكن هناك ما يكون من التناقض في الروايات، والتضارب بين الأقوال فذلك، فيما أحسب، أدعى إلى استبطان الحقيقة المستكنة في ثنايا هذه الاختلافات، وأقرب بالباحث إلى ثلج الصدر وبرد اليقين.
والأدب العربي يملك من هذه الناحية ثروة طائلة بالرغم من عوادي الزمن، والنكبات التي أصابت المكتبة العربية في مناسبات مختلفة، ولكنها ثروة ضائعة لا تجد من يستغلها إلا قليلاً، إذ لم يقدر لها من ينشرها من قبورها، ويبعث فيها الحياة التي تعرفها، حتى يستطاع استغلالها، وإنما هي جهود ضئيلة بالنسبة إلى عظم العمل وجلال التبعة.
ولقد تقدمنا الفرنجة في هذا السبيل حتى أخجلونا وأبهظوا عاتقنا بفظلهم، وضربوا لنا خير الأمثال بما نشروا من كتب، وما قاموا به عليها من عناية بتصحيحها وفهرستها ومقارنتها، في تواضع العالم المخلص، وهدوء الباحث المستبصر. فدلوا بهذا على روح علمية ثابتة الأساس، ومعرفة حكيمة بطرائق البحث الصحيح.
لست الآن بصدد البحث عن جهود المستشرقين العظيمة المتوالية في سبيل الأدب العربي، وإنما سبيلي الآن أن أتحدث عن كتاب من خيرة الكتب التي كادت تتلاشى في غمار القرون وثنايا النسيان وعوادي الإهمال، فنشره مستشرق ناشئ، هو المستر هيورث دن، وخلع عليه هذا المظهر الذي تتجلى عليه الروح العلمية في بهائها ورونقها وجلالها. ذلك هو كتاب الأوراق لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي المتوفى سنة 335.
والصولي إمام من خير أئمة الأدب، وكاتب من أفضل الكتاب الذين تزدهر بهم تلك الفترة من الزمن، وعالم ضليع غزير المادة، جيد الرواية، يروي عنه أبو الفرج كثيراً في أغانيه، وأستاذ جليل تخرج عليه كثير من رجالات ذلك العصر مثل أبي عبد الله محمد بن عمران المزرباني، وهمك من رجل وناهيك من عالم. وقد ترك ثروة كبيرة من الكتب الجليلة في قيمتها الأدبية والتاريخية، نقرأ بياناتها في كتب الفهارس، ثم ننطوي على أنفسنا حسرة(73/41)
وأسفاً على ذلك الكنز الذي طاحت به الطوائح. ولا أحسب أنه قد بقي لنا منه إلا هذا الكتاب الذي عني به المستر دن هذه العناية، وكتاب آخر في أدب الكتاب نشره منذ عشر سنوات العلامة الأثري المرحوم علي بهجت. وكان كتاب الأوراق في حكم تلك الكتب التي لا نعلم شيئاً عن مصيرها، لولا تلك الروح العلمية المتوثبة التي حفزت ذلك الشاب العالم على إخراجه للناس في ثوب علمي جليل، ومعاناة تحقيقه وتمحيصه ومقارنة رواياته، فأضاف بذلك إلى المادة التاريخية لعصر بني العباس ما هو جدير أن يضئ الطريق أمام الباحث المؤرخ في كثير من مجاهل هذا العصر ومسائله الملتوية الغامضة.
وقد نجد في ترجمة الصولي كلاماً مختلف الأطراف بين مدح وقدح، وتقدير وتشهير، ولكننا لا نشك، إذ نقرأ كتابه (الأوراق) أنه كان رجلاً عالماً يمثل الروح العلمية خير تمثيل، ويضعها فوق كل اعتبار، متثبتاً على طريقة عصره في النقد والرواية، لا يميل مع الهوى، ولا يذهب مع الخواطر، ولا يقف دون النقد والمقارنة والتمحيص.
عرض في أثناء حديثه عن أحمد بن يوسف إلى رواية تحدث ابن طيفور عنه بها، وخلط فيها، فلم يدعها الصولي تمر دون أن ينقدها بما طوع له علمه الغزير وروحه العلمية القوية، ثم كتب هذه العبارة التي نثبتها هنا لتدل على تثبته العلمي من ناحية، وعلى مظهر من مظاهر الروح العلمية في ذلك العصر، من ناحية أخرى.
(وقد رايته (يعني ابن طيفور) بالبصرة سنة سبع وسبعين ومائتين، وقدمها إلى أحمد بن علي المادرائي، وكتبت عنه مجلسين أو ثلاثة، فلما رأيته صحفياً لم أر عنده ما أريد تركته، ويعز على أن أذكر أحداً من أهل الأدب بسوء وأن أستخفه، ولكن لا بد من أن نعطي العلم حقه، ونضع الحق موضعه).
أفرأيت إلى أي حد من الإجلال والتقدير كان نظر الرجل إلى العلم والحقيقة والأدب؟
يمثل هذا الخبر الصغير الذي ينبغي أن يرجع إليه القارئ في الكتاب صفتين من أبرز صفات الصولي وكثير من علماء ذلك العصر: وهما سعة المادة، والتثبت في الرواية. وعلى هاتين الصفتين قامت عظمة السلف، وعليهما يجب أن تكون الدائم التي نقيم عليها أبحاثنا العلمية في تاريخ الأدب، فلن تغنينا كل أساليب البحث ومناهج النقد، عن سعة المادة وتوفر المصادر والتقصي فيها بكل ما يتسع له الجهد ويطوعه الإمكان.(73/42)
فإذا كنا نحتفي بكتاب الأوراق، فإنما ذلك لأنه صورة لتلك الشخصية العظيمة في تاريخ الأدب العربي، ومثال من خير الأمثلة عن الطريقة الأدبية لأسلافنا في معاناة الرواية ونقدها وتمحيصها. والتوفر على الجمع والمقارنة، ثم هو فوق هذا كله زيادة في المادة التاريخية، وتوطيد لأسس البحث العلمي، بالنسبة إلى عصر من أشد عصور الأدب العربي اختلاطاً واضطراباً، وأغصها بالتيارات المختلفة، والنزعات المتباينة المتشابكة.
وهذا القسم الذي نشر من كتاب الأوراق خاص بأخبار الشعراء المعاصرين، وقد سلك الصولي في تصنيفهم مسلكاً حسناً جديراً بالتنويه، ذلك أنه راعى في ذلك أسرهم: فذكر أولاً أسرة اللاحقيين، ثم أسرة أحمد بن يوسف وزير المأمون، ثم أسرة السلمي أشجع بن عمرو. وهذا نحو جديد في التصنيف الأدبي جدير بأن يغتبط به الذين يتتبعون الصفات الوراثية المشتركة، والذين يرون في الأدب صوراً لقوانين الوراثة المقررة.
وإذا كانت هذه طريقته في عرض الشعراء، لم يتقيد بذكر المشهورين منهم، ولا حبس نفسه عليهم، وقد صرح هو نفسه بهذا الاتجاه في آخر كتابه فقال: (قد جئت بأكثر أشعار هؤلاء إذ كانوا شعراء ظرافاً كتاباً لا يعرفهم الناس، ومن عرفهم لا يعرف أخبارهم. . وإنما استقصي أشعار من لا يعرفون وأخبارهم) وكذلك كان الصولي، فقد انطلق في ذكر هؤلاء الشعراء المغمورين، وسرد أخبارهم ورواية أقوالهم وأشعارهم، مما هو جدير بالرواية، حقيق أن ننعم فيه النظر، ونستخلص منه كثيراً من الحقائق التاريخية التي قد لا تتضح في مشاهير الشعراء، فقد تقيد الشهرة صاحبها بكثير من القيود التقليدية، وتنشر حوله غشاء مصنوعاً، حتى يصبح من العصر الذي يعيش فيه، صورة كثيرة التزوير والتمويه. على حين ينطلق الشاعر المغمور في سبيله يصور من نفسه وعصره وبيئته ما وسعته الحرية في التعبير، والقدرة على التصوير.
ولعل كبار الشعراء هم صور من عبقرياتهم، أكثر من أن يكونوا صوراً لعصورهم وبيئاتهم، وما تموج به من شتى النزعات ومختلف الصور والتيارات.
فكتاب الأوراق يضعون بين أيدينا إذن مصدراً عظيم الخطر من مصادر التاريخ، ويبصرنا بكثير من الحالات التي سيطرت على الأدب في ذلك العصر، بما يكتبه عن أولئك الذين انطبعوا بحياتهم، وصوروها تصويراً حراً طليقاً من قيود الشهرة.(73/43)
ومن قبل عني المفضل الضبي بجمع شعر الشعراء المقلين فخدم بذلك الاتجاه التاريخي الذي نتوجهه أجل خدمة، إذ كانت المفضليات أصدق صورة للعصر الجاهلي.
هذه ميزة شديدة الوضوح من ميزات كتاب الأوراق، لها خطرها فيما نقصد إليه من الدراسة الأدبية. ولست أتعرض الآن لشرح هذا الوجه من الخطورة، ولعله يتاح لنا فيما بعد أن ندرسه دراسة مفصلة تتسع لما لا تتسع له هذه الكلمة العاجلة.
ومما يستطرف ويلفت النظر في هذا الكتاب، أنه يظهرنا على أولية ذلك النوع من الشعر الذي يسميه الفرنسيون الشعر التعليمي في الأدب العربي، فنحن نرى أنه قد بدأ بأبان بن عبد الحميد اللاحقي، فقد صنع قصيدة سرد فيها أحكام الصيام على نحو ما نعرفه في منظومات العلوم. والظاهر أن أبان كان مضطلعاً بهذا النوع من الشعر، فقد نظم كذلك كتاب كليلة ودمنة، وكتاب المنطق، وكان ذلك فناً طريقاً. وقد ذكر الصولي أنه عاتب البرامكة على قلة عطائهم مع خدمته لهم وموضعه منهم، فأشار عليه الفضل أن يقول شعره في هجاء الطالبيين، فتذمم أبان، ثم قال قصيدة استطرفها الفضل، وهي لا شك طريفة. فقد سلك فيها مسلكاً عجباً من الشعر، إذ أخذ يجادل الطالبيين في دعواهم جدلاً فقهياً بحتاً مستنداً إلى أحكام الوراثة في الإسلام وما يقرره الشرع في حالات الحجب والهبة وما إلى ذلك. ولما جاء بهذه الأبيات إلى الفضل قال له: ما يرد اليوم على أمير المؤمنين شئ أعجب إليه من أبياتك.
هذا تاريخ نوع من الشعر كثير الشيوع في اللغة العربية، على أن لهذا فيما أحسب، بعض الدلالات الأخرى على بعض العوامل في ذلك العصر.
وعقد الصولي فصلاً عما روى في صحة دين أبان، وعندي أن هذه النصوص التي تروى في هذه الصدد عظيمة الخطورة في تحقيق المسألة الدينية في عصر العباسيين: ذلك الأمر الذي اضطربت فيه الأقوال واشتبهت فيه الظنون، واختلفت فيه منازع الرأي. ولا يزال في حاجة إلى التحقيق العلمي القائم على النقول الصحيحة والنقد المنزه البصير.
وبعد فما نستقصي في بيان قيمة كتاب الأوراق من ناحية التاريخ الأدبي، وحسبنا أن يكون هذا الكتاب زيادة في المادة التي ترتكز عليها أبحاثنا، وأن يكون واضعه أبو بكر الصولي، وهو من عرفنا، وأن ينشر نشراً علمياً خالصاً لوجه العلم والأدب. حتى نحتفي به، ونرحب(73/44)
بظهوره.
محمد طه الحاجري(73/45)
الشباب في أمريكا
حركته وتربيته وحياته السياسية
ومقارنته بالشباب في أوروبا
بقلم: إبراهيم إبراهيم يوسف
لا نستطيع أن نفهم الجديدة التي تملكت أفئدة أبناء الجيل الحديث في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا إذا فهمنا قبل كل شئ الفوارق الرئيسية بين الحركة العامة للشباب في أوروبا ومثيلتها في أمريكا. وأول ما يلفت النظر عدم اهتمام الشباب الأمريكي اهتماماً جدياً بالروحانيات والاجتماعيات، بينما نجد زملاؤهم في أوروبا على عكس ذلك. كذلك هم لا يعرفون التكالب على الدرس بنفس النهم الذي نجده عند الشباب الأوربيين. والواقع أن أمريكا برغم مالها من تنوع في الآداب لا تعرف حتى الساعة ما يسمى (بثورة الشباب) كتلك التي عرفناها لشباب الألمان مثلاً لنهاية القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين. وقد تكون التقاليد الاجتماعية التي توارثها الشباب الأمريكي عن سلفه والتي يرعاها كل الرعاية سبباً، إذا ما أضيف إليها مركز الشباب الاقتصادي، يحول بينه وبين تحمل عبء مسئوليات جسام. وركن الشباب إلى تلك التقاليد وراح يحافظ عليها فتجلت في حياته السياسية، ثم سرعان ما انتقلت العدوى بعد ذلك إلى كل ميدان من ميادين حياة الشباب. ورسخت هذه التقاليد في النفوس بدلاً من أن يتم التعاون على مقاومتها لتتلاشى. فمثلاً بينما كان الشباب الألماني منذ ثلاثين سنة يثور على سلطة العائلة وسلطة المدرسة ولا يأبه بسلطان الدولة ولا بسلطان الكنيسة، كان الشباب الأمريكي ينزع في نفس الوقت إلى انتهاج ما ثار عليه زميله الأوربي، وكان مما لا بد منه أن تنبذ أمريكا آراء أوربا وطرقها في تربية النشء وتبحث لها عن أسس جديدة، فاهتدت إلى جعل الدراسة العلمية في المرتبة الثانية من منهج التعليم. وما هي إلا سنوات حتى استوثق رجال التربية والتعليم في أمريكا من أن النظريات والعمليات التي سار عليها زملاؤهم في أوروبا لم تعد صالحة للعالم الجديد، فاستعاضوا عن (القوانين العامة) في علم النفس بفكرة رعاية الشباب وتهذيبه عملياً. وهم يتبعون في ذلك رأي زعيم التربية الحديثة في أمريكا المستر جون ديوي الذي(73/46)
تعتبر آراؤه إنجيلاً للمربين الأمريكيين. وخلاصة آرائه: أن العلم والمعرفة يجب أن ينتزعا من الحياة، وأن لا علم إلا إذا جاء عن طريق ممارسة العمل ومزاولة الأمور العملية. وهذه الأسس التي يعبر عنها (بطريق الشروع) القائمة في علم النفس على (المحاولة والخطأ). وقد يهزأ الأوربيون بهذه النظريات العملية، وهذا النوع من التربية. ولكنهم ينسون أن تربية النشء وفق هذه الأصول تكون عندهم قوة الإرادة وصحة الحكم على الأشياء. ومن أهم المبادئ المعمول بها في أمريكا لتربية النشء اعتبار الشباب وفرديته في مرتبة لا تقل عن مقام المعلم وعلمه. وكثيراً ما ينعى علماء التربية الأمريكيون على زملائهم في أوروبا التسرع في الحكم بأن الطفل له شخصية أقل خطراً من شخصية الرجل المكتمل الرجولة. ولكن علماء التربية الأوربيون يقولون هم الآخرون بأن الآراء الأمريكية تحوي جرثومة تهدد نظام التربية والتعليم من أساسه، كما أن تلك الآراء تعمل على إضعاف مركز المربي في نظر النشء وإضعاف الثقة به. ولكن الأمريكيين يقولون أن المسألة عكس ذلك تماماً. ثم إذا نظرنا إلى المدارس الأمريكية على اختلاف أنواعها، ولاحظنا تباين الأعمار في الفصول، حكمنا بأن النظام كما يفهمه الأوروبيون ليس له أثر ملموس في هذه المدارس. وكثيراً ما قال المربون الأوروبيون عند أول مشاهداتهم للشباب الأمريكي: (يا لها من فوضى!) إذ يجدون الطلبة هنالك بتوجهون بكلياتهم إلى شخص الأستاذ، أما اهتمامهم بدرسه فأمر ثانوي لديهم. ولهذا نجد بين الأساتذة والطلبة علاقة ألفة قد تبدو أشبه بالصداقة التي يضيع معها كل نظام، ولعل السر الذي يفسر لنا تلك الألفة هو أن 90 % من مجموع المعلمين في المدارس الأولية والابتدائية والثانوية في كافة البلاد الأمريكية نساء. ولا يعوق المعلمة عملها لو أن لها زوجاً وكانت في مقتبل العمر. ثم هنالك ظاهرة غريبة أخرى قد لا نجد لها مثيلاً في أي بلد أوروبي، تلك هي اعتبار المدرسة والكلية مزرعة يتعهد فيها المدرسون بتربية الألفة والصداقة بين كل أفراد الشباب، ولا زالت الكليات الأمريكية برغم ما وجه إليها من نقد محافظة كل المحافظة على حياة الأخوة بين الطلاب، مانعة كل المنع تسرب دخلاء إلى حظيرة الشباب، وحتى في المدارس الابتدائية يتدرب الأطفال على معيشة أخوية كاملة المظهر، لا يعنى فيها بإتباع طريقة شحن الذهن بالعلوم.
والواقع أن المثل الأعلى وطابع التربية عند الأمريكيين هو جعل التعليم المثالي عملياً(73/47)
ووطنياً.
إبراهيم إبراهيم يوسف(73/48)
من شعر الشباب
رسالة
وردتْ وُرُودَ النافِحات رسالةٌ ... هاجت كمين صبابتي وغرامي
رفّافة الصفحات يعبق نشرها ... من طِيبِ عهدٍ غابر الأيامِ
مِن سالفِ اللذات لي في معهد ... سلفتْ به اللذات كالأحلام
في معهد حفلٍ بأوطار الصِّبا ... فيه حمدتُ على البِعادِ مُقامي
نَشَرَتهُ للعين الصحيفةُ وانجلى ... في الطرس حُسْنُ صعيده المترامي
واسْتَفْتُ من بين السطور نسيمَه ... ورأيتُ باسقَ سَرْحِهِ المتسامي
وَتَمَثَّلَتْ لي ساكناتُ غصونه ... غِبَّ السماء نَوَاديَ الأكمامِ
وذكرتُ فيه كلَّ ماضي بُكرة ... طَلَعَتْ تألَّقُ في الضياء الطامي
طالعتُ فيها الشمس تسكب ضوَءها ... تِبْراً على الأنجادِ والأعلامِ
وعشيةٍ خَشَعَت كأنَّ نسيمها ... مُتَوَجِّسٌ من عودة الإظلامِ
راقبتُ فيها الليلَ مِن مُسْتَشْرَفي ... يطغَى على الأَغوار والآطامِ
إني لأَهوى فيه كلَّ طريفةٍ ... حاولتُها وهَمَامَةٍ ومرامِ
وأُحب أيَّاماً به وليالياً ... موصولةَ الألطاف بالأنعامِ
وأحب أشعاراً نظمتَ عقودها ... في ذلك الوادي النضير النامي
ما زلتُ أذْكُرُ كلما رَجَّعْتُها ... أُفُقاً جَرَى مِن سحر إلهامي
من مائِه الرَّقراق أو أزهاره ... قد صُغْتُها أو فَجْرِهِ البَسَّامِ
قد كان حَفلاً بالقوافي جَوُّه ... في حَالتَيه: الصَّحْو والإرْزَامِ
ما ازْدَادَ إلاَّ فِتْنَةً ومَلاحَةً ... لشُرُوق شمسٍ أو هُتُون غمام
يهفو لذكراه الفؤَاد إذا جَرَتْ ... وتثور أشواقي له وهيامي
ويجيئهُ مني السَّلامُ وإن أَنل ... أقصى الأماني جئْتُه وسلامي
فخري أبو السعود(73/49)
تاجرة!!
دعته إلى العش عصفورة ... بتغريدها المطلق الساحر
شكت قبله وحشة الانفراد ... على ذلك الفَنَنِ الزاهر
وطول المقام بلا صاحب ... تفئ إلى جنحه القادر
يشاطرها واجبات الحياة ... ويحمل من عبئها الواقر
ويمنحها عائدات الوداد ... وتمنحه جذوة الشاعر
تفيض حناناً إلى قربه ... ويسعد في حبه القاسر
قضى زمناَ شادياً لاهباً ... بأحلامه هادئ الخاطر
يروح إلى الأيك جم النشاط ... فينعم في ظله الناضر
وينهل من مائه المستطاب ... ويستاف من عرفه العاطر
دعاه الصبا ولباناته ... فلبى نداء الصبا الغامر
وفارق أحلامه الساحرات ... إلى صرحها الوارف العامر
إلى حيث يقطف آماله ... ثماراً ويجني جَنَى الصابر
إلى حيث يملأ ما قد خلا ... من القلب في الزمن الغابر
فلما أتاها رأى أنها ... تهيب بذي الثروة الكاثر
وقد جعلت نفسها سلعةً ... كسلعة صاحبنا التاجر
فهذا يسوم وذاك يزيد ... وذا يتقي صفقة الخاسر
فعاد إلى أيكه نادباً ... بذلك من جده العاثر
إذا ما الزواج غدا سلعة ... فأنت على تركه عاذري
جنين - فلسطين ح. أ(73/50)
عرس في مأتم
واعَجَبَاً للمرء في جَهْلِهِ ... وهو أخو اللُّبِّ شقيقُ النُّهى
يُمعِنُ في غَفْلَتِهِ حالماً ... وَيَحسِبُ الضِلَّةَ كلَّ الهدى
يَطوي شقاء العمرِ في سَكْرَةٍ ... نشوانَ يُغريه رفيفُ الرُّؤى
وهمانُ كلَّ العمرِ ما إن يعي ... سرَّ الدُّنى. يا بؤسَه لو وعى!
يا سرَّه! أيةُ أُلعوبَةٍ ... هَيِّنَةٍ في كفِّ هذي الدُّنى
وسرَّ هذا الكونِ من شاعرٍ ... مُسْتَعْجَمِ اللفظِ غريبِ اللُّغى
شَيَّعتُ بالأمْسِ رُفاتِ الصِّبا ... في لوعةِ الثُكلِ ومُرِّ الجوى
يقولُ لي صحْبِيَ في فَرحَةٍ ... هَوِّن على نفسِك بعضَ الأسى
لله قَلبُ المرءِ من غامِضٍ ... يُحَيِّرُ اللُبَّ ويُعْيِي الحِجى
يَبكي لِما يُضحِك حيناً وقد ... يُضْحِكُهُ ما يَستَفزُّ البُكا
تراه كالدَّمعِ همى رقَّة ... طَوراً وطَوراً كَحَرونِ الصَّفا
هذا الشبابُ الجَهمُ ما عِندَهُ؟ ... أثَمَّ مِنْ بارِقَةٍ تُرتَجى
صَحراؤهُ مُرمِضةٌ رَحْبَةٌ ... وكُلُّ شَئٍ موحِشٌ في الفلا
لا بُلبُلٌ يُطرِبُ إمّا شدا ... ولا رُبى يَعبَقُ فيها الشَّذى
أقطَعُ وَحدي عَرضَها راكباً ... صَهوَةَ آمالي، أسيرَ القضا
أضْرِبُ في آفاقِها حائِراً ... أجري وما لِلجَرْيِ مِنْ مُنْتَهى
أَخُبُّ لا مُؤْنِسَ في وَحدَتي ... تِلكَ ولا مِن سامرٍ في الدُّجى
ظمآن! إنْ آلٌ بدا مَرَّةً ... بَذلتُ خلفَ الآلِ كلَّ القُوى
يَحِفُّ بي مِنْ أنسُرٍ مَوْكِبٌ ... يَرْقُبُ أنْ يأتي عليَّ الرَّدى
تُرى أأنجو سالماً؟ أم تُرى ... أهوى صَرِيعاً جَاهِداً للثرى
وَفِتْيَةٍ همُّهُمُ مَلْعَبٌ ... وكُلُّهم كالزَّهر غَضُّ الصِّبا
ضَمَّتهُمُ للعِلمِ فَيْنَانَةٌ ... كما يضم الدَّوحُ سِربَ القَطا
مِثلِ الظِبا في مَرَحٍ دائمٍ ... يَحيَون في أحلامِهم والمُنى
يا فَرَحَة الأطفالِ! لَو أَنَّها ... تدومُ للإنسانِ طُولَ المَدى
يأتي عليها الدهرُ مُستأسِداً ... يُشهِرُ غَضبَان نُيوبَ الأذى(73/51)
يا رحمة الله لِعهدِ الصبا ... من حُلُمٍ ما رَفَّ حتى اختفى
تَقولُ لي النَّفسُ وقد هالَها ... أن تَجِدَ العهدَ الحبيبَ انطَوى
أهكذا الأيامُ مجنونةٌ ... مسرعةٌ في سيرِها والسرى
دمشق
أمجد الطرابلسي(73/52)
غيرة. . .
ذهبتُ كي أوقظه ... من غفوة لم تنجل
فكان في ضجعته ... طفلاً من الهمَّ خَلِ
عليه من شرخ الصبا ... أبهى الثياب والحلى
بل كان مثل ملك ... سمح تدانى من عل
وقد وجدتُ وجهه ... في النوم في تهلل
ما باله منشرحاً ... كأنه في غزل؟
بمن تراه يحتفي ... في نومه وينجلي؟
عندئذ ألفيتني ... غَيرَانَ قلبي يصطلي
فلم أدعه ناعماً ... في نومه المسترسل
بل هبَّ مذعوراً علي ... عواصف من قبلي
كرمة ابن هانئ
حسين شوقي(73/53)
لونجفلو
الشاعر الأميركي الملهم
بقلم: مأمون اياسي
لا شك أن (هنري وودسورثو لونجفلو) الشاعر الأميركي النابه غني عن التعريف إلى قراء الإنجليزية، وأن قصته الشعرية (ايفانجلين) تعد في طليعة الآثار الأدبية الخالدة التي خلفها، وخدمة لمن لم يقرأوا هذا الشاعر العبقري رأينا أن نكتب هذه النبذة عنه فنقدم لهم بذلك أحد الشعراء العالميين الذين يقدمهم الشعب الأميركي.
ولد (لونجفلو) في 27 فبراير في سنة 1807 في مدينة (بورتلاند) في ولاية (مين) وقضى طفولته وصباه في بيت واقع في شارع (الكونجرس) ما زال إلى الآن محفوظاً على حاله الأولى عندما كان يعيش فيه الشاعر العظيم. ويحج إلى ذلك البيت آلاف من الناس الذين يذهبون إلى (بورتلاند) في كل صيف، ويدخلون إليه للتفرج على كل غرفة من غرفه، وعلى مطبخه الذي ما زالت الأواني الثقيلة مبعثرة على مواقده منذ مائة عام ونيف. ثم يصعدون إلى غرفة في الدور الثالث ليروا السرير الخشبي الذي كان ينام عليه (لونجفلو) ويطلوا من النافذة التي كان يرى منها المنارة الموصوفين في إحدى قصائده.
وكانت (بورتلاند) مدينة موافقة لفتى له روح (لونجفلو) الحساسة الرقيقة، إذ كانت شوارعها الطويلة المظللة بالأشجار الوارفة، وأحراجها المكتظة، وشاطئها الشعري الهادئ ميداناً خصباً لخياله الواسع.
كان (لونجفلو) في السادسة من عمره عندما عاد من المدرسة يوماً وناول والده شهادة - لم تزل محفوظة للآن - كتبت فيها معلمته بأنه تلميذ مجتهد وأخلاقه قويمة. وبعد ذلك بسبعة أعوام عندما كان في الثالثة عشر من عمره كتب قصيدة يصف فيها إحدى المواقع المشهورة بين الأميركيين والهنود الحمر. وكان على ثقة تامة بأنها جديرة بالنشر، فاستجمع شجاعته ورماها في صندوق إحدى الجرائد، ولكن رئيس تحرير تلك الجريدة لم يوافقه على رأيه فكان نصيبها سلة المهملات. فما كان من الشاعر الصغير، وقد جرحت كبرياؤه، إلا أن أرسل القصيدة إلى جريدة منافسة فنشرتها. وقد قال بعد سنين عديدة بأن الشعور الذي استولى عليه عندما رأى أول شعر له مطبوعاً لم يعاوده بعد ذلك لدى نشر أي شعر(73/54)
آخر.
وكانت حياته المدرسية بعد ذلك نجاحاً مضطرداً وتفوقاً يثير الإعجاب. وعندما أتم علومه في جامعة (بودوان) راح يلتمس من والده إرساله لقضاء سنة في جامعة (هارفارد) واعترف له بما يجول بخاطره من آمال قائلاً: (الحقيقة يا والدي هي أنني أطمع في مستقبل أدبي حافل. إن نفسي لتتحرق شوقاً إلى ذلك) ولكن والده نصحه بأن يفكر في صنعة تكفل له عيشه غير صنعة الأدب. وأرغم الشاب على النزول على إرادة والده والعمل بنصيحته، فدخل كلية الحقوق. ولكن أحد المفتشين سمعه مرة يلقي ترجمة لمقطوعة من أصعب آثار (هوراس) فأعجب به، وعندما كانت الإدارة تفكر في إدخال فرع جديد للغات الحديثة في برنامج الجامعة وقع اختيار ولاة الأمر على (لونجفلو) ليكون أستاذاً لذلك الفرع، ولما يتخط عامه التاسع عشر، ولكنهم اشترطوا عليه أن يمضي ثلاث سنوات في أوروبا فيدرس لغاتها ثم يعود. ووافق والده على تزويده بالمال الكافي للقيام برحلته، وأبحر الأستاذ الشاب إلى أوروبا بقلب مفعم حياةً وأملاً، فقضى ثلاث سنوات متنقلاً بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وإنجلترا، فدرس لغاتها وأحوال أهلها وطرق تفكيرهم، ثم عاد ليقوم بأعباء منصبه بنشاط وحماس، ويتقاضى تسعمائة دولار في كل شهر (وهذا المبلغ كان يعد ثروة في ذلك الحين).
لم يكن تدريسه في جامعة (بودوان) وإدارة مكتبتها ليعوق (لونجفلو) عن الكتابة شعراً ونثراً، فواصل جهوده في النظم والتأليف، ولكن كتاباته اقتصرت إلى حد ما على الموضوعات التي كان يدرسها.
وثبت اسم الشاعر في عالم الشهرة حتى أن إدارة جامعة (هارفارد) طلبت إليه أن يتولى رياسة فرعها للغات الحديثة عندما استقال أستاذها. فقرر (لونجفلو) القيام برحلة ثانية إلى أوربا استزادة في درس اللغات والآداب. وعندما كان في هولندة وصله نعي امرأته فواصل أبحاثه بقلب مثقل بالهم والحزن.
وهنالك نادرة تحكى عنه عندما عاد من أوروبا ليتولى عمله في (هارفارد)، وكان في الثلاثين من عمره، ولكن هيئته لم تكن لتدل على ذلك، فذهب إلى (بنسيون) ليستأجر غرفة فيه، فنظرت إليه صاحبة (البنسيون) من رأسه إلى قدمه وقالت له: (أنا لا أقبل تلامذة(73/55)
عندي) ولكنه قال لها (لست تلميذاً). أنا الأستاذ (لونجفلو). فما كان من السيدة إلا أن قالت له وهي تفتح الباب على مصراعيه: (إذا كنت مؤلف (وراء البحار) فتفضل على الرحب والسعة) - (ووراء البحار) هو الكتاب الذي وضعه أثر رحلته الأولى إلى أوربا، ووصف فيه تلك السلسلة من الأسفار في بلدانها - وقادته السيدة إلى غرفة في الزاوية الشرقية في منزلها قائلة: (كانت هذه غرفة الجنرال وشنجطن ويمكنك أن تنزل فيها.) وبقيت تلك الغرفة مسكنه طوال السبع عشرة سنة التي قضاها في (هارفارد).
وفي سنة 1842 قام برحلته الثالثة إلى القارة الأوربية. وبعد ذلك بسنة تزوج مرة ثانية وقضى ثماني عشرة سنة في هدوء بين أطفاله وعائلته وأصحابه والقصائد التي كان ينظمها تترى.
دعي الكاتب المعروف (ناثانيال هوثورن) مرة إلى الغداء على مائدة (لونجفلو) مع صديق للأول. ودار الحديث على الغداء حول قصة جرت وقائعها بين (نوفاسكوتيا) - وهي شبه جزيرة ملحقة بكندا - والولايات الأمريكية الشرقية. فقال صديق (هوثورن) مخاطباً (لونجفلو) (أنا أجرب أن أقنع (هوثورن) بكتابة قصة عن الحادثة، ولكنه لا يرى فيها فكرة لقصة).
فسأله (لونجفلو) أن يسرد على مسامعه تلك الحادثة عله يجد فيها المواد لقصيدة أو أنشودة.
ولخص له الصديق الحادث بقوله: (كانت مقاطعة (نوفاسكوتيا) التي كان يسميها الفرنسيون (أكادي) تنتقل من أيدي الفرنسيين إلى الإنجليز ثم يسترجعها الفرنسيون، وهكذا إلى سنة 1713، إذ انتقلت إلى الإنجليز بموجب معاهدة (أوترخت) وهي باقية تحت سلطتهم إلى يومنا هذا. وكان يغلب على سكانها الدم الفرنسي. فنشأت عداوة بين العنصرين الإنجليزي والفرنسي، أدت إلى منازعات ومناوشات دائمة. وتفاقمت الحال في شبه الجزيرة حتى أصبح من الصعب جداً على الحكومة تهدئتها، فاستنبطت حيلة لم تجد أنفع منها في تلك الأحوال، وهي نقل (الأكادييين) إلى جهات أخرى من أمريكا الشمالية حتى لا يتيسر لهم الاجتماع بالسكان الإنجليز. وكانت الطريقة الني نقل بواسطتها أولئك المساكين غاية في الغلظة والفظاظة. طلب الحاكم إلى جميع الرجال والفتيان الذين تزيد سنهم على العشر سنوات أن يجتمعوا في الكنيسة، لأنه سيذيع عليهم أوامر هامة من السلطة. واجتمع الرجال(73/56)
والفتيان، وهم يتساءلون عما أوجب حشدهم بتلك الطريقة، وما أن دخلوا الكنيسة حتى حاصرتهم الجنود من الخارج، وألقى الكاهن على مسامعهم الأمر الرهيب بصوت ملأه حنواً ورأفة. وفي مدة قصيرة كانت السفن حاضرة على الشواطئ، فحشد فيها السكان بطريقة عسكرية قاسية كان من نتائجها أن تفرقت أسر كثيرة، وأضاع أفرادها بعضهم بعضاً.
وكان بين الذين نقلوا إلى الولايات الشرقية فتى وصبية كان الكاهن قد عقد قرانهما في ذلك الصباح فقط. فأضاع أحدهما الآخر، وبقيت (إيفانجلين) تجوب السهول والقفار وتقطع الأنهار، وتنام الليالي على الطوى كل حياتها باحثة عن (جابريال) إلى أن انخرطت في سلك الممرضات، بعد أن قطعت الأمل في وجوده، فإذا بها يوماً تلتقي به بين المرضى، فعرفته برغم التغير العظيم الذي طرأ عليه. وكانت صدمة عنيفة أودت بحياته لضعفه، وأودت بحياتها هي لسرورها وحزنها المتعاقبين.
وما انتهى الصديق من سرد قصته حتى التفت (لونجفلو) إلى (هوثورن) قائلاً: (أتعدني بألا تكتب شيئاً عن هذه الحادثة حتى أنتهي من نظم قصيدتي؟) ووعد (هوثورن) وبدأ (لونجفلو) في نظم القصيدة التي خلد فيها بطلي ذلك الحادث، فخلداه بدورهما، وجعلت (ايفانجلين) اسمه يطبع بحروف كبيرة على صفحات الجرائد، وتتوارد عليه رسائل الإعجاب تترى.
ومن الغريب أن (لونجفلو) لم ير قط مشاهد قصيدته، مع أن الوصف فيها كان مطابقاً للحقيقة كما شهد الذين سكنوا تلك الأمكنة
وقد اقتبست من قصة (ايفانجلين) رواية سينمائية أخرجت في عهد السينما الصامتة، وقامت بالدور الأول فيها الممثلة المكسيكية الفاتنة (دولوريس دليرو).
بيروت
مأمون اياسي(73/57)
العلوم
لمحة في تاريخ الرياضيات
بقلم محمد المبارك
بكالوريوس في العلوم
اجتازت العلوم الرياضية كغيرها من العلوم أدواراً ثلاثة: دوراً إلهياً ودوراً تجريبياً عملياً، ودوراً نظرياً مجرداً
فكانت فكرة القوة الميكانيكية فكرة إلهية تعزى إلى الآلهة في جميع حالاتها في تلك الأزمان التي كانت تنسب فيها جميع الحوادث إلى الآلهة المتعددة حينئذ بصورة مباشرة، وكذلك كانت الأشكال الهندسية مقدسة، وللأعداد خواص يعتقد بتأثيرها، ومع ذلك فقد أخذت الحقائق الرياضية تتولد تدريجاً بالحدس مستمدة من العمل والتجربة اللذين هما مصدران من مصادر الإلهام، وينبوعان يستقي منهما العقل البشري أفكاره في كل زمان. وعلى هذا النحو اكتشف كثير من النظريات والحقائق الرياضية، كنظرية مساواة مربع الوتر لمربعي الضلعين القائمين في المثلث القائم.
وكثيراً ما أدت أغراض عملية إلى حقائق نظرية كانت لها خطورة في نشوء العلم وتطوره؛ فعملية المساحة عند قدماء المصريين أدت إلى اكتشاف كثير من الحقائق الرياضية. كما أن الفينيقيين اضطروا إلى الحساب استعانة به على أمر تجارتهم، وكذلك لجأ إليه الكلدانيون لمزاولتهم الفلك والتنجيم.
على أن أكثر الأمور العملية كانت تشوبها أمور دينية، فعملية المساحة عند المصريين كانت مهمة دينية يقام لها حفل يحضره الملك. ولا يخفى كذلك أن الفلك عند الكلدانيين لم يكن منفصلاً عن التنجيم. فبسبب هذه العوامل اكتشفت بعض قواعد عملية، لم تصل إلى درجة يؤبه لها من اليقين العلمي، وكثيراً ما كانت تقريبية غير مضبوطة، عرفت بفضل التجربة - ولا أعني بالتجربة في كل ما تقدم القيام بعمل يقصد منه اكتشاف قضية علمية أو إثباتها كما يفهم منها اليوم، بل أريد منها ما يصادفه الإنسان من المشاهدات والملاحظات أثناء القيام بأعماله الحيوية - فكانت الهندسة في تلك العصور الغابرة عبارة عن مجموعة(73/58)
طرق لا رابطة بينها لحل المسائل العملية التي تستوجبها الحياة آنئذ، كمعرفة كون كل مثلث تتناسب أضلاعه فيما بينها كتناسب الأعداد: 3، 4، 5 قائم الزاوية. فبإنشاء هذا المثلث يمكن الحصول على مستقيمين متعامدين. هذا وإن كثيراً من تلك القواعد تقريبي كما قلنا ليس له قيمة علمية؛ مثال ذلك أن المصريين كانوا إذا أرادوا مسح شكل رباعي ضربوا نصف مجموع ضلعين متقابلين منه في نصف مجموع الآخرين، مع أن هذا العمل لا يصح إلا في المربع والمستطيل، وكذا إذا أرادوا معرفة مساحة المثلث أخذ نصف جُداء أكبر أضلاعه في أصغرها.
وأما البرهان على تلك القواعد العملية فلم يروا في أنفسهم حاجة إليه، واكتفوا بالمشاهدة الحسية، ثم أخذوا بعد ذلك يبرهنون على المسائل ببراهين تجريبية تستند إلى الواقع، لا على المحاكمة المنطقية، أو على تمهيدات يقدمونها دون أن يبرهنوا عليها كأنها بديهية بنفسها، وقد بقيت طريقة البرهان مدة طويلة على هذه الحال.
وأما الحساب فأحرى أن يكون في صبغة عملية بعيداً عن الصبغة العلمية، إذ هو أكثر تجريداً من الهندسة، ولذا لم يتم منه حينئذ إلا ما مست إليه الحاجة في الحياة من القواعد البسيطة جداً التي تكاد لا تستحق أن يطلق عليها أسم قواعد إلا بالإضافة إلى عصرها، فكان المصريون إذا أرادوا ضرب عدد في ثلاثة أضافوه إلى ضعفه، أو في سبعة، أضافوه إلى ضعفه، ثم ضعفوا الحاصل وأضافوا العدد إليه، كما أن القسمة كانت بالطرح المتوالي، فلم يكن لهذه العمليات قواعد نظرية.
هذا مجمل حال الرياضيات في العصور القديمة، فلنبحث الآن بالتفصيل عما عرض لكل علم منها من الأطوار المتباينة من حين نشوئها إلى بلوغها تلك الدرجة العالية التي وصلت إليها في العصور الحديثة، ملاحظين في هذا البحث تقسيم العلوم الرياضية إلى ثلاثة أقسام.
(1) الرياضيات المشخصة، وتشمل الهندسة والميكانيك.
(2) الرياضيات المجردة، وهي على قسمين:
(أ) ما يبحث في الكم المنفصل ويشمل علم العدد والجبر.
(ب) ما يبحث في الكم المتصل ويشمل الهندسة التحليلية وحساب التوابع وحساب اللانهايات(73/59)
(3) الرياضيات التطبيقية، وتشمل المثلثات والهندسة الوصفية وحساب الاحتمالات.
وسنقتصر في بحثنا على أهم فروع الرياضيات تاركين البحث فيما هو في الحقيقة ملحق بهذه الفروع المهمة ومشتق منها ومبتدئين بأقسام الرياضيات المشخصة، إذ هي أقدم في الظهور وأسرع في التقدم.
(1) الرياضيات المشخصة:
الهندسة: إن ما تركه اليونان من الآثار في هذا العلم يدلنا على أنهم أول من صاغ الهندسة في قالب علمي، فقد أخذت طريقة البرهان في عهدهم شكلاً عقلياً مجرداً. وربما كان فيثاغورس (550 ق. م) أول من أقام البراهين العقلية وحررها من صبغتها العملية التجريبية القديمة. وإليه والى تلاميذه يرجع الفضل في أكثر مسائل كتاب الأصول لأقليدس، والنظرية المنسوبة إليه في المثلث القائم مشهورة، ولا يعلم على التحقيق كيف كان برهانه عليها. وأما أقليدس (280 ق. م) فقد حرر الهندسة، ونظم نظرياتها، وهذب براهينها. وكان كتابه إلى ما قبل عهد النهضة الأخيرة أجمع كتاب في هذا العلم، وقد رتبه على الطريقة الاستنتاجية. قال أبو نصر الفارابي في (إحصاء العلوم): (والنظر فيها - يعني الهندسة - على طريقين: طريق التحليل وطريق التركيب، والأقدمون من أهل هذا العلم كان يجمعون في كتبهم بين الطريقين، إلا أقليدس فإنه نظم ما في كتابه على طريق التركيب وحده) ويظهر أن أقليدس لم يكن مؤلفاً لكتاب الأصول، وإنما كان محرراً ومهذباً. وعلى هذا القول الفيلسوف يعقوب الكندي والفيلسوف اليوناني ديدوخوس برقلس وقد نقل هذا الكتاب إلى العربية جماعة كثيرون منهم أبو الوفاء محمد بن محمد البوزجاني وثابت بن قرة، وحرره أيضاً جماعة تصرفوا فيه إيجازاً وضبطاً وإيضاحاً وبسطاً، والأشهر مما حرروه تحرير العلامة نصير الدين محمد بن محمد الطوسي المتوفى سنة 672هـ وهو أحسن تحرير له في العربية وهو مطبوع طبعاً لا بأس به، يتألف من خمس عشرة مقالة، ويحتوي على 468 نظرية في الهندسة المسطحة والمجسمة، ونظريات الحساب مطبقة على الأشكال الهندسية، كل ذلك مما لا يختلف كثيراً عما يقرأ في المدارس الثانوية اليوم لا في الكمية ولا في الكيفية. وبلغ عدد من اشتغل في هذا الكتاب من المسلمين من ناقل ومحرر وشارح ومختصر أكثر من خمسة وعشرين عالماً.(73/60)
وقد ألف المسلمون كثيراً في الهندسة، ونقلوا عن اليونانية كثيراً من كتبها، وزادوا كثيراً من النظريات، وبرهنوا على كثير من القضايا التي لم يبرهن عليها في عهد اليونان. فقد ألف محمد بن الحسن بن الهيثم خمسة وعشرين كتاباً في الرياضيات منها رسالة في برهان الشكل الذي قدمه أرخميدس في قسمة الزاوية ثلاثة أقسام ولم يبرهن عليه. وكتاب في تحليل المسائل الهندسية وشرح لأصول أقليدس وغيرها مما هو مذكور في كتاب طبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة (ج: 2ص: 90).
وقد حفظت العربية بعض كتب اليونان الهندسية التي لم يبق إلا ترجمتها العربية مثل كتاب الكرات لمنالاوس والخلاصة أن الهندسة وصلت في عهد اليونان ثم في عهد العرب إلى درجة من التجريد النظري لا يستهان بها.
الميكانيك: نشأ علم الميكانيك بالتدريج من الأمور العملية، وقد درس أريسطو بعض مسائله، ولكن بصورة عملية مغلوطة أحياناً. وأرخميدس أول من أسس أركان الميكانيك النظري، ولكنه كان يعد النظر في الآلات التي يستعان بها في الحياة المادية صناعة خسيسة يترفع العلم عن البحث فيها. وكان العرب يسمون هذا العلم علم الحيل، قال الفارابي في تعريفه: (إنه يبحث في مطابقة جميع ما يبرهن وجوده في التعاليم - أي العلوم الرياضية - على الأجسام الطبيعية).
ولم يصل هذا العلم عند اليونان والعرب إلى درجة تذكر، فقد كان علماً عملياً، ولم يتم تأسيسه إلا في العصور المتأخرة، ويرجع الفضل في تقدمه الأخير إلى سيمون ستيفن وديكارت من علماء القرن السابع عشر، فهما اللذان فكرا في تمثيل القوة بشعاع هندسي، ودراسة مبحث القوى بصورة هندسية مما أدى إلى تطور عظيم في هذا العلم. ثم توسع بعد ذلك في هذه الأبحاث لاجرانج في كتابه الميكانيك التحليلي سنة 1787.
ولم يكن تطور علم الميكانيك واحداً في جميع أقسامه، فقد درس أرخميدس توازن القوى، وتأخر مبحث الحركة والقوى المسببة لها حتى درسه غليلو سنة 1638، ومبحث الحركة مستقلة عن القوة حتى درسه أمبير سنة 1834، ويلاحظ أن تطور هذا العلم كان متصاعد التعميم. فمبحث توازن القوى أخص من مبحث الحركة والقوى، كما أن هذا أخص من مبحث الحركة.(73/61)
(3) الرياضيات المجددة:
علم العدد وهو أكثر العلوم الرياضية تجريداً، ولذلك كان أبطأها ترقياً وتطوراً. ففكرة العدد التي هي أساس هذا العلم لم تستقر إلا بعد تطورات طويلة تقلبت فيها البشرية. فالإنسان في حالته الابتدائية لا يدرك منها سوى الوحدة والكثرة، فهو يعلم الواحد والاثنين والكثير، ولا يفرق بين العدد والمعدود، ولربما اختلفت أسماء الأعداد باختلاف معدوداتها، إذ ليس للعدد المجرد مفهوم عنده، ولذلك يستعين بأصابعه وكثير من أعضائه أو بالحصى والأحجار في التعداد، ومن ثمة كان اعتبار العشرة والعشرين أساساً في الترقيم بحسب أصابع اليدين أو أصابع اليدين والرجلين عند الأقوام الحفاة الأقدام.
وكان اليونان يفرقون بين الحساب العملي والحساب النظري، ومع ذلك كان علم الحساب عندهميبحث عما للأعداد من الخواص الغريبة مما نقل منه الكثير إلى العربية، ولا أعني بالخواص الغريبة هنا السحرية ولكن العملية، كمساواة كل عدد لنصف حاشيتيه، أي العدد الذي قبله والعدد الذي بعده، وكالخواص التي يذكرونها لهذه الأعداد (وهي سلسلة هندسية أساسها الاثنان ومبدؤها الواحد): 1، 2، 4، 8، 16، 32 من أنك إذا جمعت الأعداد من الواحد إلى أي عدد منها يكون الحاصل أنقص من العدد الذي انتهيت إليه بواحد، فلو جمعت الواحد والاثنين والأربعة بلغت سبعة، وهي أقل من الثمانية بواحد، ويسمون كل عدد من هذه السلسلة (ما عدا الواحد طبعاً) زوج الزوج، وهو الذي إذا قسمته على اثنين بصورة متوالية تنتهي إلى الواحد.
وقد تأخر هذا العلم لأسباب، منها فقدان أصول حسنة للتعداد عند اليونان، فقد كانت طريقتهم في كتابة الأعداد صعبة المسلك يتعسر بواسطتها إجراء العمليات الحسابية، وهي الطريقة التي يستعملها الغربيون اليوم في بعض المواضع ويسمون أرقامها الأرقام الرومانية وهي هذه , , , , , , , بالعربية: 1، 5، 10، 50، 100، 500، 1000.
ومن أسباب تأخرهم أنهم كانوا يسلكون في إثبات المسائل العددية طرقاً هندسية، وعلى هذا سار أقليدس في أصوله، فلم يفصل العدد عن المقادير الهندسية. ومنها أيضاً فقدان الإشارات والرموز في العمليات الحسابية. والخطوة العظيمة التي خطاها هذا العلم هي(73/62)
أصول التعداد على أساس العشرة. ولذلك كان من أعظم مآثر المسلمين في الرياضيات نقل الحساب الهندي والأرقام الهندية من الهند إلى سائر نواحي العالم. وهم يسمونها أرقاماً هندية، لأنهم نقلوها عن الهنود، والغربيون يسمونها عربية لأنهم نقلوها عن العرب. وأول من أخذ تلك الأرقام عن الهنود واستعملها في مؤلفاته محمد بن موسى الخوارزمي (في القرن التاسع للميلاد).
قال الزوزني في كتابه تاريخ الحكماء: (ومما وصل إلينا من علومهم - يعني الهند - حساب العدد الذي بسطه أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي وهو أوجز حساب وأخصره، وأقربه تناولاً وأسهله مأخذاً، يشهد للهند بذكاء الخواطر وحسن التوليد وبراعة الاختيار والاختراع) ومن اسمه اشتق الغربيون لفظة كانت تدل على الطريقة العشرية في الحساب، وقد مزج الخوارزمي بين ما تمكن من الوصول إليه من أصول الحساب عند الهنود وأصول الحساب عند اليونان، واستخرج من ذلك الحساب والجبر العربي، وهو أول من ألف في الجبر، وقد انتشرت مؤلفاته في أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد حيث ترجمها إلى اللاتينية
الجبر: كثيراً ما يذكر بأن ديوفنطس (في القرن الثالث للميلاد) أول مشتغل بالجبر، مع أن جل ما وصل إليه أنه كان يستعمل حروفاً في العمليات الحسابية يأخذها من الألفاظ الدالة على العملية المراد إجراؤها.
واستعمال الحروف للدلالة على المقادير كان معروفاً منذ أريسطو، وكان ديوفنطس يرمز للمجهول ولقواه حتى القوة السادسة، ولمقلوب هذه المقادير وللوحدة بحروف مختزلة من أسمائها اليونانية، ويتبع كل رمز بأمثاله العددية، ففي ذات الحدود الكثيرة الحدود الموجبة مرتبة بجانب والسالبة بجانب آخر يفصل بينهما بهذه الدالة على الطرح والتي هي مأخوذة من كلمة يونانية تدل على الطرح.
فالمقدار الجبري: س6 - 6س5 + 15س4 - 20س3 + 15س2 - 6س + 1
يكتب هكذا:
فالحرف على التكعيب أعني القوة الثالثة مأخوذ من
كلمة والحرف الدال على التربيع أعني القوة الثانية(73/63)
مأخوذ من كلمة والحرف على الوحدة مأخو من
كلمة
وكذلك للمساواة والجذر رموز حرفية تدل عليها مأخوذة من ألفاظها اليونانية، كما أن قواعد ضرب المقادير الجبرية ذات الحدود الكثيرة مع اعتبار الجهة، أعني الموجب والسالب كانت معروفة لدى ديوفنطس.
وأما العرب فلم يستعملوا الرموز الحرفية، وإنما استعملوا كلمات بأجمعها دون اختصار، وهم الذين وضعوا رمز الكسر فجعلوا صورته أو بسطه في الأعلى ومخرجه أو مقامه في الأسفل يفصل بينهما خط أفقي، على حين أن ديوفنطس كان يجعلها على عكس هذا الوضع، والبيزنطيون يضعون المخرج فوق الصورة كما نضع نحن الآن القوة أو الأس فوق العدد.
والعرب يرمزون للمجهول بكلمة شئ. قال بهاء الدين العاملي في كتابه خلاصة الحساب: (يسمى المجهول شيئاً ومضروبه في نفسه مالاً، وفيه كعباً، وفيه مال المال، وفيه مال الكعب، وفيه كعب الكعب إلى غير النهاية) ويسمون مقلوب هذه المقادير جزء الشيء وجزء المال وجزء الكعب وهكذا. ولنضع بجانب كل منها مصطلحه الحالي:
شئ: س، جزء الشيء: س1
مال: س2، جزء المال: س21
كعب: س3، جزء الكعب: س31
مال المال: س4، جزء مال المال: س41
مال الكعب: س5، جزء مال الكعب: س51
كعب الكعب: س6، جزء كعب الكعب: س61(73/64)
فيقال مثلاً للرمز س11 مال كعب كعب الكعب ولمقلوبه جزء مال كعب كعب الكعب، وكذلك كانوا يعملون قاعدة ضرب هذه القوى أو هذه الأجناس كما كانوا يسمونها بعضها ببعض، وقسمتها مع اعتبار الجهة، فيجمعون الأسس أو يطرحونها. وقد ذكر العاملي في كتابه المذكور قواعد ضربها ثم قال: (وإن كان - يعني في إحدى المضروبين - استثناء، يسمى المستثنى منه زائداً والمستثنى ناقصاً وضرب الزائد في مثله والناقص في مثله زائداً والمختلفين ناقص، فمضروب عشرة وشئ في عشرة إلا شئ مائة إلا مالاً).
وفي اصطلاحنا: (10 + س) (10 - س) =100 - س2
وبعد أن أورد أمثلة عديدة على الضرب قال: (تفرض المجهول شيئاً وتعمل ما تضمنه السؤال إلى أن تنتهي إلى المعادلة، فالطرف ذو الاستثناء يكمل ويزاد مثل ذلك على الطرف الآخر وهو الجبر، والأجناس المتجانسة المتساوية في الطرفين تسقط، وهو المقابلة) ثم قسم المعادلات إلى سنة أنواع وبين كل واحدة وطريقة حلها وأتبع ذلك بمسائل منها هذه: (رمح مركوز في حوض، والخارج عن الماء منه خمسة أذرع مال مع ثبات طرفه حتى لاقى رأسه سطح المكان، فكان البعد بين مطلعه من الماء وموضع ملاقاة رأسه له عشرة أذرع فكم طول الرمح؟ - أقول توضيحاً لكلامه: الرمح هو (م ب) والخارج عن الماء منه هو
ب جـ=5 أذرع، أثبت في مب
وأدير حتى صار رأسه ب في ت ت
والطول جـ ت=10 أذرع - جـ
م
نفرض الغائب في الماء شيئاً، فالرمح خمسة وشئ، ولا ريب أنه بعد الميل وتر قائمة أحد ضلعيها عشرة أذرع، والآخر قدر الغائب منه، أعني الشيء، فمربع الرمح أعني خمسة وعشرين ومالاً وعشرة أشياء، مساو لمربعي العشرة والشيء أعني مائة ومالاً. وبعد إسقاط المشترك يبقى عشرة أشياء معادلة لخمسة وسبعين والخارج من القسمة سبعة ونصف، فالرمح اثنا عشر ذراعاً ونصف ذراع).
وعلى حسب اصطلاحنا تجري المعادلة هكذا:(73/65)
(5 + س) 2=10 2 + س2
25 + س2 + 10س=100 + س2
10س=75
س=7. 5
والذي توصلوا إليه في الجبر هو حل المعادلات من الدرجة الثانية، وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي أن عمر بن إبراهيم بسط حل المعادلات من الدرجة الثالثة، ولم نر ذلك فيما بين أيدينا من كتب المتقدمين كالياسمينية وخلاصة الحساب وشروحها، ولا ندري من عمر بن إبراهيم هذا هل هو الخيام الفيلسوف الفارسي المشهور أم غيره؟ وعلى كل فعسى أن يقيض الله لهذا السر من يكشفه.
هذه نبذة يسيرة من الجبر العربي يتضح منها أن هذا العلم وصل في عصور المدنية الإسلامية إلى شئ كثير من التجريد برغم فقدان الإشارات والرموز واستعمال الألفاظ الدالة على المجهولات دون اختزالها.
ولما انتقل الجبر إلى أوروبا بواسطة المسلمين عم استعمال الحروف بطبيعة الأمر وبتأثير بعض العلماء كفرنسوافيت (1540 - 1603) وديكارت.
أما الإشارات التي نستعملها اليوم فهي متأخرة الظهور، فإشارة الناقص (-) ترجع إلى القرن الثالث عشر، ولا يعلم أصلها ومصدرها، وإشارة الزائد (+) ترجع إلى القرن الرابع عشر، إذ شاع استعمالها في ألمانيا، على حين أن علماء إيطاليا ظلوا مدة يستعملون للزائد والناقص حرفي , من كلمتي ,
وأما إشارة المساواة=فهي من اقتراح العالم الإنجليزي سنة 1556، وقد اتخذها نيوتن وواليس، فعم استعمالها في إنكلترا، على حين أن ديكارت في فرنسا كان يستعمل هذه الإشارة ? وكثير غيره كانوا يستعملون لذلك خطين رأسيين متوازيين هكذا:
الأس أو قوة الرفع: أول من أشاع استعمالها على الشكل المعروف الآن ديكارت، ولكن منشأها يرجع إلى عهد أقدم من ذلك، وكان علماء هولندا يكتبون الأس في دائرة صغيرة فوق العدد المرفوع.
وأما إشارة الجذر الدالة على درجة الجذر فهي متأخرة أيضاً، فقد كان ديكارت نفسه(73/66)
يستعمل للجذر التربيعي هذه الإشارة: ? وللتكعيبي هذه: ? فحرف يدل على التكعيب الذي هو درجة الجذر من كلمة ومن المستبعد أن تكون هذه الإشارة كما يزعم البعض جيماً عربية مقلوبة (ح) اختزالاً لكلمة جذر، فليس لهذا القول من مؤيد تاريخي، وهاهي الكتب العربية القديمة في الرياضيات الموجودة الآن خلو منها.
الأقواس: هي كذلك متأخرة الظهور، ففي النصف الأول من القرن السابع عشر كانوا يضعون خطاً أفقياً فوق الحدود التي يراد أجراء عملية واحدة عليها، ولا يزال هذا الاستعمال في المجذورات
وأما الإشارات الثانوية كإشارة الضرب والقسمة فلم يتم وضعها كذلك إلا بعد ظهور الجبر الحديث.
ويرجع الفضل في ظهور الجبر الحديث إلى فرانسوا فييت، فهو أول من أجرى العمليات الجبرية مع استعمال الحروف والإشارات، وقد أراد أن يستبدل كلمة جبر (البربرية) كما يقول بكلمة تحليل ولكن هذه التسمية الجديدة لم تلق نجاحاً، وإنما بقيت كلمة تحليل منصرفة إلى فروع أخرى من الرياضيات.
وجملة القول أن ترقي الطريقة الرمزية في الرياضيات وذيوع الإشارات والرموز أدى إلى ترقٍ عظيم في العلوم الرياضية، بل إلى ظهور فروع جديدة كالهندسة التحليلية.
الهندسة التحليلية وحساب التوابع
إن علم الجبر أدى تدريجياً إلى استعمال الحروف للدلالة على المقادير إلى فكرة التتابع وقد كان اليونان كما تقدم يعبرون عن القيم العددية بأطوال هندسية، وبذلك تمكنوا من حل بعض المسائل الجبرية هندسياً، وهم وإن كانوا لم يتوصلوا إلى المفهوم العام للإحداثيات فدراستهم للقطوع المخروطية الناقص والزائد والمكافئ شبيهة جداً بالهندسة التحليلية، فقد كانوا بعد تعريف هذه القطوع ينسبون نقاطه إلى قطر أو محور، ويحصلون على علاقة بين الفاصلة والترتيب وعلى كل فإنهم درسوا خواص بعض المنحنيات بقصد حل المسائل، ولفقدان مفهوم الموجب والسالب للكميات لم يتمكنوا من التوسع في ذلك.
وهذه الفكرة أعني فكرة التتابع إنما وجدت واضحة للمرة الأولى في كتابات نيقولا اورسم في القرن الرابع، إلا أنه اقتصر على الكميات الموجبة. وقد كان لفرانسوا فييت أثر بيّن(73/67)
في رقي الهندسة التحليلية التي ظهرت ظهورها الرائع أخيراً على يد ديكارت سنة 1637، ومع هذا فقد احتوت هندسة ديكارت على مسائل تقريبية أو غير مضبوطة.
(3) وأما الرياضيات التطبيقية فهي متفرعة عما تقدم ذكره من أقسام الرياضيات ومتأخرة في النشوء والظهور، إذ أنها كانت مبعثرة مندمجة في العلوم التي كانت منبعها الأصلي، ولم تنسلخ عنها وتظهر بالصورة التي هي عليها الآن إلا في العصرين الأخيرين، هذا إذا استثنينا المثلثات التي اتسعت بقسميها المستوية والكروية منذ عهد قديم لشدة الحاجة إليها في الحسابات الفلكية. وللعلامة نصير الدين الطوسي كتاب في المثلثات الكروية اسمه شكل القطاع وقد اشتغل في هذا العلم غيره من المتقدمين كأبي ريحان البيروني وأبي الوفاء محمد البوزجاني وأبي جعفر الخازن وأبي فضل الله التبريزي، فقد ألفوا فيه كثيراً ووضعوا نظريات جمة هي من أهم نظريات هذا العلم. ومما هو جدير بالذكر في تاريخ المثلثات أن أبا ريحان البيروني هو أول من اعتبر نصف قطر الدائرة واحداً قياسياً في أبحاث المثلثات.
هذه صورة مجملة من تاريخ العلوم الرياضية يتبين لنا منها أن المدنية الإسلامية حلقة هامة من حلقات هذا التاريخ وركن أساسي عظيم في هذا البناء، فالمسلمون هم الذين وضعوا علم الجبر وحفظوا تراث اليونان، وهم الذين نقلوا عن الهنود الأرقام ونظام كتابتها المعروف اليوم، وتعهدوا كل ذلك بالعناية شرحاً وتهذيباً وتنقيحاُ وتوسيعاً، وأحدثوا كثيراً من الأوضاع، وتوسعوا في كثير من الأبحاث، ووضعوا كثيراً من النظريات، فكان لقريحتهم الفياضة أثر بين لا يزال العلم يحفظه لهم، ومآثر خالدة لا تني المدنية العلمية عن الإشادة بها، وبالجملة فليس من شك في أن ما خلدوه من الآثار في هذه العلوم كان تمهيداً مباشراً لما حدث فيها من التقدم والرقي في العصور الحديثة.
دمشق
محمد المبارك
بكالوريوس في العلوم(73/68)
البريد الأدبي
اليابان سنة 1934
تثير نهضة اليابان العسكرية والاقتصادية في الأمم الغربية أيما اهتمام وجزع، ذلك لأنها تسير بخطى الجبابرة، ولا تقف عند حد، وتحمل في طريقها كل شئ. كانت اليابان قبل خمسين عاماً فقط محصورة في جزائرها لا يزيد عدد سكانها على ثلاثين مليوناً؛ أما اليوم فهي إمبراطورية عظيمة، تسيطر على كوريا ومنشوريا وقسم من منغوليا، ويبلغ سكانها وسكان الأراضي التي تسيطر عليها نحو مائة وعشرين مليوناً.
وقد أصدر الكاتب الفرنسي موريس لاشان عن اليابان ونهضتها تحقيقاً جامعاً في كتاب عنوانه (اليابان سنة 1934) وفيه يلقي الضياء على بعض الحقائق المدهشة؛ فإن اليابان مثلاً ما زالت تجمع بين روحها وتقاليدها القديمة وبين روح الدولة الحديث؛ وما زالت صور الإقطاع والعبودية القديمة تثقل كاهل الشعب؛ والشعب ترغمه التقاليد والتراث الروحي القديم وحب الإمبراطور على الخضوع والطاعة، وهو يضطرم بنوع من الاشتراكية الوطنية. ويلاحظ الكاتب أيضاً أن قوى الشعب الياباني كلها، والإمبراطور، والجيش والبحرية، وأقطاب العهد القديم من جهة وقوى الرأسمالية، وكل الجموع البائسة التي يغص بها المعمل من جهة أخرى، كلها تعمل في نفس الاتجاه وبنفس الروح، ولنفس الغاية، وهي افتتاح أسواق الصين، والسيطرة على المحيط الهادئ، بل هي في الواقع غزو العالم كله؛ وقد غزت اليابان بالفعل جزائر الهند الشرقية، وأخذت تهدد قاعدة سنغافورة، وأستراليا، ووصلت تجارتها إلى شواطئ المحيط الهندي، ونفذت إلى بلاد الحبشة، وجازت مضيق عدن وقناة السويس، وانتشرت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
ويتوقع المسيو لاشان أن النزاع قد يضطرم عما قريب بين اليابان وأمريكا؛ ولكن يجب لاضطرامه أن يقع حادث ما؛ ومثل هذا الحادث قد يكون أول انتصار اليابان على الصين، أو انتصارها على الروسيا، أو تنازعها مع الصين والروسيا على تحقيق الإمبراطورية الكبرى التي تسعى اليابان إلى تحقيقها باسم الشعوب الصفراء، ذلك أن شعوب الصين المختلفة قد ترغم غداً على أن ترى في اليابان ما رأته الأمم الجرمانية من قبل في بروسيا، أعني زعيماً ومعلماً وقائداً.(73/69)
ذكرى العلامة الطبيعي بريم
تحتفل الهيئات العلمية الألمانية بالذكرى الخمسينية لوفاة العلامة الطبيعي الألماني الفرد أدموند بريم، وقد ولد بريم في تيرنجن في فبراير سنة 1829، وكان أبوه قساً يعنى بتربية الطيور ودرس خواصها، فنشأ ولده بريم شغوفاً بهذه الناحية من الدرس، وفي سن الثانية عشرة سافر إلى أفريقية مع البارون فون ميلر في رحلة علمية دراسية، ومر بالقاهرة يومئذ (سنة 1847) فصادف بها الزلزال الشهير الذي وقع فيها عندئذ وكاد يهلك؛ ثم سافرت البعثة إلى النوبة والسودان، واصطادت كثيراً من الحيوانات المختلفة؛ وعكف بريم على دراسة خواصها المادية والروحية، وفي أثناء عوده إلى القاهرة كانت بعثة (لبوبة) الشهيرة (بجيته) فكان يطوف بها الشوارع ذلولاً مطيعة، ثم عاد بريم من القاهرة بعد عامين إلى السفر مرة أخرى مع أخيه وزميل آخر، واعتزموا اختراق السودان حتى منابع النيل، ولكن البعثة كانت غير موفقة، إذ غرق أخوه في النيل، ونفدت موارد البعثة، وعندئذ أمده حاكم السودان لهتيل باشا بشيء من المال ليتابع رحلته على ضفاف النيل الأزرق، وهناك اصطاد كثيراً من الحيوانات وأنفق نحو خمسة أعوام في هذه الرحلة، واكتشف فيها كثيراً من الحقائق العلمية؛ ثم عاد إلى ألمانيا، وانكب على دراسة العلوم الطبيعية؛ ونال إجازة الدكتوراه من جامعة بينا في علم الحيوان سنة 1856 وانتخب عضواً في الأكاديمية البروسية الملكية، وأخذ منذ ذلك الحين يكتب عن حياة الحيوان؛ ثم قام برحلة في أسبانيا، وأخرى في لايلاند وجزائر لوفوثن؛ ثم قام برحلة أخرى في شمال الحبشة في سنة 1862، وكتب كتباً عن هذه الرحلات والمباحث كلها. ولما عاد إلى ألمانيا كتب مع زميلين له كتاباً مصوراً عن حياة الحيوان في ستة مجلدات اختص منها هو بأربعة؛ وعين مديراً لحديقة الحيوانات في برلين وهمبورج مدى حين. ولكن شغف البحث حمله مرة أخرى، فسافر إلى سيبيريا الشرقية، وكاد يهلك في هذه المرة، وسافر إلى أمريكا الشمالية سنة 1883، ولما عاد إلى ألمانيا لم يمكث طويلاً حتى توفي في 10 نوفمبر سنة 1884.
وكتاب بريم عن حياة الحيوان من أشهر الآثار وأقيمها في هذا الموضوع، وهو يعتبر أستاذ موضوعه في العلم الألماني؛ ولم يسبقه، بل ولم يأت من بعده أحد استطاع مثله أن ينفذ إلى روح الحيوان وإدراكه، وقد ترجم أثره إلى جميع اللغات.(73/70)
عيد الأكاديمية الفرنسية
مضى اليوم على تأسيس الأكاديمية الفرنسية ثلاثمائة عام كاملة؛ ذلك لأنها أنشئت في عهد لويس الثالث عشر، في أوائل سنة 1635؛ أسسها جماعة من النبلاء الأدباء برعاية الكردينال ريشيليو الحبر السياسي وزير لويس الثالث عشر، فكانت من خالد آثاره، وسيجري الاحتفال بهذه الذكرى بمنتهى البساطة، ويقام لذلك معرض في المكتبة الوطنية في شهر يونيه القادمة؛ وستعرض فيه طائفة من الوثائق الخطية الشهيرة الخاصة بالأكاديمية، ومنها مسودة الخطبة الأولى التي أعدها السيد بول هاي صاحب الشاتليه لإلقائها في أول جلسة للجماعة العلمية في 5 فبراير سنة 1635.
وقد تساءلت إحدى الصحف الأدبية الكبرى بهذه المناسبة عما إذا كان المسيو رنيه دوميك سكرتير الأكاديمية يقبل أن يضم هذا المعرض التذكاري بعض الصور الرمزية المضحكة التي أوحى بها تقاعد الأكاديمية عند إصدار (قاموسها) الشهير، وما وقعت فيه من الأغلاط النحوية، ومنها اللوحة الشهيرة التي رسمها (فيرتبير) وعنوانها (دفن قاموس الأكاديمية)؟
البترول من ماء البحر
كتب المهندس الفرنسي مسيو ساهير إلى الحكومة الفرنسية ينبئها بأنه وصل إلى طريقة لاستخراج البترول من ماء البحر العادي، وأنه على استعداد لأن يبيعها سر هذه الطريقة نظير 25 مليوناً من الجنيهات.
وقد قالت جريدة (الماتان) في تعليقها على هذا النبأ إن المهندس ساهير واثق كل الثقة من طريقته، وأنه دعا إلى معمله بمدينة (روين) بعض الخبراء في وزارة الحربية والطيران ليشهدوا التجربة.
وقال مسيو ساهير في حديث له مع مندوب (الماتان) أنه لاحظ أن المناطق الغنية بالبترول توجد بها عدة كميات كبيرة من الماء الملح. وأن هذه الملاحظة هي أساس الفكرة التي أوصلته إلى استخراج البترول من ماء البحر، لأنها دلته على أن الماء الملح لا بد أن يكون من العناصر الأساسية.
الأدب وسيلة للتفاهم الدولي(73/71)
أذاعت إحدى دور النشر الكبرى في برلين أنها تخصص جائزة قدرها عشرون ألف مارك (نحو 1500 جنيه) لمن يضع أحسن كتاب قصصي عن مسألة التفاهم بين فرنسا وألمانيا. والمفهوم أن إنشاء هذه الجائزة كان بإيعاز من وزارة الدعوة؛ وقد وافق وزير الدعوة الهير جيبلز على أن يكون الهر هانز بلونك رئيس الجمعية الاشتراكية الوطنية (الهتلرية) للكتاب الألمان هو الحكم الوحيد في فحص الكتب المقدمة وتخصيص الجائزة. وقد علقت الصحف الفرنسية على هذا النبأ بأنه من بعض أساليب الدعوة الهتلرية التي يراد بها إخفاء نياتها الحقيقية نحو الاستعداد للحرب.(73/72)
القصص
عمامة الأفندي
للأستاذ محمد سعيد العريان
طال بنا انتظار صاحبنا (المأذون) في هذه الليلة حتى دقت العاشرة ولم يجئ، وكنا نرقب مقدمه علينا كل مساء رقبة المشتاق، فما تخلف منذ عرفناه ليلة، وإنه ليقدم فيحل البشر ويستخفنا السرور، سرور النفس بدعابته، وسرور المعدة بحلواه؛ فقلما كان يوافينا إلا ومعه هدية من عرس نتوزعها بيننا. ولم يكن لمقدمه ميعاد، فإنه لعلى تجوال دائم يتأبط دفتره من دار إلى دار، رسول سلام وحب، أو رسول فرقة وقطيعة!.
وتوزعتنا الظنون من غيبته، وحسبناه قد أصاب الليلة حظاً من عرس، فبخل علينا بحلواه ومرق إلى الدار؛ فما كنا لنتركه حين يقدم علينا إلا فارغ الجيب من الحلوى وغير الحلوى مما يجمع من الأعراس، وما كان ليتركنا إلا فارغةً رءوسنا من كثرة ما نضحك من دعابته وهزله. وإنه لشاب ضُحَكَة جرئ على النكتة، ليس فيه زماتة الشيوخ من أهل هذه الطائفة.
وتهيأنا لاستقباله بفيض من النكات المصنوعة، لعلنا ننال منه لقاء ما كان يشبعنا كل مساء من عبث ودعابة؛ فقد كان له في كل ليلة هدف من الجلساء يتندر عليه ويتخذه ضُحْكَة فما ينصرف منه إلا مغضباً فيترضاه في غد!.
وجاء بعد قليل، فحيا وجلس، ولكنه كان عابساً مبهوراً ما يكاد جفنه يطرف؛ فحسبنا من وراء مظهره العابس نكتة مبتكرة، فما عهدناه يألم في الحياة لشيء، وإن الهموم لتصطرع عن يمينه وعن شماله.
وهممنا به نتناوله بما أعددنا له من عبث، فإذا كلماتنا تتساقط حواليه ولا تصيبه، وظل على حاله من الغضب والعبوس وسرت إلينا نفسه، وتقمصنا مما به روح الكآبة والوحشة؛ فأمسكنا عن الحديث لحظات.
ورفع الشيخ رأسه بعد هنيهة، وتحركت شفتاه بكلام، فتقصفنا عليه نستمع لما يقول
وسأل: (ما لديكم من أنباء صاحبنا عاطف؟).
قلنا: (لقد انقطع عن نادينا منذ زمان بعيد، فلعله على شغل ببعض شأنه؛ وإن لذات الحياة لحبيبة إليه، فما نراه قد منع لقاءنا إلا لهو آثره علينا، أو لذة دعته فلباها؛ أو لعله يتفيأ من(73/73)
دنياه الجديدة ظلال الحب والسعادة).
قال: (بل دنياه الجديدة، ولكن ليس فيها من السعادة والحب إلا ظلهما؛ ولكن مكابدة الأحزان، وألم الوحدة، ومشقة الحرمان، وظلام اليأس!).
ورنت كلماته في أذني رنيناً مفزعاً سمعت صداه في قلبي؛ فقد توثقت صلتي بعاطف صبياً وغلاماً وشاباً؛ فأي أمل كان يجيش في تلك النفس، وأي روح كان يحمل ذلك الجسد، وأي حيوية كانت تصطرع من ذلك الشاب!
فما كربني كرب ونظرته إلا عادت الحياة في عيني باسمة نضرة، وما أهمني هم فلقيته إلا تعلمت منه فلسفة الرضى بما هو كائن، وكان من بهائه وإشراق طلعته، إلى كماله وعفته - كأنه فتنة مستحيية. . .
وأخذ الشيخ يقص علينا من نبئه، ونحن نستمع إليه في صمت.
كان عاطف على ما انبسط له من النعمة، وما اتفق له من حسن الرأي - لا يؤمل في الزواج إلا من فتاة ذات مال. ولقد كان عجيباً عندنا أن يكون على هذا الرأي، وهو من نعرف من شباب الجيل الجديد؛ ولكنا لم نكن لنستطيع على ما نسرف في مهاجمة رأيه - أن نصرفه عن بعض ما كان يعتقد. وراح في سبيل غايته يبحث عن الزوجة الغنية على أبواب المجلس الحسبي. . .!
ووجدها بعد إذ جد فأعيا؛ ولم تكن جميلة، ولكنها كانت بعيدة عن الدمامة؛ وكانت جاهلة، ولكنها من بنات الحاضرة. وقد مات أبواها وخلفا لها قصراً وضيعة، وأخاً يقوم عليها وعلى الضيعة جميعاً.
واستوثق الفتى من غنى صاحبته، فأقبل يخطبها إلى أخيها وقد اجتمعت له الأسباب. وأدى المهر؛ مهر الضيعة والقصر والعروس. . وعقد له على فتاته.
لقد غبطناه يومئذ على النعمة، نعمة الثروة والجاه والزواج، وما عنانا كم دفع وكم أنفق؛ فقد كنا على ثقة بأن حبته مردودة إليه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. ورحنا نتهم أنفسنا بفساد النظر وأفن الرأي وسوء التدبير.
ومضى أسبوع، وشهر، وأشهر، وأوشك العام أن ينتصف. وعاطف متهلل الوجه، ضاحك السن، يحلم بالغد القريب يوم تزف زوجته إليه، وتزف ثروتها إلى خزانته. . . وسعى إلى(73/74)
صهره يستعجله، فإذا هو يبسط له المدى، ويفسح الأجل، ويستشفع بالتقاليد. . .
وعاد الفتى إلى نفسه يطمئنها ويترضاها. وما عليه من ذاك؟ أليست ستزف إليه لا محالة في يوم قريب أو بعيد؟ بلى؛ وإنها لزوجته، ما في ذلك شك ولا إنكار؛ فلا عليه أن ينتظر!
ودار دولاب الزمن فأتم دورة، وراح الفتى يستنجز صهره الوعد، فقابله وهو يبتسم، وبسط له وجهه ومجلسه، وأخذ يتنقل به في الحديث من فن إلى فن حتى زالت وحشته، وأنست روحه، فودعه ولم يظفر بجواب. . .!
وتولت الأيام بعضها في أعقاب بعض، وتصرمت الأشهر شهراً في اذيال شهر؛ وما يزال صاحبنا يراوح بين جنبيه في فراش الوحدة، وعروسها هناك من دونها الأبواب والحارس العتيد!
ومل الفتى مقامه، وضاقت به نفسه؛ فراح يطلب التعجيل في الزفاف فيلحف، وأخو الفتاة في هدوء مطمئن يبعد له الأجل ويتعذر بالظروف!
- (أي ظروف؟ لقد مر عامان مذ تزوجت، فمن لي على الحياة أحتمل بردها وحرورها وحدي، وما أنا عزب فأنطلق حيث أشاء، ولا زوج فآوي إلى بيتي ألتمس هدوء النفس وبرد الراحة!)
وعاد الأخ يعتذر ويجدد الميعاد، وهو يربت على كتف الزوج الغاضب.
وخرج عاطف من الدار والقدر تغلي في رأسه؛ لقد ابتدأ يعرف ما هنالك، ولكنه لم يجرؤ على التصريح. أيكون ذلك من قوانين البر، أهو كذلك ناموس الرحمة والعدل؛ أيعضل الأخ أخته فيحرمها الاستمتاع بالحياة من أجل المال، من أجل مالها الذي يخشى أن يفلت من يده إلى الزوج يتصرف فيه كيف يشاء! وما يضيره من ذلك وإن له لضعف ما تملك أخته المسكينة، وإن ماله ليكفيه ويفضل عن حاجته، ولكن. . . أين هو الفضل منذ سنوات؟
لكأنما هو مستخدم على أن يجمع المال فيبدده هنا وهناك، وما له من ذلك إلا اللقمة، وما تمتاز كثيراً من لقمة الفقير؛ وإلا الثوب، وإنك لترى الثياب الغالية يزهى بها من هم دونه من عامة الناس! أما فضل المال فله مصرف من وراء ذلك: على المرأة والكأس والقمار. . .(73/75)
وهم عاطف أن يعود فيصرخ في وجهه بما عرف من أمره وسوء تدبيره، ولكنه كظم الغيظ على ألم وضيق.
وتلاقيا بعد أيام، وكانت القدر ما تزال تغلي؛ فعلا الزبد يترشش مصرحاً عن غضب مغيظ. . وافترق الرجلان على خصومة وعداء. . .!
ودق عاطف باب المحكمة لعلها أن تحمل زوجته على (الطاعة)
أين هي المسكينة؟ وعلى طاعة هي أم على عصيان؟ إنه لم يرها إلا مرسومة في ورقة، أتراها في الأحياء، أم هي من وراء جدران سجنها جثة بلا روح، وجسد بلا عاطفة، وطاعة بلا إرادة، ومعدة بلا وجدان. .!
ويحك أيتها المسكينة! أتشعرين أنك في الأحياء؟ لعل في الموتى من هم أقرب منك إلى الحياة، لأنهم يعيشون من عواطف أهليهم في عواطف حية وحب مشبوب. .!
وفي المحكمة رأى الفتى عروسه لأول ما يراها، وقد جاءت تسعى عن أمر أخيها تطالب زوجها بالنفقة والكسوة والمأوى!
ياللسخرية! أضاق بها أخوها طاعمة كاسية من مالها عند! فيدفعها إلى القضاء تلتمس القوت واللباس. .!
وكان بينهما ما يكون دائماً بين زوجين يعرفان المحكمة الشرعية؛ وفي كل يوم بينهما جلسة للقضاء، وكل منهما يفتن في الكيد والإغاظة، والغالب منهما من ينال من صاحبه من غير عائدة عليه، والمال يتسرب من بين أيديهما للمحامي والكاتب ورسوم الدعاوى وأجر الشهود. .!
وامتدت بينهما الفتنة، ولجت بهما الخصومة، وطالت إجراءات التقاضي، وتصرمت سنوات. وأخذ الزوج المسكين يبيعما يملك قطعة بعد قطعة، وفاء لنفقة الزوجة ونفقة القضاء؛ وأوشك الزوج الذي راح يطلب الغنى من تحت أقدام امرأة أن تصفر يداه. . .!
واصطلحا في النهاية على الطلاق. . .!
قال المأذون:
(وقلت للفتاة: أأنت على نية إبرائه رغبة في الطلاق؟
وزاغت نظرة الضحية العذراء من هنا إلى هناك، حتى استقرت على الرجل الجالس(73/76)
هناك، ثم نكست رأسها. ولم تجب.
قلت: إنما أنت تفصلين في أمر مستقبلك، فليس هنا لأحد عليك سلطان.
فحدقت فيّ طويلاً كأنما تلتمس المعونة، ثم حولت النظر إلى أخيها فإذا في عينيه كلام طويل، فأطرقت وهي تقول في همس: (نعم لقد أبرأته. . . .!)
والتفت إليها الرجل يصوب النظر ويصعده، ثم نطق بالكلمة الفاصلة. . .!
وتحولت إلى الرجل فأنكرته، وأقسم لكأنما لم أكن أعرفه من قبل، وما كان في بالي أنه صديقي عاطف. لقد انطفأ بريق عينيه كأنما ينظر من خلف زجاجة؛ وغاض ماء الشباب من وجهه، فما تراه إلا كوردة الخريف؛ وقد أطلق لحيته، كأنما تركت لطمات القدر في عارضيه سواد حظه؛ وكانت في يده سبحة، أحسبه كان يحصي عليها همومه وأحزان نفسه؛ وما رأيت شيئأ أبيض - فيما رأيت - إلا عمامته. . .!).
قلنا: (عمامته؟. . عهدنا به لا يلبس إلا الطربوش. . .!).
قال: (نعم عمامته، فاستأنوا. . . قلت له: ما فعلت بك الأيام يا عاطف؟
قال: ذاك ما ترى. ولقد أقسمت أن أفرغ لله، فلم تعد لي في الزواج إربة، ولن تراني إلا بين المسجد والبيت حتى ألقى منيتي! حسبي، حسبي ما لقيت من دنياي. . .! وانكب على سبحته يتمتم والحبات تتساقط في الخيط واحدة فوق واحدة، ورأسه يهتز كأنه يقول: كذلك تتعاقب الأيام كما تتساقط الحبات حبة وراء حبة، حتى تكون النهاية، حتى يكون الموت. .! وما وجدت عندي جواباً إلا أن أتحول وأدعه حيث يجلس يداعب سبحته. أتراه كان يذكر الله، أم يسب الدنيا. . .!).
لقد راح المسكين يبحث عن الزوجة الغنية ليضاعف بمالها ماله، فآب فقيراً من مالها ومن ماله؛ وذهب يسعى لأن يضاعف بالزواج مسرات الشباب، فرده الزواج شيخاً في الثلاثين!
محمد سعيد العريان
صيد الغزال
بقلم: شفيق نقاش
في صباح يوم من أيام أغسطس العصيبة، كانت الغزالة ترعى في جبل البازين تقضم(73/77)
الأعشاب اللينة برقة وهناءة، وتلفت جيدها محدقة في فطيمها الصغير، ورفيقها الوحيد في هذه الوهاد القفرة، وهو مضطجع قريباً منها على فراش وثير من البجلة.
لقد أخذت البقع العفراء الساحرة تغشى جلده الناعم فتكسبه روعة وبهاء؛ فهي معجبة به، تحنو عليه، وتحيطه بنظرات العطف كلما بدرت منه حركة دلت على خوف أو ألم، وهو يتحفز للوثوب خلفها وجلاً كلما خطرت مبتعدة في طلب العشب.
صورة رائعة للأمومة التي تعطر جو الحياة الكئيبة، والثقة التي تخفف من شقائها.
رفعت الغزالة رأسها بسرعة البرق، هل سمعت صوتاً؟ ربما كان ذلك حفيف الرياح الجنوبية تخترق الغابة؛ فالسكون الرهيب مخيم على الوادي، والسكينة سائدة في كل مكان.
رنت الظبية بطرفها، وألقت نظرة اطمئنان على رشأها ثم تابعت رعيها. وفجأة رفعت جيدها واشرأبت تجيل الطرف في أنحاء الغابة، وهي ترتجف من الخوف. . . هناك صدى صراخ متواصل يخترق الوادي، أصغت قليلاً فتأكد لديها نباح كلب يدنو رويداً من كناسها الأمين.
كان الوقت كافياً لمرحلة طويلة تطويها مبتعدة عن الصيادين. ولكن وحيدها الظبي الألوف، وأنيسها في هذه الوحشة، فمن ينقذه؟ هو لا يستطيع اللحاق بها، فلمن تكل أمره، ولمن تتركه؟. . .
تنابحت الكلاب غير بعيد، وتجلى للغزالة الخطر المحدق بهما، فوثبت بعض خطوات إلى الوادي تبحث عن ملجأ أو مهرب! وهب رشأها مذعوراً وهو يبغم متعجباً.
أغربت الظبية ثم ألقت نظرة وراءها، فرأته يتتبعها بسيره البطيء، وهو يتعثر متألماً من الجذوع الخاوية على الأرض، والأشواك التي تعترض سبيله. تابعت الأم سيرها واستمر وحيدها لاحقاً بها يتعثر ويستغيث، لأن البون أصبح شاسعاً بينهما - كائن صغير من مخلوقات الله لا يقوى على احتمال الألم والخوف والتعب، فوقع على الأرض! تصايحت الكلاب وتقاربت، واشتد نباحها. وأحدق الموت بهذين البريئين من كل جانب؛ فدنت المسكينة من صغيرها تلحس بلسانها بشرته الرقيقة الناعمة، واضطجع هو آمناً بقربها، مطمئناً بعودتها، ثم ما لبث أن أغمض أجفانه من التعب.
فكرت الغزالة في تخليص صغيرها من مخالب الكلاب ورصاص الصيادين، وكأن صوتاً(73/78)
أهاب بها فرفعت رأسها، وفتحت منخريها، وحدقت طويلاً في مصدر الصوت، ثم نفرت مقتحمة الغابة، قاصدة ناحية أعدائها. ولما اقتربت منهم وتأكد لديها اكتشافهم لها واقتفاؤهم أثرها، غيرت وجهتها وشرقت بهم مبتعدة عن ولدها فأصبح في مأمن من الشر.
تضاءل النباح ورائها، فوثقت من فوزها، وولت وجهها شطر الشمال تود القيام بدورة تعيدها حيث تركت فطيمها، ولكنها ما عتمت أن سمعت صوتاً جديداً يقابلها، فانطلقت إلى الأمام تجتاز الوادي.
هذه صلصلة أجراس القرية تدوي في الفضاء، ويتجاوب صداها، لقد أصبحت على مقربة من أكواخ الفلاحين. هنا أيضاً أعداء جدد لم تحلم بهم. سدت في وجهها الطرق، وأغلقت المفاوز، وأحاط بها الصيادون من كل جانب - رحمتك اللهم! ألم تدع للشفقة مكاناً في ذلك الوادي الزاهر حين خلقته؟ ولا للرحمة موضعاً في تلك القلوب حيث كونتها؟
الكلاب تفاجئها من كل ناحية، وسكان القرية يطاردونها رجالاً ونساءً وأطفالاً، يود كل منهم لو يظفر بها غنيمة باردة.
تذكرت الظبية طلاها فتجدد أملها بلقائه، وسلكت طريق القرية مرغمة بين نبوح الفلاحين ودوي البارود.
اعترضتها بحيرة قريبة، فألقت نفسها في الماء تشق صفحته، وتسبح بقوة عجيبة، لقد خارت قواها، ولم تعد سيقانها الضئيلة تساعدها على المضي في طريق النجاة.
لكن الأمل العذب - سر الحياة - كان يهيب بها دائماً لاقتحام تلك الغمرات، حتى وصلت الشاطئ فأبرت مطمئنة، وتمثلت أنيسها يبحث عنها في وحشته، فهرعت تريد احتضانه، ولكن هل نجت المسكينة من هذا العذاب الطويل؟
صياد جديد كان يترصدها فاستقبلها برصاص بندقيته فوقعت جثة هامدة. .
(عن الإنكليزية بتصرف)
شفيق نفاس(73/79)
العدد 74 - بتاريخ: 03 - 12 - 1934(/)
دارٌ تَبلى!. . .
دار تَبلى! وكانت إلى الأمس القريب دار الأمة! عليها نزل وحي الوطنية، ومنها انبعث صوت الحرية، وفيها انبثق فجر النهضة، وبها وُلد معنى الاستقلال.
كانت ملجأ الخلافة في الآستانة، ومفزع الخديوية في القاهرة، ومخالفة الاستعمار في لندن، ومثابة الإسلام في العالم كله! تجمعت فيها للأمة رغائب، ونشأت بها للشباب آمال، وخفقت عليها للجهاد (ألوية)، وسمعت مصر في أفنيتها للمرة الأولى أصوات بَنيها الخُلَّص يهتفون باسمها، ويهزجون بمجدها، ويزفرون من الحفيظة لاستعبادها، ويستنجزون الغاصب المحتل وعدوه الممطول وعهده الفاجر! ثم كانت (عكاظ) للبلاغة الخطابية، و (فورم) للمساجلة السياسية، و (كعبة) يتجه أليها أبرياء الصدر من مخامرة الوطن، وأنقياء الصحيفة من ممالأة العدو تلك هي دار اللواء، ونادى مصطفى كامل!
تمر اليوم بمكانها من شارع (الدواوين) فتجد هذا الأثر الضخم والتاريخ الحافل تُعفيه الأحداث والنوازل! كأنها لم تكن في عهدها الداني قلب مصر النابض، وعزم نشئها الناهض، ومنارة أمرها الهادية! أتى البلى عليها أتُّى البلى فنكر أعلامها وأخفقت صداها! كأنها لم تنفض عن الوادي غبار الحمول، ولم تمسح عن الأجفان فتور الوسن! وكأن مصطفى لم يسجل على أركانها أول صيحة بالجلاء، وأول رغبة في الدستور، وأول غضبة للحرية!!.
ولكن الزمن الدوار القهار يحطم كل ما برأ الله وصور الناس من شخص وشيء، فلا يظهر على بأسه إلا الفكرة، ولا يخلد على رغمه إلا العقيدة.
ألا فاسلمى على رغم هذا البلى يا دار! فأن لك في كل قلب آية مسطورة، وفي كل تاريخ صفحة منشورة، وفي كل جيل نشيداً يعطف القلوب إلى الحق، ويلفت العيون إلى النور، ويهدي النفوس الشاردة إلى الغرض الأسمى والسبيل القصد.
ومن الذي ينسى ومضة الروح الإلهي في ذلك الجسد الضارع، فيفور فورة الجبارين، ويصمد صمود الرُسل، ويقوم في وحدة النبي وإيمان الشهيد يجاهد الإشراك بمصر، والكفران بالأمة، ويقارع بالحجج الثائرة الملزمة طغيان إنجلترا وهي يومئذ علة العلل ودولة الدول؟
أم من الذي ينسى خفقة التضحية القدسية في ذلك الشباب العليل، فيحرك ساكن شعبه(74/1)
بوجيب قلبه، ويضئ ظلام يومه بوميض روحه، ويذكى خمود عزمه بحرارة دمه، ثم يزهد في المال والجاه والحكم زهادة الحكيم، فيحيا للمبدأ والفكرة، ويموت للقدوة والعبرة؟
على إخلاص مصطفى وإيثار فريد وصدق سعد تسير اليوم هذه القافلة! حتى إذا كذب الرائد، ومكر الدليل، وخامر الحادي، انبلج في جوانب الطريق شعاع من هذه الأرواح البرَّة، فيجلو العمى، ويكشف الضلال، ويفضح المكيدة! وقد ماتوا رضوان الله عليهم ميتة الأنبياء، لا (عمائر) تحجب سماء المدن، ولا (دوائر) تشغل أرض القرى! لقد ملكوا وما تركوا! إنما ورثونا حفظ الكرامة وإن أرهقنا الظلم، وطلب الحرية وإن أجهدنا الطغيان، ورعاية الحق وإن خدعنا الباطل! كانت قافلتنا تسير باسم الله يا دار! تسير على ضوء من مبادئ الزعماء لا يخبو ولا ينكسر، فأصبحنا ذات يوم وإذا سيرها يثقل ونظامها يضطرب! فالتفتنا فإذا عصبة منا تسربلوا بالنار وتدرعوا بالحديد، ثم ولوا وجوههم إلى الخلف، وأخذوا بمؤخر القافلة جذباً وجراً، حتى لتكاد عواتقهم تهى، ومفاصلهم تنسرق، وانبث في الركب دعاة الرجعية وسماسرة الطغيان، يلبسون عليه الأمر، ويوهمونه أن هؤلاء هم القادة، وأن هذه الوجهة وعلى تلك الحال الأليمة لبثنا أربع سنين يتجاذبنا الوراء والأمام، ويتنازعنا النور والظلام، حتى ضعضع الصبر الأبى وثاقة الطاغية فخر صريعاً ليديه وفمه.
تقوض صرح الظلام والظلم أول أمس يا دار! فانتشر ما كان يحجبه من نور، وسرى ما كان يصده من نسيم، وعدنا إلى نهج الحياة شامتين بمن هوَوا من أعاليه وثوَوا تحت أنقاضه!
لقد أبلاه عدل الحوادث كما أبلاك ظلمها، وستبقى على الأبد آثارك المعنوية وآثاره! فأما آثارك فتبقى بركة على الناس، وحجة على البغي، وتفسيراً لمعنى البطولة؛ وأما آثاره فستبقى لعنةً في فم الدهر، ودمامة في وجه التاريخ، ووضاعة في كبر الإنسانية!
ألا فاسلمى على رغم هذا البلى يا الدار! فان لك في كل ذهن صورة، وفي كل نفس ذكرى، وفي كل غمرة من غمرات الجهاد روحاً تمسك القوى، وتلهم الصبر، وتعين على مخاوف الطريق!
احمد حسن الزيات(74/2)
قلت لنفسي. . . وقالت لي. . .
للأستاذ مصطفى الرافعي
قلت لنفسي: ويحك يا نفسُ! ما لي أتحاملُ عليك؛ فإذا وفيتِ بما في وسعك أردتُ منك ما فوقه وكلفتُك أن تسعى؛ فلا أزال أُعْنِتُكِ من بعد كمال فيما هو أكملُ منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وما أنفك أُجهدكِ كلما راجعك النشاط، وأُضنيك كلما ثابت القوة؛ فان تكن لك همومٌ فأناأكبرُها، وإذا ساورتك الأحزانُ فأكثرُها مما أجلبُ عليك. أنت يا نفس سائرة على النهج وأنا أعتسفُ بك، أريد الطيران لا السير، وأبتغى عمل الأعمار في عُمر، وأستحثُّك من كل هجعة راحةٍ بفجرٍ يمتد منه نهارٌ مضطرب؛ وكأنى لك زمن يُمادُّ بعضه بعضاً، فما يبرح ينبثق عليك من ظلامٍ بنورٍ ومن نورٍ بظلامٍ؛ ليهيأ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ من بعد، فتذهبي حين تذهبين، ويعيش قلبك في العالم سارياً بكلمات أفراحه وأحزانه.
وقالت لي النفس: أما أنا فإني معك دأباً كالحبيبة الوفية لمن تحب؛ ترى خضوعها أحياناً هو أحسن المقاومة. وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب، فكيف تدلني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم؟ ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك؛ فان لم تزد شيئاً على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا، وأن لم تدعها أحسن مما وجدتها، فقد وجدتها وما وجدتك، وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتاً صغيراً، ودنيا الآخر كالقرية الململمة، ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا. والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة؛ فما عانيته اليوم حركةً من جسمك، ألفيته غداً في جسمك قوة من قُوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها أيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووَشك انقطاعه منها - بمن خُلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعاتها ودقائقها وثوانيها؛ أفتُراه يغفل فيقدرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروباً من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمق أحمق إلى نهاية الحمق؟
أتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو لين هين مسوًّى تسوية؛ وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة. وأنت إنما تكد لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة؛ يا صاحبي ليس تعباً(74/4)
في حفر الأرض ولكنه تعب في حفر الكنز. إتعب يا صاحبي تعبك؛ فان عناء الروح هو عُمرها، فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم؛ وأحدهما عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش.
قلت لنفسي: فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء. وأن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بُنيت، ثم بناؤها كلما هدمت: فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معاً؛ وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مر يوم، أو عهد كاليوم، رأيت في مكانه إنساناً خيالياً كمسألة من مسائل النجاة فيها قولان. . .! فهو يحتمل تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر! وكم من اسم جميل إذا هَجَس في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان. . .!
أما والله إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابهاً في رأى النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين. وإني لأرى العالم أحيانا كالقطار السريع منطلقاً يركبه وليس فيه من يقوده. ورأى الغفلة المفرطة قد بلغت من هذا الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة (كالموظف تحت التجربة). فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من ألان؛ كأنه إذا عاش يتعلم الخير والشر، ويدرك ما يصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة - رجع من بعدها يعيش منتظماً على استواءٍ واستقامة، وفي إدراك وتمييز. مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يعد منها في أوهام الحياة أن رجلاً بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتاً في فراشه، بل وجوده مولوداً في فراشه. . .! وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم؟ يا هذا، ليس لمصباح الطريق أن يقول: (إن الطريق مظلم) إنما قوله إذا أراد كلاماً أن يقول: (هأنذا مضيء.) والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم؛ فان هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها. والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس. وبين كل شيئين مما يعتورُ الحيوانية كالخلو والامتلاء، واللذة والألم - تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس لتحطها من مرتبةٍ مرتبةٍ إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي.(74/5)
إعمل يا صاحبي عملك؛ فإذا رأيت في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله، بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك، ودعه يخلو وتضاعف أنت.
أنه ليوشك أن يكون في الناس ناسٌ (كالبنوك): هذه مستودعات للمال تحفظه وتخرج منه وتثمِّره، وتلك مستودعات للفضائل تحفظها وتخرج منها وتزيدها. وإفلاس رجل من أهل المال هو إطلاق النكبة مسدسها على رجل تقتله؛ ولكن إفلاس (بنك) هو إطلاق النكبة يدفعها الكبير على مدينة تدمرها.
قلت لنفسي: فما أشد الألم في تحويل هذا الجسد إلى شبه روح مع الروح! تلك هي المعجزة التي لا توجد في غير الأنبياء، ولكن العمل لها يجعلها كأنها موجودة. والأسد المحبوس محبوسة فيه قوته وطباعه؛ فان زال الوجود الحديدي من حوله، أو وهنت ناحية منه انطلق الوحش. والرجل الفاضل فاضل مادام في قفصه الفكري، وهو مادام في هذا القفص فعليه أن يكون دائماً نموذجاً معرضاً للتنقيح الممكن في النفس الإنسانية، تصيبه السيئة من الناس لتختبر فيه الحسنة، وتبلوه الخيانة لتجد الوفاء، ويكسر به البغض ليقابله بالحب، وتأتيه اللغة لتجد المغفرة؛ وله قلب لا يتعب فيبلغ منزلةً إلا ابتدأ التعب ليبلغ منزلةً أعلى منها، وله فكر كلما جهد فأدرك حقيقة كانت الحقيقة أن يجهد فيدرك غيرها. وقات لي النفس: إن من فاق الناس بنفسه الكبيرة كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة؛ إن الشيء النهائي لا يوجد إلا في الصغائر والشر، أما الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى فهذه حقائق أزلية وجدت لنفسها؛ كالهواء يتنفسه كل الأحياء على هذه الأرض ولا ينتهي، ولا يعرف أين ينتهي؛ وكما ينبعث النور من الشمس والكواكب إلى هذه الأرض، يشبه أن تكون تلك الصفات منبعثة إلى النفوس من أنوار الملائكة، وبهذا كان أكبر الناس حظاً منها هم الأنبياء المتصلين بتلك الأنوار.
ومن رحمة الله أن جعل في كل النفوس الإنسانية أصلاً صغيراً، يجمع فكرة الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، وقد تعظمُ فيه هذه الصفات كلها أو بعضها، وقد تصغر فيه بعضها أو كلها. ألا وهو الحب.
لابد أن تمر كل حياةٍ إنسانية في نوع من أنواع الحب؛ من رقة النفس ورحمتها، إلى هوى النفس وعشقها. وإذا بلغ الحب أن يكون عشقاً، وضع يده على المفاتيح العصبية للنفس،(74/6)
وفتح للعظائم والمعجزات أبوابها؛ حتى إنه ليجعل الخرافة الفارغة معجزة دقيقة، ويملأ الحياة بمعان لم تكن فيها من قبل، ويصبح سر هذا الحب لا ينتهي؟ إذ هو سر لا يدرك ولا يعرف.
أجهد جهدك يا صاحبي، فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحسبك، ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار، ولا بد للمرآة من ظاهر غير ظاهر الحجر.
قلت لنفسي: فما أشده مضضاً أعانيه! إن أمري ليذهب فرطاً. أكلما ابتغيت من الحياة مرحاً أطرب له وأهتز، جاءتني بفكرة أستكدُ فيها وأدأب. أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي. وهل أنا شجرة في مغرسها؛ تنمو صاعدةً بفروعها، ونازلةً بجذورها غير أنها لا تبرح مكانها. أو أنا تمثال على قاعدته؛ لا يتزحزح عنها إلا ساعة لا يكون تمثالاً، ولا يدعها حتى تدعه معاني العظمة التي نصب لها؟ وقالت لي النفس: ويحك! لا تطلب في كونك الصغير ما لي فيه؛ إن الناس لو ارتفعوا إلى السماء وتقلبوا فيها كما يسيح أهلُ قارةٍمن الأرض في قارةٍ غيرها، وابتغوا أن يحملوا معهم مما هناك تذكاراً صغيراً إلى الأرض - لوجدوا أصغر ما هنالك أكبر من الأرض كلها. فأنت سائح في سموات.
أنت كالنائم؛ له أن يرى وليس له أن يأخذ شيئاً مما يرى، إلا وصفه، وحكمته، والسرور بما التذَّ منه، والألم بما توجع له.
لن تكون في الأرض شجرةٌ برجلين تذهب هنا وههنا، ولكن الشجرة ترسل أثمارها يتناقلها الناس، وهي تُبدع الثمار إبداع المؤلف العبقري ما يؤلفه بأشد الكد وأعظم الجهد، مطلقة ضميرها في الفكرة الصغيرة، تعقدها شيئاًثم يعود عليها بالزيادة، ولا تزال كل وقت تعود عليها، حتى تستفرغ أقصى القوة، ثم يكون سرورها في أن تهب فائدتها، لأنها لذلك وُجِدت.
إن في الشجرة طبيعة صادقة لا شهوة مكذوبة، فالحياة فيها على حقيقتها؛ وأكثر ما تكون الحياة في الإنسان على مجازِها، وشرط المجاز الخيال والمبالغة والتلوين. ولكن متى اختار الله رجلاً فأقر فيه سراً من أسرار الطبيعة الصادقة، ووهب له العاطفة القادرة التي تصنع ثمارها - فقد غرسه شجرة في منبتها لا مفر ولا مندوحة. وقد يخيل له ضعف طبيعته(74/7)
البشرية أحياناً أن نضرة المجد التي تعلوه وتتألق حوله كشعاع الكوكب - هي تعبه وضجره، أو أثر إنخذالهِ وألمهِ ومسكنته. وهذا من شقاء العقل، فانه دائما يضيف شيئاً إلى شيء، ويخلط معنى، ولا يترك حقيقة على ما هي؛ كأن فيه ما في الطفل من غريزة التقليد، والعقل لا يرى أمامه إلا الإلهية، فهو يقلدها في مداخلة الأشياء بعضها في بعض، لإيجاد الأسرار بعضها من بعض.
ومن ثم كانت الحقيقةُ الصريحةُ الثابتةُ مدعاة للملل العقلي في الإنسان، لا يكاد يقيم عليها أو يتقيد بها، فما نال شيئاً إلا ليطمع في غيره، وما فاز بلذة إلا ليزهد فيها، وأجل ما أحبه الإنسان مع كل صواب من جزء من الخطأ، فان هو لم يجد خطأ في شيء اِئْتفكَ لنفسه الخطأ المضحك في شبه رواية خيالية.
إنه لشعر سخيف بالغ السخافة أن يتخيل الغريق مفكراً في صيد سمكةٍ رآها. . . ولكن هذا من أبلغ البلاغة عند العقل الذي يبحث عن وهم يضيفه إلى هذه الحقيقة ليضحك منها، كما يبحث لنفسه أحياناً في أجمل حقائق اللذة عن ألم يتألم به ليَعبَسَ فيه!
قلت لنفسي: فهل ينبغي لي أن أحرق دمي لأني أفكر، وهل أضل دائماً بهذا التفكير كالذي ينظر في وجه حسناء بمنظار مكبر لا يريه ذلك الوجه المعشوق إلا ثقوباً وتخريماً كأنه خشبةٌ نزعت منها مسامير غليظة. . .! فلا يجد المسكين هذه الحقيقة إلا ليفقد ذلك الجمال. وهل بُدٌ من الشبه بين بعض الناس وبين ما ارْتصد له من عمل؛ فلا يكون الحوذيُّ حوذياً إلا لشبه بين نفسه وبين الخيل والبغال والحمير. . .؟
وقالت لي النفس: إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب، فخذ لكل شيء أداته، وكن جاهلاً أحياناً، ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف، ولولاه لهلك الأنبياء والحكماء والشعراء غماً وكمداً، ولكانوا في هذا الوجود، على هذه الأرض، بين هذه الحقائق - كالذي قيد وحبس في رهجٍ تثيره القدم والخف والحافر؛ لا يتنفس إلا الغبار يثار من حوله إلى أن يقضى عليه
اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة؛ فأنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح، واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات: (هذا ليس لي؛ هذا لا ينبغي لي).(74/8)
إن الروح الكبيرة هي في حقيقتها الطفل الملائكي.
وعِلمُ خسائس الحياة يجعل للإنسان في كل خسيسةٍ نفساً تتعلق بها، فيكون المسكين بين نفسين وثلاث وأربع، إلى ثلاثين وأربعين، كلهن يتنازعنه فيضيع بهذه الكثرة، ويصبح بعضه بلاءً على بعض، وتشغله الفضول، فيعود لها كالمزبلة لما أُلقى فيها، ويمحق في نفسه الطبيعية حس الفرح بجمال الطبيعة، كما يُمحق في المزبلة معنى النظافة ومعنى الحس بها.
هذه الأنفس الخيالية في هذا الإنسان المنكود، هي الأرواح التي ينفخُها في مصائبه، فتجعلها مصائب حية تعيش في وجوده وتعمل فيه أعمالها، ولولاها لماتت في نفسه مطامع كثيرة، فماتت له مصائب كثيرة.
انظر بالروح الشاعرة، تَرَ الكون كله في سمائه وأرضه انسجاماً واحداً ليس فيه إلا الجمال والسحر وفتنة الطرب، وانظر بالعقل العالم، فلن ترى في الكون كله إلا مواد علم الطبيعة والكيمياء.
ومدى الروح جمال الكون كله؛ ومدى العقل قطعة من حجر أو عظمة من حيوان، أو نسيجةٌ من نبات، أو فلذةٌ من معدن، وما أشبهها.
أجهل جهلك يا صاحبي؛ ففي كل حسنٍ غزلٌ، بشرط ألا تكون العاشق الطامع، وإلا أصبت في كل حسنٍ هماً ومشغلة. . .!
قلت لنفسي: إلى الآن لم أقل لك ذلك المعنى الذي كتمته عنك.
وقالت لي النفس: وإلى الآن لم أقل لك إلا جواب ذلك الذي كتمته عنى. . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(74/9)
3 - محمد بك المويلحي
الأستاذ عبد العزيز البشري
تتمة في نشأته ودراسته
لقد عرفت مما قصصنا عليك أن هذا الرجل وإن نشأ عظامياً بما لبيته
من الغني والحسب، فقد نشأ عصامياً بما حصل من العلم والأدب. اتكأ
على نفسه فأكب على الكتب دائرها ومجفوِّها. ولعل أكثر نظره إنما
كان في كتب التاريخ والسير، ولو قد وقع لك صدر من آثار أبيه
وآثاره لرأيت لهما في مواطن الاستشهاد فطنه عجيبة، إلى دقائق
دقيقة، مما يعلق بزوايا التاريخ أو بحواشيه، قل أن يفطن لها أكثر
القارئين، وقل أن يحفل بها أو يعلقها من يفطن إليها من الدارسين.
على أنها قد يكون لها في دواعي الكلام مقام عظيم، وكثيراً ما ترفعه
درجاتٍ على درجات.
كذلك اعتمد محمد في تحصيل العلم والآداب على الاتصال بصدور أهل الفضل يصاحبهم
ويلابسهم، ويلازم مجالسهم، ويشهد محاضراتهم ومقاولاتهم. كذلك داخل رجال الحكم وأصحاب السياسة في مصر وفي الآستانة فعرف أساليبهم، وأدرك مذاهبهم. ولم ينكسر على هذا وهذا؛ بل لقد صاحب كذلك أهل الظرف وأصحاب البدائه وشاركهم في أسمارهم، ودخل معهم في مناقلاتهم ومنادراتهم.
وعالج البيان من صدر شبابه، يصقل له أبوه القول، وبقرب له مصطفى اللفظ، ويأخذه بتجويد النسج، ويهديه إلى مضارب العلم. وسرعان ما نضج وأدرك، وجرى قلمه بالبيان حلواً متيناً نيراً، ووقع من فنون المعاني على أجلها وأكرمها. ونهج لنفسه أسلوباً خاصاً به إن تأثر فيه بأحد، فبالأسبقين من أعلام الكتاب فكان منه بذلك كله الأديب التام.
واحترف صنعة القلم، واشترك في تحرير جريدة المقطم بضع سنين على ما أضن. ولا(74/10)
أحسبه قد شارك أباه في تحرير الصحف التي أخرجها في عهد المرحوم الخديوي إسماعيل، فتاريخها إن لم يكن أبعد من مولده، فهو أبعد في أرجح الظن، من حمله القلم والله أعلم!
وكان أبوه، رحمة الله عليهما، كثير الاختلاف إلى الآستانة مثوى الخلافة يومئذ، فكان يصحبه في بعض هذه الرحلات، وقلد إبراهيم بك في زمن السلطان عبد الحميد منصب المستشار لوزارة المعارف العثمانية، وأقام فيه بضع سنين، لعلها تسع إن صدقتني ذاكرتي؛ فقضى محمد في الآستانة هذه السنين.
ولما اعتزل المرحوم إسماعيل باشا إمارة مصر، وآثر المقام في إيطاليا دعا بإبراهيم بك ليؤنسه ويسامره، ويخدمه في بعض مساعيه عند السلطان. فحمل معه ولده وأقاما في نابولي في قصر إسماعيل بضع سنين. ومن هنا تدرك كيف حذق محمد لغة التليان.
ولقد طاف كثيراً ببلاد أوربا، إما موفداً من أبيه في بعض مساعيه، وإما متفرجاً متنزهاً. وله في وصف مؤتمر باريس سنة 1900 مقال بارع بديع، كان ينشر منجماً في مصباح الشرق وطاف كذلك بالبلاد السورية، وزار المدينة المنورة ووصف القبر الشريف أحسن وصف وأبدعه، ونشره في جريدة المؤيد.
واستقر المويلحيان أخيراً في مصر ما يبرحانها إلا للنزهة والرياضة. وأصدر صحيفة
(مصباح الشرق). وقد مرت بك صفتها في أول مقال. ثم طواها كما ذكرت لك، واعتكف في داره لا يلى عملاً عاماً: حتى عين في سنة 1910 رئيساً لقسم الإدارة والسكرتارية في ديوان (عموم) الأوقاف، وأزيل عن هذا المنصب بعد إذ قامت الحرب العظمى، وتبدلت الحال، لأسباب لا يحتمل ذكرها هذا المقال. فعاد إلى اعتكافه لا يتدلى إلى البلد إلا في قضاء حاجة، أو مساهرة من يستطيب مجالستهم من الصحاب، وظل كذلك إلى الشكاة التي مات فيها، عليه رحمة الله. وكانت وفاته في يوم 10 مارس سنة 1930.
أخلاق المويلحي وعاداته:
قبل أن أطرق هذا الباب من مسيرة الرجل يحسن بي أن أقرر أنه لم يكن على حظ من نطاقة اللسان؛ بل لقد كان يعتريه في بعض الحديث ما يشبه الحبسة؛ بل لقد تتعثر الكلمة في حلقه فلا يستطيع أن يلفظها إلا بمط عنقه، كأنما يمرئ لها مجرى الصوت.
ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله أنه كان أقل خلق الله تأثراً بما يغمر المرء من متعارف(74/11)
الناس ومصطلحهم في عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم؛ بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حكمه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من هذه الأحكام، لا يبالي أحداً، ولا يتأثر، كما قلت، بأثر خارجي، ولو كان مما انعقد عليه إجماع الناس، وإذا كنت قد نعته (بالفيلسوف) فإنما أعنى هذه الصفة فيه. فإنني لم أكد أرى رجلاً لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل بحكم ملابستي له السنين الطوال.
ولقد كانت له آراء في كثير من الأشياء لقد تبدو غربيةً حتى يظن أن في طريقة تفكيره شيئاً من الشذوذ والانحراف. وما أُحيلُ هذا إلا على أنه لا يخف لمطاوعة الناس في كل ما يستوي من الإدراك للناس!
ثم لقد كان رجلاً يرجح عقله ذكاءه. وإنه ليحتاج في تفهُّم دقائق المعاني إلى شيء من المطاولة والتدبير. على أنها بعد هذا تتسق لذهنه مدركة ناضجة، لا كما تخطر لحداد الذكاء (خطرة البرق بدا ثم اضمحل)!
كذلك كان مما يلفت النظر في شأن المويلحي أنه شديد الإستيحاش من الناس، فلا تراه يستريح بالحديث إلى من لا يعرف منهم ولم يألف، ولقد يكون في مجلس يجمع الصفوة من خلانه، ومعهم رجل لا يعرفه، فإذا هو يفتر وينقبض حتى يكاد (وحش في المجلس). وعلى هذا لقد كان يكره، بالطبع، الدخول في زحمة الناس، والترائي للجماهير، وما إلى هذا من مقتضيات الظهور. ومن أجل صفات هذا الرجل حدة العزم، وقوة الصبر، وشدة الحمل على النفس. فما إن رأيته يوماً شاكياً ولا مظهراً للبرم بالحياة مهما كرثه تصرف الحياة. ولقد يكثر المال في يده فيبسطها، إلى ما يقرب من السرف في النفقة في حاجاته، وإصابة ما يحلو له من المتسع واللذائذ. ولقد يرق المال في يده، فيلزم داره الشهرين والثلاثة لا يبرحها أبداً، متجملاً في عامة شأنه بما عنده مهما يبلغ من القلة، لا يسأل أحداً عوناً ولا يطالع الصديق بحاجة.
كذلك كان من أجل صفاته الصدق في القول، ولقد عاشرته ما عاشرته، فما أذكر والذي نفسي بيده، أنني أحصيت عليه كذبة واحدة قط، ولا من ذلك النوع الذي يتورط فيه المرء في مصانعة الناس ومجاملتهم، فان ألحت التقاليد عليه في شيء من هذا سكت أو ورّى.(74/12)
ولقد أذكر أنه قابل ولي الأمر الأسبق في يوم من أيام رمضان، فسأله أصائم أنت يا محمد بك؟ فأجاب من فوره (والله ما أكذبش عليك يا أفندينا)! فضحك ملء شدقيه من هذا الجواب.
ثم لقد كان، رحمه الله، شديد العناية بالنظافة في جميع ملابساته، متأنقاً عظيم التأنق في كل شيء، يحب الزهر ويكلف به، ويحسن تأليفه وتصنيفه، ولا يمس إلا أزكى العطر وأغلاه وكان شديد الاحتفال للطعام، مبالغاً في التأنق فيه. ولربما طالع طاهيه المرات العديدة في مطبخه، يتقدم إليه بأن يفعل بهذا اللون كذا وكذا، ويصنع بتلك الصفحة كيت وكيت، وهو بهذا حق خبير. فإذا قُرِّب إليه طعامه اجتمع له اجتماع شهوانٍ يلتذ به أيَّما التذاذ. على أنه مع هذا كان حسن الأكل، يلتزم في تناوله ومضغه وإزلاقه أعلى الآداب.
وكان رجلاً طباً، كأن طول تمرينه في النقد الكتابي قد طبعه على النقد في كل شيء، وأنضج ملكته فيه، فلا تراه يتخذ شيئاً في أي سبب من أسبابه إلا إذا فحص ونقد تخيّر، فما يكاد يخدع على أمر أبداً!
وهو، بعد، يحب النكتة البارعة ويحتفل لها. على أنه إذا وصل المجلس بينه وبين أصحابه ممن حذقوا هذا الفن ويرعوا فيه من أمثال المرحومين السيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، ومحمد بك رأفت، لم يكن في الغالب هو المنشئ للنكتة والمبتكر لها. ولكنها ما تكاد تسقط من فم غيره حتى يتولاّها بالتخريج والمط والتوليد والتلوين؛ فما ينتهي أحد في ذاك منتهاه.
ومهما يكن من شيء فان هذا الرجل كان من أوسع الناس علماً بطباع المصريين وأخلاقهم وعاداتهم ومداخل أمورهم، على اختلاف طبقاتهم وتفاوت مراتبهم. فإذا تحدث في هذا الباب فحديث المتمكن الخبير. ومما ينبغي أن يذكر له، ويختّم به هذا الحديث، أنه رجل لم يجد الإلحاد ولا الزيغ إلى قلبه السبيل؛ بل لقد كان مؤمناً شديد الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والحمد لله رب العالمين. فان رأيت منه شيئاً من الانحراف في تخريج مسألة جزئية من مسائل الدين، فأحِل الأمر على مجرد الخطأ في الاجتهاد والتأويل. رحمه الله واسعة، وغفر لنا وله، وأحسن جزائه في دار الجزاء.
عبد العزيز البشري(74/13)
صفحة من التاريخ
مأساة وقعة انبابة
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
علة الشرق هاهي: حاكم يسطو ويعبث بالقطيع الذي هو حارسه، ويبطش به بطش الذئب إذا عدا في غيبة الحارس الأمين، فتجفل الشياه ذات اليمين وذات الشمال. ويتقدم من هنا أو من هناك كلب جريء يحاول أن يدفع الغائلة عن شياهه. فإذا هو يرى سيده الحارس هو الذي يبطش ويفتك. فيضع ذيله بين رجليه، ويكتم عواءه في حنجرته، ويجري إلى ناحية يكشر عن أنيابه منفرداً وهو متخاذل مهدود العزيمة. لو كان ذلك العادي ذئباً حقيقياً لما وضع الكلب المسكين ذيله بين رجليه، بل لرفع ذيله وعدا عامداً إلى رقبة ذلك الذئب وأنجى منه القطيع. فأما والذي يفتك بالقطيع هو حارسه، وأما والذي يبطش به هو الرجل الذي اعتاد أن يحمل هراوة ويسطو بها على رأسه يكاد يحطمه، فأمر آخر. وللكلب كل العذر إذا هو التمس العافية في مهرب من مهارب المرعى، أو في مكمن من مكامن الوادي. ولا لوم عليه إذا هو فعل. كان (خوارزم شاه) حاكم خوارزم (أو بلاد ما بين سيحون وجيحون) في أوائل القرن الثالث عشر المسيحي، حاكماً جباراً عاتياً. وكان لا يتردد عن مظلمة، ولا يحجم عن إيقاع. فكم مثلَّ بتجار من بلاده، وسجن وعذب ونهب. وكم مثل بتجار من بلاد جيرانه التتار، وسجن وعذب ونهب. ولم يقف أذاه عند هذا الحد، بل تعدى إلى الدولة التي هو حاكمها، ففت في عضدها وخضد شوكتها، وحطم عودها حتى صارت بلاده شعباً مشدوهاً وحكومة منحلة مضيعة.
ثم كانت الكائنة التي لابد منها في بلاد مثل بلاده، فأغارت جيوش جنكيز خان على أطرافها فعجمتها، فإذا هي رخوة جوفاء، فتقدمت فيها وأوغلت، فلم تجد من الطاغية إلا جباناً، ولم تر منه إلا حرصاً على نفسه وماله وأهله. فما هو إلا أن رأى الجد من أعدائه، وأحس بما كان لابد منه من ضعف ومن عجز، حتى ترك البلاد وهرب إلى مأمن ليلتجئ أليه، وبقى الناس حيارى بعد هربه يحاولون الدفاع وما لهم به من قوة، ويرجون النجاة وأنى لهم ذلك وقد اقتلع الطاغية جذور القوة من الشعب لتلين له قناته، فلانت قناة الشعب له حقيقة، ولم يستطع أن يقاوم طغيانه ما بقى للطغيان، حتى إذا ما أتاه العدو وألفى نفسه(74/15)
عاجزاً، ترك ذلك الشعب المسكين وهو أعزل ذليل عاجز عن حماية نفسه. فكانت الكارثة، وذهب الطاغية وشعبه كلاهما ضحية لعواقب الطغيان.
هذه سُنة الطغاة أبداً، وهذه سنة الكون منذ نشأَ. وما كان للقرن الثامن عشر أن يحيد عن سنة الكون التي نكبت خوارزم في القرن الثالث عشر. فقد كانت مصر في القرن الثامن عشر تحت طاغيتين من طغاة البشر: مراد وإبراهيم، وكانا كسائر الطغاة قصيرة النظر مفلولي العزيمة، لا همة لهما إلا في صغائر الأمور والأنانية. ولسنا بسبيل وصف ما كان عليه حكمهما من الميل والاعوجاج، ولا ما كان عليه خلقهما من الشناعة والفظاعة، فقد يكون لهذا حديث آخر، وإنما نقصد من كلمتنا هذه وصف حال البلاد عندما أزمت الأزمة التي كان لا محيد عنها، ووقعت النكبة التي كان لابد منها من وراء حكمها.
جاء الفرنسيون إلى ثغر الإسكندرية، وأصبح الصباح وإذا أهل ذلك الثغر يرون الجنود يخالطونهم، ويترددون فيما بينهم. وكان الفرنسيون يحملون سلاحاً عجيباً غريباً، لا عهد لأهل الثغر به، فما كان عهدهم بالجنود إلا هؤلاء (الانكشارية) الذين يقيمون في القلاع بين ظهرانيهم يدخنون الشبقات الطوال، ويطولون شواربهم، ويعلون أصواتهم بالسباب، ويمدون أيديهم بالأذى، ولا يحملون من السلاح إلا تلك البنادق العتيقة الرثة التي أكلها الصدأ وعفي عليها القدم.
وتقدم الانكشارية نحو الجنود الفرنج ليدفعوهم عن الإسكندرية، فما هي إلا جولة قصيرة حتى رموا بما في أيديهم من الأسلحة العتيقة، وهرب من استطاع منهم الهرب إلى حيث يجد لنفسه مأمناً.
ورأى أهل الإسكندرية إن هؤلاء الجنود ليسوا سوى شوكة في جوانبهم في السلم، فإذا حل الحرب فهم لا يدفعون أذى ولا يرجى منهم غير الأذى. فوقفوا بعضهم يشجع البعض، وأحدهم يساعد الآخر، يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم الحماية بسواعدهم. فتحصنوا في المنازل وجعلوا في كل ركن متراساً، وفي كل حائط مرصداً. غير أنهم واحسرتاه أرادوا الدفاع ولم يستطيعوه، فإذا بالعدو يحصدهم حصداً، ويدك بيوتهم دكاً، ويجتاح متاريسهم اجتياحاً. فسلموا للعدو ونزلوا على حكمه، وصار الفرنسيون في ساعة أصحاب الإسكندرية.(74/16)
ثم تقدم الجيش الفرنسي المنصور إلى طريق القاهرة، وسمع طاغيتا الدولة بسيره، فأجمعا أمرهما على أن يسير مراد ليلقاه، فيشتت شمله بصدمة من صدمات فرسانه الشجعان. وخرج من القاهرة منتفخ الأوداج كبراً، ممتلئ النفس إدلالاً وغروراً. وجعل الناس يُسائلون أنفسهم ماذا عساه يفعل، ويأبى هو إلا أن يرد بالازدراء على ذلك التساؤل قائلاً: (سنحطم ذلك الجيش المغير تحت سنابك خيولنا) وسار حتى بلغ شبراخيت أو قريباً منها، وهنالك لاحت له طلائع الجيش الفرنسي. ثم كان الاصطدام، ولطم لطمة خفيفة فلم يصبر عليها، بل هرب فزعاً، واضمحلت كبرياؤه، وذاب إدلاله كما يذوب الثلج في الحر، وأسرع راجعاً إلى العاصمة لعله يأتنس بمن هنالك من جنود زميله إبراهيم، أو ينتصر بمن هنالك من الشعب المصري الذي طالما أوقع به في طغيانه وجبروته. فلما بلغ مصر وقف ببقايا جيشه عند
(انبابه)، وأرسل إلى القاهرة يستنجد ويستمد، فنودي على أهل القاهرة بالنفير والتجهيز للدفاع. وهكذا لم يجد الطاغيتان أخيراً أن لهما غنى عن الشعب، وعلما بعد أن وقعت الواقعة أن الملجأ الأخير إنما يكون إلى هؤلاء العامة، وقد كانا في أيام السلم لا يقيمان لهم وزناً ولا
يفكران فيهم إلا من أجل أموال يبتزانها، أو من أجل كبريائهما يغذيانها، أو من أجل نفسيهما الطاغيتين يشبعان شهوة طغيانهما.
ولكن كان الشعب واحسرتاه قد قتله الطغيان: فأجاب دعوة النفير وجعل يستعد للدفاع، ولكنها إجابة المضني الذي أجهده الضنى، واستعداد النزيف قد خارت قواه من طول ما أريق من دمائه، فما يكاد يعتمد على رجليه حتى يخر إلى الأرض مهدوداً متهالكاً.
أغلق الناس (دكاكينهم) وهجروا أسواقهم، وخرجوا جميعاً إلى بولاق يجمع بعضهم من بعض ما عندهم من المال الضئيل، فأما من عنده فضلة من ماله فقد تطوع بالإنفاق على غيره، وبذل السلاح والطعام لمن يحتاج إليه. وهم في كل ذلك يتلفتون لعلهم يرون هؤلاء الألي كانوا بالأمس يشمخون بأنوفهم عتوا وكبراً، فلا يجدون إلا باحثاً منهم عن أمر نفسه، أو منهمكا في نقل متاعه وأمواله إلى حيث يكون آمناً عليها من النهب أو المصادرة.
وأبصر الناس ذلك فلم يثنهم عن التقدم نحو واجبهم وهم في غير عدة. لا بل ما هو أكثر(74/17)
من ذلك، قد تقدموا وهم غير أكفاء ولا مدربين في أمور الحرب، إذ طالما قد وقف الطغاة بينهم وبين أداء حق الدفاع عن الوطن، خوفاً منهم أن يجعلوا لهم في أمر بلادهم رأياً، أو في حكم وطنهم شأناً. وتقدم شعب مصر نحو الجهاد الوطني، وأكثرهم أعزل لا علم له بالحرب، ولا بما تستلزمه من جهد أو من دربة. حتى لقد خرج بعضهم بالنبابيت، لا يحسبون ذلك إلا مغنياً عنهم في معمعان ذلك الجهاد.
ووقف الطغاة ينظرون ما صنعت أيديهم، ومع ذلك لم تنفطر قلوبهم أسى مما يشهدون، ولم يبخعوا نفوسهم على آثار ما اجترمت حكومتهم في البلاد. بل ظلوا وهم (حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم. محترقون لشأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم).
وقدم جيش فرنسا بعد قليل إلى انبابة، فتقدمت إليه جماعة من العسكر ليصدم الجيش المغير مرة أخرى بهجمتها العنيفة. فدفعوا الخيل في صدر الجيش المقبل، ولكن لشد ما عجبوا إذ رأواذلك الجيش، لا يتمزق لصدمتهم، ولا ينصدع من هجمتهم، فعادوا مذعورين، وستة آلاف من الجيش الفرنسي تضرب في اقفائهم، حتى بلغوا متاريس مراد بك، فانضموا إليه وقد دب الرعب في قلوبهم.
سار الجيش الفرنسي المتقدم وراء المنهزمين، وانقسم على أسلوبه وطريقته، ثم دار على نظامه وخطته، فإذا متاريس مراد بك محصورة وسط نيران الجيش الفرنسي، وإذا النار تنصب على المصريين من خلف ومن قدام. وكان فزع، وكانت مذبحة، وما هي إلا ساعة أو أقل من ساعة، حتى انجلى الغبار وارتفع القتام عن حطام الجيش المصري، بعضها ملقى فوق اليابس، وبعضها يتخبط في ماء النهر، وفلول أسارى في أيدي العدو، والنقع الثائر من جهة الجنوب يخفي وراءه الطاغية (مراد)، وهو هارب نحو الجيزة حرصاً على حياته.
وسمع من في الجانب الشرق من النيل بضجة الحرب، ورأوا ما اندلع فيها من لهب، وما تردد فيها من قصف يشبه قصف الرعد، فلم تثبت نفوسهم بما لا عهد لهم به، وإن كانوا حريصين على أن يجاهدوا ويجالدوا، وخانهم الجلد وإن كانت نفوسهم تواقة إلى أن يثبتوا ويصبروا. والذعر متى استولى على النفس، لم يبق فيها محل لثبات ولا لصبر، ولم يترك(74/18)
في القلب موضعاً لحفاظ ولا لحمية. فركبوا رءوسهم وهاموا على وجوههم، بعضهم ناج بنفسه لا يلوي على شيء، وبعضهم استطاع أن يثبت نفسه ليخرج بأهله وحرمه، وأقبل عليهم الليل، وهم فوضى مشردون مشدوهون، يحسبون كل ضجة صوت مطارد، ويخشون أن يكون كل متردد في الظلام عدواً مقبلا بسفك الدماء وهتك الأعراض. وهكذا شهدت أهرام مصر كيف تتم للطاغية جريمته بنكبة شاملة، لا يبقى فيها بر ولا فاجر، ولا يسلم منها الظالم ولا الضحية
محمد فريد أبو حديد(74/19)
صحف مطوية من التاريخ الإسلامي
3 - العرب في غاليس وسويسرا
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمة البحث
أتينا فيما تقدم على أخبار الغزوات والمستعمرات المسلمة في غاليس ولومبارديا وسويسرا منذ أواخر القرن الثامن الميلادي حتى جلاء المسلمين نهائياً عن تلك الوهاد والسهول في أواخر القرن العاشر، ونحاول الآن أن نعرض طرفاً من العوامل والظروف التي أحاطت بتلك الغزوات، وطرفاً من الآثار التي خلفتها في البلاد والأمم التي كانت ميداناً لها.
ينكر بعض مؤرخي الغرب على تلك الفتوحات والغزوات العربية والإسلامية بوجه عام خاصة الاستقرار والإنشاء، ويقولون إنها كانت في الغالب حملات ناهبة تقوم على رغبة الكسب وتحصيل الغنائم، ولا ريب أن ظمأ المغنم، وشغفالمغامرة، وما إليها من لذة الاستكشاف والسيادة كانت من أهم العوامل التي قامت عليها هذه الغزوات؛ وتلك هي العوامل الخالدة التي تقوم عليها فتوحات الأمم منذ أقدم العصور؛ ولكن من الحق أيضاً أن نقول إن نزعة الجهاد لم تكن بعيدة عن تلك الغزوات، وإن كثيراً من أولئك المغامرين البواسل كانت تحفزهم الحماسة الدينية وفكرة الجهاد في سبيل الله؛ وقد كانت هذه العصابات الغازية المستعمرة تعمل في الغالب لحساب نفسها، ولكنها كانت تعمل ملحوظة بعطف الحكومات والأمم الإسلامية التي تنتمي إليها، وكانت تؤدي إلى تلك الحكومات خدمات جليلة بما كانت تقوم به من إزعاج الحكومات والأمم النصرانية وإضعاف جيوشها ومواردها، ومن المحقق أيضاً أن نزعة الاستقرار والإنشاء لم تكن بعيدة عن أذهان الغزاة، بل كان يحفزهم مثل ذلك الروح الاستعماري القوي الذي دفع الأمم الغربية في العصر الحديث إلى افتتاح الأمم المتأخرة واستعمارها؛ وقد استقروا بالفعلواستعمرواحيث مهدت لهم الكثرة والقوة سبل البقاء، كما فعلوا في أقريطش، حيث استقروا بها بعد افتتاحها، زهاء قرن وثلث القرن (827 - 961م) ونشروا بها الإسلام والحضارة الإسلامية؛ وكذلك استقروا مدى حين في بارى وفي تارانت من ثغور إيطاليا الجنوبية، وفي راجوازا(74/20)
(رغوس) من ثغور الأدرياتيك الشرقية، وكان لهم على شواطئ قلورية (جنوب إيطاليا) مستعمرات زاهرة لبثت حلية هذه المياه عصراً. هذا ولسنا نتحدث عن دولة الإسلام في إسبانيا، ولا دولة الإسلام في صقلية، لأننا نخص بهذا الحديث غزوات الجماعات والعصبات المسلمة التي كانت تعمل لحساب نفسها مستقلة عن الحكومات.
ويبالغ المؤرخون الغربيون أيضاً في تصوير الآثار المخربة لتلك الغزوات الإسلامية، وما كانت تقترن به من ضروب العنف والسفك، ولكن العنف والقسوة والسفك والتخريب لم تكن خاصة بالغزوات الإسلامية، وإنما كانت من خواص العصر ذاته؛ ولم تكن الغزوات النصرانية للأراضي الإسلامية أقل عنفاً وسفكاً؛ ويكفي أن نشير هنا إلى الحملات الصليبية التي لبثت مدى عصور تحمل إلى الأمم الإسلامية أروع صنوف الدمار والسفك؛ بل يكفي أن نشير إلى ما كانت ترتكبه البعوث الاستعمارية الحديثة، والإنكليزية والفرنسية، في الدنيا الجديدة من صنوف القسوة والسفك، وما ترتكبه اليوم بعض الأمم الأوربية (المتمدنة) من الجرائم المروعة في أفريقية وآسياباسم المدينة والاستعمار.
والآن لنر ماذا خلفته الغزوات الإسلامية في هذه الأنحاء من الآثار المادية والاجتماعية. ومن المحقق أن هذه الآثار لا تكاد ترى اليوم، ولا يشعر بها إلا الباحث المنقب، ويلاحظ أولا أن الفتوحات العربية الأولى في غاليس وأكوتين لم يطل أمدها أكثر من نصف قرن، ولم تكن الحضارة الإسلامية في أسبانيا قد تكونت وتفتحت بعد. ثم كانت الغزوات اللاحقة التي فصلنا أخبارها، والتي كانت أقرب إلى المغامرات المؤقتة منها إلى الفتوح المستقرة، فلم تتح للغزاة فرص الاستقرار والعمل السلمي، لأنهم كانوا في مراكزهم النائية متفرقين يشغلون قبل كل شيء بالدفاع عن مراكزهم وأنفسهم. بيد أن هذه الغزوات المحلية المتقطعة، وهذه المستعمرات العربية النائية خلفت وراءها في الأراضي المفتوحة بعض الآثار الهامة المادية والمعنوية. ومن ذلك ما كشفته المباحث الأثرية منذ القرن الماضي على شواطئ خليج سان تروبيه من أطلال الحصون العربية القديمة التي كانت قائمة في تلك الأرض، والتي لا تزال قائمة في بعض آكام الألب الفرنسية والسويسرية، وهي تدل على ما كان للغزاة من الحذق والبراعة في
فن التحصينات والمنشآت الحربية؛ وهنالك في جنوب فرنسا، وفي بعض أنحاء إيطاليا(74/21)
الشمالية والجنوبية، عدد كبير من الأبراج القائمة فوق الآكام والربى، يدل ظاهرها على أنها كانت تستعمل لأغراض حربية؛ ويرى البعض أن هذه الأبراج إنما هي آثار عربية من مخلفات الغزاة، كانت تبني لعقد حلقات الاتصال وتسهيل حركات الدفاع فيما بينهم؛ ومن المعروف أن العرب منذ فتوحاتهم الأولى في سبتمانيا (لا نجدوك) أعنى منذ أوائل القرن الثامن، كانوا ينشئون في الأراضي المفتوحة حصوناً وأبراجاً تسمى (بالرباط). بيد أن فريقاً آخر من الباحثين يرى بالعكس أن هذه الأبراج إنما كانت من إنشاء أبناء الأرض المفتوحة، أقاموها أيام اشتداد خطر الغزوات العربية ليستعينوا بها على رد الغزاة.
وقد ظفرت المباحث الأثرية أيضاً بالعثور على كثير من القطع الذهبية والفضية (المداليات) في أنحاء كثيرة من لا نجدوك وبروفانس، وثبت أنها من مخلفات العرب، وأنها كانت تستعمل للتعامل مكان النقود، ولكنها لا تحمل اسماً ولا تاريخاً، ولا يمكن تعيين عهد سكها، وإن كانت بذلك تدل على أنها ترجع إلى عصر الغزوات الأولى. ووجدت أيضاً في الأعوام الأخيرة في منطقة تور سيوفٌ ودروع قبل إنها عربية من مخلفات الواقعة الشهيرة التي نشبت في تلك السهول بين العرب والفرنج (بلاط الشهداء)
ومن الحقائق التي لاشك فيها أثر العرب في الزراعة؛ فقد رأينا أن كثيراً من الغزاة تخلفوا عن إخوانهم واستقروا في تلك الأرض وزرعوها. ومن المعروف أن العرب حولوا وديان إسبانيا المجدبة إلى حدائق وغياض زاهرة، ونقلوا إليها مختلف الغراس من الشرق، وأنشئوا بها القناطر العظيمة؛ وقد حمل هؤلاء الغزاة المغامرون إلى جنوب فرنسا كثيراً من خبرتهم الزراعية، ونقلوا لسكان تلك الأنحاء؛ ويقال إن (القمح الأسمر) الذي هو الآن من أهم محاصيل فرنسا إنما هو من مخلفات العرب، وهم الذين حملوا بذوره وكانوا أول من زرعوه بفرنسا؛ والمرجح أيضاً أنهم هم الذين حملوا فسائل النخيل من إسبانيا وأفريقية إلى شواطئ الريفييرا. ومن آثارهم الصناعية، استخراج (القطران) الذي تطلى به قاع السفن ويحميها من العطب، فهم الذين علموه لأهل بروفانس، وما زال عندهم من الصناعات الذائعة، ومازال اسمه الفرنسي ينم عن أصله العربي.
ومن الحقائق الثابتة أيضاً فضل العرب في تحسين نسل الخيل في تلك الأنحاء، ومازال في جنوب فرنسا جهات تشتهر بجمال خيولها ونبل أرومتها، ولا سيما في (كاماراج)، وفي(74/22)
مقاطعة (لاند) من أعمال غسقونية؛ ومن المحقق أن هذه الخيول الأصيلة الجميلة إنما هي من سلالة الخيول العربية التي أحضرها الفرسان المسلمون معهم إلى تلك الأنحاء. ولا ننسى ما للدم العربي من أثر في بعض أنحاء جنوب فرنسا، فقد رأينا العرب أنشئوا بعض المستعمرات الزراعية وتزوجوا من نساء تلك الأرض وتناسلوا فيها؛ ولما تغلب عليهم النصارى، وأخرجوا نهائياً من تلك الأرض، تنصر كثير منهم ممن أسروا، وأرغموا على افتداء حياتهم وأسرهم بالتنصر؛ وقد لبث أبناء هؤلاء العرب المنتصرين عصوراً في تلك البلاد، يشتغلون بالزراعة والتجارة، حتى جرفهم تيار التطور واندمجوا أخيراً في المجتمع النصراني، واختفت كل آثارهم وخواصهم العربية.، وما زالت ثمة في بروفانس في وادي الرون على مقربة من ليون، كذلك في بيجور على مقربة من جبال البرنيه، جماعات فرنسية تتكلم لهجات غريبة، ولها أخلاق وتقاليد خاصة، ويظن البعض أنها ترجع إلى أصل عربي؛ ولكن البحث يرجح أنها ترجع إلى بعض قبائل النور الذين استقروا في تلك الأنحاء منذ عصور.
هذا، وأما عن الآثار الاجتماعية، فانه يلاحظ في بعض جهات بروفانس التي استقر فيها العرب مدى حين، أن لسكانها بعض التقاليد الخاصة، ومن ذلك أنواع معينة من الرقص، يظن أنها ترجع إلى أصل عربي. أن أعظم آثار العرب الاجتماعية في جنوب فرنسا، يبدو في تطور الحركة الفكرية في العصور الوسطى، فقد كان للعرب أثر عظيم في تكوين النزعة الشعرية في الجنوب، وظهر أثر هذه النزعة واضحاً في الحركة الأدبية التي تعرف بحركة التروبادور والتي ظهرت في جنوب فرنسا وفي شمال أسبانيا وشمال إيطاليا منذ القرن الحادي عشر، وقوامها القريض الحربي والغنائي، وزعماؤها فرسان شعراء وفنانون. أضف إلى ذلك أن تأثير الحضارة الإسلامية في سير حضارة أوربا الجنوبية لم يقف عند هذا العصر ولا عند هذه الحدود، فقد استمرت العلائق بعد ذلك طويلاً بين مسلمي الأندلس، والأمم النصرانية المجاورة، وكان للحضارة الأندلسية في تطورها الاجتماعي أعظم الآثار.
ولقد لبثت ذكرى العرب وذكرى الغزوات العربية في فرنسا تثير مدى القرن الثامن في نفوس النصارى أعظم ضروب السخط والروع، وتقدمها إلينا الرواية الكنسية المعاصرة في(74/23)
أشنع الصور؛ فلما ظهرت عصابات النورمان والمجر، وغزت فرنسا من الشرق والغرب، رأى النصارى من عيثهم وسفكهم أهوالاً لا تذكر بجانبها أهوال الغزوات الإسلامية، وارتفعت ذكرى العرب، وأضحت تقترن بكل ما هو عظيم ضخم، يقول رينو: (إن ذكرى الغزوات النورمانية والمجرية لا توجد إلا في الكتب. ولكن ما السر في أن ذكرى العرب مازالت ماثلة في جميع الأذهان؟ لقد ظهر العرب في فرنسا قبل النورمان والمجر، واستطاعت إقامتهم بها بعد الغزوات النورمانية والمجرية. وإن غزوات العرب الأولى ليطبعها طابع من العظمة، حتى أننا لا نستطيع أن نتلو أخبارها دون تأثر. ذلك أن العرب، دونالنورمان والمجر، ساروا مدى آماد في طليعة الحضارة؛ ثم انهم لبثوا بعد أن غادروا أرضنا، موضع الروع في شواطئنا، وأخيراً لأن المعارك التي اضطلعوا بها أيام الصلبين في إسبانيا وأفريقية وآسيا، أسبغت على أسمهم بهاء جديداً. بيد أن هذه العوامل كلها قد لا تكفي لتعليل المكانة العظيمة التييتبوأها الاسم العربي في أوربا وفي أذهان المجتمع الأوربي. إما السبب الحقيقي لهذه الظاهرة المدهشة، فهو الأثر الذي بثه قصص الفروسية في العصور الوسطى، وهو أثر لا يزال ملموساً إلى يومنا.
محمد عبد الله عنان المحامي(74/24)
في يوم ماطر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كانت السماء مطبقة على الأرض، والمطر يسح حثيثاً متداركاً يكاد من شدته يقشر القطران، والماء يسيل على جانبيالطريق ويتدافع ويرتفع له مثل الموج، وكان أمام نافذتي بوابة عريضة وقفت على عتبتها فتاة تتقي المطر في ظُلتها. وكانتترتدي ثوباً مشرقاً بين الحمرة والبياض كأنما استعارت صبغته المزدوجة من الشمس الغاربة والقمر الطالع. وكانت فيه كأنها مِقطَعٌ أو مثال فصل الثوب على قده لعرضه على العيون، فمحاسنها كلها مجلوّة، وخطوط قوامها اللين مرسومة، وقد أجتمع طرفان منه على سرتها وانعقد على صفة وردة كبيرة، وتدلتعلى مدار خصرها الهضيم ذلاذل تكاد تمس قدميها الدقيقتين؛ أما صدرها فأطاف به شيء لا أدري ما صفته كان ثديها الناهدان يبدوان من تحته كأنهما في كأسين، أو كأنهما موجتان متناوحتان حجزتا وحيل بينهما وبين التسرب والانسياب. ولم يكن أفتن من منظرها وهي واقفة ترقب انقطاع المطر، وكان معي في البيت صاحب يحمل مظلة جميلة غالية، لا تفارق يده في صيف شتاء، ولا ليل ولا نهار، فكأنها قطعة منه، أو امتداد لذراعها، فغافلته وحملتها، ومضيت بها إلى هذه الفتاةووضعتها في يمينها، وارتددت عنها بلا كلام. فلما أفاقت من دهشتها كنت قد غبت عن عينها. وآن لصاحبي أن يخرج، فنظر فلم يجد المظلة، فتلفت هنا وهنا ثم سأل فقلت: (أترى هذه البوابة؟ كانت هنا فتاة جميلة تخشى على نفسها وعلى ثيابها من المطر فلم يسعني إلا أنجدها. . .). فسأل: (أعطيتها المـ. . . .
قلت: (ألم أقل لك إنك ذكي؟ بل أنت أيضاً ذو مروءة ونجدة وشهامة).
قال: (ولكن مظلتي؟ كيف أخرج الآن. . . . وفي هذا المطر أيضاً؟).
قلت: (إنها بلا شك تشكر لك هذا الصنيع الجميل، فأنت سعيد بذلك، فليتني كنت صاحبها - أعني المظلة!).
قال: (ولكن ماذا أصنع؟ كيف أخرج؟ إن هذا شيء. .). قلت: (يا صاحبي. إن الإيثار حميد، ولأثرة ذميمة).
فقال: (تعطي مظلتي لفتاة؟ أما إن هذا لغريب!).(74/25)
قلت: (يا صاحبي. لو رأيتها لما قلت (فتاة) بهذه اللهجة التي أنكرها ولا أرضى عنها. إنها فتاة رائعة. وإني لرجل متزن الأعصاب في العادة، ولكني أرجو أن تثق أنها فتنتني. وإني لآسف على حرمانك هذه المظلة الثمينة - أو التي كانت ثمينة منذ أربع سنوات - ولتكن عليك أن تتعزى بأن التي تحملها الآن أجمل فتاة على ظهر هذه الأرض، وأنك أنت سبب سعادتها في هذه اللحظة، وأن اسمك سيخلد في التاريخ، وأنى لو كنت شاعراً لقلت أبياتاً أخلد فيها صنيعك الحسن هذا، وإن أبنائي سيحفون بي كل ليلة ويطلبون أن أقص عليهم كيف فقد صاحبي العظيم مظلته الغالية. . .).
ولم أتم خطبتي لأنه خرج مغضباً، فأمسكت وحمدت الله!
وحمل إلى البريد رسالة غريبة هذا نصها بعد الديباجة المألوفة: (إن ما أقرأه لك يحملني على الثقة بأنك لن تخيب رجائي فيك. فهل لك أن تقابلني أمام باب (جروبي) الساعة السابعة من مساء اليوم؟ ولا أجرؤ أن أبدو لك حتى تبدو لي، فإذا صدق ظني فيك فلعلك تتفضل بأن تضع في عروتك زهرة من زهور (الأرواله) البيضاء، لأعرفك بها، وزيادة في الحيطة أرجو أن تقول لي (لا مطر غداً) فأقول لك (لم ولماذا وكيف يكون ذلك) فلا تنس).
ولم يكن على الرسالة توقيع، فلم أشك في أنها فتاة مصرية لم تألف أن تدخل (جروبي) وتجلس في حديقته، ولكنها تسمع باسمه فهي تقف عند بابه، فما يعقل أن يكون كل هذا الحرص والحذر من رجل، واطمأنت نفسي بعد أن خلصت إلى هذه النتيجة، وشكرت الحظ الذي أبعد عني صاحبي قبل أن تردني هذه الرسالة، بدقائق، ولو أنه كان معي لأطلعته عليها بلا أدنى ريب، ولكان المحقق أن يسبقني إلى باب (جروبي) فيطردني بوجوده، عنه. واشتريت الزهرة المطلوبة، ووضعتها في العروة، وأخرجت منديلاً وظلت أرفع يدي به وهو منشور إلى أنفي لأحجب هذه الزهرة عن العيون، فقد كانت كبيرة وأنا أخجل أن أضع على صدري زهراً ولو كان في حجم الحمصة، ووقفت بباب جروبي أتأمل الداخلين والداخلات، والخارجين والخارجات، وأشاور نفسي وأسألها كيف أقدم على خطاب من لا أعرف؟
ولم يكن ثم بد من الإقدام، فما اشتريت الزهرة البيضاء الكبيرة وغرستها فوق حبة قلبي(74/26)
لأعرض نفسي على الأنظار، فتوكلت على الله، على أنى - كما لا أحتاج أن أقول - أهملت العجائز وتركتهن يرحن ويجئن كما يشأن دون أن أكلف نفسي حتى النظر إليهن، وأقبلت فتاة رشيقة تتلفت كالمترددة فتمنيت أن تكون هي ودنوت منها وقلت:
(معذرة. واغتفري لي تطفلي، لا مطر غداً!).
فنظرت إلى باسمة وقالت:
(باردون؟).
فقلت لنفسي: (ليست بها. وقد غلطت والله يا ولد، فاخرج من هذا المأزق بسرعة) فتبالهت وسألتها بغير العربية:
(إنما كنت أسأل هل هذا جروبي؟).
فقالت وهي تبتسم: (طبعاً. . . الاسم مكتوب. . .)
فبلعت ريقي وشكرتها وارتددت عنها.
وأقبلت أُخرى أعذب منها - بلا شك - وأظرف على التحقيق، وأولى بأن ترؤف بي إذا غلطت فيها، وكانت تتأمل إعلانات وصوراً لشركة بواخر هناك، فدعوت الله أن يجعلها من نصيبي، وأقبلت بلا تمهيد:
(مطر غداً)
فقالت بعربية محطمة، استحى أن أثبتها بنصها: (شيء غريب! متأكد؟)
قلت: (ثقي بي. أني نشرة جوية متنقلة. . . مرصد إنساني متجول. . .)
قالت: (ظاهر. . أشكرك. . .)
قلت: (هذا واجبي. . . فلا أستحق شكراً)
قالت: (إنك تؤديه بذمة. . لقد رأيتك الآن تخاطب سيدة هناك. . . وهذه أخرى آتية، فاسمح لي ألا أحول بينك وبين عملك)
قلت: (لم يكذب ظني)
قالت: (كيف؟)
قلت: (كنت موقناً أنك أظرف من تلك التي هزئت وأخجلتني)
فسألتني: (هل أنت على موعد مع مجهولة؟)(74/27)
قلت: (أصبت. . .)
قالت: (مسكين!. . لعلها هذه) وأشارت فالتفت فإذا فتاتي - أعني الفتاة التي تفضلت عليها بمظلة صاحبي، فقلت:
(اخفيني عنها لحظة حتى تمر. . . تظاهري بأنك صديقتي دقيقة واحدة. . أرجو)
فضحكت وقالت: (لماذا تخشاها؟ هل خنت لها عهداً؟ لا بأس. تعال)
ووضعت ذراعها في ذراعي وهممنا بأن نسير، وإذا بفتاتي تصيح ورائي:
(من فضلك. . . من فضلك. . . ألا تذكرني. . إني مدينة لك بالشكر، لقد تركتني فجأة كما ظهرت لي فجأة، فلم أدر أين اختفيت، فهل تسمح لي باسمك وعنوانك لأعيد إليك المظلة؟)
فقلت: (هذا شيء تافه. . . لا تفكري فيه)
قالت (ولكني لا أستطيع أن أبقيها عندي وأحرمك)
قلت: (ثقي أنك لا تحرميني شيئاً فأنها ليست لي، بل لصاحب)
قالت: (ما أرقه!)
قلت: (إنه على نقيض ذلك. . أبعد ما يكون عن الرقة)
قالت: (هذا أدعى لردها إليه)
قلت: (لقد انتهى الأمر. سرقت مظلته وأعطيتك إياها، وعرف ما كان، وغضب وشال نفسه وحطها، ولم يبق هناك شيء آخر يمكنه أن يصنعه، فلا تكترثي له ولا تفكري فيه)
قالت بعطف: (مسكين!)
قلت: (لقد كنت أنا المسكين، وكانت هذه المظلة تفقأ عيني كلما رأيتها، فالآن أمنت، وفي وسمي أن ألقاه وأنا مطمئن، من غير أن يؤذي بصري منظر المظلة)
قالت وهي تضحك: (على كل حال لابد من ردها إليه ولك وله الشكر)
فكتبت لها الاسم والعنوان، ولم يفتني أن أحذرها من مقابلته، ولم يبق بعد ذلك ما يقال، فهممت بتوديعها وإذا برجل همٍ هرم يدنو مني وينظر إلى الزهرة التي على صدري ثم يقول وهو يفرك كفيه:
(هل سمعتك تقول لا مطر غداً!)
فحدقت فيه متردداً، ثم رفعت يدي إلى الزهرة فأخرجتها من العروة ورميتها على الأرض،(74/28)
فلم ينهزم وقال:
(لم ولماذا وكيف يكون ذلك؟). فكاد عقلي يطير، فتناولت ذراعي الفتاتين وأوليت الرجل ظهري ومضيت بهما عنه، وهما ذاهلتان تنظران إلي ولا تفهمان، غير أن هذا لم يمنع الرجل أن يمشي ورائي وهو يصيح:
(لم ولماذا وكيف يكون ذلك؟)
فقلت لفتاتي: (لم يبق إلا أن نجري، فهل تقدران على ذلك؟)
وجرينا مسافة ونحن نضحك، فلما أمنا أن يدركنا وقفنا وقصصت عليهما الخبر، فسألتني فتاة المظلة:
(ولكن ماذا يريد منك؟)
قلت: (لا أعرف، ولا أحب أن أعرف. .)
قالت: (ألا يحسن أن تتبين؟)
قلت: (أتبين؟ أليس حسبي ما منيت به من خيبة الأمل. ومع ذلك قد عوضني الله خيراً. . . هيا بنا لنستريح. . .)
إبراهيم عبد القادر المازني(74/29)
بين فن التاريخ وفن الحرب
10 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
خطة خالد
لاشك في أن خالداً كان يقدر حرج الموقف في قتاله أهل اليمامة. وكان يعلم أنه مقدم على أمر يتوقف عليه نجاح الإسلام أو خيبته. فالبلاد وعرة، والقرى فيها منيعة، والناس ملتفتون حول داعيهم، معتصمون بحيهم، وعددهم كثير، وسلاحهم يضرب به المثل
لذلك لم يقدم على الحركة قبل أن تصله النجدة الموفدة من المدينة. وأراد أن يمهد سبيل الظفر بالتدابير السياسية وذلك:
أولاً - باستمالة التميميين في اليمامة إلى جانبه
ثانياً - بتفريق رؤساء سجاح عن مسيلمة
وثالثاً - باستخدام المسلمين من بني حنيفة للمشاغبة على مسيلمة
والأخبار تدل على أنه أرسل الكتب إلى التميميين ليتركوا جانب مسيلمة فوفق إلى ذلك، كما أنه ساق قوة خيالة لمقاتلة رؤساء سجاح الثلاثة وهم عقة وهذيل وزياد، ففرق رجالهم واضطرهم إلى العودة إلى حي بني تغلب في الشمال. وأن المسلمين من بني حنيفة ثاروا على مسيلمة وشاغبوا عليه، ولعل عكرمة بن أبي جهل أراد أن يستفيد من المشاغبين فقاتل رجال مسيلمة فلم ينتصر، وكانت الأخبار تأتي خالداً وتنبئه بما في اليمامة
أما خطته العسكرية فكانت ترمي إلى الزحف إلى اليمامة على أقصر طريق، والهجوم على جيش مسيلمة أينما لقيه
عاد خالد من المدينة إلى البطاح في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية، وكان الجيش(74/30)
مجتمعاً فيها ينتظر أمر الحركة. وقضى خالد مدة قصيرة في البطاح يترقب ورود المدد من المدينة، فكانت القبائل تمد جيشه برجاله، فالتحق به رجال من بني أسد وتميم وبني عامر، وكانت الأخبار ترد إليه من اليمامة منبئة بأحوالها. وآخر من وصل إليه ابن عمير اليشكري فأطلع خالداً على جلية الأمر في اليمامة.
ساحة القتال
اختار مسليمة موقع عقرباء لجيشه، وهذا الموقع على الحدود الفاصلة بين اليمامة وبلاد بني تميم، وهو مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية بين مقاطعة العارض ومرتفعات المحمل وجبل طويق
وبالقرب من هذا الموقع تقوم قرية جبيلة الحديثة، وقد بحث فيه (فلبي) في كتابه الآنف الذكر قال: (وإذا تأملت الوادي (أي وادي حنيفة) عند جبيلة - وجبيلة هذه أحد منازل بني حنيفة من قديم الزمان، وإليهم نسب الوادي وفي سمائه أرتفع لواء صيتهم فسمي بوادي حنيفة - لألفيته وهدة من الأرض قريبة القرار، واسعة الجوانب، تكتنفها المهابط المطمئنة الجرداء من كل حدب وصوب، وللوادي عقيق يضيق شيئاً فشيئاً حتى تراه قد غاض في بطن مجرى نشزت على ضفافه الطنوف الشواخص على النحو المتقدم وصفه. فالقرية أذن مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية وأعظمها شأناً، واقعة بين مساكن العارض ومرتفعات المحمل وطويق. وقيل في هذا المكان وقعت معركة فاصلة من معارك التاريخ الإسلامي، دارت فيها رحى القتال بين أصحاب النبي وبعض المؤمنين من رجاله، وبين مسيلمة نبي حريملة الكذاب وقواته، وكان النصر فيها حليف المسلمين بعد أن خسروا آنئذ في سبيل دينهم القويم نحو سبعين من نخبة الصحابة، وهم الرجال الخلص الذين اصطفاهم النبي فأودع في صدورهم تعاليمه الشفوية. .) إلى أن قال: (لا تزال قبور الصحابة الذين استشهدوا في تلك المعركة ظاهرة إلى يومنا هذا، مهجورة في منبطح من غرين نهر عميق صفا ماؤه واقع على مقربة من القرية. وقد رأيت القبور أيام زيارتي لها ومروري بها وقد بليت وتحاتت بتأثير الزوابع وفعل الأعاصير، وقد نجم عن ذلك أن تفتحت جوانب الكثير منها، فظهرت فيها ثُغر فاغرة أفواهها نحو الوادي. ولم يزد ارتفاع الرسوب الغريني على ثلاث أو أربع أقدام فوق القبور. فلنا إذن من ذلك أحد الأمرين: إما أن الغرين قد رسب من(74/31)
قبل في المكان الموجود الآن فيه وبات مستواه على ما هو عليه بطبيعة الحال قبل معركة جبيلة. ولا غرو في أن الأمر الثاني هو الافتراض المحتمل وقوعه).
وصف الموضع:
يظهر من مطالعة الخريطة أن المحل الذي اختاره مسيلمة لقبول المعركة واقع في جنوبي العقدة التي تتشعب منها الجبال وتمتد في جهات مختلفة وتشرف على رؤوس الوديان المتدفقة من أرجائها والتي منها ما يجري نحو الشمال ويغذي وادي الخفس، ومنها ما يجري نحو الشرق ويتغذى وادي حنيفة، ومنها ما يجري نحو الغرب ويغذى بطين الحور. وقد اجتمعت قريتا عينة وسدوس وجبيلة حول هذه العقدة. وتعلو في وسطها رابيتا الأبكين: الرابية الغربية الشرقية، والغربية أعلى من الشرقية إذ يبلغ ارتفاعها عن السطح البحر (3200) قدم، وعن وادي حنيفة الذي يجري في جنوبها (200) قدم. وفي شرقي الأبكين جبل رامة يمتد من الغرب
إلى الشرق، وهذا الجبل مع جبل الأبكين يفصلان بين شعيب سدوس ووادي حنيفة. فالشعيب في الشمال ينبع من غربي سدوس ويجري نحو الشرق فيترك على ضفافه سدوس وحزوة، ويلتقي بشعاب كثيرة أخرى تصب جميعاً في وادي الخفس. والوادي الثاني يجري في الجنوب. وإلى الشرق جبيلة يرتفع جبل صلبوخ. فكأن الجبال الثلاثة - الأبكين ورامة وصلبوخا - متصل بعضها ببعض ومحيطة بموضع جبيلة كالقوس
ويصف المستر فلبي المنظر قرب الأبكين فيقول: (وقفنا نتأمل بطحاء طويق الفسيحة الأرجاء، فألفينا مشهدها رائعاً مهيباً، وتتخللها الهضاب المتموجة والأودية السحيقة. وإنا لكذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى الشمال فشاهدت على مسافة ميلين من بسطة أرضاً انطوي تحتها واد فسيح تحدرت جوانبه وانقطعت مجامعه عند حوض الخفس الواقعة فيه واحة سدوس - تلك الواحة الغضة الرائعة المشهورة بجمالها الفتان - كنا نراها ونرى فيها كل صغيرة وكبيرة، ونحن واقفون في مكاننا كأنها أمامنا وعلى مقربة منا، ولكنها ويا للأسف لم تكن على استقامتنا، فشق عليَّ زيارتها لبعد طريقنا عنها. وقد شاهدت بساتين النخيل ممتدة على طوار الينبوع الدافق مسافة ميل تقريباً في عرض قدرت معدله بين 200 و300 ياردة) إلى أن نقول: (ورأيت على مدى البصر إلى الجهة الشمالية الشرقية نجد مرتفعات(74/32)
العرمة، وقد بدت بلون أدكن، ونظرت إلى الشمال الغربي وادي حريملة، وهو فرع آخر من فروع حوض الخفس، وقد انفصل عن فرع سدوس بجرف متسع المتون مرتفعها، ورأيت في الجهة الجنوبية الغربية صدع جرف طويق فبدت من موضعه عقبة الحيسية. وإلى الجنوب وراء خط وادي الحيسية، وجرف الملاقي تمتد ظهور طويق العريضة في الفضاء الأغبس الفسيح)
وعندما يبحث في ثنية اليمامة يقول: (وبعد مسير سبعة أميال (على موازاة الأبكين) وصلنا إلى عقبة الحيسية المعتبرة منبع وادي حنيفة، فوجدنا أشجار السنط منتشرة حولها، وكان ارتفاعنا عن مستوى سطح البحر في هذه البقعة نحو3200 قدم، وكانت المسافة بيننا وبين البطين (بطين الحور) نحو46 ميلاً. وقد استطعت أن أشاهد من هذا المكان وادي حنيفة بأسره آخذاً إلى الجنوب حتى اليمامة، وهذا بون شاسع يربو طوله على 100 ميل، وتأخذ فيه الأرض في الانخفاض تدريجاً إلى أن يبلغ 1900 قدم. ولم أجد عند الصبب من المناظر الطبيعة ما يحملني منها على الإطناب في الوصف، وشاهدنا هناك الأرض أمامنا وقد انحدرت بهيئة مثلث فسيح الأرجاء، ضلعاه لهبان منفرجان من جرف طويق ومنته طرفاهما بأنفين بارزين أحدهما خشم خرشة في الجنوب، والآخر خشم الحيسية في الشمال، وتمتد بين هذين الأنفين قاعدة المثلث بشكل جناح ناشز من الحجارة الرملية الجرداء المغراء يسمونه المرقى في جانبه الأبعد يهبط شديد الاندحار ينتهي إلى وادي البطن. أما صدر شعيب هشة فهو في منبعه يتغلغل صبباً بين جدران منهره متمعجاً في عقيق ضيق، ثم يأخذ بعد حين في الاتساع على متون المنحدرات حتى إذا بلغ الحاشية الغربية من جناح المرقى ينفرج في بطن المحلة الخصبة ثم ينثني فيجد له مثيلاً في خلال الحواجز الصخرية فيتسرب منها إلى وادي البطين. وعلى نحو أربعة أميال من منبع وادي حنيفة نجد ما بقى من آثار ديار الهشة، وهي لا تتعدى بعض بساتين النخيل المتفرقة وثلاث آبار دائمة المياه، اثنتان منها مطويتان بالحجارة غزيرتا الماء دائمة الورد، يبلغ عمق كل بئر منها نحو قامتين، ويظهر لون الماء عند استقائه من البئر أطحل بتأثير الطبقة المتحجرة المستبطنة قرار البئر، وإذا ترك الماء وشأنه قليلاً ركد فيه الغرين فصفا وراق. وطعمه لذيذ عذب جداً. وينفرد آل قحطان بالاستفادة من هذه البئر) إلى أن يقول: (وليس في عقبة(74/33)
الحيسية صخور حرشاء تقف عثرة في سبيل الإبل. وربما كانت أسهل عقبات طويق مسلكاً، لذا فضلت على غيرها باتخاذها طريقاً للحج، وهو الطريق الذي سلكناه لما غادرنا الرياض من حيث ينحدر هذا الطريق إلى الضرمة).
الحركة من البطاح إلى اليمامة:
وبعد أن اجتمعت قوات المسلمين في البطاح واطلع خالد على موقف الحنفيين قرر التقدم تحو مسيلمة. وكان قبل ذلك قد رتب جيشه، فكانت نواته على ما نعلم الأنصار والمهاجرين والقبائل الضاربة بين المدينة ومكة. فقسم الجيش إلى فرق: فرقة من الأنصار، وفرقة من المهاجرين، وألفت كل قبيلة فرقة. وناط بأبي حذيفة وزيد ابن الخطاب قيادة المهاجرين، وبثابت بن قيس وبر بن مالك قيادة الأنصار. أما القبائل فكانت بقيادة رؤسائها.
ويروي أبو بشر الدولابي في كتاب التاريخ أن معركة عقرباء وقعت في شهر ربيع الأول للسنة الثانية عشر للهجرية، وأول هذا الشهر يقابل أوائل شهر أيار 633 ميلادية. وتبلغ المسافة بين البطاح وعقرباء زهاء 350 كيلومتراً، أي مسيرة عشرة أيام بجيش كبير على أقل تقدير. فيظهر من ذلك أن خالداً ترك البطاح في نهاية شهر نيسان أو في أوائل شهر أيار. فكانت خطة خالد ترمي إلى الزحف تواً إلى اليمامة، على أن يهجم على جيش مسيلمة أينما لقيه. وكان يعلم أن مسيلمة متأهب للمقابلة على حدود بلاده. لذلك قدّم أمامه مقدمة من بني طئ بقيادة عدي بن حاتم، وعين لها فرات بن حيان دليلاً، وسلك طريق الوشم نحو الشقرة. وأرسل إلى الأمام مكنف بن زيد الخيل وأخاه ليتجسسا الأخبار
ولم يشأ أن يترك خط الانسحاب معرضاً للخطر، لذلك أقام سليطاً مع قوة في البطاح ليكون ردءاً له من القبائل. وتزعم الرواية أن أبا بكر أمد خالداً بسليط ليكون ردءاً له لئلا يأتيه أحد من ظهره. أما مسيلمة فلما علم بمسير خالد نحوه تقدم بجيشه من اليمامة نحو الشمال وعسكر في عقرباء بجميع قواته منتظراً ورود جيش المسلمين متأهباً للمقاومة الشديدة. وكانت أخبار انتصار المسلمين على أهل الردة قد سبقت جيش المسلمين فألقت الرعب في قلوب الحنفيين. وتقدم جيش المسلمين على الطريق المذكور وكانت المقدمة تسبقه وتستطلع الأحوال.
يتبع(74/34)
طه الهاشمي(74/35)
2 - محاولات أفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أخذت ألتمس الناس رجلاً فرجلاً وأنا عالم بما أثيره في الناس من غضب كنت آسف له وأخشاه، ولكنها ضرورة لم يكن عن المضي فيها محيص. إنها كلمة الله، ويجب أن أُحلها من اعتباري المكان الأسمى، فقلت لنفسي: لابد أن أحاور أدعياء العلم جميعاً لعلي أفهم ما قصدت إليه الراعية. وأقسم لكم أيها الأثينيون أغلظ القسم - فواجبي أن أقول الحق - إنني قد انتهيت من البحث إلى ما رويت، وقد صادفت فيمن هم دون هؤلاء مقاماً رجالاً بلغوا من الحكمة ما لم يبلغه هؤلاء. وسأقص عليكم حديث تجوالي وما عانيت خلاله لتحقيق ما قالته الراعية. تركت رجال السياسة وقصدت إلى الشعراء، سواء في ذلك شعراء المأساة أو الأغاني الحماسية أو ما شئتم من صنوف الشعر، وقلت في نفسي: إن الأمر لا ريب مكشوف لدى الشعراء فسأجدني بازائهم أشد جهلاً. ثم جمعت طائفة مختارة من أروع ما سطرت أقلامهم، وحملتها إليهم أستفسرهم إياها لعلي أفيد عندهم شيئاً. أفأنتم مصدقون ما أقول؟ واخجلتاه! أكاد أستحيمن القول لولا أني مضطر إليه، فليس بينكم من لا يستطيع أن يقول في شعرهم أكثر مما قالوا هم وهم ناظموه. عندئذ أدركت على الفور أن الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة، ولكنه ضرب من النبوغ والوحي. إنهم كالقديسين أو الأنبياء الذين ينطقون بالآيات الرائعات وهم لا يفقهون معناها. هكذا رأيت الشعراء، ورأيت فوق ذلك أنهم يعتقدون في أنفسهم الحكمة فيما لا يملكون فيه من الحكمة شيئاً استناداً إلى شاعريتهم القوية. فخلفت الشعراء وقد علمت أني أرفع منهم مقاماً، فقد فضلني عليهم ما فضلني على رجال السياسة. وأخيراً قصدت إلى الصناع، وكنت أظنني جاهلاً بما يتصل بالصناعة من علم، وكنت أحسب أن لدي هؤلاء الصناع مجموعة طريفة من المعارف، وقد ألفيتني مصيباً فيما ظننت، إذ كانوا يعلمون كثيراً مما كنت أجهله، فكانوا في ذلك أحكم مني بلا ريب.
ولكني رأيت حتى مهرة الصناع قد تردوا فيما تردى فيه الشعراء من خطأ، فتوهموا أنهم ما داموا أكفاء في صناعتهم فلابد أن يكونوا ملمين بكل ضروب المعرفة السامية، فذهبت سيئة(74/36)
الغرور بحسنة الحكمة. لهذا ساءلت نفسي بالنيابة عن الراعية: أكنت أحب أن أظل كما أنا، لا أملك ما يملكون من علم، ولا أكبو فيما كبوا فيه من الخطأ، أم كنت أحب أن أكون شبههم في العلم والجهل على السواء؟ فأجبت نفسي، وأجبت الراعية: إنني خير منهم حالاً
وهذا الذي انتهيت إليه قد حرك العداوة في قلوب نفر من أشد الناس سوءاً وخطراً، كما نسج حولي طائفة من الدعاوى الباطلة. ولقد جرى الناس على تسميتي بالحكيم إذ خيل إليهم أنني ما فتئت أحمل الحكمة التي كانت تعوزهم. ولكن الله - أيها الأثينيون - هو الحكيم الأوحد، ولعل الله حين أجرى على لسان راعيته ما نطقت به، أراد أن الحكمة في البشر ضئيلة أو معدومة. إنه لم يتحدث قصداً عن سقراط، إنما ضرب باسمي مثلاً، كأنما أراد أن يقول إن من يدرك كما أدرك سقراط أن حكمته في حقيقة الأمر لا تساوي شيئاً، يكون أحكم الناس. فأنا كما تروني أسير وفقاً لما يرسمه لي الله، أفتش عن الحكمة في كل من يدعيها، لا أبالي أكان من أبناء الوطن أم غريباً، فان لم أجده كما أدعى، صارحته بجهله كما أمرتني الراعية. ولقد انصرفت إلى هذا الواجب انصرافاً لم يبق لي معه من الوقت ما أبذله فيما يشغل باب العامة، أو أنفقته في شئوني الخاصة؛ وهكذا كرست حياتي لله فعشت فقيراً معدماً
أما أن الشبان الأثرياء الذين لا تضنيهم شواغل الحياة كثيراً، قد التفوا حولي، فهم قد جاءوا يسعون من تلقاء أنفسهم، ليشهدوا امتحان الأدعياء؛ وكثيراً ما انطلقوا بدورهم يلتمسون أدعياء الحكمة ليجروا عليهم التجربة نفسها. وما أكثر ما صادفوا رجالاً ظنوا في أنفسهم العلم، فإذا بهم لا يعلمون إلا قليلاً، أو هم لا يعلمون شيئاً؛ فلا يلبث هؤلاء الذين امتحنهم الشبان أن يصبوا عليّ جام غضبهم، وأنفسهم أحق بهذا الغضب، ويستنزلون اللعنة على سقراط لأنه أفسد الشبان. فان سألهم سائل فيم هذه اللعنة، وأي جريرة أتى، وأي رذيلة علم، لما حاروا جواباً، لأنهم لا يعرفون لغضبهم سبباً. ولكي يستروا علائم الحيرة تراهم يعيدون التهم المعروفة التي قذف بها الفلاسفة جميعاً، من أنهم يعلّمون ما يتصل بالسحاب، وما هو دفين تحت الثرى، وأنهم كافرون بالآلهة، وأنهم يُلبسون الباطل صورة الحق؛ والحقيقة أنهم جاهلون ويأبون الاعتراف بجهلهم المكشوف. ولما كانت تلك الفئة كثيرة طامعة نشيطة، وقد تصدوا جميعاً للنزال بما لهم من ألسنة حداد تلعب بالنفوس، فقد ملأوا أسماعكم بهذا(74/37)
الاتهام الباطل. وكان أن ناصبني العداء هؤلاء المدعون الثلاثة: مليتس، وأنيتس، وليقون. فقد ناهضني مليتس ليمثل جماعة الشعراء، وأنتيس ليمثل طبقة الصناع، وليقون ليمثل الخطباء. وأنني كما قدمت لا آمل في أن أمحو في لحظة كل ما علق بي من تهم باطلة. أيها الأثينيون! لقد رويت لكم الحق كل الحق، لم أُخف شيئاً، ولم أشوه شيئاً، ومع هذا فأنا أعلم أن صراحتي في الحديث ستصدكم عني، وما هذا الصد إلا برهان على أني أقول الحق. تلك هي دعواهم وذاك منشؤها، ولن تسفر هذه المحاكمة ولا أية محاكمة مقبلة عن غير هذا
حسبي هذا دفاعاً للفريق الأول من المدعين. وهأنذا أتوجه الآن بالحديث نحو الطائفة الأخرى وعلى رأسيهم مليتس، ذلك الرجل الطيب، الوطني، كما يقول عن نفسه. وسأحاول أن أدفع عن نفسي ما أتهمني به هذا الفريق الجديد. وجدير بنا أن نبدأ بتلخيص دعواهم، فماذا يزعمون؟ إنهم يقولون: أن سقراط فاعل للرذيلة، مفسد للشباب، كافر بآلهة الدولة، وله معبودات اصطنعها لنفسه خاصة. تلك هي دعواهم، وسبيلنا الآن أن نناقشها تفصيلاً.
أما الزعم بأني فاعل للرذيلة مفسد للشباب، فأنا أقرر أيها الأثينيون عن هذا الرجل مليتس، أنه هو صاحب رذيلة. ورذيلته أنه يتفكه حيث يجب الجد، وهو لا يرى غضاضة في أن يسوق الناس إلى ساحة القضاء متستراً وراء الحماسة المصطنعة والاهتمام المتكلف بأمور لا تعنيه بشيء؛ وسأقيم لكم الدليل على صدق هذا
- اقترب مني يا مليتس لألقي عليك سؤالاً. هل تفكر طويلاً في إصلاح الشباب؟
- نعم، إني أفعل
- أذن فقل للقضاة من هو مصلح الشبان، فأنت لابد عالم به ما دمت قد عانيت آلاماً في اكتشاف مفسدهم، فها أنت ذا قد سقتني إلى القضاء متهماً. تكلم إذن وقل للقضاة من هو مصلح الشبان. وما لي أراك يا مليتس لا تحير جواباً؟! أفليس هذا دليلاً قاطعاً، مزرياً بك، يؤيد ما ذكرته من أن أمر الشبان لا يعنيك في شيء؟ تكلم يا صديقي وحدثنا عن مقوم الشباب!
- هي القوانين
- ولكن ليست القوانين هي ما عنيت يا سيدي، إنما أردت أن أعرف ذلك الشخص الذي(74/38)
يحفظ القوانين قبل كل شيء
- هم من ترى في المحكمة من قضاة يا سقراط
- ماذا تريد أن تقول يا مليتس؟ أتعني أن القضاة قادرون على تعليم الشبان وإصلاحهم؟
- لست أشك في أنهم كذلك
- أكلهم كذلك، أم بعضهم دون بعض
- القضاة جميعاً
- قسماً بالآلهة إن هذا الخبر سار. إذن فهناك طائفة من المصلحين، وماذا تقول في النظارة؟ أهم يصلحون الشباب؟
- نعم هم يفعلون
- وأعضاء الشورى كذلك؟
- نعم أنهم كذلك يصلحون
- ولكن قد يكون رجال الدين لهم مفسدين؟ أم هم كذلك يقومون الشباب؟
- إنهم كذلك من المصلحين
- إذن فكل الأثينيين يصلحون الشبان ويرفعون من قدرهم، ما عداي. فأنا وحدي الذي أفسدت الشباب. أهذا ما أردت أن تقول؟
- وذلك ما أؤيده بكل قوتي
- يالبؤسي إذن إن صح ما تقول!. ولكني أُريد أن أسألك سؤالاً: أيصح هذا القول كذلك على الجياد؟ أيمكن أن يقدم لهم الأذى فرد واحد، بينما يقدم الخير العالم أجمع؟ ألست ترى العكس هو الصحيح؟ فرجل واحد يستطيع أن يعمل لها الخير، أو قل هي فئة قليلة، وأعني أن مروض الجياد هو الذي يقدم لها الخير، أما بقية الناس الذين يستخدمونها في أعمالهم فهم لها مسيئون. أليس هذا صحيحاً يا مليتس بالنسبة إلى الجياد وكل أنواع الحيوان؟ نعم ولا ريب، سواء رضيت أنت وأنيتس أم لم ترضيا، فذلك لا يعنينا. اللهم أنعم بحياة الشبان لو كان عليهم مفسد واحد فحسب. وكانت بقية العالم مصلحين. وأنت يا مليتس، لقد أقمت لنا الدليل ناصعاً على إنك لم تكن تفكر في الشبان؛ فإهمالك إياهم واضح حتى فيما ذكرت في صحيفة الدعوى. والآن يا مليتس، لابد أن أسألك سؤالاً آخر: أيهما خير، أن يكون أبناء(74/39)
وطنك الذين تعيش بينهم فاسدين أم صالحين؟ أجب يا صاح فذاك سؤال ميسور الجواب! ألا يقدم الصالحون الخير لجيرانهم بينما يسئ إليهم الفاسدون؟
- نعم ولا ريب
- وهل هناك إنسان يفضل أن يساء إليه على أن يُحسن إليه ممن يعيش بينهم؟ أجب يا صديقي، فالقانون يتطلب منك الجواب. أيحب أحد أن يصيبه الضر؟
- كلا ولا ريب
- وأنت حين تتهمني بإفساد الشبان والحط من شأنهم، أتزعم أني أتعمد ذلك الإفساد يجئ عني عفواً؟
- أنا أزعم أنه إفساد مقصود
- ولكنك اعترفت الآن أن الرجل الصالح يقدم الخير لجيرانه، وأن الفاسد يقدم لهم الشر، أفتظن أن هذه الحقيقة قد أدركتها حكمتك البالغة وأنت لا تزال من الحياة في هذه السن الباكرة، وأنا، وقد بلغت من الكبر عتياً، مازلت أخبط في ظلام الجهل فلا أعلم أني أفسدت أولئك الذين أعيش بينهم فيغلب أن يصيبني منهم الضرر؟ أفاكون عالماً بهذا ومع ذلك أفسدهم، وأفسدهم متعمداً؟ هذا ما تقوله أنت، فلا أحسبك مقنعني به ولا مقنعاً به كائناً من كان. إحدى إثنتين: إما إنني لا أفسد الشبان، أو أنني أفسدهم من غير عمد؛ وسواء أصحت هذه أم تلك فأنت كاذب في كلتا الحالتين
فان كانت جريمتي بغير عمد فلا يحاسب عليها القانون، وكان خليقاً بك أن تسدي لي النصح خالصاً، محذراً ومؤنباً في رفق ولين، فان انتصحت بك، أقلعت ولا ريب عما كنت آتيه بغير قصد؛ ولكنك أبيت لي نصحاً وتعليماً، وآثرت أن تجئ به متهماً في ساحة القضاء، وهي محل العقاب لا مكان التعليم
لقد تبين لكم أيها الأثينيون أنه لا يعنيه أمر الشبان في كثير ولا قليل، ولكني مازلت أود يا مليتس أن أعرف منك فيم كان إصراري على إفساد الشباب؟ لعلك تعني كما يبدو من اتهامك أني حملتهم على إنكار الآلهة التي اعترفت بها الدولة، ليقدسوا في مكانها معبودات جديدة أو قوى روحانية. أليست هذه هي الدروس التي زعمت أني أفسدت بها الشباب؟
- نعم، هذا ما أقوله وأؤكده(74/40)
- إذن فقل لي يا مليتس، وقل للمحكمة في عبارة واضحة، أي آلهة أردت في دعواك، لأنني حتى الساعة لا أفهم ما تأخذه عليَ. أكنت أعلم الناس الأيمان بآلهة معينة؟ وإن كان هذا فهم مؤمنون بآلهة ما، ولم أكن إذن كافراً تمام الكفران. إنك لم تشر إلى ذلك في الدعوى واكتفيت بالقول أنها ليست نفس الآلهة التي تعترف بها المدينة. ما تهمتي؟ أهي الدعوة إلى آلهة مخالفة أم تزعم أني ملحد ومعلم للإلحاد؟
- أردت الأخيرة، فأنت ملحد غاية الإلحاد
- هذا قول عجيب لم نعهده يا مليتس، ماذا تعني به؟ ألست أومن بإلهي الشمس والقمر، وهي عقيدة سائدة بين الناس جميعاً!
- إني أؤكد لكم أيها القضاة أنه لا يؤمن بهما، فهو يقول إن الشمس كتلة من الحجر، وأن القمر مصنوع من تراب!
يتبع
زكي نجيب محمود(74/41)
ذكرى ميلاد
عند الثلاثين
للأستاذ محمد سعيد العريان
لشد ما أعياني السُرى!
منذ تسع وعشرين أصعد في الجبل وما بلغت. أتراني إلى القمة أدب دبيبي، أم قد جاوزتها وما أدري، فأنا منحدر أتدلف من جانبها إلى بطن الوادي. .؟
يكتفني الغيب فما أعرف أين يومي من أمسه ومن غده. أما أمس فقد خلعته عني، وطوته الأيام طي مرقعةٍ بالية فما تراه إلا خُلقاناً مركومة كالميت لفَّته أكفانُه. وهل الماضي إلا الجزءُ الذي مات منا؟
وأما الغد. . . فمن لي بما هناك؟ إن الأحلام لتكذب، فما أحسبها كانت تتراءى لي إلا دنيا غير دنياي ليس من أيامها يومي ولا غدي
هذه الأيام صرعى على مدرجة الزمن، وما تزال المنى تصطرع في رأسي!
يا لي من الأيام! لشد ما كانت تسخر مني إذ تمد لي أسباب المنى، حتى إذا هممتُ لم تكن عثراتي إلا أيامي!
اِنقشعي أيتها الغيوم واكشفي لي عما وراءك؛ إن لي أمنيةً هناك!
إني لأراني كأنما لَبِسَني النوم، فأنا من الرؤيا في دنيا غير التي أعرف، وناسٍ غير هذه الناس، وثَمَّت طفلٌ يعدو خلف فراشة، أتراه مُدرِكُها؟
لقد آب فارغ اليد، ولكن على شفتيه ابتسامة!
وأقبل يتعرفني وما كانت به إلى من حاجة
قال: (من أنت؟)
قلت: (أما تعرفني؟)
قال: (نعم، فمن تكون؟)
قلت: (فأنظر في مرآتك لعلك واجدٌ فيها الجواب.)
ونَظَر ونظرتُ من خلفه، فما كان في المرآة إلا وجه الطفل الضاحك
ولوى رأسه وعاد ينظر إلي ويقول:(74/42)
- (لستَ هناك، وما أُراني أعرفك ولا تعرفك مرآتي)
ورفت الفراشة فانطلق يعدو وراءها والابتسامة على شفتيه!
يا طفولتي التي فرت بأسعد أيام الحياة، ليتكِ كنت تعرفين!
وعاد الطفل فتى يخطر ريان الوجه مشرق الجبين، فأزْوَرَّ إذ رآني على الطريق
قلت: (أتنكرني يا فتى؟ فإنني صاحبك!)
قال: (متى؟ فما أضنني عرفتك!)
قلت: (ذاك يوم التقينا على السفح والشمس ضاحية، وتصاوير الزهر ترف من أجنحة الفراشة)
وابتسم الفتى ومر بيمناه على جبينه وهو يقول:
- (لعلي أذكر من بَعدُ!)
وانطلق يغني جذلان
يا نضارة الصبي وبكرة الشباب، ليتك إذ توليت عابثة ناعمة بالحرية - كنت تدرين من هناك!
وأقبل من بعدُ شاب يبتسم. ما أشبه بصاحبه!
قلت: (هاأنت ذاك، أما تعرفني؟)
قال: (كأني رأيتك من قبل، بربك من تكون؟)
قلت: (فانك ما تزال تنكرني على ما صحبتُك زماناً ولمّا يَنقض عهد طويل!)
ولم أجد جوابي؛ فقد لوى الشاب رأسه يتابع بعينيه فتاةً تخطر، ثم انطلق مُهطعاً وراءها ونفسي تتبعه
يا الله! لكأنها هي. . .!
وتلاشى الوجود من أمامي فلم أعد أرى غير وجه ضاحك، وطلعةٍ مشرقة، وعينين تُشعان النور من وجه الفتاة
ورأيتها تدنو مني وفي وجهها كلام. . .
قلت: (أما تزالين تذكرين يا فتاة؟ يا للنفس العطوف!)
قالت: (أئنهُ لأنت؟ لله صبْرُك!)(74/43)
وانقضت كلماتها على صدري بالهم والوحشة والعذاب، وكأنما أجتمع منها تاريخ سبع سنين طوال، ما يزال في القلب منهن جراحٌ تنزف!
وانثالت الذكريات على نفسي تتمثل من مشاهدها قصة غرام ثائر، أغْفَلَها مُنشِئها قبل أن يبلغ بها إلى نهاية
ورحت أنكت الأرض بالعصا، كأني أفتش تحت التراب عن الجزء الذي مات من قلبي! ورأيت ظلها على الأرض، فاستحيت أن أرفع رأسي وفي عيني دموع!
يا للشباب من حب بلا رجاء! أؤضيع أنضر أيام الحياة مصبوباً على نفسي، أبحث عن أهون ما في الحياة؟
وأين الرجولة إن بذلت شبابي ونفسي لأعدو في ظل فتاة؟
أُتُراها تَجدُ فَقْدِي؟
إن المرأة للرجل إن هي إلا وحيُ المجد ومطلعُ الأمل، فإذا عادت لهفةً ودموعا فما هي امرأة، ولكنها اليأس والحرمان والخيبة!
وتذكَّرْتُ صاحبي الذي أنفلت مني مُهطعاً إلى فتاته، فإذا هي أمامي والفتاة إلى جانبه ذراعاً إلى ذراع
قال: (ما تقول لنفسك؟)
قلت: (أوَ تسمع هَمْس النفس ونجوى الضمير؟)
قال: (قد علمت بعض هذه النجوى. . . أفكنت تتحدث بما تتحدث إلى نفسك، لو لم تكن هذه الشعراتُ البيض تخفي وتلوح في فوْدَيكَ؟)
قلت: (أوَ تراها؟. . . فاسأل صاحبتَك عن خبرها؛ فهل جاءك أن هذا الشيب الباكر يدلّ إلا على شباب القلب؟ ما أحسبك تَعْلمُ حتى تُنْبِئَكَ الشعرةُ البيضاء!)
واستضحك الفتى والفتاة. . .!
وتلاشى الوجود ثانية من أمامي! وإذا أنا في دنيا غير دنياي، وناسٍ غير هذه الناس؛ وإذا المرآة أمامي تجلو لي ما تجلو (الخيالة)، وكأنما اجتمع بها في زمان ومكان تاريخي كله على الأرض منذ تسع وعشرين بماضيه وحاضره، وران ضبابُ أنفاسي على ثلث المرآة
وإذا فيما ظهر لي من المرآة طفل يعدو خلف فراشة، ما ينفك يقفز ويثب(74/44)
وغلام يخطر مغنياً جذلان، ما يعنيه إلا الكرة يرتق فتوقها، واللّدات من الصبيان يتجاذب وإياهم أسباب المسرة في الحارة وعلى ناصية الطريق
وشاب باسم الثغر منبسط الأسارير دنياه هذه الفتاة، له منها في النهار مشغلة وفي الليل مشغلة. ثم. . . ثم هذا الوجه الذي يعرفه صحابتي، على شفتيه ابتسامة عابسة، وفي عينيه سر يبالغ في الاستخفاء، ومن وراء جبينه أماني تصطرع، ودنيا يموج بعضها في بعض
ليت شعري أهذه هي الحياة، أليس فيها أحسن مما رأيت، أهذا كل ما هناك؟
يا ضيعة المنى إن كان الغد يوماً مكرراً مما فات!
أين المثل الأعلى الذي جهدت في تخيله، وأعياني الكد في البلوغ إليه؟ أترى البشرية الضالة قد حطمت تمثاله، وخربت هيكله، أم لا يزال قائماً هناك مختبئاً خلف الغد؟
محمد سعيد العريان(74/45)
ذكريات
دمه العربي. . .
للأديب حسين شوقي
حينما كنت في باريس أتلقى دراسة القانون تعرفت بالفندق الذي كنت أقيم فيه بالحي اللاتيني (حي الطلبة) بطالب أسباني، وقد دفعتني إلى حب التعرف به معرفتي اللغة الأسبانية، (فقد قضيت خمس سنوات بأسبانيا)، والميل إلى التمرن عليها. . كذلك جذبتني إليه سيماه العربية كسمرة بشرته، وعيونه السوداء، وهي في حدتها كعيون البدو في الصحراء، وجذبتني إليه اسمه العذب الذي ينتهي بحرف (الثاء) إذ كان يدعى مونيوث، وهذا الحرف لا يوجد على ما أعلم - إلا في اللغة العربية، فورثته الأسبانية عنها. . كنا نقضي الليل أنا وهو في كثير من الأحيان، في مقهى ليلي جميل يديره بعض الصينيين بالحي اللاتيني، ذلك الحي الذي لم يكن تخلى بعد لحى مونبرناس (حي الشعراء والفنانين) عن إمارة الليل. .
وكان مجلسنا يضم أيضاً طالبين أسبانيين، وطالباً أخر من جزر الفلبين. .
وا آسفاه على تلك الليالي الغابرة التي قضيناها في المتاع واللهو! بينما كنا ذات ليلة جالسين كالعادة في المقهى ننعم بالرقص والموسيقى، إذا بأحد الشبان يصفع صديقته وقد رآها تتبادل النظرات غير المشروعة مع شاب آخر. . فغضب مونيوث لهذا المنظر، وهم بالتدخل في الأمر لولا أننا أمسكنا بسترته لأننا كنا نخالفه الرأي اشفاقاً على العاشق المخدوع الذي لم يقدم على عمله في اعتقادنا، إلا تحت سلطان الغيرة. . وقد دفعنا هذا الحادث إلى الخوض في موضوع الغيرة فأطبق رأينا على أنها شعور طبيعي يلازم الحب، وعلى أنه مقياس حرارته الصادق، بخلاف مونيوث الذي كان يرى في الغيرة شعوراً أولياً همجياً يمكن القضاء عليه بالتربية والتهذيب كما قضت المدينة من قبل على بعض عيوب البشر الأولى. .
فقال عندئذ فرناندو - الطالب الفلبيني - موجهاً الكلام لمونيوث:
إذا كنت يا صديقي لا تغار فما بالك تحجب عنا حبيبتك نانيت؟
فبُهت مونيوث لهذا السؤال المفاجئ وتلعثم قائلاً:(74/46)
أنا لا أحجب نانيت بل هي التي تعرض عن الحضور لأنها لا تحب الرقص. .
فصاح ريكاردوا، أحد الطالبين الآخرين:
يا للعذراء! هل هناك فتاة تبغض الرقص؟ إن رجلي البائستين لم تعودا تحملانني من كثرة ما رقصت مع صديقتي سيمون!
فقلت بدوري لمونيوث:
ولكني لم أشاهد صديقتك نانت هذه!
فتدخل فرناندو قائلاً: إنه يخاف عليها يا عزيزي كما تخاف القطة على صغارها
ثم استمررت موجهاً كلامي لمونيوث:
لا يمكن إلا أن تكون غيوراً يا صديقي، ففي عروقك الدم. الشرقي العربي الفائر. .
ولكن مونيوث أصر على إنكاره الغيرة كما أنكر الدم العربي، واعداً إحضار نانيت معه في أقرب فرصة. . .
ولكن مونيوث طبعاً لم يف بوعده. .
تعرفت بعد ذلك بأيام بنانيت هذه بالفندق، إذ أتت لتزور مونيوث وكان إذ ذاك معتل الصحة، فعذرت عندئذ صديقي لحرصه على نانيت، لأنها كانت جميلة إلى حد بعيد، بشعرها الذهبي المنفوش، وعينيها الخضراوين اللتين كأنهما عينا قطة أنقرية. . ولما كنا في ذلك الوقت في أواخر شهر ديسمبر، وضعنا ذات ليلة برنامج سهرة في ليلة رأس السنة، ووعدنا مونيوث باصطحابه نانيت في تجوالنا تلك الليلة بمقاهي باريس الليلية. . على أننا شككنا في هذا الوعد أيضاً. . ولكن حينما جاءت الليلة الموعودة، أقبلت نانيت متأبطة ذراع صديقها! بدأنا طوافنا بالذهاب إلى ملهى (الطاحونة الحمراء) حيث كانت الممثلة الأسبانية الرشيقة (راكل ملر) تخلب الباريسيين بصوتها الشجي ورقصها السماوي. . ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مقهى قريب من (الطاحونة الحمراء) يديرها بعض أشراف الروس الذين هاجروا من بلادهم على أثر قيام النظام الشيوعي في روسيا؛ وكان المحل غاصاً بالأجانب والفرنسيين على سواء الذين أتوا ليستقبلوا السنة القادمة بين المرح والسرور عساها تأتي لهم بالسعادة. . .؟!
جلسنا في البار الذي كان مرتفعاً حتى نستطيع أن نشرف على المرقص بأجمعه. . ثم(74/47)
شهدت بعض أصدقائي من المصريين جالسين بالقرب من حلبة الرقص، فانتقلت إلى مائدتهم لتحيتهم. . . ولكن لم يمضي زمن طويل على وجودي معهم حتى سمعنا جلبة قوية آتية من جهة البار، فذهبت لفوري إلى هناك فإذا بأصدقائي الأسبان يتشاجرون مع بعض الفتية الفرنسيين، وقد تمكن الحاضرون من تفريقهم بعد جهد كبير دون الالتجاء إلى البوليس. . أما سبب المعركة فكان نانيت! والمحرك الأول هو مونيوث!
غازل شاب فرنسي جميل نانيت، ولكن مونيوث لم يفعل شيئاً وقتئذ برغم ملاحظته الأمر، وذلك عملاً بمبادئه السلمية وتغلباً على الغيرة المرذولة! ولكن مونيوث المسكين لم يطق صبراً حينما شاهد نانيت تبتسم بدورها لمغازلها، فأفلت منه جواد الغيرة الجامح. . فأمسك مونيوث بكرسي وقذف به الشاب الفرنسي عندئذ هب بعض الفرنسيين الحاضرين للدفاع عن مواطنهم، وكان بغض الفرنسيين للأجانب شديداً في ذلك العهد، فهب الأسبان بطبيعة الحال للدفاع عن مونيوث.
انتقلنا بعد ذلك إلى صيدلية ضمدت فيها الجراح وأهمها جرح بليغ في شفة مونيوث السفلى، إذ كنا عازمين على السهر إلى آخر الليل حتى لا نستقبل السنة الجديدة بمثل هذا الحادث المكدر. . ثم قصفنا طويلاً في أحياء باريس المختلفة.
سألت مونيوث ونحن في طريق العودة إلى الفندق ألا يزال ينكر الغيرة ولا يؤمن بدمه الشرقي العربي؟ فأومأ برأسه اعترافاً بهزيمته أمام الغيرة، وبما يخالط دمه الأسباني من دم عربي حر. . واكتفيت بهذا الإيماء، فان الكلام كان يؤلمه، لأن فمه لا يزال دامياً، ولعل قلب مونيوث المسكين كان أدمى من فمه!. .
كرمة ابن هانئ
حسين شوقي(74/48)
من شعر الشباب
الطائر السجين
للأستاذ محمود الخفيف
راسف في القيد موصول الأنين ... مطرق الهامة في يأس حزين
تلمح الحيرة في نظرته ... نظرة اللوعة والغيظ الدفين
وترى الثورة في إذعانه ... وهو بالأذعان من قبل ضنين
ناسل الريش نحيلشاحب ... ذابل المقلة محزون الجبين
ساهم طوراً وطوراً راقص ... رقصة المُوثَق بين الموثقين
سائل عن ذنبه في حسرة ... وسكوت هو كالنطق مبين
نائح في يأسه ملتمس ... رحمة الغادين بعد الرائحين
يحسب الراني إليه مشفقاً ... يعرف الرأفة بالمستضعفين
فيرجى الغوث في إقباله ... ولقد يرجى مع اليأس اليقين
فإذا مر به في غلظة ... وجمود عاد مكروب الحنين
يتمنى الموت في محنته ... ضجعةُ الموت خلاص اليائسين
وإذا أبصر سرباً عابراً ... وهو في السجن رهين مستكين
هز للطير جناحيه كما ... جرّر الأغلال في الأسر سجين
نسى القضبان في لهفته ... ومضى يسبح بين السابحين
رده السقف سريعاً فهوى ... طارف العينين مكتوم الأنين
وكسا ريش جناحيه دم ... من جراح الصدر أو نضح الوتين
وإذا غنى لديه طائر ... لم يذق قبلُ عذاب الراسفين
بلغت لوعته غايتها ... وتوالى النوح والدمع السخين
يعرف المحزون أقصى حزنه ... حين يمسي في قبيل ضاحكين
أيها العاني برغمي أن أرى ... ما تلاقي من عذابٍ وشجون
أيها الطائر ما لي حيلة ... ليت من صادوك يوماً يشفقون
حسبوا أنك فيهم ناعم ... أولا تأكل مما يأكلون(74/49)
أولا تمسي لديهم آمناً ... وترى الإحسان فيما يصنعون
قفص تصدح فيه سالماً ... أين من زينته سود الوُكون
وصحاف وشراب طاهر ... وهدوء لم ينله المترفون
قسماً لو حاسبوا أنفسهم ... لمضوا عن ذنبهم يستغفرون
أين هذا القيد من حرية ... هي أحلى لك مما يصفون
تجد القسوة فيما أحكموا ... ومعاني الظلم فيما يدعون
وتعاف الضيم في نعمتهم ... ولو اسْطَعت تخيرت المنون
وترى الشهد لديهم علقماً ... وهمو عن غيهم لا يرجعون
رب يوم عضك الجوع به ... كان أشهى لك مما يبذلون
أين ما تلقاه في أغلالهم ... من ظلال كنت فيها وعيون؟
وفضاء كنت فيه مطلقاً ... ومقيل لك في وكر مصون
وطعام لم يكن ذا غصة ... لم يكدره لديك الطاعمون
أترى القضبان في قسوتها ... كوثير العشب أو خضر الغصون؟
يا عدو الأسر في فطرته ... يا طليقاً بات في القيد رهين
أن تأملت لما تلقى به ... لن تراهم بك يوماً حافلين
كنت في جوك حراً آمناً ... فتلقتك شباك الصائدين
قتل الإنسان ما أظلمه! ... دأبه العدوان والغدر المهين
يكره الظلم إذا ما مسه ... وهو أن يأمنه شر الظالمين
يتحدى الطير في أجوائها ... ويصيد الوحش في الغار الكنين
أو لم يكف ضحايا بغيه ... من بنيه الوادعين الآمنين؟
يا أسيراً يذرف الدمع دما ... لست في بلواك معدوم القرين
كم سجين بات يبكي حظه ... مثلما تبكي، ويبكي الناظرين
هذه الدنيا لعمري قفص ... لبنيها العُزل المستضعفين
قد قرأنا الظلم في غابرها ... في فتوح الغاصبين الناهبين
فكرهناه ونددنا به ... وبرئنا من ظلال الغابرين(74/50)
أولا نمرح في أصفاده ... ونراه اليوم في المستعمرين؟
وإذا الناس على فطرتهم ... ولئن راق خيال الواهمين
وإذا العدل سراب لامع ... طالما بتنا به منخدعين
قف بهذا الشرق وانظر كم ترى ... فيه من بغى ومن حكم لعين
اسأل الوادي عن محتله ... وفلسطين عن المغتصبين
وأذكر الهند ففي محنتها ... حجة تنسخ قول المبطلين
دخل السجن بريئاً شيخها ... ساخراً من باطل المستكبرين
حمل العبء على أسقامه ... وكفاه لو دروا عبء السنين
ويميناً لو نسوا أطماعهم ... لجثوا بين يديه نادمين
وكأيِّن في الورى من آية ... ويمرون عليها معرضين!
يعرف الأغلال من كلبدها ... وعرفناها كراماً صابرين
جرب المحتل فينا وكرهُ ... ورمانا ببنينا الغادرين
وأتى الثورة من مقتلها ... فوقفنا دونها مستبسلين
فرمانا بلظى من ناره ... وسقطنا عشرات ومئين
وافتدينا الحق في هودجه ... واحتشدنا حوله مستشهدين
ورفعنا فوقه رايته ... وتزاحمنا عليها مقسمين
ورأى الغاصب أنا لم نكن ... بالخياليين أو باللاعبين
ضاقت الأنفس حيناً وبدت ... نذر الرجفة للمستهزئين
والتقى الأشبال في غضبتهم ... ومشوا نحو المنايا طائعين
أيقظوا الثورة لولا حكمة ... من بنيها السابقين الأولين
أفسدوا كيد المحيطين بهم ... فأتوا غِيرانَهم منكفئين
قسماً ما أجلَّوها خشية ... ولئن طال حديث المرجفين
ليس من يبذل طوعا دمه ... بالذي يرهب بأس المعتدين
كمنت فيهم، فان لم ينتهوا ... بعثوها في غد مستأنفين
محمود الخفيف(74/51)
حنين إلى الوطن
للشاعر الحجازي أبى يعرب المدني
أحن إلى ذكريات الحجاز ... حنين الفطيم إلى ظِئره
أحن إليه حنين الحما ... م إذا ما تغرب عن وكره
إذا هب من جانبيه النسيم ... تروَّحت دنياي في نشره
يرفرف روحي على ساحليه ... فيغترف الشعر من بحره
وما ذبل الوجد حتى يجف ... لسان القصائد عن ذكره
ألا ما سقى الله أرض الحج ... از بوطفاء تغدق في قُطره
ويا حبذا أن يفيق الحجاز ... فيا طال ما نام في سكره
إذا ثاب ثابت جميع البلاد ... وسارت إلى المجد في إثره
يقال تباشيره أقبلت ... طلائها الغر في فجره
وأنَّى له أمل أن يفيق ... وقد يأس الناس من أمره؟
وما ارتبتُ حتى رأيت الزمـ ... ان يسوّل لي اليأس من مكره
وغيري إذا ازورَّ عنه المنى ... تشَفَّع بالدمع في عذره
أناتي تبَسَّم تحت القطوب ... إذا ما تذمرتُ من شره
وأطلب حقي بحد الحسام ... إذا نام ذو الثأر عن وتره
إلى أن تلين قناة الزمان ... ويعدل إذ ذاك عن جوره(74/53)
لويدجي
صاحب جائزة نوبل لعام 1934
منح الكاتب الإيطالي بيراندللو جائزة نوبل للآداب، فجاء ذلك القرار برهاناً جديداً قوياً على خطر الدور التجديدي الذي أداه بيراندللو في تطور المسرح الإيطالي المعاصر. فقد كان المسرح الإيطالي منذ عام 1870 حتى الحرب العالمية يعاني تدهوراً شديداً حتى دفع ذلك الناقد بنجمان كريمو إلى أن يعتبر المسرح الإيطالي أثناء هذه الفترة الطويلة خارجاً عن دائرة الأدب الصحيح. والواقع أن من العسير أن يشعر الإنسان بوجود فن مسرحي في إيطاليا خلال نصف القرن الذي سبق الحرب العظمى إلا بأعمال الكاتب الكبير جبرييل دانونزيو، وبعض أعمال عدد من الكتاب مثل وبراكو وسمبنللي
لم يكن التأليف المسرحي ضعيفاً فحسب، بل إن محاولات الكتاب
الخائرة كانت تعيش كَلاً على الآداب الأجنبية، وتمعن في تقليد الكتاب
الفرنسيين، وأخصهم دوماس الصغير وأوجييه. ثم الكتاب الروس
والكاتب النرويجي ابسن فيما بعد
وكان المسرح الإيطالي في هذه الفترة من العبودية، بحيث كانيتغير بتغير العوامل المؤثرة فيه. فعندما قوى المسرح في فرنسا، لقى ذلك التغير صداه السريع في المسرح الإيطالي فسادت روح المؤلفين، وكانت هذه الروح من القوة بحيث تشبه الثورة على فن دوماس وأوجييه اللذين كانا يطبعان المسرح الإيطالي بطابعهما حتى ذلك الوقت
على أن التحرر من سيادة فن دوماس وأوجييه لم يكن إلا بنقل السيادة من يد إلى أخرى، وكانت هذه اليد هي فن ابسن الذي يغذي المسرح الواقعي الإيطالي بمشاكله التي يعالجها، وبمواقف أبطاله حتى أوائل الحرب الماضية. كان للمسرح الواقعي بعض القوة، إلا أن تكرار معالجة المشاكل التي عالجها ابسن في قصصه خلق نوعاً من الملل الشديد فقامت محاولات جديدة لبناء مسرح كان من زعمائه قبل الحرب سمبنللي، وبعد الحرب أركول (1882 - 1921). على أن هذا المسرح أيضاً لم يؤد إلى الغرض المنشود، لأنه بالغ في رومانتيكيته حتى كانت قصصه أشبه بالأساطير القديمة، وكان أظهر عوامل الضعف فيه(74/54)
انطفاء الأسلوب وخطأ التحليل. لذا ظل الرجاء معقوداً على طبقة أخرى من الكتاب حتى لاحت شمس النهضة الجديدة على يد (المسرح الساخر)
الذي كانت فكرته نواة أدب بيراندللو، فاليه يرجع الفضل الأول في تحرير القصة المسرحية لإيطالية مما يسمى الفكرة التي خلقتها النظرة الواقعية والرجوع بالقصة إلى معالجة الموضوعات وتحليل العواطف والنزعات الإنسانية بطريقة أكثر حرية وانطلاقاً
طريقة تقوم على أساس من الدعابة والسخرية
وجاء بعد ذلك بيراندللو فاستطاع بعبقريته أن يبني على تراث (المسرح الساخر) فلسفة خاصة هي وليدة تجاربه في الحياة، وآلامه النفسية، وقراءاته الواسعة. وأن يركز هذه الفلسفة في مذهب فني عرف باسم (مذهب الدعابة) باسم (مذهب بيراندللو) الذي رفع به مسرح بلاده بعد انحطاط نيف على نصف قرن كامل
لقد بلغ بيراندللو الآن سن الشيخوخة، ففي شهر يونيو الماضي أتم السابعة والستين. وقد ابتدأ الكتابة وهو في العشرين من عمره. وكان إنتاجه من الغزارة بحيث أنه كتب إلى الآن أربعة مائة أقصوصة، وعشر قصص، وثلاثين رواية مسرحية ومع كل ذلك كان اسمه منذ عشرة أعوام يكاد يكون مجهولاً في عالم الآداب، على أن بيراندللو قد استطاع في الأعوام الأخيرة - بفنه المسرحي على الخصوص - أن يشق طريقه إلى المجد، ويكون له أتباعاً في أوربا بأسرها. وأن ينال أخيراً أعظم الجوائز الأدبية في العالم أجمع.
ولد بيراندللو في بلدة بجزيرة صقلية في اليوم الثامن والعشرين من شهر يونيو عام 1867. وعند ما شب درس الأدب في روما. ثم سافر إلى ألمانيا حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة بن ولما عاد إلى بلاده عين أستاذاً في (المدرسة العليا للبنات) بروما، وبقى فيها أربعة وعشرين عاماً من عام 1897 إلى 1921. ابتدأ بيراندللو حياته الأدبية قصصياً يكتب القصص الطويلة والقصيرة، ولكنه تحول فيما بعد إلى الكتابة المسرحية فلقي عن طريقها سبيله إلى الشهرة العالمية. وقد كتب بيراندللو من القصص الطويلة (1904) (1911) و (1924) و , , (1926) وغيرها. أما قصصه القصيرة فأنها تظهر تدريجياً مجموعة تحت عنوان رئيسي ثابت هو (حكايات لعام) وأشهر هذه المجموعات(74/55)
أما الروايات المسرحية فقد ابتدأ بيراندللو الكتابة فيها عام 1912، فكتب رواياته
و' (1913) ثم (1914). على أن هذه الروايات كانت في الواقع بمثابة الخطوات الأولى لفنه الذي لم يزدهر إلا ابتداء من عام1917 حين كتب رواية وتوالت بعد هذه الرواية رواياته المسرحية الرائعة التي أشهرها ' (1918) و ' , و (1919) , ' (1920) و ' و (1921) (1922) ' (1923) (1925) (1926) ' (1927) الخ. . . .
كان أظهر ما يميز فن بيراندللو منذ قصصه الأولى ميله إلى الدعابة، إليها بغريزته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. على أن فكرة بيراندللو عن الدعابة قد تطورت وتحددت بتحوله إلى المسرح واهتمامه على الأخص بكتابة الروايات المسرحية ونبوغه فيها. فقد كان بيراندللو
في البداية يلجأ إلى الدعابة إجابة لنداء طبيعته الساخرة. لكنه أقتصر فيما بعد - وخصوصاً في مسرحه - إلى اختيار الموضوعات التي تثير حقاً سخرية المرء ودعابته. ثم جعل بعد ذلك من هذه الموضوعات مجالاً واسعاً لإطفاء ظمئه الطبيعي في حب الدعابة. وقد اتفق النقاد على أن عبقرية بيراندللو هي من مهارته الفائقة في حسن اختيار هذه الموضوعات وتوخي الصدق فيها
ويجب أن نلاحظ أن رواية بيراندللو لا تصلها بالرواية الهزلية صلة؛ ذلك أن الناحية النقدية هي الغرض الأسمى من الرواية، فهي لم توضع لتبعث الضحك والمرح إلى نفوس المشاهدين كما هو الحال في الرواية الهزلية، بل لتكشف لهم بطريقة تحليلية لاذعة عن حقيقة الطبيعة البشرية ونواحي الصراع بينها وبين تقاليد المجتمع وموجباته. وقد كتب بيراندللو عام 1920 يشرح ذلك قال:
(إنني أعتقد أن الحياة مهزلة محزنة. لأننا نرى في داخلها دافعاً خفياً لا ندري سببه يدفعنا إلى أن نخدع أنفسنا على الدوام، فنخلق لنا شخصيات وأفكاراً تختلف باختلاف كل فرد. ثم لا نلبث أن يبدو لنا أن ما فعلنا ليس إلا وهما وخديعة. إن فني ممتلئ بالشفقة الحارة على أولئك الذين يخدعون أنفسهم. على أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن ألحق بهذه الشفقة سخريةً قاسيةً من الأقدار التي تفرض على الإنسان فرضاً هذا الغش والخديعة)(74/56)
وفن بيراندللو يعالج مشكلة من أكبر مشاكل الطبيعة البشرية. تلك هي مشكلة (الشخصية)؛ فكم ينتاب شخصياتنا كل يوم من التغير والتقلب! وكم يعاني الإنسان في علاقاته بسائر الناس الذين يختلف بعضهم عن بعض في العادات والطباع، فيرى المرء نفسه مرغماً أن يلبس مع كل فرد ولكل حادث ولكل زمن شخصية جديدة حتى يستطيع الحياة في هذا العالم. فبيراندللو حين معالجته لمشكلة الشخصية تراه يقارن بين طبيعة الإنسان وما تميله عليه مقتضيات البيئة ومظاهر الحياة وبين ما يتبع ذلك من صراع، وما يتخلل ذلك الصراع من رياء الحياة الإنسانية وصغائرها
يريد بيراندللو أن لكل إنسان شخصيتين كامنتين فيه، هما أبداً في تناقض مستمر وحرب دائمة
أولاهما: (حيوانيته) أي شخصيته الطبيعية بغرائزها وشهواتها
وثانيتهما: (إنسانيته) أي شخصيته الاجتماعية التي تحتم عليه أن يخضع للتقاليد والأوضاع والمبادئ الجامدة، وكل ما اصطلح المجتمع على تمجيده وتقديسه
ويرى بيراندللو أيضاً أن الفرد يعتبر في حالته الطبيعية حين يتبع غرائزه وشهواته و (حيوانيته)، فان خالف ذلك وحاول أن يكون (إنساناً) يتقيد بنظم مخصوصة، ويخضع تصرفاته لقواعد مرعية، فهو في نظره قد خرج على طبيعته، وأوقف سير (حياته الحقيقة) ليدخل (حياته الوهمية) التي يتصور أنها الحياة الحقيقية وهنا يجب أن نتساءل: ما الذي يرغم الإنسان أن ينتقل من (حياته الحقيقية) إلى (حياته الوهمية) أو من (حيوانيته) إلى (إنسانيته)؟
إنه الضمير. الضمير في نظر بيراندللو هو الذي يفرق بين الإنسان والحيوان، وبين والإنسان والنبات. الضمير الذي يولد معنا يوم ميلادنا، ويصاحبنا حتى الموت هو الذي يفسر حياتنا. هو الذي يقيدنا بالأوضاع، ويخضعها لناموس الخطأ والصواب. ولكن هل استطاع الضمير أن يكبح غرائز الإنسان وشهواته ويمنعها عن الظهور والانفجار بين حين وآخر؟ لا. لم يستطع الضمير ذلك. فحيوانية الإنسان لا تزال كامنة فيه تتلمس الخروج كلما وجدت الفرصة المناسبة. وكثيراً ما تستبد بصاحبها وتعميه وتسيره في الطريق الذي تشاء. والذي يرى بيراندللو أن كل شقاء الإنسان النفسي إنما هو وليد وجود(74/57)
الضمير. فقد أراد الضمير أن يكبل الطبيعة الإنسانية بسلاسل التقاليد والأوضاع الاجتماعية، بينما الضمير لا يعرف التقاليد، ولا يخضع للأوضاع. فلا الضمير إذاً استطاع أن يميت (حيوانية) الفرد فتسود (إنسانيته) على الدوام، ولا هو سمح لهذه الحيوانية أن تتحقق وفق هواها ليحيا الإنسان (حياته الحقيقية). وكانت نتيجة ذلك نشوء هذا الكفاح الدائم بين شخصية الإنسان الطبيعية وشخصيته الاجتماعية، أي بين حيوانيته وإنسانيته
هذا الكفاح القاسي بين الشخصيتين الكائنتين في كل منا هو الذي يخلق الهم الممتزج بالابتسام، والتشاؤم الممتزج بالسخرية، وذلك هو أظهر ما يميز فن بيراندللو ويطبعه بطابع خاص، على أن هذا الطابع الخاص لم يمنعه من أن يكون ملتقى عدة تيارات فكرية كان لها تأثير كبير في تفكيره. فغرابة شخصيات القصص تذكرنا بقصص الكاتب الروسي دستويفسكي والكاتب النرويجي إبسن. وطريقة تحليل نفسيات الأبطال والبطلات المضطرين الحائرين بين الحقيقة والخيال تبين لنا بأجلى بيان الأثر العظيم لنظريات العالم النفسي فرويد عن (اللاشعور) أو ما يسمونه (العقل الباطن)، والعالم انشتين عن (النسبية)، والفيلسوف برجون عن (الحركة)؛ كذلك فيها كثير من (ذاتية) الكاتب القصصي مارسل بروست
على أن هذا الكفاح يختلف نوعه في نظر بيراندللو عند الرجل والمرأة. فالرجل تتغلب عليه (شخصيته الاجتماعية) وهو لذلك يحاول جهده أن ينظم حياته ويخضعها قدر الطاقة لأوضاع المجتمع. أما المرأة فتغلب عليها (شخصيتها الطبيعية) وهي لذلك أقل من الرجل قدرة على سيادة نفسها وتقييد غرائزها وميولها. على أن هذا الاستعداد لدى كل من الرجل والمرأة هو عند بيراندللو أمر نسبي ومؤقت. فالرجل لا يستطيع أن يمنع (شخصيته الحقيقية) من أن تحطم أحياناً القالب الاجتماعي الذي وضع نفسه فيه كما في قصتي (شهوة الشرف)
' (هنري الرابع). وكذلك المرأة التي تسيرها طبيعتها تود من وقت إلى آخر أن تكبح جماح عواطفها وشهواتها كما في قصة:
فأزمة بيراندللو المسرحية تحدث عن اصطدام شخصيتي كل فرد، وهي تختلف - على ضوء ما ذكرنا - عند أبطال قصصه (أي الرجال) عنها عن بطلاته (أي النساء). فالأزمة(74/58)
تحدث عند الأبطال - وهم كما سبق يخلصون للوضع الاجتماعي - إما حين يظهر لهم فجأة أنهم يحيون (حياة وهمية) على خلاف ما كانوا يتصورون، حياة تخالف كل ما جبلت عليه (شخصيتهم الحقيقية)، إما حين تنفجر هذه الشخصية الحقيقة مرة واحدة وتخرجهم عن الوضع التقليدي الذي كانوا يحيون فيه. . . أما الأزمة عند البطلات فبالعكس تحدث حين يرين أنفسهم مرغمات على الخضوع لوضع مخصوص أو فكرة مخصصة كما في قصة: , ' حيث نرى بطلة القصة مضطرة إلى مجاراة أبنتها - التي تظن أن أمها ماتت - في اعتقادها أنها زوجة أبيها.
وفي الفصول الأولى من روايات بيراندللو المسرحية، نرى حوادث القصة غامضة أشبه ما تكون بالقصص البوليسية. وكل حوادث القصة تحدث في هذه الفصول الأولى. فإذا ما جاء الفصل الثاني - وهو أعظم فصول القصة شأناً - ابتدأ دور (التنبه) وفي الفصل الثالث - وهو عادة أقصر كثيراً من الفصلين الأولين - يكمل دور (التنبه) ويكون ذلك مصحوباً غالباً بحركة مسرحية عنيفة تحل بها العقدة المسرحية فنواحي التجديد في مسرح بيراندللو:
أولاً: أن القصة لا تبلغ حدتها في الفصل الذي يقوى فيه (الحادث) في الفصل الذي تقوى فيه (المعرفة)
ثانياً: أن القصة ترمي إلى إثارة المشاهدين عن طريق (اكتشاف) حقيقة كانت مجهولة عن طريق (الحركة).
ومن الحق أن نذكر ما يوجهه النقاد إلى فن بيراندللو. فقد أتهمه ناقدوه بأن رواياته لا ترتفع عن مستوى الدرام، بل عن مستوى الميلودرام. وأنه أختار لقصصه موضوعات هي من التعقيد بحيث كان من العسير التصديق بإمكانيتها في الحياة الإنسانية الواقعة، وأخيراً أن روايته لا تخلو من بعض الملل لأن بيراندللو كان فيها (مفكراً) أكثر من اللازم
على أنه مهما قيل في فن بيراندللو فانه لا يمكن إنكار أهمية مسرحياته وأثرها التجديدي في المسرح العالمي مما جعل بعض قصصه الشهيرة يترجم إلى خمسة عشرة لغة أجنبية. كما أن بيراندللو هو الكاتب الإيطالي الوحيد الذي استطاع أن يحل المعضلة التي اعترضت كل الكتاب الإيطاليين منذ عام 1870 ألا وهي كتابة عمل أدبي يعالج موضوعات ويرسم شخصيات قومية بحتة وينال في الوقت نفسه إعجاباً عالمياً. فكأن(74/59)
بيراندللو بنيله جائزة نوبل قد نال فخراً مضاعفاً. إذ بلغ مجده الأسمى وحقق أملاً عزيزاً من آمال وطنه.
علي كامل(74/60)
البريد الأدبي
ذكرى الموسيقي بوتشيني
مضت عشرة أعوام كاملة على وفاة الموسيقي الإيطالي الأشهر جاكومو بوتشيني، فقد توفي في 29 نوفمبر سنة 1924، ولكن اسمه وفنه وموسيقاه ما زالت تملأ الأذهان والأسماع. واليوم تذكر دوائر الفن والموسيقي بوتشيني، وتكتب عنه وعن فنه الفصول والبحوث الفياضة.
وكان مولد الموسيقي الكبير في سنة 1858؛ ودرس على أكابر أستاذة عصره مثل بازيني وبانكيلي، ولبث مدى عصر أعظم شخصية في الموسيقى الإيطالية والموسيقى الغربية بصفة عامة، وكان يشغل في إيطاليا نفس المركز الذي كان يشغله معاصره فاجنر في ألمانيا، ويوهان شتراوس في النمسا. ويعتبره النقاد الفنيون ثالث أقطاب التأليف الموسيقي في العالم كله، فأولهم فاجنر، وثانيهم فردي، وهو الثالث. وقد نالت أوبراته الموسيقية شهرة عظيمة، ولا سيما (مانون لسكو) و (البوهيمية) و (لاتوسكا) و (مدام بترفلاي) وهي تجمع إلى نزعة روزيني وفردي الغنائية، نزعة حديثة إلى التعبير؛ وكان بوتشيني موسيقي الحب المعذب، وأروع قطعه ما كان يمثل القلوب الكليمة البائسة؛ ذلك لأنه كان في حياته الغرامية منكوداً معذباً، وكان دائماً طائر القلب والعواطف، لا يكاد ينضج في قلبه غرام، حتى يسارع إلى غرام جديد. وكان صعب الرضى فيما يتعلق بالنصوص، لا يكاد يعجبه نص مهما كان من الروعة، ولهذا كان يجوب القارة باحثاً عن النصوص المختارة لتلحينها، وقد غضب يوماً إذ أفلت منه قطعة لبيير لوئيس انتزعها منه الفرد برينو، وأفلتت منه أيضاً (بلياس ومليزند) لماترلنك، ولكنه ظفر (بتوسكا) وهي من تأليف فكتوريان ساردو، بيد أنه لم يكن راضياً عنها كل الرضى، وقد ألف لها بعض أناشيد من عنده، ويروى أنه اضطر (اليكا) مؤلف (البوهيمية) إلى حذف مناظر برمتها، وتغيير كثير من النصوص. وقد تزوج بوتشيني من مدام (الفيرا بونتوري) بعد فضيحة غرامية طويلة، وكانت الفيرا زوجة للسنيور بونتوري، ولكنه هام بها رغم زواجها، وبادلته الحب، وحملت منه، ثم فرت إليه، ولم يستطع أن يتزوجها إلا بعد وفاة زوجها. وكان بوتشيني مع ذلك يبحث عن مخاطرات غرامية جديدة كلما أصابه السأم، ثم يعود يائساً فيرتمي بين أحضان الفيرا(74/61)
وقد توفي بوتشيني في بروسل، في 29 نوفمبر سنة 1924، بعد مرض طويل، ودفن حسب وصيته في قصره في توري دللاجو (شمالي إيطاليا)، ولما توفيت زوجته الفيرا في سنة 1930 دفنت معه في نفس قبره.
مكتبة نابوليون وآثاره الخطية
عرضت أخيراً في دار التحف المعروفة (باوتيل دروو) بباريس مجموعة فريدة حافلة لآثار الإمبراطور نابليون بونابرت ومخطوطاته الشخصية؛ وهذه المجموعة التي يملكها المسيو (برويه) والتي لا تضارعها أية مجموعة أخرى من آثار الإمبراطور، تعرض الآن للبيع، وفيها عشرات من الذخائر والتحف البونابارتية في عصر الإمبراطورية، ومعظمها مما احتوته مكتبة الإمبراطور الشهيرة في قصر مالزون من الكتب النادرة الممهورة بتوقيع الإمبراطور،
والوثائق الحربية والسياسية النادرة؛ وهي تعرض تاريخ نابليون كله منذ كان ضابطاً صغيراً في حصن فالانس حتى وفاته في جزيرة سنت هيلانة سنة 1821، ومنها رسائل شخصية تصور ما كان عليه الإمبراطور من وفرة في السلطان والعزم؛ ومنها رسائل غرامية كتبها نابليون إلى (جوزفين بوهارنيه) التي غدت زوجته الإمبراطورة فيما بعد؛ وفيها يبدو القائد العظيم محباً ذلولاً يخضع لسلطان الهوى خضوع الطفل، وكان أهم ما لفت النظر منها رسالة كتبت على ورق أخضر بتاريخ يوليو سنة 1796 وفيها يخاطب نابليون جوزفين بما يأتي: (ألست روح حياتي، وعاطفته قلبي؟ إني أؤمل أن أظفر منك برسالة هذا المساء؛ وأنت تعلمين يا عزيزتي جوزفين أي سعادة أنها لرسائلك، وإني لعلى يقين أنك تغتبطين بكتابتها. . . سأسافر هذا المساء إلى جبال التيرول، في فيرونا، ومن هناك إلى مانتوا ثم إلى ميلان، لأظفر ثمة بقبلة، فأنت تؤكدين لي أن القبلات ثمة ليست باردة ولكنها محرقة. . . ماذا تصنعين في هذه الساعة؟ إنك تنامين أليس كذلك. وأنا لست بجانبك لكي أستنشق تنفسك، أتأمل ظرف محاسنك، أغمرك بالقبلات. إن الليالي بعيدة عندك طويلة، ذابلة محزنة؛ إلى جانبك يأسف المرء أن ليس الليل بخالد، فوداعاً أيتها الحسناء الرقيقة، التي لا مثيل لها، والتي تسمو إلى السماء؛ وألف قبلة ناعمة، في كل مكان، في كل مكان. . .(74/62)
وقد أثار عرض هذه المجموعة في الدوائر الفنية والأرستقراطية اهتماماً عظيماً، وهرعت الجموع إلى (أوتيل دروو)، تتنافس في اقتناء هذه الذخائر، ومنها كتب وسمت بشعار الإمبراطور، ومنها كتب كانت لقادته واخوته، وآله
فمتى نعنى في المشرق بآثار عظمائنا، ومتى نعتبرها ذخائر مقدسة يتنافس المتنافسون في اقتنائها؟ ومتى تخرج إلى الضياء قبل كل شيء؟
جائزة نوبل للكيمياء
سبق أن أشرنا إلى أن جائزة نوبل الطبية منحت هذا العام لثلاثة من علماء الطب في أمريكا، وأن جائزة نوبل الأدبية منحت إلى الكاتب المسرحي الإيطالي بيراندللو. ونذكر الآن أن جائزة نوبل للكيمياء عن سنة 1934 قد منحت أيضاً إلى أمريكي هو الأستاذ هارولد كليتون يور أحد أساتذة جامعة كولومبيا الشهيرة بنيويورك، وذلك لأجل مباحثه واكتشافاته الخاصة بالهيدروجين الثقيل؛ وبذلك تكون أمريكا قد ظفرت هذا العام بجائزتين من جوائز نوبل
هذا وأما جائزة نوبل عن العلوم الطبيعية فقد تقرر أن يوقف منحها هذا العام، وأن ترجأ إلى العام القادم، لأنه لم يتقدم لنيلها من العلماء من هو جدير بنيلها.(74/63)
القصص
من الأدب التركي
الزواج المبارك
ترجمة الآنسة (فتاة الفرات)
كنت سائراً يوماً وأحد رفاقي في شارع (بك اوغلي) أحد شوارع الآستانة الجميلة. وكان رفيقي على عادته يحدثني أحاديث مختلفة، يحدثني عن نفسه وعن غيره أحاديث منها ما يقبل ومنها ما يمج ويرد. وبينا هو يهدر في حديثه وقف فجأة وصاح:
- إلى أين؟
التفت فإذا هو يكلم رجلاً طويل القامة محدودب الظهر، وكأنه قد تعب من الحياة؛ أسمر اللون، قد طال شعر رأسه ولحيته حتى خرجا عن الحد المألوف، عليه بذلة لا يعلم إلا الله ما لونها، قد أثر فيها الغسل الكثير حتى اختلطت ألوانها وتهلهل نسجها.
فقال له رفيقي:
- ألا يزال الحال على ما نعهد؟
فهز الرجل رأسه علامة الإيجاب وارتسمت على ثغره ابتسامة الترح لا ابتسامة الفرح.
فقال له رفيقي:
- بارك الله فيهم. وانصرف عنه
ثم ألتفت إلي وقال هل أقص عليك قصة هذا الرجل؟
فقلت له على مضض:
- هات ما عندك
فأخذ يقص علي قصة الرجل، يقصها بصورة مونقة، لها من إشاراته اللطيفة ومن بيانه البديع خير حلية وأبدعها. قال: هذا الرجل من لداتي في السن، ومن رفاقي في العمل، كنا مأموري حساب في مصنع حديدي ونحن في نهاية العقد الثاني من عمرنا، وكان مرتبه الشهري أربعة دنانير، ولكنه كان بالرغم من قلة المرتب ذا زي حسن وهندام جميل، فإذا ظهر زي كان أسبق الناس إليه. كان زيه أحسن أزيائنا جميعاً، وكان يفوقونا طراً في(74/64)
العناية بثيابه وجسمه، فكان يحلق ذقنه في كل يومين مرة، وكان مغرماً باللهو كثيراً، فإذا كان يوم الاثنين جاءنا بكل طريف من أحاديث لهوه ومرحه في بياض يوم الأحد وسواد ليله، ولم نكن نجد عند أحد ما نجد عنده من أخبار معارض الصور ومسارح التمثيل والمتنزهات. جاء في يوم جمعة صباحاً إلى الدائرة وهو تحفة في هندامه وآية في زيه؛ كان في رجله حذاء لماع قد جعل حوله قطعة جوخ من قماش بنطلونه، وحول رقبته عقدة من قماش أزرق اللون قد ربطها ربطة جميلة، وجعل في وسطها دبوساً ماسياً على شكل نحلة جناحاها من ياقوت، لعله قد ورثه عن أمه، ومن جيببه الخارجي تدلى منديل حريري ذو ألوان جميلة، وفي صدره سلسلة ساعة ذهبية رأسها في عروة صدارته وطرفها الآخر في جيبها، وفي إصبعه خاتم زمردي، وفي رأسه طربوش صغير قاتم الحمرة يختال بلذة لارتفاعه فوق ذلك الهندام الجميل. فاجتمعنا حوله ضاحكين نسأله عن سر هندامه الجميل وتأنقه الشديد في هذا اليوم، فقال:
- سأذهب اليوم إلى منتزه (كاغدخانه)، وكل ما أرجوه منكم أن تكونوا عوناً لي على الرئيس ليسمح لي بالذهاب، فان التأخر يضرني كل الضرر. ثم مد يده إلى جيب معطفه وأخرج محفظة أوراقه وسحب من بينها ورقة (حمراء) اللون لوح لنا بها وهو يبتسم ويقارب ما بين جفنيه وينظر إلينا نظرة ذات مغزى، ولكنه ظن علينا بسر تلك الورقة، وأهمنا ما أهمه، وأحببنا أن ينعم ذلك اليوم بنزهة، فذهب أصدقاء أحد الرئيس إليه، وما زال به يكلمه في شأنه حتى سمح له بالذهاب في ذلك اليوم، وكاد صاحبنا يجن حين علم ذلك. فكان يصفق بيديه ويخالف بين رجليه، وقفز إلى الشارع وهو يقول:
- سأقص عليكم غداً ما يكون في هذا اليوم
كنا ننظر إليه نظر حسد ممض، وننظر إليه نظر المحبوس في غرفة مظلمة يؤدي عملاً شاقاً، إلى رجل حر، طليق، يسرح ويمرح كما يحب ويختار
أما هو فطار كما يطير العصفور أفلت من القفص. . . عاد في اليوم الثاني إلى عمله بهندامه المألوف، فاجتمعنا حوله نسأله بإصرار عن سر الورقة (الحمراء) وعن أخبار النزهة في (كاغدخانه)، فلزم السكوت مع أنه هو الذي وعدنا بأن يقص علينا ما يجري معه هناك! كان لا يجيبنا إلا بقوله:(74/65)
- لا شيء، لا شيء. . .
ويبتسم ابتساماً يدل على أن لديه أشياء كثيرة، لكنه يود إخفاءها عنا. فلما قطعنا الأمل من إفشائه سر الورقة وأخبار النزهة عاد كل منا إلى مكانه وأقبل على عمله. أخذت ألاحظه ملاحظة خفيفة فرأيته بين آونة وأخرى يستتر خلف دفتره الذي أمامه ويفتح محفظته ويلقي على ما فيها نظرة تنم عن غبطة وسرور. ثم رأيت ورقة (زرقاء) بجانب (الحمراء)، فقلت له وهو يلقي خلسة نظرته المعتادة على ما في محفظته:
- أراك تهئ نزهة أخرى في (كاغدخانه)؟
فأجابني ضاحكاً:
- ربما. . .
بعد هذا الأسبوع أصبح رفيقي ينتحل أسباباً يسمح له معها الرئيس بالتغيب أيام الجمع، فكان يذهب إلى منتزه (كاغدخانه) يقضي أيام الأحد والجمع هناك، ولكنه خلافاً لعاداته لا يقص علينا أخبار نزهاته ورياضته. كنت ألاحظه دائماً من حيث لا يشعر بي، فرأيت محفظته قد امتلأت بالأوراق (البنفسجية والخضراء، والصفراء) بجانب (الزرقاء والحمراء). فقلت في نفسي، كأن رفيقي يستعرض الألوان متخيراً، وسنرى أي لون يختاره في النهاية ويستقر عليه رأيه. وبعد مدة علمنا اللون الذي وقع عليه اختياره. . . .
جاءنا في صباح يوم بادي القلق ظاهر الاضطراب، فأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهاباً يحاول أن يتكلم ويفضي إلينا بشيء ولكنه لا يقدر، ثم نظر إلى وجه كل واحد على حدة وقال:
- سأقول لكم شيئاً
حولنا جميعاً أنظارنا إليه، وكنت واثقاً أن ما سيقوله يتعلق بالأوراق الملونة التي في محفظته وقال:
- سأتزوج. . .
فصعقنا لهذه الكلمة كأنها قنبلة سقطت علينا من السقف، واستتلى فقال بكل جد:
- سئمت هذه الحياة، حياة الوحدة، وعزمت على أن أستريح، إن ملازمة غرفة البيت والاشتغال بالعيال والأطفال خير من قضاء الليالي الطوال في أماكن اللهو ومحال الفجور. فقلت له:(74/66)
- أن مسألة الأطفال مسألة ثانية، والمهم الآن أن نعرف من هم العيال؟
فأجابني بكل جد:
- إنها موافقة لي تمام الموافقة، إنها ليست غنية، وأنا لست من طلاب الغنى في الزواج، ستأتيني بثيابها فقط، إن والدي مازال يشكو من الوحدة بعد وفاة والدتي، ويقول إن كل بيت يحتاج إلى امرأة، فسأسبقه وأتزوج قبله، هذا كل ما هنالك.
فقلت له:
- لابد من صلة متينة بين هذا الزواج وبين الأوراق الملونة؟
فلم بصدق ما قلت ولا أنكر ما ادعيت، أنه سكت، وكيف ينكر ما لا يقبل الإنكار؟ سمعنا هذا منه وسكتنا، ولم يظهر بيننا من يخالفه في رأيه الذي أعتزم عليه، ولا يقول له: إن الإقدام على الزواج مع مرتب ضئيل لا يتجاوز الأربعة دنانير كل شهر، لا يدل على رأي حسن وفكر مستقيم، وأن الزواج لو كان يترتب على كل رؤية يعقبها ميل لكان الزواج عبارة عن سلسلة لها أول وليس لها آخر
كان العقد وكان الزفاف، وكانت الحفلات الشائقة التي نعمنا فيها بنعيم صديقنا. وبعد غياب أسبوع عاد إلى عمله وأول كلمة قالها هي:
- إني سعيد. . .
نعم كان سعيداً. . . كنا نعرف ذلك من الطيش الذي أظهره باستدانته من هنا وهناك نقوداً أنفقها في حفلات العرس. كنا نتحقق سعادته حينما نرى الصيارفة عند باب الدائرة في أكثر الأحيان. . . وحينما نراه يوم أخذ المرتب غارقاً يفكر وقلمه بيده يكتب أعداد ويمحو أخرى. . . لم نره مسروراً إلا أسبوعاً واحداً فقط. ثم جعلت ألاحظ أن خطوط الهم والتفكير أخذت تظهر على جبينه، ولكنه مع ذلك كان بين آونة وأخرى يقول لنا:
- إنني سعيد. . . كأنه يحاول بذلك أن يخدع نفسه، أو كأنه يريد أن يخدعنا
سمعته في أحد الأيام وقد أخذ الموظفون يستعدون للذهاب إلى منازلهم للغداء يقول:
- إني اليوم أشعر بفتور في جسمي لا أقدر معه على الذهاب إلى البيت للطعام، لذلك سأبقى هنا وسأتناول شيئاً من الخبز والجبن. وفي اليوم الثاني أتى بعلبة صغيرة ووضعها في درج مكتبه ثم أخرجها عند الظهر وقال:(74/67)
- لقد رأيت أهل البيت يقددون لحماً فاشتهيت أن أجعل منه غدائي هذا اليوم. كأنه يريد أن يعتذر عن عدم ذهابه إلى البيت ليتناول فيه طعام الغداء على حسب العادة، عند ذلك قوى عندي الشعور بسعادته وقلت:
- حقاً أنه سعيد. . .
أصبح بعد ذلك اليوم لا يخرج ظهراً إلى البيت لتناول طعام الغداء، ولا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك إلى رفقائه، وأصبح في أكثر الأحيان يأكل الخبز والجبن لا يزيد عليهما، وربما أتى معه من البيت بسمك محمر، أو لحم مقدد، قد صر ذلك في جريدة، وربما عدل عن اللحم إلى البيض المسلوق. رأيته يوماً يفتح قماشاً فوق منضدته ويقلبه بين يديه ويتأمله مفكراً، فلما وقع نظره على نظري رفع قطعة القماش بيده وقال لي:
- ألا تعجبك هذه القطعة لمعطف نسائي! إنها حقيرة في نظرها لأن ثمنها ثلاثة دنانير!
لقد أقدم على شراء معطف بثلاثة دنانير مع أن مرتبه الشهري أربعة فقط! ومع هذا فهي ساخطة وتعدها حقيرة. . . يا للغرابة!. . لم أر من اللياقة أن أجيبه بما يجب، فأرسلت زفرة من أعماق قلبي وقلت:
- انه سعيد وسعيد. . .!
في اليوم الثاني أخذنا مرتباتنا، وبينما كنا خارجين من الدائرة كان أحد الصيارفة في انتظاره عند الباب فتعلق به وطالبه بنقوده صائحاً معربداً، فدفعه عنه، ولكن الصيرفي أخذ بتلابيبه، ولم يرض أن يتركه حتى يدفع له كل ما عليه، فتخلص منه بعد جهد، وعاد إلينا قائلاً كأنه بكلامه يريد أن يخفف وقع المنظر في نفوسنا:
- يا له من وقح! كأني قد أنكرت ماله علي من دين، فهو يطالبني بهذه الشدة!
فقلت في نفسي: ستدفع إليه بلا شك، وما الذي يقوله هذا النذل فيك إذا أنت لم تأخذ من المرتب إلا ثمن المعطف الذي قدمته للفتاة التي عبثت بلبك بوريقاتها الزاهية، وإلا نفقاتك البيتية والخصوصية، ثم قدمت إليه الباقي جملة واحدة؟! كان يفقد نشاطه بالتدريج، لقد حل مكان النشاط سكون وفتور، أما اعتناؤه بزيه وهندامه فكان يقل شيئاً فشيئاً، ولكنا مع ذلك كنا أحياناً نرى دبوسه الماسي فوق عقدة رقبته، وخاتمه الزمردي في إصبعه، وسلسلة الساعة على صدره. أما الثياب فكان يقضي داخل الحلة الواحدة فصلاً كاملاً، وكان لا يبدل(74/68)
قميصه إلا نادراً، وظهر عليه انقباض، فربما مرت عليه أيام لا يحرك شفته إلا بكلمة. كنا نشعر نحن أن وراء هذا التبدل ما وراءه من حياة بيتية مضطربة. . . . إلا أنه جاءنا يوماً على غير عادته فرحاً مستبشراً فقال لنا عند دخوله:
- هنئوني، لقد رزقت اليوم فتاة. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وكتب في دفتره: 15 آذار 1300. هنأه كلنا بالمولود الجديد وأنا من جملتهم وقلت:
- ها قد جاء دور الأطفال بعد العيال. جاءني بعد أسبوع وقال والحمرة تعلو وجهه:
- هل عندك دينار تقرضني إياه؟ ثم أردف قائلاً من غير أن يترك مجالاً لرد طلبه:
- يجب علي أن أدفعه إلى القابلة. لقد سمعت الدينار في جيبي يزفر زفرة حرى. ولكن لم يكن في استطاعتي أن أرد طلبه، فأعطيته الدينار. ومن الغريب أنه منذ ذاك الحين أخذ يعاملني معاملة باردة، ويقابلني بوجه جاف، مع أنه لم يكن ثمة حاجة إلى ذلك، لأني منذ ناولته (الدينار) نفضت يدي منه. لقد تغير حال رفيقنا وازداد اضطراباً بعد أن صار أباً. دخل يوماً إلى الدائرة وهو يقول:
- ألا تسألون ما حل بي؟ فأخذنا ننظر إليه بقلق وننتظر أن يذكر لنا ما حل به، ففتح حينذاك ملفاً صغيراً بيده وأخرج منه علبة صغيرة سوداء فرفع غطائها وأرانا إياها فإذا فيها: ثدي صناعي. وقال:
- إن زوجتي لن ترضع أبنتها بعد الآن، سنرضعها بالثدي الصناعي، فهل تدرون لماذا؟ حينذاك توقف عن إتمام كلامه كأنه كان يتردد بين أن يقول وبين أن يسكت ثم قال وهو خجل:
- لأنها حامل!
كان ينظر ألينا باضطراب، وكان منظره مؤلماً ومضحكاً معاً رأيته يوماً عند طعام الظهر أخرج قطعة (كعك) وقطعة من جبن (القشقاوان) وأخذ يأكلهما وهو يتمتم قائلاً:
- أنت تجوع وابنتك في البيت تأكل مرق اللحم الدسم أخذت علائم الحزن ترتسم على محياه وتظهر بأجلى مظاهرها، وبدت على وجهه معاني مؤلمة حزينة لبعد عهده بالموسى، وكان كثيراً ما يكلم نفسه كالمجانين، وكثيراً ما يشتغل بحسابه الخاص - حساب الدين - عن حساب الدائرة، ويسافر بفكره إلى أقصى حدود الخيال.(74/69)
عدنا يوماً من الغداء إلى الدائرة فرأيناه يخيط بطانة معطفه، ذلك المعطف الذي صاحبه زمناً طويلاً، فخجل منا وقال:
- أن زوجتي مريضة لذلك أنا أخيط ثيابي بيدي.
إنه لم يقل الحقيقة لأنه ما كان يخيط بطانة معطفه المفتوقة، بل كان يرفو بطانته التي تهلهل نسجها لطول الأيام. حينما ذكر لنا خبر ولادة المولود الثاني لم يكن فرحاً مستبشراً كما كان في أول مرة بل قال:
- لقد رزقت اليوم غلاماً. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وأخرج دفتره من جيبه وكتب فيه: 12 نيسان 1301
لم نره بعد ذلك شكاً أو تبرم، ولكنه كظم كل ذلك في قلبه صابراً مستسلماً لقضاء الله وقدره. سعينا مع الرفاق عند رئيس الشركة ليزيد راتبه فلم نفلح، وكان جواب الشركة:
- أن أولاد الموظفين ليسوا من صنع معاملها حتى تتكفل بهم. أربعة الدنانير للزوجين وللولدين. . . . صار طعامه عند الظهر الخبز والجبن بصورة منتظمة، ولم نعد نراه في منتزه ولا متفرج، وأنزل نوع تبغه الذي يدخنه درجة ثم درجات، وأصبح كثير النظر في أوراق الحساب، وفي آخر أحد الشهور زاره الصيرفي الملح يطالبه بالدين فصاح به:
- لن أعطيك، لن أعطيك شيئاً، افعل ما تشاء.
لقد كان قبل اليوم يكلمه سراً، أما اليوم فهو يكلمه علناً، لأنه لم يعد يخجل منا. جاءنا في صباح أحد الأيام وبيده علبة فيها ثدي صناعي. فقلت له:
- ما هذا؟
فقال:
- لا شيء
كأنه خجل أن يقول ما قاله أولاً، وفي ذاك النهار لم يزاول عملاً، ولكنه جعل رأسه بين يديه واسترسل في أفكاره حتى المساء، لا ينظر إلى شيء ولا إلى أحد. ولاحت مني التفاته إليه أحد الأيام فإذا هو ينظر إلى تقويم الأوقات ثم يخرج دفتره من جيبه؛ فقلت له:
- هل من قيد جديد لزائر جديد؟
فأرسل نفساً قصيراً وكتب في الدفتر: 10 مايس 1302(74/70)
ثم قال وهو ينظر إلي مبتسماً ابتسامة مؤلمة:
- لقد رزقت اليوم فتاة أخرى كنت أنا أشعر من أعماق نفسي بألم من كثرة أولاد هذا الرفيق، أما هو فكان يبكي من فرط تألمه، فحول عينيه عني وأقبل على عمله. أخرج يوماً ساعته من جيبه وفصل عنها سلسلتها الذهبية ولفها بورقة، فقلت في نفسي:
- لن نرى السلسلة الذهبية بعد الآن. إن رفيقي لم يدفع ثمن القهوة في هذا الشهر، وأصبح منذ ذاك اليوم يشربها مرة واحدة في النهار بدلاً من ثلاث مرات. ساءت حال الرجل وأشتد به الضيق، وظهرت ملابسه ملوثة ببقع الحبر، واستحال لونها، وتهلهل نسجها ووهى، فكنت إذا رأيته على هذا الحال رثيت له وبكيت عليه. ولقد دخل علي يوماً وعليه حلة جديدة لم أرها عليه قبلاً، ففرحت لذلك، إلا أن فرحي لم يطل، فقد قال لي غير خجل مني:
- إنها قديمة، ولكني صبغتها فصارت جديدة. وبعد هذا الاعتراف أصبحنا صفيين، وزال ما بيننا من الفتور الذي سببه (الدينار) واتخذني كاتماً لأسراره، يبثني آلامه وأحزانه. لقد سرد علي تدريجاً كل آلامه في الحياة. فذكر لي أولاً مبدأ صلته بزوجته وأساس هيامه بها، وأن ذلك كان في منتزه (كاغدخانه)، وبسبب تلك الأوراق الملونة. . . وأنه كان يأمل أن ينعم بالاقتران بها، إلا أنه لم ينعم بذلك إلا أسبوعاً واحداً وأتى بعد ذلك الشقاء. . .، ثم تجلت بعد ذلك حياة البؤس من اجتماع فقره وفقرها، فكان بينهما نزاع سببه عدم تمكنه من تأدية نفقاتها وطلباتها. . . ثم الأولاد. . .
وعاد إلى زوجته فقال:
- أنها لما رأت نفسها محرومة مما تشتهي من ملبس ومأكل ومشرب أخذت تعامله معاملة قاسية لا تطاق، ولكن ماذا يعمل هو إزاء ذلك، وهاهو لم يلبس بذلة جديدة منذ تزوج حتى الآن، وأن ياقته قد تمزقت فقلبها على قفاها لأنه لا يجد غيرها ولا يستطيع الوصول إليه، على أنه قد عزم على أن يتخذها من مشمع كيلا يتمزق سريعاً، وها أن ولديه الاثنين قد كبرا، وهما في حاجة إلى ثياب وإلى أحذية لا يجدها.
وكان بعد ذلك اليوم الذي نفض فيه جعبته أمامي، يسمعني كل يوم فصلاً من فصول حياته المؤلمة. نظر إلي يوماً وهو يريني قماشاً لأبنته الكبرى وقال:
- سأقول لك شيئاً. ثم عاد وقال:(74/71)
- لن أقول لأنك لا تصدق
إلا إني عرفت ما يقصده حينما رأيت دفتره في يده ونظره في تقويم الأوقات، لقد كتب في دفتره: 8 حزيران 1303
فقلت له: - أطفل أيضاً؟
قال: نعم غلام، وقد أصبحوا أربعة.
ثم قال وهو يبتسم: - أنهم لا يخطئون نوبتهم: فتاة ثم غلام، ثم فتاة ثم غلام، وهكذا. .
كان يضحك ولكن كان قلبه يبكي. فقال لي في نفس ذلك اليوم: إن الدخان يؤثر في صدره ويؤذيه، وهو يرغب ي تركه لو يستطيع. أدركت ما يقصده المسكين من ترك الدخان، فتأملت له كثيراً حتى كدت أبكي.
رزق ولداً آخر، فصار الأولاد خمسة، وفي ذلك اليوم خرجت نفسه من يده، فانه ما كان يدخل الدائرة ويجلس إلى منضدته حتى أخرج دفتره وكتب فيه وهو ينشج نشيجاً وهو يفتت الكبد ويصدع القلب: 5 تموز 1304
فقال بعض رفقائنا الجفاة ساخراً منه:
- ضع أرقاماً متسلسلة بجانب أولادك كيلا تنسى عددهم. . .
كانت الخامسة فتاة على الترتيب المعتاد. بعد ذلك بقيت معه ثلاث سنين في الوظيفة رأيته فيها ثلاث مرات يكتب في دفتره، كتب فيه بجانب اسم فتاة وغلامين: 14 آب 1305، 8 أيلول 1306، 14 تشرين الأول 1307
كأن الدهر كان يريد مداعبة هذا الرجل الفقير المسكين فهو يقذفه مصراً في كل سنتين بفتاة وغلام. . . لقد خلت محفظته من الأوراق (الملونة) بعد أن كانت تغص بها، ولم يبقى فيها غير دفتر صغير فيه صحيفة كاملة لتواريخ أولاده. بعد أن قيد تاريخ ولادة الولد الثامن. . . ألقى نظرة فاحصة إلى آخرها ثم جاء إلينا وقال:
- تعالوا لأريكم اتفاقاً غريباً. فاجتمعنا حوله فقال:
- اقرأوا من أعلى الصحيفة حتى أسفلها
فقرأنا فإذا فيها: آذار، نيسان، مايس، حزيران، تموز، آب، أيلول، تشرين الأول
ثم أخذ يشرح لنا مكان الغرابة في ذلك فقال:(74/72)
- انظروا إن بين كل ولد من أولادي ورفيقه ثلاثة عشر شهراً لا تزيد، لذلك كانت شهور ولادتهم متعاقبة لا فاصل بينها فقال أحدنا مستهزئاً أيضاً:
- الآن جاء صاحب تشرين الأول! وسيأتيك أربع آخرون حتى شباط. وفيه تنتهي المجموعة ويكمل عددهم (اثني عشر) لقد مضى على خروجي من خدمة الشركة أربع سنوات لم أر خلالها هذا الرفيق القديم، فلما رأيته اليوم سألته عن حاله فإذا (سيل) الأولاد لا يزال كما كان. وعلى ذلك فان (شباط) قد وضع (هديته) وتمت المجموعة التي بشر بها، مع أن المسكين لا يزال يلبس الثياب التي كانت منذ أربع سنين، وربما كان مرتبه لا يزال (أربعة دنانير).
هنا انتهت القصة التي رواها رفيقي فودعته وركبت الترام إلى بيتي، وأنا أفكر في ذلك الرجل المسكين وسوء طالعه، وأستنزل الرحمة والرضوان على جدث دفين معرة النعمان.
حلب
فتاة الفرات(74/73)
الكتب
(الخطابة): تأليف محمد أبو زهر
(الأدب العربي في آثار أعلامه): وضع لجنة من أدباء لبنان
(نسمات الأصيل): تأليف عبد العزيز رمضان وعبد الفتاح
العشري
(الثعابين): تأليف الدكتور حسين فرج زين الدين
(ابنة استريا): تعريب محمد عبد الفتاح إبراهيم
(ظلال القمر): نظم أحمد مخيمر
تدل هذه المجموعة من الكتب، فضلاً عما تظهر من نشاط التأليف في العالم العربي، على بعض مظاهر الحركة الفكرية عندنا، من حيث تشعبها واتجاهها ومقدار ما دخل عليها من تطور في طريقة عرض الآراء وبسطها وتوجيهها، وما دخل على المشاعر من آثار التجديد. أما أولها فبحث قيم في الخطابة وأصولها وتاريخها في أزهر عصورها عند العرب، اضطلع بوضعه الأستاذ محمد أبو زهرة أستاذ تاريخ الخطابة بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية، وهو كتاب كبير يقع في نحو أربعمائة صفحة من القطع الكبير جعله مؤلفه قسمين، فتناول في القسم الأول أصول الخطابة، فعرف هذا العلم وبين علاقته بالمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع، ثم تكلم عن فائدة الخطابة وطرق تحصيلها وقواعدها كالإيجاد والأدلة وموضعها الذاتية والعرضية، وآداب الخطيب وصفاته وما يتخللها من إثارة الأهواء والميول واستغلال العواطف، وغير ذلك من أصول هذا العلم كالتنسيق وما يدخل فيه من مقدمة وإثبات، ثم التعبير وحسن الأداء وما يصحبهما من موقف الخطيب وإشاراته وصوته، ولم يفته أن يبين في وضوح أنواع الخطب من سياسة ومن قضائية حتى الوعظ الديني والمحاضرات العلمية والخطب العسكرية. . الخ وفي القسم الثاني تكلم عن تاريخ الخطابة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، وفي العصر الأموي وصدر(74/74)
العصر العباسي مع إيراد نماذج لكل من هاتيك العصور. فأنت ترى أنه بحث قيم جدير بالثناء، كما ترى أنه موضوع طريف في مسألة لها أهميتها وخصوصاً في عصرنا هذا. عصر الرقي الاجتماعي والاتصال الفكري، عصر المجادلات السياسية والمناقشات البرلمانية والمحاضرات العلمية والوعظية في المجتمعات والنوادي وفي الراديو وغيره. وأني وأن كنت أشايع المؤلف الفاضل في رأيه أن الخطابة ملكة وهبة وطبيعية، فأني أرى معه أيضاً أن الأصول والقواعد الفنية لابد منها حتى للموهوبين، فما أبدع الجمع بين الاستعداد الفطري والأوضاع الفنية، هذا ولو لم يقتصر الأستاذ الفاضل على الخطابة عند العرب فتناول الخطابة عند أمم الغرب لكان موضوعه أتم، وكانت فائدته أعم، إذ
تتسنى بذلك المقارنة. ولا شك أن ما طرأ على الأمم من تغيير في نظم الاجتماع وطرق التفكير قد أدخل على الخطابة في العصر الحاضر عناصر أخرى جديرة بالبحث، والمؤلف كما يظهر في كتابه جدير بأن يفرد لها رسالة أخرى لا يتقيد فيها ببرنامج الدراسة وحدوده.
وأما الكتاب الثاني فعبارة عن نصوص منتخبة من النظم والنثر وفقاً لمنهاج البكالوريا اللبنانية قام بوضعه الأساتذة واصف بارودي، وفؤاد افرام البستاني، وخليل تقي الدين، وفي يدي الآن الجزء الأول منه، ويشمل الجاهلية وعصر صدر الإسلام، ويقع في نيف ومائتي صفحة من القطع الكبير، وقد طبع طبعاً أنيقاً في بيروت، أختار مؤلفوه الأفاضل من عصر الجاهلية شيئاً من أشعار امرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير وعنترة والنابغة الذبياني مع إيراد ترجمة قصيرة لكل منهم، وبيان ظروف معلقته، واختاروا من عصر صدر الإسلام للأخطل وفرزدق وجرير وعمر بن أبي ربيعة والحجاج بن يوسف وعبد الحميد الكاتب، على نحو ما فعلوه في العصر الجاهلي مع الإشارة هنا إلى الدواوين أو المؤلفات. وقد يظن القارئ أن مثل هذا العمل قليل الخطر، ولكن الواقع أنه من أدق الأعمال الأدبية، فالاختيار يحتاج إلى توخي الفائدة وإلى التقيد بالذوق العام، ومراعاة سن القارئ ودرجة استعداده، ثم ملاحظة القطع المختارة ومقدار دلالتها على تفكير صاحبها ونوازعه في الشعر والكتابة وما ينعكس فيها من أخلاقه وصفاته، وهذا بلا شك يزيد في قيمة النصوص، فالنصوص كما لا يخفى أمر لابد منه لدراسة الأدب وتذوقه، وهي الخطوة السابقة للنقد بل الأساسية له. هذا وكثير من النصوص ما تزيد قيمته في نفس الجمهور بحسب من أختارها لا من حيث هي(74/75)
في ذاتها. فإذا كان من يختار سليم الذوق طليعاً في فنه، جاءت مختاراته على قدر منزلته، وهذه النصوص التي أحدثك عنها تدل على ذوق وفن عظيمين.
وتجد ثالث تلك الكتب من نوع سابقه فهو عبارة عن مختارات من النظم والنثر، غير أنه يختلف عنه في طريقته، فلم يراع فيه ترتيب ولا تبويب، كما لم ينظر فيه إلى درس أو غاية فنية اللهم إلا الاستمتاع والغداء العقلي الذي يستمد من الآثار الأدبية عامة أياً كان شكلها أو موضوعها، وإنك لتجد فيه المقالة المعربة إلى جانب القطعة المختارة، إلى جانب الترجمة لشاعر أو كاتب، إلى قطع شعرية قديمة وحديثة متناثرة هنا وهناك دون أن تستطيع أن تعرف السر في اختيارها، اللهم إلا أنها قد أعجبت مختاريها، وبينما تجد بعض القطع منسوبة إلى أصحابها من أعلام الشعراء والكتاب تجد غيرها غفلا من كل إشارة، وتكاد لا تساوي شيئاً في معناها أو في أسلوبها. لذلك يحق لي أن أعتب في رفق على الأديبين المختارين عدم تنظيم
كتابهما، فان فيه الكثير من التحف الأدبية لو أنها عرضت بطريقة منظمة لكان ذلك أجمل وأدعى إلى الاستمتاع والانتفاع.
أما كتاب الثعابين فهو بحث يتناول الثعابين عامة والأنواع المصرية منها خاصة، قام بتأليفه أستاذ متخصص في علم الحيوان هو الدكتور حسين فرج زين الدين، وإن اختيار المؤلف الفاضل لهذا الموضوع الذي لم يسبقه إليه غيره في اللغة العربية، لدليل واضح يضاف إلى كثير غيره من الأدلة على مجاراة المصرين غيرهم من أمم الغرب في التخصص العلمي، وتناول المسائل العلمية على أمثل الطرق، والكتاب مملوء بالصور الدقيقة لأنواع الثعابين، والمصري منها خاصة، ولن أجد في وصفه أحسن مما قاله في مقدمته الفريق الدكتور أمين باشا المعلوف (قرأت الكتاب من أوله إلى أخره فوجدته مكتوباً بلغة علمية فصيحة، وأسلوب علمي سهل المنال، مما يثبت أن اللغة العربية غير قاصرة عن التعبير العلمي لمن أراده. هذا من جهة اللغة، أما العلم فقد بحث المؤلف الثعابين بحثاً وافياً ولا سيما ما كان منها في مصر وما جاورها وذكر أسمائها العربية الفصيحة والعامية، وإذا لم يجد لها اسماً فصيحاً ذكر الاسم العامي. وبحث في الحيات والإنسان وأنواع الحيات وأشكالها بوجه عام ثم بحث في تشريحها. . . الخ ثم بحث في السم وأنواعه وأعراض(74/76)
التسمم والمصل في علاج الملدوغين). ونحن نتقدم بجزيل الثناء للدكتور المؤلف على مجهوده المحمود.
وأقدم للقارئ بعد ذلك تلك القصة المعربة وهي (ابنة استريا) وتقع في جزأين، ولقد نشرت تباعاً في جريدة الأهرام ومعربها هو الأستاذ محمد عبد الفتاح إبراهيم، أما مؤلفها فهو الروائي الإنكليزي الذائع الصيت فيلبس اوبنهايم، صاحب الروايات المحبوبة عند جمهور القراء في الإمبراطورية البريطانية، وليس لدى الأصل الإنكليزي حتى أستطيع أن أحكم على ما إذا كان التعريب جيداً، غير أني أجد في جودة العبارة وسلامتها من الركاكة ما يرجح عندي هذا، أما موضوع القصة فموضوع غرامي ساحر ملئ بكثير من المواقف المدهشة والأوصاف الساحرة. (كتبه اوبنهايم بعد أن زار جزيرة (استريا) وسط المحيط الجنوبي وسمع القصة بأذنيه).
يبقى الكتاب الأخير (ظلال القمر) وهو ديوان صغير الحجم يقع في نحو تسعين صفحة للأديب أحمد مخيمر، مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق جيد، ومحلى بعدة صور ريفية بديعة.
وتدور معظم قصائده على وصف المناظر الريفية، وهي نزعة أحمدها للشاعر الفاضل فقد تناول البيئة المصرية المحبوبة، ولم يجر كغيره وراء أخيلة وصور لا تمت إلينا بصلة، ولذلك تلمس في شعره الروح القروية الرقيقة. وكثير من قصائده في القمر والحقول يقنعك بأن الشاعر لا يعرف التكلف، وحبذا لو اتجه شعراؤنا إلى الريف المصري فوصفوا جماله واستلهموا سحره، واستوحوا صفاءه وبهجته. ولكني إذ أغتبط بنزعة الشاعر من حيث الموضوع أقرر مع الأسف أنه كثيراً ما يسف في شعره إسفافاً قد يقربه به من الابتذال، ولكنه يسمو أحياناً سمواً يبشر بأنه مع الصبر والتجويد قد يأتي في المستقبل بما يجعل منه شاعراً مصري الروح والعاطفة.
الخفيف
1(74/77)
العدد 75 - بتاريخ: 10 - 12 - 1934(/)
إلى القرية يا بك. . .
أهلاً وسهلاً بعلي بك!. . . كيف حالك؟. . . آنست هنا وأوحشت هناك!. . منذ كم سنة لم أرك؟. . . نعم أكثر من ست سنين!. . .
وكان هذا اللقاء المفاجئ في ميدان إبراهيم أمام (النيوبار)، فمال بنا الشيخ في حماسة الشوق ودهشة المفاجأة إلى مجلس من مجالس هذا المقهى الحاشد، ثم أخذ يسألني عن أمري حتى نقع نفسه ونضح وده. فلما طال بنا نفس الحديث عطفته مترفقاً إلى عمره المفقود، فذاكرته عهود القرية أيام الشمل جامع والحبل واصل والدار نادية! فكانت إرسال هذه الذكر - وا أسفاه - ترتد عن شعوره الأصم ارتداد الأمواج عن صخور الساحل! لقد خفت الماضي في ذاكرته خفوت المحتضر؛ فرجعه البعيد لا يكاد يبين إلا في نظرة قصيرة من عينه المنتفخة، أو نفثة طويلة من نرجيلته المكركرة.
لشد ما صنعت المدينة بهذا الرجل! كان مكتنز اللحم فترهل، ومشبوب
اللون فانكفأ، وخفيف الحركة فثقلته الأملاح، وطليق المشية فقيدته
العلل؛ ثم كان يعقد مجلسه في القرية فيكون في جلالته ديوان عرش،
وفي مهابته جلسة محكمة! يلقي النظرة مثقلة بالدلائل فتأخذها العيون
وعداً لا يخلف، أو وعيداً لا يشفق، أو عاطفة لا تكذب، ويرسل الكلمة
موقرة بالمعاني فتلقفُها الآذان أمراً لا يرد، وقانوناً لا يخالف، ورأياً لا
ينقض، فأصبح في زحمة القاهرة قطعة من الوجود المتطفل، يتسكع في
الطريق، أو يتقمع في القهوة، أو يتمطى في البيت، وليس له رأي في
أمور الناس، ولا أثر في جهاد العيش، ولا شأن في طبقات المجتمع؛
وكان بليل اللسان حافل الخاطر إذا تحدث إلى الفلاحين في شؤون
الفلاحة، فلما حاول مناقلة المدنيين أحاديث السياسة والأدب والاجتماع،
قعد به الجهل عن مجاوراتهم، فغلب الوجوم على نفسه، وختم العي
على فمه!(75/1)
تخاذل حديث (البك) واسترخي حتى انقلب إلى أنة موجعة وشكوى أليمة! قال وهو يطلب من الغلام جمرة ترسل النار في النرجيلة الخامدة: منذ حبَّب إليَّ أبنائي - وهم في المدارس كما تعلم - أن أنقل البيت من القرية إلى الحاضرة، انقلب وجودي رأساً على عقب! فأنا أحيا كالغريب، وأعْمَه كالشريد، وأمشي كالتائه. نقصت غلة الأرض لإتكائي في زرعها على الناس، وزادت أكلاف العيش لاعتمادي في الوجاهة على الشرف، وفدحتني أعباء الديون فأنا من شواغلها في غصة لا تساغ وكربة لا تنسلي، وفسدت على سياسة الأسرة، فالبنون لا يريدون العمل في غير الحكومة، والبنات لا يرغبن الزواج في غير المدينة، والزوجة تأبى إلا
أن تكون كزوجة فلان باشا: لها في كل يوم ملهى، وفي كل أسبوع وليمة، وفي كل شهر (مودة)، وفي كل عام مصيف. فأنا يا صديقي مذبذب العيش بين هنا وهناك، لم أستفد من مزايا الحضر من أتساق الأمر واطراد الحياة، ولم أستعد محامد الريف من سعادة النفس وبساطة العيش وخلوص الفطرة وصحة الدين وسلامة الثروة؛ فهل تطمئن على هذا الحال نفس. وهل تشرق في هذا الوجود سعادة؟ فقلت له وقد تمثل في خاطري ما دهى القرية وأصاب الأمة من أمثال هذا الرجل:
لو أن سراة الريف استقبلوا من أمرك ما استدبرت لما كانوا على أنفسهم شراً وعلى قراهم جنابة. فانك لو بقيت في قريتك، وقمت كما كنت تقوم على تدبير ثروتك، وعاد بنوك من الكلية فاستثمروا علمهم فيها، ونشروا مدينته وثقافتهم بين ربوعها وأهليها، ورجع بناتك من المدرسة فبثثن في نسائها النظام والتدبير والذوق بالإرشاد والقدوة، ثم فعل غيرك ما فعلت، إذن لوفر فيها الرزق، وورف عليها الأمن، وانتقل إليها العلم، وتذوق أهلها المساكين جمال الحضارة ونعيم الصحة ولذة المعرفة، وشعرت أنت في هذه البيئة شعور الغبطة والرضا، لأنك أعنت فريقاً من ضعاف الناس على أن ينعموا بحياتهم ويقوموا بواجباتهم على الوجه الأكمل.
ولكن أكثر القرويين متى ارتجع كثيراً من المال، أو شدا قليلاً من العلم، أغلق (المضيفة)، وخرب (الدوار)، وخلف القرية للفاقة والجهالة والمرض. فلولا أشعة من نور الأزهر الخالد تنتشر في هذه القرى فتدعو إلى الله، وتهدي إلى الحق، لظل الريف وساكنوه على الحال(75/2)
التي عثر فيها بطلائع الإنسان.
أنت لا تزال عميد أسرة مجيدة، لها في سياسة الأمة صحائف مشرقة، وفي ثروة البلاد جهود موفقة، فافزع إلى ماضيك، واستصرخ عزيمة الجنس فيك، واستعد سلطانك على أهلك وبنيك، ثم عد إلى مسقط رأسك ومهبط نفسك ومنبت عواطفك ومنشأ هواك ومرتع صباك وموطن مجدك ومدفن جدودك!
عد إلى القرية يا بك!!
احمد حسن الزيات(75/3)
شهرٌ للثورة. . .
فلسفة الصيام
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته؛ أما منفعته للجسم وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثين حبة تؤخذ في كل سنة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشْغَبُ على التاريخ وأهله مستخفاً بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايته الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية، ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربَها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين أيدي علمائها لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها، تبدأ من حيث تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيثُ تبدأ.
يضطرب الاشتراكيون في أوربا، وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل. ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاماً عملياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقرٌ إجباريٌ تفرضه الشريعة على الناس فرضاً ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً؛ كما يتساوى الناس جميعاً في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام(75/4)
على كل مسلم؛ وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع.
فقرٌ إجباريٌ يراد به أشعار النفس الإنسانية بطريقة عمليةٍ واضحةٍ كل الوضوح أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حقَّقْتَ رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة مد البطن مده من قُوى الهضم فلم يُبقِ ولم يَذَرْ. ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواءً ليس بجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة، ويحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حَواشيَه العصبيةَ في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثةً من دخينة. وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: (الاطمئنان والمساواة) يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني. وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقى هذا المذهب كلُّه عبثاً من العبث في محاولة جعْل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغداء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها الطاقة. فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى: مبصرةٌ وعمياء، وخاصةٌ وعامة، وعلى نظامٍ وعلى فجأة ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره(75/5)
صوت الفقير يقول: (أعطني.) ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه كما يواسي المبتلى من كل في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لأحداث الترميم العصبي في الجسم؛ ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى يدخل في المحاق؛ إذ تنفتح العروق وتربو في النصف الأول من الشهر كأنها في (مدّ) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجَزْرُ) في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءةً وظلاما. وإذا ثبت أن القمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجزْره، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمرياً دون غيره.
وفي تَرَائي الهلالِ ووجوبِ الصوم لرؤيته معنى دقيقٌ آخر، وهو - مع إثبات رؤية الهلال وإعلانُها - إثبات الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبِر.
وهنا حكمة كبيرة من حِكَم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته. ويبقيه مصراً على الامتناع متهيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقةٍ نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة. وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم؛ ففي هذين تعرض الفكرة مارةً مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرِضت فرضاً لتربية إدارة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مراً؟
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ(75/6)
الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنةً لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟
أما والله لو عم الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عمليةً مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه - لا في الكتب - معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.
شهر هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: (هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي) فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو. وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله - ولو يوماً واحداً - حاملة في يدها السبحة. . .! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟ أنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من قوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زيادتها، ويحذف كثيراً من
فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق. إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتسبة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بنائها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في(75/7)
دورانها. ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
عجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه
المعنوية فيودعها مصرف روحانيته ليجد منها عند الشدائد مدد
الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة - عجيب جداً أن هذا
الشهر الاقتصادي هو من السنة كفائدة 8 و31 في المائة. . .
فكأنه يسجل في الأعصاب المؤمن حساب قوته وربحه، فله في
كل سنة زيادة 8 و31 من قوته المعنوية الروحانية.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمد عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: (كتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قَبْلِكم، لعلكم تَتَّقُون.) وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى) أما أنا فأولتها من (الاتقِّاء) فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف. وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فان ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذا الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي.
وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهةً فلسفية عالية لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل(75/8)
من لفظها؛ ويتوجه الصيام على أن شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له من القوانين النافذة هذا القانون العام الذي أسمه الصوم ومعناه (قانون البطن). . . .
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك (مدرسة الثلاثين يوماً).
طنطا مصطفى صادق الرافعي(75/9)
نظرية الاستقلال القومي وتطبيقها على التاريخ
المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أشارت إحدى الصحف الإنكليزية الكبرى أثناء حديثها أخيراً عن الشؤون المصرية، إلى نظرية تاريخية قديمة ترددها ألسنة الاستعمار في كل مناسبة، وهي أن مصر لم تكن مستقلة في أي عصر من عصور تاريخها. وترمي ألسنة الاستعمار بترويج هذه النظرية إلى غرض واضح، وهو أن مصر التي لم تتمتع خلال هذه الآماد الطويلة من تاريخها بنعمة الاستقلال والحرية، ليست جديرة بأن تتخذ مكانها بين الأمم المستقلة، وأن حكم التاريخ يقضي عليها بأن تكون دائماً مسودة دائماً لغيرها من الأمم القوية؛ فلماذا لا تكون إنكلترا هي الدولة التي تنفذ على مصر حكم التاريخ الخالد؟ ولماذا تحاول مصر أن تغالب قدرها، وطبيعتها كأمة استعبدت مدى الأحقاب تنافي طبائع الحرية والاستقلال؟
وهذه نظرية باطلة بلا ريب، يهدمها حكم التاريخ النزيه الحق؛ ولكنها أيضاً نظرية خطرة؛ وترويجها في العالم المتمدن يضر بالقضية المصرية ضرراً بليغاً، ويسيء إلى تراث مصر التاريخي، وإلى سمعتها كأمة ناهضة تطمح إلى تحقيق استقلالها. ومن الأسف أن هذا القول الباطل في تصوير التاريخ المصري، يروج لها في مصر ذاتها، ويتأثر به الكثير ممن يطغي على أذهانهم وعواطفهم سيل الثقافة الأجنبية، ولا يعرفون شيئاً من تاريخ بلادهم. بل من الأسف أن هذه النظرية الاستعمارية الخطرة، ما زالت تمثل في تعليم التاريخ في بلادنا وفي معاهدنا، لأن برامج التعليم الرسمية ما زالت بعيدة عن التحرر من أغلال المؤثرات الأجنبية، بعيدة عن رعاية النواحي القومية.
ولهذا نرى أن نعرض بهذه المناسبة إلى بحث هذه النظرية لنرى حظها من التطبيق على عصور التاريخ المصري. وأول ما يلفت النظر ذلك التصوير الخاطئ الذي يصور به تعاقب العصور والدول على مصر؛ فمصر حسبما تقول النظرية، قد غادرت منذ أيام الفراعنة عهد الحريات القومية إلى الأبد، وتعاقبت عليها الدول الغالبة تباعاً، فافتتحها الفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب في سلسلة متصلة من السيادة الأجنبية، وتعاقبت عليها بعد ذلك دول إسلامية أجنبية من الشرق والغرب ودول المماليك المختلفة حتى كان(75/10)
الفتح التركي، فاستمرت تحت السيادة التركية حتى كان الفتح الفرنسي وظهور محمد علي؛ ولم يطل أمد استقلالها عندئذ، حتى عادت فوقعت في قبضة الإنكليز، واتصلت بذلك حلقات استعبادها الطويل.
وتصوير أدوار التاريخ المصري على هذا النحو تصوير خاطئ من الوجهة العلمية، وتصوير مغرض وضعه الكتاب الغربيون منذ أوائل القرن الماضي - وهم أول من كتب عن تاريخ مصر في العصر الحديث - ومعظمهم متأثر بنزعة الغرب إلى استعمار الشرق، وتبرير هذه النزعة بالعوامل التاريخية والاقتصادية ونشر المدينة الحديثة. وقد كان لدعواهم أثر كبير في معظم ما كتب عن مصر؛ بل لقد تأثر بها الكتاب المصريون أنفسهم، وتأثرت بها دراسة التاريخ في مصر وبرامجه الرسمية؛ وأضحى واجباً علينا أن نحارب هذه النظرية الخطرة في كل مناسبة، وأن نبين خطأها من الناحية العلمية.
لقد توالت على مصر حقاً عصور طويلة من الغلبة والاستعباد، ولكنها تمتعت أيضاً بعصور طويلة من الحرية والاستقلال والسؤدد القومي. وقد قطعت مصر أيام الفراعنة آماداً بعيدة في ظل الحريات القومية والاستقلال المطلق، وكانت سيدة إمبراطورية مصرية تمتد من قلب السودان إلى الشام؛ وكان لها في تلك العصور من القوة والعظمة والمدنية الزاهرة، ما لم تتمتع به أية أمة من الأمم الغابرة. وإذا كانت مصر قد سقطت في عصور الانحلال فريسة النير الأجنبي، واستمرت ترزح نحو الف وخمسمائة عام تحت نير الهكسوس والفرس واليونان والرومان، فقد تمتعت بحرياتها واستقلالها قبل ذلك آلاف السنين.
ويبدو خطأ نظرية الكتاب الغربيين بنوع خاص في الحكم على تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي، فهم لا يكتفون باعتبار هذا الفتح بدء عصر جديد من الاستعباد بالنسبة لمصر، بل يرون أن مصر كانت طوال الدول الإسلامية التي تعاقبت عليها، أمة مسودة خاضعة لنير الحكم الأجنبي، ويعتبرون هذه الدول كلها، دولا غازية سيدة؛ وهو خطأ كبير في فهم الحقائق التاريخية وفي تصويرها. ويجب أن نذكر أولاً أن الأمة المصرية لبثت أيام الفرس واليونان والرومان تحتفظ بطابعها الفرعوني القديم، وأن هذه الدول الغازية لم تستطع أن تجعل من الأمة المصرية المغلوبة وحدة من وحداتها الاجتماعية، وأن كانت مصر قد(75/11)
تأثرت بلا ريب بنفوذ هذه الدول وحضارتها؛ وعلى هذا فقد كانت مصر في هذه العصور أمة مغلوبة حقاً، ولكن تحتفظ باستقلالها كوحدة اجتماعية. بل لقد استطاعت مصر أن تحتفظ بهذا الاستقلال الاجتماعي، حتى بعد أن أرغمت على اعتناق النصرانية، ولم تندمج قط في الإمبراطورية الرومانية، كما اندمجت أمم وشعوب أخرى. ولكن الأمة المصرية شهدت منذ الفتح الإسلامي تطوراً جوهرياً في تكوينها الاجتماعي؛ فقد استطاع العرب في أقل من قرن أن ينشئوا منها أمة إسلامية، وأن يجعلوا منها وحدة اجتماعية من وحدات الإمبراطورية الإسلامية الكبرى؛
واندمج الغالب والمغلوب في أمة جديدة موحدة تدين بالإسلام وشرائعه، وتتكلم بلغته، وتضطرم بروحه؛ ولم يأت القرن الثالث من الهجرة حتى أضحى التمييز عسيراً بين السلالة العربية النازحة، وبين السلالة المصرية المسلمة. وكانت مصر حتى منتصف القرن الثالث ولاية من ولايات الخلافة؛ ولكنها استطاعت من ذلك الحين أن تنزع إلى الاستقلال في ظل الدولة الإسلامية الكبرى، على يد بعض الحكام والقادة الخارجين على الخلافة؛ وبدأت من ذلك الحين سلسلة الدول الإسلامية المستقلة في مصر.
وهنا تعرض النقطة الجوهرية. هل كانت مصر سيدة أم مسودة في ظل هذه الدول؟ وهل كانت مصر الفاطمية والأيوبية، ومصر في عهد أسر المماليك المختلفة حتى الفتح العثماني، أمة مستقلة أم كانت ترزح تحت النير الأجنبي؟ وجوابنا مصر كانت في تلك العصور أمة مستقلة تتمتع بكامل حرياتها القومية، وكانت أمة سيدة لا مسودة، تسير في ميدان الحرب والسلام من ظفر إلى ظفر. أما هذه الدول الأجنبية المسلمة التي كانت تتبوأ السلطان والحكم، فلم تكن أكثر من أسر نازحة أو مستقرة تبوأت الرياسة لأصولها الملوكية أو لمؤهلاتها الخاصة؛ ولم تكن تتولى هذه الرياسة لحسابها الخاص، وإنما كانت تتولاها لحساب الأمة المصرية، وتعمل باسمها وبتأييدها، فكانت تغدو بعد استقرارها أسراً مصرية خالصة ليس لها مركز للرياسة غير مصر، وليست لها أمة أخرى تمثلها غير مصر؛ وحتى الدولة الفاطمية التي دخلت مصر غازية، لم تشذ بعد استقرارها عن هذه القاعدة، فكانت مصر هي مركز الدولة الفاطمية ومستقرها، وغدت الخلافة الفاطمية مصرية بعد أن كانت مغربية؛ ومنذ الدولة الأيوبية حتى الفتح العثماني تظهر الأسر السلطانية في مصر ذاتها،(75/12)
بين القادة والأمراء النابهين؛ ولم تكن تلك العروش والأسر التي قادت الأمة المصرية منذ الدولة الفاطمية إلى الظفر في ميادين الحرب، وإلى مراتب العظمة والهناء في ميادين السلام والحضارة، سوى عروش وأسر مصرية أو متمصرة، تعمل جميعاً لمصر وباسمها، ولم تكن تلك الجيوش الباسلة التي لبثت أكثر من قرنين تتلقى ضربات الحملات الصليبية في مصر والشام، وتبث أعمالها وانتصاراتها الروع في أمم الغرب، سوى جيوش مصرية تقودها تلك الأسر التي ارتضتها لزعامتها؛ على أن تلك الأسر الملوكية ذاتها لم تلبت غير بعيد أن فقدت زعامتها السياسية، وأصبحت خاضعة في التعيين والعزل لرأي الأمة المصرية ممثلة في زعامتها الدينية والفكرية؛ وأنه لمن التعسف أن تخرج من حظيرة الأمة المصرية أسراً نبهت فيها، وتولت زعامتها بحكم تراثها الموروث آماداً، وعملت لمصر ولم تعمل لسواها، ولم يبق لها من صبغتها الأجنبية سوى ذكريات المنشأ والماضي.
كانت مصر الإسلامية إذا، مذ تقلص عنها ظل الخلافة، أمة مستقلة، وكانت مصر الإسلامية أمة مستقلة حين غزاها الترك العثمانيين وحطموا بها صرح حضارة إسلامية زاهرة تكدست على مر العصور؛ ولقد كان الفتح العثماني عملاً همجياً، كما كانت فتوح القبائل البربرية لرومة وأقطار الدولة الرومانية؛ ولم يكن عملاً إنشائياً، كما كان الفتح الإسلامي؛ على أن مصر استطاعت في ظل أولئك الوندال أن تسترد غير بعيد كثيراً من مظاهر استقلالها المحلي؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى أصبحت السيادة العثمانية على مصر سيادة اسمية، كل ما يهم الحكام الترك منها أن يستدروا بعض الموارد والأموال من الشعب المحكوم.
ولا حاجة بنا للقول بأن مصر استردت كامل استقلالها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأن كانت قد عادت فانضوت تحت لواء أسرة جديدة.
مما تقدم يبدو تصوير النظرية الغربية لعصور التاريخ المصري بأنها سيادات أجنبية متعاقبة، واستعباد متصل للأمة المصرية، تعسفاً لا يؤيده منطق الحقائق التاريخية؛ ولو طبقناً هذه النظرية الخاطئة على التاريخ القومي لبعض الأمم الأوربية العريقة في الاستقلال والحرية لا نهينا في شأنها إلى مثل ما ينتهي الكتاب الغربيون في شأن مصر. ولنتخذ فرنسا مثلاً، فقد نزحت إليها عقب انهيار الدولة الرومانية قبائل غازية من الشمال،(75/13)
وأقام بها (الميروفنجية) على يد زعيمهم كلوفيس، منذ القرن السادس مملكة جديدة هي مملكة الفرنج، ولما انحلت أسرة الميروفنجية، قامت بأمر الفرنج الأسرة (الكارلية) القوية، وانتزعت عرش الفرنج، واستمرت في زعامة فرنسا حتى أواخر القرن التاسع، ونبغ فيها أميران من أعظم أمراء النصرانية هما كارل مارتل الذي رد العرب في بلاط الشهداء (سنة 732م) وكارل الأكبر (شارلمان) أعظم ملوك الغرب في عصره؛ وكان الميروفنجية والكارلية كلاهما من القبائل الألمانية الشمالية، فهل نعتبر أن فرنسا كانت في هذه العصور أمة مستعبدة ترزح تحت حكم النير الأجنبي، لأن أسراً أجنبية نزحت إليها، واستقرت بها، وتولت زعامتها، وعملت لحسابها وباسمها؟ وهل نعتبر نابليون (وهو إيطالي الجنس والأصل) فاتحاً لفرنسا مغتصباً لعرشها وزعامتها، ونعتبر أن فرنسا كانت في عصره خاضعة للحكم الأجنبي؟ ونستطيع أن نلاحظ بهذه المناسبة أيضاً أن أدولف هتلر زعيم ألمانيا وسيد مصيرها اليوم، إنما هو أجنبي نمساوي المولد والنشأة؛ ومن المعروف أن الأسرة التي تتولى عرش إنكلترا اليوم، إنما ترجع إلى أصل ألماني، وأن معظم الأسر الملوكية الأوربية ترجع إلى أصول أجنبية، وإذا كانت هذه الأسر اليوم لا تتمتع بمثل ما كنت تتمتع به أسر السلاطين من السلطة المطلقة، فذلك لأن روح العصر قد تطورت، وغاضت روح العصور الوسطى، وانتهت الأمم بأن جعلت من العروش رمزاً قومياً ليس غير.
وإذا كانت مصر قد رزحت تحت نير الحكم الأجنبي في بعض أدوار تاريخها، فهي لم تشذ في ذلك عن معظم الأمم الغربية التي تتمتع اليوم بكامل حريتها واستقلالها، ولنضرب لذلك مثلاً بأمة عظيمة هي إيطاليا، التي لم تتمتع باستقلالها إلا منذ أواخر القرن الماضي، والتي لبثت طوال العصور الوسطى والحديثة مسرحاً لمطامع الدول والعروش الأجنبية، ولم تستقل فيها سوى البندقية وبعض الجمهوريات الصغيرة. ولنضرب مثلاً آخر باليونان، وقد لبثت زهاء ألفي عام ترزح تحت نير الحكم الأجنبي، منذ الرومان فالبنادقة فالترك، ولم تنل حريتها القومية إلا منذ قرن فقط، ولم تنلها إلا بمؤازرة أوربا النصرانية؛ وهناك غير إيطاليا واليونان؛ وهناك هولندا والبلجيك، وهناك بولونيا التي لبثت ثلاثمائة عام ممزقة بين دول ثلاث من جيرانها، وهنالك رومانيا والمجر، وتشيكوسلوفاكيا، فهذه كلها أمم حديثة في(75/14)
الاستقلال والحريات القومية، ولم يقل إنسان إنها من أجل ذلك تستحق أن يسلب استقلالها وأن تسكن إلى نير المتغلب إلى الأبد. والخلاصة أننا كلما تأملنا هذه النظرية الاستعمارية في تصوير أدوار التاريخ المصري، كلما بدا بطلانها وتعسفها وما يحفزها من الغرض والهوى.
فليستعرض الشباب المصري على تاريخ بلاده، كلما طرقت آذانه هذه النغمة الغادرة. فتاريخ مصر، كتاريخ الأمم العظيمة، حافل بمواطن الفخار والمجد، وعصور الحرية والاستقلال.
محمد عبد الله عنان المحامي(75/15)
جزيرة العرب
صفحة مجيدة من تاريخها القديم
بقلم الأستاذ رزوق عيسى
كلمة عرب وأصل معناها. المكتشفات الحديثة. الكتابات الأثرية. ملكة سبأ والسبئيون. معين والمعينيون. اكتشاف أسماء 32 ملكاً. التجارة القديمة وطرق المواصلات. اللبان والأطياب. المعارف والعلوم في الجاهلية. التقاليد والروايات القديمة. الإله أونيس. الأنباط. وطن الساميين الأول. الحروف الهجائية العربية أقدم من الحروف الفينيقية. شهادة من التواريخ القديمة العهد.
ذهب اللغويون والمؤرخون في معنى كلمة عرب مذاهب متعددة، فمنهم من قال إنهم تسموا باسم جدهم يعرب بن قحطان، وذهب فريق إلى أن العرب مشتقة من (عربا) وهي مفقودة في العربية إلا أنها موجودة في العبرية والآرامية بمعنى البادية والصحراء، ومنهم من زعم أن كلمة (عرباء) وردت في العربية بمعنى خالص في قولهم العرب العرباء أي العرب الخلص، وهم أهل البادية؛ وقال آخرون إن اسم العرب وبلادهم التي تدعى جزيرة العرب مشتق من لفظة (عربة) وهي أرض بتهامة دعيت بذلك أخذاً من يعرب بن قحطان جد العرب الأولين، وفي فلسطين موضع يسمى عربة أيضاً كما جاء مراصد الاطلاع.
والأقرب إلى الصواب أن لفظة عرب مشتقة من (أوربي) الشمرية بمعنى سكان الخيام، فأن كلمة أور - أو - أورو التي أصبحت في عصر البابليين والآشوريين بمعنى مدينة كان يراد بها في عهد الشمريين الخيمة، ثم أطلقت على الدار من باب التوسع. وهذا الاشتقاق ليس ببعيد، لأن العرب من أعرق الشعوب في القدم، وقد عاصروا جميع الأمم المعروفة في التاريخ كالشمريين والآكديين، والبابليين، والكلدان، والآشوريين، والميتانيين، والحثيين، والمصريين، والفرس، واليونان، والرومان. وكانت بلاد العرب تعرف عند الآشوريين باسم أريبي وأهلها أوربي أو أوروبي، ومعناها ديار ساكني الخيام.
جزيرة العرب قديمة جداً، ولا تفوقها في القدم ديار مصر وبابل، وقد جاء في كتاب مصادر البشر لمؤلفه صموئيل لينغ الإنكليزي ما نصه: (عثرنا مؤخراً في أصقاع عربية على أنباء آثار وكتابات ربما ضارعت في قدمها أنباء بلاد مصر والكلدان، فقد كانت بلاد العرب، ولم(75/16)
تزل، من الأقطار المجهولة الوعرة، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة حينما أصبحت مقدسة في نظر أصحابها، ولا يجوز للرواد والرحالين الأجانب أن يطئوا أرضها، قصد الاكتشاف والتنقيب في طلولها الدوارس).
وقد توفق نفر من السياح الأوربيين وعلمائهم إلى التوغل في بلاد العرب، بعد أن خاطروا بحياتهم وقاسوا من المشاق والأهوال ما لا يوصف، بيد أنهم نالوا مبتغاهم أخيراً، واكتشفوا مواقع المدن القديمة، ونسخوا كتابات عديدة وجدوها مطمورة في الأنقاض ومسطورة على الجدران المتداعية. وفي متاحف أوربا ودور كتبها آثار البلاد العربية المنقوشة على الحجر، وعلى ألواح نحاسية، وعددها يبلغ اليوم نحو ثلاثة آلاف عادية. ومن العلماء الذين جاهدوا جهاد الأبطال في الوقوف على مجاهل هذه البلاد الدكتور غلازر فأنه راد الديار العربية الجنوبية ثلاث مرات، ونسخ في خلالها من الصور والكتابات التي عثر عليها في رحلاته 1031 صورة حملها معه إلى مسقط رأسه، وبينها آثار نفسية، ولأكثرها فائدة تاريخية عظيمة، إذ وقفت علماء الآثار على ما كانوا يجهلونه من تاريخ هذه البلاد ومدينتها في جاهليتها.
لقد استفاد الباحثون المدققون فوائد شتى من أنباء تلك الكتابات ومن غيرها أيضاً، حتى تسنى لهم أن يكشفوا النقاب عن أصل السكان القدماء، ويزيلوا الغموض والإبهام عن تاريخهم ويستقصوا أخبار الأمم الغابرة، وما كانت عليه البلاد العربية من الحضارة والتجارة في العصور العريقة في القدم، واليك ما قاله الأستاذ سايس: (إن ماضي تاريخ شبه جزيرة العرب المظلم قد انبثق فجره بغتة فسطعت أشعته وأنارت وجه المسكونة، فقد وجدنا أن البلاد العربية كانت قبل عصر صاحب الشريعة الإسلامية بزمن مديد أرض الثقافة والأدب والحكمة، وكانت موقع ممالك ودول قوية بلغت شأواً بعيداً في تاريخ العالم القديم، وانتشرت في ربوعها تجارة واسعة) إلى آخر ذلك المقال البديع.
إن زيارة ملكة سبأ أورشليم ومثولها بين يدي سليمان ملك إسرائيل تعد من اللمع الأولى الواردة في الأخبار القديمة، وقد جاء ذكرها في سفر الملوك من التوراة، وكانت تلك الملكة العربية، ويظهر أنها قدمت من ديار كانت لها حضارة عريقة في القدم، ولها سطوة عظيمة بين الأمم، والهدايا التي قدمتها إلى سليمانتدل على أنها جلبت من حاصلات قطر اشتهر(75/17)
بلبانه وأطايبه، وهذا القطر واقع في جنوب بلاد العرب، وقد عرف باسم سبأ أو شبأ في تاريخ العالم القديم.
انتشرت تجارة هذه المملكة القديمة العهد في أقطار العالم، امتدت إلى بلاد الحبشة والصومال حتى ساحل أفريقيا الشرقي، والكتابات الآشورية تؤكد ذلك، فقد ورد فيها أن سبأ كانت مملكة عظيمة في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت تخومها تحاد تخوم مملكة نينوى من جهة الشمال في عصر (ثغلث فلاسر) وسرجون الثالث، فيستفاد من هذا النبأ وغيره أن بلاد العرب كانت مملكة قديمة جداً، وقد تدرج الحكم فيها من الملوك الكهنة وحكومات المدن المستقلة ودويلات وإمارات إلى اتحاد مملكة عظيمة واسعة الأطراف فسيحة الأرجاء كالتطور السياسي الذي نشأ في مصر وفي بلاد الكلدان. وكان الملوك الكهنة يعرفون باسم (مكارب) كما جاء في بعض الآثار، وواحدهم (مكرب) ويراد به رئيس كهنة السبئيين. وتدل هذه الكلمة على أن الحكم الأول كان عبارة عن دولة تحت رياسة الله (طقراسيه)، هذا ولفظة سبأ اسم آله أطلق على بقعة في بلاد عربية، كما أطلقت كلمة أشور على صقع في بين النهرين وتفيد معنى الآله.
ورد في بعض العاديات أن مملكة سبأ القديمة تأسست على أنقاض دولة أقدم منها عهداً نشأت في هذا الاقليم وعرفت باسم معين، فقد عثر الباحثون المنقبون على أسماء 32 ملكاً من السبئيين والمعينيين، وهذا عدد كبير لا يستهان به، بالنسبة إلى قلة المكتشفات الأثرية في تلك الأصقاع. وجاء في بعض الكتابات أن سلطة بعض الملوك المعينيين لم تكن محصورة في المنطقة الجنوبية بل منتشرة في كل بلاد العرب حتى تخوم سورية ومصر؛ ويؤيد ذلك كل التأييد عثور المنقبين على ثلاثة أسماء من أولئك الملوك في أطلال تيماء الوارد ذكرها في العهد القديم من التوراة في الطريق المؤيدة إلى بلاد الشام وسيناء. وفي البلاد العربية الجنوبية وجدت صحيفة نذر جاء فيها أن أصحابها يشكرون الآله (اطار) على نجاتهم من الحرب الناشبة بين حاكم الجنوب وبين حاكم الشمال، وخلاصهم من القتال الواقع بين مظة ومصر، ويحمدون الآله على عودتهم سالمين إلى مسقط رأسهم مدينة قوران؛ وأصحاب هذه الكتابة يصرحون بأنهم كانوا تابعين لملك معين المدعو (رابي - يدعى - ياثي) وهو أحد حكام بلاد تسار وأشور ووراء ضفة النهر.(75/18)
لقد ورد اسم تسار مراراً عديدة في الآثار المصرية كحصن قائم في جهة الحدود العربية، وموقعه يمثل اليوم طرفاً من قناة السويس. هذا وكتابة أخرى تشير إلى غزة، ويظهر من مضمونها أن سلطة الحكام المعينيين امتدت إلى أردم فبلغت فلسطين وما جاورها من البقاع، والقبائل القاطنة فيها خضعت لسلطانهم. وقد أسست المعاقل في البراري والقفار للمحافظة على طرق المواصلات، وأنشئت المدن العظيمة في تلك الأصقاع النائية لتوسيع نطاق التجارة والعمران منذ القدم، لأن سيل التجارة بين الشرق والغرب كان متدفقاً بعضه يجري بطريق البحر الأحمر وبطريق خليج فارس، ومن أطراف هذه المياه الشرقية ينتقل إلى البحر المتوسط، وبعضه يسير في طريق القوافل مجتازاً آسيا.
وكان الاستيلاء على أحدها هذه الطرق يعد طريقة ناجحة في ترويج التجارة وباباً للمواصلات مع ممالك عديدة، فان سليمان ملك إسرائيل لما عقد معاهدة مع مدينة صور أخذت تجارة مملكته تنتشر انتشاراً مطرداً حتى بلغت شأناً عظيماً، ونالت شهرة واسعة، فقصدها التجار الأجانب من كل فج وناحية، والحروب التي وقعت بين المصريين والآشوريين والحثيين والعيلاميين والبابليين كان منشؤها السيطرة على طرق المواصلات، ليتسنى للدولة القابضة على أزمة تلك المسالك أن تروج تجارة بلادها أولاً ثم تفرض الضريبة على البضائع والأموال التي تمر في أراضيها، وبهذه الوسيلة يزداد إيرادها وتقوى شوكتها.
كان للبلاد العربية موقع تجاري مهم، وكانت مركز اتصال بين الشرق والغرب تحميه الصحاري الرملية الوعرة من هجوم الأعداء وتوغلهم في قلب الجزيرة، وتكتنفه البحور فتدفع عنه غارات الدول؛ وكان للأصقاع الجنوبية تجارة واسعة وشهرة عظيمة، فان اللبان والأطايب كانت تصدر بمقادير كبيرة تنفق في أسواق العالم المعروف في ذلك الزمن القديم، وكانت توقد في الهياكل والمذابح والمعابد في قصور الملوك والأمراء وفي دور الأغنياء، ولم يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه، لأنها كانت مفروضة في الديانات القديمة كالقرابين والذبائح. فإذا تناولنا مثلاً هيكل سليمان نجد أن فيه كانت تقرب الذبائح ويوقد البخور لتستعطف (يهوه) رب الجنود، ومثل ذلك كان يجري في ألوف من الهياكل والمعابد المنبثة في أطراف آسيا، وكان يجلب معظم اللبان والأطياب المستهلكة في الأماكن(75/19)
المقدسة من بلاد العرب.
وقد ذهب الكاتب المحقق صموئيل لينغ أن سبب رواج تجارة اللبان والأطياب في الشرق كان لتعطير هواء الهياكل والمذابح والمعابد حيث يكثر فيها ذبح الذبائح وإهراق دماء الكبوش والعجول وتنتشر في أطرافها غازات فينتن المكان ويفسد الهواء؛ ومما لا ريب فيه أن أحسن اللبان وأنفسه كان يجلب من بلاد العرب. وقد عثر أحد المنقبين على صفيحة جاء فيها (إن الروائح العطرية والأطياب السبئية يفوح شذا عبيرها في السواحل العربية الميمونة).
أن للمكتشفات الأثرية في بلاد العرب فوائد جمة لأنها وقفت طائفة من العلماء البارزين على كثير من أنباء هذه الأمصار وعادات أهلها وأسباب اتساع التجارة التي كانوا يتعاطونها مع الديار الدانية والقاصية. وقد أرشدتنا كتابات العاديات إلى أن بلاد العرب عريقة في القدم، ومن ربوعها نزح طوائف من الناس ومصروا دياراً أخر. وكان للبلاد العربية حضارة وعلم وأدب، ولكتابها حروف هجاء خاصة بهم، وأسلوب كتاباتهم يرتقي إلى عهد الكتابة المصرية القديمة وإلى الخط المسماري؛ وقد سبقت بأزمنة طويلة أقدم صور الكتابات بالحروف الفينيقية. وفي عام 1810 اكتشف سيتزن أول كتابة عربية فنسخها ونظمها وصفها حسب الحروف الحميرية المنسوبة إلى حمير. وقد قال العلماء إن لغة تلك الكتابة كانت سامية، وحروف هجائها تماثل الحروف الحبشية، ويظهر أنها معدلة على الحروف الفينيقية وهي مكتوبة بصورة عمودية بدلاً من الأفقية.
وقد أدت مكتشفات وأبحاث الدكتور غلازر إلى أن الكتابة الحميرية قائمة على نوعين أو مجموعتين من الكتابة: فالأولى كانت أقدم من الثانية، وتتضمن حركات أصلية وصور وأشكالاً نحوية وقد عهدها المستشرقون كتابة معينية، بينما قالوا عن الكتابة الثانية إنها سبئية، لأن لهجتها وصورة كتابتها تدل على أنها أحدث عهداً من شقيقتها. وظهر ظهوراً بيناً أن قواعد الصرف والنحو وأنواع العلوم والآداب العلمية المعينية سبقت آداب وعلوم السبئيين بزمن وافٍ بحيث أصبحت الأخيرة قابلة لتغيرات عديدة طرأت على مفردات لهجتها ومحصت صرفها ونحوها من الشوائب والزوائد، وليس في هذا التبدل العجيب يد أجنبية فعلت فعلها الأدبي في فتوحها هذه البلاد، بل يرى جمهور المحققين أن القبائل(75/20)
العربية تطورت أحوالها بجهودها وانتقلت من منزلة إلى أخرى بفعل تدرج عناصرها في سلم النشوء والارتقاء حسب سنة الطبيعة.
أن مملكة السبئيين يرجع عهد تاريخ حضارتها إلى عصر سليمان ملك إسرائيل، أي قبل الميلاد بألف سنة؛ وقد كانت موجودة قبل هذا الزمن بقرون عديدة، لأن جدول أسماء أثنين وثلاثين ملكاً من المعينيين والسبئيين يدل دلالة واضحة على رسوخ قدم هذه الديار في الحضارة والعمران. ومن المرجح أن المكتشفات المقبلة ستقف أبناء هذا العصر على كثير من الأمور التي كان يجهلها أسلافهم. نعم أن أقدم الكتابات المكتشفة تشير إلى حضارة وتجارة وعلم وأدب بزغت أنوارها في ديار قيدار وسالع قبل عهد التاريخ، وعليه قال أحد الأثريين: يجب أن تصف بلاد العرب في مصاف ديار مصر والكلدان لأنها إحدى الممالك القديمة التي ظهر فيها جماعات من القبائل أبلغوها إلى ذروة الحضارة والسؤدد منذ العصور المتوغلة في القدم، وقد نطقت بعض العاديات شهادة صادقة، وهي أن جنوب بلاد العرب يرتقي عهد مدنيته إلى عصر سرجون وإلى منيس.
تشير روايات قديمة وتنبئ أسانيد أثرية عند بلاد العرب الجنوبية أو عن البلاد المتصلة بساحل أفريقية من جهة الشمال الشرقي بأنها كانت مصدر الحضارات الأخرى، فقد جاء في أساطير البابليين أن الآله (أونيس) وهو إله الثقافة عندهم كان يخرج من الخليج الأرثري أي خليج فارس ويهذب الكلدان القدماء، وهو أول من علمهم العلوم ولقنهم الفنون وشهد قدماء الفينيقيين، وقالوا أن منشأهم كان من جزر البحرين الواقعة في الخليج المشار إليه. هذا والمصريون كانوا ينظرون إلى البنط بكل احترام، ويجلون قدرهم ويرفعون منزلتهم فوق الأمم الأخرى. ومن المؤكد الثابت أن موقع هذه الديار كان يمثل بلاد العرب السعيدة وأرض السومال. وقد ذهب أهل مصر في ذلك العهد إلى أن مصدر ثقافتهم وينبوع آدابهم ومعارفهم ومدنيتهم لم يكن في مصر العليا والسفلى بل في مصر الوسطى في أبيدوس حيث حكم توت وأوزيريس، وهناك مضيق يفصل النيل عن البحر الأحمر، وهذه الشقة الضيقة من الأرض كانت من أهم وأعظم طرق المواصلات التجارية بين البلاد العربية ومصر.
كانت أواصر الألفة والاتحاد متينة بين المصريين والبنطيين منذ الأزمنة القديمة، وهذه(75/21)
قضية تؤيدها الكتابات المصرية القديمة العهد، فان ما دون في بطون الأسفار عن حسن الجوار بين هاتين المملكتين يخالف ما جاء مسطوراً على الحجر من عبارات النفور والكراهية الموجهة إلى سائر الأمم المجاورة لمصر كالحيثيين والليبيين والزنوج وغيرهم؛ فأن المصريين كانوا يلقبونهم بالبرابرة، والوحوش الضارية، والأوغاد والأنذال، وهذه شهادة ناطقة ثبت ما كان للعرب القدماء من الشهامة وعزت النفس وإغاثة الملهوفين.
وقد جاء منقوراً في بعض الآثار أن طائفة من السفن التجارية أبحرت إلى ديار البنط في عصر الملكة العظيمة (هتسو) وهي إحدى ملكات الدولة التاسعة عشرة، وكانت الغاية من تلك السفرة مبادلة البضائع بين القطرين دلالة على الولاء والصفاء. وعادت تلك السفن إلى مصر مشحونة بالسلع النفيسة، حتى أن ملك تلك الديار وزوجه رافقا ذلك الأسطول التجاري، وحملا معهما هدايا لا نظير لها إلى فرعون مصر. ويظهر أن محالفة تجارية كانت معقودة بين البلادين، وأن سفن هاتين الدولتين تمخر في البحر الأحمر وفي سواحل أفريقية منذ القدم.
أن رسوم رؤساء البنط الطبيعية المنقورة على الأنصاب المصرية تشبه كل الشبه الرسوم الطبقة المالكة في ديار مصر في عصورها الأولى، وجميع الأدلة تحملنا على الاعتقاد أن وطن الساميين الأول كان في الجنوب الغربي من آسيا. وقد ذهب جماعة من المؤرخين إلى أن جزيرة العرب كانت مهد الأقوام السامية قبل عصر التاريخ، فأن الباحث يرى أثارهم ظاهرة في كل صقع كشعب مهاجر أو فاتح أو غاز سكان بلاد أخرى أقدم منهم عهداً ويختلفون عنهم في اللسان والعادات والعنصر؛ غير أن الأمر لم يكن كذلك في بلاد العرب، فأن أهاليها كانوا أصليين فيها. فإذا أخذنا مثلاً ديار الكلدان والآشوريين نراها تمثل أقواماً وشعوباً وأمماً جاء عنهم في الأسانيد القديمة وفي الروايات المأثورة أنهم كانوا قد وفدوا على بين النهرين من الجنوب عن طريق خليج فارس، وعلى طريق بادية الشام من بلاد العرب، فأخذ هؤلاء النازحون شيئاً فشيئاً يتحدون بالشعب الشمري والأكدي بالمصاهرة؛ وبعد مرور أجيال عديدة تغلب العنصر السامي العربي على سائر العناصر، وأصبح سيد هذه الديار، وأسس حضارة جديدة في عصر
حمورابي ملك بابل العظيم الممدود أول من جمع وسن الشرائع في العالم القديم. بيد أن(75/22)
العنصر السامي لم يؤثر في حضارة المصريين القدماء، لأن الساميين لم يحتلوا بلادهم احتلالاً طويلاً، بل كانوا يحملون عليهم حملات متواصلة؛ وقبل أن ترسخ أقدامهم في تلك الربوع كانوا يردون على أعقابهم مدحورين. أما في سورية وفلسطين فكان الفينيقيون والكنعانيون والعبريون، وهؤلاء الأقوام لم يكونوا بالسكان الأولين، لأنهم حينما احتلوا هذه البقاع وجدوا فيها عناصر أخرى كل كالأموريين والحيثيين واليبوسيين، وأصل هذه الشعوب يرجع إلى السكان الأصليين المنتمين إلى طائفة من القبائل المنقرضة المعروفة في التاريخ القديم باسم زاموميم، ومن هؤلاء من وفد إلى هذه الديار من خليج فارس ومنهم من تخوم بلاد العرب. يجد المنقب في بلاد العرب العنصر السامي سائداً منذ الأزمنة القديمة، ولا يجد له أثراً في صقع آخر في ذلك العهد العهيد، فقد انتشرت لغته وسارت عاداته وعمت الديار المجاورة لبلاده، ثم تدرجت حضارته السابقة لمملكة المعينيين العريقة في القدم وذلك في أواخر العصر الحجري وأوائل عصر النحاس. وهنا يشاهد الباحث العصريين مشتبكين متلازمين؛ فقد أنتقل القناصون والسماكون من عصر الانحطاط إلى عصر التجدد، فبلغوا مستوى ثقافة حديثة وحياة اجتماعية عالية، إذ أصبحوا فلاحين وزارعين ورعاة غنم وتجاراً وصناعاً.
لنرجع من تلك الحضارة القديمة ولنعد النظر في اكتشاف الكتابة المعينية التي تدلنا على وجود حروف هجائية أقدم عهداً من الحروف الفينيقية التي اشتهرت في العالم القيم بأنها الحروف الأولى التي استنبطت لغاية تدوين الأفكار وصيانتها من الاندثار والطموس. وقد أجمع أهل التحقيق والتدقيق على أن حروف الهجاء اليونانية والرومانية وسائر حروف هجاء الأمم الحديثة مقتبسة كلها أما رأساً أو بوسيلة من الوسائل من مخترعيها الفينيقيين، غير أن كتابة المعينيين كشفت اللثام عن صور كتابة أقدم عهداً من جميع الكتابات التي ظهرت وانتشرت في ذلك الحين، ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء الواقفين على أصل اللغة وتركيبها وتاريخها إلى أن الحروف الفينيقية مشتقة من الحروف المعينية.
لا شك في أن اللغة المعينية وحروفها أقدم عهداً بكثير من لغة الساميين وكتاباتهم، ومن المحتمل أن العناصر السامية اختارت تلك الحروف بعد أن عدلتها وهذبتها حسب طبيعتها وميلها. وكان للمقتبسين علاقات تجارية ومواصلات بريدية مستمرة تحمل على ظهور(75/23)
الجمال فتخترق القوافل صحاري بلاد العرب وتعود حاملة لبانها وطيوبها وأفاويهها وآدابها ومعارفها، ولا يعقل أن تلك الأقوام استمرت جاهلة استعمال حروف الهجاء حتى اقتبستها فينيقية من مصر ونشرتها في أطراف المعمور. وقد أيد الأستاذ سايس هذا الرأي بقوله (أنه إذا ذهبنا إلى أن مصدر الحروف ومنشأها كان في بلاد العرب يكون أحسن حل لهذه المعضلة) لأن أسماء صور الحروف الفينيقية ليس فيها أدنى شبه في كثير من الأحوال للرموز والإشارات التي تدل عليها، فأن تناولنا - مثلاً - الحرف الأول وهو ألف (ثور) فأن رسم الألف يشابه كل المشابهة رأس ذلك الحيوان في الكتابة المعينيية، هذا وإن أمعنا النظر في الحروف الهيروغليفية وهي الحروف المصرية القديمة فلا نجد شبهاً لذلك الحرف.
أن المكتشفات واللقي المقبلة في بلاد العرب ستوقفنا على أنباء الشعوب التي سكنت تلك الأصقاع ومصرتها قبل عصر التاريخ، فقد كانت بلاد الكنعانيين متحضرة قبل حملة الإسرائيليين عليها وتدويخها، وكان لهم حروف هجاء وآداب خاصة بهم تعد أقدم عهداً من الكتابة الفينيقية وآدابها. وهذا التنقيب في ديار العرب وفلسطين سيكشف النقاب عن وقائع وأنباء لا تزال مطمورة في أنقاض المدن القديمة التي تضارع بل ربما تفوق في قدمها بلاد مصر والكلدان، وهي تنتظر بفروغ صبر معاول المنقبين لتنبشها من مدافنها وتنشرها في عالم الظهور لكي ترى نور الشمس الساطعة، بعد أن احتجبت عنها قروناً عديدة.
بغداد
رزوق عيسى(75/24)
عقوبة الإعدام
رأي الفريد روكو وزير حقانية إيطاليا
للأستاذ محمود خيرت
في سنة 1851 ساق بعض الحراس الفرنسيين شاباً في العقد الثالث من عمره إلى المقصلة تنفيذاً للحكم الصادر عليه. وما كاد يقترب منها وتقع عليها عيناه حتى اضطرب وجن، فوقف وكأنه تسمر في الأرض، وأخذ الحراس يدفعونه إليها دفعاً، وهو يقاومهم مقاومة الجبار اليائس، وكان وافر الجسم مفتول الساعدين قوي العضلات.
وكان الناس من حولهم ينظرون إلى هذا الصراع بين قوتين غير متعادلتين تريد إحداهما للأخرى الموت، وتريد هذه لنفسها الحياة. حتى إذا مضت على ذلك نحو ساعة والحراس كلما تقدموا به نحو المقصلة خطوة رجع هو بهم إلى الوراء خطوتين، خارت قواهم ولم يجدوا خيراً من أن يعودوا أدراجهم به، والناس يظنون أن الأمر وقف عند هذا الحد، وكأن كابوساً أرتفع عن صدورهم بعد ما رأوه من هول الموقف، وما كان إلا صراعاً عنيفاً بين حياة وموت. ولكن الجنود عادوا به في المساء بعد أن ضاعفوا عددهم، وبعد أن أحكموا وثاقه حيث نفذوا الحكم فيه. وكان من بين من حضروا هذا المشهد المثير شارل هوجو، وكان من أنصار إلغاء عقوبة الإعدام، فوصف ما رآه وأفاض في شناعته في جريدة الحادث ولكن النائب العام وجه إليه هو ومدير الجريدة تهمة تعمد احتقار القانون.
أما شارل فقد كان الذي تولى الدفاع عنه أبوه فكتور هوجو الكاتب الكبير، وإذا ذكرنا فكتور هوجو فقد ذكرنا قوة الجنان، وسحر البيان، وذلاقة اللسان، ولا سيما أنه إنما كان يدافع عن ولده وفلذة كبده، حتى أنه قال في بعض ما تناول دفاعه: (أنا المجرم دون ولدي، لأني أنا الذي وقفته هذا الموقف، وكنت من خمس وعشرين سنة لا آلو جهداً في محاربة عقوبة الإعدام. وقد عز علي أن لا أكون نصيراً للحياة البشرية أطلب احترامها والإبقاء عليها، منادياً ذلك في كل وقت وعند كل مقام بأعلى صوتي وبملء فمي، لأن عقوبة الإعدام بقية من بقايا الدم بالدم شريعة الوحشية الأولى).
وقد كان هناك غير فكتور هوجو كثيرون من أنصار هذه العقيدة، وأكبر حججهم في شناعة هذه العقوبة إن إعدام المجرمين فوق أنه مناف لقواعد الرحمة، وأن العقوبة يجب أن(75/25)
يراعي فيها الإصلاح لا الانتقام، فان منظره يقسي قلوب الناس، ويبذر فيها بذور الغلظة والتوحش. ولكن كيف نسى هؤلاء المفكرون أن الثورة الفرنسية نفسها التي قررت حقوق الإنسان، والتي يشيد بذكرها فكتور هوجو وغيره لم تقم إلا على الدم، وكيف يريدون أن تشمل السفاكين رحمة القانون وقد وطئوا بأقدامهم هذه الرحمة وهم يقتلون. ألا أن شريعة الدم بالدم، لم تكن أثراً من آثار الوحشية الأولى، وإنما كانت سبباً شريفاً من أسباب العدل، وأثراً محموداً من آثار الرحمة لا بالمجرمين ولكن بالناس أجمعين. إن طبيعة الحياة نفسها تقضي ببتر العضو الفاسد من الجسد حتى لا يتعدى فساده إليه، فكيف نقبل هذا في الجسم الواحد ولا نقبله في جسم المجتمع كله، بل أن قواعد الفهم تربأ بنا أن نسلم إفلات المجرم من حكم القانون لا يشجعه على السير في شروره وقد استمر أطعم العدوان وأمن غوائل العقوبة.
وعلى كل حال فأن عقوبة الإعدام برغم محاولة هؤلاء الأنصار لا تزال قائمة، مع أنها أبطلت في فرنسا مرة، وفي إيطاليا بعدها مرة أخرى. (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. . . ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). ومع ذلك فهذا رأي المسيو الأفريد روكو بصدد هذا البحث، وحسبنا أنه من أئمة التشريع في إيطاليا، وهو وزير حقانيتها قال: (لما أن كانت إيطاليا من أندر الدول التي ألغيت عقوبة الإعدام سألني كثيرون عما إذا كان إلغاؤها عاد بالفائدة على مجتمعنا؟ وقبل أن أخوض في الرد على السائلين أسجل هذا الحادث الغريب، وهو أننا أخذنا هذا التشريع عن الفرنسيين برغم أنهم بعد أن جربوه عدلوا عنه للنتائج الخطيرة التي ترتبت عليه. أخذناه عنهم على سبيل التجربة نحن أيضاً، وكان ذلك في عهد لم يكن يخطر ببالنا قيام نظام الفاشستية فيما بعد، وعلى كل حال فأن هذا الإصلاح الذي فكر الشارع الإيطالي في إدخاله على قوانيننا الجنائية لم يجرنا إلى الفشل الذي أصاب جيراننا من إدخاله على قوانينهم.
ولكن يلاحظ أن هبوط نسبة الجرائم بعد هذا التعديل لا يمكن في الواقع إرجاعه إلى مجرد إلغاء هذه العقوبة ونحن نرى انخفاضها في كثير من البلدان التي جرت قوانينها على إعدام القتلة. على أننا مع ذلك غير آسفين لسن تشريع كهذا هو مما لا شك فيه اتجاه محمود نحو الرفق بالإنسانية. بل أن أنصاره عندنا لم يحذوا حذو روبسبيير الذي أرسل كما نعلم آلاف(75/26)
الأبرياء إلى المقصلة، وهو الذي كان يشيد بذكره ويعتبر بقاء عقوبة الإعدام ضرباً من ضروب الوحشية.
وقد دل إحصاء عدد الجرائم التي كانت تستوجب هذه العقوبة بعد الحرب الكبرى على اطراد في هبوط النسبة التي أشرنا إليها، فأن عدد حوادث القتل من سنة 1919 إلى 1920 ينيف إلى ستة آلاف حادثة، ولكن هذا العدد هبط في السنة الأخيرة إلى أكثر بقليل من ألفين، إلا أن جزءاً كبيراً من هذا العدد الأخير يتعلق بالجرائم التي لا يمكن لأية عقوبة مهما كانت من الشدة أن تحول دون وقوعها كالجرائم التي أساسها الشهوات الثائرة وما يترتب عليها كما يسميها الفرنسيون، لأنها بطبيعتها لا مناص من وقوعها؛ فالرجال والنساء إذا لدغتهم الغيرة أو خدعوا في حب وجدوا كل شيء تقع عيونهم عليه مصبوغاً بالدم، فلا يلبثون أن يندفعوا إلى الأثم مهما وقفت بينه وبينهم كل عقوبات الدنيا، حتى أن محلّفي محاكم البلدان اللاتينية أصبحوا على اعتقاد ثابت بأن هذه الجرائم لا يمكن تجنبها؛ ولذلك فهم يقضون في الغالب لبراءة من يساقون إلى ارتكابها. على أنني كنت أميل إلى هذا الاتجاه - لأن هذه الجرائم لا تخلو دائماً من ظروف مخففة تحيط بها - إلا أنني أرى أن تعليل هذه الأحكام دائماً باضطراب الحواس عند ارتكابها فيه كثير من التطرف. ذلك لأن لكل عقوبة بشرية دائماً وجهين يجب ملاحظتها فإذا ما نظرنا إلى الجريمة من حيث الفرد الذي أقدم عليها في ذاته كان ما ذهب إليه لمبروزو من عدم قيام المسؤولية الجنائية بسبب ما يحيط به مقبولاً، لأنه وإن كان حراً فيما فعل إلا أنه ما كان في مقدوره أن يفلت من تأثير الأسباب الباطنة الراسخة فيه. وفي هذا الموقف يجب اعتبار العقوبة كوسيلة من وسائل إصلاحه لا كعقوبة يراعى أن يتساوى أثرها مع أثر الجرم الذي أقدم عليه. وفي الواقع كيف يسوغ لك أن تعدم شخصاً كان في جرم تحت سلطان قانون الوراثة، أو تأثير البيئة، أو كانت نفسه فقيرة من أسباب التهذيب والتربية، بغير أن تكون قاسياً عليه بعيداً عن إنصافه؟
أما إذا اعتبرناه عضواً في جسم المجتمع الذي يعيش فيه، فمؤاخذته على هذا الاعتبار يجب أن يكون لها صفة العقوبة التي يستحقها وأن كانت صارمة.
وإذا سألتني الآن رأيي في ضرورة عقوبة الإعدام، أجبتك بأنها يمكن أن تكون كذلك في(75/27)
أغلب الأحوال. بل إنني لأعلم أن كثيراً من الجرائم الوحشية التي تستحق الإعدام كان يمكن ألا تقع لو أن هذه العقوبة الشديدة قائمة كالجرائم التي تقع من الفوضويين.
وقد ذكرني هذا البحث بحادثة ضمنها القصصي الفرنسي جول فيرن في أحد كتبه تتلخص في أن بعض المهاجرين كادوا يغرقون على مقربة من إحدى جزر المحيط الهادي، ولم يكن على ظهرها غير فيلسوف فوضوي نفر من العالم وفر منه إليها. فلما أقبلوا عليه أكرمهم ودعاهم إلى اعتناق مذهبه. ولكن أسباب الحياة تغيرت بعد قليل ودب الخلاف فيما بينهم، فلم ير لنشر السلام بينهم إلا أن يفرض عليهم إرادته فرضاً فكان مثله فيهم كمثل الحاكم المستبد (ديكتاتور). وهذه الغاية لا تبعد عن نظريتي في العقوبة كثيراً، فالأحكام التي يقررها قانوننا الجنائي أشبه بهذا الحاكم، بغيرها لا يكون هناك أمن على الحياة، وإنما تكون الفوضى. .)
محمود خيرت
بقلم قضايا المالية(75/28)
مقتل شاعر
للأستاذ علي الطنطاوي
أفاق (هُدْبَة بن خَشْرَمَ) وما يدري أصبح أم مساء، وما يعلم من أمر الحياة شيئاً. . ولقد غبر عليه سبعة أعوام ما رأى فيها وضح النهار، ولا اجتلى صفحة السماء. كأنما هو نصف حي، وكأن حياته (مختصر حياة). . فالسنوات السبع بنعيمها وبؤسها، وليلها ونهارها، ليلة واحدة، طالت وامتدت، ثم لا يكون صبحها إلا الموت. . والدنيا على ربحها وسعتها، وجمالها وجلالها، غرفة ضيقة فيها أكثر معاني القبر. . . وما بعدها إلا القبر!
ونظر يميناً، ونظر شمالاً، وجعل ينفض المكان بعينه، فلا يبصر إلا الظلام، وحاول النهوض فجذبته إلى الأرض سلاسل غليظة، شدوه بها إلى حلقةٍ متينة. . .
سمع صَلصَلة الحديد في عنقه ويديه، فعاد إلى نفسه يذكر ما كان من أمره، ويستعيد قصته كلها، ويرى كيف. . . دخلت عليه أخته فاطمة، وبيدها المِجْمَر، فقال لها:
- ويحك ما هذا؟
- هذا لك! قم أستجمر، إنما أنت من النساء
- وما ذاك لا أمّ لك؟
- فقالت: أنت قابع في كسر الخيمة كما تقبع العجوز، وهذا زيادة يتغزل في أختك، ويرسل فيها الشعر يفضحها به في العرب
- ماذا؟ زيادة؟
- زيادة! نعم. زيادة يهتك نسائك، ويفري عرضك. . .
فوثب هُدبة يقول: زيادة يهتك نسائي ويفري عرضي؟. . والله لأجأنَّه بهذا السيف. فقامت إليه تعنفه وتلومه:
- والله ما علمت أنكمجنون إلا الساعة! أتعمد إلى ابن عمك فتقتله، فتحقق ما قاله فيّ، وتنصرف بسبّة الدهر؟ قلْ في أخته (أم قاسم) مثل ما قال الخبيث في أختك، فإذا بدأك بالشر، جزيته به شراً
- إذاً لأجعلنها والله أحدوثة الأبد
- شأنك بها يومئذ. . .(75/29)
وكان ما ظنت فاطمة قبيّت زيادة هدبه وأهل بيته، وهم عنه غافلون، فضرب هدبه على ساعده، وشج أباه خرشماً. وانصرف يقول:
شججنا خرشماً في الرأس عشراً ... ووقفنا هديبةً إذ أتانا
فثارت ثائرة هدبة، فتقلد سيفه وأنصرف لا يلوى على شيء، حتى وجد زيادة فجلله به فقتله. ولما سكت عنه الغضب، ورأى انه قتل رجلاً مسلماً ندم وجعل يلوم نفسه ويقرعها:
- ويل لي! ماذا صنعت اعتمدت إلى أبن عمي فقتلته، ومن قتل نفساً مؤمنة فكأنما قتل الناس جميعاً. فعلتها من أجل هفوة لا تقدم ولا تؤخر: يا نفسُ ما أضلك وأشقاك! ألم يردعك دين؟ ألم يحجزك إيمان؟ ألم تُنَهْنِه من عزمك جهنم؟ ماذا تقولين لربك غداً؟ وانطلق يقول لها هذا وشبهه حتى طلع الفجر. . .
وكان الغد، فإذا عبد الرحمن (أخو زيادة) عند أمير المدينة سعيد بن العاص يشكو إليه قتل أخيه. وأحضر سعيد هُدبَة، فلم ينكر ولم يكذب. . . وكره سعيد أن يقتل هدبة، وهو الشاعر المتقدم، لسان بادية الحجاز، وهو أخو ثلاثة كلهم شاعر: حوط وسيحان والواسع. . . وهو الفارس الكريم المحبوب. . ولم يكن يستطيع أن يعفو أو يغير حكم الله. فبعث بهما سعيد إلى (معاوية)
وكان معاوية ظنيناً بهذا الشاعر أن يعرضه على القتل، ولكن حكم الله فوق هوى أمير المؤمنين. . . فلما مثلا بين يديه، قال عبد الرحمن:
- أشكو إليك يا أمير المؤمنين مظلمتي، وقتلي أخي، وترويع نسوتي!
فقال معاوية:
- يا هُدبَة! قُلْ
- فقال هدبة (مرتجلاً):
ألا يا لقومي للنوائب والدهر ... وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري
وللأرض كم من صالح قد ... تلمأت عليه فوارته بلماعة قفر
فلا تتقي ذا هيبة لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر
حتى قال:
رُمينا فرامينا فصادف رمينا ... منايا رجال في كتاب وفي قدر(75/30)
فلما رأينا إنما هي ضربة من ... السيف أو إغضاء عين على وتر
عمدنا إلى أمر لا يعير والدي ... خزايته ولا يُسب به قبري
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... ورائك من معدى ولا عنك من قصر
فان تك من أموالنا لم نضق ... بها ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصبر
فقال معاوية:
- أراك أقررت بقتلك صاحبهم
وكره أن يقتله، وما كان له أن يعفو، ففكر ثم قال لعبد الرحمن:
- هل لزيادة ولد؟
- قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه
- قال: أنك لا تؤمَنُ على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق. والمسوّر أحق بدم أبيه، فليرد هدبة إلى المدينة، فليجلس بها حتى يرشد المسور فيكون له حكمه في القاتل
وتنبه هُدْبة وسمع مرة ثانية صَلصَلة الحديد، وأحس بدنو الساعة التي يقف فيها على شفير الهاوية فأما إلى الموت، وإما إلى حياة. فجزع واضطرب، ثم أدركه من نعمة الإيمان ما يدرك كل مؤمن حاق به الخطر، فسكن وأطمئن، وراح يهدئ نفسه ويسكنها. . . ويقول:
عسى الكرب الذي أمسيت ... فيه يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف، ويفك عان ... ويأبى أهله النائي الغريب
فلما كان صباح تلك الليلة، لم يسمع في المدينة إلا نبأ واحد، يجري على كل لسان، ويلج كل أذن:
- اليوم يوم هُدبة - اليوم يسلم إلى المسوّر بن زيادة ليحكم فيه - إنه سيقتله - بل سيعفو - لن يعفو عنه - لن يقتله. . . .
وخرج الناس أرسالاً إلى الحرّة، فلم ير مثله من يوم، خلت فيه المدينة إلا من شيخ فانٍ أو امرأة عاجزة، وانتقلت بأهلها إلى الحرّة. . . .
وما هي حتى جيء بالرجل وهو مثقل بالحديد، وقد صدئ عليه وحجزه في جسمه، وبليت من دونه ثيابه. فماج الناس وإزدحموا بالمناكب، واشرأبت الأعناق، وارتاع النساء وأجفلن وعرتهن رعدة. . . ثم قاضت منهم العيون شفقة ورحمة(75/31)
ثم انتهى به إلى الحرة، وقد جلس فيها الأمير سعيد بن العاص ووجهاء المدينة، وأقيم المسوّر ليقول كلمته. وقام إليه رسول معاوية فعرض عليه عشر ديات من خالص مال أمير المؤمنين، فأباها، فعرض عليه سعيد ووجهاء المدينة أضعافها فأبى إلا قتل هُدبة. . .
فاصفرت وجوه الناس، وودوا لو حالوا بالقوة بين هُدبة وبين القتل، ولكن حجزهم احترام الحق، ومنعتهم هيبة الدين فلبثوا صامتين كأن على رؤوسهم الطير، ونظروا إلى هُدبة. فرفع رأسه وأنشد بصوت شجي رائع:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح
وقبل غد يا لهف قلبي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي تفيض نفسي ... وغودرت في لحدٍ على صفائحي
يقولون هل أصلحتم لأخيكم وما ... القبر في الأرض الفضاء بصالح
فضج النسوة بالبكاء، وماج الناس، فأشار إليهم فأسكتهم، وخاطب امرأته وكانت من أجمل النساء وكان أجدع:
أقلّي على اللوم يا أم بوزعا ... ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا
ولا تنكحي أن فرّق الدهر بيننا ... أغمم القفا والوجه ليس بأنزعا
ضروباً بلحييه على عظم زوره ... إذا الناس هشوا للفعال تقنعاً
وحلى بذي أكرومة وحمية ... وصبر إذا ما الدهر عضّ فأسرعا
وعَرَى الناس صمت عميق، وأقبلوا ينظرون بماذا تجيب هذه المرأة: أتفي وهي الشابة الجميلة الفاتنة لرجل أجدع هو الساعة ميت، وتقيم علي عهده، وتحرم على نفسها من أجله الرجال، أم هي تعده وتمنيه، حتى إذا مات انطلقت فتزوجت؟ وجعلوا يتهامسون، ويتقولون. . .
أما هي، فلم يكن منها إلا أن مالت إلى رجل، فسألته شيئاً، ثم أرسلت ملحفتها على وجهها هُنية، ثم عادت فإذا. . . فإذا هي قد جدعت أنفها، وقطعت شفتيها. . .
وقالت: يا هُدبة! أتراني متزوجة بعد ما ترى؟. . فقال: لا، الآن طاب الموت، ثم أستأذن في ركعتين فصلاهما وخفف، ثم التفت إلى من حضر، وقال: والله لولا أن يظن بي الجزع لأطلتها، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما(75/32)
ثم تقدم من المسوّر وقال: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني قد أيتمتك صغيراً وأرملت أمك شابة. . .
علي الطنطاوي(75/33)
بين فن التاريخ وفن الحرب
11 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء).
خالد بن الوليد
فوصلت المقدمة مساء إلى القرب من ثنية اليمامة ولقيت مفرزة من بني حنيفة نياماً في أسفل العقبة فباغتهم وأسرتهم؛ وكانت هذه المفرزة مؤلفة من ستين رجلاً بقيادة مجاعة بن مرارة أحد رؤساء بني حنيفة
والروايات جميعاً متفقة على أن مجاعة خرج من اليمامة على رأس سرية يطلب بثأر له في بني عامر وبني تميم، لأن بني عامر منعوه من أن يتزوج خولة بنت جعفر. وبعد أن باغت بني عامر عاد بخولة ووقف في أسفل العقبة مع رجاله ليبيت ليلته هناك وإذا المسلمون يباغتونه ويقودونه مع رجال أسرى إلى خالد
والذي يلوح لنا أن مجاعة كان يراقب مجيء جيش المسلمين من الثنية - أي عقبة الحيسية -. ويظهر أن قوة المسلمين باغتته دون أن يستطيع التملص منها، فلما وقف أمام خالد زعم أنه خرج للثأر
وتزعم الروايات أن خالداً قتل رجال مجاعة لتأكده كفرهم، واستبقى مجاعة ليستفيد منه في حركاته على مسيلمة. فيما ترى هل تواطأ مجاعة مع خالد على مسيلمة، أو أنه تأكد نصر المسلمين فأراد أن يسوخ موقفه أمامهم فعرض الخدمة على خالد؟ أو أنه خرج برجاله ليلتحق بجيش المسلمين فيدلهم على عورات أعداهم؟ ذلك ما لا نعلمه العلم الأكيد. والمحقق أن مجاعة ظل محجوراً عليه في معسكر خالد وقام بالواسطة بين خالد وبني حنيفة لعقد الصلح بعد انكسار جيشهم في عقرباء، فأفاد الفريقين بتلك الوساطة. ولا بد أن خالداً استجوب مجاعة فاستقى منه جميع الأخبار الموثوق بها عن مسيلمة وجيشه، فعلم منه أن(75/34)
مسيلمة ينتظر وروده في عقرباء.
المعركة
في رواية تقلها ابن حبيش أن خالداً لما تثبت من عسكرة جيش مسيلمة في عقرباء شاور أصحابه في الأمر فأشاروا عليه جميعهم أن يتقدم نحو عقرباء. وكانت الأخبار تنم على أن طليعة الحنفيين يقودها الرحال، وهو من رؤساء بني حنيفة، فتقدم خالد حينئذ بجيشه نحو العدو. فجعل أبا حذيفة على الميمنة وشجاع ابن وهب على الميسرة، وكان زيد بن الخطاب يحمل راية المهاجرين، وثابت بن قيس يحمل راية الأنصار. وعزل خالد براً بن مالك من قيادة الخيالة وأحل من محله أسامة بن زيد
أما جيش بن مسيلمة فكان موالياً وجهه شطر الشمال الغربي ومترتباً في سهل عقرباء بين جبل صلبوخ ووادي حنيفة. فيستدل من ذلك على أن الأرض كانت صالحة لاتخاذ نظام القتال ولحركة الخيالة، وتنم الروايات على أن ريحاً جنوبية مغبرة هبت في وجه المسلمين وزحزحتهم عن مكانهم في القتال - أي أن جبهة المسلمين كانت موجهة نحو الجنوب الشرقي. ويظهر أن قوة الرحال انسحبت لما رأت المسلمين قادمين نحوها. وكان جيش مسيلمة مرتباً على الأسلوب الشائع ومنقسماً إلى ثلاثة أقسام: الميمنة والميسرة والقلب - ولم يكن الضعن خلفه لأن قرى بن حنيفة كانت في الخلف على ما نعلم
وكان محكم بن طفيل - وهو من أجل رؤساء بني حنيفة شأناً على الميمنة، وعلى الميسرة، وشرحبيل بن مسيلمة يقود القلب. فكان مسيلمة وراء القلب يراقب مجرى القتال. وبعد أن قضى المسلمين ليلتهم في عقبة الحيسية - أي ثنية اليمامة - واستوثق خالد من أمر مجاعة، تحرك الجيش صباحاً وكانت الشقة بينه وبين عقرباء مسير يوم. وفي رواية نقلها الطبري أن الموقع الذي باغت المسلمين فيه مجاعة بن مرارة يبعد عن عسكر مسيلمة مسير ليلة. والحقيقة أن المسافة بين العقبة وعقرباء لا تزيد عن خمسة وعشرين ميلاً - أي مسير يوم من ذلك الزمن والظاهر أن خالداً قضى ليلته التي سبقت يوم المعركة قريباً من جيش مسيلمة، لأن المعركة بدأت صباحاً واستمرت إلى العصر. وكان الموقع الذي أختاره كثيباً مشرفاً على اليمامة كما ينقله الطبري. وسبق أن رأينا من وصف فلبي لرابية الأبكين أنها تشرف على وادي حنيفة وتتسلط على الأرض الممتدة إلى الجنوب. فالأرض(75/35)
في الشمال تتسلط على الأرض في الجنوب، وكان لوضع الأرض على هذه الصورة فائدة لجيش المسلمين
وليس لدينا معلومات عن تعبئة المسلمين في ميدان القتال، وتدل الأخبار على أن أبا حذيفة كان يقود الميمنة وشجاعا الميسرة ويزيد بن الخطاب القلب وأسامة بن زيد الخيالة. فهل كان كل من المهاجرين والأنصار على مجنبة من المجنبتين، وكانت القبائل في القلب؟ أو أن المهاجرين والأنصار كانوا في القلب وكانت القبائل في المجنبتين؟ أو أن المهاجرين كانوا في القلب مع قبائل الحجاز، وكان الأنصار على إحدى المجنبتين وكانت قبائل البادية في المجنبة الأخرى؟
هذه أسئلة يصعب الإجابة عنها. والواضح من مجرى القتال أن إحدى المجنبتين (ولعلها الميسرة) انهزمت فتلاها القلب ووصل إلى الخيام في الضعن. وأن أهل القرى - المهاجرين والأنصار وأهل الحجاز - عزوا هذه الهزيمة التي كادت تقضي على المسلمين إلى أهل البادية. فلنا من ذلك أن أهل البادية كانوا في الميسرة، وكان المهاجرون مع بعض قبائل الحي في الميمنة، والأنصار مع البعض الآخر من قبائل الحجاز في القلب. ويظهر أن الخيالة كانت في الأمام فانسحبت إلى الميسرة لتراقب الوادي، وكان الضعن وراء القلب وفيه الخيام والنساء. ووقف خالد بن الوليد وراء القلب يراقب سير القتال.
صفحات القتال
نشبت المعركة صباحاً واستمرت إلى العصر. فبذل الفريقان قصاراهما لتغلب أحدهما على الآخر واقتتلا اقتتالاً شديداً. وكما يقول الطبري كانت الحرب لم يلق المسلمون مثلها قط. وجرى القتال في ثلاث صفحات: تغلب الحنفيون في الصفحة الأولى على المسلمين وأزاحوهم إلى الضعن وكادوا ينتصرون عليهم. وفي الصفحة الثانية كر المسلمون راجعين فتغلبوا على أعدائهم فأزاحوهم من المحل الذي وصلوا إليه. وبعد أن تضافرت جهودهم استطاعوا أن يهزموا الحنفيين. وفي الصفحة الثالثة اعتصم الحنفيون في الحديقة فحاصرها المسلمون من كل صوب ودخلوها عنوة وقضوا على البقية الباقية من الحنفيين. ونذكر فيما يلي مجرى القتال في كل صفحة من الصفحات الثلاث:
الصفحة الأولى(75/36)
بدأ القتال صباحاً بتحميس القواد رجالهم بالكلمات المأثورة والخطب الحماسية. فنادى شرحبيل بن مسيلمة في رجاله قائلاً: (يا بني حنيفة اليوم يوم الغيرة، إن هزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات. قاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم)
وكان أول القتال براز بين الفريقين كما جرت عليه عادة العرب، فقتل في هذا البراز الرحال بم عنفوة الذي كان في طليعة الحنفيين قبل القتال. وكان على الميسرة قتلة زيد بن الخطاب، ويظهر رؤساء آخرين من بني حنيفة قتلوا في البراز مما حمل الطبري على القول: (قتل الرحال وأهل البصائر من بني حنيفة) وبدلاً من أن يوهن هذا القتل عزائم بني حنيفة شدد عزيمتهم فتذامروا وحمل كل قوم في ناحية. ويلوح من مجرى القتال أن الضربة كانت قوية من الجانب الأيمن على ميسرة المسلمين فزحزحتها من محلها وتراجعت منكسرة لا تلوي عن شيء. فأثر ذلك في موقف القلب فرجع متقهقراً وبنو حنيفة يطاردونه إلى أن وصلوا إلى المعسكر فقطعوا إطناب الخيام
ومن الروايات ما يزعم أن ريحاً جنوبية مغبرة هبت في وجوه المسلمين فضعضعت صفوفهم، فاستفاد بنو حنيفة منها فهزموا المسلمين حتى أزاحوهم من محلهم وطاردوهم إلى المعسكر فدخلوا في الفسطاط فرعبلوه بالسيوف
والروايات متفقة على أن بعض الأعداء دخل خيمة خالد بن الوليد وكان فيها مجاعة مكبلاً بالحديد قيد مراقبة أم تميم التي تزوجها خالد بعد قتله مالك بن نويرة. فأراد الحنفيون إنقاذ مجاعة فهموا بقتل أم تميم إلا أنه منعهم من ذلك. فقال لهم: (لا تتشاغلوا في المعسكر، ودونكم الرجال) ففي مثل هذا الموقف الحرج برز خالد إلى الميدان شاهراً حسامه تشجيعاً للمسلمين ومنادياً بشعار (يا محمدآه!). ويكاد المؤرخون جميعاً يتفقون على أن خالداً بفراسته وبطولته أنقذ الموقف. ولولا قيادة خالد وجلادة الصحابة الذين لقوا حتفهم بعد أن أظهروا للمسلمين أمثلة حسنة، لدارت الدائرة على المسلمين ولا ريب.
الصفحة الثانية
تبدأ الصفحة الثانية بدعوة الرؤساء من المسلمين إلى الثبات في محلهم والكر بعد ذلك على الأعداء(75/37)
فثابت بن قيس الذي كان يقود الأنصار كان ينادي الأنصار قائلاً: (بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، هكذا عني حتى أريكم الجلاد) وقال زيد بن الخطاب الذي كان يقود القلب حين انكشف الناس عن رحالهم - أي المعسكر -: (لا تحوز بعد الرحال) وقام البراء أخو أنس بن مالك ينادي قائلاً (أنا البراء ابن مالك. هلم إلي) أما أبو حذيفة الذي كان يقود الميمنة فكان ينادي قائلاً: (يا أهل القرآن! زينوا القرآن بالفعال). وفي مثل هذا الوقت العصيب تدبر خالد الموقف ففكر في حيلة يعيد بها نخوة المسلمين، ويزيد حماستهم، ولا سيما لما رأى أهل القرى يحينون أهل البادية وهؤلاء يحينون أهل القرى
وتكاد الروايات جميعاً تتفق على أن القبائل من أهل البادية انهزموا أول مرة فألقوا الوهن في صفوف المسلمين. والظاهر من نتائج المعركة أن أهل القرى ثبتوا (فاستحر بهم القتل) كما يذكر الطبري. وكان التدبير الذي توصل إليهخالد لينقذ الموقف ويتغلب على عدوه منحصراً في أمرين:
أولاً - فصل أهل القرية عن أهل القبائل، ووضع كل فريق منهم في جانب. فكان الأنصار والمهاجرين وأهل القرى الآخرون في جانب، والقبائل في جانب آخر. لأن انهزام المسلمين أوقع الخلل في تركيب المعركة، فاختلطت الميسرة بالقلب، والقلب بالميمنة، وتخلى الناس عن رؤسائهم
ثانياً - طلب من كل جانب أن يمتاز، وذلك لما رأى أهل لقرى يعزون سبب الخيبة إلى القبائل، والقبائل تعزو الخيبة إلى أهل القرى. وفي هذا تناحر لدى الفريقين، وإذا ما اشتد التناحر يؤدي إلى التقاعس
فصرخ في المسلمين طالباً منهم أن يمتازوا ليتبين من أين يأتي الخلل. وكان يريد بذلك أن تبرز الفرق فلا ينسب إليها ذلة الانكسار. ونال بذلك ما أراد. فأمتاز أهل القرى والبوادي؛ وامتازت القبائل من أهل البادية، فوقف بنو كل أب على رايتهم كما يذكر الطبري. فتولى خالد بنفسه قيادة صفوف أهل القرى، فقاموا جميعاً قومة واحدة فقاتلوا قتال الأبطال. وكان خالد في أول الصف يشجع المسلمين ببطولته ولا يقابله أحد إلا قتله. وكان يفتش عن مسيلمة ليقتله، لأنه عرف أن الحرب لا تركد إلا موته، وأن بني حنيفة لا تحفل إلا بقتله. وكان من أمر ذلك أن تشجع المسلمون فصدوا العدو(75/38)
ويذكر الواقدي أن زيد بن الخطاب كان يحمل راية المسلمين فلما رأى أصحابه ينصرفون من أطرافه قال: (والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتي؛ عضوا على أضراسكم أيها الناس! واضربوا في عدوكم وامضوا قدماً) ولم يزل يشجع أصحابه إلى أن قتل والراية في يده، فأخذها أبو حذيفة، فجادل بسيفه حتى قتل فنادى في قومه (العزة لله ولرسوله ولأحزابه. أروني كما أريكم) ثم جلد في الأعداء وقاتل حتى قتل. وتسلم راية المسلمين سالم مولى أبي حذيفة، وظل يناضل عنها إلى أن قتل، فتسلمها آخرون وقتلوا
وإزاء هذه الجهود المتضافرة والأمثلة المشجعة تمكن المسلمون من أن يزحزحوا الأعداء من مكانهم حتى أزاحوهم تماماً، فأخذوا يطاردونهم. وفي مثل هذا الحين أخذ محكم بن الطفل المدعو بحكم اليمامة يشجع بني حنيفة منادياً: (يا معشر بني حنيفة الآن والله ستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حصينات، فما عندكم من حسب فأخرجوه). فقاتل قتالاً شديداً
أما أهل اليمامة فلما رأوا المسلمين يركبونهم صرخوا في وجه مسيلمة قائلين له: (أينما كنت تعدنا؟) فأجابهم قائلاً: (قاتلوا عن أحسابكم)، ولما رأى المحكم أن الدائرة دارت على بني حنيفة صاح فيهم: الحديقة! الحديقة! يريد بذلك أن يتحصنوا فيها ويقاوموا المسلمين. فانسحبوا إلى الحديقة واعتصموا بها. ويظهر أن المحكم لم يتمكن من الوصول إليها لأن عبد الرحمن أبن أبي بكر رماه بسهم فقتله.
يتبع
طه الهاشمي(75/39)
3 - محاولات أفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- لعلك يا صديقي مليتس تريد أناكسجوراس بهذا الاتهام. ويظهر أنك تسيء الظن بالقضاة، فتحسبهم بلغوا من الجهالة حداً لا يعرفون معه أن تلك آراء مسطورة في كتب أناكسوجراس الكلازوميني، وهي مليئة بمثلها. وتلك التعاليم هي التي يقال أن سقراط قد أوحى بها إلى الشبان، والواقع أنهم عرفوها من المسرح الذي كثيراً ما يعرضها، وأجر المسرح لا يزيد على دراخمة واحدة، ففي مقدور الناس جميعاً أن يشهدوها بهذا الأجر الزهيد، ثم يهزئون من سقراط كلما نسب إلى نفسه تلك الأعاجيب، ولكن حدثني يا مليتس، أفتظن حقاً أني لا أومن باله ما؟
- أقسم بزفس أنك لا تؤمن بكائن من كان
- أنت كاذب يا مليتس، ولا تستطيع أنت نفسك أن تصدق هذا القول، ولست أشك أيها الأثينيون في أن مليتس هذا مستهتر وقح، كتب هذه الدعوى بروح من الحقد والطيش والغرور، ألم يبتكر هذه الألعوبة ابتكاراً ليقدمني بها إلى المحاكمة؟ كأنما قال لنفسه: سأرى هل يستطيع هذا الحكيم سقراط أن يكشف عن هذا التناقض المحبوك، أم أني خادعه كما سأخدع بقية الناس؟ فهو كما أرى يناقض نفسه بنفسه في الدعوى فكأنه يقول قد أجرم سقراط لأنه كافر بالآلهة، ولأنه مؤمن بهم، وتلك مهزلة ولا ريب
أيها الأثينيون! أنه متناقض لا تستقيم روايته، وأحب أن نتعاون جميعاً على تحقيقها، وعليك يا مليتس أن تجيب - وأعيد الرجاء ألا تقاطعوني إذا تكلمت بأسلوبي المعهود -
يا ملتيس! هل جاز لإنسان مرة أن يعتقد بوجود ما يتصل بالبشر من أشياء، دون أن يعتقد بوجود البشر أنفسهم؟ أني أحب منهم - أيها الأثينيون - أن يجيب، وألا يعمد دائماً إلى المقاطعة. هل أعتقد إنسان مرة وجود صفات الجياد دون الجياد نفسها؟ أو وجود نغمات القيثارة دون العزف عليها؟ أن كنت تأبى أن تجيب بنفسك يا صديقي، فسأجيب لك وللمحكمة. كلا! لم يفعل ذلك إنسان. والآن، هل لك أن تجيب على هذا السؤال الثاني: أيستطيع إنسان أن يؤمن برسول روحي إلهي، ولا يؤمن بالأرواح نفسها أو بأشباه الآلهة؟(75/40)
- أنه لا يستطيع
- يسرني أن أحصل منك بعون المحكمة على هذا الجواب، ولكنك قد أقسمت في دعواك أنني أثق وأعتقد في رسل روحية إلهية وسواءً أكانت تلك الرسل قديمة أم محدثة، فأنا على أية حال أومن بها كما قلت وأقسمت في صحيفة الدعوة. ولكن إذا كنت أعتقد بموجودات آلهية، أفلا يلزم أن أعتقد بالأرواح وأشباه الآلهة التي بحثها؟ أليس هذا حقاً؟ ما لي أراك صامتاً؟ أن الصمت معناه الرضى. فما هذه الأرواح وأشباه الآلهة؟ أنها أما أن تكون آلهة، أو أبناء آلهة، أليس كذلك؟
- نعم هو كذلك
- وإذن فهذا موضوع التناقض المحبوك الذي أشرت إليه، فأشباه الآلهة أو الأرواح هي آلهة، وقد زعمت عني أول الأمر أني كافر بالآلهة، ثم هاأنت ذا تضيف أني مؤمن بها، لأني مؤمن بأشباها. ولا يضيرنا أن تكون هذه الأشباه أبناء للآلهة غير شرعيين، فسواء أعقبتها الآلهة من الشياطين أو من أمهات أخريات كما يظن، فوجودها يتضمن بالضرورة - كما ترون جميعاً - وجود آبائها، وإلا كنت كمن يثبت وجود البغال وينكر وجود الجياد والحمير. لا يمكن أن يكون هذا الهراء يا مليتس إلا تدبيراً منك لتبلوني به، ولقد سقته في دعواك لأنك لم تجد حقاً تتهمني به. ولكن لن يجوز على من يملك ذرة من فهم، قولك هذا بأن رجلاً يعتقد في أشياء إلهية، هي فوق مستوى البشر، ولا يؤمن في الوقت نفسه بأن هناك آلهة وأشباه آلهة وأبطالاً. حسبي ما قلته رداً لدعوى مليتس، فلا حاجة لي إلى دفاع قوي بعد هذا، ولكني كما ذكرت من قبل لابد أن يكون لي أعداء كثيرون وسيكون ذلك دافعي إلى الموت لو قضى علي به، لست أشكو في هذا، فليس الأمر قاصراً على مليتس وأنتيس، ولكنه الحقد الذي يأكل القلوب، ويغري الناس بتشويه السمعة، فكثيراً ما أدى ذلك برجال إلى الموت، وكثيراً ما سيقضي بالموت على رجال، فلست بحمد الله أخر هؤلاء
سيقول أحدكم: إلا تخجل يا سقراط من حياة تؤدي بك إلى موت مباغت، وعلى ذلك أجيب في رفق: أنت مخطئ يا هذا، فإذا كان الرجل خيراً في أي ناحية منه، فلا ينبغي أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز أن يهتم إلا بأمر واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مخطأ أم مصيب، وهل يقدم في حياته خيراً أم شراً. أترى أذن أن الأبطال الذين سقطوا في(75/41)
طروادة لم يحسنوا صنعاً؛ فذلك أبن ثيتس الذي أستصغر الخطر وأزدراه حينما قرنه بما يثلم الشرف. ولما قالت له أمه الآلهة، وهو يتحفز لقتل هكتور بأنه لو قتله أنتقاماً لصاحبه باتروكلس، فسيدركه هو نفسه الموت. ثم قالت: (أن القدر يترصدك بعد هكتور) فلما سمع هذا، أحتقر الخطر احتقارا، ولم يخشاهما كما يخشى أن يحيا الحياة يدنسها العار دون أن ينتقم لصديقه، فأجاب: (ذريني أموت بعد موته، فأنتقم من عدوي، فذلك خير من الحياة فوق هذه السفن، فأظل عاراً على جبين الدهر تنوء بحمله الأرض) هل فكر أخيل في الموت أو الخطر؟ فمهما يكن موقف الرجل، سواء اختار لنفسه ذلك الموضع أم أقامه فيه قائده، فلا بد أن يلزمه ساعة الخطر، ولا يجوز أن يفكر في الموت أو في أي شيء أخر غير دنس العار. إن هذا أيها الأثينيون لقول حق
بني أثينا! كم كان سلوكي عجيباً، لو أني عصيت الله فيما يأمرني به - كما أعتقد - بأن أؤدي رسالة الفلسفة بدراسة نفسي ودراسة الناس، وفررت بما كلفني به خشية الموت أو ما شئت من هول، وأنا الذي حين أمرني القواد الذين اخترتموهم للقيادة في بوتيديا، وأمفيبوليس ودليوم، لزمت موضعي، كأي رجل آخر، أواجه الموت. ما كان أعجب ذلك، وما كان أحقني بأن أساق إلى المحكمة بتهمة الكفر بالآلهة، وكم كنت عندئذ أكون بعيداً عن المحكمة، مدعياً إياها خاطئاً، لو أنني عصيت الراعية خوفاً من الموت؟ فلست خشية الموت من الحكمة الصحيحة في شيء، بل هي في الواقع إدعاء بها، لأنه تظاهر بمعرفة ما تستحيل معرفته، فما يدريك ألا يكون الموت خيراً عظيماً، ذلك الذي يلقاه الناس بالجزع كأنه أعظم الشرور؟ أليس ذلك توهماً بالعلم، وهو ضرب من الجهل الشائن؟ وهنا أراني أسمى مقاماً من مستوى البشر، وربما ظننت أني في هذا الأمر أحكم الناس جميعاً - فما دمت لا أعلم عن هذه الحياة إلا قليلاً، فلا أفرض في نفسي العلم، وإنما أعلم علم اليقين أن من ظلم من هو أرفع منه أو عصاه، سواء أكان ذلك إنساناً أم آلها، فقد أرتكب إثماً وعاراً، ويستحيل علي أن أتحاشى ما يجوز أن يكون فيه الخير وأخشاه، لأقدم على شر مؤكد؛ ولهذا لو أنكم أطلقتم الآن سراحي، ورفضتم نصح أنيتس، الذي قال بوجوب إعدامي بعد إذ وجه إلي الاتهام، لأني لو أفلت فسيصيب الفساد والدمار أبنائكم باستماعهم لما أقول. لو قلتم لي يا سقراط، أننا سنطلق سراحك هذه المرة ولن نأبه لأنتيس، على شرط واحد، وذلك أن(75/42)
تقف البحث والتفكير فلا تعود إليهما مرة أخرى، ولو شاهدناك تفعل ذلك أنزلنا بك الموت، إن كان هذا الشرط إخلاء سبيلي أجبت بما يأتي: أيها الأثينيون! أنا أحبكم وأمجدكم، ولكني لابد أن أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أمسك عن اتخاذ الفلسفة وتعليمها ما دامت حياً قوياً، أسائل بطريقتي أياً صادفت بأسلوبي، وأهيب به قائلاً: ما لي أراك يا صاح تعني ما وسعتك العناية بجمع المال، وصيانة الشرف، وذيوع الصوت، ولا تنشد من الحكمة والحق وتهذيب النفس إلا أقلها، فهي لا تصادف من عنايتك قليلاً ولا تزن عندك فتيلاً، وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؟ ألا يخجلك ذلك؟ فأن أجاب محدثي قائلاً: بلى، ولكني معني بها، فلن أخلي سبيله ليمضي من فوره، بل أسائله وأناقشه وأعيد معه النقاش، فان رأيته خلواً من الفضيلة، وأنه يقف منها عند الحد القول والادعاء، أخذت في تأنيبه، لأنه يحقر ما هو جليل، ويسمو بما هو دنئ وضيع؛ سأقول لذلك لكل من صادفه، سواء أكان شاباً أم كان شيخاً، غريباً أم كان من الوطن، لكني سأخص بعنايتي بني وطني، لأنهم أخواني، تلك كلمة الله فاعلموها. ولا أحسب الدولة قد ظفرت من الخير بأكثر مما قمت به ابتغاء مرضاة الله، وما فعلت إلا أن أهبت بكم جميعاً، شيباً وشباناً، أن انصرفوا إلى أنفسكم وما تملكون، وبادروا أولاً بتهذيب أنفسكم تهذيباً كاملاً، وهاأنذا أعلنكم أن الفضيلة لا تشترى بالمال، ولكنها هي المعين الذي يتدفق منه المال ويفيض بالخير جميعاً، سواء في ذلك خير الفرد وخير المجموع. ذلك مذهبي، فان كان هذا فاسداً للشبان، فاللهم إني مود بالشباب إلى الدمار! أما أن زعم أحدكم أن ليس مذهبي هو ذاك، فهو إنما يزعم باطلاً. أيها الأثينيون! سواء لدي أصدعتم بما يأمركم به أنيتس أم فعلتم بغير ما يشير، وسواء أأصبت عندكم البراءة أم لم أصبها، فاعلموا أني لن أبدل من أمري شيئاً، ولو قضيتم علي بالموت مراراً
أيها الأثينيون! لا تقاطعوني وأصغوا إلى قولي، فقد عودتموني أن تسمعوا الحديث حتى ختامه، وإن لكم لفيه خيراً. أحب أن أفيض لكم بما عندي، فان بعثكم على البكاء فارجوا ألا تفعلوا. أريد أن أصارحكم أن لو قضيتم على بالموت فسيصيبكم من الضر أكثر مما يصيبني. إن مليتس وأنيتس لن يؤذياني، لأنهما لا يستطيعان، فليس من طبائع الأشياء أن يؤذي فاسد من هو أصلح منه، نعم، ربما استطاع له موتاً أو نفياً أو تجريداً من حقوقه(75/43)
المدنية، وقد يبدو له كما يبدو للناس جميعاً، أنه يكون بذلك قد أنزل به أفدح البلاء، ولكني لا أرى ذلك الرأي، فأهول به مصاباً هذا الشر الذي يقدم عليه أنيتس - بأن يقضي على حياة إنسان بغير حق. لست أكلمكم الآن - أيها الأثينيون - من أجل نفسي كما قد تظنون، ولكني من أجلكم، حتى لا تسيئوا إلى الله، أو تكفروا بنعمته بحكمكم علي، فليس يسيراً أن تجدوا لي ضريباً إذا قضيتم علي بالموت، وإن جاز أن أسوق إليكم هذا التشبيه المضحك، لقلت أني ضرب من الذباب الخبيث، أنزله الله على الأمة، التي هي بمثابة جواد لنبيل عظيم، ثقيل الحركة لضخامته، ولا بد له في حياته من حافز. أنا تلك الذبابة الخبيثة التي أرسلها الله إلى الأمة، فلا شاغل لي متى كنت وأنى كنت، إلا أن أثير نفوسكم بالإقناع والتأنيب، ولما كان من العسير أن تجدوا لي ضريباً فنصيحتي لكم أن تدخروا حياتي. نعم قد أكون مزعجكم كلما باغتكم فأيقظتكم من نعاسكم العميق، ولكم أن تأملوا، إذا ما صفعتموني صفعة الموت، كما ينصح أنيتس، - وما أهون ذلك عليكم - أن يهدأ لكم الرقاد لكم حياتكم، ما لم يبعث الله لكم ذبابة أخرى، إشفاقاً عليكم. إنما أنني جئتكم من عند الله فهذه آيته: لو كنت نكرة من الناس لما رضيت مطمئناً، بإهمال شؤون عيشي إهمالاً طوال تلك السنين، لأخصص نفسي لكم، فقد جئتكم واحداً فواحداً، شأن الوالد أو الأخ الأكبر، فأحملكم على الفضيلة حملاً، وليس ذلك ما عهدناه في طبيعة البشر. ولو كنت قد أفدت من ذلك أجراً أو جزاء لكان لذلك مدلول آخر، ولكن هل تجرؤ وقاحة المدعين أن تدعي أني قد أخذت أجراً أو سعيت إليه؟ أنهم لم يفعلوا، لأنهم لن يجدوا لذلك دليلاً. أما أنا فعندي ما يؤيد صحة ما أقول. وحسني بالفقر دليلاً.
يتبع
زكي نجيب محمود(75/44)
3 - مصطفى كمال
سيرة حياته
للكاتب الإنجليزي أرمسترونج
تلخيص وتعليق حنفي غالي
وعاش مصطفى كمال مع أمه في سالونيك بعد وفاة زوجها الذي كان يعضه وينفر منه، وهناك حاول أن ينشئ مع زملائه من صغار الضباط فرعاً لجمعية الوطن، فأخفق لأنهم كانوا في ريبة من أمره، فلم يؤيده ولم يعارضوه، كأنما كانوا يريدون أن يقفوا على حقيقته ويتبينوا أمره قبل أن يتوصلوا به ويتعاونوا معه في أمثال هذه المغامرات. وأخيراً أرسل إليه أحدهم أن بسالونيك جمعية ثورية كبيرة تدعى جمعية الاتحاد والترقي، يجتمع أعضاؤها في منازل بعض اليهود من رعايا إيطاليا، فيستطيعون أن يدبروا الخطط، ويتشاوروا في أمرهم بمأمن من بطش الحكومة، ومنجاة من عيون الخليفة، وبعد أن اختبرت الجمعية إخلاص بطلنا، وأنست منه نفساً ثائرة وقلباً قلقاً، دعته إلى الانضمام إليها فتم لها ما تريد. وانخرط مصطفى في سلك أعضائها، فألفى نفسه في جو لا يلائمه ولا يتفق وميوله، إذ رأى من حوله أشخاصاً يتحدثون في أمور لا تعنيه ولا تتصل بتركيا التي يحبها ويفني في سبيلها، فما يهمه من متاعب اليهود وما يلاقونه من اضطهاد في روسيا، فهو تركي قبل كل شيء، وهو معتز بتركيته تياه بها، ولا غرض له سوى إنقاذ تركيا من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية، وفضلا عن ذلك فهو ما زال في الجمعية (أخاً) صغيراً، عليه أن يتلقى الأوامر بالطاعة والإذعان، وعليه أن ينفذها بأمانة ونشاط. وهذا ما لا يرضى بطلنا الذي خلق ليأمر ويسود لا ليأتمر ويخضع، فبرم بالجمعية وسخط عليها، وأخذ ينقدها نقداً حاداً قارصاً غير متلطف فيه ولا متهاون قائلاً: إنه يسمع مناقشات بيزنطية لا يعززها عمل حاسم، وهو يريد خطة محكمة دقيقة، ينفذها بكل ما وسعه من جهد، وكل ما في نفسه من حرارة الأيمان والوطنية، ولم يكن يرعى للرؤساء حرمة أو مقاماً، فمن هم أولئك الذين يستأثرون بالنفوذ ويستبدون بالأمر دونه؟ أأنور ذلك المجازف المتهور، أم جمال ذلك المظلم العقل المضطرب الذهن، أم داود ذلك اليهودي الدنيء الذي(75/45)
أنقلب مسلماً، أم نيازي ذلك الألباني فاقد التوازن، أم طلعت ذلك الموظف المصلحي والدب البطيء، فهكذا كان يراهم بطلنا، ويرى نفسه فوقهم أجمعين، وهكذا نرى العظماء شديدي الأنانية عظام الثقة بأنفسهم، وهي صفة لابد منها لمن يتطلعون إلى مسابح الأفلاك. أما من ضعفت ثقته بنفسه، وتنحني عن نفسه لغيره، فليقنع أذن بمدارج الأسماك. وكان يخاطبهم مخاطبة الأستاذ لتلميذه، وحدث ذات مرة أن كانوا يتحدثون عن جمال ويمتدحون وطنيته فقاطعهم مصطفى كمال متهكماً بهم، وأخذ يلقي عليهم درساً عن العظمة الحقيقية. فلما التقى بجمال في اليوم التالي صارحه برأيه فيه قائلاً له أنه طالب شهرة، وألقي عليه ما ألقي على زملائه بالأمس. وقد كان زملائه الضباط يبغضونه لاعتداده بنفسه واستصغاره لشأنهم وسخرهم منهم، كما كان اليهود لا يثقون به، فلم يرتقي إلى مراكز الماسونية العليا وظل بعيداً عن مركز القيادة أو مبعداً عنه
ولم يكن في البيت أيسر نفساً ولا ألين جانباً، ولم يكن يسمح لأحد غير أمه أن ينتقده، وكان مع ذلك يأبى عليها التدخل في عمله أو المساس بكبريائه. وقد اجتمع في يوم من الأيام ببعض زملائه بالمنزل، فأخذ الخدم يتسمعون حديثهم من وراء الأبواب وأخبروا أمه، فعارضت فكرته، فحاول أن يقنعها بصوابها، فركبت رأسها وأصرت على رأيها، وما كان الاثنان ليتفقا، فقد كانت هي امرأة صادقة الإيمان وثيقة الإخلاص لقديمها، بينما أبنها لم يكن يؤمن بشيء أو يجل شيئاً على الإطلاق؛ وأخيراً سايرت الأم الرؤوم ولدها العزيز في طريقه برغم اعتقادها في خطئه، خشية أن يهجر المنزل فيشق عليها فراقه، ولكنها ظلت تحذره سوء المنقلب وظلام المصير، قائلة: أن من الحمق التآمر بالخليفة والدين
وقد سئم بطلنا الحياة المنزلية بما يثقلها من ثرثرة الأقارب، وتجسس النساء، وفضول الخدم، إذ لم يكن أبغض إليه من الحد من حريته، فهم يريد أن يكون سيد نفسه مهما كلفه ذلك من مشقة وثمن، فهجر المنزل، ولكن ظل حبل الود متصلاً بينه وبين أمه، فكان يزورها ويصغي إليها. وكان ينفق بياض النهار مكباً على عمله، كما كان ينفق معظم لياليه في المقاهي حيث يجتمع بزملائه أحياناً أو يذهبون إلى مكان خفي بعيد، حيث يشربون ويدخنون ويدبرون الخطط للثورة المقبلة. على أن بطلنا لم يكن ليرضى أن يكون جندياً خاملاً مغموراً، بل يريد أن يكون قائداً له شرف النصر وفخار الغلبة والقهر، ولم يكن يحب(75/46)
الرؤساء أن يقربوه منهم، فقل على توالي الأيام اتصاله بالجمعية واشتراكه في أعمالها، وأصبح أكثر ميلاً للعزلة والصمت. وبينما كان بطلنا في بعده وعزلته إذا بالثورة تثب من غير إنذار، فسار نيازي على رأس فئة قليلة من الثائرين إلى جبال مقدونيا الجنوبية متحدياً الحكومة، وحذا حذوه أنور، وأصدر في الحال منشوراً يعلن فيه الثورة
أما بطلنا فظل في سكونه وعزلته، وأبى أن يشاركهم، إذ لم يكن من طبعه المغامرة في مشروع إلا إذا كان متين الأساس مقدراً له بعض النجاح؛ ولكن هذه المغامرة الجنونية نجحت بأعجوبة، وساعد على ذلك سخط رجال الجيش على الحكومة لتأخر مرتباتهم، فأبى بعضهم أن يحارب بني وطنهم، وأنضم آخرون إلى الثوار فسقطت حكومة الظلم كما تسقط أوراق الشجر أمام الريح الضعيفة، وقبل عبد الحميد الحكم الدستوري قائلاً: أنه كان يعمل لهذه الغاية من عهد بعيد!! انحنى باللائمة على مستشاريه، وألقى عليهم تبعت الماضي الفاسد. وألغي الجاسوسية، ورحب بالثوار وعاد نيازي وأنور، وقد أسكرتهم نشوة الانتصار، وتوجت رؤوسهم أكاليل الغار، فأستقبلهم الشعب بحماسة فائقة تجل عن الوصف، وقد لقيهما مصطفى برفقة بعض زملائه، وقف الجميع في شرفة أحد فنادق سالونيك، وأعلن أنور منها الدستور على الشعب الذي يرمقه بعين الإعجاب والإجلال، ووقف من خلفه مصطفى وأن ما به من الهم والحسد ليكاد يقطع قلبه ويذهب بنفسه. وقد عاد إلى الأستانة جميع من نفاهم عبد الحميد، وأخذوا يتنازعون السلطة والحكم، وأرسل أنور ملحقاً حربياً في سفارة برلين، أما نيازي فعاد إلى ألبانيا حيث اغتيل، أما مصطفى كمال فأرسل على رأس بعثة ليتفقد حال حامية طرابلس، ويكتب عنها تقريراً لحكومة الأستانة
وقد خشيت دول أوربا أن يستعيد الأتراك قوتهم، فانتهزت فرصة هذه الفتنة الداخلية لتصفى مع الأتراك حسابها، فاستولت النمسا على البوسنة والهرسك، احتلت اليونان كريد، وأعلنت بلغاريا استقلالها تظاهرها لروسيا
أما في داخل الإمبراطورية فقد شبت الثورة ببلاد العرب وألبانيا، وأحتدم النزاع بين والمسلمين والمسيحيين اشرأبت الرجعية بعمقها تريد استعادة سلطانها البائد، فلجأت إلى الجيش والشعب لأثارته على أولئك اليهود والملاحدة الذين يريدون هدم الدين، وتقويض(75/47)
خلافة المسلمين، ونجحت هذه الدعاية الخداعة البراقة، وثار الجنود في الأستانة، وقتلوا ضباطهم أو سجنوهم، وأعلنوا إخلاصهم للدين وولاءهم لأمير المؤمنين، واستولوا على الأستانة وطردوا منها أعضاء الجمعية، فلجئوا إلى محمود شوكت قائد الجيش بمقدونيا فتردد بادئ الأمر لأنه كان من المقربين إلى عبد الحميد، ولكنهم وفقوا أخيراً إلى إغرائه بمساعدتهم والعمل معهم فسير أنور - وكان قد عاد مسرعاً من برلين - على رأس فرقة من الفرسان كما ناط بمصطفى - وكان قد عاد من طرابلس - رئاسة أركان الحرب، وتقدم الجميع نحو الآستانة فقضوا على الثورة الداخلية، وقبضوا على عبد الحميد ووضعوه في (فيلا) صغيرة بسالونيك تحت رقابة الضابط فتحي المقدوني وأعادوا الجمعية إلى الحكم
وكان أنور إبان هذه الحوادث، الشخصية الفذة، والبطل البارز، ترمقه العيون بالإعجاب والحب، لأنه كان جندياً مقداماً جريئاً، كثير الاتجاه إلى الجمهورية، فأتته الشهرة وسعت أليه، بينما ذهب مصطفى كمال في غمار النسيان والإهمال، إذ لم يحظ بإعجاب الشعب لتردده، ولم يكسب رضاء الرؤساء لصلفه، حتى قالوا عنه (أنه ذو كفاية ممتازة، ولكنه جامد النسيم، كثير التمرد على كل أمر، قارص النقد لكل شخص، شديد الغرور، لا يميل إليه أحد، وهو كثير الاعتداد برأيه، لا يشرف معه أحداً في الأمر)
وأبعدوه عن الحكم وأبقوه في منصبه، فأكب على واجبه يؤديه بهمة ونشاط، وأخذ يدرس تاريخ نابليون وفون ملتكه. ثم رقي في سنة 1911 إلى رياسة أركان حرب القسم الثالث من الجيش بمقدونيا
وقد أرسل في بعثه حربية إلى باريس تحت أشراف الجنرال علي رضا، وأعجب رئيسه به وأثنى عليه. ولما عاد أنيط به الإشراف على مدرسة الضباط بسالونيك، وبرغم كون بطلنا جندياً بفطرته فقد كان يتطلع بنظره إلى السياسة دائماً، ويحاول أن يجرب طالعه فيها، فلم يرضه هذا المنصب، وأخذ ينقد زعماء جمعية الاتحاد والترقي نقداً لاذعاً في غير تحفظ ولا خشية قائلاً أنهم ليسوا جديرين بالحكم، وأن الدول أخذ طمعها يشتد ويدها تطول عن ذي قبل، ولا سيما ألمانيا التي قبضت على مرافق البلاد الحيوية وسيطرت على سكة حديد بغداد. أما في الداخل فلا يزال السخط عاماً والفقر والبؤس مخيمين، ويجب القيام بعمل حاسم لإصلاح الحال. وأخذ الضباط يصغون إليه ويستمعون له ويلتفون حوله(75/48)
فأرضى هذا كبريائه، وأصبح يشعر أنه ذو مكانة وخطر، وأنه يقترب رويداً رويدا من قيادة حركة ذات شأن، ونمى هذا إلى سمع محمود شوكت، وكان يعرف بطلنا ويقدر خطره، لاسيما في البلقان مصدر كل فتنة ومهد كل حركة، فنقله إلى منصب أخر، وكان شوكت في تصرفه هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد سهل المنصب الجديد بطلنا بلوغ دعوته إلى أنصار أكثر من ذي قبل، ولم يخفه تهديد شوكت ووعيده، وظل في مهاجمته للرجال الجمعية وحملته عليهم غير خائف ولا متحفظ، كما أخذ يستحث أنصاره على طرد الأجانب لتصبح (تركيا للأتراك)
ولقد عظم خطر بطلنا حتى كتب أعوان الحكومة إليها ينذرونها ويحذرونها منه ويستحثونها على تدارك الأمر، وطلبت الجمعية معاقبته، فبعث إليه شوكت يتهمه بأنه يحرض الجنود على الثورة، فرد عليه رداً لم يكف في نظر شوكت لدحض التهمة ونفيها عنه، كذلك لم يجد شوكت أدلة قوية تثبت إدانته فنقله إلى المكتب الحربي في الآستانة ليبعده عن البلقان مستودع البارود ومنبع الخطر وليستطيع ومراقبة حركاته ويتبع خطواته، فلم يرده هذا عن خطته، وأخذ يتقرب من بعض سياسي الجمعية الذين كانوا يبغضون الألمان ويمقتون سفيرهم صديق أنور الذي أخذ يعمل بنشاط وكياسة بجعل تركيا آلة في يد ألمانيا، وأخذوهم يشجعونه بعض الشيء، إذا رأوا إمكان استخدامه ضد أنور عند الحاجة، ولكنه مع ذلك لم يستغيث ولم يقربوه كل القرب لذهابه بنفسه، فحز ذلك في نفسه وألمه أشد الألم
وبينما هو يجاهد خصومه ويجاهدونه إذا بإيطاليا تنزل جنودها في طرابلس وتحتل الساحل.
حنفي غالي(75/49)
الشمس في الطلوع
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
الشمس قد طلعت بوجه أروع ... فوقفت مبهوتاً لحسن المطلع
وجه كما تهوى الطبيعة سافر ... ماإنْ عليه سوى السَّني من برقع
في موكب فخم يزيد جلاله ... لمع الأشعة في الفضاء الأوسع
هي في علاية أوْجها وشعاعها ... في كل ما تبدو له من موقع
بيضاء لولا ما بها من وخزة ... لذَّاعةٍ من حسنها لم أشبع
إني أدين بحسنها لا كالذي ... أملي عليه جهلُه ألاَّ يعي
مرت تعاورها الدهور وحسنها ... أبداً جديد بالشباب الممتع
أنظر إليها فهي تحكي غادةً ... ترنو إليك من المحل الأرفع
ولقد بدت في خليعٍ من ضوئها ... أحسن بها لما بدت في الخليع
تجري بلا تعب إلى الغايات ... في صمم على لقم الطريق المَهْيع
لا تحرم الأرض الضياء فان جلت ... عن موضع منها بدت في موضع
تمتد من شغفٍ لها الأنظار من ... حَسْرى تكل من العياء وضُلَّع
ظهرت على متن السحاب كأنها ... نارٌ تُشب على كثيبٍ أسفع
ولقد عَلَتها وهي تبرح أُفقها ... وَطْفاءُ حانيةٌ حُنُوَّ المُرضع
ودنا يطوف بها الغمام كمُصْطلٍ ... با النار يُذكى جمرها أو مُزمع
قد كان في القرصُ أحمر فاتحاً ... حتى أختفى في العارض المتجمّع
أما الغيوم فتلك بعد تراكم ... أخذته بين صدورها والأذرع
صورٌ محببّةٌ وليس بمنكرٍ ... حِوجُ الحياة إلى الجمال الأرْوع
الشمس في طول النهار نجيَّتي ... والشمس حيث ذهبتُ ذاهبةٌ معي
وكأنما بيني وبين شعاعها ... نسبٌ قديمُ ما لأوّله أعي
ما ذرَّ قرنُ الشمس إلاَّ أهتزّ من ... فرح فؤادٌ تحتويه أضلعي
الصبح لما أبيضَّ من أنورها ... أخنى على ضوء النجوم اللُمّع
والصبح بعد الليل يحكي ضوؤه ... أملاً لذيلاً بعد يأس موجع(75/50)
ولقد تيقضت العيونُ من الكرى ... ولفظن أحلام النفوس الهُجّع
قد كان ليلاً قد تضاعف دَجْوه ... والليلُ يُذكى الحزن في المتفجَّع
ثم انجلى متأخراً عما له ... قد كان في طغيانه من موقع
وبدت عليه ذِلَّةٌ فكأنما ... صفعته كفُّ الصبح فوق الأخدع
لا تحزني مما لقيت من الأذى ... ما أنت مني يا نجوم بأضْيع
أما الحياة فأنها لجميلة بك يا ... (ذُكاء) وأن أقضَّت مضجعي
يا حبذا لو أنني من بعد ما ... أرْدَى يكون إليك يوماً مرجعي
أني لأرجو أن تُطلِّى من علٍ ... حتى تَرَى عند النهاية مصرعي
لا َضْيَر أن أبكَى الدجى عيني فقد ... مسح ابتسامُكِ في النهاية أدمعي
أقلعتُ عن حبِّ الحسان جميعها ... إلاّ هواكِ فلستُ عنه بِمُقْلِع
بالشمس في الأفق البعيد تغزّلي ... لا بالعقيق ورامتين ولَعْلَع
جميل صدقي الزهاوي(75/51)
عمرو بن العاص والزعيم المصري
للشاعر الاسكندري عبد اللطيف النشار
حدثونا أن عمراً ... حينما أخضع مصرا
عاهدوا الأقباط عهداً ... حفظوه فاستمرا
وكذا المصريُّ إن قا ... ل وإن عاهد برا
غير من شذ، ومن شذ ... فلا ينقض أمرا
شذ عن أقباط مصرٍ ... رجلاً ناوأ عَمرا
ألب الروم عليه ... وأثار الحرب غدرا
وقضى الله لعمرو ... فأباد الجيش ذعرا
فمولون وقتلى ... وفلول الجيش أسرى
وأتى الخائن في الأس ... ري وقد أحرج صدرا
أي عذر ينفع الي ... وم إذا ما رام عذرا؟
ورأى عمرو حليفاً ... خانه بغياً وكفرا
وأستشار الصحب فيه ... فقضوا بالقتل صبرا
قال أدهى الناس عمرو ... قولة ترفع عمرا:
بل ستحيا فأبغ ما شئ ... ت بنا سراً وجهرا
بأمثال الألي جئ ... ت بهم فائت بأسرى
وما مضى الخائن في ذل ... وقد شاهد كبرا
ليس كل البطش بطشاً ... ليس كل الصبر صبرا(75/52)
حسب قلبي
بقلم فريد عين شوكة
هات ما شئت من جفاكَ وهجرِك ... أن في القلب ما يقوم بعذرك
وشح يا حبيبُ - وجهك - عني ... حين تهفو عيناي فيه لسحرك
وأغمر السكون بالحبور مع الغير ... وعبس إذا استرحتُ لبشرك
وأستهِنْ بالهوى وضق بيَ ذرعا ... حين أشكو إليك، يا ضيقَ صدرك!
ضاع قلبي لديك، يا لفؤادي ... منك لما نبذته خلف ظهرك!
هان شأني عليك رغم سُموِّي ... واعتزازي مدى الحياة بقدرك
وأن البلبل الذي بك غنَّى ... والنسيم الذي يَضُوع بعطرك
يا نجىَّ الضمير حتى لدى الرَّو ... ع أما آن أن أمرَّ بفكرك؟
يا كثير العقوق للعاشق المُضْ ... ني أرحني فقد عييتُ بهجرك
قد ترشفتُ حلو عطفك عاماً ... وتجرعت بعدهكأس مُرِّك
وتربعت في رضاك مريعاً ... ثم شردت في مهامه قفرك
صارخاً في الدجى البهيم وغيري ... يستشف الآمال في ضوء فجرك
وإذا أنت مستريح لغيري ... وفؤادي ما يستريح لغيرك!
أيهذا الحبيب عذرك أني ... لم أزل رغم ثورتي طوع أمرك
أنا كالطائر السجين فمهما ... هاجني الوحيد لم أزل رهن سرك
حسب قلبي في ذلك الغضب القات ... ل ما مرَّ من رضاك وبرِّك(75/53)
نجوم السينما
للأستاذ فخري أبو السعود
عوِّذ فؤادك من بوادر فتنةٍ ... مجلُوةٍ في مَعرِضَ الأشباحِ
ما القلبُ إلا بضعةٌ لو قُسَّمت ... لم تكفِ أسرابَ الْمَها يا صاحٍ
أو تُوفِ ما بالمشهد الخلاَّب من ... فتنٍ ومن غُررٍ ومن أوضاح
ماذا تُبين الشّاشةُ البيضاء من ... سحرٍ وراَء سرابٍها اللمَّاح؟
تجلو خيالات الجمال كأنها ... أطياف أحلامٍ يراها الصَّاحي
تُبدي لعينكَ كلَّ أغيَد شادنٍ ... سابٍ وكلَّ مُغرِّدٍ صدَّاح
جمعت ملاحات الشعوب جميعها ... كالطير من مُتفرِّقِ الأدواح
من بضةٍ تزري بكل خميصة ... وخميصةٍ تُزري بكلِّ رداح
وغضيضةٍ تُصبي بساجي طرفها ... ولبيقةٍ تُغري بثغرِ أقاح
وقسيمةٍ تسبي بوحفٍ فاحمٍ ... داجٍ وفجرٍ دونه مُنصاح
ووضيئةٍ شقراء تقنعُ كلَّ ذي ... بصر بأنَّ الحُسن شعرٌ ضاح
إن الطبيعة ما تزال سخية ... بالحسن تُوليه عطاء سماح
أبداً مُوكلةٌ بهاتيك الدًّمى ... تشتقُّها من حُسنِها الوضّاح
هذى حَوَاريَّاتُ كل مدينة ... للناظرين تجمعَّت في ساح
خَلَعت عليهنَّ الطبيعةُ حُسنها ... بأناملٍ في البَذل غير شِحاح
وسَخت عليهن الحضارةُ بالحُلي ... فَرَفلْنَ في الوضّاء والفيّاح
دوماً تبدَّلُ حالةً من حالةٍ ... ما بين جدّ تارةً ومزاح
بينا تُرى في ثوب زوجٍ ناشزٍ ... يخشى أذاها الناظرون وَقاح
حتى تكون غداً بتولاً أقبلت ... في طُهر أرادنٍ وَسمْتِ صلاح
وتجود أحياناً - وغيرُ فؤادها ... عرَف الأسى - بالمدمع السَّحَّاح
من مثلُ هاتيك النجوم تزوَّداً ... من بهجة الدنيا بكل صُراح؟
حاكَينَ أقمارَ السماء تعدُّداً ... وبَذَذْنَها في الحسْنِ والإصْباح
وتَخِذْنَ هذا العمر يوم رياضةٍ ... ومتاع ألبابٍ وصرف مِراح(75/54)
وتركن في جهلاتها وضلالها ... دُنيا تلاحٍ دائمٍ وكفاح
من لاعنٍ للشَّرِ وهو مُثيرُه ... ومُدجَّجٍ يدعو لنزع سلاح
بين الحياة وبين تمثيلٍ لها ... لا تثقُلُ الدنيا على الأرْواحِ(75/55)
طفت بالحمراء
للأديب حسين شوقي
طفت بالحمراء والقلب كليم ... أسأل الحمراء عن سادتها
قلت: يا حمراء لم زهر النجوم ... لا تضيء اليوم في هالاتها
قالت الحمراء: دع هذه الذكر ... لا تذكرني بما مرَّ وفات
أفل الأقمارُ عني واندثرْ ... زمَنَ العز ودهرُ المكرمات(75/56)
إلى مؤتمر الفردوسي
1 - بين القاهرة وطوس
للدكتور عبد الوهاب عزام
أطوى حديث السفر بين القاهرة وبغداد، فقد وصفت هذه المراحل من قبل في الكلام عن سفرتي إلى مدينة العباسين، وليس في هذه المراحل من جديد إلا السيارات الضخام التي تعبر بادية الشام بين المدينتين الخالدتين: دمشق وبغداد. أعدت شركات عربية، وأخرى أوربية، سيارات كباراً تسع واحدتها أكثر من عشرين راكباً في مقاعد وثيرة، تريح المسافر صاحياً وتمكنه من الإغفاء حتى يغلبه النوم. ركبنا إحدى هذه السيارات، ففصلنا من دمشق صبيحة الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة (الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1934) وبلغنا بغداد والساعة تسع من صباح الأربعاء بعد سفر ستة وعشرين ساعة
فهذه بغداد العظيمة في جمالها وكبريائها، تزدحم فيها حادثات التاريخ أكثر من ازدحام أهلها، وتزخر فيها ذكرى الماضي أعظم من زخور دجلتها. والله بغداد، ما يستقر بها فكر زائرها حتى يحلق في أرجاء العصور، وثنايا التاريخ أمداً بعيداً. فما يفتأ البصر يترامى بين الرصافة والكرخ، يبتغي أن يقع على موكب من مواكب الخلفاء، أو مجلس من مجالس العلماء، أو حفل للأدباء والشعراء. ففي كل نظرة ذكرى خليفة، وفي كل فكرة حديث فيلسوف أو عالم أو شاعر
ثم يقع الفكر وقوع الطائر بعد طول التدويم، فيستريح من بغداد الحاضرة إلى أمة قد أخذت للمجد أهبتها، وأعدت للعظائم عدتها، وعرفت بين الأمم غايتها، وشقت بين الخطوب سبيلها. فسارت في مواقع من الهمة القعساء، والعزة الشماء. تحدوها عزة إسلامية، وأنفة عربية. قد آلت لتسيرن سيرتها حتى تبلغ غايتها. وسير الله يمينها، ويعنو الزمان لأمرها.
وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة ... إذا نازلت عزم الكرام كتائبه
ذلكم ماضٍ مجيد يمد حاضراً مجيداً، ذلكم تاريخ يتدفق من قمم المجد الشاهقة في مجرى العزمات الماضية، إلى المستقبل الوضاء. ومن ذا يصد السيل إذا هدر، أو من ذا يرد على الله القدر؟ بل من يسلسل البحر بأمواجه، ويرد الحر الأبي عن منهاجه؟ سلام يا دار(75/57)
السلام! رعاك الله في كل خطوة، وخار لك في كل عزمة.
دار السلام لا عداك المجد ... وارفة ظلاله تمتد
ولا حدا نجمك إلا السعد ... موصولة الآجال بالآجال
لابسةمجددالقرون
أن حديث بغداد لا ينفد، وحبها في القلوب لا يحد. وإنك أيها القلم لأعجز من أن تخط الزمان الماجد، والتاريخ الخالد، والخطوب والعبر، والقضاء والقدر، في هذه الأسطر. فحدث عن الرحلة إلى طوس؛ وحسبك أن تحمل (الرسالة) هذه الرسالة
لبثنا ببغداد من صبح الأربعاء إلى عشية السبت، في حفارة إخوان كرام، وسرور بدار السلام. ويوم السبت ركبنا نحن والوفود التي قدمت إلى بغداد في طريقها إلى طهران، قطار الليل نؤمّ خانقين. والمسافة بين خانقين وبغداد زهاء مائة ميل، ولكن قطار خانقين المتمهل يقطعها في عشر ساعات، فيمكن المسافر أن ينام ملء جفونه حتى يصبح. برحنا بغداد والساعة ست مساء، وودعنا على المحطة القائم بأعمال المفوضية المصرية حافظ بك عامر، ووزير إيران في بغداد. وسافر معنا الأديب الفاضل أحمد حامد الصراف مندوب العراق إلى مؤتمر الفردوسي. وكان المندوب الثاني الشاعر الكبير الزهاوي، قد سبقنا إلى خانقين في سيارة. وصحبنا في القطار إلى منتصف الطريق الأخ الهمام إبراهيم الواعظ المحامي، وكان ذاهبا إلى كركوك، فما زلنا في إكرامه واحتفائه حتى افترقنا؛ أهدي إلى وإلى الأستاذ العبادي ديوان السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي، فكان خير زاد للمسافر. ولما وقف بنا القطار على محطة باب الشيخ ببغداد اشترى لنا قلة بغدادية روينا بها في سفرنا. وقلل بغداد نقية الطينة، سريعة التبريد، تمنيت أن أحمل بعضها إلى مصر فلم يتيسر لي، وهي أمنية أعجزت الأستاذ الزيات من قبل
بلغنا خانقين والساعة أربع من الصباح، فبقينا في القطار حتى أسفر النهار، فنزلنا وحملنا أمتعتنا إلى حجرة من حجرات المحطة، استبد بها الأستاذ الصراف فشاركناه فيها. ولبثنا ننتظر قدوم مندوبي الحكومة الإيرانية حتى جاء القنصل الإيراني، وآقاي روشن المهماندار، الذي كان طليعة ركبنا في رحلتنا كلها. وعلمنا حينئذ أن موعد السفر غد، أول أكتوبر فتفرقنا. ذهب جماعة إلى دار القنصل، وآخرون إلى المنازل أخرى. ودعنا صديقنا(75/58)
الصراف إلى دار صديقه عبد القادر صالح، معاون جمرك خانقين، وكلمه بالتلفون، فأرسل سيارته، فذهبنا إلى الدار فإذا فتى نبيل من فتيان العراق، وكم في العراق من فتى نبيل! فلبثنا في ضيافته إلى صبيحة يوم الثاني، وسعدنا بصحبة موظفي خانقين الكرام، واحمدنا هذا التأخر الذي أتاح لنا هذه السعادة
وخانقين مدينة صغيرة على حدود العراق، وعلى طريق خراسان، يمر بها نهر حلوان (حلوان جاي) ويسمى نهر ألوند، وهو فرع من نهر ديالى أحد روافد دجلة. وعند المدينة قنطرة كبيرة من أثار الساسانيين. وقد وصفها ياقوت في المعجم. وكانت المدينة في العصور الإسلامية الأولى معروفة بالتمر والغلة، ولا تزال كثيرة التمر. وقد مدح أبن المعتز نبيذها. وقال عتبة بن الوعل التغلبي:
ويوم ببا جسري كيوم مقيلة إذا ... ما اشتهى الغازي الشراب وهجرا
ويوم بأعلى خانقين شربته ... وحلوان حلوان الجبال وتسترا
وفي خانقين حبس كسرى برويز النعمان بن المنذر حتى مات. ويوم الاثنين أجتمع المندوبين عند محطة خانقين، وجاء آخرون من بغداد منهم أستاذي سيردنسن روس، والشاعر الإنكليزي درنكووتر، وعبد الكريم أفندي الحسيني، والدكتور نظام الدين مندوبا حيدر أياد. وتقسمنا السيارات فركبت أنا والأستاذ العبادي والأديب الصراف معاً، وكانت صحبة الصراف فألا سعيداً في هذه السفرة، فقد نعمنا بحديثه وإنشاده من الشعر العربي والفارسي وتغنيه بالأغاني المصرية. كنا كما تمادى بنا السير وماطلنا المدى، قلنا هات يا صراف، فانطلق ينشد من محفوظه الذي لا ينفد، فيدوي صوته على الجبال الشاهقة، وفي السهول الفسيحة، فننشط له نشاط الإبل للحداء. وسنذكر بعد طرفا من حديث الصراف. سرنا إلى الحدود في طريق معبدة مقيرة، فوقفنا قليلاً؛ وجاء إلينا رسول إيراني فرحب بنا وأعطانا دليلاً مكتوباً بالفارسية والفرنسية، فيه طرف من أخبار البلاد التي نمر بها بين خانقين وطوس. وهناك تركت الرفيقين الكريمين، وركبت مع صديقي عبد الكريم الحسيني مندوب حيدر أياد، إذ كان في سيارة وحده فأردنا أن نؤنسه في السفر
بلغنا قصر شيرين بعد نصف ساعة، فتوقفنا لشرب الشاي على الطريق. وقصر شيرين مدينة صغيرة على طريق خراسان، وعلى نهر حلوان، سميت باسم القصر الذي بناه(75/59)
كسرى برويز (590 - 628م) لامرأته شيرين
ولا تزال أطلال قصور كسرى قائمة إلى الشمال والشرق من المدينة. وقد وصفها ياقوت فقال: (وفيه أبنية عظيمة شاهقة يكل الطرف عن تحديدها، ويضيق الفكر عن الإحاطة بها؛ وهي أيونات كثيرة متصلة، وخلوات وخزائن، وقصور وعقود، ومنتزهات ومستشرفات، وأروقة وميادين، ومصايد وحجرات، تدل على طول وقوة). ولا تزال ذكرى كسرى وشيرين وعاشقها فرهاد الزائر، والمغني بلهبذ تطيف بها الخرابات، وأساطيرهم تسمع في هذه الأرجاء
وحلوان المدينة القديمة المذكورة في الأخبار والأشعار قريبة من قصر شيرين. وكانت مدينة كبيرة عامرة ثم خربت منذ القرن الثامن، فلم يبقى منها إلا أطلال دراسة، ونخلتا حلوان وقصصهما وما قيل فيهما من الأشعار من الأحاديث الذائعة.
يتبع
عبد الوهاب عزام(75/60)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
1 - تطور الحركة الفلسفة في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
فصول لم نرد بها التحدث عن الفلسفة للفلسفة، ولكنا أردنا بها أن تبدي تأثير الفلسفة في تطوير الأدب الألماني، وما كان لأصحاب الفلسفة من فضل عميم على هذا التطور الذي أصاب جميع حقوله الأدبية.
الكاتب
تمهيد
الفلسفة الألمانية قبل (كانت)
كانت تستمد ألمانيا مادة فلسفتها وأدبها من فرنسا طيلة القرن السابع عشر، والفلسفة الديكارتية هي الفلسفة التي كانت تتطارحها الجامعات الألمانية، (وليبنيز) (1646 - 1716) هو أول فيلسوف استطاع أن يبث الحياة في عروق الفلسفة الألمانية ويذهب بها في مضمار التقدم شوطاً بعيداً، كتب الفلسفة باللغة اللاتينية طوراً، وطوراً بالفرنسية، وهما اللغتان السائدتان يومئذ، ولعل شيوعهما واستئثارهما بالكتابات الفلسفية كان يقرب كثيراً بين المفكرين والأدباء حتى يغدو هذا التقريب أحد الأسباب العاملة على تشييد صرح اللغة وتزينه وتجميله بما يستطيع فكر ناهض أن يضعه؛ ولكن علة (ليبنيز) أنه كان يتناول المسائل الفلسفية كمادة فنية تلهو بها نفسه، وهو خلال ذلك قد يعالج المسائل الكبرى، كمسألة الحياة والوجود، وقد يوفق في الإجابة عنها توفيقاً كبيراً، ولكنه كان واحداً من كثيرين ممن يعالجون الفلسفة، ولا يعملون على لم أفكارهم حتى تكون مذهباً خاصاً يضم منها الآراء الناضجة وفكرتهم الخاصة في الحياة؛ وجل ما وصل إليه في فلسفته أن عالج الجبر والاختبار، ومعرفة الله وعلمه بالمستقبل، والعناية الإلهية ووجود الشر، وألف مذهبه في الذي يرضى عن الوجود ويحبب الوجود إلى الإنسان، هذا المذهب الذي سخر منه (فولتير) في مقطوعته زلزال (ليزبونة) وفي روايته (كانديد)، وخير كتب ليبنيز الخالدة كتابه وفي هذا الكتاب يعلن انفصاله عن المذاهب المتقدمة ومروقه من مذهب ديكارت(75/61)
الذي جعل من الكون جزأين: أحدهما عالم الأرواح والآخر عالم الأجساد، فجاء ليبنيز ونقض هذا المذهب، وأحل محله مذهب (الجزء الفرد الذي لا يتجزأ ولا يفنى، وشأنه في مذهبه هذا كشأنه في غيره يفتقر إلى ترتيب وتوفيق وتوحيد
وهذا العمل الذي كانت تفتقر إليه آثار (ليبنيز) إنما أتمَّه وشذَّبه من بعده الفيلسوف الصارم (وولف) الذي نزع عن فلسفة ليبنيز الخيال والشعر وشد وثاقها بالحقيقة، ونفي عنها شيئاً وزاد عليها شيئاً حتى غدت أجزاؤها متآلفة متداخلة كأنها أعضاء في جسد واحد. وقد كان له تأثيره العظيم في الأدب الألماني والفلسفة الألمانية بشهادة الفيلسوف (كانت)، لأنه هو الذي خلق في الألمانية لغةً للفلسفة خاصة، وهو الذي فتح آفاقاً واسعة في التعبير والأداء لمن بعده، فهان على هؤلاء أن يجلوا وأن يحلقوا ما استطاعوا؛ ومن هؤلاء (كانت) نفسه، الذي كانت له صفحات خاصة تشدو بالمزايا التي أسداها (وولف) إلى الأدب وإلى الفلسفة
على أن الأندية الفلسفية قد تغض بصرها عن كل ما شاد هؤلاء في صرح الفلسفة، وتعتقد أن الفلسفة الألمانية إنما كانت قبل (كانت) غيهباً ممدوداً، وأن الذي محا هذا الغيهب وبعث النور في خلاله هو الفيلسوف العظيم (كانت) الذي تزعزعت له الأندية الفلسفية والأدبية، وكانت له فيهما جولات يعزى إليها كل ما غمر الحقل الأدبي والفلسفي - في ألمانيا - من خصب ومن إنتاج.
كانت 1724 - 1804 حياته: فلسفته: تأثيره
حياته
كان (كانت) في التاسعة من عمره حين فقد والده، فكفلته أمه ونشأته تنشئة عالية، فدرس في بدء عهد اللاهوت، كما هو العهد في دراسات تلك العصور، ثم درس الرياضيات، ثم الفلسفة، حتى إذا أتم عهد الدراسة عرض له هم المعيشة، الهم الذي كان يوقر ظهره في جميع أدوار حياته، فرضى بأن يدرس في مواطن خاصة، وهو خلال ذلك يتفرغ إلى الدرس، ويلم بجميع العلوم التي توائم الفلسفة. وفي عام (1770) أُسند إليه كرسي خاص لتدريس الفلسفة، وقد عاد أمره إلى الضيق، وحريته إلى الإرهاق في عهد فردريك غليوم، إذ تدافعت عليه الوشايات يخلقها حسد القوم؛ ولكنه ظل مثابراً على العمل حتى عام(75/62)
(1797). وقد كان لعهده هذا التأثير بليغ في نفوس طلابه الذين جالت براعاتهم من بعده في صحف الأدب والفلسفة، وهو الذي يوصي زملاءه في إحدى محاضراته: (بأن يحذروا كل الحذر من أن يلقوا في نفوس طلابهم أن العلم بالغ أوج الكمال، أو أن يعلموهم ما هي ماهية الفلسفة، وإنما ينبغي لهم أن يلقونهم كيف يتفلسفون، وأن يساعدوهم - لا أن يحملونهم على ظهورهم - إذا أرادوا أن يعلموهم الدروج على الأقدام). والحق يقال أن (كانت) لم يخلق إلا ليعيش فيلسوفاً، ولم يلاق منه مذهبه إلا قريناً يحيا به ومعه، ناهيك ببعض مآثر رواها عنه القوم، تدل على ما أتصف به كانت من حب العمل والنظام والتوقيت ومواصلة الجهود الجبارة في سبيل دراساته المتتالية، فقد كان الرجل موفقاً كل التوفيق بين مذهبه وسلوكه؛ قد سن لكل شيء نظاماً، وأتبع هذا النظام كأنه الرسول يأمر وهو أول من يأتمر
وكان آخر كلمة له هذه الكلمة حين لقي حتفه عام 1804: (أنه حسن!) كأنما يريد أن يقول (لقد عشت كما كنت أود أن أعيش)
فلسفته
بدأت فلسفة (كانت) تنمو شيئاً فشيئاً شأن كل فلسفة، وإنما تميزت من غيرها بطابع الاستقلال الذي انتحى بها ناحية جديدة، فقد تأثر كانت بمن تقدمه من الفلاسفة وأتخذ غذاءه العقلي منه، وما كاد ينشأ ويترعرع ويشتد ساعده حتى أعلن انفصاله عنه ونهج منهجاً جديداً أختطه لنفسه. وفي كتابه (آراء في التقويم الحقيقي للقوات الحية) حيث أراد أن يوفق في الفلسفة الطبيعية بين لبينيز وديكارت يقول: (قد أتمثل أن هنالك لحظات لا يقنع الإنسان فيها أن يعتمد على قوته، أن هذا الاعتماد ليولد فينا جهوداً متواصلة ويمنحها سبيلاً يفيدها في سعيها نحو الحقيقة، وجميل بنا أن ننخدع ألف مرة، لأن الضال المنخدع ليعمل على خدعة العلم أكثر ممن لا يسلك ألا السبيل المطروقة. . . أنني هنالك سأطأ. . . ولقد سلكت السبيل التي أردت أن أتبعها. . . سأسلكها ولم يقف سيري أحد)
أن هذه الثقة المطلقة بالنفس بدأ يظهر فضل إنتاجها في فلسفة (كانت) لأنها فرضت عليه أن يخط سبيلاً جديدة، ويطلع على الناس بمدرسة للفلسفة جديدة، وهل كان العصاميون ألا أبناء اعتمادهم على نفسهم؟ وقد ظهر أول إنتاجه في كتابه (تاريخ الطبيعة العالمي، ومنهج(75/63)
السماء العام وتجربة على الأصل الميكانيكي للعالم حسب قوانين نيوتن)، فكتابه هذا هو تجربة ميكانيكية سماوية مؤسسة على علم الطبيعة. فالعالم نيوتن لم يسن إلا قانون الحركات السماوية. وعندما أتى على درس أصل هذه الحركات ناط الأصل بالإرادة الإلهية التي يعن لها كل شيء، ولكن (كانت) أدرك أن القانون الذي أفاد في تعين مذهب الوجود، ينبغي له أن يحلل مركباته، وأن القوات التي تحفظ الوجود ينبغي ألا تختلف عن القوات التي أبدعت الوجود. وأخيراً يفترض في بيان أصل الوجود أن مادة متشابهة مؤلفة من أجزاء متشابهة تقودها حركة دائرة، وهي تتشكل وتتنوع بحسب ما يحتوي باطنها من قوة وفاعلية، ثم يصف الخلاء (أو الفراغ)، وقد استحال جواً غائماً، وشموساً وسيارات وأقماراً، ولكنه في الحقيقة لم يزد شيئاً، إلا أنه سار بالمسألة التي وقف نيوتن عليها، وهذه المسألة المبهمة هي عديمة الحل في ذاتها، إذا ليست الحياة إلا العمل الدائم نقبله على وضعه؛ وفصول أخرى جاءت في الكتاب تغمرها أنفاس شعرية تبدي لنا (كانت) في عهد كان لا يفر من عاطفته، وقد تراه في بعض صفحاته يسوق إليك نظريات قد أستغلها (لابلاس) نفسه بعد خمسين عاماً. كانت العلوم الطبيعية هي شغل (كانت) في جميع أدوار حياته، وهذه العلوم هي التي فتحت لنفسه أفقاً جديداً تركها لا يقنعها مدى الأفق الضيق الذي تخلقه المدرسة، حتى إذا مرت عليه أعوام عاد إليه حنينه إلى الفلسفة المقصودة بذاتها، فحارب المذاهب الهندسية التي تعنى بالبراهين المنطقية ولا تعنى بالبراهين العملية، وقد وضع كتاباً خاصاً ناضل به أصحاب العلم النظري
يستشهد (كانت) بكلمة لأرسطو (ترانا حين نكون شيوخاً نعيش سواء في هذا العالم نفسه، ولكننا عندما نسترسل في الأحلام والأوهام كل منا له عالمه. . . ثم يقول: (وحين يبني الناس دعائم الوجود كل بحسب رغبته، فليأذنوا لنا بأن نقول: أن هؤلاء الناس يحلمون! ولكن هل يدفعنا هذا إلى القول: أن كل علم نظري فاسد؟ لا. لأن العلم النظري قد يسد حاجة من حاجات عقلنا، ولكنه لم يكن ناجحاً مفيداً إلا إذا كان موثقاً بحبال معرفتنا. ويقول كانت: أن العلم النظري له عملان: يجيبنا في الأول على أسئلة كثيرة يخلقها العقل الطامح إلى كشف أسرار الوجود، وهاهنا يكثر انخداعنا بنتائج تأتينا على غير ما نتوقع؛ وفي العمل الثاني يبين لنا ماهية المسألة التي نعالجها وموضوعها من حدود إدراكاتنا، وإمكان(75/64)
اتصالها أو استحالته بتجاربنا ومعارفنا. وعلى هذا نرى العلم النظري إنما هو معرفة لحدود العقل البشري، وهو كل البيت الصغير ترى حدوده دائماً كثيرة، وإنما ينبغي لهذا العلم أن يكون أكثر شغفاً بالمعرفة، وأشد صيانة لما يملكه، لأن ذلك أجدى عليه من إنتصارات جديدة يركض ورائها ركضاً أعمى لا يغنيه شيئاً
هذا هو رأي كانت في العلم النظري، وهذا الرأي نفسه هو الذي خلق كتابه (نقد العقل الخالص) هذا الكتاب الذي أظهر مزية (كانت) وعلو كعبه في الفلسفة، وكان له التأثير العميق في فلسفة أوربا الحديثة.
خليل هنداوي(75/65)
العلوم
في تاريخ الرياضيات
للأستاذ محمد محمد السيد
للأستاذ قدري طوقان آثار مشكورة في الإبانة عن فضل العرب في الرياضيات والعلوم، ومقاله الأخير في الرسالة يكشف عن بعض آثر العرب في تلك الناحية. إلا أنه يلوح لي أن حرصه على إنصاف العرب يكاد يدفع به إلى إسناد الفضل لغير أهله، خذ مثلاً حساب التفاضل والتكامل. فالمعروف في تاريخ الرياضيات أن يودكسوس (حوالي 400ق م) وأرشميدس (حوالي 250ق م) وغيرهما كانوا سباقين في استعمال طرق تقرب من طرق التكامل في إيجاد المساحات والحجوم. فأرشميدس مثلاً أعطى مساحة أي قطعة من قطع مكافئ وأوجد مركز الثقل لصفائح ذات أشكال مختلفة. . الخ وفي كتابه نسب إلى ديمقراطيس (حوالي 450ق م) بأنه أول رياضي قرر المعادلة الصحيحة لحجم الهرم أو المخروط بتقسيم كل إلى شرائح صغيرة
فإذا كان بعض مؤلفي العرب قد نسجوا على منوال رياضي اليونان في حل مسائل عن المساحات والحجوم، فهم لا يستحقون لذلك فضل المبتكر. لو أن فضلهم في الدرس والمثابرة مشكور غير منكور على كل حال
ومثل ذلك يقال عن دوران الأرض. فقد أبان الأستاذ بحق أن الفكرة قديمة. فقد تنازعها كثيرون من أعلام اليونان تأييداً وتفنيداً. فإذا ظهر من العرب من يأخذ بها أو من ينكرها، ففضله في ذلك لا يعدو فضل الحكم يختار من بين الآراء المختلفة أحدهما بدون أن يأتي بجديد من الحيثيات مؤيداً أو مفنداً
جاء في تاريخ الرياضيات لبول أن أحد كتاب العرب في الأندلس ويدعى (؟) (عاش في طليطلة حوالي 1080م) قال بحركة الكواكب في قطع ناقص. ولكن معاصريه أنكروا قوله لمخالفته لبطليموس. ومن المعلوم أن يوحنا كبلر هو الذي توطد على يديه هذا الرأي حوالي 1600م، ولكنه لم يشهر رأيه ولم يقتنع به ولم يدافع عنه إلا بعد مشاهدات وأبحاث استغرقت أعواماً عديدة. ولا شك أن فضل كشف هذه الحقيقة يجب أن يستأثر به كبلر وحده دون غيره. في الرأي نفسه عار عما يعززه، لا يقدم ولا يؤخر في العلم. ولكن(75/66)
المشاهدات والأدلة هي التي يقوم عليها الاقتناع والإقناع
ومن المشهور في كتب الرياضيات والعلوم أن جهد اليونان ثم العرب في العلوم الرياضية كان مقصوراً على الجانب النظري. ولم يكن للتجربة والمشاهدة أثر فعال في كسب المعلومات إلا بعد عصر الأحياء في أواسط أوربا. صحيح أن آثر العرب لا ينكر في الكيمياء والطب. ولكن تجاربهم في الفيزياء والرياضة التطبيقية نادرة. وحتى هذا النادر مختف في طيات الكتب القديمة ينتظر كولمبس جديداً لكشفه
ولذلك قرأت بشغف ما كتبه الأستاذ خاصاً بالجاذبية، ومن أن العرب أخذوا فكرة الجذب عن اليونان (وزادوا عليها ووضعوا بعض القوانين بسقوط الأجسام)، فإذا كان العرب قد وضعوا حقاً بعض القوانين لسقوط الأجسام، فمعنى هذا أنهم سبقوا في ذلك غاليلو وتجربته الشهيرة التي أجراها من برج بيزا. والتي يقول علماء التاريخ بأهميتها في القضاء نهائياً على ما قال به اليونان من اختلاف سرعة سقوط الأجسام الثقيلة عن الخفيفة. فإذا كانت هناك تجارب في هذا الشأن أجراها علماء العرب فتفصيلها يضيف زيادة ذات بال إلى المعروف المشهور عن فضلهم على العلوم والمعارف. ولعل الأستاذ يدلي بما وصل إليه علمه في هذا الشأن ومثل ذلك يقال عما جاء في مقال الأستاذ عن (أبن حمزة المغربي) واستعماله في بحوثه عن المتواليات الهندسية طرقاً تقرب من اللوغارتمات فمن المفيد نشر فضل هذا الباحث وآثاره في هذه الناحية بالتفصيل خدمة التاريخ.
في المقال النفيس الذي ظهر في العدد التالي من الرسالة فصل الأستاذ المبارك آثر العرب في الرياضيات، ولكن فضل العرب في الجبر يحتاج بعض الإبانة
فقد ذكر الأستاذ أن العرب لم يستعملوا رموزاً حرفية في معادلاتهم الجبرية، وإنما استعملوا كلمات بأجمعها دون اختصار، ولعل الأستاذ قصد الخوارزمي دون غيره في هذه الفقرة. وإلا فمن المؤلفين العرب من استعمل الرموز كما تستعمل في الجبر اليوم. ففي مؤلف للقاصدي (توفي سنة 1486م أو 1477م). عنوانه (كشف الستار عن علم الغبار) كان يستعمل في المعادلات الجبرية الرمز (س) للمجهول (أول كلمة شيء) والرمز (م) (لربما كان أول كلمة مال) لمربعه، والرمز (ربما كان الكاف أي مثل) لعلامة التساوي. فمثلاً المعادلة(75/67)
63 يقصد بها 3س2=12س + 63
كذلك جاء في هذا المؤلف أيضاً استعمال الرمز (جـ) (أول كلمة جذر) علامة الجذر التربيعي فكان يكتب ويقصد بها الجذر التربيعي للعدد 48
ولا شك أن هذا الاستعمال، إن صح، يعزز الأصل العربي للاصطلاح المذكور وهو ما ينكره الأستاذ المبارك
أما حل العرب لمعادلات الدرجة الثانية جبرياً فلا فضل لهم فيه، فقد سبقهم فقد سبقهم ديوفانتس والهنود في ذلك. ولكن يرجح أنهم اقتبسوا حلهم من الهنود. إذ لم تكن أعمال ديوفانتس قد وصلت إلى علمهم بعد
ولكن العرب أضافوا حلولاً هندسية لمعادلات الدرجة الثانية من ابتكارهم. كذلك فعلوا في معادلات الدرجة الثالثة إذ أعطى كل من المهني (؟) وأبي جعفر الخازن وأبي الجود وعمر الخيام حلولاً هندسية لمعادلات الدرجة الثالثة وقد حل عمر الخيام معادلات من الدرجة الثالثة من الصور الآتية
س3 + ب2 س=ب2 جـ
، س3 + أس2=جـ3
، س3 + أس2 + ب2 س=ب2 جـ حيث أ، ب، جـ أعداد صحيحة موجبة.
وحل أيضاً المعادلة من الدرجة الرابعة الآتية
(100 - س2) (10 - س) 2=8100
وكذلك أعطى ثابت بن قرة حلاً هندسياً لبعض صور معادلات الدرجة الثالثة (وهو في هذا يسبق عمر الخيام)
وقد يكون من المفيد أن ألفت نظر الأستاذ فيما يختص بإشارة الناقص التي تستعمل للطرح إلى أصل محتمل لها وهو (النقطة التي كان يستعملها الهنود ويضعونها فوق الكميات المطروحة. وقد تكون علامة ناقص من الشرطة التي كانت توضع فوق الكتابات القديمة دليل ضياع أحرف منها. . .).
طنطا
محمد محمد السيد مدرس(75/68)
البريد الأدبي
الأدب البلغاري
الأدب البلغاري من الآداب الأوربية الفتية التي نشأت وازدهرت بسرعة مدهشة؛ فالأدب البلغاري الحديث يرجع إلى نحو ثلث القرن فقط، أي إلى عهد الاستقلال القومي، ومع ذلك فقد سارت هذه النهضة الأدبية واستكملت عناصر النضج بسرعة. وقد نشر الكاتب البلغاري نيكولاي دونتشيف أخيراً كتاباً بالفرنسية عنوانه (المؤثرات الأجنبية في الأدب البلغاري) استعرض فيه مراحل الحركة الفكرية في بلغاريا وخواصها؛ وملخص بحثه أن هذه الحركة على فتوتها قد استطاعت أن تستكمل عناصر ثقافة تامة؛ ومن الطبيعي أن تتجه قبل كل شيء نحو المثل والأماني السلافية، على أنها لم تهمل الاقتباس من مختلف الآداب الأوربية التي تستطيع الانتفاع بها؛ وقد ألفت الحركة لسانها وروحها في الوطن البلغاري، ولم تتدخلالمؤثرات الأجنبية إلا لتصوغ أو توجه هذه المادة القوية الأصيلة، ولكنها لك تحولها قط عن طرافتها وتقدمها الطبيعي
وقد استطاعت الحركة الفكرية البلغارية في مبادلاتها مع آداب الأمم الأخرى أن تنفذ إلى جميع نواحي الشعر والنثر والخواص النفسية، وجميع مظاهر التفكير البشري؛ ويشرح دونتشيف في كتابه مختلف التيارات التي اندمجت في المجرى القوي الذي أوحى به الاستقلال القومي، ويبين كيف أن هذا الأدب الفتي الذي أستعاد كل ثروته اللغوية، قد تحول إلى مادة غنية تضم كل ما وهبته الأمم المجاورة أو كل ما بثته فيها
والأدب البلغاري لا يزال بلغارياً في روحه وجوهره، وذلك رغم تأثره بالآداب الروسية والفرنسية والألمانية، مما يدل على قوته وحيويته؛ فهو لم يخضع قط لهذه المؤثرات خضوع العبد المساق، وهو ليس مقلداً ولا ناقلاً فقط؛ وكل ما هنالك أنه كالتلميذ الذي يستقي من أستاذه، ليصوغ ما يأخذه في معدن عبقريته المستقيلة، وهو لا يقتبس إلا ما يفيد في تغذية قلبه وروحه، ويرفض كل ما هو سطحي أو مصطنع؛ وكل ما يخرجه يتميز بطابعه الخاص، بحيث لا يطغي عليه أي طابع آخر، وهذا الازدهار نتيجة طبيعية لحركة لا تدور حول نفسها عبثاً، ولكنها تفتح صدورها لكل الرياح التي تهب عليها من كل مكان يتفتح فيه الذهن البشري، فتزداد في ذلك نماء وخصباً(75/70)
ولم يبق الأدب البلغاري مجهولاً بعد في أوربا الوسطى والغربية. فقد ترجم الكثير من الآثار البلغارية، إلى الألمانية والإنكليزية؛ وظهرت قطع مسرحية بلغارية في أثوابها المترجمة على الكثير من المسارح الأوربية.
في الأكاديمية الفرنسية
خلت منذ حين أربعة كراسي في الأكاديمية الفرنسية على أثر وفاة المسيو بوانكاريه ومسيو بارتو، ومن قبلها مسيو كاميل جوليان المؤرخ، والماريشال ليوثي، وقد أنتخب أخيراً مكان كاميل جوليان المسيو ليون بيرار السياسي والخطيب الأشهر، وانتخب مكان الماريشال ليوثيزميله الماريشال فرانش دسبريه. وأما كرسي المسيو بارتو، فأنهم يرشحون له مسيو دومرج رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس الوزارة السابق؛ وهنالك إجماع على انتخابه فيما لو قدم ترشيحه، غير أنه لم يعرف رأيه في ذلك الاقتراح بعد
وستعقد الأكاديمية جلستها التالية في يوم 20 ديسمبر الحالي؛ ويلقي مسيو بول فاليري خطاب الافتتاح وتوزع بعض الجوائز الأدبية.
مؤلف جديد عن نابليون
صدرت كتب عديدة جامعة بمختلف اللغات عن نابليون بونابرت وعن عصره؛ وصدر أخيراً مؤلف جديد بقلم المؤرخ الفرنسي الكبير (لوي مادلان) عنوانه (نابليون) ويدرس مسيو لوي مادلان نابليون من ناحية جديدة، هي ناحية (المنشئ على الطريقة الرومانية). وكان من أشهر الدراسات التي صدرت عن نابليون في العهد الأخير دراسة لأميل لودفيج الكاتب الألماني يدرس فيها نابليون من نواحيه الشخصية والإنسانية، ولكن دراسة لودفيج يغلب عليها الطابع المسرحي، وهو الذي يغلب على معظم كتابات لودفيج، أما بحث لوي مادلان، فيغلب عليه الطابع النفسي والعلمي. وهو يرى في نابليون (لاتينياً) وارثاً للإمبراطور شارلمان؛ ويراه إمبراطوراً من طراز روماني، نام منذ عصر ماركوس أورلويس، ثم نهض فرأى العالم حوله أنقاضاً وأطلالاً؛ ولكنه بدلاً من أن يتخذ رومة مركزاً لبنائه أتخذ باريس وجزيرة فرنسا في نظره نواة مركزية لاتحاد أوربي جامع، ولكنه لم يكن يرمي إلى طبع أوربا بالطابع الفرنسي، بل كان يرى في حريات الشعوب التي تتألف منها(75/71)
الإمبراطورية الشاسعة ما كان يراها الرومان
ثم هل كان نابليون فرنسياً؟ لقد كان يشعر أنه فرنسي؛ ولم يكن في قوله: (إني أريد أن أثوي على ضفاف السين إلى جانب أولئك الفرنسيين الذين شد ما أحببتهم) ما يدل على شعوره بأنه أجنبي؛ وإنما كان شعوره أنه (روماني). وقد جاء هذا الروماني في أواخر القرن الثامن عشر، والعالم من حوله أطلال ممزقة، فأراد أن يوحي نوعاً من (العالم الروماني) الذي يعتقد أنه ما زال حياً يمكن إنقاذه.
أكاديمية الأدب الفكاهي
لعل من الشائق أن يعرف القراء أنه توجد في باريس جمعية أدبية تسمى (أكاديمية الأدب الفكاهي) وأن هذه الجمعية تتزعم حركة الكتابة الفكاهية، وتمنح الكتاب الفكهين جوائز أدبية، وتشجع بذلك على إنشاء الأدب الفكاهي ونهضته، وقد وضعت هذه الجمعية أخيراً مكافأة قدرها خمسمائة فرنك (سبعة جنيهات) لمن يضع أحسن قصة فكاهية لا تزيد على ثلاثمائة سطر، ولا تقل على ثلاثمائة سطر، ولا تقل عن مائتين وخمسين، (وستعنى الجمعية بنشرها في صفيحة باريسية كبرى)، وتشمل هذه الجمعية أيضاً برعايتها أصحاب الفن الفكاهي مصوري الصور الهزلية (الكاريكاتير)، ومن إليهم الفنانين.
الشفاليير ديون
ظهر أخيراً كتاب الكاتب الفرنسي جان جاك بروسون عنوانه (الشفاليير ديون) , ويتناول هذا الكتاب موضوعاً مدهشاً لا زال لغزاً من ألغاز التاريخ والمجتمع، هو شخصية لم يتفق المؤرخون على جنسها؛ هل كان الشفالييه ديون رجلاً أم امرأة؟ ويجب أن تعرف أن هذا الشخص المشكل قد عاش في عصر لويس الخامس عشر، وكان يتبوأ مركزاً هاماً في البلاط وفي سياسة الدولة
وقد عرف الشفالييه ديون أولا بأنه رجل، وتولى بهذه الصفة بعض المناصب، ولكنه كان فتى ناعماً خلاباً يضارع في الحسن ورقة المحيا والتقاطيع أجمل فتاة، وكان إذا مثل في الحفلات الراقصة يرتدي دائماً ثياباً نسوية فيبدو كأنه امرأة فاتنة؛ وكان في أحيان كثيرة يرتدي هذه الثياب ويؤثر الظهور بها؛ وكان يتسلل بهذا الزي إلى أعمق المجتمعات(75/72)
الرفيعة، وإلى غرف الأميرات والملكات؛ ولما وقف لويس الخامس عشر على مسلكه قضى بأن يعتبر امرأة، وأن يرتدي الثياب النسوية دائماً؛ ثم خشي لويس الخامس عشر من دسائسه فأمر بسجنه في قلعة؛ ولما أطلق سراحه فر إلى إنكلترا، وأحترف تدريس المبارزة، وظهر في المجتمع اللندني بأنه أستاذ بارع في الفن؛ ولما توفي فحصه بعض الأطباء، فيقال أنهم وجدوه رجلاً كامل الأعضاء والرجولة ولكن شخصية الشفالييه ما زالت غامضة. هذه هي القصة التي يعالجها المسيو بروسون في مؤلفه الشائق، ويفضل مسيو بروسون أن يعتبر الشفالييه امرأة ذات خواص غير عادية، وأن صفة الأنوثة هي الأصيلة فيه. ويورد في كتابه كثيراً من السير العجيبة عن هذه الحياة المدهشة التي لبثت تثير دهشة المجتمع الفرنسي مدى حين.
الإذاعة اللاسلكية العربية
إن محطات الإذاعة التي تذيع باللغة العربية اليوم هي:
المحطة المصرية وموجتها وقوتها ومواعيدها معروفة
ومحطة الجزائر وموجتها 318 , 8 متر وقوتها 12 , 5 ك ووتذيع باللغة العربية يومي الاثنين والأربعاء من الساعة 20 إلى الساعة 20 , 45 ويوم الثلاثاء من الساعة 24 إلى الساعة 4 , 45، ويوم الخميس من الساعة 23. 5 بحساب الزمن في مصر
ومحطة الرباط بالمغرب وموجتها 499. 1 وقوتها 6. 5 ك ووتذيع بالعربية ساعة في كل يوم من الأيام الأحد والثلاثاء والخميس والجمعة من الساعة 21
ومحطة باري بإيطاليا وموجتها 283. 3 م وقوتها 20 ك ووتذيع بالعربية ربع ساعة في كل يوم من أيام السبت والثلاثاء والخميس من الساعة 20. 30 ولا تذيع إلا الأخبار فقط وتلاحظ مجلة العالم الأدبي التونسية التي ننقل عنها هذا البيان أن محطة الإذاعة المصرية إنما قصرت عن مجاراة المحطات العالمية الأخرى لعاملين اثنين أولهما ضعف قوتها، فقد جعلوها 20 ك ووالعالم العربي منتشر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، والأمة ذات اللسان المنتشر لن تكتفي بأقل من (60 ك و)؛ وثانيهما أن موجتها ذات مقياس مشترك لعاصمة البلجيك، وذلك ولا شك يؤثر في قوتها ويزيد من اضطرابها وهما ملاحظتان جديرتان بالنظر.(75/73)
القصص
من الفن القصصي الحديث
حقيبة القدر
للقصصي الألماني: لدفج باور
كان جورج شاباً هادئ الطبع فاضل الخلق، لم يكد يخرج من أزمة بسيطة انتابته حتى استقل القطار قاصداً بلدة صغيرة يشغل فيها وظيفة متواضعة وكان كل شئ يبدو لجورج عادياً لا خطر له، وقد مرت سنو عمره دون أن تتخللها مغامرة، أو يمتريها حادث خطير يهز حياته التي كانت أشبه بحياة أبناء الطبقة الوسطى، وعندما بلغ القطار عند منتصف الليل المكان الذي يقصده جورج أخذ حقيبته من الغرفة المكتظة التي كان يجلس فيها مولياً وجهه شطر حياته الجديدة.
وصل جورج إلى الفندق الصغير الذي عزم على الإقامة فيه، وعندما ذهب إلى سريره لينام نظر إلى الحقيبة، ولكنها لم تكن هي بذاتها على أن جورج خشي أن يكون مخطئاً في تقديره، فحاول أن يفتحها بالمفتاح الذي لديه ولكن عبثاً حاول. على أنه عندما ضاعف جهده انفتحت فجأة. وكانت أول نظرة ألقاها كافية أن تثبت أنه لم يكن مخطئاً. نعم كانت الحقيبة لشخص آخر
أما حقيبته الأصلية وما فيها من سقط المتاع وهو كل ما يملكه فقط كانت في ذلك الوقت تجوب الآفاق المجهولة حيث لا صاحب لها. ووجد جورج نفسه - وهو الذي لم يصادف في حياته يحتاج لحلها - عاجزاً منذ اللحظة الأولى على أن يجمع في ذهنه فكرتين أثناء ذهوله ودهشه. ما العمل الآن؟ كيف يستطيع الحصول على البذلة التي يرتديها أيام الآحاد وعلى زوج حذائه الثاني وسائر ملابسه؟ كان جورج يأمل أن يجد في محتويات الحقيبة بعض المعلومات عن مالكها الحقيقي الذي قد يكون هو الآخر مستاءً من استبدال حقيبته بأخرى، لذا شرع جورج يبحث أثناء تفتيشه في الملابس المتسخة عما يدله على الشخص الذي أخذ حقيبته وشعر تحت يديه برزمة من الأوراق، فلما جذبها وجدها سلسلة من الخطابات والرسائل البرقية، وأفلتت هذه الرزمة من يد جورج فانتشرت على أرض الغرفة(75/75)
رزمة من الأوراق المالية من كل نوع
لم يعرف جورج من هذه الأوراق الغريبة المتعددة الألوان إلا عددا ضئيلاً. وجمع جورج الأوراق المالية واستمر في البحث، فاكتشف في قاع الحقيبة المفروشة بالورق ما يشبه وسادة منتفخة من الأوراق المالية المختلفة. ونظر جورج حواليه وقد انتابه العجب منتظراً شخصاً يأتي إليه من ذلك الحلم اللذيذ المخيف في وقت واحد. على أنه لم يأت أحد وبقيت الأوراق في موضعها دون أن تختفي، كما لو كان الأمر حلماً من الأحلام. لم يكن جورج قد رأى من قبل مثل هذا القدر من المال. أخذ يعده وكان حبه للنظام يجعله يضع كل نوع من الأوراق على حده، دون أن يعرف بالضبط قيمة كل منها، على أنه بعد بعض دقائق أن ما أمامه مقدراً بالعملة الذهبية، يتراوح بين مليون ونصف ومليونين. وكان يستطيع حينئذ أن يقول لنفسه إن محتويات حقيبته قد دفع لها ثمن أكثر من الثمن الذي تساويه. على أن هذه الفكرة لم تخطر بباله. وكل ما كان يضايقه فكرة الاتصال بصاحب هذه الكنوز، واستبدال كل من الحقيبتين بالأخرى. فقال لنفسه:
- لعل من الخطابات ما يدل على اسم صاحب الحقيبة وعنوانه.
كان جورج شاباً ذا خلق قويم، لذا كانت فكرة البحث في الخطابات التي تكتب إليه تضايقه وتؤلمه. على أنه في هذا الظرف كانت الضرورة ومصلحة كل من الطرفين تحتمان عليه أن يفعل ذلك. لذا شرع يقرأ.
قرأ جورج الخطابات فعرف من القراءة أشياء كثيرة لم يعرفها طوال الثلاثة والعشرين عاماً التي قضاها في هذا العالم: أشياء لم تكن تخطر له ببال. لم يستطع جورج أن يفهم جيداً هذه الخطابات فقد شرع منذ ابتدأ في خطاباته بالتلميحات والكلمات السرية والمصطلحات. على أنه استطاع أن يدرك أن هذه الأوراق المالية هي ملك أحد لصوص الفنادق ذو النفوذ الواسع، وكان تصل إليه من شركائه ومن صديقة عزيزة كل أنواع المعلومات والإرشادات. ولمعت أمام عيني جورج أسماء كثير من الأماكن والبلدان الأجنبية التي تمتاز بغناها ورفاهيتها، وفي بلدة (كان) على الخصوص استطاع ذلك اللص الخطير أن يلعب دوراً رائعاً مع السائحين الأمريكيين. وفهم جورج من آخر خطاب أرسلته صديقة ذلك اللص إليه أنه يريد أن يضع حداً لمقامراته ويلجأ إلى الراحة والعزلة. فقد كان الاثنان(75/76)
يملكان ثروة كافية وكانا يستطيعان أن يعيشا من الآن حتى آخر العمر عيشة مدنية مريحة، فقد كانت الحلي قد بيعت بثمن ضخم، ولم يبق إلا قفل من الزمرد كان يمكن أن يباع بخمسين ألف فرنك لولا أنه كان من المحتم أن تنتهي عملية البيع خفية وبأسرع ما يمكن. ولذلك بيع بثمن غير مناسب. وعرف جورج أثناء قراءته أن كل شئ قد أعد وأن السعادة الأكيدة كانت تنتظر الصديقين بعد محن عديدة وأخطار لا عدد لها أمكن التغلب عليها بمهارة وشجاعة.
ووضع جورج رأسه في الماء البارد. كان من اللازم أن يتخذ قراراً. فقد كان واثقاً على الأقل أن صاحب الحقيبة سوف لا يأتي إليه ليستبدل حقيبته بالأخرى لأنه لا يحب أن يقبض عليه، كان أكثر الأمور احتمالاً إذن أن يلوذ اللص هارباً ببذلة جورج وحذائه وملابسه التي منها عدد من القمصان الجديدة كان يحبها جورج ويفتخر بها. وأن يقع العبء كله على كتفي جورج وحده. فهذه الحقيبة التي لديه تجعله هو الذي اخترق الجدران والأسطح، وهو الذي تسلح بالليل البهيم والمسدس في قبضته ليدخل الفنادق الفاخرة فيحطم صناديق الجواهر الموضوعة إلى جانب أصدقاءها السابحين في نومهم. على أن هذا اللص كان أيضاً بالنسبة لجورج المحسن المجهول، فقد ترك له ثمرة حياته الإجرامية المفعمة بالمغامرات، فبعد أن أراد ختام هذه الحياة والفراغ من هذه المهمة وبعد أن وثق من الغد ورقد في القطار يستريح مجهوداً مكدوداً، أخذ جورج حقيبته دون أن يدري ولا بد أن ذلك اللص الخطير قد ثار في تلك اللحظة غاضباً يسخط حيناً ويقسم حيناً آخر لا يعرف إلى من يشكو لاعناً ذلك السائح الخطير الذي خدعه وانتزع منه قائمة أعماله كلها. تلك القائمة التي ضحى من أجلها كثيراً ولاقى في سبيلها الأهوال على أن هذا السارق القدير ليس في الواقع إلا شاباً من أسرة متوسطة فاضل الخلق طاهر الذيل، لم يكد يقع في هذه المشكلة الخطيرة حتى أحس في عقله البسيط رعباً فضيعاً وعذاباً مضنياً.
واتخذ جورج قراراً سريعاً وقام لفوره وأغلق الحقيبة وتقدم نحو باب الغرفة متجهاً إلى مركز البوليس ليعرض مسألته: وقد أحس وهو يفعل ذلك بالهم والحسرة، ولكنه كان يعزي نفسه في المكافأة التي يمكن أن يحصل عليها بسبب تبليغه ومساعدته في القبض على ذلك اللص الخطير. وأخذ يحسب ما سوف يناله من المال لو كانت هذه المكافأة خمسة أو ستة(75/77)
في المائة.
وجد جورج نفسه أمام دائرة البوليس، ونظر إلى الجرس متأملاً مفكراً، ولم يكد يضع إصبعه على الزر حتى تبدد حلمه في الغنى والجاه. على أنه بالرغم من ذلك سوف يدخن - عندما يقبض المكافأة - نوعاً من السجائر أغلى ثمناً من النوع الذي يدخنه، وتذكر - وهو يدق الجرس - والديه الكريمين المتوفيين، وتذكر معهما تلك الدروس القيمة التي كان يتلقاها منهما؛ وتذكر أيضاً تلك العبارة (أن المال المكتسب عن طريق غير شريف لا يأتي بفائدة). وكان يقول لنفسه أيضاً: أن البوليس سوف يعثر عليه يوماً من الأيام. لقد دفعه كل ذلك إلى أن يدق الجرس بغير قوة ولا عزم، ولكنه دق الجرس والسلام. وأنتظر. . . ولكن لم يجبه أحد. ودق للمرة الثانية وأستمر واضعاً إصبعه على الزر انبعث صوت شخص نائم يسأله ماذا يريد، طالباً منه أن يعود في اليوم التالي، لأن دائرة البوليس لا تفتح أثناء الليل. وسمع في ذلك الوقت صوتاً صارخاً هو صوت نافذة تقفل بعنف.
عندما رجع جورج إلى الفندق بدا له فجأةً أن مشيئة علوية هي التي أرادت ألا تسلم الحقيقة إلى دائرة البوليس. فقد فعل كل ما يستطيع حتى أنه عرض نفسه للخطر ولكن الله لم يشأ، لذا ترك جورج كل فكرة في الذهاب إلى دائرة البوليس وأعتقد أنه يجب أن يكون أكثر شجاعة وجرأة. ومرة واحدة وجد نفسه عازماً على الاحتفاظ بالمال. ولم لا؟ ليس هو الذي سرقه، كما أنه ليس من الأجرام أن يأخذ الإنسان من لص خطير مالاً حصل عليه بطريقة غير شرعية. وأحس جورج دفعة واحدة بإحساس جديد وأكتشف في قلبه راحة خفية كانت ولا شك نتيجة شعوره بأنه غني. وفكر جورج في كل تفاصيل حياته المستقبلة. سوف لا يرجع مطلقاً إلى منزله. كذلك من البديهي أن لا يبقى في تلك البلدة الصغيرة، فسينتاب أهلها العجب والرعب حين يرون التغيرات الكبيرة في عاداته ومعيشته على أن جورج لم يكن يعرف في الواقع ما سوف يفعله بكل تلك الثروة الهائلة، فهذا شيء جديد لم يتعلمه من قبل ولم يهيئ نفسه له. وهو الآن يريد أن يستعد لتلك الحياة الجديدة ويتخذ لها أهبتها بعد أن أختاره الحظ الزاهر يتمتع ذلك اللص الخطير الذي ولد ليكون طول حياته سيئ الحظ منكود الطالع.
وعندما بلغ جورج المحطة ليستقل القطار فكر في ذلك المحسن المجهول تبدو عليه عاطفة(75/78)
الاعتراف بالجميل. بل كان يغمره سرور من يلتذ بإيلام الغير.
وبعد أشهر كان جورج يسكن قصراً على ساحل الريفييرا، وكان يرتدي أفخر الملابس وأنقها، وقد أصبح الجاه عنده أمراً طبيعياً جداً على أنه في داخل نفسه كان يشعر بالضيق. وكان كلما فكر في أمره وجد نفسه ليس أكثر سعادة من ذي قبل وفي ذلك اليوم عندما أوشكت عينه أن تغمض سمع وقع أقدام وضجة في ردهة القصر. ما الذي يحدث؟ لبس جورج بيجامته الحريرية وخرج من الغرفة. لم يحدث شيء غير عادي، فقد قبض على أحد لصوص الفنادق في اللحظة التي كان يفتح فيها باب غرفة نوم جورج. ورأى جورج وجه الرجل الذي كان رجال البوليس السري والخدم يمسكونه بقسوة ويسوقونه أمامهم. وبدأ لجورج أنه رأى ذلك الوجه. ولكن أين؟ وسرعان ما تذكر وقد ملأه الوجل: أنه الشخص الذي كان يحتل المعقد المقابل له في القطار يوم وقع حادث الحقيبة الشهير
وأبتسم جورج ابتسامة صفراء وألقى بنفسه ثانية على سريره، على نومه طول تلك الليلة كان قلقاً مضطرباً.
علي كامل(75/79)
بعض الكتب الجديدة
(الأدب العربي وتأريخه في العصر الجاهلي) للأستاذ محمد
هاشم عطية
(شهيرات التونسيات) للأستاذ حسن حسني عبد الوهاب
(أيام بغداد) للأستاذ أمين سعيد
ألف الكتاب الأول الأستاذ محمد فاضل عطية المدرس بدار العلوم، لينتفع به طلاب هذه المدرسة وطلاب كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية وقد جعله قسمين يقعان معاً في نحو أربعمائة صفحة كبيرة. ففي القسم الأول تكلم الأستاذ أولاً عن معنى كلمة الأدب ومنشأها، ثم حدد العصر الجاهلي وأنتقل إلى أقوال العلماء في الأدب الجاهلي، فأورد طرفاً منها في معرض التدليل على صلاحية هذا الأدب ليكون مرآة للحياة الجاهلية، ثم تكلم عن تاريخ الأدب والمراد منه وفائدته وعلاقته بالتاريخ العام، ودرس جزيرة العرب وأصل العرب وطبقاتهم، ونشأت اللغة عامة والعربية خاصة وخصائص اللغة العربية، ومعارف العرب في الجاهلية، والنثر الجاهلي والشعر الجاهلي وخواصهما؛ ثم درس المعلقات درساً مفصلاً. وأما القسم الثاني من الكتاب فقد جعله للتراجم بعد أن مهد له بفصل ممتع في النقد الأدبي وتاريخه وأصوله، وترجمة فيه لامرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى ولبيد وطرفة وعبيد أبن الأبرص وأوس بن حجر وأمية أبن أبي الصلت
فالكتاب كما ترى من وصفه حسن الترتيب حافل بالمعلومات التي لابد منها لطالب الأدب، وهو في شكله المدرسي هذا كفيل بأن يفيد جمهور المثقفين من غير الطلاب؛ بيد أن هذا الشكل أو هذا الوضع المراعي فيه مناهج الدراسة قد حال بين الأستاذ على رغم ما يبدو من متانته وضلاعته وسعة إطلاعه، وبينما كان يتطلبه الكثير من الموضوعات من البسط والاستيعاب، ومن أمثلة تلك الموضوعات مسألة الانتحال والرواية والحياة الاجتماعية للعرب، فهما موضوعان أساسيان في مثل هذا الكتاب وكثيراً ما يحول التقيد بالبرنامج بين المؤلف وبين ما يريد، فيجعل بحثه خاصاً أكثر منه عاماً إلى إيراد المعلومات المتنوعة أقرب منه إلى التحليل والاستقصاء والاستدلال، ولا سيما في المسائل العامة التي يبني(75/80)
عليها فهم الأدب فهماً صحيحاً، وهذا واضح في القسم الأول من الكتاب، أما في القسم الثاني حيث سمح المنهاج للأستاذ بالتحليل والدرس الدقيق، فقد تجلت براعته وأصالته وحسن ذوقه. فإذا نحن نقدنا الكتاب في شكله الحالي ككتاب مدرسي لا يسعنا إلا أن نضعه في عداد الكتب المدرسية الممتازة، كما لا يفوتنا أن نرجو الأستاذ الفاضل أن يستغل عامه ومقدرته في بسط ما أجمل في رسالة أخرى تنفع المتأدبين عامة.
أنتقل بالقارئ بعد ذلك إلى البحث الطريف، الذي أضطلع به الأستاذ العالم التونسي الفاضل حسن حسني عبد الوهاب، وهو بحث تاريخي أدبي في حياة النساء النوابغ بالقطر التونسي من الفتح الإسلامي إلى الزمان الحاضر. ذكر الأستاذ في مقدمة كتابه أن ما دعاه إلى وضعه ما جرى من حديث بينه وبين صديق له حول الكتاب المسمى (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) وقد أشار عليه صديقه أن يضع كتاباً في شهيرات التونسيات، فهزته إلى هذا العمل عاطفة قوية كان ثمرتها هذا الكتاب الذي أحدثك عنه. فقد تكلم فيه الأستاذ عن نابغات النساء في تونس في الدور العربي، والدور الأغلبي، والدور العبيدي والدور الصنهاجي، والدور الحفصي، والدور التركي، والدور الحسيني، وترجم في هذه الأدوار جميعاً لعدد من كرائم السيدات، مبيناً مآثرهن وأدبهم في حديث طلي وعبارة قوية. ولن تقف أهمية هذا الكتاب عند الترجمة لهؤلاء الأوانس، بل أنك لتجد المؤلف الفاضل يربط الموضوع بالتاريخ في مهارة وكياسة، فتجد في كل دور من هذه الأدوار التي مر ذكرها ظلاً للعصر الذي يقع فيه، وتطالع ألواناً مختلفة من الألوان الحياة الاجتماعية، ومألوف العادات والتقاليد، هذا فضلاً عما كان يبثه المؤلف في ثنايا الكتاب من الحكمة والأدب والموعظة الحسنة، والطرف الأدبية، مما هو جدير بمن كان له مثل أريحيته وأدبيته، وإني إذ أقدم هذا المؤلف الطريف للجمهور القراء في العالم العربي أمل أن يحذو حذوه المؤلفون في الشرق، فما أحوجنا في نهضتنا الحديثة إلى المثل العليا في عالم المرأة، وما أجدرنا أن ندفع عنها تلك الاتهامات القاسية التي توجه إلى المرأة الشرقية في غير تحرج ولا استحياء، وفي كثير من الجهل والإدعاء.
أما أيام بغداد فهو كما يعرفه الأستاذ المؤلف أمين سعيد، وصف شامل لنهضة العراق الحديثة ولمعالمه التاريخية، والقارئ يذكر أن الرسالة قد قدمت إلى قارئها منذ وقت قريب(75/81)
كتاباً كبيراً للأستاذ المؤلف هو (الثورة العربية الكبرى). ومن هذين الكتابين تدرك مقدار اهتمام الأستاذ أمين بالشرق العربي ومدى حماسته له. أما هذا الكتاب فيقع في نحو مائتين وخمسين صفحة، جيد الطبع متين الورق، وكسائر كتب الرحلات يجمع بين اللذة والفائدة ولا سيما أن موضوعه العراق، ذلك القطر الفذ في تاريخه. أفتتحه المؤلف الفاضل بفصل في النقد في بلاد العرب، ثم بأخر في سكة حديد فلسطين والاستعمار الصهيوني، وبعد ذلك تبتدأ رحلته في فصل عنوانه إلى بغداد، فينتزعك من وسطك ويسير بك إلى تلك البلاد، فإذا أنت معه على ضريح المغفور له الملك فيصل، ثم إذا بك كأنك ترى حفلة التأبين الكبرى، فوصف الأستاذ دقيق، والموضوع ذاته يستهويك ويحيطك بجو خيالي ملئ بالصور. وقد حافظ الأستاذ على هذه الدقة في وصف جميع الأماكن التي زارها والحفلات التي حضرها، ثم أنه لم يقتصر على الوصف وعلى إيراد ما رأى، بل تراه يحدثك عن بعض المسائل الهامة في العراق كالعمران في بغداد والمدرسة العسكرية في الكرادة ونهضة التعليم في تلك الديار؛ وما هو أهم من ذلك كمدى نفوذ الإنكليز هناك ومعسكراتهم ومطارداتهم، وأخيراً تراه يحدثك عن الآشوريين وأحوالهم حديث من رآهم وخبرهم بنفسه
وأنا وأن لم أرى العراق أحس أنني قد استفدت من هذا الوصف، ووقفت به على كثير من المسائل التي كنت أجهلها والتي كانت تشغل ذهني كما أني استمتعت به كما لو كنت أرى هاتيك الصور على الشاشة البيضاء، إما من حيث مطابقة ما ذكر الأستاذ للواقع ومقدار إحاطته بضروب الإصلاح والتعمير في العراق، فأمر في ذلك متروك للقارئ العراقي ولمن زار العراق من أبناء وأهل الأقطار العربية.
الخفيف
1(75/82)
العدد 76 - بتاريخ: 17 - 12 - 1934(/)
أثر السياسة الحزبية في الأخلاق
للأستاذ عبد العزيز البشري
لقد عاهدت نفسي من عهد غير قريب ألا أعالج عملاً سياسيا من أي نوع كان، وأن أكتم قلمي فلا يتنفس بحديث السياسة أبدا، فأنني لم أصب من هذه السياسة إلا شراً كبيراً، ولعلي لم أجد بها على وطني خيراً كثيراً، بل لقد يراني بعض الناس صنعت في هذا الباب شراً كثيراً. فان كنت كذلك حقاً فأسأل الله أن يغفر لي ما أسأت من حيث ابتغيت الإحسان. والله ذو الفضل العظيم.
ومهما يكن من شيء فإنني عاهدت نفسي على ألا أعالج حديث السياسة، وقد صدقتها ما عاهدت. على أنني أرى صدري يجيش اليوم بكلام يقتضيني واجب الذمة الوطنية أن أنفثه نفثاً وإلاً مزق صدري تمزيقاَ. وهذا كلام قد يظهر لبعض الناس في صور أحاديث السياسة، ولو قد تفطن هؤلاء إلى ما أريد لأدركوا أنه ليس كذلك، أو أنه، على الأقل، ليس من ذلك النوع الذي أخذت نفسي بألا أخوض فيه أو أتناوله بأي علاج
إنما أخذت نفسي، في الواقع، بهجران السياسة الحزبية، فلا أخب في فتنة ولا أضع. وليس معنى هذا أنني لا أدلي برأي أراه في مصالحة بلدي، أو أنصح به لقومي، أو أنصح به عن معشري إذا كانت الجلى وتربدت وجوه الحادثات. فأنني إن فعلت فقد عطلت مصريتي، وأتمت في حق بلادي، وكنت مختلسا لشرف الانتساب إلى هذا الوطن. وأستغفر الله العظيم من هذا الذنب العظيم!
على أنني من يوم ذلك العهد لا أدع فرصة للحديث في شأن الوطن إلا تحدثت، وهذا الراديو أحاضر منه كل أسبوع، وهذه صحف شتى، ومجلات مختلفة الألوان أرسل القول فيها كلها، فأتناول الموضوعات الاجتماعية، والأخلاقية، والأقتصادية، بل إنني لألح على بعض موظفي الحكومة بالنقد القاسي على تصرفهم فيما بين أيديهم من الشؤون العامة. فإذا عد هذا كله من السياسة، فهي ليست السياسة التي جمعت العزم على هجرها من ذلك العهد البعيد
والموضوع الذي أتناوله بالكلام اليوم هو أثر السياسة في الأخلاق العامة، لا ألحظ في حديثي حزباً معيناً ولا أظاهر شيعة من الشيع السياسية القائمة في البلاد. وسيرى القارئ(76/1)
أنه أشبه بالبحوث الاجتماعية منه بالبحوث السياسية:
مما لا شك فيه أنه كان لتلون الحكومات التي تعاقبت على مصر في السنين الخيرة، واختلافها في النزعات السياسية وتفرقها في الأهواء الحزبية أثر بعيد جداً في الأخلاق العامة. وأشد ما كان هذا الأثر في الموظفين عامة وفي بعض أعيان البلاد
تعاقبت الشيع السياسية الحزبية في الحكم، وتداولته مرات متعددة. وكان من سوء الحظ أن المسألة السياسية الكبرى لم تستقر على حال، فكان هذا مدعاة إلى التناحر والتطاحن بين النزعات المختلفة، فكلما وليت طائفة أمر الحكم، والحكم عندنا أصبح في هذه الظروف يدخل فيه معنى الحرب، رأت نفسها في أشد الحاجة إلى الاستعانة بمن تثق بهم، وتعتمد على صدق ولائهم لها من الموظفين. وسرعان ما تعمد إلى إقصاء قوم وتقريب قوم، ورفع جماعة وخفض آخرين، لا تأخذها في هذا أية هوادة، وهل تأخذ القائد الهوادة فيمن قبله من الجند إذا حمى الوطيس واستحر القتال؟
فإذا زالت عن الحكم هذه الطائفة أو أزيلت، أسرع من يليها فيه فأقصى من قربت، وقرب من أقصت، ووضع من رفعت، ورفع من وضعت، وهكذا دواليك. وربما تطاولت القسوة في هذا التناحر الحزبي إلى تخريب الدور وتجويع العيال، حتى أصبح الموظفون وكأنهم ليسوا مستوين في الدواوين على مكاتبهم، بل على منضدة قمار، تدور الحظوظ فيها في اللحظة بالفقر واليسار، وبالغنى والإعسار!.
اللهم إن الموظف المصري قبل كل شيء إنسان يحرص كل الحرص على أن يعيش. وإنما وسيلته إلى العيش ما يجري عليه من الوظيفة الشهرية يقيم بها شأنه ويعود بها على شمله
ثم إنه لا يرى سبيلاً إلى عصمة المنصب إلا إذا استراح رؤساؤه بالثقة اليه، وهو لا يظفر بهذه الثقة منهم إلا إذا أرضاهم وطاوعهم، وعمل بكل جهده على استخراج عطفهم وإيثارهم. وقد عرفت أن الحكم الحزبي، وخاصة في هذه المرحلة التي تجوزها البلاد، قد يقتضي الموظف الإداري، على وجه خاص، شيئاً من الانحراف عن النهج والعنت على القوانين. فان هو فعل فقد فسق عن واجب الذمة وخان الأمانة، وإن هو آثر الصدق في الخدمة العامة، وتهد في جميع أسبابه بهدى القانون فلأمه الهبل!.
ثم إنه ليعلم ليس بالظن أن دوام الحال من المحال، وأن هذه الحكومة التي يعمل في ولايتها(76/2)
لا بد زائلة إن في قريب وإن في بعيد. وأنه ستخلفها حكومة أخرى تعاقب أولياء هذه الحكومة على ما شيعوا وما صانعوا. ولقد تكون هذه الحكومة عادلة نزيهة، فهي إن تجاوزت عن هوى الموظف إلى الحكومة السابقة، فأنها لا تتجاوز عما قارف في سبيل مصانعتها من إيذاء الناس والكيد لهم والخروج على أحكام القوانين
أما أن نطلب إلى الموظفين جميعا أن يصبروا على المكروه أشد المكروه في سبيل الحق وإيثار طاعة القانون، وأن يعصوا أمر رؤسائهم في طاعة الواجب، فيستهدفوا بهذا لطردهم، وحبس أرزاقهم عنهم، وإجاعة من يعولون من الأهل والولد، أما أن تقتضي هذا جميع الموظفين فضرب من العبث، وأقول إنه ضرب من العبث لأنه قد شهد بكذبه الواقع المحسوس، فأكثر الموظفين الكثير جداً، مع الآسف العظيم، قد نزلوا عند ما تطلب منهم الحكومات المختلفة، وفي بعض هذا الذي يطلب منهم ما لا يرتضيه العدل، ولا يستريح إليه القانون، وأقلهم القليل جداً الذين صبروا على الأذى وصابروا، وآثروا على متاع الدنيا إراحة الذمة وإرضاء الضمير
إذن فالموظف، واعني من تتصل الوسائل السياسية الحزبية بعمله، مضطر في سبيل عصمة عيشه إلى مصانعه الحكومة القائمة، ولو أدت هذه المصانعة إلى مخالفة حكم الذمة والقانون. ثم إنه في الوقت نفسه ليحسب للمستقبل كل حساب، فتراه لا يني عن العمل له أيضا. أي أنه لكي يعيش ويسلم من المكروه يجب عليه أن يجمع بين الضدين، وأن يسعى في وقت واحد في طريقين متخالفتين، وإنه لن يبلغ هذا المدى إلا إذا بذل في سبيله ما شاءت ضعة النفس، وفسولة الطبع، وإهدار الكرامة، وتميع الأخلاق، وإهراق ماء الوجوه، وفساد الذمة، أن تبلغ!
هذا الموقف لقد يقتضي هذا الموظف المسكين أن يكون له وجهان، ولسانان، وذمتان، وهويان؛ يلقى هؤلاء بواحد من أولئك، ويلقى أولئك بواحد من هؤلاء. فهو يظاهر الحكومة القائمة في إعلانه وجهره، وهو يمد أسباب الهوى للشيعة المقبلة في خفائه وسره، ولا يزال هذا شأنه ما تعاقبت الحكومات الحزبية، حتى كادت تفرى الأخلاق فريا، وتبرى الكرامات بريا، وحتى لقد نجم في بلادنا هذا الفن المحقور المرذول: فن الحرص، بكل ما اتسع له الذرع، واتسع له الخلق والكرامة، على المناصب الحكومية، فشاع به فينا أبلغ ما عرف من(76/3)
خلة النفاق والرياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
لست، شهد الله، ألوم في هذا أحداً، ولا أحمل الوزر فيه قوماً، ولكنني إنما أحيل الأمر كله على الظروف، ولعنة الله على هذه الظروف!
حسبي اليوم هذا القدر، وإني لعائد إلى الكلام في هذا الباب كرة أخرى إن شاء الله.
عبد العزيز البشري(76/4)
2 - كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
رب قانون تحكم به أمة؛ ولو أنهم حاكموه لاعتبروه كالشروع في قتل هذه الأمة
إذا كان القاضي صاحب دين وذكاء وفهم وضمير؛ فكثيراً ما يرى نفسه محكوماً عليه أن يحكم على الناس. . . .
أصبحت الأخلاق الشرقية في هذه المدينة الفاسدة كمرقعة الفقير المعدم، حيث لا تجد رقعة لا بد أن تجد فتقا. . . .
أضيع الأمم يختلف أبناؤها. فكيف بمن يختلفون حتى في كيف يختلفون. . . .؟
من مضحكات السياسة إنشاؤها أحزابا يقوم بعضها كما تغرس الخشبة لتكون شجرة مثمرة. . . .
يأتي الغرور من ضعف النظر إلى الحقيقة؛ لو أن للنملة عيناً وسئلت عن الذبابة كيف تراها؟ لقالت هذا فيل عظيم. . . .
في الضرورات السياسية لا يحفل أهل السياسة أن يصدقوا أو يكذبوا فيما يعلنون إلى الناس؛ ولكن أكبر همهم أن يقدموا دائماً الكلمة الملائمة للوقت
إذا كانت المصلحة في السياسة هي المبدأ؛ فمعنى ذلك أن عدم المبدأ هو في ذاته مصلحة السياسة
ليس الفقر اختلالاً في الناس؛ إن الفقر على التحقيق هو اختلال في القوانين
معنى فرض الزكاة في الشريعة الإسلامية أن أفقر الصعاليك في الدنيا له أن يقول لأعظم ملوك المال: قدم لي دفاترك. . .
مثل مذهب الاشتراكية في وهم توزيع المال، ومذهب الإسلام في الزكاة، مثل رجلين مر أحدهما بغريق يختبط في اللج، فاستغاثة الغريق، فنظر فإذا حبل ملقى على الشاطئ، ولكنه صاح بالهالك: أنت والله في نفسي أكبر منزلة من أن أخرجك بالحبل فأنا ذاهب أبحث لك عن زورق. . . . ومر الثاني فألقى له الحبل فنجا
التمدن والفقر كصاحبين معا ذي رجلين وأعرج يمشيان في طريق؛ كلما انفسحت خطوات الأول زادت عثرات الآخر(76/5)
التلسكوب العظيم في استكشاف معاني الحب قد يكون دمعة
ينظر الحب دائماً بعين واحدة، فيرى جانباً ويعمى عن جانب؛ ولا ينظر بعينيه معاً إلا حين يريد أن يتبين طريقه لينصرف. . . .
تتكبر المرأة على كل ما يشعرها بضعفها؛ فمن هنا تبلغ المرأة آخر كبريائها في أوائل حبها
إذا صاحبت عاشقاً فليس لك أن تبدأه كلما لقيته إلا بأحد سؤالين: ما هي خرافتك اليوم؟ أو ما هي حماقتك اليوم. . . .؟
متى نظرت المرأة إلى رجل تعجب به كانت نظراتها الأولى متحيرة قلقة غير مطمئنة؛ معناها: هل هو أنت؟
فإذا داخلها الجب واطمأنت جاءت نظراتها مسترسلة متدللة، متأنثة، معناها: هو أنت
لا يضحك الحيوان إذ كان لا يفهم إلا فهماً واحداً؛ ويضحك الإنسان لأنه حرم هذا الفهم الواحد. أهو البلاء وعلاجه؛ أم النعمة وبلاؤها؛ أم هذا مرة وهذه مرة؟
لا يكثر الضحك إلا الأبله الذي يفهم الشيء فهما يمسخه شيئا آخر؛ وإلإ العامي الفارغ الذي لا يفهم الأشياء إلا ممسوخة؛ وإلا الفيلسوف الساخر المركب في طباعه من الفيلسوف والأبله والعامي. . .
يمنع الهم ونحوه من الضحك إذ كانت هذه حقائق صريحة في النفس لا تفهم أبداً على وجهين
لا تكون امرأة معشوقة رجل إلا وهو يراها وحدها النساء جميعاً؛ ولا يكون رجل معشوق امرأة إلا وهي تراه وحده كل الرجال. فالحب وحدانية لا تقبل الشرك، ومن ههنا يتأله
يولد المولود من رجل وامرأة ولن يكون من ثلاثة؛ ولهذا لن يكون في الحب الصحيح ثلاثة أبداً
قد تحب المرأة رجلين، أو يحب الرجل امرأتين، ولكن هذا ليس حباً، إن هو إلا كبر في العربة جعلها تحتاج إلى جوادين. . .
لعل من حكم الحجاب في الإسلام أن العشق إذا انتهى إلى الزواج فقلما يكون إلا تمهيداً لولادة إفراط عصبي في قوة أو ضعف أو بلادة أو. . أو رذيلة
ابن المرأة العجوز عجوز حتى في الطفولة، وابن الشابة شاب حتى في الكهولة؛ فيا ضيعة(76/6)
الإنسانية من تأخير الزواج!
اكثر النساء على نصف الذكاء الساحر في الرجل ينبغي أن يكون في عقله، ويكون النصف الآخر في البنك. . .
عندما ما تكون الساعة هي ساعة انتظر الشيء المحبوب، يكون قلب المنتظر من زحمة الدقائق كالذي يشق طريقاً زاحمه الناس فيه
الذليل في رأي الحب من إذا هجرته المرأة كان هجرها إياه عقوبته، والعزيز في رأي الجب من إذا هجرته المرأة كان هجرها إياه عقوبتها
اليوم الذي يكون قلبياً محضاً يبقى له دائماً باق لا ينتهي؛ ولهذا لا يزال الحب الطاهر كأنه في بقية من أوله مهما تقادم
لا يعرف الطفل تاريخه من الزمن وما فيه، ولكن من بيت أهله ومن فيه؛ فأمس واليوم وغدا هي كلها عنده أمس الذي يكبر شيئا فشيئا. . . ابن الطفولة إنما هو ابن حالة من حالات الحياة لا ابن زمن، وهذا سر السعادة
يالها عجيبة! إن الصوفي إذا فاز في حبه الإلهي رأى نفسه باقياً في الزمن بلا بقاء يعلمه، وفانياً عن الزمن بلا فناء يشعر به؛ وذلك بعينه ما يراه العاشق إذا خاب في حبه الإنساني. . .
الفرق بين كاتب متعفف وبين كاتب متعهر أن الأول مثقل بواجب، والآخر مثقل به ذلك الواجب. . .
كانت الشفقة هي الأصل في كل موضع استهزاء فما تستهزئ إلا بخطأ أو ضعف أو عجز؛ ولكن شعور الحيوان بقدرته على حيوان آخر، أو بانتصاره، أو بامتيازه؛ هو في الإنسان أصل ذلك الاستهزاء
كما يضر أهل الشر غيرهم إذا عملوا الشر، يضر أهل الخير غيرهم إذا لم يعملوا الخير
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(76/7)
الدعوة إلى القصص
علام تقوم وماذا أنتجت؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يجوز الأدب العربي اليوم حركة تطور وتجديد لا ريب في قوتها وأهميتها؛ والحركات الفكرية، كالحركات السياسية، عرضة للإغراق والتطرف، ولا سيما قبل أن تبلغ مرحلة النضج والاستقرار؛ وقد كانت حركتنا الأدبية عرضة لبعض هذه المظاهر المتطرفة؛ فقد أفرط البعض مثلا في التحدث عن الجديد والقديم دون أن يسفر هذا الجدل الخالد عن معان واضحة أو نتائج عملية؛ وقد زعم البعض أن التجديد هو إغفال الماضي كله، والسير وراء التفكير الغربي في حركة تقليد عمياء؛ وظهرت في الأعوام الأخيرة في حركتنا الأدبية خاصة تطرف أخرى، هي الإغراق في التحدث عن القصة وكتابة القصة، وفي تقدير المكانة التي يجب أن يتبوأها القصص في أدبنا؛ ويذهب بعض أصحاب هذا الحديث إلى أن القصص هو اعظم وأجمل وأقيم ما في الأدب الغربي، فيجب أن يكون له مثل هذه المكانة في أدبنا، ويجب أن ينصرف الكتاب إلى تأليف القصة حتى يصبح لنا تراث قصصي عريض مثلما في الأدب الغربي
وهذا قول يحتاج إلى بيان ومناقشة. نعم إن القصص يتبوأ في الآداب الغربية الحديثة أسمى مكانة؛ ولكنه ليس كل شيء في هذه الآداب، وليس هو أعظم شيء فيها؛ وإنما يتخذ القصص هذه المكانة في آداب عظيمة تفتحت فيها جميع نواحي التفكير والفن ونضجت، واتصلت مراحل نموها وتطورها مدى عصور. وللقصص الرفيع في هذه الحضارات والآداب العظيمة مهمة سامية أخرى غير متاع القراءة والرياضة العقلية، هي المعاونة في تربية النشء وتكوينه، وتكوين الأخلاق والخلال الفاضلة، والدعوة إلى المثل العليا. والقصص يتخذ أداة للتعبير عن خفايا النفس البشرية، وصياغة العواطف النبيلة والعبر المؤثرة، كما يتخذ أداة لعرض ما في اللغة القومية من كنوز البيان الساحر. وإنا لنتساءل أولاً: هل يفهم القصص في أدبنا على هذا النحو؟ وهل استطعنا بعد كل هذا الضجيج أن نخرج في ميدان القصص ما يمكن أن يرتفع، في فنه وفي قيمته الأدبية، إلى هذا المستوى؟ وهل نضجت حركتنا الأدبية واستكملت كل ما ينقصها من النواحي والعناصر التي يجب(76/8)
أن تمثل في كل الآداب العظيمة فلم يبق أمامنا إلا أن نعالج القصص وان نحسنه؟
إن القصص لم يتبوأ مكانته الرفيعة في الآداب الغربية ألا في العصر الحديث حينما ازدهرت هذه الآداب، واستكملت عناصرها الجوهرية. نعم إن القصص وجد في الآداب القديمة منذ اقدم العصور؛ ولكنه لم يشغل في الآداب القديمة ذلك الفراغ الشاسع الذي يشغله في الآداب الحديثة، وقد كان فوق ذلك من نوع خاص، قصصاً دينياً أو قصص بطولة أو فروسة قومية، ولم يخرج قصص العصور الوسطى في الآداب الغربية عن هذه الدائرة. ولنا مثل هذا القصص في أدبنا العربي القديم؛ ولكن الحركة الفكرية اضمحلت في الشرق في الوقت الذي نهضت فيه في الغرب وأخذت تتفتح في سائر النواحي وتنمو بخطى عظيمة؛ وبينما كانت الآداب الغربية تغزو ميادين جديدة، منها ميدان القصص، إذا بالحضارة الإسلامية والآداب العربية تخبو وتتراجع أمام الغزوات البربرية التي قام بها التتار والترك في سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ ولما افتتح الترك مصر، وهي يومئذ ملاذ التفكير الإسلامي، لقيت الآداب العربية ضربتها القاضية، وركدت ريحها زهاء ثلاثة قرون، وتخلفت عن الآداب الغربية في كل نواحي التقدم؛ ولم تستطع أن تنهض من سباتها الطويل إلا بعد أن تقلص عنها ظل هذا النير البربري
وما نراه اليوم من نقص في نواحي حركتنا الفكرية، إنما هو من أثر هذا الاضطهاد الذي أصابها مدى هذه الأحقاب الطويلة؛ والقصص إحدى هذه النواحي، بيد انه ليس أهمها وأحقها بالعناية؛ فهنالك نواح أخرى في أدبنا لم تنضج ولم تستقر، وهنالك في ميادين العلوم والفنون نقص واضح، والقصص الرفيع عنوان حركات فكرية نضجت واستقرت وازدهرت فيها مختلف نواحي الثقافة والفنون. وقد يظهر القصص في آداب أمم وحضارات متأخرة، ولكنه يكون قصصاً ساذجاً تنقصه عناصر الفن والتفكير. وإذا كان من المسلم به أن حركتنا الفكرية لا زالت بحاجة إلى استكمال كثير من العناصر الجوهرية، فليس مما يقويها ويدعمها، أن ننصرف إلى نواح دون أخرى، وأن نؤثر بعض هذه النواحي بالأهمية والخطورة، وأن نصورها خلاصة الفن والأدب، وكل شيء فيهما، على نحو ما يصور البعض كتابة القصص، فمثل هذا الإغراق لا يخدم قضية الأدب والثقافة؛ ولكنه بالعكس يجنى عليها إذا أثمر ثمره في الأذهان والأقلام الناشئة. وهذا ما يلوح لنا أنه(76/9)
يحدث اليوم في حركتنا الأدبية؛ فقد ذهب أصحاب الدعوة إلى القصص في تصوير أهميته وقيمته الأدبية إلى حدود بعيدة، وتأثر بهذه الدعوة المغرقة كثير من الشباب الذين لم يستكملوا كل عناصر الثقافة القوية، فانصرفوا إلى قراءة القصص والى كتابته، حتى أصبحنا أمام سيل من القصص الساذج الغث يشغل وقت الشباب والناشئين
والآن لنر ماذا كانت نتائج هذه الدعوة، وهل أسفرت حقاً من الوجهة الأدبية عن نتائج تذكر. وأول ما يلفت النظر هو كثرة القصص التي تغمر الصحف والمجلات. ولكن الكمية ليست هي كل ما في الإنتاج الأدبي، وإنما يهم النوع قبل كل شيء؛ ومن الزعم الباطل أن يقال إننا استطعنا أن نخرج حتى اليوم آثاراً قصصية ترتفع في قيمتها الأدبية والفنية إلى مستوى القصص الغربي؛ وقد نظفر بآثار قليلة تمتاز بشيء من القوة والطرافة، ولكنها مع ذلك تحمل طابع المجهود الأول، وينقصها كثير من العناصر الفنية؛ أما الكثرة الساحقة من هذا القصص الذي يغمر اليوم ميدان أدبنا، فليست لها أية قيمة أدبية تذكر؛ ويلاحظ أولاً أن كثيراً من القصص الذي يبدو في ثوب التأليف إنما هو قصص منقول عن الأدب الغربي، يصاغ في أثواب مصرية لكي تضيع معالمه، ولكنه ينم دائما على حقيقته؛ ولا نلمس في هذا القصص الناشئ أية لمحة من الفن الحقيقي أو الخيال الشائق؛ ثم هو لا يكاد يحظى بأي قسط من البيان القوي، بل يعرض دائماً في أساليب ضعيفة ينقصها روح التعبير القوي، ويبدو فيها أثر التقليد والنقل واضحاً؛ ولسنا ندري ماذا تكون القيمة الأدبية لقصص عاطل عن مزايا الفن والخيال والبيان معاً، وكل ما فيه أنه قصص فقط؛ أضف إلى ذلك أن هذا السيل المتصل من القصص ينقصه عنصر التوجيه والثقافة، فهو لا يتجه إلى غاية ثقافية معينة، ولا تحدوه أية مثل اجتماعية، أو أخلاقية محترمة
ولقد قام القصص الغربي في معظم الأحيان على تراث التاريخ والحضارة، وما زال في كل أمة معرضاً قوياً للتاريخ القومي والحياة الاجتماعية القومية، ولكن ما هي المواد التي يستقي منها كتاب (القصص) عندنا؟ وأي نواح من حياتنا الاجتماعية أو تاريخنا القومي استطاعوا أن يعرضوه؟ إنهم في الواقع يعرضون صوراً باهتة من الحياة الاجتماعية الغربية، ويحاولون أن ينسبوها للحياة الاجتماعية المصرية. ذلك لأنهم مقلدون ناقلون في الغالب، يندفعون وراء نزعة لم تقم على الدرس الصحيح؛ وهل قصص الحب المبتذل،(76/10)
ومناظر المسارح والملاهي والمراقص، ومقابلات السينما والشاطئ (البلاج)، والمراسلات الغرامية السخيفة، هي كل ما في الحياة الاجتماعية المصرية؟ ولقد كان لنا ثمة مادة بديعة للقصص في تاريخنا القومي، فهو حافل بصنوف المآسي الملوكية والشعبية، والحوادث والمواقف الشائقة، فهل فطن أحد من كتاب القصص إلى هذا الكنز الزاخر والمورد الخصب؟
ولقد قلنا انهم يزعمون أن الرجوع إلى الماضي ينافي دعوة (التجديد) التي يضجون بها، ولا يستطيعون فهمها أو تحديد معانيها، فهم لذلك لا يعنون بالتنقيب في تراثنا الغابر؛ ولكن الواقع انهم لا يفعلون ذلك تعففاً أو قصداً وإنما هو القصور وانقطاع الصلة الروحية لديهم بين مراحل الأدب الذين يزعمون أنهم طلائعه. والبحث يجشمهم جهوداً لا يستطيعون الاضطلاع بها. على أن القصص الرفيع في الآداب الغربية يفسح أكبر مجال لمآسي التاريخ وحوادثه. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء لتأييد هذه الحقيقة، فقد كان التاريخ وحده تقريباً مادة شيللر في جميع قصصه المسرحية؛ وكان أروع ما أخرجه سنكيفتش قصته التاريخية الرومانية (كوفاديس) التي تعتبر من أعظم ما أخرج القصص الغربي؛ وكتب لورد ليتون (أيام بامبياي الأخيرة)، وكتبت جورج اليوت (رومولا) وعرض إسكندر ديما مراحل التاريخ الفرنسي في سلسلة من القصص التاريخية البديعة. بل لقد ألفى بعض أكابر كتاب الغرب في تاريخنا، وفي التاريخ الإسلامي مادة نفيسة؛ فكتب تشارلس كنجسلي (هيباسيا) عن العصر اليوناني الروماني في مصر، وكتب اسكوت (ايفانهو) عن بعض حوادث الحروب الصليبية، وصاغ فون هامار ولاهارب مصرع البرامكة في قالب قصصي بديع، وكتب شاتوبريان (آخر بني سراج) إلى غير ذلك مما يضيق المقام بذكره
والخلاصة أننا كلما تأملنا هذه الدعوة الصاخبة إلى كتابه القصص واعتباره كل ما في الأدب من قيم ونفيس، وتأملنا ما انتهت إليه من النتائج العملية، ألفينا فراغاً في كل ناحية، وألفينا فشلاً مطبقاً. والفشل دائماً حليف كل نزعة أو حركة لا تقوم على قواعد صحيحة، ولا تتوسل إلى غاياتها بالوسائل الطبيعية؛ وقد فشلت هذه الحركة المغرقة، لأنها قصدت أن تبتدئ حيث يجب الانتهاء، ولم تسر في مراحل التدرج؛ جنباً إلى جنب مع باقي نواحي الحركة الأدبية؛ ولم تقم بالأخص على الدرس والبحث، وإنما قامت على عوامل وبواعث(76/11)
مصطنعة. أراد فريق من كتابنا أن يصبحوا بين الأمس واليوم من أساتذة القصص، وأن يناهضوا كتاب القصص الغربيين الذين كونتهم حضارة وآداب وثقافات مؤثلة متصلة المراحل، وتصورا أنهم يستطيعون تحقيق هذه الغاية بإخراج هذه القطع الركيكة الذابلة التي تنقصها كل عناصر الفن والخيال والبيان
ونحن نقدر قيمة القصص ورفيع مكانته في الأدب الغربي، ولكنا نود فقط أن نعرض الأمور على حقيقتها، وأن نلفت النظر إلى ما يترتب على هذا الإغراق في شأن القصص من الآثار السيئة في حركتنا الأدبية، وهي لم تستكمل بعد كل عناصر النضج والاستقرار. ولقد كان الاندفاع في هذا التيار على هذا النحو من وجوه الضعف في حركتنا الأدبية؛ لأنه يستغرق جهوداً كان خليقاً أن تصرف في نواحي أخرى؛ ولقد كان الجهد كبيراً مستفيضاً، ولكن دون تبصر وتمكن، فجاء الغم ضئيلاً يدعوا إلى الرثاء. ومن المبالغة أن نقول إننا قد استطعنا أن نغزو بعد ميدان القصص الرفيع، أو إننا أخرجنا تراثاً قصصياً يجدر بالتقدير والاحترام.
محمد عبد الله عنان المحامي(76/12)
أين انتم يا أحبائي؟
للأستاذ محمد سعيد العريان
الغد. . . . إن الغد ليتراءى لي خلف ضباب المنى كأني من توهمه أستعيد تاريخا غبر لا يفصلني منه إلا ما فات من أيامي: وإني لأرى من خلفه ثلاثة أحباب كأنما كنا معاً ثم افترقنا إلى ميعاد!
هأنذا في الفلك مرتفق إلى حافته، والموج من حولي يعج ويصخب، والنسيم يصافح خدي فأسمع في دمدمته أصداء ذكرى بعيدة، طوفت ما طوفت ثم عادت تترامى إلى أذني خافتة من طول ما أعيت في مجاهل الزمان. . .!
وهاهي ذي إلى جانبي في الفلك مرتفقة إلى ذراعي، قد عطفها علي خوف البحر لتلتمس الأمان من قربي، فما ركبت البحر من قبل ولا كان لها بهدهدة الفلك عهد
قلت لها: (أتخشين البحر؟)
قالت: (بل أخشى الفراق!)
قلت: (فإنني إلى جانبك فما يفزعك؟)
قالت: (حبذا أن يكون هذا حقيقة! أهذا هو البحر، وتلك هي السماء، وهذا أنت؟ فما بي خوف البحر وإنك إلى جانبي، ولكني أريد لك أن تعيش!)
وهدأ البحر واملست صفحته، وراح الفلك يشق الماء في لين وخفة، وإن له لموسيقى هادئة فيها عذوبة الأمل الواثق ونشوة السعادة الراضية
وثابت إلى نفسها، فراحت تنقل الطرف من هنا إلى هناك وفي ابتسامتها معان من الغبطة وفي عينيها نظرات. . .
قالت: (أتسمع إلى هذه الموسيقى؟ فإنها لمن نفسي وفي نفسي!)
قلت: (ما أحب إلي أن أبقى إلى جانبك الدهر نستمع إلى أغاني الحب في خرير الماء وهمس النسيم، ونمتد في أحلام السعادة ما امتدت بنا الحياة!)
قالت: (أئنك لتقرأ ما في نفسي، فما أعدل بما نحن فيه أن يكون لي الملك! أرأيت في الحياة ملكاً يعدل قلبين يؤلف بينهما الحب؟)
ورأيت على الشاطئ القريب قصراً قائماً، تلوح النعمة من شرفاته ويستعلن الغنى(76/13)
قلت: (أفلا تودين أن يكون لنا هذا القصر، نعيش للحب في افيائه ونستظل منه بوارف السعادة؟)
قالت: (ما أتمنى لهذا الحب أن يتعلق من أوهام الأرض بمثل ذاك! ليتني وإياك على رمث في البحر ليس لنا إلا البحر، أو في كوخ من قش على حدود الدنيا ليس لنا إلا حدود الدنيا، أو كهف من جبل في طريق الصحراء ليس لنا إلا الصحراء، فهناك سمو الحب لا حيث ترى الآن. .! ما لنا وللناس يا حبيبي نطاولهم بالطين والتراب؟ وإنما الحب قلب لقلب، ودنيا من وراء الدنيا. أنا وأنت هما كل الناس، ويومنا هو الزمان، ومجلسنا العين في العين، والجنب إلى الجنب، هو الدنيا كلها ما تتسع لغيره، ولا تمتد لسواه؟
ورسا بنا الفلك على خضراء مزهرة، فانسابت هي في الطريق على حذر ورقبة، وخلفتني هناك أنتظر. . .
باويح الشباب من أحلامه! متى تعود إلى جانبي، فنعيش الروح للروح، والنفس للنفس؟ لقد طالت بها النوى وما آبت
ومضيت أتوكأ على نفسي في ظلال الروض، أتمثلها في كل منعطف وكل ثنية، وإن عيني لتأخذان الطريق، وإن الزهرة لتهمس في أذن أختها: (لقد كانت هنا ثم لم تكن!)، وإن الغصن الناضر ليشير بإصبعه إلى هناك؛ وكل شيء من حوله قد مسته الحياة، ونفخ فيه الحب روحا من روحه، إلا. . . إلا قلبي؟
وتهاويت على مقعد بين ملتف الحدائق، فأغمضت عيني وإنني ليقظان، وسمعت من خلل الغصون حمامة تقول لأختها (انظري! هل يعرف السلام من عرف الحب؟)
ودقت بجناحيها فطرفت عيني، ثم علت فأمعنت في الجو تصعيدا، وإن عبارتها لترن في آذني؛ وفتحت عيني فإذا هي إلى جانبي. .!
قلت: (أهذا أنت يا حبيبي! ما أصبرك على البعاد!)
قالت: (فانك ما تزال هنا، لقد كنت على يقين بأنك تنتظر!)
قلت: (وأين لي أن ألتمس السعادة في غير دنياك، وكيف لي أن أمل الثواء هنا، ومعي خيالك، وأنا منك على ميعاد؟)
وذهبنا نخطر جنبا إلى جنب، وإن قلبي ليتحدث، وإن قلبها ليجيب، وإن المنى لتبتسم!(76/14)
وطوينا الطريق في خطوات، وإذا نحن في بيت يجمع من أمرنا ما تفرق، نطل من شرفاته على ذلك النهر الذي شهد بكرة هذا الحب ووعى ذكريات هذا الغرام، وإن له لحديقة تزهر فيها الأماني وتتفتح الأحلام
ورحنا نمرح في جنبات الدار كأسعد عاشقين أتم عليهما الحب نعمته وأسبغ أمنه. فإذا دنا المساء فذراعها إلى ذراعي في الحدائق الفينانة والملاعب الساهرة؛ فما في الناس إلا من يعرفنا فيتمنى ويرانا فيغبطنا!
وكنا في البيت فجاءت تسعى إلي ضاحكة مزهوة
قالت: (كيف ترى هذا الثوب يا حبيبي؟)
قلت: (إنك به لأكثر فتنة!)
قالت: (إنما صنعته بيدي، ولقد أدمت الإبرة إصبعي، ولكني بما أصابها لسعيدة! أرأيت يا حبيبي إنني لا أشتري جمالي من السوق، ولا ألتمسه عند الخياطة؟)
قلت: (إنني بك فخور!)
قالت: (بل قل بربك إنك تحبني، وأترك لي وحدي نعمة الفخر بحبك!)
ثم لوت لتهيئ لنا الطعام. ما أشهى ما أكل من صنع يديها الجميلتين!
ومضيت في سبيلي إلى المجد اقتحم الصعب وهي من ورائي تدفعني إلى الجهاد وتضاعف في الأمل. فإذا أعياني الجهد ونالني التعب وتكاءدتني عقبات الطريق - مالت علي تهمس في أذني عاتبة:
(كيف تضيق بنفسك يا حبيبي وأنا إلى جانبك!)
يا الله! أكان هذا كله خيالاً من تلفيق الأحلام، تجمع من صورة إلى صورة دنيا تموج، ومن جزء إلى جزء عالماً مصوراً من المنى التي نلتمسها في اليقظة فلا نراها. . .؟
لا أكاد أصدق من طول ما تتراءى لي هذه الصور أنها غير حقيقية! فهأنذا ما أزال أفتش عنها. . . عنها هي، واثقاً أنني سأجد عندها تعبير أحلامي. . .!
ويحي؟ أين هي الآن مني؟ أتراني ألقاها في الخيال على غفلة منها، أم أنا من فكرها في مثل موضعها من فكري فنحن نلتقي على ميعاد؟
ألا كم يفعل الحب من معجزات! أنه ليضاعف وجود العاشقين إذ يلتقيان على البعاد في دنيا(76/15)
الوهم، فهي معي هنا، وأنا معها هناك. . .!
ومضيت على وجهي أتنفس في الحقول المبسوطة مد البصر وهرول إلي صبي ضاحك مبسوط اليدين
قال: (أبي! أنت هنا؟ لقد نشدتك طويلاً فما بلغت إليك نفسي!)
قلت: (أهذا أنت يا ولدي؛ ما بيدك؟)
قال: (هي زهرة جميلة، سأغرسها في حديقة الدار تنفح العطر وتبعث البهجة والجمال؛ سيسر أمي أن تراها. . . أين أمي، لماذا لا أراها هنا؟)
قلت: (أمك؟ حسبتها معك، أتعرف أين ألقاها؟ فقد نشدتكما طويلاً؛ إن الدار من دونكما خلاء!)
قال: (آه، سأذهب لأدعوها فأنها في انتظارك من زمان. . .!)
ويلي! هي هناك تنتظر وأنا هنا؛ فما لنا لم نلتق من زمان؟
ومضى الصبي يبحث عن أمه، وإن عينيه لتنظران إلى الخلف يستوقفني إلى أن يعود!
إن الولد لأبويه هو الجب والحنان والرحمة؛ هذا هو يسعى ليجمع الحبيبين وما التقيا قبلها مرة، فإذا تم له أن يخرج إلى الحياة يمرح بين أبويه فانه لعقدة الحب ووثائق الأبد
أرأيت إلى الزوجين إذ ينفث الشيطان نفثته فتفترق أجسادهما؛ أتراهما يفترقان حقيقة وبينهما غلام؟ ألا إن خواطرهما لتلتقي عنده على طواعية ورضى في كل لحظة مرات، وإن لم يتراءيا وجها لوجه. . .!
مضى الصبي يبحث. . . وأنا لا أزال أبحث
أنا إلى الآن رجل عزب يحلم. . . وابني إلى الآن لا يزال في الغيب، يستجديني الحياة مني ومن أمه التي لم أعرفها بعد، ولا أزال أبحث عنها، وهي لا تزال تبحث عني. . .!
أين أنت يا ولدي؟
أتراك تعود إليّ حياً كأولاد الدنيا، أم كنت ومضة أمل برقت لعيني خاطفة في الحلم، ثم توارت كلمحة البرق في ظلال السماء!
أي زوجتي التي لم أعرفها لأني لم أرها بعد!
أي زوجتي التي تنتظر وراء الستر حالمةً ترقب الميعاد!(76/16)
أي ولدي الذي يتوارى خلف الغيب ينادي أباه وأمه!
يا أحبائي الذين يبحثون عني كما أبحث عنهم منذ سنين وسنين وسنين؛ أما آن لنا أن نلتقي حتى ألقى النعم الثلاث في زوجتي وولدي وفتاتي؟
أين أنتم يا أحبائي. . .؟
طنطا
محمد سعيد العريان(76/17)
عظمة الكون بسعة وأنظمة
ربنا ما خلقت هذا باطلاً!
للأستاذ قدري حافظ طوقان
قد يستغرب القارئ إذا قيل له إن شمسنا ما هي إلا واحدة من شموس لا عد لها، وقد يزيد استغرابه إذا قيل له أيضا إنه بتلسكوب جبل ولسون الذي قطر عدسته العاكس متران ونصف متر، وبالوسائل المتعددة للتصوير بالفوتغراف استطاع العلماء أن يكتشفوا أن مجرتنا تتكون من ألوف من الملايين من النجوم، وأن وراء ذلك مجرات وجزرا كونيه أخرى يربو عددها على ملايين عديدة
قد يظن البعض أن الكون على هذه الحال مزدحم وليس فيه فراغ، وأنه ملآن بالعوالم والأجرام، ولكن الثابت أن كل هذه العوالم والأكوان لا تشغل إلا حيزاً صغيراً جداً بالنسبة للكون الأعظم، وأننا في خضم من الفراغ، وأن الفضاء أفرغ من أي شيء نستطيع تصوره. ليتصور القارئ وجود ثلاث نحلات في قارة أوروبا وعندئذ يكون هواؤها لا يزال أكثر ازدحاماً بالنحل من ازدحام الفضاء بالنجوم في أجزائه التي نعرفها. إن الأمواج اللاسلكية التي تسير بأعظم سرعة نعرفها (سرعة الضوء وقدرها 186000 ميل في الثانية)، هذه السرعة تصل المريخ في دقيقتين، ولكن قد يذهل البعض إذا علم أن هذه الإشارات تحتاج إلى سنين، بل إلى مئات وألوف منها لتصل إلى سيارات بعض النجوم الموجودة خارج مجرتنا؛ وقد لا يصدق البعض الآخر إذا قيل له إن أقصى السدائم التي نراها في الفضاء يبلغ بعدها (140) مليون سنة ضوئية، أي أن ضوءها يستغرق 140 مليون سنة في الوصول إلينا. وسيكشف لنا العلم بوسائله المتعددة عن سدم أبعد من هذه بكثير
يظهر مما مر أن المسافات التي تفصل بين الأجرام السماوية شاسعة جداً قد لا يستطيع العقل البشري تصورها، وأن الكون أعظم مما نتصور، وكلما تقدم الإنسان في ميدان المدنية على اختلاف مناحيها تتجلى له عظمة هذا العالم وروعة هذا الكون، وتتجلى له غرائبه بما يخلب اللب ويدهش العقل ويحير الفكر
ومن يبحث في هذا الكون العظيم ويسع في الوقوف على أنظمته والقوانين التي تسيطر(76/18)
عليه يجد أن لا شيء فيه ألا ويسير ضمن دائرة من القوانين لا يتعداها، وأن لكل شيء سبباً، وأن ما يسيطر على أصغر أجزاء المادة يسيطر على أكبرها. . . فالمادة تتألف من الجواهر الفردة، وهذه تتألف من كهربائية سالبة تسمى كهرباً، وكهربائية موجبة تسمى نواة؛ والكهارب تدور حول النوايا في أفلاك، وهذا التركيب وما فيه من نظام وما يسوده من قوانين يشبه النظام الشمسي، فهو مجموعة شمسية مصغرة، فالنواة تقابلها الشمس، والكهارب تقابلها السيارات دائرة في أفلاكها حول الشمس، وتصدق هذه المقارنة على حجوم الكهارب والنوايا وعلى المسافات؛ فلقد ثبت أن نسبة حجم الكهرب إلى النواة تقارب النسبة بين حجم أحد السيارات المتوسطة والشمس. مما تقدم ومن نتائج بحوث علماء الفلك يظهر أن الكون متسق في نظامه، متناسق في أجزائه، متشابه في تركيبه، والنظام الموجود في السيارات والشموس هو بعينه في الجوهر الفرد: في الكهارب وفي النوايا؛ والقوانين التي تسيطر على الأولى تسيطر على الأخيرة، أي أن الكون في أصغر موجوداته وأكبرها سار ويسير حسب نظام مخصوص وحسب قوانين ثابتة اكتشف الإنسان بعضها، وأن موجودات هذا العالم أيضا متصل بعضها ببعض لا يستغني أحدهما عن الآخر، وأنه ما من شيء خلق لنفسه أو يقدر أن يعمل شيئا بدون غيره، والجوهر الفرد بألكتروناته ونواياه هو أصل كل شيء في الوجود، في الأرض، في السيارات، في الشمس، في النجوم. . . . والعلاقة بين كل هذه متينة والرابطة أمتن، علاقة التشابه ورابطة التركيب؛ فمن الذرات الكهربائية تكونت الجواهر الفردة، ومن الجواهر الفردة تكونت الدقائق التي منها تتكون المادة، ومن ذلك أصل النظام الشمسي والأنظمة الشمسية الأخرى وما فيها من نجوم وسدم وسيارات ومذنبات وشهب الخ. . . .
والآن. . . نأتي إلى الإنسان. . . . ما علاقته بهذا الكون؟ ما مقامه؟ بينما نرى الإنسان كبيراً جداً جدا بالنسبة إلى الجواهر الفردة، إذ وزنه يعدل ألف مليون مليون مليون مليون جوهر فرد، نراه في الوقت ذاته صغيراً جداً جداً بالنسبة إلى أحد الكواكب المتوسطة القدر التي وزنها يعدل عشرة آلاف مليون مليون مليون مليون رجل. . . . . . . . . .
من هنا نرى أن الإنسان يكاد يكون متوسطاً بين الجواهر الفردة والكواكب، ومن هذه النقطة المتوسطة يستطيع (الإنسان) أن يكشف عن طبيعة الأشياء الصغيرة من جهة،(76/19)
والأشياء الكبيرة من جهة أخرى بفضل ما وهبه الله من الصفات العقلية والروحية
قد يقول البعض إن الإنسان استطاع أن يصل إلى نقطة قد تساعده على فهم أسرار هذا الوجود، وعلى الكشف عن غوامضه والوقوف على حقيقته
ولكن مهلاً. . . . كلما تقدم الإنسان في الكشف عن قوانين الطبيعة وفي تفهم أسرارها، رأى نفسه أمام أسئلة عديدة لا يستطيع الإجابة عنها، وقد زاد اعتقاداً بضالته وجهله وبأنه لم يكتشف شيئاً بعد، وأنه لا يزال في فجر يقظته العقلية، وفي أول مراحل التفكير الجدي في الوقوف على أسرار الوجود. وكلما قلب بصره في هذا الفضاء وزاد معرفة به، شعر بأن الوداعة تقترب منه، وأن من الواجب عليه أن يكون في الذروة العليا من التواضع وسمو الخلق؛ ولا عجب في ذلك، فحسبه أن يعرف أن الأرض إزاء الأجرام السماوية التي لا عد لها أشكالاً وأنواعا كذرة من الغبار سائرة إلى الفناء لا تأبه للحياة
وفوق ذلك فأجزاء هذا العالم مرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا يستطيع أي جزء أن يسير بدون غيره، والإنسان مرتبط بأخيه الإنسان، وهذه كرته التي يعيش عليها وما فيها من حيوان وجماد ونبات، لها علاقات مباشرة وغير مباشرة مع غيرها من الكواكب والنجوم؛ فلولا الشمس لما عاش النبات والحيوان والإنسان، ولولا القمر لأختل نظام التجارة، ولولا الكواكب والنجوم وجذب بعضها لبعض لما استطاع أن يحفظ كل نجم أو كوكب مركزه في هذا الوجود، ولسادت الفوضى وعم البلاء. وعلى هذه الحال، فالعالم مترابطة أجزاؤه، تسيطر عليها أنظمة وتتولاها قوانين لا تتعداها ولا تشذ عنها. والذي لا ريب فيه أن هذا الكون لم يوجد من تلقاء نفسه، إذ لو كان كذلك لما رأينا فيه (أي في الكون) هذا النظام وهذا التنسيق، بل إن هناك قوة خارقة منسقة منظمة، لا يحيط بها عقلنا، بل هي تحيط بنا وبهذا الوجود من كل نواحيه. أوجدت هذا الكون الأعظم وجعلته يسير ضمن نواميس ثابتة. ومهمتنا نحن البشر أن نزيد معارفنا عن هذه النواميس ونبحث في أصولها، وكلما زدنا معرفة بها زدنا اعتقاداً بقدرة الله الخارقة المنظمة، وأيماناً بعظمته وقوة إبداعه، وظهر لنا بجلاء مقام الإنسان في هذا الكون الذي لم يخلق باطلا
هذا الاعتقاد، وذاك الإيمان إذ رسخا عن طريق الدرس والبحث فانهما يسموان بصاحبهما(76/20)
إلى عالم أسمى من عالمنا، وفي هذا لذة روحية هي أسمى أنواع الملذات. . .
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك. . .)
قدري حافظ طوقان(76/21)
2 - من أدب الزراعة
للأستاذ محمد محمود جلال
تمر اليوم بالحقل فتقر عيناك ببساط سندسي وقد نبت البريسم فحلى عاطل الأرض بعد أن كان حباً ميتاً يوم جيء به من المحزن فبذر في ظل الذرة نامية السوق ناضرة اللون فتتمثل بقول الصانع الحكيم (يخرج الحي من الميت). . . ولكل نبت من شعرات البساط مهما دق روح وخصائص للنمو والتزاوج والأزهار والأثمار
يروقك المنظر بعد أن انجلى عنه ما كان يشوبه منذ أيام من سوق يبست فثقلت على النفس، وهانت على الزمن، فناداها أجلها فانتهت أشبه ما تكون بعهد الظلم أو بالظلام عفي ضياء العدل أو ضوء الشمس آثاره
حبذا الحدود تضع لكل مخلوق دوراً، وحبذا التزامها، وما أنكر الطغيان!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أخذ من الدنيا فوق حاجته أخذ حتفه وهو لا يشعر)
ولكن الخير المحض لا وجود له في الدنيا، وكذلك لم يخل الله مخلوقا من نفع، فذاك اليبس في السوق، وتلك الضآلة في منظر الذرة حين تجف، إنما تحمل مادة الحياة وغذاء الغالبية العظمى
تلك الأمطار المثقلة أشبه بثمار التجارب وعميق الفكر، لا تنضج إلا في استواء العمر وأواخر الحياة، فيكثر الإطراق والإغضاء اتساعاً للناس على علم من الحياة، ورحمة بالعاني والخاطئ، وتحبب إلى النفس العزلة والانزواء، فيسعى إلى أهل الرأي والتجربة رائدو الحكمة وطالبو العلم كما يسعى الناس إلى التمون من تلك الثمار الجافة حيثما وجدت
وفي مظاهر الهدوء والإطراق سمة الاتعاظ والبعد عن الزهو والصلف، وهي مظاهر لا تلقاها إلا حيث تلقى الفضل والنبل، بل هي سياجهما وشارتهما كما يقول المرحوم شوقي بك:
ومن لمّ يجمل فضله بتواضع ... يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر
على أن هذا البساط الذي يأخذ بالأبصار، ويضفي اليوم على الوادي ثوباً قشيباً حبيباً، إنما نبت في كنف غيره، وإنما كفله واخذ بيده سواه(76/22)
ففي دفء (الذرة) يوم كانت حلية الأرض تغذى، وفي حمى سوقها التي تزدري اليوم ازدهر. فكانت له الأب البار، أو الوصي الأمين، حتى تم الدور فتخلت ناعمة لسعيها راضية. قدمت الخير واطمأنت، وما خلفته إلا حين رأت فيه القدرة على بدء دوره
معان للتعاون وربط أدوار الحياة ببعضها. (وفي الأرض آيات للموقنين). ومنذ آلاف السنين تمر قوافل الأجيال منا في كنف الوادي الأمين بتلك العظات، وتتصفح أخراها تاريخ أولاها، وتتبين العز يكلل جبين القوم متحداً، وسيف الذل مسلطاً على رقابه متفرقاً:
عظة قومي بها أولى وإن ... بعد العهد فهل يعتبرون
أجل، لا يعتبرون ولو تكررت العظة في كل موسم. .!!
فإذا أشحنا عن منظر لا يروق، ردنا إليه الذكر حين ندرك يده فيما يروق، وفاء للغابر، وعرفاناً للجميل:
ومن شكر المناجم محسنات ... إذا التبر انجلى شكر الترابا
والحياة مزيج، فهنا تلقى بقعة من منضور النبت حالية، وهناك تلقى قطعة من بهجة الأرض عاطلة، بل قد ينفر سمعك من الاسم الذي يطلقه عليها (أدب الزراعة) فهي تسمى في العرف بوراً
هذا (البوار) مقدمة الخطبة، وهذه (البائرة) كثيرة الخاطبين فعطلها اليوم مؤقت، وخلوها قصير الأمد (وبورها) فأل الخير الدافق في المستقبل القريب
هذه القطع الخالية هي المعدة لزراعة القطن في الموسم القادم، فهي اليوم رهن التهيؤ والأعداد
(وبورها) كيوم الجمعة عندنا، تستجم فيه العافية، وكيوم الأحد عند غيرنا، جعلوه للراحة والتسلية، فإذا أقبل يوم السبت أو الاثنين فنشاط يفوق نشاط الأيام الأخرى
عاطلها اليوم كذوي النفع والخير المستخفين، أو الذين تقصيهم الأوضاع السقيمة وطغيان المتحكمين في البيئة كما قسمت الأرض لمحض فكرة الزارع في الكسب - حتى يأتي عدل الله، فيقيم المعوج، ويقصي الضار، ويظهر الحق، ولكل أجل كتاب
هذه القطع (البور) غمرها ماء النيل رجاء إخصابها، ولتجدن من بينها اليوم ما يأنس بالمحراث أنس الطروس بالأقلام، تسيل علماً وحكمةً وأدباً مروحاً، حتى إذا نظرت إليها(76/23)
نظرت إلى سطور خير في أسرع الصحف تلبية وإنتاجا
ولقد شاد بتلك الروعة الضابط العيوف (محمد توفيق علي) حين اضطر إلى ترك الصفوف وخدمة الجيش، وعكف في مزرعته يغذي ميداني الأدب والزراعة فقال:
ويا سطوراً بمحراثي أدبجها ... لا يستقل بها القرطاس والقلم
أما (المحراث) الذي يشق لنا الأرض اليوم ليفتح سيل الخير غداً فقد جاءنا بأكثر من احتلال واحد
فإذا ذكرت (قصر النيل) ومآله، (وقشلاق العباسية) وعاره، فإنك واجد في أعماق الريف وأينما سرت فوق التربة المصرية (فوردسن) و (لانس) و (هوفر) من معادن غريبة عنا، وبائعين لا يذكرون لنا من حسنة الاسداد (القسط)، فإذا أردنا للمحراث حركة، فلا بد من (البنزين) من أمريكا، (والقار) من رومانيا، والزيوت من أصقاع نائية
وأما تلك الأوراق التي يوقعها الزارع. فغذاء للمحاكم المختلطة، وجن يحمل المال من مصر إلى أوربا، وآفة من آفات الإهمال قضت على إحدى صناعات الزراعة، وهي تربية الماشية، ودهورت أسعار الحبوب والزروع من فول وشعير وعلف، كانت تحمل من أرضنا إلى موانينا، ونؤدي الثمن في المنيا والخرطوم، فلا تعدو خيراته الإسكندرية، ثم يعود في أبواب أخرى إلى المدينتين وسواهما من مدن القطر المصري السوداني وبلاده وقراه!
محمد محمود جلال المحامي(76/24)
الشاعر والطبيعة
بقلم نظمي خليل
. . . كل شيء في هذا العالم محاكاة، والفن هو أكثر الأشياء محاكاة للطبيعة. والشعر هو أسمى أنواع الفنون، لأنه لا يعطينا الصوت فقط كما تفعل الموسيقى، أو الشكل فقط كما يفعل النحت، أو اللون فقط كما يفعل التصوير، ولكنه يمزج هذه كلها ويقدم لنا صورة حية تؤثر في الحواس كأنها الحقيقة بعينها، بل ربما كانت أكثر حقيقة من الحقيقة ذاتها، لأن الشيء الذي لا نراه إلا بالعين يكون خارجا عنا ولا يقع تحت إدراكنا، ولكن عندما يصفه شاعر موهوب تراه وتشعر به ايضا، وتقف على ما دق وصغر من كنهه الدفين. بل قد يتفتح هذا الشيء من تلقاء نفسه عند ما تسلط عليه عين شاعر نافذة فتكشف عن دخائله في غير تستر ولا استخفاء
. . ولكن الشاعر لا يحاكي ما يراه من مظاهر الطبيعة ومناظرها كما يحاكيها الرجل العادي، بل هو لا ينظر إليها نظرة سطحية ساذجة كتلك التي يلقيها الرجل العادي، ولكن نظرة الشاعر أوسع وأشمل، لأنه يعيش في عالم أوسع وأشمل وأعمق من عالمنا، وينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء ولها. بل إن أذن الشاعر أكثر موسيقية وحساسية من أذن الرجل العادي لأنه يشعر ويسمع كل ما يحيط به من عالم الحس والموسيقى، ويتبين أنغامه ويستمع أصواته المتوافقة الجميلة. فهو وحده الذي يستطيع أن ينفذ إلى قلب هذا العالم الذي يهتز دائماً بأنغام موسيقية متزنة، وهو وحده الذي يمكنه أن يفصح عن هذا الجمال الموسيقي في صوت قوي جذاب، لأن صوت الشاعر أقدر الأصوات وأصلحها لأداء هذه المهمة السامية الجليلة
فقد يقف إنسان على صخرة عالية وينظر إلى البحر الذي أمامه فيراه يتحرك ثم يصطفق ثم يعلو ثم يفيض ثم يهتز ثم يلمع فلا تهيج فيه هذه الصور الجميلة المتتابعة شعوراً ولا تهز منه قلباً، ولعله لا يفطن إلى هذه التغيرات السريعة المتعاقبة، ولا يفقه لهذه الحركات والتموجات المائية جمالاً، ولكن هذه الصور المتحركة الجميلة لا تمضي دون أن تثير في الشاعر نوعاً من الإحساس العميق القوي فتدفعه إلى تحريك اللسان، كما حركت لسان تنيسون من قبل فقال: (إن البحر المتجعد يدلف تحته) أو كما حركت لسان بيرون في(76/25)
المحيط فقال: (مرحى! مرحى! أيتها الأمواج الزرقاء. مرحى مرحى أيتها المغاور والفجاج! إلى الأمام أيها السفين إلى الأمام! إن أرض الوطن قد توارت. أيها الوطن سلام عليك! أصطخب أيها المحيط الأزرق العميق، أصطخب أيها المحيط لقد أحببتك. وعلى صدرك كانت ملاعب صباي، ومواطن سروري؛ كنت أعبث بأمواجك صبياً وكان ذلك أعظم سروري. فأن جعلها البحر رعباً فما أحبه رعباً! كنت ألجأ إليك كأنك أبي، وأخلد إلى أمواجك القريبة والبعيدة، وأمر بيدي على لبدك المتكاثفة كما أفعل هنا الآن.)
وقد يقف إنسان بجانب ماء آخر ليس لامعاً ولا متحركاً، ولكنه مظلم عميق، فلا يفكر في جمال هذه الصورة ولا يشعر بها، لأنه لم يوهب حساسية غزيرة أو شعوراً قوياً عميقاً يدفعه إلى أن يديم النظر في مثل هذه الصورة الطبيعية الأخاذة، ولكن الشاعر الذي يشعر بهذا الكون ويفكر في هذا الكون، لا يفوته هذا الجمال الطبيعي الساذج فيصيح من تلقاء نفسه كما صاح تنيسون من قبل إذ يقول: (إنها عين ماء نائمة)
. . . فالشعراء يشعرون بما حولهم من عالم الحس والطبيعة وهم لا يقنعون بهذا العالم الأرضي، بل يشركونه بالعالم السامي، عالم الخيال، دون أن ينفصلوا عن عالمهم الأول. أما أولئك الذين لا يحسون بهذا العالم السامي، عالم الفكر الدقيق، والخيال البعيد، فانهم لن يكونوا شعراء وإن كانوا يستطيعون النظم ونحت القوافي
وقد يتمادى بعض الشعراء في شعورهم بهذا العالم الآخر فينسون أنفسهم وهم يحلقون إليه فيضلون الطريق ولا يستطيعون الرجوع إلى أوكارهم الأولى فيمضون يضربون بأجنحتهم في الفضاء على غير هدى حتى ينالهم التعب ويلحقهم اليأس فيهوون من سماء عليائهم محطمين. . . .
. . . فالشعراء حقاً هم الذين يصلون العالمين، ويجمعون بين الحياتين: حياة الواقع وحياة الخيال. الشعراء حقاً هم الذين يتأثرون بما حولهم ويأخذون جانباً كبيراً من عواطفهم من العالم الظاهري، من نسائه وأزهاره وأجوائه ودقائقه، ثم هم يلقون على هذه العواطف ألواناً من العالم الخفي حتى تظهر كأنها غريبة عنا. . .
فالشاعر لا يرى الأسد كما يراه عالم الحيوان، ولكنه يخلع عليه صوراً تجمع بين ضروب المشابهة والضد، فيتأمله في حالات عدة كالذعر والخوف والإعجاب، وقد يأتي وصفه بعيداً(76/26)
عن الحقيقة، ولكنه وصف شعري جميل على كل حال.
فليس المهم في الأمر هو صدق الوصف ومطابقته للواقع أو عدم مطابقته، بل الشيء المهم هو صدق عاطفة الشاعر. فإن لم يكن الشاعر صادق الشعور والعاطفة جاء شعره رديئاً. . . ووصفه غثاً
. . . ونظرة الشاعر لزهرة السوسن الأبيض ليست كنظرة البستاني لها، وليست نظرة هذين الاثنين كنظرة عالم النبات الأخصائي. فإذا سألت البستاني عن هذه السوسنة لم يزد على أن يذكر اسمها؛ هذه حقيقة، ولكن الشاعر لا يقف عندها بل قد يجيبك كما أجاب (سبنسر) (إنها سيدة الحديقة) وهنا نبتدئ نحس ببعضها ما في هذه الزهرة من جمال شعري وحسن، وقد يأتي شاعر آخر (كبن جونسون) وينظر إلى هذه السوسنة متأملاً فيقول (إنها نبتة الضوء وزهرته) وهكذا يظهر لنا الشعر الجميل هذه الزهرة في حلل بهائها وسرها الدفين
الآن وقد عرفنا أن مادة الشعر هي الحياة، كما هي مادة كل فن آخر من الفنون السامية، وأن غذاءه من الطبيعة، وهي غذاء سائر الفنون، نريد أن نعرف مدى تأثير طبيعة إقليمنا المصري في شعرائنا المصريين
لقد قدمت أن الشاعر الحق هو الذي يشعر بما حوله، أي هو الذي يحس بطبيعة بلاده أو البلاد التي يعيش فيها، فيتأثر بجوها، ويستلهم سماءها ومناظرها، فتوحي إليه بروائع الأشعار
هذا ما كان عليه ذلك الشاعر الجاهلي الذي عاش في الصحراء، والذي افصح عن حياته البسيطة الساذجة في أسلوب شعري دافق
عاش الشاعر العربي القديم تحت سماء صافية سافرة، وفوق رمال مترامية متصلة، وجبال تتفاوت علواً وانخفاضا. يجيل بصره فيما حوله فلا يرى إلا كثباناً من الرمال، وأودية ممرعة نبتت حول بعض الآبار، وقطعاناً من الإبل تروح وتغدو على هذه المراعي الخضراء هذا ما كان يراه، وهذا ما ألف رؤيته كل يوم، فلم يحاول له تغييراً. . .
لم يعرف حياة الاستقرار والطمأنينة، ولم يتعود حياة الرفاهية والكسل، بل كانت حياته حرباً مع الطبيعة، لا ينفك عن الصراع معها. لذلك جاء شعره صدى لتلك الحياة القوية(76/27)
العنيفة التي كان يحياها قوياً عنيفاً، يعبر عما كان يعصف بقلبه من أشواق ولهب، وما يتنازعه من ثورات ونزوات. ومن أجل هذا نرى الشعر الجاهلي أصدق أنواع الشعر لسلامة نفوس قائليه. فهو شعر الفطرة والسذاجة لا شعر الصنعة والتكلف. هو خال من كل فن ورياء، يكشف عن نفسية عربية سليمة، وروح أبية كريمة. ومن أجل هذا نجد كل ما في هذا الشعر من صور قد أخذها الشاعر مما حوله، فهو يستهل قصيدته بوصف الأطلال، ودار الحبيبة التي أقفرت وخلت بعد أهلها. ثم يصف النؤى والأحجار التي حول هذه البيوت، وكيف أن هذه النؤى قد أعانته على معرفة هذه الديار بعد غياب دام سنين طوالاً. ثم يذكر حبيبته وما كان بينهما من حب، وينتقل من هذا إلى وصف ناقته وصفاً دقيقاً، ويصف جسمها وسرعتها، وصبرها على وعورة الطريق وبعد السفر. ثم ينتقل بعد هذا إلى موضوع القصيدة من مدح أو فخر
هذا شأن الشاعر الجاهلي الذي عاش في قلب الطبيعة، والذي تأثر بالطبيعة، ففاضت نفسه بحبها والإشادة بجمالها.
فأين شعراء مصر اليوم من أولئك البدو الذين صوروا لنا تلك المناظر الجافة من رمال وجبال وأطلال قد لا تثير إعجابا، ولا تهز قلب من يراها اليوم في صور شعرية كلها صدق وجمال
ما بال شعرائنا المصريين قد جهلوا الطبيعة وتغافلوا عن أثرها القوي في حياة الشعر وخلوده؟
. . . إن أدبنا المصري الحديث على ما يزخر به من دواوين شعرية لا تعد، وكتب نثرية لا تحصى، أعجز من أن يقف بجانب غيره من الآداب الغربية كالفرنسي أو الإنجليزي في وصف الطبيعة. فإذا عرضنا إلى الأدب المصري الحديث فأننا نجده خلواً من الأوصاف الطبيعية والصور الريفية
أليس من النقص المعيب في أدبنا العصري ألا نرى فيه أغاني شعبية تمتزج بالطبيعة المصرية وتصطبغ بالصبغة القومية؟ أليس من العيب أيضا أن نجد شاعراً إنجليزيا (كلي هنت) يصف النيل ويستمع إلى ضحكات كليوباطرة وسط خرير مائه العذب ويستوحي طبيعة مصر الشاعرة فتأتيه الصور متزاحمة فيندفع شعوره مع تيار النهر ويمتزج بطبيعته(76/28)
ثم يفيض على جانبيه شعراً قوياً جميلاً؟ بل أليس منظر الفيضان وجريان مائه في قلب الوادي مما يثير في كل مصري شعور العزة والمجد والفخار، ويهز قلب كل شاعر مصري فيترنم بأناشيد الحب والجمال. . ليس من شك في أن طبيعتنا المصرية طبيعة جميلة، شاعرة، وليس من شك في أن طبيعتنا المصرية طبيعة هادئة تبعث على التأمل والتفكير. . ولكن لم لم تلهم شعراءنا المصريين هذا الشعور القوي والإحساس الغزير الذي نحسه في شعراء الطبيعة الغربيين ولا سيما الإنجليز؟ إن الذي يقرأ ورد زورث وبيرون وشلي وكيتس، وغيرهم من الشعراء الابتداعيين الذين ظهروا في أوائل القرن التسع عشر يشعر بقوة هذا الشعر وأثر الطبيعة فيه، بل يشعر بأن روح الشاعر قد امتزجت بما حولها من الجبال والوديان والبحيرات والبحار فصارت جزءاً منها
. . ومن يقرأ (شلي) يقف على سر إحساسه بالجمال. فهو لم يرض بهذا العالم ليكون مأوى صالحاً لروحه، ولكنه لم يجعله عدواً لمثله الأعلى. فهو يتساءل لم لا يكون جميلاً كالبحار والنجوم والبحيرات والغابات والجبال. فطبيعة شلي كانت ميالة دائماً إلى ازدراء الحقيقة
وإن من يقرأ مناجاة شلي للقبرة يقف على تلك العاطفة القوية، عاطفة الحب التي تسلطت على جميع مشاعره، فهو يقول: (سلام عليك أيها الطائر السامي الذي لم تلامس الأرض، ولكنك تحلق في أطباق السماء العامرة بينابيع الفن الأصلية حيث تنسكب في قلبك. ترتفع عن الأرض وتسمو عالياً وعالياً كسحابة من نار، وترفرف بجناحيك في أعماق الجو الصافي. ثم تشدو وأنت تغني، وتغني وأنت تشدو. . . في الأنوار الذهبية للشمس الغارقة في بحار السحب تطير وتسبح. أيها الطائر إنك وإن كنت بعيداً عن أنظارنا، ولكني أسمع أنشودة سرورك، تملأ الأرض والجو بصوتك إذا ما خلع الليل رداء السحب وسقطت أشعة القمر الباردة فغمرت الكون. . . أيها الطائر إنك شاعر مختبئ في ضوء الفكر يترنم بأناشيد الخلود، حتى يتنبه له العالم فيحنو على الآمال ولا يبالي بالمخاوف. . . خبرني من أي الينابيع تستقي سعادتك؟ أمن الحقول، أم من الأمواج؟ أم من الجبال، أم من الأجواء، أم من السهول؟ إن سرورك الصافي العميق لن يفتر ولن يقل، وإن شبح الكدر لن يحوم حولك، إنك تحب، ولكنك لم تشرب قط ثمالة الحب المحزنة. . . . . .)
وقد تحس وأنت تقرأ شعر بيرون بذلك التجاوب القوي بين روح الشاعر وروح الطبيعة.(76/29)
تلحظ ذلك واضحاً في سياحته الثانية في أوربا عندما يترك الآثار والتاريخ والمجد والشهرة والشعوب وماضيها وينحاز إلى جانب الطبيعة، فيتحدث إليها في شعر عذب رقيق، فيقول: (إن الطبيعة المحبوبة لا تزال أبر أم بنا، ومع أنها دائمة التغير فهي باسمة دائماً، فدعني أرتمي على صدرها العاري الحنون، فإنها لم تفطم ابناً وإن لم يكن عزيزاً لديها. . . إنها أجمل ما تكون في مظاهرها الوحشية حيث لا شيء إلا السذاجة والفطرة والبعد عن كل زينة وصنعة. أنها تبتسم لي دائماً، ليل نهار، مع أني أرقبها حيث يخلو الطريق من الناس، وأبحث عنها في دأب وصبر، وأحبها في شغف وكلف عند الغضب. . . . أيتها البحيرة الساكنة السطح الراقدة الماء. لقد لجأت إليك في هذا العالم الصامت. إن فيك لدفئاً لفؤادي، وإن في مياهك الهادئة لراحة لنفسي وسلواناً. . طالما أحببت اصطخاب البحر وزئيره ولكن وسوسة مياهك الناعمة والهدير المردد بين ضفافك يرن في أذني حلو الأنغام كأنه صوت أختي أتاني خلال مياهك. . . إن أقوى اللذات لا تبعث بروحي هكذا. . .
. . . هاهو الليل. . أيها الليل الجليل. إنك لم ترسل للنوم. دعني أقاسمك أنسك ووحشتك، وأتلاش في العاصفة وأفن فيك. . كيف تضيء البحيرة، وكيف يلمع البحر ويأتي المطر راقصاً مهتزاً إلى الأرض. .)
. . . قد يقول قائل إن الطبيعة المصرية خلو من مناظر سويسرا، مفتقرة إلى الجبال الشامخة والوديان العميقة والبحيرات الجميلة. فهي طبيعة هادئة لينة أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. وقد يشتط في القول فيعلل ضعف أثر الطبيعة في نفوس شعرائنا المصريين بعدم وجود الهيارات الثلجية والجو القارس الذي يبعث النشاط والحركة. قد يكون لهذا الاعتراض بعض وجاهته. وقد تكون الطبيعة المصرية مفتقرة إلى هذا العنصر من عناصر القوة، وقد تكون الطبيعة المصرية متشابهة المناظر موحدة الصور. فقد لا يشعر المسافر من الإسكندرية إلى أسوان باختلاف كبير في طبيعة وادي النيل، فقد يجد سهولاً مترامية تكسوها النباتات الخضراء في أراضي الدلتا. وقد يجد وادياً ضعيفاً تكتنفه على الجانبين جبال تتفاوت في البعد والقرب في إقليم الصعيد
قد تكون وحدة الصور هي التي عملت على أضعاف اثر الطبيعة في نفوس شعرائنا فجعلتهم ينصرفون عنها، ويستوحون طبيعة أوربا ذات الصور المتعددة والأشكال المتباينة.(76/30)
قد يكون لوحدة الطبيعة المصرية، وقرب تشابهها بعض الأثر. ولكن هذا الأثر لا يجعل شعراءنا وكتابنا ينسون أو يتجاهلون أثر الإقليم المصري كله، أثر ذلك الجو الصافي والسماء الزرقاء والحقول المنبسطة
إني لا أنكر أن بيننا كتابا وشعراء طبيعيين قد أحسوا بما جهله غيرهم، وانهم قد شعروا بهذا النقص المعيب في أدبنا فأرادوا أن يسدوه
. . . ولكني أتساءل في صراحة غير جارحة، هل كان شعورهم بطبيعة بلادهم آتياً من طبيعة نفوسهم. هل أووا إلى طبيعة بلادهم يستلهمونها هذا الفن الخالد، فن الأدب السامي الرفيع بدافع نفسي خالص، أم أن أثر الثقافة الغربية والتأثر بالشعراء الابتداعيين في فرنسا وإنجلترا كان هو الموجه لهم إلى ذلك. . .
. . . إني أخاف أن يكون هذا صحيحاً. وأخاف أن تكون طبيعتنا المصرية الجميلة الساحرة، طبيعتنا المصرية المتأملة المفكرة قد عجزت عن أن تلهم شعراء مصر الشعور بالجمال والغبطة والهدوء. أخاف أن تكون طبيعتنا المصرية الشاعرة عاجزة عن أن تستأثر بأبنائها الكتاب والشعراء فتجذبهم نحوها وتفني فيهم ويفنون فيها كما تفعل الطبيعة الإنجليزية مثلاً. . .
أرجو أن تكون طبيعتنا المصرية قوية كما هي جميلة، ساحرة كما هي هادئة. وأرجو أن يكون هذا النقص راجعاً إلى شعرائنا الذين لا يكادون يشبون حتى يتركوا أمهم الرءوم وينسون موطنهم الأول ويدلجون في ظلم الحياة فتلهيهم عن ذلك المستودع الغني بفنون الحسن والجمال
نظمي خليل كلوريوس في الأدب الإنجليزي(76/31)
آخر طلق من بندقيتي
للامارتين
خرجت ذات يوم للصيد، فلمحت على بعد ظبياً تلوح عليه دلائل الطهارة والغبطة وهو يقفز مرحاً فوق الخضرة التي بللها الندى
ويظهر أن الغريزة التي تخلقها العادة تتغلب دائماً على الطبيعة النفور من القتل، ولذلك لم أشعر إلا وقد فتنت رصاصتي إحدى كتفيه. وعندئذ أخذت أقترب منه وقد هرب دمي واضطربت نفسي، لآن ذلك الحيوان الوديع كان ورأسه ملقى فوق العشب ينظر إلى بعينين تسبح في مآقيهما الدموع
نعم إنني لن أنسى تلك النظرة التي جمعت بين دهشته وألمه، لأنها كشفت لي عن مبلغ شعوره الناطق وإن كان أبكم. شعرت كأنها توجه إلي مرير العتب على قسوتي التي لم تقم على سبب، وكأنها تقول لي:
(من أنت؟ إنني ما أسأت إليك. بل ربما كنت من الصابرين على حبك. فلم طعنتني تلك الطعنة القاتلة؟ ولم تطمع في حصتي من السماء والهواء والنور وتحول بيني وبين الحياة والشباب؟ ماذا يكون حال أمي وأخوتي وصغاري وصحبي وهم يرقبون عودتي إذا لم يروا بعد ذلك إلا بعض نتف مبعثرة من صوفي على أثر اعتدائك، وهذه النقط من دمي الذي لطخت به وجه هذا العشب النضير؟ أفاتك أن في السماء منتقماً لي وقاضياً لك؟ ومع ذلك فقد صفحت عنك، وهاهماتان عيناي لم يعد فيهما أثر للحقد، لأنني فطرت على التسامح، حتى مع قاتلي!)
محمود خيرت(76/32)
أسطورة حديثة
قلب الشاعر
للأديب حسين شوقي
لما فرغ الآلهة من خلق العالم السفلي، دعوا إلى حضرتهم الشاعر الذي كان قد سئم الإقامة بجوارهم وقالوا له: (إن الحياة هنا كما نرى عابسة لا تسرك أيها الشاعر، إنك في حاجة إلى التسلية. . إذهب إلى العالم السفلي الذي فرغنا من خلقه عساك تسر بما تشاهد هنالك من مناظر وملاه، ولسوف تدهشك أخلاق الذين أسكناهم إياه. . إنما يجب أن نحذرك تعاطي مخدر يتناوله بنو البشر يدعى الحب، لأن هذا المخدر قتال وإن كان لذيذاً، وبخاصة لقلب شاعر رقيق. .)
انصرف الشاعر من حضرة الآلهة بعد أن سجد لهم شكراً على هذا العطف، ثم تناول مظلة ففتحها ثم هوى بها في الفضاء آخذاً طريقة إلى الأرض. . ما كاد شاعرنا يهبط حتى عرف أن البشر مقسمون إلى ثلاث طبقات: العظماء، والأوساط، والفقراء. . قصد الشاعر طبقة العظماء على ظن أن هذه الطبقة تجمع ولا شك خلاصة الناس وأرقاهم. . وهنالك وجد الشاعر قصوراً فخمة حليت جدرانها بالذهب وكسيت بالحرير، ولكن اشتدت دهشته حينما وجد حجرات هذه القصور قد انقلبت إلى معامل للدسائس يديرها الحقد، والطمع والغرور. . كما أنه شاهد في هذه القصور أناساً تبهر ثيابهم الأنظار بوشيها الفاخر العجيب، ولكن قلوبهم ويا للأسف! صيغت من النحاس. . أنصرف الشاعر عن هؤلاء العظماء وهو خانق لما شاهد فيهم من أخلاق لا تتفق ومثله العليا. . ثم قصد الطبقة الوسطى. . فوجد قوماً يجدون ويكدون في جمع المال، فإذا حصلوا عليه أخذوا يحاكون طبقة العظماء محاكاة القرد للإنسان. . عاف الشاعر هذا المنظر أيضا فانصرف إلى عالم الفقراء عساه يجد في النهاية مثله العليا لدى هذه الطبقة القانعة المتواضعة. . فوجد الشاعر قلوبا تحاكي الماس صفاء، ولكن وجد بجانبها ويا للأسف! بؤساً وانحطاطاً وأموراً لا تتفق وروح الشاعر الأرستقراطية. .
ضاق الشاعر بالبشر ذرعاً فقصد الخلاء، فرأى فيه أودية ناضرة، وأنهاراً زاخرة، وزهوراً بهيجة الألوان، وبلابل تكاد تنفجر حناجرها الصغيرة من كثرة الألحان. . حقا، ً كلها مناظر(76/33)
جميلة، ولكن أين هذه الطبيعة المتواضعة من حدائق الآلهة الغناء حيث كان مباحاً للشاعر النزهة والتروض في أي وقت شاء؟. . يئس الشاعر من العالم السفلي وكاد يعود إلى السماء، إلا أنه فكر في اللحظة الأخيرة في تناول مخدر الحب الذي حذرته منه الآلهة، لأن النفس تواقة بطبيعتها إلى استيعاب المحظور وكشف المستور
كان الشاعر كلما قصد صيدلية يسألها هذا المخدر شبعه أصحابها إما بالسخرية، وذلك إذا ظنوه مجنوناً، وإما بالغضب، وذلك إذا ظنوه عابثاً. . . ولما يئس من الحصول عليه، رجع إلى الخلاء فجلس هناك فوق ربوة في مكان تظلله شجرة صفصاف متهدلة الأغصان، وهو مطرق الرأس، فأطل عليه حينئذ ررزور فضولي من فوق غصن وقال: فيم تفكر أيها الشاعر الصديق؟ فقص عليه الشاعر قصته لعل هذا العصفور يهديه إلى ما يريد، فهو دائم الحركة والتنقل في حدائق البشر وحقولهم، فلا شك أنه يعرف عنهم أشياء كثيرة. . .
أغرب العصفور في الضحك من قول الشاعر حتى كاد يسقط من فوق غصنه وقال: تبحث عن الحب؟ هاكه! ثم أشار إلى مكان آخر من الربوة ظلله كذلك الشجر الكثيف، فنظر الشاعر حيث أشار فوجد فتاة آية في الحسن، تجلس وحدها تغزل الصوف. . أخذ الشاعر لجمالها الرائع وأدرك معنى الحب من نفسه حينما حل هذا الإكسير العجيب في قلبه. .
ثم أخذشاعرنا يتدفق في إنشاد الشعر فعجب من السهولة التي صار ينشده بها، ومن أن هذا الشعر أصبح أرق وأعذب من قبل. . ودهش من أمر هؤلاء الآلهة الذين يحرمون مثل هذا المخدر العجيب. .
ولما كانت الفتاة تختلف كل يوم إلى هذا المكان تقضي فيه ساعة أو ساعتين في غزل الصوف كان الشاعر يأتي لينظر إليها متأملا ملامح وجهها الفتانة في خشوع وإجلال، فإذا انصرفت أخذ ينشد هذه المحاسن في صوت جميل أيضاً، لأن أوتار صوته صارت ذات رنين كرنين الذهب من جراء الحب، حتى أن بلابل الوادي كانت تسكت إذا مر بها الشاعر لتصغي إلى قلب الشاعر وهو يبوح بأول حب له. .
ونقل الآلهة صوت الشاعر بواسطة الراديو وأخذوا يستمعون إليه وأخذوا يستمعون إليه في سرور عظيم. .
ثم انقطعت الفتاة عن المجيء إلى الربوة، فانقطع الشاعر عن الإنشاد. .(76/34)
قلق الآلهة حينما انقطع إنشاد الشاعر، فأرسلوا رسولاً إلى الأرض يأتيهم بالخبر، وقد خيل إليهم لأول وهلة أن الانقطاع نشأ عن عطب في محطة الإذاعة. . فعاد الرسول بعد قليل من الزمن يقول: إن المحطة لم يصبها عطب، وإنما العطب وا أسفاه أصاب قلب الشاعر قتمزق قطعاً تحت شجرة الصفصاف!
كرمة ابن هاني
حسين شوقي(76/35)
بين فن التاريخ وفن الحرب
12 - خالد بن الوليد
في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
الصفحة الثالثة
جرى القتال في هذه الصفحة حول الحديقة، والحديقة تشمل بساتين القرية المسورة بالجدران. وهذه البساتين كثيرة في قرى اليمامة. والكثير من قرى العارض والوشم والقصيم والسدير له بساتين. فبساتين القرية على ما يتراءى لنا واقعة في بطن الوادي، ولا يعقل أن تكون على صدفة لصعوبة استقاء الماء لأرواءها، لأن الآبار على ما نعلم في بطن الوادي تتصرف إليها مياه الأمطار
ويذكر المستر فلبي عندما يبحث في الجبيلة إنها واقعة على الضفة اليمنى من الوادي، وأن قبور الصحابة الذين قتلوا في عقرباء موجودة في الضفة المقابلة لقرية الجبيلة وعلى مسافة ربع ميل منها. وهذا مما يدل على أن الحديقة واقعة في الوادي تحيط بها الجدران المبنية بالحجر والطين وعلوها، أكثر من قامة كما هو شأن الجدران التي تحيط بالبساتين عندنا
ولبي الحنفيون نداء المحكم فهجروا ميدان القتال تاركين قتلاهم فيه لدخول الحديقة واعتصموا بها مؤملين المقاومة فيها
وطارد المسلمون بني حنيفة إلى الحديقة فأحاطوا بها وتوقفوا مدة من الزمن مترددين. وكان التجاء الحنفيين إلى الحديقة وبالاً عليهم
ويظهر من أخبار الرواة أن مسيلمة قتل في أثناء الهزيمة إلى الحديقة برمية حربة. وقد ادعى عدة أناس قتله. وكل فرقة من فرق المسلمين أرادت الاشتراك في قتله. وكان للحديقة باب أغلقه المنهزمون بعد أن دخلوها وقرروا المقاومة فيها إلى اللحظة الأخيرة(76/36)
وبعد أن تريث المسلمون ردحاً من الزمن، مترددين فيما يفعلون، صرخ فيهم البراء بن مالك قائلاً: (احملوني إلى الجدار حتى تطرحوني عليه). فساعدوه على التسلق ومع أن رواية ابن إسحاق تزعم أن البراء وحده تسلق الجدار فاقتحم الحديقة وقاتل الحنفيين على الباب حتى فتحه للمسلمين، إلا أننا نجزم أن رجالاً آخرين تسلقوا معه الجدار وكان بعضهم على الباب
وبعد أن دخل المسلمون الحديقة أوقعوا بالحنفيين إيقاعا ذريعاً، وكانت مذبحة لم يشهد المسلمون مثلها وقد سموها حديقة الموت، ومع أن روايات الطبري جميعاً تروي أن المسلمين قتلوا جميع الحنفيين في الحديقة، إلا أن رواية ينقلها ابن حبيش تزعم أن بعض الحنفيين فر من الحديقة بعد أن دخلها المسلمون
وفي رواية يذكرها ابن حبيش والبلاذري أن نساء المسلمين أيضا اشتركن في المعركة. ولقد كسب المسلمون المعركة بعد أن حاربوا من الصباح إلى العصر، ولم يعلموا بهول المصيبة إلا بعد أن توقفت رحى القتال وراحوا يكشفون عن القتلى في الميدان
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري الذي اشترك في القتال أن خالداً أمر السقاة بعد صلاة العصر أن يسقوا الجرحى، وكان أبو عقيل بين الجرحى فيه خمسة عشر جرحاً. أما بشر بن عبد الله فكانت أمعاؤه خارجه من بطنه. وكل هذا يدل على شدة القتال
الخسائر
يبالغ المؤخرون في تقدير خسائر الحنفيين. فسيف بن عمر مثلاً يزعم أن قتلى بني حنيفة بلغوا عشرة آلاف في المعركة وفي القتال في حديقة الموت. وفي رواية أخرى يزعم أن عدد قتلى بني حنيفة بلغ واحداً وعشرين الفاً، سبعة آلاف منهم في المعركة وسبعة آلاف في حديقة الموت وسبعة آلاف في المطاردة
ولكننا نستبعد هذا العدد، إذ سبق أن ذكرنا أن قوة الحنفيين في معركة عقرباء بلغت عشرة آلاف مقاتل. والثابت أن بني حنيفة كابدوا خسائر فادحة سواء في ميدان المعركة لثباتهم في محلهم، أم في الحديقة لأنهم بالتجائهم إليها مكنوا المسلمين من أن يقطعوا عليهم خط الانسحاب فقضوا عليهم القضاء المبرم. ولعل عدد قتلاهم بلغ اكثر من ثلاثة آلاف. ومما يدل على كثرة القتلى في بني حنيفة اندثار اسمهم بعد هذه المعركة وعدم اشتراكهم في(76/37)
الفتوح. ويقول البرنس كاتياني في كتابه الآنف الذكر (إن محدثي المسلمين يبالغون في ذكر خسائر بني حنيفة. فانهم يذكرون أن كل ذكر بلغ سن الرشد قتل في المعركة. ومع ذلك فان أحد الأدلة التي تدل على أن الحنفيين كابدوا خسائر لا تتناسب مع عددهم هو أن هذه القبيلة التي كانت قبل الإسلام كثيرة النفوس مرفهة العيش إن لم يكن لديها شيء فان كثرة عددها وحده يجب أن يجعلها ذات حصة كبيرة في المعارك التي نشبت بعد ذلك. ولكننا نرى أن ذكر هذه القبيلة يكاد يدرس تماماً من تاريخ الإسلام، وأن اسم الحنفيين لا يذكر على الإطلاق حتى على انفراد)
أما خسائر المسلمين فكانت كثيرة بالنسبة إلى عددهم أو مقدار الخسائر التي كابدوها في المعارك السابقة. فالروايات في عدد قتلى المسلمين مختلفة، فهي متفاوتة بين. 500 و1700. ويروي عيسى بن سهل عن جده رافع أن قتلى المسلمين بلغ عددها نصف قتلى الحنفيين، وأن الأنصار وحدهم (وكان عددهم خمسمائة مقاتل) خسروا سبعين قتيلاً ومائتي جريح. أما أبو سعيد الخدري فيزعم أن عدد قتلى الأنصار بلغ سبعين، ويقول زيد بن طلحة أن قتلى المهاجرين بلغوا السبعين وقتلى الأنصار بلغوا السبعين أيضا وأن مجموع قتلى باقي المسلمين بلغ الخمسمائة.
أما سالم بن عبد الله بن عمر فيذكر أن مجموع قتلى المسلمين بلغ الستمائة. وأما البلاذري فيقول: (وقد اختلفوا في عدة من استشهد في اليمامة فأقل ما ذكروه من مبلغها سبعمائة وأكثر ذلك ألف وسبعمائة. وقال بعضهم إن عدتهم ألف ومائتان، والذي يلوح لنا أن هذا العدد الأخير هو الأصح. وهو يؤيد الرواية التي يرويها الطبري نقلاً عن سهل إذ يقول: (قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلاثمئة وستون، ومن المهاجرين من أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء ستمائة أو يزيدون.)
وذكر المؤرخون أسماء الشهداء من المهاجرين والأنصار ونظموا قائمات بذلك. ويتضح من مطالعتها أن بين القتلى زيد بن الخطاب قائد القلب، وأبا حذيفة بن عتبة قائد الميمنة وشجاع بن وهب قائد الميسرة وقيس بن ثابت قائد الأنصار، ويدل كل ذلك على شدة القتال في المعركة(76/38)
يقول ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت ... عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت ... حجارته فيها من القوم بالدم
بعد المعركة:
بدأت المعركة صباحاً على ما ذكرناه فيما تقدم وانتهت عصراً ولم يبق وقت للمطاردة. وقد نهك التعب قوى المسلمين وأضاعوا خيرة رجالهم، واستشهد اكثر حفظة القرآن. لذلك نجزم أن المسلمين قضوا ليلتهم في جوار الحديقة للترويح عن أنفسهم من عناء الحرب، تأهباً للمطاردة في اليوم التالي. ومع أن نتيجة المعركة كانت فاصلة لم تزل أرياف اليمامة في الخلف (وفيها المؤن والذخائر والقسم الذي لم يشترك في القتال من بني حنيفة)، والقرى في الأرياف جميعاً منيعة وفيها الحصون والأبراج
ويذكر الطبري نقلاً عن سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن إبي بكر طلبا من خالد أن ينزل بالناس على الحصون. وكانا يقصدان بذلك ألا يترك مجالا للبقية الباقية من بني حنيفة لتستعد للمقاومة. أما خالد فلم يشأ محاصرة الحصون، بل رجح أن يوفد سريا الخيالة إلى الأطراف لتلتقط من ليس في الحصون، وكان يعلم أن منازلة الحصون تكبد المسلمين ولا سيما انهم اطلعوا على كبر المصيبة بعد أن تفقدوا القتلى. وكان من رأيه أن يلقي الرعب في قلوب بني حنيفة ويدهشهم بسرايا الخيالة التي تتجول في حيهم وتقبض على كل من تلقته. وشأنه في ذلك شأن القواد الذين لا يريدون أن يضيعوا الوقت في الحصار، ويتركوا فلول أعدائهم يفلتون من يدهم.
ولقد أصاب خالد في رأيه، لأن سريا الخيالة أصابت فحوت ما وجدت من مال ورجال ونساء وصبيان، فضمها إلى الغنائم في المعسكر
الصلح
اثبت خالد في عقده الصلح مع أهل اليمامة أنه سياسي حازم بقدر ما كان قائداً محنكاً
انتهت المعركة وقد خسر المسلمون خيرة رجالهم من الصحابة
أما القبائل فقد قتل منها رجال كثير. فالعراك من الصباح إلى العصر بتلك الشدة والمقاومة(76/39)
التي أبدأها الحنفيون، مما زاد في حنق المسلمين عليهم. وكانت القبائل تريد غنماً يوازي التضحية التي تحملتها. أما الصحابة فأقل ما أرادوه العمل بوصية الخليفة وهي (ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان) والداعية الأذان - فإذا آذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن آذنوا سألوهم ما عليهم، فان أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم)
فبنوا حنيفة لم يجيبوا الداعية، بل قاتلوا المسلمين وقتلوا نخبة الصحابة وقضوا على حفظة القرآن. فكان عقابهم القتل عملاً بوصية الخليفة، فالروايات جميعاً تدل على أن الأنصار والمهاجرين كانوا يلحون على خالد بمعاملة بني حنيفة بصرامة
أما خالد بن الوليد فنظر في الصعوبات التي لقيها في التغلب على الحنفيين وتأمل عاقبة الشدة التي يظهرها نحوهم إن هم أبوا وقاوموا في حصونهم فامتنعوا بها. وقد دلت المعركة على انهم متفانون في التضحية. ولا بد من أنه علم أن حزباً من الحنفيين وعلى رأسه سليمة بن عمير يريد المقاومة حتى الموت. لذلك لم يتردد قط لما عرض مجاعة بن مرارة توسطه لعقد الصلح. وكان هذا أسيراً عند المسلمين وقد احتفظ به خالد ليستفيد منه. وكانت الشروط التي فرضها على مجاعة ثقيلة وهي تتلخص في أن يعطي الحنفيون كل ذهبهم وفضتهم وسلاحهم وخيلهم، وان يسبي جميع الأسرى
حمل مجاعة هذه الشروط وهو يضمر الخير لبني قومه ويريد أن يخفف حملهم بعد أن أصابهم ما أصابهم، لذلك أقام النساء والشيوخ على الحصون ليحمل المسلمين على الاعتقاد انهم يريدون الدفاع عن حصونهم. فرجع مجاعة وأخبر أن القوم لا يقبلون بهذه الشروط الثقيلة، وانهم عازمون على الدفاع حتى الموت. وبعد ذهاب وجيئة استطاع مجاعة أن يستميل الحزب المخالف إلى جانبه من جهة ويخفف من شدة الشروط من جهة أخرى
يتبع
طه الهاشمي(76/40)
إلى مؤتمر الفردوسي
2 - بين القاهرة وطوس
من قصر شيرين إلى همذان
للدكتور عبد الوهاب عزام
سرنا من قصر شيرين تلقاء كرمانشاهان، فمررنا بعد خمسين دقيقة بقرية ذهاب، ثم أصعدنا في جبل شامخ فسيح، فلبثنا بين قممه ووهاده نصف ساعة. وذلكم (كوة باطاق) أي الجبل ذو الطاق. سمي بطاق قديم قائم في منتصف هذه الطريق الجبلية (ثم انبسط بنا السهل نصف ساعة إلى قرية كرند، وهي قرية خضراء مشجرة، وبعد أربعين دقيقة وقفنا في شاه آباد، وهي قرية ذات بساتين فيها ضياع لجلالة الشاه، وباسمه سميت) وله بها دار صغيرة نزلنا بها، فاسترحنا قليلاً وشربنا الشاي، وأكلنا فاكهة طيبة، فيها عنب صغير جيد، وكان ذلك أول ما طعمنا من فاكهة إيران
ثم استمر بنا المسير فاجتزنا جبالاً أخرى إلى كرمانشاهان بعد ساعة وثلث من شاه آباد
وكرمانشاهان (قريسين) مدينة عامرة فيها شوارع جديدة واسعة، وأسواق كبيرة. وموقعها على درجة 34 من العرض، و47 من الطول، في بقعة طيبة الهواء يسقيها نهر قره صو. وهي على الجادة الكبرى من بغداد إلى همذان، تبعد عن كل منهما خمسا وستين ومائة كيلو. أنشأها الملوك الساسانيون، وكانوا يقيمون بها أحيانا. ونزلها في العصر الإسلامي الخليفة هارون الرشيد، وعضد الدولة البويهي، ولم تبلغ مكانة عظيمة إلا في القرن العاشر حين اتخذها الملوك الصفويون قاعدة لمحاربة الدولة العثمانية
والمدينة في وسط والية كرمانشاه. وهي الأرض التي قامت عليها الدولة الميدية القديمة، وفيها من المدن والقرى قصر شيرين وكرند وأسد آبار وكنكاور أو كنكور (وكانت تسمى في العصور الإسلامية الأولى قصر اللصوص) وبيستون ونهاوند وخرائب الدينور. وبها آثار عن الأكمينيين والساسانيين. وهي من أغنى ولايات إيران
نزلنا من المدينة في دار أحد كبرائها - معتمد الدولة. وهي دار جميلة ذات حديقة كبيرة. وفيها بناء على يسار الداخل استرحنا به وغسلنا عن وجوهنا غبار الطريق. ثم سرنا في(76/41)
الحديقة في مستوى به حوض كبير فصعدنا درجات كثيرة إلى مستوى آخر فيه حوض يسيل الماء منه إلى المستوى الأسفل مترقرقاً على درجات السلم فيملأ العين رواء. وعلى المستوى العالي بناء آخر صعدنا إليه درجات، فاجتمعنا للغداء وخطب معتمد الدولة مرحباً بنا، وأجابه أستاذنا سير دنسن رس. ثم أخذت صورتنا على الدرجات التي بين المستويين (وقد نشرت هذه الصورة في جريدة البلاغ). وانتقلنا من بعد إلى دار أخرى في أقصى المدينة لأحد الأعيان - أمير الكل، وهي دار واسعة بها حديقة جميلة، فيها أحواض ونافورات كثيرة، فتقسمنا حجراتها للمبيت. وهاتان الداران تشهدان بما لأهل إيران من كلف بالحدائق والمياه، وبراعة في تنسيقها
وخرجنا في المساء لنرى الآثار (طاق بستان) على أربعة كيلات من المدينة في لحف جبل شاهق مشرف على الجادة. وهو طاق من آثار الساسانيين يقابل داخله تمثال فارسي منحوت في الصخر، وهو فيما يظن تمثال كسرى برويز على فرسه شبديز، وبجانبه تمثال شيرين زوجه، وعلى جانبي الطاق نقش كثير يمثل الصيد في اليبس والماء وغير ذلك. وفي أعلى الجانب الأيسر صورة فتحعلي شاه وجماعة من رجاله منحوتة في الحجر. أراد ذلك الملك أن يزاحم كسرى برويز في داره والجبل فسيح، وأرض الله واسعة. وشبديز ومعناه (هادي الليل) فرس لكسرى برويز مشهور في قصص الفرس وشعرهم، وفي الشعر العربي أيضاً. ومما يقص عنه ما رواه ياقوت في المعجم: (وكان سبب صورته في هذه القرية انه كان أذكى الدواب، وأعظمها خلقة، وأظهرها خلقا، وأصبرها على طول الركض. وكان ملك الهند أهداه إلى الملك ابرويز. فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه؛ ولا ينحز ولا يزبد، وكانت استدارة حافره ستة أشبار. فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه، وعرف ابرويز ذلك، وقال لئن اخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلما مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدا من أخباره بموته فيقتله، فجاء إلى البلهبذ مغنيه، ولم يكن فيما تقدم من الزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود، والغناء - قالوا كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز، وسريته شيرين، ومغنيته بلهبذ - وقال: اعلم أن شبديز قد نفق ومات، وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبر بموته. فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا؛ فوعدها الحيلة. فلما حضر بين يدي الملك غناه(76/42)
غناء وورى عن القصة، إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك مات شبديز، فقال: الملك يقوله، فقال له: (زه) ما أحسن ما تخلصت وخلصت غيرك! وجزع عليه جزعا عظيما، فأمر تنطوس بن سنمآر بتصويره، فصوره على احسن وأتم تمثال، حتى لا يكاد يفرق بينهما إلا بإدارة الروح في جسدهما. وجاء الملك فرآه فاستعبر باكياً عند تأمله إياه الخ) - ومما رواه ياقوت عن الهمذاني، أن بعض فقهاء المعتزلة قال: لو أن رجلاً خرج من فرعانة القصوى، وأخر من سوس الأبعد قاصدين النظر إلى صورة شبديز ما عنفا على ذلك -
وأما أنا فلم أر التمثال من الإتقان والأحكام على النحو الذي وصفوا. ولا ريب أن الزمان قد ذهب بروائه، وقد كسر رأس الفرس وبقي سائره
وقد نظم خالد الفياض قصة شبديز التي تقدمت. ومما قيل في شبديز من الشعر قول أبي عمران الكردي:
وهم نقروا شبديز في الصخر عبرة ... وراكبه يرويز كالبدر طالع
عليه بهاء الملك والوفد عكّف ... يخال به فجر من الأفق ساطع
تلاحظه شيرين واللحظ فاتن ... وتعطو بكف حسَّنتها الأشاجع
يدوم على كرّ الجديدين شخصه ... ويُلفى قويم الجسم واللون ناصع
وعلى الجبل إلى اليسار الطاق صور أخرى ساسانية، منها صورة تمثل أردشير بن بابك مقيم الدولة الساسانية، وقد داس عدوه أردوان، وصورة أخرى تمثل الملك سابور، وأمامه أسيرة الإمبراطور فلريان جاثياً
برحنا كرمانشاهان صباح الثلاثاء، فنزلنا عند طاق بستان مرة أخرى لنعيد النظر إلى برويز وشبديز وما هنالك من الصور، ثم استأنفنا المسير والساعة ثمان ونصف، فوقفنا بعد نصف ساعة على آثار الملك دارا في جبل بيستون. وهو جبل شاهق يكاد يعيا الطرف دون قمته. وقد سويت فيه على ارتفاع عظيم صفحة صور فيها الملك دارا وأمامه وفود الأمم المغلوبة. وتحت الصورة نقوش كثيرة بالفارسية القديمة، والآشورية. وكانت هذه النقوش مفتاح اللغة الفارسية القديمة كما كان حجر رشيد مفتاح اللغة المصرية. وعلى مقربة من هذه الآثار موضع في الجبل منحوت يظن انه أريد تسويته للنقش عليه ثم عدل(76/43)
عنه. ولكن الروايات الفارسية تقص في ذلك قصة عجيبة عن فرهاد عاشق شيرين الذي ذكرته آنفاً. وسأعود إلى هذه القصة حين الكلام عن مرورنا بجبل بيتسون ليلاً ونحن قافلون من طهران
يتبع
عبد الوهاب عزام(76/44)
4 - محاورات أفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قد يعجب بعظكم لماذا أطوف بالناس آحادا، فأسدى إليهم النصح واشتغل بأمورهم، ولا أجرؤ أن أتقدم بالنصح إلى الدولة بصفة عامة؟ واليكم سبب هذا: كثيراً ما سمعتموني أتحدث عن راعية أو وحي يأتيني، وهي معبودتي التي يهزأ بها مليتس في دعواه، ولقد لازمني ذلك الوحي منذ طفولتي، وهو عبارة عن صوت يطوف بي فينهاني عن أداء ما أكون قد اعتزمت أداءه، ولكنه لا يأمرني بعمل ايجابي، فذلك ما حال دون اشتغالي بالسياسة، وأخال ذلك آمن الطرق، فلست أشك أيها الأثينيون - في أني لو كنت ساهمت في السياسة للاقيت منيتي منذ أمد بعيد. ولما قدمت خيراً لكم أو لنفسي، وأرجو ألا يؤلمكم الحق إن أنبأتكم به، فالحق أنه يستحيل على من يرافقكم إلى الحرب أو أي اجتماع آخر ويقاوم فساد الأخلاق وأخطاء الدولة أن ينجو بحياته. فان من يحارب مخلصاً في سبيل الحق لن يمتد به الأجل إلى حين، إلا أن كان مشتغلاً بالأعمال الخاصة دون العامة، وأن أردتم لذلك برهاناً لما سقت إليكم كلاماً فحسب، بل لذكرت لكم حوادث بعينها، وهي أقوى حجة من الألفاظ، فاسمحوا لي أن أقص عليكم طرفاً من حياتي الخاصة، ينهض دليلاً على أنني لم أخضع قط لظلم خشية الموت، حتى لو وثقت بأن العصيان سيعقب من فوره موتاً محققاً. سأقص عليكم قصة قد تشوقكم أو لا تشوقكم، ولكنها مع ذلك حق. إنني لم أشغل منصباً إلا مرة عضواً في مجالس الدولة، وكانت رياسة المجلس عند محاكمة القواد الذين لم ينقذوا جثث القتلى بعد موقعة أرجنيس، لقبيلة أنتيوخس - وهي قبيلتي - فرأيتم أن تحاكموهم جميعاً، وكان ذلك منافياً للقانون كما أدركتم ذلك جميعاً فيما بعد، ولكني كنت إذ ذاك وحدي بين أهل بريتان أعارض الافتئات على القانون، وأعلنت رأيي مخالفاً لكم. ولما تهددني الخطباء بالحبس والطرد، وصحتم جميعاً في وجهي، آثرت أن أتعرض للخطر مدافعاً عن القانون والعدل على أن أساهم في الظلم خشية السجن أو الموت؛ حدث ذلك في عهد الديمقراطية، فلما تولى زمام الأمر الطغاة الثلاثون، أرسلوا إلي وإلى أربعة معي، وكنا تحت السقيفة، فأمرونا أن نسوق إليهم ليون السلامي من بلده سلامس لينزلوا به الموت -(76/45)
وذلك مثل لأوامرهم التي اعتادوا أن يلقوها لكي يشركوا معهم في جرائمهم اكبر عدد ممكن من الناس، فبرهنت لهم قولاً وعملاً، أني لا أعبأ بالموت، وأنه لا يزن عندي قشة، إن صح هذا التعبير، وأن كل ما أخشاه هو أن أسلك سلوكاً معوجاً شائناً، فلم أرهب طغيان تلك العصبة الظالمة، ولم تضطرني إلى ركوب الخطأ. فلما أخرجنا من السقيفة حيث كنا، ذهب الأربعة الآخرون إلى سلامس في طلب ليون، أما أنا فقد أخذت سمتي نحو الدار في هدوء صامت، وكنت أتوقع أن أفقد حياتي لقاء ذلك العصيان، لولا أن دالت دولة الثلاثين بعد ذلك بقليل، وما أكثر من يشهدون بصدق ما أقول
وهل تظنون أن قد كان يمتد بي الأجل إلى هذه السن، لو قد ضربت في الحياة العامة بنصيب، على فرض أني - كما ينبغي للرجل الصالح - لزمت جانب الحق، وأحللت العدالة من نفسي ما هي جديرة به من مكان رفيع؟ كلا ثم كلا! فلو قد عولت، أو عول كائن من كان، على ذلك، لما أتيح لي - بني أثينا! - البقاء، ولكني لم أجد فيما فعلت - عاما كان أم خاصاً - عما رسمت لنفسي من جادة، فلم أنغمس فيما انغمس فيه هؤلاء الذين أشيع بين الناس أنهم تلاميذي، أو من عداهم، فلم يكن لي في حقيقة الأمر تلاميذ دائمون، إذ أبحت الحضور لكل من أراد حضوراً وأسماعاً؛ إني كنت مؤدياً رسالتي، لا فرق عندي بين شيخ وشاب، لم أتخذ شرطاً، ولم ألتمس أجراً، فكان الحوار مشاعاً لمن أنقد ومن لم ينقد، فلمن شاء أن يوجه إليّ سؤالاً، أو يجيب لي عن سؤال، أو يصغي إلى ما أقول من حديث، أما أن ينقلب أحد أولئك بعد ذلك خيراً أو شريراً، فليس عدلاً أن أحمل تهمته، لأنني لم أعلمه شيئاً. وإن زعم امرؤ أني ربما علمته أو أسمعته شيئاً في خلوة خاصة خفيت على الناس جميعاً، فاعلموا أنه إنما يزعم لكم باطلاً
فإذا سئلت: لماذا يصادف الناس من حوارك المتصل لذة ومتاعاً؟ أجبت أيها الأثينيون بالحقيقة التي أنبأتكم بها، وهي انهم يستمتعون بشهادة أدعياء الحكمة في امتحانهم، فلهم في ذلك لذة، وذاك واجب أمرني به الله، كما علمت يقيناً من الرسل والرؤى، وكل طريقة أخرى يمكن لإرادة القوة الإلهية أن تفصح بها عن نفسها لكائن من كان. أيها الأثينيون! ذلك حق، فان كان افتراء فما أهون أن تكذبوه، ولو كنت أفسد الشبان حقاً، وكنت قد أفسدت بعضهم فعلاً، لوجب أن يتصدى منهم للانتقام أولئك الذين تقدمت بهم السن، فأدركوا ما(76/46)
نفثت لهم في نصحي من سوء أيام الشباب، فان لم يفعلوا ذلك بأنفسهم، وجب أن ينهض ذوو قرباهم أو آباؤهم أو إخواتهم، أو من إلى هؤلاء، فيقتضيني ما أنزلت بأبنائهم من سوء، ها قد حان حينهم، وإني لأرى منهم في المحكمة كثيراً، هاهو ذا كريتون وهو يعدلني سناً، وهأنذا أرى ابنه كريتوبوليس، وذاك ليسانياس السفيطي أبو أشنينس ألمحه بين الحضور، وذاك أنتفون السيفيس أبو أبجينوس، وهؤلاء أخوة كثير ممن التفوا حولي، فهناك نيكوستراتوس ابن تيوسدوتيد وأخو تيودوتس (وقد اختار الله تيودوتس إلى جواره، فهو على أية حال لن يستطيع لي معارضة) وذلك بارالوس بن ديمودوكس، وقد كان له أخ يدعى تياجس، وأديمانتوس بن أرستون الذي أرى أخاه افلاطون بين الحاضرين، وكذلك أرى بينكم آنتودروس وهو أخو أبولودورس. ويمكنني أن أذكر غير هؤلاء كثيرين ممن كان لزاماً على مليتس أن يقدم منهم للشهادة من يشاء في سياق دعواه، ومع ذلك فادعوه الآن يستشهدهم إن كان قد فاته ذلك أولاً، وسأفسح له الطريق. سلوه هل بين هؤلاء من يشهد له فيقدمه؟ كلا أيها الأثينيون، فنقيض ذلك هو الصحيح، إذ هؤلاء لا يأبون أن يؤيدوا بالقول ذلك المتلاف الذي أفسد ذويهم - كما يسميني مليتس، وأنيتس، إني لا أستشهد الشبان الذين أفسدتهم فحسب، فقد يكون عند هؤلاء ما يحيد بهم عن الحقن ولكني أستشهد ذويهم، وهم بعيدون عن إفسادي، ويكبرون أولئك سناً، فلماذا يظاهرونني بشاهدتهم، إلا أن يكون ذلك تأييداً للحق والعدل؟ فهم يعلمون أني أقول الصدق، أما مليتس فمفتر كذاب
أيها الأثينيون! هذا وما إليه هو كل دفاعي الذي وددت أن القيه، ولكني أرجو أن أضيف إليهكلمة أخرى: قد يكون بينكم من يصب علي نقمته إذا ما ذكرت كيف استجدي الشفاعة والرحمة بعينين باكيتين في مثل هذا الموقف أو ما هو دونه خطراً، وكيف ساق أبناءه إلى المحكمة في جمع من أصدقائه وأقربائه لعله يحرك بذلك الرحمة في النفوس، ثم ينظر فلا يراني أهم بمثل ذلك، على ما يتهدد حياتي من الخطر؛ قد يطوف بذهنه هذا فيقف مني موقف العداوة، ثم يصوت وهو في سورة من الغضب لأن موقفي لا يرضيه، فان كان ذلك الرجل بينكم، ولا أحسبه كذلك، فإليه أسوق الحديث رفيقاً: أي صديقي! إنني رجل ككل الناس خلقت من لحم ودم لا من خشب وحجارة، كما يقول هومر، ولي أسرة ولي أبناء، عدادهم - أيها الأثينيون - ثلاثة، بلغ أحدهم الصبا وما يزال الآخران طفلين، ومع ذلك(76/47)
فلن أسوق إليكم منهم أحداً يستجديكم براءتي. ولم لا؟ لست أصدر في ذلك عن اعتداد بنفسي أو ازدراء لكم، وسواء خشيت الموت أم لم أخشه فذلك شأن آخر لن أتحدث عنه الآن، وإنما دفعني إلى ذلك عقيدة أن ذلك تصرف يضع من قدري ويحظ من شأنكم ويصم الدولة بأسرها وصمة العار، فلا يجوز لرجل قضي من العمر ما قضيت، وذاع صوته في الحكمة بحق أو بغير حق، أن يحقر من نفسه. فمهما يكن من أمر، فقد استقر رأي الناس أجمعين على أن سقراط يفضل من عداه في إحدى نواحيه، فان كان أولئك الذين يقال عنهم انهم يفضلونني حكمة وشجاعة وما شئت من فضيلة، يمتهنون أنفسهم بمثل ذاك السلوك، فوا خجلتاه مما يفعلون! فقد شهدت ناساً من ذوي الصوت الذائع يفعلون ساعة الحكم عليهم عجباً عجاباً فبدوا كأنما خيل إليهم انهم ذاهبون، إذا قضيتم عليهم بالموت، إلى حيث الرعب والجزع، كأنهم حسبوا أن لو خليتم بينهم وبين الحياةالسبيل فيسكنون من الخالدين، إنما هؤلاء في حسابي وصمة عار في جبين الدولة، ولو أبصرهم وافد غريب لا نقلب إلى أهله يروي عن أثينا أن أعلام رجالها الذين يرفعهم الأثينيون فوق الهام ويسلمونهم زمام الأمر، لا يفضلون الناس في شيء، ولا يجوز في اعتباري أن يكون ذلك من هؤلاء الذين بلغوا بيننا شأوا عظيماً، فان وقع فلا تدعوه حادثاً يمضي، ولا تأخذنكم بهم هوادة وخذوا بالشدة كل من يقف منكم هذا الموقف المتوجع، لأنه بذلك يعرض المدينة للسخرية، ولا كذلك الصابر الوديع
ودعوكم من العار، فيلوح لي أن في استرحام القاضي واستجدائه العفو في مكان إقناعه وأنبائه بالنبأ الصحيح خطلاً، فليس واجب القاضي أن يمنح العدالة منحاً، بل عليه أن يحكم حكما عادلاً، وقد أقسم أن يحكم وفق القانون، دون أن يميل مع الهوى، ولا يجوز له ولا لنا أن نتعود الحلف باطلاً، فلا أحسب في ذلك شيئاً من الورع والتقوى. فلا تريدوني إذن على أن أفعل ما أدعوه فجوراً وشيناً وخطلاً، ولا سيما وأنتم تحاكمون فيما ادعاه مليتس عني من فجور، فلو استطعت أيها الأثينيون أن أحيد بكم بالأغراء والرجاء عن قسمكم لكنت بذلك معلمكم الكفر بالآلهة، ولا نقلب دفاعي علي التهاماً بالزيغ عن الأيمان، ولكن الواقع غير هذا، فعيقدتي في الآلهة قائمة على شعور أسمى جداً مما تقوم عليه عقيدة أي من المدعين. وأنا أضع قضيتي أمامكم وأمام الله لتحكموا فيها بما هو خير لي ولكم(76/48)
وهنا حكم على سقراط بالموت
أيها الأثينيون! لقد قضيتم بادانتي، فلم يثر شجني هذا القضاء، وعندي لذلك أسباب كثيرة، فقد كنت أتوقع ذاك؛ ولشد ما أدهشني أن كادت تتعادل الأصوات، فقد ظننت أن فريق الأعداء لا بد أن يكون أوفر من ذلك عدداً، وإذا بكفة البراءة لو زاد مؤيدوها ثلاثين صوتاً لرجمت، أفلم أظفر بهذا على مليتس؟ بل أني لأذهب إلى ابعد من الظفر فأزعم أنه لولا أن ظاهره أنيتس وليقون لما ظفر بخمس الأصوات الذي يحتمه القانون، ولاضطر تبعاً لذلك إلى دفع غرامة قدرها ألف دراخمة، كما ترون
ولذلك يقترح أن يكون الموت جزائي، فماذا أقترح بدوري أيها الأثينيون؟ بالطبع ما أراني جديراً به. فماذا ينبغي أن أبذل من غرم أو نال من غنم؟ ماذا أنتم صانعون برجل لم يوفقه الله أبداً ليصطنع البلادة طوال أيام حياته، وأهمل ما عنيت به كثرة الناس - أعني الثروة ومصالح الأسرة والمناصب الحربية، ولم يقل في جمعية الشعب قولاً ولم يشترك في مجالس الحكام، ولم يساهم في الدسائس والأحزاب بنصيب؟ كلما فكرت أني كنت رجلاً بلغ من الشرف حداً بعيداً فسلكت من سبل الحياة ما سلكت، لم أقصد إلى حيث لا أستطيع أن اعمل خيراً لكم ولنفسي، بل التمس طريقاً أمكنتني أن اقدم لكل منكم على حدته خيراً عظيماً، وحاولت أن أحمل كل رجل بينكم على وجوب النظر إلى نفسه لينشد الفضيلة والحكمة قبل أن ينظر إلى مصالحه الخاصة، وأن يضع الدولة في اعتباره فوق مصالحها، فيكون ذلك دستوراً لأعماله جميعاً. ماذا أنتم صانعون بمثل هذا الرجل أيها الأثينيون؟ لا إخالكم إلا مجازيه خيراً أن كان لا بد من الجزاء، ويجدر بإحسانكم أن يجيء ملائما لحالته، فماذا يحسن برجل فقير احسن إليكم الصنيع، ويرغب في الفراغ ليتمكن من تعليمكم، سوى أن يضل أبداً في مجلس الدولة؛ وانه أيها الأثينيون لأجدر بهذا الجزاء ممن كوفئ في أوليمبيا في سباق الخيل أو سباق العجلات، سواء أكان يشد عجلته جوادان أو أكثر، لأنني فقير محتاج، وذاك غني عنده ما يسد منه العوز، على أنه لا يعطيكم إلا سعادة ظاهرية، إما أنا فأدلكم على الحقيقة. فإذا كان لي أن أقدر لنفسي عقوبة عادلة ما قلت بغير البقاء في مجلس الدولة جزاء أوفى
يتبع(76/49)
زكي نجيب محمود(76/50)
من شعر الشباب
مصر
بقلم فريد عين شوكه
مصر يا آيةَ الخلو - د ويا غُرَّةَ الزمن
حبذا أنت في الوجو - دِ إذا اعتزَّ من وطن
أشرق المجد والسنا=منه والكون في الظلَمْ
نيلك العذب كوثرُ ... جنة الخلد ساحلُهْ
كلما جاء يخطِرُ ... وتهادت جداوله
هَلَّل القطر بالمُنَى=وشدا الطير بالنغم
وصحا التُّرْبُ باسماً ... في تَهاويله الوضاءْ
وسرى الريح ناظماً ... فيكِ أنشودة الَرخاء
وهَفَا الزرع وانثَنى ... لكِ يا كعبة الأمم
مصُر، كم عقَّك البنو - نَ وهم معقد الرجاءْ
وعصوا قلبك الحنو - نَ إذا ضجَّ بالنداء
ولكم صِحْتِ من ضَنَا - كِ وهم عنك في صممِ
بل لقد كان منهمُ ... من بَغَى غير محتشم
وقضى الحكم يهدمُ ... فيك ما شِيدَ من نُظُمْ
ورآى الجُرْم هيناً ... فيك يا مصر فاجترم
أيها النيل لا جرى ... عذبك السائغ النميرْ
إنما نحن في الورى ... ميّتو العزم والضَّمير
فارْوِ يا نيل غيرنا ... من أُولِي البأس والهمم
ضاق واديكَ بالعذابْ ... من بنيكَ الأصاِغرِ
الالَى أغرَوا الذئاب ... بالشياهِ الضوامِرِ
فنزا الذئب بيننا=نزوة الفاتك النَّهِم
وإذا الشعبُ كلُّهُ ... يَغْتَدِي طوعَ فاجرِ(76/51)
إن رآى يستذِلُّهُ ... لم يخَفْ زجر زاجرِ
بل رآنا كأننا ... فيك لحمٌ على وَضَمْ
لعنةُ الله والوطن ... لك يا عهداً انقشعْ
كم دهى مصر بالمحن ... ورمى النيل بالفزعْ
وسَرَى في ربوعنا ... يَنفُثُ السمَّ في الدَّسَمْ
كان حُمَّى تعاورَت ... مصر في الأربع السنين
وأهاويل ساَوَرَتْ ... قلبها الموجَع الحزين
وَتَفَشَّتْ نفوسَنَا ... كاللَّظَى تبعث الحَمَمْ
كان في مصر راجفَهْ ... زلزلت ركنها المشيد
وأعاصير عاصفهْ ... مزَّقت شملها النضيد
وكتاباً تضمنا ... سُبَّه النيل والهرم
سطِّري مصر سطَّري ... كيف يعثو بك البَنون
أنتِ لو لم تقصِّري ... في أذى الآثِمِ الخئون
ما رأى النيل خائناً ... فيك يطغى ويجترم(76/52)
الحق
للمرحوم أبي القاسم الشابي التونسي
ألا أيّها الظلم المصعّر خده: ... رويدك إنَّ الدَّهر يبني ويهدمُ
أغرّك أنَّ الشعب مغضٍ على قذًى؟ ... لك الويل مِن يوم به الشرّ قشعَمُ
ألا إنَّ أحلام البلاد دفينةٌ ... تجمجم في اعماقها ما تجمجم
ولكن سيأتي بعد لأيٍ نشورها ... وينبثق اليوم الذي يترنَّمُ
هو الحق يبقى ساكناً فإذا طغى ... بأعماقه السخْط العصوف يدمدم
وينحطُّ كالصخر الأصمَّ إذا هوى ... على هام أصنام العتوِّ فيحطم
إذا صعق الجبار تحت قيوده ... سيعلم أوجاع الحياة ويفهم(76/53)
في الروض المحزون
بقلم امجد الطرابلسي
يا روضُ ما لشبَابكَ النَّضِرِ ... جارتْ عليهِ فواجِعُ القَدَر؟
أَفأَنتَ مِثلي تَشتكي - حَدَثاً - ... عِبَْء السَّنين وعادِيَ الكِبَرِ؟
ماذا جَنَيْتَ وكنتَ مُزْدَهِراً ... حتى رُمِيتَ بأَفدحِ الغِيَرِ؟
أَيْنَ القيانُ الصّادحاتُ على ... عُرُشٍ مُكَرَّمَةٍ منَ الزَّهَرِ؟
يَبكينَ إن نَزَلَ الدجى - فرقاً ... منهُ - وأَسْبَلَ حالِكَ السُّتُرِ
ويكدْنَ يملأْنَ الفضا فَرَحاً ... إن أَزْمعَ التَّرْحَالَ في السَّحَرِ
بل أينَ، كالأَمْسِ الهنِيِّ، مَهاً ... يَمْرحْنَ في الآصالِ والبُكَرِ؟
أَو لمْ تكن بالأمْس تمْطِرُني ... إمّا أتيتكَ أَطيبَ الثَّمَرِ؟
واليومَ كلُّ نَداكَ من وَرَقٍ ... ذاوٍ مَعَ الأَرياحِ مُنْتَثَرِ!!
يا روضُ لاَ يَأْخُذْكَ بي عَجَبٌ ... إن جِئْتُ تَحْتَ الرِّيح والمَطَرِ
أشكو إليكَ هواجِساً حُلُكاً ... كالليلٍ قَد غَشَّت على بصري
الآنَ طابَ لِيَ المُقامُ هُنا ... يا روضُ تحت ثوا كِلِ الشَّجَرِ
يُلْقينَ بالأوراقِ ذابلةً ... مِثلَ المُنى في هَبَّةِ القَدَرِ
ما حاجَتي بالرَّوْضِ مُزْدَهِراً ... إنْ كانَ قَلْبيَ غَيْرَ مُزْدَهِرِ!؟
في خافِقي يا رَوضُ عاصِفَةٌ ... غَضْبى تَهيجُ كوامن الفِكَرِ
نارٌ تَوَقَّدُ فيَّ لاهِبَةً ... تَرْمى حَنايا الصَّدْرِ بالشَّرَرِ
وخَواطِرٌ سُودٌ تَدَفَّقُ في ... عَقْلي الشَّتيتِ تَدَفُّقَ النهرِ
حتى كأَني جَذْوَةٌ شَرَدَت ... مِنْ قبلِ يومِ الحَشْرِ عن سَقَرِ
فَلَعلَّ إحدى السُّحْبِ تُطْفِئُهاَ ... يوماً بغيث جِدِّ مُنْهَمِرِ
أمّا تجِدْني هازِلاً أَبَداً ... أَجْزى حُقُودَ الدَّهْرِ بالسَّخَرِ
وأَسيرُ في دُنيايَ مُتَّئِداً ... بينا المنونُ تجِدٌّ في أَثري
لا الدَّهْرُ تُنْسيني غوائِلُهُ ... يَوْماً مَغاني الأُنْسِ وَالسَّحَرِ
فَلَرُبَّماَ ابْتَسَمَ الفتى وَبهِ ... أَلَمٌ يُفَتِّتُ أَصْلدَ الصَّخَرِ(76/54)
ولَرُبَّ عَهْدٍ كانَ أَعْذَبُهُ ... لَوْ كانَ يَعْذُبُ غايةَ المَقَرِْ
وَلرُبّ ليلاتٍ لَبِثْتُ بها ... سَهْرَانَ أَرْقُبُ طَلْعةَ الْقَمَرِ
أشكو لهُ همِّا يُساوِرُني ... وَأَبُثُّ بَعْضَ مظاَلمِ البشَرِ
تِلكَ الطُّفولةُ مَا عَرَفْتُ بها ... إِلا الدُّموعَ وَأَكْؤُسَ الصَّبرِ
يا ليتَ شِعْريَ والحياةُ أَسىً ... ما جاَء بي للعاَلِمِ النُّكُر
أَأَتَيْتُ أَقطعُ رِحْلَتي عَبثاً ... أم جئتُ للأَحزانِ والضّجَرِ
أَنا في زمانٍ قد تَنَكّرَ لي ... مُنُذ الوِلادِ بأَبْشع الصُّوُرِ
فعلامَ أَجْزَعُ من نوائِبِهِ ... وأخافُ مِنْ أحْداثِهِ الكُثُرِ
يا موتُ جِئ أو لا تَجئ أبداً ... سيّانِ طالَ أو انطَوى عُمُري
أنا حائرٌ ما عِشْتُ في زَمَني ... ومتى رَسولُكَ يَدْعْني أطِرِ
أتُرى وراَءكَ يا ردى قَبَسٌ ... أمْ لَيْسَ إلاّ ظُلْمَةَ الحُفَرِ؟
(دمشق)
امجد الطرابلسي
أصداء البيئة(76/55)
شيطاني
بقلم عبد اللطيف النشار
شيطاني لا تبحث عني=لن تظفر بي يا شيطاني
الوحدة من أدب الجن=والوحشة داب الإنسان
الجمع الحاشد لي مأوى=والعزلة مأوًى للجان
ضحك الشيطان وأضحكني=من فلسفتي للشيطان
شيطاني لا تهرب مني=وتعال أبثك أشجاني
لن أملأ شعري بالشكوى=فلديك دخائل وجداني
قال الشيطان أأنسيٌ=ينجو من شر الإنسان؟
فأبت نفسي شكوى جنسي=ومشيت أردد ألحاني
شيطاني لا تبحث عني=لن تظفر بي يا شيطاني
الإسكندرية
عبد اللطيف النشار(76/56)
فضول ملخصة في الفلسفة الألمانية
2 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
نقد العقل
ليست غاية هذا النقد إحباط نتائج العلم النظري، ولكن غايته أن يسيره في مناهجه الواضحة، فالعلم النظري الذي كان في عهد ما ملك العلوم قد فقد تأثيره، لأنه قد آلى على نفسه أن يتوجه لمباحث تكاد لا تغنى شيئاً، يريد من ورائها التحقيق، وهي - كل يوم - ينقضها من عالم الواقع ألف برهان وبرهان، ثم انتهى (كانت) إلى الشكوكية، ثم الحيادية التي يقول عنها: (هذه التي تظهر عند تفتح العلوم، وتعمل على إظهار العلم الذي حانت ولادته؛ أليست هذه الحيادية من الأشياء التي تسترعي انتباهنا؟ أنها والحق ليست بوليدة الخلفة، ولكنها وليدة محاكمة عصر طويل، شاء ألا ينخدع بظواهر المعرفة كثيراً، أنها دعوة عنيفة تدعو عقلنا إلى عمل عنيف، إلى معرفة نفسه،، وإنما هي تهذب مجلس يذود عنها ويصون تعاليمها الصحيحة، ويحكم عليها إذا ظلمت حسب شرائعها ونظمها الثابتة، وما هذا المجلس إلا مجلس العقل الخالص
والعقل الخالص عند (كانت) هو العقل نفسه، قبل أن يدخل الامتحان في تلافيفه شيئاً، هو العقل المجرد قبل أن ينطبع فيه شيء، وفيه ثلاث قوى نفسانية: الأولى قوة المعرفة التي تنطوي على الإدراك والحكم العقلي، وترتيب الأحكام، وهي تبحث عن أكناه الأشياء وحقائقها، والبحث فيها يتعلق بنقد العقل الخالص. والثانية خاصة الإرادة، وهي تبحث عن الخير، ومرجعها إلى نقد العقل العملي. والثالثة هي الشعور بالسرور والشقاء، وموضوعها الجميل، ومرجعها إلى نقد الحكم
وماذا أستطيع أن أعرف؟ هذا هو السؤال الذي يضعه الفيلسوف أمام نفسه، وهو ينبغي حله. أن كل معرفة تبدأ عن طريق الاحساس؛ ففي كل إحساس يجب أن نفرق بين مادتين: بين المادة التي تهدينا إليها حواسنا، وبين الهيئة التي لا يختلقها العقل من الخارج، ولكنه يجدها في نفسها متعلقة بهذه المادة؛ إن في عقلنا إدراكات خالصة ملهمة، كالصور الأصلية(76/57)
المنطبعة في اذهاننا، ومن بين هذه الصور الداخلة في كل امتحان دخولاً اضطرارياً صورتان، وصفهما (كانت) بدقة ومهارة وحكمة. وهما: (معرفة المكان والزمن) فان هذا المقياس ليس له قياس، أو كما يقول هو عنه ليس له حقيقة مدركة، وعلمنا المبني على مثله لن يكون نصيبه من الحقيقة اكبر منها، إذ ليس للزمن والمكان حقيقة ذاتية ممكن إدراكها، وما الزمن والمكان إلا مقاييس نسبية ابتدعناها تساعدنا على إدراك الاشياء، فهي كالمرآة التي تعكس لنا صورة العالم كما نراه نحن محدوداً بمقاييس الزمان والمكان لا كما بني على حقيقته.
وفي جهة أخرى نرى علمنا كله ليس إلا مظاهر، يضعف ويقوى بحسب الملاحظة، ولا يكون قوياً إلا بنا، لأنه لا يملك شيئاً من الجزم والقوة بنفسه، وليس ببعيد أن يكون وراء عالمنا هذا عوالم يدرك أصحابها معنى هذا الوجود، بخلاف ما أدركته عقولنا، ويحدونه بمقاييس تتباين عن مقاييسنا، والحقيقة إننا فهمنا العالم كما نود أن نفهمه، وأدركناه كما تستطيع مداركنا إن تدركه، وهذه الحقيقة التي نسجنا نحن خيوطها ستظل محاطة بالروعة والجلال، ولن تغبر الطبيعة نظرتنا إليها حتى تغير أوضاع تفكيرنا وتبدلنا بها أوضاعا أخرى
وهذه النظرة العميقة هي النقطة التي ترتكز عليها فلسفة كانت، ومثله الأعلى الذي يفترضه مثلاً أسمى من المثل الشائعة، فهو يجحد حقيقة العالم الخارجي، ويرتفع بذاته عن المادية، ويعتقد أن أدوات معرفتنا أداة للإدراك، لا تقع تحت سلطان الحواس، لأنها منعزلة عنها وأسمى منها. وبهذه الأداة نراه ينتقل إلى عالم الله والروح والوجود، ويؤسس على كل عالم منها فكرة، ولكن حقيقة هذه العوالم برغم إنها شغلت العقل وتشغله وسوف تشغله لا تزال محجوبة عنا، بل يجد كانت أن تشبثنا بإدراكها عن طريق التجربة لا يغنينا نفعاً، بل يتركنا فريسة الخيالات والاعتراضات المتتالية
الله، والروح، والوجود: ثلاثة أكون متعاقبة لا تبدو للعين حقيقتها
نقد العقل العملي
للشاعر هنري هاين دعابة لطيفة ذكرها في كتابة (ألمانيا) قال في جملة بحثه عن كانت: (ولما وصل - أي. كانت - إلى هذه النقطة التفت وراءه فوجد خادمه الكهل (لامب) يبكي،(76/58)
فقال كانت: إن لامب ليس له إله. . . ولكن لابد له من إله يضمن سعادته في العالم) فكتب كانت إذ ذاك نقد العقل العملي، وما العقل العملي إلا نفس العقل النظري منتحياً للعمل، وهو يستمد أصوله من نفسه كالعقل النظري مجرداً من كل تجربة؛ ترى الشريعة التي يرتبها على نفسه تصير شريعة عامة، وليست هذه الشريعة محدودة بفكرة الخير والشر، وإنما هي فكرة محدودة بنفسها، تنبثق من ذاتها وتعود إلى ذاتها، فما تراه الأخلاق خيراً يكون خيراً وما تراه شراً يكون شراً، وهذه الشريعة تولد رأساً من الشعور لا تفتقر إلى شيء من المنطق، ولا تحتاج إلى نظرة من نظرات العقل، وإنما هي تفرض نفسها بنفسها إذا فرضت، كأنها صيغة أمر شامل مطلق، والشريعة الأخلاقية هي لغة الطبيعة السامية في الإنسان، وقد يسمو الإنسان بقدر ما تتجلى فيه هذه الشريعة على قدر ما توائم أعماله قواعدها
وهكذا جرب كانت أن يجمع كل ما تحتوي عليه الشريعة الأخلاقية في دستور واحد يضم إليه جميع ما يركب الإنسان من واجبات في المجتمع، وهذا هو الدستور أو الكلمة الجامعة التي يريدها الفيلسوف (أعمل دائماً عملك وأنت تتمنى أن الطريق الذي سلكته يصبح شريعة عامة) أليست هذه الكلمة هي صدى الكلمة القديمة القائلة (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به) إن هذه الكلمة لا تحدد إلا علاقة الفرد مع الفرد، وكلمة (كانت) تضع الإنسان الفرد إزاء المجتمع كله، فإذا قدر للخير أن يمتد سلطانه ويظهر أمره في الأرض فإنما تظهره جهود الناس المتضافرة وسمو طبيعتهم العالية، وهكذا بني (كانت) على هذه القواعد نظرية جديدة في عالم ما وراء الطبيعة ووجد مجالاً جديداً ليبحث عن الحرية والخلود ووجود الله بعد ما ترك العلم النظري هذه العوالم كلها فراغاً يباباً. فإذا كانت الشريعة الأخلاقية فرضاً على الإنسان وديناً لا مفر منه، وإذا كانت هذه الشريعة واجباً مطلقاً عنده، فهي ذلك لأنه قادر على إتمامها، إذا فالإنسان حر، والحرية هي ابنة الشعور الطبيعي، والحرية هي ضالة العقل العملي. وقد لا نستطيع أن نثبت وجود الحرية نظرياً، ولكنها تستمد وجودها من وجود الشريعة الأخلاقية التي يتوقف فهمها على وجودها. وكذلك الأمر في بقاء الروح ووجود الله
العقل العملي يبعث فينا نشاطاً غريباً يدفعنا إلى مثل الكمال. هذا المثل الذي يملك علينا(76/59)
سلطانه كل شيء هو سلطان الخير المطلق. وإذا كان الخير المطلق شرطه الأول هو الفضيلة فهو إذا داع من دواعي السعادة، بل يوجب العقل أن تكون الفضيلة والسعادة من عنصر واحد
لنترك الخير المطلق، ولنعتبر الشريعة الأخلاقية وهماً أو خرافة، أفلا نؤمن بأن هنالك نظاما شاملا للأشياء مؤسسا على معنى السعادة والفضيلة، وأن هنالك في قلب الكون علة عاقلة تحكم وتسيطر وتربط بين الأجزاء وتؤلف وتفكك، وهذه العلة تحتم وجود الله؟
وهكذا نرى العقل العملي يقدر له الإثبات بغير برهان، والعقل النظري يعجزه أن يبرهن، ويتساءل (كانت) عن سر التنازع بين العقلين:
ولكن أليست الطبيعة التي ابتلت أحدهما بالعجز والوهن هي القاسية؟ ولكن لنفرض أن الطبيعة قد وافقتنا على أمانينا، ومنحتنا ما تمنيناه منها، ووهبتنا أنوار الهداية التي نهيم فيها، ولنفرض أن البعض مناقد ملك عليها، فماذا تكون النتيجة؟ أتدرونها؟ سيكون الإله بعظمته وروعته متمثلاً في أعيننا وفي أنفسنا، نطيع شريعته المرسومة طاعة عمياء لا نحيد عنها ولا نعتسف طريقها، ولكن أعمالنا هذه لا يقودنا إليها إلا عصا الرهبة تأتيها خالية من الفضيلة المبتغاة لذاتها، وهل يكون كل إنسان في كل ما يأتيه إلا كالآلة الميكانيكية تأتي ما يطلب منها وتؤمر به غير واعية ولا شاعرة؟ إن كل شيء يمشي في السبيل القويم؛ ولكنك تتلمس باطلاً نسمة الحياة تلفح هذه الوجوه الشاحبة التي أكلها السأم. . .
والآن، ونحن على هذه الحالة قد دلتنا الكائنات على عظمة المبدع ونزل فينا شرائعه الأخلاقية من غير أن تمنينا بالوعود أو تروعنا بالوعيد، وانفسح لكل واحد منا سبيله يبلغ به المثل الأعلى في الوجود
وفي النهاية يقول كانت إن النظام الإلهي مؤسس على شريعة الأخلاق، فإذا وجد الله، وإذا خلدت الروح فذلك لأنني أشعر بأني أحيا حراً، وأن حريتي بدون وجود الله وخلود الروح تغدو وهماً باطلاً. الإله الحقيقي - عند كانت - هو الحرية، ومما إله الديانة إلا وزيره الأول، وهو يحترم الدين بقدر ما يرعى للأخلاق والفضيلة عهودهما وذممهما، ويرى أن ممارسة الخير هي أسمى عمل يحبه الله(76/60)
يتبع
خليل هنداوي(76/61)
تاريخ الأدب الألماني
بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف
تمهيد:
عنى أبناء العروبة في عشرات السنين الأخيرة بدراسة الآداب الغربية دراسة توحي الاطمئنان نوعا إلى ما سوف يكون عليه الجيل المقبل من تنوع الثقافة. وكانت آداب لغرب في نظر المتأدبين منا في بادئ الأمر هي الآداب الفرنسية وحدها، ثم انتهى بهم الأمر، وذلك منذ ربع قرن أو نحوه، إلى الأخذ بدراسة الآداب الإنكليزية أيضاً، وبذلك اتسع نطاق معرفة الآداب الغربية بعض الشيء. ولكن برغم هذا فإننا ما زلنا في مستهل الطريق. ولعل الخطوة الطبيعية التي تتلو ذلك ويتبعها المتأدبون في الشرق الأدنى والأوسط، ولا تكون إلا دراسة الآداب الألمانية دراسة جامعة، بعد أن أخذوا بقسط غير قليل من الآداب الفرنسية والإنكليزية. . . نعم لقد ظهرت بوادر هذه الدراسة في مصر منذ عشر سنين أو تزيد، إلا أنها كانت دراسات موجزة لا تتفق وعظمة الآداب الألمانية ووفرة كنوزها وارتباطها بالآداب الغربية والشرقية على السواء، ومن أجل ذلك كله حق لبعض من عكف على دراسة الحياة الأدبية في مصر وبقية بلاد الشرق العربي أن يقول عنا بأننا اقل الشعوب المتمدنة إلماماً بالآداب الألمانية. . . والواقع أن هذه الظاهرة لا تلائم بغية المتأدبين، إذ أول واجباتهم نحو الأدب بالذات أن يحيطوا علماً بالآداب العالمية، وليس من ينكر بأن للألمان صرحاً فيها مازال، وسيبقى، موضع فخر الأدباء في كل صقع. . .
لهذا كله ونزولاً على إرادة بعض من أجلهم، رأيت أن أكتب في هذا الباب، عسى أن أوافق إلى إثارة الرغبة عند كرام القراء في الإطلاع على الآداب الألمانية، بقدر توفيقي إلى استمالة الأدباء للإكثار من نقل غرر الآداب الألمانية
مقدمة:
لا تخلو الآداب الألمانية في أطوارها التاريخية من صفات عامة مشتركة بينها وبين الآداب الأوربية الأخرى. نعم إن عصور ازدهار الآداب الألمانية وعصور سقوطها لا تسير مع العصور التي تماثلها في آداب فرنسا أو إنكلترا أو إيطاليا، ولكن ليس معنى ذلك إن الآداب(76/62)
الألمانية في تطورها لم تكن مرتبطة بالحركات الدينية والثقافية والاجتماعية التي غمرت القارة الأوربية. فقد كانت ألمانيا قبل دخول المسيحية إليها في حالة أقل ما توصف به إنها حالة غامضة مهمة، وكان الناس إذ ذاك يكادون ألا يعرفوا شيئاً غير الجمود والنسك، شأنهم في ذلك شأن بقية الناس في البلاد الأوربية الأخرى. ثم تلا ذلك عصر آخر اضطر فيه فرسان الحروب الصليبية إلى التقهقر أمام المدن الثائرة. وجاء عصر الإصلاح ممهداً لعصر النهضة. وكانت ألمانيا أسرع من جيرانها استجابة للحوادث الجسام التي كانت تنتاب أوربا من وقت إلى آخر. وإذا كان من المسلم به أنه لا يوجد أدب أوربي كان في كل تطوراته مستقلاً تمام الاستقلال عن آداب جيرانه، فانه مما لا شك فيه أن الآداب الألمانية مدينة بالشيء الكثير إلى آداب الغير. لهذا كانت دراسة الآداب الألمانية هي، إلى حد بعيد، دراسة ما يطلقون عليه اليوم اسم (الأدب المقارن)، وإذاً فمن المهم معرفة مركز الآداب الألمانية بالنسبة للآداب الأوربية، وعلاقة هذه بتلك. وستؤدي بنا طبيعة هذا البحث إلى التمييز بين الوطني من آداب الألمان والأممي منها. وكذلك سنقف على مدى تشعب كل من النزعتين في تطور الآداب الألمانية وما ينتسب منها إلى الوطنية، وما له صلة بالتاريخ السياسي أو الاجتماعي
ولكل من مؤرخي الآداب الألمانية طريقه الخاص في استعراضه لتاريخ هذه الآداب. وكذلك كانت نظرة كل منهم في تقسيم تاريخه إلى مراحل. وموقفنا هنا يضطرنا إلى الأخذ بالسهل منها؛ ولذلك يمكننا القول بأن تاريخ الآداب الألمانية ينقسم إلى ثلاثة أقسام بينة، لثلاثة عصور مختلفة، لكل عصر منها لغته وطابعه. فالقسم الأول يشمل العصر القديم للألمانية الرفيعة الذي يبدأ حوالي سنة 750 ميلادية، وينتهي حوالي سنة 1050. والقسم الثاني يشمل العصر الوسط لآداب الألمانية الرفيعة، يبدأ من سنة 1050 وينتهي سنة 1350 ميلادية، ثم العصر الأول لجديد آداب الألمانية الرفيعة الذي يبدأ من سنة 1350 وينتهي سنة 1700 ميلادية، ثم تلي تطورات الآداب الألمانية في هذه المراحل الثلاث تطوراته الأخيرة في كل من القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين
وسنعالج كل طور من هذه الأطوار التي مر بها الأدب الألماني في باب خاص، جاعلين بغيتنا في ذلك إيضاح النزعات الفنية في الآداب الألمانية وأثر كل منها في تاريخه(76/63)
العصر القديم للألمانية الرفيعة
الثقافة الألمانية الأولى
نجد في تطور كل أدب عهداً مرتبطاً بما اتفق على تسميته في التاريخ السياسي (بعصر ما قبل التاريخ). وفي ذلك العصر لم تكن للشعوب ثقافة عامة، كما لم يكن لها أدب مخطوط، ولم يكن للألمان في ثمانية القرون الأولى المبتدئة من يوم مولد المسيح شيء ينم عنه تاريخهم السياسي من ثقافة عامة. كذلك لم يكن لهم أدب مخطوط يمت إلى الحوادث الواقعية حتى عهد كارل العظيم. والواقع أن التاريخ القديم للعشائر الجرمانية لا زال موضع جدل بين المحققين، ولا يمكن الإجابة القطعية على سؤالك من أين جاءوا، ومتى أتوا إلى الجهات التي استوطنوها. ولكن من الثابت انهم ينحدرون من الأسر الجرمانية الهندية وموطنها الأصلي أواسط آسيا. وكانوا في نفس الوقت الذي أخذت فيه روما توطد مركزها في جنوب أوربا يقطنون البلاد الواقعة على شواطئ بحر الشرق الممتد فيما بين بحر البلطيق وبحر الشمال. وكان أول من جاء بأخبارهم إلى العالم المتحضر في القرن الرابع قبل المسيح، رجل رحالة مغامر اسمه بييتس فأثبت انهم يتكلمون بلهجات ألمانية دون شك، إذ هي تختلف عن بقية اللغات الأوربية الهندية , -
وربما كان أول حدث سياسي هام بدل من كيان تلك الجماعات التي كانت تسكن المناطق الواقعة على بحر الشرق، هو ذلك الذي أثار التفرقة بينهم وجعلهم فريقين: فريق الجرمانيين - , وهم الغوط , والعشائر التي استوطنت اسكندنافيا وفريق الجرمانيين الغربيين - , وهؤلاء كانوا يؤلفون الجنسيات الوطنية التي عرفت فيما بعد , الإنجليز - والجرمانيين البحريين - وهم الذين يتكلمون اليوم اللغة الهولاندية واللغة العامية الألمانية ثم الجرمانيين العلويين , ومضت بضعة قرون قبل أن تستقر هذه العشائر في موطنها الجديدة. وكانت غزوة الجرمانيين لأسكندنافيا قد تمت قبل مولد المسيح ببضعة قرون. ثم حفزتهم غريزة الترحال فيهم إلى الرجوع ثانية إلى الجنوب فأسسوا دولة الدانوب البحرية
أما الجرمانييون الغربيون فكانوا أقل من زملائهم سرعة في التطور، إذ لم يدعهم يوليوس(76/64)
قيصر القرن الأول قبل المسيح يستقرون في مكان، وظلوا أشبه بالقبائل الرحل حتى كانت غزوة , أواخر القرن الرابع، التي ربكت عامة الجرمانيين
وكان النزاع بين الجرمان والدولة الرومانية قد استمر نحو نصف قرن، مما دفع مؤرخي الرومان إلى حب الوقوف على أحوالهم. فكان منهم تاكيتوس وهو في كتابة كثير التدقيق والتحقيق، وقد قال فيه أن الأبجدية لم يستعملها الجرمان في مراسلاتهم بشكل عام إلا في القرن الثالث. وهم ككل شعب مبتدئ ليس لهم شعر مخطوط. وفي أغانيهم القديمة، وهي المستند الوحيد، يحيون إلاههم تيستو الذي أنبتته الأرض كما يحيون ابنه ما انهما أي الجنس الجرماني. وللبطل أرمينوس في أغانيهم. وكان له نشيد وطني معروف بأسم ينشدونه والدروع إلى أفواههم ليكون له دوي عظيم. وكانت أناشيدهم الدينية وأغاني تمجيد أبطالهم تقرن بالرقص ويسيرون في مواكب تشبهاً بالجرمانيين الأقدمين كما جاء في ذلك الشعر؛ وكان قدماء الجرمان يطلقون على هذه الحفلات أسم لايكاس وكانت هذه هي الخطوة الكبرى نحو وأضاف تاكيتوس إلى ذلك القول بأنه لا بد أن يكون للجرمانيين أدب له سحره وجماله الذي نجده عند الأوربيين الهنود كافة. وللجرمان غير ما ذكرنا أغان للموتى، وأخرى لانتصار الشمس على الظلام والزوبعة، وغيرها عن الحدث الأكبر: موت النهار، أو عن ذبول الصيف. وهذه الأغاني بقايا خرافاتهم القديمة عن الطبيعة
وكان الغوط أول من نهض من الجرمان بحياة ثقافية. وفي دولتهم التي أنشئوها في المنطقة القريبة من الدنواب خطوا خطوات سريعة نحو الثقافة ونحو المدنية. ولعل مركزهم الجغرافي هو الذي ساعدهم على الاتصال بالفكر الإغريقي وبالمسيحية، بينما كان إخوانهم في الشمال ما يزالون همجاً وثنيين
ويعتبر فولفيلا - الذئب الصغير أول من وضع أساس الأدب في لغة الغوط
(للبحث صلة)
إبراهيم إبراهيم يوسف(76/65)
البريد الأدبي
أعمال الاستكشاف في قلب أفريقية
قررت أكاديمية العلوم الفرنسية أن تنمح جائزة (البردى موناكو) الشهيرة وقدرها مائة ألف فرنك (نحو ألف وثلاثمائة جنبة) إلى العلامة الجغرافي المكتشف الأفريقي الجنرال تيلهو، أحد أعضاء بعثها الجغرافية، وذلك لما قام به من الاكتشافات الخطيرة في منطقة بحيرة تشاد والأنهر المتصلة بها، ومعاونته بذلك على وضع هذه المنطقة تحت الحماية الفرنسية
وقد كانت فرنسا تعنى منذ بعيد بشأن هذه البحيرة الشاسعة التي تقع في وسط أملاكها الصحراوية الأفريقية، وتؤثر أعظم أثر في مستقبلها الاقتصادي؛ فجهزت إليها عدة بعوث علمية منذ أوائل هذا القرن، ولما زادت أملاكها في تلك المنطقة باستيلائها على أملاك ألمانيا، وتوغلها في السودان الغربي، زاد اهتمامها باكتشاف هذه المنطقة وتحديدها وتأمين حمايتها؛ ويمكن تقدير أهمية بحيرة تشاد متى علمنا أنها تغطى مسطحاً قدره 18 , 000 كيلو متر، ويصب فيها نهران كبيران هما (شاري) و (لجوني) وعلى مائها تقف حياة الملايين من سكان المناطق المجاورة، وكان الجنرال تيلهو، منذ كان ضابطاً فتي في أواخر القرن الماضي، يهتم باكتشاف هذه المنطقة، وينوه بأهمية مستقبلها الاقتصادي والسياسي، وقد كان أول من استطاع أن يضع لها خريطة دقيقة؛ وقد بدأ بارتيادها منذ سنة 1898 ليحقق أبعادها بالنسبة لنهر النيل ونهر النيجر، ولكنه لم يستطع أن يتوغل يومئذ في تلك الأنحاء لخطر قبائلها الهمجية. ولكنه عاد بعد بضعة أعوام فالتحق ببعثة الجنرال مول التي أوفدت لضبط حدود الينجر بين فرنسا وبريطانيا، وفي سنة 1906 عين رئيساً لبعثة جديدة أوفدت لاكتشاف المنطقة الواقعة بين الينجر وبوركو، فاستمرت في تجوالها في تلك الأنحاء مدى ثلاثة أعوام. وفي سنة 1912 عاد على رأس بعثة أخرى، وقضى في تجواله خمسة أعوام اكتشف أثناءها كثيراً من أسرار المنطقة الواقعة شرق بحيرة تشاد، ومنطقة بركو، وبيستي ودارفور، وضبط وسائل المواصلة بين مستعمرات فرنسا الأفريقية الغربية والسودان الفرنسي (السودان الغربي)؛ وعلى أثر هذا الاكتشاف العظيم عين الجنرال تيلهو عضواً في أكاديمية العلوم ومنح مدالية الاستحقاق الذهبية؛ ثم أنعم عليه بعد ذلك بلقب عضو في المجمع العلمي؛ والجنرال تيلهو جندي باسل، وعلامة جغرافي ومحقق أخصائي(76/66)
في جغرافية أفريقيا الوسطى، وقد قرر أن يخصص الجائزة التي منحت له لمتابعة أعماله واكتشافاته العلمية في تلك الأنحاء
ولم ينفذ العالم الأوربي إلى تلك الأنحاء إلا منذ أوائل القرن الماضي، منذ اكتشافات منجو بارك الاسكتلندي، ورنية كاييه الفرنسي؛ ولكن يبدو من دراسة رحلة أبن بطوطة الرحالة المغربي الشهير أنه ارتاد كثيراً من تلك الأنحاء، على أثر عودته من رحلته في الشرق الأقصى (في أواسط القرن الرابع عشر)؛ وهو يذكر أسماء مدن ومواقع لم يعرفها الغرب إلا منذ قرن مثل سكوتو، وغيرها
دائرة المعارف الفرنسية
كان الأدب الفرنسي أول ما ظفر بإخراج الموسوعات الأدبية والعلمية والحديثة؛ ويرجع تاريخ هذه الموسوعات الحديثة إلى أواسط القرن الثامن عشر، حيث ظهرت جماعة العلماء المعروفة (بالأنسيكلوبيدين) وعلى رأسهم ديدرو، ودالمبر، وهولباك وغيرهم
وقد ظهرت دائرة المعارف الفرنسية الكبرى منذ أواسط القرن الماضي، وتمت في أواخره؛ ولكنها لم تطبع من ذلك الحين مرة أخرى، وأضحت في عصرنا أثراً قديماً تنقصه عناصر هامة من العلوم والفنون والاختراعات الحديثة، وتاريخ العالم منذ أواخر القرن الماضي، وفد تقدمت الموسوعات الأجنبية على الموسوعة الفرنسية من هذه الناحية تقدماً عظيماً، فصدرت الطبعة الخامسة عشرة من دائرة المعارف البريطانية سنة 1930، وأضحت أثر عظيما شاملاً لآخر ما أخرج العصر من آداب وفنون وعلوم؛ وصدرت دائرة المعارف الإيطالية الجديدة منذ عامين أو ثلاثة؛ وصدرت دائرة معارف روسية حديثة. وقد اهتمت وزارة المعارف الفرنسية والهيئات العلمية الفرنسية منذ بضعة أعوام بأمر الموسوعة، وألفت لجنة من أكابر العلماء والكتاب للأشراف على إخراجها في طبعة جديدة وعلى رأس هذه اللجنة، المسيو دي مونزى وزير المعارف السابق، ومسيو لوسيان فابر الأستاذ بالكوليج دي فرانس، وهو المدير العلمي للموسوعة، ومسيو هنري دي جوفنل الكاتب والسياسي، والأستاذ بايان نقيب المحامين السابق، ويوسف بدييه مدير الكوليج دي فرانس، وفرانسوا ميلان عضو الشيوخ، وغيرهم من أكابر العلماء والمفكرين. وقد أتمت اللجنة تنظيم الأعمال التحضيرية؛ وبدأت أعمال التحرير فعلاً، والمرجو أن يصدر الجزء(76/67)
الأول في سنة 1935، ثم تصدر الأجزاء تباعاً بعد ذلك، حتى تغدو الموسوعة الفرنسية لائقة بما للأدب الفرنسي من مكانة ممتازة في عالم الآداب الحديثة
مدام آدم وعصرها
مدام جولييت آدم من أعظم كاتبات فرنسا، وهي اليوم في الثامنة والتسعين، وقد لبثت مدى النصف الأخير من القرن التاسع عشر تتزعم الحركة الأدبية في فرنسا، وكانت بينها منذ أواخر القرن الماضي وبين زعيم الوطنية المصرية مصطفى كامل رسائل سياسية وعلائق صداقة وثيقة استمرت حتى وفاته
وقد أصدرت أخيراً كاتبة فرنسية أخرى هي مدام مانون كورمييه عن مدام جولييت آدم وعصرها كتاباً كبيراً استعرضت فيه حياة الكاتبة الكبيرة منذ تحريرها (للمجلة الجديدة) في شبابها، وما كان بينها وبين أكابر عصرها من علائق الصداقة أمثال جورج ساند الكاتبة الشهيرة، وليون جامبتا السياسي الكبير، وبيير لوتي الكاتب الأشهر، وكان يسميها (بأمه العزيزة)، وما كان لها من زعامة روحية وفكرية على كثير من المفكرين والكتاب داخل فرنسا وخارجها
الاحتفال بتوزيع جوائز نوبل
أقيم في استوكلهم عاصمة السويد في العاشر من ديسمبر الجاري الاحتفال السنوي الكبير الذي تمنح فيه جوائز (نوبل) وقد رأس ملك السويد بنفسه الحفلة كالمعتاد، وتولى بنفسه تقديم الجوائز الممنوحة لممثلي الدول التي ينتمي إليها الكتاب والعلماء الفائزون؛ فناب عن الكاتب الإيطالي بيراندللو الفائز بجائزة نوبل للأدب سفير إيطاليا، وناب السفير الأمريكي عن الأساتذة جورج مورفي وهوبيل ونويث الفائزين بجائزة نوبل للطب، وكذلك عن الأستاذ هارولدادري الفائز بجائزة نوبل للكيمياء؛ ومقدار كل جائزة منها 162 , 607 كوروناً سويدياً (أي نحو أربعة آلاف جنيه) ويعتبر هذا الاحتفال أعظم الاحتفالات العلمية
المصور (سم)
توفي أخيراً في باريس أستاذ من أساتذة التصوير الرمزي (الكاريكاتور) هو الرسام (جورسا) المعروف في عالم التصوير باسم (سم) وهو الاسم الذي يوقع به صوره. وقد(76/68)
بلغ هذا النوع من التصوير في العصر الأخير ذروة قوته وخطره، وأصبح فناً قائماً بذاته، يشترك مع القلم في التعبير عن الحوادث والمشاعر، ولا سيما أحداث السياسة، وقد كان (سم) من أقطاب هذا الفن، وكانت صوره الرمزية التي تنشرها جريدة (الجورنال) من أسمى ما أخرج الفن؛ وكانت تمتاز بقوة التعبير والفكاهة اللاذعة المحتشمة معاً. ولبث (سم) يعمل في قلم تحرير (الجورنال) أعواماً طويلة، وقد توفي كهلاً لم يجاوز الخمسين في عنفوان قوته وفنه(76/69)
القصص
من الأدب التركي
العذراء الدميمة
ترجمة عبد اللطيف أحمد
لم يتجاوز التفاوت بينهما في السن غير عامين، ولكنه في الجمال وحسن الخلق كان جد عظيم. لازم النحس (عصمت) منذ رأت النور، فقد ولدت وأمها تكاد تفقد الحياة من معاناة مرض خطير، بله آلام الوضع، ولم يكن للأسرة هم إلا إنقاذ الأم من براثن الموت، ومحاولة إصلاح ما أفسده مرض ذات الجنب من جسمها الرطيب، فلم يرحب أحد بالقادمة الجديدة، أو يفكر في أمرها حتى الأم - وا أسفاه - كأنها في هذه اللحظة قد فقدت غريزة الأمومة، فلم تنظر إليها حينما تلقفتها يد القابلة إلا كما تنظر إلى خرقة بالية!
ولم يكن حظها من عناية أبيها بأوفر منه عند أمها، فكثيراً ما كان يراها وهي ملقاة على الأرض تشارك الكلب في مزجره، وفي يدها هنة تشبه قطعة الخبز دون أن تتحرك في قلبه عاطفة الأبوة نحو التي أتى بها إلى الحياة على كره منها؛ وهكذا سرت العدوى إلى سائر أفراد الأسرة وكأنها وترتهم جميعاً قبل أن تأتي إلى هذا العالم، فلما واتتهم الفرصة ثأروا لأنفسهم بإهمالها والحط من شأنها، ولولا وشيجة الإنسانية لقضت هذه التعسة جوعاً فأراحت واستراحت
اسندوا أمر العناية بها إلى ظئر حامل كسول، فلم تعطها من الرعاية إلا المقدار الذي يسمح لها بالحياة، فشبت إلى أسفل، وكأنها كانت تسير في نموها نحو مركز الأرض!
شاء القدر أن يصور للناس صورة ناطقة للقبح الجسماني، وينصب تمثالاً حياً للتنافر الجسدي، فكانت (عصمت) كما أراد: عينان غائرتان لا يكاد يبدو منهما نور الحياة، وخدان شاحبان بل عظمان عاريان إلا من ذلك الجلد الحائل، بينهما نتوء يشبه الأنف، تحته شفتان ضل سبيله إليهما الدم!! يضم كل هذا وجه أشبه بوجوه الموتى، إن فقد معالم الحسن فلم يفقد معاني الرحمة والرثاء، ينوء بذلك جذع ناحل وأطراف هزيلة
وهنا يجدر أن نسأل أنفسنا: أيكون القبح عقبة في سبيل حب الوالدين لفلذة كبديهما؟؟!. . .(76/70)
هذا ما لا نستطيع الجواب عنه، ولكن الذي نعلمه أن عاطفتهما نحو (عصمت) كانت أشبه بالرحمة منها بالحب، وحسبنا مصداقاً لهذا محاولتهما البعد عنها تحت تأثير غريب كان يستولي عليهما كلما لمحاها
استردت الأم صحتها بعد جهاد عنيف، ودبت العافية في جسمها دبيب الراح في جسم شاربها، فشبا خداها، وبرقت عيناها، وغمرت الهناءة وجهها، وجرى ماء الحياة في جميع أطرافها، وبينما هي على وشك الظفر بالنصر الحاسم على عقابيل المرض المنهزم؛ إذا هي تحس حركة في أحشائها تؤذنها بزائر جديد، فاستخفها السرور، وحملت البشرى إلى زوجها باسمة، ثم ذاع المخبرين أفراد الأسرة، فعمهم البشر كأنه يولد في هذا المنزل لأول مرة، وكأن (عصمت) المنكودة الحظ لم تكن في الحسبان!
أخذوا في أعداد العدة لاستقبال هذا الوليد، وطفقت الوالدة تهيئ الأقمطة الناعمة، والأقمشة الفاخرة، وذهب الوالد يبحث في الأسواق عن أحسن مهد وأثمن هدية، وكان شغله الشاغل في شهور الحمل البحث عن كل ما يسعد الوالدة والمولود
وبينما (عصمت) تعبث في غرفة الخدم، تحبو كأنها الحشرة لا يعبأ بها أحد، ولا يعيرها التفاته إنسان، والجميع في شغل شاغل - فقد جاء الأم المخاض - إذا القابلة تقول: كأنها قطعة من نور. .! يا أم ابنتي هلا نظرت إليها.؟ وكان هذا إيذانا منها بانتهاء الأمر. . . لم تصدق الأم بادئ بدء، وسألتها جازعة: تشبه من يا ترى؟ وكأنها تخاف أن ينكبها القدر مرتين، ولما يزل شبح (عصمت) يتراء لها. إجابتها بلهجة الظافر. تشبه من.!؟ لمن يحتمل أن تشبه سوى أمها وأبيها. .!؟ وشاع البشر في وجه الأم حينما وجدت مصداق قولها في وجه ابنتها الجميل التكوين
علم أهل الحي فجاءوا مهنئين، وحفلت الدار بهم، فصارت الأم بما ملكها من الزهو بوليدتها الجميلة تكشف لهم عن وجهها، وهم يرتلون آيات الإعجاب بها ويكررون كلمات التهنئة، وأخذوا يتخيرون اسماً لطفلتهم، وأي اسم يؤدي كل هذه المعاني التي تنم عنها ملامحها من الحسن الرائع؟ إن كل ما نذكر من الأسماء غير واف بتلك المعاني. فليبحث أبوها إذن في المعاجم، وليسأل الغادي والرائح عله يظفر بضالته التي ينشدها. . . بعد جهد، خطر له اسم لبطلة قرأ عنها في إحدى القصص، فأطلق عليها (لمعان)(76/71)
تعاقبت الأيام، وشبت (عصمت) فبدأت ترقب طفولة أختها المرحة المترعرعة، وترى من إعزازها وإعجاب الأسرة بها ما لم تظفر في يوم من الأيام ببعضه فتعجب، ولكن سرعان ما تهديها غريزتها إلى أن بها نقصاً، فيعتريها شعور مهم غامض؛ أهذا هو السر في إنها ليست محبوبة، وأنها أدنى منزلة من تلك التي تتبوأ ذراعي أمها مفترة الثغر باسمة الملامح؟ كانت (عصمت) مرهفة الحس إلى حد بعيد، وكأنما عوضها الله سبحانه ما نقص من خلقها بكمال حسها ودقته - ويا ويل من دق حسه وقصرت يده عما يريد. .!
كانت ترى الفارق كبيراً في معاملة أبويها لهما فيعتريها من الألم والحسرة ما دونه وخز الإبر ووقع السهام، ينظر الوالد إلى أختها التي لا تفارق ذراعي أمها فيشع من عينيه السرور، حتى إذا وقع بصره على (عصمت) أطلت الشفقة من وجهه، وكأنها تسخر من هذا من هذا المخلوق العجيب، وربما تصدق عليها بقبلة تدرك معناها فتشعر برعدة المحموم من فتورها وبرودتها، وقد يخيل إليها إن الثلج طفق يذوب من موضعها، فتذوب حسرة وألماً، وتجر جسمها الهزيل جراً وتنزوي في ركن قصي، ويعوزها البكاء فلا تجرؤ عليه؛ وقد تحاول التمرد على أخذها بجناية لا يد لها فيها فيقعدها العجز عن السير في هذه السبيل
بقيت (عصمت) تعاني من أمرها ما تعاني، و (لمعان) تتفتح كزهرة الربيع، ترعاها عناية الأب ويكفلها حنان الأم وعطف الأسرة. . . أكسبها كل هذا نضارة فوق نضارتها، ونشاطاً فوق ما طبعت عليه من الخفة والمرح ودوام الابتسام، ولا عجب، فهذا شأن كل من اطمأن على أنه استوى على عرش القلوب وتملك ناصية الأفئدة
أقبل العيد، وأشترى الوالد لكل من ابنتيه ثوباً من المخمل القرمزي الجميل، فكان لهذا - في أول وهلة - من الأثر الطيب في نفس الأختين ما سرهما، ولكن شد ما اختلف شعورهما بعد ذلك! رأت (عصمت) أختها وهي تختال في ثوبها الجديد، وقد افاضت عليه من حسنها ما ضاعف بهاءه ورونقه، ثم تأملت نفسها فكادت تصعق. . . . . أنهما من نوع واحد! ولون واحد! ومن صنع يد واحدة! فما بال أحدهما يصعد إلى قمة الحسن، وينزل الآخر إلى أحط دركات القبح!؟ هل شارك الجماد أبويها في إذلالها والزراية بها؟ هل يميز الثوب بين الوسامة والدمامة حتى يصدمها هذه الصدمة الأليمة. . .!!؟(76/72)
إذن أف له ما أقبحه، وما أشد بغضي له!. ناجت نفسها بكل هذا، والألم يحز في أحشائها حزاً تحس أثره اللاذع في السويداء من قلبها، وكأنها نسيت نتوء عظام كتفيها، وهزال جسمها، وشحوب لونها الأسمر الذي ضاعفه لون ثوبها الجميل؛ على حين تخلع (لمعان) من روعتها ونضارتها على ثوبها ما يزيده جمالاً وروعة
هتفت بالأختين مربيتهما: هيا قبلا أبويكما وهنئاهما بالعيد. . . لبتا الأمر، ومشت (عصمت) على استحياء والهم يملأ فؤادها المكلوم، وقد سبقتها (لمعان) - وكأنها ظبي أهيج - في خفة ورشاقة، ولكنها انتظرت مقدم أختها لتتقدمها في أداء هذا الواجب
مشت البائسة مطأطئة الرأس، مكتئبة النفس، في وجوم يكاد يكون بلادة، ثم تناولت أيدي أبويها وقبلتها، فبادلها كل منهما بقبلة، وكأنما يقبلان جثة هامدة لما غشيهما من الحزن والكآبة، ولكنهما ما لبثا أن تهللا حينما جاء دور (لمعان). .
يا لله للمحدود التعس.!! حتى في اليوم الذي يفرح فيه الناس جميعا، ويتناسى كل حزين حزنه، وكل بائس بؤسه، تطعن هذه الشقية تلك الطعنة النجلاء!
ظلت (عصمت) شاخصة، وسرى من روحها الحزين تيار قوي شل حركات الجميع فجمدوا كأنهم التماثيل، ولم يخرجهم من هذه الحال إلا (لمعان) حينما تحركت، وكأنها أدركت فجأة مقدار ما أصاب أختها من غبن وما نالها من شقوة، فجاش قلبها بالرحمة والحب، فاحتضنتها وتعلقت بها، وبذلت جهدها حتى طبعت قبلتها على جبينها، ولكن (عصمت) لم تبادلها إياها، وكان هذا عن غير عمد منها، فقد كانت شاردة اللب، كليلة الذهن، يضطرب صدرها بشتى الآلام وضروب الأوجاع، وقد أيقنت في هذه الساعة بماكانت لا تشعر به إلا محاطا بالغموض والإبهام، وحاولت أن تجزي أختها بما فعلت، فاحتضنتها وأرادت أن تقبلها، ولكنها انفجرت باكية في نشيج محزن، وأخذ صدرها يعلو ويهبط، وعيونها تفيض بغزير الدمع وهي تحاول منعه، ولكن هيهات فقد أفلت من يدها الزمام
منذ تلك الساعة (وعصمت) في هم دائم، حتى الابتسامة التي كانت تزور شفتيها لماما، وكأنها ضلت طريقها إلى الثغور الفرحة، فأوقعها سوء الحظ في هذا الثغر الحزين. . . حتى هذه الابتسامة غادرتها إلى غير رجعة، فقد أزالت تلك الدمع الحارة التي ذرفتها عيناها يوم العيد الغشاوة التي طالما حجبت عنها الحقيقة في أيامها الأولى(76/73)
وأيقنت أن جرحها عميق بعيد الغور لا يرجى له برء، ولا يعرف له دواء، وكلما تقدمت سنها قوي عندها الشعور، وضوعف الألم. . . . . .
أما (لمعان) ففي شغل عنها بزينتها ولهوها ومرحها
كبرت الأختان، وأشرفتا على سن الزواج، وأصبحت (لمعان) فاتنة المدينة، وغادتها الفريدة، وشرع الأبوان في إعداد ما يلزم لزفاف فتاتيهما، كسبا للوقت واستعدادا للطوارئ، فكانت (لمعان) تجلس الساعات الطوال، تصور لنفسها ذلك المستقبل السعيد الذي ينتظرها، بينا (عصمت) تتخيل في كل أداة تهيأ لها حية تنهش فؤادها، أو سهما يسدد إلى قلبها، فكل شيء يذكرها بذل الخيبة، ومرارة الفشل. . . .
الزواج! نهاية الأمل، ولقد فقدت الرغبة، وهل عاش لها أمل أو بقيت لها رغبة؟
لقد فقدت الأمل، ولقد فقدت الرغبة، ولم يبق لها إلا إحساسها، وكم كانت تجاهد المسكينة نفسها حينما تعرضها أمها إلى جانب (لمعان) على الخواطب. . . .
وهل تنتظر منهن كلمة الإعجاب التي لم تظفر بها في يوم ما من أبويها؟ وهل هن أشفق على إحساسها وأرحم بفؤادها منهما؟. . . . إذن فليذب كبدها، ولتتقطع أوصالها، وهي تساق إلى ذلك الموقف سوقا، ولتتحمل على الرغم منها تلك المخالب التي تنشب في أحشائها وتمزقها تمزيقا، ولتتقبل كارهة ذلك الأعراض الساخر وقتما يأتلق للخواطب نور (لمعان) بجانب دمامتها
هاهي ذي أمامهن تدور بعينيها في الغرفة تلتمس الخلاص كما يلتمسه الطائر السجين فلا تجده، وقد خيل إليها أن الفلك قد وقف عن دورانه في هذه اللحظة الطويلة، حتى إذا أذن لها بالخروج بادرت متهالكة وقذفت بنفسها إلى غرفتها وكأنها فرت من الجحيم فتغلق عليها بابها، وتنزوي في ركن من أركانها جامدة الحركة، كسيرة الجناح، واهنة القوة، لا تستطيع نزع ثيابها ولا النظر في مرآتها، وتظل شاخصة ببصرها إلى نقطة وهمية، وعواطفها تلتهب بين جوانحها حتى يكاد يحترق جسمها النحيل
أما (لمعان) فتذهب متهللة إلى غرفة الخدم، وتسر إلى فتاة لعوب منهن كانت تصطفيها - ما كان من أمر الزائرات معها، وكيف كن يحدقن فيها ويداعبنها، خصوصا تلك السيدة الشابة ذات المخمل الأزرق المكسو بالفراء؛ كانت تقص هذا على صاحبتها وهي مفترة(76/74)
الثغر، مشرقة الجبين، تنطق أساريرها بما استولى عليها من الزهو
ظل الخواطب يترددن على منزل الأسرة عامين كاملين، و (عصمت) تكتوي بنار العرض عليهن، إلى أن صهرتها الآلام وحولتها إلى مخلوقة أخرى، إلى قديسة تنشد الصبر، وتطلب من الله العزاء، وكانت تسمع عقب كل زيارة همسا ينبعث من غرفة والديها لم تتبينه بادئ الأمر، إلى أن سمعت أباها ذات مرة يقول للمعان وهي تدخل عليهما الغرفة بغتة: لاشك يا ابنتي في أنك تقبلين الانتظار حتى تتزوج أختك بصدر رحب، أليس كذلك؟
فصمتت (لمعان) خجلا، ولكن هذه الكلمة فعلت في نفس (عصمت) ما فعلت فاعتزمت أمرا. وما زالت ترقب الفرصة لما اعتزمت حتى لاحت لها عقب زيارة بعض الخواطب، وقد طلب الوالد من ابنتيه أن يذهبا إلى مخدعهما، وحينئذ لم يخف على (عصمت) أن أباها يريد أن يخلو إلى أمها ليحادثها فيما جاء من أجله الخاطبات، فاختفت بحيث تنصت لحديث والديها دون أن يرياها
سمعت أباها يقول: لا لا. لا يمكن أن نزوج الصغرى ونترك (عصمت) فريسة للهواجس، فتقول أمها وهي تحاوره:
لقد انتظرنا طويلا، وليس من الحكمة أن نغامر بمستقبل (لمعان) في سبيل أمل دلت الشواهد على أنه لا يتحقق، وإذا لم تتزوج (لمعان) فلا سبيل إلى زواج (عصمت) وتكون العاقبة تضحية الاثنتين؛ وهذه جريمة لن أوافق على اقترافها أبدا. . .
لم يجر أي حديث في شأن (عصمت) في زيارة من تلك الزيارات العديدة، ولم تذكر على لسان أحد بزواج، بينما تلح الخواطب إلحاحا شديدا في طلب (لمعان) فلم هذا العناد جريا وراء سراب خادع ووهم باطل؟
ولو أن سهما أصاب فؤاد (عصمت) لما تألمت كل هذا الألم الذي اعتراها عندما صك سمعها هذا الكلام. أي بلية جديدة وأي نكبة.!؟؟ أتكون عقبة في سبيل إسعاد أختها؟ لقد شربت كأسها وحدها صابرة محتسبة، فهل تكون سببا في شقاء غيرها. .؟؟. لا. إن هذا لن يكون أبدا
هذا ما تحدث به ضمير (عصمت). أما أبوها فأخذ يقول لأمها:
تحاولين عبثا إقناعي بزواج (لمعان) أولا، وإني لأفضل تضحية الاثنتين على أن أرى(76/75)
كبرى بناتي تموت غما، وأكون مع القدر عليها
واستمر في حديثه و (عصمت) ترتجف خلف الباب تأثرا، ولم تستطع كبح جماح عواطفها طويلا، فاقتحمت الباب عليهما صائحة:
كلا يا أبتاه. إن (عصمت) لن تتزوج، فهي لم تخلق للزواج؛ أنها دميمة، ولن يبحث الأزواج عن الدميمات، ارحمها يا أبتاه، ولا توقفها ذلك الموقف المؤلم، ودعها تحيا في ظلك ما قدر لها، إنني بائسة فلا تجعلني حائلا بين أختي وبين سعادتها ومستقبلها، وأجهشت باكية، فبكى أبواها رحمة بها وإشفاقا عليها
مرت الأيام ولم يجد الأبوان أمام إلحاح (عصمت) وإصرارها بدا من زواج (لمعان)، وقد اغتبطت عصمت لذلك اغتباطا شديدا، وكانت ترى في خدمة أختها وزوجها بعض السلوة
انقطعت زيارة الخواطب منذ تزوجت (لمعان). وناءت (عصمت) بعبء ما مر بها من خطوب، فأصبحت وهي في عقدها الثاني كأرملة في الثمانين، وقد زهدت الحياة وملتها حتى وضعت (لمعان) طفلا جميلا فاتخذته ولدا لها، ولم تكن لتتركه لحظة واحدة، جعلت له من صدرها مهدا، ومن عنايتها حارسا فشب على حبها، ووجدت لذلك برد الراحة، فحببت إليها الحياة، وكانت تعتقد أنها جوزيت على جميل صبرها خير الجزاء حينما تداعب الطفل فيطوقها بذراعيه الصغيرتين، ويغمر وجنتيها الجافتين اللتين لم يسعدهما الحظ لثما وتقبيلا وهو يقول: خالتاه. . . ما أحيلاك يا خالتاه. . .!
اسكندرية
عبد اللطيف أحمد(76/76)
من الأدب الفرنسي
هنرييت البائسة
للكاتب الفرنسي أندريه موروا
لشد ما كانت دهشتي عندما دعاني صديقي روبير بالتليفون إلى زيارته بمنزله، لقد جالت في نفسي خواطر كثيرة أثارت على حربا من الشكوك والريب. لقد كنت أشعر بحنان شديد وعطف خالص لزوجته هنرييت، وكان روبير حسن الذوق لطيف المعشر، يميل إلى المداعبة في شيء من المجون، وهو يعد عاشق من عشاق الخمر الذين يتهافتون على الكأس ولا يتركونها إلا إلى الكأس
ما عهدت في حياتي ولاء مثل ذلك الولاء الذي كانت هنرييت تتعهده به طوال خمسة عشر عاما لم تذق خلالها يوما واحدا من السعادة
لقد لقيته في اليوم نفيه وتصافحنا ثم جلست قبالته، وظل صامتا ثم حرك يده في هدوء، وأخرج علبة سجائره وتناول إحداها ثم أشعلها وأومأ إلي برأسه ثم قال:
- إن لي عندك حاجة فهل لك أن تقضيها. .؟ وعليك في الحالين أن تصدقني الوعد. . . إنني لن أسيئك في مادة، ولن أجهدك في عمل، وإنك تعلم أن هنرييت تحترمك وتأخذ بآرائك من غير تفكير، وحسبك هذا منها دليلا على ثقتها بك. إنك رجل قد خبرت الحياة ولا بستها وعرفت عنها كثيرا. . . وهنرييت عاقلة تفهم عنك ذلك بقدر ما أفهم أنا عنك. لقد عرفت بتجاربي الخاصة أنك رجل سديد الرأي، ولا يفوتن صواب قريحتك أن نصائح الزوج لا تلقي من الزوجة أذنا صاغية، ثم نفث من فمه نفثة غليظة من الدخان، ونظر إلي بعينين يفيض منهم الحنان والألم، وعقب قائلا
- فكر معي يا عزيزي - لقد قيضت لي الظروف عند عودتي من المؤتمر لقيا امرأة، أو لتقل فتاة، ولعت بها لساعتها، هي من أهل الشمال، وقد تبين لي ذلك من لهجتها وصوتها، وقد تعجب يا صديقي إن قلت لك إن هذه اللهجة وذلك الصوت الأبح، هما اللذان أسر لبي وملكا علي قلبي. . لقد بعثت في هذه الفتاة حياة جديدة. . أوه يا صديقي ما أشد قسوة الظروف وما أمرها! لا يكاد الإنسان منا يتناول الكأس إلى شفتيه الظامئتين حتى يعيدها مجبرا قبل أن ينال منها رشفة(76/77)
هكذا كانت رحلتنا في الطائرة. . لم يتسع الوقت لأن نجرع من الكأس ولو جرعة. . إنك تعرفني يا صديقي. . أنا لا أطيق صبرا على شيء تداعبه نسمة من الشك. . وتعرف أن لذة الانتصار يدفعها جنون الغرام تحملني على أن أركب متن الشطط حتى أنتهي. . .
ولقد دعاني المؤتمر إليه في الشتاء القادم - وستبقى هنرييت - هنرييت المسكينة. . ستبقى هنا يا صدقي، وستبقى بجانبها أنت لتقوم بدورك فقلت:
- بينك وبين زوجتك!. . ومن أين لي ذلك.!
فقاطعني قائلا:
- رويدا يا عزيزي. . هون عليك فالأمر سهل يسير ولن أذهب بك إلى شيء غير ما يصلح من شأن هنرييت، لقد أخذ يتسرب إليها الشك في تلك الرحلة حتى صممت على مصاحبتي. . . وإن ذلك لأمر قريب المحال. . كل ما أريد أن أستمده منك من معونة لا يكلفك إلا أن تفوه ببضع كلمات، وستحدثك هنرييت في هذا الموضوع وتصارحك بكل شيء. . .
فسر لها يا صديقي حاجة الكاتب إلى الظهور في مثل هذا البلد الغريب الذي سأرحل إليه حتى تسوغ سفري. ثم قل لها إن الوقت سيكون قسمة بين ولائم تورث النفس السأم، ومقابلات رسمية تبعث فيها الضجر والملل، ولا يفوتنك ذكر تكاليف الرحلة، فكيف بها إذا صاحبتني وأنا أحرص على راحتها، وأخيرا حل بينها وبين مرافقتي، وخفف من غلوائها فهي لابد لنصحك مستمعة، ولرأيك خاضعة، ولسؤالك مجيبة، ولا تنس - لا تنس أن تقرب إلى ذهنها أني لا أزال باقيا على حبها، وأني سأسهر على سعادتها ما حييت، وفي الغد ستسنح الفرص لأشهر طوال أعيد إليها خلالها ذكرى أيامنا الماضية الجميلة
لقد دام حديثه قرابة ساعة، بينما كان صوت أصابعي وهي تنقر على المائدة التي جلسنا حولها في غير انتظام يتجاوب صداه في أنحاء الغرفة، وأخيرا تركني من غير أن يطمئن إلى وعدي، وبعد الظهيرة بقليل لم أشعر إلا ويدي تحمل آلة المسرة ولقد كانت مصادفة غريبة عندما سمعت صوت هنرييت تناديني
- برتراند!. . . كيف حالك يا عزيزي الصغير؟. . . أظن أن في وقتك بقية اليوم متسعا للقائي، فهل تسمح بزيارتي!. . سأعد لك فنجانا من الشاي، وربما يكون هناك مشورة بيني(76/78)
وبينك. . . أسرع يا عزيزي
لقد كانت ممسكة بكتاب (باخ) تحركه في يدها في طفولة بريئة، لم تكن هنرييت تقل عن الأربعين، ولم تكن تزيد عليها، ولكنها ظهرت لي في هذه الليلة في ثوب فضفاض، وقد شاعت على قسماتها أشعة من نور الشفق الأحمر الحائل كامرأة في الثلاثين
قالت لي في غير تكلف:
- يا صغيري برتراند! - سأكلفك أمرا تؤديه إلي - واعلم أني سأكون لك مطيعة. . . ولأمرك سميعة. . .
- إنك تعلمين علم اليقين يا هنرييت. . .
فقاطعتني قائلة:
- هيه يا عزيزي برتراند! ليس في الوجود رجل أوليه ثقتي غيرك، ولكن الأمر خطير. . . عزيزي برتراند. . . إني. . . أحب. . . شابا يصغرني بكثير. . . إني أعم أنك ستمقت هذا الشاب وستحقد عليه وسيتملكك السخط علي إذا قلت لك أن بينك وبينه تباينا كبيرا. . . هو شاب سلافي جميل طالب بكلية باريس، وهو فوق ذلك راقص ماهر ومثقف إلى حد كبير، وبرغم ذلك لا أرتاح إليه كثيرا، إذ هو مجنون، دنيء الأصل كما يتبين لي. . ولكني على الحالين أحبه. . وأنا سعيدة به
فقلت:
- أوه. . . وروبير. .!!
- روبير لا يعرف شيئا عن هذا الحادث. . . روبير يرعاني كمن يرعى امرأة مسكينة، أو كمن يشفق على خادمة بائسة عضها الدهر. . . لقد صرت بغيضة إليه وهو بعد في شغل عني بفتاة دانيمركية
- كيف؟ أتعلمين هذا الخبر؟
- هوه!. . . منذ أمد بعيد، وكيف عرفت أنت ذلك؟!
- لقد كان روبير عندي اليوم صباحا
- أحدثك عن هذا الموضوع. . . يا له من نذل جبان!. . . إن صراحتي تجيز لي التماس ضراعتك. . استمع لي يا برتراند. . سيسافر روبير، وسيقضي في رحلته خمسة عشر(76/79)
يوما من شهر أكتوبر القادم، وسأطوف أنا و (فيدين) الجزر الإغريقية
فقلت:
- هنرييت: لا حاجة إلى أن أعيد على مسمعك ليس هناك أمنية لروبير غير السفر، ولكنه لا يعتقد. . .
فقاطعتني قائلة:
- استمع يابرتراند، إني على يقين من سفره. ولقد أخبرني أنه صمم على ذلك، ولكني عارضته، وبكيت وتوسلت إليه، وأخاف أن يوهن ذلك من عزمه
- لقد عسر علي الفهم. . لم هذه الكوميدية. . .؟
- إن ابتسامة واحدة مني يا برتراند لكافية أن تكشف الستار عن نصف رغائبه على الأقل، وأن تخلق في نفسه الشك في علمي بأمره. . . وكل ما أرجوه منك يا عزيزي الصغير أن تحبذ له فكرة السفر وأن تحمله على الاعتقاد بأن في هذه الرحلة ضمانا لمستقبله وعظمته، وإذا ما غير من رأيه وفضل البقاء على الرحيل فلا بد أن يغير من هذه الطريقة في معاملته لي، وأن يزيل من نفسه هذا النوع من الشفقة الخسيسة علي، وقل له إن هو هجر البيت مرة فانه سيعود فيجده خرابا. . ألق في ذهنه هذه المعاني وقل له إن سبيل التعزية الوحيد في غيبته - هو الرحلة الصغيرة التي أفهمتك عنها
فقلت: مسكين أنت يا روبير!
فقالت في هدوء: حقا. . انه مسكين!
1(76/80)
العدد 77 - بتاريخ: 24 - 12 - 1934(/)
أثر السياسة الحزبية في الأخلاق
للأستاذ عبد العزيز البشري
لقد عرفت من حديث الأسبوع الماضي بعض الآثار التي أشاعتها الحكومات الحزبية المتعاقبة في أخلاق جمهرة الموظفين، الإداريين منهم بوجه خاص، حتى نجم في بلادنا ذلك الفن المحقور المرذول: فن إرضاء القائم ومشايعته في هواه، ومد حبل الولاء للمقبل ومقاسمته أنه صادق الولاء له، ولقاء هذا بوجه، وذاك بوجه أخر، والتحدث إلى هذا بلسان، وإلى ذلك بلسان أخر. ولاشك أن من شأن النجاح بمثل هذه الوسائل، وعصمة المنصب باتخاذها، أن يبعث كثيرا من الموظفين الآخرين على التباري فيها، والافتنان في طلب السبق بها. وهكذا تتميع الأخلاق تميعا، وتتحطم طباع الرجولة تحطيماً!
على أن أثر الحال لا يقتصر على الأخلاق فحسب، بل إنه ليدخل الاضطراب والاختلال على الأعمال العامة التي يعالجها هؤلاء الموظفون. فالموظف، في هذه الحال، يحب أن يرضي أشياع الحكومة القائمة، ولا يحب أن يسيء إلى خصومها من أشياع الحكومة المقبلة، ليتخذ اليد عندهم ليوم تتبدل الحال غير الحال. فهو يبين أن يسوق ما بين يديه من الأعمال تعويقا ليتحلل من المسئولية البتة، وأما أن يعمد إلى توزيع المنافع بين هؤلاء وهؤلاء على حساب المصلحة العامة. وفي الأول شل لحركة الأعمال الحكومية وتعود الاسترخاء عن الاضطلاع بالمسؤوليات، وفي الثانية عبث بحقوق العباد، وإخلال بمصالح البلاد، وفي كلتيهما شر عظيم وفساد كبير!
ولقد أمتد أثر هذه الحال إلى الأعمال الفنية العظيمة، فإن الحكومات الحزبية في بلادنا إنما تعمد، في العادة، إلى المشروعات الفنية التي هيأتها سابقتها، فتتناولها بالتغيير والتبديل، أن لم تتولها بالإلغاء والتعطيل. ولقد تكون قد جردت عليها وهي في المعارضة حملة حزبية شعواء، فأنظر، رعاك الله، موقف الموظفين الفنيين الذين هيأوا تلك المشروعات وأعانوا عليها من هؤلاء ومن هؤلاء!
وليس لهذا من أثر إلا أن ينقبضوا عن معالجة الأعمال الجسام، وأن يحتالوا على الخلاص منها طلبا للخلاص بأنفسهم من ألوان المسئوليات. وفي ذلك إثم في حق الفن وحق الوطن على بنيه من صفوة المتعلمين.(77/1)
لقد سبق لي أن زعمت أن طبيعة قيام الحكومات الحزبية لا تدعو إلى شيء من كل هذا الاضطراب والتجلجل في أخلاق الموظفين ولا فيتصرف الموظفين، بدليل تعاور الحكومات الحزبية للحكم في جميع البلاد الدستورية، ومع هذا لم يسمع عن حال الموظفين بعض ما نسمع ونرى في هذه البلاد. وعللنا هذا بأننا نجتاز مرحلة سياسية خاصة لا أظن أنه يجتاز مثلها الآن بلدا آخر من بلاد الله.
وبمناسبة الحديث في اعتماد الحكومات القائمة مشروعات سلفها بالتغيير أو التعطيل، أذكر أن المستر سنودن، وهو من تعرف جبروتا وعظم كفاية، لما تولى وزارة المالية الإنجليزية في وزارة العمال، أراد أن يغير في شكل الميزانية، فيقدم هذا الباب على ذلك الباب، ويضيف من هذا الفصل لهذا الفصل، صمد له الموظفون الفنيون ومنعوه هذا منعاً، وقالوا له: إن لك أن تصنع بسياسة الدولة المالية ما تشاء، فتفرض من الضرائب ما تشاء، وتحط منها ما تريد، وأن تزيد ما ترى زيادته من وجوه النفقات، وتنقص ما ترى نقصه لك كل هذا، أما أن تدخل في الوضع الفني للميزانية فذلك ما لا سبيل لك إليه بحال! ويقتنع الرجل ويعدل عن هذا بنيته. فمتى نرى موظفينا على بعض هذه المتانة والثبات والإيمان؟
الذي أعتقده أن مثل هذا من السهل الميسور إذا أمن الموظفون سطوة الحكومات الحزبية بهم يوما يعصونها في طاعة الواجب والحق والقانون. فإذا زلت قدم الموظف، بعد هذا، أو مانع على ذمته وما ائتمن عليه من الحقوق العامة، كان جزاؤه النكال والوبال. فهل نطمع من حكومتنا في أن تعالج هذا فيما أخذت نفسها به من وجوه الإصلاح بعد إذ تفرغ من مهمة التطهير، واستخلاص الأداة الحكومية من هذا الفساد؟
هذا ما كان من شأن الموظفين، أما شأن الأعيان في بلادنا فأعجب وأغرب، إذا منعنا الحياء من أن نقول إنه أخزى وأفحش. فإننا إذا تمحلنا بعض المعاذير لأولئك من الحرص على مناصبهم، وإمساك أسباب العيش على أزواجهم وبنيهم، فإننا لا يمكن أن نصيب عذرا لهؤلاء. اللهم إلا إذا كان من بين الأعذار السائغة حاجة المرء إلى الجاه والسطوة، واغتصاب المنافع العامة، وقضاء حاجات الأهل والأقربين، ولا ينال هذا إلا إذا وضع على رأسه ذمته، وعقيدته، وكرامته، وراح ينادي عليها فعل الباعة المضطربين بسلعهم في الأسواق.(77/2)
اللهم إنه لا يعيب المرء مطلقا أن يتغير رأيه في شيء من الأشياء، ولو من صواب في الواقع إلى خطأ في الواقع ما دام الأمر موصولا بصحة الاعتقاد، ولا يعيب المرء مطلقا أن يهجر حزبا ويتصل بحزب أخر طوعا لتغير عقيدته في الحزبين جميعا. بل العيب كل العيب في ألا يفعل، وإلا كان أثما أبلغ الإثم في حق وطنه، مأخوذا في تعصبه بحمية الجاهلية التي هجنها الله تعالى في كتابه العزيز. ماذا يعيب المرء إذا تكشف له خطأ رأيه فعدل عنه إلى الصواب؟ وماذا إذا رأى شيعته قد انحرفت عن القصد، وعبثت بما رسمت من المبادئ في توجيه سياسة البلاد؟ بل الذي يعيبه كل العيب ألا يفارقها إلى من هو أصدق منها في تحقيق كريم الأغراض!
لو أن أولئك الأعيان إنما يتحولون ويضطربون بين الأحزاب المختلفةطوعاً لرأي يعتريهم، أو عقيدة تدخلها الظروف عليهم، لما استحقوا إلا الحمد والثناء. أما وهم صامدون بآرائهم وعقائدهم لكل حزب يتولى الحكم، فيهرولون لساعتهم إليه، ويعلنون انضوائهم تحت لوائه، ولا يتوانون في كل مناسبة عن الآذان بأنه الحزب الصادق السعي في تحقيق آمال البلاد، حتى إذا ما أدال الله منه بالحكم لحزب غيره، سرعان ما ولوا وجوههم شطره فأعلنوا أنهم بمبادئه مؤمنون، وأنهم تحت لوائه منضوون، لأنه قد بان لهم أنه الحزب لا حزب غيره، الصادق السعاة في إصلاح الحال، القادر الكفء لتحقيق أعز الآمال!
وهكذا دواليك لا يعقد عن هذا الرقص والحجلان وقار ولا تحشم ولا حياء، حتى أصبحوا على البلاد من أشنع المعرات، وحتى هونوا على غيرهم شأن الكرامة، وأرخصوا في الناس فضيلة الحياء، وأعلنوا أن المبادئ والعقائد مما يباع ويشترى، وأن الأهواء الحزبية مما يؤجر ويكترى، وليس في إطلاق هذا الصنع على ازلاله إلا إفساد الأخلاق، وتوطئ النفوس لقبول الضمة والهوان.
بعد، فقد تقتضيني الرأي في علاج هذا الداء، ولعله يتعاظمك هذا العلاج! اللهم إن علاج هذا لداء في بعض هؤلاء الأعيان، فإنه ما دام الحكم جارية أسبابه على مقتضى النزاهة والعدالة، والحرص على إقامة حدود القوانين، بحيث يصل المرء إلى حقه في يسر، وبحيث يحال بين المرء أيا كان وبين أن يبلغ ما لا حق له فيه بحال - لم يبق بأحد حاجة إلى اللف والدوران، والرقص والحجلان، والتشكلفي مختلف الصور، والتلون بشتى(77/3)
الألوان، فهل نحن فاعلون!
عبد العزيزالبشري(77/4)
سمو الحب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
صاح المنادي في موسم الحج: (لا يفتى الناس إلا عطاء ابن أبي رباح) وكذلك كان يفعل خلفاء بني أمية، يأمرون صائحهم في الموسم، أن يدل الناس على مفتي مكة وإمامها وعالمها، ليثقلوه بمسائلهم في الدين، ثم ليمسك غيره على الفتوى، إذ هو الحجة القاطعة لا ينبغي أن يكون معها غيرها مما يختلف عليها أو يعارضها، وليس للحجج إلا أن تظاهرها وتترادف على معناها.
وجلس عطاء يتحين الصلاة في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال يا أبا محمد، أنت أفتيت كما قال الشاعر:
سَلِ الُمفْتِيَ الَمكِّيَّ: هل في تَزَاوُرٍ ... وَضَمَّةِ مُشتاقِ الفؤادِ جُناحُ؟
فقال: مَعَاذَ اللهِ أن يُذْهِبَ التُّقَى ... تَلاصُقُ أكبادٍ بهنَّ جِراحُ!
فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلت شيئاً من هذا، ولكن الشاعر هو نحلني هذا الرأي الذي نفثه الشيطان على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القالة في الناس، فإذا كان غد وجلست في حلقتي فأغد علي، فأني قائل شيئا.
وذهب الخبر يؤج كما تؤج النار، وتعالم الناس أن عطاء سيتكلم في الحب، وعجبوا كيف يدري الحب أو يحسن أن يقول فيه من غير عشرين سنة فراشه المسجد، وسمع من عائشة أم المؤمنين، وأبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبن عباس بحر العلم! وقال جماعة منهم: هذا رجل صامت أكثر وقته، وما تكلم إلا خيل إلى الناس أنه يؤيد بمثل الوحي، فكأنما هو نجى ملائكة يسمع ويقول، فلعل السماء موحية إلى الأرض بلسانه وحيا في هذه الضلالة التي عمت الناس وفتنتهم بالنساء والغناء.
ولما كان غد جاء الناس إرسالاً إلى المسجد، حتى أجتمع منهم الجمع الكثير: قال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار: وكنت رجلا شابا من فتيان المدينة، وفي نفسي من الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوت مع الناس، وجئت وقد تكلم أبو محمد وأفاض، ولم أكن رأيته من قبل، فنظرت إليه فإذا في مجلسه كأنه هو غراب أسود، إذ كان أبن أمة سوداء تسمى (بركة) ورأيته أسود أعور أفطس أشل أعرج مفلفل الشعر، لا يتأمل المرء منه طائلا،(77/5)
ولكنك تسمعه يتكلم فتظن والله أن هذه قطعة ليل تسطع فيها النجوم، وتصعد من حولها الملائكة وتنزل
قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: (وراوَدَتْه التي هو في بيتها عن نَفسهِ. وغَلَّقَتِ الأبواب وقالت: هَيْتَ لك. قال: مَعَاذَ الله. إنه ربيّ أَحْسَنَ مَثْواي. إنه لا يُفلِحَ الظالمون. ولقد هَمَّت به وَهَمَّ بها لولا أَنْ رأَى بُرْهَانَ ربَّه: كذلك لِنَصْرفَ عنه السوء والفحشاءَ)
قال عبد الرحمن: فسمعت كلاما قدسيا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله: عجبا للحب! هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس، ولكن أين ملكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: (وراودته التي) و (التي) هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت، فلم يبق على الحب ملك ولا منزلة، وزلت الملكة من الأنثى!
وأعجب من هذا كله (راودته) وهي بصيغتها للمفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها لون بعد لون، ذاهبة إلى فن راجعة من فن، لأنها من رودان الإبل في مشيتها، تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها، ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها، وكما يصور كبرياء الأنثى، إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي، كأنما هي شيْ أخر غير طبيعتها، فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا (الشيء الآخر) مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.
ثم قال: (عن نفسه) ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو، منزه غاية التنزيه بما معناه: إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغوائه وتصبيه، مقبلة عليه ومتدللة ومتبذلة ومنصبة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضة كل ذلك عرض امرأة خلعت أول ما خلعت أمام عينيه ثوب الملك.)
ثم قال (وغلقت الأبواب) ولم يقل (أغلقت) وهذا يشعر أنها لما يأست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة، وتجري من(77/6)
باب إلى باب، وتضطرب يدها في الإغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط.
(وقالت هَيْت لك) ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى أخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد إهتياجها وغليانها!
هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: (معاذ الله) ثم قال: (إنه ربي أحْسَنَ مَثواي) ثم قال: (إنه لا يفلح الظالمون) وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة، إذ كان أساس ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم. ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نزوتها، ولم يفتأ تلك الحدة، فإن حبها كان قد أنحصر في فكرة واحدة اجتمعت بكل أسبابها في زمن في مكان في رجل، فهي فكرة محتسبة كأن الأبواب مغلقة عليها أيضا، ولذا بقيت المرأة ثائرة ثورة نفسها، وهنا يسود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره العجز فيقول (ولقد همت به) كأنما يومي بهذه العبارة إلى إنها ترامت عليه، وتعلقت به، والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة لإلقاء الجمرة في الهشيم. . .!
جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطانالذي يقذف به في أخر محاولته. وهنا يقع ليوسف عليه السلام برهان ربه كما وقع لها هي برهان شيطانها. فلولا برهان ربه لكان هم بها، ولكن رجلا من البشر في ضعفه الطبيعي.
قال أبو محمد: وههنا ههنا المعجزة الكبرى، لأن الآية الكريمة تريد ألا تنفى عن يوسف عليه السلام فحولة الرجولة، حتى لا يظن به، ثم هي تريد من ذلك أن يتعلم الرجل، وخاصة الشبان منهم، كيف يتسامون بهذه الرجولة فوق الشهوات، حتى في الحالة التيهي نهاية قدرة الطبيعة، حالة ملكة مطاعة فاتنة عاشقة مختلية متعرضة متكشفة متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل، فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئا من هذا - هي أن يرى برهان ربه.
وهذا البرهان يؤوله كل إنسان بما شاء، فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفضها(77/7)
كلها، فإذا مثل الرجل نفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة أمام الله يراهما، وأن أماني القلب التي تهجس فيه ويظنها خافية، إنما هي صوت عال يسمعه الله، وإذا تذكر أنه سيموت ويقبر، وفكر فيما يصنع الثرى في جسمه هذا، أو فكر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل، أو فكر في أن هذا الإثم الذي يقترفه الآن سيكون مرجعه عليه في أخته أو بنته - إذا فكر في هذا ونحوه رأى برهان ربه يطالعه فجأة، كما يكون السائر في الطريق غافلا مندفعا إلى هاوية، ثم ينظر فجأة فيرى برهان عينه، أترونه يتردى في الهاوية حينئذ، أم يقف دونها وينجو، احفظوا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام، وأكثر الموعظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة بين الرجل والمرأة والشيطان، كلمة (رأى برهان ربه). قال عبد الرحمن بن عبد الله وهو يتحدث إلى صاحبه سهيل بن عبد الرحمن: ولزمت الإمام بعد ذلك، وأجمعت أن أتشبه به، وأسلك في طريقه من الزهد والمعرفة، ثم رجعت إلى المدينة وقد حفظت الرجل في نفسي كما أحفظ الكلام، وجعلت شعاري في كل نزعة من نزعات النفس هذه الكلمة العظيمة: (رأى برهان ربه)، فما ألمت بإثم قط، ولا دانيت معصية، ولا يرهقني مطلب من مطالب النفس إلى يوم الناس هذا، وأرجو أن يعصمني الله فيما بقي، فإن هذه الكلمة ليست كلمة، وإنما هي كأمر من السماء تحمله تمر به أمنا على كل معاصي الأرض فما يعترضك شيء منها كان معك خاتم الملك تجوز به. قال سهيل: فلهذا لقبك أهل المدينة (بالقس) لعبادتك ولزهدك وعزوفك عن النساء، وقليل لك والله يا أبا عبد الله، فلو قالوا: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك، لصدقوا.
قالت سلامة جارية سهيل بن عبد الرحمن المغنية الحاذقة الطريفة، الجميلة الفاتنة، الشاعرة القارئة، المؤرخة المتحدثة، التي لم يجتمع في امرأة مثلها حسن وجهها، وحسن غنائها، وحسن شعرها - قالت: واشتراني أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بعشرين ألف دينار (عشرة آلاف جنيه) وكان يقول: ما يقر عيني ما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة، ثم قال حين ملكني: ما جاء بعد من أمر الدنيا فليفتني، قالت: فلما عرضت عليه أمرني أن أغنيه، وكنت كالمخبولة من حب عبد الرحمن القس، حباً أراه فالقا كبدي، آتيا على حشاشتي، فذهب عني والله كل ما أحفظه من أصوات الغناء، كما يسمح اللوح بما كتب فيه، وأنسيت الخليفة وأنا بين يديه، ولم أر إلا عبد الرحمن ومجلسه مني سألني أن أغنيه(77/8)
بشعره في، وقولي له يومئذ: حبا وكرامة وعزازة لوجهك الجميل. وتناولت العود وجسته بقلبي قبل يدي، وضربت عليه كأني أضرب لعبد الرحمن، بيد أرى فيها عقلا يحتال حيلة امرأة عاشقة. ثم اندفعت أغني بشعر حبيبي:
إن التي طَرقَتْك بين ركائب ... تمشي بِمزْهَرها وأنتَ حَرام
لِتَصِيدَ قلبَكَ أو جزاء مودَّةٍ ... إن الرفيقَ له عليكَ ذِمامُ
باتتْ تُعَلِّلُنا وتَحْسِب أنَنا ... في ذاك أيقاظٌ، ونحن نيامُ
وغنيته والله غناء والهة ذاهبة العقل كاسفة البال، ورددته كما رددته لعبد الرحمن، وأنا إذ ذاك بين يديه كالوردة أول ما تتفتح. وأنا أنظر إليه وأتبين لصوتي في مسمعيه صوتا أخر. . . وقطعته ذلك التقطيع، ومددته ذلك التمديد، وصحت فيه صيحة قلبي ونفسي وجوارحي كلها كما غنيت عبد الرحمن، لكيما أؤدي إلى قلبه المعنى الذي في اللفظ، والمعنى في النفس جميعا، ولكيما أسكره - وهو الزاهد العابد - سكر الخمر بشيء غير الخمر، وما أفقت من هذه الغشية إلا حين قطعت الصوت، فإذا الخليفة كأنما يسمع من قلبي لا من فمي وقد زلزله الطرب، وما خفي على إنه رجل قد ألم بشأن امرأة، وخشيت أن أكون قدافتضحت عنده، ولكن غلبته شهوته، وكان جسدا بما فيه، يريد جسدا لما فيه، فمن ثم لم ينكر ولم يتغير. واشتراني وصرت إليه، فلما خلونا سألني أن أغني، فلم أشعر إلا وأنا أغنيه بشعر عبد الرحمن:
ألا قُلْ لهذا القلبِ: هل أنت مُبْصرُ ... وهل أنتَ عن سلاّمةَ اليومَ مُقْصرُ
إذا أخَذَتْ في الصوتِ كاد جليسُها ... يطيرُ إليها قلبُه حين تنظرُ
وأديته على ما كان يستحسنه عبد الرحمن ويطرب له، إذ يسمع فيه همسا من بكائي، ولهفة مما أجد به، وحسرة على أنه ينسكب في قلبي وهو يصد عني ويتحاماني، وما غنيت: (وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر) إلا في صوت تنوح به سلامة على نفسها وتندب وتتفجع!
فقال لي يزيد وقد فضحت نفسي عنده فضيحة مكشوفة: يا حبيبتي، من قائل هذا الشعر؟
قلت: أحدثك بالقصة يا أمير المؤمنين؟
قال: حدثيني(77/9)
قلت: هو عبد الرحمن بن أبي عمار الذي يلقبونه بالقس لعبادته ونسكه، وهو في المدينة يشبه عطاء بن أبي رباح، وكان صديقا لمولاي سهيل، فمر بدارنا يوما وأنا أغني فوقف يسمع، ودخل علينا (الأحوص) فقال، ويحكم، لكأن الملائكة والله تتلو مزاميرها بحلق سلامة، فهذا عبد الرحمن القس قد شغل بما يسمع منها، وهو واقف خارج الدار. فتسارع مولاي فخرج إليه ودعاه إلى أن يدخل فيسمع مني فأبى، فقال له: أما علمت أن عبد الله بن جعفر، وهو من هو في محله وبيته وعلمه قد مشى إلى جميلة أستاذة سلامة حين علم أنها آلت إليه ألا تغني أحدا إلا فيمنزلها، فجاءها فسمع منها، وقد هيأت له مجلسها، وجعلت على رؤوس جواريها شعورا مسدلة كالعناقيد، وألبستهن أنواع الثياب المصبغة، ووضعت فوق الشعور التيجان، وزينتهن بأنواع الحلي، وقامت هي على رأسه، وقام الجواري صفين بين يديه، حتى أقسم عليها فجلست غير بعيد، وأمرت الجواري فجلسن، ومع كل جارية عودها، ثم ضربن جميعا وغنت عليهن، وغنى الجواري على غنائها، فقال عبد الله، ما ظننت أن مثل هذا يكون! وأنا أقصدك في مكان تسمع من سلامة ولا تراها، إن كنت بالمنزلة التي لم يبلغها عبد الله بن جعفر!
قالت سلامة: وكانت هذهيا أمير المؤمنين - رقية من رقى إبليس، فقال عبد الرحمن: أما هذه فنعم. ودخل الدار وجلس حيث يسمع، ثم أمرني مولاي فخرجت إليه خروج القمر مشبوبا من سحابة كانت تغطيه، فما رآني حتى علقت بقلبه، وسبح طويلا طويلا، وما رأيته حتى رأيت الجنة والملائكة، ومت عن الدنيا وانتقلت إليه وحده. . .
قالت سلامة وافتضحت مرة أخرى، فتنحنح يزيد. . . فضحكت وقلت يا أمير المؤمنين، أحدثك أم حسبك؟ قال: حدثيني ويحك! فوالله لو كنت في الجنة كما أنت لعدت قصة أدم مع واحد واحد من أهلها حتى يطردوا جميعا من حسنها إلى حسنك، فما فعل القس ويحك؟ قلت يا أمير المؤمنين، إنه كان يدعى القس قبل أن يهواني. فقال يزيد وهل عجب وقد فتنته أن يطرده (البطريق) قلت: بل العجب وقد فتنته أن يصير هو البطريق. . .!
فضحك يزيد وقال: إيه، ما أحسب الرجل إلا قد دهي منك بداهية! فحدثيني فقد رفعت الغيرة، إني والله ما أرى هذا الرجل في أمره وأمرك إلا كالفحل من الإبل، قد ترك من الركوب والعمل، ونعم وسمن للفحلة، فند فذهب على وجهه، فأقحم في مفازة، وأصاب(77/10)
مرتعا فتوحش واستأسد، وتبين عليه أثر وحشيته، وأقبل إقبال الجن من قوة ونشاط وبأس شديد، فلما طال انفراده وتأبده عرضت له في البر ناقة كانت قد بدت من عطنها، وكانت فارهة جسيمة قد انتهت سمنا وغطاها الشحم واللحم، فراها البازل الصئول فهاج وصال وهدر، يخبط بيده ورجله، ويسمع لجوفه دوي من الغليان، وإذا هي قد ألقت نفسها بين يديه! أما والله لو جعل الشيطان في يمينه رجلا فحلا جميلا، وفي شماله امرأة جميلة تهواه، ثم تمطى متدافعا ومد ذراعيه فابتعدا، ثم تراجع متداخلا وضم ذراعيه فالتقيا، لكان هذا شأن ما بينك وبين القس!
قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما كان صاحبي في الرجال خلا ولا خمرا، وما كان الفحل إلا الناقة. . .! وما أحسب الشيطان يعرف هذا الرجل، وهل كان للشيطان عمل مع رجل يقول. إني أعرف دائما فكرتي، وهي دائما فكرتي لا تتغير. ذاك رجل أساسه كما يقول (برهان ربه) ولقد تصنعت له يا أمير المؤمنين، وتشكلت وتحليت وتبرجت، وحدثت نفسي منه بكثير، وقلت أنه رجل قد غير شبابه في وجود فارغ من المرأة، ثم وجد المرأة في. وغنيته يا أمير المؤمنين غناء جوارحي كلها، وكنت له كأني حرير ناعم يترجرج وينشر أمامه ويطوى، وجلست كالنائمة في فراشها وقد خلا المجلس، وكنت من ذلك بين يديه كالفاكهة الناضجة الحلوة تقول لمن يراها: كلني. . .!)
قال يزيد: ويحك ويحك! وبعد هذا؟
قلت: بعد هذا يا أمير المؤمنين، وهو يهواني الهوى البرح، ويعشقني العشق المضني - لم ير في جمالي وفتنتي واستسلامي إلا أن الشيطان قد جاء يرشوه بالذهب. . . بالذهب الذي يتعامل به!
فضحك يزيد وقال: لا والله، لقد عرض الشيطان منك ذهبه ولؤلؤه وجواهره كلها، فكيف لعمري لم يفلح، وهو لو رشاني من هذا كله بدرهم لوجد أمير المؤمنين شاهد زور. . .!
قلت: ولكني لم أيأس يا أمير المؤمنين، وقد أردت أن أظهر امرأة فلم أفلح، وعملت أن أظهر شيطانة فإنخذلت، وجهدت أن يرى طبيعتي فلم يرني إلا بغير طبيعة، وكلما حاولت أن أنزل به عن سكينته ووقاره رأيت في عينيه ما لا يتغير كنور النجم، وكانت بعض نظراته لي والله كأنها عصا المؤدب، وكأنه يرى في جمالي حقيقة من العبادة، ويرى في(77/11)
جسمي خرافة الصنم، فهو مقبل على جميلة، ولكنه منصرف عني امرأة. لم أيأس على كل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن أول الحب يطلب أخره أبدا إلى أن يموت. وكان يكثر من زيارتي، بل كانت إلى الغدوة والروحة، من حبه إياي وتعلقه بي، فواعدته يوما أن يجيء مني وأرى الليل أهله لأغنيه (ألا قل لهذا القلب. .) وكنت لحنته ولم يسمعه بعد. ولبثت نهاري كله أستروح في الهواء رائحة هذا الرجل مما أتلهف عليه، وأتمثل ظلام الليل كالطريق الممتد إلى شيء مخبوء أعلل النفس به. وبلغت ما أقدر عليه في زينة نفسي وإصلاح شأني، وتشكلت في صنوف من الزهر، وقلت لأجملهن وهي الوردة التي وضعتها بين نهدي: يا أختي، اجذبي عينه إليك، حتى إذا وقف نظره عليك فأنزلي به قليلا أو أصعدي به قليلا. قال يزيد وهو كالمحموم: ثم ثم ثم؟
قلت يا أمير المؤمنين: ثم جاء مع الليل، وإن المجلس لخال ما فيه غيري وغيره، بما أكابد منه وما يعاني مني. فغنيته أحر غناه وأشجاه، وكان العاشق فيه ليطرب لصوتي، ثم يطرب الزاهد فيه من أنه استطاع أن يطرب، كما يطيش الطفل ساعة ينطلق من حبس المؤدب. وما كان يسوؤني إلا أن تمارس في الزهد ممارسة، كأنما أنا صعوبة إنسانية فهو يريد أن يغلبها، وهو يجرب قوى نفسه وطبيعته عليها، أو كأنه يراني خيال امرأة في مرآة، لا امرأة مائلة له بهواها وشبابها وحسنها وفتنتها، أو أنا عنده كالحورية من حور الجنة في خيال من هي ثوابه، تكون معه، وإن بينها وبينه من البعد ما بين الدنيا والآخرة، فأجمعت أن أحطم المرآة ليراني أنا نفسي لا خيال، واستنجدت كل فتنتي أن تجعله يفر إلي كلما حاول أن يفر مني.
فلما ظننتني ملأت عينيه وأذنيه ونفسه، وانصبت إليه من كل جوارحه، وهجت التيار الذي في دمه ورفعته رفعا - قلت له: أنت يا خليلي شيء لا يعرف، أنت شيء متلفف بإنسان، ومن التي تعشق ثوبا ليس فيه لابسه؟
ورأيته والله يطوف عند ذلك بفكره، كما أطوف أنا بفكري حول المعنى الذي أردته. فملت إليه وقلت: أنا والله أحبك!)
فقال): وأنا والله الذي لا اله إلا هو)
قلت: (وأشتهي أن أعانقك وأقبلك!)(77/12)
قال: (وأنا والله!)
قلت: (فما يمنعك؟ فوالله إن الموضع لخال!)
قال: يمنعني قول الله عز وجل: (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين). فأكره أن تحول مودتي لك عداوة يوم القيامة)
إني أرى (برهان ربي) يا حبيبتي، وهو يمنعني أن أكون من سيئاتك وأن تكوني من سيئاتي، ولو أحببت الأنثى لوجدتك في كل أنثى، ولكني أحب ما فيك أنت بخاصتك، وهو الذي لا أعرفه ولا أنت تعرفينه، هو معناك يا سلامة لا شخصك. ثم قام وهو يبكي، فما عاد بعد يا أمير المؤمنين، ما عاد بعد ذلك، وترك لي ندامتي وكلام دموعه! وليتني لم أفعل، فقد رأى أن المرأة تكشف وجهها للرجل أحيانا، وكأنها لم تلق حجابها بل ألقت ثيابها. . . .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(77/13)
الصراع بين الحبشة والاستعمار الغربي وهل يريد
الاستعمار غزوها؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وقعت أخيراً عدة حوادث ومصادمات خطيرة على حدود الحبشة بين الإيطاليين والأحباش؛ وكان المظنون أن الكدر الذي أصاب العلائق الحبشة الإيطالية من جراء حادث الإعتداء على القنصلية الإيطالية في جوندار قد زال بعد إعذار الحكومة الحبشية وقيامها بالترضية المطلوبة. ولكن حادثاً أشد خطورة وقع منذ أيام قلائل على الحدود الحبشية مما يلي السومال الإيطالي؛ فقد نشبت معركة دموية شديدة بين قوة من الأحباش وقوة من الإيطاليين عند مركز اولوال الذي يدعيه كل منهما، قتل وجرح فيها من الفريقين عدد كبير يقدر بالمئات؛ وقد وقف القتال على أثر ذلك، وانسحب الأحباش إلى داخل الحدود، ورفعت الحكومة الحبشية الأمر إلى عصبة الأمم؛ ولكن الجو مازال كدراً مثقلاً بمختلف الاحتمالات
ومما يلفت النظر بنوع خاص أن يقع هذا التوتر وهذه الحوادث الخطيرة بين الدولتين عقب الزيارة الملكية التي قام بها ملك إيطاليا في الارتيريا والسومال، والمظاهرات العسكرية التي نظمتها السلطات الإيطالية بهذه المناسبة. ولا ريب أن طواف ملك إيطاليا بالأملاك الإيطالية في أفريقيا الشرقية لم يكن بقصد النزهة والتريض، ولكنها زيارة سياسية ظاهرة المغزى، وطليعة خطة جديدة تزمع إيطاليا الفاشستية انتهاجها في سياستها الاستعمارية. ومن المعروف أن إيطاليا الفاشستية تعني عناية شديدة بالتوسع الاستعماري، وأنها خطت في ذلك السبيل خطوات واسعة في طرابلس، حيث استطاعت أن توغل في داخلها بعد أن لبثت منذ غزوها تقتصر على احتلال البلاد الساحلية إلى مسافة قصيرة، واستطاعت بواسطة إنكلترا أن تنتزع واحة جغبوب المصرية وما يليها بمقتضى المعاهدة المعروفة، وأن تصحح بذلك حدودها على حساب الأراضي المصرية؛ بل لقد استطاعت أخيراً أن تنتزع بواسطة إنكلترا أيضاً جزءاً من واحة العوينات السودانية وأن تضمها إلى برقة الجنوبية، ونزلت لها إنكلترا عن تلك المنطقة بإسمها وبإسم مصر، ومصر لا تعلم بشيء من ذلك ولم يطلب رأيها فيه. وتبدي إيطاليا الفاشستية نشاطاً واضحاً في تنظيم مستعمراتها الأفريقية وتقوية نفوذها الإستعماري، وتجعل التوسع الاستعماري أساساً(77/14)
لسياستها الأوربية، فتشترط لتفاهمهما مع فرنسا ن تحصل على حقوق ويا استعمارية في جنوب تونس، وفي منطقة تشاد، وتدعو إلى تعديل معاهدة الصلح (معاهدة فرساي)، وتحاول أن تثير مسألة الانتدابات الاستعمارية التي استأثرت بها فرنسا وإنجلترا وحرمت هي منها فلم تظفر بشيء من أسلاب ألمانيا أو الدولة العثمانية؛ هذا إلى اهتمامها بتقوية نفوذها في كثير من الأمم الشرقية، ومضاعفة جهودها في نشر تجارتها ونفوذها الاقتصادي
ومن الطبيعي أن تخص إيطاليا المنطقة الحبشية بمعظم جهودها واهتمامها، فهي تملك في تلك المنطقة مستعمرتين كبيرتين هما بلاد الأريترية التي تحد الحبشة من الشمال الشرقي وتحجب عنها ساحل البحر الأحمر، وبلاد السومال الإيطالي، وهي تحد الحبشة من الجنوب الشرقي، وتحجب عنها ساحل المحيط الهندي. بيد أن هذا الاهتمام ليس حادثاً وطارئاً؛ فقد بدأت إيطاليا عصرها الاستعماري في تلك المنطقة، وامتلكت بها أول مستعمرة إيطالية. وكان ذلك سنة 1885، وقت أن كانت الدول الكبرى تنظم اقتسام أفريقية إلى أملاك ومستعمرات، فاستطاعت إيطاليا أن تضع يدها على ثغر مصوع وأن تحتل بلاد الإريترية؛ وكانت السياسة الإيطالية تتطلع يومئذ إلى التوسع في تلك المنطقة، وإلى إنشاء إمبراطورية استعمارية إيطالية في شرق أفريقية؛ ولم يكن يحقق ذلك الحلم سوى الاستيلاء على بلاد الحبش؛ فاتخذت من الإريترية قاعدة لتحقيق هذه السياسة، وكانت الحبشة تجوز يومئذ ظروفاً سيئة من تعاقب الثورات والخلافات الداخلية، وكان الغزو الأوربي قد استطاع أن يفذ إليها قبل ذلك بأعوام قلائل؛ ففي سنة 1868، نفذت حملة إنكليزية بقيادة نابيير إلى بلاد الحبشة لتعمل على إنقاذ بعض المبعوثين والرعايا الإنجليز الذين اعتقلتهم حكومة الحبشة وأبت إطلاق سراحهم، وكان المتغلب على الحبشة يومئذ زعيم يدعي كاساي، الذي تلقب باسم الملك (النجاشي) تيودور، فهزم واضطر إلى التسليم، وانتحر على أثر ذلك، وانسحب الإنكليز بعد أن أملوا شروطهم وحققوا غايتهم. وقام على عرش الحبشة النجاشي يوحنا الثاني، وفي عهده تقربت إيطاليا من الحبشة وعقدت معها صلات ودية وثيقة سرعان ما تحولت إلى نوع من الوصاية. واستمرت إيطاليا تعمل على تقوية نفوذها وسلطانها في الحبشة حتى توفي يوحنا الثاني سنة 1889 وخلفه منليك أمير شووا؛ وكان النير الإيطالي قد اشتدت وطأته يومئذ، وضعفت الحبشة واضطربت شئونها إلى حد(77/15)
استطاعت معه أن تفرض إيطاليا عليها معاهدة تقضي بوضعها تحت الحماية الإيطالية، وهي المعروفة بمعاهدة (أوشالي) (سنة 1889) وعندئذ تغلغل النفوذ الإيطالي في الحبشة، وسيطرت إيطاليا على شئونها ومصايرها، وأخذت تطمح إلى امتلاكها وضمها. ولكن شاء القدر أن يكون منليك، ذلك الأمير الذي ضاعت في عهده الحريات الحبشية هو نفس الأمير الذي يقوم بتحريرها من النير الأجنبي. ففي سنة 1895، اضطرمت الحبشة بثورة عظيمة ضد النفوذ الأجنبي بزعامة منليك، ونشبت الحرب بين الإيطاليين والأحباش، وهزم الإيطاليون هزيمة ساحقة في (عدوه) من أعمال ولاية تجري في قاصية شمال الحبشة، وذلك في أول مارس سنة 1896، وأرغمت إيطاليا على أن تعقد مع الحبشة معاهدة جديدة تعترف فيها باستقلالها (معاهدة تأديس أبابا)، وبذلك استردت الحبشة حرياتها التي لم يطل أمد ضياعها، وانهارت آمال الاستعمار الإيطالي؛ واستمر منليك الثاني، أو منليك الأكبر محرر الحبشة يسهر على ما يرها بقوة وعزم، ويسير بها في سبيل المدينة والإصلاح والتقدم حتى توفي سنة 1913. وفي عهده نظمت الحبشة علائقها مع الدول الأوربية، وعقدت معاهدة صداقة مع بريطانيا العظمى، واستطاعت أن ترغم الدول الاستعمارية على احترامها وعلى الحد من أطماعها
وفي سنة 1906 عقد بين إيطاليا وبريطانيا وفرنسا تحالف ثلاثي يقضي بالعمل المشترك لحماية أراضيها ومصالحها في تلك المنطقة، وهو تحالف تجدد في سنة 1925، ولما توفي منليك الثاني في سنة 1913، خلفه حفيده ابن ابنته (ليجي ياسو)، وقد كان أبوه الراس مخائيل مسلماً فتنصر تحقيقاً لأطماعه وتزوج من ابنة منليك. ثم نشبت الحرب الكبرى، واضطرمت الدسائس حول ليجي ياسو؛ واتهم بممالأة المسلمين الذين ينتمي إليهم بأصله ودمه، ثم اتهم بالارتداد عن النصرانية؛ ولكن الواقع أن ليجي ياسو كان يرى أن مصلحة الحبشة أثناء الحرب تقضي باتجاهها نحو التحالف الجرماني التركي وابتعادها عن دول الحلفاء؛ فخشي الحلفاء ولاسيما إنكلترا عاقبة هذا الاتجاه، وأخذت تعمل لإثارة الشعب الحبشي ضد أميره، وألفت في بطريرك الحبشة القبطي خير أداة لحياكة هذه الدسائس، فاستعمل الدين وسيلة لإضرام الثورة وألفى الزعماء المستقلون فرصتهم، وهزم ليجي ياسو بعد وقائع وخطوب جمة؛ وأعلنت (زوديتو) ابنة منليك لاكبرى إمبراطورة للحبشة، (سنة(77/16)
1916) وعين الراس تافري ماكنن وصياً للعرش وولياً؛ وكان هو الملك وهو الحاكم، ولم يكن للإمبراطورة من السلطة الحقيقية شيء؛ وبعد بضعة أعوام أعلن الراس تافري نفسه إمبراطوراً إلى جانب الإمبراطورة زوديتو؛ ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، استقل الراس تفري بعرش الحبشة باسم الإمبراطور (هيلي سلاسي)؛ وكان أعظم حادث سياسي في عهده انضمام الحبشة إلى عصبة الأمم. وفي عهده قطعت الحبشة مراحل عظيمة في سبيل التقدم والتجديد، وبذلت جهوداً كبيرة لتنظيم قواتها الدفاعية وتزويدها بوسائل التسليح الحديثة؛ ونظمت الحبشة علائقها السياسية والتجارية مع معظم الدول الأوربية، واستطاعت أن ترد عادية النفوذ الأجنبي عن استقلالها وحرياتها
ولكن السياسة الاستعمارية تعود اليوم فتتربص بالحبشة؛ وتعود إيطاليا فتتجه ببصرها وأطماعها إلى تلك المنطقة؛ وظاهر أن نشاط إيطاليا في الإرترية والسومال، وما تبدي هنالك من الاستعدادات الحربية، وأن زيارة ملك إيطاليا لهاتين المستعمرتين، وأن تحرش إيطاليا بالحبشة ومحاولتها أن تدفع حدود السومال إلى داخل الأراضي الحبشية مما أدى إلى حادث أولوال الدموي؛ ظاهر من ذلك كله أن إيطاليا مقبلة على تنفيذ خطة استعمارية جديدة في تلك المنطقة. ومما تجدر ملاحظته أولاً أن لفرنسا وإنجلترا مصالح هامة في تلك المنطقة، فإنكلترا تحتل السومال الإنكليزي، وتحتل فرنسا السومال الفرنسي وثغره جيبوتي الذي هو مخرج التجارة الحبشية من جهة البحر الأحمر، والذي يتصل بعاصمتها أديس أبابا بالسكة الحديدية. ولكن فرنسا وإنجلترا تلتزمان الصمت والجمود إزاء النشاط الإيطالي نحو الحبشة، ويبدو تحفظ إنكلترا وحيادها بنوع خاص في أمرها لمندوبها في السومال وهو الذي شهد معركة الحدود بين الأحباش والإيطاليين في أولوال ألا يتدخل في النزاع مطلقاً، وأن ينسحب إلى الداخل. ومن المعروف أن التحالف الذي عقد بين إيطاليا وفرنسا وإنكلترا في سنة 1906 , وجدد في سنة 1925 , ينص على اعتراف الدولتين بتفوق المصالح الإيطالية في الحبشة. ولكن ذلك لم يكن ليكفي لحيدة إنكلترا في معركة بين الاستعمار الإيطالي والحبشة، لو لم يتدخل في الموقف عامل خطير آخر، هو ظهور اليابان على المسرح. فاليابان تبذل منذ أعوام جهوداً جبارة لغزو الأسواق العالمية في الشرق والغرب، وقد استطاعت أن تنافس التجارة البريطانية في معظم الأسواق منافسة خطيرة، وأن تخلق(77/17)
لبريطانيا مشكلة اقتصادية عظيمة تهددها اليوم في تجارتها الإمبراطورية بأخطر العواقب؛ وظهرت اليابان في شرق أفريقية كما ظهرت في غيره، واستطاعت أن تغزو سوق الحبشة بسرعة، وأن تكسب عطفها وثقتها، حتى قيل بأن الإمبراطور ينوي أن يعهد في تدريب جيشه إلى خبراء عسكريين يابانيين. ولما كانت بريطانيا العظمى تعمل لإحباط هذا الغزو الياباني الخطر بكل ما وسعت، فقد رأت أن تطلق يد إيطاليا في المنطقة الحبشية لكي تعمل على مقاومة النفوذ الياباني، ورأت إيطاليا من جانبها أن تعمل لتحقيق مشاريعها الاستعمارية. وأما سكون فرنسا فيحمل على أنها ترى إرضاء التوسع الإيطالي في تلك المنطقة، مما يصرف نظر السياسة الإيطالية عن محاولة التوسع في منطقة بحيرة تشاد في السودان الغربي، ومما يهدئ ثورتها وأطماعها نوعاً؛ هذا ومن جهة أخرى، فإن إيطاليا تتطلع بنوع خاص إلى منطقة بحيرة تسانا الحبشية وإلى الانتفاع بمواردها، وبحيرة تسانا التي تغذي النيل الأزرق، وتعتبر من أهم منابع نهر النيل، تقع في شمال الحبشة على مقربة من الأريترية المستعمرة الإيطالية؛ وقد حاول بعض رجال المال الأمريكيين أن يباعوا من الحبشة امتيازاً باستغلال هذه المنطقة وكادوا يظفرون ببغيتهم رغم مقامة الساسة البريطانية؛ ولكن الإمبراطور هيلي سلاسي راى أخيراً أن يحتفظ بهذا المورد للحبشة؛ وإنكلترا تؤثر أن تقع هذه المنطقة تحت النفوذ الإيطالي إذا لم تستطع هي أن تبسط نفوذها عليها؛ وإيطاليا ترتب على التوسع في هذه المنطقة مشاريع زراعية واقتصادية كبرى
هذه هي ظروف المعركة التي يلوح لنا أن الاستعمار الإيطالي يعتزم أن يشهرها على الحبشة؛ وكحومة أديس أبابا ليست غافلة عن الخطر الذي يهددها، فهي تشعر بما وراء السياسة الإيطالية من المشاريع والمطامع. والحبشة كما ذكرنا من أعضاء عصبة الأمم؛ وقد رأت على أثر الحوادث الأخيرة أن تطلب إلى الحكومة الإيطالية قبول التحكيم معها إلى هيئة دولية؛ ولكن رومة رفضت هذا الاقتراح، ورفعت الحبشة الأمر إلى عصبة الأمم بالتطبيق للمادة الحادية عشرة من ميثاق العصبة وهي التي تنص على حالة خط الحرب الذي يهدد أحد أعضاء العصبة،
وعلى وجوب اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لصون السلام. والظاهر أن حكومة رومة لا تحفل أيضاً بتدخل عصبة الأمم، وأنها ماضية في خطتها العدائية نحو الحبشة، لأنها تقدمت(77/18)
إلى حكومة أديس أبابا بطلب تعويضات وترضيات جديدة عن حادث أولوال. وليس من ريب أيضاً في أن الحبشة لم تلتجئ إلى عصبة الأمم إلا قياماً بواجبها الدولي، وأنها لا تعتمد على العصبة في رد شيء مما يهددها من عدوان الاستعمار الغربي، لأنها تعلم أن العصبة لا تملك شيئاً من الأمر؛ والحبشة تشعر بهذا الخطر وتقدره بلا ريب منذ بعيد، وتعمل دائماً على رده بكل ما وسعت. ومهما يكن من مظاهر القوة التي تبديها السياسة الفاشستية، فإنا لا نعتقد أنها قادرة على أن تغزو بالقوة المادية بلاداً وعزة كالحبشة، وعلى أن تخضع بالسيف شعباً شديد المراس كالشعب الحبشي، وفي وسع حكومة رومة أن تنظم من المظاهرات ما شاءت، ولكنها مازالت بلا ريب تذكر الدرس القاسي الذي ألقته الحبشة على الجيش الإيطالي في (عدوه)، من جيل فقط
محمد عبد الله عنان المحامي(77/19)
ما نرى في الغردقة
في محطة الأحياء البحرية التابعة للجامعة المصرية
للدكتور كبروسلاند مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة
أعدت محطة الأحياء البحرية بالغردقة للأبحاث العلمية البحتة، فليس بنا من حاجة إلى معرض نربي فيه بعض الحيوانات الجميلة التي تعيش بالبحر الأحمر. ولكن كثيرا ما يعني زائرو المحطة بجمع هذه الحيوانات للتمتع بمشاهدتها في المرابي كل في معمله المعد له. وقد نجحت المعدات التي زودنا بها هذه المرابي نجاحا باهرا، فقد عاش أغلب هذه الحيوانات عيشة صحية بضعة أسابيع أو أشهر حتى يغادر صاحبها المحطة فيطلق سبيلها في اليم أو تقتل لتحفظ في المتحف. والمعدات التي هيأناها للمرابي هي: -
أولا - أن تزود بسيال مستمر من ماء البحر الطازج الذي يؤخذ تواً من نهاية الرصيف حيث يكون صافيا لا يحتاج إلى ترشيح، فيوضع في صهريج صغير يملأ ثلاث مرات يوميا، ومنه يوزع على المرابي.
ثانيا - تجري المياه في أنابيب مصنوعة من السليوليد (الطبخ) وصنابير من السليوليد أو الولكنت أما المضخة فمبطنة بالخزف. وبذلك لا تتصل المياه في طريقها من البحر إلى المربي بأي معدن.
كثير من الأسماك الاستوائية جميل في لونه، وبعضها كفرس البحر والأمفسيل غريب في شكله كما جاء في مقالي السابق (بالرسالة)، وكثيرا ما نحصل هنا على فرس البحر والأمفسيل، فيعيش الأول في المربي ويموت الثاني بمجرد إخراجه من البحر. وغير هذين النوعين يوجد أبو صندوق , والدرمة , وقد اقتفينا من هذه سمكة صغيرة كانت تسبح بزعانفها فقط، بينما تجر ذنبها ملتويا إلى جسمها، فإذا اهيجت سبحت به بسرعة ونشاط.
ويشاهد أحيانا الرعاد ويعرف هنا (بالرجدة) , على الشاطئ الرملي بجوار المعامل، وهو سمك كهربائي يحدث رعشة خفيفة ولكنها كافية لأن تحمل (سيباء) على أن تلقي بنفسها خارج المربى الذي كانا يعيشان فيه سويا. وتوجد أنواع من الأسماك الصغيرة مثل الكشكوشة في أسراب كبيرة بجوار المرسى تعيش على الأحياء الدقيقة المعلقة بالماء وأعجب خواصها مقدرتها على الحياة مدة طويلة في المربى، ولعلها تجد مقدارا كافيا من(77/20)
هذه الأحياء المعلقة، وخاصة عندما يملأ الصهريج الخازن في المساء، إذ تكثر الأحياء المعلقة في المياه السطحية، كما تكفي تلك لغذاء المرجان وقرب البحر وغيرها.
وتحفظ الكشكوشة فريسة لحيوانين من أعجب حيوان المربى هما السيساء وزهرة البحر الكبيرة. تجثو السيساء أكثر الوقت على القاع وقد ضمت ثمانيا من أذرعها جنبا إلى جنب فتكون قلنسوة حول الفم. وتماتن السيساء القاع الذي تعيش عليه تماما، غير أن لها خطا أزرق براقا يحف زعنفتها. وهكذا تطل جاثمة في مكانها مختفية عن الأنظار حتى إذا دنت منها سمكة كالكشكوشة أطلقت عليها ذراعيها الطويلتين المختبئتين في جيب مخصوص وأمسكتاها يمصصانها، وفي برهة تتوارى السمكة في قلنسوة أذرعها القصيرة، وفي الوقت نفسه تظهر على جسم السيساء خطوط عريضة بنية داكنة تجعلها واضحة جلية. ذلك التغيير في اللون وغيره مما يحدث أثر أي حافز بدون حافز ظاهر يجعلها فتنة للناظرين، وإنه لمن الأهمية بمكان أن نبحث عن العلاقة الحقيقية بين ذلك التغيير في اللون والحوافز المختلفة.
وعندنا من الرخويات صدف اللؤلؤ، ذلك الذي يعيش حتى يقتله الإنسان طمعا في صدفة البراق، أو في اللؤلؤة يصادفها في كل نحو من عشرة آلاف صدفة.
والبرق من أعجب الرخويات وهي عديمة المحار. كثير منها جميل خلاب مادام حيا، فإن حفظ بعد الموت تحول إلى كتل لا شكل لها تكون أقرب إلى الطين لونا. وهناك عائلة من البزق من أهم مميزاتها أن أفرادها ذوات ألوان أخاذة، وفيما عدا ذلك لا تختلف أنواعها إلا في خواص طفيفة. ومن بين ردف العائلة كرومود وريدي نوع واحد ذو حجم لا بأس به يبلغ خمسة سنتيمترات طولا، وأثنين ونصفا عرضا، وهو من أقلها جمالا ومع ذلك فهو خلاب حقا. ظهره مسطح يمتد منه من الأمام قرنا الاستشعار، ويرجح انهما للشم، ومن الخلف عدة خياشيم ريشية منتظمةفي دائرة. لونه أسود مقلم طوليا بخطوط زرقاء - قد يكون جزء منها أو كلها أبيض - أما القرون والخياشيم فذات لون أصفر برتقالي زاه. ويحف الظهر خط من نفس اللون داخله خط أبيض. ولما كانت هذه البزق لا تلجأ عادة إلى الاختباء تحت الأحجار كما تفعل البزق المعتمة اللون كانت أداة طيبة للعرض. ولون هذه الحيوانات في جلائه ووضوحه إرهابي أعدائها التي تخشى طعمها الرديء.(77/21)
ومنذ قريب عثرنا على نوع أخر من وجدت منه كثيرا في زنجبار منذ نيف وثلاثين عاما عند ما كنت أقوم بعمل مجموعة الأحياء للسير (شارلزإليت)، ولكني لم أره هنا من قبل برغم ألوانه الغريبة، جسمه أبيض يميل إلى الصفرة، تزينه نقط صفراء فاقعة، ويحفه خط بنفسجي وحلقة بيضاوية بنفسجية تحيط بقرني الاستشعار وأخرى تحيط بالخياشيم. ولهذه الحلقات يسمى
وأضخم هذه البزق وأجملها لونا هو ويسميه الصيادون هنا لسان البحر، يبلغ طوله نحو عشرين سنتيمترا، وله برنس عريض كثير الحواشي قرمزي اللون يحفه شريط أبيض قد تتخلله خطوط دقيقة مستعرضة، وتختلف نسبة هذا الشريط الأبيض، فقد لا توجد في بعض سلالات، وفي أخرى من المحيط الهندي (لم نرها بالبحر الأحمر) يداخله كثير من الصفرة.
ويذكر إليت أن هذا الحيوان كثير الانتشار، ولكني أعتقد أن حجمه الكبير ولونه الزاهي هما اللذان يساعدان على رؤيته. ولم أره إلا مرة واحدة في موطنه الطبيعي بين المرجان، وكل نماذجنا الأخرى حصلنا عليها بعد أن لفظها البحر على الشاطئ في فصل الربيع. وعند ما نلتقطه يظهر قدمه كنقر ضيق، فتبدو قبضته على السطح الذي يزحف عليه واهنة جدا، فإذا طغت الأمواج أزاحته عن موطنه وطفا على سطح البحر. ولكنه إذا وضع في المربى تفرطحت قدمه وأمسك بالقاع جيدا، فإن أهيج ترك القاع وأرتفع في الماء سابحا بتموجات غريبة. لعلكم لم تروا فيلا يطير، ولكننا هنا نرى بزاقة تسبح بنشاط. وليس لي عهد ببزاقة أخرى تقدر على السباحة ما عدا تورديسا في زنجبار، ولم أرها منذ ذلك الوقت. ومن خصائص هذا النوع أنه يخدر بسهولة بإضافة كبريتات المانيزيا إلى الماء الذي يعيش فيه، وبذلك يمكن قتله وحفظه على شكله وهو حي، غير أنه يفقد لونه بسرعة.
وكثير من الشوكيات يعيش طويلا في المربى، ويرى أنواع من قنفذ البحر لبعضها أشواك غليظة كمبسم الغليون (مثل أبي مباسم & ولغيرها أشواك دقيقة طويلة كالأسلاك، مثل الهلمان وأخرى قصيرة كالإبر، وقد يتجرد أبو مباسم من أشواكه كلها، ولا نعلم بالتحقيق هل ينبت عليه غيرها كما يكون الحال في الزقة الأوربية فإننا لم نحتفظ بالمرابي مدة كافية للفصل في ذلك. وبين نجوم البحر نجمة قرمزية اللون تزينها نقط زرقاء، كذلك كف مريم وهو يشبه النوع الإنجليزي كثيرا، ويزحف فوق القاع على أرجله الأنبوبية المدببة(77/22)
بدلا من التسلق بالممصات كبعض الأنواع الأخرى.
أما المرجان فيسهل حفظه حيا في المرابي، وهو يتكون عادة من مستعمرات من عدد كبير من البوليبات متفاوتة الحجم، وأفضلها ما كانت بوليباته كبيرة كما في الشكل، ففي نوع من الفافيا مثل يبلغ قطر البوليب خمسة عشر ملليمترا، وفي يبلغ ثلاثين ملليمترا، ولكليهما عدة زوائد طويلة تقوم بالحس والغذاء.
وأضخم بوليبات المرجان هو مرجان عيش الغراب , وهو ما يسميه الأهالي هنا بالطبق، وكلا الاسمين يدل تماما على شكله، ويتكون من قرص كبير له زوائد قصيرة. أما النوع المعروف باسم الذي يشبه زهرة البحر في طول زوائده فلا يوجد هنا تلك الأنواع تظهر طرائق تغذية المرجان بجلاء. والمعروف أن المرجان حيوان لحم ولكن ذلك العلم ليس كالعيان. وقليل من العلماء من مكنتهم الظروف من ملاحظة تغذية المرجان. أنها تقتنص الفريسة بالخلايا اللاسعة، وتحملها القرون والتيارات الهدبية إلى الفم. وفي مرجان عيش الغراب تحمل الأهداب وحدها الفريسة المشلولة (من أثر الخلايا اللاسعة) وفيه أيضا نشاهد ظاهرة هامة، وهي ارتكاس الحركات الهدبية وقد كانت تغذية المرجان مجالا لكثير من الشك حتى درسها ينج في الحاجز المرجاني العظيم باستراليا.
ويطل حيوان المرجان من هيكله الجيري في ظلمة الليل، ويختبئ فيه نهارا، حتى نور الصباح الكهربائي يبدو كأنه الجماد. ومن بين المرجان جنس يدعى تربناريا تطل بوليباته نهارا فتبدو صفراء فاقعة خارج الهيكل الأصفر الداكن. أما أجمل أجناس المرجان، فهو الدندورفيليا ففيه يبلغ قطر البوليب سنتيمترا، ويرتفع كالزهرة ذات الألوان المختلفة كالأصفر أو البرتقالي أو الأحمر , أو القرمزي الأسود في , ويظهر أن هذه الألوان تتفق مع انعدام الطحالب أن تعيش تحت هذا الحجاب من اللون الذي يحول دون أشعة الشمس إليها، فإن لون , يشبه لون الورق البرتقالي الذي كان يستعمل قديما في لف ألواح التصوير (الفوتوغرافيا) ليقيها الضوء، وبينما يوجد هذا النوع في أماكن ظليلة ينمو , كبقية المرجان في الأماكن المعرضة لضوء الشمس.
وعندنا من زهور البحر الشيء الكثير، وليس منها ما يعدل في بهائه زهرة البحر الريشية التي نراها كثيرا في مرابي أوربا. ولكن الزهرة التي يسميها روبل من أكبر(77/23)
أنواع الزهور في العالم - التي تعيش لعدة أشهر في المربى، وتعايشها دائما (كبقية الزهور الكبيرة في المنطقة الحارة) سمكة أنيقة فأينما وجدنا الزهرة على مقربة منها والعكس بالعكس. فإذا أوجست خيفة من شيء هرعت إلى الزهرة وتحصنت بين قرونها من أعدائها. ولا نعرف لماذا لا تلسع الزهرة هذه السمكة فتقتلها كما تفعل مع غيرها ومع أكبر منها. ويمكننا أن نشاهد تبادل المنفعة بين الحيوانين إذا وضعنا معهما سردينة صغيرة. فإننا نشهد مأساة من ماسي الطبيعة التي يتألم لها الإنسان، إذ تهيج السمكة المعايشة وتطارد السردينة هنا وهناك حتى تلامس قرون زهرة البحر وتلتصق بها، ثم لا تلبث أن تنفر منها، ولكن سرعان ما يصيبها الشلل ويعتريها اللهاث فتنقض عليها السمكة وتجرها من ذنبها إلى الزهرة، فتجاهد جهادا عنيفا قد تفلت بعده، وهكذا تتكرر المأساة حتى تخر صريعة فتنطوي عليها قرون الزهرة وتزج بها إلى فيها فتخفيها، ثم تلفظ عظامها بعد بضع ساعات. وهنا أيضا تساعدها السمكة على التقاط الفضلات وإزالتها.
هنا على الأقل مثلان آخران للمعايشة بين زهور البحر والأسماك، ولكننا لم نراقبهما في المرابي. وفي هاتين الحالتين تكون زهرة البحر كبيرة والسمكة صغيرة جدا.
يحمل بعض البشابش على المحارة التي يسكنها عددا من الزهور البحرية تبلغ الخمس أو الست، وتكون عادة من نوع عادي لم يتحور تبعا لهذه العادة كما تحورت الزهرة الأوربية وغير هذه الزهور زهرة غريبة تتميز بقرونها الثلاثية الريشية فتبدو الزهرة كأنها مستعمرة من الزنيا (جنس من الألسيوناريا)، وقد حيرت نماذج محفوظة من هذه الزهرة بيلجيين لتقلصها إلى كتلة لا شكل لها.
أما الألسيوناريا أو المرجان اللين أو ما يسميه البحارة الربلة , فذات بوليبات ثمانية التماثل، ويختلف نموها هنا عنه في المناطق المعتدلة كما يختلف المرجان نفسه، فبينما لا نرى في أوربا إلا (أصابع الموتى) , ' ومروحة البحر الحمراء , ولا يمكن الحصول على الأخيرة إلا بالمجراف من قاع البحر - أما هنا فتوجد الألسيوناريا في كل مكان بكثرة عظيمة وبأشكال متنوعة، منها الكتل اللحمية، ومنها الشجيرات، ومنها النورات والمراوح. وقد حاولنا حفظ القليل منها في المربى فلم يعش إلا واحدة وهذه جنس مشعب لين من عائلة الألسيوناسيا وتختلف عن قرائنها من نفس العائلة في عدة نقط مهمة، فتعيش(77/24)
الأخيرة معرضة على سطح الشعب وتبدو لمن لا عهد له بها كأنها شجيرات من الطحالب السمراء، وترجع سمرة لونها إلى وجود طحالب وحيدة الخلية في أنسجتها لا تعيش إلا معرضة لأشعة الشمس. أما الدندرونفشيا فتعيش بعيدة عن الأنظار في شقوق بين المرجان، ولذلك لا تأوي إليها الطحالب معايشة كبقية أفراد العائلة. ويغلب أن تكون ذات لون قرمزي طريف، ومنها أيضا البرتقالي والأصفر والأبيض والأسمر والأزرق. ولا يعرف عدد أنواع هذا الجنس، إلا أني نجحت في فصل نوعين فقط، بينما لا تزال الأنواع الأخرى تنتظر البحث. ولا يتم ذلك إلا بدراسة الحيوانات الحية، إذ لم ير أحد هذه الحيوانات وهي ناشرة بوليباتها غير من زاروا محطتنا، أو على الأقل ليس بين الصور والأشكال المنشورة ما يوضح هذه الظاهرة. فالشكل يمثلها كما تبدو نهارا، فإذا وضعت في المرابي تمددت إلى ثلاث مرات أو أربع طولا، وتنقص بنفس النسبة عرضا، وتغطى الأفرع الحمراء أو الوردية مئات من البوليبات كما فيوتعيش المستعمرات الصغيرة جيدا (ليس عندنا مكان يتسع لحفظ المستعمرات الكبيرة التي تصل إلى قدم في الارتفاع) وسرعان ما تموت الحيوانات الأخرى التي تنتمي إلى نفس العائلة وتتحول إلى مخاط، ولكنها تعيش معرضة إلى ضوء الشمس يبين جنسا أخر كثير التشعب يدعى يعيش قليلا في المربى ثم تختفي أنسجته الحية ويبني هيكله، وهو جميل في ذاته يستحق العرض ومثل ذلك مروحة البحر التي تعرض في المرابي في أوربا فإنها خداع نظري وليست حية، إنما هي هياكل خاوية. ولعل أفضل ما يروق الزائر من غير الأخصائيين أن يرى مرجان الزينة في المربى، إلا أنه معدوم في البحر الأحمر ولكن المليتودس كوكسينيا تشبهه كثيرا غير أن عودها الصلب المكون من التحام شويكاتها لا يزيد غلظه على نصف الملليمتر. ويبين جزءا منها مكبرا من تحضير شفاف، وقد ظهرت بوليباتها بارزة من غشاء رقيق يتكون من قنوات لحمية دقيقة يحجبها عدد كبير من الشويكات غير الملتحمة. وتحيط هذه القشرة من الشويكات والقنوات اللحمية بعود صلب هو نظيم مرجان الزينة. وتمثل الشويكات في الشكل بأجسام بيضاوية، وترى هيئتها الحقيقية في مكبرة كثيرا. اما البوليبات فمنكمشة قليلا وبقرونها شويكات كالعصى الملتوية. ولا تمكن رؤية هذه التفاصيل إلا إذا قتلت الحيوانات بعد تخديرها بحذق ومهارة وإلا اختفت البوليبات. لهذا السبب لا يمكن وصفها في مئات(77/25)
النماذج من الألسيوناريا التي جلبتها الرحلات العلمية إلى أوربا، ويتوقف على هذه الشويكات وترتيبها أساس تقسيم جنس الدندرو نفشيا إلى أنواعه المختلفة. لذلك كان من ضروريات البحث في الألسيوناريا والمرجان دراسة الحيوانات حية. ولمثل هذا النوع من البحث العلمي أنشئت محطة الأحياء البحرية بالغردقة.
ويوجد لون المليتودس القرمزي في الشويكات كما هو الحال في كثير من الألسيوناريا. وهو ثابت جدا ولا يعرف كنهه إلى الآن، والمرجح أنه يرجع إلى عوامل فيزيائية وكيميائية معا، فيجب أن يتكاتف في دراسته البيلجي والكيميائي والفيزيائي. ومما يزيد في صعوبة البحث أو يقلل منها أننا نجد تحت حجر واحد وتحت ظروف واحدة مستعمرات متشابهة في كل شيء ما عدا اللون، فقد يكون بعضها وردي اللون وبعضها قرمزيا أو أصفر، ولا نجد أي ألوان متوسطة بين تلك كما نجد في مرجان الزينة بين الأبيض والأحمر والوردي.
هذه أغلب أدلتنا التي نجحنا في توفير أسباب الحياة لها في المرابي. إلا أن هنا قليلا من الدخلاء، فلو فرضنا أن مربى وضع في البحر لمدة ستة أشهر لتغطى بطبقة يبلغ غلظها البوصة من قرب البحر والرخويات والأطوم والأشنة البحرية مع عدد من الديدان والبزق. ولعل أمتع شيء النظر إلى أعمدة رصيف ميناء الغردقة إذ تكسوها الدندرونفشيا، ونوعان من مراوح البحر وقرب البحر، والديدان الأنبوبية والأشنة البحرية، وغيرها، فهي إذ ذاك متحف طبعي. وفي المحطات الأخرى حيث ترشح المياه وتخزن لا سبيل لليرقات إلى المرابي، أما عندنا فالباب مفتوح لها على مصراعيه. وفي الأسابيع القليلة التي استعملت فيها المرابي باستمرار نمت لطخ صغيرة من الطحلب الجيري ونوعان من الديدان الأنبوبية وآخران من قرب البحر وواحد من الرخويات ذات المصراعين فلو أن المرابي استعملت عاما مثلا لحصلنا على الشيء الكثير، ولكن قلة النمو في الفترة السابقة تدل على أن الفترة الحرجة في اليرقة وتنتقل إلى حياة اليافع. ذلك الانتقال الذي يتعذر في الطبيعة إلا على واحدة في الألف أو بعض الآلاف، وذلك لقلة الغذاء أو المكان المناسب لنموها.
الغردقة(77/26)
الدكتور كرلس كرسلند
-(77/27)
من ذكريات لبنان
كيف كنت غيري؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كنا نقصف - ذات ليلة - في فندق كبير في (ظهور الشوير). والقصف أن نشرب ونضحك ونأكل - بعيوننا - الفتيات الممشوقات اللواتي يخطرن في الرقص مع السعداء من الشبان، وكانت الأنوار في المرقص ألوانا شتى متعاقبة، وكان الضوء الأرجواني - حين ينساب الفتيات فيما يترقرق عليهن منه - أقوى فتنة وأشد إغراء، فكنا ننهض عن المائدة ونتزاحم على أبواب المرقص، وعيوننا تكاد تخرج من فرط التحديق، وكانت هناك فتاتان تتراقصان وتأبيان أن يخاصرهما الرجال، وكانتا ساحرتين - في جمالهما، ودلهما، ولعبهما، وحركاتهما. فأغريت بهما أحد رفاقي - وكان يجيد الرقص - وأنا أقول لنفسي: (إذا راقص إحداهما عرفناهما جميعا وفزنا بصحبتهما) ولكنهما ردتاه ببسمة وكلمة رقيقة لا تغني ولا تسمن. فقلت لنفسي: (لم يبق لها إلا رجالها) ودنوت منهما وقلت وأنا أتناول كرسيا وأجلس بغير استئذان:
(أمن قلة في الرجال تتراقصان؟)
فقالت إحداهما - بعد أن ألقت إلى صاحبتها نظرة: (بل من كثرتهم!)
فقوى قلبي أنها ردت، فقلت: (اسمعا مني. إن هذه النظرات الخبيثة التي تتبادلانها لن تجديكما. (ضحك) وأنا باسم هؤلاء الشبان الكثيرين الذين لا أعرف أسماءهم ولا أحب أن أعرفها. . . .)
فسالت إحداهما: (لماذا؟)
فقلت: (لا تقاطعي من فضلك! ثم إن هذا شأني وحدي، وعلى ذكر ذلك أسألك. . . هل أنت مصرية مثلي؟)
فقالت الخبيثة - أعني التي تتكلم -: (هل أنت مصري؟)
فصحت بها: (يخرب عقلك! وهل ترين أني أتكلم إلا كما يتكلم المصري؟)
فضحكتا وقالت الأخرى: (هذا أحسن. لقد كنت أسأل نفسي أين يا ترى رأيتك؟)
فقاطعتها: (نعم إني أراك دائما. . . .)(77/28)
فسألتني جادة: (أين؟)
فقلت: (بخيالي. . في أحلامي!)
فقالت الأولى وهي تبتسم - لا أدري لماذا - ألست عبد. . . عبد الله؟)
فتشهدت وقلت: (طبعا، طبعا، عبد الله حقا وصدقا)
قالت: (لقد كنت واثقة إني أعرف وجهك. . . ألم تعرفيه يا توحة؟)
فأجبتها أنا: (لماذا تحرجينها؟ دعي لها سرها حتى تهمس به في أذني، ونحن نتمشى في غابة بولونيا، والقمر الطالع. . .)
فضحكتا وقالت توحة: (بهذه السرعة؟)
فقلت: (معذرة إن خيالي وثاب. . . طيار إذا شئت، ولكنه صادق. . . لا يطير إلا بجناحين من الحقيقة)
فقالت الأولى: (وكيف زوجتك؟)
فصحت: (إيه؟)
ولم أكن أتوقع أن ترميني بسؤال عن زوجتي، وخفت أن يكون وراء السؤال شرك منصوب، فلذت بالحذر. وقالت: (إنما سألت كيف زوجتك؟)
فقلت: (زوجتي؟؟ أوه! آه، مفهوم!)
قالت: (لماذا تركتها؟)
فلم أدر ماذا تعني بالترك؟ وآثرت أن أزوغ فقلت:
(هل تعرفينها؟)
فقالت الخبيثة: (إنه يسأل هل أعرفها؟ قولي له يا توحة)
فدار رأسي، وارتبكت، فما رأيتهما قط في بيتنا ولا في بيوت أحد من أهلنا أو معارفنا، وزاد شعوري بالشراك المنصوبة تحت كل كلمة، ولعنت الساعة التي أقدمت فيها على كلامهما، ولكني كنت قد تورطت، وانتهى الأمر، ولم تبق لي حيلة، وخجلت أن أنهزم أمامهما فتشددت وقلت:
(ما أجمل هذه المصادفة! يا الله حدثاني عن نفسيكما. . .
إن أذني معكما. . . . لكل واحدة منكما أذن. . . تكلما. بارك الله فيكما، وفي ليلتي هذه(77/29)
معكما!)
فقال الخبيثة: (ماذا جرى بينكما. . . إلا أن يكون هذا سرا لا تحب الإفضاء به)
فقلت: (لا لا لا. . . وعلى أنه لم يجر بيننا إلا ما يجري بين الزوجين. . اعني عادة!)
فقالت توحة وهي تضحك: (إن الذي تعنيه أختي. . .)
فسألتها (أختك؟)
فقالت (نعم أختي. . . من كنت تظنها؟)
فقلت (كنت أظنها. . . إ. . . أ. . . أختك)
فأضحكهما هذا التخليط، وضحكت معهما، ولما قرت الضجة قلت:
والآن يا أختها بأي اسم تخاطبين نفسك حين تنظرين في المرآة؟
فقالت: (أتريد أن تعرف اسمي؟)
فأردت أن أستفزها فقلت: (لا (بفتور) يكفي أن أعلم إنك أخت توحة)
ولكنها كانت أخبث مما توهمت، فقالت:
(نعم كفاية. والآن ألا تحدثنا عن سبب انفصالك عن زوجتك؟ إنها صديقتنا من أيام الدراسة، وقد آلمنا ما وقع، ولكن لعل لك عذرا)
فحمدت الله في سري على جهلها بي وبزوجتي، وأيقنت أني آمن معهما، ولكني مع ذلك حاولت أن أزحزح الحديث عن هذا الموضوع فقلت:
(هذا شيء مضى، ومن العبث الكلام فيه)
فقالت أخت توحة: (مسكينة!)
وقالت توحة: (ما أفظع الرجال! يأكلون المرأة لحما، ويرمونها عظما)
وألقيت نفسي غرضا لسخطهما ونقمتهما، فضاق صدري وقلت:
إني لم أكن أعجب أن أقول شيئا، ولكن الرجل لا يستطيع أن يظل يحتمل طول عمره أن يرمي بصحاف الطعام الملآى.
فصاحت توحة: (إيه؟ ماذا تقول؟)
وأعجبني صوتي، وسرني أني تبينت آية الدهشة في وجهيهما فمضيت أقول:
لقد كانت تتناول قطتي البيضاء وتلعب بها الكرة، أو تمسكها من ذيلها وتطوح بها ذراعها،(77/30)
وتزعم أن هذا خير من اتخاذ الحديد للعب)
فقالت أخت توحة: (مستحيل! لا أصدق)
وقالت توحة: (زينب تفعل ذلك؟!)
فقلت: (المسألة بسيطة والبرهان حاضر، تعاليا معي إلى مصر وأنا أريكما القطة!)
وآلمني أن أمزق (زينب) هذه بالغيب، وأدركني عليها عطف شديد، ولكن ماذا أصنع وقد أبت الفتاتان إلا أن تحشراها في الحديث حشرا، ولا أن تركباها كتفي، وتزعماها زوجة لي، وتدعيا أني أسأت إليها وجنيت عليها وتخليت عنها؟
وقالت توحة: (ولكن كيف يمكن؟ لقد كانت في المدرسة ارق التلميذات قلبا؟)
فهززت رأسي وقلت: (وأشهد أنها ظلت كذلك زمنا حتى اعتادت الشراب)
فصاحتا بصوت واحد: (الشراب؟ زينب؟)
قلت: نعم، مع الأسف! وبعد ذلك انقلبت زوبعة لا تسكن قط. . . بالله اتركا هذا الحديث. . . إنه يؤلمني. . . وما أفضيت إليكما بهذه الحقائق إلا لأنكما كنتما معها في المدرسة، فأعذراني وانتقلا إلى كلام آخر)
وصرنا أصدقاء، نلتقي كل بضعة أيام، اعني أني كنت أزورهما من حين إلى حين في مصيفهما (بضهور الشوير)، ونخرج إلى البساتين والضياع المجاورة، ثم مضت فترة لم أرهما فيها، واتفق يوما أني كنت مدعوا إلى حفلة في فندق بيروت، فبصرت بأخت توحة واقفة تطل على البحر، فوقفت إلى جانبها وحييت فردت التحية بفتور فقلت:
(الجو حار)
قالت: (نعم)
قلت: (ولكن البحر يلطف الحرارة)
قالت: (نعم)
ولم يخطر لي كلام جديد فقلت:
(كبر ما بنا أم جفوة؟)
فواجهتني وسألتني بحدة:
(ألا يزال اسمك عبد الله؟)(77/31)
قلت: (يا فتاتي لا تجهلي! ما زلت عبد الله حقا وصدقا، وإن كنت مع هذا لا أنكر أنه غير الاسم الذي أختاره لي أبواي)
قالت: (ألا تخجل؟)
قلت: (إني أستحق عطفك. . لقد احتملت هذا الاسم الذي لا يبعث على الزهو، لأنك أنت اخترته لي)
قالت: (لقد رأيت زينب. . . وأخبرك أيضا أنها مع زوجها، وأنهما يقضيان الصيف في لبنان. لماذا قلت عنها ما قلت؟)
قلت: (أي زينب؟)
قالت: (لا تكابر! إنها لا تعرفك ولم ترك قط في حياتها)
قلت: (ما أضعف ذاكرة النساء!)
قالت: (إن عذرك الوحيد - في نظري - أنك مجنون. وكلما تذكرت ما قلته عن زينب وما أضعته سدى من العطف عليك. . .)
فقاطعتها: (كلا. لم يضع. . . لقد زادني حبا لك وتعلقا بك. . .)
قالت: (ألا تزال تجرؤ على مثل هذا الكلام؟)
قلت: (أو يحتاج ذكر الحقيقة والإقرار بها إلى جرأة؟)
قالت: (وتتصور أني أصدقك أو أصدق انك تتكلم جادا؟)
قلت: (كلا. إن هذا لا يجري في بال. إنما أنا منظر. . ويمكنك أن تعدى كلامي صورة طبق الأصل من حديث أحلامك ونجوى أمانيك. . . وسيأتي يوم تظلم فيه الدنيا أمام عينيك، وتحسين أنه ما من أحد يحبك في هذه الحياة - كلنا يمر به يوم كهذا - فإذا جاء - أعني ذلك اليوم - فقولي لنفسك. . . كلا. إني مخطئة. فإن في الدنيا قلبا يخفق بحبي، بحبي مخلصا،. . .)
فقالت: (إنك مجنون ولا شك)
قلت: (وفي أثناء ذلك ترين شخصيتي الجميلة الجذابة تتفتح تحت عينك كما تتفتح غلائل الزهرة تحت أشعة الشمس. . .)
قالت: (لن أصغي لك)(77/32)
قلت: (أذن أحضري معي هذه الحفلة، وكوني فيها ملاكي الحارس)
فصاحت بي: (لن أغفر لك هذا)
فقلت: (إني لست عبد الله! ولكني عبده والله!)
فابتسمت، فقلت: (هذا أحسن وأين توحة؟)
قالت: (لو كانت هنا لما نجوت بهذه السهولة)
قلت: (الحمد لله - أعني على النجاة لا على غيابها. أذهبي بي إليها)
قالت: (والحفلة؟)
قلت: (لا تستطيع أن تنتظر - أعني الحفلة - فإن مرضاتها - أعني توحة لا الحفلة - أولى وأندى على كبدي.)
وكان هذا هو السر الذي لم يعرفه المحتفلون، في أن حفلتهم تأخرت نصف ساعة. فليت حظي من كل حفلة نصق ساعة كهذه!
إبراهيم عبد القادر المازني(77/33)
بين فن التاريخ وفن الحرب
13 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا فيه ضربة أو طعنة، وأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
والواقع أن خالداً أيضاً كان راغباً في لصلح دون أن يلجأ إلى القتال. وهذا ما دعاه إلى أن يخفف الشروط. فتعاهده من حنيفة ينص على أن يسلموا الذهب والفضة نصف السبي والسلاح والخيل، وأن يأخذ هو كل قرية ومزرعة وحائط (حديقة مسورة) باسم بيت لمال، وأن يسلموا أنسهم حتى يسلموا. أما البلاذري فيروي أن المعاهدة فرضت على بني حنيفة ربع السبي ونصف الذهب والفضة والسلاح.
ولعل هذه الرواية هي الصحيحة، لأنها تدل على تساهل خالد في قد الصلح. ويذر الطبري أن أبا بكر أرسل كتباً إلى خالد مع سلامة بن وقش يأمره إن أظفره الله بأن يقتل من قام من جرت عليه المواشي من بني حنيفة - يريد بذلك أن يقتل من قاوم من الحنفيين - فوصل الرسول بالكتاب بعد عقد المعاهدة. فأراد الأنصار أن يستغلوا أمر الخليفة، فطلبوا إلى خالد أن ينفذ ما جاء في الكتاب، كان أسد بن حضير رئيس الأوس على رأسهم. إلا أن خالداً لم يلتفت إليم، بل في لبنى حنيفة وثبت على ما كان منه فجمع بني حنيفة إلى البيعة والبراءة.
ويذكر ابن حبيش الأسباب التي ألجأت خالداً إلى عقد الصلح مخالفته كتاب الخليفة، وهي تلخص في كثرة الخسائر التي انتابت المسلمين في المعركة، إذ قل عدد المسلمين وكان أكثرهم جريحاً. وبعد عقد المعاهدة لا يجوز النكول عنها، ولا سيما أن بني حنيفة أسلموا. وتنقل الرواية أن سلامة بن وقش أيضا أصر على خالد بتنفيذ أوامر الخليفة. غير أن خالداً لم يغير رأيه واعتبر القضية منتهية.
ومع ذلك استعمل خالد الشدة في معاملته أهل العارض وبعض قرى بني حنيفة. فقرية سيوح وعرفة والغبراء وقيشان ومرعة والمصانع اعتبرت في خارج أحكام المعاهد، فسبى(77/34)
أهلها وصادر أملاكها. والروايات لا تبحث في أسباب هذه الشدة، غير أن الذي يلوح لنا أن أهلالقرى إما أنهم قتلوا المسلمين غدراً، وإما أنهم قتلوا المسلمين غدراً، وإما أنهم مثلوا بالمسلمين في بلاد اليمامة قبل الحركات.
المناقب
يستنج الباحث من حرات اليمامة بعض المناقب التي ينبغي الوقوف عليها، وهي تدل على سجايا العرب الأولين مسلميهم ومرتديهم، وتوضح لنا بعض المزايا الكامنة التي مكنت العرب من الانتصار على عدائهم في الشرق والغرب.
المنقبة الأولى - التضحية
كان ابن عمر عبد الله أخوه زيد بن الخطاب في الجيش الذي قاتل في عقرباء. وكان زيد على ما نعلم يقود القلب، وقد استشهد في المعركة مشجعاً المسلمين ومدافعاً عن رايتهم.
ويذكر الطبري أن عبد الله بن عمر لما رجع إلى المدينة قال له أبوه: (ألا هلكت قبل زيد؟ هلك زيد وأنت حي).
وفي رواية أخرى قال عمر لابنه: (ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عني؟). فأجاب عبد الله: (سأل الله الشهادة فأعطيتها وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها).
والتضحية كلمة مرادفة للبطولة، وهي من أخطر العوامل في حضارة الأمم إن لم تكن أخطرها. ولا أغالي إذا قلت إن تاريخ الحضارة مكتوب بمداد هو دماء الأبطال لمراقة وساعيهم المبذولة من أجل بنيان صرح التمدين الباذخ بجميع أركانه الأدبية والعلمية والسياسية. لولا التضحية لما خرج الإنسان الأول من الغاب والكهف إلى المدينة والقصر. والعرب لولا بطولتهم في تضحيتهم لما تربعوا في قصور بغداد والشام والقاهرة والحمراء، ولظلوا تائهين في مجاهل باديتهم القاحلة الجرداء، ولخنق الإسلام في مهد. فالتضحية رفعت عمد الأديان، ونشرت ألوية العلوم، وضعت أسس الدولة قديمها وحديثها، وسمت بأبنائها إلى أج العز والسؤدد، وقمة المجد والصولة. أجل إن العرب من الأمم الفاتحة المفطورة على البطولة والتضحية، إلا أن نبيهم العظيم جاءهم برسالة وضع بها نصب أعينهم مثلاً أعلى هو إيمانهم الوطيد، فبرزت نفوسهم إلى ذلك المثل الأعلى على حد تعبير(77/35)
علماء النفس، وحصروا وجدانهم في إيمانهم القوي، فضلاً عن دافع غيرتهم عل أحسابهم. وقوة ذلك الإيمان زادتهم إقداماً على التضحية التي تجلت بأروع مجاليها في حروبهم، ولاسيما في حروب خالد بن الوليد، ومنها حروب الردة التي نحن بصددها. فهذا عبد الله بن عمر أنبه أبوه لأنه رجع حياً دون أن يستشهد في الذود عن إيمانه أو مثله الأعلى. ولا تزال روح التضحية متغلغلة في نفوس العرب والأعراب حتى اليوم. وما أكثر الروايات المنقولة عن رجال العرب ونسائهم من ميادين القتال في التضحية العربية المجيدة في ثوراتهم الأخيرة في الأقطار العربية؛ دونها ما يروى عن رجال اسبرطة ونسائها بهذا الصد. يروى عن امرأة عربية عراقية أنها كانت تشجع أبناءها السبعة في إبان الثورة العراقية في سنة 1920، وكانت كلما سقط أحد أبناءها في حومة الشرف تنشد قائلة: (يا موت اطحن وأنا اهلك) - أي يا رحى الموت اطحني وأنا أقدم إليك أبنائي!
المنقبة الثانية - السياسة
كان مجاعة بن مرارة من رؤساء بني حنيفة، وقد وفد على الرسول وأسلم فاقطعه أرضاً، فلما ثار مسيلمة ببني حنيفة وأدع النبوة كان مجاعة معه. ويلوح لنا أنه كان يداري مسيلمة من جهة ويراقب حركات جيش خالد من جهة أخرى. فلما وثق بتقدم جيش خالد نحو اليمامة استفاد من الشغب المثار على مسيلمة، فخرج مع بعض رجاله من اليمامة طالباً الثأر من بني عامر وبني تميم. ولعل طلب الثأر كان بحجة لخروجه من اليمامة قبل وصول جيش المسلمين إليها. ولما باغتته طليعة المسلمين في ثنية اليمامة استحياه خالد لعلمه أنه ينفعه في قتاله في اليمامة وحبسه عنده كالرهينة وتركه في فسطاطة قيد مراقبة زوجه أم تميم. فلما تغلب الحنفيون على المسلمين وأزاحوهم عن المعسكر دخلوا الفسطاط وهموا بقتل أم تميم فمنعهم مجاعة من ذلك صارخاً في وجههم (مه! أنا جار لها فنعمت الحرة! عليكم بالرجال).
وفي رواية أن مجاعة عاهد م تميم على أن يساعدها إذا انتصر الحنفيون على المسلمين، وعلى أن تساعده هي بدورها إذا انتصر المسلمون على أهله. ولما انتهت المعركة عرض مجاعة الخدمة على خالد وطلب إليه أن يتوسط في عقد الصلح، فقبل خالد ذلك، أوفده إلى بني حنيفة حاملاً شروط الصلح. وكان مجاعة قد علم بأن المسلمين كابدوا خسائرها فادحة،(77/36)
وأن الحرب أنهكت قواهم، لأنه تفقد مع خالد ميدان المعركة وأطلعته على قتل الحنفيين، وهو الذي دلهم على جثة المحكم بن الطفيل وجثة مسليمة. ولا شك أنه تأكد شدة مصاب المسلمين. فلما ذهب بمهمته تقين شدة الشروط التي فرضها خالد على بني قومه فأراد أن يخدمهم خدمة يخلص بها قومه من هذه الشروط القاسية ويمهد السبيل لاستلانة جانب خالد. وفي مثل هذا الموقف دبر حيلة أثبت بها ذكاءه.
وكانت الحيلة التي دبرها - كما يرويها الرواة - تتلخص في ما يلي: (دخل مجاعة الحصون وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة ثانية ورجالهم ضعفاء، فظاهر الحديد على النساء أي ألبسهن الدروع وسلحهن - وأمرهن بأن ينشرن شعورهن ويشرفن على رؤوس الحصون إلى أن يرجع إليهن)، وبذلك أراد أن يظهر لخالد أن القوم لا يزلون في حصونهم متأهبين للدفاع لكي يحمله على تخفيف الشروط فلما عاد فال لخالد: (أن القوم قد أبوا أن يخبروا ما صالحتك عليه ولكن إن شئت صنعت شيئاً فعرضت على القوم) يريد بذلك أن يخفف خالد من شروط الصلح وحدق المسلمون من بعيد إلى الحصن، فرأوا عليها الناس ضانين أن بني حنيفة محتلوها وأنهم عازمون على الدفاع.
ولقي مجاعة صعوبة في حمل المخالفين من بني حنيفة على قبول شروط الصلح. كان سلمة بن عمير يقول لبني حنيفة: (قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء).
أما مجاعة فيقول لهم: (يابني حنيفة أطيعوني واعصوا سلمة فإنه رجل مشئوم، قبل أن يصيبم ما قال شرحبيل بن مسيلمة، قبل أن تستردف النساء غير راضيات، وينكحن غير راضيات).
والرواية تقول أن بني حنيفة أطاعوا مجاعة وعصوا سلمة وكان من أمر حيلته ان أقنع خالداً بأن يخفف شروط الصلح ففرض الربع من السبي والنصف من الذهب والفضة والسلاح والخيل بعدما كان قد طلب أن يعطوه كل ذلك فلما فرغ من الصلح، وفتحت الحصون أبوابها إلا النساء والصبيان. فقال خالد لمجاعة: (ويحك خدعتني) فقال مجاعة: (قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت).
لم يسق مجاعة وجعه لقومه ولا استهواه حب الانتقام قطاش حتى يدع بني جلدته يلقون أنفسهم في مهاوي الهلاك بل كان خلصاً في قضيت، وعمد مجاعة إلى الحيلة الواسعة(77/37)
فصان بقية قومه من أشارك الهلاك، وخفف عنهم وطأة الانكسار الهائل، فكان ي تلك السياسة مصلحة بني حنيفة.
المنقبة الثالثة - العصبية القومية
كان سلمة بن عمير يشجع الناس على المقاومة وقد رأى من الذل ن يحتكم المسلمون في بني قومه بعد ن قاتلوا قتال الأبطال منعاُ لحوزتهم ودفاعاً عن نسائهم وكان يرى الموت ويرى النساء تستردف غير راضيات وينكحن غير حظيات. وقد قتل مسيلمة وأبنه شرحبيل وصرع اليمامة ابن طفيل. أبعد كل هذا يرضى بالهوان؟ بل الموت أولى دون التسليم بالشروط التي يشترطها خالد. فيصرخ في أصحابه: (قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء) ثم يعود فيشجعهم على المقاومة قائلاً: (فإن الحصن حصين والطعام كثير وقد حضر الشتاء)
لقد قارن بنو حنيفة بين ما قاله سلمة وما قاله مجاعة، ورأوا أن لا قبل لهم بالمسلمين، فلم يروا بداً من التسليم بشروط الصلح لاسيما أن مجاعة دبر الحيلة ليموه على المسلمين بقوة الحنفيين للدفاع ويخفف من وطأة الصلح. فلم يحفل سلمة بكل ذلك، بل أضمر سوءاً لخالد ولم يحتمل إهانة الغلبة لقومه فاجمع على أن يفتك به. ولما حشر بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة طلب سلمة من مجاعة أن يستأذن له في الدخول على خالد ليكلمه في حاج له. فأقبل سلمة مع بني قومه مخبئاً سيفه تحت العباءة، فلما رآه خالد لم يقبله، ولعله كان يعلم كرهه له، فأخرجوه عنه وفتشوه فوجدوا معه السيف، فثار ثائر الحنفيين فأخذوا في سبه ولعنه صارخين في وجهه أتريد أن تهلك قومك وتستأصل بني حنيفة وتسبي الذرية والنساء؟ فأوثقوه ووضعوه في الحصن. غير أن سلمة أقسم ن يثأر لبني قومه. لذلك يعاهدهم على ألا يحدث حدثاً فيعفون عنه. فلم يصدقوه ولم يقبلوا منه عهداً. أعيته الحيلة ولم ير بداً من الإفلات ليفتك بخالد مهما كلفه الأمر فيهرب من الحصن ليلاً فيعمد إلى معسكر خالد، ويصيح في وجه الحرس فيفزع بنوا حنيفة فيتبعونه حتى يدركوه في إحدى الحدائق المسورة فيقاومهم بالسيف فيكتنفوه بالحجارة فيرى أن جميع الأبواب موصدة في وجهه وانه غير قاتل خالداً فالأولى ينتحر ولا يرى يسبون الذراري، فيضرب نفسه بالسيف، ويسقط في البئر فيموت.(77/38)
مبادئ خالد الحربية
تنم الحركات التي قام بها خالد في قتاله أهل الردة على المبادئ الحربية التي نهجها وفي هذه المبادئ أسس لا تختلف كثيراً عن الأسس التي اتخذها القواد العظام وأصبحت من المبادئ الحربية الخالدة. نذكر في ما يلي بعض تلك الأسس:
أولاً - التوفيق بين القيادة والسياسية: يبدو لنا من الخطط التي وضعها خالد لحركات على طليحة بن خويلد ومسيلمة الكذاب والتدابير التي اتخذها بعد الانتصار أن خالداً من القواد الذين وفقوا دائماً بين القيادة والسياسة وأصبح هذا الأس في عصرنا من أخطر عوامل الظفر ويقيناً أن من أكبر العوامل التي حالت دون استثمار الانتصارات الباهرة التي أحرزها نابليون في حروبه على الحلفاء عدم توفيقه بين السياسة والقيادة. وكذلك من العوامل التي أدت إلى خيبة الألمان في الحرب العامة نظر قادتهم إلى الأمور من الوجهة الحربية فقط، وعدم توفيقهم بين السياسة والقيادة.
فنرى خالد بن الوليد في الخطة التي وضعها للحركات على طليحة بن خويلد أنه وفق بين السياسة والقيادة، فلم يقدم جيشه إلىبزاخة إلا بعد أن مهد له سبيل الانتصار بجلب قبائل طي إلى جانبه وفصل الفرقتين: جديلة وغوث عن بني أسد والاستفادة فعلاً من القوة التي أمدت قبائل طي بها جيش المسلمين.
وبعد انتصاره في بزاخة نراه يفرض على القبائل تقديم عدد معين من السلاح. وفي ذلك تعزيز لجيشه وإضعاف لشأن خصمه.
وقبل أن يتقدم بجيشه نحو اليمامة يسعى قبل كل شيء لاستمالة التميميين الذين التجئوا إلى مسيلمة وإخراج جماعة سجاح من ميدان العمل ولما ظفر ببني حنيفة لم يتردد بعقد الصلح معهم على أساس التساهل برغم مخالفة رؤساء الأنصار والمهاجرين له ودون أن يعما بأمر الخليفة الصريح. وقد ذكرنا مجمل الإسبال التي التجأت خالداً إلى ذلك ولخالد مواقف تدل على استعماله الشدة واللين تبعاً لمقتضى الحال
ثانياً - الاستطلاع: لقد عني خالد بالاستطلاع في جميع حركاته. وقبل تقدمه نحو بزاخة يوفد قوة استطلاع بقيادة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم. وفي حركاته على بني تميم يوفد أمامه السرايا للتجسس والاستطلاع. أما في حركات اليمامة فيرسل مكنف بن زيد(77/39)
الخيل وأخاه ليتسقطا الأخبار. وكان في جميع حركاته على اتصال مستمر بالخصم الذي يريد أن يضربه للإطلاع على شؤونه والقيام بالحركة في الوقت الملائم
ثالثاً - المطاردة: من الأسس التي اعتمدها خالد في حركاته القيام بالمطاردة بعد المعركة. وقد يختلف في إسلوب مطاردته عن الأسلوب الشائع الآن، وهو يتطلب سوق أقصى قوة في اليد لقطع خط الاتصال على العدو المنسحب. أما خالد فكان يوفد السرايا في اتجاهات مختلفة للتفتيش عن العدو المنهزم والقضاء عليه أينما وجدته. فالعدو بعد انكساره لم ينسحب إلى محل معين كما هو شأنه اليوم، وذلك لأن الحياة في البادية تساعد المنهزمين على الالتجاء إلى أحياء مختلفة. هكذا كان شأنه في مطاردة بني أسد وفزارة بعد انتصاره في بزاخة. وهكذا كان عمله بعد معركة عقرباء. فلم يشأ أن ينازل الحصون، بل أوفدالسرايا لتلتقط من كان خارج الحصون.
رابعاً - الإبداع: لم يتأخر خالد لحظة في استعمال إبداعه الذاتي حين تطلب الموقف ذلك. وهو يشد عن الأوامر الصادرة إليه متى رأى الفرصة سانحة للعمل بمخالفة الأوامر. فتراه بعد أن أنهى أمر بني أسد في بزاخة واطلع على أحوال بني تميم وتأكد إن الفرصة سانحة للتقدم أمر جيشه بالحركة برغم الأوامر الصادرة إليه والقاضية بألا يتقدم محل إلى محل آخر قبل أن يتلقى أمر الخليفة. فالأنصار يذكرونه بأمر الخليفة الصريح. ألا أن خالداً يقول لهم أنه هو الأمير واليه تنتهي الأخبار وان لم يأتيه أمر من الخليف لا يريد أن يضيع الفرصة مادام مالك بن نويرة حياله وبطون بني تميم نافرة منه.
خامساً - التنظيم: اتضح لنا منم حركات خلد أنه ينظم جيشه ويقسمه إلى أقسام، ويعين لكل قسم قائداً ويعرض الجيش بنفسه قبل أن يتحرك. ففي ذي القصة ينظم جيشه قبل الحركة، وفي البطاح ينظمه ويعين لكل قسم منه قائداً. وقبل القتال يجعل على كل قسم من نظام القتال قائداً خاصاً. وبعد انكسار المسلمين في عقرباء ودخول الأعداء الفسطاط يغير خالد تعبئة الجيش فيضع أهل القرى في جانب وأهل البادية في جانب آخر للأسباب التي سبق ذكرها
سادساً - حشد القوات: رأينا خالداً في جميع حركاته يحشد جميع قواته قبل المعركة ولا يشتتها. فيسير على طريق واحد ويسير به نحو الهدف دون أن يضعفه بفرز بعض القوات(77/40)
منه لمقاصد أخرى وكان يفرز قوة من جيشه ويوفدها إلى الأمام مقدمة بقصد الأمن والاستطلاع وأحياناً يقيم له ردءاً في الخلف ليحمي خط الانسحاب. وكانت المقدمة دائماً تشترك في المعركة مع الكواكب (القسم الأكبر)
سابعاً - التعرض: لقد اتخذ خالد في جميع حركاته خطة الهجوم، ففي بزاخة، يهجم بجميع قواته على قوات طليحة بن خويلد، وفي عقرباء يتقدم نحو العدو ويهاجمه في بلاده، وكان يتوخى الهدف ولا يحيد عنه. والهدف عنده هو محو العدو من سفر الوجود
انتهى البحث
طه الهاشمي(77/41)
3 - بين القاهرة وطوس
من همدان إلى طهران
للدكتور عبد الوهاب عزام
ثم مررنا بكنكاور بعد ساعتين من كرمانشاهان. وهي قرية صغيرة بها آثار معبد قديم. وبعد ساعة مررنا بقرية أسد آباد، وهي قرية السيد جمال الدين الأفغاني، وبها بعض قرابته. كذلك اخبرني بعض الثقاة. ويقول الأفغانيون إنه من أسد آباد القريبة من مدينة كابل. وكذلك اخبر السيد عن نفسه. ومهما يكن فقبيح أن تتنازع رجال الإسلام العظام عصبية الأقوام والبلدان. فقد كان المسلمون أمة واحدة لها موطن واحد هو دار الإسلام، والسيد جمال الدين عربي هاشمي حسيني، ولكنه كما قال الشاعر:
أبيِ الإسلامُ لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
فنحن بني الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
فإن أراد المسلمون أن يفترقوا أقواما وبلدانا وشيعا، فلا يظلموا أسلافهم العظماء بزجهم في هذا المعترك، فقد كانوا اعظم نفوسا وأسمى أفكارا من أن تحيط بهم عصبيات اللحوم والدماء، والأرض والبناء.
وأسد آباد قرية أسسها أسد بن ذي السرو الحميريفي زعم الرواة، وهي على مرحلة من همذان إلى الجنوب والغرب منها، في حضيض جبل ألوند (جبل أسد آباد)، وكانت منزلا كبيرا على الجادة العظمى بين بغداد وهمذان، وكانت في العهد الإسلامي إلى عصر المغول غنية رائجة التجارة، كثيرة السكان، نشأت كثيرا من العلماء. وهي اليوم قرية صغيرة. وعندها كانت الموقعة الكبيرة بين السلطانيين السلجوقيين محمود بن محمد بن ملك شاه وأخيه مسعود سنة أربع عشرة وخمسمائة. وعلى ثلاثة فراسخ من أسد آباد أبنية ساسانية تعرف في الكتب العربية باسم مطابخ كسرى.
ثم ارتقينا جبل أسد آباد، وهو جبل شامخ فسيح، تتراءى بين قممه وأوديته مناظر جميلة جليلة، محبوبة هائلة، رأيناه وقد ذبلت أعشابه ورياحينه وأشجاره. وقيل لنا في الربيع يبدوفي حلل رائعة من الأزهار مختلفة الألوان، لا يعرى منها مكان في القمم والأودية، وترى الطرق جدائد على سفح الجبل، تتمعج فيها السيارات صاعدة وهابطة، وقد عد سائقو(77/42)
السيارات في بعض الطريق اثنتين وسبعين ثنية، فما ينعطف السائق إلى اليمين إلا لينعطف إلى اليسار، وهكذا اثنتين وسبعين مرة أو أكثر. ولكن الطريق في جملتهما ممهدة واسعة مامونة، لم نشعر فيها بالخوف الذي أنذرنا به من قبل.
هذه همذان الجميلة، في حجر جبلها الأشم، جبل ألوند. تبدو في زينة من أشجارها الباسقة، وبساتينها الواسعة. هذه بلدة بديع الزمان، وأحمد بن فارس، وابن الفقيه. هذا مرقد الشيخ الرئيس أبي علي بن سيناء، ليت الوقت يتسع فنقضي بهمذان أياما نتعرف حاضرها، ونتلمس أعلام التاريخ من ماضيها.
همذان مدينة عظيمة قديمة، ذكرت في الآثار الفارسية القديمة باسم هكمتانة، وهي في التوراة أخمتنا، وفي كتب اليونان أكبتانا. وقد لجأ إليها دارا بعد أن هزمه اسكندر في موقعة (أربل) حتى قال أبن حوقل إنها كانت هي وأرباضها فرسخا مربعا. وصارت حاضرة لبعض دول السلاجقة. وقد روى أبن الفقيه الهمذاني وياقوت كثيرا من أخبارها وما قاله الشعراء فيها، وبردها شديد جدا. وقد روى في ذلك أن عبد الله بن المبارك قدمها، فأوقدت بين يديه نار، فكان إذا سخن باطن كفه أصاب ظاهرها البرد، وإذا سخن ظاهرها أصاب باطنها البرد فقال:
أقول لها ونحن على صلاء ... أما للنار عندك حرّ نار
لئن خيرت في البلدان يوما ... فما همذان عندي بالخيار
وقال آخر:
همذان متلفة النفوس ببردها ... والزمهرير، وحرها مأمون
غلب الشتاء مصيفها وربيعها ... فكأنما تموزها كانون
وقيل لأعرابي كيف رأيت همذان؟ فقال أما نهارهم فرقاص، وأما ليلهم فحمال، يعنى أنهم بالنهار يرقصون لتدفأ أرجلهم، والليل يحملون ثيابا كثيرة.
دخلناها والساعة واحدة بعد الظهر، فنزلنا في دار بظاهرها، اسمها باغ رئيس الإسلام، وهي دار جميلة ذات حديقة كبيرة، وفيها مجلس واسع حول حوض عظيم. نزلنا بها فاسترحنا وتغذينا، وجلسنا برهة وأخذت صورتنا.
وقد رأيت صاحبنا السندباد الذي ذكرته أنفا يرتب الحاضرين لأخذ الصورة. فقلت يا(77/43)
سندباد أنت في كل مكان ولكل عمل. أنك أبو الفتح الإسكندري أو أبو زيد السروجي، فقال الأستاذ منورسكي: هذا أبن بطوطة. ومما اذكر من لطائف هذا المجلس أن أحد مندوبي الهند محمد أسحق، نظر إلى أشجار عنب قصار، فسألني ما هذا؟ قلت كرم ولكنه صغير، فقال إذا ما كذب الثعلب في الحكاية المعروفة، حين قال هذا حصرم. فعنب هذا الكرم في متناول الثعالب. ثم خرجنا لزيارة قبر الشيخ الرئيس، دخلنا الباب إلى رحبة تنتهي إلى بابين أيسرهما باب مكتبة صغيرة عامة، والأيمن مكتوب فوقه (آرامكاه أبو علي بن سينا) أي مرقد أبي علي بن سينا. دخلنا حجرة صغيرة بها قبران متشابهان يغطي كلا منهما صفيحة من الحجر عليها نقوش كثيرة. ويحيط بها سياج من حديد. فالقبر الذي يلي الباب قبر الشيخ الرئيس، والذي إلى جانبه قبر رجل أسمه أبو سعيد. قال بعض أصحابنا إنه أبو سعيد بن أبي الخير الصوفي المعروف. وليس هذا صدقا فابن أبي الخير مات في خراسان.
ثم ذهبنا لزيارة مزار هناك يعظمه اليهود ويحجون إليه، ومن أجله كثر عددهم في همذان حتى صاروا زهاء ألفين - وهو في زعمهم قبرا ايستر ومردخاي. وهما امرأة ورجل من اليهود، لهما قصة في التوراة في سفر (ايستر). وخلاصة القصة إن ايستر كانت في حضانة أبن عمها مردخاي في مدينة سوس، وأن ملك الفرس أخشويرش غضب على امرأته وشتى، وأراد أن يختار غيرها، فعرضت عليه فتيات مملكته، فأختار ايستر اليهودية وحظيت عنده. وكان هامان وزير الملك قد نقم على مردخاي انه لا يسجد له كما يسجد الناس، فأغرى الملك باليهود وأخرج أمره بقتلهم حيثما ثقفوا في المملكة. وكاد مردخاي وايستر لهامان حتى أمر الملك بصلبه على الخشبة التي أعدها هو لصلب مردخاي، وكتب الملك إلى الولاة ألا ينفذوا أمره في اليهود وأن يسلطوا اليهود على أعدائهم فيقتلوهم.
والقبران كبيران عليهما سياجان، وهما في حجرة ذات قبة لها مدخل صغير واطئ لا يدخله الداخل إلا راكعا
قضينا في همذان ثلاث ساعات ونصفا، ثم برحناها والساعة أربع ونصف، متوجهين تلقاء قزوين.
برحنا همذان، وما قضت النفس منها لبانة
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب(77/44)
وبعد ساعة نزلنا منزلا على الطريق اسمه رزان، وقد اعد لنا الشاي والفاكهة، والفستق والحمص وااللوز الخ، فرأينا ضربا من الحمص والفستق كبيرا لم نر مثله من قبل. وكان سير دنسن رس، والشاعر الإنكليزي درنك ووتر قد سبقا إلى هذا النزل، إذ فارقا همذان قبل الركب دون أن يزورا قبري ايستر ومردخاي، فطال بهما الانتظار في هذا النزل، فلما بلغته أنا ورفيقي عبد الكريم الحسيني قابلني أستاذي رس دهشا يقول: لماذا تاخرتم! هل زرتم ايستر ومردخاي، قلت نعم. قال هل ألقى فلان هناك محاضرة طويلة؟ قلت محاضرة قصيرة. قال ذلك ما ظننت. قد تخرنا جدا واظلم الليل. ثم سرنا قبل ان يدركنا الرفاق في طريق موحشة تتخللها قرى وضياع قليلة، منها مكان اسمه اب كرم أي الماء الحار فيه حمة، أي ينبوع ماء حار. وقفنا للاستراحة ورؤية الينبوع، فتركنا السيارة ومشينا وراء رجل يحمل مصباحا حتى أتينا النبع، فإذا حجرة فيها حوض يفور منه الماء، فقلت لصاحبي: ما أحسنه حماما لو هيء له بناء. وكم في الشرق من معادن ومياه أغفلتها الأفكار والأيدي! واستأنفنا السير، وطال بنا السفر، حتى لاحت قزوين تحت ظلام الليل، فوردناها متعبين والساعة تسع ونصف من المساء، وقدم بقية الركب بعد ساعة. بتنا في دار جميلة بجانب كنيسة روسية. وقد وهبت الدولة الروسية هذه الدار والكنيسة وما يتصل بهما للدولة الإيرانية.
وقزوين بلد قديم ذكره بطليموس باسم قسايين. وهي على الجادة العظمى من بغداد إلى خراسان، وتلتقي عندها طرق القوافل الآتية من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فمن اجل ذلك اتسع عمرانها في القديم وراجت تجارتها، وهي على مقربة من جبال البرز، ويجري عندها نهر صغير يفضي إلى نهر ابهر، وتبعد عن طهران مائة وخمسين كيلا.
وكانت قبل الإسلام وبعده ثغرا لمحاربة الديلم. وقد مصرها سعيد بن العاص بن امية، وجعلها مغزى أهل الكوفة. وأغزى الحجاج ابنه محمدا الديلم، فنزل قزوين وبنى بها مسجدا سمى بعد مسجد الثور. وبنى موسى الهادي مدينة بجوارها عرفت بمدينة موسى. وبنى المبارك التركي مولى المأمون أو المعتصم حصنا بها سماه المباركية. وروى ياقوت (اجتاز الرشيد بهمذان، وهو يريد خراسان، فاعترضه أهل قزوين، واخبروه بمكانهم من العدو، وعنائهم في مجاهدته، وسألوه النظر لهم، وتخفيف ما يلزمهم من عشر غلاتهم في(77/45)
القصبة. فسار إلى قزوين ودخلها، وبنى جامعها، وكتب اسمه على بابه في لوح حجر. وابتاع حوانيت ومستغلات، ووقفها على مصالح المدينة، وعمارة قبتها وسورها). وقد ذكرها بديع الزمان باسم الثغر، في المقامة القزوينية التي أولها، غزوت الثغر بقزوين، سنة خمس وسبعين. وروى بعض المحدثين أخبارا في فضائل قزوين، والحث على الاقامة بها لكونها من الثغور. وقد ذكرت في الشعر العربي. ومن ذلك قول الطرماح ابن حكيم
خليلي مدّ طرفك هل تراني ... ظعائن باللوى من عوكلان
ألم تر أن عرفان الثريا ... يهيج لي بقزوين احتزاني
وقد نشأت قزوين جماعة من العلماء والأدباء منهم زكريا ابن محمد صاحب عجائب المخلوقات المتوفى سنة 682، وحمد الله المستوفى المؤرخ صاحب تاريخ كزيدة، ونزهة القلوب في الجغرافيا، المتوفى سنة 750، وأبو حاتم محمود بن الحسن الفقيه الشافعي اخذ عن الاسفرائيني والباقلاني، وأخذ عنه الشيرازي وله كتب كثيرة، منها كتاب الحيل في الفقه وتوفى سنة 440، ومنهم الحكيم شاه محمد، الذي اخذ عن جلال الدين الدواني، وذهب الى مكة للمجاورة فدعاه السلطان بايزيد الثاني إلى استانبول فعاش في رعايته ورعاية سليم وسليمان من بعده، وكتب التفسير والعقائد والفلسفة، وترجم حياة الحيوان للدميري إلى الفارسية.
وتركنا قزوين والساعة تسع ونصف من صباح الأربعاء 24 جمادى الثانية سنة 1353 (13 أكتوبر سنة 1934)، فبلغنا طهران بعد الظهر، ونزل جماعة منا في الفندق الكبير (جراند اوتيل) وآخرون في الفندق النادري.
عبد الوهاب عزام(77/46)
5 - محاورات إفلاطون
معذرة سقراط
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قد يذهب بكم الظن إني إنما أتحداكم بهذا كما فعلت حينما حدثتكم عن الضراعة والبكاء، كلا فليس الأمر كذلك، إنما أقول هذا لأنني اعتقد إني لم أسيء إلى أحد عامدا، ولا أظنني قادرا على إقناعكم بذلك في هذا الحوار القصير، فلو كان في أثينا قانون، كما هي الحال في سائر المدن، لا يبيح حكم الإعدام في يوم واحد، لاستطعت فيما اعتقد أن أقنعكم، أما الآن فالفترة وجيزة، ولا يمكنني أن ادحض في لحظة هؤلاء المدعين الفحول، وان كنت كما ظننت لم أسيء إلى أحد فلن أتقدم بالإساءة إلى نفسي قطعا. وإذن فلن اعترف بنفسي باني حقيق بالسوء، ولن اقترح عقوبة ما. ولماذا افعل؟ اخوفاً من الموت الذي يقترحه مليتس؟ على حين إني لا اعلم ان كان الموت خيرا أم شرا! لماذا اقترح عقابا فيكون شرا مؤكدا لا مفر منه؟ أأقترح السجن؟ ولماذا أزج في غياهبه فاكون عبدا لحكام هذا العام - اعني الأحد عشر؟ أم اقترح أن أعاقب بالتغريم، وان اسجن حتى تدفع الغرامة؟ فالاعتراض بنفسه قائم، لأنني لابد أن البث في السجن لأنني لا املك مالا ولا أستطيع دفعا. وان قلت النفي (وربما قر رأيكم على هذه العقوبة) وجب أن يكون حب الحياة قد أعمى بصيرتي، لأنكم وانتم بنو وطني لا تطيقون رؤيتي ولا تسيغون كلامي، لأنه في رأيكم خطر ذميم، فوددتم لو نجوتم من شري عسى أن يطيقه سواكم، فما حياتي في هذه السن، ضاربا من مدينة إلى مدينة، مشردا أبدا، طريدا دائما، يلفظني البلد في اثر البلد، فما ارتاب في التفاف الشبان حولي أينما حللت كما فعلوا هنا، فلو نفضتهم رغبوا عني إلى أوليائهم في طردي فاستجابوا لرجائهم، ولو تركتهم يسعون إلى طردني آباؤهم وأصدقاؤهم صونا لأنفسهم.
رب قائل يقول: نعم يا سقراط، ولكن ألا تستطيع أن تمسك لسانك حتى إذا ارتحلت إلى مدينة أخرى ما اشتبك إنسان معك؟ وعسير جدا أن أفهمكم جوابي عن هذا السؤال، فلو أنبأتكم أني لو فعلت لكان عصيانا مني لأمر الله، ولذلك لا املك حبسا للساني، لما صدقتم أن يكون جدا ما أقول. ولو قلت بعد ذلك إن اعظم ما يأتيه الإنسان من خير هو أن يحاور كل يوم في الفضيلة وما يتصل بما سمعتموني أسائل فيه نفسي وأسائل الناس، وإن الحياة(77/47)
التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرة بالبقاء، كنتم لهذا اشد تكذيبا، ولكني لا أقول إلا حقا وان عز علي إقناعكم بصدقه. إني لم اعهد نفسي جارمة تستأهل العقاب، ومع ذلك فلو كان لدي مال لاقترحت أن أعطيكم ما املك، ولم يكن ذلك ليضيرني في شيء، ولكنكم ترون إني لا املك مالا، لا بل أظنني قادرا دفع مينة واحدة (المينة تساوي مائة دراخمة) ولذا اقترح هذه العقوبة. إن أصدقائي: افلاطون، وكريتون، وكريتوبوليس، وابولودورس، وهم بين الحاضرين، يرجون مني أن أقول ثلاثين مينة، يضمنون هم دفعها، حسنا، إذن فاحكموا بثلاثين مينة، ولتكن هي عقوبتي، واحسب هؤلاء كفلاء بدفعها.
أيها الأثينيون! لن تفيدوا بقتلي إلا أمدا قصيرا، وستدفعون له ثمنا ما تنطلق به السنة السوء تذيع عن المدينة العار. ستقول عنكم أنكم قتلتم سقراط الحكيم، فسيدعوني وقتئذ بالحكيم وان لم اكن حكيما تقريعا لكم. ولو صبرتم قليلا لظفرتم بما تبتغون بطريق طبيعية، فلقد طعنت في السن كما ترون، ودنوت من اجلي. إنما أسوق هذا الحديث إلى هؤلاء الذين حكموا علي بالموت، واحب أن أضيف إليهم كلمة أخرى: قد تحسبون ان اتهامي جاء نتيجة لعي لساني، فلو قد أثرت أن افعل كل شيء وان أقول كل شيء، لجاز لي أن اظفر بعفوكم، ولكني لم افعل ذلك، فليس عيا في لساني ما أدى إلى ادانتي، ولكنه ترفعي عن القحة والصفاقة، وصدوفي عن مخاطبتكم بما كنتم تحبونني أن أخاطبكم به: بالعويل والبكاء والرثاء، وان أقول وافعل كثيرا مما تعودتم استماعه من الناس، وهو لا يجمل بي كما ذكرت، فقد رأيت واجبي ألا أتبذل في العمل، أو آسف في ساعة الخطر، ولست آسف على ما سلكت من طريق للدفاع، فإني لأؤثره خطتي التي رسمتها ولو أدت بي إلى الموت، على أن اصطنع خطتكم احتفاظا بالحياة. فلا يجوز لإنسان في ساحة الوغى أو أمام القانون أن يتلمس أي سبيل فرارا من الموت، فلو القي المحارب بسلاحه في المعمعة، وجثا على ركبتيه أمام مطارديه لظفر غالبا بالنجاة من الموت. ولكل ضرب من ضروب الخطر طرق للنجاة من الهلاك، إذا لم يتعفف المرء عن كل قول وكل فعل مهما يكن شائنا. فليس عسيرا أيها الأصدقاء إن تفر من وجه الموت، ولكن العسر كل العسر في تجنب الأخلاق الفاسدة. فالفساد والموت يعدوان في أعقابنا، ولكن الفساد أسرع من الموت عدوا. فأنا الذي اكتهلت، إنما أسير سيرا وئيدا، فيكاد يدركني أبطأ العادين، أما المدعون فسراع متحمسون. وسيلحق(77/48)
بهم أسرعهما - اعني الفساد. وبعد، فسأترك موقفي هذا، وقد جرى على قضاؤكم بالموت، وكذلك هم سينطلقون كل إلى سبيله، وقد قال فيهم الحق كلمته، بان يعانوا ما هم فيه من ضعة، ولا بد لي أن اخضع لما حكم علي به، وعليهم كذلك أن يرضوا بما كتب لهم. احسب أن قد جرى القدر بهذا جميعا، فعسى أن يكون خيرا، ولا احسبه إلا كذلك.
وبعد، فيا هؤلاء الذين اجروا علي قضاءهم، هاكم نبوءتي التي احب أن أبلغكم إياها، لأني مشف على الموت، وتلك ساعة يوهب فيها المرء مقدرة على التنبؤ. أتنبأ لكم يا قاتلي بأنه لن يكاد ينفذ حكم الموت حتى ينزل بكم ما هو اشد من ذلك الذي هولا. لقد حكمتم بموتي، لأنكم أردتم أن تفلتوا من ذلك الذي يتهمكم، ولكيلا تحاسبوا على ما قدمت أيديكم، ولكن لن يكون لكم ما ترجون، بل نقيضه. فسيكون متهموكم أوفر عددا منهم اليوم، إذ سيهب في وجوهكم من كنت مسكنهم حتى الآن، وسيكون أولئك اشد قسوة عليكم لأنهم دونكم سنا، وسيذيقونكم من العذاب اكثر مما تذوقون اليوم، فان حسبتم إنكم خالصون من متهمكم بقتله، كي لا ينغص عليكم عيشكم، فانتم مخطئون، إذ ليست تلك سبيلا مؤدية إلى الفرار، ولا هي مما يشرفكم، وايسر من ذلك واشرف ألا تهاجموا الناس، بل تبادروا بإصلاح أنفسكم. تلك هي نبوءتي التي ابلغها إلى القضاة الذين حكموا علي، قبل رحيلي.
وانتم أيها الأصدقاء الذين سعوا إلى برائتي، احب كذلك أن أتحدث إليكم عما وقع، عندما يشغل الرؤساء، وقبل أن اذهب إلى مكان مدني، فالبثوا قليلا، لأننا نستطيع أن يتحدث بعضنا إلى بعض ما دامت هناك فسحة من وقت. انتم أصدقائي، واحب أن أدلكم على معنى هذا الذي وقع. يا قضاتي - فأنا أدعوكم قضاة بحق - احب أن أحدثكم بأمر عجيب، لقد كانت مشيرتي حتى الآن، تلك المشيرة التي عهدتها في دخيلتي، لا تفتا تردني في توافه الأمور، أنكنت مقدما على زلل أو خطا في أي شيء، والآن - كما ترون - قد داهمني ما يحسبه إجماع الناس أقصى الشرور واقساها، ولم تلوح لي مشيرتي بعلامة العارضة حينما تركت داري في الصباح. ولا حين كنت اصعد إلى هذه المحكمة، ولا حين ألقيت كل ما اعتزمت أن أقوله، ومع أني عورضت كثيرا أثناء الحديث، إلا إن المشيرة لم تعارضني في كل ما قلت أو فعلت مما يتصل بهذا الأمر، فبم أعلل هذا، وكيف افهمه؟ سأخبركم: أني اعد هذا دليلا على ان ما حدث لي هو الخير، ويخطئ من يظن منا إن الموت شر. هذا(77/49)
دليل ناهض على ما أقول، لان الإشارة التي عهدتها لم تكن لتتردد في معارضتي لو كنت مقبلا على الشر دون الخير.
لنقلب النظر في الأمر، وسنرى إن ثمة بارقة قوية من الأمل تبشر بان الموت خير. فإحدى اثنتين: أما أن يكون الموت عدما وغيبوبة تامة، وأما أن يكون كما يروى عنه الناس تغيرا وانتقالا للنفس من هذا العالم إلى عالم آخر. فلو فرضتم فيه انعدام الشعور، وانه كرقدة النائم الذي لا تزعجه حتى أشباح الرؤوس، ففي الموت نفع لا نزاع فيه، لأنه لو أتيح لإنسان أن يقضى ليلة لا يزعج نعاسه فيها شيء، حتى ولا أحلامه، ثم قارنها بما سلف في حياته من ليال وايام، وسئل بعد ذلك: كم يوما وليلة قضاها بين أعوامه وكانت أبهج من تلك الليلة واسعد؟ فلا احسب أحدا - ولا اختص بالقول أحدا - بل لن يجد حتى اعظم الملوك بين أيامه ولياليه كثيرا من أشباهها. فإذا كان الموت كهذا فانعم به، وليس الخلود إذن إلا ليلة واحدة! إما أن كان الموت ارتحالا إلى مكان آخر، حيث يستقر الموتى جميعا كما يقال، فأي خير يمكن أن يكون اعظم من هذا أيها الأصدقاء والقضاة! وإذا كان حقا انه إذا بلغ الراحل ذلك العالم السفلي، خلص من أساطين العدل في هذا العالم، وألفى قضاة بمعنى الكلمة الصحيح، إذ يقال إن القضاء هناك في ايدي مينوس، ورادامنتوس، وايكوس، وتربتوليموس وسائر أبناء الله الذين عمروا حياتهم بأقوم الأخلاق، فما احب إلى النفس ذاك الارتحال! وهل يضن الرجل بشيء إذا أتيح له أن يتكلم مع اورفيوس، وموسيوس، وهزبود، وهوميروس؟ كلا، لو كان هذا حقا فذروني أمت مرة ومرة، فسأصادف متاعا رائعا في مكان أستطيع فيه أن أتحدث إلى بالاميدس، واجاكس بن تلامون، وغيرهم من الأبطال القدامى الذين تجرعوا المنون بسبب قضاء ظالم، ولا أظنني حين أقارن الآن آلامي بآلامهم إلا مغتبطا مسرورا. وفوق كل هذا فسأتمكن من استئناف بحثي في المعرفة الحق، والمعرفة الزائفة، وكما فعلت هنا سأفعل في العالم الثاني، وسأكشف عن الحكيم الصحيح، وعمن يدعي الحكمة باطلا. بماذا يضن الرجل أيها القضاة إذا أتيح له أن يمتحن قائد الحملة الطروادية الكبرى أو اوذيس، او سسفوس وغير هؤلاء ممن لا يقعون تحت الحصر رجالا ونساء؟ إلا ما أعظمها غبطة لا تحد، تلك التي أجدها في نقاشهم ومحاورتهم، لأنهم في ذلك العالم لن يقضوا على أحد بالموت من اجل هذا. كلا ولا ريب، هذا فضلا(77/50)
عما يصادفه الناس في ذلك العالم من سعادة عزت على هذه الدنيا، فان صح ما يقال فهم ثمة خالدون.
فابتسموا إذن للموت أيها القضاة، واعلموا علم اليقين انه يستحيل على الرجل الصالح أن يصاب بسوء لا في حياته ولا بعد موته، فلن تهمله الآلهة، ولن تهمل ما يتصل به، كلا، وليست ساعتي الآزفة قد جاءت بها المصادفة العمياء، فلست ارتاب في أن الموت مع الحرية خير لي، ولذلك لم تشر مشيرتي بشيء.
ولست لهذا غاضبا من المدعين، أو ممن حكموا علي، فما نالتني منهم إساءة، ولو أن أحدا منهم لم يقصد إلى أن يعمل معي خيرا، وقد أعاتبهم لهذا عتابا رقيقا.
وان لي عندهم لرجاء. فأنا التمس أيها الأصدقاء، إذا ما شب ابنائي، ان تنزلوا بهم العقاب، واحب أن تؤذوهم كما آذيتكم، وذلك أن بدا منهم اهتمام بالثروة، أو بأي شيء، وكانوا في حقيقة الأمر لا شيء. إذن فانحوا عليهم بالأئمة كما فعلت معكم، لإهمالهم ما ينبغي أن يبذلوا فيه عنايتهم، ولظنهم انهم شيء على حين انهم في الواقع لا شيء. فإذا فعلتم هذا، أكون قد نالني ونال أبنائي العدل على أيديكم.
لقد أزفت ساعة الرحيل، وسينصرف كل منا إلى سبيله - فإنا إلى الموت، وانتم إلى الحياة، والله وحده عليم بأيهما خير.
(يتبع)
زكي نجيب محمود(77/51)
الأنتكيرة هم الإنجليز لا الأسبان
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذا هو رأيي في ذلك النص الذي سأنقله بعدعن وزيرنا الخطير لسان الدين بن الخطيب في كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة ج2 ص24) وقد كتبت ذلك في جريدة البلاغ الغراء (8 - 3 - 1351هـ 12 - 7 - 1932م) تحت عنوان (الإنجليز في القرن الثامن الهجري كما يصفهم سياسي مسلم) أما الأستاذ محمد لبيب البتنوني فيرى في كتابه (رحلة الأندلس) إن الأنتكيرة الذين وردوا في ذلك النص من كتاب الإحاطة هم الأسبان. وقد ذكر ذلك في كتابه (رحلة الأندلس ص 160) بدون أن يعنى بتحقيقه أو يخطر بباله انهم أمة أخرى غير الأمة الإسبانية، فيحمله ذلك على العناية بإثبات رأيه، بل ذكره كأنه قضية مسلمة، وأمر مفروغ من صحته.
وقد قرأت كتاب الأستاذ البتنوني من شهور، ومن يوم أن قرأته وأنا أحاول أن أبين له صحة ما ذهبت إليه في (الرسالة) الغراء، فيحول بيني وبين ذلك اشتغالي بغيره من أمور عنيت بها قبله، وهاأنذا اليوم امضي فيما عزمت عليه من ذلك، ولا أحاول به أن انتقص شيئا من فضله، فان فضله اكبر من أن تؤثر فيه زلة من زلات القلم، ولكل جواد كبوة.
ذكر لسان الدين في كتاب الإحاطة من حوادث سنة 767 للهجرة إن بطرة بن الهنشة ملك أسبانيا حينما غلبه أخوه القمط على الملك التجأ إلى ابن صاحب (الانتكيرة) المعروف ببرقسين، وبين أول أرضه وبين قشتالة ثمانية أيام، فأعانه بجيش ذهب معه إلى إسبانيا، فحارب به آخذاه حتى غلبه واسترد ملكه، وقد رأى لسان الدين بن الخطيب حرب هذه الأمة الجديدة (الانتكيرة) أو سمع به فلفت نظره إليها وجعله يلقي فيها نظرة سياسي صادق الفراسة قد شاهد أفول نجم أمته في تلك القارة، فوقف ينظر من بعيد إلى من يخلفها فيها فأعجبه حال هذه الأمة الناشئة في حروبها واخلاقها، واخذ يوازن في ذلك بينها وبين أمة العرب في نشاتها، وكاني به كان يقدر لها مستقبلا مثل مستقبلها، وحكما متسعا في الأرض مثل حكمها، وقد صدقت فراسته في هذه الأمة، وأدت بها أوصافها التي أعجبته منها ولفتت نظره إليها إلى ما يقدر لكل أمة تتحلى بهذه الاوصاف، وتتجمل بتلك الشيم، وهذا هو الذي قاله فيها: (وحال هذه الأمة غريب في الحماية الممزوجة بالوفاء، والرقة والاستهانة(77/52)
بالنفوس في سبيل الحمية عادة العرب الاول، واخبارهم في القتال غريبة من الإسترجال والزحف على الإقدام أميرهم ومأمورهم، والجثو في الأرض أو الدفن في التراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهيجة، ورماتهم قسيهم عربية جافية، وكلهم في دروع، ولا لجام عندهم، والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم وعار شنيع، ورماتهم يسبقون الخيل في الطراد، وحالهم في باب التحلي بالجواهر وكثرة آلات الفضة غريب).
فهذه أوصاف تنطق بنفسها إنها لامة غريبة عن ارض الأندلس ومن فيها من نصارى ومسلمين، هذا إلى ان التاريخ الإنجليزي قد ورد فيه ما يؤيد رواية ابن الخطيب من ذهاب ذلك الجيش منهم إلى ارض الأندلس في الزمن الذي عينه ابن الخطيب له، فقد بلغت هذه الأمة في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي (القرن الثامن الهجري) درجة عظيمة من التقدم السياسي والحربي على عهد ملكها (إدورد الثالث) وكانت له حروب كثيرة مع الفرنسيين انتصر فيها عليهم، وبينما كانت جيوشه تفعل ذلك مع فرنسا بقيادته، كانت زوجه تقود جيشا آخر حاربت به اسكتلندا وأسرت ملكها، ثم جهزت جيشا آخر سارت به إلى إسبانيا. فحاربت الأسبانيين وهزمتهم، وهذه هي الغزوة التي ذكرها لسان الدين ابن الخطيب في سنة 767هـ لان مدة ولاية أدورد الثالث على إنكلترا كانت بين سنتي (1327 - 1376م)، وهذه السنة الهجرية تقع في هذه المدة.
فهذا ما يؤيد رأينا من الناحية التاريخية، وأما الناحية اللغوية فهذا الاسم (الانتكيرة) من الأسماء التي أطلقها مؤرخو العرب على أمة الانجليز، ولم تخل من بعض تحريف لبعد ديار هذه الأمة عنهم، وما كانت فيه من عزلة بجزرها عن غيرها من الأمم، ولم يبتدئ تاريخ الأمة الإنجليزية إلا في نحو سنة ستين قبل الميلاد، وكانت جزائرها تسمى عند الرومانيين (بريطانيا) وكانوا يسمون سكانها بريطون، وقد فتحوها سنة 83 بعد الميلاد، ثم استقلت هذه الأمة بجزرها في أوائل القرن الخامس الميلادي، فقامت فيها حروب وفتن كثيرة مزقت شملها وأضعفتها، ولم تزل مضطربة بالحروب الداخلية وغزوات المجاورين لها، إلى أن استولى عليها بعض الجرمانيون، فطردوا سكانها الأصليين إلى الأقاليم المجاورة لها، ثم فتحها (اغبرت) سنة 823 ميلادية، وجعل نفسه ملكا عليها، وهو أول ملك قام بها، وكان يلقب نفسه ملك انكلتيرة.(77/53)
وقد عرف المسلمون هذه الأمة بعد الرومانيين، إلا انهم لم يتصلوا بها ولم يعرفوا أمرها تمام المعرفة، وكان هذا سببا فيما وقع من اضطرابهم في اسمها، فسماها قدماء مؤرخيهم (الانكتار) وبعضهم كان يسميها (الإنكليز) ولعل كلمة (الانتكيرة) في ذلك النص الذي نقلناه عن لسان الدين بن الخطيب عن هذه الأمة محرفة عن هذه التسمية (الانكتير) بتقديم التاء على الكاف وزيادة التاء المربوطة التي زادها بعضهم بعد ذلك على هذا الاسم كما سيأتي.
ثم ذكر صاحب كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) هذه الأمة باسم (انكلتيرة) وكان المسلمون قد اختلطوا بهذه الأمة في الحروب الصليبية فعرفوا حقيقة اسمها وأضافوا إليه اللام التي كان يسقطها قدماؤهم منه، وصاحب كتاب الروضتين هو ابو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المتوفى سنة 665هـ وكتابه في أخبار الدولة الاتابكية والدولة الأيوبية.
وقد ذكرهم بعد هذا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري باسم (الإنكليز) صاحب كتاب (المؤنس في أخبار أفريقية وتونس) وهو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم وقد ذكر فيه أخبار هذا الإقليم إلى سنة 1092هـ والإنكليز سمك كالحية يكثر في البحر الذي توجد فيه الجزائر البريطانية فسموا هذه الأمة باسمه، ويسمى أيضاً الانكليس والجنكليس، ولم يسم هذه الأمة من مؤرخي العرب فيما اعلم بالاسم الذي كان يسميها به الرومانيون إلا صاحب كتاب (صبح الأعشى) فقد ذكرها باسم (بريطانيا) ولم نجد من سماها بهذا الاسم غيره.
فهذا هو رأينا فيما ورد في ذلك النص من أخبار أمة الانتكيرة. ولعل الأستاذ البتنوني يعلم في ذلك ما لا نعلم فينشر ما عنده فيه على صفحات الرسالة الغراء لنصل في ذلك إلى الصواب الذي هو غايتنا جميعا.
عبد المتعال الصعيدي(77/54)
نجوى النيل
للأستاذ محمود الخفيف
مضيت إلى النهر وقت الطفل ... وقد لبس الأفق أبهى الُحلَلْ
وألقت عليه ظلال الغروب ... صفاء تتوق إليه المقلْ
ورَفَّت على الشْط خضر الرياض ... وراق الخريف بها واعتدلْ
ولاح ليَ النيل في منظر ... تناهى الجمالُ به واكتملْ
تَرَوّحت النفسُ فيه الهدوَء ... ولاحَت لعيني سِمَات الجذلْ
تذكرت قوليَ في عَذْله ... فأَشْرَبَ وجهيَ صَبْغُ الخجلْ
ورحت أجدد عهد الولاء ... كمن تاب عن ذنبه فاسْتَهَلْ
أتيتك يا نيل مستغفراً ... وعندك يُنْسى رقيق العَذَلْ
فمنك الوفاء ومنك الصفاء ... ومنك المودة منذ الأزلْ
وما كان عتبيَ إلا الوداد ... وما كان ودِّيَ بالمفتَعَلْ
لئن عُدْتُ أُحْكِمُ فيك القريض ... فلي في صفاتك وِرْدٌ عَلَلْ
يروق حديثك إما استعيد ... وما هو إن طال بالمبتَذَلْ
ويَمْلك قَلبيَ حين أراك ... لذيذُ الخيال وحلوُ الثَمَلْ
طيوفٌ من الحسن رفَّافةٌ ... تريك من السحر ما يُستَحلْ
ألذُّ من الحلْم جَمَّ الرُؤى ... لياليَ عهد الصبا المُقْتَبَلْ
وأعذب من خلجات المنى ... وأجملُ من بارقات الأمَلْ
وأطيب من ذكريات الغرام ... والطفُ من لمحات الغزَلْ
وأشهى من الماء حلوَ الصفاء ... تَسلسلَ حولك بَعد الغَلَلْ
وأنْضَرُ من باكرات الربيع ... تحلَّى بها الكون بعد العَطَلْ
وأبهى من الصبح في مهده ... تَبَسّم في داكِنَات الكِلَلْ
وأندى من الكون عند الشروق ... رفيفَ الحواشي نقيّ الطِّلَلْ
وأروع من بسمات الضحى ... وومض الأصيل وصفو الطَّفَلْ
جمالك يا نيل أعيا البيان ... ودق فقصَّرَ عنه المثلْ(77/55)
تدَفُّق مائك يوحي إليَّ ... مناظِرَ فيضك أنى هَطَلْ
فأصبو لمرآك بين الدِّغال ... وحول الشِّعاب وفوق القُلَلْ
حيال تِسانا وما حولها ... وعند نيانزا وبحر الجبلْ
وحيث خطرت بسودان مصر ... لطيف الأناة حليم النُّقَلْ
وحيث انْهَلَلْتَ بأعلى الصعيد ... وقد عجَّ موجُك لما اتَّصَلْ
يروع فؤاديَ هذا العباب ... وكيف تلاقى وكيف انتَقَلْ
وأعجب ماذا يروم الدخيل ... حيال تدفُّقِه المتَّصِلْ؟!
وكيف يُقَطَّع هذا الوريد ... وتأمن مصرُ دنوَّ الأجَلْ؟
يشعُّ الخلود على جانبيك ... ويصحو الفؤادُ لكرِّ الدُّوَل
وأقرأ فيك سجلَّ الزمان ... واسمع همسَ العصور الأُوَل
شهدتَ الحضارةَ في مهدها ... وحسنَ تفَنُّنها المرتَجَلْ
وشب الزمان على ضفتيك ... بطيَء العصور طويلَ المَهَلْ
فآنست في مصر عهد النبوغ ... وعهدَ العظائم لما حفَلْ
إلى أن بلوت بمصر الهوان ... وكيف ثناها الونَى والخزَلْ
هتفت بفرعون في عزه ... وانكرت فرعون لما خَمَلْ
وساءك قمييز يغزو البلاد ... ويبذر فيها بذورَ الخَلَلْ
وراعك إسكَنْدَرٌ مقبلا ... سريعَ الفتوح وثيقَ العَجَلْ
وقيصرُ حين غزَته الجفون ... وجازت عليه ضروبُ الحِيَلُ
فألقى السلاح على بأسه ... وهام بسحر العيون النُّجُلْ
وكم بطل فتنته العيون ... وكم مَلَكَ الحبُّ حتى قَتَلْ
تلقيت عمرا لقاء الحنيف ... تراءى الهلالُ له فابتهلْ
وهللت حين أقام الحدود ... وحين تقصَّى وحين عَدَلْ
وحين توسم فيك الجلال ... فنمق فيك رصين الجُملْ
وجاء بوصفٍ تلته القرون ... وما عرفت فيه بعض المَلَلْ
دهاك الفرنسيُّ في جنده ... وجندك يا نيل بعضَ الهمَلْ(77/56)
تلفتُّ حولك مستنجداً ... فلم تلق حولك غير الفَشَلْ
إلى أن تلقى زمام الأمور ... بمصر من الشرق فرد بَطلْ
فأحيا بواديُك مَيْتَ الرجاء ... وقد دهش الدهر مما فَعَلْ
تفيَّأت حيناً ظلالَ النعيم ... إلى أن دهاك المصاب الجَلَلْ
فجاس العدو خلال الديار ... وغالتك يا نيل شر الغِيَلْ
حباك الوعودَ ولكنه ... أقام لديك السنين الطُّوَلْ
فيوماً يمد حبال الرجاء ... ويوماً يثير عقيم الجَدَلْ
ويوماً يجيئك مستأسدا ... يجرب فيك صنوفَ الوَهَلْ
ألم تر بالأمس كيف افترى ... وكيف تعامى وكيف خَتَلْ؟
وكيف رماك بأدهى الخصوم ... وكان بواديك أصل العِلَلْ؟
لقد بات يتلو حديث الوفاق ... وهل يخطبُ الذئب وُدَّ الحَمَلْ؟
مللنا لعمريَ هذا النفاق ... وملنا إلى الجد بعد الهزَلْ
وَقمنَا نحطمُ عنا القيود ... وَنخلع عنا رداء الكسلْ
تحركْتَ بالأمس مستعدياً ... وأنكرت يا نيل عهد الخَطَلْ
وقد كنت قبلُ مِثالَ الهدوء ... ولكن أثارك طولُ الزَّللْ
وشعبك مثلُك في صمته ... وإن حسبوه سكوتَ الوَجَل
وما قرَّ موجُك إلا استجم ... وما إن تناقص حتى كَملْ
وما نسِيَ الشعبُ تاريخَه ... وما نام عن مجده أو غَفَلْ
أبيٌّ وإن دهمته الخطوب ... فتىٌ وان زعموه اكتَهَلْ
سرى فيه يا نيل منك الخلود ... وأُلهمَ مثلك حبَّ العمل
وما كان سِرُّكَ مُسْتَحْدَثا ... وما كان مجدُك بالُمنتحل
سيمضي الزمان على جانبيك ... وتبقى كما كنت منذ الأزل
الخفيف(77/57)
بين الشاعر وببن نفسه
بقلم عبد الحق فاضل
هو - مالي أرى الوجه الجم_ل عليه آثار الضنى؟
إنا بأفراح الشبا ... ب عن الكابة في غنى
تبكين. . .؟ لهفي! أي خط ... ب احل يا (نفسي) بنا؟
هي - من أين جئتُ؟ ولِمْ أعي_ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
هو - فيم التأمل والتألم=والتبرم يا حبيبة؟
وأشدّ من وقع المصي ... بة أن نفكر في المصيبة
هيا بنا، يا منيتي ... نلهو بأحلام الشبيبة
هي - من أين جئت؟ ولم اعي_ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
هو - لا يا رفيقة! لا تطي_لي الفكر في كنه الأمور
هذا الشباب يسير مو ... كبه على عجل، فسيري
أخشى عليك إذا أضعنا الوقت، من وخز الضمير؟
هي - من أين جئت؟ ولم اعي_ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
هو - كفى بربك! واتركي_نا نمش في سبل الكمالِ
فيما لدى من القوى، ... وبما لديك من الجمال
نبني لنا مجدا رفي ... عا، لا يصير إلى زوال
هي - من أين جئت؟ ولم اعي_ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
هو - ان الفراش يحوم حو_ل الزهر يجهل ما غوى
والطير يسجع في الغصو ... ن، مشببا لا عن هوى
قومي نحم، هيا نغني، ... قبل ان تقع النوى
هي - من اين جئت؟ ولم اعي_ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
هو - كل الأحبة، يا حبي_بة، في وئام واتفاق
إلا أنا! مع قربنا، ... أشكو تباريح الفراق
لم يقصني الهجران من ... ك، ولم يقربني اشتياقي!!(77/58)
هي - من أين جئت؟ ولم اعي_ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
من أين جئت؟ ولم اعي ... ش؟ وما الحياة؟ وما أنا؟؟
(بغداد)
عبد الحق فاضل(77/59)
أنصاف رجال
بقلم محمود غنيم
يعني بعض الشبان بمظهره اكثر مما يعني بجوهره، ويسرف في توخي الأناقة إلى الحد الذي ينقلب إلى الضد. فإلى هؤلاء اوجه القول:
شباب النيل يا زين الشباب ... ويا أشبال آساد غضاب
معي عتب أوجهه إليكم ... وقد تصفو المودة بالعتاب
أرى فيكم فريقا حين يمشي ... يحك بأنفه ظهر السحاب
كليث الغاب في صلف وتيه ... وليس لدى القراع بليث غاب
لزهر النرد قد خلقت يداه ... وليست لليراع ولا الكتاب
تفنن في محاكاة العذارى ... وخالفهن في وضع النقاب
وأرسل شعره المضغوط يحكى ... وميض البرق أو لمع السراب
تداعبه الصبا فيموج موجا ... كما هب النسيم على العباب
له حلل تحاكى الطيف لونا ... بأزرار من الذهب اللباب
وفيها جسمه انصب انصبابا ... فما تدري الثياب من الأهاب
وليس بمحكم عملا شريفا ... ويحكم وضع أربطة الرقاب
ولا يخشى على شيء ويخشى ... إذا ثار الغبار على الثياب
إذا خاطبته في غير لين ... تأوه أو تنهد في الخطاب
وان أربى على العشرين منهم ... فتى أمسى يغالط في الحساب
وكم من لمة في مصر شابت ... ولم تنفك عن دعوى التصابي
وان يحلل فتاهم قلب أنثى ... يحل هناك بالركن الحراب
فلن ترضاه كالطاووس شكلا ... ولكن كاسرا مثل العقاب
وكم ضاق الجمال بطالبيه ... وأوذي بالتجمل والخضاب
إذا الذئب استحال بمصر ظبيا ... فمن يحمي البلاد من الذئاب؟
برئت من الفتى يبدو فتبدو ... عليه نعومة البيض الكعاب
فقل للغاضبين الحسن مهلا ... متى نيل الجمال بالاغتصاب؟(77/60)
محمود غنيم(77/61)
البريد الأدبي
رسائل لم تنشر
من نابليون إلى ماري لويز
عرض أخيراً للبيع في أحد أبهاء التحف بلندن، مجموعة كبيرة من رسائل الإمبراطور نابليون بونابرت إلى زوجه الإمبراطورة ماري لويز النمسوية؛ وتبلغ هذه الرسائل التي كتبت جميعها بخط الإمبراطور، ووقعت بإمضائه ثلاثمائة رسالة، تشمل تاريخ أربعة أعوام كاملة من حياة الإمبراطور، أعني من سنة 1810 إلى سنة 1814، وقد كتب معظمها في أوراق مذكرات صغيرة، وأرسلت من مختلف أنحاء القارة التي يجوبها الإمبراطور أو يعسكر فيها بجيشه إلى الإمبراطورة الصغيرة التي شغفته حباً، والتي جاءت له بأول ولد يعلق عليه آمال الإمبراطورية. وتبدأ برسالة كتبها الإمبراطور في فبراير سنة 1810 يطلب فيها يد ماري لويز، وفيها يخاطبها بلهجة رسمية وبذات الجلالة؛ ثم تتدرج الرسائل بعد ذلك في البساطة وعدم الكلفة، فيخاطبها الإمبراطور بلهجة الحب الوثيق، وتغدو ماري بعد أن غدت إمبراطورة فرنسا، (حبيبتي، عزيزتي. . .) ويكتب إليها الإمبراطور في مختلف الشئون الشخصية والمنزلية؛ ويغدق عليها نصحه، سواء فيما يتعلق بصحتها أو نزهتها، أو علائقها بسيدات البلاط وسادته. وأشد هذه الرسائل سحراً وتأثيراً، ما تعلق منها (بالملك الصغير) ولد الإمبراطور وماري لويزا، والسؤال عن صحته ورجاء تقبيله وعناقه.
وتوضح هذه الرسائل تاريخ الإمبراطورية في مراحل متعاقبة، فالأولى مرحلة الزواج والتحالف بين النمسا وفرنسا، ورحلة الإمبراطور والإمبراطورة إلى انفرس وفلسنج، ثم قضاء شهر العسل في تريانون (صيف سنة 1810). وكان الإمبراطور يومئذ في أوج قوته وظفره، يحكم على معظم ممالك القارة، ويحكم في رومه ومدريد، ويشدد الحصار على إنكلترا ويهددها؛ والمرحلة الثانية هي مرحلة الغزوات الثانية في بولونيا وروسيا ثم موسكو في صيف سنة 1812؛ وهنا نجد رسائل كتبت عن معركة بورودينو، والزحف على روسيا، ثم حريق موسكو ثم، الارتداد المروع عن هاتيك السهول الثلجية؛ والمرحلة الثالثة حينما تتحد الدول على نابليون؛ وهنا يكتب نابليون إلى ماري لويز أن تنضح إلى والدها (الأب فرانسوا) إمبراطور النمسا بألا يتحد مع هذه الدول، وألا يصغي إلى تحريض(77/62)
ماترنيخ، ويحاول بذلك لأن يزج بالإمبراطورة في غمار السياسة، ولكن إمبراطور النمسا حماه وأبا زوجه ينضم إلى خصومه،، فيحاربه نابليون مع من يحارب، ويكتب إلى ماري لويز بأنه انتصر على جنوده، وبأن جنوده لم تكن أسوأ منها في أي وقت مضى. ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي مرحلة التقهقر والهزيمة، وهنا تتعاقب الرسائل كل يوم بأنباء الظفر والحركةوالعمل المتواصل، ثم تجئ الهزيمة، ولكن الرسائل ما زالت تنم عن سمو هذه الروح التي تستقبل المصائب والمحن باسمة ساخرة.
تلك هي خلاصة المأساة التاريخية العظيمة التي تصورها رسائل نابليون الثلاثمائة إلى زوجه ماري لويز. وقد عرضت للبيع في لندن في يوم 19 الجاري مقسمة إلى عدة مجموعات، ولم ينشر منها من قبل شيء، وقدر الخبراء ثمنها بنحو مليون ومائة ألف فرنك (نحو ستة عشر ألف جنيه)، وقدرت مذكرات ماري لويز المعروضة معها بمبلغ خمسمائة ألف فرنك (نحو سبعة آلاف جنيه).
وقد علقت الصحف الفرنسية على عرض هذه التحف الأثرية التي تهم فرنسا قبل كل شيء، وأبدت توجسها من استعداد بعض كبار الهواة الأمريكيين لاقتنائها وبذل أكبر الأثمان في سبيلها، وطالبت الحكومة الفرنسية وهيئاتها العلمية أن تبادر إلى اقتناء هذه الوثائق التي خلفها إمبراطور فرنسا، لتضم إلى تحفه وآثاره. وقد استجابت الحكومة الفرنسية إلى هذه الدعوة، واستطاعت أن تحصل على الرسائل الثلاثمائة بطريق المزايدة بمبلغ خمسة عشر ألف جنيه حسبما ورد في الأنباء البرقية الأخيرة.
وفاة المكتشف دي جيرلاشي
توفي البارون دي جيرلاش دي جوميري الرحالة والمكتشف البلجيكي الشهير بعد مرض طال أمده، في سن السادسة والستين؛ وهو ينتمي إلى أسرة عسكرية نبغ فيها كثير من الضباط العظام؛ ولكنه آثر البحر منذ فتوته، وقضى شبابه بحاراً على ظهر السفن، وفي سنة 1890، نال رتبة نائب سفينة، وخطر له من ذلك الحين أن يخصص جهوده لاكتشاف المناطق القطبية التي لم يصل إليها سلفه المكتشف دومون دورفيل؛ فسعى إلى الجمعية الملكية الجغرافية البلجيكية حتى قبلت أن تؤازر جهوده، وأعد لتلك الرحلة السفينة (بلجيكا) وسلحها، وسافر على ظهرها في أواخر سنة 1897، ثم عاد بعد رحلة استغرقت نحو(77/63)
عامين. بعد أن اكتشف كثيراً من الأنحاء القطبية، وحمل كثيراً من الوثائق العلمية المعلومات الهامة، وكانت هذه فاتحة الرحلات القطبية التي انتهت باكتشاف القطب الجنوبي بعد ذلك على يد الأميرال بيرد الأمريكي وزملائه، وقام دي جيرلاش برحلات أخرى منها رحلة الخليج الفارسي حيث حقق كثيراً من النتائج العلمية. وفي سنة 1903 سافر مع الدكتور شاركو المكتشف الفرنسي على ظهر السفينة (بوركوابا) إلى القطب الجنوبي، ثم عاد سنة 1905. ولم يمض سوى قليل حتى سافر كرة أخرى على ظهر بلجيكا مع الدوق أورليان، وقاما برحلة اكتشافيه علمية في بعض أنحاء الجزيرة الخضراء (جرينلان)، وحصلا على مجموعة نادرة من الحيوانات القطبية؛ وبعدئذ قاما برحلة أخرى فيما وراء الجزيرة الخضراء ووصلا إلى الحاجز الثلجي الأكبر، واكتشفا أنحاء لم تكتشف من قبل. وقد نشر دي جيرلاش رسائل شائقة عن رحلاته، ثم عهدت إليه الحكومة البلجيكية بإدارة القسم البحري، ومن آثاره في هذا القسم إنشاء السفينة البحرية المدرسية (مركاتور) التي اشتهرت بطوافها في أنحاء العالم.
وكان دي جيرلاش عضواً في عدة جمعيات علمية أو مراسلاً لها، ومن أشهر آثاره، كتاب نشره في فاتحة الحرب، وكان له دوي عظيم، بعنوان (الأمة التي لا تريد أن تموت)
جائزة نوبل للسلام
نعرف أن من بين جوائز نوبل الشهيرة، جائزة نوبل الشهيرة، جائزة للسلام، تمنح كل عام لمن يتفوق في خدمة قضية السلام سواءً كان من رجال السياسة أم التفكير؛ وقد نال جائزة نوبل للسلام في الأعوام الماضية عدة من كبار الساسة الأوربيين، مثل السير أوستن تشمبرلن وزير خارجية إنكلترا الأسبق، والمرحوم المسيو ارستيدبريان رئيس وزارة فرنسا ووزير خارجيتها الأسبق، والمرحوم الدكتور شتريزمان وزير خارجية ألمانيا الأسبق؛ وقد فاز أخيراً بجائزة نوبل للسلام عن سنة 1933، المستر ارثر هندرسون زعيم حزب العمال البريطاني، ووزير خارجية إنكلترا في وزارة العمال، ورئيس مؤتمر نزع السلاح الملحق بعصبة الأمم، وذلك لما قام به في مؤتمر نزع السلاح من جهود لتأييد قضية السلام؛ وفاز بجائزة نوبل للسلام عن سنة 1934، إنكليزي آخر هو المستر نورمان آنجل الكاتب والصحفي الشهير، وذلك لما ألفه من الكتب والرسائل، ونشره من المقالات في سبيل(77/64)
الدعوة إلى السلام العالمي. وفي فوز الإنكليز بجائزة السلام عامين متواليين مغزى تغتبط له السياسة البريطانية.
في معرض الفن النمسوي
أقيم في فينا أخيراً معرض للتصوير والنحت لنيل الجائزة الرسمية؛ فنال المثال هربرت بكل من كارنتيا جائزة الحكومة عن معروضاته البرونزية؛ ونال المثال والترريئر من جراتز جائزة الحكومة عن معروضاته الحجرية.(77/65)
القصص
من أساطير الأولين: رمز الشعر والفضيلة
إكسوس ومكريا أو عليقة السنديانة للشاعر ألفرنسي
هيجيسيب مورو 1810 - 1838
بقلم احمد حسن الزيات
في ذات يوم لا أذكر من تاريخه إلا أنه كان لعامين من موت هرقايس، كانت مدينة (دلفي) تموج بالناس وتعج بالضوضاء وتزخر بالفتوة. كان ذلك اليوم آخر أيام الألعاب الفيتونية، ومن أعجب الأشياء أن الصراع والسباق كانا يجريان على غير مشهد من أحد، والرياضيين والسواقين كانوا ينتصرون على غير علم من إنسان، حتى قيل إن الشاعر سيمندس كان ينشد رائع الشعر في الفرس المجلي ولا يستمع إليه يومئذ إلا بطله! ذلك لأن كلمة واحدة طار بها السماع فطارت بالقوم من ميدان اللعب إلى معبد أبولون!
(ها هم أولاء أبناء هرقليس! سيد أبطال الإغريق؟ وكانت أثينا منذ شهر قد استيقظت ذات صباح فوجدت هؤلاء الأبناء مخلوعين مضطهدين مشردين يتهافتون في الساحة العامة على مذبح الرحمة فثارت بها الحفيظة لشكواهم، ونزت فيها القلوب والسيوف لبلواهم، ثم بعثت بهم في هذا اليوم على رأس السفارة المقدسة إلى دلفي يستنبئون آلهتها عن مصدر هذه الحرب.
ودلفي كما تعلمين مدينة مقدسة تفيض جوانبها بالعجائب، والناس يمرون عليها وهم عنها معرضون، وأنا كأولئك الناس في هذا اليوم، لا أريد أن أتنقل بك من البرناس إلى الهيبدروم، ولا من الهيبدروم إلى منصة أبولون، فإنك ولا شك حججت إلى هذه الأماكن منذ طويل في (سياحة أنا كرسيس)، وأنا - ولا أخفي عنك - مشوق كذلك إلى رؤية أشبال هرقليس.
كان الشعور الذي استولى على الإغريق لدى رؤيتهم أولئك الأبطال يترجم عنهم هذا الهتاف الإجماعي الصاخب: (يا للآلهة الخالدين! ما أوفى القوام وما أصلب العضل! وكان في الجمع شيخ سبط العظام. تحسبه وفي يده عصاه المذهبة، وعلى جبينه عصابته(77/66)
البيضاء، ملكاً من ملوك الإغريق العشرين، مال على كاهن من كهنة أبولون، وهو يجتاز المعبد حاملاً مبخرة من مباخر العطور، وقال له في صوت خافض:
- لقد عرفت هرقليس وزوجته ديجانير حق المعرفة، فما عرفت لهما غير ثلاثة بنين، فمن إذن هذه العذراء المنتقبة التي تجلس مع أبناء هرقليس على مقعد واحد؟
- كلامك يا أبي الحق لا مرية فيه، فليس لهرقليس من ديجانير غير ثلاث بنين ولكن له زوجته الأخيرة (يول).
- فقاطعه الشيخ قائلاً: صحيح؟ ثم ضرب على جبينه بإصبعه علامة التذكر وقال: لقد روى لي (فيلوكتيت) هذا الحديث عشرين مرة؟ ولكن قرنين من الزمان يدوران على الرأس لابد لأن يضعضعا فيها الذاكرة! نعم أذكر الآن أن هذا الزواج أعقب بنتاً. . . فارتفع من وراء الشيخ صوت ندي عذب بهذه الجملة:
- بنتاً وابناً يا أبي
فالتفت الشيخ فرأى يافعاً شاحب اللون هش العظام، في زي أهل الأرجوليد يردد في احتشام وخجل:
- بنتاً وابناً هما إكسوس ومكريا
فبتسم الشيخ ضاحكاً من الغلام، وقال للكاهن: أنظر! في (بيلوس) يهتف الناس بعلمي، وفي (ارجوس) يرسلون إلى تلاميذهم ليعلموني. . .
ثم قال للغلام: من الذي أنبأك هذا يا بني وماذا تسمي؟ ولكن الفتى لم يتحمل ملاطفة نسطور (وهو الشيخ) فأفلت منه وغاب في زحمة الناس دون أن يجيب.
وكان ذلك الهتاف لا يزال يدوي في الفضاء لا يعتريه فتور ولا يناله تغيير:
(يا للآلهة الخالدين! ما أوفى القوام، وما أصلب العضل!) ولعلك تعجبين من هذا الإطراء؛ وتحملينه على محمل الاستهزاء، ولكنك تذكرين أننا في بلاد قسمتها طبيعة الأرض ومطامع الناس إلى عشرين دولة صغيرة، يتضارب أقيالها الصيد من شدة الزحام بالمرافق والمناكب، وكان العرف الدارج في الأمم القديمة أن يقتتل الناس رجلاً لرجل، وجسماً لجسم، وجعلوا قوة البدن جماع القوى وملاك الفضيلة، وكانوا يتوسمون مخايل الكفاية والفضل في قبضة اليد وقوة الكتف، كما نتوسمها نحن اليوم في أسرار الجبهة ولمحات(77/67)
العين، وحسبك أن هرقليس رمز القوة ومثالها كان إلهاً.
تأثر ظهور الكاهنة الوسيطة التي يتكلم بلسانها الإله، ولكن أحد لم يسمع هنين السأم، ولم يلمح عبوس الانتظار لأن الجمهور كان يجد في ما يرى غذاء لفضوله ورياً لشوقه، كان يرى هيلوس بكر هرقليس أو أكبر الأخوة، وهو محارب عملاق عاري الذراعين مجدول العضلات مطهم الوجه، فيجده وعلى منكبيه جلد الأسد، وفي يديه الهراوة العقداء، أشبه بأبيه من الليلة بالليلة، ثم يرى أنتينور، هو سوغ هيلوس وأدق منه ملامح وأرشق قامة. كان يتشح بقداسته الجديدة، ويبتسم لشباب الإغريق، منفوخان يتنسمان عبير الإعجاب في نشوة ولذة. وعلى الجملة كان الإله أنتينور شديد الخيلاء والصلف. أما أخوهما (إيجسط) فكان لا يشبههما في شيء غير القوة والشهامة. كان وجوده في هذا العصر وفي هذا المصر خطأ صارخاً في تقويم الزمن، وأعجب شيء فيه أنه كان أشقر الشعر ساهم الوجه منقبض المزاج، وانقباض المزاج عاطفة عصرية مسيحية. ثم كان يرجع من المعارك الدامية الشعواء إلى الدار عذب الروح حيي الطبع، كأنه أحد أولئك المحاربين الشقر من أهل الشمال: يصرعون المردة والأغوال، ثم يطأطئون الهام ويحرمون الكلام أمام عصا ساحرة صغيرة. كان وهو يتحسر على عرش (أرجوس) كأنما يأسى على شيء أعز عليه من عرش! فإلى أين إذنكانت تصعد زفراته وتتبخر دموعه؟ أإلى بيت صديق، أم إلى قبر أم؟ علم ذلك عند الله، فان سره لم يسافر عن ضميره إلى أحد، حتى أخته الفتاة مكريا، وهي أمينة سر الأرة لم يفض إليها بذات صدره. وكانت مكريا جالسة إلى جانبه تصلي. . عفواً يا أختاه! لقد شغلت بالأبطال عن العذراء، ولكنها هي الملومة! أنظري! إنها مستترة في ظل أخوتها، كأنها تحرص على أن تغفلها العيون. إنها لم تكشف عن وجهها النقاب بعد، فقسماتها لا تزال مجهولة، ولكنك أسلفت لها الحب ولا شك، لأنك سمعت منذ قليل أنها وديعة تقية
وأخيراً أعلنوا ظهور الكاهنة الوسيطة. وكان الوهن لا يزال بادياً عليها من أثر ما أصابها من اختلاج الأعصاب في وساطتها الأخيرة بين الآلهة والناس. فهي تجر نفسها جراً من الإعياء والجهد، حتى بلغت المنصة متكئة على كاهنين من كهنة أبولون. حينئذ انفتح في جوف المحراب باب على مصراعيه فاقتحمته هبة عريضة من الهواء العازف، فقشعت(77/68)
دخان القرابين وهزت الجمع الحاشد فضج الناس قائلين: (الإله! هذا هو الإله!) وعندئذ اضطربت النيبة المعذبة في المنصة اضطراب الذبيح. فجشعت الأصوات وأصغى القوم
بدأت الكاهنة أمرها بالشهيق، ثم اتبعته بمقاطع من الأنين والضراعة، ثم انتهت إلى كلمات ذاهلة لا تسفر عن معنى، ثم تكلم الإله بلسانها فقال:
(إن (منيرفا) ستقاتل. . .! وعلى خوذتها الإلهية
ستصيح البومة: (إني عطشى) ويذهب جهدها باطلاً تدعونو منيرفا آلهة النصر
وآلهة النصر أختها فلا تخذلها. . .
إني أسمعها وهي قادمة تئز أجنحتها في الهواء. . .
ولكن البومة تصيح: إني عطشى! وأريد أن أرتوي بالدماء. . إن أرجوك تنتظر ملوكها لتؤلههم:
اضطربي وميدي يا ارجوس! إن البومة في طيرانها السفاح تحوم في الجو باحثة عن جبهة نقية تضحيها
إنها تحوم تحوم ثم تقع على. . . ولد من أولاد هرقليس)
وفي هذه الساعة الرهيبة العصيبة على أبناء هرقليس، لم يكن في المعبد من ملك نفسه وضبط حسه غير أبناء هرقليس! على أن الكاهنة لم تكد تمسك عن الكلام حتى صاح بها هيلوس:
- عيني الضحية بالاسم
ولكنها كانت تتساقط من الضعف على درج المنصة ولم يبق منها إلا رمق. فقال كبير الكهنة: إن الإله كان جبار القلب غليظ الكبد، فإذا استأنفت التجربة قتلها ولا شك. فليقدم أحد أبناء هرقليس نفسه.
فارتفع من بين الجمع ذلك الصوت الرخيم الذي تكلم منذ هنيهة من وراء نسطور وقال: أنا أقدم نفسي فقال له الكاهن في لهجة قاسية: (من أنت؟ وماذا تسمى؟) فأجابه الغلام: (أنا ابن هرقليس وأسمي إكسوس)
فانفجر الناس بأصوات الدهش لهذا الجواب المفاجئ ثم قال قائل منهم يتهكم: (إذا صدق قولك فقد صدق اسمه وستعلمين يا أختاه أن إكسوس كلمة يونانية معناها العليقي، فكان(77/69)
أبويه عندما ولد وسماه بهذا الاسم احتقاراً لشكله واستصغاراً لشأنه. والحق أن هذا المخلوق الهش يشبه في انتسابه إلى هذا العرق القوي ذلك النبت الطفيلي الرخو الذي تعبث به الريح وهو قائم على جذوع السنديان.
دلف (تينور) إلى الغلام وقال له بلهجة الحانق المتوعد: (لقد منعناك أن تتبعنا إلى دلفي. . .) ولكن ابنة هرقليس التي ظلت إلى تلك الساعة ساكنة ساكتة محتجبة، ألقت نفسها بين الأخوين فقطعت من بينهما الشر، ثم أخذت الصغير من يده وخرجت به من المعبد وهي في صمم عن نداء هيلوس يدعوها إليه، وفي ذهول عن هتاف الإعجاب الذي انبعث عن يمينها وعن شمالها، لأن نقابها انحسر من ذات نفسه لسرعة المشي وشدة الحركة فبدت مكريا للعيون بارعة الجمال رائعة الحسن لطيفة الروح، وقد زاد في جمالها تلك الشفقة التي تجلت في صوتها وفي عينها؛ والشفقة عاطفة تجمل القبح، فكيف يكون أثرها في الحسن؟
عادت أسرة هرقليس كلها إلى أثينا في مركبة واحدة، وقد عقد الأبطال الثلاثة فلوبهم على أن يقترعوا بينهم غداً في معبد منيرفا ليعلموا أيهم يجب عليه أن يموت. وكان إكسوس المسكين قد جاء في اختيال ومرح يضع اسمه مع أسماء أخوته في الصندوق ولكنهم منعوه ودفعوه معتقدين أن من الإهانة للآلهة أن يهيئوا للقدر - وهو في أغلب أمره ساخر عابث - الفرصة ليقدم إليه هذا القربان الأعجف. أما أخته مكريا فلم يشاءوا أن يعرضوها معهم على رغبة الموت لسبب آخر غير سبب إكسوس؛ لقد كانت خطيبة (ليكوس) وهو زعيم من زعماء أثينا ذوي الرأي المسموع والأمر النافذ، (وأثينا هي التي غضبت لهم تلك الغضبة وشهرت دونهم السيف) فهم يحرصون لسبب سياسي أو أدبي على ألا يقطع الاستعداد للتضحية الاستعداد للزفاف لذلك وجدت مكريا غرفتها بعد عودتها تضوع بعبير الألطاف والتحفالتي قدمها (ليكوس) ولكن نفسها وهي تتسلف الحداد علة أخ من أخوتها لم يهزها كرم الهدايا ولم يسرها جمال التحف. على أنها رأت إكليل الزفاف مصوغاً من الزنبق الجميل النضر، فحملته ووضعته على جبينها من غير إرادة ولا وعي. وفي هذه اللحظة سمعت من خلفها زفيراً يتصعد في ضعف فالتفتت فإذا هي ترى إكسوس، إكسوس أخاها الذي جمعت له في قلبها الأم والأخت في وقت معاً، إكسوس الذي عنيت به وأقبلت(77/70)
عليه لأنه عليل الجسم مبذوء الهيئة، إكسوس الذي لا يخطو بالبيت خطوة إلا بابتسامة من مكريا تبدل بؤسه وتجدد أنسه، فإذا غابت عن الدار غاب عنه الأنس واستولت عليه الوحشة.
كان ينظر إلى الزهور الرمزية والدمع يجول في عينه، والهم يعتلج في صدره والألم الممض يرتسم على أسرار وجهه، فاستطير فؤاد أخته من الخوف عليه، لأنها تعودت أن تراه يشكو ويتألم منذ أثني عشر عاماً فلم تجده يوماً على مثل هذه الحالة من الكمد المقلق واللوعى الأليمة؛ فأقبلت عليه تعتذر إليه وتسري عنه، وتقول:
- أوه! أعفو عني وأغفر لي يا طفلي المسكين!
- أنا أعفو عنك وأغفر لك يا مكريا؟ علام إذن والسعادة التي غمرت بها قلبي وعمرت بها وجودي؟
- لا تشكري لي عنايتي بك؛ ذلك دين أقضيه. . . . . ذلك تكفير أؤديه. . . . . . .
فانبعث من عين الفتى المشدوه نظرات ضارعة تسأل أخته حل هذا اللغز، فقالت له: (سمعك إلي! منذ أربع سنين (كان عمرك يومئذ ثمان سنوات وعمري أربع عشرة جرت في أسرتنا حوادث عجيبة وأمور خارقة لم يصل علمها بأبي ولا بأخوتي لعلك تذكر ذلك الكوخ الذي بنوه على شاطئ البحر ليختفوا فيه عن أعين المضطهدين الكثيرين الأقوياء. كنت فيه ذات مساء وكان أبي وأخوتي في الصيد، وكنت أنت منهوك القوى ومن كثرة ما جريت في الغاب طول النهار فاستسلمت على هدهدة المطر والريح لنوم ثقيل وكان الليل قد أقبل منذ حين، وأبي وأخوتي لم يقبلوا بعد، فسمعت قارعهاً يقرع الباب فذهبت أفتحه وفي حسباني أني أجد الصيادين والصيد ولكني وجدت عابر سبيل يطلب الدفء والمأوى برهة من الزمن فأدخلته، ثم جلست إلى جانب سريرك واشتغل هو بتجفيف ثيابه على نار الموقد؛ وما كان اشد دهشتي حين رأيت نوراً لطيفاً يتلألأ على شعره الأشقر! عزوت ذلك النور بدياً إلى انعكاس النار التي في الموقد، لكن الموقد خبى وغرة المسافر ما تزال مشرقة! حينئذٍ أدركت أنه أبولون، الذي طرد من الأولمب فهام متنكراً في العالم على وجهه، ثم بقيت على رغم تنكره بقايا النور من هالته.
فجررت جاثية أمامه، وقلت ماذا تبتغي مني أيها الإله العظيم؟ فقال: (لا شيء غير المأوى!(77/71)
على أن المطر قد كف والجو قد صفى، فأنا ذاهب، وسأقبلك قبلة الوداع) فتقدمت واجفة القلب مضطربة الحواس إلى عمي وقدته من يده إلى مرقده وقلت له: (الأولى أن تلاطف هذا الصبي المسكين فإنه لم يظفر بعد بملاطفة إله؛ ألمس وجنته الذابلة فتنظر وانفخ في شفته الباردةفتغنى).
فتبسم أبولون لرجائي، ودنا منك فنفث في فمك من روحه؛ ولكن نفثته كانت قوية مضطرمة، فسرت إلى قلبك فأفعمته وأشعلته، من أجل ذلك كان قلبك يحترق ولا يفتر عن الوجيب! ومن أجل ذلك كان جسمك يذوي وروحك لا تستجيب. . . هأنذا وقفتك على جلية الأمر فهل تصفح عني؟
فما كان جواب إكسوس إلا ان قبل أخته، فقالت له: إن برهان عفوك عني أن تنقاد لي وتسمع مني؛ قل يا قليل الحكمة: بأي معجزة نجوت من الموت جوعاً وظمأت في طريقك الطويل من أثينا إلى دلفي؟
فقال إكسوس: أوه! كنت من الصباح إلى المساء أسترجع النشاط بالغناء، وأستفتح الأبواب بالنشيد، فكلما دلني الدخان على وليمة في أحد البيوت طرقت الباب وأنشدت الأغنية فيفتح لي أهله وينزلونني خير منزلة.
فتبسمت مكريا وقالت: أغنية عجيبة! هل لك أن تعلمنيها يا إكسوس حتى أغنيها أنا أيضاً في ذهابي إلى دلفي أو إلى الأولمب؟
فتمنع إكسوس وتدلل عادة المغنين في كل عصر، ثم نزل على مشيئة أخته بعد رجاء قليل:
أغنية إكسوس
افتحوا أنا إكسوس المسكين، أنا عليقة السنديانة التي تمر عليها هبة الريح تمت! منذ أثني عشر عاماً سقط قزم من جلد الأسد الذي يتنكبه هرقليس، فكنت أنا ذاك القزم. كان أبي لا يحبني لأنني كنت صغير الجثة رقيق البدن، وحينما كنت أصطدم بركبتيه وأنا طفل كنت أسمع فوق رأسي زمجرة كزمجرة العاصفة. وكان أخوتي يضربونني كلما دعوتهم أخوتي؟ ومع ذلك أريد أن أعيش، لأن لي أختاً تحبني وتحنو عليّ، هي الجميلة الكريمة مكريا.
افتحوا! أنا إكسوس المسكين! أنا عليقة السنديان التي إن تمر عليها هبة الريح تمت.
2(77/72)
قال لي أخوتي ذات يوم: (اجتهد أن تكون صالحاً لشيء. . تعلم إقامة التماثيل وشيادة الهياكل، فلعللنا نصير يوماً آلهة) فحاولت أن ألبي مبتغى أخوتي، ولكن الأزميل والمنحت كانا ثقيلين على يدي! ثم كانت هناك رؤى غريبة تطوف بيني وبين جنادل (باروس) وكانت إصبعي الناحلة الذاهلى تخط في التراب اسماً لا تخط غيره اسم أختي الحبيبة مكريا. .
افتحوا! أنا إكسوس المسكين! أنا عليقة السنديانة التي إن تمر عليها هبة الريح تمت.
3
حينئذ قال لي أخوتي: (إن في مضيفنا شيخاً من شيوخ الكلدان يقرأ في صفحة السماء أسرار الغيب وأنباء المستقبل، فاستمع إليه، وتثقف عليه، ثم قل لنا في مطاوي السحب كنوزاً أو نصراً) فسمعت من الشيخ، ثم قضيت ليالي طويلة أرصد النجوم والغيوم فلا أرى كنوزاً ولا نصراً. إنما كنت أرى عيون السماء تنظر إلي نظر المحب كأنها عيون مكريا. . .
افتحوا! أنا إكسوس المسكين! أنا عليقة السنديانة التي إن تمر عليها هبة الريح تمت.
4
حينئذ قال لي أخوتي: (خذ قوساً ونشاباً وأخرج إلى الصيد في الغاب فجبت الغاب بقوسي ونشابي، ثم لم ألبث أن نسيت أخوتي وذهلت عن صيدي. وبينما كنت أسمع غناء الرياح وتغريد البلابل أقبلت ظبية فأكلت طعامي من جيبي، ثم جاء طائر صغير أعياه طول الطيران فنام في كنانتي، فحملته إلى مكريا.
افتحوا! أنا إكسوس المسكين! أنا عليقة السنديانة التي إن تمر عليها هبة الريح تمت.
5
حينئذ قال لي أخوتي: (أنك لا تصلح لشيء) ثم ضربوني، ولكنني لم أبك، لأن فكري كان مشغولاً بأختي! وغداً سيأخذون مني مكريا! وغداً ستسأل وهي جالسة في حفلة الزفاف: ما هذا الدخان الذي يسطع هناك وراء الغار؟ فيجيبها المدعوون: (لا شيء).
(إنها محرقة! إكسوس المسكين، عليقة السنديانة التي عصفت بها الريح فجعلتها كالرميم).(77/73)
فصاحت الفتاة وقد ملكها الحنان وأدركها الجزع: كلا إنك ستعيش! وسأجعلك في قلبي، حتى إذا ثارت العواصف الهوج لا يمسك منها أذى. إن (ليكوس) سعيد محبوب، وعذارى أثينا كثيرات يفتحن له دورهن وصدورهن. أما أنت أيها الفريد الشريد الموجع، فإليك وحدك كل أيامي وأحلامي وحبي.
(خذ يا أخي، خذ يا شاعري! هذا ثمن أغنيتي) ثم نزعت من فوق جبينها الأبلج إكليل الزفاف وألقته مبللاً بالدمع تحت قدمي إكسوس! فأراد إكسوس أن يجيب، ولكن التأثر المفاجئ صعق الصبي المسكين فلم يستطع إلا أن يقول بصوت خافت: (أوه! ثم وضع يده على قلبه وخر مغشياً عليه! ثم بات طول الليل يتضور من شدة الحمى، وأخته بجانبه لا يغمض لها جفن، ولا يرقأ لعينها دمع.
وكان الغد موعد أبناء هرقليس إلى المعبد ليقترعوا هناك على الضحية. فتقدموا إلى الهيكل كما يتقدمون إلى المعركة: قلوبهم فارغة من الهم، ورءووسهم مرفوعة من العزة؛ ثم جرت المراسم المألوفة وهي لا تختلف عما رأيناه في دلفي. واقبل كاهن من كهنة (منيرفا) فأجال الأسماء في الصندوق، ثم تقدم طفل معصوب العينين إلى الإناء المقدس يستخرج منه حكم الموت. فلم تكد يده تلمس حافته حتى دوى على عتبة المعبد صوت امرأة يقول: (قف! هاكم الضحية. .)
وكان ذلك الصوت صوت مكريا وهي تتقدم إلى المذبح كاسفة اللون، كاملة الأهبة، تنوس على جبينها الأزهر الجميل عصبة الذبيحة. فدلف إليها إيجسط وقال: أهنا أنت يا أختاه لقد وعدتني أن تتخلفي لتقومي على سرير إكسوس. فقالت وهي تغالب الدمع وتحبس الزفرة: إن إكسوس مات! وليس الآن ما يمنعني أن أفديكم بنفسي. ثم تابعت سيرها البطيء إلى الهيكل بين تصفيق الجمع وإذعان الإخوة. ثم جثت مكريا أمام المذبح وعوقت بالإشارة مدية الذابح العجلان حتى تلقي على أخوتها ابتسامها الأخير، ثم أغمضت عينيها، وأزاحت الغطاء عن ثدييها، وكانت بعد دقيقتين جسداً يضطرب على مذبح الهيكل!
ثم أضرموا النار وجعلوا منها لإكسوس ومكريا محرقة واحدة! وعندئذ رأى الناس شيئاً يصعد من اللهيب إلى السماء، رفاف الأجنحة ناصع الريش رائع الرواء!
وهكذا كانت الفضيلة (مكريا) في العصور الخوالي تكفل الشعر (إكسوس) وتلهمه.(77/74)
والفضيلة والشعر أجمل ما في الحياة وأنبل ما في الإنسان!(77/75)
العدد 78 - بتاريخ: 31 - 12 - 1934(/)
الراديو و (الشاعر). . .
ألفت منذ سنين أن أزور رمضان في ربوعه الأصيلة، ومغانيه الباقية. ومن لم يشهد رمضان في حي الحسين، أو في حي الحسينية، أو في أمثالهما من الأحياء القديمة لم يشهد قداسته المهيبة وجلالته الباهرة!
كنت في إحدى الليالي الزّهر أخرج متى استيقظت المشاعر من فترة الصيام، وسكرة الطعام، فأعبر القرون العشرة التي تفصل بين قاهرة الملك فؤاد وقاهرة الخليفة المعز، فأجد رمضان العظيم قد نشر بنوده، وأعلن وجوده، في كل شارع وفي كل منزل! فهو خير يتدفق في البيوت، وبشر يتهلل في الوجوه، وأنس يتطلق في المجالس، وذكر يتضوع في المساجد، ونور يتألق في المآذن، وسمر ينتقل في الأندية، ونفحات من الفردوس ترطب القلوب، وتلين الأكباد، وترف على ما ذوى من العواطف
فالحوانيت سامرة وإن لم تبع، والمصانع ساهرة وإن لم تنتج، والأبهاء عاطرة بحديث الأحبة حتى نصف الليل، والأفنية عامرة بذكر الله حتى أول السحر. أما كثرة الناس فقد أخذوا مجالسهم من قهوات الحي وباتوا ينضحون (مزاجهم) الظامئ بالفناجيل الرويّة، ويشققون أحاديثهم الطلية بالنكات المصرية، ثم يستمعون في خشوع العابد وسكون العاشق ولهفة الطفل إلى القصاص أو الشاعر، وقد طوفت به أشباح القرون، وغمغمت في صوته أصداء الزمن. يتربع في صدر المكان على منصة عالية من الخشب العتيق، وهو في سمته وهندامه ولهجة كلامه وطريقة سلامه نموذج العامي الأديب، ومثال الحضري المثقف: حفظ كثيراً من الأشعار فاكتسب ظرف الأدب، وروى صدراً من الأمثال فاكتسى وقار الحكمة، ووعى طائفة من الأخبار فاتسم برقة المنادمة. وهو إلى ذلك بارع النادرة، دقيق الفطنة، عذب المفاكهة، حاضر الجواب، يؤدي هذا إلى الجمهور الغرير الساذج دعوة الواعظ، وأمانة المعلم، ورسالة الأديب
هاهو ذا قد فرغ من احتساء القهوة، وجباية النقوط ومبادلة السامع المعتاد جميل التحية، ومسارقة الزائر الممتاز رغيب المنظر؛ ثم أخذ يحتفل للقصص أو الإنشاد، فاحتسبت قهقهة (النكتة)، وانقطعت قرقرة (الجوزة)، وانتشرت سكينة الجد في القهوة، واتجهت عيون الجميع إلى المنصة، ثم رن في سكون القوم ذلك الصوت العريض المتزن يرسل الكلام والأنغام في ترجيع مؤثر، وتقطيع معبر، وتنويع مطرب؛ فهو يفخم ويرقق، ويقسو ويلين،(78/1)
ويأنف ويستكين، ويثور ويهدأ، ويسخط ويرضى، ويتدلل ويتذلل، ويتحمس ويتغزل، كأنه في تعاقب ذلك كله عليه الأوتار الطيعة تحت الأنامل اللينة البارعة، فيملأ الآذان بالنغم، والأذهان بالفكر، والقلوب بالشوق، والمشاعر باللذة
ذهبت ليلة الأمس على عادتي أرود المعاهد، وأجوس الديار، وأستنشي ما بقي على أطراف الزمن من عبير الفاطميين، فوجدت القاهرة الشرقية لا تزال تتحدى القاهرة الغربية بمساجدها ومدارسها ومستشفياتها وخاناتها وحماماتها وأسواقها، وتعلن بشهادة هذه الآثار أن حضارتها العربية الخالصة إنما كانت تقوم على الدين والعلم والمدنية والإنسانية والعمل، وتزعم بأدلة الاختبار أن هذا المظهر الحسي القوي الرائع الذي يميز حضارة الغرب من حضارة الشرق إنما يرجع إلى أن هذه تقوم على الروح، وتلك تقوم على الآلة، وهذه تصدر عن العاطفة والإيثار، وتلك تصدر عن المنفعة والأثرة؛ والميزة التي ينبغي أن تكون لحضارة على حضارة إنما هي ضمانة السعادة للناس، وتحقيق السلام للعالم
ولكن أين صديقي الشاعر، وأين أخوه القصاص! هذا هو الحي، وهذه هي القهوة، وهؤلاء هم الناس، ولكني وجدت في مكان الأريكة المنجدة، والحلة المفوفة، والعمامة الفردة، صندوقاً من الخشب، دقيق الصنع، أنيق الشكل، قد علق بالحائط، فأغنى غناء القصاص، وأبلى بلاء الشاعر!!
تركت هذه القهوة ومضيت أتحسس في زوايا الحي وحنايا السوامر ذلك الصوت الذي كان ينبعث من جوف الماضي السحيق شادياً بالمجد والنبل والبطولة، فلم أجد له - وا أسفاه - جرساً ولا صدى!!
لقد هزم الراديو الشاعر في كل قهوة، كما هزمت الآلة الإنسان في كل عمل! ففي كل مقهى من هذه المقاهي (البلدية) آلة من هذا الاختراع العجيب تغري الأذواق العامية بالفن، وتروض الآذان العصية على الموسيقى، وتنبه العقول الغافلة إلى العلم، وتحبب النفوس المستهترة في الأدب؛ فهي تقرأ القرآن، وترسل الألحان، وتذيع العلم، وتشيع اللهو، وتنشر البهجة! ولكني مع ذلك عظيم الأسف على موت القصاص، شديد الأسى على فقد الشاعر!
فإن مخاطر الشهامة (لأبي زيد)، ومواقع البطولة (لعنترة)، ومواقف النبل (لسيف بن ذي يزن)، أصلح لتهذيب العامة فيما أظن مما يبثه المذياع كل يوم من النوادر الوضيعة،(78/2)
والأناشيد الخليعة، والألحان الرخوة!
أحمد حسن الزيات(78/3)
السطر الأخير من القصة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
رجعت إلى أوراق لي قديمة، يبلغ عمرها ثلاثين سنة أو لواذها، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً؛ وجعلت أفلي هذه الأوراق واحدة واحدة، فإذا أنا على أطلال الأيام في مدينة قائمة من تاريخي القديم، نائمة تحت ظلمائها التي كانت أنوار عهد مضى؛ وإذا أنا منها كالذي اغترب ثلاثين سنة عن وطنه ثم آب إليه، فما يرى من شيء وكان له به عهد في أيام حدثانه ونشاطه إلا اتصل بينهما سر. ومن طبيعة القلب العاشق في حنينه أن يجعل كل شيء يتصل به كأنه ذو قلب مثله له حنين ونجوى!
وذلك التلاشي المحفوظ في هذه الأوراق، يحفظ لي فيها وفيما تحتويه نفساً وطبيعة كانتا نفس شاعر وطبيعة روضة، في عهد من الصبى كنت فيه أتقدم في الشباب وفي الكون معاً، كأن الأشياء تخلق فيّ خلقاً آخر؛ فإذا قرضت شعراً واستوى لي على ما أحب؛ أحسست إحساس الملك الذي يضم إلى مملكته مدينة جديدة؛ وإذا تناولت طاقة من الزهر وتأملتها على ما أحب، شعرت بها كأجمل غانية من النساء توحي إلي وحي الجمال كله؛ وإذا وقفت على شاطئ البحر ترجرج البحر بأمواجه في نفسي، فكنت معه أكبر من الأرض وأوسع من السماء. أما الحب. . .؟ أما الحب فكانت له معانيه الصغيرة التي كضرورات الطفل للطفل، ليس فيها كبير شيء، ولكن فيها أكبر السعادة، وفيها نظرة القلب
عهد من الصبى كانت فيه طريقة العقل من طريقة الحلم؛ وكانت العاطفة هي عاطفةً في النفس، وهي في وقت معاً خدعة من الطبيعة؛ وكان ما يأتي ينسي دائماً ما مضى ولا يذكر به؛ وكانت الأيام كالأطفال السعداء، لا ينام أحدهم إلا على فكرة لعب ولهو، ولا يستيقظ إلا على فكرة لهو ولعب؛ كانت اللغة نفسها كأن فيها ألفاظاً من الحلوى؛ وكانت الآلام - على قلتها - كالمريض الذي معه دواؤه المجرب؛ وكانت فلسفة الجمال تضحك من فيلسوفها الصغير، الواضح كل الوضوح، المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من معناه، المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر مما يتفلسف في تخيل الفكرة!
هو العهد الذي من أخص خصائصه أن تعمل، فيكون العمل في نفسه عملاً، ويكون في نفسك لذة(78/4)
في أوراقي تلك بحثت عن قصة عنوانها (الدرس الأول في علبة كبريت) كتبتها في سنة 1905، وأنا لا أدري يومئذ أنها قصة يسبح في جوها قدر روائي عجيب، سيأتي بعد ثلاثين سنة فيكتب فيها السطر الأخير الذي تتم فلسفة معناها
وهأنذا أنشرها كما كتبتها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غضاً لم يصلب، وكان كالغصن تميل به النسمة، على أن أساس بلاغته قد كان ولم يزل، بلاغة فرحه أو بلاغة حزنه؛ وهذه هي القصة:
(عبد الرحمن عبد الرحيم) غلام فلاح، قد شهد من هذه الدنيا تسعة أعوام، مرت به كما يمر الزمن على ميت لا تزيده حياة الأحياء إلا إهمالاً؛ فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين، وانتزعوا من شملهم فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة، وتضيق لهم فيها وتوسع
وهيأت الطبيعة منه إنساناً حيوانياً، لا يبلغ أشده حتى يغالب على الرزق بالحيلة أو الجريمة، ويستخلص قوته كما يرتزق الوحش بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعد إلا مجموعة من الأخلاق الحيوانية الفاتكة الجريئة؛ فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل الإنسان عن إنسانيته، نزلت به إلى العالم الحيواني ووصلته بما فيه من الشر والدناءة، ثم لا تترك عملها حتى يتحول هو إليها
وألف (عبد الرحمن) في بلده حانوت رجل فقير، يستغني بالبيع عن التكفف وعن المسألة؛ فكان الغلام يكثر الوقوف عنده، وكان يطعم من صاحبه أحياناً كرزق الطير، فتاتاً وبقايا، إذ كان الغلام شحاذاً، وكان صاحب الحانوت لا يرتفع عن الشحاذة إلا بمنزلة تجعل الناس يتصدقون عليه بالشراء من هناته التي يسميها بضاعة: كالخيط والإبرة، والكبريت والملح، وغزال للولد، وكحل للصبايا، ونشوق للعجائز نسخة الشيخ الشعراني، وما لف لفها مما يصعد ثمنه من كسور المليم، إلى المليم وكسوره!
وتغفله الغلام مرة، وأهوى بيده إلى ذخائر الحانوت، فالتقطت (علبة كبريت)، كان الفرق كل الفرق بين أن يسرقها وأن يشتريها نصف مليم. ولكن من له (بالعشرين الخردة)؟ وهي عند مثله دينار من الذهب يرن رنيناً ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية
وماذا يصنع بالعلبة؟ همت نفسه أن تجادله ولما تسكن رعشة يده من هول الإثم. ولكن الغلام كان طبيعياً ولم يكن فيلسوفاً، ولذلك رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها.(78/5)
وقد اصطلح الناس على أن مادة السرقة هي (مد اليد) أخطأت أم أصابت، وجاءت بالغالي أو جاءت بالرخيص؛ فضم أصابعه على العلبة وانتزعها، وترك في مكانها فضيلة الأمانة التي لم يعرف له الناس قيمتها، فهانت كذلك على نفسه، وانطلق وهي تناديه:
أيها الغلام، أتدفع ثمن علبة الكبريت سنتين من عمرك، وهل خلا الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟
وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث لا يشعر، فضرب قلبه ضربات من الخوف، ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلام مرة أخرى، ثم أمعن في الفرار وترك الأمانة تناديه:
أيها الغلام، إن لك في الآخرة ناراً لا توقد بهذا الكبريت، ولك في الدنيا سجن كهذه العلبة، فالعب العب ما دام الناس قد أهملوك، العب بالثقاب الذي في يدك فسيمتد فيك معنى اللهب حتى يجعل حياتك في أعمار الناس دخاناً وناراً، وستكون أيامك أعواداً كهذا الكبريت تشتعل في الدنيا وتحرق
وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلام المسكين، ولكنه ما كاد يلتفت هذه المرة حتى كان في قبضة صاحب الحانوت، وإذا هو بكلمة من لغة كفه الغليظة، خيلت له في شعرها أن جداراً انقض عليه، وتلتها جملة من قوافي الصفع جلجلت في أذنيه كالرعد، وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به، فترك هذا الزورق الإنساني الصغير يتكفأ على صدمات الأيدي. فما أحس الغلام التعس إلا أن الكبريت الذي في يده قد انقدح في رأسه، وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحك أعواده في جلد وجهه الخشن!
وذهبوا به إلى (دوار) العمدة يقضي فيه الليل، ثم يصبح على رحلة إلى المركز والنيابة. وانطرح المسكين منتظراً حكم الصباح، مؤملاً في عقله الصغير ألا يفصح النهار حتى يكون (سيدنا عزرائيل) قد طمس الجريمة وشهودها؛ ثم أغفى مطمئناً إلى أن ملك الموت وأنه قد أخذ في عمله بجد، وأيقن عند نفسه أن سيشحذ في الخميس مما يوزع على المقبرة صدقة على أرواح العمدة، وصاحب الحانوت، والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المركز. . . .! وكيف يشك في أن هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلان ونذر له شمعة يسرقها من حانوت آخر. .!
هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم(78/6)
بذلك القانون الذي يصلحونه به على زعمهم، قد ناولوه سبحة ليظهر بها مظهر الصالحين، ولم يفهموه شيئاً ففهم أنهم يقولون له: هذه الجريمة واحدة، فعد جرائمك على هذه السبحة لتعرف كم تبلغ!
كانت في الحقيقة لعبة لا سرقة؛ وكانت يد الغلام فيما فعلت مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة، كما تكون أعضاء الطفل لا كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل ما يراه، لا يميز ضارة ولا نافعة، وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كل ما في الأمر وقصارى ما بلغ - أن خيال هذا الغلام ألف قصة من قصص اللهو، وأن الكبار أخطئوا في فهمها وتوجيهها. .! ليست سرقة الطفل سرقة، ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر
وانتهى (عبد الرحمن) إلى المحكمة، فقضت بسجنه في (إصلاحية الأحداث) مدة سنتين، واستأنف له بعض أهل الخير في بلده؛ صدقة واحتساباً. . . إذ لم يكلف الاستئناف إلا كتابة ورقة. فلما مثل الصغير أمام رئيس المحكمة لم يكن معه لفقره محام يدفع عنه، ولكن انطلق من داخله محام شيطاني يتكلم بكلام عجيب، وهو سخرية الجريمة من المحكمة، وسخري عمل الشيطان من عمل القاضي. . .!
سأله الرئيس: (ما اسمك؟)
-: (اسمي عبده، ولكن العمدة يسميني: يا بن الكلب!)
-: (ما سنك؟)
-: (أبويا هو اللي كان سنان)
-: (عمرك إيه؟)
-: (عمري؟ عمري ما عملت شقاوة!)
النيابة للمحكمة: (ذكاء مخيف يا حضرات القضاة! عمره تسع سنوات)
الرئيس -: (صنعتك إيه؟)
-: (صنعتي ألعب مع محمود ومريم، وأضرب اللي يضربني!)
-: (تعيش فين؟)
-: (في البلد!)(78/7)
-: (تاكل منين؟)
-: (آكل من الأكل!)
النيابة للمحكمة: (يا حضرات القضاة؛ مثل هذا لا يسرق علبة كبريت إلا ليحرق بها البلد. . .!
الرئيس: (ألك أم؟)
-: (أمي غضبت على أبويا، وراحت قعدت في التربة، مارضيتش ترجع!)
-: (وأبوك؟)
-: (أبويا لاخر غضب وراح لها)
الرئيس ضاحكاً: (وأنت؟)
-: (والله يا افندي عاوز اغضب، مش عرف اغضب ازاي!)
-: (إنت سرقت علبة الكبريت؟)
-: (دي هي طارت من الدكان، حسبتها عصفورة ومسكتها. . . .)
النيابة: (وليه ما طارتش العلب اللي معاها في الدكان؟)
-: (أنا عارف؟ يمكن خافت مني!)
النيابة للمحكمة: (جراءة مخيفة يا حضرات القضاة، المتهم وهو في هذه السن، يشعر في ذات نفسه أن الأشياء تخافه)
فصاح الغلام مسروراً من هذا الثناء. . (والله يا افندي إنت راجل طيب! أديك عرفتني، ربنا يكفيك شر العمدة والغفير)
وأمضى الحكم في الاستئناف، وخرج الصغير مع رجال من المجرمين يسوقهم الجند، ثم احتبسوا الجميع فترة من الوقت عند كاتب المحكمة، ليستوفي أعماله الكتابية؛ ثم يساقون من بعد إلى السجن
وجلس (عبد الرحمن) على الأرض، وقد اكتنفه عن جانبيه طائفة المجرمين يتحادثون ويتغامزون، وكلهم رجال ولكنه وحده الصغير بينهم؛ فاطمأن شيئاً قليلاً، إذ قدر في نفسه أنه لو كان هؤلاء قد أريد بهم شرٌ لما سكنوا هذا السكون، وأن الذي يراد بهم لا يناله هو إلا أصغر منهم، كصفعة أو صفعتين مثلاً. . . وهو يسمع أن الرجال يقتلون ويحرقون(78/8)
ويسمون ويعتدون وينهبون؛ وما تكون (علبة الكبريت) في جنب ذلك وخاصة بعد أن استردها صاحبها، وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم؟
وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الاطمئنان في عينيه دموعاً كاد يريقها الجزع. غير أن القلق اعتاده فالتفت إلى كتّاب المحكمة مرة والى الجند مرة، ثم لوى وجهه ولم يستبح لنفسه أن يتجرأ على الفكر فيهم، لأنه قابل مهابتهم بآلهة بلده: العمدة والمشايخ والخفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة، واستدل على ذلك بأزرارهم اللامعة، وخناجرهم الصقيلة، وتمشت في قلبه رهبة هذه الخناجر، فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه إلى من يذبحه، فنظر إلى الذي يليه من المجرمين وسأله (راح ياخذوني فين؟) فأجابته لكمة خفية انطلق لها دمعه، حتى أسكته الذي يليه من الجانب الآخر، وكان في رأيه من الصالحين!
ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه، فهما تضطربان إلى الجهات الأربع، وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سيأتيه الموت ذبحاً. ولم يكن فهم معنى (الإصلاحية)، وحكم القضاة عليه كأنه رجل يفهم كل شئ، ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة. وعدل التربية غير عدل القانون، فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفل، أن يجعل حكمه أشبه بصيغة القصة منه بصيغة الحكم؛ وأن يدع الجريمة تنطلق وتذهب فلا يقول لها امكثي. . .
وبقي للخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين، فلو أنهم قادوه إلى حبل الشناقة لأفهمه (الحبل) معنى العقوبة، أما وهو بين هذه الخناجر المغمدة - وفي الخناجر معنى الذبح - فإنما هو الذبح لا غيره
وطرقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هذا الخاطر، فثبت عينيه في الرجل، فإذا هو يرى وجهاً متلألئاً، وجسماً رابط الجأش، وهزؤاً وسخرية بهؤلاء الجنود وخناجرهم
واستراح الغلام إلى صاحبه هذا، وألح بنظره عليه، وابتدأ يتعلم في وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة على الكتب، بل إن لكل إنسان حالة تشغله، فنظره في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هو الفلسفة بعينها
وقال الغلام لنفسه: (هذا الرجل أقوى من كل قوة؛ فهو محكوم عليه ولا يبالي، بل يقهقه ضحكاً؛ فهذا الحكم إذن لا يخيف. لا، بل هو تعود الأحكام، إذن فمن تعود الأحكام لم يخف(78/9)
الأحكام؛ إذن يا عبد الرحمن ستتعود، فإن الخوف هذه المرة فد غطك من (علبة الكبريت) في حريق متسعر؛ وما قدر (علبة الكبريت)؟، فلو كانت السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلك؛ يا ليتني إذن. . . ولكني لا أزال صغيراً، فمتى كبرت. . . آه متى كبرت. .)
وبدأ القانون عمله في الغلام؛ فطرد منه الطفل وأقر فيه المجرم
وأطرق (عبد الرحمن) هادئاً ساكناً، وقامت في نفسه محكمة من الأبالسة، بقضاتها ونيابتها، يجادل بعضهم بعضاً، ويداولون بينهم أمر هذا الغلام على وجه آخر
وقال شيطان منهم: (ولكنا نخشى أمرين: أحدهما أن (الإصلاحية) ستخرجه بعد سنتين شريفاً يحترف؛ والثاني أن الناس ربما تولوه بالتربية والتعليم في المدارس رحمة وشفقة، فيخرج شريفاً يحترف)
وما أسرع ما نفى الخوف عنهم قول الغلام نفسه بلهجة فيها الحقد والغيظ، وقد صفه الجندي الذي يقوده إلى السجن -: (ودا كله على شان علبة كبريت. . .؟)
وفي سنة 1934 قضت محكمة الجنايات بالموت شنقاً على قاتل مجرم خبيث، عيار متشطر، اسمه (عبد الرحمن عبد الرحيم). . .
مصطفى صادق الرافعي(78/10)
هنا وهناك
حماية التفكير وتكريم النبوغ
للأستاذ محمد عبد الله عنان
نقرأ تباعاً أنباء الجوائز العلمية أو الأدبية أو الفنية التي تمنحها المؤسسات والهيئات العلمية المختلفة لأقطاب رجال التفكير والآداب والفنون؛ وهناك غير الجوائز المحلية القومية التي تنظم في كل أمة لتشجيع الحركة الفكرية، جوائز عالمية ترمي إلى تشجيع أبدع ما يخرج الذهن البشري في أي البلاد أو الأمم؛ ولعل جوائز (نوبل) هي أشهر جوائز من هذا النوع، فهي تمنح إلى أقطاب العلم والأدب والسياسة في أنحاء العالم دون فارق بين الجنسية أو الدين أو اللغة، ثم هي تمنح للنساء كما تمنح للرجال؛ وهذا هو أبدع ما في هذه الجوائز، فهي تقصد إلى تكريم النبوغ البشري حيث يوجد، وهي ترتفع فوق جميع الاعتبارات القومية، ولا تنظر إلا إلى أفق الإنسانية الشاسع، ولقد خلد ألفرد نوبل السويدي، صاحب هذه الوصية العلمية والإنسانية الجليلة، اسمه بتأسيسها وتنظيمها بما لم يخلده فاتح؛ والواقع أن لم يكن ينقص هذا المخترع العبقري شيء من بعد الصيت والذكرى، فقد كان عالماً ومخترعاً عظيماً، له ثبت حافل من الاختراعات العظيمة؛ وقد كان لتجاربه واكتشافاته في أواخر القرن الماضي أثر عظيم في تقدم الفنون العسكرية ولا سيما فيما يتعلق (بالديناميت) الذي وصل إلى اكتشافه وتركيبه. ومن الغريب أن يتجه هذا الذهن الذي أنفق نبوغه في اختراع المفرقعات المهلكة، إلى تشجيع النبوغ البشري في مختلف نواحي التفكير والأدب، وأغرب منه أن يتجه إلى تشجيع السلام العالمي، فيخصص ضمن جوائزه الشهير جائزة لأي جماعة أو شخصية تمتاز بخدماتها الجليلة لقضية السلام
وليست جوائز نوبل سوى مثل من أمثلة لا تحصى لهذا النظام المحمود - نظام الجوائز العلمية - الذي ترتبه جميع الأمم المتمدنة لتشجيع الحركة الفكرية، وتكريم أبنائها الممتازين بسمو التفكير والابتكار، ومعاونة الأذهان والعبقريات المغمورة على الظهور والعمل لاستثمار كفاياتها ومواهبها في مختلف النواحي. ولنلاحظ أن هذه الجوائز الشهيرة إنما هي من وضع فرد فقط، وإن كثيراً من الأغنياء في بلاد الغرب يحذون مثل ألفرد نوبل فيهبون الألوف والملايين إلى الجامعات والجماعات العلمية والأدبية؛ ويرتبون الجوائز لتشجيع(78/11)
الباحثين والمفكرين، وإظهار جهودهم، وثمرات نبوغهم؛ وفي كل يوم نقرأ نبأ هذه الهبات والجوائز السنية، ونهتز إعجاباً وإكباراً لهذه النفوس والهمم الرفيعة التي تجد مثلها الأعلى في العمل على تشجيع المثل العليا، ولا تنظر إلى المال إلا كوسيلة لإذكاء النبوغ واستثماره لخير العلم والإنسانية. وفي هذه الأمم التي يتقدم أغنياؤها للاضطلاع بهذه الأعمال الجليلة نجد الحكومات والهيئات العلمية الرسمية تعنى أشد العناية ببذل هذا التشجيع المنظم للدرس والبحث والنبوغ؛ ففي الجامعات ترتب جوائز دائمة لنوابغ الطلاب، فضلاً عن إعفائهم من أجور الدراسة، وترتب جوائز دورية مختلفة لتشجيع البحوث والجهود العلمية الممتازة؛ ولا تكاد توجد هيئة علمية أو أدبية، إلا ولها جوائز دورية ثابتة تمنح لكل عامل لتحقيق الأغراض العلمية أو الأدبية التي رتبت لتشجيعها. وأمامنا مثل الجمعيات الطبية والجغرافية والتاريخية في مختلف العواصم الغربية، فإنها جميعاً تبذل من المعاونات المادية في سبيل البحث والدرس والاستكشاف ما هو معروف ومشهور؛ ويكفي أن نذكر أن معظم الاستكشافات العلمية والطبية والجغرافية، تتم تحت رعاية هذه الهيئات المحترمة. بل يكفي أن نذكر أن معظم العلماء والمستكشفين لا يستطيعون القيام بمشروعاتهم إلا بمؤازرتها المادية، وأنها هي التي أوفدت في العصر الحديث معظم المكتشفين إلى مختلف مجاهل أفريقية وأسيا والقطبين
والخلاصة أن الهيئات الرسمية والخاصة في هذه الأمم العظيمة، تتحد جميعاً في مؤازرة الحركة العلمية، وتشجيع التفكير والنبوغ بجميع الوسائل. على أن أبدع ما في هذه النزعة هو الجهود الخاصة والفردية؛ وليس مثل ألفرد نوبل وحيداً، وإن كان من أعظم الأمثلة وأبدعها؛ فهنالك في فرنسا مثلاً مشروع جائزة (جونكور) الذي وضعه الكاتب الفرنسي أدمون جونكور لتتويج الآثار الأدبية البارزة؛ وقد وهب المشروع مالاً كثيراً، وما زالت (أكاديمية جونكور) منذ أواخر القرن الماضي تمنح جوائزها الأدبية للكتاب والقصصيين النابهين، عاماً بعد عام؛ وما زالت تعتبر شرفاً أدبياً يطبع الفائزين بطابع النبوغ، ولا سيما كتاب الشباب، ويفتح أمامهم أبواب المستقبل الذهبي؛ وهنالك أيضاً أمثلة عديدة لهذه الجهود والمنشآت الفردية، كما أن هنالك صحفاً كثيرة تنشئ مثل هذه الجوائز الأدبية؛ ولهذه الجهود المتحدة بلا ريب أثرها القوي في تقدم الحركة الأدبية وازدهارها في هذه الأمم(78/12)
أما نحن فلم نعرف بعد أهمية هذه المؤازرة العلمية، ولم تأخذ بها إلى اليوم جماعاتنا العلمية الرسمية؛ ولم يسغها بعد أغنياؤنا. فوزارة المعارف لم تفسح في ميزانيتها أي مجال لمثل هذه المؤازرة، لأنها لا تريد على ما يظهر أن تضطلع برعاية الحركة الفكرية العامة، وتريد أن تقتصر دائماً على شئونها الإدارية؛ ولدينا جامعة دينية عظيمة ولها ميزانية ضخمة، ولكنا لم نسمع أنها تقدمت ذات يوم لمؤازرة أي مجهود علمي حتى في دائرةمهمتها الدينية، فلم تساهم قط في تشجيع المباحث الإسلامية التي تنفق في سبيلها الجامعات الأوربية مئات الألوف تحقيقاً لمهمتها العلمية، ولم تساهم قط في إخراج أي أثر ديني أو عربي جامع؛ ولم نسمع أنها رتبت جائزة علمية محترمة؛ ولدينا الجامعة المصرية ما زالت تحتفظ بأفقها المدرسي، وما زالت بعيدة عن أن تخلق ذلك الجو العلمي الذي يمكن أن تنضوي تحت لوائه الجهود العلمية الفردية؛ ولم نعرف أن الجامعة ساهمت في تشجيع مجهود علمي فردي، ولا نعلم أنها على استعداد لذلك؛ كذلك لم تعرف الجامعة المصرية بعد نظام الجوائز العلمية والأدبية المحترمة، وإن كانت تعرف كيف تغدق على الأساتذة الأجانب؛ ولدينا عدة جمعيات علمية تتمتع بالرعاية الرسمية وبأموال الدولة، ولكنها جميعاً أجنبية في روحها وعواطفها، ولا يمكن أن تعتبر بحال ما مصرية، ولا يمكن أن تضطلع بمثل هذه المهام العلمية المحلية، التي يجب أن تتوفر لمؤازرتها عاطفة قومية لا توجد في هذه الجماعات
على أن هناك لدى جهاتنا الرسمية نزعة أخرى إلى تشجيع الجهود (العلمية) لا يمكن تجاهلها، ولكنها مع الأسف وقف على الأجانب؛ ونستطيع أن نحصي عشرات العلماء الأجانب الذين يفوزون بتعضيد الهيئات الرسمية المصرية للقيام بمختلف المهام العلمية أو لإخراج جهودهم، وهم لا يجدون مشقة في الحصول على هذه الهبات والجوائز السنية؛ ولكنك لا تجد مفكراً مصرياً استطاع أن يحظى بهذه الرعاية. ولا ريب أن تشجيع الجهود العلمية مبدأ محمود في ذاته، والعلم لا وطن له؛ ولكنه لا يقتضي الإيثار وحرمان المفكرين المصريين من كل تعضيد ومعاونة، بينما يرتع العلماء الأجانب في أموال الأمة المصرية؛ وما زلنا نذكر الضجة التي قامت منذ أشهر حول المنح المالية الباهظة التي أغدقت على أستاذ إنكليزي هو الكبتن كرزويل، لكي يخرج كتاباً له ولم يخرج منه سوى مجلد واحد،(78/13)
وكان مجموع الهبات التي استولى عليها من مختلف الجهات الرسمية يبلغ بضعة آلاف جنيه؛ وهنالك علماء أجانب يتقاضون الألوف المؤلفة من الأموال المصرية لكي يضعوا كتباً معينة؛ وتطلع علينا هذه الكتب من آن لآخر باللغات الأجنبية، فلا نراها ترتفع إلى مستوى المؤلفات العلمية القيمة، ولا نرى فيها سوى كتب دعاية ينقصها الطابع العلمي المحترم؛ وما زلنا نذكر تلك البدعة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة، وهي انتداب بعض الجهات الرسمية لبعض العلماء الأجانب الذي يؤمون مصر في الشتاء زائرين متنزهين، لإلقاء بعض المحاضرات، ومنحهم عن المحاضرة الواحدة مكافآت باهظة تبلغ أحياناً خمسين جنيهاً!
لقد كانت الرعاية العامة وما زالت أكبر عامل في تشجيع الحركات الفكرية وازدهارها. ومع أن قسطاً كبيراً من هذه الرعاية تضطلع به الهيئات الخاصة والأفراد النابهون في الأمم الحية، فإن الحكومات والجامعات وما إليها من الهيئات العلمية الرسمية تقوم بتنظيم هذه الرعاية والسهر على توزيعها حيثما تبزغ بوادر النبوغ. ذلك أن النبوغ يعتبر في الأمم الحية ثروة قومية تجب المحافظة عليها واستثمارها وحمايتها من عوامل الخمول واليأس. ولقد مرت عصور كثيرة في تاريخنا كانت الحركة الفكرية فيها تأخذ حظها من الرعاية والمؤازرة؛ وكان العلماء والمفكرون يتبوءون أرفع مكانة وتغدق عليهم المنح والهبات الوفيرة لكي يتفتح نبوغهم ويستطيعون العمل في دعة وسكينة؛ وكان الخلفاء والسلاطين يأخذون بأعظم قسط في تشجيع الحركات الأدبية، وكان من بواعث الفخر أن يكون القصر أو العاصمة ملاذاً لأكبر عدد من الكتاب والشعراء؛ وكان من زينة العصر والدولة دائماً أن تزدهر الحركات الفكرية في ظل الرعاية الرسمية؛ وهاهو ذا الأزهر لم يعاونه على الحياة حتى عصرنا سوى التفات السلاطين إليه وتعهد علمائه وطلبته بالبذل والعون. ولم يكن الملق، دائماً، كما هو الشأن في أيامنا ثمن هذه الرعاية. ذلك أن رعاية العلم والعلماء في تلك العصور كانت تعتبر من واجبات الدولة القوية المستنيرة، وكان العلماء يعملون في ظل هذه الرعاية مستقلين في الغالب، ولم يكن يطلب إليهم دائماً أن يكونوا أذناباً أو دعاة للأسر أو الحكومات التي تشملهم برعاية يعتبرونها حقاً عاماً لهم يجب تأديته إليهم
ومن العبث أن ندعي أن الحكومات والهيئات الرسمية المصرية المختلفة قد استطاعت أن(78/14)
تؤدي هذا الواجب العام أو بعضه نحو رعاية الحركات الفكرية في عصرنا. والحركة الفكرية لم تفد شيئاً من تلك الدعايات الواسعة التي تذاع حولها، وتلك المنشآت العقيمة التي تقام باسمها، والتي يراد أن تكون هياكل فقط تمجد العصر وتنسب إليه؛ وما نخشاه هو أن الجهات الرسمية ما زالت بعيدة عن تقدير هذا الواجب، بعيدة عن تأديته. إن النبوغ في مصر ما زال يعني الفقر والبؤس، إذا لم يوفق من تلقاء نفسه إلى الخروج من غمرة الظلمات والصعاب التي ينشأ فيها؛ بل نستطيع أن نقول أكثر من ذلك، هو أن النبوغ يعتبر في مصر أحياناً خطراً يخشى منه ويجب اتقاؤه؛ وعندئذ يشترى لا ليعضد ويزدهر، بل لكي يسكت ويقبر. أما أغنياؤنا فلن نطمع أن نجد بينهم واحداً يقدر واجباً لا تقدره الحكومة؛ ومن المحال أن يروا مثلهم الأعلى في رجال كألفرد نوبل يرون ذخر الإنسانية في صون التفكير الإنساني، والارتفاع به إلى ذرى التقدير والإجلال
محمد عبد الله عنان المحامي(78/15)
الشيخ الخالدي
للدكتور عبد الوهاب عزام
لقيت في الآستانة منذ خمسين عاماً شيخاً جليلاً ينقب عن الكتب، ويتحدث عن نوادرها، وعرفت أنه الشيخ خليل الخالدي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية في القدس
ثم شرفت بلقائه في مصر مرات. كان كلما قدم القاهرة تفضل فزارني في الجامعة. تقابلنا مرة فتكلم عن الكتب والمؤلفين كلام خبير بحاثة. فحرصت على لقائه والإفادة منه فراعني علم لا ينفد، وحفظ لا يخطئ
يبدأ حديثه عن الكتب، فيذكر أنه رأى كتاب كذا في مكتبة كذا، ويصف النسخة وما عليها من سماع العلماء، ثم يتكلم عن قيمة الكتاب ومكانته بين أشباهه، ويذكر المؤلف فيبين عن تاريخه ومكانته من العلم، ودرجته بين العلماء، وهلم جراً، يفضي من حديث إلى حديث، والسامع فرح بما يسمع، معجب متعجب. وقد زار مكاتب الآستانة والأناضول وفينا والشام ومصر وبلاد المغرب والأندلس، ونقب فيها عن نفائس الكتب، فأحاط بما لم يحط به سواه. والشيخ حفظه الله منقطع النظير في هذا الموضوع ما رأيت ولا سمعت بمثله
وهو من أسرة الخالدي إحدى أسر الشام العظيمة، تنسب إلى سيدنا خالد بن الوليد. وهي معروفة في التاريخ بأسرة الديري، وفيها العلماء والقضاة في الشام ومصر منذ خمسمائة وخمسين سنة
والشيخ نزيل القاهرة الآن. وقد أسعدني الجد بلقائه مرات في شعبان ورمضان هذا. وأرجو أن أسعد أنا وأصدقائي بحديثه مرات أخرى قبل رجوعه إلى فلسطين
وقد حرصت أن أكتب عن الشيخ بعض أحاديثه دون أن أشعره بذلك، فلما اجتمعنا في حلوان ليلة السبت ثامن رمضان، سأله بعض الحاضرين سؤالاً فشرع في حديثه، فدونت بعض ما قاله إجمالاً، ثم عدت إليه بعد انفضاض المجلس ففصلته على قدر ما وعيته. وإني أقدم للقارئ هنا ما حفظته عن الشيخ العلامة في ذلك المجلس:
سأل أحد الحاضرين عن المدارس ذات المكانة في التاريخ الإسلامي فقال: المدارس النظامية كانت في بغداد والموصل، وأصفهان ونيسابور، ومرو وهراة، وكان في نيسابور مئات المدارس: منها المدرسة البيهقية. ومدرسة ضياء الدين في سمرقند، وكان يقيم بها(78/16)
صاحب الهداية وشمس الدين الكردلي صاحب مناقب أبي حنيفة، ومدرسة الأمير مسعود في بخارى، ومدرسة قطلغ تيمور في خوارزم، وهذه البلاد التي ذكرت كانت من مراكز العلم، ومثلها بخارى وبلخ وفرغانه وجرجان، وكان ببخارى من معاهد العلم مسجد كوكلتاش ومسجد كلام، ومن رجال مرو: القفال الكبير والقفال الصغير، ومشايخ إمام الحرمين والبغوي، والسمعاني، وابن حنبل. وكان بدمشق مدارس كثيرة، منها العمرية التي أنشأها أبو عمر بن قدامة. وهو أخو الموفق أخو قدامة صاحب كتاب المغني في مذهب الحنابلة، وهو اثنا عشر مجلداً. ومنها المدرسة الضيائية، وكان بها خطوط المحدثين كلهم. وهي منسوبة إلى ضياء الدين المقدسي ابن أخت أبي عمر بن قدامة. وقد تخرج فيها ابن تيمية والذهبي، ومن مدارس دمشق دار الحديث الأشرفية، وهي دار المتحف العربي الآن. وقد درّس بها النووي وابن الصلاح وأبو شامة، والمدرسة العادلية، وقد درس بها ابن مالك وابن خلكان، والمدرسة الرواحية التي تخرج فيها النووي، وصارت الآن من دور آل الغزى، والمدرسة التي درس بها ابن القيم، وهي بقرب بيت العظم. وكانت بيوت العلم في الشام بني قدامة، وبني تيمية، وبني عساكر، وبني عبد الهادي، وهؤلاء من مشايخ الذهبي
ثم انتقل الحديث إلى الفخر الرازي، فقال في أثناء كلامه: إن الرازي من بني أبي بكر الصديق، فتعجب الحاضرون، فقال: ومن ذرية الصديق أيضاً جلال الدين الداوني، وعضد الدين صاحب العقائد، وأبو اسحق الشيرازي، والفيروز آبادي، قلت وجلال الدين الرومي. قال: نعم، وجلال الدين، وأين جلال الدين من هؤلاء، قلت: لكل وجهة، ثم سئل الشيخ عن بني عمر بن الخطاب في العلماء فقال: منهم السهرورديون من المتصوفة، ومنهم الفنري. وكان في بخارى جماعة منهم. وكان تيمور لنك يجلهم كل الإجلال، قال: وصدر الشريعة من بني عبادة ابن الصامت، وليس كل من نشأ في بلاد الفرس فارسياً، فأبو داود السجستاني، والترمذي صاحب الشمائل، والترمذي صاحب المسند، وابن عبد البر، كل هؤلاء من العرب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري من بني ضبة، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وأبو القاسم صاحب الرسالة القشيرية من بني قشير، والمازري، وابن يونس الصقلي، وعبد الحق الصقلي الذي غلب إمام الحرمين في المناظرة، من بني تميم، والقاضي عياض من يحصب(78/17)
ثم ساقه الحديث إلى القطب الشيرازي العلامة المطلق، وفخر الإسلام البزدوي وصدر الشريعة فأفاض في الحديث. وقال: لفخر الإسلام البزدوي كتاب في الأصول منقطع النظير، حدث شمس الدين الأصفهاني شارح الطوالع أنه دخل على أستاذه القطب الشيرازي فرأى عنده كراسات على وسادة، فقال ما هذه؟ قال: إني منذ سنة كذا أقرأ كتاب البزدوي، وأنقل عنه وما أنهيته. ولصدر الشريعة كتاب تعديل العلوم في المنطق والحكمة والكلام والتصوف والأخلاق. رأيت منه نسخاً كثيرة. وله كتاب التنقيح وشرحه التوضيح
سأل سائل لماذا قل أمثال هؤلاء العلماء بين المسلمين اليوم؟ قال لذلك أسباب: منها أن أسلافنا كانوا يطلبون العلم للعلم لا يبغون من ورائه شهادة ولا منصباً؛ كان كل منهم يتخذ عملاً يعيش منه ثم يحصل العلم عن جهابذته. ولم تكن أساليب التعليم صناعية آلية كنظام المدارس في الوقت الحاضر؛ ومن الأسباب انقطاع الرحلة، كان سلفنا يشدون الرحال في طلب العلم لا يفترون، فيلقى بعضهم بعضاً، ويأخذ بعضهم عن بعض. الخ. أنظر إلى قضاة السلف كيف يفرون من القضاء إشفاقاً على دينهم؟. هذا أبو علي الصدفي أحد قضاة الأندلس ذبح الذبائح وحج شكراً لله على خلاصه من القضاء. ومن القضاة الأباة عظماء النفس، أهل التقوى أبو بكر بن السليم القاضي الأندلسي، وله رأي في الفقه معروف: (أن الإنسان إذا اشترى بيتاً فوجد به بقاً فله خيار العيب) ومنهم ابن زر القاضي، وكان في عهد المنصور بن أبي عامر. وحسبك بقاض يتعاظم على مثل المنصور. وله كتاب الخصال الكبير والخصال الصغير في مذهب مالك، رأيتهما في مجريط. وقد قيل أن من قرأ الخصال استغنى به عن الكتب الأخرى، وكان الأندلسيون ذوي همة عظيمة في تحصيل العلم؛ وكان طلابهم يبدءون بحفظ التسهيل لابن مالك، ومختصري ابن الحاجب في الفقه والأصول، هذا عند المتأخرين. وأما من قبلهم فكانوا يحفظون الموطأ، ومن قبل هؤلاء كانوا يحفظون تهذيب المدونة، وسلفهم كانوا يحفظون المدونة، وكان ابن بشكوال يحفظها كلها، وكان الرازي يحفظ كتاب الشامل لإمام الحرمين، وهو مجلدان في علم الكلام. وأرى أن تفوق الأندلسيين كان من عنايتهم بأمهات الكتب. كانوا يقرءون في النحو كتاب سيبويه، وأين من كتاب سيبويه كتاب الأشموني وحاشية الصبان؟ وقد رأيت في مكتبة الأسكوريات خط أبي علي الشلوبين على كتاب سيبويه بعدد الكتب التي قرأها في النحو وكلها من(78/18)
الأمهات. ورأيت في مكتبة كوبريلي بالآستانة إجازة قاضيخان كتبها بخطه على السير الكبير للسرخسي وعدد الكتب التي درسها في الفقه. وهي كتب تضمن لقارئها التفقه. أنظر! أهل الأزهر يقرءون في الأصول جمع الجوامع، وليس هو من كتب الأصول القيمة. - قال بعض الحاضرين: قرءوا كتاب الآمدي في عهد الشيخ المراغي ثم أبطلوه، فقال كتاب الآمدي جيد، وللآمدي كتابان: أحكام الأحكام، وأبكار الأفكار. وكتاب ابن الحاجب في الأصول مأخوذ من منتهى السول والأمل للأرموي، وهذا مأخوذ من كتاب الآمدي، والآمدي أخذ من الأدلة القواطع للسمعاني، وهذا مأخوذ من كتاب الباقلاني، فهذا الأصل الذي لم يؤخذ من غيره، ثم تكلم عن أصول الحنفية وعلمائهم وكتبهم وطريقتهم، ورجع إلى الباقلاني فقال: وكان الباقلاني آية من آيات الله. وقد روى أبو الوليد الباجي أنه كان يسير مع الدارقطني - والدارقطني من كبار المحدثين، في درجة الترمذي وابن ماجة - فلقيا رجلاً، فأعظمه الدارقطني غاية الإعظام وقبله، فقال أبو الوليد: من هذا؟ قال: سيف أهل السنة أبو بكر بن الطيب، يعني الباقلاني، وقد رثاه بعض الناس فقال:
أنظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وأنظر إلى القبر ما يحوي من الصلف
وأنظر إلى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف
وكان الباقلاني يناظر ابن المعلم فيفحمه. وكان ابن المعلم يوماً في أصحابه فأقبل الباقلاني، فقال ابن المعلم: جاءكم الشيطان، فسمعها الباقلاني فتلا قوله تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزّاً. وتناظرا مرة، فلما أُفحم ابن المعلم أخرج قبضة من الباقلي ورماها في وجه الباقلاني، يعني بذلك أنه ابن بائع باقلى. فأخرج الباقلاني درة من ثيابه ورمى بها ابن المعلم يعني أنه ابن معلم صبيان، فتعجب وقال: ما أخبرت أحداً أني سأرميه بالباقلي، فكيف أعد لي هذه الدرة؟ - وعقائد الدواني مأخوذة من عيون المسائل، وهذه مأخوذة من رؤوس المسائل، وكلاهما للجرجاني، ورءوس المسائل مأخوذة من جواهر الكلام لعضد الدين صاحب المواقف، والجواهر من المواقف، والمواقف مأخوذة من أبكار الأفكار للآمدي، وهذه عن الباقلاني، وهذه كما نرى في فقه المالكية: كتاب أقرب المسالك للشيخ الدردير مأخوذ من كتاب خليل، وهذا عن كتاب ابن الحاجب إن تهذيب البرادعي عن المدونة. وقد رأيت نسخة من المدونة في مكتبة القرويين في فاس بخط عبد(78/19)
الملك بن مسرة شيخ ابن رشد، وهي في ثمانين مجلداً صغيراً، وكتب في نهايتها:
بالله يا قارئ استغفر لمن كتبا ... فقد كفتك يداه النسخ والتعبا
كتبه عبد الملك بن مسرة اليحصبي
وقد ذكر ابن مسرة بن فرحون في كتاب الديباج وهو من أنفس الكتب. وابن رشد الجد له كتاب البيان والتحصيل في الفقه ستة عشر مجلداً. وقد ضمن لقارئه الاجتهاد. وابن رشد الحفيد الفيلسوف كان في المغرب بمنزلة الرازي في المشرق
ثم تكلم عن محنة ابن رشد في دولة الموحدين وقال: والسلطان يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كان من العلماء، كان يحفظ كتاب المحلى لابن حزم - سأل بعض الحاضرين عن رسالة صلاح الدين إلى يعقوب بن يوسف فقال هي في كتاب أبي شامة. وكان أبو شامة حافظاً وقارئاً ونحوياً وعالماً في الأصول والفروع. ويشبهه في هذا أبو عمرو الداني. قال بعض الحاضرين هل كانا متعاصرين؟ قال لا، أبو شامة توفي سنة 622 والداني توفي سنة 444. الخ الخ. ولعلنا نعود فندون عنه مجلساً آخر
عبد الوهاب عزام(78/20)
تطور الحركة العقلية في شمال أفريقية
للكاتب المستشرق جاستون بوتول
نشرت مجلة (الأخبار الأدبية) (النوفيل لترير) في عددها الأخير مقالاً للكاتب المستشرق جاستون بوتول عن الحركة العقلية في شمال أفريقية هذه ترجمته:
كلما أوغلنا في التاريخ أدركنا أن تونس أو بعبارة أخرى أن تونس - قرطاجنة المعقدة كانت دائماً عقل أفريقيا الشمالية. وإنه لقدر غريب: قدر هذه المدينة، التي كأنها سارية القارة، والتي هي الحد الفاصل بين شرق البحر الأبيض المتوسط وبين غربه؛ ولقد كانت دائماً طريق الفتوح العظيمة، كما كانت مجمع الطرق التجارية الكبرى؛ وهي أقصى بلد في شمال أفريقية وأقربها إلى أوربا، ولكنها أقربها إلى المشرق أيضاً؛ ثم هي أعرقها في الطابع الأفريقي، لأن السهول الصحراوية التي تفصلها عن البحر في الجهات الأخرى حواجز عالية، تمتد بلا انقطاع إلى تونس؛ وأخيراً هي المدينة التي كانت تلتقي فيها النزعات العقلية وتمتزج من جميع الأنحاء
كانت قرطاجنة في الوقت الذي كانت رومة تصارع فيه ما حولها من الظلمات، قد قامت برسالة عظيمة في المدنية، واكتشف غرب البحر الأبيض والبرتغال وساحل أفريقية الغربي. ثم غدت قرطاجنة بعد الحروب البونيقية المدينة الثانية في العالم الروماني؛ ولما أتمت مراحلها الثلاث أعني البونيقية، والرومانية، ثم النصرانية، دخلت تونس في مرحلتها الإسلامية، وسرعان ما تفوقت على القيروان وغدت مرة أخرى أهم مراكز الحركة العقلية في المغرب. ولم يكسفها قط بهاء فاس المحدث، ولبثت تونس هي المركز الذي تزدهر فيه العلوم والفلسفة العربية لآخر مرة، وكان ابن خلدون، في فجر الأحياء، آخر ثمارها العظيمة
أما اليوم فإن الموقف أكثر تعقداً؛ وعلى رغم ازدهار جامعة الجزائر، ونجاح معهد الدراسات العالية المراكشي في رباط وتقدمه نحو التحول إلى شبه جامعة، فإن تونس تبقى مركز التفكير الإسلامي في شمال أفريقية. ويكفي لتوضيح خطر هذا الدور أن نقول أن المسلمين يبلغون اليوم في المغرب أكثر من اثني عشر مليوناً، ولكن لا توجد بقعة أخرى غير تونس يزداد عددهم فيها نحو خمسين ألفاً كل عام(78/21)
ويرجع هذا النفوذ إلى عاملين: الأول أنه يوجد في تونس أهم واقدم جامعة عربية، والثاني أنه يوجد بها أكبر عدد من صفوة المسلمين الذين تلقوا الثقافة الفرنسية. وصحف تونس العربية، والصحفيون التونسيون هم الذين يوجهون الحركات السياسية والعقلية في الجزائر ومراكش. ومن تونس تخرج الأزياء، ويخرج القصص والغناء، وفيها تتألف الفرق التمثيلية أو الموسيقية التي تجوس خلال المغرب
ويضاف إلى نفوذ جامعة الزيتونة القديمة، التي تأخذ اليوم بأسباب التجديد، نفوذ (الخلدونية) وهي مركز للدراسات التاريخية والعلمية؛ وقد أسست منذ ثلاثين عاماً على يد بعض التونسيين، وكلية الصادقي، وهي معهد غريب تدرس فيه العلوم الحديثة واللغتان الفرنسية والعربية. وقد عقد في أكتوبر الماضي مؤتمر من الطلبة المسلمين في شمال أفريقية
وفي ذلك ما يوضح الدور الهام الذي تؤديه تونس في المسائل الاجتماعية التي تعرض في شمال أفريقية. ومن العسير أن نحدد نزعات الأجيال الفتية في هذه البلاد؛ ويختلف عدد الشباب المثقف وتوزيعه كثيراً في هذه المناطق؛ وأظهر هذه النزعات وأشدها تعرضاً للخلافات الظاهرة هي النزعة السياسية، ولكن هذه الخلافات ترجع دائماً إلى ظروف السياسة المحلية، فهي مؤقتة في الواقع، فمثلاً كان التونسيون يشكون من إقصائهم عن بعض الإدارات، فلما تقرر منذ شهر أن يسمح لهم بدخولها انتهت هذه الشكوى
أما النتائج الثابتة، فهي نتائج التطور العقلي؛ وهي أهمها أيضاً، لأنها تتعلق بالمستقبل، ولا تتقدم إلا ببطء، ولا يمكن تعديلها أو توجيهها بقوانين المشرع. وقد يستطيع المشرع أن ينتهز بعض الفرص السانحة في حرص وحذر، ولكن الاختيار النهائي يبقى لأصحاب الشأن أنفسهم
ويوجد في فاس كما يوجد في الجزائر وقسطنطينة شباب يتلمس ويتساءل. وقد عفت التقاليد التي كانت تسمح للشباب بأن يندمجوا في الحياة بسهولة، وأضحت لا تلائم الحياة الحديثة، وعرضت حاجات جديدة ومطالب جديدة؛ ولكن الشعار الجديد هو أن تبحث وتجد. ويتجه معظم الشباب على الأخص بأنظارهم إلى تونس، لأنهم يعرفون أنهم هنالك يتكونون شيئاً فشيئاً بين الأمل والتثبيط(78/22)
ولهذا، وعلى الرغم من أن تونس ليست إلا قطعة صغيرة من شمال أفريقية، فإنه يجب أن نتتبع بمنتهى الاهتمام ما يدور في المجتمع التونسي العقلي؛ وهو اهتمام يجب أن يقرن بالعطف، لأن هذا المجتمع هو الذي يحمل أعباء التعقيد وأزمات الضمير، وما يترتب حتماً على مثل هذا التطور النفسي الهام من أسباب الجزع والاضطراب؛ ومن هذا المجتمع وحده يمكن أن يأتي حل المسائل الاجتماعية الشائكة التي تعرض للبحث، وليس من ريب في أن الموقف الذي يتخذه هذا المجتمع يكون ذا أثر قوي في باقي أنحاء البلاد
ونستطيع أن نتكهن بشيء من المستقبل؛ فقد أثبتت الطبقة المتوسطة التونسية إمكان التطور المتناسق في ظل أفق فرنسي؛ وقد ظهر فيها مجموعة من الكتاب والمؤرخين والعلماء والصحفيين الذي يكتبون بالفرنسية؛ ونجد حتى في ظروف الأسرة، وفي الظروف الاجتماعية، ما يدل على تسرب الحياة الحديثة بقوة، وهي حركة اختيارية لأنها تسير حرة دون ضغط ما، وبعد تأمل عميق
ونستطيع أيضاً أن نقرأ في أمثلة يقدمها لنا الماضي مبلغ التعاون بين المسلمين والنصارى، فعلى مقربة من تونس وقعت الحالة الأولى والوحيدة في العصر الحديث للتعاون بين هؤلاء وأولئك؛ ومن الغريب أن ممثلي هذه التجربة العظيمة كانوا فرنسيين وتونسيين؛ ففي مملكة النورمان الصقلية التي يعمرها سلالة الفاتحين الأغالبة، ازدهرت أعظم حضارة في العصر، واشترك في إنشائها النورمان والمسلمون، وكانت بالرم يومئذ هي أعظم مجمع بين الشرق والغرب؛ وكان نجاح هذا التعاون الحر الذي تطاول زهاء قرن، أشنع فضيحة في العصر، في نظر المتعصبين من الجانبين
وقد استطاعت العبقرية الفرنسية أن تنسي في العصور الوسطى مجتمعاً شديد التناقض من حضارتين خصيمتين في كل مكان؛ واليوم إذ نستعرض ذلك المركز الذي حفظته لنا تونس القديمة، نجد أمامنا جامعة الزيتونة الموقرة - وهي قديمة قدم السوربون - ذات الحنايا المرمرية الجليلة، تحيط بها حوانيت الكتب والعطور؛ ثم نجد مكتبة عظيمة فرنسية على الأخص، أقيمت في قصر قديم؛ ثم نجد بعد ذلك فوق مرتفع يشرف على المدينة كلية الصادقي الواسعة التي أخرجت نخبة مختارة من المثقفين العرب، الذين استقوا أيضاً من الثقافة الفرنسية. وعندئذ نتذكر تلك المقدمة التي يهدي فيها الشريف الأدريسي أثره(78/23)
الجغرافي الخالد إلى الملك رجار (روجر) الذي عاش الأدريسي في بلاطه، والتي تبدو فيها ألوان هذا التعاون الذي قام بينهما
هذه كلها أدلة مادية على قيام تعاون عقلي واضح تقوم به الصفوة، وإنه ليقع على عاتق المفكرين والجامعة أن يخلقوا تلك البيئة التي تتطور فيها عادة الحياة المشتركة، إلى رغبة في الحياة المشتركة
جاستون بوتول
(الرسالة) ترجمنا هذا المقال ليطلع قراؤنا على رأي العلماء الفرنسيين في الحركة العقلية في شمال أفريقية؛ ولسنا نوافق الأستاذ بوتول على بعض آرائه، وعلى الأخص في أثر الثقافة للفرنسية في تونس. والمقصود بشمال أفريقية في هذا المقال هو البلاد الغربية التي تسيطر عليها فرنسا: أعني تونس والجزائر والمغرب الأقصى. فإن المعلوم أن مصر لا تدخل تحت هذه التسمية ولم ينصرف إليها هذا التعبير في أي عصر من العصور(78/24)
ليلة حافلة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ نحو ربع قرن - فقد صرنا نحسب مسافات الزمن بأرباع القرون! - مات لنا قريب شاب، أبوه من سراة الريف، فرافقنا رفاته على قطار خاص إلى البلدة. وكانت العادة في تلك الأيام أن يظل المأتم قائماً أسبوعاً أو أربعين يوماً، وكنت يومئذ مدرساً، وكان الوقت صيفاً، والمدارس موصدة، ففي وسعي أن أشاطر القوم حزنهم إلى آخر المدى، فجاءني يوماً شاب من أقربائي، وانتحى بي ناحية وأسر إلي أن أخته تكاد تموت جوعاً، فعجبت، فإن الخير كثير والطعام وفير، وما يذبح كل يوم من الخراف والعجول يكفي جيشاً. فأخبرني أن الموائد توضع ثم ترفع كما هي، لا تمتد إلى ما عليها يد، وأن أخته تستحي أن تتناول شيئاً، ولكن نساء البيت بعد ذلك يتسللن إلى حجرة قصية فيقبلن على الطعام ويلتهمن منه ما لا يحسب الحاسب، فهن يمسكن عن المطعم علانية ويمترن منه سراً، وأخته تنظر وتتحسر، وقد التوت أمعاؤها من الجوع. ثم سألني:
(والآن ما الرأي؟ أشر كيف تأمر!)
فقلت له: (دع هذا لي)
وللشباب جمحاته وحماقاته - ركبت إلى مدينة قريبة، فاشتريت شيئاً من الرقاق الملفوف باللحم، ومربى، وألواناً من الحلواء، وأرغفة، وعدت وأنا أقول لنفسي: (هذا شيء ينفعها إذا نام الليل)، ولم يكن من السهل أن أدخل البيت ومعي هذا الحمل، تحت عيون هذا الخلق كله، وماذا عساي أن أقول إذاسألني سائل عما لف عليه الورق؟ لهذا اضطررت أن ألف وأدور، وأختبئ هنا وههنا، حتى تيسر لي أن أبلغ غرفتي من غير أن يراني أحد، وبقي أن أنتظر حتى يقبل الليل، وتنقطع الرجل، فأحمل هذه الربطة إلى حريم الدار، والله المسئول أن يوفقني إلى الوصول إلى قريبتنا الطاوية، وأن يقيني عواقب هذه المجازفة! وهل أعدم خادمة تدعوها إلي أو تحمل إليها هذه الرسالة
وجاء الليل، وقمنا إلى المخادع، وكان لي في غرفتي شريك، فذهبت أدخن سيجارة بعد سيجارة، حتى علا شخيره، ففتحت الباب وأرهفت أذني، فلم أسمع شيئاً، فتوكلت على الله، وأقدمت - أعني مشيت مترفقاً حتى خرجت من هذا البناء المهيأ للضيوف، إلى صحن(78/25)
واسع يفصل حريم الدار عن ثويّ الرجال، وكان الليل طاخياً، فلم أزل أتخبط حتى لمست باباً توهمته باب المنزل فدخلت، ولكني لم أجد سلماً أرقى فيه، فاستغربت ورحت أدور بالمكان، ويدي على الجدار، فكنت أجد أبواباً، بعضها مفتوح، والبعض مواربٌ أو مغلق، ولكن لامرقات، فقلت أخرج من هذا التيه، وتركت الجدار واندفعت، ويداي أمامي لتتلقيا عني الصدمة إذا بلغت حائطاً أو شبهه، وإذا باللفافة التي معي تلمس جسماً فيسقط منه شيء على الأرض فأفزع، وأدع اللفافة تهوي، ثم إذا بواحد يهجم علي فأقع ونتدحرج معاً على البلاط وهو ممسك برجلي يريد أن ينزعها، وأنا أدفع في بطنه، حتى تخلى عن رجلي فدرت على ركبتي، وقد أيقنت من صمته أنه غريب واغل يتلصص، وألفيت يدي على عنقه، فأخذت بمخنقه، فلكمني بجمع يده فانقلبت على ظهري وقد تخليت عن رقبته، فانقض علي، فضربت برجلي فأصبت جنبه، فمال عني فنهضت على ركبتي وجعلت أضرب بيدي، ولكن في الهواء، حتى لمست رأسه فقبضت على شعره وجذبت بكل ما فيّ من قوة، فنطحني في بطني، فانثنى بعضي على بعض، فركلني برجله، فتدحرجت كالكرة. فعدا يريد أن يجهز عليّ فأخطأني وخبط الباب برأسه فكأن قنبلة انفجرت في سكون الليل، وإذا بصوت رجل يصيح:
(مين. .؟)
ثم انقطع الصوت، لأن صاحبه على ما يظهر داس بعض الطعام الذي تبعثر في المكان، فتزحلق فوقع على الأرض كالحجر، وكنت أنا قد نهضت، ولمست يدي باباً ففتحته ودخلت، وأنا أسوي شعري وأمسح وجهي وأنفض التراب عن ثوبي، وكانت هذه لحسن الحظ غرفتي، فقد سمعت شريكي فيها يقول وهو يثب عن السرير
(ما هذه الأصوات! ماذا جرى؟)
فقلت - وقد ارتدت إليّ نفسي - (لا أدري. . يظهر أن هنا لصاً، قم فلننظر)
فصاح: (لص؟) وأسرع إلى الشباك فنادى
(يا ولد! يا مخيمر! يا مخيمر!)
وفتحت الأبواب، وأطلت منها رؤوس النوام - أو الذين كانوا نوّاماً - وكثر اللغط، وعلت الضجة، واختلطت الأصوات، وصار هذا يسأل عن الخبر، وذاك يدعو مخيمر وغيره ممن(78/26)
نسيت أسمائهم من الخدم، وثالث يصيح أن هاتوا نوراً، ورابع يقول أين المصباح؟ وخامس يسأل محتجاً (أليس مع أحدكم عود ثقاب؟)
وفي أثناء ذلك كان الذي وقع قد لامس خده المربى التي انكسر وعاؤها فسالت، فلم يخالجه شك في أن قتلاً حصل وأن هذا دم القتيل، فكاد يموت من الرعب، ولزم مكانه ولم يحاول حتى أن يرفع خده عن المربى، وجاء مخيمر يحمل بندقيته، ووراءه كثيرون غيره، وفي يد أحدهم مصباح، تقدم به - في حماية البندقية - وإذا بنا نرى (وكيل) صاحب البيت، مطروحاً على وجهه، ويداه ممدودتان، وخده لاصق بالمربى، وهو يرفع رأسه وينظر محاذراً، ثم كأنما اطمأن قليلاً فجعل يطرف، ويدير عينه، فيبصر بالوعاء وما سال منه، فيمسح بعضه عن خده وهو ينهض، فتجمعنا حوله وحففنا به، وجعل بعضنا ينظر إلى بعض مستغرباً متأففاً، منكراً على هذا (الوكيل) الشره، ألا يكون له هم سوى بطنه، وأن يزعجنا في فحمة الليل بهرسه ومحاولته إخفاء ما يأكل
ونظر إليه صاحب البيت نظرة سخط واشمئزاز، وقال له: (ما هذا؟ مربى، ورقق، لم أكن أعرف أنك مبطان نهم إلى هذا الحد؟؟ وقليل الذوق أيضاً؟ حلواء في مأتم! فهلا انتظرت حتى ينفض المأتم؟؟ أم شامت أنت بي؟ لعنة الله عليك وعلى والديك! قم. . . قبحك الله! ولا ترني وجهك!)
فهم الرجل بأن يقول شيئاً، فقد كان مظلوماً ولا ذنب له، ولكن سيده أبى أن يسمع والتفت إلينا وقال:
(إن هذه فضيحة والله! الخير كثير والحمد لله، وفي وسعه أن يأكل ما شاء، ويشبع، إذا كان يمكن أن يشبع، فانظروا ماذا صنع؟ وبأي شيء يجزيني وقد ربيته وكفلته ولم أزل به حتى جعلته وكيلاً لي. وأميناً على أملاكي!! يشتري حلواء ومربى ورقاقاً ليأكلها خفية في مأتم ابني!! اخرس يا كلب! ولك وجه تقابلني به يا كافر النعمة! والله لولا أنك حقير لأفرغت في قلبك الآن الرصاص. امش. . اخرج من عندي. .)
فقلت: (شيء فظيع!)
وارتددت إلى غرفتي ساخطاً.
ولبثنا ساعة نمزق أديم هذا الوكيل الشره الجحود الذي يأبى إلا أن يأكل حلواه في مأتم ابن(78/27)
سيده! وأصبح الصباح فاستأنفت ألسنتنا هجوه وذمه. وكنت أشعر بعطف عليه ومرثية له، ولكني لم أكن أستطيع أن أذكر الحقيقة فأحول إلى نفسي كل هذا اللعن الذي ينصب على رأسه. ودنا مني الشاب قريبي الذي كان سبباً في كل هذا، وسألني همساً: (أتعرف حقيقة ما حصل أمس؟)
قلت: (لا. ولا أزال مستغرباً ما كان من هذا الوكيل)
قال: (إنه مظلوم!)
قلت: (يا شيخ! كيف يمكن أن يكون مظلوماً وقد رأيناه بأعيننا؟)
قال: (والله إنه لمظلوم!)
قلت: (ربما يا أخي! العلم عند الله!)
قال: (فينا من يكتم السر؟)
قلت: (لا تخف. إن صدري بئر لا قرار لها)
قال: لقد احتلت حتى جئت بشيء من اللحم والخبز، ولففته في ورقة، وكنت أريد أن أسعد به إلى أختي بالليل، ولكني اصطدمت بالظلام بواحد كان يريد أن يقتلني. . .)
فقلت مستغرباً: (يقتلك؟ لماذا!)
قال: لا شك إن هذا كان قصده، فقد كان همه أن يقبض على عنقي ويضغط، وكان يحرص على الصمت حرصاً شديداً، وعندي دليل آخر: ذلك أنه لم يكد يسمع صوت الوكيل يصيح (مين) حتى اختفى فجأة!)
فسألته: (وما منعك أن تستنجد؟)
قال: (وأفضح نفسي؟ ماذا يقولون عني إذا رأوا معي هذه الأطعمة؟ لقد كان كل همي أن أتخلص وأرتد إلى غرفتي)
قلت: (وكيف خطرت لك هذه الفكرةالسخيفة؟)
قال: (ليست سخيفة. أنها طبيعية، أول ما يخطر للمرء)
قلت: (وهل كان من الضروري أن تجئ بمربى وحلواء؟)
قال: لم أجئ بها. وهذا اللغز الذي يحيرني.)
قلت: فمن أين جاءت إذن؟ الوكيل طبعاً!)(78/28)
قال: (لا أصدق. لقد كان خارجاً من غرفتي لينظر ما الخبر)
قلت: (صحيح. الحق معك)
قال: إذن من أين جاءت؟)
فصحت به: (وهل أنا أعرف؟ ألا يكفي فزعنا بالليل حتى تحطم لي رأسي بالنهار؟)
فاعتذر ومضى عني
وسعى الوكيل بعد أيام يسترضي سيده
والغريب أن قريبي نسي أني وعدته أن أنقذ أخته، ولو تذكر لعرف من أين جاءت المربى والرقاق، ولأدرك أن الذي اشتجر معه في الظلام لم يكن قاتلاً متربصاً، وإنما كان قريبه
إبراهيم عبد القادر المازني(78/29)
الحكم الأدبي
بقلم: السيد محمد نوفل
لا تختلف الآراء وتتشعب المذاهب اختلافها وتشعبها في الآثار الأدبية، فهذا يرضى عن قطعة أدبية يضيق بها الآخر، وذاك يعجب بمعاني قصيدة يراها غيره مرذولة. . . ومن العسير أن ترجع مخالفك في مسألة فنية عن رأيه مادام يستطيع إلى الدفاع عنه سبيلاً. ولا عاب في هذا، إنما العاب في ألا يخلص الناقد للحقيقة في بحثه، ويندفع مع الهوى في رأيه
وليس من شك في أن للوهم أثراً بيناً في الأحكام الأدبية، فالكاتب الذي يرفعه الجد إلى مرتبة الشهرة يستجيد جل الناس ما يصدر عنه، إن جيداً وإن رديئاً، ولا يكادون يستمعون لاعتراض معترض عليه أو لنقد ناقد له، بينما المغمور يلاقي من عنت الناس وإرهاقهم الشيء الكثير. بل ندر أن يخرج الأديب من غمرة المجتمع ويحتل مرقباً بارزاً فيه بغير يد مشهور يقدمه إلى الجمهور بصوته المسموع، بعد أن ينثر عليه درر المدح ويكسوه حلل التقريظ. . ومن أوضح الأمثلة لهذا ما لقيه الكاتب الكبير جولد سمث، فقد ذاق البؤس أعواماً مكث فيها يعرض آثاره الأدبية القيمة والناس يعرضون عنها حتى ألف قصته التمثيلية البارعة (تمسكنت فتمكنت) وصار يقدمها إلى مديري المسارح وهم يرفضونها إلى أن أيده الله بزعيم الأدب في عصره الدكتور جونسون، فعرضها عرضاً جميلاً وأثنى عليها بالذي هي أهله، فكان تمثيلها وإعجاب الجمهور بها واستمرار عرضها أياماً عدة، وبدأ ظهور نجم جولد سمث، وكان هذا رداً قوياً على بعض مشاهير الكتاب السكسونيين الذاهبين إلى أن الإنسان سيد نفسه وليس للمقادير تحكم فيه. . .
ولعل إمام البيان الجاحظ كان يرى هذا الرأي حينما نصح لمن يريد مزاولة الأدب أن يعرض ثمرة عقله على العلماء (في عرض رسائل أو أشعار أو خطب) لمشاهير أهل البيان، فإن رأى الأسماع تصغي له والعيون تحدج إليه، علم أنه ذو موهبة أدبية واستمر في سبيل الأدب وإلا انصرف عنه إلى غيره مما ترتاح له طبيعته، ولا تشق عليه مزاولته. نعم كان الجاحظ يرى أن للوهم تأثيراً في الحكم الأدبي، وإن لم يوفق إلى طريقة سديدة يختبر بها الناشئ في الأدب نفسه، فإن الوهم الذي يصرف العلماء عن الحكم له لخموله هو بعينه الذي سيصرفهم عن الحكم على غيره لشهرته، وكان الأولى أن يرشده الجاحظ إلى(78/30)
هذا الناقد الذي يتجرد من المحاباة وينظر إلى ما يقال لا إلى ما من يقول، ولا يحكم سوى عقله الصائب وخبرته الأدبية
ولكن الجاحظ الذي أخفق في هذا الوضع - وما أقل أن يخفق! - كاد يدلنا على هذا الناقد الذي يصح أن يعتمد عليه، ويركن في الأحكام الأدبية إليه، حينما تعرض لشرح موقف الجمهور في المفاضلة بين بليغين فذكر أن الناس في هذا ثلاثة رجال: رجل يعطى كلامهما من التعظيم والتبجيل على قدر ما لهما في نفسه وموقعهما من قلبه، ورجل يتهم نفسه فيسرف في اتهام من يعظمه خشية أن تكون منزلته عنده قد خدعته في أمره، فالأول يزيد في حقه لما له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته نفسه. أما الذي في استطاعته أن يقدر المعاني حق قدرها ويعطي للأشياء قيمتها الحقيقية فهو العالم الحكيم المعتدل المزاج القوي المنة الوثيق العقدة الذي لا يميل مع يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكثر
ولكن هل العلم وقوة المنة، والتجرد من الوهم كل شيء في الحكم الأدبي؟ أو بعبارة أخرى، هل من تتحقق لهم هذه الصفات تتشابه أحكامهم الأدبية، ولا تتباين آراؤهم الفنية؟
الحق أن هناك عوامل أخرى تعمل في تكوين الحكم الأدبي، وبقدر وجودها كاملة أو منقوصة تكون قوة الأحكام الأدبية وضعفها وهي: -
أولاً: الاستعداد الذاتي - فهناك فضائل في الإنسان يصح اعتبارها مواهب فطرية، كخصب القريحة وصفاء الذهن ودقة النظر ومرونة الطبع. فمن المؤكد أن بعض العقول تستفيد أو يظهر أنها تستفيد في أيامها الأولى أكثر من غيرها، كما يظهر أنها أكثر انتباهاً ويقظة، وأحفظ لما تستفيد من الجزئيات، وأقدر على تكوين كل منها، وعلى حفظها متفرقة كما هي، ثم أقدر على تهيئ نفسها للإجابة على مطالب الوجود الجديدة والحكم على المسائل المستحدثة، وآية أن هذه الصفات فطرية لا اكتسابية هو أنها قد تتهيأ للمتعلم كما قد تتهيأ للأمي، وقد يحظى بها المهمل كما قد يحظى بها المثقف، ولكن لا ننس أن هذا الاستعداد ليس صفة ثابتة كصلابة المعدن مثلاً، بل يعظم بالمران حتى أنه في استطاعة صاحب الاستعداد تقوية استعداده إلى درجة كبيرة تضؤل بجانبها حاله الأولى
ثانيا: النقل بأوسع معانيه - فقل من يستفيد من شعوره وتفكيره الذاتيين، ولكن معظم الناس يستفيد خبرته ممن حوله، وهذا النقل يبتدئ مع الإنسان من يوم ميلاده، حتى أن علماء(78/31)
التربية ذهبوا إلى أن الطفل يتعلم عن طريق حاسة اللمس في أيامه الأولى. ويروي صمول سميلز (أن أماً سألت قساً عن الوقت المناسب لتربية طفلها الذي كان عمره حينئذ أربع سنين فأجابها: (لقد فقدت هذه السنين إن كنت لما تبتدئي في تربيته)
ولكن الواقع أن تربيته قد بدأت بالفعل، وإن توهمت أمه غير ذلك، فالطفل يتعلم بالمحاكاة البسيطة، وهذا التكوين الأولي لخلق الطفل يلازمه طيلة حياته. ومن هنا صح قول ملتون (الطفولة عنوان الرجولة كما أن الصبح عنوان النهار) ويقوى هذا النقل ويعظم بالتربية المدرسية والإطلاع على أحوال الأجيال الغابرة، وتعرف بالآداب الماضية والحاضرة
وهذا العامل مع ما سبقه في تنازع مستمر وتجاذب دائم وهذا التنازع هو الذي يفرق بين الناس، فمنهم ضعيف الاستعداد الذاتي، مستسلم لما ينقل لا يرى رأياً جديداً، ومنهم ناقد لما يختار وقلما يرى رأي غيره، ولا يراه إلا بعد تدقيق وتمحيص. وعامل النقل ظاهر الأثر في الحكم الأدبي، فرأي القارئ في قصيدة مثلاً مرتبط بكيفية معرفته المعاني العرفية المتعددة لكلماتها وتصورها، وبكيفية ائتلاف هذه المعاني في ذهنه، وبالحد التي تضبط إليه خبرته الذاتية العامة المعنى المركب الذي ألفته هذه المعاني الجزئية. وهكذا فما يأتي في ذهن القارئ نتيجة مجموعة مبهمة من التأثيرات الخارجية
ثالثاً: سلامة الفكر أو النزاهة - وهذه الصفة هي التي تجعل الحكم محكماً وتربط بين العقول، أو بعبارة جامعة تجعلنا إنسانيين. وأصدق التعاريف لها هو (تقدير كل الاحتمالات الممكنة، وعدم ترجيح إحداها إلا بمرجح) فأي قصيدة مثلاً تقدم نفسها إلينا على أنها محتملة مقاصد كثيرة، وهذه الاحتمالات ميادين صالحة للمران العقلي، وقد يؤثر بعضها في بعض، وما دامت هذه الاحتمالات تنال نصيباً من عنايتنا فإن أحكامنا تكون نسبية في مأمن من الزلل، ونحن حين نفرض كل الاحتمالات الممكنة نكون أكمل في معنى الإنسانية البعيدة عن التحيز منا حين نستبد بفرض واحد بعينه ثم نلتمس له بالبراهين. ثم الرأي القائم على النزاهة لا يكاد يتسرب إليه الوهن، لأننا قبل الأخذ به نفند ما عداه من الآراء
رابعاً: فهم صاحب الأثر المنقود - وهذا يكون بتعرف خلقه وما فيه من لين وقسوة وقوة وضعف. فأدب القوة ينتجه أديب قوي، وأدب الضعف ينتجه أديب ضعيف، ولا عيب على كل منهما من الناحية الأدبية، فما عيب من يصدر عنه ما يمثل نفسه؟ أما أن يطابق الأدب(78/32)
المثل العليا أو لا يطابقها فهذه مرتبة ثانية
والأمة التي تريد أدباً قوياً، عليها أن تعمل على تكوين أدباء أقوياء، وإلا كانت كمن يتطلب في الماء جذوة نار. . . ثم لا بد مع هذا من قراءة أعظم قدر من بيان الأديب المنقود، حتى يألف الناقد أسلوبه في التفكير وطريقته في الأداء
ولكن لسوء الحظ ينسى الكثيرون هذه العوامل فيتوهمون أنه ليس في الموضوع شيء خارج عن ذات القصيدة الواحدة التي يقرأها القراء فيصورونها صوراً مختلفة، ولكن الحق هو أن اختلافهم بالقياس إلى هذه العوامل هو سبب اختلافهم في كل شيء، حتى تفسير القصيدة وتعيين مدلولات مفرداتها فيه مجال واسع للاختلاف بين القراء تبعاً لاختلاف مؤهلاتهم الخاصة، فمن قرأ كثيراً من شعر شاعر فهم ألفاظه فهماً مخالفاً لفهم من لم يقرأ له أو قرأ قليلا. وهكذا فكيفية فهم القارئ للقصيدة مثلاً يتوقف على استعداده الذاتي وكيفية تلقيه، وكيفية حيازته للمعاني الاجتماعية الموروثة والفرص التي تهيأت له للاستخدام هذه المعاني منسقة، والبيئة التي نشأ فيها وحاكاها، وتنازع استعداده الذاتي والنقل السيطرة على فكره وغلبة أحدهما للآخر، وما يعرف من خلق صاحبها وشعره، ولأن الحكم الأدبي يتوقف على هذا كله كان أكثر الأحكام تعرضاً للزلل وأقربها من الخطأ ووجب على من يتعرض له أن يحذر حذراً تاماً
السيد محمد نوفل بكلية الآداب(78/33)
توماس كارليل
نظره إلى التاريخ
للأستاذ محمود محمود محمد
(ليس التاريخ العام في روحه ومغزاه - تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم - إلا تاريخ عظماء الرجال الذين ظهروا في هذه الدنيا، فقد كانوا أئمة، وكانوا مثلاً وكانوا قدوة لغيرهم، بل كانوا مبدعين لكل ما مارس الإنسان من أعمال، وكل ما حقق من أماني. إن كل ما نراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً إنما هو نتيجة مادية محسوسة، وتحقيق عملي مجسم لكل ما جال في رؤوس أولئك الرجال من أفكار، أولئك الرجال الذين هبطوا إلى هذا الوجود فكان تاريخهم بحق هو لحمة التاريخ وسداه)
بهذه العبارة يفتتح كاريل كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فيلخص لنا نظريته في التاريخ. يرى كارليل أن الفرد هو كل شيء، وأن قادة الشعوب هم خالقوها ومكيفوها، يؤثر الفرد في الجماعة ولا يتأثر بها. والبطولة في نظره تتقمص في فحول الرجال على صور شتى، فالرسول والشاعر والكاتب والمصلح والفيلسوف كل هؤلاء من طينة واحدة، ليس بينهم من خلاف، اللهم إلا في الهيئة التي يكتسون والأسلوب الذي ينتحون (ويصح لنا أن نعتبر هؤلاء الرجال من فصيلة فوق البشر، فصيلة غير آدمية، فكلهم رسول مبعوث إلينا برسالة خاصة من الأبدية المجهولة، من الحقائق الباطنة للأشياء، لا تحجبها عنه أباطيل الناس، وكيف ذلك والحقيقة تسطع على عينيه حتى يكاد ليعشى لنورها. . . الرجل العظيم مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون، وهو جزء من الحقائق الأولية للأشياء) لا تعميه عن واجبه جهالة عصره أو نقص في نفسه؛ هو يرمي إلى الحقيقة الثابتة، إلى الحقيقة الحية. ومن هذا الحق يستمد قوته، والى هذا الحق تصغي الجماهير، رسالته أبدية مثمرة (وأعمال الرجال! خبئها تحت رواسي الجبال، أو في أعشاش البوم، فهي لا تموت ولن تموت)
ويرى كارليل أن الناس مسوقون بطبيعتهم إلى عبادة البطولة (وإن الإعجاب بمن هم أعلى منا إدراكاً لأسمى شعور يتردد في الصدور، وليس روح الوجود وحياة الشعوب وكيان الجماعة الإنسانية إلا خضوعاً للعظماء وعبادة لأفكار العظماء)
وهذا الشعور كامن في الإنسان في كل زمان ومكان حتى في هذا العصر الحديث الذي(78/34)
تحاول فيه الإنسانية أن تتخلص من سلطة الزعماء وتقيم الديمقراطية مكان الديكتاتورية كلما اتسع المجال وأتيحت الفرص
لم يكن كارليل مبتدعاً في الرأي حين رفع البطولة إلى هذا المقام وقدسها هذا التقديس، فقد سبقه إلى ذلك هيجل الفيلسوف الألماني إذ كان يقول: إن وراء كل أمة أو عصر أو مدنية (فكرة) تسيرها. هذه الفكرة هي السمة الكبرى لذلك العصر أو تلك المدنية، منها تتفرع وإليها تنتهي جميع مناحي التفكير من فلسفة أو دين أو فن أو أخلاق. هذه (الفكرة) عند هيجل هي (روح البطولة) عند كارليل. ومن ثم نرى أن كارليل كان أشد وضوحاً وأدق تعبيراً من صاحبه الألماني، وقد أراد أن يزيد وضوحاً ويتخلص من غموض (الفكرة) تماماً، فجسد (روح البطولة) في شخص (البطل) فانتقل بذلك من المعقول إلى المحسوس، ومن الفكرة المجردة إلى الحقيقة الملموسة
ومع ذلك فإن كارليل لم يتخلص من تجريد الفكرة تماماً فإن هذا (البطل)، هذا (الكائن الحي) الذي تتجسد فيه الفكرة هو في ذاته معنى مجرد تتجمع فيه فروع الحياة الشتيتة. البطل في نظر كارليل يمثل المدنية التي يعيش فيها، ورأي البطل نبراس يهتدي به بنو عصره. فلو أردنا معرفة تاريخ عصر من العصور بحثنا عن زعيمه وقائده. ولا يريدنا كارليل في دراسة هذا الزعيم أن ندرس تاريخ حياته ومجراها وإنما واجبنا أن نحلل آراءه ومعتقداته حتى نستطيع أن نفهم مدنية العصر الذي نشأ فيه بمظاهرها المختلفة، لأن المدنية - كما كان يرى - كل لا يتجزأ لها مرمى واحد ومعنى واحد.
وروح البطولة هي رائد التاريخ ومنشأ المدنيات، ومجددة الحياة الإنسانية، وما دامت كذلك منبع كل حركة فلا ينبغي أن نفهم التاريخ إلا عن طريقها وبواسطتها. ليضع علماء الاجتماع ما شاءوا من القواعد والقوانين، وليضع رجال السياسة ما شاءوا من نظم ودساتير، وليفرض علينا المؤرخون ما شاءوا من أسباب تسير هذا العالم، فليس الإنسان بكائن جامد تكيفه قاعدة، ويعبر عنه بقانون، وإنما هو روح حي يفكر ويشعر ويتأثر، يخضع لأفذاذ الرجال كلما ظهروا برغم كل قانون
وأحسن مثال يتمثل فيه بكل جلاء، نظر كارليل للتاريخ كتابه عن (كرومويل). أراد كارليل أن يؤرخ البيورتيانية، فكتب عن كرومويل زعيمها الأكبر، وحامل لوائها تاريخاً مفصلاً(78/35)
حين تقرأه تسمع كلمات الرجل ونبرات صوته وتتخيل صورته ورسمه. يعرض عليك المؤلف صورة واضحة يضعها أمام ناظريك لتبلغ من قرارة نفسك بقدر ما فيها من قوة وتأثير، ولا يفرض عليك رأيناً بعينه ولا فكرة بذاتها، يعرض عليك الحقيقة مجردة من غير تعليق، فلا ترى المؤلف ولا أثراً من نفسه، كان البيورتان يتطلعون إلى إنشاء حكومة على دينهم ومبادئهم فوجدوا في كرومويل الرجل الذي تتجسد فيه ميولهم وأهواءهم، فوضعوه على رأس حكومتهم ورضوا به حاكماً مستبداً، ذلك لأن كرومويل بطل تتمثل فيه آراء جيل كامل وأمة بأسرها
كان كارليل يرى في كرومويل مثلاً للبطولة الحق، وينظر إلى الثورة الإنجليزية التي قام بها نظرة الإعجاب، لأنها كانت تقوم على أساس ديني متين، ولكنا نجده في كتابه عن (الثورة الفرنسية) لا ينظر بعين الرضا إلى هذه الثورة لأنها لم تخضع لزعيم واحد يمثلها ويسير بها إلى الأمام، كما أن فلسفتها كانت في صميمها غير دينية، اندفع فيها الفرنسيون وراء غرائزهم الوحشية وعملوا على إشباع شهواتهم البهيمية وإحلال الفوضى محل النظام
وظاهر أن كارليل لم يكن عادلاً في حكمه هذا. نعم كان في الثورة الفرنسية الكثير من الوحشية والهمجية، ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن فيها خيراً كثيراً، وإنها وإن تكن ثورة غير دينية إلا أن الفلسفة التي كيفتها تنطوي على كثير من المبادئ القديمة، وإذا كانت الثورة الإنجليزية قد خدمت إنجلترا فإن الثورة الفرنسية قد خدمت العالم أجمع، وما تزال تخدمه إلى يومنا هذا
وكما انقلب كارليل على الثورة الفرنسية لخروجها عن الدين، فهو كذلك ثائر على إنجلترا الحديثة لإهمالها هذا الجانب الهام في حياتها العامة، ثائر على هذه الديمقراطية الواسعة التي تفسح المجال لكل من هب ودب ليكون ذا رأي محترم وقول مسموع، وليس من سبيل إلى خلاص البلاد إلا بعد أن تسلم زمام أمورها لزعمائها غير منازعين
وهنا نقف عند هذا الحد من بسط آراء كارليل في البطولة وأثرها في التاريخ ونسائل أنفسنا: هل كان كارليل مصيباً حينما رفع أفذاذ الرجال إلى هذا الحد من القوة وهذه المكانة من التقديس؟
إن من يتصفح تاريخ الحياة وتقدمها يرى أن الإنسانية في كل عصورها تنقسم إلى(78/36)
شطرين: رعية كبيرة وطائفة قليلة من الرعاة، تدق هذه الرعية أمامها، هؤلاء الرعاة هم أدوات التقدم الإنساني وهم عظماء الرجال الذين يمثلون الآداب والآراء التي هي على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها بمثابة ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية، أي أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر من أن تكون أثراً من آثار الفرد الذي رآها ونشرها بين الناس. وإذا كان الأمر كذلك فليس من الحق في شيء أن ننسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء والفلسفة، ونقصر عنايتنا على الفرد الذي كان مظهراً لهذه الآداب وتلك الآراء فنمحو الجماعة محواً ونهملهاً إهمالاً، إذ الفرد لم ينشئ نفسه وإنما الجماعة كلها متعاونة متظافرة على تنشيئه وتربية عقله وجسمه وشعوره، فهو صورة منها وظاهرة من ظواهرها. الفرد مدين بلغته ودينه وخلقه إلى الجماعة، إذن فليس من البحث العلمي القيم في شيء أن نقدس الأفراد كل هذا التقديس ونحتقر الجماعة كل هذا الاحتقار. وأنا لو صورنا لأنفسنا طائفة من أواسط الناس متوسطي الذكاء ليس لهم مواهب خاصة ولا عقلية ممتازة فد رحلوا إلى جزيرة جرداء ليس فيها من أثر من آثار المدنية ولا عمل من أعمال الإنسان أدركنا بسهولة كيف يظهر بينهم المخترع والفيلسوف والسياسي والقائد، ولا يلبثون أن يعيدوا في خلال جيل أو جيلين تاريخ التقدم الإنساني كله، ويصبح هؤلاء الأوساط صورة مصغرة من نيوتن ووطسن وكرومويل ونابليون وغيرهم، لأنهم في حياتهم الأولى كانت تعوزهم الفرصة التي أتاحتها لهم الجزيرة الجرداء، فظهرت عبقرياتهم بعد كان مقضياً عليها بالموت والفناء
ويتبين لنا من هذا أن الإنسانية لا تتقدم بظهور الرجال، وإنما يظهر الرجال لأنها تريد أن تتقدم، وفي علم الحياة نظرية ثابتة تقول أن الوظيفة تخلق العضو ولا يخلق العضو الوظيفة، فالإنسان لا يمشي لأن له قدمين، وإنما له قدمان لأنه أراد أن يمشي، ولا ينظر لأن له عينين، ولكنه ذو عينين لأنه أراد أن ينظر
ومن يتدبر التاريخ ير أن الإنسانية تعتريها فترات من الجمود تعقبها النهضات التي تظهر فيها الشخصيات البارزة، ولا تعلل هذه الظاهرة إلا بأن الظروف الاجتماعية والزمنية في فترات الجمود تخالف مثيلاتها في فترات النهضات، فالأولى لا تدعو إلى ظهور الرجال بينما الثانية تتطلب الرجال العاملين وتخلقهم خلقاً فإذا صح لنا أن نقول أن النهضة أوجدت(78/37)
أبطالاً لا يصح أن نقول أن الأبطال أوجدوا النهضة
ولكن كارليل أراد أن ينزههم عن البشرية ويرفعهم إلى مصاف الآلهة.
محمود محمود محمد(78/38)
6 - محاورات أفلاطون
الحوار الثاني
كريتون أو واجب المواطن
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أشخاص الحوار: سقراط. كريتون
مكان الحوار: سجن سقراط
سقراط - ما الذي أتى بك الساعة يا كريتون؟ إنها الآن جد باكرة
كريتون - بلى إنها لكذلك
سقراط - كم هي على التحديد؟
كريتون - الفجر في البزوغ
سقراط - عجيب أن يأذن لك الحارس بالدخول
كريتون - إنه يعرفني يا سقراط لأنني جئت مراراً، ولأنني فوق ذلك ذو فضل عليه
سقراط - أجئت الآن تواً؟
كريتون - كلا بل جئت منذ حين
سقراط - إذن فما الذي أجلسك صامتاً، وكان أخلق بك أن توقظني على الفور؟
كريتون - حقاً يا سقراط إني لم أكن لأرضى لنفسي كل هذا الغم والأرق، ولكني أخذت بالعجب أن رأيتك في نعاس هادئ، فلم أرد لهذا أن أوقظك، وآثرت لك أن تظل بعيداً عن الأسى، لقد عرفتك دائماً سعيداً بما لك من مزاج هادئ، ولكني لم أر الدهر ضريباً لك في احتمالك لهذا المصاب مستخفاً باسماً
سقراط - إن الإنسان يا كريتون إذا عمر ما عمرت فلا ينبغي له أن يجزع من شبح الموت
كريتون - ولكن سواك من الكهول، إذا ما نزلت بهم أشباه هذه الكوارث لا يمنعهم الهرم من الجزع
سقراط - قد يكون ذاك، ولكن هلا حدثتني عما أتى بك في هذه الساعة الباكرة؟
كريتون - أتيت أحمل نبأ مؤلماً يبعث على الشجن، لا بالنسبة إليك فيما أظن، بل بالنسبة(78/39)
لنا جميعاً - نحن أصدقاءك - وهو عندي أبلغ ما يكون إيلاماً
سقراط - ماذا؟ أحسب أن قد عادت السفينة من ديلوس ووصولها بنذير بموتي؟
كريتون - كلا لم تبلغنا السفينة بعد، ولكنها ربما وصلت اليوم، فقد انبأني أناس جاءوا من صونيوم، أنهم خلفوها هناك، إذن فآخر يوم من حياتك يا سقراط هو الغد
سقراط - مرحى يا كريتون، إن كانت هذه إرادة الله فمرحباً بها، ولكني أعتقد أن سيؤجل الأمر يوماً آخر
كريتون - ومن أنبأك هذا؟
سقراط - هاك الخبر. إني بالغ أجلي في اليوم التالي لوصول السفينة
كريتون - نعم، وهذا ما يرويه أولو الأمر
سقراط - ولكني لا أظن أن السفينة بالغتنا إلا غداً. عرفت ذلك من رؤيا رأيتها ليلة أمس. بل كنت أراها الآن تواً، حين تركتني - لحسن حظي - نائماً
كريتون - وكيف كانت رؤياك تلك؟
سقراط - جاءتني شبيهة امرأة جميلة وسيمة، تدثرت بثوب أبيض، وصاحب بي قائلة: يا سقراط، إنك ذاهب إلى أخراك في اليوم الثالث عداً من الآن
كريتون - ما أعجبه من حلم يا سقراط!
سقراط - معناه ظاهر يا كريتون، وليس فيه مجال للريب
كريتون - نعم إنه جلي غاية الجلاء، ولكن، أواه! يا عزيزي سقراط، دعني أتوسل إليك مرة أخرى، أن تأخذ بنصحي فتعمد إلى الهروب، لأنك إذا مت فلن أفقد فيك صديقاً فريداً وكفى، ولكن ثمة فوق ذلك شراً: سيزعم من لا يعرفك ولا يعرفني من الناس أني كنت أستطيع لك النجاة لو أنني رغبت في بذل المال، ولكنني لم أعبأ بك، أفيمكن أن يكون بعد هذا العار عاراً - أن يقال أني آثرت المال على حياة صديق؟ وهيهات أن يقتنع الدهماء بأني أردتك على الفرار فرفضت
سقراط - وفيم العناية بحديث الدهماء، يا عزيزي كريتون؟ سترى الفئة الصالحة في ذلك رأياً صواباً يطابق ما وقع، وهي وحدها جديرة بالاعتبار
كريتون - ولكنك ترى يا سقراط أن رأي الدهماء لا بد من اعتباره وذلك ظاهر في قضيتك(78/40)
أنت، ففي مقدورهم أن ينزلوا أفدح المحن بمن لم يظفر عندهم بالرضا كائناً من كان
سقراط - ليتهم يستطيعون ذلك يا كريتون فذلك كل ما أرجوه، إذ لو استطاعوا لكان كذلك في وسعهم أن يفعلوا أعظم الخير. فيكون ذلك منهم جميلاً. ولكنهم في حقيقة الأمر عاجزون عن فعل الخير والشر على السواء، وليس في مقدورهم أن يصيروا الرجل حكيماً أو فدماً، وكل أفعالهم وليدة المصادفة
كريتون - نعم ولست منازعك في ذاك، ولكن هلا تفضلت فأنبأتني يا سقراط - إن كنت لا تغض النظر عني وعن سائر أصدقائك فيما تصرف من الأمر -: ألست تخشى أنك إن فررت من هذا المكان فقد يصيبنا النمامون بالضر بسبب اختطافك، وإنا قد نفقد أملاكنا كلها أو جلها، أو قد ينزل بنا من الشر ما هو أشد من ذلك هولاً؟ فليطمئن قلبك إن كان ذلك ما تخشاه، فواجب حتم علينا أن نخاطر بهذا، وبما هو أعظم من هذا في سبيل نجاتك، فاقتنع إذن بما أقول، وافعل بما أشير
سقراط - نعم يا كريتون، وليس هذا الذي ذكرته كل ما أخشى، وإن يكن جانباً منه
كريتون - لا تخف. إن هناك نفراً يود لو ينجيك فينتزعك من غيابة السجن، ولن يكلفهم ذلك شططاً، أما النمامون فهم كما ترى لا يشتطون في الطلب، ويقنعهم من المال قليله. إن مالي بأسره رهن إشارتك، وهو كاف فيما أعتقد، فإن أشفقت أن ينفد كله، فهاهم أولاء نفر من الغرباء يمدونك بما يملكون، وهذا أحدهم سيماس الطيبي قد أحضر معه لهذا الغرض نفسه مبلغاً من المال. وذلك سيبس وغيره كثيرون، يتمنون أن يبذلوا في سبيلك أموالهم، إذن فلا تحسب لذلك حساباً، ولا تتردد في سبيل تنفيذ القرار. ولا تقل كما قلت في المحكمة أنك لا تدري ماذا عساك أن تفعل بنفسك إن فررت، فأنى حللت نزلت من الناس منزلاً كريماً، وليس ذلك قاصراً على أثينا، فثمة في تساليا ستجد من أصدقائي حماية وتقديراً إن أحببت الذهاب إليهم، ولن تصادف بين بني تساليا جميعاً فرداً يصيبك بالأذى، ولست أرى بعد هذا كله ما يبرر لك يا سقراط أن تفرط في حياتك، والنجاة ميسورة مستطاعة. إنك لتلعب بنفسك في أيدي أعدائك وقاتليك، بل إني لأزعم فوق هذا أنك إنما تسيء إلى أبنائك، لأنك آثرت أن ترتحل تاركهم لما قسمت لهم حظوظهم وكان في وسعك أن تقوم بنفسك على تنشيئهم وتربيتهم، فإن لم يصبهم ما يصب اليتامى عادة من قضاء، لما استحققت(78/41)
عندهم من الشكر إلا قليلاً، فليس للإنسان أن يقذف في العالم بأطفال لا يحب أن يستميت حتى النهاية في إطعامهم وتربيتهم، ولكنك تختار أيسر الأمرين، فيما أظن، لا أحسن الأمرين وألصقهما بالرجولة، وكان ذلك أجدر برجل مثلك يبشر بالفضيلة في أفعاله جميعاً. حقاً إني لأستحي منك بل من أنفسنا نحن أصدقائك، كلما دار بخلدي أن قصتك هذه جميعاً، ستنسب إلى نقص في بسالتنا، فما كان ينبغي أن تكون المحاكمة، أو يكن يجب أن تختم بغير ما ختمت به، وهذه النهاية التي أراها أسوأ العبث، ستبدو للناس كأنما صادفت منا ارتياحاً، لما أبديناه من ضعة وخور، نحن الذين كان بوسعنا أن ننجو بك، كما كان بوسعك أن تنجو بنفسك، لو كنا نملك لأي شيء نفعاً (إذ لم يكن الفرار أمراً عسيراً) وسيُظن يا سقراط أنا لم نقدر أن ذلك كله سينقلب علينا وعليك بؤساً وعاراً، ففكر إذن في الأمر إن لم تكن قد اعتزمت بعد شيئاً، فقد انقضت فرصة التفكير ولم يعد لديك إلا أمر واحد يجب إنجازه هذا المساء، لو كنت تريد له إنجازاً، فإن أرجأت أمرك تعذر واستحال، وعلى ذلك فأنا أتوسل إليك يا سقراط أن تسلس لي القياد وأن تفعل بما أشير
سقراط - أي عزيزي كريتون! ما أعز حماسك وما أنفسه، لو كان في جانب الحق، أما إن كان للباطل فكلما ازداد الحماس اشتعالاً ازداد الأمر سوءاً، فلننظر إذن إن كانت هذه الأعمال واجبة الأداء أم ليست كذلك، فقد كنت دائماً، وما أزال، من تلك الطبائع التي تلتزم دليل العقل، كائناً ما كان رأيه، ما دام يبدو عند التفكير أنه الرأي الأمثل. أما وقد أصابتني هذه المحنة فلا يسعني أن أهمل الآن ما ارتأيته قبلاً، فما زالت مبادئي التي طالما أجللتها وقدستها؛ تنزل عندي منازل الإجلال والتقديس. فثق أني لن أظاهرك في الرأي، اللهم إلا إذا اهتدينا الآن إلى مبدأ يكون خيراً منها. نعم، لن أصغي إليك حتى ولو زادني الدهماء حبساً ومصادرة وموتاً، ملقين في نفوسنا من أراجيف الشياطين المفزعة ما نرهص به الأطفال، فأي سبل التفكير أهدى إلى بحث هذا الموضوع؟ أعوْداً إلى رأيك الذي سقته من قبل عما يقول الناس عنا، وبعضه يستحق الاعتبار دون بعض كما سبق لنا القول؟ أكنا نصيب لو أننا أخذنا برأيك (وهو أن يقام وزن لما يقول الناس) قبل الحكم بالإدانة؟ أم هل ينقلب الرأي الذي كان صائباً حيناً ما، كلاماً لمجرد الكلام، ويتبين أنه لم يكن في الواقع إلا عبثاً اتخذ سبيلاً للتسلية واللهو؟ أبحث معي هذا يا كريتون: أترى أنه لم يعد منطقي الذي(78/42)
اتخذته أولاً يلائم على أية حالة ما يكتنفني الآن من ظروف، أم لست ترى الأمر كذلك؟ ثم هل هو حقيق عندي بالرفض أم بالقبول؟ إن كثيراً ممن يزعمون لأنفسهم رجاحة الرأي يذهبون فيما أعتقد إلى هذا الذي أشرت إليه من قبل، وهو أن من الناس بعضاً يجدر بآرائهم الاعتبار، وأما بعضهم الآخر فلا يصح أن يؤبه له. وإنك يا كريتون لست مقبلاً غداً على موت، أو ليس هناك احتمال بشري بهذا على الأقل، فأنت إذن حكم صالح، لا يؤثر فيك الهوى ولا تميل بك ظروفك وموقفك عن جادة الحق. حدثني إذن: ألست مصيباً فيما أزعم، بألا نقدر من آراء الناس إلا بعضها فقط؟ لقد أخذت بهذا الرأي، وأنا أسألك هلا تراني قد أصبت فيما ارتأيت؟
كريتون - ليس في ذلك ريب
سقراط - ألا يجب أن نحفل بما يقوله أبرار الناس دون شرارهم؟
كريتون - بلى
سقراط - وما يرى الحكماء فهو خير، وما يرى غير الحكماء فهو شر
كريتون - لا شك في ذلك
سقراط - لننظر ما قيل في غير هذا الموضوع، هل يطلب إلى طالب التمرينات البدنية أن يصغي إلى القدح والثناء، والى رأي كل إنسان فيه، أم يجب أن يستمع إلى رأي رجل واحد فقط - هو طبيبه أو مدربه كائناً من كان؟
كريتون - إنه يستمع إلى رأي رجل واحد فحسب
سقراط - أينبغي أن يخاف اللوم وأن يرحب بالثناء يوجهه ذلك الرجل وحده، وألا يأبه للوم الناس ومدحهم؟
كريتون - بدهي ما تقول
سقراط - ويجب أن يعيش ويدرب، وأن يأكل ويشرب، على نحو ما يبدو صالحاً لذلك المعلم الأوحد، وهو عليم بأمره، فذلك أجدى من السير تبعاً لما يراه سوى معلمه من الناس ولو كانوا أجمعين؟
كريتون - هذا حق
(يتبع)(78/43)
زكي نجيب محمود(78/44)
زواج الشاعر
للأديب حسين شوقي
(س) شاعر شاب تزوج منذ عام بزوجة من الريف لأنه كان يريد فتاة ساذجة طاهرة الجسم والعقل - وذلك ما يندر في المدن الكبرى - يستطيع أن يصوغها على ما يلائم ذوقه الفني، وما يتفق ومثله العليا. . .
عاد (س) بالفعل من الريف بالزوجة المنشودة، إلا أنه وجد من الصعوبة في تكوينها ما وجده آباؤنا في نحت الجرانيت؛ لأن الفتاة كانت ساذجة جداً. . . ثم وجد مع الأسف أنها أقل عاطفة من فتيات المدن وهي بنت الريف التي نشأت وترعرعت بين الحدائق والزهور. . فإن حب الفتاة لشاعرنا كان حباً ضئيلاً جداً إذا قيس بحبه لها، لأن الشاعر احتفظ بطهارة قلبه طوال شبابه من أجل هذا اليوم المشهود (مع استثناء بعض جولات في الغزل البريء) فكان ما به من احتياطي الحب قد يعادل ما في خزائن بنك فرنسا من احتياطي الذهب. . . أما قلب الفتاة فكان أشبه بجليد (الأسكيمو). . .
ولما كان (س) شديد الإحساس كمقياس الحرارة، فإن كان يتألم من الحركات والإشارات غير الموفقة التي كانت تأتيها زوجته كي تغطي حبها الضئيل له. . . ولشد ما كان الشاعر شديد الإشفاق عليها من أجل هذا. .!
انقضى عام على زواج الشاعر، فخرج بهذه المناسبة إلى الخلاء يشكو همه إلى الأطيار والأزهار، أصدقاء الشاعر الحقيقيين. . .
جلس الشاعر هناك على بساط من الخضرة، ثم أخذ يستعيد في ذاكرته حياته الزوجية خلال العام المنصرم، فأحس من جراء ذلك بهم شديد وحزن بالغ. . . فكم من حوادث محزنة وقعت خلال تلك السنة!
إنه ما زال يذكر مع الأسف والحسرة تلك الليلة التي أتفق فيها الزوجان على الذهاب إلى المسرح ليشهدا رواية مشهورة. . إلا أن الزوج مرض في اللحظة الأخيرة، فقال عندئذ من باب المجاملة لزوجه، وقد ظن أنها ستبقى بجانبه لتمريضه وتسليته: إذا شئت فاذهبي أنت يا عزيزتي إلى المسرح. . سأطلب م. . (صديق للشاعر) في التليفون ليأتي فيصطحبك. . ولشد ما كانت خيبة أمله كبيرة حينما أجابته: حسن. . سأذهب مع م. . بعد أن أقيس(78/45)
حرارتك لأطمئن عليك! أرادت الزوجة بقولها هذا أن تظهر اهتمامها بجسمه. . . ولكن هل فكرت في قلب الشاعر المسكين؟
وفي ليلة أخرى ذهب الزوجان إلى حفلة رقص. . . فلما عزفت الموسيقى بلحن (الدانوب الأزرق الجميل) الذي كان الشاعر يحبه حباً جماً، ذهب من فوره إلى حيث كانت تجلس زوجه ليطلب منها أن ترقص معه هذا الدور، فاعتذرت إليه لارتباطها بوعد سابق! مع علمها بحب زوجها الشديد لهذا اللحن. . . وكان قد أهدى إليها قبل الذهاب إلى الحفلة وردة بيضاء حلت بها صدرها. . . فافتقدها أثناء الحفلة فلم يجدها على صدرها، فسأل عنها وقد ظن أنها سقطت منها أثناء الرقص، إلا أنها أجابته بكل سذاجة: الوردة؟ إن صديقتي البارونة ل. . أظهرت إعجابها بها فأعطيتها إياها! كاد الشاعر يموت في تلك الليلة من الغم. . .
وفي مرة أخرى سافرت زوجته إلى الريف تعود أمها وكانت مريضة مرضاً خطيراً. . ومكثت هناك أسبوعين لم ترسل خلالهما إلا كتابين قد احتويا على عواطف تشبه تلك العواطف الأنموذجية الموجودة في كتب (برليتز) للتمرين والترجمة!. . وفي يوم عودتها من الريف، بدلاً من أن تقضي السهرة على انفراد مع زوجها بعد تلك الغيبة، دعت بعض الأصدقاء إلى السينما لمشاهدة الممثلة جريتا جاربو في فلمها الأخير
بينما كان الشاعر يعيد هذه الحوادث في مخيلته إذ به يسمع تغريد عصافير على الشجرة، فرفع إلى الشجرة نظره، فإذا به يبصر عصفورين على غصن، متعانقين في شوق وحنان، عندئذ سقطت دمعة كبيرة على خد الشاعر، ثم نظر في ساعته فوجد أنه قد تأخر في نزهته، فبادر بالعودة إلى المنزل، لأن زوجه كانت قد دعت بعض الأصدقاء للاحتفاء بمرور عام على زواجهما السعيد!
كرمة ابن هابي
حسين شوقي(78/46)
من الأدب الأندلسي
4 - التوابع والزوابع
بقلم: محمد فهمي عبد اللطيف
أتينا في المقال السابق على آراء ابن شهيد في شخصية الأديب، وقلنا أنها آراء صائبة لم يسبقه إليها أحد في العربية، ونريد في هذا المقال أن نستجلي آراءه في الآثار الأدبية، فنتعرف المظاهر التي اعتبرها مسباراً لبراعة الأديب الفنية، واتخذها مقياساً لقوته في الصناعة، وقد اعتبر ابن شهيد لذلك عدة مظاهر دل عليها في مواضع متفرقة من (التوابع والزوابع)؛ وأول ما دل عليه من هذه المظاهر: المعنى السامي البديع، يختال في اللفظ المشرق السمح. فالأديب عند ابن شهيد لا يبلغ الشأو ولا يستحق اسم الصناعة إلا (بتعمد كرام المعاني، وتقحم بحور البيان. . . فيمتطي الفصل، ويركب الحد، ويطلب النادرة السائرة، وينظم من الحكمة ما يبقى بعد موته) ولعل من المعلوم أن قضية (اللفظ والمعنى) كانت من القضايا التي طال فيها جدال النقاد المشارقة، واختلفوا في الأخذ بها بعضاً وكلاً، فاعتبر بعضهم اللفظ وحده مظهراً لبراعة الأديب وقوته، ذلك لأن المعاني مطروحة أمام الناس، فالبليغ من أجاد صياغتها، وأحسن سبكها. واعتبر الآخرون المعنى فحسب، فالأديب لا يفضل الأديب ولا يفوقه إلا بجدة أفكاره وغزارة معانيه، ثم استقر الرأي على الجمع بين شقي القضية، فأصبحت براعة الأديب تستجلي في ألفاظه ومعانيه، وأصبح الأديب لا يبلغ منتهى البراعة والقوة (إلا بتعمد كرائم المعاني وتقحم بحور البيان) كما يقول ابن شهيد
وابن شهيد يحب الازدواج في الكلام، ويرغب في المماثلة والمقابلة، ولكنه يكره التزام السجع، ويراه أفناً لا يليق بفارس البيان، ومن العجيب أنه مع ذلك كان يلتزم السجع كثيراً في أسلوبه، وكأن الرجل قد توقع الاعتراض عليه من هذه الناحية، فأراد أن يعتذر عن نفسه، فزعم أنه التقى بعتبة بن أرقم شيطان الجاحظ فشهد له بأنه خطيب وحائك للكلام مجيد، ولكن لامه على غرامه بالسجع، فقال ابن شهيد يرد عليه: (ليس هذا - أعزك الله - جهلاً مني بأفن السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكني عدمت ببلدي فرسان الكلام. . .) ثم ينطلق في الانتقاص من معاصريه فيزعم أنهم لغباوتهم لا يفقهون الازدواج ويكبرون من قيمة السجع، فاضطر أن يسجع حتى يحرك من نفوسهم، ويلج بكلامه إلى(78/47)
قلوبهم، فيقول عتبة: إنا لله، ذهبت العرب وكلامها، ارمهم بسجع الكهان فعسى أن ينفعك عندهم، ويطير لك ذكر فيهم. وهذه معذرة إن صحت لا نقبلها من ابن شهيد، فليس من حسن الرأي أن ينحرف الكاتب عن طريقة يراها سديدة إلى أخرى مستهجنة ليظفر بالرضى من بعض الناس، وإنما الكاتب العبقري هو الذي ينتهج طريقه ويدع الأذهان تتبصر مسلكه؛ وتتبين خطواته فتترسم سيره، وتأخذ أخذه. . .
ولكن ابن شهيد يعود فيستدرك على قضية (اللفظ والمعنى) مظهراً آخر من مظاهر البلاغة، فيرى أن هناك (صوراً من الكلام تملأ القلوب وتشغف النفوس، فإذا فتشت لحسنها أصلاً لم تجده، وللجمال تركيبها وجهاً لم تعرفه، وهذا هو الغريب أن يتركب الحسن من غير حسن. . . وكذلك كقول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي
فهذه الديباجة إذاتطلبت لها أصلاً من غريب معنى لم تجده!! ولكن لها من التعلق بالنفس والاستيلاء على القلب ما ترى. .)
وهذا كلام حمله ابن شهيد على ما اشترطه في شخصية الكاتب من قوة الطبع وصفاء الروح كما سبق بيانه، ومعنى هذا الكلام أنك إذا تأملت بعض الصور الكلامية الرائعة لا تجد لروعتها أصلاً من جزالة اللفظ أو طرافة المعنى، بل قد تكون سهلة التناول قريبة الغور، ولكن روعتها ترجع إلى ما يكمن فيها من القوة الروحية للكاتب، وأكثر ما تتجلى هذه القوة في كلام الله (حين يتحدث ذو الجلال عن ذاته وصفاته. وقدرته وقوته، وجلاله وعزته، ولطفه ورحمته، وناره وجنته، ووعده ووعيده، وإنذاره وإعذاره، وقد كان لهذه القوة الرائعة الأثر الأقوى في رياضة العرب واجتذاب نفوسها نحو الإسلام، وهي التي كانوا يشعرون بوقعها من غير أن يعلموا كنهها). ومن العجيب أنك تقرأ الأبيات من الشعر العالي أو النثر البديع فتشعر بهذه القوة رائعة ظاهرة تكسو الكلام جلالاً وجمالاً، فتحاول أن تعبر عنها كما يجب فتجد نفسك عاجزاً مقصراً، ذلك لأن قوة الكلام لا ترجع في هذه الحال إلى الألفاظ والمعاني، وإنما هي ترجع إلى ما فيه من القوة الروحية، وقد أخذ بعض الكتاب المعاصرين هذه الفكرة عن ابن شهيد، وتبناها لنفسه، وادعى أنها انحدرت من عقله إلى قلمه، وهاجم بها الباقلاني في أقواله في إعجاز القرآن، وجادل بها الكتاب والنقاد الذي(78/48)
تصدوا للرد عليه!!
وثمت مظهر آخر من مظاهر القوة والبراعة عند الأديب في رأي ابن شهيد، وهذا المظهر هو التفنن في توجيه الخطاب بحيث يكون على وفق أقدار المخاطبين، والتصرف في إيراد القول بحيث يكون من السهولة أو القوة على حسب ما يقتضيه المقام، وقد ذكر ابن شهيد هذه المسألة وهو يشرح ما كان يقع له مع الشاحذين في قرطبة، وكيف كان يعينهم بشعره على نيل مآربهم، فقال: (وربما لاذ بنا المستطعم باسم الشعر، ممن يخبط العامة والخاصة بسؤاله، فيصادف منا حالاً لا تتسع له في كبيرة مبرة، فنشاركه ونعتذر له، وربما أفدناه بأبيات يتعمد بها البقالين ومشايخ القصابين، فإذا قارفت أسماعهم، ومازجت أفهامهم، در حلبهم، وانحلت عقدهم، وجل شخص ذلك البائس في عيونهم، فما شئت إذ ذاك من خبزة وثيرة يحشى بها كمه، ورقبة سمينة تدس في مخلاته، وتينة رطبة يسد بها حلقومه. . فلا يكاد البائس يستتم ذلك حتى يأتينا فيكب على أيدينا يقبلها، وأطرافنا يمسحها، راغباً في أن نكشف له السر الذي حرك العامة فبذلت ما عندها له، وبادرت برفدها إليه. وتعليمه ذلك النحو من الشحذ لا نستطيعه، لأن هذا الذي يريد من هو تعليمه البيان، وبين فكره وبينه حجاب!! ولكل ضرب من الناس ضرب من الكلام ووجه من البيان. .)
وقد سبق أبو هلال العسكري ابن شهيد إلى تقرير هذه الحقيقة بعبارة أصرح وأوضح فقال في كتابه الصناعتين: (وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينها وبين أقدار الحالات فتجعل لكل طبقة كلاماً، ولكل حال مقاماً، حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات، واعلم أن المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال. . . فإن كنت متكلماً أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد، فتخط ألفاظ المتكلمين، مثل الجسم والعرض واللون والتأليف، والجوهر، فإن ذلك هجنة. وكذلك كن أيضاً إذاكنت كاتباً)
ولعل بشار بن برد كان أول من دل على هذه الظاهر واستعملها في شعر من حيث كان الناس يعيبونها بها، فقد جاء في الأغاني بسنده أن بعضهم قال: قلت لبشار إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت! قال وما ذاك؟ قلت بينا تقول شعراً يثير النقع وتخلع به القلوب مثل قولك(78/49)
إذا ما غضبنا غصبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دماً
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
تقول:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال بشار: لكل وجه، وموضع الأول جد، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع لي البيض، فهذا عندها أحسن من (قفا نبك. . .) عندك
وصدق بشار فيما قال، فإن البليغ هو من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني، وقد تكون هناك مواقف للقول يطلب فيها الأسفاف، ويحلو فيها التبذل، فيكون بأقل في عيه وفهاهته، أفصح من سحبان في تشدقه ورغائه، ويقيني لو أن بشاراً توجه في الخطاب إلى جاريته بلغته في الفخر والحماسة، لدل على الحماقة في طبعه، والسقم في ذوقه، وربما ظنت هذه الجارية أنه يشتمها، فكانت تمنعه بيض دجاجها، وتحتم عليه أن يشتري البيض من السوق، فلا يفيده تقعره، ولا ينفعه شعره، فمن القصور أن يلتزم الشاعر أو الكاتب نمطاً واحداً في التعبير لا يتعداه، فيكون في جده كهزله، ومن الهذيان أن يتعنت في توجيه الخطاب، فيكون في كلامه إلى أهل الثقافة والمعرفة كما هو في كلامه إلى ذوي الفهاهة والعي، وإنما الطبع القوي هو الذي يواتي صاحبه في كل طريق يسلكه، والذوق السليم هو الذي يقضي عليه بتوجيه الخطاب إلى مقتضى الحال، حتى يستطيع من وراء ذلك أن ينال غرضه عند المخاطب، وأن يصل إلى قرارة نفسه في يسر وسهولة، فلو انتهج الأدباء هذه الخطة التي أوضحها ابن شهيد، ولو علموا أن لكل ضرب من الناس ضرباً من الكلام، ووجهاً من البيان، لأمكنهم أن يغزوا نفوس الناس على اختلاف طبقاتهم بأفكارهم وأساليبهم، وأن يخلقوا الإحساس الفني في نفوس الجمهور على مر الزمن
محمد فهمي عبد اللطيف(78/50)
4 - بين القاهرة وطوس
طهران
للدكتور عبد الوهاب عزام
استرحنا بقية اليوم وزرنا بالليل دار المفوضية المصرية، ومر وزير المعارف فترك بطاقاته للمندوبين، ووزع عليهم منهاج المؤتمر وأوراق أخرى فيها دعوات إلى حفلات كثيرة، وعرفنا من المنهاج أن أيام المؤتمر والحفلات خمسة عشر يوماً من الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة 1353 (3 أكتوبر سنة 1934 - 12 مهرماه سنة 1313) إلى يوم الجمعة عاشر رجب. ومن ذلك ستة أيام في طهران، وثلاثة في مشهد، وستة في الطريق بين مشهد وطهران ذهاباً وأوبة. وقد سجل في بيان أعضاء المؤتمر اثنان وأربعون من ممثلي الأمم المختلفة، ومثلهم من الإيرانيين. ومندوبو الأمم يمثلون ثماني عشر أمة بينها من أمم الشرق: مصر والعراق وتركيا وأفغانستان والهند واليابان
وفي اليوم التالي بدئت أعمال المؤتمر بمدرسة دار المعلمين في بهو فسيح صفت فيه مقاعد كثيرة، صفوفها الأولى لأعضاء المؤتمر والأخرى للحضار من غيرهم. ووضع في صدر المكان تمثال للفردوسي، ومنصة الرياسة، ومنصة الخطابة، واستمر اجتماع المؤتمر خمسة أيام. وكان الموعد من الساعة التاسعة صباحاً إلى الواحدة بعد الظهر. وزيدت جلستان في مساء اليومين الثالث والرابع لكثرة مريدي الكلام من الأعضاء. وقد تكلم زهاء أربعين قليل منهم من الإيرانيين، وترك بعض الإيرانيين الكلام ليفسحوا مجال القول لضيوفهم
افتتح المؤتمر فروغي خان رئيس الوزراء، ولجنة الآثار القومية، فشكر الوفود باسم الأمة الإيرانية، والحكومة، ولجنة الآثار على ما أجابوا الدعوة وتحملوا مشاق السفر، وأبلغهم سرور جلالة الشاه بقدومهم، وأنه سيقابلهم في طوس، وقال:
(يقول الشيخ سعدي (إن السفر لا يطول على قاصد الحبيب) وإنما أجاب السادة الفضلاء دعوة الفردوسي. وإذا كان الداعي هو الفردوسي أمكن أن نقول: (ليس في السفر الروحي بعد عن المنازل) ونحن مواطني الفردوسي الذين عهد إلينا شرف الترحيب بكم نيابة عنه، نعرف أنكم كنتم على يقين مما تلقون من المشقات الجسمانية، ولكن أرواحكم الكبيرة الكريمة قلبت المحنة راحة بهمتها العظيمة. وأولت إيران يداً لا تنسى. أجل قد حملتمونا(78/51)
المنن العظيمة، ولكن كان لكم الحق فيما حملتم أنفسكم من مشقة، فإن الفردوسي إن تعلق بإيران جسماً فهو ابن الإنسانية روحاً، بل أقول إذا أذنتم لي: إنه من آباء الإنسانية. وبعد، فقبيح أن يتصدى جاهل مثلي لتعريف علماء أمثالكم بالفردوسي، فمن الخير ألا أشغل أوقاتكم النفيسة، وأن أفسح المجال لأعمالكم المفيدة)
ثم أعلن افتتاح المؤتمر، وأخبر أن علي أصغر حكمت كفيل وزارة المعارف سيتكلم بالفرنسية، لأن بعض الحاضرين لا يعرف الفارسية. فتكلم كفيل المعارف مبدياً سرور الإيرانيين وشكرهم للعلماء الذين وفدوا للمشاركة في حفلات الفردوسي ثم قال:
(إن اجتماع هذا العدد من العلماء على اختلاف الأوطان دليل قاطع على ما قيل من أن العلم والأدب لا وطن لهما. فحيثما لمع نور هذه الموهبة الإلهية اتجهت إليه النفوس المستعدة، والأرواح المشتاقة كالفراش، فيرون أنفسهم في هذه المرآة المشتركة بينهم ويقولون: كنا متحدين، كنا جوهراً واحداً، كنا بغير أجسام ورءوس، كنا جوهراً وضاءاً كالشمس، وكنا صافين كالماء. فلما تصور هذا النور الجميل ظهرت أعدادنا ظهور الظلال على الشرفات
إن اهتمام الأمم العظيم بعيد الفردوسي الألفي، واحتفاءها به في بلادها، وإرسال فضلاءها إلى قبر شاعر إيران برهان على أن الأمم لا تختلف في الحقائق على رغم ظواهر الأمور. إن بين الأمم اختلافاً في السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والمعيشة، والآداب والعادات - اختلافاً جعل العالم الحاضر مادياً ملؤه الشرور والآفات، ولكن كلما لاحت للناس الأمور المعنوية والفوائد العلمية والأدبية امحت هذه الاختلافات، وتجلى الوفاق والوئام - ثم بين كفيل المعارف أن الاشتراك في مثل هذه الأمور أحسن وسيلة إلى التقريب بين الأمم، وقال: لذلك أفتخر بأن أقول إن اهتمام الأمة الإيرانية بعيد الفردوسي، ودعوة الأمم إلى المشاركة فيه يعد في الحقيقة خطوة إلى التفاهم الحقيقي بين الأمم وإن يكن في ظاهره ذا مقصد أدبي وتاريخي)
وبعد فراغ وزير المعارف من كلمته دعي الحاضرون إلى انتخاب مكتب المؤتمر فكانت نتيجة الانتخاب:
الحاج محتشم السلطنة اسفند ياري رئيس
الأستاذ كريستنسون الدانمركي نائب الرئيس(78/52)
الأستاذ زارة الألماني نائب الرئيس
الأستاذ هنري ماتسي الفرنسي منشي (سكرتير)
الدكتور عبد الوهاب عزام المصري منشي (سكرتير)
ثم تلا الرئيس رسائل كثيرة من الحكومات والجامعات تبين عن مشاركة الإيرانيين في الحفاوة بشاعرهم. ثم تكلم بعض المندوبين كلمات قصيرة أبانوا فيها عن سرورهم بالمشاركة في هذا الاحتفال. وكان من المتكلمين الأستاذ عبد الحميد العبادي فتكلم بالعربية عن فضل الفرس على الأدب العربي، وألقى الشاعر الكبير الزهاوي قصيدة فارسية
ثم بدئت المحاضرات على ترتيب حروف الهجاء، فكان أول المتكلمين الأستاذ العبادي فتكلم عن الأخلاق في الشاهنامه، واستمرت كلمته خمساً وعشرين دقيقة وتلقاها الحاضرون بالاستحسان. واقتبس منها بديع الزمان أحد أدباء إيران حينما تكلم عن الشاهنامه من بعده
وفي اليوم التالي تكلم سفير الروس، وترجمت كلمته إلى الفارسية، وأهدى عن دولته كتباً وصوراً فارسية قيمة، ثم خطب سفير الألمان، وقدم هدايا من الكتب منها فهرست للشاهنامه، وأعلن منح بعض الجامعات الألمانية رئيس وزراء إيران دكتوراه في الآداب، وانتخاب وزير المعارف عضواً في جمعية المستشرقين الألمانية. ثم تكلم آخرون، وانتهت الجلسة بإنشاد الشاعر الكبير الزهاوي قصيدة عربية (نشرت في الرسالة)
وفي اليوم الثالث كانت جلستان: في الصباح والعشي، وتكلم ثمانية. وكنت ثاني المتكلمين في الصباح فألقيت بالفارسية كلمتي (مكانة الشاهنامه في آداب الأمم) في عشرين دقيقة. وقد تفضل الحاضرون فأحسنوا استقبالي حينما قمت للكلام، وأحسنوا الاستماع لي، ثم أبدوا استحساناً عظيماً حينما فرغت، وإني أدع للجرائد الإيرانية الكلام، فإن القارئ المصري يهمه أن يعرف ما قالت جرائد إيران في ذلك
قالت جريدة إطلاعات:
(ثم ألقى الدكتور عبد الوهاب عزام معلم الأدب الفارسي والعربي بالجامعة المصرية، خطبة بالفارسية، وموضوعها مكانة الشاهنامه في آداب الأمم، وقد بدأ كلامه بقوله. أنا لا أحسن التكلم بالفارسية، ولكني لا أريد في حضرة هذا الشاعر الكبير (وأشار إلى تمثال الفردوسي) أن أتكلم إلا بلغة الشاهنامة - ولخصت الجريدة المحاضرة، ثم قالت -: وفي(78/53)
نهاية الخطبة أبدى سروره بمشاركته هو وزميله في عيد الفردوسي باسم الأمة المصرية والحكومة. وقدم إلى رياسة المؤتمر نسخة نفيسة من الشاهنامة العربية التي أخرجها الدكتور عزام أخيراً، بعد أن صححها وعلق عليها، وقدم لها مقدمة نفيسة جامعة، وطلب أن ترفع هذه النسخة إلى الحضرة الهمايونية الشاهنشاهية. وكذلك قدم نسخة إلى حضرة رئيس الوزراء، وأخرى إلى كفيل وزارة المعارف، وكانا حاضرين. وقد قوبلت خطبته وعمله بتصفيق مديد. وحينئذ تقدم إلى منصة الخطابة السيد حكمت كفيل وزارة المعارف، وشكر الدكتور عزام على ما أظهر من عواطف المودة وقال: (أشكر الدكتور عبد الوهاب عزام من جهتين: الأولى أنه تحمل مشقة في ترجمة الشاهنامة وتصحيحها والتعليق عليها. والثانية أنه تكلم بلغة الشاهنامة. يقول حافظ الشيرازي أن الترك المتكلمين بالفارسية يهبون لي الحياة. وأنا أقول أن العرب المتكلمين بالفارسية يهبون لي الحياة. والحق إن لساني قاصر عن الشكر. والأستاذ عزام من أدباء الشرق الذين درسوا الفارسية برغبة وعشق وكلف خاص، وإني أختم شكري بهذين البيتين للشيخ سعدي:
(قلت لقلبي إن الناس يجلبون السكر من مصر فيهدونه إلى الأحباء. فإن تكن يدي خالية من هذا السكر فعندي كلام أحلى من السكر)
ولما جلس الدكتور عزام في مكانه من منصة مكتب المؤتمر قال له الرئيس (لقد أردت أن تثبت أنك أستاذ الأدب الفارسي بحق) اهـ
ثم توالى المتكلمون في اليومين الرابع والخامس، وأنشد الشاعر الإنكليزي درينكووتر قصيدة وترجمها نظماً وأنشدها في المؤتمر من بعد الشاعر الفارسي بهار الملقب بملك الشعراء. وتكلم في اليوم الأخير الأديب أحمد حامد الصراف أحد مندوبي العراق، فألقى بالعربية كلمة قصيرة جميلة تكلم فيها عن المودة بين العراق وإيران
وكانت هذه الأيام الخمسة مزدحمة بحفلات الغداء والعشاء، ومشاهد التمثيل والألعاب الرياضية ومشاهدة الأماكن العظيمة في طهران. ونرجئ الكلام في ذلك إلى المقال الآتي خشة الإطالة
د. عبد الوهاب عزام(78/54)
الشمس في الغروب
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
ماذا تحسّ الشمسُ عند غروبها ... فيكون ذلك باعثاً لشحوبها؟
ما إِنْ رأت عيني وقد راقبتُها ... كالفرق بين طلوعها وغروبها
بَعد ابتسامتها لنا قد قطّبت ... والحزنُ كل الحزن في تقطيبها
إني ليحزنني الغروب فإنه ... لمذكِّرٌ نفسي بكل كروبها
الشمسُ في الدنيا إليَّ حبيبة ... والنفسُ تأْسى من فراق حبيبها
ويزيدها شجناً إلى أشجانها ... مَرُّ السحاب محاولاً لركوبها
كانت إذا طلعت تفوز الأرض من ... أنوارها مبثوثةً بنصيبها
كانت بجذوتها السماء منيرةً ... والأرض كانت تصطلي بلهيبها
أَجمِلْ بألوان الغمائم حولَها ... لو دامت الألوان بعد مغيبها
مدَّت مودّعةً بنانَ شعاعها ... لبعيدها وتلثّمت بقريبها
انظرْ إلى الأفْقِِ البعيد تَخَلْ به ... ناراً تخوض العينَ بعد شبوبها
بالشمس تحيا الأرضُ ضاحيةً لها ... وبها تتمّ لها حياةُ شعوبها
صفراءُ خائفةٌ كأن وراَءها ... سوداَء تخطف شِلْوَها بنيوبها
وقد اكتست بعد اصفرارٍ حمرْةً ... بدَمٍ لها أُهريق فوق تَريبها
وكأنما قِطَعُ السحاب أمامها ... سدّت لتمنعها طريقَ وثُوبها
غربت وأبقت في السماء وراءها ... شفقاً يثير الشجوَ بعد غروبها
قد أوّبت شمسُ النهار فهل إلى ... هذا مصيرُ الشمس في تأويبها
أمَّا الغمائم فهي قد هبّت بها ... ريحُ الأسى فتمزَّقت لِهُبُوبها
والثاكلات أذابها عصف الأسى ... فقلوبها تنشقُّ قبل جيوبها
تُهوى وتُقلى في زمانٍ واحدٍ ... دنيا محاسنُها بواءُ عيوبها
وكأنها من نورها وظلامها ... ممزوجةٌ أفراحُها بخطوبها
جميل صدقي الزهاوي(78/55)
شعري
للمرحوم أبي القاسم الشابي
شعري نفاثة قلبي ... إِنْ جاش فيه شعوري
لولاه ما انجاب عنّي ... غيم الحياة الخطيرِ
ولا وجدْت اكتئابي ... ولا وجدْتُ سروري
به تراني حزيناً ... أبكي بدمعٍ غزيرٍ
به تراني طروباً ... أجرُّ ذيلً حبوري
لا أنظم الشعر أرجو ... رضاء أمير
بمدحةٍ أو رثاءٍ ... تهدى لربّ السرير
حسبي إذاقلت شعرا ... أن يرتضيه ضميري
لا أقرض الشعر أبغي ... به اقتناص نوالِ
الشعر إن لم يكن في ... جماله ذا جلالِ
فإنما هو طيفٌ ... يسعى بوادي الظلالِ
يقضي الحياة طريداً ... في ذلة واعتزالِ
ما الشعر إلاّ فضاءٌ ... فيه يرف خيالي
أبو القاسم الشابي(78/56)
جنون الغيرة
لفريد عين شوكة
يغار إذا ما لاحه في جماعةٍ ... يبادلها بعض الرضى وتبادِلُهْ
ويكره أن يلقى له أيَّ صاحبٍ ... يفوز بعطف عنده أو يحاوله
ويعبس إن ردَّ التحية لامْرِئٍ ... يُحَيِّيه أو مُدَّتْ إليه أنامله
ويغضب منه إنْ أَطلَ ببسمةٍ ... على الغير أو أصغى إلى مَن يسائله
فكيف إذا ألفاه يسعى لغيره ... ويُعرِض عمن ناء بالهجر كاهله
تساوره من حُرْقة الوجد لفحة ... تضجُّ لها أحشاؤه ومفاصله
ويخشاه إعصار من الهم مُتْلِفٌ ... يزعزع ركن القلب حين يصاوله
يريد له أَلاَّ يصاحب دونه ... وألاّ يُنيل الغير ما هو نائله
يريد به أَلاَّ يخِفّ لغيره ... ولو كان ممن تستبيه شمائله
أمانٍ كحال البدر يدنو ضياءه ... وتُمْعِنُ في بُعد المزار منازله
وعبءٌ تنوء الشامخات بثقله ... ويفقد رَضْوَى عزمه وهو حامله
فكيف بمحبوب أرقَّ من الصَّبا ... وأحنى من الغصن النضير كواهله
فيا غيرة الصب التي طوَّحته في ... خِضَ & من البلوى تناءت سواحله
ويا ويحه يخشى لقاء حبيبه ... مع الغير حتىَ لا تهِيجَ بلابله
فيهجره رغم الجوار وإِنه ... لأحوج أن تَرْوِي صداه مناهله
ويحمل في النأْيِ العَذابَ وكلما ... تراءى له المحبوب ضجَّتْ مراجله
وأُغْرِقَ في بحر الأسى وحبيبه ... تفيض بآيات الحبور محافله
ويا حيرة المحبوب فيما يشاؤه ... مُحبُّ بعيدُ الغَوْر ما هو آمله
عزيز عليه أن يرى بشره أْمَحى ... ونضرته كالروض جفَّت خمائله
ولكنه لا يستريح لناصحٍ ... له في الهوى أو يرتضي من يجادِلُهْ
فريد عين شوكة(78/57)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
3 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
نقد الحكم
ترى كانت - في فصله هذا - يعزو كل تأثير إلى أحاسيس باطنية، فهو لا يتحرى إذ يتحرى عن أسباب الجمال الخارجية، لأن الحس لا يكمن في الأشياء ولكنه يكمن في الإنسان
وقد شطر نقد الحكم شطرين: الأول ويحتوي على الألفة بين الجميل والسامي لما بين الجمال والسمو من تقارب، والآخر وهو يعنى بمظاهر الأشياء المؤتلفة المتطابقة في الوجود
إن (كانت) بحث في موضوع الجميل كما بحث فيه الأولون، ولكنه وسع دائرة البحث وتعمق في تحليله؛ فاعتبر اللذيذ كل ما فيه لذة للحواس مصحوباً بالرغبة، واعتبر اللذة التي يولدها مشهد الحسن والجمال لذة خالية من الأهواء والأغراض، وإن حكماً ما يمازجه قليل من الهوى لهو حكم فاسد غير مبني على الذوق، ولكن لما كان حكم الذوق مبنياً على العاطفة فهو بحكم الضرورة قابل للتغيير، وفي الإمكان أن نرى في كل بيوت الفن - وفي الطبيعة تماثيل ودمى تحظى برضا الناس؛ ولكننا لن نرى مقياساً واحداً صحيحاً للجمال، لأن الذوق نفسه هو كالبراعة شيء مبتكر
فإذا كان الجمال يؤثر في شعورنا تأثيراً خفياً ويرسل فينا الراحة واللذة من حيث لا نشعر، فإن السمو ليبلونا باهتزاز عنيف قد يكون مضنياً ومرهقاً للنفس ولأن يكون ما يبعثه السمو في أنفسنا أدنى إلى عاطفة الإعجاب والاجلال منه إلى الراحة واللذة أحرى وأجدر، واسمه الحقيقي هو (اللذة السلبية)
ويفرق كانت بين السمو الرياضي والسمو الآلي (أو ذو الحركة) هذا مؤسس على فكرة القوة وذلك على فكرة العظمة والروعة، فالطبيعة هي سامية عالية - رياضياً - في حوادثها التي يصعب على مخيلاتنا إدراكها، وهي سامية أيضاً بحركات أجرامها الهائمة في(78/58)
الفضاء، حتى كأنها تريد أن تسحق وجودنا المادي. وفي كلا الحالين تهيب مخيلتنا بعقلنا، فيتركنا العقل ذاهلين أمام السماء ذات الكواكب واللانهاية التي لا تحد ولا تبلغ إلى عظمتها المخيلة مهما سمت، وهو العقل الذي يثير فينا عاطفة السمو، ويجعلنا نردد معه (ما أنا إلا قصبة، لكنها قصبة مفكرة)
فالسمو إذن لا يكمن في الأشياء، لكن في أنفسنا، فلا يجب علينا أن نقول (إن هذا الشيء هو سام) ولكنه شيء يبعث فينا فكرة السمو، فلا شيء في الطبيعة مهما جل - إذا نظرنا إليه نظرة قياسية - إلا وهو يهوى إلى أحقر الأشياء، ولا شيء حقير - إذا قسناه بمقياس آخر - إلا وهو يرقى إلى أعلى الأشياء، وهناك المراصد والمجاهر تثبت صحة دعوانا
يعرض أمامنا شيء رائع، يعجزنا التعبير عنه فنقول: إنه لسام رائع: ويخلق معركة حامية بين العقل والمخيلة، فلا تستطيع المخيلة إدراك كنهه، والعقل لا يفتأ يتحرى عن وسيلة يفهمه بها، فينشأ من ذلك تلك الروعة التي نحسها أمام الأشياء العظيمة السامية، ولكنها روعة ترفع أنفسنا إلى المثل العليا، لأنها تنبه فينا ناحية العظمة الصادقة التي تنجلي بها طبيعتنا الإنسانية وحريتنا الأخلاقية.
أسلوب كانت
يعد كانت أصدق الفلاسفة اعتقاداً وأصفاهم أسلوباً، يقول ما يعتقد به حقاً، ويكتب لقرائه كما يكتب لنفسه، تكاد تنطق جملته بفكرته، ويعتقد أن الحقيقة غنية بنفسها، وأن الزخرفة في التعبير عنها مما يرخص من قيمتها، وبرغم هذا الأسلوب الواضح رماه بظلمة التعبير، وقد أراد هؤلاء أن يظهروا أن كانت ليس ممن تنبسط آراؤهم للقارئ بسهولة. على أن أفكار كانت لا تمشي إلى قارئها، وإنما على القارئ أن يسعى إليها ليدركها، ولكنه لا بد مدركها كلها، ولكن إدراكها لا يخلو من الجهود التي لا يستغني عنها رجل يسعى
إن أسلوب كانت واضح جد الوضوح، ولكن عيبه الواحد الذي أخذه عليه النقاد أنه يخلق في الموضوع شعباً كثيراً لا يترك منها مسرباً إلا نفذ فيه، وهذا قد يدل على سعة اطلاع ونظر بعيد وإن كان لا يخلو من السأم، ولكن كانت لم يكتب إلا لذوي الإلمام بهذا الموضوع فقد يأخذ الموضوع الحقير الذي لا يكاد يخوض فيه عقل فيخلق منه موضوعاً كبيراً، وقد ذكر أحدهم نكتة جرت على لسان صديقه (فيمار) أن هذا أعلن للفيلسوف أنه لا(78/59)
يستطيع أن يقرأ تصانيفه، لأن الله لم يخلق له أكثر من هذه الأنامل، يريد أن يضع أنملة على هذه الكلمة وأخرى على الثانية وهكذا حتى تنتهي أنامله ولما يكمل العبارة ويقف على دقائقها، لأن كانت يستعمل كثيراً الأقواس والأهلة في عباراته المتصل بعضها ببعض. وقد كان لكانت فضل كبير في خلق كلمات وتعابير جديدة فلسفية خلقها بنفسه، وفرضها على اللغة الفلسفية بنفسه
وأخيراً نستطيع أن نقول إن كانت كان مطلع الثورة الفلسفية في ألمانيا التي خلقت (فيخت وشيلنغ وهيجل) وقد تناول تأثيره جميع المدارس العلمية والأدبية، وما ثمة فيلسوف ولا أديب ولا شاعر نشأ بعد كانت إلا وكان مديناً له ولمذهبه بكثير من آرائه، وشيلر نفسه قد استمد من كانت آراءه في الجمال والسمو، وما أصدق كلمة (غليوم همبولد) حين قال (إن قسماً من الذي هدمه كانت لن يقوم أبداً، وإن قسماً من الذي شاده لن يخسف أبداً)(78/60)
فيخت
1762 - 1814
ولد (فيخت) سنة (1762) في قرية (رامينو) ولم يكن أبوه ليقدر على القيام بأعباء تعليمه، فكفله أحد سادة القرية وأنفق في سبيل تعليمه ما أنفق؛ وبعد جهاد عنيف ودرس طويل دخل في العالم الفلسفي، فكان أول كتاب له (تجربة نقدية لكل وحي) وكتابه الثاني (تقويم أحكام الشعب على الثورة الفرنسية) وكتابه الثالث (نداء عام لأمراء أوروبا لكي يفكوا العقل من عقاله) وهذه الكتب الثلاثة وضعت (فيخت) في مصاف أرباب فلسفة النقد والثورة، وبعد هذا الإنتاج الطيب أعلن في محاضرة له قيمة مذهبه الذي وسمه بالمذهب العلمي، وهو الذي يرد به كل العلوم إلى مصدر واحد. وهذا المذهب أو هذه الثورة الفلسفية أطارت اسمه في الآفاق، حتى غدا حديث المجامع النوادي. وقد أسند إليه منبر في (لينا) ليحاضر في الفلسفة، فسهل له هذا المقام أن يعاود شرح مذهبه وتفصيله من جميع نواحيه في كتبه العلمية، وكان خلال ذلك يواصل نشر مقالاته في (واجب العلماء) فهو يريد من العالم أن يسيطر على شؤون بلده، لأن العالم عنده ليس بالرجل الذي يملأ رأسه علماً وعرفاناً، ولا من يتخصص في مادة واحدة يذهب بها كل مذهب، ولكنما العالم هو الرجل الحر الذي اجتمعت له ثقافة عصره، وسما فوق مشاغل حياته اليومية، هو يريد أن ينقاد المجتمع للرجال الألمع ذكاء والأروع عقلاً
وربما دفعه هذا المذهب - أضف إليه بعض مشاغل خاصة - إلى أن يقطع الكثير من دراساته المتواصلة، كان يحاول من ورائها أن يطبق مذهبه النظري على الأخلاق والحقوق والسياسة والدين، يقطع هذه الدراسات ملتفتاً إلى شؤون أمته المجروبة، وقد خطب الشعب كثيراً في (برلين) بأسلوب تبدو فيها حماسة الفيلسوف وشدة تعلقه بوطنه، ومن خطبه خطبة ذكر فيها أسباب انحطاط أمته ووصف العلاج الشافي لهذا الانحطاط
قال: (إن أسباب الانحطاط داخلية؛ لا يمكن أن تعزى إلى بأس الخصم وسيطرته، إنها تنجلي في خنوعنا ولين أخلاقنا، وفي أنانية مرشدينا وقوادنا، وفي إعجابنا وتقليدنا الأعمى للأجنبي الغريب. أما علاج هذه الأدواء فهو التربية المؤسسة على الفضيلة التي تشجع(78/61)
النفوس وتعلم الأرواح معنى التضحية. . . والوطن ما الوطن - عند فيخت - إلا خلود الإنسان على الأرض، أتلك صفة محمودة فيمن يرغب عن مؤازرة أخيه بعقله أو بعمله؟ من هو ذلك الإنسان الذي يبغي ألا يخلق في فراغ الأزمان شيئاً جديداً لم يمر بخاطر، ولم يقع عليه ناظر؟ هذا الشيء الذي يغدو مورداً لا ينضب لاكتشافات جديدة؟ ومن الذي لا يرضى بأن يفادي بمقامه في هذا الوجود ويتجاوز من أجله القصير المقدر له لقاء بعض شيء سيخلد أبداً في هذه الأرض؟ أي خلق نبيل لا يرضى بهذا؟
ألا إن هذا الرضا لا يتمثل إلا لعيون الذين يعتقدون بأن الوجود كامل الصورة، ملائم كل الملائمة لحاجهم، وجامع لأمانيهم، ما خلق إلا لهم. وأصحاب هذه الفكرة هم عندي أصحاب هذا الوجود، وهم أصله ونواته. أما أولئك الذين ينظرون إلى الحياة غير هذه النظرة فليسوا إلا حشرات سحيقة تزحف في مسارب وجود سحيق)
وبينا كان فيخت يكسو فلسفته الآراء السامية، كان يعمل على أن يكسو نفسه أثواب السمو. ولكن الردى غاله ولما يؤد رسالته، فقضى نحبه سنة 1814 مستريحاً من جميع أوصابه
فلسفته:
فلسفة (فيخت) هي فلسفة رجل لا يعرف للعقل والقوة الإنسانية حدوداً يقفان عندها. وقد كان - كانت - يرى أن معرفتنا تقوم على أن نوفق بين العقل الخارجي وبين نظام إدراكنا الداخلي، وهو يرى أن وراء ما ندركه شيئاً قائماً بنفسه منسلخاً عنا لا يتطاول إليه إدراكنا. وما معرفتنا - عند كانت - إلا مظهر يتوارى وراءه السر الأبدي واللغز السرمدي. أما (فيخت) فهو يوقن بأن هذا المظهر نفسه هو الحقيقة ذاتها، وهو وليد قوة (النفس) التي لا تنفد، وذلك الشيء القائم بنفسه إن هو إلا حد يكبح قوة النفس ويحاول أن يقضي على سطوتها، ولكنه حد يزداد أمره ضعفاً كلما استطاعت النفس أن تبرز من قوتها وتفرض شيئاً من سيطرتها على الوجود؛ وبهذا كانت غاية العلم أن يتغلب العالم الداخلي وهو عالم العقل والروح على العالم الخارجي وهو عالم المادة
والنقطة الأساسية لفلسفة (فيخت) هي هذه الذات التي يجعل منها (الفاعل المطلق) في هذا الوجود، لكن هذه الذات لا تكمل لها معرفة ذاتها إلا إذاقورن بينها وبين غيرها، وبضدها تتميز الأشياء. فإن تخصيصي مثلاً لوجودي بقولي (أنا) يثبت منطقياً لغير ذاتي وجوداً.(78/62)
لأن الأخص يستثنى من الأعم. وهذا الغير هو الذوات السارحة في هذا الوجود
قد تيقظت الذات في إحدى خطراتها يوم أحست بنفسها فألفت أمامها سداً يقف سيرها. فوقفت وشعرت بأنها مقيدة، من ورائها ومن أمامها سدود، فأخذت تنظر إلى علة هذه الحدود وهذه السدود، فخالت أن هذه العلة كامنة في جواهر الأشياء، فأما الشعور العادي فهو يرى العلة في جوهر الأشياء، أما الفيلسوف فهو يعتقد بأنها كامنة في التحريض الذي تثيره الذات لبسط سلطانها على الأشياء، وتحقيق غايتها التي تطويها في صدرها. وهكذا تجري حياة الكائن المفكر، فهو طوراً يصيب مركز الدائرة وطوراً يحيد عنه
(يتبع)
دير الزور
خليل هنداوي(78/63)
أدب الحرب
كبتن كونان
للقصصي الفرنسي روجيه فرسل
(صاحب جائزة جنكور لعام 1934)
كان لهذا الشهر في عالم الأدب الفرنسي أهمية كبرى تميزه من سائر شهور العام. فقد سطعت في النصف الأول منه أسماء أربعة من الكتاب بعد أن فاز كل منهم بإحدى الجوائز الأدبية الكبرى التي تمنح في فرنسا في مثل هذا الشهر من كل عام إلى خير قصة يقع عليها اختيار لجنة تحكيم كل جائزة من هذه الجوائز. ولقد ذكرنا أكثر من مرة أن اهتمام الغرب بالإكثار من الجوائز الأدبية، يرتفع عن المكافأة المادية التي تصيب الكاتب الفائز، وأن الغرض الأساسي هو شحذ همم الكتاب والاحتفاظ بعاطفة المنافسة حارة في قلوبهم. وكل من تصفح الجرائد الأدبية الفرنسية الكبرى خلال الشهر الفائت استطاع أن يعرف مقدار اهتمام الفرنسيين - وهم كغيرهم من أمم الغرب - بأمر هذه الجوائز الأدبية. واستطاع أن يحس بما تخلقه هذه المباريات في نفوس الأدباء حين يقرأ أحاديثهم قبل ظهور قرار المحكمين. تلك الأحاديث الممتلئة بالعبارات المتحمسة، القلقة على مصاير أعمالهم وعصارة عقولهم. وعندئذ يشعر بحاجة كل أمة متمدنة تبغي النهوض لفنونها وآدابها إلى مثل هذه الجوائز
وروجيه فرسل الفائز بجائزة جنكور أستاذ للآداب بكلية دينان وهو الآن في الأربعين من عمره ولد في بلدة نانر، ولما شب تعلم في (فليش) ثم انتقل إلى (كان) ليدرس الأدب، ولكن لم يكد ينقضي عام حتى شبت الحرب الكبرى فانتزعته من أحضان كتبه وأساتذته الذين كان يجلهم أعظم إجلال مثل بييرفي الأستاذ الضرير الذي لا يزال يذكره روجيه فرسل بالخير، ويرجع إليه أكبر الفضل في نجاحه في الحياة العامة، ومثل موريس سوربو الذي أصلح له فيما بعد رسالته عن كورني، فنال بها ليسانس الآداب
حارب فرسل في كثير من الميادين الحربية في فرنسا مثل: ايبر وشمباني وسم وأرجون، ثم أوفدته السلطات العليا إلى عدد من بلدان أوروبا الشرقية للقيام ببعض المهام، فرأى(78/64)
اليونان وصربيا وبلغاريا ورومانيا، واستفاد من ذلك أجل الفائدة، إذ عرف أمما تختلف عن وطنه في كثير من النواحي، وفهم نفسيات شعوبها، وأخلاق أهلها، وكان ذلك أكبر عون له على رسم كثير من شخصيات قصصه. وفكرة قصته التي نال عليها الجائزة إنما انبعثت في نفسه حين كان يعمل مقرراً لمجلس الحرب في صوفيا
ابتدأ فرسيل يخوض غمار الأدب برسالته القيمة ' ' التي نال بها ليسانس الآداب. وبعد ذلك نشر كتابه وبعد هذا الكتاب ظهرت قصته الأولى وتليتها قصة ثم ' ثم ثم ظهرت له هذا العام وقد ابتدأت مجلة (جرانجوار) الأدبية تنشر له منذ بضعة أسابيع آخر قصصه
ولفرسل ترجمة شيقة عن (دوجسكلان) وهو يراسل عدداً كبيراً من المجلات الفرنسية الكبرى، وعلى الأخص (ريفودوفرانس) و (ماريان) و (جرنجوار)
وروجيه فرسل يهيم بالقوة، والإرادة الجبارة، والشجاعة الخارقة التي يراها واضحة جلية في كثير من رجال الجيش وبحارة السفن والصيادين المخاطرين. وهو يرى أن غرائزنا الوراثية الأولى التي تدفعنا إلى احتقار الحياة والاستهانة بالموت، والغرام بالنزال والقتال، تلك الغرائز التي يظن الكثير أنها ماتت بتطور الإنسان لا تزال كامنة فينا، وسرعان ما تطغى على شخصيات الكثير منا عندما تمهد الفرصة المناسبة لظهورها كالحرب مثلاً التي هي أكبر عامل في إظهار هذه الغرائز الأولى. وفي قصة (كبتن كونان) يرسم لنا فرسل صوراً من أولئك الأبطال الذين يحملون أرواحهم على أكفهم مستهدفين للمهالك غير عابثين بالموت، وإليهم يرجع كل فضل في الفوز والانتصار
و (كونان) بطل القصة رجل صغير الجسم، هادئ الطبع، لين الجانب كان يشتغل بائعاً صغيراً في سان مالو. ولم تكد تشب الحرب عام 1914 ويتطوع فيها في جيش الشرق حتى تستيقظ في بطولة كانت خامدة تسوقه إلى مراتب الرقي السريع، فنراه على رأس فصيلة صغيرة في الجيش نفخ فيها من روحه وبسالته، حتى استيقظت في أفرادها نفس الغرائز التي استيقظت فيه، غرائز الإنسان الأول الذي لا يعرف للحياة قيمة ولا للموت رهبة، فينساقون وراء رئيسهم (كونان) إلى شتى ضروب المهالك دون خوف ولا وجل
لقد تجردوا من كل صفات الجنود النظاميين، وأصبحوا أشبه ما يكون برؤساء العصابات،(78/65)
لا يعرفون لهم قانوناً إلا الشجاعة الخارقة التي يجب أن تذوب أمامها كل عقبة تحول بينهم وبين تحقيق ما يرغبون. فبينما نرى في كثير من الأحيان أن سائر فصائل الجيش ينقصها الزاد والماء، نرى ذلك عند فصيلة الكبتن كونان دائماً كاملاً موفوراً بل زائداً عن حاجتهم. وبينما نرى سائر الجنود يرهبون النزال مع العدو وجهاً لوجه حيث يمزق بعضهم أجسام بعض بالسيوف أو بأسنة الحراب، ويعتبرون ذلك أشد ضروب القتال هولاً. نرى الكبتن كونان وأتباعه لا يترددون لحظة في الهجوم على خنادق العدو، وقد تسلحوا بالقنابل اليدوية والخناجر معلقة إلى جوانبهم يغرسونها في أحشاء أعدائهم دون شفقة ولا رحمة حتى أطلق عليهم أسم (منظفي الخنادق). ذلك أن كلاً منهم كما يقول رئيسهم (كونان) لا يعرف إلا أنه (محارب) فحسب، وليس جندياً يخلص للنظم العسكرية وتقاليدها كما يفعل سائر الجنود الآخرين. بل هم ينظرون إلى هذه النظم والتقاليد العسكرية نظر الاستهتار بها والاحتقار لأثرها في الانتصار. وإنك لتستطيع أن تفسر جيداً نفسية أولئك (المحاربين) حين تقرأ كلام (كونان) إلى أحد رفاقه الذي يلومه على تصرفاته هو وزملاؤه ويقول: (حاول قليلاً أيها العجوز المسكين أن تفهم) فيجيبه كونان:
(أفهم؟ أتظن أنني لا أفهم لأنني أتكلم بصوت عال؟ إنني أعرف جيداً منذ بعيد أنهم كانوا يخجلون من أعمالنا، وكانوا لا يعرفون جيداً كيف يتخلصون منا! إنني أنا وشباني الذين خضنا حقيقة غمار الحرب، ونحن الذين يرجع إلينا كل فضل في الانتصار! أنا ومن يماثلني من الأعوان الذين أرعبنا الجيوش. أسامع أنت؟ الجيوش التي كانت ترانا في كل مكان، وكانت لا تحسب لغيرنا حساباً، ولا ترهب سوانا منذ اندلعت أول شرارة! إن قتل جندي أمر في استطاعة كل فرد أن يقوم به، أما مهمتنا نحن فكانت قتل ذلك الجندي بطريقة تلقي الفزع في أدمغة عشرة آلاف آخرين! لذا كان من اللازم الذهاب للقاء العدو بالخناجر. أفاهم أنت؟ إن الخنجر هو الذي كسب الحرب، وليس المدفع! إن ذلك النوع من الرجال الذي أحدثك عنه لا يزيد على ثلاثة آلاف في كل جبهات القتال. على أن هؤلاء هم المنتصرون وحدهم. هم المنتصرون الحقيقيون!)
والقارئ لا يستطيع أن يتمالك نفسه من الأسى والتأثر أمام الخاتمة المحزنة التي تنتهي بها مأساة تلك الشخصيات الغريبة. فقد مضت سنو الحرب الأربع، وإذا (كونان) بطل مقدام(78/66)
فائز بوسام الشرف، تحلي صدره نياشين المجد والفخار. على أنه لا تكاد تعقد الهدنة العامة وينطفئ جحيم المجزرة البشرية الكبرى، وتوزن الأعمال بميزان أقرب إلى العدل والمنطق حتى نرى الذين كانوا يعتبرون بالأمس أبطالاً صناديد، والذين ببسالتهم النادرة وإراقة دمائهم دون حساب ضمنوا لجيشهم الفوز مراراً في ساحة الوغى، نراهم اليوم وقد أضحى الجميع يعتبرون عملهم جريمة لا تغتفر. وينظر إليهم مجلس الحرب نفسه نظرة الخارجين على القانون، المنتهكين لحرمة الشرف العسكري!
وبانتهاء الحرب ينصرف الجنود جميعاً إلى بلادهم وذويهم متنفسين الصعداء بعد أعوام مريرة من العذاب والشقاء. إلا أن هذه الظاهرة العادية لا نجدها عند الكبتن كونان ورفاقه. إذ يصور لنا روجيه فرسل كيف عاد كونان إلى مسقط رأسه يعمل كما كان تاجراً بسيطاً كسير القلب محطم النفس، غير راض عن حالة السلم والهدوء، غير مرتاح إلى العيش في مجتمع لا يناسب ميوله وغرائزه التي بعثتها الحرب من مرقدها، وأصبح لا يجد إلى التخلص منها سبيلاً
ويتزوج كونان. ثم تمضي الأيام فإذا الحياة الهادئة الوادعة لا تناسبه فيترهل جسده وتنتفخ أوداجه، ويضنيه مرض الكبد وكلما تقدمت به السن شعر بأنه فقد كل شئ. وضاق بالحياة كلها ذرعاً
إن روجيه فرسل يجمع في قصته فكرتين: أولاهما الإعجاب بأولئك الأبطال والرثاء لهم، وثانيتهما الدعوة ضد الحرب، فهو لا يبرر الحرب التي توقظ في هذا النوع من الناس بطولتهم الراقدة تحت وعيهم. بل هو العكس يريد أن يبين لنا أن (الحرب هي الشر الأعظم) كما يقول. أليست هذه الشخصيات التي يصورها لنا خير تصوير كأبطال الحرب الحقيقيين هي كذلك أولى ضحاياها؟ أليست شجاعتهم الخارقة تجعلهم أول وقود لسعيرها الجهنمي؟ ثم أيضاً ذلك النقر مبهم الذي ينقده الحط الحسن من الموت في ميدان القتال، ألم تتحطم سعادته، وتشقى حياته كما رأينا في كونان، ذلك التاجر البسيط الوديع الهادئ العيش الذي أصبح بعد أربعة أعوام من المذابح البشرية رجلاً أجدر به أن يوضع في عداد المرضى حين لا يستطيع الحياة في مجتمع خلو من القتل وسفك الدماء؟!
تلك هي ميزة قصة (كبتن كونان) الكبرى، فلقد كتب عن الحرب منذ بدئها إلى الآن عدد(78/67)
كبير من الكتب الرائعة ربما كان أعظمها كتابا جورج دوهامل وكتاب رولان دور جيليه وكتاب هنري باربوس الذي نال جائزة جنكور عام 1917، وقد تفوق هذه القصص قصة (كبتن كونان) في كثير من النواحي، إلا أن روجيه فرسل يمتاز في قصته بأنه عالج موضوعاً ورسم نوعاً من الشخصيات الإنسانية بطريقة لم يسبقه إليها أحد من الكتاب
علي كامل(78/68)
البريد الأدبي
الجوائز الأدبية الفرنسية
ظهرت في فرنسا في أوائل هذا الشهر أسماء الفائزين بالجوائز الأدبية الفرنسية الأربع، ففاز بجائزة الكاتب روجيه فرسل بقصته وقد تحدثنا عن القصة ومؤلفها في غير هذا المكان. وفازت قصة - لروبرت فرانس بجائزة - وقصة لمارك برنار بجائزة وقصة للكاتب لوي فرانسس بجائزة
وروبرت فرانس شاب في الخامسة والعشرين من عمره، ولد عام 1909 وكان منذ صغره كلفاً بقراءة الأدب ودراسته، إلا أن أسرته أرغمته على الالتحاق بمدرسة الهندسة، فكان هذا التصرف دافعاً على ازدياد شغفه بالأدب والكتابة: فأصدر وهو لا يزال في الثامنة عشرة من عمره هو وشقيقه مجلة التي عاشت ثلاثة أعوام
وابتدأ يكتب فيها عدداً من المقالات السياسية. وكذلك القسم الخاص بنقد الكتب وفي ذلك الوقت أيضاً نشر في المجلة أول أعماله الأدبية ' ' وهي ترجمة حياته مصوغة في قالب روائي. وفي عام 1930 أدى روبرت فرانسس خدمته العسكرية في قسم الطيران، وقد أظهر كفاءة أثناء اشتغاله في الحصون الشرقية دفعت وزير الحربية إلى انتدابه عام 1931 للعمل في الحصون الشمالية، فقضى ستة شهور متنقلاً بين (مان) و (ريمز) تاركاً العنان لإحساسه الشعري يتأمل تلك الغابات الواسعة الممتدة الأطراف. على أن المرض حال بين فرانسس وبين الاستمرار في البقاع الشمالية فرجع إلى (فانس) حيث قضى ستة أشهر طريح الفراش. ولم يكد يبل من مرضه حتى شرع يكتب أولى قصصه التي ظهرت في العام الماضي، وفي هذا العام ظهرت قصتاه اللتان نال عليهما الجائزة وهما و - تحملان عنواناً رئيسياً واحداً
والقصتان تكملة للقصة الأولى. والقصص الثلاث تفيض بالأخيلة الشعرية التي تدنيها من الأساطير
وفن روبرت فرانسس يمت إلى تلك المدرسة التي يسميها الناقد أدمون جالو وهي مدرسة تحاول أن تصلح ما يوجه من النقد إلى المدرسة الشعبية التي تكاد تقتصر على وصف شقاء المجتمع الفقير وما يخلقه هذا الشقاء من الرذائل. فالمدرسة الجديدة بتجديدها تحاول(78/69)
أن تتكلم عن فضائل هذا المجتمع الفقير. ولذا نرى روبرت فرانسس يرسم لنا في قصصه مقدار إحساس أبناء الطبقة الدنيا بالكرامة ومقدار سموهم الروحي وصفاء نفوسهم. مما يجعلهم أهلاً لأن يرتفعوا عن مستوى حياة الحيوانات التي يحيونها
وروبرت فرانسس إلى جانب إنتاجه القصصي كاتب سياسي، وهو في مقالاته التي ينشرها من حين لآخر يدعو إلى إصلاح اجتماعي يهيئ للطبقات البائسة حياة حرة كريمة
أما مارك برنار الفائز بجائزة فقد نشأ في بلدة نيمز فقيراً معدماً. وكان طبيعياً أن يحول بؤسه وشقاؤه بينه وبين الدراسة المدرسية، وأن ترغمه ضرورات المجتمع الحاضر على الاشتغال في سن مبكرة ليجني القدر الضئيل من المال كي يطفئ ألم الجوع، فهجر نيمز متنقلاً من بلد إلى آخر. ولم يترك عملاً من الأعمال إلا طرق بابه وعالج سبيله. فاشتغل في السادسة عشرة ممثلاً في مرسيليا، ولما لم يصادفه النجاح اشتغل حمالاً للبواخر، ثم اشتغل عاملاً في السكك الحديدية، وعاملاً في مصانع المعادن، وصابغاً للأحذية وغير ذلك من الأعمال الوضيعة المختلفة
وكان مارك برنار لا يميل ميلاً شديداً للكتابة ولا يرى في نفسه استعداداً لها. على أن الضرورة أرغمته على معالجتها عله يستطيع عن طريقها أن يضمن عيشه، فنشر عام 1928 أول قصصه - فصادف نجاحاً دفع الكاتب هنري باربوس رئيس تحرير مجلة (موند) إلى أن يعهد إليه تحرير قسم النقد الأدبي في مجلته، فعرف برنار عن طريقها عدداً من أعاظم الكتاب، وابتدأ يشارك أيضاً في تحرير (المجلة الفرنسية الجديدة) ومجلة (أوروبا)
وقد نشر برنار بعد قصته الأولى قصة ثم تلتها قصته الأخيرة نال عليها الجائزة
وبرنار كاتب اشتراكي، وهو في قصصه ومقالاته يفيض بالثورة على المجتمع الرأسمالي، ويعلي من شأن الطبقات المهضومة الضعيفة بفقرها التي خصص لوصفها - كما يقول - قصته التي يوشك أن ينتهي منها واسمها (المنفيون)
أما لوي فرانسيس الفائز بجائزة فقد بدأ حياته مدرساً بالليسيه فرانسيه بالقسطنطينية، فعرف الشرق عن ذلك الطريق، ووصف ما وصلت إليه خبرته ودراسته في كتاب ثم كتب بعد ذلك قصته التي فازت بجائزة رينو دوه(78/70)
الفردوسي في السوربون
احتفل في الأسبوع الماضي بمهرجان الفردوسي في السوربون واشترك في هذه الحفلة رئيس الجمهورية المسيو ليبران، وعدد كبير من السراة والأعيان، بينهم الجنرال غورو حاكم باريس العسكري، وكان بين الذين حضروا المسيو شارلني مدير جامعة باريس، وسفراء العجم في فرنسا وإنكلترا، والجنرال ثوله مستشار وسام اللجيون دونور الأعلى، ومن رجال المجمع العلمي ابيل بونار، ومدير كلية (الكليج ديفرانس)
وقد أقيمت في القاعة قاعدة أقيم عليها تمثال يمثل الفردوسي أحيطت بالأعلام الإيرانية والفرنسية
وألقى مدير الكليج دفرانس خطاباً باسم المجامع الفرنسية
ثم عقبه الأستاذ ماسيه مدير اللغات الشرقية فعرض لشعر الفردوسي وأثره، وألقى المسيو ايبل بونار خطاباً أطرى فيه الفردوسي وختمت الحفلة بخطاب وزير التربية والتعليم تناول فيه حياة الفردوسي
إيطاليا تحتفل بالفردوسي
احتفل في الأكاديمية الملكية في روما بذكرى الفردوسي، وألقى السنيور مالينو محاضرة قيمة عن الفردوسي وعن شعره الخالد وأثره الكبير في الأدب العالمي
وفاة جوستاف لانسون
توفي أخيراً بباريس الدكتور جوستاف لانسون أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة السوربون عن سبعة وسبعين عاماً باحتقان الرئة، ولقد كان المصاب به عظيماً أحدث هزة شديدة في الأوساط الأدبية في فرنسا
ولد جوستاف بمدينة أورليان، في الخامس من شهر أغسطس عام 1857، وفي عام 1886 دعاه القيصر ليثقف بالأدب الفرنسي ولي العهد الذي صار فيما بعد نقولا الثاني، ثم عاد إلى التدريس بمدارس الليسيه بفرنسا، وانتقل بين ثلاث مدارس من مدارسها وكان مثلاً للنشاط والجد، وقد أدى اختياره مدرساً بها إلى انتخابه مديراً لمدرسة المعلمين العليا بباريس وكان ذلك عام 1919 وبقي بها حتى عام 1927 ومنذ يومئذ بدأ يتم مؤلفاته في(78/71)
النقد، ونذكر من كتبه ومؤلفاته، نصائح في فن الكتابة، بوسويه، وبوالو، والناس والكتب، ودراسات أدبية وأخلاقية، وكورني، وفولتير، وثلاثة أشهر في التعليم بالولايات المتحدة، وطرق تاريخ الأدب، والمثل الفرنسي الأعلى في الأدب، ونهضة الثورة، وابتكارات لامرتين
وفي عام 1924عين عضواً في رابطة الشرف، ولكنه أبى أن يدخل الأكاديمية الفرنسية برغم إلحاح المعجبين به، وإن كتابه تاريخ الأدب الفرنسي الذي ظهر في عام 1894 ثم أضاف إليه كثيراً من التعليقات فيما بعد لكفيل بأن يجعل للانسون مكانة عالمية محترمة
تحسين جديد في (التليفون)
بتسابق رجال العلم والاختراع في إدخال التحسينات على (التليفون) وأخر ما طالعناه في إحدى الصحف العلمية أن أحد المخترعين الفرنسيين تمكن من اختراع جهاز جديد ادخله على التلفون الأوتوماتيكي الاعتيادي. والقصد من هذا الجهاز أنه عندما يرغب المتكلم في محادثة أحد، فما عليه إلا أن ينطق بالرقم المطلوب فتدور الاسطوانة من تلقاء نفسها بفعل تموجات الهواء. وهذا الجهاز يصلح استعماله في الظلام أي عندما يكون الإنسان مضطجعاً في فراشه ولا يريد أن يجهد نفسه. ويعتقد المخترع أن هذا الجهاز سيعم استعماله جميع أنحاء العالم
بعض الكتب الجديدة في علم النفس
تأليف محمد عطية الابراشي، حامد عبد القادر
صدر هذا الكتاب النفيس الذي يقع في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، منذ شهور قلائل، فملأ من المكتبة العربية فراغاً شاغراً، كان يأسف له كل من يتمنى لهذا الشرق أن يساير الغرب فلا يتخلف من دونه في بعض الطريق. وما ظنك بهذا العلم الذي تبوأ في أوروبا وأمريكا منذ منتصف القرن الماضي مكانة رفيعة بين العلوم، وأصبح منذ ذلك التاريخ حلبة العقول وحومة الأقلام، تتناصر كلها وتتضافر على دراسة النفس الإنسانية، حتى سارت في ذلك شوطاً، إلا تكن قد انتهت به إلى نتيجة حاسمة، فهي على كل حال سائرة في الدرب السوي سيراً مطرداً حثيثاً. نعم، كان علم النفس طوال القرن(78/72)
الماضي شغل الساعة في عالم الغرب، أما نحن فقد لبثت أقلامنا بإزائه صامتة، لا تكاد تمس الموضوع إلا مسا رفيقا، إذا استثنينا كتابا أو كتابين؛ وكأنما أحس الأستاذان المؤلفان بهذا النقص المعيب، بل هو أجدر أن يسمى فقراً وإجداباً، فشاءت لهما همة عالية، أن يتداركا الأمر بعزم حديد وكفاية ممتازة، فأخذا منذ عام أو نحوه يخرجان للناس بحوثاً مستفيضة في كتب تترى، هذا ثالث أجزائها، وفي فصول متلاحقة أخذت تغمر الصحف، حتى كان لنا في علم النفس بفضلهما محصول ذو غناء بوفرته ومتاعه، وأي شيء أحب إلى النفس وأمتع من أن تطالع نفسها مشروحة مفصلة، في تحليل عميق سهل مستساغ، لا تشوبه خشونة العلم وغلظته؟ فقد وفق الأستاذان الفاضلان فيما يكتبان إلى (السهولة في الأسلوب، والوضوح في العبارة، مع الدقة في التعبير، والبحث وراء الحقيقة، حباً في الوصول إلى الحقيقة لذاتها، حتى يسهل الصعب، ويتضح الغامض، ويقرب إلى الأذهان ما بعد عنها، من تلك الموضوعات التي لم تخدم بالعربية الخدمة اللائقة بها). وأما فصول هذا الكتاب القيم فهي: الفكر، الحكم، الاستنباط، التعليل، التفكير الراقي، الوجدان، الانفعالات، العواطف، الأمزجة، الأذواق، الشخصية. . . . . وقد وضعا بجانب الاصطلاحات العلمية ما يقابلها باللغة الأجنبية تجنباً للخلط، ومنعاً للخطأ في التفكير
وما دمنا بصدد ترجمة الألفاظ، فقد نحب أن نعترض اعتراضاً نعترف أنه تافه بالقياس إلى هذا المؤلف الجليل: فقد ترجم الكاتب كلمة بلفظة (التعقل) في الصفحة الخامسة من الكتاب، ثم عاد في الصفحة الثالثة عشر فأطلق لفظة التعقل هذه، تعريباً لكلمة ومهما يكن بين اللفظتين من قرب وشبه، فقد كنا نؤثر أن ننقل الكلمتان الإنجليزيتان المختلفتان إلى كلمتين عربيتين مختلفتين، وليس ذلك بعزيز على الأستاذين المؤلفين. وهناك ملاحظة أخرى أخذتها العين أخذاً أثناء التصفح السريع، فقد أراد الكاتب أن يورد تعليل الوجدان (ص146) فقال: (التعليل الجثماني - ومعناه أن الوجدان راجع إلى تغيرات مادية خاصة تحدث في الجسم، فينشأ عنها الشعور بالسرور أو الألم. وقد أجريت تجارب لإثبات ذلك فوجد مثلاً أن القلب يبطئ في دقاته، وأن التنفس يسرع عند السرور، أما عند الألم فقد شوهد العكس، أي أن القلب يسرع في ضرباته، وأن حركات التنفس تكون بطيئة. . .) وعندنا أن هذا متناقض أوله مع آخره، أو على الأقل كتب بعبارة يفهم منها القارئ هذا(78/73)
التناقض، لأنه يريد أن يثبت أن علة الوجدان جثمانية، أي أن الحركة الجثمانية تكون أولاً، ويكون السرور أو الألم ثانياً، ولكن قوله إنه قد أجريت تجارب فوجد أن الجسم يحدث به كذا وكذا عند السرور، قد يفهم منه أن السرور ينشأ فتنشأ تبعاً له حالة معينة بالجسم، وهو عكس ما أريد إثباته
ولا يسعني في ختام هذه الكلمة القصيرة، وقد كان المقام يستدعي الأسهاب، إلا أن أسجل رغبة أحسستها عند تصفحي الكتاب، وتلك أنني وددت لو خرج هذا السفر الجليل الممتع المفيد، أجمل انسجاماً من حيث الطبع، وبخاصة في مواضع العنوانات وحجومها.
وإني لأنتهز هذه الفرصة لأهنئ المؤلفين الفاضلين على هذا التوفيق، وأهنئ قراء العربية أن كان لهم هذان المؤلفان الفاضلان
زكي نجيب محمود
وجهة الإسلام
تأليف جماعة من المستشرقين
ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده
كتاب في نحو مائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير، ألفه بالإنجليزية الأساتذة هـ. أ. ر. جب أستاذ اللغة العربية بجامعة لندن، ل. ماسينون الأستاذ بجامعة باريس وكلاهما عضو بالمجمع اللغوي الملكي المصري، ج. كامبفماير بجامعة برلين، ك. برج بجامعة ليدن واللفتنانت كولونل فرار بالجيش الهندي سابقاً. ولقد قام بتعريب هذا الكتاب الأديب محمد عبد الهادي أبو ريدة خريج قسم الفلسفة بالجامعة المصرية
وإنك لتفهم موضوع الكتاب من تلك العبارة التي جاءت في مقدمة الترجمة العربية بقلم الأستاذ جب: (فأما الذي يرمي إليه مؤلفو هذا الكتاب فهو أن يحللوا تيارات الفكر التي تعبر عن حالة المسلمين ثم النزعات التي تتردد بينهم ليراها القارئ الأوربي اللبيب الذي له بعض الخبرة بحياة البلاد الشرقية). ولقد قسم المؤلفون موضوعاته بينهم فاختص الأستاذ ماسينيون بمن اتصل من العمال المسلمين اتصالاً وثيقاً بالحياة الأوربية، وتكلم الأستاذ كامبفماير عن النظم الجديدة في الحياة الاجتماعية والعقلية في آسيا الغربية، وانفرد(78/74)
الكولونل فرار بدراسة الإسلام في الهند وعلى الخصوص علاقته بالناحية السياسية، أما الأستاذ برج فقد اتخذ إندونيسيا موضعاً لبحثه، وقدم الأستاذ جب هذه الدراسات في فصل طويل ممتع عن الإسلام والحالة في العالم الإسلامي
فهذا كتاب جدير بالدراسة، حري بأن يقرأه الأديب المسلم ليرى رأي علماء المشرقيات، أو بعبارة أخرى ليرى مقدار فهمهم للعالم الإسلامي، ونزعتهم الفكرية أثناء الكتابة عن أحوال الإسلام، وسيرى فيه كثيراً من الأفكار الدقيقة والنقط الهامة الجديرة بالبحث والتحليل كما أنه سيرى بعض أغلاط المستشرقين في نظرتهم إلى العالم الإسلامي، فكثير منهم يقف من هذا الموضوع موقف من يزور مدينة كبيرة لأول مرة فيكون أسرع من أهلها أو أكثر تأثراً منهم بمواضع الدهشة والقوة فيها، على حين أنه يغفل عن كثير من نواحي ذاتيتها ومعاني روحها وألوان شخصيتها مما لا يستطيع معرفته حق المعرفة إلا أبناؤها الخلص
أما عن التعريب فآثار العناية بادية في الموضوعات كلها على العموم، وإن كان المعرب أحياناً يتأثر بالتركيب الإنجليزي والأخيلة الإنجليزية في طريقة سياق الأفكار وتسلسلها في الجملة الواحدة فتلتوى العبارة العربية التواء يلبسها الروح الإنجليزي، مما يسبب صعوبة فهمها أحياناً، أو يخرج بها عن المراد منها أحياناً أخرى. خذ لذلك مثلا قوله: (ولعل من سداد الرأي توقعنا أن يكون انتشار الإسلام على هذه الأصقاع الشاسعة واشتماله على أجناس كثيرة وتقاليد قديمة أمرين سيحولان دون بلوغ وحدة حقيقية في المدنية الإسلامية، وإنه رغم اتحاد المظاهر الدينية فإن بقاء العادات التي رسخت قديماً وأساليب التفكير المختلفة في طبيعتها اختلافاً لا يدع لاتفاقها سبيلاً سيؤثر تأثيراً قوياً في ثقافة كل إقليم على حدة حتى لا يترك مجالاً لتقاليد شاملة ولا لأي وحدة تامة في الشعور وحتى يوجد عدداً من الثقافات الإقليمية الإسلامية)
على أن المعرب الفاضل قد أحسن صنعاً على أي حال بتقديم هذا الكتاب القيم إلى لغة الضاد
الخفيف(78/75)
العدد 79 - بتاريخ: 07 - 01 - 1935(/)
الرسالة في عالمها الثالث
بين عيد الفطر الاسلامي، وعبد النيروز المسيحي، يقع ميلاد الرسالة! فكأن الرسالة لاتنفك تجري على قدر من الله في السفارة بين عهد وعهد، والوساطة بين فكرة وفكرة! وفي هذه الفترة التي يعاود الناس فيها سلام الروح، وسكينة القلب، فيتعاطفون على القرابو، ويخالصون على المودة، وينفضون ايديهم من اوزار العيش حيناً لتتأنس النفوس بالتحية، وتتلامس القلوب بالمصافحة، لاتجد الرسالة غضاضة الاثرة اذا تبسطت في الحديث عن نفسها، الى اصدقائها وقرائها، فان العيد يقوى شعور الانس، والسرور يهلهل رداء الحشمة
تحبو الرسالة للسنة الثالثة من عمرها، أو تخطوا الخطوة الثالثة من غايتها، وهي بحمد الله اشد ما تكون استمساكاً بالمبدأ، واستشرافاً للغرض، واستعدتداً للامر، واستبصاراً بالماضي، واطمئناناً للمستقبل
ولقد كان من دلائل رضي الله عن جهادها أن ألان لها أعطاف الشدائد، وسهل عليها مصاعب النجاح، ومكن لها من قلوب الناس، فآثروها بالعطف، وآزروها بالعون، ووجدوا فيها متنفساً لخوارهم المكظومة، ومفيضاً لعواطفهم الجائشة، فتعارفت فيها الاسماء الغريبة، وتآلفت بها الأنساب القريبة، واشرقت بين سطورها في هذه العهود السود ومضات المجد التليد، كما تومض المنارة الهادية في حواشي الافق المكفر ونواحي المحيط المضطرب
لا نريد ان نعوج لما كان، ولا أن نعد بما يكون، فان العمل الحي ينمو بطبعه، ويقصد الى ماده بفطرته؛ وحية الرسالة إنما تنبثق من إيمانها، ومن إخلاص إخوانها، فلا يكدى لها شباب ولايبطئ بها وهن
ولقد جربنا في استمالة الفوز كل حيلة فما أفاد غير الايمان: جربنا التسامح فبطر الصديق، والهوادة فضرى العدو، والثقة فنغل الناصح، والمحبة فثارت المنفعة، والكد فهاج المرض، فلولا الايمان بصحة الفكرة، وشرف الوسيلة، ونبل الغاية، وضرورة العمل، لانقطعت الاسباب وابدعت ركائب الامل
إن فيما يحمله البريد إلينا كل يوم من رضى القراء في مختلف الانحاء لأجحماعاً على الخطة التي نهجناها للرسالة. حتى أولئك الذين كانوا يحبون أن تخف أو تُسف عادوا فصالحوا بين أذواقهم وذوقهم، ولاءموا بين الخلاقهم وخلقها، ففضلوا ان تظل كما هي للخاصة فلا تتعلق بغير الجميل من الأدب والفن والخلق(79/1)
على أن في الادب السنى مناحى للذة لا تجد بعضها في الأدب الدنى على ثرثرته وإغرائه. فان فيه غذاء لذوقك وذهنك ووجدانك وشعورك؛ أما غذاء الآخر على غثاثته فيغنيك عنه إن شئت نظرة أثيمة أو حكاية مخزية. وسنكشف رويداً عن هذه المناحي الممرعة الممعتة، فتساعد المربين على تنمية الذوق، وتعين المعلمين على إحياء المطالعة
وانصراف الشباب عن المطالعة الجدية داء أعيا على العلاج وأشفى على الخطر. وهو وحده علة ما نشكوه من بطء الثقافة وضعف الصحافة وقلة الانتاج وشيوع الجهالة. وما قتل الصبرَ على قراءة الكتاب المفيد والصحيفة الرشيدة إلا هذا الهُراء الذي نفقَت سوقه في المجتمع لِبَرَم الرجال من الأزمة، وسأم الشباب من العطلة، وسوء ظن الناس بالجد في علاج هذى الحال
إن من مباديء الرسالة أن تكون صورة لمنازع الأدباء وسجلاً لألوان الأدب في هذا العصر، فهي لذلك تعرض على قرائها الحين بعد الحين آراء مختلفة وأقلاماً جديدة؛ واختلاف الآراء لا يدل على غير مجرد العرض، وتعاقب الأقلام ل يعني أن بعضها خير من بعض. وقد ظهرت في العالم المنصرم بعض هذه الأقلم البارعة، فكانت براءة من الله للرسالة أنها تقوم بما تعد وتُوفي بما تُدم. وستظهر في هذا العالم أمثال هذه الأقلام من ألف بينها الفن السَّرِيُّ، وجمع بين اهلها الدرب القاصد. كذلك فتحنا بابين جديين ابتداء من هذا العدد، وهما: (من روائع الشرق والغرب) وسننشر فيه أروع ما نقرأه من الآداب الاجنبية منقولاً الى العربية العالية، وأبدع ما نختاره من الآداب العربية مأخوذاً من العصور المختلفة. وفي هذا الباب لقاح مثمر لأدبنا، وإحياء لمآثر أدبائنا، وصقل لملكات النشء بالماذج الجميلة. ثم (من هنا ومن هناك) وسنلخص فيه ما نقع عليه من طريف المسائل وجديد الآراء في الصحف أو في الكتب. ذلك إلى ما اعتزمناه من توسيع باب القصص، وتوجيه النظر في بحث المؤلفات الحديثة القيمة إلى التحليل والنقد العادل
بقي أن نؤدي فريضة الشكر لأولئك القراء المخلصين الذين عطفوا على هذا الجهد وساهموا فيه بالتشجيع والتنويه والنصية، وللأصدقاء من الأدباء الذين ما برحوا يلبون دعوة الوطن الأكبر فشاركوا في تبليغ الرسالة، وأعانوا على تأدية الأمانة، وأضافوا خيرهم الغمر إلى تراث آبائنا الخالد(79/2)
وإنا لنتقدم إلى هؤلاء وهؤلاء بالتهنئة الخاصة بالعام الجديد، والعيد السعيد، والأمل الناشيء في كل نفس، والنشاط لباديء في كل أمر، وندعو الله مخلصين أن يقرن العام باليمن، ويجدد العيد بالخير، ويعقد الأمل بالنجح، ويصل النشاط بالرأي والعزيمة
ثم نجدد لأمى الرسالة العهد والعزم متعمدين على فضل الله، مطمئنين الى عطف الأمة، متكئين على عون الشباب، معتدين باخلاص النية، معولين على إجاة العمل؛ وفي بعض ذلك الضمانً الاوفى، والسندُ الأقوى، والمرفأ الأمين
احمد حَسن الزيات(79/3)
الله أكبر!
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلسْتُ وقد مضى هَزيعٌ من الليل، أهيء في نفسي بناءَ قصةٍ أُدِيرها على فتى كما أَحَبَّ. . . خبيثٍ داعر، وفتاةٍ كما أَحبَّتْ. . . غذراءَ ومتمجنة؛ كلاهما قد دَرَسَ وتخرج في ثلاثة معاهد: المدرسةِ، والروايات الغرامية، والسيما. وهو مصريٌ مسلم، وهي مصرية مسيحية. وللفتى هَناتٌ وسيئاتٌ لايتنزه ولايتورع؛ وهو مِن شبابه كالماء يغلي، ومِن أناقتِه بحيث لم يبقَ إالا أن تلحقه ناءُ التأنيث. . . وفد تشعبت به فنون هذه المدينة، فرفع اللهُ يده عن قلبه لا يبالي في اي أوْدِ يتها هلك. وهو طلبُ نساء، دابه التجوال في طرقهن، يتبعهن ويتعرض لهن، وقد الفته الطرق حتى لو تكلمت لقالت: هذا ضرب عجيبٌ من عربات الكَنْس. . .!
وللفتلة تبرُّجٌ وتهتك، يَعْبَثُ بها العبث نفسه، وقد اخرجتها فنون هذا التأنثِ الاوربي القائم على فلسفة الغريوة، وما يسمونه (الادب المكشوف) كما يثوره اولئ الكتابُ الذين نقلوا إلى الانسانية فلسفة الشهوات الحرة، عن البهائم الحرة. . .! فهي تبرزُ حين تخرج من بيتها، لا إلى الطريق، ولكن إلى نظرات الرجال؛ وتظهر حين تظهر، مُسوَّرةً لا بتلون نفسها مما يجوز وما لايجوز، ولكن بتلون مِراتها مما يُعجب وما لا يُعجب
وَكِلا ثْنيهما ل يُقيم وزناً للدين، والمسلم والمسيحيُّ منهما هو الاسم وحده؛ إذ كان من وَضع الوالدين رحمهما اللهّ والدين حرية القيد لا حرية الحرية؛ لإنتَ بعد ان تُقيد رذائلك وضراوتك وشر وحيوانيتك - أنت من بعد هذا حرٌّ ماوسعتك الارضُ والسماء والفكر؛ لأنك من بعد هذا مُكملٌ للانسانية مستقيمٌ على طريقتها. ولكن هَبْ حِماراً تفلسفَ واراد أن يكون حراً بعقله الحماري؛ أي تقرير المذهب الفلنسفي الحماري في الادب. . . فهذا إنما ينبغي إطلاق حريته، اي تسليط حماريته الكاملة على ما يتصل به من الوجود
وتضى قصتي في أساليب مختلفة تمتحن بها فنونُ هذه الفتلة شهوات هذا الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولاتزال تمنعه من حيث لاترده؛ وما ذلك من فضيلةٍ ولا امتناع، ولكنها غزيرةُ الانوثة في الاستمتاع بسلطانها، واثباتها للرجل ان المرأة هي قوة الانتظار وقوة الصبر، وأن هذه التي تحمل جنينها تسعة أشهر في جوفها، تُمسك رغبتها في نفسها(79/4)
مدة حَملٍ فكريٍ إذا هي أرادت الحياة لرغبتها، ليون لوقوعها وتحققها مثلُ الميلاد
ولكن الميلاد في قصتي لايكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها. فان المرأة في رأيي - ولوكانت حياتها محدودةً من جهاتها الاربع بكبائر الاثم والفاحشة - لايزال فيها من وراء هذه الحدود كلها قلبٌ طبيعته الامومة، أي الاتصالُ بمصدر الخلق، أيْ فضائل العقيدة والدين؛ وما هو الا أن يتنبه هذا القلبُ بحادثٍ يتصل به فيبلغُ منه، حتى تتحول المرأة تحول الارض من فصلها المقشعر المجدب، الى فصلها النضر الاخضر
ففي قصتي تُذْعنُ الفتاةُ لصاحبها في يومٍ قد اعترتها فيه مخافةٌ ونزل بها همٌ وكادتها الحياةُ من كيدها؛ فكانت ضعيفة النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة. وتخلو بالفتى وفكرها منصرفٌ إلى مصدر الغيب، مؤملٌ في رحمة القدر. ويخلبها الشابُ خَلاَبةَ رُعُونته وحبه ولسانهِ، فيعطيعا الألفاظ كلها فارغة من المعاني، ويقر بالزواج وهو منطوٍ على الطلاق بعد ساعة. فاذا اوشكت الفتاة ان تصرع تلك الصرعة دوي في الجو صوتُ المؤذك: (الله أكبر!)
وتُلْسَعُ الفتاة في قلبها، وتتصل بهذا القلب روحانيةُ الكلمة، فتقع الحياة السماوية في الحياة الارضية، وتنبه العذراءُ إلى ان الله يَشهدُ عارَها، ويَفْجَؤُها انها مُقدمةٌ على ان تُفيد من نفسها ما لا يصلحه المستحيل فضلاً عن الممكن، وترنو بعين الفتلة الطاهرة من نفسها إلى جسم بفيٍ ليستْ هي تلك التي هي؛ وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسقٍ ليس هو ذا الذي هو؛ ويَحْكي لها المكان في قلبها المفطور على الامومة - حكايةً تثور منها وتشمئو؛ ويصؤخ الطفلُ المِسكينُ صَرْخته في أذنها قبل ان يُولد ويُلقى في الشارع. . .!
الله أكبر! صوتٌ رهيبٌ ليس من لغة صاحبها ولا من صوته ولا من خِسته، كأنما تفرغ السماءُ فيه مِلء سحابةٍ على رِجْسِ قلبها فتنفيه حتى ليس به ذرةٌ من دَنَسِهِ الذي رَكِبَهُ الساعة. كان لصاحبها في حِس أعصابها ذل الصوتُ الأسودُ المنطفيء المبهم، المتلجلج مما فيه قوة شهواته؛ وكان للمؤذن صوتٌ آخر في روحها؛ صوتٌ أحمر مستعلُ كمْعَعَةِ الحريق، مجلجلٌ كالرعد، واضحٌ كالحقيقة، فيه قوة اللهّ!
سمعتْ صوتَ السلسلة وقَعْقَعَتها تُلوَى وتُشد عليها، ثم سمعتْ صوتَ السلسلة بعينها يُكسر حديدُها ويتحطم(79/5)
كانت طهارتُها تختنق فنفذتْ إليها النسمات؛ وطارت الحمامةُ حين دعاها صوتُ الجو، بعد أن كانت أَسَفتْ حين دعاها صوتُ الأرض. طارت الحمامة، لأن الطبيعة التفتتْ فيها لفتةً أخرى.
ويكرر المؤذن في ختام أذانه: (الله أكبرُ الله أكبر!) فاذا. . .
* * *
وتَبلدَ خاطري فوقفتُ في بناء القصة عند هذا الحد، ولم أدرِ كيف يكون جوابُ (إذا. . . .) فتركتُ فكري يعمل عمله كما تُلْهِمه الواعيةُ الباطنة، ونِمْت. . . .
ورأيتُ في نومي أني أدخل المسجد لصلاة العيد وهو يعجُّ بتكبير المصلين: (الله اكبرُ الله أبر!) ولهم هديرٌ هدير البحر في تلاطمه. وأرى المسجد قد عص بالناس فاتصلوا وتلاحموا؛ تجد الصف منهم على استوائه كما تجد السطؤَ في الكتاب، ممدوداً محتبكاً ينتظمهُ وضْعٌ واحد، وأراهم تابعوا صفاً وراء صف، ونسقاً على نسق، فالمسجد بهم السنبُلة مُلئتْ حباً ما بين أولها وآخرها؛ كلُّ حبة هي في لفٍ من اهلها وشملها، فليس فيهن على الكثرة حَبةٌ واحدة تُميزُها السنبلة فَضل يمييز، لا في الأعلى ولا في الأسفل
وأقف متحيراً مُتلدداً ألتفتُ ههنا وههنا، لا أدري كيف أخلُصُ إلى موضع أجلس فيه؛ ثم أمضي أتخطى الرقاب أطمع في فُرْجةٍ اقتحمها وما تنفرج، حتى انتهىَ إلى الصف؛ وانظرُ إلى جانب المحراب شيخاً بادناً يملأ موضع رَجلين وقد نفح منه ريحُ المسك، وهو في ثيابٍ من سُندُسِ خُضر. فلما حاذْيته جَمع نفسه وانكمش. فكأنما هو يُطوي طياً، ورأيت مكاناً وسعني غحططتُ فيه إلى جانبه وأنا اعجبً للرجل كيف ضاق ولم اضيق عليه، وأين ذهب نصفه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زيماً على زيمٍ وامتلاءً على امتلاء.
وجعلتُ أْحدُسُ عليه طني، فوقع في نفسي انه ملك من ملائة الله قد تمثل في الصورة الآدمية فاكتتم لأمرٍ من الأمر
وضج الناسُ: (الله أكبرُ الله أكبر!) في صوت تقشعر منه جلودُ الذين يخشون ربهم، غير أن الناس مما ألفوا الكلمة ومما جهلوا من معناها - لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام، اما الذي إلى جانبي فكان ينتفض لها انتفاضةً رحبتني منع رجا، إذ كنت ملتصقاً به مناكباً له؛ وكأن المسجد في نفضه إيانا كان قطاراً يجري بنا في سرعة السحاب، فكل ما فيه يرتج(79/6)
ويهتز. ورأيت صاحبي يّذْهل عن نفسه، ويتلألأ على وجهه نورٌ لكل تكبيرة، كأن هناك مصباحاً لايزال ينطفيء ويشتعل؛ فقطعتُ الرأي انه من الملائكة
ثم اقيمت الصلاةُ وكبر الامام وكبر اهلُ المسجد، وكنت قرأتُ أن بعضهم صلى خلف رجلٍ من عظماء النفوس الذين يعرفون الله حق معرفته؛ قال: فلما كبر قال: (الله) ثم بُهت وبقي كأنه جسدٌ ليس به رُوح من إجلاله لله تعالى؛ ثم قال: (أكْبَرْ) يَعْزِم بها عزماً، فظننتُ أن قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره. قلتُ أنا: أما الذي الى جانبي فلما كبر مد صوته مداً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نورً لملأ ما بين الفجر والصُّحى
* * *
وعرفتُ واله من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأني لم ادخله من قبل، فكان هذا الجالسُ الى جانبي كضوء المصباح في المصباح، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحي عن معانٍ ادختني من الدنيا في دُنيا على حِدَة. فما المسجدُ بناءً ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيحٌ للعالم الذي يموج من حًوْله ويضطرب؛ فان في الحياة أسبابَ الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد إذ يجمع الناس مراراً في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس؛ ولا تدخله إنسانية الانسان إلا طاهرة منزهةُ مسبغةً على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعارَ الهرِ الذي يُسمى الوضوء، كأنما يغسل الانسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميعُ في هذا المسجد استوا واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، ويكونون جميعاً في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخرون الى الأرض جميعاً ساجدين لله، فليس لرأسٍ على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقق الانسانية وحدتها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجد العالمُ صوابه إلا ههنا؟
فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يَزيغُ به الاجتماع. هو فِكْرٌ واحدٌ لكل الرؤس؛ ومن ثم فهو حلٌ واحد لكل المشاكل، وكما يُشق النهر فتقف الارضُ عند شاطئيه لاتتقدم، يُقام المسجد فتقف الارض بمعانيها التُرابية خلف جدرانه لا تَدْخله(79/7)
* * *
وما حَرَكةٌ في الصلاة إلا أولها (الله أكبر) وآخرها (الله أكبر)؛ ففي ركعتين من كل صلاة - إحدى عشرة تكبيرة يجهر المصلون بها بلسان واحد؛ وكأني لم أفطن لهذا من قبل، فأيُّ زِمامٍ سياسي للجماهير وروحانيتها أشدُّ وأوثقُ من زمام هذه الكلمة؟
* * *
ولما قُضيت الصلاةُ على المَل وسلم علي، ورأيته مقبلاً محتفياً، ورأيتني أثيراً في نفسه، وجالت في رأسي الخواطر فتذكرتُ القصة التي أريد أن اكتبها؛ وأن المذن يكرر في خاتمة أذانه: (الله أكبرُ الله أكبر) فاذا. . . .
وقلت لَلأْسألنه، وما أعظم أن يكون في مقالتي أسطرٌ يُلهمها ملك من الملائكة! ولم أكدْ أرفع وجهي اليه حتى قال: (فاذ لطمتان على وجه الشيطان؛ فَولَى مُدبراً ولم يُعقب؛ ووضعت الكلمةُ الآليةُ معناها في موضعه من قلب الفتاة، فلأياً بلأيٍ ما نجت
إن الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولنه هو الفولاذُ السيكُ الصلبُ الذي تُصفح به أخلاقها المدافعة
الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟
إنها تنشد هذا النشيد:
* * *
بَينَ الوقتِ والوقتِ من اليوم تَدقُ ساعةُ الاسلام بهذا الرنين: الله أكبرُ الله أكبر، كما تدق الساعةُ في موضعٍ ليتكلمً الوقتُ برنينها
* * *
الله أكبر. بَيْن ساعاتٍ وساعاتٍ من اليوم ترْسِل الحياةُ في هذه الكلمة نداءها تهتفُ: أيها المؤمن، إن كنتَ أَصبْتَ في الساعات التي مضتْ، فاحتهدْ للساعات التي تتلو؛ وإن كنتَ أخطأتَ، فكفر، وامحُ ساعةً بساعة؛ الزمنُ يمحو الزمن، والعملُ يغير العمل، ودقيقةٌ باقيةٌ في العمر هي أملٌ كبير في رحمة الله
* * *
بين ساعات وساعات، يتناول المؤمنُ ميوانً نفسه حين يسمع: الله أكبر. . ليعرف الصحة(79/8)
والمرضَ من نيته؛ كما يضَعُ الطبيب لمريضه بينَ ساعاتٍ وساعاتٍ ميزان الحرارة
* * *
اليومُ الواحد في طبيعة هذه الارضُ عمْرٌ طويل للشر، تكاد كلُّ دقيقةٍ بشرها تكون يوماً مختوماً بِلَيْلٍ أسود؛ فيجب أن تقسمَ الأنسانيةُ يومها بعدد قارات الدنيا الخمسْ، لأن يومَ الأرض صورةٌ من الأرض. وعند كل قسم: من الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعِشاء، - تصيح الأنسانيةُ المؤمنةُ مُنَبهةً نفسها: الله أكبر، الله أكبر
* * *
بين ساعات وساعات من اليوم يَعْرِص كل مؤمن حسابَه، فيقوم بين يَدَي الله ويرفعه إليه. وكيف يكون من لا يزال ينتظر طولَ عُمره بين ساعاتٍ وساعات - الله أكبر.
* * *
بين الوقت والوقت من النهار والليل تدوي كلمةُ الروح: الله أكبر. ويُحييها الناسُك الله أكبر. لعتادَ الجماهير كيف يُقلدون الى الخير بسهول، وكيف يحققون في الأنسانية معنى اجتماع أهل البيت الواحد؛ فتكون الأستجابةُ إلى كل نداء اجتماعي مغروسةً في طبيعتهم بغير أستِكْراه
* * *
النفس أسمى من المادةِ الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرِب، ولا دِينَ لمن لا تشمئزُّ نفسُه من الدناءة بأنَفَة طبيعية، وتحمل همومَ الحياة بقوةٍ ثابتة
لا تضطربوا؛ هذا هو النظام، لاتنحرفوا؛ هذا هو النهجْ. لاتتراجعوا؛ هذا هو النداء. لن يَكْبرَ عليكم شيءٌ ما دامت كلمتُكم: الله أكبر.
طنطنا
مصطفى صادق الرافعي(79/9)
مصر وماء النيل وحوادث الحبشة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تجري الآن على حدود لحبشة حودث خطيرة، ويكشف الاستعمار الايطالي عن نياته ومطامعه نحو الحبشة شيئاً فشيئاً؛ وقد احتلت الجنود الايطالية بالفعل بعض مواقع ومراكز حبشية على مقربة من حدود السومال الايطالي، وما زالت إيطاليا تحشد قواتها في تلك الانحاء، وترخق الحبشة بمطالبها ودعاويها؛ والحبشة من جانبها تلتمس تدخل عصبة الامم، وتشهدها على هذا الاعتداء، ولكن ماذا عسى أن تفعل عصبة جنيف إزاء خطة مبيتة مدبرة تترقب إيطاليا الفاشستية الفرصة لتنفيذها منذ أعوام؟ ولقد بينا في مقال سابق أدوار هذا النضال الذي يضطرم منذ أواخر القرن الماضي بين الحبشة والاستعمالا الغربي، وكيف أن ايطاليا استاعت في وقت من الاوقات أن تفرض حمايتها على الحبشة بعد أن احتلت مصوع والارتيرية، وكيف استطاعت الحبشة لأعوام قلائل أن تحطم هذا النير الذي حاولت إيطاليا أن تضعه في عنقها، وأن تسحق الجيوش الايطالية في موقعه (عدوه) الشهيرة (سنة 1896)، وأن ترغم إيطاليا وأوربا على احترم استقلالها. وسوف تنظر عصبة الأمم في هذا النزاع بعد أيام قلائل، ولكنا نستطيع أن نتنبأ منذ الآن أن العصبة لن تستطيع شيئاً، وأنها كما فشلت في المسألة المنشورية ورد عدوان اليابان عن الصين، ستلقي مثل هذا الفشل في حل النزاع الايطالي الحبشس، وسيكون القول الفصل للقوة المادية، فاذا استطاعت إيطاليا أن تتوغل في الحبشة فسوف تمضي في تنفيذ خطتها المرسومة لغزو الحبشة واحتلالها كلها أو بعضها، ولن ينقذ الحبشة من هذا الخطر على حرياتها واستقلالها سوى الاعتماد على نفسها وما تستطيع أن تتذرع به من وسائل المقاومة والدفاع
وقد كان حرياً ان تلقى هذه الحوادث صداها في مصر وأن تثير فيها أعظم اهتمام: فبين مصر والحبشة علائق تاريخية قديمة، والشعب الحبشس تابع من الوجهة الدينية للكنيسة القبطية المصرية، وبطريرك الحبشة او زعيمها الديني مصري بعينه البطريرك المصري؛ ومن جهة اخرى فان لمصر مصالح خطيرة في الحبشة تتعلق بمياه النيل ومنابعه؛ فالنيل لأزرق الذي يمد النيل بكميات عظيمة من الماء والطمى المخصب ينبع من بحيرة تبسانا(79/10)
الحبشية التي تقع مستعمرة ارتيرية الايطالية؛ ولايطاليا في هذه المنطقة مطامع اقتصادية كبيرة. والحبشة لا تجهل أهمية تسانا ولا خطورة المصالح الخارجية المتعلقة بمائها؛ وقد بذلت انكلتر في العهد الاخير جهوداً عظيمة لتحصل من الحبشة على امتياز بماء هذه البحيرة حفظاً لمصالحها الاقتصادية في السودان، وخشية أن تنافسها في ذلك دولة أوربية أخرى فتهدد هذه المصالح؛ وكانت الحكومة الحبشية تميل إلى منح هذا الامتياز لشركة أمريكية كبيرة، وقدذهبت بالفعل شوطاً بعيداً في هذا السبيل، وقامت هذه الشركة ببعض الأعمال والاجراءات التمهيدية في منطقة البحيرة، ولكن الحبشة آثرت في النهاية أن تستبقي إشرافها وسيطرتها على البحيرة، ولم تكن جهود السياسة البريطانية بعيدة عن هذا القرار. وتعمل الساسة البريطانية اليوم على أن تضطلع مصر بأعباء النفقات التي تقتضيها المشاريع الخاصة بمنطقة تسانا، وقد بذلت مصر فعلاً مبالغ طائلة في هذا السبيل.
كان يجدربمصر إذن أن تتبع حوادث الحبشة بمنتهى الاهتمام، وأن تقدر جميع الاحتمالات التي تترتب على نجاح إيطاليا في غزو هذه المنطقة، إذا قدر لخطتها النجاح؛ ولكن مصر ترغم بكل أسف على أن تقف من هذه الحوادث موقف المتفرج الذي لايعنيه من الأمر شيء؛ والسياسة الانكليزية تأخذ بيدها كل الامر سواء باسمها أو بأسم مصر؛ والسياسة الانكليزية تحرص على مصالحها في السودان قبل كل شيء. وقد كان التوازن الانكليزي الايطالي في تلك المنطقة يحول دون وقوع تطورات جديدة؛ ولكن الظاهر أن إيطاليا الفاشستة استطاعت أن تتفاهم مع السياسة البريطانية، وأن تقنعها بوجوب التسليم بمطامع إيطاليا وتفوق مصالحها في المنطقة الحبشية، وهي مطامع نوهت باحترامها المعاهدة الثلاثية التي عقدت في سنة 1906 بين إيطاليا وانكلترا وفرنسا؛ وإيطاليا تقوم الآن بتنفيذ خطة مقررة لا ترى فيها انكلترا أو فرنسا ما يدعو الى الاعتراض، بل لقد تقدمت السياسة البريطانية لمعاونة الاستعمار الايطالي على التوسع، فحملت على عقد معاهدة جغبوب، والنزول لايطاليا عن بعض اراضيها، وعادت هذا العام فنزلت لايطاليا باسم مصر عن جزء من واحة العوينات الواقعة في السودان الغربي مما يلي برقة، وها هي الآن تترك ايطاليا حرة في تدبير اعتدائها غبى الاراضي الحبشية، وقد أشرنا في مقال سابق الى أن اهم عامل في وقوف السياسية البريطانية هذا الموقف هو ظهور النفوذ الاقتصادي الياباني(79/11)
في تلك المنطقة، وهو نفوذ تجارية بكل ما وسعت واينما ان
* * *
كان ماء النيل وما زال اعظم قنية تحرص عليها مصر؛ ومنذ فجر التاريخ تشعر مصر بح أن حياتها تتوقف على مياه هذا النهر الخالد، وبأن كل ما حبتها به الطبيعة من النعاء والخصب إنما هو من جريانه وفيضه، وكم نكبت مصر، وعانت أهوال القحط والوباء، وفقدت من أبنائها الملايين، لان النيل لم يسعفها بوافر فيضه. ومصر تعمل منذ اقدم العصور للفوز بأكبر قسط من هذا الغيث المبارك، وتسعى بكل ما وسعت لضبطه واستثماره، وكثيراً ما سير الفراعنة الحملات الى أعالي النيل للوقوف على أسرار هذا النهر العظيم واستقصاء منابعه والسهر على سلامة مجراه. وكان طبيعياً أن ترث دول مصر الاسلامية هذا الاهتمام بأمر النيل؛ واي دولة لم تقدر أن النيل هو حياة مصر؟ وكانت حكومات السلاطين تعني باستقصاء كل ما يتعلق بمجرى النيل واحوال جنوبي مصر والنوبة؛ وكانت تعرف ان الحبشة تسيطر على قسم هام من منابع النيل، وكانت الحبشة تقدر من جانبها اهمية هذا الاشراف الذي يتعلق بمصالح لمصر تعرف أنها حيوية جوهرية، وتتخذ هذا الأشراف في أحيان كثيرة وسيلة لنوع من الضغط السياسي تتذرع به لتحقيق بعض مصالحها ومطالبها المعلقة على إرادة مصر؛ ذلك أن مصر كانت تسيطر على بيت المقدس وبها الاماكن النصرانية المقدسة، وتسيطر على ارواح ملايين من النصارى، وبها مركز البطريركية المرقسية التي تتبعها الحبشة من الوجهة الدينية. ففي عصور الاضطراب او الاضطهاد حيثما يصيب المصالح النصرانية او الرعايا النصارى شيء من الظلم او الغبن، كان ملوك الحبشة يسعون لدى سلاطين مصر لرفع هذا الاضطهاد، او لتحقيق بعض المنح كأن تعاد بعض الكنائس التي هدمت، او يطلق سراح المعتقلين، او غير ذل من المطالب؛ وكان ملوك الحبشة يجدون دائماً في التلميح إلى ماء النيل وإلى منابعه الواقعة تحت إشرافهم اداة قوية لتحيقي مطالبهم، وكذلك كانت سيطرتهم على أرواح كثير من الرعايا المسلمين في بعض الولايات الحبشية عاملاً آخر من عوامل الضغط، مثلما كانت سيطرة السلاطين على أرواح الرعايا النصارى
وقد انتهت إلينا بعض وثائق قديمة هامة تلقي ضوءاً على اهمية هذا التجاذب السياسي بين(79/12)
مصر والحبشة، ومداره ماء النيل والتنويه بخطورته واحتمال حجزه عن مصر؛ ومن ذلك وثيقة طريفة وجهت من ملك الحبشة إلى سلطان مصر سنة 847هـ (1443م)، وكان نجاشي الحبشة يومئذ (زرع يعقوب) الملقب بقسطنطين، وسلطان مصر هو الظاهر جقمق الذي تولى الملك سنة 842هـ؛ ووصلت هذه السفارة الحبشية إلى بلاط مصر في 18 رجب سنة 847هـ، على يد وقد حبشي يحمل هدية فخمة الى السلطان منها عدة كبيرة من الجواري والى والاسلحة الذهبية؛ ورسالة طويلة من النجاشي الى السلطان، ينوه فيها بما بلغه من حزمه وعدله وحسن سيرته، وبما كان من تسامح أسلافه السلاطين نحو النصارى، ويعتب عليه فيما بلغه من اضطهاد النصارى في ظل حكمه، في حين أن المسلمين في الحبشة، وهم كتلة كبيرة، يلقون كثيراً من ضروب التسامح والرعاية؛ ويشير إلى سيطرة الحبشة على ماء النيل في هذه العبارة: (وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجر إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة على أن تمنع الزيادة التي تروي بلادم من المشي إليم لأن لنا بلاداً نفتح لها أماكن فوقانية ينصرف فيها إلى أمكامن أخر قبل أن يجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله) وقد لبثت علائق مصر الاسلامية والحبشة عصوراً تدور حول هاتين النقطتين الخطيرتين: المسألة الدينية أعني معاملة مصر لرعاياها النصارى، ومعاملة الحبشة لرعاياها المسلمين، ومسألة مياه النيل؛ وانت مصر تستعمل المسألة الاولى وسيلة للضمان والتوازن في المسألة الثانية؛ وكذلك مسألة إشرافها على اكنيسة القبطية ومن ثم على تعيين المطران الحبشي؛ ومنذ القرن السابع الهجري نجد سلسلة من السفارات والمراسلات المنظمة تتبادلها مصر والحبشة، ففي عصر الظاهر بيبرس وردت مكاتبات ودية من الحبشة إلى سلطان مصر تنويهاً بحسن العلائق بينهما؛ ووردت على مصر سفراة حبشية في عصر الظاهر برقوق من الملك داود نجاشي الحبشة وهو والد قسطنطين السابق ذكره؛ وأرسل الملك الظاهر جقمق سفارة إلى الحبشة رداً على السفارة المتقدمة ولكن النجاشي استقبل رسل السلطان أسوأ استقبال، لان السلطان رد عليه رداً لم يرقه، ولم يعد بتحقيق مطالبه
* * *
ولم تغفل مصر في العصر الحديث هذه الحقيقة الخلدة، وهي أن حياتها من النيل واليه،(79/13)
ومستقبلها الاقتصادي متوقف على حسن استثنارها لمائه؛ وكانت تلك الخرافات القديمة التي تحيط بمنابع النيل العليا قد اخذت تغيض شيئاً فشيئاً، وتبدو اهمية الاحاطة بهذه المناطق وإشراف مصر عليها؛ وكانت عندئذ فتوحات مصر في السودان منذ أوائل القرن الماضي، ثم فتوحاتها في بعض المناطق الحبشية، واستيلاؤها على كثير من هذه الانحاء، ووصول الحملات المصرية إلى اعالي النيل الأبيض ومناطق المطيرة وبحر الغزل، ووقوفها على كثير من أسرار النهر العظيم وطريقة جريانه ووصولها إلى منطقة تسانا في الحبشة، وسيطرتها على مجرى النيل الازرق كله. ثم كانت البعوث الاكتشافية التي اخذت مصر بقسط وافر في إعدادها وتنظيمها لاتشاف منابع النيل، والاحاطة التامة بظروفها الجغرافية، فكانت بعوث أمين باشا (ادوارد شنتزر)، والسير سمويل بيكر، والكبتن سبيك وغيرهم في اواخر القرن الماضي؛ واكتشفت منابع النيل الاصلية في قلب افريقية، ورفع القناع الاخير عن الاساطير التي احاطت بها، وعرفت مصر من أين ياتيها كيف يسير اليها الغيث المبارك
ومنذ اوائل هذا القرن تعنى الحكومة المصرية أكبر العناية بأنشاء المشاريع الهندسية الكبرى سواء في مصر او السودن، لضمان انتفاع مصر بأكبر قسط من مياه النسل، وقد انفقت مصر الى اليو في هذا السبيل عشرات الملايين؛ وان آخر هذه المشاريع مشروعا تعلية خزان أسوان، وإنشاء خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض. وما زالت ثمت مشاريع اخرى في اعالي النيل الابيض، وفي منطقة بحيرة تسانا يراد أن تحمل مصر على القيام بها
* * *
ولا ريب أن السياسة البريطانية تعمل من جانبها على أن ينتفع السوادن بأكبر قسط من مياه النيل، وأن تجني بريطانيا من وراء ذلك أعظم الثمار الاقتصادية، والسياسة البريطانية ما زالت تحمل مصر على غنفاق الملايين في مشاريع النيل السودانية باسم المصالح المصرية؛ وقد استطاعت بريطانيا العظمى ان تستأثر في العهد الاخير بالسيطرة على السودان، وأن تقضي فيه على كل نفوذ فعلي لمصر، والسياسة البريطانية تعترف بحقوق مصر في مياه النيل، ولكنها لا تتأخر عن الضغط على مصر ن هذه الناحية إذا اقتضت(79/14)
مصالحها ذلك، وقد لجأت فعلاً إلى هذا الضغط في أواخر سنة 1924 لمناسبة مقتل السردار، فانذرت مصر في بلاغها النهائي بأن حكومة السودان سترفع كل قيد وتحديد عن ري اراضي الجزيرة، او بعبارة اخرى ستطلق فيها من المياه ما شاءت دون النظر إلى حقوق مصر وحاجاتها
على انه يحسن فيما يتعلق بمسألة تسانا والحبشة ان تفاهم الحكومتان المصرية والبريطانية على الوسائل التي تؤدي الى صون مصالحهما المشتركة في مياه هذه المنطقة، إذا أسفر الصراع الحالي بين إيطاليا والحبشة عن تسرب النفوذ الايطالي الى تلك المنطقة.
ومن واجب الحكومة المصرية أن تتبع ادوار هذا الصراع بمنتهى الاهتمام؛ واما الشعب المصري فلا ريب انه يتتبعه بمنتهى العطق على امة صديقة تربطها بمصر علائق قديمة، وامة باسلة تعمل للذود عن حرياتها إزاء عدوان الاستعمار الغربي
محمد عبد الله عنان المحامي(79/15)
آفة الغة هذا النحو. . . .
للأستاذ علي الطنطاوي
أستأذن أستاذَنا الجليل (الزيات) فاستعير منه هذا العنون. فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في (الرسالة) الثالثة عشرة:
قال الاستاذ: (ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن نحن اليوم، وقبل اليوم، إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوم تلك اللهجة، وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلاب القديم، على ألا يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد، وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها، وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمة التاريخ، وفي خدمة التاريخ؟).
ولقد صدق أستاذنا وبر، واصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لاعرف جماعة من الشيوخ، قرأوا النحو بضعة عشر عاماً، ووقفوا على مذاهبه واقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، واولوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب، ثم لايفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، او خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. . .
ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الاول:
وقد روي السيوطي في (بغية الوعاة) أن الكسائي قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية!. . . وأن الخليل لم يكن يحسن النداء. . . وأن سيبويه لم يكن يدري حد التعجب!
وأن رجلاً قال لابن خالويه: أريد أن تعلمني من النحو والعرية ما أقيم به لساني. فقال له ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني:
لإاي فائدة من النحو، إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ وما الذي يبقي للنحو إذا لم يؤد إلى هذه الغاية، واذا أصبح أصعب فنون العربية وهو لم يوضع(79/16)
إلا لتسهيلها وتقريبها؟
ومن - ليت شعري - يسلك الجادة ليخلص من الوعر ويدنوا من الغاية، إذا رأى من هو أقوى منه وأجلد قد سلكها فانتهت حياته ولم ينته منها، واتته منيته وهو في بعضها. . . يقلب حصباءه، وينبش تربها، وينظر في جوانبها؟. . .
وإذا كان ملك النحاة بعد أن أنفق عمره كله في تعلم الحو وتعليمه، يستشكل عشر مسائل، وتستعصى عليه فيسميها (المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر) ويأمر أن توضع معه في قبره، ليحلها. . . عند ربه! فما بالك بأمثالنا من السوقة؟. .
وكيف نفهم هذا النحو وندركه ادراكاً بله الاستفادة منه؟ وأن نجتنب به الخأ في النطق وفي الفهم؟. . .
ومن يقبل على النحو، وهو يرى هذه الشروح وهذه الحواشي التس تحوي كل مختلف من القول. وكل بعيد من التعليل، وفيه كل تعقيد، حتىما ينجو العالم من مشاكلها مهما درس وبحث ونقب، ولايشتقر في المسألة على قول حتى يبدو له غيره أو يجد ما يرده ويعارضه، القائم على ظهر الحوت، لايميل الى جانب الا ميل به إلى جانب، ولا يدري متى يغوص الحوت، فيدعه غريقاً في اليم. . .
وسبب هذا التعقيد - فيما أحسب - أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى، وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرضاً من أعراض الدنيا، فعقدوه هذا التعقيد وهو لو أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلا بهم، فيأتوهم، فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا. . .
روي الجاحظ في كتاب الحيوان، أنه قال الأخفش: مالك تكتب الكتاب فتبدؤه عذباً سائغاً، ثم تجعله صعباً غامضاً، ثم تعود به كما بدأت؟
قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرهم، أتوني ففسرت لهم الغامض فاخذت منهم!
وروي السيوطي: أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة اين خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟
فقالوا: لا. فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟
فقال: أنا أعرف اسمين. قال: ما هما؟
قال: لا أقول لك إلا بالف درهم!. .(79/17)
وكان نفطويه لا يُقريء كتاب سيبويه إلا إذا أخذ الرسم، من أل ذلك اتخذ النحاة هذا التعقيد سنة جروا عليها، وغاية تواطأوا على بلوغها، لتتم الحاجة إليهم وتثبت لهم مكانتهم، وتستمر الحاجة إليهم، حتى ان أبا علي الفارسي، لما سأله عضد الدولة بن بويه أن يصنف له تاباً في النحو - وصنف الايضاح، واوضح فيه النحو وقربة حتى أتى عليه عضد الدولة ليلة، واستقصره وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، أخس أبو علي بالخطأ، وشعر [انه خرج على هذه الخطة التي اختطوها لانفسهم: خطة التعقيد. . . فعمد إلى تدارك الخطأ، فمضى فصنف التكملة وحملها إليه، فاما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ فجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو. . .
وزاد النحو تعقيداً وإبهماً وبعداً عن الغاية الي وضع من أجلها، ما صنعه الرماني من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر من بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو مهاصر له:
(إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء. . .).
فخرج النحو بذلك عن الجادة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا عاماً مستقلاً معقداً مضطرباً لا تكاد تثبت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسباً، حتى أن السيرافي لما ألف كتابه الاقناع (الذي اتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فاصبح مفهوماً سهلاً، لايحتاج الى مفسر ولا يقصر عن إداراه أحد، حتلا قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الاقناع. . . لما ألفه قاومه النحاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف انه بقي منه بقية!
وزاد النحو فساداً على هذا الفاد هذا الخلاف بين المذهبين (او المدرستين على التعبير الجديد): المذهب الكوفي، والمذهب البصر، وما جره هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظر المشهورة بين الكسائ وسيبويه، حين ورد هذا بغداد علي يحيى البرمكي، فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة فقال له السائي:(79/18)
- كيف نقول: قد نت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فاذ هو ي، أو هو إياها
- فقال سيبويه: فاذا هو هي، ولا يجوز النصب
- فقال السائ: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فاذا زيد قائم أو قائماً وسيبويه يمنع النصب
فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد وفدوا عليك، وهم فصحاء الناس فسألهم
- فقال يحيى: أنصفت
وأحضروا فسئلوا، فاتبعو الكسائي فاستكان سيبويه وقال:
- أيها الوزير. سألتك إلا ما امرتهم أن ينطقوا بذلك، فان ألسنتهم لا تجري عليه، وكانوا إنما قالوا: الصواب ما قاله هذا الشيخ!
- فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد اليك من بلده مؤملاً، فان رأيت الا ترده خائباً
فإمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج الى فارس فمات بها بعد قليل غماً وأسى!
في حين أن الحق كان في الذي يقوله سيبويه، , ان الكسائي كان - كما يقول السيوطي - ممن أفسدوا النحو، لأنه ان يسمع الشاذ الذي لايجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً. . . .
وزاد النحو فساداً على هذا الفساد، ابتغاؤهم العلة والسبب، لكل ما نطقت به العرب، وسعيهم لتعليل كل منصوب ومخفوض، وسلوكهم في ذل أبعد السبل من الواقع، وأدناها إلى التنطع والوهم. ومن ذلك ما رواه أبن خلكان من أن أبا علي الفارسي كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له:
- بم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً؟ قال السيخ: بفعل مقدر. قال: كيف تقديره؟ قال: أستثنى زيداً، فقال له: هلا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد!
فانقطع الشيخ وقال:
- هذا جواب ميداني فاذا رجعت قلت الجواب الصحيح.
ثم انه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً وحمله إليه فاستحسنه
قال السيوطي، والذي اختاره أبو علي في الأيضاح أنه ينتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا(79/19)
قال: والمسألة فيها سبعة أقوال. . . . حكيتها في كتابي جمع الجوامع من غير ترجيح، وأنا أميل الى القول الذي ذكره أبو علي اولاً. . .
* * *
هذه بعض الأسباب التي جعلت النحو معقداً هذا التعقيد، مضطرباً هذا الأضطراب، بعيداً عن الغاية هذا البعد. (فلماذا لانرجد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وتقوم تلك اللهجة - التي نلهجها - وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة؟)
ولماذا لا يدلي علماء العربية وأدباؤها برأيهم في سبيل الأصلاح، ولماذا لا ينشر شاعرنا الفحل الأستاذ المحقق محمد البرم، وهو أول رجل اعرفه انتبه إلى فساد هذا النحو، ولبث خمسة عشر عاماً يعالج أدواءه، ويصف دواءه، ويقرأ من أجل ذل كل ما في أيدي الناس من كتب النحو وأسفار العربية؛ لماذا لاينشر ثمرة بحثه، وخلاصة دراسته في (الرسالة) مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية، ليطلع عليها علماء العربية وأدباؤها، ويبدوا آراءهم فيها، فيكون من ذلك الخير للعربية إن شاء الله؛ ويكون الفضل للأستاذ الزيات على أن فتح هذا الباب، وللأستاذ البزم على أن كان أول من ولجه؟
علي الطنطاوي(79/20)
مسابقة أدبية
إلى شعراء العربية
من الآسة (مي)
قصيدة من النسق العالي في الشعر الوجداني الفرنسي صغتها قريحة الآنسة النابغة (مي) ثم ترجمتها هي إلى العربية وقدمتها إلى شعرائنا مقترحة أن ينقلوها نماً إلى لغتنا في موعد لايتجاوز آخر شهر فبراير سنة 1935.
وقد تفضلت فتبرعت للمجيد الاول بجائزة مالية قدرها جنيهان مصريان. وسيكون الفصل بين الشعراء للجنة ن الأدباء سنعلن تأليفها عما قريب (المحرر)
الترجمة
ارتباب
صديقتي يا ذات العينين الكبيرتين الوديعتين، روحي تناديك!
الريحُ في هذا المساء تهبُّ هوجاء شديدة الوطأة،
الريحُ تجأر، وصوتها العصي الناحب
يُرجعُ في دوي الصدى عصياً مكبوتاً.
صديقتي يا ذات العينين الكبيرتين الوديعتين، روحي تناديك!
* * *
في اكتئاب أحلمُ، جالسةً بين الأزهار؛
جناحُ الأعصار يلطمُ نافذتي،
السماءُ تبكي: واهاً لهذه الدموع! هذه الدموع المنتحبة
ماذا تحركُ بسيرها في أعماق الكيان؟
في اكتئاب أحلمُ جالسةً بين الازهار.
* * *
أتذكرين يوماً هو الأول من العام؟
إذ السرُّ المغري أنار عينيك،(79/21)
وإذْ روحي عبدتْ فيكِ روحها الأكبر سناً،
وإذْ منكِ إلى جاءت الكلمةُ الصامتة؟
أتذكرين يوماً هو الأول من العام؟
* * *
شهرٌ تولى، وها قد أتينا على نهايته،
رأيتك خلالهُ مرتين في مسائين اثنين.
والآن وقد أصبح ابتهاجي في عدهِ،
أحنُّ إلى لقاءِ ذياك الفجر الفتان. . .
شهرٌ تولي، وها قد أتينا على نهايتهِ.
* * *
وهذا المساءُ الحالك الممطر مساءُ وداع؛
قاتمةٌ هي افكاري والغمُّ يُبقُ علي؛
ارتيابٌ خبيثٌ يخالطُ قلبي المستسلم للحنان:
ماذا لو كان قلبك مغروراً محتلاً؟. . .
وهذا المساءُ الحالك الممطر مساءُ وداع. . .
(مي)
عابر سبيل
للأستاذ محمد سعيد العريان
قالت له نفسه الكريمة:
(سِرْ يا رفيقي على هادك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس،
ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!)
* * *
قَبْلَ أن يسفر الصبحُ من ليلة العيد، أستهل الصبيُّ صارخاً لأولِ ما يرى الدنيا؛ وقالت القابلة: (ي بُشرى هذا غلام!) فانبسطت وجوه؛ وابتسمت شفاه، ودب المرح في جنبات(79/22)
الدار
وضمته أمه إلى صدرها النابض فقبلته وقالت: (ستكون سعيداً يا بني؛ إن الحياة لَتبسم في وجهك؛ هذا يوم أشرق صبحه!)
وعاد (الشيخ) من المسجد يدب على عصاه، في لسانه تكبيرُ وتسبيح، وفي قلبه صلاةٌ قائمةٌ ودعاءٌ خاشغ. واستقبلته ابنته بالبشرى: (إنه صبي يا أبتِ! هل ترى أخي؟)
وأدنى الشيخ من جبين الصبي فما يختلج بالشكر! فقبله والدمع يترقرق بين أهدابه، والكلمات تحتبس في لسانه؛ وأطال النظر في وجه الوليد فقال: (لقد أبطأت طويلاً يا بني حتى أدركني الهَرَم، ولكني بك اليوم سعيد! لئن كنت موشكاً أن أمضي إلى الدار الأخرى - إنني لحيٌّ بك في دنياي جيلاً جديداً؛
فَعشْ واسعدْ يا ولدي وابتسم للحياة!) ورفع الشيخ راسه إلى السماء وقال: (اللهم هذا دعائي وأنت أرحم الراحمين!)
* * *
مضى الطفل يعدو وراء الأيام تجاذبه أثوابَ الطفولة؛ فاذا هو غلام يلهو في فناء الدار مع لِداتٍ من الصبيان
وقال له صبيٌّ: (ما هذا معك يا رفيقي؟) فانبسط وجه الغلام، وقاسم الصبيان حلواه ومِليماتِه! وعرف الأطفال أن صاحبهم جواد، فأقبلوا عليه واجتمعوا على وده: وهمس أحدهم فيمن يليه: (إن معه اكثيراً من ذاك!) فتعود الأطفال أم يسرقوه!
ومضى الصبي إلى أبيه يبكي
- (ولدي، ما يبيك؟)
- (أبكي المليمات يا أبي!)
- (غداً أُعطيك غيرها يا بني؛ إن عند الله كثيراً من المليمت للاولاد الصالحين!)
ونظر الغلام إلى فطير في أيدي صحابته فاشتهته نفسه؛ أفيطلب أن يقاسمهم وما تعود؟ ولكن أباه أخذه بألا ينظر إلى ما في أيدي الناس؛ وكم علمه بالحكاية، وكم ضرب له من الأمثال:
أن الحيوان الضعيف هو الذي يعيش على ما في الأيدي؟(79/23)
ورأى الاطفال شهوته في هينه، فاستخفوا منه يلتهمون من في أيديهم!
* * *
وشب الغلام، فدفعه أبوه إلى المدرسة، وعلمه في أول لياليه وقد رجع من مدرسته؛ أنْ هؤلاء بازاء أهلك هناك؛ فأحسنْ فيهم رعابة الود، وكن بينهم أخاً في إخوانه.)
وقال له زمياه في المدرسة ذات يوم: (هل تعينني على كتابة دَرْسي؟) فلما اعانه مضى الزميل وخلفه يعالج درسه وحده!
وسمع المعلم ذات مرةٍ همساً بين تلميذين؛ وكان جاره يطلب منه قلماً؛ وغصب المعلم وصاح: (مَن يتحدث؟) ولصقت التهمة بالمظلوم، فتلقى الصفعةَ صامتاً وجاره يبتسم؛ ولم تكن ابتسامته من شناته، بل فرحاً بالنجاة من كف غليظة!
وفي الطريق شاغَب التلاميذُ في أحد الايام أعمى يدب على عكازه، فلما توعدهم وهز لهم العصا، فروا وبقي الغلام لأنه بريء، فلم تنل عصا الرجل أحداً غيره! لقد ىلمته الضربةُ ولكنه تقدم بيهتدي الرجل الطريق!
* * *
وأيفع الغلام، واستدناه أبوه اليه وهو مطوي في الفراش على نفسه من وهن الشيخوخة؛ ولبث الشيخ طويلاً يصوب النظر في الغلام ويصعده، ثم تكلم: (ليتك يا بني ملء عيني ما أراك ملء قلبي! ولكني أرى في وجهك اليوم ما كانت تُريني المرآة منذ عشراتٍ وعشرات، فلا جرم أن تبصر يا بني في مرآتك بعد عشراتٍ وعشراتٍ صورة أبيك؛ ستكون أميراً يا ولدي؛ سيستجيب الله دعائي لك، وما انقطع دعائي لك منذ ولدت؛ فأحب الناس، وَهبْ نفسك للجماعة! كن رجلاً قوياً يا بني؛ كن للناس فيض الحب والرحمة، ولا تستجد الحياة ما لا تعطيك؛ السعيد يا بني من يعطي لا من يطلب العطاء!)
وتكرر هذا من أبيه اياماً، كان يريد الا يموت إلا وقد وضع نفسه في ابنه!
ثم مضى أبوه في رحلة طويلة لا رجعة منها إلى هذه الدار.
يا حسرتا! هذا هو في الفراش مسبحي والنائحات تنوح! وأخفى الفتى عينيه يستر دمعه، لقد علمه أبوه أن يكون جَلداً فليحفظ وصاة أبيه
ونظر في وجوه المشيعين في الجنازة فما رأي بينهم رجلاً كالذي فقده، فعلم أنه فَقدَه الى(79/24)
الأبد. وتصور الدار الخلاءَ إلا من أمه وإخواته. يا للفاجعة! يحب أن يون رَجُل الدار؛ لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد صبياً. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة: (يا أبي، فانني أنت هنا!)
وعاد الى الدار مطرق الرأس، ليضع يد الرجل الصغير في أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته!
أجاءوا يُعزون (الرجل الصغير) أم جاءوا يُحصوُن ما خلف الميتُ وأنفيهم تسيل طمعاً؟
وقال له أمه: (ما بي خوف الوحدة وأنتَ لي، فقم على الدار والدرس؛ إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم والكرامة، فقد كان أبوك عالماً كريماً. كن للناس ما كان أبوك: وجهاً طلقاً، ونفساً سمحة، ويداً معطية، وقلباً يفيض بالحب!
* * *
وخُيل الى الغلام أنه الرجل، وطَمْأنَهُ الى الناس أن أباه اوصاه بالناس، فلم يرد لأحدٍ طَلِبه، وإنه ليحمل من هموم الناس أكثر مما يحمل من هموم نفيه؛ مؤمناً بأنه يفعل واجبه للجماعة، ويؤدي دْينه للأنسانية؛ مستيقناً أن الناس ستحمل عنه إذا نابه هم!
وقال له جاره يوماً: (إن دائني يركب كتفي، فهل عندك فضلٌ من المال الىحين؟)
وأعانه ما قَدَر على إعانته، فاذا جارهُ لا يقلقاه من بعدها إلا حادَ عن الطريق؛ وإن غب (الرجل الصغير) لقيلاً من سوء الظن، وإن فيه لكثيراً من الحياء!
وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا من عسرٍ يستحي أن يستعلن، وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل وينكر العارفة. . .؟
وسأله صديق مرة: (هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي طاقةٌ على أن ادفعه الى معلم بالمال؛ وما بي طاقة أن اهمله من التعليم!)
واهتزت نفس الفتى، لأنه - فيما بدا له من صاحبة - قادرٌ على أن ينفع النس مثل أبيه. وشد الولد من العلم ما شدا، فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!
وقال رجلنا لنفسه: (با للأب المكدود! لقد حَزبته مشغلة العيال عن ذكري؛ ليته يستعينني على بعض أمره!)
ومن أين للفتى أن يعلم بأن كل مبذول مًهين. . . .؟(79/25)
* * *
وقال له واحدٌ من قرابته ينصحه: (هلا ادرخت فضل اليوم للغد؟ إن المالَ عَصب الحياة، وجاه الرجولة، ومطيةُ الامل البعيد)
وابتسم (الفيلسوف الصغير) وهو يقول: (المال؟ ما أُحب أن أجعل المال خاتمة المسعى وغاية الجهاد، إن البطن لشبرٌ في شبر، وإن الثوب لذراع في ذراع؛ أفيتسع البطن حتى يبتلع غلات ضيعة، أو تطول القامة حتى ما يكسوها إلا ثوبٌ بألف، أو يتضاعف الجسم حتى ما يرويه إلا بيت في مساحة مدينة؟ أنا هو أنا يا صديقي، غنياً أو فقيراً؛ بطتي هو بطني، وثوبي هو ثوبي، وبيتي هو ما متد من قدمي الى رأسي حين أنام!
أي سخرية! إن الفقير الذي يعوزه القرش ليستطيع أن يقول قالة الغني الذي يملك المليون. وماذا يملك العني مما يملك إلا أن يسرح الطرف فيقول: هذه ضيعتي وهذا قصري. أفلا يستطيع الفقير أن يسرح عينيه معاً فيقول مثله: هذه ضياعي وتلك قصوري؟ يلي يا صاحبي. إن الفني لوهم من أوهام الناس، وإن الفقير المعدم ليرى أنه يملك ما شاء أن يملك من الدنيا ما دام راضي النفس!))
وفتراقا وكلاهما يرثى لصاحبه!
* * *
وقالوا له: (هلا التمستَ لك زوجةً تأوى إليها فتجمع ما تفرق من أمرك؛ لعلك أن تجد عندها راحةَ النفس وهدوء القلب؟)
قال: (حتى ألقاها فأعر فها فيدلني عليها قلبي. ما أريدها غنية، فمالي وغناها وأنا عائلها وكاسبها؟ وما أريدها جميلة، فمالي وللجميلة تتوزعها قلوبُ الناس وعيونهم، وبتوز عني منها الشك والقلق؟ وما أغلو في طلب الفيلسوفة العالمة، فأجمع على نفسي هما بالليل وهما بالنهار! وما أريد أن تقول: (كان أبي ورَحم الله جدي)، فتملأ بيتي بأشباح الموتى وأطياف الهالكين! بحسبي أن أجد الفتاة التي يخفق لها قلبي ويهدأ عندها حنيني.)
وخُيل إليه أنه وجدها بعد إذ أعياه المطاف؛ فوهب لها قلبه، وأخلص لها وده، وكشف لها عن نفسه؛ ونظرت الفتاة في مرآتها، ثم لَوَتْ عنه معجبةً مزهوة!
أتراه وقد نالت منه بقسوة الصد، وصَعرِ الخد، وجفوة الدلال - قد أيقن أن المرأة لاتستوثق(79/26)
من حب صاحبها إلا غلبتْ، ولا تستمكن من زمامه إلا رَكبتْ. . .؟
* * *
باللمسكين! لقد كان بريئاً طاهراً كالطفل، وادعاً مستكيناً كالحمل؛ يحسب الناس كل الناس في مثل براءته وطهره، فما ينشد فيهم إلا المثل الأعلى الذي يراه في نفسه! وأين المثلث الاعلى من هذا الناس؟ أين هؤلاء الذين يرى، من أناسي خياله؟ وأين هذا الوجود من عالم قلبه؟
لقد منحهم حبه فهل لفقي عندهم إلا الغدر؛ واصفاهم وده فهل رأى إلا الاثرة؛ ومحضهم إخلاصه فهل عرف إلا الخديعة والمكر؛ وألان لهم جانبه فهل وجد إلا الكبرياء وصعر الخد. . .؟
وأيقن (الرجلُ الصغير) انه لم يكن في هذا العالم غير طَفلٍ كبير!
وعرف أخيراً أين أحلامه من اليقظة، وأين أمانيه من الحقيقة، وأين المثلُ العليا التي جد ينشدها منذ كان صبياً فلم يجدها إلا في نفسه. . .!
وراودته نفسه أن يكون بعض هذا الناس لعله يلقي بعض أسباب السعداة، فَرن الصدى في مسمعيه يرجع قول أبيه: (ستكون أميراً يا بني، فأحب الناس، وهَبْ نفسك للجماعة؛ إن السعيد من يعطي لا من يطلب العطاء!)
وثابت إليه نفسه، ونفذت الطمأنينةُ إلى قلبه فقال: (نعم غنني لأمير، لأنني فوق الناس، لأنني أعطي ولا أستجدي؛ وإنني لسعيد، لأنني أملك الرضى، ولأنني أمل أن أجعل الحياة جميلة!))
وتلفت يمنةَ ويسرة، ونظر إلى الناس تتجاذبهم ضرواتُ الحياة، مستعيناً بالرضى، مستيقناً أنه سيجد المثل الأعلى هناك؛ عند الغاية من هذا الطريق!
وقالت له نفسه: (سِرْ يا رفيقي على هداك حتى تبلغ؛ لستَ من هذا الناس؛ ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل. . . .!
طنطامحمد سعيد العريان
7 - محاورات أفلاطون(79/27)
الحوار الثاني
كريتون أو واجب المواطن
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أشخاص الحوار: سقراط. كريتون
مكان الحوار: سجن سقراط
سقراط وانه لو عصى رأى الواحد ورضاه وغض عنهما النظر، واضعاً في اعتباره رأي الكثرة التي لا تفقه من الأمر شيئاً، أفلا يعاني شروراً؟
كريتون - انه بغير شك يعانيها
سقراط - وماذا عساها تكون تلك الشرور؟ الام تنحو؟ وأي شيء تصيب من الشخص المتمرد؟
كريتون - لاريب في أنها ستصيب منه الجسد، فذلك ما تقوى على هدمه الشرور
سقراط - ذلك جد جميل، أليس ذلك حقاً يا كريتون بالنسبة إلى الأشياء الأخر، ولا حاجة بنا إلى ذكرها تفصيلاً؟
أينبغي أن نتبع رأي الجمهرة ونخشاها في موضوعات العدل والظلم، والجميل والقبيح، والخير والشر، وهي ما نحن الآن بصدد بحثه، أم نتبع في ذلك رأي الرجل الواحد الذي يفهمها، والذي يجب أن يكون له منا هيبة وإجلال أكثر مما يكون لسائر الناس أجمعين، والذي إن نبذنا قوله فانما نهدم في أنفسنا جانباً كان يرجى له أن يقوم بالعدل وأن يسوء بالظلم، أليس فينا ذلك الجانب؟
كريتون - إنه موجود يا سقراط، ولا شك في وجوده
سقراط - خذ مثلاً شبيهاً بهذا: هب أننا انتصحنا بما ينصح به هؤلاء الذين لا يفقهون فأفسدنا من أنفسنا جانباً، تصلحه الصحة ويتلفه المرض - أفتكون الحياة جديرة بالبقاء اذا افسد ذاك؟ وإنما أعني به - الجسد
كريتون - نعم(79/28)
سقراط - أفي وسعنا أن نعيش وأجسامنا مصابة بالشر والفساد؟
كريتون - كلا ولا ريب
سقراط - وهل تساوي الحياة شيئاً إذا ما فسد من الانسان جزؤه الأسمى، ذلك الذي تقومه العدالة ويفسده الجور؟ أفيمكن أن يكون ذلك العنصر الذي يرتبط أمره بالعدل والجور - مهم يكن شأنه في الأنسان - أدنى منزاة من الجسد؟
كريتون - كلا ولاشك
سقراط - هو إذن أرفع مقاماً
كريتون - هو ارفع مقاماً إلى حد بعيد
سقراط - إذن فلا ينبغي يا صاح أن، ابه لما تقوله الجمهرة عنا، إنما يجب أن نصغى لحكم الحقيقة، كما نستع إلى رأي ذلك الواحد الذي يفهم كنه العدل والظلم، فأنت إذن قد رقعت في الخطأ حين ارتأريت وجوب العناية بما يقوله الدهماء في الظلم والعدل، والخير والشر، والزائن والشائن، سيقول أحد: (ولكن الدهماء في مقدروها إهدامنا)
كريتون - نعم ياسقراط، سيكون ذلك بغير شك رد ما تقول
سقراط - هذا حق، ولكن مع ذلك يدهشني أن أرى الحًجة القديمة لا تزال فيما أحسب قائمة قوية كما كانت، وأحب أن أعرف إن كنت أستطيع أن أقول هذا القول في قضية أخرى - وهي أن ليست الحياة حقيقة بالتدقير ما لم تكن قبل كل شيء حياة خيرة؟
كريتون - نعم بقي لنا أن نبحث هذه أيضاً
سقراط - والحياة الخيرة تعادل الحيادة العادلة الشريفة - أليس هذا كذلك صحيحاً؟
كريتون - نعم إنه صحيح
سقراط - سانتقل من هذه المقدمات إلى البحث عما إذا كان واجباً عليّ أن أحاول الفرار بغير موافقة الاثينيين، م إن ذلك لايجوز؛ لإان كنت على حق صريح في الفران حاولته، إن لم أكن، امنعت. اما سائر الاعتبارات التي ذكرتها عن المال وضيعة الأخلاق وواجب تربية الأطفال، فهي كما بلغني، ليست إلا تعاليم الدهماء الذين لو استطاعوا لما ابوا أن يضيفوا الى الحياة أناساً، كما انهم لا يتعففون عن أن يوردوا الحتف أناساً، وتكقيهم في كلتا الحالتين أوهن الأسباب. أما وقد وصلنا بالجدل إلى هذا الحد، فقد بقيت لدينا مشكلة واحدة(79/29)
جديرة بالبحث، وهي: هل نكون على حق في الهروب بأنفسنا، أو في تحميل سوانا عناء عوننا في الفرار، لقاء نقدهم جزاء وشكوراً أم لا نكون، فان كانت الأخيرة فلا ينبغي أن يحسب حساباً للموت، أو لما شئت من الكوارث التي قد تنجم عن بقائي هنا
كريتون - احسبك مصيباً يا سقراط، فكيف سبيلنا إذن إلى البحث؟
سقرا - لننظر معاً في الأمر، فان استطعت لما أقول تفنيداً فافعل، وسأقتنع بك، وإلا فأمسك يا صديقي العزيز، ولا تقل ثانية بأنه يجب عليّ أن الوذ بالفرار برغم إرادة الاثينيين، وليتني أجد منك غقناعاً، ولشد ما أرغب في هذا على ألا يكون ذلك مخالفاً لما أراه حكماً سديداً. وتفضل الآن فانر في موقفي الأول، وحاول ما استطعت أن تجيب عما أقول
كريتون - سأبذل في ذلك وسعي
سقراط - افيجوز لنا القول بأنه لاينبغي لنا قطعاً أن نتعمد الخطأ، أم أن فعل الخطأ مقبول حيناً مرذول حيناً آخر، أم أن فعله أبداً شر ووصمة عار كما سبق لي القول الآن وسلمنا بصحته معاً؟ أفننبذ الآن كل ما سمحنا لأنفسنا به منذ أيام قلائل؟ أم أننا قضينا هذا العمر الطويل، يحاور بعضنا بعضاً في حماسة وإخلاص، لكي نوقن ونحن في هذه السن بأنا لا نفضل الاطفال في شيء؟ أم نثق ثقة قاطعة بصحة ما قيل من قبل، من أن الجور دائماً شر وعار على الجائر، يرغم ما يرى الدهماء، وبرغم ما ينجم عن ذلك من نتائج، حسنة كانت أم سيئة؟ هل نؤيد هذا؟
كريتون - نعم
سقراط - إذن يجب ألا نفعل الخطأ
كريتون - بقينا يجب ألا نفعله
سقراط - واذا أصابنا الضرر فلا نرده بضرر مثله، كما تتخيل كثرة الناس، لأنه يجب ألا نصيب أحداً بضر
ريتون - واضح أن ذلك لا يجوز
سقراط - ثم هل يجوز لنا أن نفعل الشر يا كريتون؟
كريتون - لا يجوز قطعاً يا سقراط
سقراط - وما رأيك في رد الشر بالشر، وهي أخلاق الدهماء - أذلك عدل أم ليس بالعدل(79/30)
كريتون - ليس بالعدل
سقراط - فلأن تصيب أحداً بشر كأن تصيبه بضر
كريتون - صحيح جداً
سقراط - إذن لاينبغي لنا أن نأخذ بالثأر، ولا أن نرد الشر بالشر لاحد ما، كأننا ما كان الشر الذي ابتلانا به، وأحب أن تنظر في الامر يا كريتون، لترى هل كنت حقاً تعني ما تقول، ذلك لأنه لم يأخذ بهذا الرأي يوماً، ولن يأخذ به إلى آخر الدهر فريق من الناس كبير. ولا سبيل الى اتفاق بين من يقرون هذا الرأي ومن لا يقرونه، فما بد من أن يزدري بعضهم بعضاً، عندما يرون كم بينهم من شقة الخلاف. حدثني إذن: أأنت متفق معي ومؤيدي في مبدئي ذاك، وهو أن ليس من الحق أيقاع الضر، ولا الأخذ بالثأر، ولا رد الشر بالشر؟ أمسلم أنت بهذا مقدمة لحديثنا، أم أنت منكر له راغب عنه؟ لقد كان ذلك مذهبي منذ عهد بعيد، وما يزال كذلك؛ فان كنت ترى غير ذلك رأياً، فهات ما عندك؛ أما إن كنت بعد هذا كله لا تزال عند رأيك الأول، انتقلت معك في الحديث خطوة أخرى
كريتون - إنني ثابت عند رأيي، فتستطيع أن تسير في الحديث
سقراط - سانتقل إذن إلى الخطوة الثانية التي يمكن أن توضع في صيغة هذا السؤال: أينبغي للأنسان أن يفعل ما يراه حقاً، أم ينبغي له أن ينقص الحق
كريتون - إنه يجب على الأنسان أن يفقعل ما يظنه حقاً
سقراط - ولكن ما تطبيق هذا إن صح؟ ألست أسيء إلى أحد إن تركت السجن برغم غرادة الأثينيين؟ أو على الأصح، ألست أخطىء في حق أولئك الذين ينبغي أن يكونوا من أبعد الناس عن الأساءة؟ ألا يكون ذلك تطليقاً لمبادئي التي سلمنا معاً بعدها؟ ماذا تقول في هذا؟
كريتون - لست أدري يا سقراط، فلا أستطيع أن أقول شيئاً
سقراط - إذن فانظر الى الأمر على هذا الوجه: هب أنني هممت بالابوق (أو إن شئت فسم هذا العمل بما أردت من أسماء) فجاءت الى القوانيين والحكومة تسائلني: (حدثنا يا سقراط، ماذا أنت فاعل؟ أتريد بفعلة منك أن تهز كياننا - أعني القوانين والدولة بأسرها بمقدار ما هي في شخصك مائلة؟ هل تتصور دولة ليس لأحكام قانونها قوة، ولاتجد من(79/31)
الافراد إلا نبذاً واطراحاً، أن تقوم قائمتها، فلا تندك من أساسها؟) فبماذا نجيب يا كريتون عن هذه العبارة واشباهها؟ وسيكون مجال القول واسعاً لكل انسان، وللخطيب البليغ بنوع خاص، يهاجمون هذا الشر الذي ينجم عن اطراح القانون الذي لابد لحكمه من النفاذ. وربما أجبنا نحن: (نعم، ولكن الدولة قد آذتنا، وجارت علينا في قضائها) هب إنني قلت هذا
كريتون - جميل جداً يا سقراط
سقراط - سيجيب القانون: (أفكان ذلك ما قطعته معنا من عهد، أم كان لزاماً عليك أن تصدع لما حكمت به الدولة؟) فان بدت علي من قولهم هذا غعلائم الدهشة، فربما أضاف القانون قوله: (أجب يا سقراط بدل أن تفتح لنا عينيك: وقد عهدناك مسائلاً ومجيباً. حدثنا، ما شكاتك منا، تلك التي تسوغ لك محاولة هدمنا وهدم الدولة معاً؟ فوق كل شيء، ألم نأت بك الى الوجود؟ ألم يتزوج أبوك من أمك بعوننا فأعقباك؟
قل إن كان لديك ما تعترض به على أولئك الذين ينظمون الزواج منا؟ وهنا لابد من إجابتي أن لا (أو على أولئك الذين منا ينظمون طرائق التغذية والتربية للأطفال، وفي ظلها نشأت أت؟ ألم تكن القوانين التي نهضت بهذا على حق في أن طلبت الى أبيك أن يدربك في الموسيقى ورياضة البدن؟) وهنا يلزم أن أجيب أن قد كانت على حق: (حسناً، فان كنا قد أتينا بك الى العالم، ثم أطعمناك فانشأناك، أفأنت جاحد أنك قبل كل شيء ابننا وعبدنا كما كان آباؤك من قبل؟ فان صح هذا فلسنا وإياك سواسية، فلا تظن أن من حقك أن تفعل بنا ما نحن بك فاعلون، وهل يكون لك أدنى حق في أن تنال أباك أو سيدك، إن كان لك أب أو سيد، بالضرب أو بالشتم أو بغير ذلك من السوء، إذا رقع عليك منه ضرب أو شتم، أو اصابك منه غير ذلك من الشر. - لا نخالك قائلاً بهذا: وإذا كنا قد رأينا أن من الصواب إعدامك، أفتطن أن من حقك أن تجازينا إعداماً باعدام؟ وأن تجازى وطنك بمقدار ما هو مائل فيك؟ وهل تظن يا أستاذ الفضيلة الحق أن يكون لك في ذلك ما يبررك؟ أيعجز فيلسوف مثلك أن يرى بأن وطننا أخلق بالتقدير، وأنه اسمى جداً واقدس من ام أو أب أو من شئت من سلف، وهو أجدر بالاعتبار في نظر الآلهة واهل الفطنة من الناس؟ وانه ان غضب وجب أن نهدىء من سورته، وأن نلاقيه لقاء وديعاً خاشعاً أكثر مما نفعل حتى مع الوالد، فان تعذر اقناعه وحببت طاعته؟ فاذا نالنا منه العقاب بالسجن أو بالجلد، وجب ان(79/32)
نحتمل جزاءه في صمت، إن ساقنا الى حومة الوغى حيث الجراح والموت، كان لزاماً أن ننصاع له باعتباره مصيباً، دون أن يُسلم أحد منا أو يقهقر أو يترك منصبه، وواجب حتم على الانسان أن يصدع بما يأمره به الوطن، سواء أكان في ساحة الحرب أم في ساحة القانون، إلا إذا غير من وجهة نظره في ماهية العدل، وإن كان لايجوز له أن يقسو على أبيه أو أمه، فما أوجب أن يكون رحيماًعلى وطنه) بماذا تجيب على هذا يا كريتون؟ آلقوانين فيما تقول صادقة أم ليست بصادقة؟
كريتون_أحسبها صادقة فيما تقول
زكي نجيب محمود
غياث الدين الكاشي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يهمنا دائماً أن نكشف عن نواحٍ من التراث العربي والأسلامي أحاطها إهمالنا غيرنا بسحب من الغموض والأبهام حتى ادت تصبح غب عالم النيسان. وقد يظن بعضهم أن الكشف عن هذه النواحي سهل لايحتاج إلى تنقيب، ولكن الواقع غير ذلك، فاننا نجد صعوبة كبرى ومشقة عظنى في وضع ترجمة عالم مغمور، إذ يحتاج ذلك الى مراجعة الكتب قديمها وحديثها من عربية وإفرنجية، ويحتاج أيضاً لمطالعة متنوع المخطوطات علنا نتمكن من الكتابة عن ذلك العالم كتابة تعطي فكرة صادقة عن حياته ومآثره في العلوم. ولقد ثبت لنا أن هناك عدداً كبيراً من علماء العرب والمسلمين اشتغلوا بالرياضيات والفلك والطبيعة وغيرها من العلوم والفنون، لم يأخذوا حقهم من البحث والاستقصاء، وأن مآثرهم لاتزال مجمهولة لدينا إذ هي ملعثرة في شتى الكتب، وأنه لم يقم أحد منا يعني بها أو يهتم بكشفها، ولست ادري على من يقع علينا جميعاً كلا من ناحيته، فعلى الذين يعنون بالتاريخ والجغرافيا يقع اللوم على عدم تبيانهم للملأ أثر علمائهم فيها، كذلك يقع اللوم على الذين يعنون بالكيمياء، إذ من الواجب العلمي والوطني أن يهتموا بمآثر العرب فيها وبما قدمه العقل العربي من خدمات جليلة لها. وما يقال عن التاريخ والجغرافيا والكيمياء يُقال عن غيرها من فروع المعرفة.(79/33)
ولا يخفى أنه يجب أن يكون وراء الكشف عن مآثر وتراث أسلافنا فكر وطنية تعود على الأمة بالخير والنفع، فتحفز همتها وتُثار عزيمتها، ولسنا في هذا مبتدعين أو آتين بجديد. ونظرة إلى تاريخ العلوم والفنون عند الفرنجة نجدهم عند بحثم عن مآثر علمائهم ونوابغهم فيها يدخلون وراءها فكرات وطنية مستورة تتجلى لنا في كل مناسبة، وتتجلى لنا ايضاً في كتبهم وفي تدريسهم في الجامعات والكليات. وبذلك يكونون قد جعلوا النشء يؤمنون بقابليتهم ويعتقدون بعبقريتهم ويشعرون بقوميتهم، وفي هذا كله قوى تدفع الأمة إلى حيث المجد والسؤدد.
بعد هذا نعود إلى موضوع مقالنا فنقول: إن غياث الدين جمشيد الكاشي من الذين لم يكتب عنهم إلا الشيء القليل، وهذا الشيء القليل موزع في عدة كتب منها الصفراء (ومنها الخير الكثير) ومنها الفرنجية، ومنها التركية، ةوقد حاولت أن أستعين بما عثرت عليه في مختلف المؤلفات التاريخية، فوقفت والحمد لله إلى ترجمة متواضعة، أرجو أن أكون قد قمت بها ببعض الواجب نحو عالم من علماء المسلمين اشتغل في العلوم الرياضية، ومهر الرصد وبرع في الفلك
* * *
ولُد غياث الدين في القرن الخامس عشر للميلاد في مدينة كاشان مما وراء النهر، وكان يقيم فيها مدة ثم ينتقل إلى محل آخر، ولقد توجه إلى سمرقند بدعوة من أولوغ بك، الذي ان يحكم بأسم (معين الدين سلطان شاه) وفيها ألف أكثر مؤلفاته التي كانت سبباً في تعريف الناس به. ويقال إن الفضل في إنشاء مرصد سمرقند يرجع إلى غياث الدين وإلى قاضي زاده رومي، ولكن الأول توفي قبل البدء باجراء الرصد فيه، كما أن الاخير توفي قبل تمامه، وعلى هذا سُلمت أمور المرصد إلى على قوشجي، ولهذا المرصد أهمية كبيرة، إذ بواسطته أمكن عمل زيج (كوركاني) الذي بقي معمولاً به قروناً عديدة في الشرق والغرب، واشتهر هذا الزيج بدقته وبكثرة الشروح التي عملت لأجله. والكاشي من الذين لهم فضل كبير في مساعدة أولوغ بك في إثارة همته إلى العناية بالريضيات والفلك.
واختلف المؤلفون في تاريخ وفاة الكاشي، فبعضهم يقول إنه توفي حوالي سنة 1424م، ويقول أخرون إنه توفي حوالي سنة 1436ن، ولم نستطع البت في هذه المسألةن ولكنا(79/34)
نستطيع القول أن الوفاة وقعت في القرن الخامس عشر للميلاد في سمرقند بعد سنة 1421م، وهي السنة التي أنشيء فيها المرصد
أشتهر الكاشي في علم الهيئة، وقد رصد الخسوفات التي حصلت سنة 809هـ، 810هـ، 811هـ، وله في ذلك مؤلفات بعضها باللغة الفارسية، منها كتاب زيج الخاقاني في تكميل الأباخاني، وكان القصد من وضعه تصحيح ويج اليلخافي للطوسي، وفي هذا الزيج الخاقاني دقق ي جداول النجوم التي وضعها الراصدون في مراغة تحت إشراف الطوسي، ولم يقف غياث الدين عند حد التدقيق بل زاد على ذلك من البراهين الرياضية والأدلة الفلكية مما لا نجده في الأزياج التي عُملت قبله، وقد أهداه الى اولوغ بك. وله في الفاريبة أيضاً التي وضعها باللغة العربية ما يبحث في علم الهيئة والحساب والهندسة، نذكر منها كتاب نزهة الحدائق، وهذا الكتاب يبحث في استعمال الآلة المسماة طبق المناطق، وقد اوجدها لمرصد سمرقند، ويقال إنه بواسطة هذه الآلة يمكن الحصول على تقاويم الكواكب عرضها وبعدها مع الخسوف والكسوف وما يتعلق بهما. وله رسالة سلم السماء، وهذه تبحث في بعض المسائل المختلف عليها فيما يتعلق بأبعاد الأجرام. وله أيضاً رسالته المحيطية، وهي تبحث في كيفية تعيين نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، وقد أوجد تلك النسبة إلى درجة من التقريب لم يسبقه إليها أحد كما قال البروفسور (سمث). وقيمة هذه النسبة كما حسبها الكاشي كما يلي:
3. 1415926535898732، ولم نستطع أن نتأكد من استعمتله علامة الفاصلة، ولكن لدى البحث ثبت أنه وضع هذه القيمة للنسة في الشكل الآتي:
صحيح
1415926535898732 3 وهذا الوضع يشير الى أن
المسلمين في زمن الكاشي كانوا يعرفون شيئاً عن الكسْر
العشري، وأنهم سبقوا الأوربيين في استعمال النظام العشري،
يعترف بذلك البروفسور سمث في كتابه تاريخ الرياضيات في
ص290 من الجزء الاول. وللكاشي رسالة الجيب والوتر، وقد(79/35)
قال عنها المؤلف في كتابه المفتاح ما بيل (وذلك ما صعب
على المتقدمين كما قال صاحب المجسطي فيه أن ليس إلى
تحصله من سبيل). وقد يكون كتاب مفتاح الحساب من أهم
مؤلفات صاحب الترجمة، إذ وضع فيه بعض اكتشافات في
النظريات الحسابية. ويقول عن هذا الكتاب الاستاذ صالح
زكي: (ويعتبر هذا الكتاب الخاتمة لكتب الحسلاب المبسوطة
التي ألفها الرياضيون الشرقيون. . .) وكذلك يقول عنه كتاب
كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون: (. . . بلغ إلى غاية
حقائق الأعمال الهندسية من القوانين الحسابية، وهو على
مقدمة وخمس مقالات: المقالة الاولى في حساب الصحيحن
الثانية في حساب الكسور، الثالقة في حساب المنجمين، الرابعة
في المساحة، الخامسة في استخراج المجهولات، وهو كتاب
مفيد أوله. . . الحمد لله الذي توحد بابداع الآحاد الخ. . . ألفه
لأولوغ بك ثم اختصره وسماه تلخيص المفتاح، وقد شرح
بعضهم هذا التلخيص. . .) وفي هذا الكتاب نجد قانوناً لايجاد
مجموع الاعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة.
ويعترف كتاب تراث الاسلام بأن الكاشي استطاع أن يجد قانوناً لايجاد مجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة كما اعترف بذلك أيضاً البروفسور سمث في كتابه(79/36)
تاريخ الرياضيات في ص505 من الجزء الثاني
هذه لمحة موجزة عن حياة الكاشي ومآثره في الرياضيات والفلك، والذي نرجوه أن نوفق في المستقبل للكتابة عنه بصورة أوسع وأوفى للمرام، وأن تكون هذه اللمحة حافزاً لغيرنا للأهتمام باحياء العلماء المغمورين أمثال الكاشي، نسأله تعلى التوفيق والعون
نابلس قدري حافظ طوقان
مطالع الأعوام
للأستاذ عبد العزيز البشري
جرت عادة الناس من الزمان البعيد أن يفرحوا أو يتكلفوا الفرح كلما طالعتهم دورة الأيام بعام جديد. وكثير منهم من يتخذ من مطلع العام عيداً، بليس فيه جديد الثياب، ويحتفل لتهنئة الصحاب واستقبال الهناء من الصحاب، ويتفرغ من كل عمل ليتوفؤ ومن يحمل من الأهل والولد على إصابة ما يتهيأ لهم من اللذائذ والمتع، وتقليب العطف فيما يتيسر من ألوان النعيم. ذلك جرت عادة الناس، أو عادة أثر الناس
ولو قد راجع المرء نفسه في هذا، ورح يتحسس الأسباب والعلل في ذلك الذي يكون منه في مطالع الأعوام، فليت شعري بِمَ هو في غاية الأمر راجع؟. أتراه فرحاً بأنه طوى من عمره عاماً؟. أم تره فرحاً بأنه سينشر من عمر عاماً؟
وإن عجباً دونه كل عجب أن هذا الانسن الأثِر، المتشبث بأسباب لحياة، مهما تذلل وتوجع، يفرح بطي صفحة من حياته، وقطع مرحلة من عمره، فيدنو من الغاية المحتومة التب ما ذكرها إلا مليء منذكرها فرقاً ورعباً!
وإن عجباً لاينتهي منتهاه عجبٌ أن هذا الانسان الجبان المنخلع القلب، الذي لا يرى إن يقيناً وإن وهماً، فيل قنيه من ثنايا الغيب، وفي كل منعطف من منعطفات الدهر، إلا ما يرتصد له، ويتربص به الدوائر، ويرميه ما أصحرت به الأيام بالوان المكلره والمخاطر - اللهم إن عجباً لاينتهي عجب أن يفرح هذا الانسان باستقبال ل هذا الذي يتوقع من أذى طارقات الليال!
إذن ففيم فرح الانسان بدورة الأيام، وأغتباطه ذاك بالتخلص من عام لاستقبال عام؟(79/37)
ليت شعري أتراه يضيق بالحياة ويبرم بها، ويسر كلما طوى من كتابها صفحة، واقترب من غايتها خطوة. اللهم إن الأنسان لأ كلف بالحياة، وأود لو تطر به إلى غاية الزمان، وإلى ما بعد غاية الزمان! أليس أبر عزائه في هذه الحياة إذا عرض ذكر الموت، ولا مفر منه، أنه مبعوث من بعده لحياة لا يدركها عدم ولا يلحقها فناء؟
إذن ففيم فرح الأنسان بدورة الأيام، واغتباطه بالتخلص من عام لأستقبال عام؟
ألاَ إن أعجب من هذا كله أن يراجع الأنسان نفسه، ويسائلها فيم اغتبطاها وفرحها من حيث يجب أن يتداخلها الاسى وتلح عليها الحسرة من كل مكان؟!
اللهم إنه ليكلف بطول العمر، ويكلف بقصر العمر، وإنه ليشغف ببسطة الأيام، ويشغف بنفاد ما بقي بين يديه من الأيام!.
اللهم إنه لا يستريح إلى هذا المحال، إلا من كان به مس من جنون أو مس من خبال!
* * *
ليس الانسان مجنوناً ولا مخبلاً؛ بل إنه ليفر فيحسن التفكير، ويقدر فيصيب التقدير، ويدبر فيُحكم التدبير. وإن عقله الجبار ليأبى إلا يستذل عنف الطبيعة كل يوم. وها هوذا لا يفتأ يسخر لحاجاته جوها وماءها، وأرضها وسماءها، بما لا يحتاج معه إلى قيام دليل على صحة العقل وسلامة التفكير!
ما لنا بعد هذ بد من التدسس إلى قررة النفس، والتسلسل إلى ثناياتها، علنا نصي الوجه ونستخرج العلة في ذلك الذي نحسبه في المحال!
ها نحن اولاء نتحرى خطرات النفس، ونتقرى خلجات الحس، فنسير وراءها حيثما سارت، وندور معها كيفما دارت. حتى إذا بلغت سائلها القرار، تهيأ لنا أن نروى عنها أصح الانباء واصدق الاخبار.
هذ الانسان العاقل المفكر الدبر، يجزع حقاً أشد الجزع لما ينطوي من أيام عمره، ولقد يهش حقاً لما يستقبل من بقايا أيام الحياة. غبر انه لا يعقد أية صلة بين هاتين النزعتين القويتين فينفسه، فهذه تكون منه في حال، وهذه تكون في خال، فليس ثمت في الأمر للمحال. فاذا طلبت بياناً فاليك البيان:
إن علة العلل في كل هذ الذي ترى من تناقض الانسان، وخلاف نزعات نفسه بعضها(79/38)
لبعض، إنما هي فيما طبع عليه من الأثرة وشدة الكلف بالنفس. فهذه الاثرة هي التي تدخل عليه الفزع لما فنى من سني العمر، وهذه الأثرة هي التي تدخل عليه السرور بما يستقبل من بقية أيام الحياة، وإن شئت قلت بما يقبل على استهلاكه من بقايا الحياة!
أما أن الأثرة هي التي تدخل عليه الجزع لما يتصرم من أيام العمر، فيدنو به خطى إلى مهواه من القبر، فذلك ما لا يحتاج إلى توجيه ولا إلى تعليل، وأما أن هذه الاثرة نفسها هي التي تدخل عليه السرور بما يُقبل على استهلاكه من بقايا أيام العمر.
فذك بأنه ما يثفنى من حياته يوماً إلا أطمعته أياماً، ولا يَطوي من عمره عاماً إلا بسطت بين يديه أعواماً: فالانسان، على إيمانه بالموت، وجزمه بألا مهرب منه، لا يفتأ يدافع الأجل كلما تقدم خطوة إلى الأجل، وهكذان حتى لو قٌدر في الزمان أن يبسط في عمر إنسان الى ألف عام، لوسوس له تأمسل الاثرة بعدُ بالمزيد!
وعلى هذا فمهما يَطْوِ الانسان من سنه، ومهما يفن من عمره، فان ما خلا يكاد يسقطه من مساحة العمر بما يجد له التأميل كل يوم من بسطة الزمان بين يديه! فيعيش كذلك ما يعيش، وأنما يمتح من بحر لجي ما لمائه من نفاد!
وكذلك القول في تطامن الانسان لمستقبل الايام وإستبشاره، في غالب الأحيانن بمقدمها، وقلة احتفاله لما عسى أن يكون قد جُن له من المكاره في ضمائر الغيوب، فان هذه الأثرة نفسها لتأبى إلا أن تطالعه بألوان التأميل، فلا ينتظر له من واردات الليالي إلا كل مشتهى وكل جميل! بل انها لتدخل عليه أحسن العزاء بما سيلقي من الخير والعافية عما كان قد أصابه من الخيبة فيما سلف من الزمان!
فقد بان لك أن الأثرة في الأنسان هي علة العلل، وهي مصدر ما يُحسب عليه من خطأ في الحساب ومن خطل
* * *
وبعد، فلو قدر أن الله أمكن للمء من طبعه، وهيأ له أن يسوي منه ما شاء على ما يشاء. افتراه يعتمد هذه الخلة فيه، أعني الاثرة، فينتزعها من فطرته انتزاعاً، فلا تعود تخدعه وتختله، ولا تزيغه عن الواقع ولا تضلله؟
لاشك في انه إن فعل سلم تقديره، واستقام له القياس، وأدرك الحقائق على ما هي عليه لا(79/39)
على ما يشهى أن تكون؛ لأن هذه الأثرة كثيراً ما تلبس المنى بالحقائق الواقعة. وقد تستدرج الانسان إلى المطامع البعيدة بما تهيء له من إجراء القياس، في شأن نفسه، على ما يقع من الأمور النادرة في شئون بعض الناس. وبهذا وبهذا تسيء تقديره، وتفسد حكمه على الاشياء أيما إفساد. وأنت بعدُ خبيرٌ بأن السعادة في هذه الدنيا لا تُرجى بخير من الأصابة، والتهدي إلى جوهلا الحقائق، وسلامة التقدير وصحة التدبير. وتلك الطرق الواضحة، لاشك، لأسعاد الحال، وإدراك المبغى من ميسور الآمال.
ولكن. . . . ولكن إذا قدر هذا في الطبيعة، وتهيأ للانسان ففعل، فعلى أية صورة ترى يتمثل له العيش في الدنيا، و [اي شعور يتلقى آثار هذه الحياة؟
إنك مهما تبحث من أصول هذه الأثرة النغروسة في طبيعة الانسان، فانه، ولابد، يألم إذا دخل عليه ما يعدو إلى الالم. وهو، لابد، يلتذ بما يصيب من المتع، إنه ليستريح إلى العافية، وإنه ليفرح بما يصيب من النعم، وإنه ليحزن إذاطرقته داعياتُ الحزن؛ وتلك أدنى مطالب الحس في الحيوان، بَلْهَ الانسان
فلو قدرنا أن الانسان قد استوى في عيشه إلى الحقائق الواقعة، وأجرى حسابه في جميع أسبابه عليها، فهل تراه يعدل ما يصيب في الدنيا من لذة ومتاع، بما يعاني من شدائد وبُرح وأهوال وأوجاع؟. اللهم لا! على انهما لو تكافآ فاضحى خارج الحساب صفراً، لأمسى التشبث بهذه الحياة من غحدى المعابث!
على أنه الأملث، أملُ المعني المبتلي في العافية، وأمل المعافي إن كان في الدنيا معافي، في صعود الجد، وفي إقبال الزمان بما تتطلع النفوس إليه وتهفوله - هو الذي يرجح كفة الربح ويشهى الينا الحياة، ويغرينا بالحرص عليها أيما إغراء!
وما كانت هه المُنى فينا لتقوى وتستمكن، وتستحفل وتستحصد، لولا هذه الأثرة التي تذلل لأوهامنا عصى الىمال، وتسوي لنا في صورة الممكن ما تظمته الطبيعةُ في سلك المجال!
هذه الاثرةُ التي تغبينا عن كثير من الأشياء، حتى إنها لتغيبنا عن أدنى ما يحيط بنا من الأسباب، با إنها لتغيبنا عن أحق الحق الذي لانستطيع مدافعته ولو بالأوهام، أعني الموتَ الذي لا مهرب منه لهارب ولو تعلق من السحاب، بعلائق وأسباب!. نعم إنها لتغبينا عنه لأننا ما ذكرناه أبداً إلا رأينا منا بعيداً، وقد نون منه على رمية حجر!(79/40)
* * *
إذن لقد خرج لنا من كل هذا أن قيام الانسان في الدنيا إنما هو مدين لهذه الأثرة في طبعه، فيها يحرص على الحياة ويتشبث، وبها يرضي عن الحياة ويكلف، وفي سبيلها يحتمل الأوجاع والاسقام، ويسيغ كل من تعتريه به الليالي من أحداث جسام.
فمن فاتته فيها المتع ففي الآمال متع ومناعم، ومن ألح عليه الضيق ففي المني سعة ومغانم. بل إنه ليفرح كلما مضى من عمره عام وأقبل عام، بما توسوس له من المنى وعدله من كواذب الأحلام.
ألا عاشت هذه الاثرة ليعيش في ظلها هذا الانسان. . .
عبد العزيز البشري
5 - بين القاهرة وطوي
طهران الى نيسابور
للدكتور عبد الوهاب عزام
تلقينا يوم قدومنا طهران دعوات كثيرة إلى حفلات رتبتها الحكومة - دعوات باسم رئيس الوزراء ووزراء الداخلية والخارجية والمعارغ، ولجنة الآثار القومية، ونادي (إيران جوان). وكانت دعوة رئيس الوزراء إلى العشاء في قصر كلستان، والعدوات الاخرى إلى الغداء في دار البلدية ونادي إيران. وقد دعت لجنة الآثار إلى شهود التمصيل مرتين في مشرح (مساكن نيكوئي) وإلى شهود لعب الجوكان وألعاب أخرى في ميدان سلطنت آباد
تعشينا الليلة الأولى في القصر الملكي. قصر كلستان، وهو بناء جميل يرى الداخل إليه حديقة فيها أحواض ماء كبيرة، وقد رأينا على حافة الاحواض شموعاً كثيرة. توقدت فيرى للألألها على صفحة الماء رواء جميل
وصعدنا إلى بهو فسيح غشيت جدُره وسقفه بالمرايا وقطع البلور - وهذه زينة شائعة في إيران رأيناها في أمكنة ثيرة - وصفت في جوانب المكان دواليب فيها ذخائر الملوك السالفبن: قطع كبيرة من الاحجار النفسية، وسيوف وخنجر وتروس، وأدوات للزينة، , اباريق وطسوت، كل ذك محلى بالماس والياقوت، والعقيق والفيروز، وفي صدر المكان(79/41)
عرش محلى بالاحجار الثمينة له مسند على صورة ذنب الطاووس ويسمى عرش الطاروس، وكذلك رأينا كتباً قديمة قمة فيها من عجائب الخط والنقش والتجليد آيات من الصناعات الاسلامية
أمتعنا النفس برؤية هذه الأعلاق، ثم تعشينا، وشهدنا بعد العشاء ألعاباً نارية كثيرة
ومن الأبنية الفخمة التي رأيناها في طهران مسجد سباهسلار وهو مسجد كبير فيه مدرسة تسمى الآن مدرسة المعقول والمنقول، ولها مكتبة بها مخطوطات قيمة، ومساجد إيران كلها متشابهة في قيامها على عقود كبيرة وقباب، وفيما يجللها من الكاشاني، والخط الجميل
وزرنا مجلس الشورى الملي (البرلمان) وهو بناء جديد رائع تناولنا الشاي في الطبقة الثانية منه في حجرة غشيت جدرها وسقفها بقطع البلور، يتخللها ضوء النهار أو ضوء الكهرباء ليلاً فاذا حجرة من النور يحار فيها الطرف
وكذلك رأينا مدرسة الصنائع المستظرفة (الفنون الجميلة) وهي مدرسة ناشئة يرجى لها في الاحتفاظ بصنائع إيران مستقبل عظيم
وزرنا مصيف جلالة الشاه قصر سعد آباد. وهو بناء جميل في سفح جبل شمران شمالي طهران، يحلف على منظر رائع من الأشجار الممتدة على السح، وتنحدر إليه المياه متدفقة ن الجبل.
والقصر بناء صغير به بضع حجرات، وقد بنى كله بأحجار ذات ألوان طبيعبة مختلفة جلبت اليه من أرجاء البلاد. ومن حجراته واحدة فيها مكتب جلالة الشاه. وقد لفت الأنظار اليه جمال صنعه، وصورة مدفع صغير فوقه، ومقامه لها سياج من رصاص البنادق. تناولنا الشاي في حديقة نسقت بها الازهار تنسيقاً رائعاً. ثم انصرفنا حين أشفقنا من برد العشى
وشهدنا التمثيل مرتين، مثلت في الليلة الاولى قطع من الشاهنامة. وفي الليلة الثانية قصة سهراب
وشهدنا يوم السبت 14 مهرماه (6 أكتوبر) في ميدان سلطنت آباد على مقربة من المدينة لعب الجوكان (جوكان بازي) وألعاباً رياضية أخرى (نمايشات زورخانه)
والجو كان لعب الكرة والصولجان على متون الخيل. وكان لعباً شائعاً في العالم الاسلامي(79/42)
ولاسيما إيران. ويذكر كثيراً في الشعر الفارسي. واخذت منه في اللغة كنايات كقولهم (كوي برد) أي اخذ الكرة، بمعنى حاز قضب السبق في اللغة العربية
يقول الشيخ سعدي:
(فسحت يدان أردت بيار تابزند مرد سخنكوي كوي) وترجمته: افسح ميدان الارادة ليضرب الرجل المنطيق الرة أي أحسن الاستماع ليستطيع النصيح أن يتكلم. وان بجانبي وقت اللعب ملك الشعراء بهار فقلت: كم قرأت هن (اخذ الكرة) في الشعر الفارسي وما فهمته حقاً إلا الآن
والألعاب الاخرى، وتسمى (نمايشات زورخانه) ضروب مختلفة من اظهر القوة: ضرب الطبل فجاء جماعة يلبسون سراويلات من الجلد وسائر أجسامهم عار؛ ونزلوا الى حفرة مستديرة قريبة الغور. وجلس على مقربة منهم رجل على منصة يدق الطبل وينشد شعراً من الشاهنامة وغيرها، بدأوا يرقصون على هذه الأنغام، ثم لعبوا ألعاباً مختلفة: يدور واحدهم على نفسه مسرعاً باسطاً يديه أو يحمل حلقة من سلسة ثقيلة يرفع بها يديه واحدة بعد الاخرى أو يستلقي على ظهره ثانياً رجليه ويأخذ بكل يد قطعة من احديد مبسوطة لها مقبض في وسطها فيرفع بها يداً بعد أخرى مائلاً على جنبيه، أو يوم ممسكاً بيديه حديديتين ثقيلتين يحركهما حركات مختلفة، وهكذا. وهي ألعاب قديمة تدل على القوة والمران
أمضينا في طهران خمسة أيام. وطهران مدينة حديثة، كانت قرية صغيرة بجانب مدينة الري الكبيرة. ثم بني لها الشاه طهما سب الصفوي سوراً غظيماً. ثم اتخذها آغا محمد خان القاجاري دار ملك، فشرعت تعظم وتتسع
ويو الثلاثاء 40 جمادي الثانية (9 أكتوبر - 17 مهرماه) برحنا طهران مبكرين متوجهين تلقاء مشهد. وبين المدينتين 897 كيلا قطعناها في ثلاثة أيام؛ وان جلالة الشاه قد سار الى مشهد قبلنا ببيومين
اجتزنا جبال فيروز (فيروزكوه) وهي جبال وعرة مديدة تجهد فيها السيارة صاعدة وهابطة ثلاث ساعات، وبلغنا مدينة سمنان بعد الظهر فنزلنا داراً بظاهر البلد في فناء واسع، جلسنا على حافته فرفعنا عن الوجوه وعث السفر واسترحنا وتغذينا، ثم اسنفنا المسير فقطعنا الى دامغان 13 كيلاً، واخترقنا البلد ولم نقف به(79/43)
وسأتكلم عن سمنان ودامغان حين أصف عودتنا من مشهد الى طهران. وقطعنا من دامغان الى شاهر ود 67 كيلا، وبلغنا المدينة بعد الغروب، وقد زين شارعها بساجيد كثيرة، فنزلنا بدار كيرة خارجها، نزل بعضنا في حجراتها وآخرون في خيام ضربت في الحديقة وفرشت فرشاً حسناً، وقد شعرنا بالبرد الشديد في هذا البلد، وأصابني به برد لازمني حتى عدت الى طهران، فنغص على السفر قليلاُ وأفاتني بعض المشاهد. فلها في سفرنا ذكرى لا تنسى
إذا أنت لم تنفع فضر فانمايرجى الفتى كيما ويضر وينفعا
وشاهرود قرية غربي خراسان على مقربة من حدود ولاية استرآباد، طولها 52 درجة وعرضها 36 وارتفاعها 1110 أمتار.
وهي مكان تجاري على الجادة من طهران الى مسهد، ويذهب منها طريقان الى استر آباد. وفيها مجرى ماء عذب، وبساتينها كثيرة
والى الشمال منها بسطام بلد الصوفي الكبير أبي يزيد البسطامي المتوفي سنة 36، وبها قبره؛ وقد تحولت التجارة عنها الى شاهرود في القرن الماضي فتضاءلت حتى صارت قرية صغيرة. وقد بنى ألجايتو خان من السلاطين الايلخانية مسجد أبي يزيد والمسجد الجامع
- حرصت على زيادة أبي يزيد - فقيل لي سنزوره في عودتنا من مشهد، ثم لم يتيسر لنا هذا حينما رجعنا الى شاهرود قافلين الى طهران لضيق الوقت وتعلل سائق السيارة بوعورة الطريق. وأنا أنقل هنا ما كتبه ياقوت وقد زارها قبل سبعة قرون
فتني أن أرى الديار بعينيفلعلى أرى الديار بسمعي
قال ياقوت (وقد رأيت بسطان هذه، هي مدينة كبيرة ذات أسواق، إلا بنيتها مقتصدة ليست من أبنية الاغياء.
وهي في فضاء من الارض، وبالقرب منها جبال عظام مشرفة عليها، ولها نهر كبير جار. ورأيت قبر أبي يزيد البسطامي رحمه الله في وسط البلد في طرف السوق. وهو أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان الزاهد البسطامي)
وبسطام ودامغان كانتا من مدن قومس المعروفة في التاريخ الأسلامي(79/44)
تركنا شاهرود صباحاً ونحن ننشد ما قاله أبو تام حين اجتاز بقومس وهو يؤم عبد الله بن طاهر في نيسابور
يقول في قومس صبحي وقد أخذت
منا السري وخطى المهرية القود
أمطلع الشمي تبغي أن نؤم بنا؟
فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ونذكر ما قاله يحيى بن طالب الحنفي:
أقول لأصحابي ونحن بقومس
ونحن على أثباج ساهمة جرد
بعدنا وبيت الله من أرض قرقري
وعن قاع موحوش وزرنا على البعد فصلنا من شاهرود والساعة ثمان إلا ربعاً من صباح الاربعاء ومررنا بعد نصف ساعة بقرية قفر اسمها خير ىباد. قال سائق السيارة هذه قرية هاجت بساكنيها العقارب، حتى تعذر عليهم الاقامة بها فهجروها، ونزلنا بعد ساعة وعشر دقائق في منزل على الطريق اسمه (باغ زيدر)، فشربنا الشاي على جدول عليه أشجار جميلة.
وسلكنا طريقاً موحشة ذات تلال ومحان كثيرة.
قال محدثنا كانت طريقاً مخوفة لا يفارقها خطرالتركمان. ورأينا هناك قلاعاً قديمة مشرفة على الطريق. ونزلنا وقت الظهر في قرية اسمها داوكرزن في خان ضربت فيه خيام بيرة فاسترحنا وتغدينا، ثم ركبنا بعد ساعة ونصف نؤم سبزاوار. وهي كاسمها في إقليم مخضر، كثير البساتين فيه مجرى ماء، وكانت مدينة عامرة، قامت فيها في القرن الثامن الهجري (735 - 772) أمارة عرف أمرؤها باسم السربداريين (سربداران) واوهم خوجه عبد الرزاق أحد رجال السلطان أبي سعيد آخر ملوك الدولة الابلخانية، ودامت الامارة خمسا وثلاثين سنة تداول فيها الامر المضطرب اثنا عشر أميراً حتى قضي عليهم تيمورلنك وسبزوار الآن بلدة صغيرة لا يبدو عليها غني ولا جمال. ودخلنا وثد زين شارعها سموط من مصابيح الكهرباء. نزلنا بها وأوينا إلى خان واسع ذي طبقتين، فرشت حجراته فرشاً(79/45)
حسناً من أجل وفود الفردوسي. وبتنا للتنا مسرورين على ما صحب بعضنا من بردشاهرود
نحن الآن على مائة يل من نيسابور العظيمة. فتنظر في المقال الآتي حديث نيسابور
عبد الوهاب عزام
الذكرى الألفية لابي الطيب احمد المتنبي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
ما أنت يا احمدٌ في دولة الأدب ... إلا الزعيم وإلا شاعر العرب
وما تنبأت في دين كما زعموا ... بل في الفصاحة سباقاً وفي الأدب
فكان يوحى اليك الشعر عن شَحَطٍ ... وكان يوحي اليك الشعر عن كثب
ما كنتَ للشعر تستوحي قوافيه ... حتلا تجيء من الاعجاز بالعجب
وكنت في قادة الآداب أولهم ... وكنت أولهم في الجحفل اللجب
وكنت في الشعر مثل الماء منطلقاً ... وكنت في الحرب مثل النار في الحطب
كم حكمة لك سارت في الورى مثلاً ... قد قلتها بسان الشاعر الذرب
كم دولة القريض الناهض انقلبت ... لكن عرشك فيها غير منقلب
وقالة الشعر إن نذكر منازلهم ... فانت في الرأس والباقون في الذنب
صاحت بُغاثٌ ببازي الشعر تنقده ... فلم يبال بها البازي ولم يُجب
* * *
لأنت عند الأسى في الناس أشعرهم ... وانت أشعرهم في سورة الغضب
تصور الشيء في وصف لحادثة ... جتى كأني أرى الموصوف من صقب
بك احتفت بعد ألفٍ قد مضى أممٌ ... في مصر، في الشام، في بغداد، في حلب
إن الذي مات عن شعر هدى أمماً ... لخالدٌ في قلوب الناس والكتب
باللبغي قد قتلوا للشعر منك أبا ... لإاصبح الشعر من يتم بغير أب
لهفي كثير لو ان اللهف ينفعني ... على حياتك إذا أفضت إلى العطب
هي الررية لاتُنسى فجيعتها ... على توالٍ من الأعصار والحقب(79/46)
بالشعر والأدب الأيام طيبةٌ ... فان خلت منهما الأيام لم تطب
الدهر جار على الآداب يزهقها ... وما على الدهر إما جار من عتب
القتل رزء وهذا القتل افجعه ... كأنما بك منه الشر حل وبي
وربما عرف الأسلاف مصرعه ... مما على الارض فيه من دم سَرِب
القبر قبر فلا يجدي الدفين به ... وإن بنته أكف القوم من ذهب
مضى يريد حياة كلها دعةٌ ... وما درى أن غول الموت في الطلب
ولستُ أسأل عنه عند غيلته ... أكان مضطرباً أم غير مضطرب
ما في الرزية للمرزوء مُنتعشٌ ... لايرقص الطير مذبوحاً من الطرب
ليست بدار أمان يُطمأن لها ... دنيا مصائبها ينسلن من حدب
قصيدتي هذه ريحانة عبقت ... جنيتها من لباناتي ومن اربي
نظمتها من شعور لي لأهديها ... إلى أبي الطيب النهاض بالأدب
وما الذي قد نظمنا القولَ فيه سوى ... صدى الذ قاله في سالف الحقب
تحية الرسلة في منهل عامها الثالث
للأستاذ محمود الخفيف
أردت بشعري إجلالها ... فما طرب القلب إلا لها
تبدت لنا في عطاف الجلال ... عروساً تُجررُ أذيالها
تناهت اليها معاني الجمال ... فما أطلع الشرقُ أمثالها
تسير إلى الناس موموقةً ... وقد أكبر الناسُ إقبالها
عليها من الشرق ديباجةٌ ... توشح بالسحر سربالها
وقد عقدت تاجها من سناه ... وصاغت من الحق أحجالها
وفي مقلتيها يشعُ اليقين ... ويشغل ذكر العلي بالها
وما حفلت بصغار الأمور ... وما صحب المينُ أقوالها
ومن ذا رأى قبلها غادةً ... تقابل بالصفح عذالها؟
* * *(79/47)
تجدد للناس عهد الوفاء ... وقد رافق السعدث آمالها
وتستقبل الفطرَ في عيدها ... فيصبح نور الهدى فالها
أشيع أيامها الحافلات ... وأستعرض اليوم أعمالها
وما عرفتْ قبلُ غير الرشاد ... وقد سجل الدهرُ أفعاله
ألم نر كيف مشت حرةً ... تفك عن الضاد اغلالها؟
وتجري البلاغة رقراقةً ... فترتشف النفس سلسالها
فمن أدب تشتهيه النفوس ... ومن قصص هو أشهى لها
وتزجي القوافي معسولة ... وتسكب في القلب جريالها
تسوق العلوم لأهل النهى ... وتفتح للذهن اقفالها
وترفع ثم صروح الفنون ... وقد كره الناسُ أطلالها
وتحيو إلى مُسْتَكيِنَّ الخدور ... تفتق في الشرق أسدالها
وتخرج ميتدعات العصور ... وتعرض للناس أشكالها
وما الشرق إلا معين الفنون ... وإن أخرج الغرب مثالها
وما هو فن ولكنه ... وميض من الروح أوحى لها
تجدد ماضيه العبقري ... وقد هاج ماضيه بلبالها
وتدعو إلى العزفي أمة ... اطال بنو الغرب إذلالها
تذكرُ بغدادَ عهدَ الرشيد ... وتحصى بجلق أقيامها
وتتلو بمصر حديثَ الخلود ... فتوقظ للجد أشباله
تريك الملاحم في هولها ... وقد توج النصرٌ أبطالها
كأنك تلمح بين السطور ... دخان الحروب وقسطالها
وتسمع فيها صليل السيوف ... وكرَّ الجياد ونصالها
وقد ضاق بالجمع رحب الفضاء ... وزلزت الارض زلزالها
ترى خالداً في غمار الحتوف ... يخوض إلى النصر أهوالها
وتلقي صلاحاً يذل العداة ... وقد كان في الحرب رئبالها
فيملأ نفس ماضي البلاد ... ويذكر قلبك ما نالها(79/48)
وكم جدد الذكرث بأس الشعوب ... إذا أقعد الخوف أعزالها
حمدنا لصاحبها جهده - فقد ألهم الشرق إجلالها
(رسالته) فيه رمز الأخاء ... إذا رسم الفكر تمثالها
لقد وحدت فيه شمل الشعوب ... وإن فرق الدهر أنسالها
وتهدي إلى الرشد في أمة ... أراد أولو العلم إضلالها!
فلابرحت تصطفيها لقلوب ... وتستقل العين إجمالها
محمود الخفيف
الراديو
للأستاذ محمود غنيم
شادٍ ترنم لاطير ولابشر ... ياصاحب اللحن أين العود الوتر؟
إني سمعت لساناً قُد من خشب ... فهل تُرَى بعد هذا ينطق الحجر؟
لو قلتُ بالجن قلتُ الجن أنطقه ... أو قلت بالسحر قلت القوم قد سحروا
صوت (بروما) صداه رن في أذني ... كأنما هو من فكي منحدر
كأنما كل أذنٍ أذن (ساريةٍ) ... وكل ناءٍ ينادي نائياً (عُمَر)
هنا الخطيب الذي خانته جرأته ... يقول ما شاء لا جبن ولا خور
فليس يخشى ضجيج القوم إن طربوا ... وليس يخشى عجيج القوم إن سخروا
لهفي على صولة الحاكي ودولته ... لقد غدا في ربيع العمر يحتضر
وآلة جعلت من حجرتي أفقاً ... يرتد منحشراً عن حده البصر
كأنما الكرةُ الأرضية انحصرت ... في جوفها، والوري في جوفها انحصروا
قد حكمتني في الأصوات لوحتها ... فصرت أختار ما ىتي وما أذر
وكل رقم عليها شوه طرب ... وفيه كنز من الالحان مستتر
قد كنت أغشى بيوت اللهو منتقلاً ... فصار يسعى إلى اللهو والسمر
لها فم ليس يستعصى على لغة ... على الرطانة ولإفصاح مقتدر
عوراء لاتخرج الاصوات من فمها ... إِلا إِذا ما بدا من عينها الشرر
صماء لكن تعي ما لاتعي أذن ... بكماء من فمها الاخبار تنتشر(79/49)
ثرثارة إن أردت القول ثرثرة ... فأن أردت اختصاراً فهو نختصر
في كل يوم نرى لغرب خارقةً ... يكفيه هذا ويكفي المشرق النظر
القوم يبتكرون المعجزات لنا ... ونحن نفتن في إطراءابتكروا
فهل تُرى الشرق قد أدى رسالته ... وهل تُرى أنبياء الغرب قد ظهروا
محمود غنيم
زهرة أقحوان
للأستاذ إغيليا أبي ماضي
كان في صدري سر ... كامن كالأفعوان
أتوقاه وأخشى ... أن يراه من يراني
وإذا لاح أمامي ... عقل الذعر لساني
لم أخفه غير أني ... خفت أبناء الرمان
ولكم فان نطيري ... خاف قبلي بطش فاني
لم يَسَع سري فؤادي ... لم تسع نفسي المعاني
فقصدت الغاب وحدي ... والدجى ملق الجران
ودفنت السر فيه ... ثلما يدفن جان
ورأى الليل قتيلي ... فبكاه وكاني
إن لليل دموعاً ... لاتراها مقلتان
كنت حتى مع ضميري ... أمس في حرب عوان
فانقضى عهد التجافي ... , اتى عهد التداني
خدرت روحي فأمسى - شأن جل الخلق شأني
لا أرى في الخمر معنى ... ولَكَم فيها معاني
فكأني آلة العا ... صر أو إحدى الأواني
لم يعد قلبي كالبر ... ق شديد الخفقان
لم تعد نفسي كالنج ... مة ذات اللمعان(79/50)
بت لا أبكي لمظلو ... م ولا حُر مهان
لا ولا أحفل بالبا ... كي ولو ذا صولجان
صرت كالصخر سواه ... هادم عندي وبان
يا لَلآمالي الغوالي ... يا لأحلامي الحسان!
طوت الغابة شري ... فانطوت معه الأماني
ضاع لما ضاع شيء ... من كياني بل كياني
في صباح مستطير ... كمصباح المهرجان
لبست فيه الروابي ... حلة من ارْجوان
وتبدى الغاب من أو ... راقة في طيلسان
ساقني روح خفي ... نحو ذياك المكان
فاذا بالسر أضحى ... زهرة من أقحوان(79/51)
فصول ملخصة في الفلسفة الالمانية
4 - تطور احركة الفلسفية في ألماني
للأستاذ خليل هنداوي
الذات تخرج من نفسها وتعود الى نفسها، ولكنها تعود أكثر قوة وغنى، وكل معارضة تلقاها في الخارج لا تزيدها إلا قوة ومضاء. وفي كل جزء من أجزائها تحس أن قوة حيوية جديدة تولدت فيها، ونهاية أربها أن تعلن فوز سلان العقل على المادة والطبيعة، أو كما يقول (فيخت) (اتحاد الذات مع غير الذات) وهذا الاتحاد أو هذا الامتزاج المطلق يجعله فيخت مثله لأعلى، ويراه الفيلسوف (هيجل) حقيقة من حقائق الوجود
الذات السامية متمثلة في الله، والذات الآلهية هي الكمال الاعلى. والذات الانسانية تمثل - مجازياً - ما يمثله الله - خقيقياً - ولكنها يحدها الزمن وينتظرها الزوال. أما فاعليتها فباقية خالدة لتحقق مثلها الاعلى ولتدنو في الشبه طوراً بعد طور - من الآلة. والآلة لا حق لنا في تمثيله ولا إثبات وجوده بما هو خارج عن كنهه، لأن تمثيله معناه تحديده وإبرازه على صورتنا الزائلة، وجعله وثناً له شأن الاوثان. وإثبات وجوده معناه أن نستعين بيقين مستمد من غيره في سبيل اثباته، مع أنه هو مصدر كل يقين وهو الفاعل المطلق
موقفه من الدين
لم يؤثر شيء من النقد في نفس فيخت كما أثرت فيه تلك
الوشاية التي أراد خصومه من ورائها أن يتهموه بالألحاد، وما
زال الالحاد سيفاً يشهره العاجزون يهولون به على الأقوياء.
قابل (فيخت) هذه التهمة بابتسامة كئيبة، لأنه يعتقد أنه مضمر
للدين عاطفة طيبة تشف عنها كتاباته ومقالاته، وإزاء هذه
الوشابة أرسل إلى قومه نداء يدفع به عن نفشه هذه التهمو
الشنيعة، وهو نداء يطفح حرارة والتهاباً وإيماناً. قال فيه:)(79/52)
(إن الرجل المتدين هو الذي يشترك في تمثيل سلطة الله على
الأرض، ٌائمة نفسه حق القيام بما يجب عليها من قواعد
الأخلاق. يستيل علي أن اتخذ لي هدفاُ وغابة هذه الحياة التب
يتبرم الناس بهمومها وأفراحها. . . وإنما يجب على أن يكون
لي غرض مباين لهذه الأغراض. . . إن الاشياء تقاسمنا -
بحسب أهوائنا - أمانينا وميولنا، فهي تئن إذا أرغمها على
الزهو مرغم وهي ترجو الانعتاق إذا أمسك الحرية عليها
مسك، وهذا الأمل المتوقد في ما هو أسمى وأرفع وفي ما هو
أبقى وأخلد، وهذه السآمة من الأشياء الزائلة الفانية، كل هذه
هي عواطف لاصقة بقلب الانسان! ووراء ذلك صوت لا يمكن
لبشر أن يخنقه إذا علا وارتفع في صدر الانسان، يوحي عليه
أن هنالك واجباً فرض عليه أن يقوم به لأنه هو الواجب،
والانسان الذي لا مفر له إلا إلى نفسه يسمع ذلك الوصت
ويردد معه (ليمنعني ما يمنع! فانني لقائم بواجبي حتى لايكون
هنالك لائم) وهذا الحل الذي وجده هو الذي يجعله محتملاً لهبة
الحياة إذا استلمها، ولا نتزاعها منه إذا فقدها، يقول بنفسه. .
أريد أن أنجز أيامي لأن الواجب يدعوني إلى ذلك. . . أريد(79/53)
أن اتمم ما تطلب الحياة مني وما تفرضه علي. . . إن الحياة
مقدسة عندي! وما قدسها إلا حب الواجب.)
ويرى فيخت وجوب توحيد الاخلاق والدين لأن غايتهما واحدة ووجهتهما واحدة. فالدين بغير أخلاق ما هو إلا مظهر خارجي يغذي العقل بالأوهام والأساطير دون أن يرقي به إلى ناحية من نواحي الكمال. والأخلاق بغير الدين تتركنا نجتنب الشقاء خشية عاقبته، دون أن نغرس في نفوسنا حب الخير لنفيه. ألا ليكن دستورك الشريف في حياتك أن تريد ما يجب، وأن تظهر إرادتك من أدران هذا العالم، وتنقذ وجودك منها ليتسنى لك العروج الى عالم هو أسمى من عالمنا الحاضر، , ان تصرف نفسك عن هذه الحياة الى الحياة الهادئة السعيدة
ويقول أيضاً: (إن مزية الرجل المتدين الحقيقي في مذهبي هي أن تكون له رغية واحدة تحدوه، وفكرة واحدة تسوقه، صلاته هذه الآية: (ليأت ملكوتك) وفي غير ذلك لايتسع صدر لشيء، ولا تسمى قدماه إلا في سبيل واحد يدينه من غايته ولايطيع في كل ما يأتيه من عمل إلا صوت ضميره
على أن روح فيخت الدينية بدأت تبدو كثيراً في كتاباته الاخيرة التي أراد بها توضيح مذهبه. ففي كتابه (الموجز) نرى نزعته الفكرية التي تؤمن بأن الله قد أناب منباه (الذات المطلقة) على الأرض، وأن نهاية هذه (الفاعلية) الانسانية تفنى في وحدة تمزجها مع الالوهية. وفب كتابه (غاية الانسان) يعلن فيخت بأن حقيقة العالم الخارجي بعيدة عن الوضوح والبيان، ولكن في الامكان تعليلها بطريقة من طرق الايمان، أليس هو شعورنا الذي يحفزنا الى معرفة (حقائق الأشياء الخارجة عنا) وهي كائنات لها وظيفتها في الوجود كما لنا وظيفتنا، وأرانا مضطرين الى اسعافها في اكمال وظيفتها
وفي كتابه (معرفة الحياة السعيدة) يبحث مسألة الاتحاد مع واجب الوجود، وقد يكون في استطاعتنا القول أن هذا الاتحاد قد يكون اتحاداً صوفياً (يمثل فناء المحب في المحبوب) لو لم ينبهنا فيخت الى أن هذا الاتحاد ليس باتحاد فارغ - كما نتمثله - وإنما هو اتحاد ملائم لجبلة الله. وإنما الرجل المتدين عنده هو الذي يؤمن ويضع رجاءه - لا في الله - لانه يحمل الله في قلبه، ولكن في الانسانية التي يجاهد في سبيل إسعادها وكمالها(79/54)
قيمته الفلسفية
أجمع النقاد على أن فلسفة فيخت ليس لها ذلك الألتئام والاتحاد اللذان تمتاز بهما فلسفة (انت)، وإنما هي قوة منبعثة يجهل بواعثها فيخت نفسه. قد لا تتفق وجوهها إلا بجملة امتيازات خاصة لو تأملها متأمل عن كثب لرأى ركاكتها ولمس ضعفها، فالذات في نظره هي الفاعل المطلق، ولكن يف يسند إليها هذا الأطلاق وهي ليست بالمطلقة، وكيف تكون مطلقة وحولها ذوات ثيرة مثلها، كل ذات منها مطلقة في نفسها؟
إن قيمة فلسفة فيخت لا تتمثل حقيقة فيما اتسفت وابتدعت - في عوالم النفس - فهي لم تكتشف شيئاً، ولم تكشف عن شيء في المسائل العلمية، ولكن هذه الفلسفة ستبقى مطبوعة بصفة لاتبلي، هي سر كل بقائها وعظمتها
قد يأتي يوم يفقد فيه (كانت) كل مناصر، ولكنه لن يفقد بعض آراء مثمرة جديدة لها خطرها فيما أبدعت، (وفيخت) لن يفقد بعص صفحاته النقية وبعض آرائه السامية. وهب أنه فقدها، فهو لن يفقد ذلك المثل الأعلى الذي هام في طلبه طيلة حياته، وكان أبلغ واسمى ما تجلى به مذهبه أن الأنسان الأخلاقي - في فيخت - يغلب على الأنسان الفيلسوف! والأنسان الأخلاقي - في فيخت - يغلب عليه وسمو عليه النسان وحده. . .
(يتلي) خليل هنداوي(79/55)
القصص
من الادب الألماني
التأمين (ضد) امرأة جميلة
للقصصي الالماني
قبيل الساعة السادسة جلس في الغرفة الخلفية لحانة (الطاحونة الملكية) ستة رجال على مائدة مستطيلة. وكا منهم يخشى البدء بالكلام برغم تعارفهم - ذلك التعارف الذي لامفر نه لسكان بلدة صغيرة. وكانوا في حياتهم ومعاشهم متشابهين، فكلهم موظفون، لهم مكاتبهم التي يجلسون إليها في مصارف أو مصانع أو محال تجارية. جاءوا جميعاً لأن كلا منهم قد بلغته دعوة للحضور إلى (الطاحونة الملكية) في نفس اليوم من الساعة السادسة لكي يتم تأسيس جميعة عظيمة الخطر والنفع له. وقد طلب إليهم صاحب الدعوة أن يسروا الخيبر، فأخفوه حتى عن نسائهم، إذ ظنوا أنها مسألة قد تكون خاصة بالرجال. . . ون يدري؟ وكان الداعي فطناُ إذ خلق لكل منهم آملاً معسولة. غير أن واحداً منهم لم يعرف شيئاً على وجه التحديد. فانتظروا (الهر فِريِد) صاحب الدعوة. وكان هذا شاباً رشيقاً، جواباً للبلاد يطويها من المشرق إلى المغرب، وله مهم غير معروفة بالذات. وكثيراً ما كان شخصه موضع حديث الناس لغريب شأنه
وما ان دقت الساعة حتى دخل الهر فريد إلى الغرفة، وقال كمن يرأس جماعة:
(سادتي! إنه ليسرني أن أراكم مجتمعين كاملي العدد. . .) فابتسموا جميعاً، ولكنهم أزداودا اليه تطلعاً. وابتسم الهر فريد وتابع قوله:
(كاملي العدد - يا حضرات المختلسين. . .!)
فذعُر الرجال الستة وهرب الدم ن وجه ثلاثة منهم، وصعد الدم إلى رؤوس الثلاثة الآخرين. وحاول كل منهم أن يكظم غيظه، أو يرسله كلمة صاخبة يحملها إلى الهر فريد في شيء من الرفق والتودد. أما هو فأخرج من جيبه ورقة قرأ فيها أسماء الحاضرين، وكان يردف كل اسم بأرقام تتراوح بين الألف والعشرة آلاف.
وما كاد ينتهي من ذلك حتى شملهم سكون أشبه بسكون الموت. وبعد هنيهة تشجع من(79/56)
اقترت اسمه بأكبر رقم - وكان صيرفياً في (بنك التجارة) وأراد محاسبة الهر فريد على كلامه فقال له:
(من أين عرفت ذلك؟)
فقال: (هذا ما لا أريد ذكره الآن.)
فسأله: (أمن رجال الأمن أنت؟)
فأجاب: (لا.)
فتنفس الرجال الستة الصعداء. ولما سئل ثانية:
(ألاستغلال الموقف؟)
قال (كلا!) قالها فرحاً وزاد عليها: (وهل لديكم أشياء يستغلها الغير؟ لقد اختلستم أكثر من نصف ما في خزائنم، وأريد الآن أم اوجه إليكم سؤالاً بسيطاً: ماذا تفعلون لو جاء مفتش؟)
وانقلب الرجال الستة مرة أخرى الى كتلة من الذعر والمرج، وتعالت الصيحات وكثرت الأسئلة، ومضت دقائق يغمغمون دون أن تتميز كلماتهم
وقال الهر فريد: (إني أعرف جيداً أن ساعتين كفيلتان بدرء الخطر، إذ النجدات تطلب، والتلغرافات إلى الأقارب ترسل، والمحادثات التليفونية مع الأصدقاء تقعز فيتم جمع المبلغ المطلوب، ويوضع في الخزينة لكي يرد الى أصحابه بعد عملية المراجعة والتفتيش التي قد تستغرق بضع ساعات. ولكن ماذا أنتم فاعلون أذا فسل المسعى رة؟
وبدت على الجميع الحيرة. غير أن الهر فريد بسط ذراعيه وقال (إني لا أريد بكم سوءاً، بل لقد جئت لرشادكم. إني أعرض عليكم خطة للنجاة. . . ماذ ترون في تنظيم مساعدة سريعة حينما يداهمكم تفتيش على غير انتظار؟)
(انها أسئلة مفجعة. ولكن ما هي الخطة: يا سادتي! يجلس هنا صيافة ستة لمحال مختلفة. وإذا لم أخطيء التقدير فاثنان منكم في مصرفين، وأربعة لأاربعة مصانع. فهل يمكن أن يجري التفتيش عند الجميع في وقت واحد؟ كلا يا ساتدي، فهذا من الوجهة العملية لايمكن، ولن يمكن وقوعه في الحياة. وإذاً فهذه المفاجأة غير المرغوب فيها لا تهدد إلا خزينة واحدة. ولا يجيء الدور على الخزينة الثانية حتى ينتهي التفتيش من الخزينة الاولى. ويصح أن أكرر القول بأنه حينما تكون إحدى الخزائن واقعة تحت خطر داهم، فلن يصيب(79/57)
الخزائن الخمس الاخر شيء قط مهام كان العجز الذي فيها. ولهذا يمكن أخذ الأموال من تلك الخزائن لأنقاذ الخزينة المهددة. ثم بعد مرور الخطر، أي بعد بضع ساعات ترد الأموال ثانية. هذا كل شيء. وهو بالنسبة اليكم ولموقفكم كبيضة كولومبوس) من أجل هذا وجب عليكم يا سادتي أن تتعاونوا للتأمين ضد الحالات السيئة الطارئة وتجعلوني رئيساً عليكم، ولابد أن تجعلوا لي على ذلك أجراً شهرياًز ولس هذا بالأمر العسير، إذ أن الخزائن التي أنقذتكم في ميسورها أن تتحمل ذلك دون أي مشقة)
وفي الليلة نفسها تألفت في حانة الطاحونة الملكية شركة للتأمين من نوع جديد، ثم أملي الرئيس، الهر فريد، مواد قانون الشركة ومنها: الدفع في الللحظة المطلوبة، رد المبلغ في طرف أربع وعشرين ساعة، عدم تغطية الخسائر السابقة، يتقي خطر كل اختلاس جديد. ومن ثم تلاشى الرعب وسرى في النفوس البشر. وكانت أقداح البيرة تملأ باستمرار من جديد. وان الهر فريد، المقذ، موضع التكريم من الجميع
وتناسوا جميعاً الورقة التي بها الاعداد الصحيحة من النقص في كل خزانة، وكانت على المائدة. فلما أبصرها أحدهم على حين غرة وجه السؤال مرة أخرى الى الهر فريد الذي تصادق مع الجميع فقال: (من أين عرفت ذلك؟)
فأجابك (الآن سأقص عليكم المسألة: طبعاً تعرفون السيدة ماري لو؟)
فاندفعوا جميع في صوت واحد ليقولوا كلمة (لا!)
فاستأنف قوله: إذاً سأذكر لكم شيئاً عنها. ان السيدة (ماري لو) جذابة، قصيرة القامة، شقراء اللون، تسكن وحدها منزلاً خلوياً في ظاهر بلدتنا. أما كيف صار لها هذا المنزل، وكيف حصلت عليه، ولا زالت تحصل على مطالبها - وحياتها هي الترف بمعناه الكامل - فهذا ما لا يعرفه أحد في بلدتنا، أليس كذلك؟ غير أني أعرف السر، إذ هو متعلق بعمل أمارسه في بعض الأحليين. إن للسيدة (ماري لو) دفتر حساب يحصر فيه جميع داخلها ومصروفها، وكانت قد دعتني مرة لتنظيم هذه الدفاتر. ومن ذلك اليوم وأنا أعالج تنظيمها بطريقتي الخاصة. وإذاً فأنا لست رئيس هيئتكم فقط، ولكني أيضاً مراجع حسابات السيدة (ماري لو) وها أتنم اولاً ترون إنني أمارس مهناً غريبة، ولكنها في الواقع متصل بعضها ببعض، ففي أحد دفاتر الدخل وجدت أسماءكم جميعاً يا سادتي، ووجدت بجانب كل أسم(79/58)
رقماً من الارقام. . إنني أعرف انكم متزوجون. ومعنى ذلك أن مرتباتكم الكاملة تقدم اولاً بأول إلى زوجاتكم. . . والأرقام التي وجدتها في دفتر دخل السيدة (ماري لو) نقلتها هنا بكل أمانة. . . ولابد أن تكون هذه الارقام هي اختلاساتكم الجليلة اشأن، المحسوبة حتى أخر فلس
ولم يغضب هؤلاء السادة لسماع ذلك، إذ أن هذا الشاب الظريف كان قد دفعهم الى التمتع برؤية مستقبل باهر. ثم لم يغب عنه أنه يختم الليلة بالتحدث عن مكارم الأخلاق إذ قال:
(إنه لا يليق بمقامكم أيها السادة أن تجر عليكم الخسارة امرأة مثل السيدة ماري لو. . إنني أكتفي بهز رأسي. انظروا الي، إنني لم أجد اسمي في دفتر دخل السيدة ماري لو، برغم أني أعمل معها ليل نهار في مراجعة حساباتها وشؤن أخرى)
وراج التأمين ضد الحالات غير المرغوب فيها بسرعة فائقة، وأصبح عدد الاعضاء ثلاثين عضواً، إذ وجد الهر فريد أسماء الاربعة والعشرين الجدد مدرجة واحداً بعد واحد في دفتر ماري لو. . . وسرعان ما كانت له سيارة جديدة يجوب بها البلاد والمدن المجاورة، لينشئ فيها فرعاُ لشركته التعاونية هذه، أو ليقوم بما يشبه ذلك من الأعمال. وكان كل مطمعه الا يظهر أي اختلاس في الوطن الذي يحميه
ومن الأموال المقيدة بارقام ميتة في دفتر لخزينة ان الصيارفة يرتعون في بحبوحة من العيش. وكان المفتشون والمراقبون يجدون كل شيء على أمله. وكانت الاحصاءات تدل على ان درجات الشرف ترتفع باستمرار في البلاد
ولا أن اجتمعت الجمعية العمومية في (حانة الطاحونة الملكية)، وفقاً لتقاليدها القديمة، كان التقرير السنوي حسناً، فوافق عليه الثمانمائة عضو بالاجماع. وأذاغ الهر فريد في خطابه السنوي قرب تحيقي ما يأمله من تبليغ أعمال الشركة الى عاصمة الدولة حتى يقضي على الاضطرابات المالية وفق طريقته المبتكرة، ثم جلس بين عاصفة من التصفيق والابتسام، وفي هذه اللحظة اندفع باب غرفة الاجتماع، وتقدم اثنان من مديري البنوك، وثلاثة من مديري المصانع، يعلو وجوههم الحزن. وكان يحمل كل منهم خطابات ورسائل مطبوعة تشيد بمكانة شركة التأمين وقدرتها. وظن المجتمعون أن عهد الاختلاسات قد مضى فاختل التوازن بينهم. ولكن الهر فريد بقي جالساً لاتفارقه ابتسامته(79/59)
وسأله المتكلم من بين المديرين الخمسة:
(هل هذه المطبوعات خاصة بكم؟)
فرد عليه الهر فريد بالايجاب
ثم استمر في السؤال: (هل كل هذه البيانات المذكورة صحيحة؟)
فرد عليهم الهر فريد بالايجاب مرة ثانية
وأخيراً لب خمستهم قبولهم أعضاء في هذه الشركة العملية، ولما انتهى الاجتماع السنوي سأل احدهم الهر فريد:
(لماذا ل م تحرك ساكناً في أول الأمر، ودق داهمنا هؤلاء المديرون؟)
فأجاب: (رأيت من قبل أسماؤهم الخمسة في دفتر حسابات دخل السيدة ماري لو.) ثم أعقي ذل بقوله (إنني لا أتمالك غير هز الرأس، أي، لقد تدنس عظماء الرجال)
وما لبث أن طلب المديرون الجدد التوسع في أعمال الشركة وإصلاح نظمها. فالتأمين ضن الحالات غير المرغوب فيها - بعد أن اتسعت أعمال الشركة وتشعبت - تطلب تنظيماً جديداً وفرض اشتراك (يرد ثانية إلى الاعضاء) لكيكون بمثابة احتياطي مضمون.
ودفع كل عضو مبلغاً من ماله الخاص. ولما أن تجمعت هذه المبالغ العظيمة اودعت عند الرئيس المبجل الهر فريد، كرصيد سريع لدرء الخطر
* * *
وفي صباح يوم اتصل الهر فريد تليفونياً بالاعضاء السبعين (وهكذا أمسى عددهم) وكلفهم بسرعة جمع مبلغ جسيم. وبالطبع سأله الجميع عن أسم المختلس الذي وقعت له حالة غير مرغوب فيها
فكان يجيب: (هس شركة التأمين ضد الحلات غير المرغوب فيها.)
وكان كل واحد منهم يعتقد أنه سمع خطأ أو فهم خطأ.
ولكن الرئيس سؤكد له:
(إنك تسمع ما أقول صحيحاً. إن المديرين ضربوا اليوم موعداً للمراجعة والتفتيش، وللأسف اختلست انا الرصيد الذي كان عندي منذ أيام.)
فكان جواب كل منهم: (ماذا تقول؟ إنه يجب عليك أن تتحمل الخسارة وحدك وتسد النقص(79/60)
حالاً)
وكانت إجابة الهر فريد الثابتة: (إنني لا أفكر مطلقاً في ذل. إنني عضو في الشركة سائر السادة المختلسين)
ثم يسأل كل منهم: (وكم يكون العجز؟)
فيجيب: (هو الاحتياطي بأجمعه وإني آسف إذ ليس في وسعي
إعطاء الارقام الصحيحة.)
وكانت صرخة الغضب تدوي من كل منهم حين يقول:
(لماذا؟ أليس امبلغ مقيداً في دفتر حسابات دخل السيدة لو؟)
فيقول الهر فريد متحسراً: (لا. إن صديقتي الجديدة ترهب مسك الدفاتر وتمقته. نعم إن السُّمْر من النساء لا يرين للمال حرمة.)
عربها عن الألمانية ا. ا. ي.(79/61)
من روائع الشرق والغرب
المشهد العام للكون
لشانو بريان من كتابه (عبقرية المسيحية)
إن في الكون إآلهاً تقدسه أعشاب الوادي، وتمجده أدواح الجبل، وتسبح بحمده الحشرة، ويحييه في الصباح الفيل، ويغرد به على الغصون الير، وتُبرق بقوته الصاعقة، ويدل على سعته البحر، والانسان وحده يزعم أن ليس في الكون إآله! كأنه لم يرفع بصره إلى السماء فيْ بلائه، أو لم يخفض نظره إلى الأرض في رخئه! وكأن الطبيعة بعيدة عن تناوله، خارجه عن تأمله!
لعله يعتقد أنها أثر من فعل النصادفة! ولكن أية مصادفة استطاعت أن ترغن نافرة عصية على هذا النظام الكامل المحكم!؟
إن في إمكانك أن تقول إن الإنسان فكرة الله المُعْلَنة، وأن العالم مخيلته المُحَسةـ وأن الذين قبلوا أن يكون جمال الكون دليلاً على قوة الادراك وسمو البصيرة كان يجب عليهم أن يلاحظوا شيئاً تعظم له كرة العجائب وتزيد به دبائع الخلق: ذلك أن ما ينوع زخرف الدنيا وجمال الوجود من الحركة والسكون، والظلام والنور، وتوالي الفصول، وسبوح الكواكب، ليس تعاقبه إلا في الظاهر؛ أما في الواقع فكل شيء ثابت؛ فالمشهد الذي يمحي من عيوننا، يشرق في نظر قوم غير قومنا. إنما يتغير الناظر؛ أما المنظر فهو باق على حاله. وهكذا يجمع الله في صنعه بين الدوام المطلق والدوام المتجدد، فَوَضع الأول في الزمان والثاني في المكان، وجعل بالدوام المكاني جمال الكون واحداً ثابتاً غير محدود، وجعله بالدوام الزماني متكاثراً متجدداً غير متناهي، وبدون هذا لايكون تنوع الطبيعة، وبغير ذلك لا تتم عظمة الخليقة
هنا يتراءى لنا الزمن في علاقة جديدة، لإادنى جزء من أجرازئه يصير كُلاً تاماً يشمل الكل. وإنْ من شيء إلا يتغير حاله فيه ويختلف نظامه به، سواء في ذلك موت الحشرة، ومولد العالم: فكل دقيقة خي في ذاتها خلود مصغر
دع فكرك يجمع في لحظة واحدة أروع حوادث الطبيعة، فقدر أنك ترى في وقت واحد جميع الساعات، وجميع الفصول، وصبحاً من أصباح الربيع، وبكرة من بُكر الخريف،(79/62)
وليلاً مرصعاً بالنجوم، وليلاً آخر ملبداً بالغيوم، ومروجاً مطرزة بالزهر، وغابات محملة بالصقيع، وحقولاً مذهبة بالحصيد، تجتمع في ذهنك فكرة صادقة عن الكون
إن في الساعة التي تعجب فيها بالشمس وهي تغيب في جنية المغرب، إنساناً آخر يعجب بها وهي تلوح من حاشية المشرق فبأي سحر خفي تكون هذه الشمس العجوز التي ترقد مكدودة محترقة في غبار المساء، وهي في هذه اللحظة نفسها تلك الشمس الشابة التي تستيقظ من خدر الصباح مبللة بالأندار؟!
في كل لحظة من لحظات النهار تشرق الشمس، وتسطع في السمت؛ وتغرب عن هذا العالم، أو قل توهمنا مشاعرنا بذلك؛ والواقع أن ليس هناك شرق ولا ظهر ولا غرب! انما يرتد كل ذلك إلى نقطة محدودة ترسل فيها شعلة النهار في جوهر واح، ثلاثة أضواء في وقت معاً
من بدائع طاغور
من كتابه (القربان الغنائي) (جيتَنْجالي)
يا حياة حياتي: أنا اجتهد دائماً أن أحفظ جسمي من الدنس، لأني أعلم إن لَمْستَك الحي وَسْمٌ على كل عضو من أعضائي
أنا أجتهد دائماً أن أحفظ قكري من الخطأ، لأني أعلم أنك أنت الحقيقة التي تبعث نور العقل في ذهني
أنا أجتهد دائماً أن أذود عن قلبي الخبث، وأدفع عن حبي الذبول، لأني أعلم أن مسكنك هو الهيكل السري من قلبي
وسيكون قصاراى أن أجتليك في كل عمل، لأني أعلم أن قدرتك هي التي تندني بالقوة لأعمل
- 26 -
أقبل فجلس الى جانبي ولم أستيقظ! فعلى نومي الشقى اللعنة!
جاء في سجُو الليل وفي يده قيثارته، ثم غني فاهتزت أحلامي لانغامه!
وا أسفاه! لماذا تذهب ليالي ضياعاً؟! والهفتاه! لماذا يفر من مشهدي، ذلك الذي تمس أنفاسه(79/63)
مرقدي؟
- 35 -
هناك حيث الفكر أمن والرأس مرفوع؛
هناك حيث المعرفة حرة؛
هناك حيث العالم لم يُجَزأ أجزاء ضيقة مشتركة؛
هناك حيث الكلمات تصدر من أعماق الاخلاص والصدق،
هناك حيث الجهد اللاغب يبسط الاذرع نحو الكمال؛
هناك حيث البرق الساري للعقل لا يضل ضلال الموت في بيداء التقاليد والعرف،
هناك حيث الذهن يتقدم على نور قيادتك في تحرير الفر والعمل:
هناك في هذا الفردوس، فردوس الحرية، تَطَول علي يا أبي أن يكون موطني هناك!
طاغور
إني شكرت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدي إلى يداً ... لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته إلى ... وإحساني فعاد مضاعف الجُرم
وكأنما الأحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم
ابو العتاهية
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير مُعري أو أمير مُدوج
وقد يُرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتاً واحداً وهو أحوج
__________
أحسن جواراً للفتاةوعُدها ... أخت السماك على دنو الدار
كتجاور العينين لن تتلاقيا ... وحجار بينهما قصير جدار
ــــــ
ياقوت! ما أنت ياقوتٌ ولا ذهب ... فكيف تُعجز اقواماً مساكينا؟(79/64)
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم ... لما رأيت بني الأعدام شاكينا
أبو العلاء
ـــ
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخئف المطلوب كِفة حابل
يؤدي اليه أن كل ثنيةٍ ... تيممها تُوحي اليه بقاتل
القتال الكلابي
__________
لقد خفت حتى خلت أن ليس ناظر ... الى أحد غيري فكدت أطير
وليس فم إلا بسري محدي ... وليس يد إلا إلي تُشير
عبيد بن أيوب
ــــــــــــــ
مثل الحقد في القلب إذا لم يجد محركاً مثل الجمر المكنون إذا لم يجد حطباً، فليس ينفك الحقد متطلعاً إلى العلل كما تبتغي النار الحطب، فاذا وجد علة استعر فلا يطفئه حسن كلام ولا لين ولا رفق ولاخضوع ولا تضرع ولا مصانعة ولا شيء دون تلف الأنفس وذهاب الأرواح
* * *
لين ما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسوداً، فان الحسد خلق لئيم، ون لؤمه أن يوكل بالادننى فالادني من الأقارب والاكفاء الخطاء. فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير من، وان عُنما لك أن يكون عشيلاك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من عمه، وافضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجت بجاهه، وأفضل منك في الدين فتزادا صلاحاً بصلاحه
* * *
أبل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وااعامة بشرك وتحننك، ولعدوك(79/65)
عدلك، واضنن بعرضك ودينك على كل أحد
ابن المقفع(79/66)
من هنا وهناك
هل لامرتين عربي؟
جاء في كتاب (لامرتين) تأليف الأستاذ ج. كلويه، وش. فيدال ما نصه
(كان لامرتين يقول من ذات نفس إنه نحدر من أصل عربي وإن استقرار آل مرتين في مقاطعة (ماكونيه) يرجع تاريخه إلى الغزوة. وهذا التأكيد لانجد له أساساً مادمنا لانستطيع الرجوع بأصل آبائه إلى ما قبل القرن السادس عشر
ففي سنة 1572 ذُكر واحد من أسرة لامرتين في مذكرات كورديه بين النبلاء والوجهاء الذين أرغموا على أداء مبلغ جسيم من المال الى (كولدجيز) أسقف (ليمي). .
ويقول م. بيير دلاكرتول إن جد لامرتين، وهو لويس فرنسيس دلامرتي زور في سجل الأحوال الشخصية فحول أسم آلمرتين الى دلامرتين)
ويقول بيير دلا كروتل في كتابه (أصل لامرتين وشبابه)
(. . . وأصل الاسم هو أَلامرتين أو أللامرتين كما كان يكتبه، ولا يزال يُسمع الى هذا اليوم في برغونيا وفي منطقة اللوار الاعلى. أما موطن الأسرة الأول فهو أقليم كاروليه حيث يجد الباحث في أخريات القرن الخامس عشر أسماء ألابرت وآلابرناد وآلابلانش وقد تحولت فيما بعد، الى دي، لا، برت وديلابرت ودي بلانش
أما الأصل العربي الذي ان يعترف به لامرتين في زهو وفخر فربما كان عذراً جميلاً عن استسلامه للكسل الرفيع، وحبه الشديد لأنواع الحيوان، وتأثير جاذبية الشرق فيه وسلطانها عليه.
ولاتزال هذه النسبة من المسائل التي يغيم على حقيقتها الشك)
فأنت ترى أن لامرتين يعترف في صراحة وثقة بجنسيته العربية، ولكن الكتاب الفرنسيين بالطبع لا يصدقون هذا الاعتراف، ولا يؤيدون هذه النسبة، وإنما ينتحلون لها شتى الأسباب ومختلف العلل. فهل فينا من يصمد لهذا البحث في مظانهفيضيف الى عبقريات العرب هذه لعبقرية الخالدة، ويُرجع إلى أرواح الشرق هذه الروح الشاردة؟
أحد تعاريف الشعر
ذكر بعض المؤرخين أن جيوزني كارديوسي سئل مرة عن خير تعريف للشعر، فقال إن(79/67)
خير التعاريف تعريف الأب اكسافييه بيتينللي خصم دانتي الألد وهو قوله:
(الشعر حلم يتهيأ في يقظة العقل)، وكتب أدريانو تلغر في مؤلفه دراسة الشعر شرحاً دقيقاً لهذا التعريف قال: (لو تأملت قليلاً، وجدت أن التعريف الذي يتصل بعلم الجمال الحديث اتصالاً مباشراً إنما يتمثل فيما قاله ذلك اليسوعي عدو دانتي (يقصد به الأب اكسافييه)، وهو أن الفن حل. فهو نشاط روحي يتميز بطبيعة العقل وبالتفكير والمنطق، ولكنه حلم في يقظة العقل؛ فالفنان يحلم، ولكنه يدرك ما يتراءى له، أي يحلم وعيناه مفتوحتان، وهو يحلم ولكن نتيجة ذلك الخلم تخالف ما نحلم به ونحن رقود. فحلم الفنان إغفاءة في يقظة الضمير ورقابة العقل، فلا هو حلم كما نفهم من كلمة حلم، ولا هو نتيجة خالصة للعقل، ولكنه شيء لا هو بالحلم ولا هو بالأدراك. وإذا كان الفن حلماً يتهيأ في حالة اليقظة فمعنى ذلك أن الفن نتيجة روحية سابقة لانتباه العقل، منطقية سابقة للمنطق؛ وهو إدراك خالص للتصور وللضمير في وقت واحد. أي إن هؤلاء الذين هم في حضرة عقولهم وصحو ضمائرهم وكمال يقظتهم الفنية لم يخرجوا عن الصواب
من بشر بن عوانة؟
هل عثر أديب من الأدباء على اسم هذا الشاعر في غير المقامة البشرية لبديع الزمان الهمذاني، وكتاب تاريخ أدب اللغة العربية للمرحوم جورجي زيدان، وكتب المحفوظات لوزارة المعارف المصرية؟ أما نا فلم يقع لي هذا الاسم في سفر من أسفار التاريخ ولا في كتاب من كتب الأدب على كثرة ما قرأت، فرجع عندي أن بشر بن عوانه الأسدي شخصية خرافية من شخصيات المقامات، خلقها البديع، وأجرى على لسانها تلك القصيدة المشهورة وفي وصف قتال الاسد
وقد راعى البديع في نظمها الصيغة المحلية للعصر الجاهلي الذي فرض وقوع حادثها فيه، فجاءت في لغتها وأسلوبها وصورها أشبه بما قيل من نوعها في ذلك العصر، فدخلت في مختار لشعر، وسارت على ألسنة الشعراء، حتى خدعت رجال الأدب في وزارة المعارف، فحفظوها للطلاب على انها قصيدة جاهلية لشاعر جاهلي اسم بشر بن عوانه كان من امره وخبره ما أخبر عنه البديع في مقامته. وجاء المرحوم جوؤجن زيدان، فوجد القصيدة تدرس في المدارس، وصاحبها يذكر في الشعراء، فاقبته في الجاهليين، وترجم له قصيدة لم يرجع(79/68)
فيها الى غير تلك المقامة. وهذا مثل قريب تعرف منه كيف كانت الأساطير تدخل في التاريخ، والشخصيات الخرافية تدخل في الأدب، والقصائد المحولة تدخل في الشعر
طبقات الجو العليا:
نشرت جريدة (نوقيل ليترير) مقالاً علمياً قيماً لروجيه سيمونيت نقتطف منه الجزءالاتي:
(من المعروف أنه كلما صعدنا في طبقات الجو العليا ازدادت الطبقة الهوائية انبحاجاً وازداد انتشار الهواء وقلت كثافته، ونقص تركيبه، وازداد صفاؤه حتى يصير رائقاً لا تشوبه ذرات الغبار التي تكون اعمدة طويلة من التراب قرب سطح الأرض، والهواء في تلك الطبقات غير صالح للحياة لانعدام الاكسيجين. وقد حاول علماء الطبيعة اليوم الوصول إلى تلك الطبقات واكتشافها لما لها من الفوائد العلمية العظيمة، فقاموا بكثير من المحاولات والتجارب نجح بعضها وأخفق الآخر، إذ أرسلوا منايدهم الكشافة، وبهذه الطريقة توصلوا الى معرفة بعض حقائق علمية ذات قيمة كبيرة. من ذلك أن الحرارة تنخفض درجة مئؤيو كلما ارتفعنا مائة وخمسين متراً فوق المستوى الأول لهذه الطبقات المجهولة التي أسموها وهذا الارتفاع يتغير إلى مائة متر في الهواء الجاف وإلى مائتي متر في الهواء الرطب. ولاحظوا أيضاً أن أقل درجة حرارة جوية تبلغ 85 فوق المنطقة الاستوائية على ارتفاع عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف متر، وأن ضغط الهواء ينقص بسرعة هائلة فيصير نصف الهواء على سطح البحر على ارتفاع ستة آلاف متر، وينقص إلى الربع على ارتفاع أحد عشر ألف متر، وإلى عشر هذا القياس على ارتفاع ستة عشر ألف متر
واكتشاف هذه الطبقات ذو فائدة كبيرة، إذ يصبح في مقدورنا أن نعرف موضع الازون وهو الذي يمتص أشعة الشمس فوق البنفسجية التي تهيء لنا الحياة على سطح الارض.
ومن بين المعضلات التي يحاولون حلها ايضاً اكتشاف الاشعة الكوكبية ومن ثم مسألة أخرى تهم جماعة اللاسلكيين وهي دراسة الاحوال الكهربائية والحرارية لتلك الماطق الصامتة كما يسمونها، إذ أن اكتشافها سيفتح أمام العالم عصراً جديداً بل عالماً جديداً بأكمله، وقد نوه تسير تييك د بورن مؤسس مرصد (تراب) بذلك فقال: (إن مشكلات الارض تجد حلها في السماء)
ويلاحظ أن الطائرة التي تحاول أن تحلق فوق هذه الطقات تلقى حتفها لساعتها، إذ يقف(79/69)
محركها لعدم وجود الاكسيجين كما أن الطبقات لا يمكن تحاملها لتمدد الهواء تمدداً عضيماً، وقلة كثافته نتيجة لذلك
ويحاول كثير من العلماء اليوم تذليل تلك الصعوبات باختراع الطائرات التي يمكنها أن تصعد فوق هذه الطبقات، ولقد بدأ كثير ممنهم بالقيام بهذه المحاولات، ونذكر منهم ألبرت كاكوت ومسعده فرنان وأوجست راتو وليسيون موميه ولئن افضت أكثر هذه المحاولات الى الفشل فان النتائج تدعو الى التفاءل بالمستقبل. واذا جاء الوقت الذي يمكن فيه اختراع أمثال هذه الطائرات التي تحلق فوق هذه الاجواء امكننا الطواف حول العالم أقل من اربعين ساعة، واصبح في المستطاع أن نصل من باريس الى نيويورك في اقل من يومين، لان سرعة هذه الطائرات ستبلغ ألف كيلو متر في الساعة لقلة العوائق في الاجواء العيا، هذا الى المنافع الاخرى التي تختفي تحت ستار هذه الطبقات المجهولة(79/70)
البريد الادبي
هل تتدخل الدولة لحماية الآداب القومية؟
هل تمتد سياسة الحماية الى الآداب والفنون؟ أو بعبارة اخرى هل أضحى من الضروري أن تعامل الثمرات العقلية والفنية كما تعامل الصناعات والمحاصيل القومية، فتفرض لها قوانين خاصى لحمايتها من المنافسات الاجنبية؟ هذا موضوع يتناوله الجدل اليوم في فرنسا. والمعروف أن الادل الفرنسي في مقدمة الآداب العالمية قوة وازدهاؤاً؛ ولكن الدوائر الادبية والفنية في فرنسا أخذت تنظر بعين الجزع الى اشتداد المنافسة الاجنبية للأدب الفرنسي، والى طغيان سيل الثقافة والآداب الاجنبية في فرنسا، وقد نشرت جريدة (الجورنال) الباريزية مقالاً في هذا الموضوع بقلم الكاتب الفرنسي جاستون رجو رئيس جمعية الكتاب الفرنسيين، يتساءل فيه عما إذا كان من الواجب أن تتقدم الحكومة لحماية الثمرات العقلية كما دعيت الى حماية القمح والنبيذ، ذلك أنك لاتكاد تفتح صحيفة يومة أو مجلة اسبوعية أو تشاهد واجهة مكتبة، أو إعلان مسرح، حتى ترى هنا قطعة ألمانية، وهناك قطعة انكليزية، أو اوبرا نمسوية، وهكذا في سائر نواحي الأدب والفن يتبوأ العنصر الأجنبي مكانته، وإذا كان التعاون العقلي هو شعار جميع الامم المتمدنة، فان ظروف العصر، ومصاعب الحياة الاقتصادية تجعل من المحتوم أن تأخذ الثمرات العقلية مكانتها اولاً , ان يعيش الكتاب المحليون
ويضرب مسيو راجو لذلك مثلاُ عملياً فيقول: إن القصة الفرنسية القصيرة التي يؤلفها كاتب فرنسي متوسط يدفع فيها إذا نشرت في مجلة أسبوعية كبيرة بين ألفين وثلاثة آلاف فرنك؛ ولكن القصة الأجنبية القصيرة المماثلة لها في النوع والقيمة يدفع فيها ألف فرنك فقط. ويبدو هذا الفرق بالاخص في الروايات والقطع الكبيرة؛ فان القطع المترجمة لاتساوي من حيث الاجر اكثر من ربع القطع الفرنسية، وقد اشتدت هذه المنافسة حتى أن قيم القطع المؤلفة قد انحط انحطاطاً كبيراً
وقد أثارت جمعية الكتاب هذا الموضوع الخطير وانتدبت لجنة لبحثه
ثم يقول مسيو راجو: اذا كانت الامور قد وصلت الى ها الحد، أفلا تدعو مصلحة الكتاب الحيوية الى التماس الحماية؟(79/71)
وهل يكون تحقيق هذه الحماية بأصعب من حماية المزارعين؟ إن الادب الفرنسي من أكثر آداب العالم انتشاراً، وأشدها عرضة للترجمةوالاقتباس، وفرنسا في ذلك تتفوق في نسبة الصادر الى الوارد تفوقاً كبيراً. وفكرة الحماية تقتضي المساواة والتبادل، فاذا طبقت هذه الحماية فان انتشار الكتب والصحف والقطع الفرنسية يحد تحديداً شديداً. هذا من الناحية المادية ومن الناحية المعنوية يخشى من فكرة الحماية على نفوذ فرنسا الثقافي والأدبي؛ ذلك أن انكلترا وايطاليا تشجع كل منهما فكرة الترجمى والاقتباس من آدابهما الى اعظم حد توسلاً الى نشر النفوذ المعنوي حيثنا تنتشر الثقافة الانكليزية او الايطالية؛ والحد من هذ1االانتشار يصيب مصالح فرنسا المعنوية بضرر عظيم
وعلى هذا فان فوائد هذه الحماية ومضارها تتعادلان إذا صدرت من الحكومة. ولكن الحل الامثل هو أن تكون هذه الحماية اختيارية، وأن تصدر من الفرنسي إلى الفرنسي سواء في الانتاج والاستهلاك؛ فاذا كان شعار الفرنسيين (اقرأوا المؤلفات الفرنسيةّ! واطبعوا المؤلفات الفرنسية!) تحققن هذه الحماية على الوجه الاكمل دون أ، يتعرض التفكير الفرنسي للخصومة او الانكماش
نقول: فما قول كتابنا المصريين في ذلك؟
مذكرات الامبراكورة ماري لويز
ذكرنا في عدد سابق أن مجموعة ثمينة من خطابات نابليون إلى زوجة الامبراطورة ماري لويز عرضت للبيع في لندن، واشترتها الحكومة الفرنسية بمبلغ خمسة عشر ألف جنيه؛ وقد بيعت في نفس الوقت مذكرات الامبرطورة ماري لويز مكتوبة بخطها، فاشترها أحد الهواة بمبلغ 490 جنيهاً، وهذه المذرات عبارة عن جريدة تبدأ مذ غادرت فينا في رحلة الغرس حتى استفرارها في باريس. فيها أخبار وحقائق غريبة عن علائق الامبراطور بزوجة الفتية؛ وتقول ماري لويز في اكثر من موضع إنها كانت تؤنب زوجها، وتدفعه أحياناً كما تدغع جندياً بسيطاً. وفي مكان آخر تصف رحلتها إلى البارجة الحربية (شارلمان) في ثغر شربور، وتقول إنها اضطرت أثناء طوفها بالسفينة غير مرة أن تشمر عن ساقيها وأنها سوف ترتدي في المستقبل (سروالاً) إذا ما أرادت أن تزور السفن الحربية
وبيع في نفس هذه الجلسة قرطان انت تتحلة بهما الامبراطورة جوزفين زوجة نابليون(79/72)
الاولى، أثناء حفلة تتويجها بمبلغ ألف وخمسمائة جنيه، ويبعت مجموعة من خابات نابليون إى الماريشال مكدونالد بمبلغ 190 جنيهاً
علم رياصي جديد
خطب الأستاذ أميل بوريل رئيس أاديمية العلوم الفرنسية والأستاذ بلية العلوم في الأكاديمية منوهاً بأهمية علم أو فرع رياضي جديد أدخل في برنامج الجامعات من شأنه أن يسهل البحث والدراية في بعض العلوم، وبالأخص في الاحصاء والاقتصاد السياسي والمسائل النقدية، والعلوم البيولوجية والطبيعية والفلكية، وهذا الفرع هو علم (تقدير الاحتمالات) وهو فرع له خطورته في الفكرة العلمية كلها. وسوف يجدد مسائل العلم والفلسفة الخالدة التي وضعها الفلاسفة اليونان، وبحثها علماء العصور والأجيال كلهاز وقد كان له شأن في تغيير فكرة (الجبر) الطبيعي
في تشيوسلوفايا
توفيت أخيراً في براج فنانة تشيكوسلافية عظيمة هي الآنسة زدنكا براوبرفا، وقد كانت من زعيمات التفكير والفن، ومن أرفع سيدات براج ثقافة وذكاء وسحراً، وهي ابنة سياي كبير كان نائباً في البرلمان النمسوي أيام الامبراطورية، ونشأت فنانة بالطبيعة وظهرت في التصوير بسرعة؛ وهي أول من أنشأ فن تصوير الكتب في تشيكوسلوفاكيا، ولم يكن بين فناني براج أقدر منها في إبراز الصور والمناظر القومية في روعة قوتها وتواحيها الشعرية؛ ولها فصول ورسائل قوية في تاريخ براج، وصور بديعة لمتاظرها، وكان لها أيضاً صلات وثيقة بدوائر باريس الفنية حيث تلقت تقافتها وتربيتها، وكانت فضلاً عن فنها وأدبها من زعيمات النهضة الوطنية في تشيكوسلوفاكيا، ومن زعيمات الحركة النسائية فيها
اورسمة العلم النمسوي
قرر رئيس الجمهورية النمسوية أن يمنح وسام الشرف للفنون والعلوم الى الدكتور اوزالد ريدلخ رئيس أكاديمية العلوم، والدكتور ايزلسبرج الجرح الأشهر، والدكتور فلاساك، والاستاذ فراتز سميث أستاذ الموسيقى والتمثيل بالاكاديمية الحكوةمية، والى الكاتبة الشهيرة(79/73)
انزيكا هاندل مازيثي، والى الدكتور هولسميستر المثال الكبير، والى الدكتور كارل شينهير الكاتب الاشهر
هذا وقد عقد احتفال رسمي فخم بهو أكاديمية العلوم، وقدمت فيه جائزة الفن النمسوي التي سبق أن أشرنا اليها الى الفائزين بها وهما الاستاذان هربرت بل وفالتر ربتر، وألقى الدكتور شوشنج رئيس الوزارة النمسوية بهذه المناسبة خطاباً نوه فيه بأهمية الفنون والفنانين في حياة الأمم
الكلمات العربية في اللغة الانكليزية
لما فرغت نسخ الطبعة الاخيرة من معجم وبستر الانكليزي المشهور دعت لجنة تنقيحه الدكتور فليب حتى الاستاذ المساعد للغات السامية في جامعة برنستن للاشتراك معها في تنقيح الالفاظ الانكليزية المأخوذة من لغت سامية في الطبعة الجديدة
وقد صدرت هذه الطبعة في أمريكا الآن بعد ما قضت لجنة التنقيح أكثر من ثماني سنوات في اعدادها
وفي الطبعة الجديدة من معجم وبستر ستمائة ألف لمة مأخوذة من اللغة العربية، منها 500 كلمة من الالفاظ المستعملة في التابة والأحاديث العادية، والنصف الاخر في الشؤون الفنية(79/74)
الكتب
جبران خليل جبران
تأليف الاستاذ ميخائيل نعيمة
يقع في 307 صفحات من القطع الكبير، ثمنه عشرون فرنكاً ذهباً يطلب من المؤاف في بكننا لبنان، ومن المكاتب الشهيرة في الأقطار العربية وفي مصر من مكتبة الهلال
هذا كتاب من كتب التراجم، أخرجه للناس كاتب له في الشرق العربي مكانة، يحلل فيه حياة صديق عزيز عليه، وهذا كما نرى موقف من ادق المواقف التي يصادفها أديب، إذا أراد أن يتوخى الانصاف فلا يظلم صاحبه ولا يظام التاربخ. ولفد أحس المؤلف دقة موقفه كما يتضح في مقدمة كتابه، وعلى هذا الأساي سأبني رأيي في نقد ذلك الكتاب
ويحسن اولاً أن أعطي القاريء فكرة عامة عن تقسيم الكتاب وطريقة السير في موضوعه، ولست أسير في التقسيم حسب أبوابه، بل لقد أحسست بعد قراءته أنه أقسام عامة أولها: حياة جبران قبل أن يعرفه المؤلف، ثم حياتهما معاً، واخيراً نجد ملحقاً في ذيل الكتاب غن وصية جبران ورسائله الى المؤلف وتخليده، وغير ذلك مما حدث بعد موته
فالكتاب كما ترى وصف حياة رجل من أولها حتلا خاتمتها. وفي كتب التراجم إما أن يكون المؤلف غريباً عما يكتب عنه، أو صديقاً له. بيد أن هذا النوع من التأليف أو هذه الناحية من نواحي الكتابة تسير أو ينبغي أن تسير في أساسها وجوهرها وفق ما اصطلح عليه الأدباء في هذا الباب الذي يعتبر في ذاته فناً من فنون التابة كسواء من الفنون، مثل القصص والروايات المسرحية، وكتب النقد وغيرها
يبدأ المؤلف في كتب التراجم عادة بوصف الأسرة التي ولد منها صاحب الترجمة، كصورة لبيئته المنزلية وما قد يختلط بدمه من وراثة، ثم يأخذ في وصف بيئته الطبيعبة والاجتماعية مصوراً طفولته وأخلاقه في تلك الفترة وما يلقي من تربية، وما كان من أثرها في حياته المستقبلة، ثم يتدرج به في مراحل الحياة في تسلسل متصل ووحدة مترابطة الى ما صدافه من حوادث، مبيناً علاقتها بفنه وأثرها في توجيهه، وفي ضوء ذلك كله يحلل آثاره موضحاً ما فيها من تأثر بما سلف، على أن يكون أساس ذلك كله الحقيقة لا الخيال. فالاسناد الصحيح القوي في كتب التراجم عنصرها الجوهري، ولاسيما إذا المؤلف أن يقول(79/75)
رأيه في آثار صاحبه وفيما تخلل حياته من قوة أو ضعف، فليبتعد عن التحيز إن أراد الكمال
وبعد، فماذا رأيت في كتاب الأستاذ ميخائيل عن صاحبه المرحوم جبران خليل جبران؟. مضيت في قراءته فاذا بالمؤلف يسير فيه على نهج غريب، حتى لقد كنت أحسبني في القيم الاول حيال قصة لا حيال شخص معروف، فلقد أحاطني المؤلف بجو من الخيال تحت عنوان خيالات بشرى، وراح يصف لحظة مولد جبران، وما كان من أعمال أبيه وأقوال أمه وأقوال الجيران في تفاصيل تغيب حتى على من يرى رأى العين، ثم يطير بي إلى مدينة كولومبيا بأمريكا، فيصف لي فتاة تحلم في نومها، ويصف حلمها كأنه هو الحالم! ثم يعود الى بشري فيعرض لي بعض صور من طفولة جبران ومن حياة أسرته، ولكن عليها جميعاً ابع الخيال، فتفاصيلها لايمكن أن يلم بها إلا شخص يتحدث عن تفسه، على أن يكون قوي الذاكرة الى أقصى حد؛ ومن أمثلة ذلك وصف والدة جبران (ص20) وحكاية بائع الزيت (ص23). وما لي أورد الامثلة، وهذا القسم الاول من حياة جبران قبل أن يعرفه المؤلف عبارة عن قصة خيالية؟ ولقد كان المؤلف وهو يصف حياة جبران وهو بوسطن، يتقل اليك نتاجيه وخلجات حسه، ونزعات قلبه، وانفعالات نفسه، كمن يكتب مذكرات لساعتها عن نفسه. خذ لك مثلاً حواره مع أبيه (ص32)، وزيارته للفنان (ص33)، وخلوته مع المرأة التي دعته إلى منزلها (ص40)، ومناجاة نفسه (ص47)، وهو يكتب مقالاً ويصححه (62)، وأثناء عرضه صوره وعلاقته بماري الفتاة الحالمة في أول الكتاب وهي الآن مديرة مدرسة، وعلاقته بميشيلين، وغير ذلك من عزلاته وهواهسه. . . الخ
وما أظن أن عرض هذا الجزء من حياة جبران على مثل تلك
الصورة الخالية، وما فيها من براعة ومن وراء، متفق مع ما
يتبع في كتابه التراجم أو باعث في القلب ما تبعه الحوداث
التي يدعمها الأسناد والرواية، وتطلبها الحقيقة من الأهتمام
والعناية. هذا إلى أن المؤلف في تلك الفترة من حياة جبران لم(79/76)
يعلق على ما فيها من مواقف، وما كان لحوادثها من أثر في
مستقبله، ولكن ما حاجته إلى التعليق؟ بل كيف يتسنى له ذلك
وقد صور لنا جبران كما لو كان جبيران يحدثنا عن نسفه؟
وبذلك تخلص من عرض رأيه في صاحبه
ومما يلاحظ على هذا القسم من الكتاب أن الرابطة فيه ضعيفة، وقد ذكرت فيه بعض الحوادث دون أن يفهم القصد من ذكرها، فلم تكن للتبسيط أو للتحليل أو لبيان العلاقة بين المترجم له وبين الحياة
أما في القسم الثاني من الكتاب عند ما صحب المؤلف جبران، فانك تحس بجو من الحقيقة ويبتعد عنك الخيال القصصي، ويحدثك المؤلف عن جبران كما رآه في عدة مناسبات، وتبدأ تهتم بحياة جبران وآثاره، وتتضح لك شخصيته فتزداد معرفة به، وان جهلت الظروف التي كونته هذا التكوين، اللهم إلا ما كان من تأثير (نيتشه) فيه، وهو ما شرحه المؤلف في آخر القسم الأول.
على أنك في هذا القسم الثاني من حياة جبران لن ترى المؤلف يحدثك عن رأيه في صاحبه من الناحية الأدبية أو الخلقية، ولا تجد منه مناقشة جدية لآثاره ومقدار قيمتها، بل تراه يقتصر على ذكرها دون تعلي، إذا استثنيت وصفه لكتاب (النبي) وإظهار أثر نيتشه فيه، وقراءة قصيدته التي جاء ذكرها في (ص160) معه، وحتى في هذين ترى الأعجاب يغلب على النقد النزيه
لكنني كما قدمت أحس بدقة موقف الأستاذ ميخائيل بالنسبة إلى حياة صديقه جبران؛ على أني أتساءل هل أنصف صاحبه وعرضه على الناس كما هو على حقيقته، أم أحاط شخصيته بشيء من الغموض؟ ولست أعرف إلا أن طريقته التي سلكها من الصعب أن توفي بغرضه، وهل يتفق ذلك مع ما جاء في مقدمته (ألفت هذا الكتاب على أمل أن يطالع القاريء من خلال فصوله صورة جبران كما عرفته لا (تاريخ) حياته الذي لا يعرفه أحد)؟
ولئن اختلفت مع الأستاذ نعيمة في طريقته، فاني معجب بمقدرته في الوصف، وقوته في(79/77)
تحليل العواطف النفسية، ورسم الخواطر الذهنية، وقوة روحه التي خلصت الكتاب على طوله من الفتور، وجعلني أقلب صفحاته في شغف ولذة، ولن أنسى دقة أسلوبه ومتانة نسجه، لولا هناتت ما كنت لأشير إليها لولا أنها علقت بهذا الأثر النفيس، ومنها بعض المجازات الغريبة كتعبيره عن الموت بالغور في رحم الزمان (ص17) ووصفه الخالق بأنه (الحائك الأبر قد التقط بمكوكه العظيم خيطي حياتهمت من جديد) (ص68)، وكوصفه القاريء بأنه يمضغ الكتاب بعينه وروحه (ص101)، وما استعمله عن الفلس من المجازات (ص123)، وكقوله في (ص215) يحفزها تنين النسيان ويطويها غربال الزمان. . . وسواها من الأخيلة غير المألوفة، والقياسات الشاذة كجمعه سؤال على سؤالات وكأستعماله لفظ اندلق للقهوة بدل أن يقول انسبت مثلاً
على أنني كما ذكرت ما كنت لأغرض لهذه الهنات لولا صدورها من أديب له مكانة كالأستاذ ميخائيل نعيمة(79/78)
العدد 80 - بتاريخ: 14 - 01 - 1935(/)
أسبوع حافل. . . .
أسبوع حافل! ابتدأ بعيد الدين وانتهى بعيد الدنيا! فأوله (عيد الفطر)، وآخره (عيد الوطن)، وفيما بينهما كان عيد الميلاد ومؤتمر اليلاد ومهرجان القرش!
أسبوع حافل! كان فيه للدين سبب ممدود وشل جامع، وللحرية يوم مشهود ومظهر رائع، وللوطنية لواء معقود ومُجتلى فخم، وللسياسة شعب محشود وأمر ضخم، وللقومية أمل منشود وعمل صالح!
جرى كل أولئك على أروع ما يقع في الذهن ويتمثل في الخاطر، لشعور الناس بشمول الأمن، ويقظة العدل، وقيام القانون، وفوز الديمقراطية، واتساق الأمر بين الفرد والجماعة، واتفاق الرأي بين الحكومة والأمة؛ وكانت النفوس في عهد المحنة قد تغشاها من الدخائل السود قَتام وسُحُب، فلا تكاد ترى على حواشي الأفق الضيق المحدود إلا جنود الرهبة، وقيود الذلة، وسجون القهر، ثم تنفس بها الزمن البطيء على هذه الحال الأليمة حتى قنعت بالدون، ورضيت بالهُون، وذهلت عما وراء الأفق؛ فلما تهتكت الحجب عن وجه الحق، وتفكت الأغلال عن حرية الشعب، فسعى غير مقيد، وعمل غير مراقب، وقال غير متهم، عاد الناس فوجدوا شعور الكرامةـ وسورة الاستقلال، وأنفة الحي المريد، وهزة المتصرف المطلق، فزهاهم النصر، واستطارهم الفرح، وتقبلوا سبعو أسام في الدعة، يتبسطون على الأنس، ويتعلون على الدهر، ويتدلون على الجكومة، ويوازنون بين حالهم بالأمس وحالهم اليوم، فيعجبون كيف زاغت القلوب، وفسدت الطباع، وسفهت الأحلام، وغارت هذه المباهج والمرافق والمظاهر كلها في قرارة قلب فارغ!
* * *
إن القلوب لأضيق في هذا الأسبوع من أن تسع هذا الفبض الذي يتدفق فيها ن كل جانب: ففي (مدينة رمسيس) وجوه البلاد ونواب لشعب وزعماء الأمة يعرضون مناهج السياسة على المشورة، ويُقلبون أنظمة الاصلاح على الرأي، ويعلنون الخادع والمخدوع أن مصر الخلدة لاتزال متماسكة على مضض المحن، سليمة عى عنت الجور، مرتلفة على عبث الاغراؤ، تُعوق ولا تضل، وتُعذب ولاتذل، وتجارب ولا تستكين
كانت الآلاف الاربعون في سرادق المؤتمر الوطني أشبه بالأسراء فك أغلالهم النصر، أو بالسجناء كسر اقفالهم الثورة! فهم يتعانقون على السلامة بعد البلاد، ويتصافقون على(80/1)
الجماعة بعد الفرقة، ويتنادرون بجلادي العهد الباغي وسُجانه وقد أصبحوا اليوم رواد المنى وحراس العدالة! أليس هذا شرطي الأمس الذي كان ينظر بالنار، ويتكلم بالحديد، ويتجنى على الناس الذوب، ويتمنى على الأحداث الجرائم؟ ما باله اليوم وديعاً كالعدل، نزيهاً كالقانون، رفيعاً كادلولة، رفيقاً كالمواطن؟ تباركت يا ألله! أهكذا تتبدل الأوضاع وتتغير الطباع في بحر يوم وليلة؟!
* * *
وفي معرض الجزيرة جماعة (عيد الوطن الاقتصادي) يُفيضون من نشاط الصبي وطموح الشباب على الناحية الضعيفة المخوفة من نواحي الوطن: تلك هي الناحية الاقتصادية التي اقتحمها المستعمرون تحت لواء السلم والمال فاحتلوا المدن، واستغلوا القرى، وامتهنوا القومية، وامتحنوا الأخلاق، وحولوا مجاري الثروة المصرية الى السفن الأجنبية والمصارف الأوربية، وخلفوا أهلها يابدون الدين، ويعانون الفقر، ويشكون العطلة، ويقاسون المذلة. فطن هؤلاء الشباب الأطهار إلى هذا الخطر الوبيل والداء الدخيل فصمدوا له في ميدانه المشتبه الواسع، واستنفروا القاعدين من أصحاب الأموال، والجامدين من أرباب التجارة، ونشروا الدعاية بمختلف الوسائل للانتاج الوطني، وضحوا بجهودهم الكثيرة، ونقودهم القليلة، وأوقاتهم الباقية من الدرس، على رصد الأهبة، وتنظيم العمل، وتدبير المال، وضمان الفوز، حتى توجوا ذا الجهد الجاهد بهذا المهرجان الذي أقاموه، وذلك المعرض الذي نظموه، فكان المهرجان عيداً للعيد، والمعرض حجة للىمل، والعمل كله فخراً لأهليه
* * *
وفي حديقة الأزبكية عيد (جمعية القرش) تجاهد في الانشاد جهاد عيد الوطن في الدعاية. وقد نفضت - كتلك - على بلي النفوس جدة الربيع، ونقاء الفطرة، وجمال الحداثة، فانتشر متطوعوها الأبرار في المدينة يجمعون القروش بالتوسل والتذلل والالحاف ليفتدوا بها حرية الوطن الاسير
فجماعة الوطن وجمعية القرش ومؤتمر الشعب ائتلاف منسجم من عناصر البلاد ومناهج الجهاد ومناحي الغرض: فالشباب بجانب الكهول، والاقتصاد بجانب السياسة، واللذة بجانب(80/2)
المنفعة، والحكومة بجانب الأمة؛ وكل هذه الصور الرائعة إنما تتألق وتتراءى في إطار روحي شعري تألف من عيد الفطر للمسلمين، وعيد الميلاد للأقباط!
أسبوع حافل! ان فيه للدين سبب ممدود وشمل جامع، وللحرية يوم مشهود ومظهر رائع، وللوطنية لواء معقود ومُجْتلى فخم، وللسياسة شعب محشود وأمر ضخم، وللقومية أمل منشود وعمل صالح!!
وإن عاماً يكون عنوانه هذا الانقلاب، وطالعه هذ اليمن، واستهلاله هذا النسيد، لآية من الله على انجلاء الغمة، واهتداء الغرائر، وارعواء الغي، وانكشاف الطريق
احمد حسن الزيات
ذكريات وتجارب
أول درس ألقيته. . . . . . *
أبداً لا أنسى السعاة الرهيبة العصيبة التي ألقيت فيها أول درس من أول فصل! كان ذلك منذ سبعة عشر عاماً والسن حديثة والنفس غريرة والنظر قصير، وكانت المدرسة ثانوية أجنبية، تجمع أخلاطاً من الأجناس والأديان، وأنماطاً من الأخلاق والتربية، وكنت قد أدركت قسطاً من العلم النظري على الطريقة الأزهرية، وشدوت طرفاً من التعليم الفني على الطريقة اللاتينية، إلا أن ما حصلت منهما كن لايزال طافياً في ذهني، متحيراً في فكري، لايطمئن إلى ثقة، ولايستقر على تجربة! أضف ذلك إلى طبع حَي، ولسان من الخجل عيني، ووجه للقاء الناس هيوب!
قضيت موهناً من الليل في إعداد الدرس: أراجع مادته وأرسم خطته وأسسد خطاه، ثم احتفلت لكلام أقابل به التلاميذ قبل التمهيد للدرس، وغدوت إلى المدرسة أقرع باب الأمل المرجوـ وأستطلع ضمير الغيب المحجب. دق الجرس فجاوبه قلبي بدقات عنيفة كادت تقطع نياطه وتشف لفائغه، وقمت أجر رجلي وبجانبي مفتش الكلية جاء يقدمني إلى الطلبة. دخلنا الفصل فحيانا التلاميذ بالوقوف، وقال المفتش فأطال القول وأجزل الثناء، ثم خرج وبقيت!!
أقسم أني أقول الحق وإن كنت أجد بشاعة طعمه ومرارة ماقه على لساني! لقد نظرت إلى(80/3)
التلاميذ نظرة حائرة، ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المهيأ المحفوظ، فكأن ذاكرتي صيفة بيضاء، وكأن لساني مضغة جامدة لا تحس!
السكون شامل رهيب، والأبصار شاخصة ما تكاد تطرف، ووجه الشباب ترتسم ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات النفوس ونزوات الرؤوس، وأنا واقف منهم موقف المحكوم عليه، أعلج في نفسي الخور والحَصر، وأجهد في لم ما تشعث من ذهني وتبدد من قواي، حتى هداني الله إلى طريق الدرس، فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمة ولا تمهيد ولا عرض!!
أتريد أن تعفيني يا صديقي من وصف هذا الدرس صوناً لسر المهنة؟ ولكن لماذا نتدافن الأسرار ونتكاتم العيوب؟ إن في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك الباديء، وتبصره للنشيء الغرير
* * *
بدأت الدرس بصوت خافض وطرف خاشع ولسان مبلبل، وسرت فيه وأنا واقف، لا أدنو من السبورة مخافه أن أحرك سكون الفصل، ولا أملس الطباشير خشاة أن أسى الكتابة!!
ان من المعقل أن يعاودني الهدوؤ ويراجعني الثبات بعد زوال دهشة الدخول وربكة البدء لو كنت واثقاً من نفسي متمكناً من درسي، ولكن نظام الموضوع كان قد انقطع فتبعثرت حباته وتعثرت خطواته، ورحت أسرد ما تذرته منه وأنا أشعر بكاماتي تحتضر على شفتي، وبريقي يجمد في فمي، وبعرقس يتصيب على جبيني، حتى فرغت، ثم جلسن أبلع ما بقي من ريقي، ونظرت فاذا الساعة لم يمض نصفها، وإذا التلاميذ يتلاحظون ويتهامسون وعلى شفة بسمة خبيثة لولا تعود النظام وقوة التهذيب لعادت قهقهة صاخبة!!
ماذا أقول بعد أن نفذ القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من الوقت؟ وكيف اؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟ أسئلة كانت تضطرب في خاطري القلق فلا أجدها جواباً غير الحيرة!! حتى تطوع تلميذ جريء (لانقاذ الموقف) فقال:
(احك لنا حكاية يا أفندي بأي!)
ولم تكد شفتاي تنفرجان عن مشروع الرد حتى ابتدرني آخر:
(لا يا افندي، اتكلم لنا شويهْ إنشا شفهي)
وآخر: (حضرتك حتدينا على طول؟)(80/4)
وآخر: (أسم حضرتك إيه يا أفندي، والله انت راجل طيب!)
وآخر: (فلان صوته جميل يا أفندي، خليه يغني شويه)
فقطعت سيل هذه الأسئلة المتجنية الساخرة بهذه الجملة الحيية المتواضعو:
- على كل حال كاد الوقت ينتهي فلا يتسع لشيء من هذا ولكن صوتاً أشبه بصوت القدر قد انبعث أقصى الحجرة يقول:
(أوه! دا لسه ساعة وربع! حصة العربي ساعتين كل يوم!)
- ساعة وربع؟؟ نعم ساعة وربع! أقضيها على هذه الحالة الأليمة كمل شاء نظام 0الفرير)، أو كما قضى الجد العاثر والطالع المشئوم!! وإذن لا مناص من انفجار البركان ووقوع الكارثة!
* * *
كأنك تريدني على أن أسوق إلي بقية القصة!!
حنانيك! لا تكلفني هذه الخطة، واعتمد على نفسك وحدسك في التخبر والاستنتاج!!
لقد انحل النظام فتشعث الأمر وانتشر؛ وأذكر أني حاولت الكلام مراراً فلم أسمع صوتي من اللغظ! فجعلت قيادي في يد (اولادي) ثم سكت حتى نطق الجرس!!
خرجت من الفصل أميد من الهم وأجر ذيل الفشل السابغ الضافي، وفي نفسي أن أترك التعليم وهو حديث صباي ومنتجع هواي الى عمل آخر يصلح لي وأصلح له!!
ولكني عدت الى الفصل، ومضيت في التعليم، وكنت بعد شهرين اثنين مدرس الفصل الأخير وأستاذ الكلية الأول!
فما الذي جعل من اليأس أملاً، ومن الفشل فوزاً، ومن الضعف قوة؟
إسمح لي أن أكون صريحاً فيما كان لي، كما كنت صريحاً فيما كان علي
لقد التمس الوصلة الى النجاح في أسباب خمسة كله معلوم بالضرورة مؤيد بالطبع، ولكن العلم غير العمل، والرأي خلاف العزيمة، والتجربة وجود الفكرة وواقع الحقيقة
(1) مواصلة الدرس وادمان النظر - فلم أترك كتاباً في المواد التي أدرسها حتى تقصيته أو ألممت به، واستفدت منه. وكان جدى ذلك علي وثوق الطلبة بما أقول، وظهور التجديد فيما أعمل، وتصريف الدرس وتنويعه على ما اجب. ولن تجد أشفع للمدرس من سعة(80/5)
أطلاعه وغزارة مادته
(2) اعدد الدرس واداؤه - وكان يعنيني على الأخص ربطه بالدروس السابقة، والسير فيه مع الطلاب خطوة خطوة على الطريقة الاستنتاجية ثم تلخيصه بطريق الاسئلة. فكان من حسن اعداده أن ملأت لوقت كله به، فلم يعد فيه فراغ لعبث عابث ولا تجني سفيه، وجررت اليه أذهان الطلاب بالتشويق والتطبيق والسؤال فلم يصبهم سأم ولا ضيقن وشغلتهم به عن أنفسهم وعني فلم يفرغوا الاصطياد نكتة ولا لالتماس غميزة. وليس أعون على حفظ نظام الفصل من ملء الوقت بالمفيد الممتع، ولا أضمن لجودة شرح المعلم وحسن استماع التلميذ من غهم الموضوع.
(3) مسايرة الترقي - فلم اتشبث بالقديم، ولم أتعصب للكتاب، ولم أعن إلا بما له قيمة عملية. فالموضوعات منتزعة من حياة التلميذ وحال المجتمع، والأمثلة مستنبطة من أساليب العصر ومواضعات أهلهن والبحث حر في حدود المنطق، يقوم على أساس التحليل والنقد والموازنة. وفي تشابه الفكرة والنزعة والغاية توثيق الصة بين المعلم والمتعلم.
(4) حسن الخلق - ولعمري ما يؤتي المعلم إلا من إغفاله هذه الجهة. فالادعاء والتظاهر، والكبرياء، التفاخر، والبذاء والتنادر، والكذ1ب والتحيز، والسل والتدليس، آفات العلم وبلايا المعلم. وما استعبد النفس الشابة الحرة كالخلق الكريم، ولا يَسر تعليمها وتقويمها كالقدوة الحسنة. ناهيك بما يتبع ذلك من جمال الأحدوثة واستفاضة الذكر، وهما يزيدان في قدر المعلم واعتبتره، ويغنيان التلاميذ الجُدُد عن اختباره
(5) قوة الحزم 0 فكنت ألين في غير ضعف، وأشتد في غير عسف، وأسير بالطالب إلى الواجب عن ريق ضميره وحسه، لا عن طريق تأنيبه وحبسه، وأجعل رضاي عنه غاية ثوابه، وسخطي عليه غاية عقابه، وأعده الوعد فلا أذهل عن تنجيزه، وأحكم عليه الحكم فلا أنكل عن تنفيذه، وأستعين على فهم عقليته ودرس نفسيته بانشائه فأعامله بما يوائمه، وأعالجه بالدواء الذي لائمه
* * *
كل ذلك يسعده طبغ غالب، ورغبة حافزة، ومرن طويل، وقدَر من الله جعلني أجد سعادتي وراحتي في الفصل وبين الطلاب، أكثر مما أجدهما في البيت وبين الأصحاب(80/6)
ولكن المعلمين وا أسفاه كما بدأهم الله يعودون! فليت شعري هل يكون الدرس الأخير في مبد إمماتي، كما كان الدرس الأول في مبدا حياتي.
الزيات
الثورة على الاسلام
حرب منظمة يشهرها الكماليون على الاسلام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تشهر تركيا الكمالية على الأسلام حرباً لا روية فيها ولا هوادة؛ وقد رفع الزعماء الكماليون اليوم القناع كاملاً بعد أن رفعوا من قبل طرفاً منه، وظهرت سياستهم نحو الاسلام في ثوبها الحقيقي؛ ودخلت هذه الحرب المنظمة التي يشهرونها على الاسلام في طورها الايجابي بعد أن كانت تقف عند ورها السلبي؛ وقد اتخذت هذه الحرب منذ البداية وما زالت تتخذ ثوب (المدينة والتمدين) أعني تحرير تركيا من كل طابع ولون ديني، وصبغها في كل مظاهرها الرسمية والعامة بالصبغة المدنية. ولو وقفت سياسة انقرة حقاً عند هذه الغاية لما كان ثمة مجال لريب في صدق نياتها؛ فان الاسلام، كالنصرانية، لايحول دون اصطباغ الدولة بالصبغة المدنية المحضة؛ وأمم أوربا النصرانية التي تقلدها وتتشبه بها تريا الجمهورية - إذا استثنيا روسيا البلشفية - لا تجد أية غضاضة في ولائها للنصرانية، وإن كات أشد وأعرق (مدينة) من تركيا الجمهورية، ولم تذهب أية دولة أوربية - سوى روسيا البلشفية - في مطاردة الدين الى الحد الذي تذهب اليه حدكومة أنقرة؛ وحكومة أنقرة لاتطارد العقيدة الدينية لذاتها، ولكنها تطارد الاسلام، وكل ما يمت اليه بنوع خاص؛ وإذا كانت تطارد اللغة العربية وكل مظاهرها في الكلام والكتابة، فليس ذلك لتحرير اللغة التركية من العناصر الاجنبية فقط، ولن لأن اللغة العربية هي قبل كل شيء لغة القرآن، ولغة الاسلام الاولى
وقد بدأت الثورة المالية على الاسلام منذ قيام الجمهورية التركية ذاتها، أعني منذ نحو عشرة أعوام، وكانت غب مرحاتها الاولى تتخذ صورة الاصلاح الديني أو المدني، وكانت سلبية لا تسفر عن نزعتها الهدامة؛ ولم يكن في خطواتها الأولى مثل إلغاء الخلافة، وجل الجماعات الدينية والصوفية، وفرض الثياب المدنية والقبعة، ما يثير الأذهان المسلمة(80/7)
المستنيرة؛ فقد كانت جميعاً تتبع جهود تركيا الجديدة في سبيل التجديد القومي والاجتماعي بمنتهى الاعجاب والعطف؛ ولم يك ثمة ما يحمل على الاعتقاد بأن هذه النزعة الاصلاحية في ظاهرها ستتحول غير بعيد الى نزعة إلحادية بعيدة المدى، والى فورة تعصب على الاسلام تقصد الى الهدم المطلق. ولكن حكومة أنقرة لم تقف في مخاصمة الاسلام عند حد؛ وانت خطوات جدبدة ظاهرة المغزى في سبيل محو معالمة: إلغاء النص الذي أدرج في دستور المجهورية الاول بأن تركيا دولة مسلمة، وإباحة القانون المدني التركي الجيد زواج النصراني من المسلمة، ثم تحريم الأذان وتلاوة القرآن في المساجد بالعربية؛ ولم يك ثمة حتى في هذه الرحلة ما يثير كبير شك في نيات حكومة أنقرة وخصومتها المضطرمة للأسلام وعقائده وذكرياته ومظاهره؛ وكانت كلمات الاندافع والتطرف والأغراق تتردد من جانب أولئك الذين مازالوا يحسنون الظن بأنقرة ويعطفون على جهودها وأمانيها. ولكن الكماليين لم يلبثوا أن رفعوا القناع بعد ذلك؛ وانتدبت حكومة أنقرة لجنة لاصلاح العبادات ومظاهرها (سنة 1928) وأذيع يومئذ أن الجنة ترى أن تكون الصلاة في المساجد، كالصلاة في الكنئس، وأنه لا بأس أن يؤدي المؤمنون صلاتهم وقوفاً أو جلوساً على المقاعد، وأن تطربهم الموسيقى، وأن تعوف لهم الادعية والنصوص كما تعزف (آفي ماريا) أو (باترنوستر)، وأن تكون صلاة المسلمين على العموم في مظاهرها كقداس النصارى، وكان لأذاعة هذه الاقتراحات وقع عميق في الأي العام التركي ذته؛ ولما رأت أنقرة أنها تذهب بعيداً بهذه الاقتراحات أنكرتها وكذبتها، وحملت تبعاتها للجنة التي وضعتها؛ أما الرأي العام الاسلامي فما ان ليدهشه شيء بعد من تصرفات الكماليين، ومع ذلك فقد وقف مدى لحظة ذاهلاً أمام هذا الاجتراء الآثم، يلمس النزعة الهدامة التي تماي على عصبة أنقرة سياستها نحو الاسلام وكل تراثه
ثم كانت حركة أنقرة ضد اللغة العربية والكتابة العربية؛ واتخذت هذه الحركة كسابقاتها ثوب الاصلاح والتجديد القومي؛ وقيل إن كتابة التركية باللاتينية بدلاً من العربية وسيلة إلى ذيوعها وتحريرها من ثوبها العتيق، وإت اللغة التركية غنية بأصولها واودها القومية فهي ليست بحاجة إلى العربية تشتق منها وتستعين بها؛ وإذا فيجب أن تحرر من جميع الالفاظ العربية الدخيلة؛ ووضعت الفكرة موضع التنفيذ بسرعة، فالغيت الكتابة العربية،(80/8)
واستعملت الكتابة اللاتينية بقوة التشريع؛ وسارت الحركة لنفي الألفاظ والأصول العربية بسرعة، واتخذت احياناً بعض المظاهر المغرقة؛ فقد حدث مثلاً أن أسناداً بالجامعة التركية خطب في المؤتمر الذي عقد منذ أشهر لهذا الغرض فنوه باهمية استمرار التعاون والعلائق بين التركية والعربية، فغضب الغازي مصطفى كمال - وكان من شهود المؤتمر - وغادر المؤتمر في الحال، وفي اليوم التالي عوقب الأسناد بالعزل والحرمان؛ وفي الجلسة التالية صفق الغازي لأستاذ آخر ذكر في خطابه أن اللغة العربية لغة دخيلة، وأن التركية أعرق أصولاً من العربية ولها عليها فضل الاعارة والاشتقاق؛ ومع ذلك فان اللغة التركية، رغم هذه الحهود والمناظر الحماسية، التي تعرب عن الحقد والتعصب والجهل، بأكثر مما تعرب عن رغبة الاصلاح الحقيق، لم تستطع أن تستغني بنفسها، وما زالت تستعير - طبقاً لقرارات الرسمبة - ن بعض اللغات الاوربية لتسد ما بها من نقص وثغرات. ولم تكن الحركة إصلاح خالص، بل إن لها كما قدمنا مظهراً آخر غير مظهرها الاصلاحي؛ فاللغة العربية هي لغة القرآن، ولغة الاسلام الاولى؛ ولما كانت حكومة أنقرة تعمل على مطاردة الاسلام وكل مظاهره بكل ما وسعت، فيحب أيضاً أن يختفي هذا المظهر؛ ثم يجب أن تختفي الأسماء العربية - وهو مظهر آخر لهذه الحركة - حتى يكون الانقلاب تاماً، وحتى لايبدو في أفق تركيا الكمالية، بمض الزمن ما يثير ذكرى العربية والاسلام
وفد حملت اليا البرقيات الاخيرة نبأ جديداً، هو أن حكومة أنقرة قررت أن تعمل لأزالة منارات المسجد، وا، ها ستبدأ بازالة المنارات العتيقة وتقيم في مساجدها مصانه، فاذا صح هذا النبأ فانه يكون دليلاً جديداً على أن هذه الجهود المتوالية التي تبذلها حكومة أنقرة لمحو معالم الاسلام في سائر مظاهره الشخصية والعامىة إنما هي سياسة مقررة متصلة الحلقات
* * *
والآن لنحاول أن نتعرف أسباب هذه الحرب المضطرمة التي يشهرها الكماليون على الاسلام؛ ولنلاحظ اولاً أن تركيا المجهورية تحذو في تلك الحرب اللادئنينة المنظمة حذو روسيا البلشفية، وهي الدولة الغربية اوحيدة التي تش ر الحرب على النصرانية وتطارد كل مظاهرها. ولم يقع هذا الشبه عرضاً بين الدولتين اللدينيتين؛ ولكنه يقوم على نفس المباديء ونفس الروح الثورية والادينية المشتركة؛ وقد كانت رةسيا البلشفية أكبر عضد(80/9)
للكماليين في حرب التحرير التركية وفي العمل على بعث تركيا المحتضرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تركيا الجمهورية مدينة بحياتها للبلاشفة. ولم يبذل البلاشفة هذا العون للكماليين حباً بتركيا، ولكنه كان قطة من برنامجهم في محاربة الاستعمار البريطاني، وقد كان غزو اليونان لتركيا مشروعاً بريطانياً تعاونه بريطانيا وتحميه، وكان عون البلاشفة للكماليين بكل الوسائل المادية والمعنوية منذ قيام الحرب التركية اليونانية حتى عقد معاهدة لوزان فصلاً من فصول الصراع بين البلشفة والاستعمار البريطاني؛ وكان طبيعياأ أن يكون لوحي موسكو ونفوذها أكبر الأثر في توجيه حكومة أنقرة، وأن توثق المصالح المشتركة بين روسيا البلشفية وتركيا الكمالية؛ وأشد ما يبدو وحي موسكو في ناحيتين: سياسة تركيا الخارجية، فهي قطعة لا تتجزأ من برنامج السياسة البلشفية، تردد فيها تركيا خطوات موسكو في كل شيء: في السياسة الشرقية والسياسة الاوربية، وفي مخاصمة عصبة الامم ثم الألتحاق بها (على أثر التحاق روسيا)؛ وروسيا تشد بأزر تركيا في كل مظاهر دولية؛ وتركيا تؤيد روسيا في مواقفها نحو الدول الغربية، وتركيا تعرف أنها مدينة بحياتها لروسيا، وان هذه الحياة تتوقف على ارادة روسيا، فهي لاتستطيع أن تحيد عن برنامج السياسة الروسية؛ وثانياً - في الناحية الثورية، فحكومة أنقرة ما زالت حكومة ثورية على مثل حكومة موسكو، هي تحذو حذوها في تطبيق مباديء الهدم والاباحة الى أبعد الحدود؛ واذا استثنينا الناحية الاقتصادية، أعني تطبيق الفكرة الشيوعية التي يرى الكماليون بحق أن تركيا ليست ميداناً صالحاً لتجربتها، كانت الثورة الكمالية الاجتماعية والدينية صورة من الثورة اليلشفية في هذه الميادين؛ وكما أن النزعة الالحادية تسود الثورة البلشفية، فكذلك الثورة الكمالية تسودها هذه النزعة؛ واذاً فان هذا الألحاد الذي يطبع كل تصرفات الكماليين، وهذه الاباحة التي يغرقون فيها، وهذه الحرب اللادينية المستعمرة التي يشهرونها ترجع في كثير من وجوهها الى غرس أساتذتهم ومدربيهم سدة موسكو؛ على أن الفكرة الثورية والالحادية ليست كل شيء في سياسة الكماليين، فهنالك بواعث أخرى تحفزهم الى هذه البغضاء المتأججة نحو الاسلام.
ذلك أن الكماليين يرون أن الاسلام كان سبباً في كل ما أصاب تركيا القديمة من المحن التي أودت بسلطانها وقوتها، وأن صفتها الاسلامية هي التي أثارت الدول الغربية ضدها خلال(80/10)
العصور المختلفة وجمعت كلمتها على محاربتها ومقاومتها، وأنها لولا هذه الخصومة التي أثارها الاسلام في نفوس الأمم الغربية لبقيت دولة قوية ولم تبدد قواها في حروب ومعارك خالدة؛ ولهذا يمعن الكماليون في ثورتهم ضد الاسلام ويزعمون أن تركيا تستطيع بذلك أن تنزع تاريخها وماضيها وصفتها الأسيوية، وان تدخل بذلك في عداد الدول الغربية
وقد كان الاسلام حقاً من العوامل التي أثارت أوربا النصرانية وجمعت كلمتها ضد الدولة العثمانية في أحيان كثيرة، ولكنه لم يكن بهذا الاعتبار مسؤلاً عما أصاب الدولة العثمانية من المحن وضروب الانحلال والتفكك بقدر ما تسئل عنه السياسة الغاشمة والأساليب الهمجية المخربة التي سارت عليها هذه الدولة طوال عصور تارخها، وعجز الترك المطبق عن أن يكونوا عاملاً من عوامل الأنشاء في صرح الحضارة الحديثة. هذا، ومن جهة أخرى، فقد لقي الاسلام على يد الدولة العثمانية الذاهبة أعظم نكبة نزلت به في العصر الحديث، ولقيت الحضارة الاسلامية الزاهرة في مصر والأمم العربية مصرعها على يد هذا الغزو الوندلي الذي لبثت الفتوحات التركية سواء في الشرق أو الغرب سوى فورات مخربة تحمل وراءها الويل والدمار أينما حلت؛ وعلى ضوء هذه الحقائق وحدها يجب أن يرجع الكماليون عوامل انحلال تركيا الذاهبة
* * *
ومهما يكن من أمر البواعث التي تحفز الكماليين الى هذه الخصومة المضطرمة نحو الاسلام، فان الاسلام أقوى وأرسخ من أن يتأثر بمثل هذه الفورات العصيبة الطارئة؛ وقد صمد الاسلام وما زال يصمد لخصومة الغرب كله مه ما يحشده الغرب لغزوه من العوامل والوسائل الخطرة. ذلك أن الاسلام قوي بعقائده ومبادئه وخلاله المستنيرة، قوي بتسامح الخالد، قوي بتراثه المجيد. ولن يضير الاسلام أن تسقط من عداده تركيا الكمالية؛ واذا كان الاسلام لم يعتز قط بتركيا يوم كانت دولة قوية شامخة، فكيف يحاول اليوم أن يعتز بهذه البقية الضئيلة من تركيا القديمة؟ على أن هناك حقيقة يجب أن يذكرها الكماليون، وهو أن تركيا عاشت في العصر الاخير على تراث الاسلام؛ وقد كان نفوذ الاسلام المعنوي عاملاً قوياً في بعثها الجديد، وفي تطور السياسة الأوربية نحوها، وإقالتها من الفناء الذي كان مضياً به عليها. أما اليوم فان العالم الاسلامي الذي كان بالأمس يحبو تركيا بعطفه وتأييده(80/11)
المعنوي - والمادي في أحيان كثيرة - لايهمه اليوم شيء من أمر تركيا الكمالية ومصايرها، ومن المحقق أنه سيقف وقفة المتفرج يوم تدلهم الخطوب، وتعود المعارك القديمة الى الاضطرام
محمد عبد الله عنان
المحامي
المطلوب مديرة بيت. . .!
للأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني
(أفلسنا والله يا صاحبي!)
(وأي افلس يا أخي؟ لكن الدنيا أقفرت. . .)
(والعمل؟)
(العمل؟ تسألني ما العمل؟)
(لقد منتُ أقول دائماً وأؤكد للمرتابين من إخواننا، إنك آيةٌ من آيات الله في الذكاء وصحة الادراك! نعم أسألك ما العمل؟)
(وهل أنا أعرف؟)
(لا رأي تشير به؟. . . لا حيلة تتحيلها؟)
(حيلة؟ هل تعني. . .)
(لا بأس! لا بأس! أرح نفسك. كم ساعتك الآن؟)
(ساعتي؟)
(هذا أقل ما يمكن أن أنتفع بك فيه)
(ساعتي يا سيدي. . . انتظر أقل لك، ساعتي. . . . س. . . سُرقت!)
فنهض الأول عن كرسيه بلا كلام، ومضى الى المكتب، فجلس اليه وتناول ورقة وأكب عليها وراح يكتب
* * *
جرى هذا الحديث في حجرة واسعة اتخذها للنوم هذان الصاحبان، ووضعا فيها سريريهما(80/12)
وحقائبهما وكتبهما وأدواتهما وأشياءهما الاخرى، فلو رأيها - أي الغرفة - لحسبتهما آيبين من سفر. وكان ثم حجرتان أخريان في مسكنهمت، لكنهما كانا لا يستعملانهما او ينتفعان بهما إلا في الندرة القليلة، إذا زارهما من لم ترتفع بينه وبينهما الكلفة، فكانت هذه الحجرة الفسيحة للنوم والمطالعة والطعام والشراب والسمر، واللهو أيضاً. ولو شاء لاتخذا بيتاً أكبر وأوسع، ولاثثاه بما هو أو ثروألين، ولكنهما كانا يؤثران المخشونة، وينفران من التطري والرخاوة، ويستقبحان أن يكونا مترفين وإن كثر المال في أيديهما. وكانا ظريفين لا يعدلهما أحد في ظرفهما، وقد تآخيا على أصفى ود وأتم مداخلة، فهما خليط وأمرهما في كل شيء واحد، لايختلف ولا يتعدد.
ونهض الاول عن المكتب وفي يده ورقة يتأملها، ومشى متمهلاً إلى صاحبه حتلا إذا بلغ مكانه دفع بالورقة إليه فقرأ فيها
(مطلوب:)
(مديرة لبيت، ويشترط أن تكون متعلمة وخبيرة، والاجر يُتفق عليه، والرد يكون باسم السيدة نينا شقراوب بجريدة الكوثر بالقاهرة)
ثم سأل: (ما هذا؟)
قال: (هذا؟ هذا إعلان! ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟)
فسأله: (ولكن ما حاجتنا إلى من تدير لنا بيتنا؟ ألسنا ندبر أموره القليلة على أحسن وجه؟)
قال: (يا صاحبي، ليس هذا من شأنك. ولا تخش أن أثقل كاهلك بهذه المديرة المطلوبة. أنما أريد أن أداوري نفسي وأعالج إفلاسها، وأملأ هذا الفراغ الذي أحسه في قلبي)
قال الآخر: (ولكن. . . .)
فقاطعه ذاك (لا تعترض يا صاحبي، فليس عليك بأس من ذلك.)
وخرج، فمضى إلى صاحب (الكوثر) وكان صديقه، فناوله الاعلان
فسأله هذا: (أهي السيدة التي. . . . .؟)
قال: (لا، بل غيرها، وقد كلفتني أن أقوم عنها بالأمر، فكم تطلب أجراً للنشر؟)
فأبى الرجل أن يتقاضى أجراً
* * *(80/13)
وجاءت ردود، بعضها تليفوني، والعبض رسائل، فأما التليفونية فأهملها وأبي أن يُعنى بها أو يتقبلها، وأما الرسائل فكانت ثلاثة حملها معه إلى البيت، وهناك فضها وجلس يتدبرها هو وصاحبه، ويحاول أن يستنبيء الخط والأسلوب عسى أن يعرف منهما - على التقريب - سن الكاتبة وحظها من الجمال.
فتعلقا بواحدة تقول كاتبتها إنها تعلمت في انجلترا، وأنها حذقت هذا الفن - فن ادرة البيوت - على مهرة الأساتذة والمعلمات
وقال الذي سمي نفسه في الاعلان (نينا شقراوي)
(فلنتبع) أسلوب (شرلوك هولمز). إنها تقول إنها تعلمت في انجلترا، فلا شك أنها صغيرة السن، لأن ارسال البنات إلى انجلتزا ليتعلمن لايزال إلى اليوم غير مألوف، ولم يبلغ أن يون سنة، كأرسال الفتيان؛ ثم ان التي تذهب إلى انجلترا لتتعلم لابد أن يكون أهلخا ذوي مال، وقد تتاج يا صاحبي أم تسأل - لأنك ذكيٌ جداً - لماذا إذن تريد أن تكسب رزقها بعرق جبيتها؟ والجواب أنهما فرضان لا أرى لهما ثالثاً: الاول أن يكون المال قد ذهب، وافتقرت الأسرة بعد اليسر، والثاني أن تكون الفتاة قد تمرددت على أهلها لسبب من الأسباب وتركت البيت، فهي تنشد العمل لتعيش، كراهة منها للارتداد إلى أهلها صاغرة ذليلة. واضخ؟ حسن! فلنكتب إذن الرد)
وقام إلى المكتب فكتب ما يأتي:
(الآنسة المحترمة. . . .
جاءني ردك، وأكون شاكرة ل إذا تفضلت بانتظاري في تمام الساعة الخامسة من يوم. . . . أمام باب_جروبي)
بشارع المناخ
وتحياتي إليك وإلى الملتقى
نينا شقراوي)
وتوخى في كتابة الرسالة أن يطيل حروفاً ويقصر أخرى، ويجعل زوايا الجيمات والدالات الخ، حادة، ويعوج السطور ليجيء الخط أشبه ما يكون بخط النساء
* * *(80/14)
ودنا الموعد، فقال لصاحبه: (قم بنا)
فنظر إليه صاحبه متعجباً وسأل: (ولكن ما دخلي أنا؟)
قال: (من يدر؟ إنه لا يعلم الغيب إلا الله! قم فقد أحتاج إليك.)
ووقفا على الافريز المواجهلباب (جروبي) وصارت الساعة الخامسة، وإذا بفتاة ممشوقة تقف على الافريز الآخر وترفع عينها إلى باب جروبي ثم تصوبها إلى الساعة على يدها، ثم تتلفت فقال الذي لا دخل له: (هي والله! قرأت أسم جروبي، ونظرت في الساعة. هيا بنا إليها)
فقال صاحبه (بنا؟ ما شاء الله! أظن أني سمعتك تسألني ما دخل في هذه الحكاية؟ أم ترى كان غير السائل المنر؟)
قال: (إنما أعني أنه يجب أن تلمها حتى لايطول انتظارها فتقلق فتذهب)
قال: (وما يعني من قلقها وذهابها؟ فلتقلق ولتذهب!)
قال: (ولكن لماذا إذن واعدتها أن. . . .)
قال: (يا أحمق! إني أريد - أتفهم؟ - أريد أن تقلق وتمضي وأزيدك علماً، فأقول إني لا أجرؤ أن أكلمها أمام باب جروبي الذي يدخل منه ويخرج كثيرون ممن يعرفونني.)
وعادت الفتاة فألقت على ساعتها نظرة ثم دارت فمشت.
فذهب صاحبنا يعدو خلفها، حتى إذا دنا منها ناداها بأسمها فوقفت وقال:
(معذرة. إن السيدة شقراوي متوعكة، وقد كلفتني أن أقابلك)
فقالت الفتاة بابتسامة: (أشكرك، وأشكرها. لقد خالجني شك، فتوهمت لحظة أني أخطأت. وهل أنت أخوها؟)
قال: (أخوها؟ أوه! لا! ابنها فقط. . .)
قال: (معذرة)
قال: (ألا توافقين على أني ما زلت شاباً تتدفق الدماء الحارة في عروقي؟)
فضحكت وقالت: (بالطبع. . . . وأين البيت؟)
فساءه أنها غيرت الموضوع وقال: (البيت؟ البيت يا سيدتي. . . . في. . . . في القاهرة)
فسألته: (أي شارع؟)(80/15)
فقال: (أي شارع؟ هل ينتظر أن تعرفيه إذا قلت لك إنه شارع البسطويسي؟) فقطبت وسألت المحتجة المستهجنة (البسطويسي؟)
قال: (لم يخطيء طني. فتاة مثلك غضة السن جداً - وجميلة أيضاً بالطبع - متعلمة في انجلتزا لا يعقل أن تعرف هذه الشوارع التاريخية)
فسألت بأهتمام: (أهو شارع تاريخي؟)
قال: (لاشك! أقدم من التاريخ)
فأحست أنه يتهكم وسألته: (والبين؟ ما مساحت؟ 9
فقال: (إيه؟ مساحته؟ الحق أقول؟ الحق أقول، لا أعرف)
قالت: (م غرفة فيه؟)
ولم يكن مما قدر، أن يجري الحديث هذا المجرى فقال بعد تردد (كم غرفة؟ أه. . . أقول لك يا ستي. . . . ثلاث)
فدهشت وصاحت: (ثلاث فقط؟)
فقال: (أراك دهشت! ول الحق. فانها غرف فسحة جداً. . . تصلح للرقص، او لسباق الخيل)
قالت: (لا تمزح. لقد كنت أظنه بيتاً كبيراً)
فسألها: (أليس بيراً؟ إني أراه كبيراً جداً)
قالت: (ثلاث غرف!؟ والخدم؟ ما عددهم؟)
قال: (الخدم؟ أي خدم؟)
قالت: (خدم البيت!)
قال: (ليس في البيت خدم!)
قالت: (ماذا تقول؟ لا خدم؟)
قال: (نعم. . . أعني لا. . . وأي حاجة بنا إلى الخدم؟)
قالت: (أي حاجة؟ كيف يكون بيت بلا خدم محتاجاً إلى مديرة؟)
قال: (يا سيدتي، لهذا احتجنا إلى مديرة. فالأمر موكول اليك. . . .)
قالت: (لقد كان ظني غير ذلك. . . . كنت أحسبه بيتاً عظيماً غاصاً بالخدم، أتولى أموره(80/16)
وأدبر شئونه. . . أما هذا. . . . لا. لا أظن أني أستطيع أن اقبل هذا العمل)
قال: (ألا يحسن أن نميل إلى هذا المحل لنتحدث ونتفاهم.)
قالت بلهجة جازمة: (في أي شيء نتحدث؟ لقد قلنا كل شيء)
قال: (لا لا لا. . بالعكس، لم نقل شيئاً. . .)
فسألت مستغربة: (أي شيء بقي هناك؟)
قال: (باقي أن تراجعي نفسك. . . . فكري طويلاً قبل أن ترفضي. الانسانية تدعوك أن تقبلي. . المروءة تناديك وتناشدك. . . إني شاب، والبيت الصحراء، بل قلبي أيضاً صحراء. . . ومن الشهامة أن تتولي أمري. . . أعني أمورنا. . . وأن تحيلي ذه القفار فراديس ورافة الظلال)
فسألته ضاحكة: (أتريد مديرة أم ساحرة؟)
ٌال: (إيه؟ أه! بالطبع. . . ساحرة؟ أي نعم ساحرة. هذا أحسن. . . ولكنك ساحرة - ما قي هذا شك! ألست موافقة؟)
قالت: (على أي شيء؟)
قال: (على أنك ساحرة)
قالت: (أوه! كلا. والآن، أستأذن. .)
قال: (تستأذ1نين؟ كيف؟ وبعد أن عصت عليك في لجة الحياة؟)
وعض لسانه من الغيظ، فقد زل، وأدركت خي أن في الأمر غير البيت وإدارته، فحدقت في وجهه ثم سألته
(أجبني - بصراحة. . . ماذا تعني؟)
قال: (اعني أنك درة وأنه يشق علي أن أنفض يدي منك بد أن فزت بك - هذا ما أعني، وبصراحة)
قالت: (هل كنت تعرفني؟)
قال مغالطا: (لقد كنت أحلم بك)
فقالت: (والأعلان؟)
قال: (الاعلان؟ لقد انتهينا منه. وقلت إن الأمر لا يوافقك. . . وأنا مصدقك. . لايسعني إلا(80/17)
أم أصدقك. . . إنه بيت لا يليق بك. . . إنه. . . إنه قبر. . . خراب. . . . دعينا منه فما نت أتصور أن ترضي عنه. . . . .)
قالت: (وبعد؟)
قال: (نتكلم في شيء آخر. . . إنه لا أكثر من المواضيع الصالحة للكلام. . . مثلاً شعرك، إنه ذهبي جميل، وأنا أحب الشعر الذهبي، يفتنني، يدير راسي، ولو استطعت لجمعته كما تجمع طوابع البريد، وقطع الخزف الثمين، والسجاجيد الفاخرة. . . وهناك أيضاً موضوع آخر. . . عيناك. . . إنهما نجمان متألقان. . .)
فصاحت به: (حسبك. وادخر بلاغتك لمن عو أحق بها، أعني لمن له أذنان تصغيان فاني ماضية)
فقال: (وتتركيني؟)
قالن: (آسفة)
قال: (ألا تفرين؟ في أنا على الأقل!)
قالت: (سأفكر فيك طويلاً)
فقال بلهجة الظافر: (كنت أعلم ذلك)
قالت: (إيه؟ 9
قال: (كنت واثقاً أنك رقية القلب)
قالك: لا لا. . . إنما أعني أني سأفكر في جرأتك. . . واسمح لي أن أقول: وفي وقاحتك)
فلم ينهزم وقال: (هذا ذنبك)
قالت مستغربة: (ذنبي)
قال: (على التحقيق: إنك جميلة، فلماذا أنت جميبة؟ هذا عذري!)
قالت: (آه!) وهمت أن تمضي عنه
فقال: (وشيء آخر. . . يجب أن تعلمي أنه لاقيمة لجمالك)
قالت: (ألم أقل إنك وقح؟)
قال: (لاقيمة لمالك إذا لم يعجب به أمثالي. . . بغيري تكونيين وردة في صحراء. . . من يشمها؟ من يتأملها؟ من يقول ما أحسنها؟)(80/18)
قالت: (ألا تخبرني من أنت؟)
قال: (أو بعيك أن تعرفي؟)
قالت: (بالطبع. . . لانك أوقح من رأيت في حياتي)
قال: (كلا، هناك من هو اوقح. . أوه بمراحل! صاحبي هذا الوقف هناك. . . أترينه؟
سأعود اليه وأبلغه أن له - إذا شاء - أن يشمت بي، لأني فشلت)
قالت: (أكانت مؤامرة؟)
قال: (لقد نهاني فلم أطع، وجررته معي بكرهه، وفي مأمولي أن أفوز، فأباهية وأفاخره، أما الآن. . .)
قالت: (هذه هي الحقيقة؟)
قال: (بلا تحريف. وتعالى اليه لتسمعيها منه إذا شئت)
فوقفت تفكر برهة كالمترددة ثم القفتت اليه فجأة وقالت: (هل نت تعرفني؟ 9
قال: (سؤال معاد، وجابه واحد لايتعدد ولا يتغير)
قالت: (لا تعد الى المزاح)
قال: (أؤكد لك أني جاد جداً)
قالت: (ولكن كيف وثقت أني سأرد على اعلانك!)
قال: (هي مقامرة لا أقل. .)
قالت: (على كل حال، لابد أن أمضي الآن)
قال: (ونلتقي مرة أخرى؟)
قالت: (ربما. . . لا أردي. . .)
قال: (اذكري أني أعرف عنوانك، فاذا طال الأمر فلا يبعد أن اغزو دارك فاني كما تعلمين مجنون)
قالت: (لاتفعل. . . . احذر)
قال: (لاتخافي. . . . مع السلامة. .)
ورجع إلى صاحبه فقال: (ألا تزال واقفاً؟ لماذا لم تعد إلى البيت؟ ما فائدتك هنا؟)
فسأله: (ماذا صنع الله بك؟)(80/19)
قال: (وكيف يعنيك هذا؟ أي دخل لك فيه؟)
قال: (قل لي بالله!)
قال: (ولاتشمت؟ لا في السر ولا في الجهر؟)
قال: (أو أخفقت؟؟؟ مبارك! مبارك! الحمد لله!)
ابراهيم عبد القادر المازني
كيف استجبت للرسالة؟
للأستاذ محمد محمود جلال
كان لمجلة (البيان) في نفسي مكانة، وكان لها في أفق الثقافة المصرية مكان. وكنت ما اشتركت فيها أحس من نفسي اغتباط من يؤدي واجباً، ولا أنكر ما شملني من سرور يوم نشر الشيخ البرقوقي مقالي الاول بها
ولما احتجبت أحسست لها وحشة، وأحسست في جوي بشيء ينقصني، ثم طلبته في مجلداتها الاولبى، وإذا أتيت عليها وأخذت نفسي بترتيبها ووضعها في مكان خاص من المكتبة خلجني سرور الوفاة بالعهد. ولم يزل لها مكانها وما زلت أذكر بالخير عهدها
لم أكتب في مجلة منذ احتجابها، وفي فترات متباعدة كتبت في المحروسة، واللواء، والمقطم. وكنت طوال الوقت اتمنى على الله للبلاد مجلة تسد الفراغ وتأخذ بيد الثقافة
وما كنت لاغمط المجلات الاخرى فضلها على العلم والأدب والتاريخ، ولكني كنت دائم الأحساس بحاجة البلاد لمجلة تقوم على أساس من الروح المصرية، وإحياء الصالح من التقاليد الأسلامية، فتصل العهدين وتنبه الجيل إلى تراث الأولين
ملكت الأمنية على شعوري حتلا فكرت عام 1926 مع صديقي اسماعيل مظهر وصديق ثالث في تنفيذ الفكرة برغم مشاغلي وما قد يكون بين عملي وبين ما أعتزم من فوارق ظاهرة. ووصل بنا الحرص على التوفيق بين الأمرين إلى أن نعتزم إصدارها كل ثلاثة أشهر، ولكن حتى هذه لم تتم!! فقد تعجل صديقنا الأمر وأظهر مجلة (العصور) فجاءت أبعد ما تكون عن الأسس التي قدرنا
لكن الله سبحانه وتعالى قدر للأمنية أن تتحق - وتحققت بالفعل قبل أن أتصل بالرسالة(80/20)
بعام ونيف، ولكني حرمت هذا الخبز السار حتى كان رأس العام الهجري الحالي فأراد الله أن يجعل سروري مضاعفاً، فأتلقى الخبر في خير عيد للمسلمين، بل للأنسانية جميعاً
فبينما أجتاز ميدان الأزهار إذ سمعت بائع الصحف ينادي بالرسالة، وإذا بي مقبل على شرائها، فيطالعني العنوان، وإذا بين يدي عدد ممتاز خص به العام الهجري، وشرف العدد بأكثر ذكريات التاريخ
طربت حقاً - لأني أعلم أن هذا التقليد الصالح أهمل منذ الحرب الأخيرة بعد أن كان سنة تحييها أكثر الهيئات - وطربت لأني أخذت أولادي وبيئتي بالاحتفال بالعام الهجري، فأدخر لهم ليومه خير المكافآت و (اللعب) ايقاظاً لهم، وتقريباً للمعنى الى عقول الصغار
وإني أقرر اليوم أني إلى ذلك التاريخ لم أكن أعرف عن صاحب الرسالة شيئاً، ولم أكن رأيته، ولم يصلني به وبأكثر النخبة الصالحة من معاونيه غير الآثار القلمية الرائعة أمتع بها ذهني بين فرصة وأخرى
فلما قرأت العدد التاريخي شعرت بما خفق له قلبي طرباً، وأحسست بالفراغ يملأ وبالثغرة تسد
إنما تنشد للبلاد مجلة تنشر مفاخر السلف الكرام فلا ينقطع ما بيننا وبينهم فتصل المنطق. إنما تمنينا مجلة تنشر الصالح قديماً كان أو حديثاً، تخرج لنا في لغة سهلة راقية ما يأخذ بيد الأخلاق من عثرتها، ويكبح جماح الشهوة والغرور، ويزيل الغشاوة عن الأبصار، فيبدو لشبابنا الأسلام كما هو، والأدب العربي كما هو، وهما أساس الثقافة لمصر الحاضرة ولا أساس غيرهما
وما دت أظفر بهذا الكنز حتى سارعت به الى أولادي أقرهم ما يتفق وما يحيون من ذكرى، وأشرح لهم بعض ما يصعب على أذهانهم - ثم سارعت أكتب الى صصاحب الرسالة مشجعاً دون سابق تعارف، معتقداً أن السكوت بعد ذلك هرب من صفوف الجهاد، ووعدت في كتابي أن أنتهز فرصة فراغ لأعود للترسل اذا أتيح لي أن تشرُف رسائلي بمثل هذا المكان الكريم
جاءني الرد بعد قليل فاذا به آية على اختصاره، وإذا بي ألمس في كاتبه صدق الأيمان في كل مسعى ومقصد(80/21)
أتيح لي في شهر سبتمبر ان أزور دار الرسالة فأسعد بلقاء صاحبها، وإذا بي ألمس في كل قول وفي كل حركة إيماناً صادقاً وأدباً رائعاً جذاباً
استجبت (للرسالة) الغراء وكلها هدى ونورـ وفي يقيني أنها في البلاد ثالثة أعلام النهضة، فبجانب (مصنع المحلة) في ميدان الاقتصاد، و (مستشفى المؤاسة) في عالم البر والتعاون، تقوم (الرسالة) حمى الأدب العربي وتراث الاسلام
واذا ان الله تعالى أكرم البلاد بهذه المجلة، فقد أكرم المجلة بثوب الأخلاق الكريمة الذي أضفاه على صاحب الرسالة، ولن تنجح رسالة بغير خلق
فالى الأمام أيها الصديق، وإلى الأمام يا خير الصحف. إنما عيد الرسالة عيد للثقافة العالية، والدين القويم، والخلق الكريم
محمد محمود جلال المحامي
بين عامي نشيد الوداع. . . . . للأستاذ علي الطنطاوي
(1) مالت الشمي الى المغيب، ولم يبق من أشعتها الذهبية إلا خيوط قليلة، تنفذ من بين قطع الغمام المتناثر حيال الأفق. . . . تقلى على العالم نظرة الوداع، وتقبل جبينه الخاشع قبلتها الأخيرة. . . ثم تجود بذمائها الباقي، وتلفظ نفسها الأخير - كما يلفظ نفسه هذا العام الراحل!
(2) وكنت أطل من شرفة منزلي - ومنزلي في شارع بغداد: على شاطيء الغوطة، معني الغساسنة، وجنة الدنيا، وملهمة الشعر شعراء العرب الأقدمين - أطل على بساتينها الفيحاء، وجناتها الواسعة، التي تحف به من جهاته الأربع، فأرى الكون في حزن وكآبة، وأرى على جهه صفرة تبدو على أوراق الخريف الزاوية الهشيمة، وفي عينيه دمعة تترقرق، تلوح في طيات هذا المزن الراقراق، وأسمع لقلبه وجيباً، يسمع من هذه الأغصان التي يتلاعب بها النسيم. . . ثم أنظر إلى نفسي، لإارى فيها عالماً آخر. . . ولكنه مفعم بالكآبة والغم، كذلك العالم!
(3) أطلت التحديق في هذه المشاهد - فلم تنفرج لي شفتاها عن الابتسامة التي أحن إليها وأرقبها. . . . وكنت قد عزمت على المضي في هذا التحديق، حتى أرى هذه الابتسامة،(80/22)
فأحتفظ بها بين أحناء ضلوعي، وفي مثوى الذكريات من نفسي ذكرى سارةً، تخفف من لوعة الذكر الكثيرة المؤلمة لهذا العام الراحل. . . . لكن عزيمتي قد ونت، وأيقنت أن قلبي المحطم اليائس لا تشرق عليه أشعة الابتسامات
(4) دنت قافلة الحباة السائر في بيداء الزمن من محطها،
فتباطأت في سيرها، وقاربت خطوها، فامسيتُ أشعر بطول
هذه الساعات الباقية في عمر العام ورحت أرقب عقرب
الساعة المائلة أمامي، فلا أراه يتحرك. . فضجرت وتألمت،
وأحسست كأن هذا الفلك يدور وهو عاتقي. . .
(5). . . بعد ساعة واحدة يُتم الفلك دورة جديدة من دوراته التي لا تحصى. فلا يترك بعدها إلا أنقاضاً مهدمة، وأجساداً محطمة، وقلوباً مهشمة، كأنما هو رحي تطحن الأمم والشعوب. . . ثم يخرج منها النداء أن: لِدُوا وابنوا وأملوا. . . ولكن للموت والخراب واليأس!
بعد ساعة واحدة، ينقضي هذا العام، فتبتلعه هوة العدم، ويفتح الماضي ذراعيه، ليضمه إلى الأعوام الكثيرة التي مرت من قبله، ويؤلفها (رزمة) واحدة، ثم يلقيها في بحر الأبدية. . . ثم تفنى عند جلال الله الباقي
بعد ساعة واحدة، يدع هذا العام مكانه من الوجود للعام الجديد، ثم يهذب فيتبوأ مكانه من عالم العدم!
(6) بعد ساعة واحدة تختم من هذا العام صفحة كتبت أكثر سطورها بدموع المظلومين، لتفتح صفحة أخرى، لا ندري عنها شيئاً، ولكن فيها ألم وفيها سرور، وفيها أمل وفيها خيبة، وفيها ضحك وفيها باء. . . . والقدر يضحك ابداً من هذا الانسان، لأنه يراه الظالم ويراه هو المظلوم!
ما الانسان إلا عدو الانسان. .
يكتب القوى سيرة حياته، ويملأها بآيات التجليل والثناء، ولكن مدادها دموع الاشقياء،(80/23)
ودماء الابرياء. . .؛ وينشيء القوى صرح مجده، ويرفع ذرى عظمته، ولكن أساسه جماجم المظلومين، وعظام الشهداء؛ ويملأ القوى بالذهب خزانته، ولكن دراهمها قد جمعت من أيدي اليتامى، وأفواه الفقراء
(7) بعد ساعة واحدة، تحط القافلة رحالها، فتلتفت إلى الوراء فلا نرى إلا ظلاماً، يلمع في وسطه نجم من الذكرى، نتبين فيه (العلم المربع الألوان) وهو يخفق على دمشق، فتخفق قلوبنا لجلال الذكرى، ومرارة الفقد! فنحول أبصارنا إلى الأمام فلا نرى إلا الظلام. ولكن. . . ما هذا النور الذي ينبعث من الأرض فيذهب صعداً في السماء، فيهدينا الطريق، ويترع نفوسنا قوة وأملاً؟ لقد علمت: هذا بريق الدماء التي سقينا بها صحراء ميسلون، وجنان الغوطة، لقد علمت: لايزيح ظلمة المستقبل، إلا هذا النور. . . الأحمر!
(8) تزين الناس ولبسوا أحسن ثيابهم، وراحو يهنيء بعضهم بعضاً، لقد امتلأت بهم الأسواق والشوارع، والبيوت والمجامع، لقد ناءت برسائلهم قطر البريد، حتى ما ترى حيثما كنت إلا ثغوراً تبسم، وما تسمع إلا مقالة تقال: كل عام وأنتم بخير.
كل عام وأنتم بخير. .
غير أني لا أفقه من هذا كله شيئاً!
(9) فيم الهناء؟ وعلام السرور؟. . أيهنأون بتلك الأرواح التي دفعناها ثمن الحرية، فكان للبائع الثمن والبيع؟ أم بالنفوس الكبيرة التي أزهقها الأقوياء، أم بالمنازل التي خرجوا؛ أم بالدور التي أحرقوا، أم بالحق الذي غصبوا، أم بالحرمات التي انتهكوا؟. . . أم بالأزمة العامة، والتجارة الاسدة، والصناعة العاطلة، والزراعة البائرة، والأخلاق الضائعة، والرجولة المفقودة، والحدود المستباحة، والجهالة المنتشرة؟. . . .
أما إن أشد البلاء، ألا نشعر بالبلاء! وأكبر المصيبة أن نجهل أنها المصيبة! فما لهؤلاء الناس وماذا اعتراهم؟ أيفرحون بهذا كله؟. . . .
إني لا أفقه من هذا كله شيئاً!
(10) عزفت عما فيه الناس، ورحت إلى شرفتي كئيباً، وكان الظلام قد ملأ الكون، كما ملأ جوانب نفسي، فغشيني ذهول عميق، وانطلق لساني يقول:
* * *(80/24)
أيها الراحل المودع!
لقد كانت لنا آمال، صببناه على قدميك يوم خرجنا لاستقبالك، وكنا كلما انقضى من عمرك يوم ولم تتحقق ارتقبنا بها يوماً آخر، وهذا يوم لا آخر له، فأخبرنا عن آمالنا، ماذا صنعت بها، أدست عليها فحطمتها وقطعت طريقك على رفاتها؟
أيها الراحل المودع!
لقد أودع أسلافنا عند أسلافك أمانة، هي المجد العربي، والعزة الاسلامية، فضاعت في بيداء الزمن، وانطلقت الأعوام وانلقنا وراءها نفتش عنها وننشدها، ولن ني ما بقي في الزمان عام، وبقي منا إنسان، فأخبرنا هل مررت عليها، وهل عرفت أي عام يحملها الينا؟. . . .
إنك ستجتمع في عالم الأبدية بالأعوام التي سبقتك، ومرت بنا قبلك، فهل لك إذا اجتمعت بعام الدماء والدموع، عام الثورة. . . أن تبلغه يلامنا وتحياتنا، هل تحمل الى تلك الأرواح الظاهرة شوق أبنائها وإخوانها؟. . . ألا قل لها تهدأ وتطمئن، فانا لن ننسى، لن ننسى. . إن ذكرى الدم المفسوح لا تنسى ابداً!
وبعد يا أيها الراحل المودع!
أنبئنا مذا يحمل هذا القادم المسلم، هل يحمل الينا تحقيق الآمال وبلوغ الأماني؟ أم يحمل الشقاء والخراب والفقر والآلام والدموع والدماء كاخوانهالخمسة عشر عاماً، التي مرت على سورية؟
أنظر ماذا خلفت فينا، أنظر الى مدينتنا، لقد جعلتها - في ظل المتمدنين - أطلالاً وخرائب، لقد جعلت أهلها فقراء بائسين. . . انظر هذه هي خرائب الدرويشة والميدان؛ وهذه قلاع المزة وقاسيون. .
ولكن لا بأس أيها العام لابأس؛ إن أرضاً تسقة؛ (الماء الأحمر!) لابد أن تنبت (الحرية الحمراء). . . وإننا لن نيأس أبداً
* * *
وأفقت من ذهولي، وكان وهن من الليل، وكانت اللحظة الاخيرة من العام الراحل، فأرسلت في فضاء الله الواسع زفرة طويلة، ثم رفت رأسي شطر السماء وقلت:(80/25)
- سبحانك لا اله إلا أنت. . . هذا قضاؤك يا الله!
وتبددت اللحظة الاخيرة من العالم، تبدد الحروف الاخيرة من مقالتي، ولم يبق في الوجود، إلا. . . . اسم الله
باسم الله نستأنف العمل، والله المستعان!
علي الطنطاوي
ظواهر متماثلة
في تاريخي الادبين العربي والانكليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
لا يكاد يكون بين الأدبين العربي والانجليزي من وجوه التشابه إلا الأمور العامة التي يتفق فيها كا أدبين يعبران عن نوازع النفس الانسانية، وهما فيما عاد ذلك مختلفان جد الاختلاف، وهذا راجع الى أمرين: أولهما اختلاف الأمتين في الجبلة والبيئة: فهذه أمة شرقية سامية هرجت من جزيرة صحراوية وولاثت الدول الشرقية القديمة، وتلك أمة غربية آرية خرجت من جزيرة شمالية وشاركت في تراث الدولة الرومانية، وثاني الأمرين اختلاف قسطي الأدبين من التأثر بالثقافة اليونانية: فبينما كان تأثر الأدب العربي بها قليلاً غير مباشر تأثيرها في الأدب الانجليزي شاملاً غامراً للأصول والفروع، فكتسب ذلك الأدب الانجليزي شاملاً ظل الأدب العربي بعيداً عنها
ولكن هنا ظواهر في تاريخ الأمتين والأدبين متمائلة أدى إليها تمائل وقتي في الظروف وأدت الى نتائج متمائلة: فعصر الجاهلية في تاريخ الادب العربي شبيه بعصر ما قبل اليزابث في التارريخ والأدب الانجليزي: ففي ذينك العصرين كان كل من الشعبين يعيش داخل جزيرته في عزلة كبيرة عن العالم على حال شبيهة بعصر الأبطال في بلاد اليونان الذي أنتج ملاحم هوميروس، وكان الأدبان تبعاً لذل جافيين، وعْرى الأسلوب واللفظ، ساذجي المعني، بعيدين عن الصناعة الفنية، وكانا أقل رقياً من الأدب الذ جاء في العصر التالي. والواقع أن الشبه هنا وبين الجاهلية المصرية وعصر الأبطال اليواني كبير: ففي الجاهلية كان العرب منقسمين قبائل وعشائر متناحرة كما كانت البلدان والعشائر اليونانية،(80/26)
وإن كانت تحس بقوميتها العرية العامة متمثلة في لغتها وفي مجامعها السنوية في الأسواق وفي الحج الى مكة، كما كان اليونان يجتمعون في المواسم الأولمبية ويحجون الى دافي، وفي تميزها على الأمم الاخرى التي كان العرب يسمونهم عجماً كما كان اليونان يعتبرون مَن عَداهم برابرة، وإن يكن العصر الجاهلي لم ينتج ملاحم باراً كالألياذة والأوديسا في اليونان أو كملحمة (بيولف) في انجلترا، فان قصائده على قصرها هي من هذا الضرب. ولعل العصر الجاهلي لو طال قليلاص لا ئتلفت تلك القصائد الصغيرة التي تمجد كل منها قبيلة واحدة، فكونت ملحمة كبرى تتغنى بفروسية الأمة العربية قاطبة
ونهضة العرب بظهور الاسلام تماثل نهضة الانجليز في عصر اليزابث بوصول النهضة الأوربية الى انجلترا واتجاه نظر الانجليز الى ما وراء البحر؛ ففي كلا العصرين بدأت كل من الأمتين تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته وتبنى لنفسها امبراطورية مترامية الاطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً ورقت ديباجته، وإن يكن الرقي الادبي في صدر الاسلام قد تمثل في النثر بينما تمثل في العصر الاليزابثي في الشعر ولاسيما الشعر التمثيلي
وبانبعاث هذه النهضة وقيام هذه الدولة انتسرت كلتا اللغتين فيبقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم؛ فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية سار يتكلم من حدود الصين الى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، وأصبح اليوم لسان شعوب كثيرة في آسيا وأفريقة. واللغة الانجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين تعد على الأصابع في عهد شكسبير أصبحت تُتكام وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم
ولم تكد كل من الأمتين تود أركان امبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار اآداب والعلوم، فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية استقلت الولايات المتحدة الأمريكيو عن الامبراطورية البريطانية؛ بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول الذي فلم تنجب الاندلس من الأدباء من بذلوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الامبراطورية البريطانية من داني شكسبير وملتون(80/27)
وباتصال كل من الأمتين بالأمم المتحضرة سَرَت إليها موجة عدوى من دواعي الترف وبدأ أثر ذلك في أدبها: فاختلاط العرب بالفرس أدخل الترف والعبث في البلاط العباسي وأثر في جيل أبي نواس من الشعراء، واتصال الانجليز بفرنسا في ظل ملكها المترف لويس الرابع عشر أفسد بلاطهم على عهد شارل الثاني وبان أثر ذلك في الأدب ولاسيما في الرواية التمثيلية
وكلا الأدبين تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي تدين به أمته؛ فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية وأصولها وآدابها وثقافة أدبائها وأساليبهم جسيم بين الجسامة، فقد كان منذ جاء مثلاُ أعلى وثقافة قائمة بذاتها؛ والانجيل منذ ترجم إلى الانجليزية في عهد الاصلاح الديني له اليد الطولي في تثبيت الأسلوب النتثري الانجليزي، وتثبيت مفردات اللغى، وإدخال مفردات جديدة واشتقاق غيرها، واختراع طرق للاشتقاق أ
لم يأخذ العرب عن اليونان ولا عن غيرهم أخذاً بالجملة ما صنع الانجليز، بل ظلوا غب زمانهم شامخين بأدبهم ينظرون من عليائه إلى من حولهم من أمم وما لها من آداب؛ أما عهد الاخذ بالجملة في تاريخ الأدب العربي فهو عصرنا الحاضر الذي يُسع فيه أدباؤنا اللغات الغربية دراسة ونقلاً ومحاكاة، فيُغنون أدبنا أي إغناء، ويخصبونه بالعنصر الأجنبي(80/28)
الذي كان يعوزه
هذه ظواهر يتقارب فيها تاريخا الأدبين لتقارب في ظروف
الأمتين في شتى العهود، أما ظواهر التباين فلا تكاد تعد؛
ويجب حين نقابل بين التاريخين أن نذكر أن دولة العرب أقدم
عهداً وأدبهم أعرق محتداَ، وأن دولتهم وأدبهم قد غبر الفصل
الاول من قصتهما، وهما اليوم في طور بعث جديد أما الدولة
والأدب الانجليزيان فما يزالان في الفصل الأول
فخري أبو السعود(80/29)
8 - محاورات أفلاطون
الحوار الثاني
كريتون أوجب المواطن
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
أشخاص الحوار: سقراط. كريتون
مكان الحوار: سجن سقراط
سقراط - وستقول القوانين بعدئذ: (اعلم يا سقراط، إن صح هذا، أنك بهذه المحاولة إنما تسيء الينا، لأننا بعد إذ أتينا بك الى الدنيا، وأطمعناك وأنشأناك وأعطيناك كما أعطينا سائر أبنا الوطن قسطا من الخير، ما استطعنا للخير عطاء، فقد أعلنا فوق ذلك على رءؤس الأشهاد أن من حق كل اثنيني أن يرحل الى حيث شاء حاملا متاعه معه، إذا هو نفر منا بعد أن تقدمت به السن فعرفنا حق المعرفة وعرف على أي الأسس تسير المدينة، وليس فينا نحن القوانين ما يحول دونه أو يتدخل معه في أمره، فلكل منكم إذا ما كرهنا وكره المدينة، وأراد الرحيل الى إحدى المستعمرات أو الى أية مدينة أخرى، أن يذهب حيث شاء، وان ينقل متعاه معه؛ أما ذك الذي عركنا فعرف يف نقيم العدل وكيف ندير الدولة، ثم رضي بعد ذلكالمقام بيننا، فهو بذلك قد تعاقد ضمناً على أنه لابد فاعل ما نحن به آمرون. فمن عصانا، ونحن ما نحن، فقد أخطأ مرات ثلاثاً: الأولى أنه عصى والديه بعصيانه إيانا، والثانية أننا نحن الذين رسمنا له طريق نشأته، والثالثة أنه قطع معنا على نفسه عهداً أنه سيطيع أوامرنا، فلا هو أطاعها، ولا هو أقنعنا بأنها خاطئة، ونحن لا نفرضها عليه فرضاً غشوماً، ولكنا نحيره، فلما طاعتنا وإما إقناعنا. هذا ما قدمناه إليه، وهذا ما رفضته جميعاً.
تلك هي صفوف المآخذ التي ستقيم من نفسك هدفاَ لها يا سقراط إذا أنت أنجزت عزيمت، كما سبق لنا بذلك القول. ولاسيما أنت دون الآثينيين جميعاً) وهب أني سألت ولم هذا؟ فستجيب حقاً بأنني قد سلمت بهذا الاتفاق دون سائر الناس. ستقول القوانين (إن ثمت لبهاناً ساطعاً يا سقراط، بأننا والمدينة معنا لم نكن لنعكر عليك صفو العيش، فقد كنت أدوم الآثينيين جميعاً مقاماً في المدينة: لم تغادرها قط، حتى ليجوز لنا الفرض بأنك كنت تحبها؛ إنك لم تغادرها مطلقاً لتشهد الألعاب، اللهم إلا مرة واحدة حين ذهبت لترى البرزخ. ولم تفصل عنها لتقصد إلى أي مكان آخر، إلا إذا كنت في خدمة الجيش، ولم تسافر كما يسافر(80/30)
الناس، ولم يدفعك حب الاستطلاع إلى رؤية الدول الأخرى لتلم بقولنينها، فقد اختصصتنا بحبك لم تجاوز به حدود دولتنا، فكنا نحن أصفياءك المخلين، وقد رضيت بحكمنا إياك. إن هذه هي الدولة التي أعقبت فيها أناءك، وإن ذلك لينهض دليلاً على رضاك. هذا وقد كنت تستطيع لو أردت أن تقرر عقوبة النفي أثناء المحاكمة - وإن كان الآن ثمت دولة تغلق دونك أبوابها فقد كانت حينئذ تسمح بذهابك إليها، ولكنك ادعيت أنك تؤثر الموت على النفي، وأنك لم تبتئس من لموت. ولكن هأنت ذا الآن قد أنسيت تلك العواطف الجميلة، وترفض أن تحترمنا - نحن القوانين، التي أنت هادمها، وإنك الآن لتفعل ما لا يفعله إلا العبد الخسيس، فتولي أدبارك هارباً من العقود والعهود التي قطعتها على نفسك باعتبارك واحداً من أبناء الوطن؛ فأجب لنا أولاً عن هذا السؤال: أنحن صادقون في القول بأنك اتفقت على أن تُحكم وفقاً لنا، بالفعل لا بالقول فقط؟ أهذا حق أم كذب؟ بماذا نجيب عن ذلك يا كريتون، ألسنا مضطرين إلى التسليم؟
كريتون - ليس عن ذلك منصرف يا سقراط
سقراط - أفلن تقول القوانين إذن: (إنك يا سقرط ناقض للمواثيق والعهود التي أخذتها معنا على نفس اختياراً، فما كنت في أخذها عجلان ولا مجبراً ولا مخدوعاً، ولكنك لبثت سبعين عاماً تفكر فيها، وكنت خللها تستطيع أن تغادر المدينة إن كنا لم نصادف من نفسك قبولاً، أو كنت قد رأيت فيما اتفقنا عليه احجافاً بك. كنت في ذك مخيراً، وكان في مقدورك أن ترحل إما إلى لا قيديمون أو إلى كريت اللتين كثيراً ما امتدحتهما لحسن حكومتيها، أو ترحل إلى أية دولة أجنية يونانية أخرى. ولكنك كنت تبدو أكثر من سائر الأثينيين جميعاً، شغوفاً بالدولة، أو بعبارة أخرى، بنا - أي بقوانينها (إذ من ذا الذي يحب دولة لا قوانين لها) فلم تتزحزح عنها قط، ولم يكن العُمى، والعُرج، والمقعدون، بأكثر منك قبوعاً بها؛ وهأنت ذا الآن تفر ناقضاً ما قطعته من عهود. ما هكذا يا سقراط إن أردت بنا انتصاحاً، لا تضع نفسك بهروبك من المدينة موضع الشخرية
(وحسبك أن ترى أي خير تقدمه لنفسك أو لأصدقائك، ان أنت اعتديت أو أخطأت على هذا الوجه؟ أما أصدقاؤك فالأرجح أن يشردوا نفياً، وأن يسبو حق انتسابهم للوطن أو أن يفقدوا أملاكهم. أما عن نفسك أنت، فلو تسللت إلى إحدى المدن المجاورة، إلى طيبة أو ميفاراً(80/31)
مثلاً، وهما مدينتان تسيطر عليهما حكومة حازمة، فستدخلهما عدواً يا سقراط وستناصبك حكومتناهما العداء، وسينظر اليك أبناؤهما الوطنيون بعين ملؤها الشر لأنك هادم للقوانين، وسيقر في عقول القضاة أنهم كانوا في إذانتهم إياك عدولاً. فأغلب الظن أن يكون مفسد القوانين مفسداً للشبان، وأن يكون بلاء ينزل بالغفلة على بني الانسان.
فلم يبق لديك إلا أن تفر من هذه المدن المنظمة ومن ذوي الفضل من الرجال، ولكن أيكون الوجود حقيقياً بالبقاء على هذه الحال؟
أم أنك ستغثى هؤلاء الناس في صفاقة يا سقراط لتتحدث اليهم؟
وماذا أنت قائل لهم؟ أفتقول ما تقوله هنا من أن الفضيلة والعدالة والتقاليد والقوانين أنفس ما أنعم به على الناس؟ أيكون ذلك منك جميلاً؟ كلا ولا ريب. أما إن فررت من الدول ذوات الحكم الحازم، الى تساليا حيث أصدقاء كريتون، وحيت الاباحية والفوضى، فسيجدون متعاً في قصة عروبك من السجن، مضافاً اليها ما يبعث على الشخرية من التفصيل عن كيفية تنكرك في جلد عنزة أو ما عداه من أسباب التنكير، وعما بذلته من ملامحك كما جرت بذل عادة الآيقين - ليس ذلك كله ببعيد، ولن ألن تجد هناك من يذكرك بأنك وأنت هذا الشيخ الكهل، قد نقضت أشد القوانين تقديساً، من أجل رغبة حقيرة في إستزادة الحياة زيادى ضئيلة؟ قد لا تجد إذا استرضيتهم، ولكن لا تلبث أن تثور منهم سورة الغضب، حتى يصكوا مسمعيك با يجللك عاراً. إنك ستعيش، ولكن كيف؟ - متملقاً للناس جميعاً وخادماً للناس جميعاً. وماذا أنت صانع؟ - ستأكل في تساليا وتشرب، لأنك قد غادرت البلاد لكي تصيب في الغربة طعاماً لغذاءك، وأين ترى ستكون تلك العواطف الجميلة التي تبدلها حول العدل والفضيلة؟ قل إنك راغب في الحياة من أجل أبنائك لتتعهدهم تربية وإنشاء - ولكن أأنت مصطحبهم الى تساليا، فتقضي عليهم بذلك ألا يكونوا أبنء الوطن الأثيني؟ أذاك ما سمنحهم إياه من نفع؟ أم أنت تاركهم واثقاً بأنهم سبكونون أحسن رعابة وتربية مادمت أنت حياً، حتى ولو كنت غائباً عنهم، إذ يعني بهم أصدقاؤك؟ هل تخيل لنفسك أنهم سيعنون بهم ما أقمت في تساليا، أما إن صرت من أهل العالم الآخر، فلن يعنوابهم؟ كلا، فان كان من يسمون أنفسهم أصدقاء، أصدقاءك حقاً، فانهم لاشك معينون بأبنائك(80/32)
(اضغ إلينا إذن يا سقرا، نحن الذين أنشأناك. لا تفكر في الحياة والأبناء اولاً، وفي العدل آخراً، بل فكر في العدل أولاً، وارج أن تصيب البراءة عند ولاة العالم الأسفل. فان فعلت ما يأمرك به كريتون، فلن تكون أنت ولا من يتعلق بك كائناً من كان، أسعد أو أقدس أو أعدل في هذا الحياة ولا في أية حياة أخرى , فأرحل الآن بريئاً، مجاهداً لا فاعلاً للرذيلة، ضحية الناس لا ضحية القوانين. أما إن صممت أن ترد الشر بالشر والضر بالضر، ناقضاً ما قطعته أمامنا على نفسك من عهود ومواثيق، مسيئاً إلى أولئك الذين ينبغي ألا يمسهم من إساءتك إلا أقلها، أعني نفسك، وأصدقائك، ووطنط، ونحن، فسننقم عليك ما دمت حياً، وستستقبك قوانين العالم الأسفل، وهي إخوتنا، عدواً، لأنها ستعلم أنك لم تدخر وسعاً في هدمنا. اصغ إذن إلينا، لا إلى كريتون)
هذا هو الصوت الذي كا، ي به يهمس في مسنعي، كما تفعل نغمات القيثارة في آذان المتصوف. أقول إن هذا هو الصوت الذي يدوي في أذني، فيمنعني من أن أستمع الى أي صوت سواه وإني لأعلم أن كل ما قد تقوله بعد هذا سيذهب أدراج الرياح، ومع هذا، تكلم إن كان لديك ما تقواه
كريتون - ليس لدي ما أقوله يا سقراط
سقراط - ذرني إذن أتبع ما تةحي به إلى إرادة الله
زكي نجيب محمود
انتهى الحوار الثاني، وسننشر الحوار الثالث ابتداء من العدد الآتي.
التصوف الأسلامي بقلم سليمان النابلس
توطئة
يدبأ الدين في أول أمره عقائد راسخة ومناسك ثابتة لاتسامح في أوامره ولا هوادة في نواهيه. ثم لا تلبث - بعد أن يتطاول الزمن وتمر السنون - أن تلين العريكة وتأخذ المياسرة مكان المعاصرة فيدب الشك الى العقائد الموروثة والسنن المرعية؛ إذ ذاك يبحث الانسان عن عقيدة تسوي ما بين نفسه وبين الكون تسوية مقبولة يرتضيها العقل ويقرها المنطق، وعندئذ تنشأ الصوفية(80/33)
والصوفية منحى في الفكر، لا بل في الشعور ويصعب تحديده، يظهر في محاولة العقل الانساني تفهم الطبيعة الروحية لحقيقة الأشياء، ويبرز في بِشر المرء وسروره بنعمة الارتباط الروحي مع الخالق العظيم
معنى لفة صوفي
لقد تباينت الآراء وتضاربت الأهواء في المصدر الذي اشُتقت منه لفظة صوفي، فمن قائل إنها من الأصل اليواني (سوف بمعنى حكمة كما ذكر أبو الريحان البيروني في كتاب الهند، ومن قائل - وهم الصوفيون أنفسهم - من صفا صفاءً. قال أبو الفتح البُستي
تنازع الناس في الصوفي
قدماً وظنوه مشتاً من الصوفِ
ولست أنحل هذا الاسم غير فتىً
صافي فصوفي حتى لُقب الصوفي
وذهب آخرون الى أنها متحدرة من معنى ديني، فينسبونها الى أصحاب (الصفة) وهم قوم من الصحابة كانوا يجلسون على باب المسجد يوزعون الصدقات على الفقراء. على أن الرأي الأكثر شيوعاً والأقرب للعقل والمنطق هو نسبتها الى (صوف) أي الى ظاهر اللباس. فأبو نصر السراج مؤلف كتاب اللمع - وهو أول كتاب ظهر عن الصوفية - يقول: (إن لبسة الصوف دأب الانبياء وشعار الأولياء، فلما اضفتهم الى ظاهر اللبسة كان ذل اسماً مجملاً عاماً. . . .)
وقد أيد العلامة (نوالدكه) هذه النظرية وشاركه في الرأي العالم الانجليزي الشهير (برون وان مما استدل به على ذلك الكلمة الفارسية (باشمينابوش) التي يسمون بها عادة، ومعناها اللفظي (لا بسو الصوف) وجبب الصوف كانت منذ القدم علامة الحياة البسيطة الساذجة
منشأ التصوف الاسلامي
يرجع بنا البحث عن منشأ التصوف الاسلامي الى الحركة الزهدية التي قامت في القرن الأول للهجرة تحت التأثير النفسي العميق المتكشف عن خوف من الله تعالى يوجب التسليم لأرادته سبحانه والانقياد لمشيئته. وعلى هذا يجمل بنا أن نبحث التصوف في طورين مختلفين(80/34)
1 - طور الزهد: لم يكن لتصوف في هذا الطور نظاماً فلسفياً ولا مسلكاً دينياً وإنما هو طريقة في الحياة والمعيشة خاصة، تمتاز بالزهد في الملذات والابتعاد عن الدنيا حباً في الآخرة، فهو إذن إسلامي خالص لا أثر للعوامل الخارجية والعناصر الأجنبية فيه من نصرانية ويهودية وهندية وفارسية. ول ما هنالك أنه ظهر في صدرالعصر الأموي جماعة من المسلمين رغبوا عن هذه الحياة الاجتماعية الملأى بألوان اللهو والتهتك والخلاعة، وتطلعوا إلى حياة هادئة وفورة مرضية لضمائرهم التي تتشوق إلى الابتعاد عن صغائر الحياة وسخافاتها مطابقة لعقائدهم التي ما زالت شديدة التمسك بالحياة الاسلامية الخالصة من بساطة وسذاجة. زد على ذلك أن الحياة السياسية كانت قلقة مضطربة، فالفتنة قائمة بين الفرق والشيع، والمعارك مستعمرة بين مختلف القادة والأمراء، كل ينشد جاه الحكم ومجد السلطان غير ملتفت إلى ما يجره ذلك من هدر دماء المسلمين وتشتيت كلمتهم ورجوعهم إلى جاهليتهم الأولى. كل هذه العوامل غدت الحركة الزهدية وبعثت في قلوب بعض المؤمنين الميل عن المادة والانصراف إلى العمل الصالح في نفسه وتذكير الناس بأمور دينهم وعقائدهم. ويأتي (نكلسون) العالم الانجليزي الضليع في هذه الأبحاث فيضيف إلى هذه العوامل عاملاً آخر لا يقل عنها قوة وأثراً، ذلك أن الصورة التي يبرزها القرآن الكريم (للخق) عز وجل هي في نفسها تدعو إلى الخوف والرهبة، فهي صورة إآله جبار شديد البطش سريع العذاب. فالشعور بالخوف من جهنم الذي يكتنف قاريء القرآن يدعو حتماً إلى التصوف والزهد واحتقار لمادة والابتعاد عن سبل الضلال
ومن أهم الشخصيات الممتازة في هذا الدور الحسن البصري الذي عُرف بالزهد والورع والرجوع إلى السنة في بساة العيش وسمو الغاية. ومنهم أبو هاشم الكوفي الذي يقال إنه أول من أطلق عليه لقب (الصوفي) وأسس ديراً للمتصوفين في رملة فلسطين. ثم ظهر ثلاثة نفر فيما وراء النهر في فارس في أواخر القرن الثاني الهجري وهم: ابراهيم بن أدهم وشفيق البلخي وفضيل بن عياض، فنرى عندهم بدء نظام فلسفي، فهم يمثلون دور الانتقال من حياة الزهد إلى نظام التصوف الفلسفي، ولعلهم كانوا عاملين على الامتزاج بالتعاليم الهندية الفارسية لقرب موطنهم من هذه البلاد التي كانت تتفاعل فيها هذه المباديء المختلفة. ويظهر ذلك بجلاء عند الزعيمة المتصوفة رابعة العدوية التي كانت كما يقول(80/35)
نكلسون أول من أدخل نظام الحب الفلسفي والوجد والاتحاد بالله بدل الخوف والرهبة
2 - اطور الثاني: التصوف الفلسفي
لقد أخذ التصوف في هذا الطور شكلاً فلسفياً ونظاماً مستقراً في الدين يميل العلماء إلى نسبته إلى عوامل خارجية من نظريات فلسفية وأديان أخرى. فمن ذلك:
أ - المصدر الهندي: يعتقد بعضهم أن لهذا التشابه بين كثير من العقائد الصوفية في صورها الراقية الناضجة وبين بعض النظم الهندية وعلى الأخص الـ أساساً واحداً ونبعاً مشتركاً يجب أن يبحث عنه في الهند، فان معظم المتصوفة الاول نشأوا في خراسان وظهرت فلسفتهم الصوفية فيها؛ ولعل مبدأ الفناء الذي يندمج فيه المتصوف بالله ويفقد شخصيته الفردية، مستمد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عقيدة (النارفانا الموجودة في الديانة الهندية
ب - المصدر النصراني: يعتقد المتصوفة أن غاية كل الأديان واحدة، وأنها كلها تصل بالأنسان الى الهدف المقصود والغاية المرجوة، فليس إذن أن يحتك المتصوفون بالرهبان السيحيين، ويمزجوا بهم فيظهر أثر ذلك في تعاليمهم وأنظمتهم، خصوصاً وقد ظهرت هذه النزعة التنسكية الزهدية في الكنيسة المسيحية في القرنين الأول والثاني للهجرة
ج - الافلاطونية الجديدة: ظهر هذا النظام الفلسفي في أوائل القرن الثالث المسيحي على يد (أمونياي ساكاس) وبلغ أوجه في زمن تلميذيه بلاتينيوس وفرفوريوس النحوي شارح تعاليمه. وإذا ما دققنا في تعاليم هذا المذهب الأدبية رأيناها تؤدي حتماً الى التصوف، إذ يعلم أن طريق الخلاص هو بالتجرد التام عن المادة، وأنفصال النفس عنها؛ بذلك يتصل الانسان (بالعقل الأول) اللفظ الفلسفي للحق سبحانه، وينال الغبطة التي يعبر عنها المتصوفون بالفناء. لقد انتشرت هذه التعاليم الفلسفية في العالم الاسلامي، وكان أثرها في الفلاسفة المسلمين واضحاً جلياً
د - فلسفة المعرفة جماعة هذا النظام الفلسفي الذي نشأ بين القرنين الأول والسادس للمسيح يعتقدون أن الايمان وحده لا يكفي للخلاص، بل إن المعرفة هي متممة. ويعنون بهذا أن يعرف المرء أنه من عنصر إآلهي، وأنه لابد أن يرجع في نهايته إلى هذا العنصر الذي نشأ منه، حينذاك وعندما ينغمس في هذا الاعتقاد تخلص نفسه من شوائب المادة(80/36)
ويقرب من الله. وقد انتشر هذا المذهب في العراق وفارس وتأثر بالمانوية وأثر فيها فأخذت منه عقيدة الظلمة والنور. أما إنه أثر في العقائد الصوفية فانا نلمس هذا في القول بأن الانسان يُخلق إلهياً، وكلا تقدم في العمر خلع حجاباً إلهياً واستبدا به آخر إنسانياً إلى أن يمر بسبعين ألف حجاب في أرذل العمر. ولا نجاة له إلا باتباع التعاليم الصوفية والانصراف عن المادة إلى الروح، بذلك يسلك طريق النجاة
هذه أهم المؤثرات الخارجية التي عملت على تغذية العقيدة التصوفية الاسلامية وخلقت منها طريقاً فلسفيً خاصاً. وليس من المستطاع رد كل من العقائد التصوفية الفردية الى أصلها الذي استُمدت منه، فعقيدة في مثل هذا الانتشار العظيم ذات مباديء كثيرة ونظم واسعة لايمكن أن تقع تحت تأثير عامل واحد مهما حل شأنه واتفقت الظروف على تقدمته والميل اليه.
كانت الصوفية دائماً مخيرة تنتقى من كل العقائد ما تستهي وتشاء. نظام شامل يمتص ويهضم - بعد بعض تغيير وتحوير - من كافة الآراء والمعتقدات المختلفة حوله، يكتسب أناساً من كافة الملل والنحل من موحدين ومشركين، معتزلة وسنيين، فلاسفة ورجال دين. هذه الاعتبارات كلها تضعنا في موقف دقيق يضطرنا الى القول بأن منشأ الصوفية الاسلامية الفلسفية لايمكن أن يجاب عنه بجواب شاف مريح
(يتبع) سليمان فارس النابلسي
في تاريخ الأدب المصري
ابن النبيه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أفديه إن حفظ الهوى، أوضيعا ... ملك الفؤاد؛ فما عسى أن أصنعا
من لم يذق ظُلم الحبيب كظلمه ... حلواً فقد جهل المحبة وداعى
يأيها الوجه الجميل تدارك الصبر ... الجميل، فقدعفا، وتضعضعا
هل في فؤادك وحمة لميتم ... ضمت جوانحه فؤاداً مًوجعاً
هل من سبيل أن أبث صبابتي ... أوأشتكي بلواي، أو أتوجعا(80/37)
إني لا ستحيي كما عودتني ... بسوى رضاك إليك أن أتشفعا
أغنية شائعة، نستمع إليها، ونطرب لها، ونحفظها، وقليل من هو الذي يعرف أن قائلها أبن النبيه الشاعر المصري الذي أحببنا أن نحدثك عنه اليوم
- 1 -
يذر التاريخ ولاينسى لصلاح الدين وخلفاء صلاح الدين أنهم
هم الذين حموا ذمار الشرف من غارة الأوربيين الذين كانوا
يمنون النفس بالآمال الكاذبة في الشرق وامتلاك أرضه، فكان
العصر عصر حرب وقتال ونضال ونزال بين الشرق
والغرب، خرج منه الشرق ظافراً منتصراً على أيدي ملوك
مصر وخلفائهم. ولقد ولد شاعرنا على ما يظهر قبل أن يلي
صلاح الدين حكم مصر بقليل، ولنه نشأ لم يعش بمصر طوال
حياته، بل تركها إلى أقطار أخرى كانت كذلك تحت حكم
الأيوبيين؛ غير أنه على ما يظهر لي - لم يغادر الديار
المصرية مرة واحدة، بل كان يزورها في الحين بعد الحين،
واستطاع أن يتصل فيها بطائفة من وزراء الدولة وكبار
رجالها القاضي الفاضل، وأسعد بن مماتس، وصفي بن شكر.
والراجح عندي أنه لم يغادر مصر إلا بعد أن مات صلاح
الدين، فانه حينما خرج من مصر مدح العادل، والعادل لم بل
حكم الجزيرة إلا بعد أن مات صلاح الدين، ولذلك فابن النبيه(80/38)
مدين لمصر بتنشئته وثقافته، ومدين لها بالرقة والعذوبة التي
تتجلى في شعره، وتأسرك إلى قراءته قسراً، غير أن نفسه
الطموح الراغبة في العظمة والمجد بدأت تتطلع إلى نيل
مركز سام ومنصب رفيع، ورأى أن في مصر من العظماء
من لا يستطيع قهرهم ولا منافستهم، فحث الخطا إلى الجزيرة
حيث يستطيع أن يجد له ميداناً للعمل والتقدم، فاتصل بالملك
العادل، ومن بعده اتصل بابنه الملك الأشرف الذي كان يلقب
بشاه أرمن لاستيلائه على بلاد الأرمن، وقد اختص بهذا
الاخير، حتى إنك إذا قلبت ديوانه وجدت معظمه في مدحه
والثناء عليه، وحتى لتوهمك مقدمته أنه إنما جمع قصداً لكي
يجمع ما قاله في الملك الأشرف من مدائح، ولقد أصبح أثيراً
لديه يستصحبه في رحلاته وتنقلاته، وأصبح ابن النبيه اللسان
المسجل لما يلقاه المليك من خير أو نصر أو حداث هام؛ ,
صار كاتب الانشاء له، يدبج عنه الرسائل، وأحياناً كان يكتبها
بالشعر كما سنتحدث بعد. ويقول من أرخ لأبن النبيه: إن له
شعراً أعذب من الماء الزلال، وأغرب من السحر الحلال،
ونثراً ألطف من كاسات الشمول، وأدق من نسمات الشمال،(80/39)
فالنظم والنثر عنده جنتان عن يمين وشمال. . . غير أننا
سنقصر كلامنا اليوم على شعره، وإن كنت أرجح أن المقدمة
التي في صدر ديوانه، وهي مقدمة نثرية من صنع ابن النبيه
فان منها قوله: وأحق الناس بعد الله تعالى بالشكر ملك أشار
اليه بنان البيان، وأينع بذكره جنان الجنان، وقلد بذكره
القريض فزان الأوزان، عف وعفا، وكف وكفى، وأحيا رفات
الوفا، فزمان دولته غض الغضارة، نض النضارة، حلو
البشارة، بديع الاشارةن المولى السلطان الملك الأشرف شاه
أرمن، سلطان العراق والشام، مظفر الدين ناصر أمير
المؤمنين، أبو الفتح موسى اين السلطان الملك العادل سيف
الدنيا والدين، أبي بكر بن أيوب خليل أمير المؤمنين، خلد الله
ملكه كما خلد في ديوان المحامد ذكره، وخذل بسلطانه أعداء
الدين، وأعز نصره، ولما لم يجد مملوك دولته، وغرس
فواضله، وربيب نعمته، الفقير إلى الله تعالى أبو الحسن كمال
الدين علي بن محمد بن النبيه ما يكافيء به أياديه، ويجاري به
إحسانه الذي يخجل الغيث روائحه وغواديه، توفر على
استخراج جواهر صفاته من بحر كرمه، ونظم فوائد فوائده(80/40)
فكافأ نعمه بنعمه، وجمعها في هذا الكتاب معترفاً أن الشرف
للجوهر لا للناظم، وأن الفضل للبحر الذي أرسل اليث على
أجنحة الغمائم، وجعله عرضة لنقد الخواطر، وميداناً لجولان
قريحة كل متأمل وناظر، وسبيل كل منصف ينظر فيه الايمان
بآيات سحره المبين، إقالة العشار فيما لعله يعرض من الخطل
الورد على المؤلفين والمصنفين، وليعفوا وليصفحوا، ألا
تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم. فاذا أنت قرأت تلك
المقدمة من قلم ابن النبيه، واستنبطت منها أموراً أربعة: أولها
أن القصد من جمع الديوان تسجيل ما قاله في الملك الأشرف،
ولذلك رتب الشعر، فبدأ أولاً بما قاله في الملك العادل والد
الأشرف، ثم ثلث بما قاله في الملك الأشرف، وهو معظم ما
قاله من الشعر، ث ذكر ما قاله في غيره من أمراء الأيوبيين
والوزراء. ثانيها أن الشعر الذي في ديوان ابن النبيه شعر
يقره ويرضاه ويعده سحراً ويفخر بنسبته إليه، ومن أجل ذلك
ترى من أرخ له يقول: إن هذا الشعر الذي بين أيدينا ليس
بكل شعره وإنما هو اختيار منه، مستدلين على ذلك بأنه شعر
بارع جيد يدل على أن صاحبه قد مرن على قول الشعر طويلاً(80/41)
حتى انقاد له، وأصبح ذلولاً، فحذف منه ما لا يرضي وأبقى
منه هذا الديوان الصغير، الذي اشتمل على جيد شعره (وإلا
فما هذا شعر من لا نظم إلا هذا الديوان الصغير) كما قال
صاحب فوات الوفيات، على أنه على ما يظهر لم يجمع ديوانه
كله، إذ أنك ترى في آخر ديوانه بعض شعر وقصائد ألحقها
به جامع الديوان بعد ابن النبيه. ثالثها أن شعر المدح يجب أن
ينبعث عن عاطفة حية هي عاظفة الشكران وحفظ الجميل،
وهو يرى أن المدح لذلك واجب لأنه شكر للنعم على ما أنعم،
وشكر المنعم أول الواجبات قال. . . إن شكر كل منعم
واجب، وقام على ذلك دليل انعقد عليه إجماع أئمة المذاهب،
وذل يدلنا على أنه حقاً من ممدوحه حس الصنيع وأيادي جمة
استحق من أجلها أن يشكر وأن يثنى عليه. رابعهما أن تلك
المقدمة تعتبر نموذجاً لنثره، وهي لذلك تستطيع أن تعطينا
صورة عن هذا النثر الذي دبجته براعة ابن النبيه، فهو نثر
صناعي يلتزم فيه السجع، ويكون لصناعة المحل الأول في
إنشائه، شأنه في ذلك شأن كتاب النثر في ذلك العصر الذي
حمل لواء الزعامة فيه القاضي الفاضل ون نهج منهجه، فلا(80/42)
جرم كان نثره صناعياً خاضعاً لأحكام البديع وقوانيينه، هذا
وإن شعره ونثره وتوليه أعمال الانشاء للملك الأشرف تدلنا
على نوع الثقافة التي تلقاه حتى هيأته لتولى ديوان الانشاء
فهو علوم الدين واللغة العربية تل العلوم التي كان لزاماً أن
يأخذ منها بحظ وافر يساعده على تولي هذا المنصب، ولقد
تلقى هذه الثقافة بمصر، إذ أننا قد رجحنا أنه لم يغادر وادي
النيل إلا بعد موت صلاح الدين، فيكون قد شب وترعرع في
أرض مصر، والثقافة المصرية كانت زعيمة الثقافات، كما
كان ملوكها زعماء الملوك
- 2 -
لأبن النبيه مذهب في الحباة يشبه مذهب غيره من شعراء مصر أو على الأقل شعراء مصرر الذين درسنا أقوالهم، ذلك المذهب الذي ينظر إلى الحياة نظرة من يريد التمتع بما فيها من خير وجمال، لا يصدف عنه، ولا ينأى بجانبه عن حسنه وما كمن فيه من أسباب السرور والمتعة، فهو يوقن أن الدنيا متقلبة، فهي جيناً ضاحكة، وأحياناً عابسة، فما له يعكر على نفسه صفوها حينما تكون صافية، وما لا ينتهز الفرص وينال اللذة؟
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره
واجسر على فرض اللذات محتقراً ... عظيم ذنبك، إن الله غافره
وكان لهذا المذهب آثاره الكبرى في حياته العملية، فهو يحب الخمر ويطرب لشربها، ويترع الكأس ويروي بها ظمأ نفسه، وهو يهفو الى السقاة يتغزل فيهم، ويصف محاسنهم، وقد كان السقاة يُختارون من أجمل الفتيان وأصحبهم؛ بل إنه يهفو الى كل وجه جميل، ولو(80/43)
كان وجه جندي من الكماة، وهو يحن الى مجالس الأنس يسعى إليها ويدعو صحبه ليشاركوه لذته، وهو يأنس الى الطبيعة يحب جمالها، ويغرم بمفتنها فيصفها، وهو يجد لذة في الخروج الى الصيد يخرج الى اللاة مع رفقة حسان الوجوه، ثم يعود بما وقع في يده من صيد، وذك كله نتيجة لهذا المذهب الذي اختطه لنفسه، وكان شعره صورة حية له، فأنت تسمعه يصف الخمر ويقول:
تأمل كؤس عتيق الرح ... ق ترى الماء يجمد والخمر ذائب
لما في الزجاجة رقصالشب ... اب ومفرقها أشمط اللون شائب
وترعد غيظاً إذا أبرزت ... من لدن كالمحصنات الكواعب
كأن الحباب على رأسها ... جواهر قد كللت في عصائب
لحمرتها صح عند المجو ... س أن السجود الى النار واجب
وسصف موطن نال فيه السرور من الخمر والساقي ويقول:
رق الزجاج وراق كأس مدامنا ... ورضاب ساقينا الأغن الأهيف
فمزجت ذاك بهذه وشربتها ... ولثمته، وضممته يتلطف
وجنيت من وجناته لما استحى ... وردا بغير رضا بنا لم يقطف
ورنا الى بطرفه فكأنما ... أهدي السقام لمدنف من مدنف
بتنا وقد لف العنق جسومنا ... في بردتين: تكرم وتعفف
ويقول مرة أخرى متغزلاً بالساقي وكأن من الأتراك:
ساق أن جبينه في شعره ... قمر تبلج في الليالي السود
غصن تزنح خصره في ردفه ... فعجبت لمعدوم في الموجود
إياك والأتراك إن لبعضهم ... أشخاص غزلان وفعل أسود
أجسامهم كالماء أنها ... حملت قلوباً من صفا الجلمود
وتسمع منه غير ذلك كثيراً في وصف الخمر وسقاتها والتغزل فيهم؛ ولعل بعضهم لامه على شرب الخمر أو على الاثار من شربها فقال له:
الراح روحي، فكيف أهجرها ... منظرها طيب ومخبرها
راح إذا ما الفقير صافحها ... إغناه ياقوتها وجوهرها(80/44)
فاذا ذهبت تستمع الى حبه للطبيعة وغرامه بها سمعته يقول:
قس بالسماء الأرض تعلم أنها ... بكواكب الأزهار أحسن زخرف
أحداق نرجسها لحد شقيقها ... مبهونة بجماله لم تطرف
والطل في زهر الاقاح كأنه ... ظًلْك ترقرق في ثنايا مرشف
وهو إحساس طيب وشعور حميد يوجه نظرك إلى أن في الأرض جمالاً قد تزيد قيمته عما في السماء من نجوم وكواكب، فليقبل على الزهوز يتمتع بمرآها، ويستلذ بشميم رياها وينعم بجمالها - كا كان له - كما حدثتك - لذة خاصة في الصيد حينما يخرج مع جماعة (حسان الوجو) فيصطادون ويتمتعون وهو يصف لك ذلك في قوله:
برزنا الى الهو في حلبة ... حسان الوجوه خفاف المراب
بنادقهم في عيون القسي ... كأحداقهم في قسي الحواجب
فتلك لها طائر في السما ... وهذي لها طائر القلب واجب
وحلت سوابق شهب خو ... طفُ حجْن المناسرُ المخالب
بزاة لها حدق الأفعوا ... ن وأظفارها كحماة العقارب
فللأفق نسران: ذا واقع ... وذا طائر حذر الموت هارب
وألق كلابنا ضارياً ... يباري هبوب الصبا والجنائب
تطير به أربع كالريا ... ح ويفترض عن مرهفات قواضب
ويضرب في ليل جلبايه ... شعاع شهاب من العين ثاقب
وعدنا نجر ذيول السرو ... ر والطير والوحش ملء الحقائب
ألا تراه يصف لك رحلة شقية؟ إذ انه قد خرج مع جماعة حسان الوجوه يقصدون اللهو والتمتع فاختاروا الصيد ملهى لهم فخرجوا يبغونه، ولكنه قبل أن يصف لك ما فعلوه في رحلتهم مضى يحدثك عن جمال رفقته وأن عيونهم كالسهام تصيب القلوب وتدميها، فأحداقهم البنادق هذه هدفها طائر في السماء، وتلك يجب لها طائر القلب ويخفق
ذهبوا الى مكان الصيد فأطلقوا بزاتهم وكلابهم فانطلقت لاتلوى على شيء تصطاد ما عن لها، وبعد أن وصف لك بزاتهم وكلابهم التي كانت عدتهم طمأنك على نتيجة الرحلة وأنها أنتجت نتيجتها فعادوا يجرون ذيول السرور والطير والوحش ملء الحقائب(80/45)
هذا وكان أكبر شيء يسره مجلس أنس يجمع بين روضة فيها مختلف الأزهار والورد حف بها نهر، وهناك بين أصحابه يجلس مغن يطرب السامع ويملك عليه نفسه، ثم تدور المدام في يد ساق جميل فيسكر سكرين من الخمر والجمال الساقي. وقد وصف ذلك المجلس حينما أرسل الى أحد أصحابه يستدعيه إذ قال:
نحن في روضة وزهر ونهر ... ومدام كالشمس من كف بدر
ومغن قد راسلته الشحار ... ير، فأغنت عن جس عود وزمر
أنت روح، ونحن جسم فان غب ... ت فان القلوب تكوى بجمر
إن كفا إليك قد كتبتها ... تتهادى ما بين سكر وشكر
فأنت ترى من كل ما ذكرناه أنه كان يذهب في الحياة مذهب الذين يريدون أن ينالوا منها كل متعة ولذة، يلتمسونها في كل مكان، وترى أن مثله الأعلى في الحياة كان أن يتمتع بها، ولا يضن على نفسه بشيء من مباهجها، وكله ثقة في أن الله سوف يغفر الذنوب جميعاً
(البقية في العدد القادم (احمد أحمد بدوي
6 - بين القاهرة وطوس
نيسابور
للدكتور عبد الوهاب عزام
برحنا سبزوار والساعة ثمان من صباح الخميس ثاني رجب سنة 1353 (11 أكتوبر سنة 1934) فضربنا في السهل صوب الشرق نصف ساعة. ثم ارتقينا جبلاً هبطنا منه الى سهل فسيح، وهذا رأينا إيران ما بين قصر شيرين وطوس، سهولاً تحيط بها جبال، فما يزال المسافر على جبل او في سهل يفضي البصر فيه الى جبل حيثما توجه. هبطنا سهلاً كثير الشجر والزرع، قد انتثرت القرى في أرجاعه، تحيط بها الأشجار الباسقو، ورأينا زروعاً شتى منها البطيخ والقطن. ورأينا لوز القطن قد تفتح، ولما تعدُ الأعوار ذراعاً
وبعد مسيرة وربع من سبزوار، نزلنا بقرية على الطريق اسمها شوراب، فأكلنا من عنبها واستراحنا قليلاً. ثم استأنفنا السير تلقاء نيسابور والقلوب يملؤها الشوق، والفكر يستجمع ما وعى من أحادديث التاريخ عن المدينة العظيمة ذات المياه والقرى والأشجار - المدينة ذائعة الصيت فب العلم والأدب التي نشأت علماء يفتخر بهم المسامون على الأدهار، بلد(80/46)
مسلم بن الحجاج صاحب الصيحي، والحاكم المحدث الكبير، وأبي القاسم القشيري صاحب الرسالة، ومحيي الدين النيسابوري الفقيه، وفريد الدين العطار وعمر الخيام - المدينة التي يقول فيها الخيام
شراب نشابور وآب دبير ... جواني كند كرخورَد مردبير
وترجمته (شراب نيسابور وماؤ ذبير يردان الشيخ الى شبابه)
ويقول الانوري:
حبذا شهر نشابوره درُبشت زمين ... كربهست است همين است وكرنه خودنيست
وترجمته (حبذا مدينة نيسابور! إن يكن على ظهر الأرض جنة فهذه، وإلا فلا جنة)
نيسابور مدنية أزلية، يرى الفرس أن بانيها طهمورث ثالث الملوك البيشداديين، وأن اسكندر الكبير خربها ثم عمرها شابور الملك الساساني فسميت باسمه. وقد عرفها اليونان القدماء وسموها نيسوس. ويقال إنهم باكوس إله الخمر ديونيسوس أي إلة نيسابور
وقد تعاقب عليها البُناة من الساسانيين والعرب والغزنويين والسلاجقة كما توالت عليها النوائب من الزلال والغارات في عصور شتى. أصابها زلزال عظيم سنة نيف وخمسائة من الهجرة وسنة 666 وسنة 801. ودمرها الغُز سنة 548 حين غلبوا السلطان سنجر السلجوقس وأسروه. وهي المصيبة التي نظم فيها الأنوري الشاعر الفارسي قصيدته المعروفة (دموع خراسان) ولكت المدينة على رغم هذه المصائب كانت في معظم العهد الاسلامي قبل التتار عامرة مزدهرة حتى سميث أم البلاد وقبة الاسلام
وقد رووا في عمرانها ونضرتها ما يستبعده العقل. فمن عجائبها الاثنى عشرية أنه كان بها اثنا عشر نهراً تنحدر من الجبال، واثنا عشر مائة مدرسة (أي ألف ومائتان) واثنا عشر مائة قرية، واثنا عشر ألف قناة تجري من اثني عشر ألف ينبوع
قال ياقوت وهو ممن أدركوا غارات التتار:
(وأصابها الغز في سنة 548 بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان، وقدموا نيسابور، وقتلوا كل من وجدوا، واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف، وخربوها وأحرقوها، ثم اختلفوا فهلكوا. . . واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فتقل الناس الى محلة منها يقال لها شاذباخ وعمرها وسودها، وتقلبت بها أحوال(80/47)
حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيراً وأهلاً وأموالاً لأنها دهليز المشرق، ولابد للقوافل من ورودها.) وقال بصفتها قبيل غارة التتار: (وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات) وقال: (لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها)
ثم كانت القارعة التي دمرت حضارة الاسلام - كارثة التتار - فأحرقوا وهدموا، وقتلوا وسبوا وسلبوا، وتركوها خاوية على عروشها، ولم تنسها المصائب من بعدُ، فقد أغار عليها الأزبك وغيرهم في عصور مختلفة
ذكرنا هذه الخطوب ونحن قادمون على نيسابور، ولكن خيال المدينة الكبيرة المزدهرة المزدحمة بمساجدها ومدارسها كان يغلب علينا فنمنى النفس برؤية نيسابور في زينتها وجلالها
وردناها والساعة عشر وثلث فأبصرنا إلى يسار الجادة قرية هي بقية الأحداث من نيسابور، كما يبقى من الجنة الناضرة عود يابس، أو من الرجل العظيم قبر دارس
ماتت المدينة فلم يبق إلا أن نزور قبرها فيما بقي من قبور أبنائها، فها نحن أولاء نسرع المسير إلى قبر عمر الخيام. وقفت بنا السيارات بعد قليل على حديقة بعيدة من البلد فدخلنا بستاناً كبيراً تتوسطه طريق واسعة، فهبطنا درجات إلى مستوى سرنا به خطوات، وهبطنا إلى مستوى آخر، وبجانبنا قناة تنحدر إلى المستوى الأسفل فتفضي إلى حوض في وسط الطريق. وتنتهي الطريق إلى مسجد صغير جميل نقشت على بابه آيات من القرآن، واسم الشاه طهماسب الصفوي الذي بناه. وفي المسجد ضريح لأحد أبناء الأئمة من آل البيت النبوي رضي الله عنهم، واسمه محمد المحروق وينتهي نسبه إلى زين العابدين علي بن الحسين
وإلى يمين المسجد مصطبة لها درجات قليلة ولها سياج من الرخام وفي وسطها عمود كتب على أوجهه أبيات من الشعر. فهذا قبر عمر الخيام. وقد سمعت ممن زاروا القبر قبلاً أنه كان في طاق في جدار المسجد (وفي جدار المسجد على جانبي الباب طاقان) ثم نقل إلى هذا الموضع
لم يعجبنا قبر الخيام، فقلت لوزير المعارف، كان ينبغي أن تكون بجانب القبر أشجار تتهدل أغصانها عليه، وتنثر الأزهار فوقه كما وصف الخيام قبره قبل موته، وكما رآه نظامي(80/48)
العروض بعد موت الخيام فوجوده مصدقاً لما قال. قال نعم. لابد أن يكون كما وصفت
كتب على صفحة من العمود: (الحكيم عمر الخيام - وفاة الحكيم سنة 517 هجرية -) وفوق ذلك رباعية من نظم ملك الشعراء بهار ترجمتها: اجلس إلى قبر الخيام واقض الوطر، واتبغ فراغ ساعة من غم الأيام. إن تسأل عن تاريخ بناؤ مرقده فهو (أطلب سر القلب والدين من قبر الخيام) (رازدل ودين وقبر خيام طلب)
وعلى الصفحة الثانية رباعيتان ترجمتها:
عاد السحب يبكي على العشب الأخضر، فلا ينبغي العيش
بغير الخمر الحمراء. هذا المرج مسراح أبصارنا اليوم فليت
شعري من يسرح بصره غداً في أعشاب قبورنا؟
نحن لُعَب، والفلك بنا لاعب، حقيقة هذه لا مجاز فيها، كنا لاعبين على نطع هذا الوجود، فعدنا إلى صندوق العدم واحداً بعد آهر
وعلى الصفحة الثالثة رباعيتان:
ظهر بحر الوجود من الخفار، وما استطاع أحد أن يثقب جوهرة الحقيقة هذه، كل تكلم بما يهوي، وما قدر احد أن يبين عن الحقيقة
ليس عندنا يقين ولا حقيقة، ولا يستطاع تزجية العمر كله في رجاء هذا الشك، هلم نأخذ اقداح الصهباء بأيدينا لا نضعها، ما فرق الصاحي والسكران في عذه الجهالة؟
وعلى الصفحة الرابعة رباعيتان:
أولئك الذين كانوا بحار الفضل والآداب، وصاروا في كمالهم مصابيح الأصحاب، لم يجدوا للخروج من هذا الليل المظلم طريقاً، فحدثوا بالأساطير ثم أخذهم النوم
إن هذا الدوران الذي يتجلى فيه مجيئنا وذهابنا، لا تستبين له بداية ولا نهاية، ولايستطيع أحد أن يخبر صادقاً من أين جئنا وإلى أين نذهب)
ووراء قبر الخيام مزهرة جميلة كتب على أرضها بألوان النبات: (حكيم عمر خيام)، ورأينا بجانب القبر خابية، كأن واضعيها رأوا مناسبة بينها وبين قبر الشاعر الذي كان مستهتراً بالخمر. وقرأت على هذه الخابية أنها موقوفة على مسجد إمام زاده محمد المحروق. فقلت(80/49)
قد وضعت في غير موضعها، وقُرنت بما هي منه براء
وقد مُدَّ وراء قبر الخيام رواق كبير وضعت فيه كراسي للجلوس ومدت فيه موائد الطعام
استراح الوافدون قليلاً واجتسوا ما شاءوا من أصناف الشراب ثم وقفوا يشربون على ذكر الخيام، قلت بئس ما ذكرتم صاحبكم! وانتبذت أنا وزميلي الأستاذ العبادي جانباً وتركنا القوم وخيامهم. وقلت لبعض رفقائنا الايرانيين أين قبر العطار؟ فلابد لقادم نيسابور أن يزوره، فيسر لنا المسير اليه فذهبت أنا وبعض الحاضرين إلى قبر العطار. سارت بنا السيارات في طريق غير معبدة فانتهينا إلى حديقة ذابلة الشجر والزهر، وفي وسطها بنية ثمانية عليها قبة، ولجنا الباب خاشعين إلى قبر عال عليه كسوة خضراء، وإلى رأسه عمود أسود أطول من القامة قليلاً عليه آية الكرسي وأبيات في مدح الشيخ فريد الدين العطار.
لبثنا برهة في حضرة شيخ الصوفية الجليل، والشاعر المفلق المكثر الذي نظم زهاء ثلاثين منظومة فيها أكثر من ألف ألف بيت - ناظم منطق الطير، وإلهي نامه، وأسرار نامه، وجوهر الذات الخ ومؤلف خاشع، والذكرى الجليلة آخذة على النفس آفاقها وهنا لطيفة لا يسعنب إهمالها
بينما أرخج من باب حديقة العطار أحسست بوخزة في كفي فظننت زنباراً لسعني، فأخبرت رفيقي الشاعر الشاب النابغة رسيد الياسمي فضحك وقال: قبلت الزيارة. قلت: لاغرو أن تكون وخزة من العطار ينبهني بها من الغفلة. ألم يقل معاصرو العطار: (إن شعره سوط السالكين)؟ قال بلى. ثم ارتجل بيتاً فارسياً
نيس عطار است اين، زنبور نيست
ر تحمل ميكني زو دور نيست
(خذه حمة العطار لا حمة الزنبار، فان تحملت فهو أهل لذلك)
فاجبته على الفور:
لسع الزنبار كفي عادياً ... ودواءً كان شعر الياسمي
ولما قدمنا مشهداً جاء الى شاعرنا النابغة وقد نظم أبياتاً كثير في هذه الواقعة أترجمها نثراً فيما يلي معتذراً اليه من هذه الترجمة المرتجلة التي لا تفي بشعره السلس، ومعتذراً الى القراء عم فيها من مدح:(80/50)
جاء عزام من أرض مصر لمختارة الى نيسابور من أرض
إيران، فأراد أن يقبل تربة العطار إذ ملأت محبته روحه،
وذهب بدءاً الى مرقد الخيام فرأى مكاناً ناضراً زاهراً، وسمع
صيحات الطرب، ورنات الكؤوس من كل جانب، ورأى
القلوب تفور بناز الصهبا. قال عزتم: أيها القلب دع بساط
الشراب والسرور، واعجل الى العطار ذلك الشيخ الوقور،
فسلك الصحراء رجل الطريق هذا حتى رأى قبراً عليه حجر
أسود، فلثم سدة العطار وطاف في هذه البقعة المباركة. ثم
صاح بغته وقال مضطرباً قد أصاب كفي زنبار. قال له
الياسمب: يا عالم مصر! بل يا أيها الدر المتلألئ في بحر
مصر!
(هذه حمة العطار لالسعة الزنبار، فان تتحمل فهو لذلك أهل)
حمة العطار توقظك حتى لا تخلو لذة من ألم إن تبتغ الحبيب فلابد من السعي الجاهد، وإن ترد اللذة (نوش) فلابد من الحمة (نيش). إن تكن ذقت حلاوة الخيام، فوخزة العطار خير يا عزام
من يجزك يوقظك من الغفلة، ومن ينعمك يدعك في غمرة. وخزة اليقظة تبعدك من الضلال، واللهو ينأي بك عم السداد، وانبعثت حينئذ من هذا الجدث صيحة بينة مفصحة وعتها أرواحنا:
(يا من اختلط وجوده بالعدمن وامتزجت لذته بالألم!
إذا لم يتداولك الهبوط والصعود، فكيف تعرف نفسك في هذا الوجود)(80/51)
وجعنا من العطار الى الخيام فذكرت في الطريق قول حافظ الشيرازي. . . .
(يتبع) عبد الوهاب عزام
البعث
بقلم فريد عين شوكه
إلى مهد الرسالة في عامها الثالث
تحية عيد الوكن وعيد الميلاد
سَلاَماً فِتْةَ الوطنِ المفَدى ... وأَشْبال الفراعِنَةِ القُدامي
دَعَتْ مصرُ العزيرةُ فالتففتمْ ... جُنوداً حَوْلَ رايتها قِياما
وأشعَلتُم بها رُوحاً فَتياً ... يُكشفُ عن جَوَانبها الظلاما
وكان بقلبها جرح تَنزى ... وأرهق جسمها المُضْي سقاما
فَمسته أناُلكم فأغْفى ... وكاد اليومً يلتئمُ الْتِئاما
ألستمْ خَيرَ مَنْ يحنُو عليها ... إذا ما الروع لج بها احتداما؟
شَبابَ النيل مصرُ إليك تشكو ... بَنِينَ تفننوُا فيها اجْنِرَاما
فكانوا الجُند للباغي عليها ... وفي أيدي الدخيل بها حُساما
يُمزق شَملها بدَداً ويُوهي ... حَنايَا جسمها الواهي كُلاَما
وكم في مِصْرَ من أبناءِ سُوءٍ ... أضاعُوها وما حَفَروا الذماما
فكالُوها عَذَاباً واضطهادا ... وسامُوها سِباَباً واتهاما
وعاثُوا في نواحيها فساداً ... احبتْ دونه الموتَ الزواما
وعَبوا كل موردها اخْتِلاساً ... وما عَرَفَتْ نفوسُهمُ احتشاما
أولئك شرُّ من وَلَدَتْه مصرٌ ... فجازاها عُقُوقاً وانتقاما
أولئك داؤهِا يَفْرِى حَشَاها ... وَيُرْهق صدْرَها نُوَباً جِساَما
مُصاَبُ النيلِ أبناءٌ رَعاهم ... ليغْدُوا في كِنَنَتِه سِهاما
فكانو مِعْوَلَ العاَدِي عليه ... وباتوا فيه حرباً لا سلاما
سليل النيل وَيْحَكَ كيف تَغْفوٌ ... وَقَدْ نَخَر الفساَدُ بك العظاما
أترضي أن تَذَل بأرضِ مصرٍ ... ويصبحَ عُودُك النادي حطاما(80/52)
ونيلُ ما أحَن تَرَاه مهداً ... وأشهىَ عذْبَ مورده مُداما
وأرضُك جَنةٌ شفتْ سماءً ... وطابَتْ مَمبتاً وزَكتْ مُقاما
تُدرُّ على الأجانب ما أرادوا ... وتلقى أنتَ صبيها جَهاما
وكم من أَجْنَي جاء يسعى ... إليها ليس يمتلك الرغاما
فينهل ورْدّها العذب المُصفى ... وَيلتهم الغني فيها التْهاَما
ويعتقد الضياع بها وَيُثرى ... ثراء تحت أعْينه تَرالا
ويحسدُه البنون وقد تناسوْا ... متى أَثْرَى وَكيف بها تَساَمَى
لقد أفنى الحياةَ بها جهاداً ... وَهم عَبَروا حياتهُم نياما
وَكم ضاقت مواردها ولًما ... يَصيقُوا بالكفاف لهم طعاما
وَلو حرِمَتء نفوسثهُمُ جًناًها ... لعاشوا رغم وَفرته صياما
فيالضَرَاعةِ الابناءِ حتى ... رَضُوا بالعيش ذُلاً واهتضاما
وَيالهَوَانهمْ حتى استرحوا ... إلى أن يصبحوا فيها طَغَاما
صَحَوْنا أيها الوًكنُ المُفدى ... وققمنا نًسًترد لكَ السناما
وجَمعنا هًوَاك على صَفاءٍ ... فقد ضقنا بواديك انْقِساما
سَنَدْفعث عن حماكَ فلا يُغشى ... ونًرْعًى عذْبَ وِرِدْكَ أَنْ يُساما
فلا يلقي الغريب له كِفاَفاً ... وَلاَ يًرْوِي بودينا أُوَاماَ
في مصر شباب!
على أثر ما قام به السباب طيلة أيام العيد من جهاد في سبيل الاقتصاد
بقلم محمود غنيم
آمنت أن في الحمى شباباً ... أغرّض جبارَ القُوَيْ وثابا
ينتزع الثناء والإ عجابا ... ويُسمعُ الصم إذا أهابا
شاهدتهُ وقد مشى أسرابا ... يفتل لصناعة الأسباب
مرتدياً من طُهره جلبابا ... متضياً من عزمه قرضابا
تخاله إذا مشى شهابا ... كأن تل الأيدي الرطابا
تقدم الصهباء والأكوابا ... إذ بُسطت تسألُ الا كتتابا(80/53)
مَنْ ناطحت أهرامهُ السحابا ... لم يعْيه أن يصتع لثقابا
أو يسبح الصوف له ثيابا ... ولا تبتنوا القصور والقبابا
بل ابتنوا المصنعَ والدولابا ... ينفثُ من دخانه ضبابا
يُمطر مصرَ ذهباً لبابا ... ترى الأكف فحمه خضابا
إنْ تفتحوه تفتحوا أبوابا ... ينصب منها الرغد انصبابا
مَنْ بَيْن مصنعاً بني محرابا ... ومن يسدْ بغير مال خابا
أَرَ شعباً بلغ الآرابا ... وماله ل يبلغ النصابا
أوطاننا عشنا بها أغرابا ... ضيوفها باتوا لها أربابا
جاسوا خلال أرضها ذئابا ... واحتكروا الطعام والشرابا
فامتلوا بذلك الرقابا ... هم في الهواء زاحموا العٌقابا
وفي العٌياب ملؤا العبابا ... يذود عن حياضه احتسابا
لا ينبغي أجراً ولا ثوابا ... وغيره يقتسم الأسلابا
ويُحز الأموال والألقابا
شبابَ مصرَ حسبُك انتسابا ... إِن سَ الجدودَ واذكر الأعقابا
لا نَسْمُ ميراثاً بل اكتسابا ... واغتصب المعالي اغتصابا
والحرُّ يدرك المنى غِلابا ... لايُمنح الحر ولا يُحابى
كن كالذئاب شرة ونابا ... فانما الحياة أن تُهابا
لا أن تجيد الخط والحسابا ... وتحذقَ العلومَ والأدابا
أضفْ إلى تاريخ مصرَ باب ... يُحدث في صفحته انقلابا
أكلما سألته أجابا ... كانوا رءُوساً فَغدَوْوا أذنابا
ثورةُ العقل
للشاعر التونسي محمد الحليوي جابا=كانوكااك
قلتُ للقلب حَلِّ عنك الأماني ... وأرحني فقد هدمت كياني
ما ضلالُ الخلود. . . ما باطلُ المجد ... وما الصيتُ ماليء الآذان؟
أترى هذه الأكاذيبَحقاً ... اتراها جديرةً بالثواني(80/54)
أيها القلب ثثبْ إلى الرشد وانظر ... نظرة العَقْلِ في لباب المعاني
إنما الخلدُ والخلود خَيَالٌ ... وخَبَالٌ في فطرة الانسان
ذاك يا قلبي المريض عزاءٌ ... يَهَبُ النفس راحة السلوان
قَدْ تَرَاَءت لك الحياة سَرَاباً ... أو كطيف يمرُّ بالوَسْنان
فتطلبْتَ من غُرورك مجداً ... وأردتَ الحلود في الأزمان
ورأيت الشبرَ الذي أنت فيه ... غير كُفْءٍ لبرك الإنساني
فملأتَ الدُّنيا دوياً بغيضاً ... مُجْلباً، كيْ يحسك الثقلان
ضلةً ضلةً، أيا قًلْبُ أقْصر ... وارحنى فقد بريتَ كياني
أنتَ نحسي وشقْوتي وعذابي ... وغترابي في مُنْتَدى الأخدان
أنتَ بؤسي في غدوتي ورواحي ... لا تني الدهرَ باعثاً أشجاني
أرْهقني كآبتي وانفرادي ... وحنيني لغامضات المعاني
وحياتي قضيتها زغرات ... مُحرقاتٍ. أَأَنتَ كالبُرْكان؟
يَا فوؤداي تجاهل المجد وأنعمْ ... وَأرِحْني. . . فقد محقتَ كياني
سُمتَني العَسَف في طلاب الأماني ... وَتكاءدْتَ في الغْلا جثماني
بعثَ للمجد لذتي وكؤوسي ... ومُدامي ومجلس الريحان
شبابي أذْبَلْتَه وهو غَضُّ ... في كتال ودفترَ وَسِنَانِ
اللداتُ الاترابُ في فضل عيش ... ناعم الظل، مُعجبٍ، ريان
يَنهْلون الشباب والحب كأساً ... من رُضاب الكواعب الحُسان
في ضيلء وفي صفاء ولهوٍ - وعبير منشر وأغاني
وبقينا أنا وأنتَ فُرَادي ... في جحيم الآلام والأحْوان
قُلْتَ: إني مغردٌ لا أُبالي ... في سمائي بعلة الدوران
أنظر الشعر في الحياة , ابكي ... في نظيمي شقاوة الانسان
ذاك حَظي. . . وما أبهتُ لَمجْدٍ ... أو رجوت الخلود في الأزمان
قُلْتَ: يا بؤسَ طائر يتغنى ... في ضجيج الأحياءِ والأكوانِ
أتراني أقولُ ما قال قَبلي ... شَكْسَبِيرٌ أو شاعرُ اليونان(80/55)
كان هو ميرُ - أيها القلبُ - شيخاً ... سَاغِبَ البطن، ذاحَشاً ظمأن
يطلب النزْرَ من طعامٍ وروى ... بأغاني الآباد والأزمان
يا لا عمى يجوبُ بَراً وبحراً ... داميَ القلب دامي الجثمان
يا لَكُرْنيل يَرْفع النعل فقراً ... وعلىٍ يضيقُ بالطيلسان
هان أمر النبوغ في الأرض حتى ... صار محضُ النبوع محضَ الهوان
قسم الله مله في البرَايا ... ثم حض الأديب بالحرمان
خصهُ بالإسار والقَتْلِ والتغ ... ريب والنفي عن حِمى الأوطان
خصه بالعذاب، بالألم الدائب ... بالاضطهاد بالنكران(80/56)
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
5 - تطور الحركة الفلسفية في ألماني
شيلنج
1775 - 1854
للأستاذ خليل هنداوي
وهذا هو (شيلنج) الذي ورث (فيخت) وتوأ مقعد الفلسفة بعده؛ درس اللهوت وألم بالعلوم الطبيعية ووقف على شيء من الطب، ولكن المزاج الفلسفي غلب فيه على كل مزاج آخر، فهجر هذه العلوم وآب الى الفلسفة، فجاءت خطراته الأولى يغلب عليها روح أستاذيه (فيخت) و (كانت)، ولم يكن لعقله ذلك النضوج وذلك التفكير المستقل اللذان يستطيع بهما أن يطهر فكرته من الصور التقليدية، ويجعلها ابنة تفكيره الذاتي. ترى آراء (فيخت) شائعة في هذه المقدمات حتى نقول: (إن فيخت) يمثل دروه كرة ثانية. لولا أن شيلنج يفز بفلسفته من (فيخت) الى مذهب القائلين (إن الآله الواحد إنما هو كل الكائنات. .) وقد يستبد شيلنج بهذه الآراء التي يرددها، ويحسب أنها آراؤه الذاتية، فلا يذكر (فيخت) ولا يرجع إليه برأي ولا حديث، ولكنه شديد الاحترام للفيلسوف (سبينوزا) الذي أمده بروجه، وقاد عقله في كثيرمن مراحله؛ وهو الذي أراد أن يستخلص مذهباً يجمع بين فكرة سبينوزا ونقد كانت وكمال فيخت، وبعد أن راٍ المدرسة الفلسفية كتب آراءه ونظراته في فلسفة الطبيعة حيث شاء أن يعيد العالم الخارجي الى نظامه بعد أن قتلته المدرسة (الكمالية) وشوهت حقيقة مظاهره؛ ثم أخرج كتابه (مذهب الكمال العالي) وفيه زبدة مذهبه الفلسفي والصورة الكاملة الحاوية لمذهبه
لم تكن فلسفة شيلنج كفلسفة (كانت) ابنة تأملات عميقة ونظرات متعاقبة، ولا كفلسفة (فيخت) نتيجة نظرات بعيدة في الأخلاق والكمال، وإنما كانت حصاد المخيلة ونتاج الخيال. فكان (كانت) يفكر ويستقصي ويتعمق ويكثر من التأمل، وفيخت كان يثبت من صدق الفكرة ثم يأمر، ولكن شيلنج راح يثبت ما توحي اليه مخيلته وينزل عليه خياله، وهكذا تطورت الفلسفة واخذت تلين بعد شدتها وترق بعد صرامتها، ويزول عنها هذا اللون العميق القاتم، وتدنوا برفق من الشعر والفن؛ والشعر والفن دائبان عاملان على تلطيفها(80/57)
وترقيقها حتى لا تكون عالة على المخيلة، ولا تكون المخيلة عالة عليها، فأمسى الفيلسوف - كما تمثله الأقدمون - شاهداً ينظؤ الى تآلف الأشياء وانطباق أجزائها، وعلاقة النهاية باللانهاية، الحقيقة بالكمال. وشيلنج يرة أن الفيلسوف لاغني له عن المخيلة، وعن الوحي الذي يستمده من نفسه، وعن الخطرة التي تفيض بها قريحته، وهو في هذه الملاحظات يجمع بين الفيلسوف والفنان برغم اختلاف رسالتهما، ولكنه لا يهمل أداة الملاحظة والتامل اللذين خلقا العالم الفلسفي، ولكنه لا يميل اليهما إلا قليلاً. ولهذا الاعتقاد الذي رسم مذهبه الفلسفي بميسم الفن رأينا أن فلسفة شيلنج جاءت فلسفو هادئة مسألة لا حركة فيها ولا ثورة
إن (فيخت) برغم ما بذل من جهد استنفد وسعه للعمل على ربط فعالية عقل الانسان وأخلاقه بوثاق واحد ومذهب واحد؛ نراه غادر في مذهبه هذه (الثُنائية) التي لم يجدها شيلنج صحيحة، فعاْلم الروحَ الداخلي لا يمكننا أن نشاهده ونطلع على غيبه إلا بوساطة العالم الخرجي عنا؛ كما أن العالم الخارجي لا يُلمس إلا بمعونة عالم روحنا. وهكذا يجد الفيلسوف نفسه أمام مادتين جوهريتين مفترقتين متعاكستين، فأراد شيلنج أن يمحو هذا التنازع بينهما، وهو تنازع لم ينكره فيخت، فتحرى شيلنج في كلا العالمين عن قانون أعلى يصم بينهما، فوجد هذا القانون في الواحد المطلق ' مبدأ ومنهى كل وجود، وملتقى عالم الحقيقة بعالم الكمال، والموفق بين الأضداد. وقد أحل مذهبه هذا محل المذهب العلمي، واعتقد أنه ثد وُفق في إيجاد الأتحاد المنشود، وجع الأجزاء المتفرقة، وتوحيد المعرفة الأنسانية
وفي الحقيقة إذا تعمقنا في حقيقة هذا المذهب الذي جاء به شيلنج رأينا أنه هو ذات المذهب الذي يجعل الله هو كل الكائنات، والواحد المطلق الذي أنشأه وافترضه شيانج هو هذه المادة الأزلية التي لاحظناها وبشر بها (سبينوزا)، هذه المادة التي تحل متفقة في عنصرين متضادين وعالمين مختلفين: عالم الوح وعالم المادة.
والصفة البارزة التي يتسم بها مذهب (شيلنج) هي أنه أنشأ رباطاً محكماً وأوجد وحدة شاملة بين مظاهر الكون المختلفة؛ فالوجود الحقيقي والوجود الروحاني السامي كلها عوالم مشتقة من نبعة الفرة الآلهية، وهناك شيء من الميل الغريب بين أفكارنا والمرئيات، فنحن نحمل في أنفسنا صورة لكل شيء تقع عليه أعيننا، وهذه الصورة قد لا تلوح في الذاكرة سريعاً،(80/58)
ولا تكون وليدة ملاحظاتنا الحنينة، ولكنها ابنة تصور راسخ فينا منذ القدم، مندس في شعورنا. فما هو إلا أن نهيب بهذه التصورات حتى نحس أن هذه الصور أخذت تمر بنفوسنا، فاذا أردنا أن نعرف الكون فما علينا إلا أن نتلقى في صحف أنفسنا وأن نتبع بنظرنا الباطني مجرى الأشياء، وأن نقف على الحكمة المنطقية الآلهية التي أبدعت الكون؛ وهكذا يغدو علمنا مطلقاً وليس له الا صبغة الوحدة المسيطرة على العالم، وتصبح الفلسفة لا تتوقف على التأمل الذي يلاحظ الأشياء، ولا يدخل فيها ولا يحبونا إلا بمعرفة جزئية محدودة؛ وإنما التامل الحقيقي والادراك العقلي يجب أن يكونا قسماً من الخيال النظري الذي يوحد بين الأفكار ويرتبها، وإنما غرض الفلسفة أن تعمر الكون وأن تشيده وأن تعمل في الخلفية على إبداء وجهتها الشعرية والفنية
لم يقف (شيلنج) جهوده على الفلسفة وحدها، وإنما كان يخوض طوراً في الفلسفة الكونية والنفسية، وتارة في التاريخ والفن، وهو يفوز في ساحة، ويخفق في أخرى؛ أما فلسفته النظرية فقد جابهتها الحقيقة مجابهة قاسية، وعلة ذلك أنه كان يجنح كثيراً إلى الافتراض، وقد يكون الافتراض أحد العوامل الأساسية في تقدم العلم، ولكنه لا يغني شيئاً في تحليل المهمات التي لا يتناولها التحليل. وأما نظراته في التاريخ فسرعان ما وهنت. أركانها واضطربت أصولها، وهو يمشي على أثر (فيخت) الذي قسم العصور الانسانية إلى خمسة أدوار؛ يبدأ أولها بعصر الانسان الأول الذي لم يدنس عقله ونفسه شيء. وينتهي آخرها بالعصر الذي سيتسامى فيه الانسان وتحمله تأملاته النقية إلى فردوسه المفقود؛ ولكن (شيلنج) حدد تاريخ الانسانية بثلاثة أدوار
إن عبقرية (شيلنج) لم تبرز واضحة إلا فيما استمده من قلبه وانتزعه من نفسه؛ وفي + مذهبه الذي لم يُوثق فيه خياله بوثاق العقل المحدود، ولم يجد في ادنائه من الحقيقة نُكراً. هذا المذهب الذي احتوى نظراته السامية في الفن الذي وجد فيه شيئاً أسمى من الفلسفة. فالفيلسوف قد يُدرك المثل الأعلى ويفهمه ويقف عند ما وصل إليه عقله. أما الفنان فهو يأخذه ليسكبه في قوالب مادية، وهو في خلقه وابداعه لا يقلد الطبيعة، ولكنه يقلد ذلك الفكر الجبار الذي أبدع الطبيعة
عنت (لشيلنج) يوم كانت تربطه الصداقة بالشاعر (شيلجل) فكرة شعرية سامية في مناجاة(80/59)
الطبيعة، وبدأ يكتب مطلعها ثم بدا له شيء صرفه عن فكرته، وكأن هذه الفكرة الشعرية ظلت راسخة في تلافيق فكرة تتصرف بشعوره وتفكيره حتى إذا نضج عقله وتكشفت فلسفته جاءت وهي أدنى إلى الشعر والفن منها إلى الفلسفة المجردة
يتبعخليل هنداوي(80/60)
من روائع الشرق والغرب
ذكرى
لشاعر الحب والجمال لامرتين
كان لامرتين (قد حبس نفسه شهوراً طويلة في شبه ناووس مع صورة من عبدها ثم فقدها) ثم (ألف الحزن واللم) وخرج من الفناء الذي ألفاه فيه موت جوليا حبيبته، وراح (يتحدث بالمناجيات والصلوات والأدعية والشعر الى شبحها الذي لايبرح ماثلاً في خاطره). وهذه القصيدة قد نظمها في ربيع 1819 (على مقعد من الصخر حول ينبوع متجمد في الغابات التي تكتنف قصر عمه في (أورسي)
عبثاً يتعاقب الجديدان،
فلن يتركا أثراً في حسي،
ولن يمحوا صورتك من نفسي،
يا آخر حُلم رآه الوجدان
ــــــــــ
إني أ {ى أعوامي السريعة
تتراكم من ورائي هاوية،
كما ترى السنديانة الرفيعة
أوراقها من حولها ذاوية.
ــــــــــ
جُمتي شيبتها السنون الجاهدة،
ودمي أبردته فلا يكاد يجري،
كأن هذه الموجة الهامدة
لفحتها ريح الجنوب فلا تسري
ــــــــــ
ولكن صورتك الوضيئة الحبيبة،
تلك التي يزيدها أسفي جمالاً(80/61)
لا تدركها في قلبي لشيخوخة الكئيبة،
لأنها كالنفس لا تعرف عمراً ولا زوالاً
ــــــــــ
كلا، انك لم تزايلي بصري،
فاذا حيل بين عيني وبين رؤيتك
انقطع من هذه الارض خبري
واتصل نظري في السماء بصورتك
ــــــــــ
وهناك تبدين لي في السماء
كما كنت في يومك الاخير،
حين طرت إلى مقامك الوضاء
مع الصباح المشرق النضير
ــــــــــ
جمالك النقي المؤثر يا حبيبتاه،
يتبعك حتى في ذلك الوجود؛
وعيناك اللتان تنطفيء فيهما الحياة،
يشعان ثانية بنور الخلود
ــــــــــ
وأنفاس النسيم الهائمة،
تحرك أيضاً شعرك الطويل؛
وخُصله المتوجة الفاحمة،
تعود فتسقط على صدرك الجميل
ــــــــــ
وظل هذا النقاب الحائر،
يحلي وجهك الوضاح،(80/62)
كأنما سدول الظلام الآخر،
تنحسر عن محيا الصباح
ــــــــــ
إن اللهب السماوي لهذه الشمس،
يجيء ويذهب مع الأيام؛
وأنت تشرفين دائماً في النفس،
فحبي لا يعرف البرد ولا الظلام
ــــــــــ
أنت التي أبصرها في السحاب والماء؛
فالموج يعكس صورتك في عينين
والنسيم يحمل أصواتك إلى،
ــــــــــ
وإذا خشعت الأصوات ونام الليل،
وسمعت حينئذ همس الهواء،
حسبتني أسمعك تغمغمين في أذني
بكلماتك المقدسة العِذَاب
ــــــــــ
وإذا ما أُعجت بهذه المصابيح المنتثرة
التي ترصع رداء الليل الساكن،
حسيتني أراك في ل نجمة مزدهرة،
تسترعي بصري بلألائها الفاتن
ــــــــــ
وإذا ما هب النسيم على الزهور،
فأسكر النفس بنفحات العطور،
كانت نفحتك هي الطيب الذي أنشقُه(80/63)
فيما يَنُشه هذا النسيم ويطلقه
ــــــــــ
إن يد هي التي تجف دموعي
حين أذهب في حزن وبكاء
لأؤدي في السر صلاتي وخشوعي
في محاريب الدعاء والعزاء
ــــــــــ
وإذا نمت سهرت على سهر الخائف،
وبسطت جناحيك على آلامي،
وأوْحيت إلي بجميع أحلامي
وديعةً كنظرات الخيال الطائف
ــــــــــ
وإذا قطعتْ يداك أثناء منامي
مجرى حياتي واسباب أيمي
فسأصحو - يا نصف روحي العلوي -
بين حِضنك الحنون القدسي
ــــــــــ
ثم تصبح نَفْسانا نًفْساً واحدة،
كشعاعين متحدين من أشعة الفجرن
أو نفسين ممتزجين من الأنفاس الصاعدة؛
ولكني لا أرال أردد أنفاسي العمر!!
الزيات
مقطوعات شعرية
لشاعر الهند العظيم الدكتور محمد اقبال(80/64)
(من ديوان رسالة المشرق)
الملك لله
أضرم طارق النار في سفائنه على ساحل الأندلس، فقيل له هذا أفَنٌ ينكره العقل! كيف نرجع الى الديار، وقد شط المزار؟ إن الشريعة لا تجيز ترك الوسائل! فضحك وأصلت حُسامه وقال: كل مُلك ملكنا، لانه مُلك ربنا
الحياة
سألت حكيماً: ما الحياة؟ قال: حمر امرها أطيبها. قلت: إنها دودة تنشأ من الطين. قال: بل وليدة النار السمندل. قلت: إن الشر مضمر في فطرتها. قال: هي شر كلها إذا لم تعرف خيرها.
قلت: إن غرامها بالمسير لم يبلغها منزلاً. قال إن منزلها في هذا الغرام نفسه. قلت: إنها ترابية ومرجعها التراب. قال: إن الحبة إذا شقت التراب فهي وردة ناضرة
الشقيقة
أنا الشعلة التي اضرمت في أحضان العسب من فجر الأزل، قبل أن يٌخلق البلبل والفراس، أنا أعظم من الشي، ولكني منبثة في كل ذرة، وقد خلقت السماء شرارها من حرقتي: سقطت على صدر المرج لحظة فنبع من ترابي عصن ناضر فاستلب ناري وقال: تلبثي في أحضاني قليلاً، ولكن قلبي السليب لم يقر قراره، فاضطربت في ضيف الغصن حتى تجلى جوهري باللون والرائحة، فنثر الندى في طريقي جواهر متلألئة، وضحك لي الصبح، وأطافت بي ريح الصبا، وسمع البل من الورد أن ناري قد سُلبت، فتأوه وقال: لقد استرت ثوب الحياة غالباً
هأنذا أفتح صدري لضوء الشمس وأحتمل منتها، فمن لي بأن تعود ناري مشتعلة في صدري؟
الحياة الخالدة
لا تحسبين الحانة قد بلغت نهايتها. فلا يزال في عروق الكَرْم ألف خمر لم تُشرب ذل المرج جميل، ولكن لا يجمل ا، نعيش كالربعم! قضاء حياته ممزف بأنفاس الصبا. إن تكن بالحياة خبيراً فلا تطلب ولا ترض قلباً خلياً من وخزات الأمل. عش كالجبل محكماً مجتمع(80/65)
النفس، ولا تعش كالهشم، فان الريح عاصفة والنار لا تهاب
عبد الوهاب عزام(80/66)
البريد الأدبي
حماية الدولة للآداب
وهل نحن بحاجة اليها؟
نقلنا إلى القراء في العدد الماضي خلاصة تلك الفكرة الطريفة التي تتحدث بها بعض دوائر الأدب الفرنسي، وهي وجوب تدخل الدولة لحماية الآداب القومية من منافسة الآداب الأجنبية كما تتدخل لحماية المحاصيل والصناعات القومية، أو بعبارة أخرى وجوب معاملة الثمرات الأدبية معاملة النبيذ والقمح مثلاً من حيث الحماية القومية، وذلك لأن سيل الأدب الأجنبي يتدفق الآن على فرنسا ويهدد مصالح كتابها ومفركيها تهديداً قوياً يظهر أثره في هبوط الدخل الأدبي وقيم حقوق التأليف. وتسالنا ماذا يكون من أمره هذه الفكرة في بلد كمصر؟ وهل نحن في مصر بحاجة إلى بحثها؟ والجواب الذي يتبادر إلى ذهن لأول وهلة هو أن مصر لم تتقدم في ميدان التفكير إلى الحد الذي تستطيع معه أن تكون بدلاً مصدراً يبعث بثمار تفكيره إلى البلدان الأخرى، فهي ما زالت بلداً مستورداً، يستورد أكبر قسط من غذائه الأدبي وينقله عن التفكير الغربي، وان الثمرات الأدبية المحلية ليست في حاجة إلى الحماية لأنها ليست من الكثرة أو القيمة بحيث تتأثر بهذه المنافسة الأجنبية القوية. وهذا صحيح من الوجهة العامة، وكلنا نستطيع أن نستدرك عليه ببعض الملاحظات. وفي رأينا أن الأدب المصري بحاجة الى نوع من الرعاية والحماية المحلية من بعض النواحي، ولسنا نقصد أن تفرض الضؤائب الجمركية أو تتخذ اجراءات لأية حماية ضد الآداب الاجنبية الرفيعة، فنحن في أشد الحاجة لاستيراد هذه الآداب؛ ولكنا نعتقد اننا في حاجة الى إلى الحماية من سيل الأدب الغربي الوضيع الذي ينساب إلى مصر من كل ناحية، تحمله إلينا كتب ومجلات وصحف كتبت لطبقات وبيئات منحطة، وتجد بيننا رواجاً عظيماً؛ وقراء المجلات والصحف الأجنبية هنا يعرفون هذه الحقيقة، ويكفي أن يعرف الناشئون قليلاً من الانكليزية أو الفرنسية ليتهافتوا على اقتناء هذه النشرات الوضيعة الخطرة في معظم الأحيان من الوجهة النفسية والأخلاقية. وهنالك أنواع من الأدب الأجنبي المتوسط أو الخفيف تروج بيينا رواجاً عظيماً، وهذه أيضاً يجب أن يوضع حد لذيوعها على حساب الأدب المحلي والصحافة المحلية لأنها ليست أقوم منها ولا أرفع؛ ثم هنالك سيل الترجمة؛(80/67)
ومع أننا في عصر ترجمة ونقل في كثير من النواحي الفكرية، فان هذا السيل يجرفنا بلا تحفظ، ويطغي على الأنتاج القومي بشدة. ومن الصعب أن نتحدث في أمر الحماية الرسمية الفعلية في هذه النواحي، ولكنا نشعر في أحيان كثيرة بالحاجة إليها. ولو أمكننا ببعض الوسائل المعقولة أن نحد من تدفق سيل الآداب الأجنبية المتوسطة أو الوضيعة، وأن نحصر الترجمة في حدود القيم المنتج، لكان في ذلك ما يشجع الآداب المحلية، ويعضد الانتاج المحلي؛ ولاشك أن انصراف القراء عن التهافت على هذه الأنواع من الآداب الأجنبية يقابله من الناحية الأخرى شيء من الاقبال على الأدب المحلي؛ وإذا نما هذا الاقبال، ترتب عليه حتماً انتعاش الأدب المحلي وتقدمه؛ والتعضيد أكبر عناصر التشجيع وشحذ العقول والههم. وكلما زاد هذا الاقبال والتعضيد تقدمت الحركة الأدبية وارتفع معيار الانتاج الأدبي
على أن المسألة معقدة من الوجهة العملية. ومن الصعب أن نتصور الوسائل أو الاجراءات المعقولة التي يمكن أن تحقق بها مثل هذه الحماية دون مساس بسير الحركة العقلية، وحركة الاقتباس الفكري التي نحن في أشد الحاجة إليها. وأصحاب هذه الفكرة في فرنسا يجدون مثل هذه الصعوبة في التماس الوسائل العملية لتحقيقها. وكل ما يمكن قوله، تمشياً مع أصحاب الفكرة هو أن الحماية الاختيارية هي خير وسيلة لحل المشكل، أو بعبارة اخرى إن هذه الحماية يمكن تحقيقها بالتطوع والرغبة في تشجيع الآداب القومية من جانب القراء والمثقفين، وإغفال الآداب الأجنبية التي لا تحمل قيمتها أو نوعها على وجب الانتفاع بها
وقد يعترض عشاق الثقافة الأجنبية بأن الانتاج الأدبي المحلي لم يرتفع إلى الحد الذي يحقق بغية المثقفين وطلاب المتاع الفكري الرفيع، ولكن المحقق هو أن هذا التقدم المنشود لايمكن تحقيقه دون تشجيع قوي فعال؛ والطبيعي هو أن يتقدم التشجيع اولاً، فاذا ظفر الانتاج المحلي بهذا التشجيع، أستطاع أن يظفر بفرض التقدم والصقل والنضوج
ميشيل آنجلو وعصره
منذ حين أصدر الكاتب المؤرخ الألماني هيرمان جريم كتاباً عن الفنان الايكالي الاكبر ميشيل آنجلو وعصره، فكان لصدوره وقع عظيم في الدوئر الأدبية والنقدية. ومنذ أسابيع(80/68)
قلائل صرت ترجمة فرنسية لهذا الأثر القوي، فعاد الحديث عن قيمته الأدبية والفنية، ولا ريب أن الكتابة عن ميشيل آنجلو وعن عصره ليست يسيرة؛ فقد كان آنجلو من أعظم العبقريات البشرية، وكان عصره - القرن السادس عشر - من أعظم عصور التاريخ: كان عصر (الأحياء) الفكري، وكان عصر البابوية الذهبي؛ وكان ميشيل آنجلو يمثل كل ما في عصره من عظمة وآمال، وكان عمله رمزاً قوياً لخواص هذا العصر وأمانيه، كان مثالاً، ومصوراً، وشاعراً، ومنهدساً عظيماً
هذا هو ملخص الصورة التي يقدم بها جريم بطل ترجمته؛ وقد عاش ميشيل آنجلو وتوفي بين أعظم رجالات عصره. كان في فتوته صديق لورنزو الأفخم أمير فلورنس، وكان في كهولته مصور البابوية ومهندسها. وكان صديق جلوليوس الثاني، وليون العاشر، وهو الذي وضع التصميم الجديد لكنسية القديس بطري أعظم كنائس النصرانية، وهو الذي رسم ابدع نقوشها؛ وهو الذي أودع من ريشته أعظم بدائع الفن على جدران (كنسية سكستوس) إحدى حلى الفاتيكان، وصور عليها بالأخص أشهر وأبدع صوره (يوم الحساب)؛ وما زال السائح المتفرج يقف ذاهلاً مأخوذاً أمام روعة هذه القاعة التي يشعر فيها بروح ميشيل آنجلو ترفرف عليه من سقفها وحول جدرانها
ويمثل لنا جريم ميشيل آنجلو في شبابه ونضجه رمزاً لمثل إيطاليا وأمانيها، وفي كهولته وشيخوخته رمزاُ لآلام إيطاليا، ويمثل لنا حياته كلها بأنها صورة صادقة لعصر الأحياء كله. وأما عصر الأحياء الأيطالي فيصوره جريم أبدع تصوير، ويبين لنا كيف ان هذا العصر فجر المعارك والتطورات الفكرية والاجتماعية والسياسة، وكيف أن هذه المعارك كانت تتمخض عن مثل ما يتمخض به عصرنا من المشكلات الاجتماعية والسيايية، سواء في حقوق الفرد واجماعة، وتنظيم الحكم والدولة أو غيرها من المسائل الكبرى
وقائق جديدة عن نابليون
ظهرت أخيراً حركة ترمي الى كشف كل ما يتعلق ينابليون بورنابارت وعصره من الآثار والوثائق؛ ويبعث في باريس مجموعات ثمينة من كتب الامبراطورية وتحفه التي كانت في مكتبة مالمزون؛ ثم طهرت على أثر ذلك مجموعة كبيرة من رسائل الامبراطور الى زوجه الثانية ماري لويز النمسوية وعددها نحو ثلثمائة، وعرضت للبيع في لندن واشترتها(80/69)
الحكومة الفرنسية، وقد أشرنا الى هذه الرسائل وإلى محتوياتها في عدد سابق. والآن تظهر في انكلترا وثائق جديدة خاصة بأيام الامبراطور الأخيرة في منفاه بجزيرة سنت هيلانه. فقد نشرت جريدة (الصنداي تيمس) عدة رسائل لم تنشر من قبل، كتبها ضابط انكليزي يدعى دنكان داروس كان من شهود أيام الامبراطور وساعاته الأخيرة الى أمه، منها رسالة كتبت غداة وفاة الامبراطور، بتاريخ 6 مليو سنة 1821، وأخرى في مايو عقب الاحتفال بدفنه
وكانت هذه الرسائل في حوزة حفيد هذه السيدة. ولم تنشر من قبل قط، وهي وثائق ثمينة مؤثرة، عن المناظر والأقوال التي تتعلق بمرض الامبراطور الأخير وساعات نزعه، ولحظة وفاته، وكان الضابط دنكان داروس قد أرسل الى حامية سنت هيلانه في المرحلة الأخيرة من اعتقال الامبراطور؛ والرسالة الأولى عن وفاة الامبراطور مكتوبة من (ديدوود)، والرسالة الثانية من (لونجوود)
ولما ظهرت الحكة الأخيرة بجمع الوثائق النابوليونية سعت جريدة (الصنداي تيمس) الى الحصول على هذه الرسائل، ونجحت في احتار حق نشرها، وبدات بذلك منذ 23 ديسمبر؛ وكان لنشرها وقع عظيم عند كل الذين يهتمون بهذا العصر ومأساة الامبراطور المنفي
من هنا ومن هناك
الموجات القصيرة - بقلم ماركوني
إن استعمال الموجات القصيرة في الاتصال بواسطاة الراديو ليست جديدة علي، فقد خصصت لها جزءاً بيراً من تجاربي، وصرفت فيها تفكيراً طويلاً منذ ثمانية وثلاثين عاماً. ففي سنة 1896 أفهمت مهندسي محطات الأذاعة أن الأمواج التي طولها ثلاثون سنتيمتراً يمكن إرسالها بغير انقطاع في حيز مليون من الكيلوسكلات
وفي هذا العهد، بعد البحث والتجارب الطويلة التي قمت بها وقام بها غيري ممن عاصروني، نجحنا في استعمال تلك الموجات القصيرة حتى وصلنا إلى إرسالها إلى مسافة تقرب من عشرة آلاف متر
وأما من جهة النتائج التي وصلت إليها بين سنتي 1919 - 1924 في استعمال موجات ذات أطوال تتراوح بين مائة وستة أمتار فقد حملتني على التخلي عن الطريقة(80/70)
الامبراطولاية الموضوعة على أساس الموجات والأستعاضة عنها بمحطات ماركوني الأصدارية التي تستعمل الموجات القصيلاة المتتابعة، وذلك في الجقيقة هو الذي أدى إلى الانقلاب الحالي في الأعمال التليفونية والتلغرافية باستعمال تلك للموجات القصيرة التي تندفع الى مدى بعيد، ولقد كان لهذه النتائج أثر كبير في نفسي دفعني الى الاهتمام بهذه الموجات
واما الموجات الكهربائية الممغطسة الت يقارب طولها المتر، فلنا أن نعبر عنها بالموجات المرئية، لأن الأتصال بوساطتها ضرب من المحال، إلا إذ تلاقت نهايات دائرة الاتصال كلها في نقطة واحدة، وعنئذ تكون الفائدة المنتظرة قد نمت بتمام هذا الشرط الأخير
وقد نهتني تجاربي الكثيرة ألا أحدد شيئاً أساسه الفرض أو الحساب النظري، لأن ذلك كما نعلم مبني على جهل بمعرفة العوامل المسببة؛ وعلى العكس من ذلك وعلى رغم تكهني بما ينافي ذلك الشرط، فانني دائب البحث في نواح أخرى ولو ظهرت لي صعوبات كثيرة في أول الأمر
ولقد كان ذلك منذ ثمانية عشر شهراً على ةجه التقريب عندما صح عزمي على أن أستفيد من أبحاثي القياسية في صفات هذه الموجات القصيرة، وقد حصلت في النهاية على نتائج ملموسة يوفر إدراكها معرفة ما يأتي:
(1) الأبعاد القصيرة للمرسل ' والمستقبل ' والعاكس الضرورية لنشر كمية كبيرة من القوى الكهربائية والحصول عليها
(2) معاكسة الأضواء الضعيفة المسببة عن اهتزازات الكهربائية الطبيعبة عند الاضطرابات الجوبة
ولي أن أجزم بأن الأشياء الممكنة في ذها الموضوع قد وسعت نطاق البحث في الموجات الكهربائية التي لم توضع بعد غلى بساط التجربة، والتي فسحت المجال لتطبيق هذه الموجات في الاتصال عن طريق الراديو
والاستعمال الدائم العملي للموجات القصيرة التي تكون حلقة متصلة بين الفاتيكان وقشتالة وجوندلفو لأكبر شاهد، كما أعتقد، يجعلنا نتفاءل بما ستحرزه هذه الطريقة الجديدة من النفع، وما ستوفره لنا في المستقبل، غذا ما أبعدنا الاضطرابات الكهربائية الاخرى(80/71)
وخير مكان يقع فيه تطبيق هذه النظرية هو ربط الجزر ببعضها ببعض، أو بعضها بالقارات، أو ربط الجهات المختلفة بعضها بالأخرى، على شريطة ألا تكون هذه الجهات بعيدة عن بعضها كل البعد
وتمتاز هذه الطريقة الأخيرة بعدم تأثرها بالضباب، إذ هي أكثر ضماناً وأوفر أماناً، وخاصة من ناحية الاحكام الكامل الذي يمكن الاعتماد عليه كلية في تحديد الجهات تحديداً دقيقاً، ومع ذلك فمن العبث الآن أن نقول الكلمة الأخيرة عن تحديد مدى الاذاعة بوساطة هذه الموجات القصيرة(80/72)
القصص
مدام بوفاري
لجوسناف فلويبر
تعليق وتلخيص محمد سليمان علي
قسم الكاتب الخالد قصته الخالدة إلى ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول يصف نشأة مسيو بوفاري إلى أن احترف منهة الطب، وبين كيف اهتمت به أمه، وكيف زوجته من أرلملة سنها همس وأربعون سنة ودخلها مئتان وألف فرنك. وقد ظن المسكين أنه سيبدأ بزواجه عهداً مستقلاً سعيداً، ولكن امرأته اثبتت أنها (الفرس الأقوى)، ففي المجتمعات يجب عليه أن يقول هذا ويمسك عن ذاك؛ وكان لزاماً عليه أن يصوم ل يوم جمعة، وأن يلبس ما تشير به، وأن ينفذ أوارمها فيما يتعلق بالعملاء الذين توانوا عن الدفع، وكانت تفتح رسائله وتنصت من وراء الحاجز حين يختلي في غرفته الخصة بالعملاء إذا كن نساء
ذهب يوماً يعود مريضاً فأعجبته ابنته (إما) ذات العيون العسلية التي تبدو لطول أهدابها سوداء؛ وعاد بوفاري مريضه وكرر العيادة، ثم ماتت زوجه فترزوج (إما) وكان سعيداً، (كان العالم ينحصر في نظرة في محيط أثوابها. وكان يؤنب نفسه لعدم حبه إياها حباً أثر؛ وأحياناً كان يعود بعد خروجه ليراها ثانية وهي ما تزال في غرفتها تلبس، وبيتما كان يقبلها في أسقل عنقها، كانت تصيح هي في وجهه)
وكانت قبل زواجها تظن أنها تحب. ولكن السعادة التي كانت تتوقعها من الحب لم تظفر بها فظنت أنها خدعت، ووطنت العزم على أن تكتشف تماماً معنى هذه المدلولات: السعادة، الأهواء، النشوات: التي كانت إلى ذلك الوقت تبدو ها جميلة على صفحات الكتب
وانهارت أحلامها في الحي وشهر العسل والزواج، وأخذت تنسج لنفسها أحلاماً أُخر. وبقدر ما كانت علاقتها الزوجية تتوثق كان في نفسها تنافر داخلي ينمو ويزداد
(كان حديث شارل عمومياً كأفريز شارع تمشي عليه أفكار كل انسان , اي إنسان في أثوابها العادية دون أن تثير عاطفة أو ضحكاً أو تفكيراً. كان يقول إنه أثناء غقانته في (روان) لم يجد لديه ما يدفعه إلى الذهاب إلى المسرح ليرى الممثلين من باريس. ولم يكن(80/73)
يعرف السباحة ولا لعب السيف ولا إطلاق الغدارة؛ وفي ذات يوم لميستطع أن يشرح عبارة خاصة بركوب الخيل قرأتها في قصة: أما يجب على الرجل أن يعرف كل شيء وأن يعلم المرأة انبساط الأهواء ولذائذ الحياة وأسرار العيش؟ ولكن شارل ما علم شيئاً وما عرف شيئاً، وما رغب في شيء. كان يعتقد أن زوجه سعيدة وهي تتعذب تحت هدوئه الذي لا يضطرب وسكينته التي لا تخف)
وبرغم ذلك كانت تمحنه حبها. ففي الحديثة، في الليالي المقمرة، كانت تعيد على سمعه كل الأغاني الوجدانية التي حفظتها عن ظهر قلب. ولكنها في النهاية لا تجد زوجها ازادا غراماً ولا حماسة. (ولما ضربت زماناً على الصخرة الجائمة على قلبها دون أن تبعث منها شرارة ما، كانت تجد صعوبة يسيرة في إقناع نفسها بأن غرام شارل لا يعد مفرطاً بعد)
وعكفت على قراءة مجلات السيدات والأزياء والأثاث ابتغاء التسلية، وعلى قراءة بلزاك وجورج ساند لتنقب فيهما عن الأرضاء الخيالي لأهوائها الشخصية. وكانت ذات أطماع: لِمَ لم تكن زوجة لعالم يدوي اسمه في كل مكان؟ وبدأت تكره زوجها لقلة طموحه وأصبحت تجد حياتها مملة جوفاء
والحق أنها كانت تنتظر حادثاً في حياتها. كانت تصحو إذا تنفس لصبح فتظن اليوم قد حل. وتنصب إلى كل حركة، حى إذا جاء الغروب أمست احزن من قبل، وحنت إلى الغد.
ولما كانت تضجر من دمينة (توست) ظن زوجها أن سبب الداء حادث محلي. وقرر أن ينتقل إلى بلدة (بونفي - لاباي)
وفي لقسم الثاني يصف الانتقال الى البلدة الجديدة، وتعارفهما لصيدلي هوميه وليون كاتب المحامي. ويبدأ الحديث بين هذا وبين مدام بوفري فيكتشفان بينهما نماذجاً في الأفكار وتشاركا في العواطف، فكلاهما يحب الطبيعة والموسيقى، فمدام بوفاري تقول:
- آمل أن أجد طرقاً جميلة في هذه الانحاء
- يؤسفني أن أقول إنها قليلة. هناك مكان يدعونه (المرعي) فوق مرتقى التلال، عند حافة الغاب، ولقد طالما قصدته في الآحاد ومعي كتاب كي أرى الغروب
- لست أظن أن هناك ما هو أجمل من الغروب، ولاسيما عند شاطيء البحر
- أوه، إنني أقدس البحر!(80/74)
- ألا تظن أن العقل يبدو أكثر حرية حين نواجه ذلك الخضم غير المحدود، وأن أرواحنا لتتسامى حين نسبح في تأملاته، وأنه يوحي إلينا بالأفكار عن المثل العليا وعن اللانهاية؟
- كذلك الحال في مناطق الجبل
واندفعا يتحدثان عن الموسيقى الألمانية، والأوبرا الايطالية، إلى أن قال زوجها رداً على كلمة لهوميه عن تنسيق الحدائق:
- زوجتي لا تُعني بذلك، إننا ننصحها بالرياضة، ولكنها تفضل أن تظل في غرفتها تقرأ
وقال ليون - هذا ما أفعل. وإني لعلي يقين بأنه ما من شيء يفوق الجلوس في المساء بجوار الموقد مع كتاب نفيس، بينما الريح تسفع زجاج النوافذ، والمصباح يضيء ويلمع في الغرفة
وقالت وهي تحدجه بعينها السوداوين النجلاوين - هذا ما يختلج بنفسي
- وينسي المء كل شيء بينما الساعات تتعاقب. ويجول في البلاد التي يظن أنه يراها، وأما أفكاره التي تحملها الحوادث المختلفة فانها تجد اللذة كل اللذة في كل تفصيل، أو تتبع سير المخاطرات والحوادث، وتصبح جزءاً من الشخصيات المختلفة، ويتخيل المرء أن نفسه هي التي تتنفس في ملابسهم)
وضعت مدام بوفاري طفلة سمتها برتا وتركتها عند امرأة ترضعا وكان ليون يفكر فيها وهي تفكر فيه، وتراقبه وهو يمر تحت نافذتها إلى محل عمل مرتين كل يوم. وكانوت أحياناً يجتمعون في المساء، بوفاري وهو مييه يلعبان الورق، أما ليون فينصرف إلى الحديث مع دمام بوفاري
وأخيراً قرر أن يصرح لها بحبه. إلا كلما عزم لا يجد الشجاعة. وكان يكتب الرسائل ثم يمزقها. وكانت شجاعته تفارقه في حضرتها، أما هي فلم تسأل نفسها إن كانت تحبه، ففي اعتبارها أن الحب يأتي فجأة ع دوي قاصف وبرق خاطف، عاصفة من السماء تهب على الحياة فتقلبها رأساً على عقب، وتعبث بالارادة كما يحمل الهواء ورقة جافة وتلقي بالقلب في هوة ما لها من قرار
ولكنها كانت تراه يتقرب اليها، وتحصى حركاته وكلماته عندما تستلقي على فراشها، وتستعيد نظراته ثم تقول لنفسها وهي تضم شفتيها كأنما تتأهب لقبلة (ما أبهج ذلك! أهو(80/75)
لف؟ وبمن إن لم يكن بي؟) ولكنها لم تشجعه. وتظاهرت بأنها تحب زوجها. وكانت كلما أحست بأنها تهواه، قاومت لتقلل من شعورها. وكانت تأمل من ليون أن يفهم ذلك. وكلما همت بتأنيب نفسها عادت تفتخر وتقول لنفسها (إنيي شريفة)
وأخيراً ظن الشاب أنها لا تريده فترك البلدة إلى باريس
يلي ذلك لقاؤها بمسيو رودولف بولانجيه الساب الغني الجميل لخبير بالنساء والغرام. يقرأ في عينها مللها من حياتها وزوجها فيرغب فيها ويضع لذلك خطة محكمة وتساعده الظروف فيظفر بها. وتبدأ حلقة من الحب القوي المشبوب الجارف. وتندفع المرأة حتى تصل إلى درجة التهور. ولما ازدادت لعاشقها حباً ازدادت لزوجها مقتاً. ولأجل عشيقها الذي يملك ثروة من التجربة أخذت تعتني بنفسها وتبالغ في الزينة والتأنق. وأعطته مفتاح الحديقة الخلفي، فكانا يتقابلان طرفاً من النهار وزلفاً من الليل، وفي يوم حضوره كانت تملأ الغرفة بالأزاهرن وتتزين بكا ما تملك من حلي. ولم يعاتبها شارل على تبذيرها قط
وكان ليريه البائع المتجول يجلب اليها كل ما تطلب ويغريها بطلب المزيد، وما عليها إلا أن توقع على صكوك يقدمها لها فيصبح العزيز ملكاً لها. ولما ألح في طلب نقوده بعد زمن؛ دفعت له مالاُ أتى لزوجها من عميل، ولم تخبره بذلك
- (حينما تدق الساعة اثنتي عشرة مرة في الليل يجب أن تفكر في). فاذا اعترق لها بأنه لم يفعل كانت تؤنبه، ثم تختم بكلمتها الأبدية
- (أمغرم بي أنت؟)
- (أجل. طبعاً)
- (كثيراً؟)
- (ما في ذلك شك)
- (ولم تحب غيري، عل فعلت؟)
- (اتظن أني كنت عذراء حين تلاقينا.)
ثم تبي فيترضاها فتقول:
- (ذلك لأني أحبك كثيراً. أحبك حتى لا أطيق الحياة بدونك. وأحياناً أقول لنفسي. أين هو؟ ربما ينعم بالحديث مع نساء أخريات. هن يبسمن له وهو يدنو منهن. ولكنك لا تهتم بهن،(80/76)
أليس كذلك؟ كثيرات من يفقنني حسناً، ولكني اتن الحب أكثر منهن. إنني خدمتك وخليلتك، وأنت مليكي ومعبودي. كم أنت رحيم وجميل وماهر وقوي!)
وبدأ المعبود كعادته يسأم العاطفة العارية والكلمات المعادة.
ولما عيل صبرها من زوجها وأمه، قررت الفرار مع عشيقها وأخبرته بعزمها. فأخذ يسوف ويؤجل، وهي تؤمل وتستعد. وأخيراً حل الموعد المضؤوب، وبدلاً من ان يحضر أرسل اليها كتاباً يخبرها فيه بأنه لأجلها لن يطاوعها على فكرتها، ويريها أن فرارها معه عاقبته في النهاية وخيمة عليها، ويختمه بقوله: (. . . إنني أعاقب نفسي بالنفي للضرر الذي سببته لك. سأذهب بعيداً. لا أدري أين. لا تنسي الرجل البائس الذي تسبب في شقائك، وعلمي ابنتك اسمي حتى تذكره في صلواتها. وحين تقرئين هذه الأسطر البائسة أكون بعيداً، إذ يجب أن أتجنب الأغراء حتى لا أراك ثانية. كوني شجاعة. سأعود، وربما نستطيع بعد أن نتحدث بهدوء عن حبنا الأول، وداعاً. . .)
ولما قرأت الخطاب أغمى عليها، ومرضت ثلاثة وأربعين يوماً. وفي اثناء ذلك استدان زوجها ثمن الأدوية، وتدخل (ليريه) وتمكن أن يجعل بوفاري يوقع على كمبيالة لمدة ستة أشهر بالأشياء التي أخذتها مدام بوفاري. وبعدها طلب بوفاري من الرجل ألف فرنك يدفعها بله بعد سنة سبعين وألفاً
وأخيراً تحسنت صحتها قليلاً ولكنها أحست الزهد، وألح زوجها أن تحضر حفلة تمثيل في روان وهناك قابلا ليون
وفي القسم الثالث تبدأ مع ليون على أنقاض الغرام الأول حلقة غرام آخر مستهتر عنيف. والق أنها قاومت في مبدإ الأمر. فهي ما زالت متشائمة خائرة تحت تأثير الصدمة الأولى. إلا أن ليون الذي غيرته الحياة الباريسية حملها في تيار جارف. وفي فند في المدينة أخذا يلتقيان يوماً كل أسبوع. وكانت تتذرع أمام زوجها بأنها تتلقى دروساً في البيانو على معلمة في روان
واندفعت مرة أخرى في شراء هداياها فزادت ديونها وتعددت الصكوك وذاق ليون معها للمرة الأولى رقة الاناقة النسوية التي لا يعبر عنها وصف، وأصبحت لا غنى لها عن لقياه، وكانت تذهب لتدهوه من محل عمله، وترتعش إذا فكرت أن حبه قد يتلاشى يوماً ما(80/77)
وبدأ ليريه يحاصرها مطالباً بنقوده، عارضاً كمبيالات أخرى، وخضعت لسحر النقود فأخذت توقع عليها وتندفع في متعتها
وأخيراً حول ليريه بضعاً من هذه الكمبيلات غلى مالي آخر. ولما ذهبت تسأله جلية الخبر جعلها توقع على أربع كمبيالات أخر. وأخذت ترسل إلى عملاء بوفاري المدينين وتطلب النقود منهم وترجوهم ألا يخبروه (لأن ذلك يؤثر في كبريائه.)
وفي ذات يوم استلمت ورقة حجز رسمية. وأرسلت لليريه وهي دهشة. وصارحها الرجل بأن ذلك هو السبيل الوحيد لاسترداد نقوده. ولم يقبل منها أي توسل أو رجاء
وذهبت على عجل إلى ليون وطلبت منه أن يبحث لها بأي وسيلة عن ثمانية اآف فرنك فلم يفلح، فعادت أدارجها ذاهلة مدحورة. وفي الصباح التالي نشر الاعلان الرسمي للحجز في الميدان
ونصحتها خادمتها أن تذهب إلى مسيو (جيللومين) المحامي الغني. فذهبت تشكو إليه ليريه وقصت عليه المسألة فقال:
- ولكن لِمَ لم تخبريني السبب؟ لماذا. . . . أخائفة أنت مني؟ أرجح ان لدي عذراً للشكور. فما نكاد نتعارف، لكني أعترف لك بأني أشد العبيد تفانياً، وأملي ألا يخامرك في ذلك شك
وأسك بيدها وانكب يقبلها بشراهة، وأبقاها على ركبته، بينما كان يعبث بأناملها، وأحست بأنفاسه على خدها، وقالت:
- (سيدي أني أنتظر) وشجب وجه الرجل فجأة وقال (ماذا؟) قالت: - (النقود.)
فقال: (لكن. . .) ثم أجاب الرغبة الحادة قائلاً:
(حسن. أجل!) وركع وهو يقول (بحق الرحمة، امكثي!)
ووق خصرها بذراه. فاندفع الدم إلى وجهها وتراجعت قائلة:
لا! سيدي أنت تنتهز خطورة مركزي بحماقة. إنني أستحق الرحمة، ولني لست للبيع.) وخرجت في ثورة من الهياج والغضب وخطره لها فجأة أن تذهب الى رودولف. فدهش لرؤيتها. ولم تخبره بمطلبها باديء الأمر. ورحب بها وأظهر أسفه لانفصالهما واندفع يقول إنها المرأة الوحيدة التي أحبها ورجاها أن تخبره بما يزعجها. ولما طلبت منه أن يقرضها ثلاثة الأف فرنك تراجع وأخبرها بأن هذا المبلغ غير موجود لديه(80/78)
فقالت: (ليس لديك! كان الأحرى أن أوفر على نفسي هذا الذل. لم تحبني بتاتاً، ولست خيراً من اآخرين.)
وخرجت وهي تكاد لا تعي. ومر امامها الماضي سريعاً. وشعرت بأنها ستجن، وبأن روحها تتسرب منها كما ينزف الدم من الجريح. وأخيراً دخلت من الباب الخلفي لصيدلية (هوميه) وهو يتعشى. واستطاعت أن تحصل على مقدار من السم. وعادت إلى منزلها. وجدها زوجها المسكين تكتب خطاباً، ولما سألها عما حدث اجابته مشيرة إلى الخطاب (يجب أن تقرأ هذا غداً.) ورجته أن يتركها وحدها، استلقت على الفراش، وبدأت تظهر عليها أعراض السم، وأحست بالظمأ وبطعم الحبر. وسألها زوجها عما تشكو فلم تجب. وبعد قليل بدأ القيء. وأصبح وجهها أزرق اللون، وأخذت أسنانها تصطك، وبصرها يضطرب، ولما عاد يسألها في قلق أشارت إلى الخطاب. ولما قرأه صرخ طالباً المعونة. وحضر الصيديلي هوميه، وأرسلا إلى طبيبين، واضطربا في غمرات من الدهشة الذاهلة. ثم اتمى شارل على الفراش ينتخ. فقالت له:
- لا تبك، فلن أحتمل زيداة على ذلك
- لماذا؟ ما الذي دفعك إلى ذلك؟
- كنت مرغمة يا صديقي
- أما كنت سعيدة؟ أهي غلطتي؟ لقد فعلت كل ما أستطيع
- بلى ذلك حق. . . أنت طيب جداً
وعز على الرجل فراقها وقد أقرت أنها أجبته أكثر من أي لحظة خلت. لم تعد تره أحداً الآن. والصوت الدنيوي الوحيد الذي كانت تسمعه هو عويل قلبها المسكين، الذي كان هادئاً خافتاً، كالصدى الأخير لموسيقى بعيدة. وقال وهي ترفع نفسها على مرفقها (أحضروا طفلتي.)
وحضرت وخاطبتها ثم أبعدتها. وأتي الطبيب، ولكنها بدأت تبصق دماً. وبدأت أعضاؤها تتشنج، وتغطي جسمها بقع سمراء - وحضر الطبيب الآخر فرآها ثم قال لزوجها:
- كن شجاعاً يا صديقي المسكين فما نستطيع شيئاً
ماتت المسكينة فأخذ كل شخص يشتغل الموقف. معلمة الموسيقى تطلب أجر ستة شهور(80/79)
مع أن مدام بوفاري لم تأخذ درساً واحداً، وصاحب المكتبة يريد اشترا ستة شهور الخ
وأرسلت مدام ديبوي تنبئه بزواج ليون ديبوي بالآنسة ليو كادي ليبوف. وكتب شارل يهنئها ويقول:
(لشد ما كان يسعد زوجتي أن تعلم ذلك!)
وفي ذات يوم وهو يهيم بالمنزل عثر في الغرفة العيا على كرة من الوق لرفيع، فتحها فاذا بها خطاب رودلف الأخير؛ وكانت صدمة عنيفة. رأى حرف (ر) وعرف من هو؛ ولكنه عاد يقول: ربما كان ذلك تجاذباً روحياً فحسب. لقد كانت محبوبة من كل إنيان
ولكي يسعدها وهي ميتة كان يعيش كما كانت تهوى وتفكر. كان يلبس أحذية لامعة. وربطات رقبة بيضاء، ويضع على شاربه الأصباغ، ويستدين المال بالكمبيالات - وبالجملة كانت تئثر فيه من وراء اللحد
واضطر أن يبيع الأثاث. إلا أنه لم يمس غرفتها بل ظلت كما كانت. وكان يذهب اليها دائماً بعد العشاء، ويضع المنضدة المستديرة بجوار المدفأة وكرسيها بجانبها وكرسيه بالجانب اآخر؛ واحتراماً لها لم يفتح درجها السري الخاص. ولكنه جلس أمامه يوماً وفتحه. وكانت خطابات ليون فيه. فقرأها وأخذ يبكي ويصرخ، ثم وجد رسائل رودولف وصورته أيضاً
ودهش الجميع للانحطاط الذي عراه، وانقطع عن الخروج ورفض أن يعود مرضاه. ولكن بعض المطفلين كان يتسلق سور الحديقة المرتفع ويدهش إذ يرى الرجل في ثياب رثة، وجال سيئة. وفي الأماسي الصيفية كان يصطحب ابته إلى المقبرة، فلا يعودان إلا بعد أن يسدف الليل
وذهب يبيع جواده فقابل رودلف، فدعاه هذا في جرأة ليشرب زجاجة من الجعة بالحانة. وامام الرجل تاه شار في أفكاره. وأمام الوجه الذي أحبته كاد يظن أنه يرى شيئاً منها.
كان ذلك عجباً. وأوشك أن يتمنى أن يكون ذلك الرجل. ولم يصغ لحديثه، ولكنه قال أخيراً:
- (إنني لا أحمل لك حقداً) ووضع رأسه بين يديه، وقال في صوت ضعيف: (لا أحمل لك حقداً). ثم أضاف هذه اللمات الرفيعة وهي المرة الوحيدة التي قال فيها شيئاً غير عادي:(80/80)
- (وكانت غلطة القدر)
وفي الساعة السابعة من اليوم التالي وكان جالساً على مقد في مشى الحديقة جاءت برتا الصغيرة التي ل ـره منذ الأصيل لتدعوه الى العشاء. وكان رأسه مسنداً الى الحائط، وعيناه مغمضتين، وفمه مفتوحاً، وخصلة من الشعر الفاحم في قبضة يده، وقالت (تعال يا أبت.) وظننته يريد أن يداعبها، فدفعته بلطف فسقط على الأرض ميتاً!
محمد سليمان علي(80/81)
العدد 81 - بتاريخ: 21 - 01 - 1935(/)
الحج. . .
لبيك اللهم لبيك!!
الحج والزكاة هما الركنان الاجتماعيان من أركان الدين، يقوم عليهما الأمر بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة، كما يقوم على الثلاثة الأُخَر الأمر بين المرء وربه، وبين المرء ونفسه؛ فالزكاة تقيم نظام المجتمع على التعاطف والرحمة، الحج يقيمها على التعارف والألفة، فيحقق الأول بنفي العقوق معنى الأخاء، ويحقق الثاني بمحو الفروق معنى المساواة؛ والإخاء والمساواة شعار الإسلام، وقاعدة السلام، ومِلاك الحرية، ومعنى المدينة الحق، وروح الديمقراطية الصحيحة
كان الحج وما زال مَطْهرَ الدنيا: ترحض فيه النفوس عن جوهرها أوزار الشهوات وأوضار المادة؛ وكان الحج وما زال ينبوع السلامة: تَبْرد عليه الأكباد الصادية، وترفُه لديه الأعصاب الوانية؛ وكان الحج وما زال مثابة الأمن: تأنس فيه الروح إلى موضع الإمام، ويسكن الوجدان إلى منشأ العقيدة، وينبسط الشعور بذلك الإشراق الإلهي في هذه الأرض السماوية؛ وكان الحج ومازال موعد المسلمين في أقطار الأرض على (عرفات): يتصافقون على الوداد، ويتآلفون على البعاد، ويقفون سواسية أمام الله حاسري الرءوس، خاشعي النفوس، يرفعون إليه دعوات واحدة، في كلمات واحدة، تَصعدُ بها الأنفاس المضطرمة المؤمنة تصعد البخور من مجامر الطيب، أو العطور من نوافح الروض! هنالك يقف المسلمون في هذا الحشر الدينوي حيث وقف صاحب الرسالة، وحواريو النبوة، وخلفاء الدعوة، وأمراء العرب، وملوك الإسلام، وملايين الحجيج من مختلف الألوان والألسن، فيمزجون الذكرى بالذكر، ويصلون النظر بالفكر، ويذكرون في هذه البقعة المحدودة، وفي هذه الساعة الموعودة، كيف اتصلت هنا السماء بالأرض، ونزل الدين على الدنيا، وتجلى الله للإنسان، ونبت من هذه الصحراء الجديبة جنات الشرق والغرب، وثمرات العقل والقلب، وبينات الهدى والسكينة
الحج مؤتمر الإسلام العام، يجدد فيه حبله، ويتعهد به بأهله، ويؤلف بين القلوب في ذات الله، ويؤاخى بين الشعوب في أصل الحق، ويستعرض علائق الناس كل عام فيوشجها بالأحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضُر، وعلى(81/1)
العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوي المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية، والمدنية الآلية، والمطامع الغربية، فيؤلف منها دعاء واحداً تجأر به النفوس المظلومة جؤاراً تردده الصحراء والسماء!
وما أحوج المسلمين اليوم إلى شهود هذا المؤتمر! لقد حصرهم المستعمرون في أوطانهم المغصوبة، ثم قطعوا بينهم الأسباب، وحرموا عليهم التواصل، وفصلوهم عن الماضي الملهم والمستقبل الواعد، بطمس التاريخ، وقتل اللغة، وإطفاء الدين، فلم يبق لهم جُمعة إلا في هذا الموسم
إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر: هنا غار (حراء) مهبط الوحي، وهنا (دار الأرقم) رمز التضحية، وهنا (جبل ثور) منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، وهذا الشعب وذاك مَجرُّ أذيال الغطاريف من بني هاشم وبني امية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة!!
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). أما شرط الاستطاعة فقد بطل اليوم، وأصبح الحج فريضة عين لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يَسوغُ في تركها معذرة؛ فأنت تستطيع بالمال اليسير وفي الزمن القصير أن تحج على الباخرة والسيارة والطيارة، دون أن تعرض حياتك للموت، وثروتك للنهب، وصحتك للمرض!
وهذه (شركة مصر للملاحة البحرية) تتعهد لك (بزمزم) و (الكوثر) أن تكفلك وتحملك وتعلمك وتغذيك وتؤويك وتحميك في البحر والبر تحت عَلم دولتك، ورعاية مواطنيك، فلا تكابد وعث الصحراء وعبث الأشقياء، ولا تقاسي بُعدَ الشقة وطول الغربة
لقد كان الحج لرهَقه الشديد وجهده الجاهد يكاد يكون مقصوراً على الطبقات الخشنة من الزراع والصناع والعملة؛ أما الناعمون المترفون من أولي الأمر، وذوي الرأي، وأصحاب الزعامة، فما كانوا يقدمون عليه ولا يفكرون فيه، فظل جَداه على المسلمين ضئيلاً لا يتعدى الحدود الخاصة من قضاء المناسك وأداء الزيارة فماذا يمنع الكبراء والزعماء اليوم أن يتوافوا على ميعاد الله، ما دامت هذه الشركة المصرية الخالصة قد تحملت عنهم أكلاف السفر، وضمنت لهم وسائل العيش، ووفرت عليهم أسباب الرفاهية، حتى ليكتفي المسافر(81/2)
بحقيبة ثيابه؟
إن في حج سراة العرب والمسلمين إعلاء لشأن الملة، وإغراء بأداء الفريضة، وسعياً لجمع الكلمة، وسبيلاً إلى الوحدة المرجوة. وإن مقام إبراهيم الذي انبثق منه النور، ونزل فيه الفرقان، وانتظم عليه الشمل، لا زال مناراً للأمة، ومثاراً للهمة، ومشرق الأمل الباسم بالعصر الجديد
أحمد حسن الزيات(81/3)
وحُي القبور
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ذهبتُ في صُبح يوم عيد الفطر أحملُ نفسي بنفسي إلى المَقْبرة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيتٌ واحد؛ فكنتُ أمشى وفي جِنَازَةٌ بمُشَيِّعيها من فكرٍ يحملُ فكراً، وخاطرٍ يتبعُ خاطراً، ومعنى يبكي ومعنى يُبكى عليه؛ وكذلك دأْبي كلما انحدرت في هذه الطريق إلى ذلك المكان الذي تأتيه العيونُ بدموعها، وتمشى إليه النفوسُ بأحزانها، وتجيء فيه القلوبُ إلى بقاياها. تلك المقابرُ التي لا ينَادي أهلُها مِن أَهليهم بالأسماء ولا بالألقاب ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا؛ يا أحزانَنَا
ذهبتُ أزور أمواتي الأعزاءَ وأتصلُ منهم بأطراف نفسي لأحيا معهم في الموت ساعةً أعرضُ فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرف وأتوسم، ثم أستبطنُ مما في بطن الأرض، وأستظهرُ مما على ظهرها؛ وجلستُ هناك أُشرِفُ من دهرٍ على دهر ومن دنيا على دنيا، وأخرجتِ الذاكرةُ أفراحها القديمة لتجعلها مادةً جديدةً لأحزانها؛ وانفتح لي الزمنُ الماضي فرأيت رَجْعَةَ الأمس، وكأن دهراً كاملاً خُلق بحوادثه وأيامه ورفع لعيني كما تُرفعَ الصورةُ المعلقةُ في إطارها
أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا؛ والحبيبُ الغائبُ لا يتغير عليه الزمانُ ولا المكانُ في القلب الذي يحبه مهما تَراخَتْ به الأيام؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى، تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تُمحى
ذهب الأمواتُ ذَهَابَهم ولم يقيموا في الدنيا؛ ومعنى ذلك أنهم مروا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبر عنها النفسُ بلسانها لا بلسان حاجتها وحِرصها
الحياة مدةٌ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوغُ كلُّ إنسانٍ جانباً منه، ثم يقال له: هذه هي الأداةُ فاصنع ما شئتَ، فضيلتك أو رذيلتك
جلستُ في المقبرة، وأطرقت أفكر في هذا الموت. يا عجباً للناس كيف لا يستشعرونه وهو يهدمُ من كل حيٍ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمَه هو بجملته، وما زال كلُ بُنْيانٍ من الناس به كالحائط المُسَلطِ عليه خرابُه يَتَآكل من هنا ويتناثر من هنا
يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي، كيف يجعلون الحياةَ مدة نزاع وهي مدةُ عمل؛ وكيف لا(81/4)
تبرحُ تَنْزُو النوازي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع فضربوا خَصْماً بخصم وردوا كَيْداً بكيد، جاء حكمُ الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء هذا لي
أما والله إنه ليس أعجبُ في السخرية بهذه الدنيا من أن يُعطَى الناسُ ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً، إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً ولا يرجع عنها الراجعُ إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهةُ العظم واللحم حتى على السكين القاطعة. . . .
تأتي الأيامُ وهي في الحقيقة تَفِرّ فِرارَها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةَ فإنما مضت هذه العشرون من عمره. ولقد كان ينبغي أن تُصَحح أعمال الحياة في الناس على هذا الأصل البين، لولا الطباعُ المدخولةُ والنفوسُ الغافلة والعقولُ الضعيفةُ والشهواتُ العارمة؛ فأنه ما دام العمرُ مُقْبِلاً مًدْبِراً في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناولَ من الدنيا إلا ما يُرضيه محسوباً له ومحسوباً عليه في وقتٍ معاً. وتكونُ الحياةُ في حقيقتها ليست شيئاً إلا أن يكون الضميرُ الإنساني هو الحي في الحي
ما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند اكثر الناس مع المَوْتَى أبنيةً ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسوا أنها موجودة. ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحيُّ المتغلغلُ في الحياة إلى بعيد؛ فما القبرُ إلا بناءٌ قائمٌ لفكرة النهاية والانقطاع؛ وهو في الطرف الآخر رَدٌّ على البيت الذي هو بناءٌ قائم لفكرة البدء والاستمرار؛ وبين الطرفين المَعبدُ وهو بناءٌ لفكرة الضمير الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحاً أو يقضي
القبرُ كلمةُ الصدق مبنيةً متجسمةً، فكل ما حولها يَتَكَذبُ ويتأول، وليس فيها هي إلا معناها لا يدخله كذبٌ ولا يعتريه تأويل. وإذا ماتت في الأحياء كلمةُ الموت من غرور أو باطلٍ أو غفلةٍ أو أثرة، بقي القبرُ مذكراً بالكلمة شارحاً لها بأظهر معانيها داعياً إلى الاعتبار بمدلولها، مبنياً بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية
القبر كلمةُ الأرض لمن ينخدعُ فيرى العمر الماضي كأنه غيرُ ماضٍ، فيعملُ في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه، فلا يزال دائباً في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوانِ ويقتاسُ به فشريعته جَوْفُه(81/5)
وأعضاؤه. وترجعُ بذلك حيوانيته مع نفسه الروحانية، كالحمار الذي يملكُه ويعلفُه، لو سئل الحمارُ عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري. . . . . .
القبرُ على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا معناها أن الإنسان في قانون نهايته فلينظر كيف ينتهي
إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاءُ عليها، فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها. طريقة إكراه الحيوان الإنساني على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلها أصلاً في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها، إذ كانت روحانيته في النهايات لا في بداياتها
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتاً تعملُ أعمالها؛ فإذا انتهت الحياةُ انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتاً يخلدُ هو فيها؛ فهو من الخير خالدُ في الخير ومن الشر هو خالد في الشر؛ فكأن الموت إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين آتيةً وراجعة
وإذا كان الأمر للنهاية فقد وجب أن تبطلَ من الحياة نهاياتٌ كثيرة فلا يترك الشُّر يمضي إلى نهايته بل يُحسم في بدئه ويقتل في أول أنفاسه؛ وكذلك الشأن في كل ما لا يحسن أن يبدأ، فانه لا يجوز أن يمتد كالعدواة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب؛ وما شابَكَ هذه أو شابهها، فإنها كلها انبعاثٌ من الوجود الحيواني وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبرٌ كي تسلم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية
يا من لهم في القبور أموات!
إن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكون معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا
القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا فهي مدة لو صُرفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضَياعٌ في الشر أو الإثم؟ ولو وُلد الإنسان ومشى وأيفَعَ وشبَّ واكتهل وهرم في يوم واحد، فما عساه كان يُضيع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصر من يوم
ينادي القبر: أصلحوا عيوبَكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها. فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي(81/6)
بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقت وهرب.
هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبر أيضاً. فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حكُم محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي وكيف تكون.
في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه وأن يُسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يُميتَ في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ لإرادة عقلُها القويُّ الثابت؛ وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في زمن هذا العقل كما لا يجد الليل محلاً في ساعات الشمس
ثلاثةُ أرواح لا تصلح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها:
روحُ الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(81/7)
في الجحيم البلقاني
ألبانيا الفتاة
لمناسبة حوادثها الأخيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أوربا دولة إسلامية صغيرة يحدق الخطر اليوم بمصايرها؛ ويتطلع الاستعمار الأوربي إلى افتراسها: تل هي مملكة ألبانيا التي أثارت حوادثها الأخيرة كثيراً من التساؤل والاهتمام، وهي الدولة المسلمة الوحيدة في أوربا، لأن تركيا لم تبق بعد من الوجهة الجغرافية دولة أوربية؛ ومن الأسف أن هذه الملكة الصغيرة تجد نفسها، مذ حصلت على استقلالها قبيل الحرب الكبرى، بسبب ظروفها الجغرافية، هدفاً لأطماع ومنافسات دولية قوية لا تستطيع خلاصاً منها، وترى نفسها مرغمة بحكم ضعفها وعزلتها إلى التماس العون والحماية من أولئك الذين يتطلعون إلى افتراسها
كانت ألبانيا قبل الحرب ولاية تركية. ولكن هذه الأمة الصغيرة الباسلة تناضل في سبيل استقلالها منذ بداية القرن التاسع عشر؛ وقد استطاعت فعلاً أن تحصل على نوع من الاستقلال في عهد زعيمها علي باشا اليانيني في أوائل هذا القرن، فلما انهار سلطان هذا الزعيم الذي تملأ حياته وسيره المروعة كثيراً من صحف القصص الغربي، انهارت جهود ألبانيا في الاستقلال، وعادت تركيا فمكنت منها نيرها وسيادتها. ولما نشبت الحرب بين تركيا والدول البلقانية في سنة 1912، كان من نتائجها استقلال ألبانيا، قضت به معاهدة لندن التي عقدت بين الدول في مايو سنة 1913، واتفقت الدول على اختيار حاكم للدولة الجديدة المستقلة، ووقع اختيارها على البرنس دي فيد الألماني. وفي أوائل سنة 1914 قدم البرنس دي فيد إلى ألبانيا بعد أن زار حكومات الدول الأوربية المختلفة، فاستقبله وفد من الزعماء الألبانيين وعلى رأسهم عميدهم أسعد باشا بطل اشقودرة الذي أعلن استقلال ألبانيا قبل أن تقرره معاهدة لندن، طلب إليه باسم الشعب الألباني أن يقبل عرش ألبانيا، فلبي البرنس الدعوة ولقب (بأمبرت) ألبانيا وهو تصغير للقب الامبراطور، وتولى أسعد باشا في الحكومة الجديدة وزارتي الداخلية والحربية، ولكن الخلاف لم يلبث أن دب بينه وبين(81/8)
البرنس، واضطربت شؤون ألبانيا، وتفاقمت الصعاب حول الملك الجديد، وأضرم أسعد باشا نار الثورة فأرغم البرنس على مغادرة ألبانيا، لأشهر قلائل من مقدمه، وقبض أسعد باشا على رياسة الحكومة الجديدة (أكتوبر سنة 1914)، واختارت ألبانيا ملكاً جديداً هو البرنس برهان الدين ابن السلطان عبد الحميد. ولكن البلاد لبثت تتخبط في غمار الاضطراب والفوضى؛ وكانت الحرب الكبرى قد اضطرمت قبل ذلك بقليل، وأخذت دول الخلفاء تتطلع إلى ألبانيا كمركز حربي هام، وتخشى أن تغدو قاعدة لحركات ألمانيا والنمسا في المشرق؛ وفي ديسمبر سنة 1914 بعثت إيطاليا - بإيعاز الحلفاء - جملة عسكرية إلى ثغر فالونا الألباني فاحتلته؛ وعلى أثر ذلك وقعت بين الدول مفاوضات سرية بشأن ألبانيا، ووعد الحلفاء بأن يتركوا ألبانيا غنماً لإيطاليا مقابل دخولها في الحرب معهم؛ ووعدت النمسا من جانبها إيطاليا بأن تؤيد احتلالها لثغر فالونا وتطلق يدها في ألبانيا إذا هي لزمت الحياد. ولكنها لما رأت تردد إيطاليا دفعت جيوشها إلى الجنوب؛ وفي أواخر سنة 1915 غزت الجنود النمسوية الألمانية ألبانيا واستولت على اشقودرة، ووصلت إلى ظاهر تيرانا عاصمة ألبانيا، وغزت الجيوش البلغارية شرق ألبانيا؛ فاضطربت حكومة أسعد باشا الموالية للحلفاء وسقطت واضطرت إيطاليا إلى إخلاء ثغر دورازو ولكنها احتفظت بثغر فالونا. ولبث الألمان والنمسويون يحتلون شمال ألبانيا وشرقها لتأمين مواصلاتهم مع تركيا والميادين الشرقية حتى نهاية الحرب الكبرى. ولما انتصر الحلفاء كان من المقرر أولاً أن يعطى القسم الجنوبي من ألبانيا لليونان، ووافقت إيطاليا على ذلك بشرط أن تعترف اليونان بحمايتها على باقي ألبانيا مع التنازل عن سلخة شمالية لصربيا، ولكن هذا التقسيم لم يتم؛ وعادت إيطاليا إلى المطالبة بتنفيذ الوعد الذي قطع لها بالاستيلاء على ألبانيا. وفي مؤتمر سان ريمو (1920) الذي عقد للنظر في مسألة الانتدابات، منح الانتداب على ألبانيا لإيطاليا، وأخذت إيطاليا تعمل لاحتلال ألبانيا وبسط سيادتها؛ ومع أن ألبانيا غدت عضواً في عصبة الأمم، فان إيطاليا استطاعت في أواخر سنة 1921 أن تحمل بريطانيا العظمى وفرنسا واليابان على إصدار تصريح تعترف فيه (بأن انتهاك الحدود الألبانية أو استقلال ألبانيا يمكن أن يعتبر خطراً على سلامة إيطاليا من الوجهة العسكرية)
على أن ألبانيا لم تستكن لهذه المحاولات الاستعمارية. والشعب الألباني شعب باسل رغم(81/9)
كونه يقل عن المليونين عداً (نحو مليون وستمائة ألف ثلثاهم من المسلمين)، يقدس حرياته واستقلاله، ولهذا عادت ألبانيا فاضطرمت بحركة وطنية اخرى؛ وتدخلت السياسة اليوجوسلافية خصيمة السياسة الإيطالية لتأييد هذه الحركة التي قادها زعيم فتي هو أحمد زوغو؛ ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى استطاع أحمد زوغو بمعاونة يوجوسلافيا أن ينشئ في ألبانيا جمهورية مستقلة، وان ينتخب رئيساً لهذه الجمهورية (فبراير سنة 1925). ورأى زوغو أنه لا يستطيع المحافظة على سلامة الدولة الجديدة في بلد وعر قوى المراس قليل الموارد دون معاونة أجنبية؛ ولما رأت السياسة الإيطالية أن يوجوسلافيا تنافسها في ألبانيا، تقربت من أحمد زوغو؛ وآثر زوغو بعد أن حقق الخطوة الأولى من برنامجه أن يتفاهم مع حكومة رومه، وانتهى هذا التفاهم بعقد ميثاق تيرانا (نوفمبر سنة 1926)، وهو ميثاق تأييد متبادل وتعاون ودي، تستطيع الحكومة الإيطالية أن تتدخل بمقتضاه في شئون ألبانيا، وتتعهد أن تحافظ على الحالة القائمة فيها في حدود المعاهدات المعقودة وميثاق عصبة الأمم. وفي العام التالي عقدت ألبانيا مع إيطاليا معاهدة دفاعية لمدة عشرين سنة، تتعهد فيها كل منهما بأن تضع تحت تصرف حليفتها كل مواردها العسكرية والمالية وغيرها متى طلبت إليها هذا العون لدرء الخطر عنها
واستطاع أحمد زوغو أن يهدئ الحالة في ألبانيا وأن يقبض على ناصية الأمور رغم هذه الاتفاقات التي تقضي على استقلال ألبانيا وتجعلها شبه مستعمرة إيطالية. واستغلت إيطاليا هذه الفرص لتوطيد نفوذها؛ وعقدت لألبانيا بواسطة عصبة الأمم قرضاً قدره خمسون مليون فرنك ذهباً، وقامت بإنشاء البنك الألباني الوطني، ووظفت أموال إيطالية كثيرة في المرافق الألبانية، ومكنت السياسة الفاشستية نفوذها من ألبانيا. واعتمد أحد زوغو على هذا النفوذ في تأييد مركزه وسلطانه؛ وفي سبتمبر سنة 1928 أعلن نفسه ملكاً على ألبانيا باسم الملك زوغو الأول، واستطاع أن يوطد مركزه وأن يقضي على كل معارضة؛ ولكنه شعر في نفس الوقت أن توغل النفوذ الإيطالي في ألبانيا، يثير الشعور الوطني، وقد ينقلب هذا الشعور ضده، ورأى من جهة أخرى انه ليس في كبير حاجة إلى معاونة إيطاليا بعد؛ فلم يقبل أن يجدد ميثاق تيرانا الذي انتهى أجله سنة 1931، وبقيت معاهدة سنة 1927 هي أساس العلائق بين إيطاليا وألبانيا؛ ولكنه اضطر أن يعقد اتفاقاً مالياً في صيف 1931،(81/10)
تتعهد إيطاليا بمقتضاه أن تقدم لألبانيا بشروط معينة قرضاً قدره مائة مليون فرنك ذهباً بلا فائدة، وتؤدي منها إليها كل عام عشرة ملايين.
واهتمام السياسة الإيطالية بألبانيا وتمكين نفوذها منها يرجع إلى عوامل جغرافية وعسكرية خطيرة، فألبانيا تقع في مواجهة إيطاليا الجنوبية على الضفة اليمنى من بحر الأدرياتيك، وليس بين ثغر باري الإيطالي وبين ثغر دورازو الألباني أكثر من بضع ساعات، ولا يفصل برنديزي وفالونا أكثر من مائة كيلو متر؛ ثم إن شواطئ ألبانيا تصلح بطبيعتها قواعد ومرافئ حصينة للأسطول الايطالي، على حين أن الشواطئ الإيطالية المواجهة ليست لها هذه الخاصة. ولألبانيا وقت السلم جيش نظامي يبلغ تسعة الآف، ويمكن وقت الحرب أن بغدو مائة ألف، وهو مدرب على الأساليب الإيطالية بحيث يغدو وقت الحرب بالنسبة لإيطاليا عوناً لا يستهان به. ومن جهة أخرى فان وقوع ألبانيا في جنوب يوجوسلافيا خصيمة إيطاليا ومنافستها القوية يجعلها إذا نشبت حرب بين الدولتين قنطرة سهلة للوصول إلى إيطاليا وتهديد شواطئها وثغورها الجنوبية بسرعة؛ وإيطاليا تحسب لهذا الخطر حسابه، خصوصاً بعد تحسن العلائق بين ألبانيا ويوجوسلافيا في الآونة الأخيرة
ولنحاول الآن أن نستعرض موقف ألبانيا الحاضر بعد الذي أذاعته الأنباء الأخيرة عن وقوع اضطرابات خطيرة فيها يوشك أن تتمخض عن انقلاب سياسي جديد. والظاهر أن هنالك مبالغة في هذه الأنباء قصدت إليها بعض المصادر التي تعمل على تشويه سمعة ألبانيا ولاسيما المصادر اليونانية نظراً لعدم رضى اليونان عن معاملة الأقلية اليونانية في ألبانيا؛ وهذه الأقلية يسكن معظمها في القسم الذي ضم إلى ألبانيا من مقاطعة أبيروس وهي مثار الخلاف بين البلدين. وتنفي المصادر الألبانية الرسمية هذه الأنباء، وتقول إن ما حدث كله يتلخص في أن زعيماَ ناقماً يدعى محرم بجرا كطاري قاوم السلطات في أولميشت حينما أرادت أن تقبض لديه على بعض المجرمين الفارين الذين آواهم، وإن السلطات استطاعت أخيراً أن تقمع حركاته وأنه اضطر إلى الفرار مع بعض أنصاره إلى ما وراء الحدود اليوجوسلافية؛ بيد أنه إذا لم تك ثمة ثورة عامة في ألبانيا، أو كانت ثمة محاولة إلى الثورة سحقت قبل استفحالها، فانه لا ريب أن شئون ألبانيا ليست على ما يرام، وأنها تجوز فترة من الاضطراب والقلق. فمنذ نحو عامين تضطرم الكتلة المعارضة لأحمد زوغو(81/11)